الكتاب: مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة المؤلف: تصدر عن منظمة المؤتمر الاسلامي بجدة   وقد صدرت في 13 عددا، وكل عدد يتكون من مجموعة من المجلدات، كما يلي العدد 1: مجلد واحد. العدد 2: مجلدان. العدد 5 و 7 و 9 و 12: كل منها 4 مجلدات بقية الأعداد: كل منها 3 مجلدات ومجموع المجلدات للأعداد الـ13: أربعون مجلدا ... أعدها للشاملة: أسامة بن الزهراء   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع]   (رقم الجزء في كتاب الشاملة هو رقم العدد، والصفحات مرقمة آليا) ---------- مجلة مجمع الفقه الإسلامي مجموعة من المؤلفين الكتاب: مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة المؤلف: تصدر عن منظمة المؤتمر الاسلامي بجدة   وقد صدرت في 13 عددا، وكل عدد يتكون من مجموعة من المجلدات، كما يلي العدد 1: مجلد واحد. العدد 2: مجلدان. العدد 5 و 7 و 9 و 12: كل منها 4 مجلدات بقية الأعداد: كل منها 3 مجلدات ومجموع المجلدات للأعداد الـ13: أربعون مجلدا ... أعدها للشاملة: أسامة بن الزهراء   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع]   (رقم الجزء في كتاب الشاملة هو رقم العدد، والصفحات مرقمة آليا) الكتاب: مجلة مجمع الفقه الإسلامي المؤلف: تصدر عن مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي. وقد صدرت في 13 عددا، وكل عدد يتكون من مجموعة من المجلدات، كما يلي -العدد 1: مجلد واحد. -العدد 2: مجلدان. -العدد 5 و 7 و 9 و 12: كل منها 4 مجلدات -بقية الأعداد: كل منها 3 مجلدات ومجموع المجلدات للأعداد الـ13: أربعون مجلدا ... أعدها للشاملة: أسامة بن الزهراء [رقم الجزء في كتاب الشاملة هو رقم العدد، والصفحات مرقمة آليا غير موافقة للمطبوع] مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 كلمة: معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الأستاذ / سيد شريف الدين بيرزاده الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. بعد شكر المنعم الحميد المجيد على ما أولى، واستمناحه التوفيق والتسديد فيما دعا إليه وهدى، يشرفني أن أقدم للأمة الإسلامية جمعاء الثمرة الأولى من أعمال مجمع الفقه الإسلامي الذي كان وليد قرار القمة الثالثة لمؤتمر الملوك والرؤساء للعالم الإسلامي، والذي يترجم عن اهتمام قادة هذه الأمة بمختلف قضايا المسلمين، وعن حرصهم على دراستها حسب المنهج القويم الذي يعتمد الاجتهاد الجماعي، ويرتكز على البحث والنظر ومراعاة الأصلح والأقوم والسير في طلب الحلول الناجحة الإسلامية العملية على أساس من روح الشريعة ومقاصدها، ووفق مصدريها الأساسيين: كتاب الله الكريم والسنة النبوية الشريفة. وإنه ليسعدني في المحل الأول أن أرفع هذه الثمرة دانية قطوفها لواضع اللبنة الأولى لهذا المجمع وراعيه حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم فهد بن عبد العزيز الذي تولى في المؤتمر التأسيسي لهذا المجمع تحديد هدفه وبيان وظيفته في كلمته الخالدة حيث قال: (إن الدعوة إلى إنشاء مجمع عالمي للفقه الإسلامي تشكل ضرورة حتمية في هذه المرحلة من مراحل تطور الأمة الإسلامية، حيث تجد فيها الإجابة الإسلامية الأصلية لكل سؤال تطرحه أمامها تحديات الحياة المعاصرة من أجل إسعاد البشرية عامة والمسلمين خاصة، وذلك يقتضي حشد جهود فقهاء وعلماء وحكماء ومفكري العالم الإسلامي للإجابة على الأسئلة التي تطرحها تحديات العصر من واقع شريعتنا السمحة لأنه لا فلاح لنا إلا بالتمسك بها والتزام حكمها {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . [المائدة: 50] وإني لأنوه هنا بالجهود العظيمة التي يضطلع بها المجمع. وبما تعاقب لديه وتوافر من أعمال ودراسات وبحوث ومناقشات وآراء وقرارات في الدورة التأسيسية والدورتين العلميتين الأولى والثانية، وفي اجتماعات مكتب المجلس وشعبه على انفراد ومجتمعة، وأرجو له من الله حسن الأيد وكمال العون , لمجلسه وشعبه بلوغ القصد في خدمة الملة وهداية الأمة وتنويرها وتبصيرها معالم الطريق باتباع المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، كما أرجو أن تتاح له من الإمكانات ما يعينه على القيام بمشاريعه الطموحة العلمية، وعلى النهوض بالفقه الإسلامي بحثاُ ونظراً وتجريحاً واستنباطاً واجتهاداً فيساير تطورات الزمان ويواكبها، ويعالج ما جد ويجد من قضايا العصر في مختلف البلاد وفي كل مجالات الحياة. والله الموفق إلى سواء السبيل، وبه الاعتداد، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 كلمة العدد: لمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي د. محمد الحبيب ابن الخوجة الحمد لله الذي جمعنا على الهدى وألزمنا كلمة التفوى، وأرشدنا إلى الحق، وجعلنا بإتباع سبيله، والاهتداء بكتابه، أدلاء على الطريق، قائمين لله في الأرض بالحجة {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} . [النساء: 114-115] وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد عبد الله ورسوله إمام الهدى وسيد الأنبياء الذي بلغ الدعوة، ونصح الأمة، وأقام الملة، وأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأرسله سبحانه شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. وبعد فقد مضى عامان على قيام مجمع الفقه الإسلامي الدولي، جعله الله خير أداة لتوحيد الأمة، وجمع كلمتها، ينير لها الطريق، ويهديها السبيل، ويجتهد اجتهادً جماعياً في بيان أحكام الله في القضايا والمشاكل المستجدة، ويواجه التحديات التي تقف في وجه العالم الإسلامي، بل في وجه الإنسانية كلها بالحلول المناسبة لمعالجتها معتمداً في ذلك كتاب الله العزيز وسنة رسوله المشرفة، ومستلهما تلك الحلول من مقاصد الشريعة وأسرارها وقد نوه بدوره الفعال هذا ورسمه له خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك المعظم فهد ابن عبد العزيز في خطابه الكريم في المجلس التأسيسي للمجمع حين صدع بقوله أعزه الله ونصره: إن بيان حكم الله ووجوب الخضوع له، حكاماً ومحكومين، سوف يؤدي إلى حقن الدماء، وحفظ الأموال، وصيانة الأعراض، كما أن بيان حكم الله سوف يجعل المسلمين دعاة رحمة وأمن، ولسوف يوحد جهودهم ضد عدوهم في وقت تتداعى فيه الأمم على حضارتنا وتراثنا وأمتنا. كما نبه إلى صبغة المجمع المميزة له وهو يخاطب الحضور بقوله: إن اجتماعكم هذا يعتبر بداية حقبة تاريخية هامة من تاريخ أمتنا الإسلامية، مرحلة يتخطى فيها شرف خدمة الشريعة الإسلامية حدود الجهود الفردية والإقليمية، ويجتاز الحدود السياسية في أول تنظيم عالمي يعبر عن وحدة الأمة الإسلامية في هذا المجال. والآن وقد بدأ المجمع يسير بخطى ثابتة ومتأنية من أجل تحقيق الهدف من تأسيسه والقيام بدوره الجليل، أولاً عن طريق مجلسه المتألف من أعضائه المندوبين من طرف الدول الإسلامية كافة، وثانياً عن طريق من انضم إليه من أعلام الفقه الإسلامي المعاصر والهيئات العلمية الإسلامية، وكذلك الزمرة الطيبة من الباحثين والخبراء، يسرنا ويشرفنا أن نشيد في المقام الأول بالعناية الدائمة والموصولة التي يلقاها المجمع من صاحب الجلالة الملك المعظم أقام الله به قناة الدين، وبسط العدل، وأطال عنان الإحسان، ثم من رجال حكومته الرشيدة وأعلام الفكر الديني والعلم الإسلامي بالمملكة العربية السعودية المحروسة، وكذلك من كل الجامعات العلمية والمؤسسات الإسلامية التي لا يفوتنا أن نذكر على الخصوص من بينها رابطة العالم الإسلامي التي وجدنا لديها كل تعاون وبر، ومن أمينها العام معالي الدكتور عبد الله عمر نصيف حسن التفهم وكريم الدعم. جازاهم الله عن المجمع وعن العمل الإسلامي خير الجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وهكذا تمكنا بحول الله ورعايته أن نسير في هذه المرحلة الدقيقة الصعبة سيراً جاداً تظهر آثاره الكريمة فيما أحببنا أن نخرجه للناس في هذه المجلة الدورية من المعلومات المشخصة للمجمع والمترجمة عنه، كي يزداد الناس تعرفاً عليه والتفافاً من حوله، وتلقي أسباب التواصل والتعاون بينه وبين المؤسسات العلمية ومع الصفوة الخيرة من العلماء والمفكرين والأساتذة والحكماء المنتشرين بحمد الله في العالم الإسلامي كله، والمنبثين حتى خارج محيطه الواسع الكبير. وقد بدأنا بهذا السفر وهو العدد الأول وجعلناه مشتملاً على أقسام ثلاثة: الأول: بطاقة ميلاد المجمع، وهي عبارة عن النصوص القانونية والوثائق المتصلة بقرار تأسيسه الصادر عن مؤتمر القمة الإسلامي الثالث المنعقد بمكة المكرمة في 19 - 22 ربيع الأول 1401 / 25 - 28 يناير 1981، وقرار مؤتمر وزراء الخارجية الثالث عشر المنعقد بنيامي عاصمة جمهورية النيجر بين 3 - 7 ذي القعدة 1402 / 22 - 26 أغسطس 1982، وكذلك وقائع المؤتمر التأسيسي المنعقد بمكة المكرمة بإشراف صاحب الجلالة الملك المعظم فهد بن عبد العزيز في 26 - 28 شعبان 1403 هـ / 7 - 9 يونيو 1983 م، والذي شاركت فيه وفود من الدول الإسلامية الأعضاء بمنظمة المؤتمر الإسلامي يتقدمها وزراء الأوقاف والشؤون الدينية ووزراء العدل. القسم الثاني: منه يصور وقائع المؤتمر العلمي الأول أعني الدورة الأولى لمجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة المنعقد بمكة المكرمة فيما بين 26- 29 صفر 1405 هـ / 19 - 22 نوفمبر 1984، والذي شارك فيه أعضاء المجمع المنتدبون من طرف دولهم، والذي تكونت فيه الهيئات، وتعينت فيه الشعب، ودرس فيه النظام الأساسي، ووضعت فيه اللائحة التنفيذية لسير عمل المجمع. والقسم الثالث: هو عبارة عن التصورات العلمية والتي اقترحها الأعضاء أو الخبراء أو الجامعات والهيئات العلمية المتصلة بالمجمع على مجلسه، والتي أحيلت كلها لدرسها وضبط خطوات العمل بالمجمع بحسبها، على شعبة التخطيط التي اجتمعت هي الأخرى بمقر المجمع بجدة في 22 - 25 شعبان 1405 هـ ـ / 12 - 15 مايو 1985 م. ولعل جملة هذه المادة كفيلة بإعطاء صورة واضحة عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة، وعن إدارته وأجهزته ومجلسه ومكتبه وشعبه وكل نشاطاته ووسائل عمله. والله المسؤول بإنجاح الأعمال، وتحقيق المقصد، وبلوغ الآمال. نحمده سبحانه ونثني عليه، وندعوه أن يرزقنا التوفيق والتسديد في خدمة الأمة الإسلامية، وتنشيط الدراسات الفقهية، والاجتهاد الجماعي. إنه سميع مجيب؛ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 كلمة: رئيس مجلس المجمع د. بكر أبو زيد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فإن المتتبع لحركة الفكر الإسلامي يرى توالي النداءات من الناصحين في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى تكوين منتدى يلتقي فيه ثلة صالحة من علماء الديار الإسلامية، لشد آصرة التآخي بينها، وتقوية وحدتها، وحل مشكلاتها ونوازلها الفقهية على هدي الشريعة الإسلامية وحدها. وما زالت تلك الأمنية تتردد في مخيلتها لكن لم تتجسد بحقيقتها لعزة الظفر بها، إذ تقاصرت دونها همم، وناءت بها أمم، وبما أن أهل الإسلام ينطلقون من قاعدة: حرب اليأس وفتح باب الأمل، فما فتئت الدعوة منها قائمة. حتى وكلها الباري سبحانه وتعالى إلى: همة خادم الحرمين الشريفين عاهل المملكة العربية السعودية فنادى بها بين إخوانه قادة العالم الإسلامي: ملوك: ورؤساء وأمراء. وهم في رحاب المسجد الحرام، وتحت ظلال البيت العتيق: في مؤتمر القمة الثالث عام 1401هـ فالتقت الأفكار وتلاحمت الآراء في مسار التلبية والقبول: إذا ما راية نصبت لمجد تلقاها عرابة باليمين فأصبحت حقيقة متمثلة للعيان، تباشر مهامها، وتسير في ضوء أهدافها، تحت عنوانها الخالد بإذن ربها: (مجمع الفقه الإسلامي) وحقيقته كما هو معلوم: جمعية متعاونة منسجمة غرضها ترقية العلوم، وحل مشكلاتها. يحدوها إلى ذلك: العشق الخالص لغرضها النبيل من غير أن يشوبه شائبة من ربح مادي أو خلافه. إنه من هذه الغاية (عشق الحقيقة) سيكون هذا المجمع بإذن الله مبعثاً لآمال الأمة، ومهوى لأفئدتها، وأمنة تتقي به لفحات الأحداث. حماية لحمي الشريعة. إنه جدير بأن يكون المجمع الأم على وجه الأرض في رحاب الإسلام وحملته وبرعاية قادته. وهذه سنة لكل عمل صالح مبرور يبني على حسن النية ونيل الغاية. والواقع على ذلك شهيد إذا تمثل هذا المجمع سوياً يبث في الأمة طلائع قراراته التي صدرت منه في دورته الثانية المنعقدة بمركزه الرئيسي في مدينة جدة عام 1405 هـ وهي - ولله الحمد - في غاية من الدقة والإحكام، والاعتدال في الرأي والأحكام. على وطاء من البحوث الماتعة، والمناقشات الهادئة الهادفة، على لسان نحو مائة عالم من علماء المسلمين: أعضاء عاملين، وخبراء، وباحثين. وإن ما بين يدي هذا التقديم من أبحاث، ومناقشات، وقرارات، ومناشدات تمنح التدليل المادي على ثبات هذه النتائج وثبوتها. ولن يغلب عسر يسرين. هذا وإن شرف فتح الباب، والترقي للأخذ بالأسباب لإبراز هذه النشرة الجامعة الماتعة مطبوعة في هذا القالب القشيب من فضل الله تعالى على: العالم الدءوب، - معالي الأمين العام للمجمع الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة - في جهود متواصلة، فإظهارها على هذا المنوال المرضي هو بحق: غرس يمينه. فكفاؤه منا دعوة صالحة. منح الله الجميع التقوى ومن العمل ما يحب ويرضى. كما نسأله سبحانه أن يوفق قادة المسلمين وولاة أمرهم إلى ما فيه صلاح الإسلام والمسلمين محكمين لشرعه، ذابين عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ... والحمد لله رب العالمين .... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 خطاب جلالة الملك فهد بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية في افتتاح المؤتمر التأسيسي لمجمع الفقه الإسلامي بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. أصحاب الفضيلة والمعالي. أعضاء المؤتمر التأسيسي لمجمع الفقه الإسلامي أحييكم بتحية الإسلام. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأرحب بكم أجمل ترحيب في هذا البلد الأمين، مهد الرسالة وقبلة المسلمين، وأسأل الله أن يسدد خطاكم ويجعل التوفيق حليفكم. إن اجتماعكم هذا يعتبر بداية حقيقية لمرحلة تاريخية هامة من تاريخ أمتنا الإسلامية، مرحلة يتخطى فيها شرف خدمة الشريعة الإسلامية حدود الجهود الفردية والإقليمية، ويجتاز الحدود السياسية في أول تنظيم عالمي يعبر عن وحدة الأمة الإسلامية في هذا المجال. أيها الأخوة الكرام: إن روح العمل الجماعي هي الصفة المميزة لنجاح الأمة الإسلامية وقدرتها على مواجهة جميع التحديات، وإن المؤشرات تدل على أن الأمة الإسلامية قد وضعت أقدامها على طريق تصحيح المسار والعودة إلى رحاب العقيدة في ظل تضامن أبنائها. فلقد كان مؤتمر القمة الإسلامي الثالث الذي عقد في رحاب الكعبة المشرفة وما تمخض عنه من نتائج وقرارات ومن بينها القرار التاريخي الذي أصدره زعماء العالم الإسلامي بإنشاء مجمع الفقه الإسلامي الذي نشهد اليوم افتتاح مؤتمره التأسيسي ... لقد كان ذلك المؤتمر فرصة طيبة وانطلاقة واعية وجادة لأمتنا الإسلامية نحو تحقيق ما تصبو إليه من عز ومنعة لتشارك بفعالية وتواصل دورها الطليعي في بناء الحضارة الإنسانية وتحقيق العدل وتخليص الإنسان من ظلم الإنسان. إننا نؤمن جميعاً – أيها الإخوة – أن الإسلام دين يخاطب العقل، ويناهض التخلف في شتى صوره وأشكاله، ويشجع حرية الفكر، ويستوعب منجزات العصر، ويحض على متابعتها، كما أن الإسلام وهو يضع قواعد السلوك الإنساني فإنه ينظم العلاقات الاجتماعية والدولية على أساس من الرحمة حيث يقول الله عز وجل في محكم التنزيل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} . [الأنبياء: 107] لقد تطورت العلاقات الإنسانية، ولكن الفكر الإنساني قد قصر عن استقصاء آلام الإنسان، وعن تحقيق آماله في الرخاء والسلام. فأصبح ذلك الفكر في حاجة إلى ضابط الرحمة. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن أتم علينا نعمته – سبحانه وتعالى – بكمال دينه الذي ارتضاه لنا، وكانت الشريعة الإسلامية هي الثروة الحقيقية الكبرى في العالم الإسلامي، حفظت عليه ذاتيته في أحلك الظروف التي كان يعاني فيها من الهجمات الشرسة على تراثه وحضارته وإنسانيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 أيها الإخوة أعضاء المؤتمر: إننا نشهد في وقتنا هذا أجزاء من جسد الأمة الإسلامية في فلسطين والأراضي العربية المحتلة وأفغانستان وهي تئن تحت وطأة الظلم والبغي والعدوان، كما أن مقدساتنا في القدس يدنسها الغاصب المحتل الذي سفك الدماء، واستحل الحرمات وشرد الملايين من إخواننا المسلمين، إن ما أصاب الأمة الإسلامية من ضعف ووهن ما كان يصيبها لو أنها تمسكت بهدي كتابها الكريم وسنة نبيها الهادي الأمين، لكن الابتعاد عن صعيد الإسلام كان العامل الأول والفاعل المؤثر لما تقاسي منه أمة الإسلام اليوم من تحديات شرسة من جانب أعدائها الذي يعملون باستمرار وإصرار على انتزاع الأمة الإسلامية من أحضان عقيدتها، لأن الخصوم يدركون أن لا قوة للمسلمين إلا بتمسكهم بمعطيات هذه العقيدة. إن عدم التمسك بالعقيدة هو مصدر الخطر الذي يتهدد اليوم ديار الإسلام ويحيط بأمة محمد صلى الله عليه وسلم. وإنني أعتقد أن البداية السليمة لبناء وحدتنا تتمثل في نبذ الخلافات بين المسلمين وتصفيتها بروح الأخوة الإسلامية عملاً بقوله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وقوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} . [الأنفال: 46] كما أن البداية الحقيقية لقوتنا تعتمد على قدرتنا على مواجهة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية العالمية بحلول إسلامية مستلهمة من روح الشريعة السمحة ومتجاوبة مع احتياجات العصر. أيها الإخوة الكرام: قبل أكثر من نصف قرن تمت الدعوة لعقد أول مؤتمر اسلامي لبحث أمور الأمة والتشاور فيما يحقق مصالحها وذلك على أثر توحيد هذه البلاد تحت راية التوحيد بقيادة الملك الراحل عبد العزيز طيب الله ثراه. ثم تتابعت الجهود إلى أن تم إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي وانطلقت في بلاد المسلمين صحوة إسلامية مباركة تستهدف الرجوع إلى الإسلام: إلى تعاليم القرآن الكريم وهدي السنة الشريفة. لقد أعادت الصحوة إلى كل مسلم اعتزازه بدينه الحنيف. وانتماءه الحضاري المشرف، وماضيه المشرق المجيد. إن هذه الصحوة تعبر عن نفسها بأشكال تختلف باختلاف المجتمعات الإسلامية، ولكن مضمونها الأساسي واحد وهو الاقتناع بضرورة إيجاد حلول إسلامية لمشكلات العصر. إن بعض النظم الأخرى قد تستطيع إيجاد بعض الحلول لبعض المشكلات في بعض الأحيان، ولكن قيمة عقيدتنا الإسلامية ليست في كونها تمدنا بالحلول الشاملة فحسب، وإنما قيمتها في أنها تقدم لنا هذه الحلول وتقدم معها أيضاً القوة الكفيلة بتحقيقها وحمايتها. ونحن نرجو أن يواكب الفكر الإسلامي هذه الصحوة لضبط حركتها على حكم الله في كافة المجالات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 إننا نلحظ أن تفرق المسلمين قد أدى إلى تورع العلماء عن مواجهة ما جد من مشكلات الحياة برأي يجتمع عليه علماء المسلمين. واليوم ترون - أيها الإخوة – كثرة الأحداث وكثرة السؤال، وقد تراكمت المشكلات، ورغم وفرة العلماء والفقهاء المجتهدين في كل زمان ومكان إلا أن الخطب جلل والمسئولية أمام الله أكبر من اجتهاد إنسان فرد فيما يجد من الحوادث حتى يدعم هذا الاجتهاد قبول العلماء بعد استقصاء البحث والنظر في الفقه القديم والجديد. وفي هذا الصدد فإن الدعوة لإنشاء مجمع عالمي للفقه الإسلامي تشكل ضرورة حتمية في هذه المرحلة من مراحل تطور الأمة الإسلامية حيث تجد فيها الإجابة الإسلامية الأصيلة لكل سؤال تطرحه أمامها تحديات الحياة المعاصرة من أجل إسعاد البشرية عامة والمسلمين خاصة وذلك يقتضي حشد جهود فقهاء وعلماء وحكماء ومفكري العالم الإسلامي للإجابة على الأسئلة التي تطرحها تحديات هذا العصر من واقع شريعتنا السمحة لأنه لا فلاح لنا إلا بالتمسك بها والتزام حكمها {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . [المائدة: 50] إن بيان حكم الله ووجوب الخضوع له حكاماً ومحكومين سوف يؤدي إلى حقن الدماء وحفظ الأموال وصيانة الأعراض، كما أن بيان حكم الله سوف يجعل المسلمين دعاة رحمة وأمن ولسوف يوجه جهودهم ضد عدوهم في وقت تتداعي فيه الأمم على حضارتنا وتراثنا وأمتنا. إن روح التعصب أبعد شيء عن الإسلام، إذ أن التعصب من مثارات البغضاء، ومن أسباب التفرق والتمزق الفكري، وقد حرم الله علينا ما يثير البغضاء والعداوة بين المسلمين. والحقيقة أن التعصب لا معنى له في الإسلام. لأن المسلم إنما يلزم بحكم الله، والعبرة في استظهار الحكم بدليله من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم طبقاً لضوابط الاستنباط وأصوله الشرعية التي يعرفها العلماء والفقهاء. ولقد التزمت المملكة العربية السعودية هذه الروح في تنظيمها القضائي اقتداء بالسلف الصالح من أئمة المسلمين، وصدرت بذلك تعليمات محددة من جلالة المغفور له الملك عبد العزيز تقضي بأن المسائل الخلافية بين المذاهب الإسلامية المعتمدة يوحد الحكم فيها بقرار يصدر من هيئة علمية وفقاً لأقوى المذاهب دليلاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإننا – أيها الإخوة الكرام - لمطالبون جميعاً بالعمل على توحيد الأحكام في البلاد الإسلامية في كل شئون الحياة على مقتضى أحكام الشريعة الإسلامية، فذلك هو السبيل الأوحد لتحقيق الوحدة الإسلامية بين الشعوب المسلمة. وإننا لنعلم أن المهمة شاقة وأن الأمانة ثقيلة ولكن الأمل فيكم كبير. فسيروا على بركة الله، واحملوا أمانتكم. واستمدوا العون من الله. وإنني أحمد الله الذي أسعدني بأن أشهد اجتماعكم في هذا اليوم الذي تحقق فيه أمنية غالية طالما تمنيناها ويتمناها كل مسلم صادق الإيمان. وفي الختام أتوجه إلى الله العلي القدير ومن جوار بيته العتيق بالدعاء أن يرزق الجميع الفقه في دينه والعمل بشريعته وأن يكون مستقبل أمتنا الإسلامية خيراً من حاضرها، وأن يلهمنا سبيل الصواب وطريق الرشاد وألا يزيغ قلوبنا بعد إذا هدانا إنه سميع مجيب. والله الهادي إلى سواء السبيل. وفقكم الله وسدد خطاكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 كلمة معالي الأستاذ / الحبيب الشطي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله خاتم النبيين وأشرف المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز، ملك المملكة العربية السعودية ... أصحاب السمو الملكي ... أصحاب المعالي والفضيلة والسعادة.. أيها الإخوة.. إن سعادتي غامرة بين يدي جلالتكم، وأنتم تشملون المؤتمر التأسيسي لمجمع الفقه الإسلامي برعايتكم السامية في هذا اليوم المشهود من أيام المسلمين، وبذلك تؤكدون عملياً يا صاحب الجلالة سعيكم المتواصل لرفعة الإسلام وعزة المسلمين. وأرى من واجبي في مستهل هذه الكلمة أن أشكر قادة الدول الإسلامية على استجابتهم بتسمية وفود رفيعة المستوى لتمثل بلادهم في اجتماعات هذا المؤتمر التأسيسي مما يدل على اهتمامهم بهذا الحدث الكبير. وإنني إذ أرحب بوفود الدول الإسلامية ترحيباً حاراً في هذا البلد الأمين، أعتبر هذا اللقاء فاتحة خير للأعمال المنتظرة من مجمع الفقه الإسلامي الذي سيشرع ابتداء من هذا اليوم في أداء مهمته الجليلة، تحقيقاً لإرادة الأمة الإسلامية التي عبرتم عنها شخصياً يا صاحب الجلالة عندما أعلنتم خلال مؤتمر القمة الإسلامي الثالث عن رغبة المملكة العربية السعودية في إحداث مجمع الفقه الإسلامي، وسرعان ما تبلورت الفكرة بمصادقة المؤتمر المذكور على قرار خاص بهذا الشأن. وما تشريف جلالتكم اليوم لافتتاح هذا المؤتمر شخصياً إلا دليل على مدى الاهتمام الذي تولونه لهذا المشروع الذي يعود معظم الفضل في توفير أسباب وجوده إلى جلالتكم. وهنا نحن نجتمع اليوم لنجني ثمرات ما غرسناه إذ أنه لأول مرة في تاريخنا المعاصر تتوفر لنا أسباب إنشاء مؤسسة كبرى مشتركة بين الدول الإسلامية كافة تعمل في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي. ألا وهي (مجمع الفقه الإسلامي) الذي أصبح اليوم حقيقة واقعة بعد أن كان حلماً يراود مخيلاتنا زمناً طويلاً. ولا ريب في أن تقلد مجمع الفقه الإسلامي مهمته الجليلة سيلبي حاجة الأمة الإسلامية خلال هذا المنعطف التاريخي من حياتها إلى مؤسسة طال انتظارها، مؤسسة تلتقي فيها اجتهادات فقهائها وعلمائها وحكمائها كي تقدم لهذه الأمة قواعد أصيلة صادرة عن منابع العقيدة الإسلامية الخالدة: كتاب الله الكريم وسنة رسوله المطهرة. أيها السادة: لقد واجهت الأمة الإسلامية حيناً من الدهر ظروفاً أبعدتها عن أحكام شريعتها ودفعتها إلى الأخذ بقوانين وضعية لم تألفها من قبل ومع ذلك لم تخل أمتنا من مجموعة رائدة من الدعاة الصالحين والقادة المخلصين المتمسكين بأهداب العقيدة الذين رفعوا عقيرتهم بوجوب الحفاظ على مقوماتنا الإسلامية الأصيلة ونادوا غير هيابين ولا وجلين بنبذ القوانين الدخيلة وبالالتزام بتراثنا الفقهي العظيم وبأحكام شريعتنا باعتبارها جزءاً من عقيدتنا ونبراساً ينير لنا مسالك الحياة ويهدينا إلى سواء السبيل. ودار الزمان دورته ورحل المستعمر المحتل من معظم بلادنا الإسلامية بعد جهاد طويل وأصبحنا متوفرين في دار الإسلام على مؤسسات وهيئات ومنظمات من شأنها أن توحد كلمتنا وتلم شتاتنا وتدعونا إلى الاعتزاز بمقوماتنا وتشعرنا بالثقة والاطمئنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وها هي منظمة المؤتمر الإسلامي تشق اليوم طريق العمل الجاد لخير كل المسلمين على كل صعيد، مهتدية بتوجيهات قادة هذه الأمة المخلصين، مستفيدة من آرائهم، متمتعة برعايتهم، محققة بفضل ذلك إنجازات طيبة متمثلة في إنشاء عديد من المؤسسات العاملة بجد واهتمام لتحقيق الوحدة الإسلامية نظرياً وعملياً ولشد الأمة الإسلامية إلى عقيدتها وأصولها وتراثها الحضاري. وبفضل تعاون علماء هذه الأمة – عبر المجمع – على التعريف بالنظريات الفقهية وبالمبادئ العامة في العدالة والحرية والأمن والسلم، وعلى تطبيق أحكام الشريعة تطبيقاً يجمع ما بين التطور والتفتح اللذين يقتضيهما العصر الحديث من ناحية والتمسك بالأصالة والارتباط بالعقيدة، من ناحية أخرى. وإذا حققنا ذلك فعلاً أمكننا السير بثبات على طريق العزة والكرامة والسؤدد والانتصار. وإن أهمية الفقه الإسلامي في مجتمعاتنا الإسلامية تتجلى في كونه يتناول بشكل مباشر حياة الفرد والأسرة والمجتمع والعلاقات في المجتمعات غير الإسلامية. ولذا فإن المؤسسة الجديدة التي تشرع منذ اليوم في عملها مؤسسة تعلق عليها أهمية كبرى لأنها ستتولي إصدار الفتاوى المنسجمة مع تطور الحياة في هذا العصر دون أن تخرج على مبادئ الدين الحنيف، كما أنها ستتولي وضع بحوث وآراء ودراسات تمكن قادة الأمة الإسلامية من أن يستوحوا منها الأنظمة المناسبة للمؤسسات والمجتمعات الإسلامية، مما يوفر الانسجام بين مختلف دولنا ويؤدي بالتالي إلى تمهيد طريق التضامن والوحدة أمام هذه الأمة. ولا يخفي أننا اليوم، نظراً لمقتضيات الحياة المعاصرة، ونظراً لرواسب عهد التخلف والاستعمار الذي حاول التقليل من شأن تشريعنا وشتت صفوفنا بصورة جعلت كلا منها يجتهد منفرداً دون أن يهتم بما يصدر عن أشقائه من اجتهاد، في حاجة إلى مثل هذه الفتاوى أكثر من أي وقت مضى. أيها السادة ... إن السر في انتشار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها بسرعة لم تعرفها الأديان التي سبقته وفي ازدهار الحضارة الإسلامية ازدهارًا لا مثيل له في تاريخ الإنسانية، يعود إلى ارتباط أجدادنا بعقيدتهم. وإلى حرصهم المستمر على مراعاة الانسجام بين وقائع الحياة اليومية والأسس العامة للإسلام باعتباره منهجاً كاملاً لحياة الإنسان، صالحاً لكل زمان ومكان، وقد أبرزت هذا الانسجام إلى حد بعيد القاعدة الفقهية السليمة والمتينة التي أرساها أجدادنا لتنظيم حياة الفرد والأسرة والمجتمع، ولتنظيم علاقاتهم مع المجتمعات الأخرى خارج دار الإسلام. ولقد مكنت تلك القاعدة المسلمين من تنظيم حياتهم تنظيماً دينياً ودنيوياً في وقت واحد. إذ أنهم جمعوا ما بين العبادة والعمل: فقد آمنوا بالله أعمق إيمان وأخلصوا له. وتفانوا في الوقت نفسه، في إتقان أعمالهم، تفانياً جعلهم قادة التطور والتقدم والرقي كما جعلهم رواد زمانهم في حقول العلم والفكر والابتكار والإبداع، ولم يكن غريباً والحال هذه أن تنشر حضارتهم ظلالها على كل أرجاء الكرة الأرضية، مما جعل الشعوب الأخرى التي كانت إذ ذاك تعيش في ظلام القرون الوسطى ترسل أبناءها إلى جامعاتنا ومؤسساتنا الحضارية ليتزودوا من مناهل العلم والمعرفة بما يعود بالنفع عليهم. ومن المعلوم أن الحضارة الغربية المعاصرة هي نتاج حضارتنا الزاهرة. وكما نجح أجدادنا في رفع راية الإسلام بالإيمان والعمل، فإننا لا شك قادرون على أن نحذو حذوهم لنعيد إلى الإسلام مكانته ومجده، لا سيما وأننا نتوفر على إمكانات وطاقات وثروات لم يتوفر مثلها لأجدادنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 أيها السادة ... لقد لبت الشريعة الإسلامية، على الصعيد الفقهي حاجات دار الإسلام على مر القرون، فأمدتها بالقواعد والأصول المتسمة بالمرونة الرامية إلى تحقيق الصالح العام ودرء المفاسد، وقد رأى فقهاء المسلمين أن عليهم أن يضبطوا قواعد الفقه ويدونوها ويدرسوها لأبنائهم، ورأوا كذلك أن يستنبطوا أحكاماً لكل ما يعرض عليهم من موضوعات وقضايا ومسائل، بل إنهم افترضوا أحداثاً ووقائع قبل أن تحدث، وحرصوا على أن يضعوا لها الحلول الملائمة وهكذا أضحى لدينا كنز لا يقدر بثمن من الأبحاث والمؤلفات الفقهية التي تعالج مشكلات الناس في كل الأقطار. وبناء على ذلك، فإن مجمع الفقه الإسلامي لا ينطلق اليوم من فراغ لأنه سيجد بين يديه بحراً زاخراً من تراث الآباء والأجداد، ولا يعني ذلك أننا سنكتفي بهذه الكنوز ونعيش عالة على الرصيد الذي ورثناه عن أجدادنا، بل إن من واجبنا أن نواصل العمل لإثرائها وتلافي النقص الذي حدث نظراً للأوضاع الحديثة والظروف الراهنة التي علينا أن نواجهها. ولذا فلن تقتصر مهمتنا على رعاية هذا التراث فحسب، بل ينبغي استثماره لدفع مسيرتنا قدماً. أيها السادة.. من دواعي السرور والغبطة أن إنجازات هامة أخرى ستتبع قيام هذا المجمع، كمحكمة العدل الإسلامية الدولية التي اتخذت منظمة المؤتمر الإسلامي خطوات متقدمة لإخراجها إلى حيز الوجود، وهي المحكمة التي نحن في حاجة ماسة إليها، وسيكون من مهمتها النظر في الخلافات التي قد تنشأ بين الدول الإسلامية قصد إيجاد حلول لها عملاً بتعاليم ديننا الحنيف التي تأمر بإصلاح ذات البين، كي لا نلجأ نحن – المسلمين – في تسوية خلافاتنا إلى مؤسسات تعتمد في أحكامها على غير الشريعة الإسلامية. ومن تلك الإنجازات أيضاً وثيقة حقوق الإنسان في الإسلام التي ستكون ملزمةللدول الأعضاء كافة. ومن أجدر من المسلم بأن يصوغ هذه الوثيقة وقد كرم الإسلام الإنسان، فضمن له الحياة المادية والروحية، وكفل له الحرية والأمان والاطمئنان والحقوق؟ وهناك أيضاً اللجنة الإسلامية الدولية للقانون، وهي هيئة دائمة ستكون تابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وتتألف من خبراء قانونيين متمكنين في علوم الشريعة الإسلامية. ومن مهامها وضع دراسات وبحوث تساعد على نشر الشريعة الإسلامية وإيجاد الوسائل التي تؤمن تمثيل وجهة نظر الإسلام في الهيئات الدولية كلما دعت الحاجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ويتضح من ذلك أنه رغم الأبعاد الجغرافية واختلاف النظم السياسية وتباين اللغات واللهجات، ورغم كل الفوارق التي لا مفر منها في عالم مترامي الأطراف كالعالم الإسلامي، فإن العمل الإسلامي المشترك يسير والحمد لله قدماً بصورة بناءة مما يساعد على التضامن الإسلامي المنشود، وإن كل عمل ننجزه بصورة جماعية في أي ميدان ما هو إلا خطوة نحو مزيد من التقارب والتآخي، وبالتالي نحو نبذ الخلافات والنزاعات الطارئة القائمة بين الأشقاء. وبإقامة مؤسسات كهذه المؤسسات الهامة، وبعقد لقاءات للأشقاء المسلمين في نطاق مؤسساتنا المتعددة الاختصاصات، وبتمكينهم من التعارف والاطلاع على شؤون بعضهم، والتعاون فيما بينهم من أجل مزيد من التضامن للدفاع عن قضايانا، ولتقوية مناعتنا بذلك كله، نبني صرح هذه الأمة لبنة لبنة. إن بلداننا تعمها اليوم صحوة إسلامية مباركة تتمثل في حماسة شبابنا بالخصوص لإحياء تراثنا والتمسك بأصالتنا والتخلص من رواسب الاستعمار لتكون مسيرة أمتنا في مطلع هذا القرن الخامس عشر مسيرة إسلامية خالصة، فلنهيئ للجيل القادم وللأجيال التي ستتبعه القواعد الثابتة التي تضمن لمسيرته السلامة وتفتح أمامه سبل الإيمان القوي والعلم الغزير والقدرة على مواجهة تحديات العصر وأعداء الأمس واليوم والغد. أيها السادة ... إن التحديات التي نواجهها اليوم تهدد مصير أمتنا: فالقدس مهددة بفقدان شخصيتها الإسلامية. وفلسطين مهددة بالاستعمار الصهيوني وأفغانستان ما تزال مسرحاً لغزو أجنبي، أما حرب العراق وإيران فهي نزيف مستمر لطاقاتنا البشرية والمادية مما يضعف أمتنا. ومواجهة كل هذه التحديات تتطلب أمرين ملحين: أولهما: الاتحاد والتضامن، وثانيهما: أن نكون في مستوى من الكفاية والقدرة يتماشى مع عصرنا هذا ومع مستوى خصومنا وأعدائنا. وإذا حققنا هذين الهدفين فإننا سننتصر على أعدائنا ونحرر أوطاننا ونصون كرامة شعبونا ومعتقداتها ومثلها. ولا يكون ذلك إلا بمواصلة العمل الجماعي في كل ميدان من ميادين الحياة في بلادنا، كما هو الشأن اليوم في هذا الميدان الأساسي (ميدان الفقه الإسلامي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 كلمة معالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، نحمده ونثني عليه بالذي أثنى به على نفسه، فله الحمد كله، وله الملك كله، بيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله.. نحمده أن منحنا من فضله هذه الهيئة العلمية الكريمة السامية التي أرادها جل جلاله أول تنظيم عالمي يعبر عن وحدة أمتنا في مجال الفقه وخدمة الشريعة الإسلامية. ونسأله تعالى أن يرزقنا الهداية والتوفيق إلى العمل بكتابه والاحتكام إليه والنفوذ إلى أسراره والتدبر لمقاصده ومعانيه، فهو الذكر والبيان، والبصائر والبرهان، الحق والهدى والرحمة.. {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 114] . والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد عبد الله ورسوله المبعوث للناس كافة هدى ورحمة {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] . حضرة صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير مكة المكرمة معالي الأستاذ الحبيب الشطي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي أصحاب السماحة والمعالي والسعادة ضيوفنا الكرام حضرات الأعضاء الأكارم المحترمين أحييكم بتحية الإسلام تحية من الله مباركة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد. يشرفني في طليعة هذا الخطاب أن أرفع إلى الحضرة الملكية مقام جلالة الملك المعظم فهد بن عبد العزيز أعزه الله ونصره كل آيات الامتنان والشكر والتقدير لأياديه البيضاء على هذا المجمع الفقهي الإسلامي الذي رعاه وما زال يرعاه حق الرعاية حتى يستوي على سوقه ويؤتي أكله الطيب بإذن الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 كلمة: معالي الدكتور عبد الله عمر نصيف الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم السلام على رسولنا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه. وبعد: صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة أصحاب السماحة أصحاب المعالي أصحاب الفضيلة والسعادة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: أحمد الله تعالى أن يسر لنا هذا اللقاء الكريم في رحاب بيته العتيق. بهذه المناسبة الكريمة لافتتاح الدورة الأولى لمجمع الفقه الإسلامي في منظمة المؤتمر الإسلامي. وأن رابطة العالم الإسلامي تسعد بأن تنتهز هذه الفرصة المباركة لتعرب عن أمانيها الطيبة لهذا المجمع المبارك. ويسرها التعاون والتنسيق معه لتتحد جهود المجمعين وهما مجمعكم هذا المبارك والمجمع الفقهي الإسلامي للرابطة التي تستقبل دورته الثامنة خلال أيام إن شاء الله، ولتنتظم أنشطتها في ظل راية التوحيد على أرض الإسلام والسلام خدمة للأمة الإسلامية وتكاتفا من أجل مواجهة السموم التي سنها أعداء الإسلام. وإن الظروف التي نعيشها والأحداث التي تواجهنا والمشاكل المستجدة التي تمس حياتنا اليومية كلها تتطلب من فقهاء العصر اجتماعا وتكاتفا لمقابلة هذه المسائل والمشكلات ولصد التيارات الجارفة التي تحمل العداء لكل من ولى وجهه شطر المسجد الحرام. لذا أصبح الاجتهاد متعينا على فقهاء الأمة للورود من المعين الصافي الذي لا ينضب أبدا للشريعة الإسلامية والغوص في أعماق الثروات الفقهية التي تركها لنا سلفنا الصالح رضي الله عنهم لبيان الحكم الشرعي وإظهار خصوبة الفقه الإسلامي وقدرته على تقديم أنجع الحلول الإسلامية لمشاكلنا وقضايانا المعاصرة للحصول على فكر فقهي متجدد يهيئ للمسلمين أمكانية مواجهة التحديات التي تقابل أمتنا الإسلامية. أيها الأخوة الأفاضل لقد من الله علينا بنعم كثيرة ومن مظاهرها إنشاء هذا المجمع المبارك ووجودكم هنا معشر العلماء لتحمل هذه الأمانة في بيان الأحكام الشرعية لكل ما يجد ويحدث، أسأل الله أن يوفقكم للعمل الجاد البناء في هذا المجال بما يحقق لهذا المجمع ما يصبو إليه من تقدم وازدهار وخدمة للمسلمين. وأغتنم هذه المناسبة لأتقدم بالشكر والتقدير لخادم الحرمين الشريفين جلالة الملك فهد بن عبد العزيز على ما يقدمه من دعم متواصل لخدمة العالم الإسلامي وقضاياه وعلى ما يبذله من عطاء سخي في هذا الجانب، كما يسرني أن أشكر معالي السيد الحبيب الشطي، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي وكذلك أقدم شكري لمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي مع أخلص تمنياتنا له ولهذا المجمع المبارك. سائلا المولى القدير أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم وأن يلهمنا رشدنا وأن يمدنا بعونه وتوفيقه إنه على كل شيء قدير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 كلمة: سعادة الدكتور صالح طوغ مندوب تركيا نيابة عن مندوبي آسيا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين، صاحب السمو الملكي، أمير مكة المكرمة.. معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي.. معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي.. معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي.. أعضاء مجمع الفقه الإسلامي الأفاضل.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. قبل كل شيء اسمحوا لي أن أقدم الشكر إلى رئاسة الاجتماع التي أتاحت لي فرصة توجيه كلمة قصيرة باسم مندوبي آسيا. وأود أيضا أن أقدم شكرنا وتقديرنا العظيم إلى المملكة العربية السعودية ولعاهلها الملك فهد بن عبد العزيز المفدى لاستضافته هذا المؤتمر ولسمو أمير مكة المكرمة ماجد بن عبد العزيز لرعايته مؤتمرنا. إن مجمع الفقه الإسلامي الذي أسس منذ سنتين من قبل الدول الإسلامية لبشرى لجميع المسلمين وكلنا مكلف ببذل الجهود والطاقة لإنجاح هذا المجمع لأنة هدف من أهداف المسلمين العظيمة ,وسوف يتمكن هذا المجمع بإذن الله من تحقيق أهدافه وتنفيذ مشاريعه الفقهية التي ينتظرها العالم الإسلامي. ونرجو الله أن يوفقنا في إيجاد الأجوبة للمسائل الفقهية وفي إيجاد طريق شرعي للمشاكل التي ستعرض على مجمع الفقه الإسلامي. إننا متأكدون بأن هذا المجمع سوف يلعب دورا هاما فيما يتعلق بالمسائل الفقهية وبكل ما يتعلق بالحياة الاجتماعية الاقتصادية والثقافية للبشرية جمعاء، لأن الدين الإسلامي دين سماوي للبشر كافة، كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] .. وأخيرا اسمحوا لي أن أقدم إلى حضراتكم جميعا شكري وتمنياتى الخالصة باسمي وباسم إخواني مندوبي آسيا وباسم الشعب التركي المسلم. وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 كلمة: معالي الأستاذ عبد الرحمن باه وزير الشئون الدينية في جمهورية غينيا نيابة عن مندوبي أفريقيا بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي أصحاب الفضيلة العلماء والفقهاء ممثلي الدول الأعضاء السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه وصفاته القائل في محكم تنزيله {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} صدق الله العظيم. [التوبة: 122] . نصلي ونسلم على خاتم النبيين المبعوث بالرحمة إلى البشرية جمعاء مبشرا ونذيرا وهاديا إلى الصراط السوي القائل: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)) . أيها الأخوة، نشكر الله سبحانه وتعالى على نعمة الإسلام وعلى أن جعلنا من أتباع سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهدانا إلى الصراط المستقيم. أيها الأخوة، القرآن نعمة كبرى، لم يترك القرآن الكريم خيرا إلا ودعانا إليه وبينه لنا، ولم يترك شرا إلا ونهانا عنه ودعا إلى اجتنابه، وتولت السنة النبوية الطاهرة تفصيل مجمله وشرح محكمه ومشتبهه. والفقه الإسلامي تراث حضاري شامخ، ومعين لا ينضب، لمن أراد الهداية في البحث العلمي والاجتهاد على ضوء من الكتاب والسنة، فيه كل ما تحتاج إليه البشرية في حياتيها الدنيوية والأخروية. إن تحديات ومعضلات العصر الاقتصادية والمالية والقضائية والتشريعية لتجد لها الحلول العادلة في الفقه الإسلامي وما علينا إلا البحث الجاد والمخلص والدؤوب في طياته ونفض غبار النسيان والإهمال عن كاهله لنستنبط منه القوانين لحياتنا العملية والنظرية ونترك جانبا تلك الدساتير والقوانين الوضعية التي يعمل بها معظم البلدان الإسلامية. نحيى ونبارك مولد هذا المجمع الإسلامي الذي يربط ماضينا بحاضرنا في المجالات المادية بالفكرية ويسد فراغا ظل شاغرا به دفع البعض منا إلى الجري وراء القوانين الوضعية البراقة التي لم تجلب للعالم الإسلامي إلا الفرقة والنزاع والانقسام والتناحر بل الطائفية على مرأى ومسمع من العلماء والفقهاء رغم الشريعة الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 أيها الفقهاء والعلماء، علينا أن نعمل ونرسم الخطط وننقب في التراث إنه لبحر زاخر ومحيط متلاطم بالدرر فيه الدواء الشافي لكل الأوجاع سنجد فيه الضالة ما تمسكنا بالكتاب والسنة جاعلين نصب أعيننا بعد رضاء الله الهدف الأسمى والغاية القصوى وهو الأخذ بيد الأمة الإسلامية إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله في شتى نواحي الحياة. باسمكم جميعا نتقدم بالشكر الجزيل والثناء الوافر إلى صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز لمنحه هذا المجمع مقرا فاخرا يليق به، ونقول في حق جلالته: أيا فهد فاهد الورى خادما لكعبة ربك يا طاهر أيا فهد فاهد الورى هادئا هدوء المليك الذي يعمر (فلو كان للشكر شخص يبين إذا ما تأمله الناظر) (لمثلته لك حتى نراه وتعلم أني أمرؤ شاكر) كما نتوجه بالشكر إلى صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء وإلى حكومة جلالة الملك والشعب السعودي الشقيق لاستضافته هذه الدورة ولتكون أم القرى مولدا له. كما نتقدم بالتقدير إلى معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الحبيب الشطي لما قام به في سبيل الإعداد الجيد لتأسيس مجمعنا والأخذ بيده حتى ترعرع ووصل إلى ما نشهده اليوم حيث أصبح حقيقة ملموسة بعد أن كان حلما. هذا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى الذي أراد أن يكون البلد الأمين مولدا وها هو اليوم يحتضن أول اجتماع له تبركا به. كما نهنئ فضيلة الدكتور محمد الحبيب الخوجة الأمين العام للمجمع الذي نال شرف إدارة هذا الصرح الحضاري الوليد وهذا الجهاز الأكاديمي المتطور العملاق الذي يضم بين جنباته العالم الإسلامي بأسره، نتمنى له كل توفيق في مهمته الإسلامية الشاقة والنبيلة لنستفيد منها. كما نهنئ جميع الأعضاء للعمل في خدمة الفقه والشريعة لما فيه خير الأمة الإسلامية. {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 كلمة: سعادة الأستاذ محمد ميكو مندوب المملكة المغربية نيابة عن مندوبي الدول العربية بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين حضرة صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، سيادة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي، أصحاب السعادة الفقهاء الأعلام، أود بادئ ذي بدء - أصالة عن نفسي ونيابة عن باقي الوفود المشاركة - أن أتوجه بخالص الشكر والامتنان لما لقيناه من كرم الضيافة، وحسن الوفادة والرفادة، في هذه البقاع الطاهرة، في رحاب مكة المكرمة، أرض الرسول الأمين، ومهبط الوحي المبين، ومهد رسالة المؤمنين المتقين. هذه الديار التي كلما تنادى إلى اللقاء في أكنافها جمع، واتصل في ربوعها شمل، إلا واستعرضنا عطاءها الفياض، فهي معقل الأنبياء والرسل، ومصدر العدالة والقداسة، تحيط بها ملائكة الرحمن في كل وقت وآن، إلا وأشرقت على قلوبنا كمؤمنين وعلى عقولنا كمفكرين موضوعيين أشعة الاعتزاز والافتخار بما تمتاز به الرسالة الإسلامية من أبعاد حضارية فكرية تستهدف إسعاد الإنسان في مختلف الأمصار والأعصار. هذه الديار التي حباها الله بأسرة آل سعود العظيمة، وبقائد شهم، ورائد مظفر همام، وضع فكره وحصافته في خدمة رعيته، ووظف خبرته وكفاءته لتحقيق الازدهار والتقدم، وإيجاد الحلول الناجعة للقضايا الوطنية، والعربية، والإسلامية، يذود عنها، ويحمي حماها صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز المعظم. فإلى سامي حضرته أرفع تحيات أخيه صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني حفظه الله، وخالص متمنياته ودعواته بالتوفيق والتسديد، فيما يبذله من جهد جهيد، لصالح رعيته، ولصالح الأمة الإسلامية جمعاء، فنعمه عليها كثيرة، وخيراته تترى هنا وهناك، وما تفضله بشمول هذا المجمع برعايته السامية إلا نقطة من بحر عطاءاته المتصلة اتصال استمرار واسترسال فخطابه في الحفل الافتتاحي للمؤتمر التأسيسي ما زالت أصداؤه ترن في آذاننا بتوجيهاته القيمة، ونصائحه الغالية المفيدة، ودرره اللامعة المضيئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وقد يكون من الضروري والعالم الإسلامي يعيش منعطفا دقيقا وتاريخيا يقضي باليقظة، والتفتح، والعمل الصالح، في ظل رسالة القرآن الكريم أن نجعله نصب أعيننا نستوحى منه نقط الانطلاق والالتقاء، فقد قال جلالته بالحرف: "إن روح العمل الجماعي هي الصلة المميزة لنجاح الأمة الإسلامية وقدرتها على مواجهة جميع التحديات، وأن المؤشرات تدل على أن الأمة الإسلامية قد وضعت أقدامها على طريق تصحيح المسار، والعودة إلى رحاب العقيدة في ظل تضامن أبناءها ... إننا نؤمن جميعا – أيها الأخوة – أن الإسلام دين يخاطب العقل، ويناهض التخلف في شتى صوره وأشكاله، ويشجع حرية الفكر، ويستوعب منجزات العصر، ويحض على متابعتها، كما أن الإسلام وهو يضع قواعد السلوك الإنساني فإنه ينظم العلاقات الاجتماعية والدولية على أساس من الرحمة حيث يقول الله عز وجل في محكم التنزيل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] . حضرات السادة الأكارم، يسجل التاريخ بكل إكبار وإجلال أن صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني حفظه الله خاطب الضمير الإسلامي سنة 1969 بروحانية المؤمنين الصابرين أن أزفت ساعة الالتقاء والالتحام، فالخطب جلل، والمصيبة داهية دهماء، قاتلة إن لم تنبذ الأمة الإسلامية متاهات الخلاف والشقاق، وتسعى بروح وثابة صلبة بناءة إلى التلاقي والوفاق، فالمسجد الأقصى يحرق، والقدس الشريف يسرق، ومعالم الحضارة الناطقة بتعايش الديانات السماوية الثلاثة تباد وتمحق. وشاءت العناية الربانية أن تجد هذه الصيحة الطاهرة تجاوبا مطلقا في مختلف البقاع والأصقاع، فيلبي القادة الأعلام الدعوة الملكية الكريمة، ويستضيف رباط الفتح المؤتمر الأول للقمة الإسلامية: حيث حددت المعالم، وظهرت الاختيارات والمراسم، واتضحت الرؤية لوضع المواثيق والأحكام لتسترجع الأمة الإسلامية قوتها ومناعتها أمام المتآمرين على شخصيتها، وحضاراتها، ورسالتها السماوية الإنسانية. {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119] ، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] . وشاء ربك أن يبين جلالته في خطابه السامي ما ينتظره المسلم في هذا الملتقى، "المنتظر منا أن لا نخيب رجاء الذين ينتظرون نتائج أعمالنا، المنتظر منا أن نعطي للعالم فكرة جديدة على تجمع المسلمين، فكرة الفعالية، فكرة العمل، فكرة الواقعية، فكرة الإيجابية. علينا أن نجعل من هذه الخطوة التي بارك الله سبحانه وتعالى عملها خطوة تتلوها خطوات، ولبنة تقف فوقها لبنات، وأساسا يمكننا أن نبني عليه جدارا ذلك الجدار الذي يجمع بين جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها". وشاء ربك أن يكون المؤتمر الأول خطوة تلتها خطوات تأصيلية وتحليلية وفي مختلف الميادين، فأصبحت منظمة المؤتمر الإسلامي هيكلا وأجهزة وروافد حقيقة ملموسة، وأخذت محكمة العدل الإسلامية الدولية طريقها للنور، بالإضافة إلى وثيقة حقوق الإنسان في الإسلام، وتكوين اللجنة الإسلامية الدولية في القانون، وتوجت كل هذه الأعمال الجليلة بمجمع الفقه الإسلامي الذي سيساند الصحوة الإسلامية، ويزكي اعتزاز كل مسلم بدينه الحنيف، وانتمائه الحضاري المشرف، وماضيه المشرق المجيد، ومستقبله الواضح القوي السديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وكم يسعدني أن أغتنم هذه الفرصة لأزف إليكم أن صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني شرفني بصفته رئيسا لمؤتمر القمة الإسلامي الرابع فكلفني بأن أحمل إلى هذه المنظمة السامية وإلى أعضائها المحترمين تحياته العاطرة، ومتمنياته الصادقة، بالنجاح والتوفيق في جميع الأعمال، مؤمنا بأنها ستكون فاتحة عهد جديد لصالح الفكر الإسلامي، والفقه المحمدي، والشريعة الخالدة، مباركا أعمالها في الحال والمآل مطمئنا إلى أنها ستكون في مستوى ما يعلق عليها من آمال. حضرات السادة، لا يخفى عليكم أن الفقه الإسلامي عرف ككل كائن حي طور النشأة ومرحلة الشباب، وطور النضج والكمال عندما كان الأئمة الأعلام يتعمقون دراسة أصوله، من قرآن كريم، كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وسنة نبوية طاهرة، قولية، أو فعلية، أو تقريرية، قال تعالى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران: 132] . وقال عز من قال، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] . وإجماع دل على صحته قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] . واستنباط وهو القياس على هذه الأصول الثلاثة لأن الله جعل المستنبط من ذلك علما وأوجب الحكم به فرضا قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وإلى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] . وقال عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] ، أي بما أريك فيه من الاستنباط والقياس. لقد انتصب الفقه الإسلامي شامخا في ربوع الأمة الإسلامية، وأضاء الفكر الإنساني بما أمتاز به من عمق وشمولية يوم كان الأئمة الأعلام يتشبثون بالثوابت التي تعتبر فوق الزمان والمكان، فلا مساغ للاجتهاد في مورد النص، ويستنبطون أحكام النوازل بما يتوافق والأعراف، وما تقتضيه المصالح المرسلة والاستحسان، فيختلفون اختلافا طبع على التسامح، إذ اختلاف أمتي رحمة، وينتجون نتاجا أثرى المعرفة الإنسانية، وحرر الفكر البشري من قيود الأغلال والأصفاد، والهمة طريق النور والهدى والرشاد. ولكن هذا العملاق الشامخ تسرب إليه الضعف والوهن يوم اقتصر الفقهاء على التقليد، ففضلوا المتون والشروح والحواشي، واعتبروا أن الاجتهاد باب مغلق، وطريق دونه خرط قتاد. أحاطوا بستان الفقه بحيطان شاهقة، ثم بأسلاك شائكة، ووضعوه فوق حبل وعر بعدما صيروه غثا، وألقوا العثرات في طريق ارتقائه، والتمتع بأفيائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ولكن هذا العملاق الشامخ دب إلى كيانه الهرم والشيخوخة يوم تعصب الفقهاء إلى الفروع وتناسوا الأصول حتى قال العلامة تاج الدين السبكي في كتابه "معيد النعم ومبيد النقمم": فلعمر الله لا أحصي عدد من رأيته يشمر على ساق الاجتهاد في الإنكار على شافعي يذبح ولا يسمي، أو حنفي يلمس ذكره ولا يتوضأ، أو مالكي يصلي ولا يبسمل، أو حنفي يقدم الجمعة على الزاول، وهو يرى من العوام ما لا يحصى عدده إلا الله يتركون الصلاة التي جزاء من تركها عند الشافعي ومالك وأحمد ضرب العنق ولا ينكرون عليه". ويشاء الله أن تعرف الأمة الإسلامية صحوة جديدة فتثار معركة إحياء التراث بين جماعة تعتقد أن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وجماعة تدعو إلى تجاوزه فقد استنفد أغراضه في زمن معين، ومكان خاص، وإذن فستعيش الأمة الإسلامية في حالة استيلاب واغتراب. ولا ريب أن مجمعنا سيكون كما أراد الله للأمة الإسلامية أن تكون {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، ستلتزم بالقرآن الكريم، والسنة الثابتة الطاهرة، في إطار العدل والمصلحة والإحسان، فالقرآن نزول وتنزيل، نزول تم بموت الرسول، وتنزيل على الوقائع واستنباط الأحكام يجب أن يستمر إلى يوم يبعثون، ذلك أن الدين الإسلامي دين خلق وإبداع، دين منفتح يترك للفرد مبادرة كبرى، وحرية في التكييف والتغيير. وتوقع التحولات. ونحن سنجابه الواقع بما فيه من تحديات، ومشاكل اجتماعية وحضارية، وبما فيه من علوم وتقنيات ومعارف لنستنبط من الأصول بروح جماعية الحلول الملائمة. إن عودتنا إلى القيم التراثية بهذه الصورة حجة على مسايرة عضوية، وبرهان على أنه يوفر للقيم التي يحملها التحاما عميقا للواقع الذي نعيشه، فالرسالة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، والشريعة الإسلامية مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المضرة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل. حضرات السادة الأجلاء، إن الاعتراف بالجميل، وإسناد الفضل إلى ذويه سنة متبعة، وطريقة محكمة، وصفة حميدة في محيط الأخلاق الإسلامية قال تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، وقال عز من قائل {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} . [الأعراف: 85] فمعالي الأمين العام الأستاذ الجليل السيد الحبيب الشطي معلمة شاركت في مختلف دروب النضال ليستعيد وطنه الحبيب الحرية والاستقلال، وشاركت في معركة الجهاد الأكبر، فتقلب في مسؤوليات سامية في الداخل والخارج، كان في جميعها عملا متواصلا ورؤية صادقة، وتفكيرا ثاقبا، وابتكارا يبحث عن الحلول التي يستقطبها الصالح العام، ثم عندما أسندت إليه الأمانة تحملها بنفس راضية مرضية. فكان صلبا في مبادئه واختياراته، صبورا في خطواته وإنجازاته، حتى ازدانت هذه المنظمة بنتائج باهرة. وأعمال إيجابية صالحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ومن حسناته التي تكتب بمداد الفخر والاعتزاز فتشكر، تعيينه في نطاق الفقرة الثانية من المادة الحادية والعشرين للنظام الأساسي لهذا المجمع لفضيلة الأستاذ الكبير، العلم النحرير، الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة أمينا عاما لهذا المجمع، إنه شخصية علمية تجاوزت الحدود الوطنية، عرفناه في الدروس الحسنية. وفي الحلقات الدراسية للأكاديمية الملكية يحاضر بوقار العلماء، ويناقش بتسامح الصلحاء الأصفياء، ويستنبط القواعد والأحكام بقوة فولاذية. وعبقرية نادرة، فهو بحق موسوعة علمية، ومعلمة أخلاقية سامية، مخضرم في تكوينه بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، له ذهنية تركيبية تسمح له بالتنسيق بين الأصالة والمعاصرة، بين الرسالة السماوية والقوانين الوضعية، فهو مفت رائد، وعلامة كبير في القانون المقارن. فإلى حضرته تهانينا الحارة، ومتمنياتنا الصادقة، وكم يعز علينا أن نتفاءل بتعيينه فسيكون قطب الرحى، والقوة الديناميكية لهذا الملتقى، يشرف مسؤوليته بما يمتاز به من خصال حميدة، وأخلاق إسلامية سامية، وفقه الله ووفقنا جميعا للصالح العام، وجعلنا في مستوى المسؤوليات التاريخية الملقاة على عاتقنا، حتى نشارك في مسيرة النماء والتطور في ظل الأصول الإسلامية، والرسالة المحمدية الخالدة حتى نكون عند حسن ظن قادتنا الأعلام. {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] ، صدق الله العظيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 أعمال المؤتمر خطاب: معالي الدكتور بكر أبو زيد رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدلون من ضل ويبصرون بنور الله أهل العمى ويصبرون منهم على الأذى ويحيون بكتاب الله الموتى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه، فلله ما أحسن أثرهم على الناس ولكن ما أسوأ أثر الناس عليهم يمحون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فنشروا ألوية السنة وقمعوا رؤوس الضلالة والبدعة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمة قامت عليها الأرض والسماوات ومن أجلها أرسلت الرسل وأسست الملة ونصبت القبلة وجردت سيوف الجهاد، وأشهد أن محمدا عبده المجتبى ونبيه المصطفى بلغ عن الله حق البلاغ وأدى الأمانة حق الأداء - اللهم صل وسلم عليه كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون، ورضي الله عن الصحابة الكرام وآل بيته الأطهار. وبعد، معشر الحضور الكرام، رجال هذا المجمع مع الاحتفاظ بكريم الألقاب وعواليها لحضراتكم الكريمة، أهدي لكريم مسامعكم من ردهة هذا المجمع، ونحن نعايش جملا من جلائل النعيم وعظيم المآثر فنحن في بلد الله الحرام دار أمنه وموئل حرمته وفي أول مجمع للفقه الإسلامي يكون على وجه البسيطة بهذه الصفة إذ يتبناه من بسط الله أيديهم على البلاد والعباد فهذا المجمع شعاع هبط علينا من ملوك ورؤساء وأمراء العالم الإسلامي بفضل من الله وتوفيقه واستشعارا بمدى حاجة الأمة المحمدية إلى تزكية سدتها وقوتها العاقلة بالعلم الشرعي الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فحق للسان أن يتحرك رطبا بذكر الله {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] ، ومن الجاري ظفر الطالبون واتصل الوصل وفاز الأحباب بالأحباب، لقد جاء هذا المجمع في وقت رثت فيه حبال الأمة فاشتدت حاجتها إلى تزكيتها، إلى تزكية سدتها وقوتها بالعلم الشرعي الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلكم بلم شتات طاقاتها الإسلامية المبعثرة من رجال مخلصين برزوا في حلائب العلم يسيرون على النهج السوي وينهلون من المشرع الروي لينهضوا بجناحه المهيض إلى مطار السؤدد والمجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 إن هذا المجمع نشر السرور لبناة المجتمع الإسلامي من سروات الرجال وخيارهم، ورأوا في مولده بروز عهد جديد لاستكمال الوجود الإسلامي في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وحرك باب الرجاء في هذه الأمة الكريمة، وإن من لطائف الصدف ويمن الطالع أن تنطلق الدعوة الكريمة إلى هذا المجمع عزمة من عزمات خادم الحرمين الشريفين بمحضر من قادة العالم الإسلامي فيجتمع رأيهم بالإجماع على ذلك وأن هذا المجمع يشبه تماما أول ميثاق نشأ على وجه هذه الأرض المقدسة إذ حضره النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، وأقره بعد نبوءته ورسالته، فقال: ((لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأحببت)) ذلكم هو ما عرف فيما بعد باسم "حلف الفضول" إذ تحالفوا على رد الفضول إلى أهلها، وردع الظالم ونصرة المظلوم. واليوم يأتي ذلك المجمع على حين فترة ليكون حصنا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من دواعي الانحلال والتفسخ وعوامل الفرقة والتفكك، إنه ليقوم في هذه الأمة مقام الوالد بنشر أنوار التنزيل والسنة المشرفة في عقيدة الأمة وسلوكها وأخلاقها وشتى دروب حياتها، إنه لانقاذها من أمور ألمت بها إذ أصابها رذاذ من وابل أعدائها فغشي على طريقها ما غشى، ولإنقاذها من ظلمات ثلاث طالما تهافتت هي ظلمة في العقائد وظلمة في الأنفس وظلمة في الأحكام، إنه يهدف إلى تجاذب بردة المساجلة لسوابح الأفكار وسوابق الأقلام في الأمور الاجتهادية بين ثلة من علماء الإسلام حتى تنزل تلكم الأمور الاجتهادية منزلتها من العقل والدين إنه يهدف إلى إعمال وصل الأمة بربها وإعلائها عن مراتب الضعف والهوى وعن قاطعات الأرحام وجازمات حبال الإخاء وان هذا المجمع بقدر ما له من أهداف سامية بعيدة المدى وعميقة، فإنه ينطلق من أسس متينة وجذور عميقة ذلكم أنه يسير في خطوطه العريضة المتمثلة في أمور من أهمها: إيجاد معلمة للفقه الإسلامي تكون خالصة من الرأي الهجين والمقرف والدخيل متخلصة من شوائب القوانين الوضعية بصورها وأشكالها فضلا عن الحقائق وإعدادها. ومنها التصدي للفتيا في نوازل العصر ومسائل العلم وقضاياه. ومن أهمها مثاقفة الداء العقام الذي نسميه بالاستعمار الفكري، ولو أنصفنا لتابعنا العلامة الطاهر ابن عاشور في تسميته له بالطاعون حتى يضحي ذلك الاستعمار أو ذلكم الداء العضال كحرف لا يقرأ بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 معشر الحضور الكرام إن هذا المجمع كما يعلم الجميع ينبني على قاعدتين أساسيتين مشتبكتين اشتباك الروح بالهيكل، القاعدة الأولى: تمحض المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا المجمع تبتدئ وتنتهي قراراته وبحوثه ومداولاته في مضمار مناهج الأدلة الشرعية من الكتاب الكريم وصحيح السنة وسليم القياس وصالح الإجماع وما جرى مجرى ذلك من الأدلة التبعية. هذا مع وافر الحرمة والتقدير لعلماء الإسلام وأئمته الكرام بفضل سابقتهم في الإسلام والعلم والبيان. القاعدة الثانية: تمحض صدق النية مع الله سبحانه وتعالى فيما نأتي ونذر من أقولنا وأعمالنا فإنه إذا صدقت النية وصلحت العزيمة فإنه يظفر الطالب بالمطلوب ويتحقق للمؤمل المأمول. معشر الحضور الكرام، إنني أجد في الوقت الذي أجد فيه شرفا عظيما في اختياركم لي رئيسا لهذا المجمع، فإنني أجد ما يغطي ذلك من أن هذا تكليف لي وأنه أمانة عظمى أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يعينني على أدائها وأن يوفقنا وإياكم لكل عمل صالح مبرور وإنني أقدم لكم شكري وخالص تقديري وامتناني واسمحوا لي أن قصرت في إبداء ما يجب لكم من الشكر والامتنان، فإن العرب قد مدحت العي في بعض المواضع، فقالت: "رب إشارة أبلغ من عبارة" إذا فلا جناح على في سلوك ذلكم الطريق المعبد، طريق الاعتراف بالعجز والتقصير عن إبداء ما يجب لكم من الشكر والتقدير، وأرجو من الله سبحانه وتعالى أن أكون عند حسن ظنكم، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفقنا جميعا لكل عمل صالح مبرور وأن يأخذ بأيدينا دائما وأبدا إلى ما فيه صلاح الأمة في أولاها وأخراها، والله خليفتي عليكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 القسم الأول المرحلة التأسيسية قرار مؤتمر القمة الإسلامي الثالث: بشأن إنشاء مجمع الفقه الإسلامي قرار رقم 8 / 3- ث (ق، أ) إن مؤتمر القمة الإسلامي الثالث (دورة فلسطين القدس) المنعقد في مكة المكرمة بالمملكة العربية السعودية في الفترة من 19 إلى 22 ربيع الأول 1401 هـ الموافق من 25 إلى 28 يناير 1881 م. إذ يأخذ في الاعتبار الخطاب الذي وجهه صاحب الجلالة الملك خالد بن عبد العزيز عاهل المملكة العربية السعودية إلى قادة الأمة الإسلامية وزعمائها وإلى المسلمين كافة في كل مكان والذي دعا فيه الأمة الإسلامية وفقهاءها وعلماءها أن يجندوا أنفسهم ويحشدوا طاقاتهم في سبيل مواجهة معطيات تطور الحياة المعاصرة ومشكلاتها بالاجتهاد والاسترشاد بالعقيدة السمحة وما تضمنته من مبادئ خالدة قادرة على تحقيق مصلحة الإنسان الروحية والمادية في كل زمان ومكان، والدعوة إلى إنشاء مجمع عالمي للفقه الإسلامي يضم فقهاء وعلماء ومفكري العالم الإسلامي بغية الوصول إلى الإجابة الإسلامية الأصلية لكل سؤال تطرحه الحياة المعاصرة. وإذا يشير إلى ما للعلم والفكر من دور حاسم في تقدم الأمم ورقي الشعوب. وإذا يذكر بالدور الحضاري الرائع الذي قدمته الشريعة الإسلامية والتراث الإسلامي وأثرى به المعرفة الإسلامية فقاد البشرية إلى النور والهداية، وما زال منبعاً غنياً وأساساً صالحاً لدفع حياة الإنسان نحو مستقبل أفضل. وإذ يؤكد حاجة الأمة الإسلامية في هذا المنعطف التاريخي من حياتها إلى مجمع تلتقي فيه اجتهادات فقهائها وعلمائها وحكمائها لكي تقدم لهذه الأمة قواعد أصلية صادرة عن المنابع الفكرية الإسلامية الخالدة في كتاب الله وسنة نبيه. يقرر: 1- إنشاء مجمع يسمى (مجمع الفقه الإسلامي) يكون أعضاؤه من الفقهاء والعلماء والمفكرين في شتى مجالات المعرفة من فقهية وثقافية وعلمية واقتصادية من أنحاء العالم الإسلامي لدراسة مشكلات الحياة المعاصرة والاجتهاد فيها اجتهاداً أصيلاً فاعلاً بهدف تقديم الحلول النابعة من التراث الإسلامي والمنفتحة على تطور الفكر الإسلامي لتلك المشكلات. 2- تكليف الأمين العام للمنظمة بالتشاور مع رابطة العالم الإسلامي لاتخاذ اللازم نحو وضع النظام الأساسي لهذا المجمع وتقديمه لمؤتمر وزراء الخارجية الإسلامي القادم لدراسته واتخاذ الإجراءات اللازمة نحو إقراره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 قرار المؤتمر الثالث عشر لوزراء الخارجية:بشأن إنشاء المجمع الفقهي الإسلامي قرار رقم 20/ 13 - ث إن المؤتمر الإسلامي الثالث عشر لوزراء الخارجية المنعقد في مدينة نيامي بجمهورية النيجر في الفترة من 3 إلى 7 ذي القعدة 1402 هـ، الموافق من 22 إلى 26 أغسطس 1982 م. إذ يذكر بالقرار رقم (8 / 3 - ث) الصادر عن مؤتمر القمة الإسلامي الثالث المنعقد في مكة المكرمة والطائف بشأن المجمع الفقهي الإسلامي. وإذ يشير إلى القرار رقم (16/ 12 - ث) الصادر عن المؤتمر الإسلامي الثاني عشر لوزراء الخارجية حول الموضوع. وإذ أخذ علماً بتوصيات الدورتين الثامنة والتاسعة للجنة الإسلامية للشؤون الاقتصادية والثقافية والاجتماعية المنعقدتين في هذا الشأن. وبعد استعراض نتائج اجتماع لجنة الخبراء الموسعة المنعقدة في جدة والصيغة الجديدة للنظام الأساسي للمجمع الفقهي الإسلامي. وبعد الاطلاع على المذكرة التفسيرية التي قدمتها الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي في هذا الشأن: 1- يصادق على الصبغة النهائية لمشروع النظام الأساسي للمجمع الفقهي الإسلامي. 2- يؤكد على تكليف الأمانة العامة بالتنسيق والتعاون مع دولة المقر (المملكة العربية السعودية) من أجل عقد المؤتمر التأسيسي العام للمجمع الفقهي الإسلامي في أقرب فرصة ممكنة، وذلك من أجل استكمال الإجراءات الضرورية لإنشاء المجمع المذكور. 3- يطلب من الأمانة العامة تقديم جميع الملاحظات والاقتراحات التي ستقدم إليها من قبل الدول الأعضاء حول النظام الأساسي، وعرضها على المؤتمر التأسيسي العام للمجمع الفقهي الإسلامي لدراستها واتخاذ القرار المناسب في شأنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 قرارات الدورة الأولى: لمجمع الفقه الإسلامي قرار رقم 1 إن مجمع الفقه الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من 26 إلى 29 صفر 1405هـ، الموافق 19- 22 نوفمبر 1984م. إذ استعرض تقرير شعبة التخطيط والنقط الرئيسة التي تضمنها والتوصيات التي تبناها. قرر: 1- البحث في المسائل المستجدة والواقعات الحادثة وفق نظر يعتمد قوة الدليل الشرعي، ويهتم بتحقيق المقاصد الشرعية المعتبرة، ويهدف إلى التيسير ورفع الحرج ضمن قواعد الشريعة وضوابطها العامة. 2- الاستئناس بما تنتهي إليه البحوث والدراسات الجادة التي تعني بالمذاهب الفقهية جميعها.. وتحرص على أخذ الآراء المذهبية من مصادرها الأصلية وكتبها المعتمدة. 3- التقيد في الدراسات والبحوث: -بالواقعية: -بالاجتهاد اجتهاداً مؤسساً على الأصول الإسلامية المتوخي للمقاصد والمصالح الشرعية. -بالتزام منهج الفقه المقارن في البحوث والقضايا المدروسة. -بالتزام الموضوعية والتجرد. -بالتحلي بالسماحة في مواطن الاختلاف ويصدر التقرير بما تذهب إليه غالبية الآراء.. مع وجهة نظر المخالف. -بتأصيل الآراء والبحوث بالأدلة الصحيحة من أصول الإسلام ومواقع التراث وتخريجه الأحاديث وفقاً لقواعد التخريج المعتمدة، وتوثيق النقول وفق القواعد المعتمدة. قرار رقم (2) إن مجمع الفقه الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من 26- 29 صفر 1405هـ، الموافق 19- 22 نوفمبر 1984م. إذ استعرض تقرير شعبة الدراسات والبحوث، والنقط الرئيسة التي تضمنها والتوصيات التي تبناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 قرر: 1- رصد التقنينات الشرعية الإسلامية ومشروعات تدوين أحكام الشريعة الإسلامية في أي بلد إسلامي وجمعها بغية تقنين الشريعة وتدوينها في مواد يسهل الرجوع إليها. 2- تحديد أولويات البحث والدراسة في الموضوعات التالية: -نظم تدريس الفقه الإسلامي ومناهجه. -الاجتهاد في المجتمع الإسلامي المعاصر. -النظم القضائية والعدلية في الإسلام. - الشركات التجارية الحديثة واهتماماتها. قرار رقم (3) إن مجمع الفقه الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من 26 إلى 29صفر 1405هـ، الموافق 19- 22 نوفمبر 1984م. إذ استعرض تقرير شعبة الإفتاء، والنقط الرئيسية التي تضمنها والتوصيات التي تبناها. قرر: 1- أن المقصود من الفتوى في عملنا هو ما يصدر من آراء فيما يشغل بال الأمة الإسلامية من مشاكل العصر وعرضها على المجمع ليبت فيها. 2- تحقيق تيسير معرفة الفقه بالوسائل التالية ونحوها: ا-المصطلحات الفقهية: -بالاستفادة مما أنجز من المصطلحات والمساعدة على نشرها. -بمراجعة ما هو موجود وإثرائه. ب-الموسوعات الفقهية: -بمراجعة الموجود منها وتصحيح ما يجب تصحيحه وإكمال ما يتحتم إتمامه. -بالعمل على التقدم بمشاريعها. -بإثرائها تدليلاً على مسألة من مسائلها بالأدلة المعتمدة. (جـ) نشر كتب الفقه الإسلامي: -بتحرير قائمة المخطوطات الموجودة في مكتبات العالم والتعريف بكل كتاب منها واقتناء صورها تمهيداً لطبعها عند الاقتضاء. -بإعادة طبع كتب الفقه المعتمدة التي نفدت طبعاتها. (د) فهرست الكتب الفقهية: -بإبراز موضوعاتها بما من شأنه أن ييسر الانتفاع بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 3- إن تحرير الفتاوي من القضايا المهمة يقع بالنظر فيما يعرض على الشعبة المختصة من استفتاء يتصل بالقضايا العامة المختلفة للبحث لها عن حلول من الشريعة الإسلامية تساعد على تحقيق النمو وتطور المجتمع الإسلامي في المسار الصحيح. قرار رقم 4 إن مجمع الفقه الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من 26 إلى 29 صفر 1405هـ، الموافق 19- 22 نوفمبر 1984م. اتخذ القرارات التنظيمية التالية: 1- تفويض الأمين العام للمجمع لمدة عام اختيار الدارسين والباحثين والمحققين والخبراء.. مع الاستعانة بقوائم الشخصيات العلمية التي تم عرضها وتوزيعها على الأعضاء في المجلس. 2- ضم الشخصيات الآتية اسماؤهم، والهيئات والمنظمات العلمية التي تشاركه في بعض انشطته، وممثل عن الجاليات الإسلامية في غير البلاد الإسلامية بناء على المادة السابعة الفقرة الثانية من النظام الأساسي للمجمع. ا– الشيخ مصطفى الزرقاء. -الشيخ د. الصديق الجرير. -دكتور محمد سلام مدكور. -الشيخ عبد الرزاق عفيفي. ب– المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي. -الموسوعة الفقهية في الكويت. -مجمع البحوث الإسلامي بالأزهر – القاهرة. -المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) بالأردن. -المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة. -مجلس الفكر الإسلامي بإسلام أباد بالباكستان (إسلامي نظريات كاونسيل) . (جـ) الشيخ جابر العلواني المقترح من طرف المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية. 3- اجتماع الشعب على التداول واحدة بعد أخرى كل ثلاثة أشهر بمقر المجمع بجدة، وتتوج هذه الاجتماعات الفصلية باجتماع المجلس في دورته العادية. 4- اجتماع هيئة مكتب المجلس مرتين في كل سنة مرة خلال السنة والثانية قبل الدورة العادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 التقرير العام والقرارات: للمؤتمر التأسيسي لمجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين 1- انعقد بحمد الله تعالى المؤتمر التأسيسي لمجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة فيما بين 26 و 28 شعبان 1403 هـ (7 - 9 من شهر يونيو 1983 م) تحت رعاية صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز، ملك المملكة العربية السعودية، ورئيس مؤتمر القمة الإسلامية الثالث. 2- وبانعقاد المؤتمر التأسيسي أصبح مجمع الفقه الإسلامي حقيقة واقعة باعتباره أحد الهيئات المنبثقة عن منظمة المؤتمر الإسلامي تنفيذاّ للقرار رقم 8 / 3 - ث (ق - أ) الذي أصدره مؤتمر القمة الإسلامي الثالث المنعقد في مكة المكرمة والطائف بالمملكة العربية السعودية، فيما بين 19 و 22 من شهر ربيع الأول 1401 هـ ـ (25 - 28 من شهر يناير 1981 م) وهو القرار الذي قضى بإنشاء المجمع: * سعياً وراء تحقيق إرادة الأمة الإسلامية في الوحدة نظرياً وعملياً وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية. * واعتباراً للدور الحضاري الذي اضطلعت به الشريعة الإسلامي والتراث الإسلامي والذي أثرى المعرفة الإنسانية فقاد البشرية إلى النور والهداية، وما زال منبعاً غنياً وأساساً صالحاً لدفع حياة الإنسان نحو مستقبل أفضل. * وتقديراً لما للعلم والفكر من دور في تقدم العالم والأمم ورقي الشعوب. * وتأكيداً لحاجة الأمة الإسلامية في هذا المنعطف التاريخي من حياتنا إلى مجمع تلتقي فيه اجتهادات فقهائها وعلمائها وحكامها، لكي تقدم لهذه الأمة قواعد أصيلة صادرة عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. * وتمكيناً للمسلمين من مواجهة مشكلات الحياة المعاصرة بتقديم الحلول المناسبة النابعة من الشريعة الإسلامية عن طريق الاجتهاد الصحيح والأصيل. 3- شاركت في المؤتمر الدول الأعضاء التالية أسماؤها، ومثل معظمها وفود ذات مستويات عالية، مما يدل على اهتمام تلك الدول بهذا الحدث: الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، دولة البحرين، جمهورية بنجلاديش الشعبية، جمهورية القمر الإسلامية الاتحادية، جمهورية جيوبتي، جمهورية الغابون، جمهورية غامبيا، جمهورية غينيا الثورية، المملكة الأردنية الهاشمية، الجمهورية العراقية، جمهورية أندونيسيا، الجمهورية الإسلامية الإيرانية، دولة الكويت، الجمهورية اللبنانية، ماليزياً، جمهورية المالديف، الجمهورية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية، جمهورية مالي ,جمهورية موريتانيا الإسلامية، المملكة المغربية، جمهورية النيجر، سلطنة عمان، جمهورية باكستان الإسلامية، فلسطين، دولة قطر، المملكة العربية السعودية، جمهورية السنغال، جمهورية سيراليون، جمهورية الصومال الديمقراطية، جمهورية السودان الديمقراطية، الجمهورية العربية السورية، الجمهورية التونسية، الجمهورية التركية، جمهورية تشاد، جمهورية أوغندا، دولة الإمارات العربية المتحدة، جمهورية فولتا العليا، الجمهورية العربية اليمنية، جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. 4- وتغيب عن حضور المؤتمر: - جمهورية الكاميرون المتحدة - جمهورية غينيا بيساو 5- حضر المؤتمر بصفة مراقب: جمهورية نيجيريا الاتحادية، جمهورية بنين الشعبية، طائفة المسلمين الأتراك القبارصة، جمعية الدعوة الإسلامية، المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، البنك الإسلامي للتنمية، منظمة الإذاعات الإسلامية، وكالة الأنباء الإسلامية الدولية، رابطة العالم الإسلامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 6- افتتح المؤتمر صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز، ملك المملكة العربية السعودية بإلقاء خطاب جامع رحب في مستهله بالحضور، وقال: إن اجتماعكم هذا يعتبر بداية حقيقية لمرحلة تاريخية هامة من تاريخ أمتنا الإسلامية، مرحلة يتخطى فيها شرف خدمة الشريعة الإسلامية حدود الفردية والجهود الإقليمية، ويجتاز الحدود السياسية في أول تنظيم عالمي يعبر عن وحدة الأمة الإسلامية. وذكر جلالته بأن روح العمل الجماعي هي الصفة المميزة لنجاح الأمة الإسلامية وقدرتها على مواجهة التحديات. وقال جلالته: أننا نؤمن بأن الإسلام دين يخاطب العقل ويناهض التخلف ويشجع حرية الفكر ويستوعب منجزات العصر ويحض على متابعتها ويضع قواعد السلوك الإنساني وينظم العلاقات الاجتماعية والدولية على أساس من الرحمة. وأضاف جلالته: أن العلاقات الإنسانية قد تطورت لكن الفكر الإنساني قصر عن استقصاء آلام الإنسان وعن تحقيق آماله في الرخاء والسلام ... إلا أن الرسول عليه السلام لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن أتم الله نعمته علينا بكمال دينه الذي ارتضاه لنا، فكانت الشريعة الإسلامية هي نعمته بكمال دينه الذي ارتضاه لنا، فكانت الشريعة الإسلامية هي الثروة الحقيقية الكبرى في العالم الإسلامي، فحفظت ذاتيته في أحلك الظروف. وتطرق جلالته إلى ما تعاني هذه الأمة الإسلامية اليوم في فلسطين والأراضي العربية المحتلة وأفغانستان، وقال: إن ما أصاب هذه الأمة ما كان ليصيبها لو أنها تمسكت بهدي كتاب الله الكريم وسنة النبي الهادي الأمين ذلك أن الخصوم يدركون أن لا قوة للمسلمين إلا بتمسكهم بمعطيات العقيدة الإسلامية. وبين جلالته أن البداية السليمة لبناء وحدتنا تتمثل في نبذ الخلافات بين المسلمين ثم بالاعتماد على قدرتنا على مواجهة المشكلات بحلول إسلامية مستلهمة من روح الشريعة السمحة ومتجاوبة من احتياجات العصر. وقال جلالته: إنه على أثر توحيد البلاد تحت راية الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، تمت الدعوة إلى عقد أول مؤتمر إسلامي لبحث أمور الأمة والتشاور فيما يحقق مصالحها، ثم تتابعت الجهود إلى أن أنشئت منظمة المؤتمر الإسلامي، وانطلقت في بلاد المسلمين صحوة إسلامية مباركة مضمونها الأساسي هو الاقتناع بضرورة إيجاد حلول إسلامية لمشكلات العصر. وقال أن قيمة عقيدتنا الإسلامية في كونها تمدنا بالحلول الشاملة، ومعها أيضاً القوة الكفيلة بتحقيقها وحمايتها. وأعرب عن أمانيه في أن يواكب الفكر الإسلامي هذه الصحوة لضبط حركتها على حكم الله في كل المجالات. وأضاف جلالته قائلاً: إن الدعوة إلى إنشاء مجمع للفقه الإسلامي تشكل ضرورة حتمية في هذه المرحلة من مراحل تطور الأمة الإسلامية حيث نجد فيها الإجابة الإسلامية الأصيلة على كل سؤال تطرحه أمامها تحديات الحياة المعاصرة من أجل إسعاد البشرية عامة والمسلمين خاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وقال جلالته إن التعصب من أسباب التفرق والتمزق الفكري. وقد حرم الله علينا ما يثير البغضاء والعداوة بين المسلمين، والحقيقة أن التعصب لا معنى له في الإسلام، لأن المسلم يلتزم بحكم الله، والعبرة في استظهار الحكم بدليله من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأشار جلالته إلى أن المملكة العربية السعودية التزمت هذه الروح في تنظيمها القضائي اقتداء بالسلف الصالح من أئمة المسلمين. وخلص جلالته إلى أننا مطالبون جميعاً بالعمل على توحيد الأحكام في البلاد الإسلامية في كل شئون الحياة حسب مقتضى الشريعة الإسلامية، فذلك هو السبيل الأوحد لتحقيق الوحدة الإسلامية بين كل الشعوب الإسلامية. 7- ثم ألقى معالي السيد الحبيب الشطي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي خطاباً ضافياً استهله بالترحيب بوفود الدول الأعضاء التي كلفها قادة الدول الإسلامية بتمثيل بلادهم في اجتماعات المؤتمر الإسلامي التأسيسي لمجمع الفقه الإسلامي الذي انعقد تحقيقاً لإرادة الأمة الإسلامية. وأشاد معالي الأمين العام بحضور جلالة الملك فهد بن عبد العزيز افتتاح المؤتمر شخصياً، وفي ذلك دليل على مدى الاهتمام الذي يوليه جلالته لهذا المجمع. وقال معاليه: أن تقلد مجمع الفقه الإسلامي مهمته الجليلة سيلبي حاجة الأمة الإسلامية إلى مؤسسة تلتقي فيها اجتهادات فقهائها وعلمائها وحكامها، فهي تقدم للمسلمين قواعد أصيلة صادرة عن منابع العقيدة الإسلامية. وقال: إن منظمة المؤتمر الإسلامي تشق اليوم طريق العمل الجاد لخير كل المسلمين على كل صعيد لتحقيق الوحدة الإسلامية نظرياً وعملياً. وأكد أن المجمع سيحمل الأمانة الثقيلة بفضل التقاء أعلى الخبرات الإسلامية وتجميع أقوى التخصصات وبفضل تعاون علماء الأمة الإسلامية عبر المجمع على التعريف بالمبادئ الإسلامية وعلى تطبيق أحكام الشريعة تطبيقاً يجمع بين التطور والتفتح من ناحية. والتمسك بالأصالة والارتباط بالعقيدة من ناحية أخرى. وقال: إن أهمية الفقه الإسلامي في مجتمعاتنا الإسلامية تتجلى في أنه يتناول بشكل مباشر حياة الفرد والأسرة والمجتمع والعلاقات مع المجتمعات غير الإسلامية، وفي أنه سيعمل على إصدار فتاوى وبحوث ودراسات منسجمة مع تطور الحياة في هذا العصر دون الخروج على مبادئ الدين الحنيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ثم أضاف أن السر في انتشار الإسلام بسرعة لم تعرفها الأديان التي سبقتها وفي ازدهار الحضارة الإسلامية ازدهارا لا مثيل له، يعود إلى ارتباط أجدادنا بعقيدتهم وحرصهم المستمر على مراعاة الانسجام بين وقائع الحياة اليومية، والأسس العامة للإسلام باعتباره منهجاً صالحاً لكل زمان ومكان. وقال إن المجمع لا ينطلق اليوم من فراغ، لأنه سيجد بين يديه بحراً زاخراً من تراث الآباء والأجداد، ودعا إلى عدم الاكتفاء بما ورثناه عن أجدادنا، ونادى بضرورة مواصلة الجهود لإغناء ذلك التراث. وأعرب معاليه عن سروره بالإنجازات الهامة الأخرى التي ستتبع قيام المجمع بحول الله ومن ضمنها محكمة العدل الإسلامية الدولية ووثيقة حقوق الإنسان في الإسلام، واللجنة الإسلامية للقانون الدولي. وأبدى بهذه المناسبة السيد الشطي ارتياحه إلى أن العمل الإسلامي المشترك يسير والحمد لله قدما بصورة بناءة مما يساعد على قيام التضامن الإسلامي المنشود. وحذر معالي الأمين العام من أن التحديات التي نواجهها اليوم تهدد مصير أمتنا، ولذا فإن علينا أن نتحد ونتضامن ونكون في مستوى من الكفاية والقدرة يتماشى مع مستوى خصومنا وأعدائنا ومع مستوى هذا العصر. واختتم السيد الشطي كلمته بتوجيه التحية وصادق العرفان إلى صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز، وأعرب عن شكره لجلالته على المساندة الكريمة التي يوليها جلالته لكل ما من شأنه أن يدفع العمل الإسلامي في جميع الميادين. 8- انتخب المؤتمر بالإجماع سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير، رئيس وفد المملكة العربية السعودية رئيسا له، وانتخب أيضا بالإجماع نائبين للرئيس هما: القاضي افتاب حسين، رئيس وفد جمهورية باكستان الإسلامية، والسيد أمادو لوي جاي، رئيس وفد جمهورية السنغال، كما انتخب بالإجماع أيضا معالي السيد عبد الرحمن شيبان رئيس جمهورية الجزائر الديمقراطية الشعبية، مقررا عاما للمؤتمر. 9- ألقى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير، رئيس المؤتمر كلمة شكر فيها المؤتمر على انتخابه رئيسا وتمنى للمؤتمر كل توفيق ونجاح. 10- وبعد أن صادق المؤتمر على مشروع جدول الأعمال شكل لجنة منبثقة عنه تتولى دراسة الإجراءات الخاصة بالاتصال بالدول الأعضاء لتعيين أعضائها العاملين بالمجمع، كما تتولى دراسة مشروع الميزانية التقديرية للسنة المالية الأولى للأمانة العامة للمجمع واتخاذ الترتيبات المالية والإدارية لعقد الدورة الأولى للمجمع وإعداد البيان الختامي للمؤتمر السنوي التأسيسي. 11- قرر المؤتمر تكليف الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي بإدراج التعديلات التي أقر إدخالها على بعض المواد الواردة في نص النظام الأساسي للمجمع والتي تمت مناقشتها في المؤتمر. 12- خلال انعقاد المؤتمر التأسيسي ألقى عدد من رؤساء الوفود كلمات أعربوا فيها عن تقديرهم وشكرهم للمملكة العربية السعودية ملكا وحكومة وشعبا على استضافة المؤتمر وعلى حرارة الاستقبال وكرم الضيافة. 13- قرر المؤتمر بخصوص موضوع الإجراءات الخاصة بالاتصال بالدول الأعضاء لتعيين أعضائها العاملين بالمجمع الطلب من الدول الأعضاء العمل على أن تبلغ كل منها الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي في مدى ثلاثة أشهر باسم العضو العامل الذي سيمثلها في المجمع وتكليف الأمانة العامة بإعداد لائحة بأسماء الأعضاء العاملين المعينين من الدول الأعضاء قصد منها تقديمها إلى المجمع في دورة انعقاده الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 14- قرر المؤتمر بخصوص موضوع الميزانية التقديرية الأولى للأمانة العامة للمجمع الطلب من الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي فصل مشروع الميزانية المذكورة عن ميزانية الأمانة العامةوتقديمها إلى مجلس المجمع للموافقة عليها ثم عرضها على المؤتمر الرابع عشر لوزراء الخارجية. 15- قرر المؤتمر بخصوص موضوع الترتيبات المالية والإدارية الخاصة بعقد الدورة الأولى للمجمع تكليف الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي بمواصلة مهمتها لإعداد الدورة المذكورة وتنظيمها بالتعاون مع حكومة المقر (المملكة العربية السعودية) . 16- قرر المؤتمر تفويض موضوع تحديد موعد لانعقاد الدورة الأولى لمجمع الفقه الإسلامي وتحديد مكانها إلى الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي في ضوء الاتصالات اللازمة في هذا الشأن مع الدول الأعضاء، على أن يتم عقده خلال فترة لا تزيد على خمسة أشهر. 17- نوه المؤتمر بما أعرب عنه صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية في خطابه الافتتاحي، بأن ما تعاني منه الأمة الإسلامية اليوم في فلسطين والقدس والأراضي العربية المحتلة وفي أفغانستان الإسلامية ما كان ليصيب هذه الأمة لو أنها تمسكت بهدي كتاب الله الكريم وسنة نبيه الهادي الأمين، لأن الخصوم يدركون أن لا قوة للمسلمين إلا بتمسكهم بمعطيات العقيدة الإسلامية. 18- ألقى رئيس وفد المملكة المغربية في الجلسة قبل الختامية كلمة أشاد فيها بالخطاب الذي ألقاه صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز في افتتاح المؤتمر، وشكر باسم الوفود المملكة العربية السعودية على حرارة وحسن الوفادة وكرم الضيافة. 19- قرر المؤتمر، بناء على اقتراح رئيس وفد موريتانيا، اعتبار خطاب صاحب الجلالة الملك فهد عبد بن العزيز، ملك المملكة العربية السعودية في افتتاح المؤتمر وثيقة رسمية من وثائق المؤتمر نظرا لأهميته ولما اشتمل عليه من توجيهات سديدة وأفكار حكيمة، كما قرر رفع برقية إلى جلالته تتضمن الشكر على توجيهاته ومساعدته الجليلة على إنجاح المؤتمر. 20- قرر المؤتمر توجيه ثنائه وشكره إلى معالي السيد الحبيب الشطي، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي على جهوده المستمرة في خدمة العمل الإسلامي وحرصه على قيام مجمع الفقه الإسلامي. 21- قرر المؤتمر شكر سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير، رئيس المؤتمر على جهوده الموفقة في تسيير أعمال المؤتمر مما ساعد على نجاح أعماله والخروج بنتائج إيجابية ستعود بالخير على الأمة الإسلامية بعد انطلاقه وتحقيق أهدافه السامية. 22- أعلن سماحة رئيس وفد المملكة العربية السعودية عن تبرع صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز بمقر للمجمع في مدينة جدة، وبهذه المناسبة أعرب المؤتمر عن شكره وامتنانه لهذه المكرمة الملكية الكريمة. 23- قرر المؤتمر توجيه شكره وتقديره إلى كل الذين شاركوا بعملهم المخلص من أجل إنجاح أعمال المؤتمر. وأخيرا نتوجه إلى الله تعالى بالحمد والشكر على توفيقه الدول الإسلامية إلى إنشاء هذا المجمع المبارك الذي سيحقق للأمة الإسلامية، بعون الله وتوفيقه مزيدا من الوحدة والمناعة والرخاء والأمن، وفيما بين المسلمين بعضهم بعضا، وفيما بينهم وبين غيرهم من الناس أجمعين. 24- أصدر المؤتمر عددا من القرارات المرفقة نصوصها بهذا التقرير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 قرار رقم 1 استعراض النص الكامل للنظام الأساسي ودراسة آراء وملاحظات وفود الدول الأعضاء حوله واتخاذ القرار المناسب إن المؤتمر التأسيسي للمجمع الفقهي الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة في الفترة من 26الي 28 شعبان 1403هـ الموافق 7-9 يونيو 1983م.. إذ اطلع على قرار المؤتمر الإسلامي الثالث عشر لوزراء الخارجية لا سيما الفقرة العاملة منه التي تتعلق بملاحظات وآراء الأعضاء حول النظام الأساسي للمجمع. وإذ استعرض النص الكامل للنظام الأساسي المصادق عليه من طرف المؤتمر الإسلامي الثالث عشر لوزراء الخارجية. وبعد أن درس الآراء والملاحظات المكتوبة، التي وردت من بعض الأعضاء. قرر أولا: إجراء التعديلات الآتية على النظام الأساسي: 1- إضافة جملة: ويتم تعيينه من قبل دولته. إلى الفقرة (أ) من المادة السابعة حيث يتم تعيين الأعضاء العاملين من قبل دولهم. 2- استبدال عبارة: ثلث الأعضاء، بربع الأعضاء في الفقرة الثالثة من المادة الثانية عشرة، حيث تتم دعوة مجلس المجمع لعقد دورة استثنائية بناء على طلب ثلث الأعضاء. 3- استبدال عبارة: ثلثي الأعضاء، بعبارة: نصف الأعضاء في الفقرة (أ) من المادة الثالثة عشرة، حيث تصبح اجتماعات المجلس صحيحة بحضور ثلثي الأعضاء. 4- استبدال كلمة: ثلاث سنوات، بكلمة: أربع، في الفقرة (2) من المادة الثامنة عشرة، حيث تصبح مدة عضوية هيئة المكتب ثلاث سنوات. 5- استبدال جملة: بالإجماع أو بأغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين، بجملة: الأعضاء الحاضرين، في الفقرة الثانية من المادة الثالثة عشرة حيث تصدر قرارات المجمع وتوصياته بالإجماع أو بأغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين. 6- إضافة فقرة جديدة في المادة العاشرة، حيث يتم إشعار الدول المعنية بقرار المجلس إسقاط عضوية ممثلها فيه، ويطلب استبداله مع الإبقاء على النص الأصلي بحق مجلس المجمع في إسقاط العضوية بالنسبة للأعضاء الذين يتم تعيينهم من قبل المجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 7- فصل ميزانية المجمع عن ميزانية الأمانة العامة بحيث تكون للمجمع ميزانية مستقلة بدلا من كونها جزءا من ميزانية الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وتعدل الفقرة الأولى من المادة الثالثة والعشرين بهذا المعنى: وذلك تحقيقا لمزيد من الفعالية لأعمال المجمع. 8- إضافة فقرة جديدة للمادة السابعة تحدد: أن لا يتجاوز عدد الأعضاء العاملين في المجمع من غير الدول الأعضاء ربع عدد الأعضاء الذين يمثلون دولهم، مع الإبقاء على منحهم حق التصويت. ثانيا: قرر المجلس الإبقاء على ما جاء بالنصين العربي والفرنسي للنظام الأساسي وتعديل النص الإنجليزي حول الفقرة الرابعة من المادة التاسعة المتعلقة باشتراط تمكن العضو من اللغة العربية. ثالثا: قرر المؤتمر الطلب من الأمانة العامة إدراج التعديلات المشار إليها أعلاه، وإعداد النص المقنع وتعميمه على الدول الأعضاء. رابعا: قرر المؤتمر إحالة الآراء المكتوبة المقدمة رسميا من الدول الأعضاء أثناء انعقاد المؤتمر وتلك التي قد ترد مستقبلا إلى الأمانة العامة لتتولى عرضها على مجلس المجمع في دورته لدراستها واتخاذ ما يراه مناسبا ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 قرار رقم 2 دراسة ومناقشة آراء ومقترحات الدول الأعضاء حول خطة عمل المجمع الفقهي الإسلامي للسنوات الثلاث الأولى إن المؤتمر التأسيسي لمجمع الفقه الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة في الفترة من 26 إلى 28 شعبان 1403هـ. الموافق 7- 9 يونيو 1983م. إذ استعرض: أهداف المجمع الفقهي الإسلامي ووسائله لتحقيق تلك الأهداف وفقا للمادتين الرابعة والخامسة من النظام الأساسي. قرر 1- إحالة مهمة وضع خطة عمل المجمع إلى مجلس المجمع نفسه. 2- الطلب من الدول الأعضاء موافاة مجلس المجمع بآرائها واقتراحاتها للأمانة العامة ليستفيد منها مجلس المجمع في وضع خطة عمله. قرار رقم 3 حول الإجراءات الخاصة بالاتصال بالدول الأعضاء لتعيين أعضائها بالمجمع إن المؤتمر التأسيسي للمجمع الفقهي الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة في الفترة من 26 إلى 28 شعبان 1403هـ. الموافق 7- 9 يونيو 1983م. إذ يذكر بالمواد السادسة والسابعة والتاسعة من النظام الأساسي للمجمع. واستنادا إلى التوصية التي تقدمت بها اللجنة الفرعية التي شكلها المؤتمر التأسيسي بتكليف الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، بإجراء الاتصالات اللازمة مع الدول الأعضاء بشأن تعيين أعضائها العاملين بالمجمع. أ -يرجو من الدول الأعضاء العمل على إبلاغ الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي في موعد أقصاه ثلاثة أشهر باسم وصفة العضو العامل الذي يمثلها في المجمع مع نبذة عن حياته ونشاطه العلمي، وذلك وفقا لما نصت عليه المواد السادسة والسابعة والتاسعة من النظام الأساسي. ب -يدعو الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي إلى تكثيف اتصالاته بالدول الأعضاء لتحقيق ذلك. جـ- يطلب من الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي إعداد لائحة كاملة بأسماء الأعضاء العاملين المعينين من الدول الأعضاء مع البيانات الخاصة بهم وتقديم ذلك إلى المجمع في الدورة الأولى لانعقاده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 قرار رقم 4 حول تحديد موعد انعقاد الدورة الأولى للمجمع الفقهي إن المؤتمر التأسيسي للمجمع الفقهي الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة في الفترة من 26 إلى 28 شعبان 1403هـ. الموافق 7- 9 يونيو 1983م. بعد استعراض المادة الثانية عشر من النظام الأساسي للمجمع الفقهي وبعد استعراض كافة الاقتراحات المتعلقة بالموضوع. قرر تفويض الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي تحديد موعد اجتماع الدورة الأولى للمجمع الفقهي الإسلامي وتعيين انعقادها وذلك بعد إجراء الاتصالات اللازمة في هذا الشأن مع الدول الأعضاء على أن يتم عقده خلال مدة لا تزيد عن خمسة أشهر. قرار رقم 5 حول الترتيبات المالية والإدارية لعقد الدورة الأولى للمجمع الفقهي الإسلامي إن المؤتمر التأسيسي للمجمع الفقهي الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة في الفترة من 26 إلى 28 شعبان 1403هـ. الموافق 7 – 9 يونيو 1983م. إذ يأخذ بعين الاعتبار المرحلة التأسيسية الأولى لانطلاق المجمع الفقهي الإسلامي لمباشرة مهامه، وضرورة اتخاذ الإجراءات التمهيدية لعقد دورته الأولى. واستنادا إلى القرار رقم (4) الذي كلف الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي بتحديد موعد تلك الدورة بعد استشارة الدول الأعضاء. ونظرا للدور الهام الذي قامت وما زالت تضطلع به الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي لإتمام جميع الترتيبات الخاصة لتمكين المجمع من القيام بالمهام الجليلة التي أنيطت به. يكلف الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي بمواصلة مهمتها النبيلة بالإعداد والإشراف على تنظيم عقد الدورة الأولى للمجمع في الموعد الذي سيحدد فيما بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 قرار رقم 6 حول الميزانية التقديرية الأولى للأمانة العامة للمجمع الفقهي إن المؤتمر التأسيسي للمجمع الفقهي الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة في الفترة من 26 إلى 28 شعبان 1403هـ. الموافق 7 -9 يونيو 1983م. بعد الاطلاع على مشروع الميزانية التقديرية للسنة المالية الأولى للأمانة العامة للمجمع، والتي تضمنتها المذكرة التفسيرية التي أعدتها الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي. واستنادا إلى توصية اللجنة الفرعية المنبثقة عن المؤتمر التأسيسي بالموافقة المبدئية على مشروع الميزانية والبالغ مقدارها (2.274.060) مليونان ومائتان وأربعة وسبعون ألفا وستون دولارا. وإذ يذكر بالفقرتين (1، 2) من المادة الثالثة والعشرين من النظام الأساسي للمجمع. أ -يطلب من الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي تقديم مشروع الميزانية المذكورة إلى مجلس المجمع لاعتماده قبل رفعه إلى مؤتمر وزراء الخارجية. ب -يرجو من الدول الأعضاء، وبصفة استثنائية، المبادرة إلى تسديد مساهمتها في الميزانية الأولى للمجمع قبل موعد دورته الأولى التي ستتم قبل انعقاد المؤتمر الإسلامي الرابع عشر لوزراء الخارجية. جـ- يناشد جميع الدول الأعضاء، وخاصة الدول القادرة منها على التبرع بسخاء لميزانية المجمع، بالإضافة إلى مساهمتها النظامية، حتى يتمكن المجمع من توفير الاعتمادات المالية اللازمة لانطلاقه ومباشرة المهام السامية التي أنيطت به، وخاصة خلال المرحلة التأسيسية الأولى من عمله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 التقرير العام: للدورة الأولى لمجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين انعقدت بحمد الله تعالى الدورة الأولى لمجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة في الفترة ما بين 26 -29 صفر الخير 1405هـ، الموافق لـ 19 -22 نوفمبر 1984م برعاية صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز، أمير منطقة مكة المكرمة نيابة عن صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز، عاهل المملكة العربية السعودية. وبحضور معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي السيد الحبيب الشطي ومعالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الدكتور عبد الله عمر نصيف وفضيلة الشيخ محمد بن جبير رئيس ديوان المظالم بالمملكة العربية السعودية ومعالي السيد عبد الهادي أبو طالب المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة "ايسسكو". وحضر أعمال الدورة الأولى ثلاثون عضوا من أعضاء المجمع "المرفق رقم 1" وتغيب عن الحضور الأعضاء الممثلون لكل من الدول التالية: دولة الإمارات العربية المتحدة - جمهورية أندونيسيا - جمهورية أوغندا - الجمهورية الإسلامية الإيرانية - جمهورية سيراليون - جمهورية غينيا بيساو - دولة قطر - جمهورية الكاميرون - جمهورية بنين - سلطنة بروناي دار السلام - الجمهورية العربية اليمنية - جمهورية الغابون - الجمهورية اللبنانية - جمهورية جيبوتي. وبعد تلاوة آيات من كتاب الله العزيز. افتتح صاحب السمو الملكي الأمير ماجد ابن عبد العزيز، أمير منطقة مكة المكرمة أشغال الدورة بكلمة هامة ركز فيها على عمل منظمة المؤتمر الإسلامي داخل الأمة الإسلامية وخارجها لرفعة شأن الإسلام والمسلمين وعلى أهمية إنشاء مجمع الفقه الإسلامي، مشيرا إلى دوره الفعال في مجتمع اليوم وقال بالخصوص:"لما كان فقه الإسلام وأحكامه من الأمور الضرورية للمسلم ليكون معززا مكرما في دنياه منعما في أخراه، فقد أنشئ هذا المجمع الفقهي كجهاز من أجهزة منظمة المؤتمر الإسلامي لييسر للقاصدين معرفة أمور دينهم ومعاملات دنياهم على نهج جماعي موحد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ثم ألقى معالي السيد الحبيب الشطي، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي خطابا ضافيا استهله بتوجيه الشكر إلى المملكة العربية السعودية لاستضافتها هذه الدورة وللترتيبات التي وفرتها للوفود والترحيب بأعضاء الوفود معبرا عن ابتهاجه عن قيام مجمع الفقه الإسلامي الذي جاء اليوم بحمد الله ليفتح الطريق للأخذ بالقواعد الشرعية واعتبارها مرجعا أساسيا كي يمضي العمل الإسلامي الشامل في مساره الصحيح وكي يعاد للفقه دوره وحيويته ونشاطه ومواكبة للعصر وتطوراته فيرسي دراساته وبحوثه وأحكامه على كتاب الله الكريم وسنة رسوله الأمين، ويعتمد في النظر والاستنباط على الأصول المقررة المعلومة والقواعد الكلية الهامة التي ضبطها علماء الأمة، فيجد في ذلك السبيل الحل لكل المشاكل مهما تنوعت أو اختلفت. وأكد معاليه بأن هذا الظرف بالذات الذي يكتنف العالم الإسلامي لينتظر الكثير من هذا المجمع المبارك. وقال معاليه بالخصوص: "إن في رد القضايا المختلفة المعقدة الفكرية والعقدية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها الناجمة عن تلكم الظروف والملابسات إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى الأصول العامة والقواعد الكلية التي تضمنها التشريع الإسلامي والتي يقام بها العدل ويصان بها الحق وينشر بواسطتها الخير لأقوم طريق لحماية الإنسانية وإنقاذها مما تسرع إلى التردي فيه من أسباب المحق والدمار كما أنه السبيل الوحيد للنهوض بالعالم الإسلامي وتحقيق الانسجام بين دوله وشعوبه في الرأي والعمل نهوضا وانسجاما يطيحان بالصعاب ويقضيان على التحديات ويفرضان للعالم الإسلامي مكانته الرفيعة الجديرة به بين دول العالم وأن الأمل في بلوغ ذلك وتحقيقه لمعقود بهذه الهيأة العلمية الشرعية التي يمثلها مجمعكم الموقر والمعبرة عن الأمة الإسلامية بأكملها لانتظامها من ينوب عنها من العلماء والمفكرين في أطراف العالم". وبعد ذلك ألقى معالي الدكتور عبد الله عمر نصيف الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي كلمة بليغة أعرب في بدايتها عن أمانيه الطيبة لهذا المجمع المبارك وأعلن عن استعداد رابطة العالم الإسلامي للتعاون مع المجمع حتى تنظم أنشطتها في ظل راية التوحيد على أرض الإسلام والسلام خدمة للأمة الإسلامية وتكاتفا من أجل مواجهة أعداء الإسلام مشيرا إلى أن الاجتهاد أصبح متعينا على فقهاء الأمة للورود على المعين الصافي الذي لا ينضب أبدا للشريعة الإسلامية والغوص في أعماق الثروات الفقهية التي تركها لنا سلفنا الصالح. ثم ألقى معالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة، الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي كلمة رحب في بدايتها بالحاضرين وحمد الله أن منحنا من فضله هذه الهيأة العلمية الكريمة السامية، التي أرادها الله جل جلاله أول تنظيم عالمي يعبر عن وحدة أمتنا في مجال الفقه وخدمة الشريعة الإسلامية. وتطرق معاليه إلى تحليل المناهج والخطط الذي ينوي المجمع اتباعها في نشاطها المستقبلي باعتماده المناهج العلمية الأصولية الدقيقة إلى جانب اهتمامه بالمادة الفقهية وما تركه الأئمة من الأصوليين والفقهاء والمجتهدين والعناية بالجانب العلمي والتقني مما أشار إليه النظام الأساسي للمجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وأشار في كلمته إلى تساؤل الناس عامة في كل البلاد الإسلامية وفي غيرها عن موقف الدين تجاه ما يحدث من قضايا تمس كل مجالات الحياة من مذهبية فكرية واجتماعية واقتصادية وعلمية ونحوها وهم جميعا ينتظرون من أهل الفقه والعلم بالأحكام الشرعية دراسة مختلف الآراء في المسألة الواحدة والنظر في الأدلة والقواعد التي تحكمها. وقال: إن الاجتهاد ليصبح أقوى وأسلم حين يكون جماعيا وتخلص فيه النية وتغلب على القائمين به الخشية من الله والتقوى له والتفكير في مصالح الأفراد والجماعة الإسلامية. ثم أعطيت الكلمة لممثلي الوفود الأعضاء حيث تكلم الدكتور صالح طوغ باسم الوفود الآسيوية فأشاد بأهمية المجمع ودوره في بناء المجتمع الإسلامي. وتلاه معالي السيد عبد الرحمن باه وزير الشؤون الدينية بجمهورية غينيا نيابة عن الوفود الأفريقية فبارك قيام المجمع حاثا أعضاءه على البحث الدؤوب استجابة لتطلعات الأمة الإسلامية التي تنتظر الكثير من هذه المؤسسة العلمية وأخذ الكلمة بعد ذلك سعادة الأستاذ محمد ميكو مندوب المملكة المغربية نيابة عن الوفود العربية محييا باسم جلالة ملك المغرب كرئيس لمنظمة المؤتمر الإسلامي مبديا ارتياحه لعزم هذه المؤسسة العلمية الفقهية على مجابهة الواقع بما فيه من تحديات ومشاكل اجتماعية وحضارية وبما فيه من علوم وتقنيات ومعارف لاستنباط الحلول الملائمة في الأصول بروح جماعية. وانتخب المؤتمر بعد ذلك معالي الدكتور بكر أبو زيد وكيل وزارة العدل بالمملكة العربية السعودية وممثلها لدى المجمع رئيسا فألقى معاليه كلمة شكر فيها الأعضاء على الثقة التي وضعوها في شخصه بانتخابه لهذه المهمة مؤكدا أن هذا المجمع هو ثمرة من ثمرات مجهودات الأمة الإسلامية معربا عن أمله في أن تكون هذه المؤسسة العلمية الفقهية انطلاقة لإيجاد الحلول الملائمة لما يعرض لمجتمعنا الإسلامي من مشاكل ناتجة عن التطور الذي ما انفك يشهده في جميع الميادين. وأعرب عن أمله في أن يساهم المجمع في نشر كتاب الله وسنة رسوله على النهج الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ثم انتخب بالإجماع ثلاثة نواب للرئيس وهم: - معالي السيد عبد الرحمن باه: وزير الشؤون الدينية بجمهورية غينيا. - فضيلة الدكتور عبد الله إبراهيم: رئيس قسم الشريعة بكلية الدراسات الإسلامية بماليزيا. - وسعادة الدكتور عبد السلام العبادي: وكيل وزارة الأوقاف وشؤون المقدسات الإسلامية بالمملكة الأردنية الهاشمية. وبعد الفراغ من هذه الخطوات التنظيمية تولى المؤتمر انتخاب هيئة مكتب المجمع مراعيا في ذلك التوزيع الجغرافي للعالم الإسلامي وهي متكونة من ستة أعضاء يمثلون كل من: تركيا وباكستان ومالي والسنغال ودولة الكويت والجزائر. واتفق الحاضرون على تكوين الشعب التي نص عليها النظام الأساسي للمجمع وبذلك تكونت ثلاث شعب وهي كالتالي: - شعبة التخطيط والترجمة. - شعبة الدراسات والبحوث. - وشعبة الإفتاء. وتولى الحاضرون بعد ذلك استعراض اللائحة التنفيذية للمجمع التي أعدها الأمين العام طبقا للنظام الأساسي وبعد مناقشتها مناقشة مستفيضة وإدخال التعديلات اللازمة عليها أقرها المجلس وبخصوص المواد المتعلقة باختصاصات الشعب رأى المجلس تفويض الأمر فيها إلى أعضاء الشعب أنفسهم للنظر فيها زيادة وتعديلا وتنقيصا. وخصص المؤتمر جلسات يوم 27 صفر 1405هـ الصباحية والمسائية لاجتماعات الشعب الثلاث وهي: - شعبة التخطيط واختارت الدكتور عبد اللطيف فرفور رئيسا. والأستاذ إبراهيم بشير الغويل مقررا. - شعبة الدراسات والبحوث واختارت الدكتور حسن الترابي رئيسا، والدكتور محمد شريف أحمد مقررا. - شعبة الإفتاء واختارت فضيلة الشيخ عبد العزيز محمد عيسى رئيسا، والأستاذ محمد ميكو مقررا. وقد استعرضت هذه الشعب في جلساتها المنفصلة الصباحية المواد التي تخصها في اللائحة التنفيذية. وأجرت تعديلات وإضافات عليها في ضوء المناقشات التي دارت بين أعضائها كما ضبطت المنهج والخطة التي تلتزم اعتمادها في سير عملها. وفي الجلسة المسائية التأمت الشعب الثلاث في اجتماع مشترك نسقت فيه بين نشاطها وأعمالها وانتهت إلى قرارات "ملحق 2". وعقدت هيئة المكتب يوم 28 صفر 1405هـ اجتماعا للنظر في ميزانية المجمع طبقا للنظام الأساسي. وبعد المناقشة والتعديل عرضت الهيئة الميزانية على المجلس. وفي الجلسة المسائية وبعد الفراغ من مناقشة تقارير اللجان وزعت على الأعضاء قائمات بأسماء الباحثين والدارسين والخبراء والمحققين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وعرض رئيس المجلس في نفس الجلسة على المؤتمر ميزانية المجمع وتناول الكلمة الأمين العام المساعد لمنظمة المؤتمر الإسلامي للشؤون الثقافية والاجتماعية وصندوق التضامن الإسلامي سعادة السيد بكاري درامي فقدم الميزانية مشيرا إلى أن المصادقة عليها قد تمت من طرف وزراء الشؤون الدينية في المؤتمر التأسيسي لمجمع الفقه الإسلامي الذي انعقد بمكة المكرمة في شعبان سنة 1403هـ. وأثر التداول في شأنها ومناقشتها أقر المجلس الميزانية المعروضة عليه "ملحق 3". وإثر ذلك تقدم رئيس المجلس باقتراح عضوية أربعة من أعلام الفقه والدارسات الشرعية وست منظمات ومؤسسات تشارك المجمع في بعض أنشطته وممثلا عن الجاليات الإسلامية مقترحا من المعهد العالي للفكر الإسلامي بأمريكا. وإثر المصادقة على العضوية العاملة لهؤلاء الأشخاص والهيئات حدد المؤتمر شهر محرم الحرام من سنة 1406 موعدا لانعقاد دورته القادمة الثانية. وأعرب أعضاء المجمع عن خالص شكرهم وتقديرهم لمعالي الدكتور بكر أبو زيد رئيس المجلس لما أبداه من حنكة ودراية ومعرفة واسعة تجلت في حسن إدارته لمختلف جلسات المجمع وأضفى عليها روحا من التعاون المثمر البناء. وتوجه المجلس في ختام أعماله بالشكر الجزيل وعميق الامتنان لصاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز وحكومة المملكة العربية السعودية لما قدم لكافة أعضائه من كريم الضيافة والتسهيلات مما يسر انعقاده في أحسن الظروف وكلل أعماله بالنجاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 تقرير شعبة الدراسات والبحوث بسم الله الرحمن الرحيم اجتمع أعضاء الشعب الثلاث: شعبة التخطيط ، وشعبة الدراسات والبحوث، وشعبة الإفتاء في صباح ومساء يوم الثلاثاء المصادف 27 صفر 1405هـ، الموافق 20/11/1984م، واختارت كل شعبة رئيساً ومقرراً لها كالآتي: (أ) شعبة التخطيط: اختير الدكتور عبد اللطيف فرفور رئيساً لها والأستاذ إبراهيم بشير الغويل مقرراً لها. (ب) شعبة الدراسات والبحوث: اختير الدكتور حسن عبد الترابي رئيساً لها والدكتور محمد شريف أحمد مقرراً لها. (جـ) شعبة الإفتاء: اختير فضيلة الشيخ عبد العزيز محمد عيسى رئيساً لها والأستاذ الدكتور محمد ميكو مقرراً لها. واستعرضت كل شعبة في بداية عملها المواد التي تخصها في اللائحة التنفيذية، وأجرت تعديلات، وإضافات عليها في ضوء المناقشات التي دارت بين أعضاء الشعب الثلاث، وفي نهاية اليوم اجتمعت الشعب الثلاث اجتماعاً مشتركاً لغرض التنسيق في الاقتراحات وانتهت الشعب إلى التوصيات التالية: أولاً: شعبة التخطيط: 15- تتولى هذه الشعبة إعداد أثبات وقوائم لما يصدرفي مجال الدراسات والبحوث وتأليف الكتب والرسائل عن الإسلام، وكذلك في مجال الفقه والفتوى وفي مجال التراث الفقهي أصوله وفروعه وتحقيقه. 16- تضع أثباتا وقوائم لأمهات الكتب المخطوطة في الفقه الإسلامي في مختلف المذاهب وفي كتب الخلاف، وفي القواعد والكليات، وفي علم الأصول. وتدل الأمانة العامة على مكان وجود هذه المخطوطات كي تتولى إدارة المجمع استحضار ما يلزم من مايكروفلمات أو نسخ، وذلك تمهيداً لتحقيقها ونشرها. 17- تضبط قوائم في أهم القضايا التي لها ارتباط بالأحوال الاجتماعية والاقتصادية والشؤون العامة للمجتمع الإسلامي رصداً للتطور الساري في مختلف المجالات وما نجم عنه من مشكلات في الحياة المعاصرة تمهيداً لإيجاد حلول لها في ضوء الشريعة الإسلامية. 18- تعتمد المنهج الذي يجب إعماله في البحوث والدراسات الشرعية والفقهية وتضع ذلك في صورة قواعد للدراسة والتحقيق. 19- تضع رزنامة للندوات واللقاءات التي يعتزم المجمع القيام بها بمقره في جدة، أو خارج مقره بصفة مستقلة، أو بالاشتراك أو التعاون مع الجامعات ومع المؤسسات من أجل دراسة مشكل قائم، أو التعمق في دراسة موضوع من موضوعات الحياة العملية، أو القيام بدراسة فقهية شرعية مستوعبة، تعتمد التحليل والمناقشة، وإيجاد الحلول الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 20- تربط الصلة بالجامعات الإسلامية ومراكز البحوث بها، أو خارجها وبالمجامع والمؤسسات المختصة قصد التنسيق والتعاون معها بالطرق الممكنة. ويتولى الأمين العام متابعة ذلك وتنفيذه. 21- مادة (21) - تضع شعبة التخطيط، على ضوء ما تجمع لديها من معلومات مما نص عليه في المواد 15، 16، 17- وبعد تصنيفها – وبالمنهج الذي تعتمده، (تضع) مشروع خطة عمل عامة للدراسات والبحث والتحقيق والترجمة والنشر ... وتقترح بعض الدارسين والباحثين والمحققين وتنسق كل ذلك مع الأمين العام للمجمع والشعب المختصة، كما تتولى اقتراح ما ترى ترجمته ونشره. ثانياً: شعبة الدراسات والبحوث: 22- تحدد منهجاً لعملها، وإطاراً لنشاطها، يتم به تصنيف موضوعات الدراسات والبحوث، وتحديد المشروعات التي تعتزم القيام بها، وتقدير الحاجات الفنية والمادية اللازمة لمشروعات العمل. 23- تسترشد بما تقدم إليها لجنة التخطيط من أثبات وقوائم ومقترحات كما تقترح على لجنة التخطيط ما تشاء من موضوعات جديدة للدراسة والبحث في مختلف المجالات الفقهية والفكرية والإسلامية. 24- تلتزم بالمنهج العلمي للدراسات والبحوث ذلك الذي تقترحه هي وتقره لجنة التخطيط ويعتمده المجلس. 25- تسهم في إثراء النشرات الدورية العملية للمجمع وذلك بإمدادها بما تقوم به من بحوث أو تقره من دراسات. 26- تسهم في مشروعات للدراسة والبحوث والتأليف، ولها أن تقترح على الأمين العام وقوائم بالخبراء والباحثين والمحققين للاستعانة بهم في ذلك. 27- بناءً على توصية اللجنة تعطي على الدراسات والبحوث التي يقبلها المكتب ويقرها المجلس مكافآت مناسبة يحددها الأمين العام وفق ما هو معمول به في المؤسسات المماثلة. 28- تعرض عليها أي مشروعات علمية من الباحثين أو الجامعات أو المؤسسات العلمية الأخرى لغرض تقويمها والتوصية بشأن تبنيها أو إعانتها من قبل المجمع. وللجنة أن تستعين في ذلك بآراء الخبراء المختصين. 29- تعني هذه الشعبة بإنشاء موسوعة فقهية لا مبتدئة بالاستفادة مما أنشيء ومراجعة ما هو موجود حتى يكون عملها مستأنفا لا مكملاً وتهتم بالرجوع في كل مسألة إلى الأدلة المعتمدة. 30- تعني بتحقيق كتب الفقه الإسلامي ويعهد بذلك لمن يقوم به من بين أفرادها أو من تقترحه من الخبراء والمحققين الذين لهم قدم في هذا المجال ويحصلون على الموافقة في انتدابهم من الأمين العام للمجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ثالثاً: شعبة الإفتاء: 31- تضع خطة لعملها تتماشى والمهام التي يمكن أن تتوفر عليها لتتيسر معرفة الفقه وتحرير الفتاوى في القضايا المختلفة. 32- تعني بنشر كتب القه الإسلامي في موضوع الفتاوى والقضايا والأحكام وذلك بتحرير قائمة المخطوطات الموجودة في مكتبات العالم والتعريف بكل كتاب منها واقتناء صورها تمهيداً لطبعها عند الاقتضاء. وبإعادة طبع كتب الفقه المعتمدة والتي نفدت طبعاتها وتحديد الأولويات فيما يطبع. 33- تعني هذه الشعبة بفهرست الكتب الفقهية المتعلقة بالفتوى وذلك بإبراز موضوعاتها بما من شأنه أن ييسر الانتفاع بها. 34- تقوم بتحرير مشروع الفتاوى ليقرها المجمع في القضايا المهمة، وذلك بالنظر فيما يعرض عليها من استفتاءات تتصل بالقضايا العامة المختلفة.. للبحث لها عن حلول من الشريعة الإسلامية تساعد على تحقيق النمو والتطور للمجتمع فى المسار الإسلامي الصحيح. 35- إن رأت أن الاستعانة بذوي الكفاءات العلمية ضرورة أكيدة لتكون الفتاوى مبنية على مراعاة جميع المعطيات. ونتيجة لذلك فقد تقرر حذف المواد 37، 38، 39، في ضوء الترقيم السابق، نظراً لتكون هذه الاختصاصات قد أدرجت في مهام شعبة الدراسات والبحوث. أما بقية المواد إلى المادة 48 بإدخال الغاية في ضوء الترقيم السابق فقد صودق عليها بدون تغيير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 تقرير شعبة التخطيط بسم الله الرحمن الرحيم عند الساعة العاشرة والربع من صباح اليوم الثلاثاء 27 صفر 1405هـ، وبغرفة اللجنة الأولى، انعقد اجتماع للشعبة الأولى.. شعبة التخطيط (والمكلفة بشعبة الترجمة والنشر) ، وقد حضر هذا الاجتماع كل من الإخوة: الدكتور عبد اللطيف فرفور من سوريا. الدكتور التيجاني الهدام من الجزائر. السيد إبراهيم بشير الغويل من لبيبا. السيد محمد سالم محمد على عبد الودود من موريتانيا. السيد (روحان) مباي من السنغال. السيد تيجاني صابون محمد من تشاد. ولم يتغيب سوى الأخوين: الدكتور الترابي (من السودان) والسيد محمد ميكو (من المغرب) لانشغالهما في لجان أخرى. وقد اختير الأخ للدكتور عبد اللطيف فرفور ليرأس الجلسة، كما اختير الأخ إبراهيم بشير الغويل مقرراً. وقد حضر من الأمانة العامة الأخ الأستاذ المستشار حسن ميجاج. وقد رأى الأخوة أعضاء الشعبة أن يبدأوا باستعراض المواد التي تخص الشعبة من اللائحة التنفيذية، وهي المواد من 15 حتى 22، ثم ينظرون في المواد التي تخص شعبة الترجمة والنشر ... ولدى بدئهم باستعراض المواد التي تخص الشعبة (شعبة التخطيط) وضعوا مقياساً يضبطون به صياغة المواد ... وهو أن يقبلوا كل ما يكون متصلاً بالتخطيط لا غير- تاركين ما تعلق بتدبير الخطوات التنفيذية وتوجيه للشعب الأخرى.. كل فيما يخصه ... على أنهم يحفظون لشعبة التخطيط بجانب المتابعة إضافة إلى ما لها من حق التخطيط.. وبهذا المقياس قبل الإخوة الحاضرون ما جاء في المواد 16، 17، 18- وإن كانوا قد ارتأوا من أجل أغراض الصياغة البحتة أن يدمجوا المادتين 16، 17 معاً- من مسؤوليتهم في وضع أثبات وقوائم ... سواء لأمهات الكتب المخطوطة أو لأهم القضايا.. وفي مجال الدراسات والبحوث.. الخ. وقد عدلوا المادة (15) بحيث تصير كما يلي: " تتولى هذه الشعبة إعداد أثبات وقوائم لما يصدر في مجال الدراسات والبحوث وتأليف الكتب ... " (المادة) . وقد ارتأى الإخوة الحاضرون أن " توضيح المنهج الذي يتأكد اعتماده في البحوث والدراسات.." المنصوص عليه (مادة 18) هو من أهم وأعظم واجبات التخطيط. كما أن وضع رزنامة للندوات واللقاءات من أجل دراسة مشكل قائم أو التعمق في دراسة موضوع من الموضوعات (مادة 20) ، وكذلك ربط الصلات بالجامعات الإسلامية ومراكز البحوث (مادة 19) ، يعد من الواجبات التي ارتأت لجنة التخطيط أنها فعلاً من واجباتها الأساسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 إلا أن اللجنة رأت أن تكون المادة (22) - والتي صارت المادة (21) - على الوجه التالي: مادة 21- تضع شعبة التخطيط، على ضوء ما تجمع لديها من معلومات مما نص عليه في المواد 15، 16، 17- وبعد تصنيفها - وبالمنهج الذي تعتمده، (تضع) خطة للدراسة والبحث والتحقيق والترجمة والنشر ... وتقترح بعض الدارسين والباحثين والمحققين وتنسق كل ذلك مع الأمين العام للمجمع والشعب المختصة، كما تتولى اقتراح ما ترى ترجمته ونشره. وعند استعراض المواد الخاصة بـ (شعبة الترجمة والنشر) رئي الإبقاء على المواد (وهي من 48 حتى 53) كما هي ما عدا تعديلات طفيفة.. تتمثل في استعمال كلمة (مهمة) بدلاً من (هامة) في المادة 48 ... وتصحيح آخر هذه المادة على الوجه التالي: " بحوث إسلامية مهمة يحتاج إلى نقلها إلى لغات أخرى"، وإضافة صفة (مسلمين) إلى الخبراء المذكورين في المادة (53) . هذا. وقد رأى الإخوة الحاضرون الإبقاء على اختصاص كل من الشعبتين.. قائماً بذاته، واعتبار أن ما تم من تكليف لهم بمهام الشعبتين إنما هو مجرد اسناد مهام (شعبة الترجمة والنشر) إلى (شعبة التخطيط) وليس دمجاً لكل من الشعبتين، ذلك بعد أن تشاور الحاضرون مع سعادة الأمين العام، الذي تشرفوا بحضوره معهم.. كما تشرفوا بحضور الشيخ رئيس المجمع ... وقدر رفعت الجلسة عند أذان الظهر.. على أن تعود إلى الانعقاد عند الساعة الرابعة عصراً، بعد أن تقرر أن تخصص جلسة المساء للاهتمام بوضع خطة للدراسات والبحوث والتحقيقات والترجمة والنشر.. مبتدئين بمحاولة لوضع برنامج لجمع الملعومات عن أهم الدراسات وقضايا البحث التي يجب أن تنال أولوية، ومع الاهتمام بالمنهج الذي يجب اعتماده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 بسم الله الرحمن الرحيم مشروع خطة.. واقتراح لمنهج مبدئي: من وضع شعبة التخطيط تحقيقاً للأهداف التي يرمى إليها المجمع من: تحقيق الوحدة الإسلامية بتكوين مجمع تلقى فيها اجتهادات فقهائها وعلمائها وأولي الأمر فيها.. وحتى يتم العزم أو الإجماع- بعد تحاور وتشاور - مما يحقق إرادة الأمة الإسلامية في الوحدة نظرياً وعملياً وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية. وتأكيد الدور الحضاري الذي اضطلعت به الشريعة الإسلامية، وقد قام السلف الصالح بدورهم في مواجهة مشكلات عصرهم ومجتمعهم.. مما وفر تراثاً إسلامياً أثرى المعرفة الإنسانية، وعلينا دراسة مشكلات الحياة المعاصرة والاجتهاد في اجتهاداً أصيلاً لتقديم الحلول النابعة من الشريعة الإسلامية.. قياماً بدور وحملاً لرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وعملاً باختصاصات شعبة التخطيط في توفير المعلومات (وكتابة ببلوغرافيا للثقافة الإسلامية المعاصرة ووضع قوائم وإثبات للمخطوطات وكذلك قوائم للباحثين والخبراء والمحققين) وتصنفيها حسب الأولويات، وإعدادها مفهرسة ومبوبة وحسنة العرض، ودفعها كقضايا معدة- ومع إرفاقها بمنهج المعالجة المعتمد- إلى شعبتي البحث والدراسة والإفتاء ومتابعة هاتين الشعبتين في إنجاز أعمالها المتوخية بهما في هذه القضايا إلى أن تنتهيا وتعيدا القضايا المذكورة بعد النظر فيها وإيجاد الحلول الإسلامية لها ... لتتولى شعبة التخطيط السهر والسبك النهائي لهذه القضايا مع حلولها بشكل فني متقن وعرضها على المجلس لاعتمادها، ثم ترجمتها ونشرها في دوريات المجمع وثائق مجمعية. فقد رأت شعبة التخطيط وضع الخط التالية ... واعتماد المنهج المبين فيما يلي: الخطة: أولاً: ستتولى الشعبة إعداد أثبات وقوائم لما يصدر في مجال الدراسات والبحوث وتأليف الكتب والرسائل، وكذلك في مجال الفقه والفتوى.. في مجال التراث الفقهي. ثانياً: كما تضع أثباتاً وقوائم لأمهات الكتب المخطوطة في الفقه الإسلامي في مختلف المذاهب، وفي كتب الخلاف، وفي القواعد والكليات، وفي علم الأصول مع توضيح مكان وجودها. ثالثاً: ترى الشعبة أنه يمكن الآن ضبط قائمة بأهم القضايا التي لها ارتباط بالأحوال الاجتماعية والاقتصادية والشؤون العامة للمجتمع الإسلامي.. مع رصد للتطور الساري وما نجم، وينجم، عنه من مشكلات في الحياة المعاصرة ... وذلك لإيجاد حلول لها على ضوء الشريعة الإسلامية. المنهج: رابعاً: ترى الشعبة أن المنهج الذي يتأكد اعتماده في البحوث والدراسات الشرعية والفقهية - وذلك بصفة مبدئية، وإلى أن يتيسر وضع منهج معتمد في صورة قواعد للدراسات والتحقيق - (ترى الشعبة أن يكون المنهج) كما يلي: 1- البحث في المسائل المستجدة والواقعات الحادثة وفق نظر يعتمد قوة الدليل الشرعي، ويهتم بتحقيق المقاصد الشرعية المعتبرة، ويهدف إلى التيسير ورفع الحرج ضمن قواعد الشرعية وضوابطها العامة. 2- الاستئناس بما تنتهي إليه البحوث والدراسات الجادة التي تعنى بالمذاهب الفقهية جميعها.. وتحرص على أخذ الآراء المذهبية من مصادرها الأصيلة وكتبها المعتمدة. 3- تخريج الأحاديث وفقاً لقواعد التخريج المعتمدة. 4- توثيق النقول وفق الاصطلاح الذي يختاره المجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 تقارير شعب التخطيط والدراسات والبحوث والإفتاء بسم الله الرحمن الرحيم في يوم الثلاثاء المصادف 27/صفر / 1405هـ، الموافق 20/11/1984م. اجتمعت شعبة الدراسات والبحوث لدراسة اختصاصاتها، وأولويات عملها، واختيار خطة عمل مناسبة لها بحضور جميع أعضائها، وهم: الدكتور حسن عبد الله الترابي. الدكتور محمد شريف أحمد. سيدي محمد الأمين دجيري. الدكتور عبد الله بن حاج إبراهيم. البروفيسور صالح طوغ. الشيخ محمد عبده عمر. مولانا محمد عبد الرحيم. معالي السيد موسى فتحي. وفي بداية الجلسة الصباحية اختارت الشعبة الدكتور حسن عبد الله الترابي رئيساً لها، والدكتور محمد شريف أحمد مقرراً لها. ثم، ضعت خطة لعملها سارت بموجبها في تحديد اختصاصاتها في ضوء طبيعة عمل الشعبة، واختصاصات الشعب الأخرى تفادياً لأي تناقض أو تداخل بين أعمال الشعب واختصاصاتها المختلفة. ومع تقديرها للجهود التي بذلت في صياغة اللائحة التنفيذية فإن الشعبة راجعت تلك الصياغة، وأجرت عليها تعديلات تناولت حذف بعض الفقرات وضم بعضها إلى البعض الآخر وإضافات تقتضيها طبيعة الشعبة. ثم واصلت جلستها المسائية لاستكمال خطها، ووضع المنهج العلمي لها، وتحديد بعض الموضوعات الهامة للدراسة والبحث. وتوصلت بعد مناقشات ضافية من الأعضاء إلى الأمور التالية: أولاً: فيما يتعلق باختصاصات شعبة الدراسات والبحوث: 22- تحدد منهجاً لعملها واطاراً لنشاطها يتم به تصنيف موضوعات الدراسات والبحوث، وتحديد المشروعات التي تعتزم القيام بها، وتقدير الحاجات الفنية والمادية اللازمة لمشروعات العمل. 23- تسترشد بما تقدمه إليها لجنة التخطيط من أثبات وقوائم ومقترحات، ولها أن تقترح على لجنة التخطيط ما تشاء من موضوعات جديدة للدراسة والبحث في مختلف المجالات العقدية، والفقهية، والفكرية الإسلامية. 24- تلتزم بالمنهج العلمي الذي تقترحه، وتقره لجنة التخطيط ويعتمده المجلس. 25- تسهم في أثراء النشرات الدورية العلمية للمجمع وذلك بامدادها بما تقوم به من بحوث، أو تقره من دراسات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 26- تتولى تنفيذ مشروعات للدراسات والبحوث والتأليف، ولها أن تقترح على الأمين العام خبراء وباحثين ومحققين، للاستعانة بهم في أعمال المجمع العلمية. 27- بناء على توصية الشعبة تعطي على الدراسات والبحوث التي يقبلها المكتب، ويقرها المجلس مكافآت مناسبة يحددها الأمين العام وفق ما هو معمول به في المؤسسات المماثلة. 28 تعرض عليها أي مشروعات علمية من الباحثين أو الجامعات، أو المؤسسات العلمية الأخرى لغرض تقويمها، والتوصية بشأن تبنيها أو اعانتها من قبل المجمع، وللجنة أن تستعين في ذلك بآراء الخبراء المختصين. ورأت الشعبة إحالة الفقرات 37، 38، 39، وفق الترقيم السابق إلى اختصاصاتها لصلتها الأكيدة بها وهي فقرات تقع ضمن اختصاصات شعبة الإفتاء وتتعلق بجمع المصطلحات الفقهية وأعمال الموسوعة الفقهية، وتحقيق كتب التراث. ثانياً: فيما يتعلق بالمنهج العلمي: ترى الشعبة أن المنهج العلمي هو المعيار الذي يوجه الدراسة والبحث وسائر العمل العلمي في المجمع ويتصف بما يلي: " المقارنة " التزام منهج الفقه المقارن في البحوث والقضايا المدروسة. " الموضوعية" التزام الموضوعية والتجرد عن كل هوى أو تعصب لمذهب، أو ولاء طائفي أو سياسي. " الواقعية " إيلاء الأولوية في الدراسة والبحث لمعالجة مشاكل الواقع الإسلامي المعاصر. " الاجتهاد " الاجتهاد بالرأي المؤسس على الأصول الإسلامية والمتوخي للمقاصد والمصالح الشرعية، والمستأنس بالتراث الفقهي، والمعتبر لظروف الواقع وحاجاته. " السماحة " التحلي بالسماحة في مواطن الاختلاف الفقهي، والأخذ بما تذهب إليه غالبية الآراء مع إثبات المسار الآخر. " التأصيل " تأصيل الآراء والبحوث بالأدلة الصحيحة من أصول الإسلام ومن مواقع التراث. ثالثاً: فيما يتعلق بتحديد أولويات البحث تختار الشعبة الموضوعات التالية: الملكية ومدى سلطة الدولة في تقييدها. الشركات التجارية الحديثة واهتماماتها. الولاء الوطني ووحدة الأمة في حاضر العالم الإسلامي. نظم ومناهج تدريس الفقه الإسلامي. الاجتهاد في المجتمع المسلم المعاصر. النظم القضائية والعدلية في الإسلام. رابعاً: فيما يتعلق بخطة عمل قصيرة للمجمع تقترح ما يلي: استئصال دراسة لمشروع إقامة مركز للبحث الإسلامية يتولى الأعمال الفنية ومنها إصدار النشرات الدورة التي تخدم أهداف المجمع. رصد وجمع التقنينات والتشريعات الإسلامية ومشروعات تدوين أحكام الشريعة الإسلامية في أي بلد إسلامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 تقرير: شعبة الإفتاء بسم الله الرحمن الرحيم اجتمعت شعبة الإفتاء التابعة لمجمع الفقه الإسلامي يوم الثلاثاء 27صفر 1405هـ، الموافق 20نوفمبر 1984 بعضوية كل من: فضيلة الشيخ عبد العزيز محمد عيسى. عضو مجمع البحوث الإسلامي بالأزهر سعادة السيد محمد ميكو رئيس غرفة المجلس الأعلى، مدير الشؤون المدنية بالمملكة المغربية معالي الحاج عبد الرحمن باه وزير الشؤون الدينية بجمهورية غينيا فضيلة الشيخ محمد عبد الرحمن مفتى جمهورية جزر القمر ومستشار الرئيس للشؤون الدينية فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي مفتى الجمهورية التونسية القاضي محمد تقي عثمان. قاضي القسم الشرعي بالمحكمة العليا بجمهورية باكستان الإسلامية. فضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف آل سعد. وكيل محكمة الاستئناف العليا الشرعية بدولة البحرين فضيلة الشيخ أحمد بن سعود السيابي مدير مكتب المفتى العام لسلطنة عمان فضيلة الشيخ آدم شيخ عبد الله علي مدير وإمام مسجد التضامن الإسلامي بجمهورية الصومال كما حضر اشغال الشعبة الدكتور طلال عمر بافقيه، مدير المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي وفضيلة الشيخ محمد أمين البدوي مدير مكتب الجامع الأزهر الشريف وقد انتخب أعضاء الشعبة فضيلة الشيخ عبد العزيز محمد عيسى، رئيساً، وسعادة السيد محمد ميكو مقرراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ثم شرعت الشعبة في أعمالها بتحليل مفهوم كلمة الإفتاء وضبط حدودها، واتفقت على أن المقصود من الفتوى هو ما يصدر عنها من آراء فيما يشغل بال الأمة الإسلامية كافة من مشاكل العصر وعرضها على المجمع ليبت فيها، مستبعدة بذلك ما يتبادر إلى معنى كلمة الفتوى كل ما يتعلق بإصدار فتاوى جزئية لما يعرض للأفراد من إشكالات في مجال العبادات أو المعاملات. ومن هنا اتفقت الشعبة أنه عليها أن تضع خطة لعملها بتحديد أهدافها ومنهجية عملها حيث إن الشعبة لا تكتفي بإعطاء الحلول فقط بل ترمى أيضاً إلى إثراء مكتبة الفقه الإسلامية بجميع المصادر الهامة. وبعد مداولات ودراسة القسم المتعلق بشعبة الإفتاء الوارد في اللائحة التنفيذية حيث اعتبروه أرضية مشتركة للحوار بينهم، واتفقوا على الهيكلية التالية: أولاً: تيسير معرفة الفقه بالوسائل التالية ونحوها: (أ-) المصطلحات الفقهية: بالاستفادة مما أنجز من المصطلحات والمساعدة على نشرها. بمراجعة ما هو موجود منها وإثرائه. (ب) الموسوعات الفقهية: - بمراجعة الموجود منها وتصحيح ما يجب تصحيحه وإكمال ما يتحتم إتمامه. - بالعمل على التقدم بمشاريعها. - بإثرائها تدليلاً على كل مسألة من مسائلها بالأدلة المعتمدة. (جـ) نشر تراث الفقه الإسلامي: بتحرير قائمة المخطوطات الموجودة في مكتبات العالم والتعريف بكل كتاب منها واقتناء صورها تمهيداً لطبعها عند الاقتضاء. بإعادة طبع كتب الفقه المعتمدة والتي نفدت طبعاتها. بتحديد الأولويات لما يطبع. (د) فهرست الكتب الفقهية: - بإبراز موضوعاتها بما من شأنه أن ييسر الانتفاع بها. (هـ) جعل مادة الفقه الإسلامي، مادة أساسية في جميع مراحل التعليم وصفوفه. ثانياً: تحرير الفتاوى في القضايا المهمة: بالنظر في القضايا الاقتصادية حسب حركة التطور المعاصرة للبحث لها عن حلول من الشريعة الإسلامية تساعد على تحقيق النمو الاقتصادي للأمة الإسلامية. بالنظر في القضايا الاجتماعية المعاصرة للبحث لها عن حلول من الشريعة تساعد على تطور المجتمع في المسار الإسلامي الصحيح. وترى الشعبة أن الاستعانة بذوي الكفاءات العلمية في جميع الميادين ضرورة أكيدة لتكون الفتاوى مبنية على مراعاة جميع المعطيات الأساسية. وتحقيقا للفاعلية، قررت التفويض لسيادة الأمين العام للمجمع قصد تعيين الخبراء الذين هم أهل للقيام بهذه المهمة الدقيقة والهامة. كما ترى أن عقد اجتماعات دورية لهذه الشعبة بين الجلسات العامة كلما اقتضى الحال ذلك. وبالله التوفيق وهو من وراء القصد.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 النظام الأساسي: لمجمع الفقه الإسلامي الباب الأول المبادئ العامة المادة الأولى: ينشأ مجمع يسمى (مجمع الفقه الإسلامي) ويشار إليه في هذا النظام بلفظ (المجمع) وله شخصيته المعنوية داخل إطار منظمة المؤتمر الإسلامي. المادة الثانية: مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية هي المقر الأساسي للمجمع، وله أن ينشئ فروعا في البلاد الإسلامية، كما أن له أن ينشئ مكاتب في أي بلد يراه. المادة الثالثة: تعقد دورات المجمع وجلساته في جدة، ويجوز أن تعقد في أي بلد إسلامي آخر بعد اتخاذ الترتيبات اللازمة. الباب الثاني الأهداف المادة الرابعة: يعمل المجمع على: أ -تحقيق الوحدة الإسلامية نظريا وعمليا عن طريق السلوك الإنساني ذاتيا واجتماعيا ودوليا وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية. ب -شد الأمة الإسلامية لعقيدتها ودراسة مشكلات الحياة المعاصرة والاجتهاد فيها اجتهادا أصيلا لتقديم الحلول النابعة من الشريعة الإسلامية. الباب الثالث الوسائل المادة الخامسة: يسعى المجمع لتحقيق أهدافه بكل الوسائل الممكنة ومنها ما يلي: 1- وضع معجم للمصطلحات الفقهية ييسر على المسلمين إدراك معناها لغة واصطلاحا عن طريق لجان متخصصة. 2- كتابة الفقه الإسلامي بالطريقة التي تسهل على الدارس والناظر أخذ ما يحتاجه وذلك بوضع موسوعة فقهية شاملة. 3- التعاون مع المجامع واللجان والمؤسسات الفقهية القائمة في العالم الإسلامي. 4- تقنين الفقه الإسلامي عن طريق لجان متخصصة. 5- تشجيع البحث الفقهي في نطاق الجامعات وغيرها من المؤسسات العلمية حول تحديات العصر وقضاياه الطارئة. 6- إقامة مراكز بحوث للدراسات الإسلامية في بعض أنحاء العالم تخدم أهداف المجمع. 7- نشر بحوث المجمع بشتى الوسائل المتاحة على أوسع نطاق. 8- العمل على إحياء التراث الفقهي الإسلامي والعناية بأصول الفقه وكتب الخلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الباب الرابع العضوية المادة السادسة: يكون أعضاء المجمع من الفقهاء والعلماء والمفكرين في شتى مجالات المعرفة الإسلامية. المادة السابعة: 1- يكون لكل دولة من دول منظمة المؤتمر الإسلامي عضو عامل في المجمع ويتم تعيينه من قبل دولته. 2- يجوز ضم أكثر من عضو عامل من الدولة الواحدة بقرار من مجلس المجمع. 3- للمجمع أن يضم (بقرار) إلى عضويته من تنطبق عليهم شروط العضوية من علماء وفقهاء المسلمين والجاليات الإسلامية في الدول غير الإسلامية ومن المنظمات الإسلامية التي تخدم نفس أهداف المجمع بشرط الالتزام بالعضو الواحد لكل دولة أو جالية أو منظمة، على أن لا يتجاوز عدد الأعضاء العاملين في المجمع من غير الدول الأعضاء ربع عدد الأعضاء الذين يمثلون دولهم ومنحهم حق التصويت. المادة الثامنة: للمجمع أن يضم إليه أعضاء مراسلين ممن يرى الاستعانة بهم في تحقيق أغراضه، ويجوز لهم حضور اجتماعات المجلس والمشاركة في مناقشاته بدعوة من المجمع دون أن يكون لهم حق التصويت. المادة التاسعة: يشترط أن يتوفر في عضو المجمع ما يلي: 1- الالتزام بالدين الإسلامي عقيدة وسلوكا. 2- سعة الاطلاع وعمقه في العلوم الإسلامية عامة والشريعة منها بوجه خاص فضلا عن معرفته بواقع العالم الإسلامي. 3- ألا يكون قد صدر ضده حكم مخل بالشرف أو الأمانة. 4- أن يكون العضو العامل متمكنا من اللغة العربية. المادة العاشرة: يتم إسقاط العضوية بقرار يصدره مجلس المجمع بثلثي أعضائه العاملين في الحالات التالية: 1- إذا فقد العضو واحد أو أكثر من شروط العضوية المبينة في المادة التاسعة. 2- التغيب عن اجتماعات المجمع دورتين متتاليتين بدون عذر. 3- الاستقالة. 4- اتفاق ربع أعضاء المجمع على عدم أهليته للعضوية كتابة. وحينما يتم إسقاط العضوية عن العضو الممثل لحكومته يتوجب إشعار دولته بقرار المجلس ويطلب منها استبداله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الباب الخامس تنظيم المجمع المادة الحادية عشرة: ينتظم أعضاء المجمع فيما يلي: 1- مجلس المجمع. 2- شعب المجمع المتخصصة. 3- هيئة المكتب. 4- أمانة المجمع. المادة الثانية عشرة: مجلس المجمع: 1- يتكون مجلس المجمع من جميع أعضاء المجمع العاملين. 2- يجتمع المجلس في دورة سنوية بناء على دعوة موجهة مكتوبة من قبل أمانة المجلس. 3- وللمجلس أن يعقد دورات استثنائية عند الضرورة بناء على طلب ثلث الأعضاء أو بناء على قرار إجماعي من أعضاء هيئة مكتب المجلس. المادة الثالثة عشرة: 1- تكون اجتماعات المجلس قانونية بحضور ثلثي الأعضاء. 2- تصدر قرارات المجلس وتوصياته بالإجماع أو بأغلبية الأعضاء الحاضرين. المادة الرابعة عشرة: 1- يترأس جلسات المجلس رئيس المجمع الذي ينتخبه أعضاء المجلس من بينهم ويساعده ثلاثة نواب منتخبين. 2- مدة عضوية الرئيس ونوابه ثلاث سنوات قابلة للتجديد. 3- يتولى الأمين العام للمجمع أمانة المجلس. المادة الخامسة عشرة: مهام المجلس هي: 1- مناقشة جدول الأعمال الذي تعده الأمانة العامة ويقره أعضاء هيئة المكتب وله أن يضيف عليه أو يعدله، وإصدار القرارات والتوصيات اللازمة لما حواه الجدول من موضوعات. 2- انتخاب الرئيس ونوابه والأعضاء الستة لهيئة المكتب واعتماد عضوية الشعب المختلفة. 3- مناقشة البحوث والدراسات الفقهية والتوصية بنشر ما يراه ضروريا منها. 4- اعتماد خطة عمل اللجان والشعب والمكاتب الفرعية ووضع اللوائح الداخلية. 5- تعديل أو تغيير النظام الأساسي للمجمع بناء على اقتراح من هيئة مكتب المجلس. 6- اختيار المرشحين للعضوية. 7- اختيار الأعضاء المراسلين بناء على توصية من هيئة مكتب المجلس أو تزكية أربعة من أعضائه العاملين للعضو المرشح. 8- اعتماد مشروع ميزانية المجمع والحساب الختامي السنوي له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 المادة السادسة عشرة: شعب المجمع المتخصصة: 1- ينتظم أعضاء المجلس في شعب متخصصة لها لجان فرعية تغطي أهدافه وفق تخصصات الأعضاء واختيارهم الشخصي ومنها ما يلي: أ -شعبة التخطيط. ب - شعبة الدراسة والبحث. ج- شعبة الإفتاء. د- شعبة التقريب بين المذاهب. هـ- شعبة الترجمة والنشر. 2- للعضو أن يشترك في أكثر من شعبة بحيث لا يزيد عدد الشعب التي يشترك فيها عن ثلاثة. 3- يعتمد المجلس أعضاء الشعب، ويجوز للعضو الانتقال من شعبة إلى أخرى بعد إخطار هيئة مكتب المجلس واعتماد المجلس لها. 4- اللوائح التنفيذية لنظام عمل هذه الشعب واجتماعاتها يضعها الأمين العام للمجلس بالتشاور مع هيئة مكتب المجلس. المادة السابعة عشرة: هيئة مكتب المجلس: تؤلف هيئة مكتب المجلس من الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي أو من ينوب عنه وسبعة من الأعضاء على النحو التالي: 1- ستة أعضاء ينتخبهم مجلس المجمع يمثلون التوزيع الجغرافي للدول الإسلامية قدر المستطاع. 2- الأمين العام للمجمع بحكم منصبه ويكون أمين السر للهيئة. المادة الثامنة عشرة: 1- رئاسة هيئة مكتب المجلس دورية بين الأعضاء المنتخبين. 2- مدة عضوية هيئة مكتب المجلس ثلاث سنوات ويجوز إعادة اختيار أعضائها أو بعضهم. المادة التاسعة عشرة: مهمة هيئة المكتب ما يلي: 1- مراجعة مشروع جدول أعمال المجلس الذي أعدته الأمانة العامة للمجمع. 2- مراجعة الترشيحات للعضوية ومشروع الميزانية والحساب الختامي الذي تعده الأمانة العامة تمهيدا لعرضه على مجلس المجمع. 3- متابعة سير جلسات مجلس المجمع واجتماعات شعبه والالتزام باللوائح. 4- مراجعة مشروعات القرارات والتوصيات التي تقدم للمجلس من الأعضاء ومن الأمانة العامة. 5- التوصية لدى المجلس بما تراه مفيدا ودافعا لعمل المجمع من لوائح وموضوعات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 المادة العشرون: تقدم مقترحات أعضاء المجلس مكتوبة إلى الأمانة العامة للمجمع، حيث تسجل وتأخذ طريقها وفق اللائحة الداخلية للمجلس. المادة الحادية والعشرون: الأمانة العامة: 1- للمجمع أمانة عامة تتولى الأعمال الإدارية والشؤون المالية وحفظ أوراق المجمع وترتيبها وتدوين محاضر اجتماعاته ونحوها. 2- يرأس الأمانة العامة أمين عام يعينه الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي من بين أعضاء المجمع. 3- يعمل تحت رئاسة أمين عام المجمع عدد من الموظفين الأكفاء لإدارة العمل في الأمانة العامة ممن تتوفر فيه الصلاحية الإسلامية ويرشحهم الأمين العام للمجمع ويصدر الأمين العام للمنظمة قرارا بتعيينهم. المادة الثانية والعشرون: الأمين العام للمجمع هو الرئيس المباشر لموظفي الأمانة العامة للمجمع ويقوم بالمهام التالية: 1- تنظيم وترتيب العمل في الأمانة العامة بما يقتضيه صالح العمل في المجمع. 2- التوصية لدى الأمين العام للمنظمة بترقية أو معاقبة أو مكافأة أو انتداب موظفي الأمانة العامة للمجمع. 3- تولي الشؤون الإدارية للمجمع وتنفيذ قراراته ومتابعتها. 4- تنسيق الاتصال بين أعضاء شعب المجمع وأعضاء المجلس وهيئة المكتب. 5- إعداد مشروع جدول أعمال المجلس ومشروع ميزانيته وإعداد الحساب الختامي. المادة الثالثة والعشرون: 1- ميزانية المجمع، تحقيقا لمزيد من الفاعلية لأعمال المجمع تكون ميزانيته مستقلة عن ميزانية الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي. 2- للمجمع أن يقبل التبرعات. المادة الرابعة والعشرون: تحفظ محاضرات اجتماعات المجلس وهيئة المكتب والشعب المتخصصة واللجان الفرعية وبحوث المجمع وفتاواه لدى الأمانة العامة للمجمع. المادة الخامسة والعشرون: 1- يضع الأمين العام للمجمع مشروع اللائحة التنفيذية لهذا النظام بالتشاور مع الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي وأعضاء هيئة المكتب. 2- يصبح هذا النظام الأساسي للمجمع نافذ المفعول بعد إقراره من المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 قائمة بأسماء الوفود المشاركة في المؤتمر التأسيسي لمجمع الفقه الإسلامي 1- الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية: معالي الشيخ عبد الرحمن شيبان وزير الشئون الدينية. رئيس السيد/ محمد الصغير شريف حسن. عضو السيد/ محمد المأمون القاسمي الحسني. عضو السيد/ على السعدي المغربي عضو السيد/ الطيب بشير بوبجره عضو 2- دولة البحرين: معالي الشيخ عبد بن خالد آل خليفة وزير العدل والشئون الإسلامية رئيس الشيخ يوسف أحمد الصديقي عضو السيد/ طلعت إبراهيم أبو زهرة عضو السيد/ غازي عبد الرحمن حسن عضو 3- جمهورية بنجلاديش الشعبية معالي السيد محبوب الرحمن وزير الحكم المحلي والشئون الدينية رئيس سعادة محمد محسن عضو السيد/ جاهانبر سادات عضو السيد/ حوميون كبير عضو 4- جمهورية القمر الإسلامية الاتحادية معالي السيد محمد عبد الرحمن مفتي جمهورية القمر الإسلامية الاتحادية رئيس السيد/ حسن شيخ صالح عضو 5- جمهورية جيبوتي معالي السيد عمر كامل ورسمه وزير العدل رئيس سعادة السفير آدن شيخ حسن عضو 6- دولة الإمارات العربية المتحدة معالي محمد عبد الرحمن البكر وزير العدل والشئون الإسلامية والأوقاف رئيس السيد/ أحمد محمد القاسمي عضو السيد/ محمد الخطيب عضو 7- جمهورية جامبيا: سعادة الدكتور عمر جاه سفير جامبيا لدى المملكة العربية السعودية رئيس السيد/ عبد الرحمن فوفانا عضو 8- جمهورية غينيا الشعبية الثورية رئيس معالي فودي سوريبا كامارا وزير الشئون الإسلامية رئيس السيد/ موري كمارا محمد عضو 9- الجمهورية العراقية معالي السيد عبد الله فاضل عباس وزير الأوقاف والشئون الدينية رئيس السيد/ الدكتور محمد شريف أحمد عضو السيد/ إبراهيم عثمان الصكب عضو السيد/ فاضل حمد خضر عضو السيد/ عادل عبد القادر عضو 10- جمهورية إيران الإسلامية سعادة حجة الإسلام على تسخيري نائب رئيس الإرشاد الإسلامي ومستشار نائب الإمام بوزارة الخارجية رئيس السيد/ حجة الإسلام حسين عبد الرحيم سبحاني نيا عضو السيد/ محمد علي النجافي عضو السيد/ منصور الغروي عضو 11- جمهورية أندونيسيا: معالي الدكتور أ. تيمور الجيلاني نائب وزير رئيس السيد/ زيني داحلان عضو 12- المملكة الأردنية الهاشمية معالي السيد/ كامل الشريف وزير الأوقاف والشئون الإسلامية والمقدسات رئيس السيد/ نايف أبو رجب عضو 13- دولة الكويت معالي الشيخ أحمد سعد الجاسر وزير الأوقاف والشئون الإسلامية رئيس السيد/ عبد الستار عبد الكريم أبو غدة عضو السيد/ مانع راشد العجمي عضو السيد/ فؤاد صالح الجمعة عضو 14- الجمهورية اللبنانية معالي السيد/ بهاء الدين البساط وزير الإسكان والموارد المائية والكهرباء رئيس السيد/ حسن القوتلي عضو الشيخ خليل الميس عضو 15- الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية معالي السيد/ محمد علي الجدي رئيس المحكمة العليا رئيس السيد/ حسين عبد القادر السنوسي عضو 16- جمهورية مالي: معالي العقيد عيسى أنجويا وزير العدل رئيس سعادة سيدي محمد يوسف جبري عضو السيد/ يوسف كرانيا عضو 17- جمهورية جزر المالديف سماحة القاضي موسى فتحي رئيس القضاء رئيس السيد/ آدم موسى عضو السيد/ حسين عبد الرحمن عضو 18- المملكة المغربية: معالي السيد مصطفى بلعربي العلوي وزير العدل رئيس السيد/ محمد ميكو عضو السيد/ الحاج أحمد شقرون عضو 19- الجمهورية الإسلامية الموريتانية معالي السيد عبد العزيز بن أحمد وزير العدل والشئون الدينية والتوجيه الإسلامي رئيس السيد /محمد عبد القادر ولد ديدي عضو السيد/ محمد سالم عبد الودود عضو السيد/ حمدان ولد أتاه عضو 20- ماليزيا معالي السيد/ داتو الحاج محمد ناصر وزير برئاسة مجلس الوزراء رئيس السيد/ داتو عبد القادر طالب عضو الحاج عبد القادر سليمان عضو 21- جمهورية النيجر معالي الحاج علاله حبيبو وزير العدل رئيس السيد/ محمد عبد الله عضو السيد/ سونا سيدو ديجرما كويا عضو السيد/ مختار عثمان عضو 22- سلطنة عمان سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي رئيس السيد/ يحيى سفيان الراشدي عضو السيد/ حمد محمد اليحمدي عضو 23- أوغندا - سعادة السيد أبو بكر رجب نادوي قائم بالأعمال بسفارة أوغندا لدى المملكة العربية السعودية رئيس 24- فلسطين الشيخ عبد الحميد السايح رئيس الشيخ رجب التميمي عضو 25- جمهورية باكستان الإسلامية - القاضي أقطب حسين رئيس المحكمة الشرعية الفيدرالية رئيس - القاضي دكتور تنزيل الرحمن عضو - السيد/ أمين جان نعيم عضو - السيد/ رشيد سالم خان عضو - الدكتور عبد الكبير عضو 26- دولة قطر سعادة الشيخ عبد الرحمن عبد الله المحمود وكيل رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية رئيس - السيد/ عبد القادر محمد العماري عضو - السيد/ خليل محمد حمد عضو 27- الجمهورية العربية السورية سعادة الدكتور محمد عبد اللطيف مدكور أستاذ بجامعة دمشق رئيس السيد/ الشيخ عبد الرحمن حافظ عضو السيد/ محمد مالك بيدق عضو 28- جمهورية السنغال - سعادة محمد السيد أحمد لوي جاي الرئيس الأول للمحكمة العليا رئيس - سعادة السيد مصطفى سيسي عضو - السيد الدكتور روان موباي عضو السيد/ سيدنا عمر ديوب عضو 29- جمهورية الصومال الديمقراطية معالي الدكتور محمود سعيد نائب وزير العدل والشئون الدينية رئيس معالي الشيخ حسن عبد الله فارح عضو فضيلة الشيخ آدم شيخ عبد الله عضو السيد/ حسن فارح حجالي عضو 30- جمهورية السودان الديمقراطية - معالي السيد دفع الله الحاج يوسف رئيس المجلس الأعلى للشئون الدينية والأوقاف رئيس - السيد/ حسب الرسول عثمان عضو - السيد/ محمد حجاز المدثر عضو - السيد/ عوض الله محمد علي عضو 31- جمهورية سيراليون - معالي السيد أبو بكر كمارا وزير الصناعة والتجارة رئيس - السيد/ بكر كمارا عضو 32- الجمهورية التونسية معالي السيد محمد شاكر وزير العدل رئيس - فضيلة الدكتور محمد الحبيب ابن خوجة عضو - السيد/ عبد الله الغيد الرحموني عضو - السيد/ عبد العزيز الزغلامي عضو 33- الجمهورية التركية - سعادة السيد صالح طوغ عميد كلية الشؤون الدينية رئيس - السيد/ سامي أصلو عضو 34- جمهورية تشاد - معالي السيد أحمد كروم وكيل وزارة الخارجية والتعاون رئيس - السيد/ عبد الرحمن يعقوب عضو - السيد/ إبراهيم محمد عضو - محمد عبد الجليل عضو 35- المملكة العربية السعودية - معالي الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير رئيس ديوان المظالم رئيس - سعادة الأستاذ عباس غزاوي عضو - السيد/ الدكتور سعود بن دريب عضو - السيد/ عبد الحفيظ كشميري عضو - السيد/ محمد المرزوقي عضو - السيد/ حسن الخطيب عضو 36- الجمهورية العربية اليمنية معالي السيد أحمد صالح فرحان وكيل وزارة العدل رئيس - السيد يحيى محمد مالك عضو 37- جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية - معالي الشيخ يحيى عبد الله القحطاني مدير الشئون الدينية بوزارة العدل وعضو مجلس الشعب الأعلى رئيس - السيد/ حسن عبد الرحمن السقاف عضو - السيد/ على عبد الله الكاف عضو 38- جمهورية الجابون - سعادة مينيه نبو سفير جمهورية الجابون لدى المملكة العربية السعودية رئيس - السيد/ آدم زورتا عضو 39- جمهورية فولتا العليا - سعادة دمبوبمبا سفير فولتا العليا لدى المملكة العربية السعودية رئيس - سيدبي داوود عضو المراقبون 1- نيجيريا سعادة تليمو سولاوا سفير نيجيريا بالجزائر رئيس ساني سولاوا بلا عضو 2- بنين الشعبية عفاديري ساليون مدير الشئون العربية بوزارة الخارجية 3- طائفة القبارصة الأتراك - سعادة مصطفى هاشم التاه مدير عام الوثائق 4- البنك الإسلامي للتنمية معالي الدكتور أحمد محمد علي رئيس البنك الإسلامي للتنمية 5- رابطة العالم الإسلامي فضيلة الشيخ علي مختار الأمين العام المساعد 6- جمعية الدعوة الإسلامية - السيد/ محمد عثمان الفقهي 7- المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم - السيد/ حسن السائح 8- الندوة العالمية للشباب الإسلامي - سعادة الدكتور توفيق أحمد القصير الأمين العام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 اللآئحة التنفيذية التي أقرها مجلس مجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد المجلس: 1- يرأس اجتماعات المجلس الرئيس المنتخب ويساعده نوابه كما نصت على ذلك المادة الرابعة عشرة من النظام الأساسي. 2- يتألف المجلس طبقا للمادة السابعة من النظام الأساسي من أعضاء عاملين ومراسلين:- ا- (أ) الأعضاء العاملون الممثلون لدول منظمة المؤتمر الإسلامي. 1- ب- الأعضاء العاملون من الفقهاء والعلماء في الدول الأعضاء والجاليات الإسلامية في غير الدول الإسلامية، ومن المنظمات الإسلامية التي لها صلة باختصاصات المجمع، كما تنص على ذلك المادة "7/3" من النظام الأساسي. 3- الأعضاء المراسلون ويعينون من بين العلماء المسلمين المعروفين ببحوثهم العميقة ودراساتهم الجادة المركزة. ويقع تعيينهم بعد عرض اقتراحهم على المجلس والحصول على المصادقة منه. 4- تقدم الترشيحات لـ "1/ب، ولـ "2" من طرف الأمين العام للمجمع ويصحب الترشيح بيان كتابي مفصل عن المؤهلات العلمية للمرشح. 5- يتم اختيار المرشحين للعضوية بنوعيها (1/ب، 3) بالمجلس وفق ما نصت عليه المادة الخامسة عشرة: 6، 7 أي بتوصية من هيئة المكتب أو تزكية أربعة من الأعضاء العاملين بالمجلس. 6- يستقبل الأعضاء العاملون الجدد في جلسة علنية ولا يشتركون في أعمال المجلس لا بعد استقبالهم. 7- جلسات المجلس خاصة فيما عدا جلسات الافتتاح والاستقبال والتأبين وللمجلس أن يقرر عقد جلسات علنية. 8- تعد الأمانة محاضر جلسات المجلس. 9- تنفض دورة المجلس بمجرد انتهاء مدته المقررة لاجتماعاته وللمكتب أن يمدها إن دعا الأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 المكتب: 10- تجتمع هيئة المكتب للمجمع مرة كل سنة على الأقل، وقبل اجتماع المجلس. 11- يضع المكتب التعليمات الضرورية لتنفيذ أحكام هذه اللائحة. 12- يقر المكتب الهيكل الوظيفي والتنفيذي للمجمع ويقر مشروع ميزانية المجمع. 13- يزكي من يختاره من المرشحين ويصدر بشأنهم توصيات للمجلس. شعب المجلس: 14- تتنوع شعب المجلس إلى خمس فرق متميزة كما تنص على ذلك المادة السادسة عشرة/1 من النظام الأساسي، وللأعضاء أن يشاركوا في أكثر من شعبة حسبما تنص عليه نفس المادة رقم "2". 15-1- 1- شعبة التخطيط: تتولى هذه الشعبة إعداد أثبات وقوائم لما يصدر في مجال الدراسات والبحوث وتأليف الكتب والرسائل عن الإسلام، وكذلك في مجال الفقه والفتوى وفي مجال التراث الفقهي أصوله وفروعه وتحقيقه. 16- تضع أثباتا وقوائم لأمهات الكتب المخطوطة في الفقه الإسلامي في مختلف المذاهب وفي كتب الخلاف وفي القواعد والكليات، وفي علم الأصول. وتدل الأمانة العامة على مكان وجود هذه المخطوطات كي تتولى إدارة المجمع استحضار ما يلزم من مايكروفيلمات أو نسخ، وذلك تمهيدا لتحقيقها ونشرها. 17- تضبط قوائم في أهم القضايا التي لها ارتباط بالأحوال الاجتماعية والاقتصادية والشؤون العامة للمجتمع الإسلامي رصدا للتطور الساري في مختلف المجالات وما نجم عنه من مشكلات في الحياة المعاصرة تمهيدا لإيجاد حلول لها في ضوء الشريعة الإسلامية. 18- تعتمد المنهج الذي يجب إعماله في البحوث والدراسات الشرعية والفقهية وتضع ذلك في صورة قواعد للداراسة والتحقيق. 19- تضع رزنامة للندوات واللقاءات التي يعتزم المجمع القيام بها بمقره في جدة، أو خارج مقره بصفة مستقلة، أو بالاشتراك أو التعاون مع الجامعات ومع المؤسسات من أجل دراسة مشكل قائم، أو التعمق في دراسة موضوع من موضوعات الحياة العملية، أو القيام بدراسة شرعية فقهية مستوعبة، تعتمد التحليل والمناقشة، وإيجاد الحلول الإسلامية. 20- تربط الصلة بالجامعات الإسلامية ومراكز البحوث بها، أو خارجها وبالمجامع والمؤسسات المختصة قصد التنسيق والتعاون معها بالطرق الممكنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ويتولى الأمين العام متابعة ذلك وتنفيذه. 21- تضع شعبة التخطيط على ضوء ما تجمع لديها من معلومات مما نص عليه في المواد: "15، 16، 17" – وبعد تصنيفها – وبالمنهج الذي تعتمده، "تضع" مشروع خطة عمل عامة للدراسات والبحث والتحقيق والترجمة والنشر ... وتقترح بعض الدارسين والباحثين والمحققين وتنسق كل ذلك مع الأمين العام للمجمع والشعب المختصة، كما تتولى اقتراح ما ترى ترجمته ونشره. 22- 2 – شعبة الدراسات والبحوث: تحدد منهجا لعملها، وإطارا لنشاطها، يتم به تصنيف موضوعات الدراسات والبحوث، وتحديد المشروعات التي تعتزم القيام بها، وتقدير الحاجات الفنية والمادية اللازمة لمشروعات العمل. 23- تسترشد بما تقدم إليها من لجنة التخطيط من أثبات وقوائم ومقترحات كما تقترح على لجنة التخطيط ما تشاء من موضوعات جديدة للدراسة والبحث في مختلف المجالات الفقهية والفكرية الإسلامية. 24- تلتزم بالمنهج العلمي للدراسات والبحوث ذلك الذي تقترحه هي وتقره لجنة التخطيط ويعتمده المجلس. 25- تسهم في إثراء النشرات الدورية العلمية للمجمع، وذلك بإمدادها بما تقوم به من بحوث أو تقره من دراسات. 26- تسهم في مشروعات للدراسة والبحوث والتأليف، ولها أن تقترح على الأمين العام قوائم بالخبراء والباحثين والمحققين للإستعانة بهم في ذلك. 27- بناء على توصية اللجنة تعطي على الدراسات والبحوث التي يقبلها المكتب ويقرها المجلس مكافآت يحددها الأمين العام وفق ما هو معمول به في المؤسسات المماثلة. 28- تعرض عليها أي مشروعات علمية من الباحثين أو الجامعات أو المؤسسات العلمية الأخرى لغرض تقويمها والتوصية بشأن تبنيها أو إعانتها من قبل المجمع. وللجنة أن تستعين في ذلك بآراء الخبراء المختصين. 29- تعني هذه الشعبة بإنشاء موسوعة فقهية مبتدئة بالاستفادة مما أنشئ ومراجعة ما هو موجود حتى يكون عملها مستأنفا لا مكملا وتهتم بالرجوع في كل مسألة إلى الأدلة المعتمدة. 30- تعني بتحقيق كتب الفقه الإسلامي لذلك من يقوم به من بين أفرادها أو من تقترحه من الخبراء والمحققين الذين لهم قدم في هذا المجال ويحصلون على الموافقة في انتدابهم من الأمين العام للمجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 31-3-- شعبة الإفتاء: تضع خطة لعملها تتماشى والمهام التي يمكن أن تتوفر عليها لتتيسر معرفة الفقه وتحرير الفتاوى في القضايا المختلفة. 32- تعني بنشر كتب الفقه الإسلامي في موضوع الفتاوى والأقضية والأحكام وذلك بتحرير قائمة المخطوطات الموجودة في مكتبات العالم، والتعريف بكل كتاب منها واقتناء صورها تمهيدا لطبعها عند الاقتضاء، وبإعادة طبع كتب الفقه المعتمدة والتي نفدت طبعاتها وتحديد الأولويات فيما يطبع. 33- تعني هذه الشعبة بفهرست الكتب الفقهية المتعلقة بالفتوى وذلك بإبراز موضوعاتها بما من شأنه أن ييسر الانتفاع بها. 34- تقوم بتحرير مشروع الفتاوى ليقرها المجمع في القضايا المهمة، وذلك بالنظر فيما يعرض عليها من استفتاءات تتصل بالقضايا العامة المختلفة ... للبحث لها عن حلول من الشريعة الإسلامية تساعد على تحقيق النمو والتطور للمجتمع في المسار الإسلامي الصحيح. 35- إن رأت أن الإستعانة بذوي الكفاءات العلمية ضرورة أكيدة لتكون الفتاوى مبنية على مراعاة جميع المعطيات. 36- تعرض الشعبة دراساتها وفتاواها على المجلس خلال انعقاد دورته لاتخاذ القرار المناسب بشأنها. 37- تحرص الشعبة على جمع كتب الفتوى المخطوطة في مختلف المذاهب وذلك بطلب تصويرها أو الحصول على نسخ منها تمهيدا لضبطها وتحقيقها ونشرها والاستفادة منها. 38- تمد الشعبة النشرة العلمية للمجمع بنتائج بحوثها وبالفتاوى التي تصدرها باسم المجمع والتي تحظى بموافقة المجلس في دورته عليها. 39- يعطى الدارسون والمحققون مكافآت مادية مناسبة عند اعتماد المكتب والأمين العام أعمالهم. 40- يعطى القائمون على إعداد المعجم الفقهي أو معجم المصطلحات مكافآت تناسب جهودهم تكون على نحو ما يعطى أمثالهم في المجامع والمؤسسات المختصة أمثالها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 4- شعبة التقريب بين المذاهب: تعد هذه الشعبة الخطوات اللازمة لوضع دراسة موسعة ودقيقة حول الفقه الإسلامي ومصادره ونشأته ومراحله وتطوراته ومذاهبه وخصائص كل مذهب. 42- تتعاون مع شعبة الإفتاء في جميع كتب الفتاوى المطبوعة أو المخطوطة في مختلف المذاهب تمهيدا للاستنارة بها ومحاولة للتقريب بين أنظار أصحابها بعد المقارنة والمقابلة والترجيح بينها. 43- تعد دراسات في كتب الخلاف وتحرص على إبراز وجمع أسباب اختلاف وجهات النظر في الأحكام بين الأئمة وعلماء الأمة. 44- تبحث الأصول المقربة والنظريات الثابتة التي أجمع عليها مختلف الأئمة وذلك في إطار نصوص الكتاب والسنة الثابتة الصحيحة. 45- 5- شعبة الترجمة والنشر: تستعين هذه الشعبة بشعبة التخطيط في التعرف على ما ينشر في مختلف اللغات من دراسات أو بحوث إسلامية مهمة يحتاج إلى التعريف بها أو إلى نقلها إلى لغات أخرى. 46- تقترح ما يستحق الترجمة والتعريف والتعقيب من بحوث ودراسات ومقالات تصدر عن الإسلام وقضاياه الفكرية والتشريعية في اللغات الأجنبية. 47- تضبط القائمة النهائية للدراسات أو البحوث أو غيرها مما كتب بالعربية التي تحتاج إلى النقل إلى اللغات الأجنبية مرتبة ذلك بحسب الأولوية. 48- تنسق هذه الشعبة عملها مع شعب الدراسات والبحث والإفتاء والتخطيط لتحديد ما تتأكد ترجمته ونشره. 49- تعد هذه الشعبة نشرة علمية مجمعية دورية. 50- تعتمد في إنجاز أعمالها على الجهاز الإداري للترجمة الموجودين بالمجمع وعند الاقتضاء تستعين بخبراء المسلمين من ذوي الاختصاص يمنحون حقوقا مادية على نحو ما هو مقرر التعامل به في المؤسسات المماثلة. 51- الأمين العام: الأمين العام هو المسؤول عن الأجهزة الإدارية والتنفيذية للمجمع. وله الإشراف الفعلي على موظفي المجمع. 52- وفقا لخطة المجمع في الدراسات والبحوث وإحياء التراث، يختار الأمين العام الخبراء والمحققين من القائمة التي تعرضها الشعب. 53- يعرض الأمين العام في افتتاح أشغال المجلس في كل دورة بيانا عن أعمال المجمع في الدورة السابقة وعما تم إنجازه من نشاطات في الفترة الفاصلة بين الدورتين. 54- يعد الأمين العام مشروع ميزانية المجمع ويقوم بعرضه على المكتب ثم على المجلس للمصادقة. 55- تتألف موارد المجمع من: ا-إسهام الدول الأعضاء. ب-من الإعانات والتبرعات والمنح والوصايا وريع ما يوقف على المجمع. ج-من أية موارد أخرى يوافق عليها المكتب. 56- يطبق على موظفي المجمع نفس النظام الأساسي المعدل للموظفين من الناحية المالية والإدارية في الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 قائمة بأسماء ممثلي الدول في مجمع الفقه الإسلامي الذين حضروا الدورة الأولى الرقم الدولة اسم الممثل صفته 1- بوركينا فاسو السيد سيد بي داود القائم بالأعمال والمستشار الثقافي بسفارة بوركينا فاسو بجدة. 2- الجمهورية الإسلامية الموريتانية السيد محمد سالم عبد الودود رئيس المحكمة العليا 3- جمهورية باكستان الإسلامية القاضي محمد تقي العثماني قاضي القسم الشرعي بالمحكمة العليا بالباكستان 4- جمهورية بنجلاديش الشعبية مولانا محمد عبد الرحيم عضو شعبة الدراسات والبحوث في المؤسسة الإسلامية - دكا 5- جمهورية تركيا البروفسور صالح طوغ عميد كلية الشريعة في جامعة مرمارا 6- جمهورية تشاد السيد تجاني صابون محمد مدير التعليم العربي تشاد 7- الجمهورية التونسية فضيلة الشيخ محمد المختار بن أحمد السلامي مفتي الجمهورية التونسية 8- الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الدكتور التيجاني الهدام نيابة عن معالي الشيخ عبد الرحمن شيبان سفير الجزائر بجدة 9- جمهورية السنغال السيد رومان مباي مدير المعهد الإسلامي بدكار 10- جمهورية السودان الديمقراطية الدكتور حسن عبد الله الترابي مساعد رئيس الجمهورية 11- جمهورية الصومال الديمقراطية السيد آدم شيخ عبد الله علي إمام وخطيب مسجد التضامن الإسلامي 12- الجمهورية العراقية الدكتور محمد شريف أحمد مستشار بوزارة الأوقاف والشئون الدينية 13- الجمهورية السورية الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور معاون وزير الأوقاف لشئون العلماء 14- الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية السيد إبراهيم بشير الغويل - مستشار قانوني، ومن خبراء القانون والفقه والاقتصاد، وعضو لجنة جمعية الدعوة الإسلامية وأمين سر، والمقرر العام للمجلس العالمي للدعوة الإسلامية، وعضو اللجنة العليا لتقنين الشريعة الإسلامية سابقا، وعضو اللجنة العليا للتعليم والتربية سابقا ومحام مقبول للترافع أمام المحكمة العليا سابقا. 15- جمهورية غامبيا الدكتور عمر جاه سفير غامبيا بالمملكة العربية السعودية 16- جمهورية غينيا الحاج عبد الرحمن باه وزير الشئون الإسلامية وإمام جامع الملك فيصل 17- جمهورية القمر الاتحادية الإسلامية الشيخ محمد عبد الرحمن مفتي الجمهورية ومستشار الرئيس في الأمور الدينية. 18- جمهورية المالديف معالي السيد موسى فتحي رئيس المحكمة العليا 19- جمهورية مالي السيد سيدي محمد يوسف جيري سفير مالك بدول الخليج 20- جمهورية مصر العربية فضيلة الأستاذ الشيخ عبد العزيز محمد عيسى عضو مجلس البحوث الإسلامية والمجالس القومية المتخصصة وعضو مجلس الشورى. 21- جمهورية النيجر الشيخ محمد علي عبد الله وكيل الجمهورية بمحكمة طاوا- النيجر 22- جمهورية اليمن الديقمراطية السيد محمد عبده عمر مدير القضاء الاجتماعي بوزارة العدل 23- دولة البحرين فضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف آل سعد وكيل محكمة الاستئناف العليا الشرعية 24- دولة الكويت الدكتور عجيل جاسم النشمي العميد المساعد لكلية الشريعة والدراسات الإسلامية 25- سلطنة عمان فضيلة الشيخ أحمد سعود السيالي نيابة عن فضيلة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي. مدير مكتب المفتى العام 26- فلسطين الشيخ رجب التميمي عضو المجلس الوطني الفلسطيني 27- ماليزيا الدكتور عبد الله إبراهيم رئيس قسم الشريعة بكلية الدراسات الإسلامية، ومحاضر بالجامعة الوطنية الماليزية- بانجى سلانغور، أستاذ العلوم القرآنية ومستشار اللجنة المقررة للاتحاد الإسلامي - بنين 28- المملكة الأردنية الهاشمية الدكتور عبد السلام داود العبادي وكيل وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية 29- المملكة العربية السعودية الدكتور بكر أبو زيد وكيل وزارة العدل 30- المملكة المغربية الأستاذ محمد ميكو رئيس غرفة بالمجلس الأعلى، مدير الشؤون المدنية رئيس لجنة الخبراء المكلفة بوضع مشروع القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 قائمة بأسماء السادة أصحاب المعالي والفضيلة أعضاء المجمع مسلسل الدولة الاسم الصفة والعنوان 1- الجمهورية العراقية فضيلة الدكتور محمد شريف أحمد مستشار بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية 2- جمهورية السنغال فضيلة السيد روخان مباي ميدر المعهد الإسلامي بداكار ص. ب: 2639 ت:20475 3- جمهورية مالي سعادة السيد سيدي محمد يوسف جيري سفير مالي بدول الخليج - أبو ظبي- ت: 823255 4- جمهورية السودان الديمقراطية معالي الدكتور حسن الترابي وعوض بفضيلة الدكتور محمد عطا السيد. محاضر بجامعة أم دومان الإسلامية. 5- جمهورية الباكستان الإسلامية فضيلة القاضي محمد تقي العثماني قاضي القسم الشرعي بالمحكمة العليا: دار العلوم كراتشي 14 6- جمهورية اليمن الديمقراطية فضيلة الشيخ محمد عبده عمر مدير القضاء الاجتماعي بوزارة العدل ت:52843 عدن 7- المملكة العربية السعودية فضيلة الدكتور بكر أبو زيد وكيل وزارة العدل بالرياض 8- الجمهورية التونسية فضيلة الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة وعوض بفضيلة الشيخ محمد المختار بن أحمد السلامي مفتي الجمهورية التونسية 9- جمهورية تركيا البروفيسور صالح طوغ عميد كلية الالهيات - جامعة مرمارا- اسكوا - استنبول 10- جمهورية غينيا معالي فودي سوريبا كامارا وخلفه معالي الحاج عبد الرحمن باه وزير الشؤون الإسلامية وإمام جامع الملك فيصل 11- فلسطين فضيلة الشيخ رجب التميمي عضو المجلس الوطني الفلسطيني- مكتب منظمة التحرير بالأردن 12- الجمهورية الجزائرية الديمقراطية معالي الدكتور عبد الرحمن شيبان وزير الشؤون الدينية - نهج تمقاد - حيدرة - الجزائر 13- الجمهورية الإسلامية المؤيتانية فضيلة السيد محمد سالم محمد عبد الودود رئيس المحكمة العليا- قصر العدالة - ص. ب: 201 نواكشط 14- دولة الكويت فضيلة الدكتور عجيل جاسم النشمي العميد المساعد لكلية الشريعة والدراسات الإسلامية 15- سلطنة عمان فضيلة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي وكيل وزارة العدل- والمفتى العام لسلطنة عمان- مسقط 16- جمهورية بنجلاديش مولانا محمد عبد الرحيم منزل مصطفى - نقال بره- 173دكا- 17- الجماهريرة العربية الليبية الشعبية الأشتراكية فضيلة الدكتور إبراهيم بشير الغويل أمين سر والمقرر العام للمجلس العالمي للدعوة الإسلامية 189 شارع أول سبتمبر ص. ب: 484 طرابلس. 18- دولة البحرين فضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف آل سعد وكيل محكمة الاستئناف العليا الشرعية- المنامة. 19- جمهورية جامبيا فضيلة الدكتور عمر جاه سفير جامبيا لدى المملكة العربية السعودية. 20- الجمهورية العربية السورية فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور معاون وزير الأوقاف لشؤون العلماء- دمشق - أقصاب سادات جادة فيصل التاسعة - منزل رقم 89هاتف منزل رقم 422773 21- المملكة الأردنية الهاشمية فضيلة الدكتور عبد السلام داود العبادي وكيل وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية - ص. ب659 22- جمهورية مصر العربية فضيلة الشيخ عبد العزيز محمد عيسى عضو مجلس البحوث الإسلامية والمجالس القومية المتخصصة وعضو مجلس الشورى-20 شارع ابن سندر- كوبري القبة - القاهرة 23- المملكة المغربية فضيلة الأستاذ محمد ميكو رئيس غرفة بالمجلس الأعلى، مدير الشؤون المدنية، رئيس لجنة الخبراء المكلفين بوضع مشروع القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية. 24- جمهورية الصومال الديمقراطية فضيلة السيد آدم شيخ عبد الله على أمام وخطيب مسجد التضامن الإسلامي 25- جمهورية تشاد فضيلة الأستاذ تيجاني صابون محمد مدير التعليم العربي بوزارة التربية الوطنية ت:2327 26- جمهورية القمر الاتحادية الإسلامية فضيلة الشيخ محمد عبد الرحمن مفتي الجمهورية ومستشار الرئيس في الأمور الدينية ص. ب: 251 27- جمهورية الجابون معالي السيد محمد موابا بواتا المفوض السياسي للعلاقات الخارجية والمكلف بالشؤون الإسلامية 28- ماليزيا فضيلة الدكتور عبد الله إبراهيم رئيس قسم الشريعة بكلية الدراسات الإسلامية، محاضر بالجامعة الوطنية الماليزية بانجي سلانغور. 29- الجمهورية اللبنانية فضيلة الشيخ خليل محيي الدين الميس مدير كلية الدعوة الإسلامية وأزهر لبنان-دار الفتوى - بيروت 30- جمهورية المالديف معالي السيد موسى فتحي رئيس المحكمة العليا بالمالديف 31- جمهورية بوركينا فاسو فضيلة السيد دوكوري بوبكر ص. ب: 7030 واجادوجو تلكس رقم 5222 في يو 32- جمهورية بنين الشعبية فضيلة السيد محمد شيتو استاذ العلوم القرآنية ومستشار اللجنة المقررة للاتحاد الإسلامي 33- سلطنة بروني دار السلام فضيلة الأستاذ أونغ حاج عبد الحميد بن باكل كبيرة القضاة بإدارة الشؤون الإسلامية بيروني ت: 22565/8 34- جمهورية جيبوتي فضيلة الشيخ هارون خليف جيلي أمام مجامع السلام ص. ب: 6741 ت: 350429 35- جمهورية غينيا بيساو معالي السيد شريف محمد الأمين هيدرا الأمين العام المساعد لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة 36- جمهورية اندونيسيا سعادة الأستاذ أحمد الأزهر باشير عميد كلية الدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية 37- جمهورية إيران الإسلامية فضيلة حجة الإسلام محمد علي تسخيري معاون الرئاسة للعلاقات الدولية بمنظمة الإعلام الإسلامي ص. ب: 2782 طهران ت: 643391- 643343 38- جمهورية أوغندا فضيلة الشيخ محمد إسماعيل الحجي رئيس اللجنة العلمية لتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية ورئيس مكتب دفع المظالم برئاسة الجمهورية. 40- جمهورية النيجر فضيلة الشيخ محمد علي عبد الله وكيل الجمهورية بمحكمة طاوا 41- دولة قطر فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد العزيز آل محمود قاضي المحكمة الشرعية الثانية 42- دولة الإمارات العربية المتحدة معالي الشيخ محمد أحمد حسن الخزرجي وزير الأوقاف والشؤون الدينية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 قائمة بأسماء أعضاء مكتب مجلس المجمع الرقم الاسم العنوان البلد 1- معالي الشيخ عبد الرحمن شيبان وزير الشؤون الدينية الجمهورية الجزائرية 2- فضيلة القاضي محمد تقي العثماني قاشي القسم الشرعي بالمحكمة العليا كراتشي 14 الجمهورية الباكستانية الإسلامية 3- سعادة سيدي محمد يوسف جيري سفير دولة مالي لدى دول الخليج - أبو ظبي جمهورية مالي 4- سعادة البروفيسور صالح طوغ عميد كلية الآلهيات - جامعة مرمارا- استنبول جمهورية تركيا 5- سعادة السيد روحان أمباي مدير المعهد الإسلامي بداكار - ص. ب: 2639 جمهورية السنغال 6- سعادة الدكتور عجيل جاسم النشمي العميد المساعد لكلية الشريعة والدراسات الإسلامية دولة الكويت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 قائمة بأسماء أعضاء شعبة التخطيط والترجمة الرقم اسم العضو العنوان البلد 1- الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور معاون وزير الأوقاف لشؤون العلماء- دمشق الجمهورية العربية السورية رئيساً 2- الدكتور إبراهيم بشير الغويل أمين سر والمقرر العام للمجلس العالمي للدعوة الإسلامية طرابلس ص. ب: 484 الجماهيرية الليبية - مقررًا 3- الشيخ تجاني صابون محمد مدير التعليم العربي- انجمينا جمهورية تشاد 4- السيد روحان مباي مدير المعهد الإسلامي بدكار جمهورية السنغال 5- السيد محمد سالم محمد علي عبد الودود رئيس المحكمة العليا- نواكشط جمهورية موريتانيا 6- الدكتور عبد الرحمن شيبان وزير الشؤون الدينية جمهورية الجزائر 7- الدكتور عبد السلام داود العبادي وكيل بوزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية عمان المملكة الأردنية الهاشمية 8- الشيخ محمد عبده عمر مدير القضاء الاجتماعي بوزارة العدل- عدن جمهورية اليمن الديمقراطية 9- الدكتور عبد الستار أبو غده مقرر الموسوعة الفقهية بوزارة الأوقاف دولة الكاويت 10- الدكتور مصطفى أحمد الزرقا كلية الشريعة - الجامع الأردنية المملكة الأردنية الهاشمية 11- الدكتور عبد الحليم محمود الجندي عضو مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة جمهورية مصر العربية 12- الشيخ محمد بن أحمد حسن وزير الأوقاف والشؤون الدينية الإمارات العربية المتحدة 13- الأستاذ عبد الهادي أبو طالب مدير عام المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الأيسيسكو) المملكة المغربية 14- الشيخ عبد العزيز محمد عيسى عضو مجلس البحوث الإسلامية جمهورية مصر العربية 15- الدكتور طه جابر العلواني مدير الأبحاث والدراسات بالمعهد العالمي الولايات المتحدة الأمريكية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 قائمة بأسماء أعضاء شعبة الدراسات والبحوث الرقم اسم العضو العنوان البلد 1- الدكتور محمد شريف أحمد مستشار بوزارة الشؤون الدينية - بغداد الجمهورية العراقية 2- السيد سيدي محمد يوسف حيري سفير مالي لدى دول الخليج - أبو ظبي جمهورية مالي 3- الشيخ الدكتور عبد الله إبراهيم رئيس قسم الشريعة بجامعة كوالالمبور جمهورية ماليزيا 4- مولانا محمد عبد الرحيم عضو شعبة الدراسات بالمؤسسة الإسلامية - دكا جمهورية بنجلاديش 5- سعادة موسى فتحي رئيس المحكمة العليا بالمالديف جمهورية المالديف 6- فضيلة الشيخ رجب التميمي عضو منظمة التحرير الفلسطينية (الأردن - عمان) فلسطين 7- الدكتور صالح طوغ عميد كلية الالهيات - جامعة مرمارا- استنبول الجمهورية التركية 8- الشيخ محمد علي عبد الله وكيل الجمهورية بمحكمة طارا جمهورية النيجر 9- دكتور عبد الهادي أبو طالب مدير عام منظمة التربية والعلوم 16مكرر شارع عمر بن الخطاب ص. ب: 755 أكدال الرباط المملكة المغربية 10- دكتور عمر جاه سفير جامبيا لدى المملكة العربية السعودية جمهورية جامبيا 11- الدكتور محمد مصطفى شلبي 5شارع المدينة المنورة بالدقي خلف نادي الصيد القاهرة جمهورية مصر العربية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 قائمة بأسماء أعضاء شعبة الإفتاء الرقم اسم العضو العنوان البلد 1- فضيلة الشيخ عبد العزيز محمد عيسى عضو مجلس البحوث الإسلامية والمجالس القومية المتخصصة وعضو مجلس الشورى - 2 شارع ابن سندر كوبري القبة - القاهرة جمهورية مصر العربية - رئيساً 2- الأستاذ محمد ميكو مدير الشؤون المدنية ورئيس لجنة الخبراء المكلفين بوضع مشروع القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية - الرباط المملكة المغربية - مقرراً 3- الحاج عبد الرحمن باه وزير الشؤون الإسلامية وإمام جامع الملك فيصل- كوناكري جمهورية غينيا - عضواً 4- القاضي محمد تقي العثماني قاضي القسم الشرعي بالمحكمة العليا - دار العلوم - كراتشي 14 جمهورية الباكستان - عضوا 5- فضيلة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي وكيل وزارة العدل والمفتي العام لسلطنة عمان سلطنة عمان - عضواً 6- الشيخ محمد عبد الرحمن مفتي الجمهورية ومستشار الرئيس في الأمور الدينية موروني جمهورية جزر القمر الاتحادية - عضوا 7- فضيلة الشيخ محمد المختار بن أحمد السلامي مفتي الجمهورية التونسية الجمهورية التونسية - عضواً 8- الشيخ آدم شيخ عبد الله إمام وخطيب مسجد التضامن الإسلامي- مقديشو الجمهورية الصومال المديقراطية - عضواً 9- فضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف آل سعد وكيل محكمة الاستئناف الشرعية - النامة دولة البحرين 10- فضيلة الشيخ محمد إسماعيل الحجي رئيس اللجنة العلمية لتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية ورئيس مكتب دفع المظالم برئاسة الجمهورية - صنعاء الجمهورية العربية اليمنية - عضواً 11- الدكتور عمر جاه سفير جامبيا لدى المملكة العربية السعودية - جدة جمهورية جامبيا - عضواً 12- فضيلة الشيخ خليل محيي الدين الميس مدير كلية الدعوة الإسلامية وأزهر لبنان - دار الإفتاء بيروت الجمهورية اللبنانية - عضواً 13- فضيلة الشيخ خليل عبد الله الباسم عضو مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة (رابطة العالم الإسلامي) المملكة العربية السعودية- عضواً 14- الشيخ مصطفى الزرقا كلية الشريعة - جامعة الأردن - عمان المملكة الأردنية الهاشمية - عضواً 15- الشيخ الصديق الضرير كلية الحقوق- جامعة الخرطوم جمهورية السودان الديمقراطية - عضواً 16- الدكتور عبد الستار أبو غدة الموسوعة الفقهية بالكويت - المصفاة ص. ب:3719 دولة الكويت - عضواً 17- الدكتور عبد العزيز الخياط وزير الأوقاف والمقدسات الإسلامية- عمان المملكة الأردنية الهاشمية - عضواً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 قائمة بأسماء أصحاب المعالي والفضيلة أعضاء المجمع المعينين الدولة الاسم الصفة والعنوان 1- المملكة المغربية معالي الأستاذ عبد الهادي أبو طالب مدير عام المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الأيسيسكو) 2- دولة الكويت فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غده مقرر الموسوعة الفقهية بوزارة الأوقاف. الكويت وممثل لها. 3- المملكة العربية السعودية فضيلة الشيخ عبد الله البسام قاضي محكمة التمييز بالمنطقة الغربية - مكة المكرمة وممثل لرابطة العالم الإسلامي. 4- المملكة الأردنية الهاشمية معالي الدكتور عبد العزيز الخياط وزير الأوقاف وممثل لمؤسسة آل البيت بعمان (الأردن) . 5- جمهورية مصر العربية فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود الجندي عضو مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة وممثل له. 6- جمهورية الباكستان الإسلامية مجلس الفكر الإسلامي بالباكستان كراتشي 7- المملكة المتحدة الأمريكية فضيلة الدكتور طه جابر علواني مدير الأبحاث والدراسات بالمعهد العلمي للفكر الإسلامي. 8- المملكة الأردنية الهاشمية فضيلة الدكتور مصطفى الزرقا كلية الشرعية - الجامعة الأدرنية. 9- جمهورية السودان الديمقراطية فضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير كلية الحقوق- جامعة الخرطوم. 10- جمهورية مصر العربية محمد سلام مدكور (توفي) عين مكانه فضيلة الدكتور محمد مصطفى شلبي أستاذ الفقه والدراسات الشرعية 11- الجمهورية العراقية عبد الرازق عفيفي تعذرت عليه المشاركة لأسباب صحية وعين بدله فضيلة الدكتور عبد الكريم زيدان فقيه عراقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 كشف أسماء ثلة من الخبراء والدارسين والمحققين - الدكتور رفيق المصري سوريا اقتصاد إسلامي - الدكتور عبد الكريم كيال سوريا الطب الشرعي - الدكتور عبد الوهاب كيال سوريا طب أسنان وجراحة - الدكتور مأمون حلاق سوريا علوم كهرباء - هندسة - مصطفى الغزالي تونس - الأستاذ مظهر المصري سوريا الطباعة والنشر - الدكتور فوزي فيض الله الكويت دراسات إسلامية معاصرة - الأستاذ سعيد الأفغاني سوريا النحو العربي - الأستاذ عمر رضا كحاله سوريا التاريخ والتراجم - الدكتور نور الدين العتر سوريا علوم الحديث - الأستاذ محمد مطيع الحافظ سوريا فقه وتراجم - الأستاذ عبد القادر الأرناووط سوريا علوم وحديث - الدكتور إبراهيم محمد السلعيني سوريا فقه مقارن وعلوم الخلاف - الأستاذ إبراهيم اليعقوبي سوريا علوم الشريعة واللغة العربية - السيد أحمد بن عبد الله موريتانيا الأمين العام لوزارة العدل سابقا - محمد الطاهر بن عثمان تونس - السيد عبد الله بن الشيخ المحفوظ موريتانيا - محمد يحيى بن الشيخ محمد الحسن موريتانيا دراسات وبحوث إسلامية - السيد محمد سالم المحبوبي موريتانيا دراسات وبحوث إسلامية - السيد التراد بن عبد القادر موريتانيا بحوث وتوجيه معنوي - السيد محمد بن يوسف موريتانيا مستشار برئاسة الدولة - السيد المصطفى بن الشيخ محمد موريتانيا - السيد منصور بن قنى موريتانيا - الدكتور حسن الشريف جامعة أم القرى - السيد عبد العزيز الحلاق جامعة أم القرى - السيد محمد بلتاجي مصر درا العلوم - الدكتور محمد أبو الأجفان تونس - الدكتور أحمد مباركي جامعة الإمام بالرياض - السيد محمد فهمي أبو سعة جامعة أم القرى - الدكتور محيي الدين قادي تونس - الدكتور عبد العظيم ناصر فقيهي الجامعة الإسلامية - الدكتور عبد العظيم سري الدين مصر المعهد العام للقضاء بالرياض - السيد أحمد بن حجر آل طامي قطر قاض - الدكتور محمد أديب الصالح جامعة الإمام بالرياض - الدكتور محمد مصطفى الزحيلي سوريا - السيد عبد الصمد شرف الدين الهند - الدكتور محمد عقله الإبراهيم شريعة - الجامعة الأردنية - الدكتور وهبه الزحيلي سوريا كلية الشريعة - جامعة دمشق - الدكتور محمد الزحيلي سوريا كلية الشريعة - جامعة دمشق - الدكتور محمد أنس الزرقا سوريا المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد - الدكتور محمود السرطاوي كلية الشريعة جامعة الأردن - الدكتور ياسين دار دكه كلية الشريعة جامعة الأردن - الدكتور محمد توري فيض الله كلية الشريعة جامعة الأردن - الدكتور محمد نعيم ياسين كلية الشريعة - الكويت - الدكتور فتحي الدريني كلية الشريعة - دمشق - الدكتور أسامة الدباغ اقتصادي إسلامي جامعة الأردن - الدكتور محمد سالم شحاته اقتصادي إسلامي جامعة الأردن - الدكتور محمد صقر اقتصادي إسلامي جامعة الأردن - الدكتور عبده خرابسه اقتصادي إسلامي جامعة الأردن - الشيخ بويجره الجزائر فقه - الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان قطر فقه - الشيخ صالح الحصين المدينة فكر إسلامي - الشيخ أحمد حماني الجزائر فقه - الدكتور التيجاني الهدام الجزائر طب - الدكتور محمد علي البار جدة طب - الدكتور اليب النجار مصر فقه - الدكتور عبد المعطي قلعى مصر طب - الشيخ بدر متولي مصر فقه - الدكتور إدريس الجزائري الجزائر إفتاء - الشيخ عبد المحسن العباد المدينة سنة - الشيخ عمر فلاته المدينة فقه - الشيخ الشاذلي النيفر تونس فقه وقانون - الشيخ الطيب المهدي البو عدبلي الجزائر فقه - الدكتور محمد فرهود مصر فقه - الدكتور المهدي بن عبود المغرب مفكر إسلامي - الدكتور مصطفى الفيلالى تونس مفكر إسلامي - الشيخ محمد خاطر مصر فقه - الدكتور عبد الله التركى السعودية أصول - الشيخ محمود شمام تونس قضاء وفقه - الشيخ الطيب بسيس تونس فقه وقضاء - الدكتور المهدي المنجره المغرب اقتصاد - الشيخ مصطفى كما التارزي تونس فقه - الدكتور زكريا البري مصر فقه وقضاء - الدكتور يوسف القرضاوي قطر فقه - الدكتور على أحمد السالوس مصر فقه، اقتصاد - الدكتور عبد اللطيف جناحى البحرين اقتصاد - الدكتور أحمد البزيع ياسين الكويت اقتصاد - الدكتور نزيه حماد سوريا فقه - الدكتور سيد طاهر محمود سوريا فقه - الدكتور عبد الله الوصيف تونس فقه - الشيح كمال جعيط تونس فقه - الدكتور عمر حافظ - الدكتور نجاة الله صديقي جدة المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد - الدكتور درويش جستنية - الدكتور محمد القرى جدة - الدكتور محمد الزبير جدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 القسم الثالث اجتماع شعبة التخطيط جدة 22 - 25 / 8 / 1405 هـ، 12 - 15 / 5 / 1985 م برنامج عمل المجمع بسم الله الرحمن الرحيم عقدت شعبة التخطيط المنبثقة عن مجمع الفقه الإسلامية (67) اجتماعات مطولة في الفترة الواقعة بين 22 - 25 شعبان 1405هـ الموافق 12 - 15 مايو 1985م نظرت فيها في القضايا التي تضمنها جدول الأعمال، بعد إقراره من الشعبة. وفي الجلسة الأولى ألقى السيد رئيس مجلس المجمع فضيلة الشيخ الدكتور بكر أبو زيد كلمة رحب فيها بأعضاء الشعبة - في أول اجتماع لها - وبين المسئوليات الجسام التي تتحملها، ثم ألقى السيد الأمين العام للمجمع فضيلة الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة كلمة استعرض فيها الاقتراحات التي قدمها السادة أعضاء المجمع في الموضوعات المطروحة على جدول الأعمال، وبين مجالات التعاون مع المؤسسات والجهات المعنية. وقد ترأس هذه الاجتماعات السيد رئيس شعبة التخطيط الدكتور محمد عبد اللطيف فرفور، وقام بأعمال المقرر السيد الدكتور عبد السلام العبادي (نائب رئيس المجمع) .هذا، وقد حضر جانباً من تلك الاجتماعات كل من السيد رئيس مجلس المجمع والسيد الأمين العام للمجمع، بالإضافة إلى أعضاء مكتب مجلس المجمع المشار إليهم ضمن كشف أعضاء الشعبة الحاضرين الذين وردت أسماؤهم مع حفظ الألقاب، ودون مراعاة لأي ترتيب في ذكرهم بعد ذكر برنامج العمل المتفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 كلمة معالي الدكتور / محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الخلق وبيده الأمر، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة. فهو أمام الخير والعدل والهدي والتقوى يهدي به الله إلى صراط مستقيم صلى الله عليه وسلم وعلى أله وصحبه وسلم. من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصمها فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. حضرات أصحاب المعالي والفضيلة الأعضاء الموقرين. حضرات الأساتذة الخبراء المبجلين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 يسر الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة أن ترحب بكم أجمل ترحيب وتشكركم أوفى الشكر على ما تجشمتم من مشاق وتركتم من أعمال من أجل حضور هذا الاجتماع الذي هو اجتماعكم والذي به يناط كل نشاط مدروس ومخطط لمجمعكم. وأملنا في جهودكم الخيرة كبير إذ أنكم ستتولون بحول الله برمجة نشاطات المجمع وتحديد أولويات هذه النشاط وضبط المناهج القويمة التي ستبنى عليها الأعمال المجمعية المزمع إنجازها بحول الله. وقد سبق لنا من أجل أن تكون الصلة قائمة دائما بيننا وبين حضرات أعضاء المجمع الموقرين، ومن أجل وضع وسائل العمل المجمعي التي تضمنها النظام الأساسي لمؤسستكم هذه موضع التنفيذ أن أجرينا اتصالات كثيرة عن طريقي المراسلة واللقاء بأعضاء المجمع وبالمؤسسات والهيئات العلمية في المملكة وخارجها من جهة وببعض المسؤولين في المشرق والمغرب وبكبار أصحاب الاختصاص من رجالات الفكر والفقه الإسلامي من جهة ثانية. وكان القصد من وراء هذا كله استطلاع الآراء حول قضايا مهمة هي من مشاريع المجمع التي فكر فيها ويعتزم القيام بها أو الحصول على الوثائق والمعلومات التي طالب بها المجلس في دورته الأولى مجتمعا أو في شعبه المختلفة بغية تيسير عمله والإعداد المحكم لتنفيذ برامجه ومخططاته. وقد وصلت إلينا جملة من هذه الآراء وتلك بعثنا بأكثرها إلى حضراتكم وتجدونها بإذن الله كاملة في الملفات التي بين أيديكم. ولا ستجلائها بصورة دقيقة وتمكين حضراتكم من درسها ومناقشتها وإكمالها وإثرائها في اجتماعكم هذا المبارك نعرضها عليكم في قسمين مادة مادة مستنيرين بآرائكم ومستفيدين من فضلكم وعلمكم. والله يمدكم بعون منه ويرزقنا وإياكم التسديد والتأييد لخدمة شريعته ونصرة دينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 القسم الأول: وسائل العمل المجمعي المشاريع العلمية أولاً: الموضوعات المقترحة للبحث والفتوى. في ختام الدورة الأولى لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي الذي انعقد برحاب مكة المكرمة فيما بين 26- 29 صفر الخير 1405 / 19 – 22 نوفمبر 1984وزعنا على الحضور استفسارات وردت علينا من البنك الإسلامي للتنمية بجدة، وحين كتبنا إلى حضراتكم مستطلعين آراءكم النيرة وتصوراتكم الحكمية لمشروعات أعمال المجمع أرسلنا صحبة ذلك بورقة الاستفسارات تلك مع ضميمة ورقتين أخريين أولاهما تقرير عن اجتماع بشأن تحديد حكم الشريعة الإسلامية في الفوائد المتجمعة للبنك الإسلامي في المصارف الأجنبية، وثانيتهما اقتراح للمصارف الإسلامية يتعلق بخطابات الضمان. وبعد هذا وردت علينا منكم ومن أعضاء المجلس ومن الهيئات والشخصيات العلمية اقتراحات عديدة تزيد على السبعين بشأن الموضوعات التي يراد بحثها أو تحديد موقف الشارع منها، وبعد دراستها صنفناها تصنيفا جمليا في إحدى عشر مادة: 1- الموضوعات العامة. وهي نوعان: الإسلام وتحديات العصر، والإسلام وقضايا المسلمين. وتندرج في النوع الأول عدة قضايا منها: -الإسلام والسلام العالمي. / الإسلام في مواجهة دعاة الحروب. -الإسلام ونظام اقتصاد عالمي جديد. / الإسلام في مواجهة الاستغلال. -الإسلام وقضية القوميات المعارضة. / الإسلام في مواجهة العنصرية. -الإسلام والصدق الإعلامي. / الإسلام في مواجهة الزيف. وتتسع النظرة في النوع الثاني لتشمل مسائل مهمة من بينها: -الجهاد والحرب التحريرية والقتال في سبيل المستضعفين. -الكفاية والعدل والتعاون الاقتصادي المتكافيء. - التعايش ومحاربة العنصرية. - الحوار والشورى في مواجهة التدفق الإسلامي من جانب واحد. 2- موضوعات فنية علمية مجمعية. تتناول: -سبر الخلافات الفقهية والمقارنة والترجيح بين المذاهب. -الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي. -تحقيق القواعد الأصولية ببحث موضوعات القياس وقول الصحابي والمصلحة المرسلة والاستحسان وبيان أثر ذلك في الاجتهاد وتعليل الأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 3- موضوعات اقتصادية. -نظرية اقتصادية إسلامية. -كيفية تطوير التنمية الاقتصادية وفق المنهج الشرعي في العالم الإسلامي. -متاجرة الدول الإسلامية وحكوماتها في الخمور والمخدرات ابتغاء تحقيق التوازن والدعم الاقتصادي. -أعمال البنوك الربوية. -طرق التمويل في البنوك الإسلامية. - المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية. - المعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية. - شهادات الاستثمار وجوائزها. - خطاب الضمان. -المواعدة على الصرف بين مقدارين محددين مع عمليتين مختلفتين. - الإيجار المنتهي بالتمليك للمساكن أو الآلات والأصول الثابتة عموما. - التمويل العقاري لبناء وشراء المساكن. 4- موضوعات تجارية ومالية. - الربا وتحديد مفهومة مع بحث القرض الذي يجر نفعا وسندات القرض. -الذهب والفضة سلعتان لا أثمان. تحديد الاتجار بهما والتعامل بالأوراق النقدية. - النقود الورقية وأحكامها. - القرض مع تغير قيمة العملة. - بدل الخلو. -بيع الاسم التجاري والترخيص. - نظام التأمين وأنواعه وموقف الإسلام منه. -القواعد الشرعية الواجب مراعاتها في قضايا الأسهم وفي تنظيم الأسواق المالية. -تقيد أرباح التجار. -استحقاق الملكية بسبب الحيازة السابقة العامة. - حقوق التأليف. -حقوق إنتاج البرامج في الكمبيوتر. 5- قضايا الشركات -الشركات الحديثة بوصف عام وشركة المساهمة بوصف خاص. -عمل الشريك موظفا في شركته. -تحديد المسؤولية بأموال الشركة دون غيرها من أموال الشريك. -الجمع بين الشركة والكفالة في موضوع واحد. -الجمع بين الشركة والوكالة في موضوع واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 6- القضايا المستجدة. مثل: -العلو والفراغ ومقارنة القوانين الحديثة بالشريعة الإسلامية. -نظرة الشريعة للقوانين الدولية حول الطيران في الأجواء الإقليمية وموضوع استغلال المياه الإقليمية. -نظرة الشريعة للفضاء والأقمار الصناعية والمركبات الفضائية وتحديد موقف الشريعة من استغلال الفضاء. 7- قضايا طبية. - تنظيم النسل. - أطفال الأنابيب. - بنوك الحليب. - أجهزة الإنعاش. 8- من أحكام الزكاة. -الأراضي المستغلة وإخراج زكاتها وعلى من تجب. -زكاة الأسهم في الشركات. -نصاب الزكاة في العملات المتداولة. -زكاة أموال الشركات. -زكاة الديون. -زكاة العقارات والأراضي غير الزراعية. -زكاة الأموال الثابتة كالآلات ونحوها. -زكاة المأجورات. -زكاة المرتبات والأجور. - استثمار أموال الزكاة. -وضع الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق. 9- في العقوبات. - كفارة قتل الخطأ بعد انتهاء الرق وتعطل حكم التخيير. 10- من قضايا السياسة الشرعية. -مدة صلاحيات أولى الأمر في إدارة المجتمع الإسلامي. - الجنسية والتجنس بأنواعها. -مصير الأراضي الخراجية. - الركاز ونحوه من الأراضي والموارد الطبيعية والمياه والغابات ومسألة استغلال الثروات المعدنية في قيعان البحار. -توزيع الغنائم الحربية وتخميسها. -انتزاع الملكية للصالح العام. -المبادئ الشرعية والاقتصادية الرئيسية للتوظيفات المالية. -واقع أهل الكتاب بيننا ومصير عقد الذمة. -حقوق ولد الزنا في المناصب الدينية كالإمام ونحوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 11- قضايا اجتماعية ودينية: - تطبيق الشريعة في الدول الإسلامية. -الفرق والطرق الإسلامية. -الأذكار والأوراد عند الطرق الصوفية. -الموضوعات الفقهية الجزئية كإرسال اللحى وتحديد الأزياء وصلاة السنة قبل الجمعة وقراءة القرآن على الموتى والتجارة في المخمور والمخدرات. - الزواج من البوذيات والقاديانيات والأحمديات والشيوعيات. - زواج المسلمة من غير المسلم. - التسري بالجواري في هذا العصر. -تولي الرجال توليد النساء مع انتفاء الخطر ووجود طبيبات مسلمات. - تولي القضاء لغير المسلمين والاحتكام إليهم. -توحيد الشهور والمواسم. - الإرسال والقبض في الصلاة. - الصلاة والصوم في الأماكن التي يختل فيها التوازن بين الليل والنهار. -مكان ووقت الجمعة مع لغة الخطبة. - لحوم الهدي في منى. -تكرار الحج مع تضاعف عدد المسلمين ويسر المواصلات. - الوصية الواجبة في الإرث. وهذه الموضوعات على تنوعها وكثرتها منها ما هو من قبيل القضايا العميقة والمشاكل القائمة التي تقتضي نظرا ودرسا ومقارنة وبحثا. ومنها ما هو من قبيل القضايا العلمية التي تتطلب درسا وبحثا وتحديد حكم. ومنها ما هو من قبيل المسائل الجزئية التي تحتاج الإجابة عنها إلى فتوى مجمعية. والأمر موكول إلى حضراتكم في تصنيفها هذا التصنيف أو غيره لتحددوا في شعبتكم الموقرة هذه، شعبة التخطيط ترتيب هذه الموضوعات بحسب الأهمية أو التأكد ثم ترتيبها على أساس الأولوية في عرضها على لجنة الفتوى أو الدراسات فنتمكن من وضع رزنامة لبحث ما يعرض من موضوعات واستفتاءات في المؤتمر القادم والمؤتمرات بعده بإذن الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ثانياً: الموسوعة الفقهية: اختلفت للآراء والتصورات بشأن الموسوعة الفقهية رغم أهميتها ورغم التنصيص عليها كوسيلة من وسائل تحقيق أهداف المجمع الفقهي في نظامه الأساسي: فمن صارف للنظر عنها وعن التفكير فيها لما تحتاجه من تكلفة وجهد مع التكرار. ومن داع إلى التعاون مع الموسوعتين المصرية والكويتية وذلك بالسعي إلى توحيدهما أو توحيد العمل فيهما وبضم الجهود إليهما بالدعم المادي والعلمي وعدم انفراد مجمع الفقه الإسلامي بجدة بمشروع ثالث. ومن الآراء التي تذهب إلى قريب من هذا ذلك الرأي الذي يدعو: أولا إلى توزيع الأجزاء المنجزة من الموسوعتين على خبراء حسب الاختصاص المذهبي للمراجعة وتحقيق مزيد من الدقة وللاستدراك لتفاصيل البحث أو للمسائل المغفلة أو للأنقاص وما يمكن أن يكون قد حصل من تحريف للأدلة المعتمدة. ثم التقدم بنتائج هذه الأعمال إلى الموسوعة الكويتية تحقيقا للتنسيق بينها وبين جهود المجمع. ويطلب ثانيا من مجلس المجمع أن يضبط خطة التعاون في هذا الصدد ويصدر بشأنها قرارا. ومثله الرأي الذي يدعو المجمع إلى القيام بتحديد مظان الموضوعات الفقهية بالأصول والأمهات مستعينا في ذلك بالكمبيوتر وهو ينصح بالتخلي نهائيا عن عمل الموسوعة للكويت. ومن الآراء ما يقف وسط الطريق غير مانع القيام بمشروع الموسوعة ولا حريص على المبادرة به في التو لما يدعو إليه من قيام بدراسة عن الموسوعات والمعاجم الموجودة في الدول الإسلامية تمهيدا لوضع موسوعتنا. وإلى جانب الآراء المتقدمة على اختلافها في تحديد وجاهتها نجد آراء أخرى صريحة تدعو في حماس وإصرار إلى إنجاز هذا المشروع الهام وإن أدى ذلك إلى تكرار وهذه بسبب الموقع العمومي الشمولي للمجمع وتمثيله للعالم الإسلامي غير ملاحظة مانعا من التكرار. -فمنها من يرى وجوب مراجعة الموجود مع التصحيح والإكمال والاستدلال لكل مذهب. -ومنها ما يدعو إلى الاستفادة من التجارب السابقة في عمل الموسوعتين لبناء الموسوعة الجديدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 -ومنها ما يؤكد على استيعاب الموسوعة للقضايا العصرية. -ومنها الذي يشير في تصنيف مادتها إلى مراعاة الترتيب الألفبائي. -ومنها الذي يختار الترتيب الموضوعي لمادتها مسايرة لأبواب الفقه في جميع المسائل المتفرقة. ويقترح الشروع بقسم المعاملات الذي طالت الغفلة عنه وتأكدت الحاجة له خصوصا في معالجة القضايا الحديثة في إطار الحياة الاقتصادية والتجارية وفي ميدان المصارف ونحوها. وهو مع التردد بين الاقتصار في الموسوعة على المذاهب الأربعة السنية وبين الدعوة إلى الشمول والتوسع الذي تقتضيه طبيعة المجمع يوصى باعتماد فقهاء المذاهب في تحرير فصول الموسوعة وبوجوب تناولها للمسائل المستجدة مع الاستدلال للمذهب والحرص على تميز الموسوعة باختيار الأقوال الراجحة تسهيلا للعمل بالشريعة، كما يوصى هذا الرأي بتجريد الموسوعة من المسائل الميتة ومن التراجم. هذا ويمكن لحضراتكم أن تجدوا في الملف الذي سلم إليكم إلى جانب هذه الأراء المختلفة وبخاصة إلى جانب التي تدعو منها إلى الحرص على إيجاد الموسوعة بيانات حول المساهمة في العمل الموسوعي وتحديدا للخطوات العلمية المقترحة لعمل الموسوعة، وللخطوات العلمية الكفيلة بإعداد موسوعة مستكملة. ولا يفوتنا هنا أن ننبه إلى أن المادة (29) من تقرير شعب المجلس مجتمعة المصادق عليه في الدورة الأولى لمؤتمر المجلس، تنص على أن شعبة الدراسات والبحوث تعني بإنشاء موسوعة فقهية مبتدئة بالاستفادة مما أنشيء ومراجعة ما هو موجود حتى يكون عملها مستأنفا لا مكملا وتهتم بالرجوع في كل مسائله إلى الأدلة المعتمدة. وفي ضوء كل ما تقدم يكون لشعبتكم الموقرة شرف وضع تصور واضح لهذا العمل الجليل ومنهجية مدققة لإنجازه على الوجه المطلوب. ثالثا: معجم المصطلحات الفقهية: -تدعو أكثر الآراء والاستطلاعات إلى وضع معجم عام للمصطلحات الفقهية وتؤكد المبادرة به وهي مع اختلافها في الخطة توسعا وشمولا توصى بتحديد المصطلحات الفقهية في مختلف المذاهب والإشارة إلى أسماء الفقهاء وأشهر دواوين الفقه ورموز الكتب والمصادر التي يحال عليها ونحو ذلك. وهي تلفت النظر إلى وجوب اعتماد الأعمال المتنوعة السابقة في هذا الغرض من كتب وفهارس تعين على إعداد هذا المعجم العام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ومن أهم ما ذكرته من مصادر لهذا العمل القيم والمفيد: -كليات أبي البقاء. -المغرب للمطرزي. -المشوف المعلم للمحب العكبرى. -دستور العلماء لعبد رب النبي. -الزاهر للأزهري. -التعريفات للجرجاني. -الحدود للباجي. -كشاف مصطلحات الفنون للتهانوي. -المصباح المنير للفيومي. -طلبة الطلبة للنسفي. -القاموس الفقهي لسعدي أبو حبيب. -ألفاظ التنبيه للنووي. -ألفاظ المهذب للركبي. -المطلع على أبواب المقنع للبعلي. -ألفاظ المدونة للجبي. -معجم المغنى. -معجم المحلى. -فهرس ابن عابدين -فهرس شرح المنهاج. -فهرس جواهر الأكليل. -فهرس مسلم الثبوت. -فهرس جمع الجوامع. وغير ذلك من الكتب والمؤلفات المخطوطة التي يصار إليها استكمالا للجمع والضبط. وقد وردت بعض الرسائل المتضمنة لقسم من هذه القوائم مذيلة كما هو موجود لديكم بالملف باقتراحات علمية ومنهجية لطريقة وضع المعجم العام لمصطلحات الفقه الإسلامي. وقد لفت بعضها النظر إلى ما هو متداول اليوم عند الفقهاء من مصطلحات وصيغ واستعمالات لا يجوز تركها ولا يحسن إغفالها وذلك كجملة من المصطلحات القانونية، واستعمالات العامة التي دخلت في كلام الفقهاء، ومصطلحات الأصوليين ومصطلحات الآداب الشرعية، ومصطلحات الحسبة ونحوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 انفرد المسجل العلمي لجامعة القرويين بفاس باقتراح وضع معجم خاص باصطلاحات الفقه المالكي تستخرج من كتب المالكية وكتب مقاصد الشريعة. وهكذا حضرات الإخوة الكرام تبين السبيل وتحدد تصورات المشروع المتشعب. وإن الأمل معقود في هممكم العلمية لضبط الوسائل العلمية والمنهجية لطريقة وضع المعجم العام لمصطلحات الفقه الإسلامي والمعجم المالكي إن رأيتم. رابعا: المخطوطات المقترحة للتحقيق والنشر: تراجع في ذلك القوائم المثبتة في الملف الذي بين أيدي حضراتكم ويضاف إليها: منهج الزقاق وشرحه للمنجور (اقتراح المجلس العلمي لجامعة القرويين بفاس) . تحقيق جملة من الكتب الفقهية المطبوعة مثل التنقيح للقرافي، والتبصرة لابن فرحون (اقتراح المجلس العلمي لجامعة القرويين بفاس) . وإنا لنأمل أن يتمخض هذا الاجتماع عن تصور للخطوات المناسبة الكفيلة بإدخال هذا المشروع حيز التنفيذ وذلك بوضع برنامج عملي يضبط الأولويات فيما يحسن البدء به من المخطوطات في زمنية معينة، ويحدد الوسائل التي يتعين اعتمادها في طور الإنجاز. خامسا: فهرسة بعض الكتب الفقهية. اقترح المجلس العلمي لجامعة القرويين بفاس: -فهرسة شرح الحطاب على مختصر خليل. -فهرسة حاشية الرهوني على الزرقاني. ملحوظة: ورد في عون المراسلات التي كتب بها بعض الأعضاء إلى الأمانة العامة وكذلك ببعض محاضر الجلسات التي عقدت مع الهيئات العلمية التأكيد على وجوب التنسيق بين مجمع الفقه الإسلامي للرابطة ومجمع الفقه الإسلامي بجدة وإلى جانب ذلك اقتراحات مفيدة كثيرة منها ما هو من قبيل المشاريع والأعمال ومنها ما يعد من وسائل العمل. المشاريع والأعمال المقترحة: -استخلاص تفسير مجمع عليه من التفاسير الموجودة يكون مبسطا ووجيزا. -وضع كتاب في السيرة يكون استمداده من القرآن وتأويلاً بآيانه. -وضع فهرست للكتب الستة يعني بجوانب السيرة والفقه. -وضع منتخب من الأحاديث له علاقة وارتباط بالكتب الستة يتناول ما وقعت الإشارة في الفهرست له مع شرح موجز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 -وضع كتاب وسط في المذاهب الفقهية السنية يترجم إلى اللغات الأجنبية. -صياغة دستور واحد للأمة الإسلامية يكون أساسا لتحقيق الوحدة القانونية. -وضع مداخل للمذاهب الفقهية. -ندوات وملتقيات ودورات فقهية. -تيسير الفقه بتدوين الأحكام الشرعية على حسب الأقوال الراجحة في المذاهب الأربعة وبتدوين أصول المرافعات. -مجلة للفقه الإسلامي تعني بقضايا الساعة. -إنشاء كلية شرعية استثنائية للتدريب على البحث والاستنساخ والاجتهاد في القضايا المستجدة. وسائل العمل: -موظفون قارون للعمل في الموسوعة والمعجم والمجلة ونحوها. -كمبيوتر تخزن به المعلومات ويستفاد منه عند الحاجة. -الإفادة من الدوريات مثل البيبلوغرافيا الموضوعية العربية. -الإفادة من أعمال المؤتمرات والندوات العلمية والفقهية. -جمع كتب الفتاوى والنوازل للاستفادة منها. -الاستفادة مما ينشر من مصطلحات فقهية وقانونية في الرسائل أو الدوريات. -استطلاع الجهات المعنية والخبراء في كل أمر مهم. القسم الثاني: الوثائق والمعلومات التقنينات والتشريعات الإسلامية في الدول الأعضاء. استجابة لرغبة شعبة الدراسات والبحوث ولقرارها رقم (2) فقرة (1) ، وللرسائل التي بعثنا بها إلى أعضاء المجمع الموقرين وصلتنا جملة من القوانين ومن مشاريع القوانين الفقهية التي أعدت في مصر والأردن والجمهورية اليمنية وتونس والمغرب والكويت والسودان وإيران. وقد تضمنها الملف الذي بين أيدي حضراتكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وإن الأمانة العامة لتتوقع أن يصلها تباعا من بقية الدول الأعضاء ما أعد لديها من مشاريع القوانين الإسلامية، ويحسن بهذا الاجتماع أن يحدد تصورا واضحا وعمليا للطريقة التي ينبغي توخيها للوصول إلى الهدف المبتغي من وراء هذا العمل الجليل ونعني ذلك وضع تشريع موحد للأمة الإسلامية يحتكم بالأساس إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإلى أحكام الفقه وأصوله وقواعده ونظرياته. الإثبات والقوائم لما نشر عن الإسلام. كنا نود أن تتوفر لنا قائمة فيما نشر عن الإسلام باللغة العربية واللغات الأجنبية ابتغاء ضبط وحصر الاتجاهات الهدامة والمعادية للإسلام مما يناهض به الإسلام في فكره وتشريعه وثقافته وحضارته ويحمل طابع التحامل عار من التحليل الصحيح وخاليا من الموضوعية. فاتصلنا بمؤسسة الإسلام والغرب بجنيف، وبمركز الدراسات الإسلامية بلندن، وطلبنا هذا من أعضاء المجمع كافة لكن لم يصلنا بعد شيء من ذلك سوى قائمة تفضل بعض الأعضاء مشكورا بإعدادها. ولعلنا نفيد من حضراتكم بما يمكننا من الاستعانة على إعدادها تمهيدا للقيام بدراسات نقدية وتصحيحية يقوم بها المجمع وتنشر باللغة العربية واللغات الأجنبية في مجلته تنبيها للغافلين وتنويرا لشباب الإسلام وغيره من الدارسين. قوائم في الخبراء مع سيرهم الذاتية: تم بحمد الله ضبط قائمة عامة في الخبراء اعتمادا على اقتراحات الأعضاء والهيئات العلمية. ولعلنا نستكمل هذا في الأيام اللاحقة وقبل انعقاد الدورة الثانية لمجلس المجمع التي موعدها بإذن الله شهر المحرم الحرام 1406 ونحن حريصون على السادة الأعضاء بأن يوافونا باقتراحاتهم في هذا الشأن. وفي انتظار ما سوف ينتج عن دراسة حضراتكم للمقترحات المعروضة عليكم من ضبط للموضوعات وللاختيارات، وتحديد للأولويات، وتمحيص للمشاريع وقبول ما ترون قبوله منها تقبلوا أصحاب المعالي والفضيلة خالص التقدير وعظيم الشكر والامتنان، والله ينفع بعلمكم ويسدد الخطي بدرسكم ويمكن لهذا الدين ,أهله باجتهادكم، والله من وراء القصد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 اجتماعات الشعبة وخطة العمل المقترحة كونت الشعبة عددا من اللجان الفرعية لمتابعة ما توصل إليه الأعضاء من آراء متعددة واستكمال البحث في القضايا المطروحة، على النحو المشار إليه في هذا التقرير. وفيما يلي استعراض لما اتخذته الشعبة من قرارات وتوصيات: أولا: رسالة المجمع ودوره الأساسي: لما كان هذا هو الاجتماع الأول لشعبة التخطيط، فقد بحثت الشعبة في رسالة المجمع والدور المنوط به، لتحديد الهدف الأساسي من انشائه، ليكون نبراسا في أنشطته وأعماله المختلفة. وقد تمخض عن هذا البحث وضع التصور الآتي: "تقرر الشعبة من منطلق النظام الأساسي للمجمع ولائحته الداخلية. أن الهدف الرئيسي لهذا المجمع، والدور البارز المنوط به، هو عرض الشريعة الإسلامية عرضا صحيحا وإبراز مزاياها، وبيان قدراتها الفذة في معالجة المشكلات الإنسانية المعاصرة، وفي تحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وفق تصور شامل يهتم بالإسلام كله، وفي أصوله ومصادره وقواعده وأحكامه، وعلى أساس أن الفقه الإسلامي هو ثمرة تحكيم شريعة الله سبحانه في الواقع الإنساني بكل أبعاده". ثانيا: الموضوعات المقترحة للبحث والفتوى: استعرضت الشعبة الاقتراحات الواردة من السادة الأعضاء المجمع، كما وردت كاملة في الوثائق المقدمة لاجتماعات الشعبة، وكما وردت مصنفة في ورقة العمل التي قدمها السيد الأمين العام. وبعد المناقشة والتداول شكلت الشعبة لجنة فرعية من كل من: - الشيخ مصطفى الزرقاء. - الدكتور عبد الستار أبو غدة. - الشيخ التيجاني صابون محمد. - الدكتور عبد السلام العبادى – مقررا. وذلك لاختيار الموضوعات ذات الأولوية في مجالى البحوث والفتوى، تمهيداً لاحالتها إلى الشعبتين المعنيتين بهذين المجالين. وقد قدمت هذه اللجنة إلى الشعبة تقريرا خاصا بمهمتها، ثم اقراره بعد المناقشة المستفيضة وتقرر: ادراج الموضوعات التالية في خطة المجمع للسنوات القادمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 (أ) الموضوعات في مجال البحوث والدراسات: (في مجال أصول الفقه) - الاستحسان، والمصالح المرسلة. - العرف. (في مجال الفقه) - توحيد بدايات الشهور العربية. - الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة. - حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائد. - أحكام التعامل في المصارف الإسلامية. - التأمين، وإعادة التأمين. - أحكام النقود الورقية، وتغير قيمة العملة. - أحكام السوق المالية. - أحكام الاتجار بالذهب والفضة. - سندات المقارضة، وسندات التنمية والاستثمار. - خطاب الضمان. - الشركات المدنية، وبخاصة شركة المساهمة. - حقوق الابتكار (التأليف، وإنتاج برامج الكمبيوتر مثلا..) . - مقدار الدية في العصر الحاضر. - تنظيم النسل وتحديده. - الإجهاض. - لحوم الهدي في منى. - التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها. - الايجار المنتهي بالتمليك. - انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان أو جزئه حيا أو ميتا. - أحكام الفضاء الخارجي. - العلو وملكية الطبقات في الفقه الإسلامي. - تحديد أرباح التجار. - الجنسية والتجنس. - الوصية الواجبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 (ب) في مجال الفتوى: - أطفال الأنابيب. - بنوك الحليب. - أجهزة الإنعاش. - زكاة الأراضي الزراعية المأجورة. - زكاة الأسهم في الشركات. - زكاة أموال الشركات. - نصاب الزكاة في العملات المتداولة. - زكاة الديون. - زكاة العقارات والأراضي المأجورة لغير الزراعة. - زكاة الأصول الثابتة كالآلات. - زكاة المأجورات. - زكاة أموال الزكاة. - توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع (بلا تمليك فردى للمستحق) . - زواج المسلم من نساء الفرق الخارجة عن الإسلام. - زواج المسلمة من غير المسلم. - تولي الرجال توليد النساء مع انتفاء الضرورة وتوفر طبيبات مسلمات. - الصلاة والصوم في الأماكن التي يختل فيها توازن الليل والنهار. - حكم تحديد عدد الحجيج بما يتناسب مع استيعاب الأماكن المقدسة. - حكم الصلاة في الطائرة إذا خيف فوات الوقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 (ج) كما قررت الشعبة ما يلي: 1. ضرورة أن يقوم المجمع بإعداد دراسة تعريفية بالفقه الإسلامي تبين علاقته بالشريعة الإسلامية وخصائص كل منهما ومناهج الفقهاء، وكتب المذاهب، بحيث توضع بين يدي الباحثين، لتسهيل عملية البحث الفقهي، والتوجيه إلى تطبيق الشريعة الإسلامية. 2. تحال الموضوعات السابقة إلى الشعب المعنية في المجمع لبدء العمل. 3. يطلب من كل عضو من أعضاء المجمع اعداد ورقة عملية في موضوع واحد على الأقل من موضوعات البحوث والدراسات، كما يطلب منه تقديم ورقة عمل في موضوع واحد على الأقل من موضوعا الفتوى. 4. يجرى توزيع قوائم بهذه الموضوعات من بحوث وفتاوى، على جميع أعضاء المجمع، ليختاروا منها ما يرغبون في الكتابة فيه. 5. تنظم الأمانة العامة هذا الأمر بالاتفاق مع أعضاء المجمع والخبراء المختصين بما يحقق تغطية جميع الموضوعات، وجودة إعدادها، وتوافرها لدى أعضاء المجمع بفترة كافية قبل الاجتماعات التي ستبحث فيها. 6. وتعطي الأولوية للبحث في الدورة القامة للمجمع للموضوعات الآتية: - المصالح المرسلة والاستحسان في مجال أصول الفقه. - الموضوعات العشر الأول في مجال الفقه. - الموضوعات الأربعة عشر الأولى في مجال الفتوى. ثالثا: الموسوعة الفقهية: بحثت الشعبة في موضوع إصدار المجمع لموسوعة فقهية طبقا لما ورد في النظام الأساسي للمجمع بقصد كتابة الفقه الإسلامي بالطرية التي تسهل على الدارس والناظر أخذ ما يحتاجه منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وبعد التداول في الأوراق المقدمة، وما جاء من عرض بشأنها في ورقة العمل التي أعدها السيد الأمين العام للمجمع، واستعراض المشاريع التي يجري تنفيذها الآن في كل من مصر والكويت، قررت الشعبة تشكيل لجنة فرعية من كل من: - الشيخ مصطفى الزرقاء. - الدكتور عبد الستار أبو غدة. - الدكتور عبد الرحمن شيبان. - الشيخ سيدى محمد يوسف جيرى. - الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور. - الدكتور عبد السلام العبادى – مقررا. وذلك لدراسة المنهج المتميز الذي ينبغي أن تسير عليه الموسوعة الفقهية التي سيصدرها المجمع، بحيث تقدم هذه الدراسة في الاجتماع القادم للشعبة، على أن يوافى بقية الأعضاء في الشعبة هذه اللجنة بآرائهم في موضوع الموسوعة، وتتولي الأمانة العامة للمجمع متابعة عمل هذه اللجنة. رابعا: معجم المصطلحات الفقهية: بحثت الشعبة في موضوع إعداد معجم المصطلحات الفقهية ييسر على المسلمين إدراك معناها لغة واصطلاحا عن طريق لجان متخصصة، طبقا لما ورد في النظام الأساسي للمجمع. وقد تداولت الشعبة في الموضوع على ضوء الأوراق المقدمة بخصوصه، وقررت: أن يكون المعجم المراد وضعه معجما تعريفياًَ بالمصطلحات الفقهية، لا مجرد فهرس للمصطلحات، ودون اشتماله على أحكام فقهية تفصيلية، وأن يكون شاملا لجميع ما ورد من مصطلحات في المذاهب الفقهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 كما عهدت الشعبة إلى الأمانة العامة بتشكيل لجنة تستعرض الجهود السابقة في هذا المجال، والاقتراحات التي قدمت إلى أمانة المجمع، وتستعين بالفهارس التي تم إنجازها للكتب الفقهية، لوضع منهج واضح لاخراج معجم شامل للمصطلحات الفقهية. على أن يتم توثيق معاني هذه المصطلحات في المعجم المأمول بالرد إلى كتب المذاهب المتعددة، وعلى أن تراعى الأمانة العامة، عند تشكيل هذه اللجنة أمكانيات المجمع وتسهيل العمل، وبحيث يصار إلى البدء بتنفيذ العمل بتكليف مختصين لعمل معجم لمصطلحات كل مذهب على حدة، ثم يجرى إخراج المعجم الشامل. خامسا: الموضوعات المقترحة للبحث في ندوات أو لقاءات: تداولت الشعبة في الموضوعات المقترحة لعقد ندوات أو لقاءات لبحثها، بالتعاون بين المجمع والجامعات والمؤسسات الأخرى؛ وقررت الشعبة أن تتولي الأمانة العامة جدولة الموضوعات التالية وغيرها، مما تقترحه الجهات المتعاون معها بعد الاتصال بها. والموضوعات التي أقرتها الشعبة وهي: 1- القضايا الطبية الجديدة: بالتعاون مع المنظمة الإسلامية الطبية في الكويت ونحوها. 2- التقنيات الشرعية: بالتعاون مع وزارات العدل؛ والمؤسسات الإسلامية المعنية. 3- القضايا المصرفية الجديدة: بالتعاون مع المصارف الإسلامية. 4- موضوعات مناسبة، يتم الاتفاق بشأنها مع وزارة الشؤون الدينية الجزائرية مثلا، من خلال الملتقيات التي تقيمها، وذلك استجابة للعرض المشكور الذي تقدم به عضو المجمع معالى وزير الأوقاف الجزائري. سادسا: إحياء تراث الفقه الإسلامي: شكلت الشعبة لجنة لاختيار الكتب المرشحة للنشر من المخطوطات والمطبوعات المحتاجة للتحقيق من كل من: 1- الشيخ محمد سالم محمد علي عبد الودود. 2- الشيخ محمد هشام البرهاني. 3- الدكتور عبد الستار أبو غدة. وذلك لوضع قائمة أولية، وتحديد معالم منهج لنشر التراث، وقد استعرضت البيانات المتصلة بهذا الموضوع، مما جاء في كلمة السيد الأمين العام للمجمع وفي قائمة المخطوطات والمطبوعات المقترحة للنشر، والمثبتة في أوراق الاجتماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وقد أقرت الشعبة ما ورد في تقرير اللجنة من أن الأولوية للنشر من بين فئات ما ألف في الفقه هي كما يلي: أولا: كتب الخلاف العالى (الفقه المقارن) : حيث إن ما نشر منها قليل جدا وصغير الحجم في الغالب، وهي الكتب الجديرة بإعطاء صورة شاملة للفقه الإسلامي بشتى مذاهبه، كما أنها تعني – بطبيعتها – بالأدلة والمقارنة والترجيح والمناقشات، مما يغني الدراسات والبحوث الفقهية التي يهتم بها المجمع ويحتاج إليها المختصون. فمن كتب الفقه المقارن (المخطوطة أو المطبوعة) المحتاج لتحقيق وإعادة طبع: - تقويم النظر، لابن الدهان. - شرح المنظومة النسفية في الفقه المقارن. - الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب. - البحر الزخار لابن المرتضي. - الخلافيات للبيهقي. - طريقة الخلاف بين الحنفية والشافعية للقاضي حسن. - الجمع والفرق لإمام الحرمين الجويني. ثانيا: كتب آيات الأحكام وأحاديث الأحكام: نظرا للحاجة الماسة إلي هذه الزمرة من كتب فقه الكتاب والسنة في الإستدلال للمسائل وفي المقارنة بين المذاهب يهتم بنشرها كتب فيها من تراث ما يزال مخطوطا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ثالثا: كتب القواعد الفقهية والأشباه والنظائر والفروق (المخطوطة والمطبوعة) : - الفروق - للقرافي. - القواعد – للونشريسي. - القواعد – للمقرئ. - القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام البعلي. - المنهج المنتخب للزقاق وتكملته وشرحه – للمنجور. - القواعد – للعلائى. - القواعد الفقهية – للحمزاوي. - شرح الأشباه والنظائر – لابن البعلى. - الأشباه والنظائر – للسبكي. - الأشباه والنظائر – للسيوطي. - الأشباه والنظائر – لابن الوكيل. رابعا: الرسائل المفردة لموضوع أو مسألة: يستفاد مما تضمنه فهرس الكتبخانة المصرية في المجلدين الأخيرين تحت عنوان (المجاميع) فهى تضم الرسائل الصغيرة المؤلفة في موضوع واحد. ومعظمها مخطوط. وكذلك مما جاء في فهرس المكتبة الأزهرية، وفي فهرس المكتبة الظاهرة المطبوع والمخطوط، وفهرس خزانة القرويين وغيرها. والمكتبة الأحمدية في تونس ... الخ. مع التعاون مع الجهات المهتمة بالمخطوطات كمعهد المخطوطات العربية في مقره الحالي بالكويت، ومقره السابق بالقاهرة سواء ما نشر في فهارسهما أو لم يزل في البطاقات والقوائم الداخلية. خامسا: الكتب الأساسية (الأمهات) في كل مذهب: بالإضافة إلي تلك الكتب التي تعني بتعقيد الفقه والاهتمام بمسائله، هناك حاجة لنشر المدونات الكبرى في كل مذهب وهي أشهر كتبه المعتمدة مما تأخر إخراجه إلي عالم الطبع أو مما طبع على غير أصول الإخراج الحديث ويحتاج إلي إعادة طبعه بعد العناية بخدمة النص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 المذهب الحنفى: مخطوطات للتحقيق والنشر مطبوعات لإعادة طبعها محققة الأصل للإمام محمد بن الحسن الشيباني مجمع الأبحر شرح ملتقى الأنهر المحيط البرهانى حاشية ابن عابدين (على نسخة المؤلف) رسائل الشرنبلالي بدائع الصنائع للطاساني رسائل النابلسى المبسوط شرح الوهبانية، لابن الشحنة فتح القدير لابن الهمام فتح باب العناية شرح الناقبة، للعلى القارى شرح الهدايا للكنوى التعليق الممجد شرح موطأ محمد، للكنوى الفتاوى الهندية الحاوى القدسى، الغزناوى الفتاوى البزازية المحيط لرضى الدجين السرخسى فتاوى قاضيخان رسائل العلامة قاسم ابن قطلويغا مجمع الحقائق في الأصول والقواعد أصول الفقه للبزدوي مجموعة رسائل ابن عابدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 المذهب المالكي: مخطوطات للتحقيق والنشر مطبوعات لاعادة طبعها محققة الواضحة، لابن حبيب شرح المواق، لمختصر خليل الموازية لابن المواز شرح الحطاب، لمختصر خليل (مواهب الجليل) التبصرة للخمى المنتقي للباجي الجامع لابن مونس المدونة الجواهر الثمينة، لابن شاس تحفة ابن عاصم وشروحها الطراز لسند تبصرة الحكام، لابن فرحون الشامل، لبهرام التنقيح للقرافي التوضيح لخليل، شرح مختصر ابن الحاجب الجوهر المنظم لابن سلمون مختصر ابن عرفة لامية الزقاق وشرح ميارة النوادر لابن أبي زيد شرح الزرقاني وحواشيه للبنانى والرهوني وكنون التنبيهات للقاضي عياض والتاودي (تطبع مجتمعة على نسق واحد وتفهرس) الذخيرة للقرافي القوانين الفقهية، لابن جزي شرح القلشاني للرسالة شرح زروق للارشاد لابن عسكر شرح التلقين للقاضي عبد الوهاب البغدادي المعونة للقاضي عبد الوهاب البغدادي شفاء الغليل في لغات خليل لابن الحسن الشاذلي المالكي تنبيه الطالب لألفاظ ابن الحاجب، للتونسي، غرر المقالة في شرح غريب الرسالة، للصفراوي الاستذكار لابن عبد البر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 المذهب الشافعي: مخطوطات للتحقيق والنشر مطبوعات لاعادة طبعها محققة الحاوي للماوردي أسنى المطالب شرح روض الطالب للقاضي زكريا الأنصاري الكوكب الساطع وشرحه للسيوطي في أصول الفقه تحفة المحتاج شرح المنهاج لابن حجر الهيثمي شرح المنهاج للمحلى بحاشيتي القليوبي وعميرة المذهب الحنبلي: مخطوطات للتحقيق والنشر مطبوعات لاعادة طبعها محققة الجامع الكبير للخلال. المغني لابن قدامة الطرق الحكمية القواعد النورانية لابن تيمية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 اختيار منهج لنشر التراث بالمجمع: تبين مما عرض في جلسات شعبة التخطيط ميل أكثر الأعضاء أو جميعهم إلي الاختصار على خدمة النص المخطوط دون تزيد أو تكلف في التعليقات التي لا أثر لها مباشرا في خدمة النص من مثل التراجم، والمغايرات الخطية اللفظية، والتخريج المطول ... الخ. وهذا المنهج يحتاج لتوضيحه إلي وضع خطة لهذا الاقتصاد في التحقيق. ويستفاد ما توصلت إليه (لجنة التراث بوزارة الأوقاف في الكويت) حيث أوضحت إلي جانب طريقة التحقيق المتداولة طريقة أخرى دعتها (التحرير) وهي تشبه ما كان يتم في نشر الكتب الفقهية بعناية لجان من العلماء تخدم النصوص دون التعليق عليها. وهناك لائحة تحدد عناصر التحرير سترسلها لجنة التراث بوزارة الأوقاف الكويتية للمجمع للاطلاع ولتكون من وثائقه في حال اعتمادها. واللجنة – وإن ذكرت بعضاً من الكتب المطبوعة لمزايا تخصها – تعتبر أن الهدف الأهم هو نشر المخطوطات التي لم يسبق طبعها حرصا على الانتفاع بها وصونا لها من الضياع الذي تتعرض له، وهذا هو الاتجاه الذي قرره أعضاء الشعبة جميعهم. هذا، ما حضر الأعضاء بادى الرأي – من الذاكرة – والموضوع يحتاج إلي الرجوع إلي كتب الوارقة (الببليوغرافيا) وفهارس مخطوطات الخزائن ودور الكتب في أنحاء العالم الإسلامي وغيره من البلاد الأوربية والشرقية وامريكا، والمجلات المعنية بالتراث، كالمورد العراقية ومجلتي معهدي المخطوطات بالكويت والقاهرة. واللجنة ستواصل استكمال هذه القوائم، مع رجاء تعاون بقية أعضاء الشعبة (شعبة التخطيط) وغيرهم من أعضاء المجمع في موافاة (الأمانة) بما لديهم من مقترحات. سادسا: بند ما يجد من أعمال: وبحثت الشعبة في موضوع إصدار مجلة المجمع، وبعد النقاش والمداولة قررت: - يصدر المجمع مجلة علمية حولية، تعني بالإعلام عن أخبار المجمع والتنويه بأنشطته الحاضرة والمستقبلية، بالإضافة إلي نشر البحوث والدراسات التي يعدها المجمع، كما تشمل المجلة الأخبار المتعلقة بالفقه الإسلامي في العالم، من بحوث ومطبوعات ومؤتمرات وندوات وغيرها، بحيث تصدر بعدد من اللغات، وفق أمكانيات المجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الاسم الدولة الصفة 1- فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور (رئيس) الجمهورية العربية السورية معاون السيد وزير الأوقاف السورى لشؤون العلماء 2- فضيلة الدكتور عبد السلام داود العبادى (مقرر) المملكة الأردنية الهاشمية وكيل وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية 3- معالي الوزير عبد الرحمن شيبان الجمهورية الجزائرية وزير الشئون الدينية 4- البروفيسور صالح طوغ الجمهورية التركية عميد كلية الالهيات بجامعة مرمارة باسطنبول 5- فضيلة الأستاذ روحان أمباى جمهورية السنغال مدير المعهد الإسلامي بدكار 6- سعادة الأستاذ سيدى محمد يوسف جيرى جمهورية مالى سفير جمهورية مالى لدى دول الخليج 7- فضيلة القاضي محمد تقي العثماني الجمهورية الإسلامية الباكستانية عضو مجلس القضاء الشرعي الأعلى 8- فضيلة الدكتور مصطفى أحمد الزرقاء عمان استاذ في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية 9- فضيلة الشيخ عبد العزيز محمد عيسى جمهورية مصر العربية عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر 10- فضيلة الأستاذ عبد الحليم محمود الجندى جمهورية مصر العربية عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر 11- فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة دولة الكويت خبير ومقرر الموسوعة الفقهية 12- فضيلة الشيخ محمد سالم علي عبد الودود الجمهورية الإسلامية الموريتانية رئيس المحكمة العليا 13- فضيلة الشيخ عبد الله البسام المملكة العربية السعودية قاضى محكمة التمييز بمكة المكرمة 14- فضيلة الشيخ محمد عبده عمر جمهورية اليمن الديمقراطية مدير دائرة القضاء الاجتماعية 15- فضيلة الدكتور محمد هشام برهاني الإمارات العربية المتحدة باحث شرعي في وزرة الشؤون الإسلامية ينوب عن معالي الشيخ محمد بن أحمد حسن الخزرجي عضو المجمع ووزير الأوقاف بالإمارات 16- فضيلة الأستاذ تيجاني صابون محمد جمهورية تشاد مدير التعليم العربي بتشاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 قائمة بأسماء أصحاب الفضيلة الحاضرين في اجتماع شعبة التخطيط كلمات ختامية كلمة معالي الأستاذ الحبيب الشطي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي في اختتام أشغال الدورة الأولى للمجمع بمكة المكرمة. بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على خاتم النبيين وأشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين فضيلة رئيس المجمع الفقهي الإسلامي، الدكتور بكر أبو زيد فضيلة الأمين العام للمجمع الفقهي الإسلامي، الدكتور الحبيب ابن الخوجة أصحاب الفضيلة. أيها الإخوة.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،، وبعد، فأحمد الله تعالى، ونحن على أهبة اختتام أعمال هذه الدورة الأولى للمجمع الفقهي الإسلامي، على ما هيأ لنا، وعلى ما وفقنا إليه من خير، بإقامة هذه المؤسسة الإسلامية التي طالما صبت أمتنا الإسلامية إلى إقامتها، والتي ستتمتع عن جدارة، إن شاء الله، بثقة العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه.. لقد سارت أعمال هذه الدورة، بحمد الله، إلى نهايتها الطيبة بفضل جو الأخوة والجدية وتقدير المسؤولية الذي ساد أعمالها، مما يجعلنا مطمئنين إلى أن هذا المجمع قد انطلق انطلاقه سليمة نحو أداء مهمته السامية النبيلة ذلك أن المناقشات التي دارت خلال اجتماعات هذه الدورة، والتي تنم على بعد في النظر وعمق في التفكير، قد انتهت إلى نتيجة تدعو إلى الارتياح والبهجة، وهي نتيجة تتمثل في وضع خطة عمل محكمة ينتهجها المجمع، تقوم على أساس ثابت من البحث العلمي الرصين ومن الحرص على تمكين المسلمين من مواجهة مشكلات الحياة المعاصرة بتقديم الحلول الملائمة النابعة من الشريعة الإسلامية الغراء والمتجاوبة مع احتياجات العصر عن طريق الاجتهاد الصحيح والأصيل.. أيها الإخوة.. لقد لبت الشريعة الإسلامية كل الحاجات القضائية في كل مكان وزمان، بما فيها من الأصول والقواعد المتسمة بالمرونة والرامية إلى تحقيق المصالح ودرء المفاسد. وما تزال الشريعة الإسلامية، وستبقى في كامل حيويتها وثرائها وغناها. وهي كفيلة باسعاد البشرية ما حظيت بالعناية، ووضعت موضع التطبيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وقد بات من الواجب أن يتداعى أرباب الاختصاص ممن هداهم الله إلى التفقه في هذه الشريعة، على أبواب كنوز الفقه الإسلامي وخزائنه، عبر هذا المجمع، وأن يعملوا بإقبال وهمة على خدمة أبناء هذه الأمة، بل على خدمة الإنسانية كلها، باستخراج المباحث الفقهية التى تتناول حياة الناس وتعالج مشكلاتهم، وبعرضها في أثواب جديدة، وفق المناهج المتبعة في الدراسات العلمية دون تعصب لرأي أو انتصار لمذهب، مع ترجيح الآراء الصالحة لمقتضيات العصر ومتطلبات الحياة. وبالتقدم في هذا المجال نخرج إلى الدائرة العالمية، ونسهم بكل جدارة وفاعلية وأهلية في تقدم الفقه العالمي. وإن عنايتنا بالشريعة الإسلامية وتيسير سبل الناهلين من معينها الثري سيوطد دعائم أصالتنا وسيمهد الطريق أمام استقلال فقهنا وقضائنا وتشريعنا ويمكننا من خدمة أمتنا وإضاءة جانب كبير من جوانب الثقافة العالمية في القانون. أيها الأخوة.. إن العالم الإسلامي يعيش في الوقت الحاضر ظروفاً دقيقة، ولذا، فإن شروع المجمع الفقهي الإسلامي في الاضطلاع برسالته يكتسى أهمية كبرى في هذه المرحلة من مراحل حياة أمتنا الإسلامية التي ستجد لدى هذا المجمع بحول الله، الحل المنشود لكل مشكلة، والرأي الحصيف، والرد الإسلامي المناسب على كل سؤال تمليه حياة هذا العصر وسيكون ذلك معواناً على زيادة التقارب بين شعوب هذه الأمة وعلى زيادة انسجامها، مما ييسر لها السبل نحو الاتحاد والتآخي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ونحن مطالبون اليوم، بأن نعمل جميعاً، عبر هذه المؤسسة الإسلامية الجديدة على توحيد الأحكام في دار الإسلام توحيداً يتناول كل جوانب الحياة، حسب مقتضى الشريعة، فذلك هو السبيل القويم لتحقيق الوحدة بين شعوبنا المسلمة. وأهمية الفقه الإسلامي في مجتمعاتنا الإسلامية تتجلى في أنه يتناول بشكل مباشر حياة الفرد والأسرة والمجتمع ويتناول العلاقات مع المجتمعات غير الإسلامية، وتتجلى كذلك في أنه يعمل على إصدار الفتاوى والبحوث والدراسات المستلهمة من مبادئ الدين الحنيف، والمنسجمة مع تطور الحياة في هذا العصر. وتجدر الإشارة إلى أن هناك مشكلات وقضايا كبرى ظل العالم الإسلامي يعاني منها دون أن يتمكن الساسة المسلمون من إيجاد حل مناسب لها حتى الآن. لذا، فعلى المجمع الذي أصبح اليوم حقيقة قائمة الذات أن يقول في تلك المشكلات كلمة الإسلام، أن يجهر بموقف الشريعة إزاءها مما يعين القادة المسلمين على التوصل إلى الحلول المناسبة لها. أيها الإخوة.. اسمحوا لي بأن أتوجه من هذا المقام إلى جلالة الملك فهد بن عبد العزيز، ملك المملكة العربية السعودية، بأجمل عبارات الامتنان والتقدير لما أسبغ على مجمعنا هذا من رعاية وعناية، ومن حفاوة وكريم ضيافة، ولتفضله بافتتاح أعمال المجلس التأسيسي للمجمع في السنة الماضية بخطاب ضاف كان مناراً لعملنا موضعا لتقديرنا، نظراً لما أشتمل عليه من أفكار وتوجيهات حكيمة، ثم لتفضل جلالته كذلك بإنابة صاحب السمو المالكي الأمير ماجد بن عبد العزيز عن جلالته في افتتاح أعمال الدورة. ولا غرابة في ذلك، فقد عودنا جلالته على حرصه الشديد- حفظه الله – على كل ما من شأنه أن يرفع مكانة أمتنا الإسلامية. أيها الإخوة.. أسأل الله أن يزيد في توفيقنا على طريق تدعيم التضامن الإسلامي بين دول الأمة الإسلامية وشعوبها، وأن يلهمنا رشدنا وينصرنا على أنفسنا وعلى أعداء أمتنا، أنه سميع مجيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الكلمة الختامية لمعالي الدكتور / بكر أبو زيد رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم شكراً لمعالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الأستاذ الحبيب الشطي على هذه الكلمة الضافية الشاملة، وبعد سماعكم إلى تلاوة البيان الختامي من معالي الأمين العام المجمع الفقه الإسلامي وإلى كلمة معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، نأتي على اللحظات الأخيرة في اختتام الدورة الأولى لمجمعنا فأقول.. الحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده المجتبى ونبيه المصطفى اللهم صل وسلم عليه كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون، ورضي الله عن الصحابة الكرام وآل بيته الطيبين الأطهار والتابعين لهم بإحسان. وبعد: معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي. معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي. أصحاب المعالي والفضيلة والسعادة أعضاء ورجال مجمع الفقه الإسلامي.. أهنئكم جميعاً وأهنيء نفسي على تمام وإنهاء أعمال دورتكم هذه، وهي تتسم بروح الإخاء والصدق والتعاون والتفاني في سبيل خدمة الشريعة الإسلامية، تمهيداً لاستكمال وجودها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وليكون لنا جميعاً شرف المساهمة وشرف الجهاد في سبيل الله تعالى بما نقدمه من خلال مجمعنا هذا من مشاريع تتمثل في موسوعة فقهية تعتمد النصوص من الكتاب الكريم والسنة النبوية المشرفة ومن أقوال الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن آراء علماء الإسلام المعتبرين في فقههم، والأخذ بالرأي الرجيح الذي يسنده الدليل، إلى غير ذلك من معجم لمصطلحات الشريعة الإسلامية ومن إقامة مراكز لهذا المجمع ومن لقاءات، إلى غير ذلك من وسائله وأهدافه وغاياته، وإن هذا المجمع يختص بخصائص - ولله الحمد- انفرد بها عن غيره أو يكاد أن ينفرد بها عن غيره منها.. شرف المكان، إذ أنه انعقد في دار أمن الله وموئل حرمته وشرف الزمان والغاية والمهمة العظيمة وهي خدمة الفقه الإسلامي في ضوء النصوص الصحيحة الصريحة، وفي ضوء الأدلة الشرعية المساعدة من الاستحسان والعرف والمصالح المرسلة وما جرى مجرى ذلك من أدلة التشريع المختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وإنني أشكر إخواني أمين عام ورجال هذا المجمع على ما أبدوه من جهود ومواصلة في عملهم وفي لجانهم وفي جلساتهم وفي شعبهم وفي اجتماعاتهم الثنائية في سبيل التأصيل والتقعيد لهذا المجمع في دورته هذه وفي أعماله التي تعتمد عليها دوراته المستقبلية بإذن الله تعالى، كما أشكر معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الذي أبدى جهوداً ليست بالقليلة، بل هي جهود كبيرة ومهمة جداً ومتابعة لخطوات هذا المجمع اطمئناناً على سيره في أعماله، وأشكر جميع الإخوة المؤتمرين والموظفين والسكرتارية وبقية الإخوة الذين أسهموا في إنجاح هذه الدورة، ولا يفوتني بحال أن أقدم خالص الشكر والتقدير مع خالص الدعاء لخادم الحرمين الشريفين جلالة الملك فهد بن عبد العزيز، حفظه الله ووقاه من كل سوء، على اهتمامه البالغ ورعايته المتتابعة لهذا المجمع تطلعاً لتخرج قراراته وتوصياته وأعماله إلى العالم الإسلامي على أحسن وجه وأكمله حتى تعم أنوار التنزيل ونشر السنة النبوية في الربوع الإسلامية على أحسن وجه وأكمله. وفي الختام أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفقنا جميعاً لكل عمل صالح مبرور وأن يحفظ أئمة المسلمين وقادتهم بالإسلام ويحفظ بهم الإسلام، وأن يثبتنا جميعاً على الإسلام، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 البيان الختامي للدورة الأولى لمجمع الفقه الإسلامي للدكتور / محمد الحبيب ابن الخوجة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي كفل لعباده الصالحين أسباب النجاح، ويسر للعاملين الصادقين الفلاح، وجعل من أشرف العبادات التدبر لكتابه، والغوص على أسرار شريعته والأخذ بهدي رسوله، واعتماد الأصول والقواعد العلمية الصحيحة السليمة في استنباط الأحكام من الأصلين العظيمين والمصدرين الأساسيين هدياً للخلائق، وإقامة للعدل بينهم، وتيسيراً عليهم، وحلاً لمشاكلهم. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد عبد الله ورسوله المبعوث للناس بالحق هدى ورحمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً وبعد، فقد تم بفضل الله وحسن عونه وتوفيقه انعقاد الدورة الأولى لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة بفندق الانتركونتيننتال فيما بين 26 و 29 من صفر الخير 1405هـ و19 و22 نوفمبر 1984م. إنا لنزجي الشكر مجددا"ً لعاهل المملكة العربية السعودية، خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك المعظم فهد بن عبد العزيز على ما حف به مجمعنا من عناية وشمله به من رعاية وخصه به من دعم مادي وأدبي من يوم إيحائه فكرة واقتراحه إياه وسيلة عمل إلى حين قيامه حقيقة وظهوره مؤسسة علمية تخطط لتوحيد المسلمين على منهج الله وتوجههم السنن الأقوم الذي يحفظ عليهم دينهم ويقيهم العثرات ويجنبهم المخاطر ينهض بهم. وقد افتتحت دورة مجمعنا هذه بإشراف من صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة وكان لكلمته التوجيهية والتشجيعية صداها العميق في نفوسنا وأثرها البين في انطلاق أعمالنا، شكر الله سعيه وبارك جهوده. وقد شهد افتتاح اشغال المجمع أصحاب المعالي والسماحة والسعادة والفضيلة من رجال العلم والجامعات والمنظمات والمؤسسات تكريماً منهم وتشريفاً وتعزيزاً ودعماً لا عدمنا فضلهم ولا حرمنا مؤازرتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وتولى معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الأستاذ الحبيب الشطي الذي باشر مراحل تأسيس المجمع وبذل من الجهد أقصاه وهيأ كل الظروف والوسائل المساعدة لقيام هذه الدورة ونجاحها تصوير الأهداف التي يتطلع إليها المجتمع الإسلامي، بل المجتمع الإنساني من وراء قيام هذه المؤسسة العلمية الفقهية العالمية فأثار في نفوس الحضور الاهتمامات البالغة والتطلعات الكثيرة الشريفة. وعقبه معالي الدكتور عبد الله نصيف أمين عام رابطة العالم الإسلامي الذي أعلن عن شريف رسالة المجمع وما ينتظره المسلمون منه ودعم الرابطة له. وألقى الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي خطاب الافتتاح الذي تلته كلمات أصحاب المعالي والسعادة ممثلي غينيا وتركيا والمغرب عن أعضاء المؤتمر. واستمرت بعد ذلك طوال أربعة أيام أعمال المؤتمر في جلسات مغلقة حضرها ثلاثون عضواً من الأعضاء العاملين الذين انتدبتهم دولهم. وانتخب المجلس رئيساً له هو العلامة معالي الشيخ بكر أبو زيد عضو المملكة وثلاثة نواب له هم أصحاب المعالي مندوبو ماليزيا والأردن وغينيا. وتم بعد ذلك انتخاب هيئة المكتب التي تألفت من مندوبي مالي والسنغال وباكستان وتركيا والكويت والجزائر. وقام المجلس بعد ذلك بترتيب الشعب التي جعلها ثلاثاً: شعبة للتخطيط والترجمة وشعبة للدارسات والبحوث وشعبة للفتوى. وبعد توزيع أعضاء المجمع على هذه الشعب اسندت رئاسة الشعبة الأولى لسماحة الشيخ محمد عبد اللطيف فرفور واختير مقرراً لها معالي الأستاذ إبراهيم الغويل. وترأس الشعبة الثانية معالي الدكتور حسن الترابي وعين مقرراً لها معالي الدكتور محمد الشريف أحمد. واسندت رئاسة الشعبة الثالثة لمعالي الشيخ عبد العزيز عيسى، واختير مقرارً لها معالي الأستاذ محمد ميكو. وفي جلسات اللجان أو الشعب المنبثقة عن المجلس تم ضبط الخطط ورسم المناهج للقيام بكل نشاطات المجمع واستخدام أكثر ما يمكن من وسائل العمل. وقد اتسمت بحمد الله الخطط والمناهج بالدقة والوضوح كما جاء في مقررات اللجان. وفي جلسة عامة للمجلس عرضت قوائم بأسماء المقترحين من الدارسين والباحثين والخبراء والمحققين كما درس مشروع ميزانية المجمع من المجلس بعد أن عرضه الأمين العام على هيئة المكتب وتمت مناقشته تم المصادقة عليه. واتخذ بعد هذا جملة من القرارات بشأن عضوية بعض رجال العلم من الفقهاء وبعض المنظمات العلمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ولا يسعني في ختام هذه البيان إلا أن أنوه بالروح الإسلامية العلمية اليقظة الواعية التي تحلى بها كل أعضاء المجمع والتي كانت سنداً لنجاح أعمال هذه الدورة بما فتحت من حوار صريح ودقيق ومكنت من تحليل ودرس عميق. وأخص بالشكر رئيس المجمع على عظيم أدبه وبالغ حكمته وحسن إدارته لأعمال المجلس كما أذكر وأشكر رؤساء ومقرري وأعضاء هيئة المكتب وهيئات الشعب العلمية على ما بذلوه من جهود في سبيل بناء التصورات الكاملة والدقيقة لمهمة المجمع والأعمال المجمعية. وإني لأشكر للحكومة السعودية ما قدمته لنا من مساعدات كبيرة حققت لدورتنا هذه نجاحاً وتوفيقاً. ولا يفوتني أن أشكر أجهزة الأمانة العامة للمؤتمر الإسلامي من أمناء مساعدين ومديرين وتراجمة وكتاب وطباعين وفنيين على ما قدموه للمجمع الفقهي ولدورته هذه من خدمات ومساعدات جزاؤهم عليها منا عظيم الثناء ومن الله أحسن الثواب. ولا أنسى أجهزة الإعلام والصحافة بأنواعها من أن أوفيها حقها من التقدير والشكر على واسع تغطيتها لأعمال المجمع في دورته الأولى وأشكر لإدارة الفندق والعاملين به حسن الوفادة وكرم الضيافة. والله أسأل أن يوفقنا في أعمالنا ويهدينا سبلنا ويمكن مجمعنا من الاضطلاع بمهامه على الوجه الأكمل المشرف حتى نقوم بما علينا من خدمة الإسلام والمسلمين ومن تجلية شريعة الله للمؤمنين ومن بيان أحكام هذا الدين فنضع حداً للمخاطر التي تهدد وحدتنا ونواجه التحديات بما يكتب لنا الظهور عليها والغلبة، ونقى المجتمع الإسلامي من أسباب الفتنة وأدواء التخلف ومظاهر الذلة والانتكاس. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 العدد الثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 كلمة العدد لمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي د/ محمد الحبيب ابن الخوجة الحمد لله الذي بنى شريعته على أصول معتمدة من النظر، وقواعد مسلمة في الاعتبار والعمل والأثر، وصرح بأحكام أورد فيها نصوصًا قطعية ثابتة في كتابه الكريم أو مقيدة أو مخصصة، وسكت عن الكثير مما أتت السنة الشريفة النبوية له مبينة أو مفصلة. وترك ما وراء ذلك عفوًا منه سبحانه ورحمة تخفيفًا على المكلفين. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ومبلغ أكمل الشرائع وأتمها وأهمها وأقومها وأصلحها وأوفقها للعالمين، وعلى آله وأصحابه شموس الاهتداء ونجوم الائتساء والاقتداء الذين أخذوا عنه واستمدوا منه، وتأثروا بنظره واجتهاداته، وتعلموا منه الحكمة وروح التشريع، وتبينوا من معاشرته وملازمته وأقضيته وأحكامه أصول الشريعة ومقاصدها فكانوا للمصالح راعين، وللمفاسد دارئين، وبالرحمة والعدل متمسكين وللجور والعبث ملغين ومبطلين. وبعد، يسر أمانة مجمع الفقه الإسلامي بجدة أن تخرج للقراء والباحثين والمستفيدين والمستفتين هذا العدد الثاني من دورية المجمع، وهو حافل بما تعنون له أقسامه من جهود وأعمال وتصفه محتويات من ألوان نشاط المجمع خلال السنة الثانية من انطلاقه. فهو إلى جانب وقائع الجلسة العامة الافتتاحية للدورة الثانية لمؤتمر مجلس مجمع الفقه الإسلامي التي زانها صاحب السموم الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز حفظه الله بإشرافه عليها نيابة عن جلالة الملك المعظم أعزه الله ونصره، يحتوي على جملة من البحوث والدراسات المعروضة على مجلس المجمع. بعضها قد تم البت في شأنه في هذه الدورة. وبعضها الآخر رأى المؤتمر إرجاءه إلى الدورة القادمة لاتخاذ القرار النهائي بشأنه بعد مواصلة بحثه واستدراك الجوانب المتصلة به التي وقع السكوت عنها أو جاءت مجملة في البحوث المقدمة، ولكننا مع ذلك تعمدنا كما سيرى القارئ الكريم نشر ما تم عرضه من هذه البحوث. وقد كانت –بحمد الله- عامة البحوث والدراسات العلمية والفقهية مما عرض على المجمع في هذه الدورة موضع درس وبحث ونظر ومناقشة في أيام دراسية مباركة واتخذت بشأنها القرارات المناسبة المجمعية. وفي نهاية هذا العدد تأتي ملاحظات ومقترحات ممثلي شعب المجلس وذلك في التقرير الصادر عن اجتماعهم المنعقد بمقر المجمع بجدة يومي 2، 3 رجب 1406هـ/ 12، 13 مارس 1986م. وإنا لنرجو من الله أن يمد هذه المؤسسة بعونه وتوفيقه، ويسدد خطى أعضاء المجمع والعاملين فيه من فقهاء وأصوليين ودارسين وباحثين وخبراء مجمعيين لصيانة شريعة ربنا، والنهوض بفقه ديننا، والسعي في توحيد كلمة أمتنا، وإصدار الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية، بحسب ما يتلاءم مع اختلاف الأعراف المعتبرة، وتغيرات الزمان، وبما يقيم العدل ويجلب المصالح ويدرأ المفاسد ويعين على نشدان الحق وطلب الاستقامة، والله ولي القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 القسم الأول الجلسة الافتتاحية خطاب صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز ألقاها نيابة عنه صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة في افتتاح الدورة الثانية لمؤتمر الفقه الإسلامي بجدة الحمد لله يحق الحق ويبطل الباطل.. أنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كتابًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأوضح فيه مقاصد الحق وحاجات الخلق في عباداتهم ومعاملاتهم وأخذهم وعطائهم.. والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم القائل: ((ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في الدين)) . أيها الإخوة الكرام.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. إنه لمن دواعي سروري أن أفتتح نيابة عن خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك فهد بن عبد العزيز الدورة الثانية للمجمع الفقهي.. وتأتي هذه الدورة بعد مرور عام على افتتاح الدورة الأولى، ونرجو أن يكون المجمع الفقهي قد أتم وضع القواعد اللازمة لينطلق في عمله المبارك ونسأل الله تعالى أن يوفقكم ويسدد خطاكم وينفع المسلمين بالآراء والاجتهادات الجماعية.. أيها الإخوة الكرام.. إننا نعتقد أن أهم ما يعني به التفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.. فقد كان الفقه الإسلامي من أهم الأسس التي ساهمت في بناء الأمة الإسلامية وتكوين حضاراتها وسد حاجتها وامتداد سلطانها وانضواء الشعوب المختلفة تحت لوائها لأنه فقط يقوم على العدالة ويصون الحقوق ويكفل الحرية ويلائم الفطرة السليمة ويزيل الفوارق ويساير التطور.. ولا تسيطر عليه شهوات الأفراد ولا أطماع الجماعات.. ولا يخضع لهوى أيٍ كان.. ذلك أنه مستمد من شرع لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.. وأنه مستمد أيضًا من إرشاد رسول أمين لا ينطق عن الهوى ولا يحيد عن الحق.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 ولقد خدم في هذا المجال رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فوضحوا معالم الشريعة.. كان دأبهم دراسة الدين والتفقه فيه وإيضاح مقاصده للناس وتقديمها للخلف سهلة سائغة.. واليوم تجد حاجات جديدة للأمة الإسلامية وأمور تتطلب أن يشرع لها، وأن ذلك يكون امتدادًا لما قام به الفقهاء الأجلاء في الماضي.. ويا حبذا أن يقتدي الآخر بالأول في تبصير الأمة الإسلامية بما جد من أمورها وحوادثها وأحوالها. وحين تكون التشريعات جماعية يكون ذلك أدعى إلى تجنب الأخطاء وإلى الإلمام باجتماعيات الشعوب الإسلامية المختلفة.. وأن خصوبة الفقه الإسلامي تمكن في يسر من مواجهة التطورات الهائلة في مختلف جوانب الحياة.. لا جمود ولا تعصب ولا انحلال ولا مسايرة للأهواء.. لأننا نسلك على المنهاج الرباني الصالح لكل زمان ومكان.. ونبعث كنوز الدراسات الفقهية وإضافة المزيد إليها.. وبحمد الله تسير هذه المملكة في خير لاستمداد تشريعاتها من الفقه الإسلامي المدعم بكتاب الله وسنة رسوله.. وسيعيش المسلمون في خير إن شاء الله طالما وفقهم الله إلى اختيار هذا المسلك {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .. والسلام عليكم ورحمة الله.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 كلمة معالي سيد شريف الدين بيرزاده الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله خاتم النبيين وأشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أصحاب السماحة والمعالي والفضيلة أيها الإخوة، يسعدني أن أحضر اليوم افتتاح أعمال الدورة الثانية لمجلس المجمع الفقهي الإسلامي. وهي مناسبة أغتنمها لأرحب بممثلي الدول الإسلامية أجمل ترحيب، راجيًا لهم إقامة طيبة في هذا البلد الأمين، ومتمنيًا أن تحقق الدورة أهدافها المرسومة. أيها الإخوة، لقد أبت العناية الإلهية إلا أن تجعل من أرض الحرمين الشريفين، منطلقًا للدعوة إلى العقيدة الإسلامية الغراء. وكان مؤتمر القمة الإسلامي الثالث الذي انعقد في مكة المكرمة والطائف في شهر ربيع الأول 1401هـ بمشاركة حوالي أربعين من رؤساء الدول الإسلامية المنبر الذي دعا منه صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز في الخطاب الافتتاحي إلى أن من واجب حكماء الأمة الإسلامية ومفكريها وعلماءها، بصفة خاصة، أن يجندوا أنفسهم ويحشدوا طاقاتهم في مجلس عالمي للفقه الإسلامي يضمهم ويوحد جهودهم، لتجد الأمة الإسلامية في رحابه الإجابة الصحيحة المقتبسة من الشريعة الإسلامية، على كل سؤال تطرحه عليهم الحياة المعاصرة. وكانت استجابة زعماء العالم الإسلامي لدعوة جلالته في مستوى النداء الكريم. وتبلورت إرادة قادة الدول الإسلامية في أفكار بناءة تمثلت في صدور قرار تاريخي يقضي بإنشاء المجمع. وتوجت جهود الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي -بفضل الله وعونه- بانعقاد المؤتمر التأسيسي للمجمع الفقهي الإسلامي تحت رعاية جلالة الملك فهد بن عبد العزيز، في مكة المكرمة، يوم 26 من شهر شعبان 1403هـ، حين شاركت في المؤتمر جميع الدول الأعضاء. وكان المؤتمر المذكور، بحق، بداية لمرحلة تاريخية في حياة أمتنا، تخطى فيها العمل الإسلامي حدود الفردية والجهود الإقليمية والحدود السياسية إلى إنشاء أول تنظيم عالمي يعبر عن وحدة العالم الإسلامي في ميدان الفقه والتشريع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 ولا شك في أن المجمع إذا نهض بأعباء مهمته على خير وجه، سيتيح الفرصة لالتقاء أعلى الخبرات وأقوى التخصصات الإسلامية في رحابه، وسيمهد الطريق للتعاون المثمر بين علماء هذه الأمة في مضمار التعريف بالنظريات الفقهية وبالمبادئ الإسلامية العامة في العدالة والحرية والأمن والسلم، وسيساعد مساعدة فعالة على تطبيق أحكام الشريعة تطبيقًا يجمع بين التطور والتفتح اللذين يقتضيهما العصر الحديث من ناحية، وبين التمسك بالأصالة والعقيدة من ناحية ثانية. نعم. لقد أصبح المجمع اليوم حقيقة واقعة. والأمل معقود في نطاقه على صفوة علمائنا وفقهائنا للعمل على وضع القواعد الفقهية التي يحتاجها المسلمون في هذه الفترة من تاريخنا توخيًا للوصول إلى تشريع موحد في كل بلاد المسلمين، وإننا لنرجو أن تصبح هذه المؤسسة الإسلامية الجديدة محورًا رئيسيًا تلتقي حوله الهيئات الفقهية المتعددة القائمة اليوم في أرجاء العالم الإسلامي، كما نرجو أن تنهض هذه المؤسسة بمهمة التنسيق والتنظيم بين تلك الهيئات، معتمدة في ذلك خطة مدروسة قائمة على أسس علمية. أيها الإخوة، إن أهمية الفقه الإسلامي تتمثل في كونه يتناول بشكل مباشر حياة الفرد والأسرة والمجتمع، كما يتناول العلاقات بين المسلمين وبين سكان المجتمعات غير المسلمة. وليس بخاف أن المسلمين في كل مكان يعلقون أهمية قصوى على هذه المؤسسة، لا لما ستصدره من فتاوى منسجمة مع تطور الحياة المعاصرة فحسب، بل لما ستصدره أيضًا من دراسات وبحوث وآراء تعين المسلمين على استيحاء الأنظمة الملائمة لمؤسساتهم ومجتمعاتهم، مما يوفر، بالتالي، إمكانيات الانسجام بين مختلف دولنا، ويساعد على تمهيد طريق التضامن الإسلامي المنشود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 ولقد لبت الشريعة السمحة على الصعيد الفقهي، كما لا يخفى، حاجات دار الإسلام على مر العصور، فأمدتها بقواعد مرنة تحقق الصالح العام وتعمل على درء المفاسد. ورأى علماء المسلمين منذ قرون أن يعملوا على ضبط قواعد الفقه وتدوينها وتدريسها لأبنائهم. ورأوا كذلك أن يستنبطوا أحكامًا لكل ما يعرض عليهم من مسائل وقضايا وموضوعات.. بل إنهم افترضوا وقائع وأحداثًا قبل وقوعها، وحرصوا على أن يضعوا لكل منها حلًا ملائمًا. وقد توفر بفضل ذلك كنز ثمين من المؤلفات الفقهية والدراسات والأبحاث التي تعالج مشكلات الناس في كل أقطارهم. ولذا، فالمجمع الفقهي الإسلامي لا ينطلق اليوم من فراغ، لأن بين يديه بحرًا زاخرًا من تراث الآباء والجدود. ومن واجبنا أن لا نكتفي بما تركوه لنا، بل إن علينا أن نستمر من حيث ما انتهوا إليه، لنزيد تراثنا ثراء ولنتلافى النقص الذي طرأ في الفترة التي ضعف فيها المسلمون. ويعني ذلك أن مهمة المجمع تقتضي رعاية ذلك التراث، كما تقتضي استثماره لدفع مسيرتنا إلى الأمام. أيها الإخوة، وإن من دواعي الارتياح، أن إنجازات مهمة أخرى، في الوقت الذي يبدأ فيه المجمع خطواته الأولى على الطريق سترى النور قريبًا، كمحكمة العدل الإسلامية الدولية التي تتخذ منظمة المؤتمر الإسلامي الإجراءات الأخيرة لإخراجها إلى حيز الوجود، وهي المحكمة التي ستكون مهمتها النظر في الخلافات التي تقع، لسبب أو لآخر، في بعض الأحيان، بين الدول الإسلامية، عملًا بتعاليم ديننا التي تأمر بإصلاح ذات البين. وهي محكمة من شأنها حين تقوم في القريب أن تجنبنا –نحن المسلمين- اللجوء إلى تسوية مثل تلك الخلافات إلى منظمات وهيئات أجنبية تعتمد أحكامًا غير أحكام الشريعة. ومن تلك الإنجازات أيضًا، وثيقة حقوق الإنسان في الإسلام التي ستكون ملزمة للدول الأعضاء كافة. ومن أجدر من المسلم بأن يصوغ هذه الوثيقة؟ ذلك أن الإسلام كرم الإنسان، فضمن له الحياة المادية والروحية، وكفل له الحقوق والحرية والأمان والاطمئنان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وبإقامة مزيد من المؤسسات التي تمكن المسلمين من عقد لقاءات تضمهم وتزيدهم تعارفًا وتآلفًا نستطيع أن نبنى صرح تضامننا وقوتنا. أيها الإخوة، إن التحديات التي نواجهها اليوم تحديات تهدد مصيرنا، فالقدس مهددة بفقدان شخصيتها الإسلامية، وفلسطين خاضعة لنير احتلال غاشم، وأفغانستان ما تزال مسرحًا لغزو أجنبي منذ بضع سنين. أما الحرب بين العراق وإيران فما فتتئت تستنزف طاقاتنا البشرية والمادية باستمرار، مما يزيدنا ضعفًا وتخاذلًا أمام عدونا المشترك. ومواجهة تلك التحديات يقتضي تضامننا، ويتطلب رفع مستوى كفايتنا وقدرتنا لنكون في مستوى العصر الذي نعيش فيه ولنكون في مستوى خصومنا. أيها الإخوة، اسمحوا لي في هذه المناسبة، وقبل أن أختتم كلمتي، بأن أقدم خالص التحية ووافر التقدير، باسم منظمة المؤتمر الإسلامي، إلى صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز لما تجده المنظمة لدى جلالته ولدى حكومته، من رعاية مستمرة ومن دعم مادي ومعنوي لكل مؤسسة أو جهاز من مؤسساتها التي من ضمنها المجمع الفقهي الإسلامي الذي كان صاحب الجلالة قد تفضل كما هو معروف فتبرع له بمقر دائم في مدينة جدة. ولا يفوتني كذلك أن أنوه بدور رابطة العالم الإسلامي وبدور علماء المملكة العربية السعودية في خدمة الفقه الإسلامي، مما سيعين هذا المجمع، دون شك، على أداء مهمته إعانة ملموسة. واسأل الله العلي القدير أن يكلل أعمالكم بالنجاح والتوفيق. إنه سميع مجيب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 كلمة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد، فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوة في الله في الدورة الثانية لمجمع الفقه الإسلامي واسأل الله عز وجل أن يجعله لقاء مباركًا ويوفق هذا المجمع لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد ويمنحهم إصابة الحق وأن يمنح أعضاءه إصابة الحق في كل ما يجتمعون عليه وفي كل ما يقرون وأن ينفع بهم المسلمين إنه جل وعلا جواد كريم. ثم أشكر القائمين على هذا المجمع على دعوتهم لي للمشاركة في هذه الدورة وإنه ليسرني كثيرًا أن أشارك إخواني في هذه الدورة وأن أدعو لهم بالمزيد من التوفيق. ولقد سررت كثيرًا لما تضمنته كلمة خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك فهد بن عبد العزيز وفقه الله من التوجيه والبيان والإرشاد والتشجيع على ما ينبغي لهذا المجمع أن يقوم به بما في ذلك من النفع العام للمسلمين لأن القرارات التي يتخذها الجماعة من العلماء يستعان بها كثيرًا في حل المشاكل وإيضاح الحق وإبطال الباطل ولا ريب أن الرأي الجماعي له فائدته وله منزلته في الدين، ولا ريب أيضًا أن كل إنسان من أهل العلم يحتاج إلى التعاون مع إخوانه أهل العلم في حل المشاكل وفي إيضاح الحق في مسائل الخلاف وفي إيضاح الدليل الذي يستند عليه من يرجح أحد القولين أو الأقوال على القول الثاني أو الأقوال الأخرى، فإذا اجتمع علماء الإسلام في مسألة يدرسونها أو في مسألة يدرسونها وينظرون في وجه الدليل الذي استنبط منه الحكم لا شك أن لهذا أثره العظيم وفائدته كبيرة، وإني لأرجو أن يوفق هذا المجمع لما فيه الخير الكثير للمسلمين وحل المشاكل التي قد استعصى كثير منها على كثير من أهل العلم فيوفق هذا المجمع لحلها وإيضاحها بالدليل. وقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)) متفق على صحته. فالتفقه في الدين من أفضل القربات ومن أعظم الأعمال الصالحات فإن في ذلك عونًا لعلماء المسلمين وعونًا للمسلمين أيضًا على معرفة ما أوجب الله عليهم وما حرم الله عليهم حتى يؤدوا الواجب على بصيرة وحتى يدعوا ما حرم الله على بصيرة وإن وصيتي لإخواني أعضاء المجلس أن يعلوا بهذا المجمع، أن يعلوا به كثيرًا، ويعدوا العدة لكل دورة ما أمكنهم في إيضاح المسائل وإقامة الدليل والعناية بمعرفة صحة الدليل وما يبين ضعف الدليل الذي يتمسك به بعض الناس وبيان وجه صحة الدليل من جهة أخرى فإن الأحاديث التي قد يستند بها أصحاب القول الذي يرجحونها على القول الثاني قد يكون فيها من الطعن والعلة ما يمنع التعلق بها فإن الأحاديث التي جاءت في المسائل الفقهية فيها الصحيح وفيها الحسن وفيها الضعيف وفيها الموضوع، فمن الواجب على أعضاء هذا المجمع أن يعنوا بهذه الأدلة الحديثية ويحرصوا على إيضاح الصحيح منها والضعيف والموضوع مع إيضاح وجه الاحتجاج وبيان وجه ما في الحديث الذي احتج به من قاله، أما الآيات الكريمات فالغالب بحمد الله روح المعنى فيها؛ ولكن لا مانع أيضًا من العناية ببيان معنى الآية التي يتعلق بها الحكم ووجه الاستدلال بها عليه وكلام أهل العلم في ذلك. وإذا وضع لهذه المعاني بحوث مستوفاة كان ذلك مما يعين أعضاء هذا المجمع على إيضاح الحق وعلى اجتماع القول فيه وعدم الخلاف أو قلته. والله جل وعلا المسؤول أن يوفقنا وإياكم لما فيه رضاه وأن يمنحنا جميعًا إصابة الحق في القول والعمل وأن يوفق الأمة جميعًا لكل ما فيه صلاحها ونجاتها وسعادتها في الدنيا والآخرة وأن يوفق علماء المسلمين أينما كانوا لإصابة الحق في أقوالهم وأعمالهم وأن يعينهم على الدعوة إليه والأخذ بما يرضيه سبحانه وتعالى وأن يعينهم على إيضاح غلط الغالطين وخطأ المخطئين وأن يوفق علماء المسلمين لإقامة الحق أينما كانوا وإيضاحه بالدليل ودحر الباطل وإيضاح وجه بطلانه، كما اسأله سبحانه أن يوفق حكام المسلمين في كل مكان لتحكيم الشريعة والحكم بها ونصر الحق وتأييده ورد الباطل وتفنيده. وأن يعين الجميع على كل ما فيه رضاه وصلاح عباده إنه سميع قريب وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 كلمة معالي الدكتور بكر أبو زيد رئيس مجمع الفقه الإسلامي بجدة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رافع شأن العلماء العاملين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قيوم السماوات والأرضين وأشهد أن محمدًا عبده المجتبى ونبيه المصطفى، اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، فنحمد الله تعالى دائمًا وأبدًا حمدًا لا ينقطع أوله ولا يبيد آخره على توافر نعمه وعظيم آلائه. وإنا ونحن في مجلس مجمعنا هذا نعايش نعمة عظيمة من نعم الله سبحانه وتعالى وكبير آلائه ذلك أن هذا المجمع دخل في دور الإنتاج وهو ما زال في أوائل ميلاده، فلله الحمد على ما أنعم وأجزل وتكرم، هذا وأن الدعم الأدبي لمحافل العلم ومجامعه ودور العلم ومعاهده هو من أسمى الخطوط العريضة التي تسير عليها حكومة هذه البلاد، وما افتتاح صاحب السمو الملكي أمير منطقة مكة المكرمة حرسها الله تعالى الأمير ماجد بن عبد العزيز آل سعود لهذه الدورة الثانية لمجمعكم هذا نيابة عن جلالة الملك حفظه الله إلا خطوة رشيدة من خطوات المسلك الرشيد، فشكر الله له سعيه وجزاه خير الجزاء. أيها الحفل الكريم أحييكم جميعًا بتحية الإسلام وأذكركم بأن الاعتصام بحبل الله المتين وإعمال الشورى بين المسلمين تتجلى معالمهما وتتجسد آثارهما بصفة إسلامية عالمية في مجمعكم هذا الذي يتمثل فيه خمسون عالمًا من شتى الولايات الإسلامية يجمعهم في هذا كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله. وإنه من ورائهم أعداد وجموع ينتظرون ماذا يلتقطه السمع وماذا يكون تحت البصر لنفع الأمة في عاجلها وآجلها وإغاثتها في مسيرتها إلى الله تعالى والدار الآخرة. وكلنا يعلم ما تمر به أمة محمد صلى الله عليه وسلم في شتى مجالات حياتها من ملاحم، وفي رأسها ملاحم علمية على اختلاف أنواعها عقلية أو فكرية أو اجتماعية أو ثقافية أو فقهية وما جرى مجرى ذلك في سلسلة متصلة الحلقات يمسك بها أعداء الإسلام ظاهرًا من جهة، ويمسك بها ذوو الفسالة العقلية المنافقون من جهة أخرى ليضربوا بآرائهم ومقترحاتهم وتوجيهاتهم المعادية للإسلام صخرة الإسلام والمسلمين وكل هؤلاء الأعداء ينزعون عن قوس واحدة ويدقون على وتر واحد هو القضاء على المسلمين بكل مقوماتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 وإن أم الملاحم هي الملحمة الفقهية التي يشهدها أهل الإسلام تلك الملحمة التي تسندها النظرة الآثمة وهي النظرة التبريرية للواقع الشاذ عن الهدى والصراط المستقيم والتي تقوم بها الأصابع العابثة في دين الله وشرعه وهذه الأصابع العابثة هم المتعالمون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهل التعالم داء تشتكي منه دور الفتيا وتئن منه المنابر وتشتكي منه المحابر وتشتكي منه دور الوعظ والإرشاد، لماذا؟ لأنهم يقولون على الله ودينه وشرعه ما لا يعلمون، فيحللون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله بلا علم. ولكن كل هذا باطل ليس له ثبات وعهن منفوش خواء ليس له روح وما يلبث أن ينشد أهله الخلاص وسيجدون الحق دائمًا وأبدًا في شريعة الإسلام فهي الحق وما سواها الباطل، وقد أسقط النبي صلى الله عليه وسلم كل راية تخالف راية الإسلام وأن لله رجالًا يحملون ضياءها المشرق ليخرقوا حجب الظلام ويكسروا أقلام الضلال ويلوون أعناق اللئام وإن كانوا في ديار الإسلام فلله ما أشد لهف المسلمين على هذا الطراز من العباد الخلص الذين يقومون مع الشريعة حيث قامت وينزلون معها حيث نزلت ويدلون على الله بهديهم وسمتهم وكريم علمهم قبل أن يدلوا عليه بعلمهم. وإن في طلوع شمس مجمعكم هذا ينفتح باب الرجاء وينعقد عظيم الأمل في أن يكون مصباح خير ومشعل هداية ولسان صدق لأمة محمد صلى الله عليه وسلم يحل قضاياها الفقهية والاقتصادية والعلمية وما جرى مجرى ذلك من ضروب مسائل العلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 أيها الحفل الكريم، إنني أهنئكم بانضمام جماعة من أهل العلم إلى مجمعكم هذا منهم عالمان فاضلان من فقهاء الإسلام وهما الشيخ محمد الصديق بن الأمين الضرير من علماء السودان، والشيخ مصطفى بن أحمد الزرقاء من علماء الديار الشامية، كما أهنئكم بانضمام ممثلين من مؤسسات علمية كبرى لها وزنها وثقلها في محيط العلم في الديار الإسلامية وهى مجمع رابطة العالم الإسلامي بمكة حرسها الله تعالى، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، مؤسسة آل البيت بالمملكة الأردنية الهاشمية، المنظمة الإسلامية للتربية والتعليم والثقافة بالمغرب، المركز الإسلامي في واشنطن، الموسوعة الفقهية بدولة الكويت، فحياهم الله وأخذ بأيدينا وأيديهم جميعًا إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد ورزقنا جميعًا العلم النافع والعمل الصالح. صاحب السمو الملكي، أصحاب السماحة والمعالي والفضيلة، أصحاب المعالي والفضيلة رجال المجمع، إليكم جميعًا وإلى كل مسلم وإلى كل مهتم بشأن العلم والعلماء أزف إليكم البشرى عزمة من عزمات خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله ورعاه وذلك أنه صدر أمره حفظه الله بأن يكون أول كتاب يطبع في هذا المجمع هو على نفقة جلالته –حفظه الله- فجزاه الله خيرًا وأكرم سعيه وأبقاه خادمًا للإسلام والمسلمين وأنه من خلال هذا الأمر الكريم ومن القوائم التي قدمها عدد من رجال هذا المجمع إلى أمانة المجمع في بعض الكتب التي ما زالت مخطوطة، فقد وقع الاختيار على كتاب الجواهر الثمينة من فقه عالم المدينة لابن شاس من علماء القرنين السادس والسابع الهجريين، وذلك لما لهذا الكتاب من أهمية في الفقه وإثرائه، ولأنه كتاب فيه اهتمام عظيم بالدليل فجزى الله جلالته كل خير ووفقنا وإياكم إلى كل عمل صالح مبرور، وأخذ بأيدينا وإياكم إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 كلمة معالي الأمين العام للمجمع الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم نحمدك الله على ما هديتنا إليه من أسباب المعرفة واليقين، ورفعتنا به ووفقتنا له من طرق العزة والتمكين، فجعلت لنا من مجمعنا هذا ملتقى لأئمة الملة من كل دولة، ومنتدى لعلماء الشريعة من كل بقعة، يوحدون صف الأمة الإسلامية ويجمعون كلمتها بما يدرسون من قضاياها ومشاكلها وما تتعرض له من أحوال في حياتها اليومية في مختلف أقطارها وديارها، فيبذلون لها النصيحة ويهدونها السبيل الأقوم، ويجنبونها الخطل، ويحمونها من مواقع الزلل، بفضل استبصارهم أمور ديناهم واستبانتهم أحكام دينهم، بعد استقراء لنصوص الشريعة الغراء، وتتبع لمصادرها ومواردها، وإمعان النظر في معاقدها وقواعدها، وإحاطة بكلياتها وجزئياتها، وإدراك لمقاصدها وغاياتها. ونستمنحك اللهم فضائل صلواتك ونوامى بركاتك وأتم سلامك على إمام الأمة وقائدها ووليها وهاديها الذي أخرجت به الناس من الضلالة، وأنقذتهم به من الجهالة، فهديت به قلوبًا غلفًا وعيونًا عميًا، النبي الأكرم والرسول الأعظم سيدنا ومولانا محمد ابن عبد الله ورسوله إلى الناس كافة وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. حضرة صاحب السمو الأمير ماجد بن عبد العزيز الموقر أمير منطقة مكة المكرمة معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي أصحاب المعالي والسماحة أصحاب السعادة والفضيلة أعضاء المجمع الموقرين حضرات الأساتذة والخبراء الأكارم ضيوفنا الأعزاء السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فها هي دورة مجلسكم الثانية تلتئم بحمد الله تعالى بعد أن كان الأمل في عقدها غير قائم أو ضعيفًا. وهذا ما يفسر تأخر اجتماع مؤتمركم هذا عن موعده ثلاثة أشهر من شهر محرم الحرام الذي كان موعدًا لذلك إلى شهر ربيع الثاني هذا. وأن الأسباب لذلك غير خافية على أحد، ومؤسستكم ما تزال في أولى خطواتها، ولكنها ثابتة العزم، مصممة على القيام بدورها، مستعينة بالله في تحقيق أهدافها، والقيام بما أنيط بها، والاضطلاع بما ائتمنتها عليه الدول الإسلامية جمعاء. ولئن بدأت متعثرة ككل طفل لم يبلغ طور الفتوة فقد كان لها من الرعاية الإلهية الفائقة، والعناية الربانية السابغة ما أعانها على التحرك والعمل الوفاء بما التزمت به خلال سنة من عمرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وإنه لمن الواجب بهذه المناسبة الشريفة أن نرفع إلى حامي الأمة وناصر اللمة خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك المعظم فهد بن عبد العزيز كل آيات التقدير والإجلال والعرفان والامتنان على ما أولانا ويولينا من عطف وكرم ودعم وتشجيع. فإلى مكرمته السخية، والتفاتته السامية الملكية، يرجع فضل انعقاد الدورة الثانية لمجلسكم الموقر بهذا القصر المنيف الذي جعله جلالته مقرًا لمؤسستكم ومركزًا لنشاط مجمعكم. وقد تفضل مشكورًا أيده الله ونصره بقبول الرئاسة الشرفية لهذا المؤتمر، وندب إلينا للإشراف عليه سمو الأمير الجليل ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة زاده الله سنى وسناء ورفعة وشرفًا. فحبانا من لطف سجاياه، وكريم خلقه، وحسن بيانه ما نعده تكريمًا لمجمعنا، ودعمًا لمسيرتنا من طرف الحكومة الرشيدة كلها، حكومة جلالة الملك المعظم أعزه الله وأكرمه. ولا أنسى في أثر هذا أن أتقدم بجزيل الشكر لمنظمة المؤتمر الإسلامي وأمينها العام معالي سيد شريف الدين بيرزاده على ما يجده المجمع من المنظمة الأم، ومنه خاصة، من رعاية مستمرة في هذا الظرف الذي نمر به، كما لا أنسى لرابطة العالم الإسلامي ولأمينها العام معالي الدكتور عبد الله عمر نصيف، ولبنك التنمية الإسلامي ورئيسه معالي الدكتور أحمد محمد، على حسن تعاونهما وجميل رعايتهما للمجمع، ولمشاريع المجمع. أصحاب المعالي والسماحة. حضرات الأساتذة قبل الشروع في الحديث عن مسيرة مجمعكم الموقر طوال سنة من تاريخ مباشرتنا للعمل به حتى الآن حسب ما تقتضي ذلك لائحته التنفيذية، أريد أن أرفع إلى الدول الإسلامية الأعضاء عظيم تقديري واحترامي للجهود الكبيرة التي ما فتئت تبذلها كلها لتحقيق الغد الأفضل والمستقبل الأسعد للأمة جمعاء. وإن عنايتها كلها بجمع كلمة الأمة، وتوحيد صفها، والتذكير بما نادى به الإسلام من وجوب توثيق أواصر الأخوة بينها، والاجتماع على أصول الهداية الإسلامية والمبادئ العالية والقيم الخالدة لديننا الحنيف، مما يسهر هذا المجمع على تحقيقه، ويعتز بنشره، ويدعو إليه، ليحملنا على الإشادة بتلك الجهود العظيمة ومن بينها ما تقومون به حضرات الأعضاء الأكارم من فحص لمشاكل المجتمع الإنساني بعامة والإسلامي بخاصة، وما يبذله حضراتكم والخبراء المتخصصون معكم من طاقات في الدرس والبحث والتوجيه وعرض الحلول ومناقشتها، ليستقيم بعد ذلك كل أمر من أمورنا، في عالمنا الإسلامي ومجتمعاتنا الكبيرة والمنتشرة وفي كل مجالات الحياة بيننا، على المنهج الإلهي الرشيد وعلى هدى من الله {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 مضت سنة على انعقاد الدورة الأولى لهذا المجمع. وقد كانت بحمد الله دورة مشهودة وتاريخية بفضل خبرة وحسن إدارة رئيس مجلسنا هذا، فضيلة الدكتور بكر أبو زيد لمداولاتها، وبفضل تعاون الأعضاء الأكارم الذين شهدوا أعمال المؤتمر الأول وأسهموا فيه إسهامًا مرموقًا ساعد على وضع اللائحة التنفيذية للنظام الأساسي للمجمع، وعلى إقرار الخطة العامة الشاملة والمتكاملة لسيره التي صدرت عن الشعب الثلاث للمجلس: شعبة التخطيط، وشعبة الدراسات، وشعبة الفتوى. فسار بحمد الله مجمعكم في ما قام به من نشاط خلال هذه الفترة مستنيرًا بتلك الخطة الدقيقة، مستعينًا بالله عز وجل على كل الصعاب والعقبات التي تقف في طريقه، مستلهمًا من المبادئ والأهداف التي رسمها قادة الأمة لهذا الصرح الجديد من صروح العلم والفكر والعالم الإسلامي، عزمًا ثابتًا وإرادة قوية، تؤذن إن شاء الله بتحقيق الغاية من هذا المجمع، تلك الغاية التي أعلن عنها سمو الأمير ماجد في خطابه المنهجي الذي افتتح به الدورة الأولى لمؤتمركم نيابة عن جلالة الملك المعظم أعزه الله حين قال: لقد أنشئ هذا المجمع الفقهي كجهاز من أجهزة منظمة المؤتمر العالم الإسلامي لييسر للقاصدين معرفة دينهم، ومعاملات دنياهم على منهج جماعي موحد. وقد اتجهت من جمادي الأولى 1405هـ / يناير 1985م نشاطات المجمع إلى وجهتين أساسيتين: أما الوجهة الأساسية الأولى فربط الصلة المستمرة بالأعضاء الأكارم والدارسين والخبراء من رجال الجامعات ومراكز البحث وذلك قصد موافاتنا بالتصورات للمشاريع والأعمال التي حددتها الخطة العامة لعمل المجمع وكذلك بما يحضرهم من آراء ومقترحات بشأنها وذلك توفيرًا للمادة الأساسية التي يمكن درسها واعتمادها من طرف شعبة التخطيط. وفعلًا تلقت الأمانة العامة للمجمع شاكرة لكل الذين أسهموا بهذا الجهد مجموعة كبيرة من ذلك تتعلق بمشاريعها المتنوعة مثل تحديد موضوعات البحث والفتوى، وبيان التصورات والمقترحات بشأن الموسوعة الفقهية، والمعجم العام لمصطلحات الفقه، وتقنين الشريعة، وإحياء التراث ومجلة المجمع وغير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 وقد قمنا إثر هذا بتدوين الحصيلة الكبيرة للآراء والمشاورات التي وصلتنا أو قمنا بها في وثيقة هامة اعتمدت في أول اجتماع عقده المجمع لأعضاء شعبة التخطيط فيما بين 22 و25 شعبان 1405هـ / 12- 15 مايو 1985م بمقر المجمع بجدة. وقد شاركت فيه ثلة من الشخصيات الإسلامية العلمية المرموقة. وتمخض ذلك اللقاء عن برنامج عمل تمثل في: 1- تحديد موضوعات البحث والدراسات التي ستعرض في الدورة الثانية لمجلس المجمع وعددها 11 موضوعًا. 2- تحديد الموضوعات في مجال الفتوى وعددها 14 موضوعًا. 3- تحديد طريقة المنهج المتميز الذي ينبغي أن تسير عليه الموسوعة الفقهية. 4- تحديد طريقة وضع منهج للمعجم العام للمصطلحات الفقهية. 5- تحديد الموضوعات المقترحة للبحث في ندوات أو لقاءات بالتعاون مع مؤسسات إسلامية تشترك مع المجمع في معالجة بعض المسائل المستحدثة في حياة المجتمعات الإسلامية. 6- تحديد الكتب والمخطوطات الفقهية التي لها الأولوية في النشر والتحقيق. 7- تحديد منهج المجلة العلمية للمجمع. وفور انتهاء شعبة التخطيط من دورتها، وزعت موضوعات البحوث والدراسات وموضوعات الفتوى على كافة أعضاء المجمع من جهة، وعلى ثلة من أبرز العلماء المسلمين والأخصائيين في بعض المسائل المرتبطة بالفقه أو الاقتصاد أو الطب من جهة أخرى، وذلك لاستكتابهم جميعًا في كل الموضوعات المعروضة وفقًا لتوجيهات شعبة التخطيط، قصد عرض الدراسات والفتاوى على هذه الدورة لمناقشتها واتخاذ الموقف المناسب من القضايا والمشاكل المطروحة. وقد اتصلت الأمانة العامة بنحو أربعين بحثًا شارك في إعدادها ستة عشر عضوًا وتسعة من الخبراء. ولكثافة المادة اضطررنا إلى اختصار عدد القضايا المعروضة للدرس والمناقشة فجلعناها ستة للفتوى بدل أربعة عشر، وسبعة للبحوث والدراسات بدل أحد عشر. وأملنا أن يكون في الوقت متسع لدراسة عميقة ينتهي فيها إلى الأخذ بالأقوى حجة ودليلًا، والأوفق والأصلح وجهًا وحكمًا. ولا ينبغي بحال لدارس أو لمجتهد في المسائل في مثل هذا المجمع الذي يقضى فيه للجماعة، جماعة أهل الحل والعقد لا للفرد، أن يتعصب لمذهب بعينه أو لرأي بذاته. وقد قال إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني من قبل في هذا الشأن: "من ترقى إلى رتبة الفتوى واستقل بمنصب الاستبداد في الاجتهاد فلا يتصور في مطرد الاعتياد انطباق فتاويه واختياراته في جميع مسائل الشريعة على مذهب إمام من الأئمة. فإن مسالك الاجتهاد وأساليب الظنون كثيرة وجهات النظر لا يحويها حصر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 وبإزاء مآخذ الأحكام المتناهية في مقابلة الحوادث والوقائع غير المتناهية يقول رحمه الله: "للشرع مبنى بديع، وأس هو منشأ كل تفصيل وتفريع، وهو معتمد المفتي في هداية الكلية والدراية، وهو المشير إلى استرسال أحكام الله على الوقائع مع نفي النهاية، وذلك أن قواعد الشريعة متقابلة بين النفي والإثبات، والأمر والنهي، والإطلاق والحجر، والإباحة والحظر، ولا يتقابل قط أصلان إلا ويتطرق الضبط إلى أحدهما وتنتفي النهاية عن مقابله ومناقضه". وإني لأرجو أن تكون دورة مجلسكم هذه دورة مرموقة لما سيناقش فيها من موضوعات هامة متصلة بحياة أمتنا حاضرًا ومستقبلًا، وسيحاول المجمع بإذن الله معالجتها بما تستحقه من تبصر واحتكام إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وذلك كي يكون المسلمون حيث ما وجدوا، على بينة من أمر دينهم. أما بخصوص المشروعات العلمية للمجمع فإن المنتظر من المجلس في هذه الدورة أن يحدد الطرق الكفيلة بالشروع فيها. وذلك من حيث المنهج والوسائل، ويكون هذا بإمعان النظر في مقترحات شعبة التخطيط في هذا الشأن، ودراسة تقارير لجنة الموسوعة، ولجنة المعجم الفقهي، والانتهاء إلى تكليف طائفة من المحققين والدارسين لإحياء أمهات كتب الفقه والمصادر فيه، وإعداد التآليف والبحوث في جملة من الدراسات المقترحة، والقيام من الآن بتوفيرما يلزم لإصدار مجلة المجمع. ثم بحث المشاريع الأخرى المعروضة لأول مرة على مجلسكم الموقر في هذه الدورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وهذا هو الجانب الأول الذي قام به مجمعكم ودعا إلى تحقيقه وسدد وجهته الأولى إليه. وإنه ليطيب لي هنا أن أنوه بما تضمنه محضر جلسة العمل التي عقدناها بجامعة القرويين بالمغرب، من استعداد المجلس العلمي بها لإعداد معجم فقهي مالكي متى صدرت إليه الإشارة بذلك من المجمع، واستعداده كذلك لفهرسة ما يقترحه عليه مجمعكم الموقر من أمهات كتب الفقه المالكي، واعتقادنا أن تحقيق مثل هذا العمل سوف يدعم قدرات مجمعنا على توفيرالمراجع النفيسة لعامة العلماء، كما يغني المكتبة الإسلامية بأهم ما تحتاج إليه من تصانيف ومؤلفات. وأما الوجهة الأساسية الثانية التي سار فيها المجمع فتتمثل في العلاقات التي ربطناها ببعض وزارات الأوقاف والثقافة في الدول الأعضاء، وببعض الجامعات والهيئات والمؤسسات الإسلامية فيها، وذلك قصد التعريف بالمجمع، واستكشاف آفاق التعاون معها في كل ما يتصل بتحقيق خطة العمل المرسومة لمجمعنا. ومن ثم فقد شرفنا بلقاء أصحاب المعالي وزراء الأوقاف والثقافة في العدد من الأوطان، في المملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، وتونس والجزائر والمغرب، وكانت كلها لقاءات مباركة جنى ويجني منها المجمع بإذن الله خيرًا كثيرًا. وحرصنا خلال هذه السنة على الاتصال بما أمكن من الجامعات الإسلامية، وعقدنا جلسات عمل مع هيئاتها العلمية، وحددنا إمكانات التعاون معها بخصوص الاشتراك في الأعمال العلمية المجمعية، والاستفادة مما تنشره مراكز البحث فيها من كتب التراث، والرسائل العلمية الجامعية المتصلة بالمسائل الفقهية ونحوها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 وربطنا الصلة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة الأزهر الشريف بمصر، وجامعة القرويين بالمغرب، وجامعة الزيتونة بتونس، ومركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، والجامعة الإسلامية بماليزيا والجامعة الوطنية بها. كما ربطنا علاقات وثيقة بالمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وبالموسوعة الفقهية بالكويت، ومؤسسة دار القبلة بجدة، والبنك الإسلامي للتنمية، ومنظمة الطب الإسلامي بالكويت، وبرئاسة المحاكم الشريعة والشؤون الدينية بالدوحة. وشاركنا في ندوة البركة الثانية للاقتصاد الإسلامي التي انعقدت بتونس، وحضرنا مؤتمر مجمع الحضارة الإسلامية بالأردن، وقدمنا بحثًا في مؤتمر الشريعة الإسلامية في ماليزيا في محرم 1406هـ، وأسهمنا في الملتقى الذي انعقد بجدة في ربيع الأول 1406هـ والذي نظمته رابطة العالم الإسلامي ومنظمة الصحة العالمية حول التغذية، كما قدمنا تقريرًا كتابيًا وعرضًا شفويًا عن المجمع في الدورة الثانية للجنة الوزارية للثقافة والإعلام التي انعقدت في صفر 1406هـ بداكار تحت لواء منظمة المؤتمر الإسلامي وبرئاسة فخامة الرئيس عبدو ضيوف رئيس جمهورية السنغال، وقدمنا مثل ذلك أمام اللجنة الإسلامية للثقافة والاقتصاد التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي التي انعقدت بجدة في ربيع 0الأول 1406هـ. وسعينا في كل هذه المحافل أن نعرف مندوبي الدول الإسلامية بأعمالنا ونحثهم على دعم مسيرتنا التي تستهدف تحقيق الخير لأمتنا من خلال خدمة شريعتنا المطهرة. ولعل من المفيد أن نلاحظ بصفة خاصة العلاقات المتميزة التي تربط مجمعكم الدولي الموقر بالمؤسستين العتيدتين مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة، ومنظمة الطب الإسلامي بالكويت. أما المؤسسة الأولى فإنكم تعلمون جميعًا ولا شك أن مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة قد شرفنا بانتداب أحد أعضائه من العلماء الجلة للعضوية بمجلسكم هذا، وهو إلى جانب مشاركته الإيجابية في نشاطاتنا قد أسهم إسهامًا مرموقًا فيما تجمع لدينا من دراسات وبحوث وفتاوى مما هو الآن بين أيدي حضراتكم. كما أن مقررات المجمع الفقهي بمكة المكرمة التي لها صلة بموضوعات دورتنا هذه، قد أدرجت ضمن الوثائق المعروضة على حضراتكم لتؤخذ بعين الاهتمام والاعتبار فهي حصيلة جهود عليمة قيمة وأثر مناقشات مستفيضة شاركت فيها ثلة من علماء المسلمين الأجلاء جزاهم الله كل خير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 ومجمعكم أيها الإخوة يشرف من جهته في شخص أمينه العام بتمثيل مؤسساتنا الفتية في المجمع الفقهي بمكة المكرمة، وقد شارك في اجتماعاته في السنة الماضية وهو يعتزم بإذن الله الإسهام في البحوث والدراسات المزمع تقديمها هذا العام أثناء دورته القادمة. وأما المؤسسة الثانية: فهي المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت، التي تتخذ من تعاليم الإسلام وأصول ديننا الحنيف أرضية لدراستها وتفكيرها، وتعني بالتزام ذلك كله في علاج مختلف الأمراض البدنية والنفسية والوقاية منها، وتقوم بتشجيع العاملين في مجال العلوم الطبية الإسلامية موفقة بين الجهود العلمية الطبية وبين الأحكام الشرعية الفقهية بهدف الوصول إلى رأي سليم موحد في تطبيق ما يستجد من طرق العلاج الطبي الحديث، واختيار وإيجاد البدائل الصحيحة للوسائل والعقاقير المحظور استعمالها إسلاميًا. وقد تمت عدة اتصالات بين المجمع وبين هذه المنظمة عن طريق معالي الدكتور رضا محمد سعيد عبيد عضو مجلس أمنائها ومدير جامعة الملك عبد العزيز. وقد حرص المجمع بخصوص الموضوعات المعروضة عليه والمتصلة بالطب أو العلاج، أن يتعاون بشأنها مع العلماء والأخصائيين في هذه المنظمة ومن بينهم الأساتذة الأطباء من أبناء المملكة العربية السعودية، وذلك رغبة في الاستفادة من علمهم وتجاربهم وقصدًا إلى تحقيق قدر من التنسيق في المواقف إزاء المسائل المعروضة في وقت واحد على المجمع وعلى المنظمة. ويصار الآن إلى إيجاد صيغة للتعاون مع المنظمة ومع بعض العلماء في بعض الجامعات لربط برامج الدراسات الطبية بالقيم التي ارتكزت عليها الحضارة الإسلامية وتعاليم الشريعة السمحة. وهو عمل دقيق وطويل نسأل الله أن يوفق مجمعنا إلى إنجازه. كما يستعد مجمعكم للمشاركة بإذن الله في الملتقى الذي تعقده المنظمة بباكستان السنة القادمة وذلك بتقديم بحث حول موضوع الطب والإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 وتنفيذًا للخطة التي رسمها المجمع في اجتماع شعبة التخطيط في شهر شعبان الماضي سعت الأمانة العامة وتسعى في نطاق التعاون مع الدول الأعضاء إلى الاتصال بوزارات الأوقاف والشؤون الدينية ووزارات العدل وذلك لعرض برامج الملتقيات العلمية التي ينوي المجمع عقدها في شكل أيام دراسية على الأولى. وهكذا وقع التفكير في الاستفادة مثلًا من الملتقيات والندوات الإسلامية التي تقوم بها الجزائر سنويًا وخاصة منها ملتقى الفكر الإسلامي. والتفاهم يجري الآن مع الوزارة بشأن تحديد موضوع الندوة، أما الاتصال بوزارات العدل فبقصد أن تتكون لجنة أو لجان فقهية تنظر فيما أعد من مشاريع تقنين الشريعة فتستكمل الجوانب الباقية التي لم تبحث أو تضبط بعد، وتراجع بقية المواد. وعلى هذا الأساس يصبح تطبيق الشريعة ميسورًا في عامة البلاد لا يثير قلقًا ولا يستوجب ترددًا بل يعم نفعه وتدرك على الوجه الدقيق أهميته ونجاعته. وقد بدأ تدوين أحكام الفقه من وقت انتباه العالم الإسلامي لهذا الأمر الجليل، وظهرت محاولات كثيرة مختلفة. ومن أجل ذلك يحرص المجمع اليوم على جمعها كما يطلب من وزارات العدل في الدول الأعضاء كافة أن تمده بما قد يتوفر لديها من مشاريع التقنينات. وقد وصلنا بالفعل من بعض الدول ما زودتنا به منها. وأملنا أن تستحث هذه الدورة بقية الدول الأعضاء لموافاتنا بالمطلوب في هذا الشأن حتى نتمكن من تحقيق الغاية المنشودة. وقد قام المجمع خلال هذه الفترة القصيرة أولًا بإعداد مكاتب لما قد ينشأ من فرق العمل به في الموسوعة، والمعجم، وللشروع متى أذنتم وسمحت الظروف بإصدار المجلة المجمعية الفقهية الإسلامية التي تكون بحول الله لسانكم الناطق بألوان نشاطكم والناشر لبحوثكم ودراساتكم وفتاويكم وأهم قراراتكم. وثانيًا بتجهيز قاعة للاجتماعات والمؤتمرات ومكتبة تكون نواة لما نقدر أن يكون مثلها للمجمع. ويرجع الفضل في إنجاز ما حققناه من خطوات في هذه السبيل إلى تيسير الله وفضله ثم إلى ثلة من المؤمنين المنقطعين إلى العمل الإسلامي منهم معالي وزير العدل في المملكة العربية السعودية الذي تكرم بتزويدنا بعدد من الكتب القيمة، وسماحة مدير رئاسة إدارات البحوث العليمة والإفتاء والدعوة والإرشاد في الرياض، ومعالي الدكتور عبد الله التركي مدير جامعة محمد ابن سعود الإسلامية، ومعالي الدكتور رضا محمد سعيد عبيد مدير جامعة الملك عبد العزيز، ومعالي الدكتور راشد الراجح مدير جامعة أم القرى، ومعالي الدكتور صالح بن عبيد مدير الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ومعالي الدكتور الأحمدي أبو النور وزير الأوقاف في جمهورية مصر العربية، ومعالي الدكتور عبد الكبير المدغري وزير الأوقاف في المغرب، ومعالي الشيخ عبد الله الأنصاري رئيس إدارة إحياء التراث الإسلامي بقطر، فكلهم تكرموا جزاهم الله خيرًا بتزويد مكتبتنا ووضع النواة الأولى لها. ولا يفوتني في هذا المقام أن أشكر كلًا من دولة قطر، وسلطنة عمان، وجمهورية إيران الإسلامية، ومجمع اللغة العربية بمصر ووزارة الثقافة بتونس، على ما زودوا به المجمع من كتب ومراجع هامة مختلفة، وأريد هنا أن أخص بالذكر والثناء معالي الدكتور أحمد محمد علي رئيس البنك الإسلامي للتنمية لما وجدناه لديه من تفهم ولما قدمه لنا من مساعدة، وذلك حيث خصص للمجمع مبلغ ستين ألف ريال سعودي اقتنينا حتى الآن بنصف المبلغ منها كتبًا هامة إسلامية ومتخصصة وجدناها متوفرة في السوق السعودية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 أصحاب المعالي والسماحة حضرات السادة إن ما سبق عرضه من أعمال لا يعدو أن يكون خطوات أولى على درب طويل يتطلب اجتياز مراحله جهدًا متواصلًا ودعمًا كبيرًا وقويًا على قدر نبل الغايات التي نهدف إلى تحقيقها جميعًا. وإنكم لتدركون حق الإدراك أن إنجاز المشاريع العلمية الأساسية للمجمع ونهوضه بالمهمات الموكلة إليه أمر جليل وبعيد، جليل لما فيه من خدمة للمجتمعات الإسلامية، وبعيد لعدم توفر ما يحتاج إليه من موارد وإمدادات، ولا يتسنى إدراك الغايات السامية من تأسيس هذا المجمع إلا بتوفر الإمكانات المادية. وهذا للأسف ما يقوم اليوم في طريقنا عقبة كأداء يتعين علينا أن نتعاون جميعًا على تخطيها. وإنكم لتلاحظون في التقرير المالي الذي بين أيديكم أن المجمع لم يتلق من الإسهامات الإلزامية في ميزانية عامه الأول إلا نسبة سبعة عشر بالمائة مما هو مقرر له من قبل الدول الأعضاء في مؤتمر وزراء الخارجية الخامس عشر بصنعاء، وهذه النسبة الضعيفة مما حصل عليه لا تفي حتى بالتكاليف الإدارية الأساسية. لذلك فإني أهيب بكم جميعًا أن تكثفوا السعي مشكورين لدى حكوماتكم الموقرة لدعم المجمع، فيستطيع بحق أن يضطلع برسالته الدقيقة ويسهم في إنارة سبيل المسلمين في حياتهم اليومية ويجمع كلمتهم على الخير والعمل الصالح. وإنه ليسعدني في ختام هذا العرض أن أعرب لكم جميعًا عن جزيل الشكر والثناء وعظيم الامتنان لما تجشمتموه من مشقة السفر ومتاعبه من أجل حضور هذه الدورة ولما أعددتموه من دراسات وبحوث وفتاوى تعرضونها على مجلس المجمع، وتتولون بحسن عنايتكم وسديد نظركم مناقشتها وتحريرها. وإني لأقول لحضراتكم: نزلتم سهلًا برحاب مجمعكم في هذه الأرض المباركة الطيبة، ولقيتم أهلًا يعرفون فضلكم ويقدرون منزلتكم. وإني باسم المجمع وباسمكم جميعًا يشرفني أن أشيد بالتسهيلات التي وفرتها للقائنا هذا، حكومة صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز حفظه الله، وأخص بالذكر منها ما قدمه لنا من رعاية صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة، وما وجدناه من مختلف الإعانات من صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية ومن إدارته، بالرياض وجدة. فإليهم جميعًا أرفع باسمكم آيات الشكر والعرفان والتقدير والامتنان. والله أسأل أن يوفق أعمالنا ويسدد خطانا لخدمة الإسلام والمسلمين وإعلاء كلمة الدين. وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وصلى الله على سيدنا ومولانا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 كلمة معالي الدكتور أحمد محمد علي رئيس البنك الإسلامي للتنمية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والسلام على نبي الهدى والرحمة الذي بعثه الله للناس كافة ليرشدهم إلى ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة. صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز، أمير منطقة مكة المكرمة أصحاب السماحة والفضيلة والسعادة سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، يسرني أن أحييكم جميعًا في هذا اللقاء المبارك، إن قيام هذا المجمع الذي يمثل الأمة الإسلامية كان أملًا يتطلع إليه مفكرو الأمة منذ أمد طويل، فالحمد لله الذي جعله حقيقة واقعة، فالمسلمون اليوم يتطلعون إلى هذا المجمع وينتظرون نتائج أعمالكم وأبحاثكم فهم شغوفون لمعرفة رأي الإسلام وحكم شريعتهم الغراء في ما جد من مشكلات هذا العصر، وإن آمالهم لجد عظيمة في أن يوحد رأي المسلمين وكلمة فقهائهم وعلمائهم تجاه المشكلات التي يزخر بها العصر الحاضر، سواء في الجوانب الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو غيرها، على نور وهدى من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مما يجعل المهمة جسيمة والمسؤولية جد خطيرة، وإنه ليسرني أن أشيد بالجهود العلمية المباركة التي تمثل باكورة جهود المجمع في النفاذ للوقوف على مشاكل العالم الإسلامي، وسعيه لإيجاد الحلول لها من الكتاب والسنة، مستعينين بتراث فقه شريعتنا الزاخر العظيم. إن الاستعانة بأهل الاختصاص في بعض ميادين المعرفة للاشتراك في إعداد البحوث وفي مناقشة بعض الموضوعات المعروضة على هذه الدورة يستحق كل التقدير للمجمع، فنحن في عصر انفجار المعرفة وتعدد المشكلات العلمية والاجتماعية، فحضور ذوي الاختصاص في فروع العلم المتعددة يكون خير عون لفقهائنا الأجلاء، إذ الاستعانة بأهل الذكر في كل مجال من مجالات المعرفة يعين على كشف دقائق الأمور ويجعل الرؤية أكثر وضوحًا تجاهها ليأتي الحكم الشرعي موافقًا لمرامي الشرع بعون الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 صاحب السمو، أصحاب السماحة والفضيلة والسعادة، إن اتفاقية تأسيس البنك الإسلامي للتنمية التي صادق عليها وأبرمتها المؤسسات الدستورية في ثلاث وأربعين دولة من الدول الإسلامية حددت هدف البنك بأنه دعم التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي لشعوب الدول الأعضاء والمجتمعات الإسلامية، مجتمعة ومنفردة، ووفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، ويمثل هذا تحديًا آخر بالنظر للظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يمر بها عالمنا الإسلامي التي لا تخفى عليكم، وسعيًا من البنك الإسلامي للتنمية للقيام بالمهام التي أوكلت إليه بشأن إجراء البحوث اللازمة للممارسة النشاطات الاقتصادية والمصرفية في الدول الإسلامية وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، أنشأ المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب منذ عام 1402هـ، ويسر البنك أن يتعاون مع المجمع الموقر عبر المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب في كل ما يتعلق بمجالات الاقتصاد الإسلامي والنشاط المالي والمصرفي الذي يتفق مع أحكام الشريعة الغراء، كما يرجو البنك أن يتفضل المجمع الموقر بدراسة أعمال البنك وعملياته المالية للتأكد من أنها تتفق وأحكام الشريعة الإسلامية وذلك وفقًا لما نصت عليه اتفاقية تأسيس البنك. إنني أسأل الله عز وجل لاجتماعكم المبارك هذا كل نجاح وتوفيق وأن يسدد الله على طريق الخير خطاكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 كلمة معالي الدكتور عبد الله عمر نصيف الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة أصحاب المعالي، أصحاب الفضيلة، أصحاب السعادة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فأحمد الله عز وجل أن هيأ لي هذه المناسبة السعيدة لألتقي بهذه الصفوة المختارة من علماء الأمة الإسلامية وفقهائها في افتتاح الدورة الثانية لمجلس المجمع الفقهي الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي. وأشكر لإخواني المسؤولين عنه معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي وسماحة الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام للمجمع دعوتي للمشاركة في هذا اللقاء المبارك كما أشكر لكم جميعًا جهودكم المباركة جزاكم الله خير الجزاء وسدد خطاكم. أيها الإخوة الكرام، إن الله سبحانه وتعالى الذي أكمل هذا الدين وجعله صالحًا لكل زمان ومكان أوجب على علماء المسلمين أن يتفقهوا في الدين في كل زمان ومكان فقال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} . فأنتم أيها العلماء الأفاضل تقومون بواجب إسلامي عظيم وخاصة في هذا العصر الذي يستدعى اجتماع العلماء والمفكرين والفقهاء لدراسة قضايا الأمة ومشكلاتها وإيجاد الحلول الإسلامية لها حتى تستعيد مكانتها اللائقة وتسترد مجدها التليد من منطلقات إسلامية ثابتة مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاجتهاد الجماعي ضروري في مثل هذه الظروف والأوضاع التي نعيشها اليوم، والمسلمون يتطلعون إلى مثل هذا اللقاء ومثله إلى اجتماعات المجمع الفقهي في رابطة العالم الإسلامي بأمل وشوق للاطلاع على القرارات والتوصيات التي تصدر عنهما وفيها الإجابة على الاستفسارات والتساؤلات التي يواجهها المسلمون في جميع شؤون الحياة حتى ترشدهم إلى الطريق القويم كما أرشدت المسلمين أقوال القرون الماضية، ولذا فإن نشأة المجمع نعمة من نعم الله الكبرى، فقد اهتم ملوك ورؤساء المسلمين بتكوينه وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك فهد بن عبد العزيز الذي أولى هذا العمل اهتمامه منذ كان فكرة وحتى خرج إلى حيز الوجود ولا أدل على ذلك من إنابته صاحب السمو الملكي الأمير ماجد في إلقاء كلمة جلالته. فنسأل الله أن يبارك في أعمال هذا المجمع ويعم بنفعه المسلمين في كل مكان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 أيها الإخوة: إن التعاون البناء الذي نشأ بين المجمعين المباركين مجمعكم هذا والمجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي هو مثال للتكامل والتنسيق الذي ينبغي وجودهما لتحقيق الصالح العام خدمة لهذا الشرع الحنيف وإخراج كنوزه المخبوءة.. لنفع الناس وهدايتهم إلى الحق والصواب.. ويشارك بعض الأعضاء في كلا المجمعين كما أن الأمين العام لهذا المجمع هو عضو فعال في ذلك المجمع كما أن تبادل الأبحاث والوثائق قائم على خير ما يرام. ختامًا أحمد الله سبحانه وتعالى مرة أخرى وأكرر شكري وتقدير للجميع وأسأل الله أن يأخذ بأيديكم للبحث عن الحق والأخذ به وأن يوفقكم لما يحبه ويرضاه وأن يمن على الأمة الإسلامية بالعودة إلى شريعته والحكم بها والاحتكام إليها واستعادة مجدها وعزتها وقوتها وسعادتها في الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 كلمة سعادة الدكتور عبد السلام داود العبادي نيابة عن أعضاء مجلس المجمع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلاة وسلامًا على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه ومن التزم بهديه وسار على دربه إلى يوم الدين. صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز المعظم أيها الحفل الكريم ها هي وفود من علماء المسلمين قد أقبلت من كل أنحاء العالم إلى الديار المقدسة مهبط الوحي وموطن الدعوة والإيمان الأول، ومدرج محمد صلى الله عليه وسلم وموئل تطبيق رسالته.. ها هي وفودهم قد حطت رحالها إلى جوار البيت العتيق لتعمل الفكر في كتاب الله جل وعلا، وسنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام.. فهمًا ونظرًا، واستنباطًا منهما للأحكام الناظمة لواقع الأمة الحياتي، واستمدادًا منهما للحلول الناجعة لمشكلاتها المستعصية. في أيام تتعرض فيها أمتنا لما يهدد وجودها ويمس ذاتيتها ويعرض كيانها لأشد أنواع الأخطار والتحديات.. مما هو معلوم للجميع، وفي فترة فقدت فيها البشرية توازنها واتزانها.. فتاهت وتخبطت، واضطربت المفاهيم، واختلطت التصورات، وضاعت الحقوق، وهانت حياة الإنسان وكرامته، وتفككت الأسرة وعلاقات المجتمع وانتشرت الجريمة، وعمت مظاهر الانحلال والانحراف.. نعم أقبلت هذه الوفود إلى مملكتكم العامرة لتشارككم اهتمامكم بقضايا الأمة الإسلامية وتؤكد معكم على كل ما من شأنه إعلاء كلمة المسلمين وتحقيق مصالحهم وتوحيد جمعهم ودحر أعدائهم واستنقاذ مقدساتهم وأراضيهم تحرير مسجدهم الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. صاحب السمو الملكي إن مجمع الفقه الإسلامي بما حمل من مسؤولية، وتصدى له من مهمات يدل دلالة أكيدة على أن هذه الأمة ستظل أمينة على شرع الله سبحانه، حريصة على تطبيقه والسير وفق هداه. كيف لا، وهي التي تحمل شريعة الهداية والسعادة، شريعة إنقاذ البشرية من كل معاني الضلال والشقاء.. {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} ، فكانت بذلك خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله العلي العظيم. ثم إن مجمع الفقه الإسلامي بتمثيله الشامل لشعوب الأمة الإسلامية يجسد وحدة هذه الأمة وضرورات التقاء شعوبها على دين الله وشريعته سبحانه، تلك الوحدة التي كانت عنوان قوتها، ورمز عظمتها وأساس بقائها وقدرتها على مواجهة التحديات والوقوف في وجه الأعداء. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 ومجمع الفقه الإسلامي مؤسسة اجتهاد جماعي تواجه القضايا المعاصرة والمشكلات الحادثة بالنظر العميق والبحث الرصين وفق منهجية الحوار الإسلامي التي تقدم قوة الدليل ومردود الخير والمصلحة على جماعة المسلمين وعامتهم {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} . والفقه الإسلامي في مسيرته الخيرة عبر القرون كان النتاج الدائم والعطاء المستمر والثمرة اليانعة لتحكيم شريعة الله سبحانه وتعالى في حياة الناس وواقعهم.. وبقدر ما يدرك الفقهاء روح الشريعة وحكمها وأسرارها ويعون أحكامها وأدلتها يبينون كل ذلك للناس بقدر ما يظهر ثراء هذه الشريعة وقدرته الفذة على تنظيم الواقع الإنساني ووضع الحلول لما يواجه من مشكلات وقضايا في كل الأماكن العصور تطبيقًا لقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} . ومن هنا تعظم رسالة هذا المجمع وتبرز واجباته في خدمة الشريعة الإسلامية. وإن في احتضان المملكة العربية السعودية لهذه المؤسسة الفقهية الإسلامية الدولية على ثرى الأرض المقدسة وإلى جوار البيت العتيق تأكيدًا لكل هذه المعاني ومكرمة أخرى تضاف إلى عقد مكارم هذا البلد الأمين في خدمة الإسلام والمسلمين والمحافظة على أحكام الدين. وإنني باسم هذه النخبة المتميزة من علماء المسلمين ومفكريهم لأعبر عن الشكر الجزيل والامتنان العظيم لما يلقاه هذا المجمع من رعاية واهتمام من حكومة المملكة العربية السعودية بتوجيه مباشر وتأكيد مستمر من خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك فهد المعظم.. فلجلالته باسمهم جميعًا أعظم آيات الشكر وكل معاني التقدير.. ولصاحب السمو الملكي الأمير المعظم الذي تفضل بافتتاح الدورة الثانية لمجلس المجمع الفقهي الإسلامي شكر أعضاء المؤتمر فردًا فردًا وتقديرهم البالغ واحترامهم العميق. وإنني لأدعو الله سبحانه وتعالى أن يسدد على الحق خطاهم وأن يأخذ بأيديهم وسائر حكام المسلمين لإعلاء كلمة هذه الأمة ونصرة دينها وتحقيق أهدافها، وأن يوفق مجمعنا لأداء واجبه خير أداء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 القسم الثاني بحوث المؤتمر وفتاواه زكاة الديون فضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير فضيلة الشيخ عبد العزيز محمد عيسى وفضيلة الدكتور عبد الحليم محمود الجندي بسم الله الرحمن الرحيم زكاة الديون لفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير اختلف الفقهاء اختلافًا كثيرًا في زكاة الدين: هل يزكى أم لا يزكى؟ وإذا كان يزكى فمن الذي يزكيه، الدائن أم المدين؟ وكيف يزكى؟ وسبب اختلافهم عدم ورود نص في القرآن أو السنة (1) في زكاة الدين فقال كل فقيه فيه باجتهاده، وسأذكر فيما يلي ما وقفت عليه من آراء فقهاء الصحابة والتابعين وآراء المذاهب الأربعة، ثم تعقيب أبي عبيد القاسم بن سلام وابن حزم على هذه الآراء وما أراه راجحًا منها. آراء فقهاء الصحابة التابعين: روى عن فقهاء الصحابة والتابعين أقوال مختلفة عن زكاة الدين أحصيت منها تسعة أقوال. القول الأول: لا زكاة في الدين: قال بعض الفقهاء: لا زكاة في الدين مطلقًا، لا على الدائن ولا على المدين، وإن كان على ثقة مليء. وهو قول عكرمة (2) وعطاء (3) وعائشة (4) وإبراهيم، والحكم بن عتيبة (5) وابن عمر. (6) وروى أبو عبيد وابن حزم عن عكرمة قوله: "ليس في الدين زكاة" (7) وروى أبو عبيد وابن حزم عن عطاء أنه قال: "لا يزكى الذي عليه الدين، ولا يزكيه صاحبه حتى يقبضه (8) وروى أبو عبيد عن عطاء أنه قال لمن سأله: "لا تزكه حتى تقبضه" وقال: "أما نحن أهل مكة فنرى الدين ضمارًا" قال ابن كثير: يعني أنه لا زكاة فيه". (9) وروى ابن حزم عن عطاء قوله: "ليس على صاحب الدين الذي هو له، ولا على الذي هو عليه زكاة" وقوله: "ليس في الدين زكاة" وقوله لمن سأله: "السلف يسلفه الرجل ليس على سيد المال، ولا على الذي استسلفه زكاة" (10) وروى ابن حزم عن عائشة قولها: "ليس في الدين زكاة" (11) وروى عن الحكم بن عتيبة قوله: خالفني إبراهيم في الدين، كنت أقول: لا يزكى، ثم رجع إلى قولي. (12) وقال ابن قدامة: روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "ليس في الدين زكاة. (13) ويلحظ في أقوال عطاء أنه ورد في بعضها "لا يزكيه صاحبه حتى يقبضه" وينبغي حملها على أنه يزكيه بعد قبضه لما يستقبل، لا لما مضى، لكي تتفق مع الروايات الأخرى.   (1) جاء في البحر الزخار 2/153 "لا يزكى دين لما مضى مطلقًا إذ لا يمكن، ولقوله صلى الله عليه وسلم ((ليس على من أقرض مالًا زكاة)) وقال في الحاشية: حكاه في أصول الأحكام. ولم أقف على هذا الحديث في مرجع آخر. (2) الأموال لأبي عبيد 430 و 433 والمحلى لابن حزم 6/133 والمغني لابن قدامه 3/46 (3) الأموال 433 والمحلي 6/133 و 134 (4) المحلى 6/133 والمغني 3/46 (5) 6/ المحلى 6م133 (6) المغني 3/46 (7) الأموال 433 والمحلى: 6/133 (8) الأموال 433 والمحلى: 6/133، غير أن في المحلى 134: "ولا يزكيه الذي" هو له بدل "ولا يزكيه صاحبه" (9) الأموال 433 (10) المحلى 6/133 (11) المحلى 6/133، وجاء مثله في المغني 3/46 (12) المحلى 6/133، وجاء مثله في المغني 3/46 (13) المغني 3/46 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 واستدل لهذا الرأي: 1- بأنه ناقص الملك. (1) 2- بأنه غير تام فلم تجب زكاته كعروض القنية. (2) القول الثاني: يزكيه المدين: ذكر أبو عبيد في زكاة الدين خمسة أوجه من الفتيا منها: أن تجب زكاته على الذي عليه الدين، وتسقط عن ربه المالك له. ونسبه إلى إبراهيم وعطاء، وروى عنهما قولهما: "في الدين الذي يمطله صاحبه ويحسبه (هكذا) : "زكاته على الذي يأكل مهنأة". (3) وذكر ابن حزم هذا القول أيضًا منسوبًا إلى إبراهيم وعطاء. وروى عن إبراهيم النخعي في الدين يكون على الرجل فيمطله، قال: زكاته على الذي يأكل مهنأة". وروى عن عطاء أو غيره نحوه. (4) ونسب ابن حزم هذا القول إلى عمر والحسن بن حي أيضًا. وروى عن عمر قوله: "إذا حلت –يعني الزكاة- فاحسب دينك وما عندك، واجمع ذلك جميعًا ثم زكه". وروى عنه أيضًا أن رجلًا قال له: يجيء إبان صدقتي فأبادر الصدقة فأنفق على أهلي وأقضي ديني، قال عمر: "لا تبادر بها. واحسب دينك، وما عليك، وزك ذلك أجمع". (5) ولم يرو شيئًا عن الحسن بن حي. ونسبة هذا القول إلى إبراهيم وعطاء غير دقيقة؟ لأن ما روى عنهما يدل على أنهما يريان أن المدين الذي يزكي الدين هو المدين المماطل، وليس كل مدين. ونسبته إلى عمر محل نظر: لأن الرواية الأولى التي نقلتها عن ابن حزم أوردها أبو عبيد مستدلًا بها على أن عمر يرى أن زكاة الدين على الدائن، وأورد معها رواية أخرى عن عمر أنه كان إذا خرج العطاء أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد. (6)   (1) بداية المجتهد 1/245 (2) المغني 3/46 (3) الأموال 430 - 432 (4) المحلى 6/132، ومهناه –بفتح الميم والنون وبينهما الهاء ساكنة هو ما يأتي بلا مشقة، وأكل هنيئًا. (5) المحلى 6/131 (6) الأموال 432 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 وكلمة "دينك" تحتم المعنيين: الدين الذي له، والدين الذي عليه، والخبر الثاني الذي رواه أبو عبيد عن عمر يؤيد المعنى الأول، والخبر الثاني الذي رواه ابن حزم عن عمر يؤيد المعنى الثاني، ولكن يترتب عليه أن عمر يرى أن الدين يزكيه الدائن والمدين معًا، وهذا غير مقبول. أما رأي الحسن بن حي فقد علق عليه ابن حزم بقوله: "أما قول الحسن بن حي فظاهر الخطأ، لأنه جعل زكاة الدين على الذي هو له، (1) وعلى الذي هو عليه، فأوجب زكاتين في مال واحد في عام واحد، فحصل في العين نصف العشر، وفي خمس من الإبل شاتان، وكذلك ما زاد". (2) ولم يذكر من أورد هذا الرأي دليلًا عليه. والذي يترجح عندي أن هذا الرأي لا تصح نسبته إلى أحد من الصحابة أو التابعين. القول الثالث: يزكيه المدين المماطل. هذا الرأي يستفاد من أقوال إبراهيم النخعي، وعطاء، وإن كان من روى أقوالهما، وهما أبو عبيد وابن حزم جعلاهما مع من يرى وجوب زكاة الدين على المدين من غير تقييد بكونه مماطلًا، وقد تقدم ذكر أقوالهما. ويلحظ أن الروايات عن عطاء وإبراهيم فيها شيء من الاختلاف. القول الرابع: يزكيه الدائن من ماله الحاضر: روى هذا القول عن عمرو وجابر بن عبد الله (3) وابن عمر والحسن، ومجاهد. (4) فقد روي أبو عبيد عن عمر أنه كان إذا خرج العطاء أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد. (5) وروى عن جابر بن عبد الله أنه قيل له في دين لرجل على آخر: أيعطى زكاته؟ قال: نعم. (6) هذان الخبران يدلان على أن الدائن يزكي ما له من دين من ماله الحاضر، ولكن أبو عبيد ذكرهما مع الرأي القائل بأن الدائن يعجل زكاة الدين مع المال الحاضر إذا كان على الأملياء. (7) وليس في الخبرين تقييد.   (1) ذكر ابن حزم الحسن بن حي مع من يوجبون زكاة الدين على الدائن. المحلى 6/136، 137. (2) المحلى 6/138 (3) الأموال 430، 431 (4) المحلى 6/132 (5) الأموال 430 (6) الأموال 431 (7) الأموال 430 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 وروى ابن حزم عن ابن عمر أنه ولى مال يتيم فكان يستلف منه، يرى أن ذلك أحرز له، ويؤدي زكاته من مال اليتيم. (1) وروى عن الحسن قوله: إذا كان للرجل على الرجل الدين فالزكاة على الذي هو له) (2) وروى عن مجاهد قوله: "إذا كان عليك دين فلا زكاة عليك، إنما زكاته على الذي هو له" (3) القول الخامس: يزكيه الدائن إذا كان على مليء من ماله الحاضر. هذا قول عثمان، وابن عمر، وجابر بن زيد، والحسن وميمون بن مهران (4) وإبراهيم النخعي (5) ومجاهد (6) وسفيان (7) ووكيع (8) وطاوس والزهري وقتادة وحماد بن أبي سليمان وإسحاق. (9) وروى أبو عبيد عن عثمان أنه كان يقول: إن الصدقة تجب في الدين الذي لو شئت تقاضيته من صاحبه، والذي هو على ملئ، تدعه حياء أو مصانعة، ففيه الصدقة. (10) وروى عن ابن عمر أنه قال: كل دين لك ترجو أخذه فإن عليك زكاته كلما حال الحول. (11) وروى عن جابر بن زيد أنه قال: أي دين ترجوه فإنه تؤدى زكاته وروى عن مجاهد أنه قال: زك ما ترى أنه يخرج. وروى عن الحسن وإبراهيم أنهما كانا يقولان: يزكى من الدين ما كان في ملاءة. وروى عن ميمون بن مهران قوله: إذا حلت عليك الزكاة فانظر إلى كل مال لك، وكل دين في ملاءة فاحسبه، ثم ألق منه ما عليك من الدين، ثم زك ما بقي.   (1) المحلى 6/132 (2) الأموال 430 – 431 والمغني 3/46 (3) الأموال 430 – 431 والمغني 3/46، والمحلى 6/133 (4) الأموال 431 (5) المحلى 6/133 والمغنى 3/46 (6) المحلى 6/133 (7) المغني 3/46 (8) الأموال 430 و 431 (9) المغني 3/46 (10) الأموال 430 و 431 (11) الأموال 430 و 431 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 وروى ابن حزم عن إبراهيم النخعي أنه قال: زك ما في يديك من مالك، وما لك على المليء، ولا تزك ما للناس عليك. (1) واستدل ابن قدامة لهذا الرأي بأن الدائن قادر على أخذه والتصرف فيه فلزمه إخراج زكاته كالوديعة. (2) ويلحظ أن ابن قدامة يعبر بأن الدين على معترف به، باذل له. القول السادس: يزكيه الدائن إذا كان على معترف به، باذل له إذا قبضه لما مضى من السنين. نسب ابن قدامة هذا الرأي إلى علي، والثوري، وابن ثور. ولم يرو شيئًا عمن نسبه إليهم، وهو مذهب الحنابلة. (3) القول السابع: يزكيه الدائن إذا كان على معترف به باذل له إذا قبضه لسنة واحدة. نسب ابن قدامة هذا الرأي إلى سعيد بن المسيب، وعطاء الخراساني، وأبي الزناد.   (1) المحلى 6/133 (2) المغني 3/46 (3) المغني 3/46 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 ولم يرو عمن نسبه إليهم شيئًا. (1) القول الثامن: يزكيه الدائن إذا كان على غير ملئ عند قبضه لما مضى من السنين. وهو قول علي، وابن عباس، (2) والثوري. (3) روى أبو عبيد عن علي في الدين الظنون، قال: إن كان صادقًا فليزكه إذا قبضه لما مضى. (4) وروى عن ابن عباس قوله في الدين: إذا لم ترج أخذه فلا تزكه حتى تأخذه، فإذا أخذته فزك عنه ما عليه. (5) يفهم من هذا مع ما تقدم في القول السادس أن عليًا والثوري لا يفرقان بين الدين الذي على ملئ، أو على غير ملئ، ففي الحالين يزكيه الدائن عند قبضه لما مضى من السنين. القول التاسع: يزكيه الدائن إذا كان على غير ملئ إذا قبضه لسنة واحدة. وهو قول الحسن وعمر بن عبد العزيز (6) وميمون بن مهران (7) والليث، فليؤد زكاته سنة واحدة. وروى عن ميمون بن مهران قال: كتب إلى عمر بن عبد العزيز في مال رده على رجل فأمرني أن آخذ منه زكاة ما مضى من السنين. ثم أردفني كتابًا: إنه كان مالًا ضمارًا فخذ منه زكاة عامة. (8)   (1) الأموال 430 والمغني 3/46 (2) المغني 3/46 (3) الأموال 431 و 432 والظنون هو الذي لا يدري صاحبه أيصل إليه أم لا. (4) الأموال 432 والمغني 3/47 (5) الأموال 432 (6) المغني 3/47 (7) الأموال 432 (8) الأموال 432 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 مذهب الحنفية: أقسام الدين: قسم أبو حنيفة الدين إلى ثلاثة أقسام: قوي، ووسط، وضعيف. (1) فالدين القوي هو الذي ملكه الدائن بدلًا عما هو مال الزكاة كالدراهم والدنانير وأموال التجارة، كما يقول السمرقندي، أو هو بدل القرض ومال التجارة كما يقول الكمال بن الهمام. (2) والدين الوسط هو الذي وجب بدل مال لو بقي عند الدائن حولًا لم تجب فيه الزكاة، كثياب البذلة كما يقول السمرقندي، أو هو بدل ما ليس للتجارة كثمن ثياب البذلة، ودار السكنى، كما يقول الكمال. (3) والدين الضعيف هو ما وجب وملك لا بدلًا عن شيء، كالميراث، أو وجب بدلًا عما ليس بمال كالدية على العاقلة، والمهر، وبدل الخلع، والصلح عن دم العمد. (4) وزاد الكمال: الوصية، وبدل الكتابة والسعاية. (5) وقسم الصاحبان الديون قسمين: ديون مطلقة وديون ناقصة، فالناقصة هي بدل الكتابة، والدية على العاقلة، وما سواهما فديون مطلقة. (6) فالدين المطلق عند الصاحبين يقابل الدين القوي والوسط وأكثر أفراد الدين الضعيف.   (1) تحفة الفقهاء 1/456 وفتح القدير 1/491 (2) تحفة الفقهاء 1/456 وفتح القدير 1/491 (3) تحفة الفقهاء 1/456 وفتح القدير 1/491 (4) تحفة الفقهاء 1/457ن وذكر الكمال جميع الأمثلة ما عدا الميراث فقد قال عنه: ولو ورث دينا على رجل فهو كالدين الوسط ويروى عنه أن كالضعيف 1/491 (5) فتح القدير 1/491 (6) فتح القدير 1/491 تحفة الفقهاء 1/458 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 حكم الدين الضعيف، والدين الناقص: الدين الضعيف لا تجب فيه الزكاة ما لم يقبض الدائن منه نصابًا، ويحول عليه الحول بعد القبض. (1) هذا عند أبي حنيفة وعند الصاحبين لا تجب الزكاة في الدين الناقص، وهو بدل الكتابة والدية على العاقلة فقط، ما لم يقبض النصاب ويحول عليه الحول. (2) حكم الدين الوسط: في الدين الوسط روايتان عن أبي حنيفة: رواية أنه كالدين الضعيف، ورواية أنه تجب فيه الزكاة، ولكن لا يخاطب بالأداء ما لم يقبض مائتي درهم، فإذا قبضها يزكي لما قبض. (3) حكم الدين القوي: الدين القوي تجب فيه الزكاة إذا كان نصابًا وتم الحول، لكن لا يخاطب بالأداء ما لم يقبض أربعين درهمًا، فيؤدي درهمًا، وكذلك يؤدي من كل أربعين عند القبض درهمًا، وإذا قبض أقل من أربعين لا يزكي. عند أبي حنيفة، وعند الصاحبين تجب الزكاة في الكسور فيزكي الدائن ما قبضه من الدين قل أو كثر. قال السمرقندي: والصحيح قول أبي حنيفة لأن في اعتبار الكسور حرجًا بالناس، والحرج موضوع. (4) الدين مقر به والمدين موسر: وجوب الزكاة في الأحوال السابقة مقيد بما إذا كان الدين مقرًا به والمدين موسرًا، لأن الوصول إلى الدين ممكن في هذه الحالة. (5) أما إذا كان الدين مقرًا به، والمدين معسرًا، أو كان الدين مجحودًا به، ففيه تفصيل.   (1) تحفة الفقهاء 1/458 (2) تحفة الفقهاء 1/458 (3) تحفة الفقهاء 1/458 (4) تحفة الفقهاء 1/457، 417 وانظر أيضًا فتح القدير 1/520 (5) تحفة الفقهاء 1/460 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 الدين مقر به، والمدين معسر: إذا كان الدين مقرًا به، ولكن المدين معسر، ومضى عليه أحوال ثم أيسر فقبض الدائن دينه فإنه يزكي لما مضى عند أئمة الحنفية الثلاثة، وقال الحسن بن زياد: إنه لا زكاة فيه. وحجة الحنفية أنه دين مؤجل شرعًا فصار كما لو كان مؤجلًا بتأجيل صاحبه، والتأجيل لا يمنع وجوب الزكاة؛ لأن الوصول إلى الدين ممكن بتحصيله (1) هذا إذا كان معسرًا لم يقبض عليه بالإفلاس. المدين المفلس: المدين الذي قضى عليه بإفلاس إذا أيسر وقبض الدائن منه دينه يزكيه لما مضى عند أبي حنيفة، كما هو الحال في المدين المعسر، لأن الإفلاس لا يتحقق في حال الحياة عند أبي حنيفة، والحكم به باطل عنده. وقال محمد: لا تجب على الدائن زكاة، لأن القضاء بالإفلاس صحيح عنده، ويصير الدين تاويا به، وقال أبو حنيفة: لا يتوى الدين لأن المال غاد ورائح ويبقى الدين في ذمة المفلس مثله في المليء. وأما أبو يوسف فإنه مع موافقته لمحمد في صحة الإفلاس بتفليس القاضي، فإنه وافق أبا حنيفة في وجوب الزكاة، رعاية لجانب الفقراء، كما يقول المرغيناتي، ولم يرتض الكمال تعليل المرغيناتي، وقال: الأولى ما قيل إن التفليس وإن تحقق لكن محل الدين المذمة وهي والمطالب باقيان حتى كان لصاحب الدين حق الملازمة، فبقاء الملازمة دليل بقاء الدين على حاله، فإذا قبضه زكاه لما مضى. (2)   (1) تحفة الفقهاء 1/162 وفتح القدير 1/490 (2) تحفة الفقهاء 1/462 وفتح القدير 1/492 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 الدين المجحود: الدين إذا كان مجحودًا به ومضى عليه أحوال، ثم أقر به المدين وقبضه الدائن فلا تجب زكاته للسنين الماضية عند الحنفية، وقال زفر: تجب. (1) وهذا هو المال الضمار، والدليل على عدم وجوب زكاته قول علي رضي الله عنه: لا زكاة في المال الضمار؛ ولأن السبب هو المال النامي، ولا نماء إلا بالقدرة على التصرف، ولا قدرة عليه. (2) واختلف الفقهاء المشايخ في الدين المجحود إذا كان للدائن بينة، فقال بعضهم لا تجب فيه الزكاة كالمال الضمار، لأن البينة قد تقبل وقد لا تقبل، وقال بعضهم: تجب فيه الزكاة؛ لإمكان الوصول إليه. (3) وأما إذا كان القاضي عالمًا بالدين فإنه تجب الزكاة؛ لأن القاضي يقضي بعلمه في الأموال، فصاحبه يكون مقصرًا في الاسترداد، فلا يعذر. (4) الدائن الذي يملك نصابًا غير الدين: الأحكام السابقة خاصة بالدائن الذي لا يملك شيئًا غير الدين، أو يملك أقل من النصاب، أما الدائن إذا كان يملك نصابًا غير الدين، وقبض شيئًا من الدين فإنه يضمه إلى ما عنده إذا كان من جنسه ويخرج زكاة الجميع، لأن المقبوض من الدين في هذه الحالة يكون مالًا مستفادًا فيضم إلى الأصل. (5) مذهب المالكية: يقول ابن رشد: قال مالك: إذا قبض الدائن الدين يزكيه لحول واحد، وإن أقام عند المدين سنين إذا كان أصله عن عوض، وأما إذا كان عن غير عوض، مثل الميراث، فإنه يستقبل به الحول، وفي المذهب تفصيل في ذلك. (6) وفيما يلي تفصيل المذهب مستخلصًا من الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: الدين كما يستفاد من عبارة ابن رشد قد يكون أصله عن عوض، وقد يكون أصله عن غير عوض، الدين الذي أصله عن عوض هو دين القرض، ودين البيع، مثل أن يكون عنده مال فيسلفه لرجل، أو يشتري به سلعة ثم يبيعها بدين، والدين الذي أصله عن غير عوض هو ما كان عن ميراث، بيد الوصي على تفرقة التركة أو هبة بيد واهبها، أو صدقة بيد متصدقها، أو أرش جناية بيد جانيه، أو مهر بيد الزوج، أو خلع بيد دافعه، أو صلح عن دم خطأ أو عمد بيد المصالح، ولكل من هذين النوعين من الدين حكمه. حكم الدين الذي أصله عن غير عوض: هذا الدين لا زكاة فيه على الدائن حتى يقبضه ويحول عليه حول من قبضه، ولو أخر الدائن قبضه فرارًا من الزكاة. (7)   (1) تحفة الفقهاء 1/460 والهداية مع فتح القدير 1/489 (2) الهداية مع فتح القدير 1/490 (3) تحفة الفقهاء 1/461 والهداية مع فتح القدير 1/491 (4) تحفة الفقهاء 1/461 (5) تحفة الفقهاء 1/432 – 434 وفتح القدير 1/510، 511 (6) بداية المجتهد 1/247 (7) الدسوقي على الشرح الكبير 1/466 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 حكم الدين الذي أصله عن عوض: هذا الدين قد يكون أصله قرضًا وقد يكون أصله ثمن عرض تجارة، أو ثمن عرض قنية، وعرض التجارة قد يكون بائعه محتكرًا (1) وقد يكون مديرًا (2) ولكل حكمه. الدين الذي أصله قرض: هذا الدين يزكى الدائن المقبوض منه لسنة فقط، ولو أقام عند المدين سنين بشرط أن يكون المقبوض نصابًا بنفسه، أو مع مال عند الدائن جمعهما حول، وكأن يقبض عشرين دينارًا جملة، أو عشرة ثم عشرة، فيزكيها عند قبض العشرة الثانية، أو يكون عنده عشرة دنانير حال عليها الحول، واقتضى من دينه الذي حال عليه الحول عشرة دنانير، فإنه يزكيهما. وتبدأ السنة من يوم زكى أصل الدين إن كان قد زكاه، ومن يوم ملك أصله إن لم تجب فيه، بأن لم يقم عنده حولًا. ومحل زكاة هذا الدين لعام واحد، إذا لم يؤخر الدائن قبضه فرارًا من الزكاة، وإلا زكاه لكل عام مضى. الدين الذي أصله ثمن عرض قنية: إذا كان أصل الدين عرضًا من عروض القنية لم يقصد به التجارة باعه صاحبه بدين، فلا زكاة في الدين إلا بعد حول من قبضه، مثل الدين الذي أصله عن غير عوض. (3) الدين الذي أصله ثمن عرض تجارة لمحتكر: هذا الدين حكمه كحكم الدين الذي أصله قرض، أي لا يزكيه الدائن إلا بعد قبضه لعام واحد على النحو الذي ذكرناه. ولا ينظر في هذه الحالة إلى سبب ملك المحتكر لعروض التجارة، فلا فرق بين ملكها بالشراء، أو الهبة، أو الميراث ما دام قصد بها التجارة.   (1) المحتكر هو الذي يرصد لعرض التجارة السوق، أي ينتظر ارتفاع الأثمان، الشرح الكبير مع الدسوقي 1/474 (2) المدير هو الذي يبيع بالسعر الواقع ولو كان فيه خسر، ويخلفه بغيره. الدسوقي 1/474 (3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/466 - 468 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 وإذا قبض المحتكر عرضًا عوضًا عن دينه فإنه لا تجب فيه الزكاة حتى يبيعه، فإذا باعه زكى ثمنه لحول من يوم قبض العرض، لا من حول الأصل. (1) الدين الذي أصله ثمن عرض تجارة لمدير: هذا الدين يزكى زكاة عروض التجارة، فيزكى عدده إذا كان نقدًا حالًا ومرجوًا، فإن لم يكن نقدًا حالًا، بأن كان عرضًا، أو نقدًا مؤجلًا مرجوين، قوم بما يباع به على المفلس، العرض بنقد، والنقد بعرض ثم بنقد، وتزكى القيمة. وأما إذا كان الدين غير مرجو، بأن كان على معدم أو ظالم، فلا يقومه صاحبه ليزكيه حتى يقبضه، فإن قبضه زكاه لعام واحد. (2) مذهب الشافعية: الدين الحال على مقر مليء: الدين إذا كان حالًا، وكان المدين مقرًا به ومليئًا تجب زكاته على الدائن في الحال، ولو لم يقبضه لأنه مقدور على قبضه، فهو كالوديعة. (3) وفي القديم لا زكاة في الدين لعدم الملك فيه حقيقة. (4) الدين الحال على ملئ جاحد: الدين إذا كان حالًا، وكان المدين مليئًا، ولكنه جاحد للدين، فإن كان للدائن بينة وجبت عليه زكاته في الحال، وإن لم يقبضه لقدرته على قبضه فأشبه المودع. وفي حكم البينة علم القاضي بالدين في الحالة التي يقضي فيها بعلمه. (5) وإن لم تكن للدائن بينة ففيه قولان: قال في القديم: لا تجب فيه الزكاة، لأنه خرج عن يده وتصرفه فكان ملكه فيه ناقصًا، وقال في الجديد: تجب عليه، لأنه مال له، يملك المطالبة به، ويجبر على التسليم إليه، فوجبت فيه الزكاة كالمال الذي في يد وكيله، وقال في المنهاج: إنه الأظهر.   (1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1/467 (2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1/474 (3) المهذب 1/158 ونهاية المحتاج 3/130 (4) نهاية المحتاج 3/130 (5) نهاية المحتاج 3/130 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 ولا يجب دفع الزكاة حتى يعود الدين المجحود لقدم التمكن قبله، فإذا عاد زكاه للأحوال الماضية، ولو تلف قبل التمكن سقطت الزكاة. (1) الدين الحال على مقر معسر: الدين إذا كان حالًا والمدين مقر ولكنه معسر، فإن حكمه كحكم الدين الحال على المدين الجاحد الذي لا بينة عليه، لا تلزم الدائن زكاته قبل أن يرجع الدين إليه، فإن رجع إليه ففيه قولان، قول بعدم وجوب الزكاة، وقول بالوجوب عن الأعوام الماضية. (2) وذكر الرملي أن المطل والغيبة حكمها حكم الإعسار. (3) الدين المؤجل: الدين إذا كان مؤجلًا على مليء حكمه كحكم الدين على المدين المعسر على الأصح. (4) وقال النووي: إنه المذهب. (5) وقيل: دفع الزكاة عند حلول الأجل ولو لم يقبض الدين. (6) مذهب الحنابلة: الدين على المليء: إذا كان الدين على مليء كما يعبر الخرقي، وابن قدامة في المقنع، أو على معترف به باذل له، كما يعبر ابن قدامة في المغني، فعلى صاحبه زكاته، إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يقبضه، فإذا قبضه زكاه لما مضى من السنين. (7) واستدل له ابن قدامة في المغني بأنه دين ثابت في الذمة فلم يلزمه الإخراج قبل قبضه، كما لو كان على معسر، ولأن الزكاة تجب على طريق المواساة، وليس من المواساة أن يخرج زكاة مال لا ينتفع به، وفرق بينه وبين الوديعة، بأن الوديعة بمنزلة ما في يده، لأن المستودع نائب عنه في حفظه ويده كيده، وإنما يزكيه لما مضى، لأنه مملوك له يقدر على الانتفاع به، فلزمته كسائر أمواله. (8) وذكر محشي المقنع رواية عن الإمام أحمد أنه يجب إخراج الزكاة في الحال قبل قبض الدين. (9)   (1) المهذب 1/142، 158، ونهاية المحتاج 3/128، 130 (2) المهذب 1/142، 158، ونهاية المحتاج 3/128، 130 (3) نهاية المحتاج 3/130 (4) المهذب 1/158 (5) نهاية المحتاج 3/130 (6) نهاية المحتاج 3/130 (7) المغني 3/46 المقنع 1/292 (8) المغني 3/46، 47 (9) المقنع 1/292 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 الدين على غير مليء: إذا كان الدين على غير ملئ أو كان مجحودًا كما يعبر ابن قدامة في المغني ففيه روايتان: إحداهما: يزكيه الدائن إذا قبضه لما مضى، أي لا فرق بينه وبين الدين على المليء المعترف به الباذل له، وهو المذهب، كما يقول محشي المقنع. واستدل له ابن قدامة في المغني بما رواه أبو عبيد عن علي وابن عباس في الدين الظنون، قال: إن كان صادقًا فليزكه إذا قبضه لما مضى، ولأنه مملوك يجوز التصرف فيه فوجبت زكاته لما مضى كالدين على المليء. والرواية الثانية: لا تجب فيه الزكاة، واستدل له في المغني بأنه غير مقدور على الانتفاع به، واستدل له محشي المقنع بأنه غير تام، وهو خارج عن يده وتصرفه. (1) الدين المؤجل: يذكر ابن قدامة في المقنع الدين المؤجل مع الدين على غير الملئ والدين المجحود، ويعطيه حكمهما، ويقول في المغني: "وظاهر كلام أحمد أنه لا فرق بين الحال والمؤجل لأن البراءة تصح من المؤجل، ولولا أنه مملوك لم تصح البراءة منه لكن يكون في حكم الدين على المعسر، لأنه يمكن قبضه في الحال". (2)   (1) المغني 1/46، 47 والمقنع 1/292 (2) المغني 1/46، 47 والمقنع 1/292 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 تعقيب أبي عبيد القاسم بن سلام: أورد أبو عبيد آراء عدد من فقهاء الصحابة والتابعين ذكرتها كلها في هذا البحث ثم عقب عليها بقوله: "وأما الذي أختاره من هذا فالأخذ بالأحاديث العالية التي ذكرناها عن عمر وعثمان، وجابر، وابن عمر، ثم قول التابعين بعد ذلك: الحسن، وإبراهيم، وجابر بن زيد ومجاهد، وميمون بن مهران أنه يزكيه في كل عام مع ماله الحاضر إذا كان الدين على الأملياء المأمونين، لأن هذا حينئذ بمنزلة ما بيده وفي بيته. وإنما اختاروا –أو من اختار منهم- تزكية الدين مع عين المال، لأن من ترك ذلك حتى يصير إلى القبض لم يكد يقف من زكاة دينه على حد، ولم يقم بأدائها، وذلك أن الدين ربما اقتضاه ربه مقتطعًا كالدراهم الخمسة والعشرة، وأكثر من ذلك وأقل، فهو يحتاج في كل درهم يقبضه فما فوق ذلك إلى معرفة ما غاب عنه من السنين والشهور والأيام ثم يخرج من زكاته بحساب ما يصيبه، وفي أقل من هذا ما تكون الملالة والتفريط، فلهذا أخذوا له بالاحتياط فقالوا: يزكيه مع جملة ماله في رأس الحول، وهو عندي وجه الأمر، فإن أطاق ذلك الوجه الآخر مطيق حتى لا يشذ عليه منه شيء فهو واسع له، إن شاء الله، وهذا كله في الدين المرجو الذي يكون على الثقات. فأما إذا كان الأمر على خلاف ذلك، وكان صاحب الدين يائسًا منه، أو كاليائس فالعمل فيه عندي على قول علي في الدين الظنون وعلى قول ابن عباس في الدين لا يرجوه: أنه لا زكاة عليه في العاجل، فإذا قبضه زكاه لما مضى من السنين. (1)   (1) الأموال 432 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 قال أبو عبيد: وهذا أحب إلى من قول من لا يرى عليه شيئًا، ومن قول من يرى عليه زكاة عامة، وذلك لأن هذا المال وإن كان صاحبه غير راج له، ولا طامع فإنه ماله وملك يمينه، متى ما ثبته على غريمه بالبينة، أو أيسر بعد إعدام، كان حقه جديدًا عليه، فإذا أخطأه ذلك في الدنيا فهو له في الآخرة، وكذلك إن وجده بعد الضياع كان له دون الناس، فلا أرى ملكه زال عنه الوجدان، فكيف يسقط حق الله عنه في هذا المال، وملكه لم يزل عنه؟ أم كيف يكون أحق به إن كان غير مالك له؟ فهذا القول عندي داخل على من رآه مالًا مستفادًا. وأما الداخل على من رأى عليه زكاة عام واحد فأن يقال له: ليس يخلو هذا المال من أن يكون كالمال يفيده تلك الساعة على مذهب أهل العراق فيلزمك من ذلك ما لزمهم من القول، أو أن يكون كسائر ماله الذي لم يزل فعليه الزكاة لما مضى من السنين، كقول علي وابن عباس. فأما زكاة عام واحد فلا نعرف لها وجهًا، وليس القول عندي إلا على ما قالا، يزكيه لما مضى، وإنما يسقط عنه تعجيل إخراجها من ماله في كل عام، لأنه كان يائسًا منه، فأما وجوبها في الأصل فلا يسقطه شيء ما دام لذلك المال ربا. (1) رأى ابن حزم وتعقيبه على الآراء المخالفة: يرى ابن حزم أن الدين يزكيه المدين إذا كان حاضرًا عنده منه ما يبلغ النصاب، وأتم عنده حولًا، ولا تجب في غير الحاضر، ولو أقام عليه سنين. ويعلل هذا بقوله: إذا خرج الدين عن ملك الذي استقرضه فهو معدوم عنده، ومن الباطل المتيقن أن يزكى عن لا شيء، وعما لا يملك، وعن شيء لو سرقه قطعت يده، لأنه في ملك غيره. (2) أما الدائن فلا زكاة عليه حتى يقبض الدين ويتم عنده حولًا: يقول ابن حزم: ومن كان له على غيره دين فسواء كان حالًا أو مؤجلًا عند ملئ مقر يمكنه قبضه أو منكر، أو عند عديم مقر أو منكر كل ذلك سواء، ولا زكاة فيه على صاحبه، ولو أقام عنه سنين حتى يقبضه، فإذا قبضه استأنف به حولًا كسائر الفوائد ولا فرق، فإن قبض منه ما لا تجب فيه الزكاة فلا زكاة فيه، لا حينئذ ولا بعد ذلك، الماشية والذهب والفضة في ذلك سواء. (3) وأيد مذهبه بما روي عن عائشة وعطاء وابن عمر: "ليس في الدين زكاة"، وبأن لصاحب الدين عند غريمه عدد في الذمة وصفة فقط، وليس عنده عليه مال أصلًا، ولعل الفضة أو الذهب اللذين له عنده في المعدن بعد، والفضة تراب بعد، ولعل المواشي التي له عليه لم تخلق بعد، فكيف تلزمه زكاة ما هذه صفته؟ (4)   (1) الأموال 429 - 435 (2) المحلى 6/131 و 134 (3) المحلى 6/131 و 134 (4) المحلى 6/131 و 138 و 140 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 وذكر ابن حزم آراء القائلين بأن الدائن يزكي الدين وعقب عليها بقوله: "أما قول الحسن بن حي فظاهر الخطأ، لأنه جعل زكاة الدين على الذي هو له، وعلى الذي هو عليه، فأوجب زكاتين في مال واحد في عام واحد، فحصل في العين العشر، وفي خمس من الإبل شاتان". "وأما تقسيم مالك فما نعلمه عن أحد، إلا عن عمر بن عبد العزيز، وقد صح عنه خلاف ذلك ومثل قولنا. وأما أبو حنيفة فإنه قسم ذلك تقاسيم في غاية الفساد، وقوله تخليط لا خفاء به". وقال في موضع آخر: "إن تقسيم أبي حنيفة ومالك لا يعرف عن أحد قبلهما، لأن الرواية عن عمر بن عبد العزيز إنما هي في الغصب لا في الدين". (1) ولم يعلق ابن حزم على ما أورده من آراء الصحابة والتابعين القائلين بأن الدائن يزكي الدين. الرأي الراجح عندي: الرأي الراجح عندي بعد عرض ما تقدم من آراء الفقهاء هو أن زكاة الدين تجب على الدائن، ولكن لا يطالب بإخراجها مع زكاة ماله الحاضر إلا إذا كان متمكنًا من قبض الدين، كأن يكون الدين حالًا على ملئ معترف به باذل له، لأنه يكون في هذه الحالة بمنزلة المال الذي في يده، أو بمنزلة الوديعة. أما إذا لم يكن الدائن متمكنًا من قبض دينه، كأن يكون الدين على المعسر، أو جاحد، أو مماطل، أو يكون الدين مؤجلًا، فإن الدائن يطالب بإخراج زكاته عند قبضه أو التمكن من قبضه بحلول أجله، فإذا قبضه أو حل أجله زكاه لما مضى من السنين، لأنه ماله عاد إليه فيجب عليه إخراج زكاته. والله أعلم ... 3/1/1406هـ 18/9/1985م   (1) المحلى 6/138 و 140 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 زكاة الديون فضيلة الشيخ عبد العزيز محمد عيسى وفضيلة الدكتور عبد الحليم محمود الجندي فيما يتعلق بزكاة الديون نذكر هنا ما أشار إليه الإمام شمس الدين السرخسي في المبسوط الجزء الثاني ص 195: من أن الديون على ثلاث مراتب عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى: دين قوي، ودين ضعيف، ودين متوسط. ومثل لكل منها منبهًا على أن القوي لا يلزم صاحبه الأداء ما لم يقبض أربعين درهمًا وأن المتوسط لا يلزم صاحبه الأداء ما لم يقبض مائة درهم فحينئذ يؤدي خمسة دراهم وأن الضعيف لا يلزم صاحبه الزكاة ما لم يقبض ويحول الحول على ما قبضه. قال وعند الصاحبين: الديون كلها سواء لا تجب فيها الزكاة قبل القبض وكلما قبض شيئًا لزمه الأداء بقدره قل أو كثر. وفي البدائع جـ 2 ص 10: وجملة الكلام في الديون أنها على ثلاث مراتب في قول أبي حنيفة: قوي وضعيف ووسط، فالقوي فيه الزكاة، والضعيف لا زكاة فيه حتى يقبض كله ويحول عليه الحول بعد القبض. وفي الوسط روايتان عن الإمام: إحداهما تجب فيه الزكاة ولا يؤديها إلا بعد قبضه لما يكون نصابًا منه فإذا قبض زكى لما مضى. والثانية أنه لا زكاة فيه إلا بعد قبضه وحولان الحول عليه بعد قبضه وهي أصح الروايتين عنه. والصاحبان يقولان: كلها قوية تجب الزكاة فيها قبل القبض. وقد يقال إن الدين مال في الذمة وما كان كذلك فاحتمال عدم قبضه قائم لأنه ليس بعين ومن ثم لا تجب زكاته لنقصان الملك فيه بفوات اليد كما لا يجب زكاة الدين إذا جحده المدين. هذا إلى ما يعرف من أحوال الناس ومطل الغني. فكيف بمن دونه وهذا يرجح عند الاختيار أن يختار القول بأن الديون كلها سواء وأنها لا تزكى إلا بعد القبض. ولا نجمع على المكلف غبنين: غبن دفع الزكاة وغبن تعرض ماله الذي هو دين له عند فلان أو فلان للضياع، وهو أمر محتمل فيما بين الناس. وفي المجموع شرح المهذب للإمام النووي. قال: جـ 6 ص 20 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 وإن كان له دين فإن كان غير لازم كمال الكتابة لم تلزمه زكاته لأن ملكه غير تام عليه. وإن كان لازمًا على مقر مليء لزمته الزكاة لأنه مقدور على قبضه ... قال أصحابنا: الديون ثلاثة أقسام: 1- غير لازم فلا زكاة له. 2- لازم وهو ماشية فلا زكاة فيه أيضًا، لأن شرط زكاة الماشية السوم، ولا توصف التي في الذمة بأنها سائمة. 3- أن يكون دراهم أو دنانير وهو مستقر، ففي القديم لا زكاة فيه وفي الجديد تجب فيه الزكاة. وفي بداية المجتهد لابن رشد جـ 1 ص 248 وهو يتحدث عن اعتبار حول الدين قال: إذا قلنا: إن في الدين الزكاة، فإن قومًا قالوا: يعتبر ذلك فيه من أول ما كان دينًا. وقوم قالوا تزكية لعام واحد. وقوم قالوا: يستقبل به الحول من يوم قبضه. طبيعي أن يكون هذا قول الذين يقولون بعدم إيجاب الزكاة في الدين. ولعلهم الذي اشترطوا في الإيجاب أمرين: 1- حضور عين المال بين يدي المكلف. 2- حلول الحول عليه وهو في يده. فإذا لم يكن المال بين يدي المكلف فلا اعتبار لحولان حول أو مرور أحوال وإن قبضه استأنف به الحول من ذلك اليوم وهو ما نختاره وخاصة في زمننا هذا. وبالله التوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 العرض والمناقشة 12/4/1406هـ = 24/12/1985م الساعة 9.45 – 12,45 الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. نفتتح جلستنا هذه والبحث المعد للنظر بين أيديكم "زكاة الديون" وهذه المسألة أعد فيها بحثان: أحدهما من الشيخ الصديق الضرير وقد تفضل بالحضور هذا اليوم ونعيد له الترحيب والتحية مرة أخرى وإن كان قد أعلن ذلك في الجلسة الافتتاحية فحياه الله ووفقنا وإياه لما فيه خير البلاد والعباد، وأن يأخذ بيد الجميع بالعلم النافع والعمل الصالح. والبحث الثاني من الشيخين الفاضلين عبد العزيز عيسى وعبد الحليم محمود فأرجو من الشيخ الضرير أن يتفضل بإعطائنا ملخصًا عن هذا البحث. الشيخ الصديق الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وبعد، أود أن أشكر أولًا السيد الرئيس عن الترحيب السابق والترحيب الآن وأرجو أن يوفقنا الله جميعًا إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وأعتذر عن التأخير لأسباب خارجة عن إرادتي، وأدخل بعد ذلك في الموضوع. موضوع زكاة الدين، في الواقع إني قصدت في هذا البحث أن أرجع بهذا الموضوع إلى أصوله الأولى فلم أجد فيه نصًا في القرآن ولا في السنة إلا حديثًا ذكرته رواه في البحر الزخار "ليس على من أقرض مالًا زكاة"، وقال في حاشيته إنه حكاه في أصول الأحكام لكني لم أقف على هذا الحديث فاتجهت إلى آراء الفقهاء من الصحابة والتابعين واعتمدت في هذا على ثلاثة مراجع – الأموال، والمحلى، والمغني. وجمعت من هذه المراجع تسعة أقوال لفقهاء الصحابة والتابعين، أقولها لكم باختصار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 القول الأول: لا زكاة في الدين مطلقًا لا على الدائن ولا على المدين حتى ولو كان الدين على ثقة مليء، ونسب هذا القول إلى عكرمة وعطاء وعائشة وإبراهيم والحكم بن عتيبة وابن عمر، ونقل الذين نسبوا إلى هؤلاء الفقهاء نقلوا عنهم أقوالًا تؤيد ما نسبوه إليهم. فأبو عبيد وابن حزم نقلا عن عكرمة قوله: ليس في الدين زكاة، وروى أيضًا عن عطاء أنه قال: لا يزكى الذي عليه الدين ولا يزكيه صاحبه حتى يقبضه. وروى ابن حزم عن عائشة قولها "ليس في الدين زكاة" وقال ابن قدامة "روى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "ليس في الدين زكاة" وقد لاحظت فيما نقل عن عطاء أنه ورد في بعضها: لا يزكيه صاحبه حتى يقبضه. هذه العبارة ينبغي حملها على أنه يزكيه بعد قبضه لما يستقبل لا لما مضى لأنه سيأتي قول به: إن الدين يزكى لما مضى. وهذا لكي تتفق الروايات في المنقول عن عطاء. واستدل لهذا الرأي بأن الملك فيه ناقص وبأنه مال غير نام فلا تجب فيه زكاة كعروض القنية، هذا هو القول الأول ويبدو لي على الرغم من عظمة القائلين به، أنه سيؤدي إلى أن يكون لنا مال يبلغ النصاب وليس فيه زكاة مطلقًا. هذا وجه الضعف فيه. القول الثاني: أنه يزكيه المدين ولا يزكيه الدائن، وهذا القول ذكره أبو عبيد ضمن خمسة أوجه، ونسبه إلى إبراهيم وعطاء. وروى عنهما قولهما: في الدين الذي ينقله صاحبه ويحبسه زكاته على الذي يأكل مهنأة، وواضح أن هذا القول الذي نقله لا يؤدي إلى القول بأن الزكاة على المدين هي زكاة على المدين المماطل وهذا قد يكون له وجه! ابن حزم أيضًا ذكر هذا القول منسوبًا إلى عطاء وإبراهيم أيضًا. وفي رأيي أن نسبة هذا القول إلى إبراهيم وعطاء نسبة غير دقيقة لأن ما روي عنهما يدل على أنهما يريان أن المدين الذي يزكي الدين هو المدين المماطل، وليس كل مدين، وكذلك نسب هذا الرأي إلى عمر، والواقع في رواية أخرى نذكرها عن عمر روايتين متعارضتين ولم يذكر من أورد هذا الرأي دليلًا عليه. والذي يترجح عندي أن هذا الرأي لا نسبة له إلى أحد من الصحابة والتابعين بحسب ما فهمته من الأقوال المسندة إليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 القول الثالث: يزكيه المدين المماطل وهذا ما يفهم من أقوال عطاء وإبراهيم. القول الرابع: يزكيه الدائن من ماله الحاضر. هذا القول روي عن عمر وجابر وابن عمر والحسن ومجاهد. فقد روى أبو عبيد عن عمر أنه كان إذا خرج العطاء أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد. وروى أبو عبيد عن جابر أنه قيل له في دين لرجل على آخر أيعطى زكاته قال: نعم، هذان الخبران يدلان على أن الدائن يزكي ماله من دين من ماله الحاضر ولا ينتظر حتى يقبضه، لكن أبو عبيد: الذي نقلت عنه هذه الآراء ذكر هذا الرأي مع الرأي القائل بأن الدائن يعجل زكاة الدين مع المال الحاضر إذا كان على الأملياء، ونقل هذه الأقوال. الأقوال ليس فيها تقييد بكون المدين مليئًا أو غير مليء. القول الخامس: يزكيه الدائن إذا كان على مليء من ماله الحاضر، هذا هو القول المقيد، وهذا قول عثمان وابن عمر وجابر والحسن وميمون بن مهران وإبراهيم النخعي ومجاهد وسفيان ووكيع وطاوس وأكثر الصحابة والتابعين من الذين أثر عنهم أنهم قالوا بهذا الرأي. وروى أبو عبيد عن عثمان أنه كان يقول: إن الصدقة تجب في الدين الذي شئت تقاضيه من صاحبه والذي هو على مليء تدعه حياء أو مصانعة ففيه الصدقة. وروى عن ابن عمر أنه قال كل دين لك ترجو أخذه فإن عليك زكاته كلما حال الحول! وهذا رأي ظاهر الوجاهة. ورويت أقوال أخرى عن بقية من نسب إليهم. القول السادس: يزكيه الدائن إذا كان على معترف به باذل له إذا قبضه لما مضى من السنين، لا يزكيه كل حول، وإنما يزكيه إذا قبضه. وهذا القول نسبه ابن قدامة إلى علي والثوري وأبي ثور ولم يرو شيئًا عمن نسبه إليهم، وهذا هو مذهب الحنابلة. القول السابع: يزكيه الدائن إذا كان على معترف به باذل له إذا قبضه لسنة واحدة.. هذا كالقول الذي سبقه الفرق أنه لا يزكيه لكل السنين وهذا لسنة واحدة، وأيضًا هذا القول ذكره ابن قدامة ونسبه إلى سعيد وعطاء الخرساني وأبي الزناد وكذلك لم يرو عمن نسبه ولم ينقل عنهم شيئًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 القول الثامن: يزكيه الدائن إذا كان على غير مليء عند قبضه لما مضى من السنين، وهذا القول منسوب إلى علي وابن عباس والثوري. القول التاسع: يزكيه الدائن إذا كان على غير مليء إذ قبضه لسنة واحدة، الاختلاف في عدد السنين، وهذا قول الحسن وعمر بن عبد العزيز. هذه هي الأقوال التي وقفت عليها للصحابة والتابعين ثم بعد ذلك ذكرت أقوال الأئمة مبتدئًا بمذهب الحنفية والمالكية والشافعية، والحنفية لهم تفصيل لا أظن أن هناك حاجة لذكره وهو مدون في البحث وكذلك بقية الآراء. وأنتقل إلى تلخيص ما خرجت به من هذا البحث من أقوال الصحابة والتابعين وأقوال الأئمة الأربعة وما عقب به أبو عبيد القاسم بن سلام وبن حزم. الواقع أنه أكثر من كتب في هذا الموضوع ناقلًا لآراء الصحابة والتابعين هو أبو عبيد، فنقل الخمسة أقوال وأيد بعضها بالأدلة. يقول في ذلك: وأما الذي أختاره من هذه فالأخذ بالأحاديث العالية التي ذكرناها عن عمر وعثمان وجابر وابن عمر، ثم قول التابعين بعد ذلك، الحسن وإبراهيم وجابر بن زيد ومجاهد وميمون بن مهران، أنه يزكيه في كل عام مع ماله الحاضر إذا كان الدين على الأملياء المأمونين لأن هذا حينئذ بمنزلة ما بيده، أما ابن حزم فله رأي يختلف عن كل هذه الآراء فهو يرى أن الدين يزكيه المدين إذا كان حاضرًا عنده عندما يبلغ النصاب وأتم عنده حولًا ولا تجب في غير الحاضر، ولو أقام عليه سنين، فكأنه يرى أن الزكاة على المدين لكن في حالة خاصة فيما إذا كان الدين موجودا"ً تحت يده، ويعلل هذا بقوله: إذا خرج الدين عن ملك الذي استقرضه وهو ينفي من يعارض رأي من يقول إن الزكاة على الدائن! الرئيس: فإنها إذا كانت أعيانًا، يقصد. الشيخ الصديق الضرير: نعم أعيان، هو لم يفصل في هذا. يقول: إذا خرج الدين عن ملك الذي استقرضه هذا لأجل لا تجب الزكاة على الدائن فهو معدوم عنده ومن الباطل المتيقن أن يزكي عن لا شيء وعما لا يملك وعن شيء لو سرقه قطعت يده لأنه في ملك غيره. ويصرح في موضع آخر بأن الدائن لا زكاة عليه حتى يبقى الدين عنده حولًا كاملًا، يقول: ومن كان له على غيره دين فسواء كان حالًا أو مؤجلًا عند مليء مقر يمكنه قبضه أو منكر أو عند عديم مقر أو منكر كل ذلك سواء ولا زكاة فيه على صاحبه ولو أقام عنده سنين حتى يقبضه، فإذا قبضه استأنف به حولًا كسائر الفوائد ولا فرق، فإن قبض منه ما لا تجب فيه الزكاة فلا زكاة فيه، وأيد مذهبه هذا بما روي عن عائشة وعطاء وابن عمر: ليس في الدين زكاة. والواقع أن هذا لا يؤيد مذهبه في كل ما قاله، ثم تعرض ابن حزم لآراء القائلين بأن الدائن يزكي الدين وعقب عليها وتعرض أيضًا لأقوال الأئمة. رأي الحنفية ورأي المالكية أيضًا هم لهم تقسيمات لا تخلو من التعقيد. يقول عنها ابن حزم إن تقسيم أبي حنيفة ومالك لا يعرف عن أحد قبلهما لأن الرواية عن عمر بن عبد العزيز إنما هي في الغصب لا في الدين، ولكنه لا يعلق على ما أورده من آراء الصحابة والتابعين القائلين بأن الدائن يزكي الدين، سكت عنها، خرجت من كل هذا بالخلاصة التالية: وهي أن زكاة الدين تجب على الدائن ولكن لا يطالب بإخراجها مع زكاة ماله الحاضر إلا إذا كان متمكنًا من قبض الدين كأن يكون الدين حالًا على مليء معترف به باذل له، لأنه يكون في هذه الحالة بمنزلة المال الذي في يده أو بمنزلة الوديعة. وما دام متمكنًا من قبضه عليه أن يخرج زكاته. أما إذا لم يكن الدائن متمكنًا من قبض دينه عليه كأن يكون الدين على معسر أو جاحد أو مماطل أو يكون الدين مؤجلًا فإن الدائن يطالب بإخراج زكاته عند قبضه أو التمكن من قبضه بحلول أجله. فإذا قبضه أو حل أجله زكاه لما مضى من السنين لأنه ماله عاد إليه فيجب عليه إخراج زكاته! وهذا الرأي له سند من آراء الصحابة والتابعين التي نقلتها. وشكرًا. الرئيس: شكرًا فضيلة الشيخ على هذا البيان والعرض لأقوال العلماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 الشيخ عبد الله البسام: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد نشكر فضيلة الشيخ على هذا الاستعراض لبحثه القيم والذي أستطيع أن أعلق عليه، هو: أولًا بخصوص نسبة مذهب الحنابلة، المشهور عند الحنابلة أن الدين يزكى إذا قبض سواء كان على مليء أو غير مليء وإن كان هذا قول يضعف لكن هذا هو المشهور عندهم، المشهور في مذهبهم أن الدين مطلقًا إذا قبضه صاحبه زكاه سواء كان على مليء أو معسر أو مماطل يزكيه لما مضى من السنين. هذا هو القول المشهور عندهم. في رواية أخرى أخذ بها كثير من المحققين وهي تقسيم الدين إلى قسمين، إذا كان على مليء وكان على معسر باذل ففيه زكاة. وإذا كان على معسر أو على مماطل فليس فيه زكاة إلا إذا قبضه. وهل يزكيه السنة الماضية، لسنة واحدة أم يبتدئ به حولًا جديدًا؟ فيه خلاف بينهم ولكن إذا أردنا أن نطبق هذه الأقوال على مبدأ الزكاة وهي أن الزكاة مواساة لا يكلف الإنسان منها إلا بقدر ما عنده، وأنها مواساة بين الفقير والغني. فإن الدين إذا كان على معسر أو على مماطل أو على جاحد أو كان ضالًا أو مسروقًا أو نحو ذلك فهذا أرى أن وجوب الزكاة فيه للسنين الماضية، إن هذا إجحاف بصاحب المال لأنه يزكي مالًا ليس عنده، أما إذا كان الدين على موسر وعلى باذل، هذا نعم لأنه كما تفضل الشيخ كالوديعة عند صاحبه، وصاحبه مستطيع وقادر على استحصاله وعلى أداء زكاته. هذه من ناحية. أما التي قال عنها من خصوص أن الزكاة على الدائن، هذا قول يعني بعيد ولكن إذا أردنا أن نمحص هذا القول فالزكاة عبادة، الزكاة عبادة وتحتاج إلى نية لو أخرج الإنسان دراهم وهو لم ينو بها الزكاة ثم نوى بعد ذلك ما صحت أن تكون زكاة تكون صدقة من الصدقات لأنها عبادة فلا يقوم بها أحد عن أحد إلا بإذنه. فكيف نوجبها على غيره. ولكن هناك وجه وهو أن الدائن إذا غصب المال أو ماطل في المال وبقي عنده السنين وأوجبنا عليه الزكاة على أحد الأقوال نستطيع أن نجعل هذا من الغصب ومن نقص المال وأن نغرم الدائن مقابل الزكاة. هذا ما أردت أن أعلق على محاضرة فضيلة الشيخ. مناقش: على المدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 الشيخ عبد الله البسام: عندنا دائن ومدين، الدائن هو صاحب الشيء، والمدين هو الذي عنده الشيء، فمنهم أوجبوا الزكاة على المدين، الزكاة لا تجب إلا على صاحب المال لكن نستطيع أن نغرمه بدلها وشكرًا. الرئيس: الشيخ عبد الستار وأريد أن نفصح عما كتبته لنا بالأمس إذا تكرمتم. الشيخ عبد الستار أبو غدة: بسم الله الرحمن الرحيم.. بالأمس كتبت اقتراحًا صغيرًا لسيادة الرئيس، بأن زكاة الدين والكلام فيها كلام قديم محرر ومنضبط وليست مسألة تحتاج إلى نظر جديد وبحث مستجد، وإنما تحتاج إلى اختيار. فهي مما يندرج عليه حكم الفتوى والتخير حسب القواعد والضوابط في اختيار مسائل الفتوى، لأنها مسألة تكلم فيها الفقهاء وأوسعوا فيها القول حتى بلغت خلافاتهم إلى هذا العدد الكبير. وربما كان ما ترجح لدى فضيلة الشيخ الصديق الضرير هو أقرب الأقوال إلى تحقيق مقاصد الشريعة وتوزيع العدل بين الفقير والغني، لأنه في حالة ما إذا كان الدين تحت يد الدائن اعتبارًا وبالقوة كما يقولون لأنه على باذل له معترف به مليء وهذا ما يسميه بعض الفقهاء مرجو الأداء يعني أنه يستطيع عند الطلب أن يكون تحت يده: فإن من الطبيعي أن يتحمل عبء ماله وأن يتحمل تبعة ماله التبعة التي أوجبها الله عز وجل في هذا المال لأنه كما لو كان عنده وقد تخلى عن حيازة هذا المال لأجل القرض فلا يتخلى عن ثواب أداء الزكاة. أما إذا كان المال على معسر أو على منكر جاحد له، أو مماطل فإن القول الآخر أيضًا يحقق العدل بأنه حينما يقبضه! ولكن يبقى الخلاف هل يزكيه عما مضى من السنين أم عن سنة واحدة، والذي أميل إليه أنه يزكيه عن سنة واحدة لأنه يشبه في هذه الحال بما لو كانت للإنسان مال موجود وله حول مستمر وجاءه مال في أواخر الحول قبل يوم أو يومين من أواخر الحول فإن الحول الماضي يسري على هذا المال الذي دخل كما يسري على نماء المال. لذلك ربما نخالف في هذا الاختيار فقط أنه يزكيه عن سنة واحدة إذا كان من النوع الآخر الذي ليس مرجو الأداء ولا على موسر باذل له. والمسألة لا تعدو أن تكون اختيارًا من فتاوى الصحابة والتابعين وفقههم والأمر فيها يسير إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 الشيخ حسن عبد الله الأمين: بسم الله الرحمن الرحيم، شكرًا سيدي الرئيس. الحقيقة الصورة الأولى من هاتين الصورتين لزكاة الديون التي شرحها ووضحها فضيلة الأستاذ الدكتور الصديق ووافق عليها الأخوان الفاضلان، أتفق معهم جميعًا اتفاقًا كاملًا. ولكن الصورة الثانية التي يكون فيها الدين على مماطل أو معسر أو منقذ له أرى أنها في حكم أو أشبه ما تكون ملكيتها لصاحبها ملكية الحكمية. فلا أرى أن توجب عليه الزكاة في هذه الفترة التي لم تثبت فيها ملكيتها الحقيقية. نعم هي ملكه في الواقع ولكن هذا الضباب نشأ من النكران أو المماطلة.. الصورة الثالثة من التأخير أرى أن هذه الفترة قد حجبت عن صاحب هذا المال الانتفاع به حتى ولو الاطمئنان النفسي للانتفاع به، حجبته عنه، فلا أرى تجب فيها الزكاة عليه حينما يقبض هذا الدين الممطول أو المنكر أو الذي على محسن لا تجب فيه الزكاة على السنين الماضية ولا حتى على السنة الأخيرة التي تلي القبض، أرى أنه يستأنف به عامًا جديدًا بحكم أنه أصبح ملكًا حقيقيًا بين يديه. أما فيما سبق فلا أرى في ذلك زكاة عليه، وهذه ما أشار إليها فضيلة الأستاذ البسام أن إحدى الروايتين أو رأيين لدى السادة الحنابلة. وأرجح هذا وأرى الأخذ بها. الشيخ تقي عثمان: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين. إني أثني على رأي أخينا الدكتور عبد الستار حفظه الله في أن زكاة الديون ليست مسألة جديدة وإنما هي مسألة قد بسطها الفقهاء في كتبهم ولكل رأى مؤيد بالدلائل وليس من أعمال المجمع أن يدخل في كل ما بحث عنه الفقهاء ويرجح الراجح منه ولكن من أعمال المجمع أن ينظر في مسائل جديدة كالتي تحدث في عصرنا ولم تكن معهودة من قبل فمن هذه الناحية أرى أن هناك جهتين في مسألة زكاة الدين معهودة في العصور السالفة مثلًا الديون التي تكون عند المصرف المالي، يعني المبالغ يكون صاحبها متمكنًا على قبضها كلما شاء حتى أنها تعتبر نقدًا موجودًا عنده فهل تعتبر هذه الديون المودعة في البنوك وفي المصارف دينًا، من حيث وجوب الزكاة عليها فأرى أن المبالغ المودعة في المصرف وفي البنك إنما هي في العرف المتعامل تعد من أموال المالك ولا تعد دينًا فينبغي أن تجب عليها الزكاة حتى عند الذين لا يقرون بوجوب الزكاة على الدين وحتى عند الذين يقرون بوجوب الزكاة على الدين بعدما قبضه الدائن. هذه واحدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 والمسألة الثانية هي استثناء الدين من الزكاة يعني عند كثير من الفقهاء الدين يكون مستثنى من الزكاة ولكن حدث عندنا هذه الديون الكبيرة الضخمة التي يستقرضها أصحاب المصانع الكبيرة مثلًا فلو استثنيناها من الزكاة لا تجب عليهم الزكاة أصلًا وربما يكونون مستحقين لقبض الزكاة إذا استثنينا المبالغ التي استقرضوها من البنوك. فهذه هي المسألة التي ينبغي أن ننظر فيها وأرى أن القرض الذي استقرضه صاحبه استقرضه لأغراض الاستثمار ينبغي أن لا يستثنى من وجوب الزكاة. فهاتان المسألتان اللتان أقدر أنهما من موضوعات المجمع والتي ينبغي أن نبحث فيهما وشكرًا. الرئيس: شكرًا فضيلة الشيخ، أما هذه المسألة ما أدرجت إلا لأنها أصبحت واقعًا لها صفة الشيوع وبالغ الأهمية نظرًا للتضخم المالي الذي تعايشه كافة الولايات على اختلافها. أما مسألة الودائع فهذا مستصحب فيها الأصل وهو وجوب الزكاة فما أظن أنها محل بحث أو استشكال حتى أنها تكون واردة هنا. أما المسألة الثانية فهي تعود إلى المسألة الأولى وهي محل بحثنا هنا. فعلى كل فنحن نريد الاقتصار في بحثنا على زكاة الديون وسواء جعلتم أن تكون كما ذكر الشيخ عبد الستار وثنيتم عليه أن تكون من جهة قبل الفتيا وتدرج في مسار الأسئلة والأجوبة على الأسئلة الواردة أو أنه يصدر بها قرار مستقل بنفسه من المجمع فعلى كل هذا نجعله هو الخطوة الأخيرة إن شاء الله تعالى. الذي نريده هنا هو تحرير الرأي في مسألة زكاة الديون وأعطى الكلمة للشيخ علي السالوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 الشيخ علي السالوس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. النقطة التي كنت أريد التحدث عنها هي ما تختص بالديون الاستثمارية التي أشار إليها الأخ الفاضل، أن هذه المشكلة فعلًا واجهتنا في المؤتمر الأول للزكاة، دين استثماري مبالغ طائلة قد تصل إلى آلاف الآلاف، إذا قلنا الزكاة على الدائن معنى ذلك أن المدين لا يخرج زكاة من هذه الأموال، وبالتالي عندما يحسب زكاة ماله يطرح لأن فيه زكاة يحسب ماله من ديون مرجوة الأداء ويحسب ما عليه من ديون ثم يزكي الباقي، فبالنسبة للدين الاستثماري لو فعل هذا يمكن أن يصبح مدينا مع أنه يملك آلاف الآلاف ,وقائع حدثت فعلا ولذلك فى المؤتمر الأول للزكاة كنا اتخذنا قرارا مؤقتا قلنا إن الدين الاستثماري بخصوصه الذي لا يزكى هو ما حل منه يعنى لو فرضنا أن أحدا اشترى أشياء ما حل منها الآن خمسمائة ألف وباقى الملايين مؤجلة إلى سنوات طويلة , هنا الذى لايزكيه هوالدين الذي حل فعلًا، يخرجه لصاحبه ولا يزكيه وصاحب هذا المال هو الذي يزكي باقي الأقساط التي لم تحن مواعيدها فهذه لا تزكى، وقلنا بأن هذا الموضوع يحتاج إلى بحث آخر فلعل هذا المؤتمر المبارك إن شاء الله يخرج برأي محدد وينص على أن الدين الاستثماري بالذات، يعني لا يقول زكاة الديون بصفة عامة وإنما ينص على هذا، على الدين الاستثماري بصفة خاصة هذا ما أردت أن أقوله. الرئيس: شكرًا وأحب أن أوضح نقطة بسيطة لفضيلة الشيخ وهو أن المسألة التي أمامنا هي زكاة الديون فقط أما المسألة الثانية وهي هل الدين مانع من الزكاة أم لا، فأظنها مسألة مستقلة بذاتها. أما الذي لدينا فهو زكاة الدين ذاته. وأعطي الكلمة للشيخ الجناحي. الشيخ عبد اللطيف جناحي: بسم الله الرحمن الرحيم ... في الحقيقة أردت أن أتكلم عن أكثر من نقطة ولكن كفاني الأخوان قبلي، فتطرقوا للموضوع. ولكن ما أود أن أثيره في هذا الاجتماع هي النظرة للزكاة من زاويتين وليس من زاوية واحدة. ننظر إليها من زاوية فردية فهي عبادة وفرض على الإنسان، ولكن لوعاء الزكاة نظرة أخرى وهي أنها قاعدة أمن اقتصادية. فالمسألة هنا لا يدخل فيها فقط العبادة الفردية إنما المجتمع ككل، عندما فرضت فريضة الزكاة هي فرضت لخدمة المجتمع ككل.. فأرجو من المؤتمر أن ينظر في هذا الموضوع من زاوية أننا نحقق قاعدة أمن اقتصادية للمجتمع المسلم، وهنا يكون للفقهاء لكل زمان رأى فيه. وأعتقد هذا هو ما تعددت فيه الآراء بحيث الدائن والمدين يقومان بالزكاة لأن فعلًا الآن معظم الاستثمارات ومعظم الديون هي ديون تتكرر وبقصد منها الربحية فكلما اتسعت قاعدة الزكاة كلما اتسعت القاعدة الأمنية الاقتصادية في المجتمع المسلم، وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 الشيخ وهبه الزحيلي: في الحقيقة كنت قد أمليت النظر في هذا الموضوع منذ زمن لم أجد أصلًا من النصوص يمكن أن يبحث فيه هذا الموضوع في ضوئه، لذلك أقدر أن وضع هذا الموضوع في سجل الأعمال التي ينظر يها هذا المجمع الكريم كان عن تخطيط ذكي وسليم لأن هذا الموضوع بالذات يمكن أن ننظر فيه وأن يخرج المجمع برأي يفض الخلاف حوله لا سيما وقد تضاربت الآراء حوله والناس عندما يفتون بأن الزكاة على الدائن خصوصًا وأن الدين طال عليه الأمد ومضى عليه سنوات يكادون يستهجنون مثل هذه الفتيا وأن التقى الورع منهم لا يكاد يزكى إلا عن عام واحد بعد قبض الدين فعلًا. لهذا فإن النظر في هذا الموضوع نظر سليم ونستطيع أن نعطي أو ندلي فيه برأي يرفع الخلاف. وليس العمل مجرد انتقاء ولكن في الحقيقة يسهل على المفتين الرأي الراجح من هذه الآراء. لذلك أرى أن القول بأنه لا زكاة لا على الدائن ولا على المدين هذا قول ينبغي رفضه لأنه يتنافى مع مقاصد الشريعة. كذلك القول بأن الزكاة تكون على المدين الحقيقة نزيده ضغثًا على إبالة لأنه ما استدان إلا لحاجة ولا يمكننا أن نحمله عبء أداء الدين وعبء زكاته، بقي أن الزكاة ينبغي أن تكون متعينة على صاحب المال وهو الدائن لأنه المالك فعلًا والكلام في هذا الموضوع ما هو إلا تطبيق للشروط العامة التي إذا توافرت وجبت الزكاة، وأهم هذه الشروط هو ملك النصاب هو رضي لنفسه أن يقرض والقرض الحسن كما هو معلوم لديكم له ثواب أفضل من ثواب الصدقة، فهو ابتغى تسهيل تعاون أخيه المسلم ورفع ما به من ضائقة، لذلك أجره عظيم عند الله جل جلاله عندما أقرض. بقي الواجب المالي العبادي وهو لما يملكه، حينئذ أؤيد بحث أخي فضيلة الدكتور الصديق في أن تكون الزكاة على الدائن إذا قبض هذا الدائن المال فعلًا أو كان في حكم المقبوض. بعد هذا القبض هل يزكيه عن سنة واحدة أم عن السنوات الماضية؟ الحقيقة الذي ينطبق على القواعد الفقهية لا يمكننا أن نستثنى هذه الجزئية من القواعد ولا من شروط أداء الزكاة ووجوبها، فلذلك أرى أنه لا بد من أن تكون الزكاة على ما مضى من السنوات ولكن نيسر على الدائن أن تكون الزكاة بعد القبض فعلًا أو أن يكون ذلك في حكم القبض. وشكرًا لفضيلتكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. افتتح كلمتي هذه بالتوجه بالشكر إلى كل إخواني الذين تقدموا وخاصة فضيلة الشيخ الضرير الذي أرحب به ثانيًا والذي أحسسنا بالفقد عندما لم يشاركنا من أول يوم. القضية التي طرحت اليوم هي قضية جديرة بالنظر ولا بد من التعمق فيها قليلًا. فالله قد فضل بعضنا على بعض في الرزق فجعل قسمًا محتاجًا وقسمًا متفضلًا. وتوجه إلى القسم المتفضل فقال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} بمعنى أن الإسلام يهدف فيما يهدف أولًا إلى نزع الأنانية الفردية من الإنسان الثري حتى يشارك الفقير فيما آتاه الله. هذا الانتزاع الأناني هو يكون بأمرين يكون أولًا بالتبرع الواجب وغير الواجب بما جاء من زكاة وصدقة وهبة ووصية إلى آخر التبرعات التي لا يبتغى منها صاحبها إلا وجه الله والتي تخرج عن ماله خروجًا تامًا كما جاء أيضًا وقاية شح النفس بالقرض والقرض هو منهج إسلامي يختلف اختلافًا كبيرًا عن بقية المناهج إذ أن القرض الإسلامي يعود فيه المال لصاحبه دون زيادة. وهذا ما لا يقبله غير المسلمين. فإذا أقرض المسلم ماله لغيره فإنني عندما نظرت في المال وجدته مملوكًا ملكًا غير تام لا للدائن ولا للمدين. فإذا نظرت للدائن صاحب الدين وجدته قد خرج المال من يده رغبة في الثواب من عند الله وتنازل عن تنمية ذلك المال بوجوه التنمية المعلومة. ووجدته عند المدين هو لا يملك الأصل ولكن يملك استثمار ذلك المال وتنميته، فالقضية إذن هي قضية فيها وجهان. وبناء على هذا فالرأي الأول الذي ذكر فضيلة الشيخ الضرير أنه لا يرى له وجهًا هذه هي الناحية في نظري التي بنى عليها أصحاب القول الأول قولهم لما قالوا ولست أؤيد هذا القول ولكن وجهة نظر محترمة مبنية على أصل، على هذا القول بنى من بنى أنه لا تجب الزكاة على هذا ولا على ذاك لأن هذا لا يملكه ملكًا تامًا والآخر لا يملكه ملكًا تامًا. إذا ما ذهبنا إلى أن المال تجب زكاته على صاحب الدين للسنوات التي مرت كلها فإن الديون قد تكون تارة لعشر سنوات وتارة تكون لأكثر فمعنى ذلك أننا حطمنا هذا الأصل الموجود، إما بطريقة حرام واضحة وإما بطريقة فيها حيلة. فإذا نقضنا الأصل تمامًا وقلنا له تأخذ المال لكم عندك عندما تأخذ المال يجب عليك أن تزكيه للسنوات الماضية كلها، فمعنى ذلك أننا نقصنا له من ماله عشرين 20 % أو 10 % حسب السنوات الماضية. فالقضية إذن هي قضية فيها وجهان، وجه لا بد من ملاحظته وهو أن نمكن هذا المال الموجود من أن يخرج من الخزائن إلى الناس القادرين على استثماره، والقرض باب كبير، لهذا من الناحية الدنيوية ومن الناحية الأخروية، فهذا الإشكال الذي ظهر لي أولًا في هذه القضية. طريقة حل هذا الإشكال، هل نفضل أن نجعل زكاة الدين هي على المدين لكامل السنوات التي مضى فيها وقد استفاد منه المحتاج كله لا ببعضه واستثمره وأنفق منه على عياله وحرك به الاقتصاد، أرى أن هذا فيه ظلمًا لرب الدين وفيه تعطيل للدين، فأنا أعتقد أن أفضل حل لذلك هو أن يعتبره صاحب الدين من الوقت الذي يتمكن فيه من قبض دينه أما بأن يكون قد حل على مليء معترف وأن يكون الدين صاحبه غير مماطل وهناك في هذا يجب عليه أداء الزكاة لسنة واحدة يستقبل بها من وقت القدوم. الأمر الثاني، ما جاء في كلمة صديقي فضيلة الشيخ عبد الستار أبو غدة من أنه إذا انضاف مال جديد إلى مال قديم قبل حلول الحول فإنه يجري عليه الحول الأول، أنا لا أقول إنني أعرف المذاهب كلها ولكن مذهب مالك خلاف هذا. فإنه يستقبل به حول جديد وإنما ذلك المال الذي نما من المال أصل المال الأول له حوله الأصلي أما المال الجديد فله حول من وقت قبضه لأن الحول هو منتسب إلى المال وليس منتسبًا إلى صاحب المال. شكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 الشيخ زكريا البري: بسم الله الرحمن الرحيم.. في رأيي أن الديون تنقسم أقسامًا متعددة. وأن هذا الموضوع يستأهل العرض على المجمع وليس محلًا لفتوى عادية، ذلك أن من الديون القرض الحسن، استدانه مدين لسد حاجته الأصيلة ولا سبيل لإيجاب الزكاة لا على الدائن لأنه ليس ناميًا بالنسبة له، ولا على المدين لأنه مشغول بسد حاجته الأصيلة. فإذا ما قبضه الدائن بعد ذلك، قبضه حقيقة أو حكمًا بقدرته على قبضه فإن الزكاة فيه لا تجب على الدائن بعد ذلك، إلا بعد حولان الحول. أما قبل ذلك فكما قلت لا وجه مطلقًا من ناحية القواعد الشرعية على إيجاب الزكاة لإيجاب الزكاة عليه. بعد ذلك هناك قرض آخر استدانه مدين ليستثمره لحسابه الشخصي وزكاته عندي على هذا المدين المستثمر، أما الدائن فلا زكاة عليه إلى أن يقبضه ويمر عليه الحول كما قلت فيما سبق، ولا وجه مطلقًا أيضًا لإيجاب الزكاة عليه عن مدة ماضية، فما كان ناميًا بالنسبة له وليس مشاركًا للمدين المستثمر في أي شيء، هذه صورة. بعد ذلك عندنا الودائع الاستثمارية في البنوك وهي ليست من الديون وإنما هي مملوكة لأصحابها تستثمر لحسابهم وبالتالي فإنها مال مملوكة لصاحبها بدلالة قاطعة هي أن البنك يملكها ويستثمرها ويتصرف المالك في ملكه إقراضًا واستثمارًا ونحوه، فهي لا يصح أن نسميها نحن الحسابات الجارية لأن تكييفها كما رأينا في أعمال البنوك، يخرجها عن هذه التسمية ويوجب علينا أن نسميها قروضًا لأن البنك يتصرف فيها كما قلت. وعلى هذا الأساس فالحسابات الجارية مملوكة للبنك أي لمؤسسيه والمستفيدين منهم وهؤلاء هم الذين يجب عليه أداء الزكاة بشروطها الشرعية ولا وجه عندي لما ذهب إليه بعض فقهاء البنوك والمصارف الإسلامية من إيجاب الزكاة على البنك كشخصية اعتبارية لأن هذه الشخصية الاعتبارية ليست مكلفة شرعًا، وبعض مؤسسي هذه البنوك أو بعض مساهميها قد لا يملكون ما يوجب عليهم الزكاة الشرعية، أعتقد أنني أوجزت رأيي بصورة سريعة لأنني لم أكن قد كونته فيما سبق وإنما كونته الآن بعدما استطعت أن أقرأ ما قرأت وأن أسمع ما سمعت. وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 الشيخ أحمد البزيع ياسين: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدي رسول الله وعلى آله الطيبين وصحابته الكرام وعلى من اتبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد، الزكاة ركن عظيم من أركان الإسلام لا شك ولا ريب فيه. ثم إنه كما قال أخي عبد اللطيف، أداء الزكاة في الحقيقة واجب وأخذها من قبل السلطان واجب عليه لأن الله سبحانه وتعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} أمر خذ لا ينتظر الوالي بأن تؤدى الزكاة طواعية وإنما يجب أن تؤخذ الزكاة. والخليفة الثاني قاتل مانعي الزكاة –عفوًا الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه- ثم المطلوب من فقهاء المسلمين في اتباع الأصول الفقهية المتبعة لأن في التقيد واتباع الأصول الفقهية المتبعة فيها منجاة عن التسهيل على الناس في أداء الزكاة. فأنا وددت في زكاة المستغلات أن تتاح لي الفرصة لأبين ثلاث صور فلعل الآن الفرصة متاحة. الصورة في المستغلات التي بينت في السابق وأخذ فيها قرار من مجمعكم أود أن أسأل عن ثلاث صور تابعة للصور الأولى قبل أن أبدأ في موضوع الديون. السؤال الأول: الحصص المشاعة في شركة مساهمة تملك مستغلات للاستثمار، هذا سؤال ما هو حكمها؟ السؤال الثاني: حصص مشاعة في نفس الشركة المساهمة ولكن الذي اقتنى الأسهم والحصص اقتناها للتجارة وللتداول وليس للاستثمار الطويل. السؤال الثالث: إذا اقتناها للتجارة وللتداول ولكنها كسدت السوق ووفق التداول لأسباب طارئة مدة طويلة. فما هو الحكم؟ هل هي تعتبر من المستغلات التي عليها زكاة المستغلات 2.5 % أو أنها تعتبر عروضًا تجارية لأنها بدأت بنية أنها عروض تجارية؟. هذا في الحقيقة وددت إضافته لما ذهبنا إليه بالنسبة لزكاة المستغلات. ثم بالنسبة للبحوث الفقهية، في الحقيقة إذن فيه مسألة نكررها هنا فلا مانع من التكرار لأن في التكرار تأييدا ولكن يجب الاستعاضة فيما ذهب إليه فقهاء المسلمين في مؤتمراتهم السابقة، وتأييد ما يؤيد ويؤلف به كتب. في الحقيقة، حتى يكون صمام أمان في المستقبل، نخشى أن يتوسع الناس في المفاهيم ويعتبرون القواعد الفقهية إنما هي خطب أو مواضيع إنشائية وما إلى ذلك. نريد من فقهاء المسلمين في هذا المجمع أن يعملوا صمام أمان للمستقبل في الأمور الفقهية التي اجتمعوا عليها واتفقوا عليها، حتى في الحقيقة في المستقبل لا يكون هناك تجاوزات. ثم أود أن أقترح في الحقيقة على المجمع بأن هناك أمورًا من الأهمية بمكان ويجب أن تبحث وفيها علاج لأمراض الأمة الإسلامية، وهي في السلوك والأخلاقيات، سلوك الفرد مع المجتمع وسلوك المجتمع مع الفرد وسلوك السلطة مع المجتمع وسلوك المجتمع الإسلامي مع المجتمع الإنساني. هذه في الحقيقة أمور، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) فهذه المواضيع من الأهمية بمكان أرجو أن يقبل اقتراحي في مؤتمرات لاحقة لبحث هذه الأمور لأن في الحقيقة نحن لسنا بحاجة إلى أن نعلم عن الأمور الفقهية التي هي معلومة منا في الدين بالضرورة إنما نحن بحاجة إلى سلطة تنفذها ونحتاج في الحقيقة أيضًا إلى أن نكون مسلمين في أخلاقنا، نريد أن نكون لماذا هذا التأخر إنما هذا التأخر مثل ما قال بعض الإخوة في تعطيل الزكاة نجعل ثغرة تلج منها كثير من المذاهب الهدامة، والمصطفى صلى الله عليه وسلم عندما يعلن أحد إسلامه أول ما يسأل: ألك مال؟ فالحقيقة الزكاة يستحق من المجتمع أن يبحث هذا الركن بحثًا مستفيضًا وأن يكون في بحثه بجانب الفقير معتمدًا على الأصول والقواعد الفقهية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 ونأتي إلى زكاة الديون: زكاة الديون في الحقيقة، أنا أعمل في شركة والذي أريد أن أبينه أني لست فقيهًا إنما على أن أبين الصورة التي عليها كثير من الشركات التي تلتزم بالإسلام وتود أن تبرئ ذمتها. الشركات والتجار يعملون كل سنة ميزانية، الميزانية فيها أصول وفيها خصوم، الدين من الأصول يعتبر ولو تكرر الدين مثلًا لمدة ثلاث سنوات ومؤجل لمدة 3 سنوات أو أربع سنوات إنما ملاحظ عند استثماره هذا الدين لمدة طويلة ملاحظ فيه الربحية فالدائن يعتبر الدين على المليء المتمكن من السداد، يعتبره مالًا له يزكيه كل سنة باعتباره أصلًا في أصوله. هذه في الحقيقة وددت أن أبينها إنما بالنسبة لما ذهب إليه الفقهاء من دين المغتصب أو المعسر أو المماطل فهذا شيء لا أريد الخوض فيه لأني لست من فرسان ميدانه. وشكرًا. الرئيس: شكرًا، أحب أن أحيط فضيلة الشيخ بما يتعلق بالأسهم فسبق أن جرى بحث جانبي وذكرت أن ما يتعلق بالأسهم سيكون إن شاء الله تعالى في الدورات الآتية بحوث مستفيضة حول ما يتعلق بالأسهم من جميع جوانبها إحدى الصور التي ذكرتموها ولعلها الأولى هي داخلة فيما قرره المجمع بالأمس أو قبل الأمس في زكاة المستغلات ونشكر فضيلة الشيخ لفتاته الكريمة وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 الشيخ أحمد محمد الخليلي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. موضوع زكاة الدين ينبغي أن ننظر أولًا إلى حق الزكاة، هل الزكاة حق في الذمة أو الزكاة حق في المال. ونرى أن الراجح بأن الزكاة حق في المال، ولذلك وجبت الزكاة في أموال القصر، وجبت الزكاة في أموال اليتامى وأموال مطلق الصبيان غير البلغ، وفي أموال المجانين حسب رأي أكثر علماء الأمة. هذا إن دل على شيء إنما يدل على أن الزكاة على المدين لا على الدائن. وإذا فرضت الزكاة على الدائن في السنين المتطاولة قبل أن يحضر أجل ذلك الدين فإن الزكاة تستهلك ذلك المال خاليًا من هذا الواجب وذلك ينافي ما عرفناه من سائر المسائل التي تنبني على هذا الأصل وهو وجوب الحق في الأموال. ويدل أيضًا على أن الحق في المال، قوله سبحانه وتعالى {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} ففي نفس المال حق وليس هذا الحق في الذمة. وإذا كان هذا المال استهلكه إفلاس المدين فإذن لم يبق هناك مال حتى يقال إن على الدائن أن يزكيه إذا ما قبضه. لم يبق هناك مال، وكذلك كان هذا المدين مماطلًا ولم تكن لدى الدائن بينة يتمكن بها من التوصل إلى حقه لدى الحكام الشرعيين أو لم يكن هنالك من ينصف له، فإن الحق في هذه الحالة إذا أوجبناه عليه تضاعف عليه الواجب من غيران ينتفع من هذا المال بشيء وإنما أؤيد رأي الأخ الدكتور عبد الستار أبو غدة في كون الدائن يجب عليه أن يزكي هذا المال بعد أن يقبضه بحيث يستقبل به عامًا جديدًا إن لم يكن له أصل. فإن كان له أصل فإنه يرده إلى ذلك الأصل ويزكيه متى ما زكى من الأصل وأما ما قاله الأخ الشيخ المختار السلامي من أنه لم يطلع على قول غير قول الإمام مالك واتباعه في هذه المسألة وهو أن المال المستفاد يستقبل به عامًا جديدًا فإني أريد أن أنبه فضيلة الشيخ السلامي بأن هذا القول إنما هو قول الإمام مالك طبعًا وقد قاله ابن عباس من قبله أما جمهور الأمة فإنهم يقولون بخلاف هذا القول. جمهور الأمة يقولون بأن الفائدة حسبما يعبر الفقهاء ترد إلى الأصل وتزكى مع الأصل. وبجانب ذلك هنالك قول آخر أيضًا، وأظن هذا القول إن لم تخني حافظتي منسوب إلى عائشة رضي الله تعالى عنها، وهو أن الفائدة أو المال المستفاد إن كان وصل إلى حد النصاب فإنه يستقبل به عامًا جديدًا وإن كان دون النصاب فلا حاجة إلى استقبال عام جديد بل يضاف إلى الأصل، وهكذا. فما دام هناك هذا القول وهو قول جمهور الأمة فعلينا أن نأخذ برأيهم ونستفيد مما قالوه ولا ينافي أن يكون هنالك اجتهاد عند الآخرين، الاجتهاد الفردي في الإفتاء ولكن بما أن هذا المجمع يصدر رأيًا جماعيًا فإنه يصدر رأي الأكثرية.. وتعرض أيضًا الشيخ زكريا لموضوع البنوك وموضوع الزكاة، وقال إن البنك شخصية اعتبارية. أظن أن المشكلة تنحل إذا قلنا بأن الزكاة حق واجب في المال وما دام الشركاء يكونون كشخص واحد كما جاء ذلك في زكاة النعم لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق فإن قيام الشركة، شركة تجارية سواء كانت هذه الشركة بنكًا إسلاميًا أو غير ذلك تكون هذه الشركة بمثابة شخص واحد ويجب أداء الزكاة من جميع المال المشترك، هذا ما أردت أن أنبه عليه وشكرًا لكم. الرئيس: شكرًا، أرجو من سماحة الشيخ أن يعطي ملخصًا لما تفضلتم به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 الشيخ عبد الله البسام: ملاحظة صغيرة على الشيخ الخليلي، ملاحظة صغير جدًا وهي أن الخلطة ليس لها تأثير إلا في بهيمة إلا في الأنعام. الرئيس: أنا أردت ملخصًا لكلمة فضيلة الشيخ ومن ضوئها يتضح. الشيخ أحمد حمد الخليلي: في الواقع طبعًا كما قال فضيلة الشيخ إن بهيمة الأنعام هي التي تعتبر فيه الخلطة ولكن إذا تعدد الشركاء وساهم كل أحد منهم بدفع جزء من المال مقدار مائة ريال سعودي أو أقل من ذلك أي مقدار ما لا تجب فيه الزكاة، إذا ساهم عدد من الشركاء في دفع ذلك، فهل يقال في مثل هذه الحالة بأن وصلت التجارة إلى مقدار النصاب هل يقال تسقط الزكاة بهذه التجارة ولا تجب نظرًا إلى أن سهم كل أحد لا يفي بمقدار النصاب. ينبغي إعادة النظر في ذلك وعلى أي حال ملخص ما أراه هو أن الزكاة تجب على الدائن إذا كان الدين حاضرًا وقته وكان هذا الدين على وفي مليء سواء قبضه أو لم يقبضه إذا حضر الوقت الذي يزكي فيه سائر المال أو مر سائر ماله، يعني الدائن، أو مر نصاب أو مر حول على ذلك الدين نفسه إن لم يكن عنده مال آخر وإذا أفلس المدين فلا زكاة على الدائن ولو حضر وقته، وكذلك إذا كان هذا المدين مماطلًا ولم يتمكن الدائن من التوصل إلى حقه بحيث أعوزته البينة أو بحيث لم يكن هناك من ينتصف له، وفي هذه الحالة طبعًا الزكاة على المدين، في حالة مماطلته وفي حالة العسر طبعًا ما عليه زكاة. الرئيس: وفي حالة إفلاسه. الشيخ أحمد حمد الخليلي: في حالة إفلاسه لا عليه زكاة ولكن في حالة مماطلته عليه هو الزكاة فيما بينه وبين ربه وتجب أيضًا الزكاة عليه ما دام يستغل ذلك المال قبل أن يحضر أجل الدين فقبل حضور أجل الدين الزكاة على المدين وبعد حضور أجل الدين على الدائن بشرط أن يكون الدين على مليء وأن يكون الدائن متمكنًا من الوصول إلى حقه. الرئيس: شكرًا أكرمكم الله. الشيخ آدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 الشيخ آدم شيخ عبد الله علي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه وسلم. وبعد. فأولًا: أثنى رأي ما ذهب إليه الباحث وأختاره من أن الزكاة تجب على الدائن إذا كان المدين مليئًا مقرًا غير مماطل. وكذلك إذا كان المليء منكرًا ولك للدائن شهود ووثائق يستطيع بهما أخذ ماله لدى المحاكم الشرعية. فهو كالمتمكن تجب عليه الزكاة أيضًا. وأما إذا كان الدين على مليء منكر ولم يكن للدائن شهود ووثائق يستطيع بهما أخذ ماله لدى المحاكم، أو كان المدين معسرًا، فهاتان الحالتان لا تجب الزكاة على الدائن إخراجها حتى يقبضها فيما مضى من السنين. وشكرًا. الشيخ نزيه حماد: بسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن والاه، وبعد. فلي تعليق جزئي على بعض مقدمات استدلال الأخ الفاضل الشيخ السلامي حيث أنه بنى رأيه على أن الدين غير مملوك ملكًا تامًا بالنسبة لدائن والمدين على السواء، أقول بالنسبة للمدين هو مملوك ملكًا تامًا بالعقد والقبض بلا خلاف بين الفقهاء، هذا بالنسبة للمدين، أما بالنسبة للدائن فالدين في ذمة المدين مملوك ملكًا تامًا بالنسبة للدائن وهو في ذمة المدين، والدليل على ذلك اتفاق الفقهاء على صحة تمليك الديون المستقرة للمدين لمن عليه الدين ولغير من عليه الدين بغير عوض، واتفاقهم كذلك على صحة تمليك الديون المستقرة بعوض إلى من عليه الدين. أما كون الدين في ذمة المدين معرض للتوي بالنسبة لدائن فهذا لا يزعزع ملكية الدائن ولا يؤثر على تمامها. فالتعرض للتوي ليس مناطًا مؤثرًا والدليل على ذلك أو مما يستأنس به في الاستدلال على ذلك أن المال المغصوب في يد الغاصب يكون معرضًا للتوي بالنسبة لمالكه ومع ذلك لا خلاف في أنه يملكه المغصوب منه ملكًا تامًا وهو في يدي الغاصب. وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 الشيخ مصطفى الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم.. إخواني الأساتذة الكرام، أريد أن أقدم بمقدمة بسيطة ولكنها لا للاستدلال وإنما للاستئناس ثم أبين رأيي في الموضوع. المقدمة البسيطة هي: موقف علماء القوانين المالية فيما يتعلق بالديون وخضوعها لضريبة الدخل. وهذا أمر شاع في جميع البلاد اليوم. فهناك عملاء القوانين المالية يميزون بالنسبة للديون وخضوعها أو عدم خضوعها لضريبة الدخل، فيميزون بين ديون موضوعة في الاستثمار أي الديون التي عليها فوائد كالودائع المصرفية التي يضعها أصحابها في البنوك الربوية ويأخذون عليها فوائد أو التي يقرضونها مباشرة إلى الأفراد بطريق المراباة. فهذه الديون باتفاق علماء القانون تخضع للضريبة، ضريبة الدخل. وأما الديون التي لا فوائد عليها، فهذه لا يخضعوها لضريبة الدخل بل يسقط صاحب الدين مبلغ الدين من وارداته وأرباحه التي تؤخذ عليها الضريبة. هذه أذكرها، يعني قلت للاستئناس. نحن في الإسلام، هذا لا يمكن أن ينظر إليه لأنه لا يوجد عندنا ديون موضوعة للاستثمار لأننا لا نقبل وضع الديون بالفوائد الربوية في المصارف. وأما الأموال التي توضع للاستثمار فهي لا تقبل إسلاميًا أن تكون ديونًا مستثمرة لصاحب الدين وإنما هي مشاركة عندئذ كما يحصل في القراض وكما في وضعنا الآن اليوم، الودائع في البنوك الإسلامية إنما توضع على أساس المشاركة، والبنك الإسلامي إنما هو بمنزلة المضارب، فلذا هذا النظر إنما ذكرته للاستئناس. لكن بالنسبة للموضوع، أرى أن المال إنما ميز فيه الشرع كما هو معلوم بين نوعين، مال نام، ومال غير نام، وأعرف أنه باتفاق الفقهاء لا أعرف خلافًا، إنه إنما يخضع للزكاة المال النامي. وهذا النماء قد يكون بالفعل وبالقوة، النماء بالفعل كالأموال التجارية التي هي المراد بالنماء، والنماء موضوع في طريق التنمية موضوع سواء نما بالفعل أم لا فالتاجر يزكي أمواله التجارية ولو خسر كما هو معلوم لأنه يخسرمرة ويربح مرات الخ، والتجارة طريق اكتساب يعيش عليه البشر أجمعون. ولكن هناك حالة يذكرون أنها يعتبرون المال فيها ناميًا بالقوة وهى حالة المال المكنوز عندئذ الذهب والفضة يقررون أنهما لو كنزا ولو لم يوضعا في طريق الاستثمار يخضعان للزكاة. والحكمة في ذلك معروفة وهذا من روائع الشريعة الإسلامية الكريمة حيث إن إيجاب الزكاة في هذين المالين الأساسيين ولو كانا غير موضوعين بطريق الاستثمار، الزكاة حكمتها أنها تهاجم المال المكنوز لتبعثه من مرقده. طبيعي على فرض أن الرجل سيتقيد بالشريعة ويخرج الزكاة أما العاصي الذي لا يبال فلا شأن لنا به. ونحن نفترض المسلم الملتزم، فإن الزكاة تهاجم الكنز وهذا من أبرز وأوضح حكمتها فلا تترك للإنسان مجالًا ولو أنه مسلم ملتزم أن يدخر ويكتنز وإنما عليه أن يخرج هذا المال فيضعه في طريق نفع عباد الله والاستثمار كما هو معروف. أما ما سوى النقدين فإن التمييز ذاك الأساسي جار على مداه وهو أنه لا يخضع للزكاة إلا المال النامي ولذلك التاجر نفسه إذا أخذ من متجره شيئًا وضعه في بيته للاستعمال لا يدخل حينئذ في حساب الزكاة، وهكذا كما هو معروف لا حاجة للإفاضة فيه. وبناء على هذا التأصيل أستطيع أن أقول إن الدين وهو في ذمة المدين، هذا بالنسبة إلى الدائن فاقعد النماء فهو مال غير مدفوع على سبيل الفائدة كما عند القانونيين، وهو قرض حسن وقد خرج عن ملكية الدائن ولا سلطة بقيت له عليه ما دام في ذمة الآخر، فهو إذن لو فرضنا أنه يملكه وهذا مقرر بأنه يصبح حقًا في الذمة والحقوق الشرعية. الرئيس: هو قرض حسن في بعض صوره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 الشيخ مصطفى الزرقاء: نعم هو قرض حسن يعني غير خاضع لربا، فبناء عليه هو بالنسبة للدائن يعني عديم الفائدة منه، أي بمعنى أنه ليس ناميًا بالنسبة إليه، أي فقد فيه شرط النماء وعندئذ لا يصح في نظري إيجاب الزكاة على الدائن ما دام لم يقبض الدين. وفي هذا أرى ما رآه فضيلة الأستاذ الشيخ السلامي وإن كنت أخالفه في عدم ملكية المدين للدائن فهو مملوك، للدائن ويتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم، لكن هذا لا يخرج عن كونه مالًا غير نام ومفقود النماءة بالمرة بالنسبة للدائن. أما بالنسبة إلى المدين فكذلك هذا هو يستنميه ويثمره ولكن هذا أيضًا مشغول الذمة بوفائه، والقاعدة في الأموال التي تخضع للزكاة أنها يسقط منها الديون وكل ما يحتاج إليه صاحب المال في حاجته الأساسية فيما زاد عن النصاب هذا لا شك أنه أيضًا مفقود بالنسبة للمدين، هذا المعنى، لأنه مشغول الذمة بالوفاء فهو وإن كان مالكًا لهذا المال ويستثمره ولكن ذمته مشغولة بوفائه فكأنه غير موجود لأنه سوف يذهب. وإنما يستفيد المدين ثمرات هذا الدين الذي عليه لغيره، يستفيد ثمراته، وعندئذ نحن عندما نوجب على المدين أنه يطرح مبلغ الدين ويزكي بقية أمواله التي هي في طريق النماء موضوعة، فقد أدخلنا ما جناه من فوائد وثمرات من هذا الدين واستثماره إياه مدة الحول، أدخلناه في الزكاة التي تجب عليه وهذا هو العدل، فنحن نأخذ من المدين زكاة عن الثمرة التي استفادها من هذا الدين مدة بقائه في ذمته، أما أن نأخذ منه زكاة عن أصل الدين وهو مكلف بإعادته، فهذا أراه مخالفًا لمنطق الشريعة وقضية نماء المال، وفي النتيجة أرى أن الدين لا تجب زكاته على الدائن إلا بعد القبض كما تفضل الأستاذ السلامي وأما المدين فلا تجب عليه أبدًا إلا الثمرة وهذه تدخل في زكاة ما يبقى من ماله بعد طرح الدين. الرئيس: لا تجب عليه إلا بعد القبض، قصدي يستقبل بها أو لها اثر رجعي. الشيخ مصطفى الزرقاء: بعد القبض يعني من الممكن أن نقول إنه هو الأقرب أنه يزكيه بعد حولان الحول. الرئيس: يعني يستقبل. الشيخ مصطفى الزرقاء: بعد القبض إذا حال عليه الحول. الرئيس: يستقبل بها حولًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 الشيخ مصطفى الزرقاء: نعم، وأما ما ذكره أخونا الكريم الأستاذ الخليلي من أن الراجح في نظره وقد يكون هذا أيضًا الراجح في نظرنا أن الزكاة تتعلق بالمال لا بالذمة فإن هذا لا ينتج النتيجة التي أرادها من إيجاب الزكاة على المدين ذلك لما بينت، أن المال وإن تعلقت به الزكاة لكن هناك شرط النماء فليس مجرد وجود المال يكفي بأن تتعلق به الزكاة وإنما قضية النماء شرط أساسي بإجماع الأمة فيما أعلم. وهذا ما أراه والله سبحانه وتعالى أعلم. الشيخ معروف الدواليبي: بسم الله الرحمن الرحيم.. سيدي الرئيس ملاحظتي حول زكاة الدين لا نص فيها كما استمعنا إلى السادة الأفاضل ستكون ملاحظة عامة في الحقيقة حول جميع مواطن الاجتهاد، لماذا هذه المواطن وما الحكمة فيها وما هو الواجب عنها؟ لأنه عرض من قبل بعض هذه الآراء في القضية الواحدة من علماء أجلاء ونحن اليوم أيضًا في قضية قد يطول البحث فيها وربما تأتي وسوف تأتي خاصة على المجمع مواقف كثيرة. لا أريد أن أجعل من كلمتي هذه محاضرة ولكنني أتكلم بنقاط أو كلمات برقية، أي مختصرة جدًا.. أين هي مواطن الاجتهاد وهي ما سكتت عنه النصوص سواء الكتاب أو السنة "وما كان ربك نسيًا" ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يسكت في المواطن التي يجب أن يبين فيها، وإنما كما جاء في الحديث الشريف ((ما كان ربك نسيا)) وإنما رحمة بنا، فالرحمة إذن كلما سكتت النصوص. هذا السكوت مقصود منه أن يترك فيه البيان بدأ من الرسول عليه الصلاة والسلام فيما يتعلق بالقرآن {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وتتمة الآية في هذا الإبداع {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق في عهد التشريع المدني إلا عشر سنوات فيما بين أصحابه ولم يأذن الله أن يكون خالدًا ليتابع معهم الوقائع والأحداث ولكن بين لهم لنتخذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة أو نورًا نهتدي في الأحداث التي حدثت بعده، كيف نستفيد من مواطن الاجتهاد وهي التي سكتت عنها أولًا النصوص القرآنية بالنسبة للرسول عليه الصلاة والسلام وهي بالنسبة إلينا فيما بعد الرسول أو سكتت عنها النصوص النبوية إلينا أيضًا فيما بعد وقد مضى على ذلك أربعة عشر قرنًا تقريبا فتركت لنا. والأساس في الحقيقة بالبيان سواء كان للرسول عليه الصلاة والسلام أو لنا فيما ترك عن قصد من الله ومن الرسول عليه الصلاة والسلام ما كان كما قلنا نسيًا، ولا يمكن للرسول أن يسكت في مقام الواجب فيه البيان وإنما ما سكت عنه أيضًا الرسول كما سكت عنه القرآن، أو ما جاء عامًا أو ما جاء مجملًا كما هو في القواعد الأصولية هو مواطن الاجتهاد. والشريعة في الاجتهاد مبناها مصالح العباد كما قال الأئمة أمثال ابن تيمية وابن القيم وغيرهم، أينما كانت المصلحة، فثم شرع الله وإن لم ينزل بها وحي ولا قال بها الرسول، فنحن في مثل هذه المواطن وقد سكت عنه النص في زكاة الديون، استمعنا إلى الآراء بدءًا من أجلة الصحابة وبعد ذلك من أجلة العلماء وإنني لست وحدي باسم جميع السادة العلماء الحاضرين كلنا نحمل في أنفسنا الإعظام والإجلال للصحابة رضي الله عنهم وإن اختلفت آراؤهم وللأئمة الذين تقدموا فلا أحد هنا متكلم عن هوى وإنما عن تفتيش عن البحث عن المصلحة وأذكر فقط فيما تختلف فيه الآراء أحيانًا حتى بالنسبة للرسول عليه الصلاة والسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 هناك آراء، كل منهم يهدف ويفتش عن المصلحة المشروعة فالرسول عليه الصلاة والسلام مثلًا في قضية تشريع الأضاحي كما هو معلوم للسادة العلماء لما شرع الأضاحي ((كلوا وتصدقوا وادخروا)) فلما جاء العام الذي بعده في ظروف لم ينتبه الناس فقال: ((كلوا وتصدقوا ولا تدخروا)) فلما جاء العام الثالث فظن المسلمون وهذا من البيان الذي نستفيد منه من الرسول صلى الله عليه وسلم أكلوا وتصدقوا، والأيام كانت حارة وفاض من اللحوم، فتجمعوا كما تعلمون في المسجد النبوي وتعالت أصواتهم اللحم كاد يفسد، ولقد نهانا رسول الله في العام الماضي وقال ((كلوا وتصدقوا وادخروا)) فما نصنع؟ فسمع الرسول صلى الله عليه وسلم من الحجرة النبوية فخرج إليهم وقال: ويحكم إنما نهيتكم في العام الماضي، أما الآن فقد وسع الله ((فكلوا وتصدقوا وادخروا)) إذن في مثل هذه النصوص بأجمعها إن كانت مجملة أو عامة أو سكت عنه الرسول، أنا أتمنى على المجلس الكريم لأنها ستعرض لنا في كثير من المواقف، مواقف الإفتاء، لا أرى في مثل هذه القضية أن نبحث لأن نقول بالرأي الراجح وإنما نوصي بمبدأ الأصول في مثل هذه المواطن التي أذن العلماء أن يجتهدوا أن يتركوها مفتوحة لنظر المفتي بالنسبة لكل حادث كما حدث للرسول صلى الله عليه وسلم في قضية التشريع، اختلف ما بين سنة وأخرى المصلحة ولذلك اختلف القول ولم يكن القول الأخير ناسخًا فكذلك لو كان مثلًا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه هو الدائن المعروف بثروته، أنا لا أقول له إنك لا تزكي عن المال الدائن، عن المال الذي أنت أخرجته في ملكك وأذنته فلا أميل في مثل هذا الموقف، لا أقول لمثل عبد الرحمن ابن عوف وليس فيه عليه حرج مثلًا ولكن ادفع زكاة دينك، الدين الذي عند الآخرين لأنه لا يخرجه وهو أنفع للفقراء وقد اتخذ في موقف آخر، بالنسبة للدائن لو كان دينه بسيطًا ومضى عليه أربع سنوات مثلًا كان مائة ريال في كل سنة والدائن ليس مماطلًا ولكنه في كل سنة أوجب عليه أن يدفع 2.5 % وإذا طالب هذا الرجل الذي لا يملك إلا مثلًا مائة ريال أو ألف ريال كل على حسبه، أن ألزمه بجميع السنوات، فأنا نفسي أجد وأشعر أن عندما يكون الرجل في راحة وفي استطاعة وضربت مثلًا عن عبد الرحمن بن عوف المعروف بغناه فيما بعد فأقول بإلزامه بإخراج زكاة الدين، ولكن في حالة أخرى لا أتبنى هذا الموقف أنظر إلى مصلحة الدائن والمدين. وشكرًا. الرئيس: شكرًا، الشيخ مختار وأرجو الإيجاز لأنها آخر المطاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 الشيخ المختار السلامي: شكرًا سيادة الرئيس.. وأنا دائمًا وأبدًا أوجز، ولكني في هذه الحالة لا بد من أن ولا أستطيع الإيجاز الكامل إذ إنما سأفتتح كلمتي هذه بشيء من الأدب ولا بد منه، فقد كان المعز باديس في عاصمة القيروان وقد طاف حول المدينة الأعراب الذين قدموا من كل مكان وانهزم جيشه، فوقف أمامه شاعره وقال به: تنبه لا يخامرك اضطراب *** فقد خضعت لعزتك الرقاب ... فأمر بقصيدته أن تمزق وأن يطرد شاعره الأثير عنده عادة، لأن كلمة: تنبه، رأى فيها سوء أدب وقال له: متى تعودت مني الغفلة حتى تقول لي: تنبه، وفي هذا المقام ما قبلت أبدًا أن يقول لي أحد زملائي لأني أحترمهم جميعًا، أريد أن أنبه فلانًا، لأني أعتقد أننى قد انتبهت لكل ما قيل وانتبهت لما قلت، إذ جاء في كلمة الأستاذ صديقي وعزيز أن ما انضاف من الأموال الحكم فيه أنه يأخذ حول الأصل. قلت بالنسبة لمذهب مالك أن هذا ليس صحيحًا ولكن في مذهب مالك كل مال له حوله متى قبض، فلا حاجة لي بأن ينبهني شخص لوجود خلاف في مذاهب أخرى إذ أنني قلته من أول الأمر. هذه واحدة. الأمر الثاني، لما تحدثت عن الملك الناقص لما قلت: ملكًا ناقصًا بالنسبة لرب الدين فأنا أعي ما أقول، لأن رب الدين عندما يدفع دينه لغيره فأصبح تصرفه في ملكه تصرفًا ناقصًا، إذ أنه لا يجوز بيع الدين ويدخله في كثير من الأحكام فملكه ملك منقوص.. وأيضًا لا يستطيع أن يستثمره إذ هو عند غيره، فلما قلت كلمة ملكًا ناقصًا لم أنف الملكية ولكني قلت إنها ليست ملكية لها الحقوق الكاملة للملك إذ نقص بعضها وبقي بعضها وإلا كان ذلك بيعًا لوانتفى الملك. هذا هو أمر الدين وهو نفس ما أقوله لفضيلة الأستاذ شيخنا الشيخ الزرقاء هذا ما أريد أن أقوله من كلمتي إنه ملك غير تام. وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 الرئيس: شكرًا.. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فإنه من خلال البحوث المعدة ومن خلال هذه المناقشات المباركة الميمونة والمداولات يتضح أمامنا أمور: الأمر الأول: أن هذه المسألة ليس فيها نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع. الأمر الثاني: لهذا اتسعت فيها دائرة الخلاف بين الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم رضي الله تعالى عن الجميع. الأمر الثالث: أن خلاصة النقاش تنحصر تقريبًا في تحقيق المناط، هل القدرة على التحصيل كالمحصول عليه أو لا؟ فتحقيق المناط في مسألة الديون هل القدرة على التحصيل كالمحصول عليه أولًا. ولهذا فإن أهل العلم معللين في حال الضمار وفي حال الملاءة، مفرقين بين حال الضمار وبين حال الملاءة وحال الضمار هي كما في موطأ الإمام مالك رحمه الله، أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه كتب في كتاب له لما سئل عن الدين إن أدى زكاته لما مضى من السنين ثم رجع وقال: أدى زكاته لسنة واحدة، قال مالك: وذلك لأن الدين كان ضمارًا. والدين الضمار هو لدين الغالب الذي ليس على مليء. إذن تحقيق المناط في مسألة الضمار وفي مسألة الملاءة هي فلكة المغزل في هذه المسألة الفقهية المطروحة بين أيديكم. وقد علم يقينًا أن عددًا من المحققين ليس لهم اختيار في هذه المسألة، ومن المحققين المعاصرين الذين بحثوا هذه المسألة باستفاضة وجمعوا ما ورد فيها من النصوص انسحبوا منها ولم يفصحوا عن رأيهم وأذكر على سبيل المثال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان رحمه الله تعالى فإنه بحث هذه المسألة في الجزء الثاني من أضواء البيان بحثًا عليمًا دقيقًا مستفيضًا لكن لم يصرح له فيها برأي لأن المسألة ليست ذات نص من كتاب أو سنة أو إجماع مع الخلاف في تحقيق المناط في هذه القضية. ومن هنا فإن أنظاركم أصحاب الفضيلة التي جرى سماعها في هذا الموضوع اختلف التقييد لدى من رأى إلى آخر في الإطلاق والتقييد ولهذا فإنني أرجو من حضراتكم الكريمة قبول الاقتراح الآتي: أن يتفضل كل عضو بأن يقدم الرأي فقط مختصرًا مكتوبًا إلى الأمانة، والأمانة نجتمع وإياها ونأخذ هذه الآراء ونعرضها ملخصة مع بيان من قال باتجاه إلى أي من هذه الأقوال وبعد هذا يمكننا البت في هذه المسألة بإذن الله تعالى والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم 1 بشأن زكاة الديون أما بعد: فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 – 16 ربيع الثاني 1406 هـ/ 22- 28 ديسمبر 1985م. بعد أن نظر في الدراسات المعروضة حول "زكاة الديون" وبعد المناقشة المستفيضة التي تناولت الموضوع من جوانبه المختلفة تبين: 1- أنه لم يرد نص من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يفصل زكاة الديون. 2- أنه قد تعدد ما أثر عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم من وجهات نظر في طريقة إخراج زكاة الديون. 3- أنه قد اختلفت المذاهب الإسلامية بناء على ذلك اختلافًا بينًا. 4- أن الخلاف قد انبنى على الاختلاف في قاعدة هل يعطي المال الممكن من الحصول عليه صفة الحاصل؟ وبناء على ذلك قرر: 1- أنه تجب زكاة الدين على رب الدين عن كل سنة إذا كان المدين مليئًا باذلًا. 2- أنه تجب الزكاة على رب الدين بعد دوران الحول من يوم القبض إذا كان المدين معسرًا أو مماطلًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 زكاة المستغلات العمارات والمصانع ونحوها فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي يشتمل هذا الفصل على ثلاثة مباحث: الأول: في زكاة "المستغلات" بين المضيقين الموسعين؟ الثاني: كيف تزكى هذه الأشياء؟ الثالث: كيف يحسب النصاب فيها؟ المبحث الأول زكاة المستغلات بين المضيقين والموسعين المستغلات: هي الأموال التي لا تجب الزكاة في عينها، ولم تتخذ للتجارة ولكنها تتخذ للنماء، فتغل لأصحابها فائدة وكسبًا بواسطة تأجير عينها، أو بيع ما يحصل من إنتاجها. فما يؤجر: مثل الدور والدواب التي تكون بأجرة معينة، ومثل ذلك الحلي الذي يكرى وغيره. وفي عصرنا يتمثل في العمارات ووسائل النقل وغيرها. وما ينتج ويباع نتاجه: مثل البقر والغنم غير السائمة التي تتخذ للكسب فيها، ببيع لبنها أو صوفها أو تسمينها أو غير ذلك. وأهم منها الآن المصانع التي تنتج ويباع إنتاجها في الأسواق. وقد اخترنا في الفصل السادس أن تقاس المنتجات الحيوانية على العسل، ويؤخذ منها العشر من الصافي، لأنها متولدة من حيوان لا تجب الزكاة في أصله. ولهذا أرى أن تستثنى من المستغلات التي نذكرها في هذا الفصل، وإن أدخلها بعض الفقهاء فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 والفرق بين ما يتخذ من المال للاستغلال وما يتخذ للتجارة: أن ما اتخذ للتجارة يحصل الربح فيه عن طريق تحول عينه من يد إلى يد. وأما ما اتخذ للاستغلال فتبقى عينه، وتتجدد منفعته. وعلى كل حال، فإن معرفة الحكم في المستغلات أمر مهم. وخاصة في عصرنا، بعد أن تعددت أنواع المال النامي فيه تعددًا واضحًا، فلم يعد مقصورًا على الماشية والنقود وسلع التجارة والأرض الزراعية. فمن الأموال النامية في عصرنا: العمارات التي تعد للكراء والاستغلال، والمصانع التي تعد للإنتاج، والسيارات والطائرات والسفن التي تنقل الركاب والبضائع والأمتعة، غير ذك من رؤوس الأموال الثابتة أو شبه الثابتة، وبعبارة أدق: رؤوس الأموال المغلة النامية غير المتداولة التي تدر دخلًا وفيرًا على أصحابها، فماذا تقول شريعة الإسلام وفقهاؤها في زكاة هذه الأشياء؟ إن الجواب عن هذا السؤال يختلف باختلاف وجهة المضيقين والموسعين في إيجاب الزكاة. وجهة المضيقين في إيجاب الزكاة: أما الذين يميلون إلى التضييق في الأموال التي تجب فيها الزكاة، فيقولون: 1- إن الرسول صلى الله عليه وسلم حدد الأموال التي تجب فيها الزكاة، فلم يجعل منها ما يستغل أو ما يكرى من العقارات والدواب والآلات ونحوها، والأصل براءة الناس من التزام التكاليف، ولا يجوز الخروج عن هذا الأصل، إلا بنص صريح عن الله ورسوله، ولم يوجد في مسألتنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 2- يؤيد هذا: أن فقهاء المسلمين في مختلف الأعصار، وشتى الأقطار، لم يقولوا بوجوب الزكاة في هذه الأشياء، ولو قالوا به لنقل عنهم. 3- أنهم نصوا على ما يخالف ذلك فقالوا: لا زكاة في دور السكنى، ولا أدوات المحترفين، ولا دواب الركوب، ولا أثاث المنازل ونحوها. وإذن يكون الحكم عندهم: أن لا زكاة في المصانع وإن عظم إنتاجها، ولا في تلك العمارات، وإن شهق بنيانها، ولا في تلك السيارات والطائرات والسفن التجارية، وإن ضخم إيرادها. فإذا قبض من إيرادها شيء، وبقي حتى حال الحول، ففيه زكاة النقود: بشروطها المدونة. وإن لم يبق إلى الحول نصاب أو ما يكمل نصابًا فلا شيء عليه. والتضييق في أموال الزكاة مذهب قديم، عرف به بعض السلف، وتبناه ودافع عنه الفقيه الظاهري ابن حزم، وأيده في الأعصر الأخيرة الشوكاني، وصديق حسن خان، حتى قالوا: لا زكاة في عروض التجارة، ولا في الفواكه والخضروات ونحوها. ومن أوضح العبارات في ذلك ما قاله صاحب "الروضة الندية" ردًا على ما قال: في المستغلات –كالدور والعقار والدواب ونحوها- بمجرد تأجيرها بأجرة من دون تجارة في أعيانها، مما لم يسمع به في الصدر الأول الذين هم خير القرون، ثم الذين يلونهم، فضلًا عن أن يسمع فيه بدليل من كتاب أو سنة. (1) وجهة الموسعين في إيجاب الزكاة: وأما المتوسعون في الأموال التي تجب فيها الزكاة فيقررون وجوبها في الأشياء المذكورة من مصانع وعمارات ونحوها، وهذا هو رأي بعض المالكية والحنابلة –وإن يكن غير مشهور- ورأي الهادوية من الزيدية. كما هو رأي بعض العلماء المعاصرين، أمثال أساتذتنا الأجلاء: أبي زهرة وخلاف وعبد الرحمن حسن. كما سنبين ذلك في المبحث القادم. وهذا التوسع هو الذي أرجحه استنادًا إلى الأمور الآتية: 1- أن الله أوجب في كل مال حقًا معلومًا، أو زكاة، أو صدقة، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أدوا زكاة أموالكم)) من غير فصل بين مال ومال. وقد رد ابن العربي على الظاهرية الذي نفوا وجوب الزكاة في عروض التجارة، لعدم ورود حديث صحيح فيها، فقال: قول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} عام في كل مال على اختلاف أصنافه، وتباين أسمائه واختلاف أغراضه، فمن أراد أن يخصه في شيء فعليه الدليل. (2) 2- أن علة وجوب الزكاة في المال معقولة، وهي النماء كما نص الفقهاء الذين يعللون الأحكام، ويعملون بالقياس، وهم كافة فقهاء الأمة ما عدا حفنة قليلة من الظاهرية والمعتزلة والشيعة. ومن هنا لم تجب الزكاة في دور السكنى، وثياب البذلة، وحلي الجواهر، وآلات الحرفة، وخيل الجهاد بالإجماع وكان القول الصحيح سقوط الزكاة عن العوامل من الإبل والبقر، وعن حلي النساء المستعملة المعتادة، وعن كل مال لا ينمى بطبيعتة أو بعمل الإنسان. وإذا كان النماء هو العلة في وجوب الزكاة، فإن الحكم يدور معه وجودًا وعدمًا، فحيث تحقق النماء في مال وجبت فيه الزكاة، وإلا فلا. 3- أن حكمة تشريع الزكاة –وهي التزكية والتطهير لأرباب المال، أنفسهم والمواساة لذوي الحاجة، والإسهام في حماية دين الإسلام، ودولته ونشر دعوته –تجعل إيجاب الزكاة هو الأولى والأحوط لأرباب المال أنفسهم، حتى يتزكوا ويتطهروا، وللفقراء والمحتاجين، حتى يستغنوا ويتحرروا، وللإسلام دينًا ودولة، حتى تقوى شوكته، وتعلو كلمته. وقد قال الكاساني في دلالة العقل على فرضية العشر فيما خرج من الأرض: إن إخراج العشر إلى الفقير من باب شكر النعمة، وإقدار العاجز، وتقويته على القيام بالفرائض، ومن باب تطهير النفس من الشح ومن الذنوب، وتزكيتها بالبذل والإنفاق، وكل ذلك لازم عقلًا وشرعًا. اهـ. فهل يكون شكر النعمة، ومساعدة العاجز، وتطهير النفس وتزكيتها بالبذل، لازمًا عقلًا وشرعًا لصاحب الزرع والثمر، غير لازم لصاحب المصنع والعمارة والسفينة والطائرة ونحوها، مما يدر من الدخل أكثر مما تدره أرض الذرة والشعير بأضعاف مضاعفة، ويجهد أقل من جهدها؟   (1) الروضة الندية ج 1 ص 194 (2) شرح الترمذي ج 3 ص 104 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 الرد على أدلة المضيقين: أما قولهم: لا زكاة إلا فيما أخذ منه النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة؛ فنقول: إن عدم نص النبي صلى الله عليه وسلم على أخذ الزكاة من مال لا يدل على عدم وجوب الزكاة فيه، فإنما نص النبي صلى الله عليه وسلم على الأموال النامية التي كانت منتشرة في المجتمع العربي في عصره، كالإبل والبقر والغنم من الحيوانات، والقمح والشعير والتمر والزبيب من الزروع والثمار، والدراهم الفضية من النقود. ومع هذا أوجب المسلمون الزكاة في أموال أخرى لم يجئ بها نص، قياسًا على تلك الأموال، أو عملًا بعموم النصوص، وتطبيقًا لما قرر من حكمة فرض الزكاة. (أ) من ذلك ما قاله الإمام الشافعي في الرسالة عند زكاة الذهب، قال: وفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الورق و (النقود الفضية) صدقة، وأخذ المسلمون في الذهب بعده صدقة: إما بخبر من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغنا وإما قياسًا على أن الذهب نقد الناس الذي اكتنزوه، وأجازوه أثمانًا على ما تبايعوا به في البلدان، قبل الإسلام وبعده. اهـ. (1) واحتمال وجود خبر نبوي لم يبلغ الشافعي في عصره –مع حاجة الناس إلى تناقل هذا الخبر- احتمال ضعيف، فالعمدة هو القياس، وبهذا جزم القاضي الفقيه أبو بكر ابن العربي، فذكر في شرح الترمذي، في بيان الحكمة من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفضة، ونصابها ومقدار الواجب فيها، وترك ذكر الذهب، قال: "إن تجارتهم إنما كانت في الفضة خاصة، معظمها، فوقع التنصيص على المعظم ليدل على الباقي، لأن كلهم أفهم خلق الله وأعلمهم، وكانوا أفهم أمة وأعلمها، فلما جاء الحمير الذين يطلبون النص في كل صغير وكبير، طمس الله باب الهدى، وخرجوا عن زمرة من استن بالسلف واهتدى" (2) وهو يعني بكلمته الأخيرة العنيفة الظاهريين الذين ينفون القياس، ولا يلتفتون إلى العلل. (ب) ومن ذلك أنه لم يرد نص صحيح صريح بوجوب الزكاة في العروض التجارية، ومع هذا نقل ابن المنذر الإجماع على وجوبها، ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية الذين تعلقوا بشبهات واهية فندناها في موضعها. (جـ) ومن ذلك أن عمر أمر بأخذ الزكاة من الخيل، لما تبين له أن فيها ما تبلغ قيمته مبلغًا عظيمًا من المال، وتبعه في ذلك أبو حنيفة؛ ما دامت سائمة، واتخذت للنماء والاستيلاد. (د) أن أحمد أوجب الزكاة في العسل، لما ورد فيه من الأثر، وقياسًا على الزرع والثمر، وأوجب الزكاة في كل معدن، قياسًا على الذهب والفضة، ولعموم آية {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} . (هـ) أن الزهري والحسن وأبا يوسف أوجبوا فيما يستخرج من البحر من لؤلؤ وعنبر ونحوهما الخمس، قياسًا على الركاز والمعدن. (و) أن كل مذهب من المذاهب المتبوعة أدخل القياس في الزكاة في أحكام عدة، كقياس الشافعية غالب قوت البلد، أو غالب قوت الشخص على ما جاء به الحديث في زكاة الفطر، من التمر أو الزبيب أو الحنطة أو الشعير، وكقياسهم كل ما يقتات على الأقوات الأربعة المذكورة، التي جاء بها النص في عشر الزرع والثمر. 2- وأما قولهم: إن فقهاء الإسلام في جميع أعصاره وأمصاره لم ينقل عنهم القول بذلك –فلأن بعض هذه الأموال النامية لم ينتشر في عصرهم انتشارًا تعم به البلوى، ويدفع الفقيه إلى الاجتهاد والاستنباط، وبعضها لم يكن موجودًا قط، بل هو من مستحدثات الأزمنة الأخيرة.   (1) الرسالة ص 193، 194 بتحقيق الشيخ أحمد شاكر. (2) شرح الترمذي ج 3 ص 104 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 ومع هذا وجد من أقوال الفقهاء ما يدل على وجوب الزكاة في هذه الأشياء أو في غلتها وفوائدها. كما سنذكر بعد. 3- وأما نص الفقهاء على إعفاء الدور والآلات ونحوها من الزكاة؛ فهو عين الصواب –ولكن هذه الأشياء التي أخرجها علماؤنا من وعاء الزكاة غير ما نحن فيه، فدور السكنى غير العمارات الاستغلالية، وآلات المحترف كالقدوم والمنشار ونحوهما؛ غير الماكينات والأجهزة التي تنتج وتعمل وتدر ربحًا ودخلًا، والتي غير ظهورها وجه الحياة في العالم كله. ولهذا أطلق عليه المؤرخون اسم "الانقلاب الصناعي" ودواب الركوب غير هذه السيارات والطائرات والجواري المنشآت في البحر كالأعلام، وأثاث المنازل غير محلات "الفراشة" التي تؤجر أثاثها ومقاعدها ومعداتها للناس- فما أخطأ علماؤنا حين قرروا أن لا زكاة فيما ذكروا من الأشياء، بل طبقوا بدقة ما اشترطوه لوجوب الزكاة؛ أن يكون المال ناميًا، فاضلًا عن الحاجة الأصلية لصاحبه، ولهذا علل صاحب "الهداية" الحكم بعدم الزكاة في الأشياء المذكورة بقوله: لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية، وليست بنامية أيضًا. (1) ووضح ذلك صاحب "العناية" فقال: يعني أن الشغل بالحاجة الأصلية وعدم النماء؛ كل منهما مانع من وجوبها، وقد اجتمعا ههنا: أما كونها مشغولة بها فلأنه لا بد له من دار يسكنها، وثياب يلبسها.. الخ- وأما عدم النماء فلأنه إما خلقي كما في الذهب والفضة، وإما بإعداد للتجارة، وليسا موجودين ههنا. (2) وعلى هذا اتفق الفقهاء: أن لا زكاة في دار اتخذها صاحبها للسكنى، وهذا من العدل والتيسير الذي جاء به الإسلام، وإن كنا نرى كثيرًا من قوانين الضرائب في الدول المعاصرة تعمد إلى أخذ ضريبة على العقار، ولو كان سكنًا لصاحبه، وقليل منها –مثل التشريع الأمريكي- هو الذي نص على إعفاء مالك المبنى من الضريبة إذا كان يتخذه لسكناه. هذا إلى أن تعليل فقهائنا لعدم وجوب الزكاة في الدور والثياب وآلات الحرفة ونحوها بأنها مشغولة بالحاجة الأصلية، وبأنها غير نامية، يدل –بمفهوم المخالفة- أن ما اتخذ منها للنماء ولغير الاستعمال في الحاجة الأصيلة يصبح صالحًا لوجوب الزكاة.   (1) الهداية مع فتح القدير ج 1 ص 487 (2) العناية نفس الصفحة السابقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 المبحث الثاني كيف تزكي العمارات والمصانع ونحوها الأموال النامية التي أوجب فيها الإسلام الزكاة نوعان: الأول: نوع تؤخذ الزكاة من أصله ونمائه معًا، أي من رأس المال وغلته، عند كل حول، كما في زكاة الماشية وعروض التجارة، وهذا لتمام الصلة بين الأصل وفوائده وغلاته، ومقدار الزكاة هنا هو ربع العشر، أي 2.5 %. الثاني: نوع تؤخذ الزكاة من غلته وإيراده فقط، بمجرد الحصول على الغلة دون انتظار حول، سواء أكان رأس المال ثابتًا كالأرض الزراعية، أو غير ثابت كنحل العسل. ومقدار الزكاة هنا هو العشر أو نصفه أي 10 % أو 5 %. فعلى أي أساس تعامل هذه الأموال النامية الجديدة؟ وكيف تأخذ منها الزكاة؟ أنأخذ الزكاة من رأس المال وما بقي من غلته كما في أموال التجارة! أم نأخذ من غلته وإيراده فقط كما في الحبوب والثمار والعسل؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 اتجاهان قديمان في زكاة الدور المؤجرة ونحوها من المستغلات: ولعل كثيرًا من المتصلين بالفقه ولا يغوصون في أعماقه يظنون أن الدور التي تكرى للناس بأجر، ونحوه مما يدر في كل عام أو في كل شهر مالًا وإيرادًا متجددًا؛ لم ينص أحد من الفقهاء على حكم في زكاته؛ لأنها لم تكن مما عمت به البلوى، وانتشر بين الناس، واحتاجوا فيه إلى حكم حاسم. وهذا التعليل حق، ولكن وجدنا رغم ذلك من فقهائنا من يقول بتزكيتها، وإن اختلفوا في معاملتها والنظر إليها: أتعامل معاملة رأس المال التجاري، فتقوم كل حول، وتؤخذ الزكاة منها ربع عشر قيمتها؟ أم يغض النظر عن قيمتها وتؤخذ الزكاة من غلتها وإيرادها إذا بلغ نصابًا مستوفيًا لشروط الزكاة؟ الاتجاه الأول: أن تقوم وتزكى زكاة التجارة: هذا الرأي يعامل مالك العمارة الاستغلالية، والطائرة والسفينة التجاريتين ونحوها معاملة مال السلع التجارية، فتثمن العمارة كل عام، مضافًا إليها ما بقي معه من إيرادها، ويخرج عن ذلك كله 2.5 % ككل عروض التجارة. وقد وجد في فقهاء السنة وفي فقهاء الشيعة من ذهب هذا المذهب. رأي ابن عقيل الحنبلي: ففي فقه أهل السنة وجدت هذا الرأي للفقيه الحنبلي أبي الوفاء ابن عقيل –وهو عالم قوي الذهن ناضج الفكر خصب الاستنتاج- وقد نقل عنه هذا الرأي المحقق ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد" نقل الموافق المقر- قال ابن عقيل مخرجًا ما روي عن الإمام أحمد في تزكيته حلى الكراء: يخرج من رواية إيجاب الزكاة من حلى الكراء والمواشط؛ أن تجب في العقار المعد للكراء، وكل سلعة تؤجر وتعد للإجارة. قال: "وإنما خرجت ذلك على الحلي؛ لأنه قد ثبت من أصلنا أن الحلي لا تجب فيه الزكاة، فإذا أعد للكراء وجبت. فإذا ثبت أن الإعداد للكراء أنشأ إيجاب الزكاة في شيء لا تجب فيه الزكاة كان في جميع العروض التي لا تجب فيها لزكاة ينشئ إيجاب الزكاة. "يوضحه أن الذهب والفضة عينان تجب الزكاة بجنسهما وعينهما، ثم إن الصياغة والإعداد للباس والزينة والانتفاع؛ غلبت على إسقاط الزكاة في عينه، ثم جاء الإعداد للكراء فغلب على الاستعمال، وأنشأ إيجاب الزكاة؛ فصار أقوى مما قوى على إسقاط الزكاة، فأولى أن يوجب الزكاة في العقار والأواني والحيوان التي لا زكاة في جنسها" (1) هذا ما ذكره ابن عقيل وأقره ابن القيم تخريجًا على مذهب أحمد. ونحن نقول: إن ما ذهب إليه الإمام أحمد من إسقاط الزكاة عن الذهب والفضة إذا استعملا في حلي مباح، ومن إيجابها في الحلي إذا أعد للكراء؛ مذهب قوى، يستند إلى أصل هام في باب الزكاة وهو: أن لا زكاة في مال غير نام أو مشغول بالحاجة الأصلية، وإنما الزكاة في المال النامي، وهو الذي يدر على صاحبه كسبًا ودخلًا.   (1) بدائع الفوائد ج 3 ص 143 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 والحلي المباح المستعمل للزينة واللبس مال غير نام، ومشغول بحاجة صاحبته، فإذا أعده للكراء فقد خرج عن ذلك إلى حيز النماء، وأصبح صالحًا للدخول في وعاء الزكاة". وهو قول لمالك أيضًا كما ذكر ابن رشد. (1) وإذا طبقنا هذا على العقارات والأثاث والسيارات والسفن والطائرات والماكينات والأجهزة الصناعية المختلفة، اتضح لنا هذا الحكم: أن لا زكاة فيها إذا كانت للاستعمال الشخصي، فإذا أعدت للكراء، وغدا من شأنها أن تجلب نماء وربحًا؛ فقد غدت صالحة لوجوب الزكاة، وزكاتها في هذه الحال كزكاة عروض التجارة نصابًا ومقدارًا. ومعنى هذا أن مالك العمارة أو "الأوتوبيس" أو الطائرة أو الفندق أو محل "الفراشة" (2) أو أي سلعة تؤجر وتعد للإجارة –كما قال ابن عقيل - عليه- فردًا كان أو شركة- أن يقوم عقاراته أو سياراته (التاكسي) ، فإذا عرف قيمتها ضم إليها ما لديه من رأس المال النقدي، وما له من ديون مرجوة، كما يصنع التاجر في رأس ماله، ثم يخرج ربع عشرها زكاة. ولا يقال: إن هذه الأشياء رأس مال ثابت، فيجب أن يعفى من الزكاة، كما يعفى الأثاث الثابت في حوانيت التجارة؛ لأنا نقول: إن هذه الأشياء الثابتة هنا هي نفسها رأس المال النامي المغل الذي به تجلب المكاسب والأرباح، وإنما يعفى ما لم يكن مقصودًا للكسب من ورائه، كالأرض والمباني التي توضع فيها الماكينات الصناعية، لأن الماكينات هي المقصودة، بخلاف الأرض والمباني في العمارة والفندق والسينما ونحوها، فإن المبنى نفسه هو الذي يجلب الفائدة والمال.   (1) بداية المجتهد ج 1 ص 237 ط 1 استانبول سنة 1333هـ (2) يراد بها محلات تأجير الأثاث من خيام ومقاعد وأدوات في الأفراح والولائم وغيرها من المناسبات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 مذهب الهادوية في المستغلات: وفي فقه الشيعة وجدت صاحب "البحر الزخار" وهو سجل جامع لمذاهب علماء الأمصار أهل سنة وشيعة –قد نقل عن الهادوية من الشيعة الزيدية؛ أنهم ذهبوا إلى إيجاب الزكاة في المستغل من كل شيء لأجل الاستغلال، لعموم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} ولأنه مال قصد به النماء في التصرف فكان كمال التجارة فيزكيه إذا بلغت قيمته نصابًا. (1) ثم رجعت إلى "متن الأزهار" وشرحه وحواشيه، في فقه الزيدية، فوجدته يتبنى مذهب الإمام الهادي في "المستغلات" ويعنون بها: كل ما تجددت منفعته، مع بقاء عينه. فلا تجب الزكاة عندهم في الخيل والبغال والحمير والدور والضياع ونحوها، إلا أن يكون شيء منها لتجارة أو استغلال. فكل ما يؤجر من حلية أو دار أو دابة أو غيرها إذا بلغت قيمته نصابًا من النقود طرفي الحول، تجب تزكيته زكاة التجارة. ذكروا عن الهادي: أن من اشترى فرسًا لبيع نتاجها متى حصل، فإنه يلزمه الزكاة في قيمتها وقيمة أولادها، قال المؤيد بالله وأبو العباس وأبو طالب: ووجهه أنها تصير للتجارة هي وأولادها. قال المؤيد بالله: وكذلك من اشترى دود القز ليبيع ما يحصل منها.   (1) البحر الزاخر ج 2 ص 147 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 قال الحقيني: وكذلك من اشترى الشجرة ليبيع ما يحصل منها من الثمار وقيل: وكذا من اشترى بقرة ليبيع ما يحصل منها من السمن واللبن، أو شاة ليبيع ما يحصل من الصوف والسمن والأولاد. (1) ودليل هذا المذهب ذكره في "البحر" وهو أمران: 1- عموم النصوص التي أوجبت الزكاة في الأموال مطلقًا، دون فصل بين مال ومال. 2- قياس المال المستغل على المال المتجر فيه، فكلاهما مال قصد به النماء، ولا فرق بين المعارضة في الأعيان والمعارضة في المنافع. اعتراضات المانعين: وقد اعترض على هذا الرأي بعض الفقهاء الذين يميلون إلى التضييق في إيجاب الزكاة، مثل الإمام الشوكاني في (الدرر البهية) وشارحها صديق حسن خان في (الروضة الندية) . ولا يبعد ممن يقول: ليس في الخضروات ولا في البقول ولا في أموال التجارة زكاة –وهذا رأي الشوكاني وصديق- أن يقول: ليس من المستغلات كالدور والدواب التي يكريها مالكها زكاة. وجملة ما احتج به في الروضة يرجع إلى شعبتين: إحداهما تتعلق بالمنقول من الخبر، والثانية تتصل بالمعقول من النظر. (أ) فأما الخبر فحديث ((ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة)) وهو يصرح بنفي الصدقة عن فرس المسلم نفيًا عامًا، وهذا النفي يشمل حالة استغلاله بالتجارة أو بالكراء. وأما الشبهة الأخرى فهي أن إيجاب الزكاة فيما ليس من الأموال التي تجب فيها الزكاة بالاتفاق –كالدور والعقار والدواب ونحوها- بمجرد تأجيرها بأجرة بدون تجارة في أعيانها، مما لم يسمع به في الصدر الأول الذين هم خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، فضلًا عن أن يسمع فيه بدليل من كتاب أو سنة.   (1) انظر شرح الأزهار لابن مفتاح وحواشيه ص 450، 451، 475 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 وقد كانوا يستأجرون ويؤجرون، ويقبضون الأجرة من دورهم وضياعهم ودوابهم ولم يخطر ببال أحدهم أن يخرج في رأس الحول ربع عشر داره أو عقاره أو دوابه، وانقرضوا وهم في راحة من هذا التكليف الشاق، حتى كان آخر القرن الثالث، من أهل المائة الثالثة؛ فقال بذلك من قال بدون دليل إلا مجرد القياس على أموال التجارة، وقد عرفت الكلام في الأصل –يعني زكاة التجارة- فيكف يقوم الظل والعود أعوج؟ مع أن هذا القياس في نفسه مختلف بوجوه، منها: وجود الفارق بين الأصل والفرع، فإن الانتفاع بالمنفعة ليس كالانتفاع بالعين. (1) وخلاصة هذه الشبهة: أن الأصل براءة الناس من التكاليف، ولم يوجد دليل يوجب الزكاة في هذه المستغلات، حتى إن أحدًا من السلف لم ينقل عنه القول بزكاتها، فضلًا عن نص من آية أو حديث. أما القياس على أموال التجارة وزكاتها؛ فعلى فرض التسليم بثبوت الزكاة فيها، فقد اختل القياس بوجود الفارق وهو: أن أموال التجارة وسلعها ينتفع بعينها، فتنتقل العين من يد إلى يد بالبيع والشراء، بخلاف هذه الأشياء، فإنها باقية، وإنما يستفاد من منفعتها فحسب.   (1) الروضة الدية ج 1 ص 194 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 تعقيب وترجيح: أما حديث ((ليس على المسلم في عبده أو فرسه صدقة)) فالذي اخترناه أن نفي الصدقة فيهما إنما كان لأنهما من حوائجه الأصلية؛ فالعبد يخدمه، والفرس مركبه وعدته للجهاد، ومن ثم أو جب جمهور الفقهاء منذ الصدر الأول إخراج الزكاة عن العبد والفرس إذا كانا للتجارة، بل نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، ولم يقف ظاهرًا هذا الحديث دون ما فهموه وأفتوا به. وأما عدم النقل عن الصدر الأول ما يفيد إيجاب الزكاة في هذه الأشياء؛ فإنما كان لعدم شيوع الكراء والاستغلال فيها بحيث تعم به البلوى –على حد تعبير الفقهاء- ويظهر الحكم، ويتناقله الرواة، وكل عصر له مشكلاته التي تثار، ويطلب إبرام حكم في شأنها، ولم تكن هذه (المستغلات) من مشكلات تلك الأعصار. قال في (البحر) : وقد ادعى مخالفة الهادوية للإجماع، وفيه نظر؛ إذ لم يصرح السلف فيها بحكم. (1) وفي حواشي شرح الأزهار: المختار أن قول الهادي ليس مخالفًا للإجماع؛ لأن الصحابة والتابعين إما أن يكونوا خاضوا في المسألة واختلفوا فيها، فهي خلافية، أو خاضوا وأجمعوا، فلم ينقله عنهم ناقل، أو لم يخوضوا، فلا حرج في استنباط مسألة بفكره الصائب، ونظره الثاقب. (2) أما قياس هذه (المستغلات) على عروض التجارة؛ فربما كان له وجه عند النظرة الأولى، إذ كل من المستغلات والعروض رأس مال نام مغل، وكلا المالكين تاجر يستثمر رأس ماله ويستغله ويربح منه، وكون صاحب العروض ينتفع بإخراج عين الشيء عن ملكه، وصاحب العمارة والمصنع ينتفع بالغلة مع بقاء العين؛ ليس فرقًا يوجب الزكاة على أحدهما ويعفي الآخر. بل قد يقال: إن المنتفع باستغلال الشيء مع بقاء عينه في ملكه –كمالك العمارة وصاحب المصنع- ربما كان أكثر ضمانًا للربح، وأمانًا من الخسارة، من صاحبه التاجر الآخر.   (1) البحر الزخار ج 1 ص 148 (2) حاشية شرح الأزهار ج 1 ص 450 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 هذا ما قد يبدو لأول وهلة، ولكن عند التأمل يتبين لنا المفارقات الآتية: أولًا: أن أصدق تعريف لعروض التجارة هو: كل ما يعد للبيع من الأشياء بقصد الربح، كما جاء في حديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم أن يخرجوا الزكاة مما يعدونه للبيع. وقد تقدم في زكاة التجارة. ومما لا يخفى أن هذه العمارات والمصانع وما شاكلها كلها لا يعدها مالكها للبيع. بل للاستغلال. وإنما ينطبق هذا على التجار والمقاولين الذين يشترون العمارات أو يبنونها بقصد بيعها والربح من ورائها. فهذه تعامل معاملة عروض التجارة بلا نزاع. ثانيًا: أننا لو جعلنا كل مالك يستغل رأس ماله ويبتغي نماءه تاجرًا –ولو كان رأس المال غير متداول وغير معد للبيع- لكان مالك الأرض والشجر التي تخرج له زرعًا وثمرًا تاجرًا أيضًا، ويجب أن يقوم كل عام أرضه أو حديقته ويخرج عنها ربع العشر زكاة، وهذا ما لا يقبل، ولا يقول به أحد. ثالثًا: أن هذه المستغلات قد يتوقف في بعض الأحيان استغلالها لسبب من الأسباب، فلا يجد صاحب العمارة من يستأجرها، ولا يجد صاحب المصنع المواد الأولية اللازمة، أو الأيدي العاملة، أو السوق الرائجة.. الخ، فمن أين يخرج زكاته؟ إن صاحب العروض التجارية السائلة (المتداولة) يبيعها ويخرج زكاتها من قيمتها، بل يمكن عند الحاجة أن يدفع الزكاة من عينها –كما رجحنا ذلك- ولكن صاحب الدار أو المصنع كيف تؤخذ منه الزكاة إذا لم يكن له مال آخر؟ لا سبيل إلى ذلك إلا بيع العقار أو جزء منه ليستطيع أداء الزكاة، وفي هذا عسر ظاهر، والله يريد بعباده اليسر، ولا يريد بهم العسر. ومن هنا تظهر قيمة الفرق بين ما ينتفع بعينه كالعروض التجارية، وما ينتفع بغلته كالعقارات ونحوها. رابعًا: يعكر على هذا الرأي من الناحية العملية: أن العمارة أو المصنع ونحوه ستحتاج كل عام إلى تثمين وتقدير، لمعرفة كم تساوي قيمتها في وقت حولان الحول، إذ المعهود أن مرور السنين ينقص من صلاحيتها، وبالتالي من قيمتها، كما تقلب الأسعار تبعًا لشتى العوامل الداخلية والخارجية له أثره في هذا التقويم، ولا شك أن هذا التقويم الحولي تلابسه صعوبات تطبيقية، ويحتاج أول ما يحتاج إلى مختصين ذوي كفاية وأمانة قد لا يتوافرون كما أن كل هذا يقتضي جهودًا ونفقات تنتقص أخيرًا من حصيلة الزكاة. لهذا نرى أن الأولى أن تكون العمارة والمصنع ونحوهما في غلتهما، وهذا ما اتجه إليه الرأيان الآخران، وإن اختلفا في تحديد نسبة ما يؤخذ من الغلة: أهي العشر أو نصفه كما في زكاة الزروع والثمار، أم ربع العشر كما في زكاة التجارة؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 الاتجاه الثاني: أن تزكى الغلة عند قبضها زكاة النقود: أما الرأي الثاني الذي وجدناه لبعض الأئمة في كتبنا الفقهية، فإنه ينظر إلى هذه المستغلات نظرة أخرى، فلا يأخذ الزكاة من قيمتها كل حول، ولكن يأخذها من غلتها وإيرادها. ما روي عن الإمام أحمد: وقد روي عن الإمام أحمد فيمن أجر داره، وقبض كراها: أنه يزكيه إذا استفاده. كما ذكر صاحب المغني عنه. (1)   (1) المغني ج 3 ص 29، 47 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 قول بعض المالكية: وفي كتب المالكية، ذكر الشيخ زروق في شرح "الرسالة": أن في المذهب خلافًا في حكم زكاة الأشياء التي تتخذ للانتفاع بغلتها، كالدور للكراء، والغنم للصوف، والبساتين للغلة، وهذا الخلاف في أمرين: الأول: في ثمنها إذا بيعت عينها. والثاني: في غلتها إذا استفيدت. فالقول المشهور في الأول: أن يستقبل بثمنها حولًا. كعروض القنية (الممتلكات الشخصية) إذا بيعت. والقول الآخر، ينظر إليها كعروض التاجر المحتكر، وحكمه عند المالكية معروف، وهو أن يزكى ما يبيعه منها في الحال، إذا كان العرض قد بقي في ملكه حولًا أو أكثر. وهذان القولان يردان في غلة هذه الأشياء وفائدتها، كما أشار إلى ذلك الشيخ زروق، وقال: انظره في المطولات. (1) والذي يهمنا هنا هو القول الثاني، الذي يزكى فوائد "المستغلات" عند قبضها. مذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: وكل من قال بتزكية "المال المستفاد" عند تملكه (بلا اشتراط حول) يقول بتزكية الإيراد الناتج عن استغلال العمارات وإنتاج المصانع وأجرة السيارات والطائرات والأجهزة وأدوات الفراشة ونحوها. وسنرى في بحثنا عن المال المستفاد في الفصل القادم: أن هذا هو مذهب ابن عباس وابن مسعود ومعاوية والناصر والباقر وداود، كما روي عن بن عبد العزيز، والحسن البصري والزهري ومكحول والأوزاعي. (2) وحجة هؤلاء عموم النص من قوله صلى الله عليه وسلم: ((في الرقة ربع العشر)) . وزاد بعضهم هنا ما ذكره "الهادي" في قياس المال المعد للكراء والاستغلال على المال المعد للبيع. قالوا: وهو قياس قوي؛ لأن بيع المنفعة كبيع العين، وكلما كراها فكأنما باعها، إلا أن القياس يقتضي أن يقدر النصاب من الغلة التي هي الأجرة. كما ذكر صاحب "الحاصر في مذهب الناصر" حيث ذكر في الحوانيت والدور المستغلات إذا بلغ كراهًا وغلتها في السنة 200 مائتي درهم، ففيها ربع العشر، وإذا لم يبلغ ذلك، فلا شيء. (3)   (1) شرح الرسالة ج 1 ص 329 (2) انظر: موضوع المال المستفاد في الفصل الآتي عند زكاة (كسب العمل) . (3) حواشي شرح الأزهار ج 1 ص 450، 451 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 فإذا كان الرأي الأول يجعل أخذ الزكاة من رأس المال نفسه –العمارة والمصنع- فإن هذا الرأي يجعل أخذها من الدخل والإيراد، بنسبة ربع العشر 2.5، ولا يشترط لذلك حولان الحول. رأي معاصر: أن تزكى الغلة زكاة الزرع والثمر: وهناك رأي آخر معاصر يوافق الرأي الثاني في أخذ الزكاة من غلة هذه الأشياء، ولكنه يخالفه في مقدار ما يؤخذ، فإنه جعل الواجب هو العشر أو نصفه، قياسًا على الواجب في الأرض الزراعية. فإذا كان الرأي الأول قاس هذه الأشياء على عروض التجارة؛ فهذا قاسها على الأرض الزراعية، وقاس إيرادها على الزرع والثمار، إذ لا فرق بين مالك تجبى إليه غلات أرضه المزروعة، ومال آخر تجبى إليه غلات مصانعه وعماراته ونحوها. وإلى هذا الرأي –في قياس العمائر والمصانع على الأرض الزراعية- ذهب من فقهائنا المعاصرين الأساتذة: أبو زهرة وعبد الوهاب خلاف وعبد الرحمن حسن –رحمهم الله- في محاضرتهم بدمشق سنة 1952 عن الزكاة. (1) فقد قسموا الأموال –نقلًا عن الفقهاء- إلى ثلاثة أقسام: 1- أموال تقتنى لإشباع الحاجات الشخصية؛ كدور السكنى لأصحابها، والأقوات المدخرة لسد حاجة المالك، وهذه لا تجب فيها الزكاة. 2- أموال تقتنى لرجاء الربح بسببها، أو يكون من شأنها ذلك، ولكن تختزن في الخزائن، وهذا تجب فيه الزكاة باتفاق الفقهاء، ومنه الأموال التي أخذ الرسول منها الزكاة، وهي الأصل الذي يقاس عليه غيره. 3- أموال تتردد بين النماء وإشباع الحاجة الشخصية كالحلي والماشية التي تتخذ للعمل والنماء معًا، وفي حكمها اختلف الفقهاء، كما بينا من قبل. ثم قالوا: إن تطبيق هذا التقسيم على عصرنا ينتهي بنا لا محالة إلى أن ندخل في أموال الزكاة أموالًا في عصرنا مغلة نامية بالفعل، لم تكن معروفة بالنماء والاستغلال في عصر الاستنباط الفقهي، وذكروا من هذه الأموال نوعين: أولًا: أدوات الصناعة التي تعتبر رأس مال للاستغلال، وهي وسيلة الاستغلال لصاحبها، مثل صاحب مصنع كبير يستأجر العمال لإدارته، فإن رأس ماله للاستغلال هو تلك الأدوات الصناعية، فهي من هذه الآلات، فلا تعد كأدوات الحداد الذي يعمل بيده، ولا أدوات النجار الذي يعمل بيده. وهكذا.. ولهذا قالوا: نرى أن الزكاة تجب في هذه الأدوات باعتبارها مالًا ناميًا، وليس من الحاجات التي لإشباع الحاجات الشخصية بذاتها. وإذا كان الفقهاء لم يوجبوا الزكاة في أدوات الصناعة في عصورهم، فلأنها كانت أدوات أولية لا تتجاوز الحاجة الأصلية لصناعته، والإنتاج لمهارته، فلم تعتبر مالًا ناميًا منتجًا، إنما الإنتاج فيها للعامل.   (1) حلقة الدراسات الاجتماعية للجامعة العربية – الدورة الثالثة – ص 241، 242 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 أما الآن فإن المصانع تعد أدوات الصناعة نفسها رأس مالها النامي، ولذلك نقول: إن أدوات الصناعة التي يملكها صانع يعمل بنفسه كأدوات الحلاق الذي يعمل بيده ونحوه تعفى من الزكاة، لأنها تعد من الحاجات الأصلية له. أما المصانع فإن الزكاة تفرض فيها، ولا نستطيع أن نقول: إن تلك مخالفة لأقوال الفقهاء، لأنهم لم يحكموا عليها، إذ لم يروها، ولو رأوها لقالوا مثل مقالتنا فنحن في الحقيقة نخرج على أقوالهم، أو نطبق المناط الذي استنبطوه في فقههم رضي الله عنهم. وثانيًا: العمائر المعدة للاستغلال لا للسكنى الشخصية، فإننا نعدها مالًا ناميًا، ولا نعدها من الحاجات الأصلية، ولذلك نقسم الدور إلى قسمين: أحدهما: ما أعد لسكنى المالك، وهذه لا زكاة فيها، كما قرر الفقهاء. والقسم الثاني: ما هو معد للاستغلال، فإننا نرى أن تفرض فيه الزكاة، ولسنا في ذلك نخالف الفقهاء، وإن قرروا أن الدور لا زكاة فيه، لأن الدور في عصورهم لم تكن مستغلًا إلا في القليل النادر، بل كانت للحاجة الأصلية، ولم يلتفتوا إلى النادر، لأن الحكم للأغلب الشائع، والنادر لا حكم له في الشرائع. أما الآن فإن الدور أصبحت للاستغلال لا للسكنى الشخصية فقط، فالعمائر تشاد لطلب الفضل والنماء، وهي تدر الدر الوفير، فالواجب أن تؤخذ منها زكاة، إذ هي مال نام مستغل، ولأننا نأخذ من نظيرها، وهو الأراضي الزراعية، فمن العدل أن نأخذ منها زكاة، وإن لم نأخذ من هذا كان ذلك تفريقًا بين متماثلين، وذلك لا يجوز في الإسلام، ونحن في هذا أيضًا نطبق أقوال الفقهاء أو نخرج على أقوالهم لتحقيق المناط الذي استنبطوه. ومن الإنصاف أن نقول: إن الإمام أحمد – رضي الله عنه – كانت له غلة تجيئه من حوانيت يؤجرها، فكان يخرج زكاتها، مع أنه لا مورد لعيشه سواها (راجع مناقب الإمام أحمد ص 224- لابن أبي يعلى) . " ولقد رأيناه صلى الله عليه وسلم يفرض الزكاة فى الأموال المنقولة غير الثابتة من رأس المال بمقدار ربع عشره ووجدناه يفرض الزكاة فى الأموال الثابتة المنتجة, فى الغلة لا فى الأصل, لأن الأصل لا يقبل التجزئة والأخذ منه، فانتقل الأخذ إلى الغلة، فكان الأخذ من الإنتاج بمقدار العشر أو نصف العشر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 وعلى ضوء ما قرر النبي صلى الله عليه وسلم من مقادير مفرقا بين الثابت والمنقول من حيث المأخذ والمقدار، فإنا أيضًا في الأموال المنتجة في عصرنا، نفرق بين المنقول والثابت، ففي المنقول تؤخذ الزكاة من رأس المال بمقدار ربع العشر، والثابت تؤخذ الزكاة من غلته بمقدار العشر أو نصف العشر. وعلى هذا نقول: إن العمائر وأدوات الصناعة الثابتة تؤخذ الزكاة من غلاتها، ولا تؤخذ من رأس المال، وعند التقدير بالعشر أو نص العشر، إن أمكن معرفة صافي الغلات بعد التكاليف- كما هو الشأن في الشركات الصناعية – فإن الزكاة تؤخذ من الصافي بمقدار العشر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الزكاة بالعشر من الزرع الذي سقى بالمطر أو العيون، فكأنه أخذه من صافي الغلة، وإن لم تمكن معرفة الصافي على وجهه – كالعمائر المختلفة- فإن الزكاة تؤخذ مها (أي من الغلة) بمقدار نصف العشر" (1) . اهـ. هذا ما ذهب إليه ثلاثة من كبار العلماء، الذين قضوا حياتهم في دراسة الفقه الإسلامي وأصوله وتاريخه، وتدريسها. فاجتهادهم هنا هو اجتهاد الخبير الأصيل، لا المتطفل الدخيل. وهو اجتهاد صحيح، لأن معتمدة هو القياس، أحد الأصول والأدلة الشرعية المعتبرة عند جمهور الأمة. أما تعليقنا على الموضوع نفسه. فنوضحه في السطور التالية: مناقشة وترجيح: إن الرأي الذي ذهب إليه شيوخنا الأجلاء، يوافق الاتجاه الثاني – كما ذكرنا – في أخذ الزكاة من غلة العمارات والمصانع وفوائدها – أعنى أرباحها – ولكنه يخالفه في مقدار ما يجب أخذه. فالرأي السابق يجعل الواجب ربع العشر، اعتبارًا بزكاة النقود. وهذا الرأي يجعل الواجب العشر أو نصفه، اعتبارًا بزكاة الزروع والثمار، وقياسًا لدخل العمارات والمصانع ونحوها على دخل الأرض الزراعية، وهذا الرأي هو الذي أختاره، لأنه اعتمد على أصل شرعي صحيح وهو القياس، ولكني ألاحظ عليه الأمور الآتية: أولها: أن هذا الرأي أدخل المصانع والعمارات في الأموال النامية التي تجب فيها الزكاة، ولكنه لم يضع ضابطًا عامًا، أو قاعدة جامعة، يندرج تحتها كل ما ماثلها من رءوس الأموال المغلة المنتجة، فلا شك أن في عصرنا مزارع للأبقار والدواجن ونحوها، تدر ربحًا وفيرًا من المنتجات الحيوانية. وفي عصرنا أموال كسيارات الأجرة الصغيرة (التاكسي) والكبيرة (أوتوبيس) وسيارات النقل، والسفن التجارية، والطائرات التجارية والمحلات التي تؤجر الأثاث في الأحفال والمناسبات، وغير ذلك كثير. وهذه الأموال الجديدة لا تدخل تحت المصانع ولا العمارات. ولهذا رأينا أن تدخل هذه الأشياء وما شابهها تحت قاعدة " المستغلات " فهي قاعدة حاصرة جامعة. سواء أكان الاستغلال بطريق كراء العين والاستفادة بأجرتها، كالعمارات والسيارات ونحوها أم بطريق الانتاج وبيع ما يحصل من نتاجه، أي الإنتاج للسوق، كالمصانع ونحوها. سواء كان مصدر الاستغلال حيوانًا كبقر الألبان والدواجن، والتي قسنا منتجاتها في الفصل السادس على عسل النحل – أم جمادًا كالأشياء الأخرى. وسواء كان المستغل عقارًا كالعمارة والمصنع أم منقولًا كالسيارة والأثاث الذي يؤجر في الأحفال ونحوها. فلا ضرورة إذن للتفرقة بين الثابت والمنقول. كما ذكر هذا الرأي، بأن تؤخذ الزكاة في رأس المال الثابت من الغلة بمقدار العشر (أو نصفه) وفي المال المنقول تؤخذ الزكاة من رأس المال نفسه بمقدار ربع العشر.   (1) المرجع السابق ص 249، 250 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 أجل، لا ضرورة لهذه التفرقة وقد رأينا النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من العسل وهو غلة النحل، وليس النحل من العقارات، بل هو أقرب إلى المنقولات، وخلايا النحل، يمكن نقلها بالفعل. الثاني: إن قياس الدور المؤجرة ونحوها على الأرض الزراعية، غير مسلم. وقولهم: لا فرق بين مالك تجبى إليه غلات أرضه، ومالك تجبى إليه غلات عماراته، منقوض. فإن الزكاة التي تؤخذ من الزرع ليست منوطة بملك الأرض الزراعية، بل بملك الزرع نفسه، فصاحب الزرع عليه الزكاة ولو كان مستأجرًا كما هو قول الجمهور. والذي يصح أن يقاس عليه هو مالك الذي يكري أرضه، وتجبى إليه غلتها في صورة " أجرة " من مستأجريها، فهذا أشبه شيء بمالك العمارة الذي يكريها، وتجبى إليه غلتها كذلك. ولهذا كان لا بد أن يسبق هذا الحكم أصل يقاس عليه، وهو القول بزكاة أجرة الأرض الزراعية، إذا قبضها مالكها، وهو ما ذهبنا إليه من قبل، ورجحناه بالأدلة. بدون هذا الأصل لا يسلم القياس المذكور. الثالث: أن قياس العمارات ونحوها على الأرض الزراعية يمكن أن ينقض بوجود الفارق بينهما. ذلك أن الأرض الزراعية مصدر دائم للدخل، لا يعتريه توقف، ولا يلحقه بلى أو تآكل بتقادم العهد. بخلاف العمارات ونحوها فإنها مصدر مؤقت يعيش سنوات تقل أو تكثر ثم ينتهي ويتوقف، فكيف يصح القياس مع هذا الاختلاف بين الأصل والفرع والقياس يقتضي التماثل بين المقيس والمقيس عليه وإلا كان قياسًا مع الفارق. والذي يخرجنا من هذا الاعتراض، ويصحح القياس المذكور هو الأخذ بما ذهب إليه علماء الضرائب من إعفاء مقابل الاستهلاك، فقد نادوا باقتطاع مبالغ سنوية من الدخل بحيث يؤدي تراكمها على مر السنين إلى الاستعاضة عن رأس المال - مصدر الدخل- بمصدر آخر جديد. فإذا كانت الآلة أو العقار – مصدر الدخل – يستطيع الاستمرار في الإنتاج مدة ثلاثين عامًا مثلًا، فإنه يمكن – بإدخار جزء من ثلاثين جزءًا من ثمنه كل عام – شراء مصدر آخر من آلة أو عقار، عند توقف الأول، بحيث يبقى الدخل قائمًا مستمرًا، وهذا الجزء المقتطع كل عام يجب أن يعفى من الضرائب (1) فإذا كان رجل يملك عمارة يقوم ثمنها بثلاثين ألف دينار مثلًا، وافترضنا أنها تنقص كل عام 1/30 من ثمنها، أي ألف دينار فالمفروض أن تخصم هذه الألف من غلتها السنوية، فلو كانت تؤجر في السنة بمبلغ 3000 ثلاثة آلاف – تعتبر كأنه لم تؤجر إلا بألفين فقط. وبهذا يصح قياس العمارة والمصنع على الأرض الزراعية، فإنها مصدر باق صالح للإنتاج على مر الزمن، وما تحتاج إليه من تسميد ونحوه، فهو أشبه بنفقات الصيانة للمبنى والآلة. وهذا غير مقابل الاستهلاك الذي ذكرنا.   (1) انظر: علم المالية الدكتور رشيد الدقر ص 368 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 المبحث الثالث: نصاب الزكاة في العمائر ونحوها لم يعرض الأساتذة أصحاب هذا الرأي لموضوع النصاب الذي يجب توافره في غلة العمارة أو المصنع، كم هو؟ وكيف يقدر بقيمة نصاب الزرع، وهو خمسة أوسق (خمسون كلية مصري) ؟ وهل يعتبر أدنى الحبوب والثمار أو أوسطها أو أعلاها؟ – وقد يؤيد هذا المنزع أن نقيس غلة المصنع على غلة الأرض- أم يقدر النصاب بالنقود أي بما قيمته 85 جرامًا من الذهب، على اعتبار أن الذهب وحده التقدير في كل العصور؟ لعل هذا هو الأقرب والأيسر، فإن الشارع اعتبر من ملك هذا القدر غنيًا، وأوجب عليه زكاة، ولم يوجب على من ملك دون ذلك شيئًا من الزكاة. وما دام مالك العمارة أو المصنع يقبض غلة ملكه نقودًا؛ فالأولى أن يقدر النصاب بالنقود. المدة التي يعتبر فيها النصاب: وإذا كان لا بد من اعتبار النصاب – لأنه الحد الأدنى للغنى في نظر الشارع – فما المدة التي يعتبر فيها النصاب؟ أيعتبر بالشهر؟ فكل غلة شهر يشترط فيها أن تبلغ نصابًا، أم يعتبر بالسنة؟ فتضم إيرادات الشهور بعضها إلى بعض، ويخرج منها الزكاة في رأس الحول إذا بلغت نصابًا. إن الاعتبار بالشهر له مزية، وهي إعفاء ذوي الإيراد القليل من أصحاب الدور المتواضعة، التي لا يبلغ كراها في الشهر نصابًا، ففيه رفق بأرباب المال. ولكن الاعتبار بالسنة أنفع للفقراء والمستحقين، لما فيه من توسيع قاعدة الزكاة والأموال التي تجب فهيا، إذ في هذه الحالة تجب على عدد أكبر، فإن ضم دخل الشهور بعضها إلى بعض حتى تبلغ النصاب يدخل في ممولي الزكاة عددًا أكبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 ولعل هذا الاعتبار هو الأقرب، فإن دخل الفرد- كدخل الدولة أيضًا – يقدر بالسنة لا بالشهر، وقديمًا كانوا يؤجرون الدور بالسنة، ولهذا ذكرنا عن بعض الفقهاء الذين قالوا بتزكية المال المستفاد عند قبضه: إذا بلغ كراء الدار في السنة نصابًا زكي في الحال. وفي هذا الحال تعتبر غلات الشهور كالزرع أو النخل الذي يؤتى ثماره على دفعات، فيضم بعضها إلى بعض، كما هو مذهب أحمد. قال في المغنى: (وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض، سواء اتفق وقت إطلاعها وإدراكها أم اختلف، فتقدم بعضها على بعض في ذلك، ولو أن الثمرة جذت ثم أطلعت الأخرى وجذت، ضمت إحداهما إلى الأخرى، فإن كان له نخل يحمل في السنة حملين، ضم أحدهما إلى الآخر) (1) . وبذلك يكون حساب العمائر – كحساب المصانع ونحوها – حسابًا واحدًا متشابهًا، فإن المصانع إنما تصفى حسابها، وتعرف صافي إيرادها كل حول، لا كل شهر. رفع النفقات والديون من الإيراد: والذي أختاره هنا: أن الزكاة تجب في صافي الإيراد، أي بعد رفع ما يقابل النفقات والتكاليف من أجور وضرائب ونفقات صيانة ونحوها، وكذلك رفع ما يقابل الديون التي تثبت صحتها، ورفع قدر النفقة هو ما ذهب إليه عطاء وغيره في الزرع والثمر، قال عطاء: " ارفع نفقتك وزك الباقي"، وهو الذي أيده ورجحه ابن العربي في شرح الترمذي.   (1) المغنى ج 1 ص 733. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 إعفاء الحد الأدنى للمعشية: وهنا بحث تتم به زكاة العمائر ونحوها، وذلك هو حكم إعفاء الحد الأدنى لمعيشة المالك وعياله، إذا لم يكن له مورد يعيش منه غيرها. فهل تجب الزكاة في صافي الإيراد السنوي، دون أن يقتطع له منه قدر ما يعيش به هو ومن يعوله في السنة، وبتعبير فقهائنا: ما يحتاج إليه في حوائجه الأصلية؟ أم تجب في جملة الإيراد دون إعفاء شيء من ذلك؟ لا ريب أن من الناس من لا مورد لرزقه غير دار يؤجرها، أو مصنع صغير يديره بنفسه، أو بمن ينوب عنه، وقد يكون هذا المصنع أو تلك الدار لشيخ كبير، أو أرملة، أو صبية أيتام. فهل يترك لهؤلاء وأمثالهم نصيب لمعيشتهم، وما لا بد لهم منه، وتفرض الزكاة فيما بقى؟ أم تؤخذ الزكاة من جملة الإيراد كله؟ إن الذي يتفق وعدالة الإسلام أن يعفى ما يعتبر حدًا أدنى للمعيشة – في تقدير خبراء متدينين – وأن تجب الزكاة في الباقي من إيراد السنة إذا بلغ نصابًا، وهذا بالنسبة لمن ليس له إيراد آخر يكفيه حاجاته، كمعاش أو راتب أو نحوه. ودليلنا على ذلك أمران: الأول: أن الفقهاء اعتبروا المال الذي يحتاج إليه صاحبه حاجة أصلية كالمعدوم شرعًا، وشبهوه بالماء المستحق للعطش، يجوز التيمم مع وجوده، لأنه مع الحاجة إليه اعتبر معدومًا. الثاني: ما جاءت به الأحاديث – التي ذكرنا من قبل- من أمر الخارصين لثمار النخيل والأعناب بالتخفيف والتيسير على أرباب الثمار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: ((دعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع)) (أي يعفى من الزكاة هذا القدر توسعة على أرباب المال، وتقديرًا لحاجتهم إلى الأكل من الثمر رطبًا) . وقد يكون من الأضبط والأيسر إعفاء ثلث الإيراد أو ربعه ابتداء، اهتداء بروح الأحاديث المذكورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 زكاة المستغلات فضيلة الدكتور علي احمد السالوس في زكاة المستغلات اختلفت الآراء، ولم يكن هناك خلاف يذكر بين المذاهب الفقهية والذي أبرز هذا الخلاف هو ضخامة هذه المستغلات في العصر الحديث. فعندما عقدت حلقة الدراسات الاجتماعية بدمشق سنة 1952م، وبحثت موضوع الزكاة انتهى المجتمعون إلى أن المستغلات لا تزكى عينها، وإنما غلتها فقط، وأن ما تزكى غلته لا عينه يقاس على زكاة الزرع، فالعين كالأرض، والغلة كالزرع، فصافي الغلة يزكى بنسبة 10 %. وهذا الرأي وجد من عارضه، وأذكر على سبيل المثال أن الشيخ محمود شلتوت أفتى بأن الغلة تزكى زكاة نقود، أي 2.5 % واستمر الأمر إلى أن عقد المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1385هـ (1965م) . وكان أستاذنا العلامة المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة أحد الذين حضروا حلقة الدراسات الاجتماعية، وقدم للمؤتمر بحثًا عن الزكاة، وذهب في المستغلات إلى ما انتهى إليه الرأي في تلك الحلقة. وبعد مناقشة البحث انتهى المؤتمر إلى ما يأتي: الأموال النامية التي لم يرد النص ولا رأي فقهي بإيجاب الزكاة فيها حكمها كالآتي: 1- لا تجب الزكاة في أعيان العمائر الاستغلالية والمصانع والسفن والطائرات وما شابهها، بل تجب الزكاة في صافي غلتها عند توافر الناصب وحولان الحول. 2- وإذا لم يتحقق فيها نصاب وكان لصاحبها أموال أخرى تضم إليها، وتجب الزكاة في المجموع إذا توافر شرطا النصاب وحولان الحول. 3 – مقدار النسبة الواجب إخراجها هو ربع عشر صافي الغلة في نهاية الحول. ومعنى هذا أن المؤتمر رفض رأي أستاذنا، ومعلوم أن المجمع لا يصدر الفتاوى إلا بالإجماع، وهذا يعني أنه هو نفسه عدل عن رأيه وانضم لرأي الجماعة، ولكن سمعت غير هذا، ولا أجد له تفسيرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 وبعد المؤتمر الثاني للمجمع ظهر كتاب "فقه الزكاة" للأستاذ يوسف القرضاوي وكان للكتاب أثره الواسع في هذا المجال. وانتهى فضيلته في المستغلات إلى رأي حلقة الدراسات الاجتماعية مع شيء من التعديل، يحث رأي إسقاط ما يقابل استهلاك العين، فالعين المستغلة لها عمر زمني مفترض، واقترح عدم تزكية الربع أو الثلث كما كان يحدث عادة في الخرص. وهذا الرأي كأنه وسط بين الرأيين. وينتهي الأمر إلى مؤتمر الزكاة الأول الذي شرفت بحضوره. وذكرت في اجتماع اللجنة العلمية ما يؤيد المؤتمر الثاني لمجمع البحوث، مستدلًا بما يأتي: 1- المستغلات في عصرنا لا أصل لها في تاريخ أمتنا، حيث كان المسلمون يؤجرون البيوت، والحوانيت، والحمامات، والدواب، وغيرها، ورأي الأئمة الإعلام أن الغلة تزكى زكاة نقود، وما قال أحد بقياسها على الزرع. 2- الزكاة عبادة، والقياس في العبادة قد يكون غير جائز. 3 – ولو أخذنا بالقياس نظرًا للجانب المالي، فهو هنا قياس مع الفارق، لأن المستغل ليس كالأرض، فقد يهلك في لحظة: فتحترق الطائرة، وتغرق السفينة، وتنهدم العمارة، والأرض باقية إلى أن يأذن الله عز وجل في زلزلتها. والغلة ليست كالزرع لأنها تزكى كل حول، أما الزرع فبعد أن يزكى، إذا ادخر سنوات فلا يزكى مرة ثانية، إلا إذا أصبح عروض تجارة. ولذلك بين الإمام الشافعي الفرق بين النقدين والزرع بقوله في رسالته (ص527- 528) : " ... وأني لم أعلم منهم مخالفًا في أني علمت معدنا فأديت الحق فيما خرج منه، ثم أقامت فضته أو ذهبه عندي دهري، كان على في كل سنة أداء زكاتها، ولو حصدت طعام أرضى فأخرجت عشرة، ثم أقام عندي دهره، لم يكن على فيه زكاة ". ولكن هذا الرأي رفضه الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي، والأستاذ الدكتور مصطفى الزرقاء، وهو أحد الذين حضروا الدراسات الاجتماعية، وقد رد قائلًا بجواز القياس هنا، وبأن هذا القياس قياس محكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 العرض والمناقشة 10/4/ 1406- 22/12/1985 الساعة 16.20 – 20.20 الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. نبحث الآن موضوع " زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية " وأمامكم فيه بحثان: أحدهما لفضيلة الشيخ القرضاوي، والثاني لفضيلة الشيخ علي بن أحمد السالوس، وقد ترون مناسبًا أن يتفضل الشيخ يوسف القرضاوي بعرض موجز عن البحث في هذا الموضوع يعتمد النظرة الفقهية من خلال الاختلاف والدليل فليتفضل مشكورًا. الشيخ يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، {رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ، اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، وبعد. هذا الموضوع الذي قدمت لأتحدث عنه، ليس جديدًا عليكم وهو في كتابي " فقه الزكاة" وأعتقد أنكم تعرفونه، لذلك فأنا أجد من العسير أن أكرر نفسي لهذا فأنا ألخص تلخيصًا ربما كان مخلًا كالتلخيص الذي لخصه مجموع ملخصات البحوث وهو في الحقيقة ملخص تلخيصًا شديدًا جدًا لا يمكن أن يفي ببعض ما في الموضوع من أساسيات. الذي أريد أن أؤكد عليه هنا أن الشريعة لا تفرق بين متماثلين كما أنها لا تجمع بين مختلفين، وأن أحكام الشريعة في جملتها معللة مفهومة، وأن جمهور فقهاء الأمة يعللون الأحكام، وهذا ما جعلنا ننظر في وعاء الزكاة أو الأموال التي تجب فيها الزكاة على أساس هذه النظرة، وأن سبب إيجاب الزكاة كما نص كثير من الفقهاء هو المال النامي، النامي حقيقة أو النامي تقديرًا، النامي أو القابل للنماء، ومعنى أنه نام أنه يدر كسبًا وإيرادًا لصاحبه، وبناء على هذا قلنا: إن الأموال النامية تختلف من عصر إلى عصر، ربما كانت هناك أموال في عصر النبوة وفي عصر الصحابة ليس لها نماء أصبحت في عصرنا أموالا نامية بل من أكبر الأموال النامية وأكثرها وأشهرها، ومن هنا ظهرت أشياء لعلها لم تظهر عند الفقهاء السابقين فلم يكن عندهم ما يجعلهم يجتهدون فيها، والاجتهاد وليد مشكلة يجدها الفقيه فيبحث ويجتهد، فإذا لم توجد أو وجدت على سبيل الندرة، لم يكن هناك حاجة للاجتهاد ربما وجدت بعد عصور الاجتهاد ولكن في عصور التقليد، قلما نجد قولًا إلا أن يردد أقوال السابقين، هذا ما جعلنا ننظر في المستغلات أو أو الأراضى والعقارات , العقارات والمصانع ونحوها التى سماها بعض الفقهاء " المستغلات " وهو ما تبقى عينه وتتجدد منفعته بخلاف الأِشياء التي تعد للتجارة في العين تنتقل من يد إلى يد، هذا الأشياء رأيناها في عصرنا في مثل العمارات السكنية وفي مثل المصانع التي تنتج ويباع نتاجها في الأسواق، ماذا ينبغي أن ننظر إلى هذه الأشياء، ربما إذا نظرنا إلى الفقه التقليدي أو المشهور فيه نقول: لا شك فيها حتى يأتي منها بعض المال ويحول عليه الحول فتجب فيه الزكاة، ولكن إذا لم يحل عليه الحول كما يحدث فعلًا، فإن كثيرًا من أصحاب هذه العمارات والمصانع لا يبقى في يدهم مال يحول عليه الحول، لأن المال يتحول للانتاج مرة أخرى، لا يبقى عنده سيولة، أكبر التجار والرأسماليين ليس عندهم مال سائل، لأن المال يعمل باستمرار من شيء إلى شيء فربما تمر السنون تلو السنين ولا تجب عليه زكاة قط، فهل قصد الشارع أن يعفى هؤلاء من الزكاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 فمن هنا كانت نظرتنا إلى هذه الأموال، إن هذه هي أموال نامية وعلة وجوب الزكاة هو النماء أو المال النامي، من ناحية أخرى النصوص العامة، عموم النصوص وإطلاقها التي أوجبت في كل مال حقا أو في كل مال زكاة {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} "أدوا زكاة أموالكم" من غير فصل بين مال ومال. وكما قال القاضي أبو بكر بن العربي إن كلمة " زكاة أموالكم"، أو {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ، عام في كل مال على تباين أسمائه وإختلاف أغراضه ,فمن خص منها شيئا فعليه الدليل ,فعموم النصوص من ناحية، والتعليل بأن وجوب الزكاة أساسه المال النامي والقياس أيضًا، وأحب أن أقول إن الزكاة فيها قياس من نواح كثيرة، وما من مذهب فقهي إلا وأدخل القياس في الزكاة، والزكاة ينظر إليها على أنها إحدى العبادات الأربع والشعائر الكبرى في الإسلام، وقد ينظر بعض الناس إلى هذا الجانب فيقول: إنه لا يدخل القياس فيها، ولكن الزكاة ليست عبادة محضة، بل هي عبادة وهي أيضًا جزء من النظام المالي والاقتصادي في الإسلام، هذا يجعل الفقهاء أحيانًا ينظرون إليها باعتبارها حقًا ماليًا، ولهذا أوجب الأئمة الثلاثة وجمهور الأمة الزكاة في مال اليتيم، ولم يخالف في ذلك إلا الحنفية الذين نظروا إلى الجانب العبادي فيها، فلم يوجبوا الزكاة على الصغير والمجنون، على حين أن الحنفية نظروا إليها من الجانب العبادي في هذه الناحية، فالزكاة فيها بجوار الجانب العبادي الجانب الاجتماعي والاقتصادي والمالي، فهذا القياس جعلنا نقول إنه ينبغي أن يقاس ما تنتج هذه العقارات وهذه الأشياء على إيجار الأرض الزراعية خاصة عندما يقال إن المالك يخرج الزكاة عن أجرة الأرض كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة، هذا ما أحببت أن أقوله في وجهة الموسعين في إيجاب الزكاة، وهناك طبعًا مضيقون في إيجاب زكاة، وبعضهم يضيق إلى أن يقول: إنه ليس في عروض التجارة صدقة، كما هو مذهب الظاهرية، فطبعًا أولى أن يقولوا في إيجاب المستغلات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 هناك أحب أن أقول شيئًا في هذا، أنه سبق لكثير من الفقهاء القول بإيجاب الزكاة في هذه الأشياء ولهم أكثر من اتجاه، فهناك من ينظر إلى أعيانها كما حكى ابن القيم عن ابن عقيل، الإمام ابن عقيل الحنبلي وهو إمام مشهور ذو باع طويل وصاحب الفنون، ابن عقيل قال: إن الزكاة في العقارات أو في الحلى كما ورد عن الإمام أحمد: الحلى إذا اتخذ للكراء، ورد عن الإمام أحمد رواية أن فيه زكاة خرج ابن عقيل على رواية الإمام أحمد تخريجًا: أن الدور التي تكرى ونحوها تكون فيها زكاة أيضًا، ونقل هذا ابن القيم عن ابن عقيل ولم يعترض عليه حيث إنه أقره في ذلك، هناك أيضًا بعض الأقوال في مذهب مالك ذكرتها في كتاب " فقه الزكاة "، وهناك رواية عن الإمام أحمد أيضًا: أنه من قبض كراء داره يزكيها عندما يقبضها، وهذا ذكره أيضًا ابن قدامة في " المغنى"، وهناك كل من يزكى المال المستفاد من الصحابة والتابعين يقول بزكاة هذه الأشياء عندما يقبضها، عندما يقبض الغلة، الإيراد. مذهب ابن مسعود ومذهب ابن عباس ومذهب معاوية من الصحابة ومذهب عدد من التابعين أن المال المستفاد، أي المال الذي لم يزك من قبل، الذي يقبضه صاحبه عليه أن يزكيه حين يقبضه، أي يزكيه حين يستفيده كما قال ابن عباس، وكان ابن مسعود يعطي العطاء ويأخذ من كل ألف خمسة وعشرين، يعني بيسموه الحجز في المنبع، وهكذا، وكذلك كان معاوية يزكى العطاء، وكان عمر بن عبد العزيز يزكى العطاء والجائزة، يخصم، فإن كل من يقوم بزكاة المال المستفاد عند قبضه يزكى غلة هذه العقارات، ولكن المذهب الذي اخترته هو ما ذهب إليه مشايخنا منذ ثلث قرن، المرحوم الشيخ خلاف وإخواننا السلفيون يعترضون علينا في المرحوم الشيخ خلاف والشيخ أبو زهرة والشيخ عبد الرحمن حسن رحمهم الله جميعًا- المرحوم أي المدعو له بالرحمة- فهؤلاء في سنة 52 في حلقة الدراسات الاجتماعية التي عقدت بدمشق، ذهبوا إلى أن هذه العقارات والمصانع تزكى غلتها العشر، عشر الصافي قياسًا على الأرض الزراعية، أنا قلت: هناك يجب أيضًا لكي يكون القياس صحيحًا أن نعفي مقابل الاستهلاك، لأن الأرض الزراعية لا تستهلك في 30 سنة يحسم ذلك على هذا السن التقديري أو العمر التقديري، هذا ما ذهبت إليه وأردت بذلك في الحقيقة أن أرد على الذين يقولون: إن الشريعة الإسلامية توجب الزكاة على الفقراء وتعفى الأغنياء، كما قال لي أحد الإخوة ونحنن نصعد الأسانسير في النفدق الذي نقيم فيه قال: انظر هذه الناطحة من ناطحات السحاب قلت له: ولكن لا يبدو أن ليس عليها زكاة لأن صاحب هذه الناطحة ممكن أن يأتي إليه الآلاف والملايين ومع هذا لا تجب عليه الزكاة لأنه لا ينتظر حتى يحول عليها الحول، ومنذ سنوات كنت في ماليزيا سألني مدير جامعة الملايو سؤالًا أثاره الشيوعيون هناك قالوا: إن الإسلام يوجب الزكاة على فقراء المزارعين صغار الزراع ويعفى كبار الملاك، سألني هذا السؤال فعرفت من أين أتى هذا السؤال، أتى هذا السؤال أن في مذهب الشافعي ويقرب منه بعض المذاهب الأخرى أن الزكاة لا تؤخد إلا مما يقتات على سبيل الاختيار، القمح، الذرة، والأرز، هذه الأشياء، أما مزارع التفاح والمانجو وجوز الهند والشاي والمطاط وغير ذلك وإن جلبت لصاحبها الملايين فليس فيها شيء، المجالس الإسلامية هناك حينما تأخذ الزكاة ممن يزرعون الذرة والقمح وهذه الأشياء وهؤلاء هم الفقراء ومعظمهم مستأجرون، أما كبار الملاك فلا تأخذ منهم شيئا، فقلت له: إن في مذهب أبي حنيفة الزكاة في كل ما أخرجته الأرض، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز وقد جاء عن عدد من السلف وهو الموافق لعموم الآيات والنصوص، ولذلك رجحه القاضي أبو بكر ابن العربي في كتابيه أحكام القرآن، وعارضة الأحوذي وقال إن مذهب أبي حنيفة هو أحوط للمساكين وأليق بشكر النعمة وأحق بتحقيق مقاصد الشرع ومصالح الخلق.. إلى آخر المقال، والإمام الشافعي لعله لو كان موجودًا الآن ورأى ما رأينا لغير رأيه ما يدرينا لعله يغير رأيه، وقد غير رأيه في مدة أقرب من هذا، كان له مذهب قديم في العراق ومذهب جديد في مصر، هذه المفارقات هي التي تجعلنا أيها الإخوة نقول بتوسيع وعاء الزكاة، فلا يعقل أن نقول: إن الشارع قصد إلى إعفاء الغنى وإيجاب عبء الزكاة على الفقير، أليس هذا صاحب ناطحات السحاب وغيره أليسوا محتاجين إلى تطهير أنفسهم وتزكية أموالهم؟ {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أليسوا محتاجين إلى التطهير والتزكية؟ هم محتاجون وأموالهم محتاجه بل هم أكثر من غيرهم حاجة إلى هذا التطهير وإلى هذه التزكية. أكتفى بهذه الإشارات واللمحات وأسأل الله تعالى أن ينير طريقنا وأن يفقهنا في ديننا إنه سميع قريب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 الرئيس: أحب أن أسأل فضيلة الشيخ لما ركز على أن العلة في الزكاة هي النماء هل هي علة اطرادية أم لا؟ الشيخ يوسف القرضاوي: هي اطرادية نعم. الرئيس: إذا كانت اطرادية فعندنا يرد سؤال فيما لو كان عند إنسان رصيد كبير من الذهب أو الفضة وبقى سنين لا يستغله بأي نماء. الشيخ يوسف القرضاوي: فضيلة الرئيس أنا أشرت إشارة موجزة إلى معنى النماء، قلت: النماء حقيقة أو تقديرًا، ما كان قابلًا للنماء فهو نام، لذلك اعتبروا النقود بطبيعتها نامية لأنها قابلة للنماء، هذا النماء بالقوة وليس النماء بالفعل، فلو أن إنسانا عطل هذه النقود فعليه زكاتها، هذا ما قصدته من النماء وهو مشروح ومنبه عليه، والفقهاء يقصدون بالنماء: أي النماء حقيقة أو تقديرًا بأن يكون المال في ذاته قابلًا لأن ينمى، هذا ما أردته. الشيخ رجب التميمي: لقد ذكر فضيلة الأستاذ أن العقارات والمصانع والمستغلات يؤخذ منها العشر كما في الأرض الزراعية ثم استدرك وقال إن هذه الأشياء قد تستهلك على مدى ثلاثين أو غير ذلك ولذلك يجب أن ننقص العشر لأن الأرض الزراعية لا تستهلك، هذا قول جميل وله تقدير، لكن هذه المستغلات لو قسناها على الأرض الزراعية التي فيها نصف العشر والتي تحتاج إلى مؤونة مثل الأرض التي تسقى بالدولاب وغيره، أم ماذا يرى فضيلة الاستاذ حينما ننقص العشر إلى أي شيء؟ أنا أرى أن هذه المستغلات يؤخذ منها نصف العشر قياسًا على الأرض الزراعية التي تحتاج إلى مؤونة كالأرض التي تسقى بالدولاب وغيره، فما رأي فضيلة الأستاذ في ذلك أم أن له رأيًا آخر في إنقاص الزكاة من العشر إلى أي شيء؟ الشيخ يوسف القرضاوي: شكر الله لفضيلة الأستاذ التميمي، أنا أيضًا يمكنني أن أوافق على هذا لأن الذي يهمني في الحقيقة هو ألا تخلو هذه الأموال النامية الكبيرة التي يملك بعض الناس منها الكثير والكثير جدًا ألا تخلو عن زكاة عند قبض إيرادها، فيمكن أن نقول كما قال مشايخنا بالزكاة في الصافي على أن يكون عشرًا وأن يحدد المقدار لأن الكلام الآن في المقدار إذ انتهينا إلى أن فيها زكاة، ممكن أن يكون العشر في الصافي مع حساب مقابل الاستهلاك، وممكن أن يكون كما قال فضيلة الشيخ نصف العشر في الإجمالي، في إجمالي الإيراد دون نظر إلى حساب الاستهلاك قياسًا على الأرض التي تروى بآلة وما إلى ذلك أنا لا أمانع في هذا، وربما يكون هذا تيسيرا في الحساب وأسهل على عموم الناس. الشيخ رجب التميمي: يعني ممكن أن نتخذ في هذه الجلسة الرأي ونحدد الرأي في المقادير ونبحث ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 الشيخ عبد اللطيف الفرفور: بسم الله الرحمن الرحيم، أشكر لفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ يوسف القرضاوي مطلاعته القيمة وما فيها من لمسات الاجتهاد المذهبي المشكور، غير أن هنالك سهوًا فيما أعتقد، وجل الذي لا ينسى، في تقرير بعض الحقائق العلمية. ففضيلته نسب إلى الإمام الأعظم ومذهبه أنه يقول بوجوب الزكاة في المستغلات أو بغير ذلك، لعل هذا الكلام سهو، والذي هو معروف في المذهب الحنفي، في المفتى به في كتب المذهب أن المستغلات لا زكاة فيها، لا زكاة في المستغلات، وأنا الذي فهمته، ولعلك لم تقل ذلك، وأنا الذي فهمته أن الإمام الأعظم يميل مع الجمهور، لعل هذا القول قول للإمام، لكن المفتى به في المذهب كما هو معلوم لدى السادة العلماء عدم وجوب الزكاة في المستغلات والأراضي الإيجارية. هذه واحدة، فإذا كان فضيلته لم يقل ذلك فقد اتفقنا. بقيت مسألة وهي أن محل الزكاة المال المنامي تقديرًا أو تحقيقًا، وما أظن أن أحدًا من الفقهاء في المذاهب الأربعة الكبرى قال: إن علة الربا هو المال النامي، لأن علة الربا كما تعلمون العلة هي السبب المؤثر، علة الربا عند الحنفية القدر والجنس وعلة الربا عند الشافعية كما تفضل المطعومات والمقتاتات وعلة الربا عند المالكية المدخرات، فإذا تأسس كلامه على أن علة الربا هو المال النامي فقد وضع محل الربا علة، والعلة الحكم شيء ومحله شيء آخر إن علة الربا لدى كل إنسان قرأ المذهب الحنفي هي القدر والجنس، وللحنفية في ذلك استدلال كبير تجده في كتاب " التوضيح " لصدر الشريعة وحاشية التلويح، وفي كتب أصول الفقه المتعددة عند الحنفية، فقضية المال النامي ليس علة أبدًا لا عند الحنفية ولا عند المالكية ولا عند الشافعية، ولكنني إنصافًا للحقيقة العلمية لم أطلع على قول عند الحنابلة في قضية المال المنامي هل هو العلة أم لا؟ وأرجو أن يفيدني في مذهب الحنابلة فضيلته في هذا، فإنني أعلم أن المذهب الحنبلي دائمًا بنحو قريبا من المذهب الشافعي في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل القياسية الفقهية، فإذا كان أصل الموضوع كله مبنيًا على أن علة الربا هو المال النامي فإن أصل الموضوع من أساسه يحتاج إلى نظر، هذا مع العلم بأني أنصف فضيلته في مقاصده وفي حقية وغاية ما قاله وما رمى إليه من أننا نريد توسيع وعاء الزكاة وعدم إعفاء الأغنياء، وأننا نريد ذلك عن طريق علمي أصلي، مؤصل، ولا نريده لأجل أن نقول هذا الكلام انطلاقًا من عاطفة دينية صحيحة جياشة لدينا نريد تحقيقها ولكننا نطالب بالدليل الصحيح، والدليل الصحيح ما كان مبنيًا على أساس صحيح. أشكر فضيلة الرئيس وأرجو الإفادة والاستفادة، فقيل للإمام أبي حنفية: كيف وصلت إلى ما وصلت إليه قال: ما تركت الإفادة وما استنكفت عن الاستفادة. وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 الشيخ يوسف القرضاوي: شكر الله للأخ فرفور ولكن يظهر أنه الذي سها ولست أنا، وجل من لا يسهو، أولا أنا لم أقل إن أبا حنفية قال: إن هناك زكاة في المستغلات، إن هذا مذهب الزيدية وليس مذهب الحنفية، أنا قلت إن أبا حنفية يقول: الزكاة في كل ما أخرجت الأرض ورجحه القاضي أبو بكر ابن العربي، وقلت أن أبا حنيفة قال: الزكاة على المالك المؤجر في الأرض الزراعية وليس على المستأجر، وإن كان المذهب يقول الفتوى على قولهما، على قول الصاحبين وليس على قول الإمام الأعظم، هذا من ناحية، الأمر الآخر هو أمر الربا، ما دخل الربا؟ تكلمت عن علة الزكاة وليس عن علة الربا، موضوعنا هو الزكاة وليس الربا، وهما متقابلان {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} فنحن في الصدقات وليس في الربا يا شيخ فرفور، فعلة الربا هذه معروفة وفيها خلاف المذاهب، أي علة الاقتيات أو القدر والجنس، ولكن ليس هذا موضوعنا وما تطرقت إليه قط، أنا أتكلم في علة الزكاة، فأقول إن الحنفية وغيرهم حتى عند الحنابلة، أشار ابن قدامة في المغنى إلى أن النماء أيضًا هو العلة، المال النامي. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لي ولك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 الشيخ على السالوس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى من اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين. وبعد أيها الإخوة الكرام. في الواقع أنا لم أكتب بحثًا في هذا الموضوع وأنما أبديت بعض الملاحظات كنت أبديتها أمام اللجنة العلمية للمؤتمر الأول للزكاة، والتلخيص هنا فيه بعض أشياء سقطت، فرقم 1، 2، 3 هذه الأرقام إنما هي لفتوى المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية هذا ليس رأيي، وأيضًا فيه بعض أشياء أخرى سقطت، والمستغلات في عصرنا لا أصل لها، اذكر أنني قلت فيما كتبت، فما كتبته لم يصلني، هنا جزاهم الله خيرًا أرسلوا الأبحاث ولكن الأبحاث لم تصلني، وأذكر هنا أنني قلت المستغلات لها أصل، ثم الزكاة هنا بالنسبة للقياس قد يكون جائزا وقد يكون غير جائز، ففيه كلمة (غير) ناقصة، على أي حال أبين وجهة النظر التي أبديتها. حلقة الدراسات الاجتماعية كما تفضل الدكتور القرضاوي أفتت بأن المستغلات تقاس على الأراضي الزراعية، والغلة تقاس على الزرع، وهذا الرأي هناك من خالفه مثل فضيلة الشيخ شلتوت، واستمر الأمر إلى أن وصل إلى المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية، في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية قرر ما أثبته هنا أنه لا تجب الزكاة في أعيان العمائر بل في غلتها عند توافر النصاب وحولان الحول، وإذا لم يتحقق فيها نصاب وكان لصاحبها أموال أخرى تضم إليها ويزكى على المجموع بشرط توافر النصاب وحولان الحول، ومقدار الزكاة ربع العشر، إذن هنا المؤتمر الثاني لمجمع البحوث رأى أن المستغلات تزكى زكاة نقود، الغلة هي التي تزكى وتزكى زكاة نقود وليست زكاة زروع، ولم يقيسوها على الزرع، ثم أشرت أيضًا إلى ما ذكره فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه القيم " فقه الزكاة " حيث أخذ رأيًا وسطا ولم يذهب إلى رأى حلقة الدراسات كما هو ولم يوافق مجمع البحوث الإسلامية، ولذلك ما أذكره هنا ليس رأيًا شخصيًا وإنما هو أدلة أرى أنها تؤيد ما ذهب إليه المجتمعون في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 أولًا: أن هذه المستغلات كانت موجودة من قبل فكانوا يؤجرون الدور والدواب والحمامات وغير ذلك، فالمستغلات كانت موجودة فعلًا، وما قال عالم بأن نقيس هذا على الزروع وإنما كانوا ينظرون إلى الأموال هذه على أنها تزكى زكاة نقود، كيف كانت تزكى، القائلون بأنها تزكى في الحال وهم قلة، وهناك من قال تزكى بعد حولان الحول أو تضم إلى الأموال الأخرى. الأمر الثاني: أننا هنا نقيس في العبادات والقياس في العبادات قد يكون غير جائز لأننا إذا جئنا للقياس في العبادات على إطلاقه فإننا سنقع في أشياء محظورة، فعلى سبيل المثال إذا قلنا القياس المطلق أو العلة المطلقة، كيف مثلًا أن صاحب أربعين شاة يخرج شاة وصاحب مائة وعشرين شاة يخرج شاة! قلنا هنا بعلة مطلقة وهذا غنى وهذا فقير وصاحب تسع وثلاثين شاة لا يخرج شيئًا! إذن هنا القياس في العبادات لأن العبادات أصلًا أن الإنسان يعبد الله سبحانه وتعالى وهو طائع إن لم يستطع أن يصل إلى الحكمة ثم لو فرضنا أن هنا الجانب المالي في الزكاة كما تفضل الدكتور، الجانب المالي قد يجعلنا نأخذ بشيء من القياس، أقول هنا أيضًا بأن القياس مع الفارق، فارق فيماذا؟ المستغل ليس كالأرض لأن المستغل يمكن الطائرة تحترق، والسفينة تغرق، والعمارة تنهدم، إنما الأرض من طبيعتها البقاء، طبيعة الأرض تختلف عن طبيعة المستغلات هذه ناحية، ناحية أخرى، أن المستغل قد يكون قائمًا وصالحًا ومع ذلك لا يستخدم، لماذا؟ لأنه ظهر ما هو أحسن منه، آلة معينة، ثم الاختراعات الحديثة وصلت إلى مرحلة، اعتبرت هذه الآلة مرحلة متخلفة جدًا، فأصبحت لا تستخدم، فكأن ثمن هذا المستغل يعتبر ضاع. إذن نقيس المستغل على الأرض فيه فارق. الأمر الآخر ما تنتجه الأرض وما تنتجه المستغلات: ما تنتجه الأرض، إذا خرج منها وزكيته، فكما يقول الإمام الشافعي: وبقى عندي دهره فلا أزكيه مرة أخرى، أما المستغل ما يخرج منه وبقى عندى دهري ففي كل عام أزكيه، إذن هنا المستغلات زكاة الغلة التي تخرج منها عندما نزكيها هذا العام وتبقى عندنا أيضًا تتزكى في العام التالي وهكذا، أما ما يخرج من الأرض فإننا نزكيه عندما يخرج ما لم يتحول إلى تجارة، وما بينه الإمام الشافعي في رسالته الأصولية عندما أخذ يبين الفرق بين الزرع والذهب والفضة، إذن هنا القياس يكون مع فوارق كثيرة، لذلك أرى أن القياس هنا غير دقيق. أما أن نأخذ برأي أن فيها زكاة أم لا، ونزكى في الحال أم لا؟ هذا رأي أرى أن تبحثوه وأن تنتهوا فيه إلى ما يرضى الله إن شاء الله، ولكن المقدار أن نقيس على الزرع هذا هو ما أرى أنه بعيد. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.. شكرًا لإحالتي الكلمة، وأريد أن أعقب على ما جاء في كلمة سماحة الشيخ يوسف القرضاوي فيما ذهب إليه من حيث التأصيل ومن حيث التفريع. أما من حيث التأصيل فقد اعتمد العمومات في الشريعة وأسند رأيه إلى الإمام أبي بكر ابن العربي، والإمام أبو بكر بن العربي هو معلوم من كبار فقهاء المالكية وهو رجل يطلق كلامه بدون تدقيق، هو قوى الحجة يريد أن يلجيء خصمه، لو أخذنا بكلامه لقلنا له: يا إمامنا عليك أن تزكى حذاءك، عليك أن تزكى عمامتك، وعليك أن تزكى الدار التي تسكنها، وعليك أن تزكى الطعام الذي ادخرته لحياتك لكامل السنة، كل هذه أموال، في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ونعلم أن الشريعة الإسلامية من حيث الأصول بينت أشياء وسكتت عن أشياء موجودة في وقت التشريع، وما سكتت عنها إلا لأنها عفو، وقد كانت الدور تكرى، ومالك رضي الله عنه ما ملك دارًا كامل حياته وإنما يسكن في دار بالكراء، ومن أبواب الفقه عندنا أي المسلمين في كل المذاهب باب كراء الرواحل والسفن، فالرواحل والسفن كان يوجد في المسلمين من لهم نشاط في هذا النوع، فهي مشهورة معلومة عند جميع الفقهاء يشاهدونها، والذين يعتمد قولهم ما رأيت واحدًا منهم قال: إنه تجب الزكاة في هذه. الأمر الثاني هو أننا بجانب شيئين: الأمر الأول الحق الواجب، والحق الواجب هو أمر خطير لأننا نجعل أن كل من لم يقم بهذا الواجب هو آثم مستحق لعقوبة ترك الزكاة، ولكن الإسلام لم يجعل الحد الأدنى هذا هو الحق الوحيد في أموال الناس ولكن الأثرياء عندهم حق واجب وهو الأدنى، وهو ما ورد فيه النص وما زاد على ذلك هم مطالبون فيه بالصدقات وبغيرها من أبواب البر المعروفة في الإسلام. الأمر الثاني أو الثالث الذي أريد أن ألاحظه هو أنه يكفينا الاتهامات الواردة على هذه القلعة الفقهية من غير الفقهاء فلا نسمح للفقهاء أن يزيدوا ضغثًا على إبالة، ونسمع بالفقه التقليدي. فما أظن أن هناك فقهًا تقليديًا وفقهًا تجديديًا وإنما هناك فقه إسلامي كله نتيجة النظر، فلا يتهم بعضنا بعضًا بالألقاب التي تؤثر بالنسبة للعامة ولا تؤثر على العلماء. فإن هذا مفهوم الزكاة في المستغلات هو أمر مضطرب لأن السفن استهلاكها في أمد، وهناك من يكري السيارات واستهلاك السيارة هو لا يتجاوز بالنسبة للسيارة المكتراة أكثر من ثلاث سنوات على أكثر تقدير، وهناك دور العمارات وتستمر ثلاثين سنة، فهذه المستغلات هي مستغلات لا تدخل تحت قاعدة من القواعد التي نستطيع أن نضبطها بها. وبناء على ذلك كله فأنا أؤكد أن ما ذهب إليه المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية هو الصواب، وما زاد على ذلك لا يزيد على دعوة إلى أثرياء المسلمين ليساهموا في المشاريع العامة، وما وقف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء الدولة على إخراج الزكاة ولكنهم تجاوزوا ذلك إلى إعطاء ثلث ونصف مالهم وأكثر من ذلك. وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 الشيخ أحمد الخليلي: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد. فإني أشكر الرئيس على إعطائي هذه الفرصة للحديث، وأشكر للأخوين الكريمين فضيلة الدكتور القرضاوي وفضيلة الدكتور على السالوس بحثهما القيم حول هذا الموضوع ولا ريب أن الذي دفع فضيلة الدكتور القرضاوي إلى الاجتهاد في هذه القضية وما يراه من حاجة المسلمين المعوزين ومن الثراء الواسع عند بعض المسلمين، هذا الثراء يتمثل في مثل العمارات الشاهقة التي تدر عليهم دخلًا كبيرًا، فإذا ما قيل بإعفائهم من الزكاة مع فرض الزكاة على الذين يجهدون في حرث الأرض بعرق الجبين وببذل ما في أيديهم أدى ذلك إلى شيء من المفارقات، في الواقع الدين الإسلامي الحنيف دين اجتماعي يرعى مصالح جميع الطبقات، فلا يكلف الغني فوق طاقته ولا يجعل الفقير أيضًا ضائعًا في مجتمعه، ففي أموال المسلمين حقوق سوى الزكاة، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال في محكم كتابه {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} هذا حق سوى الزكاة بدليل قوله سبحانه وتعالى من بعد: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ} ، مع أنه من المعروف أن المعطوف غير المعطوف عليه في العربية، فلا يعفي أمثال هؤلاء الذين من الله عليهم بهذا الثراء من مراعاة حاجات الفقراء والمساكين بعد أن يعطوا حق الزكاة الواجب في الأصناف التي نص العلماء على وجوب الزكاة فيها، أو جاءت النصوص بوجوب الزكاة فيها. كما أنه لا يمنع أن يكون هنالك اجتهاد بحسب الظروف وبحسب الأحوال. فنجد في عهود السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم اجتهادات قد تكون هذه الاجتهادات تؤدي أحيانًا إلى تطبيق أمر لم يكن يطبق في عهد الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، مثل ذلك صنيع عمر رضي الله عنه حيث جلد في الخمر ثمانين، وصنيعه رضي الله عنه حيث جعل طلاق الثلاث ثلاثًا وقال: (رأينا الناس تعجلوا أمرا كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم) فهذا نظر منه وهذا النظر لا يحجر على علماء المسلمين. والقاعدة التي ذكرها فضيلة الدكتور على السالوس وهي أن باب العبادات لا قياس فيه، ينبغي أن ينظر في هذه القاعدة، ذلك لأن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام أشار إلى القياس في بعض الأشياء، فعندما سئل عن قبلة الصائم نبه على المضمضة التي هي مقدمة للشرب، هل تنقض المضمضة الصوم؟ فعندما أجيب بـ: لا، جعل حكم القبلة كحكم المضمضة، القبلة هي مقدمة للوقاع والمضمضة هي مقدمة للشرب. وكذلك عندما سألته الخثعمية قالت له "إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع الثبوت على الراحلة أفأحج عنه؟ فقال لها: أرأيت أن لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان مجزيًا؟ قالت: نعم قال: فذاك ذاك" فالحج عبادة، وقد قاس هذه العبادة التي هي دين الله سبحانه وتعالى على دين الناس، وكذلك أيضًا قوله عليه أفضل الصلاة والسلام للرجل الذي جاء يستفتيه في أخته التي نذرت أن تصوم ولم تصم حتى ماتت، أيضًا قاس هذا الدين على دين الخلق وقال: ((فاقضوا فدين الله أحق بالقضاء)) فإذن مجال الاجتهاد والقياس في هذه المسألة ينبغي أن لا نوصد بابه وإنما ينبغي النظر في المقدار فإذا كان هذا الدخل نقودًا ومن المعلوم أن زكاة النقد هي بنسبة 2.5 % فأقرب أن تكون هذه الزكاة الواجبة في ريع العمارات وأمثالها زكاة نقد ولا تكون زكاة زراعة، هذا الذي يتجه لي، وطبعًا المجال واسع للاجتهاد في هذه المسألة ونظر أصحاب الفضيلة العلماء فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 الشيخ عبد العزيز عيسى: بسم الله الرحمن الرحيم، أريد أن أنضم إلى إخواني الذين يرون أن لا زكاة في المستغلات لشبهة عندي، أما أولًا فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي بين الأنواع التي تجب فيها الزكاة وأنصبتها ومقاديرها، وغير معقول أن يكون هناك رغبة من الشارع أو تصرف من الشارع في أن يكون على هذه المستغلات التي صورت ثم ينسى الرسول أو يتناسى أن يبلغها الناس، هذا بعيد جدًا. وما هذه المستغلات؟ هي مثل المأجورات التي نؤجرها ونحن لم نقل لا يوجد عند أحد قول لا زكاة فيها حتى يقال نحن لا نوجب عليه الزكاة، وحتى يحتج علينا هؤلاء وأولئك والشيوعيون ومن إليهم. لم يقل أحد بمنع الزكاة عليها ولا أصدر هذا الحكم، نحن نوجب عليه الزكاة في كل ما فضل عن حاجته وحاجة من يعول إذا مضى عليها الحول وبلغت نصابًا. وكون نتصور أن فيه أحد مجنون سفيه بيجيلوا من مستغلته مائة ألف جنيه في العام ويضيعها، ده مجنون لا يكلم وهو معاقب لهذا، إنما إحنا نقول للناس: وعاء الزكاة كله فيما يتعلق بالذهب والفضة كذا وكذا، وهذا الذهب والفضة وهذا النصاب يكون من كل مدخراته، قد يكون عنده مستغلات وقد يكون عنده ثمرة مزروعات زرعها وقد يكون عنده راتب وما إلى ذلك، كل هذا يكون ويكون وعاء للزكاة، فإذا كان مجموعة أنصبة دفعت الزكاة عن مجموعة الأنصبة إذا تحقق شرطها. نحن في المستغلات سواء كانت عمارات أو نحوها، ولا نريد أن يفهم الناس أن الشارع يضيق عليهم، الشارع لا يضيق، الشارع بيعطي الناس فرصها، هو الشارع لما شرع الزكاة وطلب من الناس هذا نظر إلى حالهم وقال خذوا الوسط من أموال الناس ولما رأى ناقة كوماء في مال الصدقة غضب فلما أخبره الذي أخذ الزكاة من العمال قال له: إنني أخذتها بناقتين صغيرتين رضي واطمأن، فالعملية ليست عملية تتبع أموال الناس، والشريعة الإسلامية لا تتبع أموال الناس ولا ترضى أن تحقد عليهم، هذا نوع من الحقد، ولا أعمل بما يقوله الشيوعي، هو انتقاد التماس فرصة يريدون أن يغلبوا بها أصحاب الإسلام ولا نقبل كلامهم {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} هل هم إذا اتبعناهم في مثل ذلك وفرضنا الزكاة على المستغلات هل يقبلون كلام الشريعة في ناحية أخرى؟ أبدًا، نحن لا نأبه باعتراض الشيوعيين ولا القاديانيين ولا البهائيين ولا كلام من هذا، الزكاة فرضها الشارع وحدد الرسول صلى الله عليه وسلم أصناف الأموال وحدد أنصبة الزكاة وحدد المقادير التي تدفع، والمهم أن نغرس الإيمان في قلوب أصحاب الأموال، ونحن بنحكي في الحديث القدسي ((ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ... )) الخ. نعلم الناس أن المسألة مسألة الفريضة وطبعًا الناس عندنا عارفين هذا، أن الفريضة أمر لا بد منه لا يمكن أن نتخلف عنه وهناك ما هو فوق الفريضة، ومن زاد زاد له الله من الخير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 الشيخ محمد علي التسخيري: شكرًا سيدي الرئيس.. رغم أنه ليس لي الدخول في الموضوع بعد ما تعرفونه من الخلاف في مسألة الزكاة في مثل هذه الموارد بين الإمامية وغيرهم، وهم هنا يوجبون خمس المال، ولكني على الفرض أود أن أشير إلى نقطة تبدأ من حيث انتهى أخي الشيخ الخليلي، من أن الدافع في فرض الزكاة في مثل هذا المورد هو محاولة سد الفراغات الاقتصادية وتوزيع الضريبة على هؤلاء جميعًا حتى يقوموا بحق الفقراء. الدافع هو هذا بلا ريب، أود أن أشير إلى نقطة مهمة، أن علينا أن نلتزم بأنصبة الزكاة كما جاءت بلا ريب، ولكن إذا لم تف هذه الأنصبة بما يحقق ذلك التوازن المطلوب على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي فإن الأمر متروك للجانب المتغير، أن ينتقل من جانب الأحكام الثابتة إلى جانب الأمر المتغير المتروك بيد ولي الأمر ويجب حينئذ طاعة ولي الأمر فيما يطلب، ولي الأمر عندما يرى أن الحاجة الاجتماعية الاقتصادية تقتضي فرض ضريبة معينة على دخل أو على شيء معين، لا ريب طاعته واجبة، وحينئذ فعلى من أوجب عليه ذلك الالتزام، وإذا لم يلتزم يستطيع ولي الأمر أن يفرض عليه العقوبة ويمكن لهذه العقوبة أن تكون مالية، لكن كما قلت هذا هو الجانب الذي يتغير بتغير الظروف وبتغير المصلحة التي يراها ولي الأمر الحاكم للدولة الإسلامية الذي يرى أن الخزينة تتطلب أمورًا أخرى بالإضافة إلى الزكاة المفروضة. يجب أن نلحظ هذا العنصر حينما نتحدث وحتى حينما نجيب على الإشكالات التي تورد على النظام الاقتصادي الإسلامي بأنه يوجب على فقير ولا يوجب على غني، بالعكس يستطيع ولي الأمر أن يوجب على الأغنياء أو على من كان دخلهم كذا بمقتضى ما يراه من مصلحة لسد الفراغ الاجتماعي. وددت الإشارة إلى هذه النقطة. وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 الشيخ تقي عثماني: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وكفى والسلام على عباده الذين اصطفى. لعل النقطة الأساسية في هذا الموضوع هي أننا جعلنا جميع الفقهاء مطبقين على أن الزكاة إنما تجب على المال النامي، وقد ذكر فضيلة الشيخ القرضاوي حفظه الله تعالى في كلمته القيمة أن هذه المستغلات أصبحت اليوم نامية، فلذلك يجب أن تفرض عليها الزكاة، ولكني أرى أننا لو حددنا معنى المال النامي، ما هو المال النامي لوصلنا إلى نتيجة: أن المال النامي فيما فهمت من اصطلاح الفقهاء هو مال تأتي نتيجة نمائه من جنس ذلك المال، مثلًا النقود، إنها تنمو حقيقة أو تقديرًا، فتأتي نتيجة النماء في صورة النقود نفسها، وكذلك لحيوان ينمو فيأتي نتيجة نمائه بصورة حيوان من جنس الحيوان، وكذلك الزروع والثمار تعد نامية من حيث إنها تنمو فتأتي نتيجة نمائها في صورة المحصولات الزراعية، ولم أجد في كتب الفقهاء ما يسمى مالًا ناميًا ولا تأتي نتيجة نمائها من غير جنسها، وأما المستغلات فليست من الأموال النامية بهاذ المعنى من يحث إن نتيجة النماء لا تأتي في صورة تلك الأموال من جنسها وإنما تأتي في صورة النقود. فلذلك لا تصلح أن تسمى أموالًا نامية. وكما تعرفون أنتم أن وجوب الزكاة على شيء أو عدم وجوبه إنما يبتني على كون ذلك المال ناميًا أو غير نام، وأن كثرة المقدار الحاصل وقلته لا تؤثر في وجوب الزكاة، فإن كان المال ناميًا وجب فيه الزكاة سواء كان قدره قليلًا بعدما بلغ النصاب، وإن لم يكن ناميًا لم تجب فيه الزكاة سواء كان قدره كثيرًا، فنرى أن المستغلات، الدور المأجورة، والحوانيت المأجورة، كانت موجودة في زمن سلفنا الصالح، في الأزمنة السالفة ولو كانت غلتها قليلة بالنسبة إلى غلة المستغلات اليوم، ومع ذلك لا يوجد في الفقهاء من يقول بوجوب الزكاة على المستغلات، نعم إذا كثرت غلات المستغلات كما تفضل فضيلة الشيخ القرضاوي حفظه الله أن هؤلاء أصحاب المستغلات يجلبون أموالًا كثيرة، فإننا لا ننكر وجوب الزكاة على تلك الأموال الكثيرة التي يجلبونها من تلك المستغلات، إنما تجب عليهم الزكاة على غلاتهم التي يحصلون عليها من تلك المستغلات. ثم هناك ناحية ثالثة وهي أن الزكاة، لو أوجبنا الزكاة على المستغلات نفسها.. الرئيس: أنتم جمعتم بين كلمتين، قلتم إنه لا يوجد في فقهاء الإسلام من يقول بوجوب الزكاة على حاصل المستغلات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 الشيخ تقي عثماني: لا! على المستغلات نفسها، والناحية الثالثة هي أن الزكاة يجب ألا تكون مجحفة، فلو أوجبنا الزكاة على المستغلات نفسها فهناك كثيرون من المقلين ومن الأرامل والأيتام إنما يعيشون على غلات دورهم أو غلات حوانيتهم الصغيرة، فلو أوجبنا الزكاة على الدور والحوانيت صار ذلك مجحفًا لمالهم ولا عدل في ذلك في الشرع الشريف، هذه نواح ثلاثة كنت أريد أن ألفت أنظاركم إليها.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الدكتور عبد الستار أبو غدة: بسم الله الرحمن الرحيم.. أريد أن أثير نقطة وأطلب من فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي أن يتعاون في حلها. فقد تردد على لسانه وعلى لسان غيره أن علة الزكاة النماء، والذي نعلمه أن النماء هو شرط في وجوب الزكاة وليس علة وشتان بين الشرط والعلة، فالفقهاء يذكرون النماء شرطًا من شروط وجوب الزكاة، ومن المعلوم ومن قواعد الأصول أن وجود الشرط لا يقتضي وجود المشروط، أما وجود المشروط لا بد له من وجود الشرط، فالنماء ليس علة للزكاة وإنما هو شرط، وقد تأملت كثيرًا في العبارات القليلة جدًا التي أوردها في كلامه من كلام صاحب العناية وفتح القدير فوجدت أنهم لم يذكروا النماء علة للزكاة، وإنما أوردوا كلامًا يفهم منه أن عدم وجوب الزكاة في مال كذا وكذا لعدم النماء أي لتخلف الشرط وليس لتخلف العلة وإلا لو قلنا بأن النماء علة لأصبح لا حاجة للنصوص التي جاءت في أن الإبل فيها زكاة والبقر فيها زكاة والغنم فيها زكاة وليس في الحمر زكاة مع أن الحمر مال نام، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ((هل في الحمر زكاة؟ فقال: لا أعلم فيها إلا هذه الآية الفاذة)) وهي قول الله عز وجل {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} فأريد أن يمحص النظر ولا سيما أنه أورد في كتابه فقه الزكاة النماء في عداد الشروط ولم يورده علة، ثانيًا: أن المألوف في القياس أن يكون في جزئية أو في ناحية، أما أن نأتي إلى أمر فنقيس في أصل وجوبه وهو في نظر الآخرين غير واجب ثم نقيس في النصاب لنستحدث له نصابًا ثم نقيس في القدر الواجب، إذن هذه تركيبة مستحدثة وتحتاج إلى كثير من الأدلة ومن المستندات، فلذلك هناك ما يشير إلى أن الزكاة هي معلقة بالنصوص والعلة فيها هي النصوص وليس النماء، النماء شرط وإذا وجد الشرط لا يوجد المشروط. والحمد لله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 الشيخ أحمد بازيع ياسين: بسم الله الرحمن الرحيم، أشكر الأخ الرئيس وأشكر الباحثين على ما قدماه من اجتهاد في هذا الموضوع، وأود أن أشير إلى أنه عقد في الكويت من عامين مؤتمر للزكاة وبحثت هذه المسألة واتخذ فيها قرار، وأصحاب الفضيلة العلماء كثير منهم من شارك هناك وهم موجودون بيننا الآن، وأود أن أبين أن المستغلات ليست من الأمور الجديدة التي نحتاج فيها إلى اجتهاد، المستغلات كانت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة وعهد السلف الصالح، وكانت المستغلات إذا كان فيها ريع يضاف ريعها على الموجودات وتزكى مع مال صاحبها، إنما اجتهاد مشكور ولهم من الله سبحانه وتعالى الأجر والثواب، ثم أود أن أوضح موضوع النماء، في الحقيقة عندما وردت كلمة الزكاة المضادة لها الربا، فأنا في الحقيقة مرتاح لكلمة الأخ عن الربا، لأن دائمًا الزكاة نماء والربا فناء، نماء الزكاة ليس في الحقيقة بما يقدمه أصحاب الأموال من نصيب لمستحقي الزكاة إنما الذي يظهر لي وأنا أعمل في الميدان الاقتصادي أن الزكاة تجبر الإنسان صاحب المال على العمل وعندما تجبره على العمل يكون هناك نماء ويقضى على البطالة، فالعمارة التي كلفت مليون دينار مثلًا جل هذا المليون ذهب إلى العمال، وهنا الحكمة كل عمل استفاد منه العامل تقل نسبة الزكاة عليه فتكون الزكاة على ريعه وليس على أصله، ثم إن الزكاة تؤخذ من القلة، أنها تؤخذ من القلة وتنفق على الكثرة، أما الربا فهو مثل ما تفضل الأخ الفاضل يؤخذ من الكثرة الفقيرة ويعطى إلى القلة ففيه فناء. ثم إن العبادة، الأمر التعبدي لا شك والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} والعبادة هي في الأركان الخمسة، وأيضًا في عمارة الأرض فحينما يسلك الإنسان مسلكًا في عمله وفي حياته حسبما يريده الله سبحانه وتعالى وملتزمًا الشريعة الإسلامية فلا شك من أن هذه عبادة حتى ولو كانت في أمور حياتية وأمور في المعاملات. القواعد والأصول، شريعتنا الإسلامية في الحقيقة غنية بالقواعد والأصول والأسس التي منها نستنبط الأحكام. ولقد سبقنا الأفذاذ والعباقرة من هذه الأمة ولا أعتقد أن هناك أمرًا من الأمور إلى الآن يحتاج إلى استنباط وإلى اجتهاد إلا اللهم النزر اليسير جدًا، فعلينا في ذلك الرجوع إلى فقهائنا وإلى علمائنا السابقين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 الشيخ إبراهيم الغويل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. أولًا الشكر للسيد الرئيس ولكل الإخوة الذين شاركوا، بما أنني آخذ الكلمة لأول مرة، وأود قدر الإمكان أن أكون وجيزًا وواضحًا قدر ما أستطيع ولقد سهل فضيلة المتحدث الذي تحدث قبلي على المهمة، لقد وقفت كثيرًا أمام القول: إن العلة في الزكاة هو النماء، لقد اعتقدت أن الزكاة هي التي تدفع إلى النماء، أصلًا زكى الشيء نماه، فالزكاة أصلًا هي التي تؤدي إلى النماء وتؤدي إلى التنمية وتدفع إلى العمل، ومن هنا جرت المقابلة بينها وبين الربا فعلًا وبدقة، لأن الربا انتفاخ كاذب بينما الزكاة نماء حقيقي عن طريق العمل، والفارق الأساسي بين الربا وبين الزكاة أن الربا انتفاخ بدون عمل انتفاخ كاذب، بتعبيرات عصرنا نسميه التضخم، بينما الزكاة هي تنمية حقيقية عن طريق العمل، وكما قال المتحدث قبلي فإن لوجود هذا الأمر ولوجود هذا الفارق كانت الزكاة تزداد كلما قال العمل وتقل كلما كثر العمل، حينما تكون الأرض بدون سقي وبدون جهد يكون العشر، حينما تكون بالسقي تكون نصف ذلك، حينما يكون الأمر يستدعي جهدًا أكثر يكون 2.5 % ربع العشر، هذا التناسب والتضاعف يتم كلما زاد العمل، حينما يزيد العمل تقل نسبة الزكاة، حينما يقل العمل تكثر نسبة الزكاة، إذن النظرة الأساسية هي الدفع إلى العمل والتنمية، ومنع النمو الكاذب. الذي نواجهه في هذا الموضوع، والموضوع الذي سيليه فيما يتعلق بزكاة الدين هو ما يلي: أننا حينما نبحث عن القواعد والأصول نجد أن الأمور بينة واضحة وحينما تلتبس الأمور ويطلب الفتوى فيما هو موضع التباس تظهر أمامنا المشكلات.مثلًا أصلًا رأس المال إنما يأتي نتيجة عمل وجهد سابق وتستحق عليه الزكاة، فإذا أريد لرأس المال نفسه أن ينمو من جديد وأن يحصل على مقابل على الجهد السابق مرة أخرى، نشأت المشكلة التي نعالجها الآن، الأصل أن لكل عمل أجرًا أو لكل عمل جزاء، فإذا لم يكن هناك من عمل فلا جزاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 القاعدة فيما يبدو لي في الفكر الاقتصادي الإسلامي أن العمل هو أساس التنمية، وبالتالي فلكل عمل جزاء، وهذا ما يميزنا على الشيوعيين والماركسيين وغيرهم، نحن ننحاز إلى أن العمل لا بد له من مقابل، ولكننا نرفض أن يكون للمقابل مقابل، من هنا تنشأ المشكلة، يعمل الإنسان عملًا صالحًا فيستحق جزاء، ولكن هذه المعادلة وقد أقفلت تدخل في مرحلة التلاعب حينما يطلب مقابلًا على مقابله، وتنشأ هذه المشكلة التي نواجهها الآن، فيما يبدو لي أن العلة في الزكاة وكما أخرجها الأقدمون أنها تدور في أحد أمرين، هو حق بتعبير ربى "حق" من أين نشأ هذا الحق، لأنه تحمل الزكاة على الشركة أو تحمل على أنها دين، والأرجح عندي أنها تحمل على الشركة، فنحن بحكم ملكية الأزل شركاء مع هذا العامل الذي كلفناه أن يعمل في هذا المال، ولذلك {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} حينما أعمل، أعمل بهذا الجهد ممكنًا في هذه الثروة التي مكنني فيها الله ومكنني فيها هذا المجتمع المستخلف فيها، ولذلك هناك حق بحكم ملكية الأزل لا بد أن يتقاضاه هذا المجتمع. فالصورة الأصلية إنما الموضوع الذي أدى إلى الالتباس هو موضوع النقود، والمنع هناك واضح لأنه كما قال الأقدمون أيضًا إن النقود فيها شرك خفي ولذلك استعمل ربى التطهير النفسي. لماذا الشرك الخفي؟ لأن كل ما في الكون يستهلك حتى بعوامل التعرية تستهلك الجبال، ولكننا نحن حينما أوجدنا النقود وهي وكيل عن الطيبات أردنا للوكيل أكثر من موكله. أصبحت النقود لا تتناقص ولا تكلف صاحبها شيئًا، أي طيبة من الطيبات تكلف صاحبها التخزين وقد تستهلك وما إلى ذلك، ولكن هذا الوكيل الجديد، هذا البديل الجديد، الذي جاء لكي يكون مقياسًا ومقومًا أصبح أداة اختزان واكتناز لما جاء فيه من هذه المزايا التي لا تكلف، فهناك العلة مختلفة بالنسبة للنقود لأنها تطهير نفسي ومنع أن يظن أن هناك مالًا ينقص. الله الواحد الأحد الذي لا شبيه له ولا مثيل هو الداعم، ولكن أي طيبة أي شيء في هذا الكون يتناقص مع الزمن، فلا بد أن تتناقص النقود أيضًا. فالزكاة على النقود هي ضريبة للتناقص، ولدفعها حتى لا تكون مكتنزة ومعطلة عن التعامل، ولكن الأصل في الزكاة العامة محمولة على أننا شركاء مع هذا الذي يعمل في هذا المال الذي استخلفنا الله فيه جميعًا ووظفناه فيه لأنه أقدر على بذل هذا الجهد فيه. إذا نظر إلى هذه الأمور بالقواعد والأصول الأصلية يصبح بعد ذلك أن النظر أيضًا في الموضوع التالي أنا حينما أضع هذا المال في خدمة المجتمع وأسلمه إلى شخص آخر لكي يستخدمه، فإذا استخدمه فلا زكاة عليه حتى عنده وإلا فإن عطله فعليه الزكاة، أما أنا وقد وضعته في خدمة المجتمع فلا زكاة على. النظرة تختلف، وبعد ذلك سنأتي لموضوع الدور والعمارات والمستغلات، ومن هنا نشأت المفارقات. العوامل الأخرى التي أوجدها ربى من نعمة تنمو من طبيعتها، ولكننا نحن هنا أوجدنا نموًا مفتعلًا، ولذلك نواجه هذا المشكل. في اعتقادي أن ربط الموضوع فيما يتعلق بالربا {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} وربط الموضوع بالزكاة وباعتبارها أنها تقوم أصلًا على معنى الشركة من المجتمع وباعتبارها دفعًا نحو التنمية ونحو العمل وربط كل ذلك بالعمل والعمل الصالح هو الذي يوضح صورة النظام الاقتصادي الإسلامي. وكل ما هو عبادة إنما هو تهيئة الإنسان لأداء دوره، وفي اللسان العربي المبين: عبد الطريق أو عبد الإبل، هيأه لما يصلح له، التسخير هو دفع الشيء لما يصلح له جبرًا وانقيادًا، وأما العبودية والعابدية فهي تهيئة الشيء لما يصلح له. فكل شيء يؤكد الأمور لما تصلح له هو عبادة ولذلك نحن حينما نعمل المبادئ الأساسية في الفكر الإسلامي وفي الفكر الاقتصادي الإسلامي كثير من هذه الأمور يبدو لي أنه يجب أن ننظر إليها نظرة أخرى ... وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 الشيخ وهبة الزحيلي: بسم الله الرحمن الرحيم، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد. الحقيقة أننا في هذا العصر أمام مشكلة حساسة تتعلق بالنظام الاجتماعي الإسلامي بين النظم العالمية، نريد أن يثبت هذا النظام كفاءته لإنقاذ مجتمعنا من عوامل التردي والفقر والجوع والتخلف، وكل ما يعوق نهضته ويجعله في زمرة العالم النامي أو العالم المتخلف، وقد بدأت دولة باكستان في فرض الزكاة. ونحن أمام هذه التجربة خصوصًا بعد الإحصاءات الدقيقة لهذا الموضوع في ذلك المجتمع، هل يمكن لفريضة الزكاة أن تنهي مشكلة الفقر؟ الحقيقة، القائمون على هذا الموضوع في الباكستان ما يزالون إلى الآن لم يصلوا إلى نتيجة، لأن حصيلة الزكاة لم تحقق الهدف المرجو. لذلك نحن أمام مشكلة تحريك ليس أمام مشكلة فرض زكاة على أشياء لا يقتنع بها المجتمع خصوصًا وقد أدركوا أن شبه إجماع من الفقهاء أن الزكاة لا تكون إلا في أربعة أصناف من الأموال، هي النقود، والأنعام، الزروع، والتجارة، لذلك نحن بحاجة إلى تحريك الهمم، وتحريك النفوس كما تفضل فضيلة الشيخ عبد العزيز عيسى، إلى جعل الإيمان هو العنصر المحرك الدافع القوي لدفع أصحاب الأموال الضخمة لأن يقوموا بواجبهم في إنهاء مشكلة الفقر في البلاد الإسلامية، وهذا مراد الشارع، الشارع عندما فرض الزكاة أراد أن يقيم تعادلًا وتوازنًا بين جانب الفقراء وجانب الأغنياء ليحقق الوسطية المعروفة عن منهج الإسلام، بناء على هذا الهدف وهو مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية الكبرى لا نريد أن ندخل في التفصيلات والجزئيات التي هي محل خلاف فعلًا، هل يجوز القياس في العبادات أم لا يجوز؟ ويكاد يكون هناك شبه استقرار نفسي وأغلبي عند الناس أن القياس لا يكون جائزًا في العبادات، وليس هذا هو رأي القلة بل هو رأي الأكثرين، هذا شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 الشيء الثاني، قضية أن نقطع جزءًا كحد أدنى للمعيشة بمقدار الثلث أو الربع أو ما شاكل ذلك، هذا أيضًا أمر مضطرب لأن الأغنياء لا يمكن أن يحد إنفاقهم شيء. فقد يكون الثلث بالنسبة إليهم لا يشكل شيئًا والثلث لآخرين يشكل شيئًا، فلذلك القضية مطاطة وقد يكونوا بهذا الثلث يحققون أهدافًا كبرى نظرًا لغناهم الفاحش، لهذا أرى أن نبحث الهدف من استثمار الأموال في المستغلات وكل نواحي الدخل التي تأتي للمسلم في عصرنا الحاضر، هناك دخول جديدة وهناك استثمارات جديدة وهناك توجيه للمال نحو ما يحقق الاسترباح والفائدة وجني أكبر قدر ممكن من الربح في شتى النواحي. فإذا وجد المجتمع أن العمارات تحقق ربحًا وقد أقبل الناس في فترة ما على هذا النحو من القطاع الاقتصادي، فتجد الأغنياء يتجهون إلى بناء العمارات لإيجارها وأخذ الربح منها، كذلك في جدة هناك مكاتب ليس فيها إلا مكتب وهاتف وموظف أو اثنان وهو يحرك العالم بهذا الهاتف وتأتيه دخول ضخمة من هذا التحريك، الحقيقة العامل الأكبر الذي يسيطر على الأغنياء في عصرنا الحاضر هو عنصر الاسترباح وعنصر جلب أكبر قدر ممكن من الربح، لذلك لا داعي لأن نقول إن الزكاة واجبة في هذا القطاع من النشاط الاقتصادي العمارات وغيره، وإنما يجب أن نقول إن كل ما هو متجر فيه – الحقيقة العمارات والدخول ومقالع الحجارة والسيارات وكثير من نواحي الاستثمار الحديثة يراد بها لربح- نقول: كل هذا في الحقيقة ينطبق عليه معاني التجارة، صحيح هو لا يعرضه للبيع ولا ينوي بيعه إلا بعد أن يكاد لا يحقق الهدف المرجو منه وهو أخذ أكبر ربح ممكن، عندما تزيد النفقات الاستهلاكية على الربح يبيع العمارة ويستغني عنها ويوجه استثماره إلى نشاط اقتصادي آخر، الحقيقة الغني اليوم يهمه أن يأتي أكبر دخل ممكن من هذا العمل، سميه تجارة، سميه استغلالًا، سميه أي شيء المهم لازم تفرض عليه الزكاة، ونحرك عوامل الإيمان في قلب هذا المؤمن، الحقيقة قرارات المجامع للآن لم تشكل قناعة عند الناس، فنريد أن يكون إذن لقرارنا مساس بقلوب وأفئدة المؤمنين ليندفعوا إلى القيام بواجبهم في تزكية أموالهم وتطهير نفوسهم. والحقيقة يمكن أن يطبق على كل هذه الاستثمارات الحديثة معنى التجارة وزكاة التجارة، وحينئذ نخرج من المآزق والخلافات الفقهية وتكون الزكاة ضمن ربع العشر 2.5 % وبعد حولان الحول، وأيضًا نتجاوز كل هذه المشكلات الفرعية، وإن كان للسادة الأفاضل جهد طيب عبأ بعض الأفكار لضرورة الاتجاه نحو تزكية هذه الأموال، الحقيقة نحن إذا اتجهنا ونظرنا إلى الموضوع نظرة أخرى، كل ما فيه استرباح يعني التجارة، وهذا اتجار في العمارات الحقيقية تجب فيه الزكاة، ولكن أنضم إلى الرأي الذي يقول بأن تلك الزكاة هي ربع العشرة 2.5 % ويكون ذلك بعد انتهاء الحول وحينئذ لا داعي لأن ندخل الناس، حتى العوام لم يقتنعوا عندما نقول لهم: زك عماراتك، زك سياراتك، زك الغلة الناتجة، فهو في الحقيقة لن يقتنع في هذا الموضوع ... وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 الرئيس: ترفع الجلسة لأداء الصلاة المغرب ثم نعود إنشاء الله تعالى لاستكمالها. الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم.. فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه. الشيخ عبد الله بن بيه: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه وأزواجه أجمعين. حضرة الأخ الرئيس أشكركم وأشكر الأخ الأمين العام على الدعوة الكريمة التي وجهتموها إلي ولست عضوًا في هذا المجلس الموقر، ولكني أريد أن أدلي بدلوي في قضية تهم جميع المسلمين وأن أذكر في هذه القضية ما أراني الله وأسأل الله سبحانه وتعالى أن أكون موفقًا فيما أقول. وبعد. فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها وهو حديث صحيح متفق عليه ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) فبناء على هذا وانطلاقًا من أن الزيادة في الكامل تعتبر نقصًا، فإن موضوعنا قد يتعلق إلى حد ما بهذه المقولة الأولى وبهذه المسلمة. الزكاة: حد النبي صلى الله عليه وسلم جملة من الأموال التي يجب فيها الزكاة، هذه الجملة المحدودة جعلت الأصل هو عدم الزكاة وجانب الزكاة جانب محدود، معناه أن الأموال التي نص على وقوع الزكاة فيها هي التي تزكى والأموال التي ليست كذلك هي من قبيل العفو، وهذا يدل عليه الحديث الذي رواه الدارقطني وغيره: ((وترك أشياء من غير نسيان)) ، هذه الأشياء التي تركها الله سبحانه وتعالى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} هي من باب العفو، وقال ابن رشد رحمه الله تعالى في "البداية": يقول الله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} . إن هذا العام يراد به الخصوص، فقد اتفق المسلمون على عدم وجوب الزكاة في كل مال، هذا نصه في "البداية"، ويقول إنه عام يراد به الخصوص، والعام الذي يراد به الخصوص هو ما لا يتناول جميع أفراده، بل يقتصر على بعضها، وهو ليس كالعام المخصوص، لأن العام المخصوص يتناول جميع أفراده، يدل على جميع الأفراد تناولًا وحكمًا، والعام الذي يراد به الخصوص لا يدل عليها لا تناولًا ولا حكمًا، هذا هو الفرق، ولأجل هذا يقول ابن رشد: إن هذا من العام المراد به الخصوص لأن المسلمين اتفقوا على أن الزكاة لا تخرج من كل الأموال، فهناك أموال نص عليها الشارع هي التي تخرج منها الزكاة، وهناك أموال عفا عنها فلا تجب فيها الزكاة، إن الزيادة كما قلت في التام هي نقص، والإسلام لا يحتمل النقص. هذا من جهة العفو، الأصل هو العفو ولذلك لا يجوز أن نحدث واجبًا لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكره وكما قلت {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما نص على بعض الأموال وترك بعضها، فإن معنى هذا أن المتروك لا زكاة فيه. هذه المسألة الأولى التي أردت أن أشير إليها، وأن قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} هو من باب العام المراد به الخصوص وليس من باب العام لمخصوص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 المسألة الثانية: الزكاة تعبدية، الزكاة في الحقيقة كما يقول العلماء مترددة بين التعبدي وبين المعقولية، فهي معقولة من جهة سد خلة الفقير، غير معقولة من جهة القدر الذي تجب فيه الزكاة، وبنوا على هذا جملة من الأحكام منها وجوب النية فيما فيه شائبة التعبد فإنه يدور بين وجوب النية وبين عدمه، فالزكاة مترددة وهي قريبة من التعبد، والتعبد كما تعلمون لا قياس فيه.. النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الرجل بارزًا في الشمس وقال إنه برز وقام ليستمع إلى خطبة النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالدخول وأن يجلس في الظل. والبروز في الشمس قد يكون عبادة في عرفات وهو مستحب في عرفات، ولكنه ليس مستحبًا والرجل لا يمكنه ولا يجوز له أن ينشئ عبادة في حكم لم يأمر الشارع فيه باتباعه، هذه هي النقطة الثانية التي أردت أن أشير إليها. هناك كثير من الأمثلة يمكن لفت الانتباه إليها، أكثر المذاهب على أنه لا زكاة في الماشية غير السائمة خلافًا لمذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى لحديث ((في سائمة الغنم الزكاة أو في السائمة الزكاة)) حسب لفظ البخاري في كتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه. الغنم السائمة وعكسها المعلوفة أو الماشية السائمة هي التي تجب فيها الزكاة عندهم بسبب هذا القيد وهو الوصف ومفهوم المخالفة لمن يعمل طبعًا بمفهوم المخالفة، والمالكية يعملون بمفهوم المخالفة، إلا أنهم في هذه النقطة بالذات لم يعملوا بمفهوم المخالفة لأنه من باب الغالب، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن غنم سائمة فأجاب: ((في الغنم السائمة زكاة)) أو أن الغالب أن تكون سائمة ولأجل ذلك اعتبروا أن هذه الصفة ليست مقيدة وليست موجبة لعدم الزكاة في غير السائمة. المهم أن العلماء لم يستندوا إلى النماء فالغنم المعلوفة أيضًا تنمو وتتوالد ومع ذلك لم يقل أحد منهم مطلقًا بأن النماء سبب في وجوب الزكاة، ولو كان النماء علة لكانت العلة مطردة ومنعكسة، واطراد العلة وانعكاسها واضح البطلان، فعشرة من الغنم تنمو وتتوالد ومع ذلك لا زكاة فيها إنما لا يمكن أن يكون النماء علة لأنه لا يطرد ولا ينعكس، والعلة الصحيحة شرطها الاطراد والانعكاس، يمكن أن يكون دليلًا للعلة لمن يقول بالقياس دلالة، وتعلمون أن أنواع القياس، هذا يعلمه الجميع، ثلاثة: قياس الشبه، وقياس العلة، وقياس الدلالة، يمكن أن نقول أنه دليل على العلة، إلا أنه ليس علة مطلقًا ولا يمكن أن يعتبر علة. هذه نقطة أخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 هناك شبهة قد تثار هي شبهة مقايسة الاقتصاد الإسلامي بالاقتصاد العالمي، أو ما يقوله الآخرون عن الإسلام، لقد تحدث قبلي أحد الإخوان لعله الشيخ وهبة لا أدري، أحد الإخوان الذي ألحوا على ضرورة حل المسألة من الناحية الإيمانية بمعنى أن نكون جيلًا من أجيال الإيمان، جيلًا مؤمنًا صادقًا في إيمانه، عندما نكون هذا الجيل المؤمن سنجد أنه سيكون متعاونًا وسنجد أن الناس يديرون أموالهم. النبي صلى الله عليه وسلم قد وقعت في زمنه أزمات اقتصادية كثيرة لم يوجب ضريبة تصاعدية، لم يوجب شيئًا إلا الزكاة التي أوجبها الله سبحانه وتعالى بل دعا الناس للتصدق، عندما أتاه أناس، مجتاب النمارى أكثرهم مضر، تنمر وجه النبي صلى الله عليه وسلم وخطب في الناس فحثهم على الصدقة وكل منهم يتصدق حسب جهده وحسب إيمانه. النبي صلى الله عليه وسلم يحض على الصدقات وعلى حمل المجاهدين في غزوة تبوك في شدة العسرة، ويأتي عثمان رضي الله عنه ويتصدق بما تصدق به ويأتي قبل ذلك عندما يأمر بالصدقات يقدم أبو بكر رضي الله عنه كل ماله ويقدم عمر رضوان الله عليه نصف ماله وكل يقدم حسب إيمانه وحسب جهده، لم يقل مطلقًا يجب على هؤلاء كذا، ويجب على هؤلاء كذا، الوجوب درجة ثابتة لا يمكن أن تتغير ولا أن تتبدل، تبقى بعد ذلك الأوضاع التي يفرضها الإيمان وتفرضها الأوضاع الخاصة بالمسلمين، إذن يجب أن نفرق تفريقًا واضحًا بين حكم من أحكام الله سبحانه وتعالى لا يتغير ولا يتبدل وهو حكم الزكاة وبين الأحكام التي قد تفرضها أوضاع معينة كالقرض الخراج، الخرج المعين، يعني أريد أن ليس هو الخراج بمعناه، معناه خراج الأرض وإنما هو الخراج الذي يتحدث عنه ابن العربي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {هَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} في قراءة نافع وسدًا في قراءة عاصم، فابن العربي يتحدث عن هذا الخرج أو عن هذا الرزق الذي يفرض على الناس أو هذه الضريبة التي تفرض وإني أكره الضريبة كثيرًا لأنها من باب {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} فهي كلمة غير لائقة بالمسلمين، هذا قد يكون في ظروف معينة وقد تكلم العلماء عنه ووضعوا له شروطًا وطالبوا من ولي الأمر أن يقسم على المنبر أن بيت المال لا يملك شيئًا وأنه لا يستطيع أن يقوم بمصالح المسلمين وحينئذ يتولى جباية هذا الخرج جمع من العلماء ليسدوا منه الحاجة، أما أن نفرض زكاة ليست منصوصة ولا منصوصًا عليها في أموال لا تتناولها الزكاة فلعمري إن هذه الدعوى يفهم منها أن في الدين نقصًا، والدين ليس بناقص وزيادة الكامل تعتبر نقصًا وأشكركم.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 الشيخ محمد عبده عمر: الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه ومن تمسك بسنته وبعقيدته إلى يوم الدين. أما بعد، فضيلة رئيس المجلس فضيلة المشايخ العلماء.. الواقع لست آتي بجديد عمن سبقني من العلماء في موضوع الزكاة، ولكنني أحب أن أنبه إلى موضوع هام جدًا ربما البعض يفهمه ولكن لا يحب أن يتكلم عنه، ونحن كنخبة لشعوبنا الإسلامية يجب أن نفهم على أي حال وعلى أي وضع تعيش شعوبنا الإسلامية اليوم، إن موضوع الزكاة في الإسلام ليس هو ما يتطلبه العالم الإسلامي من اجتهاد في مجال الاقتصاد وفي مجال العدالة الاجتماعية المطلوبة والملحة اليوم، لكنه أكبر من هذا وأعظم من هذا. إن الإسلام تحوم حوله شبه من الأعداء ولقد سبق لبعض أصحاب الفضيلة أن قال: ليس علينا من الأعداء يقولون ما يقولون، هذا صحيح، لكن بالمقابل علينا أن نتمسك بالإسلام روحًا ومعنى، وهنا نقول: ما علينا من الأعداء وما علينا من شبههم، موضوع الزكاة في الإسلام وسائل الاقتصاد أو الوسائل التي يوجب على الإسلام الزكاة تبدلت وتغيرت من عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى عهدنا الحالي. وهذا شيء لا يجادل فيه أحد، ثم أيضًا المعاملة، معاملة الناس اليوم ليست على مقتضى شريعة الله فيها الغش وفيها أموال تدخل من غير حلها، فنحن نناقش نصاب الزكاة بينما الأموال هذه التي نحاول أن نستخلص منها نصاب الزكاة لا نناقشها ولا نفهم من أين أتت، فالمسألة مهمة جدًا هو أن الأعداء يراهنون على حلف الإسلام عدالة اجتماعية واضحة وصحيحة وكافية لحل مشاكل العالم الإسلامي أم لا؟ والحقيقة كما قال بعض الفضلاء من أصحاب الفضيلة بأن الزكاة حتى ولو أديت على أحسن وجهها لن تحل مشاكل العالم الإسلامي اليوم. مشاكل العالم الإسلامي اليوم مستعصية تمامًا، وأنتم تعلمون أنه في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وفي المجتمع المدني عندما آخى بين المهاجر الذي أتى من مكة بدون مال ولا أهل ولا دار وبين أخيه الأنصاري في المدينة، أول ما آخى بينهم الأخوة في الإسلام. فكان نتيجة العقيدة الإسلامية الإيمانية أن انطلق كل أنصاري بأخيه المهاجر يقاسمه في كل شيء ولم يقل عليه الصلاة والسلام إن هذا ليس من الإسلام بل فتح عليه الصلاة والسلام وأيد هذا، لكن نحن لا نقول هذا إلزامًا ولا جبرًا بل طواعية ونتيجة للإيمان العميق في قولب أولئك الطلائع الإيمانية المخلصة للإسلام والصادقة مع ربها، لكن بالمقابل نقول إننا نحن الآن، وضعنا الآن الإيمان ضعف، والعقيدة الإسلامية ضعفت في قلوب المسلمين، وتقوى الجانب الاقتصادي المادي المظلم على قلوب وعقول الشعوب الإسلامية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 ومن هنا دخلت عليهم الشبه ودخلت عليهم التهم، واتهموا في دينهم وفي عقيدتهم، وأن الإسلام عاجز عن أن يحل مشاكل العالم الإسلامي وأن الشقة تتسع بين فقراء معدمين وبين رأسماليين متخمين. ومن هنا يلجأ بعض الحكام إلى أن يستورد بعض المذاهب من هنا أو هناك كعلاج للمجتمع. ألا يليق بهذا المجمع الإسلامي العالمي أن يناقش هذه القضية بكل أبعادها. وبالتالي إذا كان هناك حق سوى الزكاة، كما قال السلف والخلف إن هناك حقًا في الإسلام سوى الزكاة، هذا الحق اليوم لم يؤد طواعية واختيارًا كما كان يؤدى في عهد السلف الصالح. ألا يليق بهذا المجمع أن يجعل هذا الحق واجبًا كالزكاة ونضمه إلى الزكاة من أجل أن نستطيع أن نوضح وجه الإسلام، وجه العدالة الاجتماعية في الإسلام وأن الإسلام نظام عقدي ونظام عبادة ونظام اقتصاد ونظام عدالة وبالتالي لسنا بحاجة إلى العقائد ولا الأفكار المستوردة من هنا أو هناك. لا أنكر أن مبحث الزكاة مهم، لكن هل الزكاة كافية في الوقت الحاضر، حتى لو ناقشناها بكل أبعادها مهما كان الخلاف في المسألة الجزئية، هل هي كافية؟ وهل تحل مشاكل العالم الإسلامي اليوم؟ إن هناك مبدأ في الإسلام من أين لك هذا. فقبل كل شيء نبحث عن مصادر هذا التملك وهذه الأموال وهل المعاملة في هذا الدخل على مقتضى شريعة الله أم فيها هناك مفاسد ومحاذير، وبالتالي علينا أن نركز على إيضاح وجه العدالة الاقتصادية في الإسلام، فإن هذا الموضوع خطير جدًا وحوله تحوم الشبه من الأعداء، وعلينا أن نثبت للأعداء بأن في الإسلام عدالة اجتماعية متكاملة من كل النواحي وهو صالح لكل زمان ومكان. أنا لا أقول بالأفكار المستوردة ولست متأثرًا بها أبدًا على الإطلاق لأنني أؤمن بالله وباليوم الآخر. لكن علينا أن نوضح مبدأ العدالة الاجتماعية في الإسلام بكل أبعاده على مقتضى ما وصلت إليه شعوبنا اليوم، وعلى مقتضى ما وصل إليه عصرنا من وسائل الإنتاج ومن سهولة التملك ومن اتساع الشقة في المجتمع الواحد. نجد المكان الواحد بل في البيت الواحد هذا غني غنى مطلق وهذا فقير فقر مدقع، ومن هنا تدخل الأفكار وتدخل الفتنة على عقيدتهم وفي دينهم. الرئيس: أرجو الاختصار يا فضيلة الشيخ. الشيخ محمد عبده عمر: شكرًا.. ولهذا فإنني أركز على أن نوضح وجه الإسلام في الجانب الاقتصادي ونثبت للعالم كله أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان ... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 الرئيس: الشيخ زكريا مع التفضل بالإيجاز. الشيخ زكريا البري: سيادة الرئيس لم يقل لأحد قبلي: مع التفضل بالإيجاز، ولكنني أشكره على هذا. بسم الله الرحمن الرحيم، أشعر بكثير من السعادة حين أوجد في هذه المجموعة الطيبة وبدلًا من المقدمة الطويلة أدخل في بعض الأمور معارضًا جاري ويكفي هذا. جاري العظيم بدأ كلامه بأن هذا ما أراه الله، وأنا أذكره بما يذكره من قول عمر حينما أملى حكمًا فكتب الكاتب هذا ما أراه الله عمر، فقال: لا قل: هذا ما رأى عمر فإن يكن خطأ فمن عمر. وليس هذا بجديد على علمه ولكنه النسيان قطعًا، بعد ذلك قال: إن الإضافة إلى الكامل تعتبر نقصًا في الكامل، هذه كلمة دعوى رددها لغات القياس، ومردود عليها في كتب أصول الفقه، وبعد ذلك أقول إن ما تركه الله سبحانه وتعالى يعتبر عفوًا، ولا يعتبر عفوًا إذا ما وصلنا كأهل الاختصاص أي أن هذه الأموال يجب فيها الزكاة، بعد ذلك قال: إن الزكاة عبادة، نعم إنها عبادة ولكنها في نفس الوقت لا أقول ضريبة حتى لا يعارضني ولكني أقول إنها مؤنة الأموال، ولذلك وجبت في أموال الأيتام وليسوا مكلفين بعبادة، بعد ذلك أجيال الإيمان التي تحدث عنها لا تعالج المشكلة مطلقًا، لأننا لا نتكلم عن الإيمان وإنما نتكلم عن نظام اقتصادي في الدولة يتولاه الحاكم ويتولاه أولو الحل والعقد، بعد ذلك هؤلاء الشباب الذين يراد لهم أن يتربوا على الإيمان يسألونك أول سؤال: كيف تجب على في الإسلام ضريبة الأرض الزراعية وأخي تمامًا بجواري يملك أكثر مني عقارات ولا يدفع عنها مليمًا، هل هذا يمكن أن يكون عدل الله؟ إنه فهم الفقهاء لا أكثر ولا أقل ولا بد له من إجابة، والقول إن بهذا كلام الشيوعيين يقول فليكن من أي مكان كان ورد على سؤال، بعد ذلك أقول: أنا منضم إلى الأخ الفاضل الدكتور يوسف القرضاوي وقد انضممت إليه كثيرًا في مؤتمرات كثيرة مع مخالفات جزئية بيني وبينه ولكني أنضم إليه، ومع هذا فبعد أن استمعتم إلى هذه الآراء الكثيرة التي تجعل الموقف في غاية الدقة أن نخرج بأنه لا زكاة، ثم بعد ذلك يخاطبنا الناس بما حدثنا به عن ماليزيا والشاي والمطاط إلى آخره نريد جوابًا على هذا منكم ولهذا أردت أن أخرج من هذا الخلاف وأن أتوصل إلى أمر أرجو أن يكون مقبولًا عندكم، وهو ترك قضية الزكاة إلى أمر ولي الأمر {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} ونتوجه إلى أولياء الأمر في البلاد الإسلامية بفرض ما نسميه مؤنة إرضاء لجاري العزيز أو ضريبة تتعادل مع الزكاة في الأموال التي لم تفرض فيها الزكاة حتى نخرج من هذه القضية الكبرى، ولكي نسد حاجات المسلمين. بعد ذلك هذا الأمر إذا ما اتبعت فيه الطرق الشرعية، فقهاء يقترحون، وحكام يلزمون فإنه بحكم القرآن الكريم، وكما قال الإمام الألوسي ينشئ حكما شرعيًا دينيًا يطلب من الحاكم أن يحاسب عليه في الدنيا ويثيب الله ويعاقب عليه في الآخرة، هذا كلام الإمام الألوسي، لأننا لا نطيع ولي الأمر من حيث إنه ولي أمر، وإنما نطيعه من حيث إن الله سبحانه وتعالى قد أمر بطاعته، وأمر بطاعته في مثل هذه الأمور المستجدة. عندي كلام كثير ولكنني امتثالًا لأمر ولي الأمر أكتفي بهذا وشكرًا.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 الشيخ محمد عمر الزبير: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. في بادئ الأمر أريد أن أذكر قضية النماء هل هو علة أو هو شرط؟ والواقع أن الإمام القرافي في فروقه ذكر الفرق بين السبب والشرط والمانع فجعل السبب ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم، وجعل الشرط ما يوجب من وجوده العدم، وذكر الزكاة على أساس أنها سبب وأن الحولان هو الشرط وأن الدين هوا لمانع فلا يمكن أن نقول على أن النماء شرط وإنما الحولان هو الشرط والسبب أعم من العلة كما يعرف الأصوليون ذلك، وبالنسبة للزكاة، النصاب هو السبب في الأموال التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن يمكن أن نستخرج علة تشترك في صفة هذه الأموال ويمكن أن نقول: النماء علة لذلك، ولكن ليست العلة هي السبب الرئيسي الذي يرتبط به الحكم وجوبًا وعدمًا وإنما هي دالة على أن السبب الرئيسي في الحكم الشرعي الموجب للزكاة هو النصاب، على كل حال هناك اختلاف في وجهة النظر بين الأصوليين حول تعدية هذه العلة في الأموال التي تشترك فيها صفة النماء أو لا تشترك وهل هي قاصرة على محلها التي هي هذه الأموال بأنواعها المخصوصة المذكورة، هذه قضية. القضية الثانية، في الواقع قضية التفرقة بين ما يستلزم من الحاكم أن يحقق نوعًا من العدالة أو التوازن بين الطبقات وهذا الأمر متروك لولي الأمر حسب الحاجة، ونستطيع أن نفرق بين الواجب كحكم شرعي وبين ما يوجبه ولي الأمر حسب حاجات المجتمع وتغيراته، فإذن هناك أحكام ثابتة حتى لو اقتصرنا على الأنواع المخصوصة التي ذكرها الفقهاء بالنسبة لأموال الزكاة إلا أن هناك أموالًا أخرى كما قال الإمام الشاطبي رضي الله عنه يمكن أن يوظف ولي الأمر ما يستلزم لدفع الجوائح عن المجتمع، وهذا مجال خصب تستطيع الدولة أو الحاكم أن يحقق كثيرًا من التوازن في المجتمع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 الدكتور عبد السلام العبادي: بسم الله الرحمن الرحيم.. في هذه المجالات العلمية لا بد في بحث المسائل الفقهية من تحرير محل النزاع حتى لا يذهب بنا البحث في جوانب ليست لها علاقة مباشرة بالموضوع الذي نتعرض له. الموضوع الذي أمامنا هو هل تجب الزكاة في المستغلات في ريع أو في دخل المستغلات أو لا تجب؟ فالقضية ليست قضية بحث في زيادة الإيمان وفي دعوة الناس للصدقة ولا في هل للحاكم المسلم سلطة فرض مدخلات جديدة على أموال الناس ولا في أي أمر لاحق هذا أمر. الأمر الثاني: القضية المطروحة هل هي قضية مستحدثة مائة بالمائة. وضح أستاذنا يوسف القرضاوي أن هنالك آراء فقهية قديمة قالت بوجوب الزكاة على دخل المستغلات، إذن الأمر في هذا المجال أمر ترجيح، وليس أمر استحداث لرأي جديد، ولكل وجهته ونظره في مجال الترجيح، ما رآه أستاذنا في هذا المجال من مرجحات لإيجاب الزكاة في دخل المستغلات له وجهة نظر فيها، وجهة نظر مقدرة ومحترمة، ووجهة النظر التي تمنع أو لا توجب، كما ظهر من النقاش، أدخلت في الواقع على المسألة مجموعة من العناصر التي لا بد أن تلحظ فيما إذا أريد لجهة تشريعية خاصة بعد توجه عدد كبير من الدول الإسلامية إلى وضع فريضة الزكاة في تشريع ملزم ولم يترك لعملية المبادرة الفردية هذا المجال، قد يختار المشرع هذا الرأي أو ذاك الرأي، أرجو أن يسمح لي بأن أقول إنني أميل في هذه المسألة إلى عدم الإيجاب وإن كنت أحترم الرأي الذي يرجح الوجوب الذي تفضل به أستاذنا، ملاحظًا عناصر أخرى دخلت في العملية تفضل بعض الإخوان وأشار إلى بعضها، لدينا في مجال المستغلات العقارية عنصر التعرض لمخاطر الاستثمار، والتعرض لاحتمالات الخسارة، وعند ذلك تعطيل هذه الأموال، نحن نلاحظ بعد فترة الكساد الاقتصادي التي نمر بها أن كثيرًا من أصحاب البنايات ينظرون إلى بناياتهم دون أن يحصلوا منها على أي دخل بل يحاولون بيعها، ويبيعونها بأسعار أقل بكثير من تكلفتها في بعض البلاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 الأمر الثالث: عنصر استثمار الأموال وإيجاد فرص العمل وإدارة المال في المجتمع، هذا الذي يستثمر في العقارات ويعمل فرص عمل ويحرك المال ويحقق مدخلات اقتصادية لجمهور كبير من الناس يدعم هذا التوجه، وأقول توجهًا أن عنصر النماء كما تبين من البحث ليس علة في إيجاب الزكاة إنما هو شرط حتى بعدما سمعنا من الأخ الدكتور محمد عبده عمر لأن هي دالة، هي مؤشر، هي حكمة قضية النماء، لكن لا بد أن يتوجه الباحث إلى معرفة العلة الحقيقية في إيجاب الزكاة التي يمكن أن تكون مطردة وإذا لم تكن مطردة عند ذلك لا تسمى علة لأن هذا هو أساس تسميتها بعلة. أما قضية الفقر والفقراء فيجب أن لا يغيب عن بالنا أن معالجة قضيتهم لن تتم في النظر الإسلامي فقط عن طريق الزكاة، هنالك نظام متكامل لمعاجلة مشكلة الفقراء يكفي أن نشير هنا إلى قاعدة، إذا لم تف حصيلة الزكاة بتأمين مستوى الكفاية للفقراء ضمن قواعد تشريعية متعددة بينتها الشريعة، فبين بعض الباحثين أن حق الفقراء في الكفاية متعلق بأموال الأغنياء ولو أدى ذلك إلى استيعاب جميع أموالهم واشتراكهم فيها بالتساوي. أنا لا أستطيع من أجل حل مشكلة الفقراء أن أوسع دائرة الإيجاب في الزكاة بهذه الحكمة التي تحرص عليها الشريعة وتدعو إليها تأمينًا للعدالة الاجتماعية بين الناس، لأن لدى غنية في بعض القواعد الشرعية التي ستعمل مباشرة بعد أن تنتهي هذه القاعدة من العمل، هي قاعدة الزكاة، ثم إن استخدام المستغلات هو الآن بات وسيلة لعيش الفقراء والأغنياء ليس فقط لعيش الأغنياء أو لمزيد من الدخل لديهم، لأننا نلاحظ في مجتمعاتنا ونراهم حولنا في كل مكان هذا الذي يؤجر بيتًا صغيرًا وهذا الذي يؤجر غرفة وهذا الذي يؤجر سيارة أو غير ذلك، فإذا أردنا أن نأخذ بقاعدة أن المستغلات تجب فيها الزكاة، فإننا يجب أن نلاحظ موضوع الاطراد في تطبيق ما تبنيناه، التوجه إلى إعفاء حد معين من المعيشة الذي هو أدنى ما يكفي الإنسان، والذي انتهى فيه أستاذنا إلى تقرير كتنسيب بأن يكون هناك ثلث الدخل معفى، في الواقع هذا لا يحل المشكلة لأنه لا ينسجم مع قاعدة إعفاء الحد الأدنى للمعيشة، لأنه سيكون فقيرًا وسيدفع ثلثي الدخل، إعفاء ثلث الدخل بالنسبة له لا يحل المشكلة، يمكن أن يكون التصور بإعفاء مجموعة من المالكين من الدخول في دائرة التكليف في مجال الزكاة في هذا النوع من أنواع الزكاة، لذلك أرجو أن يكون الأمر في إطار الترجيح، وإذا كان في إطار الترجيح، نحن لا نستطيع أن نرفع الخلاف وبالتالي عندما يتوجه إلى وضع تشريع ملزم في مجال الزكاة للحاكم المسلم أن يتبنى الرأي الذي يراه محققًا للمصلحة بمشورة الخبراء والمختصين، وبخاصة أننا لدينا مؤتمرات علمية قد بحثت هذا الموضوع وانتهت فيه إلى رأي معين. وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 الرئيس: في الواقع أنا هنا في موضوع أشار إليه الشيخ عبد السلام ناقل ولست بناقد، أشار إليه أثناء الانصراف إلى صلاة المغرب أن هناك كلمات موسعة وهي لا تعدو عن كلمات إنشائية. ونحن كما تعلمون في مجال فقه وفي مجال تحرير محل النزاع وفي مجال استنباط العلل وفي مجال جمع الأدلة وبيان مدارك الأحكام ومدارك الخلاف، أما الأمور العاطفية أو الأمور الوقتية أو مشكلات الحياة أو ما جرى مجرى ذلك، فهذه بحور لا ساحل بها، نحن نريد أن نسير في ذلك المسار فقط. هذا أذكره لكم على سبيل النقل من توجهات بعض الإخوان ويرون ويأملون أن يكون ما يتفضل به المشايخ في المسار الفقهي الذي يحدد لنا القضية ويعطينا إيضاحًا عنها.. والكلمة الآن للشيخ عمر جاه، ثم للشيخ عبد اللطيف. الشيخ عمر جاه: بسم الله الرحمن الرحيم.. ولأنني آخذ الكلمة لأول مرة أريد أن أتوجه بكلمة شكر إلى رئيس المجمع وإلى الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي على حسن التنظيم الذي سهل لنا الأمور ومهد لنا الطريق. وعندي ملاحظة: لا أريد أن أعلق على موضوع الزكاة الذي أعتبر وأعتقد أن أصحاب الفضيلة العلماء الذين تكلموا عنه أعتقد أنهم قتلوه بحثًا. أريد فقط أن أستوضح نقطة واحدة هي تتعلق بزكاة المستغلات.. ومما لا شك فيه أن مجال المستغلات وخاصة ما يخص العمارات والمصانع، مجال يعتبر من أحد مجالات استثمار أموال المسلمين في الوقت الحاضر. وليس من المعقول إهمال هذا القطاع الذي يستوعب أكبر قدر من استثمار أموال المسلمين. وإذا كنا في إطار هذا المجمع نمثل العالم الإسلامي في الوقت الحاضر. إذن ينبغي أن نقول إن وجودنا هنا تجسيم لمشاكل المسلمين خاصة المشاكل الاقتصادية، فالزكاة كما نعرف جزء ومحاولة أو توجيه إلهي لإعطاء المحتاج من مال الأغنياء التي تعتبر وديعة عندهم. وسؤالي أو ملاحظتي أن من يتساءل عن وجوب الزكاة في المستغلات هل الزكاة التي تتكلم عنها في المستغلات نفسها أو في دخل المستغلات؟ ونعني إلى الفهم، وأرجو من فضيلة العلماء الذين قدموا بحوثًا في هذا المجال أن يصححوا فهمي إن أخطأت. الزكاة التي نتكلم عنها الآن هي الزكاة في دخل المستغلات وأعتقد أن دخل هذا إذا كان شكل أموال له قواعده في مسألة الزكاة، إذا كان نتصور إنسانًا استثمر مليون ريال في بناء عمارة لعملية تجارية وحصل أن هذه العمارة لم تستغل لفترة زمنية ,من المعقول أن لا يطالب بالزكاة , إذن فالمزكى هو ريع هذه العمارة أو دخل هذه العمارة أو الأموال التي يتحصل عليها من هذه العمارة. إذن أعتقد أن العلماء لا يختلفون أبدًا على وجوب فرض زكاة على هذه الأموال ولكن الزكاة هي على الأموال التي تدرها أو يستنتجها المستثمر من هذه المستغلات. فأرجو من الدكتور يوسف الذي تفضل بتقديم البحث في هذا الموضوع، وإنني أعترف بأنني تعلمت من بحثه الكثير، إذا كان فهمي هذا خطأ، أرجو أن يتفضل ويصحح لي هذا الفهم.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 الشيخ محيي الدين قادي: نحمده ونستغفره ونتوب إليه، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، ألا إن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. والزكاة: أثيرت مشكلة زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية. هذه المشكلة فيما يبدو لي موجودة من يوم أن هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واحتاج المسلمون إلى أن الواحد منهم يتنازل عن نصف بيته أو نصف منزله إلى أخيه من المهاجرين. وقد وجدت هذه المشكلة وهي فاشية منتشرة من عهده صلى الله عليه وسلم وهي كراء الدور. ولكن الفاشي المنتشر إذا سكت عنه صاحب الشرع يعتبر أن سكوته حكم، فلم يوجب صلى الله عليه وسلم فيما رأينا وما عرفنا من نصوص السنة الشريفة وفيما عرفه الأئمة السابقون، يعني من نصوص السنة، والزكاة في العقارات. وإن قلنا بأن هذه المشكلة جدت وتطورت فهل حضارة بغداد وقاضي قضاتها أبو يوسف وحضارة القيروان وقاضيها سحنون وحضارة قرطبة، يعني لم تعرف هذه المشكلة، أيضًا وهي ما يتعلق بكراء العقارات. فجعلنا الزكاة واجبة في العقارات يقتضي من القائل به أن يعيدنا إلى مصدر من مصادر التشريع المعروفة وهي المجمع عليها أو المختلف فيها على الأقل وهي الكتاب والسنة وهما محل الإجماع، والإجماع على رأي أغلبية الفقهاء، ثم ما اتسع عند بعض الأئمة وضاق عند بعضهم كالمصالح المرسلة والاستصحاب. أما إن أردنا أن نجيب هؤلاء السائلين من الشيوعيين وغير الشيوعيين، فديننا يجيب في غير هذا. فعندنا دروب من المؤاساة الواجبة في الإسلام غير الزكاة، وذلك كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم ((إذا بات أهل عرصة في شبع وفيهم جائع فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله)) وكقوله صلى الله عليه وسلم حين أصابت الناس حاجة ((من كان عنده فضل زاد)) إلى غير ذلك، وكقول مالك بن أنس "إن لم توف الزكاة بحقوق الفقراء أنه يجب على الأغنياء إغناء الفقراء" وإلى غير ذلك من الوجود الكثيرة. وقد ورد في عهد الإمام علي للأشطر النخعي وهو من المتفق عليه بين أهل السنة وغيرهم، يعني أنه أوصى بالأرامل وبالأيتام وبذوي الحاجة وبذوي العجز إلى غير ذلك. فالزكاة تتسع لبعضهم ولا تتسع للكل، وفي الإسلام وفي بيت المال موارد أخرى. فإن أردنا تحقيق ذلك فعلينا أن نحقق ذلك إلى أي مصدر من مصادر التشريع نرجع أقوالنا هذه. وإن كان ما قلته صوابًا فمن فضل الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 الشيخ عبد الله البسام: الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد. وبعد، فأصحاب الفضيلة قتلوا الموضوع بحثًا في هذا الأمر وتعرضوا لموضوع النماء: هل هو علة أو شرط؟ وحسب ما عندي من قراءة وما عندي من فهم أن النماء شرط من شروط وجوب الزكاة وأنه ليس علة فيها. وإنما الذي أرى وقرأته وعلمته من كلام أهل العلم أن النقطة الأساسية في الزكاة هي المواساة بين الفقراء والأغنياء. فالمواساة هذه يستطيع الفقيه أن يأتي بها في كل نقطة من نقاط الزكاة، فهذه هي التي تحدد مأخذ الزكاة. ولهذا أهم ما استدل به الجمهور على عدم وجوب الزكاة في حلي المستعار أو المستعمل، أهم ما استدلوا فيه أنه للقنية وليس للنماء. وإذا كان ليس للنماء فمعناه أن صاحبه بعدم إخراجه ساوى الفقير، دخل عنصر المواساة في ذلك لأنه من أموال القنية التي لا تنمو والتي هي من استعمالات صاحبه. هذا المبدأ مبدأ المواساة إذا طبقناه على المستغلات كالمصانع والعمائر ونحوها وجدناه تنطبق على ذلك. فمسألة المستغلات هي مسألة قديمة وليست جديدة. هي موجودة في صدر الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أصحابه وفي الصدر الأول، فلم يحدث فيها تشريع جديد وإنما بقيت على الأصل فيها. وكونها تضخمت وكثرت غلاتها، وهذا أعتقد لا يغير من التشريع شيئًا، التشريع لا يزال باقيًا لأن التشريع يقع على الكثير والقليل، هذا ما أردت أن أبديه حول هذه النقطة. وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 الشيخ عبد الله إبراهيم: بسم الله الرحمن الرحيم.. شكرًا لفضيلة الرئيس على ما أتاحه لي من المشاركة التي قد طالت وتنوعت إلى أن ظهرت لي أن المسألة قد بقيت مختلفًا فيها، ولم نصل إلى الحل الحاسم. فمن بين نقاط الخلاف هي مسألة النماء نفسه. فالنماء كما ظهر لنا جميعًا إما أن يكون شرطًا وإما أن يكون علة، على حسب ما ظهر لنا من المناقشات. وبالنسبة لما حضر لي من القراءات في هذه المسألة، أن النماء أيضًا إلى جانب وجود القول بأنه شرط أو علة يوجد أيضًا ما هو يشبه بأنه نوع ليس بشرط ولا بعلة ولكنه نوع. هذا ظهر من تعبير الإمام النووي في المجموع لأنه قال: الأموال الزكوية إما ما هو نماء وإما ما هو مصدر للنماء، أو كما قال الماوردي في الأحكام السلطانية وكذلك القاضي أبو يعلي، فالنماء هنا كما ظهر لي أنه نوع من الأموال الزكوية. فالأموال الزكوية إما ما هو نماء وإما ما هو مصدر للنماء، فظهر لي أن النماء هنا يعني الدخل، فالأموال الزكوية إما هو الدخل على حسب التعبير الحديث وإما هو المال النامي والمال النامي نوع والنماء نفسه نوع، فالنماء ظهر لنا هو غلة المستغلات فهذا هو النماء، وأما النقود والسوائم وأموال العروض التجارية فهذه هي المال النامي فإذا رأينا إلى تقسيم الأموال الزكوية إلى هذين النوعين، إما الأموال الزكوية إما ما هو نماء، وإما ما هو مصدر للنماء. إذن فكل ما هو نماء تجب فيه زكاة أو كذلك كل ما هو مال نام أو مصدر للنماء تجب فيه الزكاة، ومهما كان الأمر فالخلاف لا يزال باقيًا. وأرى أن نخرج من هذا الخلاف بما عليه الفقهاء. في كثير من الأحيان رأينا الفقهاء إذا اختلفوا في مسألة من المسائل فإنهم يطبقون قاعدة اختيار الأنفع للفقراء. رأينا الإمام النووي في المجموع وكذلك ذكر كثيرًا في المغني لابن قدامة، فإنهم في مسألة اختلفوا فيها طبقوا أو يشيرون إلى الأخذ بما هو أنفع للفقراء. فخروجًا من الخلاف الذي نحن فيه الآن فأنا أميل إلى أن نطبق أو لا نمنع من أي جهة من الجهات تطبيق ما هو أنفع للفقراء، تطبيق ما هو أنفع للفقراء بالنسبة لمسألتنا هذه، فهو طبعًا كما ذهب إليه مقدم البحث الفاضل الدكتور يوسف القرضاوي، فإن تطبيق ما هو أنفع للفقراء أيضًا يناسب كما قال فضيلة الشيخ عبد الله البسام فإن فيه مواساة للفقراء، فإن الزكاة ومن حكم تشريع الزكاة فيها مواساة للفقراء. فالأخذ بهذه القاعدة قاعدة اختيار الأنفع للفقراء يمكن أن نقيس أشياء غيرها وليس لنا أن نقف في مسألتنا هذه فقط مسألة غلة المستغلات. فكل ما هو مثل غلة المستغلات يمكن أن نطبق عليه قاعدة اختيار الأنفع للفقراء. فهناك مسائل أخرى إذا طبقنا عليها هذه المسألة نفيد المجتمع كثيرًا خصوصًا مجتمع اليوم، مجتمع المسلمين في كل مكان يحتاج إلى تطبيق ما هو الأنفع للفقراء. هذا ما أراه للخروج من هذا الخلاف، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 الشيخ عبد اللطيف الفرفور: شكرًا أيها السيد الرئيس ... الواقع أولًا في كل اجتهاد تخريجًا أو ترجيحًا نردد ما قاله الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه "علمنا هذا رأي وهو أحسن ما توصلنا إليه فمن جاءنا بأحسن منه كان أحق". القضية هي في دخل المستغلات وليست في أعيانه كما هو ظاهر. فهل النماء علة بصرف النظر عن كونه شرطًا أو نوعًا أو غير ذلك، الواقع أني أعود فأكرر أنه ظهر لدى جميع الأفاضل الحضور أن النماء ليس علة لأن العلة هي السبب المؤثر، والنماء ليس سببًا ولا مؤثرا، ثم المواساة التي تفضل بها بعض الزملاء الأفاضل حكمة وليست علة. المواساة مئنة وليست مضنة، نحن نبحث هنا المضنة لأنها هي التي يدور معها الحكم وجودًا وعدمًا مع التأثير فيه. فمن ادعى غير ذلك فعليه الدليل، من ادعى أن النماء علة فليأتنا بدليل نقلي وعقلي. ثانيًا القياس على الأرض الزراعية هنا غير وارد إطلاقًا لغلبة جانب التعبد في الزكاة على معنى الحق البحت، أي حق المال، فهي كما يقول الأصوليون الأحناف: عبادة فيها معنى المئنة، الأصل فيها العبادة فلو سلم جدلًا فهو قياس مع الفارق كما تفضل الأخ الدكتور السالوس. ثالثًا، الزكاة في ريع المستغلات مفروضة كما تفضل الشيخ عبد العزيز عيسى فنحن لم نقل: إن الزكاة غير مفروضة كما تفضل الشيخ عبد العزيز عيسى فنحن لم نقل: إن الزكاة غير مفروضة ما قال بذلك أحد، لكنه في الريع بزكاة النقود وبشروطه فهذا هو التوسط، الوسطية التي نادى بها الإسلام. وهذا يعد كله من باب التجارة، وعلى فرض عدم وفاء هذه الزكاة بالهدف في ظل ترقيع الأنظمة الحالية، لأننا لسنا في نظام اقتصادي إسلامي، نحن نرقع الأنظمة الحالية ترقيعًا بما لدينا من حلول إسلامية، والمفروض أن نستبدل بهذه الأنظمة النظام الاقتصادي الصحيح الكامل الشامل الوافي حتى نرى هل يحقق الهدف أم لا؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام ورد عنه أثر لا أدري الآن تخريجه بالضبط ولكني قرأته في بعض الكتب المعتبرة الموثوقة من كتب السنة "لو أن الله عز وجل يعلم أن زكاة أموال الأغنياء لا تكفي الفقراء لأنزل عليهم من عنده ما يكفيهم"، فإذا أحببنا معالجة قضية عدم وفاء هذه الزكاة بحاجات الفقراء ولتحقيق العدالة الاجتماعية فعندنا في المذهب الحنفي فرق كبير بين ما يسمى بحكم الفتيا، وبين ما يسمى بالسياسة الشرعية. فيقول ابن عابدين في "رد المحتار" نقلًا عن أئمة المذهب، وهذا هو آخر كتاب من كتب الحنفية المعتبرة: "إن الإمام بشروطه طبعًا له صلاحية فرض خرج، وأحببت كلمة الخرج جدًا وإن لم يقلها ابن عابدين بالذات وإنما هي كلمة معتبرة بعد الرجوع لأهل الحل والعقد وهي الشورى الخاصة أن يفرض في أموال الأغنياء ما يكفي الفقراء وما يكفي حاجة الدولة"، هذا حكم اسمه حكم سياسي، ولا نقول سياسي بمعنى السياسة الحالية التي نفهمها، حكم سياسي شرعي، وله حق الإلزام وعلى الناس أن يطيعوا ذلك يثابون ما أطاعوا ويعاقبون من عند الله ما خالفوا، اللهم إذا كان في ذلك منفعة عامة للكافة وبشروطها المعتبرة. فقد خصص ابن عابدين مطلبًا خاصًا لما يسمى بالسياسة الشرعية. فحينما يضيق الأمر إذا ضاق الأمر اتسع، نأتي إلى السياسة الشرعية ونقول للحاكم المسلم تعال فافرض في أموال الأغنياء ما يكفي الفقراء وما يكفي الجيش وما يكفي البلاد، هذه ناحية. وأقول بعد ذلك إن الشرع ما شرعه الله، ولا نستطيع أن نزيد من عندنا شيئًا باسم المصالح إذا كان الأمر يتعلق بالتعبد بالذات. والزكاة أمر تعبدي أكثر مما هو حق مالي فلنقتصر على النصوص ونبتعد عن هذه الاجتهادات ما دمنا نريد أن نصل إلى السلامة في ديننا ودنيانا. مع شكري لمن تفضل قبلي بالجهود المشكورة والاجتهادات النافعة فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد، وأرجو الله أن أكون صاحب الأجرين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 الدكتور حسن عبد الله الأمين: بسم الله الرحمن الرحيم.. شكرًا للسيد رئيس الجلسة والإخوة الكرام السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. الحديث حول الزكاة في المستغلات دار كثيرًا وأشبع بحثًا من الإخوة الكرام. والحقيقة أن الأموال المستغلة هي في واقع حياتنا الحاضرة تمثل نسبة عالية من الاقتصاد الكلي لأي بلد من البلدان. فهي في حقيقتها قبل أن تكون أموالًا مستغلة في أعيان كانت أموالًا سائلة ابتغى بها التنمية والربح والعائد من أصحابها. وكان لهم أن يدخلوا بها في التجارة مباشرة ويديرونها سريعًا، ولكنهم اكتشفوا أن جعلها في هذه المستغلات المتنوعة أنفع وأفيد كثيرًا لهم من التجارة السريعة. فهي في حقيقتها أموال نقدية أدخلت في عمليات شبيهة بالتجارة إن لم تكن تجارة، وكون كثير من الإخوة جعل هذه الأموال يزكى ريعها ولا تزكى أصولها هذا نوع من التجاوز. وقد يكون مقبولًا حفاظًا على هذه الأصول ولكن ليس مقبولًا أن نجعلها والتجارة في مستوى واحد. أموال التجارة تزكى كلها ما كان منها نقدًا وما كان منها عينًا. تقوم ثم تزكي. لكن هنا لا نقيم هذه الأعيان المالية في المستغلات، وإنما نأخذ الزكاة كما يتجه أكثر الإخوان من ريعها ومن عائدها. فهل أولًا يصح أن نبعد هذه الأموال من الزكاة نهائيًا كما يتجه بعض الإخوة؟ هذا لا يصح. أو هذا في رأيي لا يكون منطقيًا. كيف نستبعد هذه الأموال وهي أموال ضخمة جدًا تمثل النسبة العالية وقد تكون الثلث أو النصف أو أكثر من ذلك من الأموال الدائرة في النشاط الاقتصادي؟ من حيث المبدأ أعتقد أنه ليس سليمًا أن نستبعد هذه الأموال من محيط الزكاة. فإذا انتقلنا إلى مرحلة أخرى هي أن تكون الزكاة في ريعها وعائدها فكذلك أرى أنه لا نسوي بينها وبين التجارة العادية التي نأخذ على ريعها وعلى أعيانها. المخرج في رأيي في هذه الحالة بعد أن نقرر مبدأ الزكاة فيها أي في عائدها وليس فيها أن تكون هذه الزكاة في يوم العائد مباشرة حتى لا تخرج مرة أخرى في شكل مستغلات وتتسرب من السيولة التي بين أيدينا التي نستطيع أن نجعل منها زكاة، لأننا لا نستطيع أن نعوض هذا بجعلها هي في أعيانها وفي ذواتها زكاة أو نزكي عنها. فالرأي الذي ذهب إليه الأخ الدكتور يوسف القرضاوي أعتقد أنه سليم في هذا الموضوع: أن تكون الزكاة واجبة، وأن تكون واجبة في ريع هذه الأموال المستغلة وأن تقوم في تاريخ وجود هذه العوائد منها. وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 الشيخ عجيل جاسم النشمي: بسم الله الرحمن الرحيم.. والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين. يبدو لي أن القضية منحصرة في تحقيق محل النزاع كما أشار أحد الزملاء. وبناء الحكم في هذه القضية يقتضي توضيح معنى السبب ومعنى الشرط كي نتوصل إلى قضية النماء هل هو شرط أم سبب؟ ويقتضي أيضًا تحقيق معنى العلة. أود هنا أن أذكر لكم ما يحضرني في تعريف السبب والخلاف فيه وفي تعريف الشرط والعلة. ثم أبني الرأي حول قضية النماء. السبب: اختلف فيه العلماء إلى رأيين: الجمهور قالوا بأن السبب هو وصف ظاهر منضبط يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم. وآخرون رأوا أن السبب هو أيضًا وصف ظاهر منضبط يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم بشرط أن لا تكون هناك مناسبة بين السبب وتشريع الحكم. فعلى الرأي الأول السبب والعلة قد يجتمعان. وقالوا إن بينهما عمومًا وخصوصًا مطلقًا، أي يجتمعان في شيء وينفرد الأعم منهما في شيء آخر. فتجتمع العلة والسبب فيما إذا كانت هناك مناسبة في تشريع الحكم، أي إذا ظهرت الحكمة من التشريع كقصر الصلاة في السفر. السفر هو السبب والحكمة ظاهرة في التخفيف، فهنا يقول الجمهور بأن في هذا المثال يجتمع السبب والعلة. فبينهما عموم وخصوص مطلق. على الرأي الثاني لا تجتمع العلة مع السبب لأن العلة لا بد وأن تظهر الحكمة فيها ولذلك قيدوا فقالوا إن السبب شرطه أن لا تكون هناك مناسبة، فإذا كانت هناك مناسبة فلا يكون سببًا إنما يكون علة. هذه خلاصة ما قاله العلماء في السبب. أما الشرط: فعرفوه بأنه ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذات الشرط ويكون خارجًا عن حقيقة المشروط. هذا تعريف السبب والشروط. وعلى هذا فالنماء هو شرط لأن الحكم لا يدور معه، شرط لا سبب، لأن السبب قد يكون له شرط لوجوبه أو وجوده. فالنماء شرط للسبب. ونصوا هنا في قضية الزكاة أن السبب هو ملك النصاب. فملك النصاب هو الذي يدور معه الحكم وجودًا وعدمًا. أما النماء فهو شرط من الشروط عند من يرى أن النماء شرط للزكاة. وقضية العلة هنا ليس لها تأثير في هذه القضية، العلة ليس لها تأثير لا باعتبار معنى الحكمة، لأن السبب هو الأعم. فكلما وجدت العلة وجد السبب، لأن السبب هو الأعم، ولا توجد العلة إلا ويوجد السبب معها إذا ظهرت الحكمة على رأي الجمهور. فالرأي العلمي الذي أطمئن إليه هنا في هذه القضية بناء على هذه المسلمات في تعريف السبب والشرط هو أن النماء شرط وليس سببًا ... والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 الشيخ آدم شيخ عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم.. بعد شكرى للأمين العام ورئيس المجمع وجميع الباحثين يظهر لي أن هناك لبسا في المسألة، المسألة المراد: هل غلة أو ريع أو أجرة المستغل أو عين المستغل؟ فإن لم يكن المستغل نفسه من عروض التجارة فهذا أمر ظاهر والريع أو الغلة تجب الزكاة بشروطها، من النصاب وحولان الحول أو ضم هذه الغلة إلى أموال صاحبها، وإن كان المراد المستغل عينا ولم يكن المستغل من عروض التجارة، فأرى أن مثل هذا كان موجودا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هناك مزارع، مزارع النخيل ومستغلة ولم تجب الزكاة في عين الأرض. هناك بيوت تدر دخلا وغلة ولم تجب الزكاة في عين البيوت المستغلة إن لم تكن من عروض التجار. ولهذا أنا أرى أن يدور الكلام والنقاش حول هاتين النقطتين، يعني غلة الأرض وريعها أو غلة العمارات والمصانع، فإن المصانع وما فيها من الأدوات والأرض وما فيها من أدوات الحرث تدر أموالا، فهذه الأموال نوجب فيها الزكاة بشروطها، وما أدوات الحرث ونفس أصل الأرض المستغلة ولا أعتقد هناك فرق بين أرض مستغلة وعمارة مستغلة، لذلك أنا أرى أو أضم رأيي مع من يرى أن الأعيان المستغلة إن لم تكن من عروض التجارة لا تجب فيها الزكاة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 الشيخ على العصيمي: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه. ينطق بعض الإخوان باسم الزكاة فيقولون زكاة كما يقول البعض إذا نكروا حياة يقولون حياة، ونحن هنا في موضع عال وسام وكريم وينبغي أن نعرف كيف ننطق بهذا الاسم الذي هو ركن من أركان الإسلام، ولقد تشعب الحديث وطال وينبغي أن يختصر اختصارا سريعا. فالأمر فيه واضح وضوحا جليا والدليل فيه قائم من القرآن ومن السنة وأعمال ورأى بعض الصحابة، فالأمر هو أن المال المستغل أصله مال ولذلك يجب فيه الزكاة كما تجب في المال ... والسلام. الدكتور محمد شريف أحمد: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أود أن أشكر في البدء الرئيس والأستاذ الأمين العام على إتاحة هذه الفرصة للتحدث في هذا الموضوع الذي سأسهم فيه بشكل موجز وسيكون دوري تعليقا وملاحظات بسيطة فقط. أود أن أقول إننا في مجمع فقهي إسلامي والمفروض من هذا المجمع الفقهي وهو كذلك كما نلاحظه أنه يصدر عن رأي اجتهادي أصيل. والمفروض أيضا أن هذا الرأي يكون مؤسسا على دليل من كتاب أو سنة أو مصادر متفق عليها أو مختلف فيها. وقد نوقشت هذه المسألة وكما قيل قتلت أو أشبعت بحثا فيها. وكما أرى أن فضيلة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي قدم عرضا أصيلا يمكن أن نعتبره نموذجا لاجتهاد عالم معاصر يجب أن نجل رأيه ونحترمه كما نجل ونحترم آراء علمائنا من السلف الصالح. ولا يعني ذلك أنني أؤيده في رأيه تمام التأييد ولكني أؤيد نهجه الجرئ ونهجه العلمي الذي يضع اللمسات على موضع الداء، والحقيقة أن هذه المسألة كما تفضل الدكتور هي تتفرع عن قاعدة أساسية، بعد أن كان الموضوع ينزل إلى التفصيلات وبدأ البحث الآن يعود إلى تلخيص هذه المسائل، إلى الرجوع إلى الأفكار الأساسية. الفكر الأساسي الذي انطلق منه الدكتور الأستاذ القرضاوي: هو هل أن أحكام الله معللة بالأغراض، أو غير معللة؟ هو ذكر اسم العلة، وكما أعتقد والشخص موجود لا يجوز أن أتكلم باسمه ولم يكن يقصد بالعلة المعنى الاصطلاحي الأصولي. والحقيقة كما تعلمون وكما تفضل السادة الأفاضل تناولوا المصطلحات الأصولية: السبب، الشرط، المانع، العلة، لكن هذه المصطلحات لم تكن في يوم من الأيام عائقا لأي مجتهد تعوقه عن الاجتهاد، وإنما هذه مصطلحات فنيه اصولية تتبع الحكم وليست تسبق الحكم الاجتهادي، لذلك إذا أخذنا بالرأي القائل بأن الزكاة هي من الأحكام الشرعية التي يغلب فيها الجانب المالي وهو خاضع للتعليل فإن المنطق يدفعنا إلى أن نذهب وننحو منحى الأستاذ القرضاوي. أما إذا رأينا بأن الزكاة هي حكم شرعي ويغلب فيه الجانب التعبدي يكون من الصعب علينا أن نأخذ بغيره. والحقيقة أنا شخصيا لم أطلع تمام الإطلاع على بحثه القيم وعلى البحوث القيمة الأخرى، ولكن كما تعلمون أن كثيرا من المجتهدين ولا أعنى ولا أقصد بذلك أن أدخل في دائرة الاجتهاد وإنما أنا فيه طالب من طلاب العلم، ولكننا نقرأ كثيرا أن المجتهدين قد يتوصلون لعلة تنقدح في ذهن المجتهد أي هنالك إحساس لدى المجتهد في عدالة هذا الحكم. ولذلك إذا كان لي رأي فإن إحساسي يميل إلى الدكتور القرضاوي ولكن ديني الجانب الآخر ربما يميل إلى الرأي الذي عبر عنه بكل وضوح الأستاذ الجليل الشيخ عبد العزيز عيسى وهو الأوفق لمن يريد أن يلتزم بالجانب النصي تماما، وأنه الأوفق أيضا للمعنى الديني الملتزم الصارم فقط. ولكن إذا أردنا أن نسير إلى بعد اجتماعي في الدين فلابد أن نأخذ برأي الأستاذ الدكتور القرضاوي. وشكرا والسلام عليكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم ... وبهذا ينتهي ما سجلت من أسماء في مناقشة هذا الموضوع وقد كثرت النقاط الهامة واستغرقنا أربع ساعات في هذا الموضوع والآن إذا تكرمتم سوف أحضر ما جرى من المداولات وما جرى في النقاش وألخصه وأبين من خلاله ما اتجهت إليه أكثر الأنظار أو أكثر الأصوات ... فمن كان منضما إلى هذا الرأي فذاك، ومن لم يكن منضما إلى هذا الرأي ربما يتأمل يحصل له الانضمام أو يحصل له التحفظ. الشيخ عبد الله بن بيه: كما يبدو أن بعض الإخوان يريدون لنا أن نبحث في فراغ، نحن لسنا جمعية سياسية تنقسم فيها الأصوات والأهواء، نحن كما قيل إن الناقد وإن كان بصيرا لكنه بسلوك الأثر جدير، نحن نفتى، نصدر فتوى وبذلك نترجم عن الله ورسوله. الفتوى هي ترجمة عن الله ورسوله كما يقول العلماء " إخبار الفتوى كمن يترجم والحكم إلزام " فما يترجم عن الله ورسوله لابد أن يرجع إلى كتبا لله وسنة رسوله. ينبغي أن نتأمل قليلا في كلمة قالها اليوم فضيلة الدكتور الحبيب ابن الخوجة نقلها عن إمام الحرمين: هناك المتقابلات، الأوامر والنواهي. هناك الناحية المحصورة والناحية غير المحصورة هل من كلمة تفيدنا كثيرا، الجهة المحصورة والجهة غير المحصورة. هل الجهة المحصورة هنا هي جهة الزكاة أو هي جهة غير محصورة. ما هي الجهة التي حصرها الشارع بمعنى أنها تحتاج إلى نص من الشارع لنأخذ فيها حكما. هل يجوز لنا إحداث حكم؟ أعتقد أن هذا الموضوع في غاية الأهمية والدعاوى ما لم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء. أنا لم أقل أبدأ إننا لا نقيس كما يحلو لجاري. وهذا من حسن الجوار أن ينسب إلى. أنا أقوال إن الأحكام تتلقف من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وإقراراته ومن القياس. القياس هو المصدر الرابع وأنا أقول بالقياس.إلا أن القياس إ ذا لم يكن على غير شيئ أو كان فاسدا فإنه ممنوع شرعا. فإن القياس الذي لا يستند إلى علة جامعة، والعلة الجامعة باختصار شديد هي العلة المؤثرة في الحكم والتي تدور معه وجودا وعدما. فإذا لم تدر العلة مع الحكم وجودًا وعدما فمعنى هذا أنها لا تصلح أن تكون علة وبالتالي لا تكون مؤثرة. هنا ليس أمامنا نص نستند إليه ونطمئن إليه وليس أمامنا قياس سليم نستند إليه ونرتكز إليه. أمامنا آراء، بعض الإخوان يقول أرى كذا وأنا قلت: أراني الله، معناه جعل الله هذا رأيي، وهذا قد يكون صحيحا لأني قلته هكذا وأنا قلت: أراني الله، معناه جعل الله هذا رأيي، وهذا قد يكون صحيحا لأني قلته هكذا فالبعض يقول شرط والبعض يقول سبب وليس شرطا ولا علة ولا سببا. الشرط إذا كان شرط وجوب فإن المكلف يجب عليه أن يقوم به كالوضوء للصلاة، والنماء لا يجب على أحد أن يقوم به. النماء أيضا قد يتخلف وتوجد الماهية دونه والشرط إذا تخلف لا توجد الماهية دونه ولا تصح. المال الموضوع إذا لم ينم بشيء فإن الزكاة تجب فيه عندما يحول الحول. إذن هذا ينفى الشرطية وينفى العلية. ولقد قلت إنه إذا كان لنا أن نصف النماء بوصف فيجوز أن نصفه بأنه دليل على العلة وليس علة. وأن يكون القياس قياس دلالة لمن يقول بوجود قياس دلالة، كالشدة دليل على الإسكار، الإسكار هو العلة في الحرمة والشدة دليل على الإسكار. إذن النماء دليل يستروح منه وحكمة وليس شرطا من الشروط. يجب أن يكون هذا واضحا. الزكاة هي الفريضة الثانية بعد الصلاة {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} فليس من المعقول مطلقا أن تكون أحكام كهذه الفريضة الثانية ليست مذكورة عن السلف خصوصا وأن السلف تكلموا عن باب كراء الدور والأرضين، في المدونة مثلا، تكلموا كثيرا عن الكراء وعن الإيجار ولم يتكلم أحد منهم عن الزكاة في هذا إلا القليل النزر ولم أستوعب والحق يقال، لم أقرأ، قرأت قليلا جدا ولكن أرى من واجبي أن أنبه إلى هذه المسألة وأن أدعو الإخوان إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة وإلى التحاكم إلى القياس السليم بشروطه المعتادة والمعتبرة. وأضم صوتي إلى ما قاله الشيخ عبد اللطيف، أعجبني كثيرا ما قاله ويجب أن نحرر موضوع ومواضيع النزاع لنهتدي إلي شيء، وأشكركم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الرئيس: شكرا ويتفضل الشيخ يوسف مع رجاء الاختصار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 الشيخ يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم ... الشكر لله أولا ثم لفضيلة رئيس الجلسة وللإخوة. وفي القرآن العظيم {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} ، الشكر للإخوة جميعا الذين خالفوني والذين وافقوني ولا أتوقع أن يتفق على أمر اجتهادي كهذا. فالأمور الاجتهادية بطبيعتها لابد أن يختلف فيها. ولا أدعى أن رأيي هو الصواب بل أقصى ما أقوله ما جاء عن الإمام الشافعي رضي الله عنه " رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". أقصى ما يقوله إنسان يجتهد ولا أدعى أنى من المجتهدين، إنما الاجتهاد الجزئي قال به أغلب الأصوليين أن يجتهد الإنسان في مسألة أو موضوع فهذا لا يمانع فيه أحد. وأعتقد أن مهمة مجمعنا هذا هو الاجتهاد الجزئي على الأقل في المسائل التي تعرض عليه سواء كان الاجتهاد هذا اجتهادا ترجيحيا انتقائيا أم اجتهادًا إبداعيا إنشائيا. ففي المسائل التي عرفها السابقون يكون اجتهادنا انتقائيا وفي المسائل الجديدة جدة مطلقة يكون اجتهادنا إنشائيا. وأنا أرى أن اجتهادنا هنا هو من النوع الانتقائي لأن المسألة قد قيلت فيها أقوال كما ذكرت في المذاهب المختلفة وإن لم يكن ذلك هو المفتى به. لأن الشيخ عبد الله ينكر أن يكون للسلف فيها رأي، مع أن الشيخ زروق ذكر في شرح الرسالة رأيا عن بعض المالكية أن يكون في غلة هذه الأشياء، صحيح ليس هو الرأي المشهور، وليس هو الرأي المفتى به، ولكن كم من آراء كانت مهجورة ثم شهرت وكم من آراء كانت ميتة مقبورة ثم حييت، كم من آراء، ولذلك اختلفت التصحيحات والترجيحات في المذاهب المختلفة على طوال العصور، ثم إنه من المقرر أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والعرف، لماذا تتغير الفتوى، ليس الحكم الشرعي، أي أن هناك أشياء تجد تجعل المجتهد بغير رأيه حتى أن بعض الأئمة غيروا آراءهم في حياتهم، رويت عن الإمام مالك روايات عديدة في المسألة الواحدة، والإمام أبو حنيفة رجع عن بعض أشياء حتى قبيل موته بأيام، وخالفه أصحابه في نحو ثلث المذهب وكثيرا ما قال الحنفية في اختلاف أبي يوسف ومحمد عن شيخهما، هذا اختلاف عصر وأوان وليس اختلاف حجة وبرهان. فإذا كان هذا في وقت قريب مثل وقت الصاحبين مع شيخهما، فكيف والوقت بيننا وبين الأئمة المجتهدين وبين عصور الاجتهاد وقت طويل والحياة لم تعد رتيبة كما كانت، ولكن تغيرت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 الإخوة يقولون: إن مسألة الكراء كانت موجودة من قديم، كانت قديمة، ولكن لم تكن بهذا الحجم ولم تكن بهذا القدر الذي هو موجود الآن. نحن إلى عهد قريب لم يكن أحد يسكن دارا بالكراء. الآن بعد حركة الحياة وتنقل الناس وعمل الناس في غير بلادهم وفي غير مواطنهم أصبح لابد من الكراء، فانتشرت هذه الأشياء، وأنا لم أتكلم فقط عن مسألة العمارات السكنية هناك العمارات السكنية، هناك الفنادق، هناك المطابع، هناك السفن والبواخر والطائرات وسيارات النقل وسيارات التاكسي والمصانع بكل أنواعها، تقول كما أشار أخونا الدكتور حسن الأمين قد تكون ثلث ثروة الأمة، نصفها أكثر أقل، يعني أموالا كبيرة، هل الشريعة سكتت عن هذا؟ بعض الإخوة يزعمون أن الشريعة قالت قولا وأننا نجيء باجتهاد نخالف مثل هذا القول، لو كان ذلك لكان الاجتهاد باطلا من أوله، لأنه لا اجتهاد مع النص، إذا كان نصا صحيح الثبوت صريح الدلالة فلا معنى للاجتهاد، إنما هذه الأمور التي لم يجيء نص فيها، كل ما في الأمر، يقال كانت هذه موجودة ولابد أن يكون للشريعة فيها، ولكن لم يصلنا شيء وقد حدث أن الأئمة اجتهدوا في أشياء لم ينص عليها النبي صلى الله عليه وسلم، كما رأينا سيدنا عمر رضي الله عنه كما جاء في قضية يعلى بن أمية والخائن ابن أمية والخيل وقال: أنأخذ من كل خمس إبل زكاة ولا نأخذ في مثل هذه الخيل شيئا وعلى هذا أخذ الإمام أبو حنيفة وأوجب الزكاة في الخيل إذا كانت للنماء، في مسألة- أيضا- الصدقة أو الزكاة في الخضروات والفواكه وهذه الأشياء قالوا أيضا على الحنفية أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأخذ منها وقالوا لم يأخذ منها لأنه تركها للناس، أو غير ذلك، فكم من أشياء قال بها الفقهاء لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منها ولكنهم طبقوا القواعد العامة والنصوص المطلقة، طبقوا عموم النصوص وإطلاقها وأخذوا من أشياء لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك أنا حينما استندت في اجتهادي هذا استندت إلى أشياء أساسية، للأسف أن البعض ذكر أشياء وترك أشياء، أنا استندت إلى أشياء أساسية، لا تنقض إلا بنقض جميع أدلتها. أنا استندت إلى عموم النصوص وإطلاقها، وذكرت كلمة ابن العربي وللأسف بعض الإخوة المالكية لكي ينقض كلامي نقص من ابن العربي، نقص من قدره وقال: هذا ينقصه التدقيق، ابن العربي الذي كان قمة في عصره وقد وصلنا من كتبه القليل وهي تدل على أنه كان مجتهدا رغم أنه كان رأس المالكية في عصره وهو صاحب كتاب " أنوار الفجر" الذي قالوا إنه كان ثمانين مجلدا وضاع فيما ضاع من تراثنا، على كل حال ذكرت عموم النصوص وإطلاقها، ذكرت مسألة القياس ومسألة التعليل، وهنا أقف في هذه الناحية لأنها مسألة تتعلق بالأصول. كثيرون من الإخوة يقولون إن الزكاة عبادة والعبادات لا تعلل ولا يدخلها القياس. وأنا قلت: إن الزكاة ليست عبادة محضة لأنها عبادة من جانب وحق مالي من جانب. ولذلك قالوا إنه ينظر إليها كما ينظر إلى النفقات والغرامات فأوجبوها في مال الصبي والمجنون وهذا رأي الجمهور وإن خالف في هذا الحنفية، والحنفية نظروا إليها على أنها حق مالي فأوجبوا فيها القيمة. فكون حق مالي وذكر ذلك ابن القيم في " أعلام الموقعين" أن فيها الأمرين معا، الأمر التعبدي والأمر أنها حق من الحقوق المالية، فيجب أن ننظر إليها من هذا الأمر وعلى هذا يمكن أن يدخل فيها التعليل ويدخل فيها القياس، هنا مسألة العلة والشرط، أشار أخونا الدكتور عبد الستار أبو غدة إلى أن النماء شرط وليس علة. لعل في كلامي نقصا من الدقة المطلوبة. لأن الكلام هو أن العلة هي المال النامي أو النصاب النامي وليس مجرد النماء هكذا التعبير. لكنني خانني التعبير أو لم أدقق فيه، إنما هو المال النامي أي المال الذي تحقق فيه شرط النماء أو النصاب الذي تحقق فيه شرط النماء، هذا هو العلة، المال مع النماء، هذه علة، وعلة أصولية أيضا ليس علة بالمعنى العام كما قال أخونا الدكتور شريف. فهذه علة فيمكن أن نقول إنها علة مؤثرة وتدور مع المعلول وجودا وعدما، وهي غير الحكمة، أنا ذكرت أيضا من الحكم التي ينبغي أن تلحظ وهي حكمة التطهير والتزكية وهي منصوص عليها في القرآن {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وعلة المواساة التي ذكرها الأخ الشيخ البسام هذه أيضا علة الإسهام في حماية دين الإسلام ودولته في سبيل الله والدفاع عنه. كل هذه من الحكم المذكورة وينبغي أن تراعى. فمسألة العلة واردة، مسألة أن النماء أشار هنا الشيخ تقي عثماني أن النماء ينبغي أن يكون من جنس المال وإلا لا يعتبر نماء. لا أدري من أين جاء بهذا، مع أنه ليس من الضروري. لأن الأرض شيء ونماؤها شيء آخر الأرض جماد ونماؤها نبات، التجارة هي عروض ونماؤها نقود. فليس من الضروري ولم أجد من قال هذا. فمسألة المال النامي هذه هي العلة في نظري والنماء متحقق تحقيقا أو تقديرا، نماء بالقوة أو نماء بالفعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 ثم في مسألة القياس، القياس هو في الزكاة وارد وفي العبادات ومن استقرأ الكتب الفقهية في جميع المذاهب يجد أن القياس دخله، ليس هذا فيما يسمونه مدرسة أهل الرأي، ومدرسة الرأي ومدرسة الأثر، المدرستان كلاهما، المذهب الحنبلي. في الصيام ألا يقيسوا على مسألة الاستنشاق في حديث ((إذا استنشقت فأبلغ إلا أن تكون صائما)) وقالوا إن الماء إذا دخل من الأنف وقاسوا عليه إذا دخل من غير الأنف، من أي منفذ آخر. موجود هذا في الصيام وفي غيره كما أشار أخونا الشيخ الخليلي من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، تدل على أن للقياس مدخلا وقياس الشبيه بالشبيه، والنظير بالنظير حتى في العبادات. وفي الزكاة نفسها هي فيها كثير جدا من أمور القياس وهذا أمر أساسي لأن الاعتماد في موضوعنا على القياس، وأعتقد أن الموجدين هنا ليسوا من الظاهرية، لأننا نؤمن بتعليل الأحكام، وحتى الذين ينكرون تعليل أفعال الله سبحانه وتعالى من الأشاعرة وغيرهم يعللون الأحكام، هذا أمر معروف وجميع الفقهاء يعللون الأحكام ويبنون عليها أقيستهم فأنا أذكر بعض الأشياء التي جاء فيها القياس، مثلًا عمر رضي الله عنه أمر بأخذ الزكاة من الخيل لما بين له أن فيها ما يبلغ قيمتها مبلغًا عظيمًا من المال وتبعه في ذلك أبو حنيفة، ما دامت سائمة واتخذت للنماء والاستيلاد، أحمد أوجب الزكاة في العسل كما قال ابن القيم لما رود فيه من الأثر وقياسًا على الزرع والثمر وأوجب الزكاة في كل معدن قياسًا على الذهب والفضة. الزهري والحسن وأبو يوسف أوجبوا فيما يستخرج من البحر من لؤلؤ وعنبر ونحوهما الخمس قياسًا على الركاز والمعادن كل مذهب من المذاهب أدخل القياس فى أحكام عدة , كقياس الشافعية غالب قوت البلد أو غالب قوت الشخص على ما جاء به الحديث في الفطر من تمر أو الزبيب أو غيره وقياسهم كل ما يقتات على الأقوات الأربعة المذكورة فى بعض الأحاديث، والإمام الشافعي ذكر أن الذهب لم يجئ فيه حديث وقال ربما جاء فيه حديث لم يبلغنا أو هو قياس على ما جاء في الفضة، ويستبعد أن يكون هناك حديث في عصر الشافعي في الذهب لم يبلغه ولم يعرفه. وعلى كل حال القياس في جميع المذاهب في أمور الزكاة قائم ولا ينكر، يعني في هذا الأمر. وعلى هذا أقول: أخونا الدكتور علي يقول القياس لا يمكن أن يدخل في الزكاة وذكر مسألة الغنم وأربعين من الغنم ومائة من الغنم وكأنه يؤيد ابن حزم، لأن ابن حزم ذكر هذا أيضًا في نفيه للقياس وإبطاله للقياس وذكر عشرات غير هذا لأنه يرى أن الشريعة تفرق بين المتساوين وتجمع بين المختلفين، وذكر في هذا مئات الأمثلة مما رد عليه ابن القيم في كتابه "أعلام الموقعين"، ولكن لا أظن أن أحدًا يقول بهذا، وأنا عللت مسألة الغنم هذه في الكتاب ولا يتسع الوقت أن أرجع. مسألة القياس مع الفارق أن أهم فارق في الموضوع هو أن الأرض باقية بقاء نسبيًا أيضًا، والمصانع والعمارات وهذه الأشياء غير باقية، وأنا لكي أبطل هذا الفارق قلنا أن يحسب مسألة الاستهلاك، ومع هذا قد يقول قائل إن الأرض نفسها غير باقية لأن الأرض إذا لم تسمد دائمًا ويبذل فيها جهد ممكن أن تموت مع الزمن وتصبح أرضًا غير صالحة. وكما أشار أخونا الدكتور إبراهيم الغويل ممكن عوامل التصحر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 مفيش شيء في الكون اسمه غير مستهلك. فالأرض نفسها تحتاج إلى جهد حتى تصلح للإنبات، في الحقيقة أنا لا أرد على كل جزئية لأن فيه جزئيات كثيرة ولكن هناك البعض يقولون إن العمارات هذه هي عبارة عن أشياء يشتغل فيها عمال ويشتغل فيها ناس وأفادت المجتمع، طيب بهذا المنطق نفسه نقول هذا عن التجارة وعن الأشياء الأخرى، هي نتيجة عمل من الناس وبعض الناس أيضًا في عصرنا ممن يتبنون رأي ابن حزم في إسقاط زكاة التجارة. صحيح الإمامية لا يقولون بوجوب زكاة التجارة ولكنهم يوجبون بما هو أكثر الخمس، عشرين في المائة وليس 2.5 %، عشرين في المائة من صافي الدخل. فيه بعض الناس يأخذون بقول ابن حزم ويعللون ذلك بأن هذه الأموال تعمل ويشتغل فيها الناس، فالمهم أن المال يعمل، المهم أن المال يعمل وأن أطهر نفسي من رجس الشح والأنانية وأطهر هذا المال حقًا {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} وأساهم وأواسي المجتمع وأساهم في سبيل الله إلى آخره فكل هذه مطلوبة. فيه أشياء بعضهم أشار إلى الإجحاف. قد يكون هناك صاحب حانوت صغير أو واحد يأكل من كراء داره، أنا لم أوجب في كل هذا ولو حررنا موضع النزاع كما قال أخونا الأستاذ الدكتور العبادي، أنا لم أقل إلا فيما كان له، ما كان فيه دخل، أولًا طبعًا أنا ذكرت الآراء التي توجب في عين هذه الأشياء وتراها كأنها عين تجارية، مثل رأي ابن عقيلي الحنبلي ومثل رأي الهادوية وغيرهم، ولكني لم أتبن هذا الرأي، أنا تبنيت الرأي الذي يقول إن الزكاة في الدخل في الإيراد في العائد في الغلة، سمها ما تسميها. ولذلك لا يعترض علي بما قاله الأخ الدكتور السالوس وكثير من الإخوة إن هذا المستغل قد لا ينتفع به، قد يبني عمارة ولا يؤجرها ولا يسكنها أحد. هذا أنا لا أوجب فيه شيئًا وهذه نقطة خلافية جوهرية بيني وبين من يوجبون الزكاة في عين هذه الأشياء، ويعتبروها كعروض التجارة. أنا أقول تجب الزكاة في الغلة، في الإيراد، إذا بلغ نصابًا بعد أن يكون ذلك فاضلًا عن حوائجه الأصلية بتعبير الفقهاء وبخاصة فقهاء الحنفية، إذا كان فاضلًا عن حوائجه الأصلية هي ما يعبرون عنه في عصرنا الحد الأدنى للمعيشة، وهذه، وأنا قلت استحسانًا: ممكن أن نجعله الثلث، إنما هذا ليس مهمًا. كثير من الإخوة يقولون إن الزكاة لم تعد كافية في عصرنا لماذا؟ لأن وعاء الزكاة ضيقناه جدًا، مع أنه أساس التكافل الاجتماعي وجوهر العدالة الاجتماعية في الإسلام، الزكاة أولًا، لماذا ركنًا من أركان الإسلام؟ تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 لماذا نأخذ من بعض الأغنياء ونترك بعض الأغنياء ونأخذ من الغني الضعيف الذي يملك الحد الأدنى الذي هو النصاب ومن يملك الأنصبة الكثيرة والملايين لا يؤخذ منه شيء! يقول بعض الإخوة إننا يمكن أن نفرض حقًا في المال. أنا ممن يقولون بوجوب حق وكتبت بابًا كبيرًا عريضًا في فقه الزكاة كهذا، ولكن بعد أن نستوفي الزكاة ونقيم المساواة والعدالة بين الناس حتى لا يعترض علينا معترض. وإخواننا يقولون يقول الشيوعيون ما يقولون، بلاش شيوعية ولا غيره، إنما فعلًا أنا أريد، أنا أنطلق من غيرتي على الشريعة، إن هذه الشريعة شريعة عادلة وتسوي بين الناس في الحقوق والواجبات ولا تحابي أحدًا على أحد، فيجب أن تكون الشريعة منطقية والفقه منطقيًا. هذا انطلاقي من هذه الناحية، فأيها الإخوة أنا اجتهدت، واجتهادي من منطلق الحرص على هذه الشريعة والحرص على هذا الدين. وما قيل من أننا يجب أن نقوي الإيمان ونحو ذلك، أنا مع هذا أنا عملي الأول داعية قبل أن أكون فقيهًا. ونحن نحب أن ندعم الإيمان ونثبته ونقويه ونبني الأجيال عليه، ولكن هذا شيء ووضع نظام شيء آخر. والإسلام يمتاز بأنه يسير فيه الأمران معًا، الإيمان والسلطان، أو القرآن والسلطان، وكما قال الخليفة الثالث "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" فلا بد من هذين الأمرين معًا وإذا لم يكن الإيمان قويًا كما نرى في كثير من الناس فلا بد من السلطان. أسأل الله تبارك وتعالى أن يغفر لي إذا كنت قد أخطأت وأن يثيبني وإياكم وأن لا يحرمني أجر المخطئ أيضًا، إنه سميع قريب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم.. شكرًا لفضيلة الشيخ، شكرًا لجميع المشايخ الأعضاء والباحثين والخبراء. ومن خلال هذه المداولات فإنه تحرر لدينا ما يلي: أولًا: أنه ليس من خلاف يؤثر في الزكاة في أصل المستغلات والمأجورات. ثانيًا: أن الذي اتجهت إليه أكثر الأنظار وهو مذهب الإمام مالك كما في موطئه. ورواية الإمام أحمد كما في كتاب الروايتين للقاضي أبي يعلي وذكرها صاحب المغني وغيرهم من الفقهاء على أن الزكاة تكون في الغلة. - إذن فكونه لا زكاة في أصل المستغلات والمأجورات هذا كشيء مسلم به في أنظار الكثرة إن لم يكن الجميع. - أن الزكاة تكون في الغلة. بقي بعد هذا أمران: أنظار المشايخ أصحاب الفضيلة الأعضاء العاملين حسب التقييدات على أن الزكاة في اللغة تكون ربع العشر من القبض ويبدأ حولان الحول من القبض لا من أصل العقد. ورأى الشيخ يوسف ومن أيده من بعض الإخوة على أن يكون هو العشر مع بعض التقييدات التي ذكرها الشيخ في بحثه ولم يفصح عنها في ملخصة لذلك البحث، ولهذا فإني أرجو من لجنة الصياغة: فضيلة الشيخ السلامي وفضيلة الشيخ طه جابر صياغة القرار بالأكثرية على ما يلي: أولًا: أنه ليس من خلاف يؤثر في الزكاة في أصل المستغلات والمأجورات. ثانيًا: أن الزكاة تكون في الغلة بعد حولان الحول من تاريخ قبضها وتكون ربع العشر. وبهذا انتهت الجلسة، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 بسم الله الرحمن الرحيم قرار رقم 2 بشأن زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية أما بعد: فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني من 10 – 16 ربيع الثاني 1406هـ/ 22 – 28 ديسمبر 1985م. بعد أن استمع المجلس لما أعد من دراسات في موضوع "زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية". وبعد أن ناقش الموضوع مناقشة وافية ومعمقة، تبين: أولًا: أنه لم يؤثر نص واضح يوجب الزكاة في العقارات والأراضي المأجورة. ثانيًا: أنه لم يؤثر نص كذلك يوجب الزكاة الفورية في غلة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية. ولذلك قرر: أولًا: أن الزكاة غير واجبة في أصول العقارات والأراضي المأجورة. ثانيًا: أن الزكاة تجب في الغلة وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم القبض مع اعتبار توفر شروط الزكاة، وانتفاء الموانع. والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 أطفال الأنابيب فضيلة الشيخ عبد الله البسام وبعد: فهذه مقدمة أمام البحث استقيتها من كلام علماء العصر الذين أدركوا الاكتشافات العلمية الحديثة في الطب والرياضة والفلك وطبقات الأرض وأغوار البحار والفضاء وغيرها وصار لهم حظ وافر وإدراك واسع وفكر حر في العلوم الدينية التي أولها التفقه بكتاب الله تعالى حتى استطاعوا أن يطبقوا ثمرات العلم الحديثة على ما تشير إليه الآيات الكريمة ليظهر إعجاز القرآن الكريم ويتحقق بيقين أنه تنزل من لدن حكيم خبير وأنه الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فقد كان المعروف في العصور الغابرة والأديان السابقة أن العلم والدين لا ينسجمان بل بينهما حرب عوان شهدتها القرون الوسطى بين رجال العلم والبحث وبين رجال الكنائس، فهؤلاء رأوا الدين أسطورة من الأساطير وطقوسًا شلت حركة العلم وحدت من حريته وصارت أمرًا لا استفادة منه. أما رجال الكنيسة فقد اعتبروا هذه العلوم الكونية والطبيعية ضلالة وإلحادًا واستغلوا الدين لتجميد العلم وإخضاعه وحصره بما سطر في كتب القدامى التي أكتسبها طول الزمان قداسة وحرمة وجعلوا في معرفة القوى الكونية الخفية بابًا من أبواب السحر وخدمة تقدمها الشياطين لإخوانهم من الإنس. ولذا فروا رجال العلم وحاكموهم وعذبوهم ثم استتابوهم هذا والعلم في ازدياد ولم يقف أمام هذا الظلم والجور فلم يمض زمن طويل حتى عادت الكرة للعلم وأخذ في التطور والظهور. أما الدين فأخذ في الانكماش والضمور، فثار العلم ثورة حطم فيها أبواب السجون وانتقم من الدين وتنكر له وتجاهل دوره واعتبره سدًا يمنع التقدم وقيدًا يحد من الانطلاق. وهذا العداء بين الدين والعلم والصراع بين رجال الدين ورجال العلم إذا وجد بين العلم وجوهر تلك الأديان فإنه لا يوجد –إطلاقًا- بين جوهر الإسلام وحقيقته وبين العلم. ذلك أن كتاب الإسلام وهو –القرآن- وجه الأنظار إلى الكون وما فيه من عجيب الصنع وبديع التركيب. كما أنه عرض لكثير من الحقائق الكونية بأسلوبه الإشاري وطريقته الرمزية التي تومض في العقل بنور روحي باهر إلا أنها كانت خفية كامنة أثناء طفولة العلم وعدم تحديد قوانين الكون، فلم يدرك معناها ولم يفهم حقائقها وأسرارها وقت نزولها إلا أنه جل وعلا عليم بما سيكشفه المستقبل لبيان هذه الآيات ومصداق ذلك قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 وقد أدرك الناس مكانة العلم في القرآن الذي هو دستور الإسلام. ولذا فإنه من الخطأ أن يتوهم أحد أن العلم هوما أتانا به الغرب إذ الحقيقة أن إشاراته وإيماءاته العملية نزلت مع نزوله منذ أربعة عشر قرنًا وحقائق القرآن لم تتغير ولم تتطور في ذاتها وإنما الذي تغير وتطور العقل البشري الذي لما تطور فكره واستنار عقله وتوسعت مداركه وجد القرآن على حقيقته الأصيلة الخالدة كنزًا من كنوز المعرفة ومعجزة تدعو إلى الإيمان به وتصديقه وأنه ليس من صنع البشر وإنما أكملت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. وبهذا يثبت لدينا أن العلوم الطبيعية الحديثة منسجمة تمام الانسجام مع القرآن الكريم وأنه دعا إلى النظر في العلوم وتعلمها والأخذ بها ليكون المتثقف المسلم والعالم المسلم صاحب إلمام واطلاع على معطيات العلم الحديث لأن بعد رجال الدين عن هذه العلوم شجع على انتشار الإلحاد بين أفراد شباب المسلمين المثقف. إذ لا يمكن للعالم المسلم أن يوجه الشباب المسلم ما لم يكن مطلعًا على هذه العلوم ليخاطب الشباب بلغة العلم وبين الموافقة والانسجام بين نصوص الإسلام الشريفة وبين الحقائق العلمية التي أثبتها البحث والتجارب فيحفظ للشباب المسلم دينه ويمسكه عن الزيغ والإلحاد. ثم إن المثقف المسلم إذا حاز العلوم الدينية، ومبادئ العلوم الطبيعية استطاع أن يثبت أمام أعداء الإسلام الذين يحاربون الدين باسم العلم أن هذا الدين قائم على العلم وأن آيات القرآن وتعاليمه تنسجم تمام الانسجام مع معطيات العلم الحديث في أصح مباحثه وأدقها ليتأكد أمام العالم (مسلمه وكافره) أن العلم الذي دعا القرآن إلى طلبه لم يكن العلوم الدينية فحسب إنما دعا إليها وإلى العلوم الطبيعية أيضًا. وإننا لن نتطرق في بحثنا هذا إلا إلى النصوص الكريمة التي جاءت في –خلق الإنسان- فلأنها هي المبدأ لبحثنا والطريق إلى الوصول إليه. قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 وقال تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} وقال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} وقال جل وعلا: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ} وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ} وقال تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} وقال تبارك وتعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ} فهذه طائفة من الآيات الكريمة مما يتعلق ببابنا وأما الأحاديث الشريفة فمنها ما جاء في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصادق المصدوق فقال: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح)) . كما جاء في الصحيحين أيضًا عن أم سلمة رضي الله عنها أن أم سليم قالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت؟ قال: نعم، فقالت أم سلمة: وهل تحتلم المرأة؟ قال صلى الله عليه وسلم ((تربت يداك، فيم يشبهها ولدها؟)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله أن يخلق شيئًا لم يمنعه شيء)) . يقول علماء الطبيعة: الخلية آجرة الحياة فأي جسم ما هو إلا مجموع الخلايا، وهذه الواحدة من الخلايا كانت مجهولة إلا في العصور الأخيرة وبالذات أن أول من أدرك انقسام الجسم إلى خلايا هو (روبرت هوك) بأداته المكبرة، وذلك في عام 1660م، إلا أن القرآن الكريم قد ذكر هذه الخلية قبل الاكتشاف هذا بقرون فقال تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} فقد كان الاعتقاد السائد أن الذرة هي أصغر شيء وأنه لا شيء أصغر منها حجمًا ووزنًا ولكن العلم أثبت أن الذرة تلك الشيء الضئيل الذي لا تراه العين مادة قابلة للتجزئة. وهذا ما نطق به القرآن قبل الكشوف العلمية الحديثة التي توصل إليها الإنسان في القرن العشرين. والذي يهمنا في هذا البحث هو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 الخلية الإنسانية: فها هي الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تشير إليها تلك النصوص التي نزلت في بلاد صحراوية قاحلة من العلم والمعرفة وعلى رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب لتحقق بما لا يدع مجالًا للشك أن هذا الدين وهذا الكتاب إنما جاء من حكيم خبير عالم للغيب والشهادة وليس من عند محمد وإنما محمد صلى الله عليه وسلم مبلغ ما أنزل إليه من ربه. تلك (الخلية الإنسانية) التي توصل العم عن طريق الدراسات المجهرية إلى اكتشافها وهي إما خلية مذكرة وهي: (الحيوانات المنوية) أو خلية مؤنثة وهي (البيضة) فالحيوان المنوي موجود في ماء الرجل الذي أشار إليه القرآن الكريم: بقوله: {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} يلتقي أثناء العملية الجنسية بماء المرأة ليتكون من المائين نطفة أمشاج المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} فالأمشاج هي الأخلاط فحيوان الرجل –خلية ذكرية- وبيضة المرأة –خلية أنثوية- فإذاتحدا دخلا في مرحلة التكوين ثم يبدأ انقسام خلايا (البيضة) إلى عدد كبير من الخلايا وتأخذ هذه الخلايا بعد ذلك دورها في التمايز والتخصص حسب أنواعه ووظائفه. قال الدكتور صادق العظم: والخلية الإنسانية معجزة إلهية لا تعليل لها سوى قدرته المطلقة على الخلق. قال محرره: إن هذا المبدأ هو الذي يتفق مع العقل والمنطق فإن العقل البشري محدود والاكتشافات العلمية التي تطالعنا كل يوم بجديد تدل على قصور العقل ومحدوديته كما أنه يوافق النصوص الدينية الكريمة في مثل: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا} ، وقوله تعالى {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} ، وقوله تعالى {وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} أما كبرياء رجال الغرب وغرورهم من رفضهم العلل الغائبة والنظرة الغائبة واعتبارها من خيال الإنسان وتفكيره الأسطوري إن اعتبار النظر الغائب يعيق تقدم العلم وتفسيراته للظواهر الطبيعية. هذا المبدأ الغربي يعتمد على أمور. أولها: الإلحاد في الرب المكون لهذه الأشياء والذي يقول للشيء كن فيكون والذي أحاط بكل شيء علمًا والذي يقول عن نفسه تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 ثانيًا: النظرة المادية البحتة التي تبنى عليها البحوث والتجارب وعدم اعتبار مؤثر سوى الطبيعة التي يشاهدونها. ثالثا: اسمح لنفسي بأن أقول إن هذا قصور في النظر وعدم إحاطة في حقائق الأشياء وظواهرها وإلا فهل يمكن أن يكون هذا النظام الكوني وليد الصدفة أو من أثر الطبيعة، ولا يكون وراء هذا الكون العظيم والنظام البديع خالق مدبر أحاط بكل شيء علمًا ووسع كل شيء حكمة، ولذا فإن العلماء المنصفين والذين لم يسيطر على عقولهم الغرور صرحوا بأن العلم يدعو للإيمان وأنه كلما ازداد علم الإنسان بالكون وطبائعه كلما ازداد إيمانه ورسخ يقينه. واستشهد منهم بقول الأستاذ (يوسف مروه) وهو من علماء الكيمياء والفيزياء المتخصصين. قال: وإنني كعالم فيزياء استطاع أن يجمع إلى جانب ثقافته العلمية ثقافة دينية لا بأس بها أستطيع القول بعد غربة أكثر من عشر سنين قضيتها في معاهد الغرب ومؤسساته أنني عدت إلى وطني – بيروت - وأنا من أشد المؤمنين بالله وملائكته وأنبيائه وأحداث القصص القرآني. وإيماني ليس عاطفة هوجاء بل يرتكز على معطيات العلم الحديث في أدق مباحثه من ذرة وفضاء ونسبية، وأرى في الآيات القرآنية ما يؤثر ويدعم مواضيع العلم الحديث، وإني كلما فهمت قانونًا من هذه القوانين كلما ازددت إيمانًا بقدرة الله وعظمته وحمدته ووقرته فالإنسان لم يصنع قوانين الطبيعة بأنواعها، إن العلماء لم يفعلوا أكثر من كشف الغطاء عن هذه الأنظمة الإلهية ومحاولة فهمها وتفسيرها واستعمالها، وهذه القوانين قائمة سواء كان الإنسان موجودًا أو معدومًا فهي قد وجدت منذ خلق الكون) اهـ. ونعود إلى النطفة التي تركنا البحث وهي (نطفة الأمشاج التي تكونت من ماء الرجل وهو –الحوين- الذي قدر له من بين ملايين الحيوانات السابحة في الماء المهين فينفذ بقدرة الله تعالى إلى (بويضة) المرأة التي تترقبه لينفذ فيها فيلقحها وبعد التلاقي والتلقيح تنتقل إلى ما وصفه الله تعالى بأدق وصف وأحكمه فقال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} فالقرار المكين هو رحم المرأة ذلك الوعاء المحروس من جميع جوانبه بوضعه في الحوض الحقيقي لهيكل المرأة الذي يحمي الرحم من أي عدوان خارجي بما جعل في الحوض من عظام مشدود بعضها إلى بعض ومحكمة إحكامًا دقيقًا، ثم إن الرحم موثق بأربطة مختلفة تمسكه من التموج والاضطراب فيبقى الجنين في هذا القرار المكين إلى قدر معلوم ينمو بنموه وعاؤه، حتى يأتي القدر الذي قدره الله تعالى لخروج هذا الجنين ليخرج إلى أول دور من أدوار الحياة وهي الطفولة، وهذا هوالتلاقح الطبيعي بين الرجل والمرأة في النظام الرباني في –خلق الإنسان- وهو النظام السائد الذي جعله الله طريقًا طبيعيًا في التناسل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 التلقيح الطبيعي: هذا هو الأصل الذي جعل الله تبارك وتعالى بحكمة الطريق الأصلي للإنجاب والتناسل وبقاء النوع البشري والحيواني والنباتي. وكما أنه الأصل شرعًا وقدرًا فإنه الأفضل حالًا ومآلا. وله من الفوائد والمنافع ما يفوت العد والحصر ولكننا نشير هنا إلى بعض ما استقدمناه من المطالعات العامة في كتب الطب وكتب علم النفس وكتب الفقه في العشرة الزوجية: أولًا: إن الجماع هو من المقاصد الرئيسية في الزواج لما فيه المتعة واللذة التي أوجدها الله تعالى في الصنفين من الرجال والنساء، ولما فيها من تحصين الفرج وحفظه عن الوقوع في الفواحش، وغض البصر وصون الجوارح عن المحرم فإن لكل حاسة وعضو زنا ويصدق ذلك أو يكذبه الفرج، ولما فيه من العشرة الشرعية بين الزوجين. الثاني: أن الحالة الجنسية بين الزوجين هي الطريق الطبيعي التي هيأها الله تعالى وهدى خلقه إليها للتناسل والتوالد وبقاء النوع وعمار الكون وصنع الله الذي أتقن كل شيء هو الذي يجب استعماله وترويجه وهو مقتضى الشريعة البشرية والرغبة الإنسانية المحببة وما حاد عنها فإنه معاكس لتلك الطبيعة فلا يحقق الرغبات والطلبات النفسية والغرائز الطبيعية. الثالث: أن الوقاع بين الزوجين بالحالة الجنسية الطبيعية أستر وأصون للزوج ولا شك أن كشف العورة لغير الزوجين أمر تحرمه الشريعة وتنهى عنه وتمقت عليه وتنفر منه الطباع الشريفة. الرابع: إن الله تبارك وتعالى شدد في حفظ النسب ولعن من انتسب إلى غير أبيه وهي أن يسقي الرجل بمائه زرع غيره. ولاشك أن الإنجاب من الوقاع الطبيعي بين الزوجين أمر مضمون العاقبة وسليم النتيجة لصحة النسب بخلاف التلقيح الصناعي فمهما عمل له من الاحتياطات فإن الشكوك تكتنفه وتحوم حوله. الخامس: تقدمت الإشارة إلى أن الجماع هو من المقاصد الرئيسية في النكاح وأنه من أهم مقاصده، وأن العشرة الزوجية شرعًا لا تتم إلا به، وأن الشارع حدد للمولى حدًا فيه إما أن يفيء فيجامع زوجته التي آلى منها وإما أن يطلق، وأن المجاهدين في ميادين الحرب يعودون إلى زوجاتهم في مدة معلومة محدودة، وأن للرجل أن يفسخ نكاحه من الرتقاء وأن للمرأة أن تفسخ نكاحها من العنين والمجبوب كل هذا مراعاة للقيام بالواجب الجنسي بين الزوجين. السادس: يقول الأطباء إن الجوع نوعان: أحدهما: جوع البطن وهذا باعثه الرغبة في البقاء على الحياة في الأجسام. الثاني: الجوع الجنسي وباعثه الرغبة في استمرار الحياة وبقاء الفرع. غريزة الشعور بالجوعين سامية لأنها تحمل في طياتها النفحة الإلهية والإرادة الربانية في حفظ النوع واستمراره. وإشباع الجوع الجنسي هذا لا يتحقق إلا عن طريق الجماع وبدونه تبقى الرغبة مهملة وتبقى معاناة الجوع الجنسي على تلهفه. السابع: نداء الجنس نداء طبيعي يتطلب إجابة ندائه وإشباع نهمته، أما كبته وصم الآذان عن ندائه فهو خرق للقوانين الطبيعية التي وضعها الله تعالى وحكمته كما أن هذا الكبت والحرمان يورث صاحبه الأمراض والعلل والأسقام ويوقف نشاطه وعقله عن الإبداع والإنتاج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 الثامن: أنه لا يمكن أن يوجد رابطة تعوض انعدام الجاذبية الجنسية بن الزوجين، فهي العلاقة الوحيدة التي تجمع القلبين وتوحد الاتجاهين وترسخ التفاهم والتعاون فإذا انعدمت هذه الرابطة انحل معها رباط الزوجية وانفصمت عراها إذ لا يوجد ما يقوم مقامها من أنواع العشرة الكلامية أو المالية. التاسع: الاتصال الجنسي بين الزوجين وهو التعبير الفعلي المتبادل عن الحب بينهما، وهو الدليل العملي على الميل الروحي والاتجاه النفسي من أحدهما للآخر، وهو الرائد الذي لا يكذب على أهله وقد فسر العلماء قوله تعالى {وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} بهذا المعني فمتى كان الزوج أميل إلى إحدى زوجتيه أو زوجاته كان إلى مسيسها أرغب وبهذا نفهم أن رغبة كل منهما بصاحبه بهذه العملية دليل على تماما الانسجام بينهما وتبادل مشاعر الود والمحبة بينهما. العاشر: السعادة الزوجية لا تتحقق إلا إذا وجد الاتصال الجنسي، ولذا قال الأطباء وعلماء النفس: متى وجدت الزوجين سعيدين فتأكد أن سعادتهما مبنية على تمام الانسجام في الحياة الجنسية ومتى وجدت التعاسة والشقاء بينهما فتأكد من عدم انسجام الحياة الجنسية بينهما فهما أمران متلازمان. والطبيب الذي يهتم بنفسيات مرضاه يركز اهتمامه على السعادة أو ضدها بين الزوجين في الناحية الجنسية إذ هي أساس الراحة والطمأنينة. ولذا فإن بريطانيا لما أرادت تحديد النسل عن الطريق ما يعرف –بالزواج الأبيض- وهو الزواج الذي لا يحصل فيه اتصال جنسي بين الزوجين عادت هذه المحاولة وذلك الزواج بالفشل الذريع لديهم فتقرر إلغاؤه. وبما تقدم من الأحوال التي تتطلب بقاء التلقيح عن طريقه الطبيعي والتي تحتم هذه الحالة قدرًا وشرعًا وعقلًا وعرفًا وكذلك الأحوال التي سقناها تنفر من التلقيح الصناعي، لذا فإننا ندخل في بحث إمكان إباحة شي من أنواعه للضرورة القصوى، وقبل الحكم على التلقيح الصناعي بشيء فإنه يجب علينا أن نستعرضه ونبينه ونأتي على بيان أقسامه وأنواعه ليكون الحكم عليه بعد تصوره وبيانه فإن القاعدة الشرعية تقول: الحكم على الشيء فرع من تصوره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 التلقيح الصناعي في التاريخ: بحث العلماء –قديمًا- في إمكان حمل المرأة بغير ملامسة من الرجال إذا وصل المني بطريقة ما إلى أعضائها التناسلية فكان هذا مستبعدًا جدًا عند الأقدمين، وأثر هذا الحمل والوضع عن الزعيم الديني الهندي-بوذا- فنسجت حول الحمل به ووضعه الأساطير والقصص الخيالية. أما العلامة ابن خلدون وفلاسفة الإسلام قبله كابن سينا والفارابي وغيرهما أشاروا إلى تخلقات تشابه ما نحن بصدده، فهذا ابن خلدون في مقدمته الشهيرة أشار إلى هذا الموضوع وهو يتحدث عن –الكيمياء- عند الأقدمين. فقال: (واعتمادًا على ما ذكر ابن سينا والفارابي والطغراني أنه يمكن تخليق إنسان من المني في بيئته الطبيعية) يريد البيئة الطبيعية الرحم. ثم يقول (وإذا سلمنا له بالإحاطة بأجزائه ونسبته وأطواره وكيفية تخليقه في رحمه وعلم ذلك علمًا محصلًا بتفاصيله حتى لا يشذ منه شيء عن علمه سلمنا له تخليق هذا الإنسان) . فابن خلدون العالم العربي المسلم يسلم بتخليق الكائن الحي من المني وذلك بعد الإحاطة الدقيقة التامة بأجزاء ونسبة جزئيات البيئة التي تم فيها التخليق ثم يقول: (وأنى له ذلك) وهذا الاستبعاد من ابن خلدون بناء على ما توصل إليه العلم في زمنه، ولذا قال: (لقصور العلوم البشرية) . وطبعًا إن ابن خلدون وهو يتحدث عن العلوم البشرية في عصره التي هي قاصرة عن التوصل لمعرفة نسب هذه الأجزاء الدقيقة، ولهذا قال: (وليست الاستحالة فيه من جهة الفصول ولا من الطبيعة إنما هو من تعذر الإحاطة وقصور البشر عنها) هـ. فابن خلدون يقرر أن تخليق الإنسان أو أي حيوان من المني ليس هو أمرًا متعذرًا ومستحيلًا في حد ذاته وإنما المتعذر أن علوم البشر قاصرة عن إيجاد البيئة المناسبة لتخليقه ونموه ومن تهيئة المناخ والبيئة ومن معرفة نسب الجزئيات لتخليق الإنسان من المني خارج الرحم، فسبحان من علم الإنسان ما لم يعلم. فابن خلدون لا ينسب استحالة تخليق الإنسان من المني إلى الطبيعة التي ركبها الله تعالى فيه وإنما يسلم بنظرية تخليق الإنسان من المني ولكن متى؟ إذا توفرت الدقة في معرفة نسب الجزيئات الصحيحة، تلك الدقة التي توصل إليها العلم الحديث الآن. وهو يشير بهذا إلى ما نسميه الآن (أطفال الأنابيب) تلك النظرية بل تلك –الحقيقة- التي أصبح في مقدور العلم الحديث أن يهيء البيئة والمناخ الملائم لتخلق الإنسان من المني بعد أن توفرت في هذا العصر الإحاطة والدقة في معرفة نسب الجزيئات الصحيحة. والقصور ملازم لبشر في كل زمان ومكان، فمرد العلم كله إلى الله تعالى: ذلك أن المادة المستعدة للتخلق والاستحالة من حالة إلى حالة ليست من صنعهم وإنما هي من صنع الله الذي أتقن كل شيء. ونهاية ما وصلوا العثور على المفردات والجزيئات والمولدات المناسبة ومزج بعضها بنسب مقدرة اقتداء واحتذاء لما أجراه الله في طبائع الأشياء. كما أن هذه العلوم هي من تعليم الله تعالى وهدايته لخلقه فهذا الذي: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} وهو الذي {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} وهو بكل شيء عليم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 العلم الحديث: ثم جاء دور العلم الحديث فروت لنا الصحف قصة (أطفال الأنابيب) فقالت تجربة علمية جديدة قام بها أطباء أمريكيون وشدت إليها انتباه الشعب الأمريكي بأسره وتمثلت هذه لتجربة في نقل جنين عمره خمسة أيام من رحم أمه إلى رحم امرأة ثانية حملته تسعة أشهر ثم وضعته، ولأول مرة في التاريخ تلد امرأة استرالية مولود، لقح انطلاقًا من بويضة امرأة ثانية، والقصة الكاملة لهذه التجربة روتها صحيفة (دي باري) الفرنسية فقالت: قدمت امرأة لم يكشف عن هويتها إلى المركز الطبي في (لونج بيتش) فاستقبلها أحد الأطباء وأعلمها أن كل شيء جاهز للقيام بعملية اللقاح الاصطناعي وفعلًا تمت العملية بسهولة متناهية وبعد خمسة أيام أدرك الأطباء أن اللقاح قد ثبت في رحم المرأة، ومنذ تلك اللحظة أصبحت القصة رائعة وأخذت أبعادًا خيالية فالأطباء المذكورون ينتمون في الواقع إلى مؤسسة أمريكية تسمى (شركة الخصوبة والبحث في علم الوراثة) ومهمتها مكافحة عقم النساء. أما المرأة التي قدمت لتحمل الجنين فقد كانت أبرمت عقدًا مع هذه الشركة تستلم بمقتضاه مبلغًا شهريًا قدرة (250) دولارًا منذ أن اهتم بها الأطباء ومنذ أن بدأوا يفحصونها لمعرفة ما إذا كانت ستصبح امرأة الأنبوب الأولى في العالم. ثم جاءت المرحلة النهائية من العقد حين جهز الدكتور (جون بوستر) كل أدواته الخاصة وأدخل مسمارًا إلى رحم المرأة وشفط الجنين حيًا وأحاطه بكل عناية ليعرف هذا الجنين شيئًا لم يعشه أي جنين آخر ألا وهو رحم ثان غير رحم أمه الأولى، وفي الواقع فإن العملية كانت تهدف إلى تمكين امرأة ثانية محرومة من الحمل الذي طالما تمنته وهكذا تمت إعادة زرع الجنين في رحمها وبعد (28) أسبوعًا بالضبط تمت الولادة المنتظرة بواسطة عملية قيصرية. وكانت المرأة التي تبلغ الثلاثين من عمرها سعيدة بمولودها الذي لن يعرف مطلقًا هوية أمه الأولى. وكان المولود تامًا جميلًا لا يختلف عن غيره من المواليد، ومنذ ذلك الوقت عرفت هذه التجربة انتشارًا واسعًا في أنحاء العالم وأتاحت الفرصة لمكافحة العقم المنتشر والذي يرجع سببه إلى انسداد القنوات المؤدية إلى الرحم، أما إذا كان المبيض لا يؤدي مهمته فإنه ليس بالإمكان حتمًا أخذ البويضة لتلقيحها خارج الرحم ولابد إذًا من إيجاد طريقة جديدة"وهكذا برزت ممارسات لاقت احتجاجات عديدة وسميت –بمؤاجرات البطون- وتتمثل هذه الطريقة في إجراء تلقيح صناعي لامرأة تؤجر رحمها من زوج المرأة العاقر فتحمل الأولى ثم تضع مولودًا تدفعه إلى أمه بموجب عقد تم إبرامه من قبل، وبهذه الطريقة يباع الطفل إلى الزوجة العاقر لينسب إليها بالتبني، وحقق الأستراليون اكتشافًا جديدًا جنبهم مشاكل العقود حين قاموا بأخذ –بيضة- من امرأة ولقحوها داخل أنبوب بواسطة منويات زوج امرأة عاقر ثم أعادوا زرعها في رحم الزوجة العاقر. وجاء الأمريكيون أخيرًا فنهجوا طريقة لا تختلف كثيرًا عن طريقة الأستراليين إلا أنه بدلًا من أن يجرى التلقيح داخل الأنبوب قاموا به في رحم الأم الأولى ثم أعادوا زرعه في رحم الأم الثانية وفي الحالتين تمثل هذه الاكتشافات ثورة في عالم الوراثات وذلك أن الأم صاحبة البيضة لم تعد هي الأم الوارثة بل أصبحت التي تحمل الطفل وتلده فقط هي أمه الوارثة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 المقابلة العالمية لهذا الاكتشاف: أقيمت ضجة كبرى في جميع صحف العالم ووسائل الإعلام عند مولد الطفلة (لويزا براون) التي أسموها طفلة الأنبوب والتي قد ولدت في 25 يونيه 1978م. وقد خصص لها كثير من الصحف والمجلات العلمية أعدادًا خاصة. واستهواهم هذا الاكتشاف إلى أن أخذوا يضربون في متاهات الخيال والأوهام البعيدة حتى كتب بعضهم مقالًا في إحدى المجلات العربية تحت عنوان: (هل تختفي أسطورة الأم) وقد بعث مدير مكتب رابطة العالم الإسلامي بباريس رسالة إلى الأمين العام للرابطة يقول فيها: لقد استطاعت تطبيقات العلوم الحديثة تنويع الطرق الجديدة في التناسل والتكاثر من هذه الطرق نقل ماء زوج إلى رحم امرأة لم يمسها لكنها رضيت أن يتكون في رحمها جنين هو والده وقد وقع هذا الأمر أخيرًا في فرنسا وانقسم الناس إلى طائفتين في قضية استجار الأرحام، فمنهم من يرى في هذه الطريقة وسيلة لإرضاء الألوف من الأزواج والزوجات الذين عجزوا لسبب ما عن التناسل والسعادة بالأولاد، وبعض هذه الطائفة يجد في هذه الطريقة تجارة رائجة لفئات عدة من الناس. القسم الثاني: استهجن الأمر وثار عليه ورآه منقصة لكرامة الإنسان ولاسيما للمرأة التي تصبح آلة تستأجر وطالبوا الحكومة الفرنسية التدخل في الأمر. وإزاء هذا الوضع ألفت الحكومة لحنة من العلماء ورجال الدين والأخلاقيين والزعماء الشعبين وطلبت منهم بيان الرأي الصريح في هذا الموضوع من الناحية الأخلاقية، وقد نشرت الصحف تقرير هذه اللجنة في 31/ 10 / 1984م وخلاصة التقرير ما يلي: 1- لا شك أن طرق التوليد الحديثة في الأنابيب أو في استئجار الأرحام أمر جديد على المجتمع ولابد للمجتمع أن يكون له رأي مدروس مقبول من الأكثرية. 2- تعود المجتمع استقبال اليتامى واللقطاء فأوجد لهم المؤسسات الخاصة لرعايتهم أما طريقة تأجير الأرحام فإنها ستجر المجتمع على تقبل عدد كبير من الأطفال من نوع جديد لا هم يتامى ولاهم لقطاء وقد يعترف بهم الوالد ولا تعترف بهم الأم. 3- القابلون لهذه الطريقة الجديدة في توليد الذراري يعرفون جميعًا أن المرأة التي أجرت رحمها مقابل مقدار معين من المال قد تعهدت بعد حمله وولادته التخلي عنه وتسليمه للأسرة أو لرجل دفع لها المال ومن المحتمل كثيرًا أن تغير المرأة المستأجرة رأيها فتحتفظ بالطفل وليس هناك في الوقت الحاضر قانون يجبرها على تسليم جنينها لغيرها. 4- أما هذه المواقف التي ظهرت للمجتمع فجأة ولم تتهيأ له دراسة نتائجها الأخلاقية طلبت اللجنة الحكومية مهلة كافية من الزمان لدراسة الموضوع واستشارة الناس قبل بيان الرأي وقد سئلنا رأينا فيه بعد ظهور قرارا الجنة الحكومية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 قال أحد الأطباء أمام هذه الضجة الإعلامية، والقائل هو الدكتور السعودي: محمد علي البار: الفكرة في حد ذاتها سهلة ميسورة وتعتمد على أخذ البييضة من المرأة عند خروج البييضة من المبيض ووضعها في أنبوب خاص به وسائل (فسيولوجية) مناسبة ثم يؤخذ مني الرجل فيلقح أحد الحيوانات المنوية البويضة فإذا ما تم تلقيحها انقسمت البييضة الملقحة انقساماتها المعروفة حتى تبلغ مرحلة (التوتة) وذلك في اليوم الرابع من هذا التلقيح ويكون الرحم عندئذ قد استعد لاستقبال البييضة الملقحة فيعاد إدخالها عندئذ إلى الرحم فتعلق به وتثبت بجداره إذ ما نجح العلماء في ذلك فقد انتهت مهمتهم عندئذ وتركوا (النطفة الأمشاج) تعلق بجدار الرحم وتصبح علقة عالقة ثم تنمو بعد ذلك نموًا طبيعيًا إلى مضغة ومن مضغة إلى عظام يكسوها اللحم ثم ينشئه الله خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين. هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 قال الشيخ مصطفى الزرقاء: تداولت الصحف هذا العنوان في هذه السنوات العشر الماضية، ودرج استعماله للدلالة على الحدث المفاجئ العجيب من منجزات العلم في العالم وهو نجاح تجربة التلقيح الصناعي بين نطفتي الذكورة والأنوثة ضمن أنابيب الاختبار في المختبرات الطبية، ثم نقل الجنين البدائي المتكون من هذا التلقيح وزرعه في رحم المرأة حيث يعلق فيه ويحضن وينمو ويتخلق مدة الحمل المعتادة، ثم يولد ولادة طبيعية كما لو كان حملًا متكونًا من اتصال جنس مباشر بين رجل وامرأة. وكان قد نشر وشاع في أواخر الستينات الماضية أن طبيبين انكليزيين، هما روبرت إدواردز عالم (الفسيولوجيا) وباتريك ستبتو وجراح أمراض النساء، قد توصلا إلى تكوين جنين إنساني في وعاء اختبار، وأنه قامت حول هذا العمل ضجة استنكار عظيمة في الأواسط الدينية الكنسية تمنع متابعة هذا العمل وتراه محرمًا، وفي الوقت نفسه قامت ضجة فرح في الأوساط الإلحادية، إذ رأت في هذا لنبأ العظيم برهانًا على إمكان خلق الإنسان بطريق علمي تركيبي دون حاجة إلى تقدير وجود إله خالق، وزاد الموضوع غرابة ما ذكر من إمكان نقل هذا الجنين المخبري إلى رحم امرأة حيث يعلق وينمو ككل جنين مدة الحمل الكاملة، ثم تلده ولادة طبيعية. وبين هاتين الضجتين اعترى كثير من القراء أو السامعين حيرة ودهشة، ولجأ بعض أهل الدين من المسلمين إلى التكذيب، ولجأ بعض الناس إلى الاستفتاء حول جواز تصديق النبأ، أو حول جواز الإقدام على هذا العمل إن كان النبأ صحيحًا" كما وجهت بعض الجرائد والمجلات أسئلة إلى بعض الأطباء، وإلى بعض علماء الشريعة أو المفتين، تطلب إليهم أن يبينوا آراءهم حول هذا الحدث والإنجاز العلمي والتقني الذي تم فيه، وما يقال في ذلك إذ أصبح في مقدور كل امرأة عقيم أن تحمل وتلد فتروي ظمأها إلى الأمومة، وظمأ زوجها إلى الأبوة بل أصبح في مقدور كل فتاة غير متزوجة أن تصبح أمًا دون أن تتزوج وتتصل جنسيًا بأي رجل، حيث صار من الممكن بل مما يدور في أفكار العلماء إنشاء بنك لنطف تحفظ بطريقة فنية تصونها من الفساد، فإذا أردت امرأة عقيم أو فتاة غير متزوجة إنجاب ولد فما عليها الآن إلا أن تأتي إلى الطبيب الأخصائي ليزرع بعملية تقنية خاصة في رحمها منيًا مهيأ في وعاء خاص مخبري، لتحمله ثم تلده في نهاية مدة الحمل فتصبح أمًا. وإن كانت العقيم متزوجة، وتحرص هي وزوجها على أن تكون بزرة الجنين منهما شخصيًا يستطيع الطبيب أن يأخذ النطفة التي فيها (الحوين) المنوي من زوجها، ويأخذ البويضة من مبيضها هي في الموعد الذي تتولد فيه البويضة (وهو اليوم الرابع عشر من بدء كل دورة طمثية) فيلقحها في الوعاء المخبري والوسط المناسب، ثم ينلقها ملقحة آخذة في النمو، وفي الوقت المناسب إلى رحمها لتعلق وتتطور فيه إلى جنين كامل تلده في نهاية مدة الحمل فيكون ولدًا لهما من أصلابهما كما لو أنجباه بالاتصال الزوجي الطبيعي. بل كتب وقرأنا أكثر من ذلك عن الإمكانات المستقبلة المتوقعة لثمرات هذا الإنجاز العلمي وفوائده، أنه قد يلجأ إلى هذه الطريقة المخبرية في إنتاج الأطفال لتحسين النسل في الأسر ليكون النسل أصح وأقوى بنية وصفات ومميزات، إذ يمكن تلقي بويضات شتى مأخوذة من نساء مختبرات عديدات، بنطفة من رجل قوي سوى جسمًا وذكاء، فيعمل قانون الوراثة الطبيعي عمله في أن يكون الأولاد الذين يتكونون بهذه الطريقة كلهم أصحاء جسمًا وعقلًا. والمزية المدعاة لتلقيح عدد من البويضات مخبريًا أن ذلك يتيح للطبيب فرصة اختيار أجنة أفضل خلال وجودها في الوعاء المخبري بعد تلقيح البويضات وبدء نموها قبل اخذها للزرع في الأرحام، لأن من الممكن في هذه المرحلة تمييز اللقائح الجنينية الأحسن والأصح نموًا وتكونًا في مراحل التطور الجنيني، فتختار اللقيحة أو اللقائح الفضلى لتزرع في الرحم ويتلف الطبيب ما سواها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 وما يقال في الزوجة العقيم يقال كذلك في الزوج العقيم إذا أراد أن تنجب زوجته ولدًا حيث يمكن تلقيحها مباشرة –دون حاجة إلى الطريقة المخبرية المشروحة- بالنطفة المأخوذة منه إذا كان عقمه لغير سبب فقدان الحوينات المنوية أو ضعفها في مائة وذلك بحقن نطفته ذاتها في نهاية مهبل زوجته في الموعد الشهري المناسب (الآنف الذكر) الذي فيه يقذف مبيضها بويضتها المتولدة منه إلى القناة المسماة (قناة فالوب) حيث تلتقي بالحوين المنوي الآتي من ماء الرجل، فيخترق جدارها ويندمج فيها ذلك الاندماج الذي يسمى التلقيح، ثم تأخذ اللقيحة (البويضة الملقحة) طريقها إلى الرحم، لتعلق بجداره جنينًا، كما يحمل تمامًا في الحمل الطبيعي الناشئ عن الاتصال الجنسي بينهما، وليس في هذه الطريقة أي شيء جديد. ولكن إذا كان عقم الزوج لفقدان الحيوانات المنوية من مائه أو ضعفها فلا سبيل عندئذ للحصول على ولد من زوجته إلا باللجوء إلى طريقة تلقيح بويضة منها في وعاء مخبري بنطفة مأخوذة من رجل آخر، ثم زرعها في رحمها بالطريقة التي حققها الإنجاز العلمي الجديد الآنف الشرح. وقد كانت أصعب العقد حلًا في مراحل هذا الإنجاز العلمي عقدتان تطلب حلهما كثيرًا من الجلد والصبر والدأب وتغيير الشروط بين تجربة وأخرى من التجارب الخائبة الكثيرة قبل النجاح، وهاتان العقدتان هما: 1- تركيب الوسط الكيمياوي السائل الخاص، والمعقد كثيرًا في عناصره ومقاديرها فهذا المحلول الخاص يجب أن تحفظ فيه البويضة من فور استخراجها من مبيض المرأة قبل تلقيحها، ثم تعديله مرات بعد تلقيحها بحسب مراحل نمو اللقيحة، ودون ذلك لا يمكن حفظ حياة البويضة ولا اللقيحة حتى تبلغ مرحلة من النمو والتكاثر في خلاياها بطريق الانقسام المعروف في الخلايا الحية، ولتصبح قابلة للشتل في الرحم. وقد قام بتهيئة هذا المحلول الكيمياوي ثم تعديلاته عالم الغريزة (الفسيولوجيا) الدكتور ادواردز. 2- توقيت (الشتل) في الوقت المناسب من مراحل نمو اللقيحة في المختبر، وهذا قد اقتضى أكبر الجلد والصبر على إخفاق التجارب وتكرارها، فقد كان الدكتور سنبنو يعتقد متأثرًا برأي الطبيب الإيطالي المشار إليه آنفًا، أنه إذا تأخر وقت (الشتل) في الرحم حتى يزداد نمو اللقيحة في وعاء الاختبار، وتتكاثر خلاياها بالانقسام، كان ذلك أقرب إلى النجاح. ثم تبين له، بعد فشل التجارب الخائبة، وتغيير الشروط، أن الصواب هو العكس، فنجحت تجربة الشتل أخيرًا، في الوقت الذي تنقسم فيه اللقيحة ثلاث انقسامات، حتى تصبح ثماني خلايا فقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 الصور المختلفة للتلقيح الاصطناعي نريد بتعبير (التلقيح الاصطناعي) كل طريقة أو صورة يتم فيها التلقيح والإنجاب بغير الاتصال الجنسي الطبيعي بين الرجل والمرأة، أي بغير عملية الجماع. إن التلقيح الاصطناعي في نطاق ما تحقق فعلًا من الإنجاز العلمي في أوعية الاختبار وما كان معروفًا قبله بالطريقة شبه الطبيعية، يمكن أن يجرى على سبعة أشكال وأحوال ذكرها الباحثون في هذا الموضوع واحتمالاته ونتائجه. والأحوال جميعًا بعضها يتم داخليًا، أي في باطن جسم المرأة وبعضها يتم خارجيًا أي في وعاء الاختبار في المختبر الذي تجمع فيه بويضة المرأة بالحيوان المنوي، من نطفة الرجل في وسط مختبري ملائم، فيلقحها، ويتكون منهما بداية الجنين البشري، وهذه الأحوال السبع هي كما يلي: أ- التلقيح في الداخل: 1- تلقيح بين زوجين، أي بماء يؤخذ من الزوج ويحقن في مهبل زوجته، وهذه حالة يلجأ إليها عندما لا يكون الزوج قادرًا على إيصال مائه إلى نهاية المهبل في المباشرة الطبيعية لسبب ما. 2- تلقيح بين زوجة ومتبرع، وذلك عندما يكون الزوج عقيمًا لخلو مائه من الحوينات أو لضعفها فيه، فيؤخذ الماء من متبرع به وتحقن به الزوجة. ب- التلقيح يلف الخارج: 3- تلقيح بين بزرتي الزوجين في وعاء مختبري، وهذا هو الإنجاز العلمي في التلقيح التكنولوجي الذي نتج به ما يسمي: أطفال الأنابيب ويلجأ إليه في حالة عقم الزوجة عندما يكون عقمها بسبب انسداد قناتي فالوب اللتين تصلان ما بين المبيض والرحم، ونحو ذلك من أسباب يكون معها الرحم والمبيض سليمين. 4- تليقح بين بزرة زوج وبويضة امرأة متبرعة، ويلجأ إلى ذلك عندما تكون الزوجة قد استؤصل مبيضها لسبب مرض، أو كان معطلًا لا يقوم بوظيفته، فيؤخذ عندئذ بويضة من امرأة أجنبية عن الزوج (سميت: متبرعة) وتلقح مخبريًا بماء من زوج المرأة العقيم بفقدان مبيضها أو تعطله، لتزرع اللقيحة المتحصلة من هذا التلقيح في رحم الزوجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 5- تلقيح بين بزرتي رجل وامرأة متبرعين، أي ليست إحدى البزرتين من أحد زوجين ويلجأ إلى هذه الحالة عندما تريد امرأة أن تحمل لكن زوجها عقيم ومبيضها معطل فتلجأ إلى طبيب يأخذ لهما الحوين المنوي من مصرف للمني، ويأخذ البويضة من امرأة أخرى، ويجري التلقيح بين البزرتين مخبريًا، ثم (يشتل) اللقيحة في رحم المرأة الراغبة في الحمل بالطريقة السالفة الشرح في واقعة طفل الأنبوب لتحملها جنينًا طبيعيًا، ثم تلده ولادة عادية. 6- حالة امرأة تتطوع بحمل لقيحة تكونت في وعاء الاختبار بمن بزرتي زوجين،. وسنوضح هذه الصورة في موقعها المناسب عند بيان موقف الشريعة من مختلف الحالات. 7- أما الحالة السابعة فإنها لم تقع بعد، ولكنها ممكنة الوقوع في نطاق المنجزات العلمية التي تمت، وأشار إليها الباحثون بين الاحتمالات الممكنة التي تتطلب حلًا حقوقيًا في ظل القانون المدني، وقانون الأحوال شخصية هي: تلقيح الزوجة داخليًا، أو تلقيح بويضتها خارجيًا، بماء زوجها المتوفى الذي حفظ ماؤه قبل وفاته في مصرف المني في حسابه الخاص. مقابلة هذا الاكتشاف من علماء المسلمين: قال الشيخ محمود شلتوت ما خلاصته: من المعلوم أن تخلق الولد إنما هو من السائل المنوي الذي يخرج فيصل إلى رحم المرأة المستعد للتفاعل {خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} يتخلق الولد من هذا السائل متى وصل إلى الرحم المستعد للتفاعل وإن لم يكن وصوله عن طريق الاتصال الجسماني المعروف وهذا قد عرفه الناس جميعًا، وعرفه فقهاؤنا وجاء في كلامهم: (أن الحمل قد يكون بإدخال الماء للمحل دون اتصال عرفوه ورتبوا عليه وجوب العدة، وهو يتضمن تقرير المبدأ المعروف في تكوين الطفل من الماء الحيوي دون حاجة إلى العملية الجنسية وما الاتصال الجسماني إلا وسيلة معتادة لا يتوقف عليها تكون الولد الذى هو من الماء المستكمل مؤهلاته الطبيعية. والتلقيح الصناعي البشري اتخذ سبيلًا لتحقيق رغبة الولد بالنسبة للزوجين اللذين ليس لهما ولد وذلك كحد يقف عندهما الإحساس بالعقم أو يزول وبذلك يشعران في هذه الحياة بزينة الأبوة والأمومة للأولاد، وإن كان لا يخرج عن حد التعلل النفسي بصورة الأبوة والبنوة ثم اتخذ سبيلًا لتكثير سواد الأمة وعدد أفرادها لمجرد الرغبة في التوسع البشري أو تحصيلًا ليعوض عمن تهلكهم الحروب. وبهاتين الرغبتين اللتين بعثتهما (الفلسفة المادية) كان التلقيح الصناعي في الإنسان أمرًا مشروعًا عند أرباب تلك الفلسفة الجافة وبها ساوى التلقيح الصناعي في الحيوان والنبات وليس من ريب في أنهم إذا رجعوا إلى أنفسهم أدركوا أن للإنسان حياة هي أرقى من حياة الفرد نفسه وهي حياة تخضع لتلك المجتمعات التي تخضع لقوانين بشرية وشرائع سماوية تلبي داعي الفطرة الإنسانية في ذلك ويرتبط بها الإنسان في تصرفاته وسلوكه وانتظامه في مجتمعاته. ولعل الزواج وإعلانه كان أنعم الشؤون التي تخضع المجتمعات لحكمها وترتب عليه آثار معينة فيما يتعلق بحياة الأسرة ونسب الأبناء. ومن هنا نستطيع أن نقرر بالنسبة لحكم الشريعة في التلقيح الصناعي الإنساني –أنه إذ كان بماء الرجل لزوجه كان تصرفًا واقعًا في دائرة القانون والشرائع التي تخضع لحكمها المجتمعات الإنسانية الفاضلة وكان عملًا مشروعًا لا إثم فيه ولا حرج وهو بعد هذا قد يكون في تلك الحالة سبيلًا للحصول على ولد شرعي يذكر به الوالدان وبه تمتد حياتهما وتكتمل سعادتهما النفسية والاجتماعية ويطمئنان على دوام العشرة وبقاء المودة بينهما. أما إذا كان التلقيح بماء رجل أجنبي عن المرأة لا يربط بينهما عقد زواج فإنه يزج بالإنسان في دائرتي الحيوان والنبات ويخرجه عن المستوى الإنساني. ولعل هذه الحالة هي أكثر ما يراد من التلقيح الصناعي عندما يتحدث الناس عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 وهو في هذه الحالة يكون في نظر الشريعة الإسلامية جريمة منكرة وإثمًا عظيمًا يلتقي مع الزنا في إطار واحد جوهرهما واحد ونتيجتهما واحدة وهي وضع ماء رجل أجنبي قصدًا في حدث ليس بينه وبين ذلك الرجل عقد ارتباط بزوجية شرعية يظلها القانون الطبيعي والشريعة السماوية ولولا قصور في صورة الجريمة لكان حكم التلقيح في تلك الحالة هو حكم الزنا الذي حددته الشرائع الإلهية، وينبو عنه المستوى الإنساني الفاضل وينزلق به إلى المستوى الحيواني الذي لا شعور فيه للأفراد برباط المجتمعات الكريمة وحسب من يدعون إلى هذا التلقيح ويشيرون به على أرباب العقم تلك النتيجة المزدوجة التي تجمع بين الخستين داخل النسب وعار مستمر إلى الأبد. حفظ الله على المسلمين أنسابهم ومستواهم الإنساني الفاضل. وقال أمين الفتوى بالأزهر الشيخ أحمد الشرباصي: إن الشريعة تجيز التلقيح الصناعي بين المرأة وزوجها ولكنها لا تجيزه بين المرأة وأجنبي، هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وقال المحامي العام الأستاذ محمد عبد الله: إن التلقيح الصناعي يعتبر مخالفًا للنظام العام والآداب وهما يرتكزان على الدين. والدين لا يسمح بأن يوضع في رحم امرأة بذرة غير بذرة زوجها ولكن المولود الناجم عن التلقيح الصناعي يعتبر ولدًا شرعيًا طبقًا لقاعدة "الولد للفراش" ولكن هذا التلقيح لا يعد زنا من الناحية الجنائية حيث ينقصه الاتصال الجنسي وهو ركن أساسي في جريمة الزنا وإن جاز اعتباره هتك عرض. وقال الشيخ محمد حسنين مخلوف: سئلت منذ عدة سنين بالآتي: (أخذت مادة رجل وهي منيه ثم وضعت في رحم زوجته الشرعية بطريقة ما لا بطريقة الجماع ثم بعد فترة شعرت الزوجة بوجود جنين في بطنها واستمر ذلك مدة تسعة أشهر وأيام فوضعته غلامًا تامًا الخلقة والحركة فهل ينسب إلى هذا الزوج بالبنوة منه شرعًا كما نسب إليه سائر أولاده منها؟ فكان الجواب: هذا الجنين إن تكون من مني زوجها الشرعي وخلق في رحمها حتى وضعته غلامًا حيًا فينسب شرعًا إلى أبيه بالبنوة الشرعية وهو زوجها المذكور كما ينسب إليها بالأمومة بلا فرق بينه وبين الغلام الذي يتكون مما يضعه زوجها في رحمها أثناء الوقاع ويبقى رحمها إلى وقت الوضع المقرر شرعًا. هذا هو السؤال والجواب اللذان أشارت إليهما صحف مصرية منذ سنتين عند الحديث عن طفل الأنابيب ولم يعتن في الجواب عن حقيقة (طفل الأنابيب) وما يحوم حوله من بحوث واختبار وإنما الأساس في بيان الحكم الشرعي في النسب وهو تخلق هذا الطفل من مني الزوج الشرعي وتكونه في رحم أمه الزوجة الشرعية لأبيه وذلك هو الذي عناني في الأمر والله أعلم. وقال الشيخ يوسف القرضاوي: وإذا كان الإسلام قد حمى الإنسان بتحريم الزنا والتبني وبذلك تصفو الأسرة من العناصر الغريبة عنها فإنه يحرم ما يعرف بالتلقيح الصناعي إذا كان التلقيح بغير نطفة الزوج بل يكون في هذه الحالة جريمة منكرة وإثمًا عظيمًا يلتقي مع الزنا في إطار واحد جوهرهما واحد ونتيجتهما واحدة هي وضع ماء رجل أجنبي قصدًا في حرث ليس بينه وبين ذلك الرجل عقد ارتباط بزوجية شرعية يظلها القانون الطبيعي والشريعة السماوية ولولا قصور في صورة الجريمة لكان حكم التلقيح في تلك الحالة هو حكم الزنا الذي حددته الشرائع الإلهية ونزلت بكتب السماء. وإذا كان التلقيح البشري بغير ماء الزوج على هذا الوضع وبتلك المنزلة كان دون شك أفظع جرمًا وأشد نكرًا من التبني فإن ولد التلقيح يجمع بين نتيجة التبنى المذكور وهي إدخال عنصر غريب في النسب وبين خسة أخرى وهي التقاؤه مع الزنا في إطار واحد تنبو عنه الشرائع والقوانين وينبو عنه المستوى الإنساني الفاضل وسينزلق به إلى المستوى الحيواني الذي لا شعور فيه برباط المجتمعات الكريمة للأفراد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 قال الشيخ مصطفى الزرقا: الرأي الشرعي في كل من حالات التلقيح الاصطناعي: يجب أن يلاحظ قبل البدء ببيان الحكم الشرعي في كل حالة على حدة ملاحظتان مهمتان: الملاحظة الأولى: حول صلة هذا الإنجاز العلمي الخطير بالإيمان والإلحاد. ففي أواخر الستينات الماضية، لما نشرت الأنباء الأولى نجاح الطبيبين الإنكليزيين في تلقيح بويضة امرأة بحوين منوي من رجل في وعاء اختبار في المختبرة وإن هذه البويضة الملقحة (اللقيحة) أخذت في التكاثر والنمو الجنيني بطريق الانقسام المعتاد في تكاثر الخلايا الحية، وغمرت الملاحدة في كل مكان نشوة ظفر، وظنوا أن هذا هو النصر المؤزر للإلحاد على الإيمان بالبرهان المشهود والتجربة العملية وقد كنت أنا إذ ذاك في الكويت خبيرًا قائمًا على مشروع الموسوعة الفقهية في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ولم يكن إذ ذاك موضوع التلقيح المخبري هذا قد بلغ مرحلة زرع اللقيحة في رحم امرأة، ولكن كان التنبؤ ببلوغ هذه المرحلة الأخيرة قد شاع في الأوساط العلمية بعد نجاح التلقيح في وعاء الاختبار. فقال لي أحد الملاحدة متبجحًا: أرأيت لقد أصبح الآن من الممكن عمليًا إنشاء الحياة من مواد غير حية بصنع الإنسان. فقلت له: إن ما حصل ليس فيه إنجاز عجيب تقوم به حجة الإلحاد والمادية على نفي وجود الله الخالق تعالى الذي خلق الموت والحياة، فهو يشبه إلى أبعد الحدود قضية بيضة الدجاجة التي كانت تحتضنها تحت جناحيها فتفرخ، فأصبح الإنسان يهيء لها وسطًا آخر ملائمًا للتفريخ، والفارق الرئيسي بين الحالتين هو أن بيضة الدجاجة قد لقحها الديك بالصورة الطبيعية للتلقيح في جوف الدجاجة قبل أن تبيضها، أما في هذا الإنجاز العلمي الجديد فإن تلقيح بويضة المرأة بحوين الرجل يتم خارج جسم المرأة في وسط صناعي ملائم يقع فيه التلقيح، ويبدأ فيه النمو، وفرق عظيم بين بدء نمو الخلق وبدء الحياة، فبدء الحياة سيبقى من صنع واهب الحياة، عز وجل، رغم أنف المادية والماديين. الملاحظة الثانية: يجب أن يلاحظ سلفًا أن حالات التلقيح الاصطناعي السبع الداخلية والخارجية، جميعها يستلزم تطبيقها انكشاف عورة المرأة على شخص أجنبي، سواء كان هذا الشخص رجلًا أو امرأة (طبيبًا أو طبيبة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وهذا يثير في الذهن تساؤلًا: هل تبيح معالجة العقم في المرأة هذا الانكشاف؟ إن من القواعد الشرعية المتفق عليها بين أئمة الفقه والدين أن الضرورات تبيح المحظورات، وأن الحاجة تنزل منزلة الضرورة، ومن تطبيقاتها أن مداواة المرض في مكان العورة تبيح كشفها بقدر حاجة المداواة، وقد صرح فقهاء المذاهب بذلك. والمراد بالمرض هنا –فيما يظهر- ما كان مؤذيًا لصاحبه بألم أو أثر مزعج، أو كان له عواقب مؤذية أو مزعجة لراحة الإنسان في المستقبل لو أهمل علاجه، كانتشاره إلى أجزاء أخرى من البدن، أو إمكان تطوره إلى حالات مزعجة، فكل ذلك لا يوجب الشرع تحمله والصبر على المرض دون علاج تفاديًا لكشف العورة، في الرجال والنساء على سواء. يبدو لي أن الغرض المشروع في الحصول على الولد، سواء في ذلك رغبة الزوج أو الزوجة، يمكن أن يعتبر مبيحًا لانكشاف الزوجة في سبيل معالجة العقم أو التلقيح الصناعي إن لم تكن طريقة التلقيح نفسها تنطوي على محظورات أخرى. ففي ضوء ذلك نستعرض الآن فيما يلي الحالات السبع في التلقيح الاصطناعي، على التعاقب، لنرى ما ينبغي أن يكون موقف الشريعة منها، غير معتبرين انكشاف المرأة في شيء منها مانعًا، بل ننظر إلى ما سوى ذلك من موجبات الحظر والإباحة في الطريقة نفسها التي تسلك للتلقيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 (أ) التلقيح الاصطناعي داخليًا 1- الحالة أو الطريقة الأولى: الحالة الأولى، كما رأينا في موضعها من هذا البحث، تتم داخليًا في جسم الزوجة ولا يدخل فيها عنصر أجنبي، بل تؤخذ نطفة الزوج خارجيًا بطريق الاستمناء، وتزرق في مهبل الزوجة، ثم تسلك النطفة بنسفها طريقها الطبيعي إلى الرحم، ثم إلى القناة التي تصل بينه وبين المبيض وتسمى قناة فالوب (نسبة إلى عالم التشريح الإيطالي الذي اكتشفها) حيث تكون البويضة التي قذفها المبيض إلى هذه القناة بانتظار الحويني المنوي الذي يسعده الحظ بأن يكون هو الفائز بالسبق إلى تلقيح البويضة من بين الملايين من زملائه التي تحملها نطفة الرجل، فمن سبق من هذه الملايين المتسابقة إلى البويضة اخترق جدارها، واندمج فيها فكونا منهما معًا خلية واحدة تسمى في اصطلاح الأطباء: (البويضة الملقحة) وقد فضلت أن أسميها: (اللقيحة) ثم تأخذ هذه اللقيحة طريقها في قناة فالوب إلى رحم المرأة لتعلق في جداره وتنمو بالانقسام إلى ملايين الخلايا، التي تتجمع كل مجموعة منها في ناحية فيتكون منها بعض أعضائه وهذا هو التخلق، يتضح من هذا التصوير الواقعي لما يتم في الحالة الأولى من التلقيح الاصطناعي أن الذي يحصل فيها هو الذي يحصل في حالة المباشرة الطبيعية بين الزوجين، لا فرق سوى الاستعاضة عن عضو الذكورة بمزرقة تزرق بها نطفة الزوج في الموقع المناسب من مهبل الزوجة أمام عنق الرحم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 فإذا استبعدنا من الاعتبار محظور انكشاف المرأة لمصلحة (الولادة) المشروعة على ما سلف بيانه، لم يكن في هذه الطريقة الأولى من التلقيح الاصطناعي أي مانع شرعي يوجب حظرها، فيمكن إعلان جوازها شرعًا عندما يحتاج إليها لتحمل الزوجة من زوجها. والشيء الوحيد الذي يجب أن يلحظ وينبه إليه هنا، وفي كل مقام علاجي آخر هو أنه كلما وجدت في المكان امرأة عالمة مختصة كطبيبة أو قابلة مأذونة، قادرة على تنفيذ المعالجة التي تحتاج إلى انكشاف المرأة على من يعالجها تنفيذًا صحيحًا سلميًا بالنظر الطبي، لم يجز شرعًا أن يعهد إلى طبيب من الرجال ليقوم بهذه المعالجة. هذا ما يقرره فقهاء الشريعة بوجه عام ويعللونه بأن انكشاف الجنس على نظيره أهون وأقل محذورًا، وهذا أمر معقول جدًا في نظام يقوم على فكرة الحلال والحرام كالإسلام ومن القواعد الفقهية في حكم الضرورات أن "الضرورة تقدر بقدرها". وهذا أمر ذو بال يجب التنبه إليه، ومعظم الناس عنه غافلون اليوم لاسيما في الولادة بالمستشفيات. 2 - الحالة الثانية: بين زوجة ومتبرع بنطفة: هذه الحالة تمارسها اليوم المصارف المنوية في العالم الغربي على أوسع نطاق إذ يرون فيها حلًا لمشكلة الأمومة حينما يكون الزوج عقيمًا، وقد أقرها النظام في العديد من الولايات المتحدة الأمريكية، كما أقرتها فرنسا، واعتبروا الأطفال الذين يتولدون منها أولادًا شرعيين للزوجين. أما ألمانيا فيعتبرون أولادًا شرعيين أيضًا ما لم يطعن في شرعيتهم ذو مصلحة في نفيها، فتسلب عنهم الشرعية، وقد يكون هذا الطاعن في الشرعية الولد نفسه حينما يكبر ويعلم أن المتبرع لأمه بالنطفة ذو غنى أو جاه ونفوذ، فيطلب إلحاق نسبه به. وأما في بريطانيا فهذا التلقيح بنطفة متبرع لزوجة مسموح به قانونًا، ولكنها لا تعتبر الأطفال منه شرعيين، وهناك من دول أوروبية من تحرمه وتعتبره ضربًا من الزنى كسويسرا. أما بالنظر الإسلامي فلاشك في تحريمه قطعًا، ففي شريعة الإسلام يعتبر نسب الولد لأبيه، ويستدل الفقهاء على ذلك بأدلة منها قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: آية 233] . وقوله تعالى في إبطال التبني: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب آية 4، 5] . فقد اعتبر الأب هو المولود له – فهو صاحب حق النسب الذي يدعى الولد إليه، أي ينسب. ففي هذه الحالة الثانية من التلقيح الداخلي خلط بين الأنساب إذ تكون البزرة الذكرية من رجل، والزوجية التي سيتبعها النسب هي لآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 (ب) التلقيح خارجيًا 3- الحالة الثالثة من التلقيح الاصطناعي، وهي التي تتم خارجيًا بين بزرتي زوجين في وعاء مختبري وتزرع في رحم الزوجة صاحبة البويضة نفسها، وهي التي جاءت إلى العالم البشري بأول طفلة أنبوب (لويزا براون) . معظم من بحثوا أو أجابوا من علماء الإسلام المعاصرين في موضوع التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب من أساتذة في كليات الشريعة أو مفتيين أو قضاة شرعيين –فيما علمت- قد اتفقت كلمتهم على أن هذه الحالة جائزة بلا تحفظ، وأما المحظور شرعًا فهو الحالات التي تكون فيها البزرتان أو إحداهما من مصدر متبرع. وقليل منهم من تحفظ وتردد في الجواز. وإنني كنت في سابق أجوبتي في هذه القضية ترددت في جواز هذه الصورة الثالثة التي تبدو مبدئيا جائزة شرعا. وكان ترددي فيها من ثلاث نواح: 1- من ناحية غموض نتائج التجربة في مستقبل حياة الولد المنتوج فيها من حيث احتمال الارتفاع في نسبة التشوه في هذا الطريق الاصطناعي عن المعتاد في الحمل بالطريقة الطبيعية لعدم إمكان كشف ذلك قبل التكرار الكثير، ومن حيث احتمال تأديتها إلى أضرار أخرى مرضية لا يمكن الجزم بالأمان منها في هذه الطريقة قبل مضي زمن طويل من عمر الوليد. 2- من جهة كونها صالحة لأن تتخذ ذريعة إلى الفساد والشك في الأنساب التي يقوم عليها الإسلام كيان الأسرة والحقوق الشرعية بين أفرادها، وحرمات القرابة والمصاهرة. ذلك لأن سلوك هذا الطريق الاصطناعي الخارجي لإنتاج الولد سيجعل أمر نسبة تابعا لقول الطبيب الذي سيقرر أنه أجرى التلقيح بين بزرتي الزوجين، وهذا يفسح مجالا للشك بأن الطبيب قد غلط بين وعاء وآخر أو أنه قد ساير رغبة المرأة الراغبة في الأمومة لأمر ما، فيهيأ لها الجنين المطلوب في المختبر من بويضة سواها، ولم يكن في مبيضها هي بويضة. إلى غير ذلك من احتمالات وتكون في صدق الطبيب لأسباب شتى. 3- من حيث ما سبقت الإشارة إليه وهو أن كل تلقيح اصطناعي يستلزم انكشاف عورة المرأة على أنني قد انتهيت فيما سلف بيانه عن انكشاف العورة إلى أن هذا المحظور الشرعي يمكن صرف النظر عنه باعتبار أن حاجة المرأة إلى الأمومة ومصلحتها المشروعة فيها وصحتها تبيع هذا المحظور. ولكن إذا اسقطنا من الاعتبار هذا المحظور الثالث بقي السببان السابقان كافيين للتحفظ والتردد الكبير في جواز هذه الطريقة من التلقيح الصناعي لذلك يترجح في نظري جانب الحظر فيها مبدئيا، فلا تمارس إلا في أٌقصى درجات الأضرار أو الحاجة الشديدة حين لا يكون للزوجين ولد، والطبيب عدل ثقة 4- الحالة الرابعة من التلقيح الصناعي، وهي التي تتم خارجيا بين بزرة زوج وبويضة متبرعة ثم تزرع في رحم الزوجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 هذه الحالة واضح فيها سبب التحريم لأن اللقيحة متكونة من مصدرين غير زوجين، فهي تؤدي إلى نسب منتحل غير مبني على زوجية. ومثل هذا يقال في حالة العكس، وهي ما لو كانت البويضة من زوجة والنطفة الذكرية من متبرع ثم زرعت اللقيحة في الزوجة صاحبة البويضة. 5- الحالة الخامسة وهي حالة زوج عقيم وزوجته معطلة المبيض يتبرع لهما رجل بنطفة، وامرأة ببويضة، ويجري التلقيح بينهما خارجيا في المختبر وتزرع اللقيحة في رحم الزوجة المتبرع لها. يبدو واضحا في هذه الصورة أن اللقيحة لا صلة لها بالزوج ولا بالزوجة المتبرع لهما وهذا ما يميزها في الحالة الرابعة. ولا شك في تحريم هذه الصورة أيضا، إذ لا مجال لأن يترتب فيها نسب. 6- الحالة السادسة: وهي حالة امرأة تتطوع بحمل لقيحة تكونت في وعاء الاختبار من بزرتي زوجين. ويلجأ إلى هذا الأسلوب حين تكون الزوجة غير قادرة على الحمل لسبب في رحمها لكن مبيضها سليم منتج، أو تكون غير راغبة في الحمل ترفها. والفارق بين هذه الحالة والحالة السابقة أن البزرتين هنا من زوجين، وإنما تبرعت امرأة أخرى بحمل اللقيحة المتكونة منهما – أما في الحالة السابقة فإن البزرتين ليستا من زوجين، بل متبرع بهما لراغبين في الولد ولكنهما عقيمان، وتزرع اللقيحة في الزوجة لأن رحمها صالح للحمل. وكما تفترق هذه الحالة عن سابقتها الخامسة من هذه الناحية الأساسية، فهيا شبه بالحالة الثالثة السابقة في ناحية أساسية أيضا هي أن البزرتين من زوجين والفارق بينهما أن هذه السادسة تزرع لقيحتها في رحم امرأة غير الزوجة التي أخذت منها البويضة. وقد رأينا في الحالة الثالثة أن فيها ثلاثة محاذير (هي: المخاطرة بغموض النتائج بالنسبة للجنين، وفتحها باب الشك في النسب حيث تربطه بقول الطبيب وتأديتها إلى انكشاف العورة. ففي الصورة السادسة التي نحن بصددها تجتمع هذه المحاذير الثلاثة مضافا إليها كشف عورة المتطوعة بالحمل (إذ لا يمكن زرع اللقيحة في رحمها دون ذلك) وإذا كنا قد انتهينا في تلك الحالة الثالثة إلى ترجيح الحظر ففي هذه الحالة السادسة يكون الحظر أظهر للأسباب ذاتها. وإذا أمكن اعتبار كشف عورة الزوجة هناك لأجل الحمل جائز، كما أسلفنا بيانه، فانه هنا غير جائز للمتطوعة بالحمل لأنها ليست هي الزوجة المحتاجة إلى الأمومة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 على أنه لو وقعت هذه الحالة فعلا رغم حظرها الشرعي فماذا عن نسب الولد، وعن علاقته بالأطراف الثلاثة: الزوجين والمتطوعة بالحمل (الأم المستعارة) ؟ والذي يظهر لي في الجواب أن نسب الولد يكون للزوجين مصدر اللقيحة بلا شك. أما المتطوعة بالحمل فإنها لا تعتبر أما نسبية قطعة، ولكنها تعتبر كالأم الرضاعية بطريق الأولوية لأن الجنين قد اكتسب نموا من جسمها أكثر مما يكتسب الرضيع من لبن المرضع. وقد اصدر المجمع الفقهي الإٍسلامي قرارا شرعيا هذا نصه: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السابعة المعقدة بمكة المكرمة في الفترة بين 11- 17 من ربيع الآخر 1404 هـ-1984/1/19قد نظر في الدراسة التي قدمها عضو المجلس مصطفى الزرقاء حول التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب، الأمر الذي شغل الناس وكان من أبرز قضايا الساعة في العالم. واستعرض المجلس ما تحقق في هذا المجال من إنجازات طبية توصل إليها العلم والثقافة في العصر الحاضر لإنجاب الأطفال من بني الإنسان والتغلب على أسباب العقم المختلفة المانعة من الاستيلاد. وقد تبين للمجلس من تلك الدراسة الوافية المشار إليها أن التلقيح الاصطناعي بغية الاستيلاد (بغير الطريق الطبيعي وهو الاتصال الجنسي المباشر بين الرجل والمرأة) يتم بأحد طريقين أساسين: - طريق التلقيح الداخلي. وذلك بحقن نطفة الرجل في الموقع المناسب من باطن المرأة. - وطريق التلقيح الخارجي بين نطفة الرجل وبويضة المرأة في أنبوب اختبار، في المختبرات الطبية، ثم زرع البويضة الملقحة (اللقيحة) في رحم المرأة. ولا بد في الطريقين من انكشاف المرأة على من يقوم بتنفيذ العملية وقد تبين لمجلس المجمع في تلك الدراسة المقدمة إليه في الموضوع ومما أظهرته المذاكرة والمناقشة أن الأساليب والوسائل التي يجري بها التلقيح الاصطناعي بطريقيه الداخلي والخارجي لأجل الاستيلاء هي سبعة أساليب بحسب الأحوال المختلفة، للتلقيح الداخلي فيها أسلوبان، وللخارجي خمسة من الناحية الواقعية بقطع النظر عن حلها أو حرمتها شرعا، وهي الأساليب التالية: في التلقيح الاصطناعي الداخلي: الأسلوب الأول: أن تؤخذ النطفة الذكرية من رجل متزوج وتحقن في الموقع المناسب داخل مهبل زوجته أو رحمها حتى تلتقي النطفة التقاء طبيعيا بالبويضة التي يفرزها مبيض زوجته، ويقع التلقيح بينهما ثم العلوق في جدار الرحم بإذن الله، كما في حالة الجماع. وهذا الأسلوب يلجأ إليه إذا كان في الزوج قصور لسبب ما عن إيصال مائة في المواقعة إلى الموضع المناسب. الأسلوب الثاني: أن نؤخذ نطفة رجل وتحقن في الموقع المناسب من زوجة رجل آخر حتى يقع التلقيح داخليا ثم العلوق في الرحم كما في الأسلوب الأول. ويلجأ إلى هذا الأسلوب حين يكون الزوج عقيما لا بزرة في مائة، فيأخذون النطفة الذكرية من غيره. في طريق التلقيح الخارجي: الأسلوب الثالث: أن تؤخذ نطفة من زوج وبويضة من مبيض زوجته فتوضعا في أنبوب اختبار طبي بشروط فيزيائية معينة حتى تلقح نطفة الزوج بويضة زوجته في وعاء الاختبار ثم بعد أن تأخذ اللقيحة الانقسام والتكاثر تنقل في الوقت المناسب من أنبوب الاختبار إلى رحم الزوجة نفسها صاحبة البويضة لتعلق في جداره وتنمو تتخلق ككل جنين، ثم في نهاية مدة الحمل الطبيعية تلده الزوجة طفلا أو طفلة. وهذا هو طفل الأنبوب الذي حققه الإنجاز العلمي الذي يسره الله. وولد به إلى اليوم عدد من الأولاد ذكورا وإناثا وتوائم تناقلت أخبارها الصحف العالمية ووسائل الأعلام المختلفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 ويلجأ إلى هذا الأسلوب الثالث عندما تكون الزوجة عقيما بسبب انسداد القناة التي تصل بين مبيضها ورحمها (قناة فالوب) . الأسلوب الرابع: أن يجري تلقيح خارجي في أنبوب الاختبار بين نطفة مأخوذة من زوج، وبويضة مأخوذة من مبيض امرأة ليست زوجته (يسمونها متبرعة) ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته. ويلجئون إلى هذا الأسلوب عندما يكون مبيض الزوجة مستأصلا أو معطلا، ولكن رحمها سليم قابل لعلوق اللقيحة فيه. الأسلوب الخامس: أن يجري تلقيح خارجي في أنبوب اختبار بين نطفة رجل وبويضة من امرأة ليست زوجة له (يسمونهما متبرعين) ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة أخرى متزوجة. ويلجؤون إلى ذلك حينما تكون المرأة المتزوجة التي زرعت اللقيحة فيها عقيما بسبب تعطل مبيضا لكن رحمها سليم وزوجها أيضا عقيم ويريدان ولدا. الأسلوب السادس: أن يجري تلقيح خارجي في وعاء الاختبار بين بزرتي زوجين، ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة تتطوع بحملها. ويلجؤون إلى ذلك حين تكون الزوجة غير قادرة على الحمل لسبب في رحمها، ولكن مبيضها سليم منتج، أو تكون غير راغبة في الحمل ترفها، فتتطوع لها امرأة أخرى بالحمل عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 الأسلوب السابع: هو السادس نفسه إذا كانت المتطوعة بالحمل هي زوجة ثانية للزوج صاحب النطفة فتتطوع لها ضرتها لحمل اللقيحة عنها. وهذا الأسلوب لا يجري في البلاد الأجنبية التي يمنع نظامها تعدد الزوجات، بل في البلاد التي تبيح هذا التعدد. هذه هي أساليب التلقيح الاصطناعي الذي حققه العلم لمعالجة أسباب عدم الحمل. وقد نظر مجلس المجمع فيما نشر وأذيع أنه يتم فعلا تطبيقه في أوروبا وأمريكا من استخدام هذه الإنجازات لأغراض مختلفة منها تجاري ومنها ما يجري تحت عنوان (تحسين النوع البشري) ومنها ما يتم لتلبية الرغبة في الأمومة لدى نساء غير متزوجات أو نساء متزوجات لا يحملن لسبب فيهن، أو في أزواجهن، وما انشئ لتلك الأغراض المختلفة من مصارف النطف الإنسانية التي تحفظ فيها نطف الرجال بصورة تقانية تجعلها قابلة للتلقيح بها إلى مدة طويلة، وتؤخذ من رجال معينين أو غير معينين تبرعا أو لقاء عوض، إلى آخر ما يقال أنه واقع اليوم في بعض بلاد العالم المتمدن. النظر الشرعي بمنظار الشريعة الإسلامية: هذا وأن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بعد النظر فيما تجمع لديه من معلومات موثقة مما كتب ونشر في هذا الشأن، وتطبيق قواعد الشريعة الإسلامية ومقاصدها لمعرفة حكم هذه الأساليب المعروضة وما تستلزمه، قد انتهى إلى القرار التفصيلي التالي: أولا: أحكام عامة: (أ) أن انكشاف المرأة المسلمة على غير من يحل شرعا بينها وبينه الاتصال الجنسي لا يجور بحال من الأحوال إلا لغرض مشروع يعتبره الشرع مبيحا لهذا الانكشاف. (ب) أن احتياج المرأة إلى العلاج من مرض يؤذيها، أو من حالة غير طبيعية في جسمها تسبب لها إزعاجا ـ يعتبر ذلك فرضا مشروعا يبيح لها الانكشاف على غير زوجها لهذا العلاج. وعندئذ يتقيد ذلك الانكشاف بقدر الضرورة. (ج) كلما كان انكشاف المرأة على غير من يحل بينها وبينه الاتصال الجنسي مباحا لغرض مشروع يجب أن يكون المعالج امرأة مسلمة أن أمكن ذلك، وإلا فامرأة غير مسلمة وإلا فطبيب مسلم ثقة، وإلا فغير مسلم بهذا الترتيب. ولا تجوز الخلوة بين المعالج والمرأة التي يعالجها إلا بحضور زوجها أو امرأة أخرى. ثانيا: حكم التقليح الاصطناعي: 1- أن حاجة المرأة المتزوجة التي لا تحمل وحاجة زوجها إلى الولد تعتبر غرضا مشروعا يبيح معالجتها بالطريقة المباحة من طرق التلقيح الاصطناعي. 2- أن الأسلوب الأول (الذي تؤخذ فيه النطفة الذكرية من رجل متزوج ثم تحقن في رحم زوجته في طرقة التلقيح الداخلي) هو أسلوب جائز شرعا بالشروط العامة الآنفة الذكر وذلك بعد أن تثبت حاجة المرأة إلى هذه العملية لأجل الحمل. 3- أن الأسلوب الثالث (الذي تؤخذ فيه البزرتان الذكرية والأنثوية من رجل وامرأة زوجين أحدهما للآخر، ويتم تلقيحها خارجيا في أنبوب اختبار، ثم تزرع اللقيحة في رحم لكنه غير سليم تماما من موجبات الشك فيما يستلزمه ويحيط به من ملابسات. فينبغي أن لا يلجأ إليه إلا في حالات الضرورة القصوى وبعد أن تتوفر الشرائط العامة الآنفة الذكر. 4- أن الأسلوب السابع الذي تؤخذ فيه النطفة والبويضة من زوجين وبعد تلقيحهما في وعاء الاختبار تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى للزوج نفسه، حيث تتطوع بمحض اختيارها بهذا الحمل عن ضرتها المنزوعة الرحم يظهر لمجلس المجمع أنه جائز عند الحاجة وبالشروط العامة المذكورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 5- وفي حالات الجواز الثلاث يقرر المجمع أن نسب المولود يثبت من الزوجين مصدر البزرتين ويتبع الميراث والحقوق الأخرى ثبوت النسب فحين يثبت نسب المولود من الرجل أو المرأة يثبت الإرث وغيره من الأحكام بين الولد وبمن التحق نسبه به. أما الزوجة المتطوعة بالحمل عن ضرتها (في الأسلوب السابع المذكور) فتكون في حكم الأم الرضاعية للمولود لأنه اكتسب من جسمها وعضويتها أكثر مما يكتسب الرضيع من مرضعته في نصاب الرضاع الذي يحرم به ما يحرم من النسب. 6- أما الأساليب الأربعة الأخرى من أساليب التلقيح الاصطناعي في الطريقين الداخلي والخارجي بما سبق بيانه فجميعها محرمة بالنظر الإسلامي لا مجال لإباحة شيء منها لأن البزرتين الذكرية والأنثوية فيها ليستا من زوجين أو لأن المتطوعة بالحمل هي أجنبية عن الزوجين مصدر البزرتين. هذا، ونظرا لما في التلقيح الاصطناعي بوجه عام من ملابسات في الصور الجائزة شرعا ومن احتمال اختلاط النطف واللقائح في أوعية الاختبار ولاسيما إذا كثرت ممارسته وشاعت فان مجلس المجمع ينصح الحريصين على دينهم أن لا يلجأوا إلى ممارسته إلا في حالة الضرورة القصوى وبمنتهى الاحتياط والحذر من اختلاط النطف أو اللقائح. هذا ما ظهر لمجلس المجمع في هذه القضية ذات الحساسية الدينية القوية من قضايا الساعة ويرجو من الله أن يكون صوابا. والله سبحانه أعلم وهو الهادي إلى سواء السبيل وولي التوفيق. هذا القرار صدر بالأكثرية من أعضاء المجلس والذي له مخالفة واضحة هو سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس المجمع المذكور فان سماحته توقف في كل الصور الثلاث التي أجازها المجمع بالأكثرية. وكاتب هذا البحث – عبد الله بن عبد الرحمن البسام – أحد أعضاء مجلس المجمع الفقهي الإسلامي – ممن وافق على إجازة الأحوال الثلاث المذكورة في القرار المذكور وإلى هذا المجمع الموقر ما يراه حيال هذه المشكلة التي شغلت أذهان الناس وأقلامهم. وأرجو أن يخرج من ذلك بنتائج مرضية. سدد الله خطي الجميع ووفقنا لما يحبه ويرضاه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 مراجع البحث 1- القرآن الكريم 2- الصحيحان 3- كشاف القناع البهوتي 4- فتاوى حسنين مخلوف 5- فتاوى محمود شلتوت 6- الحلال والحرام للقرضاوي 7- مقدمة ابن خلدون 8- العلوم الطبيعية في القرآن يوسف مروه 9- الإعجاز العلمي في القرآن محمد إسماعيل 10- خلق الإنسان بين الطب والقرآن محمد علي البار 11- الوجيز في علم الأجنة في القرآن محمد علي البار 12- منع الحمل صلاح عدس 13- تحديد النسل فائق الجوهري 14- الحياة وعجائبها إسماعيل خليل 15- حياتنا الجنسية القباني 16- بحث مصطفى الزرقاء 17- بحث عبد الله باسلامة 18- خطاب مكتب الرابطة بباريس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب الدكتور محمد علي البار مقدمة: منذ أن نجح الدكتور استبتو والدكتور ادواردز في تلقيح بويضة السيدة ليزلي براون بمنى زوجها جون براون في 10 نوفمبر 1977 وأدى ذلك إلى نجاح أول حمل وولادة أول طفلة أنبوب (لويزا براون) في 25 يوليه 1978، قامت حملات إعلامية منظمة شغلت الناس صباح مساء ثم خفقت الضجة وانضم إلى نادي أطفال الأنابيب عشرات الأطفال حتى جاوز الرقم بضع مئات في أنحاء العالم منهم مجموعة من التوائم. وتحول الأطباء والصحفيون وأجهزة الإعلام إلى مواضيع أكثر إثارة … مثل تجميد الأجنة المخصبة … ونقل البويضة الملقحة من امرأة إلى أخرى وهو ما عرف باسم الرحم الظئر. وبدأت المشاكل الأخلاقية والدينية تظهر على السطح. وصرح الدكتور ادواردز العالم الفسيولوجي الرائد في أطفال الأنابيب بقوله " إن هناك حاجة صارخة إلى وضع إطار لآداب وأخلاقيات هذا الميدان. وإن كل مؤسسة تجري العملية المذكورة يجب أن يكون لديها لجنة آداب خاصة " (1) . ولقد تم بالفعل ولادة أو طفلة من الرحم الظئر. ودخلت القضية إلى المحاكم الإنجليزية ذلك لأن الأم بالوكالة أو الرحم الظئر رفضت تسليم الطفل لصاحبه البويضة بعد ولادته رغم أنها وقعت عقدا بتسليم الطفل بعد أن تلده (2) . وتحولت القضية إلى مشكلة إعلامية ومادة للإثارة كما انشغل بها القضاء الإنجليزي لعدم وجود سابقة. وقضية أخرى … أن إجراء محاولة إيجاد أطفال أنابيب تتم بإعطاء المرأة أدوية وعقارات مثل الكلوميد تزيد من إفراز البويضات فيأخذ الطبيب عدة بويضات ويلقحها … ويزرع عددا منها في اليوم الثالث إلى الخامس في رحم المرأة. ولذا كثرت ولادات التوائم في أطفال الأنابيب في الآونة الأخيرة. وذلك تحسبا للفشل كما أن الطبيب يحتفظ بمجموعة من البويضات الملقحة مثلجة ومجمدة فإذا فشلت المحاولة الأولى أعاد الكرة … وإذا نجحت المحاولة … ماذا يتم في الأجنة المجمدة؟   (1) ندوة الإنجاب، المنطقة الإسلامية للعلوم الطبية ص 468 (2) المصدر السابق ص 469 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 سؤال أثار ضجة كبرى في الإعلام الغربي ومناقشات حامية. هل يسمح بإجراء التجارب على هذه الأجنة وذلك قد يفيد الإنسانية في معرفة الأمراض الوراثية والمتعلقة بالصبغيات وغيرها أم ترمى الأجنة. وإلى أي يوم يمكن تنمية هذه الأجنة واستخدامها في المختبر؟ قضية أخلاقية ودينية شائكة. وفي بريطانيا تكونت لجنة من البرلمان وبعض المختصين ورجال الدين عرفت باسم وارنك Wamock وأنيط بها دراسة هذه المشكلة. واقترحت هذه اللجنة بعد خلاف طويل حاد بين أعضائها أن استخدام الأجنة يسمح به لمدة أسبوعين فقط. وذلك قبل أن تتشكل أول بداية للجهاز العصبي الذي يناط به تكوين الدماغ والنخاع الشوكي والإحساس. وتفرعت مشاكل عديدة، كلها جديدة مثيرة تستحق الدرس والبحث … وإذا كانت هذه المشاكل لا تزال في الغرب فإنها ستفد إلينا في القريب العاجل بل إن بعضها قد وفد بالفعل. وأعلنت إحدى المستشفيات الخاصة في جدة قيامها بمشروع طفل الأنابيب حسب الشريعة الإسلامية!! كما تم توليد أول امرأة سعودية تحمل بواسطة الأنابيب في جدة في مستشفى جامعة الملك عبد العزيز وذلك بعد أن تم التلقيح في بريطانيا. وأما بالنسبة للتلقيح الاصطناعي فليست هناك مشكلة في الغرب. يتبرع المانح بمائه فيحفظ في بنك المنى … ثم تأخذه امرأة ما. طبعا غير زوجته … وقد تكون غير متزوجه أصلا … وهناك موجة من نكاح الاستبضاع الذي كان معروفا في الجاهلية والذي وصفته السيدة عائشة رضي الله عنها في حديثها عن أنواع النكاح والذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه. ونكاح الاستبضاع هو أن يعتزل الرجل زوجته ويرسلها إلى شخص أشتهر بالذكاء والقوة فينام معها عدة أيام وليال حتى يتبين حملها فإذا تبين حملها منه أتاها زوجها إن شاء … وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد … وهذا ما تقوم به شركات متخصصة في الولايات المتحدة الآن … . تأخذ منى العباقرة والحائزين على جوائز نوبل وغيرهم، وتحتفظ به في ثلاجاتها. وتعطيه لمن تطلب وتدفع الثمن … وقد يذهب الزوج إلى الحرب كما حصل في فيتنام وهو يريد الولد فيدفع بمنيه إلى البنك لتلقح به زوجته في الوقت المناسب فتحبل منه وهو في فيتنام أو بعد وفاته وانتقاله إلى العالم الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وتقول النيوزويك (18 مارس 1985) أن هناك ما لا يقل عن ربع مليون طفل ولدوا نتيجة التلقيح الصناعي بماء غير ماء آبائهم (1) . ولا غضاضة عند هؤلاء القوم في كل هذا فالفوضى الجنسية ضاربة أطنابها ونادرا ما يستطيع الشخص هناك أن يجزم بأن فلانا أبوه … لشيوع الزنى … . فأكثر من 8 % من الزوجات اعترفن بخيانة أزواجهن … . ومثل هذا العدد من الرجال يخون زوجته (2) . والتبني نظام شائع معترف به، ولا غضاضة فيه. والأم تبيع طفلها في المحكمة وتتنازل عنه لأسرة تدفع لها ثمنا وتأخذ منها وليدها … فلا ينسب بعد ذلك إلا لمن تبناه ورباه. طفل الأنبوب: ما هو؟ ولماذا؟ وكيف يتم؟ وما هي محاذيره؟ فكرة طفل الأنبوب: إن فكرة طفل الأنبوب في حد ذاتها سهلة ميسورة، وتعتمد الفكرة على أخذ البويضة (الأصح البييضة) من المرأة عند خروجها من المبيض وذلك بواسطة مسبار خاص يدخله الطبيب في تجويف البطن عند موعد خروج البييضة من المبيض فيلتقطها ثم يضعها في طبق بيتري Petri dish وليس أنبوبا كما شائع. وفي هذا الطبق سائل فسيوليجي مناسب لبقاء البييضة ونموها. ثم يؤخذ منى الرجل ويوضع في الطبق مع البييضة … فإذا ما تم تلقيح البويضة بأحد الحيوانات المنوية Spermatozoa وذلك يمكن مشاهدته تحت الميكروسكوب تركت هذه البييضة الملقحة لتنقسم انقساماتها المعروفة المتتالية. الخلية الأمشاج (الزيجوت) المكونة من التحام نواة البييضة ونواة الحيوان المنوي تنقسم فتصبح الخلية خليتان … . والخليتان أربع … . والأربع ثمان وتدخل فيما يعرف باسم مرحلة التوتة Morula لأنها تشبه ثمرة التوتة المعروفة. عند ذاك تأخذ هذه التوتة التي سرعان ما تتحول إلى ما يعرف بالكرة الجرثومية Blastulaويحدث في داخلها تجويف كما هو موجود في الكرة ويمتلأ التجويف بسائل وتوضع هذه الكرة في جدار الرحم حيث تتغرز فيه وتنمو نمو الحمل الطبيعي حتى الولادة. والمدة التي تبقى فيها البييضة في الطبق لا تعدو يومين أو ثلاثة ففي أول حالة طفل أنبوب أخذ الدكتور باتريك استبتو بويضة الأم ليزلي براون في 10 نوفمبر 1977 ووضعها في الطبق الذي حضر محلوله الدكتور روبرت ادواردز وبعد أن قاما بتلقيح البويضة أعادها الدكتور استبتو إلى رحم الأم ليزلي براون في 12 نوفمبر 1977 وفي 25 يوليه 1978 ولدت لويزا براون أول طفلة أنبوب في العالم والتي أثارت ضجة كبرى في جميع أجهزة الإعلام وفتحت صفحة جديدة في تاريخ التناسل البشري.   (1) النيوزويك 18 مارس 1985 (2) صحيفة الشرق الأوسط نقلا عن وكالات الأنباء في 29/5/1980 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 هذه هي الفكرة ببساطة: أخذ البويضة من الأم في الوقت المناسب وتلقيحها في الطبق وإعادتها إلى الرحم بعد يومين أو ثلاثة لتنمو نموا طبيعيا وتلد ولادة طبيعية أو بالعملية القيصرية كما يولد ملايين الأطفال في كل عام. الفكرة بسيطة سهلة ميسورة. ولكن التنفيذ هو العسير ويحتاج إلى دقة ومهارة ومع هذا فإن 90 % من محاولات الاستيلاد بطريق طفل الأنبوب تفشل (1) . (2) هذه الصعوبات تتلخص في الآتي: 1- معرفة موعد خروج البويضة أو البويضات من المبيض … وهذا يستدعى أولا إعطاء المرأة مجموعة من العقاقير أشهرها الكلوميد Clomide التي تجعل المبيض يفرز عددا من البويضات في الشهر الواحد بدلا من بيضة واحدة. ويستدعى ثانية دراسة كاملة للأم ومعرفة موعد الأبياض … حتى يتم إدخالها المستشفى في الموعد المناسب وإدخال منظار البطن ورؤية المبيض ثم التقاط البييضات وهي عملية فنية قد تكتنفها صعوبات نتيجة التهابات القناة الرحمية وما حولها أو التهاب سابق بالمبيض أو وجود تليف إلى آخر قائمة الصعوبات الفنية.   (1) Lancet , Feb 2 , 1985: 255 – 266 (editorial) (2) Crosignani pa, Rubin BL in vitro Fertilization , New york , Academic press , 1983 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 2- بعد أن يتم شفط البييضات ينبغي أن توضع في محلول فسيوليجي مناسب لنموها وبقائها فيه … وتركيب هذا المحلول ليس يسيرا بل يحتاج إلى تقنية عالية … ومهارة فائقة. 3- تلقيح البييضات وملاحظة مرورهن بمراحل النمو حتى يصلن إلى مرحلة التوتة Morula أو الكرة الجرثومية Blastula. 4- إعادة غرز البييضات في الرحم. وعادة ما توضع أكثر من بييضة ملقحة في الرحم لأن الرحم عادة يلفظ هذه البويضات … كلما زاد عدد البييضات المغروزة في الرحم كلما زاد الاحتمال بنجاح نمو واحد منهن إلى مرحلة الجنين والحمل والوليد. ولكن هذا في حد ذاته يعتبر أحد العوائق إذ يتم فجأة ما ليس في الحسبان حيث تنمو أربع أو ست بويضات ملقحات إلى أجنة كاملة فتحمل المرأة حمل توائم متعددة وتلد أربعة أو ستة من الأطفال وحمل التوائم المتعددة له مخاطره على الأم وعلى الأجنة. 5- وعادة ما يترك الطبيب مجموعة البييضات ملقحة بحيث إذا فشل نمو البييضات الموضوعة في الرحم يعاود الكرة مرة أخرى دون الحاجة إلى إدخال المنظار مرة أخرى إلى رطن المرأة وأخذ البويضات وشفطها. 6- إذا نجحت جميع هذه الخطوات السابقة وتم الحمل … تظهر مشكلة جديدة وهو ماذا يصنع بهذه البويضات الملقحة المجمدة … هل ترمى؟ هل تستخدم لامرأة أخرى؟ هل تجرى عليها التجارب لمعرفة التكوينات المبكرة في النطفة الأمشاج (الزيجوت) ومرحلة التوتة ومرحلة الكرة الجرثومية وما بعدها؟ وإلى متى يسمح للأطباء بإجراء تجاربهم وبحوثهم على هذه الأجنة وإلى أي مرحلة من مراحل النمو تنمو … ثم بعد ذلك تقتل؟ أليست حياة إنسانية ولو كانت في مهدها؟ أيحق للأطباء والعلماء أن يعبثوا بالحياة الإنسانية حتى في مهدها وحتى لو كان الغرض شريفا وهو العلم ومعرفة الأمراض والأسرار الوراثية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 وتكونت لجان وقامت دراسات وندوات وجلسات صاخبة في أوروبا والولايات المتحدة وفي بريطانيا تكونت لجنة وارنك Wamock مكونة من أطباء مختصين وقانونيين وأعضاء برلمان ورجال دين … وأصدرت اللجنة قراراتها وكان من بين هذه القرارات أن التلقيح خارج الجسم ln Vitro Fertilization أمر تدعو إليه الحاجة ويحل مشكلات بعض الأسر التي تعاني من العقم … وعليه فينبغي تشجيع هذه الأبحاث في هذا المجال. وبخصوص الأجنة الفائضة فقد سمحت اللجنة (بالأغلبية خمسة ضد صوتين) بإجراء التجارب على الأجنة الناتجة عن البويضات الملقحة الفائضة حتى اليوم الرابع عشر لنمو الجنين (1) (2) ولكن النائب البرلماني اينك باول Enoch powell جمع أنصارا عديدين لإصدار قرار من البرلمان بمنع التجارب على الأجنة الإنسانية مطلقا (3) . وقد حددت اللجنة اليوم الرابع عشر وذلك لأن الجنين يظهر فيه بعد ذلك الميزان العصبي Neural groove وهو البداية الأولى لتكون الجهاز العصبي … . ورغم أن الجهاز العصبي يبدأ العمل المبكر في اليوم الثاني والأربعين. وقد اختارت اللجنة اليوم الرابع عشر حتى تكون قد ابتعدت تماما عن بداية تكون الجهاز العصبي. والغريب حقا أن نجد علماء الإسلام القدماء قد بحثوا هذه النقطة الهامة والخطيرة قبل عدة قرون من ظهور المشكلة إلى السطح … يقول ابن القيم في التبيان في أقسام القرآن: (4) . " فإن قيل الجنين قبل نفخ الروح فيه هل كان فيه حركة وإحساس أم لا؟ قيل كان فيه حركة النمو والاغتذاء كالنبات. ولم تكن حركة نموه واغتذائه بالإرادة. فلما نفخت (الروح) انضمت حركة حسيته وإرادته إلى حركة نموه واغتذائه ". وبذلك أعاد ابن القيم علامات نفخ الروح إلى وجود الإحساس وإلى وجود الحركة الإرادية وكلاهما لا يتم إلا بتكوين الجهاز العصبي.   (1) Lancet: Editorial , Feb 2 , 1985: 255 – 266 Report of the Committee of inquiry into Human Fertilization and Embryology (2) (Chairman , Dome Mary Warmock) London HMSO, 1984 (3) Newsweek March 18,1985 p.45 (4) ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن ص 255 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 ويقول ابن حجر العسقلاني في فتح الباري وهو يتحدث عن أول ما يتشكل من أعضاء الجنين: " ولا حاجة له (أي الجنين) حينئذ إلى حس ولا حركة إرادية لأنه حينئذ بمنزلة النبات، وإنما يكون له قوة الحس والإرادة عند تعلق النفس (أي الروح) به " (1) . وهكذا ميز علماء الإسلام الأجلاء بين الحياة النباتية Vegetative life التي ليس فيها إلا النمو والاغتذاء والحياة الإنسانية Human life التي تتميز بوجود الحس والإرادة أي بتكون الجهاز العصبي. ورغم أن الحياة النباتية مقدمة للحياة الإنسانية ولها نوع احترام إلا أنها ليست كالحياة الإنسانية ولا تأخذ حكمها … فهي أقل منها درجة، وهذا ما نبه إليه الفقهاء حتى الإمام الغزالي الذي كان متشددا في موضوع الإجهاض قال ما يلي في الأحياء (2) : " وليس هذا (رأي العزل) كالإجهاض والوأد، لأن ذلك جناية على موجود حاصل، والوجود له مراتب، وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة. وتستعد لقبول الحياة. وإفساد ذلك جناية. فإن صارت نطفة فعلقة كانت الجناية أفحش، وأن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشا … . ومنتهى التفاحش في الجناية هي بعد الانفصال حيا ". وهذه نظرة عميقة تدل على سعة فهم … والشيء الجديد الذي حدث الآن بعد ظهور طفل الأنبوب هو أن أول مراتب الوجود أن تلقح البييضة بماء الرجل في طبق (أنبوب) وليس كما ذكر الإمام الغزالي أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة.   (1) ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري كتاب القدر 11/ 482 المطبعة السلفية (2) الأمام الغزالي: إحياء علوم الدين ج 2/ 65 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 ورأي الإمام الغزالي أن إفساد ذلك جناية، وإن هذه الجناية تزداد تفاحشا كلما نمت النطفة وتحولت إلى علقة ومضغة فإذا نفخ فيها الروح فذلك منتهى الفحش. وافحش منه وأفظع قتل الجنين بعد انفصاله حيا من أمه. لماذا طفل الأنبوب؟ سؤال قد يطرأ لماذا هذا العناء والتكلفة الباهظة والمشروع الذي لا تبلغ نسبة نجاحه في أحسن المراكز العالمية أكثر من 10 إلى 15 % كما تقول مجلة اللانست الطبية في عددها 2 فبراير 1985 (ص 255- 266) … . لماذا تصرف مبالغ طائلة من أجل بضع نسوه يعانين من العقم. إن المشكلة عويصة حقا فعدد النساء العواقر في أوروبا والولايات المتحدة والبلاد المتقدمة في ازدياد مطرد، وكما تقول النيوزويك فإن واحدا من كل سبعة يعانون من العقم وهم في زمن الإنجاب (18/3/1985) ويقول كتاب الزوجين العقيمين: إصدار شركة سيبا أن 10 % من الأزواج في سن الإنجاب يعانون من العقم في الولايات المتحدة (مجلد 28/ رقم 5/1976) . في الولايات المتحدة هناك اكثر من نصف مليون امرأة عاقر (في سن الحمل بسبب انسداد أو غياب القناة الرحمية (قناة فالوب) (1) . هذا عدا مئات الآلاف من النساء اللائي يعانين من العقم لأسباب أخرى. ولكن لندرس ما هي أسباب العقم الرئيسية في الغرب؟ إن أهم الأسباب كما تذكر المصادر الطبية العديدة ما يلي: 1- انتشار الأمراض الجنسية نتيجة الولوغ في الزنا … وأهم مرض يسبب انسداد الأنابيب والتهاب حوض الرحم ناتج عن الكلاميديا (ميكروبات صغيرة من أصغر أنواع البكتريا) والمايكو بلازما … وفي الولايات المتحدة يقدر مركز اتلانتا لمكافحة الأمراض المعدية عدد المصابين بالكلاميديا في الولايات المتحدة سنويا بستة ملايين شخص (2) (3) (4) وفي الدول الاسكندنافية وجد أن 5 إلى 10 % من جميع الفتيات اللاتي تقل أعمارهن عن عشرين سنة ويذهبن إلى عبادات تنظيم النسل يعانين من الكلاميديا (5) . وفي المملكة المتحدة يعتبر التهاب مجرى البول الجنسي من غير السيلان الذي تسببه الكلاميديا أخطر بكثير من حالات السيلان حيث تبلغ عدد حالات الكلاميديا ضعف حالات السيلان (6) وفي معظم الدول المتقدمة تقنيا والمنحطة أخلاقيا فأن الزنى ينتشر انتشارا ذريعا (انظر تفصيل ذلك في كتابنا الأمراض الجنسية أسبابها وعلاجها 1985 دار المنارة) كذلك ينتشر مرض السيلان انتشارا هائلا … فعدد حالات السيلان في العالم تقدر بـ 25 مليون حالة سنويا (7) . 2- اللولب لمنع الحمل L.U.D يعتبر إدخال اللولب السبب الثاني لالتهاب الأنابيب والتهاب الحوض Relvic lnflammatory disease الذي انتشر بصورة خاصة في الغرب. وبما أن هناك ملايين النساء يستخدمن اللولب كأحد موانع الحمل فإن هناك الآلاف منهن اللاتي يعانين من التهاب الحوض وبالتالي انسداد الأنابيب والعقم نتيجة استخدام اللولب (8) . 3- تأخير سن الزواج إلى ما بعد سن الخامسة والعشرين وهو سن الخصوبة الأمثل يعتبر من الأسباب الهامة لانتشار العقم (الزوجين العقيمين إصدار شركة سيبا مجلد 28 رقم 5 عام 1985) . 4- أن الإجهاض منتشر في العالم بصورة مرعبة … ويعتبر الإجهاض ثالث سبب في التهاب الأنابيب (القناة الرحمية) وانسدادها.   (1) ندوة الإنجاب ص 419 (2) Merk Manual (3) Mandell , Douglass & Bennet: Principals & Practice of infection diseases 1979 (4) Proceedings of First Scand Symp. on chlamydia , 1981 (5) المؤتمر السكندافي عن الكلاميدياعام 1981 (6) Wilcox , Medicine Digest , Aprill 1980 (7) منظمة الصحة العالمية نقلا عن مرجع مراك الطبي العلمي طبعة 1977 (8) الأمراض الجنسية أسبابها وعلاجها د. محمد علي البار ص 194- 195 دار المنارة 1985 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وقد ذكرت مجلة التايم الأمريكية في عددها الصادر 6 أغسطس 1984 أن عدد حالات الإجهاض الجنائي في العالم تزيد عن خمسين مليونا، أكثر من نصفها في البلاد النامية. وذكرت مجلة ميدسين دايجست Medicine Digest (1) أن 13.700.000 حالة إجهاض جنائي (غير تلقائي) تتم سنويا في البلاد النامية … وفي شبه الجزيرة الايبرية (أسبانيا والبرتغال) أكثر من مليون حالة إجهاض غير تلقائي سنويا. وفي أوروبا الغربية أكثر من مليون … ومنذ أباحت المحكمة العليا عام 1973 في الولايات المتحدة الإجهاض فقد تم إجهاض أكثر من 15 مليون حالة إجهاض حتى عام 1983 مما حدا بالرئيس الأمريكي ريجان بالقيام بحملة بالمطالبة بإلغاء هذا القانون (2) . ويعتبر الاتحاد السوفيتي أول دولة في العالم أباحت الإجهاض بمجرد الطلب وذلك في عام 1920 ولكن ستالين تراجع في هذا القرار عام 1936 ثم أعيد من جديد عام 1955، وتبلغ حالات الإجهاض ثلاثة ملايين حالة سنويا في الاتحاد السوفيتي (3) . وفي اليابان ثلاثة ملايين حالة إجهاض سنويا (4) . 5- هناك أمراض أخرى تعتبر نادرة في الغرب ولكنها غير نادرة في البلاد النامية مثل الدرن (السل) الذي يصيب الجهاز التناسلي … وميكروبات البكترويدز والتهاب الزائدة الدودية إذا أهمل وتحول إلى خراج. وهذه جميعا قد تسبب التهاب الحوض وانسداد القناة الرحمية (قناة فالوب) . 6- الجماع أثناء المحيض: قال تعالي {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة 222- 223]   (1) Medicin Digest March 1981 (2) كتاب مشكلة الإجهاض للدكتور محمد علي البار ص 5 –7 الدار السعودية للنشر (3) كتاب مشكلة الإجهاض للدكتور محمد علي البار ص 5- 7 الدار السعودية للنشر (4) كتاب مشكلة الإجهاض للدكتور محمد علي البار ص 5- 7 الدار السعودية للنشر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وللجماع أثناء المحيض أنواع من الأذى ذكرنا نبذا وافيه منها في كتابنا " دورة الأرحام " (1) . ومن هذه الأضرار التهاب الحوض وقناتي الرحم وانسدادهم وحصول العقم وانتباذ غشاء الرحم Endometeriosis (د. برساد في بحثه المقدم إلى المؤتمر الطبي السعودي الثامن المنعقد بالرياض 24 – 28 محرم 1404 هـ) . 7- التعقيم بقطع الأنابيب وربطها: قد يبدو هذا السبب غريبا وهو كذلك إلا أنه الواقع فهناك عدد من النساء اللاتي يطلبن من الطبيب تعقيمهن أو أن سياسة الدولة تسير علىنشر التعقيم (الهند – مصر – الصين) … وبعد أن يتم قطع الأنابيب وربطها تأتي المرأة فيما يستقبل من الأيام الطبيب وتقول له: لقد ندمت في قراري ذاك السابق. فهل تستطيع أن تعيد فتح الأنابيب فيقوم الطبيب لقاء أجر ضخم (عشرة آلاف دولار في الولايات المتحدة) بإجراء هذه العملية التي لا تزيد نسبة النجاح فيها لدى أمهر الجراحين عن 30 إلى 40 % (2) . لهذه الأسباب مجتمعة ولغيرها من الأسباب ازدادت حالات العقم الناتجة عن انسداد الأنابيب وأهم هذه الأسباب ثلاثة: 1- انتشار الزنا. 2- استعمال اللولب. 3- الإجهاض. وللأسف لم يهتم الأطباء بمعالجة الأسباب وإنما اهتموا بمعالجة النتيجة فكان عاقبة أمرهم خسرا … . فالعلاج لدى الأطباء يتلخص في الآتي: 1- سرعة معالجة الأمراض الجنسية. 2- إجراء الإجهاض في بيئة معقمة أي في المستشفيات وهذا يستدعى السماح به قانونا. 3- إجراء عملية فتح الأنابيب المغلقة … . وهذه عملية عسيرة ودقيقة ولا يجريها إلا أفراد معدودون من متخصصي الأطباء … مع هذا فنسبة نجاحها كما اسلفنا لا تزيد عن الثلث … . وتكلف العملية الواحدة للمرأة الواحدة عشرة آلاف دولار.   (1) د. محمد علي البار: دورة الأرحام فصل المحيض ص 60 الطبعة الرابعة الدار السعودية للنشر (2) ندوة الإنجاب بالكويت ص 169 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 4- طفل الأنبوب: وهو إجراء فاشل رغم الدعاية الضخمة له. إذ لم يتم سوى علاج عدد ضئيل من السيدات بهذه الطريقة … . ونسبة الفشل في هذه العملية كما اسلفنا تصل إلى 90 % في أمهر المراكز العلمية المتخصصة (مجلة اللانست 2 فبراير 1985) وتكلف مبالغ باهظة تفوق بكثير تكاليف عملية فتح الأنابيب المحدودة النجاح. وطفل الأنبوب لن يحل مشكلة ملايين النساء اللاتي يعانين من انسداد الأنابيب وإذا استطاع هذا الأجراء التقني البارع أن يجعل مائة أو مائتين من النساء (خلال سبع سنوات) يحملن ويلدن بهذه الطريقة فإن هذا الحل لا يزال بعيدا عن ملايين النساء العاقرات. إن العالم أصيب بلوثة في تفكيره ففي الوقت الذي يجهض ويقتل فيه كل عام 50 مليون طفل في أنحاء العالم تنفق ملايين الدولارات لعلاج مائتي امرأة على أكثر تقدير في العالم بواسطة طفل الأنابيب. وفي الوقت الذي تستخدم فيه مئات الملايين من النساء وسائل منع الحمل بتشجيع ودفع من كثير من الدول وبالإكراه في بعض الأحيان (الصين – الهند – مصر) يتحدث الأطباء عن مجهوداتهم البارعة في عمليات فتح الأنابيب أو عمليات طفل الأنبوب. إن ذلك يشبه العمليات الفنية البارعة في نقل القلوب الميتة أو المطاطية إلى أفراد شارفوا على النهاية، إنها عمليات تكلف الملايين بل مئات الملايين من الدولارات في الوقت الذي يموت فيه أكثر من عشرة ملايين طفل كل عام من الجوع والإسهال!! إن إنفاق هذه المبالغ في إنقاذ هؤلاء الأطفال سيجعل من الممكن بإذن الله إبعاد شبح الموت عن ملايين الأطفال كل عام … والذين أمامهم أيام طفولة ومستقبل … . ويمكن أن يكونوا أداة إنتاج. إن علاج مشكلة العقم في رأينا يتلخص في علاج أسبابه الحقيقية وهي: 1- الزنا وانتشار الإباحية الجنسية. 2- الإجهاض. 3- استخدام اللولب كوسيلة من وسائل منع الحمل. 4- منع الجماع أثناء المحيض. 5- علاج الأمراض المستوطنة والمعدية مثل الدرن وتوفير المستشفيات والأطباء لتشخيص وعلاج الالتهابات مثل الزائدة الدودية وخلافها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 وقد وضعنا فصلا أو فصولا في العلاج الحقيقي لأمراض الزنا والإباحية وهي في كتابنا " الأمراض الجنسية أسبابها وعلاجها " ويتلخص ذلك في الإحصان بمعنى العفة والإحصان بمعنى الزواج والإحصان بمعنى الحرية والإحصان بمعنى الإيمان. وعلاج الإجهاض بمنعه وتوضيح حرمته وخاصة في محيط المسلمين وغيرهم من ذوي الأديان الذين يرون حرمة الإجهاض. كما أن منع الزنا أو التقليل منه يقلل أيضا من حدوث الإجهاض. ولا يسمح بالإجهاض. كما أن منع الزنا أو التقليل منه يقلل أيضا من حدوث الإجهاض. ولا يسمح بالإجهاض إلا بضرورة طبية وذلك قبل نفخ الروح … . أما بعد نفخ الروح فلا يسمح به إلا إذا تعرضت حياة الأم للخطر المؤكد (1) . أما استخدام اللولب فينبغي أن لا يشجع على استخدامه، وكذلك يوضح للمسلمين خاصته ولغيرهم بصورة عامة أضرار الوطء في المحيض. ولا يسمح بالتعقيم أبدا إلا لظروف طبية قاهرة تحتم منع الحمل منعا باتا وهذا أمر نادر الحدوث جدا. وبعلاج الأسباب نستطيع أن نخفض عدد النساء العواقر اللاتي يعانين من انسداد أنابيبهن من عشرات الملايين في العالم إلى آلاف أو مئات الآلاف.. وهؤلاء يمكن علاجهن بطريقة من الطرق بشرط أن تخفض تكاليف هذه العمليات الباهظة. ومع هذا فلا بد أن يبقى العقيم إذ يستحيل منع العقم كليا من العالم … والعالم يشكو من كثرة السكان … ويقتل خمسين مليون طفل سنويا إجهاضا … كما تستخدم مئات الملايين من النساء وسائل منع الحمل المتعددة.. فإزالة العقم من الوجود غير ممكنة عمليا ومنافية للقوانين الطبيعية وضارة بالتكوين الديموجرافي … . وخير أن يبقى أفراد مصابون بالعقم من أن نقوم بوأد الأبناء أو اجهاضهم حتى لا ينافسوننا في الرزق. قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) } [الشورى 49- 50] . وفي اختلاف الناس ما بين عقيم وولود … . وما بين إناث وذكور وما بين أفراد وتوائم تتجلى قدرة الخالق العظيم، وعلمه المحيط بكل صغيرة وكبيرة … فيجعل الحياة متوازنة.   (1) دكتور محمد علي البار: مشكلة الإجهاض (ص 37- 45) الدار السعودية 1985 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 والعلاج مطلوب لحالات العقم كما هو مطلوب لحالات المرض … . ولكن مع العلم بأن الشفاء كله من الله … . وأنه هو يعطي ويمنع ويبسط ويقبض … لا راد لحكمه ولا مغير لقضاه … فإذا علم المؤمن ذلك ارتاحت نفسه واطمأنت إلى قدر الله بعد بذلك الجهد والوسع والطاقة.. فلا يعيش كما يعيش أولئك المناكيد الذين حرموا نور الإيمان وبرد اليقين فتراهم يتلوعون لأقل نقص يصيبهم … . ويرتعبون من كل ما يقلل من متاعهم الدنيوي الرخيص … . فإن حالت الظروف دون تحقيق ما يريدون ارتكبوا تلك الحماقة الكبرى … واقدموا على الانتحار. والانتحار شائع في الغرب شيوعا كبيرا رغم توفر الأسباب المادية لحياة الرخاء … . ولكن طلبات الإنسان لا يمكن أن تجاب جميعا فمتى صدم الكافر بغياب ما يريد تحقيقه ويصبوا إلى الوصول إليه انتكس ورجع القهقري … . وربما أنهى حياته تلك التعيسة برصاصة أو ببضع حبات من الباربيتورات … .. وهي حياة تمثل الغرب في صورته العامة … . تكالب على المتاع الدنيوي بكل أشكاله وألوانه فان نقص منه شيء ويئس من العثور عليه يئس من الحياة بأكملها فانهاها. وصدق الله تعالى حيث يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} . التلقيح الاصطناعي: يطلق لفظ التلقيح الاصطناعي على عدة عمليات مختلفة يتم بموجبها تلقيح البويضة بحيوان منوي وذلك بغير طريق الاتصال الطبيعي الجنسي. ويشمل هذا التلقيح ما يسمى التلقيح خارج الجسم In Vitro Fertilization ويحدث فيه أحد الأمور التالية: 1- أخذ منى الزوج وبويضة زوجته وتلقيحهما في طبق كما حدث في الطفلة لويزا براون وبضع مئات من حالات طفل الأنبوب، ثم تعاد اللقيحة إلى رحم الأم فتنمو فيها نموا طبيعيا وتولد الطفلة ولادة عادية أو قيصرية. وهذه الحالة أجمع الفقهاء المحدثون على جوازها إذا تمت للضرورة وهي علاج عقم بانسداد الأنابيب ولم يعد هناك علاج ينفع غير هذه الطريقة … مع أخذ الاحتياطات اللازمة لعدم اختلاط النطف كما قد يحدث في المختبرات (1) . 2- أخذ منى الزوج وبويضة زوجته وتلقيحها في طبق … ولكن بعد أن تنمو اللقيحة لا تعاد إلى الأم بل إلى امرأة أخرى تسمى متبرعة … . وقد أطلق عليها اسم الأم المستعارة Surrogatemotherأو الرحم الظئر (2) . وقد أجمع الفقهاء المحدثون على حرمة هذا النوع من التلقيح لما قد يحدثه من اضطراب وفوضى في الأنساب … .والشك فيمن تكون أمه صاحبه البييضة أم التي حملته وولدت (3) . ويلجأ إلى هذه الطريقة حين تكون الزوجة غير قادرة على الحمل أو تكون غير راغبة في الحمل ترفها. 3- نفس الحالة السابقة ولكن تعاد اللقيحة إلى زوجه أخرى للزوج متبرعة بذلك وهذه الحالة هي التي أباحها المجمع الفقهي في دورته السابعة المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة من 11 إلى 16 ربيع الآخر سنة 1404هـ. وبما أن الزواج بأكثر من واحدة ممنوع عند غير المسلمين فان هذه الطريقة لا يمكن أن تتم إلا عند المسلمين.   (1) المجمع الفقهي في دورته السابعة 1404هـ (2) المرجعين السابقين (3) المرجعين السابقين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وقد ذهب الشيخ مصطفى الزرقاء إلى أن الأم التي ترث والتي ينسب إليها الولد هي صاحبة البييضة وخالفه في ذلك مجموعة كبيرة من الفقهاء حيث قالوا إن الأم هي التي ولدت واحتجوا بالأدلة التالية: (أ) قوله تعالى {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} فنفي الله تعالى الأمومة عن التي لم تلد. (ب) قوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} … . والوالدة الحقيقية هي التي ولدت. (ج) {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ} فالذي يرث المرأة هو الطفل الذي ولدته المرأة. (د) قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} والوالدة هي التي ولدت. (هـ) {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} فالتي تحمل وتضع هي الأم. هذه خلاصة اعتراضات فضيلة الشيخ علي طنطاوي التي نشرتها الشرق الأوسط وأعادت نشرها لجنة كتاب الإنجاب في ضوء الإٍسلام الصادر من المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بدولة الكويت (1) . وأما فضيلة الشيخ بدر المتولي عبد الباسط (2) فقد قال: " ما لا شك فيه أن هذا الطفل ينسب إلى زوج صاحبه البييضة وضرتها التي حملت هذه البييضة الملقحة. وهذا أمر واضح لقيام الفراش وهو الزوجية. أما إلى من ينسب هذا الطفل من ناحية الأم: صاحبة البييضة أم التي حملته "؟ "إن الذي بينه الله أن هذا الطفل ابن أو بنت التي حملته لا صاحبه البييضة لقوله تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} . وهذا نص قطعي الثبوت والدلالة. ولا سيما أنه جاء على صيغة الحصر " ثم قال: " والله سبحانه وتعالى يقول: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} فهل صاحبة البييضة حملته وهنا على وهن؟ وكذلك يقول تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} فهل صاحبة البييضة كذلك؟ " هذا من ناحية النص ومن ناحية المعنى أن البييضة الملقحة إنما نمت وتغذت بدم التي حملتها وتحملت آلام الحمل وآلام المخاض. فهل يعقل أن ينسب الولد لغيرها! وعليه فهذا الولد ابن لهذه التي حملته وولدته. ويأخذ كل أحكام الولد بالنسبة لأمة والأم بالنسبة لولدها من حيث الميراث ووجوب النفقة والحضانة وامتداد الحل والحرمة إلى أصولها وفروعها وحواشيها وغير ذلك.   (1) ندوة الإنجاب ص 488-490 (2) المصدر السابق ص 484- 485 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 بقي الكلام على علاقة صاحبة البييضة كالأم المرضعة. وذلك لأن الحنفية اعتبروا عله التحريم في الرضاع هي الجزئية أو شبهتها فأقل ما يقال إن هذا الطفل فيه جزئية من صاحبة البييضة. على أنى لا أستريح لهذا التخريج وأرى أن عملها هدر لا تترتب عليه أحكام. وفي موضوع آخر (1) . ذكر فضيلة الشيخ بدر متولي أن صاحبه البييضة ليست أما واحتج بقصةابن وليدة زمعة فقد جعله الرسول ابنا لزمعة مع ظهور أنه ليس ابنا لزمعة وجعل الحكم ((الولد للفراش)) فالحقيقة الواقعية (العلمية) ليست بالضرورة هي الحقيقة الشرعية فالشرع يحكم بالظاهر والحقيقة علمها عند الله. وقد أمر الرسول صلوات الله عليه وعلى آله زوجته سودة أن تحتجب من أخيها لظهور الشبهة القوية أخذا بالاحتياط. وينتهي إلى القول " ليس هناك قيمة أبدا لصاحب البذرة أو صاحب الحيوان المنوي في كثير من الحالات لأنه لا بد أن يكون فراشا شرعيا صحيحا ". وقال الدكتور زكريا البري والدكتور نعيم ياسين وغيرهم ممن اشتركوا في الندوة أن زرع الجنين (طفل الأنبوب) في رحم امرأة غريبة عن صاحب المنى وصاحبه البويضة حرام … . ولو تمت هذه العملية فيجب التعزير لا الحد في كل من شارك في اجرائها بما في ذلك الأطباء. وأما حكم الوليد الجنين الذي تلده صاحبه الرحم الظئر فهو للتي حملت وولدت وذكر بعض من ناقش في الندوة أن الأم هي صاحبة البييضة ومنهم الأستاذ الدكتور نعيم يسن، والدكتور عبد الحافظ حلمي ومالت آراء الأغلبية إلى اعتبار ان الأم هي التي حملت وولدت. وقد أضاف الدكتور احمد شوقي تعليقا نري أن نثبته (2) وخلاصته أن كل أطوار خلق الإنسان في رحم أمه من النطفة الأمشاج إلى الولادة تحدث في الرحم … . ومن يحدث لها ذلك سماها القرآن أما. قال تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر 6] ويقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل 78] ، والأمومة تعتمد على خلق الجنين في بطن أمه طورا بعد طور … وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقه مثل ذلك) … الحديث رواه ابن مسعود وأخرجه الشيخان.   (1) ندوة الإنجاب ص 210 - 213 (2) ندوة الإنجاب ص 220 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 فالأمومة ليست معتمدة على العوامل الوراثية وحدها وإن كانت لتلك العوامل أهمية كبرى في صفات الخلق إلا أن الأمومة أوسع من ذلك وأشمل علميا وشرعيا. 4- تؤخذ نطفة رجل وبويضة امرأة ليست زوجته يسمونها متبرعة وتلقح في أنبوب الاختبار … ..ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته. ويلجأ إلى هذا الأسلوب عندما يكون مبيض الزوجة مستأصلا أو متعطلا ولكن رحمها سليم وقابل للعلوق … . وزوجها أيضا سليم ولا يعاني من العقم … وهذه الطريقة أيضا ذكر المجمع الفقهي المنعقد في مكة المكرمة في دورته السابعة سنة 1404هـ حرمتها. وكذلك ندوة الإنجاب بالكويت (1403هـ) . 5- يجري تلقيح خارجي في طبق اختبار بين نطفة رجل وبويضة من امرأة ليست زوجته ويسمونهما متبرعين , ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة متزوجة. ويلجأون إلى ذلك حينما تكون المرأة المتزوجة التي زرعت فيها اللقيحة عقيما بسبب تعطل مبيضها لكن رحمها سليم وزوجها أيضا عقيم ويريدان ولدا. وقد كانت الطريقة السابقة هي أن يقوما بتبني طفل. ولكن بعض النساء يرغبن في الحمل والولادة والشعور بالأمومة … . وهذه الطريقة ذكر المجمع الفقهي (1404هـ) حرمتها كذلك. وقد افتى المجمع بجواز ثلاث طرق هي: 1- أخذ نطفة الزوج ووضعها في رحم زوجته. 2- أخذ نطفة الزوج وبييضة الزوجة وتلقيحها في طبق ثم إعادة اللقيحة إلى رحم الزوجة. 3- أخذ نطفة الزوج وبييضة الزوجة العقيم وتلقيحها في طبق ثم إعادة اللقيحة إلى زوجة أخرى للرجل متبرعة بحمل الجنين. وفي هذه الحالات الثلاث قرر المجمع أن نسب المولود يثبت من الزوجين مصدر البذرتين ويتبع الميراث والحقوق الأخرى بثبوت النسب … ويثبت الارث وغيره من الأحكام بين الولد ومن التحق نسبه به. أما الزوجة المتطوعة فتكون في حكم الأم المرضعة لأنه اكتسب من جسمها وعضويتها أكثر مما يكتسب الرضيع من مرضعته في نصاب الرضاع الذي يحرم به ما يحرم من النسب ولكن لا توارث بينهم. (وهذه نقطة خلاف مع الفقهاء وقد ذكرنا أوجه الخلاف) . كما حذر المجمع الفقهي كذلك المشاركون في ندوة الإنجاب من جميع وسائل التلقيح الاصطناعي حتى المباحة منها شرعا لما يعتبر بها من احتمال الخطأ والشك واختلاف النطفة … . والتجارة الجنينية التي يقوم بها من لا دين لهم فيتاجرون في النطف والأبضاع … . ولهذا ينبغي على المسلمين البعد عن هذه المزالق وأخذ منتهى الحيطة والحذر وعدم الولوج في هذا الميدان إلا في حالة الضرورة القصوى. التلقيح داخل الجسم In Vivo Ferilization إن هذه الطريقة الطبيعية التي تحدث في الإنسان والثدييات وذلك بإدخال العضو التناسلي في مهبل المرأة (أو الأنثى) . وإذا تركنا هذه الطريقة الطبيعية فإن هناك طرقا أخرى غير طبيعية … . ويدخل بموجبها ماء الذكر إلى الأنثى. وهذه الطريقة تستخدم بكثرة في الحيوانات … . ويكفي ثور واحد أو أثنين يجمع ماؤهما لتلقيح مئات أو آلاف الأبقار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 وقد عرفت هذه الطريقة بالنسبة للإنسان باسم " الاستدخال " وهو استدخال ماء الرجل إلى فرج المرأة. وقد وصفها الفقهاء المسلمون وتحدثوا عنها بشيء من التفصيل في كتب الفقه. واستخدمت هذه الطريقة حديثا في الإنسان … . وذلك في الأغراض التالية: 1- إذا كان عدد الحيوانات المنوية لدى الزوج قليلا فتجمع حصيلة عدة دفعات من المني وتركز ثم تدخل إلى رحم الزوجة. 2- إذا كانت حموضة المهبل تقتل الحيوانات المنوية بصورة غير اعتيادية. 3- إذا كان هناك تضاد بين خلايا المهبل والحيوانات المنوية مما يؤدي إلى موتها. 4- إذا كانت إفرازات عنق الرحم تعيق ولوج الحيوانات المنوية. 5- إذا أصيب الزوج بمرض أدى إلى إصابته بالعنة وهو عدم القدرة على الإيلاج أو (الإنزال السريع جدًا) مع وجود قدرته على إفراز حيوانات منوية سليمة. في هذه الأغراض جميعا إذا تم التلقيح بين الزوج والزوجة فلا حرج … وإذا أمكن أن لا تنكشف عورة المرأة إلا لطبيبة مسلمة فإن لم يكن فغير مسلمة فإن لم يكن فلطبيب مسلم ثقة فإن لم يتيسر فلطبيب غير مسلم ثقة في عمله. وقد ذكر الفقهاء السابقون واللاحقون أن إجراء مثل هذا التلقيح الصناعي جائز إذ ما تم بين زوج وزوجته أثناء قيام عقد الزوجية … وقد أفتى بذلك مفتي مصر ومفتي تونس والمجمع الفقهي الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة في دورته السابعة 1404هـ وندوة الإنجاب المنعقدة بالكويت والتي ضمنت مجموعة من فقهاء العالم الإسلامي المشهورين وبعض الأطباء (11 شعبان 1403هـ / 24 مايو 1983) . وهناك عدة أغراض أخرى تستخدم فيها طريقة التلقيح الاصطناعي الداخلي أعلن هؤلاء الفقهاء حرمتها وعدم جوازها وهي: 1- إدخال ماء رجل غريب عن المرأة: وهذه الطريقة قد استخدمت قديما باسم الصدفة … ومعروفة في أرياف مصر وأهل البلد … . وقد وقعت حادثة وصلت فيها إلى القضاء المصري. وخلاصة هذه الطريقة القديمة أن الزوجة تشكو من العقم فتقوم إحدى النسوة بتحضير صدفة فيها منى قريب لها وتدخله في فرج المرأة فتحمل إذا كان العيب من الزوج. وفي القصة التي وصلت إلى القضاء المصري كان الزوج قد فحص نفسه فوجد أنه لا يحتوي على حيوانات منوية فلما حملت زوجته بهذه الطريقة أنكر الولد ووصلت القضية إلى المحكمة واعترفت الزوجة بقصة الصدفة كما اعترفت بذلك المرأة التي قدمت لها الصدفة. أما الآن فتستخدم هذه الطريقة في الغرب في الأغراض التالية: (أ) زوج عقيم وامرأته غير عقيمة: ومع ذلك فقدرته الجنسية للجماع طبيعية ولا يوجد في ماء هذا الزوج حيوانات منوية … فآنذاك تؤخذ الحيوانات المنوية من بنك المني وتعطي للزوجة. وهذه الطريقة لا شك في حرمتها بالنسبة للمسلمين … . وإذا حدثت وجب التعزير على كل من شارك فيها. ولا حد على الزوجة لأن ذلك ليس بزنا … فإذا حملت الزوجة ورضي الزوج ولم ينكر الولد ألحق الولد به " فالولد للفراش ".أما إذا أنكر الولد فيفرق بين الزوج والزوجة كما يحدث في اللعان وينسب الولد لأمه فقط. (ب) نكاح الاستبضاع: وقد كان هذا النكاح شائعا في الجاهلية عند العرب قبل الإسلام. قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: " وإن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء … . فنكاح منها نكاح الناس اليوم … يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها. والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه. ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه. فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد. فكان هذا نكاح الاستبضاع. ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها. تقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان. تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها ولا يستطيع أن يمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علما فمن أرادهن دخل عليهن. فإذا حملت احداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لها القافة (وهو خبير الوراثة عند العرب) ثم الحقوا ولدها بالذي يرون خالطته ودعى ابنه لا يمتنع عن ذلك. (كتاب – النكاح – صحيح البخاري) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 ولو عرف دعاة حقوق المرأة ومؤتمرات المرأة ما وصلت إليه المرأة في الجاهلية قبل الإسلام لطالبوا بالوصول إليه وتحقيقه واعتباره قمة الحرية والإنصاف للمرأة!! على كل حال نكاح الاستبضاع الآن أخذ شكلا جديدا … . يجمع المني من العباقرة والأذكياء والأقوياء ويكتب على كل قارورة منى اسم مانحها وتحفظ في بنوك المنى … وتقدم كالتوجات للنساء وللأسر … هل تريدون منى الرجل العبقري فلان؟ إنه حصل على جائزة نوبل في الآداب؟ أم تريدون منى الرجل القوي الجبار فلان فقد كان قائدا عسكريا بارعا، أم أن المكتشف والمخترع فلان هو الذي يناسبكم؟ أتريدون ولدا أبيض أم اسمر إلى أخر قائمة الطلبات … . الكتالوج يوضح خصائص مانح المنى … والثمن خمسمائة جنية فقط … . تجارة رابحة في نكاح الاستبضاع تقوم الآن في الغرب … الدكتور جراهام من ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة اختار حوالي خمسين امرأة وأجرى معهن هذه التجربة … . وذلك بتلقيحهن بماء رجال مشهورين … . ومن هؤلاء النسوة الدكتور بليك دكتوراه بالفلسفة، غير متزوجة في الأربعين من عمرها … . اختارت من كتالوج بنوك المنى منى أستاذ جامعي مشهور … . وأنجبت بالفعل طفلا … وهي سعيدة بهذا الطفل … . وقد أعلنت أنها ستخبر طفلها عندما يكبر بالحقيقة!! (1) . 2- إدخال ماء الزوج بعد انفصام عقد الزوجية: يحتفظ الزوج بمائه في بنك المنى ويسافر إلى فيتنام مثلا كما حدث في أمريكا ويقتل هناك … . فتقوم زوجته بأخذ مائه من بنك المنى ويتم تلقيحها به. وقد حدثت مئات الحالات من هذا القبيل … وفي المجتمع الغربي لم يعتبر ذلك شيئا مشينا بل على العكس اعتبر عملا مجيدا يستحق الثناء. أما في الإسلام فان الموت يعتبر نهاية عقد الزوجية ولا يمكن أن يأخذ منى هذا الزوج لتلقيح زوجته بعد وفاته … وتعتبر هذه الطريقة محرمة كما أفتى بذلك المجمع الفقهي الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة في دورته السابعة عام 1404هـ … والعلماء الذين حضروا ندوة الإنجاب في الكويت تحت إشراف وزير الصحة الدكتور عبد الرحمن العوضي (11 شعبان 1403هـ) … ومفتي مصر كما نشرته الصحافة. وكذلك مفتي تونس. أما إذا انفصم عقد الزوجية بطلاق بائن فكذلك لا يجوز استخدام المنى. وكذلك لا يجوز استخدام المنى في الطلاق الرجعي إلا إذا أرجعها الزوج وصارت بذلك زوجته مرة أخرى وقام بينهما عقد الزوجية من جديد. وحصول النسب مرتبط بقيام عقد الزوجية فإذا انفسخ هذا العقد بموت أو طلاق ولم يكن هناك حمل قبل الموت أو الطلاق فإن الحمل بعد وفاة الزوج أو بعد الطلاق يلغي النسب.   (1) ندوة الإنجاب ص 473- 474 نقلا عن مجلة أسرتي في 8/5/1982 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 وهناك خلاف بين الفقهاء وفي المدة التي يختفي فيها الحمل وأغلب المذاهب على جعلها سنتين … وأما ابن حزم والظاهرية فقد أنكروا أن يكون الحمل أكثر من تسعة أشهر (1) . بعض أضرار التلقيح الصناعي: 1- كثيرا ما يكون المانح (المتبرع) مجهولا … وقد يكون مصابا بأحد الأمراض التناسلية فينقل ذلك إلى المرأة التي تلقح بمائه. وقد نشرت الشرق الأوسط نقلا عن وكالات الأنباء في 1405/11/9هـ – 1985/7/26 م هذا الخبر: التخصيب الصناعي ينقل المرض القاتل إيدز: اعترف أحدث مستشفيات استراليا بأن أربعا من النساء اللاتي خصبن صناعيا بحيوانات منوية من مانحين ربما تلقين فيروس مرض الإيدز عندما تم تخصيبهن بماء مانح واحد عام 1982 وقد حملت ثلاثة من النسوة ووضعن ثلاثة أطفال أصحاء … . وقد ظهر أن الرجل كان مصابا بمرض الإيدز. 2- أن تتحول النساء إلى مجموعة من الأبقار يلقحن بماء ثور واحد … وتستخدم معظم بنوك المنى، منى رجل واحد لتلقيح مائه امرأة (النيوزويك 18/3/1985 ص 44) . 3- الفوضى العارمة في الأنساب … وجهالة النسب. 4- هناك ربع مليون طفل على الأقل كما تقول النيوزويك (1985/3/18) لا يعرف لهم أب أصلا لأنهم ولدوا نتيجة التلقيح بماء متبرع أو مانح. 5- التلقيح بماء الزوج الذي مات منذ فترة: وقد حصلت هذه القضية في الولايات المتحدة وخاصة أثناء حرب فيتنام كما حصلت عام 1984 في فرنسا في قضية السيدة الأرمل كورين بارباليكس التي رفعت أمرها إلى القضاء ليحكم لها بحقها في أن تلقح بماء زوجها الذي توفي منذ أمد. 6- استنبات الأجنة المجمدة: وفي استراليا وافقت المحكمة العليا في نوفمبر 1984 على استنبات الجنينين المجمدين اللذين خلفهما زوجان ثريان من كاليفورنيا في الولايات المتحدة ماتا في حادثة طائرة … . وكان الزوجان قد حاولا عملية طفل الأنبوب وفشلت العملية … .واحتفظ بجنينين مبكرين (لقيحتين … . واللقيحة مكونة من بييضة المرأة ملقحة بنطفة الرجل) في الثلاجة لحين عودتهما مرة أخرى إلى استراليا. ولكن القدر عاجلهما … فبقيت اللقيحتان مجمدتين تنتظران الإذن باستنباتهما والرحم الظئر لحملهما وقد صدر أمر المحكمة بالموافقة على استنباتهما وزرعهما في رحم متبرعة. 7- حمل طبيعي للام المستعارة: وفي ألمانيا وافقت امرأة على حمل لقيحة من شخصين عقيمين. لتكون أما مستعارة.. أو رحما ظئرا كما يدعيها الفقهاء Surrogate Mother وبالفعل تم وضع اللقيحة في رحمها وحملت المرأة … . ولكن أثناء الحمل تبين بالفحوصات أنها حملت من ماء زوجها أن اللقيحة التي وضعت فيها لم تعلق بالرحم!! وبما أنها استلمتم 8000 (ثمانية آلاف دولار في مقابل أن تكون أما مستعارة فقد وافقت على أن تعطيهم ابنها عند الولادة ليتبنوه. إنها حضارة القرن العشرين حيث يبيع المرء ولده مقابل مبلغ من المال! 8- الرحم المستعار ترفض تسليم الجنين بعد ولادته: وفي بريطانيا عندما قامت كيم كوتون بدور الرحم المستعارة (الرحم الظئر) لزوجين ثريين من الولايات المتحدة مقابل مبلغ من المال أمرتها المحكمة البريطانية في يناير 1958 عند ولادة الطفل بالاحتفاظ به واستأنف الزوجان الثريان من الولايات المتحدة القضية في المحكمة العليا وحصلا على أمر بأخذ الطفل … فأخذاه مقابل زيادة المبلغ المدفوع لكيم كرتون … ولكن مجلس العموم البريطاني انزعج لهذه القضية وخاصة بعد أن تحدث ضدها مجموعة من الأعضاء … . وتكونت لجنة ديم ماري وارنك من مجموعة من الأطباء والقانونيين ورجال الدين وأصدرت توصياتها بمنع كل أنواع الرحم المستعارة التجارية.   (1) انظر تفاصيل مدة اكثر الحمل في كتابنا خلق الإنسان بين الطب والقرآن ص 452 الطبعة الخامسة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 9- شركات تجارية لبنوك المنى: في الولايات المتحدة وفي أوروبا تكونت شركات تجارية ضخمة للتجارة في بنوك المنى … . وكما تقول النيوزويك (18/3/1985) بأن بنوك المنى تشهد زحاما كبيرا هذه الأيام وتحقق أرباحا خيالية. 10- تكونت في الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا شركات تجارية لبيع الأرحام المستعارة ويتراوح ثمن الرحم المستأجرة ما بين خمسة آلاف وعشرة آلاف دولار … . وتعتبر شركة ستوركس Storkes من الشركات الناجحة في مجال التجارة بالأرحام وتتحدث الفتاة دومنيكو جيرورو Dominique Guerrers البالغة 25 ربيعا والتي تعمل كرحم ظئر لشركة ستوركس Storkes بأنها تعتقد أن أم الطفل هي التي تحمله وتلده لا تلك التي تدفع النقود فقط. 11- ذكرت النيوزويك (1985/3/18) أن بنوك المنى تستخدم منى رجل واحد لتلقيح مائة امرأة … . وهناك احتمال كما يقول الدكتور جورجيس دافيد رئيس أكبر بنك للمني في فرنسا: " كلما زاد عدد الذين يلقحون من النساء بماء رجل واحد كلما زاد الاحتمال بأن تلقح أمه أو أخته أو عمته أو خالته أو ابنته بمائه ". ولهذا فقد اتخذ هذا البنك إجراء للحد من هذا الاحتمال وذلك بحصر النساء اللاتي يلقحن بماء رجل واحد بخمس نسوة فقط … ولكن هذا لا ينفي كما يقول الدكتور جورجيس دافيد من احتمال تلقيح الرجل لأمه أو أبنته أو أخته أو غيرهن من المحارم. على كل حال نكاح المحارم في الغرب غير غريب وقد بدأ في الانتشار وكتبنا عنه فصلا في كتابنا الأمراض الجنسية أسبابها وعلاجها فليرجع إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 ويفتخر الدكتور جورجيس دافيد بأن البنك ساهم بمنى لإيجاد عشرة آلاف طفل ولدوا في فرنسا منذ إنشائه عام 1972. 12- تم تلقيح آلاف النساء الغير متزوجات بمنى حصلن عليه من البنوك. 13- في معظم هذه البنوك لا تعلم المرأة الملقحة شيئا عن الرجل الذي منحها منيه … وتسمح بعض البنوك بإعطاء فصيلة الدم ولون الجلد والشعر لكن دون الاسم. والمضحك هنا أن امرأة بيضاء أخذت منى رجل أبيض فاتضح عند الولادة أنها أعطيت من رجل أسود. 14- احتمال الإصابة بالأمراض الوراثية كبير … خاصة أن الذين يبيعون منيهم للبنوك قد يكذبون في إعطاء التاريخ الطبي والوراثي للبنك … وبهذا يزداد عدد الذين سيصابون بأمراض وراثية. 15- الأمراض التي تنتقل عبر المني إلى امرأة أو إلى الجنين كثيرة … من أهمها التهاب الكبد الفيروسي من فصيلة B المسبب لسرطان الكبد … والسيلان والكلاميديا الزهري.. وغيرها من الأمراض الجنسية وغير الجنسية. 16- التحكم في جنس الجنين: يفتح التلقيح الصناعي الباب لاختبار الطفل المطلوب ذكر أم أنثي … وذلك مبنى على أن ماء الرجل يحتوي على حيوانات منوية مذكرة (أي تحمل كروموسوم الذكورة X) وحيوانات منوية مؤنثة (أي تحمل كرومسومات الأنوثة) بنسبة 50 % مذكرة و 50 % مؤنثة. فإذا استمنى الرجل خارج مهبل زوجته وأخذ المني أمكن فصل الحيوانات المنوية المذكرة عن المؤنثة فصلا غير تام وذلك بناء على معرفة خصائص الحيوان المنوي المذكر التي تختلف عن الحيوان المنوي المؤنث. حيث يكون الحيوان المنوي الذي يحمل شارة الذكورة أسرع … وله صفات أخرى تميزه عن الحيوان المنوي الذي يحمل شارة الأنوثة مثل الكتلة والقدرة على اختراق المخاط اللزج في قناة عن الرحم … والبقاء في سائل قاعدي Alkdine وسنتعرض بإنجاز شديد إلى الوسائل التي تؤدي إلى الفصل (غير التام) بين الحيوانات المنوية المذكرة والحيوانات المنوية المؤنثة (1) والتي تستخدم حاليا في الحيوانات في التلقيح الصناعي كما أن استخدامها في الإنسان قد أخذ طريقة مع ظهور وشيوع التلقيح الصناعي. (أ) استخدام سائل قاعدي أو حامضي: توضع الحيوانات المنوية لمدة ساعتين إلى ست ساعات في محلول حامضي أو قلوي ويسمح لها بأن تسبح في أنبوب رفيع تحت ظروف مماثلة لما يحدث في المهبل. وتترك الحيوانات المنوية ثم تفصل … ونجد ان الحيوانات المنوية التي تحمل شارة الذكورة تميل إلى المحلول القاعدي بينما تميل الحيوانات التي تحمل شارة الأنوثة إلى المحلول الحامضي (تستخدم درجة حرارة تتراوح بين 5.4 إلى 9.6) وبهذه الطريقة يمكن فصل الحيوانات المنوية المذكرة عن الحيوانات المنوية المؤنثة بحيث تصل نسبة 70 % حيوانات منوية تحمل شارة الذكورة و 30 % حيوانات منوية تحمل شارة الأنوثة.   (1) البروفسور سعد حافظ: ذكر أم أنثى بحث مقدم إلى المؤتمر الطبي السعودي الثامن الرياض (30 أكتوبر 1987) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 (ب) إذا أضيف هرمون الاسترادبول (هرمون الأنوثة) إلى الحيوانات المنوية فان حركة الحيوانات المنوية التي تحمل شارة الذكور Y تزداد ازديادا كبيرا بالمقارنة مع الحيوانات المنوية التي تحمل شارة الأنوثة X. (ج) الفصل بواسطة الترسيب والطرد من المركز: لقد استخدمت أساليب كثيرة في الفيزياء الحيوية لفصل الحيوانات المنوية التي تحمل شارة الذكورة Y عن الحيوانات المنوية التي تحمل شارة الأنوثة X وذلك على أساس الاختلافات من ناحية الفيزياء الحيوية … وتستخدم المحاليل الزلالية ومحتويات السكروز لفصل الحيوانات المنوية التي تحمل شارة الذكورة Y عن تلك التي تحمل شارة الأنوثة X بواسطة الترسيب والطرد المركزي. وبما أن الحيوانات المنوية التي تحمل شارة الذكورة Y لا تحتوي على كمية كبيرة من المواد الزلالية فإنها تتسرب بسهولة في المواد الزلالية ذات التركيز العالي. وكذلك بما أن الكروموزم (الصبغ) Y أقصر وأخف من الكروموسوم X فإن حركات الحيوانات المنوية التي تحمل الكرموسوم Y (أي الحيوانات المذكرة) تكون أسرع من تلك التي تحمل الكرموسوم X وخاصة في محلول المواد الزلالية. وهناك طريقة أخرى لترسيب الحيوانات المنوية المذكرة بصورة أكبر من ترسيب الحيوانات المنوية المؤنثة التي تحمل الكروموزوم Xوذلك باستخدام وسيلة الطرد المركزي على مكونات مادة السكروز لفصل الحيوانات المنوية التي تحمل الكروموزوم Y عن تلك التي تحمل الكروموزوم X … فقد وجد أن التي تحمل Y تترسب، بينما تطفو على السطح تلك التي تحمل الكروموزوم X. وبهذه الطريقة أيضا أمكن زيادة الحيوانات المنوية التي تحمل شارة الذكورة Y إلى 70 % وخفض التي تحمل شارة الأنوثة إلى 30 %. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 ولعل القارئ الكريم قد لاحظ أن التحكم في جنس الجنين ليس تاما … . بل هو في زيادة احتمال الاستيلاء ذكور بنسبة 70 % بدلا من النسبة الطبيعية 53 % وذلك أن نسبة المواليد الذكورية إلى الإناث في الحالات الطبيعية هي 106 إلى 100 وهي زيادة محدودة لتعويض ما يفقد من الذكور في الحياة حيث أن وفيات الذكور أكثر من وفيات الإناث في مراحل العمر المختلفة … وفي الشيخوخة نجد أن النساء أكثر من الرجال. وهناك طرق متعددة تستخدم حتى بدون التلقيح الصناعي لزيادة احتمال استيلاد ذكور وهي مبنية على الحقائق التالية: 1- أن خروج البييضة من المبيض يعقبه ارتفاع في درجة حرارة جسم المرأة بدرجة مئوية كاملة. 2- يصحب خروج البييضة تغييرات في سائل المهبل (أقل حامضية) وفي المادة المخاطية على عنق الرحم (أقل لزوجة) وزيادة في هرمون الاستروجين والبروجستروك. وهذه العوامل كلها تساعد على ولوج الحيوانات المنوية المذكرة أكثر مما تساعد على ولوج الحيوانات المنوية المؤنثة التي تحمل الكروموزوم X. لهذا فإن الجماع إذا حصل بعد خروج البييضة (والبييضة لا تعيش في الغالب أكثر من 12 ساعة) فإن الولد سيكون بإذن الله ذكرا. أما إذا حصل الجماع قبيل خروج البييضة من المبيض فإن الاحتمال بأن الولد سيكون أنثى احتمال كبير. وكذلك إذا وضعت المرأة في فرجها سائلا حامضيا فإن الحيوانات المذكرة تهلك فيه بسرعة على عكس السائل القلوي مثل بيكربونات الصوديوم Sodium dicarbonate الذي تنشط فيه الحيوانات المذكرة أكثر. هذه هي الاحتمالات … وإذا قلنا إن جنس الجنين ذكر أم أنثى يتحكم فيه الإنسان فهو أمر غير صحيح … وأجهزة الإعلام لا توضح الحقائق العلمية بل تهول الأمور وتدعى ما لا يدعيه العلماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 صحيح أن استخدام التلقيح الصناعي قد يزيد من نسبة الذكور 70 % بدلا من 53 % وهذا في حد ذاته أمر خطير قد يسبب اضطرابا في التكوين الديموجرافي السكاني. ولكن ليس كل الأباء يرغبون في ذرية من البنين فقط … فهناك من يرغب في البنين وهناك من يرغب في الإناث … . وهناك قطعا من يرغب الجمع بينهما. 17- زيادة احتمال ولادة المشوهين بالعيوب الخلقية: ومن المحاذير أيضا أن فصل الحيوانات المنوية المذكرة مثلا ثم حقنها في رحم الزوجة يزيد من احتمال وصول الحيوانات المنوية الشاذة في تكوينها … حيث إن الجماع الطبيعي فيه عوازل كثيرة تجعل الحيوانات الشاذة والمريضة (وهي لا تقل عن 20 % من مجموع الحيوانات المنوية) تموت في الطريق ولا تصل إلى البويضة. بينما إذا حقنا هذه الحيوانات المنوية مباشرة إلى الرحم فإن عددا لا يستهان به من الحيوانات المريضة والمشوهة والشاذة يصل إلى البييضة وقد ينجح أحدها في تلقيح البويضة فتكثر العيوب الخلقية مما يؤدي إلى الإجهاض أو إلى ولادة نسل مشوه. وكذلك إذا فصلت الحيوانات المنوية المذكرة عن المؤنثة مثلا فإن نسبة الحيوانات المنوية الشاذة في تكوينها ترتفع وبذلك تزيد احتمالات ولادة أطفال مشوهين أو حدوث إجهاض إذا كان التشويه الصبغي (الكروموزومي) كبيرا. ذلك لأن معظم حالات الإجهاض التلقائي بها خلل كروموزمي. فإذا زاد الخلل الكروموزمي في الأجنة فإن ذلك يعني زيادة في الإجهاض. 18- زرع المبيض: إن التلقيح الصناعي والتحكم في الإنجاب فتح أبوابا جديدة في الممارسات الطبية. ومنها زرع مبيض امرأة في محل مبيض تالف لامرأة أخرى. وقد نشرت (المدينة) في العدد 6696 في 1405/11/23هـ (9 أغسطس 1985) أن البروفسور شرمان سيلبر الذي يعمل في مستشفى سانت لوك في مدينة سانت لوى بالولايات المتحدة تمكن لأول مرة في التاريخ من نقل أحد المبيضين مع أنبوب قناة فالوب التابع له من امرأة وزرعها في أختها التوأم … وقد صرح الطبيب المذكور بأن هذه العمليات (نقل وزرع المبيض وقناة فالوب) ستبقى في الوقت الحاضر منحصرة في التوائم الحقيقية والتي تكونت نتيجة انقسام بويضة واحدة ملقحة … وذلك لتجنب مشكلة رفض الجسم للانسجة. وتعتبر هذه العملية دقيقة جدا حيث إن زرع الأنبوب في الرحم عملية بالغة الصعوبة … وكذلك يحتاج الأمر إلى زرع أو تحويل بعض الشرايين لتغذية المبيض والأنبوب المزروعين. وقد صرح الجراح الأمريكي بقوله: رغم أن هذا النوع من الجراحة لن يكون له قيمة في حل مشكلة العقم عند المرأة فإنه يعتبر خطوة مهمة جدا في عملية الجراحة المجهرية.. والمشكلة تأتي عندما يعمل المبيض المزروع وتحمل هذه المرأة فلمن تكون البويضة بتكوينها الوراثي؟ أليست للمتبرعة … ويكون بذلك الطفل مكونا وراثيا من أم أخرى وهذا يعيد المشكلة السابقة وهي مشكلة الرحم الظئر بصورة أخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 19- زرع الخصية: وهي مشكلة مشابهة لزرع المبيض … وإذا تم زرع الخصية في شخص عقيم فإن حيواناته المنوية ستكون من رجل آخر … وهو نوع من النكاح فيه شبه زنا. إذ تكون النطفة لرجل آخر في الحقيقة … . وذلك يشبه التلقيح الصناعي بماء رجل آخر … وقد أفتى الفقهاء (المجمع الفقهي بمكة المكرمة وندوة الإنجاب بالكويت – مفتي مصر – مفتي تونس) بحرمة هذا النوع من التلقيح لوجود شبهة الزنا، وقد أوجبوا التعزير لكل من يشترك في مثل هذا الفعل. 20- زرع الرحم: إذا كان الرحم مصابا إصابة تجعل الجراح يستأصله ومع ذلك فإن المبيض لهذه المرأة سليم … . وقد ترغب هذه المرأة في الإنجاب، ومع شيوع زرع الأعضاء وتقدمها فإن زرع رحم امرأة أخرى (أما بعد وفاتها مباشرة أو متبرعة) سيفتح الباب لمعالجة عقم مثل هذه المرأة … . فهل يسمح بمثل هذا الأجراء؟ إن الضرر هنا قد يلحق بالمرأة المتبرعة برحمها إذا كانت حية … . وقد تكون في سن الإنجاب وقد تفقد أولادها بحادثة فترغب في الحمل أو تتزوج رجلا آخر وترغب في الحمل فلا تستطيع ذلك لعدم وجود رحم بها. ومن هذه الناحية يبدو أن هناك مانعا من هذه العملية، أما إذا تم ذلك من امرأة توفيت في حادثة مثلا وبقى الرحم حيا بواسطة ترويته بالدورة الدموية بأجهزة الانعاش (كما أوضحناه في بحث موت القلب أو موت الدماغ) وكانت هذه المرأة قد تبرعت بأعضائها قبل وفاتها، فإن مثل هذه العملية إذا نجحت من الناحية التقنية فلا يبدو ما يمنعها من الناحية الشرعية. حيث إن المبيض مبيضها … والبويضة عائدة لها … والنطفة من زوجها باتصال طبيعي أو غير طبيعي (بواسطة التلقيح الصناعي) … ولا تحدث أشكالا في النسب. الرحم الظئر (الأم المستعارة) Surrogate Mother إن الرحم الظئر يمكن أن تكون على أشكال متعددة نوجزها فيما يلي: 1- تؤخذ البويضة من الزوجة وتلقح بماء زوجها في الطبق (الأنبوب) ثم تعاد اللقيحة إلى رحم امرأة أخرى تستأجر لذلك … . وقد خرجت هذه الحالة من الافتراض إلى الواقع عندما وافقت " ريتا باركر " على أن تكون أما بديلة ورحما مستعارا لزوجين هما " بولين وهاري تايلر ". وذلك مقابل أجر … حملت الأم المستعارة اللقيحة المكونة من بييضة " بولين تايلر " والملقحة بحيوان منوي من ماء زوجها " هاري تايلر " … وبدأ هاري تايلر يتردد على المرأة التي حملت له والده … ووقع في غرامها ووقعت في غرامة … وزني بها وزنت به!! الزوجة الأصيلة شعرت بالغيرة … وبدأ الشقاق في الأسرة التي كانت حتى ذلك الوقت تتمتع بقدر من السعادة والاستقرار. الأم المستعارة " ريتا باركر " رفضت تسليم الوليد الذي حملته إلى صاحبه البويضة … إن مشاعرها تغيرت بالحمل والولادة … . إنها تشعر أنها أم ذلك الطفل ولا تستطيع التفريط فيه … ورفع الأمر إلى القضاء! والقضاء في حيرة من أمره! في مدينة لوس انجلوس في الولايات المتحدة تكونت جمعية تسمى جمعية الأمهات البديلات أو الأمهات المستعارات Surrogate Mothers يتوافد عليها عدد من الأزواج المصابين بنوع من العقم والباحثين عن رحم مستعار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 تكونت في الولايات المتحدة شركات تجارية لبيع الأرحام … . امتد النشاط إلى بريطانيا … . وقف القضاء والرأي العام البريطاني ضد هذه التجارة. ما زالت شركات بيع الأرحام تغري أجهزة الأعلام بتبني قضيتها الإنسانية!! بدأ الرأي العام يستمع إلى الحجج التي ينمقها بعض المنتفعين من الكتاب والصحفيين في أجهزة الأعلام..البندول يتأرجح … والأنصار يزدادون يوما بعد يوم … اقتراح رجال القانون وضع عقود موثقة بين الأم المستعارة (الرحم الظئر) بتسليم وليدها عند ولادته مقابل مبلغ من المال يدفعه الزوجان صاحبا اللقيحة. المعارك مستمرة والقضاء في حيرة … 2- الصورة الثانية: يجرى تلقيح خارجي في أنبوب اختبار بين نطفة رجل وبويضة من امرأة ليست زوجه له. يسمونهما متبرعين أو مانحين … ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة متزوجة … . وتحمل المرأة وتلد … وهذه الصورة لم تسبب مشاكل في المجتمعات الغربية لأن المتبرعين بمائهما قد يكونا مجهولين … ويستلمان الثمن عادة من بنك المنى وقد يكونا معروفين … ولا غضاضة عندهم في هذا كله. 3- الصورة الثالثة: يجري تلقيح خارجي في أنبوب الاختبار بين نطفة مأخوذة من زوج، وبويضة مأخوذة من مبيض امرأة ليست زوجته تدعى متبرعة أو مانحة ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته.. وهذه أيضا لم تحدث مشاكل في الغرب لأن صاحبه البويضة أما أن تكون متبرعة بالبويضة أو تكون قد استلمت ثمن بويضتها … . وقد تكون معروفة للزوجين أو غير معروفة … وهو الأغلب. 4- الصورة الرابعة: وهي صورة نظرية لم تحدث حتى الآن … وقد تصورها الشيخ الدكتور مصطفى الزرقاء، وهو أن يجري تلقيح خارجي في وعاء الاختبار بين بذرتي زوجين … ثم تعاد اللقيحة في رحم زوجة أخرى للرجل متبرعة بذلك لأن ضرتها لا تستطيع الحمل لمرض في رحمها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 وهذه الصورة لم تحدث حتى الآن … ففي الغرب حيث موجه التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب والأم المستعارة لا توجد مسألة الزواج بأكثر من واحدة وتحرمها جميع القوانين الغربية وينظر لها المجتمع شزرا وتعتبر لديهم صورة للهمجية والتخلف … في الوقت الذي يتسافدون فيه تسافد الكلاب. وفي العالم الإسلامي حيث تسمح الشريعة الإسلامية بالزواج بأربعة فإن التلقيح الصناعي ورحم الظئر وطفل الأنبوب كلها أمور جديدة لم تظهر بعد … وإن كانت في طريقها إلى الظهور، ففي جدة أقام مستشفى خاص حملة دعايته بأنه سينفذ مشروع طفل الأنابيب حسب الشريعة الإسلامية!! على أية حال أثارت هذه الصورة … وهي استعارة رحم الضرة لتحمل لقيحة ضرتها نقاشا طويلا بين الفقهاء … لا من حيث الحرمة … فقد اتفقوا على الإباحة بشروط عديدة منها الحيطة الكاملة في عدم اختلاط النطف. وأن لم يتم ذلك إلا للضرورة القصوى … وأن لا تنكشف عورات النساء إلا لطبيبات مسلمات فإن لم يتيسر فلطبيبات غير مسلمات فإن لم يكن ذلك فلطبيب مسلم عدل فإن لم يكن فلطبيب غير مسلم مأمون في صنعته. وكان النقاش حادا وطويلا فيمن تكون الأم التي ينسب لها الطفل، الأم صاحبة البييضة أم تلك التي حملت وولدت؟ قال الدكتور الشيخ مصطفى الزرقاء إن الأم صاحبة البييضة وشايعة في ذلك قليل من الفقهاء ومال الأغلبية إلى أن الأم التي ينسب لها الطفل التي حملت وولدت. وقد سبق أن ذكرنا طرفا من ذلك النقاش فيما تقدم. واشتط الشيخ بدر المتولي فجعل صاحبه البييضة مهدورة من كل حق. ومال الباقون إلى أن تكون مثل أم الرضاع. وان الذين قالوا بأن الأم هي صاحبة البييضة فقد جعلوا صاحبة الرحم الظئر أما مثل أم الرضاع في المحرمين.. ولكن لا نسب ولا توارث، ولا حقوق ولا واجبات مثل حقوق وواجبات الأم الحقيقية. الأجنة المجمدة: ما هي الأجنة المجمدة؟ ومن أين تأتي؟ وماذا يصنعون بها؟ وما فائدتها؟ أسئلة عديدة تتبادر إلى ذهن القارئ وهو يقرأ في الصحافة من حين إلى أخر أنباء عن الأجنة المجمدة. أولا: ما هي الأجنة المجمدة؟ Frozen Embryoes هي أجنة في مراحلها المبكرة الأولى يحتفظ بها في ثلاجات خاصة في درجة حرارة معينة وفي سوائل خاصة تحفظ حياتها بحيث تبقى دون أن تنمو لحين الطلب فإذا جاء الطلب عليها أخرجت من الثلاجات الحافظة وسمح لها بالنمو! من أين يحصلون عليها؟ يحصل الأطباء المختصون في المراكز الطبية المتقدمة على هذه الأجنة من مشاريع أطفال الأنابيب … . ففي هذه المشاريع تعطي المرأة عقاقير مثل الكلوميد تجعلها تفرز العديد من البييضات في المرة الواحدة. وعندما يقوم الطبيب المختص بإدخال منظار البطن ومسبارة في الموعد المحدد للابياض (خروج البويضات) يشفط الطبيب بآلاته مجموعة من البييضات من المبيض … ثم يقوم الطبيب بوضع بوضع كل بيضة في طبق بترى Petri Dish في سائل خاص وتلقح هذه البويضات (البييضات) بحيوانات منوية من الزوج أو غيره على حسب الحالة كما تقدم شرحه. وبذلك تتكون مجموعة من البييضات الملقحة (Zygotes) أو النطفة الأمشاج المكونة من بييضة المرأة وحيوان (أو حيوانين) منوي للرجل، ويسمح لها بالنمو والانقسام … . الخلية تصبح خليتين … والخليتان أربع وهكذا حتى تصل إلى مرحلة التوتة Morula فتغرز آنذاك في الرحم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 وتبقى مجموعة فائضة من البييضات Lftover تجمد ويحتفظ بها لأن احتمال نجاح عملية الانغراز وإتمام الحمل لا تزيد عن 10 إلى 15 % … وهناك أيضا من يتبرع بمنية كما أن هناك من تتبرع ببويضاتها. فتؤخذ الحيوانات المنوية من الذكور المانحين وتؤخذ البييضات من النساء المانحات، وقد يكون ذلك بأجر أو بغير أجر. ماذا يصنعون بالأجنة؟ يحتفظ الأطباء بهذه الأجنة المجمدة المثلجة Frozen Embryoes في ثلاجات خاصة … وتستخدم في الأغراض التالية: 1- إذا فشلت عملية زرع اللقيحة في الرحم (نسبة الفشل تصل إلى 90 %) … . تعطى المرأة الراغبة جنينا آخر (لقيحة) في موعد آخر مناسب … وتعاد العملية عدة مرات حتى يحصل الحمل المرغوب فيه. 2- تنمي هذه الأجنة المبكرة وتدرس فيها عمليات الانقسام والتكاثر والوراثة والأمراض الوراثية والأمراض الكروموزمية (الصبغيات) … . وقد اقترحت لجنة وارنك Wamack البريطانية المكونة من قانونيين وأطباء ورجال دين السماح بتنمية هذه الأجنة إلى اليوم الرابع عشر. وذلك قبل ظهور الشريط الأولى والمزاب العصبي في الجنين … . وذلك لأن الجهاز العصبي هي البداية الإنسانية الواضحة المعالم للإنسان. وقد اسلفنا القول في ذلك وما ذكره ابن القيم في التبيان في أقسام القرآن وابن حجر العسقلاني في فتح الباري من أن علامة نفخ الروح في الجنين هو ظهور الإحساس والحركات العضلية الإرادية … . ذلك لا يتم إلا بتكوين الجهاز العصبي ولا تظهر بوادر ذلك إلا في اليوم الأربعين أو الثاني والأربعين من عمر الجنين. وقد اتخذت اللجنة اليوم الرابع عشر احتياطا وذلك لأن الجهاز العصبي لا يبدأ تكونه في أي صورة من صوره البدائية إلا بعد اليوم الرابع عشر. 3- حصلت قضية في استراليا أفاضت أجهزة الإعلام في نشر تفاصيلها في العام الماضي حيث قام اثنان من الأثرياء زوج وزوجة بإجراء تجربة طفل الأنبوب … وفشلت التجربة فلم تحمل المرأة ولكن الأطباء كانوا قد احتفظوا بمجموعة من اللقائح (الأجنة) مثلجة مجمدة منهما. على أساس أنهما سيعودان يعد بضعة أشهر وسيعيد الأطباء الكرة والمحاولة بإدخال لقيحة في رحم المرأة وزرعها فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 ولكن الزوجين الثريين قتلا في حادثة طائرة سقطت وتحطمت، وليس لهما من وارث. هل يقوم الأطباء بتنمية الأجنة التي حصلوا عليها من هذين الزوجين ويزرعونهما في متبرعات بحيث تقوي احتمالات نجاح واحدة من هذه المحاولات على الأقل؟ فإذا نجحت المحاولة نسب الوليد أي أبوية اللذين لقيا حتفهما قبل أن تحمله أي رحم وقبل أن تظله وتغذيه وتنمية أي بطن. وأما الأم المستعارة أو الرحم الظئر Surrogate Mother التي حملت وولدت فستأخذ أجرها المادي كاملا من ثروة الأبوين الضخمة … . فهي لا تعدو رحما مستأجرة … . تؤدي وظيفتها وتمضي … . واشتبكت أجهزة الإعلام والقضاء والأطباء في جدل طويل لم تظهر نهايته. أيجوز مثل هذا العمل؟ أيسمح به أم لا؟ أيأتي وليد بعد وفاة أمه وأبيه بسنين؟ ما هي المشاكل والمحاذير التي ستقوم عندما تتقدم الوسائل الطبية بدرجة كافية بحيث تنتشر هذه الطريقة ويمكن الاحتفاظ بالأجنة لعشرات السنين … أبعد وفاة الأبوين بنصف قرن أو قرن من الزمن يرزقان بطفل؟ مشاكل تضحك الثكلي … وتبكي الجذل الطروب … وتجعل الولدان شيبا. وسببها التقدم التقني الذي لم يصحبه إلا انهيار أخلاقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 المراجع لبحث التلقيح الصناعي وطفل الأنبوب 1- ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام، المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية … بإشراف وتقديم د. عبد الرحمن العوضي وزير الصحة الكويتي (11 شعبان 1403 الموافق 24 مايو 1983 م) الكويت ص 169. 2- المصدر السابق ص 169. 3- النيوزويك 18/3/1985م 4- الشرق الأوسط 29 / 5 / 1980 م. 5- Lancet Feb 2,1982: 255 – 266 (Editorial) 6- Crosignani P.A. , Rubin B,L. In vitro Fertilization new york Academic press 1983 7- Lancet , Editorial ,Feb 2 , 1985: 255 – 266 8- Report of the committee of Inquiy into Human Fertilization and Embryology (Chairman D.M. Warnock) , London HMSO , 1984 9- Nesweek , March 18.1985 p. 45 10- ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن ص 255 11- ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري كتاب القدر ج 11 / 482 لمطبعة السلفية. 12- الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين ج 2 / 65 13- ندوة الإنجاب ص 469 14- مرجع مرك الطبي العمل الطبعة (13) 1977 Merk Manual ,13 th Edition 15- مندل، ودوجلاس وبينيت: أسس ومبادئ ومعالجة الأمراض المعدية 1979 Mandell , Douglas and Bennet: Principals and practice of infections Diseses 1979 , Wiley med , Publications New yorl , 1977 16- المؤتمر السكندنافي عن الكلاميديا Mardh , Maller ; proceedings of first scand , symposium on chiamydia 1981 17- مجلة ميد سيزد اليجست إبريل 1980 Wilcox , medicine Digest , April 1980. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 أنواع الاستيلاء غير الطبيعي يمكن تلخيص الطرق المتبعة حاليا في أنواع الاستيلاء غير الطبيعي بما يلي: (أ) بواسطة التلقيح الصناعي: وفي هذه الطريقة يؤخذ السائل المنوي من شخص ما (يسمى مانحا أو متبرعا ويحقن في رحم امرأة كالأتي: 1- منى الزوج يحقن في رحم زوجته. وهذه لا غبار عليها في الشرع إذا استوثق الشخص من عدم اختلاط المنى بمنى رجل آخر كما يحصل في بعض المختبرات التجارية. 2- يحقن ماء رجل غريب في الزوجة فتحمل الزوجة. وهذا محرم في الإسلام ومباح في الغرب. 3- يحقن ماء الزوج في امرأة أخرى غير الزوجة فتحمل وتلد. وبعد الولادة تتنازل عن الطفل لمن يدفع الثمن وهو الزوج … وهذه الطريقة أيضا محرمة في الإسلام … وتتم في الغرب دون أي حرج. 4- يتم تلقيح امرأة ما بمني رجل غريب عنها وفي اليوم الخامس يجري غسيل للرحم Lavage وإذا تم العثور على البويضة الملقحة (الزيجوت) يغرز في رحم الزوجة العاقر. ويستخدم هذا الإجراء عندما يكون الرجل وزوجته عقيمين ولكن رحم الزوجة سليم. ويمكن أن يتقبل اللقيحة. وهذه الطريقة لا شك في حرمتها أيضا في الإسلام … وهي أيضا مباحة في الغرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 5- يتم تلقيح امرأة بمنى الرجل الذي يريد الإنجاب (زوج عاقر) وفي اليوم الخامس يجري غسيل للرحم Lavage فإذا تم العثور على اللقيحة (الزيجوت) أخذت وغرزت في رحم الزوجة العاقر.. وهذه تشبه الطريقة السابقة إلا أن المنى هنا لزوج عاقر … وهذه الطريقة محرمة في الإسلام. 6- مثل الأولى بعد انتهاء عقد الزوجية. (ب) التلقيح خارج الرحم (في أنبوب الاختبار) : وفي هذه الطريقة يتم تلقيح بويضة بمنى الرجل في طبق ثم تأخذ اللقيحة (البويضة الملقحة أو الزيجوت) وتعاد إلى رحم امرأة ما لينمو فيها بالطرق التالية: 1- تؤخذ بويضة المرأة وتلقح بمني زوجها في طبق ثم تعاد إلى رحمها حيث تعلق فيه البويضة الملقحة وهذا ما حدث بالنسبة للسيدة ليزلي براون حيث أخذت بويضتها ولقحت في طبق بماء زوجها جون براون وأنجبت أول طفل أنبوب وهي لويزا براون. وهذه الطريقة مباحة شرعا إذا أمنت المحاذير وكان عقد الزوجية قائما ولم ينفصم بموت أو طلاق. 2- تؤخذ بويضة المرأة وتلقح بمني مانح غير زوجها في طبق ثم تعاد إلى رحمها لتنمو فيه.. وتستخدم هذه الطريقة عندما تكون الزوجة عقيما بسبب انسداد قناتي الرحم بينما مبيضها سليم. ولكن زوجها عقيم وليس لديه حيوانات منوية أو أنها قليلة العدد جدا … . وهذه الطريقة محرمة في الإسلام تحريما كاملا … وهي مع هذا مباحة في الغرب. 3- تؤخذ بويضة امرأة يسمونها مانحة Donner (بأجر أو بغير أجر) وتلقح بماء رجل متزوج بامرأة مصابة بالعقم بسبب مرض في المبايض. وتلقح البويضة في طبق ثم تأخذ اللقيحة (الزيجوت) وتوضع في رحم المرأة العقيم المتزوجة … فإذا أراد الله علقت اللقيحة (النطفة الأمشاج = الزيجوت) في رحمها وتم الحمل … وهذه الطريقة مرفوضة ومحرمة في الإسلام … وهي للأسف مباحة في الغرب. 4- عندما يكون كلا الزوجين عقيما … ولكن رحم الزوجة سليم بينما مبايضها مريضة ولا تفرز بويضات … في هذه الحالة تؤخذ بويضة امرأة ما يسمونها مانحة (Donner) وتوضع في طبق بتري … وتلقح بماء رجل ما يسمونه مانح (Donner) ثم توضع اللقيحة في رحم الزوجة العقيم ذات الرحم السليم فتنمو اللقيحة وتنجب طفلا … وهذه الطريقة أيضا لا شك في حرمتها في الإسلام وهي مباحة في الغرب. 5- يكون الرجل (الزوج) سليما تعاني زوجته من العقم بسبب مرض شديد في مبايضها ورحمها بحيث أنها لا يمكن أن تفرز بويضات ولا يمكن لرحمها أن يستقبل اللقيحة لتنمو فيه … فيؤخذ منى الرجل (الزوج) ليلقح بويضة من امرأة ما غير زوجته. وبعد تلقيح البويضة تعاد اللقيحة إلى رحم المتبرعة بالبويضة فتحمله فتكون بذلك أمة الطبيعية من جهتين: فهي صاحبة البويضة وهي التي حملت وولدت. ومع هذا تقوم بتسليم وليدها إلى المرأة العاقر ليدعى ابنها حسب القوانين الغربية الغريبة الشاذة. وذلك مقابل أجر تدفعه لها المرأة الثرية … وهذا في الواقع يشبه نظام التبني المسموح به في الغرب حيث يبيع الأبوان طفلهما لمن يدفع الثمن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 وفي بعض الأحيان تؤخذ اللقيحة (البويضة الملقحة أو الزيجوت) وتوضع في رحم امرأة أخرى مستأجرة فيكون للطفل بذلك ثلاث أمهات: الأم صاحبة البويضة … والأم صاحبة الرحم … والأم التي دفعت الثمن لهذه العملية … وهذه الطريقة أيضا محرمة في الإسلام … وهي مباحة في الغرب. 6- مثل الحالة السابقة إلا أن الزوج أيضا عقيم فتؤخذ بويضة ما (مانحة) وتوضع في طبق وتلقح بماء رجل آخر مانح … . ثم توضع البويضة الملقحة (الزيجوت أو اللقيحة) في رحم امرأة أخرى … وعند الولادة يسلم الطفل للزوجين العقيمين اللذين دفعا ثمن هذه العمليات كلها … . وفي هذه الحالة يكون للطفل ثلاث أمهات وأبوان كالأتي: - الأم صاحبة البييضة. - الأم صاحبة الرحم المستأجر. - الأم العاقر التي دفعت الثمن واستلمت الطفل. - الأب المانح صاحب المنى. - الأب الذي دفع الثمن واستلم الطفل. وهذه الطريقة أشد إيغالا في الحرمة … وهي متبعة في الغرب. 7- الزوجة لها مبيض سليم ولكن رحمها قد أزيل بعملية أو به عيوب خلقية شديدة بحيث لا يمكن أن تحمل … وزوجها سليم. وفي هذه الحالة تؤخذ بويضة الزوجة وتوضع في طبق وتلقح بماء زوجها. وتوضع اللقيحة في رحم امرأة أخرى يسمونها الرحم الظئر أو الأم المستعارة Suirogate mother وعندما تلد الطفل تسلمه للزوجين مقابل أجر معلوم. هذه الطريقة أيضا محرمة في الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 وقد افترض الشيخ الزرقاء أن التي تحمل اللقيحة في رحمها تكون زوجة ثانية للرجل وتتبرع بحمله في رحمها … ولكن هذه الطريقة فيها نزاع بين الفقهاء المعاصرين فمنهم من ذهب إلى أن أم الطفل التي يرثها وترثه هي صاحبة البويضة ومن هؤلاء الشيخ الزرقاء ومنهم من ذهب إلى أن أم الطفل هي التي حملت وولدت لا صاحبة البويضة … وقد رجع عنها المجمع في دورته 1405 هـ لاحتمال أن تكون البويضة من الزوجة الضرة الظئر.. واتفقوا على أن تكون الأخرى بمثابة الأم من الرضاع … وسنناقش ذلك فيما بعد. 8- الزوجة لها مبيض سليم ورحمها قد أزيل بعملية وزوجها عقيم. فتؤخذ بويضتها وتوضع في طبق. وتلقح بماء رجل غريب يسمى مانحا ثم توضع اللقيحة في رحم امرأة متبرعة يسمونها الرحم الظئر أو الأم المستعارة فإذا تم الحمل وولدت تنازلت عن الطفل لصاحبة البويضة لقاء مبلغ من المال … وهذه الطريقة أيضا محرمة في الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 أطفال الأنابيب فضيلة الشيخ رجب التميمى الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أِشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أطفال الأنابيب. حكمه في الشريعة الإسلامية: من أخطر المواضيع التي يبحثها الباحثون والفقهاء المسلمون في عصرنا الحاضر (أطفال الأنابيب) فهو موضوع غريب عن المجتمع الإسلامي نقل إلينا من عادات المجتمعات الغربية وثقافتها المادية التي أفسدت كثيرا من المجتمع الإٍسلامي ومن المعلوم أن الأسرة تفككت في المجتمعات الغربية وسارت في طريق الانحلال. إنجاب الأولاد: إن إنجاب الأولاد إنما يتم عن طريق المعاشرة الزوجية العادية حين يحصل الحمل كما نص على ذلك الشرع الشريف قال تعالى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الآية رقم 223 من سورة البقرة] . أي نساؤكم مكان زرعكم وموضع نسلكم وفي أرحامهن يتكون الولد فأتوهن في موضع النسل والذرية ولا تتعدوه إلى غيره ومعنى هذه الآية أن التلقيح بين البويضة والحيوان المنوي للزوجين إنما يتم عن طريق الجماع والتلقيح بين البويضة والحيوان المنوي للزوجين إنما يتم عن طريق الجماع , والتلقيح الذي يتم عن طريق آخر بواسطة الأنبوب أو غيره مخالفة لنص الآية الكريمة وللشرع الشريف. إن فتح هذا الباب في المجتمع الإٍسلامي الذي يتطلع إلى الفضل والكمال يؤدي إلى الفساد والقيل والقال ويؤدي إلى إثارة الفتن والشبهة أو الشكوك لأن الأسرة لا تقبل أن ينتسب إليها الأولاد عن طريق التلقيح بواسطة الأنبوب أو بغيرها من الأدوات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 إن القاعدة الشرعية أن سد الذرائع أمر ضروري لحفظ المجتمع " ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ". إن ما جاء في بعض الفتاوى لبعض الفقهاء أن التلقيح الصناعي بواسطة الأنبوب بين الزوجين وبرضاهما وبشروط ذكروها لم يستند إلى نص شرعي أو دليل قطعي وإنما استند إلى العاطفة أي عاطفة الأمومة والأبوة، والعاطفة لا تصلح أساسًا للحكم الشرعي لما فيها من الضرر الذي يؤدي بالمجتمع إلى الفتن والفساد كما في موضوعنا. إن كثيرًا من الأطباء الثقات المسلمين ليعارضون التلقيح بنوعيه الداخلي والأنبوبي بين الزوجين لما فيه من مخاطر من ناحية علمية. وإن علاج العقم يتم بالطرق العلمية الحديثة، وإن عجز الطب عن علاج بعض حالات العقم فهذه إرادة الله سبحانه وتعالى. إن الله عز وجل بين لنا أنه يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور ويهب لمن يشاء الذكور والإناث ويجعل من يشاء عقيمًا قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) } الآية رقم (49 – 50) من سورة الشورى. فالمؤمن يرضى بقضاء الله وهو بصير بأحوال خلقه وهو الحكيم الخبير. ولا يجوز لنا أن نخالف أحكامه بسبب العواطف. ولا يجوز لنا أن نأتي بطرق ملتوية تكون مثارًا للشك والظنون في الأنساب. أسأل الله العلي القدير أن يهدينا سواء السبيل وأن يلهمنا الرشد والصواب إنه سميع الدعاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وثائق مقدمة للمجمع الحكم الإقناعي في إبطال التلقيح الصناعي وما يسمى بشتل الجنين الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أما بعد فقد عرض على مقالة أصدرتها مجلة العربي بالكويت في عددها رقم 232: ربيع الأول عام 1398 هـ الموافق شهر مارس 1978 م وهي صادرة من فضيلة الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي كرد منه على الدكتور حسان حتحوت. تتضمن استفتاء علماء فقه الشريعة على عملية شتل الجنين وهو أن يجامع الرجل الغريب امرأته التي هي غير صالحة للحمل ثم ينقل ماؤه منها إلى امرأة ذات زوج بطريقة فنية فينمو إلى نهاية وضعه، ويكون الجنين ابنًا لهذا الرجل الغريب الذي لقح به منيه وانبًا لزوجته، أما الأم التي حملت به وولدته وكذا زوجها الذي ولد الجنين على فراشه فإنهما يعتبران أجنبيين منه وتنقطع صلته بينهما فلا يرثهما ولا يرثانه، وتكون أمه الحقيقية هي التي أتت بالمني وزوجها أي صاحب المني هو أبوه الحقيقي، ويطلب رأي الفقه الشرعي في موضوعه. فأجاب الشيخ يوسف القرضاوي في نقده وفي مقدمة مقالته ببطلان التلقيح الصناعي، وهو أن يؤخذ مني الرجل الغريب ويوضع في فرج المرأة ذات الزوج قائلًا: "إن هذا حرام بطريق اليقين لكونه يلتقي مع الزنا في اتجاه واحد، حيث إنه يؤدي إلى اختلاط الأنساب" ثم استطرق في كلامه عملية الشتل فأنحى عليها بالملام، وتوجيه المذام، وبين ما ينجم عنها من المساوئ والإجرام، مما يقتضي إلحاقها بالأمر الحرام، وكونه لا يرحب بها شرع الإسلام بكلام استقصى فيه غاية الغرض والمرام، مما يوافق أحكام شرم الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 فلو اقتصر على حده ولم يتجاوزه إلى ضده، لقلنا: قرطس فأصاب ووفق للحكمة وفصل الخطاب، قال: والذي أرى أن الفقه الإسلامي لا يرحب بهذا الأمر المبتدع ولا يرضى عن فعله وآثاره. لكنه تصدي لهدم ما بناه ومحا محاسن ما كتبت يداه، فعاد إلى إصدار حكم منه في القضية يتضمن جواز هذه العملية لاعتبار أنه أحد فقهاء الشريعة الإسلامية الذين وجه إليهم الخطاب فعقد للحكم فصلًا سماه: (ضوابط وأحكام) فعاد إلى القول بإباحته بعد جزمه بتحريمه من كون الجنين متى نشأ من هذه النطفة فإنه يكون ابنًا للرجل الذي أخذ منه قطرة المني والتي تكون زوجته التي لم تحمل ولم تلد هي أم الجنين الحقيقية، أما أمه التي حملت به وولدته فإنها ليست له بأم فلا يرثها ولا ترثه بزعمه وكذلك زوجها الذي ولد الغلام على فراشه فإنه ليس أبًا للجنين بزعمه وشرط لعملية الشتل: أن يكون مع امرأة ذات زوج وأن يكون بإذن زوجها ورضاه وأن تستبرئ حالة التلقيح أي تعتد عن زوجها للعلم ببراءة رحمها. ثم أخذ يخلط ويخبط في الأحكام، وأمور الحلال والحرام، بدون بينة ولا برهان، بل بكلام يعد من الفضول، تمجه العقول، ويناقض النصوص والأصول، قد أبطل به صريح حكمه بعد إحكامه وعاد إلى نقضه بعد إبرامه فكان {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [سورة النحل الآية 92] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 وبما أن الباطل شجون يستدعي بعضه بعضًا وحيث فتح الشيخ باب هذه الفتنة فإنه سيأتي من يبني على حكمه فيقول بجواز عملية التلقيح مع الأبكار العذارى، ومع الثيبات الخليات من الأزواج لكون الحكم في الجميع واحدًا فيتسع الخرق على الراقع، وإنني بمقتضى الرد عليه اتكلم في بطلان التلقيح بنوعيه: نوع التلقيح بمني الرجل الغريب بلا واسطة. ونوع الشتل. فكلا الأمرين في البطلان سيان، إذ الأمر فيهما يدور على نقل مني رجل غريب في رحم امرأة غريبة منه ليست بزوجته والتي من واجبها أن تصون نفسها عن اختلاط ماء الغير بها، إذ هو نظير الزنا ونفس التلقيح الصناعي بلا فرق. فلو بقي الأمر فيها مستورًا غير منشور لآثرنا غلق بابه على خبيئة خطئه واضطرابه، ولم نتعرض لنشر هذا الشر وأسبابه، لكن القضية صارت منشورة وحكمه فيها مشهور حتى صارت حديث الجمهور في مجالسهم ومدارسهم فأخذوا يخوضون في موضوع حقيقته، وفي غرابة الحكم بإباحته. لهذا وجب علينا حتمًا أن نبين للناس ما نزل إليهم من ربهم وما شرعه لهم نبيهم في موضوع هذه القضية نفسها فإن شريعة الإسلام كفيلة بحل المشاكل كلها، والله سبحانه وتعالى قد أوجب على العلماء البيان وحرم عليهم الكتمان. قال الشيخ يوسف في تفصيل ما حكم به مع فرض وقوعه فقال: (ضوابط وأحكام) إن من الشروط أن تكون الحاضنة أي التي فيها التلقيح: أولًا: ذات زوج. وثانيًا: أن يكون هذا الفعل برضي الزوج. ثالثًا: يجب أن تستوفى المرأة الحاضنة العدة من زوجها خشية أن يكون قد علق برحمها بويضة ملقحة، فلابد أن تضمن براءة رحمها منعًا لاختلاط الأنساب. رابعًا: نفقة المرأة الحاضنة وعلاجها ورعايتها طوال مدة الحمل والنفاس على أبي الطفل، أي الملقح للبويضة، أو على وليه من بعده، لأنها غذت الجنين من دمها، فلابد أن تعوض عما فقدته ثم استدل بقوله {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [سورة الطلاق: الآية 6] . خامسًا: جميع أحكام الرضاعة وآثارها تثبت من هنا من باب قياس الأولى أي للمرأة الأجنبية صاحبة المني. أما زوج المرأة الحاضنة، أي زوج التي حملت وولدت فليس له أي علاقة بالجنين، انتهى كلام الشيخ يوسف. وأقول: إن هذا التقرير الصادر منه هو صريح في الحكم منه لصحة عملية الشتل مع العلم أنه عالم يقتدى به، وينتهي أكثر الناس إلى رأيه، وفي هذا الرأي من التغرير المخالف لتقريره السابق ما لا يخفى على أحدٍ. وحكمه بهذا هو حكم باطل في نفس الأمر والواقع. لا وافق الحكم المحل ولا هو استوفى الشروط فكان ذا بطلان (1)   (1) انظر (توضيح المقاصد في شرح قصيدة ابن القيم) للشيخ أحمد بن عيسى 1/ 38 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 إن الأصل الفاسد لا يقاس عليه، إذ القياس على الفاسد فاسد، وهذا الحكم إنما نشأ عن عدم تفكير وحسن تدبير فهو خطرات من وساوس فكرته ليس له أصل يستند إليه ولا نظير يقاس عليه وهو مخالف للحق والحقيقية والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)) [حديث متواتر] وحاصله: أنه رأى منه، وليس برواية، والرأي يخطئ ويصيب. إن الشيخ يوسف أشار في مقدمة مقالته أن الدكتور حسان حتحوت تساهل في إباحة الشتل نظرة منه إلى رحمة المرأة الفاقدة للأولاد، وقد وقع الشيخ يوسف في نفس ما عاب به حسان حتحوت من القول بإباحة هذا الفعل، الذي جزم سابقًا بتحريمه، وكأنه خرج منه مخرج المصانعة لهذه المرأة، وللقوم الذين يحبون أن تشيع مثل هذه الفاحشة بين الناس، فأحب أن يتقدم بالقول بإباحتها تنشيطًا لهم على الإتيان بما هو أكبر وأنكر منها، وأظن أنه لم يسبق إلى القول بإباحتها أحد. وما أسرع ما نسى هذا الإنسان، وأين قوله: (إذا كان الإسلام قد حرم التبني، وانتساب الإنسان إلى غير أبيه فاجدر به أن يحرم التلقيح المذكور لأنه يلتقي مع الزنا في اتجاه واحد ويفضي إلى اختلاط الأنساب) . فهذا الذي نطق به هو الحجة لنا عليه، ولا نقبل نقضه بما يخالفه، ومتى كان هذا قوله في التلقيح الصناعي وأنه حرام بيقين فإن الشتل مثله إذ التلقيح الصناعي هو نقل مني الرجل الغريب إلى المرأة ذات الزوج بلا واسطة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 أما الشتل فإنه ينقل إليها بواسطة مروره على المرأة الفاقدة للأولاد ولن يتغير هذا المني عن حالته بمروره عليها وما ذكروه من تلقيح البويضة فإنه سيكون من رحم المرأة المنقول المني إليها فينتهي ويستقر برحمها ومني الرجل هو الأصل في إيجاد الجنين يقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) } [سورة القيامة: 38] ومثله كل فحل فقد ثبت بمقتضى التجربة في البهائم وخاصة البقر فإنها تحمل بمجرد نقل مني الثور إلى فرجها، بدون مروره على شيء آخر. فمتى علم ذلك فإن التلقيح بالشتل يثبت له من العلل والمساوئ ما ثبت للتلقيح الصناعي إذ حقيقته نقل مني رجل غريب إلى رحم امرأة ليست له زوجة، والتي من واجبها صيانة رحمها عن مشاركة الأغيار، فيترتب عليه اختلاط نسب أجنبي بنسب أهلي إذ هذا المقصود الأكبر في تحريم الزنا، وانتساب الرجل إلى غير أبيه وأمه، وهو واقع في التلقيح بنوعيه. وما كنا نسمع بهذا الشيء قبل اليوم، ولكن الناس متى بعدوا عن الدين فإنهم يتوسعون في البدع والزور وأعمال الشرور والفجور ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا، ومتى كان هذا التلقيح زنا فكيف يطلب فيه إذن الزوج به ورضاه عنه، فإنه متى رضى به وأذن فيه فإنه ديوث، يقر السوء على أهله، وتعتبر امرأته زانية لأنه متى ذكر العلماء في حكمه تحريم الزنا أنه منع لاختلاط الأنساب، فالمقصود الأكبر في وسيلة اختلاط الأنساب هو نقل مني رجل غريب إلى رحم امرأة ليست له بزوجة بأي طريقة، أو بأي صفة يصل فيها المني إلى غايته من رحم هذه المرأة فيتخلق منه إنسان يلتحق بنسب المرأة الأجنبية ونسب زوجها وهو رجل أجنبي عنهما، فيترتب عليه اختلاط نسب أجنبي بنسب أهلي، إذ هذا المقصود الأكبر في تحريم الزنا، وهو حقيقة التلقيح بنوعيه في إيصال مني الرجل الغريب إلى امرأة ذات زوج، إن هذا لشيء عجاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 حكم الفقه الإسلامي في موضوع القضية عند فرض وقوعها إن الشريعة الإسلامية بأحكامها كفيلة بحل مشاكل العالم ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} لكن الغوص إلى استنباط الحكم من مظانه يحتاج إلى علم واسع، وفكر ثاقب، ودراسة عميقة متخصصة في معرفة العلوم والفنون، فلا يقع بين الناس مشكلة ذات أهمية من مشكلات العصر ومعضلات الدهر إلا وفي الشريعة الإسلامية طريق حلها، وبيان الهدى من الضلال فيها، كما أنه لا يأتي صاحب باطل بحجة باطلة إلا وفي الشريعة الإسلامية ما يدحضها ويبين بطلانها. والشريعة مبنية على حفظ الدين والأنفس والأموال والأعراض أي الأنساب والعقول التي حرم الخمر من أجل حفظها وحمايتها، ذلك بأن دين الإسلام قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان. وقد اختلف العلماء فيما ثبت به لحوق نسب الولد بأبيه فمنهم من قال: إنه يلتحق بأبيه بمجرد العقد الصحيح بأمه، فمتى أمكن دخوله بالمرأة التي عقد عليها فإنه يلتحق به الولد الذي حملت به وولدته سواء علم دخوله بها أو لم يعلم احتياطًا لحفظ الفراش والنسب، وهذا هو ظاهر مذهب الحنابلة، والمالكية، والشافعية، واشترطوا لصحة إلحاقه مضي ستة أشهر فأكثر من عقده بها، ومنهم من قال: لا يلتحق به نسبه إلا بعد الدخول المحقق بزوجته أم ولده وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، وهو الصحيح المعمول به، فبعد تحقق الدخول بها فإن كل حمل تحبل به فإنه يحكم به لأبيه حكمًا احتياطيًا جازمًا صيانة للفراش والنسب، حتى لو فرض أنها حملت به زنا أو بطريق الغصب، أو وطء الشبهة، فإنه يحكم به لأبيه الذي هو زوج أمه، ولا ينظر إلى ما يخالفه، ويفهم منه التحاقه بطريق التلقيح بنوعيه، أي التلقيح الصناعي والشتلي، فيكون الولد لأبيه أي زوج أمه التي حملت به وولدته، فلا يتغير هذا الحكم عن أصله لكون الأحكام مبنية على الظاهر والله يتولى الحكم في السرائر إذ ليس كل الناس خرجوا من أصلاب آبائهم. وقد حكم رسول الله بهذا في مثل هذه القضية عند فرض وقوعه فلا حكم لأحد بعد حكمه ومتى جاء سيل الله بطل نهر معقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 ففي البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الولد للفراش وللعاهر الحجر)) ويعني بالعاهر الزاني، ويعني بالفراش الزوجة التي في عصمة الزوج فإن حملت بهذا الغلام فإنه يحكم به لزوجها المذكور حرصًا على رعاية حفظ النسب وحماية حرمة النكاح الشرعي. وتسمية المرأة فراشًا هو جار على ألسنة العرب لكونه يفترشها عند إرادة قضاء حاجته منها، كما قيل: إذا رمتها كانت فراشًا يقلني وعند الفراغ منها خادم يتملق كما أن الله سماها حرثًا في قوله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [سورة البقرة: الآية 223] وهذا الحديث أي قوله: ((الولد للفراش وللعاهر الحجر)) هو نص في الحكم في هذه القضية وهو قاعدة عامة كلية من قواعد الشرع، يحفظ به حرمة النكاح، وطريق اللحاق بالنسب جوازًا وعدمًا، فهو يوجب قطع النزاع ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع في مثل هذه القضية، فمتى حملت امرأة ذات زوج بالتلقيح الصناعي، أو الشتل، أو الزنا، أو الغصب، أو الوطء بالشبهة فإن حملها يعتبر للزوج ولزوجته التي حملت به ووضعته، ولا علاقة للغاصب أو الزاني أو المأخوذ منه المني فيه. وهذا الحديث يفسره ما ذكر بسببه، فقد روى البخاري أنه تنازع سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة عند النبي صلى الله عليه وسلم في ولد جارية زمعة فقال سعد: إنه ابن أخي عتبة عهد إلي أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه فقبضته فقال عبد بن زمعة: إنه أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراش أبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة)) لما رأى قرب شبهة بعتبة مع العلم أنه أخو سودة لأبيها في ظاهر الحكم، وقد أدرجه البخاري في باب اتقاء الشبهات من صحيحه، فلم يكن وطء عتبة لهذه المرأة مغيرًا للحكم في الولد. إن الأصل الباطل يتفرع عنه فنون من الباطل، وأن التلقيح بالشتل هو نفس التلقيح الصناعي، ما عدا أن التلقيح الصناعي هو نقل مني الرجل الغريب إلى المرأة ذات الزوج بلا واسطة فينشأ عنه الولد. أما التلقيح بطريق الشتل فإنه يكون بواسطة امرأة الرجل الغريب التي هي غير صالحة للحمل، فيمر عليها وينقل منها إلى المرأة ذات الزوج الصالحة للحمل ومرور هذه النطفة بها لا يغير شيئًا من أوصافها، ولا ينبغي أن يقاس على شتل الشجر بعد نموه وكبره فينقل إلى مكان آخر فإن هذا شيء وذاك شيء آخر، مع العلم أنه لم يثبت التاريخ وجوده، وإنما ثبت وجود التلقيح الصناعي عن طريق الحيوان حيث يلقح البقر بمني الثور بطريقة فنية بحيث يوضع المني في شيء شبه الأنبوب، ويولج في فرج البقرة فتلقح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 وليس ما يصلح للحيوان يعتبر صالحًا لبني الإنسان، يقول الله: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [سورة الزمر: الآية 6] وقال سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [سورة الحج الآية 5] . وهذا معنى ما في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك)) أي أربعين يومًا، والعلقة قطرة دم ((ثم يكون مضغة مثل ذلك)) أي قطعة لحم ((ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح)) أي في الشهر الخامس. وهذا الشتل إما أن يكون في حالة كونه نطفة، أو في حالة كونه علقة، أو في حالة كونه مضغة، فإنه يحكم بأنه للأم التي حملت به وولدته وزوجها هو أبوه الذي ولد هذا الغلام على فراشه، لحديث ((الولد للفراش)) . ويعتبر التلقيح بطريق الشتل بمثابة العرق الظالم، أي لا حق لمدعيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس لعرق ظالم حق)) وهذا من حديث رواه أبو داود وأهل السنن أن رجلين اختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم في أرض غرس أحدهما فيها نخلًا والأرض للآخر، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للأرض لصاحبها وقال: ((ليس لعرق ظالم حق)) . وقد سمى الله المرأة حرثًا فقال: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [سورة البقرة الآية 223] فكل ما تحمل به المرأة ذات الزوج بأي طريقة فإنه ينسب إلى زوجها لكونه نماء حرثه وقد ولد على فراشه ولأن نكاحه لها هو مما يزيد في نمو الولد في بطنها. وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل مجخ عند باب فسطاط فقيل له: إن هذا الرجل عنده جارية هي حبلى من غيره وهو ينكحها فقال: ((لقد هممت أن ألعنه لعنًا يدخل معه في قبره كيف يطؤها وهي لا تحل له وكيف يورثه وهو لا يحل له)) . ثم نهى أن يسقى الرجل ماءه زرع غيره. وخلاصة البحث: أنه لو نقل بطريق الشتل وهو نطفة أو علقة أي قطعة دم أو مضغة وهو قطعة لحم فنما في بطن المرأة ذات الزوج حتى نفخ فيه الروح وحتى أتمت مدة حملها به فوضعته فإنه يكون ولدًا لها ولزوجها لعموم حديث ((الولد للفراش)) . وهي قاعدة شاملة حتى لو طابت نفس الأم التي حملت به، وطابت نفس الاب بجعله للمرأة التي لم تحمل ولم تلد ولزوجها فإنه لا يجوز ذلك لكونه حرًا لا تجوز هبته ولما يترتب على هذا التصرف من قطع صلته بنسب أبيه، وقطع صلته بأمه التي قاست الشدة والمشقة حيث حملته كرهًا ووضعته كرهًا، فيقطع نسبه بها ويجعلها أجنبية عنه، وهو من باب قطع ما أمر الله به أن يوصل، ثم يلحق بأب أجنبي ليس بأب له فينسب إلى غير أبيه، وفي الحديث: ((من انتسب إلى غير أبيه فالجنة عليه حرام)) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 ومن قواعد الفقه: أنه لا شبهة مع فراش، أي لا حكم لأي وطء وقع من الزنا، أو الشبهة، أو الإكراه، أو الشتل، أو التلقيح الصناعي، فمهما كان من ذلك فإن الولد للزوج الذي ولد على فراشه، والأم الحقيقية هي أمه التي حملت به ووضعته. وقد ذكر الفقهاء صورة في نقل المني، وهي ما لو استلطفت امرأة ذات زوج بمني رجل غريب، أو برداء فيه مني فحملت من ذلك، فهذا القول قد سيق مساق التوسع في تقرير ما لا يقع، وإلا فإن المني متى ظهر للهواء فإنه يفسد بذلك وتبطل حقيقته، فلا حجة لدعوى المرأة المحتجة به. وقد كفانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشفانا من كف هذه الفتنة التي أكثر الناس من الخوض في موضوعها فقال: ((الولد للفراش)) . وحرم التبني وهو واقع فيه بكل حالاته. كما حرم انتساب الرجل إلى غير أبيه، وهو واقع فيه. إن حاكم القضية يروج في أذهان الناس بأن العلم أثبت بأن هذا المني الذي ينقل بطريق الشتل أنه جنين، وهو تدليس منه على الأذهان، وتلبيس على ضعفة العقول والأفهام، وإلا فإن موضوع الحكم والكلام وهو في المني الذي يلقح به الإنسان بويضة المرأة فلا يسمى جنينًا، وإنما يسمى منيًا كما قال سبحانه: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) } [سورة الطارق: 6] وقال: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) } [سورة القيامة: 38] . ثم إنه في حالة كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة قد تقذفه الرحم كما قال سبحانه: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [سورة الحج الآية 5] فلا يكون جنينًا حتى ينفخ فيه الروح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 قال في القاموس: والجنين هو الولد في البطن- سمى جنينًا لاستجنانه- أي استتاره في الرحم، أما كون المني يصير جنينًا بإذن الله فهذا مما تعرفه العجايز فضلًا عن العلم ولم تأت هذه المرأة بجنين حتى تنقله ثم تدسه في فرج المرأة ذات الزوج، وقبل مضي الأطوار الثلاثة يعتبر كحكم الميت حتى ينفخ فيه الروح فيكون إنسانًا حيًا، ومن أحيا أرضًا ميتة فهي له. ومثله تسمية الحامل، حاضنة، فإن هذا من باب قلب الحقائق، فإنه لا حضانة إلا للطفل الصغير متى خرج إلى الوجود حيًا، ومادام في بطن أمه فإنه يسمى: حملًا، وأمه: حاملًا، لا يقال حاضنة، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 العرض والمناقشة الاثنين 11/ 4/ 1406 هـ – 23/ 12/ 1985 م الساعة: 9.35 – 12.00 الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم، نبدأ وبه نستعين وعليه نتوكل بعد حمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائه ورسله، وبعد، فنفتتح الجلسة الصباحية ليوم الاثنين وأعمال هذه الجلسة هي: أطفال الأنابيب بنوك الحليب، أجهزة الإنعاش والبحوث قد قدمت إليكم وأمامنا الآن البحوث المعدة في أطفال الأنابيب وهذه البحوث مقدمة من الشيخ عبد الله البسام، الدكتور محمد علي البار، الشيخ رجب التميمي، الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة، وأرجو من سعادة الدكتور محمد علي البار أن يعطينا ملخصًا لبحثه وما لديه حول أطفال الأنابيب. الدكتور محمد علي البار: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أفضل المرسلين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 أصحاب السماحة، أصحاب الفضيلة، موضوع التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب موضوع أثار الجدل الشديد ليس على المستوى الإسلامي فقط وإنما على مستوى العالم بأجمعه حيث تفرعت عنه قضايا عديدة، ومنذ أن نجح الدكتور سيفت والدكتور إدواردز في تلقيح بويضة السيدة ليزلي براون بماء زوجها في 10 نوفمبر 1977 وأدى ذلك إلى نجاح أول حمل وولادة أول طفلة أنبوب وهي لويزا براون في 25 يوليه عام 1978، قامت حملات إعلامية منظمة شغلت الناس صباح مساء ثم خفت الضجة وانضم إلى نادي أطفال الأنابيب عشرات الأطفال حتى جاوز الرقم في نهاية 84 حوالي 1000 طفل أنبوب من بينهم 56 توائم ثنائية و8 توائم ثلاثية واثنان من التوائم الرباعية، نقلًا عن مجلة التايم الأمريكية في 10 سبتمبر 1984، وتحول الأطباء وأجهزة الإعلام إلى مواضيع أكثر إثارة مثل تجميد الأجنة المخصبة ونقل البويضة الملقحة من امرأة إلى أخرى وهو ما عرف باسم "الرحم الظئر" وبدأت المشاكل الأخلاقية والدينية تظهر على السطح، وقد صرح الدكتور ادواردز العالم الفسيولوجي الرائد في أطفال الأنابيب بقوله إن هناك حاجة صارخه إلى وضع إطار لآداب وأخلاقيات هذا الميدان، إن كل مؤسسة تجري العملية المذكورة يجب أن تكون لديها لجنة آداب خاصة، ولقد تم بالفعل ولادة أول طفلة من الرحم الظئر، وهناك شركات تجارية لما يسمى بالرحم الظئر في الولايات المتحدة تستأجر الفتيات في الغالب غير متزوجات يحملن أطفالًا من حيوانات منوية وبويضات من أناس متزوجين ويعانون من العقم، وتحولت القضية إلى مشاكل إعلامية ومادة للإثارة، وانشغل بها القضاء، وهناك قضية أخرى إذ أن إجراء محاولة إيجاد أطفال أنابيب تتم بإعطاء المرأة أدوية وعقارات مثل الكولوميده وغيرها تزيد من إفراز البويضات فيأخذ الطبيب عدة بويضات ويلقحها ويزرع عددًا منها في اليوم الثالث إلى الخامس في رحم المرأة، ولذا كثرت ولادة التوائم في أطفال الأنابيب وذلك تحسبًا للفشل، كما أن الطبيب يحتفظ بمجموعة من البويضات الملقحة مثلجة ومجمدة، فإذا فشلت المحاولة الأولى أعاد الكرة، وإذا نجحت المحاولة فماذا يتم في الأجنة المجمدة؟ سؤال أثار ضجة كبرى في الإعلام الغربي، هل يسمح بإجراء التجارب على هذه الأجنة، وذلك قد يفيد الإنسانية في معرفة بعض الأمراض الوراثية والمتعلقة بالصبغيات وغيرها، وقد نشرت الصحف أخيرًا، بعد كتابة هذا البحث، أنه قد أجرى بالفعل أبحاث على هذه الأجنة المجمدة وبديء بالبحث فيها حتى لمعرفة بعض الأسرار أو بعض الأمراض الوراثية، فهذه هي إحدى القضايا الأخلاقية والدينية الشائكة، وفي بريطانيا تكونت لجنة من البرلمان والمختصين ورجال الدين، عرفت باسم لجنة "ورانك" وأنيط بها دراسة هذه المشكلة، واقترحت هذه اللجنة بعد خلاف طويل حاد بين أعضائها، أن استخدام الأجنة يسمح به لمدة أسبوعين فقط وذلك قبل أن تتشكل أول بداية للجهاز العصبي الذي يناط به تكوين الدماغ والنخاع. وتفرعت مشاكل عديدة كلها جديدة مثيرة تستحق الدرس والبحث، وإذا كانت هذه المشاكل لا تزال في الغرب فإنها ستفد إلينا في القريب العاجل بل إن بعضها قد وفد بالفعل، وقد أعلنت إحدى المستشفيات الخاصة في جدة قيامها بمشروع أطفال الأنابيب حسب الشريعة الإسلامية، وأن عددًا من النسوة قد حملن بهذه الطريقة ولا يزلن ينتظرن الولادة، كما تم توليد أول امرأة سعودية تحمل بواسطة الأنابيب في جدة بواسطة جامعة الملك عبد العزيز وذلك بعد أن تم التلقيح في بريطانيا، أما بالنسبة للتلقيح الاصطناعي فليس هناك مشكلة في الغرب، يتبرع المانح بمائة فيحفظ في بنك المني، ثم تأخذه امرأة ما، في الغالب غير زوجته وقد تكون غير متزوجة أصلًا، وقد نشرت النيوزويك في 18 مارس 1985، أن هناك ما لا يقل عن ربع مليون طفل، ولدوا نتيجة التلقيح الصناعي بماء غير آبائهم، ولا غضاضة عند هؤلاء القوم في كل هذا فالفوضى الجنسية ضاربة أطنابها ونادرًا ما يستطيع الشخص هناك أن يجزم بأن فلانًا أبوه، لشيوع الزنا، فأكثر من 80 % من الزوجات والأزواج قد اعترفوا بالخيانة الزوجية، والتبني نظام شائع معترف به عندهم، والأم تبيع طفلها في المحكمة، وتتنازل عنه لأسرة تدفع لها ثمنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 فيطرأ سؤال لماذا طفل الأنبوب؟ وأولًا ما هو طفل الأنبوب؟ إن فكرة طفل الأنبوب في حد ذاتها سهلة ميسورة، وتعتمد الفكرة على أخذ البويضة من المرأة عند خروجها من المبيض وذلك بواسطة مسبار خاص يدخله الطبيب في تجويف البطن عند موعد خروج البويضة من المبيض فيلتقطها ثم يضعها في طبق وفي هذا الطبق سائل فسيولوجي مناسب لبقاء البيضة، ثم يؤخذ مني الرجل ويوضع في الطبق مع البويضة فإذا تم تلقيح البويضة بأحد الحيوانات المنوية، وذلك يمكن مشاهدته تحت الميكروسكوب، تركت هذه البويضة الملقحة لتنقسم انقساماتها المعروفة المتتالية، الخلية الأمشاج، الزيجوت أو اللقيحة المكونة من التحام نواة البويضة ونواة الحيوان المنوي، ثم تؤخذ التوتة عندما تصبح ثمان خلايا وتغرز أو توضع في الرحم، والمدة التي تبقى فيها البويضة في الطبق لا تعدو يومين أو ثلاثة. هذه هي الفكرة ببساطة، أخذ البويضة من الأم في الوقت المناسب وتلقيحها في الطبق وإعادتها إلى الرحم بعد يومين أو ثلاثة لتنمو نموًا طبيعيًا، ورغم أن الفكرة بسيطة سهلة ميسورة ولكن التنفيذ هو العسير ويحتاج إلى دقة ومهارة، ومع هذا فإن من بين 85 % إلى 90 % من محاولات الاستيلاد بطريق طفل الأنبوب تفشل، وهذه الصعوبات تتلخص في الآتي: - معرفة موعد خروج البويضة. - بعد أن يتم شفط البويضات ينبغي أن توضع في محلول مناسب. - تلقيح البويضات وملاحظة مرورها بمراحل النمو المختلفة. - وإعادة غرز البويضات في الرحم. ومعظم حالات غرز البويضات يرفضها الرحم ثم إذا تم غرزها في الرحم هناك من 30 إلى 35 % يتم فيها الإجهاض حتى إذا انغرزت يرفضها الرحم بعد أن تنغرز فيه وهي حالة إجهاض مبكر. لماذا طفل الأنبوب؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 إن المشكلة عويصة حقًا، فعدد النساء العواقر في أوروبا والولايات المتحدة والبلاد المتقدمة في ازدياد مطرد، وكما تقول النيوزويك فإن كل واحدة من كل سبعة يعانون من العقم وهم في زمن الإنجاب، وفي الولايات المتحدة هناك أكثر من مليون امرأة عاقر، وأهم أسباب العقم الرئيسية انتشار الأمراض الجنسية نتيجة الولوغ في الزنا، وأهم مرض يسبب انسداد الأنابيب والتهاب حوض الرحم ناتج عن ميكروب يسمى الكلاميديا والمايكوبلازما، وفي الولايات المتحدة يقدر مركز اتلانتا للأمراض المعدية عدد المصابين في الولايات المتحدة بالكلاميديا بستة ملايين شخص سنويًا، وتذكر التايم في 10/ 8/ 1985 أن أهم سبب للعقم في الولايات المتحدة هو انتشار الزنا والأمراض الجنسية حيث تسبب الكلاميديا 50 % من حالات انسداد الأنابيب ويسبب السيلان 25 % من جميع حالات انسداد الأنابيب، نفس المشكلة منتشرة في بريطانيا وفي الدول الغربية، ومعظم الدول التقنية، وعدد حالات السيلان في العالم تقدر حسب تقدير منظمة الصحة العالمية عام 1977، 250 مليون حالة سنويًا، وعدد حالات الكلاميديا 500 مليون حالة، لهذا نتوقع ازدياد حالات العقم في العالم كله. السبب الثاني هو اللولب لمنع الحمل، ويعتبر إدخال اللولب السبب الثاني لالتهاب الأنابيب، والتهاب الحوض المؤدي إلى انسداد الأنابيب، وبالتالي العقم. السبب الثالث الإجهاض، والإجهاض الجنائي وليس الطبي منتشر في العالم –طبعًا لم يصبح جنائيًا لأن معظم دول العالم اباحته- ذكرت مجلة التايم في 6 أغسطس سنة 1984 أن عدد حالات الإجهاض الجنائي في العالم تزيد عن 50 مليونًا، اكثر من نصفها في البلاد النامية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 هناك أيضًا أمراض أخرى، مثل تأخر سن الزواج إلى الثلاثين أو إلى ما بعد الثلاثين يعني كلما تأخر سن الزواج كلما زاد احتمال الإصابة بالعقم خاصة بالنسبة للمرأة، هناك أيضًا أمراض أخرى تعتبر نادرة في الغرب ولكنها غير نادرة في البلاد النامية، مثل الدرن الذي يصيب الجهاز التناسلي، والجماع أثناء الحيض أيضًا من الأسباب التي تسبب إقفال الأنابيب أو انسداد الأنابيب، والتعقيم بقطع الأنابيب وربطها ثم بعد ذلك يلجآن إلى الأطباء لمحاولة إعادة فتح هذه الأنابيب، وتذكر بعض المصادر أن عمل المرأة وممارسة الأعمال العنيفة والرياضة والرقص العنيف من أسباب العقم أيضًا. باختصار إن أهم أسباب ثلاثة تؤدي إلى قفل الأنابيب هي: انتشار الزنا – استعمال اللولب – الإجهاض – هذه الأسباب الثلاثة الرئيسية والعلاج في نظري ينبغي أن يتجه أساسًا إلى معالجة الأسباب التي تزداد انتشارًا لأن معالجة هذه المشكلة لا تتم، رغم أن طفل الأنبوب من الناحية الفنية التقنية إجراء فني بارع جدًا ولكنه لا يحل هذه المشكلة لأنه باهظ التكاليف وأن نسبة نجاحه محدودة إلى الآن وحتى ولو ازدادت نسبة النجاح لا يمكن معالجة ملايين النساء العواقر بهذه الطريقة، وهذه الطريقة هي إحدى الطرق الفنية العويصة والتي من المعتقد أنها ستتقدم من الناحية الفنية يومًا بعد يوم لكنها لن تحل هذه المشكلة، والعلاج الأساسي هو منع انتشار الزنا واستعمال اللولب والإجهاض، المسببة لمئات الملايين من حالات العقم في العالم، مئات الملايين من النساء تعانين من انسداد الأنابيب بسبب هذه الأسباب الأساسية نستطيع حينئذ أن يبقى العدد محدودًا وهناك وسائل عديدة طبعًا من بينها استخدام طفل الأنابيب لأنه أحد الوسائل المتعددة، ومن بينها وسيلة التلقيح الاصطناعي الداخلي، ولا أريد أن أطيل عليكم لأنه هناك وقتًا أظنه ضيق فقد أعطيت عشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة فقط. هناك تفاصيل عن طفل الأنبوب وهناك مشاكل متعددة تنتج عن طفل الأنبوب أو التلقيح الاصطناعي الداخلي أو الخارجي، التلقيح الاصطناعي الداخلي: يؤخذ مني الرجل ويحقن في مهبل المرأة أو في رحم المرأة مباشرة وهذا يستخدم عندما يكون هناك عيب في مني الزوج، الحيوانات المنوية قليلة، أو أن المهبل يقتل هذه الحيوانات المنوية وهناك تضاد بينهما، ففي هذه الحالة يستخدم التلقيح الاصطناعي الداخلي لكن نتج عنه كما أخبرتكم تلقيحًا صناعيًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 هناك بنوك للمني منشرة في الغرب وشركات تجارية وهناك 250 ألف امرأة قد تم حملهن وولادتهن دون أن يعرف اسم الوالد الحقيقي، يعني تستخدم نفس الطريقة التي استخدمت في الثيران، كانوا تجار المواشي يقتلون الثيران ويذبحونها لأن لحم الثور غير صالح للأكل ويبقون ثورًا واحدًا فقط لتلقيح ألف بقرة، ما يستطيع الثور أن يلقح ألف بقرة فكانوا يأخذون هذا المني "فكرة التلقيح الصناعي " ويجمع ويحفظ ثم يلقح به ألف بقرة وألفين بقرة وخمسة آلاف بقرة، الآن نفس الوضع يعود إلى الغرب ثم هناك أيضًا نوع ما يسمى –بدأت هذه الفكرة في أمريكا - وهناك بنك لاختيار بنك مني العباقرة، وبالفعل كان هذا الرجل يشتري المني من العباقرة –رجل ناجح في عمل فني معين، كيمائي، طبيب مشهور حائز على جائزة نوبل، أو رياضي، أو موسيقي- فتذهب المرأة وتقول أنا أريد من مني الرجل الموسيقي المعروف أو الكيميائي أو الرجل الطبيب وقد تم استيلاد مجموعة من النساء بهذه الطريقة وهو نكاح الاستبضاع الذي كان معروفًا في الجاهلية والذي وصفته السيدة عائشة رضي الله عنها والذي أخرجه البخاري في كتاب النكاح، وأنتم جميعًا تعلمونه وأنتم الفقهاء فلا حاجة لي أن أعيد لكم نص الحديث الطويل المشهور في باب النكاح في كتاب البخاري، يعتزل الرجل زوجته فتذهب إلى رجل معين مشهور بالقوة أو بالكرم أو بغيرها من الصفات التي يريدها، فتبقى معه حتى تحمل فإذا تبين حملها أتاها زوجها إن شاء وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، هذا الآن حاصل في الولايات المتحدة وفي غيرها من الدول لكن دون تحديد للأب بصفة خاصة، وطبعًا حصلت مشاكل تأخذ منيًا ويطلع فيه مرض " الإيدز " وهذا قد حصل في استراليا بالفعل، حالتين اخذ المني من البنك الصناعي وتبين فيما بعد أن هذا المني من شخص كان لديه مرض " الإيدز " وهناك أيضًا مشاكل أخرى تأخذ منيًا يطلع مثلًا هي تريد شخص معين يطلع شخصًا معتوهًا أو شخصًا متخلفًا عقليًا، مسألة تجارية لها مردودات خبيثة جدًا، كذلك فيه احتمال، قذفة الرجل فيها خمسمائة مليون حيوان منوي أمامها حواجز كثيرة فلا يصل إلى البويضة إلا حوالي 500 في النكاح الطبيعي ويختار الله سبحانه وتعالى ويصطفي أحد الحيوانات المنوية ثم يصطفي ويختار من الأشهر ومن الأيام ومن الناس، كذلك يصطفي من الحيوانات المنوية حيوانًا منويًا واحدًا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من كل الماء يكون الولد)) في الحديث الذي أخرجه مسلم وإنما من جزء يسير من الماء، هذا معنى الحديث، وكذلك الله سبحانه وتعالى يقول {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} فهو جزء يسير من المني ويقول تعالى {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} والسلالة كما تعلمون جميعًا هو ما يستل أي الخلاصة، يعني خلاصة هذا الماء المهين، كما نعلم جميعًا أن الحيوانات المنوية فيها حيوانات منوية مشوهة وتحمل كروموزمات فيها خلل، فإذا استمر هذا التلقيح الصناعي لأسباب كما هو موجود في الغرب الآن بهذه الفوضى، فإن ذلك قد يؤدي إلى انتشار ولادة الأولاد المشوهين، لأن هذا يزيد من احتمال أن يلقح حيوان منوي به عيوب في الصبغيات بويضة فيؤدي إلى ولادة أولاد مشوهين وإلى زيادة تشوه الأجنة، هذا احتمال موجود وذكره الأطباء وكذلك حتى في طفل الأنبوب هذا الاحتمال وارد وهو تحت الدرس الآن ويعتقد أن سبب زيادة الإجهاض في ولادة أطفال الأنابيب قد يرجع إلى كون هذه الأجنة فيها زيادة احتمال تشوه ناتج عن تشوه موجود في الصبغيات، هذه خلاصة هذا الموضوع المعقد الطويل وأترك لكم المجال لمناقشته، وهنا بجانبنا والحمد لله الأستاذ الدكتور عبد الله باسلامة وهو أحد الرواد في هذا الباب وأستاذ أمراض النساء والولادة ويعتبر من الشخصيات الفذة في هذا الميدان، وله مشاركات عديدة وهو أول من ولد طفلة أنابيب في المملكة العربية السعودية بل في العالم الإسلامي.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 الرئيس: أرجو من الدكتور باسلامة الإيضاح عما يلي: أولًا: الصور في قسميها من التلقيح الداخلي أو الخارجي والتي سبق طرحها على بعض المجامع العلمية وذكرت في البحوث الموجودة بين أيديكم. ثانيًا: أن يعطينا تصورًا مختصرًا لهذه الصور السبع ثم بعد هذا يرد سؤال مهم، هل الاكتشافات أو الاجتهادات الطبية تجاوزت هذه الصور السبع إلى ما عداها من الصور؟ وهل يمكن تصويرها؟ وهل جاء لها واقع ملموس أم لا؟ السؤال الثالث: أرجو من سعادة الأستاذ أن يعطينا الفرق بين الأسلوب الأول من القسم الأول وبين الأسلوب الثالث من القسم الخارجي. الدكتور عبد الله باسلامه: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أصحاب الفضيلة.. بصفتي طبيب من واجبي أن أضع القضية كقضية إنسانية تواجه الطبيب وتواجه رب الأسرة وتواجه المرأة وتواجه المجتمع، قضية العقم قضية إنسانية ولا أشك أنها الشغل الشاغل للأسرة وفي بعض الأسر على استعداد لأن تبحث العلاج لهذه القضية حتى ولو في الصين.. والآن العالم الغربي له معطيات كثيرة في مجالات شتى بما فيها الطب، والإنجازات الحديثة في الطب أصبحت متطورة بشكل كبير، والإنسان المسلم والأسرة المسلمة ليس في أمان من هذه المعطيات، والانتقال بين الدول وبين المجتمعات أصبح بسهولة، فالأسرة المسلمة أمامها حلول لمشاكلها في عالم غربي ملحد بعيد عن ديانتها، الدوافع الداخلية قوية، فكثير من الأسر أصبحت الآن تشتري تذكرة سفر وتذهب إلى أي مركز من المراكز العالمية لتبحث عن علاج، فواجبنا أن نضع ما يريح ضمير هذه الأسر، عندما تريد أن تبحث عن علاج أو نبين لها الطريق إذا كان في الوسائل التي تستعملها، هل جائز أو غير جائز أو محرم؟ وإجابة على سؤال فضيلتكم، الموضوع يجب أن ينقسم إلى ثلاثة مجاميع رئيسية: - المجموعة الأولى وهي المسماة بطفل الأنابيب. - المجموعة الثانية وهي التلقيح الصناعي وفرق بين الاثنين. - المجموعة الثالثة وهي الرحم الظئر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 طفل الأنابيب: هو الأكثر شيوعًا أو الأكثر طرحًا على وسائل الإعلام وبين الأسر والناس في هذه الأيام، التلقيح الصناعي أقدم من طفل الأنابيب، والرحم الظئر نتج نتيجة التطور في الحالتين، العقم له أسباب كثيرة لكن هذه الذي نحن بصددها اليوم هي علاج لنوع واحد من العقم أو لسبب من أسباب العقم، وأنا أقصد عندما نناقش طفل الأنابيب فإننا نناقش علاجًا لنوع واحد من أسباب العقم، وهو العقم الناتج عن تلف في البوقين اللذين من خلالهما تمر الحيوانات المنوية فتصل إلى البويضة، في التلقيح الطبيعي يضع الرجل النطفة في مهبل المرأة فتسري الحيوانات المنوية إلى داخل الرحم وتنتقل من داخل الرحم خلال البوقين إلى أن تلتقي بالبويضة في الجزء الآخر من البوق، عندما يحدث انسداد أو تلف في هذا الجزء الموصل للبوقين يتعذر الحمل، هناك طريقتان لهذا العلاج، لعلاج العقم الناتج عن تلف البوقين أحدهما وهو الآن أكثر شيوعًا، التدخل الجراحي، معظم المستشفيات في داخل المملكة وفي خارجها أو في العالم الآن أول ما تبحث عنه، تبحث عن وسيلة علاجية جراحية لتسليك هذا البوق لفتحه لإعادة التوصيل، لكن هناك حالات يصعب وتفشل الجراحة فيها ويصبح لا مفر من أن تصبح هذه الأسرة عقيمة أو أن تجد لها مخرجًا في طفل الأنابيب، وقد شرح أخي وزميلي الدكتور محمد علي البار طريقة العلاج بطفل الأنابيب، وهو كما قال أن يتخطوا البوق المسدود بأن تؤخذ من مبيض المرأة وهو في الجزء الآخر من الأنبوبة البويضة، ويؤخذ الحيوان المنوي من الرجل ثم بعد أن يتم اللقاء بينهما يدخلان في الرحم، إذن طفل الأنابيب لن يعالج العقم بأسبابه المختلفة وإنما جزء عندما يتعذر العلاج الجراحي، وهنا أحب أن أنوه ليسمح لي الدكتور البار أنه ليست أسباب قفل البوقين كلها ناتجة عن الزنا أو الإجهاض أو اللولب، ففيه أسباب كثيرة ومتعددة وهو ذكرها ولكن بسرعة لكن أنا أرمي من هذا لأن فيه أسر عربية ومسلمة أيضًا تعاني من هذه المشكلة لم يكن لهذه العناصر الثلاثة سبب أو دخل في الانسداد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 نأتي لقضية طفل الأنابيب، أنا أعتقد أن طفل الأنابيب إذا أخذت البويضة من الزوجة وأخذ الحيوان المنوي من الزوج فهي وسيلة من وسائل علاج العقم بحيث تغلب بواسطة الطب الحديث على انسداد البوقين، على أن يتم ذلك في قيام الزوجية، لكن المشكلة تتفرع من الآتي. عندما تسافر الأسرة المسلمة إلى المراكز التي هي الآن لها خبرات طويلة في هذا المجال فإن العملية قد تتطلب بقاء الأسرة أشهرًا، لأنه كما قال الدكتور البار النجاح محدود، لا يزال في حدود 10 إلى 20 % ففي بعض المراكز كما علمت بحكم تخصصي قد يعرض على الزوجين أنه هنا بويضة جاهزة أو هنا حيوان منوي جاهز فهل هناك استعداد بأن نضع هذا الجاهز وترجعوا إلى وطنكم، طبعًا في الغرب قد يكون هذا السؤال يقابل بترحاب لكن الأسرة المسلمة قد لا تعرف الأحكام الشرعية عندما تقبل هذا العرض، إذا كان الطبيب الذي يقوم بإجراء هذه العملية طبيبًا مسلمًا وملتزمًا فهو طبيعيًا لن يعرض مثل هذا السؤال على الأسرة عندما تذهب لعلاج هذه الحالة بطفل الأنابيب، هذا واحد من المحذورات التي قد تنشأ من تعميم إجازة طفل الأنابيب من غير أن نبين للناس بوضوح ما قد يطرأ عليه من محاذير، الجزء الآخر في هذه العملية وهو كما ذكر الدكتور البار عادة تسحب أكثر من بويضة، لأن في عملية طفل الأنابيب تحضر تبويض صناعي فيمكن أن يتم إخصاب أكثر من بويضة ووجود أكثر من جنين، وفي العادة يوضع ثلاثة من الأجنة ويترك اثنان أو ثلاثة آخرين في الثلاجة قد تستعمل بعد شهر أو شهرين لنفس الزوجة، إذا فسدت الثلاثة التي وضعت في المرة السابقة، الآن القائم في الغرب أن الأجنة الفائضة والموجودة الآن في الثلاجات، أرادوا أن يستخدموها للأبحاث العلمية، وأنا أذكر في مؤتمر دولي من شهرين، مؤتمر أمراض النساء والتوليد كان يتحدث أول رائد في هذا المجال البروفسور ادوارد ويطالب من العالم كله أن يدله متى تبدأ الحياة في الأجنة حتى يتسنى له قبل بدء الحياة أن يجري تجاربه على البويضات الملقحة والموجودة في الثلاجات، هو لم يستطع في مختبره ولا بأجهزته أن يعرف متى تبدأ الحياة، قيل له إنه بعد 18 يومًا، إنه عندما يبتدئ الحبل الشوكي، وقيل له أكثر من ذلك لكن الرجل ذو ضمير حي، وأراد أن يعمل ما يريحه، وقد كنا في مؤتمر سابق وحاولت القيام ببعض المجهودات، أن أجد بعض التفسيرات عن بدء الحياة، لكن هذا مجال آخر ويجب أن نضعه في الحسبان وهو الفائض من الأجنة، والأجنة المسلمة وهي نواة إنسان مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 الموضوع الآخر وهو موضوع التلقيح الصناعي، إذن فهذا طفل الأنابيب وهذه هي الحالة الأولى ونعتقد أنها الحالة التي يجب أن نركز عليها فقط عندما نناقش طفل الأنابيب، بين زوج وزوجة وفي أثناء قيام الزوجية، أما التلقيح الصناعي، الغرض فيه كان لمعاجلة نوع آخر من أنواع العقم وهو العقم الذي لا يوجد له سبب، الأنابيب لا تزال مفتوحة والرحم جيد والنسبة المئوية للحيوانات المنوية جيدة، ولكن لسبب ما يتعذر حدوث الحمل، يقول بعض الأطباء إن السبب يكون راجعًا لوجود مضادات ضد الحيوانات المنوية في عنق الرحم، فهنا طريقة أخرى للتغلب على هذه المضادات بأن تؤخذ الحيوانات المنوية من الزوج وتحقن رأسًا داخل تجويف الرحم، وهذا نوع من التلقيح الصناعي، إذن فهو مجرد وضع حيوانات منوية الزوج بدل أن يضعها في المهبل توضع رأسًا في تجويف الرحم، هذا التلقيح الصناعي الداخلي، في الغرب توسع في هذا المجال ووجد أن المادة التي توضع يمكن أن تؤخذ من الزوج ومن غير الزوج أو من بنك أو كما تفضل الدكتور البار أصبح هناك حتى اختيار لنوع النطفة التي تؤخذ وهذه المحاذير بدون تضييع أي وقت أو جدل فيهما، لن نرتضيها ولا نقبلها، لكن هي القضية الثانية التي نحن بصددها، هي إذا أخذ من الزوج للتغلب على وضع معين في عنق الرحم ووضع داخل تجويف امرأة، أنا أعتقد هذه هي القضيتان. أما الرحم الظئر فهي بين وجود طرف ثالث عندما تتعدى القضية عن الزوج والزوجة إلى طرف ثالث كأخذ حيوان منوي من طرف ثالث أو أخذ بويضة من امرأة أخرى حتى ولو كانت زوجة أخرى أو استعارة رحم آخر لوضع البويضة الملقحة فيه وهو الرحم الظئر، عند وجود طرف ثالث أعتقد أن هذه القضية خرجت من يد الأسرة المسلمة، وعليها أن ترضى بما كتبه الله عليها إذا كان أمر يتطلب هذا، أرجو أن أكون واضحًا فيما سردت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 الرئيس: سعادة الدكتور، الذي يتلخص من كلامكم أن المجموعات ثلاث، المجموعة الأولى طفل الأنابيب وله صورة واحدة، المجموعة الثانية التلقيح الصناعي وله صورتان أي بين الزوجين فقط لا يتجاوز الزوجين، المجموعة الثالثة الرحم الظئر وهي التي يخل فيها طرف آخر غير الزوجين. الدكتور عبد الله باسلامه: المجموعة الأولى في رأيي وهو طفل الأنابيب الذي بين الزوج والزوجة في قيام الزوجية. الرئيس: هي صورة واحدة فقط في طفل الأنابيب. الدكتور عبد الله باسلامه: والصورة الممكنة في رأيي في التلقيح الصناعي هي صورة واحدة فقط وهو من مني الزوج يدخل في رحم الزوجة فقط ولا يستعان بأي مني من أي بنك أو أي وسيلة أخرى. الصورة الثالثة، عندما يدخل طرف ثالث كبويضة أو كرحم ظئر أو كنقل مبيض كل ما بعد ذلك أعتقد أنه لا يمكن أن نسميها صورة ثالثة وأنا لا أعتقد أنها واردة. الرئيس: المهم التلقيح الصناعي له صورة واحدة أو صورتان؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 الدكتور عبد الله باسلامه: صورة واحدة. الرئيس: صورة واحدة فقط، وهو من زوج إلى زوجة، طيب ما وجه تسمية الرحم الظئر للمجموعة الثالثة؟ الدكتور عبد الله باسلامه: هو في الغرب عندما يكون العقم لسبب غير الذي ذكرناه لا هو انسداد في الأبواق أو تلف في عنق الرحم وإنما يكون رحم المرأة في ذاته غير قابل لأن يتحمل وضع الجنين فيه أو حمل الجنين فيه، فهنا تؤخذ البويضة من الزوجة والحيوان المنوي من الزوج وتلقح في انبوبة وتستأجر امرأة أخرى بمبلغ معين من المال يوضع في داخلها الجنين الناتج، وعلى المرأة الثالثة هذه أن تتقبل الحمل والتغيرات الطارئة عن الحمل وبعد الولادة عليها أن ترسل الطفل إلى الأب والأم، وهو يعني عبارة عن استئجار رحم لفترة معينة. الرئيس: يا سعادة الدكتور، هل يمكن أن نعرف وجوه الفرق بين الأسلوب الأول الذي هو طفل الأنابيب وبين التلقيح الصناعي الذي هو أن تؤخذ النطفة الذكرية من رجل متزوج وتحقن في الموقع المناسب داخل مهبل زوجته، هذه هي التلقيح الصناعي. طفل الأنابيب: أن تؤخذ نطفة من زوج وبويضة من مبيض الزوجة فتوضعا في أنبوب اختبار طبي بشروط فيزيائية معينة حتى تلقح نطفة الزوج بويضة الزوجة في وعاء الاختبار ثم بعد أن تأخذ اللقيحة في الانقسام والتكاثر تنقل في الوقت المناسب من أنبوب الاختبار إلى رحم الزوجة نفسها، كأن الفرق بين الأسلوبين أن التلقيح الصناعي ليس فيه مرحلة في الوسط، وإنما هو ينقل من الزوج إلى مهبل الزوجة رأسًا، أما طفل الأنبوب ففيه مرحلة تبقى بين أخذ الطفة من الزوج ومن مبيض الزوجة ثم تكون في وعاء أو في أنبوب ثم بعد ذلك بعد مضي مدة معينة تحقن في مهبل الزوجة؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 هل يمكن معرفة ما يحيط بالأسلوب الأول من مخاطر؟ أما الأسلوب الثاني قد أوضحتم ما يحيطه من مخاطر لاسيما إذا كان على صعيد دولة لا تدين بدين الإسلام يعني إذا كان على يد طبيب غير مسلم أو كان على يد طبيب مسلم غير ملتزم، لكن بالنسبة للأسلوب الأول الذي هو التلقيح الصناعي؟ الدكتور عبد الله باسلامه: التلقيح الصناعي في الأسلوب الذي ارتضيته من الزوج فقط، هذا مخاطرة أنه لو أعطى السائل المنوي في المختبر لعامل المختبر أو في بلاد أخرى وقد يختلط بعينة شخص آخر وهذا نادر جدًا أو قد يكون الطبيب في بلاد غير مسلمة يرى أن هذا الزوج عنده مني لكن ليس فيه حيوانات منوية. الرئيس: يعني قد يعتريه ما يعتري طفل الأنابيب. الدكتور عبد الله باسلامه: أقل شيء. الرئيس: يعني قد يعتريه ولكن بدرجة أقل، إذن يبقى سؤال وإن كان سؤال جانبي هل ممكن معرفة مدى التكاليف المالية؟ وهل فيها مطمع للذين يتولون العملية سواء على الصعيد الغربي أو الشرقي عند الأطباء المسلمين وعند غيرهم؟ ممكن معرفة التقدير الإجمالي أو التقريبي لطفل الأنبوب أو للتلقيح الصناعي الذي بين الزوجين؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 الدكتور عبد الله باسلامه: التلقيح الصناعي قد لا يكلف شيئًا، خاصة إذا أجري في مستشفيات تابعة للدولة أو التأمين الصحي، وقد يكلف جزءًا بسيطًا لا يتعدى مائتي ريال ثلاثمائة خمسمائة ريال. طفل الأنابيب، الطفل الذي أشرفت على ولادته هنا كلف الأسرة مائة ألف ريال في بريطانيا إجراء العملية الآن كما سمعت في بعض المستشفيات هنا التجربة الواحدة تكلف عشرة آلاف ريال وقد تحتاج في المتوسط من 5 إلى 6 تجارب، لكن أنا ما أنظر فقط إلى الناحية المالية، لأن الأسر عندما تريد أن تعالج قضيتها تستدين وتعرض نفسها لأشياء كثيرة في سبيل أن تحصل على الحمل، الوجهة الشرعية أهم في رأيي من التكلفة. الرئيس: شكرًا، أرجو من فضيلة الشيخ عبد الله البسام اختصار البحث الذي تفضل بإعداده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 الشيخ عبد الله البسام: لم تتضح لي المخاطر التي قال عنها سعادة الدكتور من ناحية التلقيح الصناعي المباشر، المخاطر والمخاوف لم تتضح لي، لأنه ذكر المختبرات، والمختبرات يمكن أن يؤخذ مني الرجل إذا أراد فحصه ويجعله في المختبر ولكن حين التلقيح يستبدل بمني آخر حال إجراء العملية، فأحب أن أعرف إن كان فيه شيء من المخاطر لأننا تعرضنا لهذا الموضوع وأبحنا بعض الصور، فإذا كان هناك محاذير فالرجوع إلى الحق فضيلة. الرئيس: جزاكم الله كل خير، لعل الدكتور باسلامه يتفضل. الدكتور عبد الله باسلامه: بسم الله الرحمن الرحيم، المخاطر نظريًا واردة وهي التي ذكرها فضيلة الشيخ البسام، الذي يجري الآن في مستشفيات الدول المسلمة وبالذات المستشفيات التي نعمل بها تصر على أن نعطي الزوج غرفة مجاورة لغرفة الفحص التي يجرى فيها الحصول على المني من أجل قطع كل هذه المحاذير، أعتقد أن هذه ممكن تداولها، يعني هذه ممكن في بعض البلدان المسلمة أو المستشفيات الملتزمة ممكن، فالخوف هنا وارد إذا تركت وعممت في مجالات، أصبحت في يد عيادات ومختبرات عادية ممكن، لكن في مستشفيات ملتزمة وعند أطباء متخصصين، أعتقد هذا المحذور قد لا يكون ذا أهمية كبيرة. الرئيس: المهم أنه الذي يحصل في المحاذير التي تحيط بالأسلوب الأول منها ما هو مدون وموجود في بحث فضيلة الشيخ عبد الله البسام وهو قضية انكشاف المرأة المسلمة على غير من يحل لها، والخلوة بها، كما أن هذه المحاذير موجودة في بحث فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء، إضافة إلى ما تفضلتم به من أن المحظور الذي قد يرد في الأسلوب الثالث وهو طفل الأنابيب قد يكون موجودًا في الأسلوب نفسه الذي هو التلقيح الصناعي لكن كما تفضلتم أخف وقد يكون على سبيل الندرة، لكن الذي يظهر والله أعلم أنه افتراض على سبيل الندرة وهو مجرد افتراض وقد يكون إذا كان الطبيب غير مسلم ملتزم أو كان الجهاز بأجمعه من الطبيب إلى من في المختبر إلى أصحاب العملية غير مسلمين ملتزمين، نفس المخاطر تنتقل، ما الذي يمنع أن تكون المخاطر التي هنالك في طفل الأنبوب أن تنتقل هنا رأسًا في نفس التلقيح الصناعي، وأرجو أن يكون الأمر قد اتضح لفضيلة الشيخ عبد الله البسام، وإذا كان كذلك فتتفضلون بإعطاء ملخص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 الشيخ عبد الله البسام: الملخص الذي أريده كله يدور حول أن الأنواع التي يمكن ممارستها، هي ستة أساليب درست هذه الستة أساليب وظهر أن أربعة منها حرام وأنها لا تجوز لما فيها من مشابهة الزنا واختلاط الأنساب من ناحية، ومن ناحية أخرى أنها زرع ناعم في غير حرثه، والذي أجيز في ذلك هو الأسلوبان اللذان تعرضنا لهما وهما طفل الأنبوب هذا بمحاذيره ومخاوفه والتلقيح الصناعي، أما تلقيح الأنبوب هذا وشرحه سعادة الدكتور وكما هو موجود في البحوث أن فيه مخاطر كبيرة وكثيرة، أيضًا وأنه يخشى له العواقب، وأما التلقيح الصناعي هذا فهو أخف من الأول بكثير، وهناك حالات كثيرة يستدعي الأمر لها، وهي الحالات التي بها العقم كانسداد في المجاري وكضرر في المجاري يقتل الحيوانات أو نحو ذلك أو أن يكون الرجل هو نفسه غير مستطيع للعملية فيه الماء الملقح ولكن هو ليس عنده استعداد لذلك، العنة أو نحو ذلك هذه أشياء وأمور تستدعي الحقيقة الإقدام على هذا النوع وهو التلقيح الصناعي فقط إذا كان هذا لا يوجد مخاوف ولا مخاطر لأنه "درء مفاسد مقدم على جلب مصالح" والله سبحانه وتعالى قسم الناس ووصفهم إلى أربعة أقسام: منهم من يرزق الذكور ومنهم من يرزق الإناث، ومنهم من يزرق النوعين، {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} هذا الحال من حالات الحياة يعني يرضخ لها الإنسان ويسلم هذا مع وجود المخاوف والمخاطر التي تحف بالموضوع، أما في حالة عدم وجود مخاوف ولا مخاطر ولا يخشى لها من عواقب ففيها إسعاف وتلبية لرغبة الأمومة والأبوة ما في ذلك شك. هذا ما أردت عرضه حول الموضوع، وهو موضوع معروف ومبحوث والحمد لله، فنحن نحب أن نعرف رأي إخواننا الأطباء والخبراء في هذا النوع لأنهم أدرى منا بالمخاوف التي تحيط بالموضوع، وأعرف منا بهذا الشيء وهم الذين نحب أن يتناولوا هذا ونحب مثلًا إن كان عندهم بحوث لنستفيد منها لأننا علينا على رجال الشرع أنهم يحكمون ولكن الحكم فرع عن التصور لا نستطيع أننا نحكم ببحث شيء حتى نعلم عنه ونكون على ضوء ما يظهر من بحوثهم ومما كتبوه ومن بيانهم نستطيع أن نقول هذا حرام وهذا حلال، وأسأل الله التوفيق، وشكرًا. الرئيس: أرجو من الدكتور البار أن يتفضل بما لديه أولًا ثم أن يجسد لنا قضية المخاطر التي تحف بالتلقيح الصناعي وهل هي توازن المخاطر التي تحف بطفل الأنابيب أم لا؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 الدكتور محمد علي البار: بسم الله الرحمن الرحيم، عرض على فضيلتكم أستاذنا الدكتور عبد الله باسلامه الصور التي يمكن أن تكون مباحة في الإسلام أما الصور الأخرى التي لا شك في حرمتها فأعرض عنها، فأنا أحب أن أوضح لكم الصور جميعها لا لتحكموا بحلها أو بحرمتها ولكن لتكونوا على بينة من أنواع الصور المختلفة التي تحدث في هذا الموضوع لأنها واضحة الحرمة في الحقيقة، هي طريقتان، الاستيلاد غير الطبيعي، هو التلقيح الصناعي داخل الرحم والطريقة الأولى فيه كما ذكر الدكتور عبد الله بسلامه، أن يؤخذ مني الزوج ويحقن في رحم زوجته حال قيام عقد الزوجية. الصورة الثانية منها وهذا حدث بالفعل وقد ثارت قضية في فرنسا ويحدث كثيرًا الآن، أن الزوجة بعد أن توفي زوجها ذهبت إلى المحكمة وطلبت أن تلقح بمني زوجها الموجود في البنك، فسمح لها بذلك وولدت طفلًا في العام الماضي، وهناك عديد من الحالات تعد بالآلاف الآن اللائي لقحن بمني الزوج بعد وفاته أو بأزواج غير معروفين، هذه صورة لاشك أن الفقهاء الأجلاء سيرفضونها لأنها بعد انحلال عقد الزوجية، بعد انتهاء عقد الزوجية سواء بالموت أو بالطلاق أو بغيرها. الصورة الثانية أيضًا في هذا الباب: يحقن ماء رجل غريب في الزوجة فتحمل الزوجة، وهذا لاشك في حرمته. الصورة الثالثة: يحقن ماء الزوج في امرأة أخرى غير زوجته فتحمل وتلد، وبعد الولادة تتنازل عن الطفل لمن يدفع الثمن. الصورة الرابعة: يتم تلقيح امرأة ما ليست زوجته بمني رجل غريب عنها وفي اليوم الخامس يجري غسيل للرحم يسمى (Lavage) وإذا تم العثور على البويضة الملقحة يغرز في رحم الزوجة العاقر، ويستخدم هذا الإجراء عندما يكون الرجل وزوجته عقيمين ولكن رحم زوجته سليم ويمكن أن يتقبل اللقيحة. الصورة الخامسة: يتم تلقيح امرأة ما بمني الرجل الذي يريد الإنجاب وفي اليوم الخامس يجري غسيل للرحم فإذا تم العثور على اللقيحة أخذت وغرزت في رحم الزوجة العاقر، وهذه تشبه الطريقة السابقة إلا أن المني هنا أيضًا للزوج العاقر. الرئيس: لو تكرمت يا شيخ الصورة هذه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 الدكتور محمد علي البار: الصورة الرابعة: تلقيح امرأة بمني رجل غريب عنها كلاهما غريب عن الآخر التلقيح صناعي، يعني داخل الرحم، يحقن كل هذا داخل الرحم داخلي يسمى (التلقيح الداخلي) وفي اليوم الخامس يجرى غسيل للرحم على اعتبار إن البويضة الملقحة قد وصلت إلى الرحم في اليوم الخامس والسادس فيجرى هذا الغسيل، فإذا استطاعوا أن يجدوا البويضة الملقحة أعادوها إلى رحم الزوجة العاقر وطبعًا زوجها أيضًا عاقر كلاهما عقيم. أما الصورة التي بعدها: فتلقح هذه المرأة الغريبة المتبرعة بمني الزوج لأن الزوج غير عقيم لكن زوجته عاقر وفي اليوم الخامس تؤخذ البويضة الملقحة بواسطة غسيل في الرحم تؤخذ هذه الصورة إلى طبق وتعاد إلى الزوجة العاقر، هذه كلها تسمى تلقيحًا صناعيًا داخليًا. التلقيح الصناعي الخارجي: خارج الرحم وله صور عديدة أيضًا الأولى التي ذكرها الدكتور عبد الله باسلامه وهي التي قبلت من الفقهاء الأجلاء، أن تؤخذ بويضة الزوجة ويؤخذ مني الزوج في حال قيام الزوجية أيضًا، يشترط ذلك، ثم تلقح في أنبوب أو في طبق في الواقع، ثم تعاد في اليوم الثالث إلى رحم الزوجة، بهذه الشروط هناك طبعًا محاذير كثيرة في صور مختلفة. الصورة الثانية: تؤخذ بويضة المرأة وتلقح بمني مانح غير زوجها في طبق ثم تعاد إلى رحمها لتنمو فيه، وتستخدم هذه الطريقة عندما تكون الزوجة عقيمًا بسبب انسداد قناتي الرحم بينما مبيضها سليم، ولكن زوجها عقيم أيضًا وليس لديه حيوانات منوية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 الصورة الثالثة: تؤخذ بويضة امرأة ممن يسمونها مانحة (donner) وتلقح بماء رجل متزوج بامرأة مصابة بالعقم بسبب مرض في مبايضها وتلقح البويضة في طبق ثم تؤخذ اللقيحة وتوضع في رحم المرأة العقيم المتزوجة. الصورة الرابعة: عندما يكون كلا الزوجين عقيمًا، ولكن رحم الزوجة سليم بينما مبايضها مريضة ولا تفرز بويضات، وفي هذه الحالة تؤخذ بويضة امرأة ما يسمونها "مانحة" وتوضع في طبق وتلقح بماء رجل ما يسمونه "مانح" ثم توضع هذه اللقيحة في رحم الزوجة العقيم ذات الرحم السليم. الصورة الخامسة: يكون الرجل "الزوج" سليمًا بينما تعاني زوجته من العقم بسبب مرض شديد في مبايضها ورحمها بحيث إنها لا يمكن أن تفرز بويضات ولا يمكن لرحمها أن يستقبل اللقيحة، فيؤخذ مني "الزوج" ليلقح بويضة من امرأة ما غير زوجته وبعد تلقيح البويضة تعاد اللقيحة إلى رحم المتبرعة أو متبرعة أخرى بالبويضة فتحمله فتكون بذلك أمه الطبيعية من جهتين، فهي صاحبة البويضة وهي التي حملت وولدت ومع هذا تقوم بتسليم وليدها إلى المرأة العاقر ليدعى ابنها حسب القوانين الغربية الغريبة، وذلك مقابل أجر تدفعه المرأة الثرية، وفي بعض الأحيان تؤخذ اللقيحة وتوضع في رحم امرأة مستأجرة فيكون للطفل بذلك ثلاث أمهات الأم صاحبة البويضة، والأم صاحبة الرحم، والأم التي دفعت الثمن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 الصورة السادسة: مثل الحالة السابقة إلا أن الزوج أيضًا عقيم فتؤخذ بويضة امرأة مانحة وتوضع في طبق وتلقح بماء رجل آخر ثم توضع البويضة الملقحة في رحم امرأة أخرى وعند الولادة يسلم الطفل للزوجين العقيمين اللذين دفعا ثمن هذه العملية، وفي هذه الحالة يكون للطفل ثلاث أمهات وأبوين كالآتي: الأم صاحبة البويضة –الأم صاحبة الرحم المستأجر- الأم العاقر التي دفعت الثمن واستلمت الطفل الأب المانح صاحب المني الأب الذي دفع الثمن واستلم الطفل، وهذه الطريقة أشد إيغالًا في الحرمة وهي متبعة في الغرب. الصورة السابعة: الزوجة لها مبيض سليم ولكن رحمها قد أزيل بعملية أو به عيوب خلقية شديدة بحيث لا يمكن أن تحمل، وزوجها سليم، وفي هذه الحالة تؤخذ بويضة الزوجة وتوضع في طبق وتلقح بماء زوجها وتوضع اللقيحة في رحم امرأة أخرى يسمونها "الرحم الظئر" أو الأم المستعارة، وعندما تلد الطفل تسلمه للزوجين مقابل أجر معلوم. وقد افترض طبعًا الشيخ الزرقاء أن التي تحمل اللقيحة في رحمها قد تكون زوجة ثانية للرجل وتتبرع بحمله في رحمها وعند الولادة يسلم الطفل إلى ضرتها، وقد أباحها المجمع الفقهي بمكة المكرمة بالأغلبية، وهذه الطريقة فيها نزاع بين الفقهاء المعاصرين فمنهم من ذهب إلى أن أم الطفل التي يرثها وترثه هي صاحبة البويضة ومنهم من ذهب إلى أن أم الطفل هي التي حملت وولدت لا صاحبة البويضة، واتفقوا على أن تكون الأخرى بمثابة الأم من الرضاع. الصورة الثامنة: الزوجة لها مبيض سليم ورحمها قد أزيل بعملية وزوجها عقيم فتؤخذ بويضتها وتوضع في طبق وتلقح بماء رجل غريب يسمى مانحًا ثم توضع اللقيحة في رحم امرأة متبرعة يسمونها "الرحم الظئر" فإذا تم الحمل وولدت تنازلت عن الطفل لصاحبة البويضة لقاء أجر من المال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 هذه خلاصة للصور المختلفة التي وجدت الآن في الغرب والتي ذكرتها مجلة التايم في عددها الأخير عندما لخصت موضوع التلقيح الصناعي بأنواعه الداخلي والخارجي، وكما قال الدكتور عبد الله باسلامه، هناك صورتان مقبولتان لدى كثير من الفقهاء بالنسبة للتلقيح الصناعي الداخلي، أن يكون من الزوج إلى الزوجة فقط مع أخذ المحاذير: في حال قيام عقد الزوجية، أما إذا انتهى، كما يحدث في الغرب، فالأمر مرفوض. والصورة الثانية، هو التلقيح الصناعي الخارجي وهي أن تؤخذ البويضة من المرأة وتلقح بماء زوجها حال قيام عقد الزوجية ثم تعاد إلى الزوجة فتنمو في رحم الزوجة لا رحم امرأة أخرى، هاتان الصورتان اللتان عرضهما الدكتور عبد الله باسلامه عرضًا واضحًا جليًا هما اللتان اتفق عليهما في كثير من المباحث الفقهية وهي تعاد إليكم مرة أخرى، أما الصورة الأخرى فهي صور غريبة ولا يمكن أن يكون هناك مجال لقبولها أصلًا بين فقهاء الإسلام. الشيخ رجب التميمي: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. إن طفل الأنابيب أو التلقيح الصناعي هما من المواضيع التي يبحثها الفقهاء المسلمون في هذا العصر، وهي من المواضيع التي نقلت إلينا من الغرب، نقلت إلينا من الغرب المادي الذي يريد أن يأخذ الإنسان بصفة الحيوان، وكأن الإنسان الذي كرمه الله وجعله خليفة في الأرض وأنزل عليه الرسل والأنبياء وأتم عليه نعمه بدين الإسلام الذي بعث الله به سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم للناس كافة ليخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم إلى العدالة إلى الكرامة الإنسانية، إن الغرب المادي يريد أن يضع الإنسان كالحيوان في الخانات وفي المصانع وفي التجارب، هذا الموضوع الغريب الذي ابتلي به المسلمون وهم خير أمة أخرجت للناس كرمهم الله وجعل مجتمعهم مجتمعًا ينزع إلى الفضل وإلى الكمال، لا إلى المادية البحتة ولا إلى الحيوانية، أختصر أو أحدد كلامي في طفل الأنابيب في الصورتين اللتين ذكرهما الدكتور، بأن يؤخذ مني الرجل "الزوج" ويوضع بالتلقيح الصناعي في رحم المرأة أثناء قيام الزوجية، أو طفل الأنابيب الذي يأخذ مني الرجل ويوضع مع بويضة الزوجة في طفل الأنابيب لمدة، هذان الموضوعان أو هاتان الصورتان اللتان نبحثهما، لأن بقية الصور هي حرام شرعًا بالإجماع، لأنه في حكم السفاح وفي حكم الزنا، إن التلقيح الصناعي وطفل الأنابيب أمر صناعي، الحياة الزوجية التي أرادها الله للإنسان، والولد، إنجاب الولد إنما يكون بالمعاشرة بين الزوجين معاشرة طبيعية بينهما، لا بواسطة أخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 إن طفل الأنابيب أو التلقيح الصناعي يحصل بواسطة شخص ثالث أو طرف ثالث وهو الطبيب الذي يأخذ المني ويضعه في رحم المرأة هذا أولًا انتهاك لحرمة الإنسانية، لحرمة الزوجية، لأن العلاقة الزوجية والمعاشرة الزوجية بين الزوجين يجب أن تكون في إطار سري كامل، لا يجوز للرجل أن يتكلم أو المرأة أن تتكلم أو تتحدث بما يحصل بينهما، فكيف والأمر انكشف لدى شخص ثالث، هذا أمر فيه انتهاك لحرمة المعاشرة الزوجية، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} ، إذن الإتيان بين الزوج والزوجة في المعاشرة الزوجية لا بواسطة طرف ثالث، وطبعًا يحصل الحمل والإنجاب بالطريق الطبيعي، ثم هناك أمر آخر، نحن في مجتمع إسلامي، إن الأسرة الإسلامية لا تقبل أن ينتسب إليها طفل الأنابيب أو طفل التلقيح الصناعي، لأن هذا يثير القيل والقال، القيل والفتنة والشكوك خصوصًا كما ذكر سعادة الدكتور أن هناك محاذير والناس ليسوا بملائكة، والطرف الثالث ليس ملكًا ولكنه إنسان يعتريه ما يعتري الإنسان من شهوة وهوى وخروج عن الالتزام الذي التزمه فليس هناك عصمة، هذا يؤدي إلى أن طفل الأنابيب أو طفل التلقيح الصناعي ينظر إليه في الأسرة نظرة غير طبيعية، يشيرون إليه ولو من طرف خفي، إن هذا أتى عن طريق التلقيح الصناعي أو طفل الأنابيب وهناك تكون الشكوك وتكون الريب ويكون الفساد، والله سبحانه وتعالى أمرنا بأن نغلق باب الفتن وباب الفساد، وسد الذرائع "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 هناك أمر آخر، فلقد سمعت من سعادة الدكتور قد ذكر أن طفل الأنابيب أو التلقيح الصناعي كثيرًا أو أغلبية كبيرة ما يكون مشوهًا وما يكون به عوارض لا يمكن أن تؤدي به إلى الحياة إلا في النادر، وحكم النادر لا قيمة له، إننا نشاهد الحياة الغربية التي نريد أن نقلدها، فيها من المخازي، وفيها من المصائب، وفيها من البلايا، ما انتهكت به الحرمات كلها من الإنسانية وهم يصيحون ولا يقدرون على أن يرجعوا عنها، أنا أحذر إخواني العلماء وأحذر نفسي أيضًا، أن فتح هذا الباب، ندخل به إلى مجتمعنا أمرًا لا نقدر عليه في المستقبل، أمرًا سيؤدي إلى أن يكون هناك في المستشفيات وبين الأطباء آلات للتلقيح والتفريخ كما نشاهد في مزارع الدواجن. أنا أحذر إن فتح هذا الباب لن تقدروا على سَدِّهِ، وكونوا في هذا الأمر حريصين على كرامة المجتمع الإنساني وكرامة المجتمع الإسلامي، فأنتم مسؤولون أمام الله، إني أحذركم ألا تأخذوا فتوى أو قرارًا في هذا الأمر، ولنرجع إلى ما اتخذ من قرارات سابقة فنعمل على إلغائها لأن المجتمع الإسلامي والإسلام لا يرضى أن يكون الإنسان متعرضًا لهذه الإهانات. أيها الإخوة، أيها الأفاضل، أيها العلماء، أنتم حملة الشريعة والله سبحانه وتعالى كرم بني آدم والله سبحانه وتعالى أخبرنا في كتابه العزيز بقوله {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} الله سبحانه وتعالى أراد العقم لإنسان أو إنسانة، فليرض بقضاء الله، لأن المؤمن يرضى بقضاء الله في جميع أموره ويتحمل، ولا يجوز لعاطفة أن تتحكم في الأحكام الشرعية، هذا الحكم الذي سبق وأن وافق عليه بعض العلماء كان نتيجة لناحية عاطفية، لن يتصور أن المرأة تكون عقيمًا لأنها تريد الولد، ولا من الناحية الإنسانية فيها، الناحية العاطفية تريد الولد فيجيء لها بأي ولد، الله سبحانه وتعالى حرم التبني، حتى هذه العاطفة التي كانت موجودة في الجاهلية حرمها الله، وأنى لكم أن تجزموا بصحة النسب ولو واحد في المليون فيه شك، يجب أن يمنع، واحد في المليون وليس واحد في الألف ولا العشرة آلاف، واحد في المليون إن كان هناك محذور يجب أن يمنع، لأن الأنساب كريمة والإسلام حفظ الإنسان وكرمه وبين له الطريق الواضح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 ولا أريد أن أطيل عليكم وأكتفي بهذا القدر من تحذير إخواني العلماء فهم مسؤولون أمام الله هم مسؤولون أمام الله، وسيحاسبهم الله وإياكم أن تنجروا وراء ما في الغرب من مفاسد ومن ماديات سببت أن يكون العالم في قلق واضطراب وهو في قلق واضطراب بسبب ماديتهم البحتة، ونحن المسلمون حملة الرحمة والعدل في العالم إن تمسكنا بديننا وعملنا بما يرضاه ربنا، ولا أريد أن أذكر ما يحصل من محاذير بسبب التلقيح وما حصل من مفاسد في المجتمع، وشكرًا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الشيخ مصطفى الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم.. أحب مبدئيًا إخواني الأساتذة الكرام أن أنبه إلى نقطة، فقد جاء في كلام الأخ الكريم الدكتور البار أن حالة الظئر الضرة، ولما أقول حالة الظئر فلا أحتاج لشرحها فقد صارت معروفة، إن هذه الحالة قد أجازها المجمع الفقهي في مكة إضافة إلى الحالتين اللتين أقرهما وهما التلقيح الصناعي الداخلي بين ماء الرجل وزوجته يحقن حقنًا، وحالة التلقيح الخارجي في أنبوب الاختبار بين بذرتين من زوجين في حالة قيام الزوجية بينهما تلك الحالتان أقرهما المجمع، ففهمت من كلام أخي الكريم الدكتور البار أن المجمع أقر الحالة الثالثة وهي عندما تكون الظئر أو الأم المستعارة ضرة لأخرى لا تحمل، وأن التلقيح يكون بين بذرة زوجها وبويضة تلك الضرة وكلتاهما لزوج واحد، طبيعي واضح، أريد أن أقول وأنبه نعم أن المجمع الفقهي في مكة كان أقر في دورته قبل السابقة الحالة الثالثة هذه، ولكنه في الدورة السابقة قد رجع عن هذا القرار بالنسبة لحالة الظئر الضرة، وذلك لأن الأستاذين الكبيرين الدكتور البار والدكتور باسلامه كانا حاضرين في هذه الدورة السابقة وأقرا ما ذكره بعض الأعضاء نقلًا عن بعض الأطباء أن هذه الحالة يمكن أن يحصل فيها اختلاط في النسب فيما إذا تصورنا أن البويضة من إحدى الضرتين التي أخذت ولقحت في أنبوب الاختبار بمني زوجها وبعد التلقيح في أنبوب الاختبار زرعت اللقيحة في الضرة الأخرى المتبرعة بالحمل، وهي أيضًا زوجة للرجل نفسه، أنه في هذه الحالة من المحتمل، وإن كان على بعد، أن يحصل اتصال بين الزوج والضرة الظئر التي تبرعت بالحمل في مرحلة بعد مرحلة الزرع في الرحم وعندئذ لا يدرى إذا علق الطفل وكبر وولد، هل هو من الزرع من بويضة ضرتها أو هو من بويضة ذاتية منها نتيجة اتصال زوجها بها، هذا الاحتمال أثير في الدورة السابقة للمجمع الفقهي بمكة، وأقر الأطباء الكرام إن كان هذا وإن كان على بعد كبير لكنه حالة محتملة نادرة، وبناء على ذلك رجع المجمع الفقهي في دورته السابقة عما كان أقره في الدورة التي قبلها من جواز هذه الحالة الثالثة، حالة الظئر الضرة، فأحببت أن أنبه إلى هذه الناحية، ثم أحب أن أنبه أيضًا تنويرًا لاخواني الكرام أن المجمع الفقهي في مكة لم يطلق إباحة الحالتين اللتين أقرهما عندما تكون البذرتان من زوجين وفي حال قيام الزوجية، هذه الحالتان الخارجية والداخلية لم يقرهما بإطلاق، وإنما المجمع الفقهي الكريم قرر قبل الكلام على الصور، قرر مبادئ عامة، من جملة تلك المبادئ أن كل انكشاف لامرأة على شخص أجنبي هذا محظور شرعًا ولا يباح إلا لحالات الضرورة، وكذلك أقر أن من جملة الحالات التي لا ضرورة فيها ولا يباح فيها حتى الحالتان الجائزتان ما إذا كان هناك أولاد للزوجين أو للمرأة التي تريد ولكنها تريد المزيد، فهذه أيضًا لا يكون لها مبرر ولو في الشروط المبينة في الحالتين، كذلك من المبادئ العامة التي أقرها أنه كلما ساغت حالة من الحالات الجائزة وأريد تنفيذها يجب أن يتولى عملية التنفيذ طبيبة امرأة إن كان ذلك ممكنًا، امرأة مسلمة، فإن لم يكن ذلك موجودًا فامرأة غير مسلمة، لأن انكشاف أحد الجنسين على الآخر كما هو معروف فقهًا أهون من انكشافه على جنس آخر، وأيضًا إذا لم يتوافر ذلك فطبيب مسلم ثقة عدل يؤمن عليه الكذب والتلاعب والاحتيال، وهكذا أقر عدة مبادئ، هذه كشرائط عامة في الموضوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 الرئيس: فضيلة الشيخ، من الذي يكيف أن هذا هو الطبيب المسلم الثقة؟ من الذي له الحق؟ الشيخ مصطفى الزرقاء: حالته المعروفة بين الناس يعني أن يكون رجلًا متدينًا ملتزمًا محافظًا على واجباته الشرعية يعني ما هو معروف من الناس أن هذا رجل متدين صالح، وهذا على خلاف ما يعرفه الناس من ذلك. والشيء الأخير أيضًا الذي ينبغي أن أكرره تكرارًا، وقد ذكر على ألسنة الأساتذة، أن الجواز محصور في حالتين فقط كما أقره المجمع الفقهي في مكة من بين سائر الحالات الكثيرة والتي تضاعفت أيضًا صورها بين حين وآخر، وتتولد صور كثيرة كما أشار إليه الدكتور البار حفظه الله أن الجواز محصور فقط بهاتين الصورتين لا يتعداهما وبالشروط التي تتحقق بها المبادئ العامة كما ذكرت، وهما التلقيح الصناعي الداخلي بين مني الرجل والمرأة، يحقن حقنًا فيها عندما يكون لا يحصل الحمل بالحال الطبيعي في زوجته يعني في حال قيام الزوجية، والحالة الثانية حالة طفل الأنابيب، لما تكون البذرتان من زوجين، البويضة من زوجة والحيوان الذكري من زوجها ويلقحان في أنبوب اختبار ثم يزرعان في الزوجة نفسها لا في ضرتها، هذا ما أحببت التنبيه إليه مع ملاحظة حالة الضرورة بوجه عام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 الشيخ علي السالوس: كنت أريد أن أستفسر عن الحالة الخاصة بالظئر الضرة والحمد لله أستاذنا الدكتور بين هذا، ثم كنت أريد أن أقول أن الحالتين اللتين وافق المجمع الفقهي بمكة بالشرائط المذكورة قد لا يحتاج إلى نقاش طويل حيث إنني لا أرى فيه أي مانع شرعي، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد. الرئيس: بعد هذه المداولات والإيضاح التام سواء من جهة التصور على يدي الطبيبين الكريمين أو من جهة البحوث المعدة على يد المشايخ الأجلاء، فإنني أستسمحكم في أن أعطي عرضًا موجزًا لنتائج هذه المداولات ثم الخيار متروك إليكم، لكن أحب من الطبيبين الكريمين أن ألقي عليهم سؤالًا كالآتي: أنواع التلقيح كانت تدخل تحت فئتين: التلقيح الداخلي والتلقيح الخارجي بأنواعه السبعة التي هي قابلة للتكاثر، ثم سمعنا الأستاذ باسلامه أنه ينبغي التقسيم إلى ثلاث مجموعات – مجموعة طفل الأنابيب – مجموعة التلقيح الصناعي – مجموعة الرحم الظئر. لكن أنا أسأل الطبيبين الكريمين أنه بدا لي أنه يكون هناك تقسيم رئيسي لتدخل فيه هذه الصورة وما يستجد، ومن ضوء المداولات الفقهية، وهذا التقسيم يكون كالآتي: - التلقيح الذي يكون بين الزوجين فقط، سواء كان بواسطة الحقن أم بواسطة طفل الأنابيب أم بأي واسطة يكتشفها الطب في أي فترة أخرى. - القسم الثاني التلقيح الذي يكون فيه طرف من غير الزوجية القائمة. فما أدري نظر الأستاذ باسلامه لأنه هو الذي أوحى بالمجموعات حول هذا التقسيم. الدكتور عبد الله باسلامه: بسم الله الرحمن الرحيم.. هنا يجب أن ننظر، ويبدو لي المفهوم العلمي واللغوي للكلمات، إذا قصرنا المفهوم اللغوي والعلمي، التلقيح بين الزوجين، التلقيح في عرفنا الطبي ولا أستطيع أن أخوض فيه لغويًا، هو أن تلتقي البويضة بالحيوان المنوي فيتم التلقيح، لكن هذا لو أخذناه كجزء وحده لا يمنع أن يتم التلقيح وتؤخذ خلاصة التلقيح وتوضع في طرف ثالث، فيجب هنا أن ننوه أو على الأقل أن نضع بين قوسين ما نقصد بالتلقيح، وهو التلقيح ثم حضانة ما في التلقيح في الزوجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 الرئيس: نحن نستطيع أن نحذف كلمة التلقيح إذا رأى المشايخ ذلك، وتكون التوليد أو الولادة أو الحمل، لكن أنا قصدي أنه المجموعات من حيث النظرة الشرعية إما أن تكون بين زوجين فقط أو أن هناك طرفًا ثالثًا فهذا هو المنطلق الأصل في قضية التوالد، فهل من اعتراض من وجهة نظر الأطباء على مثل هذا التقسيم. الدكتور عبد الله باسلامه: لو قلنا التلقيح والحمل بين الزوجين يمكن تكون أفهم، والوضع الآخر هو في وجود طرف ثالث. الشيخ عبد الله البسام: الطرف الثالث هذا يحتمل أن يكون هو الطبيب المجري للعملية سواء كانت عملية في الأنبوب أو عملية التلقيح الصناعي ويحتمل أن يكون الطرف الثالث هذا امرأة مستعارة أو رجلًا مستعارًا. الرئيس: المراد من لهم أثر، المراد الذي ينطلق منه الماء سواء كان ذكرًا أو أنثى، لكن أنا قصدي أننا لو جعلناه تحت هاتين المجموعتين، لأنني انطلقت من هذا من شيء واحد لأن الطبيبين الفاضلين ذكروا أنه جاء صور بعد هذه الصور السبع متعددة، فطالما أنه هناك صور، فالمنطق الشرعي إذا كان الماء من زوجين فهذا قسم مستقل بنفسه بصوره وإذا كان من زوجين بينهما طرف ثالث، ماء رجل ثالث أو ماء امرأة ثالثة، فهذا قسم يدخل تحته الصورة القائمة وما يأتي من الصور المستقبلة التي أشار إليها على سبيل الإجمال الطبيبان الفاضلان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 الشيخ عبد الله البسام: لماذا لا نجعل التقسيم من باب الحكم، مادمنا أننا في مجمع الفقه الإسلامي. الرئيس: أنا أريد يا فضيلة الشيخ هو هذا، أن أصل إلى هذا، نتيجة لهذا أستسمحكم في أن أذكر خلاصة ما دار فإن رأيتموه مناسبًا فذاك وإذا لم يكن مناسبًا فالأمر متروك إليكم والموضوع ما طرح إلا ليعطي البحث المهم الجاد وتتلاقح فيه الفهوم والآثار قبل تلاقح النطف. الشيخ محمد علي التسخيري: معذرة، إذا طرحنا التقسيم طبق ما تفضلتم، هناك صور قد تطرح ويختلف فيها أحيانًا النطفة من الرجل والبويضة من المرأة ثم تنميان في رحم صناعي وهذا شيء محتمل رحم صناعي بدل الأنبوبة تحمل وتصل إلى مستويات وربما العلم يصل إلى هذا المستوى، إذا أصدرنا حكمًا عامًا لهذا العنوان العام ربما نختلف. الرئيس: أنا لا أريد أن أصدر حكمًا عامًا، أنا أريد عنونة للصور الواقعية، أنا عندي مسألة: طفل الأنبوب الآن ركز على أنه بين الزوجين حسب الصورة الثالثة الموجودة لدينا، لكن طفل الأنبوب من الجائز جدًا أن يكون بين زوج وامرأة أجنبية أو بين امرأة أجنبية وزوج، هذا من الجائز جدًا، لكن لعله لوحظ في هذا أصل المنشأ، أن طفل الأنبوب أصل نشأته إنما هو بين زوجين وإلا فمن الجائز جدًا أن يكون طفل الأنبوب بين زوج وامرأة أجنبية أو أن هناك رجلًا أجنبيًا هذا جائز جدًا ومتصور وقد ذكر الأطباء هذا التصور بل من المخاطر التي تحيط بطفل الأنبوب حينما يكون بين زوجين. الشيخ مصطفى الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم.. إخواني الأساتذة الكرام، سيادة الأخ المدير أنا أستطيع أن أرد جميع حالات الجواز إلى حالة واحدة ولكن لها شروط، كل شيء له شروط، ممكن أن نقول إن حالة الجواز واحدة وهي ما إذا كانت البذرتان اللتان يتكون منهما الجنين مأخوذتين من زوجين في حال قيام الزوجية بشرط أن تكون المرأة التي تحضنهما هي الزوجة نفسها لا سواها، سواء بعد ذلك أكان بطريق التلقيح الداخلي وهو طريقة حقن ماء الرجل بدلًا من الجماع الطبيعي في رحم المرأة أو كان بطريق التلقيح في الأنابيب ثم زرعه في رحم المرأة نفسها، يعني حالة واحدة ولكن بشروط، أن يكون من زوجين في حال قيام الزوجية وتكون التي تحمل هي الزوجة نفسها سواء بطريق التلقيح الداخلي أو الخارجي، وأما إذا قلنا فقط أن تكون البذرة من زوجتين فيبقى احتمال ولابد من وضع شرط وهو أن يزرع في رحم صاحبة البذرة وإلا لو لم نضع هذا الشرط يبقى احتمال أن تؤخذ البذرتان من زوجين وتزرعا بعد التلقيح في امرأة ظئر، وهذه قد أخرجت من الجواز، فلو حصرنا الموضوع في حالة واحدة وبشرائط يكون أجمع وكل ما سوى ذلك يقال من مختلف الصور مهما تنوعت هو حرام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 الشيخ عبد الله البسام: أؤيد ما قاله فضيلة الشيخ مصطفى، بأنه لو حدثت أحوال أخرى وهو تحت قاعدة أن النطفتين –مني الرجل الزوج والزوجة- لو حدثت أمور أخرى استطعنا واستطاع أي إنسان أن يبحث ويدخلها تحت هذه القاعدة، لأننا لا نعرف لأن فيما بعد يأتي صور أخرى كهذا، فإذا قعدناها على هذا الأساس مهما أتت من الصور دخلت تحت هذا وما عدا نطفة الزوج ونطفة الزوجة في امرأة زوجة واحدة هي صاحبة البويضة. الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم أعتقد في هذا المقام أنه لابد من الوضوح الكامل حتى لا تكون القرارات محل تأويل، وعندنا أمران منفصلان: المنشأ والمحضن، فالمنشأ لابد من التنصيص على أنه من زوجين في حالة قيام الزوجية بينهما، والمحضن: لابد أن يكون هو الأم الذي منها البويضة، والتنصيص عليهما وإن كان فيه تطويل لكن هو مؤكد حتى لا يختلط هذا بهذا وحتى لا يكون محل تأويل، وشكرًا. الرئيس: يعني لابد من وجود شروط. الشيخ المختار السلامي: طبعًا، المحضن والمنشأ. الشيخ محمد شريف أحمد: بسم الله الرحمن الرحيم.. في الحقيقة إني أقدر العوامل النفسية والاجتماعية التي تدفع أطباءنا المسلمين الملتزمين بإثارة الموضوع لدى هذا المجمع الفقهي الكبير ولكني أود فقط أن أثير ملاحظة وهي أن هذا الطفل المصنع بالتلقيح الصناعي أو طفل الأنابيب سيكبر حتمًا ويصبح إنسانًا مسلمًا ويستمع إلى القرآن الكريم، أود أن أثير هذه الملاحظة، فماذا سيكون شعوره عندما يسمع إلى القرآن الكريم يقول: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أقصد التركيز على كلمة "دافق" {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} والآية الثانية {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} وأيضًا على {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} مجرد ملاحظة لا أقل ولا أكثر، وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 الشيخ محمد عبده عمر: بسم الله الرحمن الرحيم.. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد.. فإنني أقدم الشكر والامتنان للسادة الأفاضل الأطباء الذين أفضوا علينا بيانهم في هذا الموضوع الشائك والمهم للأمة الإسلامية، وأنا أعتقد أن العلم مقدس في الإسلام وأننا مأمورون كمسلمين أن نستفيد منه في كل نواحي حياتنا، وأنا مع الرأي الذي يؤيد هاتين الصورتين: أطفال الأنابيب، وأطفال التلقيح الصناعي، أما المحاذير فيمكن كما تفضل الشيخ مصطفى الزرقاء، أن نضع لهما الشرائط الصحيحة والسليمة والتي نضمن منهما الحكم الشرعي الصحيح، فأنا أضم رأيي إلى رأي الشيخ مصطفى الزرقاء في جواز هاتين الحالتين، وأيضًا لا ننسى أنه قد تكون من الحالات ألا يكون هناك طرف ثالث، لا طبيب ولا طبيبة أجنبي بل قد يكون الزوج هو الطبيب، وقد تكون الزوجة هي الطبيبة، وفي هذه الحالة ما فيه أي محذور من إدخال جنس ثالث على هذه العملية وشكرًا. الشيخ عبد السلام العبادي: بسم الله الرحمن الرحيم.. في الواقع لا أريد أن أكرر ما دار من نقاش، فقط أحب أن أشير إلى موضوع لم يوقف عنده في المناقشة إذ هو الأمر الذي يجري الآن بالنسبة لأطفال الأنابيب على أخذ أكثر من بويضة وإعداد أكثر من جنين كتسهيل لعملية الحصول على الولد والتي تسمى "الأجنة المجمدة" ما وقفنا عند هذه القضية يعني هي موضوع بداية الحياة، هناك كثير من الآراء الفقهية الآن خاصة في موضوع الحديث عن الإجهاض تصر على أن بداية الحياة هي من لحظة اتحاد الحيوان المنوي بالبويضة، وبالتالي إذا أخذنا اللقيحة الأولى المرشحة ووضعناها في الرحم، وتم الإنجاب، تلك ستتلف أو ستذهب إلى الاختبارات فما هو حكم الإجهاز عليها؟ هل هذا يرشح قيدًا جديدًا على الذين أجازوا بأن تتم العملية بالتدريج، بويضة بحيوان منوي، فإذا فشلت بدأنا بالعملية من جديد وأنه لا يجوز أن نحضر مجموعة كبيرة من الأجنة نقتل ما غير ناجح منها أو غير ما تم زرعه في الرحم وتم منه الولد، خاصة أن عملية الإجهاض الآن عملية نعاني منها معاناة كبيرة وأيضًا تسبب محاذير كثيرة، فإذا أجزنا عملية قتل الأجنة في هذه الحالة بعد أن نأخذ واحدًا منها وتتم عملية الولادة، فإننا يجب أن نأخذ هذا المنحى أيضًا في موضوع الإجهاض ونبيح عملية قتل الأجنة في المراحل الأولى وهو ما يتحفظ بعض العلماء عليه كثيرًا في هذه الأيام، وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 الشيخ عبد الله البسام: أحب أن أعلق على ما قاله فضيلة الشيخ الشريف أنا أشكره على هذه الغيرة من ناحية القرآن من هذه الناحية ولكن أحب أن أقول إن هذا العمل وهذا الاكتشاف أننا لو قلنا إنه ينافي آيات القرآن سواء استعملناه أو لم نستعمله، لو قلنا كذا لصار فيه ثغرة على معاني القرآن ولكن معاني القرآن ما تزال باقية، لا تزال باقية حتى في هذه الحالة، فالطفل خلق من ماء دافق ما خلق إلا من ماء دافق، وأيضًا سيجعل في قرار مكين إلى أجل معلوم أو إلى قدر معلوم، لأنه سينقل وهو بذرة صغيرة سينقل إلى قرار مكين، فأحب أن أقول أن آيات القرآن والحمد لله باقية وأنه لا يعتريها شيء وأنه تنزيل من حكيم حميد، فمهما كانت الحال فالقرآن باق بمعانيه سواء استعملنا هذا العلم أو سواء تركناه لمحاذير أخرى، فالقرآن والحمد لله باق لأنه تنزيل من حكيم حميد. الشيخ محيي الدين قادي: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قضية التلقيح الصناعي أو طفل الأنابيب تؤصل أولًا ثم يفتى فيها ثانيًا، التأصيل أن النسل نعمة من الله من بها على أفضل خلقه وهم الرسل والأنبياء {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} . والأمر الثاني أن النسل سبب لخلود البشر، الحديث الشريف ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)) فعدم النسل لأية أسرة هو موقع في الحرج والمشقة، فالنسل إذن لكل أسرة على انفراد هو حاجة، والحاجة راعتها الشريعة الإسلامية، وثالثًا لا نقول بأن هذه المرأة عاقرًا أو هذا الرجل عقيم، لأن العقم الطبيعي لا يعالج، وهو الذي أشارت إليه الآية الكريمة {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} إنما الذي يعالج هو أمراض مانعة من الحمل لخصها لنا أهل الذكر وهم الأطباء فعليهم أن يشرحوا لنا من الوجهة الطبية وعلى السادة الفقهاء أن يتأملوا جيدًا ويصدروا الحكم، والذي يبدو لي ولست بالضليع وإنما أنا ضالع أنه متى دعت الحاجة إلى ذلك كعلاج لمرض يمنع من النسل مع وضع كل ما أدى إليه عدم الإنجاب من اللجوء إلا الغرب ومن اللجوء إلى مستشفيات غير مسلمة وغير ملتزمة بالأخلاق، يعني نضع هذا وكانت الزوجية قائمة بين الزوج والزوجة وتحققنا من ماء الزوج في التلقيح الصناعي ونظافة الأنبوب وعدم إضافة أي ماء إليه ولا أقول دواء، وحصل المني بالطرق الحلال وهو وطء الزوجة ووضع في محله الذي هو محل الحرث وكان الطبيب ثقة في مهنته وإن وجدت المرأة فلا يتعدى ذلك إلى الرجل وإن لم توجد تعدينا إلى الطبيب المسلم، وكذلك الأمر في طفل الأنبوب ونزيد قيدًا وهو مراقبة عملية النمو في الأنبوب ويكون ذلك تشريعًا متقبلًا في مستشفياتنا وصائغًا لأنه حرص من فقهاء الإسلام على كلية من كليات جميع الشرائع التي هي حفظ النسب والتي جاءت شريعة الإسلام بالحفاظ عليها للأفراد والجماعات وزاد الإسلام برعاية التطبيق لها، والسلام عليكم ورحمة الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 الشيخ محمد علي التسخيري: شكرًا سيدي الرئيس، أود أن أقول هنا بكل اختصار أننا تارة نبحث عن الحكم الأولي لهذه الحالة وأخرى نلاحظ الحكم الثانوي التي تفرضه حالات مقارنة، أما بالنسبة للحكم الأولي فلا أتصور أن هناك أي مانع من قيام هذا التلقيح، ولا أعتقد أن هناك دليلًا معينًا إجماعًا أو شيئًا من هذا القبيل يعارض هذا المعنى، الكلام كله ينصب على العوارض وعلى الظروف الثانوية التي تستدعي حكمًا ثانويًا، والفقيه عليه أن يلاحظ العوارض بشكل دقيق، العوارض التي ذكرها أخونا الكريم والكبير الشيخ التميمي يمكنها أن تنفر الإنسان الفقيه من الحكم بهذا المعنى لكنها لا تستطيع أن تمنعه ولا يمكنها أن تؤدي إلى احتياط مقبول، مثلًا مسألة أن العائلة قد ترفض هذا الشخص مسألة الكرامة الإنسانية قد لا تحفظ هنا قد يأتي وضع طبيعي يحتفظ بالكرامة هنا والعائلة تقبل هذا المعنى، مسألة الشكل، الاعتراض على قضاء الله باعتبار أنه أراد الله العقم وينبغي أن نسير مع هذه الإرادة، الكلام هو من قال أن الله أراد العقم هنا مع أنه يحتمل وجود طريق طبيعي للتخلص من هذه الحالة، وكما أشار أخي محيي الدين، العقم قد يكون هنا العقم الكامل، مسألة الشك في صحة النسب، إذا استطعنا أن نثبت الطريق الشرعي فلا يبقى شك في صحة النسب ولا واحد بالمليون إذا كان الطريق شرعيًا. يبقى مسألة الإجهاز على اللقيحة الإضافية هذا الإشكال وارد ويجب أن يبحثه العلماء هل يجوز الإجهاز على لقيحة ولو قبل لحظات أم لا، وهل تحل الحياة الحقيقية لا الحياة العرفية في هذه اللقيحة أم لا؟ إشكال وارد وربما أدى إلى أن يقول إنسان ما بدية من هذا القبيل إذا توسعنا في مفهوم الدين، هذا المعنى يجب التأكد منه دقيقًا وإذا لم نتأكد يمكننا أن نفترض أن العملية تتكرر، تؤخذ البويضة وتلقح وإذا لم تنتج تتكرر من جديد، وإلا فالإشكال الشرعي باق هنا. النقطة الأخرى مسألة الظئر، هذه المسألة لا نستطيع أن نقول بها بضرس قاطع بعد أن كان الماء من الزوج والبويضة من الزوجة والحمل في رحم مباحة للزوج، فيجب أن نبحث، الإشكال مطروح أنه يحتمل أن الزوج يواقعها ويشتبه الأمران، يمكننا أن نفرق ونشترط على الزوج ألا يتصل بزوجته إلا بعد تبين الحمل بشكل طبيعي ولا يأتي هذا المحذور بعد ذلك، الشيء الآخر هناك فروض أعتقد أننا قد نبتلى بها الآن ولكن من الطبيعي جدًا أن نبتلى بها في المستقبل وهو الفرض الذي أشرت إليه، قد يفترض أن العلم ينمى أو يضع رحمًا صناعيًا، وهذا الرحم الصناعي ليست كمجرد أنبوب وإنما تحتضن الطفل منذ اللقيحة وحتى الولادة، قد يمكن أن يتوصل، نحن يجب أن نلحظ هذه الجوانب أيضًا ولا نغلق الأبواب تمامًا وبعد ذلك نضطر إلى فتحها من جديد، لا أدري إذا كان الإخوة يسمحون أم لا، يمكن أن نحتمل العلم أن العلم يتوصل إلى نطفة صناعية تؤخذ من النباتات وما إلى ذلك، هي أمور يجب أن نلحظها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 الخلاصة، المحاذير التي ذكرت ثانوية كلها ولكنها واقعية يجب أن نلحظها بعين الاعتبار، وعلينا أن نحتاط لديننا ونحتاط لنسلنا، ولكن الاحتياط يجب أن يكون احتياطًا طبيعيًا، الاحتياط المضيق قد يؤدي إلى تحريم حلال، فنغلق الباب أمام حلال شرعي تمامًا كما قد نحلل حرامًا قد نحرم حلالًا وكلاهما مرغوب عنه، وشكرًا. الرئيس: أحب أن أضيف إلى كلمة الشيخ أن الفتيا أو تقرير الجواب لن يتجاوز الصور المطروحة أمامنا، نفس الصور المطروحة أمامنا هي التي تعطينا التصور الكامل للوقائع في هذا التلقيح وفي طفل الأنابيب، فنحن أمام صور واقعة أمامنًا وإذا وجد صور مستقبلية أو طرأ على هذه الصور نفسها ما يغير مسارها الذي شخص أمامنا، فالعلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة وأهل العلم موجودون. الشيخ أحمد محمد الخليلي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. شكرًا معالي الرئيس، في الواقع ما كنت أردت أن أتحدث في هذا الموضوع لأنه مما قيل الحكم على الشيء فرع تصوره، فالشخص الذي لا يتصور الشيء تمام التصور ينبغي أن يقف دون الحكم له أو عليه، والله تعالى يقول {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ولكن من خلال البحث أخذت بعض الفائدة وفهمت شيئًا من صورة التلقيح الصناعي أو طفل الأنابيب، وأردت أن أنبه على شيء، وهو أن الله سبحانه وتعالى بحكمته خلق الإنسان من أبوين من ذكر أو أنثى وجعل بين النسل والأصل رباطًا هذا الرباط يتمثل في هذه العاطفة، عاطفة الأبوة والأمومة من ناحية، ومن ناحية ثانية عاطفة البنوة، وجعل الله سبحانه وتعالى سبب وجود هذا الإنسان بحسب حكمته التلاقي ما بين الزوجين، وهذا التلاقي تصحبه مشاعر الود، مشاعر الرحمة، مشاعر التعاطف بين الزوجين بحيث يكونان كالشخص الواحد بحيث تتحد مشاعرهما تكون كمشاعر الإنسان الواحد، لا ريب أن في ذلك حكمة كبرى من الله سبحانه وتعالى في خلق هذا الإنسان بهذا السبب، فإذا ما فقد هذا الأمر فقدت هذه المشاعر في تكوين هذا الإنسان، ماذا عسى أن يكون مستقبل هذا الإنسان الذي يتولد بهذه الطريقة التي تفقد هذه المشاعر ما بين أبويه في حالة تكوينه، فهل يكون هذا الإنسان في المستقبل إنسانًا طبيعيًا أو تتغير حالته؟ ما أظن أن الأطباء ولا غيرهم يستطيعون أن يجزموا في هذا بحكم، ومن القواعد الشرعية المسلمة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" ومن المعلوم قطعًا أن انكشاف المرأة للرجل الأجنبي حتى ولو كان عدلًا ثقة بل حتى ولو كان نبيًا مرسلًا، لا يصح إلا لضرورة لا محيص عنها، ومادامت المنفعة وهمية، لأن إلى الآن لا نستطيع إن نقول أن المصلحة حاصلة، فالأطباء أنفسهم يقولون أن 80 % من التجارب تبوء بالفشل، فإذن المصلحة إلى الآن هي وهمية، مصلحة مظنونة بينما المفسدة مفسدة متيقنة، وهي اطلاع الرجل الأجنبي مهما كانت حالته في الصلاح والاستقامة على عورة المرأة، وفي نفس الوقت هذه القيود التي ذكرت، طبعًا هي قيود نبعت من أفكار أناس فيهم الغيرة على دين الله تعالى وعندهم حصافة الرأي وعندهم العلم الواسع، ولكن هذه القيود هل نحن نستطيع أن نفرضها؟ إلى الآن طبعًا الحمل يكون في أمريكا أو في أوربا، أين الطبيب المسلم الثقة أو أين الطبيبة المسلمة الثقة؟ هل هناك موجودة، وكون الزوج نفسه طبيبًا والزوجة طبيبة هذه حالات نادرة، والنادر لا حكم له، والإسلام يحرص على أن تكون الأنساب أنسابًا سليمة لا يشوبها أي شك وحسب ما سمعت بأن التلقيح يكون تلقيح عدة بويضات من عدة حيوانات لأجل الاحتياط وهذه يحتفظ بها في الثلاجات هناك، فإذا كان الأمر كذلك هل نحن نأمن بعد ذلك أن يتم لقاح آخر بعدما تم هذا التلقيح ما بين بويضة وحيوان منوي من زوجين بقية البويضات والحيوانات، هل نحن نأمن مادامت هي موجودة في ثلاجات عند ناس غير مؤمنين ناس غير مسلمين لا نأتمنهن بحيث لا يستغلون هذه البويضات وهذه الحيوانات التي تم تلقيحها في توليد عند ناس آخرين، أظن الشيء هذا لا نستطيع أن نجزم فيه خصوصًا بما أن إلى الآن كل شيء يتم في الغرب ولو كانت ولادة مثل التي هنا في السعودية لكن التلقيح تم في الغرب، فمادام الأمر كذلك فيجب أن نتبصر وأن ننظر أيضًا إلى مستقبل هذا الطفل هل يكون مستقبله طبيعيًا أو غير طبيعي، وقد قدم النصيحة فضيلة الشيخ رجب التميمي ويجب أن ينظر إلى هذه النصيحة نظرة اعتبار وتقدير لأنه يجب علينا أن لا نندفع وراء العواطف وأن نقول هذا عمل إنساني أو نقول أننا نريد أن يظهر الإسلام بمظهر التقدم العلمي، لا، الإسلام أجل من ذلك، فالقضية مطروحة للنظر والتأمل، وشكرًا لكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 الرئيس: في الواقع هذا الموضوع حصل حوله مداولات كثيرة وكبيرة ومثرية جدًا، فشكر الله لأصحاب الفضيلة ذلك. وتعرفون أنه استغرق من الزمن الشيء الكثير وليس بكثير على مثل هذا الموضوع الحساس المهم، لكن مثل هذا الموضوع الذي سبق أن أعطى حقه من الدراسة العميقة المتأنية من مجمع فقهي فيه عدد كبير من أصحاب الفضيلة العلماء ودرس في عدة دورات إن لم يكن في اربع ثلاث دورات أو أربع أو خمس دورات ثم توصلوا إلى القرار الأخير، ولهذا أرجو قبول أن أحسم الموضوع وأن أبين الاتجاهات التي حصلت في جلستكم هذه ثم نصوت على الرأيين الموجودين أمامنا من خلال هذه المداولات والمناقشات. مناقش يطلب الكلمة. الرئيس: كلنا يبغي دقيقة يا شيخ رجائي التصويت والرأي رأيكم، يا فضيلة الشيخ عندي عدد مسجلين حوالي ثمانية من المشايخ لم يتكلموا ولا مرة واحدة، فأنا طالما أن المسألة سيتكون فيها عرض لملخص لما جرى وفيها تصويت فإذا رأيتم أنه ينتهي الأمر على هذا لأنه لو تابعنا الكلام قد لا ينتهي والنتيجة فيها وضوح تقريبًا حيث تتجه في مسارين. أصحاب الفضيلة.. إن الذي يتمثل أمامنا الآن هو أمران مهمان: الأمر الأول شبه إجماعي من مجمعكم هذا كما أجمع عليه مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة وهو: - أن الصور الأربع والتي يكون فيها ماء أجنبي من رجل أو امرأة فإنها محرمة ولا مجال لإباحة شيء منها. - بعد هذا أمامنا ثلاث صور، صورة كان مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة أفتى بأنه ينسحب عليها ما ينسحب على الصورتين الأوليين وهو في طفل الأنبوب بين الزوجين وفي التلقيح الصناعي الداخلي بين الزوجين، ثم إنه بعد أن استجد لديهم ما يوجب الرجوع والرجوع إلى الحق فضيلة، قرروا رجوعهم فبقي الجواز في الصورتين اللتين أشرت إليهما فقط، والصورة الثالثة هذه قرر المجمع إلحاقها بالصور الأربع من حيث المنع نظرًا لما يحيط بها من العوامل التي ترجح جانب الحظر على جانب الجواز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 هذا مسار يظهر لي أن مجمعكم الموقر هذا شبه موافق إن لم يكن بالإجماع فهو موافق بالأكثرية، أما من ناحية الصورتين اللتين قرر فيهما مجمع مكة الجواز مع ملاحظة أنه لم يطلق الجواز فيهما وإنما أحاطهما ببعض الشروط والضوابط إضافة إلى أن هذه الشروط ربما عند المتجهين في هذا المجمع ستعمق وسيضاف إليها شيء من مزيد الضبط، وإذا سمحتم أن نأخذ بجانب التصويت، فإن الذي يظهر لي والله تعالى أعلم، وقد حصل لي تأمل في هذا الموضوع من جميع صوره سواء على صعيد مجمع الفقه الإسلامي بمكة في وقت كنت فيه عضوًا أو على صعيد مجمعكم هذا أو من خلال الدراسات الحرة، فإن الذي يظهر لي أن الصور الأربع هي محرمة لذاتها كما أجمع عليه المجمع وأما الصور الثلاث ومنها الصورتان اللتان أجازهما مجمع الفقه الإسلامي بمكة بشروط وضوابط، فالذي يترجح لدي هو القول بالمنع نظرًا لما يترتب عليهما من آثار وما يحيط بهما من ملابسات وشكوك، والشرع أتى بحفظ الأنساب وبحفظ ارتباط المجتمعات وتماسكها إلى غير ذلك من التعديلات الفقهية التي سأذكرها بوجهة نظري ومن يكون معي من الأخوة وأعطي الرأي بعد هذا إلى فضيلة الأمين العام. مناقش يطلب الكلمة. الرئيس: إذا كان يسمح الإخوان نعطي فضيلتكم ولا ينفتح الباب، هذا عن طريق التنازل إذ تتنازلوا وإلا ليس لي الحق، وله أرى بعض الإخوان يطلب الكلمة فاعذرني يا شيخ وإذا اتاكم الدور ممكن. فضلًا أرجو أن تكون الآراء موجزة والإفادة برأي موجز. اختصارًا. الصور الأربع التي قرر أنها محرمة لذاتها. هل من معارض؟ إذن اكتسب هذا الاتفاق من أصحاب الفضيلة. يبقى لدينا ثلاث صور: الصورة الأولى: وهي أخذ النطفة الذكرية من رجل متزوج وتحقن في الموقع المناسب داخل مهبل زوجته أو رحمها حتى تلتقي النطفة التقاء طبيعيًا بالبويضة والتي يفرزها مبيض زوجته التقاء إلى آخره، هذه الصورة مع الصورة المشابهة لها إلا أن بينهما فترة وهيمن كان لديه تحفظ، توقف أو ممانعة في هاتين الصورتين فليتكرم برفع يده. الشيخ رجب، الشيخ أحمد الخليلي، الشيخ الشريف، الشيخ آدم، الشيخ صابون، الشيخ إبراهيم الغويل، الشيخ جيري، الشيخ هارون خليفة، الشيخ علي العصيمي، الشيخ عبده عمر. يبقى الذين يرون من أصحاب الفضيلة الأخذ بما أخذ به مجمع الفقه الإسلامي من جواز الحالتين، الأسلوب الأول والأسلوب الثاني، فارجو الذين يرون الجواز من غير زيادة أي شروط أو تحفظات أو ضوابط أن يتكرموا برفع أيديهم، من غير زيادة، الزيادة كأنني لاحظت أن طبيبًا مسلمًا ثقة والذين يباشرون العملية بأجمعهم سواء الطبيب أو الذي يناوله في المختبر أن يكونوا مسلمين ثقات كأنني لاحظت أن هذا الشرط غير مجسد في مجمع الفقه الإسلامي بمكة، ونحن نريد مسلمًا ثقة، حيث إنه إذا كان عدلًا وليس بمسلم، العدالة إنسانية وليست إسلامية، يجب القول إذا كان مسلمًا عدلًا فعلى أصحاب الفضيلة الذين يرون الجواز كما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي بمكة، أرجو أن يتكرموا برفع أيديهم. الشيخ مصطفى الزرقاء , الشيخ عبد الله البسام , الشيخ عبد السلام العبادي , الشيخ عبد الحليم , الشيخ عبد الستار , الشيخ علي التسخيري , الشيخ عبد اللطيف آل سعد , الشيخ السلامي , الشيخ روحان مبايان مباي, الشيخ محمد عطا السيد , الشيخ عبد الله آل محمود , الشيخ عجيل , الشيخ عبد العزيز عيسى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 مناقش: أرجو أن يكون هناك رفع الأيدي للمتوقفين أيضًا. الرئيس: سيكون.. الدكتور محمد علي البار: هل هناك أصوات للأطباء أو ليس لهم أصوات. الرئيس: المراد هم الأعضاء العاملون سيشار في القرار إلى أن إشارة بدون تحديد أسماء إلى توجهات الأطباء والخبراء والباحثين، والقرار لن يخرج عن قرار مجمع الفقه الإسلامي بمكة وهذه أمانة. الشيخ المختار السلامي: مع افتراض أن الذي يتولى العملية يكون مسلمًا ثقة وعلى هذا صوتنا. الرئيس: الشيخ طه، الشيخ تقي، الشيخ عبد الرحيم، الشيخ ابو بكر، الشيخ صالح طوغ. الشيخ عبد اللطيف الفرفور: بسم الله الرحمن الرحيم شكرًا سيدي الرئيس، خرجت من ذلك كله بأن هذا الأمر قد يبدو ظاهره سليمًا ولكنه ذريعة لفساد كبير قادم ينبني عليه ضياع الأسر وتفككها وضياع الأنساب ووجود بنوك نطف، وهذا ما حدث في أوربا وستقدم علينا هذه المفاسد إن عاجلًا أو آجلًا ويكفي هذا فما بالكم بما وراءه من اطلاع الأجنبي على العورات من غير ضرورة ولا حاجة عامة معتبرة شرعًا، فتح هذا الباب، فتح باب لا يسد، فمن باب سد الذرائع الفاسدة حرم الإسلام كما تعلمون بعض الحلال كالنظر إلى الأجنبية بلا عذر شرعي والخلوة بها وحرم النظر إلى المرأة بشهوة ونفى سيدنا عمر نصر ابن حجاج لا لشيء إلا لأن العواتك تتغزل به في خدورهن بعد أمره إياه بحلق شعر رأسه وتنقبه رضي الله عنهم جميعًا، الشاطبي يقول كما تعلمون "ما غلب ضرره فهو ضرر محض وما غلب نفعه فهو نفع محض، ولا تتمخض الأشياء في هذه الدنيا لجانب النفع ولا للضرر" وهنا غلب الضرر فلا يصح أبدًا الجواب فيه بالفتيا من الله، بالفتيا عن الله بالجواز، إننا مسؤولون يا أيها الأخوة بين يدي الله العزيز الكبير غدًا يوم القيامة عن علمنا هذا الذي تعلمناه وعن فتيانا التي نفتي بها، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} إنني أرى أنه لا يجوز هذا ولا فتح هذا الباب أصلًا في أي صورة مطلقًا لا في المتفق عليه من الصور ولا في المختلف به منها لا في الأولين ولا في الآخرين، لأن هذا يجر بعضه بعضًا، وفتح الباب هنا يؤدي إلى فتح باب الفساد في الأعراض والانساب وهذا شر مستطير، وإن سلم بأنه لم يوجد في الصورتين الأولين في ذاتهما قبح أو ضرر في ذاتهما، فهما محرمان لقبح في غيرهما أو في جوارهما كما ذكر ذلك الأصوليون، وأنا أرى ما يراه معالي الرئيس على بياض، وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 الرئيس: في الواقع فيه بعض المشايخ ما سمعنا أصواتهم. الشيخ عبد العزيز عيسى: أنا موافق على فتوى مجمع مكة بشرط أن يكون عند الضرورة الملزمة وبشروطها لأنني لا أريد أن اصدر فتوى أو اصدر قرارًا بجواز استخدام أطفال الأنابيب سواء بالصورة الجائزة، وأقول بشروطه وهو أن يكونا زوجين وفي أثناء قيام الزوجية ويكونان هما صاحبي البويضتين لأنه يترتب على ذلك المخاطر. الرئيس: فضيلة الشيخ، أصحاب الفضيلة، مجمع الفقه بمكة في الواقع ما أطلقوا الجواز وإنما جعلوا له الشروط الضيقة التي تضيق دائرته وتحفظه في نظرهم ومنها إذا توفرت الضرورة، أظن أن هذا واضح يا شيخ عبد الله. الشيخ عبد العزيز عيسى: إن هذا غير موجود. الرئيس: إن هذا موجود في نص قرار مجمع مكة، وعلى كل، أصحاب الفضيلة الذين ذهبوا إلى الأخذ بما رآه مجمع مكة هم أربعة عشر فإذا كان لأحد من أصحاب الفضيلة أرجو أن تقرأوا ما في قررا مكة فإن كان لأحد من أصحاب الفضيلة مزيد من شرط أو ضابط فإنني أرجو التكرم بتحريره وبعثه إلى الأمانة العامة، وأما إذا كان يرى أن ما جعل من الشروط والضوابط في قرار مكة كافيًا فلا حاجة إلى البحث في هذا، والقرار إن شاء الله تعالى سوف يصاغ بالتوجهات الأربعة، الثلاثة التي حصلت من حيث وجهة المانعين ووجهة المجيزين ووجهة المتوقفين، وأرجو من أصحاب الفضيلة المتوقفين أن يصوغوا صورة قرار في توقفهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 الشيخ عبد الله البسام: هذا نصه، ونظرًا إلى احتمال التلقيح الصناعي بوجه عام من ملابسات حتى في الصور الجائزة شرعًا ومن المحتمل اختلاط النطف أو اللقائح في أوعية الاختبار ولاسيما إذا كثرت ممارسته وشاعت، فإن مجلس المجمع ينصح الحريصين على دينهم ألا يلجأوا إلى ممارسته إلا في حالة الضرورة القصوى، وبمنتهى الاحتياط والحذر من اختلاط النطف أو اللقائح. الرئيس: على كل، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يأخذ بيد الجميع إلى ما فيه خير صلاح العباد والبلاد وأن يوفق الجميع، وأرجو من أصحاب الفضيلة الذين أبدوا توقفهم وهم الشيخ طه، والشيخ تقي العثماني، والشيخ عبد الرحيم والشيخ ابو بكر والشيخ صالح طوغ أن يجتمعوا بجلسة جانبية ويتفضلوا بصياغة مشروع قرار ويضعوا فيه النقاط التي أوجبت توقفهم. الشيخ محمد علي التسخيري: صورة الظئر لم تطرح. الرئيس: طرحت، وهو أن الذين رأوا قرار مكة أجازوا فقرتين فقط. الشيخ محمد علي التسخيري: طرحت صورتان أما الصورة الثالثة فلم تطرح. الرئيس: أنتم تحركتم قليلًا، فلعل في وقت تحرككم.. الأمين العام: الأستاذ الشيخ محمد علي تسخيري انتم تتجهون إلى أي رأي من الآراء الثلاثة. الرئيس: هل إلى قرار مكة أو إلى الآراء الأخرى. الشيخ محمد علي التسخيري: موافق على قرار مكة ما عدا مسألة صورة الظئر الضرة فلا مانع فيها. الرئيس: يعني إضافة إلى الثلاث. الشيخ محمد علي التسخيري: إضافة إلى الاثنتين الصور الثلاثة أوافق عليها. الرئيس: يعني قرار مكة الأول، شكرًا، وبهذا ترفع الجلسة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد الصلاة أرجو أن تتفضلوا بالعودة إلى هنا مباشرة لنتم البحث في بقية الجدول وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 بعد الصلاة الرئيس: أصحاب الفضيلة، في الواقع أنه حصل لي شيء من الاستخارة في موضوع أطفال الأنابيب، ومن المحادثات الجانبية مع بعض أصحاب الفضيلة الأعضاء ومن جانب الإخوان الأطباء، وأعرض عليكم وجهة نظر إذا رأيتموها سليمة فهي، حتى لا نستعجل في امر لنا فيه أناة، والذي أراه أن هذا الموضوع انقسمت فيه الآراء إلى أربعة اقسام: المنع للحالات كلها – الجواز لحالتين فقط – الجواز لثلاث حالات – القول بالتوقف ثم إن القول بالمنع قريب النصاب من القول بالجواز ما عدا فارق شخص أو شخصين، هذا شيء، الشيء الثاني أن الأطباء ذكروا أن لديهم حالة جديرة بالاهتمام وربما تكون مؤثرة على بعض الأحوال التي حصل البت فيها، واستعدوا بأنهم سيقدمون بحثًا من ناحية نظر الطب في هذا الموضوع، والذي تبين لي إذا رأيتم وتفضلتم أن هذا الموضوع لا نستعجل فيه وأنه نظرًا للخلاف الحاصل، ولأن هناك بعض الأطباء فإنني ارى تأجيل الموضوع إلى الدورة القادمة بإذن الله تعالى، ومن ثم فإذا رأيتم وعهدتم إلي وإلى فضيلة الشيخ عبد الله البسام وإلى الطبيب الأستاذ محمد علي البار وإلى فضيلة الأمين العام محمد الحبيب ابن الخوجة، أن أعد أنا بحثًا استخلصه من جميع هذه البحوث التي لديكم سواء من وجهة التصور طبيًا أو من وجهة ترتيب الحكم الشرعي عليها، ومما لدي من البحوث لبعض العلماء وبعض المفاتي في جهات متعددة، ثم بعد ذلك يحصل لي اجتماع بأصحاب الفضيلة الذين ذكرت أسماءهم أو عن طريق المراسلة بطريقتي الخاصة حتى أصل وإياهم إلى صيغة نهائية للبحث الذي لا يكون فيه من التبدد الذي لا يحصل به التصور، حتى أجمع بين نقاط التصور النظرية الطبية ثم ترتيب الحكم الشرعي من خلال كلام الفقهاء وكلام أهل العلم، ثم بعد ذلك يبعث هذا البحث بصفة متكاملة إلى كل عضو من أصحاب الفضيلة في بلده وقبل الدورة المقبلة إن شاء الله تعالى ببضعة شهور لا بشهر ولا بشهرين بل ببضعة شهور حتى يكون هناك دراسة متأنية. وهذا الموضوع طالما أنه جلس عمرًا طويلًا لم يفت به، فليس هناك ما يمنع أن يزيد سنة ويكون فيه شيء من الحكمة والإحكام، والحقيقة ليس من المقبول أن يصدر رأي في مسألة وهي بهذه المثابة الشائكة جدًا ثم بأربعة آراء وفي أوائل ميلاد المجمع، فإذا رأيتم هذا مناسبًا فلعلكم توافقون عليه، ولهذا نتوقف عن اتخاذ القرارات، وشكرًا. - الموافقة بالإجماع. الرئيس: شكرًا أكرمكم الله، إذن تمت الموافقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. قرار رقم 5 بشأن أطفال الأنابيب أما بعد، فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 – 16 ربيع الثاني 1406 هـ / 22 – 28 ديسمبر 1985م. إذ استعرض البحوث المقدمة من السادة الفقهاء والأطباء الذين عرضوا موضوع "أطفال الأنابيب" من جانبيه الفقهي والفني الطبي، ناقش ما قدم من دراسات وافية، وما أثير من جوانب مختلفة لاستيضاح الموضوع. وإذ تبين له أن الموضوع يحتاج إلى مزيد من الدراسة طبيًا وفقهيًا، وإلى مراجعة الدراسات والبحوث السابقة، واستيفاء التصور من جميع جوانبه. قرر: 1- تأجيل البت في هذا الموضوع إلى الدورة القادمة للمجمع. 2- يعهد لفضيلة الشيخ الدكتور بكر أبو زيد –رئيس المجمع- بإعداد دراسة وافية في الموضوع تلم بكل المعطيات الفقهية والطبية. 3- توجيه الأمانة ما يصل إليها إلى جميع الأعضاء قبل انعقاد الدورة القادمة بثلاث أشهر على الأقل. والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 بنوك الحليب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد: فلا ريب أن الهدف الذي من أجله أنشئت "بنوك الحليب" كما عرضها السؤال هدف خير نبيل يؤيده الإسلام الذي يدعو إلى العناية بكل ضعيف أيًا كان سبب ضعفه، وخصوصًا إذا كان طفلًا خديجًا لا حول له ولا قوة. ولا ريب أن أية امرأة مرضع تسهم بالتبرع ببعض لبنها لتغذية هذا الصنف من الأطفال مأجورة عند الله، ومحمودة عند الناس، بل يجوز أن يشترى ذلك منها إذا لم تطب نفسها بالتبرع، كما جاز استئجارها للرضاع كما نص عليه القرآن، وعمل به المسلمون. ولا ريب كذلك أن المؤسسة التي تقوم بتجميع هذه "الألبان" وتعقيمها وحفظها لاستخدامها في تغذية هؤلاء الأطفال في صورة ما سمي " بنك الحليب " مشكورة مأجورة أيضًا. إذن ما المحذور الذي يخاف من وراء هذا العمل؟ المحذور يتمثل في أن هذا الرضيع سيكبر بإذن الله، ويصبح شابًا في هذا المجتمع، ويريد أن يتزوج إحدى بناته، وهنا يخشى أن تكون هذه الفتاة أخته من الرضاع وهو لا يدري، لأنه لا يعلم من رضع معه من هذا اللبن المجموع. وأكثر من ذلك أنه لا يعلم مَن من النساء شاركت بلبنها في ذلك، مما يترتب عليه أن تكون أمه من الرضاع، وتحرم هي عليه ويحرم عليه بناتها من النسب ومن الرضاع، كما يحرم عليه أخواتها لأنهن خالاته، ويحرم عليه بنات زوجها من غيرها –على رأي جمهور الفقهاء- لأنهن إخوته من جهة الأب، إلى غير ذلك من فروع أحكام الرضاع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 ولابد لنا هنا من وقفتين، حتى يتبين الحكم جليًا: 1- وقفة لبيان معنى "الرضاع" الذي رتب عليه الشرع التحريم. 2- وقفة لبيان حكم الشك في الرضاع. معنى الرضاع: أما معنى الرضاع الذي رتب عليه الشرع التحريم، فهو عند جمهور الفقهاء ومنهم الأئمة الثلاثة ابو حنيفة ومالك والشافعي، كل ما يصل إلى جوف الصبي عن طريق حلقه، مثل الوجور، وهو أن يصب اللبن في حلقه، بل ألحقوا به السعوط وهو أن يصب اللبن في أنفه، بل بالغ بعضهم فألحق الحقنة عن طريق الدبر بالوجور والسعوط! وخالف في ذلك كله الإمام الليث بن سعد، معاصر الإمام مالك ونظيره، ومثله الظاهرية، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد. فقد ذكر العلامة ابن قدامة عنه روايتين في الوجور والسعوط. الأولى وهي أشهر الروايتين عنه والموافقة للجمهور، وهي أن التحريم يثبت بهما أما الوجور فلأنه ينبت اللحم وينشز العظم فأشبه الإرتضاع. وأما السعوط, فلأنه سبيل لفطر الصائم، فكان سبيلًا للتحريم بالرضاع كالفم. الرواية الأخرى: أنه لا يثبت بهما التحريم لأنهما ليسا برضاع. قال في المغني: وهو اختيار أبي بكر ومذهب داود وقول عطاء الخرساني في السعوط، لأن هذا ليس برضاع، وإنما حرم الله تعالى ورسوله بالرضاع، ولأنه حصل من غير ارتضاع، فأشبه ما لو دخل من جرح في بدنه. ورجح صاحب المغني الرواية الأولى بحديث ابن مسعود عن أبي داود ((لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم)) . والحديث حجة عليهم، لأنه يتحدث عن الرضاع المحرم وهو ما كان له تأثير في تكوين الطفل بإنشاز عظمه وإنبات لحمه، فهو ينفي الرضاع القليل وغير المؤثر في التكوين، مثل الإملاجة والإملاجتين، فمثل هذا لا ينشز عظمًا ولا ينبت لحمًا، فالحديث إنما يثبت التحريم، الرضاع ينشز وينبت، فلابد من وجود الرضاع أولًا وقبل كل شيء. ثم قال صاحب المغني: ولأن هذا يصل به اللبن حيث يصل بالارتضاع، ويحصل به من إنبات اللحم وإنشاز العظم ما يحصل من الارتضاع، فيجب أن يساويه في التحريم ولأنه سبيل الفطر للصائم، فكان سبيلًا للتحريم كالرضاع بالفم. ونقول لصاحب المغني رحمه الله: لو كانت العلة هي إنشاز العظم وإنبات اللحم بأي شيء كان، لوجب أن نقول اليوم بأن نقل دم امرأة إلى طفلها يحرمها عليه ويجعلها أمه، لأن التغذية بالدم في العروق أسرع وأقوى تأثيرًا من اللبن، ولكن أحكام الدين لا تفرض بالظنون، فإن الظن أكذب الحديث، {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} . والذي أراه أن الشارع جعل أساس التحريم هو "الأمومة المرضعة، كما في قوله تعالى في بيان المحرمات من النساء: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء الآية 23] . وهذه الأمومة التي صرح بها القرآن لا تتكون من مجرد أخذ اللبن بل من الامتصاص والالتصاق الذي يتجلى فيه حنان الأمومة، تعلق البنوة، وعن هذه الأمومة تتفرع الأخوة من الرضاع، فهي الأصل، والباقي تبع لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 فالواجب الوقوف عند ألفاظ الشارع هنا، وألفاظه كلها تتحدث عن الإرضاع والرضاع والرضاعة، ومعنى هذه الألفاظ في اللغة التي نزل بها القرآن وجاءت بها السنة واضح صريح، لأنها تعني إلقام الثدي والتقامه وامتصاصه، لا مجرد الاغتذاء باللبن بأي وسيلة. ويعجبني موقف الإمام ابن حزم هنا فقد وقف عند مدلول النصوص، ولم يتعد حدودها، فأصاب المحز ووفق للصواب. ويحسن بي أن أنقل هنا فقرات من كلامه لما فيها من قوة الإقناع ووضوح الدليل، قال: "وأما صفة الرضاع المحرم، فإنما هو ما امتصه الراضع من ثدي المرضعة بفمه فقط، فأما من سقى لبن امرأة فشربه من إناء أو حلب في فمه فبلغه أو أطعمه بخبز أو طعام أو صب في فمه أو في أنفه أو في أذنه، أو حقن به، فكل ذلك لا يحرم شيئًا ولو كان ذلك غذاؤه دهره كله"، برهان ذلك قول الله عز وجل {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} النساء: 23، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)) ، فلم يحرم الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى نكاحًا إلا بالإرضاع والرضاعة، والرضاع فقط. ولا يسمى إرضاعًا إلا ما وضعته المرأة المرضعة من ثديها في فم الرضيع، يقال: أرضعته ترضعه إرضاعًا، ولا يسمى رضاعة ولا إرضاعًا إلا أخذ المرضع أو الرضيع بفيه الثدي وامتصاصه إياه، تقول: رضع يرضع رضاعًا ورضاعة. وأما كل ما عدا ذلك مما ذكرنا فلا يسمى شيئًا منه إرضاعًا ولا رضاعة ولا رضاعًا، إنما هو حلب وطعام وإسقاء وشرب، وأكل وبلع وحقنة وسعوط وتقطير، ولم يحرم الله عز وجل بهذا شيئًا. قال أبو محمد: وقد اختلف الناس في هذا فقال الليث بن سعد "لا يحرم السعوط بلبن المرأة، ولا يحرم أن يسقى الصبي لبن المرأة في الدواء، لأنه ليس برضاع، إنما الرضاع ما مص من الثدي". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 هذا نص قول الليث وهذا قولنا وهو قول أبي سليمان –يعني داود إمام أهل الظاهر- وأصحابنا، يعني الظاهرية. ورد على الذين احتجوا بحديث: ((إنما الرضاعة من المجاعة)) فكان مما قاله: "إن هذا الخبر حجة لنا، لأنه عليه الصلاة والسلام إنما حرم بالرضاعة التي تقابل بها المجاعة، ولم يحرم بغيرها شيئًا، فلا يقع تحريم بما قوبلت به المجاعة من أكل أو شرب أو وجور أو غير ذلك، إلا أن يكون رضاعة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ". وبهذا نرى أن القول الذي يطمئن إليه القلب، هو ما يتمشى مع ظواهر النصوص التي ناطت كل الأحكام بالإرضاع والرضاع ومعناهما معروف لغة وعرفًا. كما يتمشى مع الحكمة في التحريم بالرضاع، وهو وجود أمومة تشابه أمومة النسب، وعنها تتفرع البنوة والأخوة وسائر القرابات الأخرى. ومعلوم أن الرضاع بهذا المعنى في حالة "بنوك الحليب" غير موجود، إنما هو الوجود الذي ذكره الفقهاء، فلا يترتب عليه حينئذ التحريم. الشك في الرضاع على أننا لو سلمنا برأي الجمهور في عدم اشتراط الرضاع والامتصاص لكان هنا مانع آخر من التحريم. وهو أننا لا نعرف من التي رضع منها الطفل؟ وما مقدار ما رضع من لبنها؟ وهل أخذ من لبنها ما يساوي خمس رضعات مشبعات؟ على ما هو القول المختار الذي دل عليه الأثر، ورجحه النظر، به ينبت اللحم، وينشز العظم، وهو مذهب الشافعية والحنابلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 وهل للبن المشوب المختلط حكم اللبن المحض الخالص؟ ففي مذهب الحنفية قول أبي يوسف –وهو رواية عن أبي حنيفة - أن لبن المرأة إذا اختلط بلبن امرأة أخرى، فالحكم للغالب منهما، لأنها منفعة المغلوب لا تظهر في مقابلة الغالب، وهنا لا يدرى غالب من مغلوب. والمعروف أن الشك في أمور الرضاع لا يترتب عليه التحريم، لأن الأصل هو الإباحة فلا ننفيها إلا بيقين. قال العلامة ابن قدامة في المغني: "وإذا وقع الشك في وجود الرضاع، أو في عدد الرضاع المحرم، هل كملا أو لا؟ لم يثبت التحريم، لأن الأصل عدمه، فلا نزول عن اليقين بالشك، كما لو شك في وجود الطلاق وعدده". وفي "الاختيار" من كتب الحنفية: امرأة أدخلت حلمة ثديها في فم رضيع، ولا يدري: أدخل اللبن في حلقه أم لا؟ لا يحرم النكاح. وكذا صبية أرضعها بعض أهل القرية، ولا يدرى من هو، فتزوجها رجل من أهل تلك القرية، يجوز، لأن إباحة النكاح أصل، فلا يزول بالشك. قال: ويجب على النساء ألا يرضعن كل صبي من غير ضرورة، فإن فعلن فليحفظنه، أو يكتبنه احتياطًا". ولا يخفى أن ما حدث في قضيتنا ليس إرضاعًا في الحقيقة، ولو سلمنا بأنه إرضاع فهو لضرورة قائمة، وحفظه وكتابته غير ممكن، لأنه لغير معين، وهو مختلط بغيره. والاتجاه المرجح عندي في أمور الرضاع هو التضييق في التحريم كالتضييق في إيقاع الطلاق، وللتوسيع في كليهما أنصار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 الخلاصة: أننا لا نجد هنا ما يمنع من إقامة هذا النوع من "بنوك الحليب"، مادام يحقق مصلحة شرعية معتبرة، ويدفع حاجة يجب دفعها، آخذين بقول من ذكرنا من الفقهاء، مؤيدًا بما ذكرنا من أدلة وترجيحات. وقد يقول بعض الناس: ولماذا لا نأخذ بالأحوط، ونخرج عن الخلاف، والأخذ بالأحوط هو الأورع والأبعد عن الشبهات. وأقول: عندما يعمل المرء في خاصة نفسه، فلا بأس أن يأخذ بالأحوط والأورع، بل قد يرتقي فيدع ما لا بأس حذرًا مما به بأس. ولكن عندما يتعلق الأمر بالعموم، وبمصلحة اجتماعية معتبرة، فالأولى بأهل الفتوى أن ييسروا ولا يعسروا، دون تجاوز للنصوص المحكمة، أو القواعد الثابتة. ولهذا جعل الفقهاء من موجبات التخفيف: عموم البلوى بالشيء مراعاة لحال الناس ورفقًا بهم، هذا بالإضافة إلى أن عصرنا الحاضر خاصة أحوج ما يكون إلى التيسير والرفق بأهله. على أن مما ينبغي التنبيه عليه هنا هو أن الاتجاه في كل أمر إلى الأخذ بالأحوط دون الأيسر أو الأوفق أو الأعدل، قد ينتهي بنا إلى جعل أحكام الدين مجموعة "أحوطيات" تجافي روح اليسر والسماحة التي قام عليها هذا الدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت بحنيفية سمحة)) ، ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) ، والمنهج الذي نختاره في هذه الأمور هو التوسط والاعتدال بين الملتزمين والمتهاونين {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 بنوك الحليب الدكتور محمد علي البار ظهرت في السبعينات من القرن العشرين في أوربا والولايات المتحدة فكرة بنوك الحليب بعد أن انتشرت من قبل مجموعة من البنوك مثل بنوك الدم وبنوك القرنية وبنوك المني وبنوك الأعضاء. وتتلخص الفكرة: في جمع اللبن من أمهات متبرعات (أو بأجر) يتبرعن بشيء مما في أثدائهن من اللبن إما لكونه فائضًا عن حاجة أطفالهن، وإما لكون الطفل قد توفي وبقي في الثدي اللبن. يؤخذ هذا اللبن بطريقة معقمة من المتبرعة ويحفظ في قوارير معقمة بعد تعقيمه مرة أخرى في بنوك الحليب. ولا يجفف هذا اللبن بل يبقى على هيئته السائلة حتى لا يفقد ما به من مضادات الأجسام antibodies التي توجد في اللبن الإنساني ولا يوجد مثيلها في لبن الحيوانات مثل الأبقار والجواميس والأغنام. وتأتي أهمية هذا اللبن من الآتي: 1- احتوائه على العناصر المناسبة للطفل الإنساني. 2- احتوائه على مضادات الأجسام antibodies وأجسام المناعة immunebodies. 3- عدم وجود حساسية منه للطفل كما قد يحدث في ألبان الأبقار أو الجواميس أو الأغنام أو الماعز. 4- لبن الأمهات يحمي الأطفال من مختلف أنواع الأخماج infections (الالتهابات) التي تصيب الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي وغيرها من الأجهزة. 5- لبن الأمهات وخاصة الذي يحتوي على خلايا المناعة بكمية كبيرة كما يحتوي على كمية كبيرة جدًا من أجسام المناعة وخاصة من نوع IJA الذي يلعب دورًا في حماية الجهاز الهضمي والتنفسي للطفل. 6- لبن الأمهات يحتوي على نسبة من الزنك بينما لبن الأبقار أو الجواميس أو غيرها من الحيوانات لا يحتوي على الكمية الكافية منه.. ولذا فإن الأطفال الذين ينشأون على لبن غير إنساني يتعرضون لاحتمال الإصابة بأعراض نقص الزنك التي تؤدي إلى حدوث أعراض جلدية إما حادة أو مزمنة متمثلة في بثور وطفح جلدي سرعان ما يمتليء بالصديد أو الدم وخاصة في مخارج الجسم: حول الفم والشرج وفي الأطراف، ويصحب ذلك إسهال قد يكون شديدًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 لهذه الأسباب ولغيرها يدعو الأطباء الأمهات إلى إرضاع أطفالهن لما يشمله ذلك من فوائد عديدة للطفل والأم على السواء. وبما أن الأم قد لا تستطيع إرضاع طفلها لنضوب لبنها أو لوجود مرض معد أو لأي سبب من الأسباب التي تمنع الإرضاع مثل وجود خراج بالثدي فإن البديل لذلك هو إيجاد مرضعة. وبما أن المرضعات قد اختفين من الوجود في المجتمعات الغربية (أوربا وأمريكا) وكثير من بقاع العالم، لذا ظهرت إلى السطح فكرة تكوين بنوك الحليب. وتعتمد هذه الفكرة على تجميع اللبن الفائض أو غير المرغوب فيه من الأمهات المتبرعات وحفظه حفظًا جيدًا في ثلاجات خاصة ثم إعطائه مجموعة من الأطفال هم في أشد الحاجة إليه ومع ذلك فإن أمهات هؤلاء الأطفال لا يستطعن القيام بإرضاعهم. وهؤلاء الأطفال هم: 1- الأطفال الحذج Premature babies أي الذين ولدوا قبل الميعاد (أقل من تسعة أشهر) وكلما كان ذلك أقل من التسعة أشهر كلما كانت حاجة الطفل أكبر. ومن المعلوم أن الأطفال الذين قد جاوزوا ستة أشهر يمكن أن يعيشوا وعلى هذا حكم الشرع وهو الحكم الذي استنبطه الإمام علي رضي الله عنه عندما ولدت امرأة بعد زواجها بستة أشهر فعرضت على عثمان (1) رضي الله عنه فأراد أن يتهمها بالزنا لاتهام زوجها لها بذلك فأبان له الإمام أن حملها وولادتها في ستة أشهر ممكنة وذلك لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وقال تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} كما قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فتبين من ذلك أن أقل الحمل ستة أشهر.   (1) ذكر ابن قدامة في المغني ج ر/ أن هذه الواقعة قد حدثت في خلافة عمر رضي الله عنه، وذكر غيره، أنها حدثت في خلافة عثمان، وسواء كان ذلك في خلافة عمر أو عثمان فإن الحادثة تدل على عظيم فقه الإمام علي رضي الله عنهم أجمعين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 2- الأطفال الناقصو الوزن عند الولادة Small for date رغم أنهم قد أكملوا مدة الحمل الطبيعية تسعة أشهر (280 يومًا من آخر حيضة حاضتها المرأة أو 266 يومًا منذ التلقيح، قد تزيد أو تنقص) . 3- الالتهابات الحادة التي قد تصيب الطفل والإثنانات تجعله في حاجة شديدة للبن إنساني لما يحتويه من مضادات الأجسام. لهذه الأسباب قامت فكرة بنوك اللبن.. والقصد منها إنقاذ مجموعة من الأطفال الذين يحتاجون بصورة خاصة للبن الإنساني في الوقت الذي لا تستطيع فيه أمهاتهم أن يقمن بالرضاعة.. ولا يوجد في هذه المجتمعات مرضعات بأجر أو بغير أجر يقمن بهذا العمل الإنساني النبيل. هذه الفكرة قامت ونفذت بالفعل في أوربا والولايات المتحدة.. وهي فكرة لها ما يبررها من الناحية العملية وخاصة في أوربا وأمريكا.. ومع هذا فإن بنوك اللبن قد انكمشت بصورة خاصة في الولايات المتحدة. يقول الدكتور ماهر حتحوت (رئيس قسم الأمراض الباطنية بأحد المستشفيات الجامعية بالولايات المتحدة) : "إن حجم المشكلة أصغر مما قد تم تصوره ابتداء: لأن الألبان الصناعية (الحيوانية) تكفي وانحصر الاستعمال لمن لهم حساسية خاصة للألبان الصناعية أو لمن لا يستطيعون هضمه.. ونسبة الأطفال الحذج حوالي 7 % من المواليد.. من هؤلاء أقل من 1 % من الـ 7 % (الذين يحتاجون للبن الإنساني) وقد قمت بالاتصال ببنوك الألبان، فلقد انكمش إلى ثلثه في الولايات المتحدة ثم اتصلت بمستشفى الأطفال في لوس أنجلوس للسؤال عن عدد المرات التي استخدموا فيها بنوك اللبن في العامين الأخيرين فكان العدد صفرًا، ولذلك فإن المشكلة صغيرة ومنكمشة، ولكن الاحتمال موجود ومطروح، وقد تختفي المشكلة ثم تظهر بعد ذلك" (1)   (1) ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام (سلسلة مطبوعات منظمة الطب الإسلامي) المنعقدة بالكويت 11/ 8/ 1403 هـ (24/ 5/ 1983م) بإشراف وتقديم د. عبد الرحمن العوضي وزير الصحة العامة والتخطيط ورئيس المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية الكويتي صفحة 35 - 36 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وكنت قد قمت بسؤال مجموعة من أطباء الأطفال العاملين في الولايات المتحدة عندما كنت في زيارة لها في يناير 1983 فذكروا لي أن بنوك الأطفال في الولايات المتحدة في مرحلة الاحتضار وذلك للأسباب التالية: 1- الحاجة إليها نادرة. 2- تكلفتها عالية جدًا. 3- ندرة الأمهات المتبرعات باللبن. 4- يتعرض اللبن المتجمع للفساد مع الزمن رغم حفظه في البنك فهو معرض لإصابته بالميكروبات كما أنه معرض لتحلل بعض المواد الموجودة فيه فيفقد بذلك بعض مزاياه وفوائده. ما هي محاذير استعمال بنوك اللبن؟ 1- أن أول هذه المحاذير التي ينبغي أن نركز عليها في المجتمعات الإسلامية هو المحذور الديني وذلك أن جمع اللبن من أمهات متعددات وخلطه ثم إعطاءه الأطفال يؤدي إلى عدم معرفة مَن من النساء أرضعن مَن من الأطفال، فإذا حدثت الجهالة قد يؤدي ذلك إلى أن يتزوج الأخ أخته من الرضاع أو خالته أو عمته والرسول صلوات الله عليه يقول ((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)) وسنناقش فيما بعد بإيجاز أقوال الفقهاء المحدثين والسابقين في هذا الموضوع الحساس. 2- أن بنوك اللبن حتى في البلاد المتقدمة تقنيًا مثل الولايات المتحدة محفوفة بمجموعة من المحاذير التي سبق الإشارة إليها وهي أن كلفتها عالية جدًا، وأن اللبن المتجمع يتعرض إما لإصابته بالميكروبات وإما لفقدان بعض خصائصه وميزاته نتيجة تحلل المواد الموجودة فيه مع تقادم الزمن، ولندرة الحاجة إليه. 3- أن بنوك اللبن في البلاد النامية تتعرض لهذه المصاعب بصورة أشد وأعتى لأن درجة التقنية والنظافة أقل بكثير مما هي عليه في الغرب، وذلك فإنها بالإضافة إلى كونها باهظة التكاليف جدًا بالنسبة للبلاد الفقيرة تعتبر غير ذات فائدة كبيرة لتعرض اللبن إلى الإصابة بالميكروبات.. ولتحلل مواده الهامة بالتخزين الطويل. يقول الدكتور ممدوح جبر وزير الصحة السابق في مصر وأستاذ طب الأطفال ورئيس نقابة الأطباء: "إن الفكرة تطرح في مصر قليلًا جدًا، ولدى فئة متخصصة قليلة وهي المهتمة بشئون الأطفال المبتسرين (أي الحذج) لأنهم يحتاجون بشدة إلى الرضاعة الطبيعية، ولا يمكن للطفل من الحصول المباشر عليه، ولكن رغم أن الفكرة (أي فكرة بنوك الحليب) تم تنفيذها في بعض البلدان الأوربية وفي أميركا وتحقق نجاح كبير هناك (سبق أن قلنا إن بنوك الحليب في الولايات المتحدة تحتضر) إلا أنه يصعب تنفيذها هنا داخل مصر أولًا، لأن الرضاعة الطبيعية ليس فيها مشكلة في مصر لأن نسبة 85 % من الأمهات المصريات يرضعن أبناءهن رضاعة طبيعية والباقي توفر له الحكومة الألبان الطبيعية (أي المرضع) والباقي توفر له الحكومة الألبان الصناعية المناسبة وبعض البدائل الأخرى (من) الرضاعة. ثانيًا: تنفيذ المشروع يحتاج إلى تكاليف مرتفعة جدًا إذا أردنا توفيره للأطفال العاديين لأن طريقة جمع اللبن نفسها سوف تحتاج إلى كثير من الجهد والوقت كما أن عمليات التعقيم والتبخير والحفظ تحتاج إلى كثير من العمليات وكثير من التكلفة حتى تصل إلى الطفل الثاني الذي سوف يحصل على هذا اللبن إلى جانب أن طريقة إعطاء اللبن للطفل أيضًا سوف تعرضه إلى التلوث، أما عن طريق الرضاعة التي سيتناول بها أو عن طريق الماء وغيره" (1)   (1) ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام ص 460 نقلًا عن الأهرام 23/ 8/ 1983 حتى 29/ 8/ 1983 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 ويقول الدكتور مصطفى حمامي وكيل وزارة الصحة للرعاية الأساسية: "إن الفكرة تطبق في الخارج على اعتبار أن لبن الأم هو أعلى قيمة غذائية يمكن أن تعطى للطفل وأنه إذا أمكن توفيره لدى أم أخرى لا تحتاج إليه في إرضاع طفلها يأخذه طفل آخر.. ولكن في مصر يصعب جدًا تنفيذ الفكرة على أساس أن أقصى قيمة يمكن أن تجمع من الأم الجيدة الإدرار يوميًا لا تزيد عن لتر واحد من اللبن.. فهل تكفي هذه القيمة لإرضاع طفل آخر أو حتى طفلين. ثانيًا: أن من أهم أغراض الإرضاع هو تحقيق الارتباط بين أم وطفل وتوفير جو من الحنان له.. وهذا طبعًا لا يمكن تحقيقه عن طريق البنك، وأيضًا كيف توفر الأم التي ستعطينا اللبن، هل ستكون متبرعة إذا مات طفلها أو فطم، وهل ستولى طفلًا إن كان صحيًا يحتاج بشدة إلى هذا اللبن عن طفلها.. كل هذه الأسئلة مطروحة أمام فكرة التنفيذ وكيف سيودع هذا الحليب؟ هل سيودع في المستشفيات للحالات الخاصة والمحتاجة بشدة له أم سيمنح للقادرين ماديًا والذين يستطيعون الحصول عليه" (1) ويقول الدكتور عبد الصادق حامد الاعرج المدرس بطب بنها بعد أن ذكر فوائد الرضاعة الطبيعية: فهل تستطيع الأم مشاركة طفلها مع آخر يوفر لها الحماية الضرورية عن طريق البنك؟ أم أنه سوف يتحول إلى نوع من التجارة واستغلال إمكانيات الفقيرات وتوجيهها إلى الأغنياء مما يضعف هؤلاء الأمهات ويؤثر تأثيرًا مباشرًا على صحتهن وصحة من يرضعهن من أطفالهن إلى جانب أنه ثبت علميًا أن نسبة حدوث النزلات المعوية في الرضاعة الصناعية خمسة أضعاف الرضاعة الطبيعية فهل تحقق الفكرة القضاء على النزلات المعوية كعلاج" (2) ويقول الدكتور علي فهمي بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة: (3) "إنه لو دخل هذا المشروع نطاق التنفيذ فسيكون فاشلًا وسيخلق جيلًا فاشلًا اجتماعيًا لا يمكن أن يتكيف مع المجتمع والبيئة التي يعيش فيها، وبالتالي سيخلق جيلًا ضعيفًا مليئًا بالأمراض والأوبئة لأنه سيحرم كثيرًا من الأطفال الأصليين أبناء هؤلاء الأمهات اللائي سيتعاملن مع هذا البنك مما سيترتب عليه حرمان هؤلاء الأطفال من حقهم الطبيعي في الغذاء مقابل بيع هذا اللبن كما سينتج عنه تشجيع كثير من الأمهات على امتهان هذه المهنة (مثل الاتجار ببيع الدم) وسيكون هؤلاء الأمهات من الطبقات الدنيا التي لاشك أن لديهن كثيرًا من الأمراض.   (1) ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام ص 461 نقلًا عن الأهرام 23/ 8/ 1983 حتى 29/ 8/ 1983 (2) ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام ص 461 - 462 نقلًا عن الأهرام 23/ 8/ 1983 حتى 29/ 8/ 1983 (3) ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام ص 460 نقلًا عن الأهرام 23/ 8/ 1983 حتى 29/ 8/ 1983 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 "ولا أتصور أن تكون هذه العملية إنسانية لأنها تعمل على تشجيع الأمهات على الامتناع عن إرضاع أطفالهن رضاعة طبيعية.. هذا إلى جانب الناحية النفسية للطفل، فقد أكدت كل البحوث والدراسات أن تربية الطفل الرضيع ليست عملية تغذية فقط إلا أنه إلى جانب ذلك تعطى للطفل جرعة من الإشباع في الحنان والحب والدفء والعطف من الأم". ورغم أن الدكتور علي فهمي لم يفهم الفكرة الأساسية من بنوك اللبن وهي إعطاء لبن إنساني للأطفال الحذج أو غيرهم ممن هم في حاجة ماسة إليه وليس بديلًا عن الرضاعة الطبيعية وإنما هو حالة استثنائية لمن لا تستطيع أن ترضع طفلها المحتاج للرضاعة إلا أن ما ذكره من احتمال وجود طبقة من الأمهات الفقيرات يبعن لبنهن في مقابل دريهمات ويضعن أولادهن في خطر المسغبة، أو إعطاء أولادهن اللبن الصناعي (اللبن الحيواني) مما يعرض هؤلاء الأولاد لمخاطر التغذية بالألبان الصناعية، إلا أن ذلك أمر وارد وخاصة في البلاد النامية حيث رأينا أن التبرع بالدم قد تحول إلى تجارة حيث يقوم الفقراء والمحتاجون ببيع دماءهم لمراكز الدم. أما الدكتور محمد فؤاد إسماعيل أخصائي حفظ وتبريد الألبان في مصر فيقول: "إن الله عز وجل كرم الإنسان وفضله على سائر مخلوقاته، وبتطبيق نظام بنك ألبان الأمهات (ومع تقديري للأمهات) إلا أنها تتمثل بالبقرة الحلوب أو الجاموسة أو النعاج بجمع لبنها وتعامل بوسائل الحفظ المختلفة من تبريد وتجفيف، هذه الطريقة لا يمكن أن يتقبلها الإنسان لا شكلًا ولا موضوعًا" (1) وقد قمت بسؤال بعض المختصين في هذا الموضوع وهم الأستاذ الدكتور محمود حسن أستاذ طب الأطفال ورئيس قسم الأطفال بمستشفى الأطفال والولادة بجدة والدكتور محمد أمين صافي الأستاذ المساعد بقسم الكائنات الدقيقة بكلية الطب جامعة الملك عبد العزيز وصاحب عدة أبحاث في اللبن وخواصه المناعية والدكتور أحمد خالد حميدة الأستاذ المساعد بطب الأطفال جامعة الملك عبد العزيز، وكانت خلاصة آرائهم تتفق في الآتي مع آراء كاتب هذه السطور: 1- لا توجد حاجة حقيقية لبنوك اللبن في البلاد الإسلامية بصورة خاصة والبلاد النامية بصورة عامة.. وذلك لانتشار الرضاعة من الأم وإذا لم تتيسر الرضاعة من الأم فإن المرضعات لا يزلن بحمد الله موجودات.. ولا تزال المجتمعات الإسلامية تعيش نوعًا من التكافل والترابط الأسرى، ففي الأسرة الكبيرة التي عادة ما تضم العمات أو الخالات هناك أكثر من امرأة تستطيع الإرضاع في الأسرة فإذا تعذر على واحدة منهن إرضاع طفلها كان هناك من القريبات أو الجارات أو الصديقات من يقمن بهذا العمل الإنساني العظيم، وإذا تعذر ذلك كله وهو أمر نادر الحدوث فهناك أيضًا المرضعات بأجر أو بغير أجر احتسابًا للثواب عند الله تعالى.   (1) ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام ص 466 نقلًا عن الأهرام 23/ 8/ 1983 حتى 29/ 8/ 1983 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 2- رغم أن الطفل الحذيج Premature baby قد يبقى في مستشفى الأطفال لمدة شهر بينما لا تستطيع أمه البقاء معه طوال هذه المدة لحاجة الأطفال الآخرين والزوج إليها فقد وفرت المستشفيات النظام الحديث الذي يطبق الآن في الغرب وفي المملكة فهو يسمح للأم بالحضور إلى المستشفى في الوقت المناسب لها عدة مرات يوميًا لإرضاع طفلها وإذا لم تتمكن من ذلك أمكن حضور العمة أو القريبة أو المتبرعة بالرضاعة فترضعه. وبذلك يحصل الطفل على فوائد الرضاعة كاملة ويتجنب مزالق وسيئات اللبن الصناعي أو اللبن الذي جمع وحفظ في بنوك اللبن.. كما أن المرضع تكون معروفة معلومة فتصبح إما للطفل الذي أرضعته ويصبح زوجها أباه لأنه صاحب اللبن.. وتعرف بذلك دائرة المحرمات من الرضاع. 3- أن تنفيذ بنوك اللبن حتى في البلاد المتقدمة تعترضه المصاعب والعقبات وهو مكلف.. باهظ التكاليف.. وبالنسبة للبلاد النامية الفقيرة فإن إقامة بنوك اللبن أمر مكلف للغاية إذا أريد أن يكون على المستوى الصحي المطلوب. 4- في البلاد النامية هناك محاذير أخرى فبالإضافة إلى احتمال عدم التعقيم الجيد وفقدان بعض المواد الهامة بالتخزين والحفظ فإن هناك احتمالًا لتحول الأمر إلى تجارة، وأن تضطر الفقيرات المعدمات إلى بيع لبنهن وترك أولادهن للمسغبة أو لمستحضرات الألبان الصناعية. 5- أن الأمهات المرضعات موجودات واستبدال الأدنى بالذي هو خير شبيه بما فعله بنو إسرائيل عندما طلبوا البصل والثوم والعدس وتركوا المن والسلوى. 6- هناك احتمال إذا انتشرت هذه البنوك أن تتقاعس الأمهات السليمات والقادرات على الرضاعة وخاصة الطبقة الثرية المترفة أو الموظفات عن واجب الرضاعة واستبدال ذلك باللبن الإنساني المأخوذ من بنوك اللبن على اعتبار أنه يمثل اللبن الإنساني المطلوب والأفضل بكثير من لبن الأبقار والجواميس والأغنام.. وهذا بدوره يؤدي إلى عدة مخاطر ومحاذير وهي: أ- فقدان الفوائد الجمة للرضاعة للأم.. فالرضاعة تفيد الأم كثيرًا وذلك أن عملية مص الثدي تؤدي إلى إفراز مادة الإكسيرتوسين التي تساعد الأم على عودة الرحم إلى وضعه الطبيعي بعد الولادة، كما أن الرضاعة تساعد الأم الوالدة إلى عودة جسمها إلى وضعه الطبيعي وتمنع بذلك الترهل على عكس ما هو شائع من أن الرضاعة تسبب الترهل، فالرضاعة الطبيعية تساعد الأم في العودة إلى رشاقتها كذلك فإن الرضاعة الطبيعية تساعد الأم على منع الحمل لفترة الرضاعة وتجنبها أخطار حبوب منع الحمل أو اللولب، هذا بالإضافة إلى الفائدة النفسية الهامة لأن عملية الإرضاع وإلزاق الطفل بالصدر يعطي الأم فوائد جمة نفسيًا وبدنيًا.. ويزيد من ارتباطها بطفلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 ب- الفوائد المتعددة للرضاعة للطفل لا تتحقق بأخذ اللبن الإنساني لأن عملية الرضاعة بحد ذاتها تفيد الطفل في نموه النفسي والجسدي، والتقام الطفل الثدي يمنع عنه أذى الميكروبات كما يمنع عنه أذى الاضطرابات النفسية المستقبلية، وتجعله متوازنًا نفسيًا، ومنسجمًا مع مجتمعه، وقد وجد أن الأطفال الذين لم يرضعوا من أمهاتهم أكثر تعرضًا للانحرافات الخلقية والنفسية والأمراض العقلية والسلوك الإجرامي. ج – إن عدم الرضاعة تؤدي إلى نقص إفراز اللبن من الثدي، وأن سحب اللبن من الثدي وحده لا يقوم مقام الطفل الذي يمص الثدي، وذلك لأن إفراز هرمون البردلاكتين الذي يزيد من إفراز اللبن مرتبط بعملية المص ذاتها. د – أن اللبن الإنساني المحفوظ في بنوك اللبن معرض للتلوث أما عند جمعه أو أن عملية التعقيم غير مجدية ولا كافية.. أو.. وهذا هو متوقع عند تناوله إذ يعطي في قوارير قد تحتاج إلى تعقيم شديد.. وهذا أمر قد تهمل فيه الأم التي تعطي طفلها اللبن. وهذا ما يحدث عادة بالنسبة للألبان الصناعية إذ تكون هي في ذاتها معقمة.. ولكن عدم التعقيم يأتي من جهل الأمهات وطريقة تحضيرهن لهذا اللبن وقد أدى ذلك كما تقول منظمة الصحة العالمية إلى إصابة أكثر من عشرة ملايين طفل بنوبات الإسهال سنويًا في العالم الثالث، وإلى أن يموت نصفهم في كل عام نتيجة استعمال الألبان الصناعية كما أن عددًا آخر تضعف مقاومتهم للأمراض التي تصيب الجهاز التنفسي نتيجة استخدام الألبان الصناعية فيؤدي ذلك إلى مزيد من الوفيات، وتقدر الهيئات الطبية أن حوالي عشرة ملايين طفل يلاقون حتفهم سنويًا بسبب عدم إرضاع أمهاتهم لهم.. ومعظم هذه المحاذير موجودة أيضًا في لبن البنوك الباهظة التكاليف. هذا مجمل لأقوال الأطباء في موضوع بنوك اللبن فما هو يا ترى قول أو أقوال الفقهاء في هذا الموضوع؟ رغم أن هذا الموضوع (بنوك اللبن) حديث جدًا ولم يكن موجودًا في السابق بل إنه غير موجود حتى الآن سوى في مراكز معدودة في أوربا والولايات المتحدة وبعض البلاد المتقدمة تقنيًا، ولا يوجد إلى الآن في بلاد المسلمين خاصة وبلاد العالم الثالث عامة لصعوبة تنفيذه ولعدم الحاجة له، أقول: رغم أن هذا الموضوع حديث جدًا إلا أن الفقهاء القدماء قد تعرضوا له بإسهاب في كتبهم عندما تحدثوا عن الرضاعة، وسقى الطفل اللبن من غير التقام للثدي بل تعرضوا لتحول اللبن إلى جبن أو جعله إدامًا في خبز وأكله، وهل يحرم ذلك؟ أي يجعل من تناوله من الأطفال يدخل في تحريم الرضاع (أي الأخت الأم الخالة العمة.. إلخ من الرضاع) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 ولم يبحثوا ذلك فحسب بل بحثوا أيضًا موضوع رضاع الكبير وهل يسبب التحريم أم لا؟ كما بحثوا السعوط والحقنة. ولا تتجه النية هنا إلى استعراض أقوال الفقهاء في هذا الباب فهو باب طويل من أبواب الفقه ويهم الفقهاء تفاصيله، وما يهم الإنسان العادي الذي ليس من أهل الفقه مثلي هو مجمل أقوالهم في القديم والحديث. معنى الرضاع: يقول الشيخ يوسف القرضاوي (1) : "أما معنى الرضاع الذي رتب عليه الشرع التحريم فهو عند جمهور الفقهاء ومنهم الائمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي: كل ما يصل إلى جوف الصبي عن طريق حلقه مثل الوجور وهو أن يصب اللبن في حلقه، بل ألحقوا به السعوط وهو أن يصب اللبن في أنفه بل بالغ بعضهم فألحق الحقنة عن طريق الدبر بالوجور والسعوط. وخالف في ذلك كله الإمام الليث بن سعد، معاصر الإمام مالك ونظيره، ومثله الظاهرية وهو إحدى الروايتين عن أحمد، فقد ذكر العلامة ابن قدامة عنه روايتين في الوجور والسعوط: الأولى: وهي أشهر الروايتين عنه والموافقة للجمهور هي أن التحريم يثبت بهما، أما الوجور فلأنه ينبت اللحم وينشز العظم فأشبه الإرضاع، وأما السعوط فلأنه سبيل لفطر الصائم فكان سبيلًا للتحريم بالرضاع كالفم. الرواية الأخرى: أنه لا يثبت بهما التحريم لأنهما ليسا برضاع.. ورجح صاحب المغني الرواية الأولى بحديث ابن مسعود عن أبي داود ((لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم)) ، وخلاصة رأي ابن حزم والظاهرية أن الرضاع لا يطلق إلا على ما امتصه الراضع من ثدي المرضعة بفمه فقط قال ابن حزم في المحلى: (2) "وأما صفة الرضاع المحرم فإنما هو ما امتصه الراضع من ثدي المرضعة بفمه فقط، فأما من سقى لبن امرأة فشربه من إناء أو حلب في فمه فبلعه أو أطعمه بخبز أو طعام أو صب في فمه أو أنفه أو في أذنه أو حقن به، فكل ذلك لا يحرم شيئًا ولو كان ذلك غذاؤه دهره كله، برهان ذلك قول الله عز وجل {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)) فلم يحرم الله تعالى ولا رسوله في هذا المعنى نكاحًا إلا بالإرضاع والرضاعة والرضاع فقط، ولا يسمى إرضاعًا إلا ما رضعته المرأة المرضعة من ثديها في فم الرضيع يقال: أرضعته ترضعه إرضاعًا ولا يسمى رضاعة ولا رضاعًا إلا أخذ المرضع أو الرضيع بفيه الثدي وامتصاصه إياه، تقول رضع يرضع رضاعًا ورضاعة، وأما كل ما عدا ذلك مما ذكرنا فلا يسمى شيء منه إرضاعًا ولا رضاعة ولا رضاعًا، إنما هو حلب وطعام وسقاء وشرب وأكل وبلع وحقنة وسعوط وتقطير، ولم يحرم الله عز وجل بهذا شيئًا.   (1) ندوة الإنجاب للدكتور يوسف القرضاوي ص 50 - 57 (2) المحلى لابن حزم ج 10 / 7 طبعة دار الفكر المسألة 1866 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 واستطرد ابن حزم وأفاض ورد على الجمهور في احتجاجهم بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الرضاعة من المجاعة)) . وخلاصة هذا الكلام أن المذاهب الأربعة وهي الشافعية والمالكية والحنابلة والحنفية يرون أن تناول خمس رضعات (وهناك خلاف في العدد) مشبعات توجب التحريم بين المرضعة والرضيع ويحرم بالتالي جميع ما يحرم بالنسب لقوله صلى الله عليه وسلم: ((يحرم بالرضاع ما يحرم من النسب)) ، ولا فرق في ثبوت التحريم بالرضاع بين أن يرتضع الطفل من الثدي مباشرة أو أن يشرب لبن المرأة من الزجاجة بعد حلبه، حتى لو صار لبن المرأة جبنا أو مخيضًا فإنه يثبت به التحريم عند الشافعية والحنابلة وقال أبو حنيفة: إذا صار جبنًا أو مخيضًا لا يثبت به التحريم لزوال الاسم (1) وهذا كله في لبن المرأة، أما لبن البهيمة فلا يتعلق به تحريم كما يقول السيد عمر حامد الجيلالي في جوابه عن بنوك الحليب (2) وقد شذ عن هذا الرأي الظاهرية وعلى رأسهم ابن حزم والليث بن سعد كما تقدم، وأما من المحدثين فقد مال الشيخ يوسف القرضاوي في بحثه الطويل عن بنوك الحليب المقدم إلى ندوة الإنجاب بالكويت إلى رأي الظاهرية، وهو أن الرضاعة تستلزم شقين تناول اللبن وتناول الثدي. ولم يوافق الشيخ يوسف القرضاوي الظاهرية في أن الرضاعة من الكبير توجب التحريم، ومال إلى رأي الجمهور بأن هذا كان خاصًا بسالم مولى أبي حذيفة، فقد كان سالم متبني لأبي حذيفة قبل أن يحرم الإسلام التبني، فلما حرم الإسلام التبني شق على أبي حذيفة وزوجته ذلك فقد كانا يعبتران سالمًا ابنهما ولم يكن لهما إلا بيت واحد حينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجة أبي حذيفة: ((أرضعيه تحرمي عليه)) ، أخرجه مسلم وأبو داود وتفاصيل القصة رواها الإمام مالك في الموطأ وعبد الرزاق في مسنده (3)   (1) ابن قدامة: المغني ج 7 / 539 (2) أجوبة على أسئلة مقدمة من قسم الطب الإسلامي (3) كنز العمال ج 6/ 285 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 واتفق الجمهور على أن هذا كان خاصًا بسالم وأن الرضاع المحرم لا يعتبر إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم)) أخرجه أبو داود. وأورد الشيخ يوسف القرضاوي حجة أخرى في أن لبن بنوك الحليب لا يحرم لأنه مختلط من أمهات كثيرات غير معلومات وأن الشك يعتريه ومادام الشك فيه لا يثبت الرضاع لأن الأصل عدم الرضاع. وقد أفتى الشيخ عبد اللطيف حمزة مفتي مصر بأنه لا تحرم رضاعة أي طفل من لبن البنوك واستند المفتي في قوله ذلك إلى مذهب أبي حنيفة الذي ينص على أن الرضاع لا يحرم إلا إذا تحققت شروطه ومنها أن يكون اللبن الذي يتناوله الطفل لبن امرأة وأن يصل إلى جوفه عن طريق الفم ولا يكون مخلوطًا بغيره كالماء أو الدواء أو لبن الشاة أو بجامد من أنواع الطعام أو بلبن امرأة أخرى فإن خلط بنوع من الطعام، وإن طبخ معه على النار فلا يثبت التحريم باتفاق أئمة المذهب الحنفي.. وإذا لم تمسه النار فلا يثبت به التحريم أيضًا عند أبي حنيفة سواء أكان الطعام المضاف غالبًا أو مغلوبًا لأنه إذا خلط الجامد بالمائع صار المائع تبعًا فيكون الحكم للمتبوع والعبرة بالغلبة ولو خلط لبن امرأتين فإن العبرة للغلبة أيهما كان أكثر فإنه يثبت التحريم دون الآخر، وإن استويا ثبت التحريم بهما. والرضاع لا يثبت بالشك، ولا يحل اللبن رائبًا أو جبنًا فإن تناوله الصبي لا تثبت به الحرمة لأن اسم الرضاع لا تقع عليه. وإذا صار اللبن جافًا مسحوقًا فقد زال عنه اسم اللبن وإذا خلط بالماء بعد ذلك لم يعد محرمًا، وإذا جمع اللبن من نساء غير محصورات ولا متعينات بعد الخلط فلا مانع في رأي المفتي الشيخ عبد اللطيف حمزة من الزواج بين من تناول هذا اللبن لعدم إمكان إثبات التحريم لعدم تعيين من تبرعن باللبن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 أما إذا كان اللبن محفوظًا على هيئته السائلة ثم أعطي للأطفال فإن عامل الجهالة يبقى دائمًا ومن ثم لا يكون هناك مانع من الزواج بين الذين رضعوا من هذا اللبن المجهول (1) وقد رد كثير من الفقهاء على المفتي الشيخ عبد اللطيف حمزة والشيخ يوسف القرضاوي وخالفوهما في الرأي المبيح وذهبوا إلى الحرمة.. وإلى رأي الجمهور نذكر منهم عددًا اشترك في ندوة الإنجاب بالكويت وطالبوا بوضع احتياطات مشددة إذا دعت الحاجة القصوى إلى مثل هذه البنوك ومنها أن يكتب على كل قارورة اسم المتبرعة ويسجل ذلك في سجل ويكتب اسم الطفل الذي تناول هذا اللبن ويسجل فيه الطفل ويعلم أهل الطفل اسم هذه المرضعة، وبذلك ينتفي المحذور، نذكر من هؤلاء الشيخ بدر المتولي عبد الباسط أمين الموسوعة الفقهية بالكويت، الدكتور محمد الأشقر الخبير بالموسوعة الفقهية، والشيخ إبراهيم الدسوقي وزير الأوقاف في مصر، الدكتور عمر الأشقر الأستاذ بكلية الشريعة بالكويت، والشيخ عز الدين توني باحث بالموسوعة الفقهية، والشيخ عبد الرحمن خالق وزارة التربية والتعليم بالكويت والدكتور زكريا البري مستشار بيت التمويل الكويتي، ومجموعة من الأطباء من بينهم الأستاذ الدكتور حسان حتحوت أستاذ أمراض النساء والولادة بجامعة الكويت. ومن خارج الندوة أفاض الدكتور عبد الرحمن النجار في الرد على جواب مفتي مصر الشيخ عبد اللطيف حمزة، وقال: إن هذا المشروع حرام شرعًا، وليس هناك أدنى شبهة في حرمة هذا المشروع مع احترامي الشديد للرأي الذي أعلنه فضيلة الشيخ عبد اللطيف حمزة مفتي جمهورية مصر العربية إلا أنني لا أوافق على هذا الرأي إطلاقًا لأن النص في التحريم كان صريحًا، لأن مذهب الشافعية أقر غير ذلك وحرمه وكان النص صريحًا، وكما يحرم اللبن الباقي على أصل خلقته يحرم بعد تغيره على هيئة حالة انفصاله عن الثدي كالجبن والزبد وما عجن به الدقيق أو خالطه ماء أو نحوه، وغلب اللبن على الخليط بأن ظهرت إحدى صفاته الثلاث وهي الطعم واللون والرائحة، لوصول عين اللبن إلى الجوف وحصول التغذي به ويشترط في ثبوت التحريم في ذلك شرب الجميع فلو شربه بعضه متحققًا أنه وصل منه شيء إلى الجوف كأن بقي من المخلوط اقل من قدر اللبن حرم (2)   (1) ندوة الإنجاب ص 458 – 459 نقلًا عن الأهرام 23/ 8/ 1983 و29/ 8/ 1983 (2) ندوة الإنجاب ص 463 نقلًا عن الأهرام 23/ 8/ 1983 و29/ 8/ 1983 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 وبمثل هذا الرأي كتب إلى الأهرام الشيخ محمد حسام الدين رئيس الإدارة المركزية لمكتب شيخ الأزهر (1) وقد ذكر السيد محمد أحمد الشاطري في رده على الأسئلة الموجهة إليه من قسم الطب الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز بعد أن أفاض في موضوع الرضاع وأقوال الفقهاء في ذلك، قال: "بناء على ما تقدم فإني أنصح بعدم تأسيس هذه البنوك كما أن على مستشفيات الولادة أن لا تتساهل في إرضاع طفل لبن غير أمه تجنبًا للوقوع في المحظور شرعًا مستقبلًا" (2) وأصل الحكمة في التحريم بالرضاع أن التغذية بلبن المرضع كالتغذية بلبن الأم الحقيقية وفي ذلك شعور بالأمومة والحنان أيضًا، خصوصًا إذا اقترن بإنشاز العظم وإنبات اللحم كما في الحديث الذي رواه أبو داود وهو: ((لا رضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم)) ، ومعلوم أن المذاهب اختلفت في الكمية والكيفية من الرضاع، ومذهب كل من الإمامين أبي حنيفة ومالك التحريم بالرضعة الواحدة. ومذهب الشافعي وأحمد لابد من خمس رضعات متفرقات. الخلاصة: إن موضوع بنوك الحليب (اللبن) أمر غير مرغوب فيه ولا حاجة له طبيًا وخاصة في البلاد الإسلامية فبنوك الحليب فيها كثير من المحاذير الطبية حيث إن كلفتها باهظة، ولا تقوم مقام الرضاعة من الثدي، وتحتمل إمكانية تلوثها بالميكروبات وتفقد فوائد الرضاعة بالنسبة للأم، وكثيرًا من فوائد الرضاعة للطفل. وقد تتحول إلى تجارة وتؤدي إلى عدم الإرضاع من الأمهات المترفات أو الموظفات كما تؤدي إلى حرمان أطفال الأمهات الفقيرات من الرضاعة لأن الأم تبيع لبنها للبنك بثمن جيد وتعطي طفلها بدلًا عن الرضاع اللبن الصناعي، وبذلك تزداد المخاطر على هؤلاء الأطفال.   (1) ندوة الإنجاب ص 464 نقلًا عن الأهرام 23/ 8/ 1983 و29/ 8/ 1983 (2) مجموعة الأجوبة الفقهية على أسئلة قسم الطب الإسلامي (غير مطبوع) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 وفي الوقت الحاضر على الأقل لا تبدو هناك أي حاجة في البلاد النامية بصورة عامة والبلاد الإسلامية بصورة خاصة إلى إقامة بنوك الحليب. أما من الناحية الدينية فإن الجمهور وهو رأي المذاهب الأربعة الشافعية والمالكية والحنابلة والحنفية يقولون بالتحريم من رضاعة لبن يجمع من أمهات متعددات ويبقى على هيئته أي دون تجفيفه وهذا ما يحدث في البنوك، وأما افتراض السعوط أو الحقنة أو الطعام أو تحويله إلى جبن أو زبد أو الائتدام به مع الخبز فأمر غير وارد لأن هذا اللبن إنما يقصد به إنقاذ مجموعة من المواليد (الحذج أو ناقصي النمو) في الفترة الأولى من حياتهم (لبضع أسابيع أو بضعة أشهر على أقصى مدى) . والمحاذير كثيرة طبيًا واجتماعيًا ودينيًا، ولهذا نرى عدم الحاجة لهذه البنوك. وليس علينا أن نتبع كل صيحة في الغرب وأن نجري وراء كل ناعق هناك كما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنن أهل الكتاب ((حتى لو دخلوا جحر ضب دخلنا وراءهم)) والله الهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 العرض والمناقشة 11/4/ 1406هـ – 23/ 12/ 1985 م الساعة 12.00 – 13.50 الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، عندنا في الجدول بنوك الحليب وأرجو من فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي أن يتفضل بملخص هذا الموضوع، وشكرًا. الشيخ يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. موضوع بنوك الحليب وهو موضوع البحث الذي بين أيديكم كان جوابًا عن سؤال أو استفسار من المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بدولة الكويت، والسؤال كان من بعض الإخوة الأطباء المعنيين بهذه الأمور منهم الأخ الدكتور حسان حتحوت، وهم يثيرون مشكلة: هي أن هناك بعض الأطفال الذين قد يولد أحدهم خداجًا ناقصًا ويحتاج إلى أن يمكث في المستشفى عدة أشهر ويحتاج إلى حليب يرتضعه، وكذلك بعض الأطفال الذين تموت أمهاتهم في الولادة فهؤلاء يحتاجون إلى غذاء أفضل من اللبن أو الحليب الطبيعي الذي أجراه الله تعالى في صدور الأمهات غذاء للأطفال، وكان السؤال يتوجه ما الحكم في إنشاء بنوك لهذا اللبن أو لهذا الحليب المختلط لتغذية مثل هؤلاء الأطفال في مثل هذه الأحوال؟ طبعًا موضوع بنك يجمع اللبن، تبرع المرأة باللبن هذا أمر جائز هي مأجورة من الله ومشكورة من الناس، إذا تبرعت بلبنها لغذاء الطفل، وتجميع هذا بشروطه الصحية هذا أيضًا لا شيء فيه، فما جاء المحذور ولماذا كان السؤال؟ السؤال لأن عندنا نحن المسلمين مسالة التحريم بالرضاع، فقد يترتب على ذلك أن يأتي هذا الطفل ويتزوج من بنت امرأة من هذه النسوة اللاتي تبرعن بلبنها لهذا البنك، أو يتزوج من بنت رضعت من هذا البنك أو نحو ذلك، فما الحكم في هذه الناحية؟ أنا حقيقة نظرت في هذا الأمر على طريقة ما سميته بالأمس " الاجتهاد الجزئي الانتقائي" فنحن نقول إن الاجتهاد الجزئي أمر سهل ومقدور عليه وخاصة إذا كان اجتهادًا انتقائيًا حتى ولو كان في المسائل الجديدة، ونعني بانتهاج الاجتهاد الانتقائي، النظر في الفقه الموروث عن أئمتنا ومذاهبنا المختلفة وسواء كان هذا الفقه للمذاهب المتبوعة أو غير المتبوعة لأنه ربما كان هذا فقهًا لأحد الصحابة أو أحد التابعين ممن ليس لهم مذهب مدون، هذا الفقه غني وسخي وينبغي أن يستفاد منه إذا أردنا الاجتهاد لعصرنا، ولا يمكن أن يقف الاجتهاد على ما دون في المذاهب المعتبرة والمتبوعة، وعند النظر في فقهنا وجدت أن هناك اعتبارين أساسيين في هذه القضية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 الاعتبار الأول: هو تحديد ما هي الرضاعة، هل الرضاعة مجرد وصول اللبن إلى الجوف أم الرضاعة الامتصاص، امتصاص اللبن بالتقام الثدي، الجمهور على الأول، هذا هو الرأي الذي تعلمناه منذ أن كنا طلبة وهو الرأي السائد والمعروف، فالرأي السائد والمعروف هو: أن الرضاع ما وصل إلى الجوف ولو عن طريق الصب في الحلق أو السعوط في الأنف أو أي طريقة كانت، هذا هو الرأي المعروف، وهناك رأي آخر، هذا الرأي الآخر هو رأي الإمام الليث بن سعد وهو أحد الأئمة المعروفين وكان يقارن بالإمام مالك وهو رأي رواية عن الإمام أحمد كذلك وهو مذهب الظاهرية، مذهب داود وأصحابه إلى ابن حزم، وقد أيد ابن حزم هذا الرأي أن الرضاعة لغة هي التقام الثدي وامتصاصه، وقد لا يعرف في اللغة رضع من الإنسان أو الحيوان إلا التقام الثدي وامتصاصه، وأيد هذا تأييدًا قويًا، وعلى هذا الأساس أنا في الحقيقة تبين لي رجحان هذا المذهب وإن لم يكن هو المذهب السائد في الأئمة الأربعة، فقد يرجح الناظر في الفقه الإسلامي مذهبًا غير المذهب السائد وغير المذهب المشهور وينبغي أن يكون هذا هو منهج هذا المجمع، نأخذ الفقه من أوسع أبوابه، هذه من ناحية، من ناحية أخرى مسألة الرضاع المحرم، إذا صرفنا النظر عن مذهب الإمام الليث ورواية الإمام أحمد ومذهب الظاهرية، فهناك مسألة الشك في الرضاع، ما حكم اللبن المشوب؟ اللبن إذا اختلط بغيره، عند الحنفية رأي وهو رأي أبو يوسف وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة أن اللبن إذا اختلط بغيره بلبن امرأة أخرى فالحكم للغالب منهما، ولكن هنا ليس هناك غالب ومغلوب، اختلطت ألبان كثيرة فلم يعد هناك أثر لأي امرأة منهن، ثم من ناحية أخرى أيضًا ذكر الحنفية وقد نقلت في البحث ما ذكره ابن مودود صاحب كتاب الاختيار وهو من الكتب التي درسناها في المرحلة الثانوية في الأزهر، ذكر صاحب الاختيار: لو أن امرأة في قرية أرضعت طفلًا لا يحرم عليه نساء هذه القرية من أجل هذه المرأة لأن الشك في هذه الحالة لا يؤثر، فبناء على هذا قلت أيضًا أنه مادام الموضوع فيه شك لا نستطيع أن نحرم والشك قائم، وقد صح في الحديث الذي رواه مسلم أنه ((خمس رضعات مشبعات معلومات يحرمن)) معلومات وقد قام الشك هنا، من أجل هذا ملت إلى القول بأن هذه البنوك إذا كانت هناك حاجة إليها، لأنني بنيت رأيي في الحقيقة على قول الأطباء أن هناك حاجة قد تقوم لمثل هذه البنوك، وهناك أطباء آخرون قالوا إنه ليس هناك حاجة، إذا لم يكن هناك إليها فكفى الله المؤمنين القتال، إنما إذا قامت حاجة إليها أو حدثت بالفعل هذه الحادثة هل نحرم بنات البلدة على هذا الشخص أو لا؟ هذه هي القضية، أنا أميل في هذا في الحقيقة إلى التضييق في مسألة الرضاعة، يعني على عكس ما كنت في الزكاة، أنا أميل في التوسيع في وعاء الزكاة، أما في مسالة الرضاع فأنا أميل إلى التضييق في التحريم بالرضاع كما أميل إلى التضييق في التحريم بالطلاق أيضًا، وأنا ممن ينصرون مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا، فلهذا أنا أقول أن المذهب الأقوى عندي أو القول الأقوى أنه ليس هناك ما يدل على التحريم، وقد قال بعض الاخوة إننا لماذا لا نأخذ بالاحوط بدل أن نأخذ بالأيسر؟ أنا من منهجي: أنه إذا كان هناك قولان متكافآن أحدهما أحوط والآخر أيسر فإني أفتي عموم الناس بالأيسر، وحجتي في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، صحيح قد يأخذ الإنسان بالأحوط لنفسه أو يفتي أصحاب العزائم من الناس، أما عموم الناس وخاصة في عصرنا وقد ضعف الدين وقل اليقين، في هذه الحالة يفتي بما هو أيسر على الناس لأن هذه الشريعة حنيفية سمحة، ويعجبني من أقوال الأئمة السابقين ما ذكره الإمام النووي في مقدمات المجموع عن الإمام سفيان الثوري وهو إمام وأمير المؤمنين في الحديث وإمام في الفقه وإمام في الورع، قال الإمام سفيان الثوري رضي الله عنه: "إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد" أسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا الرشد والصواب وأن يغفر لنا إن أخطأنا وألا يحرمنا من أجر المخطئ إن أخطأنا وأن نكون من أهل الأجرين إن شاء الله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 الرئيس: فضيلة الشيخ، قبل أن أعطي الكلمة للأستاذ البار أحب أن أسأل هل الإسناد إلى الليث ثابت، لأن كتاب الليث بن سعد الذي طبع لا توجد فيه هذه الكلمة. الشيخ يوسف القرضاوي: الإسناد إلى الليث ثابت لأنني رأيته في أكثر من كتاب، فهو مذكور في المحلى وأظنه مذكور في المغني. الرئيس: هو ذكر في المحلى كما تفضلتم ولكن ما كل ما ذكر يكون ثابتًا، ففي المحلى وفي المغني عشرات الآثار بل الأحاديث التي لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فأنا قصدي هل نحن متيقنون أو لا؟ فالقول على خلاف الجمهور هذا شيء واضح، لكن قصدي أننا نقول أنه لليث، فهل ثبت بالإسناد المضيء صحته إلى الليث. الشيخ يوسف القرضاوي: ما أستطيع أن أقول أنه موجود في الكتب الموثقة.. أما بحث الإسناد فأنت فتحت لنا أمرًا ممكنًا الإنسان يبحث عنه ليراه في المصادر الأكثر قدمًا لعله يكون مذكورا بسنده إن شاء الله. الدكتور محمد علي البار: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سماحة الرئيس أصحاب الفضيلة العلماء، بنوك الحليب أو بنوك اللبن ظهرت في السبعينات من القرن العشرين في أوربا والولايات المتحدة بعد أن انتشرت من قبل مجموعة من البنوك مثل بنوك الدم وبنوك القرنية وبنوك المني وبنوك الأعضاء. وتتلخص الفكرة في جمع اللبن من أمهات متبرعات أو بأجر، يتبرعن بشيء مما في أثدائهن من اللبن إما لكونه فائضًا عن حاجة أطفالهن، وإما لكون الطفل قد توفي وبقي في الثدي اللبن، ويؤخذ هذا اللبن بطريقة معقمة من المتبرعة ويحفظ أيضًا في قوارير معقمة بعد تعقيمه في البنوك. ولا يجفف هذا اللبن لأني وجدت أن بعض من كتبوا في هذا الموضوع يظنون أنه مجفف بل يبقى على هيئته السائلة حتى لا يفقد ما به من مضادات الأجسام التي توجد في اللبن الإنساني ولا يوجد مثيلها في لبن الحيوانات مثل الأبقار والجواميس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 وتأتي أهمية هذا اللبن من الآتي: أولًا: احتواؤه على العناصر للطفل الإنساني. ثانيًا: احتواؤه على مضادات الأجسام وأجسام المناعة. ثالثًا: عدم وجود حساسية منه للطفل كما قد يحدث في ألبان الأبقار أو الجواميس. رابعًا: لبن الأمهات يحمي الأطفال من مختلف أنواع الأخماج، الالتهابات التي تصيب الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي وغيرهما. خامسًا: لبن الأمهات وخاصة الذي يحتوي على خلايا المناعة بكمية كبيرة وكذلك يحتوي لبن الأمهات على نسبة من الزنك بينما يفقد ذلك لبن الأبقار والجواميس. لهذه الأسباب ولغيرها يدعو الأطباء الأمهات إلى إرضاع أطفالهن لما يشمله ذلك من فوائد متعددة، وبما أن الأم قد لا تستطيع إرضاع طفلها لنضوب لبنها أو لوجود مرض معد، أو لأي سبب من الأسباب التي تمنع الإرضاع مثل وجود خراج بالثدي فإن البديل لذلك هو إيجاد مرضعة، وبما أن المرضعات قد اختفين من الوجود في المجتمعات الغربية وكثير من بقاع العالم، لذا ظهرت إلى السطح فكرة تكوين بنوك الحليب، وتعتمد هذه الفكرة على تجميع اللبن الفائض وغير المرغوب فيه من الأمهات المتبرعات، والأطفال الذين يحتاجون إليه بالذات هم: - الأطفال الخدج أي المبتسرين أو الذين ولدوا قبل الميعاد. - والأطفال الناقصو الوزن عند الولادة، يعني يكون مدته طبيعية 9 أشهر لكنه يكون ناقص الوزن عند الولادة. - وفي وجود حالات الالتهابات الحادة التي قد تصيب الطفل –إذا لم يوجد لبن من الأم، هذه الفكرة قامت بالفعل في أوربا والولايات المتحدة، وهي فكرة لها بعض ما يبررها من الناحية العملية، ومع هذا فإن بنوك اللبن قد انكمشت بصورة خاصة في الولايات المتحدة وهذا ما اتفق عليه من كثير من الباحثين والأطباء الذين بحثوا هذا مثل الدكتور ماهر حتحوت، وكنت في الولايات المتحدة في عام 1983 وسألت مجموعة من أخصائيي الأطفال فقالوا إن الحاجة إليها نادرة وأن تكلفتها عالية جدًا، وأن الأمهات المتبرعات باللبن قليلات وأن اللبن الذي يبقى يتعرض للفساد يبدأ يتحلل ويفقد ما به من الميزات الكثيرة التي ندعو إليها في رضاعة الأم لطفلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 المحاذير التي تحدث من استعمال بنوك اللبن: أولها موضوع متروك لكم وقد ذكره الأستاذ الشيخ يوسف القرضاوي وهو موضوع الرضاعة من أمهات مجهولات وموضوع الحرمة التي ستأتي عليه، هذا موضوعكم وأنتم المختصون فيه. النقطة الثانية: أن بنوك اللبن حتى في البلاد المتقدمة محفوف بمجموعة من المحاذير وهي أن كلفتها عالية وأن اللبن المتجمع يتعرض إما لإصابته بالميكروبات وإما لفقدانه بعض خصائصه وميزاته. النقطة الثالثة: إن بنوك اللبن في البلاد النامية تتعرض لهذه المصاعب بصورة أشد وأعتى لأن درجة التقنية والنظافة أقل بكثير مما هي عليه في الغرب، وذلك بالإضافة إلى كونها باهظة التكاليف جدًا بالنسبة للبلاد الفقيرة تعتبر غير ذات فائدة لتعرض اللبن إلى الإصابة بالميكروبات. ويتحدث في هذا مجموعة من الأطباء منهم الدكتور ممدوح جبر وزير الصحة في مصر وأستاذ طب الأطفال ورئيس نقابة الأطباء في مصر الآن ويقول: "إن هذه الفكرة غير صالحة لأن المشكلة غير موجودة ولأن الأمهات بصورة عامة يرضعن أطفالهن وإذا لم تستطع الأم أن ترضع طفلها فهناك أحد الحلول الآتية: - الإتيان بمرضعة إما على حساب الدولة وإما على حساب الأهل إذا كانوا مقتدرين أو الأقل أو الأدنى وهو الألبان المصنعة التي تقترب إلى حد ما من اللبن الإنساني إلى حد كبير. لن أدخل في كلام الأطباء وهو كثير في هذا ولكن نلخص ما قيل في هذا الباب وقد درست هذا مع مجموعة من أخصائيي الأطفال والمختصين بمواضيع اللبن منهم الأستاذ الدكتور محمد أمين صافي وأستاذ قسم الأطفال الأستاذ الدكتور محمود حسن وأيضًا الدكتور أحمد خالد حميدة الأستاذ المساعد بطب الأطفال جامعة الملك عبد العزيز، وخلاصة هذه الآراء بعد مناقشة معهم في الآتي: - لا توجد حاجة حقيقية لبنوك الحليب في البلاد الإسلامية بصورة خاصة والبلاد النامية بصورة عامة، وذلك لانتشار الرضاعة من الأم وإذا لم تتيسر الرضاعة من الأم فإن هناك المرضعات موجودات. - رغم أن الطفل الخديج قد يبقى في المستشفى شهر أو أكثر بينما لا تستطيع أمه البقاء معه طوال هذه المدة لحاجة الأطفال الآخرين والزوج إليها فقد وفرت المستشفيات النظام الحديث الذي يطبق الآن في الغرب وفي المملكة وفي غيرهما: فهو يسمح للأم بالحضور إلى المستشفى في الوقت المناسب لها عدة مرات في اليوم لإرضاع طفلها ثم تذهب إلى منزلها، وإذا لم تتمكن من ذلك أمكن حضور أي امرأة أخرى معلومة تقوم بمهمة الرضاعة. وبذلك يحصل الطفل على فوائد الرضاعة كاملة ويتجنب مزالق وسيئات اللبن الصناعي أو اللبن الذي جمع وحفظ في بنوك الحليب، كما أن المرضعة معروفة فتصبح إما للطفل الذي أرضعته ويصبح زوجها أباه إلى آخر ما يعرف في هذا الموضوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 - إن تنفيذ بنوك اللبن حتى في البلاد المتقدمة تعترضه المصاعب والعقبات وهو مكلف باهظ التكاليف، وفي البلاد النامية هناك محاذير أخرى فبالإضافة إلى احتمال عدم التعقيم الجيد وفقدان بعض المواد الهامة بالتخزين فإن هناك احتمالًا أن يتحول الأمر إلى تجارة وأن تضطر الفقيرات المعدمات إلى بيع لبنهن وترك أولادهن للمسغبة أو لمستحضرات الألبان المصنعة. - إن الأمهات المرضعات موجودات واستبدال الأدنى بالذي هو خير شبيه بما فعله بنو إسرائيل، وهناك احتمال إذا انتشرت هذه البنوك أن تتقاعس الأمهات السليمات والقادرات على الرضاعة وخاصة من الطبقة الثرية المترفة أو الموظفات المشغولات بأعمالهن عن واجب الرضاعة واستبدال ذلك باللبن الإنساني المأخوذ من بنوك اللبن على اعتبار أنه يمثل اللبن الإنساني المطلوب، والأفضل بكثير من لبن الأبقار والجواميس. - وهناك فقدان الفوائد الجمة للرضاعة في حد ذاتها والتقام الثدي مفيدة للأم ومفيدة للطفل بصرف النظر عن اللبن نفسه، فالرضاعة تفيد الأم كثيرًا وذلك أن عملية مص الثدي تؤدي إلى إفراز مادة الأكسيتوسين التي تساعد الأم على عودة الرحم إلى وضعه الطبيعي بعد الولادة، كما أن الرضاعة تساعد الأم الوالدة على عودة جسمها إلى وضعه الطبيعي، وكذلك تمنع الترهل، والرضاعة الطبيعية أيضًا تساعد الأم على عدم الحمل لفترة الرضاعة وتجنبها أخطار حبوب منع الحمل أو اللولب. - الفوائد المتعددة أيضًا من الناحية النفسية للطفل والأم بالتصاقه والتصاقه بثدي الأم وصدرها وإن عدم الرضاعة يؤدي إلى نقص إفراز اللبن من الثدي إلى آخر ذلك من المشاكل التي تحف هذا الموضوع. فمن الناحية الطبية يبدو أن لا حاجة حاليًا على الأقل لمثل هذا النوع من اللبن لأنه تحفه المخاطر والصعوبات ويتعرض للتحلل ويتعرض هذا اللبن كما هو معلوم لإصابته بالميكروبات خاصة إذا أعطي للأمهات.. كما تنتج عنه مصاعب ومشاكل اجتماعية كثيرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 الشيخ عبد الله البسام: بسم الله الرحمن الرحيم.. بخصوص البحث الذي قدمه فضيلة الشيخ يوسف عن اللبن أولًا: ذكر الروايتين عن الإمام احمد، هذا صحيح فيه روايتان عن الإمام أحمد ولكن المشهور في مذهب الإمام أحمد والمعتمد والذي اعتمده أصحابه هو موافقة الأئمة الثلاث: وهذه رواية كل مجتهد يقول رواية وروايتين وثلاثة وأكثر ولكن العمدة ما حققه أصحابه وأتباعه، هذا هو الذي يعتبر المذهب، ولا يأتي الباحث بقول إلا ويبين درجة هذا القول عن هذا الإمام لأجل أن يزول الإيهام لأنه ربما أن الظن أن هنا هو المذهب السائد عن الإمام أحمد، هذه من ناحية، ومن ناحية أخرى ذكر فضيلة الشيخ الشك، صحيح موجود في الشريعة الإسلامية وأنه يطرح وأن الأصل اليقين وإن اليقين لا يزول بالشك ولكن عملنا هذا، نحن الذين نوجد الشك، هناك فرق بين الشك إذا وجد واطراحه وفرق بين أننا نحن الذين نوجد الشكوك ونوجد الشبهات، فتخزين اللبن وحليب الأمهات هذا نحن الذين أوجدنا الشك فيه بين يحتمل أن يكون هذا أخ هذه أو هذه أو هي عمته أو خالته أو نحو ذلك مما يسبب المحرمية بينهم – أنا أرى أن الشريعة تبعدنا عن هذا، لكن إذا وقعنا فيه، إذا وقعنا في الشك، فالحمد لله الشريعة قواعدها معروفة، هذه ناحية، الناحية الثالثة، فضيلة الشيخ قارن بين اللبن والدم وذكر أن الدم ربما يعطي من الفوائد ما لا يعطيه اللبن ويمكن الطفل أو غير الطفل يمكنه من القرب من صاحب الدم أكثر مما يمكن صاحب اللبن، وأنا في اعتقادي أن هذا جمع بين متفرقين الدم هذا لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة فقط، عند الضرورة القصوى يلجأ إليه، أما اللبن الذي نريده هذا هو تقريبًا يعني حاجات وكماليات هذا من ناحية، وفرق بين الدم النجس الذي وصف بالنجاسة وبين اللبن الذي وصف بالطهارة ووصف بالغذاء وأنعم الله به. الرئيس: ونفس تعليق المحرمية فيه يا شيخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 الشيخ عبد الله البسام: النقطة الثالثة الحلية والحرمية، هذا حلال، وهذا حلال وطاهر، وهذا محرم دم مسفوح ولا لجأنا إليه عند الضرورة فلا أحب أن فضيلة الشيخ وإن كان له رأيه أنه مثلًا جعل الدم في مصاف اللبن الطبيعي، هذا ما أردت إيضاحه وشكرًا. الشيخ علي التسخيري: شكرًا سيدي الرئيس، فقط للعلم ثم لأعطي الرأي. في الإمامية شروط انتشار الحرمة أن يكون اللبن حاصلًا من وطء شرعي وأن يكون الشرب من الامتصاص من الثدي، هناك رواية عن الصادق عليه السلام: ((لا يحرم من الرضاع إلا ما ارتضع من ثدي واحد)) أن تكون المرضعة حية أثناء الرضاع أن يكون المرتضع في أثناء الحولين والكمية التي تقدر تارة بالأثر وأخرى بالعدد وأخرى بالزمان، على هذا الضوء كحكم أولى وبغض النظر عن العناصر الثانوية لا مانع من بنوك الحليب: أولًا: لعدم الارتضاع من الثدي ونحن نشرطه. ثانيًا: لعدم العلم باتحاد المرضعة وهناك تشترط. ثالثًا: لعدم العلم بحصول الكمية المطلوبة، ويشترطون ألا يتخللها شيء، خصوصًا إذا أطعمنا الصبي شيئًا من المقويات وتأكدنا من عدم توالي الرضعات، والأصل أيضًا عدم الحرمة على انه لو كان الاختلاط عاماَ بين أنماط الحليب وتجاوزنا عما سبق فإنه يمكن القول بأنها قد تكون ما نسميه نحن شبهة محصورة، وحينئذ بعد ان كان الحليب مجمعاَ من شتى أنحاء العالم حينئذ لا داعي للاحتياط وترتيب الآثار.. الكلام عن الأضرار التي ذكرها أخونا الدكتور البار لا يستطيع هذا الكلام أن يوفر مانعا من تجويزنا لهذه البنوك، يقول لا توجد حاجة حقيقية لكن على أي حال هناك حاجة حتى لو كانت هناك حالات متعددة، علينا أن نعطى الفتوى فيها، وظيفتنا هذه.الشيء الآخر، قال هناك تكلفة، من يريد أن ينمي طفله يتحمل كل التكاليف. قال هناك محاذير أن الأمهات تتجه لبيع اللبن. مإذا يقول عندما يكون هناك نظام ارتضاع ومرضعات، أيضًا هناك مشجعات على أن تنطلق هذه الأم وترضع الأبناء الآخرين. بالنسبة إلى الفوائد الجمة للرضاعة، نحن لا نتحدث عن حالات طبيعية، حالة استثنائية: الأم تسلم ولدها إلى حليب غيرها. ليست الحالة حالة طبيعية لنتحدث عن حنان وما يتركه التقام الثدي وما إلى ذلك. أود أن أشير إلى كلمة قالها شيخنا الشيخ البسام قال: قياس اللبن على الدم هو جمع بين متفرقين، وإنشاز العظم وإنبات اللحم مؤثر في هذه الأحكام أراد أن يأتي بنقض ولم يرد كما أتصور والمصنف حاضر لم يرد أن يقيس هذا على ذلك وشكراَ. والرأي عندي بعد هذا أن بنوك الحليب جائزة ولا مانع منها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 السيخ تقي العثماني: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. شكراَ سيدي الرئيس ان هذه المسألة من الناحية الشرعية متوقفة على مسألة أساسية وهي أن الرضاع المحرم هل يجب أن يكون عن طريق الامتصاص من الثدي أو يجوز من أي طريق آخر أيضًا وقد ذكر فضيلة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله أن المذهب السائد عند الأئمة الأربعة هو أن تحريم الرضاعة لا يشترط له الامتصاص من الثدي، وأن هذا المذهب فيما أظن ليس قوياَ من حيث كثرة الآراء فقط وإنما هو قوى من حيث الدليل من الأحاديث الدالة على تحريم الرضاعة أيضًا. فمن المعروف حديث عبد الله بن مسعود رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا رضاعة إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم)) فان هذا الحديث دليل على أن علة التحريم في الرضاعة هو ليس الامتصاص من الثدي وانما هو إنشاز العظم وإنبات اللحم. وان إنشاز العظم وإنبات اللحم كما يكون من الامتصاص من الثدي يكون من الحليب المحلوب أيضًا. إلى جانب ذلك قد أخذ ابن سعد في الطبقات أن سالما مولى أبى حذيفة رضى الله تعالى عنه إنما ارتضع من لبن محلوب في إناء ومع ذلك جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم محرماَ، وإن هذه الرؤية موجودة في طبقات ابن سعد وقد ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله في الإصابة وسكت عليها بما يدل على أنها مقبولة عنده. فان حرمة سالم مولى أبى حذيفة على أمه الرضاعية إنما ثبتت بارتضاع اللبن من اللبن المحلوب في الإناء لا الامتصاص من الثدي. فهذا دليل على أن الرضاع محرم سواء كان محلوباَ أو ممصوصاَ من الثدي. والأئمة الأربعة متفقون على هذا وأما ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله تعالى وبعض أهل الظاهر فقد عارضته الأمة باجماعها، اما الضرورة التي تدعو إلى إنشاء بنوك الحليب فقد كفانا في هذا الموضوع الأستاذ البار حفظه الله ولا أرى أن في العالم الإسلامي أية ضرورة إلى إنشاء بنوك الحليب مثل هذه وشكراَ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 الشيخ محمد عبده عمر: الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين لقد أعفاني الأخ العثماني عن حديث سالم مولى أبى حذيفة وهذا الحديث هو موضوع هذا البحث لأن هذا الحديث يعطى الصورة الكاملة لموضوع النقاش وهو أن الفقهاء حسب علمي مجموعون على أن تحريم رضاع سالم مولى أبي حذيفة لم يكن امتصاصاَ لثدي زوجة أبى حذيفة بل كان ذلك من إناء ذلك أن سالما رضي الله تعالى عنه قد شب من الطوق بل كان ذا لحية وليس من المعقول أن يمتص ثدي زوجة أبي حذيفة بل كان ذلك من إناء. وهذا الحديث أعتقد أنه يساعدنا على فهم موضوع النقاش. هذه مسألة. المسألة الثانية أني أميل إلى رأي شيخنا عبد الله البسام وهو أن المسألة خلقناها لأنفسنا، أي خلقنا الشك، ثم نحاول أن نتلمس الحكم الشرعى من خلال الشك. الذي وضعناه أمامنا. فالمسألة من الأهمية بمكان ومن الخطورة بمكان. والقاعدة الفقهية تقول: " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح " فالموضوع يحتاج إلى دراسة وإلى بحوث وأيضًا علينا أن لا نأخذ بحرفية النص دون فهم العلل والمعاني وما تحتوي عليه الحكمة الالهية من تحريمٍ الرضاع من الأجنبية وخاصة في موضوع النقاش الذي هو موضوع بنوك الحليب وشكراَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 الشيخ مصطفي الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم اخواني الأساتذة الكرام أنا أولاَ أرى فيما ذكره أخونا حفظه الله ابن الأستاذ الكبير المرحوم الشيخ شفيق العثماني فيما يتعلق بترجيح المذهب ولا أسمي أصحابه أي مذهب كان، المذهب الذي يرى أن التحريم لا يتوقف على الامتصاص من الثدي ولا على مقدار وبين من يشترط ذلك، يعنى ليس نحن الآن في هذا الصدد في ترجيح مذاهب على مذاهب. نحن في مثل هذا المقام كما ذكر فضيلة الأخ القرضاوي نحن في مقام نحتاج فيه أن نعالج مشكلات قائمة نواجهها وقد تحدث دون إرادتنا. ولكن علينا أن ننظر في حكمها وهي من قضايا الساعة، فنحن في مقام لا يجب علينا أن نوازن بهذه الدقة بين الأدلة التي ذكرها فضيلة الأخ الكريم هذه أيضًا يقابلها من وجهة النظر الأخرى لمن يرون خلافها أدلة أيضًا هي محل اعتبار وكل يرى أن أدلته هي الأقوى. ولذلك تبني رأيه، نحن لسنا في هذا المقام أن نأتي فندخل في الترجيح بين المذاهب، نحن يكفينا عندما نواجه مسألة أن يكون أمامنا مذاهب معتبرة مسلم لأصحابها بالاجتهاد دون أن ندخل بعد ذلك في تفصيل الأدلة وإنما لنا أن نختار من هذه المذاهب ما نراه يحل مشاكلنا. هذا المبدأ أحببت أن أنبه عليه لكي يكون دستوراَ فيما بعد، لأننا لا يصح أن ندخل في انتصار لمذهب على مذهب متى كانت المذاهب محل اعتبار ومسلم لأهلها بأهلية الاجتهاد ورأيهم، من قلده لقي الله سالماَ، عندئذ يكفينا نحن أن نأخذ بها إذا كان نجد فيها حلاَ لمشكلتنا. ليس مقام ترجيح أدلة ومذاهب.. ثانياَ من جهة أخرى أن أرى أن المسألة ذات شقين ولا يكفي نحن أن نقول في إنشاء هذه البنوك مصلحة أو مفسدة يبنى عليها جواز أو تحريم. نحن نعالج المسألة من ناحيتين، من هذه الناحية أولاَ وهي هل يجوز أن يستحسن إنشاء بنوك للحليب في مثل هذه الأوضاع التي صورت فيها الحاجة وانتشرت في بعض البلاد ويراد أيضًا أن تنشأ في بلادنا وقد تنشأ بدون إرادتنا ينشئها من ينشئونها والحكومات تفعلها دون أن تأخذ رأي العلماء. فهل يجوز هذا أو هل يستحسن لحل هذه المشكلة أو لا يجوز؟ والناحية الأخرى وهي التي أرى أن مجرد الجواب عن الأولى لا يغني عنها، وهي أنه لو أنشئ بنك للحليب فعلاَ في بلد ما من البلاد الإسلامية وحصل فيه أرضاع الأطفال بهذه الطريقة، فما الحكم في هذا الرضاع؟ بقطع النظر عن كون إنشاء البنك مقبولاَ أو جائزاَ أو مستحسناَ أو غير جائز وان له محإذير، بغض النظر عن كل هذا، لو حصل هذا بالفعل وأنشئ بنك من هذا القبيل ولو بدون فتوى من علماء. فما حكم هؤلاء الأطفال من حيث الرضاع وأثره على الذين يرتضعون أو يربون على هذا اللبن؟ هذه نقطة يجب أن يتناولها البحث، والذي أرى أنه في حالة إنشاء البنك، أنا مع الأساتذة الأخوان الذين يرون أنه لا حاجة إلى إنشاء هذه البنوك كما يبين الدكتور البار، وأننا بعد في هذه المرحلة في غنى عنها. ولكن لو حصل هذا فعلاَ فهل نفتي بالتحريم بين هؤلاء الأطفال والذين قد يفوق عددهم الحصر والذين لا نعرف من هن النساء اللاتي تكون الحليب من أثدائهن. فهل تحكم بالحرمة وما نتائج الحرمة وإلى أي نطاق تصل، أو لا نحكم بحرمتها؟ أنا الذي أراه أن الأدلة التي أتى بها الأستاذ القرضاوي، أيده الله ورحمنا جميعاَ أحياء وأمواتاَ، أن أخانا الكبير الأستاذ القرضاوي حفظه الله وأيده ما أتى به من أدلة وملاحظات يترجح معها اعتبار عدم التحريم للأسباب وللمذاهب التي بينها وهي مذاهب معتبرة وللشك في تحقق شرائط التحريم بالاتفاق هذا كله يكفي لأن نقول أنه لو حصل بالفعل إنشاء هذه البنوك فإن هذا لا يؤثر تحريمه هذا الذي أراه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 الشيخ عبد العزيز عيسى: في الواقع الذي أراه أنه ليس أمامنا مشكلة إسلامية فيما يتعلق برضاع الأطفال. لا توجد هذه المشكلة. والأولاد الصغار الرضع موجودون منذ القديم ورأيناهم في بلادنا، ما كان هناك من حاجة إلى إرضاع طفل من أم أخرى أو عمل بنك من بنوك الحليب الآدمي وإنما كان يرضع الطفل إما ماء مضافا إليه كراوية وإما لبن بقر وما إلى ذلك، كل هذا وهو على قلة ولأيام معدودة ثم ينتقل الطفل بعد ذلك إلى الطعام والشراب. ولا أقول ما قاله أخونا الفاضل إننا نتكلم في فرضية حصول هذا الأمر إذا حصل فهل يكون حلالاَ أم حراماَ؟ لا حين تكون نفتي بها إن شاء الله تعالى، نفتي بالجواز أو عدم الجواز، " وقت الله يفرجها الله " زي ما بيقولوا، يعني نشوف ظروف الأحوال أيه، انا يمكن أخالف الشيخ تسخيري في أن الرضاع هو خاص بالامتصاص لأن جمهور المسلمين على أن إيجار الصبي اللبن يعني صبه في حلقه محرم أيضًا. فنحن نبقى على هذا. ولو لم يكن في رفض بنوك الحليب إلا سد الزريعة وسد الوقوع في فتنة التحريم لكان أولى بنا أن لا نوجد هذه البنوك، ولسنا مكلفين بأن كل ما وجد في أوروبا أو في أمريكا من بنوك الحليب أو غيره، ده إحنا محتاجين إلى بنوك الدم ومش لاقيين من الناس يقبلوا على بذل دمهم، ولكن اللبن أقل من ذلك ولا تتصور أن امرأة أو أن واحدة ذات احترام تروح تمسك ثديها علشان تفرغ نصف كوب لبن علشان تبيعه بجنيه أو بجنيهين، العملية ده لازم تبطل إلى أن نحتاج إليها فنصدر الحكم الخاص بها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما أفتتح كلمتي بالتعبير عن كامل تقديري لفضيلة الشيخ الدكتور القرضاوي وأرجو من فضيلة نائبه أن يبلغه هذه التحية وخاصة هذا الحرص الكريم منه على ارضائي وأنه اطمأن إلى أن هناك عبارات لا بد أن نستعملها فيما بيننا وبناءَ على هذا فان ما جاء في الصفحة السادسة أرى بتفويضه أنه يجب أن يحذف في قوله: " والمنهج الذي نختاره في هذه الأمور هو التوسط والاعتدال بين المتزمتين والمتهاونين " فهذا بناء على ما ذهب إليه وما أقره، أطلب حذف هذه الكلمة واستبدالها بغيرها. الأمر الثاني، في صلب القضية والموضوع عندنا أمر جاء في الكلمة هو أن لا يقال أرضعه إلا في التقام الثدي، والحديث الذي ورد عن رضاع سالم لما نزلت آية إبطال التبني قال لها صلى الله عليه وسلم أرضعيه قالت له كيف أرضعه وهو كبير معنى الحديث أو يقاربه فضحك صلى الله عليه وسلم وكانت عائشة رضى الله تعالى عنها تأخذ بهذا الحديث فكان من تريد أن يدخل عليها تطلب من أخواتها أن يرضعنه أو من رجال أو من نساء اخوتها، فالذي آخذه من الحديث ليس الخصوصية أو عدم الخصوصية ولكن إطلاق كلمة الرضاع مع عدم التقام الثدي، هذه واحدة الأمر الثاني، هو أنا نبحث في قضية ما بناء على الحاجة، والحاجة بمراعاة جميع الظروف، وقد تبين لنا من خلال ما تفضل حضرة الأستاذ الدكتور في قضية بنوك الحليب قال ان تكلفتها باهظة وأنها في الدول النامية خطيرة على الأطفال لأن وسائل التعقيم هي وسائل لم تتحقق بعد في هذه الدول. وبناء على أنها خطيرة على صحة الأطفال وبناء على ما تنشره من فوضى، فان الحكم يجب أن يكون واضحاَ، أن لا تحدث مثل هذه البنوك في دول العالم الإسلامي خاصة وأن التربية الإسلامية على الغيرية هي غير التربية الغربية على الأنانية الفردية وان المرأة لا ترضع ابن غيرها. هذه واحدة، وأمر آخر أريد أن أختم به كلمتي هو أن الفتوى فهل يجوز ذلك أو لا، هذه الفتوى يلزمها للنظر فيها لا أقل من عشرين سنة إن فرضنا وجود لبن يوجد بنك لبن فلا تعرض القضية إلا بعد أن يبلغ الطفل أو البنت سن الزواج. فهي قضية لا حاجة لنا بها أصلا وفي الإفتاء بها من الآن هو فتح للباب خطير جدا – فلذلك ملخص رأيي أن هذه بنوك الحليب هي محرمة نظراَ للمخاطر الشرعية والبدنية منها، ثانياَ: ألا تصدر فتوى فيما يترتب على الرضاعة وشكراَ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 الشيخ عبد الحليم الجندي: أشكر السيد الرئيس.. أريد شيئا خاصاَ باختصاص المجمع.. المجمع لا يعرض عليه الا أمر عمت به البلوى أو أمر ينتظر له أثر خطير في حياة الأمة. أمر واقع له شأنه تحسب حسابه وتخاف عواقبه. هذه المسألة ليست من هذا الطراز هي طلب استفتاء في مسألة لم تكن ولم تقع. الأقربون كانوا يقولون " فأجمنا حتى تكون " أي انتظر حتى تكون ثم اسأل، لا نحن أيضًا نفتح الباب. ولكن نفتح الباب لشيء واقع كأن يكون بنوك الدم كأن يكون لأطفال الأنابيب لأن الناس الآن بنوك الدم هم محتاجون إليها أطفال الأنابيب هي قضية قائمة. أما أن يستمر الأمر لكل إنسان عنده فكرة يعرضها على المجمع ويقول المجمع ممثلاَ للمسلمين رأيه فيه فأظن أن هذا ينزل بالمجمع عن مكانة آرائه، إنما ممكن للمجتهد أن يفتى. ممكن للأستاذ المدرس أن يدرس ويفترض فروضاَ ويبدي فروضاَ ويبدي فيها آراء، لكن المجمع فوق ذلك المجمع له وظيفة الإفتاء والإفتاء يحل محل المشرع، فهل نحن الآن في مقام هذا اللبن وفي هذا المقام أظن لا، وشكراَ الشيخ رجب التميمي: بسم الله الرحمن الرحيم إن بنوك اللبن التي نتكلم عنها هي في الأصل في الدول الغربية أو من الغرب وهي في إنشائها أو نقلها للمسلمين تحد للإسلام. إننا نعلم جميعاَ أن لبن الأمهات يتعلق به أحكام شرعية وهي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. والغرب الكافر يريد أن يفسد علين إسلامنا وأحكامنا الشرعية. وأرى أن البحث في هذا الأمر مخالف للشرع. لبن الأمهات في بنك يختلط اللبن وحينئذ لا نعرف من يحل لها أن يتزوج ومن تحرم عليه أن يتزوجها. وفي هذا اختلاط وفوضى. وكما ذكر الدكتور نحن لسنا في حاجة في بلادنا إلى بنوك اللبن لما فيها من المخاطر والمساوئ. ولذلك أرى أن نقفل هذا الباب وألا نتبع ما يسير عليه الغرب الكافر فيما يتعلق بديننا وأحكامنا الشرعية وشكراَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 الرئيس: في الواقع ومن خلال العرض من أصحاب البحوث ومن وجهة نظر الأطباء ومن خلال هذه المداولات يمكن أن يتلخص لدينا ما يلي: أولاَ: أن المسألة المطروحة أمامنا هي بنوك الحليب فحسب ثانيا: أن هذه المسألة وقعت. ولهذا فان بحثها وارد. ولو لم تقع، والدليل على وقوعها ما ذكر الأطباء الدكتور محمد على البار في بحثه ومدى نسبتها في العالم ثالثا: أما حكم ما وقع فقد أتى بكلمة الفصل فيه فضيلة الشيخ عبد العزيز عيسى وهو أن حكم ما وقع أنها قضايا أعيان. وقضايا الأعيان يسأل المبتلى فيها أهل العلم في وقته. لكن نحن هنا من حيث هذا المبدأ إيجاد بنوك للحليب، وقد علم بالضرورة من دين الإسلام أنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب. وقد تحرر لدى الجميع أن مذهب جماهير أهل العلم على منع ذلك وأنه يعتبر محرماَ حتى ولو لم يكن عن طريق الامتصاص ثم إن الرواية التي تفضل بذكرها الشيخ تقي العثماني في طبقات ابن سعد وذكرها الحافظ بن حجر في الإصابة قد وقفت يقينا على من صححها من أساطين أهل العلم وكنت أظنها في زاد المعاد لابن القيم ولذلك فقد طلبت الكتاب لكن لم يقع بصري عليها، لكن المتحرر لدى يقينا وليس شبه يقين أن الرواية فيه من صححها من أساطين أهل العلم وان سالماَ كان ذا لحية كبيرة وأنه حلب له. ولهذا فإنني أرى إن ما اتجهت إليه أكثر الأنظار في مجمعكم هذا هو القول بالمنع وأرجو أن يكون هذا منهياَ وإذا كان لأحد تحفظ فأرجو أن يتكرم المتحفظ ببعثه إلى أمانة المجمع وشكراَ وبذلك نرفع الجلسة ونستأنفها في الساعة الرابعة والنصف إن شاء الله تعالى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 قرار رقم 6 بشأن بنوك الحليب أما بعد: فان مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 1 – 16 ربيع الثاني 1406 هـ /22 – 28 ديسمبر 1985م بعد ان عرض على المجمع دراسة فقهية، ودراسة طبية حول بنوك الحليب وبعد التأمل فيما جاء في الدراستين ومناقشة كل منهما مناقشة مستفيضة شملت مختلف جوانب الموضوع تبين: 1- أن بنوك الحليب تجربة قامت بها الأمم الغربية. ثم ظهرت مع التجربة بعض السلبيات الفنية والعلمية فيها فانكمشت وقل الاهتمام بها 2- أن الإسلام يعتبر الرضاع لحمة كلحمة النسب يحرم به ما يحرم من النسب بإجماع المسلمين. ومن مقاصد الشريعة الكلية المحافظة على النسب، وبنوك الحليب مؤدية إلى الاختلاط أو الريبة. 3- أن العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي توفر للمولود الخداج أو ناقصي الوزن أو المحتاج إلى اللبن البشرى في الحالات الخاصة ما يحتاج إليه من الاسترضاع الطبيعي، الأمر الذي يغني عن بنوك الحليب وبناء على ذلك قرر: أولا: منع إنشاء بنوك حليب الأمهات في العالم الإسلامي. ثانيا: حرمة الرضاع منها والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 أجهزة الإنعاش الدكتور محمد على البار الفصل الخامس تحديد الوفاة والأخطاء التي تحدث فيها الموت والحياة لغز من الألغاز لم يدرك الإنسان كنهما رغم أنه شاهد هذه التجربة مرارا وجربها ملايين الملايين من البشر منذ أن خلق الله الإنسان على ظهر الأرض. ولم يكن الأمر يحتاج إلى طبيب ليعلن بدء الحياة أو نهايتها.. الملايين من النساء أنجبن أطفالهن دون تدخل طبيب وملايين الملايين من البشر خرجوا من هذه الحياة دون الحاجة لشهادة من طبيب تثبت وفاتهم. وبدأت الحياة في التعقيد وتبين أن تحديد الحياة بدءًا ونهاية أمر ليس بالسهولة التي يمكن أن تترك للقابلة أو للأشخاص المجربين. وسنترك موضوع بداية الحياة إلى بحث آخر إن شاء الله. ومنذ لحظة خروج الجنين من بطن أمه قد يتعرض لسبب من أسباب الوفاة. بل إنه قد يتعرض للوفاة وهو في بطن أمه فهل يمكن تحديد ذلك؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 إثبات الوفاة: بالنسبة للقدماء كان من الصعب لديهم إثبات وفاة الجنين في بطن أمه وكانوا يخمنون ذلك بتوقف حركته..أما الآن فقد تيسرت الوسائل..وعند خروج الطفل من بطن أمه قد لا يستهل صارخا كما يفعل بقية الأطفال بسبب من الأسباب وكان القدماء بوسائلهم البسيطة يفقدون أعدادا كبيرة من الأطفال فلا يتم إنقإذهم وتحدث فقهاء الإسلام في هذا الموضوع. قال مفتى الجمهورية التونسية الشيخ محمد المختار السلامي (1) . " وقد فصل اللخمي ما تكون به الحياة فقال: اختلف في الحركة والرضاع والعطاس، فقال مالك: لا يكون له بذلك حكم الحياة!! قال ابن حبيب وإن أقام يوما يتنفس ويفتح عينه ويتحرك ويسمع له وان كان خفيا!!! قال إسماعيل: وحركته كحركته في بطن أمه لا يحكم له فيها بحياة. قال عبد الوهاب وقد يتحرك المقتول.. وعارض هذا المازري وقال: لا معنى لإنكار دلالة الرضاعة على الحياة لأنه نعلم يقينا أنه محال بالعادة أن يرضع. وخلاصة هذا الكلام أن بعض الفقهاء على الأقل حكموا بموت الجنين عند ولادته إذا لم يستهل صارخا ولو بصوت خفي واعتبروا حركته وتنفسه بل وعطاسه ورضاعته وتبوله وتغوطه أمورا ليست كافية لإعطائه صفة الحياة. ورد عليه آخرون باعتبار الرضاعة دليلا كافيا على حياة الطفل واعتبر آخرون العطاس دليلا كافيا على الحياة واستدلوا على ذلك بأن آدم عليه السلام لم نفخت فيه الروح عطس فحمد الله كما جاء في الحديث. وتعتبر نظرة الفقهاء الذين لم يكتفوا بالحركة كدليل على الحياة أو خروج بعض الإفرازات من مخارج الجسم مثل البول والغائط والمخاط من الأنف أو الزبد من الفم كدليل على الحياة.. تعتبر نظرة هؤلاء الفقهاء موافقة للطب الحديث. فقد يتحرك المقتول أو المذبوح.. ومن المشاهد أن الدجاجة تقفز وتتحرك بعنف بعد ذبحها وكذلك بقية الحيوانات كالشاه والجمل والعجل وكم من أجساد تحركت بعد أن حزت رؤوسها بالمقصلة أو السيف ولم تهمد حركتها وتبرد إلا بعد مرور دقائق وأحيانا ساعات. وفي الصورة التالية صورة لدجاجة ذبحت بحيث فصل رأسها ومع هذا ظلت تمشي وتتحرك وتتنفس لمدة أسبوع كامل. وذلك لأن موضع الذبح كان عاليا بحيث بقى جزء من النخاع المستطيل (من جذع الدماغ) حيا وهو الذي يتحكم في التنفس. وكانت تغذيتها تتم من البلعوم المفتوح. (الصورة من كتاب كريستوفور باليس ابجديات موت الدماغ) ABC of Broom Stem Death. Christopher Palls. BM.J. articles , BM.A. London.   (1) صحيفة الشرق الأوسط في 22/6/14 5هـ الموافق 13/3/1985م الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 إذن مما تقدم يتضح كيف أن تحديد الموت كان ولا يزال يواجه صعوبات جمة وخاصة بالنسبة لعامة الناس.. وكان تحديد موت شخص قد عاش فترة ثم مات أقل صعوبة من تحديد موت وليد خرج لتوه من بطن أمه ولم يستهل صارخا ولا شك أن عددا كبيراَ من هؤلاء الأطفال قد أعلنت وفاتهم في الماضي بينما هم في الواقع كانوا عند إعلان وفاتهم أحياء ولو كانت وسائل التشخيص والإسعاف كما هي الآن لأمكن إنقإذ الآلاف من هؤلاء الأطفال الذين أعلنت وفاتهم في الماضي. لأن بعض الفقهاء آنذاك حددوا بدء الحياة بالاستهلال بالصراخ! وكذلك في مراحل العمر المختلفة كان الشخص يعتبر ميتا وهو في الواقع حي ومثال ذلك ما يضربه الفقهاء (نقلا عن كلام مفتى تونس في صحيفة الشرق الأوسط المتقدم ذكر) من أن عمر رضى الله عنه لما طعن كان معدوداَ في الأموات.. وأنه لو مات له مورث لما ورثه وهو قول ابن القاسم، ولو قتل رجل عمر في تلك الحالة لما قتل به وإن كان عمر يتكلم ويعهد ولا شك ان عمر رضى الله عنه كان حيا بعد ما طعن وقد بقى ثلاثة أيام ولو كان الطب متقدما آنذاك لأمكن إنقإذه بإذن الله وقد استدل الطبيب آنذاك بأن عمر ميت عندما سقاه لبنا فخرج من أمعائه من الجرح واليوم لا تعتبر مثل هذه الحالة مميتة بل يمكن إلى حد كبير إنقإذها بإذن الله. وقد تمكن الأطباء من إنقإذ الرئيس ريجان بعد إصابته برصاصة مزقت رئته ومرت بشغاف قلبه (التأحور) عندما قام شخص بالاعتداء على حياته وهناك مئات الحالات المماثلة التي ينقذها الأطباء كل يوم ولو حصل هذا الاعتداء في زمن سابق لأعلن الفقهاء قبل الأطباء موته. نتيجة لهذه الأسباب ولكثرة الأخطاء النسبية في تشخيص الموت لم يعد من حق الأشخاص العاديين أن يعلنوا الموت أو الحياة بل تحول ذلك إلى فئة مختصة بهذا الموضوع هم الأطباء وقد أصبح الأطباء في دول العالم أجمع هم الذين أنيط بهم إصدار شهادات الميلاد أو شهادة الوفاة. ورغم ذلك فإن إعلان الميلاد أو الوفاة يتم في الأرياف والقرى في معظم أنحاء العالم الثالث دون معاينة الطبيب.. بل إن إعلان الوفاة قد يتم في المدن دون معاينة الطبيب حيث يكتفي بشهادة الأهل ويصدر الطبيب شهادته بناء على ذلك. وهذا ما يفسر ما تنشره الصحف من أن طفلا أو رجلا أو امرأة قام من قبره يمشي إذ أن هذا الشخص لم يمت في الواقع بل إن الأشخاص الذين أعلنوا وفاته لم يكونوا على دراية كافية بهذا الموضوع الذي يبدو سهلا في كثير من حالاته إلا أنه يصبح شديد التعقيد في بعض الحالات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 الخطأ في إعلان الوفاة: الخطأ إذن في إعلان وفاة شخص ينتج على عدة مستويات كالآتي: 1- مستوى العامة ممن ليس لهم دراية بالطب وإنما أنيط بهم إعلان الوفاة لعدم وجود طبيب ولسابق تجربتهم ومعرفتهم فإن العباس رضى الله عنه لما رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الأخير قال وأني أعرف الموت في وجوه بني هاشم، ونعى النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي رضى الله عنه. ولا تزال القرى والأرياف في كثير من أنحاء العالم الإسلامي والعالم الثالث تعتمد في تشخيص الوفاة على ذوى التجارب أو على المساعدين الصحيين.. واحتمال الخطأ في تشخيص الوفاة في مثل هذه الحالات كبير نسبيا 2- الخطأ في مستوى الأطباء: لقد تعارف الأطباء منذ الأزمنة القديمة على أن توقف القلب عن النبض وتوقف الدم عن الدوران يعني الموت ولا يزال هذا المقياس قائما إلى اليوم وسيقي لفترة طويلة من الزمن في المستقبل لمعظم الحالات على الأقل. ففي بريطانيا مثلا يتوفي كل عام نصف مليون شخص ويحكم الأطباء بموتهم نتيجة توقف القلب والدورة الدموية نهائيا عن الحركة ورغم التقدم الطبي الهائل فإن هناك ما يقرب من أربعة آلاف شخص لا يدخلون في هذا التعريف في بريطانيا كل عام (كتاب كريستوفر باليس ألف باء موت جذع الدماغ) وإنما يعتبر موتهم نتيجة موت الدماغ لا موت القلب وفي الواقع فإن هؤلاء الأشخاص الذين لا يشكلون سوى أقل من واحد بالمائة من جميع الوفيات في بريطانيا يوضحون عمق المشكلة الجديدة التي بداَ الأطباء في العالم اجمع يعانون منها نتيجة التقدم التكنولوجي الطبي المذهل إذا أن هذه الحالات جميعاَ أعلن عن موتها رغم أن القلب كان لا يزال ينبض والدورة الدموية لا تزال تتدفق. وسبب هذه الثورة في المفاهيم هو أن الإصابات البالغة للدماغ التي كانت تعتبر مميتة في الحال لم تعد تعتبر كذلك فإذا توقف قلب الشخص أو تنفسه نتيجة إصابة الدماغ الذي به مركز التنفس أو توقف القلب والتنفس نتيجة لأي إصابة أخرى مثل الغرق أو الخنق أو اضطراب في كهرباء القلب أو غيرهما من الأسباب فإن وسائل الإنعاش الحديثة كالمنفسة (جهاز التنفس) Ventilator وجهاز إيقاف ذبذبات القلب Defibrillator إذا استخدمت بمهارة قد تؤدي إلى إنعاش الشخص وإعادة التنفس ونبض القلب إذا أراد الله ذلك.. وكان له في العمر بقية. وهنا يحدث أحد الأمور التالية: 1- يعود الشخص إلى التنفس الطبيعي بدون الآلة (المنفسة (Respirator) ويعود قلبه إلى النبض ويستمر في ذلك وسواء كان في حالة غيبوبة أم لا فإنه يعتبر حيا بدون ريب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 2- لا يمكن إيقاف المنفسة (Respirator) إلا لدقائق حيث يتبين أن التنفس لا يزال يعتمد على المنفسة والشخص لا يزال فاقدا للوعي بصورة كاملة وهنا لابد من إيجاد مواصفات جديدة لتحديد الوفاة إذ أن القلب لا يزال ينبض والتنفس مستمرا بمساعدة الآلة. 3- يتوقف القلب نهائيا رغم وجود المنفسة: ففي الحالة الأولى يعتبر الشخص حيا ولو كان فاقد الوعي واستمر في غيبوبته غيبوبة كاملة لمدة عام أو عدة أعوام كما حدث في حالة آن كونلان المشهورة. وفي الحالة الثالثة يعتبر الشخص ميت بلا جدال. والحالة الثانية هي الحالة المعقدة التي أثارت جدلا واسعا في الغرب امتد أثره إلينا مع زحف التقدم الطبي والتكنولوجي. ومع قيام المستشفيات الحديثة ومع إثارة موضوع الاستفادة من الأعضاء الحية من شخص ميت لزرعها في إنسان حي ماتت كليته أو كادت وشارف قلبه أو كبده على الموت. وفي هذه الحالة الثانية حصلت أخطاء على مستوى الأطباء بل على مستوى الأخصائيين من الأطباء في أكثر دول العالم تقدما وقد قدم التلفزيون البريطاني B.B.C في برنامج بانوراما موضوع موت الدماغ في 13 أكتوبر 1980 حلقة مثيرة تحدثت فيها فتاة أخذت بعض الحبوب المنومة فأغمى عليها وتوقف تنفسها ووضعت تحت أجهزة الإنعاش المعقدة وفي المستشفي أعلن الأطباء أن دماغها قد مات وأن تنفسها قد توقف وأن تخطيط المخ الكهربائي لا يشير إلى وجود أي ذبذبات أو موجات آتية من دماغها ولذا أعلنوا موتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 ورفض أهلها هذا التقرير وجاءت مجموعة أخرى من الأطباء وواصلوا استخدام أجهزة الإنعاش فتنفست الفتاة طبيعيا ثم أفاقت من غيبوبتها ثم ذهبت إلى محطة التليفزيون لتروى للمشاهدين كيف أنها كانت تسمع الأطباء وهم يتجادلون ثم تسمعهم وهم يقررون وفاتها وهي في غيبوبتها العميقة. وذكر البرنامج عدة حالات مشابهة توضح أخطاء الأطباء في إعلان الوفاة بسبب حالة الإغماء والغيبوبة التامة وفقدان الأفعال المنعكسة وتوقف التنفس الطبيعي. وقد أخبرني الأستاذ الدكتور عبد الله منجود بحادثة مشابهة حدثت حيث كان يعمل في إحدى مستشفيات في مانشستر في إنجلترا عندما جاء الإسعاف بامرأة عجوز توقف قلبها وتنفسها.. وبعد محاولات الإنعاش قرر زملاؤه الأطباء أن المرأة ماتت وأوقفوا جهاز التنفس ولكنه أصر على إعادة المحاولة وبعد نصف ساعة عاد التنفس الطبيعي ثم عاد الوعي وعاشت المرأة فترة من الزمن. لذلك تكونت لجان طبية عليا متخصصة لدراسة موت الدماغ. وكانت مجموعة من الأطباء الفرنسيين (مولارت وجولون) أول من تحدث عن مرحلة ما بعد الإغماء Coma de passe عام 1959 (1) ثم ظهرت لجنة آدهوك من جامعة هارفارد عام 1968 بتحديدات واضحة المعالم لموت الدماغ (2) وفي بريطانيا اجتمعت لجنة مكونة من الكليات الملكية للأطباء، وأصدرت تعريفاتها لموت الدماغ عام 1976 (3) وعام 1979 (4) ومن عام 1981 أصدر الرئيس ريجان أمره بتكوين لجنة من كبار الأطباء والقانونيين وعلماء الدين لدراسة موضوع موت الدماغ. وأصدرت اللجنة قرارها عن موت الدماغ في يوليو 1981 (5) وقد وافقت 25 ولاية على الاعتراف بموت الدماغ وارتفع العدد إلى 33 ولاية في عام 1982 وكانت ولاية كانساس هي أول ولاية تعترف قانونيا بموت الدماغ وذلك في عام 1970 (6) ولا يزال الأمر كما تقول مجلة JAMA (7) الطبية المشهورة غريبا حيث يعتبر المرء ميتا في ولاية بينما تعتبره ولاية مجاورة حيا.   (1) Mollaret P. Goulon M. le coma de Passe , Rev. Neurol, 1959. 1 1:3-15 (2) Ad Hoc Committee of the Hrverd School of Medicire: A defnation Irrewversible Coma JAMA. 1968.2 5: 85 - 88 (3) conference of medical royal colleges in U.k diajnosis of death Br. Med j 1976 (2) : 1187-8 (4) conference of medical royal colleges in U.k diajnosis of death Br. Med j 1976 (2) : 1187-8 (5) J 1979 (1) : 332 - Joynet R.A new look at Death JAMA 1984: 252 (5) : 68 - 682 (6) J 1979 (1) : 332 - Joynet R.A new look at Death JAMA 1984252 (5) 68 - 682: 252 (5) :. (7) J1979 (1) :3320- JOYNET r.a.NEW LOOK AT DEATH JAMA 1984: 252 (5) : 680-682 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 الفصل السادس أجهزة الإنعاش وموت الدماغ إن التعريف القديم للموت وهو توقف القلب والتنفس لا يزال ساريا بالنسبة لمئات الملايين من الوفيات التي تحدث سنويا ومع هذا نتيجة التقدم الطبي السريع واستخدام أجهزة الإنعاش فإن هذا التعريف أصبح غير كاف بالنسبة لمجموعة من الحالات في المراكز المتقدمة ففي بريطانيا مثلا يتوفي كل عام نصف مليون حالة حسب التعريف القديم وهو توقف القلب عن النبض والدم عن الدوران والرئتين عن التنفس. ولكن هناك أيضًا أربعة آلاف حالة لا ينطبق عليها هذا التعريف (1) وإنما يتم في هذه الحالات التي لا تكاد تبلغ 1 % من مجموع الوفيات (8ر %) تعريف الموت بواسطة موت الدماغ أو بالأصح موت جذع الدماغ.. وقد ظهرت هذه الحالات نتيجة التقدم الطبي الباهر في السنوات الأخيرة.. وتحدث هذه الحالات أساسا نتيجة حادثة لشخص سليم في الغالب حيث يعاني الدماغ من إصابة بالغة فيه.. وبما أن مراكز التنفس والتحكم في القلب والدورة الدموية موجودة في الدماغ وبالذات في جذع الدماغ Brain Stem فإن إصابة هذه المراكز إصابة دائمة تعني الموت ولكن قد تكون الإصابة مؤقتة ويمكن أن يشفي منها المصاب بإذن الله بالعلاج ولهذا لزم محاولة استمرار التنفس وضربات القلب والدورة الدموية بوسائل الإنعاش. وتتمثل وسائل الإنعاش في مجموعة من الأجهزة والعقاقير وأهم من ذلك المجموعة المدربة من الأطباء والممرضين الذين يستخدمون هذه الأجهزة بمهارة. أجهزة الإنعاش: وتتمثل الأجهزة في المجموعة التالية: 1- المنفسة Respirator or Ventilator وهي أنواع مختلفة فعندما يرى الطبيب مثلا أن التنفس قد توقف أو أوشك على التوقف فإنه يقوم بإدخال أنبوبة إلى القصبة الهوائية ويوصل ذلك إلى المنفسة.. وهناك المنفسة التي تعمل باليد مثل Ambu Bag وموجودة في شنطة الإسعاف لدى الممرضين والأطباء ورجال الإسعاف وحتى مضيفي الطائرات ووسائل النقل.. وهناك المنفسة التي تعمل بالكهرباء أو بالبطارية   (1) Christopher Palls: ABC of Brain Stem Death: Br. Med. J 1981 , 285: 14 9 = 1412 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 كما أن هناك أنواعا من المنفسات تساعد المريض الذي يتنفس بصعوبة بالغة فلا تأخذ عمل جهازه التنفسي بل تساعده على ذلك ومثالها Bennet Respirator وتستخدم خاصة في مرض الامفيزيما Emphysema والربو المزمن الشديد، والالتهابات الشعبية المزمنة. ولكن معظم أنواع المنفسات التي تستخدم في العرض الذي نتحدث عنه هو تلك التي تقوم فيه المنفسة بعمل الجهاز التنفسي وتحرك بذلك القفص الصدري في حركة تشبه حركة الشهيق والزفير الطبيعتين. وتستخدم هذه الأجهزة أيضًا أثناء العمليات التي يستخدم فيها التخدير الكامل فيفقد المريض وعيه ويدخل طبيب التخدير الأنبوبة إلى القصبة الهوائية Trachea ويصبح تنفس المريض أثناء العملية وربما بعدها لدقائق أو ساعات معتمدا على جهاز التنفس وفي الحالات المستعجلة جدا والتي يكون فيها انسداد في الحنجرة مثلا فإن الطبيب قد يقوم بعملية شق الرغام (شق القصبة الهوائية) Tracheostomy ويدخل الأنبوب مباشرة من الفتحة ويتم بذلك التنفس الصناعي. 2- أجهزة إنعاش القلب مثل مانع الذبذبات Defibrillator وهذا الجهاز يعطي صدمات كهربائية لقلب اضطرب نبضه اضطرابا شديدا وتحول إلى ذبذبات بطينية yentricular fibrillation لا تدفع الدم من البطين إلى الاورطي (الابهر) وإذا لم تنقذ هذه الحالة فإن القلب يتوقف تمامًا عن العمل وذلك يعنى توقف تغذية الدماغ وإذا توقفت تغذية الدماغ وخاصة جذع الدماغ لمدة دقيقتين فذلك يعني موت الدماغ الذي لا رجعة فيه. ويقوم الطبيب أو الممرضة أو الشخص المدرب بوضع جهاز مانع الذبذبات هذا على الصدر وإمرار تيار كهربائي يوقف الذبذبات ويعيد القلب إلى نبضه أو إذا توقف القلب فإن إمرار صدمة كهربائية قد يعيد القلب إلى العمل. 3- وهناك أيضًا جهاز منظم ضربات القلب Pace maker ويستخدم عندما تكون ضربات القلب بطيئة جدا بحيث إن الدم لا يصل إلى الدماغ بكمية كافية أو ينقطع لفترة ثوان أو لدقيقة ثم يعود وذلك يسبب الغشى (الإغماء) وفقدان الوعي المتكرر أو أن ضربات القلب مضطربة جدا كذلك بحيث إن ضخ الدم من القلب منخفضاَ بدرجة خطيرة تؤدي إلى اضطرابات في الوعي أو في درجة نشاط ذلك الشخص المصاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 وهذه المنظمات أنواع عديدة فمنها ما يستعمل مؤقتا خارج الجسم في الحالات المؤقتة.. ومنها ما هو دائم العمل.. والدائم العمل منها يعمل بالبطاريات ومنها ما يعمل بالذرة.. وما يعمل ببطاريات الليثم يمكن أن يستمر في عمله لعشر سنوات وما يعمل بالذرة يمكن ان يستمر مدى الحياة وما يعمل بالبطاريات الأخرى يستمر لسنتين من الزمن. والنوع الدائم يغرز تحت الجلد والسلك يوصل إلى القلب.. والأنواع تتطور كل يوم وفي الطب جديد اليوم يصبح قديما بعد بضع سنوات فقط. 4- مجموعة العقاقير: التي يستخدمها الطبيب لإنعاش التنفس أو القلب أو تنظيم ضرباته إلى آخر القائمة الطويلة من العقاقير التي تستخدم في إنعاش المرضى. وفي عمليات القلب المفتوح: التي تجرى بنجاح مطرد في مختلف عواصم العالم بما فيها مراكز القلب في المملكة العربية السعودية يتم إيقاف القلب كليا عن العمل وكذلك الرئتين طوال مدة العملية التي تبلغ بضع ساعات ويحرص الأطباء على أن لا تزيد المدة عن ساعتين كاملتين لأن المدة إذا زادت عن ذلك بدأت التأثيرات الضارة على عضلة القلب وحسب التعريف القديم فإن مثل هذا الشخص يعتبر ميتا أثناء إجراء العملية إذ أن قلبه وتنفسه قد توقفا تماما عن العمل. ولكن الواقع أن هذا الشخص حي ويعود إلى وعيه بعد العملية ويعيش حياة طبيعية بعدها بل ويمارس نشاطه بدرجة لم يكن يستطيع أن يقوم بها قبل العملية. وفي هذه العمليات يكون الدماغ حيا بطبيعة الحال وكذلك بقية الأعضاء وعند بدء العملية يقوم الجراح بتحويل الدم من الأوردة التي تأتى بالدم إلى القلب مثل الوريد الأجوف العلوي والسفلى إلى آلة تقوم بعمل القلب والرئتين فيذهب الدم غير المؤكسد إلى هذه الرئة الصناعية فتصفي الدم من ثاني أكسيد الكربون وتعطيه الأوكسجين بالدرجة المطلوبة وتعيده إلى القلب إلى الشريان الأبهر (الأورطي) عند قاعدته بواسطة أنبوبة خاصة. وبواسطة مضخ يدفع بالدم بضغط دم شبيه بضغط الدم العادي فيدفع الدم من الشريان الأبهر (الاورطي) إلى الدماغ وبقية أعضاء الجسم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 وفي هذه الأثناء يبرد الجسم حتى لا يحتاج إلى استهلاك كمية من الطاقة والأوكسجين كبيرة وتخفض درجة الحرارة إلى 25 مئوية. أما القلب فيبرد تبريدا شديداَ حتى لا يحتاج إلى كمية من الطاقة والأوكسجين إلا في حدود ضئيلة يمد بها عبر الشرايين التاجية من الاورطي.. ويوقف عمل القلب بنفس الآلة المعروفة باسم مانعة الذبذبات Defibrillator وذلك بإعطائه صدمة كهربائية معينة وهكذا يبقى المريض وقلبه متوقف عن العمل تماما وكذلك رئتاه وفي حالات عمليات نقل القلب يبقى المريض بدون قلب على الإطلاق لفترة من الزمن وقد يستبدل القلب الإنساني بقلب إنسان آخر أو قلب قرد أو قلب صناعي. ويعيش مثل ذلك الشخص بدون قلب!! أو بقلب قرد أو ربما كلب أو خنزير أو قلب من المطاط والسيلكون والبولين اثيلين (أي مركبات غازات البترول) . وهذا يدل على أن معاني القلب الواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة لا يقصد بها القلب العضلي الصنوبري الشكل الموجود في الجانب الأيسر من الصدر كما يقول الإمام الغزالي في الإحياء، وإنما المقصود به القلب المعنوي والنطفة الربانية.. والمعنى الذي يفقه من الإنسان ويعرف حقيقة الأشياء كما ذكر الإمام الغزالي في كتاب عجائب القلب من " إحياء علوم الدين ". وتجري عمليات القلب المفتوح من أجل أغراض متعددة مثل إصلاح صمامات القلب التالفة، أو إزالة ورم بالقلب أو انسداد بشرايين القلب أو تضخم وتلف في عضلة القلب نتيجة جلطة القلب أو لعملية زرع قلب جديد أو لغير ذلك من الأغراض. فإذا ما شارفت العملية على الانتهاء أعاد الطبيب حركة القلب بعد رفع درجة حرارته رويدا رويدا وذلك بالأقلال من تبريده وبتسخين الدم وتعاد حركة القلب بواسطة جهاز مانع الذبذبات Defibrillator وذلك بإعطاء القلب شحنة كهربائية معينة فيبدأ القلب بالتحرك ثم الضخ وفي نفس اللحظة التي تعود فيها حركة القلب يعاد الدم إلى القلب في حركة توافق وتناسق عجيبة متناغمة تدل على المهارة الفائقة والبراعة التامة وتناسق عمل الفريق الذي يقوم بالعملية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 هذا موجز سريع لأجهزة الإنعاش وأغراض استخدامها وأما المشكلة العويصة التي نتجت عن هذا الاستخدام فتأتي عندما يقوم الطبيب بإسعاف مريض توقف تنفسه فجأة لأي سبب من الأسباب (غرق، حرق، تنفس مواد سامة) أو توقف قلبه فجأة (مرض بالقلب، اضطرابات النبض، مواد سامة الخ) أو أصيب دماغ الشخص في حادثة سيارة مثلا أو أثناء عملية جراحية لإزالة ورم بالدماغ. وفي هذه الأسباب جميعا يقصد الطبيب إعطاء المصاب فرصة قد يعود فيها تنفسه وقلبه ودماغه إلى الوضع الطبيعي أو إلى ما هو أدنى من ذلك أو أفضل مما كان عليه قبل الإصابة.. وما أن يضع الطبيب المنفسة ويتنفس بها الشخص المصاب فإن مشكلة جديدة تطرأ وهي هل من حق الطبيب أن يوقف هذه المنفسة؟ وإذا كان كذلك فمتى وما هي الشروط لذلك؟ وهل يعتبر إيقاف المنفسة نوعا من القتل لذلك الشخص المعتمد عليها؟ إن التعريف القانوني للحياة هو استمرار القلب في الضخ واستمرار الدورة الدموية واستمرار التنفس فإذا كانت هذه العناصر كلها موجودة فهل يعتبر مثل هذا الشخص حيا أم ميتا في نظر القانون والشرع رغم أن دماغه قد وقف تماماَ عن العمل؟ إذا قلنا بأن استمرار عمل القلب والتنفس دليل قطعي على الحياة فمإذا نقول في عمليات القلب المفتوح التي يوقف فيها عمل القلب والرئتين لمدة ساعتين أو اكثر؟ هل مثل ذلك الشخص في نظر الشرع أو القانون ميت؟ أن الأطباء يقررون أن مثل ذلك الشخص حي ولا يعتبرون أنه توفي إلا إذا توقف القلب بالكلية وتوقف الضخ إلى الدماغ ومات الدماغ نتيجة لذلك. لهذه الأسباب ظهر مفهوم موت الدماغ، أو موت جذع الدماغ. تكوين الدماغ: والدماغ Brain يتكون من Cerebrol hemis phenes 1- المخ Cerebrum وهو بدوره يتكون من نصي المخ. 2- المخيخ ووظيفته الأساسية توازن الجسم وإزالة المخيخ بكامله لا تسبب الوفاة 3- جذع الدماغ Brain Stem وفي المخ المراكز العليا.. ومراكز التفكير والذاكرة والإحساس.. والحركة والإرادة.. إلخ. وفي جذع الدماغ المراكز الأساسية للحياة مثل مراكز التنفس والتحكم في القلب والدورة الدموية.. فإذا مات المخيخ فإن الإنسان يمكن ان يعيش.. الحياة النباتية وأمثلتها كاترين كونيلان وسيسليا بلاندى: وإذا مات المخ فإن الإنسان أيضًا يمكن ان يعيش وإن كانت حياته حياة غير إنسانية بل حياة نباتية Vegelative life. وهذا ما حدث لكارين كونيلان الي مكثت في غيبوبة منذ 14 أبريل 1975 حتى 13 يونيه 1985 عندما توفيت أخيرا وفي تلك الفترة الطويلة لم يكن لها من الحياة الإنسانية والإدراك شيء.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 وفي بداية الأمر وضعت تحت أجهزة الإنعاش وظل تنفسها بالمنفسة وتدخل الأبوان وقسيس الأسرة وطلبوا من المستشفي والأطباء إيقاف الأجهزة طالما أنه لا يوجد أي أمل في عودتها إلى الوعي ذلك لأن دماغها قد مات أو بالأحرى معظم دماغها الذي يشمل المخ والمخيخ ماعدا أجزاء من جذع الدماغ ظلت حية. ورفضت إدارة المستشفي طلب الأبوين.. وتقدما إلى المحكمة.. وكانت أول قضية من نوعها في الولايات المتحدة بل وفي العالم وأثارت ضجة كبرى ظلت محل اهتمام أجهزة الإعلام والأطباء والقضاة. وبعد مداولات بل واستفتاء للرأي العام قررت المحكمة العليا حق المريض أو المريضة المصاب إصابة خطيرة كهذه في دماغها بحيث لا يرجى برؤها.. ولا تعود لها بها حياة إنسانة.. قررت المحكمة حق المريض في الموت بكرامة.. وذلك في شهر مارس 1976. وبعد أن أوقفت أجهزة الإنعاش بأمر المحكمة في مايو 1976 استمرت كارين آن كونيلان في حياتها النباتية لمدة عشرة سنوات تقريباً وهي تعيش على التغذية بالمحاليل.. وعلى أجهزة الأنعاش من حين لآخر ... وأخيراً في 13 يونية 1985 انتقلت الى العالم الآخر فتاة أصيبت بنوبة من الإغماء بعد حفلة خمر وحبة فاليوم. وهي في عمر الزهور وقد حدث لها الإغماء عندما كانت في الواحدة والعشرين.. وفي الواحدة والثلاثن عاماً توفاها الله بعد أن أصيبت بالتهاب رئوي أصيبت بمثله وشفيت منه عشرات المرات أثناء غيبوبتها الطويلة. كما أن مراكز الوعي منبثة ف شبكة الدماغ الأوسط Reticular formation of mid وتصاب هذه المراكز باصابات بالغة في الحالات التي يحدث فيها إغماء طويل مثلما حدث لكارين آن كونيلان ودسيسليا بلاندي. وإذا تغير نشاط مناطق الوعي هذه فإن الإنسان يصاب بالنوم ... ورغم أن عملية النوم لا تزال مجهولة في تفاصيلها إلا أنه بات من المعتقد أن النوم يبدأ عندما ينخفض نشاط هذه المراكز في الدماغ الأوسط. وإذا تغير النشاط في هذه المناطق حدث نوع من الصرع يفقد فيه المريض وعيه ثم يصحبه بعد ذلك تشنج في العضلات نتيجة سريان النشاط الكهربائ الشاذ المفاجئ من الدماغ المتوسط الى مراكز الحركة. وهناك نوع من الصرع آخر يعرف بأسم صرع جاكسون Jacksomian يبدأ من مركز حركي فتتحرك الإبهام اليسرى مثلاُ ثم تتحرك اليد ثم الذراع ثم العضد ثم الشق الايسر بأكملة ثم يفقد المريض الوعي وينتابه صرع وتشنجات للجسم بأكمله. وسبب هذا النوع من الصرع هو موجات كهربائة طارئة على منطقة قشرة الدماغ في المخ Cerebrum لوجود ورم أو ندبة في منطقة محدودة. ثم يسري النشاط الكهربائي من المنطقة الحركية المحدودة في الدماغ حتى تصل الى منطقة الوعي وهي شبكة الدماغ الممتدة الى الدماغ الأوسط. وهناك فرق كبير بين حالة الإغماء وبين حالة النوم.. ففي حالة النوم العميق يمكن أن يوقظ الشخص إما بصوت عال أو بتحريكة أو بوخزه.. أما في حالة الإغماء فإن الصوت العالي والضوء القوي والتحريك واللمس والوخز لا يؤثر في الشخص ولا يجعله يخرج من حالة الإغماء بل لا يبدو عليه أي إحساس نحو هذه الؤثرات إلا بدرجة طفيفة جدا. ولذا فإن نوم أهل الكهف الطويل الذ جعله الله معجزة لهؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم وفروا من ملكهم الطاغية الى الكهف إن نوم هؤلاء الفتية لمدة ثلاثمائة وتسعة أعوام ليس نوعاً من الإغماء ولا نوعاً من الموت بل هو نوم طبيعي ولا غرابة أنه بلغ هذه الأحقاب المتطاولة.. وقد قص علينا رب العزة قصتهم في سورة الكهف قال تعالى {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} . ثم قال تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} . وحالة النوم هذه هي همود لنشاط مراكز الوعي في الخلايا الشبكية في الدماغ الأوسط، وإذا تنبهت هذه الخلايا عادت الى نشاطها السابق. ولا نريد ها هنا الدخول في متاهات النظريات عن النوم فهي خارجة عن موضوعنا، ولكن أحببنا توضح فكرة موجزة عنها للتفريق بينها وبين الإغماء. والإغماء الطويل الذي يمتد أشهرا وسنيناً متطاولة هو نوع من الموت يفقد فيه الشخص المصاب حياته الإنسانة وتبقى له حياته النباتة ... ومع هذا فإن الشرع والطب والقانون يحتم في هذه الحالة اعتبار مثل هذا الشخص حيا ... له حقوق الحياة كاملة.. وكل من يتعدى على هذه الحياة يعتبر مسؤلا فإن قتلها شخص اعتبر قاتلا مهما كان الغرض من وراء قتله حتى لو سمى ذلك قتل الرحمة. فإن هذا الشخص لا يخاطب بالتكاليف الشرعية لفقدان وعيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 الفصل السابع موت الدماغ أو موت جذع الدماغ: الموقف القانوني والشرعي لقد تبين مما سبق أهمية مفهوم موت الدماغ أو موت جذع الدماغ.. ونوجز فيما يلي الأسباب الداعية إلى استخدام موت الدماغ بدلا من موت القلب وتوقف الدورة الدموية. إن الإصابات البالغة نتيجة الحوادث أو غيرها التي تصيب الدماغ قد تسبب موت الدماغ أو بالأحرى جذع الدماغ (وسنفصل فيما بعد في هذا المفهوم والفرق بينهما) وفي نفس الوقت فان أجهزة الإنعاش قد تجعل القلب يستمر في عمله والتنفس يستمر بواسطة المنفسة وبذلك تعمل كل أجهزة الجسم تقريبا ماعدا الدماغ الذي يكون قد مات.. ولهذا فان مثل هذا الشخص الميت يفرز البول أو الغائط وقد تنمو أظافره ويطول شعره وهو أمر يبدو غريبا على السامع. المدة بين موت الدماغ وتوقف القلب: والواقع أن الغرابة تزول إذا علمنا أن الدورة الدموية يمكن أن تستمر لعدة ساعات أو لعدة أيام بعد وفاة الدماغ وفي حالة موثقة نشرتها مجلة نيواتجلند جورنال الطبية المشهورة في 7 يناير 1982 أن شخصا توفي فجأة أثناء مشادة وتوقف قلبه وتنفسه وأدخل المستشفي بعد الإسعاف السريع واستمر تحت المنفسة وفي اليوم الثالث أوضحت كل الفحوصات أن دماغه قد مات.. واستمر التنفس الصناعي ليروا متى يتوقف القلب عن النبض.. واستمر قلب ذلك الشخص ينبض بوسائل الإنعاش الصناعي لمدة 68 يوما بعد موت دماغه ولم يتوقف عن النبض إلا بعد ان قام الأطباء بإيقاف وسائل الإنعاش الصناعي.. وهي أطول مدة مسجلة وموثقة في هذا الباب. الأسباب التي تدعو إلى إيقاف وسائل الإنعاش: 1- أن رعاية جثة وتنظيفها أمر يسبب آلاماَ مبرحة لأسرة ذلك الميت وللأطباء ولهيئة التمريض. 2- والنقطة الأخرى الهامة هي أن تكاليف وسائل الإنعاش باهظة جدا.. وصرف ملايين الدولارات لجعل جثث تتنفس أمر ليس له معنى. 3- كذلك فإن هذه الأجهزة باهظة الثمن وقليلة العدد.. ويحتاجها كثير من المصابين وتعطيلها على مجموعة من الجثث أمر يؤدى إلى فقدان مجموعة من الحالات التي كان بالإمكان إنقإذها لو استخدمت معهم وسائل الإنعاش في حينها. وترك شخص يموت لعدم وجود وسائل إنعاش أو لأن وسائل الإنعاش موضوعة في شخص مات دماغه أمر ليس له ما يبرره لهذا وجد الأطباء أنفسهم في حاجة إلى إيجاد مواصفات محددة لتعريف موت الدماغ وكذلك فإن مشاريع زرع الأعضاء تستدعى أن تنقل هذه الأعضاء من الموتى وهي في حالة جيدة أي أن خلاياها لا تزال حية وبما أن موت العضو لا يحدث دائما عند موت الشخص فإن هذه الأعضاء قد تبقى حية لفترة زمنية محدودة بعد موت العضو. ومن المشاهد في الشاة بعد ذبحها أنها تتحرك بل إن ألياف عضلات اللحم تتحرك وتنبض بعد أن تسلخ الشاة ويقطع لحمها وكذلك فإن القلب أو الكلى أو القرنية أو غيرها من الأعضاء الإنسانية المطلوبة في زرع الأعضاء يمكن أن تكون حية بعد وفاة الشخص. وبما أن الفساد يسرى إليها فتصبح غير ذات فائدة بعد توقف الدورة الدموية فإن أخذ هذه الأعضاء مع وجود الدورة الدموية أو بعد لحظات من توقفها أمر يستدعى استمرار وسائل الإنعاش لحين أخذ هذه الأعضاء، وذلك بعد إعلان وفاة الشخص. ولهذا لابد من توضيح موت الدماغ والاعتراف به في هذه الحالات الخاصة كعلامة على الموت وإصدار شهادة الوفاة بذلك بينما تبقى الجثة بعد ذلك تحت أجهزة الإنعاش حتى يتمكن الجراحون من أخذ الأعضاء المناسبة. ولهذا الأمر محإذير.. ولذا ينبغي أن يكون الفريق الطبي الذي يعلن موت الدماغ لا مصلحة له ولا يشترك في أخذ الأعضاء المطلوبة، بل إن الفريق الذي سينقل الأعضاء ليس له الحق مطلقا في إعلان موت الدماغ. وجوب الاعتراف بموت الدماغ: إذن من الناحية الشرعية أو القانونية لابد من إجراء التغيير التالي: الاعتراف بموت الدماغ بدلا من موت القلب كعلامة على موت الشخص في الحالات الخاصة التي تستدعي وضع أجهزة الإنعاش وبذلك يمكن إعلان الوفاة متى ما تم تحديد موت الدماغ والاتفاق عليه من قبل مجموعة من الأطباء المختصين وفي تلك الحالة يمكن إيقاف أجهزة الإنعاش وإبقاؤها على حسب الوضع المطلوب في المستشفي، فمثلا إذا كان المصاب قد أوصى قبل وفاته بتبرعه بأعضاء جسمه فإن الأجهزة يمكن أن تظل تعمل بعد إعلان وفاته لبضع ساعات أو ربما يوم كامل إذا كانت هناك حاجة للحصول على عضو أو أعضاء كاملة التروية لزرعها في مريض أو مرضى آخرين هم في أشد الحاجة إليها. وقد كانت القوانين في العالم أجمع بما فيه الولايات المتحدة وأوربا تنص على أن الوفاة مرتبطة بتوقف القلب والدورة الدموية يقول قاموس بلاك القانوني إن الموت يعني توقف الدورة الدموية وتوقف الوظائف الأساسية للكائن الحي مثل التنفس والنبض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 وكان أول من نبه إلى موضوع موت الدماغ المدرسة الفرنسية عام 1959 فيما أسمته مرحلة ما بعد الإغماء Cama de passe وبدأ الأطباء الفرنسيون يحددون بعض المعالم لموت الدماغ بينما القلب لا يزال ينبض (1) ثم جاءت المدرسة الأمريكية المتمثلة في لجنة آدهوك من جامعة هارفارد عام 1968 فوضعت مواصفات موت الدماغ (2) (3) وركزت على خمس مواصفات اعتبرتها العلامات الدالة على موت الدماغ وهي: (أ) الإغماء الكامل وعدم الاستجابة لأي مؤثرات. (ب) عدم الحركة (تلاحظ على الأقل لمدة ساعة) . (جـ) عدم التنفس. (د) عدم وجود أي من الانفعالات المنعكسة. (هـ) رسم مخ كهربائي لا يوجد فيه أي نشاط. وأثار قرار لجنة هارفارد اهتماما واسعا في مختلف مناطق العالم.. وفي نفس العام بحث المؤتمر الطبي العالمي الثاني والعشرون في سيدني استراليا موضوع الموت وتعريفه وموت الدماغ. واستمر الجدل عنيفا وحادا في الدوائر الطبية والقانونية ومنذ بداية السبعينات كانت المستشفيات جميعها تواصل الإنعاش حتى يتوقف القلب تلقائيا وكان ذلك يشكل عبئا كبيرا على المستشفيات والأطباء والممرضين وعلى أسرة المصاب وفي كثير من البلدان كان على الأسرة أن تدفع تكاليف وسائل الإنعاش الباهظة الثمن طوال المدة التي كانت تستخدم فيها (حتى بعد موت الشخص المصاب) ولم تكن الأسرة تعاني فقط نفسيا بل ماديا أيضًا.   (1) Mollaret P , Gouon M. Le coma Dé passé, Rev Neurol. 1959, 1 1:3-15 (2) Ad Hoc committee of the harvard Med.School: Adefinition of irreversible Coma. JAMA 1968 (3) Pallis C., From Brain Death to Brain Stem Death. Br. Med. J 1982, 285: 1487 – 149 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 وفي بريطانيا اجتمعت لجنة من كبار الأطباء المختصين من الكليات الملكية للأطباء وكليات الطب في الجامعات البريطانية وأصدرت تعريفاتها لموت الدماغ عام 1977 وبذلك أمكن في بريطانيا إيقاف وسائل الإنعاش متى ما تم تشخيص موت الدماغ. وفي عام 1981 أصدر الرئيس ريجان أمراَ بتكوين لجنة من كبار الأطباء والقانونين وعلماء الدين لدراسة موضوع موت الدماغ وأصدرت اللجنة قرارها في يوليو 1981 بالاعتراف بموت الدماغ قانونيا وكانت أول ولاية تعترف بموت الدماغ هي ولاية كانساس وذلك عام 1977 (1) ورغم ان 25 ولاية لم تعترف قانونيا بموت الدماغ إلا أن القضاة في تلك الولايات بصورة عامة يعترفون به ويسخر الدكتور واكر من الوضع القانوني الغريب حيث يعتبر الشخص ميتا في ولاية بينما تعتبره ولاية مجاورة حيا (2) وسيعرض الأمر على الكونجرس الأمريكي لإصدار قانون فيدرالي يشمل الولايات المتحدة بأكملها وفي استراليا يذكر الدكتور بول جيرير والدكتور جور أن القوانين تختلف من ولاية لأخرى في تعريف الموت اختلافا بينا ففي جنوب استراليا ومقاطعة فيكتوريا ونيو ساوث ويلز يعترف القانون بموت الدماغ كعلامة للموت. بينما لا تعترف بعض المقاطعات الداخلية بتعريف موت الدماغ إلا في حالة تبرع المصاب قبل وفاته أو موافقة أسرته على التبرع بأعضائه (3) موقف الدول من موت الدماغ: وازداد عدد الدول التي تعترف بموت الدماغ وان كانت تختلف في تفاصيل الفحوصات المطلوبة لتعريف موت الدماغ. وكان الموقف في عام 1979 كما يلي (نقلا عن كتاب كريستوفر باليس ابجديات موت الدماغ) (4) الدول التي تعترف بموت الدماغ: الأرجنتين، النرويج، استراليا، إسبانيا، النمسا، كندا، بورتيريكو، تشيكوسلافكيا، الولايات المتحدة (33 ولاية عام 1982) ، فرنسا، المكسيك، إيطاليا   (1) Joyut R.A New look at Death. JAMA 1984 ; 252 (5) : 68 -682 (2) Walker A.E Cerebral Death.ed 2, Munich, Germany ; Urban and schwarzenberg 1981 (3) Gerber p, jur, D., Med J. Of Aust. 1984 (july 21) : 13 (4) C.Pallis: A.B.C of Brain stem death , articles from B.M.J. london 1983 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 الدول التي تعترف طبيا بموت الدماغ ولكن لا يوجد قانون يعترف بموت الدماغ: بلجيكا، ألمانيا، الهند، بريطانيا، ايرلندا، هولندا، جنوب إفريقيا، كوريا الجنوبية، سويسرا، تايلاند وبقية الولايات المتحدة، بوليفيا، البرازيل، بيرو، كولومبيا، فينزويلا، ارجواي، تركيا الدول التي لا تعترف بموت الدماغ أو لا تعترف به كمساو لموت القلب: الدينمارك، إسرائيل، اليابان، بولنده، السويد، الدول الإسلامية الدول التي لم تدرس جديا موت الدماغ: - معظم الدول الإسلامية - بقية دول العالم الثالث بما في ذلك الصين - الاتحاد السوفيتي وقد بدأت كثير من الدول الإسلامية بحث موضوع موت الدماغ في الآونة الأخيرة ففي الكويت انعقدت ندوة بدء الحياة ونهايتها عام 1405 (1985) بإشراف المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية وكذلك بحث المجمع الفقهي الإسلامي موضوع موت الدماغ في دورته الثامنة المنعقدة بمكة المكرمة (1405هـ) وأجل البت في الموضوع إلى الدورة التاسعة (1406هـ) لحين استكمال دراسة هذا الموضوع من الأعضاء والاستفادة من آراء الأطباء ودراستهم حول هذا الموضوع وقد قام الدكتور أحمد شرف الدين بوضع كتاب باسم " الأحكام الشرعية للأعمال الطبية " وحاز به جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي 1981 ونشر الكتاب عام 1983 ولقد وضع الكاتب الفاضل فصلا عن الحدود الشرعية للإنعاش الصناعي كما تعرض لنقل الأعضاء من الموتى. يقول المؤلف: " ولقد أثار الإنعاش الصناعي مشكلة دينية تتعلق بالقدرة على إعادة الحياة للموتى. فقد قيل إن هناك أشخاصًا ماتوا وأعيدت لهم الحياة بالوسائل الطبية " (1) وهو أمر غير صحيح فإن الأطباء لا يعيدون الحياة لمن ثبت موته ولكنهم ينقذون بإذن الله من كان به رمق من الحياة.   (1) C.Pallis: A.B.C of Brain stem death , articles from B.M.J. london 1983 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 وتوقف القلب أو التنفس لدقيقة أو أكثر أو أقل لا يعني الموت، وذلك أن هذا التوقف قد يحدث تلقائيا كما أن عودة القلب والتنفس قد تعود تلقائيا دون تدخل طبي كما حدث في حالات عديدة موثقة.. والتدخل الطبي هو في إنعاش هذه الأعضاء الهامة التي توقفت ولذا فإن نسبة كبيرة جدا من الحالات التي تقدم لها وسائل الإنعاش تموت رغم وسائل الإنعاش. والطب لم يستطيع منع الموت ولا إيقافه.. ففي كل يوم وفي كل لحظة يموت ملايين البشر وهذا وهم كبير أطلقته الصحافة وأجهزة الإعلام المثيرة والمشككة والتي يتحكم في معظمها إليهود وتلامذتهم بأن الأطباء أصبح في مقدورهم إعادة الموتى إلى الحياة فذلك أمر غير صحيح.. وهو لله وحده. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} [يس12] ، وقال تعالى {وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان 3] . وقال تعالى: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران 168] والآيات في ذلك كثيرة والموت والحياة بيد الله وحده ولا يستطيع أحد أن يعيد الميت إلى الحياة إلا ما جعله الله معجزة لنبي أو كرامة لولي كما حدث لعزرا أو كما يجعله الله فتنة للناس كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال يفعله. وقد أفاض الدكتور أحمد شرف الدين في الرد على هؤلاء وأوضح الحقيقة التي يعرفها الأطباء من أن الطبيب لا يعيد الميت إلى الحياة ولكنه بإذن الله قد ينجح في إنقإذ شخص معرض للموت، وتوقف قلبه وتنفسه ولكن دماغه بعد لم يمت. أما إذا ماتت خلايا الدماغ كلها أو تلك المتحكمة في الوظائف الأساسية للحياة مثل التنفس والقلب والدورة الدموية فإن ذلك الشخص يكون قد مات حتى ولو كان قلبه ينبض ورئتاه تتنفس بواسطة أجهزة الإنعاش ولو تركت الأجهزة لتوقف القلب والتنفس فورا. ويناقش الدكتور أحمد شرف الدين هذه القضية: هل إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعي جائز شرعا وقانونا؟ فيقول: (إذا كان الشارع قد أباح العمل الطبي والجراحي لأنه يحفظ مصالح راجحة اجتماعيا تتمثل في المحافظة على الحياة وصيانة الصحة فان علة الإباحة تزول متى زالت الحياة التي تتوفر لها صفات الحياة الإنسانية ويتعين من ثم التوقف عن العمل (ولنا هنا تعليق سريع وهو أن تعبير الحياة الإنسانية غير محدد فإذا كان المقصود به التي فيها الوعي والتفكير والإدراك فان زوال هذه الصفات لا يعنى الموت فقد يبقى الشخص فاقد الوعي والتفكير والإدراك إما لجنون أو لإغماء لفترة طويلة قد تبلغ عشر سنوات أو تزيد كما سبق أن ذكرنا) .. وهذا الأمر يصدق على العمل الطبي المتمثل في الإنعاش الصناعي لإنسان ثبت موت مخه (وتعبير المخ أيضًا يطلق في الطب على جزء من الدماغ وهو Cerebrum وأما تعبير الدماغ Brain فيطلق على المخ والمخيخ وجذع الدماغ.. ولذا فالأصح هو القول موت دماغه) رغم تمتعه بحياة صناعية.. وبينما يعتبر علم الطب أن مثل هذا الإنسان قد مات فان الفقه والقانون (في كثير من البلدان) لا يعتبران إنسانا قد مات طالما قلبه ينبض ويلزم لاعتباره ميتا اتخإذ إجراءات معينة كتحرير شهادة الوفاة بعد توقف عن النبض تلقائيا.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 وهذا الأمر قد تجاوزته القوانين في بعض البلدان التي اعترفت فعلا بموت الدماغ أو تلك التي اعترفت هيئاتها الطبية بموت الدماغ.. وتغاضى القانون عن التعريفات الأخرى وأوكل فيها الموت إلى الأطباء. ولكن هل يمكن إيقاف أجهزة الإنعاش في البلاد التي لم تعترف بعد بموت الدماغ ولا تزال تتمسك بتعريف موت القلب وتوقف الدورة الدموية والتنفس كعلامة على الموت؟ إن إيقاف هذه الأجهزة في مثل هذه القوانين قد يعتبر قتلا.. لأن القلب لا يزال ينبض وإذا أوقفت الأجهزة فان القلب سيتوقف والدورة الدموية ستتوقف والتنفس سيتوقف فمتى إذن توقف الأجهزة في مثل هذه البلاد التي لم تسمح بعد بتعريف موت الدماغ؟ يبدو الوضع شبيها بما كان عليه في الستينات والسبعينات من هذا القرن في بريطانيا (عام 1977عندما صدر قرار الكليات الملكية بتعريف موت الدماغ) ففي ذلك الوقت كان الأطباء يتركون الأجهزة تعمل حتى يتوقف القلب تلقائيا رغم وجود الأجهزة وكما ذكرنا فان القلب يتوقف عن العمل بعد موت الدماغ إما ببضع ساعات أو بضعة أيام في معظم الحالات وان كانت هناك حالة موثقة أمكن ان يستمر القلب فيها بالضخ والعمل رغم موت الدماغ لمدة 68 يوم (مجلة نيو انجلند ميدكال جونارل العدد 306 ص14ـ 16 في 7 يناير 1982) وقد وضع الدكتور أحمد شرف نقاشه على نقطة هي أن من أصيب بموت المراكز المخية العليا لا يتمتع بحياة إنسانية جديرة بالحماية.. ونحن لا نوافق على هذا التعبير. فموت المخ Cerebrum ليس موتا للدماغ Brain فالمخ قد يموت أو تموت أجزاء كبيرة منه ويبقى الشخص يتنفس وقلبه ينبض تلقائيا بدون آلات كما حدث لآلاف الأشخاص المغمى عليهم والمصابين إصابات بالغة.. والتي تمثلها اصدق تمثيل قصة كارين آن كونيلان التي استمرت في غيبوبتها الطويلة أكثر من عشر سنوات مع موت المخ Cerebrumوبقاء جذع الدماغ حيا.. وكذلك قصة الفتاة الإيطالية سيسيليا بلاندى التي تهشم مخها في حادثة سيارة وبقيت على قيد الحياة في غيبوبة طويلة استمرت 12 عاما.. ورغم ان المخ في كلا الحالتين كان قد مات إلا أن جذع الدماغ لم يمت ولذلك فان هاتين الحالتين لم تعتبرا من الأموات الا بعد توقف القلب عن العمل تلقائيا وما تبعه من موت الدماغ.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 وقد ذكر الدكتور احمد شرف الدين ان (من توقف لديه عمل المراكز العصبية العليا التي تتحكم في وظائف الجسم لا يستطيع أن يتحكم في تعامله مع العالم الخارجي وتزول من ثم حياته الإنسانية ويصبح في حكم الأموات. ولما كان الإنعاش الصناعي لا يعيد للحياة الإنسانية مقوماتها، الإدراك والشعور والقدرة على الاتصال بالعالم الخارجي بعد ان ماتت خلايا المخ فلا يعد هذا العمل أيضًا جريمة قتل في حكم الشرع والقانون لان هذه الجريمة لا تقع إلا في محل هو حي بحسب تعبير الفقهاء أو في عبارة أخرى لان جريمة القتل تفترض وجود حياة إنسانية طبيعية) وينتهي القول بأنه ليس في إيقاف عمل أجهزة الإنعاش الصناعي إذن بالنسبة لمن مات مخه ما يعتبر جريمة في حق الإنسانية، إذ أن موت المخ يعني انتهاء الحياة الإنسانية وانفصال هذه الحياة عن الحياة العضوية التي تحفظها هذه الأجهزة التي إذا أوقفت عن عملها فإن ما يحدث هو مجرد موت عضوي. فإذا ترك الطبيب أجهزة الإنعاش تعمل على جثة المريض بعد ذلك فإنه لا يفعل أكثر من إطالة الحياة العضوية بطريقة صناعية أي إطالة إحضاره وهذا ضرب من العبث طالما أنه لا فائدة منه لأحد يجب أن يتنزه عنه الطب. ويتعين من ثم فصل هذه الأجهزة لاستخدامها عند الأحياء. فهذا ما يقضى به القانون الإنساني الذي يعطى الأولوية لصالح الأحياء، لذلك فمن حق الأسرة من وجهة النظر الإنسانية أن تطلب إلى الطبيب إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعي كما أن من حق الطبيب أن يوقف عملها فهذا ما يمليه عليه الواجب الإنساني ". ونحن نوافق الدكتور شرف الدين فيما ذهب إليه لولا أن تعبير المخ ينبغي أن يستبدل بالدماغ إذ هناك فرق كبير بينهما. وكذلك تعبير الحياة الإنسانية من الإدراك والوعي والعقل. فإن هذه كلها قد تذهب كما في المجنون أو المغمي عليه ولا يقال لمثل هذا الشخص إنه ميت.. ولابد إذن من موت الدماغ بأكمله (الذي تنص عليه المدرسة الأمريكية) أو على الأقل موت جذع الدماغ (الذي تنص عليه المدرسة البريطانية) الذي به مراكز الحياة الأساسية والتي تتحكم في التنفس والدورة الدموية والقلب. ولا يبدو لي أن الدكتور شرف الدين قد تنبه إلى هذه النقطة ولعله يعني بموت المخ موت الدماغ بأكمله كما تشير إلى ذلك بعض عباراته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 وهناك اتجاه محدود لدى بعض الأطباء يرون فيه أن فقدان الحياة الإنسانية بمعنى الإدراك والتفكير والإحساس هو الموت ومن هؤلاء دكتور ستيوار بونجر ودكتور إدوارد بارليت في مقالهما الذي نشرته مجلة Annals. Of int. Medicine عام 1983 (1) (299 ص 252-258) وقد ركزا فيها على أن فقدان الوعي والمعرفة التي لا أمل في عودتهما أساس كاف لفقدان الحياة الإنسانية وبالتالي إصدار حكم الموت وهو تعريف يسبب مشاكل عويصة في الحالات التي ذكرنا أمثلة لها مثل حالة كارين آن كونيلان وسيسليا بلاندي حيث عاشت الأولى عشر سنوات والثانية اثني عشر عاما بعد فقدان كل مقومات الحياة الإنسانية.. لذا فإن الدوائر الطبية والقانونية ترفض مثل هذا التعريف للموت ولكنها تسمح بإيقاف أجهزة الإنعاش عن مثل هذه الحالات التي تفقد إلى الأبد كل مقومات الحياة الإنسانية ولذا فإن هذه الحالات لا تستوجب استمرار أجهزة الإنعاش فيها إلى الأبد وبذلك حكمت المحكمة العليا في الولايات المتحدة في قضية كارين آن كوينلان وأمرت الأطباء بإيقاف أجهزة الإنعاش وقد صدر الحكم في مارس 1976 ورفعت الأجهزة في مايو 1977 ومع هذا استمرت كارين في الحياة النباتية حتى عام 1985. ويتحدث الدكتور شرف الدين من الوجهة القانونية والشرعية فيقول هل إيقاف أجهزة الإنعاش يعد قتلا؟ فيقول " لا صعوبة في القول بأن إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعي يعد قتلا إذا تم الإيقاف قبل موت مخ المريض وأنه على العكس لا يعد قتلا إذا كان تركيب الأجهزة قد تم بعد موت المريض فحياته هنا كانت غير متحققة فإن الصعوبة في الحقيقة في حالة ما إذا كانت هذه الأجهزة قد علقت على المريض قبل موت مخه – أي في وقت كانت حياته محققه وأوقفت عن العمل بعد ثبوت موت مخه فالمريض في هذه الحالة وإن كان قد فقد الحياة الطبيعية في رأي الطب الا أنه مازال يتمتع بها في نظر الفقه والقانون (في الدول التي لا تعترف بموت الدماغ) طالما لم يتخذ الإجراءات الرسمية لإعلان وفاته " وهذه النقطة الأخيرة قد أمكن التغليب عليها بإعلان موت المريض عندما يموت دماغه (المدرسة الأمريكية) أو عندما يموت جذع الدماغ (المدرسة البريطانية) وبعد إعلان الموت توقف الأجهزة أو تستمر لحين استقطاع الأعضاء المطلوبة إذا كان المصاب قد تبرع بها قبل وفاته أو أن أسرته تبرعت بها بعد وفاته. هل إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعي يعد قتلا بدافع الشفقة (قتل الرحمة Euthanasi) معاقبا عليه؟ إن تعريف قتل الرحمة يعني السماح لشخص بالموت بدون إسعافه وهو قتل الرحمة السلبي Passive Euthanansia إذا كان يعاني من آلام مبرحة وإطالة حياته تسبب له تعذيبا وقد يكون قتل الرحمة إيجابيا بإعطائه كمية زائدة من العقار فترديه. وهذا الفعل معاقب عليه قانونا وشرعا.. ويعتبر قتلا مهما أطلق عليه من أسماء ورغم ان دافعه الشفقة فإن هذا الدافع مرفوض شرعا وقانونا.   (1) Younger S. Bariette e. Human Doath and high technology the faiure of the whole Brain Formulation , Annals of int Med `983. 99: 252-358 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 ولكن هذا الحكم لا ينطبق على حالات موت الدماغ. فهنا المصاب لا يشعر بأي آلام لفقدان الإحساس وهولا يتعذب ولا يوجد أي مبرر من هذه الناحية لإراحته. ولذا فإن إيقاف أجهزة الإنعاش لا يدخل أبدا في مفهوم موت الرحمة.. وإيقاف الأجهزة ينبني على أن هذا الشخص قد مات دماغه وتوقفت خلايا هذا الدماغ أو على الأقل جذع الدماغ عن العمل البتة دون وجود أمل في عودتها لهذا فإن إعلان وفاة مثل هذا الشخص هو الإجراء السليم فإذا ما تم ذلك أمكن حينئذ إيقاف الأجهزة لأنها توقف عن شخص تم إعلان موته. الفصل الثامن الأسس العلمية التي ينبني عليها تشخيص موت الدماغ منذ أن قدمت لجنة آدهوك عام 1968 (من جامعة هارفارد) مقترحاتها بتعريف موت الدماغ أخذت هذه القضية أبعادا عالمية. وقد قبلت معظم الولايات والمحاكم في الولايات المتحدة الأمريكية (33 ولاية حتى عام 1982) بتعريف هذه اللجنة لموت الدماغ كما أخذت به كثير من الدول التي اعترفت بموت الدماغ وعدلت دول أخرى هذه المقترحات قليلا ومن تلك الدول بريطانيا العلامات الدالة على موت الدماغ (مجموعة هارفارد) وتتخلص العلامات الدالة على موت الدماغ في تعريف مجموعة هارفارد (1) (2) فيما يلي: 1- الإغماء الكامل وعدم الاستجابة لأي مؤثرات لتنبيه المصاب مهما نبه ومهما كانت وسائل التنبيه قوية ومؤلمة ولو ظهرت من المصاب حركة ولو بسيطة أو موت ولو حشرجة دل ذلك على حياة المصاب. 2- عدم الحركة التلقائية أو نتيجة وخز المصاب وذلك لمدة ساعة كاملة على الأقل من الملاحظة التامة. 3- عدم التنفس لمدة ثلاث دقائق بعد إبعاد المنفسة ويشترط لإبعاد المنفسة أن يتنفس المصاب أوكسجين 95 % لمدة10 دقائق بواسطة المنفسة قبل إبعادها وبكمية 6 لترات في الدقيقة بواسطة قسطرة تدخل إلى القصبة الهوائية (الرغام) ويضاف إلى الأوكسجين 5 % ثاني أكسيد الكربون لها بحيث إن ذلك سيرفع مستوى ضغط ثاني أكسيد الكربون في الدم إلى 40 مم زئبق وبما أن ثاني أكسيد الكربون يعتبر عاملا مهما في تنبيه مراكز التنفس فإن هذا الإجراء يعتبر ضروريا وقد اختلفت اللجان الطبية المختلفة في تقدير المدة المطلوبة بحيث لا يحدث تنفس رغم إبعاد المنفسة مجموعة هارفارد اقترحت ثلاث دقائق، مجموعة مينوسوتا اقترت أربع دقائق، أما المجموعة البريطانية فقد اقترحت عشر دقائق كاملة من الملاحظة بعد إيقاف التنفس بواسطة المنفسة (3) 4- عدم وجود أي من الأفعال المنعكسة وقد ركزت اللجنة على الأفعال المنعكسة عن منطقة جذع الدماغ Brain Stem reflexes التي سنذكرها بإيجاز فيما بعد. 5- عدم وجود أي نشاط كهربائي في رسم المخ isoelecteric E.E.G. (Flat) الكهربائي بعد إمراره بطريقة معينة متعارف عليها عند أهل هذا الفن.. ولا يعتبر هذا الشرط الأخير ضروريا إذ يمكن تشخيص موت الدماغ بوجود الأربعة الشروط الأولى فإذا استخدم هذا الجهاز فإنه يعتبر عاملا مؤكدا Confirmatory valueوينبغي أن تعاد جميع هذه الفحوصات بعد 24 ساعة ولا يظهر فيها أي تغيير.   (1) Ad Hoc committed of the Harvard Medical School. A definition of lrreversible Coma JAMA 1968 ,2 5:85-88 (2) Pallis C. From Brain Death to Brain Stem Death. B.M.J 1982 , 285: 1486 – 149 (3) Pallis C.Diagnosis of Brain Stem Death ii, B.M.J 1982; 1641-1644 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 مجموعة مينسوتا: وقد وضع مجموعة من أخصائي جامعة مينسوتا (Minnesota Criteria) مواصفات مشابهة تختلف في التفاصيل عام 1971 وقد عرفت باسم مواصفات مينوستا هي كالتالي: 1- أن يكون السبب المؤدي إلى موت الدماغ معلوما وقد كانت 2 حالة من ال25 حالة التي وصفوها ناتجة عن حوادث أدت إلى تهشيم الدماغ تهشيما لا أمل في عودته إلى سابق عهده بينما كانت الحالات الخمس الأخرى تعاني من إصابات داخلية بالدماغ معلومة ومشخصة قبل إعلان موت الدماغ وسنظهر فائدة هذا الشرط عندما نعرف أن توقف الدماغ عن العمل بتاتا لفترة محدودة قد ينتج عن المنومات وبالذات الباربيتورات وغيرها من المهدئات 2- عدم وجود أي حركة ذاتية. 3- توقف التنفس بعد إيقاف المنفسة لمدة أربع دقائق بالشروط المذكورة سابقا. 4- عدم وجود أي أفعال منعكسة من منطقة جذع الدماغ وذلك يدل على موت جذع الدماغ. 5- كل هذه الشروط ينبغي أن لا تتغير خلال اثنتي عشرة ساعة. 6- رسم المخ غير ضروري.. ووجوده يعتبر عاملا ثانويا مساعدا ومؤكدا وينبغي أن يكون الرسم بدون أي نشاط كهربائي لخلايا المخ. ومن المهم جدا والملاحظ أن عدم وجود الأفعال المنعكسة من منطقة جذع الدماغ لا يعني عدم وجودها من النخاع الشوكي. فمثلا الضرب على الأوتار في الأطراف العليا أو السفلي يؤدى إلى تحرك العضلات المرتبطة بهذا الفعل المنعكس فالضرب على وتر الرضفة (الركبة) يؤدي إلى تحرك عضلات الفخذ التي تغذيها الأعصاب القطنية (الثاني والثالث) 2,3 والضرب على وتر أخيل عند العقب يحرك عضلات سمانة الساق والضرب على وتر العضلة ذات الرأسين يحرك هذه العضلة في الذراع وذات الثلاثة رؤوس في العضد. وهكذا وإمرار المفتاح مثلا على راحة القدم بجعل الإبهام وأصابع القدم تتحرك.. ووجود هذه الأفعال المنعكسة جميعا أو بعضا منها يعنى أن النخاع الشوكي سليم ولكنه لا يعني أن الدماغ أو جذع الدماغ قد مات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 وهذا أمر يبدوا عسيرا حتى على الأطباء فقد قامت المجموعة الفرنسية عام 1959باشتراط فقدان هذه الأفعال المنعكسة وكذلك فعلت مجموعة هارفارد (1) في أول الأمر ثم اتضح للأطباء أن العلاقة ليست ثابتة بين موت الدماغ أو جذع الدماغ وبين موت النخاع الشوكي فقد يكون جذع الدماغ حيا بينما النخاع الشوكي ميتا وفي هذه الحالة يعتبر الشخص مشلولا ولكنه حي أما في حالة موت الدماغ وبالذات جذع الدماغ فإنه يعتبر ميتا رغم بقاء الأفعال المنعكسة من النخاع الشوكي. وقد أكدت الأبحاث المتكررة بواسطة تصوير شرايين الدماغ توقف الدورة الدموية في الدماغ رغم وجود الأفعال المنعكسة من النخاع الشوكي (2) ومن المتفق عليه أن توقف الدورة الدموية في الدماغ يعتبر علامة أكيدة لا نزاع فيها على موت الدماغ. والشيء المثير للجدل هو وجود بعض الذبذبات الخفيفة التي تدل على وجود خلايا حية في الدماغ فوق مستوى جذع الدماغ فالمدرسة البريطانية ترى أن وجود مثل هذه الذبذبات والنشاط الكهربائي الضئيل حتى على فرض التأكد أنه صادر من خلايا الدماغ وليس من الأجهزة الكثيرة القريبة من المصاب ترى المدرسة البريطانية أن هذه الذبذبات لا تغير من تشخيص موت الدماغ طالما أن الفحوص الأخرى المتتالية تدل على موت جذع الدماغ.   (1) c.Pallis: A.B.C Brain Stem Death, B.M.J.London 1983. P.G (2) Pallis C.ABC Brain Stem Death P.G الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 ويرى بعض الأطباء حرجا في مثل هذه الحالة.. ولذا يقترحون القيام بقياس الدورة الدموية الدماغ.. ويمكن معرفة ذلك بحقن شرايين الدماغ الأساسية الأربعة (شريانين سباتييد Carsted arteries وشريانين فقريين (Vertebral arteries) ورغم أن هذا الإجراء مجهد وقد يصعب إجراؤه في غرفة الإنعاش ويستدعي نقل المصاب إلى غرفة الأشعة فإن نتيجته قطعية بالموت أو الحياة. وقد وجد الأطباء وسيلة أيسر وتؤدي نفس الغرض وذلك بحقن المصاب بمادة مشعةRadio nuclide ثم تصوير الدماغ وذكر مجموعة من الأطباء في بحثهم الذي نشرته مجلة JAMA الطبية الشهيرة (1) في 14 يناير 1983 أن استخدام مادة النيوكلايد المشعة ثم تصوير الدماغ تعطي معلومات دقيقة ووافية عن الدورة الدموية في الدماغ مما يتسنى بالحكم على موت الدماغ أو حياته وأن هذه الطريقة توازي طريقة حقن الأوعية الدموية للدماغ (الشرايين الأربعة) رغم ان الطريقة الأخيرة مجهدة ومن الصعب إجراؤها في غرفة الإنعاش بينما الطريقة التي تستخدم فيها المواد المشعة أسهل ولا تحتاج إلى نقل المريض إلى غرفة الإنعاش. العلامات الدالة على موت الدماغ: (المدرسة البريطانية) : قدمت لجنة الكليات الملكية البريطانية وكليات الطب مقترحاتها وتعريفاتها لموت الدماغ وذلك عام 1976 وعام 1979 وقد أكدت هذه التعريفات: أن موت جذع الدماغ يعني موت الدماغ عند وجود إصابة لا يمكن معالجتها بالدماغ (2) (3) وقد وصفت هذه المقترحات فحوصات إكلينيكية يمكن بواسطتها لأي طبيب أن يتأكد من وجود أو عدم وجود حياة في جذع الدماغ بشرط أن يكون الطبيب عارفا بتشخيص سبب فقدان الوعي والإغماء وأنه ليس ناتجا عن مجموعة من العقاقير أو نقص الأوكسجين. وقد وصفت مذكرة 1979 موت جذع الدماغ وجعلته مساويا للموت (4) واعتبرت النقاط التالية: 1- أن فقدان وظائف جذع الدماغ فقدانا تاما لا رجعة فيها يساوي توقف القلب وموته بالتعريف القديم 2- أن فقدان وظائف جذع الدماغ يمكن معرفتها سريريا دون الحاجة إلى فحوصات معقدة مثل رسم المخ الكهربائي أو حقن شرايين الدماغ الأربعة أو المواد المشعة.   (1) Schwartz JA: Radios nuclide Cerebral lmaging confiming Brain Death.JAMA 1983 ; 249; 246-247 (2) Confrence of Medical Royal Colleges and their Faculties in the U.K.Diagnosis or Death Br. Mad J. `976. (ii) : 1187-8. (3) Pallis C., ABC Brain Stem death P.g (4) Scjwartz JA etai: Radis nuclid Cerebral imaging confirming Brain Death. JAMA الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 3- أن معرفة أن فقدان هذه الوظائف أمر دائم أو مؤقت يرجع إلى: أ) إبعاد كل الأسباب التي تؤدي إلى التوقف المؤقت في وظائف جذع الدماغ مثل العقاقير المنومة والمهدئة ونقص الأوكسجين والتسمم بغاز أول أكسيد الكربون.. إلخ ب) وجود سبب مادي واضح لإصابة الدماغ إصابة مميتة والتأكد من ذلك بوسائل الفحص المطلوبة مثل الأشعة وغيرها. وهكذا اتضح الأمر لدى المدرسة البريطانية أن مفهوم الموت قد تحول من موت القلب إلى موت الدماغ (كل الدماغ) ثم من موت كل الدماغ إلى موت جذع الدماغ. تكوين الدماغ: قبل أن نتحدث عن وظائف جذع الدماغ والفحوص التي تجرى عليها سنتحدث بإيجاز شديد عن الدماغ وتقسيماته حتى يتضح ما هو المقصود بموت الدماغ وجذع الدماغ. يتكون الدماغ من ثلاثة أجزاء رئيسية وذلك حسب ظهورها في التكوين الجنيني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 1- الدماغ المقدمي Fore Brain ويشمل نصي المخ Cerebral hemispghenes وبكل نص مراكز هامة عديدة إذ يكونا مهد الفطنة والذكاء والعبقرية في الإنسان الذي يمتاز بوساطة المخ المقدمي على باقي المخلوقات إذ يحكم ويملك ويسيطر علاوة على وجود مراكز تتحكم في السيطرة على عضلات الجسم الإرادية وأخرى في السيطرة على الاحساسات المتباينة المختلفة وثالثة للحواس وضبط النفس ولكل مركز أو حاسة جزء خاص به " كما يقول الدكتور شفيق عبد الملك أستاذ التشريح بكلية الطب جامعة عين شمس (1) (القاهرة) ولندخل في وظائف الدماغ المقدمي ولأقسامه المتعددة فهو خارج نطاق بحثنا هذا. صورة للدماغ ويظهر فيه نصي المخ الأيمن وجزء من المخيخ والنخاع الشوكي   (1) مبادئ علم التشريح ووظائف الأعضاء ص 313 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 2- الدماغ المتوسط Mld Brain ويشمل فخذي المخ إلى الأمام والأجسام التوأمية الأربعة إلى الخلف وتتوسطهما القناة المخية المائية وفخذا المخ Cerebral peduncles يربطان قنطرة فارول pous بنصي المخ من جهة وبالنخاع الشوكي من جهة أخرى وبالمخيخ من جهة ثالثة. وتحتوي على مجموعة من الأنوية منها النواة الحمراء وعلى الأجسام التوأمية الأربعة Corpora quadrigemina ويختفي الجسمان العلويان منها بالإبصار والجسمان السفليان منها بالسمع. (مركز ثافون) وتوجد بها أيضًا التكوين الشبكي Reticular formation الذي يمتد إلى الدماغ المقدمي في الجهة العليا وإلى القنطرة والنخاع المستطيل في الجهة السفلى.. وأهمية هذا التكوين الشبكي تأتي في أنه مسئول عن اليقظة والوعي. فإذا تعبت خلاياها حدث النوم وإذا أصيبت فقد الوعي. 3- الدماغ المؤخري Hind Brain ويحتوي على: أ- قنطرة فارول pous وهي تربط النخاع المستطيل بالمخ المتوسط والمخيخ وبها مجموعة من أنواء خاصة بها علاوة على أنواء الأعصاب المخية الخامس والسادس والسابع والثامن. ب- النخاع المستطيلMedulla oblongata هو حلقة الاتصال بين النخاع الشوكي والدماغ وبه مراكز الحياة الأساسية التي تتحكم في التنفس والدورة الدموية والقلب. ج- المخيخ Cerebellum ويتصل بالمخ المتوسط والنخاع المستطيل وقنطرة فارول وينحصر عمله في السيطرة على العضلات ويحفظ قوى اتزان الجسم وينظم الحركة العضلات الإرادية. يسمى: الدماغ المتوسط قنطرة جذع الدماغ النخاع المستطيل ويحتوي هذا الجذع على المراكز الحيوية وعلى جميع الأعصاب القحفية cranial nerves الأثنى عشر ولذا يسهل فحص الوظائف الحيوية. الدماغ المتوسط Mid Brain جذع الدماغ فخذا المخ crus crebri النخاع المستطيل Meduilla oblongata المخ المقدمي المخ المتوسط القنطرة النخاع المستطيل صورة توضح الأعصاب القحفية Caranial nerves الاثنى عشر وجميعها تخرج من جذع الدماغ Brain Stem ويسهل فحصها وبالتالي يمكن معرفة وظيفة جذع الدماغ. مقطع إكليلي coronal في الدماغ يوضح اتصال جذع الدماغ بالمخ وعلاقته بالمخيخ ويتصل التكوين الشبكي Reticular formation الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 الموجود بجذع الدماغ بذلك الموجود في المخ limbit system وخاصة المجموعة cerebrum الحوفية والتكوين الشبكي مسئول عن اليقظة.. وقد ثبت أن إصابة سقيفة جذع الدماغ Tegmentum (في الدماغ المتوسط) على الجانبين تسبب إغماء طويلا وفقدان للوعي يستمر أبدا بعيدا.. أن الوعي والإدراك هو من وظائف المخCerebrum ولكن بدون الإشارات الآتية من جذع الدماغ (التكوين الشبكي) فإن المخ لا يستطيع أن يعي أو يدرك.. وهو يشبه زر النور الذي تضغطه لتسرى الكهرباء وتضاء الغرفة.. فبدون هذا الزر ووضعه في موضعه المناسب (ON) فان التيار لا يسري رغم أن الأسلاك جيدة واللمبة سليمة والتيار موجود ولكنه غير موصل ولا تتم دورة الاتصال إلا بوضع الزر على وضع (on) ومن حسن الحظ ان المراكز الهامة في جذع الدماغ قريبة من بعضها ويمكن فحصها إكلينيكيا (سريريا) بسهولة.. ويتحكم جذع الدماغ في الآتي من المراكز الحيوية: 1- التنفس 2- الدورة الدموية وضربات القلب وتمر فيه المسارات العصبية الحركية النازلة من قشرة الدماغ إلى النخاع الشوكي والمسارات العصبية الحسية الصاعدة من النخاع الشوكي إلى قشرة الدماغ وأي إصابة في جذع الدماغ تؤثر على هذه المراكز والمسارات. كما أن إصابة جذع الدماغ تخفض خفضا شديدا الدورة الدموية في الدماغ كله كما أنها تخفض عمليات الأكسدة في المخ الضرورية للاستقلاب Cerebral oxidative metabolism الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 ولذا فإن إصابة جذع الدماغ إصابة مميتة لا يوقف فحسب التنفس والدورة الدموية والمسارات العصيبة الحركية النازلة Descending motor tracts والمسارات العصيبة الحسية الصاعدة Ascending sensory tracts ولكنها أيضًا تسبب الموت للدماغ كله وإن كانت بعض خلايا المخ قد تكون حية لفترة محدودة بعد موت جذع الدماغ. وكما ان موت القلب وتوقف الدورة الدموية وتوقف التنفس لا يعني موت كل خلية في الجسم في تلك اللحظة وإن كانت تلك الخلايا ستموت حتما إذا تركت في مكانها من الجسم فإن موت جذع الدماغ لا يعني أيضًا موت كل خلية في الدماغ على الفور وان كانت تلك الخلايا ستموت حتما خلال ساعات. ولهذا تتجه المدرسة البريطانية إلى إعلان الموت عند موت جذع الدماغ رغم أن: 1- بعض خلايا الدماغ قد تكون حية آنذاك إلا أنها في طريقها إلى الموت سريعا ويستدل على وجود بعض الخلايا حية بوجود نشاط كهربائي ضئيل في جهاز رسم المخ الكهربائي E.E.C. 2- أن النخاع الشوكي Spinal Cord لا يزال به رمق حياة ولذا فان بعض الأفعال المنعكسة من النخاع الشوكي قد تكون موجودة مثل الأفعال المنعكسة من النخاع الشوكي قد تكون موجودة مثل الأفعال المنعكسة بضرب أوتار عضلات الطرف العلوي (العضلة ذات الرأسين والعضلة ذات الثلاث رؤوس) أو أوتار الطرف السفلي مثل وتر الرضفة Patellar terdon ووتر أخيل في العقب Tendoactillis بينما نرى المدرسة الأمريكية (تقرير هارفارد عام 1968 Ad Hoc committee of the henvard Me. School. Adefinition of lrrev. coma. jAmA 1968 , 2 6 – 88. وعام 1984 Ad hoc committee of the Harvard Med. School: A Def. of lrrev. Coma. JAMA 1984. 252-677-679. تصر على: 1- أن تكون جميع خلايا الدماغ ميتة عند إعلان الوفاة.. ولهذا فإن رسم المخ ينبغي أن لا يكون فيه أي نشاط آت من خلايا الدماغ. 2- أن تكون الأفعال المنعكسة جميعها مفقودة بما في ذلك الأفعال المنعكسة من النخاع الشوكي. أسباب موت جذع الدماغ: إن أهم أسباب موت جذع الدماغ تتلخص في الآتي: 1- إصابات الحوادث والارتطام مثل حوادث المرور (السيارات) والطائرات والقطارات وحوادث العمل أو السقوط من حالق أو أثناء القفز من منط في مسبح أو في البحر حيث يقفز الشخص ويرتطم رأسه بحجر وهذه الحوادث تمثل 50 % من جميع الحالات تثمل التي شخص فيها موت الدماغ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 2- نزف داخلي في الدماغ وعادة ما يكون ناتجا عن نزف تحت العنكبوتية Subarachnoid haemorrhage أو انفجار لأم الدم (انتفاخ في أحد الشرايين) Ruptured ameury sm وتمثل هذه الحالات 30 % من جميع حالات موت جذع الدماغ. 3- تمثل 20 % الباقية مجموعة من الأمراض مثل الأورام والتهاب الدماغ والسحايا خراج الدماغ..إلخ ويعتبر توقف القلب أو التنفس الفجائيين ونقص تروية الدماغ بالدم أسبابا نادرة لموت جذع الدماغ، وان كانت تسبب في الغالب موت المخ Cerebrum بينما يبقى جذع الدماغ حيا مما يؤدي إلى حياة نباتية Vegetative life بحيث يبقى المصاب حيا لكنه فاقد الوعي والإحساس والإدراك وهو في غيبوبة تامة Complete Coma ويعتبر الشنق سببا هاما وإن كان نادرا لموت جذع الدماغ وفي الشنق يموت جذع الدماغ قبل موت المخ وقبل موت النخاع الشوكي. ولذا فإن الشنق أو القتل بالمقصلة أو الضرب بالسيف أعلى العتق يمثل تمثيلا واضحا المقصود بموت جذع الدماغ. ففي هذه الحالات جميعا يموت جذع الدماغ أولا بينما المخ أو بعض خلايا المخ لا تزال حية. وكذلك خلايا النخاع الشوكي ولذا فإن المذبوح أو المشنوق يتحرك وهي حركة أسماها الفقهاء " حركة المذبوح " ولا تدل على وجود الحياة. صورة توضح مزفا شديدا مميتا في جذع الدماغ. نزف في جذع الدماغ المخيخ نزف وتهتك في الدماغ فيما بين القنطرة Pons والنخاع المستطيل medulla oblongata كما يحدث في حالات الشنق. وفي الشنق رغم أن المعتقد هو أن الفقرية السنية (الفقرة العنقية الثانية) Odontoid تنخلع فتضغط بذلك على المقطعين الأولين من النخاع الشوكي إلا أن الواقع الذي وصفه البروفيسور سيبمس (أخصائي الطب الشرعي والباثلوجي للداخلية البريطانية) يدل على أن سبب الموت في حالة الشنق هو تهتك وانفصام جذع الدماغ فيما بين القنطرة pons وفي الشنق يتوقف التنفس فورا نتيجة انفصام وتهتك جذع الدماغ بينما تبقى في بعض الأحيان تروية الدماغ حيث إن الشريان السباتي Carotid a. أو الشريان الفقرى vertebral a يظل أحدهما أو كلاهما مفتوحا وقد يستمر القلب في الضخ والنبض لمدة عشرين دقيقة كاملة بعد توقف التنفس وموت جذع الدماغ. بل ان بعض خلايا الدماغ وخاصة في المخ Cerebrum تستمر في الحياة لعدة دقائق وإذا وضع رسم المخ الكهربائي في مثل تلك الحالة فإنه سيسجل نشاطا كهربائيا لعدة دقائق. فهل مثل هذا الشخص يعتبر حيا في الوقت الذي لا يزال قلبه ينبض وبعض خلايا دماغه تعمل؟ هذا هو السؤال الذي وضعه الدكتور كريستوفر باليس في كتابة أبجديات موت جذع الدماغ للرد على المدرسة الأمريكية والأشخاص الذين يطالبون بموت جميع خلايا الدماغ لإعلان موت الدماغ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 والواقع أن الفرق الزمني بين موت جذع الدماغ وبين موت كل الدماغ لا يعدو دقائق كما أن الفرق بين موت جذع الدماغ والنخاع الشوكي قد يصل إلى ساعة أو جزء من الساعة وكما أن القلب قد يستمر في العمل لعشرين دقيقة بعد الشنق وموت جذع الدماغ وذلك بدون أجهزة إنعاش فإن بعض خلايا الدماغ قد تستطيع الحياة لبضع دقائق بعد موت جذع الدماغ.. ولا تستطيع خلايا الدماغ المتبقية الحياة أكثر من ذلك لأن أجهزة الإنعاش تستطيع إبقاء هذه الخلايا حية بعد جذع الدماغ على عكس ما تفعله الأجهزة بالنسبة للقلب الذي تستطيع أجهزة الإنعاش في إبقائه بضعة أيام رغم موت جذع الدماغ (وفي الحالة الخاصة التي سجلت استمر القلب بنبض 68 يوما بعد موت الدماغ (1) الفصل التاسع تشخيص موت جذع الدماغ يعتبر تشخيص موت جذع الدماغ أمرا أساسيا في تشخيص موت الدماغ حتى لدى المدرسة الأمريكية وغيرها من المدارس الطبية التي تطالب بموت كل الدماغ لإقرار موت الدماغ على عكس المدرسة البريطانية التي ترى أن موت جذع الدماغ كافيا لإصدار شهادة الوفاة كما قد بينا من قبل حيث أوردنا حجج كلا من الفريقين. لهذا فإن تشخيص موت جذع الدماغ يعتبر حجر الزاوية في تشخيص موت الدماغ وبالتالي إعلان وفاة ذلك الشخص ومن ثم يتسنى إيقاف الأجهزة أو نزع الأعضاء الأساسية التي تبرع بها الشخص قبل وفاته أو وافق أهله وذويه على التبرع بها بعد وفاته. ومن حسن الحظ أن تشخيص موت الدماغ أمر يسير نسبيا ولا يحتاج إلى أجهزة معقدة ويمكن لأي طبيب أن يشخص ذلك سريريا دون اللجوء إلى إجراء فحوصات معقدة. الخطوات الأساسية لتشخيص موت الدماغ: وهناك ثلاث خطوات أساسية للوصول لتشخيص موت الدماغ هي: أولا: الشروط المسبقة وتشمل الآتي: 1- وجود شخص مغمي عليه لا يتنفس إلا بواسطة المنفسة 2- وجود تشخيص لسبب الإغماء يوضح وجود مرض أو إصابة في جذع الدماغ لا يمكن معالجتها ثانيا: عدم وجود سبب من أسباب الإغماء المؤقتة والناتجة عن: (أ) الكحول والعقاقير. (ب) انخفاض درجة حرارة الجسم. ثالثا: الفحوصات السريرية التي تؤكد: (أ) عدم وجود الأفعال المنعكسة من جذع الدماغ. (ب) عدم وجود تنفس من غير المنفسة. وتعاد هذه الفحوصات بعد فترة زمنية.. وتجرى من قبل الطبيب المعالج وأخصائي الأمراض العصبية وبشرط أن لا يكون أحد هؤلاء الأطباء له علاقة بنقل عضو من أعضاء المصاب إلى شخص آخر. وسنتحدث الآن عن هذه الثلاث الخطوات الأساسية بشيء من الإيجاز: الشروط المسبقة: Pre – conditions 1- الإغماء الكامل: وعدم الاستجابة لأي مؤثرات خارجية مثل الصوت القوى أو الضوء القوي أو هز المصاب أو إيلامه بقرصه أو شكه بدبوس أو إبرة بحيث لا تظهر من المصاب أي حركة ولو بسيطة ولا أي صوت ولو حشرجة فإذا وجدت أي حركة ولو بسيطة أو صوت ولو حشرجة أو أنه فإنه ذلك يعني أن المصاب ليس ميتا 2- عدم الحركة التلقائية وتلاحظ هذه لمدة ساعة كاملة على الأقل من قبل الطبيب ولا يكتفي في ذلك قول هيئة التمريض (وهذا هو شرط مدرسة هارفارد الأمريكية) 3- تشخيص سبب الإغماء ووجود أدلة على إصابة بجذع الدماغ (تهتك أو نزف) ويحتاج تشخيص السبب إلى إجراء فحوصات مخبرية وأشعة وينبغي أن يكون السبب من النوع الذي لا يمكن علاجه ولا برؤه وهذا يعني أن الأسباب الطارئة مثل الاحتقان والوذمة Dodoma كلها قد عولجت بحيث تبقى الأسباب الدائمة وحدها.   (1) Parisi J.E etal: Brain Death with prolonged Somatic Survival , New Eng. J. Medicine 1982 , 3 6 (1) : 14 – 16 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 كما أن الأسباب الطارئة للإغماء مثل العقاقير والكحول التي قد يكون المصاب تعاطاها قد أزيل أثرها من الجسم إما تلقائيا بمرور الزمن أو بواسطة العلاج. كذلك من الأسباب الطارئة انخفاض حرارة الجسم Hypothermia التي قد تحدث لشخص أصيب أثناء التزحلق على الجليد ففقد الوعي نتيجة ارتطامه وفي نفس الوقت ظل جسمه في الجو القارس في الثلج فترة جعلت درجة حرارة جسمه تنخفض إلى ما تحت 35 درجة مئوية.. فإن الإغماء الموجود لدى مثل هذا المصاب قد يرجع إلى عدة أسباب (وهذا أمر كثير الحدوث) فقد يكون هذا الشخص تناول خمرا قبل التزحلق على الجليد (وهو أمر دائم الحدوث) ثم أصيب أثناء تزحلقه وارتطم رأسه وتهشمت جمجمته.. وكان مثل ذلك الشخص في منطقة معزولة فبقى مغمى عليه لعدة ساعات أو لبضعة أيام في الثلج قبل العثور عليه مما نتج عنه انخفاض في درجة حرارة جسمه.. فلابد في مثل هذه الحالة أن تزال الأسباب المؤقتة المؤدية إلى الإغماء وهي: (1) شرب الخمر (ب) برودة الجسم وذلك يستدعى عدة إجراءات طبية بحيث تثبت المختبرات عدم وجود كحول في الدم وبحيث ترتفع درجة حرارة الجسم فيبقى آنذاك أثر الارتطام ومدى إصابة جذع الدماغ وحتى هذه فإن فيها أسبابا مؤقتة إضافية مثل الاحتقان والوذمة Congestion and oedoma وهذه ينبغي أيضًا أن تزال أولا للتأكد من بقاء الأسباب الدائمة فقط. كما ينبغي التأكد من الأسباب الأخرى التي يمكن أن تزال بإجراء عملية جراحية مثل تجمع الدم (من النرف) تحت أو خارج الأم الجافة Sub or extr dural Hematoma أو وجود ورم بالدماغ يمكن إزالته جراحيا ولهذا فان تشخيص السبب أمر في منتهى الأهمية وبالتالي تحديد هل هذا السبب من الأسباب المؤقتة التي يمكن أن تزال بإجراء طبي أو من الأسباب الدائمة التي لا يستطيع الطب حيالها شيئا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 ولهذا ينبغي أن يكون السبب المؤدى إلى الإغماء ليس وظيفيا functional فقط بل ينبغي أن يكون السبب المؤدي إلى الإغماء تركيب مادي نسيجي Stractural وأن يكون السبب المادي التركيبي النسيجى من النوع الذي لا يمكن إزالته بوسائل الطب الموجودة لدينا. وأما الأسباب الوظيفية Functional فلا تعد أبدا من أسباب الإغماء الدائم لأنها يمكن أن تزال ومن ذلك: 1- العقاقير وقائمتها طويلة وتشمل: - الكحول. - المنومات مثل الباربيتورات. - المهدئات مثل الفاليوم والليبريم والنويريم والأتيفان.. إلخ. - المخدرات المسكنات مثل الهيرويين والمورفين والبنقازوسين والبيثدين والميثادون. - أدوية الصرع مثل الفينتون Pheniytion والكاربافزيبزين Carbanezepine - الأدوية المضادة للكآبة مثل الايمبراين imipramine والتربتلين Tryptigline والنور تربتلين Nortyptyline - المعقلات مثل الكلور برومازين. - المسكنات مثل الأسبرين. 2- برودة الجسم. 3- نقص الهرمونات أو زيادتها في الجسم. 4- نقص السكر أو زيادته في الجسم. 5- زيادة البولينا في الجسم. 6- التسمم نتيجة الغازات السامة وغاز أول أكسيد الكربون. ولهذا فإن أصعب نقطة في تشخيص موت جذع الدماغ هي الوصول لمعرفة السبب الحقيقي للإغماء ومعالجة من ثم الأسباب المؤقتة. وهذا يستدعي عمل فريق طبي متكامل ومجهز بكثير من الأجهزة الحديثة. وفي هذه الأثناء يظل المصاب تحت المنفسة والإنعاش الصناعي ولا يمكن حسب التعريف الطبي (البريطاني والأمريكي) أن يشخص موت الدماغ قبل ازالة الأسباب الوظيفية المؤقتة التي تؤدي إلى الإغماء ولعل أهم سبب في هذه المجموعة المؤقتة هو تناول العقاقير مثل الكحول والمخدرات والأدوية المنومة (المرقدة) والمهدئات. (ونقصد بالمخدرات الأفيون والمورفين ومشتقاته) ورغم أن الكحول هو أكثر هذه الأسباب شيوعا إلا أن أثره المؤدي إلى الإغماء لا يزيد في الغالب عن ثماني ساعات. ولذا فان إصابة شخص مخمور في رأسه تشكل عائقا أمام تشخيص موت الدماغ. ولكن أثر الكحول يزول في الغالب بعد ثماني ساعات ويبقى بذلك أثر الإصابة في الدماغ فقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 أما العقاقير الأخرى مثل الباربيتورات فقد تبقى في الدم بدرجة تركيز عالية مسببة للإغماء لعدة أيام. على أية حال لابد من فحص الدم المتكرر في مثل هذه الحالات حتى يتبين ذهاب أثر العقار على الدماغ. ولكن إذا فرض أن المستشفي المذكور لا توجد به إمكانيات فحص العقاقير في الدم ولا يوجد بالقرب منه مركز لإجراء هذه الفحوصات فإن الأغلبية الساحقة من العقاقير يخبو أثرها بعد مرور ثلاثة أيام من الإغماء ولهذا ينبغي أن يبقى المصاب تحت المنفسة طوال هذه المدة قبل التفكير في موضوع موت الدماغ حتى وأن كانت كل الفحوص الأخرى تدل على أن الدماغ قد مات إذ أن هذه العقاقير تستطيع أن تسكت الدماغ لمدة ثلاثة أيام كاملة ويكون في أثناء ذلك رسم المخ الكهربائي سلبيا صامتا لا يتحرك بأدنى حركة. ولهذا لا ينبغي إجراء الفحوصات الدالة على موت الدماغ قبل التأكد أولا من التشخيص وزوال الأسباب المؤقتة للإغماء. بعض الأسباب المؤقتة للإغماء مع توقف التنفس ومدتها: 1- جراحة الدماغ الكبيرة اكثر من – 4 ساعات 2- أم الدماغ anewlysur في الدماغ نزف تحت الأم العنكبوتية أكثر من – 6 ساعات 3- العقاقير: الاسبرين ربع – 3 ساعات البارسيتامول (الباندول) 3 - 4 ساعات داعينها يرامين (دواء حساسية) 4 - 10 ساعات ايمبيرامين (دواء ضد الكآبة) 8 - 24 ساعة مورفين 10- 60ساعة نورتريتلكين (دواء ضد الكآبة) 15- 93 ساعة دايزيبام (فاليوم) 24 - 96 ساعة فينوباربيتال (منوم ضد الصرع) 50 - 140 ساعة الكحول ساعة كل 10 مللتر من الكحول 4- نقص الأوكسجين للدماغ نتيجة عرق أو غازات سامة أو توقف فجائي للقلب أكثر من 24 ساعة بعد التأكد من الشروط المسبقة وعدم وجود سبب من الأسباب المؤقتة للإغماء أو عند وجودها التأكد من ذهاب تأثيرها تبدأ المرحلة الثالثة والأخيرة وهي فحص وظائف جذع الدماغ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 وتتلخص هذه في وجود الآتي: 1- إغماء 2- عدم وجود وضع جسماني معين غريب abnormal posture مثل: أ) وضع مفصول المخ decerebrate ب) وضع مفصول قشرة الدماغ decorticate وهي أوضاع جسمية خاصة يأخذها من فصل مخه عن بقية دماغه أو فصلت قشرة مخه عن بقية دماغه بواسطة إصابة أو مرض مثل التهاب أو ورم. 3- عدم وجود أي هزات أو رجات صرعية No epiletic jerking 4- عدم وجود الأفعال المنعكسة من جذع الدماغ. 5- عدم وجود تنفس تلقائي. 6- عدم وجود " حركة الدمية " "no dolling" يقف الطبيب خلف رأس المصاب ويقبض على رأس المريض ويضع إبهام كل يد على جفن وحاجب فيرفعه إلى أعلى ثم يحرك الرأس إلى جهة اليمين ويبقى كذلك لمدة ثلاث أو أربع ثوان ثم إلى جهة اليسار في الشخص الواعي تتحرك العين مع حركة الرأس في خلال أقل من ثانية.. وفي الشخص الميت (الجثة) تتحرك العين والرأس معا أما في الشخص المغمي عليه والذي لا يزال جذع دماغه حيا فإن العين تتحرك في الاتجاه المعاكس لحركة الرأس لمدة ثانية أو ثانيتين تتبعها عودة سريعة من مقلة العين إلى اتجاه حركة الرأس ونفس الشيء يحدث عندما يتحرك الرأس إلى الجهة المعاكسة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 وهذا الفحص ببساطته ويسره يوفر وقتا طويلا فإذا فحص الطبيب المصاب ووجد أن الشخص المغمى عليه والموجود تحت أجهزة الإنعاش تتحرك مقلة عينه عكس حركة الرأس فإن ذلك يدل على أن جذع دماغه لا يزال حيا ولا داعي لإجراء مزيد من الفحوص. فإذا كانت هذه الحركة المعاكسة غير موجودة والعين تتحرك مع حركة الرأس كما يحدث في الموتى فإن ذلك يستدعى إجراء الفحوصات التالية: أ- الأفعال المنعكسة لجذع الدماغ: وتتلخص هذه في الآتي: 1- عدم حركة بؤبؤ العين للضوء الشديد. يكون بؤبؤ العين (حدقة العين) واسعا لا يتغير بالضوء. ومن المعلوم أن إلقاء الضوء على حدقة العين الحية يؤدى إلى تضيق الحدقة. 2- لا يرمش المصاب رغم وضع قطنه على قرنية العين. 3- لا تتحرك مقلة العين رغم إدخال ماء بارد في الإذن. 4- لا يقطب المصاب جبينه رغم الضغط الشديد على الجبين بالإبهام أو الضغط على أي منطقة في الجسم. 5- عدم التكعم أو الكحة عند لمس الحنك وباطن الحلق بملعقة (خشبية أو من الصلب) Catheerأو لمس الحنجرة والقصبة الهوائية بواسطة القنطرة إن هذه الفحوص سهلة ويستطيع أي طبيب أن يجريها ولا تحتاج إلى أجهزة معقدة. ب- فحص عدم التنفس: لإجراء فحص عدم التنفس التلقائي يفصل المصاب عن المنفسة ولكن قبل فصله عنها يعطى أوكسجين 95 % مع 5 % ثاني أكسيد الكربون (حسب المدرسة البريطانية) أو يعطى هواء الغرفة (حسب المدرسة الأمريكية) لمدة 10 دقائق ويفصل المصاب عن الآلة لمدة تختلف حسب آراء المجموعات الطبية 1-3 دقائق لمجموعة هارفارد 2-4 دقائق لمجموعة منيسوتا 3-10 دقائق المدرسة البريطانية ويشترط أن يصل ضغط ثاني أكسيد الكربون في الدم الشريان 40 مم من الزئبق على الأقل قبل فصل الآلة. وأن يرتفع إلى 50 مم من الزئبق بعد فصل الآلة (المدرسة البريطانية) . ويمكن التأكد من ذلك بإجراء فحص الدم وقياس ضغط ثاني أكسيد الكربون في الدم الشرياني. وإذا لم يكن هذا الجهاز متوفرا لدى المستشفي (اصبح هذا الجهاز متوفرا في معظم مستشفيات المدن) فإن إعطاء المصاب 5 % غاز ثاني أكسيد الكربون قبل فصل الآلة لمدة عشر دقائق يضمن وصول ضغط ثاني أكسيد الكربون في الدم إلى 40 مم أو أكثر ويلاحظ المريض للمدة المقررة (3 دقائق في رأي مجموعة هارفارد وعشر دقائق في رأي المدرسة البريطانية) فإذا لم يحدث تنفس تلقائي خلال هذه المدة فإن ذلك يعني موت جذع الدماغ. ولكن قبل إعلان الموت لابد من: 1- إعادة فحص وظائف جذع الدماغ بأكملها بعد مرور عدة ساعات حددتها مجموعة هارفارد بـ 24 ساعة وحددتها المجموعة البريطانية بست ساعات. 2- أن يجرى الفحص فريق طبي ليس له علاقة بأخذ أعضاء من الجثة لزراعتها في شخص آخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 الفصل العاشر محاذير ومطبات في تشخيص موت الدماغ أن الأخطاء التي وقعت وأثيرت بسببها ضجة كبرى في الصحافة عن أشخاص أعلن الأطباء وفاتهم ثم قاموا يمشون ناتجة عن الأسباب التالية: 1- عدم تحقق الشروط المسبقة وهي: (1) وجود شخص مغمى عليه لا يتنفس الا بواسطة المنفسة. (ب) وجود سبب عضوي لإصابة جذع الدماغ بحيث لا يمكن برؤه بالوسائل الطبية المتاحة. ويعتبر هذا أهم سبب لحدوث الأخطاء فمعظم الحالات التي أعلن أنها عادت إلى الحياة بعد إعلان موت دماغهم كانت تعد لحالات فقدان الوعي والتنفس بسبب الكحول أو المخدرات (الهرويين المورفين أو مشتقاتها) أو المرقدات (الباربيتورات) أو المهدئات (الفاليوم الليبيريم) أو مضادات الكآبة (الايمبرايمن أو التربتلين) . وهذه جميعها أسباب مؤقتة لفقدان الوعي والتنفس ويمكن بوسائل الإنعاش الحديثة إنقاذ مجموعة كبيرة منها.. وبما ان مفعول الفينوباريبتون قد يستمر 14 ساعة مسببا بذلك الإغماء العميق وعدم التنفس فإن الوفاة قبل مرور هذه المدة خطأ وإذا كانت الوسائل متاحة فلابد من إجراء فحص الدم للتأكد من زوال هذه المادة من الدم وبما ان زوال هذه المادة من الدماغ يسبق في الغالب زوالها من الدم فإن زوالها من الدم يعني بالتالي زوالها من الدماغ. 2- فحوص الأفعال المنعكسة من جذع الدماغ قد يحدث خطأ من استخدام هذه الفحوص رغم بساطتها فمثلا إذا كان ضوء البطارية التي تسلط على العين لفحص حركة حدقة العين ضعيفا أو غير كاف فان الحدقة قد لا تتحرك رغم سلامة الأعصاب وجذع الدماغ. وكذلك فإن الحدقة قد تكون متسعة ولا تتحرك لوجود دواء (قطرة الاتروبين مثلا في العين) أو أن الشخص تناول عقارا يسبب اتساع حدقة العين قبل حصول الإغماء كما يحدث في حالات التسمم لدى الأطفال عندما يأكلون خطأ ثمار شجرة البلادونا ست الحسن التي تشبه الكرز. أو كما يحدث عندما يتناول شخص ما عقار البلادونا أو مشتقاتها العديدة. أو الامنتيامين أو القات بكمية كبيرة ثم تحدث لمثل هذا الشخص حادثة تفقده الوعي. وربما كان العصب المحرك لعضلة الحدقة مشلولا فيؤدي ذلك إلى اعتقاد الحدقة لا تتحرك بسبب موت جذع الدماغ. وهكذا قل في بقية الفحوصات الأخرى التي ذكرناها وهي: 1- فحص القرنية وعدم الارماش. 2- عدم حركة مقلة العين عند صب الماء البارد على الإذن. 3- عدم التكعم Gag reflex عند لمس باطن الحلق وعدم الكحة عند لمس الحنجرة أو القصبة الهوائية بواسطة القنطرة. 4- عدم تقطيب الجبين Grimacing عند الضغط على الجبين أو أي موضع في الجسم ضغطا مؤلماَ. ولكن من المستحيل ان تتحكم الأخطاء في هذه الفحوصات جميعا ويكون جذع الدماغ حيا إذا كان الطبيب الذي يجرى هذه الفحوصات مدربا عليها. 3- الخطأ في فحص عدم التنفس: إن المصاب إذا أعطى 100 % أوكسجين قبل نزع الآلة المنفسة فإن ارتفاع نسبة الأوكسجين في الدم وطرد ثاني أكسيد الكربون بواسطة التنفس الصناعي يؤدى إلى توقف التنفس لدى الشخص الذي لا يزال حيا. ذلك لأن أهم محرك للتنفس هو زيادة مستوى ثاني أكسيد الكربون في الدم يليه انخفاض مستوى الأكسجين في الدم. لذلك ينبغي أن توضع هذه المحاذير وهي: 1- رفع مستوى ثاني أكسيد الكربون في الدم وذلك بإعطاء المصاب 5 % ثاني أكسيد الكربون لمدة 10 دقائق قبل فصل الجهاز مع إعطاء المريض 95 % أوكسجين. 2- الانتظار 10 دقائق كاملة حتى تعطي فرصة كاملة ليزيد مستوى ثاني أكسيد الكربون في الدم عن 50 مم زئبق وفي هذه الأثناء يعطى المصاب 100 % أوكسجين بواسطة قنطرة تدخل إلى القصبة الهوائية لكن دون تنفس بواسطة المنفسة. وإذا أخذت هذه المحاذير بعين الاعتبار فإن توقف التنفس لمدة 10 دقائق مع عدم أي من الأفعال المنعكسة من جذع الدماغ لدى شخص مصاب بالإغماء وتحت المنفسة ومعلوم سبب إصابته بحيث لا توجد أسباب مؤقتة مثل التسمم بالعقاقير فان ذلك يعنى موت جذع الدماغ وموت جذع الدماغ يعنى موت الدماغ بالتالي موت الجسد بكامله. ومع هذا لا ينبغي إعلان الموت قبل إعادة الفحص ويستحسن أن يجرى الفحص فريق طبي آخر وذلك: 1- لإبعاد أي مجال للخطأ في هذه الفحوص. 2- إثبات وجود الحالة كما كانت عليه أي عدم وجود تغيير فيها. وينبغي أن لا يكون أحد من الأطباء الذين يجرون الفحص له علاقة بأخذ عضو أو أعضاء من المصاب لنقلها إلى مريض آخر حتى لا توجد شبه استفادة من الإعلان المبكر للوفاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 وأما الفترة بين الفحصين فقد كانت 24 ساعة (المدرسة الأمريكية) وأصبحت الآن بضع ساعات (المدرسة البريطانية والأوربية) ولكن لا يزال المفهوم الطبي حتى في بريطانيا يفضل إعادة الفحص بعد مرور 24 ساعة وأما رسم المخ الكهربائي فلا يعد ضروريا لا في المدرسة البريطانية ولا الأمريكية. ولكن يحبذ وجوده وخاصة لدى المدرسة الأمريكية. ويعتبر عدم وجود أي نشاط كهربائي للمخ علامة مؤكدة لموت الدماغ إذا لم تكن هناك أسباب مؤقتة مثل العقاقير. وكذلك لا حاجة لإجراء فحص الدورة الدموية بالدماغ والتي تجرى بواسطة: 1- المواد المشعة Radionuclide 2- حقن شرايين الدماغ الأربعة: الشريان السباتي (زوج) Carotid a. والشريان الفقري (زوج) Vertebral a. وهذه الفحوص تجرى في ميدان البحث وكذلك يدعو إليها بعض الأطباء وخاصة أطباء الأطفال لصعوبة التحقق من موت الدماغ في الأطفال خاصة. فإذا أخذت هذه المحاذير جميعا فإن موت جذع الدماغ أمر يمكن التحقق منه بالوسائل الطبية المتاحة. وأما الأخطاء التي تحدث فتنتج غالبا عن عدم اتباع هذه الخطوات في التشخيص وفي الفحص.. المراجع العربية التفاسير: 1- تفسير ابن كثير 2- تفسير الفخر الرازى (التفسير الكبير) 3- تفسير الشوكاني: فتح القدير 4- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لمحمد فؤاد عبد الباقي الكتب الدينية العامة: 1- ابن القيم الروح 2- الغزالي (محمد بن محمد) إحياء علوم الدين 3- العيدروسي (عبد الله بن أبي بكر) الدرر والجوهر مخطوط 4- مرسين (إبراهيم محمد) النفس الإنسانية في القرآن الكريم 5- د. أحمد شرف الدين - الأحكام الشرعية للأعمال الطبية تاريخ الطب: د محمود دياب: الطب والأطباء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 أبو الفتوح التونسي: من أعلام الطب العربي محمود الحاج قاسم: الموجز لما أضافه في الطب والعلوم أبن أبي أصيبعة: عيون الأنبياء في طبقات الأطباء د يحيى الشريف: تاريخ الطب العربي الكتب الطبية: ابن سينا (أبو على الحسين بن على) القانون في الطب شفيق عبد الملك: مبادئ علم التشريح ووظائف الأعضاء صحف ومجلات: الشرق الأوسط 22\6\14 5هـ موافق 13/3/1985م 1- الشرق الأوسط 8/1 /14 5هـ موافق 25/6/1985م الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 1- Pallis ABC Brain Stem Death. Articles from the Br. Med J.Br Med 2- J. London 1983paris ; JE et ai Brain Death with prolonged somatic Survival " New Engl. J. Med 1982,3 6: `4-16. 3- Korien J. "Diagnosis of Brain Death Br. Med J. 281:1424. 4- Mollaret.etal: coma de pass. Rev. Neurol. `959 1 1:3-15 5- Ad Hoc committee of the Hrvard school of medicine " A Definition of irreversible coma " JAMA 1968. 2 6:85-88. 6- Ad Hoc Committee of the Medicine " Adefinition of irrev. Coma" JAJA 1948 , 252: 677-679. 7- Conference of Medical Royal Colleges In U.K "Diag. Of Death " Br.Med J 1976 (2) 1187 – 8. 8- Confrence of Medical Royal colleges in UK "Diag. Of death "Br.Mod. J `976 (2) 332. 9- Joynet R."Anew look at death" JAMA 1984 , 252 (5) : 68 -682 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 10- Walker A."Cerebral death " ed 2.Munich , Germany, Urban and Schwarzenberg 1981. 11- Yonger S.,Barlett E."Human Death and High Technology " the failure of the whole Brain Formulation " Annals of Int. Med , 1983 , 99: 252-258. 12- Schwartz j-a. Et al: "Radionuclide Cerebral imaging confirming Brain Death " JAMA 1983. 249 ; 246 – 247 13- Br. J.Clin. paych. 1984, May 23: 1 9-119. 14- Practitioner 1983 (March) (1377) : 451 – 454. 15- JAMA 1983 (Aug 5) 2 (5) : 612613. 16- Am. J Dis. Child 1983 (June) . 1376 (6) : 545-6-547-5. 17- P.M Arch. Int. Med 1983 (Jan) . 143 (1) : 121-3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 الإنعاش فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. تفضل سيادة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي رعاه الله بإحالة السؤال التالي في شكل عنوان حسب إعداد اللجنة التحضيرية. ولما لم يكن السؤال محددا فإني سأحاول بحثه من جوانب متعددة. أولا: مفهوم الإنعاش لا غنى للباحث عن تحديد مفهوم الإنعاش. وما يقصد الجهاز الطبي من هذا الإطلاق والإنعاش في عالم الطب يقصد به المعالجة المكثفة التي يقوم بها طبيب أو مجموعة من الأطباء ومساعدوهم لمساعدة الأجهزة الحياتية حتى تقوم بوظائفها، أو لتعويض بعض الأجهزة المعطلة قصد الوصول إلى تفاعل منسجم بينها. والأجهزة الحياتية الأساسية للإنسان هي – المخ – القلب – التنفس – الكلي – الدم للتوازن بين الماء والأملاح ثانيا: يستنتج من هذا التعريف أن الإنعاش هو نوع من أنواع العلاج يقوم به الاختصاصي أو المجموعة لإنقاذ حياة المصاب الذي يكون في حالة ستفضي به حتما إلى الموت. إذا لم يتلق العناية التي تنتشله من وضعيته الخطيرة التي هو عليها. ثالثا: حكم الإنعاش: أنه بناء على هذا التحليل تكون وضعية المصاب هي كوضعية الغريق الذي يصارع الموج وهو لا يحسن السباحة، أو كوضعية من وقع تحت ركام من الهدم، فالإنقاذ واجب كفائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وخاصية الواجب الكفائي أن الخطاب يتوجه إلى كل فرد من الأفراد المؤهلين للقيام بالعمل وإذا قام به البعض وتحققت المصلحة سقط الطلب وهذا يقتضي: (أ) أن إعداد الاختصاصيين في الإنعاش واجب تأثم الأمة كلها إذا لم تعن بتخريج هذا النوع من الأطباء. (ب) أن إعداد الأجهزة وأدوية الإنعاش بالقدر والممكن من الاستفادة منه هو واجب كفائي أيضًا. تتحمله الدولة أولا. (جـ) أن واجب الاختصاصي أو المجموعة موالاة رقابة المصاب مراقبة تحقق الهدف من الإنعاش. وهناك يكون كل تقصير متعمد موجبا لتحمل المقصر مسئولية نتائج التقصير. رابعا: الإنعاش والتداوي: الإنعاش والتداوي شيئان وليسا أمرا واحدا. وبهذا فإن أحكامها مختلفة. فالتداوي قد وقف منه السلف موقفين مختلفين الواضح والراجح والمشهور أن التداوي واجب كلما كانت الحياة والعضو معرضا إلى الخطر. وأنه مرغب فيه إذا كان دون هذا المستوى من الحدة. الموقف الثاني هو ما ذكره الغزالي أن بعض السلف رغب عن الدواء وذلك لغرض من الأغراض الستة التي فصلها في الإحياء. أما الإنعاش فانه يبدو انه واجب ذلك انه لا تختلف حالة الإنعاش عن أية حالة من الحالات الاضطرار التي تقلب حتى حكم التحريم إلى الوجوب حفاظا على الحياة. ثاني المقاصد الضرورية الخمسة على أن المصاب في كثير من حالات الإنعاش يكون فاقدا للوعي أو هو تحت تأثير وطأة الإصابة لا يتمكن من أخذ القرار المبنى على التأمل. خامسا: إذا تم إسعاف المصاب بوضعه تحت المعالجة المكثفة فمتى توقف عنه الإنعاش؟ الأحوال ثلاثة – يختلف الحكم في كل واحدة منها. الحالة الأولى: أن تعود أجهزة المصاب إلى حالتها الطبيعية عودا يطمئن معه القائم على العلاج أن الخطر قد زال ولا يوجد ما يوجب استمرار مواصلته فهو البرء التام أو الأخذ في طريق النقاهة. وهنا يكون رأي الاختصاصي واجب الاحترام. وهو التوقف عن المواصلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 الحالة الثانية: أن تتعطل الأجهزة الحياتية ويحدث الموت فيتعطل الدماغ والقلب فلا يتحرك القلب للقبول والضخ. ولا يقبل المخ ما يرد إليه من غذاء. ومع الموت لا فائدة من مواصلة العلاج المكثف. الحالة الثالثة: أن يتوقف الدماغ عن قبول أي غذاء، وتستمر الأجهزة الأخرى في العمل بواسطة القيام بالمعالجة المكثفة فالآلة تحرك الرئتين والتعديل الدموي يقوم به المراقبون ويتبع هذا أن المصاب يجرى الدم في عروقه ويفرز افرازاته وقد تدوم هذه الحالة الشهر والشهرين فالحياة الذاتية قد ذهبت إلى غير رجعة وهي الحياة الحيوانية التي يقودها المخ توزيعا وتنظيما لان مركز القيادة قد دمر تدميرا كاملا وتبقى حياة صناعية أو نباتية كما يعبر عنها، وهذه الحالة التي هي بين عمل بعض الأجهزة الأساسية بواسطة الإنعاش. وتوقف بعضها توقفا كاملا لا أثر لتدخل الطبيب في إعادته إلى أي نوع من أنواع نشاطه على أي مستوى كان ولو ضعيفا هذه الحالة التي فيها بعض ظواهر الحياة وفاقدة للظواهر الأساسية قد عالجها الفقهاء من قبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 يرى الإمام مالك بن أنس رضى الله عنه أن المولود إذا لم يصرخ لا يعتبر حيا ولو تنفس أو بال وتحرك. ومعنى هذا أنه لا يحكم له بالحياة لمجرد التنفس حتى يقرن بها البكاء. وقال ابن الماجشون إن العطاس يكون من الروح والبول من استرخاء المواسك فما لم يكن الفعل إراديا استجابة لتنظيم الدماغ لا يعتبر أمارة حياة (الزرقاني على خليل ج2 ص112) . حكم توقيف الإنعاش في هذه الحالة أن توقيف الإنعاش في هذه الحالة الثالثة لا يمكن في نظري أن نعطيه حكما مطلقا بل نقول: 1- إذا كانت أجهزة الإنعاش التي خصصت لهذا الذي مات مخه والتي أبقيناها على هذا الجسم قد ورد من هو في حاجة إليها فلا نتردد في فصلها وربطها بمن بقيت فيه الحياة كاملة. 2- إذا كانت النفقات التي يتطلبها مواصلة الإنعاش تلتهم من الرصيد المالي ما يعود بالضرر على مستوى العلاج بالنسبة لبقية المرضى كحالة الدول التي لا تملك قوة مالية فإنه يتحتم أيضًا فصلها وصرف العناية للمرضى من الأحياء. 3- إذا وفر المال وتوفرت الأجهزة والقائمون على الإنعاش فهل تستبقى الأجهزة ويستمر الجهاز الصحي في مواصلة العلاج المكثف إلى أن يحصل الدمار الكامل للأجهزة الأساسية كلها، أو ترفع العناية بمجرد تحقق الموت للمخ؟ يقول الأطباء إنه إذا رفض المخ قبول التغذية مات الإنسان وإذا أزلنا أجهزة الإنعاش فلن يستمر القلب في النبض والرئتان في الحركة أو الكلي في التصفية إلا مدة لا تتجاوز خمس دقائق على اكثر تقدير وبناء على ذلك فإن الذي يبدو أنه يمكن الإعلان عن الموت بمجرد ثبوت موت المخ. وما يترتب على الموت من أحكام تبدأ من هذا التاريخ والله اعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 ملحق توضيحي حول الأجهزة الأساسية 1- المخ: التدخل لضمان تغذيته بالدم الحاوي لكل العناصر الضرورية ليقوم بوظائفه. 2- القلب: التدخل لتقوية عضلة القلب بالتمسيد المنشط لإرجاع القلب للعمل، أو لتحقيق غذاء عضلة القلب بالدم من الشرايين. أو الاعتماد على الأجهزة الكهربائية المساعدة له على القيام بعمله بصفة منتظمة لا اضطراب فيها. 3- التنفس: التدخل للتنفس الاصطناعي بواسطة جهاز كهربائي يرتبط بالرئتين ليغذيهما بالهواء الصالح أعنى المركب تركيبا يستجيب لما تكشف عنه التحاليل الدموية. كما يمكن أن يكون أتوماتيكيا. 4- الكلي: التدخل، أدوية قوية جداَ لتنشيط الكليتين للقيام بوظائفهما إذا كان الخلل عارضا. أما إذا كان نهائيا فالتدخل يتمثل في تصفية الدم آليا. 5- الدم: التدخل بتعويض ما نقص من الكمية الدموية اللازمة للجسم أو نقص بعض المكونات الأساسية للدم. 6- التوازن العام: التدخل إعطاء حقن تعيد للدم توازنه المختل عن طريق الجهاز الهضمي أو عن طريق الشرايين. يتم التحقق من موت المخ بالتسجيل الكهربائي. ولا بد من إعادة الكشف بهذا التسجيل فلا يعطي الطبيب حكمه بموت المخ إلا بعد التأكد من ذلك. كما أنه لابد من التأكد مقدما أن الجهاز المستخدم للغرض جهاز سليم يقوم بوظائفه. فإذا تم التسجيل مكررا وكانت النتيجة سلبية فانه لابد من التأكد بواسطة تصوير الشرايين المغذية للمخ. ذلك أنه إذا مات المخ فان الشرايين المغذية تقف عند مدخل المخ ولا يمر شيء مما تحمله إلى المخ الميت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 العرض والمناقشة 11/4/1406هـ - 23/12/1985 م الساعة 40 ر17 – 30 ر19 الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم، به نبدأ وبه نستعين بعد حمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله، ونصلى ونسلم على خاتم أنبيائه ورسله أما بعد، فإن أمامنا على جدول الأعمال مبحث أجهزة الإنعاش وقد اعد فيه بحثان أولهما من الدكتور محمد على البار والثاني من فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي، فنأمل من الدكتور البار أن يتفضل بإعطاء ملخص للبحث المذكور وأهم المعالم فيه. الدكتور محمد على البار: سماحة الرئيس، أصحاب الفضيلة العلماء الأجلاء، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 كنت أود أن يكون في هذه الجلسة أكثر من طبيب لأن الفقهاء يختلفون وكذلك الأطباء يختلفون. وخاصة في هذا الموضوع الحساس الذي يسمى " أجهزة الإنعاش أو نهاية الحياة " "إعلان الموت" وبين يدي مناقشات ومداولات ندوة الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي، إصدار المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية. واستغرق ذلك منهم قرابة سبعمائة صفحة. ولست أدري إن كنت أستطيع أن ألخص هذه المواقف العويصة كلها في موضوع عويص وفي بضع دقائق فأرجو أن تحتملوا مني بعض الإطالة قليلا لأن الموضوع صعب وشائك ومعقد وما لم تكن هناك صورة واضحة لهذا الموضوع المعقد الشائك سيكون الحكم دون ريب مهزوزا. بسم الله الرحمن الرحيم. الموت والحياة لغز من الألغاز لم يدرك الإنسان كنههما رغم أنه شاهد هذه التجربة مرارا وجربها ملايين من البشر منذ خلق الله الإنسان على ظهر الأرض، ولم يكن الأمر يحتاج إلى طبيب ليعلن بدء الحياة أو نهايتها. الملايين من النساء أنجبن أطفالهن دون تدخل طبيب والملايين من البشر خرجوا من هذه الحياة دون الحاجة لشهادة من طبيب تثبت وفاتهم, وبدأت الحياة في التعقيد وتبين أن تحديد الحياة بدءا ونهاية أمر ليس بالسهولة التي يمكن ان تترك للقابلة أو للأشخاص المجريين، وكان إثبات الوفاة بالنسبة للقدماء أصعب ما يكون بالنسبة للمواليد وموضوع وفاة الجنين. وقد تحدث بعض الفقهاء في هذا الكلام واعتبروا أن الجنين ميت ما لم يستهل صارخا. واعتبر بعضهم أن الرضاعة ليست بدليل كاف على حياة الطفل بينما اعتبر آخرون العطاس دليلا كافيا على الحياة واستدلوا على ذلك بأن آدم عليه السلام لما نفخت فيه الروح عطس. وتعتبر نظرة الفقهاء الذين لم يكتفوا بالحركة كدليل على الحياة أو خروج بعض الإفرازات من مخارج الجسم مثل البول والغائط والمخاط من الأنف أو الزبد من الفم كدليل على الحياة، تعتبر نظرة هؤلاء الفقهاء موافقة للطب الحديث. فقد يتحرك المقتول أو المذبوح، ومن المشاهد ان الدجاجة تقفز وتتحرك بعنف بعد ذبحها، وكذلك بقية الحيوانات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 وهناك صورة ليست موجودة هنا لكنها صورة لدجاجة ذبحت بحيث فصل رأسها ومع هذا ظلت تمشى وتتحرك وتتنفس لمدة أسبوع كامل. ذلك لأن موضع الذبح كان عاليا بحيث بقى جزء من النخاع المستطيل من جذع الدماغ حيا وهو الذي يتحكم في التنفس وكذلك نفس الصورة هذه بالنسبة للمشنوق أثناء عملية الشنق، يتم الشنق فيضغط العمود الفقري على أول النخاع المستطيل فيسبب موت جذع الدماغ فيكون مثل هذا الشخص بقية دماغه المخ لا يزال حيا واسفل من ذلك لا يزال حيا والقلب ينبض لا شك أن القلب ينبض لمدة دقائق قبل ان تنتهي حياة هذا الشخص الذي حكم عليه بالإعدام. كذلك هناك صورة أخرى، فالموت كان مفهومه ولا يزال توقف التنفس وتوقف القلب. لكن مع التقدم الطبي في السنوات الأخيرة يمكن في ال15 سنة الماضية بدأ هذا يتسع وبدأت المفاهيم تضطرب. يمكن الآن إيقاف القلب كما هو معلوم لديكم وخاصة في عمليات القلب المفتوح، أي طبيب قد حضر هذه العمليات يعرف أن القلب يوقف إيقافا تاما وكذلك يوقف التنفس توقفا تاما لمدة تزيد على الساعتين قد تصل إلى ثلاث أو أربع ساعات ويستبدل هذا القلب في هذه الفترة الحرجة. ليست هذه عملية نقل القلب لكن هذه عمليات الآن تجرى في كل مكان حتى في المملكة العربية السعودية هنا تجرى وقد شاهدتها عدة مرات للاطلاع على هذا الموضوع الشائك، العملية تجرى لإصلاح صمامات القلب ولإصلاح العيوب الخلقية وما أكثرها ولإعادة شرايين للقلب بدل الشرايين التالفة، وهذه العملية تجرى كل يوم، يعني هناك آلاف من هذه العمليات قد أجريت في المملكة العربية السعودية وفي غيرها من بلدان العالم، يعني في المملكة العربية السعودية قد أجريت عدة آلاف من هذه العمليات. فالحالة ليست جديدة كل الجدة وهي واردة. في مثل هذه الحالات جميعا يوقف القلب توقفا تاما ويوقف التنفس توقفا تاما لمدة بضع ساعات، يذهب الدم إلى مضخة والمضخة هذه تدفعه إلى رئتين صناعيتين تصفي القلب وتأخذ منه ثاني أكسيد الكربون وتعطيه الأوكسجين وتعيده مره أخرى إلى الشريان الاورطي " الشريان الأبهر" الذي كان بعض القدماء يسمونه " نياط القلب " وبعضهم يسميه " الوتين " فيذهب من الوتين أو الأبهر أو الشريان الأورطى إلى الدماغ. هذا الشخص بكل المقاييس حيى وتعود له الحياة احسن مما كانت قبل العملية. كثير من الأطفال الذين أجريت لهم عمليات عيوب خلقية أو صمامات تالفة عادوا إلى حياة طبيعية عادية تماما، ليست في باب الإنعاش، هذه عمليات ذكرتها لكم لأوضح أن القلب لم يعد في مفهوم الطب هو مصدر الحياة. وهناك فرق بين القلب المعنوي وبين القلب العضلي الصنوبري، قد فرق بينهما الإمام الغزالي كما تذكرون وفرق بينهم العلماء من زمان. القلب الصنوبري الموجود في الجانب الأيسر كما ذكر الإمام الغزالي في " الإحياء " في كتاب عجائب القلب " هذه عضلة موجودة لدى الحيوانات وليست متعلقة تعلقا مباشرا بالقلب المعنوي. هناك لها نوع تعلق، كذلك القلب المعنوي موضوع آخر ولا نستطيع الدخول في تفاصيله لصعوبة الموضوع. نحن الآن في موضوع " موت الدماغ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 هناك أسباب، يعني جميع الوفيات التي تحدث لا تزال حتى الآن تعتمد على التنفس والقلب. ولكن هناك حالات محدودة نسبيا وتزداد كل يوم. مثلا في بريطانيا يتوفى حوالي نصف مليون شخص، الآن حوالي 1 % من هؤلاء لا يدخلون في تعريف، يعنى عندما يعلم موتهم، يعلن موتهم نتيجة موت الدماغ. وكذلك الآن في معظم بلدان العالم. موت الدماغ يحدث نتيجة تهشيم في الغالب نتيجة حوادث سيارات أو ارتطام بالرأس أو أن الشخص يقفز من حالق أو في حمام سباحة أو أن هناك نزيف في الدماغ أدى إلى وفاة الدماغ أو ورم بالدماغ أدى إلى موت خلايا الدماغ في هذه الحالات جميعا يكون الدماغ قد مات. وهناك تعبير تسمية المخ، في الحقيقة ينبغي أن نفصل بين المخ والدماغ. الدماغ يشمل كل الدماغ بما فيه فصي المخ، وكذلك الدماغ المتوسط والدماغ المستطيل بأنواعه. المخ يطلق على فصي المخ فقط التي يعتقد أن فيها مراكز الإرادة والتفكير والإحساس. مراكز الوعي هي منبثة في جذع الدماغ فإذا تعبت هذه المراكز حصلت اليقظة، إذا زاد نشاطها حصل نوع يسمى الصرع، كلكم يعرفه، إذا حصل نشاط كهربائي زائد مصدره هذه المراكز الموجودة في جذع الدماغ يحصل صرع إذا توقف نشاطها تماما حصل إغماء قوي فهناك فرق بين النوم والإغماء ومختلف أنشطة جذع الدماغ. خلاصة هذا الموضوع أن هذه المناطق المخية المسئولة عن الوعي قد تتأثر إما بمرض شديد نتيجة إصابة تحطم الدماغ نفسه أو تهشمه في حادثة سيارة أو حادثة طائرة وغيرها من الحوادث أو أن هذه الحوادث التي تحدث، هناك نزف حصل، لم تكن هناك حادثة ولكن حصل نزف في داخل الدماغ أدى إلى موت الدماغ بالذات جذع الدماغ، أو أن هناك ورما في هذه المنطقة أدى إلى موت هذه الخلايا، هناك حوادث أخرى قد يكون فيها سبب إصابة القلب، أن يصاب القلب ويتوقف النبض، فإذا توقف القلب وتوقفت تروية الدماغ من دقيقتين إلى أربع دقائق يموت الدماغ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 وهذا الذي أتى بالإشكالات المشهورة، هناك قصة كارين كونيلان وأظن أن كلكم يعرفها أغلبكم يعرفها، هذه فتاة أمريكية شربت خمرا ثم أخذت حبوب منومة " فاليوم " ثم قاءت وأثناء هذا القيء الطويل انقطع الدم عن الدماغ. حدثت هذه الحادثة سنة 1975م وأغمي عليها إغماء تاما، أخذت إلى المستشفي ووضعت تحت أجهزة الإنعاش، كان المخ قد مات ولكن جذع الدماغ لم يمت بعد حصل إشكال بين أبوي الفتاة والمستشفي حيث طلب الأبوان من الأطباء ان يوقفوا أجهزة الإنعاش وحكمت المحكمة العليا بعد ضجة كبرى في الولايات المتحدة في مارس 1976 بإيقاف أجهزة الإنعاش. فعاشت هذه الفتاة بعد إيقاف أجهزة الإنعاش تسع سنوات أخرى وتوفيت في يونية 1985 قبل ستة اشهر تقريبا. توفيت هذه الفتاة بعد ان قضت عشر سنوات كاملة في إغماء تام. فهذه الفتاة كانت في إغماء تام، لا تأكل ولاتشرب، لاتحس، لاتشعر، لا تفكر، كل علائم الحياة الإنسانية الواعية المدركة مفقودة. كذلك هناك قصة فتاة إيطالية صغيرة تسمى سيسليا بلاندي هذه الفتاة صدمت بسيارة فتهشم دماغها ومات الدماغ ما عدا جزع الدماغ وبقيت على قيد الحياة اثني عشر عاما هناك حالات كثيرة مسجلة في الطب عاشت فترة طويلة من الزمن. هذا هو الذي يسبب الالتباس أمام الناس، هل هذا الشخص حيى أم ميت؟ حصلت بعض الأخطاء من الأطباء قبل أن يحددوا مواصفات محددة شديدة لموت الدماغ، وأقربها حالة أذاعها التلفزيون البريطاني قناة (B.B.C) في 13 أكتوبر 1980 وفي هذه الحالة جاءت الفتاة إلى مقر التليفزيون وقصت قصتها، وهذه القصة أنها أخذت مجموعة من الحبوب المنومة للانتحار فأخذت هذه إلى المستشفي وتوقف تنفسها توقفا تاما وأعلن الأطباء في هذه الحالة أنها ميتة بعد أن رأوا رسم المخ الكهربائي متوقفا تماما عن العمل، وكل الفحوص تدل على موت الدماغ. فرفض أهل الفتاة هذا الحكم وأتوا بفرقة أخرى من الأطباء، في ذلك الوقت كان بدء تأثيرات حبوب المنوم تقل عن الدماغ وواصلوا أجهزة الإنعاش، وخرجت هذه المادة بواسطة الكلى وإفرازات الكلى من جسمها وعادت إلى الوعي بعد قرابة مائة وأربعين ساعة. انخفض تأثير المنوم وبدأت تعود تدريجيا إلى الوعي ثم ذهبت بعد ذلك إلى التليفزيون لتقص قصتها وتقول إنها لم تكن ميتة مع أن الأطباء أعلنوا وفاتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 لهذا صدرت أبحاث شديدة جدا وابتدأت هذه مجموعات الأطباء تدرس هذا الموضوع دراسة مكثفة جدا ووصلت إلى قرارات. هناك المدرسة الأمريكية وكل المدارس الآن تشترط وجود سبب عضوي لموت الدماغ وليس سببا وظيفيا، السبب الوظيفي مثل شخص شرب كحول ممكن أن يفقد الوعي، شخص أخذ حبوب مرقدة بكمية كبيرة كما يحدث كثيرا في الغرب لمحاولة الانتحار مثل هذا الشخص يتوقف دماغه فترة من الزمن وتكون كل العلائم بما في ذلك رسم المخ الكهربائي متوقفا عن النشاط. وجود شخص في البرد الشديد لاي ظرف من الظروف يجعل أجهزة الجسم تنخفض في نشاطها بما في ذلك الدماغ لدرجة يصعب معها أن يجد الطبيب أي نشاط كهربائي أو أي نشاط للدماغ، لكن هذه الأسباب المؤقتة يجب أن تزول أولا قبل إعلان موت الدماغ. ولابد أن يكون هناك تشخيص لسبب الحالة مثل أن يكون تهشيم في الدماغ ويكون ذلك واضحا من الناحية التشخيصية، وهناك أمور أصبحت واضحة أمام الأطباء لابد أن تكون موجودة قبل إعلان موت الدماغ. لو كان هذا الشخص قد شرب الكحول وأصيب في حادثة مثلا فإنهم يتوقفون أولا حتى يذهب كل اثر للكحول من الدم، لو هذا الشخص اخذ مواد مرقدة ثم أصيب بحادثة فلا بد من الانتظار أولا حتى ينتهي كل اثر لهذه المواد التي تستطيع ان تثبط نشاط المخ. فلابد أن يكون إعلان موت الدماغ، ان تكون الإصابة إصابة عضوية، تصيب العضو نفسه وتحطمه تحطيما لا عودة فيه، تصيب الأنسجة والخلايا بحيث لا يكون هناك أمل في عودتها بوسائلنا الطبية المتاحة. وأما الأسباب الوظيفية فهي مرفوضة في تشخيص موت الدماغ الآن وأصبحت من الدقة بحيث إن معظم بل كل في الحقيقة، فيه إحصاء هنا فيه حوالي ألف حالة لم يوجد بينها حالة واحدة حصل فيها خطأ بعد هذه الاحتياطات. فيه إحصاء عن ألف حالة في تشخيص موت الدماغ لم يحدث خطأ في واحدة من هذه الحالات الألف بعد التأكد من الشروط الجديدة التي وضعها الأطباء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 إلى متى يستمر القلب في النبض والتنفس الصناعي بعد موت الدماغ؟ في الواقع أن هذا الاستمرار يكون أحيانا لبضع ساعات وأحيانا لبضعة أيام، وقد نشرت مجلة طبية " ميديكال جورنال " أن هناك حالة واحدة موثقة استمرت مدة 68 يوما، استمر القلب ينبض لمدة 68 يوما رغم أن الدماغ كان قد مات بكل المقاييس الطبية لماذا نطلب إيقاف هذه الأجهزة؟ إيقاف هذه الأجهزة مطلوب لعدة أسباب: أولا: ليس من مصلحة أحد أن تستمر الأجهزة لشخص قد توفي، وهذا مرهق للأطباء وأهل المريض، فلابد أن نضع حدا لتعريف الموت فإذا وصلنا إلى هذا التعريف يمكن قفل الجهاز وتحويله إلى شخص أكثر حاجة من هذا الشخص الذي انتقل إلى العالم الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 ثانيا: وهو أن تكاليف وسائل الإنعاش باهظة جدا وصرف ملايين الدولارات لجعل جثة تتنفس أمر ليس له معنى. ثالثا: أن هناك الآن موضوع زرع الأعضاء. فكما تعلمون جميعا أن في اللحظات التي تكلمت فيها معكم، يقدر في الدقيقة الواحدة يخلق الله ويميت وحوالي مائة مليون خلية في كل دقيقة. في كرات الدم الحمراء يخلق الله ويميت في كل دقيقة 2 مليون كرة دم حمراء وأكثر منها من خلايا الجلد وأكثر منها من خلايا الجهاز الهضمي، كل الخلايا ماعدا خلايا الجهاز العصبي يخلقها الله ويمتها في كل لحظة وآن. وعملية الخلق والأماتة والإحياء مستمرة في كل واحد فينا باستمرار. لكن الموت يكون موت الإنسان ككل وخروج الروح، وهذه لا نعلم عنها شيئا، لكن نعلم أن توقف الأجهزة الأساسية، الدماغ أساسا، أو جذع الدماغ الذي يتحكم في القلب، ثم بعد ذلك توقف القلب ثم توقف التنفس يؤدي إلى موت الإنسان ككل. هذه الأعضاء لا تموت بمجرد الموت، إذا مات الإنسان موتا كاملا ككل فإن هذه الأعضاء تبقى لدقائق حية وتختلف طبعا من عضو إلى آخر، العظم ممكن أن يبقى حوالي 24 ساعة بينما القلب ممكن أن يبقى دقائق، دقائق حيا في درجة حرارة عادية، لهذا بالذات في عمليات نقل القلب أو الكلى أو الأعضاء الحساسة، يفضل الأطباء أن تكون مستمرة بالتروية بالدم، مستمرة ترويتها بالدم حتى قبل أن تقفل وسائل الإنعاش، تؤخذ هذه الأعضاء وهي بحالة جيدة، لأنه لا معنى لأخذ قلب قد ابتدأ فيه الفساد وبدأ يموت ثم نأخذه وننقله إلى شخص آخر، هذه الحالة أنت تنقل قلبا لا يستطيع الصمود أبدا وتصبح العملية نوعا من العبث. ففي هذه الحالات، عمليات نقل القلب، يفضل الأطباء المختصون بعد إعلان موت الدماغ وأن الشخص هذا ميت ولكن قلبه لا يزال ينبض فتستمر الدورة مستمرة ويؤخذ القلب وهو لا يزال حيا كعضو ومعلوم لديكم أن العضلات أو ذبح الشاه لا تزال عضلاتها تنبض وتتحرك حتى بعد سلخها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 كلكم شاهد ذلك، والذي قام بالذبح يستطيع ان يدرك هذا بسهولة. إن موت الأنسجة وموت الخلايا ليس مرتبطا بموت الكل، لكن ممكن أن تموت الخلايا والإنسان لا يزال يعيش وبالعكس ممكن أن يموت الإنسان ككل وتبقى خلاياه أو أعضاؤه حية، وهذا ما يحدث الآن بالفعل وهذه هي من الأسباب الهامة التي تجعل مفهوم موت الدماغ مفهوما مهما في الطب وذلك لاستخدامه أيضًا في موضوع زرع الأعضاء. ولذلك من المحاذير التي وضعت ألا يكون الأطباء الذين يعلنون موت الدماغ لهم علاقة بعملية نقل الأعضاء. وينبغي أن يكون فريق آخر وليس له أي مصلحة من أي نوع كان في إعلان وفاة مثل هذا الشخص. أظن بهذه العجالة وضعت صورة قد تكون ضبابية ولكنها قد تساعدكم في فهم هذا الموضوع الشائك المعقد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الرئيس: شكرا أرجو من الدكتور محمد على البار، معلوم أن غرف الإنعاش منتشرة ومعنى هذا أن أجهزة الإنعاش لا تعنى غرف الإنعاش، هل هذا المفهوم صحيح أم لا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 الدكتور محمد على البار: أجهزة الإنعاش كثيرة تبدأ بجهاز التنفس وجهاز ذبذبات القلب وأدوية وعقاقير ومنظم ضربات القلب هذه منتشرة لكن ليس شرطا أن معناها. وهي منتشرة بحمد الله. الرئيس: لا أنا قصدي أقول سلمك الله أقول على المستوى العام مثلا على أرض المملكة العربية السعودية مثلا، غرف الإنعاش منتشرة في جميع أنواع المستشفيات الحكومية والخاصة وهذا واضح، لكن الذي يظهر من عرضكم أن أجهزة الإنعاش أنها عملية دقيقة خاصة لا تعني كل ما تدخله غرفة الإنعاش. الدكتور محمد على البار: هو في غرفة الإنعاش هذه الأجهزة ستكون موجودة، ففي هذه القضية الأجهزة ستكون موجودة استعدادا لأي طارئ يحدث وقد تستخدم في إنقاذ المريض، إذا لم تكن موجودة فلا داعي لها، ولا تسمى أجهزة إنعاش ولا تسمى هذه غرف إنعاش. الرئيس: قصدي سلمك الله أن غرف الإنعاش منتشرة ويدخلها عشرات البشر ويخرجون بنجاح لكن هؤلاء الذين يدخلون غرف الإنعاش هم الذين ينسحب عليهم ما هو موجود لدينا في بحث أجهزة الإنعاش. الدكتور محمد على البار: لاينسحب عليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 الرئيس: نفهم من كلامكم كأن الذي ينسحب عليهم تحت أجهزة الإنعاش هم الذين يصابون في الأجهزة الرئيسة كالدماغ والقلب والدم والكلى والتنفس. هذه هي الأجهزة الرئيسية التي يصابون فيها. لكن أنا أريد أن تتفضلوا بإيضاح، هل من إشكال لدى الأطباء في هذا حلا وحرمة؟ وهل أتى إليكم أحد أو سمعتم على أحد مرتادي المستشفيات من يستشكل هذا حلا وحرمة؟ ثم هل يقع عند الأطباء تردد في أن تكون هذه الأجهزة ضارة ومؤثرة على حياته أو أن الأصل الإسعاف والإنقاذ بأي سبيل من سبل الإسعاف والإنقاذ؟ الدكتور محمد على البار: هذه النقطة، أولا هذه الأجهزة لا تستخدم إلا للإنقاذ والإسعاف. أما موضوع الحل والحرمة فهذه نقطة شائكة وأدت إلى نقاش طويل ومجادلات في المجال الطبي ولم يتوصلوا فيها إلى هذه النقطة المحددة إلا بعد مرور عشرين سنة تقريبا، لأن المدرسة الفرنسية ابتدأت في ذكر هذا الموضوع عام 1959 " موضوع موت الدماغ " ولم يستطع الأطباء أن يتوصلوا إلى مفهوم محدد إلا في بداية الثمانينات في سنة 1977 كانت الصورة تتضح بصورة واضحة لدى أغلب الأطباء، لكن لا شك أنها أثارت قضايا في المواقف القانونية في تلك البلاد لأن تعريف الموت عندهم أيضًا مثل ما هو عندنا، توقف القلب. القاموس القانوني " قاموس بلاك " هذا قاموس قانوني عندهم من القواميس المشهورة يحدد الوفاة بأنه وفاة توقف القلب وتوقف التنفس وكما هو معروف توقف الدورة الدموية لم يتحدث أبدا عن موت الدماغ. لكن موت الدماغ أمر طارئ وأضطرت الدول التي حدث فيها أن تناقشه من الناحية الدينية ومن الناحية القانونية ومن الناحية الطبية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 في الولايات المتحدة إلى الآن لم توافق كل الولايات على مفهوم موت الدماغ. يعني الآن معظم الولايات وافقت لكن حتى عام 83 كانت 33 ولاية فقط هي التي وافقت على تعريف موت الدماغ من الناحية القانونية. الرئيس: على كل حال أنا أهدف من وراء هذا، نحن الآن سنرفع الجلسة لأداء صلاة المغرب ثم تستأنف الجلسة بإذن الله، لكن أنا أريد من وراء هذا أن يحصل تأمل أصحاب الفضيلة. هل هناك ما يدعو إلى بحث الموضوع وترتيب حكم شرعي فيه أم أن الموضوع ليس هناك ما يدعو إلى إصدار قرار فيه من المجمع؟ الدكتور محمد البار: فضيلتكم، هذا الموضوع في منتهى الحساسية لأنه قد حدث بالفعل في الرياض، شخص أعلن موت دماغه وأخذت منه كليتاه نتيجة تعريف موت الدماغ. يعني نفذ هذا بالفعل وقد كان الدكتور حسان رفا كاد أن يأخذ جثة شخص أصيب في حادثة سيارة ليعمل عملية نقل قلب. هذه واردة وحادثة بالفعل. أما نقل الكلى من شخص توفي نتيجة حادثة سيارة فقد حدثت هذه الحادثة بالفعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 الرئيس: لكن هذا الحدوث هل هو على سبيل الندرة أو أنه على سبيل التكاثر؟ الدكتور محمد على البار: لاشك أنه سيزداد. الرئيس: إن قصدي في الوقت الحاضر هل هو على سبيل الندرة أو على سبيل التكاثر. الدكتور محمد على البار: هذه الحالات لابد مع وجود الإنعاش في كل مستشفي كما ذكرتم وعلمتم فلاشك أنه سيدخل فيها مجموعة من الحوادث التي تندرج تحت هذا التعريف بشكل أو آخر، لابد من الوصول إلى حكم. هل هذا الشخص ميت أو حي سواء لنقل أعضائه أو لغير نقل الأعضاء، إلى متى نستمر في الأجهزة هذه، هي تعمل عليه وكل يوم تكلف مبالغ طائلة والشخص هذا ميت، وخاصة أن المستشفيات الخاصة طبعا تكاليفها باهظة جدا كما تعلمون. إلى متى يستمر هذا الشخص يكون تحت أجهزة الإنعاش وهي متوفرة الآن في جميع المستشفيات، شخص أصيب بحادثة سيارة وحوادث السيارات عندنا طبعا اكبر رقم في العالم بالنسبة لعدد السكان كما تعلمون أكبر رقم في العالم هو في المملكة وفي منطقة الخليج. طبعا إصابات الشباب يكون قلبه سليما ويتهشم دماغه وبيوضع تحت أجهزة الإنعاش فإلى متى يستمر. هل يتوقف؟ هل يستمر؟ لابد من وجود حد فاصل بين الحياة والموت. أما أننا ننتظر، طبعا ممكن أن ننتظر خمسة أيام أو أسبوع أو 68 يوما كما حدثت الحادثة التي ذكرتها وهي أطول حادثة ذكرتها المجلات الطبية موثقة 68 يوما استمر القلب ينبض بعد موت الدماغ. لكن 68 يوم في كل يوم على الأقل 10 آلاف ريال مبلغ خيالي سيطالب به المستشفي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 الرئيس: شكرا وترفع الجلسة حتى نعود من الصلاة إن شاء الله تعالى (بعد صلاة المغرب) الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم، نأمل من فضيلة الشيخ السلامي أن يعرض ما لديه حول هذا الموضوع. الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما, السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: لما أحال لي سيادة الأمين العام هذا السؤال وجدت نفس لا افهم المقصود به ولذلك عمدت إلى جمع أساتذة أطباء من أفضل ما يوجد في بلدي في تونس. جمعت أستاذا في الجراحة وأستاذ في الإنعاش وأستاذا في التصوير. وشكر الله لهم لبوا طلبي وأخذت أسألهم واستمع إليهم إلى أن حصل لي تصور، هو هذا الذي سأعرضه عليكم. فأول أمر هو مفهوم الإنعاش ذلك أنه لا غنى للباحث عن تحديد مفهوم الإنعاش، وما يقصد الجهاز الطبي من هذا الإطلاق والإنعاش في عالم الطب يقصد به المعالجة المكثفة التي يقوم بها طبيب أو مجموعة من الأطباء ومساعدوهم لمساعدة الأجهزة الحياتية حتى تقوم بوظائفها، أو لتعويض بعض الأجهزة المعطلة قصد الوصول إلى تفاعل منسجم بينها. والأجهزة الحياتية الأساسية للإنسان هي: المخ، القلب، التنفس، الكلى، الدم الضامن للتوازن بين الماء والأملاح. يستنتج من هذا التعريف أن الإنعاش هو نوع من أنواع العلاج يقوم به الاختصاصي أو المجموعة لإنقاذ حياة المصاب الذي سيكون في حالة تفضي به حتما إلى الموت، إذا لم يتلق العناية التي تنتشله من وضعيته الخطيرة التي هو عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 وإذ تبين وتصورنا المفهوم فما هو حكم الإنعاش؟ إنه بناء على هذا التحليل تكن وضعية المصاب هي كوضعية الغريق الذي يصارع الموج وهو لا يحسن السباحة، أو كوضعية من وقع تحت ركام من الهدم، فالإنقاذ واجب كفائي، وخاصية الواجب الكفائي أن الخطاب يتوجه إلى كل فرد من الأفراد المؤهلين للقيام بالعمل وإذا قام به البعض وتحققت المصلحة سقط الطلب. وهذا يقتضي أمورا: أولا: أن إعداد الاختصاصيين في الإنعاش واجب تأثم الأمة كلها إذا لم تعن بتخريج هذا النوع من الأطباء. ثانيا: أن إعداد الأجهزة وأدوية الإنعاش بالقدر الممكن من الاستفادة منه هو واجب كفائي أيضًا تتحمله الدولة أولا. ثالثا: أن واجب الاختصاصي أو المجموعة هو موالاة رقابة المصاب مراقبة تحقق الهدف من الإنعاش. وهنا يكون كل تقصير متعمد موجبا لتحمل المقصر مسئولية نتائج التقصير. الإنعاش والتداوي: الإنعاش والتداوي شيئان وليسا أمرا واحدا، وبهذا فإن أحكامهما مختلفة فالتداوي قد وقف منه السلف موقفين مختلفين: الواضح والراجح، والمشهور أن التداوي واجب كلما كانت الحياة أو العضو معرضا إلى الخطر، وأنه مرغب فيه، إذا كان دون هذا المستوى من الحدة. الموقف الثاني، هو ما ذكره الغزالي أن بعض السلف رغب عن الدواء وذلك لغرض من الأغراض الستة التي فصلها في الإحياء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 أما الإنعاش فإنه يبدو لي أنه واجب، ذلك أنه لا تختلف حالة الإنعاش عن أية حالة من حالات الاضطراب التي تقلب حكم التحريم إلى الوجوب حفاظا على الحياة، وثاني المقاصد الضرورية الخمسة، على أن المصاب في كثير من الحالات الإنعاش يكون فاقدا للوعي أو هو تحت تأثير وطأة الإصابة، لا يتمكن من أخذ القرار المبنى على التأمل. خامسا: إذا تم إسعاف المصاب بوضعه تحت المعالجة المكثفة فمتى توقف عنه الإنعاش؟ الأحول ثلاثة يختلف الحكم في كل واحدة منها: الحالة الأولى: أن تعود أجهزة المصاب إلى حالتها الطبيعية عودا يطمئن معه القائم على العلاج أن الخطر قد زال ولا يوجد ما يوجب استمرار مواصلته فهو البرء التام أو الأخذ في طريق النقاهة. وهنا يكون رأي الاختصاصي واجب الاحترام، وهو التوقف عن المواصلة للاستغناء. الحالة الثانية: أن تتعطل الأجهزة الحياتية ويحدث الموت فيتعطل الدماغ والقلب فلا يتحرك القلب للقبول والضخ، ولا يقبل المخ ما يرد إليه من غذاء. ومع الموت لا فائدة من مواصلة العلاج المكثف. الحالة الثالثة: أن يتوقف الدماغ عن قبول أي غذاء، وتوقف القلب عن قبول أي غذاء يكون بأمرين معا ولابد منهما: أولا: بواسطة الراديو " التصوير" الذبذبات ولابد من التأكد لا أقل من مرتين في هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 ثانيا: بحقن الدم وبعثه إلى الدماغ مرتين ولا يصل. لأن المخ إذا مات لا يتقبل شيئاَ من الدم المغذي والمخ لا يبقى إلا ثلاث دقائق على ما قيل لي بدون غذاء ثم يندمل. أن يتوقف الدماغ عن قبول أي غذاء، وتستمر الأجهزة الأخرى في العمل بواسطة القيام بالمعالجة المكثفة فالآلة تحرك الرئتين والتعديل الدموي يقوم به المراقبون ويتبع هذا أن المصاب يجرى الدم في عروقه ويفرز إفرازاته وقد تدوم هذه الحالة الشهر والشهرين فالحياة الذاتية قد ذهبت إلى غير رجعة، وهي الحياة الحيوانية التي يقودها المخ توزيعا وتنظيما. لأن مركز القيادة قد دمر تدميرا كاملا وتبقى حياة صناعية أو نباتية كما يعبر عنها. وهذه الحالة التي هي بين عمل بعض الأجهزة الأساسية بواسطة الإنعاش وتوقف بعضها توقفا كاملا لا اثر لتدخل الطبيب في إعادته إلى أي نوع من أنواع نشاطه على أي مستوى كان ولو ضعيفا. هذه الحالة التي فيها بعض ظواهر الحياة وفاقدة للظواهر الأساسية قد عالجها الفقهاء من قبل. يرى الإمام مالك بن أنس رضى الله عنه أن المولود إذا لم يصرخ لا يعتبر حيا ولو تنفس أو بال وتحرك. ومعنى هذا أنه لا يحكم له بالحياة لمجرد التنفس حتى يقرن به البكاء. وقال ابن المايجشون إن العطاس يكون من الريح ويكون البول من استرخاء المواسك، فما لم يكن الفعل إراديا استجابة لتنظيم الدماغ لا يعتبر أمارة حياة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 حكم توقيف الإنعاش في هذه الحالة: أن توقيف الإنعاش في هذه الحالة الثالثة لا يمكن في نظري أن نعطيه حكما مطلقا بل أقترح: أولا: إذا كانت أجهزة الإنعاش التي خصصت لهذا الذي مات مخه والتي أبقيناها على هذا الجسم قد ورد من هو في حاجة إليها فلا نتردد في فصلها وربطها بمن بقيت فيه الحياة كاملة. ثانيا: إذا كانت النفقات التي يتطلبها مواصلة الإنعاش تلتهم من الرصيد المالي مايعد بالضرر على مستوى العلاج بالنسبة لبقية المرضى كحالة الدول التي لا تملك قوة مالية فإنه يتحتم أيضًا فصلها وصرف العناية للمرضى من الأحياء. ثالثا: إذا توفر المال وتوفرت الأجهزة والقائمون على الإنعاش فهل تستبقى الأجهزة ويستمر الجهاز الصحي في مواصلة العلاج المكثف إلى أن يحصل الدمار الكامل للأجهزة الأساسية كلها، أو ترفع العناية بمجرد تحقق الموت للمخ؟ يقول الأطباء أنه إذا رفض المخ قبول التغذية مات الإنسان وإذا أزلنا أجهزة الإنعاش فلن يستمر القلب في النبض والرئتان في الحركة أو الكلى في التصفية إلا مدة لا تتجاوز خمس دقائق على أكثر تقدير وإذا بقى أكثر من هذا فمعنى ذلك أن المخ ما يزال حيا، وبناء على ذلك فإن الذي يبدو أنه يمكن الإعلان عن الموت بمجرد ثبوت موت المخ وما يترتب على الموت من أحكام تبدأ من هذا التاريخ، أي من ميراث ومن عدة، إلخ والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 الشيخ عبد الله البسام: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد، أرى أننا نستمر في بحث هذا الموضوع حتى إن شاء الله ننتهي منه بخير، لأن الموضوع هذا أصبح الآن موجودا، وموجودا الآن في جميع المستشفيات، فكل مستشفي من المستشفيات يوجد فيه غرفة للإنعاش وتركيز العناية. والمرضى والمصابون بالحوادث كثيراَ ما يدخلون فيه منهم من يخرج سليما ومنهم من ينتهي أجله بهذا نعرف أن أجهزة الإنعاش هذه أصبحت لها فائدة وفائدة واضحة. وبناء عليه فإني أرى أن نستمر فيه وحتى ننتهي منه إلى شيء، هذه نقطة. النقطة الأخرى: أن أجهزة الإنعاش هذه والحمد لله ونحن مسلمون نعلم أنها لا تقدم الحياة ولا تؤخر فما هي إلا سبب من الأسباب كالأدوية. فكوننا وضعنا أجهزة الإنعاش وامتد مثلا المريض في حياته أشهرا أو سنين أو أياما ليس معناه ان حياته انتهت بوجود الحادث الذي صار عليه أو بوجود الجلطة التي أصابته وإنما معناه أن الله سبحانه وتعالى قدر له هذه الحياة التي لا نعلم متى تنتهي بوجود هذه الأسباب، فخالق الأسباب خالق المسببات. والله تبارك وتعالى قال: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} لكن هذا أنا لا أعرف كلام الأطباء في تقدم موت المخ على القلب أو تقدم موت القلب على المخ وبقى يضخ ساعات أو دقائق أو أياما ولكنني أعرف أن الموت شرعا هو مفارقة الروح للجسد، هذا هو الموت الشرعي، الموت الشرعي أن الروح التي لا نعلم كنهها، الله يعلمها سبحانه وتعالى مفارقتها للجسد هو الموت الحقيقي، وهذا الموت هو الذي تترتب عليه الأحكام الشرعية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 من أنه يورث ومن انقطاع علاقات الزوجية ونحو ذلك. وقلبه مادام في هذه الحالة، حالة الإنعاش فهو في حكم الأحياء فزوجته لا تزال باقية في عصمته ولو تقدم على موته موت قريب له لورثه ولو اعتدى عليه اعتبر الاعتداء على حي، فبناء عليه أنه في حالة معدود في حكم الأحياء، سواء كانت حياته ميئوس منها أو سواء كانت مرجوة، بقى بعد هذا، إذا علمنا هذا فكيف أننا مثلا نجهز عليه ونقضي على حياته بسحب هذه الأجهزة. فما سحب هذه الأجهزة إلا كترك غريق في لجة البحر أو كترك حريق يحترق في النار، لا فرق بين هذا وهذا كلهم قابل للحياة. ثم إذا نظرنا إليها من الناحية الدينية والناحية الإيمانية لا ننظر إليها نظرة مادية بحتة، ننظر إلى هذه الحياة على أنها حياة رائحة وفانية، وأن أمامنا أموراَ أعظم منها، ننظر بأن هذا مأجور وأن الله سبحانه وتعالى ربما ما مد في حياته في هذه الحالة لتكفير عن سيئاته، رفع في درجاته، وكذلك نفس الممرضين من أصحابه وأقاربه وذويه هم أيضًا مأجورون على هذه العناية وعلى هذا التمريض ومأجورون على الإنفاق. من هذا كله أنا أخلص إلى أجهزة الإنعاش، أرى أنها تبقى في المريض مهما كانت حالته ومهما كان مرضه، تبقى فيه حتى تنتهي حياته نهاية طبيعية وشكرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 الرئيس: في الواقع أن الاستشكال الذي كنت أوردته في أعقاب كلمة الدكتور محمد على البار نفسه كان موجودا لدى فضيلة الشيخ المختار السلامي لأنه قال في صدر بحثه " ولما لم يكن السؤال محددا " في أول الأمر هل كان الإشكال قائما هل السؤال عن حكم رفع أجهزة الإنعاش؟ فأنا الآن أرجو من فضيلة الشيخ المختار ومن فضيلة الشيخ عبد الله أن يحددوا لنا السؤال الذي يتعين طرحه بالتحديد في هذه القضية وإن كان يبدو أن المراد أن السؤال هو ما حكم رفع أجهزة الإنعاش عن المتلبس بهذه الحالة. الشيخ عبد الله البسام: أنا أعتقد أنه يوجد حالات يقرر الأطباء فيها يأسا من الحياة لكن أنا حتى في هذه حالة أرى عدم رفع أجهزة الإنعاش حتى في هذه الحالة. الرئيس: كأن السؤال الوارد الآن ما حكم رفع أجهزة الإنعاش؟ الشيخ عبد الله البسام: ما حكم رفع أجهزة الإنعاش مطلقا سواء كانت الحياة مرجوة أو ميئوسة؟ الرئيس: يعنى في حالاتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 الشيخ عبد الله البسام: أنا أحكي لكم في أمر رأيته. أجهزة الإنعاش هذه تختلف. أنا رأيت إنسانا أصيب بجلطة في الدماغ، هذه الجلطة أفقدته الإحساس كليا إلا أنه لا يتحرك ولا يتكلم ولا ينطق، هذا توقف عنه النزيف، نزيف الجلطة وقف وسلم منها وسلم من الموت إلا أنه بقى من أجهزة الإنعاش، هو انه يدخل أنبوب من الأنف إلى المعدة لإطعامه ويسحب منه البول. فهذا الرجل الذي أصيب ومكث اكثر من ثلاثة أشهر لو سحبنا عنه آلة الإطعام وآلة البروستاتا لكان مات من عدم التغذية أو من توقف البولينا مات من هذا ولم يمت من الجلطة التي أصابته، يعني أننا قتلناه ولم نحسن القتلة. الرئيس: يعنى من المفهوم أن السؤال المحدد ما حكم رفع أجهزة الإنعاش؟ الشيخ المختار السلامي: شكرا على التوضيح المطلوب، وأعتقد أن ما جاء من إثارة فضيلة الشيخ عبد الله البسام هو غير وارد أصلا. لأنه إذا بقيت الحياة فلا يجوز رفع أجهزة الإنعاش أصلا. قال الشيخ عبد الله البسام إن نهاية الحياة هي ذهاب الروح لكن الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا وذهابها له إمارات، فما هي الأمارة الحقيقية الدالة على أن الروح قد ذهبت؟ ها هنا يقول الأطباء ويجمعون وقلت إنهم من خيرة الأساتذة أنه إذا توقفت التغذية عن المخ فإن المخ لا يستطيع أن يبقى إلى دقائق ويدمر تدميرا كاملا ويتحلل، القلب يستطيع أن يبقى مدة أكثر بدون تغذية الرئتان كذلك، أجهزة الكلى كذلك، اختلاط الدم كذلك، المادة الوحيدة أو الجهاز الوحيد في الإنسان الذي يدمر بمجرد ما تنتهي عنه التغذية هو الدماغ. فإذا دمر فلن يستطيع أحد أن يعيده إليه لأن القلب يمكن تنشيطه فيعود، التنفس يمكن إعطاؤه أجهزة، فعندما يدمر المخ ماذا يبقى؟ تبقى آلة تنفخ الرئتين وتجذب منها الهواء وآلة أخرى تبعث الدم تأخذه وأطباء يوازنون في الكميات الموجودة من الدم لا اكثر من ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 فهو صناعة يتحرك، لكن لا يتحرك إنسانيا أو حيوانيا. هذا المفهوم الذي فهمته من الأطباء. الأمر الثاني السؤال، السؤال وقلت في أمرين الأمر الأول بينت أن حكم إيجاد هذه الأجهزة له حكم شرعي. وأن حكم إعطاء هذه الأجهزة أو تمكين المصاب من المداواة، له حكم شرعي وبينته، ثم أن هذه الأجهزة التي وصلناها بالمصاب حتى نضمن له الحياة، متى نرفعها عنه؟ نرفعها عنه إذا وقعت تعطل كل شيء. الرئيس: إذن يا شيخ مختار كأن الموضوع ذو شقين أو ذو مسألتين: الأولى في حكم توفير هذه الأجهزة للإنقاذ، والثانية في حكم رفع الأجهزة في مثل الحالات المستعصية أو على جميع أحوالها. الدكتور محمد على البار: يبدو أن هذا الموضوع معقد لدرجة أو أن شرحي كان غير واضح لدرجة أن الشيخ عبد الله البسام لم يفهم ما كنت أقصده. الحالة التي ذكرها الشيخ عبد الله البسام شخص أصيب بجلطة ويتنفس تنفساَ طبيعيا ولا يحتاج سوى إدخال أنبوب بسيط لإطعامه وأنبوب آخر لإخراج البول منه، هذه لا تدخل حتى في باب الإنعاش، هذا أصلا تعتبر حالة طبيعية جداَ، وكل طبيب يعرفها وكل طبيب جرب عشرات الحالات مثل هذا النوع. هذه أصلا خارج موضوع البحث أساسا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 الرئيس: ولهذا يا دكتور محمد أنا أوردت سؤالا وقلت لكم ما هو الفرق بين ما هو منتشر كانتشار الأطباء من غرف الإنعاش وما هو الفرق بين أجهزة الإنعاش هذه المكثفة، لأن مثل التي ذكرها الشيخ عبد الله قد تكون لا تدخل في غرف الإنعاش. الدكتور محمد على البار: هذه ممكن تكون في الغرفة العادية البسيطة لا تحتاج إلى جهاز التنفس ولا جهاز ضربات القلب ولا متابعة ضربات القلب، هذا أمر عادي وبسيط جداَ. وممكن أن يكون في المنزل بدون حاجة إلى النقل إلى المستشفي مطلقا. مثل هذه الحالة ممكن ان تمرض في المنزل. وهذه حالة بسيطة جدا لا تدخل ولا تندرج أبدا تحت باب أجهزة الإنعاش. لأنه ممكن أن تمرض مثل هذه الحالة في المنزل ويبقى هذا الشخص له قسطرة وتأتي ممرضة أو ممرض وممكن لا يحتاج إلى طبيب. يمكن الآن، ممكن أن تدربهم على أنهم يحقنوا الأكل المعمول على هيأة سوائل يعطى هذا المريض بحقنه بأنبوب بسيط يدخله الطبيب إلى المرىء وإلى المعدة، ثم يستمر هذا في المنزل أشهرا وسنين. وقد ذكرت لكم حالات متعددة التي عاشت سنين وهي اعقد من هذه. يعني حالات اكثر تعقيدا من هذه وعاشت سنين، وحالة أخرى اكثر تعقيدا من هذه: امرأة أصيبت، كانت حاملا وأصيبت بحادثة سيارة ونقلت إلى المستشفي بقيت تحت أجهزة الإنعاش وهي حامل واستمر حملها حتى بلغ ستة أشهر ثم ولدت ولادة طبيعية وهى فاقدة لكل أثر من آثار الحياة وهي تحت أجهزة الإنعاش. الأطباء لا يناقشون في هذا. طالما كان هناك رمق من حياة فالأطباء أحرص الناس على إبقاء هذه الحياة وليسوا مستعجلين لإعلان الوفاة يعني كلما كانت الحالات ميئوسا منها لا نعتبرها حالة وفاة، والذي تحدث عنها الشيخ البسام أو حتى التي تكون أكثر تعقيدا منها، هذه تدخل تحت باب آخر يسمى قتل الرحمة. يعني الحالات المعقدة الشديدة مثل الحالات التي وصفتها لكم حالة سيسليا بلاندي أو كارين انكويلان، مغمي عليها إغماء تاما وفاقدة لكل أثر من آثار الحياة تماما ما عدا لا يزال التنفس، أحيانا تتنفس بغير الآلة وأحيانا تحتاج إلى الآلة مؤقتا، لا يزال جذع الدماغ مجودا. طالما أن جذع الدماغ موجود لا يطلق على مثل هذا الشخص ميت حتى ولو بقى سنين طويلة، مثل هذه الحالات ما كان يمكن من سابق أن تبقى سنين طويلة، عشر سنين أو 12 سنة أو 15 سنة وهي في إغماء تام وتغذى تغذية صناعية بالأنابيب يفرز منها أيضًا بالأنابيب، مثل هذه الحالات في السابق كانت تتوفي لعدم وجود الرعاية الطبية والإمكانيات الكافية لكن الآن مثل هذه الحالات لا تدخل تحت باب موضوعنا الذي نتحدث عنه. موضوعنا التي نتحدث عنه هو إذا مات الشخص بالفعل هذا الشخص مات بالفعل، توقف دماغه كلية، ليس جزءا من دماغه، الدماغ شيء كبير جدا هناك المخ. الرئيس: يا دكتور محمد الموضوع الذي نحن نتحدث عنه وأنت الآن وصلت إلى بيت القصيد، هل هو ذو صور أو صورة واحدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 الدكتور محمد على البار: لا أنه له صور متعددة لكن الصورة التي نريد أن نصل إليها هي الصورة: أن هذا الشخص مات كل دماغه، أو على الأقل جذعه الأساسي، مات كل الدماغ بما فيه الجذع الذي فيه المراكز الحيوية، إذا مات كل الدماغ وبقى الجذع فهو لا يزال حيا بجميع التعريفات الطبية، إذا بقى جذع الدماغ حيا فهو لا يزال حيا وأمثلته كثيرة موجودة الآن، وهذا سبب الأخطاء، ثم الدماغ كله ممكن أن يتوقف وظيفيا كما أخبرتكم بسبب العقاقير القوية، أو شخص تعرض في الثلج وبقى تحت الثلج فترة طويلة من الزمن، ممكن أن يتوقف الدماغ كلية. ولكن هذا التوقف يسمى توقف وظيفي، وهذا التوقف الوظيفي لا يعطينا الحق في إعلان الوفاة، لابد أن يكون التوقف توقف أنسجة، نسيجى، جميع الأنسجة الموجودة بما في ذلك جذع الدماغ الذي يتحكم في القلب والدورة الدموية والتنفس. هذه إذا انتهت وماتت عندئذ يأتي موضوع إعلان موت الدماغ ونضطر لذلك في هذا الإعلان لعدة أسباب: أولا: أن القلب ممكن أن يستمر بالأجهزة لعدة ساعات أو أحيانا لعدة أيام أو أحيانا وهي حالة نادرة سجلت 68 يوما، يرى الأطباء أن هذا نوع من العبث إن أنفق هذه الآموال كلها وهذه الجهود على جثة، هم يحددون أن هذه الجثة ميتة ليس لها من الحياة رمق ليست ميئوسا منها، ليس موضوع ميئوسا منها، أما الميئوس منه فلا يجوز قتله حتى يسمى " قتل الرحمة السلبي " يعنى توقف عنه الأدوية وتوقف عنه العقاقير وتوقف عنه أجهزة الإنعاش هذا غير مقبول في الدوائر الطبية كلها، هناك يسمى قتل رحمة إيجابي وقتل رحمة سلبي، جميع وسائل قتل الرحمة سواء كانت سلبية بإيقاف علاج معين أو إيجابية بإعطاء المريض حقنة بكمية زيادة من دواء حتى تقضى عليه، هذه مرفوضة تماما في جميع الدوائر الطبية، مرفوضة تماما لا أحد يتحدث عنها لأنها مرفوضة الآن في جميع الدوائر الطبية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 يبقى أمامنا شخص انتهت حياته وتوفي إلى رحمة الله متى يعلن وفاته؟ هل ننتظر حتى يقف القلب أو أننا نوقف الأجهزة هذه ونعلن وفاته لأن هذا الدماغ قد مات وبالتالي مات قلبه، ولا بد من إجراء الفحوص، من هذه الفحوص أن هذه المنفسة والأجهزة توقف دقائق وينتظر الطبيب هل هناك أمل في عودة التنفس ويعاد هذا الفحص مرات يعني مرتين على الأقل بفريقين مختلفين من الأطباء مع مجموعة أخرى من الفحوص مذكورين هنا في صلب البحث مفصلة لكم. فهذه الأنواع المختلفة من الفحوصات تؤكد أن هذا الدماغ وجذع الدماغ قد انتقل إلى العالم الآخر، قد مات. فإذا مات هذا الشخص فهل يجب أن ننفخ في جثة هامدة لمدة أسبوع أو مدة أيام أو مدة كذا، هو السؤال الآن مطروح بين أيديكم. الشيخ المختار ولد أباه: محاولة لإجابة السؤال الذي طرحته أريد أن أخبر السادة المشايخ، أنني قبل شهر كنت قد التقيت بأحد الأطباء المسلمين المختصين بأمراض القلب واسمه داود جوف من السنغال وطرح على مجموعة من الأسئلة تخص هذه الحالة التي نتحدث عنها الآن. منها الوقت الذي يجوز فيه للطبيب أن ينزع أجهزة الإنعاش عن المريض ويحدد ذلك هو بعد توقف الدماغ وبعد أن يكون الرسم الدماغي يبين أن الدماغ قد مات تماما، طبعا هذا السؤال هو الذي تناوله أستاذنا وصديقنا محمد المختار السلامي وأعتقد أنه شفي فيه الغليل. السؤال الثاني: في الفترة بين موت الدماغ وبين الوفاة الكاملة لجميع الأعضاء، هذا الطبيب يسأل، هل يجوز نزع عضو من المصاب قبل توقف القلب مثلا. إذا كان، كالقلب أو الكلى أو البنكرياس إلى غير ذلك، إذا كان هذا جائز هل يتوقف على إذن من المصاب نفسه قبل وفاته. إذا كان المصاب لا يستطيع أن يعطى إذنا لأنه كان مصابا في حادثة سيارة، هل يجوز لوليه أن يعطى هذا الإذن، لاستئصال هذا العضو لزرعه في جسم آخر. إذا لم يإذن الولي أو المصاب قبل وفاته هل يجوز للطبيب في حالات استثنائية خاصة أن يتصرف بنفسه وأن يبادر في استئصال العضو الصحيح ليزرعه في جسم آخر لمريض قد ينقذ به، هذه أسئلة أربعة وشكرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 الشيخ محمد عمر الزبير: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين السؤال المطروح حقيقة، متى تحقق الوفاة، وهل القرار، قرار يصدر من الأطباء الذي يحكمون على أساس الوفاة، فهذه هي موطن ثقة وتحال القضايا التي من اختصاصهم إليهم لأنهم أهل الاختصاص وأهل الخبرة في هذا الفن. فإذا تحقق أن الوفاة – معنى الوفاة هو موت الدماغ مع بقاء الحياة الظاهرة الشكلية من تنفس وضخ للدم – فهذا التحديد وهذا التعريف من قبل الخبراء يكفي لنا أو يكفي للفقهاء أنهم يكيفون الحكم الشرعي على هذا الأساس. وفي اعتقادي والله اعلم يمكن أن يكون القياس على أساس قضية الإجهاض أيضًا. لأن أنواع الحياة ثلاثة، الحياة الكاملة التي هي الحياة النباتية، والحياة الحيوانية، والحياة الروحية العقلية. وفي الواقع أن مناط التكليف هو العقل ولكن تبقى إنسانية الإنسان قائمة محترمة معتبرة شرعا حتى بالحياة الحيوانية. لأنه قد يفقد الإنسان عقله ويبقى أيضًا ليس مسئولا بالتكليف ولكن يبقى على أساس أنه إنسان: تصان حياته، الحياة الحيوانية، لكن الحياة النباتية، حياة النمو في الواقع فقط نمو، ونمو اصطناعي أو قد يكون نموا لا إرادي الدكتور يستطيع أن يصحح لي تصوري، الحياة النباتية هي قد تظهر علامات النمو حتى في الحالات الميتة التي أسعفت بالأجهزة الإسعافية أن تظهر بوادر النمو، مثلا يظهر الشعر إذا حلقنا شعرا ينمو الشعر والله أعلم لا أدرى، السؤال موجه إلى الأساتذة إلى الدكاترة ولكن حتى مع ظهور هذا النمو لا يكفي لإعطاء معنى الحياة الشرعي لهذا النوع من الحياة لأن هذا معناه قابلية وإمكان. وفي قضية الإجهاض إذا فكر الفقهاء في ذلك أنه في الفترة الأولى أو الـ40 يوما يمكن أن يحدث الإجهاض مع وجود هذه القابلية، قابلية النمو فهناك في الفقه حالات مشابهة لهذه القضية الواقع أن الحالتين اللتين ذكرهما الأستاذ المختار ليستا مجالا للنقاش لأنه واجب كفائي أن نسعف في جميع الحالات، هذا واحد، وواجب أيضًا أن ننزع الأجهزة في حالة التحقق من الوفاة. والمقارنة يجب ألا تكون أيضًا في حالتين، حالة الاضطرار، أن ننزع هذه الأجهزة لأجل قضية إسعاف آخر وإعطاء أولويات ولكن حتى بعدم وجود هذه الضرورة لابد أن يصدر حكم شرعي بقضية الوفاة. هل تتحقق الوفاة بمجرد موت الدماغ مع وجود الظواهر الحياتية النباتية وأقولها النباتية وليست الحيوانية وليست الحياة بكاملها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 الشيخ عبد الله البسام: احب أن اوجه إلى سعادة الدكتور محمد على البار حين حدد لنا الوفاة وقال الوفاة هي موت المخ موت الدماغ كاملا، وأنه إذا لم يبق إلا نبض القلب وحركات الخلايا وأنه في هذه الحالة يعتبر من عداد الأموات وأنه في هذه الحال تنزع منه أجهزة الإنعاش. أحب أن أسأل لو بقيت أجهزة الإنعاش في هذه الحالة فهل أعراض الموت التي ذكرها العلماء توجد مع وجود الأجهزة، مثلا ارتخاء المفاصل وتغير الرائحة وميلان الأنف، وما قالوا عن ذلك وسكوت النبض. فهل يصل إلى هذه الدرجة؟ إذا كان وصل إلى هذه فهذا هو الموت الشرعي وهذا هو الذي تتعلق عليه الأحكام الشرعية. أما مادام أجهزة الإنعاش يمكن أن تبقى أياما أو اكثر من أيام وهو في هذه الحالة ومع هذا جسمه في عداد الأحياء فأنا أعتقد وأرى أنه من الناحية الشرعية أن هذا لا يزال يعتبر حيا وأن له حكم الأحياء، فأنا أحب من سعادة الدكتور أن يوضح هذه النقطة. الدكتور محمد على البار: بسم الله الرحمن الرحيم. الحقيقة ما كان يعتبره الفقهاء علامات الموت قد لا يعتبره الأطباء علامات الموت، يمكن تكون القضية معكوسة ما تعتبرونه ارتخاء أعضاء وكذا يعتبره الأطباء، أن هذا الشخص لا يزال حيا ولا شك أن هناك أخطاء لو تركنا تشخيص الموت للشخص العادي، نحن واثقون تماما أن الشخص العادي ممكن أن يخطئ في تشخيص موت شخص ويعتبره ميتا إذا لم تكن لديه خبرة كافية كطبيب متمرس. لا شك أن كثيراَ من الأشخاص ستعلن وفاتهم وهم أحياء. النقطة الحقيقية بعكس ما تقولون وأن الوضع عكس ما تقولون تماما. النقطة الأساسية أنكم تعتبرون مثلا شخصا ارتخت أعضاؤه، هذه ليس لها قيمة عندنا ممكن ترتخي أعضاؤه وتحرك رجله ترتمي وليس لها قيمة أصلا لأنه ممكن أن تسمع نبضات قلبه بإذنك العادية أن ترى أو تسمع هذه النبضات أو تضع يدك على النبض ولا تحس هذا النبض. نحن تعدينا هذه المرحلة. يعني ما كان يحكم به أن هذا الشخص ميت كثير من الأحكام الذي بنى عليها الفقهاء أن فلانا ميت أن هذا الطفل يعطس، حتى الرضاعة اختلفوا فيها. هذه لاشك أنهم حكموا بموت آلاف الأشخاص بينما كانوا أحياء، الطب تقدم في هذا الميدان إلا أننا نقول لكم أنتم ما تعتبرونه علامات موت مؤكدة هو في الواقع ليس علامات موت مؤكدة هو في الواقع ليس علامات موت مؤكدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 لكن إذا أخذنا باب الأجهزة ونحن عندما قلنا إذا مات دماغ هذا الشخص كاملا بما فيه جذع الدماغ وتوقف تنفسه إذا تركنا الجهاز وأخذنا الجهاز، توقف التنفس، توقف القلب وأصبح هذا الشخص ميتا، بجميع الاعتبارات، هذا الشخص ميت، فلماذا نقول انه حي وانه ميت أما إذا كان تنفسه مستمرا بدون الجهاز أو عندما توقف الجهاز، هذا لاشك أنه حي وهذا ما يحدث وهو أحد شروط الفحوص التي يعملها الأطباء وبشروط أخرى مؤكدة لابد أن يعطوه كمية من الأكسجين 100 % أوكسجين يتنفسه في فترة ثم يعطى ثاني أكسيد الكربون لتنبيه مراكز الدماغ المسئولة في جذع الدماغ عن التنفس لابد من تنبيهها بأقصى ما يمكن رغم هذا التنبيه المستمر يصبح القلب غير قادر على الحركة والتنفس غير قادر على الحركة مع شرط ألا يكون ذلك ناتجا عن أدوية أو عقاقير، لا بد أن يذهب لو عملنا هذه الفحوص والشخص أخذ مجموعة من العقاقير مثلا " بارفيترين " أو غيرها أو كحول أو غيرها من الأدوية هذه أو كان في الثلج هذا توقف وظيفي يسمى، هذه الفحوص تعتبر كلها لاغية غير مطلوبة وليس من حق الطبيب ان يجرى هذه الفحوص في مثل هذه الحالة، لأنه لو أجراها لأعلن موت الدماغ وإنما لابد وان تجرى بعد أن تزال الأسباب الوقتية التي ممكن أن تذهب، فإذا أزيلت جميع الأسباب الوقتية كان لدينا تشخيص محدد بسبب وفاة الدماغ مثلا تهشم هذا الدماغ، وعندنا صور لها شعاعية كاملة، وأن الدورة الدموية لا تسرى فيه وأن الدماغ قد مات بجميع الفحوصات الموجودة والمذكورة في التفاصيل في هذا البحث أمامكم، إذ انتهينا من هذه التفاصيل العلمية كلها بالشروط العلمية وبالاحتياطات التي يتخذها الأطباء الآن فإن موت الدماغ يعنى موت الجسم ككل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 والفرق بينهما هو إما أن يكون دقائق أو ساعات. إذا أوقف هذا الجهاز فإن القلب سيتوقف خلال دقائق لاشك في ذلك والتنفس سيتوقف لا شك في ذلك. لكن المشكلة هل نبقى مستمرين بهذا الجهاز حتى يستمر التنفس فإذا استمرينا بالجهاز رغم موت الدماغ لابد أن يقف القلب أيضًا ويقف التنفس رغم كل الأجهزة. لا تتصورا أن بعد موت الدماغ يستمر القلب وتستمر الأجهزة تعمل. الأجهزة ستتوف، سيتوقف التنفس رغم كل الأجهزة التي لدينا. الفرق فيها أن هناك فترة زمنية قد تطول حتى تصبح شهرين كما حدث في حالة نادرة وقد تبقى بضعة أيام، في هذه الأيام مادام الشخص ميتا لماذا نستمر في نفخ رئتي شخص ميت، هذا هو السؤال فقط. شخص ميت لماذا نستمر في نفخ رجل قد مات وانتقل إلى العالم الآخر. في هذا مشقات كثيرة، مشقة على الأهل، مشقة على الأطباء، مشقة على أهل التمريض، ثم الفائدة الأخرى التي ترجى هي في موضوع نقل الأعضاء كما ذكرها الشيخ. إذا عرفنا ان الأعضاء هذه تتلف إذا توقفت عنها الدورة الدموية فترة فإن هذه الأعضاء ينبغي أن نأخذها وخاصة مثل القلب، الأعضاء الحيوية الهامة، هذه الأعضاء نحتاج لأخذها وهي لا تزال كعضو به خلاياها لا تزال حية. إذا ماتت هذه الخلايا لا فائدة ترجى منها أصلا في النقل، فمن هنا يأتي هذا المفهوم أن نؤخذ هذه الأعضاء وهي لا تزال قابلة للعمل، هي لا تزال قابلة للحياة كأعضاء. فإذا انتهت حياتها كأعضاء فلا فائدة ترجى منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 الشيخ محمد على تسخيرى: بعد هذه التوضيحات الضافية التي أعطانا إياها الدكتور البار ونحن في مقام الحكم الشرعى، بالنسبة للسؤالين اللذين طرحهما الأستاذ السلامي، السؤال الأول واضح لا يحتاج إلى بحث: هل يجب علينا أن نجهز أجهزة الإنعاش أم لا؟ هذا أمر لا ريب فيه ولاشك فيه ولا يحتاج إلى بحث. المسألة في حكم رفع هذه الأجهزة وحكم رفعها يتم بعد حصول الموت. الموت مفهوم شرعي موضوع جاء في النصوص الإسلامية ورتبت على هذا الموضوع أحكام. هذا الموضوع يجب أن نتأكد من تحققه عرفا حتى نرتب عليه أحكامه. كيف يمكن التأكد من حصول هذا الموضوع للحكم أو الأحكام المترتبة عليه. الواقع الذي أعتقده أن هناك أمرين يجب أن يلحظا في تحقق موضوع الحكم الأمر الأول، هو ما يقوله العلم، وقد رأينا أن الدكتور البار بر بتوضيحاته، وأوضح أن العلم يقول بأن موت الدماغ موتا كليا أو موت الجذع هو الموت الذي لا يحتملون معه أي احتمال ضعيف في عودة حياة أو سلامتها فهذا هو العلم، العلم واضح في هذا المعنى. لكن لكي نتأكد من تحقق الموضوع العرفي حتى يترتب الحكم، نحتاج إلى إضافة في هذا المعنى هذه الإضافة أيضًا نأخذها من العرف بعد أن نوقف هذه الأجهزة أو نفترض الإيقاف حتى نتأكد، إذا افترضنا ان هذه الأجهزة أوقفت فهل ستطرف عين أو تتحرك رجل أو يتحرك قلب أم لا؟ هذه العلامات التي أشار إليها والتي جاءت أيضًا في بعض الروايات التي يستدل بها العلماء في مجال مفهوم الشرط عندما يريدون أن يعرفوا أن هذه النطيحة التي نطحت أو الحيوانات التي سقطت من شاهق هل بقيت حية حتى تذبح وأم لا؟ يقولون إذا طرفت العين أو تحركت الرجل وما إلى ذلك. نفترض أننا أوقفنا أجهزة الإنعاش فهل يتحرك البدن أم لا؟ إذا كانت الحركة في البدن مازالت موجودة، العرف هنا مازال يفترض عدم تحقق موضوع الموت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 أما إذا افترضنا أننا أوقفنا هذه الأجهزة لم تطرف عين ولم تتحرك رجل ولم ينبض قلب بشكل طبيعي لا بتحريك من أجهزة الإنعاش. حينئذ الذي أعتقده أن موضوع الحكم قد تحقق لدى العرف، وحين إذن بشكل كامل تترتب كل الأحكام، يمكننا أن نرفع أجهزة الإنعاش وما إلى ذلك، يعني هذه الإضافة احتياط عرفي للتأكد من تحقق الموضوع. وشكرا الأمين العام: الشيخ الحبيب ابن الخوجة شكرا سيدي الرئيس ما سمعته من حديث حول هذا الموضوع الذي طال النقاش فيه قد اطمأنيت إلى حقائق علمية لابد من أخذها بعين الاعتبار. فإن التفصيل الذي ذكره الدكتور البار جزاه الله خيرا والحديث الذي أفضى به إلينا الشيخ مختار السلامي ثم المناقشات كلها انتهت بنا إلى تحديد الموضوع المستفسر عنه شرعا. وهذا هو الذي يتناقض أو يتعارض مع ما تفضل به فضيلة الشيخ محمد على تسخيرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 قضية الموت الحقيقي والموت العرفي هو محل النزاع. الذي اضطررنا إلى البحث فيه هو أن نقل العضو من جسد ميت وهو موت حقيقي لكن به بقية آثار أو حركة تدل على أنه لم يمت عرفا هو الذي نحتاج فيه إلى النقل، لأننا إذا استللنا هذه الأجهزة، أجهزة الإنعاش فسوف يموت، لا تبقى حركة. وإذا نحن لم نقم بنقل العضو الذي نريده إلى جسد أخر يعيش به فإننا إذا ترقبنا الموت النهائي ووقوف القلب لا تكون الأعضاء التي ننقلها صالحة، لأن الجسد كله يموت. إذا مات الدماغ، قبل كل شيء أريد أن أذكر بأن الموضوع طرح في مؤتمر كامل شارك فيه علماء شرعيون كما شارك فيه الأطباء في العام الماضي بالكويت تحت مظلة وزارة الصحة. فهذا الموضوع تحديد الموت عند الفقهاء عند الأطباء جميعا هل هو موت الدماغ، لا عبرة لهذه الآثار الأخرى التي لا يمكن أن تستمر أم لا بد من أن يكون موت الدماغ متبوعا بهذه الحالة العرفية التي سميتموها عرفاء؟ الظاهر من الناحية الشرعية أو العلمية، أن المقصود من الموت، موت الدماغ حتى يتسنى بعد ذلك أن ننقل الأعضاء، لأن هذا هو بيت القصيد، نقل الأعضاء من جسد الميت حقيقة وعلما إلى جسد يحتاج إلى تلك الأعضاء في وقت مناسب وإلا فإن العضو لا فائدة من نقله، قد تفضل الدكتور البار بالكشف عن هذه الحقيقة وشكرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 الشيخ عبد السلام العبادي: بسم الله الرحمن الرحيم كنت طلبت الحديث في الواقع قبل قليل من أجل لما كان الحديث يدور حول تحديد المسألة المطروحة للبحث، الواقع جاء اللبس من اختيار العنوان " أجهزة الإنعاش"، في الواقع عنوان موهم في هذه المسألة، الموضوع ليس موضوع أجهزة الإنعاش، الموضوع هو هل يعتبر الإنسان بما يسمى موت خلايا وأجهزة الدماغ هل يعتبر ميتا أم لا؟ هذا الموضوع بحث بالتفصيل كما أشار وتفضل معالي الأمين العام في الكويت، عقدت ندوة ومؤتمر في عمان أيضًا قبل أشهر وبحث هذا الموضوع بالتفصيل. مدار النقاش كله حول قضية مدى القطع الطبي في هذا المجال. الفقهاء حذرون في هذا الأمر من أجل الاستيثاق من هذه النقطة حتى الدكتور البار في أول كلامه تمنى أن يكون معه عدد من الأطباء وألحق هذه الكلمة بعبارة " لأننا في المجال الطبي مختلفون كما أنتم في مجال الفقه قد تختلفون " لذلك في ندوة الكويت أو في مؤتمر الكويت قدمت أبحاث كما تفضل هو وأشار هناك حوالي 700 صفحة في هذا الموضوع وحوله تقريبا. وانتهى إذا أردت أن تصنف ما قيل في هذه المسألة تجد أن بعض الفقهاء منع رغم التفصيل الذي قدمه الأطباء في هذا المجال. لابد ان نسمع وجهة نظرهم ونرى ما الذي جعلهم يتمسكون بما سماه الشيخ على الموت العرفي. بعضهم يفصل بين الأحكام الطبية والأحكام الشرعية الأخرى. قال للأغراض الطبية، أنا أعتبر موت الدماغ لكن للأغراض الشرعية الأخرى فيما يتعلق بالعدة الزوجية والإرث وغيرها، لا أنا أتمسك بالموت العرفي. وله وجهة نظر وأتى بأدلة بعضهم حكم بالوفاة كاملا ورتب جميع الأحكام إن كانت طبية أو شرعية على ما سمى بموت الدماغ. فلذلك في ظني هذا المجمع لم توفر له في هذه الجلسة كل هذه المعلومات الضرورية، لابد في الواقع من عدد من الأطباء ليس خبيرا واحدا لابد من مجموعة من الخبراء، حتى يزداد الوثوق في قضية القطع الطبي في هذا المجال، لابد من أن تكون هناك أبحاث شرعية بين أيدينا تعرض وجهات النظر المختلفة ومن ثم تتاح لنا فرصة الحكم بهذا. إذا كان جهات علمية خصصت لهذا الموضوع ندوات مستقلة ولم تبت فيه بشكل قاطع ونهائي، فلا يمكن في جلسة واحدة وأمام هذه المعلومات القليلة في هذا المجال وهذا النقص إن كان في مجال الخبرة أو في مجال البحوث الشرعية أن ينتهي المجمع إلى قرار في هذا المجال. لذلك أقترح بشكل محدد أن تكلف الأمانة العامة باستجماع كل هذه المعلومات وأن يكون إحدى الموضوعات الكبرى الأساسية التي تبحث في دورة المجمع القادمة إن شاء الله. شكراَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 الرئيس: عندي عدد من كلمات المشايخ الأعضاء ولكن إذا سمحتم لي أن نصل إلى نهاية أرجو أن تكون مرضية للجميع. وهذه النهاية هي نهاية الاستقطاب واستكمال التصور. وقبل هذا إنني أدعو لجنة التخطيط إذا وضعت موضوعا من المواضيع التي ترى طرحها على هذا المجمع أن تحدد نقطة السؤال بصياغة أهل العلم. أما أن يكون الجدول المدرج أجهزة الإنعاش فهذا سؤال موهم. ولهذا نفس الباحثين وفي مقدمتهم الشيخ المختار السلامي استشكل هذا ولكنه أعمل نفسه حتى تصل إلى ما توصل إليه مما أعطانا تجلية لجانبين من الموضوع إضافة إلى التصورات الطبية التي أضفاها الدكتور البار ثم تحصل لدينا مبحث ثالث أثاره الشيخ محمد المختار فصار أمامنا الآن ربما نفترض ثلاثة أسئلة السؤال الأول: حكم توفير أجهزة الإنعاش وهذا أمره ميسور. الثاني: حكم رفع أجهزة الإنعاش، هذا يستدعى تحديد الصورة على لسان الطب بما يقبله الفقيه بمعنى ان تكون بصفة معتصرة بأسطر معينة حتى يكون التصوير واضحا وجليا أمامنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 ثم يأتي سؤال ثالث حكم نزع عضو من المصاب وهو تحت الإنعاش والحالة هذه هذا شئ الأمر الثاني تجلى أمامنا من المناقشة ومن خلال المداولة ان هذه المسالة بحثت موسعة تحت مظلة وزارة الصحة في دولة الكويت في محفل حضره جمع من الأطباء ومن العلماء فصار في هذا محاضر وقرارات ووجهات نظر وأبحاث. ولهذا فإذا رأيتم أن اعرض على أنظاركم الوجهة التالية وهى التثنية على ما ذكره الشيخ عبد السلام من ان يطلب من الأمانة أن تستحصل على ما تم بحثه في الكويت مع ما هو موجود لدينا من بحوث قدمت إلينا مع ما يمكن استقطابه والوصول إليه سواء من جهة الأطباء أو من جهة الفقهاء، ثم بعد ذلك يوضع في فقرات معينة مرتبة سواء من حيث التصور الطبي أو من حيث ترتيب الحكم الشرعي ويوزع البحث حتى يكون أمامنا بحث يحصل فيه تمام التصور وأنتم ترون الآن أن التصورات اختلفت فيما بين الأعضاء وبين الدكتور الطبيب وبين بعض معدي البحوث وهكذا، بل أن البعض ومنهم بصراحة العبد الفقير لم يحصل لي تمام التصور لا في موضع السؤال أولا وإن كان تجلى أخيرا، ولا في نفس الصورة التي يعنيها السؤال وهي هي أم البحث الصورة التي يعنيها السؤال وهي رفع أجهزة الإنعاش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 ولهذا أرجوأن تتقبلوا وجهة النظر هذه بأن يعهد إلى الأمانة باستحضار ما لدى وزارة الصحة في الكويت مع البحوث الموجودة هنا مع ما يمكن الحصول عليه ومن هنا نستطيع أن ننطلق انطلاقة أهل العلم باستكمال التصور مع ترتيب المبحث الفقهي وعليه يمكننا باطمئنان بحول الله أن نرتب الحكم الشرعي لهذه النازلة وبالله التوفيق. الرئيس: إذن كأنني أرى موافقة الشيخ محمد عبد اللطيف فرفور: شكراَ سيادة الرئيس أود من الصديق العزيز الدكتور البار كطبيب أن يتفضل فيوضح لنا قضية سمعتها في دمشق من أستاذ في كلية الطب بجامعة دمشق وهو صديق لي سألته قبل مجيئي إلى هذا المجمع الموقر عن العلامة الرئيسية أو الرئيسة بالفصحى عن الموت، عن الوفاة. وتعلمون حضراتكم أن الموت لا يعرف، ماهيته، لا يمكن تعريفها إطلاقا. إنما له أسباب منه موت الدماغ ومنها موت القلب ومنها موتهما معا وكل ذلك أسباب كما أشار الشاعر " تعددت الأسباب والموت واحد ". أما العلامة القاطعة عند الأطباء على هذا هو وجود مادة تظهر على جلد الميت الذي انتهى أجله قطعا مائة بالمائة في خلال غضون اقل من 24 ساعة أثبتها الطب الشرعي وتسمى التوثف أو التغير الجيفي، لا ترى بالعين المجردة وإنما ترى عن طريق المجهر، الميكروسكوب ويظهر بعض آثارها من الصفرة وما شابه ذلك على الميت ومن خلالها يتعرف الطبيب الشرعي على مدة الوفاة من متى توفي هذا الإنسان؟ هذه المسألة تتعلق بجوهر الطب، وددت من صديقنا الدكتور البار حفظه الله وهو بار بدينه وبعلمه أن يوضح لنا هذه القضية فقد أخذتها من مصدر موثوق وهو أستاذ في علم التشريح في جامعة دمشق وعالم فاضل متدين حافظ لكتاب الله، وعلى هذا الأساس فقد انتهى النقاش في هذه المسألة بالنسبة لقضية الموت. متى وجدت هذه المادة، فقد مات الإنسان سواء مات دماغه أو مات قلبه ودماغه معا، فقد انتهى زيته من الدنيا وبدأت حياته الأخروية. أما قضية زرع الأعضاء فمسالة أخرى تترب على هذه المسألة وبينهما تداخل ولكن ما أظن الآن الوقت يتسع لها. وشكرا الرئيس: شكراَ وبهذا على وجهة النظر التي أبديتها وقد لمست موافقة أصحاب الفضيلة ترفع الجلسة وأرجو من الأمانة الاهتمام في هذا الموضوع كعادتها. وشكرا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم 7 بشان أجهزة الإنعاش أما بعد: فان مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني من 10 -16 ربيع الثاني 1406 هـ / 22 – 28 ديسمبر 1985م بعد أن نظر فيما قدم من دراسات فقهية وطبية في موضوع " أجهزة الإنعاش " وبعد المناقشات المستفيضة، وإثارة متنوع الأسئلة، وخاصة حول الحياة والموت نظراَ لارتباط فك أجهزة الإنعاش بانتهاء حياة المنعش. ونظرا لعدم وضوح كثير من الجوانب. ونظرا لما قامت به جمعية الطب الإسلامي في الكويت من دراسة وافية لهذا الموضوع، يكون من الضروري الرجوع إليها. قرر: أولا: تأخير البت في هذا الموضوع إلى الدورة القادمة للمجمع. ثانيا: تكليف الأمانة العامة بجمع دراسات وقرارات مؤتمر الإسلامي في الكويت وموافاة الأعضاء بخلاصة محددة واضحة له. والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 التأمين وإعادة التأمين فضيلة الدكتور وهبة الزحيلي تعريف عقد التأمين: عرف القانون المصري (م747) والقانون السورى (م713) وغيرهما التأمين بأنه "عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلي المؤمن له المستأمن أو إلي المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغا من المال، أو إيرادا مرتبا، أو أي عوض مالى آخر في حالة وقوع الحادث، أو تحقق خطر مبين في العقد، وذلك في مقابل قسط، أو أية دفعة أخرى يؤديها المؤمن له إلي المؤمن". يظهر من هذا التعريف اتجاهه إلي بيان عقد التأمين التجاري التبادلي الذي يقوم به عاقدين: المؤمن وهو شركة التأمين. والمستأمن وهو المتعامل مع الشركة، مقابل قسط ثابت هو قسط التأمين، وأخذ عوض هو عوض التأمين عند حصول الخطر أو الحادث المؤمن عليه، وهو من العقود الاحتمالية وعقود المعاوضات المالية، لكن لا يلزم في العقد الاحتمالي الحصول على العوض أحيانا، وليس العوض تبرعا من المؤمن. ويتبين من التعريف أيضا أن التأمين من عقود الغرر، إذ لا يعرف وقت العقد مقدار ما يعطى كل واحد من العاقدين أو يأخذ، فقد يدفع المستأمن قسطا واحدا من الأقساط، ثم يقع الحادث، وقد يدفع جميع الأقساط، ولا يقع الحادث. وهو كذلك عقد من عقود التراضي، وملزم للطرفين، ومن عقود المدة، فلا بد من زمن لتنفيذ التزامات الطرفين، وعقد من عقود الاذعان، لأن المستأمن يخضع لشروط وقيود محددة سلفا من قبل شركات التأمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 أنواع التأمين: التأمين من حيث الشكل نوعان: 1- تأمين تعاوني: وهو أن يشترك مجموعة من الأشخاص بدفع مبلغ معين، ثم يؤدى من الاشتراكات تعويض لمن يصيبه ضرر. 2- تأمين تجاري أو التأمين ذو القسط الثابت، وهو المراد عادة عند إطلاق كلمة التأمين، وفيه يلتزم المستأمن بدفع قسط معين إلي شركة التأمين القائمة على المساهمة، على أن يتحمل المؤمن (الشركة) تعويض الضرر الذي يصيب المؤمن له أو المستأمن. فإن لم يقع الحادث فقد المستأمن حقه في الأقساط، وصارت حقا للمؤمن. وهذا النوع ينقسم من حيث موضوعه إلي: 1- تأمين الأضرار: وهو يتناول المخاطر التي تؤثر في ذمة المؤمن له، لتعويضه عن الخسارة التي تلحقه. وهذا يشمل: التأمين من المسؤولية: وهو ضمان المؤمن له ضد مسؤوليته عن الغير الذي أصيب بضرر، مثل حوادث السير، والعمل. والتأمين على الأشياء: وهو تعويض المؤمن له عن الخسارة التي تلحقه في ماله، بسبب السرقة أو الحريق، أو الفيضان، أو الآفات الزراعية ونحو ذلك. 2- وتأمين الأشخاص: وهو يشمل: التأمين على الحياة: وهو أن يلتزم المؤمن بدفع مبلغ لشخص المتسأمن أو للورثة عند الوفاة، أو الشيخوخة، أو المرض أو العاهة، حسب مقدار الإصابة. والتأمين من الحوادث الجسمانية: وهو أن يلتزم المؤمن بدفع مبلغ معين إلي المؤمن له في حالة إصابته أثناء المدة المؤمن فيها بحادث جسماني، أو إلي مستفيد آخر إذا مات المستأمن. والتأمين من حيث العموم والخصوص ينقسم إلي قسمين: 1- تأمين خاص أو فردي: وهو التأمين الخاص بشخص المستأمن من خطر معين. 2- تأمين اجتماعي أو عام: وهو الذي يشمل مجموعة من الأفراد يعتمدون على كسب عملهم، من أخطار معينة كالمرض والشيخوخة والبطالة والعجز. وهذا في الغالب يكون اجباريا، ومنه التأمينات الاجتماعية، والصحية والتقاعدية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 موقف الفقه الإسلامي من التأمي: لا شك في جواز التأمين التعاوني في منظار الفقهاء المسلمين المعاصرين، لأنه يدخل في عقود التبرعات، ومن قبيل التعاون والمطلوب شرعا على البر والخير لتفتيت الأخطار، والاشتراك في تخفيض الضرر عند وقوع الحوادث، لأن كل مشترك يدفع اشتراكه بطيب النفس، لتخفيف آثار المخاطر، وترميم الأضرار التي تصيب أحد المشتركين، أيا كان نوع الضرر، سواء في التأمين على الحياة، أو الحوادث الجسمانية، أو على الأشياء بسبب الحريق أو السرقة أو موت الحيوان، أو ضد المسؤولية من حوادث السيارات، أو حوادث العمل، ولأنه لا يستهدف تحقيق الأرباح، وإنما المراد توزيع الأخطار والمساهمة في تحمل الضرر. وعلى هذا الأساس نشأت شركات التأمين التعاوني في السودان وغيره، ونجحت في مهامها وأعمالها، بالرغم من وصف القانونيين لها بأنها بدائية محضة. كذلك يجوز التأمين الإجباري أو الألزامى الذي تفرضه الدولة، لأنه بمثابة دفع ضريبة للدولة، كالتأمين المفروض على السيارات ضد الغير. ولا مانع من جواز التأمين الاجتماعي ضد الطوارئ: العجز والشيخوخة والمرض والبطالة والتقاعد عن العمل الوظيفي، لأن الدولة مطالبة برعاية رعاياها، ومسؤولة عنهم في مثل هذه الأحوال، ولخلوه من الربا، والغرر، والمقامرة. وقد أجاز مؤتمر علماء المسلمين الثاني في القاهرة عام 1385 هـ /1965م، ومؤتمر علماء المسلمين السابع عام 1392هـ/1972م كلا من التأمين الاجتماعي والتأمين التعاوني، وهو ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة عام 1398هـ/1978م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 أما التأمين التجاري أو التأمين ذو القسط الثابت: فهو غير جائز شرعا، وهو رأى أكثر الفقهاء في العصر الحاضر، وهو ما قرره المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي في مكة المكرمة عام 1396هـ/1976م، والسبب في عدم الجواز يكاد ينحصر في أمرين: هما الغرر والربا. أما الربا: فلا يستطيع أحد إنكاره، لأن عوض التأمين ناشيء عن مصدر مشبوه قطعا، لأن كل شركات التأمين تستثمر أموالها في الربا، وقد تعطي المستأمن (المؤمن له) في التأمين على الحياة جزءا من الفائدة، والربا حرام قطعا في الإسلام. والقائلون بجواز عقد التأمين يرفضون صراحة استثمار شركات التأمين في معاملات ربوية، ولا يقرون للمستأمن أن يقبض شيئا من الفوائد التي تدفعها شركة التأمين. والربا واضح بين العاقدين: المؤمن والمستأمن، لأنه لا تعادل ولا مساواة بين أقساط التأمين وعوض التأمين، فما تدفعه الشركة قد يكون أقل أو أكثر، أو مساويا للاقساط، وهذا نادر. والدفع متأخر في المستقبل، فإن كان التعويض أكثر من الأقساط، كان فيه ربا فضل وربا نسيئة، وإن كان مساويا ففيه ربا نسيئة، وكلاهما حرام. فإن قيل: أن التأمين التعاقدى قائم على أساس التعاون لجبر الضرر، وترميم الأضرار والمصائب، فلا يكون فيه ربا أو شبهة ربا، أجيب: بأن المستأمن يستهدف أحيانا المراباة، ويبقى الربا قائما في عوض التأمين، لأنه حصيلة الفوائد والمعاملات الربوية. أما الغرر: فواضح في التأمين، لأنه من عقود الغرر: وهي العقود الاحتمالية المترددة بين وجود المعقود عليه وعدمه، وقد ثبت في السنة حديث صحيح، رواه الثقات عن جمع من الصحابة: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر " (1) .   (1) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 ويقاس على البيع عقود المعاوضات المالية، فيؤثر الغرر فيها، كما يؤثر في عقد البيع. وعقد التأمين مع الشركات من عقود المعاوضات المالية، لا التبرعات، فيؤثر فيه الغرر، كما يؤثر في سائر عقود المعاوضات المالية، وقد وضعه رجال القانون تحت عنوان "عقود الغرر" لأن التأمين لا يكون إلا من حادث مستقبل غير محقق الوقوع، أو غير معروف وقوعه، فالغرر عنصر لازم لعقد التأمين. والغرر في التأمين في الواقع كثير، لا يسير، ولا متوسط، لأن من أركان التأمين: الخطر، والخطر حادث محتمل لا يتوقف على إرادة العاقدين، والمؤمن له لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ، فقد يدفع قسطا واحد ويقع الخطر، فيستحق جميع ما التزم به المؤمن، وقد يدفع جميع الأقساط، ولا يقع الخطر، فلا يأخذ شيئا. وكذلك حال المؤمن، لا يعرف عند العقد مقدار ما يأخذ، أو ما يعطي، وإن كان يستطيع إلي حد كبير معرفة كل ذلك بالنسبة لجميع المؤمن لهم، بالاستعانة بقواعد الإحصاء الدقيقة، وبحث الأحوال الاجتماعية لشخص المستأمن وظروفه وأوضاعه. وما قد يقال من اعتماد شركة التأمين على حسابات دقيقة تنتفي معها صفة الاحتمال والغرر والغبن في الظروف العادية، لا يبيح التأمين، لأن انتفاء الغرر بالنسبة للمؤمن وحده لا يكفى لانتفاء الغرر من عقد التأمين، فلا بد من انتفائه بالنسبة للمستأمن أيضا، والفقه الإسلامي لا ينظر إلي مجموع العقود التي تبرمها شركات التأمين، وإنما ينظر في الحكم على العقد صحة وفسادا إلي كل عقد على حدة. والقول بأنه لا غرر ولا احتمال بالنسبة للمستأمن، لأن محل العقد في التأمين هو الأمان دون توقف على الخطر، وقد حصل عليه عند دفع القسط الأول، هو قول باطل، لأن الأمان هو الباعث على عقد التأمين، وليس هو محل العقد، ومحل العقد: هو ما يدفعه كل من العاقدين: المؤمن والمستأمن، أو ما يدفعه أحدهما. وقلنا: أن الأمان هو المحل، لكان عقد التأمين باطلا، لأن المحل يلزم أن يكون ممكنا غير مستحيل، والأمان يستحيل الالتزام به، ومحل عقد المعاوضة، كما تدل الأحاديث الناهية عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وتأمن العاهة، يجب أن يكون موجودا وقت التعاقد، وأن يكون في حال يمكن معها الانتفاع منه على وجه المقصود في العقد أو المعتاد, فإن لم يكن كذلك ,أو كان معدوما ,ولو محتمل الوجود في المستقبل, فلا يجوز شرعا، ومحل التأمين احتمالي الوجود، إذ هو ما يدفعه كلا العاقدين، أو ما يدفعه أحدهما كالتعويض الذي يدفعه المؤمن (شركات التأمين) حين وقوع الضرر أو الموت حسب شروط العقد. والحاجة التي من أجلها يجوز العقد المشتمل على الغرر، ولو كان كثيرا: (وهي أن يشترط فيها أن تكون عامة أو خاصة، وأن تكون متعينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 أما الحاجة العامة: فهي ما يكون الاحتياج فيها شاملا لجميع الناس. وأما الحاجة الخاصة: فهي ما يكون الاحتياج فيها خاصا بطائفة من الناس كأهل بلد أو حرفة، ومعنى كون الحاجة متعينة: أن تنسد جميع الطرق المشروعة للوصول إلي الغرض، سوى ذلك العقد الذي فيه الغرر. ولو سلمنا بوجود الحاجة للتأمين في الوقت الحاضر، فإن الحاجة إليه غير متعينة، إذ يمكن تحقيق الهدف منه بطريق التأمين التعاوني القائم على التبرع، وإلغاء الوسيط المستغل لحاجة الناس، والذي يسعي إلي الربح، وهو شركة الضمان، فيكون التأمين عقد معاوضة مشتملا على غرر كثير من غير حاجة متعينة في الإسلام، فيمنع. وإذا سلمنا بكون الحاجة متعينة، جاز التأمين بالقدر الذي يزيل الحاجة فقط، عملا بالقاعدة الشرعية: الحاجة تقدر بقدرها. ومما يدل على فساد التأمين: أن الغرر المفسد للعقد يشترط فيه أن يكون المعقود عليه أصالة وهذا متحقق في عقد التأمين التجاري. ويفهم من اشتمال التأمين على الغرر اشتماله أيضا على الجهالة، والجهالة في البدلين بارزة في التأمين، وهي جهالة مقدار ما يدفعه كل من طرفي العقد (المؤمن والمستأمن) للآخر، وهو قابل للكثرة والقلة، بل أن ما يدفعه المؤمن بدلا أو عوضا عن الضرر أو الهلاك على خطر الوجود، والخطر الذي هو مسوغ العقد قد يقع وقد لا يقع، وكل هذا يجعل الجهالة فاحشة كثيرة تؤدي إلي إبطال العقد. ويكون عقد التأمين ممنوعا شرعا لاشتماله على فاحش الغرر والجهالة، ولا يؤبه بالعلم بمبلغ كل قسط عند حلول ميعاده، فهو صحيح انه مبلغ معلوم، لكن كمية الأقساط هي التي فيها الجهالة، ورضا المؤمن بدفع التعويض عند وفاة المستأمن أو حدوث حادث له، ضمن مدة محددة بالعقد، مهما بلغ عدد الأقساط قلة وكثرة، لا قيمة له، لأنه رضا مخالف لقواعد الشرع ونصوصه المانعة من الغرر، كالرضا في القمار أو الزنا، لا يحل واحد منهما، لأن الحرام لا ينقلب مباحا باتفاق الناس عليه أو رضاهم به. وكون الجهالة فاحشة فإنها تؤثر في العقد وتبطله، ولو لم تفض إلي المنازعة، أما الجهالة اليسيرة غير المفضية إلي النزاع عادة فهي المغتفرة، والجهالة في التأمين أفحش مما صوره الفقهاء للجهالة الفاحشة المفضية إلي النزاع وإفساد عقد البيع مثلا، كبيع الفجل والجزر في الأرض، فهذان موجودان في الأرض، لكنهما مجهولان على طريق الظهور والعلم، أما في التأمين فبدل الهلاك أو عوض التأمين مرجوح الوجود، قد يحدث وقد لا يحدث، وهذا احتمال يضعف مشروعية العقد. لكل ما سبق وغيره من الموانع لا يحل للتاجر وغيره من المستأمنين أخذ بدل الهالك من مال "السوكرة" أو التأمين، لأنه مال لا يلزم من التزم به، كما ذكر ابن عابدين، ولأن اشتراط الضمان عل الأمين باطل كما قرر فقهاء الحنفية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 إعادة التأمين أو التأمين المركب: إن مبدأ التعاون في التأمين يحقق بتحزئة المصائب وتوزيع نتائجها على اكبر عدد ممكن، فبقدر ما يزداد عدد المستأمنين تزداد تجزئة الأضرار وتوزيعها، فهى عملية تفتيت وتشتيت للأضرار المؤمن منها، ولهذا التشتيت وسائل كثيرة، منها ما يسمى بإعادة التأمين أو التأمين المركب، حيث تلجأ شركة التأمين نفسها إلي التأمين مما يلحقها من تعويضات لدى الشركات عالمية كبرى. وإعادة التأمين له حكم أصل التأمين، فيجوز لشركات التأمين التعاوني التأمين لدى شركات تعاونية أخرى. أما إعادة التأمين التجاري فتطبق عليه أحكام التأمين التجاري ذاته؛ فهو عقد تأمين تجاري يكون المستأمن فيه شركات التأمين بدلا من الأفراد. وضوابط الغرر المؤثر والمفسد للعقد (وهي كون الغرر في عقد معاوضة، وكونه كثيرا، وكون المعقود عليه أصالة، وألا تدعو إلي العقد حاجة) تقتضى بمنع إعادة التأمين، إلا إذا دعت إليه الحاجة المتعينة، كما ذكرت هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي في السودان في الفتوى رقم 16و17، أي هل تكون شركات التأمين في مشقة وحرج إذا لم تتعامل مع شركات إعادة التأمين؟ ترى هذه الهيئة وأؤيدها في فتواها جواز إعادة التأمين، لوجود الحاجة المتعينة كما قدر خبراء البنك، بالشروط التالية التي سموها بالملحوظات والتحفظات: 1- أن يقلل ما يدفع لشركة اعادة التأمين إلي أدني حد ممكن (وهو القدر الذي يزيل الحاجة) عملا بقاعدة الحاجة تقدر بقدرها. وتقدير ما يزيل الحاجة متروك لخبراء البنك. 2- ألا تتقاضي شركة التأمين التعاوني عمولة أرباح، ولا أية عمولة أخرى من شركة إعادة التأمين. 3- ألا تحتفظ شركة التأمين التعاوني بأي احتياطات عن الأخطار السماوية، لأن حفظها يترتب عليه دفع فائدة ربوية لشركة إعادة التأمين. 4- ألا تدخل شركة التأمين التعاوني في طريقة استثمار شركة إعادة التأمين لأقساط إعادة التأمين المدفوعة لها، وألا تطالب بنصيب في عائد استثماراتها، وألا تسأل عن الخسارة التي تتعرض لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 5- أن يكون الاتفاق مع شركة إعادة التأمين لأقصر مدة ممكنة. 6- أن تعمل شركة التأمين التعاوني على إنشاء شركة إعادة تأمين تعاوني، تغنيه عن التعامل مع شركات إعادة التأمين التجاري. هذا ما أدين الله عليه، وما أزال أستغرب وأستهجن كلام القائلين بمشروعية التأمين التجاري، ولم أجد حاجة لتفنيد أدلتهم، فقد كثر الرد عليها في المجالات والمؤلفات والبحوث والمؤتمرات، بدءا من أسبوع الفقه الإسلامي بدمشق من 1 إلي 6 نيسان 1961، وانتهاء بقرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الأولي المنعقدة في 10 شعبان 1398 هـ بمكة المكرمة، بمقر رابطة العالم الإسلامي، ومن أراد الطمأنينة القلبية لحرمة التأمين، وإبطال حجج القائلين بالجواز، فليرجع إلي بحوث الأسبوع المذكور في دمشق، وإلى قرار مجمع الفقه بمكة المكرمة، والله يهدينا سواء السبيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 التأمين وإعادة التأمين فضيلة الشيخ رجب التميمى عقد التأمين – حكمه بنوعيه التجاري والتامين على الحياة عقد التأمين من العقود التي لا يوجد لها أحكام خاصة في الشريعة الإسلامية ولم يبحثه الفقهاء المسلمون المتقدمون لأن نظام التأمين نظام حديث نقل إلينا من الغرب مع ما نقل من أنظمة وقوانين. وأول من كتب عن هذا النظام من الفقهاء المسلمين ابن عابدين رحمه الله فقد ذكر ابن عابدين في كتاب المستأمن من كتاب الجهاد أحكام التجار الأجانب الذين يدخلون دار الإسلام مستأمنين فذكر ما يلي: جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركبا من حربى يدفعون له أجرته ويدفعون له أيضا مالا معلوما لرجل منهم يقيم في بلاده يسمى ذلك مال (سوكره) على أنه مهما هلك من المال الذي في المركب بحرق أو غرق أو نهب أو غيره فذلك الرجل ضامن له بمقابلة ما يأخذه منهم وله وكيل عنه مستأمن في دارنا يقيم في بلاد السواحل الإسلامية بإذن السلطان يقبض من التجار (مال السوكره) وإذا هلك من مالهم في البحر شيء يؤدي ذلك المستأمن للتجار بدله تماما، ثم قال ابن عابدين: والذي يظهر له انه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله لأن هذا التزام ما لا يلزم. وابن عابدين بتعليله أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله لأنه التزام ما لا يلزم. أي أن المؤمن الذي أسماه (صاحب السوكرة) وهو المعروف الآن بشركات التأمين قد ألزم نفسه بدفع ماله تعويضا للتاجر الخاسر بأنه التزام لم يلزمه الشرع بذلك وما لا يلزم الشرع به لا يحل أخذه. وقد اعتبر ابن عابدين مسألة التأمين كالوديع أو المستعير أو المستأجر إذا اشترط عليهم في عقد هذا الإيداع أو الإعارة أو الإجارة ضمان قيمة الوديعة أو العارية أو المأجور إذا هلك قضاء وقدرا دون قصد ولا تقصير فإن هذا الضمان لا يصح كما هو في المذهب الحنفي. وابن عابدين تحدث عن التأمين البحري لأنه كان أول تأمين ظهر في البلاد الإسلامية بسبب النشاط التجاري بين الغرب والبلاد الإسلامية، وهذا ينطبق تماما على التأمين التجاري والمالي في الوقت الحاضر. وقد ذكر الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتى الديار المصرية الأسبق المتوفى سنة 1935 رحمه الله في التأمين ما يلى: إن المقرر شرعا أن ضمان الأموال إما أن يكون بطرق الكفالة أو بطريق التعدى أو الإتلاف، أما الضمان بطريق عقد الكفالة فليس متحققا هنا لأن شرطه أن يكون المكفول به وبنا صحيحا لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء أو عينا مضمونة بنفسها بل يجب على المكفول عنه تسليمها بعينها للمكفول له فإن هلكت ضمن مثلها في المثليات وقيمتها في القيميات والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} أي كفيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 وعلى ذلك لابد من كفيل يجب عليه الضمان ومن مكفول له يجب تسليم المال المضمون إليه ومكفول عنه يجب تسليم المال عليه ومن مكفول به يجب تسليمه للمكفول له وبدون ذلك لا يتحقق عقد الكفالة والتأمين لا تنطبق عليه شروط الكفالة. وأما الضمان بطريق التعدي أو لإتلاف فالأصل فيه قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وشركات التأمين لم يتعد واحد منهم على ذلك المال ولم يتلفه ولم يتعرض له بأدنى ضرر بل أن المال الهالك هلك بالقضاء والقدر ولو فرض وجود متعد أو متلف فالضمان عليه دون غيره فلا وجه حينئذ لضمان شركات التأمين من هذا الطريق أيضا. ويتبين من ذلك أن الضمان لا يجب على أحد إلا عند وجوب سبب يقتضي وجوبه شرعا ولم يوجد هنا سبب يوجب الضمان على شركات التأمين لأن هلاك المال المؤمن عليه لا يكون بتعد من شركة التأمين فلا مجال لإيجاب الضمان عليه إذا هلك المال المؤمن عليه لعدم توفر أسباب الضمان شرعا. وعلى ذلك فإن عقد التأمين عقد فاسد شرعا وذلك لأنه معلق على حظ تارة يقع وتارة لا يقع فهو قمار فلا يحل للمؤمن شرعا أن يأخذ بدل المال الهالك فهو حرام شرعا. أما التأمين على الحياة أيضا فهو حرام شرعا وهو عقد فاسد فيه مخاطرة ومقامرة وربا لأن المؤمن له قد يموت قبل إيفاء جميع الأقساط وقد يموت بعد دفع بعض الأقساط أو قسط واحد منها، وقد يكون المبلغ الباقي عظيما جدا لأن مبلغ التأمين موكل تقديره إلي طرفى العقد على ما هو معلوم فإذا أدت شركة التأمين المبلغ المتفق عليه كاملا لورثته أو لمن جعل له المؤمن له ولاية قبض ما التزمت به الشركة بعد موته ففي مقابل أي شيء دفعت الشركة هذا المبلغ؟ أليس هذا مخاطرة وقمارا؟ وإذا لم يكن هذا مقامرة ففي أي شيء تكون المقامرة. على أن المقامرة حاصلة من ناحية أخرى فإن المؤمن له بعد أن يوفى جميع ما التزمه من الأقساط فإنه يأخذ المبلغ الذي دفعه كاملا مع الأرباح الربوية أليس هذا مقامرة وربا؟ وإذا مات قبل أن يوفيها كلها يكون لورثته المبلغ المتفق عليه بين الشركة والمؤمن له. أليس هذا قمارا ومخاطرة؟ حيث لا علم له ولا للشركة بما سيكون من الأمرين على التعيين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 فعقد التأمين على الحياة أيضا عقد فاسد شرعا لأنه كما ذكرت عن مقامرة وربا ومخاطرة لأن تعاملها على مجهول فالمؤمن يدفع المبلغ المتفق عليه بعد موت المؤمن له لورثته والمؤمن له يكون له ما دفعه من الأرباح الربوية أن أدى جميع الأقساط وإن مات قبل أن يوفيها تدفع الشركة المبلغ المؤمن عليه لورثته. فالأمر الأول مخاطرة وقمار وربا، والأمر الثاني مخاطرة وقمار. فعقد التأمين بنوعيه: التأمين المالي التجاري والتأمين على الحياة من العقود الاحتمالية لا يستطيع فيه كل من المتعاقدين أو أحدهما وقت إبرام عقد التأمين معرفة مدى ما يأخذ أو ما يعطي ولا يعرف إلا في المستقبل نتيجة لأمر غير محقق الحصول أصلا ولا يعرف وقت حصوله أن حصل. فعقد التأمين عقد غرر والمصادفة تلعب دورها في التزام كل من المؤمن والمؤمن له لجهالة وقوع الخطر وتاريخه فكلا الطرفين معرض للربح والخسارة على أساس احتمالي وعلى غير نسبة معقولة فهو عقد غرر. وهذا الغرر كثير وفاحش والغرر الكثير يكون مفسدا للعقد. على أن عقد التأمين كثيرا ما يؤدي إلي النزاع لأن الغالب عندما تحصل الحادثة فإن المؤمن يتهم المؤمن له عن أسبابها وافتعالها لكي يحصل على المبلغ المؤمن له ومن الحوادث التي أدت إلي النزاع ما ذكرته جريدة الجمهورية القاهرية في عددها الصادر يوم الأحد 24 من يناير 1960 من أن البوليس الأمريكي قبض على الدكتور روبرت سيرص 65 سنة وكان الاعتقاد السائد أنه قتل منذ شهرين في حادث طائرة. كان الطبيب قد حجر لنفسه مكانا في هذه الطائرة ولكنه أقنع في آخر لحظة صديقا له بالسفر بدلا منه. واختفى وسقطت الطائرة وقتل ركابها جميعا وعددهم 42 وتبين أنه كان قد أمن على حياته بمبلغ 37700 دولار لصالح أولاده قبل سقوط الطائرة بعشرة أسابيع اتهمه البوليس بنسف الطائرة للحصول على التأمين. كيف رأيت أن عقد التأمين يؤدي إلي ارتكاب الجرائم في بعض الأحيان وأي ضرر أشد على المجتمع من هذه الضرر وسد الذرائع مقدم على جلب المصالح، على أن النزاع مستمر بين شركات التأمين والمؤمن له ومن أراد أن يتأكد من آثار هذا العقد الفاسد في النزاعات والخلاف فليطلع على سجلات المحاكم في كل مكان. لذلك كان عقد التأمين عقدا فاسدا بنوعيه والمال المأخوذ مال حرام لا يجوز أخذه شرعا. والله أسال أن يهدينا سبيل الرشاد ويوفقنا لمرضاته إنه سميع الدعاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 خلاصة في التأمين الشيخ محمد علي التسخيري أنواع التأمين: للتأمين أنواع: فمنه التأمين التجاري المتداول حيث تقوم شركات التأمين بالتأمين على الحياة والمال وأمثال ذلك. ومنه التأمين التعاوني حيث تتفق مجموعة على وضع رؤوس أموالها في صندوق تعاوني مشترك لجبران الخسارة الواردة عليها. والذي وقع مورد الاعتراض هو التأمين التجاري دون التعاوني، وكذلك دون التأمين التجاري الذي تقوم به الدولة باعتبار أنه يعود بالتالي لمصلحة المجتمع. الاعتراضات التي تذكر على عقد التأمين التجاري: أولا – الغرر: إذا المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطى أو يأخذ فقد يدفع قسطا أو قسطين ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم به المؤمن، وقد لا تقع الكارثة. وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر (رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة) . ويقاس على البيع عقود المعاوضات المالية فيؤثر الغرر فيها وقد صنفه علماء القانون في (عقود الغرر) . والخطر حادث محتمل لا يتوقف على إرادة العاقدين. والغرر المفسد للعقد يشترط فيه أن يكون المعقود عليه أصالة وهذا متحقق في عقد التأمين التجاري. ويفهم من الغرر اشتماله على الجهالة في البدلين ولا قيمة لرضا أي من الطرفين لأنه مخالف لقواعد الشرع. وقد قيل أن الغرر هنا فاحش مؤد إلي النزاع. والجواب: تارة على مبنى الشيعة بعدم التعميم لاعتبار عدم الغرر لعدم صحة القياس وحينئذ فلا تبقى مشكلة مستعصية. وأخرى على مبنى التعميم من خلال القياس أو من خلال ما روي عن نهيه صلى الله عليه وسلم عن الغرر مطلقا وحينئذ أجاب عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 1- الدكتور الزرقاء بما ملخصه: "الغرر هو الخطر والمراد به أن يكون البيع قائما على مخاطرة أشبه بالقمار والرهان بحيث تكون نتائجه ليست معاوضة محققه للطرفين بل ربحا لواحد وخسارة لآخر بحسب المصادفة وإذا نظرنا لتطبيقات النبي صلى الله عليه وسلم للغرر من النهي عن بيع الملاقيح (ما ستنتجه إناث الإبل الأصلية) وضربة القانص (ما ستخرجه شبكة الصياد من سمك أو حيوان) وبيع الثمار على الأشجار في بداية انعقادها. كما قدر الفقهاء عدم صحة بيع الأشياء غير مقدورة التسليم كبيع طائر في الهواء هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن عنصر المقامرة والاحتمال حالة طبيعية مشروعة في التجارة والزراعة والكفالة، وهناك عقد الإحالة على المعاش قبله الفقهاء مع اشتماله على الغرر وحينئذ نستنتج أن الغرر المنهي عنه هو نوع فاحش متجاوز للحدود الطبيعية بحيث يجعل العقد كالقمار المحض وهذا لا ينطبق على التأمين. فهو عقد له غاية محدودة محققة النتيجة فور عقده. والتامين فيه عنصر احتمالي بالنسبة للمؤمن من حيث وقوع الخطر ثم أن هذا العنصر يزول بملاحظة مجموع عقود التأمين، أما المستأمن فلا خطر محتمل لديه إذ لو لم يقع الخطر واضح وإلا فالتعويض فالمعاوضة قائمة بن الأمان والأقساط ثم راح يوضح أن عنصر الاحتمال قد قبله فقهاؤنا في الكفالة فلو قال (تعامل مع فلان وما يثبت لك عليه من حقوق فأنا كفيل به "صحت الكفالة ولو صرح بالخطر" أن فلس مدينك فلان فأنا كفيله) . وعليه فمع وقوع الغرر فهو غرر غير ممنوع شرعا. وأيده في أن الغرر هنا لا يمنع الشيخ على الخفيف لأنه لا يؤدي إلي النزاع ورد عليه البعض بأنه أدى في بعض الحالات إلا أن الجواب واضح فإن المراد الحديث عن نوع الغرر هنا. ثم أكد أنه على فرض وجود الغرر الكثير فإن الحاجة قائمة فيه وأجابهم الآخر بأن التأمين التعاوني بديل لرفع الحاجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 وأجابه الآخرون! فماذا تقولون في البلاد التي ليس فيها تأمين تعاوني وذكرت هنا بعض النصوص لذلك. وأجاب البعض بأن الغرر هو الجهالة والممنوع منها هو جهالة المعاملة كعدم معلومية العوض لا مطلق الجهل وإلا لشمل المزارعة والمساقاة والشركة وكذلك استئجار الأجير للخدمة في البيت مع عدم معلوميتها إذ قد لا يرد الضيف ثم قد يندفع الغرر بالمشاهدة كبيع الصوف على ظهر الغنم ويقول الإمام: أن الظاهر من النهي عن بيع الغرر هو ما كان الغرر في نفس ما تقع المبادلة عليه أي ذات الثمن وذات المبيع. (البيع ص351 ج3) وهنا يقال: إننا نشترط شروط الإمام في ذلك. يضاف إلي ذلك. أنكم جميعا قبلتم التأمين في الشركة التعاونية والتأمين الحكومى وهو مشتمل بلا ريب على الغرر فما الفرق بينهما؟ وهذا ما قرره الدكتور الزرقاء وهو صحيح. فأما أن نقول بتحريم التعاوني أو نسوى بينه وبين التجاري. ثانيا – الربا: ويبدو أن التركيز فيه على التأمين على الحياة بافتراض أنه يدفع للشركة مالا على أن تدفع للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه فهو ربا الفضل والنسيئة وإذا دفعت المساوى فهو من ربا النسيئة أو يقال أن شركات التأمين تستثمر احتياطي أموالها بطريق الربا وأن المستأمن في التأمين على الحياة إذا بقى حيا بعد انقضاء المدة يسترد الأقساط مع فائدتها، وهذا حرام. أما الشبهة الأولي فقد دفعت من قبل الدكتور الزرقاء؛ بأن التأمين على الحياة لو كان بنحو أقساط يدفعها أحدهم على انه إذا توفى خلال مدة معينة التزمت الشركة بدفع مبلغ المعونة وإلا انتهي العقد ولا ترد الأقساط فلا شبهة ربا فيه. وهناك صورة التأمين الادخاري المختلط. ويداخل معظم صوره الربا كأن يدفع المستأمن مبلغا شهريا أو سنويا محددا فيدخر له فإن ظل حيا أخذه وفوائده، وإذا توفى تدفع الشركة لأسرته جميع ما كانت ستعيده إليه خلال مجموع المدة والشركة تربح الفرق بين الفوائد المدفوعة للأسرة والفوائد التي تقرض بها ذلك المال وهذا حرام. إلا أن كل هذا مبنى على جعل التأمين عملية إقراض ولا يأتي في الهبة المعوضة أو الضمان بعوض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 ثالثا – المقامرة: وذلك لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية، ومن الغرم بلا جناية أو تسبب فيها ومن الغنم بلا مقابل أو مقابل غير مكافئ وإذا استحكمت فيه الجهالة كان قمار ودخل في عموم النهى عن الميسر المنهي عنهم أجاب عنه الزرقاء: أن القمار آفة خلقية وشل للقدرة المنتجة ولا يقاس بالتأمين وهو عملية تجارية تعطى للمستأمن طمأنينة من نتائج الأخطار وهو معاوضة مفيدة وليس في القمار معاوضة. رابعا – الرهان: وهو رهان مرفوض شرعا. إلا أن الجواب أن الرهان يعتمد على الحظ والمصادفات وليس في الرهان ترميم للأضرار. خامسا: أخذ مال الغير بلا مقابل، وهذا أمر غريب فكيف ينظر فيه إلي عدم العوضية مع أن العوضية فيه واضحة، ثم أن كونه بلا مقابل على الأقل مشكوك فلا يشمله عموم أكل المال بالباطل لأنه من التمسك بالعام في الشبهات المصداقية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 سادسا: الإلزام بما لا يلزم شرعا، أو بتعبير آخر يعبر عن ضمان ما لم يجب. فالمؤمن لم يحدث الخطر ولم يتسبب في حدوثه. وأجيب عنه: بأن الأمور الاعتبارية قوامها باعتبار العقلاء وقد جرى بناؤهم على صحة الضمان. وقد أفتوا بضمان الدرك ونفوذه في ضمن المعاملة لو ظهر أحد العوضين مستحقا للغير ولو كان الضامن للدرك غير المتعاملين تبرعا أو بأجرة وإن رفض البعض ذلك ومنهم الإمام. قد يقال إنه تعهد ابتدائي غير ملزم. ولكن يجاب بأنه تعهد معامل مستقل. سابعا: وهو ما أضافه الأستاذ أبو زهرة: الصرف الباطل: لأنه بيع دين بدين إذ هو شراء ألف مقسطة بألف غير مقسطة والصرف لا بد فيه من التقابض. ويرد الدكتور الزرقاء بأنه ليس من عقود الصرف الذي موضوع مبادلة نقود بنقود. والواقع انه من الخطأ أن يقال إنه عقد صرف أو بيع دين بدين. ثامنا: إن التأمين يؤدي إلي تعطيل سهم الغارمين، وهذا غريب، ذلك أن وجود هذا السهم لا يعني تشجيع الناس على ترك الاعتماد على أنفسهم وإنما يعني التخفيف عن كاهل الزكاة التي يؤخذ بها في الدرجة الأولي لسد حاجة الفقراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 أساليب التصحيح الأسلوب الأول: أنه عقد مستقل عقلاني مشمول لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} يلزم الوفاء به. فإن الآية القرآنية تشمل كل عقد عرفي ما لم يتناف مع الحدود التي منع الشرع من الاقتراب إليها فكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. وهو مبنى الإمام وغيره من الفقهاء وهذا الأسلوب أكد عليه الدكتور الزرقاء. وليس الناس محصورين في العقود المعروفة. وقد قدر المذهب الحنفي على أن الأصل الإباحة شرعا في العقود الجديدة وقد مر أن الشبهات التي ذكرت كلها باطلة. الأسلوب الثاني: الهبة المعوضة، فهو أسلوب صحيح وتكون الهبة حينئذ لازمة لا يمكن الرجوع فيها إلا أن المتعارف غير هذا الأسلوب. الأسلوب الثالث: الصلح، ولا يرد عليه مسألة الغرر بكل وضوح إلا انه أيضا غير متعارف. الأسلوب الرابع: الضمان المعوض فهو عقد ضمان يلتزم فيه أحد الطرفين بجبران الخسارة لقاء التزام الآخر بعوض. وهذا الأسلوب محتمل، إلا انه يلزم منه القول بجواز ضمان الأجنبي وهو جائز في رأى بعض العلماء وغير جائز في رأى آخرين. كما يجب الالتزام بأنه لا يشترط في الضمان أن يضمن الدين في الذمة بل يمكن ضمان الأعيان حتى لو كانت عند أصحابها. ويستشكل عليه بأنه من قبيل ضمان ما لا يجب، وقد أجبنا عليه من قبل. هذا وقد أفتى بعض الفقهاء بجواز ضمان الدرك ونفوذه في المعاملة لو ظهر أن أحد العوضين مستحق للغير ولو كان الضامن غير المتعاملين وقد تردد صاحب جواهر الكلام في ذلك من جهة عدم ورود النص ولم ينجزه الإمام. وعلى فرض عدم صحة الضمان فما المانع من أن يقدم المؤمن تعهدا فعليا لأداء مال على تقدير التلف فإن اشتراط الفعل في الماليات يوجب تعلق حق للمشروط له على المشروط عليه بحيث لو مات يتعلق بتركته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 ويختلف هذا الضمان بأنه تعهد بالنتيجة وهذا تعهد بالفعل قد يعترض على هذا فيقال: بأنه شرط ابتدائي لا تشمله قاعدة المؤمنون عند شروطهم؛ ولكن يجاب بأن التأمين تعهد معاملى مستقل، وحتى لو كان ابتدائيا فإنه يمكن اشتراطه في ضمن مصالحة بمال ورغم أن القياس مرفوض عندنا؛ إلا أن البعض حاول أن يستأنس لصحة هذا العقد بضمان الجريرة في الإرث بعد حذف الفارق الجوهري بينهما. وفرق البعض بينهما بأن الهدف هنا الاسترباح وهناك التعاون ولكنه غير جوهري. هذا وقد حول الكثيرون قياس هذا العقد على ضمان الجريرة، والوعد الملزم، وضمان المجهول، وضمان ما لم يجب، وضمان خطر الطريق، ونظام التقاعد، ونظام العاقلة، وعقود الحراسة. ورغم عدم إيماننا بالقياس فإنها تصح نقضا على الإشكالات التي أوردها على التأمين من الغرر والجهالة وغير ذلك، حاول البعض الاستدلال بالضرورة وغير ذلك إلا أنها ليست بحجة، وكذا الاستدلال بالعرف فليس هو من الأدلة وإنما يبني عليه من فهم صاحبه، وبالنسبة للربح تكون هناك نسبة مئوية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 شروط صحة عقد الضمان بنظر الإمام: 1- يشترط في الموجب والقابل كل ما يشترط فيهما في سائر العقود. 2- يشترط: - تعيين المؤمن عليه من شخص أو مال أو مرض. - تعيين طرفي العقد المؤمن والمستأمن. - تعيين المبلغ المدفوع من قبل المؤمن. - تعيين الخط الموجب للخسارة. - تعيين المبلغ الذي يدفعه المستأمن. - تعيين زمان التأمين ابتداء وانتهاء. تصحيح التأمين التعاوني: وهذا العقد يمكن تصحيحه بالطرق المذكورة ومنها جعله عقد ضمان "بأن يضمن كل خسارة شركائه بالنسبة في مقابل ضمانهم لخسارته ويكون الأداء من المال المشترك". ولكن الإمام يستظهر فيه الالتزام بجبر الخسارة في مقابل جبرهم للخسارة بنسبة ماله في المال المشترك وهو عقد لازم. ويحتمل أن يكون عقد شركة التزم كل في ضمنه خسارة كل واحد منهم وحينئذ يكون جائزا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 عقود التأمين وإعادة التأمين في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بالفقه الغربي فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور بسم الله الرحمن الرحيم في صراع الحضارات، واختلاف أنماط الحياة، وتوزع الفكر، وتشوش الرؤية، يقف المسلم في مفترق الطرق حائرا لا يدري أين يتجه، وما هو الذي سيؤدي به لشاطئ الأمن، وفي اختلاف المذاهب والآراء تضيع الخاصة من الناس المثقفين بالثقافة العامة فكيف العامة؟ وهنا تظهر مسؤولية أهل العلم لدرس النوازل والوقائع وبيان حكم الشريعة فيها شأن العلماء السابقين سلفنا الطاهر رضوان الله عليهم. وصحيح ما ينادى به بعض الأفاضل من ضرورة الاجتهاد الجماعي ولا سيما الآن، ولكن حتى يحصل هذا المطلوب الكبير لا يجوز لنا أن نقف مكتوفي الأيدي أمام ما يجد من الحوادث، فلكل حادثة حكم شرعي هو حكم الله تعالى فيها علمه من علمه وجهله من جهله. وأهم ما يقف بوجهنا الآن من شؤون الحضارة الحديثة ومشكلاتها (عقود التأمين وإعادة التأمين) ولقد سئلت عن هذا الأمر من جهات متعددة وإنني الآن أعرض ما ظهر لي بعد الدراسة والتمحيص في مراجع الفقه الإسلامي والفقه الغربي ولا أدعي أن ذلك حكم الله تعالى في الأمر بل هو رأيي ورضى الله تعالى عن الإمام أبي حنيفية القائل "علمنا هذا رأيي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه قبلناه". وينبغي أن يكون ذلك دستور العلماء ... والعلماء قد يختلفون وقد يتفقون، ولكن كل واحد منهم يقدر الآخر حق قدره، ويمنحه خالص الود والاحترام، فقديما قالوا: "الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية" فالغرض الرئيسي من هذه الكتابة وأمثالها بيان وجه الحق فقط، فمتي ظهرت أمارات الحق وتحققت المصلحة فثم شرع الله ... وقد عقدت هذه الدراسة على ثلاثة فصول.. كل فصل على حدة ... وخاتمة في البديل الإسلامي، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل. مدينة دمشق الشام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 الفصل الأول عقد التأمين بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي (التصور) مدخل: أولا: تصور الموضوع وتحرير محل الخلاف فيه. ثانيا: أقاويل الفقهاء الإسلاميين في عقد التأمين ونقل خلافهم فيه. مدخل الأمن في اللغة المادة الثلاثية (أم ن) هي مادة واحدة، وإن تعددت صور الاشتقاق؛ فالأمن: ضد الخوف ونقيضه في التنزيل {وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} قرآن كريم. والأمانة؛ ضد الخيانة. والإيمان ضد الكفر، وهو بمعنى التصديق: ضد التكذيب. وأمن فلان يأمن أمنا وأمنا وأمانا فهو أمن والأمنة الأمن، ومنه {أَمَنَةً نُعَاسًا} ؛ وتقول (اوتمن فلان) صار مؤتمنا، و (استؤمن إليه) وظل في أمانة، و (استأمنني فلان فأمنته أومنه إيمانا) أي طلب الأمان. وفي الحديث ((المؤذن مؤتمن)) . ومؤتمن القوم الذي يثقونه ويتخذونه أمينا حافظا) ، والأمين هو الحافظ الحارس الذي يتولى رقابة شيء وقالوا: (أعطيت فلانا من أمن مالي) ، أي من خالص مالي. وقالوا: ما أمن أمنتك وإمنك: أي دينك وخلقك. وفي التنزيل {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} أي الآمن والمراد مكة المكرمة. وقوله {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} أي في أمن من الغير. وقوله {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} وفي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن المسلم والمجاهد والحاج، ثم سأله عن المؤمن فقال عليه السلام: ((المؤمن من ائتمنه الناس على أموالهم وأنفسهم)) . وفي الحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن من أمنه الناس والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هاجر السوء. والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)) . وفي حديث جابر مرفوعا ((ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع)) . قال ثعلب: أن معنى الحديث: ما آمن شديد الإيمان ... وذلك مخافة أن يحمل القول على نفي الإيمان نفيا تاما عنه. وقال ابن الأثير عند الكلام عن اسم الله تعالى (المؤمن) : هو الذي يصدق عباده وعده؛ فهو من الإيمان والتصديق، أو يؤمنه في القيامة من عذابه فهو من الأمان ضد الخوف. قلت؛ وفي هذا من الربط بين الإيمان وبين التراحم بين الناس ما يرق فوق كل شيء، فالأمن والائتمان والاستئمان وكل صور الاشتقاق راجعة كما ترى إلي الإيمان. - لسان العرب ج13 ص 21 وما بعدها. - النهاية في غريب الحديث لابن الأثير الجزرى. - مفردات القرآن لراغب الأصفهاني. - تاج العروس شرح القاموس؛ للزبيدى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 بسم الله الرحمن الرحيم أولا: تصور الموضوع وتحرير محل الخلاف فيه: تصور موضوع التأمين: نظام التأمين وفقا لنظريته العامة في نظر الاقتصاد هو (نظام تعاقدى يقوم على أساس المعاوضة، غايته التعاون على ترميم أضرار المخاطر الطارئة بوساطة هيئات منظمة تزاول عقوده بصورة فنية قائمة على أسس وقواعد إحصائية) (1) وجاء في المادة 713 من القانون المدني المصري القديم و747 من القانون المدني المصري الجديد مع بعض تحوير في الصياغة أن عقد التأمين؛ (هو عقد بين طرفين أحدهما يسمى المؤمن والثاني المؤمن له (أو المستأمن) يلتزم فيه المؤمن بأن يؤدي إلي المؤمن لمصلحته مبلغا من المال أو إيرادا مرتبا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع حادث أو تحقق خطر مبين في العقد، وذلك في مقابل قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له إلي المؤمن) (2) . وفي العصر الحاضر لا يقوم بالتأمين فرد نحو فرد بل تقوم به شركات مساهمة كبيرة يتعامل معها عدد ضخم من المستأمن، فيجتمع لها مبالغ كبيرة من أقساط التأمين، وتؤدي من هذه الأقساط المجتمعة ما يستحق عليها من تعويضات عند وقوع الحوادث المؤمن منها، ويبقى رأس مالها سندا احتياطيا، ويتكون ربحها من الفرق بين ما تجمعه من أقساط وما تدفعه من تعويضات. والتأمين بمعناه الحقيقي المتعارف عليه عقد حديث النشأة في العالم فهو لم يظهر إلا في القرن الرابع عشر الميلادي في إيطاليا حيث وجد بعض الأشخاص الذين يتعهدون بتحمل جميع الأخطار البحرية التي تتعرض لها السفن أو حمولتها نظير مبلغ معين (التأمين البحري) ، ثم ظهر بعده التأمين من الحريق ثم التأمين على الحياة، ثم انتشر بعد ذلك التأمين وتنوع حتى شمل جميع نواحى الحياة فأضحت شركات التأمين تؤمن الأفراد من كل خطر يتعرضون له في أشخاصهم وأموالهم ومسؤولياتهم بل أضحت بعض الحكومات تجبر رعاياها على بعض أنواع التأمين (3) .   (1) عقد التأمين: الزرقاء ص12 (2) عقد التأمين: الزرقاء ص12 (3) التأمين: د. البدراوي ص30 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 - أنواع التأمين: (أ) ينقسم التأمين من حيث شكله إلي تأمين تعاوني، أو تأمين بالاكتتاب، وتأمين بقسط ثابت: 1- التأمين التعاوني (أو التبادلي) (أو بالاكتتاب) : في هذا النوع من التأمين يجتمع عدة أشخاص معرضين لأخطار متشابهة فيدفع كل منهم اشتراكا معينا، وتخصص هذه الاشتراكات لأداء التعويض المستحق لمن يصيبه الضرر، وإذا زادت الاشتراكات على ما صرف من تعويض كان للأعضاء حق استردادها، وإذا نقصت طولب الأعضاء باشتراك إضافي لتغطية العجز، أو أنقصت التعويضات المستحقة بنسبة العجز، وأعضاء شركة التأمين التعاوني لا يسعون إلي تحقيق ربح، بل إلي تخفيف الخسائر التي تلحق بعض الأعضاء، فهم يتعاقدون ليتعاونوا على تحمل مصيبة قد تحل ببعضهم، وتدار الشركة بوساطة أعضائها، فكل واحد منهم يكون مؤمنا ومؤمنا له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 2- التأمين بقسط ثابت: في هذا النوع من التأمين: وهو النوع السائد الآن الذي تنصرف إليه كلمة التأمين لدى إطلاقها، يلتزم المؤمن له بدفع قسط محدد إلي المؤمن، وهو الشركة التي يتكون أفرادها من مساهمين آخرين غير المؤمن لهم، وهؤلاء المساهمون هم المستفيدون بأرباح الشركة، ففي التأمين بقسط ثابت يكون المؤمن له غير المؤمن الذي يسعى دائما إلي الربح، بخلاف التأمين التعاوني الذي لا يسعي إلي الربح أبدا، وإنما غاية أفراده التعاون على تحمل المخاطر، وهذا الهدف الإنساني النبيل لا يوجد إلا في التأمين التعاوني ولا يوجد البتة في التأمين بقسط ثابت ولو قال بذلك بعض رجال القانون كالدكتور السنهوري وغيره، فالفكرة الاسترباحية البحتة هي الأساس هنا والفكرة التعاونية غلاف براق لها فقط. (ب) وينقسم التأمين من حيث موضوعه إلي قسمين رئيسيين: 1- تأمين الأضرار: وهو يتناول المخاطر التي تؤثر في ذمة المؤمن له، والغرض منه تعويض الخسارة التي تلحق المؤمن له بسبب الحادث وهو ينقسم إلي قسمين: - التأمين على الأشياء؛ ويراد به تعويض المؤمن له من الخسارة التي تلحقه في ماله كالتأمين من الحريق والسرقة. - والتأمين من المسؤولية؛ ويراد به ضمان المؤمن له ضد الرجوع الذي قد يتعرض له من جانب الغير بسبب ما أصابهم من ضرر يسأل عن التعويض عنه، وأهم صوره تأمين المسؤولية الناشئة من حوادث السيارات أو من حوادث العمل. وفي تأمين الأضرار يلتزم المؤمن بتعويض المؤمن له عند حدوث الكارثة في حدود مبلغ التأمين، أي أن المؤمن يدفع للمؤمن له أقل المبلغين؛ المبلغ المؤمن به، والمبلغ الذي يغطي الضرر الناشئ عن الحادثة، وليس للمؤمن له أن يجمع بين مبلغ التأمين ودعوى التعويض ضد الآخرين المسؤولين عن الحادث، وإنما يحل المؤمن محل المؤمن له في الدعاوى الكائنة له ضد من تسبب في الضرر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 2- تأمين الأشخاص: وهو يتناول كل أنواع التأمين المتعلقة بشخص المؤمن له، ويقصد به دفع مبلغ معين للإنسان في وجوده أو سلامته، يحدده المؤمن باتفاق بينهما، ولا يتأثر بالضرر الذي يصيب المؤمن له، وللمؤمن له الجمع بين مبلغ التأمين من المؤمن والتعويض ممن تسبب في الضرر، فالمؤمن هنا لا يحل محل المؤمن له. ويشمل تأمين الأشخاص نوعين أساسيين: 1- التأمين على الحياة، وله صورة متعددة أهمها: (أ) التأمين لحالة الوفاة وقد يكون عمريا وقد يكون مؤقتا وقد يكون تأمين البقيا حسب الاشتراط. (ب) التأمين لحال البقاء أو لحال الحياة؛ ومن أمثلته التأمين المضاد. (ج) التأمين المختلط البسيط: وهو أن يلتزم فيه المؤمن بأداء المبلغ المؤمن إما في تاريخ معين للمؤمن له نفسه إذا ظل حيا في هذا التاريخ، وإما إلي المستفيد المعين أو إلي ورثة المؤمن له إذا مات قبل التاريخ، ويكون القسط في هذا النوع اكبر من النوعين السابقين، وهذا النوع هو أكثر شيوعا في التأمين على الحياة. 2- التأمين من الحوادث الجسمانية: وهو النوع الثاني من نوعي التأمين على الأشخاص، ويلتزم فيه المؤمن بدفع مبلغ من المال إلي المؤمن في حالة ما إذا أصابه في أثناء المدة المؤمن فيها حادث جسماني، أو إلي المستفيد المعين إذا مات المؤمن له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 (ج) التقسيم الثالث: تأمين خاص وتأمين اجتماعي: 1- فالتأمين الخاص هو ما يعقده المؤمن على نفسه من خطر معين، ويكون الدافع إليه هو الصالح الشخصي. 2- والتأمين الاجتماعي هو ما كان الغرض منه تأمين الأفراد الذين يعتمدون في معاشهم على كسب عملهم من بعض الأخطار التي يتعرضون لها فتعجزهم عن العمل كالمرض والشيخوخة والبطالة والعجز. وهو يقوم على فكرة (التضامن الاجتماعي) ويشترك في دفع القسط مع المستفيد أصحاب العمل والدولة التي تتحمل هنا العبء الأكبر. (د) التقسيم الرابع: تأمين إجباري وتأمين اختياري: 1- فالأول ما ألزمت به الدولة في قطر رعاياها كالتأمين الاجتماعي مار الذكر والتأمين على السيارات. 2- الثاني ما كان خلاف ذلك (1) . وبعد: فيظهر مما تقدم كله ما يلي: 1- أن عقد التأمين عقد معاوضة في غير التأمين التعاوني. لأن كلا من طرفي العقد يحصل على مقابل لما يؤديه مشروط في العقد. 2- انه عقد احتمالي (2) ، وعقد غرر؛ لأن الغرض منه تحمل خطر غير محقق الوقوع، والاحتمال قد يكون في تاريخ وقوع الحادثة لا في وقوعها أو عدمه؛ أي أن الحادثة قد تكون محققة الوقوع ولكن لا يدري متى تقع كالتأمين على الحياة في حال الوفاة. وقد ذكر القانون المصري والسوري عقد التأمين في ضمن عقود الغرر. إلا أن الدكتور السنهوري يرى في عقد التأمين رأيا آخر. فهو يرى أن تعريف القانون المصري لعقد التأمين الذي أسلفناه قاصر لأنه أهمل جانبا رئيسيا من جوانب العقد الفنية ألا وهو جانب الجماعة المتعاونين (مجموع المؤمن لهم) فيما لم ينظر إلي هذا الجانب بعين العناية من قبل المشرعين يكون العقد كله داخلا في المقامرة والرهان الباطل، هذه نقطة. والنقطة الأخرى انه لم يجعل في شرحه الوسيط عقد التأمين من عقود الغرر لأنه يقف من هذا العقد موقفين متناقضين معا في الوسيط شرح القانون المدني المصري: تعريف جامع مانع ولعل أدق التعريفات وأوفرها حظا من التوفيق عند علماء الاقتصاد ذلك التعريف الذي أورده الأستاذ (هيمار) بكتابه في شرح التأمين فقد عرف التأمين على الوجه التالي: (التأمين عملية يحصل بمقتضاها أحد الطرفين وهو المؤمن له نظير دفع قسط على تعهد لصالحه أو لصالح الغير من الطرف الآخر وهو المؤمن على تعهد بمقتضاه يدفع هذا الأخير أداء معينا عند تحقيق خطر معين وذلك عن طريق تجميع مجموعة من المخاطر وإجراء المعاوضة وفقا لقوانين الإحصاء) .   (1) العقد الاحتمالي (هو العقد الذي لا يستطيع فيه كل من المتعاقدين أو أحدهما وقت العقد معرفة قدر ما يعطي أو يأخذ من العقد) (2) العقد الاحتمالي (هو العقد الذي لا يستطيع فيه كل من المتعاقدين أو أحدهما وقت العقد معرفة قدر ما يعطي أو يأخذ من العقد) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 أركان التأمين: 1- الخطر. 2- القسط. 3- العوض المالي. 4- المصلحة في التأمين. 1- فالخطر: هو الحادث المستقبل الوقوع ولا يتوقف تحققه على محض إرادة المؤمن، أي يقع دون إرادته. 2- القسط: هو المبلغ الذي يؤديه المؤمن له شهريا أو سنويا حسب الاتفاق لتقوم الشركة بمقتضاه بتحمل بقية المخاطر المؤمن ضدها، فالقسط في التأمين بمثابة الثمن في البيع أو الأجرة في الإيجار، فالتأمين التجاري يقوم على بيع الأمن، والأمن لا يباع ولا يشري.. ويشمل القسط ما يوازى قيمة الخطر بالإضافة إلي المصاريف التي تتكلفها الشركة وكذا الأرباح، ويسمى القسط في مجموعه بـ (القسط التجاري) . 3- لعوض المالي وهو إما أن يكون تعويضا يقدر بحسب قيمة الخسارة الناتجة عن تحقق الخطر المؤمن ضده، وإما أن يكون مبلغا محددا نص عليه في عقد التأمين بالعوض يدفع حسبما اتفق عليه بين المؤمن والمؤمن له. 4- المصلحة في التأمين: يكون محلا للتأمين كل مصلحة اقتصادية مشروعة وجدية تعود على الشخص من عدم وقوع خطر التأمين فقد تعرض لوجود الغرر في عقد التأمين في موضعين من كتابه (الوسيط) فبدا في أحد الموضعين وكأنه يسلم بوجود الغرر في عقد التأمين ولكنه يجوزه للضرورة، أي في الموضع الآخر فقد نفى الغرر عن التأمين ولكن نفيه عنه كان منصبا على الجانب الفني من التأمين لا على الجانب القانوني وسنناقش هذا الرأي والذي قبله فيما بعد إن شاء الله (1) .   (1) الوسيط 7: 1089، و7: 1140 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 شبهته وردها: يرى البعض من الفقهاء المعاصرين أن اختلاف مفهوم نظام التأمين لدى علماء الشريعة وعلماء القانون هو السبب الرئيسي في اختلاف حكمهم عليه، فالماثل في أذهان علماء القانون تعاونية العقد وتضامنيته وانضباطه تحت قواعد العدل والحق، وفقهاء الشريعة الإسلامية يرون انه عقد ربوى قائم على الرهان والميسر (1) . والحق أن هذا غير صحيح لأن مفهوم العقد هذا واحد عند الجميع، حيث لا يتصور فقهاء الشريعة هذا العقد إلا كما يصوره لهم فقهاء القانون لأنه نشأ عندهم وفي ظل تشريعهم الوضعى. لكن فقهاءنا القدامى كابن عابدين ومن جاء بعده تكلموا في بعض أنواع عقود التأمين كالتأمين البحري والسنجة، حيث لم يكن آنئذ وجد من هذه العقود غيرها؛ والواقع أن عقود التأمينات كلها تنبع من مشكاة واحدة وتصور بعضها تصور للجميع والحكم على هذا البعض حكم على الجميع باستثناء التأمين التعاوني كما سيأتي فهو لم يدخل في هذا المسمى إلا تجوزا. فمن المحتم أن يكون هناك مصلحة واضحة للمستأمن وإلا لزادت نسبة المخاطر التي يمهد لها المستأمن سبل وقوعها غير آبه بانعدام الشيء محل التأمين لانعدام مصلحته في المحافظة عليه. ومن علماء القانون من اقتصر على ثلاثة: التراضي بين المتعاقدين، ومحل العقد والسبب الذي يقوم عليه العقد.   (1) عقد التأمين للأستاذ الزرقاء ص25 وما بعدها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 خصائص عقد التأمين: هو عقد رضائي وملزم للجانبين، ومن عقود المعاوضة، والعقود الاحتمالية (الغرر) ومن العقود الزمنية، ومن عقود الإذعان. 1- أما انه عقد من عقود التراضي، فباعتبار أن الإيجاب والقبول ضروريان فيه فينعقد بمجرد توافق الإيجاب والقبول، لكنه لا يثبت عادة إلا بوثيقة تأمين (بوليصة) يوقع عليها المؤمن، وأصبح في مشروع الحكومة عقدا شكليا. 2- وهو عقد ملزم للجانبين؛ حيث إنه ينشئ التزامات متقابلة في ذمة كل طرف من طرفيه قبل الآخر؛ وتنشأ هذه الالتزامات من اللحظة التي يتم فيها العقد بركنيه الإيجاب والقبول. 3- وهو عقد احتمالي؛ لأنه خسارة أو ربح كل من طرفي العقد غير معروف وقت العقد وهو من المسمى لدى علماء القانون بـ (عقود الغرر) . 4- وهو عقد زمني (أي مستمر) حيث لا يتم الوفاء بالالتزام المترتب عليه بصفة فورية، وإنما يستغرق الوفاء بهذا الالتزام مدة من الزمن هي مدة نفاذ العقد. 5- وهو عقد إذعان: حيث يتولى أحد طرفي العقد وضع الشروط التي يريدها ويوضعها على الطرف الآخر فإن قبلها دون مناقشة أو تعديل أبرم العقد وإلا فلا. 6- وهو عقد معاوضة من حيث أن كل واحد من طرفيه يأخذ مقابلا لما يعطي. 7- وهو عقد مسمى: والعقود المسماة هي التي تخضع للأحكام العامة من حيث انعقادها، وللقواعد التي تقررها الأحكام القانونية فيما يتعلق بالتفصيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 8- وهو عقد من عقود حسن النية: إذ أن حسن النية صفة لازمة لكل عقود التراضي، بمعنى أنه يجب على كلا الطرفين التصرف بأمانة وإخلاص مع وجوب إعطاء البيانات المطلوبة للطرف الآخر حول العقد. والستة الأولي من الخصائص نص عليها الدكتور السنهوري في الوسيط (1) . والسابعة والثامنة ذكرها بعض الكاتبين من العلماء (2) . ثانيا: أقاويل الفقهاء الإسلاميين في عقد التأمين ونقل خلافهم فيه: ذهب فقهاء الشريعة الإسلامية في حكم عقد التأمين مذاهب ثلاثة؛ التحريم مطلقا، والحل مطلقا. والتردد والانتقاء. (أ) مذهب المحرمين مطلقا: 1- وعلى رأسهم فقيه الحنفية الكبير العلامة ابن عابدين في كتابين من كتبه؛ حاشية رد المحتار، ومجموع الرسائل. (أ) فعبارته في حاشية المحتار على الرد المختار (وربما قررناه يظهر جواب ما كثر السؤال عنه في زماننا وهو أنه جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركبا من حربي يدفعون له أجرته ويدفعون أيضا مالا معلوما لرجل حربي مقيم في بلاده يسمى ذلك المال (سوكرة) على أنه مهما هلك من المال الذي في المركب بحرق أو غرق أو نهب أو غيره فذلك الرجل ضامن له بمقابلة ما يأخذه منهم، وله وكيل عنه مستأمن في دارنا يقيم في بلاد السواحل الإسلامية بإذن السلطان يقبض من التجار مال السوكرة (أي قسط التأمين) وإذا هلك من مالهم في البحر شيء يؤدى ذلك المستأمن للتجار بدله تماما، والذي يظهر لي أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله، لأن هذا التزام ما لا يلزم. اهـ.   (1) الوسيط ج7 ص1138 وما بعدها (2) العقود الشرعية الحاكمة ص133 وما بعدها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 وقصد ابن عابدين في تعليقه (بأن التزام ما لا يلزم) أي الؤمن الذي أسماه (صاحب السوكرة) قد التزم بعقدها أن يوضح للتاجر عند هلاك ماله تعويضا عنه لا يلزمه الشرع بدفعه، فلا يجوز أخذه منه بناء على ما بينه قبلا منه أنه لا يجوز أن يؤخذ من المستأمن في دار الإسلام ما لا يلزمه أداؤه وإن جرت به العادة كالعوائد التي تؤخذ من زوار بيت المقدس آنئذ. وهذا هو المبني الذي علل به ابن عابدين بعدم جواز تعويض التأمين من المؤمن بناء على أن المؤمن قد التزم بهذا العقد ما لا يلزمه، فهو كالوديع أو المستعير أو المستأجر إذا اشترط عليهما في العقد ضمان قيمة الوديعة أو العارية أو العين المأجورة إذا هلكت بلا تعد ولا تقصير فمثل هذا الشرط في قواعد المذهب الحنفي لا يلزمهم بشيء فلا يجوز أخذ هذا الضمان منهم. ثم أورد (1) ابن عابدين رحمه الله على عدم الجواز مسألتين منصوصا عليهما في المذهب قد يشعر قياس كل منهما بالجواز وهما: 1- مسألة الوديع بأجر حيث يضمن الوديعة إذا هلكت. 2- مسألة ضمان خطر الطريق التي ينص عليها فقهاء الحنفية في كتاب الكفالة: (وهى ما لو قال لآخر "اسلك هذا الطريق فإنه آمن، وإن أخذ فيه مالك فأنا ضامن" حيث يضمن القائل ما يصيب مال السالك في هذا الطريق) . ويعلل فقهاء المذهب بأن هذا القول تغرير من القائل مع التعهد فيضمن للمغرر به. وكذلك أجاب ابن عابدين عن دلالة هذه المسألة الثانية (مسألة ضمان خطر الطريق) بأن بينها وبين قضية السوكرة فرقا لا يصح من قياسها عليها.   (1) حاشية المختار على الدر المختار للعلامة ابن عابدين ج3 ص249 وما بعدها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 ويميز ابن عابدين رحمه الله بين أن يكون عقد التأمين معقودا في دار الحرب مع المؤمن الذي يسميه (صاحب السوكرة) وأن يكون معقودا في دار الإسلام؛ فعدم جواز اخذ التعويض مقصور على الحالة الثانية التي يعقد فيها السوكرة في دار الإسلام حيث تطبق عليه أحكام الإسلام، أما إذا كان التأمين معقودا في دار الحرب وأرسل صاحب السوكرة بعد هلاك البضاعة مبلغ التعويض إلي صاحبها التاجر الذي في دار الإسلام فإن أخذه عندئذ حلال لأنه أخذ لمال حربى برضاه دون غدر ولا خيانة وليس بعقد فاسد معقود في دار الإسلام حتى يكون خاضعا لأحكام ديننا. وقال ابن عابدين أيضا "إن كان العقد في بلادنا والقبض في بلادهم، فالظاهر أنه لا يحل أخذه ولو برضا الحربي لابتنائه على العقد الفاسد الصادر في بلاد الإسلام، فيعتبر حكمه". فابن عابدين يرى أن عقد التأمين البحري الذي كثر السؤال عنه في زمانه لا حكم له إذا عقد في بلد غير إسلامي عقده مسلم أو غيره. وإذا عقد في بلد إسلامي كان عقد معاوضة فاسدا لا يلزم الضمان به لأنه التزام ما لا يلزم شرعا، وفساد العقد كان للفساد في أحد بدليه لأنه لا سبب للضمان شرعا، وله في حل أخذ مال البدل بمقتضي هذا العقد التفصيل السابق، وإذا كان ابن عابدين لم يكن له رأي إلا في التأمين البحري. فان مذهبه فيه يقضى حتما بأن يكون هذا حكم سائر أنواع التأمين لأنه لا يوجد فيها سبب شرعي للضمان فيكون التزام ما لا يلزم، ويكون العقد في هذه الأنواع عقدا فاسدا إذا عقد في دار الإسلام بين مستأمنين، أو ذميين أو مسلمين، أو اختلط طرفاه. ولا يحل لمسلم أخذ البدل بمقتضاه، وإذا عقد في بلد غير إسلامي لم يكن له حكم، ويحل للمسلم اخذ البدل بالرضا لا بالتقاضي. (ب) في مجموع الرسائل؛ في رسالة (أجوبة محققة عن اسئلة مفرقة) للعلامة محمد ابن عابدين صاحب الحاشية، جاء في هذه الرسالة (1) ما نصه: (وسئلت؛ في رمضان سنة أربعين ومائتين وألف عما إذا جرت العادة بين التجار أنهم يستأجرون مركبا من مراكب أهل الحرب لحمل بضائعهم وتجارتهم ويدفعون للمراكبي الحربي الأجرة المشروطة وتارة يدفعون له مبلغا زائدا على الأجرة لحفظ البضائع بشرط ضمان ما يأخذه أهل الحرب منها، وانه أن اخذوا منه شيئا فهو ضامن لصاحبها جميع قيمة ذلك، فاستأجر رجل من التجار رجلا حربيا كذلك ودفع له مبلغا تراضيا عليه على انه أن أخذ أهل الحرب منه شيئا من تلك البضاعة يكون ضامن من الجميع ما يأخذونه، فسافر بمركبه فأخذه منه بعض القطاع في البحر من أهل الحرب فهل يلزمه ضمان ما التزم حفظه وضمانه بالعوض؟ أم لا؛ فأجبت، الذي يظهر من كلامهم عدم لزوم الضمان.. الخ وذكر ما ذكر في حاشية المختار في قرابة صفحتين وبعض الثالثة فلا حاجة إلي التكرار.   (1) مجموع الرسائل ج2ص177 وما بعدها، وابن عابدين وأثره في الفقه الدكتور الفرفور ك. تب البحث ج2 ص250 وما بعدها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 2- والفقيه الثاني من رؤوس المحرمين العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي، فقيه عصره ومفتى الديار المصرية: أصدر هذا العالم رسالة سماها (أحكام السكورتاه) من استنباطه تقع في قرابة ثلاث عشرة صفحة من القطع المتوسط طبعت في مطبعة النيل سنة 1906 ثم طبعت بعد ذلك مرة أخرى؛ وخلاصة القول فيها؛ أن بعض علماء سلانيك كتب إليه يسأله: (عن المسلم يضع ماله تحت ضمانة أهل "قومبانية" تسمى "قومبانية السوكورتاه" أصحابها مسلمون أو ذميون أو مستأمنون. ويدفع لهم في نظير ذلك مبلغا معينا من الدراهم. حتى إذا هلك ماله الذي وضعه تحت ضمانهم يضمنونه له بمبلغ مقرر بينهم من الدراهم. فهل له أن يضمنهم ماله المذكور إذا هلك؟ وهل يحل له أخذ دارهمهم إذا ضمنوا؟ وهل يشترط كل أخذه تلك الدراهم أن يكون العقد والأخذ في غير دار الإسلام؟ أو يكفى أن يكون العقد في غير دار الإسلام؟ وإن كان الأخذ في دار الإسلام؟ وهل يحل لأحد الشركاء أن يباشر العقد عن الجميع ويأخذ البدل بغير دار الإسلام ثم يعطي الباقين حصصهم؟ وقال المستفتي: وإن هذا مما عمت به البلوى في دياره. وانه راجع كتب المذهب فلم يجد بها شيئا يطمئن به) .. فأجاب المفتى المطيعي رحمه الله؛ بما خلاصته: (إن هذا العقد ليس بملزم لأحد طرفيه، فالمال الملتزم بدفعه للقومبانية دفعه غير لازم، ولمن دفعه أن يسترده، لأنه دفع ما لا يلزمه على ظن انه يلزمه؛ ولا يلزم أهل القومبانية الضمانة، لأنه التزام معلق على هلاك المال، وتارة يهلك وتارة لا يهلك ولا نعرف متى يهلك لو سلمنا بالهلاك، فهو عقد معلق على الخطر وما فيه من معاني القمار) . واستدل إليه بأن ضمان الأموال إما بطريق الكفالة أو بطريق التعدي أو الإتلاف: وليس عقد التأمين بواحد من هذه الثلاثة وليس بمفاد بمضاربة أيضا ثم قال: 1- (إن كان العقد وأخذ البدل في دار الإسلام: لا يحل الأخذ ويكون المأخوذ مالا خبيثا. 2- وإن كان العقد والأخذ في غير دار الإسلام؛ حل الأخذ وكان المأخوذ مالا طيبا لمن أخذه. 3- وإن كان العقد في غير دار الإسلام والأخذ فيها لا يحل أخذ البدل. 4- وإن كان العقد في دار الإسلام والأخذ في غيرها حرم إجراء العقد ومباشرته، ولكن مع ذلك يحل أخذ بدل المال الهالك متى كان الأخذ في غير دار الإسلام وبرضاهم) . وقال (إنه لا يضر متي كان الأخذ حلالا لا يضر بعد ذلك أن يعود به إلي دار الإسلام أو يبعث إليها) (1) .   (1) رسالة أحكام السيكورتاه؛ مواضع متعددة ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 ويلاحظ انه هو وابن عابدين كان كل منهما يستنبط الحكم مما قرره فقهاء الحنفية، وأن ابن عابدين لم يذكر سببا لفساد العقد إذا عقد في دار الإسلام إلا انه التزام ما لا يلزم، ولكن المطيعي لم يعتمد في فساده على ذلك بل اعتمد على قيلته على الخطر وما فيه من معنى القمار. وهما متفقان في الأحكام إلا في حل أخذ البدل في دار الإسلام بغير مخاصمة إذا كان العقد في غير دار الإسلام، فابن عابدين يرى حله؛ لأن العقد في غير دار الإسلام لا حكم له، والأخذ كان بالرضا، والمطيعي يرى: أن الأخذ في دار الإسلام لا يحل مطلقا. لأن المسلم لا يحل له أن يأخذ في دار الإسلام من المستأمن إلا ما يلزمه شرعا. ومال البدل لم يلزمه شرعا. 3- الفقيه الشيخ عبد الرحمن قراعة: مفتى الديار المصرية: وفتواه سنة 1925 ليست إلا ترديدا لما جاء في رسالة (السكورتاه) للشيخ المطيعي، فهو مثله رأيه: أن التأمين لا يجوز في الحريق نصا ولا يجوز في سائر أنواع التأمين اقتضاء يشبه الصريح. ومن العلماء المحرمين المعاصرين أو قبل المعاصرين بقليل، 1- الشيخ محمد علي الساير 2- الشيخ طه الديناري 3- الشيخ محمد عبد اللطيف السبكي 4- المرحوم الشيخ أحمد إبراهيم إبراهيم؛ الفقيه أستاذ الفقه بمدرسة القضاء الشرعي وكلية الحقوق بجامعة القاهرة، في مقال بمجلة الشباب المسلمين سنة 1941م 5- الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، رئيس قسم الشريعة الإسلامية بجامعة الخرطوم في كتابه (الغرر وأثره في العقود) 6- الشيخ عبد الله التعلقيلي؛ مفتي الأدرن في تقولة له في أسبوع الفقه الإسلامي سنة 1964. 7- الشيخ محمد علي البولاقي، عضو هيئة التحرير في موسوعة الفقه الإسلامي في الكويت والمدرس في معهد الدراسات العليا في مصر في رسالة خاصة نشرها بعض الكاتبين. 8- المرحوم الدكتور محمد أبو اليسر عابدين المفتي العام للجمهورية العربية السورية سابقا، وأستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق بجامعة دمشق سابقا. فقد سألته (وإني أحد تلاميذه) في مجلس خاص عن حكم هذا العقد فقال؛ الكراهة التحريمية كما قال ابن عابدين الجد. وذلك عام 1970م قبيل وفاته بحوالى عشر سنين رحمه الله تعالى، وممن أخذ بالتحريم المطلق من المعاصرين الدكتور عيسى عبده في كتابين له ... والمرحوم عارف الجوي الدمشقي في رسالة له والأستاذ عبد الله علوان من سوريا والاستاذ الشيخ عبد الستار السيد والشيخ فخر الدين الحسني: هذا ومن أراد التوسع فليرجع إلي مبحث في التأمينات للشيخ محمد أحمد فرج السنهوري عضو مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف في مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية العدد السابع ج2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 (ب) مذهب المحللين مطلقا: وقد كانوا قلة فأصبحوا كثرا اليوم ويقف على رأس هؤلاء جميعا: 1- الأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء، أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بجامعة دمشق وأستاذ في كلية الشريعة بها سابقا ووزير سابق، في المقال الذي كتبه في أسبوع الفقه الإسلامي بمهرجان ابن تيمية بدمشق 1961 ثم جرده وطبعه بكتاب سماه (عقد التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه) (السوكرة) في حوالى مائة صفحة وتزيد. 2- الأستاذ علي الخفيف؛ أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق بجامعة القاهرة في بحثه الذي يقدمه للجنة الخبراء فقد ذهب إلي إباحة أنواع التأمين جميعها ولكن الأستاذ محمد أحمد فرج السنهوري فهم منه شفويا أنه يميل إلي منع التأمين على الحياة. 3- الدكتور محمد سلام مدكور أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق بجامعة القاهرة ببحث مستقل (1) نشره في مجلة العربي. 4- الأستاذ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي؛ أستاذ العلوم العالية بالقرويين؛ في ذلك كتابه الفكر السامي. 5- المرحوم الدكتور يوسف موسى: أستاذ الشريعة بكلية الحقوق بجامعة القاهرة ثم بكلية الحقوق بجامعة عين شمس: قال أن التأمين بكل أنواعه ضرب من ضروب التعاون شرعا لا باس به إذا خلا من الربا. 6- المرحوم الشيخ عبد الرحمن عيسى؛ مدير تفتيش العلوم الدينية والوثنية بالأزهر: ذهب لجواز التأمين بجميع أنواعه. 7- المرحوم الشيخ الطيب حسن النجار عضو جماعة كبار العلماء. 8- المرحوم الشيخ عيسوى أحمد عيسوى، أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق جامعة عين شمس، في مقال نشرته مجلة العلوم القانونية والاقتصادية بجامعة عين شمس يوليو سنة 1962 ذهب فيه إلي إباحته بكل أنواعه. 9- الدكتور محمد البهي، عضو مجمع البحوث ووزير الأوقاف وشؤون الأزهر سابقا: في كتابه (نظام التأمين في هدى أحكام الإسلام وضرورات المجتمع المعاصر) ذهب فيه إلي جواز عقد التأمين بجميع أنواعه بل أوجب على الدولة حمل الناس عليه إلزاميا أخذا من كلام ابن خلدون. 10- المرحوم الشيخ عبد الله صيام من العلماء الأزهريين المتخصصين كتب كلمة في مجلة المحاماة الشرعية مايو 1932 فكان صوته أول صوت شرعي جري بمصر ذهب إلي إلحاق التأمين بالموالاة فهو جائز مثله. (ج) مذهب المترددين أصحاب فكرة الانتقاء والتخير لكنهم إلي المنع أقرب: 1- وعلى رأسهم يقف أستاذنا العلامة المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق بجامعة القاهرة وعضو لجنة الخبراء وذلك فيما كتب في الاهرام الاقتصادي سنة 1961 وممن شهدوا مؤتمر الفقه الثاني بدمشق سنة 1961، وكانت له تعليقات على المحاضرات التي ألقيت في مسألة التأمين، ورأيه في كل ما أبدى في تلك الأوقات تجمعه مذكرته باللجنة على وجه منسق مرتب انتهى فيه إلي أن هذا العقد غير جائز في الفقه الإسلامي بل فاسد يكرهه الإسلام لكنه أباح في مقال آخر له التأمين على السيارات (2) فقط من أنواع التأمين ولا ندري وجه الفرق؟! 2- المرحوم الشيخ عبد الوهاب خلاف أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق بجامعة القاهرة: في مقال له في صحيفة لواء الإسلام فذهب فيه إلي جواز عقد التأمين على الحياة فقط من أنواع التأمين ولم يتطرق لغيره.   (1) مجلة العربي الكويتية عدد 192 و195 – ولغير الكتاب المذكور حول التأمين على الحياة (2) عقد التأمين؛ الزرقا ص 21 نقلا عن الاهرام الاقتصادي لعدد 132/15 شباط 1961 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 3- الأستاذ أحمد السنوسى في مقالين له في مجلة الأزهر أكتوبر ونوفمبر سنة 1953 نشرت بحثا له في التأمين من المسؤولية ذهب إلي جواز هذا النوع قياسا له على عقد الموالاة الذي ذهب إلي مشروعيتة عدد من كبار فقهاء الصحابة والأمصار وبقائه مشروعا. ولم يتجاوز تأمين المسؤولية إلي غيره من أنواع التأمينات لأنه استند إلي عقد الموالاة. وهو لا يكاد ينفيه على طريقته في الأنواع الأخرى. 4- الشيخ الشرباصي الرائد العام لجمعية الشبان المسلمين يستفاد من جوابه على السؤال المذكور في الاهرام الاقتصادى أن نظام التأمين إذا قام على أساس ربوى فهو محرم ولا سيما في التأمين من عنصر الجهالة والفوضى بحيث يكون غبنا للفرد غالبا وغنما متضخما متكررا لشركات التأمين، وإذا لم يكن التخلص من النظام الربوي ومنه في نظرة التأمين) اعتبر ضرورة فيعمل به مؤقتا مع وجوب العمل على التخلص منه. 5- محمد أحمد فرج السنهوري؛ عضو مجمع البحوث الإسلامية ولجنة الخبراء يرى إباحة أنواع التأمين عدا التأمين على الحياة من أجل مستفيد غيره وعدا ما يسمونه تأمينا ادخاريا فهو في حقيقته معاملة ربوية وفي تسميته تأمينا كثير التجوز. 6- الشيخ محمد مبروك؛ خبير اللجنة المالكي افتي بفساد عقد التأمين على الحياة لاشتماله على الربا والمقامرة والمخاطرة، وأما عقد التأمين على الأضرار فهو عقد سليم خال من الربا والغرر والجهالة. وهنالك من علماء القانون من ذهب إلي جواز عقد التأمين في الشريعة الإسلامية وعلى رأسهم الدكتور السنهوري في كتابه الوسيط ج7 ص1089 ومن أراد التوسع في معرفة آراء الفقهاء فليرجع إلي: 1- أسبوع الفقه الإسلامي – مهرجان ابن تيمية (عقد التأمين) . 2- مؤتمر البحوث الإسلامية العدد السابع. 3- الوسيط للدكتور السنهوري. 4- عقد التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه للأستاذ الزرقاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 خاتمة: قصة تاريخ فتوى الشيخ محمد عبده "مفتي الديار المصرية": المستردهور رسلى، مدير شركة ميوتوال ليف الأمريكية استفتي دار الافتاء بمصر: (في رجل يريد أن يتعاقد مع جماعة (قومبانية) مثلا على أن يدفع لهم مالا من ماله الخاص على أقساط معينة ليعملوا فيها بالتجارة، واشترط عليهم؛ أنه إذا قام بما ذكر وانتهى الاتفاق المعين بانتهاء الأقساط المعينة، وكانوا قد عملوا في ذلك المال، وكان حيا؛ أخذ ما يكون له من المال مع ما يخصه من الأرباح، وإذا مات في أثناء تلك المدة يكون لورثته، أو لمن له حق الولاية في ماله، أن يأخذوا المبلغ. تعلق مورثهم مع الأرباح، فهل مثل هذا التعاقد – الذي يكون مفيدا لأربابه، بما ينتجه لهم من الربح – جائز شرعا. نرجو التكرم بالإفادة) . فأجاب الأستاذ الشيخ محمد عبده في شهر صفر سنة 1321 هـ ابريل 1903م بقوله: "لو صدر مثل هذا التعاقد بين ذلك الرجل وهؤلاء الجماعة على الصفة المذكورة كان ذلك جائزا شرعا، ويجوز لذلك الرجل بعد انتهاء الأقساط، والعمل في المال وحصول الربح أن يأخذ لو كان حيا – ما يكون له من المال، مع ما خصه من الربح، وكذا يجوز لمن يوجد بعد موته من ورثته أو من له ولاية التصرف في ماله بعد موته أن يأخذ ما يكون له من المال، مع ما أنتجه من الربح والله أعلم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 قلت: استفتى – رحمه الله عن صورة مضاربة صميمة متفق على صحتها فأفتي فيها بالجواز، في هذا؟ وما صلته بالتأمين على الحياة؟ ولكن الدعاية المضللة للتأمين على الحياة أشاعت وأذاعت أن الأستاذ المفتي الشيخ محمد عبده أفتى بجواز التأمين على الحياة، كما استغل ذلك في الترويج للإيداع بصندوق التوفير للبريد بفائدة معينة وكثرت الأكاذيب في هذه الدعايات حتى علقت بأذهان العالم والجاهل وعرض بعض معاصريه من العلماء بفتواه. وإن يعلم أن الشيخ لبرئ مما يفترون، ولكن ماذا عليه لو امتنع عن إفتاء هذا الرجل وهو يعلم أنه مدير شركة تأمين على الحياة وحمى نفسه من هذا الافتراء، ووقانا شر هذا الصداع الدائم حتى اليوم (1) . وبعد فالأستاذ المفتى الشيخ محمد عبده ليست له فتوى ولا رأى معروف في أي نوع من أنواع التأمين، يؤيد ذلك موقف الشيوخ الكبار في مجلس الأوقاف الأعلى الذين كان المفتي واحدا منهم وهم المغفور لهم العلماء سليم البشري شيخ الأزهر، حسونة النواوي شيخ الأزهر، محمد عبده المفتي، بكرى عاشور الصرفي المفتي، محمد بخلق مفتى.   (1) مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية العدد السابع ص 156 وما بعدها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 الفصل الثاني عقد التأمين بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي (التصديق) أولا: وجوه استدلال الفقهاء ومناقشتهم. ثانيا: الموازنة. ثالثا: رأينا في عقود التأمين. أولا: وجوه استدلال الفقهاء ومناقشتهم (أ) أدلة المحرمين مطلقا: 1- أولا: أن عقود التأمين الحالية نوع من الميسر (القمار) الذي حرمه الإسلام لصدق تعريفه عليه، والميسر كما عرفه الفقهاء (هو كل عقد يكون فيه أحد العاقدين عرضة للخسارة بلا مقابل يناله من العاقد الآخر الرابح) . قال صاحب الكليات (الميسر، كل شيء فيه خطر فهو من الميسر) (1) وقال صاحب المغرب (الميسر: قمار العرب بالأزلام) (2) وقال مثله صاحب التعريفات. ولو ذهبنا ننظر فيما دفعه المؤمن إلي شركة التأمين على حياته أو تجارته لوجدنا أنه لم يستفد شيئا إذا لم يصب فيهما أو في أحدهما، وقد يمر العمر كله ولم يمسه سوء ولم ينزل به ضرر، فلا يحل هذا المدفوع إلي الشركة لمنوط عن عوض مالي مقابل، كما لا وجه لحل ما يأخذه هو أو ورثته من الشركة بتقدير ضرره، إذ ليس للشركة أي يد في إيذائه، على أن طمع بعض الورثة بمورثهم قد يحملهم على قتله من غير مباشرة لسبب القتل استعجالا للحصول على المال من شركة التأمين، وقد يبقى الائتمان على المورث المقتول مستورا عن الناس ...   (1) الكليات للكفوي ج4 ص182 (2) المغرب للمطرزي ج2 ص397 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 2- ثانيا: أن عقود التأمين الحالية نوع من (عقود الغرر) . والغرر: بفتحتين لغة الخطر، واصطلاحا (ما يكون مستور العاقبة) (1) ، ومعناه بيع الأشياء الاحتمالية الذي لا تدري عاقبته هل تحصل أم لا، وقد جاء تحريم الغرر في أحاديث كثيرة منها حديث مسلم مرفوعا (ونهي عن بيع الغرر) . 3- أن عقود التأمين في حقيقتها تقوم على الرهان والمجازفة: لأن التزام الشركة معلق على خطر قد يقع وقد لا يقع، فإن وقع التزمت الشركة بأداء مبلغ التأمين أو بالتعويض، وإن لم يقع لم تلتزم الشركة بشيء من ذلك، ولا يقصد من ذلك إلا تحقيق الربح الاحتكاري والاثراء الفاحش بلا سبب. وتضخم المال بلا جهد. وهذا قول بعض رجال الاقتصاد في الغرب والشرق: (أ) يقول (اللورد ما نسفيله) ؛ " عقد التأمين قائم على المجازفة، ولذلك يصعب في بعض الحالات أن نفرق بينه وبين عملية المراهنة على مبالغ نقدية من حيث الأصل الذي عليه العقد"، ولقد استشهد بهذا القول بعض شراح القانون التجاري في انكلترا في كتاب (ستيفنس) الصادر سنة 1920 عن الناشر (باتروث) وشركاه في لندن. (ب) يقول (سلوتر) شارح القانون التجاري في انجلترا (التأمين هو شراء الأمن ... ذلك أن المستأمن – مدفوعا بالرغبة في حماية نفسه ضد خطر ما – فإنه يشترى من المؤمن (الشركة) حق التعويض أن وقع الضرر بسبب ذلك الخطر، ويقال لثمن الشراء (جعل) أو (قسط) ، وغالبا ما يكون دفعة سنوية، ويندرج وعد المؤمن بالتعويض "في حالة وقوع الحادثة المؤمن ضدها فيما يقال له (البوليصة) وهل البوليصة إلا المجازفة والإثراء الفاحش بلا سبب.   (1) المبسوط 13: 194 والغرر ص27 و34 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 (ج) يقول الدكتور عيسى عبده في كتابه (التأمين .... الأصيل والبديل) (1) (إن بعض الشركات المتواضعة والناشطة في ميدان التأمين قد حققت في عام 1968 وحده ربحا صافيا يقرب من ربع رأس المال، وهذا الربح الصافى وفقا للقانون يذهب إلي المساهمين أصحاب الشركة ولا يذهب إلي المستأمنين) . 4- أن عقود التأمين في واقعها تقوم على التعامل الربوى الذي حرمه الإسلام، وهب أن القائلين بالحل قالوا لنا: إننا نشترط عدم وجود الربا في عقد التأمين نقول لهم: وهل الواقع يصدقكم؟ فهاتوا لنا حالة واحدة في العالم خلا عقد التأمين فيها عن الربا والفائدة؟ 5- أن عقود التأمين قائمة في المبدأ والغاية على بيع الأمن نظير ثمن يتفق عليه ويقال له وسط. ولكن هذا الأمن المباع هو خدمة اجتماعية يجب أن تقوم بها الدولة وهي محاسبة ومسؤولة أن قصرت في تحقيقها، فلا يجوز لفرد أو شركة أن تستغل هذه الخدمة لابتزاز الأموال والربح الذاتي، لأن هذه الخدمة تدخل في مضمون الخدمات التي هي من اختصاص الدولة كإقامة العدل ودفع الظلم وتحقيق الأمن وتأمين الحق لكل مواطن في العيش الضروري كتأمين المواد التموينية، فهي من اختصاصات الدولة فقط وهي مسؤولة عن تأمينها أولا وآخرا فإذا قصرت في تأمينها أو غضت الطرف عنها فإنها محاسبة أمام الله، ومسؤولة أمام الأمة.   (1) ص 41 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 تلكم أحد أدلة من ذهب إلي أن عقود التأمين محرمة في الشريعة الإسلامية وأنها تتنافي في نظرهم مع مقاصدها العامة وقواعدها الأساسية. (ب) أدلة المبيحين لعقود التأمين: الأدلة التي أوردها كل من هؤلاء العلماء المبيحين للتأمين مطلقا متداخلة متشابهة، وسأقتصر في تبيان هذه الأدلة على ما ذكره الأستاذ الزرقاء باعتبارها الأكثر شمولا والأقوى حجة ودلالة من حجج ودلالة الآخرين الذاهبين معه إلي الجواز، وذلك ملخص من كتابه (عقد التأمين) . المستندات القياسية التي استند إليها الأستاذ حفظه الله في جواز عقد التأمين، 1- عقد الموالاة ويتلخص هذا العقد في أن يقول شخص مجهول النسب للعربي "أنت وليي تعقل (1) عنى إذا جنيت، وترثني إذا مت" وهذا العقد اخذ به كبار فقهاء الصحابة كعمر وابن مسعود وأخذ به من فقهاء الأمصار الإمام أبو حنيفة وأصحابه. فعقد المولاة هذا صورة حية من صور عقد التأمين حيث الولي يتحمل مسؤولية مجهول النسب من لا عاقلة له. في كل ما يصدر منه من أضرار، فوجه المشابهة بين عقد الموالاة وعقد التأمين هو تحمل المسؤولية من غير تبعة لا غير. 2- ضمان خطر الطريق عند الحنفية وخلاصته: انه إذا قال شخص لآخر (اسلك هذا الطريق فإنه آمن، وإن أصابك شيء فأنا ضامن) فسلكه فأصابه شيء فعوضه ما خسره لأنه ضامن فهو نص استثنائي قوى في جواز التأمين على الأموال من الأخطار. 3- قاعدة الالتزامات والوعد الملزم عند المالكية وخلاصته: (أنه إذا وعد شخص غيره عدة بقرض أو بتحمل وضيعة (خسارة) أو إعارة أو نحو ذلك مما ليس بواجب عليه في الأصل، فهل يصبح بالوعد ملزما؟ ويقضي عليه بموجبه إن لم يف به أو لا يكون ملزما به) . اختلف المالكية في ذلك على أربعة آراء: من جملتها (يقضي بالعدة "أي الموعد" مطلقا، أي أنها ملزمة له. فإذا أخذنا بالمذهب الأوسع في هذه القضية فإننا نجد في قاعدة الالتزامات هذه متسعا لتخريج عقد التأمين على أساس انه التزام من المؤمن للمستأمنين. ولو بلا مقابل على سبيل الوعد بأن يتحمل عنهم أضرار الحادث الخطر الذي يتعرض له احدهم؛ أي أن يعوض عنه الخسائر. 4- نظام العواقل في الإسلام ويتلخص في انه إذا جنى أحد جناية قتل غير عمد بحيث يكون موجبها الأصلي الدية لا القصاص، فإن دية النفس توزع على أفراد عاقلة الذين يحصل بينه وبينهم التناصر عادة، وهم الرجال البالغون من أهله وعشيرته، وكل من يتناصر بهم ويعد هو واحدا منهم، كانت في الجاهلية وأقرها الإسلام لما فيها من معنى التعاون على البر والتقوى. فما المانع من أن يفتح باب لتنظيم هذا التعاون على ترميم الكوارث المالية بجعله مكونا بطريقة التعاقد والإرادة الحرة كما جعله الشرع إلزاميا دون تعاقد في نظام العواقل.   (1) العقل؛ هو دفع التعويض المالي في جناية القتل الخطأ، وهو ما يسمى بدية القتل الخطأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 5- التأمين الاجتماعي الجائز شرعا فما الفرق بين نظام التقاعد والمعاش لموظفي الدولة وهو تأمين اجتماعي أجازه علماء الشريعة كافة بلا نكير وبين التأمين على الحياة؟ والخلاصة أن نظام التأمين بوجه عام عند هؤلاء تشهد لجوازه جميع الدلائل الشرعية في الشريعة الإسلامية وفقهها ولا ينهض في وجهه دليل شرعي على التحريم – لديهم – ولا شبهة من شبهة القائلين بالتحريم. هذا ملخص الأدلة التي أوردها زعيم القائلين بالحل الأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء في جواز التأمين في مؤتمر أسبوع الفقه الإسلامي الذي أقيم في دمشق سنة 1961 ثم أفرده بكتاب (عقد التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه) . وقد استدل بعض الذاهبين (1) إلي التحليل بدليلين آخرين: (الأستاذ الخفيف) 1- الأول أن الغرر المسلم في عقد التأمين غير مؤشر فلا يمنع من صحته، فهنالك عقود جوزها كثير من الفقهاء مع أن ما فيها من الغرر أكثر من الغرر الذي في عقد التأمين كبيع ما في الصندوق وعلم المشتري ما فيه وبيع الثمر قبل بدء صلاحه ... الخ. 2- واستشهد هؤلاء الأفاضل على جواز التأمين برأى بعض المالكية في البيع بالنفقة على المشتري مدة حياته فقد قال الأستاذ الخفيف ما نصه (وعلى هذا يرى أن منع التأمين لما فيه من الغرر أو الجهالة لا يقوم على أساس ويؤيد، أننا قد وجدنا من فقهاء المالكية من يجيز اتفاقا يشبه عقد التأمين تمام الشبه ويحوى كثيرا من الغرر لا يحويه عقد التأمين، فقد جاء في شرح المنتقي على موطأ مالك للباجى (42: 5) "وقد دفع إلي جل داره علما أن ينفق عليه حياته. روى ابن المواز عن أشهب قال: لا أحب ذلك ولا أفسخه أن وقع، وقال أصبغ: هو حرام؛ لأن حياته مجهولة ويفسخ. وقال ابن القاسم عن مالك؛ لا يجوز إذا قال: على أن ينفق عليه حياته" فنرى أن أشهب أجاز هذا الاتفاق مع الكراهة، وأن مالكا قيد عدم جوازه بجهالة مدة الإنفاق وهي مدة الحياة، ومقتضى ذلك انه إذا تم الاتفاق على أن ينفق عليه مدة معينة صح عنده مع ما في ذلك من الغرر، وعليه فلو عرض عقد التأمين على مالك لذهب إلي تجويزه بناء على ذلك) ، واستدل الأستاذ الزرقاء كذلك بعقد جائز شرعا:   (1) الأستاذ الخفيف في كتاب الغرر ص658 للصديق محمد الأمين (الدكتور) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 في كتابه (مصادر الحق في الفقه الإسلامي) يرى الدكتور السنهورى أن هنالك تطورا ملحوظا في الفقه الإسلامي في هذه المسألة وأن أكثر المذاهب تطورا فيها هو مذهب مالك، وقد بين ابن رشد في عبارة جليلة الأصل عند مالك فقال؛ [والأصل عنده – أي مالك – أن من الغرر ما يجوز لموضع الضرورة] (1) . هذا هو أظهر ما استدل به زعماء الذاهبين إلي إباحة عقد التأمين ومن اتبعهم. هذا؛ ولقد رجعت إلي ما كتبه الدكتور محمد سلام مدكور (2) في مقال نشره بمجلة العربي الكويتية في عددين اثنين، فرايته في ما كتب لم يخرج عن دائرة المبيحين لعقود التأمين كلها في الفقه الإسلامي مبتدئيا شريطة خلوها من عنصر الربا، وأن يطوعها فقهاء الشريعة الإسلامية ليتلافوا ما يصاحبها من مفسدات العقود وموجبات ذلك الفساد الطارئ عليها (3) ، وقد جعل من مقاله الأول شبه مدخل للمقصد الذي أراده في مقاله الثاني، كما تطرق إلي هذه العقود التأمينية لدى فقهاء القانون بما لا يخرج عما ذكرنا، وإن كان في ما كتب في هذه النقطة بالذات يحتاج إلي مزيد من التثبت والرجوع للمصادر القانونية لأنه فرق بين التأمين التبادلي والتعاوني وهذا تفريق لا يعرفه فقهاء القانون، وارجع إلي الوسيط للدكتور السنهوري تجد بعدا بينما ذكره واضع القانون وشارحه وبينما ذكره الأستاذ كاتب المقال!!   (1) مصادر الحق في الفقه الإسلامي ج3 ص32-33 (2) في مجلة العربي الكويتية مقالات ثلاث عن عقود التأمين، مقال في العدد 66 وعنوان (عقد التأمين على الحياة ليس حراما..) وهو خاص بالتأمين على الحياة لذا لم أتعرض له بل لما هو أعم وأشمل، ومقالان اثنان للدكتور محمد سلام مدكور رئيسا قسم الشريعة الإسلامية بكلية حقوق جامعة القاهرة وأستاذ الفقه والأصول بجامعة الكويت آنئذ الأول منهما كالمدخل الثاني، وعنوانه (عقود التأمين وموقف الفقه منها) العدد 192 من ص20 إلي ص25، والثاني عنوانه (عقود التأمين ما حكهما في الفقه الإسلامي) العدد 195 من ص 24، وهو بيت القصد لخص فيه ما ذهب إليه الفقهاء الإسلاميون القدامي والمعاصرون باختصار شديد ثم تكلم في أدلته وعقب ذلك برد شبه الخصم، ثم ختم بحثه بمنافع التأمين واقتراح بالاجتهاد الجماعي في هذا الموضوع وحاجة المسلمين إليه (3) العربي العدد 195 ص24 حيث قال (والذي نراه بعد ذلك أن عقد التأمين في جوهره وأصل فكرته مساير لمصالح الناس الذين اقبلوا عليه دون ترتب نزاع بسبب وأصل العقد كما انه لم يرد في التشريع الإسلامي نص يمنعه ويبطله، كما أنه لا يتنافي مع قواعد الشرع العامة، ثم قال في ذات الصفحة (ونقترح أخيرا أن يجتمع فريق من كبار المسلمين المخلصين لدينا ويتدارسوا عقود التأمين بجميع أنواعها وما يتصل بها من شروط ويطوعوا الناشز منها ليكون متمشيا مع قواعد ديننا الإسلامي) آهـ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 ولقد ذهب في قضية فتح باب التعاقد بعقود مستحدثة في الفقه الإسلامي شأن الأستاذ الزرقاء والفقهاء المبيحين للعقود التأمينية بإطلاق لا ينافي ذلك الفقه الحنبلي بعامة والشيخ ابن تيمية بخاصته (1) . أما أدلته التي استند إليها في ما ذهب إليه فترجع في مجموعها إلي ما ذهب إليه الأستاذ الزرقاء ومن تبعه فجعل كلا من الغرر والجهالة التي في عقود التأمين مفتخرًا فسلم بوجود الغرر والجهالة ولكن لم يجعل منهما مفسدا للعقد أو مانعا من إباحته استنادا إلي أن كتب الفقه الإسلامي تكاد تكون ممتلئة من العقود التي أقرها الفقهاء مع أن فيها من الغرر ما لا تقل عن نظيره في عقود التأمين مثل دية القتل الخطأ والقسامة، والعمرى، والوصية بمرتب مدى الحياة وعقد الموالاة الذي أجازه كبار الصحابة والمذهب الحنفي. ثم أردف ذلك بتنفيذ أدلة الخصم الذاهبين إلي المنع والتحريم وسمى أدلتهم تلك (شبها) ولخص تلك الشبه!! بست: 1- أنها تقوم على الجهالة والغرر وهما يمنعان من صحة العقد شرعا، لنهي الشارع عن الغرر. 2- وأن الضمان فيه من قبيل البر والخير ولا يجوز أخذ العوض عنه. 3- وأنه ضمان لشيء معدوم وقت العقد وإن كان على خطر الوجود. 4- وهذا قمار ممنوع شرعا أيضا.   (1) كتاب (العقود) للشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى ص226 حيث قال (وقد بينا في غير موضع أن الأصل في العقود الإباحة، فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله) . أ. هـ. قلت: وقد طبع هذا الكتاب تحت اسم (نظرية العقد) سنة 1949م فلينظر!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 5- وأنها أكل لأموال الناس بالباطل. 6- وأنها لا تخلو بحال عن الربا. ورد على هذه الشبه الست ردا تجد مضمونه في ثنايا ما ذكرت وما سأذكر من تفنيد الأدلة ومناقشتها. إلا أني أتوقف عند الشبهة الأولي في زعم صاحب المقال ورده عليها وهي قضية الجهالة والغرر لأنها أهم نقطة في البحث كله وأجدر شيء في هذا المقال بالاهتمام، فجعل الغرر والجهالة في عقود التأمين مما لا يمنع من صحة العقد وإباحة للأمور التالية: 1- لأن عقودًا كثيرة فيها غرر أجازها الفقهاء كما ذكر آنفا وضرب لذلك أمثلة أخرى لكنه استشهد على ما ذهب إليه بمقولة لابن تيمية الفقيه الحنبلي رحمه الله تعالى؛ "إنه يرضى فيما تدعو إليه الحاجة مما أفسده الغرر، وكان مذهب مالك أوسع المذاهب في هذا، إذ تجوز مع الغرر في كل ما تدعو إليه الحاجة، وما كان الغرر فيه محتملا لا يؤدي إلي نزاع" ثم بقوله "لا يصح أن يقاس كل عقد فيه غرر على بيع الغرر في عدم الجواز". لم يذكر كاتب المقال أين قال ابن تيمية هذا القول: سوى أن عزا ذلك إليه أقول: ولعله في كتابه (العقود) الذي طبع تحت اسم (نظرية العقد) ومثل هذا يحتاج إلي مزيد توقف ونظر؛ فهل يقبل الدكتور المذكور مثل هذا العزو إلي مؤلف دون ذكر كتاب ولا صفحة ولا مجلد من أحد تلاميذه الذين يناقشهم في رحاب الجامعة في رسالة جامعية كالماجستير أو الدكتوراة!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 2- ثم عقب ذلك بقوله: (فما ألفه الناس تعارفوا عليه دون ترتب نزاع يكون غير منهى عنه) . ولا يفسد العقد كعقد الموالاة ... برغم وضوح الغرر والجهالة فيه. وضرب لذلك مثلا بصحة الصلح على جميع الحقوق المجهولة لشخص على آخر نظير عوض مالي معين، دون صحة الصلح على بعضها دون الآخر مع جهالة المصالح عليه، وجواز الكفالة بمجهول القدر ثم قال (فجهالة مقدار ما يرتفع به الغرر الناجم عن وقوع الخطر عند إنشاء عقد التأمين جهالة لا تمنع من التنفيذ ولا تنتج نزاعا بسبب هذه الجهالة) . أقول: لقد سلم الدكتور بوجه الغرر والجهالة في عقود التأمين وبأنه غرر معتبر لدى الفقهاء غير يسير، لكنه دفع هذا التعليل لمنع عقود التأمين بأمرين اثنين: 1- بأنهما مما تدعو إليه الحاجة مما فيه غرر مفسد إذا كان محتملا لا يؤدي إلي نزاع، مستندا إلي قول الشيخ ابن تيمية سابق الذكر. أقول: أما الحاجة هنا فليست معتبرة شرعا لأنها حاجة عامة لكنها غير متعينة إذ لا يمكن وجود البديل عن هذه العقود الفاسدة كما ذكر علماء أصول الفقه في كتبهم وهو مقرر لديهم، هذه واحدة. والثانية انه غرر غير مفض إلي نزاع، ومن قال هذا؟ هب أن حربا عالمية اشتعل أوارها أو محلية لكنها حرب خطيرة شاملة فهل تؤدي شركات التأمين تعهداتها وتفي بعقودها؟ أم تسحب أذيالها راجعة القهقرى معلنة (ظروف طارئة) متسترة بهذه العبارة المطاطة للهرب والتملص من كل ما سبق أن تعهدت به؟! أليس هذا يفضى إلي نزاع بين شركات التأمين وعملائها؟ اللهم نعم، ولدى كل العقلاء؛ نعم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 2- وقوله (فما ألفه الناس وتعارفوا عليه) وإني أتساءل؛ متى كان العرف يعارض النهى فيلغيه؟ وقد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغرر .... ؟ أما استدلاله بعقد الموالاة وقياسه هذه العقود عليه فهو قياس مع الفارق واستدلال في غيره محله ... فأين عقد الموالاة وما ذكر من الصلح من جميع الحقوق والكفالة لما في الذمة وغير ذلك مما نحن فيه. تلك عقود يغلب عليها معنى التبرع والإيثار وحب الخير وهذه عقود يغلب عليها معنى الاسترباح والاستغلال وعلى الأقل معنى المعاوضة، فهل يصح هذا القياس؟ اللهم لا ... وبعد فهذه مناقشة وجيزة أحببت أن أختم بها هذا الحديث لم أوف فيها على الغاية، ولكنها أضواء على الموضوع وعسى أن يكون في قادمات الأيام إن شاء الله تعالى لنا لقاء علمى مع الكاتب المذكور. ثانيا: الموازنة الذي يبدو من ظواهر الأدلة التي احتج بها الفريقان أن أدلة من ذهبوا إلي تحريم عقود التأمين هي أقوى استنباطا وأتم دلالة وأمتن احتجاجا وأرسخ ارتباطا بنصوص الشريعة ومقاصدها وقواعدها العامة وذلك للأمور التالية: 1- المجوزون للتأمين اعتمدوا في أدلتهم استنادات قياسية استنبطوها من استنتاج الفقهاء المجتهدين بينما القائلون بحرمته استندوا على نصوص تشريعية وقواعد أساسية أجمع المجتهدون على الأخذ بها والعمل بمقتضاها والفرق واضح بين الاستدلالين. 2- المجوزون للتأمين اعتمدوا على تعليلات وتأويلات في الجواز أقل ما يقال فيها أن فيها معنى الغرر المحرم، بينما اعتمد القائلون بالحرمة نصوصا مطبعية تحرم الغرر وفرق كبير بين الأمرين. 3- من القواعد المقررة شرعا (إذا تعارض المحرم والمبيح قدم المحرم، وإذا تعارض المانع والمقتضى قدم المانع) (1) لذا نأخذ بجانب الحرمة بعقود التأمين باعتبار أنه يتعارض مع الجانب المبيح على افتراض وجود التعارض ولا تعارض لظهور أدلة المحرمين. 4- رد القائلون بالتحريم على المبيحين في مسألة القياس على نظام العواقل ونظام التقاعد والمعاش وعقد الموالاة بأنها عقود تعتمد على التبرع والدافع الذاتي والمساهمة في أوجه الخير ولا كذلك نظام التأمين التجاري القائم على الاسترباح والاستغلال وابتزاز الأموال.   (1) ج2 المعارضة والترجيح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 5- وكذلك رد القائلون بالتحريم على المبيحين في استدلالهم (بالاتفاق بمرتب عمري) عند المالكية بأن أشهب قال (أكره ذلك) وهو عند المالكية اصطلاح في المنع لا في الإباحة كما قالوا؛ لذا فإنه يصلح دليلا للمحرمين لا عليهم. واستدلالهم بقول مالك رضي الله عنه لا يفيدهم لأن مدة الإنفاق معينة هناك وفي عقد التأمين مجهولة فلا يصح. 6- وكذلك ردوا على المبيحين في استدلالهم بضمان خطر الطريق عند الحنفية بأن هذا تغرير لا غرر، وفي التغرير يضمن. 7- وردوا على قاعدة الالتزامات عند المالكية بأن ذلك المحتمل معلوم وهذا المحتمل في عقد التأمين غير معلوم فحصل الغرر فبطل القياس. 8- وكذلك ردوا على المبيحين بأن الغرر غير مؤثر بقولهم أن الغرر هنا مؤثر في صحة العقد لأنه ينبني عليه أكل مال كثير بالباطل في جمهور غفير من الناس ليربح أناس ربحا فائضا على أكتاف الآخرين بلا سبب مشروع.. 9- وأما عقد الاستئجار على الحراسة فلا يجوز القياس عليه هنا لأنه قياس مع الفارق، فهناك العقد القائم على عمل وهو الحراسة وبذل الجهد واليقظة، وليس في عقد التأمين أي عمل تقوم به الشركة لقاء دفع الخطر عن المؤمنين المساكين. 10- أما قول الدكتور السنهوري أن الضرورة تبيح التأمين للضرورة مع الغرر كما ذهب إليه مالك فإن المحرمين قالوا؛ لا نسلم بالضرورة هنا ولا بالحاجة مطلقا. لأن الأمة الإسلامية تستطيع أن تتخلص من هذا النظام الاستغلالي إلي تأمين من صنع الشريعة الإسلامية ومن قواعدها وليس في ذلك أي حرج ولا مشقة فيما إذا أراد المسلمون بصدق أن يحكموا شريعة ربهم (1) .   (1) الغرر ص661 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 ثالثا: رأينا في عقود التأمين "نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر " (1) هل في عقد التأمين غرر؟ الجواب: نعم، وليس غير الغرر في نظرى دليلا ظاهرا يناطح الخصم ويظهر عليه، ويشهد لذلك علماء القانون الذين عدوا بالإجماع هذا العقد من عقود الغرر، وقدر أنه من العقود الاحتمالية في خصائصه. والغرر إذا استطاع المبيحون أن ينفوه عن أحد طرفي العقد (المؤمن) فلا بد من أن ينتفي الغرر بالنسبة للمستأمن أيضا وهو ما لم يستطع المبيحون (2) أن يثبتوه بوجه؛ ثم هل الغرر في التأمين كثير مانع أم لا؟ ضابط الغرر الكثير لدي الفقهاء (هو ما غلب على العقد حتى صار العقد يوصف به) وأري مع الأخ الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير في كتابه القيم (الغرر وأثره في الفقه الإسلامي) أن هذا الضابط ينطبق على عقد التأمين، فإن من أركان عقد التأمين التي لا يوجد دونها (الخطر) والخطر هو حادثة محتملة لا تتوقف على إرادة أحد الطرفين، ولذا لا يجوز قانونا التأمين إلا من حادث مستقبل غير محقق الوقوع، فالغرر عنصر لازم لعقد التأمين ومن الخصائص التي تتميز بها، ومما يدل على أن الغرر تمكن من عقد التأمين وأصبح صفة لازمة له أن كثيرا من القوانين تذكره تحت عنوان (عقود الغرر) ثم هل هناك حاجة أو ضرورة لعقد التأمين تجعل الغرر الذي في عقد التأمين غير مؤثر.   (1) رواه مسلم في كتاب البيوع وأبو داود في كتاب البيوع والترمذي في كتاب البيوع والنسائي كذلك في كتاب البيوع وابن ماجة في التجارات والدارمي في البيوع وأحمد في مواضع متعددة (2) أسبوع الفقه الإسلامي 403 انظر الغرر ص651 وما بعدها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 من المعلوم أن الحاجة أدني من الضرورة منزلة إذ يلزم بلزومها الحرج والضيق، ويشترط أن تكون الحاجة لاعتبار الغرر غير مؤثر أن تكون عامة أو خاصة، وأن يكون ذلك العقد متعينا لسد تلك الحاجة بحيث لو أمكن سد الحاجة عن طريق عقد لا غرر فيه فلا يصح اللجوء إلي العقد الذي فيه غرر. والذي يبدو لي أن الحاجة عامة لعموم البلوى، ولكن عقود التأمين بقسط ثابت ليست متعينة لسد تلك الحاجة. فالذي تقتضيه قواعد الفقه الإسلامي منع هذا العقد بما فيه من غرر كثير من غير حاجة ملجئة إذ من الممكن أن يحتفظ بعقد التأمين في جوهره ونستفيد بكل مزاياه مع التمسك بقواعد الفقه الإسلامي وذلك بإبعاد الوسيط الذي يوالي الربح وجعل التأمين كله تأمينا تعاونيا خيريا بحتا تتولاه الحكومات في البلاد الإسلامية بكافة أنواعه فتجعل له منظمة تشرف عليه على أن يكون المعنى التعاوني بارزا فيه بروزا واضحا وذلك بالنص صراحة في عقد التأمين حينئذ على أن المبالغ التي يدفعها المشترك تكون تبرعا منه للشركة يعان منها من يحتاج إلي المعونة من المشتركين حسب النظام المتفق عليه. فالخلاصة (إني أكره تحريما كل عقود التأمين التبادلي والتجاري لما فيها من الغرر ولعدم الحاجة إليها) . (وحكم التأمين التجاري كعقد، الفساد لتمكن الغرر منه وفكرة الاسترباح "ولزوم ما لا يلزم شرعا"، وحكم عقد التأمين التبادلي الجواز مع الإثم) (علما بأن كل عقد فاسد شرعا عقد ربوي) هذا كله في التأمين التجاري والتعاوني (التبادلي) فقط. أما التأمين الاجتماعي الذي تقوم به الحكومات فهو جائز شريطة خلوه من الربا نهائيا. وأما صور التأمين الأخرى الجديدة التي ابتدعها الغرب ولم نصل إلي معرفة حقيقتها بعد بشكل مفصل فهي تحت مجهر البحث العلمي، ولكل عقد منها حكمه الشرعي حسبما تقتضيه طبيعته وخصائصه. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 الفصل الثالث إعادة التأمين بين الفقه الغربي والفقه الإسلامي أولًا: إعادة التأمين في الفقه الغربي. ثانيًا: إعادة التأمين في الفقه الإسلامي كما توصلنا إليه. أولًا: إعادة التأمين في الفقه الغربي (أ) فكرة عامة تقوم عملية التأمين على تقدير الاحتمالات طبقًا لقوانين الإحصاء وعلى قانون الكثرة، وشركة التأمين تعمل كل ما في وسعها حتى يأتى حسابها مضبوطًا. ولكن الشركة لا تستطيع أن تطمئن إلى هذا التقدير اطمئنانًا كاملًا في مواجهة التزاماتها. فيجب عليها أن تدخل في حسابها أن هذا التقدير إنما هو تقريبى قد يخطئ، وهذا الخطأ يقل كلما كثر عدد المؤمَّن لهم طبقًا لقانون الكثرة، ولكن احتمال الخطأ مهما قلّ يبقى قائمًا. فيجب على الشركة إذن أن تواجه احتمال الخطأ هذا وما ينجم عنه من فروق في الحساب حتى تطمئن اطمئنانًا معقولًا إلى قدرتها على مواجهة التزاماتها للمؤمَّن لهم، وحتى يطمئن هؤلاء هم أيضا إلى ملاءة الشركة وإلى أن حقوقهم في ذمتها مكفولة، وذلك عن طريق إعادة التأمين، وهنالك صور أخرى كالتأمين المجزأ أو التأمين بالاكتتاب إلا أن المؤمِّن يفضل طريقة إعادة التأمين لكونها أضمن له في عمله التجاري من منافسة زملائه له في عملائه، وإعادة التأمين هى العملية الأساسية في الموضوع. وقد تكون إعادة التأمين إجبارية بموجب القانون، وقد تكون اختيارية وهى منتشرة في التأمين البحرى بوجه خاص وأهم صورها أربع؛ 1- إعادة التأمين بالمحاصة. 2- وإعادة التأمين فيما جاوز حد الطاقة. 3- وإعادة التأمين فيما جاوز حدًا معينًا من الكوارث. 4- وإعادة التأمين فيما جاوز حدًا معينًا من الخسارة، وهى أحدث الصور ظهورًا وأكثرها انتشارًا، ومزيتها التبسيط الشديد في إجراءات المحاسبات والمراسلات. وهكذا نرى أن المؤمن يكون طرفًا مع المؤمَّن له في عقد التأمين، وطرفًا مع المؤمِّن المعين في عقد إعادة التأمين. وإعادة التأمين تزاول عادة على صعيد دولى فتكون المقاصة في المخاطر لا فحسب بين الفروع المتعددة في البلد الواحد بل أيضا بين البلاد المتعددة، وانتشار إعادة التأمين على هذا الصعيد الدولى هو الذي يمكن لهذه العملية ويقيمها على أسس ثابتة مستقرة لدى فقهاء القانون، فكلما اتسعت دائرة المقاصة في المخاطر كلما كان تقدير احتمالات وقوع المخاطر أقرب للحقيقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 وحظ إعادة التأمين من الدراسة القانونية غير كبير فهى حديثة النشأة، ولم تبدأ إلا بعد انتشار التأمين انتشارًا واسعًا في العالم، وهى لا تعنى جمهور عملاء التأمين، إذ تقتصر العلاقة فيما بين المؤمّن والمؤمن المعيد، ومن هنا بقيت مجهولةً من الجمهور، والكثرة الغالبة من قضاياها تحل عن طريق التحكيم، وليس من السهل العثور على وثائق التحكيم لأنها لا تنشر. التكييف القانونى لإعادة التأمين: اختلف فقهاء القانون في هذا الشأن والذى استقر عليه القضاء والفقه في فرنسا على أن عقد إعادة التأمين ما بين المؤمّن والمؤمن المعيد ليس إلاّ عقد تأمين، يصبح فيه المؤمن مؤمنًا له، ويصبح فيه المؤمن المعيد مومِّنا، فهو في جميع الأحوال عقد تأمين تسرى عليه المبادئ العامة لعقود التأمين. ولا يجوز فيه أن يلتزم المؤمن المعيد نحو المؤمن بأكثر مما يلتزم نحو المؤمن له. ويجب أن يلاحظ أن إعادة التأمين عقد تأمين بين المؤمن والمؤمن المعيد، ولا شأن للمؤمن له به فهو أجنبى عنه لا يكسب منه حقًا ولا يحتمل التزامًا، ويبقى المؤمن وحده هو المسؤول نحو المؤمن له بموجب عقد التأمين الأصلى المبرم بينهما. وإذا كان شأن إعادة التأمين كذلك إلا أنه عقد يتميز بقواعد خاصة به فيما يتعلق بالآثار المترتبة عليه، وقد استمدت هذه القواعد من اتفاقات إعادة التأمين المألوفة، واستقرت الشروط التى تتضمنها هذه الاتفاقات حتى أصبحت عرفًا ثابتًا، فهو عقد ملزم للجانبين وعقد رضائى ومن عقود المعاوضة، وهو كسائر عقود التأمين عقد زمنى وعقد احتمالى ومن عقود حسن النية، ويختلف عن عقد التأمين المباشر في أنه لا يعدُّ من عقود الإذعان، إذ كل من طرفيه – المؤمن والمؤمن المفيد محترف ذو خبرة ولا تفاوت بينهما من ناحية المركز الاقتصادى ويستطيع كل منهما أن يناقش في حرية وعن خبرة مهنية شروط الاتفاق. وأما المبدآن الرئيسيان اللذان يخضع لهما عقد إعادة التأمين فهما؛ مبدأ حسن النية ومبدأ وحدة المصير، فالطرفان أقرب إلى أن يكونا شريكين، ومن مقتضيات ذلك وجوب تقديم البيانات الصادقة ممن يجب عليه ذلك للطرف الآخر (1) .   (1) الوسيط للدكتور السنهورى ج 7 مواضع متعددة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 ثانيًا: إعادة التأمين في الفقه الإسلامى كما توصلنا إليه رأينا من تعرض لعقد التأمين المباشر من الفقهاء الإسلاميين وأدلى بدلوه في هذه القضية، ولكنا لم نر من تكلم في هذه المسألة المتفرعة عن عقد التأمين المباشر. ألا وهى عقد إعادة التأمين من الفقهاء الإسلاميين القدامى ولا المعاصرين. والذى يبدو لنظرى والله تعالى أعلم أن هذا العقد الفرعى هو كعقد التأمين المباشر يسرى عليه ما يسرى على الأصل من الأحكام الرئيسية كما ذكر علماء القانون في التكييف الفقهى له. لذا فإنه يأخذ الحكم الشرعى الذي يتناول عقد التأمين المباشر بقسط ثابت كما مر آنفًا. ولا يتصوَّر هنا في إعادة التأمين وجود عقدٍ تعاونى ذى هدف إنسانى محض حتى نقول بجوازه، فلا عقد إعادة تأمين تعاونيًا في القانون، لذا فلا حكم له في الشرع. وعلى هذا؛ فالقائلون بالإباحة المطلقة لعقد التأمين المباشر يقولون بمثل ذلك لعقد إعادة التأمين. والقائلون بالمنع المطلق للأصل يقولون بمثل ذلك للعقد المتفرع عنه. والقائلون بالانتقاء يقولون بمثل ذلك لكل ما يشمل التأمين المباشر وإعادة التأمين. والقائلون بالكراهة للتأمين المباشر يقولون بمثل ذلك لعقد إعادة التأمين. أمَّا ما يبدو لنا فهو ما ذكرناه من القول بالكراهة لكل عقد تأمين مباشر بقسط ثابت وما يتفرع عنه من عقد إعادة التأمين في جميع صوره وأشكاله تبعًا للأصل. والكراهة هنا تحريمية؛ وقد قلنا بها تأدبًا مع الشريعة المطهَّرة بأن لا يقال حرام إلا لما جاء تحريمه بالنص القطعي فقها وما عدا ذلك فقد اعتاد العلماء من قبل أن يقولوا (نكره كذا) لما يرون تحريمه، ونحن نقول نكره العقد الأصلى التعاوضى، وما يتفرع عنه من عقد إعادة التأمين. … قلت: هذا ما ظهر للعبد الفقير إليه تعالى، والله تعالى أعلم.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 الفصل الرابع الطريق إلى تأمين يبيحه الفقه الإسلامى بمذاهبه الكبرى (1) الحلول التى ارتآها الآخرون 1- اقتراح الدكتور عيسى عبده في كتيّب أصدره بعنوان (التأمين: الأصيل والبديل) حلًا لمشكلة التأمين ينبع من جوهر الشريعة الإسلامية يرجع إلى مبادئ التكافل الاجتماعى في الشريعة الإسلامية فليرجع إليه. 2- وكذلك اقترح الأستاذ عبد الله علوان حلًا شبيهًا بالمذكور في كتيب أصدره بعنوان (حكم الإسلام في التأمين السوكرة) لا يخرج عما ذكره الدكتور عبده في أغلب نقاطه. ولكن صاحبى كلا الاقتراحين تصوّرا وجود الدولة الإسلامية وقيامها قبل كتابة اقتراحهما وأن هذه الدولة الإسلامية الوليدة قد جاءت إليهما بمسئوليها تطالبهم بالحل الذي يرونه ليطبقه القائمون على الأمر من الإسلاميين المخلصين. ولكن الأمر غير ذلك كليَّا. فنحن في ظل وضع غاب عنه الإسلام غيابًا كاملًا في الأمة العربية جمعاء. اللهم إلا ما بقى منه من ظلال العقيدة والعبادة، أما الفقه الإسلامى فلا وجود له في المجتمع لا في الأفراد ولا في الجماعة، إلا في القليل النادر. وفى هذا الوضع وجب أن نبحث الأمر على غير ما بحثه الفقيهان السابقان. وجب أن نضع مؤقتًا تأمينًا عمليًا تسمح الدول والحكومات بالعمل به ثم حين تقوم الدولة الإسلامية بنظامها الإسلامى الجديد يُزداد على هذا التأمين ما اقترحه الفاضلان ويعدَّل حسب الظروف آنذاك. أقول: إننا الآن أمام تأمين إسلامى مؤقَّت فلننظر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 (2) نظام التأمين الإسلامى الذي نراه نرى أن يكون هذا النظام المقترح على ثلاث درجات: 1- الدرجة الأولى: إنشاء مصرف تنمية إسلامى على الوجه الذي اقترحه على المسلمين المعاصرون ولا سيما الدكتور رفيق المصرى في كتابه القيِّم تجتمع فيه أموال المسلمين فقط وتُشغّل بالأسلوب المذكور مع اشتراط المصرف على المشترك بتعهد خطى أن تكون زكاة ماله عائدة إلى صندوق الزكاة وعمل الخير في المصرف المذكور. 2- الدرجة الثانية: إنشاء صندوق الزكاة من أموال المصرف المذكور، وبدلًا من إعطائها للفقراء مباشرة كما هى العادة يتكون منها رأس مال تجاري يقوم عليها موظفون يعملون بأجر معتدل، وهنا تأتى الدرجة الثالثة وهى النتيجة. 3- الدرجة الثالثة: أن يكتتب طالبو التأمين بمبالغ خيرية تبرعًا منهم لصندوق الزكاة وعمل الخير في المصرف المذكور وليس لهم حق إعادتها، ثم إذا جاءت الأرباح بعد عشر سنين أو خمسة وفينا الفقراء حقهم من رأس مال الصندوق وأبقينا الأرباح مع التبرعات الخيرية للاستثمار ويتكون من هذا الصندوق الجديد المنبثق عن صندوق الزكاة وعمل الخير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 "صندوق عمل الخير" وهو التأمين الإسلامى الذي نراه صالحًا لإنقاذ حياة الفقراء والمساكين والمعوزين والمتضررين من المكتتبين وغيرهم وإن كانت الأفضلية في رأينا للمكتتبين في صندوق عمل الخير فقط دون المكتتبين في مصرف التنمية الأساسى لأن أرباحهم كافية لهم. ولا بأس بأن نشترط هنا ما اشترطه الفقيه الدكتور عيسى عبده على المؤسسات التعاونية التكافلية وهى: 1- أن يدفع الفرد المساهم نصيبه المفروض عليه في ماله على وجه التبرع قياما بحق الأخوة. 2- إذا أريد استغلال هذا المال المدَّخر فبالوسائل المشروعة وحدها. 3- لا يجوز لفرد أن يتبرع بشيء على أساس أن يعوَّض بمبلغ معين إذا حلَّ به حادث. ولكن يعطى من مال الجماعة بقدر ما يعوّض في خسارته أو بعضها على حسب ما تسمح به حال الجماعة. 4- التبرع هبة، والرجوع فيها ممنوع شرعًا كراهةً أو تحريمًا (1) . وبعد؛ فالذى دعانى إلى إقامة صندوق عمل الخير (التأمين الخيرى) على أساس الزكاة ثم على أساس مصرف التنمية، ما نراه ونعلمه من استبعاد فكرة إقامة التأمين الخيرى هذا فورًا على أساس خيرى بحت، وهب أنه قام وتنادى إليه موسروا المسلمين فكيف يتم صرفه وتشغيل أمواله ومن هم أولئك المستفيدون منه وهل نضمن سلامة قيام هذه المؤسسة دون استغلال؟. أما فيما ذكرت فلو أن الناس لم يتبرعوا لصندوق عمل الخير، وبقيت أموال الزكاة فقط فاستثمرت بيد أناس عاملين عليها ثم رُدّ رأس مال الصندوق وهو محض الزكاة للفقراء وأخذت الأرباح لصندوق عمل الخير لكان كافيًا. ولا ضرر في تأخير إعطاء الفقير الزكاة ولا في استثمارها على أساس الضمان لا الأمانة كى لا يضيع حق الفقير في رأس المال. والذى يجلب لنا فائضًا من الزكاة هذه صندوق التنمية الأساسى الذي يستثمر أموال الناس بما يشبه شركة المضاربة في الفقه الإسلامى، فكلما كثرت أموال الناس في مصرف التنمية كثرت الزكاة، ومن ثم كثرت أرباح الزكاة ثم وجدت ذلك كله في صندوق عمل الخير. وهذه نظريتنا وهذا تعليلها فيما نرى والله تعالى أعلم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات..   (1) أنظر كتاب (التأمين الأصيل والبديل) للدكتور عيسى عبده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 مسرد المراجع (أ) المراجع القديمة: ابن الأثير (الجزرى) : النهاية في غريب الحديث الأتاسى (خالد) : شرح المجلة. ط حمص ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم) : العقود باسم (نظرية العقد) ط القاهرة سنة1949م الباجى (أبو الوليد المالكى) : المنتقى شرح الموطأ الرافعى (عبد القادر) : تقريرات على رد المحتار ط بولاق الراغب الأصفهانى: مفردات غريب القرآن الشريف (على الجرجانى) : التعريفات الزَّبيدى (محمد مرتضى) : تاج العروس شرح القاموس السرخسى (شمس الأئمة) : المبسوط شرح الكافى الطحاوى (أحمد) : حاشية على الدر المختار في أربع مجلدات ابن عابدين (محمد أمين) : حاشية رد المحتار على الدر المختار ط بولاق سنة1272هـ مجموع الرسائل العابدينية ط الآستانة سنة325هـ عبيد الله بن مسعود (صدر الشريعة) : التوضيح لحل غوامض التنقيح بحاشية التلويح للسعد ط البابى الحلبى الفيومى (محمد بن أحمد) : المصباح المنير الكفوى (أبو البقاء) : الكليات المطرّزى (الخوارزمى الحنفى) : المُغرب (محققًا في سورية) ابن منظور (أبو المكرّم) : لسان العرب محمد بن الحسن (الإمام) شرح السِّير الكبير المطيعى (محمد بخيت) رسالة (أحكام السيوكورتاه) النسفى (أبو جعفر عمر بن محمد المتوفى سنة 587هـ) طِلَبَةُ الطَّلَبَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 (ب) المراجع الحديثة: البدراوى (د. عبد المنعم) : عقد البيع – القاهرة 1958 الحجوى (محمد الحسن الثعالبى) : الفكر السامى في تاريخ الفقه الإسلامى الجويجاتى (عارف) : كلمة حق في عقد التأمين (رسالة) الزرقاء (مصطفى أحمد) : (عقد التأمين وموقف الشريعة منه) كتاب ط مطبعة جامعة دمشق السنهورى (الدكتور عبد الرزاق) : الوسيط شرح القانون المدنى مصادر الحق في الفقه الإسلامى عقد الإيجار السنهورى (محمد أحمد فرج) : مؤتمر البحوث الإسلامية العدد السابع (التأمينات) الصديق (الدكتور محمد الأمين الضرير) : الغرر وأثره في الفقه الإسلامى رسالة دكتوراه (عقد التأمين) بحث في أسبوع الفقه الإسلامى عبده (الدكتور عيسى) التأمين بين الحل والتحريم (كتاب) بسلسلة (من مكتبة الاقتصاد الإسلامى) ط دار الاعتصام التأمين الأصيل والبديل (رسالة) العقود الشرعية الحاكمة للمعاملات المالية المعاصرة (كتاب) علوان (عبد الله) : عقد التأمين في الشريعة الإسلامية (رسالة) الفرفور (الدكتور محمد عبد اللطيف) : ابن عابدين وأثره في الفقه رسالة دكتوراه المجلس الأعلى للعلوم: أسبوع الفقه الإسلامى مهرجان ابن تيمية سنة1961 مرسى (محمد كامل) : (العقود المسماة) الجزء السادس عقد البيع والمتابعة المصرى (د. رفيق) : مصرف التنمية الإسلامى رسالة دكتوراه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 التأمين وَإعادة التأمين الشَيخ مصطفى أحمد الزرقاء رسالة إلى فضيلة الأمين العام للمجمع حول التأمين وإعادة التأمين السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، فى اجتماع شعبة التخطيط (22_25/8/1405هـ) أحلتم إلى عهدتى تقديم بحث واف عن نظام التأمين وعقوده وحكمه بالنظر الشرعى في الإسلام، وهو من أهم قضايا الساعة التى اختلفت فيها أنظار الفقهاء المعاصرين. وأفيد فضيلتكم أننى أصدرت في هذا الموضوع كتابًا جديدًا نشر في العام الماضى عنوانه: (نظام التأمين – حقيقته، والرأى الشرعى فيه) . مضافًا إليه نظرات في الموضوع من زوايا جديدة. وسبعة ملحقات في القسم الأخير منه، عرضت فيها جميع الشبهات التى أثيرت حول التأمين بعد صدور كتابى الأول، وناقشت هذه الشبهات جميعًا ورددت عليها بالتفصيل، وبخاصة شبهة الغرر التى هى أقوى وأهم الشبهات التى يتذرع بها المنادون بتحريم التأمين. وخلاصة رأيى في الموضوع أن نظام التأمين في ذاته مقبول، بل مستحب في ظل الشريعة الإسلامية، بأنواعه الثلاثة: (التأمين على الأشياء من مختلف الأخطار، والتأمين من المسئولية الذي يسمونه تأمينًا ضد الضرر. والتأمين على معونة أسرة المستأمن بعد موته. وهو الذي يسمونه خطًا: تأمينًا على الحياة) . فالتأمين، بجميع أنواعه الثلاثة، فيه تعاون نافع على تفتيت المصائب وإزاحتها عن رأس من تقع عليه، وتوزيعها على أكبر عدد ممكن من المتعاونين وهو مجموع المستأمنين. فلا يعقل قبول فكرة تحريم هذا التعاون شرعًا. وحجة القائلين بالتحريم أن هذا التعاون قد أصبح تجارة تديرها شركات مستغلة وتحفها مسالك منحرفة عن الطريق الشرعى. وفيه غرر، ويؤخذ فيه قسط مالى دون مقابل إذا لم يقع الخطر، كما يأخذ المستأمن أضعافًا كثيرة زيادة عن قسط التأمين إذا وقع الخطر، مما يجعله كالمقامرة أو الربا، علاوة على أن شركات التأمين قد تشترط في التأمين على الحياة شروطًا ربوية، وهى دائمًا تستثمر احتياطى أموالها لدى المصارف الربوية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 وقد رددت في كتابى الأول والثانى على هذه الشبهات بما فيه الكفاية، وأوضحت ضرورة التمييز بين نظام التأمين في ذاته إذا خلا عقده من شروط منافية لقواعد الشريعة في التعاقد، وبين ما يشترط في عقوده التطبيقية من شروط غير مقبولة شرعا، ربوية أو سواها. فحينئذ نحكم بتحريم ذلك العقد بخصوصه، لا بتحريم نظام التأمين كليًا. وذلك كالبيع الذي أحله الله تعالى نظاما لتبادل الأموال وفاء لحاجة الناس، فإذا تضمن بعض عقوده التطبيقية شرطا ربويًا فإننا نحكم بحرمة هذا العقد لا بحرمة نظام البيع كليًا، وتبادل الأموال بوجه عام. أما التمييز بين تأمين تعاونى يباح، وتأمين تجاري يحرم، فقد أوضحت خطأه في مخالفتى لقرار المجمع الفقهى بمكة المكرمة الذي ذهب إلى هذا التمييز، ومخالفتى هذه المشار إليها مثبتة بنصها مع قرار المجمع المؤقر، ومنشورة في كتابى الجديد المشار إليه الصفحات/151_153. وأما شبهة الغرر- وهى الشبهة الوحيدة الجديرة بالوقوف عندها للنظر والتمحيص فقد بين لى، بحمد الله تعالى، أنها شبهة داحضة لا ناهضة، وأوضحت في عقد التأمين تخريجًا فقهيًا وتكييفًا ينفيان وجود الغرر فيه. ثم عرضت آراء المذاهب الفقهية في الغرر، بما يكفئ لإقناع من همه البحث عن الحقيقة العلمية بتجرد، أنه لا ينبغى أن يكون للغرر المزعوم في عقد التأمين تأثير مانع على فرض وجود غرر فيه. (ينظر تفصيل ذلك في كتابى الجديد تحت كلمة (غرر) في حرف الغين من الفهرس الهجائى، في المواطن المحال عليها فيه) . هذا، وقد بدا لى أن كتابة بحث الآن عن التأمين، وبيان وجهة نظرى فيه بعد صدور كتابى الجديد المذكور، لن يكون سوى تكرار لبعض ما استوفيته فيه، أو اختصار تغيب فيه قوة الحجة ونصاعتها، ولن يغنى عن الرجوع إلى الكتاب لاستيعاب التفصيل حول كل نقطة من نقاط الموضوع ليتسنى تكوين فتوى نيرة صادرة عن بصيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 لذا رأيت أن أكتفى بتقديم نسخة منه مع هذه الكلمة التوضيحية لتروا ما تستحسنون من تصوير نسخ عنها توزعونها على الأعضاء الكرام. أو طلب العدد اللازم لهم من نسخ الكتاب من دار النشر التى نشرته في مدينة عمان، وهى دار البشير بمنطقة العبدلى في عمان من المملكة الأردنية. وأرسل الآن نسخة من الكتاب المذكور بالبريد المسجل الجوى إلى فضيلتكم في وقت واحد مع هذه الرسالة. ويرى في آخر الكتاب، بعد فهرس المراجع فهرس هجائى مستوعب للألفاظ العنوانية وللأعلام المذكورة فيه بمناسبة آراء منقولة عن أحدهم، ثم فهرس موضوعى تفصيلى، فيستطيع الباحث أن يرجع بواسطتها إلى أية فكرة أو ناحية عولجت أو نوقشت في الكتاب، فيرى التفصيل فيها بمنتهى السهولة. وأختم بالتحيات الطيبات مشفوعة بمزيد الاحترام لفضيلتكم، ومد الله تعالى في أثركم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 وثائق مقدمَة للمؤتَمر التأمين وَإعادة التأمين الشَيخ عبٌد الله بن زيد آل مَحمُود شركات التأمين اعلم أنها لَما كثرت الخيرات واتسعت التجارات وفاض المال على الناس من جميع الجهات، اخترع الناس لهم فنونًا من المعاملات والشركات لم تكن معروفة في سالف السنين ولم يقع لها ذكر عند الفقهاء المتقدمين. من ذلك شركات التأمين على اختلاف أنواعها، وهى قضية ذات أهمية وليدة هذا العصر، وقد راجت بين العالم وصارت حديث القوم في سمرهم ومجالسهم، وأخذ بعض الناس يموج في بعض في موضوعها بالتجهيل والتضليل وبالتحريم والتحليل. وأسبق من رأيناه طرق موضوع الكلام فيها من علماء المسلمين هو الشيخ ابن عابدين المتوفى عام (1252) فقد ذكرها في كتابه "الرد المختار" ونصه: قال: "إنها جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركبًا من حربى يدفعون له أجرته ثم يدفعون أيضا مالًا معلومًا لرجل مقيم فى بلاده يسمى ذلك المال (سوكره) على أنه مهما هلك المال الذي في المركب بغرق أو حرق أو نهب أو غيره، فذلك الرجل ضامن له بثمنه في مقابلة ما يأخذه منهم، فإذا هلك من مالهم شيء يؤدى ذلك المستأمن للتجار بدله تمامًا.. قال: والذى يظهر لى أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك، لأن هذا التزام ما لا يلزم. انتهى". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 ويظهر أن مبدأ عملية التأمين هو الخوف من الحوادث والكوارث الشديدة التى تفاجئهم فتجحف بذهاب أنفسهم وأموالهم، فأراد بعض التجار بهذا التأمين التحفظ على ضمان أموالهم كما أراد الآخرون التأمين على بدل حياتهم، وهذا كله لم يكن معروفًا في بلدان المسلمين قبل هذه السنين. ثم أخذ علماء هذا العصر يتكلمون في موضوعها، حيث دعت الحاجة والضرورة إلى البحث فيها، لأن "لكل حادث حديث ولكل مقام مقال". فمنهم من قال بتحريم عقد التأمين بكل أنواعه، ومنهم من أباحه بكل أنواعه، ومنهم من توسط فيه فقال بإباحة شيء ومنع شيء منه، ولسنا من المجازفين القائلين بإباحته بكل أنواعه ولا من الجافين القائلين بتحريمه بكل أنواعه. وإنما موقفنا منه موقف التفصيل لأحكامه، ثم التمييز بين حلاله وحرامه. والذى ترجح عندنا هو أن التأمين على حوادث السيارات والطائرات والسفن والمصانع والمتاجر أنه مباح لا محظور فيه، إذ هو من باب ضمان المجهول وما لا يجب وقد نص الإمام أحمد ومالك وأبو حنيفة على جوازه. وهذا نوع منه يقاس عليه لإلحاق النظير بنظيره، كما سيأتى بيانه. أما التأمين على الحياة، فإنه غير صحيح ولا مباح لأننا لم نجد له محملًا من الصحة لأن وسائل البطلان محيطة به من جميع جهاته، فهو نوع من القمار ويدخل في بيع الغرر كبيع الآبق الذي لا يدرى أيقدر على تحصيله أم لا، ويدخل في مسمى الربا الذي هو شراء دراهم بدراهم مؤجلة، ويدخل في بيع الدين بالدين، حيث إن المؤمن يدفع قيمة التأمين مقسطة في سبيل الحصول على دراهم أكثر منها مؤجلة، أضف إلى أنها لا تقتضيه الضرورة ولا توجيه المصلحة، كما سيأتى بيانه قريبًا إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 التأمين على السيارات: إن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيّه بيّن الحلال والحرام بيانًا واضحًا فقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} ، وقال: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} ، وقال: {أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} . وفى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب)) . فأخبر النبى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الحلال المحض بيّن واضح لا مجال للشك فيه وأن الحرام المحض بيّن لا يختلج في القلب الجهل به ولكن بينهما أمور مشتبهات لا يعلم أكثر الناس حقيقة الحكم فيها، هل هى من الحلال أو من الحرام. ومفهوم الحديث أن القليل من الناس وهم أهل العلم والمعرفة يعرفون حكم الله في هذه المشتبهات فيلحقون الحلال بنظيره من الحلال، والحرام بنظيره من الحرام. فالذين يخاف عليهم من الوقوع في الحرام عند مقاربتهم للمشتبهات هم العوام الذين تخفى عليهم غوامض الأحكام ويتجاسرون على الأشياء المشتبهات بدون سؤال عن الحلال والحرام، كما أن العلماء ينبغى أن يتركوا المشتبهات عندما يخفى عليهم طريق الحكم فيها، لحديث: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 ثم أن هذه المشتبهات تقع في العقود والشروط والمبايعات والأنكحة والأطعمة والرضاع، وقد ترجم لها البخاري في صحيحه، فقال: "باب تفسير المشتبهات"، ثم ساق بسنده عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت امرأة سوداء فقالت: إنى قد أرضعتكما، فسأل النبى صلى الله عليه وسلم فقال: كيف وقد قيل، ففارقها عقبة ونكحت زوجًا غيره. ثم ذكر حديث عبد الله بن زمعة مع عتبة بن أبي وقاص، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الولد لك يا عبد الله بن زمعة واحتجبى منه يا سودة)) . فأمر سودة أن تحتجب عنه مع أنه محكوم بكونه أخاها، لكن لمّا رأى قرب شبهة بعتبة بن أبي وقاص أمرها أن تحتجب عنه وهو من باب اتقاء الشبهات. فمن هذه المشتبهات ما يقع مشكلًا مشتبهًا في وقت إلى أن يتصدى له من يخرجه من حيز الاشتباه والغموض إلى حيز التجلى والظهور حتى يصير واضحًا جليًا لا مجال فيه للاشتباه. فمن هذا النوع قضية التأمين على السيارات، فهى وإن أشكل على الكثير من الناس حكمها من أجل تجدد حدوثها وغموض أمرها وعدم سبق الحكم من الفقهاء فيها باسمها، فإن لها في الفقه الإسلامى أشباها ونظائر ينبغى أن ترد إليها ويؤخذ قياسها منها، كما يرد الفرع إلى أصله والنظير إلى نظيره. وهذا يعد من القياس الصحيح الذي نزل به الكتاب والسنة وعمل به الصحابة –رضى الله عنهم- فإنهم كانوا يمثلون الوقائع بنظائرها ويشبونها بأمثالها، ويردون بعضها إلى بعض في أحكامها ففتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقة وبينوا لهم سنة تحقيقه وتطبيقه. كما سيأتى بيانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 الأصل في العقود الإباحة حتى يقوم دليل التحريم ذهب الإمام أبو حنيفة –رحمه الله- إلى أن الأصل في العقود والشروط الحظر إلى أن يقوم دليل الإباحة وهذا هو مذهب الظاهرية وعليه تدل نصوص الإمام الشافعى وأصوله. وذهب الإمام مالك إلى أن الأصل في العقود الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه وعليه تدل نصوص الإمام أحمد وأصوله وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-. فقد قال شيخ الإسلام –رحمه الله- "إن الأصل في العقود الصحة والجواز ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل الشرع على إبطاله وتحريمه بنص صحيح أو قياس صريح". قال: "وأصول الإمام أحمد المنصوصة عنه تجرى على هذا القول، ومالك قريب منه" (1) انتهى. وقد نهج هذا المنهج العلامة ابن القيم –رحمة الله- قال في الأعلام: "الخطأ الرابع: فساد اعتقاد من قال أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملتهم على البطلان حتى يقوم دليل الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة عقد أو شرط أو معاملة، استصحبوا بطلانه فأفسدوا بذلك عقودًا كثيرة من معاملات الناس وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل وجمهور الفقهاء على خلافه وأن الأصل في العقود والشروط الصحة حتى يقوم الدليل على البطلان، وهذا القول هو الصحيح، فإنه لا حرام إلا ما حرم الله ورسوله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله".. انتهى (2) . إذا ثبت هذا، فإن صفة عقد التأمين على حوادث السيارات، وهو أن يتفق الشخص الذي يريد التأمين على سيارته مع شركة التأمين، سواء كان التأمين كاملًا أو ضد الغير، فيدفع قدرًا يسيرًا من المال على تأمينها مدة معلومة من الزمان، كعام كامل بشروط وقيود والتزامات معروفة عند الجميع. من أهمها: كون السائق يحمل رخصة سياقة، فمهما أصيبت هذه السيارة أو أصابت غيرها بشيء من الأضرار في الأنفس والأموال خلال المدة المحدودة، فإن الشركة ملزمة بضمانه بالغًا ما بلغ.   (1) ج 2 من الفتاوى القديمة ص 326 (2) ج 2 ص 34 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 ويستفيد المؤمن على سيارته حصول الأمان والاطمئنان على نفسه وعلى سيارته التى يسوقها بنفسه أو يسوقها رجل فقير لا مال له ولا عاقلة، فيستفيد عدم المطالبة والمخاصمة في سائر الحوادث التى تقع بالسيارة متى كان التأمين كاملًا، وتقوم شركة التأمين بإصلاحها عند حدوث شيء من الأضرار بها. ومثل هذا الأمان والاطمئنان يستحق أن يبذل في حصوله نفيس الأثمان. وليس فيه المحذور سوى الجهالة بالأضرار التى قد تعظم في بعض الأحوال فتقضى بهلاك بعض النفوس والأموال وقد لا تقع بحال. وهذه الجهالة مغتفرة فيه كنظائره من سائر الضمانات. فقد ذكر الفقهاء صحة الضمان عن المجهول وعما لا يجب!. قال في "المغنى": ويصح ضمان الجنايات، سواء كانت نقودًا كقيم المتلفات أو نفوسًا كالديّات، لأن جهل ذلك لا يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع جوازه بالالتزام. قال: ولا يشترط معرفة الضامن للمضمون عنه ولا علمه بالمضمون به لصحة ضمان ما لم يجب.. انتهى. وهذه هى نفس قضية التأمين على ضمان حوادث السيارات، ثم إن هذه الجهالة في عقد التأمين لا تفضى إلى نزاع أبدًا، لتوطين الشركة أمرها في عقدها على التزام الضمان بالغًا ما بلغ، فلا تحس بدفع ما يلزمها من الغرامة في جنب ما تتحصل عليه من الأرباح الهائلة. وقد دعت إليها الحاجة والضرورة في أكثر البلدان العربية، بحيث لا يمنح السائق رخصة سياقة إلا في سيارة مؤمنة وإلا اعتبروه مخالفًا لنظام سير البلد، وهذه مما يزول بها شبهة الشك في إباحتها وتتمخض للجواز بلا إشكال. وفى هذا التأمين مصلحة كبيرة أيضا وهى أن المتصرفين بقيادة السيارات هم غالبًا يكونون من الفقراء الذين ليس لهم مال ولا عاقلة، فمتى ذهبت أرواح بعض الناس بسببهم وبسوء تصرفهم فلن تذهب معها دياتهم لورثتهم، بل يجب أن تكون مضمونة بهذه الطريقة. إذ من المعلوم أن حوادث السيارات تقع دائمًا باستمرار وأن الحادثة الواحدة تجتاح هلاك العدد الكثير من الناس ومن الحزم وفعل أولى العزم ملاحظة حفظ دماء الناس وأموالهم. وهذا التأمين وإن كان يراه الفقير أنه من الشيء الثقيل في نفسه ويعده غرامة مالية عليه حال دفعه لكنه يتحمل عنه عبئًا ثقيلًا من خطر الحوادث، مما يدخل تحت عهدته ومما يتلاشى معها ما يحس به من الغرامة لكون المضار الجزئية تغتفر في ضمن المصالح العمومية.. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 إزالة الشبهات اللاحقة لتأمين السيارات إن العقود والشروط والشركات والمبايعات كلها مبنية على جلب المصلحة ودرء المفسدة، بخلاف العبادات، فإنها مبنية على التشريع والاتباع لا على الاستحسان والابتداع. والفرق بينهما هو أن العبادات حق الله، يؤخذ فيها بنصوص الكتاب والسنة. أما المعاملات، فإنها مبنية على جلب المصلحة ودرء المفسدة، إذ هى من حقوق الآدميين بعضهم مع بعض. بحيث يتعامل بها المسلم مع المسلم والمسلم مع الكافر. فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإنه ليس عندنا نص صحيح ولا قياس صريح يقتضى تحريم هذا التأمين يعارض به أصل الإباحة أو يعارض به عموم المصلحة المعلومة بالقطع. إذ العقود والشروط عفو حتى يثبت تحريمها بالنص أو بالقياس الصحيح. والتحريم هو حكم الله المقتضى للترك اقتضاء جازمًا كما حققه أهل الأصول وهذه الشركة المنعقدة للتأمين أن رأت في نفسها، من مقاصدها أو رآها الناس أنها تجارية استغلالية. لكن حقيقة الأمر فيها والواقع منها أنه يتحصل منها اجتماع المنتفعين منفعتها في نفسها في حصول الأرباح لها ومنفعة الناس بها، فهى شركة تعاونية محلية اجتماعية تشبه شركة الكهرباء والأسمنت وغيرهما، فكل هذه الشركات تدخل في مسمى التعاون بين الناس، لأن الشخص غنى بإخوانه قوى بأعوانه ويد الله مع الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فهى من جنس المشاركة بالوجوه ومشاركة الأبدان ومشاركة المفاوضة. وقد حصل الخلاف قديمًا بين الفقهاء في جواز هذه المشاركات، فمنهم من قال بجوازها، ومنهم من قال بمنعها، كما حصل الخلاف في شركة التأمين على حد سواء ثم زال الخلاف عن هذه الشركات كلها واستقر الأمر على إباحتها على اختلاف أنواعها. ووجه الإشكال دعوى دخولها في مسمى الجهالة والغرر الذي نهى عنه الشارع. كما روى مسلم في صحيحه، قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 وفسر هذا الغرر المنهى عنه بثلاثة أمور: (أحدها) المعدوم: كبيع حبل الحبلة وبيع ما في بطون الأنعام وبيع ما ليس عندك ونحوه. (الثانى) بيع المعجوز عن تسليمه: كبيع الآبق. (الثالث) المجهول المطلق: كبعتك عبدًا من عبيدى أو ما في بيتى، ومنه بيع الحصاة وبيع الملامسة والمنابذة وضربة الغائص وبيع الحظ والنصيب المسمى باليانصيب فكل هذه داخلة في بيع الغرر المنهى عنه شرعًا، لكونها يقع فيها النزاع غالبًا نظير ما يقع في القمار، فإن هذا العبد الآبق إنما يبيعه صاحبه بدون ثمن مثله مخاطرة، فإن تحصل عليه قال البائع: غبنتنى، فإن لم يجده قال المشترى: غبنتنى ردّ علىّ ثمنى. وهذا المعنى منتف في هذه المشاركة التى مبناها على التعاون الاجتماعى الصادر عن طريق الرضا والاختيار بدون غرر ولا خداع. فجواز المشاركة هذه أشبه بأصول الشريعة وأبعد عن كل محذور، إذ هى مصلحة محضة للناس بلا فساد. غير أن فيها تسليم شيء من النقود اليسيرة في توطيد تأمين السيارة ومن السهل أن يختصرها الشخص من زائد نفقته كذبيحة يذبحها لأدنى سبب أو بلا سبب، لأن كل عمل كهذا فإنه يحتاج بداعى الضرورة إلى مال ينظمه ويقوم بالتزام لوازمه، وليس عندنا ما يمنع بذل المال في التزام الضمان. كما قالوا بجواز: اقترض لى ألفًا ولك منه مائة، وأنه جائز، ومنه ضمان الحارس بأجرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 فصحة هذا الضمان والتزام لوازمه يتمشى على نصوص الإمام أحمد وأصوله. قال في المغنى: "دلت مسألة الخرقى على ضمان المجهول كقوله: ما أعطيته فهو على وهذا مجهول، فمتى قال: أنا ضامن لك ما على فلان، أو ما يقضى به عليه أو ما تقوم به البيّنة أو ما يقّر به لك أو ما يخرجه الحساب، صح الضمان بهذا كله وبهذا قال أبو حنيفة ومالك ". قال: "وفيه صحة ضمان ما لم يجب وصحة الضمان عن كل من وجب عليه حق وفيه صحة الضمان في كل حق من الحقوق المالية الواجبة أو التى تؤول إلى الوجوب ".. انتهى. وقال في المغنى أيضًا: "ويصح ضمان الجنايات، سواء كانت نقودًا كقيم المتلفات أو نفوسًا كالديات، لأن جهل ذلك لا يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع جوازه بالالتزام". قال: "ولا يشترط معرفة الضامن للمضمون عنه ولا العلم بالمضمون به". وهذه هى نفس قضية ضمان التأمين على السيارات، فإن شركة التأمين تلتزم ضمان الديات وأروش الجنايات وقيم المتلفات كما ذكر جوازه صاحب المغنى والشرح الكبير والإقناع. ولا يقدح في صحته جهل الضامن للمضمون به ولا المضمون عنه. فنصوص الإمام أحمد وأصوله تتسع لقبولها كنظائرها من الضمانات، وكذلك الإمام مالك وأبو حنيفة كما ذكرنا موافقتهما على ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 غير أن الإمام أحمد أكثر تصحيحًا للعقود والشروط من سائر الأئمة، ونصوص مذهبه تساير التطور في العقود المستحدثة. وإنما وقع اللبس فيها على من قال بتحريمها من علماء هذا العصر، كابن عابدين وغيره من جهة أنهم اعتقدوها قمارًا أو جهالة أو غررًا، أو التزام ما لا يلزم أو كونها على عمل مجهول قد يفضى إلى غرامات باهظة. ويتمسكون بما بلغهم من العمومات اللفظية والقياسات الفقهية التى اعتقدوا شمولها لمثل هذا العقد يظنونها عامة أو مطلقة وهى لا تنطبق في الدلالة والمعنى على ما ذكروا. أو يعللون بطلان مثل هذا بكونه لم يرد به أثر ولا قياس. والله سبحانه قد أمر عباده بالوفاء بالعقود في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وهو شامل لكل عقد يتعاقده الناس فما بينهم ويلتزمون الوفاء به، ولم يكن قمارًا ولا ربا ولا خديعة. إذ الأصل في العقود الصحة والإباحة إلا ما قام الدليل على تحريمه، لكون العقود والشروط والمشاركات من باب الأفعال العادية التى يفعلها المسلم مع الكافر وليست من العبادات الشرعية التى تفتقر إلى دليل التشريع. فمن أعطى الشركة مالًا على حساب التزام ضمان سيارته بطيب نفس منه والتزمت الشركة لوازمه، فإن مقتضى الشرع يحكم بصحة هذا الضمان، أخذًا من قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . ومن قوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، وفى الحديث ((لا يحل مال أمرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)) . وهذا العوض قد خرج عن طيب نفس من مالك السيارة ومن الشركة، فثبت بذلك إباحته وقواعد الشرع لا تمنعه لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه وربما يجبرون بطريق النظام عليه، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه. لأن المال عزيز على النفوس لا تسخو ببذله إلا في سبيل منفعتها، وفى هذا المقام هو في حاجة إلى تأمين سيارته لحصول الاطمئنان والأمان عما عسى أن ينجم عنها من حوادث الزمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 وبما أن هذه الشركة هى من ضمن العقود التى أمر الله بالوفاء بها، ومن جنس التجارة الواقعة بين الناس بالتراضى، ومن جنس المشاركة بالأبدان والوجوه والمفاوضة، فإنها أيضا من جنس الصلح الجائز بين المسلمين، لما روى أبو داود والدارقطنى من حديث سليمان بن بلال، حدثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة، قال: "قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم ((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا والمسلمون على شروطهم)) وكثير بن زيد قال يحيى بن معين: هو ثقة وضعفه في موضع آخر، وروى الترمذى من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزنى عن أبيه عن جده. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا)) قال الترمذى: حديث حسن صحيح، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أن هذا الحديث يترقى إلى الصحة بتعدد طرقه، مع العمل عليه بإجماع أهل العلم. فهذا الاشتراك الاجتماعى الأهلى المنعقد للضمان في تأمين حوادث السيارات يعتبر من التعاون المباح وما ينتج عنه من الأرباح فحلال لا شبهة فيه، أشبه بشركات الكهرباء والأسمنت ونحوها، ويدخل في عموم الصلح الجائز بين المسلمين وإباحته تتمشى على ظاهر نصوص مذهب الإمام أحمد. قال في الإقناع (1) : ويصح ضمان أروش الجنايات نقودًا كانت كقيم المتلفات أو حيوانًا كالديّات، لأنها واجبة أو تؤول إلى الوجوب.. انتهى. وسبق قول صاحب المغنى.   (1) هو من الكتب المعتمدة عند الحنابلة لمؤلفه موسى الحجاوى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 وهذه تشبه قضية ضمان التأمين على السيارات، حيث تلتزم الشركة ضمان الديات وأروش الجنايات وقيم المتلفات، كأضرار السيارات ونحوها من كل ما هو واجب بالضمان أو يؤول إلى الوجوب ولا يشترط معرفة المضمون عنه ولا المضمون به. ولا يقدح في صحة هذا الضمان كون المؤمن على سيارته يدفع شيئًا من المال، فإن هذا لا يقدح في صحته الضمان والحالة هذه، إذ ليس عندنا ما يمنعه. ولا يقدح في صحة هذا الضمان تبرع الشركة بدفع الديّات وقيم الأضرار والمتلفات بدون رجوع فيه إلى أحد، فإن هذا كله جائز على قواعد المذهب، إذ من المعلوم شرعًا وعرفًا أن الجناية تتعلق بالجانى المباشر لها في خاصة العمد وعلى العاقلة في قتل الخطأ فيما زاد على الثلث من الديّة، غير أن التزام الشركة بضمان هذه الجنايات وإن عظم أمرها وعدم الرجوع منها على أحد في غرمها أنه صحيح جائز، وهو مما يجعل الجانى الذي لم يتعمد وكذا عاقلته في راحة عن المطالبة والغرامة وهو خير من كونهم يتكففون الناس في سؤال هذه الغرامة أعطوهم أو منعوهم. وغاية ما يدركون عليها هو الجهالة عن قدر الغرامة، وهى مغتفرة فيها كسائر أمثالها من الضمانات والشركات التى لا تخلو من الجهالة كشركة الأبدان والوجوه والمفاوضة، فإن فيها كلها شيئًا من الجهالة. وقد تكلم بعض الفقهاء المتقدمين بعدم جوازها من أجله ثم استقر الأمر على أن مثل هذه الحالة مغتفرة. قال في الإقناع: "ويصح ضمان ما لم يجب وضمان المجهول كضمان السوق، وهو أن يضمن ما يجب على التاجر للناس من الديون وهو جائز عند أكثر أهل العلم كمالك وأبى حنيفة وأحمد " انتهى. وقال في الاختيارات: "ويصح ضمان المجهول ومنه ضمان السوق وهو أن يضمن ما يلزم التاجر من دين وما يقبضه من عين مضمونة وتجوز كتابته والشهادة به لمن لم ير جوازه، لأن ذلك محل اجتهاد" انتهى. فهذه المشاركات وما يترتب عليها من الالتزامات التى هى بمعنى الضمانات كلها من الأشباه والأمثال والنظائر التى يجب أن يقاس بعضها على بعض في الإباحة كشركة الأبدان وشركة الوجوه وشركة المفاوضة، ومثله شركة الكهرباء والأسمنت، ولأن حمل معاملة الناس وعقودهم وشروطهم على الصحة حسب الإمكان أولى من حملها على البطلان بدون دليل ولا برهان.. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 تسامح مذهب الحنابلة في تقبل التأمين على السيارات وكثير من العقود والشروط والمعاملات إن كل مختص في فهم فقه الأئمة الأربعة، فإنه سيعرف تمام المعرفة أن نصوص الإمام أحمد وأصوله تستصحب الحكم بصحة عقد التأمين على السيارات وأن جوازها يتمشى على مذهبه، كما يوافقه مذهب الإمام مالك وأبى حنيفة. ولا نعنى بذلك أن الحنابلة ذكروا هذا العقد باسمه وصفته في كتبهم، بل ولا غيرهم من سائر المذاهب لكونها حديثة الاختراع ولكل حادث حديث. وإنما نعنى أن نصوص الإمام أحمد، تتسع لقبولها كسائر نظائرها من الشركات والضمانات وبيع أسهم الشركات. لكون الإمام أحمد أكثر تصحيحًا للعقود والشروط من سائر الأئمة، ونصوص مذهبه تساير التطّور في العقود المستحدثة. لأن نصوصه وإن لم تنص على كل عقد أو شرط باسمه لكنها كافية لحل جميع مشاكل العقود والشروط والشركات بالنص أو الاقتضاء أو التضمن، غير أنها تحتاج إلى فهم ثاقب وتطبيق سليم وتبحر في فقه النصوص والعقود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 وقد اشَتهر عند المتأخرين تسامح مذهب الإمام أبي حنيفة في مسايرة التطّور في العقود المستحدثة، من أجل أن أصحابه نشروا عنه ذلك وهو صحيح. غير أن مذهب الإمام أحمد يمتاز عليه في كثير من المسائل التى تقتضيها الحاجة وتوجبها المصلحة، من ذلك أن نصوص الإمام أحمد وأصوله تدل على أن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما دل الدليل على التحريم خلاف ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة من أن الأصل في العقود والشروط الحظر إلا ما دل على الإباحة وهو قول الظاهرية. وهو مذهب الشافعى. ومنها عقد المساقاة على النخل والشجر بالثلث أو النصف أو بشيء مما يخرج منها أو من غيرها أو بالنقود. فقد أنكرها الإمام أبو حنيفة والإمام الشافعى وقالا: إنها بيع ما لم يخلق وأنها من الإجارة المجهولة وتفضى إلى الغرر. أما الإمام أحمد فقد أجازها عملًا بحديث خيبر وكما أن الضرورة والحاجة وعموم المصلحة تقتضى ذلك وعليه العمل في هذا الزمان. ومنها شركة المفاوضة، وهى أن يفّوض كل واحد منهما إلى شريكه التصرف في ماله مع حضور صاحبه وغيبته، فقد قال الإمام الشافعى لا يجوز. واتفق الإمام أحمد ومالك وأبو حنيفة على جوازها. ومنها شركة الأبدان، فقد قال الإمام الشافعى بمنعها، واشترط الإمام مالك لصحتها اتحاد الصنعة بين الشريكين. أمام الإمام أحمد، فقد أجازها مع اختلاف الصنعة واتفاقها، كما أجاز الاشتراك على الدابة له نصف وللدابة النصف الثانى. ومنها شركة الوجوه. فقد قال الإمام مالك والشافعى ببطلانها لكون الاشتراك الصحيح يتعلق على المال وعلى العمل وكلاهما معدومان في هذه المشاركة مع ما فيه من الغرر، لأن كل واحد منهما عاوض صاحبه بكسب غير محدود لا بصناعة ولا بعمل مخصوص. هذا حجة من قال بمنعها كمالك والشافعى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 أما الإمام أحمد، فقد قال بجوازها لأنها عمل من الإعمال فجاز انعقاد الاشر عليها. وهذا هو الظاهر من مذهب الإمام أبي حنيفة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. ومنها شرط الخيار في البيع، فقد قال الإمام مالك والشافعى وأبو حنيفة: لا يجوز الخيار فوق ثلاثة أيام إلا أن الإمام مالكًا قال لا يزاد الخيار على ثلاثة أيام إلا بقدر الحاجة، كأن يصل إلى البلد وهو لا يصل إليها إلا فوق ثلاثة أيام. أمام الإمام أحمد، فإنه قال بجواز شرط الخيار على ما يتفقان عليه زادت المدة أو قصرت حتى ولو زاد على الشهر، لأنه حق ثابت بالشرع فرجع في تقديره إلى مشترطه كالأجل ويحكم بالملك في مدة الخيار للمشترى له غنمه وعليه غرمه. ومنها إذا باع شيئًا واستثنى نفعه المباح مدة معلومة غير الوطء، ودواعيه، كما لو باع بيتًا واستثنى سكناه حولًا أو أكثر. فقد قال الإمام أبو حنيفة والشافعى: لا يصح هذا الشرط، لأنه ينافى مقتضى البيع، أشبه ما لو اشترط أن لا يسلمه إليه. أمام الإمام أحمد، فقد قال بصحة هذا الشرط ولزوم ما يترتب عليه، لقصة جابر حين باع بعيره على النبى صلى الله عليه وسلم واستثنى حملانه إلى المدينة. وتأخير تسليم المبيع إلى المدة المحدودة لا ينفى صحة البيع كالدار المؤجرة فإنه يصح البيع فيها مع تأخير تسليمها. ومنها بيع التلجئة وهى إذا خشى إنسان سلطانًا أو ظالمًا أن ينتزع ملكه منه قهرًا فاتفق مع إنسان بأن يظهر للناس أنه اشتراه منه ليحتمى بذلك من هذا الظالم ولا يريد بيعه على الحقيقة، فإن هذا يسمى بيع تلجئة. وقد قال الإمام أبو حنيفة والشافعى هو بيع صحيح، تم بأركانه وشروطه فلزم العقد فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 أما الإمام أحمد، فقد قال بعدم لزوم البيع لأنهما لم يقصدا البيع الحقيقى الذي هو انتقال المبيع إلى المشترى فلم يصح بناء على ما اتفقا عليه قبل العقد، لكون العقود محمولة على القصود. ومنها بيع العربون وهو أن يشترى شيئًا فيسلم بعض ثمنه ويقول أن جئتك ببقية الثمن وإلا فالعربون لك. فقد قال مالك والشافعى وأبو حنيفة: هذا لا يصلح لأنه بمثابة الخيار المجهول. أما الإمام أحمد، فقد قال: لا بأس به وفعله عمر وأجازه ابن عمر، وضعّف حديث النهى عن بيع العربون. ومنها لو اشترطت الزوجة في صلب العقد بأن لا يتزوج عليها أو أن لا يتسرى عليها أو أن لا يخرجها من دار أهلها أو بلدها ونحو ذلك. فقد قال أبو حنيفة ومالك والشافعى: هذا شرط باطل لحديث ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط)) . وحديث ((إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا)) ، وهذا الشرط يقتضى تحريم الحلال من التزوج بغيرها أو التسرى أو السفر. أما الإمام أحمد، فقد قال بصحة هذا الشرط ولزومه، وأنه أن لم يف به فلها الخيار بين البقاء أو فسخ النكاح، لما روى البخاري أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أحق الشروط أن توافوا به ما استحللتم به الفروج)) ، وحديث ((المسلمون على شروطهم)) . والقول بصحة هذا الشرط لزومه يروى عن عمر وسعد بن أبي وقاص ومعاوية وعمرو بن العاص ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعًا. وتزوج رجل بامرأة واشترطت عليه دارها فأراد نقلها بغير اختيارها، فخاصموه إلى عمر، فقال: لها شرطها. فقال الرجل: إذا يطلقننا يا أمير المؤمنين. فقال عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 فهذه العقود والمشاركات والشروط وما يترتب عليها من الالتزامات والضمانات كلها من الأشباه والأمثال والنظائر التى يقاس بعضها على بعض في الإباحة لملاءمتها للمعاملات المستحدثة في هذا العصر والتى لا توجد عند غيره من الأئمة. وكل ما يصححه من العقود والشروط، فإن لديه دليلًا خاصًا من أثر أو قياس لكونه يستنبط دلائل مذهبه من مسنده وقد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبى صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة ما لم يبلغ غيره من الأئمة فقال به. فهذا الاشتراك الاجتماعى الأهلى المنعقد لضمان تأمين السيارات والطائرات والسفن ونحوها، يعتبر من التعاون المباح ويدخل في حدود التعامل الجائز، وما ينتج عنه من الأرباح فحلال لا شبهة فيه، أشبه شركة الكهرباء والأسمنت ونحوهما. لأن حمل معاملة الناس على الصحة، حسب الإمكان أولى من حملها على البطلان بدون دليل ولا برهان لكون العقد الصحيح عند أهل الأصول هو ما يتعلق به النفوذ من بلوغ المقصود ويعتد به. والباطل بخلافه وهو ما لا يتعلق به النفوذ ولا يعتد به، وهذا الاشتراك وما يترتب عليه مستكمل لشروط الصحة شرعًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 ومن تأمل هذا تبين له أن جواز هذا الاشتراك وإباحة ما يترتب عليه من الربح أنه أشبه بأصول الشريعة وأبعد عن كل محذور. لكون الأصل في العقود والشروط الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه وأصول الإمام أحمد ونصوصه وقواعد مذهبه تقبل مثل هذا العقد وتنافى تحريمه. لكن بعض العلماء في هذا العصر القائلين بمنعه إنما أخذوه من العموميات اللفظية والقياسات الفقهية التى اعتقدوا شمولها لمثل هذا العقد ظنًا منهم أنه جهالة أو غرر، وما عارضوا به لم يصح عن الشارع القول بموجبه ولم يدخل في عموم المنهى عنه في أصل الشرع ولا في نصوص أحمد وأصوله، لكون الجهالة فيه مغتفرة وليست من الغرر المنهى عنه، بل هى من النوع الجائز كسائر أمثاله من الضمانات والشركات. وبهذا تندفع الاعتراضات وتبقى الأدلة الشرعية كافية للإقناع العلمى الذي تزول به الشكوك والشبهات. لهذا يجوز للقاضى الشرعى أن يحكم بصحة هذا العقد ولزوم ما يترتب عليه من الضمان. ومتى صدر الأمر به من الحكومة يتمحض للحتم والإلزام. وهو يدخل في ضمن عقد الضمان الذي ذكره الفقهاء من الحنابلة والمالكية والأحناف، حيث قالوا بصحة ضمان ما لم يجب وضمان المجهول وضمان أروش الجنايات، سواء كانت نقودًا أو ديات وكونه لا يشترط لصحة مثل هذا الضمان معرفة الضامن للمضمون عنه ولا قدر المضمون به فمتى قابل العاقل بين هذا الضمان الموصوف بما ذكر وبين ضمان التأمين على السيارات وجده منطبقًا عليه بجميع صفاته وإن اختلفت مسمياته وقواعد الشرع تعطى الشيء حكم نظيره. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 التأمين على الحياة وبيان بطلانه بالبراهين والبيّنات أن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيّه نصب أعلامًا وحدودًا للحلال يعرف بها الحلال، وأعلامًا وحدودا للحرام يعرف بها الحرام، فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وحدود الله محرماته، وقال: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} . وقد أنزل الله الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، فالكتاب هو الهادى إلى الحق، والميزان هو الذي توزن به أعمال الخلق فيعرف عدلها من عائلها، وصحيحها من فاسدها، فترد الفروع إلى أصولها ويلحق النظير بنظيره ويعطى حكمه في الجواز والمنع كما في رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعرى –رضى الله عنهما- حيث قال: "ثم الفهم الفهم فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما لم يكن في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال والنظائر وقس الأمور عند ذلك، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق" انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 لهذا يعتبر من الجور وعدم العدل إلحاق الحرام بالحلال، وكذا عكسه بحجة رواجه بين الناس أو مسايرته للتطور الجديد أو حكم الأنظمة بموجبه {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} . لأن كل تعامل أو اشتراك أو اشتراط ينافيه الشرع فهو باطل وإن كان مائة شرط. إن التأمين على اختلاف أنواعه لا ينبغى أن ينظر إليه بنظرات سلبية سطحية ليس لها غرض إلا في المادة والحصول على المادة والتشجيع على كسب المادة بشتى الطرق الملتوية والحيل المنحرفة عن المكاسب الصحيحة إلى المكاسب الخبيثة. وربما تحاملوا بالملام والإنحاء بالمذام على ما قال في الحرام هو حرام، كأنهم يريدون توسيع الطرق لكسب المال من حلال أو من حرام، كما في البخاري أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((يأتى على الناس زمان لا يبالى الرجل من أين أخذ المال أمن حلال أو من حرام)) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 صفة عقد التأمين على الحياة هو أن يأتى من يريد التأمين على حياته إلى شركة التأمين، فيتفق معها على تأمين حياته عشرين عامًا أو أقل أو أكثر، في مقابلة شيء معلوم من النقود، كأربعة آلاف أو أقل أو أكثر، يدفعها مقسطة بين عشر سنين كل سنة يدفع مثلًا أربعمائة ريال، على أنه أن مات في خلال هذه المدة المحدودة، فإن شركة التأمين ملزمة بدفع أربعين ألفًا أو خمسين ألفًا، على حساب ما يتفقان عليه، حتى ولو لم يكمل دفع الأقساط كلها. فإن دفع بعض الأقساط ثم عجز عن دفع الباقى ذهب عليه كل ما دفعه. وفيه شروط ومصطلحات بينهما، منها كون الشركة تشترط على نفسها أن تدفع ربحًا خمسة في المائة في حالة استمرار عقد التأمين. ولا شك أن هذا العقد بهذه الصفة باطل قطعًا، ولن تجد له محملًا من الصحة وإن حذلقة من يحتال لإباحته فإن وسائل البطلان محيطة به من جميع جهاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 منها أنها تسليم دراهم مقسطة في دراهم أكثر منها مؤجلة قد يتحصل عليها وقد تفوت عليه في حالة عجزه عن بعض الأقساط فحقيقتها أنها شراء دين بدين وشراء دراهم بدراهم أكثر منها وتشبه بيع الآبق المنهى عنه في حالة جهالة الحصول على العوض المشروط وقد يفوت عليه مع رأس ماله ومع ما فيه من الربا وسائر وسائل البطلان، فإنها لا تقضيه الحاجة ولا توجبه المصلحة ويمجه العقل فضلًا عن المشرع. والحاصل أن قضية التأمين على الحياة هى من المعاملات المستحدثة الفاسدة لمشابهتها لعقد الميسر حقيقة ومعنى من باب اجتماع الفرع بالأصل ومساواته له في المعنى والحكم، لأن الصحابة –رضى الله عنهم- كانوا يمثلون الوقائع بنظائرها ويشبهونها بأمثالها ويردون بعضها إلى بعض في أحكامها. لأنه بمقتضى تحقيق النظر في حكم هذا العقد. ثم في تطبيقه على ما يشاكله من نظائره، ثم الحكم فيه بالميزان العادل غير العائل على ضوء النصوص الصحيحة المبنية على حفظ الدين والنفس والمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 بدراسة عميقة سليمة من الأهواء النفسية والأغراض الشخصية دراسة تبين الأحكام وعللها وشمول مصالحها وترد الأشياء إلى أصولها بدون اطراد عرفى ولا اقتضاء عقلى، فإنه حينئذ يتبين بذلك فساد هذا العقد وخروجه عن حدود ميزان العدل والحق. لأن الحلال هو ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} ، وإنما حرم الله الميسر من أجل أنه أكل للمال بغير حق، مع كونه يورث العداوة والبغضاء على أثر سلب المال بغير حق. والله يقول: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . والنبى صلى الله عليه وسلم قد فصّل ما أجمله الله في كتابه من شئون تحريم بعض العقود والمعاملات صيانة للأموال عن التلاعب بها بغير حق، فنهى عن بيع الغرر وهو المجهول العاقبة وغير الموثوق بالحصول عليه، كبيع الآبق، وبيع ما في بطون الأنعام، وبيع حبل الحبلة، وبيع الحصاة والملامسة والمنابذة وضربة الغائص، وبيع ما ليس عندك، كما حرم الربا والميسر وهو القمار، وكما حرم الخمر شربه وبيعه وأكل ثمنه، كما حرم الخداع والغش والكذب. كل هذه حرمها الشاعر في أجل أنها تفضى إلى مفسدة الميسر الذي يثير العداوة والبغضاء بين الناس والذى هو أكل أموال الناس بالباطل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 وقد أخذ الناس تتجارى بهم الأهواء في تأمين الحياة حتى أخذوا يؤمنون على أعضاء الإنسان، فبعضهم يؤمن على يده، وبعضهم يؤمن على رجله، وبعضهم يؤمن على صوته (1) وحيث قلنا ببطلان التأمين على الحياة من أصله، فإنه مفض للبطلان في أبعاضه من باب الأولى والأحرى، كما قلنا ببطلان الميسر بكل أنواعه. وقضية عقد التأمين على الحياة هى من نوع ذلك بمقتضى المطابقة والتضمن. فإن المؤمن على حياته يدفع نقودًا قليلة مقسطة في نقود كثيرة مؤجلة وغير موثوق بالحصول عليها، فقد تفوت عليه بعجزه عن دفع بقية الأقساط، وقد يفوت عليه معظمها ببقائه حيًا إلى نهاية المدة المحدودة. والفرق بينه وبين التأمين على السيارات والطائرات ونحوهما واضح جدًا، فإن المؤمن على سيارته لا يريد بتأمينها الحصول على نقود أكثر مما دفع ولا أقل لا في حياته ولا بعد مماته، وإنما يريد الأمان والاطمئنان عن الحوادث منها أو عليها، بحيث تتكفل الشركة بضمان ما وقع عليها فقط وهذا الأمان والاطمئنان هو مما يستوجب أن يدفع فيه نفيس الأثمان والضامن غارم كما ثبت بذلك الحديث بقوله: ((الزعيم غارم والعارية مؤداة)) .   (1) إن شركة التأمين على الحياة في حالة إبرام العقد مع من يريد تأمين حياته تقوم بعملية الفحص على صحته وسلامته، فإن كان جسمه غير سليم امتنعوا عن التعاقد معه، أو على تأمين حياته، لعلمهم أن إدمان السكر يقصم العمر قبل انتهاء العمر المعتاد، ومن صفة الخمر أنها لقصر الأعمار وتولد في الجسم أنواع المضار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 فدعوى المبيحين له بأن عقد التأمين على الحياة يقع بالتراضى وأن شركة التأمين تدفع العوض المتفق عليه بحالة الاختيار بدون إجبار وأنه لن يثير العداوة والبغضاء كما يثيرها القمار وأنه قد يخلف هذا المال لأولاده الضعاف الذين قد تحيط بهم الحاجة والفقر بعد موته. فهذا ليس على إطلاقه ولا يبرر انعقاده. فدعوى انعقاده بالتراضى يبطله كون العقود المحرمة كلها تقع بالتراضى ولا يحللها رضى المتعاقدين، وقد سبق حكم الله بتحريمها وبطلانها. وأما دفع الشركة للعوض بمقتضى الرضا بدون أن يقع فيه عداوة ولا بغضاء فهذا ليس على إطلاقة، فمتى أردت أن تعرف عدم صحته فافرض أن رجلًا اتفق مع شخص آخر على تأمين حياته لكون عقد التأمين على الحياة يصح من الفرد مع الفرد كما يصح مع الشركة، إذ الحكم واحد. فاتفق معه على أن يدفع المؤمّن على حياته قدر أربعة آلاف أو أقل أو أكثر مقسطة، بحيث يدفع في كل سنة جزءًا منها على حساب تأمين حياته عشرين سنة أو عشر سنين. أن مات في خلال هذه المدة المضروبة لزم الملتزم للضمان خمسون ألفًا أو أربعون على حسب ما يتفقان عليه، بحيث يدفعها إلى ورثة المؤمّن لحياته، فبعد إبرام العقد ودفع أول الأقساط توفى المؤمّن لحياته أفتراه يدفع هذا القدر الذي التزمه أي أربعين أو خمسين ألفًا إلى الورثة بطريق الرضى والاختيار، أم تراه يتهرب عن الدفع ويعمل ألف حيلة في الامتناع وعدم السماح بالدفع وعلى أثره يقع النزاع بينه وبين خصمه في حالة امتناعه، ثم تنعقد بينهما العداوة والبغضاء أعظم مما يقع بين أهل القمار؟!. وفى حالة الاصرار على الامتناع تستدعيهما الحاجة والضرورة إلى الترافع إلى قاضى الشرع ليقطع عنهما النزاع ويريحهم من مشقة الخصام بالحكم بالعدل. أفترى هذا القاضى يحكم بالتزام الملتزم بدفع ما التزم به على نفسه، سواء كان أربعين أو خمسين ألفًا إلى ورثة المؤمّن على حياته، أم تراه يرد الأشياء إلى أصولها والفروع إلى نصوصها، فيحكم بإرجاع ما قبضه كل واحد منهما، ثم التحاسب فيما لكل واحد منهما أو عليه لا وكس ولا شطط، عملًا بقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 وكيف ننسى في مثل هذه القضية حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاءه في وجوب رد المال على صاحبه عند تعذر أخذ عوضه. كما روى مسلم في صحيحه عن جابر، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((لو بعت على أخيك ثمرًا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا بم تأخذ مال أخيك بغير حق)) . فهذا حكم رسول الله في مثل هذا العقد الواقع صحيحًا في بداية الأمر وبطريق الرضى والاختيار من كل منهما، ولكنه لمّا لم يقبض عوض ما اشتراه القبض التام الذي يحصل به الانتفاع حكم رسول الله برد الثمن على صاحبه، وكونه لا يحل للبائع أن يأكل مال أخيه بغير حق والذى لا يحل هو الحرام لكون الأموال محترمة لا يحل أخذها إلا عن طريق الحق. أفترى شرع الإسلام المبنى على مصالح الخاص والعام وعلى حفظ الدماء والأموال، أفتراه يحكم بفسخ هذا العقد ووجوب رد الثمن على المشترى كاملًا لمّا لم يتحصل على قبض ما اشتراه، ثم يبيح أخذ هذا المال الكثير بدون مقابل من العوض ما عدا الالتزام على نفسه به فلا يقول بصحة هذا العقد وإباحة ما يترتب عليه من العوض إلا من يقول بصحة عقد الميسر، أي القمار وإباحة ما يترتب عليه من المال، إذ هما في الحكم سواء والكل واقع بالتراضى بينهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 ثم أن العقود المحرمة مقرون بها الشؤم والفشل ومحق الرزق وانتزاع البركة يقود بعضها إلى بعض في الشر كما قيل من أن المعاصى بريد الكفر. لهذا يظهر من مساوئ مثل هذا العقد أن الورثة من الأولاد والزوجة متى عرفوا من موروثهم تأمين حياته بهذا المال العظيم، أي قدر خمسين ألفًا أو أربعين وخشوا فوات هذا المال بطول حياته وتجاوزه للمدة المحدودة، فإنهم سيعملون عملهم مباشرة أو بالتسبب بالقضاء على حياته حرصًا على الحصول على هذا المال وحذرًا من فواته بطول حياته، لكون المال مغناطيس النفوس يسيل لعابها على حبه والتحيل على فنون كسبه، مع العلم أن الناس قد ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم وضعف إيمانهم وفاض الغدر والخيانة بينهم. وقد قص الله علينا خبر من كان قبلنا ليكون لنا بمثابة العظة والعبرة، وخير الناس من وعظ بغيره. فقال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) } ، فمعنى ادَّارأتم، أي: تدافعتم في الخصام. وذكر ابن كثير في التفسير عن ابن أبي حاتم، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلمانى، قال: كان رجل من بنى إسرائيل عقيمًا لا يولد له وكان له مال كثير وكان ابن أخيه هو وارثه فاستبطأ موته فقتله ثم حمله فوضعه ليلًا على باب رجل منهم ثم أصبح يدعيه عليهم ويقول: أنتم قتلتم عمى حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض، فقال عقلاؤهم وذوو الرأى منهم: علام يقتل بعضكم بعضًا وهذا نبى الله موسى فيكم فاسألوه، قال: فأتوا نبى الله موسى –عليه السلام- فذكروا ذلك له فأمرهم أن يذبحوا بقرة وأن يضربوه ببعضها ففعلوا ذلك فبعثه الله حيًا سويًا، فقال: قتلنى ابن أخى فلان فلم يورث قاتل من قتله بعد ذلك. ورواه ابن جرير بنحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 وتاريخ هذا العصر يحكى عن مثله، وهو أن رجلًا أمَّن حياة والدته لدى شركة التأمين، فبعد إبرام العقد وتسليم بعض الأقساط صنع له قنبلة ووضعها تحت كرسى ثم أمر والدته أن تجلس على الكرسى فثارث بها القنبلة حتى جعلتها قطعًا فذهب إلى شركة التأمين يطالبهم بعوض حياة والدته، فبعد إجراء البحث والتفتيش عرفوا تمام المعرفة أنها خيانة ومكيدة من الولد على والدته حرصًا منه على الحصول على عوض حياتها، وقد اعترف لهم بذلك بعد تحديه بالأمارات والدلائل. وأما قولهم: إنه قد يخلف هذا المال لأولاده الضعاف فإن حسن المقاصد لا يبيح المحرمات {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} فكم من غنى خلف أموالًا كثيرة فاجتاحتها أيدى الظلمة وأجلسوهم على حصير الفقر أو صار هذا المال سببًا في فسقهم وفسادهم. وكم من رجل نشأ فقيرًا فرزقه الله مالًا كثيرًا، وفى الحديث ((من أحب أن يحفظ في عقبه وعقب عقبه فليتق الله)) فاحفظ الله يحفظك أي في دينك ودنياك وفى أهلك وعيالك. ثم أن القائلين بإباحة التأمين على الحياة لّما لم يجدوا نصًا يعتمدون عليه ولا قياسًا يستندون إليه، أخذوا يركبون التعاسيف في الصدر والورود ويستدلون بما يعد بعيدًا عن المقصود، شأن العاجز المبهوت يتمسك في استدلاله بما هو أوهى من سلك العنكبوت، اشبه من يحاول اقتباس ضوئه من نار الحباحب والتماس ريه من السراب الكاذب، من ذلك استدلالهم ببيع الوفاء، وهو أجنبى عن البحث في الحقيقة والمعنى فلا يمت إليه بصفة ولا صلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 وصفته عند الأحناف هو أن يضع الرجل عقاره الذي تساوى قيمته ألفًا أو ألفين فيضعه عند رجل في خمسمائة أو أكثر ويكتب عليه بيع وفاء يريدون من هذه التسمية أن يستحل المرتهن غلته هذا لعقار ما دام باقيًا في يده بدون أن يرجع عليه مالكه في شيء من قيمة غلته في مقابلة ما ينتفع صاحبه بالدراهم، وإذا تحصل صاحب العقار على النقود استرجع عقاره بدون منازعة لاعتقاد الجميع بأنه باق على ملك صاحبه. وقد حدث هذا التعامل بهذه الصفة في بلدان فارس. قبل في القرن الخامس وأفتى الكثير من الفقهاء بكونه رهنًا لا ينصرف إلى غيره وإن سموه بيعًا لكون الاعتبار في العقود بالمقاصد وهما لم يقصدا التبايع الحقيقى وهذا هو الصحيح، لأنهما إنما قصدا بهذه التسمية محض التوثقة واستباحة الغلة فقط. والأسماء لا تغير الأشياء عن حقائقها. ثم إنه على فرض صحة ما ذكروا من أنه بيع مستقل بحالته وعلى صفته، فإنه مخالف للقياس في صيغ البيوع الصحيحة وما خالف القياس لا يقاس عليه عند أهل الأصول. مع كونه بعيدًا في القياس عن مشابهة التأمين على الحياة (1) .   (1) نقل مصطفى الزرقاء في كتاب "التأمين" عن محمد يوسف موسى، ص 29، قال ولا أجد في تاريخ الفقه الإسلامى واقعة أشبه بواقعة التأمين من بيع الوفاء في أول ظهوره وقال أيضا ص 22: أن التأمين بكل أنواعه ضرب من ضروب التعاون التى تفيد المجتمع. قال: والتأمين على الحياة يفيد المؤمّن كما يفيد الشركة. قال: وأرى شرعًا أنه لا بأس به إذا خلا من الربا. انتهى. وأخذ الشيخ مصطفى الزرقاء يصوب استجادة هذا الاستنباط وكأنه رآه عين الصواب والسداد وجعله بمثابة العدة والعمدة في القياس والاستناد ولا شك أن مشابهة التأمين على الحياة ببيع الوفاء أنه بعيد جدًا فلا مداناة فضلًا عن المساواة وكيف يقول إنه لا بأس بالتأمين على الحياة إذا خلا من الربا وهو غارق في الربا إلى الآذان لكون وسائل الربا والبطلان محيطة به من جميع جهاته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 ثم استشهدوا أيضا على جوازه بقضية عقد الموالاة عند الأحناف. وصفته.. أن يقول رجل لآخر: أنت مولاى ترثنى إذا مت وتعقل عنى فيصح ذلك عندهم ويرثه أن لم يوجد من يرثه بفرض أو تعصيب أو ذى رحم ويستدلون عليه بما روى عن تميم الداري، قال: سألت رسول الله عمن أسلم على يد رجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو أحق الناس به محياه ومماته)) وفسروا محياه بالعقل ومماته بالميراث ينسبون القول به عن على وابن عمر وابن مسعود، وهذا الحديث ضعيف جدًا، قال في المغنى: إنه ضعيف لا يصح، وقال الشافعى: الموالاة ليست بشيء. والإمام أبو حنيفة يعترف على نفسه بأنه مزجى البضاعة من الحديث وقد ظنه صحيحًا فبنى على ظنه القول به وأخذه عنه أصحابه كما في الهداية وبدائع الصنائع وغيرهما، وكان أصل الحديث صحيحًا في بداية الأمر ثم نسخ الحكم به وانقطع العمل بموجبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 وأصل الموالاة في بدء الإسلام هو أن النبى صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار وكانوا تسعين رجلًا نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار فآخى النبى صلى الله عليه وسلم بينهم على المؤاساة ويتوارثون بعد الموت دون ذوى أرحامهم إلى حين وقعة بدر، قال ابن عباس: كان المهاجرى يرث الأنصاري دون قرابته وذوى رحمه للأخوّة التى آخى بينهما رسول الله. ولهذا يقول الزبير بن العوام: إنا معشر قريش لمّا قدمنا المدينة قدمناها ولا مال لنا فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم ووارثناهم فآخى أبو بكر خارجة بن زيد وآخى عمر فلانًا وآخى عثمان رجلًا من بنى زريق بن سعد، قال الزبير: وآخيت أنا كعب بن مالك فوالله يا بنى لو مات عن الدنيا ما ورثه غيرى حتى أنزل الله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} فرجعنا إلى مواريثنا وبقيت المناصرة الدينية. ذكره ابن كثير في التفسير عن أبي حاتم. فما ينسب عن عمر وعلى وابن مسعود فمحمول على ذلك في بداية الإسلام والا فقد أجمع الصحابة على نسخه، فلم يحفظ عن أحد منهم القول به ولا الحكم بموجبه. والوصية بماله كله ممن لا وارث له جائز في ظاهر مذهب الإمام أحمد، ولهذا قالوا: وتجوز الوصية بماله كله ممن لا وارث له. والحكم في الموالاة على العقل هو الحكم في الإرث، على حسب ما ذكرنا وأنه منسوخ، وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإيجاب دية الخطأ على العاقلة كما في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله فقضى رسول الله أن دية الجنين غرة عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم فقام حمل بن النابغة الهذلى، فقال: يا رسول الله، كيف نغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل ومثل ذلك يطل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما هذا من اخوان الكهان)) من أجل سجعه الذي سجعه. فمضى الأمر على هذا وانعقد عليه الإجماع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 فكانت القبيلة تجلس لتوزيع الدية بينهم فيحمّلون كل شخص ما يستحقه على حسب مقدرته وقربه، وهذا من التعاون الواجب بحكم الشرع. ومن محاسن الشريعة وقيامها بمصالح العباد في المعاش والمعاد أن أوجب الله دية الخطأ على من عليه موالاة القاتل ونصرته، بحيث أن هذا القاتل هو قريبهم ورحمهم، ولم يتعمد القتل وإنما وقع بغير اختياره وقصده فوجب عليه في خاصة نفسه عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله كما أوجب الدية على العاقلة. ومن المعلوم أن الجناية في الأصل تتعلق بالجانى، فلا يجنى جان إلا على نفسه ولا تزر وازرة وزر أخرى. أي لا يحمل أحد ذنب الآخر وكانت الدية في الأصل مائة من الإبل وفى الغالب أن القاتل لا يستطيع حملها بجملتها فإيجاب الدية مع الكفارة عليه في ماله فيها ضرر عليه لعدم قدرته عليها، وإهدار دم القتيل من غير ضمان فيه ضرر على ورثته. فكان من محاسن الشريعة أو أوجبت دية الخطأ على أقارب القاتل، أي عاقلته، كما أوجب الله النفقة على الأقارب، فإيجاب الدية على العاقلة من جنس ما أوجب الشارع من النفقة على المضطرين ونحوهم والأقربون هم أحق بالمعروف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 لأن المؤمن كثير بإخوانه غنى بأعوانه {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . وهذه هى حقيقة التعاون بين الأرحام الواجبة في دين الإسلام. ولا تحمل العاقلة العمد المحض ولا المال من قيمة عبد ونحوه ولا ما دون ثلث الدية. والحاصل هو أن الأمة التى يبذل أغنياؤها المال وتقوم بفريضة التعاون على الأعمال فيكفل أغنياؤهم فقراءهم ويعول أقوياؤهم ضعفاءهم ويعودوا بفضل ما أتوا إلى إخوانهم المعوزين ويعطفوا على البائسين والمنكوبين أنها لابد أن تتسع تجارتها وأن تتوفر سعادتها وأن تدوم على أفرادها النعمة ما استقاموا على هذه الفضيلة ثم يكونون مستحقين لسعادة الدنيا والآخرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 قرار المجمع الفقهى بمكة المكرمة القرار الخامس التأمين بشتى صوره وأشكاله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله واصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فإن مجمع الفقه الإسلامى قد نظر في موضوع التأمين بأنواعه المختلفة بعد ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك وبعد ما اطلع أيضا على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة المنعقدة بمدينة الرياض بتاريخ 4/4/1397هـ. من التحريم للتأمين بأنواعه. وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأى في ذلك قرر المجلس بالأكثرية تحريم التأمين بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك من الأموال. كما قرر مجلس المجمع بالاجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء من جواز التأمين التعاونى بدلًا من التأمين التجاري المحرم والمنوه عنه آنفًا وعهد بصياغة القرار إلى لجنة خاصة. تقرير اللجنة المكلفة بإعداد قرار مجلس المجمع حول التأمين: بناء على قرار مجلس المجمع المتخذ بجلسة الأربعاء 14 شعبان 1398هـ المتضمن تكليف كل من أصحاب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد محمود الصواف والشيخ محمد بن عبد الله السبيل بصياغة قرار مجلس المجمع حول التأمين بشتى أنواعه وأشكاله. وعليه فقد حضرت اللجنة المشار إليها وبعد المداولة أقرت ما يلى: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 أما بعد: فان مجمع الفقه الإسلامى في دورته الأولى المنعقدة في 10 شعبان 1398هـ بمكة المكرمة بمقر رابطة العالم الإسلامى قد نظر في موضوع التأمين بأنواعه المختلفة بعد ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك، وبعد ما اطلع أيضا على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة بمدينة الرياض بتاريخ 4/4/97هـ. بقراره رقم (55) من التحريم للتأمين التجاري بأنواعه. وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأى في ذلك قرر مجلس المجمع الفقهى بالاجماع عدا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء تحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك للأدلة الآتية: الأول: عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية المشتملة على الغرر الفاحش، لأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطى أو يأخذ فقد يدفع قسطًا أو قسطين ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم به المؤمن، وقد لا تقع الكارثة أصلًا فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئًا وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطى ويأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده، وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم النهى عن بيع الغرر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 الثانى: عقد التأمين التجاري ضرب من ضروب المقامرة لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية، ومن الغرم بلا جناية أو تسبب فيها، ومن الغنم بلا مقابل أو مقابل غير مكافئ فإن المستأمن قد يدفع قسطًا من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين وقد لا يقع الخطر ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل وإذا استحكمت فيه الجهالة كان قمارا ودخل في عموم النهى عن الميسر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} والآية بعدها. الثالث: عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنسأ فان الشركة إذا دفعت للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها فهو ربا فضل والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة فيكون ربا نسأ وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما. دفعه لها يكون ربا نسأ فقط وكلاهما محرم بالنص والإجماع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 الرابع: عقد التأمين التجاري من الرهان المحرم لأن كلا منهما فيه جهالة وغرر ومقامرة ولم يبح الشرع من الرهان الا ما فيه نصرة للإسلام وظهور لإعلامه بالحجة والسنان وقد حصر النبى صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان بعوض في ثلاثة بقوله صلى الله عليه وسلم ((لا سبق الا في خف أو حافر أو نصل)) وليس التأمين من ذلك ولا شبيهًا به فكان محرمًا. الخامس: عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، وأخذ بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرم لدخوله في عموم النهى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . السادس: في عقد التأمين التجاري الإلزام بما لا يلزم شرعًا فإن المؤمن لم يحدث الخطر منه ولم يتسبب في حدوثه وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفعه المستأمن له والمؤمن لم يبذل عملًا للمستأمن فكان حرامًا. وأما ما استدل به المبيحون للتأمين التجاري مطلقًا أو في بعض أنواعه فالجواب عنه ما يلى: (أ) الاستدلال بالاستطلاح غير صحيح فان المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع باعتباره فهو حجة. وقسم سكت عنه الشرع فلم يشهد له بإلغاء ولا اعتبار فهو مصلحة مرسلة وهذا محل اجتهاد المجتهدين، والقسم الثالث ما شهد الشرع بإلغائه. وعقود التأمين التجاري فيها جهالة وغرر وقمار وربا فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 (ب) الإباحة الاصلية لا تصلح دليلًا هنا لأن عقود التأمين التجاري قامت الأدلة على مناقضتها لأدلة الكتاب والسنة. والعمل بالاباحة الأصلية مشروط بعدم المناقل عنها وقد وجد فبطل الاستدلال بها. (ج) الضرورات تبيح المحظورات لا يصح الاستدلال به هنا، فان ما اباحه الله من طرق كسب الطيبات أكثر أضعافا مضاعفة مما حرمه عليهم فليس هناك ضرورة معتبرة شرعًا تلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين. (د) لا يصح الاستدلال بالعرف فإن العرف ليس من أدلة تشريع الأحكام وإنما يبنى عليه في تطبيق الأحكام وفهم المراد من ألفاظ النصوص ومن عبارات الناس في إيمانهم وتداعيهم وأخبارهم وسائر ما يحتاج إلى تحديد المقصود منه من الأفعال والأقوال فلا تأثير له فيما تبين أمره وتعين المقصود منه وقد دلت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين فلا اعتبار به معها. (هـ) الاستدلال بأن عقود التأمين التجاري من عقود المضاربة أو في معناه غير صحيح؛ فإن رأس المال في المضاربة لم يخرج عن ملك صاحبه وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسبما يقضى به نظام التأمين، وأن رأس مال المضاربة يستحقه ورثة مالكه عند موته، وفى التأمين قد يستحق الورثة نظاما مبلغ التأمين ولو لم يدفع مورثهم إلا قسطا واحدًا، وقد لا يستحقون شيئًا إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته، وأن الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسبًا مئوية مثلًا بخلاف التأمين فربح رأس المال وخسارته للشركة وليس للمستأمن الا مبلغ التأمين أو مبلغ غير محدد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 (و) قياس عقود التأمين على ولاء الموالاة عند من يقول به غير صحيح، فإنه قياس مع الفارق ومن الفروق بينهما أن عقود التأمين هدفها الربح المادى المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة بخلاف عقد ولاء الموالاة فالقصد الأول فيه التآخى في الإسلام والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال وما يكون من كسب مادى فالقصد إليه بالتبع. (ز) قياس عقد التأمين التجاري على الوعد الملزم عند من يقول به لا يصح لأنه قياس مع الفارق ومن الفروق أو الوعد بقرض أو إعارة أو تحمل خسارة مثلًا من باب المعروف المحض فكان الوفاء به واجبًا أو من مكارم الأخلاق بخلاف عقود التأمين فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح المادى فلا يغتفر فيها ما يغتفر في التبرعات من الجهالة والغرر. (ح) قياس عقود التأمين التجاري على ضمان المجهول وضمان ما لم يجب قياس غير صحيح لأنه قياس مع الفارق أيضًا، ومن الفروق أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض بخلاف التأمين فإنه عقد معاوضة تجارية يقصد منها أولًا الكسب المادى فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع ما دام تابعًا غير مقصود إليه. (ط) قياس عقود التأمين التجاري على ضمان خطر الطريق لا يصح فإنه قياس مع الفارق كما سبق في الدليل قبله. (ى) قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد غير صحيح فإنه قياس مع الفارق أيضا لأن ما يعطى من التقاعد حق التزم به ولى الأمر باعتباره مسئولًا عن رعيته وراعى في صرفه ما قام به الموظف من خدمة الأمة ووضع له نظامًا راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظر إلى مظنة الحاجة فيهم فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذى هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التى يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة. لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر حقًا التزم به من حكومات مسئولة عن رعيتها وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه وتعاونًا معه جزاء تعاونه ببدنه وفكره وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 (ك) قياس نظام التأمين التجاري وعقوده على نظام العاقلة لا يصح فإنه قياس مع الفارق ومن الفروق أن الأصل في تحمل العاقلة لدية الخطأ وشبه العمد ما بينهما وبين المقاتل خطأ أو شبه العمد من الرحم والقرابة التى تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون وإسداء المعروف ولو دون مقابل وعقود التأمين التجارية استغلالية تقوم على معاوضات مالية محضة لا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث المعروف بصلة. (ل) قياس عقود التأمين التجاري على عقود الحراسة غير صحيح لأنه قياس مع الفارق أيضًا. ومن الفروق أن الأمان ليس محلًا للعقد في المسألتين وإنما محله في التأمين الأقساط ومبلغ التأمين، وفى الحراسة الأجرة وعمل الحارس، أما الأمان فغاية ونتيجة والا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس. (م) قياس التأمين على الإيداع لا يصح لأنه قياس مع الفارق أيضا فإن الأجرة في الايداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه بخلاف التأمين فان ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن ويعود إلى المستأمن بمنفعة إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة وشرط العوض عن الضمان لا يصح بل هو مفسد للعقد وان جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جعل فيها مبلغ التأمين أو زمنه فاختلف في عقد الإيداع بأجر. (ن) قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البزمع الحاكة لا يصح. والفرق بينهما أن المقيس عليه من التأمين التعاونى وهو تعاون محض والمقيس تأمين تجاري وهو معاوضات تجارية فلا يصح القياس. كما قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم (51) وتاريخ 4/4/1397هـ. من جواز التأمين التعاونى بدلًا عن التأمين التجاري المحرم والمنوه عنه آنفًا للأدلة الآتية: الأول: أن التأمين التعاونى من عقود التبرع التى يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسئولية عند نزول الكوارث وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر فجماعة التأمين التعاونى لا يستهدفون تجارة ولا ربحًا من أموال غيرهم وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 الثانى: خلو التأمين التعاونى من الربا بنوعيه: ربا الفضل وربا النسأ فليس عقود المساهمين ربوية ولا يستغلون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية. الثالث: أنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاونى بتحديد ما يعود عليهم من النفع لأنهم متبرعون فلا مخاطرة ولا غرر ولا مقامرة بخلاف التأمين التجاري فإنه عقد معاوضة مالية تجارية. الرابع: قيام جماعة من المساهمين أو من يمثلهم باستثمار ما جمع من الأقساط لتحقيق الغرض الذى من أجله أنشئ هذا التعاون سواء كان القيام بذلك تبرعًا أو مقابل أجر معين. ورأى المجلس أن يكون التأمين التعاونى على شكل شركة تأمين تعاونية مختلطة للأمور الآتية: أولًا الالتزام بالفكر الاقتصادى الإسلامى الذى يترك للأفراد مسئولية القيام بمختلف المشروعات الاقتصادية ولا يأتى دور الدولة الا كعنصر مكمل لما عجز الأفراد عن القيام به وكدور موجه ورقيب لضمان نجاح هذه المشروعات وسلامة عملياتها. ثانيًا الالتزام بالفكر التعاونى التأمينى الذى بمقتضاه يستقل المتعاونون بالمشروع كله من حيث تشغيله ومن حيث الجهاز التنفيذى ومسئولية إدارة المشروع. ثالثًا تدريب الأهالى على مباشرة التأمين التعاونى وإيجاد المبادرات الفردية والاستفادة من البواعث الشخصية فلا شك أن مشاركة الأهالى في الإدارة تجعلهم أكثر حرصًا ويقظة على تجنب وقوع المخاطر التى يدفعون مجتمعين تكلفة تعويضها مما يحقق بالتالى مصلحة لهم في إنجاح التأمين التعاونى إذ أن تجنب المخاطر يعود عليهم بأقساط أقل في المستقبل، كما أن وقوعها قد يحملهم أقساطا أكبر في المستقبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 رابعًا أن صورة الشركة المختلطة لا يجعل التأمين كما لو كان هبة أو منحة من الدولة للمستفيدين منه بل بمشاركة منها معهم فقط لحمايتهم ومساندتهم باعتبارهم هم أصحاب المصلحة الفعلية وهذا موقف أكثر إيجابية ليشعر معه المتعاونون بدور الدولة ولا يعفيهم في نفس الوقت من المسئولية. ويرى المجلس أن يراعى في وضع المواد التفصيلية للعمل بالتأمين التعاونى على الأسس الآتية: الأول: أن يكون لمنظمة التأمين التعاونى مركز له فروع في كافة المدن وأن يكون بالمنظمة أقسام تتوزع بحسب الأخطار المراد تغطيتها وبحسب مختلف فئات ومهن المتعاونين كأن يكون هناك قسم للتأمين الصحى وثان للتأمين ضد العجز والشيخوخة..الخ. أو يكون هناك قسم لتأمين الباعة المتجولين وآخر للتجار وثالث للطلبة ورابع لأصحاب المهن الحرة كالمهندسين والأطباء المحامين..الخ. الثانى: أن تكون منظمة التأمين التعاونى على درجة كبيرة من المرونة والبعد عن الأساليب المعقدة. الثالث: أن يكون للمنظمة مجلس أعلى يقرر خطط العمل ويقترح ما يلزمها من لوائح وقرارات تكون نافذة إذا اتفقت مع قواعد الشريعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 الرابع: يمثل الحكومة في هذا المجلس من تختاره من الأعضاء ويمثل المساهمين من يختارونه ليكونوا أعضاء في المجلس ليساعد ذلك على إشراف الحكومة عليها أو اطمئنانها على سلامة سيرها وحفظها من التلاعب والفشل. الخامس: إذا تجاوزت المخاطر موارد الصندوق بما قد يستلزم زيادة الأقساط فتقوم الدولة والمشتركون بتحمل هذه الزيادة. ويؤيد مجلس المجمع الفقهى ما اقترحه مجلس هيئة كبار العلماء في قراره المذكور بأن يتولى وضع المواد التفصيلية لهذه الشركة التعاونية جماعة من الخبراء المختصين في هذا الشأن. والله ولى التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 [توقيع] نائب الرئيس محمد على الحركان الأمين العام لرابطة العالم الإسلامى [توقيع] الرئيس عبد الله بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى فى المملكة العربية السعودية الأعضاء [توقيع] عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد فى المملكة العربية السعودية [توقيع] محمد محمود الصوّاف [توقيع] صالح بن عثيمين [توقيع] محمد بن عبد الله السبيل [توقيع] محمد رشيد قبانى [توقيع] مصطفى الزرقاء [توقيع] محمد رشيدى [توقيع] عبد القدوس الهاشمى الندوى [سافر قبل التوقيع] أبو بكر جومى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 المجمع الفقهى الإسلامى بمكة المكرمة ب- د/6/2 – 1406/3 مخالفة الأستاذ الدكتور مصطفى الزرقاء اخوانى الأستاذة الفضلاء أعضاء المجمع الفقهى.. إنى أخالف ما ذهبتم إليه من اعتبار التأمين الذى أسميتموه تجاريًا بمختلف أنواعه وصوره حراما. وميزتم بينه وبين ما أسميتموه تعاونيًا، وأرى أن التأمين من حيث إنه طريق تعاونى منظم لترميم الأضرار التى تقع على رؤوس أصحابها من المخاطر التى يتعرضون لها هو في ذاته جائز شرعًا بجميع صوره الثلاث وهى: التأمين على الأشياء والتأمين من المسئولية المسمى (تأمين ضد الغير) ، والتأمين المسمى خطأ بالتأمين على الحياة جائز شرعًا. وان أدلتى الشرعية من الكتاب العزيز والسنة النبوية وقواعد الشريعة ومقاصدها العامة والشواهد الفقهية بالقياس السليم عليها ودفع توهم أنه يدخل في نطاق القمار أو الرهان المحرمين، ودفع شبهة أنه ربا، كل ذلك موضح تمام الإيضاح في كتابى المنشور بعنوان (عقد التأمين، وموقف الشريعة الإسلامية منه) وأنتم مطلعون عليه مع بيان حاجة الناس في العالم كله إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 وقد بينت لكم في هذه الجلسة أيضا أن التمييز بين تأمين تعاونى وتجاري لا سند له، فكل التأمين قائم على فكرة التعاون على تفتيت الأضرار وترميمها ونقلها عن رأس المصاب وتوزيعها على أكبر عدد ممكن بين عدد قليل من الأشخاص الذين تجمعهم حرفة صغيرة –أو سوق- ويتعرضون لنوع من الأخطار فيساهمون في تكوين صندوق مشترك حتى إذا أصاب أحدهم الخطر والضرر عوضوه عنه من الصندوق الذى هو أيضا مساهم فيه هذا النوع الذى يسمى في الاصطلاح تبادليًا وسميتموه (تعاونيًا) لا تحتاج إدارته إلى متفرغين لها ولا إلى نفقات إدارة وتنظيم وحساب الخ.. فإذا كثرت الرغبات في التأمين وأصبح يدخل فيه الألوف –عشراتها أو مئاتها أو آلافها- من الراغبين وأصبح يتناول عددًا كبيرًا من أنواع الأخطار المختلفة فإنه عندئذ يحتاج إلى إدارة متفرغة وتنظيم ونفقات كبيرة من أجور محلات وموظفين ووسائل آلية وغير آلية الخ.. وعندئذ لابد لمن يتفرغون لإدارته وتنظيمه من أن يعيشوا على حساب هذه الإدارة الواسعة كما يعيش أي تاجر أو صانع أو محترف أو موظف على حساب عمله. وعندئذ لابد من أن يوجد فرق بين الأقساط التى تجبى من المستأمنين وبين ما يؤدى من نفقات وتعويضات للمصابين عن أضرارهم لتربح الإدارة المتفرغة هذا الفرق وتعيش منه كما يعيش التاجر من فرق السعر بين ما يشترى ويبيع. ولتحقيق هذا الربح يبنى التأمين الذى أسميتموه تجاريًا على حساب إحصاء دقيق لتحديد القسط الذى يجب أن يدفعه المستأمن في أنواع من الأخطار. هذا هو الفرق الحقيقى بين النوعين. أما المعنى التعاونى فلا فرق فيه بينهما أصلًا من حيث الموضوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 كما أنى أحب أن أضيف إلى ذلك أن هذه الدورة الأولى لهذا المجمع الفقهى الميمون الذى لم يجتمع فيها الا نصف أعضائه فقط والباقون تخلفوا أو اعتذروا عن العضوية لظروفهم الخاصة لا ينبغى أن يتخذ فيها قرار بهذه السرعة بتحريم موضوع كالتأمين من أكبر الموضوعات المهمة اليوم خطورة وشأنًا لارتباط مصالح جميع الناس به في جميع أنحاء المعمورة والدول كلها تفرضه إلزاميًا في حالات كالتأمين على السيارات ضد الغير صيانة لدماء المصابين في حوادث السيارات من أفئدة تذهب هدرًا إذا كان قائد السيارة أو مالكها مفلسًا. فإذا أريد اتخاذ قرار خطير كهذا وفى موضوع اختلفت فيه آراء علماء العصر اختلافا كبيرًا في حله أو حرمته يجب في نظرى أن يكون في دورة يجتمع فيها أعضاء المجمع كلهم أو إلا قليلًا منهم وعلى أن يكتب لغير أعضاء المجمع من علماء العالم الإسلامى الذين لهم وزنهم العلمى ثم يبت في مثل هذا الموضوع الخطير في ضوء أجوبتهم على أساس الميل إلى التيسير على الناس عند اختلاف آراء العلماء لا إلى التعسير عليهم. ولابد لى ختامًا من القول بأنه إذا كانت شركات التأمين تفرض في عقودها مع المستأمنين أمورًا لا يقرها الشرع، أو تفرض أسعارًا للأقساط في أنوع الأخطار غالية بغية الربح الفاحش فهذا يجب أن تتدخل فيه السلطات المسئولة لفرض رقابة وتسعير لمنع الاستغلال، كما توجب المذاهب الفقهية، وجوب التسعير والضرب على أيدى المحتكرين لحاجات الناس الضرورية وليس علاجه تحريم التأمين. لذلك أرجو تسجيل مخالفتى هذه مع مزيد الاحترام لآرائكم. دكتور مصطفى الزرقاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 العَرض وَالمناقشَة 12/4/1406 = 24/12/1985 الساعة: 17.45 – 20.15 13/4/1406 – 25/12/1985 الساعة: 9.30 – 13.20 الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد، فى هذه الجلسة المسائية المباركة على جدول أعمالنا بحث "مسألة التأمين وإعادة التأمين" وقد تسلمتم مسبقا البحوث التى أعدت في هذا الموضوع وهى في ثلاثة أطر: الإطار الأول: بحوث معدة من المشايخ الزحيلى، التميمى، والشيخ عبد اللطيف صالح، والثانى بحث معد من الشيخ مصطفى الزرقاء. والإطار الثالث: في بحث البديل للتأمين، وفيه بحث تبعى وهو بحث الأستاذ محمد عبد اللطيف الفرفور، وبحث مستقل للشيخ عبد اللطيف جناحى المدير العام لبنك البحرين الإسلامى. ونبتدئ بالرغبة من الشيخ مصطفى ليتفضل بإعطاء ملخص عما حرره في التأمين، ونظرا لكثرة البحوث والمشايخ المطلوبة كلماتهم ورغبة في أن يستوعب الوقت هذه القضية، فأرجو أن يكون الزمن المحدد لكل واحد من أصحاب الفضيلة لا يتجاوز ما قرر سابقا، عشرين دقيقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 الشيخ مصطفى الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم.. سيادة الرئيس، إخوانى الأستاذة الكرام. إننى لم أقدم بحثا في ورقة في هذه الدورة وإنما أجبت فضيلة الأستاذ الأمين العام بأن رأيى مدون في كتاب جديد ظهر لى في العام الماضى وفيه خلاصة كتابى السابق القديم والذى بينت فيه أن رأيى في التأمين بجميع أنواعه الثلاثة وهى، التأمين على الأشياء، والتأمين من المسؤولية والذى يسمى خطأ تأمينا على الحياة، هذه التسمية الموهمة لغير موضوعه. ولى أدلة مبسوطة في السابق معروفة وقد ظهر في كتابى الجديد الذى تناول السابق وأضاف له أمورا كثيرة في البحث الجديد وعالج جميع الشبهات والآراء التى أثيرت في موضوع التأمين خلال ربع القرن الماضى. وإن كل شيء حرصت على أن ينضج بحثا ولا يترك منه أي شيء لم يعالج، الشيء الذى وفقنى الله إليه وارتضيته، وكان بحثى الجديد مؤكدا فيما تراءى لى، خلاصة رأيى السابق المعروف فيه لم يتغير. وبما أن كل ما يمكن أن أقوله موجود في هذا الكتاب الجديد فلا حاجة لأن أكتب أوراقا جديدة وإنما قدمت نسخة لفضيلة الأمين العام رجوت أن يصورها ويوزعها على أعضاء المجمع عند الاجتماع وتكون هى بحثى، ولكنى لخصت مضمون الكتاب في أقسامه وما تضمنه والإحالة في كل نقطة من النقاط التى يثار حولها النقاش، مكان وجودها في الكتاب وقلت أيضا إنه تضمن فهرسا هجائيا مرتبا على الحروف لكل نقطة ولكل موضوع محالا بها على موطنها من الكتاب. هذه خلاصة ما قدمته لفضيلة الأمين العام. الأمين العام: بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. بودى أن سماحة الشيخ مصطفى الزرقاء يتكرم بإعطائنا خلاصة لرأيه مع التعليل. أما قصة الكتاب وما يتصل به فهو يعلم بأننا اتصلنا به واتصلنا بدار النشر حتى يبعثوا الينا بنسخ نوزعها على الأعضاء ومع ذلك لم تصلنا حتى الآن. فمثل هذه القصة لا أريد أن أتحدث عنها لكن المهم نحن الآن، ولو حتى الذين كتبوا ولهم دراسات مطبوعة موجودة بين أيدينا، يحتاج المجمع للاستماع اليهم. فنحن نرجو من سماحة الشيخ أن يقدم لنا رأيه من جديد ملخصا مع الاستدلال أن شاء وذلك في الوقت المحدد. وشكرا لكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 الشيخ مصطفى الزرقاء: سيدى أنا أقول إنكم طلبتم إرسال نسخ من الكتاب وأنا اتصلت بدار النشر قالوا إنهم أرسلوا مائة نسخة. الأمين العام: ولكن لم تصل حتى الآن ولسنا ملومين في هذا، ولكن كلمة منكم لبيان الرأى لأن كل عضو من الأعضاء يريد أن يستفيد من وجهة نظركم، فنحن في حاجة للاستنارة بهذا الرأى. الشيخ مصطفى الزرقاء: حسب رأى أستاذنا الأمين العام الكريم، فأنا أبين ولكن في عشرة دقائق هل يمكن عرض الأدلة في كل الموضوع، أنا استوفيت في الكتاب الأدلة بالتفصيل وناقشت وعرضت رأى الآخرين. فأنا إذا أردتم أن ألخص لكم رأيى وهو معروف فيما أعتقد ولا يوجد من يجهله. رأيى أن نظام التأمين في ذاته هو نظام تعاونى في أساسه وأنه لا يوجد في الشرعية ما يوجب منعه بل بالعكس أنا أعتقد أن مبادئ الشريعة وقواعدها تتقبله بل تستحسنه، ذلك لأن فيه تفتيتا للمصائب التى قد تقع على رأس المؤمن لولا التأمين أو المستأمن لولا التأمين فتحطمه، ولكن طريقة التأمين تؤدى إلى تفتيت المصيبة وتوزيعها بدلا ما تحطم رأس صاحبها، توزيعها على أكبر عدد من الرؤوس وهم عدد المستأمنين الآخرين الذين دفعوا أقساط التأمين، فعندئذ ترمم مصيبته أو يعوض عنها من هذه الأقساط، وبذلك تكون مصيبته وزعت، بقيت ذرات على مجموعة كبيرة من الرؤوس لا تثقل أحدا. هذا نظام التأمين يقوم على هذا الأساس وهو لا يقبل نظام التأمين الا في الحوادث غير المصطنعة وغير العمد، في أنواعه الثلاثة: التأمين على الأشياء، كالتأمين على السيارة ذاتها، والتأمين من المسؤولية وهو ما يلحق من الشخص من ضرر لغيره غير متعمد، الضرر الخطأ، والثالث التأمين على الحياة. وأن التأمين على الحياة تسميته خاطئة نتيجة ترجمة حرفية من اللغة الأجنبية، فإنها توهم كثيرين وقد وقع هذا فعلا. ونوقشت فيه، توهم كثيرين أن شركة التأمين لما تؤمن على الحياة إنما تتكفل للإنسان بأن يعيش المدة المحددة في العقد، وهذا وهم وخطأ وإن كان قد وقع فعلا سببه التسمية الموهمة في عقد التأمين. ثم بينت الأدلة الشرعية التى لا يتسع المقام لبسطها وشبهت التأمين بأنه ليس افتياتا على قدر الله وليس ربا وليس قمارا وليس رهانا وليس كما يثار حوله، وكل واحد من هذه الشبهات فندتها وحللت أمرها وبينت الفرق العظيم بينها وبين التأمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وبينت أن شأن التأمين أشبه ما يكون. "قضيب الصاعقة" السافود الحديدى الذي ينصب دقيق الرأس في أعلى البنايات الثمينة حتى إذا الصاعقة قذف بها السحاب بدلا من أن تنزل على البناية فتحرقها، وقضيب الصاعقة لا يمنع السحب أن تقذف بشرارتها الكهربائية الصاعقة وإنما إذا قذفت هذه الشرارة فإن القضيب يسحبها ويجذبها وتأخذها إلى مدفنها في باطن الأرض بدلا من أن تنزل فتضر تلك الأضرار المعرفة.. هذا شأن التأمين، فهو في ذاته نظام صالح. وأما ما يشاع من أنه عقد جديد لا يجوز إحداثه أو أنه ربا أو أنه قمار كله مبين ومردود عليه ومبين له الأمثلة المماثلة من فقه الشريعة المسلم به، وكذلك في الدراسة الجديدة التى تضمنها الكتاب الجديد بين فيه من زاوية جديدة أخرى تناولتها من النواحى الاقتصادية وآثارها العامة وبينت أن التأمين أصبح يعتبر من عصب الأعمال بدونه تكون المصائب كبيرة، فهو نظام توق واجتناب ولا يوجد في الشريعة ما يمنع الإنسان من التوقى. ثم عالجت الشبهات التى تكررت أو اجترت أو استجدت لدى كثيرين خلال ربع القرن الأخير وكلها أيضا عولجت معالجة جديدة وبينت أن هذه الشبهات شبهات داحضة ولي لها ثبات وبينت الردود عليها. وكذلك تعرضت لرأى المجمع الفقهى الكريم في مكة المكرمة وقراره بالتمييز بين تأمين تجاري وهو ما تمارسه الشركات وبين تأمين تعاونى أنه يجوز وأما ذاك فممنوع، وبينت ذلك، وبينت مخالفتى إذ ذاك لقرار المجمع التى سجلت وطبعت معه فنشرتها أيضا في هذا الكتاب الجديد وبينت أن التمييز بين تأمين تجاري هو ما تمارسه الشركات وتأمين تعاونى لا ربح فيه، هذا كله تمييز غير صحيح، وأن معنى التعاون موجود في كلا النوعين ما يسمونه تعاونيا وما يسمونه تجاريا، ولكن الفرق الوحيد بينهما أن التأمين لما بدأ في أصل ما بدا قبل أربعة قرون إنما بدأ بالشكل الذى سمى تبادليا أو تعاونيا وذلك لأن أهل سوق معينة تجمعهم اخطار مشتركة في بضائعهم وتجارتهم كالحريق مثلا أو الغرق فيضعون صندوقا يمول بما يدفعه كل منهم ويحفظ حتى إذا طرأ على أحدهم مصيبة فانها تعوض من هذا الصندوق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 فلما ظهر نفع هذا الترتيب التعاونى، الناس أقبلت عليه ثم شمل أخطارا متنوعة كثيرة لما ظهر من فائدته والمصلحة فيه. فلما كثرت الأعداد الكبيرة الراغبة في التأمين أصبح لا يمكن أن يديره أشخاص مع أعمالهم كأهل سوق معينة، بل لابد له من إدارة متفرغة تنصرف إليه كما ينصرف التاجر إلى تجارته فيسهر عليها صباح مساء ويتابعها ويريح منها ويعيش. فلابد من جهاز إداري أصبح ينظم عمليات التأمين الواسعة التى أصبحت تتناول الآلاف المؤلفة وأحيانا الملايين من الناس وفى مختلف الأنواع من الأخطار. هذا إذا حصل ووجدت هيئة متفرغة فلابد لها أن تعيش من هذا العمل كما يعيش التاجر من تجارته وكيف تعيش؟ عندئذ ظهر ما يسمى الحساب قوانين الأعداد الكبيرة التى تبنى على الإحصاء، الإحصاء الذى هو إحصاء الأعداد الكبيرة وهو معروف في عالم الرياضيات وهذا القانون، قانون الأعداد الكبيرة يعطى نتائج ثابتة تقريبا إلا الكوارث الطارئة كالزلازل والفيضانات.. الخ، وإنما يعطى نسبة ثابتة في الأخطار في كل أنواع الأخطار، لأنه كلما كثر العدد الكبير من الداخلين تحت الخطر عنئذ تنضبط نسبة الخطر فيهن وهذا شى، قانون رياضى، يعنى ليس عائدا إلى التقويم والتقدير، وبناء عليه يستخدمون قانون الاعداد الكبيرة ليضبطوا ويحصوا الأخطار في كل نوع، وبناء على ذلك يحسبون تكاليف ما سيلحقهم من تعويضات ويضعون أقساطا تتناسب مع هذه التكاليف، وزيادة، هذه الزيادة هى ما يربحونه كما يربح كل تاجر من تجارته ربحا مشروعا. بينت أن الشريعة الإسلامية لا تمانع في أن يكون لكل من يتفرغ لعمل نافع أن يعيش منه وأن يربح منه، هذا شيء طبيعي ولذلك شركات التأمين لا تبدل طبيعة التأمين من تعاونى إلى تجاري، التأمين يبقى تعاونيا في جميع الأحوال ولكن الفرق بين ما يسمونه تجاريا أن الهيئة المتفرغة والتى تربح من فرق الأقساط بين ما تأخذ وبين ما تدفع من تعويضات، هذا الربح يريدون أن يسموه التأمين به تأمينا تجاريا، وهو تعاونى، نفس الشيء، وضربت أمثلة بالضمان الاجتماعى والتأمينات التى تحصل للموظفين والحكومة، ومنها تأمينات على الحياة وكلها مقبولة لدى المعارضين أنفسهم، فما الفرق بينهما؟ وانتهيت إلى أن هذا التأمين لا يوجد في الشرع ما يمنعه وعالجت بشكل خاص شبهة الغرر وهى من أهم وأقوى الشبهات لدى الذين يعارضون وبينت أن هذا الغرر نقلت آراء الفقهاء من مختلف المذاهب فيه وبينت كيف أن الغرر يغتفر بأقوال فحول علمائنا الأقدمين يغتفر حتى الفاحش منه إذا كان فيه مصلحة تقتضيها الحاجة، ونقلت كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم في هذا الموضوع وفيه كلام شبه حاسم، كل هذا بينته بما يدحض فكرة الغرر وأنها هذه تجعله عملا محرما، وبينت كيف أن كبار الفقهاء اغتفروا الغرر الفاحش وعللوه بأنه للمصلحة والحاجة، والأمثلة كثيرة في الكتاب. وهذا خلاصة ما أراه ولا أزال على هذا الرأى، ولإخواننا الكرام أن يناقشوه، ومتى جاء الكتاب الذى أمر فضيلة الأستاذ الأمين العام، متى وصل مع أن دار النشر تقول إنها شحنته منذ شهر تقريبا وعندها الإيصال وكيف لم يصل؟ لا أدرى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 الأمين العام: سيدى جزاكم الله كل خير ونحن قد اتصلنا بالبريد وأخذنا معنا الورقة التى فيها رقم إرسال هذه المجموعة من الكتب، ومع ذلك قالوا حتى الآن لم يصلنا، فالقضية هى قضية البريد، أرجو إذا وصل أن يوزع على كل الأعضاء هذا الذى نقدر عليه. الشيخ مصطفى الزرقاء: على كل، في ختام بيان رأيى بهذا الشكل الموجز الذى لا يتسع المقام لأكثر منه أقترح أن موضوع التأمين هذا، موضوع بالشكل والإطار الذى شرحته وأهميته وكثرة اختلاف الآراء فيه، أنه لا يجوز أن يبت فيه في هذه الدورة، بل أقترح تأجيله حتى يأتى كتابى وأقول وأصرح غير متباه ولا مدع، ولكن هذا أعده من فضل الله. أقول أن كل بحث يبنى عليه قرار في هذا الموضوع قبل الاطلاع على كتابى الجديد سيكون ناقصا مبتورا، ولذلك اقترح أن يؤجل النظر فيه وبحثه والقرار فيه إلى دورة قادمة لأنه لم يعد في الإمكان احتمال مجيء الكتاب وأن يوزع وأن يقرأ في هذين اليومين الباقيين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الرئيس: شكرا لفضيلة الشيخ، والآن انتهينا من بيان فضيلته للرأى الذى ليس لدينا أي بحث إلا من قبل فضيلتة، أما المجموعة الثانية، والتى تمثلها البحوث الموجودة لدينا من الشيخ الزحيلى والشيخ التميمى والشيخ عبد اللطيف وعدد من المشايخ فإن شاء الله تعالى نستأنف ذلك بعد صلاة المغرب مباشرة، وبالله التوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 بعد الصلاة الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم نستأنف الجلسة وأرجو من فضيلة الشيخ وهبة الزحيلى أن يتفضل مختصرا للبحث الموجود بين أيدينا وشكرا. الشيخ وهبة الزحيلى: بسم الله الرحمن الرحيم، وأصلى وأسلم على نبى الرحمة وإمام المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد، فبعد أن تحدث فضيلة أستاذنا الجليل علامة العصر الأستاذ مصطفى الزرقاء عن هذا الموضوع، يكاد يقف الإنسان مترددا، هيوبا أمام علمه وقدره وجلالته كما نعهده في كل مجلس وفى كل منبر وفى كل مكان. ولكن عذرى وعذر غيرى أن كثير من أئمة الفقهاء خالفوا مشايخهم أحيانا، فربما يكون هذا مجرئا لى أن أتكلم في هذا الموضوع وقد يكون لى رأى مخالف لرأيه لأنه بالرغم من تقديرى الكبير لما فتحه من آفاق علمية دقيقة في موضوع التأمين منذ عام 56 في جامعة دمشق وإلى الآن لا أكاد بالرغم من قراءتى المتكررة لكتابه القديم والحديث لم أر تغيرا في هذا الرأى، تغيرا يذكر ولكن لم أجد طمأنة نفسية للأخذ بكل ما قاله فضيلة أستاذنا، ولذلك عندما صممت على الكتابة في هذا الموضوع وجدت نفسى بينى وبين الله جل جلاله واستخرت الله على أن يهدينى إلى الحق والصواب، لذلك كتبت هذا الموضوع ولا أقول كما أشار فضيلته أن كلامى وكلام غيرى اجترار لما مضى فأنزه الفقه والفقهاء من هذا المعنى، ولعله لا يقصدها بالمعنى الواسع الذى فهمناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 فالاجترار يحدث شيئًا في النفس ولكن يمكن أن تكون هذه مرادفة بالمعنى الضيق لمعنى التكرار. فحقيقة كما أن كتابه الجديد تكرار لما مضى، الكتابات الحديثة التى تعارض رأيه لا مانع من أن تكون تكرارا، لأن رأيه في الحقيقة إذا أخذنا به يكاد ينسف كل ما نعرفه من قواعد الفقه الإسلامى في باب المعاملات كما نعهدها بالمفهوم الذى عرفناه عن العقود وعن قواعدها وعن شروط الفقهاء فيها، المتمثلة في النهى عن الجهالة والغرر والقمار والمخاطرة. فإذا نظرنا إلى هذا العقد بالمعنى الضيق الفردى وليس بالمعنى الجماعى الذى يعتمد على الإحصاءات الدقيقة كما يقول القانونيون إنه أي التأمين لا ينافى الأخلاق لاعتماده على إحصاءات دقيقة لا تكاد تخطئ، هذا في الحقيقة إحصاء نظرة إلى المعنى العام بالنسبة لشركات التأمين، لا بالنسبة إلى المستأمن نفسه، فشركات التأمين هى في الحقيقة دائمًا تستهدف من وراء هذه الإحصاءات أن تحقق ربحًا أكبر من هذه العملية، وأن تفيد نفسها ولا تفيد المستأمن، فالمستأمن إذا طبقنا الفقه الإسلامى هو في الحقيقة عندما يعتمد عقد التأمين مع شركات التأمين التجارية ذات القسط الثابت هو في الحقيقة أولًا عقد معاوضة وهو عقد غرر بدليل أن القانونيين يدرجون هذا العقد ضمن عقود الغرر، والغرر هو الاحتمال المتردد بين أمرين الوجود والعدم، وهو أيضا فيه قمار وهو أيضا بالرغم من رأيه الجليل وأنا أعرف ذلك من سنة 56 من فضيلته، بالرغم من كل هذا فهو يقول بغض النظر عما تتعاطى به شركات التأمين من ربا، الحقيقة شركات التأمين التجارية كلها تقوم على الاسترباح والاستغلال والاتجار وما هى وكل البنوك إلا تنفيذ للمخططات الصهيونية لأن بيوت رؤوس المال في العام هى وراء شركات التأمين، كما أن أيضا الأهداف التى تقصدها من وراء إساءة ما بحثناه من أحوال بنوك الحليب وأنابيب الأطفال كل ذلك وراءه الصهيونية العالمية لتدمير القيم الإسلامية والأحكام الشرعية. فمن المعروف حتى بنص القرآن الكريم أن اليهود والصهاينة موغلون منذ القديم بأكلهم الربا وأكلهم السحت وقد نهوا عنه ويمثلون ذلك بذكائهم ومخططاتهم واعتمدوا على علوم دقيقة ونشروا هذه المؤسسات في البلاد الإسلامية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 فينبغى أن نعرف جميعا أن كل أغلب ما يدور حول هذه القضايا الجديدة وراءه الدماغ الصهيونى. لذلك هذا العقد الذى هو عقد التأمين ذو القسط الثابت الذى تمثله شركات التأمين التجارية لا يمكن أن نعفيه من المفاسد التى نعرفها عند فقهائنا الأجلاء والعظام والذين ندرس كتبهم وندرس قواعدهم، فإذا طبقنا هذا العقد على هذه القواعد المعروفة لا يطمئن المسلم إلى أن يجد في التأمين إباحة بالشكل المطلق الذى عليه شركات التأمين في الوقت الحاضر. هناك تأمين تعاونى، هناك التأمينات الاجتماعية وهناك التأمين الإجباري هذه الأصناف الثلاثة لاشك في جوازها وقد أكد ذلك الجواز مؤتمر علماء المسلمين الثانى في القاهرة سنة 85/65 ومؤتمر علماء المسملين سنة 92/72 ثم جاء مجمع الفقه الإسلامى في مكة المكرمة وأكد هذا القرار وقرأت بالتفصيل مستندات هذا القرار في قرار مجمع الفقه في مكة المكرمة، وتحفظات أستاذنا فضيلة الأخ مصطفى الزرقاء، ولكن مازلت أقول: لم أطمئن إلا إلى الرأى الذي يقول بالتحريم نظرا لأن هذا العقد يشتمل أولًا وهو عقد معاوضة بالمعنى الضيق، هو عقد يراد به من شركات التأمين الاسترباح والاستغلال والاتجار، هو عقد فيه ربا لأن المستأمن يدفع بعض الأقساط وهو يقصد أحيانا أن يحصل على فائض من التعويضات الكبرى عند حدوث الحادث، وهو أيضا عقد يشتمل على غرر كثير وليس على غرر يسير، لأن الغرر اليسير مغتفر. وأما الغرر الكثير فهو واضح في هذا العقد إذ لا يدرى كل من المستأمن والمؤمن مقدار التعويض الذى يدفعه وأيضا المستأمن في هذا يدفع قسطا واحدا ويقع الحادث وقد يدفع كل الأقساط ومع ذلك يسلم من الحوادث وتضيع عليه كل الأقساط التى دفعها. وكذلك في هذا العقد جهالة إذا قيس هذا الموضوع على قضية ضمان الطريق وعقد موالاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 الحقيقة أن من هنا نبدأ، عقد التأمين التجاري هو عقد معاوضة وأما التأمين التعاونى وقياس التأمين التجارى على ما هو معروف من أن جمهور الفقهاء يجيزون ضمان المجهول غير الشافعية وأن ضمان الطريق مقرر أيضا وعقد الموالاة، الحقيقة كل هذه الأمور الهدف والباعث والشكل قائم على أساس من التبرع، ولذلك أجيز عقد التأمين لأنه تبرع وأما عقد التأمين ذو القسط الثابت التأمين التجاري فهو عقد معاوضة، بالمعنى الدقيق الكامل لذلك يصعب القول بجوازه. أما ما يقال بأنه لا غرر فيه ولا احتمال بالنسبة للمستأمن وهو ما يريده فضيلة أستاذنا، فالحقيقة هذا كلام محل نظر لأن محل العقد في التأمين هو الأمان كما يقولون دون توقف على الخطر، هذا الكلام غير سديد لأن الأمان هو الباعث على عقد التأمين وليس هو محل العقد. وإنما محل العقد هو ما يدفعه كل من العاقدين، المؤمن والمستأمن، وعنصر الخطر جاثم وقائم ولذلك لا يمكننا أن نتهاون في هذا الموضوع. لهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيوع الغرر ويقاس عليها كل العقود الأخرى وكما قال الإمام النووى: "الغرر النهى عن الغرر أصل من أصول الإسلام، أما النواحى الإنسانية التى يسترحم بها شركات التأمين الناس ويحاولون الدعاية، وإننا جماعة أنصار الإنسان وأنصار الرحمة وأنصار الضعف وأنصار هذا الشخص إذا تعرض لحادث أو حريق أو موت أو ما شاكل ذلك وهددت الأسرة بالمجاعة، أولًا الدولة هى المسئولة عن كفالة هؤلاء المحتاجين هذا شيء معروف في الإسلام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 الشيء الثانى هذه الحاجة للتأمين، نحن مع فضيلته في أنه إذا تعينت الحاجة وليس كل حاجة تجيز الخروج على قواعد الشرع وإنما الحاجة العامة أو الخاصة التى تكون متعينة. وحيث أن هذه الحاجة لم تعد متعينة بقيام ونجاح. ونحن أظن فضيلته يريد أن يدعم أولًا البنوك الإسلامية التى لا تقوم على الربا. وأظن أنه يفضلها مائة بالمائة على البنوك الربوية، وكذلك شركات التأمين الإسلامية التى نجحت نجاحا باهرا ونافست حتى أننى زرت إحدى هذه المؤسسات في السودان فقال لى بالحرف الواحد، ومدير الشركة كان باكستانيا قال لى أصيبت شركات التأمين الأخرى بالذعر لنجاح شركات التأمين الإسلامية. فحيث وجد البديل ونجح ولله الحمد فلماذا نصر على تأمين مشبوه ومنغمس إلى الأذقان في الربا وأموالنا ودخلنا وثروتنا تعود كلها في النهاية إلى مؤسسات وبيوت المال الصهيونية. لذلك حيث نجح هذا النظام، نظام التأمين التعاونى لماذا لا ندعمه ونقول إنه هو الحل الأفضل المتعين؟ وليس نظريا أو بدائيا. القانونييون درسوا هذا العقد. عند علماء القانون يصفون التأمين التعاونى بأنه عملية بدائية، هذه العملية البدائية نحن نرحب بها وقد نجحت في العصر الحديث نجاحا منقطع النظير، وأكرر أن مدير هذه الشركة في السودان قال لى أصيبت شركات التأمين الأخرى بالذعر حينما نجحت شركات التأمين الإسلامية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 فلذلك نظرا لكل هذه العيوب التى اشتمل عليها عقد التأمين من ربا وغرر ومخاطر وقمار وشبهات كثيرة وقصد استرباح، ثم اتصال هذه المؤسسات ببيوت أخرى هى في الحقيقة تعارض ما عليه عقيدتنا وما عليه ديننا وما عليه مبادئنا، فلذلك أؤكد بضرورة القول والإصرار على تحريم شركات التأمين ذات القسط الثابت والتأكيد على ضرورة إقامة هذه الشركات على أسس إسلامية وهى التبرع {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فهو تعاون محض، والتعاون هو الذى يحبذه ويفضله الإسلام، فهو تعاون محض وليس فيه قصد الاسترباح ولا الاتجار، وهو عمل إنسانى وملطف ويشعر كل إنسان أنه فعلا يقصد بعمله هذا وجه الله يريد ثواب الدار الآخرة عندما يشارك في عمليات التأمين التعاونى، أما ذلك فهو لا يهدف إلا إلى ربح مادى، والعملية مادية إذا كنا نعيش في تيار الاتجاهات المادية في العالم الحاضر، فالحقيقة هو أن مادة العصر أحرقتنا، فهلا عدنا إلى نظام شرعنا القائم على أسس من التكافل والتضامن التى تقوم على الرحمة والتعاون وإشعار الإنسان بسمو ارتباطه إلى الجماعة الإسلامية وإلى أخوة الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 بقى شيء واحد وهى قضية إعادة التأمين. شركات التأمين التعاونية اصطدمت في الوقت الحاضر بأنها مضطرة إلى إعادة التأمين سوكرة وإعادة السوكرة.. يعنى مع شركات كبرى في العالم تدعمها لأنه ربما حدثت أضرار كثيرة، حدثت مثلا زلازل، أشياء من توقعات وتقديرات هذه الشركة في بلد من البلدان كما حدث من زلازل وبراكين وانفجارات ومجاعات، ففى هذه الحالة تريد هذه الشركة أن تضمن وجودها وبقاءها ولذلك تؤمن مع شركات تأمين أخرى كبرى عالمية. لابد أن أؤيد ما جنحت إليه لجنة الرقابة الشرعية في السودان وأخونا الدكتور الصديق الضرير هو من عمد هذه اللجنة، أؤيد ما قررته اللجنة بأنه من الضرورى أن ننشيء شركات تعاونية إسلامية كبرى تدعم وتحتضن هذه الشركات الصغيرة في البلاد الإسلامية، وإلى أن توجد مثل هذه الشركات وكانت بحاجة متعينة برأينا نحن دائما في قراراتنا الشرعية نعتمد على رأى أهل الخبرة، فإذا قالوا أن الحاجة متعينة، وقد قرروا أن الحاجة متعينة إلى إعادة التأمين، فالحاجة تقدر بقدرها كما أن الضرورة تقدر بقدرها، فلا مانع من إعادة التأمين مع شركات التأمين الكبرى ريثما يتم وجود شركات تأمين تعاونية إسلامية كبرى تحتضن هذه الشركات في البلاد الإسلامية بشروط مذكورة هنا في البحث. ولذلك لا مانع من الأخذ بهذه الفتوى وربما أكون مخطئا فيما تصورت ويكون الصواب في جانب فضيلة أستاذنا الجليل ولكن هذا ما اجتهدت فيه وما اطمأنت إليه نفسى. والله الموفق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 الشيخ رجب التميمى: الحمد لله رب العالمين، والصلاة على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أيها الأخوة.. عقود التأمين لا يوجد لها أي أحكام خاصة في الشريعة الإسلامية. ولم يبحثه الفقهاء المتقدمون، ذلك لأن نظام التأمين نظام حديث جلب من الغرب مع ما جلب إلينا ونقل إلينا من أنظمة الغرب المادية.. أول من كتب عن نظام التأمين من الفقهاء المسلمين ابن عابدين رحمه الله سبحانه وتعالى، فقد ذكر ابن عابدين في كتاب الجهاد أحكام التجار الأجانب الذين يدخلون دار الإسلام مستأمنين، فذكر ما يلى قال "جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركبا من حربى يدفعون له أجرة المركب ثم يدفعون له أيضا مالا معلوما لرجل منهم يقيم في بلادهم حتى إذا حصل أي شيء للمال, للمركب من حرق أو غيره يدفع لهم تعويضًا" ويسمى ذلك الرجل سوكرة، الذى يعرف في هذا الزمن بشركات التأمين، يقول ابن عابدين: أن هذا المال الذى يدفعه هذا الحربى لمن استأجر المركب ودفع له مالا معلوما، هذا العقد هو عقد فاسد، ذلك لأنه التزام ما لا يلزم والتزام ما لا يلزم هو عقد فاسد ولا يجوز للمسلم أن يأخذ بدل الهالك أن غرقت البضاعة أو حرقت بدلا عن ذلك لأنه أخذه بعقد لا يلزم الأخذ، والأخذ هنا حرام شرعا، كما ذكره ابن عابدين أول من تكلم عن موضوع التأمين. وابن عابدين يقول لا يحل للتاجر أن يأخذ بدل هالك لأن صاحب السوكرة لن يتعدى ولن يتلف هذه البضائع وأنه دفعه التزام ما لا يلزم كما ذكرنا. واعتبر ابن عابدين مسألة التأمين كالوديعة والمستعيض والمستأجر. الوديعة لا تضمن إذا هلكت قضاء وقدرا وكذلك المستعار لا يضمن إذا هلك قضاء وقدرا، وكذلك المأجور لا يضمن إذا هلك قضاء وقدرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 وإنما يضن بالتعدى. وهنا بدل التأمين حرام لأنه كالوديعة وكالمستعاض. فابن عابدين تحدث عن التأمين البحرى وهو الذى كان معروفا في ذلك الوقت. وقد ذكر الشيخ بخيث المطيعى مفتى الديار المصرية الأسبق المتوفى سنة 1935 عن موضوع التأمين فقال "أن من المقرر شرعا أن الأموال لا تضمن إلا بثلاثة أشياء: بالكفالة أو التعدى أو الإتلاف"، وعقد التأمين ليس من تلك العقود التى قرر الشارع الضمان فيها. وقال أيضا "إن الضمان الذى قررته الشريعة الإسلامية له أسباب وليس من أسبابه هذا العقد الذى هو عقد فاسد، ذلك لأنه معلق على حظ تارة يقع وتارة لا يقع، فهو قمار، لأنه لا يحل للمسلم أن يأخذ بدل المال الهالك بسبب هذا التأمين الذى هو يكون مبنيا على احتمال أن يقع أو لا يقع فهو مبنى على الحظ أي مبنى على القمار". ولذلك الشيخ بخيت رحمه الله، أيضا والفقهاء المسلمون الذين تكلموا في هذا الموضوع في العصور الماضية حرموا موضوع التأمين. طبعا التأمين التجاري الموجود الآن هو ما ذكره ابن عابدين لأنه مثل التأمين البحرى الذى كان معروفا في عصره من الجماعة الذين كانوا يقومون بعمل شركات التأمين الذين يسمونهم السوكرة الذين هم للآن. أيضا التأمين على الحياة هو أيضا عقد فاسد كالتأمين التجاري لأن التأمين على الحياة هو عقد مجهول فيه احتمالات وفيه مخاطرة وفيه قمار وفيه ربا، لأن الإنسان إذا أمن نفسه على الحياة مقابل أقساط قد يموت بعد القسط الأول ويكون المبلغ المؤمن عظيما، فإذا مات بعد القسط الأول استحق أن يأخذ بدل التأمين وهو مبلغ عظيم، كبير، قد يكون مبلغا كبيرا اتفق عليه وهذا مقدر بين العاقدين هذا المؤمن لماذا يأخذ هذا المبلغ؟ بأى حق حتى يأخذ بعد القسط الأول هذا المبلغ العظيم؟ أليس هذا مقامرة؟ أو ماذا يسمى أن لم نسمه مقامرة؟ فماذا نسميه؟ ثم إذا دفع جميع الأقساط ولم يمت يأخذ ما دفعه مضافا إليه الفوائد الربوية. فهو إما قمار وإما ربا، وهو من العقود الاحتمالية المجهولة، متى يقع؟ وبأى تاريخ يقع؟ وبأى أمر يمكن أن يكون معروفا؟ فهو من العقود الاحتمالية المجهولة حرمها الإسلام. وكتب القواعد الفقهية الكلية تخالف ما عليه التأمين، لأن كلا من المتعاقدين لا يدرى أحدهما وقت إبرام عقد التأمين مدى ما يأخذ أو ما يدفع ولا يعرف إلا في المستقبل نتيجة هذا العقد لأمر غير محقق الحصول ولا معروف وقت حصوله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 إذن عقد فاسد لأنه لم بين على القواعد الفقهية الصحيحة المستنبطة من كتاب الله وسنة ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو أيضا عقد فيه غرر، وغرر فاحش والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، فكيف نجيز الغرر الفاحش. الغرر اليسير أجازه بعض الفقهاء، لكن الغرر الفاحش لم يجيزوه وجعلوه سببا في فساد العقود. هذا الأصل في عقود التأمين، عقود ليست مبنية على أسس من الشرع، قمار، مخاطرة، ربا، ابدا تؤدى إلى المقامرة، يدفع الإنسان شيئا ويأخذ أكثر، وإن دفع كل شيء ولم يحصل شيء يأخذ ربا، هذا أمر واقع لاشك فيه. بقى شيء، أن شركات التأمين، وهذا معروف لدى الجميع ولم أثبته في كلمتى، أن شركات التأمين هى شركات ربوية تتعامل بالربا وجل مالها من التعامل بالربا أو بالأعمال التى لا يقبلها الإسلام أساسا للعمل. تتعامل في كل شيء لأجل الحصول على المال والأرباح، وأساس الأموال عندها هى ما تأخذه من المؤمن له. تأخذ هذه الأموال ثم تستغلها في الربا أو في الأعمال المحرمة عند المسلمين أو في أمور لا يقبلها المسلم. ثم تدفع له عندما يحصل ما يحصل له، على أن هذا فيه مخاطرة أخرى من نوع آخر أن عقود التأمين كثيرا ما تؤدى إلى المنازعات بين شركات التأمين وبين المؤمن له لأن ما نراه في المجتمع من الحوادث التى تحصل والمنازعات التى تحصل بين شركات التأمين والمؤمن له كثيرة. ومن أراد أن يتحقق من ذلك فليرجع إلى سجلات المحاكم. واحد مؤمن على تجارته وهو مشرف على الإفلاس يفتعل حادثا ليأخذ مالا وهذا كثيرا ما حصل. واحد مؤمن على سيارته يفتعل شيئا ليأخذ بدل التأمين، على أن أيضا التأمين على الحياة هى أيضا هذا النزاع، فقد نشرت جريدة الجمهورية بالقاهرة بتاريخ 24 يناير 1960م أن أحد الأطباء أمن على حياته 47 ألف دولار تقريبا. هذا الرجل عمل حادثة شنيعة من أجل أن يحصل على التأمين إذ قطع تذكرة طائرة ليسافر وأعلن انه سيسافر بالطائرة وفي الموعد الذي سيسافر فيه اتفق مع صديق له وأقنعه أن يسافر بدله واختفى. وسافر الصديق في الطائرة وفى الطريق طبعا تحطمت الطائرة لأنه وضع فيها ما ينسفها ليحصل على التأمين واختفى، وجهات التحقيق توصلت إلى الرجل قد ظهر بعد شهرين، الذى اختفى وسافر. وتبين أنه عمل على نسف الطائرة وفيها كذا من الناس أربعين أو خمسين ليحصل على بدل التأمين، وهذه حادثة من جملة الحوادث التى تحصل كثيرا بين شركات التأمين والمؤمن له. لذلك فإن التأمين هو عقد فاسد وفيه غرر فاحش والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، والله نسأل أن يوفقنا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 الشيخ محمد على التسخيرى: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد النبيين وآله وصحبه الطاهرين.. بكل اختصار أود أن نحذف من بحوثنا الفهقية ما يؤثر عليها من تأثيرات عاطفية كربط قضية معينة أو مورد معين بجانب سياسى مع احترامى الشديد لكل الإخوة الذين ربطوا بين عقد التأمين مثلا وبين التخطيطات الصهيونية لتحطيم العالم، أو عقد التأمين وما نتج عنه من نزاع وتفجير طائرة وما إلى ذلك، فيمكن أن يجرى هذا أو ذاك في عقود نسلم جميعا بصحتها وإنما يجب أن نبحث بحثا علميا متجردا نرضى به الله تعالى، ومعنى إرضاء الله يعنى إرضاء الحقيقة والوصول على صخرة الواقع. الحقيقة يجب أولا أن نخرج عقد التأمين، ما هو هذا العقد؟ هل هو هبة معوضة؟ هل هو ضمان معوض أن قلنا بصحته ولم نقل بأنه ضمان ما لم يجب؟ هل هو صلح؟ هل هو عقد من العقود الجديدة التى يعترف بها العرف ويطلق عليها لفظ عقد فيحقق موضوع {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ؟ وهذا ما قال به الكثير من الفقهاء والحنفية أيضا قالوا به، موضوع اشتغال شركات التأمين بالربا وإعطائنا مما اشتغلت فيه بالربا، هذا أمر ثانوى وجانبى ونحن نستطيع أن نتعامل مع هذه الشركات ونعمل فيها قواعد اليد وما إلى ذلك، يقال أن مثلا عقد التأمين ينفى بعض موارد مصرفية الزكاة وهنا نشكره على أنه وفر للموارد الأخرى الزكاة دون أن نعارضه. يجب أن نركز إذن على هذه النقطة، إذا أردنا أن نخرج، الواقع يحتاج الأمر إلى وقت طويل وإلى بحث فقهى، هناك تخريجات تطرح لعقد التأمين، وإذا طرحت هذه التخريجات حينئذ يجب أن نبحث هذه الإشكالات الواردة، هل هى تتناول شروط ذلك التخريج؟ مثلا إذا جلعناه صلحا بين هذا الشخص وذاك، فهل يرد على الصلح إشكال غرر؟ أم أن الصلح المفروض به التغاضى عن الغرر؟ فالتخريجات المذكورة هنا أذكرها بشكل سريع جدا. هناك تخريج كما قلت على أنه عقد مستقل عقلانى مشمول لقوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ويلزم الوفاء به فالآية القرآنية تشمل كل عقد عرفى ما لم يتناف مع الحدود التى منع الشرع من الاقتراب منها. فكل شرط ليس في كتاب الله باطل. الناس غير محصورين هم أيضا في العقود المعروفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 الأسلوب الثانى أن نخرجه على أساس أنه هبة معوضة ولا يرد على هذا التخريج تخريج إشكال، إلا أن المتعارف اليوم الذى هو في ذهن المتعاملين في عقد التأمين ليس هو الهبة المعوضة. هناك مسألة الصلح، مصالحة بين هذا الإنسان الذى يريد أن يؤمن على تجارته وبين شركة التأمين على هذا المعنى. هذا العقد أيضا عقد صحيح معاوضى، وآتى للإشكالات إن شاء الله. الأسلوب الرابع، الضمان المعوض، عقد ضمان يلتزم فيه أحد الطرفين بجبران الخسارة لقاء التزام الآخر بعوض، قد يقال كما قال شيخنا الجليل المرحوم الشيخ بخيت المطيعى قال: إن المعروف من الشريعة أن الضمان له أسبابه، الكفالة، والتعدى، والإتلاف. فمن أين جئتم لنا بهذا الشكل وليس هنا كفالة ولا تعد ولا إتلاف. الواقع بنفس دليل {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الذى قلنا إنه يشمل حتى العقود الجديدة، اليوم مثل هذا الضمان عرفى بلا ريب، لنتغاض عن شرعيته، عرفى لا ريب، هذا الضمان العرفى يعنى العقد، عقد ينتج الضمان، عرفى ويمكن أن تشمله الآية الكريمة أو المقطع الشريف {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . النقطة الأخرى طبعا هناك اشكالات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 الرئيس: ممكن يا شيخ تذكر لنا حقيقة الصلح شرعا عند الفقهاء؟ الشيخ محمد على التسخيرى: الصلح هو عقد يجرى بين طرفين يتصالحان على شيء فيه عوض ومعوض وطبيعة هذا الصلح غررية، يعنى يدخلها الغرر، طبيعته يدخلها الغرر وأنا سوف أشير إلى الغرر يا سماحة الشيخ، طبعا هناك من لا يجيز ضمان الأجنبى هناك من لا يجيز ضمان من لا يجب، يعنى ضمان ما لا يلزم وما إلى ذلك، الشيء الآخر الذى أود أن أشير إليه هو الإشكالات، إذن هناك أساليب ويجب أن نحرر هذه الأساليب لا نترك الأمر عائما ثم نشكل. الرئيس: كلمة بسيطة بس عارضة.. في حقيقة الصلح، المعروف أن الصلح أنه لا ينشأ إلا في حق بين الطرفين أصلا. الشيخ محمد على التسخيرى: فى حق بين الطرفين، لا لا، إن هذا لا نقول به، أي صلح عندنا جائز والصلح جائز بين المسلمين، على أي حال إن هذا اختلاف مبدئى قد يكون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 نعود إلى الإشكالات، الإشكالات المطروحة، الإشكالات التى طرحت هنا. أول إشكال هو الغرر وأهم إشكال هو الغرر كإمامى أجد أن الغرر إنما ورد في البيع فقط، يعنى النص الوارد في الغرر وارد في البيع، ثم نحن نعمل على تعميمه إلى شتى العقود الأخرى. كما قلت كإمامى القياس عندى غير معمول به لكن لنفترض القياس ألا يمكن أن نسأل أنفسنا؟. الرئيس: يعنى أمران الآن متوفرة عندنا: أن القياس غير معمول به، إضافة إلى حقيقة الصلح. الشيخ محمد على التسخيرى: لا هذا أمر ندعه الآن.. كاختلاف في المبدأ. الرئيس: لا هذا أمر ندعه الآن.. كاختلاف في المبنى وكما تفضلتم في التفريع عليه أنتم تفترضون القياس في بحثكم هذا الموجود عندى على فرض التسليم بالقياس هذه قضية، القضية الاختلاف الحاصل في حقيقة الصلح. الشيخ محمد على التسخيرى: نعم ومعذرة سيدى الرئيس، مسألة القياس لنفترض أنه يجرى ولكن ألا لاحظنا الفوارق بين العقود الأخرى ولها شروطها وللبيع شروط. ثم توسعة دائرة الغرر هل تشمل كل العقود؟ أو لها حدود معينة؟ هذا أمر متروك للعلماء الأجلاء. مسألة الغرر، لنفترض أن الغرر شرط في كل العقود الأخرى مسألة الغرر يجب أن نلاحظ أن العقد تارة يكون مبهما إبهاما كاملا أو كما يسمى جهالة فاحشة. تارة هكذا نفترض وأخرى نفترض لا. المؤمن والمستأمن كلاهما يعرف الشروط بكاملها، الإمام القائد حفظه الله يقول هكذا ويشترط هذا المعنى. يقول "يجب تعيين المؤمن عليه من شخص أو مال أو مرض، تعيين طرفى العقد، تعيين المبلغ المدفوع، تعيين الخطر الموجب للخسارة، تعيين المبلغ الذى يدفعه المستأمن، تعيين زمان التأمين ابتداء وانتهاء" يمكن أن نضيف إلى هذه الشروط كل ما يدخل في الدقة في معرفة كل خطوات هذا العقد بشكل كامل، حينئذ هنا هذا العقد واضح المعالم. لكن تقولون قد تحدث وفاة، وقد تأتى صاعقة، في كل العقود الأخرى أيضا يوجد غرر من هذا القبيل يا سيدى، في المضاربة لا أعلم أنا كم أربح، في المزارعة، في المساقاة لا أعلم هل تصل المسألة إلى مستويات عالية أو لا ينتج هذا الزرع، لا يأتى مطر أو لا يكون كذلك، هناك نسبة من الغرر هناك إذا لوحظت الحوادث التى تحدث هناك نسبة من الغرر، وإذا لوحظ وضوح العقد، هنا العقد واضح. واضح لدى شركة التأمين. وواضح لدي أنا المستأمن، هذه نقطة، النقطة الأخرى مسألة الربا، لا أعتقد أن هذا الإشكال وارد هنا أبدا خصوصا إذا أخرجنا المسألة من شكل قرض، يعنى لا نعتبر المسألة مسألة قرض يعطى حتى يقال هنا ربا يأتي في البيع. هناك مسألة المقامرة والرهان يعتمد على الحظ والمصادفات، الرهان ليس فيه ترميم للأضرار وما إلى ذلك، وجواب الدكتور جواب واف، قيل إنه أخذ مال الغير بلا مقابل وهذا وجه غريب، قيل إنه إلزام بما لا يلزم شرعا مسألة الضمان، قلنا أن الضمان يمكن تصحيحها على أساس أنها عقد مستقل، قيل إنه صرف باطل وما أبعده عن الصرف، قيل إنه يؤدي إلى تعطيل سهم الغارمين ويجب أن نشكره على ذلك لأنه يوفر للسهام الأخرى الزكاة، وهكذا هناك إشكالات أهم إشكال هو الغرر. وأرجو أن نركز على الغرر حتى نعرف واقعا عقود غررية أم لا هذا ثانيًا طبعًا، أولا التخريج الفقهى المهم. أعتذر كثيرا وهى جسارة منى على أساتذتى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأزواجه وصحبه أجمعين. كم نود أن نجد مخرجا للمسلمين وسندا صالحا من كتاب الله وسنة رسوله أو من القياس، أو من أقوال الفقهاء، ليبيح هذه المعاملة. ولكننى مع الأسف لم نجد هذا السند. أن كل ما قدم في هذا الموضوع لم ينقع الغليل ولم يشف العليل. فكأنه حوار الصم كما يقولون: تقول هذا لُعاب النحل تمدحه وإن ذممت فقل قييء الزنانير هذا يقول هذا تعاون من باب {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وهذا يقول هذه شركات تجارية تشكل لأغراض التجارة ويدخلها المساهم ولا يدرى ما هى نتيجة العقد، وما هى النتيجة التى سيحصل عليها بعد دخوله في هذا العمل يدخلها تارة طائعا ويدخلها تارة مجبرا. لأن كثيرا من الحكومات تجبر الإنسان على أن يؤمن السيارة وإذا لم يؤمنها فإن سيارته توقف وتسحب منه الرخصة. إذن في الحقيقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 والوفق في الحكم لدى الخصمين شرط جواز القيس دون مين نحن لم نتفق أساسا في الماهية فكيف نقيس على هذه الماهية، إنها مسألة في غاية الصعوبة، التحليل والتحريم مسألة كبيرة، حذر الله سبحانه وتعالى منها في أكثر من آية ويجب أن نتذكر ذلك دائما هنا ونحن نتحدث عن هذه المسائل فالكلام الذى نقوله ولما نقدمه للمسلمين من حلول. يقول الله سبحانه وتعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فهذا تحذير شديد ويقول الله سبحانه وتعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} هذا تحذير آخر شديد. إذن أمام هذا الوضع ليس لنا إلا أن نلجأ إلى النصوص الشرعية، لاستقرائها والاستنباط منها وأن نحاول عن طريق هذه النصوص أن نفهم طبيعة القضية التى نعالجها اليوم. لأن هذه النصوص لم تذكر هذه القضية باسمها، وهذا ليس عيبا، وإنما ذكرت كثيرا من القضايا التى تشبه هذه القضية شبها شديدا، بل أن الله سبحانه وتعالى أشار إشارة واضحة إلى أن المنافع لا تكفى للتحليل في قوله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} ما هو الميسر؟ هى العرب كانوا ينحرون الناقة ويضعون جملة من السهام منها السهم الظافر ومنها المنبج وجملة من السهام لكل سهم اسمه، يضعون عليها الاسم، فمن ربح بالسهم الأعلى قمر، أي أخذ الناقة كلها ولا يقضى شيئا، لا يبذل مالا، ومن فاز بالوغد، أو كان من حظه الوغد وهو من آخر السهام فإنه لا يفوز بشيء ويدفع المال المترتب. العرب كانوا ينتفعون بهذا في زمن الشتاء إذا لم يجدوا من ينحر لهم. تعلمون أن العرب كانوا ينحرون في الشتاء ويتمدحون بذلك فكانوا ينتفعون بذلك، والله سبحانه وتعالى قال نعم، هذا فيه منافع ولكن الإثم أكبر من النفع فانتهوا، توقفوا عن هذه المعاملة السيئة لأنها ليست مقبولة شرعا لما فيها من الغرر، حينئذ يبقى أن نتكلم عن الغرر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 لقد قلت أولا إنه يجب تحديد مفهومنا للتأمين، أنا لست من المختصين في عقود التأمين، ولكنى أراه هكذا، لقد كنت في بعض البلاد الإسلامية في مسئوليات معينة ومتطلع على بعض الملفات وأيضا أعرف إلى حد ما بعض القوانين الغربية واللغات الغربية. فالتأمين تابع لأى من الوزارات؟ هل هو تابع لوزارة الشئون الاجتماعية أو وزارة الأوقاف؟ لا هو تابع لوزارة المالية ووزارة التجارة. إذن تأمين الشركة التجارية إذا كان للدولة فالدولة تجنى من ورائه أرباحا وإذا كان للأفراد فالأفراد يجنون من ورائه أرباحا. وهذه هى المهمة الكبرى وهى الباعث. هذا الذى أراه والله سبحانه وتعالى أعلم. قلت: إنه يمكن للبلاغة أن يقول الواحد هذا لعاب النحل والآخر يقول هذا قيء الزنانير، للتنفير، فالذى نعرفه أن التأمين هو من الأعمال التجارية المحضة الواضحة جدًا وأن الشخص قد يدخل فيه مجبرا، كما ذكرت في السيارات التى يجب تأمينها في البلاد التى يطبق فيها عقد التأمين ولا يمكن أن تسير بسيارة بدون أن تكون مؤمنة وإلا فإن الشرطة توقفك وتطلب منك ورقة التأمين. هل هذا الشخص مجبر أم مختار؟ إذا كان مختارا لقال أنا أريد أن أذهب بسيارتى بدون تأمين واتركونى لأتحمل أخطائى، فيقولون له: لا، لابد أن تأخذ عقد التأمين. هو مجبر إذن وليس مختارا وليس عقدا والعقد فاسد من هذه الناحية لأن الاختيار شرط لابد أن يكون الطرف الآخر راضيا بهذا العقد، فإذا لم يكن راضيا فإن هذا العقد من باب الجبر فهو مجبر عليه والمكره لا يلزمه عقد كما جاء في الحديث "وما استكرهوا عليه" وكما قال إمامنا مالك رحمه الله تعالى: طلاق المكره. وتعرفون ما وقع لمالك رحمه الله في المسألة. التأمين ليس فيه غرر هذا صحيح. التأمين عقد ليس فيه غرر بيع الغائب، يثبت بيع الغائب بالوصف، هذا عقد فيه غر، عقود المساقاة عقود فيها غرر، عقد الغرر لا يجوز مطلقا، حتى عند من يقول بأن النهى لا يبطل العقد وبعضهم قال أن النبى لا يبطله وإنما يفسده وفرق بين الفساد والبطلان. فالبطلان هو تدمير الماهية تدميرا تاما، والفساد يمكن انجباره بالخيار في البيع مثلا بثبوت حق الخيار في البيع أو بثبوت حق الخيار في النكاح أو بثبوت الصداق في نحو نكاح الشغار مثلا بالنسبة لمن يعلل الخلاف لإمامنا مالك رحمه الله تعالى الذى لم يعلل في قضية الشغار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 النهى إذن، ما هو النهى الذى يوجب البطلان؟ بالتتبع لمذاهب العلماء نجد أن النهى الذى يوجب البطلان هو النهى الذى ينصب على الماهية، بمعنى يفقد الماهية ركنا أساسيا من أركانها، أو النهى الذى ينصب على الصيغة بأن تكون صيغة غير شرعية، هذا هو النهى الذى يؤدى إلى البطلان. وهذا واقع في العقد الذى نتحدث عنه اليوم. النهى الذى يفقد الماهية ركنا من أركانها، معلوم أن الركن العاقد والثمن والمعقود عليه ومتعاقدين هذه هى أركان البيع. شرط البيع الذى لا تنفك عنه الماهية هو القدرة على التسليم، الصيغة أيضا هى دليل الماهية وليست من الماهية على خلاف بين العلماء، يقول صاحب القواعد: الشرط عن ماهية قد خرج والركن لها قد ولج وصيغة دليلها والعدل لها من الأركان في بعدها إذن الصيغة إذا كان البيع معيبا من ناحية الصيغة فإنه يكون باطلا، ولنخرج من هذه العمومات المقدمة أدلة: نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر في الجملة ومع ذلك نجد بيوعا فيها غرر قبلها العلماء وليست بيوع غرر. نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن بيع المضامين والملاقيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 هذا ما أسميه بيع الغرر. لأن ذات المعقود عليه لا يمكن تسليمها وبالتالى يفقد البيع شرطا كبيرا من شروطه وهو القدرة على التسليم والحكمة في البيوع وهى القدرة على التسليم. إذن هذا من بيوع الغرر التى نهى عنها النبى صلى الله عليه وسلم والتى أجمعت الأمة على أن النهى فيها دليل على البطلان، وليس دليلا على الفساد، لا يمكن انجباره فعقد التأمين الذى نتحدث عنه هو شبيه جدا ببيع المضامين والملاقيح فألا يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها، قريبا جدا منها كأنه هى. إذن إذا كان البيع منصبا على ركن من الماهية كبيع الميتة فهذا البيع باطل قطعا. إذا كان البيع منصبا على صيغة كبيوع الربا فهذا البيع باطل قطعا ولا يمكن انجباره. إذا احترمت الماهية واحترمت الصيغة فإن البيع حينئذ يمكن انجباره كتلقى السلع إذا كان البيع منهيا عنه كتلقى الركبان واشتراء السلع قبل وصولها إلى السوق. وكبيع النجش الذى يزيد الغرر فإن هذا البيع منجبر بعد ذلك صحيح عند الجمهور إذا كان فيه غبن فاحش يؤدى إلى الخيار عند الإمام أحمد ورواية عن مالك مشى عليها ابن عاصم رحمه الله تعالى، أما خليل فقال: أن الغبن الفاحش لا يرد به، لا بغبن ولو خالف العادة، أما ابن عاصم فذهب إلى أن الغبن يؤدى إلى وجوب الخيار في البيع. الحقيقة أننا في وضع إذا تباحثنا فيه لا نصير في الحقيقة إلى كبير فائدة إلا أن كلا من الناس يعرب عن وجهة نظره عندما يقول هذا التأمين الذي ترونه أمامكم ليس عقدا نحن نقول له: هو ليس يصح في الأذهان شيء يحتاج النهار إلى دليل، ليس عقدا تجاريا وإنما هو تعاون كقول النبى صلى الله عليه وسلم: ((إن الاشعريين يجمعون أزواجهم)) هذا يجعل التأمين من هذا النوع، هذا في الحقيقة نصبح أمام وضع صعب جدا في نقطة الانطلاق ونقطة البداية، وتصحيح البدايات شرط في تصحيح النهايات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 لابد من تصحيح هذه البداية التى ننطلق منها، أن نعترف بالحقيقة ماثلة أمامنا، نحن لا نعرف شيئا عن أصول التأمين وعن تاريخ التأمين، يمكن أن يكون تاريخ التأمين كان طبيبا ولكن التأمين الذى نشاهده الآن وفى البلاد التى تؤمن والتى تؤمن على الحياة وعلى السفن وعلى البضائع هو يدخل فيما ذكرته آنفا وأنه عقد غرر وليس فيه غرر. وعقد مجهول لأن الشخص لا يدرى هل يعود إليه شيء من هذه الأقساط أو لا يعود له مطلقا وهو حريص جدا على أن يجد ما فقد أو لا يعمل شيئا مطلقا ولا يصير له شيء من هذا المال الذى قدمه. فبعد ما ذكرته الآن وأحترم رأى بعض الإخوان الذى يقول إنه يجب أن نتجنب الأمور العاطفية، أعتقد أننى لم أذكر أمورًا عاطفية، الذي أذكره أننى حاولت التركيز جدا على هذه النقطة وأن التأمين عقد غرر وأن النهي إذا كان يتعلق بذات العقد فإنه يؤدي إلى البطلان والرد الذي جاء بالحديث ((من اعتدى بأمرنا على أعمالنا ليس منا، فهو رد)) ، يدل على بطلان النهى كما وعند جمهور العلماء وحتى من لا يقول بالبطلان كأبي حنيفة رحمه الله تعالى الذي يقول أن النبي يدل على وجود الماهية فإنه في هذه العقود بالذات يقول بالبطلان وهو فناء الماهية فناء مطلقا. والحمد لله رب العالمين. وإذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار الرئيس: شكرا أثابكم الله، أيها المشايخ، نحن أمامنا البحث ذو جهتين أما الجهة الاولى فهو البحث في التأمين حلا وحرمة. وأما الجهة الثانية فهي في البديل الإسلامى والذي تقدم به الأستاذ عبد اللطيف جناحي ولدى الشيخ عبد اللطيف صالح الذى يشتغل في إحدى اللجان الآن بحث كذلك وهو بين أيديكم. ولهذا فإنه قد ترون مناسبا أن البحث في البديل الإسلامى نؤجله إلى جلسة غير الصباحية باذن الله تعالى ونطلب من أصحاب البحوث أن يتفضلوا بإعطاء مختصرات عن بحوثهم كما جرى عليه العمل. وأما الآن فنسمع القسط من المداولات حول ما سمعتموه من ملخصات لهذه البحوث وأعطي الكلمة للشيخ أحمد الخليلى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 الشيخ أحمد الخليلى: بسم الله الرحمن الرحيم، شكرا معالي الرئيس، في الواقع أنا لست من أهل الخبرة في موضوع التأمين لأننى لم أدرسه من مصادره ومن مظانه وينبغى أن يكون الإنسان دائما متوقفا أمام الشيء الذى يجهله، وإنما تكونت عندى فكرة الآن مما سمعته من هذه البحوث القيمة التى تليت على مسامعنا، وبقي عندي شيء من الإشكال وأريد أن استفسر عما أشكل علي، الموضوع الذي أشكل علي والذي لم أعرف حقيقته هو موضوع التأمين الاجتماعي أو التأمين غير التجاري كيف طريقته حتى أستطيع أن أتحدث عن هذا الموضوع بعدما نتصوره، أنا حسب ما سمعت من هذه البحوث الآن. وحسب ما تبين لي أيضا بعض الشيء من أحاديث الناس حول التأمين، وجدت الدخول في التأمين أمرًا فيه حرج كبير، لأن التأمين كما تفضل أصحاب الفضيلة المشايخ الذين تحدثوا عن حرمة التأمين، هو عقد بين متعاقدين، عقد فيه غرر بحيث لا يدري هذا المستأمن هل يسترد شيئا مما أعطى أو لا يسترد شيئا قط، وهل يبقى مستمرا في عقده هذا وقتا طويلا أو يمل آخر شيء بعدما يرى الخسائر تتتابع ويحاول أن ينسحب، وفى نفس الوقت تكونت عندي صورة من بعض ما سمعته من الناس، منذ سنين سمعت أحدا ممن استأمن على سيارته يقول بأن ريحا شديدة أو إعصارا حل وكانت سيارته تحت شجرة فكان يتمنى أن تسقط هذه الشجرة على سيارته حتى يدفع له العوض، وفى الأيام القريبة أيضا نفس الشيء سمعت أحدا يذكر عن ابنه بأنه اتفق مع الشباب بأن يعملوا صداما مصطنعا ما بين سياراتهم حتى ينالوا تعويضا من شركة التأمين عن طريق هذا الصدام المصطنع. وقد تم ذلك فعلا، فلو كان هذا الإنسان الذي شارك في هذه الشركة "شركة التأمين" حريصا على ما لها لما كان ذلك، ولو كان يراعي أن هذا المال هو شريك فيه لما حدث مثل ذلك، وإنما هذا يدل على أنه يريد أن يسترد بعض ما أخذه، لأن أن كان هذا التأمين مفروضا بالقهر فهو يريد أن يستنصر لنفسه باسترداد بعض مما أعطى، وأن لم يكن مفروضا فهو يريد من وراء هذا ربحا، لعله يعوض سيارة جديدة بدلا من تلك السيارة القديمة. وبجانب هذا، كما تفضل فضيلة الشيخ رجب، نحن لا نأمن من شركات التأمين أن تكون تعنى بتنمية ثروتها أو رأس مالها من طريق الربا وهذا واقع طبعا لأن المعاملة إنما تكون مع البنوك وعن طريق بيع المحرمات كالخمر وغيرها، وعن طريق الاشتراك في الملاهي والمراقص إلى ما وراء ذلك، وعلى كل حال مما جاء في الأثر: أمر بان لك رشده فاتبعه، وأمر بان لك غيه فاجتنبه، وأمر أشكل عليك فقف عنه. على الأقل في القضية شبهة أن لم تكن حرمة ظاهرة صريحة فهناك شبهة، والشبهة يجب علينا أن لا نتخطاها. فمن هذه الناحية أنا أضم صوتي إلى أصحاب الفضيلة المشايخ الذين قالوا بمنع التأمين وبجانب ذلك أيضا أنا أضم صوت إلى الذين يرون البديل الإسلامى، فماذا عسى أن يضيرنا إذا نحن كونا شركة إسلامية، هذه الشركة الإسلامية عليها أمناء يراقبونها تجمع تبرعات، هذه التبرعات تنمى بطريقة مقبولة شرعا يبقى رأس مالها ومن الربح يعطى الذين يرزأون بحوادث وقضايا، في هذا البديل ما يغني عن اتباع المناهج والنظم التى عند غيرنا وعلى كل حال أصحاب الرأى الحصيف كل منهم يدلي إن شاء الله برأيه ورأي الجماعة لا تشغل بلاد به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 الرئيس: شكرا أثابكم الله، أرجو من الشيخ الضرير أن يتفضل بإعطاء لمحة عن التأمين التعاونى وإن كان موجودا لدى أصحاب الفضيلة وهو في قرار مجمع مكة وهو موجود لديكم في آخر البحث، عن التأمين التعاونى. الشيخ الصديق الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا الموضوع "التأمين" بدأ البحث فيه منذ سنين عديدة ولعل أول مؤتمر بحث فيه هذا الموضوع كان في أسبوع الفقه الإسلامى الثاني وكان فيه أستاذنا الزرقاء وكان لي شرف الحضور بهذا المؤتمر وقد عرضت فيه الآراء وأوردت شبه كثيرة في هذا وكان رأيي ورأي الأستاذ الزرقاء يكاد يكون واحدا إلا في مسألة واحدة اختلفنا فيها وهي موضوع الغرر. وكان رأي الأستاذ الزرقاء في ذلك الوقت أن الغرر غير موجود في عقد التأمين، أو أنه ليس عقد غرر، إذا أن الغرر فيه يسير بحيث يكون مغتفرا. وكان رأيي ولا يزال أن الغرر هو السبب الأساسى في منع عقد التأمين التجاري. ونظرية الغرر قد كتبت فيها كتابا وتعرضت فيه لعقد التأمين وأصل هذا العقد وانتهيت إلى أن الغرر الذي يؤثر في العقد وهو قد قاله بعض الإخوان، هو الغرر في عقود المعاوضات المالية وبشرط أن يكون كثيرا وفي المعقود عليه أصالة وألا تدعو إلى العقد حاجة، وهذه مسائل استنبطها من أقوال الفقهاء، وارتضيتها لأنها محل خلاف، فان يكون في عقود المعاوضات المالية، وهذا هو الشاهد الذي أريد أن أقف فيه قليلا هذا الشرط محل خلاف. أما بقية الشروط الثلاثة فلا خوف فيها، الغرر اليسير لا يؤثر في العقود مطلقا عند جميع الفقهاء. وكذلك كونه في المعقود عليه. أصالة لا يغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل، وإذا دعت إلى الأصل حاجة، الفقهاء يكاد يتفقون على أن الغرر هنا لا يؤثر ولو كان كثيرا. ولو كان في عقد المعاوضات. لكن الخلاف حصل في عقود المعاوضات، فبعض أو أكثر الفقهاء عمموا، وقالوا الغرر يؤثر في جميع العقود، وإن كان النص ورد في البيع خاصة، وخالف المالكية في هذا ولهم فيه رأي صريح ومبدأ ثابت، وهو أن الغرر لا يؤثر في عقود التبرعات. قالوها صريحة، وإن كان بعض الفقهاء لهم آراء أيضا بالنسبة لعقود التبرعات، الهبة هل يؤثر فيها العقد كما يؤثر في البيع؟ لكن لم يصرحوا كما صرح المالكية بهذا المبدأ، وهو أن عقود التبرعات يؤثر فيها الغرر، فيجوز في الهبة، لا يجوز أن تبيع ما تثمر الحديقة في العام القادم ولكن يجوز أن تهب ما تثمره الحديقة في العام القادم. والسبب واضح في هذا، وجهة نظر المالكية في هذا سليمة وقد أخذت بها، ولذلك اشترطت في الغرر المؤثر أن يكون في عقود المعاوضات. ومن أجل هذا رأيت أن عقد التأمين التعاوني وهو عقد تعاوضي يؤثر فيه الغرر إلا إذا دعت إليه حاجة. وأن عقد التأمين التعاوني إذا كان قائما على أساس غير معاوضة، على أساس التبرع، فهو عقد جائز، بناء على هذه القاعدة، وأن كان فيه غرر، الغرر موجود في الحالتين سواء كان عقد تأمين تعاوني أو عقد تأمين تجاري، الغرر واحد، لكن الفارق هو أن في العقود التجارية هناك جهة تسعى إلى التجارة في هذا العمل، في التأمين، إلى التجارة في التأمين وهي التى تغنم وقد تغرم. أما في التأمين التعاونى فالمؤمن والمؤمن له واحد، وليست هناك جهة تتاجر في التأمين. المشتركون هم أصحاب الشركة وهم الذين يستفيدون من أرباحها إذا فاضت أو من أموال الاشتراكات إذا فاضت عن التعويضات وتعود إليهم هذا الفائض، وهم الذين يغرمون إذا زادت التعويضات عن الاشتراكات. والمبالغ التى يدفعونها كما قلت هى تبرع منهم. لمن تقع عليه كارثة يحتاج إلى أخذ المال منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 الرئيس: فضيلة الشيخ هنا أود أن تسمح لى بكلمة بسيطة. طالما أن التأمين التعاونى هو عقد تبرع ممكن أن نصفه بهذا أو لا؟ هل نصفه بأنه عقد تبرع؟. الشيخ الصديق الضرير: نعم. الرئيس: نصفه بهذا، طالما أنه عقد تبرع، والتبرعات الأصل فيها الارفاق والإحسان وحب الخير والتعاون على البر والتقوى، فكيف نصف أن التأمين التعاوني يستوى مع التأمين التجاري في الغرر؟ وكيف يرد الغرر والحالة هذه؟ لأن عنصر الاحتساب وطلب الثواب هو الأصل الذي قام عليه التأمين التعاوني. الشيخ الصديق الضرير: الغرر هو يرجع إلى طبيعة العقد. فكما وجد الغرر في المثال الذى ذكرته في عقد البيع، بيع ما تثمره الشجرة في العام القادم، هذا عقد غرر لأننا لا ندرى هل ستثمر هذه الشجرة في العام القادم أو لا تثمر، وإذا أثمرت هل ستثمر كثيرا أو قليلا. ففى عقد المعاوضة المشتري دفع مبلغا، إذ لم تثمر الشجرة فيضيع عليه هذا المبلغ، وكذلك إذا أثمرت أقل مما كان يتوقع، وقد تثمر أكثر مما كان يتوقع البائع فيأخذ المشتري أكثر مما دفعه، وهبة ما تثمره الشجرة في العام القادم فيه نفس هذا الغرر وهو عقد تبرع، فالغرر موجود في عقود التبرعات كما هو موجود في عقود المعاوضات، لكن في عقود التبرعات لا يؤثر، لأن هذا الشخص الذي وهبت له ثمرة هذه الشجرة في العام القادم لم يدفع شيئا، فإذا أثمرت يستفيد وإذا لم تثمر لا ضرر عليه، وهذه وجهة نظر المالكية في التفرقة بين تأثير الغرر في عقود المعاوضات وفي عقود التبرعات، أيضا عقد التأمين هو عقد التأمين. إذا أنا دفعت مائة جنيه قسطا عن سيارتى لشركة تجارية في هذا العقد غرر لأن السيارة قد لا يصيبها شيء فالشركة تأخذ كل المائة جنيه وأنا لا آخذ شيئا، هذا في الشركات التجارية. إذا دفعتها اجتمعنا عشرة أو مائة شخص ودفع كل منا مائة جنيه قسطا على أن من يحصل لسيارته يأخذ من هذا المبلغ وإذا فضل شيء يعاد إلينا ودخلنا من أول الأمر على أننا جميعا متبرعون بهذه المبالغ لمن تصيب سيارته مصيبة، فالغرر موجود وبنفس القدر لا يختلف. الرئيس: لكن هل الفقهاء أو العلماء أطلقوا عليه غررا؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 الشيخ الصديق الضرير: نعم، أطلقوا عليه غررا ولذلك قلت أن المالكية نصوا.. الرئيس: لا، قصدي أنا على عقود التبرع يا شيخ، ولكن هل يطلقون على ما أصله الإرفاق والإحسان من التبرعات غررا؟ هذا هو السؤال، أما أنا فحسب التتبعات، وفوق كل ذي علم علم الله، أعرف أنهم يطلقون على هذا غررا. الشيخ الصديق الضرير: هذا موجود في كل كتب الفقه التى اطلعت عليها وفي كل المذاهب عندما يتحدثون عن أثر الغرر يذكرون العقود التى يؤثر فيها الغرر والتى لا يؤثر فيها. فهم بإجماع اتفقوا على أن عقود المعاوضات تقاس على عقد البيع إذا كان فيها غرر، ثم تحدثوا عن بقية العقود ومنها عقود التبرعات هذه، فتحدثوا عن الغرر في الهبة وهي من عقود التبرعات بنصوص صريحة في كل المذاهب، وهي موجودة عندي. فما من شك أن العقد من حيث هو سواء كان معاوضة أو تبرعا أو حتى عقود الزواج، عقد الزواج تحدثوا عن الغرر فيه، فكلها يدخلها الغرر لكن هل يؤثر فيها جميعا أو لا يؤثر؟ هب هو الفارق، والواقع أننا نحن في السودان بدأنا، ولعل شركة التأمين في السودان والتى أشار إليها الأخ الزحيلى هى أول شركة تأمين تعاوني هي قامت على هذا الأساس ولها نظام مكتوب ووضع فيه كل ما يجنبها المسائل العرضية التي تدخل على عقد التأمين، مثل موضوع الربا، هذا ليس من أصل العقد، فمسألة عرضية قد توجد وقد لا توجد، ولكن الذي يدخل في أصل العقد هو الغرر ولم نجد مخرجا من هذا إلا بتحويل عقد التأمين من عقد معاوضة إلى عقد تبرع، ولذلك عندما أنشئت شركة التأمين التعاونى بهذا الأساس وقلنا أن رأس مال هذه الشركة هو الاشتراكات ولا نريد رأس مال من الخارج، ما فيه مؤسسين لهذه الشركة، لكن اصطدمنا بالواقع القانونى الذى يشترط في كل شركة أن يكون لها رأس مال ومؤسسون. فوافقت الهيئة على أن تقوم الشركة بحيث تتفق مع المتطلبات القانونية وجعل لها رأس مال دفعه البنك ومعه شخص أو شخصان لكى تتم العملية من الناحية القانونية. لكن اشترطنا على رأس المال هذا ألا يستفيد مطلقا من عمليات التأمين، بل استفادت الشركة من رأس المال هذا، بأن أصحاب رأس المال قبلوا أن يوضع نص بأنه إذا حصل عجز ونقصت الاشتراكات عن التعويضات، الشركة تأخذ من رأس المال هذا بصفة قرض لتسدد به العجز لأننا اصطدمنا بمشكلة عملية أنه حسب القاعدة في التأمين التعاونى أنه إذا حصل عجز نرجع على المشتركين، والمشتركون آلاف فكيف نرجع عليهم؟ حلت هذه المشكلة بأن وافق أصحاب رأس المال على أن يكون رأس المال هذا أيضا بمثابة تأمين لهذه الشركة في حالة إذا ما حصلت خسارة والحمد لله لم تحصل خسارة في هذه السنوات الثمانية. فالشركة ماشية الآن ووزعت أرباحا على المشتركين في العام الماضى بمقدار 8 % لأن هذا فاض، الأموال تستثمر وتدفع التعويضات، فحصل ربح زيادة على الاحتياطات الموجودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 ثم وضعنا في نظام الشركة هذه ما يميزها عن الشركات الأخرى، فيها جمعية للمشتركين لأنهم أصحاب الشركة، وهذا لا يوجد في أي شركة تجارية أخرى، المشترك ليس له غرض ولا يسأل عن أخيه في الشركات التجارية لأنه يتعاقد مع أصحاب رأس المال، لكن هنا، المشتركون يعرفون بعض ويجتمعون كل سنة وتصدر منهم توصيات فيما يتعلق بسير هذه العملية، فسار العمل والحمد لله في كل هذه السنوات، والعقبة التى اصطدمنا بها هي موضوع إعادة التأمين وهنا طبقنا أيضا نفس القاعدة، والتى هى قاعدة الغرر، لإعادة التأمين لم نجد في ذلك الوقت شركة إعادة تأمين إسلامية، فليس هناك إلا الشركات التجارية، شركات إعادة التأمين، أيضا صدرت فتوى بجواز إعادة التأمين في الشركات التجارية عملًا بمبدأ الحاجة، ومبدأ الحاجة التى تجعل الغرر غير مؤثر لأنه ليست هناك شركة إسلامية يمكن أن يعاد فيها التأمين، وتبين لنا من أقوال المتخصصين في التأمين أنه لا يمكن قيام شركة تأمين من غير أن تعيد التأمين في شركات أخرى لأنه سيكون مصيرها الفشل والخسارة، وناقشنا هذا الموضوع طويلا ثم أصدرنا هذه الفتوى بقيود وهى مدونة في كتابى "فتاوى" وسوف أعطيكم نسخة منه، هذا فيما يتعلق بإعادة التأمين. وأنا في رأيي أن هذا الموضوع أصبح الآن موضوعا عمليا، شركات التأمين التعاونية انتشرت الآن في أكثر من بلد، وأصبح الآن موضوعا عمليا، شركات التأمين التعاونية انتشرت الآن في أكثر من بلد، وأصبح المطلوب هو تنمية هذه الشركات وتقويتها والخروج من الحرج الذى نحن فيه بإعادة التأمين في شركات أجنبية. في الواقع أننا عندما أصدرنا هذه الفتوى اشترطنا على البنك أن يسعى لإقامة شركة إعادة تأمين، والآن والحمد لله بدأت هذه الشركات، توجد شركات إعادة التأمين إسلامية، بعض شركات التكافل، وتوجد شركات يمكن الاخ الذي تكلم عن البديل، يتحدثون عنها في البحرين أيضا شركة إعادة تأمين، لكنها لا تكفي. وأنا في رأيى أن المطلوب من هذا المؤتمر أن يوصي بالإكثار من إنشاء شركات التأمين التعاونية، والتعاون فيما بينها للخلاص من إعادة التأمين في الشركات التجارية، والنظر فيما تقوم به هذه الشركات، قد يكون فيها بعض المسائل التى تحتاج إلى تعديل هذا هو المطلوب الآن في رأيي، أما البحث في جواز التأمين التجاري أو عدم جوازه، في رأي أن هذا الموضوع تخطاه الزمن وما دام وجدت الآن الشركات الإسلامية، وهي من غير شك، على أقل تقدير، أقرب إلى القبول من الشركات التجارية، فلا معنى للبحث في جواز التأمين في الشركات التجارية بعد أن وجد هذا الآن ونجح والحمد لله، فمهمتنا ينبغي أن تنحصر في تحسين ما بدأنا فيه، وأكتفي بهذا. وشكرًا. الرئيس: الشيخ أحمد لديه استفسار بسيط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 الشيخ أحمد حمد الخليلى: أستفسر عن المشتركين في هذا التأمين التعاونى. هؤلاء المشتركون هل يعتبرون ملاكا يملكون هذه الشركة أو يعتبرون متبرعين، أخرجوا ما دفعوه من ملكهم تبرعا واحتسابا؟ الشيخ الصديق الضرير: هم متبرعون، وهم في نفس الوقت كما قلت أصحاب الشركة، لأنه لهم جمعيتهم، جمعية للمشتركين تستطيع أن توصى بكل ما تراه فيه المصلحة لهذه الشركة، والذين يديرون الشركة لا يملكون الشركة، هم موظفون يتقاضون مرتبات، فالأصحاب الحقيقيون للشركة هم المشتركون، وهذا هو الأساس في التأمين التعاونى، حتى يعبر عنه بأنه المؤمن والمؤمن له واحد. الرئيس: شكرًا، ونحن إن شاء الله تعالى غدا سنستكمل البحث ولكن قبل أن نستكمل البحث أعطي الكلمة للشيخ معروف مع أملي بمراعاة الزمن لأننا ملتزمون أولا بأداء الصلاة ثم وراءنا التزام وبقية البحث والمداولة إن شاء الله سنكملها غدا بإذن الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 الشيخ معروف الدواليبى: شكرا سيادة الرئيس.. وأنا كعادتى سأتكلم كلمات برقية سريعة. كنت أريد أن أقصر كلامي على التعاون الذي جرى حوله البحث أولا في التجاري ولكن سؤال فضيلة استاذنا الجليل الشيخ أحمد الخليلى طلب معلومات عن التأمين الاجتماعي، ولما كان التأمين الاجتماعي قد جرى في المملكة هنا وطبقناه وكنت مشرفا على وضع قانونه وقد حدث في الأول خلاف حوله ما بين إخواننا السادة العلماء من خمس عشرة سنة ولكن كلفت بشكل رسمي وبقينا مع المرحوم الشيخ عبد الله بن حميد وسماحة الأستاذ الشيخ عبد الله بن باز نحو ستة أشهر حتى اتضحت لهم الأمور وخرجنا بالتأمين الاجتماعي. الرئيس: الذى هو تعاونى. الشيخ معروف الدواليبى: الذى هو قائم الآن في المملكة العربية السعودية، التأمين التعاوني للعمال طال عمرك، يعني هو القائم الآن، وصدر كتاب من المرحوم الشيخ عبد الله بن حميد والشيخ عبد العزيز بن باز إلى الملك وأشرفنا على المواد كلها وصدر. وسوف أتكلم أيضا عنه بسرعة، وكما أتكلم عن البقية، فأولا هناك أيها السادة تنوير لمن لم يقرأ شيئا أو قليلا عن التأمين. التأمين الآن بشكل عام هو حاجة في العالم ولا يمكن لأحد أن يبيع تجارة أو يركب سيارة في أوربا إلا وهناك القانون إجباري وأصبح العرف به قائما ويؤمن حاجة حتى راكب السيارة لو قلت ما فيه سائل هو لا يرغب لأنه قد تحدث حادثة ويذهب فيها هو والآخرون ولذلك يجد أن من مصلحته أن يؤمن والدولة تجبره.. الخ، فالتأمين في العرف الدولى في العالم أصبح حاجة ضرورية. فأبدأ بالتأمين الاجتماعي الذي قام في المملكة وبموافقة السادة العلماء فإذا كان التأمين المعروف دوليا هو التأمين التجاري ثم التأمين التعاوني ثم التأمين أيضا الاجتماعي الذي تفرضه الدولة بدون الشركات، التأمين التعاوني يجري ما بين أصحاب العلاقة بشكل رضائى ويضعون دستوره، ولعل من أكبر شركات التأمين في الغرب الآن هى الشركات، بعض الشركات التعاونية، هى شركة تضع دستورها ومنها شركة "نيويورك لايف" ومعها "مشوال" كذلك هذه من أكبر الشركات وهي تعاونية ولكن هم شركة فيما بينهم أصحاب العلاقة، بمعنى أنهم ما يجمعونه من أقساط سنوية حسب الحاجة قد يرفعونه فيما بينهم بالاتفاق إذا أدت الحاجة، وقد يهبطون بالحصص عندما يجدون عندهم وفرا. أما الشركات التجارية فهى أيضا، ولكن هنا في التعاونية ليس فيه ربح لأحد، وإنما في الشركات التجارية فيه ربح. أما فيما يتعلق بالتأمين الاجتماعي فهو ما تفرضه الدولة على أصحاب العلاقة ويدار من قبل موظفين والدولة تزيد أو تنقص عن طريق الفرض على أصحاب العلاقة ليتأملوا الحاجة التى تدعو إليها لأصحاب العلاقة، ونحن هنا في المملكة العربية الواقع خرجنا بنوع جديد في التأمين الاجتماعي، فأوجدنا تأمينا اجتماعيا ما بين أصحاب العمل والعمال بفرض من ولي الأمر. الرئيس: تقصد مؤسسة التأمينات الاجتماعية، هكذا اتضحت الصورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 الشيخ معروف الدواليبى: نعم يا سيدى، ولكننى أحب أن أعطي صورة عنها للإخوان ولن أزيد أكثر من ذلك، فهو نوع جديد من التأمين الاجتماعى في المملكة وأدى الغرض، إلا إن الشيء الجديد فيها أن الدولة قالت عندما تعجز المخصصات التى فرضها ولى الأمر جزء من راتبه وجزء من أرباح الشركة لمصلحة العامل وما يصيبه من أحداث في حياته أو مرضه أو في عطله، فالدولة هي التى تتبرع عندئذ إذا عجز. وأقول لكم عندما وضعنا هذا القانون وأعطينا للعمال ما لم يعط الموظف في أي دولة من الدول، فوضع العمال عندنا الآن هو خير من وضع الموظفين، وتجنبنا كل حركة عمالية وشيوعية يمكن أن تدخل إلى قلب العمال بل جاءني مندوب الشرق الأوسط في الشئون الاجتماعية للحكومة بالولايات الامريكية ويقول إننا دهشنا كيف استطاعت المملكة أن تصدر مثل هذا القانون أو النظام في التأمين الاجتماعي الذي أعطت فيه للعمال ما لم تستطع أن تعطيه اياه الدول اليسارية في المنطقة، وأذكر أن مظاهرة قامت من العمال اليساريين في لبنان في ذلك الوقت وقالت تتطالب الحكومة اعطونا ما أعطته الدولة الرجعية المملكة السعودية لعمالها، والمرحوم الملك فيصل لما جاءته أنباء المظاهرة فيها الخبر تبسم من قلبه، الواقع أننا عملنا عملا كان فيه الخير لهذه البلاد وفيه مصلحة، شيء واحد الذين وقفوا أمام التأمينات الاجتماعية بعد أن عملناه هى شركات الأجانب التى تعمل هنا وكانت بصورة خاصة شركة التابلاين، لأنه ما كان منه عندنا بعض مصانع منذ خمس عشرة سنة كانوا العمال المؤمنون هم فقط الذين يدخلون شركة التابلاين وحسب القوانين لا تستطيع شركة التابلاين أن تقبل عاملا بدون أن تؤمنه في أمريكا، لا تقبل موظفا حتى لا تكون مسئولة، وفى السنة التى أعلنا وجدنا أنها تدفع عشرة ملايين دولار في السنة عن العمال فقط السعوديين ولكن تذهب إلى شركة أجنبية. طبعا ونحن بصورة عامة أيضا لا نشتري من الدبوس إلى الطيارة ولا أحد يبيعنا لنأتي بها من الخارج وندفع بها التأمين شئنا أو أبينا، فالتاجر لا يبعنا، الطيارة الآن لا يبيعونها قبل ما تؤمن وقبل نقلها ولا الدبوس التاجر لا يبيعه قبل أن يؤمن ما دام سينقل. فنحن إذن في كل الأحوال ندفع التأمين وعمليا تذهب إلى الشركات الأجنبية. فلما أصررنا على الإخوان بضرورة إقامة التأمين ونبدأ بالتامين الاجتماعي لأننا ننقل عمالنا السعوديين الذين يدفع عنهم عشرة ملايين دولار إلى شركات أجنبية صهيونية كما قال الأخ ونريد أن نجعلها هنا من أجل العمال وتبقى في أراضينا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 وأجبرنا عندئذ أيضا المهندسين الأمريكان لأنهم يدفعون هناك وقلنا إنه عندما يكون لدينا شركة تأمين اجتماعية فكنتم تأخذون من عمالنا وتضعونها في أمريكا أما وقد أقمنا مؤسسة هنا، ولذلك فالمؤسسة تأمين اجتماعي أصبحتم ملزمين أن تمشوا مع العمال فاحتجوا ومن مهازل الدهر أنهم تمكنوا، لأنه وضعنا وقلنا أن الأجنبي ينال نفس الحقوق لأنه في ذلك لما ضمنا أيضا التأمينات الاجتماعية التى يأخذها المهندسون غير العمال السعوديين الذين رواتبهم بسيطة المهندسون والاخصائيون ضماناتهم الاجتماعية أكثر بكثير. ولما أصررنا على أن المؤسسة هنا وطنية والشركة التابلاين وطنية إذن كلهم يجب أن يجروا التأمين هنا وإلا لن نسمح بها، فعندئذ خضعوا ولكن ذهبوا وأثاروا علينا رجال الأعمال قبل أن يكون عندهم مصانع وتقدموا إلى جلالة الملك رحمه الله وقالوا لماذا تدخلون الأجانب وتلزموننا نحن أن ندفع لهم تقاعدًا، فاجتمعنا بهم وبعدها فهمنا أن شركة "التابلاين" هى التى حاولت أن ترسل رجال الأعمال أن أخرجوا الأجانب على الأقل ولكن أجبرناهم، واليوم عندكم شركة التأمين الاجتماعية في هذه السنة كما نشر فقط عن التعويضات التى دفعتها، أولا أغنى مؤسسة عندنا هنا جمعت المليارات وأصبح عندها أملاك وخيراتها تعود على العمال ويمكن أن تزيد دائما في مصالحه وربما سوف تبني لهم مساكن وسوف تبني لهم مستشفيات، لكن في هذه السنة الأخيرة، كما نشر قريبا في الصحف ما دفعته من تعويضات أو تأمينات صحية أو عمالية أو إصابية وأيضا من أجل الوفاة ومن أجل أيضا البدل العائلى.. الخ، التأمين الاجتماعي في جميع نواحيه وجدناه بلغ خمسمائة مليون، هذه كان العامل السعودى ممنوعا عنها وما كان يدفع من تأمين عن عمله فقط فيما إذا أصابته مصيبة دون أن يكون له تأمين عائلى كلها كانت تذهب إلى أوربا. ولذلك هذه المؤسسة أدت خدمات كبيرة جدا والحمد لله أن إخواننا العلماء وافقوا عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 ننتقل الآن بعد هذه الفكرة الموجزة إلى كلمات لن تكون إلا أقصر منها فأقول أن التأمين أولا واقع شئنا أو أبينا، والأصل في المعاملات المدنية في الشريعة الإسلامية كما تعلمون أيها السادة الجواز ما لم يكن هناك نص. وكل شرط كان مزيلا للنزاع لأن الشروط القصد منها إزالة النزاع من العقود فكل شرط كان سببا من الأسباب التى تزول فيه أسباب النزاع كان مقبولا. ولذلك العقود عندما تعقد بشكل عام الآن (أنا لا أقول بالشركة التجارية ولا بالتعاونية) العقود تلزم أصحابها وإذا كان هناك شروط قد لا تكون معروفة من قبل ولكنها وجدت لتزيل النزاع فهي لا شك أنها مقبولة. ولذلك هنالك الغرر الذى تفضل به بعض الإخوان بشكل عام وإن كنت أرجح أن نقول بالتأمين التجاري ندخله في التأمين الاجتماعي إضافة إلى التأمين الاجتماعي ولكن عن طريق مؤسسة عامة كما جعلناها في التأمين الاجتماعي وتفرضه الدولة ولي الأمر على أن يدفع فليست عندئذ تجارية وليست اجتماعية ولكن ولى الأمر وجد من المصلحة أن يوزع المصيبة عند الاقتضاء من فرض ضريبة من قبل ولى الأمر حتى إذا أصابت أحدا في تجارته مصيبة يجد هناك تعويضا وفي هذا الشكل نكون تجنبنا التجارة وتجنبنا أيضا الموضوع التعاوني الذى يخضع للزيادة والنقص وفتحنا مجالا بأن تكون شركة التأمين التى توجدها الدولة كما أوجدت مؤسسة التأمينات الاجتماعية توجد مؤسسة التأمين التجارية من قبل ولي الأمر تفرض على كل من يشتري أو يبيع أن يؤدى جزءا دون ما تدفعه في الحقيقة إلى شركات أجنبية لأننا إذا بعنا أيضا من عندنا أشياء فالشركات الأجنبية لا تقبل إذا أرسلنا سمادا إلا أن يكون مدفوع التأمين خشية أنه في الطريق أن يفقد. ولذلك أن بعنا من عندنا مضطرين إلى أن نؤمن وإذا اشترينا مضطرين إلى أن نؤمن، فأتمنى لو نطلب إقامة مؤسسة من قبل الدولة أيضا تجارية وهي نوع من الأنواع. لذلك كل ما أبدى من ملاحظات حول الغرر، الغرر له تأثير على العقود عندما يؤدى إلى النزاع. وأما ما ذكره فضيلة أستاذنا الجليل التميمى ما ذكره من منازعات تنشأ، الواقع، نشأت في الواقع من الاحتيال من أحد المؤمنين ولم تنشأ بسبب العقود مع أن العقود إذا جرى فيها غرر، وجرى عليه العرف كما إذا استأجر أرضا لأجل الزراعة ولكن لم يشأ الله أن تنبت تلك السنة، فيكون دفع الإيجار فالغرر موجود ولكن هذا جرى عليه العرف ولم يعد مكانا للنزاع ولكن الغرر الأصل في العقود يؤثر على العقد إذا كان يؤدى إلى النزاع أما إذا جرى العرف على أنه لم يعد فيه مجال للنزاع فلا بأس به وأكتفى بهذا القدر تنويرا للموضوع.. وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 الرئيس: شكرًا فضيلة الشيخ، والذى أحب أن التأمينات الاجتماعية في الذى يظهر لي أنه لا دخل لها في موضوعنا هذا لا من قرب ولا من بعد. وهذا طيب أيدتمونى على هذا على كل حال فيه إنارة وإحاطة للذي حصل وعلى كل أحب أن يفهم الإخوان أنه لا دخل لها في موضوعنا لا من قرب ولا من بعد هذا رقم واحد. رقم اثنين: يظهر لي أن لدي فضيلتكم ضمنيا بأن التأمين غير مقبول شرعا نظرا لاقتراحكم بالبديل، هو تأمين تجاري حكومي في كل دولة فهذا قد يكون فيه تأييد ضمني للقول بالمنع شرعا. وعلى كل ما تفضلتم به هو وجهة نظر وأرى أن ما يتعلق بالبديل سنعقد له جلسة خاصة بإذن الله. وأشكر لمعالي الشيخ ولجميع الإخوة وفى الجلسة الصباحية إن شاء الله تعالى نستأنف البحث عن بقية هذا الموضوع ومن بعده يأتي البحث في البديل.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. ومعالي الأمين. الأمين العام: أريد قبل أن نفارق هذه القاعة أن أشير إلى أن قضية إعادة التأمين والتفكير فيها لنتوقى التعاون مع شركات إعادة التأمين الأجنبية لعل البت فيها يتم بحول الله في مؤتمر وزراء الخارجية الذي سينعقد بفاس في الأيام القريبة القادمة. وشكرًا لكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 الجلسة الصباحية 13/4/1406 = 25/12/1985 الساعة: 9.30 – 13.20 الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد، فإن جلستنا هذه تعتبر استئناف عمل امتدادا للجلسة المسائية في بحث التأمين وقد صار استعراض البحوث المعدة في التأمين وسماع بعض المداولات وفى هذه الجلسة نود أن نسمع من الشيخ عبد اللطيف صالح الفرفور مختصرا لبحثه في التأمين دون البديل، لأن البديل سيكون له مناقشة مستقلة، فسواء البحث المقدم من قبل الشيخ عبد اللطيف جناحى أو البحث المقدم من قبل الشيخ عبد اللطيف الفرفور أو وجهة النظر المقدمة من بعض الإخوة فإن البديل سيكون له جزء من الوقت مستقل بنفسه، ولهذا أرجو من الشيخ عبد اللطيف أن يقتصر على ما يتعلق بالتأمين فقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 الشيخ عبد اللطيف الفرفور: بسم الله الرحمن الرحيم.. شكرًا معالي الرئيس.. الذى يبدو من ظواهر الأدلة التى احتج بها الفريقان، أن أدلة من ذهبوا إلى تحريم عقود التأمين هى أقوى استنباطا وأتم دلالة وأمتن احتجاجا وأرسخ ارتباطا بنصوص الشريعة ومقاصدها وقواعدها العامة وذلك للأمور التالية: أولًا: المجوزون للتأمين اعتمدوا في أدلتهم استنادات قياسية استنبطوها من استنتاج الفقهاء المجتهدين، بينما القائلون بحرمته استندوا على نصوص تشريعية وقواعد أساسية أجمع المجتهدون على الأخذ بها والعمل بمقتضاها والفرق واضح بين الاستدلالين. ثانيًا: المجوزون للتأمين اعتمدوا على تعليلات وتأويلات في الجواز أقل ما يقال فيها أن فيها معنى الغرر المحرم، بينما اعتمد القائلون بالحرمة نصوصا قطعية تحرم الغرر، وفرق كبير بين الأمرين. ثالثًا: من القواعد المقررة شرعا، إذا تعارض المحرم والمبيح قدم المحرم وكذا تعارض المانع والمقتضى قدم المانع، لذا نأخذ بجانب الحرمة بعقود التأمين باعتبار أنه يتعارض مع الجانب المبيح على افتراض وجود التعارض، ولا تعارض لظهور أدلة المحرمين. رابعًا: رد القائلون بالتحريم على المبيحين في مسألة القياس على نظام العواقل ونظام التقاعد والمعاش وعقد الموالاة بأنها عقود تعتمد التبرع والدافع الذاتى والمساهمة في أوجه الخير، ولا كذلك نظام التأمين التجاري القائم على الاسترباح والاستغلال وابتزاز الأموال، وكذلك رد القائلون في التحريم على المبيحين في استدلاهم بالاتفاق بمرتب عمري عند المالكية بأن أشهب قال: أكره ذلك، وهو عند المالكية اصطلاح في المنع لا في الإباحة كما قالوا، لذا فإنه يصبح دليلا للمحرمين لا عليهم. خامسًا: واستدلالهم بقول مالك رضى الله عنه لا يفيدهم لأن مدة الاتفاق معينة هناك وفي عقد التأمين مجهولة فلا يصح. سادسًا: وكذلك ردوا على المبيحين في استدلالهم بضمانهم لخطر الطريق عند الحنفية بأن هذا تغرير لا غرر، وفي التغرير يضمن. سابعًا: وردوا على قاعدة الالتزامات عند المالكية بأن ذلك المتحمل معلوم وهذا المتحمل في عقد التأمين غير معلوم فحصل الغدر فبطل القياس. ثامنًا: وكذلك ردوا على المبيحين بأن الغرر غير مؤثر بقولهم أن الغرر هنا مؤثر في صحة العقد لأنه ينبنى عليه أكل مال كثير بالباطل في جمهور غفير من الناس ليربح أناس ربحا فاحشا على أكتاف الآخرين بلا سبب مشروع. تاسعًا: وأما عقد الاستئجار على الحراسة فلا يجوز القياس عليه هنا لأنه قياس مع الفارق، فهناك العقد قائم على عمل وهو الحراسة وبذل الجهد واليقظة وليس في عقد التأمين أي عمل تقوم به الشركة لقاء دفع الخطر عن المؤمنين المساكين. عاشرًا: أما قول الدكتور السنهورى أن الضرورة تبيح التأمين للضرورة مع الغرر كما ذهب إليه مالك، فإن المحرمين قالوا لا نسلم بالضرورة هنا ولا بالحاجة مطلقا لأن الأمة الإسلامية تستطيع أن تتخلص من هذا النظام الاستغلالي إلى تأمين من صنع الشريعة الإسلامية ومن قواعدها وليس في ذلك أي حرج ولا مشقة فيما إذا أراد المسلمون بصدق أن يحكموا شريعة ربهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 رأينا في عقود التأمين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر، هل في عقد التأمين غرر؟ الجواب نعم، وليس غير الغرر في نظرى دليلا ظاهرا يناطح الخصم ويظهر عليه ويشهد لذلك علماء القانون الذين عدوا بالإجماع هذا العقد من عقود الغرر. وقد مر أنه من العقود الاحتمالية في خصائصه، والغرر إذا استطاع المبيحون أن ينفوه عن أحد طرفي العقد المؤمن فلابد في أن ينتفي الغرر بالنسبة للمستأمن أيضًا، وهو ما لم يستطع المبيحون أن يثبتوه بوجه ما، ثم هل الغرر في التأمين كثيرا مانع أم لا؟ ضابط الغرر الكثير لدى الفقهاء هو ما غلب على العقد حتى صار العقد يوصف به. وأرى مع أخي الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير حفظه الله في كتابه القيم الغرر وأثره في الفقه الإسلامى أن هذا الضابط ينطبق على عقد التأمين، فإن من أركان عقد التأمين التى لا يوجد دونها الخطر والخطر هو حادثة محتملة لا تتوقف على إرادة أحد الطرفين، ولذا لا يجوز قانونا التأمين إلا من حادث مستقبل غير متحقق الوقوع، فالغرر عنصر لازم لعقد التأمين ومن الخصائص التى يتميز بها ومما يدل على أن الغرر تمكن من عقد التأمين وأصبح صفة لازمة له، أن كثيرا من القوانين تذكره تحت عنوان "عقود الغرر". ثم هل هناك حاجة أو ضرورة لعقد التأمين تجعل الغرر الذي في عقد التأمين غير مؤثر، من المعلوم أن الحاجة أدنى من الضرورة منزلة إذ يلزم بلزومها الحرج والضيق ويشترط أن تكون الحاجة لاعتبار الغرر غير مؤثر أن تكون عامة أو خاصة وأن يكون ذلك العقد متعينا لسد تلك الحاجة بحيث لو أمكن سد الحاجة عن طريق عقد لا غرر فيه فلا يصح اللجوء إلى العقد الذي فيه غرر، والذي يبدو لى أن الحاجة عامة لعموم البلوى ولكن عقود التأمين بقسط ثابت ليست متعينة لسد تلك الحاجة، وهذه ناحية مهمة جدًا، فالذي تقتضيه قواعد الفقه الإسلامى منع هذا العقد لما فيه من غرر كثير من غير حاجة ملجئة، إذ من الممكن أن نحتفظ بعقد التأمين في جوهره ونستفيد بكل مزاياه مع التمسك بقواعد الفقه الإسلامي وذلك بإبعاد الوسيط الذي يسعى إلى الربح وجعل التأمين كله تأمينا تعاونيا خيريا بحتا تتولاه الحكومات في البلاد الإسلامية بكافة أنواعه فتجعل له منظمة تشرف عليه على أن يكون المعنى التعاوني بارزا فيه بروزا واضحا وذلك بالنص صراحة في عقد التأمين حينئذ على أن المبالغ التى يدفعها المشترك تكون تبرعا منه للشركة يعان منها من يحتاج للمعاونة من المشتركين حسب النظام المتفق عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 فالخلاصة: انى أكره تحريما كل عقود التامين التبادلى والتجاري لما فيها من الغرر ولزوم ما لا يلزم شرعا ولعدم الحاجة إليها عينا. وحكم التأمين التجاري كعقد، الفساد، لتمكن الغرر منه وفكرة الاسترباح ولزوم ما لا يلزم شرعا. وحكم عقد التأمين التبادلى الجواز مع الإثم، هذا كله في التأمين التجاري والتعاوني أي التبادلي فقط، علما بأن كل عقد فاسد شرعا عقد ربوي. أما التأمين الاجتماعي الذي تقوم به الحكومات فهو جائز شريطة خلوه من الربا نهائيا. وأما صور التأمين الأخرى الجديدة التى ابتدعها الغرب ولم نصل إلى معرفة حقيقتها بعد بشكل مفصل فهي تحت مجهر البحث العلمى ولكل عقد منها حكمه الشرعي حسب ما تقتضيه طبيعته وخصائصه. ثانيًا: إعادة التأمين في الفقه الإسلامى كما توصلنا إليه. رأينا من تعرض لعقد التأمين المباشر من الفقهاء الإسلاميين وأدلى بدلوه في هذه القضية ولكنا لم نر من تكلم في هذه المسألة المتفرعة عن عقد التأمين المباشر فيما رأيته أنا شخصيا إلا وهي عقد إعادة التأمين من الفقهاء المسلمين القدامى ولا المعاصرين، والذي يبدو لنظري والله تعالى أعلم أن هذا العقد الفرعي هو كعقد التأمين المباشر يسرى عليه ما يسرى على الأصل من الأحكام الرئيسية كما ذكر علماء القانون في التكييف الفقهى لهم. لذا فإنه يأخذ الحكم الشرعى الذى يتناول عقد التأمين المباشر بقسط ثابت كما مر آنفا ولا يتصور هنا في إعادة التأمين وجود عقد تعاوني ذى هدف إنسانى محض حتى نقول بجوازه، فلا عقد إعادة التأمين تعاونى في القانون، لذا فلا حكم له في الشرع. وعلى هذا فالقائلون بالإباحة المطلقة لعقد التأمين المباشر يقولون بمثل ذلك لعقد إعادة التأمين، والقائلون بالمنع المطلق للأصل يقولون بمثل ذلك العقد المتفرع عنه، والقائلون بالانتفاء يقولون بمثل ذلك لكل ما يشمل التأمين المباشر وإعادة التأمين، والقائلون بالكراهة للتأمين المباشر يقولون بمثل ذلك لعقد إعادة التأمين. أما ما يبدو لنا فهو ما ذكرناه من القول بالكراهة لكل عقد تأمين مباشر بقسطه الثابت وما يتفرع عنه من عقد إعادة التأمين في جميع صوره واشكاله تبعا للأصل، والكراهة هنا تحريمية وقد قلنا بها تأدبا مع الشريعة المطهرة بألا يقال حرام إلا لما جاء تحريمه بالنص القطعي فقط وما عدا ذلك فقد اعتادالعلماء من قبل أن يقولوا نكره كذا بما يرون تحريمه ونحن نقول: نكره العقد الأصلى أو نكره العقد الأصلى التعاوضى وما يتفرع عنه من عقد إعادة التأمين، قلت هذا ما ظهر للعبد الفقير لله تعالى والله تعالى أعلم، وكتبه خادم العلم الشريف. أخوكم. الرئيس: شكرًا وبهذا انتهى استعراض البحوث المعدة في التأمين وحصل طرف من المداولات حولها بالأمس ولعله من خلال جميع ذلك يمكن لى أن أعلن ما اتجهت إليه الأنظار بعد مستخلص للآراء في ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 الشيخ محمد على التسخيرى: بسم الله الرحمن الرحيم.. أرجو أن يركز الإخوة وطبعا الإخوة ركزوا ولا ريب لكنه جانب أرجو التركيز عليه وهو أن الغرر لو وقع على ما وقعت المعاوضة عليه فيمكن التسليم بأنه مضر أما ما وقعت المعاوضة عليه في هذا العقد فهو واضح لدى الطرفين بشكل كامل. نعم هناك لواحق فيها غرر، نتصور أن الغرر فيها لا يؤثر على الإبطال. هنا لو شخصنا الطرفين في المعاوضة لما رأينا أيا منهما لا المتعاقدين ولا العوضين يتطرق إليه الغرر. الشيء الآخر، الغرر هنا المطروح في التأمين التجاري موجود في التأمين التعاونى والتأمين الحكومى وهو أشد قربا من مسألة التأمين التعاونى ورأيت أن الكثير من العلماء قبلوا هذا التأمين الحكومى، يعنى أن تكون الحكومة هى المنشئة لشركة التأمين وحينئذ فما يعود يعود على المجتمع وروح التبرع المذكور في التأمين التعاونى. الرئيس: كلمة بسيطة يا شيخ.. وإذا قبلت أحد الجهات يكون حجة على الشرع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 الشيخ محمد على التسخيرى: لا أنا لا أريد أن أقول ذلك، أنا أريد أن أنبه على وجود هذه الأمور ولا أريد أن أحتج وربما الالتفات إلى وجود هذه الأمور يؤثر في الوصول إلى النتيجة. الملحوظ هنا أن نفس عقد التأمين بطبيعته تعاوني وهذه نقطة مهمة حتى لو صدرت من محتكر، حتى لو صدرت من إنسان منحرف، نفس عقد التأمين كما أشار الأستاذ الزرقاء هي نفسها تعاونية بحيث تقسم الضربة. النقطة الأخرى التى أود أن نركز عليها أن الغرر قد يندفع بالمشاهدة قد يندفع بالعلم بالتفصيلات، أن الغرر قد يندفع بالمشاهدة بالعلم بالتفصيلات، وعندما نسأل العرف نقول أن العرف هو الذى يشخص لنا المقدار، نقول له هل تحس غررا في هذا المجال عندما تشرح له تفصيلات الأمر بشكل كامل فهو إما لا يحس غررا فاحشا أو يبقى يشك، وإذا شك العرف فقد تخلص الفقيه باعتبار أن المراد إبطال هذا العقد بعموم أكل المال بالباطل، ولا يمكن التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية للعرف، يعنى إذا قال أكرم العلماء ثم شك العرف في عالمية شخص لا يمكن التمسك بالعموم في تطبيقه على هذا المصداق. إذن العرف عندما يشك، وهناك احتمال قوي في شك العرف في هذه المسألة، لا يمكننا أن نتمسك بعموم حرمة أكل المال بالباطل لإثبات الحرمة لهذا المورد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 وهذا المعنى يجب أن يفرق بينه وبين ضربة القانص وما إلى ذلك. الذى أرجو في ختام هذه الملاحظة ألا نصدر هنا قرارا بعد أن نجد الأمر عاما بين المسلمين جميعا اليوم. وإصدار هذا القرار فيه هذه الآثار الكبرى ربما يأثم الكثيرون في هذا المعنى، لا أريد أقول أن هذا يؤثر على قرارنا، لكن أقول يجب أن نترك الأمر لتشخيص مصداق، هل هنا ضرر أم لا؟ اتركوا الأمر في الفتيا للمفتين ليشخصوا ذلك، لكن إذا أصدرنا هنا قرارًا فقد أغلقنا عليهم الباب، وشكرًا جزيلًا ومعذرة. الرئيس: شكرًا لكن هنا كلمة بسيطة هى من باب التعليق الجانبى فقط، إذا كنتم تقولون بأنه لا يصدر قرار، فلو لم تصدروا رأيكم من الأصل لأنكم صرحتم برأيكم بالأمس في هذه القضية. هذا واحد. الشيء الثانى أن قضية التأمين ليست جديدة على المجامع ولا على دور العلم ولا على مدارس الاقتصاد ولا على محافل الدراسات الإسلامية. فهى قضية لها عمر مديد من الزمن من مجمع إلى مجمع ومن محفل إلى محفل ومن دار علم إلى أخرى ومن مؤسسة اقتصادية إلى أخرى. فنحن لم نأت إذا أصدرنا قرارا بما ندين الله به لم نأت من الأمر نكرا ولم نستعمل أمرا لنا في أناة لأن الذى يظهر، قضية التوجهات الحاصلة فيها وضوح. وأعطى الكلمة للشيخ أحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 الشيخ أحمد بزيغ ياسين: بسم الله الرحمن الرحيم، أحمده وأستعينه وأصلى وأسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحابته الكرام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد، أقول: عقود التأمين الموجودة عقود أصلها ووضع قواعدها أناس ماديون من غير المسلمين، فهذا يكفى بأن يقول فيها العلماء ما قال مالك في الخمر. إنما أود أن أضيف إلى ما قالوا نقطتين في الحقيقة، ما أدرى غفلوا عنها مشايخنا أو أن ما قالوه يشملها وهي فيها استغلال وابتزاز. هذه العقود فيها استغلال وفيها استغلال وفيها ابتزاز لأموال المسلمين. ثم أود أن أبين لأنكم كلكم ما شاء الله علماء ولا أستطيع أن أتجرأ بحضوركم أن أقول، بأن الشريعة الإسلامية لا نريد أن نلوى عنقها لواقعنا. نريد أن نصحح واقعنا إلى الشريعة الإسلامية إذا نحن مسلمين. وهذا شيء آخر، ثم أريد أن أبين أيضا، اليهود يجرون في الأمور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بين الأمم مجري الشيطان في الدم، يري أثره ولا يري شخصه، فلا نقبل هذه الناحية ويجب أن نكون على مستوي من الوعي والإدراك لما يكيد لنا أعداؤنا، إنما أن أبين نقطة في الحقيقة، وهى نقطة فيها إشكال. إذا قامت هذه البدائل الإسلامية ويجب أن تقوم ويجب أن نوصى بها وأن نشجعها وأن نعممها في ديار الإسلام وجوبا، لكن في البلاد التى لا يوجد بها هذه البدائل، إذا علم وكلاء الشحن أصحاب البواخر والعمال في الأرصفة للبضائع إذا علموا أن بضائع المسلمين غير مؤمن عليها يتجرؤون عليها بالسرقة. وأنا أعلم كثيرا من الأمور في الحقيقة تأتى الطرود خالية من البضاعة لأن رجلا جزاه الله خيرا لا يؤمن وعمل حسابا له فوجد نفسه رابحا على مدار السنة من ذلك يؤمن عند نفسه وجد نفسه رابحا في نهاية السنة إنما عندما علم أحد عملائه بذلك جاءته بضاعة وفى الكرتين كانت خلوا من البضائع، هذا إشكال أود أن أطرقه في الحقيقة لأنه قد حدث، ثم أن بضاعة من البضائع لمعلومكم التصدير والإستيراد هو مبنى على الثقة والمصارف تتعامل في المستندات والمفروض في التعامل بالمستندات بين أناس ثقات – حصلت حوادث كثيرة بأن تأتى المستندات وتصل الباخرة ولا بضاعة. المستندات مزورة. هذه أمور ليست حجة بأن نجيز التأمين، أبدا، إنما هذه حجة يحب علينا أن يكون عندنا رجال أن نملك أساطيل تحمل بضائعنا وأن يكون عندنا رجال يستلمون بضائعنا في الخارج وتكون بضائعنا في أيدينا، هذه في الحقيقة وددت أن أبين، وحتى يقوم البديل ما هو الرأي في التأمين التجاري، هل ممكن للضرورة القصوي وحتى لا يكون ابتزاز لأموال المسلمين نعمل به أو لا؟، وشكرا. الرئيس: أحب أن أضيف كلمة بسيطة لكلام الشيخ أحمد، وهو أن الابتزاز والاستغلال والسلب وما جرى مجرى ذلك وهو أن لم يكن منصوصا عليه فهو أثر المغامرة والمقامرة وأثر الغرر، هو هذه آثارها هو المنصوص عليه ضمنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 الشيخ عبد الحليم الجندى: شكرا سيادة الرئيس، لدي كلمات قليلة جدا من أحرف قليلة كتبتها الآن فنستمع إلى البدائل بقلب مفتوح. وإذا وفقنا إلى البديل فنحن نستقبله بكل إخلاص ونعمل به. إنما أريد أن أضيف أشياء، إننا أجزنا أمس تأمينا كثيرا جدا وفيه خير كثير جدا وضمنته حكومة من حكومات الأمة الإسلامية. الكلام عن عيوب التأمين في الحقيقة تنحصر في تصرفات شركات التأمين بأموال المودعين. ونستطيع أن نضع هنا تصحيحا وأن نقول لها إنها لا تتصرف في أموالنا إلا تصرفا إسلاميا، استفتاء المسلمين، حدث أن المسلمين جميعا استفتوا على مدار عشر سنين في موضوع التأمين، استفتى علماء المسلمين جميعا في السنوات العشر من أربع سنوات في موضوع التأمين بقرار من جهة أخرى فجاءت أغلبية أصوات العلماء من كل الأقطار، أغلبية كانت تبيح ولخص هذا لجهة رئيسية وهى مجمع بحوث الأزهر في تقرير طويل من علماء كبار جدا في عصرهم بأن أبيح التأمين، أما التأمين على النفس ففى نفس الملخص منه أشياء ولم يصدر القرار بعد. ابن رشد عد ثلاثين نوعا من الغرر وهو رجل لاشك متحرر الفكر واسع النظر، ولكن بعد أن عد ابن رشد ثلاثين نوعا من الغرر تقلصت ومازالت تتقلص وأصبح المسلمون أعلم بالتصرفات من أن يقولوا أن هنالك غررا مادامت تكتب في أشياء يرونها، هنالك شيء يسمى في المنطق قاعدة أصبحت منطقية تدرس في جميع المعاهد وهى تسمى "بالمنطق الوضعي" المنطق الوضعي لا يتنافى أبدا مع النظرية الإسلامية في المنهج، لأن المنهج الإسلامي كله يميل إلى الواقع، هذه النظرية في القانون الوضعى تسمى "قانون الاحتمالات" هى أصبحت قانونا يتعاملون عليه ويصدرون المنطق على أساسه. أخيرا أقول أن المعاملات تلقن حتى يحدث المنهج، أي أن الإباحة أصل وأرجو ألا نتعجل أمرا لنا فيه أناة أيضا لأن المجامع مختلفة وأرجو أيضا أن لا يسبقنا مجمع برأي فنسير وراءه، بل نحن ما زلنا لنا حرية الاختيار وحرية إبداء الرأي.. وأشكركم يا سيادة الرئيس لأنك أعطيتنى الكلمة وقد أردت أن ترخصها على أساس أننا أمس بلغنا مرحلة في المسألة وأشك أننا بلغناه، وشكرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 الشيخ المختار السلامى: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا. أريد أن أعلق على قضية التأمين أولا ببيان ما هو هذا العقد. فقد جعله بعضهم عقدا فيه غرر وجعله آخرون هو الغرر نفسه. ولكن العقود معلومة مبوبة فليس الغرر عقدا، ولا قولنا هذا فيه غرر، هو عقد، عقد التأمين، عقد معلوم من قبل، هو عقد ضمان. لأن الشركة التى تحملت هى ضامنة وكان الضمان يقع على أنحاء، فكان رئيس القبيلة يضمن سلامة القافلة إذا مرت على قبيلته في مقابل فلا تسرق ولا تنتهب وهو ما قال فيه ابن عاصم: وسُمى الضامن بالحميل كذاك بالزعيم والكفيل ثم أدخله في بابه فقال وهو من المعروف. فالضمان في الإسلام هو عقد من عقود المعروف. وهذا الكلام الذى قاله فقيه الشريعة إنما جاءت لإصلاح البشر فكل شيء له مفهومه في العقود، والعقود كلها معللة وواضحة. فهناك نظرة عامة في تربية الأمة الإسلامية. حتى لا تربى الأمة الإسلامية على الامتصاص تكون فيها جماعة تكون ثرواتها من الامتصاص المساوي للسرقة، فلذلك حرمت عقد الربا لأنه فيه امتصاص بدون بذل مجهود، وحرمة الضمان باعتبار أن فيه امتصاصها، لأنه امتصاص بدون بذل مجهود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 ثانيًا، أن بعد هذا حرمت الشريعة أيضا على أن تكون اللحمة بين الأمة الإسلامية لا يدخل ما يوجب نزاعا، وكل عقد أوجب نزاعا فهو محرم. ومن هنا جاء تحريم الغرر. ففي عقد الضامن هذا، أولا تعويض جماعة على امتصاص بدون بذل مجهود ثم فيه ما يمكن أن يكون منه تنازع بين الضامن والمضمون وعدم رضا المضمون على الضامن لأنه أخذ ماله ولم يعطه شيئا. فهذه بعد تأملي في القضية هو مفهوم عقد الضمان أو عقد التأمين. هذا هو مفهوم جرت عليه الأمة الإسلامية، واضح وما وجد فيه خلاف ولا يمكن لفقيه أن يخالف فيه. ثم نمنا على أثقالنا وخرجت التجارة العالمية من أيدينا وفرض علينا واقع. فاليوم الحذاء الذى ألبسه والقميص الذى ألبسه كله قد دفع فيه الضمان لشركات التأمين شئت أو أبيت. وأن هذا التأمين سيتواصل شئنا أم أبينا. فالحاجة إذن هو أنه لا يمكن لو فرضنا أن مؤتمرنا الموقر هذا قال: التأمين حرام، أبطلوا التأمين يا عباد الله، فهل يبطل التأمين ولو استمع الينا الناس ولو استعمت الينا الحكومات ولو استمع الينا رجال الاقتصاد، لما استطاعوا أن يمونوا الأسواق ولو بمليم واحد. فإذن هناك حاجة أساسية اليوم هو وضع العالم الإسلامى لا يمكنه أن يجرى اقتصاده إلا بإعطاء طريقة لهذه الحاجة أولًا، ثانيًا هو النظر في الأمرين اللذين ابتدأت منهما، كيف نجعل تأمينا يكون هذا التأمين من ناحية لا يوجب خصاما وليس فيه امتصاص. وفقت الشركات التعاونية وقامت بالتجربة فعلا، فما علينا إلا أن نشجع هذه الشركات، ثم أن في البلدان التى لا يوجد فيها ندعو إلى ايجاد هذا. ولابد من إعطاء حل للواقع، وإلا نكون قد أغمضنا عيوننا عن الواقع ولم نعط للبشر حلا. وأيسر الحلول، وهو أن هذا المعروف القديم حرام فهو حرام، هذا ليس حلا، وما جمعنا لهذا، ولو كان الغرض من اجتماعنا هو هذا الأمر لو كان هذا الغرض لكان نفقات زائدة ولكان مؤتمرا زائدا ولكانت أتعابنا زائدة. لأن كل واحد منا إذا أخذ الأحكام الأصلية ونظر فيها يعطى حكمه واضحا، فتقدير المصلحة وتقدير الحاجة الاجتماعية أعتقدها ضرورية. وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 الشيخ تقى العثمانى: بسم الله الرحمن الرحيم، شكرًا سيدى الرئيس، إنى لا أريد أن أقع في تكرار لما قيل من قبلى في موضوع التأمين، فإن موضوع التأمين فيما أظن قد غربل غربلة ونخل نخلًا في عدة مؤتمرات واجتماعات. ولكنى أريد في كلمتى الموجزة أن أعلق على بعض النقاط التى آثارها أخونا الفاضل فضيلة الشيخ التسخيرى حفظه الله. فإنه طرح لدينا بعض النقاط الجديدة وطرح لدينا عدة تخريجات فقهية للتأمين التجاري، فلابد أن ننظر فيها. أما التخريج الأول الذى أشار إليه أخونا الشيخ التسخيرى حفظه الله فهو أننا يمكن لنا أن نخرجه عن طريق الصلح. ولكن الصلح كما يعرف الفقهاء وكما أشار إليه فضيلة سيدنا الرئيس، أنه لابد أن يكون في حق متنازع بين طرفين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الصلح لا يحل حراما ولا يحرم حلالا إلا صلحا أحل حراما وحرم حلالا)) استثنى الصلح الذى يحل حراما أو يحرم حلالا وإلا لجاز كل منكر وكل إثم باسم الصلح وجاز أخذ الرشوة وقلنا إنه يجوز من طريق الصلح. والتخريج الثانى الذى أشار إليه فضيلة الشيخ التسخيرى، هو أن نعتبر التأمين كالهبة المعوضة. ولكن الهبة المعوضة أولا يجب أن يكون فيها عوض، وها هنا ليس شيء يعتبر عوضا، والعوض وإن كان فهو على خطر. ثم ثانية، الهبة المعوضة كما صرح به الفقهاء تكون في حكم البيع في سائر الأحكام، فهل يجوز بيع النقود بنقود أكثر منها نسيئة وعلى خطر. تكون الهبة المعوضة في حكم بيع النقود بالنقود المؤجلة وهى على خطر فلا يصلح أن نقول إنها هبة معوضة. أما ما تفضل به أن العوض هو الأمان، فإن الأمان هو شيء عدمي لا يصلح أن يكون عوضا ولا يصلح أن نعتبره عوضا ماليا. أما إذا كان العوض هو المبلغ الذي يحصل عليه في المستقبل عند وقوع الخطر فهذا شيء لا نستيقن به فهو على خطر وهو غرر. والشيء الثالث الذى أشار إليه الشيخ التسخيرى حفظه الله، هو أن بعض الغرر يكون في المضاربة. ولكن المعروف في كتب الفقه وعند الفقهاء أن الغرر إنما يحدث إذا استوفى فريق واحد كل ما يستحقه بالعقد، ويكون حق الآخر على خطر، كبيع الطير في الهواء، فإن البائع يحصل على ثمن والمشترى على خطر لا يدرى أيحصل على الطير أم لا؟ وأن في المضاربة لا يحصل ذلك، فإنه إذا ربحت المضاربة ربح كلا الطرفين، وإذا خسرت المضاربة خسر كلا الفريقين، فليس هناك غرر في المضاربة. هذه التخريجات التى ذكرها أخونا الشيخ التسخيرى حفظه الله لا أرى أنها تبرر عقد التأمين من وجهة نظر الشريعة والفقه الإسلامى، والسلام عليكم ورحمة الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 الشيخ عبد الله إبراهيم: بسم الله الرحمن الرحيم، شكرا لفضيلة الرئيس على إتاحة الفرصة لى فإننى هنا أؤيد كل ما قاله فضيلة الشيخ تقي قبلى وكذلك القرارات التى سبق أن اتخذت في عدة مؤتمرات واجتماعات وكذلك الاتجاه الذى سنتجه إليه أو اتجه إليه رأي الأغلبية في مجمعنا هذا. إلا أننى هنا أريد أن أستفسر أولا على ما ورد في كلام فضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور، وكذلك عما ورد في كلام فضيلة الدكتور الضرير أمس بشأن المساهمة أو الاشتراك بهذا التأمين وذلك كما يقولون عن طريق التبرع. فقد صرح فضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور أن هذا التبرع للشركة، مع أنه دعا إلى عدم تأسيس هذا التأمين عن طريق الشركات وإنما عن طريق الحكومات أو المؤسسة التى تقيمها الحكومة. فاستفسر لماذا التبرع إلى شركة؟ ما هو المقصود بهذه الشركة؟ ثم لفضيلة الدكتور الضرير أيضا عن طريق التبرع، ثم لا أفهم كيف يكون التبرع؟ ثم يشترك المتبرعون في الأرباح وملكية الأسهم، أو يعتبر المتبرعون حملة الأسهم أو البوليصة؟ كيف يكون متبرعون كذلك مع أنهم متبرعون بما دفعوا؟ ثم هنا أريد أن أوجه سؤالا آخر لفضيلته، وكذلك لأصحاب الفضيلة أعضاء المجمع جميعا، أليس من الأصح أو الأنسب أن يتبرع المشتركون على أساس المضاربة بنسبة معينة معلومة على أن يتبرع المضاربون بأرباحهم لأغراض التأمين، وعلى أن يكون لهم إذا فضل شيء من الأرباح في آخر السنة يرد عليهم بمقدار نسبة معلومة؟ وشكرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 الشيخ عبد اللطيف الفرفور: شكرا سيدي الرئيس {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} . إخوتي الأعزاء شعرت بشيء من التجني غير المقصود من زميلي وجاري الذي ورائي، ولعل هذا من حسن الجوار أنه كان معي كمن يقول: الله تعالى يقول: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} ، وهنا أخونا الكريم أولا نسب إلي أني قلت: الشركة، قضية الشركة ما قلتها أصلا، وإنما قلت: تجعل له منظمة. وكلمة تجعل يعود على الحكومات الإسلامية، فاعل جعل، هو الحكومات الإسلامية، وإذا قامت الحكومات الإسلامية، كل حكومة في بلدها، وأقصد بالإسلامية الحكومات حين تطبق الشريعة الإسلامية. فإذا قامت منظمات وأناطت بهذه المنظمات المعنى التعاوني التبرعي الذي ذكرت، وكانت مثل جمعيات خيرية كان هذا المعنى واضحا لا ضرر فيه، لا على المجتمع ولا على الفرد ولا على الجماعة. قلت: هذا ليس هو النظرية التي سقتها في هذا الموضوع؛ لأن نظريتي لم يسمح لي السيد الرئيس بما فطر عليه من الحكمة أن أعرضها؛ لأنه أرجأ عرض النظريات البدائل إلى وقت آخر. لكن زميلي لو قرأ البحث إلى نهايته وأوفى فيه على الغاية وقرأ البديل الذي اقترحته لما تسرع في قوله هذا. وغفر الله لي وله، وشكرا. الشيخ علي السالوس: الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.. في الواقع ما كنت أحب أن أتحدث في موضوع التأمين بعد هذه المناقشات الحادة ووجود أساتذتنا الأفاضل الأجلاء، ولكن أكتفي بالتعقيب على ثلاث نقاط: النقطة الأولى، القول بأن أكثر فقهاء العصر أباحوا التأمين، أنا في الحقيقة ما أعرفه هو خلاف هذا؛ لأن منذ أن تحدث ابن عابدين وتوفي سنة 1252. الرئيس: يا شيخ علي.. هذه النقطة أرجو من فضيلتكم عدم التعليق عليها؛ لأنها واضحة كالشمس؛ للاختصار، قصدي أنه كون أكثر علماء العصر في أحد المحافل أفتوا بالجواز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 الشيخ علي السالوس: ليس في أحد المحافل، أنا أتحدث هنا منذ ابن عابدين. الأمر الثاني: النظر إلى التأمين على أنه عقد ضمان، التأمين لا يجوز كعقد ضمان؛ لأن التأمين التجاري يخضع للقوانين الوضعية، والقوانين الوضعية تنص على أنه عقد معاوضة، وأن شركة التأمين ملتزمة بأن تدفع التعويضات مقابل ما تأخذه من أقساط ولا تملك الامتناع، ولكن في الضمان، الضامن غير المتبرع له أن يعود على المضمون بما يغرم، شركة التأمين ليس لها أن تعود بهذه الأقساط على من يصاب، ولذلك لا يمكن أن يكون عقد ضمان إلا إذا كانت شركات التأمين شركات متبرعة، والذي نعرفه أنها شركات مستغلة لا متبرعة. الأمر الثالث: إلغاء شركات التأمين، ما قلنا بإلغاء شركات التأمين، وإنما البحث عن البديل الإسلامي، فإن كانت شركات التأمين الآن مسيطرة هذه السيطرة، ونريد أن نخرج بحكم شرعي، فإذا كان نظام شركات التأمين حراما، فليس معنى هذا أن نقول: حلال؛ لأنها تسيطر، وإنما نقول: إننا نبحث عن البديل الإسلامي، وتبقى القاعدة العامة: الضرورات تبيح المحظورات. وشكرا. الشيخ محمد شريف أحمد: شكرا سيدي الرئيس، في الحقيقة تكونت لدي بضع ملاحظات منذ آن وقد طلبت الحديث عدة مرات ولكن لم يؤذن لي، أو لم يسع الوقت على الأكثر لتدخلي في الموضوع. وأود أن أعود بالمناقشة التي طالت، إلى أفكار أصولية؛ لأننا إذا تعمقنا في الفروع لا بد وأننا سنخوض لجة لا نصل فيها إلى غاية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 أولا، تكون هذا المجمع وأريد منه أن يتوصل إلى حلول نوحد بها تشريعات الأمة. أريد لهذا المجمع أن يكون وسيلة فقهية لتوحيد الأمة، فلا يجوز لهذا المجمع أن يتوصل إلى قرار نختلف فيه؛ لأننا بذلك نضيف خلافا جديدا وهذا الخلاف لا يحقق لا مقاصد الأمة ولا المقاصد الأساسية لتكوين هذا المجمع الفقهي الإسلامي الأصيل. ولكي يمكن لنا أن نتوصل إلى حلول موحدة إسلامية بنظر إجماعي نستطيع بها أن نوحد، أنا بدون شك أدعو بالبديل الإسلامي لا لأن كل ما هو كائن هو مخالف للشرع الإسلامي أبدا، وإنني في ذلك أصرح بأنني مع الأستاذ الزرقاء تماما، مع تقديري للمشاعر الصادقة وللعمل الغزير الذي تفضل به الأستاذ الدكتور وهبة، ومع العقلية الفقهية الكبيرة لأستاذنا السلامي الذي تكلم أخيرا بعقلية المفتي الواقعي، لكني مع ذلك أطالب بالبديل الإسلامي؛ لأن أمتنا يجب أن تتميز وهي أمة متميزة. أما كيف نتوصل إلى حلول أو منهج موحد، الحقيقة كلنا متفقون على الكتاب والسنة لا يمكن أن يختلف فقيه أو غير فقيه في قضية أن الكتاب هو المصدر الأول للشريعة الإسلامية. ولكننا قد نختلف في التفسير، علينا أيضا أن نتفق، أن نضع خطة موحدة ومنهجا واحدا للتفسير، كيف نفسر القرآن الكريم أو الآيات والأحكام؟ وتعلمون أن أول الأصوليين من الفقهاء المسلمين قد نبغوا في هذا الميدان حتى أن الغربيين فقهاء القانون الغربي، مع تعمقهم ومع تقدم قوانينهم لحد الآن هم عالة على أصولنا في كثير من أفكارهم. وإني درست مدارس التفسير الغربي، تفسير القوانين، فرأيتهم كأنهم تلاميذ مبتدئون في مسألة التفسير، وفي مسألة الاستنباط لا بأس أن نقف عند الكتاب والسنة. وفي هذا أيضا نشير إلى قانون عريق في القانون الغربي، وهو القانون المدني الفرنسي. القانون المدني الفرنسي وضعه أناس بشر، ومع ذلك قدس هذا القانون ومعظم القانونيين الغربيين الفرنسسين بالذات والذين يمثلون القانون الروماني العريق بدون شك في تنظيمه للمسائل القانونية، نظروا إلى هذا القانون على أنه مقدس، ولم يسمحوا للقضاة بالخروج على نصوص القانون المدني الفرنسي، رغم أن القانون المدني الفرنسي معلوم أنه صدر في أواخر القرن الثامن عشر، والتطورات الاقتصادية والتطورات التجارية والتطورات الصناعية كلها حدثت بعد صدور هذا القانون، مع ذلك استطاع هذا القانون أن يواجه هذه القضايا المستجدة بفضل فقه الفقهاء الفرنسسين الذين استطاعوا أن يفسروا وأن يتعمقوا في التفسير، وبدون شك أنهم استفادوا من نظرة الأصوليين كثيرا، حتى أحدهم يقول: أن منهج البحث العلمي الحر الموجود في فرنسا هو مستنبط من منهج فقه أبي حنيفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 على أي حال، لا نطيل في هذا البحث وفي أصولنا وفي منهجنا كل ما نستطيع أن نعالج به قضايانا واستنباطنا في الكتاب والسنة. وأعتقد بأن بعضا منا قد لا يأخذ بالاستحسان ولكنه يعمل بالاستحسان أو يعمل بالمصالح المرسلة أو يعمل بالقياس، وكل هذه الأصول التبعية هي كلها مناقشات لفظية، وكلها تعود أساسا إلى الكتاب والسنة حتى أن الذي لا يأخذ بالقياس يأخذ بالعقل وما يؤدي إليه العقل هو ما يؤدي إليه القياس. فإذن المهم بالنسبة لمجمعنا حسب اعتقادي، حتى نصل في المستقبل إلى حلول موحدة، وحتى نستطيع أن نقدم لأمتنا، أي لدولنا التي تمثل الأمة الإسلامية، وأشير هنا في جملة معترضة، قد يكون هنالك فرق بين، أو بون شاسع أو غير شاسع، بين ما يجب أن يكون في دولنا وبين ما هو كائن، ولكننا علينا أن ندفع بما هو كائن إلى ما يجب أن يكون، ولذلك فإنه لا يجوز لنا أن نعطل مصالح الأمة إطلاقا، وإلا سنصبح مسئولين أمام الله، ونصبح مسئولين أمام شعوبنا أيضا التي إذا عطلنا مصالحهم، أنهم دون شك سيمضون في مصالحهم وسيتجاوزوننا، وأخشى أن أكون قد أطلت، ولكني أضيف نقطة أخرى أيضا، هذه النقطة لها علاقة بالمنهجية، هل يجوز لنا ونحن نعالج المشاكل المستجدة أن نجعل من عبارات الفقهاء المتأخرين منهم بالذات والفقيه الكبير ابن عابدين مع تقديرنا وإجلالنا له، أن نجعله أصلا نستمد ونستنبط منه أحكامنا، هل يجوز لنا؟ الرئيس: هل هناك أحد يقول هذا يا شيخ؟ سؤال فقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 الشيخ محمد شريف أحمد: لا لا! الرئيس: إذن ما فيه داع لإيراد هذا يا شيخ. الشيخ محمد شريف أحمد: على كل سؤال ربما، ثم أن هناك مسألة مبحوثة في كتب الفقه ومبحوثة لدى القانونيين وفي الفقه أكثر، هل لنا أن نحدث عقودا جديدة ونكيفها على أنها عقود جديدة؟ هل نحن مكلفون أن نكيف أي عقد كفالة أو وكالة أو مضاربة أو مرابحة أو أي عقد من العقود المعروفة، من المسميات القديمة كما تفضل، أم يجوز لنا أن نحدث عقودا جديدة؟ وكيف يكون تكييفنا لهذه العقود الجديدة؟ يعني مجرد ملاحظات. الرئيس: يا شيخ انتهيت أم لا؟ الشيخ محمد شريف أحمد: إذا كان عندكم الرغبة أن أنهي فقد أنهيت. الرئيس: لا، يعني قضية التخريج عندما، إذا ضاقت بالفقيه المخارج على أن يكون هذا العقد شرعيا، فإنه قد يبحث عن تخريجه حتى يتكيف شرعيا هذا في الغالب، وإلا فالأصل في العقود الإباحة، وهنا لا إشكال فيه، لكن لو استصحب الأصل ثم استصحب ما حف بهذا العقد وجد أنه لا يتلاقى مع الأصل وهو الإباحة في نظره لما يعتبره، لكن ربما يكون عنده ميل إلى الجواز فيحاول أن يخرجه على أصل متفق عليه أو على عقد متفق عليه حتى يكون أدعى للقبول، ومع الإيمان في نفسه أن يعتريه ما يعتريه مما أثاره صاحب القول المقابل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 الشيخ عبد اللطيف جناحي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. أنا في الواقع دائما شديد الاختصار، وهذه طبيعة عملنا؛ لأننا نرسل البرقيات الآن ولا نكتب الكتب. أحببت أن أتعرض لنقطة واحدة بالنسبة لأولئك الذين يبررون حل التأمين بأن هناك حساب احتمال، وغيرها من العمليات الإحصائية. طبيعة عمل التأمين يحتاج إلى نقد سريع في اليد؛ لأننا لا نعلم متى يقع الحدث. وأنا لي ما يقارب من ربع قرن في هذا العمل، ووضعت عددا من القوانين والحمد لله في النواحي الإسلامية، مثل ذلك في النواحي الوضعية. التأمين بطبيعته يحتاج إلى نقد سريع في اليد لعدم معرفتنا متى سيقع الحدث، فإذن لا بد أن تستثمر هذه الأموال استثمارا سريعا، وأفضل الاستثمارات السريعة هي أن نضعها في بنوك ربوية نحصل على العائد الفوري. هذه نقطة. والنقطة الأخرى بالنسبة لحساب الاحتمال، في أواخر السبعينات كما تعلمون راجت التجارة في المنطقة وأصبحت الاستيرادات كثيرة فاسقطنا من حسابنا حساب الاحتمال، وقلنا لنجمع أكبر مبلغ من رسوم التأمين بأي سعر كان ونستثمرة استثمارا ربويا؛ لأن الدولار نسبة الربا عليه 21 % في ذلك الوقت. فإذن معظم التعويضات التي دفعناها في أواخر السبعينات هي تعويضات ربوية أعطينا المؤمن لهم أموالا عن الخسائر التي وقعت لهم من ناتج الربا وإذا أردنا أن نتحقق من ذلك تعالوا بنا لننظر إلى سوق التأمين العالمية اليوم، سوق التأمين العالمي اليوم يعاني مشكلة كبيرة من نتائج أعماله الربوية في أواخر السبعينات، بحيث الآن بدأوا يعيدون حساباتهم؛ لأن نسبة الفائدة على حسابنا من جديد ونرفع أسعار التأمين 50 % و100 %. هذه هي طبيعة عمل التأمين أردت أن أوضحه حتى لا يلتبس الأمر، وأشكركم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 الشيخ وهبة الزحيلي: أرجو ألا يكون قد فهم من كلامي بالأمس عندما قلت بتحريم التأمين التجاري ذي القسط الثابت، ثم عقبت عليه بأن إعادة التأمين على هذا التأمين يجوز إذا كانت هناك حاجة متعينة وذلك لظروف اقتضتها طبيعة نشوء شركات التأمين التعاونية الإسلامية؛ لأني إذا قلت بجواز إعادة التأمين، فكأني أقول أنسف المبدأ الذي بنيت عليه حرمة التأمين في الأصل، وهو ما لم يكن في قصدي أصلا، والحقيقة الحاجة التي تجيز إعادة التأمين مقيدة بشروط كثيرة ينبغي أن أشير إليها، وهي أن تكون هذه الحاجة أولا حقيقية لا وهمية، وأن تكون عامة، وأن تكون متعينة لا فردية، ولذلك إذا كانت الحاجة فردية فكثير من الناس يدعي أنه بحاجة إلى التأمين، وعندئذ النتيجة التي أريد أن أصل إليها، وهي الحرمة أكون قد نقضتها من جانب آخر، هذا طبعا لا يجوز بأي حال من الأحوال، بداية التأمين وهي أن تكون لحاجة فردية، هذا لا يجوز تمشيا مع الأصل الذي أريده، وأما تلك الحالة الضرورية الخاصة التي هي إعادة التأمين هي حاجة أو ضرورة، والضرورة والحاجة تقدران بقدرهما. فلذلك لا يمكن أن أجيز ناحية وأمنع ناحية إلا ضمن القيود الشرعية الضيقة جدا للجانب الذي أجزته ولفترة محدودة ولفترة زمينة ولظروف ضيقة جدا، هذا شيء. والشيء الثاني، الحقيقة نحن غيورون على هذا المجتمع وعلى حرمته وكرامته والحب في ديمومته واستمراره ودعمه للمجامع الفقهية الأخرى في العالم الإسلامي، فلذلك فنحن في الحصاد ثلاثة أيام وأربعة كان حصادنا ضعيفا أو نتاجنا محدودا قليلا، فأرجو ألا يكون اتجاهنا فيما عدا بعض هذه الأمور التي غلب فيها الاتجاه نحو تحريم التأمين مثلا أن يكون اتجاهنا في قضايا كثيرة فنميل إلى الهدم وإلى السلبية ولا نميل إلى البناء والإيجابية. فأنا أؤكد وأقدر ما تفضل به فضيلة الشيخ السلامي والأخ الدكتور الشريف من أننا إذا مشينا في الاتجاه نحو تحريم شيء أن نؤكد على البديل؛ لأننا نريد أن نبني ولا نريد أن نهدم فقط. فالبناء هو هدفنا، وهي المهمة الأساسية التي من أجلها وجدت المجامع لأن يكون هناك عقلية متفتحة تضيف جديدا وتعطي بدائل، وهذا هو هدفنا في الحقيقة وينبغي أن نحرص على الوصول إلى هذا الهدف لا أن تكون حصيلة عملنا في النهاية استصدار قرارات أكثرها قد يكون مشابها لما مضى، ونريد أن تكون لنا خطوة إيجابية جديدة في الموضوع، وشكرا سيادة الرئيس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 الشيخ عبد الله البسام: بسم الله الرحمن الرحيم، أما موضوع التأمين فأنا لن أدخل في تفاصيله من نواح: الناحية الأولى أن أصحاب الفضيلة بحثوه وبحث قبلهم وقد كثر فيه البحث وأعتقد الآن وضح، ولكني أوافق الإخوان على البديل حتى لا نهدم ولا نبني وموضوع البديل سواء بحث في هذه الجلسة. الرئيس: لكن لو أوضحت عن الشيء الذي ظهر. الشيخ عبد الله البسام: الشيء الذي ظهر أنا أعتقد أن التأمين في معناه المعروف الآن أنه منصوص على تحريمه في كتاب الله، وأن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} أنه هو أول ما يدخل في الميسر. وأنا ما أردت أن أدخل في باب التأمين وإنما لفت نظري كلمة سمعتها من فضيلة الشيخ المختار وهي أنه يجب أن يكون لدينا مرونة وإن هذه المرونة مثل فيها أن التأمين هو واقع شئنا أو أبينا وأنه مادام أمرا واقعا في المسلمين وفي العالم كله يجب أن نساير هذا. أنا أرى أن هذا مبدأ خطير جدا؛ لأننا إذا أردنا أن كل عقد أو كل عمل موجود في المجتمع أننا نسايره، معنى أولا أن الاجتماعات والبحوث ليس لها قيمة، الناحية الأخرى أننا بهذا نهدم الشريعة. فأنا أرى أن الشريعة كما قال بعض الإخوان وهو الشيخ الشريف متبوعة لا تابعة، لكن متبوعة أيضا ولا تقف حجر عثرة أمام المسلمين وأمام المتعاملين وإنما يجب على علماء المسلمين وعلى مفكري المسلمين وعلى قادة المسلمين أن يجدوا للناس حلولا وأنا أعتقد اعتقادا تاما وكلهم يعتقدون هذا، أن الشرعية الإسلامية لله الحمد شريعة العقل والنقل، إنها كفيلة لحل جميع الإشكالات وكفيلة لتلبية جميع المتطلبات، ولكن يجب علينا الجد والاجتهاد فيها وأن نعطي الأمر حقه وأن ندرس الأمور ونبحثها على حقيقتها ونخرج منها بما يسير المجتمع. فكان كلكم تعلمون أن الإسلام لا تغيب الشمس عنه، ومع هذا حكمته الشريعة الإسلامية وسار والحمد لله فيه، فهذا ما أردت أن أنبه عليه لاأن هذا من المخاطر أننا نجاري العادات ونجاري العقود وما يجري في المجتمع ونتلمس لذلك أشياء ورخصا ونفتي بما يمكن به وصف الشريعة بالمرونة. الرئيس: بعد هذا إتماما لبحث التأمين فإن أمامنا بحثين في البديل، أحدهما للشيخ عبد اللطيف جناحي، ولهذا أرجو من فضيلته إعطاء صورة ملخصة عن هذا البديل المقترح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 الشيخ عبد اللطيف جناحي: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد، لا بد من بسط الموضوع بصورة موجزة فجزى الله الأمانة كل خير فقد طبعت البحث ووزعته وأنا أشكرها على همتها واهتمامها بما قدم لها وما أنيط إليها من أعمال. البحث الذي بين أيديكم استعرضت فيه التأمين بشكل موجز، بينت نشأته وشرحت طبيعة العقد مستخلصا ذلك من القوانين الوضعية، القانون الإنجليزي والقانون البلجيكي والقانون المصري. ثم تطرقت لعناصر العقد ومبادئ العقد وخصائص العقد، وأيضا تناولت نظريات الباحثين الذين تناولوا موضوع التأمين، ثم انتقلت إلى أنواع الأخطار المغطاة. هناك أخطار الأشخاص حيث يعوض الشخص عند بتر يد له أو رجل له لا قدر الله، أو عند فقد دخل متوقع أو دخل كان مصدر رزقه. وأيضا من أنواع الأخطار، أخطار الممتلكات، كتأمين عمارة أو تأمين سيارة أو تأمين مسكن. وأخيرا أخطار المسئوليات المدنية. وكلنا يعلم أننا نستخدم مركبات، وهذه المركبات معرضة للحوادث وهذه الحوادث قد تؤذي الآخرين في أموالهم وفي أجسادهم، فلا بد من تعويضهم، أو هناك مهنيون كالأطباء والمهندسين فلو أخطأوافي عملهم، طبيب الأسنان لو طلب منه خلع السن فجرح الشفة مثلا طلب منه التعويض، ومسألة التعويض المدني مسألة واسعة جدا ومنتشرة في أمريكا الآن بشكل فظيع حتى أن أرقام هذه التعويضات وصلت إلى الملايين ووصلت إلى أرقام خيالية. في الصفحات الأخيرة من البحث شرحت أهم أنواع هيئات التأمين القائمة في العالم، لذا لن أتعرض بشرح تفصيلي لما ذكرته حفاظا على وقتكم الثمين. وممكن من الحوار أن نجيب على الاستفسارات التي لدى حضراتكم. ولكن أود أن أشير إلى بعض النقاط التي أرى أنها تستحق أن يلقى الضوء عليها. نحن لا نختلف أبدا على أن التأمين ضرورة من ضروريات الحياة، وضرورة ملحة، وما التأمين إلا حماية منشودة لحفظ المال من الهلاك أو حفظ الخلف من الضياغ عند وفاة رب العمل. فهل الإنسان عندما يحتاج إلى شيء أول ما ينظر ينظر ما حوله في بيته؟ هل يوجد ما يغطي حاجته في بيته؟ سؤالنا هنا: هل يوجد في ديننا الحنيف ما يغنينا عن التأمين بصيغته القائمة في العالم الغربي والشرقي؟ هذا سؤال نضع عليه علامة استفهام. ليس كل النظريات التي تطبق في الشرق والغرب صالحة أن تطبق عندنا. ومشكلتنا وعلتنا أننا نأتي بالنظريات الغربية والشرقية ونطبقها في بلادنا، وقد تكون تلك النظريات ناجحة لديهم ولكنها تفشل عندنا. قضية كبيرة، قضية ظروف يجب أن ندرسها يجب ألا نكون مقلدين، فلا بد إذن أن ننطلق منطلقا فكريا إسلاميا، نغير المنطلق الفكري، وألا نقوم باستيراد أفكار أجنبية ونؤسلمها، نلبس هذه النظريات ونلبس هذه الأفكار العمة الإسلامية ونقول الآن أسلمت. هذا في الواقع محظور يجب أن نتجنبه. وإذا اتبعنا هذا الأسلوب، أسلوب أن نأتي بالنظريات الغربية، هذا الأسلوب سيبعدنا عن تاريخنا الإسلامي الغني، تاريخنا الإسلامي غني بالخيرات، فلابد أن نبحث فيه ونبحث عن كنوزه الثرية لكي نستنبط. إنني أدعو علماءنا الأفاضل إلى أن يدلوا وأن يكثروا نشاطهم وأن يكثفوا نشاطهم في فريضة عظيمة هي فريضة الزكاة. ليبحثوا لنا هل في هذه الفريضة ما يغنينا عن استيراد التأمين بهذا الشكل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 أنا في الواقع لست بفقيه ولكن كمسلم علي واجب أن أتفقه في ديني قدر الإمكان حتى لا أخطئ، سأسرد على مسامعكم بعض الفقرات التي أوصلت لدي قناعة بأن هذا الدين دين عظيم، وأن فريضة الزكاة قاعدة أمنية عظيمة جدا، لذلك أنا من أنصار أولئك الذين يريدون أن يوسعوا هذه القاعدة الأمنية. فيما رواه الطبراني عن مجاهد في تفسير كلمة الغارمين حيث يقول: " من احترق بيته أو يصيبه سيل فيذهب متاعه ويدان على عياله فهذا من الغارمين ". الحريق والسيل موضوعان من مواضيع التأمين، ويقول عمر بن عبد العزيز،عندما كتب الى رجاله في الأمصار اقضوا عن الغارمين فكتب إليه بعضهم يقول: إنا نجد للرجل مسكنا وفرسا وأثاثا، فكتب إليهم: اقضوا عنه فإنه غارم. والرسول صلى الله عليه وسلم كما روى أحمد ومسلم أباح لمن أصابته حائجة اجتاحت ماله أن يسأل ولي الأمر حقه من الزكاة حتى يصيب قظاما من عيش، هذه الفريضة العظيمة لا يظهر قيمتها ولا يظهر نفعها إلا إذا سعينا سعيا لنشر الدين الإسلامي في العالم، وأنا الآن بصدد جمع الإحصائيات، وقد جمعت إحصائيات لعشر دول، أخذت الزكاة التي يجب أن تدفعها هذه الدول كما يقره الإسلام، وأخذت التأمينات الاجتماعية التي تدفعها هذه الدول، وأخذت إحصائيات تعويضات التأمين، فوجدت هناك تكافؤا، أي أن الزكاة لو طبقت التطبيق الصحيح ستغطي هذه الكوارث، وستغطي ما يدفع من التأمينات الاجتماعية. فإذا أضفنا إلى ذلك التكافل الاجتماعي الذي ينص عليه الإسلام لوجدنا أن الأمر يحتاج منا إلى تنظيم فقط. لننظم بيت المال الذي يغني المسلمين عن حاجة التأمين. إذن ما أود أن أقوله بأن التكريس يجب أن يكون على تطوير ما لدينا من تراث تاريخي، لا على الاستيراد؛ لأن تاريخنا الإسلامي تاريخ عظيم، حتى البنوك الإسلامية، الشيكات التي تصدر عرفها تاريخنا الإسلامي. ويكفي أن أذكر لكم بيتين من الشعر عندما كتب وال من ولاة العراق صكا، هذا الصك وهو الشيك المعروف لكي يصرفه فلم يصرفه لأنه ليس له رصيد. عملية مصرفية قبل أربعة عشر قرنا أو قبل عشرة قرون، فكتب ذلك الشاعر خلف الصك يقول: تحرر بالأنامل والأكف إذا كانت صلاتكم رقاعا فها خطي خذوه بألف ألف ولم تكن الرقاع تجر نفعا عرفنا الشيكات المصرفية وخدعونا عندما درسونا بأن الغرب هو الذي عرف الشيكات. عرفنا التأمين في ثوبه الإسلامي البراق، وخدعونا قالوا: أن شركات التأمين أو فكرة التأمين بدأت من الغرب، لا الفكرة ممكن أن تنبع. ولكن عزلنا أنفسنا عن تاريخنا، وهذه هي المشكلة أن هناك محاولات من الأعداء تبذل لكي نعزل عن خلفية عظيمة؛ لأننا أقوياء بخلفيتنا. من حوار الأمس تبين لي أن هناك حاجة لكي أتعرض لهيئات التأمين القائمة، وهيئات التأمين في العالم متعددة ولكني سأتعرض لأهمها فقط. لن أتعرض لهيئات اللوج ووهيئات الاكتتاب وغيره. لكن سأتعرض لبعض الهيئات التي أرى أن لها صلة بموضوعنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 هناك هيئات التأمين التبادلي، أصحاب صنعة يجتمعون فيما بينهم ويقررون تعويض من يقع عليه الضرر. بهذا الشكل لها عيوب؛ لأنه في بعض الأوقات يكون الضرر كبيرا، فعندما يوزع الضرر على المجموعة قد يكون هناك شخص لا يمتلك ما يدفع، فإما أن يصفي قسما من أصوله وإما أن لا يدفع، فالتعويض لا يدفع كاملا للشخص. هناك شركات التأمين، شركات التأمين تأخذ قسطا ثابتا ومقصدها في ذلك الربح، والربح فقط، لم تأت شركات التأمين لتقوم بالتعاون أو لتقوم بالحماية. أتت لتحقق ربحا لها، فالمقصود في الأساس الربح، ثم وثائقها التي تصدرها كلها مستندة على قوانين وضعية. وفيها ما فيها من الأضرار في كثير من الأوقات بالمؤمن له. وهناك دفوع تدفع عند التعويض حتى لا يدفع التعويض للمتضرر، بل صيغة الشركات تنمي الحقد، يحس المؤمن له أنه في آخر المدة أو في آخر السنة خسر مبلغا، فتكون هناك حوادث مفتعلة، وسجلات التأمين ترى أن هناك حوادث قتل، أناس قتلوا زوجاتهم ليحصلوا على التعويض، لماذا؟ لأن الضابط الداخلي فقد، الفكرة أتت بقصد الربح ولا تتورع هذه الشركات أن تستثمر هذه الأموال في الأمور الربوية. بل كما قلت لكم في السبعينات عندما زاد سعر الفائدة لجأنا جميعا إلى الاستثمار الربوي، وبدأنا نكسر الأسعار، الشيء الذي كان يجب أن يأخذ عليه 2 % نأخذ عليه 1 % على أساس أننا نحصل على قدر من المبلغ ونستثمره في الأمور الربوية ونقول بأننا سنخسر فنيا ولكننا سنربح من جانب الاستثمار، وسوق العالم اليوم يعاني من هذه المشكلة. هذه الشركات إما أن تكون شركات مساهمة وإما أن تكون ذات مسئولية محدودة لها رأسمال لها أشخاص يديرونها، تجمع الأقساط وعندما يقع الحادث تدفع التعويض. وإذا تحقق ربح الربح يذهب لأصحاب هذه الشركات. ثم هناك الهيئات الحكومية، نظرا لأهمية التأمين ونظرا لما يحققه التأمين من دخل كبير، لجأت بعض الحكومات إلى تأميمه كليا ومنهم من أممه جزئيا، فتقوم هذه الهيئات الحكومية مقام شركات التأمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 نأتي إلى التعاونيات: التعاونيات مجموعة يبدأون العمل ليس من الضروري أن يكونوا أصحاب صنعة واحدة، فلذلك نجد أن التعاونيات في التركيبة تقوم بأكثر من عمل تأمين، تقوم بالحريق، تقوم بتأمين السيارات ولكن الفرق أن المؤمن له هو مؤمن في نفس الوقت. أي أنني عندما أدفع ألف ريال تأمين سيارتي، أنا أدفع هذا الألف بنية التعاون مع غيري لكي أجبر ضررا وقع لي أو لغيري. فإذا وقع الضرر أخذنا من هذا الصندوق الذي فيه مجموعة المبالغ والأقساط وعوضنا الضرر. لهذه النظرية سلبية أنها تبدأ ضعيفة، لأننا لو بدأنا التعاونيات بعشرة أشخاص، وأمنوا عشر سيارات، وسيارة واحدة منهم غالية مرتفعة الثمن، ووقع الحادث لها من أول يوم، من أين يدفع لها والصندوق ضعيف، ولكن تجدون بأنني في البديل الذي طرحته عالجت هذه المشكلة. إذن في العالم هناك تأمين تبادلي وتأمين تعاوني، شركات تأمين. ما أتى إلينا إلى مجتمعنا هو الشركات فقط، فلم يأتوا لسواد عيوننا، لم تأت التعاونيات وهي موجودة في الغرب، إنما أتت شركات التأمين، لماذا؟ لكي تمتص أرباحا من هذا البلد، وما أكثر ما امتص من أرباحنا. تصوروا أيها الإخوة أنه في السبعينات وفي الستينات استفادت الدول الأوربية 200 بليون دولار من الدول النامية، على هيئة تأمين وعلى هيئة مواد وطعام. في سنة 1975 ميزان المدفوعات في بريطانيا كان خاسرا. وما عدل الميزانية؟ أهم عامل عدل الميزانية هو إيرادات التأمين. ولم تكن إيرادات التأمين تلك من بريطانيا، إنما كانت من دولنا نحن. إذن نحن نفرط إذا كنا نهمل قضية التأمين. ثم عملية التأمين عندما قال البعض: أن وراءها الصهيونية العالمية، يجب ألا ننكر ذلك؛ لأن هدفا من أهداف الصهيونية العالمية هو التربع على عرش السيولة، التربع على عرش السيولة. ويتحقق هذا بعمليتين؛ عملية الربا، وعملية التأمين، عملية التأمين جمع أقساط، وعملية الربا أيضا هو إقراض وبحكم. فالصهيونية العالمية عندما يقول البعض بأنها وراء هذه العملية نقول: نعم؛ لأن هذه هي استهدافاتها وهي هدف من أهدافها الأساسية أن تكون السيولة دائما محتكرة لديها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 التأمين فطرة الإنسان السليم ساقته إليه. التأمين التعاوني وليس التأمين التجاري، أنا أعتبر التأمين التجاري قضية، لا يجوز التأمين، أن التأمين التجاري محاولة استغلال، تلك الفطرة السليمة. وإذا رجعنا إلى سنة 2250 قبل الميلاد في قانون حامورابي نجد أن هناك نصا تعاونيا: من احترق بيته يجب على المجموعة التي حواليه أن تجبر ضرره. وفي تلمود بابل ورد ما يفيد تعاون البحارة على أن يجبروا الضرر الذي يقع على أحدهم إذا تعرض لقوة قاهرة، وقبل أكثر من سبعة قرون ظهر تجار في المغرب العربي بنوع من التأمين التعاوني لكن قضية الشركات أخرجت هذه التعاونية عن رسالتها. هناك نقطة في الحقيقة يجب أن نركز عليها، وهي في خصائص العقد. النقطة تقول بأن التأمين عقد احتمالي، والبعض يقول: نعم عقد احتمالي لا نعرف كم ندفع آخر النهار ولكن هناك إحصائية، قولوا لي: أين الإحصائيات عندما طار أول قمر إلى الفضاء، قمر صناعي وأمن. أين الإحصائيات عندما طير أول مكوك فضاء وأمن؟ أين الإحصائيات عندما أمنوا على حياة رواد الفضاء؟ ما كان فيه إحصائيات القضية قضية عشوائية وقضية أرقام، وهناك الآن تدفع تعويضات، فإذن موضوع نوع هذا من المقامرة قائم وموجود ونعاني منه. نحن نبحث شيئا، التأمين قد يكون قديما، التأمين حلال أو حرام، ما هو نحن الآن وصلنا إلى البدائل. وصلنا إلى البدائل. والتأمينات التعاونية الآن قائمة وفي أول البحث ذكرت لكم بعضها في العالم الإسلامي وناجحة نجاحا باهرا بل لديها حقائب من أرقام الأقساط كبيرة جدا. ولا أخفيكم القول بأننا عندما وضعنا نظام تأمين تعاوني وعرضناه على دولة من الدول قامت قائمة الشركات هناك. قلنا لهم: لماذا هذه المحاربة؟ قالوا: أن قمتم بهذه الشركات سوف تسحبون البساط من تحت أقدامنا. بينما في نفس الوقت تغطي تراخيص لشركات تجارية عادية ولا تقوم على مثل هذه القاعدة عملية التأمين، عندما أقيمت مؤسسات التأمين التعاونية رفع الحرج عن المسلمين. تأتي شركة التأمين أو مؤسسة التأمين الإسلامية فتؤمن سيارتك، نحن رفعنا الحرج عنك. ولكن هناك مشكلة أخرى، في عالمنا اليوم نحن دخلنا متأخرين، في عالمنا اليوم أخطار غير متوازنة، عمارات بالملايين ثم فلل صغيرة. هل نتجه ونقول لأصحاب الفلل الصغيرة نؤمن لكم وأصحاب العمارات نقول لهم لا؟ إذن نحن أمام مشكلة لا بد أن نفتت هذا الخطر. ولا يمكن أن نفتت هذا الخطر إلا عن طريق إعادة التأمين فصدرت الفتوى أن نلجأ إلى إعادة التأمين بمقدرا الضرورة. وأود أن أبشركم بأننا أسسنا الآن أول شركة إعادة تأمين إسلامية. فإذن خففنا الآن العبء من على إخواننا الذي يريدون مؤسسات التأمين التعاونية فهم يعيدون التأمين الآن إما كليا أوجزئيا لدى هذه الشركة. ولكن هذا لا يكفي يجب أن تكون هناك سلسلة من هذه الشركات، حتى نستطيع أن نغطي احتياج المجتمع الإسلامي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 البديل المطروح أمامكم هو بديل تعاوني، وفي التعاونيات سلبية في البداية حيث لا توجد حقيبة مالية كبيرة وقوية يمكن أن تدفع التعويض الذي يقع في الغد مثلا. من أول يوم قد تصدر وثيقة التأمين ويكون هناك تعويض، قلنا: أن البنوك الإسلامية عندما نشأت استبشر المسلمون بها ودعموها دعما قويا والحمد لله هي الآن ناجحة ووصلت أعدادها إلى ما يقارب الستين تقريبا مع شركات ومؤسسات الاستثمار. هذه المؤسسات مع هذا الدعم الذي لاقته من المسلمين ألا يجب عليها أن تقوم ببعض التضحيات والتبرعات لترفع الحرج عن المسلمين في التأمين؟ أنا أرجو من مجلسكم الموقر أن ينظر في هذا الموضوع على أنه فرض كفاية على البنوك القائمة بتأسيس المؤسسات التعاونية. سوعدوا من قبل المسلمين ولم يطلب منهم أن يقوموا بالعمل المصرفي , طلب منهم أن يطبقوا الاقتصاد الإسلامي ككل، وما داموا نجحوا وحققوا أرباحا، وهذه الأرباح التي حققت بفضل تعاون هذا الجمهور، فإذن فلينظر هذا المجمع في هذا الموضوع على أن على البنوك الإسلامية القائمة أن تؤسس مؤسسات إسلامية تعاونية وأن هذه من باب فرض الكفاية، وأنا لا أفتي بذلك إنما أترك الموضوع لتبحثوه أنتم. المشكلة الوحيدة في المؤسسات التعاونية أن رأس المال يبدأ صغيرا فلجأنا إلى البنوك القائمة في المنطفة، وطلبنا منها قرضا، سميناه الاحتياطي المدفوع حسابيا وموجود طبعا في النظام، احتياطي مدفوع مسبق، هذا الاحتياطي نوعان، فيه احتياطي مكتسب ينتج من ناتج العمل، فنحن قلنا: على هذه البنوك أن تضع في صندوق هذه المؤسسة نصف مليون دينار كاحتياطي مدفوع، هذا الاحتياطي المدفوع يستثمر لصالح الصندوق التعاوني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 ولو حصل لا قدر الله ضرر في بدء العمليات فهذه مخدة واقية يؤخذ منها الجبر. ولدفع التعويضات تبرعا من البنوك الإسلامية، لكن عملنا إحصائية في مدة خمس سنوات، ممكن أن نرجع إلى هذه البنوك النصف مليون دينار عن طريق تعويض الاحتياطي المدفوع بالاحتياطي المكتسب، سنويا نحن نربح نأخذ قسما من الربح ونعطي البنوك، في أول سنة مثلا لو ربحنا ثلاثمائة ألف دينار نأخذ منه مائة ألف دينار وندفعه للبنوك فيبقى لهم في ذمة الصندوق كقرض أربعمائة ألف دينار، وهكذا، عملنا دراسة وقدمناها إلى الجهات المسئولة خلال خمس سنوات نتيجة للإحصائيات الموجودة في السوق، ممكن أن نعيد الخمسمائة ألف دينار إلى البنوك الإسلامية ويبقى الاحتياطي المكتسب لصالح المؤمنين جميعا في هذا الصندوق. أنت عندما تشترك في هذا الصندوق تحصل على شيئين، تحصل على الحماية التي تريدها وأنت تسوق السيارة هذه من ناحية ثم أنت شريك في الأرباح، آخر العام نجلس فنحسب كم دفعنا من التعويضات. وكم دفعنا من مصاريف إدارية وكم نريد أن نقتطع احتياطيات ثم الباقي نوزعه على جميع المشتركين في هذا الصندوق، بصرف النظر أنا في نظامي لم أميز، في بعض الأنظمة الأخرى التعاونيات ميزوا بين ما تسبب في حادث وما لم يتسبب في حادث، قالوا من يتسبب في حادث لا يدفع له ناتج الربح، أنا عندي من يتسبب في حادث ندفع له حقه، لماذا؟ لأنه عندما أتى لكي يؤمن أتى بحسن نية. وأتى مسلما مؤمنا بهذه القضية فبالتالي وقع له حادث قضاء وقدرا ولا يجب أن نحرمه من نصيبه في الأرباح، وكذلك راعينا في النظام سماحة الإسلام. فقلنان حتى غير المسلم ممكن يأتي ليؤمن وله نصيبه من الأرباح، ولكن ليس له حق أن يصوت في الجمعية العمومية وليس له حق أن يكون عضوا في مجلس الإدارة؛ لأن هذه الإدارة إدارة إسلامية ويجب أن تلتزم بالشرع الحنيف. وغير المسلم لا يمكن أن يتأتى له ذلك. ولكن ما دام يعيش بيننا ومادام يتعرض لأخطار كما نتعرض نحن، مادام يقبل بالنظام الإسلامي فأهلا وسهلا به لكي نذيقه حلاوة الإسلام. وعندما عالجنا قضية العضوية بمجلس الإدارة جعلناهم كلهم سواسية سواء دفعت دينارا أم دفعت مليون دينار، فالعبرة ليست بما تدفع إنما العبرة بشخصك المسلم. هذه بعض الملامح التي أردت أن ألقي الضوء عليها ولا شك أنكم قرأتم البحث وقرأتم الموضوع. فيه ورقة سؤال جاءتني سيدي الرئيس هل أجاوب عليها أو فيه نقطة نظام؟ الرئيس: هو، إذا تفضلت هل انتهيت؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 الشيخ عبد اللطيف جناحي: نعم أنا في الحقيقة أكتفي بهذا التلخيص. الرئيس: إذن ربما أن رغبة الإخوان تكون مع الرغبة عندنا في أن تعطينا ملخصا للبديل ثانية. الشيخ عبد اللطيف جناحي: نعم ... البديل كما قلت هو بديل تعاوني، والتعاونية عندما تبدأ بفرد أو فردين أو ثلاثة. ويكون هؤلاء الجماعة يأتون بدفع مائة ريال أو ألف ريال في هذا الصندوق تبرعا منهم وإيمانا منهم بجبر ضرر غيرهم، لكن طبعا المشكلة عندما تأتي وأنت عندك سيارة تساوي 20 ألف ريال أو ثلاثين ألف ريال قد يقع الحادث غدا ولا يوجد في الصندوق ما يكفي لتغطية خسارتك فلجأنا نحن إلى البنوك الإسلامية وطلبنا منهم أن يدفعوا في هذا الصندوق قرضا حسنا سميناه " الاحتياطي المدفوع " هذا القرض الحسن قدرنا قيمته بنصف مليون دينار، أي تقريبا بخمسة ملايين ريال سعودي حتى نجبر الضرر العاجل، هذا المبلغ بالإحصائيات التي لدينا ممكن أن نعيده مرة أخرى إلى البنوك الإسلامية عن طريق الاحتياطي المكتسب. مؤسسات التأمين التعاونية تربح نقطع كل عام نسبة من الأرباح لكي تخرج البنوك الإسلامية من الصورة وتكون الحقيبة كاملة للمؤمن له. هذا من حيث الميكانيكة المالية. هناك موجود في البحث عن ميكانيكية التطبيق في عضوية مجلس الإدارة في دفع التعويضات كلها هذه موجودة، وطبعا من الصعب أن نأتي عليها جميعا، إنما هذا هو الملخص. وشكرا سيادة الرئيس. الرئيس: نرجو هذا الملخص أن تزودنا به محررا بهذه الصيغة مع وضوح معالمه كما تفضلتم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 الشيخ عبد اللطيف الفرفور: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. أيها السيد الرئيس، شكرا لكم، أولا أعترف أن هناك حلولا في البدائل كان من الأوائل فيها الدكتور عيسى عبده، ما أدري رحمه الله أم لا، ذهب إلى رحمة الله. الشيخ عبد اللطيف الجناحي: لا غريب الجمال قبله الله يرحمه ويغفر له. الشيخ عبد اللطيف الفرفور: نعم، لكن أنا قلت من الأوائل، ما قلت أولا في كتيب أصدره بعنوان " التأمين والبديل حلا لمشكلة التأمين " ينبع من جوهر الشريعة الإسلامية ويرجع إلى مبادئ التكافل الاجتماعي في الشريعة الإسلامية. وكذلك اقترح من سوريا باحث اسمه عبد الله علوان حلا شبيها بالمذكور في كتيب أصدره بعنوان " حكم الإسلام في التأمين، السوكرة " لا يخرج عما ذكره الدكتور عبده في أغلب نقاطه وها نحن الآن استمعنا إلى البديل الذي تفضل به الأستاذ عبد اللطيف جناحي حفظه الله. ولكن جميع الاقتراحات تعطينا تصورا عن وجود الدولة الإسلامية وقيامها وأن هذه الدولة الإسلامية الوليدة قد جاءت بمسئوليها تطالبهم بالحل الذي يرونه ليطبقه القائمون على الأمر من الإسلاميين المخلصين، ولكن الأمر غير ذلك كليا. فنحن في ظل وضع غاب عنه الإسلام غيابا كاملا في الأمة الإسلامية جمعاء من الناحية الشرعية، اللهم إلا ما بقي منه من ظلال العقيدة والعبادة، أما الفقه الإسلامي فلا وجود له في المجتمع ولا في الأفراد، لا في الأفراد ولا في الجماعة إلا في القليل النادر، وفي هذا الوضع وجب أن نبحث الأمر على غير ما بحثه الأساتذة السابقون. الرئيس: لو قلتم إلا ما شاء الله كان أحسن من كلمة القليل النادر؛ لأن أمة محمد عليه السلام إلى خير، والخير موجود في هذه الأمة، ولا يزال يوجد من يحكم الشريعة، ولا يزال يوجد تطلعات واتجاهات ولله الحمد جيدة جدا حول تحكيم الشريعة ونحن نشاهد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 الشيخ عبد اللطيف الفرفور: أضم صوتي على صوتكم وأقول إلا ما شاء الله، ووجب أن نضع إذن تأمينا عمليا تسمح الدول والحكومات بالعمل به، ثم حين تقوم الدولة الإسلامية بنظامها الإسلامي الجديد يزاد على هذا التأمين ما اقترحه المحررون الأفاضل ويعدل حسب الظروف آنذاك. أقول: إننا الآن أمام تأمين إسلامي مؤقت، فلننظر! أرى أن يكون هذا التأمين المقترح على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: إنشاء مصرف تنمية إسلامي- أظنه قد نشأ الآن – على الوجه الذي اقترحه علماء المسلمين وتجتمع فيه أموال المسلمين فقط وتشغل بالأسلوب المذكور مع اشتراط المصرف على المشترك بتعهد خطي أن تكون زكاة ماله عائدة إلى صندوق الزكاة وعمل الخير في المصرف المذكور. الدرجة الثانية: إنشاء صندوق الزكاة من أموال المصرف المذكور وبدلا من إعطائها للفقراء مباشرة كما هي العادة، يتكون منها أو من أكثرها رأس مال تجاري يقوم عليه موظفون يعملون بأجر معقول. وهنا تأتي الدرجة الثالثة وهي النتيجة. الدرجة الثالثة: أن يكتتب طالبو التأمين بمبالغ خيرية تبرعا منهم لصندوق الزكاة وعمل الخير في المصرف المذكور وليس لهم حق إعادتها، ثم إذا جاءت الأرباح بعد سنين وفينا الفقراء حقهم من رأس مال الصندوق وأبقينا الأرباح مع التبرعات الخيرية للاستثمار، ويتكون من هذا الصندوق الجديد المنبثق من صندوق الزكاة وعمل الخير " صندوق عمل الخير " أو ما سماه زميلي الموقر "مؤسسة التأمين الإسلامي" وهو التأمين الإسلامي الذي نراه صالحا لإنقاذ حياة الفقراء والمساكين والمعوزين والمتضررين من المكتتبين في مصرف التنمية الأساسي لأن أرباحهم كافية لهم وهذه أولوية فقط. ولا بأس من أن نشترط هنا ما اشترطه المحررون السابقون على المؤسسات التعاونية التكافلية وهي: أولا: أن يدفع الفرد المساهم نصيبه المفروض عليه في ماله على وجه التبرع قياما بحق الأخوة الإسلامية. ثانيا: إذا أريد استغلال هذا المال المدخر فبالوسائل المشروعة وحدها وبإعلامهم. ثالثا: لا يجوز لفرد أن يتبرع بشيء على أساس أن يعوض بمبلغ معين إذا حل به حادث ولكن يعطي من مال الجماعة بقدر ما يعوض خسارته أو بعضها على حسب ما تسمح به حال الجماعة. رابعا: التبرع هبة والرجوع فيها ممنوع شرعا كراهة أو تحريما على خلاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 وبعد، فالذي دعاني إلى إقامة الصندوق عمل الخير "التأمين الخيري" زميلي سماه "التأمين التعاوني" وأنا أسميه "التأمين الخيري"، على أساس الزكاة ثم على أساس مصرف التنمية يعني الينبوع هو مصرف التنمية الإسلامي، ما نراه ونعلمه من استبعاد فكرة إقامة التأمين الخيري هذا فورا على أساس خيري بحت، وهب أنه قام وتنادى إليه موسرو المسلمين، فكيف يتم صرف وتشغيل أمواله؟ ومن هم أولئك المستفيدون منه؟ وهل نضمن قيام هذه المؤسسة دون استغلال؟ أما فيما ذكرت، فلو أن الناس لم يتبرعوا افتراضا لصندوق عمل الخير وبقيت أموال الزكاة فقط، فاستثمرت بيد أناس عاملين عليها ثم رد رأس مال الصندوق وهو محض الزكاة للفقراء وأخذت الأرباح لصندوق عمل الخير لكان كافيا ولا ضرر في تأخير إعطاء الفقير الزكاة ولا في استثمارها على أساس الضمان لا الأمانة، كي لا يضيع حق الفقير في رأس المال. والذي يجلب لنا فائضا من الزكاة هذه صندوق التنمية الأساسي الذي يستثمر أموال الناس بما يشبه شركة المضاربة في الفقه الإسلامي. فكلما كثرت أموال الناس في مصرف التنمية، كثرت الزكاة ومن ثم كثرت أرباح الزكاة؛ لأن المال يجر المال، ثم وجدت ذلك كله في صندوق عمل الخير. بقيت مسألة واحدة هي: هل نستطيع ... ؟ هذا مبدأ لا علاقة له مباشرة بهذا البحث ولكن هو أساسي يمكن أن يبني عليه هذا البحث هل يصح أن يرابي الإنسان مع كافر في دار الحرب مباشرة؟ الذي أعرفه في مذهبنا الحنفي وحرره العلامة ابن عابدين في حاشية " رد المحتار " أن أموال الحربيين في بلادهم تجوز لنا بربا أو ميسر أو قمار بشروط: أولها أن يكون التسلم والتسليم هناك في بلادهم، وأن يكون ذلك بمحض رضاهم وألا يؤدي ذلك إلى ضرر بمال المسلم أو دينه أو كرامته. وأن غلب الظن على النفع، لا أن تكون المسألة مراهنة. هذا الذي ذكره علماء مذهبنا وعلى هذا الأساس نستطيع أن نوظف بعض أعمال صندوق التأمين الخيري هذا، في بلاد ذات نسبة فائدة عالية كأمريكا. لا أدري بقية المذاهب ما تقول في هذا الأمر، يكفي أن مذهبا معتبرا من المذاهب الكبرى يفتي بهذا ولدي النص مع رقم الصفحة ورقم الجزء، وحينما تريدون أن أدلكم فأنا أستطيع أن أدلكم على ذلك لمن لا يعلم ذلك. وفي اعتقادي أن الجميع يعلمون هذا أو الأكثر، على كل، إذا استطعنا أن نؤسس على هذا جواز وضع هذه الأموال هناك في استرباحها عن طريق الفائدة مع الحربيين في بلادهم بشروطها، نمت هذه الأموال وازدادت وحصل لدينا مؤسسة تأمينية خيرية إسلامية، والله تعالى الموفق، اللهم هذا رأيي فيما وصلت إليه لا أزعم أنه الحق فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان غير ذلك فمني، وأستغفر الله تعالى، وشكرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 الرئيس: يا شيخ عبد اللطيف، أحب أن أشير إلى قضية الربا بين المسلم والحربي يعني هذه قضية معلومة، لكن ما وجه ذكر الحنفية أو غيرهم لحالة تجويز الربا بين المسلم والحربي. لأن الحنفية أنفسهم يقولون بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ربا بين مسلم وحربي)) وهذا الحديث لا أصل له فضلا عن أن يكون موضوعا. فطالما أن الدليل الذي بني عليه بهذا هو ليس دليلا شرعيا ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك كالرواية الثانية أنه لا ربا بين حر ورقيقه، فهاتان الراويتان غير صحيحيتين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا تأسس هذا القول، فطالما أن الأساس الذي بني عليه هذا القول غير سليم، فيبقى هذا القول مهجورا في مكانه. أنا قصدي أردت الإيضاح حتى من جهة لفظ النبوة وإن كنتم لم تذكروه حتى لا يلتبس الأمر على الإخوان، أن المنزع في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ربا بين مسلم وحربي)) . الشيخ عبد اللطيف الفرفور: معلوم لديكم ولدى الجميع من العلماء الأفاضل أن الحديث إذا لم يثبت في قواعد المذهب لم يثبته بعض المحدثين وأكثرهم من علماء السنة، إذا لم يثبت الحديث على قواعد المذهب فهل رأيتم ما أخرجه الزيلعي في "نصب الراية" في تخريج هذا الحديث وحكمتم به؟ أم رأيتم ما قاله الحافظ الذهبي مثلا أو غيره من المتشددين، فكم حديث وضعه الحافظ الذهبي وهو عند الزيلعي من الحسان، نحن لا نستطيع أن نأخذ دائما بأقوال المتشددين في التوضيع وغيره. وإنما نأخذ تخريج الحديث. الحنفية من كتب المذهب، من كتب حديث المذهب، فلدينا " نصب الراية" للزيلعي، أنا الآن يغيب عن بالي تخريج هذا الحديث هناك، ونحتكم إليه، فإن قال الزيلعي إنه لا أصل له نرجع عن هذا الحكم، وإذا قال الزيلعي: له أصل، إذن فهذا من المختلف فيه ويبقى الحكم المذهبي محفوظا، وشكرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 الشيخ علي السالوس: الزيلعي ذكر الحديث في "نصب الراية" وضعفه. الزيلعي نفسه ذكر هذا وقال: قلت: غريب، وهو يأتي، حديث الحنفية بدلا من أن يقول ضعيف فالاصطلاح الذي يتبع أن يقول غريب، فهو إذن نفس الزيلعي رفض الأخذ بهذا الحديث، والحنفية أنفسهم رفضوا الأخذ بهذا الحديث، وهذا ليس رأي الحنفية ولكنه رأي الإمام أبي حنيفة فقط. الرئيس: أحب أن أنبه إلى مسألة أخرى جانبية وهي اصطلاح الزيلعي في نصب الراية إذا قال في هذا الحديث إنه غريب، فهو لا يريد الغرابة الاصطلاحية عند المحدثين، وإنما يريد أنه لم يجده. الشيخ علي السالوسي: يريد الضعف. الرئيس: لا، يريد أنه لم يجده، وهذه النكتة نبه عليها العلامة قاسم بن قطلبغا في كتابه " منية الألمعي فيما فات تخريجه على نصب الراية للزيلعي " وهو أخذها من بعض تعليقات الزيلعي نفسه في بعض سياقات الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 الشيخ محمد الزبير: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. بالنسبة للنقطة الأخيرة أيضا أريد أن أذكر قضية دار الحرب، فالواقع العلاقات الدولية الآن والاتفاقات بين الدول قد تعطينا مفهوما آخر غير مفهوم دار الحرب الذي ذكر في كتب الفقه. فلذلك من المستبعد جدا أن نأخذ بهذا الراي حتى ولو كان صحيحا في ظروف الأوضاع الحالية والعلاقات الدولية، هذه نقطة أريد أن أذكرها. النقطة الثانية في الواقع أن التأمين التعاوني يجب أن نحدد مفهومه تحديدا دقيقا حتى نستطيع أن نخرجه تخريجا فقهيا شرعيا. فهل هو عقد تبرع محض أو هو عقد يشتمل على تبرع ومعاوضة. في الواقع الطريقة أو الأسلوب المتبع في وقتنا الحاضر هو عقد يشتمل على النقطتين. هناك أشكال عديدة في الواقع للتأمين التعاوني. ولكن أذكر الشكل السائد في الوقت الحاضر الممارس الذي أشار إليه الأخ عبد اللطيف. تبدأ الفكرة على أساس عقد بين المستأمن وبين المؤمن، على شروط. فهذه الشروط، أول شرط أن يدفع قسطا محددا معينا على حسب القيمة المؤمن لها، فتختلف باختلاف الحالة وباختلاف القيمة، قيمة السيارة إذا كانت سيارة عادية أو سيارة كاديلاك أو سيارة روزرويس، حسب قيمة الشيء المؤمن له، ثم هذه المبالغ حيثما تجمع تستثمر، وممكن هناك عدد من الطرق للاستثمار ولكن لا تهمنا قضية الاستثمار لأنه نستطيع أن نستخرج أو نستصفيها نستنقذها من شوائب الربا ونستطيع أن نستثمر هذه الأموال بعيدا عن أشكال الربا وحتى في التأمين التجاري ممكن أن نأخذ بنفس الفكرة ولكي نستنقذ شوائب الربا ويصبح تجاريا محضا. إلا أن العلاقة بين الشكلين، الشكل التجاري والشكل التعاوني في شكله الحاضر أنه في أول الأمر يبدأ عقدا تبرعيا وفي مفهومي والله أعلم، أن المؤتمرات السابقة قد أقرت الشكل التعاوني الذي يعتمد على التبرع المحض بحيث يضع المؤمنون أقساطهم وتنتهي ملكيتهم لهذه الأموال وتصبح وقفا يخفف الضرر حسب الحالات الموجودة ولا يمكن أن يلتزم الصندوق بدفع مبالغ معينة في حالة الضرر بحيث إنه يضمن أن يسدد هذه المبالغ فهنا لا بد للإخوة الفقهاء في حالة التكيف أن يعتبروا هذه النقاط: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 أولا: أنه ليس تبرعا محضا وإنما تبرع مع معاوضة؛ لأنه هناك شرط في ذلك أن يعوض في حالة الضرر، والخسارة بالمبالغ المتفق عليها أيضا، ثم من الناحية الفنية البحتة في اعتقادي أن التأمين بالشكل التعاوني يستلزم إعادة تأمين، وإعادة التأمين تستلزم إعادة تأمين أيضا، إذا التزمنا بقضية دفع المبالغ حسب الاتفاق. أما إذا كانت قضية تبرع وتخفيف المضار وتوزيعها حسب حالات الصندوق فهذا لا غبار عليه. فإذن لا بد أن نناقش هذا الموضوع من هذه الجوانب المختلفة؛ لأنه قد لا تختلف الصورة كلية بين التعاوني كما قال الدكتور الزرقاء أن التعاوني قد يكون شبيها تماما بالتجاري، إلا أن قضية استخدام رؤوس الأموال في الربا، وهذه قضية جانبية، أنا أعتقد نركز قضايانا في قضية التأمين والعقد هذا على شيء احتمالي مقدر وفيه التزام وفيه ضمان من جانب المؤمن للمستأمن. الشيخ إبراهيم الغويل: الحقيقة عندي ثلاث نقاط. أولا نقطة بصفة عامة علي، وليعذرني إخوتي، على روح المناقشات، ثم تلخيص فيما يبدو لي في هذا الموضوع الذي نراه. ثم ملحوظة ثالثة نحو نظرة مستقبلية في هذه المواضيع. النقطة الأولى فيما يتعلق بجو المناقشات – يبدو أننا بهذا الشكل سنظل باستمرار نناقش كل موضوع ثم نختلف حوله ثم نحيله إلى لجنة وتنتهي بهذه المقررات، هذه المناقشات فيما يبدو لي – وأذكر نفسي قبل أن أذكر إخوتي – تحتاج أن تسودها روح الشورى، والشورى هي بحث عن الحقيقة في مختلف الآراء كما يشور الإنسان العسل من مختلف خلايا النحل، الإنسان في الشورى يبحث عن الحق في قول أخيه، فإذا سمع قولا يغير به رايه، إنما أن جئنا كل منا برأيه وأراد أن يدلي به بغض النظر عما قيل قبله أو ما سيقال بعده لا شك أننا سننتهي في كل مسألة إلى خلاف وإحالة إلى لجنة وتختلف هذه اللجنة أن لم تسدها نفس الروح وهكذا. هذه الملحوظة الأولى، وأعتذر لإخوتي لا أخفيكم القول أنني حزنت خلال كل هذه المناقشات، يقال رأي ونشعر أننا نحن نقترب نحو خطوات عملية لمعالجة مشكلة تهم المسلمين وهي ضرورة، فإن لم تكن ضرورة فهي من الحاجيات الأساسية عند المسلمين، ثم نختلف من حيث لا ندري وننتهي إلى لا شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 فيما يبدو لي في موضوع التأمين، بدت هناك في كلمة الدكتور الجناحي الحقيقة نقطتان أساسيتان، حتى أنا سميت أن إحداهما ستكون النقطة المستقبلية التي أقترحها عليكم، معالجة لما هو قائم مع إبقاء الطريق نحو معالجة مستقبلية. الرجل بدأ يقول أن موضوع الزكاة من الممكن أن ننظر له نظرة مستقبلية ونظرة تنظر إلى روح معنى الزكاة، سيؤكد بالإضافة إلى جوانب أخرى سيؤكد معنى تحقيق ضمان اجتماعي شامل للمجتمع المسلم. ومن الممكن أن يغنينا عن كافة البدائل. إذن هذا سأرجئه بالنسبة للنظرة المستقبلية، في واقع الحال الأمر الآن أوضح أمرا واضحا، ويبدو أننا خلال المناقشات ننتهي إليه أن أردنا أن نبحث عن الحقيقة في أقوالنا. أولا: نحن جميعا فيما يبدو لي مجمعون على إنهاء شركات التأمين الخاصة التي تستهدف الربح، فقط، وتتاجر بأمور الناس بغض النظر عن إمكانية تخريجها أو ما إلى ذلك. هناك أمامنا نوعان آخران أو ثلاثة أنواع أخرى من التأمينات السائدة، قال البعض وهو أمر سلكته ومن الممكن أن تسلكه الحكومات أيضا، ويجب أن نكون نحن عمليين وندفع بأمور الناس نحو التدرج السليم أن تكون هناك تأمينات كهيئات حكومية، وأنا لا أعتقد أن هناك حكومة مسلمة اليوم تمتنع عن هذا أن عرفت أنه من الممكن أن تقوم بهذه الخدمة للمسلمين في ذلك البلد، في نفس الوقت يسير مع هذا المعنى إمكانية هيئات التأمين التبادلي مدعومة بهيئات التأمين التعاوني، هناك خطوات متدرجة، هذا كله ليس الحل الأمثل، نحن نقول أن هناك أولا خطوات يجب أن تتخذ، أولا يجب أن تنهى المتاجرة والمرابحة والاستغلال في مجال الأمور المتعلقة بدفع الأخطار عن المسلمين. ثانيا: أن نقول نحن نحض على تشجيع التأمين التعاوني والتبادلي بين مختلف الجماعات الإسلامية، ومن ذلك أن تقوم الحكومات الإسلامية بهذه المسئولية أيضا. ثالثا: هذه خطوات نحو تأكيد معنى التأمين الحقيقي الذي يقوم على أساس إسلامي ويجد أساسه في الزكاة وفي بند الغارمين. يبدو لي أننا يجب أن نفكر بأمور كمواجهة لضرورات وحاجات المسلمين وندفع بها نحو مزيد من التطبيق الإسلامي الذي يقدم جديدا للإنسانية. إنما أن بقينا نبحث عن نقاط الخلاف، فسنجد نقاط خلاف في كل قول وسنختلف جميعا وسنحيل إلى لجان وتختلف اللجان وتنتهي إلى لا شيء. واقع المسلمين اليوم أن هناك ضرورات، واقع المسلمين هناك حاجات ليست أمورا تكميلية. المسلمون اليوم إما أن نقدم لهم حلا وندفع به نحو المستقبل ومزيد من التطبيق الإسلامي وإما سيستغنون عن أي كلام يسمعونه في هذا الموضوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 فيه ملاحظة أخرى وهي كما قلت نحو المستقبل دائما، أود أن يكون روح الإسلام وجهة الإسلام أنه نظام العالم الجديد للإنسانية كلها هو الذي يسود. ونظام عالمي جديد يقوم على أساس الإسلام يذكر أول ما يذكر أن ربي قبل أن يحرم الربا تحريما كاملا على مراحل نزول الآيات {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} الأصل ألا آكله، فالأصل أن المنع يبدأ المسلم أن يقدم القدوة من نفسه فكيف ننقلب كأننا بني إسرائيل، نقول: تعامل مع أخيك لا تتعامل بربا ولكن مع الآخرين استغلهم كما تريد. سيدي أنا أود نفكر بروح البحث عن الحقيقة، البحث على أن هذا الإسلام يقدم نظاما عالميا جديدا وإنا نحن حين نعالج واقع اليوم نعالجه لكي ندفعه نحو هذه الوجهة. إذن نمنع هذا الشركات المستغلة الآتية إلينا من الخارج التي تدفع بأموالنا إلى الخارج، ولكن أيضا ندفع نحو التأمين التعاوني والتبادلي ونؤكد على الحكومات بأن تقوم بهذه المسئولية في طريق تأكيد الضمان الاجتماعي الشامل الذي تقدمه الزكاة. ولقد استمعنا إلى الأخ المحاضر وهو يقول: إنه بصدد دراسة وتقديم إحصائيات تبين كيف أن بند الزكاة من الممكن أن يغطي أغلب الالتزاماتت الاجتماعية والضمانات الاجتماعية. فإذا كنا نستمع فنتتبع أحسن ما قيل ذلك سيؤدي بنا إلى حلول. أن كنا نستمع لكي نختلف فأعتقد أننا سننتهي بكل مشكلة إلى خلافات لا حد لها وإحالتها إلى لجنة ولا ندري أين ننتهي وشكرا، وآسف. الرئيس: هناك كلمات لثلاثة من المشايخ، فإذا سمحوا لنا وتنازلوا عنها لأن هذا الموضوع استهلك فيه من الوقت الشيء الكثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 الشيخ حسن عبد الله الأمين: لقد أعطيتني الفرصة سيادة الرئيس. الرئيس: تفضل. الشيخ حسن عبد الله الأمين: أريد أن أتحدث في ثلاث نقاط، حديث سريعا. النقطتان الأوليان أثارهما الأخ مقدم الموضوع الأستاذ عبد اللطيف الجناحي. والنقطة الثالثة أثارها الأخ عبد الله إبراهيم ممثل ماليزيا فيما أعتقد في وقت سابق قبل فترة الاستراحة، وتحدث حولها شيئا ما الدكتور الزبير. أما ما أثاره الاخ عبد اللطيف فالنقطة الأولى فيه هي أن التأمين التعاوني يبدأ ضعيفا لقلة عدد المشتركين فيه، وقلة المال الذي يؤمن المخاطر التي قد تحدث لبعضهم. وأقترح لذلك أن تاخذ شركات التأمين التعاوني قروضا من البنوك الإسلامية كاحتياطي مدفوع تؤمن به هذه المخاطر العاجلة. وفي الحقيقة، منذ ثمان سنوات في السودان شركة تأمين إسلامية تعاونية على المبادئ التي ذكرها الأخر عبد اللطيف الجناحي. وفرت لهذا المحظور أو لهذا الخطر المتوقع شيئا بطريقة أخرى في أنه قانون الشركات في السودان وقد تكون كثير من الدول النامية لديها هذا الاتجاه في قوانين الشركات أنه لا يسمح بقيام أية شركة كانت إلا بمجلس إدارة ومبالغ معينة مقدرة سلفا كرأس مال لهذه الشركة من ضمنها شركة التأمين الإسلامية. فلم تستثن من هذا. فكان من الضرورة أن يكون هناك مجلس إدارة ومؤسسون ورأس مال لهذه الشركة، فاتخذت هذه حيلة ومخرجا، بل كان والحمد لله دعما لشركة التأمين الإسلامية. فأسست شركة تأمين الإسلامية برأس مال محدد وبأسماء أشخاص معينين ثم فصلت حقيبة المشتركين في التأمين التعاوني عن الشركة الأم ورأس مالها وأصبح التأمين التعاوني يدور في هذا الصندوق وأصحاب الحقائب المشتركين فيه إلى أن توسع إلى حد كبير والحمد لله واستغنى عن التأمين الذي كان موفورا له من خلال الصندوق ملك المؤسسين، فشخصية الشركة لدى المؤسسين منفصلة عن شخصية صندوق التأمين التعاوني، وأصحاب الحقائب المشتركين فيه منفصلون كاملا، وبذلك توفر هذا التأمين والحمد لله الذي أشار إليه الأخ عبد اللطيف الجناحي. الثانية، أن الأخ عبد اللطيف أشار إلى أنه من يصيبه خطر من المؤمنين تأمينا تعاونيا جرت العادة لدى بعض شركات التأمين التعاوني أن يحرم من الأرباح وأن لا يعود عليه شيء من الفائض في نهاية السنة الحسابية لشركة التأمين. وهذا لم يجر في شركة التأمين الإسلامي في السودان فيما أعلم التي أسسها بنك فيصل الإسلامي. وهم يدخلون صاحب المخاطر مع من لم يصبه خطر في عائد الأرباح. هذا فيما يبدو لي اتجاه سليم؛ لأننا نحن تعاقدنا على التعاون جميعا ونتحمل الخطر جميعا فإذا فصلنا صاحب الخطر وحملناه الخطر وحده كأننا نقضنا مبدأنا من أساسه. ولا أدري ما هي الشركات التي تقوم بهذه الطريقة الأخرى التي أشار إليها الأستاذ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 النقطة الثالثة التي أثارها الأستاذ عبد الله إبراهيم، هو طرح سؤالا: كيف يكون المؤمن تأمينا تعاونيا صاحب ملك فيما يتبرع به. وهي أساسا تقوم على أساس التبرع؟ كيف يعود إليه الفائض ويكون ملكا له؟ والحقيقة أنا أشكر الأخ على إثارة هذا الموضوع؛ لأنه منذ أن أنشئت شركة التأمين الإسلامية في السودان منذ ثمان سنين كان من حين لآخر يخطر ببالي هذا السؤال، وبكل أسف تجنبت التعمق فيه والتفكير الطويل والإجابة عليه دهرا طويلا، وأنا أشكره على إثارته الآن. ويبدو لي أن الطريق التي يجري به تحصيل أقساط شركات التأمين التعاونية، هي من الناحية الفنية نفس الطريقة التي تقدر بها أقساط التأمين على السيارة أو على الطائرة أو على السفينة بنفس الأسس الفنية التي تقدر بها حصص التأمين وأقساطه في شركات التأمين العادية، فيجري هذا في شركات التأمين التعاوني وتؤخذ هذه الحصص وتوضع في صندوق التأمين التعاوني، ثم بعد ذلك يقابل المخاطر التي تحدث من هذه الحصص يكون هو المتعاقد عليه تبرعا ويسقط وما يتبقى بعد ذلك يظل في ملكية صاحبه كما هو ويعود إليه في نهاية الوقت. يبدو لي أن الفكرة تسير على هذا الأساس وأنا أطرحها هكذا، كرأي فطير ليس مختمرا وأعتبره مؤشرا في التفكير لدى الإخوة الزملاء. وشكرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 الشيخ أحمد البزيع ياسين: بسم الله الرحمن الرحيم، الأخ عبد اللطيف أولا أنا مستبشر جدا بالمجمع الفقهي الذي قامت به الدول الإسلامية وهذه بشارة خير إن شاء الله تعالى استنادا إلى قوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} تعهد الله بحفظ ذكره، وأنتم من أهل العلم، والعلماء ورثة الأنبياء وبإذن الله نصل إلى نتيجة مرضية بإذنه تعالى ومجمع الفقه هذا مجمع فقهي وليس مجمعا سياسيا. الأخ أنابني أن أجاوب فضيلة الشيخ محمد عن سؤال يقول: هل يستطيع الفرد العادي الذي لم يشترك في رأس مال الشركة هل يجب أن يكون عضوا حتى يمكن أن يؤمن؟ طبعا لا، يستطيع أي فرد عادي أن يؤمن عند هذه الشركة. ثم أحب أن أبين عندما ثبت لدينا ثبوتا يقينيا بحرمة شركات التأمين الربوية بدأنا وعملنا البديل يعني نحن لم ننتظر المجمع الفقهي أن يبحث ويعطينا القرار بدأنا في البديل ولله الحمد الآن عندنا عدة شركات تأمين وبدأنا بشركة تأمين الآن إعادة تأمين بخمسين مليون دولا مدفوع منها الآن تحت الطلب 25 مليون دولار، فالآن التوصية التي أود أن نبينها أن نوصي البلاد الإسلامية في تشجيع هذه الشركات وتكون هي البديل، في الحقيقة وصيتنا أن نشجع الشركات البديلة القائمة الآن ونشجعها بالانتشار وأن تسهل الحكومات الإسلامية مهمتها حتى تقوم برسالتها وتكون البديل. ثم بالنسبة للزكاة في الحقيقة الزكاة لها علاقة وثيقة جدا في التعويض ومن بنودها الغارمين وأنا صار بيني وبين رئيس أكبر بنك عالمي أمريكي عن بنود الزكاة وأبواب الزكاة تشمل الغارمين فقال: لو كنا نعلم هذا أنتم مقصرون في الإعلام عن دينكم. لو أننا نعلم فيه تعويضا. ثم توصية الأخ عبد اللطيف في الحقيقة أثني عليها لأن على المصارف الإسلامية حتى لما تقوم البلاد الإسلامية بإنشاء هيئات تعاونية، نوصي وصية بأن تكون هذه المصارف الإسلامية بما أنها قامت ونجحت من الجماهير الإسلامية المسلمة المؤمنة وبتأييد شعبي إسلامي منقطع النظير، في الحقيقة يا إخوان عندما بدأنا بيت التمويل الكويتي وجدت الناس على الباب كالإبل العطشى الظمآنة التي تريد أن تشرب لأن المسلم عندما تتاح له الفرصة في ممارسة عقيدته يأتي إليها راغبا، فالذي يحول في الحقيقة بين المسلمين وبين تطبيق عقيدتهم الإسلامية ذلك رجل ظالم لنفسه مبين. فنرجو أن نوصي أن على المصارف الإسلامية بما أنها حصلت على هذا التأييد، أن تقوم بتأسيس الجمعيات التعاونية أو التبادلية حتى تحل محل الشركات الربوية، هي في الحقيقة ليست شركات تأمين بل هي شركات ربوية حقيقة مثل ما وضح الأخ عبد اللطيف. وشكرا لكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 الرئيس: شكرا، بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أيها المشايخ إنه من خلال البحوث العميقة في مسألة التأمين وإعادة التأمين سواء كان التأمين التعاوني أو التأمين التجاري ومن خلال هذه المداولات ومن خلال السماع لوجهات النظر في البديل الإسلامي فإننا نستطيع أن نكيف اتجاه أنظار، أن لم نقل الكل يكاد أن يكون الكل. وهو أن التأمين التعاوني لا شبهة فيه شرعا على الصفة المقررة لدينا، والتي سبق تقريرها من عدة مجامع ومحافل علمية. ثانيا: أن التأمين التجاري قال الشيخ الضرير كلمة، أن هذا موضوع تخطاه الزمن، وقال الشيخ عبد السلام أن هذا موضوع أفتى به جموع من العلماء والذي تحرر أن هذا الموضوع الذي هو التأمين التجاري مر بعدد من المجامع العلمية ودور الدراسات الاقتصادية والدراسات الإسلامية وأن الذي اتجهت إليه أنظار أهل العلم ربما في بعضها يتجهون بالإجماع كما في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وقد استحضروا الشيخ مصطفى الزرقاء وهذا يدل على وجود خير في نفوسهم ليستنيروا بما لديه فانتهوا بالإجماع على تحريم التأمين التجاري بصوره الحاضرة بجميع دروبه وأشكالة الحاضرة، ثم أنه درس في مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة وكان فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء أحد أعضائه، فانتهى المجمع بالإجماع كما أجمع على التأمين التعاوني إباحة فإنه انتهى بالإجماع عدا الشيخ مصطفى الزرقاء إلى تحريم التأمين التجاري. ثم إنه كما تعلمون من قبل درس في دمشق ودرس في القاهرة ودرس في عدد من البلدان الإسلامية وكانت لرؤية الكثرة الكاثرة هي على القول بالمنع، وهذا القول الذي يقول بالجواز أو يحدد وجوها منه فإنه بقي طريدا ليس له من ينصره نصرا جماعيا. وذلك أن عقد التأمين التجاري هو عقد معاوضة مشتملة على الغرر والمخاطرة وعلى أسلوب الابتزاز والاستغلال والامتصاص لأن فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، إضافة إلى عنصر ربا الفضل أو النسأ فيه وإلى أنه عقد رهان والرهان لا يكون إلا على ما تحققت فيه مصلحة شرعية على ما هو منصوص عليه شرعا إلى غير ذلك من الوجوه التي تحف بهذا العقد. ثم إنني أريد أن أوضح مسألة مهمة في القرار الذي سيكون صدوره بإذن الله تعالى وهو أننا – الجواب على قدر السؤال – ما حكم إنشاء التأمين التجاري؟ أما قضية الضرورة، قضية الحاجة فهذه الأمور ليست محل سؤال وهذه يفتي بها الفقيه من ابتلي بها لأن الضرورة والحاجة تقدر بقدرها ولكل حالة ظروفها وملابساتها، لكن العبرة بالأصل وهو إنشاء عقود التأمين أو شركات ومؤسسات التأمين التجاري، تحرر كالآتي: أولا: القول بإباحة التأمين التعاوني وأنه لا غبار عليه شرعا على ما هو موصوف هنا. ثانيا: اتجاه الأكثرية في مجمعكم هذا إلى القول بحرمة التأمين التجاري. ثالثا: مناشدة الدول بتكثيف إيجاد شركات التأمين التعاوني بصفتها المعتبرة شرعا، ثم تجسيد ذلكم البديل، شركات التأمين التعاوني على ما هو مقرر لدى المجامع السابقة في هذا. وبهذا نكون انتهينا من بحثنا في هذا الموضوع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم 2 بشأن التأمين وإعادة التأمين أما بعد: فإن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 – 16 ربيع الثاني 1406 هـ/22 – 28 ديسمبر 1985م. بعد أن تابع العروض المقدمة من العلماء والمشاركين في الدورة حول موضوع "التأمين وإعادة التأمين". وبعد أن ناقش الدراسات المقدمة. وبعد تعمق البحث في سائر صوره وأنواعه، والمبادئ التي يقوم عليها والغايات التي يهدف إليها. وبعد النظر فيما صدر عن المجامع الفقهية والهيئات العلمية بهذا الشأن. قرر: 1 – أن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد. ولذا فهو حرام شرعا. 2 – أن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون. وكذلك الحال بالنسبة لإعادة التأمين القائم على أساس التأمين التعاوني. 3 – دعوة الدول الإسلامية للعمل على إقامة مؤسسات التأمين التعاوني، وكذلك مؤسسات تعاونية لإعادة التأمين، حتى يتحرر الاقتصاد الإسلامي من الاستغلال ومن مخالفة النظام الذي يرضاه الله لهذه الأمة. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائد الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. وبعد فهذا بحث عن: حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائد: أقدمه لمجمع الفقه الإسلامي استجابة لطلبه: الفائدة التي تتعامل بها البنوك من ربا القرض الثابت تحريمه بالكتاب والسنة والإجماع، وإليكم البيان: 1 – أنواع الربا: الربا نوعان: الأول ربا الديون، ويشمل ربا الجاهلية وربا القرض، والثاني ربا البيوع. ويشمل ربا النسيئة وربا الفضل. 2 – ربا الجاهلية: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . (1) هذه الآية هي أول ما نزل في تحريم الربا، والمراد بالربا فيها ربا الجاهلية المعهود عند المخاطبين عند نزول الآية، وهو كما يقول ابن جرير الطبري: " أن الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه، فيقول الذي عليه المال: أخر عني دينك وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك.. " روى هذا التفسير لربا الجاهلية عن عطاء ومجاهد وقتادة. (2) ويقول القرطبي: " أن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك فكانت إذا حل دينها قالت للغريم: إما أن تقضي وإما تربي. (3) . فربا الجاهلية على هذا التفسير كان في اقتضاء الدين بعد حلول الأجل. والدين قد يكون أصله بيعا إلى أجل، وقد يكون قرضا بزيادة أو بغير زيادة، فإذا حل الأجل طالب البائع أو المقرض المدين فإن لم يكن عنده ما يفي به اتفقا على أن يمد الدائن الأجل ويزيد المدين المال، وهكذا عند حلول كل أجل.   (1) سورة آل عمران 130. (2) تفسير الطبري 6/8/ و 7/204 وانظر تفسير المنار 4/123. (3) تفسير القرطبي 3/356، وانظر أيضا تفسير المنار 4/124 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 3 – ربا القرض: ربا القرض هو القرض الذي تكون فيه منفعة للمقرض مشروطة في العقد، وصوره كثيرة: منها أن يقرضه مالا على أن يرد له أكثر منه. (1) وهذه هي الصورة المألوفة التي يتعامل بها الأفراد والبنوك وهي القرض بفائدة. 4 – هل يدخل ربا الفضل في ربا الجاهلية؟ ما نقلته عن الطبري في تصوير ربا الجاهلية لا يدخل فيه ربا القرض الذي تكون فيه الزيادة مشروطة في العقد الأول؛ لأنه كله في اقتضاء الدين بعد حلول الأجل. وعلل الشيخ محمد رشيد رضا هذا بقوله: "وكأنهم كانوا يكتفون في العقد الأول بالقليل، فإذا حل الأجل، ولم يقض المدين، وهو في قبضتهم اضطروه إلى قبول التضعيف في مقابلة الإنساء ". ثم قال " وما قالوه – الطبري وغيره – هو المروي عن عامة أهل الأثر، ومنه عبارة الإمام أحمد الشهيرة، وهي أنه لما سئل عن الربا الذي لا يشك فيه قال: هو أن يكون دين فيقول له: أتقضي أم تربي؟ فإن لم يقض زاده في المال، وزاده هذا في الأجل". (2) . 5 – بعض ربا القرض يدخل في ربا الجاهلية قطعا: التصوير الذي ذكره الطبري لربا الجاهلية وارتضاه الشيخ محمد رشيد رضا تدخل فيه صورة من صور ربا القرض قطعا، وهي إذا أقرضه مبلغا ثم طالبه به عند حلول الأجل فأمهله نظير زيادة يدفعها إليه المقترض، فإن هذه الصورة هي ربا الجاهلية بعينه، ويقابلها في التعامل المصرف المعاصر ما يعرف بالربح المركب، أو الفوائد على الفوائد، أو الفوائد التأخيرية، وقد أشار إلى هذه المعاملة الشيخ محمد رشيد رضا (3) ، والدكتور السنهوري. (4) 6 – بعض الروايات تجعل ربا القرض في صورته البسيطة من ربا الجاهلية تصور بعض الروايات ربا الجاهلية تصويرا ينطبق تمام الانطباق على القرض بزيادة مشروطة في القرض أو القرض بفائدة وهو ربا القرض: يقول أبو بكر الجصاص: " والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به ". ويقول أيضا: " ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط الزيادة ... " (5) ويقول في موضع آخر: " معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلا من الأجل ". (6)   (1) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 3/408 و 4/225 وفتح القدير 5/274. (2) تفسير المنار 4/124 (3) تفسير المنار (4) مصادر الحق 3/269 (5) أحكام القرآن 1/552 (6) أحكام القرآن 1/554. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 ويقول الإمام فخر الدين الرازي: " اعلم أن الربا قسمان: ربا النسيئة وربا الفضل، أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهورا متعارفا في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا، ويكون رأس المال باقيا ثم إذا حل الدين طالبوا المدين برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به ". (1) ويقول الألوسي: " روى غير واحد أنه كان الرجل يربي إلى أجل، فإذا حل قال للمدين: زدني في المال وأزيدك في الأجل فيفعل، وهكذا عند كل أجل فيستغرق بالشيء الضعيف ماله بالكلية فنهوا عن ذلك ". (2) فهذه الروايات صريحة في أن ربا الجاهلية كان يأخذ شكل القرض بزيادة كما يأخذ شكل الزيادة في الدين عند حلول الأجل إذا لم يكن عند المدين ما يفي به، ثم تتكرر الزيادة بتكرر التأخير في الأجل، وعلى هذا فحكم الزيادة في القرض عند العقد الأول – ربا القرض – وحكم الزيادة بعد حلول الأجل – ربا الجاهلية – واحد أو إن شئت فقل: إن ربا القرض من ربا الجاهلية، والنوعان يطلق عليهما ربا الديون، ويطلق عليهما بعض العلماء ربا النسيئة، كما رأينا في عبارة الفخر الرازي. 7– حكم ربا الديون: حكم ربا الديون ويشمل كما قلنا ربا الجاهلية وربا القرض، هو الحرمة، وهذا الحكم ثابت بالقرآن والسنة والإجماع. أما القرآن فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} . (3) وعبارة {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} ليس المراد منها تقييد الربا المنهي عنه بالأضعاف المضاعفة، وإنما المراد منها بيان الواقع. (4) وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . (5) قال ابن جرير الطبري: " أن الذين كانوا يأكلون الربا من أهل الجاهلية كان إذا حل مال أحدهم على غريمه يقول الغريم لغريم الحق: زدني في الأجل وأزيدك في مالك، فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك: هذا ربا لأجل، فإذا قيل لهما ذلك قالا: سواء علينا زدنا أول البيع، أو عند محل المال، فكذبهم الله في قيلهم فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . يعني وأحل الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع، وحرم الربا، يعني الزيادة التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل وتأخيره دينه عليه ". (6) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . (7) قال ابن جرير الطبري: " ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم أسلموا ولهم على قوم أموال من ربا كانوا قد قبضوا بعضه منهم ... وبقي بعض فعفا الله جل ثناؤه عما كانوا قد قبضوا قبل نزول الآية، وحرم عليهم اقتضاء ما بقي " (8) ثم جاء قوله تعالى {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (9)   (1) مفاتيح الغيب 2/370. (2) روح المعاني 4/49. (3) سورة آل عمران 130. (4) روح المعاني 4/69. (5) سورة البقرة 275. (6) تفسير القرطبي 6/12 ر 13. (7) سورة البقرة 278. (8) تفسير القرطبي 6/22. (9) سورة البقرة 279. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 مبينا بيانا شافيا أن أخذ أي زيادة على رأس المال ظلم منهي عنه. وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)) . (1) واضح أن هذه السنة مؤكدة لما في القرآن من تحريم أخذ أي زيادة على رأس المال. ومن السنة ما روي عن علي رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة، وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل قرض جر منفعة فهو ربا)) (2) وهذا الحديث وإن كان في سنده مقال إلا أن معناه يؤيده القرآن، ولهذا فقد اتفقت المذاهب الأربعة على العمل به. وأما الإجماع فقد نقل عدد من العلماء الإجماع على تحريم ربا الديون بنوعيه ربا الجاهلية وربا القرض. قال ابن رشد: " واتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين: في البيع، وفيما تقرر في الذمة من بيع أو سلف أو غير ذلك، فأما الربا فيما تقرر في الذمة فهو صنفان متفق عليه وهو ربا الجاهيلة الذي نهى عنه، وذلك أنهم كانوا يسلفون بالزيادة وينظرون فكانوا يقولون: أنظرني أزدك، وهذا هو الذي عناه عليه الصلاة والسلام بقوله في حجة الوداع: " ألا وأن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب ". (3) وقال النووي: " أجمع المسلمون على تحريم الربا وعلى أنه من الكبائر ". (4) ويقول ابن قدامة: " وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بلا خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا ". (5) ويقول القرطبي: "أجمع المسلمون نقلا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا. ولو كان قبضة من علف كما قال ابن سعود، أو حبة واحدة ". (6)   (1) السيرة النبوية لابن هشام القسم الثاني 603. (2) نيل الأوطار 5/246 وانظر أيضا سبل السلام (3) بداية المجتهد 2/128. (4) المجموع 9/442. (5) المغني مع الشرح الكبير 4/360. (6) تفسير القرطبي 3/241. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 8 – النوع الثاني: ربا البيوع عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كانت يدا بيد)) . رواه أحمد ومسلم. (1) بين الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وغيره من الأحاديث الصحيحة الأصناف التي يجري فيها ربا البيوع وحكمه، وقد أجمع الفقهاء على جريان ربا البيوع في هذه الأصناف الستة الواردة في الحديث، واختلفوا في جريان الربا في غيرها، ولكنهم اختلفوا في تحديد الأصناف التي تلحق بها بسبب اختلافهم في علة جريان الربا في الأصناف الستة. (2) وربا البيوع يشمل كما قلنا ربا النسيئة وربا الفضل، فإذا بيع الصنف بصنفه حرم فيه النساء والتفاضل، أي التأخير والزيادة، وإذا بيع الصنف بصنف آخر حرم النساء وجاز التفاضل، وقد أجمع العلماء على هذا الحكم عملا بحديث عبادة، إلا ما روي عن ابن عباس من إنكاره الربا في التفاضل. (3) 9 – ربا البيوع لا يجري إلا في الأموال الربوية وربا الديون يجري فيها وفي غيرها: يتبين مما ذكرناه أن ربا البيوع في الأموال الربوية وحدها، وهي الأصناف الستة وما يلحق بها عند جمهور الفقهاء، أما ربا الديون فيجري في الأموال الربوية وفي غيرها باتفاق الفقهاء، وهذا فارق هام بين نوعي الربا ترتب على عدم مراعاته خطأ جسيم وقع فيه بعض الباحثين، فأجازوا الفائدة التي تتعامل بها البنوك بكل صورها ومقاديرها على أساس أن النقود الورقية التي نتعامل بها في الوقت الحاضر ليست من الأموال الربوية.   (1) منتقى الأخبار مع نيل الأوطار 5/202. (2) ينظر تفصيل ذلك مع باقي الأحاديث في نيل الأوطار 5/204 وما بعدها. (3) بداية المجتهد 2/128. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 ونورد فيما يلي النصوص التي تثبت أن ربا الديون – ومنه الفوائد التي تتعامل بها البنوك –يجري في الأموال الربوية وفي الأموال غير الربوية. روي عن زيد أنه كان يقول: إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن (1) يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل يقول له: تقضيني أو تزيدني أن كان عنده شيء يقضيه قضى وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك أن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثم حقة، ثم جذعة، ثم رباعيا، ثم هكذا إلى فوق، وفي العين (2) يأتيه فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا، فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة أو يقضيه، قال: فهذا قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} . (3) فهذا نص صريح في أن ربا الجاهلية كان في الذهب والفضة وفي الحيوان أيضا. أما ربا القرض فيجري في كل ما يجوز فيه القرض، سواء أكان من الأموال الربوية أم من غيرها. وإليكم هذه النصوص من كتب الشافعية: يقول الشيرازي: " يجوز قرض كل مال يملك بالبيع ويضبط بالوصف؛ لأنه عقد تمليك يثبت العوض فيه في الذمة فجاز فيما يملك ويضبط بالوصف كالسلم، فأما ما لا يضبط بالوصف كالجواهر وغيرها ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز؛ لأن القرض يقتضي رد المثل، وما لا يضبط بالوصف لا مثل له، والثاني يجوز؛ لأن ما لا مثل له يضمنه المستقرض بقيمته. والجواهر كغيرها في القيمة". (4) ويقول الشيرازي أيضا: "ولا يجوز قرض جر منفعة مثل أن يقرضه ألفا على أن يرد عليه أكثر منه ". (5)   (1) أي العمر يريد بها أسنان الإبل. (2) فسر الشيخ محمد شاكر العين بالذهب والفضة وأشباهها. (3) تفسير الطبري 7/205. (4) المهذب 1/203 وانظر أيضا نهاية المحتاج 4/220. (5) المهذب 1/204. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 وهذا صريح في أن ربا القرض يجري في الأموال الربوية وفي غيرها. ويقول الرملي المتوفى 1004 هـ في شرحه لعبارة النووي "ويرد المثلي في المثلي": " لأنه أقرب إلى حقه، ولو في نقد بطلت المعاملة به، فيشمل ذلك ما عمت به البلوى في زماننا في الديار المصرية من إقراض الفلوس الجدد ثم إبطالها وإخراج غيرها وإن لم تكن نقدا " (1) ويقول أيضا: ولا يجوز قرض نقد أو غيره أن اقترن بشرط رد زيادة على القدر المقرض. (2) وعلى هذا فربا القرض لا يجوز في مذهب الشافعية كما لا يجوز عند غيرهم سواء أكان المال ربويا أم غير ربوي. هذا وفي قوله تعال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} ما يفيد أن ربا الديون الذي وردت فيه الآية يكون في كل مال، والنقود الورقية مال من غير شك. يتضح مما تقدم أن الفائدة التي تدفعها البنوك عند الاقتراض من الغير والفائدة التي تأخذها عند قرض الغير ربا محرم بإجماع المسلمين سواء اعتبرنا النقود الورقية من الأموال الربوية – وهو الحق – أو لم نعتبرها؛ لأن هذه الفائدة من ربا الديون وليست من ربا البيوع، ولا يشترط في ربا الديون أن يكون المال من الأصناف الستة الربوية أو ما يلحق بها. وتشمل الحرمة كل أنواع التعامل بفائدة، فتشمل القرض بفائدة قليلة أو كثيرة، بسيطة أو مركبة، كما تشمل القرض للاستهلاك والقرض للانتاج (التمويل) وتشمل أيضا فتح الاعتماد بفائدة وتشمل أيضا خصم الأوراق التجارية؛ لأن هذه العملية في حقيقتها قرض بفائدة، فالبنك عندما يتسلم الورقة التجارية التي تكون مستحقة الدفع بعد شهر ويدفع لصاحبها أقل من قيمتها، كأنه يقرض صاحبها مبلغا ليأخذ أكثر منه بعد شهر. والله أعلم.   (1) نهاية المحتاج 4/223. (2) نهاية المحتاج 4/225. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائد فضيلة الشيخ محمد علي عبد الله المراد هنا من كلمة الفوائد لغة الزيادة التي تحصل للإنسان من مال أو علم، وهي عبارة عن ربح المال في زمن محدد وبسعر محدد. ونحن نعلم أن الربا يعتبر من البيوعات الفاسدة المنهي عنها نهيا مغلظا ويعبر عن الربا بالزيادة. وذلك لقوله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أي علت وارتفعت. وقوله تعالى: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أي أكثر عددا. وقد عرف الفقهاء الربا اصطلاحا بأنه زيادة أحد البدلين المتجانسين من غير أن يقابل هذه الزيادة عوض. وينقسم الربا المشار إليه إلى قسمين: 1 – ربا النسيئة. 2 – ربا الفضل. ويعتبر ربا النسيئة أكثر رواجا في عصرنا الحاضر وهو الذي تتعامل به المصارف في وقتنا هذا. ويقصد بربا النسيئة زيادة أحد البدلين المتجانسين مقابل تأخير الدفع. وهو على عموم الفقهاء كبيرة من الكبائر، حرمه الله تعالى بقوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . والربا المقصود به هنا هو الربا المعروف لدى العرب في الجاهلية؛ إذ كان العربي في ذلك العصر إذا داين شخصا لأجل وحل موعده فإنه يقول لمدينه: أعط الدين أو أرب، أي إما أن تعطي الدين أو تؤخره بالزيادة، ومثاله أيضا ما كان متعارفا عندهم من أن يدفع أحدهم للآخر مالا لمدة ويأخذ كل شهر قدرا معينا، فإذا حل موعد الدين ولم يستطع المدين أن يدفع رأس المال أجل له مدة أخرى بالفائدة التي يأخذها منه وهو الربا الغالب في عصرنا، تتعامل به أغلبية المصارف العصرية من إعطاء ما يؤجل بفائدة سنوية أو شهرية على حسب المائة. وهذا النوع من الربا حرمه الله عز وجل ونهى عنه كافة الأمم؛ لما فيه من إرهاق المضطرين، والقضاء على عوامل الرفق والرحمة بين الناس كما ينزع التعاون والتناصر بين الناس. فيصبح الإنسان ماديا يستغل أخاه ويرده إلى أرذل العمر. رغم أن الله تعالى قد أوصى الأغنياء بالفقراء وجعل لهم حقا معلوما في أموالهم. وشرع القرض لإغاثة الملهوفين وإعانة المضطرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 وقد ورد النهي عن الربا في آية آل عمران في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . فالله تعالى في هاته الآية الكريمة يلفت نظر المرابين لما قد يؤول إليه أمر الربا من حصر الأموال في فئة المرابين مع تحطيم المدين وذلك بإضعاف ماله من جراء تراكم فوائد الربا، وعندما يصبح عاجزا عن تسديد ديونه يقع الحوز على بقية أمواله وبذلك يقع القضاء على ما بقي في المدين من حياة. ومن الملاحظ أن بعض الفقهاء أردف بأن القرض بفائدة يعد ربا وبالتالي اقتراض المال مع التسديد بفائدة لا يعد بيعا. في حين أن الربا عقد بيع لا بد له من صيغة أو ما يقوم مقامها. وقد أردف عليهم جمهور الفقهاء بحجتهم على اعتبار أن القرض بالفائدة ينجر عنه أكل أموال الناس بالباطل وبالتالي فإن مضار الربا متوفرة فيه وعلى هذا الأساس تكون حرمته كحرمة الربا. والنوع الثاني من الربا هو ربا الفضل وهو بيع أحد الجنسين بمثله بدون تأخير في القبض وهذا النوع من الربا حرام أيضا. ومن الملاحظ أن مثل هذا الربا ليس له تأثير في المعاملة لقلة وقوعه. وخلاصة القول أن تعامل المصرفي المعاصر بالفوائد يدخل ضمن البيوع الفاسدة التي تقوم على الربا وهذا حرام، والله جل جلاله جعل المرابين خارجين عليه، ومحاربين له ولرسوله، ومن يقدم على ذلك فإنه يعرض نفسه للتهلكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائد الدكتور علي أحمد السالوس محتوى البحث - تقديم. - وظيفة البنك. - ودائع البنوك عقد قرض شرعا وقانونا. - القرض الاستهلاكي والقرض الإنتاجي. - القرض الإنتاجي الربوي وشركة المضاربة. - الفرق بين القرض والمضاربة. - الثابت والمتطور في القرض والمضاربة. - النص والاجتهاد في المضاربة. - ابن تيمية يبين أن المضاربة ثابتة بالسنة. - هل البنك فقير حتى نقرضه؟ - هل الربا يحل بالعادة.. والرضا والاستفادة؟! - المنفعة للمقرض. - الأدلة من كتب السنة. - دفتر التوفير. - الإقراض العادي والإقراض بفتح الاعتماد. - خصم الأوراق التجارية قرض ربوي. - الخاتمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 بسم الله الرحمن الرحيم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تقديم الحمد لله، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستهديه ونسأله عز وجل العون والرشاد، وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل. والصلاة والسلام على الرسول المصطفى خير البشر، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين. أما بعد: فمن المعلوم أن المعاملات في الإسلام تجمع بين الثبات والتطور، فالربا والغش والاحتكار من الأشياء التي حرمها الإسلام منذ أربعة عشر قرنا، وهي حرام إلى يوم القيامة، في كل زمان وفي كل مكان، مهما اختلفت الصور والأشكال. فليس لأحد أن يحل صورة مستحدثة أو شكلا جديدا ما دام في جوهره يدخل تحت ما حرمه الله سبحانه وتعالى. والبيع حلال إلى يوم يبعثون، ولكن نقود اليوم ليست كنقود عصر التشريع، ومن سلع اليوم ما لم يعرفه العالم من قبل، واستحدثت أشكال يتعامل بها الناس في بيوعهم. وما دام البيع يخلو من المحظور فليس لأحد أن يقف به عند شكل تعامل به المسلمون في عصر معين. لهذا كان من الضروري لمن يدرس فقه المعاملات المعاصرة أن يميز بين الثابت والمتطور، وأن ينظر إلى التكييف الشرعي للصور المستحدثة حتى يمكن بيان الحكم الشرعي، وأضرب هنا هذا المثال: من أحدث ما توصلت إليه بعض البنوك الربوية أنها جعلت راتبا شهريا لمن يودع لديها مبلغا معينا، وحددت الراتب تبعا لمقدار ما يودع. ويعلن عن هذا النوع من التعامل في الصحف دعوة وترغيبا للناس. وإذا تركنا هذه المؤسسة الحديثة بمشروعها المستحدث ونظرنا إلى المعاملات في العصر الجاهلي وجدنا من صور الربا صورة اشتهرت بين الناس، وهي: أن يدفع أحدهم ماله لغيره إلى أجل، على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا، ورأس المال باق بحاله. وإذا نظرنا إلى ما قبل العصر الجاهلي وجدنا هذه الصورة في الدولتين الإغريقية والرومانية فقد جرى العرف في كلتا الدولتين بأن الفائدة السنوية يؤديها المدين على أقساط شهرية! (انظر دراسات إسلامية لأستاذنا الجليل المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز – ص 150) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 فودائع البنوك ذات الراتب الشهري صورة (طبق الأصل) لتعامل ربوي اشتهر بين أهل الجاهلية، وعند الإغريق والرومان. فمن قال بتحريم فوائد هذه الودائع فقد أصاب، حيث رد الصورة إلى أصلها الجاهلي. ومن ذهب إلى التحصيل فربما لم ينظر نظرة عميقة فاحصة. وإني إذ أتشرف بتقديم هذا البحث لمؤتمركم الموقر أرجو ألا أكون قد جاوزت الحد إذا جرى القلم بذكر بعض الفتاوى الشرعية، فإن البحث إنما قدم ليقول السادة العلماء الأجلاء كلمتهم ويصدروا فتواهم، غير أني أشير إلى فتاوى سبقت لعدد من المؤتمرات، ولمؤتمركم هذا أن يصدر ما يؤكدها ويدعمها أو يعارضها. نسأل الله عز وجل التوفيق والسداد، وأن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يجعل هذا المؤتمر مباركا طيبا، معليا لكلمته، داحضا للباطل، مبطلا للشبه التي يثيرها المثيرون. {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} ولله الحمد في الأولى والآخرة، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى. وظيفة البنك كلمة " البنك " من الألفاظ التي أقرها مجمع اللغة العربية، وجاء التعريف في معجمه الوسيط بقوله: (البنك) : مؤسسة تقوم بعمليات الائتمان بالاقتراض والإقراض. وهذا التعريف يبين وظيفة البنك، وهو يتفق مع تعريف رجال الاقتصاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 عرف أحد أساتذة الاقتصاد البنك بقوله: "يمكن تعريف البنك بأنه المنشأة التي تقبل الودائع من الأفراد والهيئات تحت الطلب أو لأجل، ثم تستخدم هذه الودائع في منح القروض والسلف ". وتحدث أستاذ آخر عن أعمال البنوك فقال: " يمكن تلخيص أعمال البنوك التجارية في عبارة واحدة هي: التعامل في الائتمان أو الاتجار في الديون: إذ ينحصر النشاط الجوهري للبنوك في الاستعداد لمبادلة تعهداتها بالدفع لدى الطلب بديون الآخرين، سواء أكانوا أفرادا أم مشروعات أم حكومات. ويقبل الأفراد هذه التعهدات المصرفية. وهي التي تعرف باسم الودائع الجارية – في الوفاء بما تزودهم به البنوك من اعتمادات وسلف نظرا لما يتمتع به التعهد المصرفي بالدفع لدى الطلب من قبول عام في تسوية الديون. وهكذا تتوصل البنوك التجارية إلى مزاولة نشاطها الذي تبرز به وجودها وتستمد من القيام به أرباحها، بالاضطلاع تارة بمركز الدائن، وتارة بمركز المدين " اهـ. (التعريف الأول للدكتور إسماعيل محمد هاشم. انظر كتابه مذكرات في النقود والبنوك ص 43. والأستاذ الآخر هو الدكتور محمد زكي شافعي – راجع كتابه: مقدمة في النقود والبنوك ص 197) . البنك إذن تاجر ديون، والفوائد التي يدفعها ترجع إلى مقدار الدين. والزمن الذي يمكثه هذا الدين، ومعظم كسب البنوك من هذه الفوائد، حيث تأخذ قروضا بسعر أقل مما تقرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 ودائع البنوك عقد قرض شرعا وقانونا ذهب أكثر من تكلم عن ودائع البنوك إلى أنها تعتبر قرضا، ويشيع بين آخرين أنها وديعة، حيث يقال: نحن لا نقرض البنك وإنما نودع لديه. وذهب بعض من أراد أن يستحل فوائد البنوك إلى القول بأن هذه الفوائد تعتبر أجرا لاستعمال النقود أي أن الودائع تدخل تحت عقد الإجارة. ولعل من المفيد هنا أن نذكر ما يبين الفرق بين العقود الثلاثة كما جاء في الفقه الإسلامي: عقد القرض ينقل الملكية للمقترض، وله أن يستهلك العين، ويتعهد برد المثل لا العين. والمقترض ضامن للقرض إذا تلف أو هلك أو ضاع، يستوي في هذا تفريطه وعدم تفريطه. أما الوديعة فهي أمانة تحفظ عند المستودع. وإذا هلكت فإنما تهلك على صاحبها لأن الملكية لا تنقل إلى المستودع، وليس له الانتفاع بها، ولذلك فهو غير ضامن لها إلا إذا كان الهلاك أو الضياع بسبب منه. والعقد الثالث وهو الإجارة: فمن المعلوم أنه لا ينقل الملكية للمستأجر وإنما يعطيه حق الانتفاع مع بقاء العين لصاحبها ويدفع أجرا مقابل هذا الانتفاع , ولذلك يطلق على الإجارة " بيع المنافع " فتجوز إجارة كل عين يمكن أن ينتفع بها منفعة مباحة مع بقاء العين بحكم الأصل، ولا تجوز إجارة ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالطعام، فلا ينتفع به إلا باستهلاكه، والإجارة عقد على المنافع، فلا تجوز لاستيفاء عين واستهلاكها، ومثل الطعام النقود، فلا يمكن الانتفاع بها إلا بإنفاقها في الشراء أو غيره، أي باستهلاك العين، والعين المستأجرة أمانة في يد المستأجر، أن تلفت بغير تفريط لم يضمنها. وفي ضوء ما سبق يمكن القول بأن ودائع البنوك سميت بغير حقيقتها فهي ليست وديعة؛ لأن البنك لا يأخذها كأمانة يحتفظ بعينها لترد إلى أصحابها، وإنما يستهلكها في أعماله ويلتزم برد المثل. وهذا واضح في الودائع التي يدفع البنك عليها فوائد، فما كان ليدفع هذه الفوائد مقابل الاحتفاظ بالأمانات وردها إلى أصحابها. أما الحسابات الجارية فمن عرف أعمال البنوك أدرك أنها تستهلك نسبة كبيرة من أرصدة هذه الحسابات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 كما أن البنك في جميع الحالات ضامن لرد المثل، فلو كانت وديعة لما كان ضامنا، ولما جاز له استهلاكها. ومن الواضح الجلي أن ودائع البنوك لا تدخل في باب الإجارة، ويكفي أن ننظر إلى طبيعة النقود، وإلى عملية الإيداع من حيث الملكية والضمان والاستهلاك. ولم يبق إلا القرض وهو ينطبق تماما على عقد الإيداع. وإذا نظرنا إلى القانون نجد أن تشريعات معظم الدول العربية تعتبر هذه الودائع قرضا، قال العلامة الأستاذ الدكتور عبد الرازق السنهوري في كتابه (الوسيط في شرح القانون المدني) : " ويتميز القرض عن الوديعة في أن القرض ينقل ملكية الشيء المقترض إلى المقترض على أن يرد مثله في نهاية القرض إلى المقرض، أما الوديعة فلا تنقل ملكية الشيء المودع إلى المودع عنده بل يبقى ملك المودع ويسترده بالذات. هذا إلا أن المقترض ينتفع بمبلغ القرض بعد أن أصبح مالكا له، أما المودع عنده فلا ينتفع بالشيء المودع بل يلتزم بحفظه حتى يرده إلى صاحبه. ومع ذلك فقد يودع شخص عند آخر مبلغا من النقود أو شيئا آخر مما يهلك بالاستعمال ويأذن له في استعماله، وهذا ما يسمى بالوديعة الناقصة. وقد حسم التقنين المدني الجديد الخلاف في طبعية الوديعة الناقصة، فكيفها بأنها قرض. وتقول المادة 726 مدني في هذا المعنى: إذا كانت الوديعة مبلغا من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال، وكان المودع عنده مأذونا له في استعماله اعتبر العقد قرضا. أما في فرنسا فالفقه مختلف في تكييف الودائع الناقصة. والرأي الغالب هو الرجوع إلى نية المتعاقدين. فإذا قصد صاحب النقود أن يتخلص من عناء حفظها بإيداعها عند الآخر فالعقد وديعة. أما أن قصد الطرفان منفعة من تسلم النقود عن طريق استعمالها لمصلحته فالعقد قرض. ويكون العقد قرضا بوجه خاص إذا كان من تسلم النقود مصرفا " (5/428- 429) وقال بعد ذلك في حديث عن صور مختلفة لعقد القرض: " وقد يتخذ القرض صورا مختلفة أخرى غير الصور المألوفة.. من ذلك إيداع نقود في مصرف، فالعميل الذي أودع النقود هو المقرض، والمصرف هو المقترض، وقد قدمنا أن هذه وديعة ناقصة وتعتبر قرضا " (5/435) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 ويقول الدكتور علي جمال الدين عوض في كتابه (عمليات البنوك من الوجهة القانونية) : إذا نظرنا إلى الحالة الغالبة للوديعة المصرفية وجدناها قرضا؛ لأن الوديعة تكون بقصد الحفظ والمودع لديه يقوم بخدمة للمودع، في حين أنه في القرض يستخدم المقترض مال غيره في مصالحه الخاصة، والتمييز دقيق بين كل من القرض والوديعة في العمل، فإذا وعد البنك برد النقود لدى الطلب فقد يمكن القول أن هناك وديعة؛ لأن الرد بمجرد الطلب يمنع البنك من استخدام النقود. ولذلك فهو يقوم بخدمة لعملائه ولا يعتبر مقترضا، لكن هذا لم يعد صحيحا اليوم إلا من الناحية النظرية، فإن البنوك إذ تقبل الودائع ترد لدى الطلب أو بعد مدة قصيرة من الطلب، فإن ذلك لا يمنعها من استخدام النقود في مصالحها، اعتمادا منها على أن المودعين لن يتقدموا جميعا لطلب الاسترداد دفعة واحدة في وقت واحد، وأن سحب بعض الودائع يؤدي إلى إيداع مبالغ جديدة، وأن الودائع الجديدة تستخدم في مواجهة طلبات الاسترداد، وأنه على أي حال إذا زاد القدر المطلوب على الموجود فعلا لدى البنك فإنه يستطيع بطرق متعددة الحصول على ما يلزمه لمواجهة الطلبات الجديدة، فضلا عن أن الوديعة بالمعنى الفني الدقيق التي تهدف إلى خدمة المودع تفرض في الواقع أن البنك المودع لديه لا يعطي فائدة عنه، بل فوق ذلك يتقاضى أجرا عن هذه الخدمة؛ لأن مجانية الإيداع التي يطلبها الفرد يصعب أن يقبلها البنك، كما أن القانون المدني لا يفترض في الوديعة أجرا إلا لصالح المودع لديه، في حين أن البنك لا يتلقى أي أجر عن عمله، بل إنه يعطي فائدة للعميل مقابل إبقاء النقود لديه. ولذلك يمكن القول بالنظر على الواقع أن الوديعة النقدية المصرفية في صورتها الغالبة تعد قرضا، وهو ما يتفق مع القانون المصري حيث تنص المادة 726 منه على ما يأتي: إذا كانت الوديعة مبلغا من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك باستعماله، وكان المودع عنده مأذونا له في استعماله اعتبر العقد قرضا. ويأخذ كثير من تشريعات البلاد العربية بهذه القرينة، أي ينص على أن البنك يمتلك النقود المودعة لديه، ويلتزم بمجرد رد مثلها من نفس النوع. (راجع ما كتبه عن طبيعة الوديعة النقدية المصرفية ص20-28 والجزء الذي نقلناه منه بتصرف من صفحات 22، 26، 27) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 بعد هذا كله نقول: أن ودائع البنوك تعتبر قرضا في نظر الشرع والقانون، والاتفاق هنا بين الشرع والقانون من حيث الحكم على الودائع بأنها قرض، وبعد هذا الاتفاق يأتي الاختلاف الكبير بين شرع الله تعالى في تحريم ربا الديون بصفة عامة وبين القانون الوضعي في إباحته هذا الربا بعد أن أسماه فوائد. ومن هنا ندرك سبب الفتوى التي أصدرها بالإجماع علماء المسلمين المشتركون في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بعد أن نظروا في الأبحاث المقدمة إليهم عن أعمال البنوك، ونص هذه الفتوى هي: " الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي، وما يسمى بالقرض الإنتاجي، وكثير الربا في ذلك وقليله حرام. والإقراض بالربا محرم، لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا حرام كذلك، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة، ووكل امرئ متروك لدينه في تقرير ضرورته. وإن أعمال البنوك في الحسابات الجارية، وصرف الشيكات وخطابات الاعتماد والكمبيالات الداخلية التي يقوم عليها العمل بين التجار والبنوك في الداخل، كل هذا من المعاملات المصرفية الجائزة، وما يؤخذ في نظير هذه الأعمال ليس من الربا. وإن الحسابات ذات الأجل، وفتح الاعتماد بالفائدة، وسار أنواع الإقراض نظير فائدة، كلها من المعاملات الربوية، وهي محرمة ". وبعد هذا المؤتمرعقدت عدة مؤتمرات، وبحث المجتمعون هذا الموضوع، وكلهم أجمعوا على أن فوائد البنوك من الربا المحرم. ثم كانت الخطوة الأخرى نحو دعم البديل الإسلامي وتحسينه، ونرى هذا مثلا في مقترحات وتوصيات المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي. ونرجو أن يكون مؤتمرنا هذا دعما وتقوية للمؤتمرات السابقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 القرض الاستهلاكي والقرض الإنتاجي في الفتوى السابقة لمجمع البحوث إشارة لعدم التفرقة بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي من حيث تحريم فوائد كلا النوعين من القروض. وإذا كان تحريم القروض الاستهلاكية أمرا لا خلاف حوله، فإن تحريم فوائد القروض الإنتاجية يجب أن تستقر عليه الفتوى، فهي القروض الربوية التي شاعت وانتشرت في العصر الجاهلي، ثم جاء الإسلام فحرم ربا الديون جميعها. وإذا نظرنا إلى البيئة العربية التي نزل فيها التحريم لم نكد نجد قرضا استهلاكيا، ذلك أن الربا قل أن يحتاج إلى هذا النوع من القروض: فالعرب في الصحراء كان غذاؤهم فيها بسيطا، فقليل من الشعير يكفيهم، وإذا أضيف التمر واللبن فذلك غذاء رافه، وكان لباسهم بسيطا كغذائهم، وهو ليس أكثر من ثوب طويل يضمه في وسطه منطقة، وقد تلفه عباءة، وغطاء للرأس يمسكه عقال ". " ولم تكن خصلة عندهم تفوق خصلة الكرم وقد بعثتها فيهم حياة الصحراء القاسية، وما فيها من إجداب وإمحال، فكان الغني بينهم يعطف على الفقير، كثيرا ما كان يذبح إبله في سنين القحط، يطعمها عشيرته، كما يذبحها قرير العين لضيفانه الذين ينزلون به أو تدفعهم الصحراء إليه. ومن سنتهم أنهم كانوا يوقدون النار ليلا على الكثبان والجبال؛ ليهتدي إليهم التائهون والضالون في الفيافي، فإذا وفدوا عليهم أمنوهم حتى لو كانوا من عدوهم ". (انظر كتاب: العصر الجاهلي للدكتور شوقي ضيف ص68، ص78) أما مكة في الجاهلية فكانت مدينة تجارية عظيمة، وأهلها اعتادوا القيام برحلتين تجاريتين: إحداهما إلى اليمن شتاء، والأخرى إلى الشام صيفا، وقد امتن الله عز وجل عليهم بهذا في سورة قريش كما هو معلوم. " وعقد عبد شمس معاهدة تجارية مع النجاشي، كما عقد نوفل والمطلب حلفا مع فارس ومعاهدة تجارية مع الحميريين في اليمن. وكذلك ازدادت مكة منعةو جاه كما ازدادت يسارا، وبلغ أهلها من المهارة في التجارة أن أصبحوا لا يدانيهم فيها مدان من أهل عصرهم. كانت القوافل تجيء إليها من كل صوب، وتصدر عنها في رحلتي الشتاء والصيف، وكانت الأسواق تنصب فيما حولها لتصريف هذه التجارة فيها، ولذلك مهر أهلها في النسيئة والربا، وفي كل ما يتصل بالتجارة من أسباب المعاملات " (حياة محمد للدكتور محمد حسين هيكل ص97) . من هنا نرى أن مثل هذا المجتمع العربي تندر فيه القروض الاستهلاكية، وتكثر القروض الإنتاجية للتجارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 القرض الإنتاجي الربوي وشركة المضاربة إلى جانب القرض الإنتاجي الربوي الذي شاع واستشرى في الجاهلية، وجد أيضا تعامل آخر للاستثمار وهو شركة المضاربة، أو ما يسمى بالقراض، وذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في شبابه وقبل زواجه من السيدة خديجة رضي الله عنها تعامل بهذه الشركة عندما تاجر في مالها. وعندما جاء الإسلام وحرم الربا، دخل القرض الإنتاجي الربوي في دائرة الحرام، وبقيت المضاربة حلالا، فتعامل بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع غيرها من طرق الاستثمار المشروعة، وأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم. والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الذي تعامل بالربا، وكان رباه أول ربا وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم، تعامل أيضا بالمضاربة، وكان يشترط على المضارب شروطا، إذا خالفها فهو ضامن، ويذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم رفع إليه شرط العباس فاجازه. (انظر المطالب العالية 1/419، والخبر سكت عليه البوصيري، ولكن في سنده مقال) . ومن المعلوم أن المضارب ليس بضامن إلا إذا خالف شروط العقد، أو فعل ما ليس من حقه أن يفعله، أو قصر أو فرط. ومن الذين تحدثوا عن الودائع، وعن بعض صورها مثل شهادات الاستثمار، وجدنا من يشير إلى شركة المضاربة، ومن يعتبر هذه المعاملات عقودا مستحدثة لها بالمضاربة شبه، ولكنها تختلف عنها بما لا يخالف كتابا ولا سنة، لهذا أحب أن نميز بين القرض الإنتاجي الربوي وشركة المضاربة، وأن ننظر إلى الثبات والتطور في هذين العقدين، قبل النظر في القول المذكور آنفا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 الفرق بين القرض والمضاربة القرض يحدد له فائدة ربوية تبعا للمبلغ المقترض، والزمن الذي يستغرقه القرض، كأن يكون 10 % من رأس المال سنويا، بغض النظر عما ينتج عن هذا القرض من كسب كثير أو قليل أو خسارة. أما المضاربة، فالربح الفعلي يقسم بين صاحب رأس المال والمضارب بنسبة متفق عليها، والخسارة من رأس المال وحده، ولا يأخذ في حالة عدم وجود ربح. والعلاقة بين صاحب القرض وآخذه ليست من باب الشركة، فصاحب القرض له مبلغ معين محدد ولا شأن له بعمل من أخذ القرض، ومن أخذ القرض يستثمره لنفسه فقط، حيث يملك المال ويضمن رد مثله مع الزيادة الربوية، فإن كسب كثيرا فلنفسه، وإن خسر تحمل وحده الخسارة. أما المضاربة فهي شركة، فيها الغنم والغرم للاثنين معا، فالمضارب لا يملك المال الذي بيده وإنما يتصرف فيه كوكيل عن صاحب رأس المال، والكسب مهما قل أو كثر يقسم بينهما بالنسبة المتفق عليها، وعند الخسارة يتحمل صاحب رأس المال الخسارة المالية، ويتحمل العامل ضياع جهده وعمله، ولا ضمان على المضارب كما ذكرنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 الثابت والمتطور في القرض والمضاربة الإسلام لا يبيح إلا القرض الحسن، سواء أكان القرض استهلاكيا أم إنتاجيا، وكل مال يدفع في مقابل الزمن الذي يستغرقه القرض فهو من ربا النسيئة. وإذا اتخذ القرض أشكالا مختلفة، وصورا متعددة، واستحدثت منه ما استحدث، فإنا ننظر في جوهره ومضمونه، ونلحقه بأصله، فإما أن يكون قرضا حسنا، وإما أن يكون قرضا ربويا. وفي بداية البحث أشرت إلى الرواتب الشهرية التي تدفعها البنوك الربوية لمن يودع لديها مبلغا من النقود، ورأينا أن هذا الشكل في مضمونه يعود إلى ربا الجاهلية، بل إلى ما قبل الجاهلية. ونضرب هنا مثلا آخر من أعمال البنوك وهو ما يعرف بالاعتماد المستندي، فالبنك يأخذ عمولة كأجر على أعماله التي يقوم بها لصالح عميله الذي يستفيد من فتح هذا الاعتماد، فالأجر هنا حلال؛ لانه في مقابل منفعة مشروعة، غير أن البنك عند فحص المستندات ودفع الثمن لمصدر السلع، قد لا تكفي الأموال التي أخذها من العميل ثمنا لهذه السلع، وعند ذلك يقوم البنك بدفع المبلغ الزائد، وهنا إذا كان البنك من البنوك الإسلامية، فإنه ينص صراحة على أن هذا المبلغ قرض حسن، أما إذا كان البنك ربويا فإنه يعتبر هذا المبلغ دينا على العميل بفائدة محددة، أي أن هذا يعتبر قرضا ربويا. والبنوك الربوية كما تقرض قروضا تأخذ الشكل العادي المعروف، فإنها تعطي قروضا في أشكال مستحدثة مثل ما يسمى بفتح الاعتماد (غير المستندي) ، وخصم الأوراق التجارية، والسحب على المكشوف ... إلخ. فكل هذه المعاملات في جوهرها قروض ربوية، والمضاربة في الأصل كانت صورة بدائية لا تكاد تزيد عن شركة بين اثنين: صاحب رأس المال والمضارب. وكانت تستخدم في التجارة في أشياء محدودة. ورأس المال كان من الدنانير الذهبية والدراهم الفضية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 غير أنها في جوهرها شركة، وليست علاقة دائن بمدين، ولهما شرطان مجمع علهما وهما ما أشرت إليهما في الربح والضمان. فإذا شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه مبلغا محددا من المال بطلت المضاربة. ومتى شرط على المضارب ضمان المال، أو سهما من الخسارة، فالشرط باطل بغير خلاف. والبنوك الإسلامية عندما أرادت أن تقدم تطبيقا عمليا للاستثمار الحلال المشروع، ابتعدت عن القرض الإنتاجي الربوي، وقامت على أساس شركة المضاربة الإسلامية، غير أن الشكل تطور دون مساس بالجوهر. فمجموع المودعين يمثل صاحب المال، والبنك يعتبر المضارب، ورأس المال لم يعد من الذهب والفضة، فقد تطورت النقود وأصبحت ورقية، ومجالات الاستثمار تعددت وتنوعت.. كل هذا التطور لا يمس الجوهر الثابت، فلا تزال شركة فيها الغنم والغرم، تحتفظ بالشرطين اللذين أجمعت عليهما الأمة طوال أربعة عشر قرنا. النص والاجتهاد في المضاربة قال أحد السادة العلماء: " لم يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أنه تكلم في موضوع المضاربة حتى قال الأئمة ورجال الحديث كالشوكاني في (نيل الأوطار) : ليس في المضاربة شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم سوى حديث ضعيف يقول أن فيها بركة، كما أثر عن الإمام ابن حزم أن كل أبواب الفقه لها أصل من الكتاب والسنة ما عدا القراض (المضاربة) فما وجدنا له أصلا البتة في الكتاب والسنة " أه. وأرى من اللازم هنا تكملة ما نقله الشوكاني عن ابن حزم حيث قال بعد الكلام السابق مباشرة: " ولكنه إجماع صحيح مجرد، والذي يقطع به أنه كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فعلم به وأقره ولولا ذلك لما جاز ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 بعد هذا أقول: إذا لم تصل إلينا سنة قولية أفليس التقرير من السنة؟ ثم هذا الإجماع الصحيح المجرد لم يخرج عليه أحد من الصحابة أو التابعين رضي الله عنهم، وأخذ به كل الأئمة المجتهدين، وأجمعت عليه الأمة مدة أربعة عشر قرنا، هذا الإجماع أليس حجة ملزمة ومصدرا من مصادر التشريع الإسلامي؟ ألنا اليوم أن نهدم مثل هذا الإجماع؟ ولننظر هنا إلى ما قاله إمام دار الهجرة في الموطأ (كتاب القراض – باب ما يجوز من الشرط في القراض، وباب ما لا يجوز) : قال رضي الله عنه في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا، واشترط عليه فيه شيئا من الربح خالصا دون صاحبه: أن ذلك لا يصلح، وإن كان درهما واحدا.. إلا أن يشترط نصف الربح له ونصفه لصاحبه، أو ثلثه أو ربعه، أو أقل من ذلك أو أكثر. فإذا سمى شيئا من ذلك، قليلا أو كثيرا، فإن كل شيء سمي من ذلك حلال، وهو قراض المسلمين. قال: " ولكن أن اشترط أن له من الربح درهما واحدا فما فوقه، خالصا دون صاحبه، وما بقي من الربح فهو بينهما نصفين، فإن ذلك لا يصلح، وليس على ذلك قراض المسلمين ". وتعبير الإمام مالك هنا " وهو قراض المسلمين مع كلمة حلال "، ثم تعبيره الآخر: " وليس على ذلك قراض المسلمين " يدل على أن القراض الحلال لا يكون فيه مبلغ محدد من المال ولو كان درهما واحدا. والصورة التي اعتبرها الإمام مالك مخالفة لما عليه المسلمون، لا تخرج عن الشركة، لكن درهما واحدا يمكن أن يبطلها ويخرجها عن دائرة الحلال. فكيف إذن بما لا يمكن أن يكون شركة فيها الغنم والغرم، وليس إلا قرضا استثماريا ربويا! ويرد هنا سؤال وهو أن ما ورد عن الصحابة الكرام، وأجمعوا عليه دون مخالف واحد، ألا يدخل في حكم المرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 أفيمكن أن يكون هذا الاجتهاد محضا أم أنهم أخذوه وفهموه من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أليسوا هم أدرى وأعلم بما أحل صلى الله عليه وسلم وبما حرم؟ والمضاربة ليست هي الشركة الوحيدة في الإسلام، فلننظر إلى الشركات المماثلة. قال ابن تيمية رحمه الله: " والمزارعة مشاركة، هذا يشارك بنفع بدنة، وهذا بنفع ماله، وما قسم الله من ربح كان بينهما كشريكي العنان ". ثم قال: " والمساقاة والمزارعة والمضاربة هما يشتركان في جنس المقصود، وهو الربح، مستويان في المغنم والمغرم، أن أخذ هذا أخذ هذا , وإن حرم هذا حرم هذا. ولهذا وجب أن يكون المشروط لأحدهما جزءا مشاعا من الربح من جنس المشروط للآخر، وأنه لا يجوز أن يكون مقدرا معلوما، فعلم أنها من باب المشاركة، كما في شركة العنان , فإنهما يشتركان في الربح. ولو شرط مال مقدر من الربح، أو غيره: لم يجز. وهذا هو الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المخابرة، كما جاء ذلك مفسرا في صحيح مسلم وغيره، عن رافع بن خديج، أنهم كانوا يكرون الأرض، ويشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها كما تنبت الماذيانات والجداول، فربما سلم هذا ولم يسلم هذا. ولهذا قال الليث بن سعد: أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المخابرة أمر إذا نظر فيه ذو البصر بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز. وهذا من فقه الليث الذي قال فيه الشافعي: كان الليث أفقه من مالك فإنه بين أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم موافق لقياس الأصول؛ لما فيه من أن يشترط لأحد الشريكين شيء معين من الربح. والشركة حقها العدل بين الشريكين فيما لهما من المغنم وعليهما من المغرم، فإذا خرجت كان ظلما محرما ". (مجمعوع الفتاوى 30/225 – 226) . قال ابن تيمية في موضع آخر: " في المزارعة ... يشتركان في المغنم وفي الحرمان كما في المضاربة، فإذا حصل شيء اشتركا فيه، وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان، وكان ذهاب نفع مال هذا في مقابلة ذهاب نفع بدن هذا. ولهذا لم يجز أن يشترط لأحدهما شيء مقدر من النماء، لا في المضاربة، ولا في المساقاة، ولا في المزارعة؛ لأن ذلك مخالف للعدل، إذ قد يحصل لأحدهما شيء والآخر لم يحصل شيء، وهذا هو الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي روي فيها أنه نهى عن المخابرة، أو عن كراء الأرض، أو عن المزارعة، كحديث رافع بن خديج وغيره: فإن ذلك قد جاء مفسرا بأنهم كانوا يعملون عليها بزرع بقعة معينة من الأرض للمالك، ولهذا قال الليث بن سعد: أن الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك أمر إذا نظر فيه ذو علم بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز ". (مجموع الفتاوى 25/16 – 62) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 قال ابن القيم رحمه الله: " المزارعة من جنس الشركة، يستويان في الغنم والغرم، فهي كالمضاربة ". وقال: " أصحاب الأرض كثيرا ما يعجزون عن زرعها ولا يقدرون عليه، والعمال والأكر يحتاجون إلى الزرع، ولا أرض لهم، ولا قوام لهؤلاء ولا هؤلاء إلا بالزراع، فكان من حكمة الشرع ورحمته بالأمة وشفقته عليها، ونظره لهم: أن جوز لهذا أن يدفع أرضه لمن يعمل عليها، ويشتركان في الزرع: هذا بعمله، وهذا بمنفعة أرضه، وما رزق الله فهو بينهما، وهذا في غاية العدل والحكمة، والرحمة والمصلحة.. كما في المضاربة والمساقاة ". (عون المعبود شرح سنن أبي داود 9/259، 260 – شرح الحافظ ابن القيم الجوزية بالحاشية) . المساقاة والمزارعة إذن شركتان كالمضاربة، فماذا جاء فيهما من النص؟ في نيل الأوطار تحت كتاب المساقاة والمزارعة جاءت عدة روايات، منها: ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع". وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر سألته اليهود أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها ولهم نصف الثمر، فقال لهم: ((نقركم بها على ذلك ما شئنا)) . وما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخل، قال: ((لا)) . فقالوا: تكفونا العمل ونشرككم في الثمرة، فقالوا: سمعنا وأطعنا. وما ذكره البخاري تعليقا ووصله عبد الرازق عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع. وهذه الروايات وغيرها تؤيد ما ذكره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم من قبل، ولكن إذا شرط أحد الشريكين شيئا لنفسه، فما حكم العقد؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 بعد الموضوع السابق من نيل الأوطار نجد "باب فساد العقد إذا شرط أحدهما لنفسه التبن أو بقعة بعينها ونحو" (5 – 309) . وتحت هذا الباب نقرأ ما يلي: عن رافع بن خديج قال: "كنا أكثر الأمصار حقلا، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، فأما الورق فلم ينهنا". أخرجاه. وفي لفظ: "كنا أكثر أهل الأرض مزدرعا، كنا نكري الأرض بالناحية منها تنمي لسيد الأرض، قال: فربما يصاب ذلك فتسلم الأرض، وربما تصاب الأرض ويسلم الأرض، فنهينا، فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ". رواه البخاري. وفي لفظ قال: "إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله بما على الماذيانات وأقبال الجداول , وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كري إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به". رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وفي رواية عن رافع قال: "حدثني عماي أنهما كانا يكريان الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله بما ينبت على الأربعاء وبشيء يستثنيه صاحب الأرض، قال: فنهى النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم عن ذلك". رواه أحمد والبخاري والنسائي. وفي رواية عن رافع "أن الناس كانو يكرون المزارع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم بالماذينانات وما يسقي الربيع وشيء من التبن، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كرى المزارع بهذا ونهى عنها". رواه أحمد. (الماذيانات: هي ما ينبت على حافة النهر ومسايل المياه، وهي في الأصل مسايل فسمى النابت عليها باسمها. الجدول والربيع: أي النهر الصغير، والجمع جداول وأربعاء) . من الروايات السابقة نرى فساد العقد إذا جعل لأحد الشريكين شيء معين، والحكمة هنا واضحة، وإن كان النص يتصل بالمزارعة والمساقاة، فكلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم واضح كل الوضوح، فلعل هذا النص كان أصلا أخذ به في المضاربة. وقد أشار إلى هذه الروايات المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الرحمن تاج في بحث قدمه للمؤتمر السابع لمجمع البحوث الإسلامية، ثم قال: "ومن هذا كله يتبين: أن اشتراط جزء معين من الخارج لصاحب الأرض في المزارعة لا يجوز، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه؛ لما يترتب عليه من الظلم، وعدم العدل بين الشريكين: صاحب الأرض، والعامل فيها، لجواز ألا تخرج الأرض غير ما اشترطه الأول لنفسه، فيضيع عمل العامل وجهده، على حين ينتفع الشريك الآخر وحده. فأما كراء الأرض بالذهب، أو الفضة، أو بشيء غيرهما ومضمون في الذمة، فلا شيء فيه ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 هذا هو ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ورواه أئمة الحديث: البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي، بألفاظ متحدة أو متقاربة، ولا يسع الفقهاء من مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، إلا أن يتبعوه ويقولوا به في المزارعة والمساقاة والمضاربة وسائر الشركات، فإن اشترط جزء معين من ربح ذلك وثمراته لأحد المتعاقدين، قد يؤدي إلى المعنى الذي من أجله ورد النهي، فإنه يخل بالمقصود من العقد، وهو الاشتراك في النتائج والثمرات. وإذا كان اشتراط جزء معين من الخارج، لصاحب الأرض في المزارعة، قد حظرته الشريعة ونهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لما فيه من الظلم والغبن بأحد الشريكين المتعاقدين على الاشتراك في الربح والخسارة، فلماذا يرد في وجه الأئمة الفقهاء قولهم بلزوم خلو العقد من ذلك الاشتراط الجائر الظالم؟ وهو لم يقولوه إلا تطبيقا للسنة الصحيحة وعملا بما تدل عليه نصوصها الصريحة! وكيف يسوغ من مطلع على نصوص الشريعة ومواردها، أن يقول اشتراط ربح محدود لرب المال في المضاربة: أنه جائز، غير مخالف لكتاب ولا سنة، وإن كان فيه مخالفة لأقوال الفقهاء؟ أو لا يكفي النص على حظر ذلك الاشتراط ومنعه في المزارعة، فيعلم أنه محظور وممنوع في المضاربة والمساقاة وغيرهما ممن فروع الشركات؟ وهل من حسن الظن بالشريعة العادلة أن يقال: " أنها تمنع من الظلم والجور في شركة المزارعة، وتبيح ذلك كله في شركة القراض " اهـ. وقال الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه " الحلال والحرام " (ص262) : "هذا الشرط المفسد للمزارعة بالنص الصريح، هو في رأيي أصل لإجماع الفقهاء على الاشتراط في المضاربة ألا يحدد نصيب لأحدهما يضمنه على كل حال، ربحت الصفقة أم خسرت. وتعليلهم فساد المضاربة هنا كتعليلهم فساد المزارعة هناك، فهم يقولون: إنه إذا شرط أحدهما دراهم معلومة احتمل ألا يربح غيرها فيحصل على جميع الربح، واحتمل ألا يربحها. وهذا تعليل موافق لروح الإسلام الذي يبني كل معاملاته على العدالة المحكمة الواضحة ". من هذا نرى تعدد الأدلة التي تبين بطلان عقد المضاربة إذا جعل لأي من الشريكين نصيب معلوم، فإلى جانب هذه الأحاديث الشريفة توجد السنة التقريرية والإجماع. غير أن المضاربة مع هذا الشرط الباطل لا تخرج عن كونها شركة، أما ودائع البنوك فليست من الشركة الصحيحة أو الباطلة، فعلاقة المودع والبنك لا تحرج عن كونها علاقة دائن ومدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 شيخ الإسلام ابن تيمية يبين أن المضاربة ثابتة بالسنة قرأت لابن تيمية بيانا لحجية الإجماع، ومما جاء فيه (الفتاوى جـ 19 ص 192) : الآية المشهورة التي يحتج بها على الإجماع قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [115: النساء] . وبعد أن ذكر الآراء المختلفة حول دلالة الآية الكريمة قال رحمه الله: "ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم وهذا ظاهر، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضا، فإنه قد جعل له مدخلا في الوعيد، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم. فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعا، والآية توجب ذم ذلك. وإذا قيل: هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول. قلنا: لأنهما متلازمان، وذلك أن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصا عن الرسول، فالمخالف لهم مخالف للرسول، كما أن المخالف للرسول مخالف لله، ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول، وهذا هو الصواب. فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص، وهو دليل ثان مع النص، كالأمثال المضروبة في القرآن، وكذلك الإجماع دليل آخر، كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع. وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها، فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة. وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه، ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص. وقد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجماع بلا نص كالمضاربة وليس كذلك، بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية لاسيما قريش، فإن الأغلب كان عليهم التجارة، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد سافر بمال غيره قبل النبوة كما سافر بمال خديجة، والعير التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره، فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة ولم ينه عن ذلك. والسنة: قوله وفعله وإقراره، فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة. والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في الموطأ، ويعتمد عليه الفقهاء، لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لابنيه، واتجرا فيه وربحا، وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيش، فقال له أحدهما: لو خسر المال كان علينا فكيف يكون لك الربح وعلينا الضمان؟ فقال له بعض الصحابة: اجعله مضاربة فجعله مضاربة. وإنما قال ذلك لأن المضاربة كانت معروفة بينهم، والعهد بالرسول قريب لم يحدث بعده. فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات كالخياطة والجزارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص، ولكن كان النص عند غيرهم. وابن جرير وطائفة يقولون: لا ينعقد الإجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول، مع قولهم بصحة القياس. ونحن لا نشرط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى كما تنقل الأخبار، لكن استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة، وكثير من العلماء لم يعلم النص، وقد وافق الجماعة، كما أنه قد يحتج بقياس وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع ". (مجموع فتاوى شيخ الإسلام 19/194 – 196) هل البنك فقير حتى نقرضه؟ يعجب كثير من الناس عندما يسمعون أن ودائع البنوك تعتبر قرضا، فالقرض إنما يكون للفقير المحتاج، والمودع قد يكون هو الفقير الذي ادخر أموالا قليلة بشق الأنفس للانتفاع بها في وقت آخر، أو لأي سبب من الأسباب، فكيف يقرض البنك صاحب الملايين؟! ويعترض بعض أهل العلم على جعل هذه الودائع من باب القرض؛ لأن القرض عقد إرفاق، والمتعاملون مع البنوك هنا إنما يريدون الإيداع والاستثمار، وليس الرفق بالبنوك والإحسان إليها! وعامة الناس معذورون، وخاصتهم قد يعذرون وقد لا يعذرون. وقبل أن أحاول إزالة هذه الشبهة أضع أمام القارئ المسلم ما يأتي: بعد أن قتل الزبير بن العوام – رضي الله عنه – ترك من بعده مالا كثيرا وفيرا، ووجدوا عليه دينا كبيرا! وقد أشار إلى هذه التركة وهذا الدين الإمام البخاري في صحيحه، وكثير غيره كما ذكر الحافظ في الفتح. قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (7/250) : "وقد كان الزبير ذا مال جزيل وصدقات كثيرة جدا، لما كان يوم الجمل أوصى إلى ابنه عبد الله، فلما قتل وجدوا عليه من الدين ألفي ألف ومائتي ألف، فوفوها عنه، وأخرجوا بعد ذلك ثلث ماله الذي أوصى به، ثم قسمت التركة بعد ذلك، فأصاب كل واحدة من الزوجات الأربع من ربع الثمن ألف ألف ومائتا ألف درهم.. فعلى هذا يكون جميع ما تركه من الدين والوصية والميراث تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف ". معنى هذا أن تركة الزبير رحمه الله ورضي عنه كانت كالآتي: مجموع الديون مليونان و200 ألف. نصيب الزوجات الأربع 4 ملايين و 800 ألف، ومن المعلوم أن نصيب الزوجة أو الزوجات (ثمن التركة) فتكون التركة المقسمة على الورثة 68 مليونا و 400 ألف، وهذا يعادل الثلثين، حيث أوصى بالثلث ومقداره 19 مليونا و 200 ألف، وبهذا تكون التركة بعد الديون 57 مليونا و600 ألف درهم وهنا يرد السؤال: من يملك هذه الثروة الضخمة كيف يستدين هذا الدين؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 ولنقرأ معا ما جاء في صحيح البخاري: " إنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف، فإني أخشى عليه الضيعة ". (راجع صحيح البخاري – كتاب فرض الخمس – باب بركة الغازي في ماله حيا وميتا، مع النبي صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر) مما رواه الإمام البخاري ترى أن الذين جاءوا بهذه الأموال أرادوا حفظها عند الزبير، أي أن تكون وديعة، فطلب منهم أن تكون سلفا لا وديعة وذكرنا الفرق بين الوديعة والقرض: فالوديعة لا يضمنها المودع لديه والقرض يضمنها المقترض، ولذلك قال الزبير: فإني أخشى عليه الضيعة، أي أنه طلب أن يكون ضامنا للمال باعتباره قرضا، ويقابل هذا الضمان أن يكون من حقه الاستفادة من هذا المال المقترض، فيحفظه بماله في التجارة وغيرها، أما الوديعة فتبقى كما هي لا يستفاد منها. ونترك تركة الزبير ودينه مؤقتا ونأتي إلى حكم من الأحكام الفقهية وهو " إقراض الولي مال اليتيم": مما جاء تحت هذا العنوان في معجم الفقه الحنبلي (2/1076) : لا يجوز للولي إقراض مال اليتيم إذا لم يكن فيه حظ له، فمتى أمكن الولي التجارة به، أو تحصيل عقار له فيه الحظ لم يقرضه، وإن لم يكن ذلك وكان في إقراضه حظ لليتيم جاز، ومعنى الحظ أن يكون لليتيم مثلا مال يريد نقله إلى بلد آخر، فيقرضه لرجل ليقضيه بدله في البلد الآخر، بقصد حفظه من الغرر في نقله، أو يخاف عليه الهلاك من نهب أو غرق أو نحوهما أو يكون مما يتلف بتطاول مدته، أو يكون حديثه خيرا من قديمه كالحنطة. فإن لم يكن فيه حظ وإنما قصد إرفاق المقترض وقضاء حاجته فهذا غير جائز، وإن أراد الولي السفر، لم يكن له المسافرة بمال اليتيم، وإقراضه حينئذ لثقة أمين أولى من إيداعه؛ لان الوديعة لا تضمن.. ولا يجوز قرضه إلا لمليء – أي غني – أمين. (وانظر المغني 4/295) . من هذا يتضح أن الغاية من إقراض مال اليتيم الرفق باليتيم لا بالمقترض، ومصلحة اليتيم لا مصلحة المقترض، والمراد الإيداع، غير أن الوديعة لا تضمن ففضل الإقراض لغني أمين حتى يحفظ المال لصالح اليتيم لا لصالح الغني. لعل من هذين المثلين يتضح المراد، فلم يكن الزبير فقيرا يستقرض، بل كان من أصحاب الملايين، له ممتلكات في المدينة والعراق ومصر وغيرها، وأراد المودعون حفظ أموالهم لا الرفق بالزبير، وتحول العقد من وديعة إلى قرض، فكل عقد له ما يميزه عن غيره، وإقراض مال اليتيم لحفظه أيضا، فهو لمصلحة اليتيم لا لمصلحة المليء الغني. وما دام العقد عقد قرض فلا يحل أخذ زيادة على رأس المال وإلا كان من ربا النسيئة. فمن أراد الإيداع لحفظ المال مع الضمان فالإيداع هنا قرض مضمون، كإقراض المودعين للزبير، وإقراض مال اليتيم للغني المليء. ومن أراد الإيداع للاستثمار عن طريق الفائدة المحددة كودائع البنوك الربوية وشهادات الاستثمار، فالإيداع هنا عود للقرض الإنتاجي الربوي الذي كان شائعا في العصر الجاهلي. ومن ساعد المحتاج، وفرج كربته، وأقرضه قرضا حسنا، جزاه الله سبحانه وتعالى أحسن الجزاء، وفرج عنه كربة من كرب يوم القيامة، وهذا هو عقد الإرفاق. إذن ليس القرض في جميع حالاته عقد إرفاق، وإنما هو في الأصل عقد إرفاق وقد يخرج عن هذا الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 هل الربا يحل بالعادة.. والرضا والاستفادة؟ تحدث أحد السادة الأساتذة عن فوائد البنوك فقال: "لقد تعودت الناس منذ أجيال عديدة على النظام القائم. إن وضع المسلمين في البنوك استفادة ما دام لا يجهد المقترض (البنك) ولا يستغله. وليس من الحكمة التنازل عن ربح أموالنا المشتغلة في التجارة. نظام التوفير ليس ربا.. مادام المتعامل قد ذهب طائعا مختارا وسلم أمواله للبنك.. كذلك نظام الوديعة ليس ربا مادام البنك هو الذي حدد الفائدة وليس المودع.. أي أنك لم ترغم البنك على سعر فائدة معين، بل هو الذي حدد هذه الفائدة على حسب ما أجرى من دراسات وخطط اقتصادية. الفائدة هنا أرباح في الواقع " اهـ. وبالنظر في كلام الأستاذ الدكتور نلحظ ما يلي: أولا: من المعلوم أن البنوك نشأت يهودية ربوية، وعندما دخلت بلاد الإسلام حملت معها طابعها اليهودي الربوي، فقد كان المسلمون في حالة من الضعف والخضوع لم تجعلهم يترددون في قبول ما هو قادم إليهم من بلاد الاستعمار وعلى الأخص أنه يتصل بالنظام الاقتصادي الرأسمالي الذي فتن به الكثيرون، فإذا تعود الناس التعامل بالربا، فهل العادة تحكم النص وتخرج المسلمين من الأذان بحرب من الله ورسوله، وتجعل الربا المحرم بالكتاب والسنة حلالا طيبا؟! ما أكثر الحرام الذي انتشر في عصرنا! أفيصبح حلالا مادام الناس قد تعودوه؟! ثانيا: يعترف الأستاذ بأن ودائع البنوك عقد قرض، فالبنك مقترض، ومعنى هذا أن الزيادة المشروطة في العقد مرتبطة بالقرض والزمن، وهذا من ربا الديون المحرم بالكتاب والسنة، ولكن الأستاذ يرى أن هذا ليس من الربا المحرم لأسباب ذكرها وهي: 1 – الاستفادة وعدم إجهاد المقترض وعدم استغلاله. 2 – المقرض أقرض طائعا مختارا. 3 – المقترض هو الذي حدد الفائدة – أي الزيادة الربوية – وليس المقرض. ولا أدري كيف أن الاستفادة تحل الحرام؟ وهل يخلو الحرام من فائدة ما؟ أن الخمر والميسر بنص القرآن الكريم فيهما منافع {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} . أفلأحد أن يحلهما إذا كان فيهما استفادة؟ أن شركات الطيران التي تصر على بيع الخمر، والدول التي تبيح الخمر والمجون، تستند إلى الاستفادة، أفترى أيها الأستاذ أن هذا حلال؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 إن الله عز وجل عندما حرم الربا في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لم يستثن منه ما كان غير مجهد للمقترض وغير مستغل له، وإنما بين رسوله صلى الله عليه وسلم تحريم ربا الجاهلية كله، ومنع أي أحد من أن يأخذ درهما واحدا زيادة عن رأس المال، وحذر من بشاعة جريمة درهم واحد من الربا حتى جعله أشد من الزنا الذي تشمئز منه النفوس الطاهرة. ولو جاز ما يقوله الأستاذ لأحل لعمه العباس أخذ القليل الذي لا يجهد ولا يستغل، ولأحل هذا أيضا للقبائل التي احتكمت إليه في خلاف حول بقايا الربا، ولنظمت حياة الناس على أساس التعامل بهذا النوع من الربا، ولكن الكتاب والسنة نطقا بغير ما نطق به الأستاذ. وقوله بأن المقرض أقرض طائعا مختارا، فلا أدري ما الفرق بين هذا وبين التعامل الجاهلي؟ أفكانوا في الجاهلية يجبرون المقرض حتى يقرض رغم أنفه؟! نحن نعرف أثر التراضي في العقود التي لا تصح بغيره، ولكن التراضي لا يحول الحرام إلى حلال، بل أن أكثر جرائم العصر ومنكراته تفعل بالتراضي. والقول بأن الربا يكون حلالا إذا كان المقترض هو الذي حدد الفائدة يستدعي أن يبين لنا الأستاذ أن كل من قال لغيره: أقرضني بزيادة ربوية كذا فهو حلال! وأن تجار الجاهلية الذين حددوا الفائدة ليتوسعوا في تجارتهم أجبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على إعطاء الزيادة الربوية التي حددوها بأنفسهم! وأن من احتكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسأله: من الذي حدد الفائدة؟ فإن كان المقرض حرمها، وإن كان المقترض أحلها! أخبرنا يا أستاذ: أحدث شيء من هذا؟ أم ربا الجاهلية كله موضوع؟ ونقف عند ختام حديثه بأن البنك حدد الفائدة على حسب ما أجرى من دراسات وخطط اقتصادية، وأن الفائدة هنا أرباح في الواقع. وأقول: نحن نعرف وظيفة البنك، تاجر الديوان المرابي، فالفائدة التي يعطيها هي جزء من الربا الذي أخذه من المقرضين، فأين الدراسات والخطط الاقتصادية والأرباح نتيجة التجارة؟ أن ربا الجاهلية كان جله ناتج أرباح تجارية، وهو ما أشرت إليه عند الحديث عن القروض الإنتاجية، ومع هذا نزل التحريم، أما ربا البنوك فهو أسوأ من ربا الجاهلية، وسيأتي بيان هذا عند الحديث عن خلق النقود. ملحظ أخير يتعلق بقوله: ليس من الحكمة التنازل عن ربح أموالنا المستغلة في التجارة، وأقول: إذا كان هذا الربح نتيجة الاتجار في الديون، فهل من الحكمة أن نأكله؟ لقد أجمعت الأمة على أن الزيادة المشروطة في مقابل القرض والزمن هي من الربا المحرم قطعا، فهذا ربا الديون المحرم بالكتاب والسنة، وهو واضح جلي غني عن البيان غير أني أحب أن أقف هنا أمام شيء آخر غير الزيادة المشروطة وهو مجرد المنفعة للمقرض: ما حكمها؟ وما أدلة الحكم؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 المنفعة للمقرض من الأحاديث التي اشتهرت على ألسنة الناس بالأمس واليوم ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كل قرض جر نفعا فهو ربا)) وهذا الحديث ليس له إسناد صحيح، فقد روى الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل قرض جر منفعة فهو ربا)) ، وفي إسناده أحد المتروكين، وله شاهد ضعيف عند البيهقي بلفظ ((كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا)) . نعم هناك آثار موقوفة عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، وقد تأخذ حكم المرفوع. (انظر الحديث وبيان عدم صحته في سبل السلام 3/872، وكشف الخفاء للعجلوني 2/125، وانظر كنز العمال 6/123 حديث رقم 937، والحديث ضعفه السيوطي ووافقه المناوي – انظر فيض القدير 5/28) ولننظر بعد هذا في حكم المنفعة للمقرض. قال ابن قدامة في المغني: "كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف، قال ابن المنذر: " أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا ". وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة ". (4/360) . وقال أيضا بعد هذا: "إن شرط أن يؤجره داره بأقل من أجرتها، أو على أن يستأجر دار المقرض بأكثر من أجرتها، أو على أن يهدي له هدية، أو يعمل له عملا، كان أبلغ في التحريم. وإن فعل ذلك من غير شرط قبل الوفاء لم يقبله، ولم يجز قبوله إلا أن يكافئه أو يحسبه من دينه، إلا أن يكون شيئا جرت العادة به بينهما قبل القرض ". وذكر ابن قدامة من الآثار والأحاديث ما يؤيد هذه الأحكام، ثم قال: " وهذا كله في مدة القرض، فأما بعد الوفاء فهو كالزيادة من غير شرط ". (راجع أيضا هذا الموضوع في المجموع شرح المهذب للشيرازي 12/182، وكتاب الإجماع لابن المنذر ص 95، وغيرهما من كتب الفقه) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 الأدلة من كتب السنة بعد هذا البيان للأحكام المتعلقة بالمنفعة للمقرض، ننظر في كتب السنة لنرى الأدلة التي أشار إليها ابن قدامة، وغيرها مما لم يشر إليه. أولا: في سنن ابن ماجه نجد في باب القرض من كتاب الصدقات الحديث التالي: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا عتبة بن حميد الضبي، عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي، قال: سألت أنس بن مالك: الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي له؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى له، أو حمله على الدابة، فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك)) . وعقب الحديث الشريف علق المرحوم محمد فؤاد عبد الباقي بقوله نقلا عن الزوائد: " في إسناده عتبة بن حميد الضبي، ضعفه أحمد وأبو حاتم، وذكره ابن حبان في الثقات ". " ويحيى بن أبي إسحاق لا يعرف حاله ". غير أننا في ترجمة عتبة هذا في ميزان الاعتدال نقرأ ما يأتي: " قال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال أحمد: ضعيف، ليس بالقوي ". وفي تهذيب التهذيب: "قال أبو طالب عن أحمد: كان من أهل البصرة، وكتب شيئا كثيرا، وهو ضعيف ليس بالقوي، ولم يشتبه الناس حديثه. وقال أبو حاتم: كان جوالة في الطلب وهو صالح الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات ". أما يحيى بن أبي إسحاق فهو من التابعين، ترجم له الحافظ في تهذيب التهذيب، وأشار إلى هذا الحديث فقال: "يحيى بن أبي إسحاق الهنائي عن أنس في القرض.. هذا الحديث أخرجه ابن ماجه عن طريق إسماعيل بن عياش، عن عتبة بن حميد، عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي، عن أنس. وقد رواه سعيد بن منصور في السنن عن إسماعيل بن عياش فقال: عن يزيد بن أبي إسحاق الهنائي، وكذا رواه البخاري في تاريخه من طريق إسماعيل لكن قال: ابن أبي يحيى الهنائي ". والحديث ذكره السيوطي وحسنه، ووافقه المناوي، ولكن الشيخ الألباني ضعفه. (انظر الحديث رقم 467 في فيض القدير 1/292، ورقم 489 في ضعيف الجامع 1/153) . ثانيا: روى الإمام البخاري في صحيحه عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه قال: "أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقال: ألا تجيء فأطعمك سويقا وتمرا، وتدخل في بيت؟ ثم قال: إنك في أرض – يقصد العراق – الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فإنه ربا ". (انظر كتاب مناقب الأنصار – باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه، والأثر رواه عبد الرزاق في المصنف وفيه: يابن أخي، إنكم بأرض تجار.. إلخ. راجع جـ 8 ص 144، وفي ص 143 أثر مثل هذا عن أبي بن كعب، وفيه.. فخذ قرضك، واردد إليه هديته) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 ثالثا: في مصنف عبد الرزاق نجد كثيرا من الآثار في بابين هما " باب الرجل يهدي لمن أسلفه "، و"باب قرض جر منفعة ". من هذه الآثار: 1 – أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: تسلف أبي بن كعب من عمر بن الخطاب مالا – قال: أحسبه عشرة آلاف – ثم أن أبيا أهدى له بعد ذلك من ثمرته، وكانت تبكر، وكان من أطيب أهل المدينة ثمرة، فردها عليه عمر، فقال أبي: ابعث بمالك، فلا حاجة لي في شيء منعك طيب ثمرتي، فقبلها، وقال: إنما الربا على من أراد أن يربي وينسئ. (8/142، وفي الصفحة تجد رواية ثانية لهذا الأثر. ولاحظ أن القرض عشرة آلاف، وليس لفقير محتاج. والأثر أخرجه أيضا البيهقي – انظر الحاشية للشيخ المحدث حبيب الرحمن الأعظمي. وكنز العمال 6/128 حديث رقم 967) . 2 – أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور والأعمشي، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: إذا نزلت على رجل لك عليه دين، فأكلت عليه، فأحسب له ما أكلت عنده إلا أن إبراهيم كان يقول: إلا أن يكون معروفا كانا يتعاطيانه قبل ذلك. (8/142 – 143) . 3 – أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إذا أسلفت رجلا سلفا فلا تقبل منه هدية كراع، ولا رعاية ركوب دابة. (8/143) . 4 – أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إنه كان جار سماك فأقرضته خمسن درهما، وكان يبعث إلي من سمكه، فقال ابن عباس: حاسبه، فإن كان فضلا فرد عليه وإن كان كفافا فقاصصه. (8/143 – والأثر أخرجه أيضا البيهقي: انظر الحاشية. ومثل هذا الأثر عن ابن عباس كذلك في المطالب العالية 1/428. ورقم 4/142، وهو: قيلويه أبو صالح، قال: كان لي على علج عشرون درهما، فأهدى إلي هدية فسألت ابن عباس، فقال: احسب من الهدية، وخذ البقية) . 5 – أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: كل قرض جر منفعة فهو مكروه. قال معمر: وقاله قتادة. (8/145 – وكلمة مكروه عند السلف تطلق على المحرم) . 6 – أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر وابن عيينة، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: استقرض رجل من رجل خمسمائة دينار على أن يفقره ظهر فرسه، فقال ابن مسعود: ما أصبت من ظهر فرسه فهو ربا. (8/145 – والأثر رواه البيهقي بطرق مختلفة – انظر الحاشية للأعظمي) . هذا بعض ما جاء في كتب السنة، وأعتقد أننا لسنا في حاجة إلى البحث عن المزيد من الأدلة، فقي هذا القدر غنى وكفاية لمن أراد أن يتثبت من صحة ما ذهب إليه أئمتنا الفقهاء المجتهدون، ولمن أراد أن يستبرئ لدينه وعرضه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 دفتر التوفير الإيداع في البنوك عن طريق فتح دفتر توفير يشبه الحساب الجاري من حيث عدم التقيد بمدة معينة للسحب من الرصيد، غير أنه يخضع لقيود لا يخضع لها الحساب الجاري. ونسبة السحب من دفاتر التوفير أقل من الحسابات الجارية، ولذلك تستخدم البنوك من أرصدة هذه الدفاتر نسبة أكبر من الحسابات الجارية، وتدفع فوائد على هذه الأرصدة بشروط معينة. ومعنى هذا أن البنك تنتقل ملكية الأرصدة إليه، يتصرف فيها ويستفيد منها في عمليات الإقراض ومشروعاته المختلفة، ويتعهد برد المثل للمودعين، وهو ضامن في جميع الحالات.. وهذا هو عقد القرض كما بينت في البحث السابق. ثم تأتي الفوائد، وهي النسبة الزائدة على القرض في مقابل الزمن الذي يستغرقه هذا القرض.. وهذا هو الربا المحرم. وما ذكرته عن فوائد ودائع البنوك ينطبق على ودائع دفتر التوفير، فالودائع كلها عقد قرض، والفوائد من ربا النسيئة الذي حرمه القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة. وذكرت بعض الاعتراضات والشبه، وأثبت بطلانها ولله الحمد. غير أن هذا النوع من التعامل قد يحتاج إلى وقفة خاصة نتيجة لما نشر في الصحف، فإن أحد السادة الذين تحدثوا عن شهادات الاستثمار ركز الحديث على صندوق التوفير. ولننظر إلى كلمة السيد الكاتب من البداية. (1) جاء في بداية مقاله ما يلي: نقدم في بداية المقال آراء صفوة من المجتهدين في موضوع الربا. وفيما يلي نصوص ما قالوه. يقول ابن تيمية: " إن الضرر على الناس من تحريم هذه المعاملات أشق عليهم من الأخذ بها؛ لأن الضرر فيها يسير، والحاجة إليها ماسة، والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الضرر، والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم، إذا عارضها حاجة راجحة أبيح المحرم (كأكل الميتة) فكيف إذا كانت المفسدة منفية ".   (1) هو الأستاذ الدكتور أحمد شلبي – أستاذ التاريخ بكلية دار العلوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 وكلام ابن تيمية هنا ليس عن الربا ولا عن المعاملات الربوية، بل كيف يتصور أن شيخ الإسلام يقول في موضوع الربا: أن المفسدة منفية؟! ولا أدري كيف ساق الأستاذ هذه العبارة ليوهم القارئ أن ابن تيمية يبيح المعاملات الربوية؟! فالأستاذ يذكر أن ما ينقله آراء صفوة من المجتهدين في موضوع الربا، ثم ينقل كلام ابن تيمية " أن الضرر على الناس من تحريم هذه المعاملات.. إلخ " أي هذه المعاملات الربوية، ومعنى هذا أن ابن تيمية لا يرى تحريم المعاملات الربوية!! وابن تيمية إنما يتحدث عما رخص فيه من بيوع الغرر – وهو الغرر اليسير – مستندا إلى السنة المطهرة، وموافقا جمهور العلماء، أما كلامه عن الربا فشيء آخر. ولنقرأ معا شيئا مما قاله شيخ الإسلام: قال رحمه الله: " أكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان، ذكرهما الله في كتابه، هما: الربا والميسر ". ثم قال: "نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر " كما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه. والغرر هو المجهول العاقبة فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار، وذلك أن العبد إذا أبق أو الفرس أو البعير إذا شرد، فإن صاحبه إذا باعه يبيعه مخاطرة، فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير فإن حصل له قال البائع: قمرتني وأخذت مالي بثمن قليل، وإن لم يحصل قال المشتري: قمرتني وأخذت الثمن مني بلا عوض، فيفضي إلى مفسدة الميسر: التي هي إيقاع العداوة والبغضاء، مع ما فيه من أكل المال بالباطل، الذي هو نوع من الظلم، ففي بيع الغرر ظلم وعداوة وبغضاء. ومن نوع الغرر ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع حبل الحبلة، والملاقيح، والمضامين، ومن بيع السنين، وبيع الثمر قبل بدو صلاحه، وبيع الملامسة، والمنابذة، ونحو ذلك كله من نوع الغرر. أما الربا: فتحريمه في القرآن أشد ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر كما خرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، وذكر الله أنه حرم على الذين هادوا طيبات أحلت لهم بظلمهم وصدهم عن سبيل الله، وأخذهم الربا، وأكلهم أموال الناس بالباطل. وأخبر سبحانه أنه يمحق الربا كما يربي الصدقات، وكلاهما مجرب عند الناس ". ثم قال ابن تيمية بعد هذا: "مفسدة الغرر أقل من الربا، فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه، فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا مثل بيع العقار جملة وإن لم يعلم دواخل الحيطان والأساس. ومثل بيع الحيوان الحامل أو الرضيع وإن لم يعلم مقدار الحمل أو اللبن وإن كان قد نهى عن بيع الحمل مفردا. وكذلك اللبن عند الأكثرين. وكذلك بيع الثمرة بعد بدو صلاحها فإنه يصبح مستحق الإبقاء، كما دلت عليه السنة، وذهب إليه الجمهور كمالك والشافعي وأحمد وإن كانت الأجزاء التي يكمل الصلاح بها لم تخلق بعد. وجوز النبي صلى الله عليه وسلم إذا باع نخلا قد أبرت: أن يشترط المبتاع ثمرتها فيكون قد اشترى قبل بدو صلاحها، لكن على وجه البيع للأصل فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا ما لا يجوز من غيره ". وقال شيخ الإسلام بعد ذلك: "وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل: فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل، لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض وإن لم يجز غيره بعوض، وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة فهو باطل، وإن كان فيه منفعة – وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رمية بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته، فإنهن من الحق)) صار هذا اللهو حقا. ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض وأكل بالباطل؛ لأن الغرر فيها يسير كما تقدم والحاجة إليها ماسة. والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر، والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم فكيف إذا كانت المفسدة منتفية؟ ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح، أباح الشرع ذلك وقاله جمهور العلماء ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 ونختم كلام ابن تيمية بقوله: " ... فتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير ". (راجع ما كتبه تحت فصل: القاعدة الثانية في العقود حلالها وحرامها – مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 29 ص 22 وما بعدها) . ومن كلام شيخ الإسلام نرى من الخطأ أن ينسب إليه ما نسبه الأستاذ كاتب المقال، ولعل ما نقلته طال بعض الشيء، غير أنني حرصت على هذا لتتضح الصورة، إلى جانب أنه لا يخلو من فائدة مرجوة. ونترك كلام ابن تيمية هنا، وننتقل إلى فتوى أخرى تعتبر نصا في موضوعنا. سئل ابن تيمية عن إنسان يريد أن يأخذ من إنسان دراهم قرضا يعمر به ملكه، يشتري بها أرضا إلى مدة سنة، وبلا كسب ما يعطي أحد ماله، فكيف العمل في مكسبه حتى يكون بطريق الحل؟ فأجاب: " الحمد لله، له طريق بأن يكرى الملك أو بعضه، يتسلفها ويعمر بالأجرة وإذا كان بعض الملك خرابا، واشترط على المستأجر عمارة موصوفة جاز ذلك. فهذا طريق شرعي، يحصل به مقصود هذا وهذا. وأما إذا تواطآ على أن يعطيه دراهم بدراهم إلى أجل، وتحيلا على ذلك ببعض الطرق، لم يبارك الله تعالى لا لهذا ولا لهذا". (مجموع الفتاوى 29/529) . ولنتأمل كلام ابن تيمية هنا: فالقرض للعمران وليس لتاجر الديون المرابي، ومع ذلك لم يحله، وبين طريقا شرعيا فيه بعد عن القرض. وواقعنا يذكرنا بنهاية ما جاء هنا: "لم يبارك الله تعالى لا لهذا ولا لهذا". وفي المضاربة ذكرنا رأي ابن تيمية، وهو واضح ناصع، مؤيد بالنص والإجماع، مخالف لما أراده كاتب المقال. وبعد أن انتهى ما نقله السيد الكاتب عن ابن تيمية قال: "وقد عرض الإمام محمد عبده لهذه المسألة فقال: أن مثل هذا الربح لا يدخل في الربا. فليس حكم الربا كالحكم في هذه المضاربة. ويرى الأستاذ عبد الوهاب خلاف أن اشتراط بعض الفقهاء ألا يكون هناك نصيب معين من الربح اشتراط لا دليل عليه ". وما ذكرته في البحث السابق عن المضاربة يغني عن المناقشة هنا، غير أن كلمة " بعض الفقهاء" من كلام الأستاذ الكاتب ليست صحيحة، فأستاذنا المرحوم خلاف كان يعلم أن هذا اشتراط جميع الفقهاء لا بعض الفقهاء. وانتقل كاتب المقال بعد ذلك إلى الحديث عن صندوق التوفير فذكر فتوى الشيخ شلتوت (1) ، والشيخ علي الخفيف، والشيخ عبد الجليل عيسى. ولسنا في حاجة إلى أن نعد إلى المناقشة من جديد بعد البحث الذي نشر من قبل. غير أنني أحب أن أقف هنا وقفة لننظر في تسلسل فكرنا الاقتصادي المعاصر، ولنعذر مشايخنا الأجلاء – رحمهم الله تعالى - فيما وقعوا فيه من خطأ في الفتوى. نشأت البنوك نشأة يهودية ربوية، وظل هذا الطابع مسيطرا عليها حتى عصرنا. وصور لنا الاقتصاديون أن الاقتصاد لا يقوم بغير البنوك، وأن البنوك لا تقوم بغير نظام الفائدة المتبع، أي النظام الربوي.   (1) الفتوى تتعلق بصندوق توفير البريد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 وانقسم علماؤنا آنذاك: فمنهم من بحث بحثا علميا مجردا، وانتهى إلى أن فوائد البنوك وما شابهها هي من الربا المحرم، ومنهم من حاول تبريرها رغبة في تحليل عقود المسلمين، فحسنت نياتهم، وسمت مقاصدهم، إلا أنهم وقعوا فيما رأيناه من الأخطاء، وعذرهم نبل الغايات مع عدم وجود البديل الشرعي. ومشكلات العصر لا تحل باجتهاد فردي، وهذه حقيقة يسهل إدراكها، فرأي الجماعة غير رأي الفرد، ولهذا عندما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأمر يحدث ليس في كتاب ولا سنة، قال: ((ينظر فيه العابدون من المؤمنين)) (وتأمل من الذي ينظر؟ فليس مجرد العلم يكفي للنظر) . وكان هذا منهج سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، فكما يروي المسيب بن رافع: "كانوا إذا نزلت بهم قضية ليس فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر، اجتمعوا لها وأجمعوا، فالحق فيما رأوا فالحق فيما رأوا". وكان أبو بكر رضي الله عنه إن أعياه أن يجد في أمر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به. (راجع ما سبق وغيره من الأخبار في سنن الدارمي: باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، وباب الفتيا وما فيه من الشدة) . وهنا نذكر ونشكر المجهود الذي بذله المرحوم الشيخ شلتوت لإنشاء مجمع البحوث الإسلامية، وتحقق ما سعى إليه ولكن لم ير ثمرة غرسه، وعقد المؤتمر الأول للمجمع سنة 1383 هـ (1964 م) ، وكان من قراراته وتوصياته: "أن السبيل لمراعاة المصالح، ومواجهة الحوادث المتجددة، هي أن يتخير من أحكام المذاهب الفقهية ما يفي بذلك، فإن لم يكن في أحكامها ما يفي به فالاجتهاد الجماعي المذهبي، فإن لم يف كان الاجتهاد الجماعي المطلق. وينظم المجمع وسائل الوصول إلى الاجتهاد الجماعي بنوعيه ليؤخذ به عند الحاجة ". وعقد المؤتمر الثاني لمجمع البحوث في شهر محرم سنة 1385 هـ (مايو سنة 1965 م) فكان هذا المؤتمر نقطة تحول في مسار فكرنا الاقتصادي الإسلامي من الناحية النظرية، حيث صدرت الفتوى الجماعية بتحريم فوائد البنوك، ونقلت نصها فيما سبق، وبعد صدور هذه الفتوى حسم الأمر، وأصبحنا في غنى عن أي رأي فردي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 وإلى جانب هذه الفتوى انتهى المؤتمر إلى التوصية التالية: "لما كان للنظام المصرفي أثر واضح في النشاط الاقتصادي المعاصر، ولما كان الإسلام حريصا على الاحتفاظ بالنافع من كل مستحدث مع اتقاء أوزاره وآثامه، فإن مجمع البحوث الإسلامية بصدد درس بديل إسلامي للنظام المصرفي الحالي، ويدعو علماء المسلمين، ورجال المال والاقتصاد إلى أن يتقدموا إليه بمقترحاتهم في هذا الصدد ". ثم كان التحول في هذا المسار من الناحية العملية التي دعا إليها المؤتمر بظهور البنوك الإسلامية، فظهر التطبيق العملي، وأثبت البديل الإسلامي إمكان قيام بنوك بدون تعامل بالفوائد الربوية. وبذلك حسم الجانبان: النظري والعملي معا. وبدأت الجهود الإسلامية المخلصة تتجه إلى تحسين هذا البديل ودعمه، ومحاولة إزالة العقبات من طريقه. وعندما عقد المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي سنة 1396 هـ (1976م) وحضره الكثرة الكاثرة من فقهاء الشريعة ورجال الاقتصاد والقانون وغيرهم، لم يثر أي خلاف حول اعتبار البنوك الربوية من الربا المحرم، كلهم أجمعوا على أن هذه الفوائد من الربا الذي حرمه الإسلام، ثم كانت الخطوة الأخرى نحو دعم البديل الإسلامي وتحسينه، ولهذا جاء في المقترحات والتوصيات ما يلي: 1 – دعوة الحكومات الإسلامية إلى دعم البنوك الإسلامية القائمة في الوقت الحاضر، والعمل على نشر فكرتها، وتوسيع نطاقها. 2 – العناية بتدريب العاملين في البنوك الإسلامية لتحقيق المستوى اللائق لكفايتهم العملية. وعقدت مؤتمرات أخرى أجمع المشاركون فيها على ما أجمع عليه هذان المؤتمران، فمن أفتى قبل هذا الإجماع فهو معذور مأجور مغفور له إن شاء الله عز وجل، ومن أراد أن نرد على أعقابنا خاسرين ونعود القهقرى، ونخالف هذا الإجماع، فلا عذر له، ونخشى أن يكون خاطئا آثما غير مغفور له. وأذكر هنا على سبيل المثال أن أستاذنا المرحوم الشيخ علي الخفيف أفتى بحل التأمين على الحياة، وحضر مؤتمرا بعد ذلك أجمع على أن التأمين على الحياة حرام، فكان مع المجتمعين. والشيخ شلتوت له فتاوى منسقة، وأخرى مضطربة متناقضة. الأولى نراها في كتابه في التفسير، في حديثه عن الآية الثلاثين بعد المائة من سورة آل عمران، وهي قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 فعند تفسيره لهذه الآية الكريمة تحدث عن الجانب الخلقي، والجانب الاقتصادي في تحريم الربا، ثم تناول شبهات " العصريين" في استباحة الربا، وأبطل هذه الشبهات، وبين أسباب لجوء هؤلاء "العصريين" لمثل هذه الشبهات. (انظر كتابه: تفسير القرآن الكريم. الطبعة الثامنة - ص 139 وما بعدها) وتحت عنوان " بطلان الاستدلال بالآية على إباحة الربا القليل " (ص 150) ذكر كلاما أنقله هنا بتمامه. قال رحمه الله تعالى: "بقي علينا أن ننبه في هذا الشأن لأمر خطير، وهو أن بعض الباحثين المولعين بتصحيح التصرفات الحديثة، وتخريجها على أساس فقهي إسلامي ليعرفوا بالتجديد وعمق التفكير، يحاولون أن يجدوا تخريجا للمعاملات الربوية التي يقع التعامل بها في المصارف أو صناديق التوفير أو السندات الحكومية أو نحوها، ويلتمسون السبيل إلى ذلك، فمنهم من يزعم أن القرآن إنما حرم الربا الفاحش بدليل قوله: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} فهذا قيد في التحريم لا بد أن يكون له فائدة وإلا كان الإتيان به عبثا، تعالى الله عن ذلك، وما فائدته في زعمهم إلا أن يؤخذ بمفهومه وهو إباحة ما لم يكن أضعافا مضاعفة من الربا، وهذا قول باطل؛ فإن الله سبحانه وتعالى أتى بقوله: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} توبيخا لهم على ما كانوا يفعلون، وإبرازا لفعلهم السيئ، وتشهيرا به، وقد جاء مثل هذا الأسلوب في قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . فليس الغرض أن يحرم عليهم إكراه الفتيات على البغاء في حالة إرادتهن التحصن، وأن يبيحه لهم إذا لم يردن التحصن، ولكنه يبشع ما يفعلونه ويشهر به، ويقول لهم: لقد بلغ بكم الأمر أنكم تكرهون فتياتكم على البغاء وهن يردن التحصن، وهذا أفظع ما يصل إليه مولى مع مولاته، فكذلك الأمر في آية الربا، يقول الله لهم: لقد بلغ بكم الأمر في استحلال أكل الربا أنكم تأكلونه أضعافا مضاعفة، فلا تفعلوا ذلك، وقد جاء النهي في غير هذه المواضع مطلقا صريحا، ووعد الله بمحق الربا قل أو كثر، ولعن آكله ومؤكله وشاهديه، كما جاء في الآثار، وآذن من لم يدعه بحرب الله وحرب رسوله، واعتبره من الظلم الممقوت، وكل ذلك ذكر فيه الربا على الإطلاق دون تقييد بقليل أو كثير. ومنهم من يميل إلى اعتباره ضرورة من الضروريات بالنسبة للأمة، ويقول: ما دام صلاح الأمة في الناحية الاقتصادية متوقفا عى أن نتعامل بالربا، وإلا اضطربت أحوالها بين الأمم، فقد دخلت بذلك في قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات. وهذا أيضا مغالطة، فقد بينا أن صلاح الأمة لا يتوقف على هذا التعامل، وأن الأمر فيه إنما هو وهم من الأوهام، وضعف أمام النظم التي يسير عليها الغالبون الأقوياء". ومما قاله تحت عنوان " إباحة الحرام جرأة على الله " (ص151) : "وخلاصة القول، أن كل محاولة يراد بها إباحة ما حرمه الله، أو تبرير ارتكابه بأي نوع من أنواع التبرير، بدافع المجاراة للأوضاع الحديثة أو الغربية، والانخلاع عن الشخصية الإسلامية، إنما هي جرأة على الله، وقول عليه بغير علم، وضعف في الدين، وتزلزل في اليقين ... ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 وكلام الشيخ هنا واضح كل الوضوح في تحريم المعاملات الربوية التي يقع التعامل بها في المصارف، وهو يتفق مع الفتاوى الجماعية التي صدرت بعد ذلك، وأشرت إليها من قبل. وذكره للسندات الحكومية يدل على أنه يرفض ما زعمه الزاعمون من أنه " لا ربا بين الدولة وأبنائها". وقد ثبت بطلان هذا الزعم في بحث آخر. ونرى الاضطراب في كتابه " الفتاوى"؛ حيث أفتى بتحريم فوائد السندات، وهذا يتفق مع ما سبق، غير أنه أفتى بحل فوائد توفير البريد التي حرمها من قبل أو من بعد، وهذا التعارض بين الفتويين قد يعني أنه رجع عن إحداهما، ولكن التفرقة بين فوائد دفتر التوفير وفوائد السندات تناقض، فلا فرق بين أموال دفتر توفير لها زيادة محددة مقابل المبلغ والزمن، وأخرى لسندات لها زيادة محددة أيضا مقابل المبلغ والزمن، مع أن الشيخ نفسه نص على تحريم فوائد البنوك، ولم يعلم أنه أحلها. وإذا كان هذا مسلك الكاتب، والفتاوى لشخص واحد، فإنا لا نعجب عندما لا يشير إلى فتوى الشيخ عبد المجيد سليم بتحريم فوائد البنوك، وهو الذي تولى مشيخة الأزهر مرتين قبيل الشيخ شلتوت، وتولى الإفتاء عشرين عاما، وله آلاف الفتاوى. وأكثر من هذا أنه لم يشر إلى أي شيء مما ذكرناه عن المؤتمرات والإجماع، بل قال: فوائد البنوك حلال مائة في المائة! وقال: حلال على مسئوليتي!! وبعد أن عرض السيد الدكتور أستاذ التاريخ الجزء الذي راقه واتفق مع هواه من تاريخ فكرنا الاقتصادي، انتقل بعد ذلك إلى الإجابة عن سؤال سأله، وهو: لماذا حرم الإسلام الربا؟ ونقل شيئا من تفسير الرازي، ثم قال: " هذه بعض الجوانب في حكمة تحريم الربا ويذكر المفكرون المحدثون جوانب أخرى ذات بال ... ". ونقل كلاما لأبي الأعلى المودودي، ثم قال: "هل توجد هذه العيوب في شهادات الاستثمار والإيداع بالبنوك؟ " ثم ختم كلامه هنا بقوله: " وهناك قاعدة فقهية تقول: أن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 ولا أستطيع أن أكتب ما يجول بخاطري وأنا أقرأ ما كتبه السيد الدكتور؟ قد يعذر لأن تخصصه بعيد عن الأصول والفقه فلم يعرف الفرق بين الحكمة والعدالة، ولكنه هنا يفتي ويخالف إجماع المئات بل الآلاف من الفقهاء! والسيد أبو الأعلى المودودي – الذي نقل عنه ما نقل من الحكمة – هو نفسه يرى أن فوائد البنوك من الربا المحرم. والفخر الرازي لم يشهد عصرنا الربوي حتى نعرف رأيه في هذه الفوائد، غير أننا قد نستطيع أن نستشف رأيه، حيث قال في تفسيره: " أن ربا النسيئة هو الذي كان مشهورا في الجاهلية؛ لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل، على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا، ورأس المال باق بحاله ". سبحان الله! أليس ربا النسيئة هذا ما نراه في صورة مستحدثة أعلنت عنها بعض البنوك الربوية حيث جعلت راتبا شهريا لمن يودع لديها مبلغا معينا؟ إن الصورة الجاهلية التي ذكرها الفخر الرازي وبين حرمتها هي الصورة نفسها (طبق الأصل!) التي نراها في شهادات ادخار بنك مصر ذات العائد الشهري. فلو أن الفخر الرازي رزئ بما رزئنا به، أفيمكن أن يحرم تلك ويحل هذه؟ أما وقد ضاق الصدر.. فلنترك هذا الموضوع حتى لا يشتط القلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 الإقراض العادي والإقراض بفتح الاعتماد الصور التي سبقت كان البنك فيها يقوم بعملية الاقتراض، وكان بفائدة وأحيانا بدون فائدة. والبنك ما اقترض أساسا إلا ليقرض، فهو كما عرفنا تاجر ديون مراب وعمليات الإقراض التي تزاولها البنوك تتخذ إحدى صورتين، هما: أولا: القروض البسيطة. وهي القروض المعتادة. ثانيا: فتح الاعتماد. وتختلف القروض عن الاعتمادات المفتوحة في حصول المقترض على مبلغ القرض بمجرد الاتفاق، واحتساب الفوائد عن المبلغ بأكمله، وعن المدة المتفق عليها كاملة، وقد يندمج القرض في حساب جار فيضيف البنك مبلغ القرض إلى الجانب الدائن لحساب العميل بمجرد التعاقد. أما فتح الاعتماد فعقد يلتزم البنك بمقتضاه بوضع مبلغ معين تحت تصرف عميله لمدة معينة، فيكون للعميل الحق في سحب أي مبلغ يشاء في حدود الاعتماد في غضون مدته، كما أن له إيداع ما يريد خصما على الرصيد المدين فيقل بذلك دينه. ولا تحتسب الفوائد على الأرصدة المدينة من يوم سحبها. (مقدمة في النقود والبنوك للدكتور محمد زكي شافعي ص 215) . " ويلتزم العميل أن يدفع للبنك عمولة معينة تستحق – غالبا – بمجرد إبرام عقد فتح الاعتماد سواء استخدمه أم لم يستخدمه، وتبرر العمولة بأنها مقابل ما يتحمله البنك ليكون مستعدا لمواجهة احتياجات العميل ". (عمليات البنوك للدكتور علي جمال الدين ص 330 – 331) . وإذا نظرنا فيما سبق وجدنا الفائدة التي تؤخذ زيادة على القرض في الصورتين السابقتين هي من الربا المحرم. وإذا كان البنك قد أخذ العمولة مقابل خدمته التي أداها والمنفعة التي قدمها، فإن ما يزيد على هذه العمولة في مقابل الدين هو من ربا الديون الذي تحدثنا عنه، وبينا حرمته. وأضيف هنا بعض الحقائق عن عمليات الإقراض الربوي: يقدم البنك القروض بنوعيها: الاستهلاكي والإنتاجي، مع أخذ الضمانات الكافية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 والضمان هنا لا شيء فيه، فيمكن الإقراض مع أخذ رهن، ولكن لا يحل للمقرض الاستفادة من هذا الرهن. وقد يكون الإقراض بضمان الراتب مثلا، أو من الوسائل التي تضمن حق المقرض، وما دامت الوسائل لا يمنعها الشرع فهي حلال، ولكن الحرمة هنا في الربا. والبنك عند الإقراض يحسب الفائدة الربوية، ثم يطرحها من القرض، ويعطي الباقي فقط، مثلا تريد امرأة أن تقترض لضرورة ملجئة، فتأخذ ما لديها من حلي، وتذهب إلى البنك تطلب قرضا، يأخذ البنك الرهن، ويتفق على إقراضها مائتين: فلو فرضنا أن النسبة المئوية للفائدة الربوية هي (20) ، فإنه يعطيها 160 جنيها فقط، مع أنه في حالة الاقتراض لا تحسب الفائدة إلا بعد المدة، فلو أنه اقترض 160 جنيها بفائدة 20 % مثلا فالقرض بعد المدة يصبح 192 جنيه، على حين أن المبلغ نفسه في حالة الإقراض يصبح 200 جنيه، أي أن الفائدة هنا 25 % وليست 20 %! ونسمع أن البنوك تسهم في مشروعات صناعية وتجارية وعمرانية إلخ، والواقع أن إسهامها هنا عادة يكون عن طريق الإقراض الربوي لأصحاب هذه المشروعات، وليس عن طريق المشاركة الإسلامية. إن هذه القروض كلها محرمة، سواء أكانت استهلاكية أم إنتاجية.. ويستوي في هذا الفائدة الكبيرة والفائدة المنخفضة. والمقرض آثم لا شك.. فلا عذر له. والمقترض آثم كذلك إلا عند الضرورة. والضرورات تبيح المحظورات. ولكن الضرورة تقدر بقدرها، فما زاد عن حد الضرورة ظل محرما، فما الضرورة إذن في القروض الإنتاجية؟ الذي يريد أن ينشئ مصنعا، أو يبني عمارة، أو يعلي بيتا، أو يستورد سلعا أو غير ذلك من المشروعات الإنتاجية.. لا يحل له أن يأخذ قروضا ربوية، إلا إذا وجدت حالات خاصة تدخل ضمن الضرورات، وللأسف الشديد يتساهل كثير من المسلمين في مثل حالات الاقتراض هذه، وقد لا يتأثمون ولا يتحرجون، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن الاثنين: آكل الربا وموكله، وجعل الآخذ والمعطي شريكين في الإثم. روى الشيخان وأصحاب السنن وغيرهم "أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله" وزاد مسلم وغيره: "وكاتبه وشاهديه". وقال: "هم سواء". (راجع مثلا: فتح الباري – كتاب البيوع: باب آكل الربا وشاهده وكاتبه، وباب موكل الربا. وصحيح مسلم: كتاب البيوع: باب لعن آكل الربا وموكله. واقرأ ثلاثين حديثا في الترهيب من الربا في كتاب الترغيب والترهيب 3: 3 – 14) . وفي الإقراض الذي تزاوله البنوك يصادفنا أمر عجيب غريب يصعب تصوره، ولا يدركه إلا من ألم بأعمال البنوك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 أيمكن مثلا أن نتصور أن شخصا يقترض ألفا، ومن الألف يقرض بضعة آلاف، ويبقى عنده رصيد؟! هذا ما تفعله البنوك الربوية! تخلق النقود وتقرضها! تقرض ما ليس عندها، وما لا تملكه، وتأخذ ربا! والأمر هنا دقيق، ولذلك أترك عرضه لرجال الاقتصاد المختصين. تحدث أحدهم عن المرحلة الحاسمة في تطور الفن المصرفي وهي خلق النقود: دخل الفن المصرفي في دور جديد عندما تواضع الناس على قبول التزامات البنوك بديلا عن النقود في الوفاء بالديون، سواء أكان ذلك في صورة إيصالات الإيداع أم في صورة أوامر الصرف التي كان يحررها المودعون لدائنهم على البنوك، فقد فطنت البنوك في كلتا الحالتين إلى إمكان إحلال تعهداتها بالدفع محل النقود فيما تمد به عملاءها من قروض بما يترتب على ذلك من زيادة طاقتها على الإقراض، ومن ثم على جني الأرباح. ولم يكن من العسير، ووقد تمتعت ديون البنوك بالقبول العام كأداة للوفاء بالالتزامات أن تقنع المصارف هؤلاء العملاء بملاءمة اقتضاء مبالغ القروض في ودائع جارية قابلة للسحب في الحال، أو في صورة سندات تتعهد المصارف بمقتضاها بالدفع لدى الطلب (بنكنوت) ، ولن خفى على القارئ أهمية هذا التطور الحاسم في تاريخ البنوك، فلم يكن حسب هذا الاستعمال النقدي لودائع (ديون) البنوك أن ضيق من نطاق أوامر الدفع فأدى إلى زيادة موارد الائتمان عن ذي قبل، ولكنه أدى أيضا إلى ما هو أكثر أهمية، فقد أصبح في استطاعة البنوك خلق هذه الودائع ومحوها من الوجود بما تزاوله من عمليات التسليف أو الإقراض أو التثمير. وإذ تقوم هذا الودائع مقام النقود في تسوية الديون بين الأفراد، فقد تهيأ لبنوك الودائع أن تزاول سلطانا خطيرا على عرض وسائط الدفع في النظام الاقتصادي، ولإيضاح ذلك نفترض مرة أخرى أن جملة ما أودعه الأفراد لدى البنوك من النقود القانونية مليون من الجنيهات، وأن نسبة الرصيد النقدي الحاضر الذي تحتفظ به البنوك لمواجهة أوامر الدفع من قبل المودعين هي الربع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 عندئذ يمكن للبنوك، وقد أحلت تعهداتها بالدفع محل النقود في الوفاء بالقروض، أن تقدم للناس من القروض ما قيمته ثلاثة ملايين من الجنيهات دون أن يؤثر ذلك على نسبة الرصيد النقدي الحاضر الذي تقتضي دواعي الحيطة والأمان الاحتفاظ بها لمواجهة طلبات الصرف المحتملة من قبل المودعين. ويتضح ذلك بالنظر إلى هذه الصورة المبسطة لميزانية النظام المصرفي (بصرف النظر عن حساب رأس المال) : أصول جنيه خصوم جنيه نقود في الخزانة 1000000 الودائع 4000000 سندات وقروض 300000 الجارية - المبلغ 4000000 - - وهكذا تهيأ للبنوك وقد أودع لديها مليون من الجنيهات أن تنشئ على دفاترها من الودائع ما قيمته أربعة ملايين، لا يمثل منها ما أودعه الناس بالفعل من نقود قانونية لدى البنوك سوى الربع – والربع فقط – على حين تتحصل الثلاثة ملايين جنيه الباقية في ودائع مخلوقة أنشأها النظام المصرفي بمناسبة ما قامت به مجموعة البنوك من عمليات التسليف والتثمير والإقراض. ومن هنا يتضح لنا سذاجة الاعتقاد بأن مصدر الودائع المصرفية هو إيداع الأفراد أرصدتهم النقدية في صورة عملة قانونية لدى البنوك، فإن الودائع الأصلية التي تنشأ في ذمة البنوك التجارية على هذا النحو لا تمثل سوى قدر محدود من مجموع الودائع الثابتة على دفاتر البنوك، في حين ينشأ الشطر الأكبر منها بمناسبة قيام البنوك بعمليات إقراض أو تثمير يستوفيها في صورة ودائع قابلة للسحب لدى الطلب، ومن هنا أيضا تتحصل الخصيصة الأساسية لما تزاوله البنوك من نشاط في ميدان الإقراض فيما تهيأ لهذه المؤسسات من إقراض الناس ما ليس عندها أو بعبارة أدق، فيما توصلت إليه من خلق الموارد التي تستعملها في إقراض عملائها في غمار عملية الإقراض ذاتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 (مقدمة النقود والبنوك للدكتور محمد زكي شافعي ص170 – 172) وفي ص 176 عرض هذا التوضيح: الدورة رقم المبلغ المودع بالجنيهات المستعمل في الإقراض الاحتياطي النقدي 1 1000 800 200 2 800 640 160 3 640 512 128 4 512 410 102 5 410 328 82 6 328 262 66 7 262 210 52 8 210 168 42 9 168 134 34 10 134 107 27 الجملة العمومية 5000 4000 1000 وفي كتاب مذكرات في النقود والبنوك للدكتور إسماعيل محمد هاشم نجد الفصل الخامس عنوانه "خلق نقود الودائع" (ص 47) . ومما جاء في حديث المؤلف: وقد أثبتت الخبرة العملية أنه في ظل الظروف الاقتصادية العادية تكون نسبة المسحوبات من النقود القانونية إلى مجموع ودائع البنك ثابتة إلى درجة كبيرة، وعادة لا تتجاوز هذه النسبة 10 % من مجموع الودائع، بل إنه كثيرا ما يحدث أن تقل هذه النسبة بدرجة كبيرة عن ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 وتعتمد هذه البنوك التجارية على هذه الحقيقة التي تعني بقاء جزء كبير من الودائع (تحت الطلب) دون سحب. ومن ثم لا تحتفظ إلا بنسبة محدودة من ودائعها في شكل نقود قانونية (في حدود10 %) لمقابلة طلبات السحب المحتملة، ما لم يلزمها القانون بالاحتفاظ بنسبة أكبر. وفي ص 59 نجد هذا التوضيح: رقم البنك الودائع النقدية الجديدة التي يتسلمها البنك الاحتياطي النقدي الودائع الجديدة الأول 1000 100 900 الثاني 900 902 810 الثالث 810 81 729 الرابع 729 72.9 556.1 الخامس 656.1 65.6 590.5 بقية البنوك 5904.9 590.5 5314.4 المجموع 10000 1000 9000 من هذا كله نلحظ ما يأتي: 1 – الربا الذي يحصل عليه البنك يزيد عن ربا الجاهلية بكثير. 2 – وهو كذلك أسوأ من ربا الجاهلية؛ لأن البنك يقرض بالربا ما ليس عنده، وما لا يملكه، بل ما لا وجود له في الواقع. 3 – الحسابات الجارية التي تعتبر قروضا حسنة من المودعين تستغلها البنوك أسوأ استغلال، فتقرض أضعافها قروضا ربوية. ومن هنا ندرك حرمة هذا التعامل مع البنوك الربوية إلا إذا دعت الضرورة. 4 – نقطة أشير إليها دون خوض فيها، وإنما أتركها لأهل الاختصاص، وهي علاقة خلق النقود بالتضخم وزيادة الأسعار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 خصم الأوراق التجارية قرض ربوي الأوراق التجارية عبارة عن صكوك تضمن التزاما بدفع مبلغ من النقود يستحق الوفاء عادة بعد وقت قصير، وتقبل البيئة التجارية على التعامل بهذه الأوراق كأداة لتسوية الديون نظرا لسهولة تحويلها إلى نقود قبل حلول أجل الوفاء للخصم لدى البنوك. ويقصد بالخصم (1) . (أو القطع) دفع البنك لقيمة الورقة قبل ميعاد استحقاقها بعد خصم مبلغ معين يمثل فائدة القيمة المذكورة عن المدة بين تاريخ الخصم وميعاد الاستحقاق، مضافا إليها عمولة البنك ومصاريف التحصيل. ويلاحظ أنه كثيرا ما تحرر السندات الإذنية (2) التي تخصمها البنوك لأمر البنك الذي يقوم بعملية الخصم، بحيث لا يعدو الأمر أن يكون عملية تسليف متخذة صورة عملية خصم. وتفضل البنوك هذا الوضع لاقتطاع الفوائد مقدما. والإفادة من الضمانات القانونية التي يحيط بها القانون الأوراق الجارية. (3) ومن هذا نرى أن خصم الأوراق التجارية عملية ربوية واضحة، ولو أن البنك اكتفى بأخذ العمولة لكان هذا أجرا نظير قيامه بالتحصيل، وكان دفع القيمة قبل الموعد من باب القرض الحسن الذي لا تعرفه البنوك الربوية. أما الفائدة التي يأخذها البنك فهي نظير الإقراض، ولذلك تختلف تبعا لقيمة الورقة التجارية، ولموعد الاستحقاق، فإن افترضنا أن الورقة التجارية قيمتها ألف جنيه، وموعد السداد بعد شهر، واحتاج صاحبها إلى قيمتها في الحال، فإن البنك يعطيه مثلا تسعمائة وخمسين محتسبا فائدة قدرها خمسون جنيها، فكأنه أقرضه تسعمائة وخمسين، ويسترد البنك دينه بعد شهر بزيادة خمسين، وهي بلا شك زيادة ربوية محرمة. هذه بعض أمثلة للقروض الربوية، وقد ذكر الدكتور عبد الرازق السنهوري صورا مختلفة لعقد القرض نثبتها هنا كما ذكرها في كتابه الوسيط (5/437) .   (1) من تعريفات الخصم ما يلي: (أ) أن الخصم اتفاق يعجل به البنك الخاصم لطالب الخصم قيمة ورقة تجارية أو سند قابل للتداول أو مجرد حق آخر، مخصوما منها مبلغ يتناسب مع المدة الباقية حتى استيفاء قيمة الحق عند حلول أجل الورقة أو السند أو الحق، وذلك في مقابل أن ينقل طالب الخصم إلى البنك هذا الحق على سبيل التمليك وأن يضمن له وفاءه عند حلول أجله. (ب) خصم السندات عقد يعجل المصرف بمقتضاه إلى حامل سند مالي على الغير لم يحل أجله دفع قيمته بعد اقتطاع الفائدة، على أن تنتقل ملكية السند إلى المصرف مقيدة بشرط استيفاء الدين عند حلول الأجل. (عمليات البنوك للدكتور علي جمال الدين – ص 496) ويلاحظ في التعريفات وجود الفائدة نظير إقراض قيمة الورقة التجارية، فهي إذن قرض ربوي (2) السند الإذني من الأوراق التجارية، ويعرف بأنه "مكتوب وفقا لأوضاع حددها القانون ويتضمن تعهد شخص معين يسمى المحرر، بدفع مبلغ معين من النقود من تاريخ معين أو قابل للتعيين لأمر أو لإذن شخص آخر يسمى المستفيد ".انظر مقدمة النقود والبنوك للدكتور شافعي ص 214. (3) انظر مقدمة النقود والبنوك للدكتور شافعي ص 212 – 214. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 قال رحمه الله: قد يتخذ القرض صورا مختلفة أخرى غير الصورة المألوفة. من ذلك أن تصدر شركة أو شخص معنوي عام سندات، فهذه السندات قروض تعقدها الشركة أو الشخص المعنوي مع المقرضين، ومن اكتتب في هذه السندات فهو مقرض للشركة أو الشخص المعنوي بقيمة ما اكتتب به. ومن ذلك تحرير كمبيالة أو سند تحت الإذن أو سند لحامله، فهذه الأوراق قد تكون قروضا يعقدها من حررها وهو المقترض لمصلحة من حررت له وهو المقرض. ومن ذلك فتح اعتماد في مصرف لعميل، فالعميل يكون مقترضا من (المصرف) مبلغا حده الأقصى هو الاعتماد المفتوح. ومن ذلك إيداع نقود في مصرف، فالعميل الذي أودع النقود هو المقرض والمصرف هو المقترض، وقد قدمنا أن هذه وديعة ناقصة وتعتبر قرضا. ومن ذلك تعجيل مصرف مبلغا من النقود لعميل لقاء أوراق مالية مودعة في المصرف، فالمصرف يكون قد أقرض العميل هذا المبلغ الذي عجله في مقابل رهن هو الأوراق المالية المودعة في المصرف. هذه هي الصور التي ذكرها، وقد أشرنا لبعضها، وكل قرض من هذه القروض يأخذ البنك أو غيره زيادة على رأس المال، فهي من الربا المحرم. فإذا أردنا أن تزكو أموالنا وتطهر، لا أن تمحق وتسحق، فلنبحث عن الحل الإسلامي، فلا حل غيره ما دمنا مسلمين. ولعل البنوك الإسلامية في عمرها القصير قد قدمت تطبيقا عمليا يمكن الاستفادة منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 الخاتمة بعد هذا البيان لودائع البنوك، وبعض الصور الأخرى لعقد القرض في معاملاتنا المعاصرة، أحب أن أقول: أن واجبنا كمسلمين أن نخضع معاملاتنا للإسلام، لا أن نخضع الإسلام لمعاملاتنا، فبدلا من أن نأتي إلى أعمال البنوك الربوية ونحاول تبريرها، ونبحث عن مخرج للحكم بحلها، فلنطالب بتطهير أموالها من الربا، وبتحويل البنوك كلها إلى بنوك إسلامية، ما الذي يمنع بنوكنا وشركاتنا من أن تصبح إسلامية أفليس الحلال الطيب الذي يأتي عن طريق الشركات التي أباحها الإسلام خيرا من الاتجار في الديون والتعامل بالربا؟ إن الدين عند الله الإسلام، فهل الإسلام عقائد وعبادات فقط؟ لقد شكلت لجان لبحث تطبيق الشريعة، فعلينا أن ننادي بتطبيق الإسلام في المعاملات، والمساعدة في بيان كيفية التطبيق لا أن نحل الأوضاع الربوية القائمة. إن الصالح لمعاملاتنا هو تطبيق الإسلام حتى يتطهر مالنا ويزكو ويبارك فيه، بدلا مما نراه من المحق والسحق وذهاب البركة وغير ذلك من بعض مظاهر حرب الله لنا، ليس الصالح نابعا من عقيدتنا فحسب، بل أن النظر إلى الاقتصاد المجرد يثبت هذا وقد بين هذا الجانب كثير ممن كتب في الاقتصاد الإسلامي. وأشير هنا على سبيل المثال إلى ما جاء في محاضرة لمدير أحد البنوك الربوية. تحدث المدير عن مشكلة المدخرات النفطية، وذكر أن هذه المدخرات وصلت سنة 1975 إلى خمسين (مليارا) في البنوك الأجنبية وعندما أضيفت إليها الفوائد وصلت سنة 1978 إلى خمسة وستين. ثم قال: أن ارتفاع الأسعار خلال السنوات الثلاث وصل إلى الضعف، أي أن المدخرات مع فوائدها قيمتها الحقيقية هي 32.5 فقط، ولو أن هذه المدخرات استثمرت بالفعل في مشروعات إنمائية لكانت القيمة الحقيقية للخمسين هي مائة. وقال بأن دولة واحدة – وهي السودان – يمكن أن تستوعب هذه المدخرات جميعها في مشروعاتها. وهنا قال أحد رجال الاقتصاد الإسلامي: هذا دليل اقتصادي على تحريم الربا، وعلى أن مصلحة المسلمين في الاستثمار بالطريق التي أحلها الإسلام. فقال مدير البنك: أن هذا لم يخطر ببالي من قبل! من هذا نرى أن المصلحة الاقتصادية ذاتها ليست في التعامل بنظام الفائدة، وإنما في المشاركة في التنمية والاستثمار، غير أن هذه ليست مصلحة فقط، وإنما هي عقيدة ودين. فلنتعاون جميعا في الدعوة إلى تطبيق الإسلام في معاملاتنا، بدلا من أن نثير شبها تكون عونا وسندا للمرابين. ونسأل الله عز وجل أن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى، إنه نعم المولى ونعم النصير، وهو المستعان، وله الحمد في الأولى والآخرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائد فضيلة الدكتور حسن عبد الله الأمين بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد: للوقوف على الحكم الشرعي للتعامل المصرفي المعاصر بالفوائد، يبدو لي أنه يلزم النظر المتأمل في عدة أشياء لتجلية معانيها وتوضيحها بصورة لا لبس فيها ولا غموض بقدر الإمكان؛ ليكون ذلك مدخلا إلى الغرض المطلوب. من ذلك كلمة (الربا) ومدلولها العرفي الذي يفهمه العربي عند إطلاقها؛ لأهمية ذلك في تحديد الربا الجاهلي الذي ورد تحريمه في القرآن الكريم، وهل يتناوله ذلك التعامل المصرفي المعاصر، أم لا؟.. ومنها كلمة (الفائدة) وتحديد معناها اللغوي والاصطلاحي القديم والمعاصر وهل يتفق ذلك مع المفهوم العرفي لكلمة (الربا) أم يختلف عنه؟.. وفي ضوء ذلك يمكن إدخالها في نوع الربا القرآني، أو استبعادها منه، ومن ثم يسهل الوصول إلى الحكم الشرعي لها. وإذن فلنتكلم عن كل من هذين الأمرين حسب الترتيب أعلاه.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 معنى الربا ما هو مدلول كلمة الربا في لغة العرب؟ وما هو مدلولها في عرفهم؟ وما هو معناها في الاصطلاح الشرعي؟ أولا: في اللغة – الربا في اللغة معناه الزيادة مطلقا من غير اختصاص شيء معين – من ربا الشيء يربو ربوا – أي زاد، ومنه قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} أي زائدة، وقوله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أي زادت. ثانيا: في الاصطلاح: الربا في الاصطلاح جاء على نوعين: - النوع الأول: ربا الجاهلية الذي حرمه القرآن الكريم في عدد من الآيات، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (1) وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} إلخ. (2) وهذا النوع من الربا له صورتان في مفهوم العرب، عرف بهما عندهم وتعاملوا به فيما بينهم وصار بهما حقيقة عرفية عندهم. 1 – الصورة الأولى: الزيادة على أصل الدين عند حلول الوفاء، وتأجيله مدة أخرى للعجز عن الوفاء. 2 – الصورة الثانية: الزيادة على دين القرض عند العقد ابتداء. وهاتان الصورتان لمفهوم الربا في الجاهلية واللتان يتناولهما النص القرآني في عدد من الآيات ذكر كلا منهما عدد من المفسرين صراحة، وإن كان بعض المفسرين قد اقتصر على الصورة الأولى منهما، ربما لشهرتهما وكثرة جريانها عند العرب. والذي يؤكد الصورة الثانية بما لا يقل عن الصورة الأولى شهرتها لدى اليهود على مدى التاريخ، وقد كانوا مستوطنين يثرب – المدينة المنورة – قبل الإسلام وفي مطلعه قبل إجلائهم، ولا يعقل أن تكون ممارستهم للربا بهذه الصورة، خافية على جيرانهم العرب على الأقل، أن لم يكونوا قد مارسوها مع اليهود أو فيما بينهم بعد أن تعلموها منهم. وهذا ما يجعل تناول النص القرآني لها أمرا مؤكدا في مفهوم العرب آنذاك وما جرى به عرفهم.   (1) سورة آل عمران الآية (130) (2) سورة البقرة – الآيات 275 – 280. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 أقوال المفسرين وإليك بعض ما قاله المفسرون عن هاتين الصورتين للربا الجاهلي المحرم بالقرآن: عن الصورة الأولى: قال ابن جرير الطبري: " قال قتادة: أن ربا الجاهلية، يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه. وعن زيد بن أسلم قال: إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن، يكون للرجل فضل دين، فيأتيه إذا حل الأجل فيقول له: تقضي أو تزيدني، فإن كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك، أن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثم جذعة، ثم رباعيا، ثم هكذا إلى فوق، وفي العين – الذهب والفضة – يأتيه، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا، فيكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة أو يعضه ". (1) وقال: عن عطاء قال: كانت ثقيف تداين بني المغيرة في الجاهلية فإذا حل الأجل قالوا نزيدكم وتؤخرون، فنزلت: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} . (2) ويكاد يكون جميع المفسرين بعد ابن إسحاق قد تكلم بهذا المعنى عن هذه الصورة لربا الجاهلية. أما الصورة الثانية لربا الجاهلية – المتمثلة في ربا القرض فقد ذكرها عدد من المفسرين عند تعرضهم لتفسير آيات الربا ونوردها فيما يلي نقلا عن كتابنا (الودائع المصرفية النقدية واستثمارها في الإسلام) ص (261) وما بعدها، (قال أبو بكر الجصاص في كتابه أحكام القرآن عند تفسيره لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} قال: والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استعرض على ما يتراضون به، هذا كان المتعارف المشهور بينهم، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} فأخبر أن تلك الزيادة إنما كانت ربا في المال العين؛ لأنه لا عوض لها من جهة القرض) .   (1) ابن جرير الطبري، جامع البيان، ج 7 ص 217 طبعة دار المعارف. (2) ابن جرير الطبري، ج 7 ص 217 طبعة دار المعارف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 ثم قال: ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا، من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل، مع شرط الزيادة. (1) وقال الفخر الرازي في تفسيره: أن ربا النسيئة، هو الذي كان مشهورا متعارفا في الجاهلية، ذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا، ويكون رأس المال باقيا، ثم إذا حل الدين طالبوا المدين برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء، زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذي كانوا يتعاملون به (2) ومثل ما قاله الفخر الرازي ذكره ابن حجر الهيثمي فقال: " وربا النسيئة هو ما كان مشهورا في الجاهلية؛ لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره – أي إلى أجل – على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا ورأس المال باق بحاله، فإذا حل الأجل طالبه برأس ماله، فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل، ثم قال: وتسمية هذا بنسيئة – مع أنه يصدق عليه ربا الفضل أيضا – لأن النسيئة هي المقصودة فيه بالذات، وهذا النوع مشهور الآن بين الناس وواقع كثيرا ". (3)   (1) أحكام القرآن ج 1 ص 465 (2) مفاتيح الغيب – المشهور بالتفسير الكبير ج 2 ص 529 (3) الزواجر عن اقتراف الكبائر ج 2 ص 222 طبعة مصطفى الحلبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 أقوال الفقهاء تلك كانت أقوال المفسرين في ربا الجاهلية الذي تناولته آيات القرآن ومنه القرض بزيادة مشترطة عند العقد، فإذا انتقلنا إلى أقوال الفقهاء، فإنا نجد عددا منهم يعتبر القرض بزيادة عند العقد صورة أخرى من صور ربا الجاهلية المحرم بالقرآن، قال الكمال ابن الهمام: " الربا: يقال لنفس الزائد، وفيه قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} أي الزائد في القرض والسلف على المدفوع.. ويقال لنفس الزيادة أعني بالمعنى المصدري، ومنه قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . أي حرم أن يزاد في القرض والسلف على القدر المدفوع ". (1) وهذا كلام صريح بأن الزيادة في القرض عند العقد هي من ربا الجاهلية المحرم بنصوص القرآن الكريم. ربا الديون، وربا البيوع ونجد ابن رشد الحفيد يقسم الربا إلى ربا ديون، وربا بيوع – فيقول: " اتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين: في البيوع، وفيما تقرر في الذمة، من بيع أو سلف أو غير ذلك ". (2) وهو تقسيم دقيق، اتجه إليه أغلب العلماء في هذا العصر، ويدخل في ربا الديون إحدى صور ربا الجاهلية الذي حرمه القرآن – وهو ربا النسيئة – أي الزيادة في الدين في نظير الأجل، سواء نشأ ربا الدين عن قرض بزيادة مشترطة عند العقد، أو بيع مؤجل أعيد تأجيله بربا للعجز عن الوفاء عند الأجل الأول، وعلى ذلك فربا الديون هذا قاصر على النساء فقط ولا يدخله ربا الفضل. أما ربا البيوع فهو شامل لربا الفضل، وربا النسيئة كل على حدة – حسب التقسيم القديم المعهود، وقد يجتمعان معا في وقت واحد كما في بيع الربوي بجنسه مع التفاضل – كبيع أوقية من الذهب بأوقية وربع الأوقية، إلى أجل شهر مثلا. ونعود إلى ابن رشد فنجده يستطرد قائلا: " فأما الربا الذي تقرر في الذمة فهو صنفان: صنف متفق عليه، وهو ربا الجاهلية: الذي نهى عنه، وذلك أنهم كانوا يسلفون بالزيادة، وينظرون، فكانوا يقولون: أنظرني أزدك. وهذا هو الذي عناه عليه الصلاة والسلام بقوله في حجة الوداع: ((ألا إن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب)) . (3) فابن رشد يجعل السلف بزيادة من صنف ربا الجاهلية المنهي عنه بالقرآن الكريم – وهو القرض بزيادة، وهو كما يقول صنف متفق عليه. ويقول ابن قدامة: "وكل قرض شرط أن يزيده فهو حرام بغير خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن السلف إذا شرط على المستلف زيادة أم هدية، فأسلف على ذلك: أن أخذ الزيادة على ذلك ربا ". (4)   (1) فتح القدير على الهداية ج 5 ص 274 الطبعة الأميرية. (2) بداية المجتهد ج 2 ص 128 – طبعة دار المعرفة. (3) بداية المجتهد – طبعة دار المعرفة. (4) المغني لابن قدامة ج 4 ص 360. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 ومن أقوال المفسرين والفقهاء التي سردناها يتبين بجلاء أن القرض بزيادة مشترطة عند العقد هو إحدى صورتي ربا الجاهلية الذي حرمه القرآن والذي كان مفهوما لدى العرب ومعلوما لهم من كلمة الربا عند إطلاقها، وهو من ربا الديون، وليس من ربا الفضل الذي حرمته السنة المطهرة، والذي لا يكون إلا المبيعات، ولا يدخل في ربا الديون بحال. ولقد حاول بعض العلماء المعاصرين إدراج ربا الفضل المشترط فيه الزيادة عند العقد ربا الفضل، للوصول بذلك إلى إباحته للحاجة الملحة، على أساس أن ربا الفضل من باب سد الذرائع كما يقول ابن القيم وما كان من هذا الباب يجوز عند الحاجة الملحة (1) ، كما يقولون. وهذا الرأي غير صحيح لما تقدم من اعتبار ربا القرض المشترطة فيه الزيادة من ربا الديون، والذي هو إحدى صورتي ربا الجاهلية الذي حرمه القرآن ونهى عنه وليس هو من ربا البيوع – الذي يدخل ضمنه ربا الفضل. ولأن الزيادة مع الأجل ليست فضلا وإنما هي عوض الزمن الإضافي ومقابل له، ولا يكون الفضل إلا حيث لا مقابل – فالزيادة تكون فضلا إذا كان تبادل العوضين حاضرا – أما مع الأجل فهي نساء في مقابل الأجل وليست فضلا.   (1) رسالة الربا والمعاملات في الإسلام للشيخ رشيد رضا ص 15 وفتاويه ج 2 صفحات 607، 608. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 النتيجة المنطقية فهذه النصوص المختلفة فيما نقل من فعل أهل الجاهلية بشأن القرض، توضح أنهم كانوا يفعلون ذلك في الغالب – على الأقل – بزيادة مشروطة في العقد – أي بما نسميه الآن في المصارف بالفائدة – وقد يكون في بعض الأحيان قرضا حسنا حسبة للمعوزين. فكيف يقال: أن الزيادة التي أضيفت على المال بعد الاستحقاق ثم التأجيل "ربا" – سواء أكان أصل الدين قرضا أم ثمن سلعة – أما الزيادة التي زيدت على المستلف في مبدأ الإقراض، والثانية التي أضيفت على المال بعد الاستحقاق ثم التأجيل، وبهذا يتناسق التشريع – كما هو الشأن في تشريعات الإسلام – والأمر الثاني: أن يقع في التناقض – وحاشا لله، وهو أمر مستحيل) (1) فلم يبق إلا التسوية بين الزيادتين في الحكم واعتبار النص القرآني متناولا لهما معا، وإجراء حكمه عليهما. ومن جهة ثانية، فما دمنا كلنا متفقين على أن القرض الجاهلي كان بعضه حسنا وبعضه الآخر بالزيادة المشروطة في أصل العقد وهذه الزيادة مماثلة للزيادة اللاحقة بعد الاستحقاق والتأجيل مرة أخرى. فلا مفر من التسوية بينهما في الحكم، إلا بدليل يخصص إحداهما بالحكم دون الأخرى. وليس بين يدينا هذا الدليل، فتكون التفرقة بينهما في الحكم تحكمًا.   (1) ربوية الفوائد المصرفية، للشيخ عثمان صافي المكتب الإسلامي – 28 بيروت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 ربا البيوع ذكرنا فيما مضى تقسيم الربا – كما جرى حديثا- إلى ربا ديون وربا بيوع، وأن هذه الطريقة أوضح وأبين من الطريقة القديمة – التى كانت تقسم إلى ربا نسيئة وربا فضل، لأن الأخيرة فيها كثير من الخلط وعدم الوضوح. وتكلمنا عن ربا الديون، وكيف أن ربا الجاهلية المحرم بالقرآن هو من هذا القبيل، ومنه ربا القرض المشترط فيه الزيادة عند العقد. وننتقل الآن للحديث عن ربا البيوع في شئ من الإيجاز لبيان صورته المقابلة لربا الديون – بالرغم من قلة حاجتنا إليه في بيان (حكم التعامل المصرفى بالفوائد) الذى هو موضوع بحثنا – حيث يقع في نطاق ربا الديون – كما سيأتى إن شاء الله. فنقول: أن ربا البيوع: هو الذى حرمته السنة النبوية الشريفة بقوله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه عبادة بن الصامت قال: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (1) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن ماعدا الترمذى. وما رواه أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجر)) .. متفق عليه (2) . فهذان الحديثان الصحيحان وأحاديث أخرى مثلهما في هذا الباب جاءت بتحريم نوع معين من البيوع وسمته ربا – وهو ما يطلق عليه ربا الفضل تغليبا للفضل على ربا النسيئة – وهو في الواقع يشمل ربا الفضل وربا النسيئة كما قدمنا.. ولم يكن هذا النوع من البيوع معروفا لدى العرب في الجاهلية بكونه ربا، وإن كانوا يتعاملون به، ولكنه لم يكن معروفا عندهم بكونه ربا، لا لغة ولا عرفا (3) ، وإنما أصبح ربا بالسنة النبوية التى أوردناها في الأحاديث السابقة، وكله متعلق بالبيوع سواء كان بيع النقدين أو غيرهما من الأصناف الربوية التى وردت في الأحاديث النبوية الصحيحة، أو ما قيس عليها من الأموال الأخرى لدى القائلين بالقياس من الفقهاء. وهذا النوع من الربا مجمع على تحريمه كالنوع الأول المتعلق بالديون والمحرم بالقرآن – ماعدا ما نقل عن ابن عباس رضى الله عنهما من إنكار لربا الفضل، استنادا إلى حديث أسامة بن زيد (لا ربا إلا في النسيئة) . وقد قيل أن ابن عباس رجع عن إنكاره لربا الفضل (4) .   (1) نيل الأوطار للشوكانى ج 5 ص 300 (2) نيل الأوطار للشوكانى ج 5 ص 297 (3) أبوبكر الجصاص، أحكام القرآن ج 1 ص 464، ومحمد أبو زهرة، بحوث في الربا ص33 (4) تكملة المجموع، شرح المهذب للسبكى ج 1 ص 31-34 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 أساس تقسيمات الربا ودليل كل نوع والأساس الذى قام عليه تقسيم الربا إلى ربا ديون، وربا بيوع. وأن الأول ثابت بالقرآن الكريم – وهو ربا الجاهلية. والثانى ثابت بالسنة الصحيحة ولم يكن معروفا بكونه ربا عند العرب في جاهليتهم. هو أن الألف واللام في كلمة (الربا) التى وردت في القرآن إنما هى للعهد على الأصح وليست للعموم والاستغراق، كما أنها ليست مبهمة بحيث تحتاج إلى بيان بأمر آخر، كما ذهب إلى ذلك أغلب المفسرين (1) . بأكثر من ثمن الأصل، وكالصوف واللبن وتمر النخيل، إذا كانت أصولها للقنية – فهذه كل فائدة مستفادة (2) فمعنى الفائدة في الاصطلاح الفقهى أخص من المعنى العام اللغوي لهذه الكلمة، أما معنى الفائدة في الاصطلاح المصرفي فهو (الثمن المدفوع نظير استعمال النقود) ، وهو بعيد عن معناها في الاصطلاح الفقهى ولكنه يدخل في المعنى اللغوي العام للكلمة. معنى الربح: فإذا انتقلنا إلى وجه آخر من وجوه الكسب المشروعة وهو الربح، فإنا نجد الفقهاء يعرفونه بأنه: (زائد ثمن مبيع تجر – أي تبادل تجاري – على ثمنه الأول ذهبا أو فضة) (3) أي أن الربح هو الزائد عن ثمن السلعة المشتراه منذ البداية بنية بيعها تجاريا، أما إذا لم يكن الزائد عن ثمن سلعة مشتراه بغرض ونية الاتجار بها فإنه لا يسمى ربحا، وقد يسمى فائدة كما مر، أو قد يسمى غلة على ما سيأتى، ولابن قدامة الحنبلى قول في معنى الربح يطابق تعريف المالكية له، وذلك في معرض كلامه عن زكاة نماء عروض التجارة قال: " أن الزكاة لا تجب إلا في مال نام.. وإن النماء. "   (1) انظر الودائع المصرفية، شرح المهذب للسبكى ج 1 ص 274- 279 (2) جواهر الإكليل – شرح الرسالة، للشيخ صالح الأبى ص 338، وحاشية الدسوقى على الشرح الكبير ج 1 ص 431 (3) شرح الخرشي على خليل ج 2 ص 183 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 معنى الفائدة المصرفية ذكرنا في التمهيد: أننا لكي نصل إلى حكم سليم للتعامل المصرفي بالفائدة لابد لنا من توضيح مفاهيم كلمة الربا وكلمة الفائدة توضيحا كاملا لنتمكن بذلك من عقد المقارنة بينهما ثم نرى ما إذا كان بينهما التقاء كلي أو جزئي أم لا، فإن التقيا التقاء تاما أخذت الفائدة المصرفية حكم الربا الذى شرحناه. وإلا، أصبحت آخر ويأخذ حكما مختلفا. ولقد أوفينا كلمة (الربا) حقها بعض الشئ، من الشرح والتوضيح وننتقل الآن لشرح وتوضيح كلمة الفائدة، في اللغة العربية، وفى الاصطلاح الفقهي، وفى الاصطلاح المصرفي. ولزيادة الإيضاح نذكر معانى بعض الكلمات الشبيهة بالفائدة من حيث كونها أسماء لبعض وجوه الكسب. كالغلة، والربح، لمعرفة ما إذا كانت الفائدة تمثل واحدة منهما. ونبدأ بالفائدة فنقول: 1- الفائدة في اللغة: جاء في تاج العروس: " أن الفائدة ما افاء الله تعالى العبد من خير يستفيده ويستحدثه " (1) وقال في ترتيب القاموس " الفائدة: ما استفدت من علم أو مال جمع فوائد " (2) وهذا معنى عام يشمل المال وغيره وسواء أكان المال مشروعا مكتسبا بوجه مشروع أم لا. 2- أما الفائدة في الاصطلاح الفقهي فهي: " ما تجدد – أي نتج – لا عن مال كميراث وعطية، أو عن مال غير مزكى كالزائد من ثمن عروض القنية – إذا بيعت في الغالب في التجارة إنما يحصل بالتقليب " (3) والنماء – أي – الزيادة التى تحصل من تقليب التجارة بيعا وشراء، - هو الربح دون شك، فالربح إذن عند ابن قدامة كما هو عند فقهاء المالكية هو ما نتج عن عملية تبادل تجاري، تقلب فيه النقود إلى عروض تجارية، ثم تباع هذه العروض التجارية بثمن أزيد من ثمن شرائها، فهذه الزيادة عن الثمن الأول تسمى في الاصطلاح الفقهي ربحا. 3- معنى الغلة: الغلة في المصطلح الفقهي هي: " ما تجدد – أي نتج – من سلع التجارة قبل بيع رقابها، كالصوف واللبن وتمر النخيل المشترى للتجارة، وكزيادة المبيع في ذاته، إذا اشتراه للتجارة صغيرا بعشرين، ثم باعه بعد كبره بخمسين مثلا" (4) فهذه الزيادة لا تسمى ربحا، وإنما تسمى غلة.   (1) تاج العروس من ظواهر القاموس ج 8 ص 517 (2) ترتيب القاموس المحيط ج 3 ص 478 (3) المغنى ج 3 ص 34 (4) المغني ج3 ص34 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 اختلاف المعنى العرفي المصرفي للفائدة عن المعنى الشرعى لها ومن الشرح المتقدم لبيان معانى بعض أوجه الكسب المشروع يتبين لنا أن المعنى الاصطلاحي للفائدة المصرفية يختلف عن معنى هذه الكلمة في الاصطلاح الفقهي كما يختلف عن غيره من أوجه الكسب المشروع الأخرى لأنها كما تقدم. (هى الثمن المدفوع نظير استعمال النقود) أي مقابل اقتراضها بزيادة لأجل محدد. فهي لا تتفق مع معنى الربح الشرعي، ولا مع معنى الغلة الشرعية في المصطلح الفقهي. انطباق معنى الربا على الفائدة المصرفية وإذا كان معنى الفائدة المصرفية التى يجرى التعامل المصرفي بها في الوقت الحاضر لا ينطبق على مفهوم الفائدة، ولا الغلة ولا الربح في الاصطلاح الفقهي فهل ينطبق معناها على الربا الشرعى المتقدم ذكره، ويأخذ حكمه في الشرع، أم يختلف عنه كما اختلف مع تلك الأشياء؟ لقد ذكرنا من قبل أن تعريف الفائدة المصرفية الذى يقول (إنها الثمن المدفوع نظير استعمال النقود) معناه أنها الزيادة مقابل إقراض النقود إلى أجل – وهذا معنى القرض بزيادة مشروطة عند العقد والذى بينا من قبل أنه إحدى صورتي ربا الديون المعروف في الجاهلية والذى حرم بنص القرآن الكريم في عدد من الآيات. يتضح ذلك بجلاء إذا علمنا أن المبالغ المالية التى تستخدمها – المصارف – أي تقدمها في عمليات الإقراض المباشر وغير المباشر للمتمولين – أي طالبى التمويل من التجارة وأصحاب الأعمال الأخرى، وتأخذ مقابل ذلك مبالغ محددة سلفا، زيادة على أصل المبلغ تسمى (بالفائدة) هذه المبالغ ما هي في الغالب إلا الودائع المؤجلة أو ودائع الادخار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 وهذه الودائع المذكورة متفق على أنها قروض في فقه القانون وفي التشريعات القانونية بل وفي تخريجها الشرعي. كما أن البنوك نفسها تدفع لأصحاب هذه الأموال التى يودعونها لديها مبالغ عائدة على أصلها عند ردها لأصحابها – مشروطة تلك المبالغ الزائدة عند استلامها باعتبارها قروضا مباشرة (بالفائدة) . فالفائدة إذن ما هى إلا زيادة مشروطة في قرض مؤجل لمصلحة المودع في حالتى الودائع المؤجلة أو ودائع الادخار، ويدل على ذلك عدم وجودها في الودائع الجارية – أي تحت الطلب – مع كونها معتبرة قروضا أيضا في الفقه القانون والتشريع. كما أن الفائدة زيادة مشروطة في قرض مؤجل لمصلحة البنك في حالة إقراضه للمتمولين الآخرين. فهي على هذا الوجه أو ذلك زيادة مشروطة في قرض مؤجل، وبذلك تلتقى تماما في مقاييس الفقه والشريعة الإسلامية بمعنى الزيادة في القرض عند العقد، وتمثل بذلك إحدى صورتي ربا الجاهلية الذى حرم تحريما قاطعا بنص القرآن الكريم، بل هي الصورة البارزة في ربا الجاهلية، حتى أن أبا بكر الجصاص بالغ في توكيدها حتى قال " ولم يكن تعاملهم – أي عرب الجاهلية – بالربا إلا على هذا الوجه الذى ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط الزيادة (1)   (1) أحكام القرآن ج 1 ص 465 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 شاهد من أهلها والفائدة المدفوعة كثمن لاستعمال النقود، كانت تعتبر (ربا) عند أصحابها الغربيين انفسهم، ولكن التطور التجاري والصناعي والحاجة إلى الائتمان لمواجهة هذا التطور جعلهم يتنازلون عن تشددهم على أخذ الفوائد، ويقصرون اسم الربا على ما زاد الذى سمح به عن القدر القانون أو العرف (1) . بل أن بعض كبار علماء الغرب من لا يزال يسمى الفائدة المصرفية مهما قلت (ربا) ينقل في ذلك الدكتور عيسى عبده عليه رحمة الله عن اللورد كينز أحد أعمدة الاقتصاد الغربي قوله " وحين تتوافر رؤس الأموال المتاحة للتوظيف في صورة مدخرات خاصة أو جماعية فإن سعر الفائدة يهبط بطبيعته إلى الصفر، ولا يبقى مجال يعيش المستثمر المتبطل على حساب المجتمع بما يقتضيه من فائض ربوي في صورة فائدة، أو ربح فاحش" (2) .   (1) د. سامى حسن محمود، تطوير الأعمال المصرفية ص 294 (2) وضع الربا في بناء الاقتصاد الإسلامى ص 185-186 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 ربا القرض ليس قاصرا على الأموال الربوية كما ذهب بعض آخر من الكتاب إلى أن (الفوائد) التى يتعامل بها الناس في النظام المصرفى المعاصر تجرى في نوع من المال الذى يعتبر من نوع الفلوس وليست من نوع الذهب والفضة – والفلوس فيما يرى ليست أثمانا كالذهب والفضة حتى يجري فيها الربا (1) . ومع اختلافنا مع هذا الفريق في قوله بعدم ربوية الفلوس والنقود الورقية المعاصرة، فإننا نقول إنه فرض صحة هذا الرأى، فإن هذا لا ينطبق على ربا القروض. ذلك أن (الربا) القرض يسرى في جميع الأموال ما كان منها ربويا في الأصل كالأصناف الستة الواردة بالأحاديث النبوية الشريفة كالذهب والفضة والبر والشعير.. إلخ، وما كان منها غير ربوي في الأصل –على رأي هذا الفريق – كالفلوس المصنوعة من الحديد والنيكل والبرونز، والأوراق النقدية في الوقت الحاضر، فبمجرد قرض شئ من هذه الأشياء تصبح الزيادة فيه (ربا) لأن القرض يجب أن يرد كمثله دون زيادة مهما كان نوعه من الأموال، باتفاق العلماء. قال ابن حزم في كتابه المحلى " الربا لا يكون إلا في بيع أو سلم أو قرض.. وهو في القرض، في كل شئ فلا يحل إقراض شئ ليرد إليك أقل ولا أكثر، ولا من نوع آخر أصلا، لكن مثل ما اقرضت في نوعه ومقداره.. وهذا إجماع مقطوع به" (2) وقال " وأما القرض فجائز في الأصناف الستة التى ذكرناها وغيرها، وفى كل ما يمتلك ويحل إخراجه عن الملك، ولا يدخل الربا فيه إلا في وجه واحد فقط وهو اشتراط أكثر مما أقرض، أو أقل مما أقرض، أو أجود مما أقرض، أو أدنى مما أقرض، وهذا مجمع عليه" (3) ولذلك كله فإن الفوائد المصرفية باعتبارها قرضا بزيادة مشترطة تظل ربا محرما بأى نقد كانت.   (1) د. أحمد صفى الدين، في كتابه "بحوث في الاقتصاد الإسلامى" ص 37 وما بعدها. (2) المحلى ج 2 ص 467- 468 و 77 على التوالى (3) المحلى، ج 2 ص 467- 468 و 77 على التوالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 وضوح القضية من المسار المتقدم أصبح أمر الفوائد المصرفية جلى وواضح بدرجة فيما نعتقد لا لبس فيها ولا غموض – وهو أنها نوع من ربا الديون الناشئة عن قروض بزيادة مشترطة في أصل العقد، ومتفق عليها منذ البداية بين طرفيه، وهى والحال هكذا أمر لا ريب في حرمتها حرمة مغلظة باعتبارها صورة لربا الجاهلية الذى شجبه القرآن وحرمه وأنذر متعاطيه بحرب من الله ورسوله، وهو أشنع أنواع الوعيد. وكان بعض الزملاء بمعهد البحوث الإسلامية بالبنك الإسلامى يرى أن موضوع (حكم التعامل المصرفي بالفوائد) أصبح أمرا معلوم الحرمة لدى الرأي العام الإسلامي باعتباره ربا، ولم تعد هناك حاجة لإنفاق الوقت في دراسته دراسة جديدة. ولكن يبدو أن هؤلاء الإخوة لم يطلعوا على وجهات نظر بعض المهتمين بالكتابة في هذه المسائل والذين لم يصلوا إلى القناعة التى يشير إليها الإخوة المعترضون على دراسات جديدة في هذا الموضوع وقد أشرنا فيما تقدم لبعض وجهات نظر هذا الفريق (1) . فكان لابد أن تقوم بعض المعاهد المختصة بهذه المسائل، وخاصة مجمع الفقه الإسلامي بتقديم دراسات علمية مستوفاة تستنفر لها ما تيسر لها الوصول إليهم ممن تأنس فيهم المقدرة على أداء هذه المهمة من علماء المسلمين ثم تبنى على ذلك قرارات تكون هى المرجع والممثل لوجهة النظر العامة للمسلمين في هذا الموضوع.   (1) انظر ص 7 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 هل الفائدة المصرفية من باب السلم من جهة أخرى ذهب بعض الباحثين إلى أن الفائدة المصرفية ليست فضلا – أي زيادة في قرض: - 1- لأن الأموال التى تسلمها البنوك أو تدفعها بأجل للمقترضين ليست هى في الحقيقة قرضا، لأنها مؤجلة، والأجل لا يجوز في القرض عند الشافعية. 2- وأن تلك الأموال تدخل في عقد السلم، لأن السلم يجوز فيه الأجل عند الشافعية. 3- أن الربا في السلم لا يقع في الأموال غير الربوية – الذهب والفضة، والبر، والشعير.. إلخ. وبما أن الأوراق النقدية ليست من الأموال الربوية – كمثل الفلوس – في مذهب الشافعية، فإنه يرى الفائدة المصرفية ليست من ربا البيوع وعلى ذلك فإن الفائدة حلال. وهذه القضية كما طرحها صاحبها غير صحيحة، وإليك نقضها فيما يلى: المسألة المسارة بين الفقهاء حول الأجل في القرض – والتى بنى عليها هذا الباحث رأيه في جعل الأموال التى تتداولها البنوك أخذا أو عطاء مع عملائها، نوعا من السلم- هى: هل الأجل في القرض ملزم أم لا- بمعنى أنه يلزم المقترض رد القرض وقتما يطلب ذلك منه المقترض ولو كان له أجل مضروب ولم يحل وقته؟ قال الفقهاء كلهم الشافعية وغيرهم ما عدا المالكية، قالوا: " نعم يلزم رد القرض بمجرد طلبه بصرف النظر عن الميعاد المضروب لرده، لأن القرض إرفاق وإحسان، وما على المحسنين من سبيل، وقال المالكية: لا بل الأجل لازم ولا يجب على المقترض رد القرض إلا في الأجل المحدد له، لأن عدم لزوم الأجل قد يترتب عليه إلحاق ضرر بالمقترض، وهذا أمر يتنافى مع غرض مشروعية القرض – وهو الإرفاق بالمقترض لا إعناته والإضرار به. وسواء أصح ما ذهب إليه المالكية – كما نرى – أم ما ذهب إليه غيرهم فإنهم جميعا المالكية وغيرهم متفقون على أن لزوم – اشتراط الأجل، أو عدم لزومه في القرض، لا يؤثر في صحة عقد القرض، ولا يبطله، أو يخرجه عن ماهيته، ويحوله إلى عقد آخر – كعقد السلم – كما يقول الباحث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 وقوله: أن اشتراط الأجل لا يجوز عند الشافعية، قول غير صحيح لأن قضية الأجل عند الشافعية وغيرهم هي حول لزومه، وعدم لزومه كما ذكرنا، لا بخصوص جوازه أو منعه، وفرق كبير بين جواز الشرط وبين لزومه. وعليه فإن القرض مع الأجل يظل صحيحا وتترتب عليه آثاره باتفاق جميع الفقهاء، ولا يتحول إلى عقد سلم سواء قلنا بلزوم شرط الأجل فيه أم لا. ومن جهة أخرى، فإن السلم لا ينعقد إذا كان رأس مال السلم والمسلم فيه نقدا – أي الثمن والمثمن، حتى ولو كان النقد من نوع (الفلوس) ، ما لم يتحدد القدر والصنف، ويكون بلفظ القرض أو – السلف فينعقد حينئذ قرضا حتما، أما سلما فلا ينعقد إطلاقا. فقد جاء في حاشية الصاوى على الشرح الصغير الآتى: " قوله: إلا أن يكونا طعامين أو نقدين إلخ، فلا يجوز أن تقول لآخر: أسلمتك أردب قمح في أردب قمح ... ، ولا أسلمك دينارا في قدر من فضة أو دينار، ما لم يتحدد القدر والصنف، ويكون بلفظ القرض – أو السلف، وإلا، جاز. وعلم أن الفلوس الجدد هنا كالعين، فلا يجوز سلم بعضها" (1) . وجاء في رد المحتار: " الدراهم والدنانير لأنها أثمان، فلم يجز فيها سلم " وعلق على ذلك ابن عابدين بقوله: " لكن إذا كان رأس المال دراهم أو دنانير أيضا، كان العقد باطلا اتفاقا " (2) . وبناء على ما أوضحنا تصبح دعوى تحويل الأموال المتبادلة بين المصارف وعملائها داخلة في عقد السلم – وليست قروضا، وبالتالى تصبح الفوائد عليها حلالا لأن السلم لا يدخله الربا إذا كانت الأموال المستعملة فيه ليست من الأموال الستة الربوية – كالنقود الورقية والفلوس، أقول: تصبح هذه الدعوى منقوضة من أساسها، لعدم صحتها كما بينا.   (1) ج 3 ص 366 طبعة دار المعارف بمصر. (2) حاشية ابن عابدين من ج 5 ص 209-210. ولمزيد من الاطلاع في هذه المسألة: انظر كتابنا (الفوائد المصرفية، والربا) صفحة 28-32، الناشر الاتحاد الدولى للبنوك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 أنواع التعامل المصرفى الذى تدخله الفائدة فيما مضى بينا معنى الربا تفصيلا، ومعنى الفائدة المصرفية وانتهينا إلى أنهما يمثلان شيئا واحدا ولا خلاف بينهما إطلاقا، وبناء على ذلك يجب أن تأخذ الفائدة حكم الربا تماما، فما هى إذن أنواع التعامل المصرفى الذى تدخل فيه الفائدة؟ الإجابة على ذلك فيما يلى: أن الأعمال – أو التعامل المصرفي الذى يمثل الوظيفة الأساسية للمصارف ينقسم إلى نوعين: الأعمال الخدمية النوع الأول: يتعلق بالنواحى الخدمية التى يقدمها المصرف لزبائنه والمتعاملين معه بالأجر، وهو ليس من باب الأعمال التى تدخلها الفائدة في العادة، ويشمل الأعمال التالية: 1- قبول الودائع الجارية – تحت الطلب – وحفظها لأصحابها، وهو في الغالب يأخذ على هذه الخدمة أجرة، وخاصة إذا كانت المبالغ المودعة قليلة، أما إذا كانت المبالغ كبيرة فهو في العادة لا يأخذ عليها أجرة، لأنه كما هو واقع الحال، يستفيد منها في استخداماته لها، وهي في الغالب تمثل أكبر موارد المصارف. 2- حفظ الأوراق المالية – الأسهم، السندات.. إلخ. 3- بيع الأوراق المالية – الأسهم، السندات.. إلخ. 4- تحصيل الأوراق التجارية – الكمبيالات – مثلا. 5- إصدار خطابات الضمان – المغطاة – أما المكشوفة فالحديث حولها ما زال مطروحا في اللقاءات العلمية. 6- الاعتمادات المستندية التى لا يقدم المصرف فيها مبالغ نقدية. 7- ويلحق بهذا قيام المصرف بعمليات الصرافة، أي بيع وشراء العملات المختلفةبعضها بالبعض الآخر. هذه أبرز الأعمال التى تقوم بها المصارف في باب الخدمات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 أعمال الإقراض والتسليف النوع الثانى: من التعامل المصرفي الذى تدخله الفائدة وهو من أعمال الإقراض والتسليف في الغالب – أي ما يطلق عليه منح الائتمان في العرف المصرفي، وقلنا في الغالب لأن هناك من القروض والسلف ما قد يكون حسنا، حسبة لله تعالى بدون (فائدة) . وفيما يلى أغلب أنواع هذا النوع وأظهرها: 1- الفوائد المدفوعة من المصارف، على المبالغ المودعة لديها، خاصة في شكل حسابات بأجل – أيا كان الأجل، شهرا أو عدة شهور، أو سنة وقد تقدم تعريف الفائدة فلا داعي لتكراره. 2- الفائدة على القرض النقدى المباشر – وهو واضح وبسيط ولكنه لا يمثل إلا قدرا محدودا في العادة من النشاط المصرفي، لارتباطه بقضاء حاجات محدودة للمتعاملين مع المصارف. 3- الاعتمادات المصرفية – والاعتماد المصرفي كما يعرفه د. محمد شفيق هو: " عقد بين بنك وعميل، يتعهد فيه البنك بوضع مبلغ معين تحت تصرف العميل، خلال مدة معينة " ولأنه عقد يضع البنك بموجبه مبلغا محددا من المال تحت تصرف العميل بحيث يسحبه العميل دفعة واحدة أو على عدة دفعات متعددة، أثناء المدة الزمنية المقررة لسريانه، فإنه والحال هذه، بالإضافة إلى كون هذا المبلغ المسموح للعميل بسحبه بموجب هذا العقد لا تستحق عليه فوائد إلا فيما يسحب منه بالفعل ومن تاريخ السحب، فإنه لهذين الأمرين يمثل الوسيلة الملائمة للعمل التجاري بعكس القرض المباشر الذى تستحق عليه فوائد من حين أخذه، ولو لم يستفد منه في وقته. 4- الفائدة –على خصم الأوراق التجارية – الكمبيالات- وسندات الإذن، القابلة للتداول، وقد عرفوا الخصم بأنه " اتفاق يعجل به البنك الخاصم، لطالب الخصم قيمة ورقة تجارية، أو سند قابل للتداول، أو مجرد حق أخر مخصوم منها مبلغ يتناسب مع المدة الباقية، حتى استيفاء قيمة الحق عند أجل الورقة، أو السند، أو الحق، وذلك في مقابل أن ينقل طالب الخصم إلى البنك هذا الحق على سبيل التمليك، وأن يضمن له وفاءه عند حلول أجله" (1) . والفائدة على خصم الأوراق التجارية تدخل في هذا الباب على اعتبار أن عملية الخصم هى على القول الراجح في تكييفها الشرعى من قبيل القرض بفائدة. وليست من قبيل حوالة الحق لعدم تساوى الدين المحال به والمحال عليه – وذلك شرط لصحة الحوالة. كما أنها ليست من قبيل بيع الدين الثابت بالأوراق المخصومة لأن بيع الدين لغير من عليه الدين يلزم فيه التقايض، وعدم التفاضل. تلك هى أظهر وأوضح أنواع التعامل المصرفى المعاصر التى تدخلها الفائدة – التى هى ربا محرم كما تبين لنا بوضوح من هذا المسار على صفحات هذا البحث، وهناك أنواع أخرى ثانوية في تضاعيف بعض العمليات المصرفية لا تخفى حقيقتها عند النظر.   (1) د. على جمال الدين عوض، عمليات، البنوك من الوجهة العملية ص469، وباقر الصدر، البنك اللاربوى ص155. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم 3 بشأن حكم التعامل المصرفى بالفوائد وحكم التعامل بالمصارف الإسلامية أما بعد: فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406هـ، الموافق 22-28 ديسمبر 1985 م. بعد أن عرضت عليه بحوث مختلفة في التعامل المصرفي المعاصر. وبعد التأمل فيما قدم ومناقشته مناقشة مركزة أبرزت الآثار السيئة لهذا التعامل على النظام الاقتصادي العالمي، وعلى استقراره خاصة في دول العالم الثالث. وبعد التعامل فيما جره هذا النظام من خراب نتيجة إعراضه عما جاء في كتاب الله من تحريم الربا جزئيًا وكليًا تحريمًا واضحًا بدعوته إلى التوبة منه، إلى الإقتصار على استعادة رؤوس أموال القروض دون زيادة ولا نقصان قل أو كثر، وما جاء من تهديد بحرب مدمرة من الله ورسوله للمرابين. قرر: أولًا: أن كل زيادة أو فائدة على الدين الذى حل أجله وعجز عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة (أو الفائدة) على القرض منذ بداية العقد: هاتان الصورتان ربا محرم شرعًا. ثانيًا: أن البديل الذى يضمن السيولة والمساعدة على النشاط الاقتصادي حسب الصورة التى يرتضيها الإسلام – هو التعامل وفقًا للأحكام الشرعية. ثالثًا: قرر المجمع التأكيد على دعوة الحكومات الإسلامية إلى تشجيع المصارف التى تعمل بمقتضى الشريعة الإسلامية، والتمكين لإقامتها في كل بلد إسلامى لتغطى حاجة المسلمين كيلا يعيش المسلم في تناقض بين واقعه ومقتضيات عقيدته. والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 أحكام التعامل في المصارف الإسلامية الدكتور وهبة الزحيلي المصرف الإسلامي: هو مؤسسة مالية تقوم بتجميع الأموال واستثمارها وتنميتها لصالح المشتركين، وإعادة بناء المجتمع المسلم، وتحقيق التعاون الإسلامي وفق الأصول الشرعية. وأهم تلك الأصول: اجتناب المعاملات الربوية والعقود المحظورة شرعًا، وتوزيع جميع الأرباح وفق الاتفاق دون استغلال حاجة المضطر أو المحتاج، ومساعدة أهل الحاجة عن طريق القرض الحسن، والدعوة إلى الإسلام اقتصاديًا واجتماعيًا واعتقادًا. مميزات المصارف الإسلامية: تمتاز المصارف الإسلامية عن المصارف التجارية الربوية القائمة على أساس الفائدة المصرفية إيداعًا وإقراضًا، أخذًا وعطاءً، بمميزات واضحة مستمدة من الشريعة الإسلامية، وفقهها الخصب غير الملتزم بمذهب معين، بحيث يمكن أن تحقق هذه التجربة نجاحًا ملحوظًا بارزًا، تستطيع به الصمود أمام المصارف الأخرى، ومنافستها وإقناع المسلم بأنها قادرة على تلبية حاجاته، وتحقيق مطالبه في ظل أحكام القرآن والسنة النبوية الصحيحة، والحد من غطرسة النظام الرأسمالى القائم أساسًا على الاستغلال والطبقية والفائدة الربوية. وأهم هذه المميزات التى يبين منها أوجه الفرق بين المصارف الإسلامية وبين المصارف التجارية هى ما يلى: 1- ارتباطه بالعقيدة الإسلامية: المسلم في كل تصرفاته ملتزم بأصول الحلال والحرام في شريعته، فهو يقدم على الحلال الواضح المعالم الذى يطمئن إليه قلبه، ويتجنب الحرام الذى يمنعه دينه، ويحظره عليه شرعه، فلا يجرؤ على مخالفة حكم من أحكام قرآنه وسنة نبيه، وقد نص القرآن الكريم على تحريم الربا تحريمًا قطعيًا أبديًا، سواء أكان ربا نسيئة، ومنها ربا المصارف، أم ربا فضل، وسواء أكان الربا في البيع أم في القرض، وسواء أكان القرض استهلاكيًا أم إنتاجيًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 وبذلك في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) أي حرم جنس الربا بمختلف أنواعه، وأنذر تعالى بمحق فوائد الربا، فقال: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (البقرة: 276) وأوجب تعالى ترك كل آثار الربا وتصفيته، ولو كانت الفائدة قليلة مثل 1 % بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (البقرة: 278) وأعلن الحق تبارك وتعالى الحرب والعداوة على أكلة الربا، فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) . وهذا أشد عقاب في الإسلام في الدنيا، وأدل على أن الربا أشد الأحكام حرمة، وأفظعها وأشنعها جرمًا عند الله تعالى، لاستحقاقه عداوة الله والرسول. وينبنى على قاعدة الحلال والحرام هذه أنه لا يجوز للمصرف الإسلامي إنتاج أو تمويل أو استيراد أو تصنيع السلع المحرمة شرعًا كالخمر، أو التعامل بالربا، أو الاحتكار، أو التغرير، أو الغش في التعامل، أما المصارف الربوية فتعتمد على الفائدة أخذًا وعطاء، وعلى دعم الاحتكارات. ويتعين على المصرف الإسلامى توجيه الموارد، واستثمارها في مجال السلع والخدمات المشروعة دون إسراف. ويراعى المصرف في مشروعاته حاجات المسلمين ومصلحة الأمة. 2- الأخذ بمبدأ الرحمة والتسامح واليسر: إن مبدأ الإخاء الإسلامى يوجب على عاملي المصرف الإسلامي الأخذ بيد المسلم، لانقاذه من عسر أو ضيق طارئ، أو أزمة ألمت به، فلا إرهاق ولا إعنات في المطالبة، ويعتمد في معاملته النصح والإرشاد، والأمانة والصدق، والإخلاص والتسامح، ويتعامل بالقروض الحسنة، ويمهل المدين الغريم عند العسر، أخذًا بنظرية الميسرة المقررة في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 280) . أما المصارف التجارية غير الإسلامية فنظرتها مادية محضة، لا تعنى بالأخلاق، ولا تراعى ظروف المقترض، وإنما يهمها مصلحتها وتحقيق أرباحها، بغض النظر عن أوضاع العميل مع المصرف، فإذا لم يقم بتسديد ما عليه من فوائد متراكمة، تبادر إلى الحجز على ممتلكاته التى قدمتها رهنًا بالقرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 3- النزعة الاجتماعية الإنسانية: إن هدف المصارف الربوية هو الربح، وتحقيق أكبر ربح ممكن، بينما هدف المصارف الإسلامية هوالتعاون، ودرء الضرر، ودفع الحاجة، من طريق القروض الحسنة التى لا تأخذ فائدة عليها، وصرف الزكاة إلى الأسر الفقيرة، وطلبة العلم، وبناء المساجد، ودعم الجمعيات الخيرية التى تعنى برعاية الفقراء، طعامًا وغذاء وكساء وماوى وعلاجًا، وبتحفيظ القرآن، وإعداد الجيل إعدادًا صالحًا على منهج التربية الإسلامية في سيرتها السلفية الأولى، مع الأخذ بما تقتضيه المعاصرة والحداثة والتطور النافع المفيد. وتعنى المصارف الإسلامية بربط التنمية الاقتصادية بالتنمية الاجتماعية، في أطر متوازنة، وتنسيق متكامل، فيسير العمل من أجل توفير الإخاء الاقتصادى، مع التهذيب الاجتماعي القائم على الالتزام بآداب الإسلام وقيمه وأخلاقه الاجتماعية في كل مناحى الحياة ومسيرة المعاملات، فلا غش ولا خداع، ولا تغرير ولا تدليس. ولا مقامرة ولا غبن في المعاملة، منعًا لأكل أموال الناس بالباطل، وحفاظًا على شيوع روح الود والحب والطمأنينة، ومنع المنازعات بين الناس، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقرار في الحياة والأوطان الإسلامية، وتقوية وازع الدين، وخشية الله تعالى ورقابته في السر والعلن، حتى يكون المواطن عضوًا أمينًا صالحًا منتجًا، يعمل بوحى من دينه وضميره الذى لا رقيب عليه إلا الله تعالى، ويتقن أعماله، ويضاعف جهوده في الإنتاج، والتصنيع، وتحسين الثمار والزروع، وغير ذلك من الأنشطة الاقتصادية، وتقوية التجارة القائمة على الثقة، وإفادة الأمة الإسلامية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 4- المساواة بين طرفى التعامل، والوضوح في العمل، والثقة في الاستثمار. لا تعرف المصارف الربوية هذه المبادئ، وإنما يهمها تشغيل الأموال بمعرفة إدارة المصرف، وإعادة الإقراض إلى غير المودعين بسعر فائدة أعلى من سعر فائدة الودائع. بينماالمصارف الإسلامية لا غموض فيها، وكل أعمالها واضحة، ويهمها توفير ثقة المتعاونين مع إدارة المصرف، ولا تعتمد على الإقراض بالفائدة، وتلتزم بعقد المشاركة بطريق شركة العنان في الفقه الإسلامى مع العميل أو صاحب رأس المال، فيساهم الشريك والمصرف في رأس المال والإدارة، ويقسم الربح بنسبة يتفقان عليها بالتراضى مقدمًا، أما الخسارة فتكون بنسبة رأس المال، إلا إذا كانت الخسارة بسبب التعدى أو التقصير. وفى مجال تشغيل الأموال أو استثمارها يعتمد المصرف على نوع آخر من الشركات هو شركات القراض أو المضاربة التى يقدم فيها المصرف كل التمويل، بينما يقوم الشريك المضارب بالإدارة والعمل، وفقًا لشروط محددة يعينها المصرف حسبما يعرف في الفقه الإسلامى بالمضاربة المقيدة. ويحدد نصيب المضارب في الربح بالتراضى بين الجانبين مقدما، أما الخسارة فيتحملها المصرف وحده، ويفقد الشريك المضارب مجهوده الذى بذله في إدارة المشروع، ما لم تكن الخسائر بسبب التعدى أو التقصير. أما في نطاق الاستيراد كشراء السيارات والسلع التجارية، سواء من داخل البلاد أو خارجها فيلجأ المصرف إلى نوع آخر من البيوع يسمى بيع المرابحة: وهو البيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح، وهو من بيوع الأمانة، فإن ظهرت خيانته، كان للمشترى الخيار بنقض الصفقة. ويستطيع المصرف أن يأخذ ربحًا معقولًا على شراء السلعة، سواء أكان البيع حالًا (نقدًا) أم مقسطًا، أم مؤجلًا لأجل معين، ويجوز في رأى جمهور الفقهاء أن يكون سعر التقسيط أو المؤجل أعلى من السعر الحالى أو النقدى، بشرط تحديد السعر تحديدًا نهائيًا عند الاتفاق على البيع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 ويمكن للمصرف بناء بيت أو منزل في أرض بمبلغ معين يراعى فيه التكاليف زائدًا الربح، يدفع عند التسليم أو على أقساط يتفق عليها، ولا مانع من اختلاف الثمن باختلاف الأجل. أما التحاويل والحوالات التى هى وسائل تؤدى إلى سداد مبالغ نقدية في داخل البلد أو خارجه، فيجوز شرعًا، وكما هو معمول به في المصارف التجارية، أن تكون بأجر أو بغير أجر. وأما خطابات الضمان (وهى التعهدات الكتابية التى يتعهد بمقتضاها المصرف بكفالة أحد عملائه في حدود مبلغ معين تجاه طرف ثالث، بمناسبة التزام ملقى على عاتق العميل المكفول) فهى كفالة جائزة شرعًا. أما أخذ المصرف الأجرة على هذه الكفالة، فيجوز إذا كان خطاب الضمان بغطاء كامل أو جزئي (أى يتعهد بالدفع الكلي أو الجزئي، ويرصد مقابلها ما يوازيها) لأن العقد عقد كفالة ووكالة معًا، كفالة بالنسبة لعلاقة المصرف مع الطرف الثالث، ووكالة بالنسبة لعلاقة المصرف مع العميل. ولا يجوز للمصرف أخذ الأجر إذا كان خطاب الضمان بغير غطاء (أى لا يرصد مقابل الكفالة شئ) لأن العقد هنا عقد كفالة، ولا يجوز أخذ الأجرة على الكفالة، لأنها من عقود التبرعات، وأخذ الأجر على ذات الضمان غير جائز عند جمهور الفقهاء خلافًا لما عليه المصارف التجارية من أخذ عوائد على خطابات الضمان التى تصدرها. وهذا الحكم الشرعى هو ما أخذ به المؤتمر الأول للمصارف الإسلامية وهيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامى السوداني. وأجازت هذه الهيئة أخذ أجر حالة الكفالة المجردة، شريطة أن يكون محسوبًا نظير ما يقوم به البنك من خدمة فعلية يتكبدها في سبيل إصدار خطابات الضمان، من غير أن يمتد ذلك إلى الضمان نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 5- مناط الربح تشغيل رأس المال والعمل: الاسترباح في المصارف الإسلامية يعتمد على تشغيل رأس المال والعمل من جانب المصرف أو وكلائه، فلا يحق إيداع المال مقابل فائدة ثابتة، وأنما صاحب رأس المال شريك بناء على شركة العنان أو شركة المضاربة. ويجوز اجتماع شركة المضاربة مع أخرى كشركة العنان، كما يجوز تعدد أرباب المال وتعدد المضاربين، فللمضارب الواحد أو جماعة المضاربين الاشتراك مع آخرين في شركة عنان. والمضاربة مبنية على الأمانة، فلا يجوز أن يضمن المضارب المال، وإلا فسخ العقد. ويطبق المصرف مبدأ المضاربة المطلقة فيما يتعلق بالودائع الاستثمارية، والمضاربة المقيدة فيما يتعلق بعمليات الاستثمار. أما المستفيد من المصارف فيقترض منها بالقرض الحسن الذى لا فائدة فيه، ومال القرض هو مال بعض مؤسسى المصرف، لأن الفقهاء اتفقوا على أن كل قرض جر نفعًا فهو ربا، أي اشترط فيه النفع وهو الربا أو الفائدة أو المنفعة كالسكنى في بيت الغريم المدين. ولا يجوز في أي تعامل للمصرف أن ينص على دفع فائدة منه أو إليه، وليس له أخذ فائدة مقابل دفع مبلغ مؤجل حالًا، لأن ذلك ربا حرام، داخل في مضمون قاعدة: (ضع وتعجل) وهى من قواعد الربا. وبناء عليه، لا يصح للمصرف في تعامله مع المصارف الأجنبية أن ينص على أخذ فائدة أو دفع فائدة، كأن يشترط المصرف الإسلامي على المصرف الأجنبى أن يقرضه عندما ينكشف حسابه مقابل فائدة. والحل هو الاتفاق على إيداع المصرف الإسلامي مبالغ في المصرف الأجنبي لحسابه من غير فائدة. وإذا احتاج المصرف الإسلامي تغطية عجزه، لا يدفع فائدة للمصرف الأجنبي إذا صار دائنًا له، وقد قبلت المصارف الربوية هذا التعامل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 ويلاحظ أن المصارف التجارية لا تتعامل مع عملائها أو مع المصارف الأخرى إلا بفائدة ربوية في حالتي الأخذ والعطاء. ونظام الفوائد سلبًا وإيجابًا يؤدى إلى تضخم التكاليف، وارتفاع الأسعار، لأن كل فائدة تضم في النهاية على سعر السلعة، ويدفعها المستهلك مع ثمن البضاعة. وهناك عبء إضافى ثقيل على المقترض من المصارف الربوية وهو مضاعفة الفائدة أو ما يسمى بالفائدة المركبة مع مرور الزمن ومضي السنوات، وإذا عجز عن تسديد هذه الفائدة وهو الغالب، فإن أرضه أو بستانه أو منزله الذى قدمه رهنًا سيباع بالمزاد العلني، ويأخذ المصرف من الثمن كامل حقه غير منقوص. 6- سعة رقعة التعامل مع العملاء: ليس كل أحد يستطيع التعامل مع المصارف التجارية الربوية، وإنما الأمر مقصور غالبًا على الأغنياء، فتعطى القروض لكبار العملاء والذين يستطيعون تقديم ضمانات عقارية، أو عينية، كالبضائع والمعدات والآلات. أما المصارف الإسلامية فتتعامل مع جميع الناس، حتى أبسط الحرفيين، وصغار الكسبة وصغار التجار، وحديثى التخرج من الجامعات، فتمول المشروعات الصغيرة، وتساعد في توفير المسكن والمأوى للشباب الذى يريد الزواج والاستقرار في حياته العائلية. 7- العدالة في تقدير العمولة: تتقاضى المصارف التجارية عمولة على جميع أوجه نشاط التعامل معها، أما المصارف الإسلامية فتتقاضى عمولة مطابقة تمامًا للجهد المبذول، أو السعي في تحقيق مصلحة العميل، فيأخذ المصرف النفقات الفعلية التى أنفقها على قرض معين بذاته، كما يأخذ مصاريف القرض الحسن مرة واحدة في بداية القرض، ومبلغًا موحدًا على القرض غير مرتبط بقيمته. وبعض هذه المصاريف مثل (بنك دبى الإسلامى) لا يأخذ أية مصاريف على القرض الحسن‘ وإنما يأخذ فقط على مبلغ القرض، دون أي مصاريف أو زيادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 هل التعامل مع المصارف الإسلامية حلال أو حرام؟ تبين مما تقدم أن المصرف الإسلامى يلتزم جانب الحلال في أعماله ومعاملاته كلها، ويتجنب الحرام فيما يقوم به من مشاركة واستثمار وتنمية الأموال المدفوعة إليه، ويساهم في سد حاجة المحتاج عن طريق القروض الحسنة غير المقترنة بشرط دفع فائدة ربوية، أو تحقيق منفعة على حساب المقترض، فليطمئن المسلم على سلامة تعامله مع المصارف الإسلامية شرعًا، أخذًا وعطاء، إنتاجًا واستثمارًا، على أساس المشاركة المنتهية بالتمليك أو المساهمة. إذ من المعلوم شرعًا أن العقد الجائز أو المباح يصح للإنسان المسلم إبرامه، والأصل في المعاملات والعقود: الإباحة. وأما التعامل أو العقد المحظور شرعًا كالعقد الفاسد أو الباطل، مثل البيع المشتمل على الربا، فيحرم الاقتراب منه، ويلزم اجتنابه، حتى ولو كان عقدًا صحيحًا في الظاهر، لكنه يستهدف غاية محظورة أو ممنوعة شرعًا، فمن المبادئ الشرعية أو الأصولية: مبدأ سد الذرائع إلى الحرام فكل ما أدى إلى الحرام أو كان وسيلة إليه، فهو حرام محظور شرعًا. والإسلام يجيز كل ما يحقق حاجات الناس، ولا يحجر على أحد الربح المعقول شرعًا. وهو ما كان دون الخمس أو الثلث، وربما اشتبه على بعض الناس الوقوع في معنى الحرام أو الربا في بعض المعاملات، وهذا صحيح، ولكن الإسلام يمنع التصريح بالربا أو اشتراط الفائدة، ولكنه لا يمنع التوصل إلى المقصود بأسلوب شرعي مباح، فمثلًا البيع بالتقسيط أو بثمن مؤجل أكثر من السعر الحال أو النقدى المعجل، قد يقال: أنه حرام، لما فيه من زيادة في السعر على ثمن الحال، ولكن فقهاء الإسلام ما عدا بعض الزيدية أجازوه رعاية للحاجة، ولأنه لا يقصد به الاستغلال والتضييق على المضطر أو المحتاج، وإنما على العكس فيه رعاية لحاجة المشتري الذى لا يملك الثمن الكلي للسلعة، وهو بحاجة إليها. والعمولة على الخدمات المصرفية قد يتوهم أنها فائدة أو ربا حرام، مع أنها أجر على عمل، ما لم ينص صراحة على الفائدة، ومعظم الخدمات المصرفية التى يقوم بها المصرف للعملاء جائز على أساس الإجارة والوكالة بأجر، والإجارة نوعان: إجارة منافع الأعيان، وإجارة الأشخاص، فإيجار الخزائن الحديدية أو المخازن تتضمن منافع الأعيان، وقيام موظفى المصرف بالعناية بهذه الأماكن يتضمن إجارة الأشخاص. وما عدا إيجار الخزائن الحديدية والاعتمادات المستندية من الخدمات المصرفية، يعتبر وكالة على عمل معين، وقد يجتمع مع الوكالة كالكفالة، كما في خطابات الضمان. لكل ما سبق أرى أن التعامل مع المصارف الإسلامية حلال شرعيًا، لا شبهة فيه، وهو طريق لتنمية الأموال القليلة وإفادة أصحاب الدخل المحدود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 أحكام التعامل في المصارف الإسلامية فضيلة الشيخ محمد على عبد الله لقد ورد في وثيقة استفسارات البنك الإسلامي للتنمية، بأن عمليات القروض التى يقدمها البنك الإسلامي للتنمية لمشروعات البنية الأساسية هى قروض طويلة الأجل، تتراوح مدة الوفاء بين خمسة عشر وثلاثين عامًا. والتزامًا بأحكام الشريعة الإسلامية فإن البنك لا يتقاضى فوائد على تلك القروض، غير أنه بناء على ما نصت عليه اتفاقية تأسيسه يتقاضى البنك رسم خدمة لتغطية مصاريفه الإدارية. وبناء على ما ورد من وثيقة البنك الإسلامى فإن المصارف الإسلامية تقوم كغيرها من المصارف العالمية بقروض لحرفائها، ونحن نعلم أن القرض هو دفع مال معلوم عينيا كان أو عرضًا أو حيوانًا في مماثل الذمة لغرض نفع المعطى له (بالفتح) فقط دون المعطى (بالكسر) ، وهو المطلوب شرعًا لأنه من التعاون على البر المعروف. وهذا النوع من التعامل هو الذى كان أهل الورع يتهربون منه بمجرد شم رائحة النفع، وهو يعرف في الفقه الإسلامى بـ (سلف جر نفعًا) وهو محرم بإجماع المسلمين، مما أدى إلى التهرب من كل ما عسى أن يكون في النهاية مؤديًا إلى هذا النفع عملًا بما ورد في صحيح مسلم، عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه)) . وقد ورد في صدد الربا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . والربا لغة الزيادة واصطلاحًا هو ما كانت العرب تفعله من قولهم للغريم: أتقضى أو تربى، فكان الغريم يزيد في المال، ويصبر عليه الطالب. وهذا محرم باتفاق الأمة. ونحن نخشى أن لا يكون هناك فرق فيما تقدمه المصارف العصرية من قروض مع الفائض أي زيادة وما تقدمه المصارف الإسلامية من قروض. خصوصًا إذا ما شهدنا وأن هنالك نوعا من الغموض فيما يتعلق بالمبلغ المقطوع الذى يتقاضاه المصرف الإسلامي للتنمية مقابل خدماته لتغطية مصاريفه الإدارية. وحسب رأيي يحتاج هذا إلى نوع من تبين وإيضاح لا شبهة فيه. وخلاصة القول إذا ما كانت المصارف الإسلامية تقدم خدماتها وفقًا للشريعة فهذا يكون متمشيًا مع الدين الحنيف. وإلا فحكمها يكون كحكم المصارف المعاصرة الربوية. وعلى هذا الأساس أقول بصفة التنبيه: أن الله تعالى قد أوصى الأغنياء بالفقراء أو جعل لهم حقًا معلومًا في أموالهم، وشرع القرض لإغاثة الملهوفين وإعانة المضطرين. ولا شك أن للمصارف الإسلامية دورًا فعالًا لتنشيط هياكل الاقتصاد للدول الإسلامية النامية وتوحيد شمل المسلمين وانتشالهم من السعي وراء الاقتصاد الذى يريد أصحاب رؤؤس الأموال الربوية فرضها على المسلمين لحملهم على التخلى عن عقيدتهم بفتح باب الشهوات لضعاف الإرادة والقضاء على ما بقي من ثرواتهم وبالتالى من الواجب على المصارف الإسلامية افتراض وجودها على الصعيد العالمى لحمل راية الإسلام في المعارك الاقتصادية. فاعملوا فسيرى الله عملكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 العرض والمناقشة 13/4/1406=25/12/1985 الساعة: 17.2- 19.10 الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد قد ترون من المناسب أن نبدأ (بحكم التعامل المصرفى المعاصر بالفوائد) والدراسات التى لدينا في حكم التعامل المصرفى المعاصر بالفوائد من المشايخ، الشيخ الصديق الضرير والشيخ على السالوس والشيخ محمد على عبد الله والشيخ حسن عبد الله الأمين، وأرجو من الشيخ الصديق أن يتفضل بإعطاء ملخص وموجز عن البحث المذكور. الشيخ الصديق الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد، من أهم طرق الاستثمار في البنوك التجارية المعروفة هو الاستقراض بفائدة أو بغير فائدة في الحسابات الجارية وإقراضها بفائدة أكبر من الفائدة التى اقترض بها البنك والاستفادة من الفرق بين الفائدتين، وهذه الفائدة تكلم فيها الفقهاء المحدثون وأصدروا فيها عدة فتاوى فردية وجماعية بالتحريم. وكان لكتابتى هذا البحث سبب هو أن أحد الأساتذة كتب عن الأوراق النقدية فقال: أن الأوراق النقدية ليست من الأموال الربوية ولهذا يجوز إقراضها بفائدة وما تفعله البنوك ليس ربا. ولهذا جاء ردى لهذه الدعوى بعنوان (الفائدة التى تتعامل بها البنوك من ربا القرض الثابت تحريمه بالكتاب والسنة والإجماع) وتحدثت عن أنواع الربا فبينت أن الربا نوعان: ربا الديون، وربا البيوع. ربا الديون يشمل ربا الجاهلية وربا القرض الذى نتحدث عنه، أما ربا البيوع فهو ربا النسيئة وربا الجاهلية هو الذى جاء فيه قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} فهذه الآية هى أول ما نزل في تحريم الربا، والمراد بالربا فيها هو ربا الجاهلية المعهود، (ال) هنا للعهد، هو الربا المعهود عند المخاطبين عند نزول هذه الآية. وهذا الربا كما صوره ابن جرير الطبرى هو أن الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل وإذا حل الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذى عليه المال: أخر عنى دينك وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك. وروى هذا التفسير لربا الجاهلية عن عطاء ومجاهد وقتادة، وأيضا القرطبى تعرض لهذا فقال "إن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك، فكانت إذا حل دينها قالت للغريم: إما أن تقضى وإما أن تربى" فربا الجاهلية على هذا التفسير الذى صوره لنا الطبرى والقرطبى كان في اقتضاء الدين بعد حلول الأجل، وهذا الدين قد يكون أصله بيعا إلى أجل وقد يكون قرضا أيضا إلى أجل وقد يكون بزيادة أول الأمر أو بغير زيادة، فإذا حل الأجل طالب البائع أو المقرض المدين فإن لم يف قال له: إما أن تقضي وإما أن تربي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 أما ربا القرض فهو القرض الذى تكون فيه منفعة للمقرض مشروطة في العقد، وهذا الربا صوره كثيرة منها أن يقرضه مالا على أن يرد له أكثر منه. وهذه هى الصورة المتعارفة والمتعامل بها بين الناس وبين البنوك التى تتعامل بالفائدة وهى الفوائد المقصودة بالحديث، الزيادة هذه في القبض، السؤال هنا: هل ربا القرض هذا من ربا الجاهلية؟، واضح أن ما نقلته عن الطبرى والقرطبى يدل على أن ربا القرض في المرة الأولى قبل أن يحل الأجل لا يدخل في ربا الجاهلية. وقد اقتضى هذا التفسير الشيخ محمد رشيد رضا وقال في ذلك بعد أن نقل كلام الطبرى: أن هذا هو المروي عن عامة أهل الأثر ومنه عبارة الإمام أحمد الشهيرة وهي أنه لما سئل عن الربا الذى لا يشك فيه قال: " هو أن يكون دين فيقول له: تقضى أم تربي، فإن لم يقض زاده في المال وزاده هذا في الأجر"، حتى الربا بهذا التصوير يدخل فيه ربا القرض في بعض صوره وهي ما إذا أقرض شخص مبلغا ثم طالبه به عند حلول الأجل فأمهله نظير زيادة يدفعها إليه المقترض، هذه الصورة هى ربا الجاهلية بعينه وهي معروفة ومتعامل بها في البنوك ومتعامل بها حتى بين الدول التى تتعامل بالربا ولها اسم معروف هو (الربح المركب) أو (الفوائد على الفوائد) ويسمونها (الفوائد التأخيرية) ، فهذه لاشك في دخولها في ربا الجاهلية، ثم هل ما قاله الطبري في تفسير ربا الجاهلية هو كل ما روي عنه عن ربا الجاهلية؟ الواقع أن بعض المفسرين غير الطبري ذكر تفسيرا لربا الجاهلية يدخل فيه ربا القرض أي القبض في العقد الأول الذى هو القبض بزيادة مشروطة في القرض الذى هو القبض بفائدة، من هؤلاء: الجصاص وأبوبكر الجصاص يقول: " الربا الذى كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به" ويقول أيضا: "ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذى ذكرنا من قبض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط الزيادة " ويقول في موضع آخر: " معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة فكانت الزيادة بدلا من الأجل". أيضا فخر الدين الرازى يتفق مع الجصاص في هذا ويقول: اعلم أن الربا قسمان، ربا النسيئة وربا الفضل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 أما ربا النسيئة فهو الأمر الذى كان مشهورًا متعارفًا في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا ويكون رأس المال باقيًا ثم إذا حل الدين طالبوا المدين برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذى كانوا في الجاهلية يتعاملون به. الألوسى أيضا يقول: " روي عن غير واحد أنه كان الرجل يربى إلى أجل فإذا حل الأجل قال للمدين: زدنى في المال وأزيدك في الأجل فيفعل. وهكذا عند كل أجل، فيستغرق بالشئ الضعيف ماله بالكلية، فنهوا عن ذلك". هذه الروايات واضحة وصريحة في أن ربا الجاهلية كان يأخذ شكل القرض بزيادة كما يأخذ شكل الزيادة في الدين عند حلول الأجل. ونخرج من هذه الروايات بأن كلا النوعين كان موجودًا في الجاهلية عندما نزلت آية التحريم، فإذن كلاهما محرم بهذه الآية. فنستطيع أن نقول بكل اطمئنان: أن ربا القرض من ربا الجاهلية، وهذه هي ربا الديون، حكم ربا الديون ثابت بالقرآن والسنة والإجماع، وهذا لا يحتاج إلى تطويل في الاستدلال عليه، آيات الربا معروفة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} وهذه كما قلنا، هي أول آية نزلت وليس المراد من التقييد في الربا المنهى عنه بالأضعاف وإنما المراد منها كما يقول الفقهاء هو بيان الواقع الذى كان موجودًا عندهم، وآية {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ومنها قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ثم جاءت آية {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} جاءت مبينة بيانًا شافيًا أن أخذ أي زيادة على رأس المال غنم منهي عنه. ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((وإن كل ربا موضوع ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)) وواضح أن هذا الحديث تأكيد لما جاء في القرآن، وحديث آخر ما روي من أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة وفي روايات قال صلى الله عليه وسلم: ((كل قرض جر منفعة فهو ربا)) . هذا الحديث وإن كان في سنده مقال إلا أن معناه مقبول ويؤيده القرآن، ولهذا اتفقت المذاهب الأربعة على العمل بهذا الحديث بأن كل قرض جر منفعة فهو ربا، ولكنهم يختلفون في المنفعة التى تجعل القرض ربا، لكنهم لم يختلفوا في أن الزيادة في القرض ربا. الإجماع نقل عن أكثر من واحد في كل مذهب من المذاهب، نجد من حكى الإجماع على تحريم الربا الذى هو ربا الدين أو ربا الديون، أكتفى بعبارة القرطبى يقول: " أجمع المسلمون نقلًا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف، كما قال ابن مسعود: ولو حبة واحدة، هذا هو ربا الديون". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 أما ربا البيوع فهذا ثابت بحديث عبادة المشهور ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل سواء بسواء، يدا بيد، فإن اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) فهذا الحديث بين الأصناف الربوية، وربا البيوع هذا يشمل كما قلنا ربا النسيئة وربا الفضل، وليس هذا موضوع الحديث ولكن سقته لأمر هام وهو لأن نبين أن ربا البيوع لا يجرى إلا في الأموال الربوية وهى الأصناف الستة المذكورة في الحديث وما يلحق بها عند جمهور الفقهاء، بعضهم قصرها على الأنواع الستة، أما ربا الديون فيجرى في الأموال الربوية وفى غيرها باتفاق الفقهاء، وهذا هو محط الكلام في هذا الموضوع، هذه التفرقة. وهو السبب الذى أوقع بعض الباحثين في الخطأ والقول بأن الأوراق النقدية ليست من الأموال الربوية ولهذا أرادوا أن يجوزوا فيها القرض بفائدة ظنا منهم أن القرض يدخل في ربا البيوع. أوردت هنا عددًا من النصوص تدل على أن ربا القرض أو ربا الديون يجرى في الأموال الربوية وفى غيرها، منها ما روي عن زيد أنه كان يقول: "إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن والربا المعروف في الجاهلية هو ربا الديون، كان في التضعيف وفي السن – يريد بالسن أسنان الإبل – يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل يقول له: تقضني أو تزيدني، أن كان عنده شئ يقضيه قضاه وإلا حوله إلى السن التى فوق ذلك أن كانت ابنة مخاض حولها ابنة لبون في السنة الثانية ثم حقة ثم جذعة" فهذا هو ربا الحيوان وهذا نص صريح، ثم بعد ذلك يقول بعدما تكلم عن هذا: " وفى العين – ويقصد بالعين الذهب والفضة – يأتيه فإن لم يكن عنده أضعفه في العام المقابل، فكان ربا الجاهلية عندهم يكون في الحيوان كما يكون في الذهب والفضة". أما ربا القرض فهذا يجرى في كل ما يجوز فيه القرض، سواء أكان في الأموال الربوية أم من غيرها، ونصوص الفقهاء صريحةوواضحة في هذا، كل ما يجوز فيه القرض يجرى فيه هذا الربا. فلا يجوز قرض أي مال من الأموال بزيادة مهما كان هذا المال سواء كان من النقود أو من غير النقود. أكتفى بعبارة هنا لفقهاء الشافعية، الرملى يقول: " ولا يجوز قرض نقد أو غيره إن اقترن بشرط رد زيادة على القدر المقرض" وفي قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} ما يفيد أن ربا الديون الذى وردت فيه الآية يكون في كل مال {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} والنقود الورقية التى كان فيها مثار الشبهة هذه مال من غير شك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 فيظهر لنا من هذا أن الفائدة التى تدفعها البنوك عند الاقتراض من الغير والفوائد التى تأخذها عند قرض الغير هى ربا محرم بإجماع سواء اعتبرنا النقود الورقية من الأموال الربوية – وهذا هو الحق وفيه كلام كثير لبعض المحدثين – أو لم نعتبرها، حتى لو قلنا أنها ليست من الأموال الربوية، فلا يصح قرضها بأي زيادة مهما كانت هذه الزيادة لأن هذه الزيادة ربا فتدخل في ربا الديون وليست من ربا البيوع. وهذه الحرمة في ربا القرض المعروف في البنوك تشمل كل أنواع التعامل بفائدة. فتشمل القرض بفائدة قليلة أو كثيرة. ولقد سمعنا ابن مسعود "ولوحبة " وتشمل الفائدة البسيطة والمركبة كماتشمل القرض للإستهلاك والقرض للإنتاج، وهذه كلها مسائل حدثت فيها مجادلات بين العلماء وحصلت فيها فتاوى وانتهى فيها الأمر إلى ما أقوله: " هذه ليست فتواي لوحدي وإنما هي فتوى عدد كبير من العلماء وعدد من الندوات والمؤتمرات، وتشمل أيضا الحرمة فتح الاعتماد بفائدة، وتشمل أيضا خصم الأوراق التجارية التى تكون مستحقة بعد شهر ويدفع أقل مما في هذه الورقة، أقل من قيمتها، كأنه يقرض صاحبها مبلغًا ليأخذ أكثر منه بعد شهر، وهذا هو القرض بفائدة. وشكرًا لكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 الشيخ عبد اللطيف جناحى: بسم الله الرحمن الرحيم ... في الواقع ما أورده فضيلة الشيخ لن أعلق عليه من الناحية الفقهية فهذا أمر متروك لمجمعنا الفقهي ولكن ما أود أن أشير إليه بأن النظام المتبع، نظام سعر الفائدة، بأن يحدد سعر أدنى لقيمة النقد عندما يودع مبلغ في البنك ويكون هناك حد أدنى للمبلغ، هذا هو ما أوصل العالم إلى الكوارث الاقتصادية اليوم نتيجة لهذا الاقتصاد الوضعي الغربي فيه 800 بليون دولار ديون على دول أمريكا اللاتينية خدمة هذا الدين 100 بليون دولار سنويًا، فعملية الربا وعملية سعر الفائدة هي التى أدت التضخم فوصلنا إلى الباب المسدود حتى أن الكنز نفسه صاحب (النظرية الكنزية) نادى (بالزيرو انترست) أي الفائدة تكون صفرًا. فهل ما نادى به ما رجع عنه كنز نعود إليه نحن، ما رجع عنه أصحاب النظرية نعود إليه نحن. القضية قضية الربا كنا بالأمس نعتقد أنها ظلم الغني للفقير، لا، قضية الربا هي قضية تحطيم الاقتصاد العالمي، تحطم الاقتصاد العالمي من وراء سعر الفائدة ومن وراء تحديد نسبة مهما كانت صغيرة، هذه قاعدة. وصلنا إلى التضخم والتضخم اللامعقول، أنا أعطيكم نموذجًا بسيطًا، قيل لنا أن سبب التضخم هو العجز في ميزان المدفوعات، سنة 72 العجز في ميزان المدفوعات الأمريكية وهى أكبر دولة كان 0.08 % وسنة 74 كان العجز في ميزان المدفوعات 4.5 % وسنة 78 كان العجز في ميزان المدفوعات فاصلة خمسة من مائة يعنى بشكل هرمى، بينما التضخم وهو المشكلة العالمية كان يمشى في ازدياد، لما جاء الاقتصاديون يبحثون السبب الرئيسي وجدوه سعر الفائدة. موضوع آخر جدير بالإشارة، إنها عملية تؤخذ لأغراض تجارية ومن قال أن المصارف التجارية لديها القدرة على ضبط مسار المال، ما حصل لدينا في سوق الكويت من انهيار سوق المناخ مثلا وما حصل من البطر الذى حصل من وراء الاقتراض من البنوك كانت كلها أسعارًا لفائدة تؤخذ الأموال، هناك ضمانات موجودة، ثم صفيت هذه الضمانات وفلست المجموعة. فالعملية ليست عملية ننظر إليها في حيز ضيق على أنها ظلم الغني للفقير، لان العملية ننظر إليها كاقتصاد عام ككل، ماذا يكون نتيجة سعر الفائدة بعد استخدام من سنة 40 فقط إلى اليوم، كانت هناك دورات اقتصادية من سنة 40 إلى سنة 70، سعر الفائدة كانت هى عامل الحذر، وعندما نأتى إلى قضية الأضعاف المضاعفة، تظهر صورها في أشكال عديدة جدًا، البنك عندما يقترض من زيد من الناس أو يودع زيد من الناس لديه مبلغ مائة ريال بسعر أقل سعر 2 %، هذا البنك هل يقرضه لمنتج؟ لا! يقرضه لبنك آخر ويقول له: كلفنى المائة ريال 102 كم تعطينى بزيادة؟ قال له: أعطيك 103 جيد جدا، فيذهب البنك الثانى إلى البنك الثالث ويقول له: أنت محتاج إلى مائة ريال كلفنى هذا 103 كم تعطينى زيادة؟ قال له: 104، انظروا كيف تسير المضاعفة، هذه زاوية من الزوايا. الزاوية الأخرى، هذا الثوب الذى ألبسه أنا الآن، كان صوفًا على ماعز أو على خروف، اجتز ومول من قبل البنك بنسبة 14 % ثم ذهب إلى محلج ومول 14 % صار 28 ثم ذهب إلى بائع الجملة ومول 14 %، احسبوها تصلون إلى أضعاف مضاعفة التى وردت في القرآن، الحقيقة مع تطور الزمن نرى عظمة هذا الكتاب كيف في عصرنا هذا نراه يتجسد أمامنا ويتجسم بعدما كبرت مشاكل العالم الاقتصادية، فالعملية حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع وانتهى ((فلكم رءوس أموالكم)) وانتهى الموضوع فأخذ رأس المال وليس فيه فلس زيادة. لدي في الحقيقة تعليقات أخرى لكن أنا أحببت أتعرض فقط من زاوية فنية ضيقة حتى أوضح لكم أن العالم اليوم في انهيار اقتصادى، وفى جدولة ديون وفى مشاكل لا أول لها ولا آخر، والسبب في الدرجة الأولى يعود إلى هذه النسبة البسيطة التى كانت في يوم 4، 5، 2 %. وشكرا سيدى الرئيس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 الشيخ أحمد البزيع ياسين: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه وحده نستعين، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدى رسول الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الكرام الغر الميامين وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد، عندما نريد أن نتكلم عن المصارف الإسلامية أو المصارف العادية، أود قبل ذلك أن أدعو بالرحمة والغفران على إمام المسلمين الملك فيصل بن عبد العزيز رحمة الله على مبادرته التاريخية وعزمته الإسلامية في تأسيس بنك التنمية الإسلامي الذى جمع الأمة الإسلامية في مصرف. وقصده من هذا القضاء على الربا والتعاون فيما بين الدول الإسلامية فغفر الله له ورحمه وجزاه خيرًا عن الإسلام والمسلمين، ثم بعد ذلك أقول: إن أستاذى العزيز صاحب البحث جزاه الله خيرًا لم يقل عن بحثه: أنه فتوى إنما قال هو مجرد بحث، وأنا أود أن أبين بأن البحوث المتكررة السابقة التى مرت على كثير من علماء المسلمين في أقطار الأمة الإسلامية جميعًا انتهت على أن الفائدة البنكية هى عين الربا وانتهى الكلام، والربا محرم في الكتاب والسنة ونحن مسلمون فعلينا أن نلتزم فلا نقاش في ذلك. ثم بعد ذلك أود أن أبين الحالة التى تعانيها المصارف إيضاحًا للصورة وما تأتي على المصارف العالمية في العالم زيادة عن ما قال أخي وزميلي الأخ عبد اللطيف فأقول: أولًا: القروض سواء كانت قروضًا استثمارية ويؤخذ من الأغنياء الفائدة دائما يدفعها الفقير، لأن الغنى المستثمر يضيف الفائدة التى يأخذها ككلفة على رأس المال فإذن دائمًا الذى يدفع كلفة الفائدة المستهلك، والمستهلكون أغلبهم من أصحاب الدخول المتوسطة والفقراء. ثم أن البنوك ممنوع عليها أن تتاجر في نظمها الحالية، وإذا استطعنا أن نحولها إلى بنوك مضاربة فهذا خير كثير، علينا أن نعد لها شروط وقواعد المضاربة الإسلامية ونسلمها لها ونطلب منها أن تلتزم بالمضاربة الشرعية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 والمضاربة الشرعية لها شروطها ولها قواعدها ولها أساتذتها، إذا استطعنا أن نحول هذه المصارف الموجودة المعاصرة التى تسمى بالتجارية هي ليست تجارية، هي تشتري النقود وتبيع النقود والنقود في مفهوم الاقتصاد وحدة قياسية تقاس بها الأثمان شأنها شأن الوحدات القياسية الأخرى التى تقاس بها الأطوال، المتر وحدة قياسية للطول، الكيلو وحدة قياسية للوزن، فلا يجوز أن نقول: كيلو يساوى كيلو وربع، ولا يجوز أن نقول: مائة متر تساوى مائة وعشر أمتار، هذه من الناحية الاقتصادية البحتة، فلذلك لا يجوز أن نقول: أن المائة دينار تساوى مائة وعشرة دنانير أو مائة ريال تساوى مائة وعشرة ريالات، فالبنوك عندما تأخذ الأموال من الناس وتعطيهم الفائدة عليها، كأنها تقول: مائة دينار كم أعطيكم بدلها مائة وعشرة بدون عمل. فالوحدة القياسية عندما تقاس مع ذاتها تساوى ذاتها، كذلك بالنسبة لقضية الخليفة الثانى عمر بن الخطاب، هى في الحقيقة بُدِئى بقرض حسن وليس بقرض فائدة، يعنى أخذ المبلغ من العراق كما سمعته من مشايخنا على أساس أن يردوه في المدينة بعينه، وذلك اجتهد القائد وقال بدلا من أن أتحمل أنا المسؤولية وأولى أن يتحملوا المسؤولية اجتهادًا منه أعطاهم المبلغ على أن يردوه بنفسه وليس بزيادة، فلما جاءت البضاعة وربحت الربح الطائل تورع عمر بن الخطاب رضى الله عنه وقال: هلا عملت هذا لجميع المسلمين؟ قال: لا. قال: إذن لا يجوز لأبناء أمير المؤمنين أن يأخذوا. هذا من باب الورع، وأظن أن الإمام علي رضي الله تعالى عنه أشار بأن تكون المسألة قرضًا، فبداية القرض هو قرض حسن واجتهاد من القائد ثم بعد ذلك عمل قراضًا. ثم مبدأ الربا إذا أقر مبدأ الربا هنا تأتي الأضعاف المضاعفة يعنى السيارة الموجودة في المعرض لابد أنكم تعلمون إذا كانت قاعدة الربا موجودة، السيارة أخذ عليها من الربا من بداية صنعها كمادة خام، الشركة التى تأخذ الحديد تقترض من البنوك وعليها فائدة تضيف الفائدة، القطار الذى يحمل أو اللوري الشاحنة التى تحمل، إذا كان مبدأ الربا قائمًا فتؤخذ في الحقيقة تشتري اللوري بربا فيضيف سعر النقل، ثم المصنع الذى يصب الحديد كذلك أيضا دخل فيه الربا. فتجد السيارة الموجودة في المعرض للبيع دخل فيها الربا منذ بدايتها كمادة خام إلى أن تصل إلى المستهلك. هذه في الحقيقة أمور يجب علينا أن ننبه لها كناس نشتغل في هذا الميدان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 ثم أود أن أبين أننا لسنا في حاجة، والحاجة هنا منتفية إلى المصارف الربوية، منتفية تمامًا بل أن العالم يعاني، وأود أن أبين حيلة عالمية في المصارف العالمية. لمعلومكم موجودات المصارف العالمية الآن هي ديون على الناس، عاجزين هؤلاء الناس على الوفاء بها، فعندما تعمل الميزانيات، المحاسبون القانونيون يعتبرون الدين ميتًا إذا كانت لا تسدد عليه الفوائد. وأكثر المدينين ليس عندهم هذه الفوائد لتسديدها، عملوا لهم حيلة، قالوا: نقرض لكم الفوائدوتسددونها لنا حتى المحاسبون القانونيون يعتبرون بأن ما عندنا من ديون على المدينين ديون محترمة، يقدر الدائنون الوفاء بها بدليل أن الفائدة تدفع، والفائدة في الحقيقة هى قروض أيضا تعطى لهم ثم يعيدونها للبنك تسديدًا عما عليهم من فوائد، فهذه في الحقيقة مصداق لقوله تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} ، ثم أود أن أبين مسألة، لو أن المسلمين أصحاب رؤوس الأموال يلتزمون بدينهم ولا يرابون ولا يضعون الأموال حبيسة في البنوك الأجنبية لاضطرهم ذلك إلى استثمارها في البلاد الإسلامية، وعدم استثمارها في البلاد الإسلامية، جعلها موجودة سجينة في البنوك الأجنبية مما أدى إلى الحروب الناشئة في بلادنا، لأن أصحاب المصارف الأجنبية عندما رأوا هذه الأموال الطائلة العظيمة قالوا: لو أراد أصحابها أخذها ونحن لسنا بقادرين على إرجاعها ماذا نعمل إما أن نفلس، نعلن إفلاس اقتصادنا أو أننا نجمد هذه الأموال؟ فكلا الحالتين مضر بنا، إذن نجعل في بلادهم الفتن والحروب حتى عن طريق الفتن والحروب يستوردون منا آلة الحرب التى تكلفهم بأرخص الأثمان ويبيعونها علينا بأغلى الأثمان لابتزاز أموالنا فهنا يأتي تفسير قوله تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فأذنوا، هل لنا طاقة في حرب مع الله ورسوله، الحرب القائمة الآن هي حرب مع الله ورسوله، أسبابها الربا وأسبابها إيداع أموالنا في البنوك وفي البنوك الأجنبية، وللأسف هذه الحروب امتصت هذه الأموال، لا أريد أن أقول أكثر مما قلت كإنسان أعايش تلك المسألة، ثم إننى في الحقيقة تورطت في السابق وكنت من مؤسسى بنك ربوي وعملت على أموال وهمية لا وجود لها مجرد قيود حسابات، تبت إلى الله سبحانه وتعالى وأعلنت التوبة ثم أردت أن أكفر عن ذنبي بالدعوة إلى المصارف الإسلامية التى عن طريقها نستقل استقلالًا تامًا في جميع الميادين، ثم كنت عضوًا في البنك المركزى الكويتى على أساس معارض لعنصر الفائدة فقيل: كيف تجعلونه عضوًا وهو يعارض؟ قالوا: نحن نريده أن يثبت هذا، ثم بعد أن صار من التزامات المصرف الكويتي بنك التنمية من أعماله ومن مهامه تحديد الفائدة قدمت استقالتي أيضا وأود أن أبين في الحقيقة بأن الأجانب عندما لايريدون لنا تطبيق الشريعة الإسلامية هم ليسوا بذلك حريصين على يد السارق تقطع، أو شفوقين على عنق قاتل يقتل، إنما يعلمون تمام العلم بأن المسلمين إذا طبقوا شريعتهم وأقاموا الحدود، طبقوا شريعتهم في الميدان السياسي والاجتماعي والأخلاقي والسلوكي والاقتصادي فإذا طبقنا شريعتنا الإسلامية في جميع هذه الميادين صرنا قادة وصرنا أصحاب الريادة، فلذلك لا يريدون منا أن يبعدونا عنهم ويريدون منا أن نقلدهم في كل شئ، فنحن أمة إسلامية متميزة لها عقيدتها ولها كيانها ولها تاريخها ولها أمجادها فيجب علينا أن نتمسك بعقيدتنا وألا تخور عزائمنا وأن ننطلق كما انطلق الصحابة الأوائل عندما قال لهم المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((أول ربا أبدأ به ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب قالوا: سمعًا وطاعة)) ، نحن أمة نحتاج إلى إيمان، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 الرئيس: أصحاب الفضيلةن أمامنا في هذا الموضوع عدة بحوث كلها في مسار واحد على نحو ما ذكره مختصرًا الشيخ الصديق الضرير. فلدينا بحث الشيخ على السالوس والشيخ محمد على عبد الله والشيخ حسن الأمين، وكل هذه البحوث في مسار واحد على نحو ما سمعتم من فضيلة الشيخ الأمين الضرير، ولعلنا نكتفى في قضية العرض في البحوث إذا رأيتم ذلك ونطرح الموضوع إذا كان لأحد وجهة نظر في هذا وإلا نعلن ما تم عليه. الشيخ وهبة الزحيلى: بعد هذه النفحةالإيمانية الطيبة التى سمعناها من الأخ مدير بيت التمويل الكويتي الإسلامي وبعد أن عرفنا المصائب الكبرى التى تهز كيان العالم برمته وتصيب المسلمين والدول النامية بالذات بشكل أخطر بكثير مما يصاب به العالم الغربي، أري أن نطوي البحث في هذا الموضوع ونعلن ما أعلنه في كلمته الأخيرة أن موضوع الفائدة قد انتهى وطوي عليه الزمن ونحترم نصوص القرآن والسنة وإجماع الأمة ونعلنها صريحة مدوية أننا أمة نحترم كرامة الإنسان وأننا أمة الرحمة وأمة التعاون ولا داعى للبحوث الجزئية خصوصًا بعد أن وجد البديل الإسلامي والحمد لله وهي البنوك الإسلامية كما قلت في قضية التأمين وليكن قرارنا إجماعيًا حتى يكون لهذا الموضوع أهميته الكبرى بعد وجود النصوص القطعية في القرآن الكريم {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وهنا الربا يشمل أي فائدة ولو كانت نصفا في المائة فلا داعي بعد هذا البيان الكافي الشافي في نصوص كتابنا وسنة نبينا، وبعدما سمعناه من بيان الأضرار على يد المتخصصين مديري بنك الكويت والبحرين. وشكرًا والله يوفقنا لما فيه الخير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 الشيخ عبد الله ابراهيم: بسم الله الرحمن الرحيم شكرًا لفضيلة الرئيس، وفى الواقع إننى مسرور جدًا إلى النداء الأخير الذى سمعناه من الشيخ أحمد والدكتور الزحيلي، فأنا أؤيد كل التأييد مثل هذا النداء. الرئيس: أصحاب الفضيلة يظهر لي أن هناك اتفاقًا على ما انتهى إليه أصحاب الفضيلة المشايخ الباحثون والذين لم يأتونا برأي جديد بل هو ما جرى عليه إجماع أهل العلم سلفًا وخلفًا، وأن هذا ربا وأنه ربا الديون المحرم بنص الكتاب والسنة وعليه إجماع أهل العلم. وبهذا انتهى هذا الموضوع، وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 بداية الشهور العربية فضيلة الشيخ محمد على التسخيري أولًا: أننا نعتبر مسألة الوحدة الإسلامية من أهم خصائص الأمة الإسلامية والتى عمل القرآن الكريم، والسنة الشريفة عليها، ونؤيد كل خطوة صحيحة مشروعة لتحقيق هذا الهدف الإسلامي الضخم والذى نصبو إليه جميعًا، حيث تقف الجماهير الإسلامية في خندق واحد تبني نفسها من جهة متكاملة نحو المطلق، وتقارع الطغاة المعتدين (الشرقيين والغربيين) من جهة أخرى. ثانيًا: كما أننا متأكدون من أن الكثير من المتسلطين على مقاليد الأمور في عالمنا الإسلامي حاولوا أن يستفيدوا من مسألة بداية الشهور القمرية والمناسبات وتوقيتها لصالح أغراضهم الضيقة، الأمر الذى يدعو إلى تجريدهم من هذه السلطات وتسليمها بيد مراكز مستقلة لا تتأثر بالأهواء وإنما تراقب الله تعالى لا غير. ثالثًا: من المعلوم أن هناك حالات يخرج فيها القمر من المحاق، ولكنه لا يمكن أن يرى في بعض المناطق تبعًا لعوامل طبيعية متعددة: ومنها: أن يظهر بعد غروب الشمس فوق الأفق الغربي قليلًا، ثم يختفي تحت الأفق الغبر فيكون غير واضح الظهور وربما صعبت رؤيته أو كانت غير ممكنة. ومنها: أن يواجه الجزء المضئ من القمر الأرض، ثم يغيب ويختفى تحت الأفق قبل غروب الشمس، فلا تتيسر حينئذ رؤيته مادامت الشمس موجودة. ومنها: أن يكون الجزء المنير المواجه للأرض من القمر (الهلال) ضئيلًا جدًا لقرب عهده بالمحاق، فلا تمكن رؤيته بالعين المجردة. وفى كل الحالات تكون الدورة الطبيعية للقمر قد بدأت، إلا أن الهلال لا تمكن رؤيته، حينئذ فإن الشهر بمفهومه الشرعى لا يبدأ حينذاك، وإنما يتوقف على أمرين: أحدهما: خروج القمر من المحاق، ومواجهة جزء من نصفه المضئ للأرض. والآخر: أن تمكن رؤية هذا الجزء بالعين الاعتيادية المجردة، ولهذا يتأخرالشهر القمرى الشرعى عن الشهر القمرى الفلكي الطبيعي. وقد قلنا سلفًا أن إمكان الرؤية بالعين المجردة هو المقياس لا الرؤية نفسها، فوجود حاجب يحول دون الرؤية كالغيم والضباب لا يضر بذلك. كما أنه ليس المعيار الرؤية بالوسائل العلمية، وإنما المعيار هو إمكان الرؤية بالعين الاعتيادية المجردة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 حالة اختلاف البلاد في الرؤية: قد يرى الهلال في بلد دون آخر، فما الحكم؟ وللإجابة على ذلك يقال أن هذا الاختلاف تارة لسبب طارئ كوجود غيم في هذا البلد دون ذاك وحينئذ فلا شك في كفاية الرؤية في أحدهما بالنسبة للبلد الآخر. وأخرى يكون الاختلاف تابعًا لاختلافهما في خطوط الطول أو خطوط العرض أو فيهما معًا، فتكون لدينا آفاق متعددة. ولما كان من اللازم توفر الأمرين السابقين (خروج القمر من المحاق، وإمكان الرؤية المجردة) فإنه لا ريب في نسبية دخول الشهر بالمفهوم الشرعي. وذلك سواء آمنا بأن خروج القمر من المحاق أمر نسبى أو أمر طبيعي واحد لا يتكرر، لاختلاف مفهوم المحاق وهل هو انطباق مركز القمر على الخط الواصل بين مركزي الأرض والشمس فيغيب القمر عن كل أهل الأرض، أو هو مواجهة الوجه المظلم بتمامه لمنطقة ما على الأرض وهو أمر نسبي. فإن النسبية لا محالة آتية من إمكان الرؤية بالعين الاعتيادية المجردة. ومع ذلك يجب الرجوع إلى النصوص الشريفة لمعرفة ما إذا كان الشارع المقدس يعتبر إمكان الرؤية في مكان كافيًا لاعتبار الأرض كلها دخلت في الشهر الشرعى أم لا يعتبر ذلك؟ وفى هذا المجال وقع اختلاف رئيس بين العلماء الأعلام عند تمحيص النصوص، وسر الاختلاف يكمن في وجود انصراف لنصوص (الرؤية في البلد الآخر) يصرف الإطلاق إلى البلد القريب المتحد في الأفق وعدم وجود مثل هذا الانصراف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 فمثلًا وردت رواية نقلها الوافى عن التهذيب، عن سعد بن أحمد، عن الحسين، عن ابن عمير، عن هشام بن الحكم، عن الإمام الصادق عليه السلام، أنه قال فيمن صام تسعة وعشرين يومًا: "إن كانت له بيّنة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين – على رؤية – قضى يومًا". ورواية أخرى عن الشيخ الطوسى، عن القاسم، عن أبان، عن عبد الرحمن، عن الصادق عليه السلام قال: "لا تصم إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه". وهناك روايات أخرى متفاوتة (راجع الملحق رقم 1) . وكما قلنا فإن نقطة الخلاف تكمن في انصراف لفظ (البلد الآخر) إلى البلد القريب وعدمه، فلو تم الإطلاق كان ذلك يعنى أن رؤية شرعية ما في بلد تشكل حجة شرعية على كل الأقطار بدخول الشهر، أما لو أدى الإنصراف إلى تقييد الإطلاق فالقاعدة هي وحدة الحكم في خصوص البلدان المتقاربة فقط. ولسنا نقصد فعلًا البحث عن المسألة بقدر ما نريد من تجلية الخلاف وذكر بعض الأقوال في ذلك لنصل إلى النتيجة المطلوبة (راجع الملحق رقم 2) . وعلى هذا الأساس، نقول أن مسألة توحيد الشهور القمرية أمر لا ينسجم مع هذا الخلاف – مادام قائمًا- ولا يمكن أن تشكل نظامًا عامًا سواء قلنا بانفتاح باب الاجتهاد أو انغلاقه فإنه بمراجعة الملحق نجد أن المذاهب مختلفة فيها وكذلك آراء المجتهدين القائلين بانفتاح باب الاجتهاد. ومن الطبيعي والحال هذه أنه لا يمكن إجبار فرد أو دولة على اتباع نظام قد لا نؤمن به شرعًا، فكيف يمكن إصدار مثل هذا القرار؟ خامسًا: ورغم ما سبق فإننا نجد أن الجهود المبذولة قد تكون نافعة في تقريب وجهات النظر، وتشخيص الشهادات الصحيحة من الباطلة –أحيانًا- بل وهى تنفع في توحيد شطر كبير من الذين يؤمنون بمسلك وحدة الآفاق.. إلا أننا مع هذا نحذر من الاستغلال السياسى اللئيم لهذه المسألة الشريفة. سادسًا: إننا إذا تمسكنا بشريعتنا وبحقانية ما تقول بكل دقة، فزنا ولا يهمنا ما يقوله العالم لنا، ولذلك فإننا نسجل اعتراضنا على الاستناد إلى ما يسمى بـ (ال رأى العام العالمي) في كلمات بعض العلماء. والمهم لدينا أن نحقق ما تريده الشريعة، وقد علمنا أن المسألة خلافية لا إجماع فيها. وفى الختام فمع تقديرنا للجهود المبذولة في هذا السبيل نود أن يخرج هذا القرار عن الصفة الإلزامية إلى الصفة الترجيحية مع الدعوة إلى التقارب والتأكيد على الأمر. ونرجو في الختام التوفيق لكل المخلصين العاملين.. والسلام عليكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 [المحرر] الملحق رقم 1 بعض النصوص بالإضافة لما ذكر يقول الإمام عليه السلام كما جاء في (فقه الصادق ج 2 ص 45) : "الفطر يوم فطر الناس، والأضحى يوم يضحى الناس، والصوم يوم يصوم الناس". وجاء في وسائل الشيعة قول الحر العاملي: "وتقدم في المواقيت قولهم عليهم السلام: إنما عليك مشرقك ومغربك وليس على الناس أن يبحثوا". "أقول هذا محمول على البلد البعيد لاتحاد المشارق والمغارب ولما تقدم". وجاء في الوسائل أيضا (الجزء السابع ص 208) "سئل عن اليوم الذى يقضى من شهر رمضان، فقال: لا تقضه إلا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر". وفيه أيضًا: "أنه قال فيمن صام تسعة وعشرين، قال: أن كانت له بينة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يومًا". وفيه أيضًا: "إذا رأيتم الهلال، فأفطروا أو شهد عليه عدل من المسلمين". وفى الوافى نقلًا عن التهذيب: عن محمد بن عيسى، قال: "كتب إليه أبو عمرو: أخبرنى يا مولاي أنه ربما أشكل علينا هلال شهر رمضان، فلا نراه، ونرى السماء فيهاعلة، فيفطر الناس، ونفطر معهم، ويقول قوم من الحُساب قبلنا أنه يرى في تلك الليلة بعينها بمصر وأفريقيا والأندلس، فهل يجوز يا مولاي ما قال الحساب في هذا الباب حتى يختلف الفرض على أهل الأمصار فيكون صومهم خلاف صومنا وفطرهم خلاف فطرنا، فقال عليه السلام: لا تصومن الشك أفطر لرؤيته وصم لرؤيته". وكذلك؛ سعد بن أحمد، عن الحسين، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " فيمن صام تسعة وعشرين، قال: أن كانت له بينة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين على رؤية قضى يومًا". وكذلك عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن اليوم الذى يقضى من شهر رمضان فقال: "لا تقضه إلا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر" وقال: " لا تصم ذلك اليوم الذى يقضى إلا أن يقضي أهل الأمصار، فإن فعلوا فصم". وعلق المرحوم الفيض الكاشانى بقوله: " من جميع أهل الصلاة يعنى أي مذهب كان من ملل أهل الإسلام. وكذلك عن أبي الجارود، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن على عليه السلام يقول: " صم حتى يصوم الناس وأفطر حين يفطر الناس فإن الله عز وجل جعل الأهلة مواقيت". وجاء في التهذيب عن أبي جعفر: "الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحى الناس، والصوم يوم يصوم الناس". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 ملحق رقم 2 بعض الأقوال والنصوص في هذا المورد: نقل المرحوم (مغنية) في كتابه (الفقه على المذاهب الخمسة) أن الحنفية والمالكية والحنابلة قالوا: "متى ثبتت رؤية الهلال بقطر، يجب على أهل سائر الأقطار من غير فرق بين القريب والبعيد ولا غيره باختلاف مطلع الهلال". وقال الإمامية والشافعية: " إذا رأى الهلال أهل البلد، ولم يره أهل بلد آخر فإن تقارب البلدان في مطلع كان حكمها واحدًا، وإن اختلف المطلع فلكل بلد حكمه الخاص". وجاء في كتاب روائع البيان (تفسير آيات الأحكام) للشيخ محمد الصابوني الأستاذ بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة قوله: الحكم العاشر: هل يعتبر اختلاف المطالع في وجوب الصيام؟ ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع، فإذا رأى الهلال أهل بلد، وجب الصوم على بقية البلاد، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) وهو خطاب عام لجميع الأمة، فمن رآه منهم في أي مكان كان ذلك رؤية لهم جميعًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 وذهب الشافعية إلى أنه يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم، ولا تكفى رؤية البلد الآخر، والأدلة تطلب في كتب الفروع، فارجع إليها هناك (الجزء الأول ص 211) . وقال حجة الإسلام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين ج 1 ص 232) . "وإذا رئي الهلال ببلدة، ولم يرى بأخرى، وكان بينهما أقل من مرحلتين، وجب الصوم على الكل، وإن كان أكثر، كان لكل بلدة حكمها ولا يتعدى الوجوب ". ونقل العلامة الفيض الكاشانى في كتابه (الوافى ص 2) الرواية التالية: عن البصرى عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان، فقال: "لا تصم إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه". وعلق عليها قائلًا: إنما قال عليه السلام فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه، لأنه إذا رآه واحد في بلد، رآه ألف كما مر. والظاهر أنه لا فرق بين أن يكون ذلك البلد المشهود برؤيته فيه من البلاد القريبة من هذا البلد أو البعيدة عنه، لأن بناء التكليف على الرؤية لا على جواز الرؤية ولعدم انضباط القرب والبعد لجمهور الناس ولإطلاق اللفظ فما اشتهر بين متأخرى أصحابنا من الفرق ثم اختلافهم في تفسير القرب والبعد بالاجتهاد ولا وجه له. (ص20) . إلا أن المرحوم الشعرانى علق على كلامه بقوله: "الشريعة نفسها التى ربطت شهرها (القمرى) الشرعى بإمكان الرؤية لنر أنها هل ربطت الشهر في كل منطقة بإمكان الرؤية في تلك المنطقة أو ربطت الشهر في كل المناطق بإمكان الرؤية في أي موضع كان؟ والأقرب على أساس ما نفهمه من الأدلة الشرعية هو الثانى. وعليه فإذا رئي الهلال في بلد ثبت الشهر في سائر البلاد". ويقول المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه (الفردوس الأعلى) : "سؤال: هل البينة حجة من البلد في ثبوت الهلال فيما إذا لم يكن في السماء علة أم لا..؟ الجواب: فى السؤال نوع من إجمال، ولكن الضابطة الكلية أن أدلة حجية البينة مطلقة غير مقيدة بعدم الاستبعاد، أو عدم الريب فيما بعد تحقق موضوعها إلا أن يعلم اشتباهها أو خطأها، ولا فرق بين كونها من البلد أو خارج البلد بعيدة أو قريبة.." الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 نظرة أكثر تفصيلًا عن بدايات الشهور العربية فضيلة الشيخ محمد على التسخيري بسم الله الرحمن الرحيم هناك نقاط تلقى ضوءًا على الموضوع المبحوث عنه وهي: أولًا: أننا نعتبر مسألة الوحدة الإسلامية من أهم خصائص الأمة الإسلامية والتى عمل القرآن الكريم، والسنة الشريفة عليها، ونؤيد كل خطوة صحيحة مشروعة لتحقيق هذا الهدف الإسلامي الضخم والذى نصبو إليه جميعًا، حيث تقف الجماهير الإسلامية في خندق واحد تبنى نفسها من جهة متكاملة نحو المطلق، وتقارع الطغاة المعتدين (الشرقيين والغربيين) من جهة أخرى. ثانيًا: كما أننا متأكدون من أن الكثير من المتسلطين على مقاليد الأمور في عالمنا الإسلامي حاولوا أن يستفيدوا من مسألة بداية الشهور القمرية والمناسبات وتوقيتها لصالح أغراضهم الضيقة، الأمر الذى يدعو إلى تجريدهم من هذه السلطات وتسليمها بيد مراكز مستقلة لا تتأثر بالأهواء وإنما تراقب الله تعالى لا غير. ثالثًا: يبدأ الشهر بخروج القمر من موضعه بين الأرض والشمس (والذى يكون فيه وجهه المظلم مواجهًا للأرض فلا يرى) يبدأ بخروجه من هذا الموضع حيث تبدو حافة النصف المضئ بشكل هلال (ويسمى هذا بدء الحركة الاقترانية) وكلما ابتعد عن المحاق زادت مساحة الجزء الظاهر لنا حتى نواجه النصف المضئ كله بشكل (بدر) وتكون الأرض بينه وبين الشمس. ويكون ظهور الهلال عند أول الشهر عند غروب الشمس ولا يلبث غير قليل فوق الأفق ثم يختفى ولهذا قد تصعب رؤيته أو قد لا تمكن من قبيل: أن يظهر بعد غروب الشمس فوق الأفق الغربى قليلًا، ثم يختفى تحت الأفق الغبر فيكون غير واضح الظهور وربما صعبت رؤيته أو كانت غير ممكنة. أو: أن يواجه الجزء المضئ من القمر الأرض، ثم يغيب ويختفى تحت الأفق قبل غروب الشمس، فلا تتيسر حينئذ رؤيته مادامت الشمس موجودة. أو: أن يكون الجزء المنير المواجه للأرض من القمر (الهلال) ضئيلًا جدًا لقرب عهده بالمحاق، فلا تمكن رؤيته بالعين المجردة. وفى كل الحالات تكون الدورة الطبيعية للقمر قد بدأت، إلا أن الهلال لا يمكن رؤيته، وحينئذ فإن الشهر بمفهومه الشرعى لا يبدأ حينذاك، وإنما يتوقف على أمرين: أحدهما: خروج القمر من المحاق، ومواجهة جزء من نصفه المضئ للأرض. والآخر: أن يمكن رؤية هذا الجزء بالعين الاعتيادية المجردة، ولهذا فقد يتأخرالشهر القمرى الشرعى عن الشهر القمرى الفلكى الطبيعى. وإمكان الرؤية بالعين المجردة هو المقياس لا الرؤية نفسها، فوجود حاجب يحول دون الرؤية كالغيم والضباب لا يضر بذلك. كما أنه ليس المعيار الرؤية بالوسائل العلمية، وإنما المعيار هو إمكان الرؤية بالعين الاعتيادية المجردة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 حالة اختلاف البلاد في الرؤية: قد يرى الهلال في بلد دون آخر، فما هو الحكم؟ وللإجابة على ذلك يقال أن هذا الاختلاف تارة يكون لسبب طارئ كوجود غيم في هذا البلد دون ذاك وحينئذ فلاشك في كفاية الرؤية في أحدهما بالنسبة للبلد الآخر. وأخرى يكون الاختلاف تابعًا لاختلافهما في خطوط الطول أو خطوط العرض أو فيهما معًا، فتكون لدينا آفاق متعددة. ولما كان من اللازم توفر الأمرين السابقين (خروج القمر من المحاق، وإمكان الرؤية المجردة) فإنه لا ريب في نسبية دخول الشهر بالمفهوم الشرعي. وذلك سواء آمنا بأن خروج القمر من المحاق أمر نسبى أو أمر طبيعى واحد لا يتكرر، (تبعًا لاختلاف مفهوم المحاق وهل هو انطباق مركز القمر على الخط الواصل بين مركزي الأرض والشمس فيغيب القمر عن كل أهل الأرض، أو هو مواجهة الوجه المظلم بتمامه لمنطقة ما على الأرض وهو أمر نسبى) . فإن النسبية لا محالة آتية من إمكان الرؤية بالعين الاعتيادية المجردة. ومع ذلك يجب الرجوع إلى النصوص الشريفة لمعرفة ما إذا كان الشارع المقدس يعتبر إمكان الرؤية في مكان ما كافيًا لاعتبار الأرض كلها قد دخلت في الشهر الشرعى أم لا يعتبر ذلك؟ وفى هذا المجال وقع اختلاف رئيس بين العلماء الأعلام عند تمحيص النصوص، وسر الاختلاف يكمن في وجود انصراف لنصوص (الرؤية في البلد الآخر) يصرف الإطلاق إلى البلد القريب المتحد في الأفق وعدم وجود مثل هذا الانصراف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 رأى علماء الإمامية: اتفق علماء الإمامية على أن رؤية الهلال في بلد كافية لثبوته في غيرها من البلدان القريبة منها باعتبار العلم بأن عدم رؤيته فيه إنما يستند – لا محالة إلى مانع يمنع من ذلك. أما البلدان المتباعدة (ذات الأفاق المتفاوتة) فقد نقل أنه لم يقع التعرض لهذه المسألة من قبل العلماء الماضين أما بالنسبة للعلماء المتأخرين فالرأى المشهور هو عدم كفاية الرؤية في بلد ما للقول بدخول الشهر القمري الشرعي لكل الأرض في حين اختار البعض من العلماء والمحققين الكفاية. فقد نقله العلامة الحلي في كتاب (التذكرة) عن بعض العلماء واختاره هو بكل صراحة في كتابه (المنتهى) واحتمله الشهيد الأول في كتاب (الدروس) واختاره بصراحة المحدث الكاشانى في كتابه (الوافى) ونقل الرواية التالية: عن البصري عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان، فقال: "لا تصم إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه". وعلق عليها قائلًا: إنما قال عليه السلام فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه، لأنه إذا رآه واحد في بلد، رآه ألف كما مر. والظاهر أنه لا فرق بين أن يكون ذلك البلد المشهود برؤيته فيه من البلاد القريبة من هذا البلد أو البعيدة عنه، لأن بناء التكليف على الرؤية لا على جواز الرؤية ولعدم انضباط القرب والبعد لجمهور الناس ولإطلاق اللفظ فما اشتهر بين متأخري أصحابنا من الفرق ثم اختلافهم في تفسير القرب والبعد بالاجتهاد ولا وجه له. (ص20) . إلا أن المرحوم الشعرانى علق على كلامه بقوله: "الشريعة نفسها التى ربطت شهرها (القمرى) الشرعي بإمكان الرؤية لنر أنها هل ربطت الشهر في كل منطقة بإمكان الرؤية في تلك المنطقة أو ربطت الشهر في كل المناطق بإمكان الرؤية في أي موضع كان؟ والأقرب على أساس ما نفهمه من الأدلة الشرعية هو الثانى. وعليه فإذا رئى الهلال في بلد ثبت الشهر في سائر البلاد". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 وأيده صاحب الحدائق في (حدائقه) ومال إليه صاحب جواهر الكلام وإن لم يصرح باختياره وكذلك النراقى في (المستند) والسيد أبو تراب الخونساري في شرح (نجاة العباد) والسيد الحكيم في مستمسكه: إذا قال ما نصه "فمع العلم بتساوى البلدين في الطول لا إشكال في حجية البينة على الرؤية في أحدهما لإثباتها في الآخر، وكذا لو رئي في البلاد الشرقية، فإنه تثبت رؤيته في الغربية بطريق أولى، أما لو رئي في الغربية فالآخذ بإطلاق النص غير بعيد (إلا أن يعلم بعدم الرؤية إذا لا مجال حينئذ للحكم الظاهري) ودعوى الانصراف إلى المتقاربين غير ظاهرة". (1) وقال بهذا القول السيد الخوئى في منهاج الصالحين إذ صرح قائلًا: " وهذا القول- أي كفاية الرؤية في بلد ما لثبوت الهلال في بلد آخر ولو مع اختلاف أفقهما هو الأظهر ". (2) كما استظهر المرحوم السيد محمد باقر الصدر في فتاواه الواضحة (3) ويقول المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه (الفردوس الأعلى) : "سؤال: هل البينة حجة من البلد في ثبوت الهلال فيما إذا لم يكن في السماء علة أم لا..؟ الجواب: فى السؤال نوع من إجمال، ولكن الضابطة الكلية أن أدلة حجية البينة مطلقة غير مقيدة بعدم الاستبعاد، أو عدم الريب فيما بعد تحقق موضوعها إلا أن يعلم اشتباهها أو خطأها، ولا فرق بين كونها من البلد أو خارج البلد بعيدة أو قريبة.." إلا أن الرأى المشهور هو عدم الكفاية وقد صرح الإمام الخمينى به قائلًا: "لوثبت الهلال في بلد آخر دون بلده فإن كانا متقاربين أو علم توافق أفقهما كفى وإلا فلا" (4) .   (1) المستمسك، ج 8، ص 471 (2) منهاج الصالحين، ج 1، ص 274 (3) الفتاوى الواضحة، ص519. (4) تحرير الوية، ج1ن ص 297. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 رأى العلماء غير الإمامية: نقل العلامة مغنية في كتابه (الفقه على المذاهب الخمسة) أن الحنفية والمالكية والحنابلة قالوا: "متى تبينت رؤية الهلال بقطر يجب على أهل سائر الأقطار من غير فرق بين القريب والبعيد ولا غيره باختلاف مطلع الهلال"، وقال الإمامية والشافعية: " إذا رأى الهلال أهل البلد، ولم يره أهل بلد آخر فإن تقارب البلدان في مطلع كان حكمها واحدًا وإن اختلف المطلع فلكل بلد حكمه الخاص" (1) إلا أننا رأينا اختلاف الإمامية أيضا وإن كان ما ذكره هو المشهور لديهم. وقال حجة الإسلام الغزالى في كتابه إحياء علوم الدين (2) : "وإذا رئي الهلال ببلدة، ولم يرى بأخرى، وكان بينهما أقل من مرحلتين، وجب الصوم على الكل، وإن كان أكثر، كان لكل بلدة حكمها ولا يتعدى الوجوب ". أدلة القائلين بكفاية الرؤية في بلد ما: وقبل كل شئ ذكروا سورة القدر الدالة على أن ليلة القدر ليلة واحدة شخصية لجميع أهل الأرض على اختلاف بلدانهم من آفاقهم ضرورة أن القرآن نزل في ليلة واحدة وهذه الليلة هى ليلة القدر وهي خير من ألف شهر وفيها يفرق كل أمر حكيم وهذا يعم بقاع الأرض. وبعد هذا تذكر الروايات ومنها: 1- قوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) فإنه خطاب عام لجميع الأمة فمن رآه منهم في أي مكان كان ذلك رؤية لهم جميعًا. 2- صحيحة هشام بن الحكم عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: " فيمن صام تسعة وعشرين، قال: أن كانت له بينة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين على رؤية قضى يومًا". 3- صحيحة أبي بصير عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن اليوم الذى يقضى من شهر رمضان فقال: "لا تقضه إلا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر" وقال: " لا تصم ذلك اليوم الذى يقضى إلا أن يقضى أهل الأمصار، فإن فعلوا فصمه". 4- صحيحة اسحق بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (الصادق) (عليه السلام) عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان، فقال: "لا تصم إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر أنهم رأوه فاقضه". 5- صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال سألت أبا عبد الله (الصادق) عليه السلام عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان، فقال: "لا تصم إلا أن تراه فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه". 6- واستشهدوا بروايات أخرى من قبيل ما جاء في التهذيب عن الباقر (عليه السلام) "الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحى الناس، والصوم يوم يصوم الناس". وما عن أبي الجارود قال: سمعت أبا جعفر محمد بن على عليه السلام يقول: " صم حين يصوم الناس وأفطر حين يفطر الناس فإن الله عز وجل جعل الأهلة مواقيت". كما ذكروا مستشهدين ما جاء في الدعاء المروى في قنوت صلاة العيد " أسألك بهذا اليوم الذى جعلته للمسلمين عيدًا". وما جاء في الدعاء عن المعصومين "وجعلت رؤيتها لجميع الناس مرأى واحدًا". وختمت استدلالاتهم بالاستشهاد بسكوت الروايات بأجمعها من اعتبار اتحاد الأفق في هذه المسألة فلم يرد ذكرها حتى في رواية ضعيفة.   (1) الفقه على المذاهب الخمسة. (2) ج 1، ص 232 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 أدلة النافين لهذه الكفاية: والذى يبدو من أقوالهم هو التركيز منذ البدء على عنصر الانصراف العرفى لنصوص (الرؤية في البلد الآخر) بشكل يصرف الإطلاق إلى البلد القريب المتحد في الأفق والمتقارب من حيث خطوط الطول والعرض، وحينئذ فإن القاعدة تقضى بوحدة الحكم في خصوص البلدان المتقاربة فقط ويتأكد هذا الإنصراف العرفى إذا لاحظنا: (أ) استبعاد أن يكون النظر في عبارة (بلد آخر) إلى البلاد الواقعة في أقصى الأرض مثلًا. (ب) تأكد العرف من اختلاف المطالع القمرية قياسًا على المطالع الشمسية المختلفة رغم بطلان هذا القياس واقعًا إلا أنه على أي حال يصرف الظهور إلى الشكل الذى يلزم معه التصريح بعدم الفرق بين القريب والبعيد لو كان هو المراد ومع عدمه يعنى ذلك إقرار الفهم العرفي المنصرف إلى القريب. أما الاستدلال بسورة القدر فلعله يجاب عنه بأن الليلة في علم الله تعالى وحده واحدة وهذا يختلف في مسألة الحكم الظاهرى لهذا البلد عن ذاك. وكذلك لعله يجب الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) بأن الحكم وإن كان عامًا إلا أنه ينحل بمقدار تعدد الأفراد والبلدان خصوصًا مع ملاحظة الإنصراف الآنف. وهذا ما يجاب به على الاستشهادات بالاضافة لما فيه من ضعف في السند. أما ما قيل من سكوت الروايات عن اعتبار وحدة الأفق فإنه بنفسه يقال بطرح مسألة سكوتها عن بيان عدم الفرق بين البعيد والقريب رغم ما هو المتعارف من وجود هذا الفرق لو كانت تقصده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 وعلى أي حال: فإن المسألة تعود للإستظهار وحينئذ فلا يمكن إقامة البرهان القاطع بعد أن لم يكن هناك تصريح نصي به. وعلى هذا الأساس، نقول أن مسألة توحيد الشهور القمرية أمرلا ينسجم مع هذا الخلاف – مادام قائمًا – ولا يمكن أن تشكل نظامًا عامًا سواء قلنا بانفتاح باب الاجتهاد أو انغلاقه فإننا باستعراض الآراء نجد أن المذاهب مختلفة فيها وكذلك آراء المجتهدين القائلين بانفتاح باب الاجتهاد. ومن الطبيعى والحال هذه أنه لا يمكن إجبار فرد أو دولة على اتباع نظام قد لا تؤمن به شرعًا فكيف يمكن إصدار مثل هذا القرار؟ ورغم ما سبق فإننا نجد أن الجهود المبذولة قد تكون نافعة في تقريب وجهات النظر، وتشخيص الشهادات الصحيحة من الباطلة – أحيانًا – بل وهى تنفع في توحيد شطر كبير من الذين يؤمنون بمسلك وحدة الآفاق.. إلا أننا مع هذا نحذر من الاستغلال السياسى اللئيم لهذه المسألة الشريفة. وأخيرًا نقول: إننا إذا تمسكنا بشريعتنا وبحقانية ما تقول بكل دقة، فزنا ولا يهمنا ما يقوله العالم لنا، ولذلك فإننا نسجل اعتراضنا على الاستناد إلى ما يسمى بـ (الرأى العام العالمى) في كلمات بعض العلماء. والمهم لدينا أن نحقق ما تريده الشريعة، وقد علمنا أن المسألة خلافية لا إجماع فيها. وفى الختام فمع تقديرنا للجهود المبذولة في هذا السبيل نود أن يخرج هذا القرار عن الصفة الإلزامية إلى الصفة الترجيحية مع الدعوة إلى التقارب والتأكد من الأمر. ونرجو في الختام التوفيق لكل المخلصين العاملين.. والسلام عليكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 توحيد بدايات الشهور العربية فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.. حضرات الأساتذة المحترمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. بداية الشهر القمري عني بها فقهاء المسلمين، وفى كل مذهب نجد آثار هذه العناية بما خلفوه من خصب الاجتهاد الذى تفرع عنه أحكام عديدة في كثير من القضايا المرتبطة بذلك. ولكن قضية الأهلة قد فرضت نفسها على ساحة الفكر الإسلامي في عصرنا هذا فرضًا تجاوز ما عرف من قبل، يبدو ذلك في عديد المؤتمرات واللقاءات التي خصصت لبحث هذا الموضوع في شرق العالم الإسلامي وغربه. كما يعود ذلك إلى بروز معطيات جديدة ما كانت موجودة من قبل. أولًا: سرعة وسائل الاتصال الإعلامي فما يثبت الشهر في بلد من بلدان العالم الإسلامي حتى يبلغ الخبر أطراف الأرض في نفس اللحظة التي يبلغ فيها أبناء البلد المثبت. ثانيًا: أن سرعة الاتصال هذه فرضت تصورًا جديدًا في القاعدة الشعبية الإسلامية هي ضرورة الاتحاد بين المؤمنين في الأعياد. ثالثًا: أن غزو الفضاء قد فتح آفاقًا واسعة في مجال المعرفة الإنسانية تجاوزت الحساب النظري المجرد إلى تطبيقه على واقع الكون في أبعاد الفضاء. رابعًا: اختلاف الأمة الإسلامية في وسائل إثبات الشهور القمرية أفضى إلى اختلاف في تعيين مبدئها ونهايتها. إذ أخذت أمم بالرؤية والآخذة بالرؤية اختلف فيما بينها في الشروط التي تثبت بها الرؤية فبعضها يكتفي بعدلين والبعض يشترط الاستفاضة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 وأخذت أمم أخرى بالحساب. وسنحاول في هذه الكلمة تتبع القضية من أصولها ثم في مذاهب المجتهدين ثم نختم بالرأى الذى نطرحه للنقاش. القرآن الكريم: 1- تحدث القرآن عن الأهلة قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ففي هذه الآية صرف للسائلين عن طلب بلوغ الحقائق العلمية التي تتوقف استبانتها على مقدمات معرفية في سلسلة مترابطة ومتساوية، صرفهم عن طلب بلوغها بالتلقين، إذ أن ذلك ليس سبيل المعرفة، وتوجيههم إلى ما ينبغى لهم طلبه وهو ما يمكن أن يستفيدوه من الظاهرة الكونية وليس ذلك منعًا لهم من بلوغ ما أرادوا علمه فالجواب يتضمن تأجيل الجواب لأن السائل لم يتهيأ بعد لإدراك ما يريد إدراكه ومع هذا فقد بين ارتباط التوقيت والمناسك بالأهلة. 2- تحدث القرآن عن انتظام سير القمر، كبقية الكواكب قال تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} وقال تعالى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} . فكان انتظام هذا السير سبيلًا لتحديد السنوات وحساب الزمن. 3- تحديد توزيع السنة على الأشهر: قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} . 4- ربط بعض العبادات بوقت معين من حساب الشهور {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وربط أحكامًا أخرى بمطلق العد من الأشهر كقوله تعالى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} . إن تتبعنا للآيات الكريمة الواردة في هذا المقام نتبعه بالملاحظات الآتية: 1- أن حركة الأفلاك حركة دقيقة ثابتة لم تختلف عبر العصور فهي تسير على نسق منتظم من يوم خلق السماوات والأرض. 2- أن الزمن مرتبط بهذه الحركة وأنه اثنا عشر شهرًا في السنة ولا يجوز الزيادة عليها. 3- أنه لا توجد آية صريحة تبين طريقة التعرف على بداية الشهور. 4- أن آية الصوم التي ورد فيها لفظ شهد، حمله بعضهم على الحضور كقولهم شهد بدرًا وشهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موجهين ذلك بما جاء في مقابل الآية {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ليكون وازنه، وحمله بعضهم على معنى (علم) أخذا من قوله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، أي علم حلول الشهر وليست شهد بمعنى رأى لأن فعلها شاهد لا شهد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 5- أنى أرجح أن يكون معنى شهد علم لأن ما وقع به توجيه حملها على الحضور من التوازن هو مفقود في الحقيقة إذ الطرف الثاني لم يقصر على السفر. فلو كان نص الآية (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان على سفر فعدة من أيام أخر) لكان التوازن واضحًا، أما الشطر الثاني فهو قد جمع بين المرض وقد قدم السفر فالتوازن مختل، ولكن يصبح صدر الآية دالًا على أن من علم الشهر وهو حاضر صحيح وجب عليه الصوم، ومن كان مريضًا أو على سفر عند علمه فعدة. 6- أن وظيفة السنة أن تبين طريقة المعرفة.. السنة النبوية: ورويت أحاديث كثيرة تعالج موضوع ثبوت الشهر، فروي عن عبد الله بن عمر، وهو أكثر من روي عنه وروي عن أبي هريرة وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها وعن جابر، وعن ابن عباس وعن سعد بن أبي وقاص وعلي بن علي المنذري الحنفي، وهذا ما جمعته وقد يكون لغيرهم أحاديث مروية في كتب الحديث، كلها تدور حول ربط الصوم برؤية الهلال أو لا، حتى أن الحديث الذى أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمر لم تقبله عائشة وعلقت أنه وقع في وهم أو خطأ. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الشهر تسع وعشرون وصفق بيديه مرتين وقبض إبهامه، فذكروا ذلك لعائشة فقالت عائشة: غفر الله لأبي عبد الرحمن أنه وهل إنما هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرًا فنزل لتسع وعشرين فقالوا يا رسول الله إنك نزلت لتسع وعشرين فقال: أن الشهر يكون تسعا وعشرين.)) آهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 فكون الشهر تسعًا وعشرين ليس قاعدة وإنما هو مرتبط بالرؤية ومجمل الحديث عندي أن اليمين تحمل على الأرفق وأقل المحامل إذا احتملت أكثر من مستوى. وهذا الحديث رواه مسلم عن جابر كما قالت عائشة فالأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وردت باللفظ: ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) ووردت بالإشارة ((الشهر هكذا وهكذا وعقد أصبعه في الثالثة)) وإذا لم ير الهلال فالمروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلف لفظه فروي ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) . وروي ((فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يومًا)) وفي رواية ((فإن عفي عليكم فاكملوا العدد)) وفي رواية ((فإن عمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين)) وفي رواية ((فإن اغمي عليكم فعدوا ثلاثين)) وفي رواية ((فإن غبي عليكم فاكملوا عدة شعبان ثلاثين)) . كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وعقد الإبهام في الثالثة والشهر هكذا وهكذا وهكذا)) . الروايات كلها متقاربة وحداتها الأصلية. 1- إن رؤية الهلال عند غروب شمس يوم التاسع والعشرين توجب تمام الشهر وبداية الشهر الجديد إذ أن اليوم يبدأ من غروب الشمس. 2- أنه إذا لم ير الهلال ليلة الثلاثين وَرَدَ الأمر باتمام العدد مرة وباتمام ثلاثين يومًا في بعض الأحاديث وبقوله ((فاقدروا له)) . 3- أنه ربط في بعض الروايات بين هذا الضبط وطريقة إثبات الشهر وبين المستوى العلمي الذي كان عليه أهل الجزيرة العربية في قوله صلى الله عليه وسلم ((نحن أمة أمية)) وفي رواية البخاري ((إنا أمة أمية)) وما حمله عليه بعضهم من أنه يعني نفسه موجهين ذلك بقوله تعالى {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} أن هذا المحمل بعيد إذ ما عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عن نفسه نحن. ولأنه ما كان يبين حكمًا خاصًا به وإنما كان يبين حكمًا يعم صحابته رضوان الله عليهم إذ طريقة معرفة دخول الشهر حكم يشمل كل المسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 أقوال الفقهاء في طريقة ثبوت الشهر مذهب الحنفية: عبارة صاحب الكنز: " ويثبت رمضان برؤية هلاله أو بعد شعبان ثلاثين يومًا ومن رأى هلال رمضان أو الفطر ورد قوله صام فإن أفطر قضى وقيل بعلة خبر عدل ولو قنا أوانثى لرمضان وحرين أو حر وحرتين للفطر، وإلا فجمع عظيم والأضحى كالفطر ولا عبرة باختلاف المطالع." الملاحظات: 1- أن مذهب أبي حنيفة التفرقة بين هلال الصوم وهلال الفطر وحالة السماء من صحو أو غيم فالحالات أربع. الحالة الأولى: أن يكون بالسماء غيم أو مانع وهو المعبر عنه بالعلة ليلة الثلاثين من شعبان فواحد ثقة عدل كاف ولو كان عبدًا أو امرأة والعدل هو مستور الحال أي الذي لم يثبت فسقه حسبما افتى به البزازى وهو خلاف ظاهر الرواية. ابن عابدين ج 2 ص 90 والبحر الرائق ج 2 ص 286. وعلل ذلك الكاساني بجواز انشقاق قطعة من الغيم ص 985. الحالة الثانية: أن يكون بالسماء غيم أو مانع ليلة الثلاثين من رمضان فيشترط في ذلك نصوب الشهادة على الأموال، رجلان توفرت فيهما صفة العدالة أو رجل وامرأتان فالاتفاق على عدم قبول المستور في هلال الفطر. أن تكون السماء مصحية: في الصوم والفطر فيشترط لقبول الرؤية ثبوتها عن جمع كثير يحصل به العلم أو الظن الغالب وروي عن أبي حنيفة الاكتفاء بشهادة عدلين وروى الحسن عن أبي حنيفة الاكتفاء بالواحد. الكاساني ج 2 ص 985. الجمع الكثير لم يقدر الحد الأدنى للجمع الكثير في ظاهر الرواية وقدره أبو يوسف بخمسين رجلًا قياسًا على القسامة وعن خلف بن أيوب خمسمائة ببلخ قليل وقيل ينبغى أن يكون من كل مسجد جماعة واحد أو اثنان. الكاساني ج2 ص986. 2- أن هلال ذى الحجة قد اختلف فيه فرواية أنه كهلال الفطر وهو المذهب وروي أنه كهلال الصوم وصححه صاحب التحفة البحر ج 2 ص 290. وأما بقية الأشهر فقد ذكر الاسبيجابي في شرح مختصر الطحاوى الكبير: "وأما في هلال الفطر والأضحى وغيرهما من الأهلة فإنه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين عدول أحرار غير محدودين كما في سائر الأحكام وناقشه ابن عابدين في المفهم البحر ج 2 ص 290. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 3- إذا ثبت في بلد فهل يتعدى الحكم سائر الأقطار؟ إذا ثبتت الرؤية في بلد فإنه يجب الصوم على كل بلد يثبت عندهم بطريق صحيح رؤية البلد الآخر ويصوم أهل المشرق برؤية أهل المغرب وهذا ظاهر الرواية وهو ظاهر المذهب وعليه الفتوى لكن في البحر والأشبه اعتبار اختلاف المطالع فلا يلزمهم برؤية غيرهم كما في التبين ويقول الكاساني في بدائع الصنائع " أما إذا كانت بعيدة فلا يلزم أحد البلدين حكم البلد الآخر" وقاسه أبو عبد الله الضرير على فطر القائم على المنارة وفطر أهل البلد. 4- اكمال الشهر ثلاثين يومًا: إذا ثبت دخوله بعدلين رئي الهلال ولم ير في صحو أو غيم. وإن ثبت دخول الشهر برؤية واحد فإن كان بغيم تم الشهر وإن كان صحوًا فخلاف ويرى محمد تمام الشهر بذلك لأنه حكم بالفطر تبعًا وضمنًا لا استقلالًا ورجح في غاية البيان ما ذهب إليه محمد بن الحسن الشيباني. 5- أعتماد الحساب: يقول صاحب الدر المختار ولا عبرة بقول الموقتين ولو عدولًا على المذهب قال في الوهبانية وقول أولى التوقيت ليس بموجب وقيل نعم والبعض أن كان يكنز آهـ علق عليه ابن عابدين يوهم أنه قيل بأنه موجب للعمل وليس كذلك بل الخلاف في جواز الاعتماد عليهم. وقد حكي في القنية الأقوال الثلاثة فنقل أولًا عن القاضي عبد الجبار صاحب جمع العلوم بأنه لا بأس بالاعتماد على قولهم ونقل عن ابن مقاتل أنه كان يسألهم ويعتمد على قولهم إذا اتفق عليه جماعة منهم ثم نقل عن شرح السرخس أنه بعيد وعن شمس الإئمة الحلواني: أن الشرط في وجوب الصوم والافطار الرؤية ولا يؤخذ فيه بقولهم ثم نقل عن مجد الإئمة الترجماني أنه اتفق أصحاب أبي حنيفة إلا النادر والشافعي على أنه لا اعتماد على قولهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 وفي جعل الحساب ميزانًا لصحة الشهادة وهو ما ذهب إليه السبكي نقل ابن عابدين عن الشهاب الرملي أن المعول عليه الشهادة لا الحساب. بناء على ما تقدم فالخلاف في اعتماد الحساب في ثبوت دخول الشهر وفي رد الشهادة أن جاءت على خلافه الخلاف ثابت والراجح عدم الأخذ بالحساب واعتمادهم على قوله صلى الله عليه وسلم ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) . مذهب المالكية: وذهب المالكية إلى أن الشهر: 1- يثبت بالرؤية والرؤية رؤية عدلين ممن يقبل قولهما في الشهادة قال في المدونة: " ولا يصام رمضان ولا يفطر فيه ولا يقام الموسم إلا بشهادة رجلين حرين مسلمين عدلين." وذهب ابن مسلمة إلى قبول رجل وامرأتين، وأشهب إلى قبول رجل وامرأة. ولا يفرقون بين هلال رمضان وهلال شوال وغيره من الأهلة. ونقل ابن عبد الحكم أنه رأى أهل مكة لا يقبلون في شهر ذى الحجة إلا خمسين رجلًا ولا يفرقون بين الصحو والغيم. وذهب سحنون إلى أن الرؤية أن كانت في صحو والمدينة كبيرة ولم يشهد بذلك إلا عدلان فذلك ريبة في شهادتهما توجب ردها قال: "وأى ريبة أكبر من هذا." ولم يحدد العدد الذي يراه حدًا أدنى لقبول الشهادة. وكما يثبت برؤية عدلين فكذلك يثبت بالرؤية المستفيضة والرؤية المستفيضة تتقوى بكثرة الرائين فلا يشترط عدالة المخبرين. وتحقيق الاستفاضة أن يكون الخبر يبلغ عند السامع درجة الظن القوي بصدقه أو اليقين. أما بخبر الواحد فلا تثبت الرؤية لا في صحو ولا في غيم ويصوم الرائى وكذا أهله ولا يفطرون برؤية هلال شوال ويقف يوم عرفة حسب رؤيته. البيان والتحصيل ج 2 ص 351. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 ملاحظة: إذا ثبت الشهر بشهادة شاهدين ثم كانت السماء صحوًا ليلة الحادي والثلاثين ولم ير الهلا كذب الشاهدان قال مالك "هما شاهدا سوء ولو انفردا بالشهادة على الرؤية ليلة الحادي والثلاثين لم تقبل شهادتهما للتهمة" وحرر ابن عبد السلام ما يترتب على هذا أنه إذا لم ير هلال ذى القعدة وجب قضاء يوم وإذا كانت الشهادة على هلال ذى الحجة ولم ير الهلال المحرم ليلة الحادي والثلاثين فسد الحج. مواهب الجليل ج2 ص383. 2- ثانيًا: ببلوغ الشهر ثلاثين يومًا حسب الضوابط السابقة. 3- ثالثًا: الحساب قال ابن الحاجب " ولا يلتفت إلى حساب المنجمين وإن ركن إليه بعض البغداديين" ورووه عن مالك قال ابن برزيزة وهي رواية شاذة في المذهب وقد ذكر ابن العربي في العارضة قال: "كنت رأيت للقاضي أبي الوليد الباهلي رحمة الله أن بعض الشافعية يقول أن يرجع في استهلال الهلال إلى حساب المنجمين وانكرت ذلك عليه لأن فخر الإسلام أبا بكر الشاشى وأبا منصور محمد بن محمد الصباغ حدثاني بمدينة السلام عن الشيخ الإمام أبي نصر الصباغ بباب الرحمن منها قال ولا يؤخذ في استهلال الهلال بقول المنجمين خلافًا لبعض الشافعيين وكذلك أخبرني أبو الحسن بن الطبوري عن القاضي أبي الطيب الطبري عن إمام الشافعية أبي حامد الاسفراييني إمام الشافعية في وقته مثله ثم نقل عن أبي العباس بن شريح أن قوله صلى الله عليه وسلم ((فاقدروا له)) أي منازل القمر لمن خصه الله بهذا العلم وقوله ((فاكملوا العدة ثلاثين)) . خطاب العامة. قال ابن العربي: "وهذه هفوة لا مرد لها وعثرة لا لعًا منها وواصل هجومه إلى أن بلغ من التشنيع أن قال أن فهمه هذا فرق أمة محمد لأمتين أحدهما عددية والثانية عامة الناس عارضة الأحوذى ج3 ص208. ثم نقل عن ابن نافع عن مالك أن الإمام إذا كان يصوم بالحساب أو يفطر أنه لا يقتدي به. ج3 ص211. وقعد القرافي لعدم الأخذ بالحساب قاعدة ذكرها في الفرق الثاني والمائة بين اعتماد الحساب في أوقات الصلوات وعدم اعتماده في ثبوت الشهر بأن الله ربط الصوم والفطر بالرؤية لا بالخروج من شعاع الشمس خروجًا يمكن من مشاهدته بينما أوقات الصلوات ربطها بزوال الشمس وبلوغ الظل وغروب الشمس ومغيب الشفق ج2 ص129. رابعًا: تعميم الرؤية على جميع الأقطار: نقل ابن عرفة عن أبي عمر بن عبد البر الاجماع على عدم لحوق حكم رؤية ما بعد الأندلس من خراسان. وأما ما لم يبعد جدًا فيتعدى حكم ثبوت الشهر إلى غير بلد الرؤية. مواهب الجليل ج2 ص384 البناني ج2 ص192. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 مذهب الشافعية: وذهب الشافعية إلى أن الشهر يثبت دخوله: 1- بالرؤية، ويشترط في الرؤية أن تكون بعد الغروب وأن تكون بمجرد النظر لا بواسطة مرآة كالمرآة المقربة والبلور الذي يقرب البعيد ويكبر الصغير. ويكتفى فيها بشهادة عدل واحد على الرؤية إذا قبله القاضي واثبت بذلك دخول الشهر ويشترط فيه العدالة ويخفف في ضوابط العدالة فيقبل حتى مستور الحال وهو الذي يلابس ما يخرم المروءة ولا يقبل شهادة امرأة ولا عبد وقيل لا بد من عدلين ومنهم من فرق بين الصوم وغيره فيقبل في الصوم الواحد وفي غيره اثنان فإن لم يقبل القاضي الشهادة وجب على الرائي الصوم. وإذا لم ير الهلال في تمام الثلاثين افطروا. 2- بالخبر المتواتر ولو كان من كفار. التحفة ج3 ص372. 3- تمام الشهر ثلاثين ومن أتم الشهر على روايته المرفوضة فقد تم الشهر بالنسبة له. 4- بقول منجم وحاسب: لا يقبل قول منجم وحاسب ولا يجوز لأحد تقليدهما وإنما يعملان به لأنفسهما واختلف في إجزائه وصححه الشرواني نقلًا عن الأمهات. وذكر ابن قاسم العبادي أن قياس قولهم أن الظن يوجب العمل أنه يجب عليه الصوم وعلى من أخبره وغلب على ظنه صدقه. تعدى الرؤية إلى غير محل الرؤية إذا ثبت في بلد لزم البلد القريب. القرب: = ضبطه بعضهم بمسافة القصر لأن الشارع ربط بها جملة من أحكام العبادات واعتبار المطالع محوج إلى تحكيم النجوم. وضبطه بعضهم باختلاف المطالع لأن الهلال لا تعلق له بمسافة القصر ولأن المناظر تختلف باختلاف المطالع والعروض فكان اعتبارهما أولى. وقدر التاج التبريزى اختلافها بأربعة وعشرين فرسخًا. وحصل في المجموع أن الأقوال ستة 1- أهل الأرض2- أهل الإقليم 3- بلد الرؤية وماوافقها في المطالع وهو أصحها 4- كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم بلا عارض 5- من دون مسافة القصر 6- بلد الرؤية فقط. وذهب الحنابلة: إلى أن الشهر يثبت دخوله أن كان هلال رمضان: 1- برؤية عدل ذكرًا كان أو انثى حرًا أو عبدًا ولا يشترط فيه أيقول: أشهد، ولو انفرد الرائى وسط جمع كثير فإن ذلك لا يكون ريبة. 2- بتمام شعبان ثلاثين يومًا والسماء صحو. 3- إذا كان ليلة الثلاثين غيم يمنع الرؤية فنقل الخرقي أنه يجب الصوم أن كانت السماء ليلة الثلاثين مغيمة ونقل عن أحمد أيضا أن الناس تبع للإمام فإن صام صاموا وإن أفطر أفطروا، وروى عنه رواية ثالثة لا يجب صومه ولا يجزئه عن رمضان. ج3 ص89. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 تعدى الرؤية: إذا ثبتت الرؤية في بلد تعدت إلى سائر البلدان ولا عبرة باختلاف المطالع. ج3 ص88. برؤية عدلين في بقية الشهور، إذا صام الناس بشهادة اثنين فلم يروا الهلال بعد ثلاثين يومًا أفطروا في الصحو والغيم وإذا استندوا في صومهم إلى شهادة واحد وكانت ليلة الحادي والثلاثين صحوًا لم يفطروا. لقد حاولت أن ألخص المذاهب الفقهية لأن ذلك يمثل في نظري قاعدة أساسية للبحث الذي هو توحيد الأشهر الإسلامية أو القمرية. إن المذاهب الإسلامية قد اختلفت في أمر ثبوت دخول الشهر ونهايته اختلافًا بينًا مما يدل على أن الحديث المستند إليه ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) حديث مجمل والاجمال جاء من نواح عديدة: 1- أن فاعل المصدر محذوف فقدروه واحدًا مستور الحال وواحدًا عدلًا واثنين وجماعة كثيرة من المسلمين وأدخلوا فيه التواتر عن غير المسلمين. 2- هل أن رؤيته الأولى ((صوموا لرؤيته)) هي كرؤيته الثانية ((وافطروا لرؤيته)) ؟ فمن قائل بالاتحاد ومن قائل بالاختلاف. 3- هل الخطاب للمسلمين كافة إذا ثبت الصوم في ناحية وجب على الباقين العمل بما ثبت أولًا؟ 4- هل الصوم والفطر بعد الثبوت هو وضع نهائى أو أن الصوم والفطر يستأنى به؟ 5- هل تغلب الرؤية أو نلغى الرؤية ونأخذ بالأحوط كما هو الحال ليلة الغيم التاسعة والعشرين من شعبان. 6- وقت الرؤية هل يشترط أن يكون بعد غروب أو يثبت الشهر ولو كانت الرؤية قبل الغروب؟ 7- هل يفطر من رأى هلال شوال ولم تقبل شهادته أو لايفطر؟ إن الاجمال دفع المجتهدين إلى البحث عن البيان فبين كل واحد الحديث حسبما بلغه اجتهاده وهذا يفضي قطعًا إلى اختلاف الأمر لا بين الأمة الإسلامية بل بين العائلة الواحدة حسب ارتباط المقلد بالمجتهد. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنه حتى في المذهب الواحد لم يصل الاحتياط في فهم الحديث وتطبيقه إلى منهج مأمون فقد استبان كذب الشهود أو خطؤهم. وقد يكون الأمر مما يمكن تداركه كرمضان إذ غاية ما يترتب عليه أن يصوم الناس واحدًا وثلاثين يومًا أو أن يقضوا يومًا أما في ذى الحجة وبعد أن يقف الناس يوم عرفة ثم يتبين كذب الشهود في نهاية الشهر فإن حج الأمة الإسلامية كلها يكون باطلًا. ومن ناحية ثالثة في البلدان التي قلما يصحو فيها الجو إذا اعتمدنا الرؤية وحدها فهل نأخذ بقاعدة أنه لا يتوالى إلى أكثر من أربعة أشهر على التمام فيكون الخامس ناقصًا وعلى هذا فقد ألغينا الحديث صوموا لرؤيته أو نستمر على التمام حتى إذا ظهر الهلال ليلة خمس وعشرين قضي الصائمون خمسة أيام وافطروا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 بعض الوقائع: يقول ابن نجيم: "وقع في زماننا سنة خمس وخمسين وتسعمائة أن أهل مصر افترقوا فرقتين فمنهم من صام ومنهم من لم يصم وهكذا وقع لهم في الفطر بسبب أن جمعًا قليلًا شهدوا عند قاضي القضاة الحنفي ولم يكن بالسماء علة فلم يقبلهم فصاموا وتبعهم جمع كثير على الصوم وامروا الناس بالفطر وهكذا في هلال الفطر حتى أن بعض المشايخ الشافعية صلى العيد بجماعة دون غالب أهل البلدة وانكر عليه ذلك لمخالفة الإمام " البحر الرائق ج2 ص289. ذكر ابن عابدين: "وقعت هذه الحادثة في دمشق سنة 1239 ثبت رمضان بدمشق ليلة الجمعة بعد شعبان ثلاثين وكان في السماء علة في تلك الليلة ثم استفاض الخبر عند أهل بيروت وأهل حمص أنهم صاموا الخميس لكن استفاض الخبر عن عامة البلاد سوى هذين البلدين أنهم صاموا الجمعة مثل دمشق فهل تعتبر الاستفاضة الأولى في مخالفتها للثانية أم لا؟ بناء على أن الظاهر يقتضي غلط أهل تلك البلدتين نظير ما مر فيما لو كانت السماء مصحية ورأى الهلال واحد لا يعتبر لأن التفرد بين الجم الغفير ظاهر في الغلط مع أنه ليس بين تلك البلاد بعد كثير بحيث تختلف به المطالع لكن ظاهر الاطلاق يقتضي لزوم عامة البلاد ما ثبت عند بلدة أخرى فكل من استفاض عندهم خبر تلك البلدة يلزمهم اتباع أهلها.. إلخ " (منحة الخالق على البحر الرائق ص290.) قال ابن ناجي في شرح المدونة: "جلس شيخنا أبو مهدي لرؤية هلال شوال بجامع الزيتونة ليلتين ولم ير وانحرف على قاضي القيروان في تسرعه لقبول الشهادة ولو كانت تثبت ما وقع في مسألة. وقال مالك في شهودها ما قال ولم يقع في عصرنا قط ولا بلغنا أنها وقعت في غيره." مواهب الجليل ج2 ص383. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 قال الحطاب: " وقد اخبرني والدي رحمه الله أنه وقع لهم في سنة من السنين أن جماعة شهدوا بمكة بهلال ذي الحجة ليلة الخميس حرصًا على أن تكون الوقفة يوم الجمعة ثم عدّ الناس ثلاثين يومًا من رؤيتهم ولم ير أحد الهلال ولكن الله لطف بالناس ولم يفسد حجهم بسبب أنهم وقفوا بعرفة يومين فوقفوا يوم الجمعة ثم دفع كثير منهم حتى خرجوا من بين العلمين ثم رجعوا وباتوا بها ووقفوا بها في يوم السبت ويقع بمكة في مثل هذا الحال أعني إذا وقع الشك في وقفة الجمعة خباط كثير غالبًا" ج3 ص383. ويقول القاضي أبو بكر بن العربي: "كنت بالمهدية وكان الوالي نجوميًا فاقتضى حسابه عنده أن الليلة بالهلال وأراد العمل به فلم يكن حتى عضد نفسه بكتاب جاء من البادية أن الهلال استهل البارحة وأخذ المقيمين بها فاتفقوا على انه لا يعمل عليه إلا واحد كان ممن يداخل دولته وينظر في شئ من الحساب فأفتاه بالعمل بذلك الكتاب وعظم ذلك على الناس ولكنهم سلموا الحكم لحكم الله وكان شيخنا أبو القاسم بن أبي حبيب يلعن المفتى بذلك" عارضة الأحوذى ج3 ص211. نقل الشيخ عبد الباقي الزرقاني عن الشيخ أحمد الزرقاني "إذا لم ير الهلال بالصحو ليلة الحادي والثلاثين يكذبان ولو حكم بشهادتها حاكم وهو ظاهر حيث كان الحاكم به مالكيًا وأما لو حكم به من لا يرى تكذيبهما كالشافعي فإنه يجب الفطر لأن مقتضى حكمه أن لا يراعي إلا العدد خاصة دون رؤية الهلال قاله بعض شيوخنا واعترض عليه بقول خليل فأجاب بما قدمناه فاعترض بأن الشهود قد ظهر فسقهم فينقض الحكم المترتب على شهادتهم فأجاب بأنه لم يظهر فسقهم عند الحاكم بهم بل عند غيره والفسق المضر هو المتفق على كونه فسقًا وقد وقع هذا بالبلاد المصرية سنة ثمان وستين وتسعمائة وافطر شيخنا المتقدم وتبعه غالب الجماعة وامتنع بعض الجماعة من الفطر ذلك اليوم" عبد الباقي ج2 ص192. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 أنه لا يمكن توحيد العالم الإسلامي في أعياده وصومه وفطره مطمئنين إلا إذا أخذنا بالحساب إلا أن الحساب الذي قال به مطرف بن الشخير وابن سريح وبعض البغداديين وابن قتيبة والسسبكي في هذا الاتجاه رفضه الفقهاء بقوة وعنف ورأوا فيه مصادمة لنص ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) هذا النص الذي عمل القرافي على جعله قاعدة يختلف بها أمر الصوم عن الصلاة وسكوت ابن الشاط قوى ثقة من جاء بعده على صحة قاعدة القرافي مع أن من المذاهب الرافضة للحساب من ألغى العمل بنص الحديث كأحمد ليلة الغيم ومع أن قصر الرؤية البصرية لم يستطع القرافي أن يؤكده ومع أن مفهوم الرؤية البصرية وحدودها لم يكشف عنه. كما رأوا فيه مصادمة لقوله صلى الله عليه وسلم ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وخنس إبهامه في الثالثة وأرسل بعد ذلك في الثالثة)) . نعم {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} وأن التعبير بالأميين على صحابته صلى الله عليه وسلم هو تعبير عن غالب أحوال أشخاصهم من الأمية فهل تبقى الأمية ملصقة بالمسلمين إلى يوم يبعثون؟ الواقع يشهد أن هذه الأمة خرجت من الجهل إلى العلم بفضل توجيه هذا الدين وأن الإسلام دخلت فيه أمم ليست أمية. فالرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه هذا إنما هو يكشف عن وضع خاص، هو وضع الأمة الإسلامية وقت البعثة وأن هذا الوصف قد ارتفع قطعًا بعد ذلك يوم أصبح العالم الإسلامي قائد الحضارة البشرية. كما اعترضوا بأن الأخذ بالحساب لا يتمكن منه كل الناس وهذا أمر لا تختلف فيه الرؤية عن الحساب فكما أن الهلال في أول ليلة هو دقيق لا يتمكن من رؤيته إلا من كان حاد البصر بموقعه لا يتيه بصره في السماء فكذلك الحساب لا يقوم به إلا العالم ولا فرق بين النقص الخلقي والعلمي وقد رأينا أن معظم فقهاء الإسلام يرون في شهادة عدلين برؤية الهلال ما يكفي لثبوت دخول الشهر وشمول هذا الحكم لما لم يبعد جدًا على معنى أن الذين يلزمون بالصوم هم عشرات الملايين من المؤمنات والمؤمنين وأن طريقة الثبوت لم تبلغ إلا من عدد محدود فأي فرق بين هذا وذاك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 على أن الحكم من الصوم والفطر والوقوف بعرفة وما يتقدمه وما يتبعه والنذر وغير ذلك لم يتعلق أي واحد منها بالرؤية وإنما ارتبط الحكم بظرفه الزماني الذي لابد من وجوده لتحقق الامتثال من المكلف للطلب المتعلق بذمته. وهو دخول الشهر. الذي أمارته الحقيقية وضع الهلال في الأفق وضعًا يمكن أن يشاهد وهذا الوضع لم يكن من سبيل من التيقن منه عند البعثة وفي البيئة العربية التي نزل فيها القرآن لم يكن من سبيل إلى ذلك إلى الرؤية وما سوى الرؤية من ذلكم العهد وما تلاه من العهود إلى النصف الأول من القرن العشرين لم يكن بالغًا من الدقة مبلغًا يطمأن إليه أما بعد أن استطاع العقل البشري أن يتخلص بمعداته من جاذبية الأرض وأن يتجاوزها إلى مسابح الكواكب وأعيانها وبما تقوم به الحاسبات الإلكترونية فإن مكان القمر في كل لحظته من بين المجموعة الشمسية أصبح يقينًا إلى درجة قدرت بجزء من ثلاثين ألفًا من الثانية. إن وسيلة معرفة دخول الشهر هي كوسيلة بلوغ البيت الحرام لأداء فريضة الحج يقول الله تعالى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} فوسيلة بلوغ البيت الحرام حسب النص القرآني هي أحد أمرين أما المشى على الأقدام أو الركوب على الدواب المهيأة للبلاغ فهل يقبل من أي فقيه أن يقول أن القرآن حصر الأمر في هذين والحاج بالطائرة أو الباخرة أو الصاروخ يكون حجه لاغيًا لأن الله حدد الوسيلة {رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} ولو أراد مطلق الوصول لقال وأذن في الناس بالحج يأتوك من كل فج عميق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 أنه لابد من أن نعرف الأسباب التي جعلت معظم الفقهاء يقفون من الحساب مواقف مختلفة أن ذلك يعود في نظري إلى أمور. أولًا: عدم تدقيق المراد من الحساب: قال الحطاب: "ظاهر كلام أصحابنا أن المراد بالمنجم بالحساب الذي يحسب قوس الهلال ونوره، ورأيت في كلام الشافعية أن المنجم الذي يرى أن أول الشهر طلوع النجم العلاني والحاسب الذي يحسب سير الشمس والقمر." ج2 387. ونقل الأبي عن النووى أنه قال: "عدم الأخذ بحساب المنجمين لأنه حدس وتخمين، وإنما يعتبر منه ما تعرف به القبلة ووقت الصلاة." ج3 ص222. فكلام الفقهاء قد اختلط فيه الحاسب المنجم وقد عطف أحدهما على الآخر في بعض التآليف وانفرد أحدهما عن الآخر في أخرى. وضبط المراد أول خطوة من خطوات البحث فالمنجم الذي يربط بين طلوع نجم وظهور الهلال ويستدل بالنجم على وجود الهلال هو قد حول الاعتماد من الهلال إلى النجم ومن حق الفقهاء أن يرفضوا ذلك وإذا أخذنا بأن المنجم هو الذي يحسب قوس الهلال ونوره فإنه أيضا مما يتحتم رفضه وذلك لما رواه مسلم عن أبي البختري قال: "خرجنا للعمرة فنزلنا ببطن نخلة: قال تراءينا الهلال فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث وقال بعض القوم هو ابن ليلتين قال: فلقينا ابن عباس فقلنا: إنا رأينا الهلال فقال: أي ليلة رأيتموه؟ فقلت: ليلة كذا وكذا فقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أمده للرؤية فهو لليلة التي رأيتموه)) فهذا نص في عدم اعتبار حساب قوس الهلال ونوره. وما ذكره النووى من عدم الأخذ بحساب المنجمين لأنه حدس وتخمين. هو حق فلا يؤخذ بقول من اعتمد التخمين والحدس، وألغى طرق المعرفة التي قبلها الشرع وهي الخبر الصادق والحس والدليل العقلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 ثانيًا: قوله صلى الله عليه وسلم ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) . يقول الزرقاني في شرحه على الموطأ: "وقد أورثت هذه الزيادة المؤكدة عند المخالف شبهة بحسب تفسيره لقوله ((فاقدروا له)) فقال الإئمة الثلاثة والجمهور: قدروا له تمام العدد ثلاثين يومًا. يقول: قدرت الشئ وأقدرته وقدرته بمعنى التقدير، أي انظروا في أول الشهر واحسبوا ثلاثين يومًا كما جاء مفسرًا في الحديث اللاحق ولذا أتى به الإمام للإشارة إلى أنه مفسر. ولذا لم يجتمعا في رواية بل تارة يذكر هذا وتارة يذكر هذا يعني روايته عن عبد الله بن عباس ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) " ج2 ص86. فالحديث الثاني هو مفسر للحديث الأول لا تعارض بينهما. وذهب الطحاوي إلى أن الحديث الثاني ناسخ للحديث الأول أي أن بينهما خلافًا وأن العمل بالثاني وأن الأول قد بطل العمل به. قال الطحاوى: "معنى التقدير أن ينظر إذا غم الهلال ليلة الشك إلى سقوط القمر في الليلة الثانية فإن سقط لمنزلة واحدة وهي ستة أسباع الساعة علم أنه من تلك الليلة وإن غاب لمنزلتين علم أنه من الليلة الماضية فقضوا اليوم. فمعنى التقدير هو الانتظار اضبط سقوط الهلال في الليلة القادمة." وقال ابن رشد في المقدمات: "إنه ينظر إلى هذا الذي غم الهلال عند آخره من الشهور فإن كان توالى منها شهران أو ثلاثة كاملة عمل على أن هذا الشهر ناقص فأصبح الناس صيامًا، وإن كانت توالت ناقصة عمل على أن هذا الشهر كامل فأصبح الناس مفطرين إذ لا تتوالى أربعة أشهر كاملة ولا ناقصة على ما علم مما أجرى به الله العادة ولا ثلاثة أيضا ناقصة ولا كاملة إلا في النادر. وإن لم يتوال قبل هذا الشهر الذي غم الهلال في آخره شهرًا، فأكثر كاملة ولا ناقصة احتمل أن يكون هذا الشهر ناقصًا وكاملًا احتمالًا واحدًا يوجب أن يكمل ثلاثين يومًا كما في الحديث الآخر فيكون على هذا الحديثان جميعًا مستعملين كل واحد منهما في موضع غير موضع صاحبه وهذا في الصوم وأما في الفطر إذا غم هلال شوال فلا يفطر بالتقدير الذي يغلب فيه على الظن أن رمضان ناقص" آهـ. مواهب الجليل ج2 ص389. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 وهنا أريد لفت النظر إلى الملاحظات التالية: 1- هو أن هذا النص الذي نقله الحطاب عن ابن رشد في المقدمات لم أجده في المقدمات. 2- أن هذا النص فيه جواذب لصاحبه تدعوه إلى اعتبار ما أجرى الله عليه العادة وسنته في الخلق وأنها سنن ثابتة مطمئن إليها مكتشفها. 3- أن الإستثناء ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) هو في الحديث قد ورد بعد قوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم..)) فالرسول صلى الله عليه وسلم جمع نص حديثه الصوم والفطر فتفريق ابن رشد بين الصوم يؤخذ في الصوم بالتقدير ولا يؤخذ في الفطر بالتقدير تفريق لا ينسجم مع نص الحديث. ثالثًا: المستوى العلمي الذي بلغته البشرية قبل النصف الثاني من القرن العشرين، نعم أن علماء الفلك بذلوا جهودًا جبارة خلال القرون الماضية لمعرفة سير الكواكب ولكنهم لم يبلغوا الدقة والضبط إلا بعد صعود الإنسان إلى القمر فإن توجيه الإنسان الأول إلى القمر لم يكن مجازفة وإنما سبقه يقين بموقع القمر وقد كشفت التجربة عن صحة حساب الفلكيين ولو كان حسابهم مبنيًا على التقريب لضاع المسبار في فضاء الله ولا أمل في رجوعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 الخلاصة: من هذا الذي قدمناه يتبين لنا أن طريق ثبوت الشهر: أولًا: الرؤية البصرية للهلال بعد غروب الشمس: وهذه الرؤية لا تفيد اليقين وذلك لأمور: 1- احتمال الكذب وإن ما ظهر من العدالة والصدق هو رداء زائف وإن المخبر لا يتورع عن الكذب. 2- احتمال خداع النظر نتيجة حديث النفس السابق والاقتناع بامكان الرؤية وهذا يقع فعلًا كثيرًا ما يتصور أمام ناظر العين ما لا وجود له إلا في عقل الرائى. 3- احتمال خداع النظر من حالة العين فمن الأمراض التي تصيب العين أن تحدث شرارات يدركها النظر بعد حدوثها من الداخل ولا وجود لها في الخارج. وأن الوقائع التي ذكرتها فيما سبق هي كاشفة عما يدخل الرؤية من احتمال الخطأ أو التخطئة. وليس معنى هذا أن الرؤية لا يجب أن تعتمد بحال فهذا لا يقوله مؤمن ولكن الرؤية البصرية وسيلة اثبات لها حظها من الصحة وليست يقينية ونحن مطالبون بالعمل بالظن كلما تعذر اليقين فإن الظن لا يغني من الحق شيئًا. ثانيا: الحساب: والحساب اليوم هو غير التنجيم وهو يقيني لا مجال للخطأ فيه إلا أن الحساب يجب أن يضبط بما جاء في الحديث الشريف وهو الرؤية فلا يثبت دخول الشهر بانفلات القمر بعد الاقتران وإنما يثبت دخول الشهر إذا بلغ الهلال بعد خروجه درجة تمكن رؤيته فيها وهي ثمان درجات حسبما يؤكد علماء الفلك والبصر. ثالثًا: تبين بالتجربة الطويلة أن اعتماد الرؤية تسبب عنه اختلاف الأمة الإسلامية في مواعيد أعيادها ثم تعدى الخلاف إلى أهل البلد الواحد ثم استفحل الأمر أكثر فبلغ الشقاق أعضاء الأسرة الواحدة. إن ما كان يسع أهل العصور السابقة من الاختلاف بينهم في هذا الأمر هو لا يقبل منا اليوم ذلك أن وسائل الاتصال زادت سرعتها فوحدت العالم كله في العلم بالأخبار. إن اعتماد الرؤية كانت آثاره غير معقولة فسوريا ابتدأت الصيام هذه السنة يوم الأحد وهي تعتمد الرؤية والسعودية يوم الإثنين وهي تعتمد الرؤية والمغرب يوم الأربعاء وهي تعتمد الرؤية ومعلوم يقينيًا أنه لا يسبق أهل المشرق أهل المغرب والعكس هو الصحيح. فتأخر المغرب إلى يوم الأربعاء وسبق سوريا بيوم الأحد ظاهرة غير مقبولة لها اثرها في نفس الشباب وتفضي حتمًا إلى أنواع الرفض أو السخرية والاستهزاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 لذا فإني أقترح على أعضاء المجلس الموقر لمؤتمر الفقه الإسلامي أن يقرروا قرارًا واضحًا بينًا أن الحساب وسيلة يقينية لثبوت دخول الشهور القمرية ونهايتها وأن العبرة بوضع القمر وضعًا تمكن رؤيته. وإن كل دعوى رؤية تخالف الحساب هي دعوى مرفوضة يكذب صاحبها شأن الشهادة بما يخالف الواقع وأن القصد هو العمل على توحيد المسلمين في أعيادهم وفي صومهم ونسكهم. والله الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 رسالة بلغة المطالع في بيان الحساب والمطالع فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور بسم الله الرحمن الرحيم خطبة الكتاب إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونتوب إليه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد؛ فهذه رسالة وجيزة في قضيتين اثنتين؛ قضية المطالع، وقضية الأخذ بقول أهل الحساب في إثبات الشهور القمرية، وقد أقمتها على فصلين وخاتمة, جمعت فيها من النقول النفيسة والأقوال الراجحة الصحيحة ما تلذ له النفوس وتطرب له القلوب، فكان هذا الجمع مقدمة للمقارنة والموازنة من جهة ولذكر ترجيح بعض الفقهاء المعاصرين من جهة أخرى، ثم ثنيت بذكر ما ذهبت إليه في هاتين المسألتين راجيًا المولي تبارك وتعالى أن يجعل لها القبول لدى العلماء والباحثين وعباده الصالحين. إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقى إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. خادم العلم الشريف بدمشق الشام دمشق يوم عرفة 9 ذو الحجة سنة 1405 هـ د. محمد عبد اللطيف الفرفور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 محط الرسالة تشتمل هذه الرسالة على فصلين وخاتمة، ودونك التفصيل: الفصل الأول: النقول من المذاهب الفقهية الكبرى في قضيتي المطلع والحساب، وفيه مباحث: 1- المبحث الأول؛ تحقيق قضية المطالع فلكيًا وشرعيًا، وأقوال المذاهب الأربعة في هذه المسألة مع أدلتهم (المطالع) . 2- المبحث الثانى؛ الموازنة والمقارنة وترجيح بعض الفقهاء المعاصرين في قضية المطالع. 3- المبحث الثالث؛ مشروعية الأخذ بالتوقيت والحساب في إثبات الأهلة. الفصل الثانى: ما ذهب إليه المؤلف بدليله في كل من المطالع والحساب وفيه مبحثان: المبحث الأول؛ ما ذهب إليه المؤلف في قضية المطالع. المبحث الثانى؛ ما ذهب إليه المؤلف في قضية الحساب. خاتمة الرسالة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 الفصل الأول النقول من المذاهب الفقهية الكبرى في قضيتي المطالع والتوقيت بالحساب 1- تحقيق قضية المطالع فلكيًا وشرعيًا وأقوال المذاهب الأربعة في هذه المسألة مع أدلتهم. 2- الموازنة والمقارنة والترجيح. 3- القول بالتوقيت والحساب وعدمه. المبحث الأول تحقيق قضية اختلاف المطالع وأقوال المذاهب الأربعة في هذه المسألة مع أدلتهم (أ) كلام الشيخ محمد بخيت المطيعي؛ اختلاف المطالع لا خلاف فيه لأحد من العلماء لأنه من الأمور الثابتة بالمشاهدة، وقد وافق الشرع العقل على ذلك أيضًا، كما أنهما متفقان على الدوام ألا ترى أن الشارع بنى على اختلاف المطالع كثيرًا من الأحكام فبنى عليه اختلاف أوقات الصلاة ووقت الحج فإن العبرة بمطلع أهل مكة فيه. وبنى عليه أيضا معرفة من تقدم أو تأخر موته في المواريث وغير ذلك كثير وكل ذلك متفق عليه. وإنما اختلفوا بعد ذلك في اعتبار وعدم اعتباره بالنظر لرؤية هلال رمضان وشوال ووجوب الصوم والفطر ... الأقوال: 1- فقالت المالكية: متى ثبتت رؤية الهلال بجماعة مستفيضة عم الثبوت جميع البلاد قريبًا وبعيدًا ولا يراعى في ذلك مسافة قصر ولا اتفاق المطالع ولا عدم اتفاقها، فيجب الصوم على كل من بلغه ثبوته بنقل عدلين وبالأولى يجب الصوم على من بلغه بنقل عدلين حكم الحاكم بثبوت الهلال بشهادة عدلين أو جماعة مستفيضة خلافًا لعبد الملك فإنه يقتصر الوجوب على من في ولاية الحاكم. وقال ابن عبد البر: أن النقل سواء كان عن حكم أو عن رؤية العدلين أو الجماعة المستفيضة إنما يعم البلاد القريبة لا البعيدة جدًا وارتضاه ابن عرفة، ويمكن أن يكون مراد من قال ولو بعيدًا البعد لا جدا فيكون موافقًا لقول ابن عبد البر كذا يؤخذ من شرح خليل وحواشيه فقد اختلف المالكية في اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره. 2- وقالت الحنفية: كما في الكنز وشرحه للزيلعي ولا عبرة باختلاف المطالع، وقيل يعتبر ومعناه أنه إذا رأى الهلال أهل بلدة ولم يره أهل بلدة أخرى يجب أن يصوموا برؤية أولئك كيفما كان على قول من قال: لا عبرة باختلاف المطالع، وعلى قول من قال باعتباره ينظر فإن كان بينهما تقارب بحيث لا تختلف المطالع يجب وإن كان بحيث تختلف لا يجب. وأكثر المشائخ على أنه لا يعتبر والأشبه أن يعتبر لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم وانفصال الهلال عن شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار كما أن دخول الوقت وخروجه يختلف باختلاف الأقطار حتى إذا زالت الشمس في المشرق لا يلزم منه أن تزول في المغرب وكذا طلوع الفجر وغروب الشمس بل كلما تحركت الشمس درجة فتلك طلوع فجر لقوم وطلوع شمس لآخرين وغروب لبعض ونصف ليل لغيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 والدليل على اعتبار المطالع ما روي عن كُريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام فقال: "قدمت الشام وقضيت حاجتها واستهل علىّ شهر رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيت الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال لكنا رآيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه فقلت: أولا تكتفى برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم." قال في المنتقى رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة. آهـ 3- وقالت الحنابلة: لا عبرة باختلاف المطالع. 4- وقالت الشافعية: كما في النهاية وغيرها: وإذا رؤى ببلد لزم حكمه البلد القريب دون البعيد في الأصح، والبعيد مسافة القصر، وقيل باختلاف المطالع قلت: هذا أصح، والقول الثاني أنه يلزم البعيد أيضا واستدلوا على القول الأصح من اعتبار اختلافهما بمثل ما تقدم عن الزيلعي، وقالوا: لا ينظر إلى أن اعتبار المطالع يحوج إلى حساب وتحكيم المنجمين مع عدم اعتبار قولهم لأنه لا يلزم من عدم اعتبار قولهم في الأصول والأمور العامة عدم اعتباره في الفروع والأمور الخاصة. وقال القرافي في فروقه: "إن الحق اعتبار اختلاف المطالع وشنع على من قال بعدم اعتباره." وأنت إذا رجعت إلى الواقع ونفس الأمر تجد أن اختلاف المطالع معلوم بالضرورة واختلاف الأوقات باختلافها مشاهد معاين فإن سكان البلاد التي يستمر فيها ظهور الشمس شهرين أو ثلاثة يشاهدون ذلك وكذلك كل من ذهب إلى بلادهم يشاهد ذلك وكذلك صار من المعلوم بالضرورة أن الشمس تظهر ستة أشهر وتختفي ستة أشهر لدى سكان جهة القطب فهل يمكن إذا رأى أهل مصر هلال رمضان وقت الغروب عندهم أن نلكف هؤلاء بالصوم برؤية أهل مصر كما أنه صار من الضرورى التخالف في الأوقات بيننا وبين أهل أمريكا فهل يمكن أن نكلفهم بالصوم برؤية أهل مصر للهلال بعد الغروب مع أن هذا الوقت عندهم ربما كان وقت طلوع الفجر أو وقت شروق الشمس وبالجملة فالقول بعدم اعتبار اختلاف المطالع مخالف للمعقول والمنقول. أما مخالفته للمعقول فلما علمته من مخالفته لما هو ثابت بالضرورة من اختلاف الأوقات وأن النهار عند قوم قد يكون ليلًا عند آخرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 وأما مخالفته للمنقول فلأنه مخالف لما تقدم عن كريب وذلك لأن المتبادر من قول كريب لابن عباس: نعم رأيته ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. وقول ابن عباس: لكنا رأيناه.. إلى آخره. وقول كريب بعد ذلك أولا تكتفي برؤية معاوية؟ وقول ابن عباس في جوابه لا، أي لا نكتفي برؤية معاوية. أن قوله: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجع إلى عدم الاكتفاء برؤية معاوية ورؤية كريب والناس وصومهم وصوم معاوية، وهذا ظاهر في أن كل قوم مكلفون برؤيتهم. ولاشك أن مورد هذا النص في الشام والحجاز وقد وجد بينهما مسافة القصر واختلاف الإقليم واختلاف المطالع واحتمال عدم الرؤية فاستند كل طائفة إلى واحد منها وأيد به قوله كذا قال الإمام الأسنوي. لكن احتمال عدم الرؤية بعد أن قال ابن عباس لكريب: أنت رأيته؟ فقال: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، ومعاوية كان الخليفة بعيد جدًا لا يلتفت إليه. فلم يبق إلا احتمال مسافة القصر واختلاف الإقليم واختلاف المطالع. فإذا رجعنا إلى الواقع نجد أنه لا دخل في اختلاف الناس في رؤية الهلال بعد الغروب لمسافة القصر ولا لاختلاف الإقليم وأن المدار في ذلك على اختلاف المطالع فإنه ليس المراد باختلاف الناس في الرؤية أن هذا يرى وهذا لا يرى بل المراد أن رؤية هذا الهلال بعد الغروب لا تعتبر رؤية للآخر لأنه غروب ولا هلال في بلدة وهذا إنما يكون باختلاف المطالع فليكن عليه المعول. قال الخضري الكبير الدمياطي في شرح اللمعة آخر الفصل العاشر في الكلام على رؤية الهلال: "وعلم أن اختلاف الرؤية في البلاد لا يكون إلا باختلاف المطالع البلدية، واختلاف المطالع البلدية لا يكون إلا باختلاف العرض ثم قال: وأما اختلاف الطول فلا يظهر به كبير فرق." آهـ. وعرض كل بلدة هو بعدها عن خط الاستواء كما نصّوا في علم الميقات. وأما قول السبكي في العلم المنشور بعد ذكر تلك الاحتمالات الثلاثة فلا إشكال على شئ من الأقوال المتقدمة إلا على قول من يقول إذا رؤى في بلد يلزم سائر البلاد فيمكن أن يجاب عنه بأنه قد يكون في المدينة صحو ليلة الثلاثين. وقد اختلف الفقهاء فيما إذا ثبت بشاهدين وصمنا ثلاثين ولم نر الهلال هل نفطر أو نصوم واحدًا وثلاثين لأن عدم رؤيته مع الصحو يقين وقول الشاهد ظن فلا يترك اليقين بالظن فلعل ابن عباس كان يرى هذا المذهب وهذا هو الوجه الثانى مما يحتمله كلام ابن عباس ويحتمل أن يكون ابن عباس أقام كريبا مقام شاهد واحد على هلال شوال وهلال شوال لا يثبت إلا بشاهدين عند جمهور العلماء فذلك رده لعدم شاهد آخر معه وهذا هو الوجه الثالث مما يحتمله كلام ابن عباس وقوله: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحتمل أنه إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتموه فصوموا)) الحديث. ويحتمل أن يكون عنده حديث آخر ونص خاص في مثل هذه الواقعة والحاصل أنه لا معارضة فيه لما تقدم آهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 ففيه أن ابن عباس قال: "فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه" فهذا صريح في أن مذهب ابن عباس أن الفطر معلق بالرؤية أو إكمال العدد ثلاثين فقط وأن المشار إليه بقوله: هكذا، هو عدم الإكتفاء برؤية معاوية سواء كان ذلك لحديث: ((إذا رأيتموه فصوموا)) أو لغيره وليس ذلك لرد ابن عباس شهادة كريب لأنه شاهد واحد فإن كان كريبا قال لابن عباس: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقد شهد ونقل شهادة الناس وحكم معاوية بالصوم وأما ما تمسك به القائلون بعدم اعتبار اختلاف المطالع من تعلق الخطاب عامًا بمطلق الرؤية في حديث: ((صوموا لرؤيته)) . فمسلم لكنهم لا ينكرون أن الخطاب إنما تعلق عاما بالرؤية بعد الغروب لا مطلقًا فلا يعم إلا بكل من تحقق لديهم الرؤية بعد الغروب أما من لم توجد عندهم الرؤية بعد الغروب بل وقت الغروب عند من رأوه هو وقت طلوع الشمس عند الآخرين فكيف نوجب عليهم الصوم ولم يوجد عندهم سبب الوجوب وهو رؤية الهلال بعد الغروب فعلم أن الحديث عام في كل قوم تحقق بالنسبة إليهم رؤية الهلال بعد الغروب فلا يدل على عدم اعتبار اختلاف المطالع ولذلك قال الزيلعي: والأشبه أنه يعتبر. واقتصر عليه في البدائع، فإنه بعد أن ذكر أن الهلال إذا رآه أهل بلد يلزم أهل البلدة الأخرى قال: هذا إذا كانت المسافة بين البلدتين قرييبة لا تختلف فيها المطالع فأما إذا كانت بعيدة لا يلزم أهل أحد البلدين حكم الآخر لأن مطالع البلاد عند المسافة الفاحشة مختلفة فيعتبر في كل أهل بلد مطلع بلدهم دون البلد الآخر وإن كان قوله عند المسافة الفاحشة ليس بقيد بل المدار في الحكم على اختلاف المطالع وهو باختلاف عرض البلدين بلا مدخل لبعد المسافة وقربها ولذلك اتفقوا على اعتبار اختلاف المطالع في وجوب الحج فاعتبروا مطلع مكة، وفى الأضحية أوجبوا على كل قوم الأضحية في يوم النحر وهو العاشر من شهر ذى الحجة على حسب ما يرى هلاله عندهم فلا معنى للاختلاف بعد ذلك في الصوم دون سائر أوقات العبادات وبالجملة فالواجب التوفيق بما وفقت به المالكية فيحمل قول من قال بعدم اعتبار اختلاف المطالع على ما إذا كان اختلافها لا يؤدى إلى تفاوت في رؤية الهلال بعد الغروب وقول من قال باعتباره على ما إذا كان اختلافها يؤدي إلى ذلك فإن اختلاف مطالع البلاد كما علمت مبني على اختلاف عروضها وأن عرض كل بلد هو بعدها عن خط الاستواء وهذا الاختلاف قد يكون يسيرًا جدًا لا يترتب عليه اختلاف في رؤية الهلال بين البلدين بعد الغروب وإنما يتفاوت مكث الهلال بعده في أفقهما وقد يكون فاحشًا يترتب عليه ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 وهذا هو الذى يتعين المصير إليه حملًا لكلامهم على السداد لأن المشرع لا يأتي بالمستحيلات. والله الموفق لما فيه الصواب (1) . قلت: وجاء في الرسالة العلم المشهور في إثبات الشهور للإمام تقي الدين علي بن عبد الكافي ابن السبكي (2) . ما خلاصته: "وقد يكون محل خلاف إذا رؤي في بلد دون بلد وبينهما إما مسافة القصر أو اختلاف المطالع فقد اختلف العلماء في ذلك" وبعد أن عدّ الأقوال قال " وإلزام البلاد إذا رؤي في بلد ضعيف جدًا " ثم قال " وأجمع العلماء في أوقات الصلوات على أن المعتبر عند كل قوم فجرهم وزوالهم وغروبهم ولا يلزمهم حكم غيرهم فكذلك الهلال بالقياس عليه وبأن ما يخاطب قومًا إلا بما يعرفونه مما هو عندهم" ثم قال "واعتبار كل بلد لا يتصّور خفاؤه عنهم جيدٌ" آهـ. (ب) كلام العلامة ابن عابدين في ردّ المحتار؛ " (قوله واختلاف المطالع) جمع مطلع بكسر اللام موضع الطلوع بحر عن ضياء الحلوم (قوله ورؤيته نهارًا الخ) مرفوع عطفًا على اختلاف ومعنى عدم اعتبارها أنه لا يثبت بها حكم من وجوب صوم أو فطر فلذا قال في الخانية فلا يصام له ولا يفطر وأعاده وأنه علم مما قبله ليفيد أن قوله لليلة الآتية لم يثبت بهذه الرؤية بل ثبت ضرورة إكمال العدة كما قررناه، فافهم.   (1) إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة، ص283 وما بعدها للعلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي من مجموع رسائل (2) أنظر (العلم المشهور في إثبات الشهور) لتقي الدين ابن السبكي، ص3 وما بعدها من مجموع رسائل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 (قوله على ظاهر المذهب) اعلم أن نفس اختلاف المطالع لا نزاع فيه بمعنى أنه قد يكون بين البلدتين بعد بحيث يطلع الهلال ليلة كذا في احدى البلدتين دون الأخرى وكذا مطالع الشمس لأن انفصال الهلال عن شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار حتى إذا زالت الشمس في المشرق لا يلزم أن تزول في المغرب وكذا طلوع الفجر وغروب الشمس بل كلما تحركت الشمس درجة فتلك طلوع فجر لقوم وطلوع شمس لآخرين وغروب لبعض ونصف ليل لغيرهم كما في الزيلعي. وقدر البعد الذي تختلف فيه المطالع مسيرة شهر فأكثر على ما في القهستاني عن الجواهر اعتبارًا بقصة سليمان عليه السلام فإنه قد انتقل كل غدو ورواح من إقليم إلى إقليم وبينهما شهر آهـ. ولا يخفى ما في هذا الاستدلال وفي شرح المنهاج للرملي وقد نبه التاج التبريزي على أن اختلاف المطالع لا يمكن في أقل من أربعة وعشرين فرسخًا وأفتى به الوالد والأوجه أنها تحديدية كما أفتى به أيضا آهـ فليحفظ. وإنما الخلاف في اعتبار اختلاف المطالع بمعنى أنه هل يجب عل كل قوم اعتبار مطلعهم ولا يلزم أحدًا العمل بمطلع غيره أم لا يعتبر اختلافها بل يجب العمل بالأسبق رؤية حتى لو رؤي في المشرق ليلة الجمعة وفي المغرب ليلة السبت وجب على أهل المغرب العمل بما رآه أهل المشرق فقيل بالأول واعتمده الزيلعي وصاحب الفيض وهو الصحيح عند الشافعية لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم كما في أوقات الصلاة وأيده في الدرر بما مر من عدم وجوب العشاء والوتر على فاقد وقتهما وظاهر الثاني وهو المعتمد عندنا وعند المالكية والحنابلة لتعلق الخطاب عامًا بمطلق الرؤية في حديث ((صوموا لرؤيته)) بخلاف أوقات الصلوات. وتمام تقريره في رسالتنا المذكورة. تنبيه: يفهم من كلامهم في كتاب الحج أن اختلاف المطالع فيه معتبر فلا يلزمهم شئ لو ظهر أنه رؤي في بلدة أخرى قبلهم بيوم وهل يقال كذلك في حق الأضحية لغير الحجاج لم أره والظاهر نعم لأن اختلاف المطالع إنما يعتبر في الصوم لتعلقه بمطلق الرؤية. وهذا بخلاف الأضحية فالظاهر أنها كأوقات الصلوات يلزم كل قوم بما عندهم فتجزئ الأضحية في اليوم الثالث عشر وإن كان على رؤيا غيرهم هو الرابع عشر والله أعلم. (قوله فيلزم) فاعله ضمير يعود إلى ثبوت الهلال أي هلال الصوم أو الفطر وأهل المشرق مفعوله؛ أو يلزم بضم الياء من الالزام مبني للمجهول وأهل المشرق نائب الفاعل وبرؤية متعلق بيلزم. (قوله بطريق موجب) كأن يتحمل اثنان الشهادة أو يشهدا على حكم القاضي أو يستفيض الخبر بخلاف ما إذا اخبرا أن أهل بلدة كذا رأوه لأنه حكاية ح. (قوله كما مر) أي عند قوله أشهد أنه شهد ح" (1) .   (1) حاشية رد المحتار على الدر المختار ج2 ص96 والإشارة ح إلى كتاب (حاشية الحلبي على الدر) مصادر المحتار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 في بيان حكم اختلاف المطالع (ج) كلام العلامة ابن عابدين في مجموع رسائله: "اعلم أن مطالع الهلال تختلف باختلاف الأقطار والبلدان فقد يُرى الهلال في بلد دون آخر كما أن مطالع الشمس تختلف فإن الشمس قد تطلع في بلد ويكون الليل باقيًا في بلدٍ آخر وذلك مبرهن عليه في كتب الهيئة وهو واقع مشاهد. (وفي) فتاوى المحقق ابن حجر صرح السبكي والأسنوي بأن المطالع إذا اختلفت فقد يلزم من رؤية الهلال في بلد رؤيته في الآخر من غير عكس إذ الليل يدخل في البلاد الشرقية قبل دخوله في الغربية فيلزم عند اختلافها من رؤيته في الشرقي رؤيته في الغربي من غير عكس وأما عند اتحادها فيلزم من رؤيته في أحدهما رؤيته في الآخر. ومن ثم أفتى جمع بأنه لو مات أخوان في يوم واحد وقت زواله وأحدهما في المشرق والآخر في المغرب ورث المغربي المشرقي لتقدم موته. وإذا ثبت هذا في الأوقات لزم مثله في الأهلة، وأيضًا فالهلال قد يكون في المشرق قريب الشمس فيستره شعاعها فإذا تأخر غروبها في المغرب بعد عنها فيرى. انتهى. (لكن) اعترض قوله أن الليل يدخل في البلاد الشرقية قبل دخلوله في البلاد الغربية بأنه ليس على إطلاقه لا من محل القبلية إذا اتحد عرض البلدين جهة وقدرًا أي جهة الجنوب والشمال وقدرًا بأن يكون قدر البعدين عن خط الاستواء سواء. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 تنبيه: قال في شرح المنهاج للرملي وقد نبه التاج التبريزي على أن اختلاف المطالع لا يمكن في أربعة وعشرين فرسخًا وأفتى به الوالد رحمه الله والأوجه أنها تحديدية كما أفتى به أيضا. انتهى. (قلت) وذكر القهستانى عن الجواهر تحديده بمسيرة شهر فصاعدًا اعتبارًا بقصة سليمان عليه السلام قال فإنه انتقل كل غدو ورواح من إقليم إلى إقليم وبين كل منهما مسيرة شهر. انتهى. وفي دلالة القصة على ذلك نظرٌ فالأول أولى لأن الظاهر من قوله لا يمكن إلخ أنه قدره بالقواعد الفلكية ولا مانع من اعتبارها هنا كاعتبارها في وقت الصلاة كما سيأتي. (فتلخص) تحقق اختلاف المطالع وهذا مما لا نزاع فيه وإنما النزاع في أنه هل يعتبر أم لا؟ (قال) الإمام فخر الدين الزيلعي في شرحه على الكنز إذا رأى الهلال أهل بلدة ولم يره أهل بدة أخرى يجب أن يصوموا برؤية أولئك كيفما كان على قوله من قال لا عبرة باختلاف المطالع وعلى قول من اعتبره ينظر أن كان بينهما تفاوت بحيث لا تختلف المطالع يجب وإن كان بحيث يختلف فأكثر المشايخ على أنه لا يعتبر حتى إذا صام أهل بلدة ثلاثين يومًا وأهل بلدة أخرى تسعة وعشرين يومًا يجب عليهم قضاء يوم والأشبه أن يعتبر لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم وانفصال الهلال عن شعاع الشمس في المشرق لا يلزم أن تزول في المغرب وكذا طلوع الفجر وغروب الشمس كلما تحركت درجة فتلك طلوع فجر لقوم وطلوع شمس لآخرين وغروب لبعض ونصف ليل لغيرهم. وروي أن أبا موسى الضرير الفقيه صاحب المختصر قدم الأسكندرية فسئل عمن صعد على منارة الأسكندرية فيرى الشمس بزمان طويل بعد ما غربت عندهم في البلد أيحل له أن يفطر فقال: لا، ويحل لأهل البلد إذْ كلٌ مخاطب بما عنده. (والدليل) على اعتبار المطالع ما روي عن كُريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام قال: "قدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل شهر رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيت الهلال؟ فقلت: ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم." رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة. انتهى. (وما) أختاره من اختلاف المطالع هو المعتمد عند الشافعية على ما صححه الإمام النووي في المنهاج عملًا بالحديث المذكور (قال) الرملي في شرحه عليه: ولا نظر إلى أن اعتبار المطالع يحوج إلى حساب وتحكيم المنجمين مع اعتباره في التوابع والأمور الخاصة. انتهى. (قلت) على أن عدم اعتباره فيما مر إنما هو لمخالفته نص الحديث المعلق وجوب الصوم والفطر على الرؤية دون الحساب ولا مخالفة هنا فيه لنص بل هو موافق النص المذكور عن ابن عباس وللنص المعلق فيه الوجوب على الرؤية بناءً على اعتبار الوجوب في حق كل قوم برؤيتهم كما في اعتباره في أوقات الصلاة فهذا مؤيد لما اختاره الزيلعي من اعتبار اختلاف المطالع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 (لكن) المعتمد الراجح عندنا أنه لا اعتبار به هو ظاهر الرواية وعليه المتون كالكنز وغيره. (وهو) الصحيح عند الحنابلة كما في الإنصاف. (وكذا) هو مذهب سائر المالكية ففي المختصر وشرحه للشيخ عبد الباقي وعم الخطاب بالصوم سائر البلاد إن نقل ثبوته عن أهل بلد بهما أي بالعدلين والرواية المستفيضة عنهما أي عن الحكم برؤية العدلين أو عن رؤية مستفيضة. انتهى. (قال) العلامة المحقق الشيخ كمال الدين بن الهمام في فتح القدير وإذا ثبت في مصر لزم سائر الناس فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب في ظاهر المذهب. وقيل يختلف باختلاف المطالع لأن السبب الشهر وانعقاده في حق قوم للرؤية لا يستلزم انعقاده في حق آخرين مع اختلاف المطالع وصار كما لو زالت أو غربت الشمس على قوم دون آخرين وجب على الأولين الظهر والمغرب دون أولئك. ووجه الأول عموم الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا)) معلقًا بمطلق الرؤية في قوله ((لرؤيته)) وبرؤية قوم يصدق اسم الرؤية فيثبت ما تعلق به من عموم الحكم فيعم الوجوب بخلاف الزوال والغروب فإنه لم يثبت تعلق عموم الوجوب بمطلق مسماه في خطاب من الشارع والله تعالى أعلم. انتهى. (قلت) ولو تعلق عموم الخطاب بمطلق مسمى الأوقات لزم الحرج العظيم بتكررها كل يوم بخلاف الهلال فإنه في السنة مرة (ثم أجاب المحقق ابن الهمام عن الحديث المار بقوله وقد يقال إن الإشارة في قوله هكذا إلى نحو ما جرى بينه وبين رسول أم الفضل وحيث لا دليل فيه لأن مثل ما وقع من كلامه لو وقع لنا لم نحكم به لأنه يشهد على شهادة غيره ولا على حكم الحاكم (فإن) قيل إخباره عن صوم معاوية يتضمنه لأنه الإمام (يجاب) لأنه لم يأت بلفظة الشهادة ولو سلم فهو واحد لا يثبت بشهادته وجوب القضاء على القاضي والله تعالى أعلم والأخذ بظاهر المذهب أحوط. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 (قال) في الفتاوى التتارخانية وعليه فتوى الفقيه أبي الليث وبه كان يفتي الإمام الحلواني وكله يقول لو رآه أهل المغرب يجب الصوم على أهل المشرق. انتهى. (وفي) الخلاصة وهو ظاهر المذهب وعليه الفتوى (قال) في فتح القدير ثم إنما يلزم متأخري الرؤية إذا ثبت عندهم رؤية أولئك بطريق موجب حتى لو شهد جماعة أن أهل بلد كذا رأوا هلال رمضان قبلكم بيوم فصاموا وهذا اليوم ثلاثون بحسابهم ولم ير هؤلاء الهلال لا يباح فطر غد ولا تترك التراويح هذه الليلة لأن هذه الجماعة لم يشهدوا بالرؤية ولا على شهادة غيرهم وإنما حكوا رؤية غيرهم. ولو شهدوا أن قاضى بلدة كذا شهد عنده اثنان برؤية الهلال في ليلة كذا وقضى بشهادتهما جاز لهذا القاضى أن يحكم بشهادتهما لأن قضاء القاضي حجة وقد شهدوا به. انتهى. قلت: لكن قال في الذخيرة البرهانية ما نصه قال شمس الإئمة الحلواني رحمة الله تعالى الصحيح من مذهب أصحابنا رحمهم الله تعالى أن الخبر إذا استفاض وتحقق فيما بين أهل البلدة الأخرى يلزمهم حكم هذه البلدة. انتهى. ونقل مثله الشيخ حسن الشرنبلالي في حاشية الدرر عن المفتي وعزاه في الدّر المختار إلى المجتبى وغيره مع أن هذه الاستفاضة ليس فيها حكم ولا شهادة لكن لما كانت الاستفاضة بمنزلة الخبر المتواتر وقد ثبت بها أن أهل تلك البلدة صاموا يوم كذا لزم العمل بها لأن المراد بها بلدة فيها حاكم شرعي كما هو العادة في البلاد الإسلامية فلا بد أن يكون صومهم مبنيًا على حكم حاكمهم الشرعي فكانت تلك الاستفاضة بمعنى نقل الحكم المذكور وهي أقوى من الشهادة بأن أهل تلك البلدة رأوا الهلال يوم كذا وصاموا يوم كذا فإنها مجرد شهادة لا تفيد اليقين فلذا لم تقبل إلا إذا شهدت على الحكم أو على شهادة غيرهم لتكون شهادة معتبرة وإلا فهي مجرد إخبار. أما الاستفاضة فإنها تفيد اليقين كما قلنا ولذا قالوا إذا استفاض وتحقق الخ. فلا ينافي ما تقدم عن فتح القدير ولو سلم وجود المنافاة فالعمل على ما صرحوا بتصحيحه والإمام الحلواني من أجل مشايخ المذهب وقد صرح بأنه الصحيح من مذهب أصحابنا. وكتبت فيما علقته على البحر أن المراد بالاستفاضة تواتر الخبر من الواردين من تلك البلدة إلى البلدة الأخرى لا مجرد الاستفاضة لأنها قد تكون مبنية على إخبار رجل واحد فيشيع الخبر عنه ولا شك أن هذا لا يكفي بدليل قولهم إذا استفاض الخبر وتحقق فإن التحقيق لا يكون إلا بما ذكرنا والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 وقد تلخص مما حررناه، وتحصل مما قررناه، من المسائل المتفرقة والمجتمعة، في هذه الفصول الأربعة، أن المعول عليه، والواجب الرجوع إليه، في مذاهب الإئمة الأربعة المجتهدين، كما هو المحرر في كتب اتباعهم المعتمدين، أن ثبات هلال رمضان، لا يكون إلا بالرؤية ليلًا أو بإكمال عدة شعبان، وأنه لا تعتبر رؤيته في النهار، حتى ولو قبل الزوال عن المختار، وأنه لا يعتمد على ما يخبر به أهل الميقات والحساب والتنجيم، لمخالفته شريعة نبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم، وأنه لا عبرة باختلاف المطالع في الأقطار إلا عند الشافعى ذي العمل الزخار، ما لم يحكم به حاكم يراه، فيلزم الجميع العمل بما أمضاه، كما ذكر ابن حجر وارتضاه، وقال لأنه صار من رمضان عندنا بموجب ذلك الحكم ومقتضاه" (1) . (د) كلام الباحث السيد يوسف مروّة في كتابه (العلوم الطبيعية في القرآن) : وجه المؤلف رسالة حول رصد الأهلة إلى كل من أصحاب السماحة: الشيخ حسن خالد مفتى الجمهورية اللبنانية (بيروت) ، والمجتهد السيد موسى الصدر في صور (لبنان) وآية الله السيد محسن الطباطبائى الحكيم المجتهد الأكبر في (النجف الأشرف) والشيخ حسن مأمون شيخ الجامعة الأزهرية في (القاهرة) جاء فيها ما يلى: "والملاحظ يا صاحب السماحة أن المسلمين، وعلى رأسهم رجال الدين في هذا العصر، يقدمون على استخدام جميع وسائل ومخترعات ومكتشفات العلم الحديث بدون أي خشية أو تحفظ من أن هذه الوسائل والمخترعات قد تكون خاطئة في المهام الحياتية التي تستخدم لأجلها، فنحن نستخدم السيارة والهاتف والبرق والمذياع والتلفزيون (2) الخ.. كوسائل صالحة وصادقة في النقل والمواصلات والاتصالات، ونستعمل العدسات المحدبة والمقعرة في توضيح الرؤيا، ولكن ما بال رجال الدين لا يقبلون على استخدام المرقب الفلكى (التلسكوب) في إثبات هلالي رمضان وشوال المباركين؟   (1) رسائل ابن عابدين ج2 ص49-53، رسالة تنبيه الغافل والوسنان إلى إثبات هلال رمضان (2) أرى أن يعرب هذا الجهاز إلى (الرائى) أو (التلفاز) ، وقد جئت بكلام المؤلف بنصه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 إن الجمعية اللبنانية للأبحاث العلمية تقترح على دار الإفتاء، في كل بلد إسلامي، شراء تلسكوب فلكي من الحجم المتوسط، حيث ينصب في دار الإفتاء وبواسطته يمكن لسماحتكم ولجميع رجال الدين أن يستخدموه في هذه المناسبات الدينية وسواها، التي يكثر فيها الخلاف بين المسلمين حول إثبات الأهلة، فالبعض يرى الهلال والبعض الآخر لا يراه، وجماعة تفطر وأخرى تبقى صائمة، ولكل جماعة مقاييسها في هذا الموضوع. فهذا لا يجوز بعد اليوم في ديار المسلمين، ولا ننسى بأن علماء المسلمين هم أول من استخدم المرقب (الاسطرلاب) أيام ازدهار الدول الإسلامية، ولم ير هؤلاء العلماء الأوائل أي ضرر في استخدام وسيلة علمية للرؤيا إذا كانت السماء ملبدة بالغيوم، إذ من المعروف أن شهر الصيام المبارك يصادف أثناء فصل الشتاء في بعض السنوات ولا يمكن للعين المجردة أن ترصد الهلال، فما المانع إذا من استخدام المرقب كوسيلة للرصد والرؤيا؟ إن علم الفلك يؤكد وجود فوارق مختلفة بين بلد وآخر، حسب الموقع الجغرافي لكل بلد بالنسبة لخطوط الطول الجغرافية، وبما أن العالم الإسلامي شاسع واسع يمتد من أندونيسيا شرق جنوب آسيا إلى المغرب شمال غرب إفريقيا أي على 160 خطًا من خطوط الطول الأرضية، إذ أن حدود جزر أندونيسيا هي خط الطول 142 درجة شرقًا وحدود البلاد الإسلامية الإفريقية 18 درجة غربًا لذلك لابد من تقسيم العالم الإسلامي إلى ثلاث مجموعات جغرافية: الأولى تقع بين خطى الطول 30 درجة شرقًا و20 درجة غربًا وتضم: ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا ومالى والنيجر والتشاد ونيجيريا والكامرون والداهومى وغانا وغينيا وشاطئ العاج والسنغال وليبيريا وسيراليون وجميع البلدان الواقعة بين هذين الخطين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 والثانية، تقع بين خطى الطول 30 درجة شرقًا و80 درجة شرقًا وتضم: مصر والسودان والصومال وتنزانيا والسعودية واليمن والأردن ولبنان وسوريا والعراق والكويت وبلدان الخليج وإيران وتركيا وأفغانستان الغربية وقسم من الهند. والثالثة تقع بين خطى طول 80 درجة شرقًا و14 درجة شرقًا وتضم: باكستان الشرقية وبورما وتايلاند والصين وماليزيا وأندونيسيا. ولا يمكن حسب مقتضيات علم الفلك والفيزياء الفلكية أن يولد هلال رمضان المبارك أو سواه من الأهلة في جميع هذه البلدان في أن واحد ولذلك فالقاعدة الشرعية يجب أن تكون كما يلى: (إذا ولد الهلال في بلد، لا يعني ذلك بالحتم والضرورة ولادته في جميع البلدان) وليس كما هو متبع اليوم لدى الكثير من رجال الفقه الذين يتمشون على القاعدة القائلة: (إذا ولد الهلال في بلد فهو مولود في جميع البلدان) لذلك أقترح على سماحتكم أن تبدأوا أولًا باتباع الطريقة العلمية العملية العقلية وتوحدوا الوسائل في بلدكم ومن ثم تنطلقوا لتنظيم العالم الإسلامي بأسره على نفس الأسس العلمية. والجمعية اللبنانية للأبحاث العلمية على استعداد لإعطاء دروس نظرية وعملية للسادة رجال الدين في كيفية استخدام المرقب الفلكي وطرق الحساب والمقاييس المتبعة في علم الفلك التجريبي، حسب ما ورد في القرآن الكريم من دعوة للتفكر في أجرام الكون ونجومه وكواكبه. بكل إخلاص واحترام وتقدير. (1) يوسف مروّة مؤسس الجمعية اللبنانية للأبحاث العلمية   (1) ص11 و 12 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 في اختلاف المطالع جاء في كتاب (الفقه الإسلامي وأدلته) للدكتور وهبة الزحيلي من الفقهاء المعاصرين ما نصه: "اختلف الفقهاء على رأيين في وجوب الصوم وعدم وجوبه على جميع المسلمين في المشارق والمغارب في وقت واحد، بحسب القول باتفاق مطالع القمر أو اختلاف المطالع ففي رأى الجمهور: يوحّد الصوم بين المسلمين، ولا عبرة باختلاف المطالع، وفي رأي الشافعية يختلف بدء الصوم والعيد بحسب اختلاف مطالع القمر بين مسافات بعيدة، ولا عبرة في الأصح بما قاله بعض الشافعية: من ملاحظة الفرق بين البلد القريب والبعيد بحسب مسافة القصر (89كم) . هذا مع العلم بأن نفس اختلاف المطالع لا نزاع فيه، فهو أمر واقع بين البلاد البعيدة كاختلاف مطالع الشمس، ولا خلاف في أن للإمام الأمر بالصوم بما ثبت لديه؛ لأن الحاكم يرفع الخلاف وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية جدًا كالأندلس والحجاز وأندونيسيا والمغرب العربي. وأذكر أولًا عبارات الفقهاء في هذا الموضوع المهم. قال الحنفية: اختلاف المطالع، ورؤية الهلال نهارًا قبل الزوال وبعده غير معتبر، على ظاهر المذهب، وعليه أكثر المشايخ وعليه الفتوى، فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب، إذا ثبت عندهم رؤية أولئك، بطريق موجب، كأن يتحمل اثنان الشهادة أو يشهدا على حكم القاضي، أو يستفيض الخبر، بخلاف ما إذا أخبر أن أهل بلدة كذا رأوه، لأنه حكاية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 وقال المالكية: إذا رئي الهلال، عم الصوم سائر البلاد، قريبًا أو بعيدًا، ولا يراعى في ذلك مسافة قصر، ولا اتفاق المطالع، ولا عدمها، فيجب الصوم على كل منقول إليه، أن نقل ثبوته بشهادة عدلين أو بجماعة مستفيضة، أي منتشرة. وقال الحنابلة: إذا ثبتت رؤية الهلال بمكان، قريبًا كان أوبعيدًا لزم الناس كلهم الصوم، وحكم من لم يره حكم من رآه. وأما الشافعية فقالوا: إذا رئي الهلال ببلد لزم حكمه البلد القريب لا البعيد، بحسب اختلاف المطالع في الأصح، واختلاف المطالع لا يكون في أقل من أربعة وعشرين فرسخًا. وإذا لم نوجب على البلد الآخر وهو البعيد، فسافر إليه من بلد الرؤية من صام به، فالأصح أن يوافقهم وجوبًا في الصوم آخرًا، وإن كان قد أتم ثلاثين، لأنه بالانتقال إلى بلدهم، صار واحدًا منهم، فيلزمه حكمهم، وروى أن ابن عباس أمر كريبا بذلك كما سيأتي. ومن سافر من البلد الآخر الذى لم ير فيه الهلال إلى بلد الرؤية عيد معهم وجوبًا، لأنه صار واحدًا منهم، سواء أصام ثمانية وعشرين يومًا، أم تسعة وعشرين بأن كان رمضان تامًا عندهم وقضى يومًا أن صام ثمانية وعشرين؛ لأن الشهر لا يكون كذلك. ومن أصبح معيّدًا، فسارت سفينته أو طائرته إلى بلد بعيدة أهلها صيام، فالأصح أنه يمسك بقية اليوم وجوبًا لأنه صار واحدًا منهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 الأدلة أدلة الشافعية: استدلوا على اعتبار اختلاف المطالع بالسنة والقياس والمعقول: 1- السنة: استدلوا بحديثين أولهما حديث كريب، وثانيهما حديث ابن عمر: (أ) حديث كريب: أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام فقال: "فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل علىّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألنى عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيت الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية فقال لكنا رآيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: ألا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ب) حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له)) وهو يدل على أن وجوب الصوم منوط بالرؤية ولكن ليس المراد رؤية كل واحد، بل رؤية البعض. 2- القياس: قاسوا اختلاف مطالع القمر على اختلاف مطالع الشمس المنوط به اختلاف مواقيت الصلاة. 3- المعقول: أناط الشرع إيجاب الصوم بولادة شهر رمضان وبدء الشهر يختلف باختلاف البلاد وتباعدها، مما يقتضي اختلاف حكم بدء الصوم تبعًا لاختلاف البلدان. أدلة الجمهور: استدلوا بالسنة والقياس: أما السنة: فهو حديث أبي هريرة وغيره: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) فهو يدل على إيجاب الصوم على كل المسلمين معلق بمطلق الرؤية والمطلق يجرى على إطلاقه، فتكفي رؤية الجماعة أو الفرد المقبول الشهادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 وأما القياس: فإنهم قاسوا البلدان البعيدة على المدن القريبة من بلد الرؤية، إذ لا فرق، والتفرقة تحكم، لا تعتمد على دليل، هذا ... وقد ذكر ابن حجر في الفتح ستة أقوال في الموضوع. وقال الصنعاني: والقرب لزوم أهل بلد الرؤية وما يتصل بها من الجهات التى على سمتها أي على خط من خطوط الطول: وهى ما بين الشمال إلى الجنوب إذ بذلك تتحد المطالع، وتختلف المطالع بعد التساوي في طول البلدين أو باختلاف درجات خطوط العرض. وقال الشوكاني: أن الحجة إنما هى في المرفوع من رواية ابن عباس لا في اجتهاده الذى فهم عنه الناس، والمشار إليه بقوله: "هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقوله "فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين" والأمر الوارد في حديث ابن عمر، لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين، فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد، أظهر من الاستدلال به على اللزوم، لأنه إذا رآه أهل بلد فقد رآه المسلمين، فيلزم غيرهم ما لزمهم. (1)   (1) الفقه الإسلامى وأدلته ج2 ص605 وما بعدها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 المبحث الثانى الموازنة والمقارنة وترجيح بعض الفقهاء المعاصرين جاء في كلام الدكتور الزحيلي: " والذى ينبغي اعتماده هو ما ذهب إليه المالكية وجماعة من الزيدية واختاره المهدي منهم، وحكاه القرطبي عن شيوخه: أنه إذا رآه أهل بلد، لزم أهل البلاد كلها. وهذا الرأي (رأي الجمهور) هو الراجح لدي توحيدًا للعبادة بين المسلمين، ومنعًا من الاختلاف غير المقبول في عصرنا، ولأن إيجاب الصوم معلق بالرؤية، دون تفرقة بين الأقطار. والعلوم الفلكية تؤيد توحيد أول الشهر الشرعي بين الحكومات الإسلامية، لأن أقصى مدة بين مطلع القمر في أقصى بلد إسلامي وبين مطلعه في أقصى بلد إسلامي آخر هي نحو 9 ساعات فتكون بلاد الإسلام كلها مشتركة في أجزاء من الليل تمكنها من الصيام عند ثبوت الرؤية والتبليغ بها برقيًا أو هاتفيًا. والاحتياط هو الاكتفاء بتوحيد الأعياد في حدود البلاد العربية بدءًا من عمان في الشرق إلى المغرب الأقصى " (1) .   (1) الفقة الإسلامى وأدلته للدكتور وهبة الزحيلى ج2 من ص606-610 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 المبحث الثالث مشروعية الأخذ بالتوقيت والحساب في إثبات الأهلة وعدمه كلام العلامة ابن عابدين في حاشية رد المحتار على الدر: " (ولا عبرة بقول الموقتين) أي في وجوب الصوم على الناس بل في المعراج، لا يعتبر قولهم بالاجماع. ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه. وفي النهر: فلا يلزم بقول الموقتين أنه أي الهلال يكون في السماء ليلة كذا وإن كانوا عدولًا في الصحيح كما في الايضاح وللإمام السبكي الشافعي تأليف مال فيه إلى اعتماد قولهم لأن الحساب قطعي آهـ. ومثله في شرح الوهبانية: قلت: ما قاله السبكي رده متأخر وأهل مذهبه ومنهم ابن حجر والرملي في شرح المنهاج وفي فتاوى الشهاب الرملي الكبير الشافعي سئل عن قول السبكي: لوشهدت بينة برؤية الهلال ليلة الثلاثين من الشهر وقال الحساب بعدم إمكان الرؤية تلك الليلة عمل بقول أهل الحساب لأن الحساب قطعي والشهادة ظنية. وأطال في ذلك فهل يعمل بما قاله أم لا؟ وفيما إذا رؤي الهلال نهارًا قبل طلوع الشمس يوم التاسع والعشرين من الشهر وشهدت بينة برؤية هلال رمضان ليلة الثلاثين من شعبان فهل تقبل الشهادة أم لا؟ لأن الهلال إذا كان الشهر كاملًا يغيب ليلتين أو ناقصًا يغيب ليلة أو غاب الهلال الليلة الثالثة قبل دخول وقت العشاء لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى العشاء لسقوط القمر الثالثة هل يعمل بالشهادة أم لا؟ فأجاب بأن المعمول به في المسائل الثلاث ما شهدت به البينة لأن الشهادة نزلها الشارع منزلة اليقين وما قاله السبكي مردود رده عليه جماعة من المتأخرين وليس في العمل بالبينة مخالفة لصلاته صلى الله عليه وسلم ووجه ما قلناه أن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية بقوله ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. الشهرهكذاوهكذا)) . وقال ابن دقيق العيد: الحساب لا يجوز الاعتماد عليه في الصلاة. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 والاحتمالات التي ذكرها السبكي بقوله ولأن الشاهد قد يشتبه عليه إلخ لا أثر لها شرعًا لإمكان وجودها في غيرها من الشهادات. آهـ. (قوله وقيل نعم الخ) يوهم أنه قيل بأنه موجب للعمل وليس كذلك بل الخلاف في جواز الاعتماد عليهم وقد حكى في القنية الأقوال الثلاثة أولًا عن القاضي عبد الجبار وصاحب جمع العلوم أنه لا بأس بالاعتماد على قولهم. ونقل عن ابن مقاتل أنه كان يسألهم ويعتمد على قولهم إذا اتفق عليه جماعة منهم ثم نقل عن شرح السرخسي أنه بعيد. وعن شمس الإئمة الحلواني أن الشرط في وجوب الصوم والإفطار الرؤية ولا يؤخذ فيه بقولهم. ثم نقل عن مجد الإئمة الترجماني أنه اتفق أصحاب أبي حنيفة إلا النادر والشافعي أنه لا اعتماد على قولهم" (1) .   (1) رد المحتار على الدر المختار للعلامة ابن عابدين ج2 ص93 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 في بيان حكم قول علماء النجوم والحساب وجاء في كلام ابن عابدين في مجموع رسائله ما نصه: " فنقول: قد صرح علماؤنا وغيرهم بوجوب التماس الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فإن رأوه صاموا وإلا أكملوا العدة فاعتبروا الرؤية أو إكمال العدة اتباعًا للأحاديث الآمرة بذلك دون الحساب والتنجيم. وقد اتفقت عبارات المتون وغيرها من كتب علمائنا الحنفية على قولهم يثبت رمضان برؤية هلاله وبعد شعبان ثلاثين. ومن المعلوم أن مفاهيم الكتب معتبرة فيفهم منها أنه لا يثبت بغير هذين ولهذا بعد ما عبر في الكنز بما مر قال صاحب النهر في شرحه ما نصه: وحاصل كلامه أي كلام الكنز أن صوم رمضان لا يلزم إلا بأحد هذين فلا يلزم بقول الموقتين أنه يكون في السماء ليلة كذا وإن كانوا عدولًا في الصحيح كما في الإيضاح قال مجد الإئمة وعليه اتفق أصحاب أبي حنيفة إلا النادر والشافعي. وفسر في شرح المنظومة الموقت بالمنجم وهو من يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني والحاسب وهو من يعتمد منازل القمر وتقدير سيره في معنى النجم هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 وللإمام السبكى الشافعى تأليف مال فيه إلى اعتماد قولهم لأن الحساب قطعي. انتهى كلام النهر. وسيذكر أن المتأخرين من الشافعية ردوا كلام السبكي. وفي الأشباه والنظائر قال بعض أصحابنا: لا بأس بالاعتماد على قول المنجمين. وعن محمد بن مقاتل أنه كان يسألهم ويعتمد قولهم بعد أن يتفق على ذلك جماعة منهم ورده الإمام السرخسي بالحديث ((من أتى كاهنًا أو منجمًا فصدقه بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) . انتهى قال العلامة نوح في حاشية الدرر والغرر والحديث أخرجه أصحاب السنن والحاكم وصححه بلفظ ((من أتى كاهنًا أو منجمًا فصدقه بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد)) وأخرجه أبو ليلى بسند جيد ((من أتى عرافًا أو ساحرًا أو كاهنًا)) . والكاهن من يخبر بالشئ قبل وقوعه كما في الجامع وفي المحكم هو القاضي بالغيب. وفي مختصر النهاية للسيوطي هو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في المستقبل ويدعي معرفة الأسرار. وفي القاموس العرّاف كشدّاد الكاهن. وقال الخطابي هو الذي يتعاطى مكان المسروق والضالة ونحوهما. وفي المغرب هو المنجم. انتهى. والمنجم هو الذي يخبر عن المستقبل بطلوع النجم وغروبه. وفي شرح العقائد النسفية إذا ادعى العلم بالحوادث الآتية فهو مثل الكاهن انتهى ما ذكره العلامة نوح وقد أطال في ذلك إطالة حسنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 لكن اعترض بعض محشى الأشباه الاستدلال هنا بالحديث المذكور بأنه لا يبعد أن يقال أن المراد منه النهى عن تصديق الكاهن ونحوه فيما يخبر به عن الحوادث والكوائن التى زعموا أن الاجتماعات والاتصالات العلوية تدل عليها وهو المسمى علم الأحكام وحكمها لا يصح وإن ادعوا الجزم بها كفروا أما مجرد الحساب مثل ظهور الهلال في اليوم الفلاني ووقوع الخسف في ليلة كذا فلا تدخل في النهي بدليل أنه يجوز أن يتعلم به ما يعلم مواقيت الصلاة والقبلة. انتهى. فالأولي الاستدلال بالأحاديث الدالة على اعتبار الرؤية لا العلم فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) وقال ((فإن غم عليكم فاكملوا العدة)) ولم يقل فأسألوا أهل الحساب بل قال ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) (وما ذكره) محشي الأشباه قد رايت نحوه منقولًا في أواخر فتاوى الكازروني قال: وفي الجامع الكبير في معالم التفسير في قوله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} قال الفقيه رضي الله عنه أن ما يخبر به المنجم لا يكون غيبًا فلا يناقض قوله تعالى {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وهو على وجهين أن كان المنجم يقول أن هذه الكوائن مخلوقات الله مسخرات بأمره وهي دليل على بعض الأشياء فإنه لا يكون كفرًا وإن جعلها مختارات فاعلات بنفسها لا يكون غيبًا لأن ما يعرف بالحساب لا يكون غيبًا كما أن صبرة من المكيلات أو الموزونات أو المعدودات لو عرف مقدارها بالكيل والوزن والعدد لم يكن ذلك علمًا بالغيب. فكذلك ما يعرف بالرمل ولأنه قول بالظن وغالب الظن ليس علمًا بالغيب لأن المحققين من المنجمين مجمعون على أنه علم بغلبة الظن لأن هذه الأجرام العلوية يحتاج الحاسب إلى مساحتها ومعرفة سيرها ومطرح شعاعها وإنما يعرف ذلك بطريق التقريب لا على الحقيقة فمنهم مخطئ ومصيب. وأما الحديث فإن ثبت فهو محمول على كهّان العرب والعرافين فإنهم كانوا مشركين يزعمون أن التأثير للفلك الأعظم وأنه الفاعل نفسه ومن قال مثل قولهم وصدقهم فيه فهو كافر وأما إذا صدق بالحساب والكواكب مع اعتقاده بأنها أمارات وأسباب فلا. هذا هو أصل المذهب فاحفظه. انتهى ملخصًا. (رجعنا) إلى أصل المسألة فنقول الحاصل أن للمتأخرين ثلاثة أقوال نقلها الإمام الزاهدي في القنية (الأولى ما قاله القاضي عبد الجبار وصاحب جمع العلوم أنه لا بأس بالاعتماد على قول المنجمين (الثاني) ما نقله عن ابن مقاتل أنه كان يسألهم ويعتمد على قولهم إذا اتفق عليه جماعة منهم (الثالث) ما نقله عن شرح الإمام السرخسي أن الرجوع إلى قولهم عند الاشتباه بعيد لحديث ((من أتى كاهنًا)) ثم نقل أيضا عن شمس الإئمة الحلواني أن الشرط عندنا في وجوب الصوم والإفطار رؤية الهلال ولا يؤخذ فيه بقول المنجمين. ثم نقل عن مجد الإئمة الترجماني أنه اتفق أصحاب أبي حنيفة إلا النادر والشافعي أن لا اعتماد على قول المنجمين في هذا.انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 (وقد) ذكر الأقوال الثلاثة ابن وهبان في منظومته جازمًا بالراجح منها قال (وقول أولي التوقيت ليس بموجب. وقيل نعم والبعض أن كان يكثر) . (وفي) الدر المختار ولا عبرة بقول الموقتين ولو عدولًا على المذهب انتهى. (وفي) البحر في غاية البيان من قال يرجع فيه إلى قولهم فقد خالف الشرع انتهى. (وفي) معراج الدراية ولا يعتبر قول المنجمين بالإجماع ومن رجع إلى قولهم فقدخالف الشرع وما حكي عن أنهم قالوا يجوز أن يجتهد في ذلك ويعمل بقول المنجمين غير صحيح لحديث ((من أتى كاهنًا)) والمروي عنه صلى الله عليه وسلم ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) أي بإكمال العدة كما جاء في الحديث كذا في المبسوط. ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه وللشافعي رحمه الله وجهان انتهى (وقد) نقل في التتارخانية ما مر من الأقوال. ثم نقل عن تهذيب الشافعية أنه لا يجوز تقليد المنجم في حسابه لا في الصوم ولا في الإفطار وأن في جواز العمل بحساب نفسه وجهين. ومقتضى سكوته عليه أنه ارتضاه ولا مانع من جواز عمله به لنفسه إذا جزم به لما صرحوا به من جواز التسحر والإفطار بالتحري في ظاهر الرواية. وكذا لو أخبره عدل أن الشمس غربت ومال قلبه إلى صدقه له أن يعتمد على قوله ويفطر في ظاهر الرواية كما في التتارخانية أيضًا. وكذا الأسير في دار الحرب يتحرى في دخول الشهر ويصوم وعليه فيمكن التوفيق بين الأقوال الماضية بحمل القول بالعمل به على الجواز لنفسه أو لمن صدقه والقول بعدمه على الوجوب فلا يلزم الأخذ بقوله ولا يثبت به الهلال اتفاقًا. هذا ما ظهر لي والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 (وأما عند المالكية) ففي مختصر الشيخ خليل أنه لا يثبت بقول المنجم قال شارحه الشيخ عبد الباقي لا في حق نفسه ولا في حق غيره ولو كأهله ومن الاعتناء لهم بأمره والمنجم الحاسب الذ لا يحسب قوس الهلال ونوره وفي كلام أنه الذي يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلانى والحاسب هو الذى يحسب سير الشمس والقمر. وعلى كل لا يصوم أحد بقوله ولا يعتمد هو نفسه على ذلك وحرم تصديق منجم ويقتل أن اعتقد تأثير النجوم وأنها الفاعلة. انتهى (وأما الشافعية) ففي الأنوار (للاردبيلي) ولا يجب معرفة منازل القمر لا على العارف بها ولا غيره. انتهى. (وفي ينابيع الأحكام ولا عبرة بقول المنجم مطلقًا فلا يصوم وإن علم بالحساب أنه أهل على الأظهر إذْ تحكيمه قبيح شرعًا.) انتهى. وفي شرح المنهاج لابن حجر: لا قول منجم أولا يجب الصوم بقول المنجم وهو من يعتمد النجم وحاسب وهو من يعتمد منازل القمر وتقدير سيره ولا يجوز لأحد تقليدهما. نعم لهما العمل لعلمهما ولكن لا يجزيهما عن رمضان كما صححه في المجموع وإن أطال جمع في رده. انتهى. (وفي) شرحه للرملي: وفهم من كلامه أي كلام المنهاج عدم وجوبه بقبول المنجم بل لا يجوز. نعم له أن يعمل بحسابه ويجزيه عن فرضه على المعتمد وإن وقع في المجموع عدم إجزائه عنه وقياس قولهم أن الظن يوجب العمل أن يجب عليه الصوم وعلى من أخبره وغلب على ظنه صدقه والحاسب في معنى المنجم الذي يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلانى. انتهى ملخصًا. وفي حاشية الشبراملسي على الرملي عند قوله نعم له أن يعمل بحسابه به قال ابن قاسم على ابن حجر (سئل) الشهاب الرملي عن المرجح من جواز عمل الحاسب بحسابه في الصوم هل محله إذا قطع بوجوده ورؤيته أم بوجوده وإن لم تجز رؤيته فإن أئمتهم قد ذكروا للهلال ثلاث حالات: حالة يقطع فيها بوجوده وامتناع رؤيته. وحالة يقطع فيها بوجوده ورؤيته. وحالة يقطع فيها بوجوده ويجوزون رؤيته (فأجاب) بأن عمل الحاسب شمل للمسائل الثلاث. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 (وفي) شرح الرملي أيضا وشمل كلام المعد ثبوته "1- بالشهادة ما لو دل الحساب على عدم إمكان الرؤية وانضم إلى ذلك أن القمر غاب ليلة الثالث على مقتضى تلك الرؤية قبل دخول وقت العشاء لأن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية وهو كذلك كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى خلافًا للسبكى ومن سبقه. انتهى. (قلت) وعبارة والده في فتاواه (سئل) عن قول السبكى لو شهدت بينة برؤية الهلال ليلة الثلاثين من الشهر وقال الحساب بعدم إمكان الرؤية تلك الليلة عمل بقول الحساب لأن الحساب قطعي والشهادة ظنية وأطال الكلام في ذلك فهل يعمل بما قاله أم لا؟ وفيما إذا رؤي الهلال نهارًا قبل طلوع الشمس يوم التاسع والعشرين من الشهر وشهدت بينة برؤية هلال رمضان ليلة الثلاثين من شعبأن هل تقبل الشهادة أم لا لأن الهلال إذا كان الشهر كاملًا يغيب ليلتين أو ناقصا يغيب ليلة. أو غاب الهلال الليلة الثالثة قبل دخول وقت العشاء لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء لسقوط القمر الثالثة هل يعمل بالشهادة أم لا؟ (فأجاب) بأن المعمول به في المسائل الثلاثة ما شهدت به البينة لأن الشهادة نزلها الشارع منزلة اليقين. وما قاله السبكى مردود رده عليه جماعة من المتأخرين وليس في العمل بالبينة مخالفة لصلاته صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 ووجه ما قلنا، أن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية بقوله ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا)) وقال ابن دقيق العيد الحساب لا يجوز اعتماد عليه في الصيام. انتهى. والاحتمالات التي ذكرها السبكي بقوله ولأن الشاهد قد يشتبه عليه إلخ لا أثر لها شرعًا لإمكان وجودها في غيرها من الشهادات انتهى كلام الرملي الكبير. (وفصل) المحقق ابن حجر بأن الذى يتجه فيما لو دل الحساب على كذب الشاهد بالرؤية أن الحساب أن اتفق أهله على أن مقدماته قطعية وكان المخبرون منهم بذلك عدد التواتر ردت الشهادة وإلا فلا. وقال: وهذا أولى من إطلاق السبكي إلغاء الشهادة المذكورة وإطلاق غيره قبولها. انتهى ملخصًا. (لكن) اعترضه محشية العلامة ابن القاسم بأنه إخبار عدد التواتر إنما يفيد القطع إذا كان الإخبار عن محسوس فيتوقف على حسية تلك المقدمات والكلام فيه. انتهى. يعني أن كون تلك المقدمات حسية غير مسلم بل هى عقلية أي غير مدركة بإحدى الحواس والعقلى لا يثبت بالتواتر لأنه مما يخطئ فيه الجمع الكثير كخطأ الفلاسفة في قِدم العالم وإلا لزم ثبوت قدمه لاتفاق معظمهم عليه وإن كانوا كفارًا إذ ليس من شرط التواتر إسلام المخبرين كما في شرح التحرير لابن أمير حاج. والله تعالى أعلم. (وأما عند الحنابلة) ففي الغاية وشرحها من باب صلاة الكسوف: ولا عبرة بقول المنجمين في كسوف ولا غيره مما يخبرون به ولا يجوز عمل به لأنه من الرجم بالغيب فلا يجوز تصديقهم في شئ من المغيبات. انتهى (فحيث) علم أنه لا اعتماد على ما يقوله علماء النجوم والحساب في إثبات الشهر لعدم اعتباره في الشرع المعلق فيه وجوب الصوم أو الفطر على الرؤية لا على القواعد الفلكية ظهر وتبين خطأ من عارض رؤية الشهر في عامنا هذا الثابتة بالبينة التي اعتبرها الشارع صلى الله عليه وسلم وبنى الأحكام عليها بمجرد الإخبار عن جماعة أنهم رأوا الهلال نهارًا واعتمد على ذلك حتى صام يوم عيده بلا مسوغ شرعى بل بمحض الاحتمال العقلي المخالف لنصوص الشرع التي اعتبرها الإئمة المجتهدون وأتباعهم المعتمدون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" (1) .   (1) رسائل ابن عابدين ج2 ص244-249. رسالة تنبيه الغافل والوسنان في أحكام هلال رمضان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 الفصل الثاني ما ذهب إليه المؤلف بدليله: 1- ما ذهب إليه المؤلف في المطالع 2- وما ذهب إليه في مسألة الحساب المبحث الأول ما ذهب إليه المؤلف في المطالع بعد هذه الجولة في رياض الفقه وحدائقه الغناء، والاطلاع على ما كتب الفقهاء المسلمون في هذه القضية أقول - وبالله التوفيق -: " الذي ثبت لدى علماء الطبيعة اليوم في هذا القرن - القرن العشرين الميلادي، الخامس عشر الهجري - وإني أكتب في يوم الأحد الواقع في 1 المحرم سنة 1406 هـ - الموافق (15 أيلول 1985 م) الذي ثبت بعد اكتشاف مجاهيل الأرض وقاراتها، لا سيما أمريكا، منذ قرابة أربعمائة سنة ونيف أن كلا من القولين (القول باتحاد المطلع لدى أهل المشرق والمغرب، والقول باختلاف المطالع بين كل بلد وبلد ومصر ومصر) كليهما مجانف عن الصحة، بعيد عن الحقيقة العلمية. ذلك؛ لأن الأرض كما ثبت أهليليجية التكوين (بيضوية) (1) ولها وجهان؛ وجه منير باتجاه الشمس، ووجه معتم باتجاه العكس. فساعة يكون النهار في أوله في الوجه المنير يكون الليل في أوله في الوجه المعتم، ومن هنا يختلف توقيت الزمان، وتوقيت الساعات وما إلى ذلك ... فتأسيسا على ذلك لا بد من معيار علمي مجرد، نمسك به في حل هذه المشكلة، ألا وهو خطوط الطول. فلنقسم الأرض حسب هذا المعيار (خطوط الطول) إلى ثلاثة أقطار كبرى رئيسية، والفواصل بينها طبيعية كالبحار: 1- القارة الأمريكية كلها قطر، بما فيها الولايات المتحدة، وكندا والبرازيل وأمريكا الجنوبية والجزر التابعة لها إلى قناة بنما. 2- من المغرب الأقصى وما يسامته شمالا من بريطانيا وفرنسا وإسبانيا إلى الخليج العربي شرقا وما يسامته شمالا من العراق وتركيا وجبال الأورال. كل ذلك قطر وفيما بين ذلك مثل الجزيرة العربية وبلاد الشام وتركيا وأروبا الشرقية والغربية والمغرب الأوسط والأدنى ومصر والسودان والحبشة وما إلى ذلك. 3- ومن شرق الخليج العربي إلى اليابان قطر، بما فيه من إيران وبلاد الهند والباكستان والأفغان والجمهوريات السوفياتية الإسلامية وبلاد الصين وبلاد اليابان (جزر اليابان) . فكل قطر من هذه الأقطار الثلاثة وحدة مكانية مستقلة عما عداه من القطرين الآخرين، إذا رؤي الهلال فيه لا يلزم القطر الثاني والثالث، بل يلزم ذلك القطر بكل ما فيه من أمصار ودول وبلاد. والله أعلم.   (1) قال تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أي: جعلها كالدحية، وهي البيضة، فيظهر أن هذه النظرية الإهليليجية ثبتت بالقرآن الكريم منذ نزوله، وهو من دلائل الإعجاز، والدحية لغة: هي البيضة، ولا يزال بعض أهل المغرب الأدنى إلى يومنا هذا مثل ليبيا يقولون عن البيضة: دحية. وانظر تفسير مفاتيح الغيب للفخر الرازي الجزء الأخير منه في تفسير هذه الآية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 المبحث الثاني خلاصة ما ذهب إليه المؤلف في شأن الحساب لإثبات الأهلة ذهب الفقهاء الأقدمون - رضي الله عنهم - والمعاصرون - وفقنا الله وإياهم في هذه المسألة - إلى مذهبين: مذهب أخذ بالحساب مطلقا، ومذهب رفض الأخذ بالحساب مطلقا في شأن إثبات الأهلة. والذي أراه أن كلا من هذين المذهبين - مع توقيري وتقديري لأصحابهما - إفراط وتفريط، والصواب هو الوسط بين هذا وذاك، لكن لا ضير على من اجتهد فلم يحالفه الصواب فأخطأ فله أجر واحد، وأسأله تعالى أن أكون من أصحاب الأجرين. الصواب الذي يبدو لي، وهو ما ينبغي أن يصار إليه هو: أن الأصل في إثبات الأهلة الرؤية البصرية أو التلسكوبية من على ظهر الأرض لا في السماء ولا على شاهق جبل، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) . فإذا حصل المقصود بهذا الأصل فيها ونعمت كأن جزمنا بالرؤية لوقوعها بأحد الأمرين المذكورين؛ العين المجردة والتلسكوب من على ظهر الأرض وسهلها، وكانت السماء مصحية. وإذا كانت السماء مصحية ولم ير الهلال في القطر كله كما قدمت في مبحث المطالع، لم نعمد إلى الحساب لوضوح الأمر ولا نقلد قطرا مجاورا كما مر. وأما إذا كانت السماء غير مصحية واحتمل الأمران ولادة الهلال وعدمها ولم تحدث رؤية معتبرة، فعندها نستطيع الأخذ بقول الفلكيين وأصحاب الأرصاد الجوية ذوي الحسابات الدقيقة لأنهم على علم شبه قطعي بذلك وغلطهم نادر، والعلم يتفق مع الدين ولا يتنافى معه بحال لا سيما إذا كان الشهر الذي انمحق هلاله تسعا وعشرين، واحتمل أن يكون ما بعده الثلاثين أو الواحد من الشهر الجديد. أي مزيد الانمحاق أو الولادة الجديدة، وأعتقد أن هذا الأخذ بقول أهل الأرصاد الجوية وأصحاب الفلك في هذه المسألة رؤية قلبية تدخل تحت الرؤية الشرعية، لأن الرؤية القلبية مجاز لا يصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة كما قرر الأصوليون (1) ، ونحن لا نصير إلى هذه الرؤية القلبية إلا عند تعذر الرؤية البصرية واحتمال الولادة وعدمها شرعا، والله تعالى أعلم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات..   (1) انظر الوجيز في أصول استنباط الأحكام في الشريعة الإسلامية للمؤلف ج 1 ص 85 وما بعدها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 خاتمة الرسالة في هذه الرسالة يرى القارئ المنصف أن كل ما قيل في هاتين القضيتين: (المطالع والحساب) في إثبات الأهلة والشهور القمرية قديما وحديثا لم يوفق كله للصواب، فكان فيه ما يؤخذ وما يترك، وكان بمثابة دراسة نقلت للقارئ الكريم خلاصتها. واستطعت بتوفيق الله تعالى أن أتحاشى الإفراط والتفريط وهو ما وقع فيه أكثر الفقهاء القدامى والباحثين المعاصرين في هاتين القضيتين المهمتين وأن أستخلص من ذلك كله عسلا لذة للشاربين. وأرى أن يكون بحثي هذا مفتاحا للدراسات المستقبلية إن شاء الله تعالى في مجمعنا الفقهي العظيم وفي غيره فمن تلاقح الأفكار تتولد الحقيقة العلمية. وإني إذ أتقدم ببحثي هذا بكل اعتزاز إلى مجمع الفقه الإسلامي العتيد ذي الصفة الرسمية العالمية (التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي) بجدة، لأبادر فأشكر للسادة القائمين عليه برئاسته الرشيدة وأمانته المخلصة ما هم أهل له، كفاء ما يقومون به هم وإخوانهم من خدمة للفقه الإسلامي العظيم أسأل الله تعالى أن يكافأهم عليها. وما أحسن ما قال الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي رضي الله عنه: "علمنا هذا رأي وهو أحسن ماقدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه كان أحق". والحمد لله أولا وآخراً.. مسرد أبرز المصادر والمراجع 1- تفسير أحكام القرآن الإمام القرطبي ط دار الكتب المصرية 2- أحكام القرآن الإمام الجصاص الرازي الحنفي ط القاهرة 3 مجلدات 3- مدارك التنزيل ومحاسن التأويل الإمام النسفي (حافظ الدين أبو البركات) 4- تفسير آيات الأحكام الشيخ محمد علي السايس 5- مفاتيح الغيب الإمام الفخر الرازي 6- شرح صحيح البخاري الإمام العيني ط القاهرة 7- حاشية رد المحتار على الدر في فقه الحنفية العلامة ابن عابدين (محمد أمين) ط أميرية بولاق سنة 1272مع فهرس الخضر وموسوعة الكويت 8- مجموع رسائل ابن عابدين / جزءان العلامة ابن عابدين (محمد أمين) ط محمد هاشم الكتبي / استانبول در سعادت سنة 1329 9- رسالة (إرشاد الملة إلى إثبات الأهلة) العلامة محمد بخيت المطيعي مفتي الديارالمصرية (من مجموع رسائل) مط كردستان بمصر 1329 10- العلم المنشور في إثبات الشهور العلامة تقي الدين علي بن عبد الكافي (من مجموع رسائل) السبكي مع تعليقات للشيخ محمد جمال الدين القاسمي مط كردستان بمصر سنة 1329 11- العلوم الطبيعية في القرآن الأستاذ يوسف مروة / منشورات مروة العلمية 12- الفقه الإسلامي وأدلته الدكتور وهبه الزحيلي / دار الفكر بدمشق 13- الوجيز في أصول استنباط الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور الأحكام في الشريعة الإسلامية 14- ابن عابدين وأثره في الفقه الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور (دراسة مقارنة) (رسالة دكتوراه) 15- مقال تفسير قوله تعالى: {ويسألونك عن الأهلة} في مجلة (نهج الإسلام) الزاهرة بدمشق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 بدايات الشهور العربية الإسلامية لفضيلة الشيخ هارون خليف جيلي المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعملوا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق، يفصل الآيات لقوم يعلمون. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.. فإن دراسة بدايات الشهور العربية - أي القمرية الإسلامية - دراسة فقهية ليست بالعمل الهين، بل البحث فيها وفيما تثبت به وكيف يمكن توحيدها بداية ونهاية أمر يحتاج إلى عالم متخصص في علمي الأصول: أصول الفقه والحديث، وعلمي الهيئة والميقات، متوفرة لديه أمهات الكتب: الحديث والفقه من جميع المذاهب، فأنى لي هذا، وأنا لست من ذلك في شيء يذكر. ولكني لما رأيت هذا الموضوع - موضوع " توحيد بداية الشهور العربية " أول موضوع مدرج في جدول مواضيع الفقه المطلوبة بحثا ودراستها في هذا العام - كما اقترحته شعبة التخطيط، أعجبني ذلك العنوان الفريد، وجذبني إلى النظر والبحث من مظانه سيمة التفرق والانقسام بين الأمة المسلمة في شتى الميادين، وحتى في مواسم الأعياد ومواقيت العبادة وحثني إلى انتقائه الحب فيما يقرب ويوحد مواقيت مشاعر الموحدين، فاخترت هذا الموضوع للبحث والكتابة، قدر ما سنحت لي الفرصة ووسعت هذه العجالة، وسميتها (توحيد بدايات الشهور الإسلامية) . وأجتهد قدر وسعي أن تكون رسالة وجيزة ليس فيها إلا آيات القرآن الكريم، وأحاول أن ألا أذكر فيها من الآيات والأحاديث والآثار والأقوال إلا ما له علاقة متينة بموضوع الرسالة، وأن لا أشرح كلمات ما سأكتبه من آية وحديث إلا ما يتصل به غرض من أغراض الرسالة أو خفي معناه، لضيق الوقت. وسأقسم كلامي عن هذه الرسالة إلى: 1- الشهور العربية جاهلية وإسلاما 2- الأمور المرتبطة بالأشهر القمرية 3- أدلة بداياتها وأقوال الفقهاء فيها 4- حكم اختلاف المطالع وأقوال الفقهاء 5- خاتمة في خلاصة. هذا وأسأل الله الكريم أن يوفقني فيما أكتب إلى ما فيه الحق والخير والسداد، إنه ولي التوفيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 (1) الشهور العربية جاهلية وإسلاما: تمهيد: إن الإنسان فكر قديما في تقسيم السنة إلى فصول طبيعية.. وسلكوا في تحديد تلك إلى طريقين: استخدام مراحل الشمس، واستخدام منازل القمر من هؤلاء المفكرين الأمم البائدة التي عاشت في الشرق الأوسط، كالمصريين القدماء والبابليين والسومريين.. فقد استخدم المصريون تقويما شمسيا ابتدعوه سنة (4236) قبل الميلاد اعتبروا السنة في تقويمهم هذا (365) يوما، وقسموها إلى (12) شهرا، طول كل شهر (30) يوما وأضافوا إليها (5) خمسة أيام آخر كل سنة، استحدث السومريون تقويما قمريا، استحدثوه منذ سنة (3500) قيل الميلاد، جعلوا أيام السنة (354) يوما. واستحدث العرب الجاهليون شهورا قمرية سموها بأسماء لا وجود لها في نظر الشريعة، مثل الأسماء التالية: " المؤتمر - ناحر - خوان - بصان - ختم - زياد - الأصم - عادل - ناتق - وعل - هواغ - برك". ثم أحدثوا شهورا أخرى - شمسية - برجية - سموها كالآتي: " ربعي - دفئى - ناتق - ناحر- آحر - بخباخ - حرقى - وسمى - برك - شيبان - ملعان - رنة " وهذه الشهور البرجية والتي قبلها شهور عربية قلما تسمعها الآن؛ لأنها شهور جاهلية قديمة، لم يأتها الإسلام وهي حية فلا يتعلق بها شيء من العمل الإسلامي. أما الشهور العربية الإسلامية التي يذكرها الله تعالى في كتابه وربط بها كثيرا من أعمال الإسلام، هي التي استخدم بها عرب الجزيرة في الجاهلية الأولى وهم سموها بأسمائها المعرفة لدى جميع المسلمين، وهي الشهور العربية الإسلامية القمرية الاثنا عشر، التي ذكرها الله بقوله الحكيم: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} صدق الله العظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 722 هذه الأشهر قد سمتها العرب بأسمائها الحالية بمناسبات كانت وقت التسمية، وبعض المناسبات منها باقية كما في الآية وهي - أي أسماء الشهور العربية القمرية الاثنا عشر المذكورة في الآية السابقة هذه: 1 " محرم ": سمي بذلك الاسم؛ لأنه من الأشهر الحرم. 2 " صفر ": سمي به لأن ديار العرب كانت تخلو من أهلها وقت التسمية، بعد خروجهم إلى الحرب بعد المحرم. 3- 4 " ربيع الأول " و " ربيع الثاني" سميا به لأنهما وقعا في الربيع وقت التسمية. 5-6 " جمادى الأولى" و" جمادى الآخرة " سميا به لوقوعهما وقت التسمية حين يجمد الماء. 7 " رجب " سمي به لأنهم كانوا يعظمونه بترك القتال فيه. 8 " شعبان " سمي به تشعب القبائل فيه للغارات بعد قعودهم عنها في رجب. 9 " رمضان " من الرمضاء سمي به لأن التسمية وقعت عند اشتداد الحر. 10 " شوال " سمي به لأن الإبل كانت ترفع فيه أذنابها وقت التسمية طلبا للقاح. 11 " ذو القعدة " سموه بهذا الاسم لقعودهم فيه عن القتال. 12 " ذو الحجة " سمي به لأنهم كانوا يقيمون فيه الحج. وإن هذه الأشهر الاثني عشر تستغرق من الزمن حوالي: (354) يوما، أو (355) يوما؛ لأن الشهر قد يكون (30) يوما، وقد يكون (29) يوما، وقد قيل أن طول الشهر القمري بالدقة يستغرق (29) يوما و (12) ساعة، و (44) دقيقة، و (3) ثوان، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 وهو ما كتبه الدكتور إحسان هندي في مجلة الفيصل، عدد (44) صفر (1401هـ) : " أن تلك الشهور الاثني عشر هي التي خلدها الله في كتابه في الآية السابقة، فأصبحت إسلامية بأوصافها التي سميت". وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أسماء الأشهر الحرم التي أجملتها الآية الكريمة، فعن أبي بكرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب في حجته فقال: ((ألا أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذوالحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)) . رواه أحمد، وأخرجه البخاري في التفسير. فحقا إنها هي الشهور الإسلامية القمرية، وهي التي يدور عليها فلك الأحكام الشرعية، وقد حفظها الله تعالى في كتابه المكنون في اللوح المحفوظ، فلا تقديم ولا تأخير، ولا زيادة ولا نقص. وإن بداية الشهر ونهايته يكونان بتقدير من الله الذي جعل الشمس ضياء، والقمر نورا، وقدره منازل - أنزل القمر منازل متعددة، ولله الحكمة البالغة في خلقه، جعل القمر متنقلا طول الشهر من منزل لآخر، ليعلمنا عدد شهور السنة وأيامها، وما خلق الله ذلك القمر المنير المتنقل في منازله إلا بالحق، ولكن لا يفهم تلك الحقيقة إلا العالمون. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} صدق الله العظيم. الله خلق الشمس وجعلها ضياء وهاجا لترسل أشعتها إلى الكون الفسيح فتبدد الجليد والثلوج وخلق القمر وجعله نورا يهتدى به في ظلمات البر والبحر، وقدر له منازل ينزل كل يوم منها منزلا، فيتغير نوره حيث يبدو أول الشهر ضئيلا ثم يكبر شيئا فشيئا حتى يصير بدرا منيرا ثم ينقبض رويدا رويدا إلى أن يعود إلى ما كان عليه فيصبح كعرجون النحل معوجا ضعيفا، فسبحان من خلق ذلك وقدره تقديرا، وقال: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} صدق الله العظيم. هذه وقد قدر الله ذلك وأتقنه ليعلمنا كيف نحسب الزمن، فنؤدي كل وقت ما أناط من عمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 2- الأعمال المرتبطة بالأشهر القمرية: قد علمنا فيما سبق أن الشهور القمرية هي التي تدور عليها أحكام الشريعة الإسلامية الزمنية، لا الشمسية؛ وذلك لظهور علامتها، وسهولة معرفتها لجميع الطبقات؛ من بدوي ومدني. ولفظ الشهر والسنة إذا إطق في عرف الشريعة الإسلامية فإنه يقع على القمرية، فالتأجيل في الشهور والسنين هلالية عند الإطلاق؛ لذا ربط الله بها أعمالا كثيرة، كحرمة القتال في الأشهر الحرم، قال تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} ومنها: كفارة الظهار، إذا كانت صوما، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} ومنها: عدة الوفاة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ومنها: عدة الآئسة المطلقة، قال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} ومنها: أداء الحج، فإنه لا يصح إلا في أشهر ثلاثة قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وهي: شوال، ذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة فالجمع للتغليب، وقد بينته السنة النبوية الشريفة. ومنها: الصيام المفروض علينا في رمضان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} إلى آخر الآيات ... وغير ذلك من الأعمال المرتبطة بالشهور أو بالسنين، كالأجل للديون، وغيرها من المعاملات. فكل هذه الأعمال وغيرها من الأعمال المربوطة بالشهور والسنين تحتاج إلى ظروفها الخاصة وتعداد أشهرها القمرية. وقد قيل: " أن حول الزكاة الحولية من هذه الأعمال التي تتعلق بالسنة القمرية فلو عاش غني مسلم في غناه (33) عاما شمسيا وأخرج زكاة تجارته سنويا بالعام الشمسي فإنه بقي في ماله زكاة عام آخر؛ لأن كل (33) عاما شمسيا يكون (34) عاما قمريا. وهذا مما يفرض على المسلمين أن يعتنوا بالمحافظة على الشهور القمرية بصفة عامة، وبالمحافظة على الأشهر التي تعلقت بعينها أحكام محدودة بصفة خاصة - كالأشهر الحرم وأشهر الحج ورمضان والتي قبلها - وهي: سبعة أشهر متوالية: رجب، شعبان، رمضان، شوال، ذو القعدة، ذو الحجة، محرم؛ لأن ثبوت رمضان في حالة الغيم ونحوه يكون بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوما - كما سيأتي - وأن ذلك التعداد لا يمكن إلا بثبوت بداية أشهر الحج، ونهايتها بداية الأشهر الحرم وهلم جرا ... إلى نهاية شهر محرم؛ لأن به بداية الأشهر التي يباح فيها بدء قتال الأعداء، ولا تنس التشويش والشكوك التي أثار المشركون غبارها حول قتل الحضرمي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 3- بداية الشهر وأقوال الفقهاء فيها وأدلة كل: بداية شهر رمضان: إما برؤية الهلال، وإما بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، وليس هناك خلاف معتبر في اعتبار هاتين عند الفقهاء، ولكنهم اختلفوا في نصاب الشهادة المقبولة في الرؤية إلى قولين: (أ) فقال فريق منهم بقبول شهادة العدل الواحد، ومن هذا الفريق: الشافعي وأحمد بن حنبل، وبه قال المؤيد بالله. ودليلهم على ذلك القول الأحاديث الصحيحة مثل حديث ابن عمر: 1- فعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: " تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه". رواه أبو داود، والحاكم، وابن حبان، وصححاه. وقالوا: " أن هذا الحديث ينص بقبول شهادة رجل عدل واحد، وهو عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي قبل تلك الشهادة، والأمة تابعة له في هذا..وهو نص صريح كما قالوا. 2- وعن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: " جاء إعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إني رأيت الهلال - يعني رمضان - فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. فقال: أتشهد أن محمدا ورسول الله؟ قال: نعم. قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا)) . (رواه الخمسة إلا أحمد) . وقالوا: إن هذا ينص بوضوح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة الرجل واحد من الأعراب لا يعرف من أعماله الإسلامية شيئا إلا الشهادتين فعدالته مستورة لذا قالت الشافعية: أن العدالة المستورة مقبولة في شهادة رؤية الهلال، وهو نص صريح كما قالوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 726 3- وروى الدارقطني " أن رجلا شهد عند علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - برؤية هلال رمضان، فصام، وأمر الناس أن يصوموا". وهذا الحديث يبين أن عليا - وهو الخليفة الرابع - قبل شهادة رجل واحد لا يدري عدالته من شيء. وهو نص صريح على قبول شهادة الواحد. (ب) وقال الفريق الآخر: أن الشهادة المقبولة في رؤية هلال رمضان شهادة شاهدي عدل فأكثر ومن هذا الفريق: الإمام مالك، والليث، والأوزاعي، والثوري، والأحناف، والهادوية. واستدلوا على مذهبهم بحديثين هما: عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب (أنه خطب في اليوم الذي يشك فيه، فقال: " ألا إني جالست أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وساءلتهم، وإنهم حدثوني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وأنسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوما، فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا لرؤيته وأفطروا)) . رواه أحمد والنسائي ولم يقل (مسلمان) . 2- وعن أمير مكة - الحرث بن حاطب - أنه قال: " عهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننسك للرؤية، فإن لم نره وشهد شاهد عدل نسكنا بشهادتهما ". رواه أبو داود، والدارقطني. ومحل شاهد قول الفريق هو لفظة ((أنسكوا لها)) أي للرؤية في الحديث الأول، ولفظة " أن ننسك للرؤية " في الحديث الثاني، ومعناهما: الاهتمام للرؤية اهتماما أكثر من الاهتمام لإكمال العدة. وهناك شاهد أقرب إلى المراد، وهو قوله في الأول: ((فإن شهد شاهدان فصوموا)) . وقوله: " فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما". فمن هنا أخذوا أن شهادة الاثنين لا بد منها لإثبات رمضان بالرؤية وليس لهم دليل في هذا إلا في مفهومه التقديري. هذه أدلة الفريقين في قبول شهادة رؤية الهلال كما ترى فإذا قارنا فيما بينهما مقارنة بسيطة يتبين لنا الأقوى منهما. لقد استدل الفريق الأول بالأحاديث الثالثة السابقة وهي ظاهرة الدلالة؛ لأن الحديث الأول يدل دلالة واضحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة عدل واحد، وهو ابن عمر - رضي الله عنه. وأن الحديث الثاني يدل مثل دلالة الأول على أنه - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة أعرابي مجهول العدالة لا يدري من أخلاقه شيئا إلا أنه شهد عند النبي الشهادتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 وأن الحديث الثالث يدل ما دل الحديثان السابقان من شهادة الرجل الواحد والقبول بها. ولهذا الفريق أحاديث أخرى، نذكر منها حديثين هما: 1- حديث لابن عمر وابن عباس معا من طريق طاووس قال " شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - فجاء رجل إلى واليها، وشهد عنده على هلال شهر رمضان، فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمراه أن يجيزه، وقالا " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشهادة رجلين". رواه الدارقطني والطبراني في الأوسط، وقال الدارقطني: " تفرد به حفص بن عمر الإيلي وهو ضعيف باتفاق، وإنما أوردنا هذا الحديث لأن فيه شبه حظ لكل من الفريقين. 2- وروى الشافعي في كتاب " الأم ": أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان، عن أمه فاطمة بنت حسين: (أن رجلا شهد عند علي - رضي الله عنه - على رؤية هلال رمضان فصام، وأحسبه قال: وأمر الناس أن يصوموا..) . وأما ثبوت الهلال: بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، فليس فيه خلاف معتبر، ودليل ثبوته بالإكمال هو حديث أبي هريرة الصحيح وما شاكلته من كل حديث جمع بين رؤية الهلال وإكمال العدة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما)) . رواه البخاري ومسلم. وذلك لأن هذا الحديث وأمثاله كما دل بأوله أن الرؤية أثبتت الشهر فإن إكمال عدة شعبان يثبت الشهر أيضا. فلذلك وغيره يدل دلالة واضحة على ثبوت رمضان برؤية الهلال في حالة الصحو، وفي حالة الغيم بإكمال شعبان ثلاثين يوما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 وفي ثبوت شهر شوال: اعلم أن ثبوت شوال كثبوت رمضان إما برؤية الهلال وإما بإكمال عدة رمضان ثلاثين يوما. فأما ثبوته بإكمال رمضان: فإنه ليس فيه خلاف، إلا ما قالت الحنابلة: من استثناء ما إذا كان ثبوت رمضان بشهادة عدل واحد، فإنهم قالوا: إذا لم ير هلال شوال ليلة الحادي والثلاثين من بداية الصوم، فإنه تنقض الشهادة الأولى، ويصام تلك الليلة وتنقض الشهادة الأولى. وأما ثبوته برؤية الهلال: فإنهم اختلفوا فيه كاختلافهم في رمضان إلى قولين: فقال فريق من الفقهاء: لا تثبت شهادة هلال شوال إلا بشاهدي عدل أو أكثر ومنهم الحنفية، والمالكية والحنابلة ومن وافقهم من العترة كما في كتاب " البحر". ودليلهم عل هذا القول الحديثان الآتيان: 1- عن ربعي بن خراش عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اختلف الناس في آحر يوم من رمضان، فقدم أعرابيان، فشهدا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بالله لأهل الهلال أمس عشية، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النس أن يفطروا)) رواه أحمد، وأبو داود وزاد ((وأن يغدوا إلى مصلاهم)) وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح وجهالة الصحابي غير قادحة قاله الشوكاني في نيل الأوطار. 2- وعن عبيد الله أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له: ((أن ركبا جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشهدوا أنعم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم)) . رواه أبو داود وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 فأول هذين الحديثين يدل دلالة واضحة أن الصحابيين الجليلين أمرا الوالي أن يجيز شهادة رجل واحد مستور العدالة مسندين أمرهم هذا إلى ما سمعا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا الحديث في سنده راو ضعيف الرواية بالاتفاق قلا يقيد لهم ولا لغيرهم شيئا لضعفه، والحديث الثاني يدل ما دلت عليه الأحاديث السابقة. وهنك أثر آخر هو من أدلة الفريق فنذكره نافلة وهو ما رواه أحمد في سنده حديثا يزيد بن هارون: أنبأنا ورقاء عن عبد الأعلى الثعلبي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: " كنت مع البراء بن عازب وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - في البقيع ننظر إلى الهلال فأقبل راكب فتلقاه عمر، فقال: من أين جئت؟ قال: من المغرب. قال: أهللت؟ قال: نعم. قال عمر: الله أكبر، إنما يكفي المسلمين الرجل الواحد". قيل: أن عبد الأعلى هذا متكلم فيه. فإن صح هذا الأثر من عمر فإنه يدل ما دلت عليه أحاديث الفريق. وقالوا عن الحديثين اللذين استدل بهما الفريق الآحر ما يلي: أن التصريح بالاثنين في كلا الحديثين غاية ما فيه المنع من قبول الواحد المفهوم، وأحاديثنا تدل على قبول الواحد بالمنطوق، وإن دلالة المنطوق أقوى وأرجح من دلالة المفهوم. وأما احتمال شهادة ثان وثالث مع شهادة الواحد الذي استدللناه فتعسف وتجويز، ولو صح اعتبار مثله لكان مفضيا إلى طرح أكثر الشريعة. أما الفريق الثاني القائل: شهادة العدل الواحد عير مقبولة) فقالوا: أن دليلنا على ذلك الحديثان السابقان ومحل الشاهد في الحديثين كما قلنا سابقا كلمتي: ((أنسكوا لها)) أي: الرؤية، " أن ننسك للرؤية " وقوله: " فإن شهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما " فكأنهم فهموا منه (فإن لم نره - ونحن الأمراء - ولم بشهد عندنا شاهدا عدل لا ننسك بشهادة واحد ولا نصوم بها) لكنه مفهوم لا يوافقه الظاهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 وأجابوا عن أدلة الفريق الأول أنه يحتمل أن يشهد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - غير ابن عمر في الحديث لأنه قال أولا: تراءى الناس الهلال " فلا نستبعد أن أحدا - من الذين رأوا الهلال - ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل ابن عمر. وما جاز احتماله في حديث ابن عمر جاز في غيره، انتهى. ومن هذه المقارنة البسيطة نعلم أن الدليل الأقوى والأظهر مع الذين يقولون بقبول شهادة العدل الواحد في هلال رمضان. ومحل الشاهد للقوم في هذين الحديثين، في الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة أعرابيين عند اختلاف الناس في ثبوت الهلال وفي الثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة ركب شهدوا برؤية الهلال، وأنت ترى أنه ليس في الحديثين ما يمنع شهادة العدل الواحد، لأننا لا نفهم ما يدل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع بشهادة رجل واحد ... وهناك حديث آخر استدلوا به لقولهم، وهو أوضح دليلا من السابقين أن صح وهو الذي مر بنا وأشرنا أن فيه حظا لكلا الفريقين وهو هذا 3- عن طاووس قال: " شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - فجاء رجل إلى واليها، وشهد عنده على هلال شهر رمضان، فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمراه أن يجيزه، وقالا " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشهادة رجلين". رواه الدارقطني والطبراني في الأوسط، وقال الدارقطني: " تفرد به حفص بن عمر الإيلي وهو ضعيف بالاتفاق. وأنت ترى أن هذا الحديث ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 وقال الفريق الآخر من الفقهاء: " أنه لا فرق بين هلال رمضان وشوال، فرؤية هلال شوال كرؤية هلال رمضان من حديث ثبوته وهم: الشافعية، ومن وافقهم في هذا القول، ومنهم أبو ثور وأبو بكر بن المنذر وأهل الظاهر كما قاله ابن رشد هم يقولون بقبول شهادة العدل الواحد. ودليلهم على هذا القول الأحاديث التي مرت بنا في ثبوت رمضان، مثل حديث أبي هريرة الذي في الصحيحين. 1- فعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته..)) . البخاري ومسلم. 2- وكحديث ابن عمر - رضي الله عنه - السابق قال: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه سلم - يقول ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)) . البخاري. فإن كلتا الرؤيتين في هذين الحديثين متساويتان، فرؤية الإفطار طبعا هي رؤية هلال شوال ... والرؤية تصدق برؤية عدل واحد من المسلمين / كما لا يخفى، وهو كما قالوا. وكذلك القياس على أدلة ثبوت رمضان التي تبين قبول شهادة الواحد مثل حديث الأعرابي، لعدم الفرق بين الهلالين. وأجابوا عن الحديثين اللذين استند إليهما الفريق الأول من الفقهاء أن الحديثين لم يشترطا لثبوت الشهر بشهادة رجلين وغاية ما فيهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة رجلين وقتا، وقبل شهادة ركب مرة أخرى، ولم نفهم واحدا منهما أنه شرط القبول الاثنين. وقد احتج أبو بكر بن المنذر بانعقاد الإجماع على وجوب الفطر والإمساك عن الأكل بقول واحد، فوجب أن بكون كذلك في دخول الشهر وخروجه إذ كلاهما علامة نفصل زمان الفطر من زمان الصوم. انتهى. وهو صادق في قوله واحتجاجه. شهادة الإفطار من الأدلة الصحيحة، فالظاهر أنه يكفي فيه خبر العدل الواحد قياسا على الاكتفاء به في الصوم. وقال أيضا: التعبد بقول خبر الواحد لا بدل على قبوله في كل موضوع إلا ما ورد الدليل بتخصيصه بعدم التعبد فيه بخير واحد كالشهادة على الأموال ونحوها، فالظاهر ما ذهب إليه أبو ثور. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 4- حكم اختلاف المطالع والبلدان المتباعدة: (أ) ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع في مسألة ثبوت الهلال. فقالوا: إذا رأى الهلال أهل بلد وجب الصوم على جميع البلدان؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) . لأن الخطاب فيه عام لجميع الأمة، فمن رآه منهم - في أي مكان كان - رؤية مسائية فرؤيته رؤية لهم جميعا. وقد قال عمر - رضي الله عنه - قولته السابقة كما في مسند الإمام أحمد: " الله أكبر إنما يكفي المسلمين الرجل الواحد ". وذلك بعدما شهد عنده راكب واحد برؤية هلال رمضان. (ب) وذهب عكرمة، والقاسم بن محمد، وسالم، وإسحاق، وقول للأحناف، وقول مختار للشافعية: أنه يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم، واستدلوا على ذلك بحديث كريب، ونصه: عن كريب، أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام فقال: " قدمت الشام، فقضيت حاجتها، واستهل رمضان وأنا بالشام في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ يعني هلال رمضان، فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقال: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه يوم السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم. " رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه. وقد استدل بهذا الحديث كل من قال: لا يلزم أهل بلد رؤية أهل بلد آخر، ولكنهم اختلفوا في ذلك على مذاهب كما ذكرها صاحب الفتح: 1- قال قوم منهم: يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم ولا تلزمهم رؤية غيرهم، حكاه ابن المنذر عن كل من: عكرمة، والقاسم، وسالم، وإسحاق، وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سواه. وحكاه المناوي وجها للشافعي، ولعل أن هذا القول حديثا آخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لكل قوم هلالهم)) .رواه مسلم نقلناه من (شرح كتاب النيل وشفاء العليل) للشيخ محمد بن يوسف فإن صح هذا الحديث فليس أدل لمرادهم من حديث كريب. 2- وقال قوم منهم: لا ليلزم أهل بلد رؤية غيرهم إلا أن يثبت ذلك عند الإمام الأعظم، فيلزم الناس كلهم؛ لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد لأن حكمه نافذ في الجميع. قاله ابن الماجشون. 3- وقال فريق منهم: أن تقاربت البلاد كان الحكم واحد وإن تباعدت فوجهان: الوجه الأول: لا يجب، قاله بعض الشافعية. الوجه الثاني: يجب عليهم، اختار هذا الوجه أبو طيب، وطائفة، وحكاه البغوي عن الشافعي. وفي ضبط البعد أوجه: 1- أولها: مسافة القصر، وبه قطع البغوي، صححه الرافعي من الشافعية واستدلوا له القياس؛ حيث قالوا: " أن الشرع علق بمسافة القصر كثيرا من الأحكام". 2- ثانيها: اختلاف المطالع، وبه قطع العراقيون، والصيدلاني، وصححه النووي في الروضة وشرح المهذب والمنهاج. وردوا على من استدل لمسافة القصر قولهم: " أن أمر الهلال لا تعلق له بمسافة القصر". 3- ثالثها: اختلاف الأقاليم، وبه حكاه الحافظ في الفتح. 4- رابعها: يلزم أهل كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم بلا عارض كأهل البلدان الغربية عن بلد الرؤية وبه حكى السرخسي. 5- خامسها: لا يلزم أهل بلد غير بلد الرؤية إلا إذا ثبتت الرؤية عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم وبه قال ابن الماجشون 6- سادسها: لا يلزم إذا اختلفت الجهات، ارتفاعا وانحدارا، أو كل بلد في إقليم وبه حكاه المهدي في "البحر" عن الإمام يحيى والهادوية. وحجة أصحاب هذه الأقوال الستة حديث كريب السابق ووجه استدلالهم به كالتالي: " أن ابن عباس - رضي الله عنه - لم يعلم برؤية أهل الشام، وأنه قال في آخر حديث: هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: فدل ذلك على أنه قد حفظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يلزم أهل بلد برؤية أهل بلد آخر. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 وأنت ترى كثرة اختلافهم في تحديد المسافة، والأولى أن لا يختلف المسلمون مثل هذا الاختلاف في مثل مسألة كهذه، وأرى أن القول القريب إلى الحق وإلى الوحدة واجتماع كلمة المسلمين عقلا ونقلا هو قول الجمهور المار بنا آنفا. فلا بد أن نلاحظ ونناقش استدلال الفرق بحديث كريب ملاحظة بسيطة حول الاستدلال بحديث كريب السابق: اعلم يا أخي القارئ أن الحجة في المرفوع من رواية ابن عباس لا في اجتهاده الذي فهم عنه الناس. والمشار إليه بقوله " هكذا أمرنا رسول الله " في آخر الحديث هو قوله " فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه". ففي أي وقت سمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وفي أي حديث صرح به ابن عباس هذا المرفوع؟ وأين الأمر الكائن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما أشار ابن عباس؟ هذه التساؤلات تحتاج إلى أجوبة. وقد قال الشوكاني: " أن الأمر الكائن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما بلفظ ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) . وهذا - كما نرى - لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد، بل هو خطاب عام لكل من يصلح له من المسلمين. فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم، أهل البلدان الأخرى أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم؛ لأنه إذا رآه أهل بلد فقد رآه المسلمون فيلزم غيرهم ما لزمهم. ولو سلم توجه الإشارة في كلام ابن عباس إلى عدم لزوم رؤية أهل بلد لأهل بلد آخر، لكان عدم اللزوم مقيدا بدليل العقل، وهو أن يكون بين القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع - وليس بين الشام والحجاز ذلك البعد وعدم عمل ابن عباس برؤية أهل الشام مع عدم البعد الذي يمكن معه الاختلاف عمل بالاجتهاد، وليس بحجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 ولو سلم عدم لزوم التقييد بالعقل فلا يشك عالم أن الأدلة العقلية والنقلية قاضية بأن أهل الأقطار يعمل بعضهم بخبر بعض وشهادته في جميع الأحكام الشرعية والرؤية من جملتها، وسواء كان بين البلدين أو القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع أو لا فلا يقبل التخصيص إلا بدليل. ولو سلمنا صلاحية حديث كريب هذا للتخصيص - على سبيل الفرض والتقدير- لكان الأولى أن يقتصر على محل النص، أن كان النص معلوما، أو على المفهوم منه أن لم يكن معروفا لوروده على خلاف القياس. وابن عباس لم يأت بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بمعنى لفظه - في هذا الخبر - حتى ننظر في عمومه وخصوصه، وإنما جاء بصيغة مجملة أشار بها إلى قصة، هي عدم عمل أهل المدينة برؤية أهل الشام أن سلمنا أن ذلك هو المراد ولا نفهم منه غير ذلك حتى نجعله مخصصا لذلك المفهوم. انتهى. أما الاستدلال بالحديث الثاني ((إن لكل قوم هلالهم)) : فقد عبر ((القوم)) لا البلاد ولا المسافة مما نحن بصدده، وإن سلمناه على ظاهره، فإن كريبا الذي سأله ابن عباس رؤية الهلال هناك وأجابه بقوله: " نعم رأيته" هو من قومه من أهل المدينة فلماذا لم يقبله إن أسند هذا الحديث لعدم قبوله؟ فمن هذا نعلم أن ابن عباس لم يسند هذا الحديث لعلمه، ولا حديث الشيخين، بل اجتهد، والمجتهد يصيب ويخطئ ومن هذا كله يتأكد لنا صدق القول الآتي: " أن بداية الشهر- رمضان - وشعبان - وشوال- وغيرها يثبت برؤية عدل موثوق به في حالة صفاء السماء، وبإكمال عدة الشهر ثلاثين، وأن ثبوت الشهر بهذا في بلد إسلامي يعم جميع البلدان إذا بلغ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 736 5- الخاتمة أخي القارئ، أن قرأت ما في هذه الرسالة من مواضع دراسة الشهور العربية القمرية الإسلامية وفهمت ما فيها من أعمال مرتبطة بها، وما احتوته من أقوال الفقهاء وأدلتهم في ثبوت بداية الشهر، وحكم اختلاف المطالع وأوقفت على مقارنتي المتواضعة بين أقوالهم وأدلتهم، والتمست استخلاص القول المؤيد بالأدلة القوية فلا تنس أن تقرأ هذه الخاتمة لأنها خلاصة ما مر بنا في الأبواب السابقة. فيها خلاصة القول السديد فيما مر بنا من بداية الشهر وحكم المطالع. اعلم يا أخي المسلم القارئ أنه قد مر بنا في هذه الرسالة المتواضعة أمور لا بد لنا أن نستخلصها ونكتبها منفردة في هذا المكان. فقد علمنا أن الشهور العربية الإسلامية في عرف الشريعة هي الشهور القمرية الاثنا عشر المعروفة، وأنها هي التي يقع عليها كل حكم استند إلى زمن وعبر به اسم الشهر ما عدا مواسم الزراعة والحرارة البرودة. وأن من تلك الشهور ما تعلقت بها أحكام وأعمال إسلامية خاصة كحرمة القتال في أشهر منها، وكأداء الحج في أشهر، وكالصيام المفروض أصالة. وأنها هي المقصود من قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} فهي أشهر قديمة المقدار، وخالدة الحرمة والتوقيت، فمنها أشهر حرم، لا تؤخر لحرمتها إلى غيرها ولا تنسوا لأن الله هو الذي يقول: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} وإن تلك الأشهر هي المقصودة بقوله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وقوله جل وعلا {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وقوله سبحانه {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} وأنها هي المراد في قوله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} لأن الأهلة جمع هلال والهلال هو القمر ما لم يكتمل نوره ولكن العرب تعبر الهلال عن الشهر كما تعبر الشهر عن الهلال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 737 والشهر القمري هو المراد بقوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وأن حرمة الأشهر الحرم تتعلق بأشهر قمرية. وأن أشهر العدة – للمطلقة والمتوفى عنها – إذا أطلق فهي أشهر قمرية، وأن صيام رمضان معروف بتعلقه بالشهر القمري لا غير، وكذلك أداء أعمال الحج لا تنعقد في غير أشهره القمرية؛ فلهذا يجب علينا أن نعتني ببداية الأشهر القمرية. وإليك القول المختار للأخذ به من بين الأقوال التي مرت بنا في كل من بداية الشهر وحكم اختلاف المطالع: القول القوي من حيث الدليل المختار من المبدأ الموحد، هو أن بداية الشهر تثبت برؤية شاهد عدل واحد، وأنه لا فرق في ذلك بين رمضان وغيره، وأنه إذا لم تكن السماء صافية فإنه يثبت بإكمال الشهر الذي سبق منه، ولا فرق في هذا الحكم بين الشهور. وأن القول القوي عقلا ونقلا في مسألة اختلاف المطالع أن لا عبرة باختلاف المطالع، ولا بعد المسافة بين بلد الرؤية وغيره من البلدان الإسلامية فاتحاد الشهور العربية القمرية أمر لا مانع له في نظر الشريعة الإسلامية. فإذا رأى رجل عدل واحد رؤية ليلة تكون رؤيته رؤية جميع المسلمين؛ لأن المؤمنين أمة واحدة، فحكم ثبوت الهلال يعم بجميع أفرادها، فلا تفرق بينهم الحدود المصطنعة ولا البحار والصحاري في هذا الحكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 738 وتلك الضرورة هي التي تسببت - قديما وحديثا – إلى انقسام العالم الإسلامي في بداية شهر الصوم ونهايته. وكانت تلك الضرورة – أي عدم سماع خبر الرؤية – محتمة في الزمن القديم بحيث لا تمكن إزالتها ولا معالجتها وذلك لبعد المسافة وانعدام المواصلات اللازمة، أما في هذا العصر فإن إزالة تلك الضرورة ممكنة لتوافر طرق المواصلات السلكية واللاسلكية المرئية وغير المرئية ولكن العالم الإسلامي يحتاج لتوحيد بدايات الشهور القمرية عمليا، إلى اختيار مركز فضائي وإعلامي واستعلامي في أن واحد، بحيث يستقطب ذلك المركز الأخبار - أعني أخبار رؤية الهلال - من أقطار العالم الإسلامي شرقيه وغربيه فيحكم الثبوت بالخبر الذي يرى أنه عدل ثم يبث هذا الحكم إلى جميع الأقطار الإسلامية في أسرع وقت ممكن ... فيا حبذا لو اختير لهذا الأمر " أم القرى " مركزا؛ لأنها قبلة الأمة، مولد الرسالة المحمدية وفيها أول بيت وضع للناس وهي التي أذن الله أن يؤتى إليها كل الثمرات، وأن يأتي الناس رجالا وعلى كل ضامر من كل فج عميق. وإلى هنا أوقفت كلمتي المتواضعة، راجيا من الله القوي العزيز الكريم أن يتقبل مني هذا العمل في البدء والختام وأن يلهم غيري من الأكفاء إلى تكميله وتهذيبه حتى يكون هذا الجهد بداية ما يحمد عقباه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. هذا وقد بدأت كتابة تلك الرسالة " توحيد الشهور القمرية " في يوم الخميس 20 من شهر ذي القعدة سنة 1405 هـ وفرغت من كتابتها يوم السبت 8 من شهر ذي الحجة المحرم سنة 1405 هـ من الهجرة النبوية العطرة بحمد الله وتوفيقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 739 مراجع البحث 1- القرآن الكريم. 2- مختصر تفسير ابن كثير للصابوني، المجلد الأول، صفحة (169) 3- في ظلال القرآن للسيد قطب، الجزء الثالث صفحة (245) 4- صفوة التفاسير للصابوني، المجلد الأول، صفحة (534) 5- تفسير آيات الأحكام للصابوني، الجزء الأول، صفحة (210 - 211) 6- مختصر تفسير ابن كثير للصابوني، المجلد الثاني، صفحة (140 - 142) 7- تفسير القرآن العظيم لابن كثير، المجلد الأول، صفحة (225) 8- جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري، اجزء الثاني صفحة (108) الطبعة الأولى (1323 هـ) 9- فقه السنة للسيد سابق المجلد الأول، صفحة (435 - 437) 10- نيل الأوطار للشوكاني الجزء الرابع صفحة (258 - 269) 11- نصب الراية لتخريج أحاديث الهداية للحافظ الزيلعي، الجزء الثاني صفحة (437 - 445) 12- شرح صحيح مسلم للنووي، الجزء السابع صفحة (197) 13- صحيح ابن خزيمة الجزء الثالث صفحة (201 - 203) و (205 - 206) 14 - سبل السلام للأمير الصنعاني الجزء الثاني صفحة (151 - 153) 15- مغني المحتاج للخطيب الشربيني الجزء الأول صفحة (420 - 422) 16- شرح كتاب النيل وشفاء العليل لمحمد بن يوسف أطفيش، الجزء الثالث صفحة (317 - 319) 17 - المذاهب الأربعة للجزائري الجزء الأول صفحة (548 - 554) 18 - روح الدين الإسلامي لعفيف الدين الطبارة صفحة (257) 19 - الموسوعة الفقهية، وزارة العدل الكويت، الجزء الثاني صفحة (34) 20 - مجلة الفيصل عدد (44) صفر 1401 هـ صفحة () 21 - في صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحمد صالح البنداق صفحة (233) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 740 حول اعتماد الحساب الفلكي لتحديد بداية الشهور القمرية هل يجوز شرعا أو لا يجوز؟ مصطفى أحمد الزرقاء لا أجد في اختلاف آراء علماء الشريعة المعاصرين اختلافا يدعو إلى الاستغراب، بل إلى الدهشة أكثر من اختلافهم في جواز الاعتماد شرعا على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية، في عصر ارتاد علماؤه آفاق الفضاء الكوني، وأصبح من أصغر إنجازاتهم النزول على القمر ثم وضع أقمار صناعية في مدارات فلكية محددة حول الأرض لأغراض شتى علمية وعسكرية تجسسية، ثم القيام برحلات فضائية متنوعة الأهداف والخروج من مراكبها للسياحة في الفضاء خارج الغلاف الجوي الذي يغلف الأرض، وخارج نطاق الجاذبية الأرضية، وسحب بعض الأقمار الصناعية الدوارة لإصلاح ما يطرأ عليها من اختلال وهي في الفضاء ولتصحيح مدارها إذا انحرفت عنه. وإذا كان الرصد الفلكي وحساباته في الزمن الماضي لم يكن له من الدقة والصدق ما يكفي للثقة به والتعويل عليه، فهل يصح أن ينسحب ذلك الحكم عليه إلى يومنا هذا؟ ولعل قائلا يقول: أن عدم قبول الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية ليبنى عليه ما يتعلق بها من عبارات في الإسلام ليس سببه الشك في صحة الحساب الفلكي ودقته، وإنما سببه أن الشريعة الإسلامية، بلسان رسولها - صلى الله عليه وسلم - قد ربطت ميلاد الأهلة وحلول الشهور القمرية بالرؤية البصرية وذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديثه الثابت المشهور عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ((صوموا لرؤيته - أي الهلال - وأفطروا لرؤيته، فإذا غم عليكم فاقدروا له)) وفي رواية ثابتة أيضا: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) . وقد أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: ((فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين)) ، وهي تفسير معنى التقدير الوارد في الرواية الأولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 741 وفي رواية أخرى عند البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه -: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما)) . فجميع الروايات الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشأن قد ربط فيها الصوم والإفطار برؤية الهلال الجديد والقدر أو التقدير الوارد عندما تمتنع الرؤية البصرية لعارض يحجبها من غيم أو ضباب أو مانع آخر معناه إكمال الشهر القائم - شعبان أو رمضان - ثلاثين يوما، فلا يحكم بأنه تسع وعشرون إلا بالرؤية وهذا من شئون العبادات التي تبنى فيها الأحكام على النص تعبدا دون نظر إلى العلل، ولا إعمال للأقيسة. هذه حجة من لا يقبلون الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية لأجل العبادات المرتبطة شرعا بها ولو بلغ الحساب الفلكي من الصحة والدقة مبلغ اليقين بتقدم علمه ووسائله. ونقول نحن بدورنا: أن كل ذلك مسلم به لدينا، وهو معروف في قواعد الشريعة وأصول فقهها بشأن العبادات ولا مجال للجدل فيه، ولكنه مفروض في النصوص التي تلقى إلينا مطلقة غير معللة فأما إذا ورد النص نفسه معللا بعلة جاءت معه من مصدره فإن الأمر حينئذ يختلف، ويكون للعلة تأثيرها في فهم النص وارتباط الحكم بها وجودا وعدما في التطبيق ولو كان الموضوع من صميم العبادات. إن هذا الحديث النبوي الشريف الآنف الذكر ليس هو النص الوحيد في الموضوع، بل هناك روايات أخرى ثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - توضح علة أمره باعتماد رؤية الهلال البصرية للعلم بانقضاء الشهر القائم، وحلول الشهر الجديد الذي نيطت به التكاليف والأحكام، من صيام وغيره. فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أم سلمة - رضي الله عنها - في كتاب الصيام من صحيحه (باب: الصوم لرؤية الهلال) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الشهر يكون تسعة وعشرين يوما)) . وأخرج أيضا بعده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، والشهر هكذا وهكذا وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة والشهر هكذا وهكذا يعني تمام الثلاثين)) اهـ. ومفاد هذا الحديث أنه - عليه الصلاة والسلام - أشار (أولا) بكلتا يديه وبأصابعه العشر ثلاث مرات، وطوى في الثالثة إبهامه على راحته لتبقى الأصابع فيها تسعا وعشرين وتارة ثلاثين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 742 هكذا نقل النسائي تفسير هذا الحديث عن شعبة عن جبلة بن سحيم عن ابن عمر (رواه النسائي بشرح السيوطي وحاشية السندي ج 4 ص / 138 و 140) . وكذلك ليس هذا هو كل شيء من الروايات الواردة في هذا الموضوع فالرواية التي أكملت الصورة وأوضحت العلة، فارتبطت أجزاء ما ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشأن بعضها ببعض هي ما أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي (واللفظ للبخاري) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، والشهر هكذا وهكذا)) يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين وكلهم أوردوا ذلك في كتاب الصوم وقد أخرجه أحمد عن ابن عمر فهذا الحديث النبوي هو عماد الخيمة وبيت القصيد في موضوعنا هذا فقد علل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره باعتماد رؤية الهلال رؤية بصرية لبدء الصوم والإفطار بأنهم أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، فما من سبيل لديها لمعرفة حلول الشهر ونهايته إلا رؤية الهلال الجديد ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين وتارة ثلاثين وهذا ما فهمه شراح الحديث من هذا النص. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (ج 4/127) : ((لا نكتب ولا نحسب)) (وبالنون فيهما) والمراد أهل الإسلام الذين بحضرته عند تلك المقالة، وهو محمول على أكثرهم..لأن الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضا إلا النزر اليسير فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير..) (1) والعيني في عمدة القاري قد علل تعليق الشارع الصوم بالرؤية بعلة رفع الحرج في معاناة حساب التسيير كما نقلناه عن ابن حجر ونقل العيني عن ابن بطال في هذا المقام قوله: " لم نكلف في تعريف مواقيت صومنا ولا عباداتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، وإنما ربطت عباداتنا بأعلام واضحة وأمور ظاهرة، يستوي في معرفة ذلك الحساب وغيرهم.   (1) أضاف ابن حجر بعد ذلك قائلا: " واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلا " اهـ. وسنناقش هذه العبارة الأخيرة عن بن حجر ومفهومها فيما بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 743 وذكر القسطلاني في إرشاد الساري شرح البخاري (ج 3 ص 359) مثل ما قال ابن بطال. وقال السندي في حاشيته على سنن النسائي يشرح كلمة (أمية) الواردة في الحديث بقوله: " أمية في عدم معرفة الكتابة والحساب، فلذلك ما كلفنا الله تعالى بحساب أهل النجوم، ولا بالشهور الشمسية الخفية، بل كلفنا بالشهور القمرية الجلية ... ". (سنن النسائي بشرح السيوطي ج 4/140) . وواضح من هذا أن الأمر باعتماد رؤية الهلال ليس لأن رؤيته هي في ذاتها عبادة، أو أن فيها معنى التعبد، بل لأنها هي الوسيلة الممكنة الميسورة إذ ذاك لمعرفة بدء الشهر القمري ونهايته لمن يكونون كذلك أي أميين لا علم لهم بالكتابة والحساب الفلكي. ولازم هذا المفاد من مفهوم النص الشرعي نفسه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقومه العرب إذ ذاك لو كانوا من أهل العلم بالكتاب والحساب بحيث يستطيعون أن يرصدوا الأجرام الفلكية ويضبطوا بالكتاب والحساب دوراتها المنتظمة التي نظمتها قدرة الله العليم القدير بصورة لا تختل ولا تتخلف ولا تختلف حتى يعرفوا مسبقا بالحساب الفلكي. وكذا لو كل من يصل لديهم هذا العلم من الدقة والانضباط إلى الدرجة التي يوثق بها ويطمأن معها إلى صحته. وهذا حينئذ - ولا شك - أوثق وأضبط في إثبات رؤية الهلال من الاعتماد على شاهدين ليسا معصومين من الوهم وخداع البصر ولا من الكذب لغرض أو مصلحة شخصية مستورة مهما تحرينا للتحقق من عدالتهما الظاهرة التي توحي بصدقهما، وكذلك هو - أي طريق الحساب الفلكي - هو أوثق وأضبط من الاعتماد على شاهد واحد حينما يكون الجو غير صاح والرؤية عسيرة كما عليه بعض المذاهب في هذه الحال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 744 وواضح أيضا لكل ذي علم وفهم أن أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإتمام عدة الشهر القائم ثلاثين حين يغم علينا الهلال بسبب حاجب ما للرؤية من غيم أو ضباب، ليس معناه أن الشهر القائم يكون في الواقع ثلاثين يوما، بل قد يكون الهلال الجديد متولدا وقابلا للرؤية لو كان الجو صحوا، وبالتالي أن اليوم التالي الذي اعتبرناه يوم الثلاثين الأخير من الشهر هو في الواقع أول يوم من الشهر الجديد الذي علينا أن نصومه أو نفطر فيه ولكن لأننا لا نستطيع معرفة ذلك من طريق الرؤية البصرية التي حجبتها حالة الجو ولا نملك وسيلة سواها، فإننا نكون معذورين شرعا إذا أتممنا شعبان ثلاثين وكان هو في الواقع تسعة وعشرين، فلم نصم أول يوم من رمضان إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها بنص القرآن العظيم. هذا تحليل الموضوع وفهمه عقلا وفقها، وليس معنى إتمام الثلاثين حين انحجاب الرؤية أننا بهذا الإتمام نصل إلى معرفة الأمر وحقيقته في نهاية الشهر السابق وبداية واللاحق وأن نهاية السابق هي يوم الثلاثين. وما دام من البديهيات أن رؤية الهلال الجديد ليست في ذاتها عبادة في الإسلام وإنما هي وسيلة لمعرفة الوقت وكانت هي الوسيلة الممكنة في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، وكانت أميتها هي العلة في الأمر بالاعتماد على العين الباصرة وذلك بنص الحديث النبوي مصدر الحكم، فما الذي يمنع شرعا أن نعتمد الحساب الفلكي اليقيني الذي يعرفنا مسبقا بموعد حلول الشهر الجديد فنعلم به، ولا يحجب علمنا غيم ولا ضباب؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 745 رفض العلماء المتقدمين لاعتماد الحساب وسببه إن الفقهاء الأقدمين وشراح الحديث يرفضون التعويل على الحساب دون الرؤية لمعرفة بدايات الشهور القمرية ونهاياتها للصيام والإفطار ويقررون أن الشرع لم يكلفنا في مواقيت الصوم والعبادة بمعرفة حساب ولا كتابة، وإنما ربط التكليف في كل ذلك بعلامات واضحة يستوي في معرفتها الكاتبون والحاسبون وغيرهم كما نقلناه سابقا عن العيني والقسطلاني وابن بطال والسندي وسواهم. ولكن يحسن أن ننقل تعليلاتهم لهذا الرفض ليتبين سببه ومبناه مما يظهر ارتباطه بما كانت عليه الحال في الماضي ولا ينطبق على ما أصبح عليه أمر علم الفلك وحسابه في عصرنا هذا. وصرح العلامة ابن حجر في فتح الباري بأن تعليق حكم الصوم وغيره بالرؤية دون الحساب يستمر ولو حدث فيما بعد من يعرف بالحساب، وقال: " أن الحكمة في ذلك أن يستوي الناس فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم " (الفتح ج 4 ص 127) . ثم نقل ابن حجر أيضا عن ابن بزيزة أن اعتبار الحساب هو مذهب باطل، فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم، لأنه حدس وتخمين، وليس فيه قطع ولا ظن غالب ". ويظهر من كلام ابن حجر وابن بزيزة أن العلة في عدم اعتماد الحساب هي أن هذا العلم في ذاك الزمن مجرد حدس وتخمين لا قطع فيه وأن نتائجه مختلفة، ولذلك بين أهله فيؤدي ذلك إلى الاختلاف والنزاع بين المكلفين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 746 ونقل الزرقاني في شرحه على الموطأ (ج 2 ص/ 154) عن النووي قوله: " أن عدم البناء على حساب المنجمين لأنه حدس وتخمين، وإنما يعتبر منه ما يعرف به القبلة والوقت". وذكر ابن بطال ما يؤيد ذلك، فقال: " وهذا الحديث - أي حديث - ((لا نكتب ولا نحسب)) - ناسخ لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعول على رؤية الأهلة، وإنما لنا أن ننظر في علم الحساب ما يكون عيانا أو كالعيان، وأما ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون، وبكشف الهيئات الغائبة عن الأبصار فقد نهينا عنه وعن تكلفه " (ر: العيني ج 10 / 287) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في معرض احتجاجه لعدم جواز اعتماد الحساب: " أن الله سبحانه لم يجعل لمطلع الهلال حسابا مستقيما ... ولم يضبطوا سيره إلا بالتعديل الذي يتفق الحساب على أنه غير مطرد وإنما هو تقريب " (الفتاوى ج 25/ 183) وقال في مكان آخر: " وهذا من الأسباب الموجبة لئلا يعمل بالكتاب والحساب في الأهلة " (المرجع نفسه ص / 181) وقد أكد هذا المعنى في مواطن عديدة من الفصل الطويل الذي عقده في هذا الموضوع. هذا ويبدو من كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - أنه يعتبر اعتماد الحساب لمعرفة أوئل الشهور القمرية من قبيل عمل العرافين وعمل المنجمين الذين يربطون الحوادث في الأرض وطوالع الحظوظ بحركات النجوم واقترانها فقد قال في أواخر الفصل الطويل الذي عقده في هذا الموضوع: " فالقول بالأحكام النجوبية باطل عقلا ومحرم شرعا، وذلك أن حركة الفلك وإن كان لها أثر ليست مستقلة بل تأثير الأرواح وغيرها من الملائكة أشد من تأثيره وكذلك تأثير الأجسام الطبيعية التي في الأرض.." ثم قال: " والعراف يعم المنجم وغيره إما لفظا وإما معنى وقال - صلى الله عليه وسلم: ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر)) . رواه أبو داود وابن ماجه فقد تبين تحريم الأخذ بأحكام النجوم، وقد بينا من جهة العقل أن ذلك أيضا متعذر في الغالب ... وحذاق المنجمين يوافقون على ذلك، فنبين لهم أن قولهم في رؤية الهلال وفي الأحكام (1) من باب واحد يعلم بأدلة العقول امتناع ضبط ذلك ويعلم بأدلة الشريعة تحريم ذلك ... " (الفتاوى ج 25/ 198 - 201) .   (1) مراده أحكام النجوم أي تأثير حركاتها في الحوادث والحظوظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 747 وقد اشتد شيخ الإسلام - رحمه الله - على من يقول باعتماد الحساب في الأهلة، وشنع عليه، وقال: " فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون اتبع غير سبيل المؤمنين (الفتاوى 25 / 165- 174) . الرأي الذي أراه هذا الموضوع: يتضح من مجموع ما تقدم بيانه ما يلي: 1- أن النظر إلى جميع الأحاديث النبوية الصحيحة الواردة في هذا الموضوع وربط بعضها ببعض وكلها واردة في الصوم والإفطار يبرز العلة السببية في أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يعتمد المسلمون في بداية الشهر ونهايته رؤية الهلال بالبصر لبداية شهر الصوم ونهايته ويبين أن العلة هي كونهم أمة أمية لا تكتب ولا تحسب أي ليس لديهم علم وحساب يعرفون متى يبدأ الشهر ومتى ينتهي، ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين يوما وتارة ثلاثين. وهذا يدل بمفهومه أنه لو توافر العلم بالنظام الفلكي المحكم الذي أقامه الله تعالى بصورة لا تختلف ولا تتخلف، وأصبح هذا العلم يوصلنا إلى معرفة يقينية. بمواعيد ميلاد الهلال في كل شهر وفي أي وقت تمكن رؤيته بالعين الباصرة السليمة إذا انتفت العوارض الجوية التي قد تحجب الرؤية، فحينئذ لا يوجد مانع شرعي من اعتماد هذا الحساب والخروج بالمسلمين من مشكلة إثبات الهلال، ومن الفوضى التي أصبحت مخجلة بل مذهلة، حيث يبلغ فرق الإثبات للصوم والإفطار بين مختلف الأقطار الإسلامية ثلاثة أيام، كما حصل في هذا العام، وفي معظم الأعوام الماضية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 748 2- أن الفقهاء الأوائل الذين نصوا على عدم جواز اعتماد الحساب في تحديد بداية الشهر القمري للصوم والإفطار بديلا من الرؤية البصرية، وسموه حساب التسيير قالوا إنه قائم على قانون التعديل وهو ظني مبني على الحدس والتخمين (كما نقلناه عن العلامة ابن حجر وابن بطال وابن بزيزة والنووي والسندي والعيني والقسطلاني) قد بنوا على حالة هذا الحساب الذي كان في زمنهم، حيث لم يكن في وقتهم علم الفلك (الذي كان يسمى علم الهيئة وعلم النجوم أو علم التسيير أو التنجيم) قائما على رصد دقيق بوسائل محكمة، إذ لم يكن آنذاك المراصد المجهزة بالمكبرات من العدسات الزجاجية التي تقرب الأبعاد الشاسعة التي يصعب على العقل تصورها والتي تتبع حركات الكواكب والنجوم وتسجلها بأجزاء من الثانية الواحدة وتقارن بين دورتها بهذه الدقة ولذا سموه بالتسيير الذي يقوم على قانون التعديل حيث يأخذ المنجم الذي يحسب سير الكواكب عددا من المواقيت السابقة ويقوم بتعديلها بأخذ الوسطى منها ويبني عليه حسابه (وهذا معنى قانون التعديل كما يشعر به كلامهم نفسه) من هنا كان حسابهم حدسيا وتخمينيا كما وصفه أولئك الفقهاء الذين نفوا جواز الاعتماد عليه. وإن كان بعضهم كالإمام النووي صرح بجواز اعتماد حسابهم لتحديد جهة القبلة ومواقيت الصلاة دون الصوم (مع أن الصلاة في حكم الإسلام أعظم خطورة من الصوم بإجماع الفقهاء وأشد وجوبا وتأكيدا) كما نقلنا آنفا كلام ابن بطال بأن " لنا أن ننظر في علم الحساب ما يكون عيانا أو كالعيان ... ". 3- أن الفقهاء الأوائل واجهوا أيضا مشكلة خطيرة في عصرهم وهي الارتباط الوثيق حينئذ بين العرافة والتنجيم والكهانة والسحر من جهة وبين حساب النجوم. (بمعنى علم الفلك) من جهة أخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 749 فيبدو أن كثيرا من حساب النجوم كانوا أيضا يشتغلون بتلك الأمور الباطلة التي نهت عنها الشريعة أشد النهى، فكان للقول باعتماد الحساب في الأهلة مفسدتان: (الأولى) أنه ظني من باب الحدس والتخمين لا يعقل أن تترك به الرؤية بالعين الباصرة - رغم ما قد يعتريها من عوارض واشتباهات. (والثانية) وهي الأشد خطورة والأدهى هي انسياق الناس إلى التعويل على أولئك المنجمين والعرافين الذين يحترفون الضحك على عقول الناس بأكاذيبهم وترهاتهم وشعوذتهم. وهذه المفسدة الثانية هي التفسير لهذا النكير الشديد الذي أطلقه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - على من يلجئون إلى الحساب حساب النجوم في أهلال الأهلة بدلا من الرؤية واعتبارهم من قبيل العرافين والذين يربطون أحداث الأرض وطوالع الناس وحظوظهم بحركات النجوم وسموا من أجل ذلك بالمنجمين وأتى بشاهد على ذلك الحديث النبوي الآنف الذكر وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر)) . فلا يعقل أن ينهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن علم يبين نظام الكون وقدرة الله تعالى وحكمته وعلمه المحيط في إقامة الكون على نظام دقيق لا يختل ويدخل في قوله تعالى في قرآنه العظيم {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فليس لهذا الحديث النبوي محمل إلا على تلك الشعوذات والأمور الباطلة التي خلط أولئك المنجمون بينها وبين الحساب الفلكي رغم أنه لم يكن قد نضج وبلغ في ذلك والوقت مرتبة العلم والثقة 4- أما اليوم في عصرنا هذا الذي انفصل فيه منذ زمن طويل علم الفلك بمعناه الصحيح، عن التنجيم بمعناه العرفي من الشعوذة والكهانة واستطلاع الحظوظ من زعم حركات النجوم وأصبح علم الفلك قائما على أسس من الرصد بالمراصد الحديثة والحسابات الدقيقة المتيقنة التي تحدد حركات الكواكب بأجزاء من الثانية وأقيمت بناء عيه في الفضاء حول الأرض محطات ثابتة تستقبل مركبات تدور حول الأرض إلخ فهل يمكن أن يشك بعد ذلك بصحته ويقين حساباته، وأن يقاس على ما كان عليه من البساطة والظنية؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 750 ملاحظة مهمة: نقلنا سابقا أن العلامة ابن حجر - رحمه الله - في فتح الباري عندما بين أن حساب التسيير أي علم النجوم وسيرها لا يعول عليه في الحكم ببدايات الشهور القمرية لأنه ظني قائم على الحدس والتخمين قال بعد ذلك:علق الشارع الحكم بالصوم وغيره بالرؤية" لرفع الحرج عنهم واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك ... بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلا" اهـ. فنقول: أن رأينا اليوم بجواز اعتماد الحساب الفلكي ليس معناه (تعليق الحكم في الصيام وغيره بهذا الحساب أصلا) بل إننا نقول بأن حكم الشريعة باعتماد الرؤية البصرية باق إلى يوم الدين على أنه هو الأصل ذلك لأن الشرع الإسلامي الأخير الخالد لا يمكن أن يربط حكما شرعيا بأمور تتوقف على علم قد يوجد وقد لا يوجد وقد تفقد قواعده وعلماؤه بعد الوجود فمن يتصور هذا التصور يكون من أجهل الجاهلين بخطة الإسلام ونهجه في بناء الأحكام. وإنما مرادنا بإمكان اعتماد الحساب الفلكي اليوم هو أنه جائز لا مانع منه شرعا - بعد أن وصل علم الفلك إلى ما وصل إليه من الدقة المدهشة واليقينية - طريقا مقبولا لا يحقق ما تحققه الرؤية، بصورة أيسر وأبعد عن الخطأ مع بقاء الرؤية هي الأصل بمعنى أنه إذا فقد هذا العلم بسبب عام أو في بعض البلاد بقيت الرؤية مستندا في الحكم. فكثيرا ما يمكن في الشرع اللجوء إلى بديل عن أصل مع بقاء ذلك الأصل ومن أمثلة ذلك أن الأصل أن يكون الإنسان ملتزما بنتائج ما بصدر عنه من تصرفات باشرها بنفسه فيما يتعلق بحقوقه والتزماته ولكن تقبل الوكالة بديلا من تصرفه بنفسه للحاجة مع بقاء الأصل وهكذا في كثير من الأحكام الشرعية. فتصور أن قبول الحساب الفلكي في موضوعنا يستلزم أن يكون ذلك هو الأصل في حكم الصوم والإفطار دون الرؤية خلافا للحديث النبوي هو تصور غير وارد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 751 وثائق مقدمة المجمع اجتماع أهل الإسلام على عيد واحد كل عام وبيان أمر الهلال وما يترتب عليه من الأحكام فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين. أما بعد: فإن الله سبحانه بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إلى كافة الناس عربهم وعجمهم بدين كامل وشرع شامل صالح لكل زمان ومكان قد نظم أمور الناس أحسن نظام في عباداتهم وأعيادهم ومعاملاتهم وسائر أمور الحلال والحرام، وساوى في التكليف بهذا الدين بين سائر الناس الخاص منهم والعام، فلم يجعل عبادة أحد منهم مقيدة ولا مرتبطة بأمر الآخر ولا إرادته. ومن حكمته وشمول رحمته، أن جعل العبادات في الإسلام متعلقة بالظهور والمشاهدة والأمر الجلي الواضح الذي لا خفاء فيه، فوقت صلاة الفجر يعرف بطلوع الفجر وانتشاره، ووقت الظهر يعرف بزوال الشمس، ووقت العصر حين يصير ظل كل شيء مثه بعد فيء الزوال، ووقت المغرب بغروب الشمس، ووقت العشاء بذهاب الشفق الأحمر. ويعرف وقت صيام رمضان برؤية الهلال باديا للناظرين، فإن لم ير مع الغيم فبإكمال عدة شعبان ثلاثين يوما وكذلك شهر الحج. يقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، وسبب هذا السؤال على ما رواه أبو نعيم، أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم، قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقا كالخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حالة واحدة فأنزل الله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، فنقلهم سبحانه عن السؤال عن الذات إلى الإخبار بالصفات، كأن الله قال: إنه لا فائدة ولا مصلحة لكم في البحث عن جرم الهلال، وإنما عليكم أن تنظروا إلى الحكم والمصالح المترتبة على الهلال، حيث جعله الله ميقاتا لصيام الناس وحجهم وعدة نسائهم وإيلائهم وحلول ديونهم وبه تعرف أشهر (1) الحج والأشهر الحرم التي حرم الله القتال فيها، سواء كان التحريم باقيا أو منسوخا.   (1) هذا الحديث هو من رواية السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ورواه ابن عساكر، فذكره ورواية الكلبي عن أبي صالح ضعيفة غير انه قد اشتهر هذا السبب لنزول الآية الكريمة إذ السؤال عن الأهلة واقع كما جاء مقرونا بالجواب في نص الكتاب وكون هذا الحديث ضعيفا إنما ضعفه من قبل رجاله وليس كل ما لا يصح سنده يعتبر باطلا في نفس الأمر، والواقع ولا كل ما صح سنده يكون واقعا بالفعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 752 فالتوقيت بالأهلة هي المواقيت المشهورة لجميع الناس منذ خلق الله الدنيا يقول الله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} . لأن التوقيت بالأهلة يسهل على جميع الناس معرفتها، العالم بالحساب والجاهل به والبدوي والحضري والكاتب والأمي، لكون الهلال أمرا مشهورا مشهودا به مرئيا بالأبصار وأجلى الحقائق ما شوهد بالعيان، إذ ليس المخبر كالمعاين، ولهذا سمي "هلالا" لاستهلال الأصوات برؤيته، كما سمي شهرا لشهرته إذ الرؤية للهلال، واشتهاره بمثابة الفجر وانتشاره، وقصد الشارع الحكيم من هذا كله هو شهرة العلم بدخوله وخروجه، إذ هو بمثابة الصوى والمنارالذي يعرف به، حيث قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) . وقال: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه)) لقصد التعبد بالوظائف الواجبة فيه حتى لا يزاد فيها ولا ينقص منها، بخلاف الشهور الشمسية، فإنه لا يعرفها إلا الحاسب أو الكاتب ويجهلها أكثر الأميين من الحضر وكل البوادي ولا يترتب عليها شيء من التعبدات أبدا. لهذا لا يجوز الاعتماد في الصوم والفطر على الحساب، كحساب الجداول وغيرها، لكون الحساب مبينا على الظن والتخمين لا على العلم واليقين، فهم في إجراء عملية الحساب يجعلون شهرا كاملا وشهرا ناقصا إلى نهاية السنة، ومن المعلوم أن تمام الشهر ثلاثين قد يتوالى في شهرين وثلاثة والنقص في الشهر وكونه تسعا وعشرين قد يتوالى في شهرين وثلاثة فينتقض بذلك نظام حسابهم، كما نرى وقوع الخطأ في التقاويم، حيث يقول بعضهم: أن اول الشهر يوم كذا، وبعضهم يقول يوم كذا (1) .   (1) لقد سمعنا من بعض المتفرنجين بتفضيل الشهور الشمسية التي عليها مدار حساب النصارى على الشهور القمرية، بحجة أن الشهور الشمسية لا تتغير شتاء ولا صيفا، وهذا ليس بمتقض للتفضيل وقد سبق الإسلام إلى كل عمل جليل وفعل جميل وهذا التفضيل يجعل الشهور لا يتغير شتاء ولا صيفا، قد استعمله أهل الإسلام باسم البروج على عداد شهور السنة أي اثنا عشر برجا لا تتغير شتاء ولا صيفا، وهي برج (الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدى والدلو والحوت) ، فكل برج بعدد الأشهر ولا يتغير عن وقته وما من فضيلة إلا وقد أدلى الإسلام فيها بالسهم الأوفى وكل الصيد ففي جوف الفرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 753 إن أعظم مقاصد القرآن الكريم والشرع الحكيم في التوقيت بالأهلة هو اتفاق الأمة في عباداتهم من صيامهم وحجهم وأعيادهم ما أمكن الاتفاق، إذ هذا من السهل الميسر، متى سلكوا مسالكه وأخذوا بعزائمه. فلو جرى المسلمون على نصوص الكتاب والسنة في إثبات الأهلة بطريق اليقين من الرؤية بأن يراه عدد من العدول المعروفين بالأمانة والصدق فيصومون برؤيتم ويفطرون برؤيتهم على يقين من امر دينهم لكان أفضل في حقهم من هذا الاختلاف الواقع بينهم في صومهم وأعيادهم لأنهم في هذا الزمان اخذوا يتساهلون في تصحيح الشهادة وتمحيص العدالة على خاصة الأهلة، وصار كل شاهد بالهلال فمقبول الشهادة بدون أن يعرفوا ثقته وعدالته ونجم عن هذا التساهل أن صاروا يشهدون به في وقت مستحلية رؤيته فيه ويشهدون به الليلة ثم لا يراه الناس الليلة الثانية من كل ما يحقق بطلان شهادتهم، فدخل على الناس بسبب هذا التساهل شيء من الخطأ في هذه العبادة فصاروا يصومون شيئا من شعبان ويفطرون شيئا من رمضان. وبسببه وقع الاختلاف بين أهل الإسلام في صومهم وعيدهم، لأنه متى كان بعض أهل الإسلام يعتمدون في صومهم وعيدهم على الرؤية المحققة التي يشهد بها عدد من العدول الذين لا يمكن تواطؤهم على الكذب فيصومون برؤيتهم ويفطرون برؤيتهم، وهؤلاء هم أسعد الناس بالصواب في هذه القضية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 754 وبعضهم يعتمدون في صومهم وفطرهم على أي خبر يأتيهم من أي بلد عن طريق الإذاعة فيقبلونه على علاته ويعملون به في صومهم وفطرهم، فإن هذا بلا شك من لوازمه الافتراق وعدم الاتفاق، كما يشهد به الواقع المحسوس. فلو عملوا عملهم في التوثيق في الشهادة فلم يدخلوا في صوم رمضان ولم يخرجوا منه إلا باليقين الثابت من الرؤية الصادقة التي يشهد بها عدد من الثقات العدول، كما نص على ذلك جمهور فقهاء المسلمين، لحصل حينئذ الاتفاق، وزال عن الناس هذا الافتراق، إذ الرؤية المحققة الصحيحة تجمع أهل الإسلام من شتي البلدان فيراه أهل الشام ومصر والعراق والمغرب كما يراه أهل نجد والحجاز واليمن وكما يراه أهل فارس وباكستان والهند. وما ذكره الفقهاء من اختلاف المطالع بين هذه البلدان، فإنما قالوه بمحض الاجتهاد يؤجرون عليه، لكنه بمقتضى المشاهدة والتجربة يترجح عدم صحته وأن التفاوت في مطلعه بين هذه البلدان منتف، فيراه أهل الشام والعراق ومصر كما يراه أهل نجد والحجاز واليمن، لا يتغير عن مطلعه ولا يختلف عن حالته لان الله سبحانه وتعالى نصب الهلال ميقاتا لجميع الناس عربهم وعجمهم، يعرفون به، وقت صومهم وحجهم {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، وما كان كذلك، فإنه لا يتغير بحال ولو جربوا لعرفوا صحة ذلك. والحكمة في ذلك ظاهرة، وهى أن تكون طريقة إثبات العبادة واحدة وما ثبت من الأحكام على رؤية الهلال، فإنه لا يتغير بحال ولا يختلف في محل دون محل، وإنما يقع الاختلاف بين الناس لاختلاف الرائي، وعدم توثقه في رؤيته لا المرئي فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون)) هو خطاب لجميع الناس في كل بلد، لكون الهلال إذا ظهر في بلد ورأوه رؤية صحيحة، فإنه غالبا يظهر كذلك في كل بلد، إذا لم يحل دون منظره غميم أو قتر. وإذا لم يظهر الهلال وإنما قيل بانه رؤي في بلد كذا فإن هذا خبر يصدقه اليقين أو يكذبه، وما آفة الأخبار إلا رواتها، والله اعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 755 الحكم في إثبات رمضان دخولا وخروجا من الفقهاء من قال: يجب صوم رمضان برؤية عدل ثقة وثبات الفطر بشهادة عدلين، كما هو الظاهر من مذهب الحنابلة، وعندهم انه متى ثبت الهلال في بلد لزم جميع الناس الصوم وهي من مفردات المذهب. ومنهم من قال يجب الصوم بشهادة عدلين والفطر بشهادة عدلين ايضا، كما هو الظاهر من مذهب مالك والشافعي، واستدلوا لذلك بحديث ابن عمر، قال: ((تراءى الناس الهلال على عهد رسول الله، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه)) . رواه أبو داود وصححه الحاكم وابن حبان. وعن ابن عباس أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال، فقال: ((أتشهد أن لا اله إلا الله)) قال: نعم، قال: ((أتشهد أن محمدا رسول الله؟)) قال: نعم، قال: ((فاذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا)) رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان ورجح النسائي وقفه. أما الإمام أبو حنيفة، فإنه يشترط في حالة الصحو الاستفاضة بأن يراه عدد من العدول لا يمكن تواطؤهم على الكذب، ويقول: إنه لا يمكن أن ينظر جميع الناس إلى مطلع الهلال وابصارهم متساوية والموانع منتفية، ثم يراه واحد واثنان دون الباقين. أما في حالة الغيم فيقبل عنده شاهد واحد ... انتهى. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وإنما فرق من فرق من الفقهاء بين هلال الصوم والفطر لقصد سد الذريعة بأن لا يدعي الفساق انهم رأو الهلال لتعجلوا بذلك الفطر وهم بعد لم يروه. والكلام هنا يرجع إلى حقيقة الإثبات وعدمه، إذ ما كل ما قيل إنه رؤي في بلد كذا أن يكون صحيحا ثابتا ولا كون مدعى الرؤية عدلا صادقا. فقد ذكر الفقهاء لصحة الشهادة على الهلال كونه يشهد به عدلان ثقتان، ثم هم يفسرون العلة المطلوبة لصحة الشهادة بأنها التزام فرائض الصلوات الخمس بسننها الراتبة واجتناب المحارم، بأن لا يأتي كبيرة ولا يدمن على صغيرة، والثانية استعمال المروءة وهي فعل ما يجمله ويزينه واجتناب ما يدنسه ويشينه، فهذه الشروط أن لم تدرك كلها فلن تترك كلها.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 756 وقد ثبت بالتجربة والاختبار كثرة كذب المدعين لرؤية الهلال في هذا الزمان، وكون الناس يرون الشهر قويا مضيئا صباحا من جهة الشرق، ثم يشهد به احدهم مساء من جهة الغرب وهو مستحيل قطعا، ويشهدون برؤيته الليلة ثم لا يراه الناس الليلة الثانية من كل ما يؤكد بطلان شهادتهم، فالاستمرار على هذا الخطأ المتكرر الناشئ عن الشهادة المزيفة لا يجيزه النص ولا القياس، ومتى رؤي الهلال رؤية صحيحة في بلد، فإنه يرى غالبا في اكثر البلدان، فتقارب بذلك الاتفاق بين جميع المسلمين في الصوم والعيد. فلو أن فقهاءنا المتقدمين القائلين بثبات دخول الشهر بشهادة الواحد وخروجه باثتين، وكونه إذا ثبت في بلد لزم جميع الناس الصوم، فلو أنهم عاشوا إلى عصرنا اليوم وشاهدوا ما وقع الناس فيه من الأخطاء التي تنشأ عن شهادة الواحد والاثنين، لتبدل رأيهم في فنون التوثق والإثبات والاحتراس من الناس، لأن حالة الناس اليوم غير حالتهم في السنين السابقة، فيما يتعلق بشأن الأهلة وطريق إثباتها والشهادة فيها تعميم العمل بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 757 فقد كانت البلدان المتجاورة في قديم الزمان بمثابة المتباعدة، بحيث تكون القرية عن القرية الأخرى قدر مائة كيلو أو أقل أو اكثر، فثبت رؤية الهلال في إحدى القريتين ولا تعلم الثانية بثباته فيها لصعوبة الاتصالات بينهما إلا عن طريق البعير والحمار، فيحكم قاضى تلك البلدة بصحة رؤية الهلال بشاهدين عدلين، ويأمر بالعمل بذلك من الصوم أو الفطر، فتصوم هذه القرية والبلدة الأخرى المجاورة لها مفطرون، حيث لم يروا الهلال ولم يبلغهم خبر رؤيته. وكلا القريتين على حق لا الصائمون ولا المفطرون، لأن هذا هو غاية جهدهم واجتهادهم، سواء أصابوا أو أخطأوا، لأن كل مجتهد في مثل هذا هو غاية جهدهم واجتهادهم، سواء أصابوا أو أخطأوا، لأن كل مجتهد في مثل هذا يعتبر مصيبا في حصول الأجر وحط الوزر، إذ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . ما عدا قضاء ذلك اليوم الذي سبقت به إحدى القريتين، فإنه من اللازم بالاتفاق وفي الغالب انه متى ثبتت رؤيته في مثل هذه البلاد رؤية صحيحة، فإنه يرى غالبا في أكثر البلدان فينتشر أمره ويشتهر خبره، وهذا هو حقيقة الحكمة في خلقه، حيث جعله الله ميقاتا للناس والحج. ولو قدر خطأ هذه الرؤية، فإنه هذا الخطأ لا يتعدى مكان البلد المشهود فيها وما حولها فلا يتعدى إلى البلدان الأخرى. أما الآن وفي هذا الزمان، فإنه بمقتضى اختراع الآلات الناقلة للذوات والمقربة للأصوات من برقيات وإذاعات وتليفونات وتلفزيونات، فقد صارت الدنيا كلها كمدينة واحدة وكأن عواصمها على بعدها غرف متجاورة يتخاطبون بينهم شفاهيا من بعيد كتخاطبهم من قريب فيسرى خبر الرؤية في مشارق الأرض ومغاربها في ساعة واحدة، سواء كان الخبر صحيحا أو غير صحيح، فيعم الناس الخطأ كما يعمهم الصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 758 فمتي كان الأمر بهذه الصفة، فإن من الحزم وفعل أولى العزم أن يحسب لهذا الأمر الحساب ويستخدم له سائر الوسائل والأسباب من كل ما يقتضي التوثق والثبات بشهادة المعروفين بالعدالة والثقة والرؤية الثابتة المحققة في دخول الشهر وخروجه حتى يكون الناس آمنين على إكمال صومهم فرحين بعيد فطرهم فلأن نخطئ في التوثق والاستحياط أولى من أن نخطئ في التساهل والاستعجال، وهذا هو حقيقة ما ندعو إليه وننصح به، والله عند لسان كل قائل وقلبه. وأما حديث ابن عمر في شهادته على الهلال، وكذا حديث الأعرابي الصحابي، فقد وقعت الشهادتان على دخول رمضان ولعلها في قضية واحدة في سنة واحدة أو في سنين متفرقة. وعلى كلا الأمرين فليس في الحديثين ما يدل على انه لم ير الهلال أحد غيرهما، لا من أهل المدينة ولا من حولها من الأعراب، إذ عدم العلم بالشيء ليس علما بالعدم، ومن المحتمل أن يكون شاركهما غيرهما في رؤيته، وإن لم يذكر في الحديث اكتفاء بصدور الأمر من رسول الله في ثباته. ثم إنه لا تقاس شهادة ابن عمر وهذا الاعرابي الصحابي على شهادة غيرهما من أهل هذا الزمان، ممن لا تعرف عدالتهم ولا تفثهم، إذ من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عرف تقوى هذين الشاهدين وثقتهما، فأمضى شهادتهما، إذ القصد الخبر اليقين بالرؤية، وقد وقف رسول الله على حقيقة ذلك (1) .   (1) إذ لا يشترط لصحة الدخول في صوم رمضان حكم القاضي بذلك بل لو أخبره ثقة عدل رأى هلال رمضان فصدقه وجب عليه أن يصوم، وكذا لو رأي بنفسه الهلال فردت شهادته أو لم يشهد به بخلاف ما لو رأي بنفسه هلال شوال فلم تقبل شهادته أو لم يشهد به، فإنه يجب عليه أن يصوم مع الناس ولا يفطر إلا معهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 759 ثم أن ابن عباس راوى حديث الأعرابي لم يقبل قول كريب وحده في رؤية دخول رمضان وقد أخبره أن معاوية صام وصام الناس معه حتى قال: أما نحن فنصوم حتى نراه أو نكمل العدة ثلاثين يوما، كما أمر رسول الله بذلك. ثم أن الإثبات يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بن ثابت بشهادة رجلين عدلين لما يعلمه من صدقه وثقته وأمانته، ومن ذلك انه يشهد الرجل الثقة العدل على الشيء ويشهد بضده عشرة رجال ممن لا تعلم عدالتهم ولا ثقتهم فيمضى القاضى شهادة الواحد العدل ويرد شهادة العشرة لكون الكمية لا تغني عن الكيفية شيئا فإن قيل: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وجوب العمل في الصوم والفطر بشهادة الشاهدين، كما روى أبو داود في سننه عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، انه خطب الناس في اليوم الذي شك فيه، فقال: إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم كلهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين، فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا)) ، فهذا حديث ثابت، يحمل على المراد منه والمقصود به، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم إذا شهد شاهدان أن يصوموا ويفطروا، لأنه لن يشهد شاهدان عدلان برؤيته الثابتة في بلد كالمدينة إلا وقد رآه الكثير من الناس في سائر الآفاق، لاعتبار أن كل بلد تراه كذلك أو أكثر البلدان، إذ القصد من الشهود على الرؤية هو إثبات اليقين والحقيقة وهي تحصل بشهادة العدلين، وقد أمضى النبي صلى الله عليه وسلم شهادة ابن عمر وشهادة الأعرابي الصحابي، لما وقف على حقيقة صدقهما، غير انه لم يكن مراد النبي صلى الله عليه وسلم انه متى شهد شاهدان مجهولان على رؤية الهلال وجميع الناس لم يروه انه يجب إمضاؤه وتكليف الناس بالعمل بشهادتهما على قرب الديار وبعدها، فهذا لم يكن مرادا منه أبدا، والشهادة أمانة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 760 وأول ما يفقد الناس من دينهم الأمانة وآخر ما يفقدون من دينهم الصلاة ومعلوم فقدان أكثر الناس في هذا الزمان لعمود دينهم وأمانة ربهم، فضلا عن فقدان أماناتهم واستخفافهم بشهاداتهم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر قبل وقوعه، كما في الصحيحين عن عمران بن حصين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، لا أدري أذكر مرتين أو ثلاثا، ثم يجئ قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن)) . ففي هذا الحديث الإشارة إلى استخفاف الناس في آخر الزمان بالشهادة، وأنهم يشهدون بما لم يشاهدون وبما لم يحيطوا بعمله. وقد روي من حديث ابن عباس، أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهد عنده، فقال له: ترى الشمس؟ قال: نعم، قال: مثلها فاشهد أو دع (1) . فالعدالة التي يشترطها الفقهاء لصحة الشهادة على الهلال وغيره قد صارت مفقودة في هؤلاء الأفراد، الذين يشذ أحدهم بشهادته على الهلال من بين مجموع سائر الناس، بحيث يدعي أحدهم رؤيته الليلة ثم لا يراه جميع الناس الليلة الثانية، ويدعي رؤيته في وقت هي مستحيلة فيه بمتقضى الدليل العقلي على عدم إمكانها، كأن يراه الناس نيرا مضيئا صباحا فيما بين الفجر وطلوع الشمس ثم يدعي أحدهم رؤيته مساء من ذلك اليوم، وهذا لا يتفق ابدا والدعوى برؤية الهلال معه تعتبر كاذبة كما سيأتي بيانه.   (1) هذا الحديث ساقه ابن حجر في بلوغ المرام من رواية ابن عدي، قال وصححه الحاكم فأخطأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 761 ومما يؤكد هذه الغرابة وبطلان هذه الشهادة، كون البوادي الذين يسكنون في الصحراء البعيدة عن غبار المدن ودخانها وارتفاع بنيانها وقد منحوا من قوة الإبصار نتيجة صحة الأجسام، فكان أحدهم يرى ويعرف سمة الإبل قبل أن يرى اكثر الحضر أجسامها ويحرصون أشد الحرص على التطلع إلى الهلال وقت التحري له ولا يرونه، بينما يدعي أحد هؤلاء رؤيته وهي غير صحيحة في ظاهر الأمر. فلا عبرة بمثل شهادة هؤلاء، مع قيام الدليل العقلي على بطلانها، لأن من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها. ثم أن رؤية الهلال يقع فيها الوهم والاشتباه دائما حتى من بعض العدول الثقات، بحيث يخيل للشخص انه رأى الهلال ولم يكن هلالا {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} . من ذلك أن جماعة كانوا يتراءون هلال رمضان وفيهم أنس بن مالك، خادم رسول الله – رضي الله عنه – وكان قد قارب مائة سنة، وفيهم إياس بن معاوية، المعروف بالفراسة، فبينما هم ينظرون إليه إذ قال انس بن مالك: أنا رأيت الهلال هو ذاك، وأخذ يشير بإصبعه إليه ولا يراه الناس، فقام إياس بن معاوية فمسح شعر عيني أنس، ثم قال: أنظر يا أبا حمزة، هل ترى شيئا؟ فنظر ثم قال: الآن لا أرى شيئا، فعرفوا انها شعرة اعترضت لعينه فحسبها هلالا (1) . اجتمع عدد من الرؤساء العقلاء في مكان عال من الصحراء يتراءون الهلال قالوا: فنظرنا إلى قطعة سحاب من شكل الهلال وفي مطلع الهلال فجعلنا نكبر ويريه بعضنا بعضا، لا نشك إلا انه الهلال، فينما نحن كذلك نحقق فيه النظر، إذ رأيناه يتمزق وبعد قليل اضمحل وزال فعرفنا أنها قطعة سحاب، والله أن العجول من الناس ليشهدوا أنه رأى الهلال، ومثل هذا يقع كثيرا بين الناس، ولهذا امر الله بالتثبت في خبر الفاسق.   (1) ذكر هذه القصة ابن خلكان في تاريخه في ترجمة إياس – ص226 الجزء الأول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 762 ثم أن الخبر برؤية الهلال هو بمثابة الخبر عن رسول الله، انه فعل وقال: إذ لكل خبر ديني مما يتعلق بالأحكام والحج والصيام وأمور الحلال والحرام. ولما رأى العلماء كثرة الكذب على رسول الله، انه فعل وقال، اخترعوا فن الجرح والتعديل ليميزوا به بين الصادق الأمين والكاذب المهين، فكانوا يقولون: فلان كذاب وفلان مدلس وفلان كثير الوهم وفلان غير ثبت وفلان ينفرد بالمناكير وفلان يشذ بحديثه عن الثقات، ونحو ذلك من المميزات التي تقتضى التحذير عن الاغترار بخبرهم أو تصديقهم في شهادتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة لله ولدينه وعباده المؤمنين. وكان أول من اعتني بالتحفظ على الشهادة والعقاب على ما دخل فيها من النقص والزيادة، هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في قصة مشهورة حاصلها ما رواه البخاري في صحيحه، أن ابا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع وكان عمر مشغولا، فلما أفاق من شغله قال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ يعني ابا موسى الأشعري، قالوا: بلى، قال: ائذنوا له، فطلبوه فلم يجدوه فأرسل في اثره من يرده إليه، ثم قال له: ما حملك على أن ترجع، قال: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا استأذن أحدكم على أخيه ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع)) ، فقال عمر: إني لم أسمع ذلك أبدا، والله لتأتين بشاهد يشهد يشهد لك بذلك، أو لأوجعن ظهرك.فانطلق أبو موسى مذعورا حتى وقف على ملأ من الأنصار فقال: أنشدكم بالله، هل أحد منكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا استأذن أحدكم على أخيه ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع)) ، قالوا: اللهم نعم، فقال: ليشهد معي أحدكم عند عمر، فقالوا: يشهد معك أصغرنا، قم يا أبا سعيد الخدري فاشهد معه، فجاء أبو سعيد فشهد عند عمر فقال: صدقت، أشغلني عنها الصفق بالأسواق. فهذا من فنون سياسته في رعيته وتثبته في الشهادة بما لا يثق بصحته حتى لا يدخل الخلل على الدين بالنقص والزيادة من طريق الشهادة المزورة، وإنما سميت الشهادة الكاذبة بشهادة الزور لازورارها عن طريق الحق والعدل. وخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((عدلت شهادة الزور الإشراك بالله، ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} )) رواه الإمام احمد من حديث خريم بن فاتك الأسدى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 763 من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها إن الله سبحانه، يقول: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} ، كما قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فأمر بإقامة الشهادة لله كما أمر بإقامة الصلاة لله، وإقامة الشهادة هي أن تأتي بها مقومة معدلة غير مائلة ولا مزيفة، بل تشهد على حقيقة ما رأيت وسمعت بثبت وإتقان من غير زيادة ولا نقصان، كما في الحديث على مثل الشمس فاشهد أو دع) . والشهادة على الهلال هو مما يكثر الاشتباه فيها دائما، بحيث يخيل للشخص انه رأى شيئا ولم يكن شيئا، كما علم بالقطع كثرة وقوع ذلك. فإذا انحصرت الشهادة على رؤية الهلال في واحد أو اثنين من بين مجموع الناس، فإنها شهادة ظنية ليست يقينية، تشبه الخبر الذي يحتمل الصدق والكذب فهي لا تفيد اليقين قطعا، سيما إذا كان هذا الشاهد أو الشاهدان ممن لا تعرف ثقتهما ولا عدالتهما إذ ليس الخبر كاليقين، ولم يقل احد من أئمة المذاهب الأربعة ولا فقهائهم إنه يجب تصديق خبر مدعي الرؤية وإن لم تعلم عدالته، سيما في هذا الزمان، الذي ضعفت فيه الأمانة وفاض فيه الغدر والخيانة وحاول الكثير من المنافقين بأن يتلاعبوا بالدين {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} والمناقون في هذا الزمان هم شر من المنافقين الذين نزل فيها القرآن {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} فكان أحدهم يشهد برؤية الهلال في وقت مستحيلة رؤيته فيه، وهذا مما يؤكد بطلان شهادتهم ووقع التساهل في الحكم بها، كما شهدوا في زمان فات برؤية هلال شوال وأمر الناس بالفطر فأفطروا، وعند خروجهم إلى مصلى العيد لصلاة العيد انخسفت الشمس والناس في مصلى العيد، ومن المعلوم أن الشمس لا يخسف بها في سنة الله إلا في اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين، أي ليالي الإسرار، كما أن القمر لا ينكسف إلا في ليالي الأبدار، أي ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، كما حقق ذلك أهل المعرفة بالحساب وعلماء الفك وحققه شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع عديدة وأبطل ما يعارضه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 764 فالاستمرار على هذا الخطأ الناشئ عن الشهادات المزورة لا يجيزه النص ولا القياس، ولن نعذرعند الله وعند خلقه بالسكوت عنه. ثم أن الناس في هذا الزمان أخذوا يتساهلون في تصحيح الشهادة وتمحيص العدالة، وصار كل واحد مقبول الشهادة على خاصة الهلال، وبناء على هذا التسامح أخذ بعض الناس يتسابقون إلى ادعاء رؤية الهلال بدون تثبثت ولا يقين فدخل الخطأ على الناس في هذه العبادة فصاروا يصومون شيئا من شعبان ويفطرون شيئا من رمضان، بناء على شهادة من لا يعرفون عدالته ولا ثقته. من ذلك، أنه جاء الخبر من إحدى البلدان برؤية هلال شوال من هذه السنة ليلة الجمعة، وأن يوم الجمعة هو العيد فضجت الأصوات من الإذاعات يأمرون الناس بالفطر يوم الجمعة، لاعتبار انه العيد، فأفطر الناس وفي الليلة الثانية التي هي ليلة السبت، اجتهد الناس لرؤيته فلم يروه قطعا، وفي الليلة الثالثة التي هي ليلة الأحد رآه أفراد من الناس الحادة أبصارهم رأوه ضعيفا، وقد سبره عدد من العقلاء الرؤساء حتى غاب في خمس وعشرين دقيقة، وبعضهم قال: في ثلاثين دقيقة، وهي الليلة الثالثة على حسب هذه الشهادة، وكان الصحابة يصلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء غيبوبة القمر ليلة الثالثة، كما في سنن أبي داود عن النعمان بن بشير، انه قال: "أنا أعلم الناس بوقت صلاة العشاء الآخرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها سقوط القمر لثالثه. لهذا اضطرب الناس من هذه الشهادة، وعرفوا تمام المعرفة أن يوم الجمعة من رمضان وكذا يوم السبت على الراجح، وأخذوا يسألون عن قضاء هذا اليوم أو اليومين، هل يجب أو يستحب أو لا يجب ولا يستحب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 765 وهذه المسألة ترجع إلى قضية من أفطر في نهار رمضان، يظن أن الشمس قد غربت ثم تبين أنها لم تغرب، وقد وقعت هذه القضية على الصحابة – رضي الله عنهم – كما روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنى عبد الله بن شيبة، حدثنا أبو اسامة عن هشام بن عروة عن فاطمة عن اسماء بنت أبي بكر قالت: "أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غميم ثم طلعت الشمس، قيل لهشام: أفأمروا بالقضاء، قال: بد من قضاء، وقال معمر: سمعت هشاما قال: لا أدرى أقضوا أم لا". قال في فتح الباري: (اختلف عن عمر في ذلك فروى عنه ترك القضاء قائلا: لم نقض إنما لم نتجانف الإثم) وروى مالك عنه انه قال: الخطب يسير وقد اجتهدنا. وروى عبد الرزاق، عنه انه قال: نقض يوما، وروى سعيد بن منصور عنه: وفيه من أفطر منكم فليصم يوما مكانه، قال: وجاء ترك القضاء عن مجاهد والحسن، وبه قال إسحاق وأحمد في رواية واختاره ابن خزيمة، انتهى. وظاهر المذهب وجوب القضاء لكون الأصل بقاء النهار. وحكي في الافصاح اتفاق الأئمة على وجوب القضاء. ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عدم القضاء لدخوله في عموم قوله: عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان، وكما لو أكل ظانا أن الفجر لم يطلع فتبين انه طالع فلا قضاء عليه في ظاهر المذهب. وقد نص الفقهاء على انه لو وقف الناس بعرفة اليوم الثامن خطأ، فإن حجهم صحيح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحج يوم يحج الناس وهذا يوم حج الناس)) ، على حسب اجتهادهم، كما لو اجتهد إنسان فصلى ثم تبين انه صلى إلى غير جهة القبلة، فإن صلاته صحيحة ولا يعيدها، لكون المكلفين إنما خوطبوا بالظاهر الذي يسعهم العلم به، فإذا اجتهدوا فأخطأوا فلا حرج عليهم، أشبه بالقاضى إذا اجتهد وأخطأ فله أجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 766 موانع الرؤية للهلال بمقتضى سنة الله الجارية في خلقه إن الهلال من آيات الله في استهلاله وفي إبداره وفي استسراره، وقد جعل الله له علامات يعرف بها إمكان رؤيته وعلامات يعرف بها تعذر رؤيته، كما جعله تارة ثلاثين وتارة تسعا وعشرين، وقد قال بعض الصحابة: لما صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين أكثر ما صمنا ثلاثين، والرؤية الصادقة الصحيحة تصدق ذلك أو تكذبه، فهي أصح العلامات للعمل به، لحديث: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) ، وقال: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) . ومتى رؤي الهلال ابتدأ حكم به لأول ليلة، سواء كان صغيرا أو كبيرا وسواء كانت منزلته مرتفعة أو منخفضة، لأن الجلي الحقائق ما شوهد بالعيان. أما العلامات التي يعرف بها امتناع رؤيته وعدم صحة الشهادة به، فمن أهمها كونه يرى صباحا فيما بين الفجر وطلوع الشمس من جهة الشرق، ثم يدعي بعضهم رؤيته مساء من ذلك اليوم من جهة الغرب، فإن هذا من الممتنع المستحيل قطعا، بمقتضى الحس والتجربة، والعادة الجارية في سنة الله حتى ولو كان أقوى نظرا من زرقاء اليمامة، فلا تتفق رؤيته صباحا ثم رؤيته مساء من ذلك اليوم، فمن ادعاه فإنما خيل له ولم يره، فالشهادة بذلك تعتبر كاذبة، لأن من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 767 وقد أجرى الله العادة في خلق القمر أنه يظهر لأبصار الناس في ثمانية وعشرين يوما من الشهر لحلوله في ثمانية وعشرين منزلا، ثم يختفي عن أبصار الناس يومين أن كان تاما ثلاثين أو يوما واحدا أن كان ناقصا، أي تسعة وعشرين. فهذا الاختفاء والاستسرار في اليومين أو اليوم لا بد منه كما هو متفق عليه عند أهل العلم وأهل الحساب والجداول والمفسرين وعلماء اللغة وبعضهم قال بجواز اختفائه ثلاثة أيام. ويمسى هذا الاختفاء للهلال: السرار والاستسرار واجتماع النيرين والمحاق وغير ذلك من التسمية الجارية على ألسنة العرب، فمتى رأوه صباحا طالعا نيرا، عرفوا تمام المعرفة انه لن يهل مساء من ذلك اليوم أبدا، بمقتضى العادة التي أجراها الله فيه. وما يدعيه بعض أهل العلم من إخواننا في زماننا من القول بجوازه وعدم امتناعه كما سمعنا من بعضهم ويجادلون في إثباته فهو قول لم يستند إلى إثبات لا بطريقة المشاهدة ولا التجربة، ويترجح أن هذا القول إنما خرج منهم مخرج الظن والتخمين بدون علم ولا يقين وبدون مشاهدة ولا تجربة، وذلك لا يغني عن الحق شيئا. وكأنهم في نظرهم ومناظرتهم بنوا أمرهم على الشهادة المزيفة برؤية الهلال حيث يراه الناس صباحا، ثم يشهد بعضهم برؤيته مسا، فبنوا أمرهم ورأيهم على هذه الشهادة الكاذبة وجعلوها لهم بمثابة القاعدة وهي بلا شك من باب قياس الفاسد على الفاسد، وسنورد من الأدلة ما يوضح امتناع ذلك وعدم إمكانه بمقتضى سنة الله في خلقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 768 قال البغوي في تفسيره على قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} من سورة يونس. قال: أن منازل القمر ثمانية وعشرون منزلا وأسماءها: السرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرفة والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك الأعزل والغفر والزبانا والإكليل والقلب والشولة والنعايم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرغ المقدم والفرغ المؤخر والرشاء. قال: فينزل القمر كل ليلة منزلا منها ويستتر ليلتين أن كان الشهر ثلاثين أو ليلة واحدة أن كان تسعا وعشرين. وقال القرطبي في تفسيره على الآية وعلى قوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} . قال: أن الله سبحانه قدر للقمر منازل وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل القمر منها كل ليلة بمنزلة ويومان للنقصان والمحاق، ثم ساق عدد النجوم الثمانية والعشرين ينزل في كل ليلة منها ثم يستتر. وقال ابن كثير في سورة نوح: قدر الله للقمر منازل وبروجا وفات نوره، فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستتر ليدل على مضى الشهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 769 وقال الخطيب الشربيني، في تفسيره: أنوار التنزيل، قال: أن منازل القمر ثمانية وعشرون وأسماءها: السرطان والبطين.. الخ. قال: وهذه المنازل مقسومة على البروج هي اثنا عشر برجا لكل برج منزلان وثلث، فينزل القمر منها كل ليلة منزلا ثم يستتر ليلتين أن كان ثلاثين أو ليلة واحدة إن كان تسعا وعشرين. وقال في تفسير المنار على الآية المذكورة: قال: أن الله قدر للقمر في سيره في فلكه منازل ينزل كل ليلة في منزل منها لا يخطئه ولا يتخطاه وهي ثمانية وعشرون معروفة تسميها العرب بأسماء النجوم المحاذية لها وهي ثمانية وعشرون: السرطان والبطين وذكر بقية النجوم، ثم قال: فهذه المنازل الثمانية والعشرون هي التي يرى فيها القمر بالأبصار، ثم يبقى ليلتان أن كان الشهر ثلاثين أو ليلة واحدة أن كان تسعا وعشرين يحتجب فيها عن الأبصار فلا يرى أبدا. وقال شيخ الإسلام – ابن تيمية – رحمه الله: قال: أن القمر يجرى في منازله الثمانية والعشرين كما قدره الله منازل، ثم يقرب من الشمس فيستتر ليلة أو ليلتين لمحاذاته لها، فإذا خرج من تحتها جعل الله فيه النور، ثم يزداد نوره كلما بعد عنها إلى أن يقابلها ليلة الإبدار، ثم ينقص كلما قرب منها إلى أن يجامعها، ولهذا يقولون الاجتماع، وأهل الحساب يسمونه اجتماع القرصين الذي هو وقت الاستسرار، كما يعرف بذلك وقت الكسوف والخسوف، فإن الشمس لا تكسف في سنة الله إلا عند الاستسرار إذا وقع القمر بينها وبين ابصار الناس على محاذاة مضبوطة، كما أن القمر لا يخسف إلا في ليالي الإبدار لتحول الأرض بينه وبين الشمس، فمعرفة الكسوف والخسوف تدرك بالحساب الصحيح. قال: وأهل الحساب يرون بأنهم يعرفون طلوع الهلال بأنه عند غروب الشمس يكون قد فارقها بعشر درجات أو أقل أو اكثر أما كونه يرى أو لا يرى فهو امر حسي طبيعي يحققه وجوده ليس حسابيا، والأمر الشرعي في الصوم والفطر إنما يترتب على الرؤية المحققة لا على الحساب، انتهى (1) . وقال الراغب الأصبهاني في غريب القرآن، قال: والسرار هو اليوم الذي يستسر فيه القمر آخر الشهر وقال في نهاية ابن الاثير، قال الأزهري: يقال سرار الشهر وسرره وهو آخر ليلة استسر فيها الهلال بنور الشمس، وقال في مختار الصحاح: استسر القمر أي خفي ليلة السرار وربما كان ليلة وربما كان ليلتين. وقال في لسان العرب: استسر القمر إذا خفى ليلة السرار، وربما كان ليلة وربما كان ليلتين، قال الشاعر: نحن صبحنا عامرا في دارها عشية الهلال أو سرارها قال: وحكى عن الكسائي وغيره، انه قال: السرار آخر الشهر ليلة يستسر الهلال. وقال أبو عبيدة: ربما استسر ليلة وربما استسر ليلتين.. انتهى. وبهذا يتبين أن استسرار القمر آخر الشهر ليلة أو ليلتين انه من الأمر الثابت شبه المجمع عليه عند المحققين من سائر العلماء، وقد أجرى الله العادة به واستقر في نفوس الناس معرفته فمتى رآه الناس صباحا عرفوا تمام المعرفة انه لن يهل مساء أبدا ولا تنخرم هذه العادة التي هي بمثابة القاعدة، بدعوى الرؤية الكاذبة، وما كل ما يقال انه رؤي في بلد كذا أن يكون صحيحا واقعا لوقوع الفرق شرعا وعرفا بين الخبر واليقين، والله أعلم.   (1) من رسالة "بيان الهدى من الغلال في شأن الهلال" – ص:33 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 770 رؤية الهلال نهارا قبل الزوال وبعده وأما قول الفقهاء من الحنابلة وغيرهم: (وإن رؤى الهلال نهارا فهو لليلة المقبلة، سواء كان قبل الزوال أو بعده) ، قاله في الإقناع، ومختصر المقنع وغيرهما، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة. فهذا القول جرى من الفقهاء على سبيل الفرض والتقدير لكونهم يقدرون دائما ما لا يقع على فرض وقوعه، فهم يقدرون رؤيته نهارا لعارض يعرض في الجو، بحيث يقلل ضوء الشمس فيتمكن قوي النظر من رؤيته، وهو تقدير يبعد وقوعه جدا وإن رؤيته قبل الغروب مستحيلة وغير ممكنة ولو فرض وقوعها فإنه لا تأثير لها في حكم إثبات الصيام بها، وقد أنكر هذا التقدير بعض الفقهاء وعدوه من الأمر المستحيل، لعدم إمكن وقوعه لكون الهلال لا يرى برؤية صحيحة إلا بعد غروب الشمس وذهب شعاعها كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وحتى صاحب "كشاف القناع في شرح الإقناع" (1) ، استدرك على الفقهاء القول به، قائلا: إنه لا أثر لرؤية الهلال نهارا وإنما يعتد بالرؤية بعد الغروب، قال: ولعله مراد أصحابنا لظاهر الخبر السابق فعلم منه أن الرؤية قبل الغروب لا تأثير لها.. انتهى. والخبر السابق الذي أشار إليه هو ما رواه الأعمش عن أبي وائل شقيق ابن سلمة، قال: أتانا كتاب عمر ونحن بخانقين أن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى تمسوا أو يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس عشية، رواه الدارقطني، وهذا الأثر عن عمر دليل واضح على عدم الاعتبار برؤية الهلال في النهار، سواء كان قبل الزوال أو بعده، وأنه لا يعتد به على فرض وقوعه، وقد قال في بداية المجتهد: أن سبب اختلافهم في حكم رؤية الهلال بالنهار هو ترك اعتبار التجربة وليس في ذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم يرجع إليه، ويحكى عن القاضي قائلا: الذي يقتضيه القياس والتجربة أن القمر لا يرى والشمس بعد لم تغب لكون المعتمد في ذلك على التجربة كما قلنا ولا فرق في ذلك قبل الزوال ولا بعده، وإنما المعتبر في ذلك مغيب الشمس أول مغيبها.. انتهى.   (1) من أشهر كتب الحنابلة، لمؤلفه منصور بن يونس البهوتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 771 رفع النزاع الواقع في اختلاف المطالع إن مطالع الهلال متفقة ومتقاربة في البلدان العربية وسائر البلدان الذي يسكنها المسلمون، وذلك بمقتضى المشاهدة والتجربة وتناقل الأخبار من بين سائر الأقطار. وما ذكره الفقهاء من اختلاف المطالع فيما بين الشام والحجاز وفيما بين مصر والعراق، فيترجح بأن هذا التحديد جرى منهم على حسب الاجتهاد، يؤجرون عليه ولا يلزم التقيد به لكونه جرى منهم بدون تجربة ولا مشاهدة، فظنوا وقوع التفاوت في المطالع بين هذه البلدان فقالوا بموجبه على سبيل الفرض والتقدير لصعوبة المواصلات في زمنهم وتعذر الاتصالات من بعضهم مع بعض. أما في هذا الزمان، فإنه بمقتضى اختراع الآلات الناقلة للذوات والمقربة للأصوات، فقد صارت الدنيا كلها بأسرها كمدينة واحدة وكأن عواصمها بعدها غرف متجاورة يتخاطبون فيما بينهم شفهيا من بعيد كتخاطبهم من قريب، ويسأل بعضهم بعضا عن الهلال وقت طلوعه فيخبره بما يوافق في بلده فعلموا بذلك عدم التفاوت في المطالع بين سائر البلدان العربية، لكونها من الأمور الحسية التى تدرك بالمشاهدة والتجربة، فضعف القول باختلاف المطالع في هذا بعد وقوفهم على عدم صحته. يحققه أن بعض الأقطار المتباعدة، مثل: بلدان سلطنة عمان وفارس وباكستان والهند، بما فيه من المسلمين أنهم إنما رأوا هلال شوال من هذه السنة ليلة الأحد وصار عيدهم بالأحد، وعندنا لم يره الناس رؤية صحيحة ثابتة إلا ليلة الأحد ليلة رآه أهل الهند وباكستان، ولا عبرة بما قيل من رؤيته قبلها بناء على الأوامر الصادرة عليهم بالفطر، فإننا إنما نتكلم على الرؤية الثابتة المعترف بصحتها وإن رؤيتنا لهلال شوال توافق رؤية فارس والهند وباكستان على حد سواء، غير أنه قد يختلج في نفوس بعض الناس شيء من الشك في ذلك، حينما يرى ويسمع أن الشمس تغرب في بعض البلدان في الوقت الذي تغرب فيه في البلدان الأخرى، كما أنها تغرب في الشام والعراق قبل غروبها في الحجاز، وتغرب في باكستان والهند قبل غروبها في نجد والحجاز بعدد ساعات فيظنون أن اختلافها في مشارقها ومغاربها انه مما يتغير به مطلع الهلال تبعا لها، وهذه هي الشبهة التي جعلت الفقهاء المتقدمين يقولون باختلاف المطالع وفات عليهم بأن الله سبحانه خلق القمر ميقاتا لجميع الناس عربهم عجمهم في صومهم وحجهم، فهو آية من آيات الله في استهلاله وإبداره واستسراره، ومسخر من الله لمصالح عباده، فهو يساير الشمس حسبما يراه الناظرون والا فإن فلكه غير فلكها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 772 وعند اقتراب انقضاء الشهر، فإنه يقرب منها كالملازم لها أحيانا، يطلع صباحا من جهة الشرق قبلها فيغيب قبلها فلا يراه احد في أي بلد وأحيانا ينحسر عنها ويتخلف عنها، فتطلع قبله وتغيب قبله، فمتى بعد عن شعاعها على قدر ما يتمكن من رؤيته الناظرون فإنهم حينئذ يرونه في كل بلد، كما أنه لا يتغير طلوعه في حال قصر الليل ولا طوله، لأن الله سبحانه نصب الهلال ميقاتا لجميع الناس وما كان كذلك فإنه لن يختلف بحال ولا يتغير في محل دون محل، وهذا معني قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون)) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه. وعن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس)) . رواه الترمذي. والخطاب في هذا لجماعة الناس، فليس منشأ الخلاف بين الناس من مطلع الهلال، وإنما يعود إلى التثبت في الرؤية وعدمها لوقوع الاختلاف من الرائي لا المرئي، فإن الرؤية تختلف باختلاف صفاء الجو وكدره وقوة النظر وضعفه، والاستعداد لمراقبته وقت التحري له من جهة مطلعه وعدم الاستعداد لذلك، ثم التثبت لصحة الرؤية وعدم التثبت فيها، وبهذه الأسباب تختلف الأحوال في المحلات في الحكم برؤية الهلال، وهذا الاختلاف يقع من قديم الزمان بين البلدان المتجاورة كما يقع بين البلدان المتباعدة، وسببه معقول كما ذكرنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 773 ثم أن القول باختلاف المطالع من لوازمه أن شهر رمضان الذي افترض الله على عباده صيامه بكماله انه ينتقل من بلد إلى بلد فيكون أول رمضان في إحدى الأقطار بالجمعة وفي القطر الثاني بالسبت وفي القطر الآخر بالأحد، وهذا لا يكون أبدا حتى ولو قدر وقوعه فعلا بناء على التثبت في الرؤية وعدم التثبت فيها ووقع الغيم في جهة والصحو في الجهة الأخرى، وغير ذلك من الأعذار المقتضية لاختلاف الناس في الدخول في الصيام والخروج منه، لكن الأمر الصحيح أن رمضان الذي افترض الله صومه على عباده هو معلوم العدد والحد تارة تسعا وعشرين وتارة ثلاثين ومعلومة حدوده في دخوله وخروجه، لا ينتقل أبدا، أما كون الناس يختلفون في التثبت في رؤيته وعدم التثبت، فإن هذا امر واقع ولا يغير شيئا من صفاته التى رتبها الله عليه في قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} . فكما أنه لا يتغير من بلد إلى بلد في حالة مطلعه واستهلاله، فكذلك لا يتغير في كل قطر عن حالة إبداره فكل الدنيا تتفق على حالة الإبدار التي يعرفون بها هيجان البحر واضطرابه وانتفاخه في سائر الأقطار وذلك يوم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، وقد زعموا أن هذا الاضطراب وهيجان البحر أنه من تأثره بالقمر، والله أعلم، ومما يؤكد هذا، أن الصحابة – رضي الله عنهم – لما اتسعت فتوحهم الإسلامية وامتد سلطانهم على الأقطار الأجنبية، وكانوا هم الملوك والأمراء في مشارق الأرض ومغاربها وفي ممالك كسرى وقيصر وغيرها، فكانوا يتراسلون ويتساءلون عما يلزم من الأحكام وأمور الصيام وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يأمر أمراءه وعماله بأن يلقوه بموسم الحج بمكة كل عام فيسأل كل واحد منهم عن ولاية عمله وشئون بلده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 774 ومع هذا كله، فلم يثبت عنهم ولا عن احد منهم الخوض في اختلاف مطالع الهلال، إذ لو كان له أصل لأكثروا فيه الكلام وبينوا للناس ما يترتب عليه من أحكام الصيام، كما أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضوعه حديث واحد لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف، غير أن الفقهاء أخذوا القول به من مفهوم حديث ابن عباس مع كريب، لما قدم عليه من الشام وقال له: متى رأيتم الهلال؟ قال: رأيناه يوم الجمعة، قال: أنت رأيته؟ قال: نعم، رأيته وصام أمير المؤمنين وصام الناس معه، فقال ابن عباس: أما نحن فلم نر الهلال إلا ليلة السبت ونصوم حتى نراه أو نكمل عدة رمضان ثلاثين يوما فقال كريب: (ألا نكتفي برؤية أمير المؤمنين، فقال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يشير إلى حديث ((صوموا لرؤية وأفطروا لرؤيته)) وحديث: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين)) ، وهذا الرأى وهذا العمل وقع من ابن عباس – رضي الله عنه – موقع الاجتهاد وهو عين الصواب، يريد أن لا يخرج من الصوم إلا بيقين الفطر من الرؤية أو إكمال العدة، ولم يقل ابن عباس في حديثه مع كريب، بأن مطلع الهلال بالشام غير مطلعه بالحجاز، وإنما أخذوه على حسب الظن منهم فيه، فقالوا بموجبه، ثم أخذ بعضهم ينقل عن بعض القول به حتى اشتهر وانتشر ولعل ابن عباس لم يكن هذا مراده، وإنما أراد الأخذ بالحزم وأن يفطر على يقين من الرؤية أو إكمال العدة. ومن المعلوم أن الفقهاء قد نصوا على انه لو رأى أحد هلال شوال بطريق اليقين فردت شهادته أو لم يشهد بذلك، وقد صام الناس من أجل أنهم لم يروا الهلال، فإنه يجب عليه أن يصوم مع الناس ولا يفطر في الراجح من الأقوال، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وفاقا للحنابلة، بل قد نصوا أيضا على أنهم لو صاموا رمضان بشهادة واحد ثلاثين يوما فلم يروا الهلال، فإنه يجب بأن لا يفطروا حتى يروه حتى ولو صاموا إحدى وثلاثين يوما. ذكره في الإقناع ومختصر المقنع وغيرهما، وهذا القول ينطبق على فعل ابن عباس – رضي الله عنه -. ثم أن الكثيرين من شراح حديث ابن عباس مع كريب، قالوا: إنما رد ابن عباس شهادة كريب ولم يعمل بها، من أجل انه شاهد واحد والمفروض شاهدان، استحياطا لحفاظ هذه الفريضة، إذ ما كل ما يقال إنه رؤى في بلد كذا أن يكون صحيحا ثابتا ولا كون الرائي عدلا صادقا اللهم إلا أن يقال بثبوت وقوع التفاوت في المطالع بطريق اليقين بين الأقطار الأجنبية الواسعة والأقاليم الشاسعة، وأن مطلع الهلال فيها غير مطلعة في الجزيرة العربية وما جاورها، فعند ثباته يتعلق حكم كل قطر وكل إقليم برؤيته بنفسه والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 775 اجتماع أهل الإسلام على عيد واحد كل عام إن كل اجتماع يعقده الزعماء والرؤساء وسائر المنتدبين لعلاج الأوضاع وإصلاح الأحوال والأعمال، فإن مبدأ حديثهم يتناول البحث عن اختلاف المسلمين في الأعياد، حيث يكون عيد بعضهم اليوم وبعضهم بعد يومين، والكل مسلمون على دين واحد، فهم يرون أن في هذا الاختلاف نوع مغمز لأعداء الإسلام، حيث يظنون أن المسلمين متفرقين في أصل الدين والعقيدة، وأنهم لن يتفقوا أبدا، فالزعماء أعطوا هذا البحث نوعا من الاهتمام يحبون اجتماع المسلمين على عيد واحد في يوم واحد، كما أنهم على دين واحد يأمر بالاجتماع والاتفاق وينهى عن الاختلاف والافتراق {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: ((استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) . وأن هذه البغية المنشودة والرغبة المطلوبة لمن العمل السهل الميسر متى أخذوا بعزائم أسبابها ودخلوا عليها من بابها، كيف وقد نصب الله لها صوى ومنارا يعرفهم طريقها ويسلك بهم سبيل تحقيقها. ونحن نعيش في ضمن دولة إسلامية دينية، هدفها الحق والسير برعاياها على سبيل العدل، فهي تحيل النظر في أحكام الأهلة إلى المحاكم الشرعية، لتصحيح الشهادة وتمحيص العدالة، ثم إبلاغ الناس بما يلزم من ذلك. وأن الرأى السديد والأمر المفيد لجمع الناس على الصيام والعيد القريب منهم والبعيد، هو في امتثال المأمور واتباع المأثور الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 776 وفي قوله: ((إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا، تارة تسعا وعشرين وتارة ثلاثين، فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له)) متفق عليه، ولمسلم: فاقدروا له ثلاثين. فالخطاب في هذا كله لعامة المسلمين الذين خلق الله لهم الأهلة ليهتدوا بها لميقات صومهم وحجهم، لأن من مقاصد الشارع اتفاق الأمة في عباداتها وأعيادها ما أمكن الاتفاق. وغرض الشارع الحكيم من هذا كله هو شهرة العلم بهذه الأوقات لقصد التعبد فيها بوظائفها المفروضة على الناس. وأن الأحكام المتعلقة بالصيام وعيد الإسلام منوطة برؤية الهلال رؤية صحيحة ثابتة، بحيث يراه عدد من العدول المعروفين بالثقة والعدالة، إذ الهلال امر مشهور مشهود به مرئي بالأبصار ومن أصح المعلومات ما شوهد بالعيان، إذ ليس الخبر كالعيان. والحكمة في ذلك جعل العبادة في ابتدائها وانتهائها مما يتيسر العلم بوقته لكل احد من بادية وحاضرة، وعالم وجاهل وكاتب وأمي ورجل وامرأة، فلم يجعل عبادة أحد متعلقة بإرادة الآخر، لأن الله سبحانه العظيم شأنه، علم ما كان يتلاعب به علماء الأديان ورؤساء الأمم السابقة، من تصرفهم في العبادات الشرعية، حيث أسقطوا عن أممهم فرض الصيام الواجب عليهم تدريجيا، وكانوا يحلون لهم ويحرمون بدون إذن من الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، فجعل عبادة هذه الأمة متعلقة بالمشاهدة والظهور والأمر الجلي، سواء في ذلك فرائض الصلوات والصيام والحج، يقول الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} . فمعرفة وقت الصيام في دخوله وخروجه، يعرف برؤية الهلال جليا واضحا، بحيث يستوى في العلم به والتكليف بواجبه جميع الناس أو بإكمال العدة عند حصول ما يمنع الرؤية ومتى رؤى ابتداء فإنه يحكم لأول ليلة، سواء كان صغيرا أو كبيرا وسواء كانت منزلته عالية أو منخفضة، فلو جرى المسلمون على عملية التوثق واليقين في دخوله وخروجه، بحيث لا يصومون ولا يفطرون حتى يراه عدد من العدول الثقات لسلموا من هذه التشكيكات والاختلافات في الصوم والعيد الناشئة عن الشهادات غير الثابتة في الرؤية والتساهل في الحكم بصحتها والعمل بها. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 777 ترائي الهلال مستحب إنه يستحب الترائي للهلال وقت التحرى لطلوعه للتحفظ على الوظائف المفترضة فيه حتى لا يزاد فيها ولا ينقص منها. لقد قلنا سابقا ولاحقا: أن منشأ الاختلاف بين المسلمين في الصوم وفي العيد يعود إلى أمر واحد، وهو التثبت في دعوى الرؤية وعدم التثبت فيها، لأنه متى كان بعض المسلمين يبنون أمرهم في صومهم وفطرهم على الرؤية المحققة المستفيضة الثابتة بشهادة عدد من العدول الثقات على صحتها فيصومون برؤيتهم ويفطرون برؤيتهم على يقين من أمرهم وحزم في أمر دينهم، كما عليه العمل في سائر البلدان التي ينتحل أهلها العمل بمذهب الأحناف وهم أسعد بالصواب في هذه القضية، سيما عند فساد الناس في هذا الزمان وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – حيث يقول: إنما سمى الهلال هلالا لارتفاع الأصوات برؤيته وكما سمي شهرا لشهرته فلا يكفي عنده ولا عند الأحناف شهادة الواحد والاثنين على رؤيته في حالة الصحو من بين مجموع سائر الناس، لكون الرؤية الصحيحة الثابتة حسية تدرك بالأبصار ويشترك في العلم بها غالب أهل الأمصار، إذا لم يكن ثم ما يمنع الرؤية من غيم وغيره، لانها متى كانت الابصار متساوية والموانع منتفية، فإنه حينئذ يمتنع اختصاص الواحد والاثنين بالرؤية دون سائر الناس، فلا بد أن تنتشر وتشتهر الرؤية الصحيحة، بحيث يراه من كل بلد واحد أو اثنان. وهذا القول بما أن له قوة في النظر، فإن له حظا كبيرا من الأثر، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) ، وقال: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له)) ، وكلها أحاديث صحيحة ثابتة، فمتى لم يره المسلمون وإنما أخبرهم به مخبر عن طريق الإذاعة برؤية فرد معلوم أو مجهول في بلد كذا ولم يثبت لدى احد من القضاة الشرعيين عدالة هذا الشاهد ولا ثقته، وهل هو شاهد واحد أو اثنان، فإنه حينئذ لا يقال: أن المسلمين قد رأوه وهم لم يروه، وإنما أخبروا به وليس الخبر كاليقين. فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن الاختلاف بين المسلمين في الصوم وفي العيد لا يزال واقعا ومستمرا دائما لاختلاف الأفهام في تطبيق النظام على العمل بصحيح الأحكام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 778 عملية التمهيد لجمع الناس على الصيام والعيد إنه ينبغي لنا أن نعمل فيما يعود بالصلاح على أمتنا وأهل ملتنا، من كل ما يقضي بتخفيف هذا الاختلاف والافتراق، ويستدعي الاجتماع والاتفاق بأمر يقتضيه الحزم وفعل أولي العزم ولا ينافيه الشرع، وإن الرأي السديد والأمر المفيد لجمع الناس على الصيام والعيد القريب منهم والبعيد، هو في اتباع المأمور الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) ، وفي قوله: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين)) ، وكلها أحاديث صحيحة، وبما أن أهل المدن والعواصم لا يحتفلون برؤية الهلال غالبا ولا يتفرغون للترائي ويمنعهم عدم صفاء الجو من كثرة الغبار والدخان وارتفاع البنيان، فهم يتكلون على غيرهم في استهلال الشهر وقت التحري لطلوعه، فمتى كان الأمر بهذه الصفة وأن الغفلة تغلب على اكثر الناس وإنما يراقبون خبره عن طريق الإذاعة فقط لا عن طريق الرؤية، لهذا فإن من الحزم وفعل أولي العزم تعيين "لجنة استهلالية" تشتهر بهذا الاسم أو باسم "لجنة مراصد الأهلة" أو غير ذلك من الأسماء اللائقة بعملها وتكون هذه اللجنة من العدول الثقات المعروفين بالدين والعقل وقوة النظر ولا يقلون عن عشرين شخصا، يتفرقون في الجهات كل فرقة منهم قدر خمسة أشخاص ليقوي بعضهم بعضا بالنظر، وإنما قلنا بتفريقهم في الجهات خشية أن يخيم الغيم على جهة فيتحصلون على الصحو في الجهة الأخرى فيتم المقصود بذلك، فهؤلاء يرصدون الهلال وقت التحري لطلوعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 779 ويكون مقرهم بمكة المكرمة مكان خيرة الله لبيته الذي جعله مثابة للناس وأمنا والذي هو أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله - عز وجل – فهذا هو مقرهم، وأما تنظيم أمرهم وإصدار القارارات الصادرة منهم في إبلاغ إثبات الأهلة وغيرها فيكون عند "الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي" بمكة المكرمة فهي التي تتولى تنظيم أمرهم، فهذه اللجنة الاستهلالية يصرفون جهدهم في مراصدة الهلال وقت التحري لطلوعه، فإذا رأوه حكم بصحة رؤيتهم وصام الناس وأفطروا على يقين من أمرهم وحزم في أمر دينهم. ويمكن للأئمة المسلمين وقضاتهم بأن يصدروا حكما للعمل برؤيتههم فيصير حجة على الجمهور من سائر الأقطار الإسلامية التي تتفق مطالعها وإن لم يروه ترجح عدم استهلاله فلا يتلفتوا إلى أي خبر يأتيهم من أي بلد لرجحان عدم ثباته اللهم إلا أن يثبت ثبوتا شرعيا قطعيا بشهادة عدد من العدول الذي لا يمكن اتفاقهم على الكذب، كما روى أهل المدينة عن مالك أن الرؤية لا تلزم بالخبر عند غير أهل البلد الذي وقعت فيهم الرؤية إلا أن يكون الإمام يحمل الناس على ذلك ذكره في بداية المجتهد. وهذا العمل بهذه الصفة هو مما يزيد المسلمين ثقة ويقينا واطمئنانا ولو عمل المسلمون عملهم في التوثق واليقين في دخول الشهر وخروجه بصفة ما ذكرنا لنجحوا في مهمة الاتفاق من جميع الآفاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 780 وأما إذا خيم الغيم على هلال شعبان وأشكل الأمر على الناس فظاهر مذهب الحنابلة في ذلك معروف، وهو أنهم يحسبون تسعا وعشرين من شعبان ثم يصومون اليوم الثلاثين، حكما ظنيا احتياطا انه من رمضان، ويستدلون على ذلك بحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له)) وفسر ابن عمر فاقدروا له بالتضييق عليه، أي جعله تسعة وعشرين يوما، وقد خالف في ذلك من خالف من علماء الحنابلة، إذ ليس القول بهذا، متفق عليه عندهم. أما الجمهور، فإنه عند الغيم يكملون عدة ثلاثين يوما، سواء كان الغيم في هلال شعبان أو في هلال رمضان، وكذا لو غم الذي قبله فإنهم يعملون بإكمال العدة ثلاثين من كل شهر وهذا هو الظاهر من مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة)) لمسلم (( ... فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما)) . وكان السبب اختلافهم هو الإجمال في قوله: "فاقدروا له"، حيث فسره من فسره بالتضييق عليه، أي جعله تسعة وعشرين، كما هو رأى ابن عمر – رضى الله عنه – وذهب الجمهور إلى أن معناه إكمال العدة ثلاثين، واستدلوا له بالأحاديث المفسرة له بإكمال العدة ثلاثين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 781 أما تفسيره بالتضيق عليه، فإن فيه بعدا في اللفظ والمعنى ولم يثبت رفعه إلى الرسول بهذا اللفظ، ويكفى في رده الروايات المصرحة بإكمال العدة ثلاثين فقد ثبت رفعها وهي مفسرة لقوله: "فاقدروا له"، فوجب أن يحمل المجمل على المفسر وهي طريقة معروفة عند الأصوليين لا خلاف في جواز استعمالها، إذ ليس عندهم بين المجمل والمفسر تعارض أصلا، والمفسر مقدم على المجمل. وعن الإمام احمد رواية أخرى أن الناس في هذه القضية تبع للإمام أن صام صاموا وإن أفطر أفطروا، لحديث ((الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون)) رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال حسن غريب، لكون القضية، موضع اجتهاد وللإمام مجال في الاجتهاد فيها. أما المسلمون المقيمون أو الساكنون في لندن وأمريكا وفرنسا والروس وسائر بلدان أوروبا التي تغمرها الغيوم المتواصلة دائما، بحيث لا يرون فيها الشمس إلا نادرا، فضلا عن الهلال فإن هؤلاء يكونون تبعا للجنة الاستهلالية وللبلدان العربية في الصوم والفطر كسائر جماعة المسلمين، إذ هذا هو غاية جهدهم في معرفة وقت صومهم وفطرهم لحديث: ((الصوم يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحى الناس)) والناس هم جماعة المسلمين. وفي الختام، فإن هذا هو نهاية ما حضرني من الكلام في إيراد النصوص والأحكام المتعلقة بشأن الهلال وشهر الصيام وعيد الإسلام، وهو جواب عن رسالة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي – عليهم السلام – كما أنها هدية دينية للخاص والعام، وأني أرجو أن تقع بموقع القبول والرضى من علماء المسلمين الذين لهم لسان صدق في العالمين، وقدم راسخ في الفقه في الدين وقلم خالص في النصح لله وعباده المؤمنين، ولاأقول ببرائتي فيها من الخطأ والتقصير،غير أنني لدى الحق أسير، إذ ليس كل قائل خبير، ولا كل ناقد بصير، سوى الله الذي لا معقب لحكمه، نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على محمد البشير النذير، وعلى آله وصحبه أجمعين. جرى تحريره في اليوم الثامن والعشرين من شهر ذى القعدة، عام ثلاث وتسعين بعد الثلاثمائة وألف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 782 قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة القرار الأول بشأن العمل بالرؤية في إثبات الأهلة لا بالحساب الفلكي الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد اطلع في دورته الرابعة المنعقدة بمقر الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في الفترة ما بين السابع والسابع عشر من شهر ربيع الآخر سنة 1401 هـ على صورة خطاب الدعوة الإسلامية في سنغافورة المؤرخ في 16 شوال 1399هـ. الموافق 8 أغسطس 1979م الموجه لسعادة القائم بأعمال سفارة المملكة العربية السعودية هناك والذي يتضمن انه حصل خلاف بين هذه الجمعية وبين المجلس الإسلامي في سنغافورة في بداية شهر رمضان ونهايته سنة 1399هـ الموافق 1979م حيث رأت الجمعية ابتداء شهر رمضان وانتهاءه على أساس الرؤية الشرعية وفقا لعموم الأدلة الشرعية بينما رأى المجلس الإسلامي في سنغافورة ابتداء ونهاية رمضان المذكور بالحساب الفلكي معللا ذلك بقوله (بالنسبة لدول منطقة آسيا حيث كانت سماؤها محجبة بالغمام وعلى وجه الخصوص سنغافورة فالأماكن لرؤية الهلال أكثرها محجوبة عن الرؤية وهذا يعتبر من المعذورات التي لا بد منها لذا يجب التقدير عن طريق الحساب) . وبعد أن قام أعضاء مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بدراسة وافية لهذا الموضوع على ضوء النصوص الشرعية قرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي تأييده لجمعية الدعوة الإسلامية فيما ذهبت إليه لوضوح الأدلة الشرعية في ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 783 كما قرر أنه بالنسبة لهذا الوضع الذي يوجد في أماكن مثل سنغافورة وبعض مناطق آسيا وغيرها، حيث تكون سماؤها محجوبة بما يمنع الرؤية فإن للمسلمين في تلك المناطق وما شابهها أن يأخذوا بمن يثقون به من البلاد الإسلامية التي تعتمد على الرؤية البصرية للهلال دون الحساب بأي شكل من الأشكال عملا بقوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة)) وما جاء في معناها من الأحاديث. [توقيع] [توقيع] [توقيع] نائب الرئيس رئيس مجلس المجمع الفقهي صالح بن عثيمين محمد علي الحركان عبد الله بن حميد [توقيع] [توقيع] [توقيع] عبد العزيز بن عبد الله بن باز محمد محمود الصواف محمد بن عبد الله بن السبيل [توقيع] [توقيع] مبروك العوادى محمد الشاذلى النيفر [توقيع] عبد القدوس الهاشمى [توقيع] [غائب عن التوقيع] [توقيع] محمد رشيد أبو الحسن علي الحسني الندوى أبو بكر محمود جومى [توقيع] [توقيع] [توقيع] حسنين محمد مخلوف محمد رشيد قباني محمود شيت خطاب [توقيع] [توقيع] مصطفى الزرقاء محمد سالم عدود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 784 القرار السادس حول رسالة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود الموجهة إلى العلماء والحكام والقضاة في شأن رؤية الهلال الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. أما بعد: فقد اطلع مجلس المجمع الفقهي الإسلامي على الرسالة الموجهة إلى العلماء والحكام والقضاة في شأن رؤية الهلال والتي كتبها رئيس المحاكم بدولة قطر الشيخ عبد الله بن زيد ابن محمود، وبعد الاطلاع عليها تبين أنها قد اشتملت على أغلاط عظيمة وأخطاء واضحة: أولا: قوله أن عيد الفطر من هذه السنة – يعني سنة 1400 هـ - قد وقع في غير موقعه الصحيح بناء على الشهادة الكاذبة برؤية الهلال ليلة الاثنين حيث لم يره احد من الناس الرؤية الصحيحة لا في ليلة الاثنين ولا في ليلة الثلاثاء ... الخ. فهذا الكلام الذي قاله مؤلف الرسالة تخرصا منه جانب فيه الصواب وخالف فيه الحق وكيف يحكم على جميع الناس أنهم لم يروه وهو لو يحط علما بذلك والقاعدة الشرعية أن من علم حجة على من لم يعلم ومن أثبت شيئا حجة على من نفاه، وكيف وقد ثبتت رؤيته ليلة الاثنين بشهادة الثقات المعدلين والمثبتة شهاداتهم لدى القضاة المعتمدين في بلدان مختلفة في المملكة وغيرها وبذلك يعلم أن دخول شوال عام 1400 هـ. ثبت ثبوتا شرعيا ليلة الاثنين مبنيا على أساس تعاليم الشرع المطهر المبلغ عن سيد البشر، فقد روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بالصيام، قال الحافظ في التلخيص وأخرجه الدارمي والدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه ابن حزم وروى أهل السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن اعرابيا قال يا رسول الله إني رأيت الهلال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم. قال: فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا)) ، وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي وروى الإمام احمد والنسائي عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم وأنهم حدثوني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا)) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 785 وعن الحارث بن حاطب الحججي أمير مكة قال: "عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم نر وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهاداتهما" رواه أبو داود والدارقطني وقال إسناده متصل صحيح، وعن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال: "غم علينا هلال شوال فاصبحنا صياما فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوه بالأمس فأمر الناس أن يفطروا من يومهم وأن يخرجوا لعيدهم من الغد" رواه الإمام احمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة، قال الحافظ في التلخيص صححه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم، وعن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اختلف الناس في آخر يوم من شهر رمضان فقدم إعرابيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالله أنهما أهلا الهلال أمس عشية فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا)) . رواه احمد وأبو داود وزاد أبو داود في رواية وأن يفدوا إلى مصلاهم، وهذه الأحاديث تدل على وجوب الأخذ بشهادة الشهود الثقات والاعتماد عليها وأنه يكفى الشاهدان العدلان في الصوم والافطار ويكفى العدل الواحد في إثبات دخول شهر رمضان كما دل على ذلك حديث ابن عمرو وحديث ابن عباس رضي الله عنهما كما تدل على انه لا يلزم من ذلك أن يراه الناس كلهم أو يراه الجم منهم كما تدل أيضا على انه ليس من شرط صحة شهادة الشاهدين العدلين أو شهادة العدل الواحد في الدخول أن يراه الناس في الليلة الثانية لأن منازله تختلف وهكذا أبصار الناس ليست على حد سواء ولأنه قد يوجد في الأفق ما يمنع الرؤية في الليلة الثانية ولو كانت رؤيته في الليلة الثانية شرطا في صحة الشهادة لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه المبلغ عن الله والموضح لأحكامه عليه الصلاة والسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 786 وحكى الترمذي اجماع العلماء على قبول شهادة العدلين في إثبات الرؤية وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى ج 25 ص 186 بعد ما ذكر اختلاف أبصار الناس في الرؤية وأسباب ذلك ما نصه: لأنه لو رآه اثنان علق الشارع الحكم بهما بالاجماع وإن كان الجمهور لم يروه. اهـ. ولعل مراده بحكاية الاجماع وقت الغيم لأن خلاف أبي حنيفة رحمه الله في عدم إثبات دخول الشهر في وقت الصحو بأقل من الاستفاضة أمر معلوم لا يخفى على مثله رحمه الله وهذا كله إذا لم يحكم بذلك فإنه يرتفع الخلاف ويلزم العمل بالشهادة المذكورة اجماعا كما ذكر في ذلك العلامة أبو زكريا يحيى النووي في شرح المهذب ج/6 ص313 بعدما ذكر أسباب اختلاف ابصار الناس في الرؤية وهذا نص كلامه: ولهذا لو شهد برؤيته اثنان أو واحد وحكم به حاكم لم ينقض بالإجماع ووجب الصوم بالإجماع ولو كان مستحيلا لم ينفذ حكمه ووجب نقضه، ثم قال ابن محمود بعد كلام سبق ما نصه يا معشر العلماء الكرام ويا معشر قضاة شرع الإسلام لقد وقعنا في صومنا وفطرنا في الخطأ المنكر كل عام. اهـ. ولا يخفى ما في هذا الكلام من الخطأ العظيم والجرأة على القول بخلاف الحق فأين له تكرر الخطأ في كل عام في الصوم والإفطار والقضاة يحكمون في ذلك بما دلت عليه الأحاديث الصحيحة واجمع عيه أهل العلم كما سبق بيانه. ثم قال ابن محمود بعد كلام سبق فمتي طلع يعني الهلال قبل طلوع الشمس من جهة المشرق فإنه يغيب قبلها فلا يراه احد أو طلع مع الشمس فإنه يغيب معها ولا يراه احد لشدة ضوء الشمس، اهـ. وهذا خطأ بين فقد ثبت بشهادة العدول انه قد يرى قبل الشمس في صبيحة يوم التاسع والعشرين من المشرق ثم يرى بعد غروبهما من المغرب ذلك اليوم لأن سير القمر غير سير الشمس فكل واحد يسبح في فلكه الخاص به كما يشاء الله عز وجل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 787 وأما الآية التي استدل بها على ما ذكره من عدم امكان رؤيته بعد الغروب إذا كان قد رؤي صباح ذلك اليوم قبل طلوع الشمس وهي قوله تعالى في سورة يس: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} فلا حجة له في ذلك لأن علماء التفسير أوضحوا معنى الإدراك المذكور وأنه لا سلطان للشمس في وقت سلطان القمر ولا سلطان للقمر في وقت سلطان الشمس. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه: قال مجاهد لكل منهما حد لا يعدوه ولا يقصر دونه إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا، وإذا ذهب سلطان هذا جاء هذا إلى أن قال: وقال الثوري عن إسماعيل بن خالد عن أبي صالح لا يدرك هذا ضوء هذا ولا هذا ضوء هذا وقال عكرمة في قوله عز وجل {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} يعني أن لكل منهما سلطانا فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل. اهـ. ثم قال ابن محمود بعد ما ذكر كلام فقاء الأحناف في اشتراط الاستفاضة في الرؤية وقت الصحو وأنه لا يكتفى في رؤيته بشخص أو شخصين دون بقية الناس لاحتمال التوهم منهما إلى أن قال: وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسائله المتعلقة بالهلال فقال: إنه يعتد برؤية الواحد والاثنين للهلال والناس لم يروه لاحتمال التوهم منهما في الرؤية ولو كانت الرؤية صحيحة لرآه اكثر الناس. اهـ. وهذا الكلام الذي نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن عدم الاكتفاء بشهادة الواحد والاثنين بالهلال إذا لم يره غيرهم لا أساس له من الصحة وقد سبق كلامه رحمه الله الذي نقله عنه العارفون بكلامه وهو الموجود في الفتاوى ج25 ص186 ونقل الأجماع عن تعلق حكم الشرع بشهادة الاثنين وفيه نقل الاجماع على تعلق حكم الشرع بشهادة الاثنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 788 ثم قال: (تراءى الناس هلال رمضان فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بصيامه) رواه أبو داود وصححه الحاكم وابن حبان، ومثله حديث ابن عباس: ((أن اعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال قال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا)) . رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان وصحح النسائي ارساله فالجواب انه ليس في الحديثين ما يدل على حصر الرؤية على هذين الشخصين إذ من المحتمل أن يكونا أول من رأيا الهلال ثم رآه غيرهما، اهـ. المقصود. ولا يخفى بطلان هذا الجواب وتعسفه لعدم الدليل عليه والأصل عدم وجود غيرهما إذ لو شهد غيرهما لنقل فلما لم ينقل ذلك علم عدم وقوعه لهذا احتج العلماء بهذين الحديثين على قبول شهادة الواحد في دخول شهر رمضان ووجوب العمل بها وهو اصح قولي العلماء كما تقدم بيان ذلك وقد تقدم أيضا انه متى حكم بها حاكم شرعي وجب العمل بها اجماعا كما سبق نقل ذلك عن النووي رحمه الله في شرح المهذب فنعوذ بالله من القول عليهم بغير علم. ثم قال ابن محمود في ختام رسالته ما نصه: ولقد تقدم منى القول برسالتي لاجتماع أهل الإسلام على عيد واحد كل عام فدعوت فيها الحكومة حرسها الله إلى تعيين لجنة عدلية استهلالية من العدول الذين لهم حظ من قوة البصر فيراقبون الهلال وقت التحرى بطلوعه لخاصة شعبان وحتى إذا حصل غيم أو قتر حسبوا له ثلاثين ثم صاموا رمضان ثم يراقبون عند مستهل ذى الحجة لمعرفة ميقات الحج وهذه اللجنة لا ينبغي أن تقل عن عشرة أشخاص من العدول الثقات ولهم رئيس يرجعون إليه في لم شملهم اهـ. المقصود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 789 ولا يخفى ما في هذا الكلام من التكلف والتشريع الجديد الذي لم ينزل الله به من سلطان بل هو اقتراح في غاية الفساد لا يجوز التعويل عليه والالتفات إليه لأن الله سبحانه قد يسر وسهل وأجاز الحكم بشهادة عدلين اثنين في جميع الشهور وعدل واحد في شهر رمضان فلا يجوز لأحد أن يحدث في شرع الله ما لم يأذن به سبحانه هو ولم تأت به سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله عز وجل {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} الآية من سورة الشورى. وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها. وفي رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) . وهذا ما أردنا التنبيه عليه من الأخطاء الكثيرة التي وقعت في رسالة الشيخ عبد لله بن محمود ونسأل الله أن يهدينا وإياه سواء السبيل وأن يعيذنا وإياه وسائر المسلمين من القول على الله وعلى رسوله بغير علم ومن الإحداث في دين الله ما لم يأذن به الله. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلي يوم الدين. [توقيع] [توقيع] محمد علي الحركان عبد الله بن حميد [توقيع] [توقيع] [توقيع] عبد العزيز بن باز مصطفى الزرقاء محمد محمود الصواف [توقيع] [توقيع] [توقيع] صالح بن عثيمين محمد بن عبد الله بن السبيل مبروك العوادي [توقيع] [توقيع] [توقيع] محمد الشاذلي النيفر عبد القدوس الهاشمي محمد رشيدي [غائب عن التوقيع] [توقيع] [توقيع] أبو الحسن علي الحسني الندوي أبو بكر محمود جومي حسنين محمد مخلوف [توقيع] [توقيع] [غائب] محمد رشيد قباني محمود شيت خطاب محمد سالم عدود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 790 القرار السابع بيان توحيد الأهلة من عدمه الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: لقد درس المجمع الفقهي الإسلامي مسألة اختلاف المطالع في بناء الرؤية عليها فرأى أن الإسلام بني على انه دين يسر وسماحة تقبله الفطرة السليمة والعقول المستقيمة لموافقته للمصالح، ففي مسألة الأهلة ذهب إلي إثباتها بالرؤية البصرية لا على اعتمادها على الحساب كما تشهد به الأدلة الشرعية القاطعة كما ذهب إلي اعتبار اختلاف المطالع لما في ذلك من التخفيف على المكلفين مع كونه هو الذي يقتضيه النظر الصحيح فما يدعيه القائلون من وجوب الاتحاد في يومي الصوم والإفطار مخالف لما جاء شرعا وعقلا، أما شرعا فقد أورد أئمة الحديث حديث كريب وهو: "أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلي معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها فاستهل علي شهر رمضان، وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال؟ فقلت رأيناه ليلة الجمعة فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أولا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقالا: لا. هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " (رواه مسلم في صحيحه) . وقد ترجم الإمام النووي على هذا الحديث في شرحه على مسلم بقوله (باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم ولم يخرج عن هذا المنهج من أخرج هذا الحديث من أصحاب الكتب الستة أبي داود والترمذي والنسائي في تراجمهم له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 791 وناط الإسلام الصوم والإفطار بالرؤية البصرية دون غيرها لما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له)) . رواه البخاري ومسلم في صحيحهما فهذا الحديث علق الحكم بالسبب الذي هو الرؤية وقد توجد في بلد كمكة والمدينة ولا توجد في بلد آخر فقد يكون زمانها نهارا عند آخرين فكيف يؤمرون بالصيام أو الإفطار أفاده في بيان الأدلة في إثبات الأهلة، وقد قرر العلماء من كل المذاهب أن اختلاف المطالع هو المعتبر عند كثير فقد روى ابن عبد البر الإجماع على ألا تراعى الرؤية فيما تباعد من البلدان كخراسان من الأندلس أو لكل بلد حكم يخصه. وكثير من كتب أهل المذهب الاربعة طافحة بذكر اعتبار اختلاف المطالع للأدلة القائمة من الشريعة بذلك وتطالعك الكتب الفقهية بما يشفي الغليل. وأما عقلا فاختلاف المطالع لا اختلاف لأحد من العلماء فيه لأنه من الأمور المشاهدة التي يحكم بها العقل فقد توافق المشروع والعقل على ذلك فهما متفقان على بناء كثير من الأحكام على ذلك التي منها أوقات الصلاة ومراجعة الواقع تطالعنا بأن اختلاف المطالع من الأمور الواقعية. وعلى ضوء ذلك قرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي انه لا حاجة إلي الدعوة إلي توحيد الأهلة والأعياد في العالم الإسلامي لأن توحيدها لا يكفل وحدتهم كما يتوهمه كثير من المقترحين لتوحيد الأهلة والأعياد، وأن تترك قضية إثبات الهلال إلي دور الإفتاء والقضاء في الدول الإسلامية لأن ذلك أولى وأجدر بالمصلحة الإسلامية العامة وأن الذي يكفل توحيد الأمة وجمع كلمتها هو اتفاقهم على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع شئونهم، والله ولي التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. [توقيع] [توقيع] نائب الرئيس رئيس مجلس المجمع الفقهي محمد علي الحركان عبد الله بن حميد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 792 بيان الدورة السادسة للجنة التقويم الهجري الموحد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد: فبناء على ما قرره مؤتمر تحديد أوائل الشهور القمرية المنعقد في مدينة استنبول في 26 – 29 ذي الحجة عما 1398هـ. الموافق 27 – 30 نوفمبر 1978م وتنفيذا لقراره الخامس والسادس والسابع ولقرار مؤتمر وزراء الأوقاف والشئون الدينية المنعقد في الكويت. وبناء على الدعوة الكريمة الموجهة من المملكة العربية السعودية باستضافتها لهذه الندوة فقد عقدت لجنة التقويم الهجري الموحد اجتماعها السادس في مكة المكرمة في 10 – 12 محرم 1406هـ الموافق 24- 26 سبتمبر 1985م برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد وبحضور جميع أعضائها وهم مندوبو أندونيسيا وبنجلاديش وتركيا وتونس والجزائر والسعودية والعراق وقطر والكويت. كما حضرها مندوبون عن كل من الأردن والإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان وماليزيا كدول ملاحظة. كما حضرها مندوب عن الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي بصفة مراقب. وقد تفضل صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة بافتتاح أعمال الدورة السادسة للجنة توحيد التقويم الهجري ورحب بالحاضرين وأشاد بالأهمية الكبرى التي يعلقها المسلمون على توحيد شهورهم وأعيادهم تحقيقا لمعنى الوحدة وأشاد بجهود المؤتمرات السابقة واعتز بأن تعقد هذه اللجنة دورتها السادسة في مكة المكرمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 793 كما أبدى اهتمام المملكة بكل ما يدعوا إلى تضامن المسلمين وتحقيق ذلك لهم. وتمنى للجنة التوفيق في هذا الاجتماع بأن تتمكن من تقديم تقويم شرعي فلكي يكون له أثره في توحيد كلمة المسلمين في شهورهم وأعيادهم. ثم ألقى بعد ذلك سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز كلمة ضافية رحب فيها بالحاضرين وحثهم على تقوى الله تعالى والعمل بما يحقق للمسلمين أسباب صلاحهم ووحدتهم والعمل فيما يقتضيه كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. وأشاد بالجهود التي سبق أن بذلت من هذه اللجنة في دوراتها السابقة وتمنى لها النجاح والتوفيق في دورتها الحاضرة. ثم ألقى فضيلة الشيخ الدكتور طيار التي قولاج مفتي الجمهورية التركية ورئيس الشؤون الدينية كلمة ضافية بالنيابة عن الوفود ورحب فيها بالحاضرين وتقديم الشكر للمملكة العربية السعودية ملكا وحكومة وشعبا على دعوتها واستضافتها لهذه الدورة وفي رحاب بيت الله الحرام مكة المكرمة مما كان له الأثر الطيب في نفوس الحاضرين واستعرض أعمال اللجنة في السنوات الماضية وتضمنت كلمته آراء وتقييمات شاملة للموضوع ومراحله المختلفة. وترى اللجنة أن تضم الكلمات الثلاث كوثائق ضمن تقرير اللجنة لما تضمنته من توجيهات في هذا الخصوص ثم اختتمت الجلسة بالاتفاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 794 ثم بدأت اللجنة أعمالها وسماع ما لدى المشاركين من كلمات وآراء ومقترحات. حيث ألقى مندوب اندونيسيا الأستاذ مختار زركشي كلمة عن بلاده وألقى مندوب الأردن الدكتور أحمد محمد هليل كلمة الأردن وألقى مندوب البحرين الشيخ يوسف الصديقي كلمة البحرين وألقى مندوب الإمارات العربية المتحدة الأستاذ الشيخ على الهاشمي كلمة بلاده وألقى مندوب تونس الشيخ مصطفى كمال التارزي كلمة بلاده وألقى مندوب الجزائر الأستاذ على السعدي المغربي كلمة بلاده وألقى مندوب العراق الشيخ عبد القادر إبراهيم على كلمة بلاده كما ألقى مندوب بنجلاديش الأستاذ محمد عبد السبحان كلمة بلاده. وكانت كلمات الوفود تدور حول تصور بلدانهم لأعمال هذه اللجنة وأهمية ما تنبعث عنها من قرارات وتوصيات وكيفية إبرازها إلى حيز الوجود واعتماد نتائج أعمال هذه اللجنة وشكر الحكومة السعودية على استضافتها هذه الدورة وتسهيلها مهمة عملها. كما جرى تبادل الآراء ووجهات النظر حول ما أبدي من آراء ومقترحات تمت مناقشتها بروح تسودها الألفة والمحبة والقصد الحسن. ثم استعرضت اللجنة الجداول والخرائط المقدمة من وفود كل من الإمارات العربية المتحدة واندونيسيا وتركيا وتونس والجزائر والمملكة العربية السعودية. وقد لاحظت اللجنة بكل ارتياح وسرور الدقة الفائقة التي تمت بها هذه الجداول وانطباقها التام مما يدل دلالة تامة على دقة الحساب ووحدة المنهج. وبعد عرض الجداول شهرا شهرا لعامي 1407 – 1408 وخمسة الأشهر الأولى من عام 1409هـ تم الاتفاق والمصادقة عليها بالاجماع ومرفق طي هذا التقرير الجداول المصادق عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 795 ومن ناحية أخرى تشيد اللجنة بالقرارات الصادرة عن المؤتمرات الإسلامية السابقة لوزراء الخارجية والتي تدعوا إلى توحيد الشهور القمرية بالدول الأعضاء لمنظمة المؤتمر الإسلامي خاصة المؤتمر الرابع عشر والخامس عشر وتنوه بمتابعة الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي واهتمامها بتوحيد مواقف الدول الإسلامية بالنسبة لوضع التقويم الموحد للشهور القمرية. وتؤكد اللجنة استعدادها على مواصلة الجهود بالتنسيق مع الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي وجميع الدول الأعضاء في المنظمة لتحقيق هذا الهدف. وقد قررت اللجنة إرسال جداولها إلى كافة الجهات المختصة التي تتولى إصدار التقاويم في البلدان الإسلامية والبلدان التي فيها الأقليات إسلامية لإصدار تقاويمها وفقا لهذه الجداول تحقيقا لتوحيد التقويم الهجري والأعياد. كما ترجو اللجنة والأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي في تعميم هذه الجداول على كافة الدول الإسلامية والاقليات الإسلامية. ونظرا إلى أن دول الإمارات العربية المتحدة والبحرين وماليزيا كانوا يتابعون حضور دورات هذه اللجنة فإن اللجنة تقرر اعتبار هذه الدول أعضاء ضمن هذه اللجنة. وبالنسبة لتحديد مكان وزمان انعقاد الدورة السابعة للجنة فإن الاتصالات بالدول الأعضاء جارية وقد وكل أمر ذلك إلى الأمانة العامة بأنقرة. وفي ختام هذا البيان تؤكد اللجنة شكرها وتقديرها لحكومة جلالة الملك المفدى فهد ابن عبد العزيز ممثلة في وزارة الحج والأوقاف وعلى رأسها معالي الشيخ عبد الوهاب أحمد عبد الواسع على ما لاقته من حفاوة بالغة وضيافة كريمة وإتاحة لكافة إمكانيات أسباب نجاح هذه اللجنة والله المستعان. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 796 مشروع التقويم الهجري لعام 1407هـ الشهر القمري تاريخ الاقتران ساعة الاقتران تاريخ ميدان الهلال ساعة ميلاد الهلال دخول الشهر عدد الأيام محرم 04/09/86 11.07دق 04/09/86 55.21دق 05/09/86 30 صفر 03/10/86 56.18دق 04/10/86 42.09دق 05/10/86 29 ربيع الأول 02/11/86 03.06دق 02/11/86 27.19دق 03/11/86 30 ربيع الثاني 01/12/86 44.16دق 02/12/86 15.04دق 03/12/86 30 جمادى الأولى 31/12/86 11.03دق 31/12/86 39.13دق 01/01/87 30 جمادى الآخرة 29/01/87 46.13دق 30/01/87 23.01دق 31/01/87 29 رجب 28/02/87 52.00دق 28/02/87 45.14دق 01/03/87 30 شعبان 29/03/87 47.12دق 30/03/87 05.04دق 31/03/87 29 رمضان 28/04/87 35.01دق 28/04/87 44.16دق 29/04/87 30 شوال 27/05/87 14.15دق 28/05/87 17.05دق 29/05/87 29 ذي القعدة 26/06/87 38.05دق 26/06/87 20.19دق 27/06/87 30 ذي الحجة 25/07/87 3820 26/07/87 46.11دق 27/07/87 30 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 797 مشروع التقويم الهجري لعام 1408 هـ الشهر القمري تاريخ الاقتران ساعة الاقتران تاريخ ميدان الهلال ساعة ميلاد الهلال دخول الشهر عدد الأيام محرم 24/08/87 59.11دق 25/08/87 44.04دق 26/08/87 29 صفر 23/09/87 09.03دق 23/09/87 43.19دق 24/09/87 30 ربيع الأول 22/10/87 39.17دق 23/10/87 00.08دق 24/10/87 29 ربيع الثاني 21/11/877 34.06دق 21/11/87 34.18دق 22/12/87 30 جمادى الأولى 20/12/87 26.18دق 21/12/87 21.05دق 22/12/87 29 جمادى الآخرة 19/01/88 27.05دق 19/01/88 18.17دق 20/01/88 30 رجب 17/02/88 55.15دق 18/02/88 11.05دق 29/02/88 29 شعبان 18/03/88 04.02دق 18/03/88 46.15دق 19/03/88 30 رمضان 16/04/88 01.12دق 17/04/88 03.01دق 18/04/88 29 شوال 15/05/88 12.22دق 16/05/88 25.10دق 17/05/88 29 ذي القعدة 14/06/88 15.09دق 14/06/88 02.22دق 15/06/88 30 ذي الحجة 13/07/88 54.21دق 14/07/88 02.13دق 15/07/88 30 (*) نظراً لتأخر الوقت بأمريكا الشمالية عن بقية العالم فإن الهلال يرى بها ليلة السابع عشر. مشروع التقويم الهجري للخمسة الأشهر الأولى من عام 1409هـ الشهر القمري تاريخ الاقتران ساعة الاقتران تاريخ ميلاد الهلال ساعة ميلاد الهلال دخول الشهر عدد الأيام محرم 12/08/88 12و32دق 13/08/88 05و53دق 14/08/88 29 صفر 11/09/88 04و50دق 11/09/88 22و22دق 12/09/88 30 ربيع الأول 10/10/88 21و50دق 11/10/88 13و25دق 12/10/88 30 ربيع الثاني 09/11/88 14و21دق 10/11/88 03و31دق 11/11/88 29 جمادى الأولى 09/12/88 05و37دق 09/12/88 18و00دق 10/12/88 30 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 798 العرض والمناقشة يوم 14/4/1406هـ الموافق 26/12/1985م الساعة: 9.35 – 14.30 الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه.. اللهم صل عليه وعلى آله وعلى أصحابه أجمعين. وبعد، في جدول أعمالنا لهذه الجلسة الصباحية موضوعان مهمان: أحدهما (توحيد بدايات الشهور العربية) والثاني (الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة) . في بيان الميقات المكاني. وحسب ترتيب الجدول يؤخذ (بتوحيد بدايات الشهور العربية) ونستعرض بصفته مختصرة وموجزة مع الإيضاح عن هذه البحوث التي أعدها أصحاب المشايخ ... وأرجو من الشيخ تسخيري إعطاء ملخص للبحث. الشيخ محمد على تسخيري: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد البشر محمد وآله الطاهرين وصحبه الملتزمين. هناك بعض النقاط أستعرضها سريعا في هذا المجال.. النقطة التي أذكرها كمقدمة أن بحثنا هذا يتصل بمسألة الوحدة الإسلامية. والوحدة الإسلامية هي، من أكبر خصائص هذه الأمة، وإذا أرادت الأمة أن تعود إلى ذاتها الحقيقية عليها أن تعود إلى الوحدة الإسلامية. ولكن يجب أن يكون ذلك بالأسلوب المقبول شرعا.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 799 النقطة الأخرى التي تعرف كمقدمة هي أن ما يسمى بالمحاق هي الحالة الطبيعية التي يكون فيها القمر بين الأرض والشمس ونصفه المظلم مواجها للأرض. وعندما يخرج القمر من هذه الحالة فيبدأ الحركة الاقترانية يبدو خيط قليل منه حينئذ نسميه الهلال وهذا الخيط يتصاعد ويكثر يوما بعد يوم حتى يصل إلى مرحلة البدر. فهي حالة طبيعية تحدث من خروج القمر من هذه الحالة. هذه الحالة الطبيعية حالة واحدة ولا تتكرر. القمر إذا خرج من هذه الحالة فالشهر بدورته الطبيعة قد بدأ. ولكن الشهر بمفهومه الشرعي لا يبدأ إلا إذا رؤي هذا الهلال ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) ما دام أدخلنا عنصر الرؤية فمن الطبيعي أن تكون بداية الشهر بداية نسبية، لأن الهلال لا يمكنه أن يرى في كل البلدان بمستوى واحد، فتارة يظهر الهلال لدى بلد بعد الغروب قليلا ثم يختفي وأخرى يظهر قبل الغروب ويختفي أيضا، وضوء الشمس يمنع من رؤيته. وهناك حالات مختلفة يمكن أن نفترضها بحيث لا يرى البلد نور الهلال وحينئذ فلا مناص من القول بنسبة شروع الشهر من حيث الرؤية. هذا أيضا شيء نعتقد أنه واضح. الشيء الآخر هو مسألة اختلاف المطالع. هذه المسألة تبدأ بهذا الشكل التقريري البسيط، أن الاختلاف بين بلد وبلد من حيث الرؤية تارة يكون لسبب طارئ كغيم وما إلى ذلك، هذا الاختلاف لا يعتد به، وأخرى يكون الاختلاف اختلافا في خطوط الطول والعرض، اختلاف بعيد. حينئذ وقع البحث الطبيعي بين العلماء، هل أن رؤية الهلال في بلد معين تكفي للحكم على العالم كله بأنه دخل في الشهر شرعا، من حيث الوجهة الشرعية لا من حيث الوجهة الطبيعية، الوجهة الطبيعية هي مقدمة للدخول الشرعي للشهر. أو أنه لكل بلد أفقه والآفاق مختلفة. هذا الاختلاف موجود بين أئمة المذاهب وموجود بين علماء الإمامية في داخل المذهب الإمامي بشكل واضح ويصل إلى حد الانقسام أحيانا الكلي بين العلماء في هذا المجال. فالطائفة القائلة به والطائفة المعترضة عليه كلتاهما قويتان من حيث القدرة والشهرة. محور اختلاف العلماء الإمامية في الأمر هو الانصراف في أحاديث، أن رئي أحاديث وردت عن أئمة الإمامية، الإمام الصادق والإمام الباقر، تؤكد على أن الهلال أن رؤي في بلد آخر أكتفى أهل هذا البلد به، هناك رواية تقول: "لا تصم إلا أن تراه فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه" ولا أريد أن أذكر الروايات، مذكورة هنا عندنا والاختلاف موجود. محور الاختلاف هو هذا المعنى، أن رؤي في بلد آخر، فيه إطلاق يشمل كل البلاد أو لا ينصرف هذا الإطلاق إلى خصوص البلد القريب، يعني هل هناك انصراف يصرف ظهور هذا اللفظ ظاهرا بنفسه بغض النظر عن الانصراف في الإطلاق أن رؤي في بلد آخر، ولكن في قباله يقال هناك انصراف إلى البلد القريب لأنه هو المطروح في الأذهان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 800 هناك أدلة بالكفاية (يعني بكفاية الرؤية في بلد آخر) ، وأدلة للنافين بذلك مثلا مثال استعراض سريع: يقول القائلون بكفاية الرؤية في أي بلد في مجال دخول الأرض كلها في الشهر شرعا، يقولون: مثلا سورة (القدر) تدل على أنه ليلة القدر ليلة واحدة شخصية لجميع أهل الأرض على اختلاف بلدانهم في آفاقهم، ضرورة أن القرآن نزل في ليلة واحدة وهذه الليلة هي ليلة القدر وهي خير من ألف شهر وفيها يفرق كل أمر حكيم، وهذا يعم بقاع الأرض. تذكر أيضا الروايات. إلى جانب هذه الروايات يذكرون أن هناك أدعية مذكورة في صلاة العيد جاء فيها (أسألك بهذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيدا) وهذا يعني أن هذا عيد لمجموع المسلمين، وأيضا ختموا استدلالهم بالاستشهاد بسكوت الروايات بأجمعها عن اعتبار وحدة الأفق، هذا السكوت مع وجود هذه المسألة مطروحة يكشف لنا عن عدم اعتبار هذه الوحدة والمعيار هو الرؤية في أي بلد من أنحاء العالم. هذا ما يقوله القائلون بكفاية الرؤية في بلد ما، يرد عليهم النافون لهذه الكفاية باستبعاد أن يكون النظر في عبارة، بلد آخر. إلى البلدان الواقعة في أقصى الأرض مثلا، ثم تأكد (وأرجو التركيز لان هذا دليل ينفع في مختلف المذاهب) تأكد العرف من اختلاف المطالع القمرية قياسا، العرف بنفسه يقيس على المطالع الشمسية المختلفة وإن كان هذا القياس باطلا لكن على أي حال مرتكز في ذهن العرف، ما دام مرتكزا فهو يصرف الظهور إلى الشكل الذي يلزم معه التصريح بعدم الفرق بين القريب والبعيد لو كان هو المراد، ومع عدمه يعني ذلك إقرار الفهم العرفي المنصرف إلى البلد القريب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 801 أما الاستدلال بسورة القدر فلعله يجاب عنه بأن الليلة في علم الله تعالى واحدة ولكن هل يختلف معنى مسألة الحكم الظاهر لهذا البلد عن ذاك. وكذلك لعله يجاب عن الاستدلال بقوله عليه الصلاة والسلام: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) بأن الحكم وإن كان عاما إلا أنه ينحل بمقدار تعدد الأفراد والبلدان خصوصا مع ملاحظة الانصراف. وهكذا يبدأون بالإجابة على الروايات ويضعفون من سندها. ومسألة سكوت الروايات عن اعتبار وحدة الأفق قد تجعل بنفسها دليلا فيقال بأن سكوتها عن بيان عدم الفرق بين القريب والبعيد رغم ما هو المتعارف من وجود هذا الفرق دليل على وجوده. وعلى أي حال فإن المسألة تعود للاستظهار. وحينئذ هذا الذي أخرج به فلا يمكن إقامة البرهان القاطع بعد أن لم يكن هناك تصريح نص به، وعلى هذا الأساس نقول أن مسألة توحيد الشهور القمرية أمر لا ينسجم مع هذا الخلاف ما دام قائما، ولا يمكن أن يشكل نظاما عاما سواء قلنا بانفتاح باب الاجتهاد أو انغلاقه. ومن الطبيعي والحال هذه، أنه لا يمكن إجبار فرد أو دولة على اتباع نظام قد لا تؤمن به شرعا. فكيف يمكن إصدار قرار التوحيد ورغم ما سبق فإننا نجد الجهود المبذولة قد تكون نافعة في تقريب وجهات النظر وتشخيص الشهادات الصحيحة من الباطلة أحيانا وهي تنفع في توحيد شطر كبير من الذين يؤمنون بمسلك وحدة الآفاق إلا أننا (وأرجو أن نركز) نحذر من الاستغلال السياسي اللئيم لهذه المسألة الشريفة. وأخيرا نقول إننا إذا تمسكنا بشريعتنا وبحقانية ما تقول لا يهمنا ما يقال من مسألة الرأي العام العالمي وما إلى ذلك. فمع تقدير للجهود المبذولة في هذا السبيل نود أن يخرج هذا القرار من الصفة الإلزامية إلى الصفة الترجيحية، يعني يرجح للدول الإسلامية الأخذ بوحدة متناسبة دون إلزام لأن الأمر يرتبط بعبادات والعبادات تتبع الآراء والقناعات والقطوع والقطع حجة على الإنسان. وأعتذر وشكرا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 802 الشيخ المختار السلامي: قرأ فضيلته نص البحث الذي قدمه في الموضوع، وهو منشور بغير هذا المكان مع بقية الدراسات المعروضة على الدورة الثانية لمجلس المجمع. الرئيس: كأني أرى المشايخ والإخوان اتجهوا إلى قراءة البحوث وأحس من المشايخ أنه ليست هناك رغبة في قراءة البحث المراد. والمنهج الذي يسار عليه هو إعطاء ملخص لهذا البحث أما قراءة البحوث فغير ضرورية لأنها بين يدي المشايخ، فأرجو من المشايخ ملاحظة المراد من أصحاب الفضيلة المعدين للبحوث هو إعطاء خلاصة لهذا البحث. حتى تكون أجمع للذهن. الشيخ عبد اللطيف الفرفور: بسم الله الرحمن الرحيم لدي شعبتان في البحث رئيستان ما ذهبت إليه في المطالع وما ذهبت إليه في أمر الحساب وسأذكر الخلاصة فقط ولن أتعرض لأي خلاف سابق ولا أقوال المذاهب ولا الأدلة لأن هذا قد استوفى من الأساتذة الذين تفضلوا قبلي بقراءة بحوثهم أو مختصراتهم. أولا فيما ذهبت إليه في المطالع والله تعالى أعلم بحقيقة الأمر الذي ثبت لدى علماء الطبيعة اليوم في هذا القرن العشرين الميلادي الخامس عشر الهجري. وإني أكتب ذلك في يوم الأحد الواقع واحد المحرم 1406هـ الموافق 15 أيلول 1985م. الذي ثبت بعد اكتشاف مجاهيل الأرض وقاراتها لا سيما أمريكا منذ قرابة أربعمائة سنة ونيف أن كلا من القولين القول باتحاد المطلع لدى أهل المشرق والمغرب والقول باختلاف المطلع بين كل بلد وبلد ومصر ومصر كليهما مجانف عن الصحة بعيدا عن الحقيقة العلمية فيما أرى. ذلك بأن الأرض كما ثبت أهليليجية التكوين بيضوية ولها وجهان. وجه منير باتجاه الشمس ووجه معتم باتجاه العكس فساعة يكون النهار في أوله في الوجه المنير يكون الليل في أوله في الوجه المعتم. ومن هنا يختلف الزمان وتوقيت الساعات وما إلى ذلك. فتأسيسا على ذلك لا بد من معيار علمي نمسك به في حل هذه المشكلة ألا وهو خطوط الطول. فلنقسم الأرض حسب هذا المعيار خطوط الطول إلى ثلاثة كبرى أقطار رئيسة والفواصل بينها طبيعة كالبحار.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 803 أولا: القارة الأمريكية كلها قطر بما فيها الولايات المتحدة وكندا والبرازيل وأمريكا الجنوبية والجزر التابعة لها إلى قناة بنما. ثانيا: من المغرب الأقصى وما يسامته شمالا من بريطانيا وإسبانيا إلى الخليج العربي شرقا أو الخليج الإسلامي وما يسامته شمالا من العراق وتركيا وجبال الأورال كل ذلك قطر.. وفيما بين ذلك مثلا مثل الجزيرة العربية وبلاد الشام وتركيا وأوربا الشرقية والغربية والمغرب الأوسط والأدنى ومصر والسودان والحبشة وما إلى ذلك. ثالثا: ومن شرقي الخليج إلى اليابان قطر، بما فيه من إيران وبلاد الهند والباكستان والأفغان والجمهوريات السوفياتية الإسلامية وبلاد الصين وبلاد اليابان، فكل قطر من هذه الأقطار الثلاثة وحدة مكانية مستقلة عما عداه من القطرين الآخرين إذا رؤي الهلال فيه لا يلزم القطر الثاني والثالث، يعني إذا رؤي في أمريكا الهلال لا يلزمنا نحن، وإذا رؤي عندنا لا يلزم المغرب الأقصى. وإذا رؤي في الصين لا يلزم الجزيرة العربية، بل يلزم ذلك القطر بكل ما فيه من أمصار ودول وبلاد، والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 804 الشعبة الثانية: خلاصة ما ذهبت إليه في شأن الحساب لإثبات الأهلة. ذهب الفقهاء الأقدمون رضي الله عنهم والمعاصرون وفقنا الله وإياهم في هذه المسألة إلى مذهبين ... مذهب أخذ بالحساب مطلقا ومذهب رفض الأخذ بالحساب مطلقا في شأن إثبات الأهلة. والذي أراه أن كلا من هذين المذهبين مع توقيري وتقديري لأصحابهما، إفراط وتفريط. والصواب هو الوسط بين هذا وذاك، لكن لا ضير على من اجتهد فلم يحالفة الصواب فأخطأ فله أجر واحد وأسأله تعالى أن أكون من أصحاب الأجرين.. الصواب الذي يبدو لي وهو ما ينبغي أن يسار إليه هو: أن الأصل في إثبات الأهلة الرؤية البصرية أو التلسكوبية من على ظهر الأرض لا في السماء ولا على شاهق جبل بقوله لا من التليسكوب على شاهق جبل غير ما يكون على ظهر الأرض لا فرق بين أن نرى بعين مجردة أو التليسكوب على ظهر البسيطة لقوله عليه الصلاة والسلام ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) فإذا حصل المقصود بهذا الأصل، وأكرر التليسكوب والرؤية على ظهر الأرض لا في السماء ولا على شاهق جبل، لاختلاف الرؤية، فإذا حصل المقصود بهذا الأصل فبها ونعمت. كأن جزمنا بالرؤية لوقوعها بأحد الأمرين المذكورين العين المجردة والتليسكوب من على ظهر الأرض وسهلها وكانت السماء مصحية. وإذا كانت السماء مصحية ولم ير الهلال في القطر كله كما قدمت في مبحث المطالع لم نعمد إلى الحساب لوضوح الأمر ولا نقلد قطرا مجاورا كما مر. وأما إذا كانت السماء غير مصحية واحتمال الأمران (يعني ما عاد فيه قطع) ولادة الهلال وعدمها ولم تحدث رؤية معتبرة فعندها نستطيع الأخذ بقول الفلكيين وأصحاب الأرصاد الجوية ذوي الحسابات الدقيقة لأنهم على علم شبه قطعي وأخالف أخي العالم الجليل الأستاذ السلامي بقطعية الحساب، لأن الحساب مهما بلغ كما هو معلوم عند علماء الرياضيات مهما بلغ فهنالك احتمال ولو واحد من مائة مليون غلط، كما ذكر لي أحد علماء الأرصاد الجوية في دمشق على علم شبه قطعي (يعني 99.9) وغلطهم نادر والعلم يتفق مع الدين ولا يتنافى معه بحال. هب أنه في غلط نادر. الغلط النادر لا قيمة له. لا سيما إذا كان الشهر الذي انمحق هلاله تسعة وعشرين واحتمل أن يكون ما بعده الثلاثين أو الواحد من الشهر الجديد أي مزيد الانمحاق أو الولادة الجديدة وأعتقد أن هذا الأخذ بقول أهل الأرصاد الجوية وأصحاب الفلك في هذه المسألة رؤية قلبية تدخل تحت الرؤية الشرعية، لأن الرؤية القلبية مجاز لا يصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة كما قرر الأصوليون ونحن لا نصير إلى هذه الرؤية القلبية إلا عند تعذر الرؤية البصرية واحتمال الولادة وعدمها شرعا. والله تعالى أعلم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وشكرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 805 الشيخ مصطفى الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم.. سيادة الرئيس سلفا أقول أن بحثي لا تتجاوز قراءته الحد الأدنى من الزمن المقدر. وبحث فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء منشور بغير هذا المكان مع بقية البحوث المقدمة إلى الدورة الثانية لمجلس المجمع. الرئيس: هل الأحكام تعلل بالأوصاف بمعنى أن يكون الوصف علة للحكم كقوله تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} . الشيخ مصطفى الزرقاء: الأوصاف التي ترد في النصوص لها أحوال لا يمكن الجواب بجواب مطلق قد تكون الأوصاف واردة مورد القيد مثلا كقوله تعالى {رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . قد تكون الأوصاف ورادة لبيان واقع وليست تحمل معنى القيد كما في قوله تعالى {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} لذلك الأوصاف لا يمكن الجواب فيها وإنما تختلف الأحوال بحسب القرائن أنها وصف قيدي أو وصف واقعي، ولكن الأمور التي تعلل بعلة، نحن في مقام العلل، فلما يقول رسول الله عليه السلام ((إنا أمة)) هذا ليس وصفا إنما هو علة لجوابه في قوله ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) فالموضوع مختلف لا نستطيع أن نوجب المقارنة بين الأوصاف التي فيها احتمالات وبين العلل التي تضمنها النص نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 806 الشيخ عبد الله بن بيه: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. في الحقيقة أن البحث في هذه القضية ليس جديدا وأن موقف العلماء منها أيضا ليس جديدا، فشروح خليل، الدسوقي يقول: أن هذا الحساب قطعي ومع ذلك فإن الشارع يعتبره. يذكرون قطعية الحساب، يعترفون بأن الحساب قطعي وهو على الأقل في زمن متأخر ما، منهم من وصل الحساب إلى القطعية، ومع ذلك اعتبروا أنه ليس مناطا للحكم، وأريد أن أسأل أولا سؤالين وبعد ذلك أحتفظ لنفسي بالتدخل. السؤال الأول: ما هو مراد الأستاذ مصطفى الزرقاء بالعمل بالحساب، هل معناه وجوب العمل به أو معناه جواز العمل. (بمعنى أن الحساب يقوم مقام الرؤية في إيجاب العمل على المكلف أو أن المكلف يلجا له فقط) هذا السؤال الأول. السؤال الثاني: هل إذا أثبت الحساب إمكانية الرؤية البصرية في مكان معين يشمل هذا جميع أقطار الدنيا التي يمكن أن لا يثبت الحساب فيها نفس الشئ الذي أثبته في الصين مثلا. أود الإجابة على هذين السؤالين لأتدخل بعد ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 807 الشيخ مصطفى الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم: أما السؤال الأول: فهو أني بينت بصراحة ووضوح أن اعتماد الحساب ليس معناه إلغاء اعتبار الرؤية أصلا في موضوع الأهلة بشكل دائم، وحلول هذا محل ذاك. قلت أن الشريعة لا يمكن أن تربط التكاليف بأمر قد يوجد وقد يعدم بعد الوجود، واليوم علم الفلك وكل ما وصل إليه مما شرحنا، يمكن قنبلة ذرية تلغي هذا العالم وأهله وتعيد أهل الأرض أو ما يبقى منهم إلى الحالة البدائية. والشريعة خالدة إلى يوم الدين، فلا يمكن ولا يوجد في الشرع أبدا عندنا، كما صرح به العلماء الأوائل ونقلته، أن يربط تكليف بأمر يصعب علمه أو قد علمه يوجد وقد يفقد، ولكن هل إذا ربطت الشريعة بعض هذه الأحكام بمعالم وكانت هذه المعالم وسيلة ووجدنا وسيلة، واستطعنا ورزقنا الله علما وهو من مواهب الله، رزقنا علما أصبحنا نستطيع أن نجد وسيلة أدق وأضبط وأكثر تحديدا ولا تحتمل الخطأ. هذا هل يمنع من أن نبني عليها، وقد بينت أنا في جلسة قديمة في مجمع الفقه بمكة في أيام الشيخ عبد الله بن حميد، رحمه الله، بينت وطرحت هذه الأسئلة، هل نعتمد في صلواتنا ومواقيتها الرؤية أو أننا نبني على الساعة التي بين أيدينا والتقويم الذي هو أيضا موسوعة الموضوع من حساب فلكي وهل تكون هذه الساعة التي نعتمدها، هل نحن بنيناها على رؤيتنا أو هي ساعات أجنبية ومستوردة ومرتبة على حساب فلكي. وأمر الصلاة أعظم من أمر الصوم. فلذلك فكيف نقبل هذا ولا نقبل ذاك. وأنا بينت أن الأصل في الرؤية تبقى كأنها هي الأصل لأنه هناك حتى إلى يومنا هذا يمكن في مجاهل الأرض وبقاعها يدخل الإسلام بلاد ليس لديها علم بالحساب ولا تصل إليها الأخبار (الرؤية أساس) تبقى أساسا، ولكن حيث يوجد إمكان لاعتماد هذا العلم بصورته التي بلغت من الدقة درجة اليقين هذا يصبح جائزا بل أقول أكثر من جائز (واجب) إذا كان يتوقف عليه القضاء على هذه الفوضى المخجلة التي أصبحنا بها أضحوكة في العالم الآخر، هذه الفوضى إذا كان يخلصنا منها موضوع الحساب اليقيني فيصبح أكثر من جائز بل واجب. أما السؤال الثاني: وهو أنه يصرح معظم فقهاء الأمة وأئمتها بأنه لا عبرة لاختلاف المطالع وإن كان هناك من يرى خلاف ذلك، ومذهب الحنفية يصرحون بهذا التعبير "إنه يلزم أهل المغرب برؤية أهل المشرق والعكس بالعكس" بهذا التعبير ومذهب أحمد هو هذا أيضا أنه لا عبرة باختلاف المطالع ويلزم أهل المشارق برؤية أهل المغارب والعكس بالعكس، فلذلك ما المانع ونحن أمامنا أئمة هم قناطر الإسلام وهم سبيلنا إلى الله أن نعتمد رأي من يقول بهذا ولا نأخذ برأي من يقول باختلاف المطالع، أي حرج علينا إذا لقينا الله تعالى بآراء هؤلاء الأئمة، وقلنا بتوحيد المطالع كما هو نصوص هؤلاء وأزلنا هذه الفوضى من العالم الإسلامي، ما المانع هل يوجب علينا الشرع ألا نبني حياتنا إلا على أضيق الآراء وأكثرها حرجا وأكثرها فوضى، لا أدري من أين هذا. الرئيس: يا فضيلة الشيخ نقطة توضيحية بسيطة.. الحقيقة أن اختلاف المطالع هو الذي عليه الجمهور وأنت تفضلتم قلتم أن الذي عليه الأكثر هو الجائز حتى أن عبد البر حكى الإجماع على اختلاف المطالع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 808 الشيخ الزرقاء: سيدي في مذهب أحمد أنه كالحنفية عدم اعتبار المطالع والنصوص موجودة. الرئيس: نحن نقول في مذهب الإمام أحمد وغيره نحن نقول عبارة الأكثر. الشيخ الزرقاء: لكم رأيكم أنا رأيي أنه يكفينا أن نلقى الله برأي إمامين عظيمين ولو خالفهما الأكثر. الشيخ عبد الله بن بيه: بسم الله الرحمن الرحيم.. بعد هذا الإيضاح من فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء أريد أن أتابع تدخلي في هذه القضية لأوضح بعض النقاط المهمة. أولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ألغى الحساب في هذه القضية إلغاء صريحا وواضحا وأن العلماء الذين جاؤوا بعد ذلك إنما حاولوا التعليل والعلل التي يقدومونها إنما هي علل ظنية والمعروف عند الفقهاء أن العلة إذا كانت مظنونة لا ينتفي الحكم بها ولا يدور معها، فهم يقدمون عللا ظنية فقط. والأمية ليست، إنما هي الوصف للواقع كما قالها الشيخ نفسه عندما تحدث عن أنواع الأوصاف، الوصف الذي يثبت الواقع أو يجري على الغالب كما يقول الفقهاء في عدم اعتبار مفهوم المخالفة. فمفهوم المخالفة معتبر عند من يعتبره إلا إذا كان عبارة عن ذكر للواقع أو التأكيد عند السامع أو جواب على سؤال في قضية معينة. إلى آخر تلك المسائل التي ذكروها والتي تبطل مفهوم المخالفة، وإلا فكيف يحكم على هذه الأمة بأنها ستظل أمية والله سبحانه وتعالى يقول وقد نبه رئيس الجلسة على هذا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فالرسول الأمي هذا مدح النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يتعلم وأن الله سبحانه وتعالى أوحى إليه علما من لدنه وعلمه علما من عنده، أما هذه الأمة بعد أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم وعلمها الكتابة والحكمة فقد انتقلت من الأمية، أما الكتابة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه الكتابة، كان منهم كتبة للوحي، وفي أسارى بدر أمر الأسير الذي لا يستطيع يفدي أو يفادي نفسه، أن يعلم عشرة من أصحابه الكتابة، كما يقوله علماء السيرة فالأمية كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيلها عن هذه الأمة. ومع ذلك بقي الحكم ثابتا لم يتغير. وكما أشرت إليه سابقا فبعض العلماء نصوا على أن الحساب قطعي، ونحن نعلم أن من العلماء من يعرف الحساب معرفة جيدة، السوسي عندنا في المغرب وغيره ألفوا كتبا عظيمة في الحساب الفلكي وهو قطعيا عندهم، لا يرتابون فيه ولا يتمارون فيه، ومع ذلك ظل الحكم ثابتا على ما كان عليه حتى قال القرافي، ذكر فرقا بين ما يعمل فيه بالحساب وما ما لا يعمل فيه بالحساب، وذكر أن الصوم مما لا يعمل فيه بالحساب لدليل نص الشارع.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 809 هنا أود أن أشير إلى الفوضى التي تحدث عنها وكأنها مناط الحكم، فقال مرة: إنها توجب جواز العمل بالحساب، ومرة قال: إنها ترتقي به إلى رتبة الوجوب. في الحقيقة أني لا أرى من هذا المنظار، نحن نصلي الصبح هنا وفي أمريكا ربما يصلون العشاء وليس في هذا فوضى ولا حرج مطلقا. الأوقات متفاوتة ومن المهم أن يذكر الله تعالى في كل وقت وفي كل رقعة من رقاع الدنيا وفي كل بقعة من بقاعها. فلا أرى في ذلك فوضى ولا أرى في ذلك شناعة. فإذا كان يبني الوجوب على الفوضى، فأرى أن يسحب الوجوب، الوجوب لا يترتب على هذا، الوجوب يترتب على رؤية الشاهد {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} على الخلاف طبعا في {شَهِدَ} هل الشاهد الحاضر الذي ليس مسافرا أو الشاهد من شاهد بعينه. إعمال الأستاذ الكبير لمذهب الإمام أحمد في مسألة عموم الرؤية في كل الأقطار مع نفيه للرؤية في نفس الوقت أرى فيه تناقضا وأرى فيه تلفيقا، أنت تنفي العمل بالرؤية وتقول بالعمل بالمراصد أو بالحساب الفلكي وفي نفس الوقت تعمل دليل القائل بالرؤية، الذين يقولون بوجوب الرؤية في كل مكان لأنه يعتبرون أن الرؤية صالحة بمعنى أنه إذا رؤي في مكان ما في الإمكان رؤيته بالعين المجردة من مكان آخر، يعني لا يعتبرون هذه الاعتبارات الحسابية، أما أنت وقد اعتبرت الحساب معيارا والحساب يثبت لك إمكانية رؤيته بالعين المجردة في الصين وينفي لك ذلك في أفريقيا وفي المغرب فلا يمكن إلا أن تعتمد الحساب اعتمادا مطلقا أو أن لا تعتمده، فإذا اعتمدت الحساب فعليك أن تقصر على المكان الذي تمكن فيه رؤية الهلال بالعين المجردة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 810 إذن أرى هنا تناقضا واضحا. أهل المغرب يصومون والهلال لم يصل إليهم بعد، كما لو صلوا الظهر على صلاة أهل مكة، هذا لا يجوز مطلقا، هذه دورة الأفلاك وهذه الحركات كما يقول أبو حامد رحمه الله تعالى في المنقذ من الضلال: أن هذه العلل التي أناط بها الشارع {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} في هذا الوقت التي تكون فيه الشمس لمسامته الأرض في هذا الوقت تجب علينا أربع ركعات في وقت بعد ذلك تجب أربع ركعات، وفي وقت بعد ذلك تجب ثلاث ركعات إلخ.. يقول "إن لهذا أسرار عظيمة لا ترى إلا من عين النبوة"، وباختصار لا نريد أن نذهب في كلام أبي حامد رحمه الله تعالى من الأشياء التي قد تتراءى له كصوفي وكشخص من نوع خاص لا شك في ذلك ولا ريب، ولكن نريد أن نقول أن للعبادة أسرارا وإن اتباع الشارع هو الطريق إلى الوصول إلى هذه الأسرار، ولا يجوز لنا أن نزيد ولا ننقص، وهذه ملاحظة عامة إذا استمررنا هكذا لمسايرة كل شيء وللتخلص من كل قيد، فنستخلص من التكليف، والتكليف ما هو؟ هو إلزام لما يشق. التكليف له أحكامه وله أصوله وفي رأيي والله سبحانه وتعالى أعلم أنه يجب علينا أن نتقيد بهذه الأحكام وبهذه الأصول ولا شناعة في ذلك ولا غرابة. إذا قام المسلم في أي رقعة من الأرض ينظر إلى السماء ينظر إلى آفاق السماء ليرى الهلال ليرى سبب وجود الصوم فإنه شيء حسن جدا ومقبول، وقد أراحني الشيخ فذكر ما قاله ابن عبد البر رحمه الله تعالى في ذلك ونقله الحطاب عنه وإن كان في مذهب مالك من يقوم بعموم الرؤية كما قال خليل عما نقل به عنهما إلا أنها الرؤية وليست الحساب الفلكي.. وشكرا.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 811 الشيخ مصطفى الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم.. أحب أن أخالف الأخ الكريم الذي تكلم في تفسير الآية الكريمة {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فسرها بأنه يعلم "الكتابة والحساب" وما إلى ذلك. الشيخ عبد الله بن بيه: أنا لم أقل ذلك مطلقا. الشيخ مصطفى الزرقاء: هذا الذي سمعناه وأرجو عدم المقاطعة بهذا الشكل وأنا أتكلم أي نظام هذا، يمكن أن تضبط الجلسة "موجها كلامه إلى السيد الرئيس". الشيخ عبد الله بن بيه: فقط أنني أريد ألا تجيب عن مسألة أنا لم أقلها.. الكتابة تحدثت عنها بعد ذلك وذكرت دليلي. الشيخ مصطفى الزرقاء: فالذي سمعته وسمعه بجانبي أيضا فضيلة الشيخ البسام وكذلك أظن للجماعة آذانا أننا سمعناه يقول "يعلمه الكتابة" حتى يمكن ذكر الحساب أيضا أو القلم لا أدري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 812 ولا شك أن الكتاب في الآية الكريمة هو القرآن يعلمه القرآن وإلا لتناقضت الآية مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) فكيف هذا، ثم أذكر شيئا لكي يسال عنه أهل المعرفة من الفلكيين، أنا الذي كنت قرأته في دراستي الأولى أن القمر ليس كموضوع الشمس، الشمس مطالعها بحسب خطوط الطول التي ذكرها أخونا الأستاذ فرفور، أن هذه الخطوط تجعل المطالع تختلف ثانية وثانية، يعني مع الدوران دوران الأرض المطالع التي على خطوط الطول الواحدة تشرق عليها الشمس في لحظة واحدة والتي بعد ذلك تشرق عليها بعد ذلك إلخ.. أما القمر فإنه يرى من نصف الكرة الأرضية كلها في وقت واحد، يعني موضوع القمر يختلف. هذا الذي درسته في علم الفلك في دراستي الأولى. وأذكره للبحث. ثم بالنسبة لكي لا آخذ الكلام مرة أخرى أخونا الأستاذ الكريم الأستاذ فرفور ذكر في كلمته شيئا أنه يرى أن الرؤية التي يجب أن يؤخذ بها هي ما يرى بالعين الباصرة أو بالتلسكوب من سطح الأرض لا من على شاهق لأن العلو يغير مكان الرؤية. فأنا ألاحظ أن الذي ذكره صحيح بالنسبة إلى الرؤية التي ترى فيها الأفلاك من مشارقها "من جهة الشرق"، من المشارق إذا كنا على مكان عال نرى الشروق قبل من يراه من على سطح الأرض، أما في رؤية الهلال، الهلال يكون من الأعلى ينحدر إلى الأفق الغربي وفي هذه الحال لا فرق بين أن يكون على شاهق أو يكون من على سطح الأرض ما دام الهلال يأتي من علو وينحدر ليغيب في الأفق. فالعلو لا تأثير لذلك ما دام أنه لا نراه بعد الغروب وإنما نراه قبل أن يصل إلى الأفق الغربي فلا فرق بين الشواهق وسطح الأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 813 الشيخ عبد الله بن بيه: سيادة الرئيس، أريد أن أصحح هذا فقط ملاحظة صغيرة. الشيخ السلامي: فيه نقطة نظام ما أحد يتكلم إلا بإذن. الرئيس: سنعطيه الكلمة لأنه كلمة تتعلق بجناب النبي صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يصححها ولو نقطة نظام. الشيخ عبد الله بن بيه: في الحقيقة إني أود أن ألاحظ ملاحظة بسيطة لا أوجهها إلى الأستاذ الكبير ولكن تنبغي النزاهة في البحث الذي نبحث. أنا لم أقل أبدا ولم أفسر قوله تعالى {يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} لم أفسره بالكتابة بل قلت بعد ذلك عطفت عليه وقلت وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم الكتابة وذكرت قضية أسرى بدر، وأن الفقير منهم كان يؤمر بتعليم الكتابة ليكن بذلك واضح جدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 814 الرئيس: هذا صحيح وهو الذي سمعناه وعلم يا شيخ.. والشيخ عبد الحليم. الشيخ عبد الحليم الجندي: أشكر السيد الرئيس.. أنا لا أريد أن أدخل في هذا الجدل الفقهي أو الأصولي الذي سلف به أساتذتنا وأصدقاؤنا، إنما أريد أن أنبه أن الأمر مما عمت به البلوى. حتى أن المؤتمر الإسلامي أشاد بالقرارات الصادرة من المؤتمرات الإسلامية السابقة للوزراء الداعية إلى توحيد الشهور القمرية بالدول. وأشكر للأمانة أيضا أنها نبهتنا إلى هذا وأحسنت إذ وضعته في الملخص الذي بين أيدينا. هذه إذن مسألة مما يعمل وزراء الخارجية من أجل درء مفاسدها التي يعانيها سفراؤهم أو يعانيها المسلمون في شتى الدول العربية. إذن نحن أمام مسألة يجب أن نتفق عليها أو نعلن نهائيا أننا اختلفنا فيها ونترك الأشياء معلقة على ما هي عليه، إنما يجب أن نصدر فيها قرارا لنريح بال وزارات الخارجية للدول الإسلامية جميعا. فيما يتعلق بالرؤية ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) الرؤية كما تكون حاسة بالبصر تكون عقلية أيضا لأن البصر لا يأمر بالصيام ولا بالإفطار وإنما الذي يصدر الأمر بهذا هو العقل. والله أن ناشد الناس ناشد {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} ، فالفؤاد هنا هو القلب أو العقل والذي يصوم أو يفطر هو المرء بعقله وينفذ وليست العبادة في رؤية القمر أبدا وإنما العبادة في الصوم. بأن نتعبد، بأن يفسر الرؤية بأنها مجرد الرؤية بالعين ونقف عند ذلك أن أتاح الله لنا وجها آخر أدق وأبصر وأوثق ويمكن أن يجتمع عليه العالم، أن صنعنا غير ذلك نكون قد فرطنا شيئا ما، وقد انسقنا وراء ما قرأنا في كتب السابقين، الذي لا جدال فيه أن كتب السابقين عظيمة وكلهم أهل ورع. المراجع اليوم تسوق فقهاء في أعلى درجات من الورع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 815 الرئيس: يا فضيلة الشيخ.. أرجو أن تتفضل بكلمة بسيطة.. تعرفون أن الرؤية الحقيقية المحققة ليس وراءها ما هو أدق ولا أمكن ولا أكثر يقينا منها. وهي التي علق بها الرسول عليه الصلاة والسلام، قصدي ملاحظتي ولو كانت بسيطة أرجو أن تكون في الاعتبار إذا تفضلتم أن كون ما خرج من الحساب أنه أدق وأتقن من الرؤية التي علق عليها الشارع لأن الشارع لا يعلق إلا على أمور معصومة، فالرؤية المحققة التي ترى بالعين المجردة والتي علق عليها الشارع الحكم لا شك أنها هي التي فيها العصمة. قصدي التفضيل على أنها هو أدق وأحكم أو شيء من هذا القبيل، ولعلني أكون مخطأ. الشيخ عبد الحليم الجندي: لست مخطئا أبدا، ولكنه تحفظ. والتحفظات مريحة وهي تريح المؤتمر أيضا. إنما نحن قلنا أن الرؤية بالبصر هي الأصل وقد كانت كذلك عندما لم يكن هنالك رؤية غيرها، إنما قلت تعبيرا أرجو أن يكون قد اتضح وهو: أن الرؤية بالبصر لنصوم ليحكم العقل بأن الصيام وقع. فالرؤية بالبصر طريقة إلى أن يفهم العقل وينفذ العبادة. هذا كلام أقوله وأرجو أن لا أطيل فيه فشرحه أيضا تكرار. إنما أريد أن أقول شيئا آخر: إننا إذا رأينا أن نؤجل هذه المسألة فإننا لن نحتاج إلى خبراء لأن هذه مسألة الخبراء قد نظرت في أماكن كثيرة وهي ثابتة ولا جدال فيها، وشيء آخر أيضا، لا يجوز لنا أن نصرف النظر عن هذه المسألة إذا كانت قد نظرتها جهات أخرى، فإنما الأمر لهذا المؤتمر وهو مطروح عليه وهو الذي يبدي رأيه فيه وهو الذي ناشده مؤتمر وزراء الخارجية أن يتكلم فيه. ولذلك أرجو أن لا نرجع إلى جهة أخرى سبقتنا، فإن الجهات الأخرى جميعا أكثر من جهة، نظرت وأبدت آراء بعضها مختلف وبعضها متفق، ولذلك أرجو أن تكون الكلمة الأخيرة لهذا المؤتمر باعتباره مؤتمر عامة المسلمين وشكرا. الشيخ مختار ولد أباه: بسم الله الرحمن الرحيم لا أريد أن آتي بشيء بالنسبة للحكم الفقهي لأن هذا موكول للعلماء الأجلاء، فقط أريد أن أبين بعض الإجراءات المتخذة حاليا من قبل الحكومات، حكومات الدول الإسلامية ومن قبل منظمة المؤتمر الإسلامي في هذا الموضوع لعل هذا يساعدنا على فهم بعض جوانب القضية ككل. تعرفون أيها المشايخ أنه منذ ثماني سنوات والوزراء، وزراء الأوقاف مهتمون بهذه القضية. وقد كونوا لجنة خاصة لها أمانتها ولها جهازها، وهذا طبعا قبل إنشاء هذا المجمع الفقهي. وهذه اللجنة تتكون من أندونيسيا وبنجلاديش، وتركيا، وتونس، والجزائر، والسعودية والعراق، وقطر، والكويت، وقد أصدرت عدة اجتماعات وآخر اجتماع لها كان في الأشهر الماضية في مكة المكرمة برئاسة سماحة الشيخ عبد الله بن باز، وزيادة على الأعضاء الذين هم باللجنة، شارك أيضا كذلك في أعمالها بالأردن، والإمارات ودولة البحرين والسودان وماليزيا. وكانت اللجنة مكونة من علماء وفقهاء وممثلي وزراء الأوقاف ومعهم خبراء، خبراء في علم الفلك من المسلمين الذين يمثلون هذه الدول. وطبعا كانت مناقشة حول جميع قضايا المطالع وقضايا الفلك والحساب والرؤية وما إلى ذلك. غير أن الفلكيين المسلمين قدموا جداول، وهذه الجداول موجودة بين أيديكم في هذا البحث. وهي تتناول سنتين، السنة الهجرية 1407 والسنة الهجرية 1408 وأربعة أشهر من سنة 1409 ويبينون فيها مثلا تاريخ الاقتران وتاريخ ميلاد الهلال لكل سنة بالمقارنة مع التقويم الشمسي، وهي تقريبا سهلة للاطلاع عليها حيث إنها في صفحتين فقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 816 وللجواب على بعض الأسئلة تلاحظون أنه فقط يعتقد الفلكيون أن هذه الجداول يمكن أن تطبق على جميع العالم ما عدا استثناءات بينوها وهي مثلا، أن رمضان بالنسبة لسنة 1408هـ سوف يكون ميلاد هلاله بالنسبة للعموم في يوم 17أبريل 1988 وأنه بالنسبة لأمريكا سوف يكون هناك فرق في يوم فقط. هذا بحسب الجداول والخرائط والحساب الذين عملوه. طبعا كانت المناقشة أيضا بين الفقهاء عادة مثل المناقشة بين الفقهاء في كل مكان، ولا شك أن وزراء الخارجية يودون الاستنارة برأي المجمع لأن هذه القضية مطروحة عليهم في فاس وسوف يتخذون فيها موقفا لكن هذا الموقف لن يكون شرعيا إلا إذا كان معتمدا من جانب موقف المجمع الفقهي. ثم أن الاجتماع الأخير بمكة، كان هناك إجماع للمجتمعين. اتفاق كامل بالنسبة للمشاركين في المؤتمر حول اعتماد هذه الجداول مع تبيان أنه فضيلة الشيخ عبد الله بن باز قال: أنا أوافق على هذه الجداول لكن فقط بالنسبة للأمور العادية بالنسبة للتوثيق وبالنسبة للمسائل الشرعية وتبيان التواريخ للمسلمين لكن قال أنه في رأيه بالنسبة لرمضان وبالنسبة للفطر وبالنسبة للحج أود أن يكون الاعتماد فقط على الرؤية. المهم أنه أردت فقط لفت أنظار العلماء الأجلاء على وجود هذه اللجنة التي كونت قبل اجتماع المؤتمر وعلى أن القضية سوف تبحث في مؤتمر وزراء الخارجية، وإن مؤتمر وزراء الخارجية سوف يستنير برأيكم في الموضوع. وإنكم عندكم الجداول التي أقرها الفلكيون الذين شاركوا في هذا الاجتماع الأخير الذي وقع في مكة حول هذا الموضوع، وشكرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 817 الشيخ تسخيري: فيه إشكالات ترد على الأستاذ تطرح كلها أما أن نعبر الموضوع إلى موضوع آخر ما راح نصل. هناك إشكالات على سيادة الأستاذ يجب أن تطرح حتى يجيب عليها.. هناك إشكال علمي يطرح هنا ويرجأ الإجابة عليه لينير. الشيخ وهبة الزحيلي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحقيقة أنني أردت أن أوضح مجملا أو خلاصة من هذه البحوث التي استفدنا منها جميعا، وأبين الخلاصة التي يمكن أن نترجمها إلى واقع عملي. لأول مرة في هذه الدورة وجدت أصحاب البحوث الأربعة قد اتفقوا على جواز الاعتماد في إثبات الأهلة على الحساب الفلكي. هذا شيء، الشيء الثاني، مما لا شك فيه أن الفقهاء بالرغم من اختلافهم في قضية الاعتماد على توحيد بدء الصيام والأعياد فقد قرروا جميعا أن اختلاف المطالع من حيث الحقيقة والواقع أمر قائم ثابت لا إشكال فيه، اختلاف المطالع قائم وثابت ولكن هل يلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب أم لا؟ فذلك هو محط الخلاف رأيان. الشيء الثالث لا أريد أن أدخل وأقيس الصوم على الصلاة، فالصلاة كما هو معروف منوطة بالشمس لا بالقمر وهي مرتبطة بالتاريخ اليومي {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} يفهم من هذه الآية أن مواقيت الصلاة مرتبطة بالشمس لا بالقمر، وكلامنا في القمر لإثبات بدء هلال الشهر ونهايته. أما ما يتعلق بتعليل حكم الرؤية وربطها بوصف الأمية، نحن نقطع ونؤكد أن وصف الأمية لا ينسحب على جميع الأمة الإسلامية إلى يوم القيامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 818 وإنما هذا وصف وقتي لوضع وحالة العرب في زمن الرسالة وهذا مفهوم والواقع يؤيده، لا شك أن الأمة لم تعد أمة أمية منذ قديم الزمان بل من العصور الأولى في العهد العباسي وإلى هذا اليوم، وصف الأمية انتفى عنهم، ولكن المشكلة تكمن في أننا هل نعتمد في إثبات الأهلة على الرؤية البصرية أم على الحساب. لا شك أن جمهور الفقهاء نفوا الاعتماد على الحساب وقالوا بغض النظر عن العلة التي بدئ بها الحديث ((نحن أمة أمية)) وإنما نظروا إلى ظاهر الأمر. دائما الإسلام كما هو معروف يخاطب الناس على النحو المبسط الميسر الذي لا تعقيد فيه ولا إشكال, والدليل على أن القضية قضية الاعتماد على الحساب فيها إشكال أن العمل بين المسلمين على الرؤية البصرية لقوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته)) ولا يمكنني أن أميل إلى قضية الرؤية القلبية, فتفسير هذا الموضوع فقها منصب إلى الرؤية البصرية لا إلى الرؤية القلبية فالأحكام لا تناط بقضية الرؤية القلبية يقينًا وإنما المعول عليه هو الرؤية البصرية لا الرؤية القلبية. لكن المشكلة الآن تكمن في الحقيقة في تعصب مذهبي. نريد أن نساعد وننجز أمرًا أو حدثًا ونكون جريئين في الواقع في قضية توحيد بدء الصيام والأعياد وحينئذ لا غضاضة في أن نتجاوز بعض الآراء ونرجح بعض الآراء الأخرى, فالقضية هل من الممكن أن نتجاوز هذه الخلافات المذهبية والعصبيات المذهبية ونرجح رأيًا هو رأي أئمة معتبرين في الحقيقة والواقع, ونعتمد الرؤية ولا مانع من أن ينضم إليها الحساب أو الحساب مع الرؤية ونوحد بدء الصيام ونهايته فيكون في ذلك في اعتقادي من قبيل الترجيح والعمل بالسياسة الشرعية , هذا الترجيح واقع يفرضه حركة العالم السريعة الآن وأوضاعهم العلمية ونحن في عصر العلم, وعصر العلم يفرض وجوده في كل شيء, في التخطيط في الحساب في كل شيء اليوم العلم يفرض وجوده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 819 فلا مانع ونحن عندنا هذه الثروة الفقهية, وفقهاء وأئمة معتبرون لا مانع من أن نرجح من قبيل العمل بالسياسة الشرعية مذهب الإمامين أحمد وأبى حنيفة ونقول بضرورة توحيد هذه الشهور ويلزم أهل المشرق بما يراه أهل المغرب والقضية قضية الاعتماد على الحساب ممكن أن يضم لها رؤية, فأصحاب المرصد عندما يرون ذلك يأتون بشاهدين مسلمين انظر في هذه الاتجاه, فلا شك إنهم سيرون بالإضافة إلى التذكير بالمرصد الفلكي لا شك أنهم سيرون القمر ويكون المرصد عاملًا مساعدًا لهم. في الحقيقة هذا الموضوع يشغل العالم الإسلامي منذ ربع قرن وللآن لم نصل فيه إلى نتيجة ومجمعنا فعلًا كما تفضل الأساتذة هو الأمل المرجعي في أن يفصل في هذا الموضوع والقضية قضية ترجيح ولو مانع من الأخذ بأحد الرأيين وترك الرأي الآخر وننهى هذه المشكلة ولا داعي لإطالة البحث فيها ونتخذ قرارًا ولو خالف في رأيه قرار مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة , فنحن طبعًا لنا صفة أعم وأشمل وحتى قرار مجمع الفقه قال" لا حاجة. ونحن وجدنا الحاجة متعينة في الحقيقة, والأوضاع تقتضى أن هناك حاجة إلى هذا الأمر, فلذلك لا يكون قرارنا مخالفًا لقرار مجمع الفقه بمكة, فنقدر الحاجة والحاجة قائمة, والعمل على هذا الموضوع خصوصًا إذا انضمت إليه قرارات وزراء الخارجية كما تفضل الأمين العام المساعد, فلا بد من أن نصل إلى نتيجة وأرفض كل الرفض قضية التأجيل والتأخير والإمهال إلى ندوات أخرى فذلك لم يعد من قبيل مما يقبل خصوصًا ونحن نمثل في هذا الاجتماع دورة سبقت بعدة بحوث ودورات ومؤتمرات ولكن لتكن الكلمة والحسم لنا في الموضوع. وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 820 الشيخ على العصيمى: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. لقد كفاني كل المتكلمين بوجوب الأخذ بالأمرين معًا بالرؤية البصرية والرؤية الفلكية. الرؤية البصرية رؤية عين صغيرة والرؤية البصرية الفلكية رؤية عين كبيرة واسعة فهي رؤية. ومن ذا الذي يخالف في أنها رؤية, إنها رؤية عين ولكنها كبيرة وواسعة وقديرة على التدقيق والنظر بأكثر ألف مرة من الرؤية البصرية, إنها تحديد. يعنى الرؤية البصرية الواسعة التي هي الفلكية هي بصرية أم هي شيء غير ذلك؟ إنها بصرية ولكنها أوسع وأضمن أدق وأحوط. والمشكلة قائمة في الإسلام ما يمنع الأخذ بالأحسن والأصلح والأوفق والأجل والأجمل, فهل نؤخرها, إنه يجب الأخذ بالأمرين معًا والسلام. الشيخ على التسخيرى: أحب أن أسأل أستاذي الجليل الشيخ الزرقاء هذا السؤال. ما هو في رأيكم موضوع دخول الشهر؟ الموضوع الشرعي لدخول الشهر ما هو؟ هل هو الرؤية البصرية بالفعل ولا غير.. أو هو الرؤية البصرية بالفعل مع الاكتفاء بإمكان هذه الرؤية, فإن قلنا أن الموضوع هو الرؤية البصرية بالفعل فلا مجال إذا للحساب وإن قلنا المعيار هو الرؤية والاكتفاء بإمكان الرؤية, هنا قد يقال أن الحساب يوجد لنا قطعًا بإمكان الرؤية. والقطع حجة من أي سبب حصل ولا يمكن أن ترفض حجية القطع. الكلام هو: أن الإمكان, الإمكان فيه جانبان, هناك إمكان من حيث قابلية القمر للرؤية وهناك إمكان من حيث الفاعلية, من حيث فاعلية الناظر. الحساب غاية ما يمكن أن يثبت لنا أم0كان القمر للرؤية من حيث قابليته للرؤية. ولكن المهم لدينا هو الإمكان الفاعلي. هل يستطيع الحساب أن يثبت إمكان الناظر بالفعل, إمكان فاعل (يعنى هو من حيث الفاعل يستطيع أن يرى) الحساب لا أقول محال ولكنه في الغالب الأعم لا يستطيع أن يثبت لنا إمكانًا فاعليا. نعم لو أن الحساب أثبت لنا ذلك أنه الفاعل أيضا بالقطع كان يستطيع أن يرى, فنحن نصدقه وهذا نظير بلدين متجاورين يرى الهلال في أحدهما والسماء في الآخر فيها علة فلا يرى, متجاوران يقطع العرف بالإمكان الفاعلي في البلد الآخر, ولا ريب في أن البلد الآخر المجاور يأخذ بهذا المعنى.. هذه نقطة. النقطة الثانية التي أركز عليها, الواقع ليست مصيبتنا أيها السادة هو الحساب المهم هو ما ركزت عليه. لنفترض أن المعيار هو الرؤية البصرية لكن هل تكفى الرؤيا البصرية في مكان ما لكل الأرض أو أنها لتلك الحالة. هذا هو المعيار. فإذا استطعنا أن نصل إلى رأي في هذا المجال, الرؤية البصرية تحدث أن لم تحدث هنا تحدث هناك, لا نحتاج إلى الحساب حتى نحل هذه المشكلة, أرجو أن يجيبني الأستاذ على ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 821 الشيخ مصطفى الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم .... جوابا على ما سأل عنه الأخ الكريم أقول لا مجال لهذا التساؤل أبدًا, إذا افترضنا أن الحساب الفلكي غير موجود أو غير يقيني بل هو ظني, يعنى في مثل الظرف الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) في مثل هذا الظرف, يعنى معناه لا نستطيع أن نعرف بطريق الحساب متى يهل الهلال. في مثل هذا الظرف لا مجال لهذا التساؤل, لأنه إذا لم ير بالفعل فلا يمكن أن يقال هل الحساب يثبت أنه يمكن أن يرى أو لا؟ لأنه لا حساب في ذلك الظرف حيث لا يكون هناك علم فلك أو يقيني, فالتساؤل غير وارد لأنه لا بد من الرؤية بالفعل لا بإمكان الرؤية, إذ عند عدم الحساب كيف نستطيع إذا غم علينا كيف نستطيع أن نعرف إمكان رؤيته, هذا غير ممكن, فلذلك يكون إذا افترضنا الموضوع في مثل ظرف ليس فيه علم حساب يقيني لا مجال لهذا التساؤل وإنما المناط هو الرؤية البصرية الواقعة حيث يرى بالفعل. ولكن إذا افترضنا وجود علم حساب دقيق يقيني وصل من الدقة إلى درجة لا شبهة فيها كما في زماننا مما أوضحناه, فهذا التساؤل وارد أن هذه العبرة لإمكان الرؤية أو العبرة لأن يرى بالفعل أيضا فلا شك أن الجواب أن العبرة لإمكان الرؤية. لما يثبت الحساب الفلكي أن الهلال يولد في الساعة الفلانية والدقيقة الفلانية واللحظة الفلانية وأنه بعد كذا مدة حتى يبلغ درجة كذا الدرجة الثامنة وغيرها, وهذا متروك لأهل الفلك, يمكن أن يرى من الأفق إذا – طبيعي الحساب الفلكي لا بد أن يضع هذا التحفظ –إنه يمكن أن يرى إذا لم تكن هناك حواجب للرؤية من غيم أو الضباب لأن الحساب الفلكي يعطينا هذا الإمكان ولكنه لا يستطيع أن يقول لنا أنه سوف يرى بالفعل ولو كانت هناك غيوم وضباب وحواجز تمنع الرؤية هذا لا يمكن أن يقوله الحساب, فلذلك يبقى العبرة إذا اعتمدنا الحساب وكان يقينيًا يسوغ هذا الاعتماد فإن العبرة عندئذ لما يثبت الحساب الفلكي أنه يمكن أن يرى بعد مضى كذا مدة من ميلاده أن يرى بالعين الباصرة السليمة من أفق أنتفت منه الحواجب الطبيعية التي يمكن أن تحجب البصر. هذا جوابي في الموضوع. والعبر لإمكان الرؤية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 822 الشيخ إبراهيم بشير الغويل: بسم الله الرحمن الرحيم ... الحقيقة مع تقديري لكل هذه الجهود.. المسألة من الواضح أنها مسألة خلافية ونفس الجداول التي أشار إليها الأخ الأمين العام المساعد تثبت ذلك وسأشير إلى بهذا, وأنا أرى أول ملاحظة عندي ألا يكون الضغط علينا ما يسمى بالرأي العام العالمي والخجل منه وما إلى ذلك, وهذا هو موضع الاستشهاد الذي قلناه في موضوع الصلاة, من المعروف أن الصلاة متصلة بالشمس ومربوطة بهذا الموضوع, لكن نقول لماذا لا يصبح الضغط علينا أيضا لأننا نحن نصلي نفس الصلاة في مواعيد مختلفة, من الممكن أن يجعلوها أمرًا مخجلا ويدخلوا علينا هذا الأمر, ليس الموضوع أننا لا نعرف أن موضوع الصيام مربوط بالقمر وهذا يتعلق بالشمس فهذا واضح, لكن أن يكون الضاغط علينا هو الخجل من أننا نقف للصلاة فنختلف في المواعيد أو كما يقال الآن لماذا نختلف في صيامنا, فليس كارثة أن تختلف المشارق والمغارب أو تختلف المطالع في الشهور القمرية, ليس كارثة حتى لو أخذنا بالحساب تفضل يا سيدي بالجدول الذي قدمتموه في الحساب سنصوم نحن اليوم 18/4/1988م وسيصومون في أمريكا وفى القسم الغربي يوم 17 أبريل. إذن حتى وفقًا للحساب سنختلف في الصيام, فإذا كان الأمر خلاف وإننا نظهر بمظهر الفوضى فهذا موجود حتى في الحساب على حسب ما قدمتموه إلينا, إذن لا يكون هذا هو الضاغط, الأمر الذي يجب أن ننظر فيه أن إمكانية أن نستفيد فعلا من الوسائل العلمية وما المانع أن نجمع بين الحساب والرؤية فنوجه إلى الرؤية على ضوء الحساب, لماذا لا نوجه إلى الرؤية على ضوء الحساب, فتثبت الرؤية ويكون الأمر منتهيًا ببساطة, أنا أعتبر أن الأمور الحسابية تساعدنا في تحديد أوقات الرؤية والتوجه إليها. هناك سؤال يدور في نفسي وأقدمه أو بهذه الكلمة التي لا توافق ولا تفارق.. أطرحه: افرض سيدي الأستاذ أن قلنا أن فلانا غادر عند الساعة كذا بالقطار المنتظم السريع وأنه سيكون عند المكان الفلاني الساعة كذا, فهل يصح لي أن أقول" إنني أشهد أن فلانا كان في المكان الفلاني عند الساعة الفلانية" هناك إنسان يتحرك بمعدل معين في ساعة معينة ومن المفترض أنه عند الساعة الفلانية سيكون هناك, فهل أنا شاهد على ذلك, أنا أعتقد أن وجه الموضوع أن الشهادة أمر يقيني يتأكده منا البعض فنصوم, ولا أرى أن هناك مشكلا كبيرا حول هذه القضية أن أفدنا من الحساب ووجهنا إلى الرؤية على ضوء الحساب وبذلك يتحقق الأمر ويكون واضحا ولا يكون هناك محل لهذا الخلاف الطويل في هذه القضية وشكرا ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 823 الأمين العام: بسم الله الرحمن الرحيم.. (صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم) . حقيقة أن الدراسات التي قدمت اليوم حول مشكلة الرؤية والحساب كلها جيد ومقنع سواء كانت هذه تتصل أو تمشي مع الفقهاء القدامى الذين آثروا الرؤية البصرية أو كانت تتصل بقضية الحساب واعتماده في تحقيق وحدة المواسم بين المسلمين كافة في مشارق الأرض ومغاربها, الذي أردت لفت النظر إليه, أمران عمليان نعيشهما وعشتها أنا شخصيا, وقضايا تقديرية لا بد من الانتباه إليها, والمراد بالانتباه أي أخذها في التقدير. أما القضايا العملية التي نعيشها فإني كنت من أشهر بسنغافورة وقيل لي عندما ارتفعنا إلى مكان عال هو الجهة الأكثر ارتفاعا لهذه المدينة, قالوا نحن نحاول أن نحسب الشهر وأن تقدره بطريق الرؤية فلا نستطيع ذلك لأن السماء في كل العام الأفق فيها مغطى محجوب ولذلك لا يظهر الهلال إطلاقا إلا بعد أن يرتفع في كبد السماء, فلا تمكن الرؤية إلا في اليوم الرابع والخامس إلى آخره, وبناء على ذلك فنحن نحتاج إلى التعاون مع جيراننا للاستنارة برؤيتهم أو الأخذ بالتقدير الحسابي لنكون على بينة من أمرنا في قيامنا بعبادات الصوم. وأما الأمر الثاني: فإني لاحظت أنا شخصيا بأن الحساب يقول بأن الرؤية مستحيلة في هذا اليوم وأن الشهر لا يمكن أن يرى القمر أو الهلال فيه إلا بداية من الغد. فإذا بالرؤية البصرية تثبت أن هذا اليوم وهو يوم الخميس يمكن أن يرى فيه القمر أو الهلال أو قد رؤي بالفعل وأن الحساب يكون متأخرا, فهذا إما أن يكون الحساب غالطا وإما أن تكون الرؤية غير صحيحة. وهنا أريد أن أذكر بما ورد في حاشية ابن عابدين من أنه قال"إن الحساب لا يعتد به إلا في مقام النفي" (شاهد نفى) فإذا قيل لنا بأن الرؤية البصرية تمت وتثبت أن الشهر بدايته اليوم وكان الحساب يقول بأن هذا غير ممكن, فهذا شاهد لبطلان الرؤية بالعين المجردة, فهي شهادة نفى تقدم في هذه الحالة. ثم هناك أشياء تلتقي فيها قضية النظر بالحساب وقضية الرؤية البصرية هو قضية اختلاف المطالع واتفاق المطالع. قضية اختلاف المطالع يبدو أن الفصل فيها ينبغي أن يقدم على الحساب والرؤية. إما أن يجمع المسلمون اليوم على أن الأخذ باختلاف المطالع لم يبق أمرا مأخوذا في الاعتبار, أن الأخذ باتحاد المطالع ينبغي أن يكون هو المسيطر على تقديراتنا لنوحد هذه المواسم ونجمع بين المسلمين كافة. أما إذا قلنا باختلاف المطالع فستظل دائما الخلافات قائمة. ثم النصوص التي تثبت الرؤية أو تعتمد الرؤية البصرية هي نصوص تؤدى إلى العلم بثبوت بداية الشهر. وكذلك الحساب هو طريق للعلم, لكن الذي جعل الناس في خلاف حول الحساب هو اختلاف أحوال الحاسبين في الماضي عن أحوال الحاسبين اليوم. فالحساب في الماضي لم يكن يقينا, لم يكن علما, كان شيئا من التخمين والحدث, ذلك أن الناس كانوا ينعتون بمنجمين وينعتون بسحرة, وأنهم يربطون النجوم والحظوظ وبدايات الشهور كل ذلك في صورة واحدة, وهذه الصورة معتمة لا يمكن القبول بها ولا الأخذ بشيء من نتائجها, ولذلك أجمع العلماء في الماضي على أنه لا يجوز الأخذ بقول أهل الحساب ولا المنجمين, أما اليوم فالحساب ليس عمل منجمين, الحساب هو أمر علمي يقيني وكل ما في العالم اليوم من تصريف للكواكب الصناعية التي تسير في الفضاء والمراكب التي تخترق الطباق العليا والتي تصل بالناس إلى الأفلاك وإلى القمر وغيره من الكواكب, هذه لم يصبح معها, لا يمكن أن يوصف معها العلم, علم الحساب بكونه ظنيا وإنما هي أمور قطعية واعتماد هذه الأشياء أمر ضروري في مواكبة الحياة ومواكبة التقدم العلمي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 824 وأنا حين أطرح هذه الأشياء لا أغلب جهة على جهة ولا رأيا على رأي وإنما أريد أن نأخذ في الاعتبار بهذه الحقائق كلها, وشكرا. الشيخ عبد اللطيف الفرفور: بسم الله الرحمن الرحيم.. أولا بالنسبة لما تفضل به بعض الأساتذه من أن هناك ضاغطا على المسلمين في قضية توحيد الشهور, فالواقع إذا تجاوزنا هذا الضاغط وهو موجود فعلا وقد لا نبالي به, إلا أن هناك ضاغطا من ذواتنا من عالمنا الإسلامي ذاته, فكيف يقبل إنسان فاسق أو فاجر أو إسلامه شكلي, كما هو أكثر العامة في زماننا هذا, كيف ندعوه إلى التدين والالتزام وهو يرى التناقض والتهافت في أعيادنا ومواسمنا. في سوريا صمنا يوم الأحد في بلد آخر صاموا يوم الاثنين في بلد آخر صاموا يوم الثلاثاء في بلد رابع صاموا يوم الأربعاء وقد يمكن أن يأتي بلد خامس أن يصوم يوم الخميس أو الجمعة. الأردن مرة عيدت يوم الأربعاء ونحن عيدنا يوم الجمعة فالمسافة بيننا وبين الأردن 210 كيلومترات بين دمشق وعمان , بيننا وبين بيروت 105 كيلومترات عيدنا نحن يوم الخميس في بعض السنوات وعيدوا هم يوم الجمعة, مواسم الحج ناس بيحجوا على جبل عرفات هناك يقولون "لبيك اللهم لبيك" وناس يقولون نحن اليوم التاسع من ذي الحجة "الهم إنا نسألك بجاه يوم عرفة " أي يوم عرفة هذا وناس يقولون هذا عيد, عيدنا كل عام وأنتم بخير, وناس يقولون الثاني من ذي الحجة, أي يوم هو اليوم الفضيل يوم عرفة الذي يحج فيه الناس, الناس الذين عيدوا يوم عرفة كان عندهم 8 ذو الحجة, وأناس كلن عندهم يوم عرفة عاشر ذي الحجة وهؤلاء الموجودون على عرفات حجهم مقبول أو غير مقبول, ما يدرينا لعل المليونين حاج هؤلاء حجهم غير مقبول إذا ثبت أن رؤية هلال ذي الحجة كانت رؤية غير صحيحة. هذه أشياء الآن نحن نعانيها, فهل يجوز هذا الوضع أن يبقى, هذه مسألة جديرة بالبحث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 825 ثانيا: القضية التي أثارها فضيلة الأستاذ الكبير الزرقاء حفظه الله وإياكم أولا, أنا أعجبت بفضيلته لأمرين.. الأمر الأول ما ترونه من أنه حفظه الله عضو في مجمع رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة وقع على القرار السالف وهو يقول: باختلاف المطالع, ويطالعنا فضيلته اليوم بالقول باتحاد المطالع بالكرة الأرضية كلها "ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضي" المجتهد قد يرجع عن اجتهاده, إلا أني أعجبت لأمر آخر هي قضية كيف يقول بأن توحيد المطالع للكرة الأرضية كلها ثم يقول أيضا فضيلته وسمعتم ما تفضل به ولعله سهو في أحدهما, سها في أحدهما, أن الأرض قسمين قسم معتم وقسم منور, فالقسم المنور المفروض يكون يرى أهل المغرب لما رآه أهل المشرق ويلزم أهل المشرق بما رآه أهل المغرب, إذن كيف نعمم الحكم بتوحيد المطالع على الكرة الأرضية كلها علما بأن القمر طالع في نصف فقط ولا يطلع في النصف الآخر, هذا سؤال أريد أن أجاب عليه.. الأستاذ الدكتور الزحيلي حفظه الله.. قال قضية الرؤية القلبية.. الرؤية القلبية ما هى في واقع الأمر رؤية وإنما هي حساب بإطلاق وإنما قلت إنه البديل هو فضيلته أول ما تكلم قال الباحثون الأربعة قالوا بالحساب وأدمجت معهم. لي الشرف أن أدمج معهم فهم علماء أفاضل, غير أن قولي يختلف عن أقوالهم, فهم بين قائل باختلاف المطالع بالمائة مائة وبين قائل باتحاد المطالع بالمائة مائة ولكني قلت قولا وسطا, وفقت فيه بين القولين ولا أدعي أنه الصواب فهو أحسن ما وصلت إليه.. فهب أن الكرة الأرضية نصفين فلنقل بتوحيد المطالع في نصفين, إذا ما شئتم تقول خطوط الطول, وأن هذه من الناحية الفلكية غير مقبولة, أنا أصر عليها حتى يظهر لدى علماء الفلك بطلانها, قضية تقسيم الأرض إلى ثلاث خطوط طول أمريكا قطر, وآسيا تقسم إلى قطرين, والنصف هو الخليج الإسلامي, الذي على يمينه فارس وعلى يساره الكويت هذا يقسم آسيا قسمين, إذا ثبت بطلان ذلك فلكيا, هذا التقسيم الثاني, فإن الملحوظ تقسيم الأرض إلى قسمين قسم أمريكا بدليل ما رأيناه من هذا التقويم الذي بين أيدينا فإنه يثبت أن القمر يرى في يوم وفى أمريكا يرى في يوم آخر. هذا التقرير أمامكم تقويم. فإذا أحببنا أن نوحد الشهور, بدايات الشهور نقول بتوحيدها لكن على أساس اختلاف القطر فنجعل آسيا وأفريقيا قطرا, وأوروبا طبعا معها, ونجعل أمريكا وحدها قطرا, واستراليا قطرا. هذا إذا أحببنا أن نقول بتوحيد المطالع, أما أن نقول بتوحيد المطالع في الأرض قاطبة من أولها إلى آخرها, فهذا أظنه فيه كثير من الإفراط في التوحيد الذي قد لا يقره علم الفلك.. هذه ناحية.. بعدما اكتشفت أمريكا في الواقع منذ أربعمائة سنة تغيرت موازين العلماء والفقهاء كثيرا, كان الناس لا يعرفون من الدنيا إلا آسيا وأوروبا وأفريقيا , ثم اكتشفت قارتان كبيرتان, الأوقيانوس (استراليا) وأمريكا أفنظل على ما قاله الحنفية إذا رأي أهل المشرق يلزم بأهل المغرب, طيب يا أخي كأن الدنيا كلها هذا العالم المعروف الآن أمريكا لا هي من المشرق ولا هي من المغرب. وأوقيانوسيا لا هي من المشرق ولا هي من المغرب, قطر قائم بذاته, فالقول بالاتحاد مطلقا إفراط, والقول بالاختلاف مطلقا تفريط, ثم قضية الأميين كما تفضل الأستاذ الزحيلي حفظه الله, هو قيد اتفاقي لا قيد احترازي كما هو معلوم, وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد وشكرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 826 الشيخ زكريا البرى: في كلمات في سرعة الضوء, لأني سمعت كلمات برقية وكلمات كذا, كلماتي في سرعة الضوء. أقول إنني سعيد بهذا الحوار واستفدت منه كثيرا جدا وأسعدني أنه نبهني إلى أني كتبت مقالا في صحيفة الأخبار القاهرية في أوائل السبعينات عنوانه "رمضان العربي وفبراير الإفرنجي" لأنني وجدت أن بعض البلاد الإسلامية صامت رمضان 28 يوما وقلت (لعل العرب والمسلمين لم يجدوا طريقا لتقليد أوروبا والإفرنج فيما يفيد ويغنى, فلم يجدوا إلا رمضان المقدس لكي يوصلوه إلى هذه النتيجة. وانتهيت في مقالي على حذر وعلى أدب لأنني أخاطب مجمعا فيه هذه التيارات وأكثر من أنه أرى الأخذ بالحساب العلمي. هذه قضية تنتهي بي إلى إنني بعدما سمعت ما سمعت أرى أن العمل بالرؤية المرصدية أصبحت متعينة وليست مجرد جواز. وإذا قيل بحدوث خلافات في هذا, فإنها مهما كانت ومهما يكن فلن تكون في بعد الشقة بين آثار الرؤية البصرية. أرى أن يكون هذا المجمع أو بعبارة أدق أمانته أن تتولى إعلان بدء شهر رمضان بالذات وقد يضم إلى ذلك شهور أخرى, لأنها في مكة المكرمة وهى أم القرى. وقد قرأت لبعض أساتذة الجغرافيا أن الدليل قائم علميا على أنها قطب العالم. إذن هي من الناحية الجغرافية هي العاصمة الوسط, وهى من الناحية الدينية هي عاصمتنا جميعا. ومنها ومن رؤيتها نحج في يوم عرفات لا برؤية أمريكا ولا برؤية مصر ولا برؤية الشرق ولا برؤية الغرب, وإنما برؤية مكة. وهذا أساس نتابعه. بعد ذلك أحب أن أقول تعليقا بسيطا على كلمة تكلمت بها رياستنا العالمة الموهوبة وهى أنه لاحظ في بعض التعبيرات لاحظ ملاحظة انتهت به إلى أنه يقول أن الشارع لا يربط إلا بالشيء المعصوم. وأنا إذا سمح لي أخالفه في ذلك, أن الشريعة الإسلامية تربط الحكم بالأمر اليقيني إذا كان ممكنا وإلا نقلت إلى الراجح , وقد تربط الأمر بالظاهر ولا تربطه بالباطن بحسب اختلاف التطبيقات. هذا ما أردت إيجازه بسرعة الكلمات الضوئية وشكرا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 827 الشيخ روحان إمباى: بسم الله الرحمن الرحيم (وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين) . أعتقد أنا نحاول إيجاد حل لمشكلة طرحت على العالم الإسلامي بأجمع, وكلنا نقدر خطورة هذه المشكلة لا سيما تجاه النشء الذي لا يدري إلى أين يتجه علماء الإسلام في هذه المسألة بالذات. وقد أشار إلى ذلك أحد الفضلاء آنفا. وأعتقد أن البحوث التي نقدمها لمعالجة مثل هذه القضية لا يمكن أن يقتصر علي الجانب الوصفي ولا على الجانب التاريخي لأن المشكلة مشكلة ميدانية. فالمشكلة نفسها ينبغي أن ننظر إليها بعين أو تحت منظار يكون مغايرا للمنظار الذي ننظر إليه حينما نعالج القضايا الفقهية البحتة. وأعنى بذلك أن ما جاء في بحث الشيخ السلامي الذي قال لنا أن إحدي الدول الإسلامية صامت يوم الأحد وإحدى الدول الإسلامية صامت يوم الأربعاء, لا يمكن أن تكون كل دولة من هذه الدول علي حق, لا شرعا ولا فلكيا ولا عقلا. لا يمكن أن تكون هناك أربعة أهلة في شهر واحد, هذا لا يمكن لا شرعا ولا فلكيا ولا عقلا. والمشكلة إذن أن يكون هناك اجتهاد نحاول أن نوحد كلمة المسلمين كي لا تتكرر مثل هذه الأشياء بدلا من أن ننظر إلى الفقه الإسلامي في أوانه الأول, لأننا مادمنا ننظر إلى المشكلة تحت هذا المنظار فلا بد أن يكون هناك تأثيرات مذهبية, وهذا يتمسك بالمذهب الفلاني وهذا يحاول أن يلفق ولا يتبعه الآخرون. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 828 الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم (وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما) . أعتقد أنه لابد من التفريق بين أمرين, تفريق ثبوت الشهر ووسيلة الإثبات, فالله لما ربط الصوم والفطر والحج إنما ربط ذلك بثبوت الشهر بالشهر والظرف الزمني, على أن هذه عبادة مرتبطة بظرف زمني, وأما الوسيلة ففي القرآن لم ترد وكلمة "شهد" لا يصح أن تحمل على "شاهد" ولأن "شهد " تسلطت على الشهر والمشاهدة هي للهلال لا للشهر. فحمل {شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . على مشاهدة الهلال فيها مخالفة لأمرين: إضمار لا حاجة لنا به, وإخراج "شهد" عن معناها الأصلي إلى معنى آخر وهو "شاهد", وإضمار مع مجاز يضعف هذا الاتجاه. إذن القضية هي وسيلة من وسائل الإثبات, ووسائل الإثبات عندنا وسائل ظنية, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمد الظن وذلك لما ترافع له خصمان فقال: "لعل أحدكما أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع" فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن بين يديه ولا بين يدي القضاة الذين سيردون من بعد من غالب الأحوال إلا الشهادات أو المرافعة بين الخصوم وهو يعتمد على ما يراه. فإذا جاء أمر يقيني يكذب الشاهد فإن الشهادة التي شهدها تلغى باعتبار أن الأمر يقيني مقدم على الأمر الظني, ومن هنا أتوجه إلى سيادة الرئيس في أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم هو معصوم ولا بد من أن نعلم أن كل فرد منا في هذا المجلس لا يختلف واحد عن آخر في إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يستحقه من الحب وما يستحقه من التقدير وما يستحقه من الامتنان لفضله, فمنته صلى الله عليه وسلم في رقابنا جميعا ولا يتهم أحدنا أحدا آخر بشئ في هذا المقام فإنه عندنا أنه من سب الله اختلف في كفره أما من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو استهان بقيمته فإنه كفر. القضية هنا الرؤية المحققة ليس وراءها أمر. هذا كلام نأخذه بكامل الاحتياط فأقول: أن الرؤيا هي قضية ظنية وأن الحساب أصبح أمرا يقينا لأته يقول علماء الفلك "إنه لو عدلنا مسار المسبار مقدار 10 سنتيمترات من الأرض لضاع في الفضاء ولما أمكنه أن يصل إلى مكانه". فالدقة التي كانت نظرية كما قلت في كلمتي صاحبها أمر آخر وهو الدقة التطبيقية, إثبات ما ثبت على القرطاس بما ثبت علما بما ثبت يقينا بالتجربة. وإذا اجتمعت التجربة مع النظر فقد انتهى الأمر. فاليوم كلما جاء اليقين والظن تبعنا اليقين وهذه قاعدة شرعية, فنحن لا نرفض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكننا نفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما يتناسب مع التقدم العلمي , وكذلك القرآن من الإعجاز العلمي للقرآن هو أننا نفهم القرآن اليوم فهما فإذا بالعلم يتقدم فنجد أن أفهامنا كانت ناقصة وأن القرآن هو فهمه ليس على ما فهمنا. فالعلم هو يساعدنا على فهم أفضل للقرآن وعلى فهم أفضل للسنة وعلى طريقة يقينية في أمور الوسائل للإثبات لا الإثبات الذاتي. وشكرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 829 الرئيس: الشيخ عبد اللطيف الفرفور: يا أستاذ يا سماحة الشيخ بس أمر خطير جدا- التعبير خطأ أرجوا تصحيحه. الرئيس: اتفضل والله أنا فاهم أنه أمر خطير جدا لكن الحقيقة أعرف أنه أمر خطير شاذ ولذلك أرجو إقفاله. إذا تفضلتم. اتفضل. اتفضل الشيخ عبد اللطيف فرفور. الشيخ عبد اللطيف الفرفور: سماحة الأستاذ السلامي حفظه الله أظن أنه قد سها وكلنا معرض للسهو مع إجلالي لفضله وعلمه فأنا الذي أعرفه وقرأته وليس هذا تخطئة له. لا. وإنما هو مجرد تذكير, الذي قرأته وقد عقد ابن عابدين رسالة كاملة في مجموع رسائله حول هذا الموضوع وهو سب النبي صلى الله عليه وسلم, الذي قرأته في هذه الرسالة وحفظته وقد أتى بنقول الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة أن الإجماع قد وقع فعلا على أن من سب الله عز وجل يكفر قولا واحدا ولكن هل تقبل توبته أم لا تقبل؟ فيما إذا تاب وشهد شهادتين ورجع للإسلام هل تقبل توبته أم لا؟ هنا الخلاف إلا أنه بالنسبة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فمن سبه كفر قولا واحدا كما يكفر بتلك ولكن هنالك الجمهور على عدم قبول توبته. الرئيس: أرجو عدم الإفاضة في القضية يكفينا تنبيهكم هذا جزاكم الله شكرا وأظن من قوله تعالى {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} أظن في هذا كفاية عن أي كلام يحصل في هذا الموضوع وشكرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 830 الرئيس: أرجو كأن بعض الإخوان أحب أن أحيطكم أن بقدر الرؤيا فإننا نسجل الأسماء ولكن بعض المشايخ قد يستبطئ ورود الاسم وإلا فنحن نقيد الأسماء وتسجل بدون مؤاخذة قد نرى ما لا ترون لأننا ندير الرؤيا يمين وشمال ونقيد إشارات لا ترونها فعندنا فنحن نقول بالرؤيا لا بالحساب فالشيخ مثلا الخليلي, الشيخ أحمد البزيع الشيخ رجب الشيخ الضرير الشيخ الجعيط الشيخ عمر جاه الشيخ عبد السلام الشيخ بن بيه الشيخ الشريف فأرجو ألا يستبطئ الإخوان وربما وقع غلط في الواحد والاثنين فتتحملون هذا لأن هذه الأمور قد تفوت على الإنسان بعض الشيء فإن رأي فضيلة الشيخ الخليلي أننا بهذا نكتفي وترفع الجلسة للصلاة ثم نعود إن شاء الله تعالى لاستكمال البحث وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم استأنف جلستنا هذه الشيخ الخليلي. الشيخ الخليلي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وشكرا معالي الرئيس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 831 في الواقع أنا حريص أن أستفيد أكثر مما أفيد لأن بضاعتي في كل شئ مزجاة وفي هذه المسألة بالذات في هذه الأيام القريبة لم أدرسها مع إنني في الأيام السابقة عنيت بدراسة بعض جوانبها ولعله قد علق بذهني شئ من المعلومات التي تتعلق بها منذ تلك السنين الماضية إلا أن المشايخ الذين تحدثوا جزاهم الله خيرا قد أغنوا عن ذكري للمواضيع التي قد كنت حريصا على ذكرها. وإنما أريد أن أتحدث في شئ لا يكون تكرارا لما قيل وإن كان في الواقع تأييد لرأي من هذه الآراء, هذه المسألة ذات شقين: الشق الأول: العمل بالحساب الفلكي في بداية الشهور ونهايتها أو في بداية الصوم ونهايته وتحديد مواعيد الأعياد في الإسلام. ينبغي أن ننظر أولا إلى أن دين الإسلام الذي شرعه الله سبحانه وتعالى للعباد وكلفهم به هو دين ميسر لكل أحد يفهمه الناس على اختلاف طبقاتهم الفكرية, فهناك الذكي وهناك الضعيف وهناك القادر على الفهم وهناك العاجز عن الفهم, فلذلك كان هناك الدين الحنيف دينا ميسرا ولم يكن دينا معقدا. وقد أناط الله تعالى العبادات بأشياء مفهومة للعباد, ورؤية الأهلة أمر مشترك بين جميع الناس ليس هنالك فارق ما بين الذكي والغبي والعالم والأمي بل ولا بين الرجل والمرأة أو الشاب والعجوز, إنما الكل في هذا الأمر سواء. بينما الحساب الفلكي هو أمر لا يعرفه إلا الخاصة من الناس, فقد يكون قطر بأسره ليس فيه حاسب فلكي. والأقطار التي عنيت بالحساب الفلكي الذين يتقنون هذا العلم هم قلة نادرة. فلو نظرنا إلى النسبة المئوية في هذه البلدان المتقدمة نسبة الذين يعرفون أو يتقنون الحساب الفلكي منتهى الإتقان وسائر السكان لوجدنا النسبة ربما لا تصل إلى واحد في المائة, مع أن عبادة الصوم مطلوبة من الكل, فأرى من هذا الإلزام, إلزام الناس بالأخذ بالحساب الفلكي أو فتح هذا الباب تكليف الناس أو تكليف عامة الناس بما يجهلونه, هذا من ناحية, أما ما ذكر من أن الناس أصبحوا الآن يعتمدون على الساعة مثلا في فهم مواقيت الصلاة مع أن الصلاة أهم ركن في الإسلام بعد العقيدة فهذا قياس مع الفارق لأن الساعة يضبطها الفاهم وغير الفاهم الشاب والعجوز, العالم الكبير والجاهل الغبي, كل منهم يستطيع أن يضبط الساعة, أما الحساب الفلكي فضبطه لا يتيسر إلا للقلة النادرة. فمن هنا أرى في إلزام الناس أو في إصدار فتوى بالأخذ بالحساب الفلكي إحراجا على الناس, هذا من ناحية الشق الأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 832 الشق الثاني: يتعلق بتوحيد الأهلة. لا أشك أن الذين يسعون إلى توحيد بداية الشهور ونهايتها لهم نية حسنة. وكما سمعت من كثير من الحاضرين أنهم يريدون أن يدرؤوا بذلك عن الإسلام والمسلمين تهمة الفوضى. لا أشك أن هذه النية هي نية ربط بعض العبادات بأشياء طبيعية, فعبادة الصلاة تبدأ صلاة الفجر مثلا بانشقاق الفجر, ولا يصح لأحد أن يصلي الصبح قبل انشقاق الصبح, نفس الشئ صلاة الظهر تبدأ بزوال الشمس, صلاة العصر تبدأ إذا وصل الظل إلى مقدار معين, صلاة المغرب تبدأ بغروب الشمس, وهكذا. فكذلك الصيام هو مربوط بحسب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤية الهلال, فإذا كانت في هذه البلدة الرؤية غير حاصلة وحصلت هذه الرؤية في بلدة أخرى بينها وبين هذه البلدة من المسافة الزمنية ساعات. ننظر مثلا ماليزيا بداية البلاد الإسلامية من جهة الشرق وبلاد المغرب وموريتانيا التي هي نهاية البلاد الإسلامية من جهة الغرب فضلا عن المسلمين الذين يسكنون في أمريكا والذين يسكنون في أستراليا والذين يسكنون في اليابان والذين يسكنون في بلاد أخرى. إذا ثبتت رؤية هلال رمضان أو رؤية هلال شوال في المغرب مثلا, بين المغرب وماليزيا تسع ساعات, فإذا ثبتت الرؤية في المغرب فمتى تثبت؟ تثبت في وقت تكون فيه ماليزيا تستقبل الفجر أو تستقبل السحر في وقت السحر بالنسبة إلى ماليزيا, بالنسبة إلى ذلك البلد تكون الرؤية متعذرة في هذه الحالة. وهكذا في بقية البلدان وما دمنا نحن في الصلاة مختلفين في الأوقات فكذلك في الصيام, وما دام صيام اليوم وفطر اليوم الواحد يختلف بين منطقة وأخرى بحسب اختلاف المطالع والمشارق فكذلك بداية تحديد دخول شهر الصوم ونهاية شهر الصوم لا يضيرنا شيئا إذا ما كان هنالك أي فارق هذا حسب ما أرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 833 ثم إذا جئنا إلى ما يؤثر عن السلف في هذا نجد حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه الإمام مسلم وأصحاب السنن من طريق كريب قال: (أرسلتني أم الفضل بنت الحارث والدة عبد الله بن عباس إلى معاوية بالشام فلما قضيت حاجتها ورجعت إلى المدينة سألني ابن عباس ثم قال لي: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقالت: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: ولكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل 30 أو نرى الهلال فقلت: أو ما تكتفي رؤية معاوية وصيامه؟ قال: لا. هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.) قد يقول قائل: أن هذا الحديث موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما والصحابي مهما كانت منزلته في القلب يجوز أن يخالف في الاجتهاد. أقول جوابا على هذا حسب نظري: أن الصحابي إذا قال: سمعت رسول الله, أو أمرنا رسول الله أو نهانا رسول الله, حسب ما عرفت من كتب مصطلح الحديث لأن لهذا الحديث حكم الرفع فقد ذهب كثير من العلماء إلى أن قول الصحابي نهينا عن كذا أو أمرنا بكذا له حكم الرفع, فكيف إذا نص على أن الآمر أو الناهي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا ريب أن بعض العلماء حملوا كلام ابن عباس رضي الله عنهما على أنه متأول لقول الرسول صلى الله عليه وسلم. صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته الذي يحتمل ضروبا من التأويل والجواب عن هذا ما الذي يكلفنا إلى أن نقول أن ابن عباس اعتمد إلى هذا الحديث بنفسه؟ ليس هناك دليل بأن ابن عباس رضي الله عنهما لما أراد ((هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.)) أنه أراد هذا الحديث بنفسه وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم. ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) . الفارق بين الشام والحجاز طبعا أقل من الفارق بين بلاد الخليج مثلا وبين بلاد المغرب وكذلك أقل بكثير من الفارق ما بين بداية البلاد الإسلامية من جهة الشرق ونهايتها من جهة الغرب فضلا عن الفارق الكبير بين أنحاء الكرة الأرضية. وأقول ابن عباس رضي الله عنهما في الحديث الذي رواه مسلم ولما أذكر نص الحديث ولكن حسب حفظي بأن الناس لما تراؤا الهلال قال بعضهم: هو لليلتين. وقال بعضهم: هو لثلاث, قال ابن عباس هو لليلة رأيتموه, فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أظلمه لكم لتروه)) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 834 نفهم من هذا الحديث ماذا؟ نفهم من هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يقطع على الناس باب الجدل والشك والدخول في الأشياء التي أكثرهم لا يستطيعون أن يضبطوها, وإلا فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان لم يكونوا من البدائية بحيث يجهلون منازل القمر وتختفي عليهم منزلة القمر إذا كان لليلة واحدة أو إذا كان لليلتين أو إذا كان لثلاث حتى يقال: أن لغيرهم حكما آخر, هذا حسب ما أرى. ولا أرى على نفسي حرجا إذا قلت: لا أعلم فيما لا أعلم, فأنا لم أعلم وجه قول أستاذنا وأخينا فضيلة الشيخ عبد اللطيف الفرفور بأن العالم يقسم إلى ثلاثة أقطار مثلا البلاد التي نحن في جزء منها الآن تبدأ من منطقة الخليج وتنتهي ببلاد المغرب التي هي مطلة على المحيط الأطلسي. ما عرفت وجه هذا التقسيم بحيث تلزم مثلا سكان منطقة الخليج رؤية أهل المغرب ولا يعتبر أهل منطقة الخليج بالنسبة إلى الضفة الجنوبية من الخليج , لا تلزمهم رؤية أهل إيران مثلا وهم أقرب حسبما يبدو لي, ويكون أهل إيران أيضا غير ملزمين برؤية أهل منطقة الخليج وهم ملزمون برؤية أهل منطقة الخليج وهم ملزمون برؤية أهل اليابان.بقى في نفسي شئ من الإشكال بسبب قوله هذا وعلى كل حال, المسألة مطروحة لأصحاب الفضيلة العلماء الذين هم أبصر منى وأقوى على استخراج الأحكام من أدلتها.. وشكرا لكم معالي الرئيس وللحاضرين جميعا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 835 الشيخ أحمد البازيع ياسين: بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله والصلاة والسلام على سيدي رسول الله وعلى آله الطيبين الطاهرين الأتقياء الأنقياء وصحابته الكرام البررة ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وبعد. أنا أود أن أبين بالنسبة ما أعرفه عن الأمية عندما يصف الله سبحانه وتعالى نبيه بالنبي الأمي, هذا كمال للمصطفى صلى الله عليه وسلم وليس انتقاص. ولما يصف أمته {فِي الْأُمِّيِّينَ} بالأميين هذا كمال أيضا وليس انتقاص. لأن بالرغم من أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي أمي إلا أنه عندما نزل عليه الذكر الحكيم وأوحى إليه الله سبحانه تعالى مكنه من أن يقود العالم ولم تكن قيادته للعالم أو هدايته صلى الله عليه وسلم آتية له من فلسفة يونانية أو شرقية أو غربية, إنما هو معجزة الله الدائمة وهو القرآن. والأميون كذلك حملة القرآن إذا حملوه لا شك بأنهم يسودون العالم, وهذا ما أعتقد أنها دليل بالنسبة إلى ما ذهب إليه أستاذنا أو علة للحساب. ثم أن في وقت المصطفى صلى الله عليه وسلم فيه محاسبين. ثم الأمر الثالث عندما يكون الفقهاء إذا كان هناك نص من كتاب وسنة فلا اجتهاد, لماذا نكلف أنفسنا ما لا نطيق {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} . فما دام هناك نص ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) . فلماذا نكلف أنفسنا في غير ذلك. إنما أود أن أبين نقطة وهي قد لا تكون متوفرة في زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهي نقطة وصول الأخبار. الآن الكرة الأرضية كما تعلمون صغيرة, لأن الواحد في أي مكان يستطيع أن يصل بالتليفون وبالتلكس أو بالبرقية إلى سائر أقطار المعمورة. {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} . هذا نص من كتاب الله فإذا اتحدت الأمة في صيامها وفي فطرها فهذا شئ جميل وشيء مرغوب فيه وشيء مدعو له. وأيضا أبين عن الحساب, إنما يعتري الحساب الخطأ, إذ مجرد ما نقول حساب, فالحساب يعتريه الخطأ, كما يعتريه الصواب. ثم إذا قلنا أن الحساب منبثق من محاسبين, المحاسب أيضا يعتريه ما يعتري الشاهد. إذا قلنا أن في الشهود قد يكون هناك مدلسين أو مزورين, إنما قد يكون في الحساب محاسبين نفس الشئ. إنما الذي يظهر لي ما دام أن الأمة الإسلامية ولله الحمد متجهة إلى توحيد شئونها وأمرها وأن المشكلة ليست مشكلة مطالع واتحاد بل مشكلة اختلافات في الآراء أو ربما في السياسات, إذا كان والحمد لله الاختلافات ما هي موجودة من الممكن أن يقترح مجمعكم تكوين هيئة رؤية شرعية, تجتمع هذه الهيئة في أي مكان ترى, وليت تجتمع في مكة المكرمة , تستعين هذه الهيئة بالرؤية وتستعين بالمرصد وتستعين بالحساب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 836 فهذه الأمور الثلاثة, الوسائل الرؤية أولا, ثم إذا تعذرت الرؤية (غم عليكم) , إذا كان ممكن في الحساب أو إذا كان في المرصد كما قال أخوانا أنه في الحقيقة رؤية, إنما مكبرة, هذه بالعين المجردة وهذه بوسيلة تكبر الرؤية, ثم الحساب يأتي درجة ثالثة حسب رأيي. إذا كان من الممكن أن نقترح هذا حتى يخرج اجتماعنا بشيء عملي وأنا في الحقيقة لست فقهيا وإنما كواحد من عامة الناس ينشرح صدري وأستر سرورا عظيما بالغا عندما يقول: صام المسلمون في يوم واحد وأفطر المسلمون في يوم واحد. ثم ((صوموا لرؤيته)) هل هذا الأمر موجه فقط لأهل المدينة أو للأمة الإسلامية عموما، للأمة الإسلامية عموما من نبي الأمة عموما، إذن لو كان النبي صلى الله عليه وسلم في مقدوره أن يصل إلى هذا العلم إلى العالم كله في وقته صلى الله عليه وسلم، والكرة الأرضية كلها مسلمة هل يقول لأهل المدينة: ((صوموا)) ولا يقول لأهل أمريكا ((صوموا)) عندما يقول ((صوموا لرؤيته)) الأمة الإسلامية على الكرة الأرضية كلها أمة إسلامية مثلا رئيسها واحد، ثم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته)) يعنى هذا الخطاب موجه لمن؟ للأمة عموما أو لكل منطقة على حدة ... ؟ أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. الشيخ رجب التميمى: بسم الله الرحمن الرحيم.. أود في كلمتي أن أحدد مسألة هامة وردت في أقوال الإخوة العلماء وهي مسألة إثبات شهر رمضان أو شوال أو ذي الحجة، الشهور التي تتعلق بها عبادات. أولا، الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين لنا في الحديث الشريف الذي لم يعارضه المسلمون ولم يختلف أحد من المسلمين على صحته ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فأن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما)) هذا الحديث الشريف هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول لا ينطق عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} . فهذا الحديث وهذا الأمر هو وحي يوحى، فهذا الحديث وهذا الأمر هو وحي من الله لا يجوز لنا أن نجتهد فيه لأنه لا اجتهاد في مورد النص، لأن العبادة متعلقة بالرؤية كما أمر الرسول، لا بالحساب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 837 وهنا أود أن أذكر شيئا، أن الحساب الفلكي لم يصل حتى الآن في تحديد الأشهر القمرية. مثلا، الأشهر القمرية شهر 30 وشهر 29 فيه شهرين يأتوا 29 وراء بعض، كما درست في علم الفلك في الأزهر الشريف فهمت أن تحديد الشهر كونه 30 أو كونه 29 لم يصل إليه الفلك. كذلك لم يصل الحساب الفلكي إلى معرفة الشهرين اللذين هما 29 وراء بعض إلا بالرؤية أما بالحساب فلم يصل ذلك قد درست هذا، والعالم والحساب الفلكي في الأشهر القمرية العربية هو حساب ظني، لكن الرؤية قطعية لا مجال للاختلاف فيها والرسول صلى الله عليه وسلم شرع لنا ذلك في عباداتنا. لا يجوز أن نقول إننا ننطلق إلى الحساب، لا بأس من أن نسترشد بذلك على أساس أنه ليس حكما شرعيا لأننا مقيدون بالأحكام الشرعية التي وردت في الكتاب السنة والأصول التي اتفق عليها الفقهاء.. أما قول الأمية، الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . تأمرون بالمعروف أي تفيضون على العالم بالعلم والحكة لتخرجوه من الظلمات إلى النور. فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إننا أمة أمية)) بمعنى أن هذه الأمة الأمية ستقود العالم إلى الخير وإلى العلم وإلى المعرفة، فهي كلمة فيها إعجاز، كرامة لهذه الأمة التي تبدل العالم من ظلم إلى عدل إلى رحمة إلى تقدم إلى فضل إلى كمال، هذه هي الأمة الأمية وليست علة أنها أمة "كذا وكذا" ولا تعرف أن تبدأ الشهر القمري، هذا كلام لا يقال، البدء بالشهر القمري الرؤية وحي من الله ولن يستطيع العلم ولن يستطيع الحساب الذي قلتم عنه إنه قطعي، أقول إنه ظني ولم يصل حتى الآن في تحديد الأشهر القمرية ولا معرفة الشهر 30 من الشهر 29 أو الشهرين 29 وراء بعض واسألوا بذلك علماء الفلك، فكلهم يطلع علينا بالمفكرات المتناقضة، يحسبون مقدما ثم يختلفون في المفكرات، لا تكون مفكرة مثل الأخرى لأن الحساب العلمي لم يصل إلى درجة القطع في الشهور القمرية لأنه لأمر أراده الله أن تكون الأشهر القمرية ثبوتها بالرؤية وتعلق الصوم والعبادات بها وبناؤها على الرؤية، وهذا أمر لا يجوز لنا أن نجتهد فيه ولا يجوز لنا أن نسمع، فيه حكا شرعيا مادام الحكم (إن غم) بسبب الأحوال الجوية نكمل ثلاثين يوما وانتهي الأمر.. هذا من ناحية إثبات الأهلة.. شيء واضح لم يختلف فيه العلماء بالرؤية من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا. الأمة الإسلامية كانت أعلم الأمم تقود العالم بالعلم في العصور الماضية، في العصر العباسي وفى الأندلس ما جاء واحد من العلماء وقال نحن كنا أميين وصرنا علماء إذن بودنا نحى الرؤية، هذا أمر لا يقوله مسلم أبدا. الناحية الثانية: هي ما اجتمعنا لأجله وهو توحيد الشهور القمرية.. طبعا كما ذكر إخواني العلماء المطالع تختلف وما يثبت في بلد لا يثبت في بلد غيره، أما أن العلماء قد اختلفوا في ذلك وبعضهم يقول: أن اختلاف المطالع لا يؤثر، وهذا حكم قاله الحنفية والحنابلة وفى هذا العصر أن ثبت في بلد في دقيقة واحدة يعلم العالم بهذا الخبر، فيمكن أن نجتهد في توحيد الشهور القمرية حتى يجتمع المسلمون في عباداتهم في صومهم وفى حجهم. طبعا الحج هو العبرة بثبوت الرؤية في مكة المكرمة وفي بلاد الحجاز لأنها إذا ثبتت وجب على المسلمين جميعا أن يقوموا بذلك وأن يحجوا في اليوم التاسع حسب ثبوت الهلال في البلاد الحجازية هذا أمر لم يختلف فيه العلماء أبدا، لكن لا مانع من أن نجتهد في توحيد الشهور القمرية حتى يتحد المسلمون، وإن لم نجمع على ذلك من عظمة الإسلام ومن كرامة الإسلام الاختلاف وليس فوضى أبدا، هذا من عظمة الإسلام، اختلاف المطالع والصوم ليس فيه فوضى أبدا. ويجب حينما نتكلم عن أحكامنا وعما ثبت في أحكامنا أن نتكلم بالاحترام والتقديس لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.. وشكرا لكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 838 الشيخ الصديق الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وسائر الأنبياء والمرسلين. وبعد. أولا أود أن أقول أن فضيلة الشيخ رجب قد قال كثيرا مما في نفسي ولكن لابد أن أقوله تأكيدا. هذا الموضوع في رأيي يتطلب الحديث في مسألتين.. المسألة الأولى ثبوت الهلال أو إثباته ولا فرق عندي بين الثبوت والإثبات، هل يكون بالرؤية ولا يصح الاعتماد على الحساب أم يجوز أن نعتمد على الحساب، هذه هي المسألة الأولى.. والمسألة الثانية: هي ما يسميه الفقهاء قديما باختلاف المطالع لأن في رأيي أن البت في المسألة الأولى يؤثر تأثيرا كبيرا على بحث المسألة الثانية. ولهذا أنا كنت أول الأمر أردت أن أقترح أن ينحصر الكلام في المسألة الأولى، لأنه إذا انتهينا فيها إلى رأي هذا سيوصلنا بسهولة إلى البت في المسألة الثانية إذا انتهينا إلى أن الاعتماد على الحساب المسألة ستكون يسيرة جدا في موضوع التوحيد. وكذلك سأتكلم الآن عن المسألة الأولى فقط وأرجئ المسألة الثانية إلى فرصة أخرى. قال المتحدثون الذين من رأيهم الاعتماد على الحساب: أن شهادة الشهود محتملة للخطأ ومحتملة للكذب إلى آخر ما قالوه. فهي حجة ظنية. نعم أقول معهم إنها حجة ظنية لكن هذا الاحتمال ليس حجة ظنية في إثبات الهلال وحده وإنما هي حجة ظنية في جميع الأحوال وشهادة الشهود يثبت بها ما هو أخطر من إثبات الهلال (هي تؤخذ في الدماء) فكيف نراها لهذه الاحتمالات هذه مجرد احتمالات، والواجب على من يتولى الأمر إثبات الهلال أو إثبات أي دعوى أخرى فيها شهود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 839 الواجب عليه أن يتحرى ويتثبت في أن هؤلاء الشهود عدول وأن يتخذ كل الطرق التي يصل بها إلى ما تطمئن به نفسه إلى أن هذه الشهادة حقيقة بحسب اجتهاده. هذه مسألة مفروغ منها، فشهادة الشهود وإن كانت ظنية فهي مقبولة من غير خلاف، فقد يقول قائل: وجدنا ما هو أثبت منها، وهذا ما قالوه. قالوا: أن الحساب الفلكي قطعي، وهذه ظنية، والقطعي مقدم على الظني نقول لهم: نعم، ولكن لا نسلم بأن الحساب الفلكي قطعي ولا قريب من القطعي كما قال بعض الإخوة. والدليل عندي الآن في هذا اليوم نحن الآن هنا اليوم الرابع عشر من شهر ربيع الآخر وفي السودان في اليوم الثالث عشر من شهر ربيع الآخر والتقويم موجود هناك وموجود هنا وكلاهما معتمد على الحساب الفلكي فأي الحسابين صحيح، ليس هذا في السنة التي حصل فيها الخلاف وندد فيا زميلنا وأظنه قد خرج وسخر من الذين صاموا 28 يوم كانت النتائج تختلف على ثلاثة أيام وهذا شاهدته بنفسي وعندي هذه النتائج كلها معتمده على الحساب الفلكي، فكيف نقول: أن الحساب الفلكي يقيني. هذه مسألة مشاهدة. وأحب أن أقف قليلا لأعلق على رمضان الذي جعل فبراير لأني أنا صمت هذا رمضان ذلك 28 يوم ولكني قضيت يوما وصام معي عدد كبير من السودانيين بناء على فتوى صدرت من مجلس الإفتاء وأنا أحد أعضائه عندما سمعنا بأن الهلال ثبت في السعودية وكان ذلك قبل الفجر فأصدرنا فتوى بأن هلال شوال ثبت وعليكم أن تفطروا في هذا اليوم وتقضوا يوما لأنه تبين مادام ثبت الهلال ومعروف عند جميع المسلمين أن الشهر لا يكون 28 يوما إما 29 أو30 فأفتينا بأن يفطر المسلمون في السودان لأنه ثبت أن هذا اليوم عيد ولا يجوز الصوم يوم العيد وعليهم أن يقضوا لأنه تبين أنهم تركوا يوما في أول شهر رمضان، هذا هو ما حدث بالنسبة لمسألة 28 يوما ولا يصح أن يندد بها ويسخر منها وليست هذه المسألة أول ما حصلت. هذا حصل حتى في العصر الأول على ما أذكر حصل مثل هذا، فأعود إلى موضوع الحساب الفلكي ومسألة الظنية والقطعية، هو واضح أن كلا الطريقين طريق ظني إلى الآن على الأقل، الحساب الفلكي ظني، إذن لم نترك ظني إلى ظني؟ نترك ظني ثبت كما قال الإخوة ولا أريد أن أدخل في هذا. ثبت بالحديث الصحيح الأمر بالرؤية وأن الثبوت يكون بالرؤية، فرأيي هذه المسألة هي في نظري واضحة ولا يصح الاعتماد على الحساب الفلكي وحده. لكن مع ذلك قد أقترب من رأي الأستاذ الزرقاء وأقول وقال هذا الرأي بعض الإخوة أيضا: أن علينا أن نجعل الأصل ونعتمد على الرؤية مع الاستعانة بالحساب الفلكي، وأن نحث البلاد الإسلامية على الاهتمام بالرؤية لأن هذه مسألة واضحة في هذه الأيام. المسلمون لا يهتمون برؤية الهلال بتاتا، أذكر أنه قبل ثلاثين سنة كان اهتمام شديد برؤية الأهلة وفى كل شهر وليس في شهر رمضان فقط. وهذا كاد ينعدم الآن ويمكن في كل البلاد. فيجب أن نحث المسلمين على الاهتمام بالرؤية، رؤية كل شهر مع الاستعانة بالحساب الفلكي. وأعنى بالاستعانة بالحساب الفلكي مثلا الآن في هذا الشهر نريد أن نتحرى هلال شهر ربيع الآخر النتائج تقول 29 يوما والنتيجة الأخرى تقول 28 يوما أتحرى يوم 29 فإن رأيته الحمد لله الرؤية أيدت هذا الحساب الفلكي، لم أره يأتي اليوم الذي بعده وهو 29 بناء على حساب آخر أيضا أتحراه ولا أعتمد ولا أكمل هنا، ولا أقول أكمل ربيع الثاني 30 قياسا على إكمال شعبان لابد أن أتحرى وأنظر فإن رأيته أعتبر أن النتيجة الثانية هي الصحيحة ولا أعتمد على أي من الحسابين الفلكيين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 840 وهذا رأي في مسألة ثبوت الهلال.. هي باختصار الاعتماد على الرؤية وجعلها هي الأصل مع الاستعانة بالحساب الفلكي.. وأعتقد أن هذه كانت توصية في أكثر من مجمع في هذا الموضوع. أما الموضوع الآخر فأترك الحديث عنه إلى أن يبت في هذه المسألة. الشيخ عمر جاه: بسم الله الرحمن الرحيم.. فضيلة الرئيس أريد أن أشير فقط إلى نقطتين من ضمن النقاط التي دار حولها النقاش في هذه المسألة.. النقطة الأولى هي مسألة الحساب العلمي وأنا متفق تماما مع من يميل إلى أن الحساب العلمي لم يصل بعد إلى اليقين الذي لا مجال للشك فيه، هذه حقيقة وكلنا يعرف هذا. ومع ذلك ينبغي أن نعترف أيضا أن الحساب العلمي كأي علم من العلوم تطور. لو وصل هذا العلم إلى ما وصل إليه اليوم في زمن الرسول أعتقد بأن المسألة سوف تختلف، لا ينبغي أن نهمل الحساب العلمى حينما نجتهد في أي أمر يتعلق بحياة المسلمين.. هذه ناحية. والنقطة الثانية تتعلق بمسألة المطالع وكلنا يعرف أن الشمس تشرق أو تطلع في أقصى القارة في أوقات تختلف، اختلاف الأوقات قد يصل أحيانا إلى تسع ساعات أو أكثر، ومن هنا أريد أن أثنى ما ذهب إليه بعض أصحاب الفضيلة وخاصة الأمين العام للمجمع والدكتور عبد اللطيف الفرفور ومن ذهب إلى ما ذهبوا إليه. ينبغي أن نهتم إذا كنا نسعى إلى توحيد بداية الشهور الإسلامية نهتم بتوحيد المطالع، ومما لا شك فيه أن المطالع طبيعيا لا يمكن توحيدها على الكرة الأرضية كلها، ذلك لأنه ثبت الفرق الزمني بين منطقة والمنطقة ولا يمكن أن نفكر في أن الكرة الأرضية كلها يكون مطلعها واحدا، لكن يمكن كما ذهب الشيخ فرفور وهذه المسألة ليست جديدة أننا نجتهد، ونحدد مناطق جغرافية معينة ننصح أنه إذا ظهر شهر إذا رؤى شهر الهلال في أي منطقة من هذه المناطق ننصح من ينتسب إلى هذا المطلع أن يصوموا اليوم وأنا أيضا أميل إلى قول الشيخ التميمي الذي يقول إنه ليس فوضى أنا لا أرى أن هناك ضيقا من أن المسلمين في أمريكا يصومون في يوم يختلف عن اليوم الذي يصوم فيه المسلمون في جنوب شرق آسيا. هذا طبيعي حقيقة، والذي يهمني والذي يسعدني إنني أرى في دولتين مسلمتين متجاورتين يصومون في أيام مختلفة. أليس هناك ثقة؟ ألا نستطيع أن نضع الطريق ليستطيع المسلم الذي يعيش في دولة مجاورة لمسلم آخر أنه إذا ثبتت رؤية الهلال في هذه المنطقة ينبغي أن نتمسك بها ونصوم؟ لكن هذه هي المسائل العملية التي ينبغي أن نهتم بها فأنا أميل إلى أن اختلاف المطالع شئ واقع، علينا أن نجتهد في توحيد أو في تضييق شقة الخلاف فما يخص، المطالع ولا ينبغي أن نهمل الحساب العلمي إهمالا كليا لأنه ثبت علميا أن هذا العالم أثبت حقائق ملموسة يمكن أن نستعين بها في توحيد هذا المبدأ الذي نميل إليه وشكرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 841 الشيخ عبد السلام العبادى: بسم الله الرحمن الرحيم.. الواقع من مجريات النقاش اتضح أن المشكلة ليست في صيام أحد البلاد الإسلامية اليوم وصيام بلد إسلامي آخر غدا، لأن موضوع اختلاف المطالع يعالجه، لكن القضية في الواقع التي يعانى منها المسلمون في هذه الأيام، هذه الفوضى الواسعة في هذا المجال أن يصل موضوع اختلاف المطالع إلى ثلاثة أو أربعة أيام وهذا لا يرضي أحدا، مع ملاحظة اجتهادات الفقهاء المسلمين وأوضاع المسلمين التمسك بموضوع الرؤية الشرعية، لأن هذه القضية كانت في حديث رسول صلى الله عليه وسلم الوسيلة المقررة شرعا للتأكد من دخول الشهر وخروجه لأن القران الكريم كما نعلم جميعا يوجب الصيام على من شهد الشهر، على من حضره وكان مكلفا شرعا عند شهود الشهر. والرؤية هي أداة تقرير دخول الشهر أو خروجه. السؤال الكبير في هذا المجال يتعلق بأمرين الأمر الأول: إذا قام يقين بخطأ شهود معينين جاؤوا للشهادة بأنهم رأوا الهلال هل ترد شهادتهم أم لا ترد؟ هذه قضية. والقضية الأخرى ترتبط بنص الحديث الذي هو أساس تمسكنا بالرؤية وهو أن الخطاب فيه لجميع المسلمين فهل يشترط رؤية جميع المسلمين للهلال أم يكفى رؤية بعضهم وعند ذلك يجب الصيام على جميعهم؟ الحسابات الفلكية التي تصدرها المجامع العلمية المتخصصة تقطع بالتأكيد، هذه قضية لها أصحابها ولها المختصون بها، لا نستطيع نحن بمعلوماتنا المحدودة في هذا المجال أن نقول بأن هذا الحساب ظني، لابد بأن نلتق بأهل الاختصاص وأن نرى مستنداتهم في القطع في هذه المجالات لنقرر أنه قطعي أو غير قطعي، وقد قدمت الدراسات العلمية في هذا المجال حسابات لحركة القمر بالنسبة لحركة الأرض ليس بالثانية ولكن بأقل من الثانية، وما يرى الآن في إطلاق السفن الفضائية وكيف يحسب وصول السفينة الفضائية إلى المريخ بأقل من الثانية متى تصل هذه السفينة، وقضية القطع أرجو أن لا يترك هذا الأمر لغير المختصين الأتقياء الورعين الذين لا يتقولون في هذا المجال، إنما يقولون الحق فما يعتقدون أنه الحق، مادام من خلاصة هذا الكلام أن الأمر منوط بالرؤية الشرعية والخطاب جاء للأمة الإسلامية جميعا وليس لبلد دون بلد، فلابد من تشكيل هيئة لإثبات الرؤية الشرعية وليكن مركزها مكة المكرمة للاعتبارات التي ذكرت وتكون من العلماء الذين تتوافر فيهم الشروط المقررة شرعا لمثل هذه الأمور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 842 وهى شروط القضاء كما تعلمون، ولها أن تستعين بمن ترى من الخبراء وأن تجري الاتصالات اللازمة بجميع البلاد الإسلامية وبخاصة أن موضوع اختلاف المطالع قضية علمية قضية واقعية وليست قضية فقه لأنه لا نستطيع أن نقول الفقيه الفلاني قد قال بأن اختلاف المطالع أمر جائز إذن أن نقول سلمنا بأن اختلاف المطالع أمر جائز، اختلاف المطالع قضية فلكية، والواقع في هذا الأمر تقدم الدراسات العلمية شيئا يجب أن ينتبه إليه أنه في كل أشهر رمضان مثلا يكون هنالك اختلاف المطالع هي تحسب التولد الفلكي للقمر ثم تحسب إمكانية الرؤية الشرعية ثم تقول: في هذا الشهر الهلال سيرى في ليلة واحدة عند جميع البلاد الإسلامية. وفى شهر آخر في سنة أخرى قد تقول غير هذا، تقول الحسابات الفلكية: أن التولد سيتم للقمر في غرب العالم الإسلامي وهذا يعنى أن شرقه لن يراه في تلك الليلة، فإذن اختلاف المطالع كما يقرر العلماء وهي قضية علمية واقعية، قد يكون في شهر ليس هنالك اختلاف المطالع من شهر رمضان مثلا أو في أي شهر من الأشهر القمرية، وقد يقول في وقت آخر في شهر آخر إنه في هذا الشهر اختلاف المطالع لأن العملية منوطة كما نعلم بتولد القمر بالنسبة لحركته من الأرض وإمكانية رؤيته شرعا. والقمر نظرا لحركته الدائبة حول الأرض وحركة الأرض حول نفسها في إطار حركة القمر حولها فقد تأتى ظروف يكون التولد في وقت من أوقات اليوم وقد يكون التولد في وقت آخر وهذا يرتبط بالليلة التي بعدها وفق إمكانية الرؤية الشرعية وعدد ساعاتها، فإذا كانت ساعاتها تغطى الليلة كاملة عند ذلك يقطع العلماء بأن الهلال يمكن رؤيته شرعا في خلال الليلة القادمة وهذا يعنى أن رمضان يكون في الليلة التي بعدها، ويكون في بعض الحالات وفق هذه الحركة قطع بأن تلك البلاد لا يمكن أن ترى القمر في تلك الليلة، كما قالوا في مستندهم الذي قدموه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 843 قالوا أن أمريكا في ذلك الشهر وليس في كل الأشهر سوف لن يكون هنالك رؤية، فنعود إلى الخطاب، الخطاب لعموم المسلمين، فهل هنالك ما يمنع شرعا وهو سؤال محدد يمكن للسادة العلماء أن يجيبوا عليه. هل هنالك ما يمنع شرعا أخذا بعموم الخطاب إذا ثبتت الرؤية في بلد أن يصوم جميع المسلمين في العالم؟ ليس هنالك مانع أخذا بعموم الخطاب لأن الخطاب جاء عاما أقول حتى في هذه الحالة يمكن من هذه الهيئة (هيئة الرقابة الشرعية) أن تستثنى بعض البلاد كما فعلت لجنة المواقيت عندما يقوم قطع بأن الهلال لن يكون من الممكن رؤيته بالنسبة لهؤلاء، وفى ظني أنه لو أخذنا بالشق الأول ظللنا في إطار التعبد لأننا من المعلوم أن القضية منوطة بعموم الخطاب كما أسلفت. ولذلك أرجو في نهاية كلامي أن قضية القطع في الحساب الفلكي لا نقوله نحن، هذه قضية تترك لأهل هذا الاختصاص فهم الذين يقدمون يقينا بأن هنالك قطعا وشكرا. الرئيس: هل هي قطعية أو ظنية لأنهم ما هم أصحاب الاختصاص. الشيخ عبد السلام العبادي: هم قدموا بالفعل ولكننا لم نحصل على ما قدموه وإنما هنالك دراسات واسعة في هذا المجال يمكن أن نستعين بها ولم تحضر لدينا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 844 الشيخ ادم شيخ عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم.. فإن ثبوت الهلال بالرؤية البصرية أمر متفق عليه لصراحة النصوص الواردة من الكتاب والسنة. وإن ثبوت الهلال بالرؤية البصرية لا يختلف عليه إذا ثبتت الرؤية ثبوتا شرعيا. والخلاف منصب فقط على قضيتين هما اختلاف المطالع وعلم الحساب الفلكي. أما اختلاف المطالع فالخلاف فيه هو هل يؤثر اختلاف المطالع في الأحكام أو لا يؤثر؟ لا خلاف في اختلاف المطالع نفسها لأنه أمر واقع لا يمكن الاختلاف فيه فالرأي الذي أراه وأؤيده وأرجو من المجمع أن يقره هو ما يلي: أولا: التقيد في ثبوت الهلال بالرؤية البصرية الشرعية. ثانيا: تجويز الإمكان بأن يصوم جميع المسلمين بالرؤية التي ثبتت ثبوتا شرعيا في بلد من بلاد المسلمين وأن يعتبروا جميعا هذا اليوم أول رمضان، فعند ذلك لا يضر الاختلاف في بدء الإمساك والإثبات، كاختلاف توقيت أوقات الصلوات سواء بسواء. وأما الحساب الفلكي فنتركه كما قال فضيلة الأستاذ الشيخ رجب فليوحدوا في تحديد توقيت أو مواقيت الشهور العربية. وشكرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 845 الشيخ عبد الله بن بيه: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى أهله الطاهرين وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين وأصحابه الهداة المهتدين. في الحقيقة أن الحديث في هذا الموضوع يصبح تكرارا وإن كنت أريد أن أنبه إلى بعض المباديء العامة.. هناك مبدأ عام هو إذا لم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم فإن قوله يحمل على العموم. وهذا العموم لا يجوز تخصيصه ولا نسخه إلا بمخصص شرعي هذه هي قاعدة أصولية {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . الذين يقولون لو كان النبي صلى الله عليه وسلم حاضرا اليوم لغير الحكم فإنهم يخالفون هذه القاعدة الأصلية وهى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . أن الله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه اجتماعنا في هذا اليوم وبحثنا فيه ولأجل ذلك علينا أن نعتبر أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما تكلم بهذا الكلام لم يكن الله سبحانه وتعالى غائبا عنه سبحانه وتعالى أن الناس سيختلفون وسيتكلمون في هذا الأمر، فالنبي صلى الله عليه وسلم فصل وقال: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة، أو عدة شعبان ثلاثين)) ولم يقل فان غم عليكم فإذا وجدتم وسيلة أخرى فارجعوا إليها. لم يقل هذا الكلام. وكان بالإمكان أن يقوله ولم يقله، عدم الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال وحتى قيل أيضا في الأفعال. هذه قاعده يجب أن نتنبه إليها.. ثانيا: هذا المجمع هو مجمع إسلامي يتركب مبدئيا من الفقهاء، والفقهاء يلجأون إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويحجزهم ورعهم أن يقولوا ما ليس بحق والحق أن ما يعرف عن طريق الكتاب والسنة ولا يعرف عن طريق الرجال، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه قال له (إنك رجل ملبوس عليك اعرف الحق اعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف من يأتيه) . لابد من الرجوع إلى الحق أولا لنعرف الحق ولا نلجأ إلى الرجال لنعرف الحق عن طريق الرجال وإنما نعرف الرجال عن طريق الحق. أنتم أيها المجمع من يسأل منكم أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة هل يفضل أن يقول: يا ربى، قال نبيك ((افطروا لرؤيته وصوموا لرؤيته)) وأنا اتبعت نبيك صلى الله عليه وسلم، أو يفضل أن يقول: يا ربي أنا عدلت عما قال نبيك صلى الله عليه وسلم لأني رأيت أن العلم تقدم وأنه وقع كذا وكذا، أي الفربقين أحق بالأمن أن كنتم تعلمون، هذا سؤال كل واحد منا أن يطرحه على نفسه أن يصم أذنيه ويقول وزراء الخارجية ويهول هذا الأمر كما يقول الشاطبي "والأمر ليس مهولا" الأمر في الحقيقة ليس مهولا وليس أمرا عظيما مطلقا ولا أهمية له لأننا شغلنا أنفسنا في أمر قد بت فيه وقطع ولا أهمية له، ولا ينبغي أن نشتغل فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 846 في البلاد الإسلامية من يطبق أحكام الله سبحانه وتعالى وفيها من لا يطبق أحكام الله، لماذا لا نتفق على تطبيق أحكام الله تعالى على وجه الأرض. هذا الأمر في غاية الأهمية إذن الذي أراه وأرى أن ينجينا من الله سبحانه وتعالى نستغفره ونتوب إليه ونستلهمه الرشد والصواب أن نطبق أقوال رسولنا صلى الله عليه وسلم وأن نطبق أفعاله وأقوال أصحابه التي تحمل على الرفع فيما لا مجال فيه للاجتهاد، ولأجل ذلك حديث ابن عباس رض الله عنه حديث كريب يحمل على الرفع لأنه من الذي لا مجال فيه للرأي، وإذا قال الصحابي بقول لا مجال فيه للرأي فإنه يحمل على الرفع كما يقول علماء الأصول وكذلك لو قال كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمل كذا فإن أكثر علماء الحديث قالوا إنه يحمل على الرفع، ولأجل ذلك فقول ابن عباس وقد أيده العلم الحديث، أيد قول ابن عباس، اتفقتم الآن قلتم العالم الحديث أثبت أنه يرى بالعين المجردة في مناطق ولا يرى في مناطق أخرى، أليس هذا ما قاله ابن عباس، لكل منطقة، أنا لست ضد النظر إلى مناطق محددة ومتقاربة أن تكون رؤيتها واحدة وأرى أن هذا هو الحق الذي لا غبار عليه، والعلماء كانوا يضربون المثل ببعد خراسان من الأندلس في الدولة الإسلامية الأولى لأن الأندلس بعيد جدا من خرسان وهؤلاء لا يجب أن يصوم أحدهم بصوم الآخر وأن لا يفطر بفطرهم. يمكن أن نحدد مناطق اجتهادية بعد بحث دقيق عن اتفاق هذه المناطق في خطوط الطول مثلا وهى الخطوط المعتبرة في الحقيقة في هذا، نرى اتفاق هذه المناطق في خطوط الطول وأن نحكم في أن هذه المناطق إذا رأت الهلال رؤية شرعية فإنه يجب أن نستجيب لهذه الرؤية الشرعية. أود أن أقول أن مصداقية مجمعنا هذه تكمن في اتباعه للأثر وفى تقديمه للدليل فإذا أصبح المجمع من المجامع التي لا تهتم بالدليل والتي تقول من عند نفسها وتقول ما تراه أن كان لا يستند إلى دليل فإن المجمع سيفقد حقيقة مصداقيته وأن المسلمين لن يعبأوا به ولن يأبهوا بالقرارات التي يصدرها هذا المجمع.أخي وصديقي يقول {فَمَنْ شَهِدَ} ويقول إنه استعمال مجاز واستعمال حذف وأيضا هذا يجاب به من ناحية أخرى، قلنا "شهد" بمعنى "حضر" فإننا نقع في نفس المشكلة التي حذر منها. هناك مسألة في غاية الأهمية قد تفيدنا في المستقبل لدراسة هذه الموضوعات إننا إذا لجأنا إلى العلم في كل شئ، العلم يقول أن الخنزير كان فيه جراثيم وهذه الجراثيم زالت وأنهم يزيلونها الآن، هل نحن على استعداد غدا أن يجتمع مجمعنا هذا وبقول الخنزير كانت فيه جراثيم والعلم اليوم توصل توصلا قطعيا في إزالة هذه الجراثيم، والحرمة الآن ليست قائمة، لأن العلم توصل الآن إلى إزالة هذه الجراثيم، لنكن حذرين في غاية الحذر، فان هذا الصعيد صعيد فيه منزلقات وليس هذا تعصبا ولا جمودا على النصوص. وشخصيا لا أعرف هل الحساب الفلكي قطعي أو غير قطعي. قالوا قطعيا في الزمن القديم ولكن أرجو أن نكون على حذر وأن نكون على ورع فيما نصدره من الأحكام أن نكون على ورع أولا، هذا الورع ضروري جدا في ما نصدره من أحكام وشكرا.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 847 الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسالم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أصحاب الفضيلة. إنه من خلاله هذه البحوث وهذه المداولات المستفيضة تبين لنا عدة أمور: أولا: أن الشارع علق الحكم بالرؤية كما في حديث ابن عمر كما في الصحيحين وغيرهما ((لا تصوموا إلا لرؤيته)) وفى لفظ ((صوموا لرؤيته)) . ثانيا: عندنا مبحث آخر وهو مبحث اختلاف المطالع وهو الذي عليه جماهير أهل العلم وقد حكى ابن عبد البر الإجماع عليه لكن هناك طرف يبحث في عدم اختلاف المطالع. ثم أن هناك مسألة مهمة وهى اختلاف الفقهاء بشروط الرؤية، هل يكتفي بمستور الحال أو يكتفي بعدل واحد أو لابد من عدلين أو لابد من الاستفاضة والشهرة. ثم أن هناك في صحيح مسلم وله حكم الرفع قطعا وهو حديث كريب الذي أرسلته أم الفضل بنت الحارث أم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد سمعتموه من على ألسنة عدد من أصحاب الفضيلة المشايخ. ثم أن هناك مسألة الحساب هل هي قطعية تحققت أمام أنظاركم مدونة لا عن طريق السمع ولا عن طريق وسائل الإعلام ولا عن طريق قال فلان وعلان، لكن هل ثبت لديكم بتقرير من ذوي الاختصاص مقروء أمامكم أن الحساب قطعي، تعلمون أن هذا انعقدت له ندوات وانعقدت له مؤتمرات وانتهت هذه المؤتمرات بنظريات وباتجاهات وقد سمعتم من ذكر على ألسنة البعض منهم أنه ظني وقد سمعتم من يحكي شيئا حول قطعيته ومنهم من يقول إنه شبه قطعي وما جرى مجرى ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 848 بعد هذا فإن هذه المسألة ليست وليدة اليوم على مستوى المحافل العلمية فإنه على سبيل المثال هذه المسألة استغرقت ما يزيد عن عشرين عاما في جهة علمية واحدة وهي رابطة العالم الإسلامي وتعلمون جيدا أنها منذ عشرين عاما ولا تزال ولله الحمد فيها عدد كبير من فحول علماء الأقطار الإسلامية. فجلست عندهم في رابطة العالم الإسلامي ما يقرب أو ما يزبد عن عشرين عاما ثم بعد ذلك انتهت بما توصل إليه المجمع الفقهي بمكة، ثم إنه تعلمون أن مسألة الحساب وضبط المواقيت الشرعية بالحساب انعقدت لها عدة مؤتمرات وآخرها ما صار في مكة المكرمة قبل مدة قريبة وصار فيه بحوث ودراسات وتوصلوا إلى بعض النتائج. ولهذا فإنني أعرض على أنظاركم وجهة النظر الآتية: وهو أن هذا الموضوع خاصة ليس من المقبول أن يخرج بعدة آراء واختلافات ووجهات نظر. وأن الآراء التي قيدناها أمامنا ووجهات النظر فيها تباين شديد في جزئية الحساب أو في كلية الحساب في جزئية المطالع أو في كلية المطالع، في توحيد الشهور، أو في عدم توحيدها أو في عدم اعتبار الحساب مرة واحدة، أو في عدم التوحيد مطلقا وما جرى مجرى ذلك، عدة آراء مقيدة لدينا. ولهذا فأنا أرى أن هذا الموضوع بحاجة إلى ما يلي: أولا: أن يحضره خبراء مختصون من ذوى الاختصاص في الحساب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 849 ثانيا: أن نستقطب ما لدى مؤتمر الأرصاد والذي عقد في مكة في آخر ندواته. ثالثا: إذا تفضلتم فإن لدى ما يزيد عن عشرة كتب ورسائل ألفت في هذا الموضوع من عدد من علماء الأقطار الإسلامية ولم أر واحدا من أصحاب الفضيلة أشار إلى هذه البحوث وإلى هذه الكتب وإلى هذه الرسائل رغم أنها مطبوعة. وقد تيسر لي في زمن سابق أيام كنت في المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات والتسليم أن استخلصت من هذه البحوث بحثا اسمحوا لي إذا قلت انه فيه استفاضة بأن حكت الخلاف وذكرت الأدلة لجميع الأقوال ووجوه الاستدلال وتركت إبداء الرأي كليا وذلك في مسألتين في مسألة الحساب، وفى مسألة توحيد الشهور. ولهذا إنني أقترح عليكم أصحاب الفضيلة أن هذه المسألة ينبغي أن نستقطب هذه الأمور والمسألة التي بقيت في مجمع رابطة العالم الإسلامي عشرين عاما لتبق لدينا إلى جلسة مقبلة، فأرجو أن تتكرموا بالموافقة إذا رأيتم ذلك، أن نؤجلها وأن على الأمانة العامة مشكورة أن تحضر هذه المعلومات ومن قبلي أحضر إذا عهدتم إلى بهذا البحث وبإحضاره ونحضر الأشخاص الثقات المؤتمنين المسلمين العدول الذين إن شاء الله تعالى يطمأن إلى قولهم ونستطيع بهذا أن نستكمل التصور وأن نرتب الحكم بأمان، وأملي بالله عظيم أن نخرج بحكم أو بقرار جماعي بعيد عن هذه الآراء التي قيدت منها أربعة آراء أن لم يكن هناك خامس فات علي فأرجوا موافقتكم علي ذلك إذا تكرمتم، أي إرجاء المسألة إلى المجمع الآتي إلى الدورة الآتية. إن شاء الله، شكرا. وبهذا ترفع الجلسة وأفيدكم أن الجلسة مساء ستكون علي الساعة الخامسة إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 850 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (6) د 3/ 07/ 86 بشأن "توحيد بدايات الشهور القمرية" إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407 هـ / 11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. بعد استعراضه في قضية "توحيد بدايات الشهور القمرية" مسألتين: الأولى: مدى تأثير اختلاف المطالع على توحيد بداية الشهور. الثانية: حكم إثبات أوائل الشهور القمرية بالحساب الفلكي. وبعد استماعه إلى الدراسات المقدمة من الأعضاء والخبراء حول هذه المسألة. قرر: 1- في المسألة الأولى: إذا ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها ولا عبرة لاختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار. 2- في المسألة الثانية: وجوب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد ومراعاة للأحاديث النبوية والحقائق العلمية. والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 851 خطاب الضمان فضيلة الدكتور بكر أبو زيد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ... وبعد فإن من نوازل العصر وقضاياه جريان المعاملة بخطابات الضمان لدى البنوك الأهلية مع المستفيد شخص اعتباري أو طبيعي وتجلية موقعها من الشريعة المطهرة يقتضي إعطاء التصور الكامل لطبيعة خطابات الضمان وخطواتها الإجرائية وأنواعها وما جرى مجرى ذلك من القوالب التي تسير عليها ثم تنزيل الفقه الشرعي عليها. فاقتضى الحال إدارة التقييد فيها في مبحثين: المبحث الأول: خطاب الضمان. تعريفه.. نوع الطرف المستفيد.. الغرض منه.. خطواته الإجرائية.. أنواعه. (1) المبحث الثاني: الفقه الشرعي لخطاب الضمان.   (1) اعتمدت في هذا المبحث على مذكرة إيضاحية لمؤسسة النقد العربي السعودي موجهة لوزارة العدل برقم 4646/م /444 في 28\3\1404هـ وكتاب المصارف لغريب الجمال، والبنك اللاربوي في الإسلام لمحمد باقر الصدر، الربا والمعاملات المصرفية للشيخ عمر المترك - رحمه الله تعالى-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 852 وبيان كل منها على ما يلي: المبحث الأول خطاب الضمان وفيه الفروع الآتية: ا-طبيعته: خطاب الضمان المصرفي: هو تعهد قطعي مقيد بزمن محدد غير قابل للرجوع يصدر من البنك بناء على طلب طرف آخر (عميل له) - بدفع مبلغ معين لأمر جهة أخرى مستفيدة من هذا العميل لقاء قيام العميل بالدخول في مناقصة أو تنفيذ مشروع بأداء حسن ليكون استيفاء المستفيد من هذا التعهد (خطاب الضمان) متى تأخر أو قصر العميل في تنفيذ ما التزم به للمستفيد في مناقصة أو تنفيذ مشروع ونحوهما ويرجع البنك بعد على العميل بما دفعه عنه للمستفيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 853 2 - أركانه: من هذا يتضح أن أركان خطاب الضمان أربعة وهى: 1- البنك: وهو الطرف (الضامن) . والضامن هو من التزم ما على غيره. 2- العميل: وهو الطرف (المضمون عنه) . 3- المستفيد: وهو الطرف (المضمون له) . وهو رب الحق الذي التزمه الضامن. 4- قيمة الضمان: وهو (المبلغ المضمون) . والمضمون به هو الحق الذي التزم الضامن. فإذا أطلق خطاب الضمان حوى هذه الأركان. 3- الشخص العميل (المضمون عنه) : يكون شخصية حكمية (اعتبارية) كالشركة أو المؤسسة ممثلة في (مديرها المسئول) . ويكون شخصا طبيعيا. 4- المستفيد: (المضمون له) : عادة لا يكون إلا شخصية اعتبارية كمصلحة حكومية أو مؤسسة أو شركة معروفة. ومن النادر أن يكون شخصا طبيعيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 854 5 - أهدافه: لخطاب الضمان أهمية كبيرة في حماية المستفيد (المضمون له) حكومة أو شركة لضمان تنفيذ المشاريع أو تأمين المشتريات وفق شروطها ومواصفاتها وفى أوقاتها المحددة. وبالتالي توفير الضمانة للمستفيد عن أي تقصير تنفيذي أو زمني من الطرف العميل إضافة إلى أن البنك لا يقبل في استقبال خطاب الضمان وأن يكون طرفا مع العميل لصالح المستفيد إلا إذا توفرت لديه القناعة بكفاءة العميل المالية والمعنوية. وبالتالي في هذا ضمان إضافي إلى سابقه أن لا يدخل في المشاريع والمناقصات إلا شخص قادر على الوفاء بما التزم به. 6- طريقة إصدار خطاب الضمان: يقدم طالب خطاب الضمان طلبا للبنك يحدد فيه مبلغ الضمان ومدته والجهة المستفيدة والغرض من الضمان. ويجب أن تكون لدى البنك قبل إصداره الضمان المذكور القناعة بأن كفاءة العميل المالية والمعنوية كفيلة بالوفاء بالتزامه فيما إذا طلب منه دفع قيمة الضمان أو تمديده وإذا كان مبلغ الضمان كبيرا فإن البنك يطلب عادة تأمينات لقاء ذلك إما أن تكون رهنا عقاريا مسجلا أو رهن أسهم في شركات أو بإيداع أوراق مالية لدى البنك يسهل تحويلها إلى نقد فيما لو طلب من البنك دفع قيمة مبلغ الكفالة - مع خطاب من مودعها بالتنازل عنها إذا اقتضى الأمر أو كفالة بنك خارجي معروف، وإضافة إلى كل ذلك فإن البنك يحتفظ عادة بتأمينات نقدية يودعها العميل بنسبة حوالى25 % من قيمة الضمان وقد تزيد هذه النسبة أو تقل تبعا لمركز العميل المالي والمعنوي ولطبيعة المشروع الذي قدم الضمان من أجله، وبعد كل هذه الإجراء ات يقوم البنك بإصدار الضمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 855 7- أنواع خطابات الضمان: تجرى المعاقدة عليها على أنواع: أولا: خطاب الضمان الابتدائي: ويكون مقابل الدخول في مناقصات أو مشاريع ويكون مبالغ الضمان مساويا لـ 1 % من كل قيمة المناقصة أو أكثر، وساري المفعول لمدة معينة وعادة تكون لثلاثة أشهر وهذا التعهد البنكي (خطاب الضمان) يقدمه العميل للمستفيد من مصلحة حكومية أو غيرها. ليسوغ له الدخول في المناقصة مثلا فهو بمثابة تأمين ابتدائي يعطى المستفيد الاطمئنان على قدرة العميل على الدخول في المناقصة. ولا يسوغ إلغاء هذا الخطاب إلا بإعادته بصفة رسمية من الجهة المقدم إليها (المستفيد) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 856 ثانيا: خطاب الضمان النهائي: وهذا يكون مقابل حسن التنفيذ وسلامة الأداء في العملية من مناقصة أو مشروع ونحو ذلك ويكون مبلغه بنسبة 5 % من قيمة المشروع أو المناقصة وهو محدد بمدة لعام كامل مثلا قابل للزيادة. وهذا التعهد البنكي (خطاب الضمان النهائي) يقدمه العميل للمستفيد من مصلحة حكومية أو غيرها ليستحق المستفيد الاستيفاء منه عند تخلف العميل عن الوفاء بما ألتزم به فهو بمثابة تأمين نهائي عند الحاجة إليه, ولا يكون إلغاؤه ألا بخطاب رسمي من الطرف المستفيد. ثالثا: خطاب الضمان مقابل غطاء كامل لنفقات المشروع أو المناقصة. (أي مقابل سلفة يقدمها العميل إلى البنك على حساب المشروع مثلا لصالح الطرف المستفيد والغاية منه كما في سابقه) - ثانيا الخطاب النهائي-. رابعا: خطاب الضمان: (ضمان المستندات) : وهناك نوع رابع من خطابات الضمان يقدمه البنك لصالح شركات الشحن أو وكالات البواخر, في حالة وصول البضاعة المستوردة إلى الميناء المحدد في المملكة وتأخر وصول مستندات الشحن الخاصة بالبضاعة إلى ذلك البنك الذي جرى الأستيراد عن طريقه فخشية من أن يلحق بالبضاعة تلف من جراء تأخر بقائها في جمرك الميناء يكون الضمان المذكور تعهدا من البنك بتسليم مستندات الشحن الخاصة بالبضاعة إلى وكلاء البواخر فور وصولها. واستنادا إلى هذا الضمان يتم فسح البضاعة للمستورد. ولإصدار مثل هذا الضمان يقدم العميل المستورد طلبا بذلك إلى البنك ويسدد قيمة اعتماد الاستيراد بالكامل (وهي قيمة البضاعة المستوردة) ومن ثم يصدر البنك خطاب الضمان ويسلمه إلى العميل فيقوم العميل بتسيلمه إلى وكلاء الباخرة المعنيين. 8- مدي استفادة البنك من خطاب الضمان: هذا التعهد الذي الزم البنك به نفسه مع العميل له بأن يدفع للطرف المستفيد من عميله المبلغ الصادر بموجبه خطاب الضمان ووفق ما فيه من شروط وإجراءات للبنك من وراء هذا مصلحة مادية وهى ما تسمى بالعمولة بمعنى أن البنك يستحق بالشرط على العميل نسبة مئوية معينة مقابل هذا التعهد وهذه الخدمة نحو 2 % حسبما يتم الاتفاق عليه. (وبهذا ينتهي المبحث الأول الذي يعطى التصور الكامل لخطابات الضمان الجارية في المصارف والبنوك مع عملائها أمام المستفيدين منهم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 857 المبحث الثاني الفقه الشرعي لخطاب الضمان قد علم بأصل الشرع جواز الضمان وهو: ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون في التزام الحقوق المستحقة , بمعنى التزام دين على آخر، وهو عقد إرفاق وإحسان جاء به الشرع مع ما فيه من توثيق للحقوق وحفظ لها. وخلاصة ما تقدم في المبحث الأول لطبيعة خطاب الضمان تنحصر في الفقرتين الأخيرتين منه وهما: - ا - أنواعه. 2- عمولة البنك لقاءه. أما أنواعه الأربعة المتقدمة فلم يظهر في ماهيتها ما يخرج عن المنصوص عليه في أحكام الضمان شرعا وتوفر شروطه فالضامن البنك ممن يصح تبرعه، ولوجود رضي الضامن وكون الحق معلوما حالا أو مألا وأن أجله معلوم غير مجهول. سوى ما جاء في النوع الأول وهو خطاب الضمان الابتدائي. فإنه من باب ضمان ما سيجب وضمان ما لم يجب عقد معلق وقد علم أن الضمان عقد التزام لازم فلا يعلق كغيره من العقود اللازمة، ولأن الضامن التزم ما لم يلزم الأصيل المضمون عنه وهو (العميل) بعد. لكن الجمهور من أهل العلم على جوازه وهو مذهب الأئمة الثلاثة – أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، والشافعي - في القديم والخلاف المذكور للشافعي في الجديد وما ذهب إليه الجمهور ألصق بأصول الشرع لا سيما إباحة التعامل في الأصل ما لم يعتوره مانع من غرر ونحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 858 ولا يظهر في ضمان ما لم يجب بعد ما يمنع فيبقي على الأصل. (1) والله أعلم ولهذا قال الحنابلة: في تعريف الضمان هو: التزام ما وجب أو يجب على غيره مع بقائه عليه أو: هو ضم الإنسان ذمته إلى ذمة غيره فيما يلزمه حالا أو مآلا (2) . وقالوا في ضمان ما يؤول إلى الوجوب (يصح الضمان بالحق الذي يؤول إلى الوجوب فيصح الضمان بما يثبت على فلان أو بما يقر به أو بما يخرج بعد الحساب عليه أو بما يداينه فلان) .   (1) انظر: فتح القدير5/402، حاشية ابن عابدين 5/301، الشرح الكبير مع الدسوقي 3/333، وقوانين ابن جزى ص 353، روضة الطالبين للنووي 4/244. والغاية القصوى للبيضاوي 4/592، كشف المخدرات للبعلي ص 2 5 2، بداية المجتهد 2/298. (2) شرح منتهى الارادات 2/108، 110. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 859 أخذ العمولة عليه: أي أخذ (الأجرة) لا (الجعالة) فإن الجعالة: أن يجعل جائز التصرف شيئا معلوما لمن يعمل له عملا معلوما أو مجهولا من مدة معلومة أو مجهولة- فلا يشترط العلم بالعمل ولا المدة ولا تعيين العامل للحاجة. فهي إذن: التزام مال في مقابلة عمل لا على وجه الإجارة فليس ما هنا مما هنالك إضافة إلى أن الجعالة: عقد جائزمن الطرفين لكل من العاقدين فسخها بخلاف الإجارة فهي عقد لازم ابتداء. وإن كان وقع في عبارات بعضهم باسم الجعل على الضمان ففي هذا تسامح في التعبير أو على سبيل النزول بمعنى: أنه إذا لم يجز الجعل فالإجارة من باب أولى. وإن كانت الجعالة في معنى الإجارة لكن الجعالة أوسع من باب الإجارة فالجعالة كما علمت في تعريفها فلا يشترط العلم بالعمل ولا المدة ويجوز فسخها من الطرفين بخلاف الإجارة فهي عقد على منفعة أوعين لازم من الطرفين لا يملك أحدهما فسخها. وعليه فإن جمهور أهل العلم على تقرير عدم الجواز لأخذ العوض على الضمان كما في مجمع الضمانات على مذهب الإمام أبي حنيفة البغدادى ص /282. والشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي3\404. والشرح الصغير 3\242 والفروع لابن مفلح الحنبلي 4\207، كشاف القناع 3\262. وغيرها مصرحة بالمنع وعدم الجواز، وجماع تعليلهم للمنع فما يلي: 1- أنه يؤول إلى قرض جر نفعا وجه ذلك: أنه في حال أداء الضامن للمضمون له يكون العوض مقابل هذا الدفع الذي هو بمثابة قرض في ذمة المضمون عنه. وفى خطاب الضمان: أقوى في بعض أحواله لأن المستفيد يستوفي عادة من البنك لا من العميل. 2- أن هذا العقد مبناه على الإرفاق والتوسعة والإحسان ففي أخذ العوض لقاءه دفع لمقصد الشارع منه. 3- أنه في بعض حالات الضمان يستوفي المضمون له من المضمون عنه فيكون أخذ الضامن للعوض بلا حق وهذا باطل لأنه من أكل المال بالباطل. وفى خطاب الضمان الابتدائي أو المستندي مثلا يستوفي المضمون له المستفيد من العميل لا من البنك. وها هنا تنبيهان: الأول: جرى في القواعد الفقهية قوله: الأجر والضمان لا يجتمعان. وهذه القاعدة ليست مما نحن فيه من أحكام الضمان لأن الضمان هنا يقصد به (ضمان المتلفات) . الثاني: جرى في القواعد الفقهية لهم قولهم: (ليس كل ما جاز فعله جاز إعطاء العوض عليه) بل فيه ما يجوز كالجعالة على رد الآبق. وما يمتنع كالعوض على الضمان واللهو المباح ونحو ذلك. كما جاء في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 30/215-216. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 860 النتيجة مما تقدم تعلم الحقيقتان الآتيتان: الأولى: أن خطاب الضمان من حيث العطاء له من قبل العميل ثلاثة أحوال: ا-خطاب ضمان ليس له غطاء البتة: فهذا ينسحب عليه ما قرره جمهور العلماء من منع العوض على الضمان فهكذا في هذه الحالة من خطابات الضمان. 2- خطاب ضمان له غطاء كامل من العميل: فهذه الحالة والله أعلم لا يظهر في العوض عليها ما يمنع في حق الضامن أو المضمون عنه لأن هذا العوض (العمولة) مقابل الخدمات الإجرائية ففي حال دفع البنك للمستفيد فهو من مال المضمون عنه وفى حال عدم دفعه فهو مقابل حفظه لماله وخدماته لذلك. 3- خطاب ضمان قد صار الغطاء لنسبة منه: فهذه تنسحب عليها أحكام الحالتين قبلها فيجوز فيما قابل المغطى لا فيما لم يقابله - والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 861 وأختم هذا المبحث برأي رشيد للعلامة الشيخ/عمر بن عبد العزيز المترك في كتابه (الربا والمعاملات المصرفية) إذ قال - رحمه الله تعالى وغفر له امين - ص /309: "والذي أرى أنه إذا كان الضمان مسبوقا بتسليم جميع المبلغ المضمون للمصرف أو كان له غطاء كامل فلا يظهر في أخذ الجعالة عليه شيء لأن العمولة التي يأخذها المصرف في هذه الحالة مقابل خدماته كالعمولة التي تؤخذ من قبله في عملية التحويل بالشيكات لأن هذه العملية ليست مقابل عملية فرض ولا ما يؤول إلى قرض لأن المصرف لا يدفع من ماله شيئا وإنما يدفع ما التزمه بموجب الضمان من مال المضمون عنه الموجود لديه، أما إذا كان خطاب الضمان غير مغطى فلا أرى جواز أخذ الجعالة عليه لأن هذا الضمان قد يؤدى إلى قرض فيكون قرضا جر فائدة والربا أحق ما حميت مراتعه وسدت الطرائق المفضية إليه. لذا فإني أرى أن على طالب الضمان أن يضع لدى الجهة الضامنة له مبلغا يساوى المبلغ المضمون وهذا إجراء متفق مع الأصول الائتمانية المتبعة في بعض المصارف حيث تطلب من العميل المضمون أن يحجز لديها مبلغا مساويا لقيمة خطاب الضمان وهو ما يسمى بالغطاء الكامل يكون رهنا لكى يسدد منه فيما لو اضطر المصرف إلى تنفيذ التزامه ويفرج عنه عندما يتحرر المصرف من ضمانه. وفى هذا الإجراء من الفوائد مما لا يخفي منها: 1- عدم إفساح المجال لمن ليس لهم المقدرة على الوفاء بالتزاماتهم في الدخول في المناقصات والعطاءات. 2- ان فيه حدا من التعامل الجشع والتوسع في الأعمال بما ليس في استطاعة الإنسان القيام به مما يعود عليه بالضرر وتنعكس عليه أثاره السيئة ذلك أن المناقض قد يقدم ضمانا مصرفيا بمبلغ ليس في استطاعته الوفاء به مما قد يضطره في النهاية إلى الخضوع لما تفرضه عليه المصارف من فوائد ربوية لقاء تسديده بمقتضي الضمان الذي التزمته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 862 دراسة حول خطابات الضمان للدكتور حسن عبد الله الأمين تلقيت خطابا من سعادة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجه، مرفقا معه استفسارات حول خطابات الضمان التي تقدمها المصارف لعملائها بغرض بيان الحكم الشرعي حوله. ولقد سبق لي أن شاركت في إصدار فتوى حول خطابات الضمان منذ سبع سنين مع زملائي أعضاء هيئة الرقابة الشرعية على بنك فيصل الإسلامي السوداني آنذاك وقد نشرها البنك ضمن فتاويه في كتابه الأول. ويسرني أن أثبت خلاصة لها في صدر هذه الدراسة قبل مناقشة الأسئلة المختلفة. الخلاصة: خلاصة تلك الفتوى: أن خطاب الضمان الذي تقدمه المصارف علي نوعين: 1- نوع مغطى بمعنى أن لطالب الضمان حسابا جاريا بالبنك مثلا وهذا يعتبر خطاب الضمان من البنك معه للجهة المستفيدة من قبيل الوكالة، والوكالة عمل يجوز أخذ الأجرة عليه. 2- النوع الثاني مكشوف وغير مغطى بمعنى أنه ليس لطالب خطاب الضمان مبالغ مودعة بالبنك تغطي ما يقابل قيمة خطاب الضمان وهذا النوع من خطابات الضمان هو من قبيل الكفالة والكفالة تبرع بالجاه وليست عملا يستحق من أجله الأجر. هذه خلاصة تلك الفتوى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 863 ولنعد لمناقشة الاستفسارات التي نحن بصدد دراستها، وهى تتكون من ثماني نقاط سوف نتحدث عنها فيما يلي: 1- تقول الفقرة الأولى: المعلوم فقها أن الأجر (المشروط) على الضمان لا يجوز ثم يستدرك الكاتب قائلا: غير أن بعض الفقهاء والحنفية والحنابلة والزيدية) أجازوا الربح بالضمان، إذ أجازوا شركة الوجوه) واستطرد قائلا: ويتخرج على مذهبهم أن وجيها لو اشترك مع آخر (خامل) على الضمان والربح مناصفة، ولم يشترو لم يبع، جاز لمجرد الضمان. وعلل لذلك بقوله: وهذا مثل المال لا يجوز إقراضه بأجر، لكن لا يجوز قراضه بربح. ونقول: أن شركة الوجوه: ويقال لها شركة المفاليس، لأنها شركة عقد بين اثنين أو أكثر- على أن يشتريا في ذمتها - بجاههما - شيئا يشتركان في ربحه، من غير أن يكون لهما رأس مال، على أن ما اشترياه فهو بينهم نصفين، أو ثلاثا، أو نحو ذلك، مميت بشركة الوجوه لأنهما يعاملان فيها بوجهيهما، والجاه والوجه واحد، يقال فلان وجيه، إذا كان ذا جاه. وهى جائزة عند الأحناف والحنابلة والزيدية كما ذكر الأخ الفاضل كاتب الاقتراح، وقول الكاتب: (في المذاهب الثلاثة المذكورة بإجازتها لشركة الوجوه إنما أجازت أرباح هذه الشركة بالضمان، ويتخرج على مذهبهم أن وجها لو اشترك مع آخر (خامل) على الضمان والربح مناصفة ولم يشتر ولم يبع جاز لمجرد الضمان. هذا القول يحتاج إلى مراجعة، ذلك أن الأحناف والحنابلة الذين أجازوا شركة الوجوه قالوا: أن هذه الشركة منعقدة على عمل، ووكالة، وكفالة، فالعمل: أنهما يشتركان في الشراء بجاههما-كما أنهما يشتركان في بيع ما اشترياه بجاههما، وكل منهما وكيل الآخر في البيع والشراء وكفيله بالثمن. فاستحقاق الربح المشترك بينهما بالعمل لا بالجاه، سواء أكان الاشتراك بالتساوي بينهما في كل شئ -الاشتراك في قدر الملك، والعمل، والربح، على قاعدة شركة المفاوضة. أو كان بالاختلاف والتفاوت في تلك الأشياء، على قاعدة شركة العنان، التي لا يشترط فيها التساوى في كل شئ، والتي يمكن أن يقوم بالعمل فيها بعد العقد أحد الشريكين منفردا أو مع شريكه الآخر. وشركة الوجوه تكون مفاوضة، وتكون عنانا وإذا ثبت أن الربح في شركة الوجوه مستحق للشريكين بالعمل الذي يبدأ بالشراء بوجهيهما لتحقق الشركة، ثم لا يهم أن ينتهي في مرحلة البيع بأن يقوم به أحد الشريكين أو بهما معا على أساس شركة العنان، إذا ثبت ذلك لم يعد هنالك مجال للتخريج بأن وجيها لو اشترك مع خامل إلى آخر ما ذكر في الاقتراح، لم يعد لهذا القول مكان. كما أنه لا وجه للشبه بين هذه الشركة (وبين المال الذي لا يجوز إقراضه بأجر، ولكن يجوز قراضه بربح) الذي ضرب به المثل صاحب الاقتراح، وهو قد بنى ذلك على صحة الافتراض، بأن جواز الربح، بالضمان مبنى على جواز شركة الوجوه وقد بينا فما سبق عدم صحة هذا الافتراض. نعم أن الحنفية يقولون: أن الربح فيها -أي شركة الوجوه - مستحق بالضمان، والمضمون هنا هو رأس المال المتمثل في البضاعة التي يأخذها الوجيهان بثمن اجل، وهما يستحقان الربح الناشئ عن تسويق هذه البضاعة والانفراد به دون صاحب البضاعة، بأن ثمنها له. وليس الضمان هنا من أحد شريكي الوجوه تجاه شريكه الآخر إذ لا ضمان بينهما. وبناء على ما تقدم فقد تبين عدم صحة المقدمة التي تضمنتها الفقرة الأولى من هذا الاقتراح. وبالتالي عدم صحة النتيجة المترتبة عليها - وهى جواز صحة أخذ الأجر في مجرد الضمان. 2 - وهذا ما أقرته الفقرة الثانية من الاقتراح صراحة حيث قالت: (وهذا الأجر المحرم على الضمان لا ريب فيه، إذا كان الضمان لا يكلف الضامن أية متاعب أو مشقة أو مالا أو جهدا، إنما هو فقط ضمان محض لا يقترن بأية خدمة أخرى إلخ) . 3- ولا يغير من هذه النتيجة أو هذا الحكم، قول صاحب الاقتراح في الفقرة الثالثة: (لكن المشاهد أن الضمان لو بقي يقدم طوعا وتبرعا بدون أجر ولا التزام لتعسر على كثير من الناس في أيامنا هذه الحصول عليه. والسؤال: متى كان الوصول إلى المنفعة مبررا للحصول عليها بكل الطرق الجائز منها، والممنوع؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 864 4- وفى الفقرة الرابعة من الاقتراح، يفرق الكاتب بين الأجر على الضمان نفسه والأجر على تنظيم هذا الضمان وقيام مؤسسات له وإدارتها، فيمنعه على الضمان ويبيحه لتنظيم الضمان وإدارته قائلا: (علما بأن هذا الأجر ليس أجرا على الضمان، لأن ذلك حرام شرعا، إنما هو أجر يتقاضاه الضامن من المستفيد لقاء أعمال تنظيم هذا الضمان وإدارته بما يليق بمستوى العصر) . ولصحة هذه التفرقة لابد من التأكد بأن هنالك عملا حقيقيا غير الجاه يستحق الأجرة ويجب أن تكون الأجرة وحدود أجرة مثل هذا العمل حتى لا تكون مدخلا، لأخذ الأجرة على الضمان نفسه. 5- أما في الفقرة الخامسة فقد عاد الكاتب مرة أخرى إلى محاولة إباحة الأجرة على مجرد الضمان. قياسا هذه المرة على الأجر للإمام والمؤذن والمعلم.. إلخ ولا يخفي أن هؤلاء جميعا يؤدون عملا واضحا لا مجرد جاه. وبالتالي فلا وجه للقياس عليهم. 6 - وفى الفقرة رقم (6) غموض في البداية وخلط في النهاية لا يخرج منه القارئ بفهم المراد، فهو في السطرين الأولى، يتساءل تساؤلا غامضا عن الفرق في الحكم بين القربات " التي هي موضع كسب مدني عارض أو موضع احتراف تجاري" كما يقول. ثم ينتقل إلى ضرب المثل بالحمال الذي يستأجر غيره للقيام بمهماته بأجر أقل، ويستفيد بفرق الأجرة، وهو يعترض على ذلك. وينسى أن ذلك الفرق استحقه الحمال الأول بضمان التنفيذ الذي التزم به مباشرة بنفسه، أو بالاستعانة بآخر. وبعد ذلك يورد الكاتب عقد الاستصناع وكيف يصبح من بيوع السلم فما لم يجر الصرف بالتعامل به عند تحديد أجله - عند الأحناف، يسوق ذلك وما قبله استدلالا به على أن الفرق يغير حكم الشئ الواحد في زمن دون آخر فيقول: ألا ترى أنهم لم يجزوه إلا فما جرى عليه الصرف في التعامل. وعبارة: لم يجيزوه إلا فما جرى عليه الصرف إلخ ... غير سليمة لأنهم في الواقع لم يمنعوه أبدا- أي الاستصناع – وإنما كيفوه على أنه بيع سلم لا بيع استصناع في حالة ما لم يجر الصرف بالتعامل به، مع تحديد أجله. وهو والحال هذه لا يصلح للاستدلال على قرار الكاتب. ولم تتضمن الفقرتان 7، 8 جديدا في الاستدلال على مراد الكاتب وإنما هما تعليقات على ما قبلهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 865 الأجر علي الضمان - بمعنى الكفالة لدى الفقهاء بعد ما تقدم من مناقشة موضوع الضمان - بمعنى الكفالة في إطار النقاط التي طرح بها ومن خلالها، كما ورد لمجمع الفقه الإسلامي، نعود للموضوع في ضوء النصوص الفقهية التي تعرضت لبيان حكمه الشرعي فنجد الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير للدرديرى يذكر عدة نقول للمالكية في ثمن الجاه. 1- منها قوله: وفى المعيار سئل أبو عبد الله القورى عن ثمن الجاه فأجاب بما نصه: اختلف علماؤنا في حكم الجاه، فمن قائل بالتحريم بإطلاق. ومن قائل بالكراهية بإطلاق ومن مفصل فيه، وأنه إن كان الجاه يحتاج إلى نفقة وتعب وسفر، فأخذ أجر مثله، فذلك جائز. وإلا حرم. أهـ قال أبو على المنياوى وهذا التفصيل هو الحق. 2- ومنها قال ابن عرفة: يجوز دفع الضيعة لذي الجاه " وللضرورة أن كان يحمى بسلاحه فإن كان يحمى بجاهه فلا، لأنها ثمن الجاه. اهـ وبيان ذلك ثمن الجاه. إنما حرم لأنه من باب الأخذ على الواجب ولا يجب على الإنسان أن يذهب مع كل أحد. ومن هذين النصين يتبين أن للمالكية عدة أقوال عن ثمن الجاه. أحدهما بالتحريم مطلقا. وثانيها بالكراهة مطلقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 866 ووالثالث فيه تفصيل فإن احتاج إلى تعب ونفقة وسفر، فيجوز أخذ أجر المثل عليه، وإن خلا من ذلك فلا يجوز. وعلل المالكية لعدم جواز الأجر على الضمان المجرد، بأن ذلك من باب أخذ الأجرة على الواجب (1) . ويتفق مذهب الشافعية مع القول الثالث المفصل للمالكية عن الأجر على الضمان قال ابن حجر الهيثمي: "وكقول من حبس ظلما لمن يقدر على خلاصه - وإن تعين عليه، على المعتمد-: أن خلصتنى فلك كذا" بشرط أن يكون في ذلك كلفة تقابل بأجرة عرفا "وعلق الشرواني على قوله (لمن يقدر عليه) بقوله: أي بجاهه أو غيره. وقال تعقيبا على لزوم أن يكون في ذلك كلفة وتعبا (وينبغي أن المراد بالتعب، التعب بالنسبة لحال الفاعل) (2) . ونجد ابن عابدين الحنفي في حاشيته يقرر كما تنسب إليه فتاوى بنك فيصل الإسلامي السوداني: أن عدم جواز الأجر على الضمان، لأن الضامن مقرض للمضمون، فإذا شرط الجعل مع ضمان المثل، فقد شرط له زيادة على ما أقرضه، وهو ربا. (3) .   (1) حاشية الدسوقى ج 3 ص 224 (2) حاشيتى الشروانى وابن قاسم على تحفة المحتاج (3) شرحت هذه العبارة في ابن عابدين في مظان وجودها ولم أوفق في العثور عليها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 867 وهنا نجد أنفسنا أمام تعليل آخر وهو أن الضامن مقرض وشرط الجعل له - الأجر على الضمان - زيادة على ما أقرض. وفيما عدا هذه التعليلات المختلفة لعدم جواز الأجور على الضمان فيما وقفنا عليه من أقوال الفقهاء لم نجد لهم دليلا يعتمدون عليه من كتاب أو سنة أو إجماع. ونعود إلى مناقشة هذه التعليلات للحكم الذي قرره الفقهاء لمنع الأجر على الضمان. ونبدأ بمسألة أن ثمن الجاه إنما هو من باب أخذ الأجرة على الواجب. ونسأل: هل الجاه.. أو الكفالة أمر واجب على من يفعله أم أنه من أعمال التبرع؟ بداهة أنه ليس واجبا. إلا إذا تعين على شخص، بعينه. وليس من هذا النوع الضمان العرفي، إذ لا يتوقف على شخص معين أو حتى مصرف معين دون غيره. فقضية كون الضمان المصرفي من باب الواجب الذي لا يؤخذ عليه أجر غير واردة؟ ثم أن قاعدة عدم أخذ الأجرة على الواجب لا نراها مضطردة عند هؤلاء الفقهاء، فقد رأيناهم يجيزون أخذ الأجرة على حفظ الوديعة. وإن تعينت على شخص ما - وهو من باب الواجب. جاء في مغنى المحتاج للشربينى: وقضيته أن له أن يأخذ أجرة الحفظ كما يأخذ أجرة الحرز. ومنعه القرافي وابن أبي عصرون، لأنه صار واجبا عليه، فأشبه سائر الواجبات، والمعتمد الأول، كما هو ظاهر كلام الأصحاب (1) .   (1) مغنى المحتاج ج 3 ص 74 وانظر في تلك حاشية ابن عابدبن ج 5ص 665 وحاشية قليوبي وعميره ج 3 ص 181 ومفتاح الكرامة للعاملى ج 6 ص 4 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 868 أفلا يصح أن يقاس على الضمان على فرض أنه واجب على الوديعة الواجبة ويأخذ حكمها في جواز الأجرة عليه؟ فإذا انتقلنا إلى تعليل منع الأجرة على الضمان المنسوب لابن عابدين (من كون الضامن مقرضا، فإذا شرط له الجعل مع ضمان المثل فقد شرط له زيادة على ما أقرض. وهذا ربا) . وجدنا أن هذا التعليل مقبول على وجه الإجمال ولكن عند التفصيل نجده لا ينطبق على خطاب الضمان المغطى، لأن الضمان هنا بمعنى الوكالة، كما أنه لا ينطبق على خطاب الضمان الذي ينتهي بوفاء المضمون بتعهده دون حاجة إلى الضامن. وتبقي بعد ذلك حالة واحدة يمكن أن ينطبق عليها تعليل ابن عابدين وهى حالة ما إذا كان خطاب الضمان على المكشوف - غير مغطى - وتخلف المضمون عن الوفاء إلى أن قام به مصدر خطاب الضمان، ففي هذه الحالة فقط يصبح خطاب الضمان منطويا على قرض والجعل فيه زيادة يجب منعها كما قال ابن عابدين. وبناء على ما تقدم فيبدو لي أن خطاب الضمان يكون على الأوجه التالية: 1- خطاب الضمان المغطى وهو كفالة تجاه (المضمون له، ووكالة تجاه المضمون والعبرة بالعلاقة مع المضمون في تكييف حكمه - فهو إذن وكالة والوكالة تجوز بأجر وبدون أجر، وعليه فأخذ الأجرة عليه في هذه الحالة جائز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 869 2- خطاب الضمان غير المغطى - المكشوف - الذي يقوم بالوفاء به المضمون نفسه دون الضامن - مصدر خطاب الضمان - وهذا النوع هو كفالة وليس وكالة، كما أنه ليس فيه قرض لأن مصدره لا يدفع شيئا من المال للمضمون له. لقيام المضمون نفسه بالوفاء، وهو ليس من العمل الواجب القيام به لعدم تعينه على شخص أو مصرف معين لذلك فلا يدخل تحت قاعدة منع الأجر على أداء الواجب، فيصح أخذ الأجر عليه على أساس أنه عمل في تعامل رضائي. وعلى فرض أنه تعين وأصبح واجبا على من تعين عليه القيام به، شخصا أو مصرفا فإنه يمكن قياسه على الوديعة الواجبة التي يجوز أخذ الأجر على حفظها كما وضحنا، بحيث يصبح أخذ الأجر عليه جائزا لأن الضامن في هذه الحال يبذل جهدا كبيرا في التحري وجمع المعلومات عن صلاحية المضمون لهذا الضمان. ويتحمل عبئا نفسيا وذهنيا طوال فترة سريان الضمان حتى الوفاء به. وبذلك كله يهييء للمضمون ويمكنه من الحصول على منفعة محققة تتمثل في بلوغ مرامه بهذا الضمان الذي قد يعود عليه بالفائدة والنفع الكثير. ولا يوجد مبرر لإهدار هذا الجهد من الضامن وما يترتب عليه من مصالح ومنافع للمضمون دون مقابل. إذ ليس ذلك من العدل في شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 870 على أنه يلزم أن يكون الأجر في هذه الحالة والتي قبلها مراعى فيه عدم المبالغة والمغالاة بحيث يكون في حدود المعتاد عرفا. كما أنه يلزم أيضا التنبيه إلى أن المغالاه في هذا الأجر مهما بلغت لا تدخل في نطاق الربا لانه ليس زيادة في عوض وإنما هو أجر علي عمل غايته إذا تجاوز المعتاد أن يكون مكروها أو محرما وليس ربا بالتأكيد 3- أما الحالة الثالثة التي يكون خطاب الضمان فيها مكشوفا –غير مغطي- وتؤول مسؤولية الوفاء به إلى مصدره الضامن دون المضمون، أنه يكون فيها قرضا والجعل فيه يكون زيادة تمثل الربا فلا يجوز. ولكن يجوز لمصدره أخذ أجرة الإصدار فقط –التكلفة العملية ما يقدره المختصون دون الضمان نفسه المنطوي علي معني القرض. هذا ما استطعت أن اصل إليه حتى الآن في هذا الموضوع أرجو أن يكون فيه مساهمة لعلماء المجمع فيما يصدرونه من قرارات أو توصيات في هذا الموضوع الهام. والله نسال أن يهدينا إلى سواء السبيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 871 خطاب الضمان فضيلة الدكتور علي أحمد السالوس مقدمة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} . والحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة منه، توجب على مؤدى ماضي نعمه بأدائها: نعمة حادثة يجب عليه شكره بها. ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته، الذي هو كما وصف نفسه، وفق ما يصفه به خلقه. أحمده حمدا كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله. وأستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به. وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه. وأستغفره لما أزلفت وأخرت. استغفار من يقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله (1) . أما بعد: ففي أحد اجتماعات هيئة الرقابة الشرعية دار حوار حول خطابات الضمان، ومما يلتزم به المصرف عند تقدير الأجر. ورأيت أن الأجر يكون في مقابل عمل المصرف وجهده، أما الكفالة ذاتها فهي عقد تبرع كما ثبت بالنص والإجماع. ورأي غيري من السادة الأجلاء أن العمل وحده لا يكفي، وإنما ينظر أيضا إلى عنصر الخاطرة التي يتحملها المصرف.   (1) من مقدمة رسالة الإمام الشافعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 872 ونتيجة لهذا قمت بكتابة بحث عنوانه "أجور خطابات الضمان من الوجهة الشرعية" ثم رأيت أن أعطي وقتا لدراسة تجمع فقه الكفالة وتطبيقاتها المعاصرة وتمت بحمد الله تعالي وعونه وفضله هذه الدراسة في المذاهب الفقهية الإسلامية، والقانون الوضعي الذي يحتكم إليه عند الخلاف. وفي مقدمة الكتاب قلت: أن مثل هذا البحث يمكن أن يكون نواة لمؤتمر ضخم، يبحث هذه المشكلة وغيرها مما اختلف فيه، ليخرج برأي يرتضيه الفقهاء، ويسهم في حل مشكلات العمل الإسلامي. وقبل إتمام طبع الكتاب بلغتني الدعوة الكريمة لكتابة بحث عن خطاب الضمان. فكنت سعيدا كل السعادة، وأسأل الله جلت قدرته أن يمد هذا المؤتمر بعونه وتوفيقه ليخرج برأي سديد يرضيه عز وجل، ويحسم الخلاف في مشكلة كثر النقاش حولها وتباينت الآراء، وظهر أثر الخلاف واضحا في التطبيق العملي. والله المستعان، نعم المولي ونعم النصير، وله الحمد في الأولى والآخرة، والصلاة والسلام علي خاتم الرسل الكرام وعلي آله وصحبه، ومن اهتدي بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 873 الباب الأول الكفالة في الكتاب والسنة الفصل الأول تعريف الكفالة أولا: الكفالة في اللغة قال ابن منظور في لسان العرب: ... الكافل: العائل، كفله يكفله وكفله إياه، وفى التنزيل العزيز: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} . (1) ، وقد قرئت بالتثقيل ونصب زكريا، وذكر الأخفش أنه قرئ: وكفلها زكريا بكسر الفاء. وفى الحديث: ((أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة له ولغيره)) (2)   (1) آل عمران: 37 (2) روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: كافل اليتيم له ولغيره أنا وهو كهاتين في الجنة، وأشار مالك - أي الراوي - بالسبابة والوسطى. (انظر كتاب الزهد - فضل الإحسان إلى الأرملة والمسكين اليتيم) . وفى باب فضل من يعول يتيما من كتاب الأدب في صحيح البخاري نجد الحديث الشريف: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى. وشرحه ابن حجر في الفتح غير أنه لم يذكر رواية مسلم مع ذكره لروايات غيره، وذكره السيوطي في: الجامع الصغير (حديث 2710) ، وأشار مع البخاري إلى أحمد وأبى داود والترمذي فقط، فقال المناوي في شرحه: "وظاهر صنيع المصنف أن ذلك مما تفرد البخاري عن صاحبه، وليس كذلك، بل رواه مسلم " (انظر فيض القدير 49/3) . وقال النووي في شرح حديث مسلم: كفالة اليتيم: القائم بأموره من نفقة وكسوة وتأديب وتربية هو غير ذلك، وهذه الفضيلة تحصل لمن كفله من مال نفسه، أو من مال اليتيم بولاية شرعية. وأما قوله: له أو لغيره، فالذي له أن يكون قريبا له، كجده وأمه وجدته وأخيه وأخته وأمه وخاله وعمته وخالته وغيرهم من أقاربه، والذي لغيره أن يكون أجنبيا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 874 والكافل: القائم بأمر اليتيم المربى له، وهو من الكفيل الضمين، والضمير في له ولغيره راجع إلى الكافل، أي أن اليتيم سواء كان الكافل من ذوى رحمه وأنسابه أو كان أجنبيا لغيره تكفل به، وقوله: كهاتين إشارة إلى إصبعيه السبابة والوسطى، ومنه الحديث: الراب كافل (1) .: الراب: زوج أم اليتيم لأنه يكفل تربيته وبقوم بأمره مع أمه. وفى حديث وفد هوازن: "وأنت خير المكفولين " (2) .، يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي خير من كفل في صغره وأرضع وربى حتى نشأ، وكان مسترضعا في بني سعد بن بكر.   (1) لم أجد هذا الحديث الشريف فيما رجعت إليه من كتب السنة، ولم أجد له ذكرا أو إشارة في الكتب التالية: المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، ومفتاح كنوز السنة، والجامع الصغير وشرحه فيض القدير، كنز العمال، والجامع الأزهر في حديث النبي الأنور، وكشف الخفاء، والمقاصد الحسنة. ومعلوم أن لسان العرب ضم ما جاء في كتاب النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، فرجعت إليه، فوجدت في باب الراء مع الباء (81/2) : "الراب كافل"، ونقل ابن الأثير هذا القول من كتاب "المغيث في غريب القران والحديث" للحافظ أبي موسي محمد بن أي بكر المديني الأصفهاني، المتوفى سنة 581هـ، وقد جمع فيه ما فات الهروي من غريب القران والحديث. (انظر النهاية 1/9) (2) أشار البخاري إلى الحديث في أكثر من موضع، ولكن لم يذكر هذه العبارة، وفى الفتح (8/33) في كتاب المغازي - باب قول الله تعالى ويوم حنين..) أشار إلى رواية ابن إسحاق، وفيها "وأنت خير مكفول "، وفى سيرة ابن هشام ذكر رواية إسحاق بالتفصيل، وفيها "وأنت خير المكفولين " (4/488) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 875 ووالكافل والكفيل: الضامن، والأنثى كفيل أيضا، وجمع الكافل كفل، وجمع الكفيل كفلاء، وقد يقال للجمع كفيل كما قيل في الجمع صديق. {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} . أي ضمنها إياه حتى تكفل بحضانتها، ومن قرأ: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} . فالمعنى ضمن القيام بأمرها. وكفل المال وبالمال: ضمنه، وكفل بالرجل يكفل ويكفل كفلا وكفولا وكفالة وكفل وكفل وتكفل بدينه تكفلا. أبو زيد: أكفلت فلانا المال إكفالا إذا ضمنته إياه، وكفل هو به كفولا وكفلا، والتكفيل مثله. قال الله تعالى: {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} (1) . الزجاج: معناه اجعلني أنا أكفلها وانزل أنت عنها. ابن الأعرابي: كفيل وكافل وضمين وضامن بمعنى واحد، التهذيب: وأما الكافل فهو الذي كفل إنسانا يعوله وينفق عليه. وفى الحديث: ((الربيب كافل)) "وهو زوج أم اليتيم كأنه كفل نفقة اليتيم. ثانيا: الكفالة في الفقه: اختلف في تعريف الكفالة شرعا تبعا لاختلاف آراء الأئمة الإعلام. قال صاحبا المغنى والشرح الكبير: الضمان ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، فيثبت في ذمتهما جميعا، ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما، واشتقاقه من الضم، وقال القاض: هو مشتق من التضمين، لأن ذمة الضامة تتضمن الحق. ويقال: ضمين، وكفيل، وقبيل، وحميل، وزعيم، وصبير، بمعنى واحد. (2) ويتضح من هذا التعريف أن ضم الذمة إلى الذمة ليس في مجرد الطلب، وإنما في ثبوت الحق أيضا، فتشغل ذمتا الكفيل والأصيل بالحق المكفول به. والمالكية والشافعية يرون كذلك أن الالتزام بالحق. (3) أما الحنفية فيرون غير هذا، فعرفها صاحب كنز الدقائق بقوله: الكفالة هي ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة. وقال صاحب البحر الرائق في شرحه لهذا القول: الكفالة معناها شرعا قد اختلف فيه، وقد أشار إلى الأصح بقوله: هي ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة. (4) .   (1) 23: سورة (ص) (2) انظر الكتابين5 /70-71 (3) انظر بلغة السالك 2/155 وزاد المحتاج 2/223. (4) البحر الرائق 6/ 321. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 876 وفى الهداية قال: قيل هي ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة، وقيل في الدين، والأول أصح. (1) . وجاء ابن الهمام في فتح القدير فشرح ما سبق، وبين الخلاف بعد أن أشار إلى مفهوم الكفالة لغة، فقال: وأما في الشرع فما أشار إليه من قوله (ثم قيل هي ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة، وقيل في الدين. قال: والأول أصح فلا يثبت الدين في ذمة الكفيل خلافا للشافعي ومالك وأحمد في رواية. فيثبت الدين في ذمة الكفيل، ولا يسقط عن الأصيل. ولم يرجح في المبسوط أحد القولين على الآخر. وما يخال من لزوم صيرورة الألف للدين الواحد ألفين كما ذكره بعض الشارحين قال في المبسوط: وليس من ضرورة ثبوت المال في ذمة الكفيل، مع بقائه في ذمة الأصيل ما يوجب زيادة حق الطالب، لأن الدين وإن ثبت في ذمة الكفيل فالاستيفاء لا يكون إلا من أحدهما، كالغاصب مع غاصب الغاصب، فإن كلا ضامن للقيمة، وليس حق المالك إلا في قيمة واحدة، لأنه لا يستوفى إلا من أحدهما، واختياره تضمين أحدهما يوجب براءة الآخر، فكذا هنا، يريد باختياره التضمين القبض منه لا مجرد حقيقة اختياره، لأنه يتحقق بمرافعة أحدهما، وبمجرد ذلك لا يبرأ الآخر. ومما يدل على ثبوت الدين في ذمة الكفيل أنه لو وهب الدين للكفيل صح، ويرجع به الكفيل على الأصيل، مع أن هبة الدين من غير من عليه الدين لا تجوز. وكذا لو اشترى من الكفيل بالدين شيئا يصح، مع أن الشراء بالدين من غير من عليه الدين لا يصح. والحاصل أن ثبوت الدين في الذمة اعتبار من الاعتبارات الشرعية، فجاز أن يعتبر الشيء الواحد في ذمتين، إنما يمتنع في عين ثبت في زمن واحد في ظرفين حقيقيين. ولكن المختار ما ذكرنا أنه في مجرد الطلب لا الدين، لأن اعتباره في الذمتين -وإن أمكن شرعا - لا يجب الحكم بوقوع كل ممكن إلا بموجب، ولا موجب، لأن التوثق يحمل بالمطالبة، وهو لا يستلزم ولابد من ثبوت اعتبار الدين في الذمة، كالوكيل بالشراء يطالب بالثمن وهو في ذمة الموكل. وأما الجواب عن تسليم الهبة والدين فإنا جعلناه في حكم الدينين تصحيحا لتصرف صاحب الحق، وذلك عند وقوعه بالفعل، وقبله لا ضرورة، فلا داعي إلى ذلك. (2) .   (1) الهداية مع شرح فتح القدير 6/283 (2) انظر شرح فتح القدير 6/283-284 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 877 ولعل التعبير بكلمة الحق أولى من كلمة الدين، ولذلك استدرك ابن الهمام قائلا: " ثم الوجه أن تطلق المطالبة من غير تقييد بالدين، فان الكفالة كما تكون بالديون، تكون بالأعيان المضمونة بنفسها، وهو ما يجب تسليمه بعينه، فإن هلك ضمن مثله أن كان له مثل، وبقيمته أن لم يكن له مثل (1) وقال صاحب زاد المحتاج: " الضمان شرعا التزام حق ثابت في ذمة الغير، أو إحضار من هو عليه، أو عين مضمونة. (2) . والتعريف هنا فيه إشارة إلى كفالة الأبدان أيضا، وفيه تفصيل عند الشافعية. والحنفية بعد التعريف السابق قالوا: والكفالة ضربان: كفالة بالنفس وكفالة بالمال. والحنابلة كذلك ذكروا هذين الضربين. أما المالكية فيرون أن الضمان ثلاثة أنواع هي: ضمان المال، وضمان الوجه: أي البدن، وضمان الطلب، فجعلوا تعريفه شاملا للثلاثة (3) .. ومن الفقهاء من خالف جمهور الأئمة، فلم ير الكفالة ضم ذمة إلى ذمة، وإنما نقل الحق من ذمة إلى ذمة، أي أنهم لم يفرقوا بين الكفالة والحوالة. وقد ذهب إلى هذا ابن حزم، وقال: "قال ابن أبي ليلي، وابن شبرمة، وأبو ثور، وأبو سليمان، وجميع أصحابنا، كما قلنا من أن الحق قد سقط جملة عن المضمون عنه، ولا سبيل للمضمون له إليه أبدا، وإنما حقه عند الضامن، أنصفه أو لم ينصفه، روينا من طريق ابن أبي شيبة، أن حفص بن غياث، عن أشعث - هو ابن عبد الملك الحمران، عن الحسن، ومحمد بن سيرين، قالا جميعا: الكفالة والحوالة سواء" (4) ..   (1) انظر شرح فتح القدير6/284 (2) ج 2 ص 23 2 (3) انظر بلغة السالك، والشرح الصغير معه 2/155 (4) المحلى 8/527 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 878 ثالثا: الكفالة في القانون: القوانين المدنية نجد بعضها أخذ التعريف من الفقه الإسلامي، مثل القانون المدني العراقي، فالمادة (1008) نصها: "الكفالة ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة بتنفيذ التزام". ونجد بعضها الآخر يتفق مع هذا التعريف كالقانون المدني المصري، حيث تنص المادة (772) على ما يأتي: "الكفالة عقد بمقتضاه يكفل شخص تنفيذ التزام بأن يتعهد للدائن بأن يفي بهذا الالتزام إذا لم يفي به المدين نفسه" (1) بشرح الدكتور السنهوري المادة السابقة فيقول: "يؤخذ من هذا التعريف أن الكفالة هي عقد بين الكفيل والدائن، أما المدين الأصلي فليس طرفا في عقد الكفالة، بل أن كفالة المدين تجوز بغير علم المدين، وتجوز أيضا رغم معارضته. والذي يهم في الكفالة هو التزام هذا المدين أما إذ أن هذا الالتزام هو الذي يضمنه الكفيل، فيجب أن يكون مذكورا في وضوح ودقة في عقد الكفالة. وهذا الالتزام المكفول أكثر ما يكون مبلغا من النقود، وقد يكون إعطاء شيء غير النقود، كما قد يكون عملا أو امتناعا عن عمل. فإذا لم يكن الالتزام المكفول مبلغا من النقود- ضمن الكفيل ما عسى أن يحكم على المدين الأصلي من تعويض من جراء إخلاله بالالتزام بإعطاء شئ غير النقود، أو من جراء إخلاله بالالتزام بعمل أو بالامتناع عن عمل. فالكفالة إذن تفترض وجود إلزام مكفول، وهذا الالتزام يفترض وجود مدين أصلى به ودائن، كما تفترض الكفالة وجود عقد بين الكفيل والدائن بالالتزام الأصلي المكفول بموجبه يفي الكفيل بهذا الالتزام إذا لم يف به المدين الأصلي. فالكفالة ترتب التزاما شخصيا في ذمة الكفيل، والتزام الكفيل هذا تابع للالتزام الأصلي" (2) .   (1) أنظر ما سبق، وما يتصل بقوانين بعض البلاد الأخرى، في الكتاب القيم: الوسيط في شرح القانون المدني للعلامة المرحوم الدكتور عبد الرازق السنهوري 10/18-19. (2) المرجع السابق 10/19-20. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 879 الفصل الثاني الكفالة في القران الكريم ورد الفعل (يكفل) في القران الكريم بمعنى يتعهد الصغير ويرعى شئونه، ولم يأت بمعنى يضمن. ففي سورة ال عمران (الآية 44) نقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} .. وفى سورة طه (الآية40) : {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} . وفى سورة القصص (الآية12) : {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} . وورد الفعل (كفل) - بالتشديد- بمعنى جعله كافلا له راعيا، جاء هذا في سورة آل عمران (الآية 37) حيث يقول عز وجل: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} وضمير كفل يعود إلى "ربها ". ولم يرد الفعل في غير هذا الموضع، فلم يأت إذن بمعنى جعله ضامنا للمال. والفعل (أكفل) جاء مرة واحدة، وهى في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} (23: سورة ص) . والمعنى: كافلا لها، راعيا لشئونها، أو أعطني إياها لأرعاها. فلم يرد الفعل بمعنى جعله ضامنا لمال. وكلمة (كفيل) ذكرت مرة واحدة، وهى في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} . (91: سورة النحل) ، أي مهيمنا ورقيبا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 880 لم يرد في القران الكريم كلمة من مادة (كفل) تفيد معنى الضمان، ولكن جاء المعنى من مادة أخرى هي مادة (زعم) . قال تبارك وتعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} . (72: سورة يوسف) . والزعيم هنا هو الكفيل الضامن، ولذلك يستدل بهذه الآية الكريمة على جواز الكفالة. وهذه الكلمة جاءت في موضع آخر، وهو قوله عز وجل: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} . (40: سورة القلم) . وفى سورة الإسراء (الآية 92) وردت كلمة قبيل، قال تعالى: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} . قال الفراء: (قبيلا) أي كفيلا (1) . وقال الزمخشري: (قبيلا) كفيلا بما تقول شاهدا لصحته، والمعنى: أو تأتى بالله قبيلا وبالملائكة قبيلا كقوله: كنت منه ووالدي بريا وإني وقير بها لغريب أي مقابلا، كالعشير بمعنى المعاشر ونحوه (2) . وقال ابن منظور: (3) .. القبيل: كل جمع من شئ واحد، وكل جيل من الجن والناس، والجماعة من الناس يكونون من الثلاثة فصاعدا، وجمع القبيل قبل، واستعمل سيبوبه القبيل في الجمع والتصغير وغيرهما من الأبواب المتشابهة.   (1) معاني القرآن 2/131 (2) الكشاف 2 /466 (3) انظر مادة قبل في لسان العرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 881 وفى معجم ألفاظ القران الكريم الذي ألفته لجنة من مجمع اللغة العربية، جاء تفسير القبيل في الآية الكريمة بقولهم: "جماعة جماعة، أو كفلاء يشهدون بصحة دعواك". وذكروا أن معنى القبيل: الجماعة، والكفيل، وقبيل الرجل: عشيرته وأعوانه. وقال الكاسانى: القبالة بمعنى الكفالة، يقال: قبلت به أقبل قبالة، وتقبلت به، أي كفلت. قال تعالى: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} أي كفيلا (1) . والآية الكريمة لا يستدل بها على مشروعية الكفالة، وإنما يؤخذ منها جواز استعمال القبيل بمعنى الكفيل في صيغة الكفالة التي يصح بها الإيجاب. ومما جاء قريبا من معنى الكفالة بالنفس قوله تعالى في سورة يوسف (الآية 66) : {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} . فالموثق - وهو العهد المؤكد- أخذه يعقوب عليه السلام على بنيه لضمان عودة أخيهم معهم. ولعل في هذا ما يسترشد به على جواز الكفالة بالنفس.   (1) بدائع الصنائع 7/3405. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 882 الفصل الثالث الكفالة في السنة المطهرة حظيت الكفالة بالكثير من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نذكر منها ما يأتي، مع الإشارة إلى شئ من الفقه: أولا: روى أحمد، وأصحاب السنن عدا النسائي، والدارقطني، وغيرهم بطرق مختلفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الزعيم غارم)) (1) وهذا الحديث الشريف يستفاد منه ما ذهب إليه الفقهاء من أن الكفالة من عقود التبرع، فالأصل فيها الغرم لا الغنم. لهذا يشترط في الكفيل أهلية التبرع، لأن الكفالة تبرع محض لا مصلحة فيها للكفيل، حتى إذا كانت عقد معاوضة انتهاء فهذا يعنى أنها تنتهي بقرض، والقرض عقد إرفاق لا مصلحة فيه للمقرض. ولذلك لا تصح الكفالة من الصغير، ولا من المجنون، ولا من المبرسم الذي يهذي. ولا تصح كذلك من المحجور عليه لسفه وإن أذن الولي، وقد ذهب إلى هذا جمهور الفقهاء. وقال القاض أبو يعلى الحنبلي: تصح الكفالة ويتبع بها بعد فك الحجر عنه، أي أنه اعتبر عدم الحجر لسفه شرط نفاذ لا شرط انعقاد. وقد رفض الحنابلة أنفسهم هذا الرأي وبينوا بطلانه (2) .   (1) انظر سن إلى داود كتاب الببوع - باب تضمين العارية، وسنن الترمذي: كتاب البيوع - باب ما جاء أن العارية مؤداة، وسنن ابن ماجه: كتاب الصدقات باب الكفالة - الحديث رقم 2405، وسنن الدارقطني 3/41 - كتاب البياع.. الخ. وراجع نصب الراية 4/57-58، وعون المعبود - شرح الحديث رقم 5548ج 9 ص 478 - 479، وتحفة الأحوذي في الموضع السابق من سنن الترمذي. واقرأ قول الخطابي في معالم السنن (3/177) : "الزعيم الكفيل، والزعامة الكفالة، ومنه قيبل لرئيس القوم الزعيم لأنه هو المتكفل بأمورهم. (2) انظر المغنى5/78. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 883 وذهب الرافعي من الشافعية إلى أن الضمان بإذن الولي كالبيع يحتمل الوجهين: الصحة وعدمها، قال النووي في بيانه لفساد هذا الرأي: أن البيع إنما صح على وجه لأنه لا يأذن إلا فيما فيه ربح أو مصلحة، والضمان غرر كله بلا مصلحة (1) . ويرى الجمهور أن الصبي المميز لا تصح منه الكفالة سواء أذن الولي أو لم يأذن، وفى رواية عند الحنابلة: تصح مع إذن الولي، وهى خلاف الصحيح من المذهب، والقياس على البيع يرده ما ذكر انفا. أما المحجور عليه لفلس وإن لم تنفذ الكفالة حال الحجر غير أنها تصح، وتنفذ بعد فك الحجر، فعدم الحجر لفلس شرط نفاذ لا شرط انعقاد. واختلف في الحرية: أهي شرط نفاذ أم شرط انعقاد؟ ولا حاجة لمناقشة هذا الرأي، فلا يوجد رق الآن يبيحه الإسلام، وبهذا أفتى مجمع البحوث الإسلامية. أما المريض فإن كان مرضه غير مخوف أو غير مرض الموت فحكمه حكم الصحيح، وإن كان مرض الموت المخوف فحكم ضمانه حكم تبرعه، لا يصح فيما يزيد عن ثلث ماله. وخالف المالكية جمهور الفقهاء في كفالة المرأة، حيث فرقوا بينها وبين الرجل، ولهم في هذا التفصيل الآتي: الجارية البكر بعد بلوغها المحيض تعتبر كالولد الصغير في الكفالة، فلا تصح منها الكفالة حتى مع إذن الولي.   (1) انظر روضة الطالبين 4/242 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 884 والمرأة ذات الزوج تصح الكفالة منها في حدود الثلث فقط، فإن زادت على الثلث اعتبر هذا اضرارا بالزوج فلا تصح الكفالة إلا إذا كانت بموافقة الزوج نفسه، وكانت مرضية أي في تصرفها غير سفيهة في حالها. أو إلا أن تكون إنما زادت الدينار أو الشيء الخفيف، فهذا يعلم أنها لم ترد به الضرر، فهذا يمضى. وتصح كفالتها عن زوجها وإن بلغت جميع مالها بإذنه. أما المرأة الأيم غير ذات الزوج إذا كانت لا يولى عليها فهي التي تكون بمنزلة الرجل في الكفالة (1) . ورأي المالكية ينبنى على أصل الحجر على مال الأنثى، فالبكر ليست من أهل التبرع، فلا تجوز كفالتها لأن الكفالة معروف. وذات الزوج "محجورة عن جميع مالها وكذلك المريض قد حجر عليه جميع ماله، وإنما يجوز له من ماله الثلث، والكفالة معروف، فإنما يجوز ذلك في ثلثه، كما يجوز للمرأة ذات الزوج معروفها في ثلثها عند مالك" (2) "قال مالك: كل معروف تصنعه الزوجة ذات الزوج فهو في ثلثها. والكفالة عند مالك من وجه الصدقة، لأن مالكا قال في بيع المرأة ذات الزوج دارها أو خادمها أو دابتها: جائز على ما أحب زوجها أو كره، إذا كانت مرضية في حالها وأصابت وجه البيع. قال مالك: وأرى أن كان فيه محاباة كان في ثلث مالها". (3) . وذكر سحنون ما يؤيد ما ذهب إليه الإمام مالك فقال: " ألا ترى أنه جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها؟ أو لا ترى أن شهادة الزوج لا تجوز لها ومالها غير ماله، ورأي أهل العلم من أهل الحجاز أن تبلغ بعطيتها الثلث بغير أمر الزوج؟ ". (4) .   (1) راجع رأي المالكية في المدونة 5/283-278 (2) المدونة 5/277 (3) 5/284المدونة (4) المدونة 5/286 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 885 ولعل رأي الإمام مالك ومن وافقه يحتاج إلى مزيد من الأدلة، فلا يكفي القول بالحجر دون دليل يثبت هذا القول ومنع الضرر يمكن أن يجاب عنه بأنه لا ضرر هنا مادامت تتصرف في ملكها الخاص وهى مرضية غير سفيهة. والحديث الشريف يمكن أن يذكر بأن المراد منع المرأة من التصرف في مال زوجها إلا بإذنه لأنه صاحب المال، وليس منعها من التصرف في مال هي مالكته إلا بإذن من لا يملكه وهو الزوج، وهذا واضح في العطايا اليسيرة. (1) وفى معالم السنن (3/174) جاء التعقيب على الحديث الشريف بما يأتي: "قال الشيخ (أي الخطابي) : هذا عند أكثر العلماء على معنى حسن العشرة، واستطابة نفس الزوج بذلك، إلا أن مالك بن أنس قال: ترد ما فعلت من ذلك حتى يأذن الزوج. قال الشيخ: ويحتمل أن يكون ذلك في غير الرشيد، وقد ثبت عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء: تصدقن، فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم، وبلال يتلقاها بكسائه، وهذه عطية بغير إذن أزواجهن". وننتقل بعد هذا إلى القانون الوضعي فنراه يجيز الكفالة بأجر خلافا لما أجمع عليه الفقهاء. وفى أهلية الكفيل يفرق بين الكفالة بأجر وبدون أجر: فالكفيل المتبرع يجب أن تتوافر فيه أهلية التبرع، فلا بد أن يكون بالغا سن الرشد، غير محجور عليه. وعلى ذلك لا يجوز للقاصر ولا للمحجور عليه أن يكفل الغير متبرعا، وإذا كفل كانت الكفالة باطلة، بل لا يجوز للولي أو الوصي أو القيم أن يعقد باسم القاصر أو المحجور عليه كفالة تبرعية، حتى بإذن المحكمة. أما إذا كانت الكفالة بمقابل فتجب في الكفيل أهلية التصرف لا أهلية التبرع. وذلك قياسا على المقترض بفائدة، وعلى ذلك لا يجوز للقاصر ولا للمحجور عليه أن يكفل لأنه لا يملك أهلية التصرف وقد يملك أهلية الإدارة، ولكن الكفالة من أعمال التصرف لا من أعمال الإدارة، وإذا كفل كانت الكفالة قابلة للإبطال إلى أن تجاز، ولكن يجوز للولي أو الوصي أو القيم أن يعقد كفالة بمقابل باسم القاصر أو المحجور عليه على أن يكون ذلك بالنسبة إلى الجد أو إلى الوصي أو إلى القيم بإذن المحكمة. (2) .   (1) يؤيد هذا الاحتمال إحدى روايات الإمام أحمد ونصها: "لا تنفق المرأة من بيتها إلا بإذن زوجها. فقيل: يا رسول الله، ولا الطعام؟ قال: ذلك أفضل أموالنا" - (5/267) ، ولكن يبعد هذا الاحتمال رواية أخرى نصها: لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها" - (انظر الرواية رقم 7058 من المسند ج 12 بتحقيق الشيخ شاكر، وهنا يأتي كلام الخطابي. (2) انظر الوسيط 10/80-81 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 886 ثانيا: في كتاب الكفالة من صحيح البخاري نجد في بدايته "باب الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها". وتحت الباب ما يأتي: 1- وقال أبو الزناد، عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي، عن أبيه: "أن عمر -رضي الله عنه - بعثه مصدقا، فوقع رجل على جارية امرأته فأخذ حمزة من الرجل كفلا، حتى قدم على عمر، وكان عمر قد جلده مائة جلدة، فصدقهم، وعذره بالجهالة ". 2- وقال جرير والأشعث لعبد الله بن مسعود في المرتدين: استتبهم وكفلهم، فتابوا وكفله عشائرهم. 3- قال أبو عبد الله: وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن ابن هرمز، عن أبي هريرة - رضي الله عنه: "عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بنى إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدا. قال: فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلا. قال: صدقت، فدفعها إليه على أجل مسمى.. " الخ. هذا ما ذكره الإمام البخاري، وواضح أن الأخبار الثلاثة جاءت معلقة، فبين ابن حجر في الفتح أصل كل من الخبرين الأول والثاني والطرق الموصلة للحديث الشريف. وقال بعد الخبر الأول: "استفيد من هذه القصة مشروعية الكفالة بالأبدان، فإن حمزة بن عمرو الأسلمي صحابي، وقد فعله ولم ينكر عليه عمر مع كثرة الصحابة حينئذ". وقال في شرحه للخبر الثاني: "قال ابن المنير: أخذ البخاري الكفالة بالأبدان في الديون مع الكفالة بالأبدان في الحدود بطريق الأولى، والكفالة بالنفس قال بها الجمهور ولم يختلف من قال بها أن المكفول بحد أو قصاص إذا غاب أو مات إلا حد على الكفيل بخلاف الدين، والفرق بينهما أن الكفيل إذا أدى المال وجب له على صاحب المال مثله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 887 وقال في شرحه للحديث: "وجه الدلالة منه على الكفالة تحدث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وتقريره له وإنما ذكر ذلك ليتأسى به فيه، وإلا لم يكن لذكره فائدة " (1) . ثالثا: في كتاب الكفالة من صحيح البخاري أيضا نجد "باب من تكفل عن ميت دينا فليس، له أن يرجع، وبه قال الحسن". ويضم الباب حديثين: أحدهما: عن سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بجنازة ليصلي عليها فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: لا، فصلى عليه ثم أتى بجنازة أخرى فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: نعم قال: فصلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة: علي دينه يا رسول الله، فصلى عليه" والآخر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم لو قد جاء مال البحرين قد أعطيتك هكذا هكذا، فلم يجيء مال البحرين حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء مال البحرين أمر أبو بكر فنادى: من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم عدة أودين فليأتنا، فأتيته فقلت: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي كذا وكذا. فحثى لي حثية، فعددتها فإذا هي خمسمائة؟ وقال خذ مثليها". وبعد الحديثين قال ابن حجر: قوله (باب من تكفل عن ميت دينا فليس له أن يرجع، وبه قال الحسن) يحتمل قوله " فليس له أن يرجع " أي عن الكفالة بل هي لازمة له " وقد استقر الحق في ذمته، ويحتمل أن يريد فليس له أن يرجع في التركة بالقدر الذي تكفل به، والأول أليق بمقصوده. ثم أشار إلى الحديث الأول وقال: ووجه الأخذ منه أنه لو كان لأبي قتادة أن يرجع لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على المديان حتى يوفي أبو قتادة الدين لاحتمال أن يرجع، فيكون قد صلى على مديان دينه باق عليه فدل على أنه ليس له أن يرجع. واستدل به على جواز ضمان ما على الميت من دين ولم يترك وفاء، وهو قول الجمهور خلافا لأبى حنيفة وقد بالغ الطحاوي في نصرة قول الجمهور، ثم أورد فيه حديث جابر.   (1) راجع فتح الباري 4/470 - 472 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 888 وقال عن الحديث الثاني: ووجه دخوله في الترجمة أن أبا بكر لما قام مقام النبي صلى الله عليه وسلم تكفل بما كان من واجب أو تطوع، فلما التزم ذلك لزمه أن يوفي جميع ما عليه من دين أو عدة " وكان صلى الله عليه وسلم يحب الوفاء بالوعد، فنفذ أبو بكر ذلك (1) رابعا: في الكتاب نفسه من صحيح البخاري حديثا في باب الديات، عن أبي هريرة رضي الله عنه " أن رسول صلى الله عليه وسلم كان يؤتي بالرجل المتوفي عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه فضلا؟ فإن حدث أنه ترك لدينه وفاء صلى وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفى من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته (2) وبعد شرح الحديث الشريف قال ابن حجر (4/478) : قال ابن بطال: قوله "من ترك دينا فعلي" ناسخ لترك الصلاة على من مات وعليه دين، وقوله فعلى قضاؤه أي مما يفيء الله عليه من الغنائم والصدقات، قال: وهكذا يلزم المتولي لأمر المسلمين أن يفعله بمن مات وعليه دين، فإن لم يفعل فالإثم عليه إن كان حق الميت في بيت المال يفي بقدر ما عليه من الدين، وإلا فبقسطه..   (1) انظر فتح الباري 4/474 – 475 (2) راجع تخريج الحديث في نصب الراية 4/58 - 59 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 889 خامسا: في كتاب الحوالة والضمان من نيل الأوطار نجد " باب ضمان دين الميت المفلس " (5/267) ويضم الباب حديثين: أحدهما حديث سلمة بن الأكوع، ولكن بلفظ غير ما سبق، ويقول صاحب منتقى الأخبار بعد الحديث: رواه أحمد والبخاري والنسائي. وروى الخمسة إلا أبا داود هذه القصة من حديث أبي قتادة، وصححه الترمذي، وقال فيه النسائي وابن ماجه: " فقال أبو قتادة: أنا أتكفل به وهذا صحيح في الإنشاء لا يحتمل الإخبار بما مضى. والحديث الثاني عن جابر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل مات عليه دين، فأتى بميت فسأل: عليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران. قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: هما على يا رسول الله، فصلى عليه، فلما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك دينا فعلي، ومن ترك مالا فلورثته ". قال مجد الدين ابن تيمية عقب الحديث: رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي. وقال الشوكاني: حديث جابر أخرجه أيضا ابن حبان والدارقطني والحاكم. ثم قال: وعن أبي هريرة عند الشيخين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: "من خلف مالا أو حقا فلورثته، ومن خلف كلا أودينا فكله إلى ودينه على. ثم قال: وأحاديث الباب تدل على أنها تصح الضمانة عن الميت، ويلزم الضمين ما ضمن به، وسواء كان الميت غنيا أو فقيرا. وإلى ذلك ذهب الجمهور وأجاز مالك للضامن الرجوع على مال الميت إذا كان له مال. وقال أبو حنيفة: لا تصح الضمانة إلا بشرط أن يترك الميت وفاء دينه وإلا لم يصح.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 890 سادسا: ويلي الباب السابق " باب في أن المضمون عنه إنما يبرأ بأداء الضامن لا بمجرد ضمانه " (نيل الأوطار5/269) وفيه حديث واحد، هو عن جابر قال: توفى رجل فغسلناه وحنطناه وكفناه، ثم أتينا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: نصلي عليه، فخطا خطوة ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة. فأتيناه، فقال أبو قتادة: الديناران علي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد أوفى الله حق الغريم وبرئ منه الميت، قال: نعم، فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران؟ قال: إنما مات أمس. قال: فعاد إليه من الغد، فقال: قد قضيتهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم الآن بردت عليه جلده ". وعقب مجد الدين على الحديث بقوله: رواه أحمد، وإنما أراد بقوله " والميت منهما بريء" دخوله في الضمان متبرعا لا ينوي به رجوعا بحال. وقال الشوكاني: الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي والدارقطني وصححه ابن حبان والحاكم. ثم قال: قوله الآن بردت عليه فيه دليل على أن خلوص الميت من ورطة الدين وبراءة ذمته على الحقيقة ورفع العذاب عنه، إنما يكون بالقضاء عنه لا بمجرد التحمل بالدين بلفظ الضمانة، ولهذا سارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى سؤال أبي قتادة في اليوم التالي عن القضاء. (1)   (1) انظر نيل 5/269 - 270، وراجع الحديث في مسند الإمام أحمد 3/330، واللفظ فيه بعض الاختلاف، واقرأ الحديث. وتعقيب ابن حجر وشرح الصنعائى في سبل السلام 3/888 - 890. وراجع سنن النسائي-كتاب الجنائز: الصلاة على من عليه دين ج 4 ص 65- 66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 891 سابعا: روى مسلم وأبو داود وغيرهما عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: " أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ". قال: ثم قال: " يا قبيصة أن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك (1) ... " وهذا الحديث الشريف كما يدل على جواز الكفالة يدل أيضا على أنها واجبة على من تحملها، ليس له أن يرجع عن التزامه. ثامنا: روى ابن ماجه في باب الكفالة من كتاب الصدقات بسنده عن ابن عباس، أن رجلا لزم غريما بعشرة دنانير، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندي شيء أعطيكه. فقال: لا والله لا أفارقك حتى تقضينى أو تأتينى بحميل. فجره إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كم تستنظره؟ " فقال: شهرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنا أحمل له ". فجاءه في الوقت الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين أصبت هذا " قال: من معدن، قال: " لا خير فيها " وقضاها عنه. وروى أبو داود الحديث الشريف -مع شيء من الاختلاف - في باب استخراج المعادن من كتاب البيوع. والحديث كما يدل على جواز الكفالة، يدل أيضا على جواز ملازمة الغريم، ومنعه من التصرف حتى يؤدى ما عليه من الحق، وعلى جواز ضمان الدين الحال مؤجلا.   (1) صحيح مسلم -كتاب الزكاة: من تحل له المسألة - وانظر سنن أبي داود-كتاب الزكاة: بباب تجوز فيه المسألة. والحمالة: ما يتحمله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة، مثل أن يقع حرب بين فريقين تسفك فيها الدماء، فيدخل بينهم رجل يتحمل ديات القتلى ليصلح ذات البين، والتحمل: أن يحملها عنهم على نفسه. (النهاية لابن الأثير1/442) . وقد كانت العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة في دية أو غيرها قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك والقيام به حنى ترتفع تلك الفتنة الثائرة. (عون المعبود5/50) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 892 الباب الثاني الفصل الأول خطاب الضمان في البنوك الربوية تعريف خطاب الضمان: من الكفالات المعاصرة ما تقوم به المصارف بما يسمى إصدار خطابات الضمان. وخطاب الضمان يمكن تعريفه بأنه عبارة عن تعهد كتابي، يتعهد بمقتضاه المصرف بكفالة أحد عملائه (طالب الإصدار) في حدود مبلغ معين تجاه طرف ثالث، بمناسبة التزام ملق على عاتق العميل المكفول، وذلك ضمانا لوفاء هذا العميل بالتزامه تجاه ذلك الطرف خلال مدة معينة، على أن يدفع المصرف المبلغ المضمون عند أول مطالبة خلال سريان خطاب الضمان، دون التفات لما قد يبديه العميل من المعارضة. وتتعدد خطابات الضمان تبعا لتعدد الأغراض المستعملة فيها: منها خطابات الضمان الابتدائية أو المؤقتة، وهى خاصة بالعطاءات التي تقدم للجهات الحكومية وما في حكمها. ومنها خطابات الضمان النهائية، وهى خاصة بضمان حسن تنفيذ العقود المبرمة مع تلك الجهات. ومنها خطابات الضمان للتمويل (عن دفعات مقدمة) : يصدرها المصرف لضمان مبالغ تصرف مقدما من بعض الجهات للمقاولين أو الموردين، أو لضمان مبالغ تحت الحساب عن أعمال مقدرة لم يتم حصرها. وهناك أنواع أخرى من خطابات الضمان. وللخطابات شروطها، ويقوم المصرف بإجراءات وأعمال مختلفة تستلزمها هذه الخطابات. (1) .   (1) انظرعلى سبيل المثال: الباب التاسع من الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية 2/309-336 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 893 موقف البنوك الربوية من خطابات الضمان البنوك الريوبة عندما تصدر خطابات الضمان تأخذ من عملائها ما يقابل هذا الإصدار، وتراعي في تحديد العمولة الأعمال والإجراءات التي تقوم بها، وقيمة الدين الذي تضمنه، ومدة هذا الضمان. وهي عادة تقدر نسبة مئوية تحسب على أساس هذا الدين ومدته. فإذا قام البنك بدفع أي مبلغ ضمنه حسب دينا على العميل بالفائدة الربوية المتعارف عليها، والتي يلتزم بها المدين قانونا، والبنك تاجر ديون مراب، وكما يقول أحد رجال الاقتصاد: "يمكن تلخيص أعمال البنوك التجارية في عبارة واحدة، وهى: التعامل في الائتمان أو الاتجار في الديون: إذ ينحصر النشاط الجوهري للبنوك في الاستعداد لمبادلة تعهداتها بالدفع لدى الطلب بديون الآخرين، سواء أكانوا أفرادا، أم مشروعات، أم حكومات. ويقبل الأفراد هذه التعهدات المصرفية- وهى التي تعرف باسم الودائع الجارية- في الوفاء بما تزودهم به البنوك من اعتمادات وسلف نظرا لما يتمتع به التعهد المصرفي بالدفع لدى الطلب من قبول عام في تسوية الديون. وهكذا تتوصل البنوك التجارية إلى مزاولة نشاطها الذي تبرز به وجودها، وتستمد من القيام به أرباحها، بالاضطلاع تارة بمركز الدائن، وتارة بمركز المدين ". (1) . ولهذا فالبنوك الريوية ترحب بخطابات الضمان، حيث تدر عليها ربحا وفيرا، وتتصل بنشاطها الربوي. وهى كما تقوم بالإقراض العادي، تقوم كذلك بالإقراض عن طريق ما يسمى بفتح الاعتماد. أما خطاب الضمان فيقول عنه الدكتور على البارودى بأنه صورة من صور إقراض التوقيع (2) .   (1) مقدمة في النقود والبنوك للدكتور محمد زكي شافعى ص 197 (2) راجع خطاب الضمان في كتابه: القانون التجاري ص 532 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 894 ويتحدث آخر عن الكفالات المصرفية فيقول: " قد يحتاج عميل المصرف، في بعض الأحيان، إلى نوع من الاعتماد، لا يريد منه الحصول على مبلغ من المال - سواء بصورة آنية فورية أو مستقبلية- بل تقديم ضمانه للأشخاص الذين يتعاملون معه لتنفيذ الالتزامات التي تعهد بها تجاههم. ففي هذه الحالة، يتدخل المصرف لتقديم هذه الضمانة عن طريق الكفالة، فالغاية من الكفالة المصرفية هي إذن إفساح المجال أمام المعتمد له لعدم دفع المبالغ التي يطلب إليه دفعها ضمانا لتنفيذ تعهداته. على أن الكفالة المصرفية إذا كانت لا تقتضى المصرف دفع المال المكفول به بصورة آنية فورية، فإنها -كالاعتماد بالقبول - قد تتحول إلى التزام بالدفع الفعلي، وذلك عندما يحل أجل الدين أو التعهد المكفول، ثم يمتنع المتعهد، أو يعجز عن الوفاء به (1) .   (1) الحسابات والاعتمادات المصرفية للدكتور رزق الله انطاكي- 309 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 895 الفصل الثاني خطاب الضمان في المصارف الإسلامية إذا كانت البنوك الربوية ترحب بخطابات الضمان لأنها تتصل بنشاطها الربوي، فالأمر مختلف بالنسبة للمصارف الإسلامية، فما قامت إلا لتطهير أموال المسلمين من الربا، فلا يمكن أن تأخذ زيادة ربوية. وإذا كانت القوانين الوضعية أباحت الربا عينه، فلا عجب أن تبيح الكفالة بأجر، أما الشريعة الغراء فقد نصت على أن الزعيم غارم، وأجمعت الأمة على أن الكفالة من عقود التبرع. غير أن المصارف الإسلامية تأخذ أجرا مقابل إصدار خطابات الضمان، فعلى أي أساس تحدد هذه الأجور؟ وبم تستحقها شرعا؟ اختلفت النظرة والفتوى، فاختلف التطبيق العملي. التكييف الشرعي لخطاب الضمان. خطاب الضمان إذا كان غير مغطى من العميل فمن الواضح أنه يعتبر عقد كفالة، فالكفالة ضم ذمة إلى ذمة، فضمت ذمة المصرف إلى ذمة طالب الإصدار لمصلحة الطرف الثالث، وعلى هذا فالكفيل هو المصرف، والمكفول هو العميل، والمكفول له هو الطرف الثالث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 896 أما إذا كان العميل أودع لدى المصرف ما يغطى الخطاب فإن العلاقة بينهما علاقة وكالة، حيث وكل العميل المصرف ليقوم بالأداء، فلا توجد كفالة بين الطرفين، غير أنها تكون بين المصرف والطرف الثالث، فالطرف الثالث يقبل خطاب الضمان من المصرف باعتبار المصرف كفيلا لا وكيلا. وما جرى عليه العرف المصرفي غالبا هو قيام العميل بالغطاء الجزئي لا الكلي، وفى هذه الحالة تكون علاقة المصرف بالعميل علاقة وكالة وكفالة معا، فهو وكيل بالنسبة للجزء المغطي وكفيل مراعاة للجزء المتبقي. ما ياخذه المصرف مقابل إصدار الخطاب. من المعلوم في الفقه الإسلامي أن الوكالة تجوز بأجر وبغير أجر، وأن الكفالة من عقود التبرع، فهي من أعمال البر التي لا يجوز أخذ أجر عليها. وهى إما أن تكون عقد تبرع ابتداء وانتهاء، وذلك إذا لم يرجع الكفيل على المكفول بما يتحمله نتيجة الكفالة، أو تكون تبرعا ابتداء ومعاوضة انتهاء إذا أدى الكفيل عن المكفول على أن يعود عليه بما قد يتحمله. والحالة الأولى لا ينطبق عليها خطاب الضمان، فالمصرف ليس متبرعا في النهاية، بل يأخذ على الطالب من الضمانات ما يجعله مطمئنا إلى أنه لن يغرم شيئا، والبنوك الربوبة لا تعود على المكفول بالدين الذي تدفعه فحسب وإنما تأخذ كذلك الزيادة الربوية، والقانون يعطيها هذا الحق غير المشروع. والمصارف الإسلامية تأخذ أجرا لإصدار خطابات الضمان، فبم تستحق هذا الأجر؟ في المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي بدبي صدر القرار التالي: "خطاب الضمان يتضمن أمرين: وكالة وكفالة. ولا يجوز أخذ أجر على الكفالة، ويجوز أخذ أجر على الوكالة. ويكون أجر الوكالة مراعى فيه حجم التكاليف التي يتحملها المصرف في سبيل أدائه لما يقترن بإصدار خطاب الضمان من أعمال يقوم بها المصرف حسب العرف المصرفي. وتشمل هذه الأعمال بوجه خاص تجميع المعلومات، ودراسة المشروع الذي سيعطى بخصوصه خطاب الضمان، كما يشمل ما يعهد به العميل إلى المصرف من خدمات مصرفية متعلقة بهذا المشروع، مثل تحصيل المستحقات من أصحاب المشروع. وتقدير ذلك الأجر متروك للمصرف بما ييسر على الناس شئون معاملاتهم وفقا لما جرى عليه العرف التجاري ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 897 اختلاف في التطبيق: من الفتوى السابقة يتضح أن الأجر يرتبط بالوكالة دون الكفالة، وهو في مقابل العمل الذي يقوم به المصرف، والمجهود الذي يبذله. ولكن ما موقف المصرف إذا كان الخطاب غير مغطى، فهو كفالة، ولم يوكله طالب الإصدار للقيام بعمل ما؟ أليس المصرف شركة تجارية لا مؤسسة خيرية؟ وهل يستوي خطاب الضمان لمبلغ زهيد مع آخر بآلاف الآلاف؟ وإذا كان الضمان لمدة وجيزة فهل نجعله كالضمان لمدة طويلة؟ وهل يمكن عند تقدير الأجر النظر إلى ما قد يتحمله المصرف من المخاطرة؟ أسئلة تنوعت إجاباتها، فاختلف التطبيق في المصارف الإسلامية، وإن وجدنا أكثرها قد أخذ بفتوى المؤتمر المذكور، حيث أبيح أخذ الأجر على الوكالة دون الكفالة. ولكن هذا قد يعنى أن المصرف لا يأخذ أجرا إلا إذا كان الخطاب مغطى كليا أو جزئيا حيث توجد الوكالة، وفى حالة عدم الغطاء لا يأخذ أي أجر، وهذا خلاف الواقع: فبعض المصارف تأخذ أجرا محددا ثابتا لأي خطاب ضمان مهما كان نوعه، أو قيمته، أو مدته. وبعض هيئات الرقابة الشرعية فرقت بين المغطى وغير المغطى، فرأت أن الأول يجوز أخذ أجر عليه على أساس الوكالة، وقالت في الثاني: " لا يجوز للبنك أن يأخذ أجرا في هذه الحالة إذا كان هذا الأجر نظير خطاب الضمان، لأنه يكون قد أخذ أجرا على الكفالة، وهو ممنوع، لأن الكفالة من عقود التبرعات". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 898 ثم قالت: " أما إذا كان الأجر الذي يأخذه البنك نظير ما قام به من خدمة ومصاريف تتطلبها إجراءات إكمال خطاب الضمان فلا مانع شرعا ". ثم جاء في خلاصة الفتوى: "ترى الهيئة جواز أخذ أجر على إصدار خطابات الضمان شريطة أن يكون هذا الأجر نظير ما يقوم به البنك من خدمة لعملائه بسبب إصدار هذه الخطابات، ولا يجوز أن يأخذ البنك أجرا لمجرد كونه ضامنا للعميل. والله أعلم ". ولعل خلاصة الفتوى تكاد تسوي بين الحالتين من حيث ربط الأجر بالخدمة التي يقوم بها البنك. ووجدنا من يذهب إلى رأي آخر يخالف ما سبق، حيث ذهب إلى ربط الأجر بالعمل والمخاطرة معا، معنى هذا أن يرتبط الأجر -إلى جانب العمل - بالجزء غير المغطى، غير أنه جعل هذا من باب الجعالة لا الإجارة حيث قال: "يجوز حصول المصرف على جعل نظير إصدار خطابات الضمان مقابل ما يتحمله المصرف من الجهد والمخاطرة المترتبة على ذلك. ويتم تحديد هذا الجعل على أساس نسبة من المبلغ غير المغطى من خطابات الضمان المصدرة بغض النظر عن مدة تلك الخطابات. كما يجوز للمصرف أن يتقاضى مبلغا مقطوعا لتجديد هذه الكفالات نظير ما يتحمله المصرف من مصروفات إدارية ". وهذا الرأي لا يزال محل دراسة. (1) . وهناك رأي آخر بدا كأنه غير مخالف حين ذكر أن الأجر مرتبط بالوكالة، والواقع أنه أكثر مخالفة مما ذكر آنفا، حيث يقول: "يقدم البنك الإسلامي هذه الخدمة لعملائه على أساس الوكالة بالأجر، ويكون له أن يتقاض الأجور المتعارف عليها بين البنوك وذلك فيما عدا الفوائد المتحققة بين تاريخ دفع قيمة المطالبة (إن حصلت) وبين تاريخ تسديد هذه القيمة من قبل العميل".   (1) عارضت أن يكون للمخاطرة في الكفالة جعل، وكان هذا من الأسباب الرئيسية لكتابة هذا البحث. وبحمد الله تعالى تم مناقشة الموضوع، وانتهينا إلى رأي يأتي ذكره في الفصل التالي ص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 899 وهذا الرأي وإن كان قد أبعد البنك الإسلامي عن الربا، إلا أنه قرنه بالبنوك الربوية في تحديد الأجر، وهذه البنوك لا تنظر إلى الوكالة وحدها، وإنما تنظر أساسا إلى الكفالة، فعندما يودع العميل لديها ما يغطي خطاب الضمان تأخذ منه أجرا يسيرا، بل قد لا تأخذ منه أي أجر لأنها تستفيد من المبلغ المودع لديها. أما إذا كان الخطاب غير مغطى فإنها تحسب العمولة على أساس قيمة الكفالة ومدتها، فتأخذ نسبة مئوية تبعا لمبلغ الكفالة ومدتها. فهذا الرأي كسابقه نظر إلى الكفالة ذاتها في تحديد العمولة، غير أنه أكثر مخالفة حيث لم يكتف بالنظر إلى المبلغ غير المغطى، بل نظر كذلك إلى مدة ضمانه. هل من ضابط؟ لقد سعدت بقرار مجلسكم الموقر بحث هذا الموضوع، وأحب أن أضع ما يلي أمام السادة الفقهاء الأجلاء المشاركين في هذا المؤتمر: أولا: الكفالة تبرع ابتداء وانتهاء حين لا يرجع الكفيل على المكفول بما أدى عنه، وقد تكون تبرعا ابتداء ومعاوضة انتهاء إذا رجع على الكفيل، فتكون هنا مثل القرض. والحالة الأولى التي كانت شائعة في المجتمع المسلم، مجتمع التكافل، لا ينطبق عليها خطاب الضمان، وإنما ينطبق على الحالة الأخرى الشبيهة بالقرض، حيث يعود المصرف على المكفول بما أدى عنه: ولا خلاف بين الأئمة في أن الكفالة لا تجوز بجعل فضلا عن الأجر. والخروج عن هذا الإجماع قد لا يجد ما يبرره. ثانيا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الآية المشهورة التي يحتج بها على الإجماع قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} . (115: سورة النساء) . وذكر الآراء المختلفة دلالة الآية الكريمة، ثم قال: " ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم، وهذا ظاهر، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضا، فإنه قد جعل له مدخلا في الوعيد، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم، فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعا، والآية توجب ذم ذلك. وإذا قيل: هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول، قلنا لأنهما متلازمان، وذلك أن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصا عن الرسول، فالمخالف لهم مخالف للرسول، كما أن المخالف للرسول مخالف لله، ولكن هذا يقتضى أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول، وهذا هو الصواب، فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفي ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به ... ". ثم قال: " لا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص، وقد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجماع بلا نص كالمضاربة وليس كذلك.. ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 900 وقال: " استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة " (1) . ثالثا: هما يستدل به على مشروعية الكفالة ما روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الزعيم غارم)) . وذكرت ما يتصل بهذا الحديث الشريف من قبل عند بحث الكفالة في السنة المطهرة. فإذا كان الأصل في الزعامة -أي الكفالة - أنها غرم، فكيف تتحول في عصرنا إلى غنم؟ ولذلك كان الإمام مالك يرى أن الكفالة من وجه الصدقة. (2) وقال الإمام الشافعي: " الكفالة استهلاك مال لكسب مال ". (3) وحكى عنه النووي أن الضمان تبرع أو قرض محمض. (4) وقال الإمام النووي: " الضمان غرر كله بلا مصلحة ". (5) وقال الكمال بن الهمام: "الكفالة عقد تبرع كالنذر، لا يقصد به سوى ثواب الله، أو رفع الضيق عن الحبيب " (6) . وقال الدردير: " الضامن كالمسلف، يرجع بمثل ما أدى " (7) وقال ابن قدامة: الضمين والكفيل على بصيرة أنه لاحظ لهما. واعتبر الكفالة كالنذر (8) ولهذا كله اشترط الفقهاء في الكفيل أهلية التبرع، لأن الكفالة تبرع محض، لا مصلحة فيها للكفيل، حتى إذا كانت عقد معاوضة انتهاء، فهذا يعنى أنها تنتهي بقرض، والقرض عقد إرفاق لا مصلحة فيه للمقرض (9) ، وتحدثت عن هذا من قبل.   (1) انظر مجموع الفتاوي 19/192-196. (2) انظر المدونة 5/284. (3) الأم. 3/205 (4) انظر روضة الطالبين. 4/241 (5) انظر روضة الطالبين 4/242 (6) شرح فتح القدير 6/298 (7) الشرح الصغير مع بلاغة السالك 2/157 وللصاوي مثل قول الدردير في الصفحة ذاتها. (8) انظر المغني 5/94 (9) راجع ما كتب عن الكفيل الفصل الثاني من الباب الثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 901 رابعا: قال ابن حزم: " لا يرجع الضامن على المضمون عنه، وعلى ورثته أبدا بشيء مما ضمن عنه أصلا- سواء رغب إليه في أن يضمنه عنه أو لم يرغب إليه في ذلك - إلا في وجه واحد، وهو: أن يقول الذي عليه الحق: اضمن عنى ما لهذا على، فإذا أديت عني فهو دين لك علي. فهنا يرجع عليه. بما أدى عنه لأنه استقرضه ما أدى عنه فهو قرض صحيح " (1) قال في موضع آخر: " لا يرجع الضامن بما أدى سواء بأمره ضمن عنه أو بغير أمره إلا أن يكون المضمون عنه استقرضه " (2) وما ذكره ابن حزم من عدم رجوع الضامن على المضمون عنه يخالف ما عليه جمهور الفقهاء، ولا حاجة إلى تفصيل هنا، فهذه الحالة لا ينطبق عليها خطاب الضمان وإنما ينطبق على الحالة الأخرى التي يرجع فيها الضامن على المضمون عنه، ولا خلاف في هذا الرجوع. والذي يعنينا هنا هو ما بينه ابن حزم من أن هذه الحالة تعتبر استقراضا. ونجد مثل هذا البيان عند غيره أيضا: جاء في الهداية: فان كفل بأمره رجع بما أدى عليه لأنه قضى دينه بأمره. وفى الشرح جاء في فتح القدير: إذا كان قضاء من جهة الذي أمر صار كما لو قال: اقض عنى، ويتضمن ذلك استقراضا منه. وفيه أيضا: والحاصل أن الأمر في الكفالة تضمن طلب القرض إذا ذكر لفظة عنى (3) وقال الكاساني: " الكفالة بالأمر في حق المطلوب استقراض، وهو طلب القرض من الكفيل، والكفيل بأداء المال مقرض من المطلوب، ونائب عنه في الأداء إلى الطالب، والمقرض يرجع على المستقرض بما أدى. وإذا كانت الكفالة في هذه الحالة تعتبر استقراضا، فما يؤخذ في مقابلها زيادة على الدين ألا يدخل من باب الربا المحرم؟ وإذا أدى المضمون عنه دينه فبم يستحق الضامن هذه الزيادة؟ وقد بين سبب المنع أكثر من فقيه: جاء في المغنى والشرح (4/365) بعد ذكر أقوال لأحمد: " قال: ولو قال اقترض لي من فلان مائة ولك عشرة فلا بأس، ولو قال: اكفل عني ولك ألف لم يجز، وذلك لأن قوله: اقترض لي ولك عشرة جعالة على فعل مباح فجازت، كما لو قال: ابن لي هذا الحائط ولك عشرة. وأما الكفالة فان الكفيل يلزمه الدين، فإذا أداه وجب له على المكفول عنه، فصار كالقرض، فإذا أخذ عوضا صار القرض جارا للمنفعة فلم يجز".   (1) المحلي 8/522 (2) المحلي 8/531 (3) انظر فتح القدير 6/304 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 902 وقال الدردير في أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك: وعلة المنع أن الغريم إن أدى الدين لربه كان الجعل باطلا، فهو من أكل أموال الناس بالباطل. وإن أداه الحميل لربه ثم رجع به على الغريم كان من السلف بزيادة. وقال الصاوي في شرحه بلغة السالك: (1) وقوله: كان من السلف بزيادة، أي كان دفعه الدين وأخذه سلفا والزيادة هي الجعل الذي أخذه، وقال: وحاصل ما في الشارح أن الجعل إذا كان للضامن فإنه يرد قولا واحدا. وقال أيضا: علة المنع موجودة، وهى السلف الذي جر نفعا (2) . وقال ابن عابدين في منحة الخالق على البحر الرائق (6/242) : الجعل باطل لأن الكفيل مقرض في حق المطلوب، وإذا شرط له الجعل مع ضمان المثل فقد شرط له الزيادة على ما أقرضه فهو باطل لأنه ربا. خامسا: المخاطرة التي يتعرض لها المصرف نتيجة الإقراض الفعلي أكبر من الخاطرة التي يتعرض لها تبعا لإقراض - قل أن يحدث - ناتج عن خطاب الضمان. ولو جاز الجعل في مقابل المخاطرة بإصدار الخطاب لكان جوازه في الإقراض أولى.   (1) بدائع الصنائع 7/3424 (2) انظر بلغة السالك 2/160 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 903 سادسا: لا أدرى كيف يباح جعل العمولة تبعا للمبلغ غير المغطى ومدته؟ أن البنوك الربوبة تقوم بهذا لاحتمال الإقراض، فإذا تم الإقراض كانت الفائدة الربوية المعلومة. فن امتنع عن أخذ الزيادة الربوية لإقراض تم بالفعل كيف يأخذ زيادة في مقابل زمن لإقراض محتمل؟ سابعا: لم يكن الضمان من قبل بعيدا عن النشاط التجاري، ونذكر هنا: ا - ضمان العهد أو ضمان الدرك: من الكفالات التجارية التي كانت شائعة، وأجازها الأئمة، مع الخلاف في بعض التفصيلات، ضمان الثمن للبائع والمشتري. فالبائع الذي يبيع آجلا، قد يطلب كفيلا يضمن الثمن الذي في ذمة المشتري، وفى البيع الحال، ومع قبض الثمن، قد يظهر أن النقود مغشوشة " أو معيبة، لذا كان يطلب بعض البائعين كفيلا يضمن لهم سلامة الثمن، وقد تكون النقود سلمت من الغش أو العيب ولكن يظهر لها مالك غير المشتري، كالمغصوب أو المسروق مثلا، ومن هنا كانت الحاجة إلى كفيل يلتزم بأداء الثمن في هذه الحال. والمشترى قد يطلب كفيلا يلتزم برد الثمن إذا ظهر أن المبيع به عيب يستوجب الرد، أو أن أحدا يستحقه غير البائع، كأن يعرف له مالك آخر، أو أن أحدا أحق به من المشترى، كأن يكون لغيره حق الشفعة. وهذا كما نرى ضمان للثمن، وقد يكون لجزء منه كأرش العيب: وهو ما يسترد من ثمن المبيع إذا ظهر فيه عيب ورضي المشتري استبقاءه. ويسمي أيضا ضمان الدرك: قال ابن منظور في لسان العرب: " الدرك: اللحق من التبعة، ومنه ضمان الدرك في عهدة البيع ". وفى المعجم الوسيط: " الدرك: التبعة يقال: ما لحقك من درك فعلي خلاصه، ومنه ضمان الدرك في الفقه ". وقد نال هذا الضمان حظه الوافر في كتب الفقه، ويطول االكلام كثيرا إذا أردنا أن نعرض ما جاء في تلك الكتب مفصلا، فلعل ما سبق يكفى لبيان حقيقته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 904 وتجد في تلك الكتب ذكرا لسبب إجازتهم هذا الآن، ويكاد ينحصر في أن الحاجة تدعو إلى الوثيقة، والوثائق ثلاثة: (1) الشهادة والرهن والضمان: فأما الشهادة فلا يستوفي منها الحق، وأما الرهن فلا يجوز في ذلك بالإجماع، لأنه يؤدي إلى أن يبق أبدا مرهونا، حيث يلزم حبس الرهن إلى أن يؤدي، وهو غير معلوم، فلم يبق إلا الضمان، فلو لم يصح لامتنعت المعاملات مع من لم يعرف، وفيه ضرر عظيم رافع لأصل الحكمة التي شرع البيع من أجلها. فهم أجازوه إذن لجلب المصلحة، ومنع الضرر. 2- ضمان السوق: ومن الكفالات التجارية ما عرف باسم ضمان السوق، قال ابن تيمية: " ضمان السوق، وهو أن يضمن الضامن ما يجب على التاجر من الديون، وما يقبضه من الأعيان المضمونة، ضمان صحيح، وهو ضمان ما لم يجب، وضمان المجهول، وذلك جائز عند جمهور العلماء، كمالك، وأبى حنيفة، وأحمد بن حنبل، وقد دل عليه الكتاب. كقوله {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} . والشافعي يبطله، فيجوز للكاتب والشاهد أن يكتبه ويشهد عليه، ولو لم ير جوازه، لأنه من مسائل الإجتهاد، وولي الأمر يحكم بما يراه من القولين " (2) وفى مجلة الأحكام الشرعية، تنص المادة 1094 على ما يأتي: " يصح ضمان السوق مثلا، لو ضمن ما يلزم التاجر، أو ما يبقى عليه للتجار، أو ما يقبض من الأعيان المضمونة، صح الضمان ". وذكر ابن عابدين أن صاحب الفتاوى الحامدية سئل فيما إذا قال زيد مخاطبا لجماعة معلومين من أهل سوق كذا: ما باعيتم عمرا أنتم وغيركم، فهو علي، فهل يلزم زيدا دين من خاطبهم دون غيرهم؟ فأجاب: نعم (3)   (1) انظر على سبيل المثال: المغنى5/76 - 78، روضة الطالبين 4/245 - 249، والأم 3/204، والأشباه والنظائر: لسيوطى 490، وبدائع الصنائع 7/3420-3421، والمدونة 5/269، ومطالب أولى النهى 3/303 - 4 30. (2) فتاوي ابن تيمية 29/549 (3) العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 1/285 وصاحب الفتاوى هو حامد العمادي، مفتي دمشقه الشام. واثني ابن عابدين عليه في المقدمة ص2 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 905 3- ضمان نقص المكيل أو الموزون أو المذروع: وهذا الضمان أيضا يتصل بالنشاط التجاري، حيث تنص المادة 1091 من المجلة السابقة على مايأتي: "يصح ضمان نقص الصنجة أو المكيال أو الذراع، مثلا: لو اشترى موزونا فشك في نقص الصنجة، أو مكيلا فشك في نقص المكيال، أو مذروعا فشك في نقص الذراع، فضمن شخص النقص، مع ضمانه، فيرجع المشتري بما نقص، والقول له بيمينه ". هذه نماذج لكفالات تجارية لا تختلف كثيرا في جوهرها عن الكفالات المصرفية، والمصارف تأخذ لنفسها من الضمانات ما يجعل المخاطرة أقل مما كان يتعرض له الكفلاء سابقا، وما أباح عالم أخذ أجر أو جعل مقابل أي من تلك الكفالات التجارية، فكيف أصبحت المخاطرة في الكفالة لها ثمنها في عصرنا؟!. وربما تبادر إلى الأذهان هنا ما دار من نقاش في عصرنا حول القروض الاستهلاكية والقروض الإنتاجية، ومحاولة التفرقة بين الاثنين من حيث الحرمة والحل لفوائدها، وما انتهى إليه الفتوى من أن فوائد النوعين كليهما من الربا المحرم. ثامنا: العمل عنصر من عناصر عقد الإجارة وعقد الجعالة، فكل أجر أو جعل يقابله عمل ما، غير أن العمل في الجعالة يختلف عن الإجارة. ويحدث ابن تيمية عن العمل الذي يقصد به المال فيقول: " العمل الذي يقصد به المال ثلاثة أنواع: أحدهما: أن يكون العمل مقصودا معلوما، مقدورا على تسليمه، فهذه الإجارة اللازمة. الثاني: أن يكون العمل مقصودا لكنه مجهول أو غرر، فهذه الجعالة وهى عقد جائز ليس بلازم، فإذا قال: من رد عبدي الآبق فله مائة، فقد يقدر على رده وقد لا يقدر، وقد يرده من مكان قريب وقد يرده من مكان بعيد، فلهذا لم تكن لازمة، لكن هي جائزة. فان عمل هذا العميل استحق الجعل وإلا فلا. ويجوز أن يكون جعل فيها إذا جعل بالعمل جزءا شائعا ومجهولا جهالة لا تمنع التسليم، مثل أن يقول أمير الغزو من دل على حصن فله ثلث ما فيه، ويقول للسرية التي يسريها: لك خمس ما تغنمين أو ربعه. ومن هذا الباب إذا جعل للطبيب جعلا على شفاء المريض جاز، كما أخذ أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الذين جعل لهم قطيع على شفاء سيد الحي، فرقاه بعضهم حتى برأ، فأخذوا القطيع. فإن الجعل كان على الشفاء لا على القراءة، ولو استأجر طبيبا إجارة لازمة على الشفاء لم يجز لأن الشفاء غير مقدور له، فقد يشفيه الله وقد لا يشفيه، فهذا أو نحوه مما تجوز فيه الجعالة دون الإجارة اللازمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 906 وأما النوع الثالث فهو مالا يقصد فيه العمل بل المقصود المال، وهو المضاربة، فإن رب المال ليس له قصد في نفس عمل العامل كما للجاعل والمستأجر.. الخ (1) ويذكر ابن رشد الجد أن العمل الذي لا يصح فيه الجعل ولا الإجارة نوعان: أحدهما: مالا يجوز للمجعول له فعله. والثاني: ما يلزمه فعله (2) فما دام العمل الذي يقوم به المصرف ليس من هذين النوعين صحت العمولة مقابل العمل، وقد تكون جعلا لا أجرا إذا روعيت شروط الجعالة. بل من الأعمال الواجبة ما أجاز الفقهاء أخذ الأجرة عليه: قال الإمام السيوطي: "قاعدة: لا يجوز أخذ الأجرة على الواجب، إلا في صور: منها: الإرضاع. ومنها: بذل الطعام للمضطر ومنها: تعليم القران. ومنها: الرزق على القضاء وهو محتاج حيث تعين. ومنها: الحرف حيث تعينت. ومنها: من دعي إلى تحمل شهادة تعينت عليه، بخلاف ما إذا جاءه المتحمل، وبخلاف الأداء، فإنه فرض توجه عليه، وهو أيضا كلام يسير لا أجرة لمثله. نعم له أخذ الأجرة على الركوب، ويجوز أخذها على فروض الكفاية، إلا الجهاد وصلاة الجنازة " (3) تاسعا: أفتى الإمام النووي فيمن حبس ظلما فبذل ما لا لمن يتكلم. في خلاصه بجاهه وغيره بأنها جعالة مباحة، وأخذ عوضها حلال، ونقله عن جماعة، تم قال: وفى ذلك كلفة تقابل بأجره عرفا (4) .   (1) انظر مجموع الفتاوى 20/506-507 (2) انظر مقدمات ابن رشد ص636. (3) الاشباه والنظائر ص497 (4) راجع كتاب المجموع 14/10 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 907 وفى تحفة المحتاج ذكر ابن حجر الهيثمي بعض ما يباح فيه الجعل، ومما قاله: وكقول من حبس ظلما لمن يقدر على خلاصه وإن تعين عليه على المعتمد: أن خلصتنى فلك كذا، بشرط أن يكون في ذلك كلفة تقابل بأجرة عرفا، وأركانها: عمل، وجعل وصيغة، وعاقد. وفى حاشية الشروانى على تحفة المحتاج (365/6) جاء ما يلي: (قوله على المعتمد) عبارة النهاية: أفتى المصنف بأنها جعالة مباحة، وأخذ عوضها حلال، ونقله عن جماعة. وذكر صاحب مطالب أولى النهى في شرح غاية المنتهى جواز أن يجعل أحد جعلا لمن يقرضه من غير بجاهه، وقال: لأن الجعالة في مقابلة ما بذله من جاهه من غير تعليق له بالقرض (1) هذه الأعمال وغيرها من أعمال البر، قد لا يوجد من يتبرع للقيام بها، مع وجود الحاجة إليها، ولذا جاز الجعل شريطة ارتباطه بالعمل. وإصدار خطاب الضمان يتطلب القيام بأعمال مختلفة، والمصرف منشأة تجارية، فمن حقه أن يأخذ عمولة مقابل عمله وجهده، ولكن لا ترتبط هذه العمولة بكفالة الدين ذاتها، وإلا لكانت سحتا أو ربا. ومما هو قريب من موضوعنا ما ثار من جدل في عصرنا حول جواز أخذ المصرف أجرا من المقترض يقابل الأعباء الإدارية الناشئة المتعلقة بالقرض، والذين أجازوه اشترطوا أن يتم ربط الأجر بوجود خدمة فعلية، أو منفعة مقصودة ومتقومة في النظر الشرعي، وألا يؤخذ نظير المنفعة غير المعتبرة في نظر الشرع في مجال الاقتراض أو الوعد به، ولذا قالوا: ينبغي أن يكون على أساس مبلغ مقطوع وليس على أساس شئ من قيمة القرض، لأن الجهد الذي يبذله المصرف في إعداد عقد القرض لا يختلف باختلاف قيمة القرض. فمفرق الطريق في اعتبار هذه المبالغ أجرا وليست ربا هو وجود الخدمة التي تقابل هذه المبالغ، وكون مقدار المبلغ محددا بما يبذله من جهد، أو يؤدى من خدمة، دون ربط ذلك بمقدار الدين أو مدته (2)   (1) انظر المرجع المذكور 4/208، واقرأ مثله في المغني والشرح 4/365 (2) انظر الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية 1/29-31 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 908 الفصل الثالث استثمار الغطاء النقدي عندما يكون خطاب الضمان مغطى كليا أو جزئيا فإن المصرف يضم الغطاء النقدي إلى ما لديه من ودائع غير مخصصة، وحسابات جارية، وأموال نقدية لحساب المساهمين، فالودائع المخصصة لاستثمارات معينة توجه لتلك الاستثمارات، أما غيرها فيضم بعضه إلى بعض، ويؤخذ منه لاستثمارات المصرف. ولا يستطيع المصرف أن يعين صاحب أي مبلغ محدد موجه لمشروع معين، حيث تختلط النقود المودعة. ويتعذر التمييز. غير أنه كمضارب غير ضامن لما لديه من ودائع استثمارية، وضامن للحسابات الجارية كمقترض لها، فمتى استثمرت فالربح له، والخسارة عليه. وينظر المصرف إلى حجم المشروعات الاستثمارية، ومدة بقاء الأموال المستثمرة خارج حيازته، في ضوء النقود المودعة لديه، وأنواع الإيداعات، والنظر إلى الظروف الخاصة التي يقدرها المصرف. وتحسب الأرباح والخسائر، ويتم التوزيع بنسب يحسبها المختصون، ويقرها هيئات الرقابة الشرعية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 909 وتفصيل هذا يحتاج إلى شرح يطول ذكره، ولكن الذي يعنينا هنا هو أن الغطاءات النقدية لخطابات الضمان تودع في حساب خاص، وتختلط بباقي النقود، وبذلك لا يمكن تمييزها عند قيام المصرف بعمليات الاستثمار، أي أن هذه الغطاءات يكون لها أثر في الاستثمار. أفمن حق المصرف الاستفادة من هذه النقود؟ يمكن أن يقال: أن المصرف ضامن لهذا المال، فله حق الاستثمار: والربح له والخسارة عليه ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((الخراج بالضمان)) ويمكن -أيضا- أن يقال: ليس للمصرف حرمان صاحب المال من الاستفادة من ماله مدة سريان خطاب الضمان، فلطالب الإصدار أن يكون لنقوده ما للودائع الاستثمارية من الحقوق، ولاضمان على المصرف حينئذ. ولعل الأولى أن يخبر المصرف طالب الإصدار، مادام كل من الأمرين يؤدى الغاية من الغطاء النقدي. وإذا كانت المصارف الربوية تستفيد من الغطاء بطريقة غير مشروعة، فإن مثل هذا التخيير يؤدي إلى تأصيل الفوارق بينها وبين المصارف الإسلامية. وقد تحدث الفقهاء عن ضمان الكفيل لمال الكفالة إذا قبضه: ففي أقرب المسالك "وضمانه أن اقتضاه لا أرسله به ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 910 وشرح الدردير العبارة السابقة بقوله: وضمنه الضامن أن اقتضاه من الغريم ليوصله لربه، سواء طلبه منه أو دفعه له الغريم بلا طلب، لكن على وجه البراءة منه، ولو تلف منه بغير تفريط أو قامت على هلاكه بينة.. لا أن أرسله المدين به إلى رب الدين فضاع منه، فلا ضمان حيث لم يفرط، لأنه صار أمينا بالإرسال، ومثل الإرسال لو دفعه على وجه التوكيل عنه في توصيله لربه، أو هو إرسال حكما، فلا ضمان على الضامن (1) أما الحنفية فلم يكتفوا بالحديث عن هذا الضمان، وإنما فصلوا القول في بيان حق الكفيل في استثمار مال الكفالة، وفرقوا بين النقود وغيرها. فأجمعوا على أن مال الكفالة متى كان نقودا، وقبضها الكفيل على وجه الاقتضاء لا الإرسال، واستثمرها وربح، فالربح حلال. أما غير النقود فالروايات عن الإمام مختلفة، والمهم هنا بيان ما يتصل باستثمار النقود، فهو موضوع البحث. وإذا قبض الكفيل المال على وجه الإرسال، فهو أمين غير ضامن، وليس له أن يستثمر المال، فإذا استثمره خالف ما يجب فيما يعد أمانة، وأصبح كالغاصب، فإن ربح فلا يطيب له هذا الربح عند أبي حنيفة ومحمد، لأنه استفاده من أصل خبيث، وخالفهما أبو يوسف مستدلا بحديث ((الخراج بالضمان)) ولنثبت هنا بعض ما جاء في كتب الحنفية.   (1) انظر الشرح الصغير بهامش بلغة السالك 20/159 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 911 قال صاحب الهداية (6/319-321) : " من كفل عن رجل بألف عليه بأمره فقضاه الألف قبل أن يعطيه صاحب المال فليس له أن يرجع فيها، لأنه تعلق به حق القابض على احتمال قضائه الدين، فلا تجوز المطالبة ما بقي هذا الاحتمال، كمن عجل زكاته ودفعها إلى الساعي، ولأنه ملكه بالقبض على ما نذكر بخلاف ما إذا كان الدفع على وجه الرسالة، لأنه تمحض أمانة في يده. وإن ربح الكفيل فيه فهو له لا يتصدق به، لأنه ملكه حين قبضه: أما إذا قضى الدين فظاهر، وكذا إذا قضى المطلوب بنفسه، وثبت له حق الاسترداد، لأنه وجب له على المكفول عنه مثل ما وجب للطالب عليه، إلا أنه أخرت المطالبة إلى وقت الأداء، فنزل منزلة الدين المؤجل، ولهذا لو أبرأ الكفيل المطلوب قبل أدائه يصح، فكذا إذا قبضه يملكه إلا أن فيه نوع خبث (1) نبينه فليعمل مع الملك فيما لا يتعين " . وقال ابن الهمام في شرح ما سبق: (من كفل عن رجل بألف عليه بأمره فقضاه) أي قضى الرجل المكفول عنه الكفيل (الألف) التي كفل بها (قبل أن يعطيه) أي قبل أن يعطي الكفيل الألف (صاحب المال) وذكر ضمير (يعطيه) على تأويل المال أو المكفول به اللازم من قوله: كفل عن رجل، و (صاحب المال) مفعول أول (ليعطي) ، والمفعول الثاني هو ضمير المال المقدم في يعطيه (فليس له) أي ليس للرجل المكفول عنه (أن يرجع فيها) وهو للشافعي وجه آخر، وله أن يرجع، وهو قول مالك وأحمد بناء على أنه أمانة عنده ما لم يقض الأصيل، ونحن نبين أنه يملكه، وأن الأمانة ما إذا كان دفعه إلى الكفيل على وجه الرسالة إلى الطالب. (2)   (1) حيث الربح في غير النقود كما سيتضح (2) ما ذكر عند المالكية من قبل يبين أنه لا خلاف حول ضمان الكفيل إذا أخذ المال من المكفول عنه على وجه الاقتضاء لا الرسالة، فالخلاف إذن في المكفول عنه في رد المال الذي أعطاه الكفيل إذا كان الكفيل لم يعط المكفول له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 912 وإذا ملكه كان الربح له (إلا) أي لكن استثناء منقطع (فيه نوع خبث) على قول أبي حنيفة (نبينه) عن قريب (فلا يعمل مع الملك فيما يتعين) وهو الألف التي قضاه إياها لأن الدراهم لا تتعين (1) وقال البابرتى في شرح العناية على الهداية: "إذا قبضه على وجه الرسالة فالربح لا يطيب له في قولي أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، لأنه ربح من أصل خبيث، وفى قول أبي يوسف: يطيب لأن الخراج بالضمان (2) . وقال صاحب الدر المختار: " وإن ربح الكفيل به طاب له لأنه نماء ملكه حيث قبضه على وجه الاقتضاء، فلو على وجه الرسالة فلا، لتمحضه أمانة، خلافا للثاني، وندب رده على الأصيل " (3) وقال ابن عابدين: (قوله: خلافا للثاني) : أي أبي يوسف، فعنده يطيب له، كمن غصب من إنسان وربح فيه، يتصدق بالربح عندهما لأنه استفاده من أصل خبيث، ويطيب له عنده مستدلا بحديث ((الخراج بالضمان)) . (وقوله: وندب رده) : مرتبط بقوله بعده فيما يتعين بالتعيين، أي أن قوله: طاب له - أي الربح - إنما هو فيما لو كان المؤدى للكفيل شيئا لا يتعين بالتعيين كالدراهم والدنانير (4)   (1) انظر فتح القدير 6/319-321 (2) العناية مع فتح القدير 6/378 (3) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4/278 (4) من المعلوم في عصرنا أن النقود لا تتعين بالتعيين، فمثلا من أخذ ألف ريال من أحد لإعطائها غيره فلا يشترط إعطاء الأول الأوراق ذاتها التي تسلمها وهي التي تحمل أرقام كذا هو إنما تبرأ ذمته بإعطاء ألف ريال تحمل أي أرقام. ومن اشترى سلعة معينة فليس للبائع أن يبدلها مادامت قد تعينت، أما المشتري فله أن يدفع الثمن المحدد دون تعيين أوراق نقدية بعينها: فلو اخرج مثلا عشر ورقات، كل ورقة قيمتها مائة ريال، ثم رأي أن يستبقي هذه الورقات النقدية ويعطي البائع - بدلا عنها - ورقتين من ذات الخمسمائة، فليس للبائع أن يعترض وهذا الذي نراه واضحا في عصر النقود الورقية، وهو ما أشار إليه الحنفية في عصر النقود السلعية، فالدنانير والدراهم لا تتعين بالتعيين، ومثلها الفلوس الرائجة، حيث قالوا: إنها أمثال متساوية، فلا تتعين بالتعيين، فأى فلس يقوم مقام غيره (انظر: النقود واستبدال العملات ص 73، 101) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 913 فإن الخبث لا يظهر فيها، فخلاف ما يتعين كالحنطة ونحوها، بأن كفل عنه حنطة، وأداها الأصيل إلى الكفيل: وربح الكفيل فيها، فإنه يندب رد الربح إلى الأصيل. قال في النهر: وهذا هو أحد الروايات عن الإمام، وهو الأصح، وعنه أنه لا يرده، بل يطيب له، وهو قولهما، لأنه نماء ملكه، وعنه أنه يتصدق به (1) . من هذا نرى أن الربح يطيب للكفيل إذا كان مال الكفالة نقودا، والمصرف غطاء الضمان عنده من النقود، ولكن يجب ألا يغيب عن الأذهان أن الكفيل ليس له مطالبة الأصيل قبل الأداء، على حين نجد المصرف لا يصدر خطاب الضمان إلا بعد قيام العميل -وهو المكفول عنه - بإيداع الغطاء النقدي المتفق عليه. وطبيعة المعاملات في عصرنا قد تستلزم وجود مثل هذا الغطاء، فالمصرف يدفع المبلغ المكفول كله عند أول مطالبة خلال سريان خطاب الضمان، دون التفات لما قد يبديه العميل من المعارضة. وإذا تأخر العمل في إعطاء المصرف ما أداه عنه، فإن المصرف الإسلامي لا يستطيع أن يسلك طريق الربا، ويتوقف استثمار هذه الأموال. فإذا كان من اللازم وجود مثل هذا الغطاء، فمن اللازم أيضا عدم حرمان العميل من استثمار أمواله بغير رضاه، ومن هنا جاء ترجيح القول بتخيير العميل: فأما أن يختار الاستثمار، أو إبقاء الغطاء في ضمان المصرف كما يلجأ أصحاب الحسابات الجارية. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.   (1) حاشية ابن عابدين "رد المحتار علي الدر المختار" 4/278-279 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 914 الخاتمة بعد هذا البحث يتبين أن الكفالة عقد تبرع كما ثبت بالنص والإجماع والواقع العملي للمسلمين مدة أربعة عشر قرنا من الزمان، ومعاملاتنا المعاصرة في حاجة إلى مجهود أكبر، وتفرغ أكثر من فقهاء العصر حتى يسهموا في حل مشكلاتها حلا يتلاءم مع طبيعة هذه المعاملات، دون خروج على نص ثابت، أو إجماع معتبر، أو تعارض مع مقاصد التشريع الإسلامي. والاجتهاد الجماعى كان سنة الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمرنا بأن نعض عليها بالنواجذ، فقد كانوا يجمعون رءوس الناس وخيارهم فيستشيروهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضوا به. بل روى الدارمي في سننه بسنده عن أبي سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمر يحدث ليس في كتاب ولا سنة فقال: " ينظر في العابدون من المؤمنين ". ويمكن لأبحاث الأفراد، وآراء الجماعات الصغيرة، أن تمهد الطريق أمام الاجتهاد الجماعي، ولعل هذا البحث يقوم بهذا الدور الممهد. وأحب أن أشير هنا إلى اجتماع لم يضم أكثر من بضعة أفراد، كان من فقهاء الشريعة فضيلة الدكتور حسين حامد حسان، وفضيلة الدكتور يوسف القرضاوي، وكان من المسئولين عن أعمال مصرفية إسلامية السيد الأستاذ أحمد أمين فؤاد رئيس مجلس إدارة المصرف الإسلامي الدولي للاستثمار بالقاهرة، والسيد الأستاذ قاسم محمد قاسم مدير مصرف قطر الإسلامي، وغيرهما، وكان بأيدينا هذا البحث، ودار حوار حول الكفالة، بدأناه ونحن مختلفون في الرأي، واستمر الخلاف فترة ثم انتهى بحمد الله تعالى، وخرجنا بحل ارتضيناه فقها وعملا، وبيانه كما يأتي: نظرنا في الغطاء النقدي، ورأينا أن المصارف الربوية تهدف إلى الانتفاع به عن طريق الحصول على الفوائد الربوية، أما المصارف الإسلامية فتريد الاطمئنان إلى أن ما يطلب منها للمكفول له تستطيع أداءه من الغطاء نفسه لا من أموال المودعين المستثمرين، فيقع الضرر من توقف استثمار هذه الأموال، فقلنا: " إذا كان لعميل حساب جار، أو ودائع استثمارية، فإن المصرف الإسلامي يقبل جعلها غطاء نقديا للكفالة، على أن ينص على ذلك في التعاقد، مع استمرار اشتراك ودائع العميل الاستثمارية في الأرباح ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 915 وهذا كما يعطي الاطمئنان للمصرف فإنه يسمح لطالب الكفالة - إذا شاء - باستثمار أمواله دون تعطيل لها، وبالتالي يؤدى إلى قلة الكفالات غير المغطاة. وأذكر أن قانون الكفالة في الإمارات العربية المتحدة، الذي حاول واضعوه استمداده من الفقه الإسلامي، نصت المادة " 1079 " على ما يأتي: " يجوز أن تكون الكفالة مقيدة بأداء الدين من مال المدين المودع تحت يد الكفيل، وذلك بشرط موافقة المدين ". ودار الحديث عن الكفالة المجردة، والضمان إذا كان ضمن عقد آخر: فمن المعلوم أن الشركات في الإسلام تقوم على المال والعمل والضمان، ومعنى ذلك أن الضمان له ما يقابله، وشركة الوجوه تنبنى أساسا علي الضمان، ويؤكد هذا المعنى الحديث الشريف ((الخراج بالضمان)) فن المتفق عليه أن الضمان غير المجرد، أي الذي يكون في عقد آخر غير عقد الكفالة، يمكن أن يكون له ما يقابله من الغنم، وقد يؤدى إلى الغر م كذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 916 أما الضمان المجرد، وهو عقد تبرع، فلا يجوز أن يكون له أجر أو جعل، وهذا الحكم مستمد من النص، وأجمعت عليه الأمة مدة أربعة عشر قرنا من الزمان، فليس لنا أن نترك النص، ونخرج على هذا الاجماع المستقر. وهنا أثيرت نقطة لتأييد جواز الجعل مقابل المخاطرة في الكفالة، وهذا يعنى أن القول بالاجماع غير صحيح! قال القائل: لننظر إلى ضمان السوق عند الحنابلة: فيجوز أن يجعل لشخص ما أجر مقابل تعهده بحماية ما في السوق، وضمانه له. فكان الرد بالإشارة إلى ضمان السوق الذي سبق الحديث عنه، وهو تبرع خالص لا أجر له. أما ما ذكر هنا فهو عقد إجارة أو جعالة وليس كفالة. فالأجر أو الجعل مقابل حراسته للسوق، فهو أجير عام وليس كفيلا. فالضمان إذن جاء في عقد آخر، وهو ما تناولناه في بداية الحوار، فالإجماع إذن صحيح لم ينقض. وذكر أن المصارف الإسلامية يمكن أن تستفيد من هذا، كأن تجعل كفالتها مع اشتراكها بنسبة يتفق عليها مع العميل، ويكون الاشتراك في الغنم والغرم: مثال هذا: أن يأتي عميل لفتح اعتماد مستندي، والغطاء جزئي، لاستيراد سلعة معينة، فيشاركه المصرف بنسبة 2 % مثلا، ويشترك معه في الكسب أو الخسارة بهذه النسبة، بدلا من أن يأخذ أجرا أو جعلا مقابل الجزء غير المغطى. فالضمان هنا ليس كفالة مجردة، وإنما أصبح داخلا في عقد شركة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 917 وفى خطاب الضمان كذلك يمكن أن ينظر إلى المشروع الذي طلب له الخطاب، ويشترك المصرف بنسبة ضئيلة. وبعد الحوار اجتمع رأينا على ما يأتي: أولا: الكفالة المجردة لا أجر عليها، وإنما الأجر على العمل المصاحب لها. ويجوز أن يكون للضمان ما يقابله إذا دخل في عقد آخر. ثانيا: بالنسبة للغطاء النقدى: إذا كان للعميل حساب جار، أو ودائع استثمارية، فإن المصرف الإسلامي يقبل جعلها غطاء نقديا للكفالة، على أن ينص على ذلك في التعاقد، مع استمرار اشتراك ودائع العميل الاستثماربة في الأرباح. هذا ما انتهينا إليه، والله أعلم بالصواب. {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 918 خطاب الضمان فضيلة الدكتور زكريا البري الافتتاحية: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبي الإسلام، المبعوث رحمة للعالمين، والذي اتاه الله الحكمة وفصل الخطاب. والمدعو له بالرضا الالهي هم الصحابة والتابعون وتابعوهم باحسان إلى يوم الدين. التابعون الذين تابعوا الصحابة في فهم النصوص الشرعية، وفى فقه معانيها وأحكامها وعللها وحكمها ومقاصدها، وفى معرفة أدواء الأمة الإسلامية وشعوبها، وفى وضع الدواء الدائم أو المؤقت لعلاج هذه الادواء. وقد يكون هذا العلاج في تشريع حكم المصلحة الدائمة أو الوقتية أو في ارتكاب محظور جزئي استحسانا واستثناء من القواعد الأصلية والكلية، استنادا إلى القاعدة الشرعية الضرورات تبيح المحظورات التي تستمد شرعيتها، من قوله -جلت حكمته -: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} كما قد يكون هذا العلاج بدواء وقتي واستثنائي، قصدا إلى رفع الحرج والعنت والمشقة، استنادا إلى قاعدة شرعية، ذكرها الفقهاء وهي الحاجات تنزل منزلة الضرورات المأخوذة من قوله - وسعت رحمته -: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 919 وبذلك جميعه يحققون لعباد الله المصالح الضرورية، التي لا تتحقق الحياة إلا بها، والمصالح الحاجية التي ترفع عن الناس الحرج والضيق والعنت، والتي نوه القرآن الكريم بها، حيث أمتن على عباده بذلك، في قوله -سبحانه -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} يحققون جميع المصالح الاجتماعية والفردية، المصالح العامة والمصالح الخاصة، مع تقديم الأولى لأهميتها على الأخرى عند التعارض. ويمنعون من قبل ذلك جميع المفاسد من الحياة، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإن لم يتيسر ذلك، أفتوا بارتكاب مفسدة جزئية صغرى، دفعا لمفسدة كلية كبرى أو مفاسد اجتماعية أكبر. ولذلك يضعون دين الله وشريعته أمام الناس وإماما لهم، ويحرسون دين الله، ويسوسون به دنياهم. ويضعون المسئولية الدينية والدنيوية في عنق أولى الأمر من الحكام ومعاونيهم، ويطالبونهم بسن التشريعات اللازمة، بتنفيذ ما ينتهي إليه الرأي عند الفقهاء، وهم أولو الأمر، وأهل الذكر، وأصحاب الاختصاص، في فهم الأحكام والحكم من النصوص الإلهية، ثم يطالبون الأمة بامتثال هذه الأحكام، استجابة وخضوعا لأمر الله - عز وجل - في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 920 هؤلاء الفقهاء الذين يقومون بذلك الواجب الديني، من غير افتيات على النصوص بالتحربف وسوء التأويل، ومن غير افراط ولا تفريط، ولا تضييع للمصالح الدنيوية، ودون التزام بما لا يلزم من أقوال الأئمة وفقهاء السلف الصالح العظيم، وآراء المذاهب الإسلامية، التي تحمل تراثا عظيما، هو محل فخرنا واعتزازنا، ومحل اعتزاز المنصفين من غير المسلمين في داخل البلاد العربية والإسلامية وخارجها، والتي تجمع الأمة - مع ذلك - على أنها ليست دينا ملزما للأمة ولفقهائها، إلا بمقدار دليلها وصحته ومدى حجيته. ثم المرجو لحاضر الأمة ولمستقبلها هم الفقهاء المتخصصون الذين أنعم الله عليهم بفقه النفس، وسلامة الحس وأمانة الضمير الديني، في كل مصر، وفى كل عصر. أولئك الذين يستطيعون بالشرع وما فيه من نور الهي، وحكمة نبوية، ويفهمونه بعقل سليم واع، جامعين بين صريح المنقول، وصحيح المعقول بين النوريين (نور علي نور) . أولئك الذين لا يقلدون غربا ولا شرقا، وإنما يتجهون إلى الحكمة، وهى ضالة المؤمن " وهو أحق بها أن وجدها. هؤلاء الذين يستفيدون بالعرف السليم الصالح والمصلح، هذا العرف الذي قد يتغير بتغير الزمان أو المكان، والذين يقاومون الأعراف الفاسدة، والمفسدة مهما كثر أتباعها عن جهل أو تقليد. ومن جهل زمانه وأحواله فقد جهل، ثم قاموا بذلك خلفا بعد سلف، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 921 التمهيد: أما قبل، فاني أقدم وأمهد لرأيي بهذه المقدمة الأصولية والفقهية، المشتملة على القواعد التالية: أولا - الأصل في الأشياء - ومنها العقود والشروط والتصرفات - هو الإباحة والجواز والصحة، ولا يحرم منها إلا ما يقوم الدليل الخاص على تحريمه (1) هذه القاعدة وهذا الأصل الذي ذهب إليه بعض الأصوليين والفقهاء المحققين، والذي انطلق منه الإمام العظيم، والفقية الحنبلي المجتهد: ابن تيمية، إلى حرية التعاقد والاشتراط، مستندا في دعم رأيه، الذي رفع به الحرج عن المسلمين، وبصفة خاصة في العصر الحاضر، الذي استحدثت فيه الحياة عقودا وشروطا غير مسبوقة: إلى ما يأتي: (أ) ما جاء في القرآن الكربم من الأمر بالوفاء بالعقود بصفة عامة، ومن ذلك قوله -جل ثناؤه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . وقوله -جلت حكتمه -: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} . وقول - سبحانه -: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} فكل عقد أو شرط في عقد، ورد به نص أو لم يرد، هو التزام وعهد من العاقدين يجب الوفاء به.   (1) وقد أخذ بهذه القاعدة فقهاء المؤتمر الأول للمصارف الإسلامية والذي انعقد في البنك الإسلامي بدبي، ثم في المؤتمر الثاني لهذه المصارف، والذي انعقد في بيت التمويل الكويتي بالكويت، ثم في ندوة البركة التي انعقدت في المدينة المنورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 922 والقول بعدم جوازه وعدم صحته من غير دليل مخالفة لهذه الآيات القرآنية العامة. (ب) ما جاء في السنة النبوية الصحيحة، من الأمر بالوفاء بالوعد وبالعهد، والتحذير من العذر، مثل قوله - عليه الصلاة والسلام -: "أربع خلال من كن فيه كان منافقا خالصا، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها". ولو كان الأصل في العقود والشروط الحظر والمنع، إلا إذا قام الدليل الخاص على الحل، لم يذم الرسول إخلاف الوعد بهذا الإطلاق، ولم يذم الغدر بنقض العهد بصفة عامة، كما جاء في الحديث. (ج) أن التعاقد والاشتراط فيه مباح بحسب الأصل، والمباح إذا أوجبه الشخص على نفسه لغيره، صار واجبا عليه، لتعلق حق الغير به. (د) أن العقود والشروط من الأفعال والمعاملات العادية، وليست من العبادات التي لا تجوز ولا تصح إلا بالتلقي عن الله جل جلاله. والله -سبحانه وتعالى- يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وهذا التفصيل يعم الأفعال والتصرفات، فإذا لم يكن العقد أو الشرط حراما بتحريم الشارع، فإنه لا يكون باطلا، لأن البطلان إنما يترتب على التحريم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 923 (هـ) أن الأصل في العقود والشروط قيامها على التراض بين العاقدين، وتترتب آثارها عليها تبعا لهذا التراضي. وفى ذلك يقول الله - تعالى -: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، ويقول في المهر: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} . فقد أحلت الآيتان الأموال فيهما بناء على الرضا في الآية الأولى، وطيب النفس في الآية الثانية، ما لم يكن هناك دليل خاص لتحريم عقد خاص أو شرط خاص. (و) أن العقود والشروط التي تتم بين الناس أمور مقصورة لهم، يرون فيها مصلحتهم التي لا تلحق الضرر بغيرهم، ولولا حاجتهم إليها ما عقدوها ولا اشترطوها. (1) . فيجب رفع الحرج والضيق والعنت عن الناس بتجويزها وتصحيحها وترتيب الآثار عليها ومنع عقد أو شروط من غير دليل شرعي- مع هذه المصلحة وتلك الحاجة للمتعاقدين- يؤدي إلى الحرج والضيق والعنت، الذي رفعه الشارع الإسلامي، في مثل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} أي ما جعل وما شرع ما يحرج عباده كما جاء في الآية الأولى، يريد أن يجعل فيشرع باسمه سبحانه ما يحرج عباده وهو العليم الحكيم، الرؤف الرحيم. (ز) أن العقود والشروط المقترنة والمرتبطة بها لا يخلو حكمها من أحد أحكام ثلاثة: - ألا تحل إلا بدليل خاص من كتاب أو سنة أو دليل يستند إليهما، فإذا حلت بهذه الصورة وجب الوفاء بها.   (1) وإذا كان المذهب الحنبلي-كما يعبر عنه ابن تيمية- قد قرر من أول النظر الفقهي حرية العاقدين في التعاقد والاشتراط، فان المذهب الحنفي ينتهي إلى نحو ذلك عن طريق العرف، حيث أجاز كل شرط يجرى به العرف المحقق لمصالحهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 924 - أو لا تحل إلا بدليل عام. - أو أن تحل من غير دليل عام ولا خاص، مادام لم يوجد دليل على التحريم والفرض الأول غير صحيح، لإ جماع المسلمين في العصر الأول على وجوب الوفاء بالعقود التي عقدت في الجاهلية، مادامت لا تشتمل على أمر منهي عنه، فإذا اشتملت على أمر منهي عنه، صح منها ما لم يرد نهي عنه. والفرض الأول غير صحيح، لا جماع المسلمين في العصر الأول على وجوب الوفاء بالعقود التي عقدت في الجاهلية، مادامت لا تشتمل على أمر منهي عنه، فإذا اشتملت على أمر منهي عنه، صح منها ما لم يرد نهي عنه. فقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم المال الثابت في العقود الربوية، وأبطل شرط الربا في هذه العقود، وقال: ((ربا الجاهلية موضوع)) أي أسقطه وألغاه المشرع الإسلامي. أما الغرض الثاني فإنه يشهد للحل، ويترتب عليه الوفاء بكل عقد أو شرط غير منهي عنه بدليل خاص، للأمر العام بالوفاء بالعقود. وكذلك الغرض الثالث يشهد للحل.,هذا ما نراه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 925 ثم أما بعد. فإنه لا يوجد في أخذ الأجر على هذا الضمان المصرفي لتنفيذ أعمال مشروعة، نص محرم من كتاب أو سنة، ولا دليل محرم. فلا يوجد له نظير يقاس عليه في التحريم، لاشتراكهما في علته. ثم لا يوجد عرف صحيح يحرمه ويمنعه، ولا توجد فيه مفسدة، كما لا توجد مصلحة في تحريمه، بل أن المصلحة في إباحته وحله وصحيته، وفي إلزام المضمون به (1) .   (1) وفي مثله يقول ابن القيم في أعلام الموقعين ج 2: "في المضاربة بالدين قولان في مذهب الإمام أحمد: أحدهما الجواز، وهو الراجح في الدليل، وليس في الأدلة الشرعية ما يمنع جواز ذلك، ولا يقتضى تجويزه مخالفة قاعدة من قواعد الشرع ولا وقوعًا في محظور من ربا ولا قمار ولا بيع غرر ولا مفسدة في ذلك بوجه ما أفلا يليق بمحاسن الشريعة المنع منه، وتجويزه من محاسنها ومقتضاها" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 926 وإذا قيل: أن البعض كتب المذاهب الفقهية قد صرحت بتحريمه، فإنى أقول: أن الدليل الذي استندوا إليه هو أن الضمان لم يشرع إلا على سبيل التبرع، وهو صورة من صور المصادرة، لأن نفس الدعوى هي نفس الدليل، كأنهم يقولون: أن أخذ الأجر غير مشروع، لأنه غير مشروع. (1) وإذا قيل: أن الإمام ابن تيمية الذي ذهب إلى أن الأصل في العقود والشروط هو الإباحة والحل، قد ذهب إلى عدم جواز أخذ الأجر على الضمان، قلت: إني مع قاعدته العظيمة، لقيام الأدلة عليها، ولست معه في عدم جواز أخذ الأجر على الضمان، إذا كان رأيه بالمنع يشمل الضمان المصرفي التجاري، للأسباب التي بينتها وأبينها. والظاهر أن هذه الفتوى المروية عنه لا تشمل الكفالات بهذه الصورة التجارية الجديدة التي تعاملت بها المصارف العامة، وتتعامل بها بعض المصارف الإسلامية.   (1) يقول الحطاب: "ولا خلاف في منع ضمان بجعل، لأن الشرع جعل الضمان والقرض والجاه لا يفعل إلا لله بغير عوض، فأخذ العوض عليه سحت" انظر مواهب الجليل لشرح مختصر خليل ج 4 ص 242 أما ما ذكره ابن عابدين من أن الكفيل مقرض، فإذا شرط له الجعل على كفالته، فمعنى ذلك اشتراط الزيادة على مقدار القرض، فيكون باطلًا، لأنه ربا (انظر منحة الخالق على البحر الرانق ج 6 ص 342) فإن هذا التعليل مقبول في ضمان القرض، أما في ضمان العطاءات فلا "وانظر فتاوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامى السوداني" حيث انتهت إلى المنع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 927 فقد كانت الكفالة في العصور الماضية تتم ضمانا لمحتاج يستدين، وقد لا يجد من يسلفه إلا بضمان من ملىء، لضعف ذمة المستدين المالية، ونحو ذلك فيضمنه الغني، تفريجا لكربه، ورجاء لثواب الآخرة. وفي مثل هذا يقول الرسول الرحيم: ((من فرج عن مؤمن كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) ،أما الآن فإن هذه الضمانات تتم لشركات مالية كبرى، ولتجار أغنياء، ولابد في قبول العطاءات من هذه الشركات وهؤلاء الأغنياء من تقديم الضمان المصرفي. وهذه العطاءات التي تقدمها الشركات والتجار للالتزام بأعمال معينة، يتوقف قبولها-كما قلنا- على هذه الضمانات، وهذه الأعمال تتوقف عليها تنمية المجتمع تنمية اقتصادية واجتماعية وعسكرية، بل أن البنية الأساسية للمجتمع من طرقات مواصلات ومرافق مياه وصرف صحي وكهربة تتصدر هذه الأعمال. وامتناع المصارف الإسلامية عن القيام بهذه الضمانات، لأنها لا تستفيد منها ماليًا وتجاريًا، يؤدي إلى لجوء المحتاجين إليها إلى البنوك الربوية في الحصول على هذه الضمانات، وفي ذلك دعم كبير لها، يجر المحتاجين إليها إلى التعامل معها في هذه الضمانات ثم في غيرها. فإذا سادت المصارف الإسلامية –وهذا هدف أساسي- استحال على هذه المصارف القيام بهذه الضمانات، مادام أخذ الأجر غير مشروع، لأنها إما أن تقوم بها مجانًا، وفي ذلك تعريض أموال المؤسسين والمسهمين فيها للضياع، من غير فائدة تعود عليهم وإما أن تقوم بها بأجر، ولا يرى الفقهاء جواز ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 928 ويتعين –بناء على ذلك- القيام بهذه الضمانات، وأخذ المناسب عليها، من غير وكس ولا شطط ومغالاة، وفي ذلك كشف لمغالاة البنوك الربوية، يدعو إلى الإحجام عن التعامل معها في هذه الضمانات ثم في غيرها، وفيه من المصلحة ما فيه. ولقد أفتى المتقدمون من فقهاء بعض المذاهب بعدم جواز أخذ الأجر على تحفيظ القرآن الكريم، وإمامة الصلاة، بناء على أنهما يدخلان في العبادات والطاعات، التي لا يجوز أخذ الأجر المادي عليها في الدنيا، والتي يستحق فاعلها الجزاء والثواب الأوفى في الآخرة، والآخرة خير وأبقى. وقد جرى المجتمع الإسلامي على ذلك حينا من الدهر، ثم اقتضت التطورات الاجتماعية تخصيص مسلم مؤهل للقيام بهذه الأعمال، بحيث يتفرغ التفرغ اللازم والمناسب لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 929 ووجد المتأخرون زمانًا من فقهاء هذه المذاهب، أن القول بعدم جواز أخذ الأجر في ذلك وفي أمثاله، يؤدي إلى ضياع حفظ القرآن حفظًا سليمًا، وإلى ترك إمامة الصلاة لمن لا يحسنها، نظرًا لعدم التفرغ لهذه الأعمال الدينية، اشتغالًا بكسب العيش، وأفتوا بأخذ الأجر. وعلى ذلك جرى ويجري العمل الآن في جميع البلاد الإسلامية. - وإذا كان مقتضى هذا الضمان المصرفي إلزام المصرف بالمغارم التي تترتب على هذا الضمان، تنفيذًا لالتزامه، فلم لا يكون له غنم من المضمون، يؤديه للمصرف الضامن، نتيجة الاتفاق والرضا به. ومن القواعد الفقهية العادلة أن الغرم بالغنم، جرى عليها التعليل الفقهي في مثل وجوب نفقة الفقير العاجز على قريبه الغني الموسر، مغرما في حالة فقر القريب، مقابلة للمغتنم بميراثه في حالة يساره. - وإذا كان الأصل منع الأجر عند بعض الفقهاء، فلم لا يجوز أخذه استحسانًا واستثناء من القواعد الأصلية، استنادًا إلى المصلحة العامة والخاصة. وإذا قيل: أن في إمكان الضامن "المصرف "والمضمون أن يشتركا في نفس العمل الذي يضمنه المصرف، قلت: أن هذا ممكن إذا رأي الطرفان مصلحتهما فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 930 ولكن قد يريان أو يرى أحدهما أن المصلحة في انفراد المصرف بالضمان واستحقاق الأجر عليه، وانفراد المضمون بنتيجة العمل ربحًا أو خسرًا. - كما أن المجتمع الإسلامي كان يجرى على أن الوكالة عن الغير في عمل من الأعمال تكون مجانًا، وخدمة اجتماعية، ثم تطورت الأحوال تطورًا حضاريًا، ووجد المتخصصون الذين لا يقبلون الوكالة إلا بالأجر، كما في توكيل المحامي، وتوكيل السمسار، وكل منهما يتفرغ لهذا العمل، ويكسب قوته من هذا الأجر. وأختم كلمتي بأن الأساتذة الأجلاء أعضاء المجمع الرائد يعلمون أنه يستوي في الأثم تحريم الحلال، وتحليل الحرام من غير دليل. والله سبحانه وتعالى يقول {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وأقول: هذا رأيى الذي أعرضه على حضراتكم، فإن يكن صوابًا فمن الله، وبتوفيقه، وأن يكن خطأ، فمنى، ومن الشيطان، وأستغفر الله، وأتوب إليه، وأول درجات التوبة رجوعي عنه. والمجتهد يخطئ ويصيب. ولعل الرأي الذي ينتهي إليه المجمع بالإجماع أو بالأكثرية يصلني مع أدلته ومناقشاته، والله ولي التوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 931 خطاب الضمَان فضيلة الدكتور عَبد الستار أبو غدة خطاب الضمان من أهم أساليب التعامل المصرفي بالرغم من أنه وسيلة ائتمان وليس نشاطًا استثماريًا مباشرًا، لأنه من الدعائم الأساسية للاستثمار، وإذا كان أحد الخدمات المصرفية فإن العنصر الغالب في ماهيته الائتمان، وليس أداء المنفعة. والائتمان الذي في خطاب الضمان هو بالقوة (الاستعداد) دائمًا، وبالفعل (التنفيذ) مآلًا في بعض الحالات. ولا داعي للإطالة في تعاريفه وتصويراته المختلفة فإنه مما اشتهر أمره بالتعامل فيه بين المصارف والمتعاملين معها، وبين الجهات الحكومية والمسهمين في مشاريعها، وقد أصبح أحد النماذج التي لا يخلو عنها أي مصرف أو جهة حكومية للإنشاءات أو المشاريع. وتلك النماذج المعدة كلها ينطبق عليها المفهوم العام لخطاب الضمان فنيًا، وهو: أنه صك يتعهد بمقتضى البنك المصدر له بأن يدفع مبلغًا معينًا لحساب طرف ثالث لفرد معين ولا يخفي أن اشتمال هذا التعريف على كلمة (صك) سببه وجود كلمة (خطاب) في المعرف ولولا ذلك لما كان سائرًا في الاصطلاح الشرعي لما هو معروف في القواعد المقررة في الفقه من أن العقود تتم بالإيجاب والقبول مشافهة، ليست الكتابة إلا وسيلة أخرى للتعبير عن اتفاق الارداتين، فضلًا عن دورها المتميز عن العبارة في التوثيق وتوفير المستند. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 932 وللقانون في هذا منحى آخر من حيث الإثبات عند التنازع دائمًا ومن حيث مقومات إنشاء الالتزام أحيانًا، وخطابات الضمان قد تشكل معاملة مصرفية مستقلة، وقد تأتي ضمن عمليات أخرى ذات بال، فيسهل على المصرف النظر إليه على أنه خدمة مصرفية ذات أجر محدد يقابل الجهد التالي: (النفقات الإدارية) وأحيانًا لا يقابله شيء من العوض لأن النشاط الأصلي المقصود من التعامل يستحوذ على الاهتمام ويجر ربحًا وفيرًا، فيكون (كل الصيد في جوف الفراء) .. وليس هذا النوع محل إشكال –لأنه يقع كفالة على بابها وضمانًا على جادته المعروفة من حيث الخلو عن عوض لقاء شغل ذمة الضمان بطلب المدين لصالح الدائن.. وهو عماد الكفالة أو الضمان. وقد سلكت هذا السبيل معظم المصارف الإسلامية في عمليات الاعتماد المستندي فرتبت الأجر على الأسلوب من حيث هو، واكتفت بذلك عن إفراد الضمان بالذكر لكن الذي يحتاج إلى الدراسة والبحث هو خطاب الضمان المستقل، وقد كان من المحتمل أن يصار إلى الأسلوب نفسه في خطاب الضمان بالتركيز على الجوانب الأخرى غير الكفالة لولا أننى استعرضت معظم النماذج المستعملة في المصارف فإذا بها تخلو من أي عمل محدد ينتفع به طالب خطاب الضمان لكي يكون محلًا للمعاوضة عليه بل أن الأعمال التي تستتبع أو تسبق إصدار خطاب الضمان هي في الغالب لصالح الضامن، وإذا تسامحنا وقلنا إنها – من حيث المآل- لمصلحة الطرفين، فينبغي أن تحدد بدقة ويدفع قيمتها المنتفع بها دون أن يعود ذلك بنفع زائد للضامن لقاء الضمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 933 تكييف خطاب الضمان: إن خطاب الضمان هو (كفالة محضة) ، وذلك في الصورة العامة له سواء أكان بأمر المكفول أو بدون أمره، على أنه إذا كان هناك غطاء للضمان مقدم من طالب الضمان، فإنه تنشأ علاقة أخرى بين الطالب للضمان وبين مصدره فقط، وهي علاقة (وكالة) بالدفع عند وجود ما يقتضيه وهو المطالبة بالالتزام. وليس بمستغرب تباين العلاقة والتكييف من وجهات مختلفة، فكثير من العقود تأخذ طبيعة من حيث اللزوم أو عدمه، أو تأخذ عدة اعتبارات من حيث نوع التكييف، تبعًا لطرف دون آخر. ففي الكفالة المدفوع إلى الكفيل بدلها يجوز تخصيص أجر له من طالب الضمان (الكفول) انطلاقًا من تكييف علاقتهما بالوكالة –للاستغناء هنا عن الرجوع بما أدى الكفالة – فلم يبق إلا نهوض قابض المبلغ بأدائه عند الحاجة وهو عمل يصح أن يكون محلًا للتوكيل، والوكالة مشروعة بأجر وبدونه. أما العلاقة بين الكفيل (مصدر خطاب الضمان) وبين المكفول له (المستفيد) فهي كفالة. انسجامًا من شغل الذمة لصالح ذلك المستفيد. أما في هذه الصورة الخاصة فالكفالة هي حقيقة خطاب الضمان سواء كانت بطلب الأمر بالكفالة أم بغير طلب. ولابد هنا من مناقشة الدعوى بأن الكفالة بالأمر هي وكالة، بحجة أن الكفيل ينفذ ما أمر به من الأداء (ولو لم يكن قد قبض مقابله..) فهو يؤدى عملًا.. وهي دعوى غريبة عن منطق الفقه، لأنها تعمد إلى تفريغ الكفالة من جميع تطبيقاتها أو معظمها، لأن معظم الكفالات تتم بالأمر، بالاحتفاظ بحق الرجوع عند من يشترط وجود الأمر لوجود حق الرجوع. وفات أصحاب هذه الدعوى أن الكفالة لها حقيقة شرعية تميزها عن الوكالة، وهي شغل الذمة، والوكالة بالأمر فيها شغل واضح للذمة أما الوكالة بالأداء فهي التزام بين المدين ووكيله وليس شغلًا للذمة تجاه الدائن إلا إذا وجد التصريح بالكفالة أو الضمان، حيث يصبح للدائن محلأن لدينه هما ذمة المكفول (المدين) وذمة الكفيل. وقد جاء في كلام بعض الفقهاء من الذين يرون أن الأصل في الكفالة الرجوع بما أداه الكفيل – (كابن قدامة المغنى) تشبيه الكفالة بالوكالة لأن الكفالة تتضمن إقرارًا بالأداء فتستتبع حق الرجوع، وهذا ما تعلق به بعض الكتاب لتأييد هذه الدعوى الغريبة التي تجعل الكفالة خالية من المضمون بإدراج معظم تطبيقاتها في الوكالة (بالنسبة لجميع الأطراف) مع أن الغرض من هذا التشبيه (والتشبيه غير الحقيقة) هو اشتمال طلب الكفالة على طلب الأداء ومن ثم على الاستعداد للأداء للكفيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 934 ولو فتحنا الباب لهاذ التعلق الضعيف لأدنى ملابسة لأضعنا التميز القائم بين العقود المسماة، فنطلق على البيع أنه إجارة لأن فيه بيعًا للمنفعة باعتبار أنه بيع للذات (وهي العين والمنفعة معًا) وهكذا.. فخطاب الضمان كفالة، والكفالة بنوعيها: التي فيها أمر بالأداء أو ليس فيه، هي غير الوكالة، فلابد إذا من النظر في المسألة مباشرة: الأجر على الكفالة وقد تواردت مذاهب الفقهاء وعبارات المؤلفين على أن الكفالة والضمان من التبرعات التي لا يجوز الأجر عليها. ولا يخفي أن هذا الحكم منسجم مع (قواعد الشريعة العامة) التي يرسيها الفقهاء من استقراء النصوص وملاحظة ما ورد عن الشرع من أحكام وما قيس على نصوصه من تطبيقات. وليست هذه المسألة هي الوحيدة التي تتلقى عن الفقهاء بالقبول لإطباقهم عليها ويقال: أين الدليل الخاص المباشر عليها، ومع هذا فقد نوه بعض الفقهاء بمستندهم في منع الأجر على الضمان – كابن قدامة - وابن عابدين –حيث بينا أن الكفالة تؤول إلى الإقراض، وإذا كان الإقراض الفعلي غير مأذون من الشرع بالأجر عليه، فالاستعداد للإقراض (وقد لا يحصل الإقراض أن أدى المكفول نفسه) أولى وأجدر بمنع جواز الأجر عليه، لأن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات. أما ما قيل بأن الكفالة كانت عملًا نادرًا وليس لها من يتفرغ لمزاولتها والحال تغير حيث أصبحت وجهًا من وجوه الكسب الذي يتوقف عليه التعامل، فهذا من قبيل إدارة الحكم الشرعي على التصرف الواقعي، مع أن الواجب دوران التصرف طبقًا للحكم، إذ يصبح الموزون ميزانًا، وهو من قلب الحقائق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 935 وما قيل من تجويز الأجر على الكفالة قياسًا على ما انتهي إليه الأمر في كثير من الواجبات التي كانت تطوعية ثم صارت مأجورة، فالجواب أن تلك الأمور واجبة، والكفالات ليست إلا من قبيل المباحات، فالقياس ليس على وجهة ثم أن تلك الأعمال هي في الأصل من فرائض الكفاية، والأصل فيها التطوع تحصيلًا من القائم بها للأجر، ورفعًا للوزر عن غيره من المسلمين.. وقد صرح كثير من الفقهاء بأن ما يعطى عن هذه الأعمال الواجبة للقائمين بها إنما هو عطاء ورزق لهم من بيت المال وأنهم يعطون الكفاية شأن العطاء من بيت المال لمن يعمل عملًا يعود نفعه على جميع المسلمين فهو ليس أجرًا وإنما شبه بالأجر لما بينه وبين العمل من التقابل واضطراد الوجود والعدم. واخيرًا، فإن ما قيل من تخريج أجر خطاب الضمان على أنه جعالة على عمل، أو عقد وجاهة، أو نحو ذلك من الصيغ التي يراد بها إخراجه في صورة (معارضة) بين الأجر وبين عمل آخر غير الكفالة، وهذا دليل على اعتراف من يلجأ لذلك بأن الكفالة ليست محلًا للاعتياض عنها بمال.. وهذا مسلم، أما الادعاء بأن خطاب الضمان هو جعالة أو وجاهة فهو مردود، لأنه يخليه من مضمونه وهو الكفالة (شغل ذمتين بالالتزام) فالوجاهة ليس فيها شغل ذمة وكذلك الجعالة بل هي من قبيل الالتزامات التي تنحل إلى عمل له مقابل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 936 وقد عرف بهذا جواب الإيرادات القائمة على إدعاء خلو الموضوع من نص فإن فيه روح النص والمناط الذي لأجله حرم الله عز وجل وحرم رسوله تقاضي الأجر على القرض بالفعل، فإن من مقتضاه تحريم تقاضي الأجر بالقوة (مجرد الاستعداد..) وأما القول بأنه لا مفسدة في أخذ الأجر على الكفالة أو الضمان فلا يسلم لقائله، فإن فيه من المفاسد ما هو شبيه بمفاسد التكسب بالأجر على القرض (الربا) ، وهو أيضا يعطل معنى الثقة والتكافل بين المسلمين وتقوية الروابط بينهم في التعامل المالي وما يستتبع ذلك الحرص على التعارف والتآلف والبذل وتشجيع حرص الناس على التحلي بالمروءة وحسن السمعة ليبادر الناس إلى كفالتهم، وبالمقابل التحلي (أيضًا) بالشهامة للمبادرة إلى القيام بالكفالة. والخلاصة أن هناك ثلاثة أساليب هي غريبة عن الشريعة ومجافية للنظام الاقتصادي الإسلامي، وإن كانت تتفاوت في وضوح بعدها ونبوها عن منطق الفقه الإسلامي، وفي آثارها الخطرة على مجتمع المسلمين وهي: - الفوائد الربوية، باعتبارها أجرًا (الفعلى) . - أجور خطابات الضمان، باعتبارها أجرًا للاستعداد للقرض (عند المطالبة بحق الكفالة) . - أقساط التأمين التجاري التبادلي، باعتبارها أجرًا على ضمان وكفالة من نوع خاص وهي كفالة تبرعية بدون رجوع لما يقع مع التزامات في المستقبل (ضمان الدرك) . وجدير بالتعامل المشروع الواجب بين المسلمين، أفرادًا ومصارف تطهير أموالهم من هذا الثالوث، وتنقية مجتمعه من مفاسده الظاهرة والخفية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 937 آراء حَول خطاب الضمَان فضيلة الشيخ محمد على التسخيرى ما كتبه الشهيد الصدر حول خطابات الضمان هو تعهد من البنك بقبول دفع مبلغ معين لدى الطلب إلى المستفيد من ذلك الخطاب نيابة عن طالب الضمان عند عدم قيام الطالب بالتزامات معينة قبل المستفيد. وهي ابتدائية ونهائية. وأما الابتدائية: فهي تعهدات توجه للمستفيد من هيئة حكومية أو غيرها لضمان دفع مبلغ من قيمة العملية التي يتنافس فيها طالب الضمان ويستحق الدفع عند قيام الطالب باتخاذ ما يلزم عند رسو العملية عليه. وأما النهائية: فهي تعهدات لضمان دفع مبلغ يعادل نسبة أكثر من قيمة العملية المستقرة على عهدة العمل، ويستحق الدفع عند تخلف العميل عن الوفاء بما عليه في العقد النهائى بين العميل والمستفيد. وهي تستعمل لطمأنة المستفيد. وتتم الطمأنة تارة بدفع مبلغ من النقود لتصبح من حق المستفيد أن لم يلتزم الشخص بما رست عليه العملية. وأخرى بخطاب الضمان. أما خطابات الضمان الابتدائية: يكون هناك عقد بين المستفيد والعميل مشروط بتملك المستفيد نسبة معينة من قيمة العملية عند تخلف العميل وهو شرط ملزم عندما يقع في عقد صحيح كالإيجار ويعتبر خطاب الضمان تعهدًا بوفاء المقاول بالشرط تمامًا كتعهد الدين من قبل ثالث وحينئذ يرجع المستفيد على البنك إذا لم ينفذ الشرط ويضمن المقاول المبلغ الذي خسره البنك لذلك فله مطالبته، وللبنك أخذ عمولة على هذا التعهد وهو عمل محترم يمكن فرض جعالة أو عمولة عليه من قبل الشخص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 938 حكم الخطاب الابتدائي: هذا الخطاب يجوز للبنك إصداره إلا أنه غير ملزم لعدم وجود عقد يشترط فيه شيء ليمكن ضمانه فالشروط الابتدائية غير ملزمة عند الكثيرين وهناك من ألزم بها. تعميق البحث في خطابات الضمان النهائية: العقد بين المستفيد والمقاول مع شرط دفع مقدار عند التخلف صحيح إذا لم يؤد التخلف إلى بطلان أصل العقد. ويتصور الشرط بأحد أنحاء: - 1- أن يكون بنحو شرط النتيجة فتشترط الجهة أن تكون مالكة للمبلغ في ذمته عند التخلف. 2- أن يكون بنحو شرط الفعل فتشترط الجهة أن تملك المبلغ. 3- أن يكون بنحو شرط الفعل فتشترط الجهة أن يملكها ذلك. والثمرة بين الثاني والثالث تظهر في أي مكان قيام شخص آخر دون أمر أو توكيل بذلك. والشرط في الثاني مقدور لأنه يعنى الجامع بين فعله وفعل غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 939 أما الصورة الأولى فلا تصح لأن اشتغال ذمة المقاول بذلك ليس في نفسه من المضامين المعاملية المشروعة. فإذا قيل نثبت مشروعيته بدليل (المؤمنون عند شروطهم) . يقال: إنه لا يشرع أصل المضمون في الشرط وإنما هو يتكفل صلاحية لأن تتشابه المضامين التي هي مشروعة في نفسها. وأما النحوان الآخران فهما معقولان: وحينئذ فما حكم خطابات الضمان؟ هذه الخطابات يمكن تخريجها على أساس الضمان- كما يقول السيد الصدر. ولا يقصد هنا الضمان بالمعنى المشهور في الفقه الامامي لأنه ينتج نقل ذمة إلى ذمة لا ضم ذمة إلى جانب أخرى والبنك لا يقصد نقل الدين إلى ذمته عند قبوله للكمبيالة أو في حالتنا هذه ولا نقصد ضم ذمة إلى ذمة ليكون باطلًا وإنما نقصد التعهد بأن الدين سيؤدي فهو ضمان الداء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 940 ولا يتوهم أنه يرجع إلى ضم ذمة إلى ذمة فإن هذا يعني كون الشخصيتين المدين والضامن مسؤولين عن المبلغ وكلتا المسؤولتين منصبتان على المبلغ المحدد، ولكن في ضمان الأداء ذمة المدين هي المسؤولة والضامن مسؤول عن الأداء وخروج المدين من عهدة مسؤوليته فليس للدائن أن يرجع ابتداء إلى الضامن وإنما يرجع إليه عند امتناع المدين ولما كان الأداء بنفسه ذا قيمة مالية تلفت على الدائن فيصبح مضمونًا على من كان متعهدًا به ونستغل ذمة الضامن حينئذ بقيمة الأداء وهي قيمة الدين وهذا المعنى للضمان صحيح شرعًا بحكم الارتكاز العقلاني أولًا. وبالتمسك بعموم {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ثانيًا بشرط أن نثبت عقيدته عند العقلاء أي كون إيجاده متوقعًا على التزام الطرفين وتتم معرفة ذلك بملاحظة أنه هل جعلت تحت سلطان شخص واحد أو شخصين. وهنا قد يدعى الضمان بهذا المعنى ليس عقدًا باعتبار أنه لا يحتاج في قباله إلى التزام أكثر من التزام الضامن وليس فيه تصرفًا في شؤون المضمون له. ولكن يجاب بأن ملاك العقيدة لا ينحصر بكونه تصرفًا في ذينك الشخصين بل قد يكون تصرفًا في إحداهما ولكنه يبقى تحت سلطان الشخصين كما في الهبة. ولا يمكن الاستدلال بالروايات التي تبطل الضمان بمعنى نقل الدين من ذمة إلى ذمة ضد هذا الضمان لأنه هنا ضمان أداء. فلنرجع إذن إلى خطاب الضمان النهائى. وهو يشبه ضمان الدين غاية الأمر التعهد هنا بالقيام بالشرط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 941 أما كيف يقتضى استحقاق المطالبة من البنك؟ فهذا يبين بوجهين: الأول: أن هذا التعهد يجعل أداء الشرط في عهدة البنك على حد كون العين المغصوبة في عهدة الغاصب وإن كان وقوعها في عهدته قهرية ووقوع التعهد في عهدة البنك بسبب العقد وإذا فقدت العين المغصوبة اشتغلت الذمة بالقيمة فإذا تلف أداء الشرط تحولت العهدة الجعلية إلى اشتغال الذمة بقيمة فعل الشرط وهي لازم ذلك. الثانى: أن يقال أن العهدة الجعلية (المعنى الثالث للضمان) هي عبارة عن تحمل تدارك الشيء بقيمته إذا تلف. وحينئذ يكون اشتغال الذمة بالقيمة عند التلف هو مدلول هذا التعهد ابتداء. والفرق أنه على هذا الوجه ليس للمستفيد مطالبة البنك بإقناع المقاول بالأداء وإنما له تغريم البنك وأما على الوجه الأول فله ذلك. وقد حاول بعض الأعلام إرجاع هذه الخطابات للكفالة ولكنها لا تؤدى إلى رفع القيمة. ونحن لا داعي لنا في ذلك بعد أن أثبتنا هذا الضمان بالمعنى الثالث وهو بالدقة نظير ضمان الأعيان المغصوبة وهو ما قاله بصحته كثير من الفقهاء (1) فإنها ليست نظير النقل من ذمة إلى ذمة فلا تشتغل الذمة ما دامت العين موجودة وإنما هو تعهد بالأداء وتشتغل الذمة عند التلف. الإمام يقول في مسألة الكمبيالة: مسالة 3 ص 744 من تحرير الوسيلة بعد ما كان المتعارف في عمل البنوك ونحوها الرجوع إلى بائع الكمبيالة وإلى كل من كان توقيعه عليها لدى عدم أداء دافعها لأجل القوانين الجارية عرفًا وكان هذا أمرًا معهودًا عند جميعهم كان ذلك التزامًا ضمنيًا منهم بعهدة الأداء عند المطالبة وهذا أيضا شرط من ضمن القرار وهو لازم المراعاة نعم مع عدم العلم بذلك وعدم معهوديته لم يكن قرارًا ولم يلزم بشيء.   (1) لم يرضه الإمام (تحرير الوسيلة، ج2، ص 29) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 942 ويقول أيضا عن خطاب الضمان ص 744: من أعمال البنوك ونحوها الكفالة بأن يتعهد شخص لآخر بالقيام بعمل كبناء قنطرة مثلًا، ويتعهد البنك وغيره للمتعهد له بكفالة الطرف، أي المتعهد، وضمانه بأن يدفع عنه مبلغًا لو فرض عدم قيامه بما تعهد للمتعهد له، ويتقاضى الكفيل ممن يكفله عمولة بإزاء كفالته والظاهر صحة هذه الكفالة الراجعة إلى عهدة الأداء عند عدم قيام المتعهد بما تعهد وجواز أخذ العمولة بإزاء كفالته أو بإزاء أعمال أخرى من تسجيل الكفالة ونحوها إذا كانت الكفالة بإذن المتعهد جاز له الرجوع والسيد الخوئى يدخله في عقد الكفالة: ويصح عقد الكفالة هذا والبنك يدفع وبما تعهد البنك وضمانه كأن يطلب من المتعهد والمقاول فهو ضامن لما يخسره البنك وللبنك أن يأخذ عمولة على ذلك بنحو الجعالة وكذلك يمكن الإجارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 943 وَثائق مقدمَة للمَجمَع خطاب الضمان فضيلة الدكتور رفيق المصري 1- المعلوم فقهيًا أن الأجر (المشروط) على الضمان لا يجوز. غير أن بعض الفقهاء (الحنفية. الحنابلة. الزيدية) أجازوا الربح بالضمان. إذا أجازوا شركة الوجوه ويتخرج على مذهبهم أن وجيها لو أشترك مع آخر (خامل) على الضمان والربح مناصفة، ولم يشتر ولم يبع، جاز لمجرد الضمان. وهذا مثل المال لا يجوز إقراضه بأجر، لكن يجوز إقراضه بربح. غير أن الذين أجازوا ربح المال هذا هم كل الفقهاء. بخلاف ربح الضمان، فقد أجازه بعضهم فقط كما قدمنا. أما العمل فيجوز فيه الأجر أو الربح بلا خلاف بين أحد من الفقهاء. 2- وهذا الأجر المحرم على الضمان لا ريب فيه إذا كان الضمان لا يكلف الضامن أية متاعب أو مشقة أو مالًا أو جهدا أو وقتا، إنما هو فقط ضمان لا يقترن بأية سمة أخرى. حتى أن الفقهاء أجازوا في هذه الحالة للضامن أن يسترد ما أنفق أو أن يأخذ أجر مثله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 944 3- لكن المشاهد أن الضامن لو بقي يقدم طوعا وتبرعا بدون أجر ولا التزام لتعسر على كثير من الناس في أيامنا هذه الحصول عليه، وإن أمكنهم فقد لا يتم لهم ذلك في الوقت المطلوب. أو بالحجم المطلوب. كما أن الناس يتفاوتون في إقدامهم على طلب الضمان، فهناك الفقير، وهناك الغني، وهناك التاجر الذي يحتاج إلى عدد غير قليل من الكفالات لتسهيل أعماله في الوقت المطلوب. وبالحجم المنشود، دون عناء، ولا طلب إحسان أو معروف. 4- فيا ترى لو قامت خدمة منظمة لهذا الضمان، قام أناس متفرغون لها، فتكبدوا الجهود والأموال والأوقات في سبيل إدارتها وتنظيمها، ولم تكن لهم موارد اخرى للعيش، فهل يمكنهم أن يأخذوا من الأجور ما يسمح لهم باسترداد ما أنفقوه. وزيادة ربح يليق بعملهم وعمل أمثالهم؟ علمًا بأن هذا الأجر ليس أجرا على الضمان، لأن ذلك حرام شرعًا. إنما هو أجر يتقاضاه الضامن من المستفيد، لقاء أعمال تنظيم هذا الضمان وإدارته بما يليق بمستوى العصر، ,بما يلبى حاجات الناس والتجار المتزايدة إليه، وربما يكفل لصاحبه الاستمرار في حرفته، في ظل المنافسات الداخلية والخارجية، القائمة على استخدام أحدث الأساليب الفنية والتنظيمية، وأحدث الأدوات والآلات لتوفير متطلبات الدقة والسرعة المطلوبتين في عالمنا المتطور بسرعة مذهلة. 5- وقد سبق لفقائهنا أن أجازوا مثل ذلك الأجر للإمام والخطيب والمؤذن والشاهد والمعلم إذا احترفوا ذلك، ولم تكن لهم موارد أخرى يعيشون منها، ولم يقم بها أحد تبرعا وتطوعا، فإذا ما أخذوا عليها أجرا أو رزقا توجب عليهم القيام بها، فصارت واجبا ووظيفة، بعد أن كانت ندبا واستحبابا، وصارت فرض عين بعد أن كانت فرض كفاية. 6- وبعبارة أخرى، ترى هل من فرق في الحكم الشرعى على القربات بينما إذا كانت موضع اكتساب مدنى عارض، أو موضع احتراف تجاري منظم؟ لو اتفقت مع حمال أن يحمل لك متاعك إلى السيارة بمبلغ معين، فأمر هذا الحمال حمالا آخر. صبيا مثلا، أن يقوم بهذه المهمة بنصف المبلغ، واقتطع النصف الآخر لنفسه، ألا ترى أنك تجد في نفسك، حيث لا ترى أن هذا "المعلم" قدم مالا ولا عملا حتى يستحق هذا الربح ويطيب له؟ لكن لو أتخذ هذا المعلم دكانًا. واستأجر عقارًا، وجمع عنده الأجراء، أو أسس شركة صنائع، أو اشترى العدد والآلات للقيام بعمله، فزادت بذلك مخاطرته، ووضح نشاطه الأداري والتنظيمي والإشرافي، ألا تشعر بأنك تسخو له بهذا الفرق وأكثر منه؟ بل إنك لا تعود تحس بهذا الفرق أبدًا، لأنه لا يأخذ منك ليعطي آخر بهذه الصورة البدائية التي يكسب فيها على الفور وعلى المضمون وبلا مخاطر معتبرة ولا عمل محترم ولا مال مقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 945 كذلك لو أعطاه فأسا للإحتطاب، أو شبكة للإصطياد، لقلنا: أن الحطب للمحتطب، والصيد للصائد، ولصاحب الفأس أو الشبكة أجر أداته، لكن لو قامت مؤسسة منظمة لهذا العمل، لها رأس مالها ومديروها وعمالها وآلاتها، هل يمكن أن نستمر فنقول: أن الصيد للصائد (المباشر) . وإن الحطب للحاطب. وأن النفط للعامل؟ أم هو لرب العمل، وللعامل أجره؟ كذلك الأمر في عقد الاستصناع الذي أجاز فيه الحنفية، بالمقارنة مع السلم، عدم تحديد أجل المبيع، وعدم تعجيل الثمن (انظر على سبيل المثال المادة 389 و 391 من مجلة الأحكام العدلية) ، بل عدم تحديد الثمن (انظر شرح المجلة لعلى حيدر 1/395) . ألا ترى أنهم لم يجيزوه إلا فيما جرى عليه العرف والتعامل، نعم إنهم لم يجيزواالاستصناع إلا بعد عموم الحاجة إليه واحترافه في بعض البلدان، في بعض السلع المصنوعة. هذا والمجلة تعتبر تقنينا، أخرج الفقه من حيز النظرية والالتزام الفردى إلى حيز التطبيق والالتزام العام، إذ ليس كل فقه نظرى يكون قابلًا للعمل به. هل يعنى هذا أن الاحتراف المنظم قد يغير الحكم أحيانًا عما لو بقى الأمر في حدود الاكتساب البدائي، لأن أهله قد انتقلوا إلى أهل الخبرة والبصيرة بتقديم خدمات تجارية منتجة ومفيدة، لمجتمع تطلبها وتعارف عليها؟ 7- لعل هذا التخريج للضمان يكون أفضل مما ذهب إليه البعض من تجويز أجر الضمان المصرفي من طريق الوكالة التي يضمنها هذا الضمان، أو من طريق القول بجواز ثمن الجاه أو أجره. 8- وهذا لا يعفي طبعا من قيام الأفراد من تلقاء أنفسهم ببذل خدمات الكفالة لمن يحتاج إليها من أقربائهم أو جيرانهم أو أصدقائهم أو إخوانهم، في حدود الطاقة، كما لا يمنع من قيام تنظيمات خيرية أو تعاونية (بلا أرباح) أو حكومية (ضمن قطاع المرافق العامة) تنافس تلك التنظيمات التجارية، وتؤدى خدماتها لمن يلجأ إليها (مع ملاحظة اختلاف درجة الكفاءة بين التجاري والحكومي والتعاوني والخيري) ، حتى إذا ما أثبتت كفاءتها وجدراتها وقدرتها على إشباع حاجات الناس، أمكن لها أن تحل بالتدريج محل الأولى، في تلبية هذه الحاجات والمصالح. والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 946 خطاب الضمَان فضيلة الدكتور سَامى حَمّود 1- الوضع القانونى بشكل عام: يعرف القانون المدنى الكفالة بأنها: "عقد بمقتضاه يكفل شخص تنفيذ التزام، بأن يتعهد الدائن بأن يفى بهذا الالتزام إذا لم يف به المدين " (مادة 772 من القانون المدنى المصرى) . أما خطاب الضمان فهو: "تعهد نهائى يصدر من البنك بناء على طلب عميله بدفع مبلغ نقدى معين، أو قابل للتعيين بمجرد أن يطلب المستفيد ذلك من البنك خلال مدة محددة". ويتبين من المقارنة بين كل من الكفالة وخطاب الضمان المصرفي أن الغاية في الحالين –بالنسبة لكل منهما- هي غاية تأمينية هدفها مساعدة العميل في تقوية مركزه الأتمانى تجاه المكفول له أو الشخص المستفيد في خطاب الضمان. وخطاب الضمان المصرفي –في حقيقته العملية- صورة من صور الكفالة بوجه عام. ولكنها صورة متحررة من أسر التعريف القانونى، خاصة فيما يتعلق بالتزام المصرف الذي أصدر خطاب الضمان تجاه المستفيد منه. باعتبار أن العلاقة بين المصرف والمستفيد علاقة محكومة بخطاب الضمان وحده من ناحية. كما أن هذه العلاقة تعتبر مستقلة تماما عن العلاقة القائمة بين الآمر (طالب إصدار خطاب الضمان) والمستفيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 947 وهذا هو أهم ما يبعد خطاب الضمان المصرفي عن "الكفالة التي ينظمها القانون المدني والتي يعتبر فيها التزام الكفيل تابعا لالتزام المدين المكفول من حيث صحته وبطلانه، لأن البنك يلتزم دائمًا بالخطاب أن يدفع أيا كان مركز المضمون وأيا كان مصير العقد بين البنك وعميلة ومصير العلاقة بين العميل والمستفيد من الخطاب. والواقع أن خطاب الضمان المصرفي هو البديل المقبول في العمل للتأمين النقدى فبدلًا من قيام المتعاقد أو الملتزم مع الجهة الحكومية مثلا بدفع المبلغ نقدًا كتأمين للوفاء بالتزامه، فإنه يقدم خطاب ضمان مصرفي بالقيمة المطلوبة، فيكسب بذلك عدم تجميد مبلغ التأمين من ناحيته، ويطمئن الجهة ذات العلاقة إلى أنها قادرة على الحصول على المبلغ المطلوب في أي وقت تشاء خلال مدة سريان الخطاب الصادر لها من المصرف. ولخطاب الضمان المصرفي استعمالًا ومجالات متعددة منها: حالة تقديم الخطاب كتأمين لدخول المناقصات أو المزايدات الحكومية وما يتشابه معها، وكذلك تقديمه كتأمين لحسن تنفيذ العطاء بعد الإحالة النهائية، كما يمكن تقديم الخطاب للدوائر الجمركية والضرائبية تأمينًا لما هو مستحق أو ما قد يتحقق في بعض الحالات من رسوم أو ضرائب. ويستعمل الخطاب أيضا لتقديمه كوثيقة يمكن بموجبها استلام البضائع المشحونة في ميناء الوصول مما قد تكون السفينة الشاحنة قد بلغته قبل ورود المستندات الممثلة لتلك البضائع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 948 وأما العلاقة التي توجد في خطاب الضمان المصرفي فإنها تتمثل في ثلاث علاقات متجاورة جنبا إلى جنب هي: " علاقة العميل الآمر بالمستفيد،.. وعلاقة العميل الآمر بالبنك … وعلاقة البنك بالمستفيد … " ويحكم علاقة الآمر بالمستفيد، العقد أو الالتزام القائم بينهما والتي من أجلها قدم خطاب الضمان. أما علاقة المستفيد بالمصرف، فيحكمها التعهد غير المعلق على أي شرط من جانب الأخير إلا في حدود ما هو مبين في الخطاب من حيث الغاية التي قدم من أجلها. وأما علاقة الآمر بالمصرف فيحكمها العقد أو الطلب الذي يقدمه العميل الآمر إلى المصرف لإصدار الخطاب على أساسه. وإن ما يهمنا من هذه العلاقات الثلاث هي العلاقة الخاصة بالعميل الآمر والمصرف لأنها هي التي يدور عليها الكلام بالنسبة لما نبحث فيه. وهذه العلاقة تبدأ من الآمر بالطلب الذي يتقدم فيه إلى المصرف المعين لإصدار خطاب ضمان بالشروط التي يحددها بحسب الغاية المعينة وعلى أن يكون ذلك –بطبيعة الحال- غير قابل للنقص من جهة الآمر. وإذا كان الأمر كذلك، فإن أقرب تكييف قانوني يمكن أن ينطبق عليه هذا الوضع هو علاقة الوكيل بموكله. وإن منع الموكل (الذي هو الآمر) من الرجوع فما وكل به، إنما يبنى على أساس تعلق حق الغير (الذي هو المستفيد) بما ورد في الخطاب ويؤيد ذلك أمران: الأول- هو أن الأمر إذا عدل عن طلب الخطاب قبل إصداره، أو بعد إصداره ولكن قبل تسليمه للمستفيد منه. فإنه يجاب إلى طلبه طالما لم يتعلق حق المستفيد بالخطاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 949 الثانى- أن قيام المصرف بدفع المعين في خطاب الضمان لا يعتبر أكثر من مجرد دفع مبلغ من المال- بناء على طلب الآمر ولحسابه- وهذا المبلغ المدفوع قابل للمحاسبة عليه بين الآمر والمستفيد وديا أو قضائيا، إذا لم يكن للمستفيد حق فيه- كله أو بعضه. هذا هو الوضع الحقيقى للخطاب من ناحية كونه قد أخذه المستفيد بدلا من التأمين النقدى الذي كان بوسعه أن يصر على الاحتفاظ به ليخصم منه ما قد يترتب له تجاه الآمر (في خطاب الضمان) من حقوق بحكم العلاقة بين الطرفين. وتكييف العلاقة بين الآمر والمصرف مصدر الخطاب على أساس الوكالة، لا يتنافي مع حق الأخير في الرجوع على الآمر بما دفع، وذلك لأن الوكيل يرجع على موكله بما دفع عنه طبقا للقواعد العامة، باعتبار الموكل ملزما بأن يرد للوكيل ما أنفقه في تنفيذ الوكالة التنفيذ المعتاد (المواد 710- 711 مدنى) . فما هو موقف الفقه الإسلامي من هذه المعاملة الجديدة في ضوء ذلك التكييف؟ 2- تكييف المسألة في ضوء الفقه الإسلامي بحث الفقهاء الكفالة، وفرقوا بين أنواعها حسب الموضوع الذي تتعلق به، من كفالة بالمال وكفالة بالنفس. وميزوا في الكفالة بالمال بين الكفالة التي يكون موضوعها الالتزام بأداء دين أو الالتزام بتسليم عين أو ضمان خلوص المال المباع من كل حق فيه للغير، وهي ما تعرف بكفالة الدرك (بفتح الدال والراء) . ويبدو للنظرة الأولى، أن معظم الحالات التي يتسعمل فيها خطاب الضمان المصرفي تعتبر في الغالب من نوع كفالة الدين، وذلك باستثناء الخطاب الذي يقدم للشاحنين أو وكلائهم –بالنسبة لحالة تأخر وصول المستندات الممثلة للبضاعة- حيث يكون موضوع خطاب الضمان في هذه الحالة هو من نوع الالتزام بتسليم عين (هي بوالص الشحن) أو من نوع ضمان الدرك من حيث إنه يتضمن أيضا مسؤولية ما قد ينتج عن تسليم البضاعة إذا تبين أن الحق فيها يعود لشخص أخر غير المتسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 950 والكفالة في نظر الفقه الإسلامي هي: " ضم ذمة إلى ذمة"، إلا أن هناك خلافا في اعتبار هذا الضم من حيث كونه يقتصر على المطالبة فقط أم أن الضم يشمل الدين أيضًا. فقد قال صاحب الهداية في ذلك: ( … . قيل هي ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة، وقيل في الدين والأول أصح … .) . وجاء في شرح فتح القدير كتعقيب على ما قاله صاحب الهداية: ( … فلا يثبت الدين في ذمة الكفيل، خلافا للشافعي ومالك وأحمد في رواية … ) ثم قال بعد استعراض الآراء مقررا ( … ولكن المختار ما ذكرنا أنه في مجرد المطالبة لا الدين، لأن اعتباره في الذمتين –وإن أمكن شرعًا- لا يجب الحكم بوقوع كل ممكن إلا بموجب ولا موجب، لأن التوثيق يحصل بالمطالبة..". وبمقارنة هذه النقطة بالنسبة لاعتبار الكفالة (ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة لأجل حصول التوثيق بذلك) بما هو الحال عليه في الغاية المقصودة من خطاب الضمان، فإنه يبدو جليا أن ما أوضحه صاحب فتح القدير هو الأقرب لمقصود خطاب الضمان وحقيقته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 951 وهناك نقطة أخرى يتوافق فيها الرأي الفقهي مع الوضع القائم بالنسبة لعلاقة المصرف مصدر الخطاب بالمستفيد من حيث اعتبار التزام المصرف قائمًا بالإيجاب وحده من جانب الأخير ودون حصول القبول من جانب المستفيد. ويتمثل ذلك فيما نقله الشلبي في حاشية تبيين الحقائق بقوله: ( … . ولم يجعل أبو يوسف في قوله الأخير القبول ركنا، فجعل الكفالة تتم بالكفيل وحده في الكفالة بالنفس والمال، وهو قول مالك وأحمد وقول للشافعي، واختلفوا على قول أبي يوسف، فقيل أن الكفالة تصح من الواحد وحده موقوفا على إجازة الطالب أو تصح نافذا وللطالب حق الرد … .) . أما مسألة رجوع الكفيل على المكفول عنه فإنه من المقرر أن الكفالة إذا كانت بأمر الأخير، فإن للكفيل الحق بالرجوع عليه، حتى أن بعض الآراء قررت هذا الحق في الرجوع بدلالة العادة والمعاملة الجارية بين الطرفين. قال السرخسى في المبسوط ( … وإذا قال رجل لآخر: اضمن لفلان ألف درهم التي له علىَّ، أو قال أحلت لفلان عليك ألف درهم له علىَّ، أو قال: اضمن لفلان ألف درهم على أنها لك علىّ، أو قال: على أنى ضامن لها، أو قال على أنى كفيل بها، أو قال: على أن أؤديها إليك، أو قال على أن أؤديها عنه، فضمن، فهو جائز ويرجع به الكفيل على الأمر إذا أداه، لأن في كلام الآمر تصريحا بوجوب المال عليه للطالب، فيكون هذا أمرا منه للمأمور في ذمته مما يؤديه من ماله أو التزاما له ضمان ما يؤديه إلى الطالب، وذلك يثبت حق الرجوع له عليه إذا أدى..) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 952 وأورد صاحب البحر الزخار –بالنسبة للرجوع بدلالة العادة –ما نصه: (.. أن قال: اضمن عنى، أو ادفع عنى رجع، وإلا فلا. إلا حيث يكون بينهما معاملة متكررة أو قرابة فيرجع استحسانا لا قياسا … ) . أما بالنسبة لتوقيت الكفالة فقد قال السمرقندي في تحفة الفقهاء: ( … ولا خلاف في جواز الكفالة إلى أجل معلوم من الشهر والسنة ونحوها..) كما أشار ابن جزى لمسألة الضمان قبل وجوب الحق أو بعد وجوبه فقال: (.. ويجوز الضمان بعد وجوب الحق اتفاقا وقبل وجوبه، خلافا لشريح القاضى وسحنون والشافعي) . ويتبين من هذه الباقة من الآراء المختارة –اختصارا- من مذاهب الفقه الإسلامي المختلفة، أن خطاب الضمان المصرفي بعلاقاته المتعددة وغاياته المختلفة يستطيع أن يجد له مكانا في إطار الفقه الإسلامي الخصيب. وإن تكييف خطاب الضمان المصرفي على أنه وكالة لا يبدو متباينا مع نظرة الفقه الإسلامي للموضع في نطاق الكفالة بالأمر التي يرجع فيها الكفيل بما يدفع على من أمره بذلك تمام كما يرجع الوكيل، لأن الكفالة بالأمر ما هي إلا وكالة بالأداء. وهذا التكييف على أساس الوكالة هو الذي يمكن أن يفتح المجال للقول باستحقاق المصرف الأجر على قيامه بما وكل به، حيث أن الوكالة يمكن أن تكون بأجر فتأخذ أحكام الإجارة، وذلك على عكس ما لو بقيت كفالة بمعنى الضمان، حيث لا توجد آراء فقهية تؤيد حق الضامن بأخذ الأجر، إلا ما قال به الإمامية من جواز أخذ الأجر فيها على أساس الجعالة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 953 ثانيًا: القبول المصرفي: 1- الوصف والتعريف: يعتبر القبول المصرفي صورة أخرى من صور اقراض الثقة التي تقوم بها المصارف –في معرض التوسط – بين العميل وطرف آخر. وكان منشأ هذا النوع من العمل المصرفي في انجلترا، وبقي على صيغته الإقليمية، حيث وجدت بيوت مالية متخصصة للقيام بهذا النوع من العمليات تسمى بيوت القبول. وقد أخذت هذه العملية إطارها التنظيمي في عهد سيطرة انجلترا على التجارة العالمية وما رافق ذلك من ذيوع شهرة التجار الإنجليز الكبار. فكان من نتيجة ذلك أن أخذ صغار التجار يلجأون لذوي الأسماء الشهيرة لكى يستفيد الأولون من وجود الاسم المعروف على السند المحرر منهم لصالح المصدر الخارجي. وهكذا أصبح هؤلاء التجار من ذوي الأسماء اللامعة يقومون بأعمال القبول هذه لقاء عمولة معينة، ثم تطور عملهم إلى مهنة مخصصة لمنح ما يعرف باعتمادات القبول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 954 وتقوم بهذا النوع من العمل في انجلترا –بصفة رئيسية- المصارف المعروفة باسم مصارف التجار (MERCHANT BANKS) . والتي يقوم عملها الأساسي على تمويل التجارة الخارجية عن طريق قبول السحوبات التجارية لصالح عملائها. فالقبول المصرفي – اذن – هو عبارة عن قيام البنك بدور المسحوب عليه، (فيقبل بهذه الصفة الكمبيالة التي يسحبها عليه عميلة أو الطرف الآخر الذي يتعامل مع العميل) . والغاية من هذا التوقيع بالقبول هي إعطاء الكمبيالة المقبولة من المصرف قوة ائتمانية تجعل من السهل تداولها أو خصمها لدى بنك آخر. ومتى قام المصرف القابل بدفع قيمة الكمبيالة المقبولة منه فإنه يقيد قيمتها في الجانب المدين من حساب العميل لديه حيث يرجع عليه بما أدى عنه من قيمة الاعتماد. 2- تكييف العلاقة: ويتبين من هذا أن دور المصرف في القبول هو القيام بدور الوسيط، وهو ينفذ هذا الدور بناء على طلب المعتمد له (عميل المصرف القابل) ولصالح هذا العميل وعلى مسؤوليته. ولذا فإن أقرب تكييف ممكن التطبيق على هذه العملية هو أنها توكيل مأمور به لقبول الكمبيالة المسحوبة نيابة عن العميل ذي العلاقة وعلى مسؤليته وبذلك يكون القبول المصرفي متشابها مع حالة خطاب الضمان بالنسبة لعلاقة العميل بالمصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 955 ثالثًا: الاعتماد المستندي: 1- دوره وتعريفه: يمثل الاعتماد المستند الوسيلة الحديثة للتعامل التجاري الدولي التي يمكن عن طريقها حفظ مصلحة كل من المستورد والمصدر، على حد سواء. وقد ساعدت المصارف – بحكم علاقاتها الدولية وفروعها المنتشرة في مختلف البلاد – على ترسيخ قواعد التعامل العالمي بهذا الأسلوب الذي بات ميسرا وشبه مستقر من الناحية العرفية على الأقل، حيث لا يوجد للاعتماد المستندي تنظيم تشريعي إلا القواعد التي وضعتها غرفة التجارة الدولية، والتي يجري التعامل على أساسها بالنص عليها في كتب فتح الاعتمادات المستندية المتبادلة بين المصارف. ويعرف الاعتماد المستندى –بحسب ما اختاره الأستاذ الدكتور على جمال الدين كما هو وارد في المادة (1) من المشروع الفرنسى –بأنه: (الاعتماد الذي يفتحه البنك بناء على طلب شخص يسمى الآمر، أيا كانت طريقة تنفيذه –أي سواء كان بقبول الكمبيالة أو بالوفاء- لصالح عميل لهذا الآمر، ومضمون بحيازة المستندات الممثلة لبضاعة في الطريق أو معدة للإرسال) . وقيل في تعريف الاعتماد المستندى أيضا بأنه: (تعهد يلتزم فيه المصرف بالوفاء (أو بالقبول) بالنسبة للسحوبات التي يقدمها المستفيد في الاعتماد المستندي طبقا للشروط الواردة فيه) . وإن ما يكشف عنه هذان التعريفان أو ما يشابههما من هذه الناحية، هو أن الاعتماد المستندى يمثل حلقة وصل مثلثة العلاقات، يقوم فيها المصرف بدور الوسيط الموثوق منفذا تعليمات عميله، وملتزما – عن طريق المصرف المراسل- تجاه المستفيد الذي يكون أيضا له علاقة بفاتح الاعتماد من البداية، وإن كانت علاقتهما خارجة عن نطاق دور المصرف في الاعتماد المفتوح بواسطته. وما يهمنا بحثه من هذه العلاقات الثلاث هو التكييف القانوني لعلاقة فاتح الاعتماد بمصرفه على نحو ما سرنا عليه فيما سبق من أعمال من هذا القبيل في هذا النوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 956 2- تكييف العلاقة: طرح القانونيون – وهم بصدد البحث عن طبيعة عقد الاعتماد المستندي – عدة نظريات حاولوا تطبيقها على الاعتماد المستندي، فكانت النتيجة ظهور عجز كل نظرية عن الإحاطة بمفردها بجوانب العلاقات المتشعبة في هذا التعاقد الفريد. فقيل بأن العقد يقوم على نظرية الوكالة، وقيل بل الاشتراط لمصلحة الغير. وذهبت بعض القرارات القضائية إلى تفسير الاعتماد المستندي بنظرية الكفالة. كما اقترح أيضا تفسير العملية وفقا لفكرة الإنابة أو تقابل الإرادات بطريق التوسط أو فكرة الإرادة المنفردة. ويلاحظ أن سبب القصور في كل نظرية أو فكرة من الأفكار المطروحة إنما يكمن في محاولة جعل هذه النظرية أو تلك صالحة للتوفيق بين العلاقات المختلفة التي تتلاقى في العلاقات مختلفة الهوية والألوان والغايات. فالاعتماد المستندي يأخذ من كل نظرية بطرف، فهو –كما يقول الأستاذ الدكتور رزق الله أنطاكي – في بيان ذلك: (أ) يأخذ من الوكالة مبدأ التزام الموكل –طلب الاعتماد – بتسديد ما دفعه الوكيل، المصرف، بناء على طلبه، مع العمولة المتفق عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 957 (ب) ويأخذ من الاشتراط لمصلحة الغير، نشوء الحق المباشر لصالح المستفيد من تاريخ الاتفاق الجاري بين طالب الاعتماد والمصرف. (ج) ويأخذ من الإنابة عدم الاحتجاج بالدفوع التي كان يتمتع بها المناب لديه تجاه المنيب. (د) وهو يأخذ أخيرًا من نظرية الالتزام المجرد استقلال التزام المصرف عن عقد البيع الذي كان سببا له. وإن ما يهمنا من ذلك كله هو الجانب الذي يصلح لتكييف علاقة فاتح الاعتماد مع مصرفه –باعتبار أن هذه العلاقة هي مدار الكلام المتعلق بالبحث – ومن الواضح أن أقرب النظريات والأفكار المطروحة لحكم هذه العلاقة هي نظرية الوكالة. فالمصرف بالنسبة لفاتح الاعتماد هو كالوكيل بالنسبة لموكله –فيما يقوم به ويرجع فيه، وإن كانت هذه الوكالة –نظرا لتعلقها بحق الغير (وهو المستفيد) تصبح غير قابلة للنقض إلا بموافقة المستفيد. وهكذا يتبين أن نظرية الوكالة تصلح –في حدود علاقة العميل بالمصرف- أن تكون حاكمة للعلاقة القائمة بين الطرفين، سواء في خطاب الضمان أو القبول أو الاعتماد المستندي، وأن المصرف – بتقاضيه الأجر على ما يقوم به – إنما هو في حكم الأجير. ولكن ما سنبينه عند الكلام عن الربا في عوائد الإقراض المصرفي العرضى في المطلب التالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 958 جواز أخذ الأجر أو العمولة في مقابل خطاب الضمان لفضيلة الشيخ / أحمد على عبد الله أيا كان تكييف خطاب الضمان فلا اختلاف بين المعاصرين في جواز أخذ العمولة على إصدار خطابات الضمان باعتبارها خدمة من الخدمات المصرفية التي يؤديها البنك – كما يؤدى غيرها – ويأخذ في مقابلها أجرا مسمى. وليس في هذه المسألة خلاف، بل هي من البداهة بحيث لا تحتاج إلى بحث. الأجر على الضمان نفسه: أما جواز أخذ قدر زائد من الأجر على مصروفات الضمان الأصلية أي أجر في مقابل تقديم الضمان كخدمة من قبل الضامن – فهو محل الخلاف الكبير بين الفقهاء المعاصرين. وسنوجز في الأسطر التالية النظرية السائدة حتى الآن ثم نتبعها بنتائج هذا البحث. لقد أصبح من المعلوم الآن أن خطاب الضمان ما هو إلا نوع من أنواع الضمان أو الكفالة بالمال. وهو يقضي بتحمل الضامن للالتزام المضمون به أو أي جزء منه في حالة عجز المضمون عن سداده في وقته وبناء على شروطه. وجمهور الفقهاء-بل هناك من يقول بالإجماع – ينصون على أن الضمان يجب أن يكو محض معروف. وبما أنه تبرع فلا يجوز أن يأخذ الضامن عليه أجرًا. حكى الحطاب: عن الأبهري قال: لا يجوز ضمان بجعل لأن الضمان معروف وفعل خيركما لا يجوز على صوم ولا صلاة لأن طريقها ليس لكسب الدنيا. وقال مالك: لا خير في الحمالة بجعل (1) والحمالة هي الكفالة والضمان. حكى ابن عرفة عن اللخمى: الضمان بجعل لا يجوز – ابن القطان عن صاحب الاسناد (2) . وقال الدردير: (وأما صريح ضمان يجعل فلا خلاف في منعه لأن الشارع جعل الضمان والجاه والقرض لا تفعل إلا لله تعالى فأخذ العوض عليها سحت (3) .   (1) مواهب الجليل 5/111. (2) مواهب الجليل ص 113. (3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقى) 3/ 77 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 959 وحكى الطبري: (ولو كفل رجل على رجل بمال عليه لرجل على جعل جعله له المكفول عليه فالضمان على ذلك باطل. ولا يلزم الضامن للمضمون له شيء أن كان ضمن له ما ضمن على شرط جعل الذي عليه المال أو على المضمون له … ) (وهكذا قول أبي حنفية وأصحابه) (1) . والنصوص ناطقة بعدم جواز أخذ الأجر على الضمان. وبما أن خطابات الضمان نوع من الضمان والكفالة، فينطبق عليها الحكم وبالتالى لا يجوز أخذ اجر على الضمان باعتباره ضمانا. خطابات الضمان بغطاء كلى أو جزئى: إن خطاب الضمان قد يكون بغطاء أو بغير غطاء وأن الذي بغطاء قد يكون غطاؤه كليا أو جزئيا. وعليه فقد كيّف الفقهاء المعاصرون خطابات الضمان ذات الغطاء الكلي أو الجزئي بأن فيها جمعا بين الكفالة والوكالة. فهي كفالة باعتبار أصلها، وهي وكالة لأن المضمون قد دفع قيمة الضمان كليا أو جزئيا. فأصبح الضامن وكيلًا عنه في العلاقة التي تحكم المضمون بالمضمون له. إذ من خلاله سيفي المضمون بالتزاماته. وبما أن هذه العلاقة تضمّنت الوكالة والكفالة في أن واحد ومعلوم أن الكفالة لا يصح أن يؤخذ عليها أجر. اما الوكالة فيجوز أخذ الأجر عليها. وعليه يجوز أخذ الأجر على خطابات الضمان بغطاء. يقول ابن قدامه: ويجوز التوكيل بجعل وغير جعل فإن النبي صلى الله عليه وسلم وكّل أنيسا في إقامة الحد وعروة في شراء شاة وعمرا وابا رافع في قبول النكاح بغير جعل. وكان يبعث عماله لقبض الصدقات ويجعل لهم عمالة (2) . ويقول ابن جزى: تجوز الوكالة بأجرة وبغير أجرة، فإن كانت باجرة فحكمها حكم الإجارات، وإن كانت بغير أجر فهو معروف من الوكيل (3) . وبما أنه يجوز من الناحية الشرعية أخذ الأجر على الوكالة فكذلك يجوز أخذ الأجر على الضمان إذا كان بغطاء جزئى أو كلى.   (1) اختلاف الفقهاء لمحمد بن جرير الطبري ص 9. (2) المغنى 5/210- 211 (3) قوانين الأحكام الشرعية 345 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 960 وأعنى بالأجر هنا الأجر الزائد على مجرد المصروفات البنكية كما أوضحت سابقا. ولذلك نصّت فتوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي على الآتى: - (لا يجوز للبنك أن يأخذ أجرًا في الحالة التي يكون فيها خطاب الضمان بغير غطاء إذا كان هذا الأجر نظير خطاب الضمان لأنه يكون قد أخذ أجرًا على الكفالة وهو ممنوع لأن الكفالة من عقود التبرعات. قال الحطاب: ولا خلاف في منع ضمان بجعل لأن الشرع جعل الضمان والقرض والجاه لا يفعل إلا لله بغير عوض فأخذ العوض عليه سحت وعلّل ابن عابدين بأن الكفيل مقرض في حق المطلوب وإذا شرط له الجعل مع ضمان المثل فقد شرط له الزيادة على ما أقرضه فهو باطل لأنه ربا) (1) . وجاء في الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية: وبالنظر إلى هذا النوع من التعامل المصرفي – أي خطابات الضمان- وغحالته للعقود الشرعية الواردة في كتب الفقه فإنه يمكن رده إلى نوعين من العقود التي طرقها الفقهاء هما الكفالة والوكالة. وأخذ الأجرة على الوكالة جائز في الشريعة الإسلامية. (2) . وهذا يعنى أن الضمان إذا كان بغطاء كلى أو جزئى يجوز أخذ الأجر عليه أما إذا كان بغير غطاء فلا يجوز عند هؤلاء.   (1) الفتاوى الشرعية (2) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية المجلد الأول الجزء الشرعى 485 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 961 المذهب الثانى: هناك من يرىجواز أخذ الأجر على الضمان نفسه سواء كان بغطاء أو بغير غطاء. وينقسم هؤلاء إلى فريقين: - (أ) فريق يرى أخذ الأجر على الكفالة بناء على أن بعض الفقهاء أجاز أخذ الأجر في مقابل الضمان الذي يترتب عليه استخدام الضامن جهدا ولو قل. تبنّت هذا الرأي ودافعت عته الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية حيث جاء فيها: - (أما إذا قلنا بجواز أخذ الأجرة على الكفالة فإن هناك من العلماء من يجيز أخذ الأجر مقابل الضمان ما دام الضمان يترتب عليه استخدام جهد ولو كان ذلك الجهد مجرد مشى أو حركة. والضمان شقيق الجاه فإن تطور الحياة الاقتصادية أدى إلى اجتهاد بعض الفقهاء في جواز أخذ الأجر مقابل الضمان. فقد ذكر الهيثمى أن المحبوس ظلما إذا قال لمن يقدر على خلاصه: أن خلصتني فلك كذا، بشرط أن يكون في ذلك كلفة تقابل بأجرة عرفا) . وفي حاشية الشرواني: أفتى المصنف بأنها جعالة مباحة وأخذ عوضها حلال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 962 ونقل النووي قول القفّال في الفتاوى: فيمن أراد استئجاره للخروج إلى بلد السلطان والتظلم للمستأجر وعرض حاله في المظالم. فقال: يستأجره من كذا ليخرج إلى موضوع كذا ويذكر حاله في المظالم ويسعى في أمره عند من يحتاج إليه فتصح الإجارة لأن المدة معلومة وإن كان في العمل جهالة. وقد روي عن الشافعي أنه قال: ليس من الرشوة بذل مال لمن يتكلم مع السلطان مثلا في جائز فإن هذا جعالة جائزة. وفي حاشية الدسوقى: قال أبو على المسناوي: محل منع الأخذ على الجاه إذا كان الإنسان يمنع غيره بجاهه من غير مشي ولا حركة وأن قول المصنف (وذي الجاه) مقيد بذلك أي من حيث جاهه فقط كما إذا احترم زيد مثلًا بذي جاه ومنع من أجل احترامه، فهذا لا يحل له الأخذ من زيد. ولذا قال ابن عرفة: يجوز دفع الصنيعة لذي جاه في حالة الضرورة أن كان يحمي بسلاحه فإن كان يحمي بجاهه فلا، لأنها ثمن الجاه وبيانه أن ثمن الجاه إنما حرم لأنه من باب الأخذ على الواجب ولا يجوز على الإنسان أن يذهب مع كل واحد. وفي المعيار: سئل أبو عبد الله القوري عن ثمن الجاه فأجاب بما نصه: اختلف علماؤنا في حكم ثمن الجاه. فمن قائل بالتحريم باطلاق، ومن قائل بالكراهة باطلاق، ومن مفصل فيه. وأنه إن كان ذو الجاه يحتاج إلى نفقة أو مشقة أو مسعى فأخذ أجر مثله فذلك جائز، وإلا حرم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 963 ومثل ذلك عن ابن عبد الله العبدوسي عمن يحرس الناس في المواضع المخيفة ويأخذ منهم على ذلك فأجاب: ذلك جائز بشرط أن يكون له جاه قوي. وقد صح الحديث عن أخذ الجعل على رقية من القرآن. قال ابن تيمية: ولا بأس بجواز أخذ الأجر، على الرقية، نص عليه أحمد. فإذا كان يصح أخذ الجعل على الرقية من كتاب الله. وصاحب الرقية لا يبذل جهدًا كبيرًا. فلماذا لا يجوز أخذ الأجر في عملية خطاب الضمان الذي يترتب عليه جهد وعمل … (1) . وبالرجوع لهذه النصوص والنقول اتضح أنها صحيحة. أما أنها تدل على جواز أخذ الأجر على الضمان كما أراد لها مؤلفو الموسوعة أم لا فذلك ما سنأتى له بعد قليل. (ب) والفريق الثاني يرى جواز أخذ الأجر على الضمان باعتبار أن التعهد الذي يشتمل عليه خطاب الضمان يعزز قيمة التزامات العميل المضمون وبذلك يكون خطاب الضمان عملا محترما يصح أخذ أجر أو عمولة أو جعل عليه. تبنى هذا الرأي محمد باقر الصدر ويبسطه كالآتى: - (ولما كان تعهد البنك وضمانه للشرط يطلب من الشخص المقاول فيكون الشخص المقاول ضامنا لما يخسره البنك نتيجة لتعهده. فيحق للبنك أن يطالبه بقيمة ما دفعه إلى الجهة التي وجه خطاب الضمان لفائدتها، ويصبح للبنك الحق في أن يأخذ عمولة على خطاب الضمان هذا، لأن التعهد الذي يشتمل عليه هذا الخطاب يعزز قيمة التزامات الشخص المقاول. وبذلك يكون عملا محترما يمكن فرض جعالة عليه أو عمولة من قبل ذلك الشخص) (2) . هذا ملخص ما جاء في جواز أو عدم جواز أخذ أجر على الضمان عمومًا وخطابات الضمان على وجه الخصوص.   (1) الموسوعة 5/ 488 وما بعدها (2) البنك اللا ربوي في الإسلام ص 131 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 964 مناقشة حجج المانعين للعوض دعوى أن الضمان محض معروف: أسست فكرة عدم أخذ الأجر على الضمان أو الكفالة على أن الضمان أو الكفالة محض تبرع ومعروف، ولذلك لا يجوز أخذ الأجر عليه. وهذه الدعوى أصبحت من المسلمات الفقهية، ويبدو لى أنها في واقع الأمر ليست كذلك. وأنها حجة ليست بقاطعة في موضوعها ولا قوية في مضمونها. (أ) فمثلا قاس البهري الكفالة على الصلاة والصوم في عدم أخذ الأجر على كل. وصحيح أن الصلاة والصوم واجبان على العهد. المكلف يؤديهما لله سبحانه وتعالى. وهو واجب يثاب العبد على أدائه ويعاقب في الدنيا والآخرة على تقصيره كما هو معلوم. فالصلاة والصوم واجبان على كل مكلف، فلا أدري ما هو وجه الشبه وما هي العلة أو الحكمة المشتركة حتى نعطيهما حكما واحدا. بل الظاهر أن بينهما قياسا عكسيا لا طرديا وعليه فإذا منع الأجر في الصلاة والصوم لأنهما واجب فينبغى أن يجوز في الضمان لأنه غير واجب على الإنسان. فقد يحتاج المضمون إلى هذا الجعل (الضمان) ولا يجد من يتبرع له فيستأجر عليه لئلا تفوت منفعته ومصلحته. وفي عبارة الدسوقى في الموسوعة ما يفيد أن الجاه وبالتالى الضمان واجب وبذلك يمكن قياسه هنا على الصلاة والصوم. ولكنه سرعان ما نفي ذلك بقوله: (وبيانه أن ثمن الجاه إنما حرم لأنه من باب الأخذ على الواجب ولا يجب على الإنسان أن يذهب مع كل أحد) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 965 هذا، ومع التسليم بان الأصل في الصلاة والصوم أن تؤدى كواجب إلا أنه يجوز تشجيع الإنسان على الصلاة والصوم بالنفع المادي فذلك غير محرم بل قد يكون مندوبا إليه، ولكن من حيث الأصل لا يجوز أخذ العوض المادي لها. (ب) ومن ناحية أخرى يقول الدردير: إن الشارع جعل الضمان والجاه والقرض لا تفعل إلا لله تعالى، فأخذ العوض عليها سحت. ومعلوم أن الشارع قد جعل القرض تبرعا لا يفعل إلا لله، وأنه منع أخذ الجر عليه وجعل ذلك ربا. وكان كل قرض جرّ منفعة فهو ربا. فالعبارة صحيحة بالنسبة لكل من جوز ولكن الفقيه أعلم ما لم يرد نص شرعى يحرم العوض في الضمان أو الجاه. بل أن جمهور الفقهاء يجوزون أخذ العوض المادي وغيره في كثير من أوجه التبرع وحتى في أخصها كالهبة. الهبة: الهبة هي أساس عقود التبرعات. ولكن أجاز الجمهور فيها العوض وهو ما يعرف بهبة الثواب. يقول ابن رشد: وأما هبة الثواب فاختلفوا فيها أجازها مالك وأبو حنيفة ومنعها الشافعي.. (1) ويقول ابن جزي في أنواع الهبة: والثالث هبة الثواب على أن يكافئه الموهوب له وهي جائزة خلافا للشافعي. (2) قال الحصكفي: الهبة شرعا (تمليك العين مجانا) أو بلا عوض لأن عدم العوض شرط فيه. قال ابن عابدين: هي كائن بلا شرط عوض على أن معنى العوض فيها غير شرط بخلاف البيع والإجارة (3) .   (1) بداية المجتهد 2/ 284 (2) قوانين الأحكام الشرعية 386 (3) حاشية ابن عابدين 5/ 687 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 966 فالأصل في الهبة أن تكون تبرعا ومعروفا ومجانا ولكن يجوز فيها فوق ذلك عند الجمهور أن تكون بعوض مادي. فإذا صح ذلك في الهبة وهي أصل تصرفات التبرع ففيما سواها ينبغى أن يكون أجوز. الوكالة: إن التصرف الواحد قد يكون من عقود المفاوضات وعقود التبرعات في آن واحد. والوكالة أوضح مثال لهذه الازدواجية. قال ابن جزي: تجوز الوكالة بأجرة وبغير أجرة فإن كانت بأجرة فحكمها حكم الاجارات. وإن كانت بغير أجرة فهو معروف من الوكيل (1) . ولقد سبقت عبارة ابن قدامة في هذا المعنى حيث بينت أن الوكالة تجوز بأجر وبغير أجر. واحسب أن الضمان يمكن أن يكون من هذا القبيل هو الأصل فيها أن تكون تبرعا.. ولكنها ليست بواجب على أحد. فإذا اشترى مؤديها عوضا لها جاز له ذلك دون تأثير على أنها في الأصل تبرع كالهبة. وبذلك يتضح لنا جليا أن الحكم على عدم جواز الأجر على الضمان باعتباره عقدا من عقود التبرعات حكم لا يسنده دليل. إذ اتضح أن كون العقد أو التصرف من قبيل التبرع لا ينفي عنه العوض. كل ما هناك أن العوض فيه ليس بشرط. كما يقول ابن عابدين. ولكن إذا شرط العوض فيه جاز. وينبغى أن ننبه إلى أن معظم التصرفات السائدة في مجتمعنا اليوم باعتباره من قبيل التبرعات وتعتبر من وجوه التكافل في المجتمع المسلم كالمساعدات في الأفراح بأنواعها والأتراح بأنواعها إنما هي مبنية على معنى هبة الثواب – أي تبرعات بعوض وصحيح أن العوض ليس مشروطا فيها ولكنه معروف عرفا مستقرا. ونحن نعلم أن المعروف عرفا كالمشروط شرطا.   (1) قوانين الأحكام الشرعية 344- 345 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 967 فأرجو أن أكون قد وفقت إلى تبيان أن كون الضمان من عقود التبرعات لا ينافي – استنادا إلى أي نص تشريعي أو معنى فقهي – أخذ العوض أو الأجر عليه. أخذ الأجر: سلف جر منفعة: علل ابن عابدين – في عبارته السابقة ضمن فتوى بنك فيصل – عدم جواز الأجر على الضمان بأن الضامن مقرض للمضمون. فإذا شرط له الجعل مع ضمان المثل فقد شرط له زيادة على ما أقرضه وهو ربا. ونقول ردا على ذلك أن الضمان ليس بقرض. ولا أحسب أن أحدا عدّ الضمان وجها من وجوه القرض. والضمان كما هو معروف عن المالكية- وهو المعنى المتمشى مع مفهوم خطابات الضمان والمتمشى أيضا مع القانون السوداني – وهو التزام بالوفاء بما في ذمّة المضمون: - 1- عند حلول أجل الالتزام أو ما في حكمه. 2- وعند عجز المضمون عن الأداء. والقرض بالمقابل لا ينعقد مضافا إلى زمن ولا معلقا على شرط كما هو الشأن في الضمان. صحيح أنه إذا حلّ الأجل وعجز المضمون عن الأداء كان للمضمون الحق في أن يطالبه بالأداء. فإذا طالبه وأدى، فإنما يؤدى ما عليه من التزام مباشر تجاه المضمون له دون وساطة المضمون. ويجب عليه أن يفي بهذا الالتزام حتى وإن تحقق عسر المضمون أو موته. فإذا قلنا إنه قرض فهو غير مختار في إقراضه وقت الأداء، وإذا قلنا إنه قرض فهو غير مقرض للمضمون الذي توفي وليس في تركته وفاء. وكل هذه المعانى تنافي معنى القرض ابتداء وانتهاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 968 ومع ذلك فللضامن –إذا أدى الالتزام بناء على عقد الضمان – الرجوع على المضمون إذا كان ذلك ممكنا. ولكنه رجوع نشأ عن تنفيذ الالتزام السابق ولم ينشأ عن قرض بين الضامن والمضمون. وفي الختام نقول أن عقد الضمان عقد اسيثاق وليس عقد قرض. فإنه وإن شابه القرض في وجه فقد خالفه في وجوه كثيرة. ثم أن الأصل في عقود الاستيثاق توقع وفاء المضمون وأن الاستثناء هو تنفيذ الالتزام على عقد الاستيثاق. والحكم يبنى على الغالب لا على الاستثناء. وعليه، فإن أخذ الأجر على الضمان لا يدخل تحت محظورات كل قرض جر منفعة فهو ربا لأن الضمان ليس بقرض. ومع ذلك فقد يصح هذا القياس وتثار الشبهة لو طلب الضامن العوض أو الأجر عند وفائه بالتزام الضمان. أما اشتراط العوض ابتداء فليس من القرض في شيء كما قدمنا. هذه ثلاث حجج اعتمد عليها الفقهاء في حكمهم بعدم جواز أخذ الأجر على الكفالة. واتضح لنا أن هذه الحجج لا تقوى دليلا على ذلكم الحكم. فما الذي دفع الفقهاء إلى الانقياد والتسلم بذلك. في تقديري أن الذي قادهم لذلك ودفعهم إلى التسليم به هو العرف العملي. فالمعاملات كانت بسيطة وتتم في أسواق محصورة وبين الناس يعرف بعضهم بعضا، ولم تتسع المعاملات وتتعقد بالصورة التي عليها اليوم من حيث حجم العمل ومن حيث المدى الجغرافي بحيث يضطر الإنسان إلى أن يتعامل مع أشخاص ومؤسسات في الداخل والخارج وهو لا يعرفهم. بل يتم التعامل عن طريق المراسلات في كثير من الأحيان. وحتى الوكالة فيبدو أن العرف فيها كان يجرى على اعتبارها عقد تبرع ثم لما تطورت أعراف الناس تجاريا بدأت تدخل الوكالة بأجر شيئا فشيئا حتى أضحت اليوم أمرًا عاديًا وأن الوكالة بأجر صارت هي الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 969 وهو نفس العرف الذي لم يكن الناس يسوّقون به أخذ الأجر على تعليم القرآن وعلوم الشريعة فلما انقطع الناس لذلك وأصبحت لهم مهنة أجازوه دون أدنى حرج. وهو نفس العرف الذي دفع الحنفية إلى عدم اعتبار المنفعة مالا وخالفهم في ذلك الجمهور. وما الضمان إلا واحد من هذه التصرفات التي مشى فيها الفقه بناء على العرف. وحيث أن العرف قد تبدّل اليوم كثيرًا فلا مناص من النظر في امر الضمان لاستنباط الحكم الذي يلائم حاجة ومصلحة الجماعة المسلمة. ومما يدل على أن الحكم بعدم جواز أخذ الأجر على الضمان لم يكن صحيحا على إطلاق ما ثبت من بعض الفقهاء جوّزوا صورا من أخذ الأجر على الضمان تمشيامع تبريرات التعامل التي واجهتهم من ذلك مثلا: في الخطاب: 1- وفي التوضيح إذا كان رب الدين أعطى المديان شيئا على أن يعطى جميلًا فأجازه مالك وابن القاسم وأشهب وغيرهم. وعن اشهب في العتبية أنه لا يصح وعنه أيضا أنه كرَهه. وقال اللخمى وغير الجواز بين (1) . 2- وقال ابن غازى أن الجعل لو كان من رب الدين للمديان لصح فأحرى إذا كان من غيره (2) . 3- ولابن القاسم في العتبية لا بأس أن نقول: خذ هذه العشرة دنانير وأعطنى بما عليك حميلا ورهنا وعلى أحد أقوال مالك لا يجوز (3) . 4- ولمحمد عن أشهب: من له على رجل عشرة دنانير لأجل فاسقط عنه قبل الأجل دينارين على أن يعطيه بالباقى رهنا أو حميلا فلا بأس به. وقال ابن القاسم لا يجوزه اللخمي لأن أخذه الحميل خوف عسر الغريم عند الأجل فيجب تأخيره فأخذه الحميل بما ضع مثل: ضع وتعجل (4) . هذه النصوص تفيد بصورة أو أخرى أنه يجوز للغريم أي المدين أن يأخذ عوضا أو أجرا من الدائن على أن يقوم هذا الغريم بتقديم كفيل أو ضامن بالدين الذي عليه، طبعا على اختلاف بينهم على هذا الجواز وعدمه، وعلى اختلاف بين المجيزين في درجة جوازه. فلم جوّزوا العوض للغريم والضمان في تقديرهم ما زال من عقود التبرع. ولم جوزوه للغريم ولم يجّوزوه في حق الضامن الذي يتولى المسؤولية؟ أحسب أنهم أحسوا بالحاجة للضامن. ولم يروا أن يصادموا الحكم العام بعدم جواز الأجر على الضمان، فجعلوا العوض للمدين مع أن الدائن يستفيد من ضمان الضامن لا من المدين. فهو عندما دفع يريد أن يستوثق لحقه ويحصل على هذا الاستيثاق بتحرير الضمان لصالحه، فما يسعى له ويشتريه هو الضمان وهو المقابل لما دفعه من أجر. وليس هو شيئا عند المدين، لأنه لو رضي بالمدين فلا حاجة له بدفع العوض لأن الحق متعلق بذمته ابتداء.   (1) مواهب الجليل 5/ 112 (2) 5/113مواهب الجليل (3) مواهب الجليل 5/113 (4) مواهب الجليل 5/113 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 970 وأظن أن إدخال عملية الوكالة هنا – وعلى فرض وجودها – مجرد حيلة لتجويز الأجر على الضمان. فإذا رأي الفقهاء أن هناك مقتضى لأخذ الأجر على الضمان فالأصلح أن يقرره مباشرة لا أن يتحيّلوا عليه بفرض ألا يطرد في حين أن الحاجة إلى العوض قد تطرد وبفرض الا يكون جزءا من الضمان. 5- ولمحمد عن مالك وابن القاسم وأشهب وغيرهم: من قال لرجل ضع من دينك عند فلان وأتحمل لك بباقيه لأجل آخر، لا باس به لأن له اخذه بحقه حالًا. وروى أشهب عنه جوازه وكراهته. وقال مالك في العتبية: لا يصح كمن قال: أعطني عشرة دراهم وأتحمل لك، فالحمالة على هذا حرام والأول أبين (1) . وها هنا يقول الضامن لصاحب الدين: ضع من دينك عن فلان وسأتحمل لك بباقيه إلى أجل آخر. فذلك لا باس به. ولكنه كالأمثلة الأولى فالمنفعة فيه وإن كانت مشروطة من قبل الضامن إلا أنها تذهب لصالح المضمون. وكل هذه الأمثال فيها أجر على الضمان ولكنه بدلا من أن يتحرك من المضمون للضامن من تحرك العوض من المضمون له إلى المضمون. وفيها شراء من قبل رب الدين للضامن بعوض فإذا جاز ذلك هنا وفيها ضيعة من الدين في مقابل الضمان فلم لا تجوز هناك يا ترى؟   (1) مواهب الجليل 5/ 133 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 971 أخذ الأجر مع الغطاء ومنعه مع عدم الغطاء: ذهب بعض المجتهدين – كما رأينا في الموسوعة وفتوى بنك فيصل السوداني –إلى جواز أخذ الأجر على الضمان إذا كان خطاب الضمان مغطى بغطاء كليث أو جزئي. ومنعوا أن يؤخذ على خطاب الضمان أجر إذا لم يكن ثمّة غطاء. وبنوا ذلك - كما قدمنا – على أساس أن خطاب الضمان إذا بغطاء فإنه يشتمل على ضمان ووكالة، ويجوز الأجر على الوكالة ولذلك يجوز الأجر على خطاب الضمان في الجملة. هذا الحكم يفيد أن العميل الذي يطلب خطاب ضمان من بنك التضامن مثلا لالتزامه تجاه بيت التمويل الكويتى في حدود مليون دولار لمدة ستة أشهر – يفيد أن هذا العميل يمكن أن يدفع أجرًا على خطب الضمان إذا كان الخطاب بغطاء كامل أو كان بغطاء جزئي. بمعنى أنه عندما يدفع للبنك كل قيمة الضمان أو جزءا منها – فتبقى عند البنك ويستفيد منها حتى يحل من أجلها – عند ذلك يجوز لهذا البنك أن يأخذ أجرا والحال أنه ليس ثمّة خطرعليه في حالة الغطاء الكامل، وقل خطره في حالة دفع الجزء. وعندما لا يدفع شيئًا فيزداد خطره يحرم من أخذ الأجر. فلماذا هذه التفرقة غير المنطقية؟ قيل لأنه عندما يدفع قيمة الضمان أو جزءا منها يكون وكيلًا ويجوز الأجر على الوكالة. ومهما يكن من أمر فإن الوكالة ليست شرطا في عملية الضمان. فإذا وردت تبعا ومصاحبة للضامن فيصح أخذ الأجر عليها باعتبارها وكالة منفصلة عن الضمان. ولا يعد أجرها أجرًا للضمان. ولكن سيظل وكيلًا في بعض حالات عقد الضمان، وخاصة في خطابات الضمان، لأن دفع الأقساط كثيرًا ما يتم عن طريق الجهة الضامنة وهي تقوم بذلك عن طريق الوكالة عندما يدفع لها المضمون قسطًا كما هو الحال عند دفع القسط مقدما. فليس ثمّة تفرقة بين الحالين. ففي كليهما يكون البنك – الضامن – وسيطا يتم من خلاله تنفيذ الالتزام. فإذا جاز الأجر في الأول كان جائزًا في الثاني، وعليه فلا أرى ثمة تفرقة حقيقية بين الصورتين حتى يجوز الأجر في الأولى ولا يجوز في الثانية. بل عن جوازه في الأولى ينافي كل منطق. بذلك تنتفي – في تقديرى – كل الحجج التي اعتمد عليها المانعون لأخذ الأجر على خطابات الضمان. فماذا عن حجج المجوّزين؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 972 الذين بنوا جواز أخذ الأجر بناء على جوازه في الجاه: النصوص العامة في الفقه الإسلامي تفيد أنه لا يجوز أخذ الأجر على الجاه والضمان. ولكن فريقا من الفقهاء المعاصرين قالوا بجواز أخذ الأجر على الجاه بناء على أقوال لبعض الفقهاء المتقدمين كما قدمنا. غير أن أقوال المتقدمين تتحدث عن جواز الأجر على الجاه بشروط. فهل أولًا الضمان كالجاه – كما قالوا: أن الضمان شقيق الجاه؟ وأحسب أن القياس صحيح. فالضمان والجاه يتمخضان عن معنى واحد. فالشخص الذي يتحلى بسمعة طيبة مبنية على درجة وفائه بإلتزاماته هو الذي يقبل ضامنًا. وبذلك يكون له وجه مقدّر عند الآخرين فيقبلون كلمته. فالجاه والضمان إذن بمعنى واحد. ولكن معظم النصوص التي أوردها أصحاب هذا الرأي لا تسند حجتهم فكلها تتحدث عن عمل مادي، إما عمل معلوم فيكون إجارة أو عمل مجهول فتكون جعالة بل فيها نفي للأجر على الوجاهة إلا إذا ارتبط به عمل. فيكون الأجر إذن للعمل لا للوجاهة. وعليه فإن النصوص المستدل بها لا توصل إلى جواز أخذ الأجر على الوجاهة ومن ثّم على الضمان. ونأخذ هنا المثل العام على ما قررنا: جاء في حاشية الدسوقي: وفي المعيار سئل أبو عبد الله القوري عن ثمة الجاه فأجاب بما نصه اختلف علماؤنا في حكم ثمن الجاه فمن قائل بالتحريم بإطلاق ومن قائل بالكراهة بإطلاق ومن مفصّل فيه وأنه أن كان ذو الجاه يحتاج إلى نفقة وتعب وسفر فأخذ أجر مثله فذلك جائز وإلا حرم. (1)   (1) حاشية الدسوقى 3 /224 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 973 والفريق الثاني يرى في عملية الضمان أنها خدمة محترمة يقدّمها الضامن فيعزز بها قيمة التزامات المضمون. وبما أنها خدمة محترمة ومقوّمة شرعا فيجوز أخذ الأجر عليها. وهذا تخريج وجيه في تقديرى يعززه: 1- أن الحنفية والحنابلة والزيدية قد اجازوا شركة الوجوه. وهي شركة لا تعتمد على مال ولا على عمل وإنما تعتمد على وجاهة الشركاء وثقة الناس في درجة إلتزامهم. وبهذه الثقة فقط يستحقون الربح. ولذلك يحتج المانعون لعدم جواز شركة الوجاهة بان الربح لا يستحق إلا بالمال أو العمل وها هنا لا مال ولا عمل. وأجاز اولئك أن تكون الوجاهة والالتزام المترتب عليها سببًا للربح (1) فلم لا يكون سببًا للأجر في خطابات الضمان؟ يقول ابن رشد: وشركة الوجوه عند مالك والشافعي باطلة. وقال أبو حنيفة جائزة. وهذه الشركة هي الشركة على الذمم من غير صنعة ولا مال. وعمدة مالك والشافعي أن الشركة إنما تتعلّق على المال أو على العمل، وكلاهما معدومان في هذه المسألة والالتزام المترتب عليها سبب للربح فلم يكون سببًا في خطابات الضمان؟ وقال ابن رشد: وشركة الوجوه عند مالك والشافعي باطلة. وقال أبو حنيفة جائزة. وهذه الشركة هي الشركة على الذمم من غير صنعة ولا مال. وعد مالك والشافعي أن الشركة إنما تتعلق على المال أو على العمل، وكلاهما معدومان في هذه المسألة مع ما في ذلك من الضرر، لأن كل واحد منهما عاوض صاحبه بكسب غير محدود بصناعة ولا عمل مخصوص، وأبو حنيفة يعتمد أنه عمل من الأعمال فجاز أن تنعقد عليه الشركة (2) ويقول ابن جزي: وأما شركة الوجوه فهي أن يشتركا على غير مال ولا عمل وهي الشركة على الذمم بحيث إذا اشتريا شيئًا كان في ذمتهما وإذا باعا اقتسما ربحه، وهي غير جائزة خلافا لأبي حنيفة (3) .   (1) الشخصية الاعتبارية في الفقه الإسلامى 232 لأحمد على عبد الله (2) بداية المجتهد 2/ 192 (3) قوانين الأحكام الشرعية 299/ 300 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 974 2- ويعززه كذلك أن الشرع الإسلامي جعل الضمان واحدا من شروط استحقاق الربح، فإن الجمهور – وبناء على أحاديث اشتراط قبض المبيع قبل بيعه – قالوا لا يجوز بيع السلعة المشتراه قبل قبضها. وعلّلوا ذلك بأنه يقبض السلعة فإنها تدخل في ضمان البائع وتهلك عليه فيستحق إذن الربح في البيع مقابل خطر الضمان هذا. فهنا لم يكتف الشارع بمجرد ملكية السلعة وإنما اشترط فوق ذلك أن تدخل في ضمانه حتى يجوز له أن يبيعها ويستحق عليها الربح. فكان هذا مؤشرًا آخر على جواز أخذ الأجر بناء على الضمان كما جاز استحلال الربح هناك بناء على الضمان ومع الخلاف بين الضمانين إلا أن جوهرهما واحد. 3- ثم هل الوجاهة عمل أم أنها ليست بعمل. معلوم أن الوجاهة والثقة في الشخص الطبيعى أو الاعتباري لا تأتي إلا بجهد عمل كبير ومضطرد وممتاز، بحيث يستقر ويتأكد بموجب هذا الفصل أن هذا الشخص أهل للثقة ويمكن الأعتماد عليه. ثم أن مسئوليته تجاه هذه الثقة والوجاهة ستزداد بعد أن يصبح أهلًا ومحلًا لثقة الآخرين. ولا يستطيع المحافظة عليها إلا بمزيد من العمل الممتاز المتمثل في الوفاء بالأمانة رغم كل الظروف الصعبة. فالوجاهة وإن لم تكن عملا في ذاتها فهي نتاج عمل مسئول وممتاز. ولا يتصور خلق سمعة في وسط من الأوساط ولا يتصور المحافظة على هذه السمعة إلا بالعمل. فالعمل هو الأساس والثقة هي النتاج والمظهر. ولذلك عبّر أبو حنيفة – كما جاء في عبارة ابن رشد - عن هذه الوجاهة بأنها عمل من الأعمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 975 4- وعليه فإن المؤسسات المالية تبدأ مشوار بناء الوجاهة هذه بمشوار صعب تخضع فيه لكل أنواع الابتلاء من قبل الأفراد والمؤسسات. ويكلفها ذلك الكثير من المال والجهد والخسارة. ولكنها تتحمل ذلك من أجل بناء اسم في المحيط المحلي والخارجي، لأنه متى ما بنيت هذه السمعة وحافظت عليها فستجد كثيرًا من التسهيلات، فمثلًا بدأ بنك التضامن في علاقته بالمراسلين الأجانب وفي تجارة الاستيراد بخصم قيمة كل الاعتماد المطلوب من حساب أو على الأقل حجزه في حساب مقابل تعزيز هذا الاعتماد للجهة المصدرة. في حين أن المؤسسات الأخرى التي سبقت وبنت سمعة تستطيع أن تجد تسهيلات بما يعادل 10 % فقط من قيمة الاعتماد وهكذا. ليس ذلك فحسب بل أن البنك كان يخصم من حسابه كل قيمة الاعتماد حتى ولو اشترى التاجر البضاعة موضوع الاعتماد بتسهيلات صغر أو كبر مداها. ولقد جمّد بنك التضامن في هذه الفترة الأولى كثيرًا من أمواله التي كان يمكن أن يستغلها لصالح البنك. ولكن الوجاهة لا تأتى بلا ثمن وهذا ثمن هذه السمعة. حتى إذا ما اجتاز البنك هذه المرحلة بنجاح والحمد لله فإنه الآن محل ثقة كثير من المراسلين والكثير منهم يخطب التعامل معه بناء على الشروط السهلة التي تناسب الورقة. فهذا مثال واحد نوضح به أن البنوك التي تقدم ضمانا لطلابها لم تصل لهذه الدرجة بدون عمل وجهد وإنفاق. وأن المحافظة على السمعة التي وجدتها تحتاج إلى جهد لا يقل عن الجهد الذي حصلت به على هذه الوجاهة. فإذا قيّمت ذلك العمل المحترم بمال وأخذت عليه أجرا فإنما تأخذ على عمل مقوّم ومحترم ومشروع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 976 وهي في نفس الوقت الذي تقدم فيه خطاب الضمان المزين الذي يطلبه، إنما تقدم له خدمة مقدرة ومحترمة ويستطيع من خلال استخدامه لضمان البنك أن يتجاوز ذلك بجهده الخاص حتى يبني هو سمعته ويكون محل ثقة الجهات التي يتعامل معها، ولا يحتاج بعد ذلك إلى ضمان الآخرين. وهكذا تمضي الدورة. فكما بنى البنك هذه الثقة لبنة لبنة وكما دفع فيها ما غلا من الثمن مالا وزمنا كذلك يستطيع الفرد أن ينهج نفس النهج فيبني جاهه ولذلك ثمنه. ويكون الأجر الذي يدفعه للبنك الضامن جزءا من ذلك الثمن ويكون الوفاء بإلتزاماته في وقتها وبشروطها هو جزء آخر. ومع قولنا أن الضمان يكون نتاج عمل مقوم ومحترم إلا أنه في ذاته يحتاج إلى عمل مادي من قبل الجهة المعطية للضمان كدراسة أحوال العميل ومعرفة مركزه المالي ودرجة التزامه ودراسة المشروع موضوع التمويل ومدى جدواه الإقتصادية والإجتماعية، ولكنا لا نقول كما قال المتقدمون: أن له أجر المثل في هذه الدراسات فحسب، وإنما له أخذ الأجر على عطية الضمان ككل ما كان منها عملا ماديًا وما كان منها جاها. 5- ومما يدل على مالية الجاه اشتراط كثير من الفقهاء في الضامن أن يكون مليًا. إذن فالمقصود من الضمان ليس هو جاه أو مجرد ذمة الضامن وإنما جاهه المبني على سمعته المالية وذمته القادرة على الوفاء. وما دام المقصود هو ملاءته وما الجاه والثقة إلا مظهر من مظاهرها فلا معنى لأن يقول البعض إنه يجوز الأجر على الجاه إذا كان ثمة عمل كسعي ونفقة وغيره. أما إذا لم يكن شيء من ذلك فلا أجر على الجاه علمًا بأن الجاه لا يكون إلا منفعة من منافع العمل. ولعل الذي صرف الفقهاء عن اعتباره هو أن الخدمة المؤداة عن طريق الضمان وإن كانت خدمة جليلة ومحترمة تفوق في جلالها وقيمتها كثيرًا من القيم الأخرى المادية إلا أنها تبدو وكأنها خدمة ناتجة عن عمل غير مادي بل ناتجة عن منفعة عمل مادي. ولأنها منفعة فقد دقت على الفقهاء فيما مضى. غير أن المنافع والحقوق قد أصبحت اليوم من الوضوح والشخوص بحيث لا ينكرها أحد ولا تدق على فقيه كما كانت من قبل. ولقد مضى الزمن الذي لم تكن فيه المنافع مالا أو شيئا يقوم بالمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 977 الخلاصة: نخلص من كل ذلك: 1- إلى أن دعوى أن التبرع والمعروف لا يجوز عليه العوض دعوى غير صحيحة. وأن ما ترتب عليها من أن الضمان تبرع ولذلك لا يجوز أخذ الأجر عليه نتيجة غير صحيحة هي الأخرى. فرغم أن الأصل في التبرع أن يكون مجانا وبلا عوض مادي إلا أنه إن شرط فيه العوض صح. 2- وإلى أن الضمان ليس بقرض. ولذلك فلا يدخل تحت محظور المأثور: ((كل قرض جر منفعة فهو ربا)) . لما بينّا من أن الضمان استيثاق وأن الضامن غارم وأن قياس الضمان على القرض قياس مع الفارق. إذ ليس هناك منافاة بين الأجر والضمان ولا بين الأجر والغرم فقد يأخذ الأجير أجره والمضارب ربح عمله مع أنه قد يغرم ويضمن في بعض الحالات نتيجة تقصيره مثلًا. فإذا قصّر الأجير وترتّب على ذلك اعتداء طرف ثالث على أدوات عمله فهو غارم للمؤجر وضامن لقيمة هذه الأدوات وله في نفس الوقت الرجوع على المعتدى بالقيمة. ولا يؤثر ذلك في استحقاقه لأجرته ولا يحرمها. 3- إذا انتفت الأسباب والعلل التي بنى عليها الفقهاء تحريم أخذ العوض في الضمان فالنتيجة الطبيعية أن يكون العوض في الضمان جائزًا إذا ما اشترط، إلا إذا أدى ذلك إلى محظور آخر. وفي تقديرنا أنه لا يوجد محظور. فالضمان عمل محترم يكلف الضامن مسئولية ويلقى عليه عبئا ويفيد المضمون فائدة كبيرة تفوق فائدته من دراسة جدوى المشروع من نواحيه الإقتصادية والفنية. ولذلك ينبغي أن يكون عملًا يمكن تقويمه بالمال ويمكن أخذ الأجر عليه بحسب اتفاق الأطراف المتعاقدة. 4- وقولنا بجواز أخذ العوض على الضمان ليس قولا بإخراج الضمان من عقود التبرعات. بل نفضل أن يكون الضمان تبرعًا في عمومه وأن يجري بين الناس كواحد من عوامل التكافل الذي يقدم فيه الإنسان ضمانًا لأخيه الإنسان لوجه الله. وذلك مما يزيد من عرى الإخوة، بحيث يكون من ضمن عوض الإنسان هو أن هذا الآخر أو غيره سيضمنه إذا ما احتاج إليه. ولكن هذا لا يمنع من أن تؤدي المؤسسات المالية مثل هذه الخدمة تبرعًا وبعوض أن اختارت ذلك وقبل الطرف المتعامل معها: والله ولى التوفيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 978 من تقرير حول ندوة "البركة" الثانية التي انعقدت بتونس من 11-14 صفر 1405هـ 1- مداولات الجلسة العامة: دار النقاش أولًا حول توصيف خطاب الضمان هل هو كفالة أولًا. رأي البعض أن خطاب الضمان غير الكفالة لأن الكفيل يحل محل المكفول في الوفاء بالتزاماته بينما البنك الذي يقدم خطاب الضمان إلى مقاول مثلا لا يطلب منه أن يقوم بالأعمال المطلوبة من المقاول. ورد آخرون بأن الكفالة يمكن أن تكون محدودة ولا يشترط أن يحل الضامن محل المكفول في كل أعماله. ثم نوقشت مسألة استحقاق البنك مقدم خطاب الضمان لأجر. فأكد البعض ما سبق أن قيل (4-ب) من أن الضمان أخذ في عصرنا هذا صورا تختلف عما عرفه الفقهاء حينما وصفوه بأنه عقد تبرع. لذلك لا يرى هؤلاء مانعًا من أخذ البنك الإسلامي أجرًا عند تقديم خطاب الضمان. وقال آخرون بأن خطاب الضمان كفالة وهي تبرع وكون العميل هو الذي لا يخرجها عن طبيعتها تلك. وقالوا إنه يجوز للبنك أخذ أجر شريطة أن لا يزيد عن التكلفة الحقيقية للخدمات المقدمة. أما مسألة الغطاء في خطاب الضمان فقد قيل أن البنك الذي يصدر خطاب ضمان غير مغطى يعتبر كفيلًا. أما إذا كان خطاب الضمان مغطى بالكامل فإن البنك له صفتان: هو وكيل بالنسبة للعميل طالب الضمان، وهو كفيل في علاقته مع الطرف الثالث المستفيد من خطاب الضمان. ويصح أخذ أجره في حالة التغطية لكون البنك وكيلًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 979 2- السؤالان المقدمان إلى لجنة العلماء. السؤال الثامن: هل يجوز للبنك الإسلامي أخذ عوض مقابل عمله المتمثل في إصدار خطاب الضمان المصرفي إما على أساس الأجر باعتبار أن هذا العمل توكيل مطلق لدفع مبلغ معين أو على أساس الوجاهة نظرًا لما يتمتع به البنك من ملاءة. الفتوى: تبين بعد المداولة في السؤال أن موضوع خطاب الضمان المصرفي يحتاج إلى مزيد من البحث ودراسة الواقع الذي يجري عليه العمل في البنوك الإسلامية. السؤال الثاني عشر: هل يجوز للبنك الإسلامي الذي دفع له مبلغ نقدي لخطاب الضمان أن يستثمره بموافقة المودع مضاربة بنفس الشروط التي يستثمر بها للمودعين. الفتوى: يجوز للبنك الإسلامي أن يستثمر بالمضاربة المبلغ المودع لديه غطاء لخطاب الضمان الذي يصدره بنفس الشروط التي يستثمر بها للمودعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 980 ندوة البركة الثالثة للاقتصَاد الإسلامي المنعقدة باسطنبول الفتوى في المسألة الأولى أولًا – موضوع المسألة: خطاب الضمان المصرفي: 1- خطاب الضمان المصرفي ومدى جواز أخذ الجر عليه. 2- هل خطاب الضمان المصرفي كفالة بمفهومها الفقهي ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة أم أنها توكيل بأداء مبلغ معين من النقود ضمن مدة محددة. 3- إذا كان خطاب الضمان المصرفي كفالة وهو من أعمال التبرع فهل تنقلب أعمال التبرع إلى أعمال تؤدي بالأجر كما أفتى المفتون بذلك عن أعمال الطاعات مثل تعليم القرآن وإمامة الصلاة. 4- إذا كان خطاب الضمان المصرفي وكالة فهل يجوز للوكيل أخذ الأجر نسبيًا بمقدار القيمة كما هو الحال في السمسار والمحامي. ثانيًا – الأوراق التي نظرتها اللجنة وناقشتها: 1- البحث المقدم من الدكتور سامى حسن حمود. 2- الرأي المكتوب المقدم من فضيلة الشيخ زكريا البري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 981 ثالثًا – الفتوى في المسألة: 1- خطاب الضمان: (أ) إن جواز إصدار خطابات الضمان مشروط بأن يكون مرتبطًا بمشروعية الموضوع الذي يطلب خطاب الضمان لأجله.0 (ب) أن خطاب الضمان المصرفي إذا كان بدون غطاء نقدي كامل فهو كفالة ويخضع لأحكامها. وإذا قدم له غطاء نقدي كامل لدى البنك فهو وكالة بالنسبة للشخص المكفول، أما بالنسبة للجهة المكفول لها فإن خطاب الضمان حينئذ كفالة. (جـ) يجوز للبنك في جميع الأحوال أن يأخذ أجرًا على خطاب الضمان بمقدار ما يبذله من جهد وعمل إجرائي دون أن يربط الأجر بنسبة المبلغ الذي يصدر به خطاب الضمان. (د) أما أخذ الأجر على خطاب الضمان غير المغطى بنسبة مبلغ الضمان، كما هو معمول به في البنوك فقد رات اللجنة (باغلبية الآراء) انه يحتاج إلى مزيد من الدراسة والتمحيص والإطلاع على النماذج المستعملة في مختلف الحالات والتي طلب من المختصين في البنوك تقديمها للنظر فيها، وخاصة أن موضوع خطاب الضمان المصرفي مطروح للبحث لدى مجمع الفقه الإسلامي في جدة ومدرج في جدول أعماله للدورة القادمة. نقطة إيضاح من المقرر: نظرًا لما قرره الأساتذة العلماء من ناحية تأجيل النظر في مسألة الأجر على خطاب الضمان غير المغطى وطلبهم تقديم البحث الذي اعده المقرر للنظر فيه أيضا من مجمع البحوث الإسلامية، فإن المقرر سيعمل على توسيع البحث المقدم وتقديم اسانيد إضافية لما يراه في خطاب الضمان من حيث تكييفه ومدى جواز أخذ الأجر عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 982 العرَض وَالمناقشَة 14 /4 /1406 = 26 /12 / 1985 الساعة 18.10 – 20.50 الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم، به تعالى نبدأ، وبه نستعين وعليه نتوكل بعد حمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائه ورسله، أما بعد، فبين ايديكم بحوث ودراسات بشأن خطاب الضمان، وهذه البحوث بما أنها متعددة وكثيرة، فسنكتفي ببعض منها لأن المراد هو استكمال التصور وتبادل وجهات النظر ثم بعد ذلك تجرى المداولة بشأن ما تسمعون من ملخصات. وأرجو من أصحاب الفضيلة أصحاب البحوث الذين ستطلب منهم ملخصات، ألا تتجاوز كلماتهم خمس عشرة دقيقة على الأكثر، وارجو من الشيخ عبد الستار أن يتفضل. الشيخ عبد الستار أبو غدة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه. اللهم أهدنا إلى ما اختلف فيه من الحق بإذنك. خطاب الضمان من أهم أساليب التعامل المصرفي رغم أنه وسيلة ائتمان ويعتبر أيضا خدمة من الخدمات المصرفية، وهو عبارة عن استعداد للأداء عند الطلب، فهو في المئال تنفيذ للالتزام الذي ترتب في ذمة المكفول. ومن هنا يتبين أن خطاب الضمان فيه ضم ذمة إلى ذمة، ولا داعي للإطالة في تعاريفه وتصوراته فإنه اصبح معروفًا وسوف يتولى الآخرون الإشارة إلى تلك الصور. وحصيلة خطاب الضمان: أنه صك يتعهد بمقتضاه البنك المصدر له بان يدفع مبلغًا معينًا لحساب طرف ثالث لغرض معين. وقد يقال لماذا استخدمت كلمة صك هنا، مع أن المعروف في الشريعة الإسلامية أن العقود تتم بالإيجاب والقبول ولو شفاها، بدون كتابة، والحقيقة أن الإبقاء على كلمة صك هنا لوجود كلمة خطاب في الضمان، فإذا عرفنا خطاب الضمان فنحن مضطرون إلى أن نستخدم كلمة (صك) مع الاعتراف والتقرير بان الضمان يتم بمجرد إلتقاء الإرادتين الإيجاب والقبول ولو لم يكن مدونًا لأن الكتابة في نظر الشريعة عبارة عن توثيق وليست إنشاء للعقد. هذا هو النظر الفقهي، أما النظر القانوني فيختلف، فكثير من التصرفات تعتبر الكتابة والتوثيق فيها عنصرًا أساسيًا ومقومًا ضروريًا لنشوئها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 983 خطابات الضمان، أو فكرة الضمان، إما أن تكون ضمن معاملة أخرى مثل الضمان الذي يكون في الإعتماد المستندي، وإما أن يكون ضمانًا مستقلًا وهو الذي ينصرف إليه مدلول عبارة خطاب الضمان. إذا كان الضمان جزءًا من معاملة مصرفية أخرى، كالاعتمادات المستندية فلا إشكال في الأجر الذي يتقاضى على تلك العملية، لأن هناك أعمالًا عديدة يقوم بها المصرف منها الوكالة، ومنها التبليغ، ومنها المهمات الكثيرة التي يقوم بها لصالح طالب الاعتماد. ولذلك يعتبر الضمان تبعًا ولا يكون مفردًا بالذكر ولا مخصوصًا بالأجر. إنما تثور المشكلة إذا كان هناك خطاب ضمان مستقل وليس ضمن معاملة مصرفية متكاملة. كثير من الباحثين حاول أن يلتمس في معاملة خطاب الضمان عن عمل ينصب عليه هذا الأجر لكي تكون هناك معاوضة أجر لقاء عمل وليس أجرًا لقاء كفالة محضة. وهذه المحاولة حاولت أن أتحراها أو أتقصى أمرها فاستعنت ببعض العاملين في هذا المجال، وطلبنا صورًا كثيرة من خطابات الضمان المستخدمة في الميدان، فلم نجد فيها إلا فكرة الكفالة وضم الذمة إلى ذمة المدين الأصلي، فليس هناك عمل متميز يصلح أن ينصب عليه الأجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 984 إذن خطاب الضمان عبارة عن كفالة محضة في شتى صوره ولو كانت هذه الكفالة أحيانًا تعتريها بعض القيود المعدلة للأصل المتبادر منها، كأن يكون من حق المكفول عنه أن يرجع على الكفيل بدون مطالبة الأصيل، وأحيانًا يرجع عليه ولو أدى الأصيل ما طلب منه لأنه ليس مطالبًا بالتثبيت والتحرى قصدًا لاستقرار التعامل، فهو يؤدي ما طلب منه ثم يرجع بما دفع. وقد يطالب أو يطلب دعوة جزائية على ذلك الذي أخذ البدل مع أن العميل الأصلي قد سقط والالتزام قد تحقق. بعض الباحثين أراد أن يوجه خطاب الضمان وجهة أخرى فاعتبره وكالة ولا سيما إذا كان كفالة بالأمر، لأنه اعتبر هذا الأمر بمثابة توكيل والحقيقة أن الكفالة بالأمر لم تتغير فيها الحقيقة الشرعية وهي شغل ذمتين بحق واحد، ومعظم الكفالة التي تتم إنما بالأمر من المكفول عنه، وهذا الأمر لا يغير من الطبيعة الشرعية التي تقوم عليها الكفالة وإلا فنكون قد فرغنا الكفالة من محتواها ومن مضمونها لمجرد وجود هذا الأمر. الوكالة شيء والكفالة شيء آخر، الوكالة فيها التزام، أما الكفالة ففيها شغل ذمتين بحق واحد، كان الحق في ذمة الأصيل، فبوجود الكفالة انضمت ذمة أخرى إلى الذمة الأصلية لتوثيق هذا الحق. إلا أن هناك صورة من خطاب الضمان وهي التي يكون فيها غطاء يعطي إلى الكفيل من المكفول عنه لكي يسد به الدين إذا طولب به. وهذا النوع من خطابات الضمان المغطاه أمكن تشخيصة وتكييفه إلى اعتبارين: فهو بين الدائن وبين المصدر لخطاب الضمان أو الضامن عبارة عن كفالة، لأن الدائن يشعر بأن ذمة هذا الكفيل قد شغلت بالدين الأصلي. وأما العلاقة بين الضامن وبين طالب الضمان وهو المكفول عنه، والذي قدم مقابلًا لهذا الضمان فإنه عبارة عن وكالة، لأنه أعطى مالًا وطلب من الضامن أن يدفع هذا المال عندما يطالب به. ولا يستنكر أن يكون للتصرف الواحد اعتباران، فهناك كثير من العقود تعتبر لازمة بالنسبة لطرف، وغير لازمة بالنسبة لطرف آخر ويكون لها اعتبار شرعي في مجال، واعتبار شرعي عندما تتغير المقتضيات والمضمون الذي تقوم عليه. فيما عدا هذه الصورة فإن خطاب الضمان يستقر أمره على أنه كفالة، سواء كان بطلب (كفالة بالأمر) أو بغير طلب. ولكن بعض الكتاب نظر في عبارات بعض الفقهاء وتصيد منها عبارة جاء فيها تشبيه الكفالة بالأمر بانها فيها وكالة وادعى أن كل كفالة بالأمر إنما هي وكالة لوجود هذا الأمر متغاضيًا أو متغافلًا عن أن هذا الأمر لم يغير من حقيقة الكفالة من انها فيها ضم ذمة إلى ذمة. والحقيقة أن هذا التشبيه إنما هو في النتيجة وليس في التكييف الشرعي، فالتكييف الشرعي بين الكفالة بالأمر وبين الوكالة مختلف كل الإختلاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 985 لننظر الآن في خطاب الضمان الذي هو في حقيقته كفالة، هل يمكن أن يتقاضى عليه جعل أو أجر؟ إذا كان هذا الأجر منصبًا على أداء هذه الخدمة كإصدار هذا الخطاب والعمل الكتابي الذي يتكلفه مصدر خطاب الضمان بعيدًا عن المدة التي يسري لها هذا الخطاب وعن المبلغ الذي يتعلق به الدين فإن هذا لا يعدو أن يكون خدمة مصرفية، فهو إجارة على عمل فعلًاولا إشكال في تجويزه، والبنوك الإسلامية كلها تزاول هذا العمل، ولا ترى فيه بأسًا لأنه خدمة لقاء أجر، فهو من باب الإجارة ومن باب الوكالة بأجر. أما ترتيب الأجر على خطاب الضمان منسوبًا إلى مدته وإلى مبلغه فهو عبارة عن عوض على الكفالة، وقد عرف من نصوص الفقهاء وتطبيقاتهم وتصريحاتهم أن الكفالة لا تقبل العوض وإنها في حقيقتها من عقود التبرعات وهي من باب المروءات فلا يجوز أخذ العوض عنها. ولم يصرح هؤلاء الفقهاء بنص في الموضوع وإنما صرحوا بما هو في معنى النص، أو بما هو من الأولويات. فقد أشار ابن عابدين ومن قبله ابن قدامة في المغني، إلى أن تحريم العوض على كفالة لأن الكفالة في مآلها تتحول إلى قرض إذا طولب الكفيل بالأداء فأدى ورجع على مكفولة فإنه يطالبه بهذا القرض. وإذا كانت الشريعة قد منعت أخذ الجعل أو العوض على القرض الفعلي نفسه، فمن باب أولى أن تمنع أخذ العوض على الاستعداد للإقراض، لأن هذا أشد ظلما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 986 فإذن الدليل على تحريم العوض على الكفالة مستمد من قواعد الشريعة واستقراء تطبيقاتها ونصوصها، فهو من تحقيق المناط ومن الأولويات التي تعتبر في مستوى النص والتصريح. بعض الكتاب أراد أن يجعل من تبدل حال الكفالة وتغير ظروفها بين الماضي وبين الحاضر من أنها كانت في الماضي عملًا نادرًا وعملًا محدودًا، ولذلك لم يهتم الفقهاء بالتنصيص أو بالتصريح على جواز أخذ الجعل والأجر عليها، وأما في الوقت الحاضر فقد اصبحت عملًا مهما يتخصص له ناس وتعطيه وتولية البنوك حظًا من نشاطها، فإذن يتغير الحكم بهذا التطور، والحقيقة أن هذا لا يغير من واقع الأمر شيئًا، فالحكم الشرعي إذا لم يكن مرتبطًا بالعرف فإنه يبقى ثابتًا ولا يتغير بتغير هذا العرف. أما إذا كان الحكم الشرعي دائرًا على العرف ومرتبطًا به فحينئذ يدور معه. والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار إذا كان الحكم في اصله مرتبطًا بهذا العرف. بعض الكتاب أيضا أراد أن يقيس أخذ الأجر على الكفالة بما أفتى به العلماء والفقهاء من جواز أخذ الأجر على فعل الواجبات والطاعات إذا قل التبرع والتطوع بها كمهمة الإمامة والقضاء وغير ذلك من المهام التي يعود نفعها على المسلمين والتي هي في الأصل فرض على الكفالة عليهم، فلما ضعفت همم الناس في الإلتزام بهذه الواجبات أفتى العلماء بجواز أخذ الأجر عليها فيقاس عليها أمر الكفالة لأن همم الناس قد تقاصرت على المبادرة إلى فعل الكفالة بدون مقابل. والحقيقة أن هذا قياس مع الفارق لأن الكفالة ليست من الواجبات ولا من فرائض الكفاية. وإنما هي من المباحات شأنها شأن معظم المعاملات المالية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 987 وأخذ الأجر على تلك الواجبات والفروض الكفائية ليس في الحقيقة من باب الإجارة وإنما هو من باب الرزق والعطاء الذي يخصصه أولو الأمر من بيت المال لسداد هذه الثغرات وهذه المهمات التي يعود نفعها على المسلمين، فهي مشبهة بلإجارة لأنها توجد عند وجود العمل وتنقطع عند انقطاع الإنسان عن هذا العمل. كذلك بعض الكتاب اراد أن يستخلص من عمل الكفالة أن فيه جهدًا في دعم المركز المالي للمكفول، فهو من قبيل الوجاهة ومن قبيل الشفاعة التي يتكلف فيها الإنسان جهدًا ومشقة. وقد جاءت بعض النقول الفقهية بأن الإنسان إذا قام بمهمة رفع ظلامة عن مظلوم وتجشم في سبيل ذلك بعمل ونقلة وسفر وارتحال له أن يأخذ عن هذا العمل ما يلاقيه من مقابل. والحقيقة أن هناك مفارقة كبيرة بين الوجاهة وبين هذا العمل وبين الكفالة لأن الكفالة عبارة عن ضم ذمة، أما ذلك الجهد الذي يبذله الإنسان فهو عمل وهو يستحق الأجر إذا كان فعلًا تكلف في ذلك مالًا ونفقة وعملًا. بالإضافة إلى هذا كله فإن بقاء الكفالة على طبيعتها وحقيقتها من أنها عقد تبرع، يعتبر معلمًا من معالم الحياة الإجتماعية الإسلامية من أن هناك تكافلًا بين المسلمين وتعاضدا بينهم، فالذي يستطيع أن ينفع أخاه ينفعه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ((من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه)) فلتبق هذه المعاملة على طبيعتها ولتكن شبيهة بطبيعة القرض من أنه مواساة، والكفالة أيضا استعداد للإقراض فهي من ذلك الباب.ولذلك هناك تشابه كبير بين ثلاث معاملات: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 988 الأولى: هي أخذ الفوائد الربوية باعتبارها أجرًا للقرض الفعلي. والثانية: تقاضي اجور وجعل على خطابات الضمان باعتبارها أجرًا للاستعداد للقرض عند المطالبة بحق الكفالة. والمعاملة الثالثة: هي أقساط التأمين التجاري التبادلي، باعتبار هذه الأقساط اجرًا على ضمان وكفالة، لكنها كفالة من نوع خاص، فهي كفالة تبرعية ليس فيها رجوع وهي كفالة على أمر مستقبل وهو من قبيل ضمان الدرك أو الكفالة بالدرك. وجدير بالتعامل المشروع الواجب بين المسلمين، أفرادًا ومصارف تطهير اموالهم من هذا الثالثوث وتنقية مجتمعهم من مفاسده الظاهرة والخفية، والله ولي التوفيق. الشيخ حسن عبد الله الأمين: شكرًا سيدي الرئيس … بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا ومولانا محمد عبد الله ورسوله، وبعد، لا أريد أن أثقل على المجلس وأن أكرر التعريف بخطاب الضمان وقد كفاني ذلك الأخ الدكتور عبد الستار أبو غدة، وإنما أريد أن أدخل في الموضوع من ناحية بيان أحوال خطاب الضمان ومحاولة تكييفه الشرعي. فخطاب الضمان في وقتنا الحاضر يمثل موردًا كبيرًا من موارد البنوك والمصارف، وهو لذلك لا تستطيع البنوك الإسلامية أن تقف موقفا محايدًا عن تناوله، وهي لا تملك ذلك بحكم أن عملاءها يردون عليها بهذا الطلب كما يردون على البنوك الأخرى، وفي نفس الوقت الناحية المادية التي يمثلها كبيرة، في موارد المصارف، فهي تريد أن تعرف إلى أي حد يمكن لها أن تستفيد بهذا المورد، ومن هنا كانت أهمية الحديث عن هذا الموضوع وعن تكييفه الشرعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 989 أحوال خطاب الضمان كما أشار إلى ذلك زميلي الدكتور عبد الستار، هي أحوال يكون منها حال ما إذا كان خطاب الضمان له رصيد يغطيه أو يكون طالب خطاب الضمان من المصرف ليس له رصيد يغطي هذا الخطاب، وقد اشار الأخ الزميل إلى حالة ما إذا كان هناك غطاء، فهو في هذه الحالة يمثل الخطاب كفالة من جهة في العلاقة بين طالب خطاب الضمان وبين المصرف، ومن ناحية أخرى يكون كفالة بين الضامن وبين المكفول له. أما إذا كانت الحالة أن ليس هنالك غطاء، فهو كفالة يقوم بها المصرف عن طالب خطاب الضمان وعن المكفول له فما هو موقف الشرع من الأجرة على إصدار هذا الخطاب، وأبعد من ذلك على ما تعورف بين المصارف من أخذ مبالغ لا تقف عند حدود قيمة الإصدار التي بينها الزميل، مبالغ قد تكون يراعى فيها نسبة المبالغ المراد إصدار خطاب الضمان من أجلها. خطاب الضمان حينما يكون وكالة فإن الأجرة عليه جائزة ومشروعة، لأن الأجرة على الوكالة جائزة، قد تكون الوكالة بأجر وقد تكون بدون أجر. كما أن خطاب الضمان فيما يتعلق بقيمة العمليات الأولية المتعلقة بإصداره فقط فلا غبار عليها ولا خلاف بين الناظرين في هذا الأمر من إجازتها، إنما الأمر يتعلق بالأجرة على خطاب الضمان فيما يتعلق بالمبلغ المضمون والمبالغ التي تؤخذ عليه بنسبة هذا المبلغ 1 %، 2 % أيا كانت هذه النسبة، هذا هو الموضوع، هذا هو بيت القصيد كما يقولون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 990 خطاب الضمان حينما يكون بمعنى الكفالة فللفقهاء رأي محدد مدون في كتب الفقه واضح، ذلك أنهم يقررون أن الضمان تبرع وان التبرع لا يؤخذ عليه أجر، لماذا؟ لأنه من باب الواجب، الكفالة من باب الواجب، يعللون ذلك في بعض الأحيان، وأوردوا في ذلك هذه النصوص التي توضح هذا الاتجاه، منها قول الدسوقي في حاشية على الشرح الكبير للدردير قوله (وفي المعيار سئل أبو عبد الله القوري عن ثمة الجاه فأجاب بما نصه: اختلف علماؤنا في حكم الجاه، ذلك لأنهم يعتبرون الضمان نوعًا من الجاه، هذه جملة معترضة، أعود إلى قراءة النص من أوله – (وفي المعيار سئل عبد الله القوري عن ثمة الجاه فأجاب بما نصه: (اختلف علماؤنا في حكم الجاه، فمن قائل بالتحريم بإطلاق، ومن قائل بالكراهة بإطلاق، ومن قائل بالكراهة بإطلاق، ومن مفصل فيه. وأنه أن كان الجاه يحتاج إلى نفقة وتعب وسفر، فأخذ أجر مثله، فذلك جائز، وإلا حرم) قال أبو على المنياوي وهذا التفصيل هو الحق. ومنها قال ابن عرفة: يجوز دفع الضيعة لذى الجاه، وللضرورة إن كان يحمي بسلاحه، فإن كان يحمي بجاهه فلا، لأنها ثمن الجاه، وبيان ذلك أن ثمن الجاه، إنما حرم لأنه من باب الأخذ على الواجب، ولا يجب على الإنسان أن يذهب مع كل أحد. التعليل هنا لأنه من باب الواجب، منع أخذ الأجر على الجاه لأن الجاه من باب الواجب. ومن هذين النصين يتبين أن للمالكية –هؤلاء علماء المالكية الذين أنقل عنهم عدة أقوال عن ثمن الجاه، أحدهما بالتحريم مطلقًا، والثاني بالكراهة مطلقًا، والثالث فيه تفصيل: فإن احتاج الجاه إلى تعب ونفقة وسفر فيجوز أخذ الأجر أو أجر المثل عليه، وإن خلا من ذلك فلا يجوز. وعلى المالكية لعدم جواز الأجر على الجاه المجرد، بأن ذلك من باب أخذ الأجرة على الواجب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 991 ويتفق مذهب الشافعية مع القول الثالث المفصل للمالكية عن الأجر على الضمان، قال ابن حجر الهيثمى (وكقول من حبس ظلما لمن يقدر على خلاصة وأن تعين عليه، على المعتمد: أن خلصتني فلك كذا، بشرط أن يكون في ذلك كلفة تقابل بأجرة عرفا. وعلق الشرواني على قوله: لمن يقدر عليه بقوله: أي بجاهه أو غيره، وقال تعقيبًا على لزوم أن يكون في ذلك كلفة وتعب: والمراد بالتعب، التعب بالنسبة لحال الفاعل. ونجد ابن عابدين الحنفي في حاشيته يقرر على ما تنسب إليه فتاوى بنك فيصل الإسلامي السوداني، لم أقف على هذا النص أنا إنما أعزوه إلى هذا المصدر فتاوى بنك فيصل الإسلامي السوداني: أن عدم جواز الأجر على الضمان لأن الضامن مقرض للمضمون، فإذا شرط له الجعل مع ضمان المثل، فقد شرط له زيادة على ما أقرضه، وهو ربا. وهنا نجد انفسنا أمام تعليل آخر وهو أن الضامن مقرض وشرط الجعل له الأجر على الضمان، زيادة على ما أقرض، وفيما عدا هذه التعليلات المختلفة لعدم جواز الأجر على الضمان فيما وقفنا عليه من أقوال الفقهاء لم نجد لهم دليلًا يعتمدون عليه من كتاب أو سنة، وإن كانوا يتفقون في ذلك اتفاقًا يشبه الإجماع. ونعود إلى مناقشة هذه التعليلات للحكم الذي قرره الفقهاء لمنع الأجر على الضمان، ونبدأ بمسألة أن ثمن الجاه إنما هو من باب أخذ الأجرة على الواجب ونسأل: هل الجاه أو الكفالة أمر واجب على من يفعله ام أنه من أعمال التبرع؟ بداهة إنه ليس واجبًا إلا إذا تعين على شخص بعينه، وليس من هذا النوع الضمان المصرفي، إذ لا يتوقف على شخص معين أو حتى مصرف معين دون غيره. فقضية كون الضمان المصرفي من باب الواجب الذي لا يؤخذ عليه أجر غير واردة هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 992 ثم أن قاعدة عدم أخذ الأجرة على الواجب لا نراها مطردة عند هؤلاء الفقهاء، فقد رأيناهم يجيزون أخذ الأجرة على قبول حفظ الوديعة وحفظها وإن تعينت على شخص ما، وهو من باب الواجب. جاء في مغني المحتاج للشربيني: وقضيته أن له أن يأخذ أجرة الحفظ أجرة الحرز. ومنعه الفاروقي وابن أبي عصرون، لأنه صار واجبًا عليه فأشبه سائر الواجبات، هذه هو النص والمعتمد الأول، كما هو ظاهر كلام الأصحاب. هذا هو نص الشربيني. أفلا يصح أن يقاس الضمان على فرض أنه واجب على الوديعة الواجبة ويأخذ حكمها في جواز الأجرة عليه؟ فإذا انتقلنا إلى تعليل منع الأجرة على الضمان المنسوب لابن عابدين (من كون الضامن مقرضًا، فإذا شرط له الجعل مع ضمان المثل فقد شرط له زيادة على ما أقرض، وهذا ربا) . وجدنا أن هذا التعليل مقبول على وجه الاجمال ولكن عند التفصيل نجده لا ينطبق على خطاب الضمان الذي ينتهي بوفاء المضمون بتعهده دون حاجة إلى الضامن. وتبقى بعد ذلك حالة واحدة يمكن أن ينطبق عليها تعليل ابن عابدين وهي حالة ماذا كان خطاب الضمان على المكشوف –غير مغطى- وتخلف المضمون عن الوفاء إلى أن قام به مصدر خطاب الضمان. ففي هذه الحالة فقط يصبح خطاب الضمان منطويًا على قرض والجعل فيه زيادة يجب منعها كما قال ابن عابدين. وبناء على ما تقدم فيبدو لي أن خطاب الضمان يكون على الأوجه التالية: 1- خطاب الضمان المغطى وهو كفالة تجاه المضمون له، ووكالة تجاه المضمون والعبرة بالعلاقة مع المضمون في تكييف حكمه فهو إذن وكالة، والوكالة تجوز بأجر وبدون أجر، وعليه فأخذ الأجرة عليه في هذه الحالة جائز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 993 2- خطاب الضمان غير المغطى المكشوف الذي يقوم بالوفاء به المضمون نفسه دون الضامن مصدّر خطاب الضمان وهذا النوع هو كفالة وليس وكالة، كما أنه ليس فيه قرض لأن مصدّره لن يدفع شيئًا من المال للمضمون له. لقيام المضمون نفسه بالوفاء، وهو ليس من العمل الواجب القيام به لعدم تعيينه على شخص أو مصرف معين، لذلك فلا يدخل تحت قاعدة منع الأجر على أداء الواجب، فيصبح أخذ الأجر عليه على اساس انه عمل في تعامل رضائي. وعلى فرض أنه تعين وأصبح واجبًا على من تعين عليه القيام به، شخصًا أو مصرفًا فإنه يمكن قياسه على الوديعة الواجبة التي يجوز أخذ الأجرة على حفظها كما وضحنا، بحيث يصبح أخذ الأجرة عليه جائزًا لأن الضامن في هذه الحالة يبذل جهدًا كبيرًا في التحري وجمع المعلومات عن صلاحية المضمون لهذا الضمان. ويتحمل عبئًا نفسيًا وذهنيًا طوال فترة سريان الضمان حتى الوفاء به، خوف الإخلاف. وبذلك كله يهيء للمضمون ويمكنه من الحصول على منفعة محققة تتمثل في بلوغ مرامه بهذا الضمان الذي قد يعود عليه بالفائدة والنفع الكثير. ولا يوجد مبرر لإهدار هذا الجهد من الضامن وما يترتب عليه من مصالح ومنافع للمضمون دون مقابل. الرئيس: الذي يعود عليه بالفائدة أو الذي قد لا يعود عليه بالفائدة؟ الشيخ حسن عبد الله الأمين: اقرأ الفقرة من الأول وبذلك كله يهيء للمضمون ويمكنه من الحصول على منفعة محققة تتمثل في بلوغ مرامه بهذا الضمان الذي قد يعود عليه – أنا كاتب هذا هل قرات غير ذلك؟ الرئيس: أنا أتابع بدون قراءة. الشيخ حسن عبد الله الأمين: الذي قد يعود عليه بالفائدة والنفع الكثير. ولا يوجد مبرر لإهدار هذا الجهد من الضامن وما يترتب عليه من مصالح ومنافع للمضمون دون مقابل، إذ ليس ذلك من العدل في شي، والله أعلم. على أنه يلزم أن يكون الأجر في هذه الحالة والتي قبلها مراعى فيه عدم المبالغة والمغالاة بحيث يكون في حدود المعتاد عرفًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 994 كما أنه يلزم أيضا التنبيه إلى أن المغالاة في هذا الأجر مهما بلغت، لا تدخل في نطاق الربا، لأنه ليس زيادة في عوض، وإنما هو اجر على عمل، غايته إذا تجاوز المعتاد أن يكون مكروهًا كراهة تنزيهية أو محرمًا وليس ربا بالتأكيد. أما الحالة الثالثة التي يكون خطاب الضمان فيها مكشوفًا –غير مغطى – وتؤول مسئولية الوفاء به إلى الضامن دون المضمون. أنه يكون فيها قرضًا والجعل فيه يكون زيادة تمثل ربا، فلا يجوز. ولكن يجوز لمصدره أخذ أجرة الإصدار فقط، التكلفة الفعلية حسب ما يقدره المختصون دون الضامن نفسه المنطوي على معنى القرض. هذا ما استطعت أن أصل إليه حتى الآن في هذا الموضوع، أرجو أن يكون فيه مساهمة لعلماء المجمع فيما يصدرونه من قرارات أو توصيات في هذا الموضوع الهام. والله نسأل أن يهدينا إلى سواء السبيل،،، والسلام عليكم ورحمة الله. الشيخ على السالوس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، اللهم جنبنا الزلل في القول والعمل واهدنا لما تحب وترضى. ولا أحب أن أكرر ما قيل ولكن أن أركز على بعض النقاط. قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((الزعيم غارم)) والزعيم هو الكفيل والكفالة التي كانت غرمًا لا أدري كيف تتحول في عصرنا إلى غنم. الأمر الآخر أن الفقهاء جميعًا يشترطون في الكفيل أهلية التبرع وهم يجمعون على أن الكفالة بعوض لا تجوز ويحرمون هذا العوض سواء كان أجرًا أم جعلًا. والذي أرجوه من مجمعنا الموقر ألا نخرج على نص ثابت أو إجماع مستقر، حتى لو كان الإجماع بغير نص وصلنا، فإن شيخ الإسلام رحمة الله أثبت أن كل إجماع فيه بيان من السنة، وأوردت هذا في البحث، قال: استقرأت مواطن الإجماع فوجدتها – كل مواطن الإجماع منصوصة. وأخذ يضرب أمثلة في المضاربة وغيرها، وهذا موجود في البحث لا أريد أن أقرأه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 995 البنوك الربوية تأخذ فائدة على القروض وتأخذ فائدة على فتح الاعتماد وتأخذ فائدة هنا على ما يسمونه إقراض بالتوقيع، يسمونه هذا اقراضًا بالتوقيع. قد يحتاج عميل المصرف في بعض الأحيان إلى نوع من الاعتماد، فهنا إما أن يأتي الاعتماد العادي أو خطاب الضمان لأنه في النهاية نوع من الاعتماد، ولذلك، في الإقراض العادي يحسبون الفائدة في فتح الاعتماد. الفائدة من يوم أخذ العميل، في خطاب الضمان ينظرون إلى المبلغ المضمون، وإلى مدة المبلغ المضمون ويحسبون مبلغًا، نسبة ضئيلة مقابل المبلغ والزمن، فإذا تم الإقراض أخذوا الفائدة المعروفة. المصارف الإسلامية عندما قامت لتطهير أموال المسلمين من الربا اتضحت الصورة أمامها بالنسبة للإقراض ولفتح الاعتماد، ولذلك فكرت في البديل الإسلامي، بالنسبة للإستقراض يبدو أن الصورة لم تكن واضحة عند بعضهم، ولذلك وجدنا من يسير مثل البنوك الربوية في جعل العمولة مقابل المبلغ والزمن، فإذا أقرض لا يأخذ ربا، ولمجرد الوعد بالإقراض يأخذ فائدة، فإذا أقرض بالفعل لا يأخذ، معناه أن الصورة غير واضحة. وبعض المصارف الإسلامية الأخرى لا تأخذ إلا ما يقابل العمل. بالنسبة للكلام الذي نسب لابن عابدين. وكي لا يرد هذا القول إلى فتاوى بنك فيصل، أحب أن أقول أن كلام ابن عابدين مثبت وغير ابن عابدين ولذلك أقرأ هنا بعض ما يبين لماذا أجمع الفقهاء على أن الكفالة لا تجوز بأجر ولا بجعل. الإمام مالك كان يرى أن الكفالة من وجه الصدقة، الإمام الشافعي قال: الكفالة استهلاك مال لا كسب مال، وحكى عنه النووي: أن الضمان تبرع أو قرض محض. وقال الإمام النووي الضمان غرر كله بلا مصلحة وقال الكمال ابن الهمام: الكفالة عقد تبرع كالنذر. وقال الدردير. الضامن كالمسلف يرجع بمثل ما أدى. وقال ابن قدامة: الضمين والكفيل على بصيرة أنه لا حظ لهما. فاعتبر الكفالة كالنذر، ولذلك كما قلت أجمعوا على الكفيل لا بد فيه من أهلية التبرع. ثم بين ابن حزم أن الضمان استقراض، وغير ابن حزم كذلك. جاء في فتح القدير للكمال: إذا كان قضاء من جهة الذي أمر صار كما لو قال: اقض عني، ويتضمن ذلك استقراضًا منه، وفيه أيضًا. والحاصل أن الأمر في الكفالة تضمن طلب القرض إذا ذكر لفظ (عن) لأن هنا الحنفية يشترطون لفظ (عن) حتى يعوض الضامن على المضمون، وقال الكاساني: الكفالة بالأمر في حق المطلوب استقراض. إذن هنا ينصون على ذلك، ولذلك بين سبب المنع أكثر من فقيه. جاء في المغني، ذكر كلامًا للإمام أحمد والحنابلة: لو قال: اكفلني ولك كذا لم يجز؟ قال: فإذا أخذ عوضًا صار القرض جارًا للمنفعة، فلم يجز. وقال الدردير في أقرب المسالك: وعلة المنع أن الغريم أن أدى الدين لربه كان الجعل باطلًا، فهو من أكل أموال الناس بالباطل، وإن أداه الحميل لربه ثم رجع به على الغريم كان من السلف بزيادة. وقال الصاوي في شرحه: وقوله كان من السلف بزيادة، أي كان دفعه الدين وأخذه سلفًا والزيادة هي الجعل الذي أخذه. وقال: وحاصل ما في الشارح أن الجعل إذا كان للضامن فإنه يرد قولًا واحدًا. وقال ايضًا: علة المنع موجودة وهي السلف الذي جر نفعًا، وقال ابن عابدين في منحة الخالق على البحر الرائق الجزء السدس صفحة 242: الجعل باطل لأن الكفيل مقرض في حق المطلوب، وإذا شرط له الجعل مع الضمان المثل فقد شرط له الزيادة على ما أقرضه، فهو باطل لأنه ربا. هذه ناحية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 996 الناحية الأخرى: أن الضمان لم يكن بعيدًا عن النشاط التجاري، وذكرت هذا أيضا في البحث (عهدة الدرك) ضمان الأسواق واجازه الأئمة ما عدا الإمام الشافعي، ضمان الأسواق المخاطرة فيه أكثر من خطاب الضمان الآن، وضمان الموزون والمكيل والمذروع … الخ. وما كان أحد يتصور أن يأخذ عن هذا أجرًا. ولذلك أخذ أجر على الضمان يعارض النص والإجماع، ولكن أخذ أجر على العمل المصاحب للضمان هذا يمكن، ثم يمكن كذلك إذا كان المصرف الإسلامي يريد أن يكون على اطمئنان، اقترحنا هنا أن يكون الغطاء النقدي وديعة استثمارية. خطاب الضمان المغطى الذي يمنع من الغطاء هو أن طالب الخطاب يعطل أمواله فلا يريد أن يضع الأموال في المصرف حتى لا تتعطل. فهنا قلنا واقترحنا على المصارف الإسلامية أن طالب إصدار الخطاب إذا كان له وديعة استثمارية يمكن أن تعتبر كغطاء للخطاب، أو يمكن أن يعتبر أي وديعة استثمارية أخرى قد يلجأ لصديق، لمعرفة، لأي أحد، وبالتالي المال لا يتعطل، فطالب إصدار الخطاب لا يتعطل ماله. ثم الضمان المجرد هو الذي يمنع أخذ الجعل عليه فكذلك يمكن أن يدخل الضمان مع عقد آخر، يعني مثلًا صاحب رأس المال إنما يستحق الربح بالمال والضمان، في شركة الوجوه الضمان له ما يقابله، فكذلك هنا المصرف الإسلامي يمكن إذا وجد أن خطاب الضمان لمشروع يستطيع أن يدخله فيه، يمكن أن يدخل ولو بنسبة قليلة بحيث يشارك في الغنم والغرم، ويكون الضمان هنا له ما يقابله لأنه في عقد آخر، إنما الممنوع هو إذا كان الضمان مجردًا. لهذا أقترح الآتي بعد أن بحثنا هذا الموضوع والبحث أمام حضراتكم والبحث في كتاب موسع، أقترح الآتي: أولًا: الكفالة المجردة لا أجر عليها وإنما الأجر على العمل المصاحب لها ويجوز أن يكون للضمان ما يقابله إذا دخل في عقد آخر. ثانيًا: بالنسبة للغطاء النقدي، إذا كان للعميل حساب جار أو ودائع استثمارية فإن المصرف افسلامي يقبل جعلها غطاء نقديًا للكفالة على أن ينص على ذلك في التعاقد مع استمرار اشتراك ودائع العميل الاستثمارية في الأرباح. هذه خلاصة والأخ الأستاذ الدكتور عبد الستار أغناني عن كثير. والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، والله أعلم بالصواب. الرئيس: بهذا ننتهي من استعراض ثلاثة من البحوث كنماذج لما بين يدي اصحاب الفضيلة من البحوث ونفتح المناقشة للجميع بما فيهم المشايخ الذين أعدوا بحوثًا ولم نستعرض بحوثهم، فإننا نفتح المناقشة للجميع بما فيهم المشايخ المذكورين. والشيخ زكريا. الشيخ زكريا البري: هذه المناقشة لا تغني عن النموذج المقدم منى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 997 الرئيس: تفضل. الشيخ زكريا البري: بسم الله الرحمن الرحيم، أقدم وأمهد لرأيي بهذه المقدمات الأصولية والفقهية المشتملة على القواعد التالية: أولًا: الأصل في الأشياء ومنها العقود والشروط والتصرفات، هو الإباحة والجواز والصحة، ولا يحرم منها إلا ما يقوم الدليل الخاص على تحريمه، هذه القاعدة وهذا الأصل الذي ذهب إليه بعض الأصوليين والفقهاء المحققين والذي انطلق منه الإمام العظيم والفقيه الحنبلي المجتهد ابن تيمية، إلى حرية التعاقد والإشتراط مستندًا في دعم رأيه الذي رفع به الحرج عن المسلمين وبصفة خاصة في العصر الحاضر، الذي استحدثت فيه الحياة عقودًا وشروطًا غير مسبوقة إلى ما يأتي: ما جاء في القرآن الكريم من الأمر بالوفاء بالعقود بصفة عامة ومن ذلك قوله – جل ثناؤه – {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} وقوله - سبحانه - {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} . فكل عقد أو شرط في عقد، ورد به نص أو لم يرد، هو التزام وعهد من العاقدين يجب الوفاء به. والقول بعدم جوازه وعدم صحته من غير دليل مخالفة لهذه الآيات القرآنية العامة. ثانيًا: ما جاء في السنة النبوية الصحيحة، من الأمر بالوفاء بالوعد وبالعهد، والتحذير من الغدر، مثل قوله – عليه الصلاة والسلام – ((أربع خلال من كن فيه كان منافقًا خالصًا، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها)) . ولو كان الأصل في العقود والشروط الحظر والمنع، إلا إذا قام الدليل الخاص على الحل، لم يذم الرسول إخلاف الوعد بهذا الإطلاق، ولم يذم الغدر بنقض العهد بصفة عامة، كما جاء في الحديث. ثالثًا: أن التعاقد والاشتراط فيه مباح بحسب الأصل، والمباح إذا اوجبه الشخص على نفسه لغيره، صار واجبًا عليه لتعلق حق الغير به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 998 بعد ذلك يقول: (أن العقود والشروط من الأفعال والمعاملات العادية ولسيت من العبادات التي لا تجوز ولا تصح إلا بالتلقي من الله جل جلاله) . والله سبحانه وتعالى يقول {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وهذا التفصيل يعم الأفعال والتصرفات، فإذا لم يكن العقد أو الشرط حرامًا بتحريم الشارع، فإنه لا يكون باطلًا، لأن البطلان إنما يترتب على التحريم. بعد ذلك يقول: (إن الأصل في العقود والشروط قيامها على التراضي بين العاقدين، وتترتب آثارها عليها تبعًا لهذا التراضي) . وفي ذلك يقول الله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، ويقول في المهر {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} . فقد أحلت الآيتان الأموال فيهما بناء على الرضى في الاية الأولى، وطيب النفس في الاية الثانية، ما لم يكن هناك دليل خاص لتحريم عقد خاص أو شرط خاص. بعد ذلك يقول: (إن العقود والشروط التي تتم بين الناس أمور مقصودة لهم، يرون فيها مصلحتهم التي لا تلحق الضرر بغيرهم، ولولا حاجتهم إليها ما عقدوها ولا اشترطوها. فيجب رفع الحرج والضيق والعنت عن الناس يتجويزها وتصحيحها وترتيب الاثار عليها، ومنع عقد أو شرط من غير دليل شرعي – مع هذه المصلحة وتلك الحاجةللمتعاقدين –يؤدي إلى الحرج والضيق والعنت الذي رفعه الشارع الإسلامي، في مثل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} ، أي ما جعل وما شرع ما يحرج عباده كما جاء في الاية الأولى، وما يريد أن يجعل فيشرع باسمه سبحانه ما يحرج عباده وهو العليم الحكيم، الرؤوف الرحيم. بعد ذلك يقول: (إن العقود والشروط المقترنة والمرتبطة بها لا يخلو حكمها من أحكام ثلاثة: - الا تحل إلا بدليل خاص من كتاب أو سنة أو دليل يستند إليهما، فإذا حلت بهذه الصورة وجب الوفاء بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 999 - أو ألا تحل إلا بدليل عام. - أو أن تحل من غير دليل عام ولا خاص، مادام لم يوجد دليل على التحريم. والفرض الأول غير صحيح، لإجماع المسلمين في العصر الأول على وجوب الوفاء بالعقود التي عقدت في الجاهلية، مادامت لا تشمل على أمر منهي عنه، فإذا اشتملت على أمر منهي عنه صح منها ما لم يرد نهي عنه. فقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم المال الثابت في العقود الربوية، وأبطل شرط الربا في هذه العقود، وقال: ((ربا الجاهلية موضوع)) أي أسقطه والغاه المشرع الإسلامي. أما الفرض الثاني فإنه يشهد للحل ويترتب عليه الوفاء بكل عقد أو شرط غير منهي عنه بدليل خاص، للأمر العام بالوفاء بالعقود. وكذلك الفرض الثالث يشهد للحل، وهذا ما أراه أيضًا. ثم أما بعد، انه لا يوجد في أخذ الأمر على هذا الضمان المصرفي لتنفيذ أعمال مشروعة نص محرم من كتاب أو سنة، ولا دليل محرم. فلا يوجد له نظير يقاس عليه في التحريم لاشتراكهما في علته. ثم لا يوجد عرف صحيح يحرمه ويمنعه، ولا توجد فيه مفسدة كما لا توجد مصلحة في تحريمه بل أن المصلحة في إباحته وحله وصحته، وفي إلزام المضمون به. وإذا قيل أن بعض كتب المذاهب الفقهية قد صرحت بتحريمه فاني أقول أن الدليل الذي استندوا إليه هو أن الضمان لم يشرع إلا على سبيل التبرع، وهو صورة من صور المصادرة، لأن نفس الدعوى هي نفس الدليل كأنهم يقولون أن أخذ الأجر غير مشروع لأنه غير مشروع. وفد زادني ثقة بهذا ما سمعته جديدا من هذه البحوث الآن، وإذا قيل أن الإمام ابن تيمية الذي ذهب إلى أن الأصل في العقود والشروط هو الإباحة والحل، قد ذهب إلى عدم جواز أخذ الأجر على الضمان، قلت: أني مع قاعدته العظيمة لقيام الأدلة عليها، ولست معه في عدم جواز أخذ الأجر على هذا الضمان إذا كان رأيه بالمنع يشمل الضمان المصرفي التجاري، للأسباب التي بينتها وأبينها. والظاهر عندي أن هذه الفتوى المروية عنه لا تشمل الكفالات بهذه الصورة التجارية الجديدة التي تعاملت بها المصارف العامة، وتتعامل بها بعض المصارف الإسلامية.فلقد كانت الكفالة في العصور الماضية تتم ضمانا لمحتاج يستدين، وقد لا يجد من يسلفه إلا بضمان من ملئ لضعف ذمة المستدين المالية ونحو ذلك فيضمنه الغني تفريجا لكربه ورجاء لثواب الآخرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1000 وفي مثل هذا يقول الرسول الرحيم ((من فرج عن مؤمن كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) .إما الآن فان هذه الضمانات تتم لشركات مالية كبرى، ولتجار أغنياء، ولابد في قبول العطاءات من هذه الشركات وهؤلاء الأغنياء من تقديم الضمان المصرفي. وهذه العطاءات التي تقدمها الشركات والتجار للالتزام بأعمال معينة يتوقف قبولها –كما قلنا – على تقديم الضمانات، وهذه الأعمال تتوقف عليها تنمية المجتمع تنمية اقتصادية واجتماعية وعسكرية وسياسية بل أن البنية الأساسية للمجتمع من طرقات ومواصلات ومرافق مياه وصرف صحي وكهرباء تتصدر هذه الأعمال. وامتناع المصارف الإسلامية عن القيام بهذه الضمانات لأنها لا تستفيد منها ماليا وتجاريا يؤدي إلى لجوء المحتاجين إليها إلى البنوك الربوية في هذه الضمانات ثم في غيرها. فإذا سادت المصارف الإسلامية –وهذه هدف أساسي لنا – استحال على هذه المصارف القيام بهذه الضمانات ما دام أخذ الأجر عليها غير مشروع لأنها إما أن تقوم بها مجانا وفي ذلك تعريض أموال المؤسسين والمساهمين فيها للضياع من غير فائدة تعود عليهم، واما أن تقوم بها باجر، ولا يرى الفقهاء جواز ذلك. ويتعين –بناء على ذلك – القيام بهذه الضمانات وأخذ الأجر المناسب عليها من غير وكس ولا شطط ولا مغالاة، وفي ذلك كشف لمغالاة البنوك الربوية، يدعو إلى الإحجام عن التعامل معها في هذه الضمانات ثم في غيرها، وفيه من المصلحة ما فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1001 ولقد أفتى المتقدمون من فقهاء بعض المذاهب بعدم جواز أخذ الآجر على تحفيظ القران وإمامة الصلاة بناء على انهما يدخلأن في العبادات والطاعات التي لا يجوز أخذ الأجر المادي عليها في الدنيا، والتي يستحق فاعلها الجزاء والثواب الأوفي في الآخرة، والآخرة خير وأبقى. وقد جرى المجتمع الإسلامي على ذلك حينا من الدهر، ثم اقتضت الثورات الاجتماعية تخصيص مسلم مؤهل للقيام بهذه الأعمال بحيث يتفرغ التفرغ اللازم والمناسب لها. ووجد المتأخرون زمانا من فقهاء هذه المذاهب نفسها أن القول بعدم جواز أخذ الأجر في ذلك وفي أمثاله مؤد إلى ضياع حفظ القران الكريم حفظا سليما، والى ترك إمامة الصلاة لمن لا يحسنها نظرا لعدم التفرغ لهذه الأعمال الدينية اشتغالا بكسب العيش فأفتوا بأخذ الأجر. وعلى ذلك جرى ويجري العمل الآن في جميع البلاد الإسلامية. ثم إذا كان مقتضى هذا الضمان المصرفي إلزام المصرف بالمغارم التي تترتب على هذ1 الضمان، تنفيذا لالتزامه، فلم لا يكون له غنم من المضمون يؤديه للمصرف الضامن نتيجة الاتفاق والرضا به؟ ومن القواعد الفقهية العادلة أن الغرم بالغنم، جرى عليها التعليل الفقهي في مثل وجوب نفقة الفقير العاجز على قريبه الغني الموسر، مغرما في حالة فقر القريب مقابلة للمغنم بميراثه في حالة يساره. وإذا كان الأصل منع الأجر عند بعض الفقهاء فلم لا يجوز أخذه استحسانا واستثناء من القواعد الأصلية استنادا إلى المصلحة العامة والخاصة؟ وإذا قيل أن في إمكان الضامن-كما أشار الأستاذ السالوس – أي (المصرف) والمضمون أن يشتركا في نفس العمل الذي يضمنه المصرف، قلت: أن هذا ممكن إذا رأي الطرفان مصلحتهما فيه. ولكن قد يريان أو يرى أحدهما أن المصلحة في انفراد المصرف بالضمان واستحقاق الأجر عليه، وانفراد المضمون بنتيجة العمل ربحا أو خسرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1002 كما أن المجتمع الإسلامي كان يرى أن الوكالة عن الغير في عمل من الأعمال تكون مجانا وخدمة اجتماعية، ثم تطورت الأحوال تطورا حضاريا، ووجد المتخصصون الذين لا يقبلون الوكالة إلا بالأجر، كما في توكيل المحامي وتوكيل السمسار وكل منهما يتفرغ لهذا العمل ويكسب قوته من هذا الأجر. بعد ذلك أرد على ما قاله العلامة أبو غدة من أن هذه واجبات فيجوز أخذ الأجر عليها، إما هذه فليست واجبات فلا يجوز أخذ الأجر عليها، أقول له يا سيدي إذا كان المنطق هو هذا فإنه إذا جاز أخذ الأجر على الواجب الديني جاز أخذ الأجر على المباح من باب أولي، وإذا قال أن هذا ليس أجرا إنما هو رزق، قلت: ما هذا؟ أقول: أن كل ما سمعته زادني ثقة بهذا الرأي ولهذا فاني رغم أنى ختمت كلمتي التي كنت أرسلتها إلى أمانة المؤتمر فان الأساتذة الأجلاء أعضاء المجمع الرائد يعلمون انه يستوي في الإثم تحريم الحلال وتحليل الحرام من غير دليل والله – سبحانه وتعالى –يقول {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . ثم أقول أيضا ومما زادني ثقة في هذا الرأي. هذا رأيي الذي اعرضه على حضراتكم، فان يكن صوابا فمن الله وبتوفيقه، وان يكن خطا فمني ومن الشيطان، استغفر الله وأتوب إليه. وأول درجات التوبة الرجوع إليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1003 الشيخ عبد اللطيف جناحي بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على اشرف المرسلين. اللهم لا تجري على لساني إلا صدقا ولا تجعلني أقول إلا حقا. سيدي الرئيس، قبل أن أدخل في صلب الموضوع، أود أن اقرر بعض النقاط: أولا: بنوكنا الإسلامية ليست صورة من البنوك الربوية، ونحن لا ننطلق من نفس المنطلقات التي ينطلقون منها، فلنا عقيدتنا التي ننطلق منها وتنبعث وتنبثق أفكارنا من أسسها، هذه حقيقة واحدة يجب أن نقرها. ثانيا: ما كل ما يعمل في البنوك الربوية يجب أن نعمله ولسنا منافسين لهم أو مقلدين لهم، ولو دخلنا في مجال المنافسة وتفويت الأرباح علينا لطلبنا من العميل أن يستورد الخمر ويكتب عليه عصير عنب قديم. ثالثا: المصارف الإسلامية ليست جهات تبرع، فأموال المسلمين لديها، وعليها أن تحافظ على هذه الأموال حق المحافظة. وان اضطرت إلى إصدار خطاب ضمان من غير اجر فعليها أن تبني ذلك على المصالح المشتركة التي بينها وبين العميل وليس على أساس خطاب الضمان المصدر. رابعا: من خلال عملي واطلاعاتي المتواضعة البسيطة التي لا أستطيع أن انسبها إلى اطلاعاتكم من أقوال فقهائنا وجدت أن هناك شفافية إيمانية لدى السلف الصالح يجب أن نقف عندها إذا قالوا بالتحريم حتى ندرك سبب التحريم وتتكشف لنا الأمور ولا نستعجل في إصدار القرارات. خامسا: أنا قصتي مع خطاب الضمان قصة طويلة، كنت من مؤيدي أخذ الأجر ولكن لم آخذ الأجر لأن رقابتي الشرعية لم تسمح بذلك، ودخلت معهم في نقاش طويل ثم قلت: لأذهب وابحث عن إثباتات لادحض رأيهم، وكتبت إلى عدد من العلماء الذين أثق بأيمانهم ومنهم أخي وزميلي علي السالوس الذي جاء رده برفض أخذ الأجر فقلت: أذن يجب أن اقف وقفة. هذا التجمع تجمع آراء السلف الصالح الذين اعتبر شفافيتهم الإيمانية اكثر من شفافيتي، لابد أن يكون هناك سبب وبدأت ابحث في الموضوع ولا أستطيع أن أقول أنني أكملت البحث لحد الأن، ولكن سأسرد لكم ما توصلت إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1004 وجدت في سنة 82 تغير في شكل إظهار ميزانيات البنوك الأمريكية. العادة خطابات الضمان يعتبرونها من الحسابات المتقابلة، أي لا تظهر في الأصول فورا. الميزانية تقسم إلى قسمين: له وعليه، ويوضع في له مثلا عقارات أو كذا وكذا، وعليه ودائع لفلأن وعلان ويحسم، ثم تأتي الكفالات كل مسمى. حسابات متقابلة يسمونها حسابات نظامية لا تحسب على البنك إلا عند وقوعها. وإذا بعض المدققين في أمريكا قالوا لا يجب حسابات الضمان أو خطابات الضمان أن تدخل كمسؤولية هذا التغيير جعلني اقف وقفة، لماذا اصبحوا يفكرون في مسؤليتهم؟ قالوا لا هذه قاعدة للسحب، وبدأت استفسر واسألهم. وإذا بالأمر له خلفية هو صحيح ما التبس في الأمر أن نسبة أخذ الفائدة على خطابات الضمان ضئيلة جدا لا يمكن مقارنتها مع نسبة الفائدة الربوية. الفائدة الربوية 11 و12 و13 خطابات الضمان 1/8و 1/4 و 1/2 كيف تأتى ذلك؟ عبر الزمن، خطابات الضمان كونت حقيبة كبيرة من المال. لنفترض أننا كنا جميعا احتجنا إلى خطابات ضمان، كل من احتاج إلى 100 ريال خطاب ضمان، ونحن خمسون، في مائة اصبح خمسة آلاف ريال خطابات ضمان. هل الخمسة آلاف كلها ستسحب؟ لا! لدينا ناس ماليون ممكن أن يسددوا بأنفسهم أو يقوموا بالتزاماتهم. إذا كم في المائة من هذه الخطابات قد تسحب، ممكن واحد في المائة أو اثنان في المائة، إذا البنك الربوي يعزل هذا الواحد في المائة ويضعه مبلغا تحت الطلب عندما يفشل أحدنا في سدا التزاماته. هل هذا المبلغ ثمن أو لا؟ نعم لهذا المبلغ ثمن ربوي لابد أن يأخذ البنك عليه فائدة لأنه حجزه لصالح من سيفشل منا، قد يكون أنا قد يكون مليون شخص، كلما كبر البنك كلما قلت مخاطر خطابات الضمان فإذا هذه النسبة التي تؤخذ، في الحقيقة نسبة ربوية، ولكن تضائلت النسبة لا لأن المبلغ كبير ونأخذ عليه شيئا بسيطا، لا! لأن ما سيطلب قد يكون مبلغا بسيطا. وأرجو أن يكون هذا واضحا. وأنا أعتز برأي زكريا البري وإحبه حبا شديدا ولكن أود أن يسمح لي في مخالفته في هذا الرأي لا كفقيه ولكن كتلميذ من تلاميذه وابن من أبناؤه أحبه كأبي. فلذلك هي نسبة مئوية يحسبها البنك بأسس وقواعد ربوية هذه هي شكلية خطابات الضمان، وهذه هي الميكانيكية ورائها، ولكن للبحث في الموضوع لم يبحث في الميكانيكية، بحث في الشكل فقط، الشكل الظاهر، الحقيقة في بعض الأوقات قد يكون مضللا، قد لا يكون واضحا لأن ما توصل إليه خطابات الضمان توصلوا إليه عبر ما يكاد يكون قرنا فتكونت خبرة لقرن من الزمان لمائة سنة أو خمسين سنة أو … .الخ، ونحن عرفنا في مشرقنا البنوك الربوية يمكن من ستين سنة، فلننظر، وهذا ما سأحاول أن اصل إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1005 سأرجع قبل ستين سنة، لأرى في منطقتنا العربية والإسلامية كم كانت نسبة خطابات الضمان؟ هل كان الثمن أو كانت اثنين أو ثلاثة في المائة أو أربعة في المائة..لماذا؟ لأنه ليس لديهم ثقة في مقاولينا وتجارنا. هذه قد تلقي بعض الضوء لدى العلماء وخاصة أن النظرة كما قلت لدى بعض مدققي الحسابات في أمريكا تغيرت. وأرجو أن أكون قد وفقت بطريقة العرض بشكل يكون واضحا وألا أكون مقصرا فيما قلت. وأشكرك يا سيدي الرئيس. الشيخ مصطفي الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم، اخواتي الأساتذة الكرام، في الواقع أني قضيت في الماضي زمنا طويلا متحيرا في هذا الموضوع، ذلك أني كنت أرى نصوص الفقهاء في منع أخذ الأجر على الكفالة وذلك من قبل أن تشيع قضية خطابات الضمان المصرفية، ثم شاعت خطابات الضمان المصرفية، وزادني الأمر حيرة ذلك أنني كنت أجد حاجة الناس تزداد وتكثر إلى خطابات الضمان في مناسبات قانونية وأعمال رسمية وتعهدات وما إلى ذلك، ونصوص الفقهاء مانعة، لا سبيل، كما سمعتهم، لا حاجة إلى إعادة شيء منها. بهذه الكثرة أصبحت أميل إلى القول بأنه: ما مستند الفقهاء والعلل التي سمعناها إنها تؤول إلى قرض وإنها في البداية تبرع؟ كلها لم اكن أجد فيها ما يروي الغليل، ويسند موضوع المنع، لأن كثيرا من الأمور يكون البدء فيها مشروطا بشرائط وفي النهاية تكون لها أحكام أخرى، يعني في النهاية يكون الشيء حكمه بدءا شيئا ونهائيا شيئا كما هو معروف في بعض الفروع الفقهية. فكنت في حيرة في الواقع زمنا طويلا في هذا الموضوع، ثم انتهيت في فترة ما غير بعيدة إلى إزالة هذه الحيرة، بالاستقرار على التحريم ذلك أني رأيت بعد تفكير طويل والتماس العلل، رأيت فكرة جاءت كشفت لي حكمة النصوص الفقهية بالتحريم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1006 ذلك أنى قلت إذا جاز أخذ الأجر على الكفالة فان تحريم الربا يفقد حجيته. فلا يبقى هناك مجال أبدا لتعليل حكمة الربا، لماذا؟ لأننا نحرم على المقرض أن يأخذ فائدة، أو أي زيادة على مبلغ القرض، لماذا؟ لأنها ربا وهو محرم. فكيف إذن نبرر ذلك إذا قبلنا أن الكفيل لمجرد تعرضه لأن يؤدي عن المكفول مالا في المستقبل وقد لا يؤدي، لا تقع المسئولية لمجرد هذا الالتزام وتعرضه إلى أن يؤدي عنه مالا في المستقبل سيصبح قرضا، أننا نسوغ له أخذ الأجر. ذاك المقرض الربوي الذي يدفع بالفعل ويتخلى عن جانب من ماله لمصلحة ذلك الآخر الذي يستعمل مال ذلك المقرض، نقول: لا يجوز أن يأخذ هذا المقرض زيادة عن ما اقرض، وإذا لم يقرض بالفعل ولكنه دخل تحت مسئولية تعرضه لأن يؤدي فيما بعد، وقد لا يحتاج إلى التأدية، نقول: يأخذ.هذا انكشف لي فيه تناقض إذا أقررنا جواز أخذ الأجر على الكفالة. وزالت غمامة في فكري في الموضوع وظهرت لي حكمة اتفاق الفقهاء، وكنت اعجب لهذا الاتفاق لأنه قلما توجد مسالة فقهية ليس فيها خلافات في المذاهب والآراء بكثرة. هذه لم أجد فيها خلافات، فكنت اعجب من هذا الاتفاق فانكشفت لي بذلك الحكمة وقلت: هذا لو قبل أخذ الأجر فيه، لفقد الربا حجية تحريمه. واستقر فكري على هذا الموضوع. ولكني بقي في نفس شيء، كيف نعالج مشكلات العصر في هذا الشان ونحن نرى أن البعثات العلمية لا يمكن أن تقررها وتنفذها الحكومات إلا إذا قدم طالب البعثة خطاب ضمان مصرفي لكي يبعث للدراسوالعلم. المتعهدون لا يمكن أن يقبل منهم دخول في تعهد لأعمال حكومية ولمصالح تعميرية وإنشائية إلا إذا قدموا خطاب ضمان. كثير من وظائف الدولة وهي أعمال عامة مشروعة إذا كان هناك فيها علاقة مالية فيها أمانة، وما إلى ذلك لا يوظف فيها الموظف إلا إذا قدم خطاب ضمان. مثلا أمين صندوق، النظم لا يمكن أن يعين أمين الصندوق في دائرة أو وزارة إلا إذا قدم خطاب ضمان. وهكذا كثير من الأعمال ربطتها النظم القائمة الحالية، ربطتها بتقديم خطابات ضمان، فكيف نعالج هذه المشكلة؟ الواقع زادني الأمر حيرة بعدما انشرح صدري في ذاك الوقت وأعطيت آراء كثيرة متعددة بالحرمة وبتوجيهها بهذا التوجيه، لكني في مواجهة المشكلة القائمة في الحياة الحاضرة والتي إذا سد فيها باب الأجر على خطابات الضمان تعطلت مصالح وتوقفت بعثات دراسية وتوقفت أعمال إنشائية ومقاولات وتعهدات ووظائف عديدة … .الخ كيف نعالج هذا؟ أن هذا مشكل يجب أن يعالج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1007 العلاج الذي أورده أخونا العزيز الكريم الدكتور السالوس بان يدخلا شركة: الضامن والمضمون له، هذا لا يمكن أن يطبق، أولا لصعوبة تطبيقه ولما ذكره الأخ الكريم الدكتور البري أن هذا قد لا يرضاه الطرفان، ولا يكون فيه مصلحتهما. أزيد على ذلك انه في بعض الحالات لا يمكن تطبيقه، هذا يمكن لما يكون خطاب الضمان لأجل ممارسة أعمال استثمارية قابلة للشركة، لكن كيف يمكن أن يدخل الضامن والمضمون في شركة مثل البعثة الدراسية التي يجب على الطالب المبعوث لكي يبعث أن يقدم خطاب ضمان، كيف يدخل معه المصرف في شركة في مثل هذا الحال، هذا ليس بحل. والواقع أني في حيرة من هذا الأمر ولكني بدأت أميل من فترة إلى أن نميز خطاب الضمان عن موضوع القرض الربوي الذي قلت: انه لو أبحنا الأجر على الضمان لفقد الربا حجيته. ظهر لي فرق يمكن أن نفرق به بين الموضوعين، وعندئذ يمكن أن يكون مثل رأي أخينا الدكتور البري أن يكون مقبولا. ذلك أن القرض الربوي هو عمل احترافي يتخذ به المرابي هذا الشان طريقا لاكتسابه الحيوي، كما يأخذ كل ذي طريق اكتسابي فرعا من فروع الاكتساب كالتجارة والصناعة … الخ، فهو احتراف لامتصاص أموال الناس بدون عمل وبدون جهد عن طريق الإقراض بالربا. أما خطابات الضمان فهي لم يعهد حتى إلى يومنا هذا انه عمل احترافي مستقل تلجا إليه البنوك أو المصارف لكي تجعل طريق اكتسابها وأرباحها من خطابات الضمان، ولا سيما أن النسبة ضئيلة التي تؤخذ على ذلك فهي لا تصلح للاحتراف، وفي الواقع ليست هي طريق احتراف اكتسابي أصيل في عمل الناس المرابين كما هو واقع، بل هي أصبحت عملا جانبيا تشبه أن تكون كما سمعتم في النصوص التي أوردها الإخوان الباحثون الدكتور عبد الستار والدكتور السالوس وغيرهم انه إذا كان الخطاب ليس مستقلا وانما هو في ضمن عقد آخر، فإنه لا يصبح مقصودا بالذات وعندئذ يجوز أخذ الأجر عليه. هذا لعله باب يمكن حل المشكلة به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1008 الرئيس: هل يوجد خطاب ضمان مستقل؟ الشيخ مصطفي الزرقاء: نعم البعثات أوردت خطاب ضمان مستقل، مبعوث طالب يريد أن يوفد للدراسة، لا يمكن أن يوفدوه إلا بخطاب ضمان. الرئيس: لكن إذا تعلق خطاب الضمان صار موجب الخطاب هو الابتعاث، كما أن موجب خطابات الضمان الأخرى هو المقاولات أو الإنشاءات أو ما جرى مجرى ذلك. الشيخ مصطفي الزرقاء: ليس كله. الرئيس: قصدي له تعلق من وجه في الابتعاث. الشيخ مصطفي الزرقاء: أمناء الصندوق يعينون في وظيفة مستقلة، لا يعين إلا بخطاب ضمان. الرئيس: سؤال سلمك الله، هل يوجد خطاب ضمان مستقل بدون أي علاقة؟ الشيخ مصطفي الزرقاء: بدون أية علاقة، لا. الرئيس: لابد من موجب. الشيخ مصطفي الزرقاء: لابد من سبب ولا شك، داعٍ يدعو الشخص المحتاج إلى خطاب الضمان أن يطلب هذا الخطاب. المهم أنني رأيت بعد تفكير أن هناك فرقا واضحا بين عمل المرابي الذي مهنته الإقراض بالربا وبين خطاب الضمان الذي نحن رأينا أن أخذ الأجر عليه يفقد الربا حجية تحريمه، فرق بينهما. خطاب الضمان عمل جانبي دائما، عمل جانبي تمارسه المصارف، ولا سيما صورته الحاضرة في عصرنا هذا كما أشار الأستاذ الدكتور البري. لأن صورته الحاضرة في هذا العصر وكثرة طلباته التي أوجبتها القوانين بمختلف النواحي والمناسبات جعلت منه شانا جديدا، ولذلك من الممكن أن نقول، هذا أيضا تابع للبحث والمناقشة ولا اجزم به من الأن، من الممكن أن يقال بان هذا العمل عمل جانبي في المصارف وليس مراباة محترفة كما في القروض الربوية ولا سيما انه اصبح في عصرنا الحاضر أخذ طورا جديدا لم يكن له من قبل أبدا. وارتبطت به مصالح مشروعة لأناس إذا لم يمهد لهم سبيل أخذ خطاب الضمان تتوقف مصالحهم ومنافعهم المشروعة كالبعثات الدراسية مثلا وغيرها تتوقف مصالحهم عليها واصبح خطاب الضمان لكثرته ما عادت تقدم عليه البنوك أو الجهات التي يطلب منها ولو كان هناك داع إليه لأنهم لو فتحوا الباب لكثرت الطلبات عليهم جدا ولا يمكن أن يفعلوا هذا بدون لقاء. فلذلك اصبح وجود اللقاء وهو بسيط زهيد نسبة ضئيلة، هذا هو الذي يسهل على تلك المصارف إعطاء خطاب الضمان ويمشي مصالح هؤلاء المحتاجين، وهي مصالح مشروعة لهم واصبحوا الباب أمامهم مسدود لا يستطيعون الوصول إلى هذه المصالح إلا عن طريق فتح باب أخذ هذا الأجر الضئيل على خطاب الضمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1009 وعندئذ لا يرد ما أورده أخونا الجناحي الكريم من أن حسابات خطاب الضمان في المصارف الأجنبية، وان كانت هي في ظاهرها ضئيلة لا تهدف بالظاهر إلى الربا ولكن نظرا لأن المسؤولية لا تتحقق عليهم في كل خطاب ضمان يوجهونه ولكن تتحقق في حالات نادرة، فما يأخذونه، من المجموع الضئيل يغطي هذه المسالة، وان كانوا يحسبون هذا حسابا ربويا، نحن لا يهمنا أي طريقة من الحساب تحسبها البنوك الأجنبية، هذا لا يهمنا، وأنا كثيرا ما أفتيت. يسألني الناس، البائع يضع سعرا لسلعته فيقول كهذه بمائة نقدا وبمائة وعشر مؤجلا مثلا. فأقول لهم: هذا جائز، ونص الفقهاء عليه، ليس من عندي بل منصوص عليه، ولأن رغبات الناس تتفاوت بين أن يبيع الإنسان بنقد عاجل يأخذه ويعوض به البضاعة وبين أن يبيع بمؤجل، رغبات الناس في البيع، يعللونه الفقهاء هكذا (من تفاوت رغبات الناس في البيع) ، يقولون لي السائلون: طيب هو يحسب الزيادة الذي يريدها على أساس الفائدة، هو يأخذ كم في العادة تأخذ المصارف مثلا، أو القروض يضعون عليها فائدة سنوية، فهو لأجل الثمن المؤجل مثلا سنة يضيف مثله، أقول لهم نحن لا يهمنا طريقة حسابه اليوم التاجر بدون أن يجعل سعرين للنقد والمؤجل لو جاء فوضع بضاعته أمامه ولا يبيع إلا بنقد لو فرضنا، وهو يحسب كم يجب أن يربح، أخذ هو طريق حساب الفوائد وقال ما دام البنوك تربح مثلا نفرض 10 %، فأنا اشتريه بمائة وأبيعه بمائة وعشرة، نحن هل نقول له يحرم عليك هذا لأنك بنيت الحساب على الفوائد البنكية، لا علاقة لنا بما يبني عليه حسابه. فتبني البنوك الأوربية والأمريكية حسابها في نسبة ما تأخذ عن خطاب الضمان كما تشاء لا يهمنا، لكن نحن إذا وجدنا أن هذا الخطاب أصبح ضرورة وفيه وفاء لحاجة الناس ومنافع مشروعة، والطريق فيه مسدود لا يمكن إلا بهذا، وهذه النسبة لا تشكل قرضا ربويا وأن الخطاب نفسه اصبح عملا جانبيا وليس هو عمل مراباة أساسي كالمضاربين الذين يجعلون طريقة كسبهم لحياتهم هو الإقراض الربوي، كل هذه الملاحظات والفروض أصبحت ولحل المشكلة أميل إلى أن يقرر جواز خطاب الضمان. وعندئذ تصبح البنوك الإسلامية يزول حرجها. والسلام عليكم وأرجو من الله سبحانه وتعالى أن يكون صوابا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1010 الرئيس: يعني يجوز خطاب الضمان في البنوك الإسلامية فقط؟ قصدي يعني في البنوك الأخرى لا يجوز لها. الشيخ مصطفي الزرقاء: متى أقررناه بهذا الشكل يقر للجميع، لأن البنوك الربوية لو أرادت أن تصدر خطاب ضمان بدون اجر، هل نمنعها لأنها ربوية؟ لا، ما جاز للبنوك الإسلامية يجوز لغير الإسلامية من باب أولى. الرئيس: انتم قيدتم. الشيخ مصطفي الزرقاء: لا أقيده بالبنوك الإسلامية. الشيخ محمد علي الزبير: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلي الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين. سماحة الرئيس سوف أكون موجزا بإذن الله. أولا: يسمح لي أستاذي الدكتور البري أن أخالفه مخالفة صريحة في منهجيته للوصول الى الحكم والاستدلال بالطريقة التي استدل بها للوصول إلى الحكم الشرعي. فالواقع هو أستاذنا في أصول الفقه، ولقد تعلمت منه الشيء الكثير. فليس كل عقد من العقود يمكن أن يقال انه مباح لأنه عقد مستحدث، وانما العقود تقاس وتكيف حسب العقود الموجودة قديما، ولابد أن نقيسها على العقود الموجودة في الفقه. فالواقع التكييف الشرعي كما كيفوه أساتذتنا الشيخ أبو غدة والشيخ السالوس هو تكييف صحيح: أن خطاب الضمان يمكن أن يكيف على ثلاث حالات: الحالة الصرفة، أن يكون عقد كفالة، والكفالة كما هو مقرر في كتب الفقه لا يجوز عليها أخذ الجعل أو الأجر إذا كانت كفالة بحتة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1011 الأمر الثاني: أن يكون المبلغ مغطى، إذا كان مغطى تغطية كاملة فيجوز أخذ الأجر على ذلك بان يكون البنك وكيلا وأن يقوم بالعملية بالوكالة، والوكالة يجوز فيها الأجر، وهنا تظهر مفارقات عجيبة، لأن البنك حينما يضمن بدون تغطية لا يعطي أجرا وإذا غطى المبلغ يعطي أجرا، وهذا ما يعترض عليه كثير من البنكيين الذين يقولون إن الفتوى عجيبة في حالة الضمان البحت الغير مغطى لا يؤخذ اجر على ذلك وفي حالة التغطية تؤخذ وكالة، وفي الواقع أن التغطية هنا أيضا لابد أن نقول أن هناك نوعان من التغطية، تغطية كاملة ويمكن أن يكيف العقد على أساس وكالة بحتة، وممكن أن تكون التغطية جزئية وهذا هو الواقع في البنوك وهذا هو مدار العمل في البنوك كلها. أن تكون التغطية جزئية وليست كلية فهناك تغطية بنسبة الربع أو 25 أو 30 % من قيمة المبلغ الذي يراد أن يصدر له خطاب الضمان. أستاذنا البري لو أراد أن يكيف القضية تكييفا شرعيا على وجه الاستحسان لسألناه ما هو دليل الاستحسان؟ وما هو الترجيح بين الأدلة؟ على الأقل أن يكون هناك دليلان، دليل أرجح من الدليل الآخر، واستطاع أن يرجح دليلا على آخر لوجه المصلحة بالاسترسال بالمرسل فهذا مقبول أيضا. ولكن يبدو لي انه ليس هناك دليل غير العقود القديمة التي يمكن أن يكيف عليها هذا العقد المستحدث. ثم إذا كانت المصلحة أو الحاجة تنزل على أساس أنها ضرورة من الضرورات وهنا أيضا الحكم يعتمد على الضرورة ويجب أن نكيفه على الضرورة، ولكن أين الضرورة؟ ممكن أن يوجد البديل ويمكن أن توجد البدائل وممكن للاقتصاديين أن يدرسوا الموضوع ويجدوا دليلا ومخرجا لا يمكن أن نتحرج منه. القياس على الواجبات الكفائية أيضا مع الفارق الكبير جدا لأن الواجبات الكفائية عليها يستند عماد الدين، وإذا لم تقم بها الأمة فسدت الأمة ولهذا أجازوا من هذا المخرج، ولكن هنا ضمان، مجرد ضمان مالي يمكن أن نجد عددا من اوجه البدائل. واستغرب من أستاذي الدكتور مصطفي الزرقاء بدأ بأنه استقرت عنده الحرمية كلية، وكان معنا في مجلس من المجالس وفسر لنا وجهة النظر هذه القيمة التي استكشف فيها حجية منع الربا على الأساس الذي شرحه. ولكن في آخر الأمر رجع عن القول وبرره بالمصلحة، واعتقد بأنه ليس هناك مصلحة ملحة بحيث أننا نقول انه لا يوجد بديل. فعلى البنوك الإسلامية كلها أن تحاول إيجاد المخرج، وفي اعتقادي انه ممكن أن يوجد المخرج الذي يستطيع المسلمون أن يسيروا على هديه، والله الموفق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1012 الشيخ أحمد البزيغ ياسين: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه وحده نستعين، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى اله وصحبه ومن والاه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد. في الحقيقة عندي سؤال كنت أود أن أسأل فيه أستاذي وشيخي زكريا البري ولكن أستاذي الشيخ مصطفي جاوب عليه فأراحني. السؤال هو، إذا كان القرض بفائدة، وهو إنسان يدفع مالا ويأخذ عليه فائدة، هذا ربا، فكيف تكون الكفالة التي هي مجرد ورقة يصدرها البنك وهي مجرد كفالة مجردة محضة ليس فيها عمل، فكيف يكون جائزا بان يأخذ عليها فائدة؟ إذا كان الربا على النقود إذن هذا ربا على الوجاهة، أو ربا على ضمان أو ربا على كفالة. هذه لا تجوز وانتهينا إليها. ونصدر الآن كفالات في كثير من المصارف الإسلامية التي نحت هذا النحو لمجرد أن نأخذ قيمة القرطاس والورق مهما كانت الضمانة خمس دنانير، عشر دنانير، وهذه جلبت لنا مصالح كثيرة، جلبت لنا في الحقيقة مصالح كثيرة وأعمال كثيرة، ورأوا إنسانية العمل الإسلامي، وخلصنا كثيرا من الناس من أن يستغلوا من قبل المصارف الربوية، وتؤخذ عليهم أموال يجب ألا تؤخذ. إنما في الحقيقة يجب علينا أيضا أن نبين بأن تخريج أساتذتنا السالوس والصديق الضرير بأن الكفالة أو الضمان المغطى بمبلغ، في الحقيقة هذه ناحية فقهية وقاعدة فقهية أن أوكل إنسانا أن يسدد عني، وذلك وكالة يجب أن يأخذ عليها أجرا، يجب أن يكون هذا الأجر غير منسوب إلى مبلغ الكفالة. يكون الأجر محددا لنفس العمل، لنفس أخذ الأموال وتسديدها ما يكلف عليه الأجر، مجرد ما يكلف عليه المبلغ يعقد البنك لا بأس، إنما إذا كانت الأجرة ملحوظا فيها مبلغ الكفالة في النفس فيها شيء وان أفتاك الناس وأفتوك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1013 لحل أشكال الكفالة البنكية، في الحقيقة نريد أن نبين لماذا تطلب الكفالة على المقاول وخصوصا على التاجر. تطلب الكفالة للأمور التالية: الأمر الأول: جدية المقاول، ينظر في الجدية. الأمر الثاني: ليشرك معه شركة ثانية ذات اختصاص وحتى تعاونه في دراسة المشروع وحتى ترشده وحتى تبين ربما انه عندما يأتي إلى المصرف لأخذ الكفالة والمصرف يسأله لماذا؟ ربما يبدي له النصح، إذن أصبحت الكفالة غير مجردة. الكفالة المجردة انتهينا منها إنما الكفالة غير المجردة المصحوبة في عمل يجب أن يوضع فيها نصوص أن يوجد فيها عقد وهذا العقد يبين فيها ماذا يقوم البنك فيها من عمل، إذا كان عمل دراسة، إذا كان استلام مستحقات، إذا كان ملاحظة المشروع، أي مشروع كان فهذا عمل يستحق عليه أجرا، وأود من السادة الفقهاء أن يجلسوا مع المختصين لعمل صيغة لمثل هذه الأمور، وهذه الصيغة تتضمن كفالة وتتضمن عملا يقوم فيه البنك كوكيل عن المضمون. وهذه في الحقيقة إلى الآن ما تمت، مع العلم بان في الكثير من المؤتمرات أوصت بها ولكن انشغال الجميع عطل هذا، وتعطيل هذا فيه تعطيل لأعمال البنك. أما ما ذهب إليه أخي الجناحي فأنا أؤيده تماما: أن الضمانات في المصارف الأجنبية وحتى تؤخذ، والاعتمادات لا تسجل لا في الأصول ولا في الخصوم وإنما تسجل بالمعادلة، ولكن نحت المصارف بعد ذلك منحى آخر، بما أنها تتحمل الغرامة جعلت نسبة معينة في الخصوم، وهذه النسبة المعينة تستثمرها ربويا. طبعا هذا لا هو من شاننا ولا هو من اختصاصنا، إلا أنها أدركت بان عليها أن تقوم بواجبها وان تخصص مبالغ تستثمر في الربا، هذا لا شان لنا به، هي ربوية من اصلها، إنما الذي يجب علينا أن نعمله: أولا: أنا انصح إخواني في المؤسسات المصرفية بما يلي: -الكفالة المجردة المحضة أن يأخذوا عليها الأجرالفعلي "قيمة الورق والقرطاس فقط" حتى لا تلصق بنا اتهامات من الآخرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1014 الكفالة المغطاة أيضا فيها في نفس الشيء، يجب أن يؤخذ فقط الأجرة التي يستحقها البنك على تغطية المبلغ فيما لو طلب منه ذلك وهذه نسبة بسيطة جدا لا تنسب إلى مبلغ الكفالة. ثم الشيء الثالث الذي أنا أود أن المختصين أمثال الدكتور السالوس والأخ عبد الستار وشيخنا زكريا البري وشيخنا مصطفي الزرقاء مع المختصين في البنوك يعملون الصيغة الحقيقية للكفالة. هي كفالة تتضمنها دراسة مشاريع كاستلام مستحقات وملاحظة المشاريع، يعمل ويعرض في مجمعكم حتى ترون رأيكم شكرا، والله يحفظكم. الشيخ أنس الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم، أود التعليق بإيجاز في شأن خطابات الضمان. في الحقيقة العقبة الكبرى، لا شك أبدا أن إباحة أخذ الأجر على الضمان المطلق لا شك انه فعلا يفقدنا السند في تحريم الربا وبالتالي لا يمكن قبول فكرة أخذ الأجر على الضمان المطلق بحال من الأحوال. ولكن المشكلة الكبرى ما هو البديل؟ في الحقيقة يبدو لي أن البديل في هذه الحالة هو عين البديل الذي وافق كل علماء المسلمين المعاصرين على الأخذ به في مسألة التأمين، إلا وهو التامين التعاوني. بعبارة أخرى البديل الإسلامي في قضية خطابات الضمان وما شابهها من الكفالات التي تتطلب جهة تصدرها، هو أن تنشا مؤسسة للتكافل التعاوني، لا يربح أحد منها شيئا على الإطلاق ولكن من يحتاج إلى كفالة وتكون طبيعتها لا تنطوي على عمل استرباحي يسهل دخول مصرف إسلامي مشارك فيه أو كل الحالات المشابهة التي لا يصح فيها شرعا أن تعطي الكفالة باجر، مثل هذه الحالات ينبغي أن يكون لها مؤسسة للتكافل التعاوني بنفس منطق وأساس التأمين التعاوني. كل من يطلب مثل خطاب ضمان أو كفالة معينة يطلب منه أن يؤدي مبلغا يقدر بطريقة ما حسب احتمالات ضخامة المبلغ، حسب احتمالات الخسارة ولكن هذا المبلغ لا ينتفع منه أحد ويذهب إلى صندوق هذه المؤسسة.فهو يقول إننا نحن مستعدون أن نكفلك بشرط أن تساعدنا على أن تكفل إخوانك الآخرين الذين سيحتاجون مثلك إلى خطابات الضمان. بهذه الحالة المؤسسة تكون مؤسسة لا ربحية أن شئتم أن نسميها وقفا أي شيء من هذا القبيل، ربما حتى المؤسسات المصرفية الإسلامية تساهم في إنشائها بطريقة أو بأخرى أو أنها تبدا مثل أي شركة تأمين تعاوني بالتالي ينتفي منها الاسترباح ولا يعود ما يؤخذ من الشخص هو أجر على الكفالة وطلب أننا نعين غيرك ولا يربح أحد منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1015 أنا لا أقول هذا إنه هو البديل الوحيد ولكنه جدير بالتأمل وأظنه من الناحية الشرعية إن شاء الله أن لا يكون عليه اعتراض جوهري. الأن هناك حاجة كبيرة إلى وجود هذا البديل، حاجة كبيرة وهي التالية: إذا ضيقنا إمكان إصدار خطابات الضمان والكفالات بدون تغطية كاملة، إذا ضيقنا هذا. وهو الذي لا يسمح الشرع به كما قلت قبل قليل، يعني هذا لا يمكن الخلاف فيه، إذا ضيقنا وينبغي لنا أن نضيق لا تترك الشريعة مكانا غير ذلك هناك مفسدة جانبية خفية تنشا عن ذلك إذا لم يوجد البديل، وهي أنه عندما نسمح شرعا بأن تصدر خطابات الضمان المغطاة فقط، لأنها هي الوحيدة التي يمكن أن يصدروها، لن يصدر أحد إذا كان يريد الالتزام بالشريعة فنقول له: أن كان مغطى فلك أخذ اجر وان لم يكن مغطى فلا اجر لك، معناه يمتنع عن تقديمها بدون تغطية، هذا يؤدي إلى مفسدة مع أنه لابد من الالتزام به شرعا يؤدي إلى مفسدة خفية ولكنها كبيرة وهو أنه لا يستطيع الدخول في كثير من النشاطات الاقتصادية إلا الأغنياء فقط وكبار الأغنياء، لأن المناقصة التي تكون بخمسين مليون وبمائة مليون من يستطيع أن يتقدم لها، لا يستطيع أن يتقدم لها إلا من تكون ثروته أكبر من ذلك، فإذا لم نوجد البديل الإسلامي فان الالتزام بهذا الحكم الشرعي مع عدم إيجاد بديل سيؤدي إلى مفسدة أن يكون المال دولة بين الأغنياء، أكبر المشروعات وأهم المناقصات لا يمكن أن يتقدم لها إلا أكبر الأغنياء، فهذه مفسدة ولا مفر من أن نبحث عن البديل الإسلامي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1016 الأمر الأخير الذي أريد أن اذكره، هناك من يقول: هناك تناقض بين أن نقول إذا كان الضمان مغطى فيجوز أخذ الأجر وإن لم يكن هناك تغطية فلا يجوز أخذ الأجر فهذا تناقض، هذا ليس تناقضا أبدا ومن الناحية الاقتصادية سهل شرحه. الرئيس: يا شيخ أنس في سؤال بسيط هنا: ما هو الذي تستهدفه الجهة المضمون لها من خطاب الضمان، أليست تستهدف الاطمئنان والملاءة؟. الشيخ أنس الزرقاء: نعم. الرئيس: تستهدف الاطمئنان والملاءة للمضمون عنه الذي سيتولى العملية ويقوم بالإنشاء والتعمير أو أية عملية إنشاء كانت، لكن أحيانا خطاب الضمان غير المغطى ملاءة وهمية، وهذه هي الملاءة الوهمية، ونتيجة لهذا، هؤلاء الذين يدخلون في المقاولات تحت ستار خطاب الضمان الملاءة الوهمية والثقة الوهمية ما يلبث أن ينكسروا ويخسروا ويفشلوا في العملية، فيكون عدة أطراف نكبت هو نكب لأن البنك أخذ عليه النسبة المقررة، ومن حيث الجهة الحكومية مثلا أو الشركة الكبيرة نكبت من حيث إن المشروع فشل وأخذ في دعاوى ومطالبات وفض منازعات، ومن حيث أنه انتهى، فقصدي أن الملاءة أحيانا تكون وهمية، خطاب الضمان مظنة للملاءات الوهمية، قصدي غير المغطى. الشيخ أنس الزرقاء: نعم جزاكم الله خيرا رأيته في بحثكم وأوافق على مضمونه الذي تفضلتم به، صحيح أن الذي يدخل دون ضمانة وهمية قد يؤول به الأمر إلى قروض ربوية فادحة ليغطي نفسه إذا خسر. ولكن وجود البديل الإسلامي ينفي ذلك لأنه سيكون في هذه الحالة له ضمان حقيقي وليس وهميا. على أية حال إذا سمحتم، الحقيقة أنني لا أدعي أن البديل الذي ذكرته بديل متكامل ولكن أرجو أن يكون جديرا بمزيد من البحث. مسالة تثار اعتراضا على التناقض الظاهري بين أخذ الأجر على الضمان إذا كان مغطى وعدم الأخذ إذا كان بدون تغطية أقول من الناحية الاقتصادية ليس هناك تناقض على الإطلاق لأن الأجر ليس واحدا في الحالين، المعروف اقتصاديا انه لا يمكن في مجتمع تسير أحواله بدون عمليات احتكارية أن يكون الأجر واحدا في الحالين، مستحيل هذا. إذا كان مجتمع تصدر فيه كل خطابات الضمان بتغطية ويؤخذ الأجر عليها حسبما رأي العلماء انه جائز هذا الأجر سيكون أجرا ضئيلا لأنه يغطى ولا يحتاج المصرف أن يغطي إلا النفقات التي تضمن عملياته لتحويل ما قدمه من ضمان إلى مبلغ نقدي أما في حالة عدم التغطية مجتمع آخر يصدر على سبيل المقارنة الفكرية يصدر خطابات ضمان بدون تغطية سيكون أجرها أعلى بالضرورة، فالأجر ليس هو شيئا واحدا في الحالين، لذلك لا تناقض أبدا بين إباحة أخذ الأجر عند التغطية وتحريمه عند عدم التغطية من ناحية الاقتصاد لا تناقض على الإطلاق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1017 الشيخ على العصيمي: بسم الله الرحمن الرحيم، بالنسبة للحلول سواء بالوكالة كما اقترح الشيخ أحمد أو بالتبرع أو بجزء من الزكاة أو بنصيب من الدولة للبنك المقرض أو هذا الحل أو ذاك، هو لا بد من حل، لا ينبغي أن يخرج الأمر من أيدينا كما خرج بعض الأمور التي ناقشناها وتركناها للعام القادم. يجب أن يكون هناك حل لكن الحل يجب أن يبحث في لجنة ضيقة من الخبراء ومن العلماء ويأتون بحل حاصل نوافق عليه، المهم حل. هذا هو الذي ينبغي أن نخرج به، واقتراح الحل من الآن واختيار الأشخاص مسئولية الرئاسة الأن، هذا هو الحل، بدلًا من الإطالة. الرئيس: قضية الحل، ليست هي مجرد كتابة وليست مجرد فكرة عابرة، والإنسان جالس على كرسيه. هذا لابد من النزول في ميدان المعاملات الاقتصادية والمعاملات البنكية على جميع مستوياتها وسبر أحوالها، والنزول يكون من المختصمين وبجانبهم علماء من الشريعة وإذا حصل لدينا من المختصين ولا كان بودى أن أحول هذه الكلمة، أمثال هذين الشيخين الفاضلين الشيخ أحمد البزيع والشيخ عبد اللطيف جناحى، هذين المسلمين والشيخ أنس هؤلاء المشايخ وأمثالهم من الإخوان الغيورين الذين نزلوا في ساحات الاقتصاد وعرفوا أبعاده وعرفوا الربا ومخاطره يستطيعون بحول الله من خلال ما يصدر من هذا المجمع من قرار حيال هذه القضية الواقعة، يستطيعون بحول الله أن يكونوا بديلًا، وهذا البديل إن شاء الله تعالى تجرى دراسته في أي محفل علمي من محافل المسلمين. الشيخ محمد عبده عمر: الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين. لى ملاحظة واستفسار، أما الاستفسار فهو، هل خطابات الضمان تكون على الأفراد وعلى المؤسسات وعلى البنوك، أم على البنوك فقط؟ أو من اختصاص البنوك فقط؟ هذا استفسار لأننا لو قلنا أن خطابات الضمان خاصة بالبنوك فالواقع أنها الآن منتشرة بالمجتمعات الإسلامية. وهذا موضوع واسع جدًا ويؤدي إلى إخطار فادحة وخطيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1018 الملاحظة التي لي هي أن شيخنا مصطفي حفظه الله قال إنه قد توصل إلى قناعة تامة. وفهم وحكمة اتفاق الفقهاء من عدم جواز أخذ الأجرة على الكفالة وقال إنه ما كان يعلم هذا وأنه اكتشفه وتحقق لديه، ثم رجع عن رأيه هذا وقال أن المجتمع قد ابتلى بهذه البلوى وإنه لابد من بديل إسلامي لجواز خطابات الضمان. أنا الإشكال الذي عندي هو أن كثيرًا من النقاش أو المناقشة أننا نخضعها لواقعنا، ومعلوم بأن الواقع الإسلامي معاملاته حسب ما هو عليه الآن أغلبيتها فاسدة، لا تخضع لأحكام الشريعة الإسلامية، فإذا ما ابتلينا بأي أمر من الأمور وأخضعناه لأحكام الفقه الإسلامي، إلى أين ننتهي؟ هذه ملاحظة يجب أن تأخذ في الاعتبار. الملاحظة الثانية، هو أن الأمور التي لم يكن فيها نص لا من كتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا قياس صحيح إنما فيها اجتهادات بحتة، نناقشها بعيدًا عن الإجتهاد الأصولي. فإذا كانت المسألة ليس فيها نص من كتاب الله ولا من سنة نبيه عليه الصلاة والسلام ولا فيها إجماع، فلا بد وأن نلجأ في هذه الحالة إلى تلمس الأحكام التي تناط بها الأحكام ونفهم العلة ومناط الحكم فيها، ونفهم أيضا أن هذا القياس صحيح حتى نستنبط الحكم الفقهي الصحيح من مكانه الصحيح المتفق عليه أصوليًا. أيضا لا بد من البحث عن المصالح الحقيقية للشريعة الإسلامية، أيضا لا بد من البحث عن المقصد الصحيح من هذا الحكم الذي نتوخى الاجتهاد فيه والوصول إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1019 فالخلاصة أن ملاحظتي حول بعض الأمور التي نوقشت، أنها نوقشت بعيدًا عن الجانب الأصولي وعن الجانب التعليلي ومع احترامي الفائق لبعض مشايخنا أنهم لا يعللون وجه الاستدلال لا بنص ولا بإجماع ولا بقياس صحيح، وإنما هو اجتهاد واستحسان، وحتى الاستحسان لا يوضحون فيه وجه الاستحسان فضلًا عن دليل الاستحسان الخفي كما هو معروف عن الأصوليين. الرئيس: وجه الاستدلال لا يعلل يا شيخ الشيخ محمد عبده عمر: وجه الاستدلال لابد أن يعلل. الرئيس: ما يعرف أن وجه الاستدلال لا يعلل. الشيخ محمد عبده عمر: أحب أن أقول أن الأمور التي لا نص فيها لا من كتاب ولا من سنة ولا من إجماع، يجب أن يكون الاجتهاد فيها منطلقه أصوليًا، أي العودة إلى المتفق عليه بين العلماء الذي هو مصدر الاجتهاد للفقهاء. هذه مسألة. المسألة الثانية: يجب ألا نخضع الفقه الإسلامي ونخضع الاجتهاد لما هو سائد في شعوبنا الإسلامية من معاملات فاسدة. النقطة الثالثة هو أن يجب ألا يغلب علينا الاستحسان الذي لا وجه له من سند خفي كما هو معروف ولا علة صحيحة يقاس عليها الحكم في مجال النص. والسلام عليكم. الشيخ عبد الله بن بيه: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأزواجه وأصحابه أجمعين. أثيرت جملة من الشبه، في الحقيقة أنا لم أقرأ البحوث ومع الأسف فاتني منها الكثير مما كان يهمني جدًا، ولكني تعلقت بجملة من الأقوال سمعتها هنا وأردت فقط أن أدلي بدلولي في هذا المجال: أولًا: بعض الإخوان اعترف بإتفاق الفقهاء وإجماعهم على هذه المسألة إلا أنه قال أن الإجماع لا يستند إلى دليل. والإجماع لا يحتاج إلى دليل فهو يستند حتمًا إلى دليل كما نص عليه جميع الأصوليين قالوا أن الإجماع حجة وهو يستند على حجة ولو لم يستند إلى دليل معروف فهو يستند إلى دليل خفي، لابد وأن يقوم على دليل خفي، هذه قاعدة أصولية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1020 فالإجماع حجة في حد ذاته لم يخالف في ذلك إلا النظام وطائفة قليلة لا يعتد برأيها. ولكن أريد أن أناقش هذا الإجماع، هذا الإجماع أيضا يستند إلى دليل من جملة أقوال الفقهاء. الفقهاء عللوا بعلتين كما ذكره الفقهاء المالكية خصوصًا البناني على حاشية الزرقاني وقد ذكر الأخ كلام الدردير أيضا وكلام الدسوقي، فالبناني على حاشية الزرقاني يقول (عند قول خليل لا بكجعل، أي لا يجوز الضمان بكجعل، قال لدورانه بين أكل اموال الناس بالباطل وبين قرض بزيادة القرض بمنفعة، لأن الضامن أو الكفيل إما أن يؤدي ويرجع على المضمون وحينئذ يكون هذا من باب قرض بزيادة، وإما الا يؤدي المكفول ويكون هذا من باب أكل اموال الناس بالباطل. حينئذ بزيادة. والإجماع قد يستند إلى القياس كما تعلمون وكما مشهور عند علماء الأصول، وأول إجماع استند على قياس هو إجماع الصحابة على خلافة أبي بكر رضي الله عنه قياسًا على الصلاة، كما يقوله علماؤنا وكما هو معروف لديكم. الدليل الثاني: إذا يؤد الكفيل وأدى المضمون المال فإنه يكون من باب أكل أموال الناس بالباطل، هذا يستند إلى آية من كتاب الله {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ما معنى الباطل؟ قد يقول البعض: أن الباطل هو الحرام، ولكن هذا ليس صحيحًا فالباطل له معان عدة منها الحرام ومنها العبث، يعني أكل أموال الناس بدون مقابل، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} أي عبثا، فكلمة باطل تعني عدم المقابل وتعني الحرام أيضا، فيكون الإجماع مستندا على هذه الآية. ثالثا: المسألة وإن لم يرد فيها نص فإن العلماء يقيسونها على النصوص الموجودة لديهم وتكون من باب المشتبهات التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم، كما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والبخاري واللفظ هنا لمسلم ((إن الحلال بين وأن الحرام بين، وبينهما أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد أستبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) وأخذت لفظ مسلم لأنه يقول وقع في الحرام أما لفظ البخاري يقول: ومن وقع في الشبهات كراع، ولا يقول: وقع في الحرام، ومعناه أن الشبهات تكون حرامًا، معناه أن الأمر إذا اشتبه علمناه ولم نعرف هل يدخل في قواعد الحلال أو قواعد الحرام فإنه يحكم له بحرمته إذا أخذناه برواية مسلم وهي قوله وقع في الحرام. طبعًا خلاف الشبهة معروف لديكم الماوردي يقول: أن الشبهة هي المكروه. وبعض العلماء يقول: إنه لا يحكم لها بحكم حتى تصنف تبعًا لأشباهها ونظائرها. لا أطيل عليكم في مسألة الشبهة فهي معروفة لديكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1021 مسألة أثارها الإخوان وهي مسألة الضيق والحرج ومسألة الضرورة. أعتقد أننا هنا نناقش مبدأ الجواز ومبدأ الحرمة. الضرورات لها أحكامها، عندما نصل إلى الضرورة لها حكمها ويقول العلماء رضوان الله عليهم: أن الضرورة لا تجوز الفتوى بها ولا تجوز الفتيا فيها، ما معنى ذلك، معناه أن الضرورة لا يتحققها إلا من نزلت به الضرورة. كما قال سيدي عبد الله رحمه الله تعالى وصحيح العزو وقد تحقق ضرر من الضرر به تعلق ونسب ذلك إلى المسناوي وفعلًا أن البناني في حاشيته علي الزرقاني نسب ذلك الكلام للمسناوي، نسب جزءا مما ذكره سيدي عبد الله في جواز الإفتاء بالضعيف نسبه إلى المسناوي. إذن الضرورة لها حكمها وهي تتعلق بمسألة بذاتها وبعينها. إذا كان شخص قد تحققت فيه الضرورة يعني يحتاج إلى هذا الأمر، وهو في ضرورة وفي حرج، هذه قضية عينية وتختص بهذا الشخص ولا يمكن أن تكون حكمًا مطلقًا. فنحن حينئذ نريد من شيخنا المجتهد ونقصد بذلك لا إطراء ولكن نعتقد فعلًا أن للشيخ الزرقاء ملكة جيدة جدًا، ملكة قياسية واجتهادية تعجبني وأعترف بهذا. إذا كان صاحب مذهب فإننا نميل إلى مذهبه الأول، نرجح المذهب الأول ونترك المذهب الجديد كما يفعل العلماء الشافعية وحتى المالكية. فإنني أميل إلى مذهب الدكتور الزرقاء القديم والغي مذهبه الجديد لأن مذهبه القديم يستند إلى مستندات صحيحة، ومذهبه الجديد مسألة الضرورة، الضرورة نقف بها عند حدها ولا نتجاوز بها حد الضرورة وهي تتعلق بكل مسالة بذاتها وبعينها. بعض الإخوان قاس هذه المسألة على مسألة أخذ الأجر على كتاب الله، وهذه المسألة ليست مسألة مجانية ((إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله)) لماذا أخذ به العلماء وقالوا: أخذ الأجرة على القرآن من هذا النص وإن كان بعضهم قال ذلك في باب الرقية ولكن مالكًا وغيره أخذوا من هذا النص، فالمسألة ليست مجانية وهذا قد قام بعمله والآخر لم يقم بعمل، معناه باطل أي أنه لم يقم بعمل، ليس مقابل عمل، أجر وكراء هذا مقابل عمل وهذه ليس مقابل عمل إذن فالقضية من ناحية التأصيل فيما يبدو لي والله أعلم هذا الإجماع مستنده جيد من ناحية القياس ومن ناحية النصوص وأرى الرئيس يشير بيده، وأنا موافق على تكوين لجنة لبحث البديل الإسلامي مع الاعتراف بأصل الحكم، وشكرًا والسلام عليكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1022 الشيخ مصطفي الزرقاء: أخواني أنا لم يكن لي مذهبان قديم وجديد، وأنا قلت بصراحة: لاني بعدما استقر رأيي وجدت أن هناك حاجات كثيرة ومصالح مشروعة إلى آخر ما ذكرت، ونظرًا لذلك رأيت انه يجب الحل وبدا لي فرق بين قرض المرابين وبين الكفالة، إنها عمل جانبي هذه من الأعمال المصرفية ولا تشكل طريقًا اكتسابيا. ولذلك هذا دعاني إلى التردد وقلت إنني لا أجزم، ذكرت هذا وقلت لا أجزم. ولكن من الممكن عندئذ أن يقبل رأي الدكتور البري ولو بتعليل آخر أنه استحسان للحاجة الملحة والتي أصحاب الحاجات المشروعة في هذا الموضوع يجدون طريقهم مسددًا ولا مخرج منه إلا بهذا، فيمكن أن تجوز. على أني أضيف أنه إذا أمكن وجود البديل مثلًا كالبديل الذي ذكره ابني الدكتور أنس أو أي بديل آخر، فأنا أقول بالحرمة متى وجد البديل وإذا لم يوجد فأنا متوقف لا أقول بإطلاق الجواز ولا أثبت على الحرمة. الشيخ حسن عبد الله الأمين: في الحقيقة فضيلة مولانا الشيخ عبد الله بن بيه قال أن هنالك من يرى أن الإجماع لا يكون إلا بدليل والإجماع في حد ذاته حجة. وأنا أقول ذلك لأنني قلت هذا الكلام ولكن ليس بهذه الصيغة وإنما قلت أن هذا القضية شبه إجماع بدليل أن المالكية أنفسهم لهم فيها ثلاثة أقوال وهم والشافعية لهم تعليل معين وللحنفية تعليل آخر أيدني فيه جزاه الله خيرًا الأخ الدكتور السالوس بما نقل من نصه. فأنا لم أقل أن الإجماع ليس بحجة ولا يحتاج إلى نص، وإنما قلت أن هذه القضية ليست مجمعًا عليها ولكنها شبه مجمع عليها ومتفق عليها إلى حد ما، وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1023 الشيخ الصديق الضرير: الواقع أن هذا الموضوع كان من أوائل ما استفسر عنه في بنك فيصل الإسلامي هيئة الرقابة الشرعية، وقد أصدرت فيه فتوى أشار إليها بعض الإخوان وأود أولًا أن أوضح حقيقة هذه الفتوى باختصار. أولًا من حيث التكييف، الهيئة نظرت في الاستفسار واطلعت على خطابات الضمان المعروفة في السودان والتي قدمها إليها المسئولون في البنك وانتهت منها إلى تكييف لهذه العملية. اقرأه عليكم بالنص – (أول شيء أجازت خطاب الضمان من حيث هو وخلاصة التكييف أن خطاب الضمان قد يكون بغير غطاء، وهنا يكون العقد عقد كفالة كاملة من كل الوجوه ما في هذا شك. الحالة التي يكون فيها بغطاء كلي أو جزئي، هذا يكون العقد عقد وكالة وكفالة معا، وكالة بالنسبة لعلاقة البنك مع العميل، لأن الغطاء الذي وضعه كأنه يقول: له إذا طلب منك فخذ هذا المبلغ وادفعه إلى الطالب. هذا بالنسبة للجزء إذا كان كله وكالة إذا كان جزء يكون وكالة فيما وكل فيه. ويكون كفالة بالنسبة لعلاقة البنك مع الطرف الثالث حتى في هذه الحالة، في حالة وجود الغطاء فبالنسبة لعلاقة البنك مع الطرف الثالث هو كفالة دائما لأن الطرف الثالث يطالب البنك. ثم تعرضت المسألة لأخذ الأجر فنصت على أنه لا يجوز للبنك أن يأخذ أجرًا بالنسبة للحالة الأولى لأنها كفالة، إذا كان هذا الأجر نظير خطاب الضمان المجرد، لأنه يكون في هذه الحالة قد أخذ أجرًا على الكفالة وهذا ممنوع. وأقول هنا ليس كما قال بعض الاخوة أن هذا إجماع حكاه الفقهاء، يقول الخطاب: وهذا موجود في الفتوى ولا خلاف في منع ضمان بجعل وعلل هذا لأن الشرع جعل الضمان والقرض والجاه لا يفعل ألا لله بغير عوض. فأخذ العوض عليه سحت. وقلنا هنا علل ابن عابدين المنع بأن الكفيل مقرض في حق المطلوب وإذا شرط له الجعل مع ضمان المثل فقد شرط له الزيادة على ما أقرضه، فهو باطل لأنه ربا. وصرح بأنه ربا وهو المقصود بكلمة سحت في كلام الخطاب. وعللوا هذا بأن الضمان من قبيل التبرعات كالقرض ولم يعللوه بأنه من قبيل الواجبات. فما اعترض به الأخ الأستاذ زكريا بموضوع الأمامة هو خارج عن الموضوع وقياس مع الفارق. في موضوع الإمامة، الإمام يعمل ومع ذلك في العصور الأولى منعوه مع قيامه بهذا العمل قالوا له: أده من غير أجر. فإذا أخذ أجرًا فإنه يأخذ الأجر على عمل، أما الكفيل كفالة مجردة لا يقوم باي عمل. هذا إذا كان الأجر على الكفالة المجردة هذا هو الممنوع، أما إذا كان الأجر الذي يأخذه البنك نظير ما قام به من خدمة ومصاريف خدمة فعلية ومصاريف فعلية تتطلبها إجراءات إكمال خطاب الضمان لا مانع منه شرعًا، هذا أجزناه بالنسبة للحالة التي يكون فيها غطاء، قلنا يجوز أن يأخذ البنك أجرًا في هذه الحالة التي يصدر فيها خطاب الضمان بغطاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1024 ومعنى مغطى: أن العميل وضع المال في البنك وقال له: أده لمن يطلبه عما يطلب منك ومع ذلك لم نقل إنه يأخذ أي أجر وبأي كيفية، هو يأخذ أجرًا كما يأخذ الوكيل أجرًا والمفروض أن الوكيل يأخذ الأجر بقدر ما يؤدي من عمل، فإذا أخذ أكثر من حقه هذا موضوع آخر. هذه هي خلاصة الفتوى التي أفتينا بها وكان أيضا من ضمن الحلول التي عرضناها على البنك موضوع المشاركة أنه إذا جاء شخص يريد أن يستثمر وطلب ضمانًا من البنك ممكن يدخل معه شريك وفي هذه الحالة يصدر خطاب الضمان باعتباره شريكًا. النقطة التي آثارها الأستاذ الزرقاء أنه يكون هناك حالات ليس فيها استثمار، أقول أنه في هذه الحال لا مخرج إلا أن يؤدي البنك الكفالة بغير أجل، الطالب المسكين الذي يرسل في بعثة وليس عنده مال لم يطلب منه البنك الإسلامي مبلغًا على كفالته إذا اطمئن إلى حسن خلقه وإلى أن سيقوم بما يلتزم به. سأذهب إلى أبعد من هذا فأقول إنه يجب على البنوك الإسلامية أن تؤدي هذا العمل بالنسبة لهؤلاء الأشخاص. الشيخ مصطفي الزرقاء: وهل تفعل؟ الشيخ الصديق الضرير: نحن نقول لهم هذا ونرشدهم إلى ما يجب أن يكون، وقد فعلت. الأستاذ أحمد البزيع أخبرنا أنه أصدر حتى كفالات عادية بغير أجر وقد عادت عليهم بفائدة. وهذا أمر قد حصل، وكما قال الأخ الفاضل الدكتور عبد اللطيف يجب ألا نسير وراء البنوك الربوية ونتبعها في كل ما تفعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1025 في عبارة ابن عابدين التي ذكرتها، أستاذنا الرزقاء حفظه الله قد شرحها شرحًا وافيًا ولا حاجة إلى المزيد عما قاله في هذا الصدد، فهي تعبر عن رأي ابن عابدين تعبيرًا كاملًا. أخونا الأستاذ حسن قال إنه لم يقف على نص ابن عابدين نحن في الفتوى لم نقل أن هذه في حاجة ابن عابدين وإنما قلنا إنها في البحر الرائق كما قال أحد الأخوة. الشيخ على السالوس اقترح أن يكون الغطاء وديعة استثمارية أو أن يقبل البنك الوديعة الاستثمارية على أنها غطاء. الوديعة الاستثمارية هي عند البنك أمانة وغالبًا ما تكون مقيدة بزمن كما هو معروف في كثير من البنوك، مدة زمنية بسنة. فهنا قد يأتي أشكال: البنك قدم خطاب الضمان وحصلت المطالبة في أثناء السنة، وقبل أن تنتهي مدة الوديعة، فإذا دفع البنك المبلغ وانتظر إلى أن يأخذ الوديعة نقع في الحرج، هو أخذ أجرًا فكأنه اقرضه وانتظره إلى أن تنتهي مدة الوديعة. فلا أرى في هذا، ثم أن هذا الشخص الذي عنده وديعة استثمارية لِمَ لا يدعها وديعة حساب جار ويسدد منه وأحب أن أقول هنا مسألة، وقفنا عليها من إخواننا في البنوك في السودان قالوا أن أكثر خطابات الضمان تكون مغطاة. ويندر أن يقبل البنك إصدار خطاب ضمان لشخص ليس عنده مال. وحتى إذا أقدم على هذا فإنه يطالبه بضمان آخر، ضمان عيني يطالب برهن لكي يستوثق، وهذا هو الواقع كما قال السيد الرئيس إنه البنك أو أي شخص عندما يكفل شخصًا آخر هو لا يكفله إلا إذا اطمأن إلى أنه سيقوم بما التزم به سواء كان متعهدًا أو رجلًا مستثمرًا، لابد أن يتأكد من هذا أولًا، لأنه حتى الأجر مهما أجزناه ومهما كان بلغ لا يمكن أن يصل إلى تعويض الخسارة التي سيقع فيها البنك إذا لم يأخذ هذه الاحتياطات ويتأكد من العميل الذي يتعامل معه. كذلك قال الشيخ على السالوس، وفي الواقع إنني لم استطع فهمه فأبحثه معه، موضوع اتصال الضمان بعقد آخر لم أتبينه. أستاذنا زكريا أوافقه على القاعدة الأصولية التي ذكرها وأحب أن أقول للأخ الفاضل الدكتور الزبير أن هذا هو الأصل ولا نحتاج في العقود المستحدثة، لا نقول لمن يدعي الحل عليك تمسكًا بالأصل، عليك أن تقيسها على عقد من العقود الصحيحة، لا نقول له إذا خالفناه هذا العقد ممنوع لكذا، لأن الأصل القائل أن العقود صحيحة ما لم يرد نص ونص بالمنع. لكن هنا الرد على الأستاذ الزرقاء أنه فيه نصوص تمنع، والنصوص هذه ليست أقوال فقهاء مجردة، هي بلغت إلى درجة الإجماع عند الفقهاء، أنا لم أر أحدًا من الفقهاء جوز أخذ الأجر على الكفالة المجردة، لم أر هذا بتانًا، حتى الذين ادعوا هذا ونقلوا لنا بعض النصوص كانت معها وأرادوا أن يقيسوها على الجاه، لو قبلنا هذا مع أن القياس على الجاه غير سليم، قالوا: لابد أن يكون مع الجاه هذا حركة فيكون الأجر نظير هذه الحركة، وهذه حتى إذا صحت حيلة لا نقبلها. المهم انه ما فيه فقيه قال: يجوز أخذ الأجر على الكفالة المجردة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1026 أستاذنا الزرقاء بعد ما بين لنا البيان الشافي الذي لو وقف عنده لأغنانا عن كل كلام لكنه عاد فنقض ما قاله وبنى كلامه في الأول على أن أخذ الأجر يعود على تحريم الربا ويفقد حجيته، هذا كله كلام صحيح لكن أراد أن يخرج الجواز بالتفرقة بين القرض الربوي أنه عمل احترافي وهذه مسالة قد تقودنا إلى مخاطر. الفوائد لو شخص يحترف الربا، هل معنى هذا أننا لا نحرم الربا إلا إذا كان الشخص الذي يعمل فيه محترفًا؟ لا أعتقد أن هذا يمكن أن يقال. مجرد أننا اقتنعنا أن العملية ربا، الأستاذ الزرقاء زاد على ذلك وقال إنها تفقد الربا حجيته، فكيف نقول بعد ذلك بجوازها؟ لا يمكن أن يكون هذا. الرئيس: إذًا، بقي من المشايخ اثنان: الشيخ علي تسخيري والشيخ عطا، أن سمحوا لنا بأن ننهي الموضوع لأن الأمر تقريبا فيه اتجاه عام، ولأن الآراء تكيفت هنا وسأعلن الرأي الذي اتجهت إليه الأكثرية ومن خلاله إذا كنتم مع ذلك فذاك. الشيخ محمد عطا السيد: بسم الله رب العالمين، اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك،،، استجابة لرغبة الأخ رئيس الجلسة ما أحب أن أدخل في التفاصيل التي كنت أود الكلام فيها. وما أود أن أقوله وهم أنه تمحض لدينا أن هنالك شبهة إن لم تكن هنالك حرمة في موضوع أخذ الأجر على الضمان، فلا شك أن هناك شبهة قوية جدا في هذه المسألة. ونحن في السودان الآن وهو المجال الذي اتسعت فيه أعمال البنوك الإسلامية، نعلم الآن ونواجه حملة كبيرة من أعداء هذه الفكرة يقولون: أن هذه البنوك لا تختلف ينادى بهذا الكلام ويكتب عنه في الصحف، أن هذه البنوك لا تختلف عن البنوك الربوية في شئ، وحقيقة الواحد لو رجع قليلا يجد أن هذه البنوك من المبادئ الأساسية التي قامت عليها هذه البنوك الإسلامية ليس فيها فقط لإثراء المساهمين واستثمار أموالهم ولكن عليها واجبات منوطة بها نحو المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية، وهي أن هنالك عددا من الناس الضاربين في الأرض الذين لديهم أفكار تجارية قيمة ولديهم القوة للعمل، ولكن لا يملكون الأموال ولا يملكون بعض الضمانات، فلذلك أنا أرى أنه يجب على البنوك الإسلامية أقترح بناء على هذه الشبهة القوية التي قامت، أقترح إلغاء ما يؤخذ غير مصاريف الإجراءات الفعلية، ما يؤخذ على ثمن الضمان يجب أن يُلغى ذلك كبذرة طيبة من هذا المجمع نحو جمهرة المسلمين العاملين الضاربين في الأرض، وشكرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1027 الشيخ علي تسخيري: شكرا سيدي الرئيس، فقط أردت أن أشير إلى أن علماء الإمامية – وأرجو الانتباه لذلك – بالإجماع يجيزون أخذ الأجرة عن الكفالة فقط أنقل هذا الرأي لتسجيله وللعلم به فقط ولا أعارض قرار المجمع في أي شيء. الشيخ مصطفي الزرقاء أنا لم أقل أن الربا لا يحرم إلا على المحترفين للربا. قلت: أن المراباة عادة هي احتراف، وهذا معناه أن هذا الطريق طريق القرض بفائدة يصلح أن يكون بابًا اكتسابيًا أصليًا كما يسلكه المحترفون، أما تلك فأعمال جانبية، لكن ما قلت أن الربا لا يحرم إلا على المحترفين كما فهم الأستاذ أخونا الدكتور. الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد. فإن الذي اتجهت إليه أنظار أصحاب الفضيلة على سبيل الإجمال في هذا المجمع حول خطاب الضمان بقسمية الابتدائي والإنتهائي، سواء كان من باب الوكالة أو من باب الكفالة، أي الضمان على اختلاف التعبيرين في بعض المذاهب الفقهية، هو ما يلي: - أولًا: أن خطاب الضمان الذي اكتسب التغطية فإنه من باب الوكالة، ولهذا فإنه لا مانع من أخذ الأجر عليه بما يقابل الخدمات فقط وستصاغ هذه بالعبارة المناسبة التي تشير إلى ما تفضل به الأستاذ الفاضل الشيخ عطا حتى تزيل اللبس في المعاملة فيما هو جار في البنوك التجارية وما يقرره المجمع هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1028 الأمر الثاني: أن خطاب الضمان إذا لم يكن مغطى فهو من باب الضمان، والمقرر لدى فقهاء الشريعة على سبيل الإجمال أنه لا يجوز أخذ الأجرة في ذلك وان المجمع يرى أنه لا مانع كما أشار الشيخ أحمد البزيع أنه لا مانع من أخذ إذا استطعنا أن نقول أجرة رمزية. وستصاغ بالأسلوب العلمي المناسب في القرار للتكاليف التي لا ترتبط بالمدة ولا ترتبط بالبلغ. هذا مع أنه هناك فقرة أولى رئيسية وهي أن خطاب الضمان في أصله لا غبار على جوازه. وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1029 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى اله وصحبه. قرار رقم 5 بشأن خطاب الضمان أما بعد: فان مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406هـ، الموافق 22 –28 ديسمبر 1985م. بحث مسألة خطاب الضمان. وبعد النظر فيما أعد في ذلك من بحوث ودراسات وبعد المداولات والمناقشات المستفيضة تبين ما يلي: 1- ان خطاب الضمان بأنواعه الابتدائي والانتهائي لا يخلو إما أن يكون بغطاء أو بدونه، فان كان بدون غطاء، فهو: ضم ذمة الضامن إلى ذمة غيره فيم يلزم حالا أو مآلا، وهذه هي حقيقة ما يعني في الفقه الإسلامي باسم: (الضمان) أو (الكفالة) . وان كان خطاب الضمان بغطاء فالعلاقة بين طالب خطاب الضمان وبين مصدره هي (الوكالة) والوكالة تصح بأجر أو بدونه مع بقاء علاقة الكفالة لصالح المستفيد (المكفول له) . 2- ان الكفالة هي عقد تبرع يقصد للإرفاق والإحسان، وقد قرر الفقهاء عدم جواز أخذ العوض على الكفالة، لأنه في حالة أداء الكفيل مبلغ الضمان يشبه القرض الذي جر نفعا على المقرض، وذلك ممنوع شرعا. ولذلك فان المجمع قرر ما يلي: أولا: أن خطاب الضمان لا يجوز أخذ الأجر عليه لقاء عملية الضمان (والتي يراعى فيها عادة مبلغ الضمان ومدته) ، سواء أكان بغطاء أم بدونه. ثانيا: أما المصاريف الإدارية لإصدار خطاب الضمان بنوعيه فجائزة شرعا، مع مراعاة عدم الزيادة على أجر المثل، وفي حالة تقديم غطاء كلي أو جزئي، يجوز أن يراعى في تقدير المصاريف لإصدار خطاب الضمان ما قد تتطلبه المهمة الفعلية لأداء ذلك الغطاء. والله اعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1030 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم 1 بشأن زكاة الديون أما بعد: فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 – 16 ربيع الثاني 1406 هـ/ 22- 28 ديسمبر 1985م. بعد أن نظر في الدراسات المعروضة حول "زكاة الديون" وبعد المناقشة المستفيضة التي تناولت الموضوع من جوانبه المختلفة تبين: 1- أنه لم يرد نص من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يفصل زكاة الديون. 2- أنه قد تعدد ما أثر عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم من وجهات نظر في طريقة إخراج زكاة الديون. 3- أنه قد اختلفت المذاهب الإسلامية بناء على ذلك اختلافًا بينًا. 4- أن الخلاف قد انبنى على الاختلاف في قاعدة هل يعطي المال الممكن من الحصول عليه صفة الحاصل؟ وبناء على ذلك قرر: 1- أنه تجب زكاة الدين على رب الدين عن كل سنة إذا كان المدين مليئًا باذلًا. 2- أنه تجب الزكاة على رب الدين بعد دوران الحول من يوم القبض إذا كان المدين معسرًا أو مماطلًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1031 بسم الله الرحمن الرحيم قرار رقم 2 بشأن زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية أما بعد: فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني من 10 – 16 ربيع الثاني 1406هـ/ 22 – 28 ديسمبر 1985م. بعد أن استمع المجلس لما أعد من دراسات في موضوع "زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية". وبعد أن ناقش الموضوع مناقشة وافية ومعمقة، تبين: أولًا: أنه لم يؤثر نص واضح يوجب الزكاة في العقارات والأراضي المأجورة. ثانيًا: أنه لم يؤثر نص كذلك يوجب الزكاة الفورية في غلة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية. ولذلك قرر: أولًا: أن الزكاة غير واجبة في أصول العقارات والأراضي المأجورة. ثانيًا: أن الزكاة تجب في الغلة وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم القبض مع اعتبار توفر شروط الزكاة، وانتفاء الموانع. والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1032 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم 3 بشأن أجوبة استفتاءات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن أما بعد: فإن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني من 10 – 16 ربيع الثاني 1406هـ/ 22 – 28 ديسمبر 1985م. إذ ألف لجنة من أعضاء المجمع للنظر في الأسئلة الواردة من المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن. وبعد التأمل فيما قدم في الأمر من إجابات تبين منها: - إن الإجابات قد صيغت بطريقة مختصرة جدًا لا يحصل معها الاقتناع وقطع دابر الخلاف أو الرفض. - أنه لا بد من قيام المجمع بإزاحة الإشكالات الحاصلة لإخواننا المسلمين في الغرب. قرر: 1- تكليف الأمانة العامة بإحالة هذه الأسئلة على من تراه من الأعضاء أو الخبراء لإعداد إجابات معللة عن تلكم الأسئلة مستندة إلى الأدلة الشرعية، وأقوال من تقدم من فقهاء المسلمين وإبرازها في صورة مقنعة بينة. 2- تكليف الأمانة العامة برفع ما تتحصل عليه إلى الدورة الثالثة. والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1033 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم 4 بشأن القاديانية أما بعد: فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 – 16 ربيع الثاني 1406 هـ / 22 – 28 ديسمبر 1985م. بعد أن نظر في الاستفتاء المعروض عليه من "مجلس الفقه الإسلامي في كيبتاون بجنوب أفريقيا " بشأن الحكم في كل من (القاديانية) والفئة المتفرعة عنها التي تدعى (اللاهورية) من حيث اعتبارهما في عداد المسلمين أو عدمه، وبشأن صلاحية غير المسلم للنظر في مثل هذه القضية. وفي ضوء ما قدم لأعضاء المجمع من أبحاث ومستندات في هذا الموضوع عن (مرزا غلام أحمد القادياني) الذي ظهر في الهند في القرن الماضي وإليه تنسب نحلة القاديانية واللاهورية. وبعد التأمل فيما ذكر من معلومات عن هاتين النحلتين وبعد التأكد من أن (مرزا غلام أحمد القادياني) قد ادعى النبوة بأنه نبي مرسل يوحى إليه وثبت عنه هذا في مؤلفاته التي ادعى أن بعضها وحي أنزل عليه وظل طيلة حياته ينشر هذه الدعوى ويطلب إلى الناس في كتبه وأقواله الاعتقاد بنبوته ورسالته، كما ثبت عنه إنكار كثير مما علم من الدين بالضرورة كالجهاد. وبعد أن اطلع المجمع (أيضًا) على ما صدر عن (المجمع الفقهي بمكة المكرمة) في الموضوع نفسه. قرر ما يلي: 1- إن ما ادعاه (مرزا غلام أحمد القادياني) من النبوة والرسالة ونزول الوحي عليه إنكار صريح لما ثبت من الدين بالضرورة ثبوتًا قطعيًا يقينيًا من ختم الرسالة والنبوة بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا ينزل وحي على أحد بعده، وهذه الدعوى من (مرزا غلام أحمد القادياني) تجعله وسائر من يوافقونه عليها مرتدين خارجين عن الإسلام، وأما (اللاهورية) فإنهم كالقاديانية في الحكم عليهم بالردة، بالرغم من وصفهم (مرزا غلام أحمد القادياني) بأنه ظل وبروز لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. 2- ليس لمحكمة غير إسلامية، أو قاض غير مسلم، أن يصدر الحكم بالإسلام أو الردة، ولا سيما فيما يخالف ما أجمعت عليه الأمة الإسلامية من خلال مجامع علمائها، وذلك لأن الحكم بالإسلام أو الردة، لا يقبل إذا صدر عن مسلم عالم بكل ما يتحقق به الدخول في الإسلام، أو الخروج منه بالردة، ومدرك لحقيقة الإسلام أو الكفر، ومحيط بما ثبت في الكتاب والسنة والإجماع: فحكم مثل هذه المحكمة باطل. والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1034 قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة القرار الثاني بشأن التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الثامنة المنعقدة بمقر رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 28 ربيع الآخر 1405 هـ إلى يوم الاثنين 7 جمادى الأولى 1405 هـ الموافق 19 – 28 يناير 1985 م، قد نظر في الملاحظات التي أبداها بعض أعضائه حول ما أجازه المجمع في الفقرة الرابعة من البند الثاني في القرار الخامس المتعلق بالتلقيح الصناعي وطفل الأنابيب الصادر في الدورة السابعة المنعقدة في الفترة ما بين 11 – 16 ربيع الآخر 1404 هـ ونصها: "إن الأسلوب السابع الذي تؤخذ فيه النطفة والبويضة من زوجين وبعد تلقيحهما في وعاء الاختبار تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى للزوج نفسه، حيث تتطوع بمحض اختيارها بهذا الحمل عن ضرتها المنزوعة الرحم". يظهر لمجلس المجمع أنه جائز عند الحاجة وبالشروط العامة المذكورة، وملخص الملاحظات عليها: "إن الزوجة الأخرى التي زرعت فيها لقيحة بويضة الزوجة الأولى قد تحمل ثانية قبل انسداد رحمها على حمل اللقيحة من معاشرة الزوج لها في فترة متقاربة مع زرع اللقيحة ثم تلد توأمين ولا يعلم ولد اللقيحة من ولد معاشرة الزوج، كما لا تعلم أم ولد اللقيحة التي أخذت منها البويضة من أم ولد معاشرة الزوج كما قد تموت علقة أو مضغة أحد الحملين ولا تسقط إلا مع ولادة الحمل الآخر الذي لا يعلم أيضًا أهو ولد اللقيحة أم حمل معاشرة ولد الزوج، ويوجب ذلك من اختلاط الأنساب لجهة الأم الحقيقية لكل من الحملين والتباس ما يترتب على ذلك من أحكام، وإن ذلك كله يوجب توقف المجمع عن الحكم في الحالة المذكورة". كما استمع المجلس إلى الآراء التي أدلى بها اطباء الحمل والولادة الحاضرين في المجلس والمؤيدة لاحتمال وقوع الحمل الثاني من معاشرة الزوج في حاملة اللقيحة واختلاط الأنساب على النحو المذكور في الملاحظات المشار إليها. وبعد مناقشة الموضوع وتبادل الآراء فيه قرر المجلس سحب حالة الجواز الثالثة المذكورة في الأسلوب السابع المشار إليها من قرار المجمع الصادر في هذا الشأن في الدورة السابعة عام 1404 هـ بحيث يصبح قرار المجلس المشار إليه في موضوع التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب على النحو التالي: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في الدراسة التي قدمها عضو المجلس مصطفى أحمد الزرقاء حول التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب، الأمر الذي شغل الناس وكان من أبرز قضايا الساعة في العالم، واستعرض المجلس ما تحقق في هذا المجال من إنجازات طبية توصل إليها العلم والتقنية في العصر الحاضر، لإنجاب الأطفال من بني الإنسان والتغلب على أسباب العقم المختلفة المانعة من الاستيلاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1035 وقد تبين للمجلس من تلك الدراسة الوافية المشار إليها أن التلقيح الاصطناعي بغية الاستيلاد (بغير الطريق الطبيعي وهو الاتصال الجنسي المباشر بين الرجل والمرأة) يتم بأحد طريقتين أساسيتين: - طريقة التلقيح الداخلي، وذلك بحقن نطفة الرجل في الموضع المناسب من باطن المرأة. - وطريق التلقيح الخارجي بين نطفة الرجل وبويضة المرأة في أنبوب اختبار في المختبرات الطبية، ثم زرع البويضة الملقحة (اللقيحة) في رحم المرأة. ولابد في الطريقتين من انكشاف المرأة على من يقوم بتنفيذ العملية. وقد تبين لمجلس المجمع الفقهي من تلك الدراسة المقدمة إليه في الموضوع ومما أظهرته المذاكرة والمناقشة، أن الأساليب والوسائل التي يجري بها التلقيح الاصطناعي بطريقيه الداخلي والخارجي لأجل الاستيلاد هي سبعة أساليب بحسب الأحوال المختلفة، للتلقيح الداخلي فيها أسلوبان، وللخارجي خمسة من الناحية الواقعية، بقطع النظر عن حلها أو حرمها شرعًا، وهي الأساليب التالية: في التلقيح الاصطناعي الداخلي الأسلوب الأول: أن تؤخذ النطفة الذكرية من رجل متزوج وتحقن في الموضع المناسب داخل مهبل زوجته أو رحمها حتى تلتقي التقاء طبيعيًا بالبويضة التي يفرزه مبيض زوجته، ويقع التلقيح بينهما ثم العلوق في جدار الرحم بإذن الله، كما في حالة الجماع، وهذا الأسلوب يلجأ إليه إذا كان في الزوج قصور لسبب ما عن إيصال مائة في المواقعة إلى الموضع المناسب. الأسلوب الثاني: أن تؤخذ نطفة من رجل وتحقن في الموضع المناسب من زوجة رجل آخر حتى يقع التلقيح داخليًا، ثم العلوق في الرحم كما في الأسلوب الأول، ويلجأ إلى هذا الأسلوب حين يكون الزوج عقيمًا لا بذرة في مائه، فيأخذون النطفة الذكرية من غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1036 في طريق التلقيح الخارجي الأسلوب الثالث: أن تؤخذ نطفة من زوج، وبويضة من مبيض زوجته، فتوضعا في أنبوب اختبار طبي بشروط فيزيائية معينة، حتى تلقح نطفة الزوج بويضة زوجته في وعاء الاختبار، ثم بعد أن تأخذ اللقيحة بالانقسام والتكاثر تنقل في الوقت المناسب من أنبوب الاختبار إلى رحم الزوجة نفسها صاحب البويضة، لتعلق في جداره وتنمو وتتخلق ككل جنين، ثم في نهاية مدة الحمل الطبيعية تلد الزوجة طفلًا أو طفلة وهذا هو طفل الأنبوب الذي حققه الإنجاز العلمي الذي يسره الله، وولد به إلى اليوم عدد من الأولاد ذكورًا وإناثًا، وتوائم، تناقلت أخبارها الصحف العالمية ووسائل الإعلام المختلفة. ويلجأ إلى هذا الأسلوب الثالث عندما تكون الزوجة عقيمًا بسبب انسداد القناة التي تصل بين مبيضها ورحمها (قناة فالوب) . الأسلوب الرابع: أن يجرى تلقيح خارجي في أنبوب الاختبار بين نطفة مأخوذة من زوج، وبويضة مأخوذة من مبيض امرأة ليست زوجته (يسمونها متبرعة) ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته. ويلجأون إلى هذا الأسلوب عندما يكون مبيض الزوجة مستأصلًا أو معطلًا ولكن رحمها سليم قابل لعلوق اللقيحة فيه. الأسلوب الخامس: أن يجري تلقيح خارجي في أنبوب اختبار بين نطفة رجل وبويضة من امرأة ليست زوجة له (يسمونهما متبرعين) ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة أخرى متزوجة، ويلجأون إلى ذلك حينما تكون المرأة المتزوجة التي زرعت اللقيحة فيها عقيما بسبب تعطل مبيضها، ولكن رحمها سليم وزوجها عقيم ويريدان ولدًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1037 الأسلوب السادس: أن يجرى تلقيح خارجي في وعاء الاختبار بين بذرتي زوجين، ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة تتطوع بحملها. ويلجأون إلى ذلك حين تكون الزوجة غير قادرة على الحمل لسبب في رحمها ولكن مبيضها سليم منتج، أو تكون غير راغبة في الحمل ترفها، فتتطوع امرأة أخرى بالحمل عنها. - هذه هي أساليب التلقيح الاصطناعي الذي حققه العلم لمعالجة أسباب عدم الحمل. وقد نظر مجلس المجمع الفقهي فيما نشر وأذيع أنه يتم فعلًا تطبيقه في أوربا وأمريكا من استخدام هذه الإنجازات لأغراض مختلفة، منها تجاري ومنها ما يجري تحت عنوان (تحسين النوع البشري) ومنها ما يتم لتلبية الرغبة في الأمومة لدى نساء غير متزوجات أو نساء متزوجات لا يحملن بسبب فيهن، أو في أزواجهن، وما أنشئ لتلك الأغراض المختلفة من مصارف النطف الإنسانية التي تحفظ فيها نطف الرجال بصورة تقانية تجعلها قابلة للتلقيح بها إلى مدة طويلة، وتؤخذ من رجال معينين أو غير معينين تبرعًا أو لقاء عوض، إلى آخر ما يقال إنه واقع اليوم في بعض بلاد العالم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1038 النظر الشرعي بمنظار الشريعة الإسلامية هذا وإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بعد النظر فيما تجمع لديه من معلومات موثقة، مما كتب ونشر في هذا الشأن، وتطبيق قواعد الشريعة الإسلامية ومقاصدها لمعرفة حكم هذه الأساليب المعروضة وما تستلزمه، قد انتهى إلى القرار التفصيلي التالي: أولًا: أحكام عامة: (أ) أن انكشاف المرأة المسلمة على غير من يحل بينها وبينه الاتصال الجنسي لا يجوز بحال من الأحوال إلا لغرض مشروع يعتبره الشرع مبيحًا لهذا الانكشاف. (ب) أن احتياج المرأة إلى العلاج من مرض يؤذيها، أو من حالة غير طبيعية في جسمها تسبب لها إزعاجًا، يعتبر ذلك غرضًا مشروعًا يبيح لها الانكشاف على غير زوجها لهذا العلاج، وعندئذ يتقيد ذلك الانكشاف بقدر الضرورة. (جـ) كلما كان انكشاف المرأة على غير من يحل بينها وبينه الاتصال الجنسي مباحًا لغرض مشروع، يجب أن يكون المعالج امرأة مسلمة إن أمكن ذلك، وإلا فامرأة غير مسلمة، وإلا فطبيب مسلم ثقة وإلا فغير مسلم بهذا الترتيب. ولا تجوز الخلوة بين المعالج والمرأة التي يعالجها إلا بحضور زوجها أو امرأة أخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1039 ثانيًا: حكم التلقيح الاصطناعي: 1- أن حاجة المرأة المتزوجة التي لا تحمل، وحاجة زوجها إلى الولد، تعتبر غرضًا مشروعًا يبيح معالجتها بالطريقة المباحة من طرق التلقيح الاصطناعي. 2- أن الأسلوب الأول (الذي تؤخذ فيه النطفة الذكرية من رجل متزوج ثم تحقن في رحم زوجته نفسها في طريقة التلقيح الداخلي) هو أسلوب جائز شرعًا بالشروط العامة الآنفة الذكر، وذلك بعد أن تثبتت حاجة المرأة إلى هذه العملية لأجل الحمل. 3- أن الأسلوب الثالث (الذي تؤخذ فيه البذرتان الذكرية والأنثوية من رجل وامراة زوجين أحدهما للآخر، ويتم تلقيحهم خارجيًا في أنبوب اختبار، ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة نفسها صاحبة البويضة) هو أسلوب مقبول مبدئيًا في ذاته بالنظر الشرعي، لكنه غير سليم تمامًا من موجبات الشك فيم يستلزمه ويحيط به من ملابسات فينبغي أن لا يلجأ إليه إلا في حالات الضرورة القصوى، وبعد أن تتوافر الشرائط العامة الآنفة الذكر. 4- وفي حالتي الجواز الاثنتين يقرر المجمع أن نسب المولود يثبت من الزوجين مصدري البذرتين، ويتبع الميراث والحقوق الأخرى ثبوت النسب، فحين يثبت نسب المولود من الرجل والمرأة يثبت الإرث وغيره من الأحكام بين الولد ومن التحق نسبه به. 5- وأما الأساليب الأخرى من أساليب التلقيح الاصطناعي في الطريقين الداخلي والخارجي مما سبق بيانه فجميعها محرمة في الشرع الإسلامي لا مجال لإباحة شيء منها، لأن البذرتين الذكرية والأنثوية فيها ليستا من زوجين، أو لأن المتطوعة بالحمل هي أجنبية عن الزوجين مصدر البذرتين. هذا، ونظرًا لما في التلقيح الاصطناعي بوجه عام من ملابسات حتى في الصورتين الجائزتين شرعًا، ومن احتمال اختلاط النطف أو اللقائح في أوعية الاختبار، ولاسيما إذا كثرت ممارسته وشاعت، فإن مجلس المجمع الفقهي ينصح الحريصين على دينهم أن لا يلجأوا إلى ممارسته إلا في حالة الضرورة القصوى، وبمنتهى الاحتياط والحذر من اختلاط النطف أو اللقائح. هذا ما ظهر لمجلس المجمع الفقهي في هذه القضية ذات الحساسية الدينية القوية من قضايا الساعة، ويرجو الله أن يكون صوابًا، والله سبحانه وتعالى أعلم وهو الهادي إلى سواء السبيل وولي التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا والحمد لله رب العالمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1040 [توقيع] [توقيع] نائب الرئيس رئيس مجلس المجمع الفقهي د. عبد الله عمر نصيف عبد العزيز بن عبد الله بن باز متوقف في الأولى والثالثة أما بقية الصور الأربعة فلا خلاف في تحريمها الأعضاء [توقيع] [توقيع] محمد بن جبير عبد الله عبد الرحمن البسام صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان [توقيع] [توقيع] [توقيع] محمد بن عبد الله بن سبيل مصطفى أحمد الزرقاء محمد محمود الصواف متوقف في جواز الأسلوب الثالث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1041 القرار الرابع حول موضوع التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في موضوع التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب الموجود على جدول أعماله لهذه الدورة، واستعرض البحث الأصلي المفصل الذي أعده وقدمه بعض أعضاء المجلس حول هذا الموضوع في دورة سابقة، ونظر أيضًا فيما استقصاه أعضاء آخرون من كتابات جديدة حوله، وتدارس المجلس، في ضوء جميع المعلومات التي تجمعت لديه في هذا الموضوع من جميع جوانبه وأبعاده. وبعد المداولة رأى المجلس أن هذا الموضوع شديد الحساسية من الناحية الشرعية، وذو أبعاد كثيرة، وله نتائج خطيرة وانعكاسات على حياة الأسرة والأوضاع الاجتماعية والأخلاقية في مختلف صوره وطرائقه التي قيل إنها تجرى اليوم في البلاد الأجنبية، كما أن له ارتباطات متشعبة في النظر الشرعي بأحكام من أبواب شتى فيما يتعلق بالحل والحرمة، وقواعد الاضطرار والحاجة، وقواعد النسب والشبهة، وفراش الزوجية، ووطء الحامل من الغير، وبأحكام العدة واستبراء الرحم، وحرمة المصاهرة، ثم بأحكام العقوبات في الإسلام من حد أو تعزير ارتكب فيه ما لا يجوز شرعًا من صور التلقيح الداخلي في المرأة، أو التلقيح الخارجي في الأنبوب الاختباري ثم الزرع في الأرحام، إلى غير ذلك من الاعتبارات التي تجعل هذا الموضوع الخطير في حاجة إلى مزيد من الدرس والتمحيص، ولاسيما بعد الكتابات الجديدة التي نشرها حوله أطباء متتبعون فتحوا بها أبوابًا من الشك على بعض وقائعه. لذلك قرر مجلس المجمع الفقهي إرجاء البت فيه إلى الدورة القادمة ليتمكن من استيعاب أوسع وتمحيص أكثر في مختلف جوانبه واحتمالاته وأبعاده، وليأتي الرأي الفقهي فيه أبعد عن الابتسار، وأقرب إلى الصواب في معرفة حكم الشريعة الإسلامية بإذن الله تعالى، والله هو الموفق. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1042 [توقيع] رئيس مجلس المجمع الفقهي عبد الله بن حميد [اعتذر لمرضه] نائب الرئيس محمد علي الحركان الأعضاء [توقيع] [توقيع] [توقيع] عبد العزيز بن عبد الله بن باز محمد محمود الصواف صالح بن عثيمين [توقيع] [تخلف عن الحضور] [توقيع] محمد بن عبد الله بن السبيل مبروك العوادي محمد الشاذلي النيفر [توقيع] [توقيع] [توقيع] مصطفى أحمد الزرقاء عبد القدوس الهاشمي محمد رشيدي [تخلف عن الحضور] [توقيع] [تخلف عن الحضور] أبو الحسن علي الحسني الندوي أبو بكر محمود جومي حسنين محمد مخلوف [توقيع] [تخلف عن الحضور] [توقيع] محمد رشيد قباني محمود شيت خطاب محمد سالم عدود [مقرر المجمع الفقهي الإسلامي] محمد عبد الرحيم الخالد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1043 القرار الخامس حول التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم وبعد: فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي قد نظر في الدراسة التي قدمها عضو المجلس مصطفى أحمد الزرقاء حول التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب، الأمر الذي شغل الناس وكان من أبرز قضايا الساعة في العالم، واستعرض المجلس ما تحقق في هذا المجال من إنجازات طبية توصل إليها العلم والتقنية في العصر الحاضر، لإنجاب الأطفال من بني الإنسان والتغلب على أسباب العقم المختلفة المانعة من الاستيلاد. وقد تبين للمجلس من تلك الدراسة الوافية المشار إليها أن التلقيح الاصطناعي بغية الاستيلاد (بغير الطريق الطبيعي وهو الاتصال الجنسي المباشر بين الرجل والمرأة) يتم بأحد طريقين أساسيين: - طريقة التلقيح الداخلي، وذلك بحقن نطفة الرجل في الموضع المناسب من باطن المرأة. - وطريق التلقيح الخارجي بين نطفة الرجل وبويضة المرأة في أنبوب اختبار في المختبرات الطبية، ثم زرع البويضة الملقحة (اللقيحة) في رحم المرأة. ولابد في الطريقين من انكشاف المرأة على من يقوم بتنفيذ العملية. وقد تبين لمجلس المجمع الفقهي من تلك الدراسة المقدمة إليه في الموضوع ومما أظهرته المذاكرة والمناقشة أن الأساليب والوسائل التي يجرى بها التلقيح الاصطناعي بطريقيه الداخلي والخارجي لأجل الاستيلاد هي سبعة أساليب بحسب الأحوال المختلفة، للتلقيح الداخلي فيها أسلوبان، وللخارجي خمسة من الناحية الواقعية، بقطع النظر عن حلها أو حرمها شرعًا، وهي الأساليب التالية: في التلقيح الاصطناعي الداخلي الأسلوب الأول: أن تؤخذ النطفة الذكرية من رجل متزوج وتحقن في الموقع المناسب داخل مهبل زوجته أو رحمها حتى تلتقي النطفة التقاءً طبيعيًا بالبويضة التي يفرزها مبيض زوجته، ويقع التلقيح بينهما ثم العلوق في جدار الرحم بإذن الله، كما في حالة الجماع، وهذا الأسلوب يلجأ إليه إذا كان في الزوج قصور لسبب ما عن إيصال مائه في المواقعة إلى الموضع المناسب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1044 الأسلوب الثاني: أن تؤخذ نطفة من رجل وتحقن في الموضع المناسب من زوجة رجل آخر حتى يقع التلقيح داخليًا، ثم العلوق في الرحم كما في الأسلوب الأول، ويلجأ إلى هذا الأسلوب حين يكون الزوج عقيمًا لا بذرة في مائه، فيأخذون النطفة الذكرية من غيره. في طريق التلقيح الخارجي الأسلوب الثالث: أن تؤخذ نطفة من زوج، وبويضة من مبيض زوجته، فتوضعا في أنبوب اختبار طبي بشروط فيزيائية معينة، حتى تلقح نطفة الزوج بويضة زوجته في وعاء الاختبار، ثم بعد أن تأخذ اللقيحة بالانقسام والتكاثر تنقل في الوقت المناسب من أنبوب الاختبار إلى رحم الزوجة نفسها صاحبة البويضة، لتعلق في جداره وتنمو وتتخلق ككل جنين، ثم في نهاية مدة الحمل الطبيعية تلده الزوجة طفلًا أو طفلة وهذا هو طفل الأنبوب الذي حققه الإنجاز العلمي الذي يسره الله، وولد به إلى اليوم عدد من الأولاد ذكورًا وإناثًا وتوائم، تناقلت أخبارها الصحف العالمية ووسائل الإعلام المختلفة. ويلجأ إلى هذا الأسلوب الثالث عندما تكون الزوجة عقيمًا بسبب انسداد القناة التي تصل بين مبيضها ورحمها (قناة فالوب) . الأسلوب الرابع: أن يجرى تلقيح خارجي في أنبوب الاختبار بين نطفة مأخوذة من زوج، وبويضة مأخوذة من مبيض امرأة ليست زوجته (يسمونها متبرعة) ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته. ويلجأون إلى هذا الأسلوب عندما يكون مبيض الزوجة مستأصلًا أو معطلًا ولكن رحمها سليم قابل لعلوق اللقيحة فيه. الأسلوب الخامس: أن يجرى تلقيح خارجي في أنبوب اختبار بين نطفة رجل وبويضة من امرأة ليست زوجة له (يسمونهما متبرعين) ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة أخرى متزوجة. ويلجأون إلى ذلك حينما تكون المرأة المتزوجة التي زرعت اللقيحة فيها عقيمًا بسبب تعطل مبيضها، لكن رحمها سليم وزوجها عقيم ويريدان ولدًا. الأسلوب السادس: أن يجرى تلقيح خارجي في وعاء الاختبار بين بذرتي زوجين، ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة تتطوع بحملها. ويلجأون إلى ذلك حين تكون الزوجة غير قادرة على الحمل لسبب في رحمها ولكن مبيضها سليم منتج، أو تكون غير راغبة في الحمل ترفهًا، فتتطوع امرأة أخرى بالحمل عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1045 الأسلوب السابع: هو السادس نفسه إذ كانت المتطوعة بالحمل هي زوجة ثانية للزوج صاحب النطفة، فتتطوع لها ضرتها لحمل اللقيحة عنها. وهذا الأسلوب لا يجرى في البلاد الأجنبية التي يمنع نظامها تعدد الزوجات، بل في البلاد التي تبيح هذا التعدد. - هذه هي أساليب التلقيح الاصطناعي الذي حققه العلم لمعالجة أسباب عدم الحمل. وقد نظر مجلس المجمع الفقهي فيما نشر وأذيع أنه يتم فعلًا تطبيقه في أوربا وأمريكا من استخدام هذه الإنجازات لأغراض مختلفة، منها تجاري ومنها ما يجرى تحت عنوان (تحسين النوع البشري) ومنها ما يتم لتلبية الرغبة في الأمومة لدى نساء غير متزوجات أو نساء متزوجات لا يحملن لسبب فيهن، أو في أزواجهن، وما أنشئ لتلك الأغراض المختلفة من مصارف النطف الإنسانية التي تحفظ فيها نطف الرجال بصورة تقانية تجعلها قابلة للتلقيح بها إلى مدة طويلة، وتؤخذ من رجال معينين أو غير معينين تبرعًا أو لقاء عوض، إلى آخر ما يقال إنه واقع اليوم في بعض بلاد العالم المتمدن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1046 النظر الشرعي لمنظار الشريعة الإسلامية هذا وإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بعد النظر فيما تجمع لديه من معلومات موثقة، مما كتب ونشر في هذا الشأن، وتطبيق قواعد الشريعة الإسلامية ومقاصدها لمعرفة حكم هذه الأساليب المعروضة وما تستلزمه، قد انتهى إلى القرار التفصيلي التالي: أولًا: أحكام عامة: (أ) أن انكشاف المرأة المسلمة على غير من يحل بينها وبينه الاتصال الجنسي لا يجوز بحال من الأحوال إلا لغرض مشروع يعتبره الشرع مبيحًا لهذا الانكشاف. (ب) أن احتياج المرأة إلى العلاج من مرض يؤذيها، أو من حالة غير طبيعية في جسمها تسبب لها إزعاجًا، يعتبر ذلك غرضًا مشروعًا يبيح لها الانكشاف على غير زوجها لهذا العلاج، وعندئذ يتقيد ذلك الانكشاف بقدر الضرورة. (جـ) كلما كان انكشاف المرأة على غير من يحل بينها وبينه الاتصال الجنسي مباحًا لغرض مشروع، يجب أن يكون المعالج امرأة مسلمة إن أمكن ذلك، وإلا فامرأة غير مسلمة، وإلا فطبيب مسلم ثقة وإلا فغير مسلم بهذا الترتيب. ولا تجوز الخلوة بين المعالج والمرأة التي يعالجها إلا بحضور زوجها أو امرأة أخرى. ثانيًا: حكم التلقيح الاصطناعي: 1- إن حاجة المرأة المتزوجة التي لا تحمل، وحاجة زوجها إلى الولد، تعتبر غرضًا مشروعًا يبيح معالجتها بالطريقة المباحة من طرق التلقيح الاصطناعي. 2- أن الأسلوب الأول (الذي تؤخذ فيه النطفة الذكرية من رجل متزوج ثم تحقن في رحم زوجته نفسها في طريقة التلقيح الداخلي) هو أسلوب جائز شرعًا بالشروط الآنفة الذكر، وذلك بعد أن تثبت حاجة المرأة إلى هذه العملية لأجل الجمل. 3- أن الأسلوب الثالث (الذي تؤخذ فيه البذرتان الذكرية والأنثوية من رجل وامرأة زوجين أحدهما للآخر، ويتم تلقيحهما خارجيًا في أنبوب اختبار، ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة نفسها صاحبة البويضة) هو أسلوب مقبول مبدئيًا في ذاته بالنظر الشرعي، لكنه غير سليم تمامًا من موجبات الشك فيما يستلزمه ويحيط به من ملابسات فينبغي أن لا يلجأ إليه إلا في حالات الضرورة القصوى، وبعد أن تتوافر الشرائط العامة الآنفة الذكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1047 4- أن الأسلوب السابع (الذي تؤخذ فيه النطفة والبويضة من زوجين وبعد تلقيحها في وعاء الاختبار تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى للزوج نفسه، حيث تتطوع بمحض اختيارها بهذا الحمل عن ضرتها المنزوعة الرحم) يظهر لمجلس المجمع أنه جائز عند الحاجة وبالشروط العامة المذكورة. 5- وفي حالات الجواز الثلاثة يقرر المجمع أن نسب المولود يثبت من الزوجين مصدر البذرتين، ويتبع الميراث والحقوق الأخرى ثبوت النسب، فحين يثبت نسب المولود من الرجل والمرأة يثبت الإرث وغيره من الأحكام بين الولد ومن التحق نسبه له. أما الزوجة المتطوعة بالحمل عن ضرتها (في الأسلوب السابع المذكور) فتكون في حكم الأم الرضاعية اللمولود لأنه اكتسب من جسمها وعضويتها أكثر مما يكتسب الرضيع من مرضعته في نصاب الرضاع الذي يحرم به ما يحرم من النسب. 6- وأما الأساليب الأربعة الأخرى من أساليب التلقيح الاصطناعي في الطريقين الداخلي والخارجي مما سبق بيانه فجميعها محرمة في الشرع الإسلامي لا مجال لإباحة شيء منها، لأن البذرتين الذكرية والأنثوية فيها ليستا من زوجين، أو لأن المتطوعة بالحمل هي أجنبية عن الزوجين مصدر البذرتين. هذا، ونظرًا لما في التلقيح الاصطناعي بوجه عام من ملابسات حتى في الصور الجائزة شرعًا، ومن احتمال اختلاط النطف أو اللقائح في أوعية الاختبار، ولاسيما إذا كثرت ممارسته وشاعت، فإن مجلس المجمع الفقهي ينصح الحريصين على دينهم أن لا يلجأوا إلى ممارسته إلا في حالة الضرورة القصوى، وبمنتهى الاحتياط والحذر من اختلاط النطف أو اللقاح. (انظر القرار الثاني من الدورة الثامنة ص 150) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1048 هذا ما ظهر لمجلس المجمع في هذه القضية ذات الحساسية الدينية القوية من قضايا الساعة، ويرجو من الله أن يكون صوابًا، والله سبحانه أعلم وهو الهادي إلى سواء السبيل وولي التوفيق. [توقيع] [توقيع] نائب الرئيس رئيس مجلس المجمع الفقهي د. عبد الله عمر نصيف عبد العزيز بن عبد الله بن باز متوقف في جميع الأحوال الثلاث لما في جوازها من الخطر أما الأحوال الأربع الأخرى فلا شك في تحريمها الأعضاء [توقيع] [توقيع] محمد بن جبير عبد الله عبد الرحمن البسام صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان [توقيع] [توقيع] [توقيع] محمد بن عبد الله بن سبيل مصطفى أحمد الزرقاء محمد محمود الصواف متوقف في جواز الأسلوب الثالث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1049 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. قرار رقم 5 بشأن أطفال الأنابيب أما بعد، فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 – 16 ربيع الثاني 1406 هـ / 22 – 28 ديسمبر 1985م. إذ استعرض البحوث المقدمة من السادة الفقهاء والأطباء الذين عرضوا موضوع "أطفال الأنابيب" من جانبيه الفقهي والفني الطبي، ناقش ما قدم من دراسات وافية، وما أثير من جوانب مختلفة لاستيضاح الموضوع. وإذ تبين له أن الموضوع يحتاج إلى مزيد من الدراسة طبيًا وفقهيًا، وإلى مراجعة الدراسات والبحوث السابقة، واستيفاء التصور من جميع جوانبه. قرر: 1- تأجيل البت في هذا الموضوع إلى الدورة القادمة للمجمع. 2- يعهد لفضيلة الشيخ الدكتور بكر أبو زيد –رئيس المجمع- بإعداد دراسة وافية في الموضوع تلم بكل المعطيات الفقهية والطبية. 3- توجيه الأمانة ما يصل إليها إلى جميع الأعضاء قبل انعقاد الدورة القادمة بثلاث أشهر على الأقل. والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1050 قرار رقم 6 بشأن بنوك الحليب أما بعد: فان مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 1 – 16 ربيع الثاني 1406 هـ /22 – 28 ديسمبر 1985م بعد ان عرض على المجمع دراسة فقهية، ودراسة طبية حول بنوك الحليب وبعد التأمل فيما جاء في الدراستين ومناقشة كل منهما مناقشة مستفيضة شملت مختلف جوانب الموضوع تبين: 1- أن بنوك الحليب تجربة قامت بها الأمم الغربية. ثم ظهرت مع التجربة بعض السلبيات الفنية والعلمية فيها فانكمشت وقل الاهتمام بها 2- أن الإسلام يعتبر الرضاع لحمة كلحمة النسب يحرم به ما يحرم من النسب بإجماع المسلمين. ومن مقاصد الشريعة الكلية المحافظة على النسب، وبنوك الحليب مؤدية إلى الاختلاط أو الريبة. 3- أن العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي توفر للمولود الخداج أو ناقصي الوزن أو المحتاج إلى اللبن البشرى في الحالات الخاصة ما يحتاج إليه من الاسترضاع الطبيعي، الأمر الذي يغني عن بنوك الحليب وبناء على ذلك قرر: أولا: منع إنشاء بنوك حليب الأمهات في العالم الإسلامي. ثانيا: حرمة الرضاع منها والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1051 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم 7 بشان أجهزة الإنعاش أما بعد: فان مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني من 10 -16 ربيع الثاني 1406 هـ / 22 – 28 ديسمبر 1985م بعد أن نظر فيما قدم من دراسات فقهية وطبية في موضوع " أجهزة الإنعاش " وبعد المناقشات المستفيضة، وإثارة متنوع الأسئلة، وخاصة حول الحياة والموت نظراَ لارتباط فك أجهزة الإنعاش بانتهاء حياة المنعش. ونظرا لعدم وضوح كثير من الجوانب. ونظرا لما قامت به جمعية الطب الإسلامي في الكويت من دراسة وافية لهذا الموضوع، يكون من الضروري الرجوع إليها. قرر: أولا: تأخير البت في هذا الموضوع إلى الدورة القادمة للمجمع. ثانيا: تكليف الأمانة العامة بجمع دراسات وقرارات مؤتمر الإسلامي في الكويت وموافاة الأعضاء بخلاصة محددة واضحة له. والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1052 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم 1 بشأن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية أما بعد: فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406 هـ/22-28 ديسمبر 1985م. بعد استماعه إلي عرض البنك الإسلامي للتنمية لجملة من الاسئلة والاستفسارات قصد الإفتاء بشأنها. وبعد استماعه إلي تقرير اللجنة الفرعية التي تألفت أثناء الدورة من أصحاب الفضيلة الأعضاء الذين تقدموا بردود عن المسائل المستفسر عنها ومن انضم إليهم. ولكون الموضوع يحتاج إلي دراسة أوسع وأكمل تقتضى الاتصال بالبنك وتداول النظر معه في مختلف جزئياته في لجنة مكونة من طرفه. وبناء على ذلك قرر: 1- إرجاء هذا الموضوع للدورة القادمة. 2- مطالبة البنك بتقديم تقرير من هيأته العملية الشرعية. والله أعلم.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1053 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم 2 بشأن التأمين وإعادة التأمين أما بعد: فإن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 – 16 ربيع الثاني 1406 هـ/22 – 28 ديسمبر 1985م. بعد أن تابع العروض المقدمة من العلماء والمشاركين في الدورة حول موضوع "التأمين وإعادة التأمين". وبعد أن ناقش الدراسات المقدمة. وبعد تعمق البحث في سائر صوره وأنواعه، والمبادئ التي يقوم عليها والغايات التي يهدف إليها. وبعد النظر فيما صدر عن المجامع الفقهية والهيئات العلمية بهذا الشأن. قرر: 1 – أن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد. ولذا فهو حرام شرعا. 2 – أن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون. وكذلك الحال بالنسبة لإعادة التأمين القائم على أساس التأمين التعاوني. 3 – دعوة الدول الإسلامية للعمل على إقامة مؤسسات التأمين التعاوني، وكذلك مؤسسات تعاونية لإعادة التأمين، حتى يتحرر الاقتصاد الإسلامي من الاستغلال ومن مخالفة النظام الذي يرضاه الله لهذه الأمة. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1054 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم 3 بشأن حكم التعامل المصرفى بالفوائد وحكم التعامل بالمصارف الإسلامية أما بعد: فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406هـ، الموافق 22-28 ديسمبر 1985 م. بعد أن عرضت عليه بحوث مختلفة في التعامل المصرفي المعاصر. وبعد التأمل فيما قدم ومناقشته مناقشة مركزة أبرزت الآثار السيئة لهذا التعامل على النظام الاقتصادي العالمي، وعلى استقراره خاصة في دول العالم الثالث. وبعد التعامل فيما جره هذا النظام من خراب نتيجة إعراضه عما جاء في كتاب الله من تحريم الربا جزئيًا وكليًا تحريمًا واضحًا بدعوته إلى التوبة منه، إلى الإقتصار على استعادة رؤوس أموال القروض دون زيادة ولا نقصان قل أو كثر، وما جاء من تهديد بحرب مدمرة من الله ورسوله للمرابين. قرر: أولًا: أن كل زيادة أو فائدة على الدين الذى حل أجله وعجز عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة (أو الفائدة) على القرض منذ بداية العقد: هاتان الصورتان ربا محرم شرعًا. ثانيًا: أن البديل الذى يضمن السيولة والمساعدة على النشاط الاقتصادي حسب الصورة التى يرتضيها الإسلام – هو التعامل وفقًا للأحكام الشرعية. ثالثًا: قرر المجمع التأكيد على دعوة الحكومات الإسلامية إلى تشجيع المصارف التى تعمل بمقتضى الشريعة الإسلامية، والتمكين لإقامتها في كل بلد إسلامى لتغطى حاجة المسلمين كيلا يعيش المسلم في تناقض بين واقعه ومقتضيات عقيدته. والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1055 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى اله وصحبه. قرار رقم 4 بشأن توحيد بدايات الشهور القمرية أما بعد: فان مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني من10 - 16 ربيع الثاني 6 140 هـ /22 - 28 ديسمبر1985م. بعد أن استعرض البحوث المقدمة إليه من الأعضاء والخبراء حول توحيد بدايات الشهور القمرية. وبعد أن ناقش الحاضرون العروض المقدمة في الموضوع مناقشة مستفيضة واستمعوا لعديد من الآراء حول اعتماد الحساب في إثبات دخول الشهور القمرية. قرر: ا - تكليف الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بتوفير الدراسات العلمية الموثقة من خبراء أمناء في الحساب الفلكي والأرصاد الجوية. 2 - تسجيل موضوع توحيد بدايات الشهور القمرية في جدول أعمال الجلسة القادمة لاستيفاء البحث فيه من الناحيتين الفنية والفقهية الشرعية. 3 - تكليف الأمانة العامة باستقدام عدد كاف من الخبراء المذكورين وذلك لمشاركة الفقهاء في تصوير جوانب الموضوع كلها تصويرا واضحا يمكن اعتماده لبيان الحكم الشرعي. والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1056 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى اله وصحبه. قرار رقم 5 بشأن خطاب الضمان أما بعد: فان مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406هـ، الموافق 22 –28 ديسمبر 1985م. بحث مسألة خطاب الضمان. وبعد النظر فيما أعد في ذلك من بحوث ودراسات وبعد المداولات والمناقشات المستفيضة تبين ما يلي: 1- ان خطاب الضمان بأنواعه الابتدائي والانتهائي لا يخلو إما أن يكون بغطاء أو بدونه، فان كان بدون غطاء، فهو: ضم ذمة الضامن إلى ذمة غيره فيم يلزم حالا أو مآلا، وهذه هي حقيقة ما يعني في الفقه الإسلامي باسم: (الضمان) أو (الكفالة) . وان كان خطاب الضمان بغطاء فالعلاقة بين طالب خطاب الضمان وبين مصدره هي (الوكالة) والوكالة تصح بأجر أو بدونه مع بقاء علاقة الكفالة لصالح المستفيد (المكفول له) . 2- ان الكفالة هي عقد تبرع يقصد للإرفاق والإحسان، وقد قرر الفقهاء عدم جواز أخذ العوض على الكفالة، لأنه في حالة أداء الكفيل مبلغ الضمان يشبه القرض الذي جر نفعا على المقرض، وذلك ممنوع شرعا. ولذلك فان المجمع قرر ما يلي: أولا: أن خطاب الضمان لا يجوز أخذ الأجر عليه لقاء عملية الضمان (والتي يراعى فيها عادة مبلغ الضمان ومدته) ، سواء أكان بغطاء أم بدونه. ثانيا: أما المصاريف الإدارية لإصدار خطاب الضمان بنوعيه فجائزة شرعا، مع مراعاة عدم الزيادة على أجر المثل، وفي حالة تقديم غطاء كلي أو جزئي، يجوز أن يراعى في تقدير المصاريف لإصدار خطاب الضمان ما قد تتطلبه المهمة الفعلية لأداء ذلك الغطاء. والله اعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1057 استفتاء المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن بسم الله الرحمن الرحيم صاحب السماحة الشيخ الجليل الأستاذ: محمد الحبيب ابن الخوجة حفظه الله لا يخفى على سماحتكم أن أمريكا الشمالية يعيش اليوم فيها ما يربو على ثلاثة ملايين من المسلمين كثيرون منهم قد استوطن أجدادهم وآباؤهم هذه البلاد منذ خمسين عامًا تزيد قليلًا أو تنقص. وبعضهم هداهم الله إلى الإسلام حديثًا وكانوا قبل ذلك على النصرانية أو اليهودية أو الوثنية أو الإلحاد. كما أن هناك آلافًا من الطلاب المسلمين يفدون إلى هذه البلاد للدراسة في جامعاتها المختلفة. وفي أوربا وأمريكا الجنوبية أعداد أخرى من هؤلاء المسلمين إن لم تزد عن أعدادهم في أمريكا الشمالية فلا تقل كثيرًا عنها، ولهذا النوع من المجتمعات خصائص وتأثيرات على من يعيشون فيها بشكل أو بآخر سلبيًا أو إيجابيًا، وبالتالي فإن للأقليات المسلمة حاجات فقهية وأسئلة قل أن يثار مثلها في بلاد المسلمين أو البلدان التي يشكل المسلمون فيها أغلبية كبيرة. ولندرة الفقهاء في هذه الأماكن وقصور الكثيرين منهم عن مستوى الفتوى، وتسرع البعض وقلة تثبته، أو ضعف فهمه لمدارك الفقهاء ومناحي مذاهبهم فقد تحول كثير من تلك المسائل إلى وسائل اختلاف، وإثارة منازعات بين المسلمين جعلتهم في وضع سيئ ينذر بعواقب وخيمة أقلها تفرق قد يؤدي إلى ذوبانهم في البيئات التي يعيشون فيها ثم نسيان انتمائهم إلى الإسلام والمسلمين لا قدر الله ذلك. وبما أن الفتاوى الفردية، أو الفتاوى التي لا تقترن بالاستدلال والتعليل قليلة الأثر في هذه البيئات ونحوها فقد حرصنا على أن نجمع أهم المسائل التي تكثر إثارتها، وتشتد حاجة المسلمين إلى الوصول إلى القول الفصل فيها لنضعها بين أيديكم، ونحصل على أجوبة شافية عنها تقطع مادة الجدل والنقاش وتبصر المسلمين بأمور دينهم.. فنرجو التفضل بإيلاء هذه المسائل ما تستحقه من العناية وإجابتنا عنها لتوعية الدعاة وأئمة المساجد والمسلمين على أحكامها والإسهام في تقليل عوامل الفرقة والاختلاف بين المسلمين. وتجدون سماحتكم شفع خطابنا هذا ثبتًا بتلك المسائل وفقكم الله ورعاكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. د. طه جابر العلواني مدير الأبحاث والدراسات وعضو المجمع الفقهي بجدة د. طه جابر العلواني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1058 المسائل التي يكثر تساؤل المسلمين عنها في أمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا 1- ما حكم التجنس بالجنسية الأجنبية أمريكية كانت أو أوروبية. علمًا بأن معظم الذين قبلوا التجنس بهذه الجنسيات أو يعتزمون الحصول عليها يؤكدون أنهم ما فعلوا ذلك إلا لأنهم قد أوذوا واضطهدوا في بلادهم الأصلية بالسجن أو التهديد ومصادرة الأموال وغيرها. وبعضهم يرى أنه ما دامت الأحكام الشرعية والحدود معطلة في بلاده الأصلية فأي فرق بين أن يحمل جنسية ذلك البلد الذي اضطهده والبلد الذي اختار أن يستوطن فيه وفي كليهما لا تطبق الأحكام الشرعية، ولا تقام الحدود وهو في بلد مهجره مصانة حقوقه الشخصية دمه وماله وعرضه ولا يمكن سجنه أو تهديده إلا إذا فعل ما يستوجب ذلك؟ 2- لولادة الأبناء وتنشئتهم في أمريكا وأوروبا ونحوها من بلاد غير المسلمين مساوئ ومخاطر، وبعض المحاسن، واحتمال اكتسابهم من عادات أبناء النصارى واليهود الكثير احتمال قائم –خاصة- في حالة انشغال الوالدين أو وفاة أحدهما أو كليهما. مع ملاحظة أن كثيرًا من الناس هنا على الدوام يذكرون بأن أبنائهم في بعض البلدان الإسلامية التي كانوا يقيمون فيها يتعرضون لاحتمالات الردة باعتناق الشيوعية واللادينية أو نحوها من الأفكار الإلحادية التي تروج لها حكومات بعض البلدان الإسلامية وتدخلها في برامج التعليم والتوجيه العام، وتضطهد من يرفضها؟ ويؤكد المستوطنون –هنا- من المسلمين أنه لم يطلب من أحدهم أن يغير دينه، أو أنه وجه نحو دين آخر، وذلك لضعف الاهتمام بالناحية الدينية هنا. 3- ما حكم زواج المسلمة بغير المسلم خاصة إذا طمعت في إسلامه بعد الزواج حيث تدعي مسلمات كثيرات أنه لا يتوفر لهن الأكفاء من المسلمين في غالب الأحيان، وأنهن مهددات بالانحراف، أو يعشن في وضع شديد الحرج؟ 4- ما حكم استمرار الزوجية والمعاشرة بين زوجة دخلت الإسلام وبقي زوجها على الكفر ولها منه أولاد تخشى عليهم الضياع والانحراف، ولها طمع في أن يهتدي زوجها إلى الإسلام فيما إذا لم يكن هناك طمع في إسلامه، ولكنه يحسن معاشرتها وتخشى لو تركته ألا تعثر على زوج مسلم؟ 5- ما حكم دفن المسلم في مقابر غير المسلمين، حيث لا يسمح بالدفن خارج المقابر المعدة لذلك، ولا توجد مقابر خاصة بالمسلمين في معظم الولايات الأمريكية والأقطار الأوربية؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1059 6- ما حكم بيع المسجد (إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها وخيف تلفه أو الاستيلاء عليه) فكثيرًا ما يشتري المسلمون منزلًا ويحولونه مسجدًا فإذا انتقلت غالبية المسلمين من المنطقة لظروف العمل هجر المسجد أو أهمل، وقد يستولي عليه آخرون، ومن الممكن بيعه واستبداله بمسجد يؤسس في مكان فيه مسلمون، فما حكم هذا البيع أو الاستبدال؟ وإذا لم تتيسر فرصة استبداله بمسجد آخر فما أقرب الوجوه التي يجوز صرف ثمن المسجد فيها؟ 7- كثيرات من بنات المسلمين ونسائهم تدعوهن ظروف العمل أو الدراسة إلى السفر إلى ولايات أخرى (أبعد من مسافة القصر) بالطائرة أو غيرها من وسائل السفر، بدون محرم، ومن غير رفقة من نسوة تعرفهن أو يعرفنها غير رفقة المسافرين والمسافرات عادة فما حكم هذا السفر؟ 8- بعض النساء أو الفتيات تضطرهن ظروف العمل اوالدراسة إلى الإقامة بمفردهن، أو مع نسوة غير مسلمات، فما حكم هذه الإقامة؟ 9- كثيرات من النساء –هنا- يذكرن أن أقصى ما بإمكانهن ستره من أجسادهن هو ما عدا الوجه والكفين بعضهن تمنعهن جهات العمل أو الدراسة من ستر رؤوسهن وأعناقهن، فما أقصى ما يمكن السماح بكشفه من أجزاء جسم المرأة بين الأجانب في محلات العمل أو الدراسة؟ 10- يضطر كثير من الطلاب المسلمين إلى العمل في هذه البلاد لتغطية نفقات الدراسة والمعيشة لأن كثيرًا منهم لا يكفيه ما يرده من ذويه مما يجعل العمل ضرورة له لا يمكن أن يعيش بدونه. وكثير منهم لا يجد عملًا إلا في مطاعم تبيع الخمور أو تقدم وجبات فيها لحم الخنزير من المحرمات فما حكم عمله في هذه المحلات؟ 11- ما حكم بيع المسلم للخمور والخنازير، أو صناعة الخمور وبيعها لغير المسلمين؟ علمًا بأن بعض المسلمين في هذه البلدان قد اتخذوا من ذلك حرفة لهم. 12- هناك كثير من الأدوية تحوي كميات مختلفة من الكحول تتراوح بين 1 % و25 % ومعظم هذه الأدوية من أدوية الزكام واحتقان الأنف والحنجرة والسعال وغيرها من الأمراض السائدة. وتمثل هذه الأدوية الحاوية للكحول ما يقارب 95 % من الأدوية في هذا المجال مما يجعل الحصول على الأدوية الخالية من الكحول عملية صعبة أو متعذرة، فما حكم تناول هذه الأدوية؟ 13- هناك الخمائر والجلاتين توجد فيها عناصر مستخلصة من الخنزير بنسب ضئيلة جدًا فهل يجوز استعمال هذه الخمائر والجلاتين؟ 14- يضطر معظم المسلمين إلى إقامة حفلات الزفاف لبناتهم في مساجدهم وكثيرًا ما يتخلل هذه الحفلات رقص وإنشاد أو غناء، ولا تتوفر لهم أماكن تتسع لمثل هذه الحفلات فما حكم إقامة مثل هذه الحفلات في المساجد؟ 15- بعض الحكومات النصرانية (خاصة في أمريكا الجنوبية) تفرض على رعاياها التسمي بالأسماء النصرانية، وتضع قوائم بأسماء اختارتها للأطفال ذكورًا وإناثًا ولا تسمح بتسجيل المواليد بأسماء تختار من غير هذه القوائم، فما حكم تسمي المسلمين بهذه الأسماء، وما الحلول التي تقترحونها في هذه الأحوال؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1060 16- ما حكم زواج الطالب أو الطالبة المسلمة زواجًا لا ينوى استدامته بل النية منعقدة عنده على إنهائه بمجرد انتهاء الدراسة والعزم على العودة إلى مكان الإقامة الدائم، ولكن العقد يكون –عادة- عقدًا عاديًا وبنفس الصيغة التي يعقد بها الزواج المؤبد، فما حكم هذا الزواج؟ 17- ما حكم ظهور المرأة في محلات العمل أو الدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبيها وتكتحل؟ 18- بعض المسلمات يجدن حرجًا في عدم مصافحتهن للأجانب الذين يرتادون الأماكن التي يعملن أو يدرسن فيها، فيصافحن الأجانب دفعًا للحرج. فما حكم هذه المصافحة؟ وكذلك الحال بالنسبة لكثير من المسلمين الذين تتقدم إليهم نساء أجنبيات مصافحات، وامتناعهم عن مصافحتهن يوقعهم في شيء من الحرج على حد ما يذكرون ويذكرون؟ 19- ما حكم استئجار الكنائس أماكن لإقامة الصلوات الخمس أو صلاة الجمعة والعيدين، مع وجود التماثيل وما تحتويه الكنائس عادة. علمًا بأن الكنائس –في الغالب- أرخص الأماكن التي يمكن استئجارها من النصارى بدون مقابل؟ 20- ما حكم ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى وما يقدمونه من طعام في مطاعمهم مع عدم العلم بالتسمية عليها؟ 21- كثير من المناسبات العامة التي يدعى المسلمون لحضورها تقدم فيها الخمور ويختلط فيها النساء والرجال، واعتزال المسلمين لبعض هذه المناسبات قد يؤدي إلى عزلهم عن بقية أبناء المجتمع، وفقدانهم لبعض الفوائد، فما حكم حضور هذه الحفلات من غير مشاركة لهم في شرب الخمر أو الرقص أو تناول الخنزير؟ 22- بعض الأقطار في شمال أوروبا يقصر فيها الليل كثيرًا ويطول فيها النهار كثيرًا، حيث تصل ساعات الصيام في بعض هذه البلدان إلى عشرين ساعة أو تزيد، وكثير من المسلمين يجدون مشقة زائدة في الصيام. فهل يجوز اللجوء –في هذه البلدان- إلى التقدير، وما نوع التقدير الذي يمكن اعتماده إذا كان جائزًا، وهل يكون التقدير بساعات الصيام في مكة أو بساعات النهار في أقرب البلدان اعتدالًا، أو بماذا؟ وإذا لم يكن ذلك جائز فهل يعتبر هذا النوع من المشقة من المشاق التي يجب على المسلم احتمالها والصبر عليها مع احتمال الضرر، وهل يجب عليه أن يترك عمله في شهر الصيام إذا لم يكن بمقدوره الصيام إلا بترك العمل من قبيل ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1061 23- في كثير من الولايات الأمريكية وكذلك الأقطار الأوربية تصعب أو تتعذر رؤية هلال رمضان أو شوال، والتقدم العلمي الموجود في كثير من هذه البلدان يمكن من معرفة ولادة الهلال بشكل دقيق بطريق الحساب، فهل يجوز اعتماد الحساب في هذه البلدان؟ وهل تجوز الاستعانة بالمراصد وقبول قول الكفار المشرفين عليها علمًا أن الغالب على الظن صدق قولهم في هذه الأمور؟ ومما يجدر بالملاحظة أن اتباع المسلمين في أمريكا وأوروبا لبعض البلدان الإسلامية المشرقية في صيامها أو إفطارها قد أثار بينهم اختلافات كثيرة، غالبًا ما تذهب بأهم فوائد الأعياد، وتثير مشكلات شبه دائمة، وفي الأخذ بالحساب ما قد يقضي على هذا في نظر البعض أو يكاد؟ 24- ما حكم عمل المسلم في دوائر وزارات الحكومة الأمريكية أو غيرها من حكومات البلاد الكافرة، خاصة في مجالات هامة كالصناعات الذرية أو الدراسات الاستراتيجية ونحوها؟ 25- ما حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها علمًا بأن هذا هو جزء من عمله في الشركة الموظفة له، وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل؟ 26- كثير من العائلات المسلمة يعمل رجالها في بيع الخمور والخنزير وما شابه ذلك، وزوجاتهم وأولادهم كارهون لذلك علمًا بأنهم يعيشون بمال الرجل، فهل عليهم من حرج في ذلك؟ 27- ما حكم تبرع المسلم فردًا كان أو هيئة لمؤسسات تعليمية أو تنصيرية أو كنيسة؟ 28- ما حكم شراء منزل السكنى، وسيارة الاستعمال الشخصي، وأثاث المنزل بواسطة البنوك والمؤسسات التي تقرض ربحًا محددًا على تلك القروض لقاء رهن تلك الأصول، علمًا بأنه في حالة البيوت والسيارات والأثاث عمومًا، يعتبر البديل عن البيع هو الإيجار بقسط شهري يزيد في الغالب عن قسط الشراء الذي تستوفيه البنوك؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1062 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم 3 بشأن أجوبة استفتاءات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن أما بعد: فإن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني من 10 – 16 ربيع الثاني 1406هـ/ 22 – 28 ديسمبر 1985م. إذ ألف لجنة من أعضاء المجمع للنظر في الأسئلة الواردة من المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن. وبعد التأمل فيما قدم في الأمر من إجابات تبين منها: - إن الإجابات قد صيغت بطريقة مختصرة جدًا لا يحصل معها الاقتناع وقطع دابر الخلاف أو الرفض. - أنه لا بد من قيام المجمع بإزاحة الإشكالات الحاصلة لإخواننا المسلمين في الغرب. قرر: 1- تكليف الأمانة العامة بإحالة هذه الأسئلة على من تراه من الأعضاء أو الخبراء لإعداد إجابات معللة عن تلكم الأسئلة مستندة إلى الأدلة الشرعية، وأقوال من تقدم من فقهاء المسلمين وإبرازها في صورة مقنعة بينة. 2- تكليف الأمانة العامة برفع ما تتحصل عليه إلى الدورة الثالثة. والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1063 استفسارات حول الطائفة القاديانية فضيلة القاضي محمد تقي عثماني قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة بسم الله الرحمن الرحيم إلى فضيلة العلامة المحقق الشيخ الحبيب ابن الخوجه، حفظه الله تعالى ورعاه الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإن الطائفة القاديانية، كما تعرفون، من الفرق الزائغة المنحرفة التي لا تألوا المسلمين خبالًا، وقد صدرت من معظم البلاد الإسلامية فتاوى العلماء في تكفيرهم، وفي الأخير أدخلت حكومة باكستان تعديلًا في دستورها، قررت فيه أن هذه الطائفة من الأقليات غير المسلمة، وذلك في سنة 1974م، ثم اتبعته في العام الماضي بقانون يمنعهم من استعمال المصطلحات الإسلامية "كالمساجد" و"الأذان" و"الخلفاء الراشدين" و"الصحابة" و"أمهات المؤمنين" وما إلى ذلك، كما قررت رابطة العالم الإسلامي في قرارها الصادر سنة 1973م أنها فرقة كافرة منحرفة. وبعد هذا كله، فإن هذه الطائفة قد رفعت إلى المحكمة العالية بكيب تاون من جنوب أفريقيا، قضية ضد المسلمين، أن المسلمين يحكمون عليهم بالكفر، ويمنعونهم من الصلاة في مساجدهم وعن دفن موتاهم في مقابرهم، وطلبوا من المحكمة أن يصدر حكمًا ينهى المسلمين عن كل ذلك ويقرر أنهم مسلمون. وكانت المحكمة قد أصدرت في مبدأ الأمر حكمًا على المسلمين بأن لا يمنعوا القاديانيين من دخول مساجدهم إلى أن تبلغ القضية نهايتها فرفع المسلمون طلبًا إلى المحكمة بإلغاء هذا الحكم وأن لا يمنع المسلمون من وضعهما السابق إلى أن تبت المحكمة بالحكم في القضية، فسافرنا من باكستان –ونحن عشرة رجال- إلى جنوب أفريقيا - لنساعد إخواننا المسلمين هناك، والحمد لله الذي رزقنا النجاح في هذه المرحلة الابتدائية، وقد ألغت المحكمة حكمها السابق بعد سماع دلائل الفريقين، وكانت القاضية إذ ذاك امرأة نصرانية سمعت دلائلنا بكل عناية وإصغاء. ثم رفع المسلمون طلبًا آخر، أن الحكم بكفر القاديانيين وإسلامهم، إنما هو أمر ديني بحت، لا ينبغي لمحكمة علمانية أن تتدخل فيها، بعد ما أجمع سائرالمسلمين في بقاع الأرض أن أتباع مرزا علام أحمد كلهم خارجون عن ملة الإسلام، ولم يبق هذا الأمر بعد ذلك موضوع نقاش أو جدال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1064 وإن هذا الطلب رفع إلى قاض يهودي، وأنكم تعرفون أن القاديانيين لهم مركز في إسرائيل، ولهم مع اليهود صلات قوية، وزادت الضغث على الإبالة أن هذا القاضي اليهودي يعد من فرقهم المبتدعة التي أخرجها الأرتودكسيون عن دائرتهم، فبطبيعته كان ميالًا إلى مواساة القاديانيين، فحكم في جواب هذا الطلب خلاف المسلمين، وقال في حكمه: إن المحكمة العلمانية هي المصدر الوحيد الذي يستطيع أن يحكم في هذه المسألة الدينية حكمًا لا يتأثر بعواطف العصبية المذهبية، فيجب عليها أن تتدخل في هذا الأمر وتبت فيه برأي غير منحاز. فاضطر المسلمون بعد هذا الحكم أن يعرضوا أمام المحكمة دلائل تكفير القاديانيين من الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة. وقد طلب القاديانيون من المسلمين إثبات أن علماء المسلمين في جميع البلاد الإسلامية يعتبرون القاديانية كفرًا، وذكروا للمحكمة أنه ليس هناك في العالم الإسلامي مجلس يمثل علماء جميع الدول الإسلامية، حتى يقال: إن المسلمين أجمعوا على ذلك. وفي هذا الصدد يحتاج المسلمون في هذه القضية إلى فتوى من مجلس دولي للعلماء يمثل جميع البلاد الإسلامية، ولاشك أن مجمع الفقه الإسلامي هو أعظم ما وجد حتى الآن من المجالس في هذا الشأن، فيريد المسلمون في جنوب أفريقيا إن يصدر المجمع فتوى يصرح بتكفير أتباع مرزا غلام أحمد القادياني ليكون سندًا لهم عند دعواهم الإجماع على ذلك. وإن هذه القضية ستشرع المحكمة في سماعها للخامس من شهر نوفمبر هذا العام، ونرجو انعقاد مجلس المجمع قبله، فمن المناسب جدًا أن يصدر المجمع فتوى من قبل مجلسه العام في جلسته القادمة. وإني، نظرًا إلى أهمية الموضوع، قد سودت هذه الفتوى، لتكون ورقة عمل لشعبة الإفتاء أولًا، وللمجلس ثانيًا. فالمرجو أن ترسلوا هذه الفتوى إلى جميع الأخوة الأعضاء، كورقة عمل للجلسة القادمة، وأرجو أن الإخوة الأعضاء نظرًا إلى أهمية الموضوع، يسامحون عن عدم دخول هذا الموضوع في اللائحة التي أعدتها شعبة التخطيط. وأرجو أيضًا أن تخبروني عن وصول هذه الرسالة، وإدخال الموضوع في لائحة الجلسة القادمة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [توقيع] (محمد تقي العثماني) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1065 بسم الله الرحمن الرحيم استفتاء الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. إن طائفة القاديانية التي تسمي نفسها "الأحمدية" تتبع في أمور دينها رجلًا اسمه مرزا غلام أحمد القادياني، وأن مرزا غلام أحمد القادياني رجل ولد في قاديان، قرية من قرى الهند، وادعى أنه نبي مرسل من الله سبحانه، وأنه بروز لسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن نبوته لا تنافي كون رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ثم إن هذا الرجل لم يكتف بادعاء النبوة، بل ادعى أنه أفضل من سائر الأنبياء السابقين، وأنه هو المسيح الموعود الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بنزوله في آخر الزمان، وأن كتاباته مليئة بمثل هذه الدعاوى، وبإهانة عدة من الأنبياء عليهم السلام، وصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن عدة مقتبسات مترجمة من مكتبه مجموعة على سبيل المثال في ضميمة "ألف" من هذا الاستفتاء. وأن أتباع مرزا غلام أحمد القادياني ينقسمون إلى فرقتين: 1- الفرقة القاديانية: وهي التي تؤمن بنبوة مرزا غلام أحمد القادياني، بكل معنى الكلمة، وتكفر كل من لم يؤمن بنبوته، وتسمى زوجته "أم المؤمنين" وأتباعه الذين بايعوا على يده "صحابة" وخلفاؤه "الخلفاء الراشدين". 2- الفرقة اللاهورية: وهي التي تؤمن بأن مرزا غلام أحمد القادياني هو المسيح الموعود، وأنه المجدد للقرن الرابع عشر، وأن جميع ما كتبه في مؤلفاته حق يجب اتباعه، وأنه كان ينزل عليه وحي يجب تصديقه واتباعه، وأن كل من يكذب مرزا غلام أحمد القادياني أو يكفره فهو كافر. غير أنهم يقولون: إن مرزا غلام أحمد لم يكن نبيًا بمعناه الحقيقي، وإنما كانت نبوته ظلية أو مجازية، وكان وحيه وحي ولاية، دون وحي نبوة، وأن مجرد عدم الإيمان بمرزا غلام أحمد القادياني لا يكفر الإنسان، ولكن يكفره الاعتقاد بكذبه، أو كفره. وإن كلتا الفرقتين من أتباع مرزا غلام أحمد القادياني متفقتان في أمور: 1- أن مرزا علام أحمد القادياني هو المسيح الموعود الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بنزوله في آخر الزمان. 2- أنه كان ينزل عليه وحي يجب على جميع الناس تصديقه واتباعه. 3- أنه كان ظلًا وبروزًا للنبي صلى الله عليه وسلم نفسه في آخر الزمان. 4- أنه كان محقًا في جميع دعاويه، وفي كل ما تكلم به، أو كتبه في مؤلفاته. 5- كل من كذبه في دعاويه، أو كفره فهو كافر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1066 ولذلك اتفق علماء الهند وباكستان على كفر مرزا غلام أحمد القادياني وكلتا الفرقتين من أتباعه، منذ نحو خمسين عامًا، ووافقهم على ذلك علماء البلاد الإسلامية الأخرى، حتى صدر قرار من رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة سنة 1973م بتكفيرهم بإجماع 144 منظمة من المنظمات الإسلامية في سائر بقاع الأرض، ثم صدر في باكستان تقنين دستوري أعلن بكفر كلتا الفرقتين من القاديانيين، وبذلك حكمت المحكمة العالية في باكستان، وحدث مثل ذلك في ماليزيا، وقد رفع هؤلاء القاديانيون الآن قضية ضد المسلمين في المحكمة العالية من كيب تاون، جنوب أفريقيا، وطلبوا منها أن تعلن بإسلامهم وبتخطئة من يكفرهم. فنرجو من أصحاب الفضيلة أعضاء مجمع الفقه الإسلامي الإجابة عن الأسئلة التالية: 1- هل يعد مرزا غلام أحمد القادياني بعد ادعاء نبوته من المسلمين أو يحكم بكفره وارتداده. 2- هل الفرقة القاديانية من أتباعه مسلمة، أو كافرة؟ 3- هل الفرقة اللاهورية من أتباعه مسلمة، أو كافرة؟ 4- هل يجوز لمحكمة علمانية أن تحكم بإسلام رجل أو بكفره؟ ولئن حكمت فهل ينفذ حكمها على المسلمين؟ وندعو الله سبحانه أن يسدد خطاكم في سبيل نشر الدعوة الإسلامية. ويوفقكم لما فيه خير الإسلام والمسلمين [توقيع] نظيم محمد رئيس مسلمي جودثل كونسل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1067 ضميمة "الف" دعوى النبوة 1- يقول في "دافع البلاء" هو الإله الحق الذي أرسل رسوله في قاديان (1) 2- يقول في "نزول المسيح" أنا رسول ونبي، أي أنني باعتبار الظلية الكاملة مرآة فيها انعكاس كامل للصورة المحمدية والنبوة المحمية (2) 3- وقال في تتمة "حقيقة الوحي": "والذي نفسي بيده إنه أرسلني وسماني نبيًا" (3) 4- وقال في "أيك غلطى كا ازاله" "إن زهاء مائة وخمسين بشارة من الله وجدتها صادقة إلى وقتنا هذا، فلماذا أنكر اسمي نبيًا ورسولًا، وبما أن الله هو الذي سماني بهذه الأسماء، فلماذا أردها، أو لماذا أخاف غيره؟ " (4) 5- وقال في هامش "حقيقة الوحي": "إن اله تعالى جعلني مظهرًا لجميع الأنبياء ونسب إلي أسماءهم، أنا آدم، أنا شيث، أنا نوح، أنا إبراهيم، أنا إسحاق، أنا إسماعيل، أنا يعقوب، أنا يوسف، أنا عيسى، أنا موسى، أنا داود، وأنا مظهر كامل لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي أنا محمد وأحمد ظليًا (5) 6- وقال في صحيفة "بدر": "دعواي أنني رسول ونبي " (6) 7- وقال في "نزول المسيح": "إن الأنبياء وإن كثروا إلا أنني لست أقل منهم في المعرفة" (7) 8- وكذلك كان اعتقادي أولًا: "أين أنا من المسيح ابن مريم؟ فإنه نبي ومن المقربين، فلو ظهر أمر دل على فضلي اعتبرته فضيلة جزئية، ثم تتابع علي الوحي كالمطر، فجعلني لا أستقر على هذه العقيدة، وخاطبني بالنبي صراحة بحيث إنني نبي من ناحية ومن الإسلام من ناحية أخرى.. وأومن بوحيه الطاهر كما أومن بجميع وحي الله الذي جاء قبلي، وأنا مطيع لوحي الله تعالى، ومادام لم يأتني منه علم كنت أقول كما قلت في الأول، ولما جاءني منه علم قلت خلاف ذلك (8) 9- لاشك أن عقيدة المرزا المتنبي الذي مات عليها: أنه نبي، وقد جاء ذلك في خطابه الأخير الذين نشر في يوم وفاته في جريدة "أخبار عام"وصرح فيه ما يلي: "أنا نبي حسب حكم الله ولو جحدته أكون آثمًا، وإذ سماني الله نبيًا فكيف يمكن لي جحوده، وأنا على هذه العقيدة حتى أرحل عن هذه الدنيا" (9) كتب هذا الخطاب في 23 مايو 1908م ونشر في 26 مايو في "أخبار عام"وفي ذلك اليوم مات المرزا المتنبي. 10- أنا هو النبي خاتم الأنبياء بروزيًا بموجب آية: {وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} وسماني الله محمدًا وأحمد، في "براهين أحمدية" قبل عشرين عامًا، واعتبرني وجود محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، ولذا لم يتزلزل ختم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بنبوتي، لأن الظل لا ينفصل عن أصله، ولانني محمد ظليًا، ولذا لم ينفذ ختم النبوة، لأن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لم تزل محدودة على محمد، أي بقي محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا لا غير، أعني لما كنت محمدًا صلى الله عليه وسلم بروزيًا، وانعكسات الكمالات المحمدية مع النبوة المحمدية في اللون البروزي في مرآتي الظلية، فأي إنسان منفرد ادعى النبوة على حياله (10)   (1) ص 11 الطبعة الثالثة، قاديان 1946م (2) في الهامش (ص 3) الطبعة الأولى، قاديان 1909م (3) (ص68) طبعة قاديان سنة 1934م (4) (ص8) طبعة قاديان سنة 1901م (5) (ص 72) طبعة قاديان سنة 1934م (6) 5 مارس 1908م، و "حقيقة النبوة" (1 – 272) ذيل رقم 3 (7) (ص 97) الطبعة الأولى، قاديان سنة 1909م (8) "حقيقة الوحي" (ص 149 و 150) طبعة قاديان سنة 1934م (9) "أخبار عام" 26 مايو 1908م، و"حقيقة النبوة" (ص 271) لمرزا محمود و "مباحثة راولبندي" (ص 136) (10) (ص 10 و 11) طبع ربوة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1068 11- يقول ابن المتنبي الأوسط – مرزا بشير أحمد القادياني-: هذا الذي يظن بعض الناس أن النبوة الظلية والبروزية من أدنى أنواع النبوة، إنما هو خداع النفس ولا حقيقة له، لأنه لابد للنبوة الظلية أن يستغرق صاحبها في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم حتى ينال درجة: "صرت أنا أنت وأنت أنا" وفي هذه الحالة يرى هو أن الكمالات المحمدية تنزل على نفسه في صورتها العكسية، ثم يزداد هذا القرب حتى يلبس رداء النبوة المحمدية، وعندئذ يقال له: النبي الظلي، وإذا كان الظل يقتضي أن يكون صورة كاملة لأصله وعليه إجماع جميع الأنبياء، فعلى الأحمق الذي يرى نبوة المسيح الموعود الظلية من أدنى أنواع النبوة أن ينتبه ويفكر في أمر إسلامه، لأنه هجم على شأن النبوة هي تاج سائر النبوات، ولا أفهم لماذا يتعثر الناس في نبوة المسيح الموعود؟ ولماذا يراه الناس نبوة ناقصة؟ فإني أرى أنه كان نبيًا ظليًا لبروزه للنبي صلى الله عليه وسلم ومكانة هذه النبوة الظلية العالية. ومن الواضح أن الأنبياء في العصور الماضية لم يكونوا يجمعون –بالضرورة- كل الكمالات التي جمعت في محمد صلى الله عليه وسلم، بل كل نبي كان يعطى من الكمالات حسب عمله واستعداه قلة أوكثرة، إلا أن المسيح الموعود أعطي النبوة عندما اكتسب جميع الكمالات المحمدية، واستحق أن يقال: "النبي الظلي" فالنبوة الظلية لم تؤخر قدم المسيح الموعود بل قدمتها إلى الأمام، إلى أن أقامته جنبًا إلى جنب مع النبي صلى الله عليه وسلم (1)   (1) "كلمة الفصل" و "ريويو آف ريليجنز" مارس وأبريل 1915م الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1069 مسودة الجواب المقترح محمد تقي العثماني عضو القسم الشرعي للمحكمة العليا باكستان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله خاتم النبيين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. 1 و 3 – إن نصوص القرآن والسنة مطبقة على أن النبوة والرسالة قد انقطعت بعد بعثة النبي الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن كل من ادعى النبوة بعده صلى الله عليه وسلم فهو كاذب خارج عن ملة الإسلام، وأن هذه العقيدة من المبادئ الأساسية التي لا تقبل أي تأويل أو تخصيص، فإنها ثابتة بنصوص القرآن الكريم والواضحة البينة المراد، والأحاديث النبوية المتواترة القطعية، يقول لله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] . وهناك أحاديث متواترة أكثر من مائة تثبت هذه العقيدة القطعية، نذكر منها على سبيلا المثال ما يلي: أ- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، وأنا خاتم النبيين)) . (1) ب –عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول)) (2) جـ – عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقتل فئتان، فيكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة، ولا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريبًا من ثلاثين، كلهم يزعم انه رسول الله)) (3) .   (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء، ومسلم في الفضائل، ج 2 ص 248 (2) رواه البخاري في كتاب الأنبياء ج 1 ص 491: ومسلم في كتاب الأمارة، وأحمد في مسنده ج 2 ص 297 (3) رواه البخاري ومسلم وأحمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1070 وعلى أساس هذه النصوص القطعية قد اجتمعت الأمة الإسلامية على أن كل من ادعى النبوة والرسالة أو بأنه ينزل عليه وحي يجب اتباعه كحجة شرعية، فإنه كافر خارج عن الملة. يقول القاضي عياض رحمه الله تعالى في الشفاء (ص 362 طبع الهند) ، "لأنه أخبر أنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده وأخبر عن الله تعالى أنه خاتم النبيين، وأجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره أن مفهومه المراد به دون تأويل ولا تخصيص، ولا شك في كفر هؤلاء الطوائف كلها قطعًا إجماعيًا وسمعًا" يقول الشيخ علي القاري في شرح الفقه الأكبر ص 202: "ودعوة النبوة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم كفر بالإجماع ". ولم يفرق هذه النصوص القطعية ولا الإجماع المنعقد على هذه العقيدة بين دعوى النبوة التشريعية وغير التشريعية، فكل منهما كفرلا مجال له في الإسلام. وبما أن مرزا غلام أحمد القادياني قد ادعى لنفسه النبوة والرسالة كما هو ظاهر من مقتبسات كتبه المذكورة في ضميمة "الف" من الاستفتاء، فإنه كافر خارج عن الإسلام، وأما ما تأول به من أن نبوته ظل لنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذا التأويل لا يفيد في هذا الصدد شيئًا، وذلك لوجهين: الأول: أننا قد ذكرنا أن عقيدة ختم النبوة لا تقبل أي تأويل أو تخصيص، ولذلك أبدًا عن تأويل يتأول به، ولا دليل يعتمد عليه، وإنما حكمت بكفره وخروجه عن الإسلام بمجرد ادعائه النبوة، ولذلك قاتل الصحابة رضي الله عنهم مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وطليحة بن خويلد المتنبئين الذين كان عندهم تأويل ما يدعونه من النبوة والرسالة. والوجه الثاني: النبوة الظلية أو البروزية التي تأول بها المتنبي القادياني ليست في زعمه نبوة دون نبوة الأنبياء الآخرين، وإنما هي نبوة تفوق درجة على نبوة جميع الأنبياء بني إسرائيل فإن هذه النبوة كما يزعمها المتنبي القادياني لا يعطاها أي أحد من الناس، حتى يجوز جميع فضائل سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجمع بين جميع أوصاف كماله، بحيث يصبح ظهورًا ثانيًا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، ولذلك ادعى هذا المتنبي الكذاب في كتابه "ايك غلطى كا ازاله" (ص 10 و 11) : "وسماني الله محمدًا وأحمد في "براهين أحمدية" قبل عرين عامًا، واعتبرني وجود محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، ولذا لم يتزلزل ختم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، بنبوتي، لأن الظل لا ينفصل عن أصله، ولأنني محمد ظليًا، ولذا لم ينفض ختم النبوة، لأن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لم تزل محدودة على محمد، أي بقي محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا لا غير، أعني لما كنت محمدًا صلى الله عليه وسلم بروزيًا وانعكست الكمالات المحمدية مع النبوة المحمدية في اللون البروزي في مرآتي الظلية، فأي إنسان منفرد ادعى النبوة على حياله؟ " ويقول ابنه مرزا بشير أحمد القادياني في كتابه "كلمة الفصل" وريويو آف ريلجينز مارس أبريل، 1915م: "ومن الواضح أن الأنبياء في العصور الماضية لم يكونوا يجمعون بالضرورة –كل الكمالات التي جمعت في محمد صلى الله عليه وسلم، بل كل نبي كان يعطى من الكمالات حسب عمله واستعداده قلة وكثرة إلا أن المسيح الموعود (يعني به مرزا غلام أحمد القادياني) أعطي النبوة عندما اكتسب جميع الكمالات المحمدية، واستحق أن يقال له "النبي الظلي" فالنبوة الظلية لم تؤخر قدم المسيح الموعود (يعني المتنبي القادياني) قبل قدمتها إلى الأمام، إلى أن أقامته جنبًا إلى جنب مع النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1071 يقول ابنه وخليفته الثاني مرزا بشير الدين محمود: "فالنبوة الظلية والبروزية ليست نبوة بسيطة، لأنها لو كانت كذلك لما قال المسيح الموعود (يعني المتنبي القادياني) في أحد أنبياء بني إسرائيل، اتركوا ذكر ابن مريم فغلام أحمد خير منه. ( [القول الفصل] ص 16، طبع ضياء الإسلام، قاديان 1915م) . وصرح بذلك القاضي ظهور الحق اكمل، وكان مدير المجلة القاديانية "ريويو آف ريليجنز" في أبياته التي نشرت في صحيفة "بدر" 25 أكتوبر 1916م: "إن محمدًا قد نزل فينا ثانيًا، وهو أعلى شأنًا من الأول، من كان يريد رؤية محمد، فلينظر غلام أحمد في قاديان". وقد أعلن هذا الرجل نفسه في مجلة "الفضل" القاديانية المعروفة (22 أغسطس 1916م) أنه عرض هذه الأبيات على مرزا غلام أحمد القادياني، فأثنى عليه بقوله جزاك الله، وأخذها إلى بيته، وذكرهذا الرجل أنه قد استلهم مفهوم هذه الأبيات من "الخطبة الإلهامية" للقادياني التي قال فهيا: "الحق أن روحانية عليه السلام في آخر الألف السادس –أعني في هذه الأيام- أشد وأقوى من تلك الأعوام، ولذلك لا تحتاج إلى الحسام ولا إلى حزب المحاربين، ولذلك اختار الله سبحانه لبعث المسيح الموعود (بعني به القادياني نفسه) عدة من مئات كعدة ليلة البدر من هجرة سيدنا خير الكائنات لتدل تلك العدة على مرتبة كمال تام من مراتب الترقيات، وهى أربع مائة بعد الألف من خاتم النبيين. (الخطبة الإلهامية ص 47 طبع الجمعية الأحمدية لاهور) . فتبين من هذه المقتبسات أن النبوة الظلية كما يزعمها القادياني وأتباعه، نوع من النبوة يفوق نبوة سائر أنبياء بني إسرائيل، بل هو أقوى وأكمل من نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم –والعياذ بالله العظيم- فادعاؤه مثل هذه النبوة كفر صريح لا شبهة في كونه منافيًا للنصوص القطعية الدالة على أنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبت أن مرزا غلام أحمد القادياني وأتباعه القاديانيين خارجون عن ملة الإسلام دون أي شك وتردد. 3- لما ثبت أن مرزا غلام أحمد القادياني كافر خارج عن ملة الإسلام بسب ادعائه النبوة، فإن كل من يصدقه في دعاويه ويعتبره إمامًا في الدين يجب إطاعته واتباعه، فإنه كافر أيضًا، فضلًا عن اعتباره المسيح الموعود والمهدي والمجدد، وبما أن ااطائفة اللاهورية من أتباع مرزا غلام أحمد القادياني المتنبي تعتبره المسيح الموعود والمهدي والمجدد، أنه كان ينزل عليه وحي يجب اتباعه، فحكمها في الخروج عن الإسلام كحكم الطائفة القاديانية سواء بسواء، وإن الدراسة الدقيقة لمعتقدات هذه الطائفة اللاهورية، تدل على أنه ليس هناك فرق أساسي بين معتقدات الطائفتين، وإنما هو فرق لفظي إنما نشأ لأسباب أساسية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1072 وتوضيح لذلك أنه لم يكن هناك أي فرق بين الطائفتين في حياة مرزا غلام أحمد القادياني ولا في عهد خليفته الأول حكيم نور الدين، وكان جميع أتباع مرزا غلام أحمد القادياني خلال هذه المدة الطويلة يلقبونه نبيًا ورسولًا، وبقي محمد علي اللاهوري (رئي الطائفة اللاهورية) برهة من الزمن رئيس تحرير لمجلة ريويو آف ريليجنز، ولم يزل في كتاباته في تلك المجلة يلقب مرزا غلام أحمد القادياني نبيًا ورسولًا، ويعترف له بجميع صفات النبوة دون أي فرق بينه وبين أتباع مرزا الآخرين، فيقول مثلًا: "مهما يفسر المخالف، إلا أننا قائلون: إن الله قادر على أن يخلق نبيًا ويختار صديقًا.. والذي بايعناه (أي المرزا) كان صادقًا، وكان رسول الله المختار المقدس". (مجلة "الفرقان" يناير 1942 م نقلًا عن جريدة "الحكم" 18 يوليو 1908م) . وقد نشرت صيحفة الجماعة اللاهورية "بيغام صلح" بيانًا عن الجماعة اللاهورية كلها، وهذا نصه: "نحن نرى حضرة المسيح الموعود والمهدي المعهود نبي هذا العصر ورسوله ومنقذه". (بيغام صلح 16 أكتوبر 1913م بحوالة "الفرقان" يناير 1942م) . ولكن عندما توفي الخليفة الأول حكيم نور الدين، واختار كثير من الناس مرزا بشير الدين خليفته الثاني، حدث هناك نزاع سياسي بين محمد علي اللاهوري ومرزا بشير الدين محمود، واعتزل محمد علي اللاهوري عن الجماعة القاديانية، وأسس هناك جماعته، وأصدر من قبلها قرارًا وهذا نصه: "إنا نجيز اختيار مرزا بشيرالدين محمود كأمير لمجرد أن يبايع غير الأحمديين باسم أحمد، ويدخله في السلسة الأحمدية، ولكن لا نرى أن الحاجة إلى أن يبايعه الأحمديون ثانيًا.. وليس للأمير أن يتصرف في حقوق رئيس الجمعية الأحمدية وامتيازاته التي منحها له حضرة المسيح الموعود، واختاره لنفسه ثانيًا". (الفرقان يناير 1942م نقلًا عن "بيغام صلح" 24 مارس 1914م) قد تبين من هذا القرار أن الجماعية اللاهورية لم يكن لها أي اعتراض على الجماعة القاديانية ولم ير مرزا بشيرالدين غير أهل للخلافة، وإنما كان النزاع في أن تفوض كل الاختيارات إلى الجماعة اللاهورية لا إلى الخليفة. وبناء على هذا الخلاف السياسي لما بدأت الجماعة القاديانية تضطهد الجماعة اللاهورية في مجالات الحياة، اضطرت الجماعة اللاهورية إلى اكتساب عطف المسلمين، وبدأوا يقولون إنهم لا يرون مرزا غلام أحمد القادياني نبيًا، بل يعتبرونه المسيح الموعود والمهدي والمجدد من غير أن يعلن برجوعه من كتاباته السابقة. والحق أن تقولهم هذا ليس إلا حيلة لفظية، فإن الجماعة اللاهورية تقصد من لفظ المسيح الموعود والمهدي والمجدد، عين ما تقصده الجماعة القاديانية من لفظ النبي الظلي و"البروزي" وهذا محمد علي اللاهوري يقول في كتابه "النبوة في الإسلام" وقد ألفه بعد انفصال جماعته عن الجماعة القاديانية: "إن المسيح الموعود في كتاباته السابقة واللاحقة قرر أصلًا واحدًا، وهو أن باب النبوة مسدود، غير أن نوعًا من النبوة يمكن الحصول عليه، ولا نقول: إن باب النبوة مفتوح، بل نقول إن باب النبوة مسدود، غير أن نوعًا من النبوة مازال باقيًا ويستمر إلى يوم القيامة، ولا نقول: إنه يمكن لشخص أن يصير نبيًا، بل نقول إن نوعًا من النبوة يمكن الحصول عليه عن طريق اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي سمي بالمبشرات في مكان، وبالنبوة الجزئية في مكان آخر، وبالمحدثية في موضع، وبكثيرة المكالمة في موضع آخر، ومهما تغيرت الأسماء فقد تقررت علامته، وهي أنه يحصل باتباع الإنسان الكامل محمد صلى الله عليه وسلم، وبالفناء في الرسول، وهو مستفاض من النبوة المحمدية، وهو نور المصباح النبوي، وليس شيئًا مستقلًا بل هو ظل" (النبوة في الإسلام ص 158) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1073 أليس هذا تلاعب بالألفاظ لبيان فلسفة الظل والبروز التي سبق ذكرها في عبارات الجماعات القاديانية؟ فإن كان الأمر كذلك –وهو كذلك- فهل يبقى هناك فرق بين الجماعة القاديانية والجماعة اللاهورية؟ ثم إن هذا ليست عقيدة محمد علي فحسب، بل هي عقيدة الجماعة اللاهورية كلها، فقد صرح مندوب الجماعة اللاهورية في المناقشة التي جرت بين الفريقين في راولبندي، وقد نشرها الفريقان على نفقتهما قائلًا: إن حضرته –المرزا- ظل كامل من ظلال النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك سميت زوجته – "بأم المؤمنين" – وهذا أيضًا مرتبة ظلية". واعترف أيضًا قائلًا: إن حضرة المسيح الموعود ليس نبيًا، غير أن نبوة محمد علي صلى الله عليه وسلم انعكست عليه" (مباحثة راولبندي ص 196) . وكل هذه العقائد يؤمن بها الجماعة اللاهورية حتى اليوم، وقد تبين من هذا أن الخلاف بين الجماعتين هو خلاف لفظي فقط، فالجماعة اللاهورية وإن كانت تسمى المرزا بلقب "المسيح الموعود" و"المجدد" غير أنها تعني من هذه الكلمات نفس المعنى التي تعنيه الجماعة القاديانية من ألفاظ "النبي الظلي" و"البروزي" أو "النبي غير التشريعي" أو "النبي من الأمة". ولا فرق بين الطائفتين، من حيث إن كلتيهما تعتقدان أن مرزا غلام أحمد القادياني المتنبئ كان ينزل عليه وحي "يجب اتباعه على سائر الناس، وأن جميع ما كتبه أو ادعاه في كتاباته حق، يجب إطاعته على كل مسلم، بل يصرح محمد علي اللاهوري في مقدمة كتابه "النبوة في الإسلام" أن الطائفة اللاهورية أشد إيمانًا بالمرزا غلام أحمد بالنسبة إلى الطائفة القاديانية، فيقول مخاطبًا الطائفة القاديانية: "إنكم بجعله – أي المرزا- نبيًا كاملًا، لا تعترفون له برتبة أعلى مما نعترف به نحن، بجعل نبوته جزئيًا، والحق أننا نؤمن بوجوب اتباع وحيه إلى حد مساو لما تؤمنون، بل إننا نؤمن به عملًا، أكثر مما تؤمنون به". (النبوة في الإسلام، ص 23 طبع لاهور 1915م) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1074 وأما المسألة الثانية التي تدعى الطائفة اللاهورية أنها تمتاز فيها عن الطائفة القاديانية هي مسألة تكفير المسلمين، فتدعي الطائفة اللاهورية أنها لا تكفر مسلمًا لا يؤمن بمرزا غلام أحمد القادياني، بينما الطائفة القاديانية تكفر جميع المسلمين الذين لا يؤمنون به، والحقيقة أنه لا فرق بين الطائفتين عملًا من هذا الجهة أيضًا، لأن الطائفة اللاهورية تقول: لا نفكر من لم يؤمن بمرزا، ولكن نكفر من "كذبه" أو "كفره" وظاهر أن كل من لا يؤمن بمرزا غلام أحمد فإنه يكذبه في دعاويه، ولا يوجد على وجه الأرض من لا يؤمن بمرزا بعد علم بدعاويه ثم يزعمه صادقًا ولا يكذبه، فهناك بين العارفين بمرزا غلام أحمد قسمان لا ثالث لهما، إما المؤمنون به، وإما المكذبون إياه، وكل من يكذب بمرزا غلام أحمد فهو كافر عند الطائفة اللاهورية فيقول محمد علي الللاهوري في كتابه "رد تكفير أهل القبلة". "إن حضرة المسيح الموعود لم يعتبر إنكاره أو إنكار دعواه سببًا للكفر وإنما جعل سب التكفير هو أنه كفره مفتريًا، فعاد عليه الكفر بناء على الحديث الذي يرد الكفر على المكفر إذا لم يكن هو كافرًا". ويضيف إلى ذلك قائلًا: لأن المكفر والمكذب متساويان معنى، أي من يكفر المدعي –المرزا- ومن يكذبه متساويان معنى أي كلاهما يكفرانه فلذلك كلاهما داخلان في الكفر في ضوء هذا الحديث". (رد تكفير أهل القبلة ص 29 و 39 طبع 1926م) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1075 ومن هذه الجهة فإنه لا فرق بين الطائفتين من أتباع المرزا في مسالة التكفير أيضًا، وبعد إثبات ما ذكرنا فإنه يوجد في الطائفة اللاهورية أسباب تالية يكفي كل واحد منها في تكفيرهم. 1- لقد ثبت قطعًا أن مزا غلام حمد ليس هو المسيح الذي وعد به عند قرب الساعة، وأن الاعتراف بكونه ذلك المسيح تكذيب للقرآن الكريم، والسنة المتواترة وإجماع الأمة، ولما كانت الطائفة اللاهورية تؤمن بأن المرزا هو المسيح الموعود فإنها كافرة خارجة عن الإسلام. 2- قد ثبت قطعًا أن مرزا غلام أحمد القادياني ادعى النبوة في تقولاته وكتاباته، وأهان الأنبياء عليهم السلام وفضل نفسه على جميع الأنبياء، فلا يبقى مسلمًا من اعتبره إمًاما في دينه. 3- سبق أن ذكرنا أن الجماعة اللاهورية تعتقد أن مرزا غلام أحمد القادياني ظل وبروز للنبي صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله وأن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قد انعكست فيه، وبهذا الاعتبار يصح إطلاق النبوة عليه، وأن هذه العقيدة لا تسعها دائرة الإسلام أبدًا. 4- وعلاوة على دعوى النبوة، فإن مؤلفات مرزا غلام أحمد القادياني مليئة بالكفريات الأخرى وإن الجماعة اللاهورية تؤمن بجميع هذه الكفريات وتعتبر كتب هذا المتنبئ حجة واجبة الإطاعة، فتشارك مرزا غلام أحمد القادياني في جميع كفرياته. 4- السؤال الرابع: أن كون رجل مسلمًا أو كافرًا يتوقف على عقائده وأفكاره، وإن هذه المسألة مسألة عقيدية وكلامية بحتة، ولا يجوز أن يتدخل فيها رجل ليس له معرفة بعلم القرآن والسنة ولا يجوز "لمحكمة علمانية " أن تحكم في هذه المسألة الدينية الخالصة، ولاسيما بعد ما بت المسلمون في مسألة إسلام القاديانيين برأي انعقد الإجماع عليه، فلو حكمت محكمة علمانية بحكم مضاد لما أجمعت عليه الأمة الإسلامية لن يقبل حكمها في ذلك شرعًا، وأن رأيها في ذلك لا يوازي حبة خردل. والله سبحانه وتعالى أعلم وعلمه أحكم وأتم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1076 قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة القرار الثالث حكم القاديانية والانتماء إليها الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد: فقد استعرض مجلس المجمع الفقهي موضوع الفئة القاديانية التي ظهرت في الهند في القرن الماضي (التاسع عشر الميلادي) والتى تسمى أيضًا (الأحمدية) ودرس المجلس نحلتهم التي قام بالدعوة إليها مؤسس هذه النحلة مرزا غلام أحمد القادياني 1876م مدعيًا أنه نبي يوحى إليه، وأنه المسيح الموعود، وأن النبوة لم تختم بسيدنا محمد بن عبد الله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم (كما هي عليه عقيدة المسلمين بصريح القرآن العظيم والسنة) ، وزعم أنه قد أنزل عليه، وأوحى إليه أكثر من عشرة آلاف آية، وإن من يكذبه كافر، وأن المسلمين يجب عليهم الحج إلى قاديان، لأنها البلدة المقدسة كمكة والمدينة، وأنها هي المسماة في القرآن بالمسجد الأقصى كل ذلك مصرح به في كتابه الذي نشره بعنوان (براهين أحمدية) وفي رسالته التي نشرها بعنوان (التبليغ) . واستعرض مجلس المجمع أيضًا أقوال وتصريحات ميرزا بشير الدين بن غلام أحمد القادياني وخليفته، ومنها ما جاء في كتابه المسمى (آينية صداقت) من قوله "إن كل مسلم لم يدخل في بيعة المسيح الموعود (أي والده مرزا غلام أحمد القادياني) سواء سمع باسمه أو لم يسمع فهو كافر وخارج عن الإسلام (الكتاب المذكور صفحة 35) وقوله أيضًا في صحيفتهم القاديانية (الفضل) فيما يحكيه هو عن والده غلام أحمد نفسه إنه قال: "إننا نخالف المسلمين في كل شيء: في الله، فى الرسول، في القرآن، في الصلاة، في الصوم، في الحج، في الزكاة وبيننا خلاف جوهري في كل ذلك" (صحيفة) الفضل في 30 من تموز/ يوليو 1931م. وجاء أيضًا في الصحيفة نفسها (المجلد الثالث) ما نصه "إن ميرزا هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم " زاعمًا أنه هو مصداق قول القرآن حكاية عن سيدنا عيسى عليه السلام (ومبشرًا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد) "كتاب إنذار الخلافة ص 21"، واستعرض المجلس أيضًا ما كتبه ونشره العلماء والكتاب الإسلاميون الثقات عن هذه الفئة القاديانية الأحمدية لبيان خروجهم عن الإسلام خروجًا كليًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1077 وبناء على ذلك اتخذ المجلس النيابي الإقليمي لمقاطعة الحدود الشمالية في دولة باكستان قرارًا في عام 1974 بإجماع أعضائه يعتبر فيه الفئة القاديانية بين مواطني باكستان أقلية غير مسلمة، ثم في الجمعية الوطنية (مجلس الأمة الباكستاني العام لجميع المقاطعات وافق أعضاؤها بالإجماع أيضًا على اعتبار فئة القاديانية أقلية غير مسلمة. يضاف إلى عقيدتهم هذه ما ثبت بالنصوص الصريحة من كتب مرزا غلام أحمد القادياني نفسه ومن رسائله الموجهة إلى الحكومة الإنكليزية في الهند التي يستدرها ويستديم تأييدها وعطفها من إعلانه تحريم الجهاد، وأنه ينفي فكرة الجهاد ليصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية المستعمرة في الهند لأن فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جهال المسلمين تمنعهم من الإخلاص للإنكليز، ويقول في هذا الصدد في ملحق كتابه (شهادة القرآن) الطبعة السادسة ص 17 ما نصه ((أنا مؤمن بأنه كلما ازداد أتباعي وكثر عددهم قل المؤمنون بالجهاد لأنه يلزم من الإيمان بأني المسيح أو المهدي إنكار الجهاد) تنظر رسالة الأستاذ الندوي نشرة الرابطة ص 25. وبعد أن تداول مجلس المجمع الفقهي في هذه المستندات وسواها من الوثائق المفصحة عن عقيدة القاديانيين ومنشئها وأسسها وأهدافها الخطيرة في تهديم العقيدة الإسلامية الصحيحة وتحويل المسلمين عنها تحويلًا وتضليلًا، قرر المجلس بالإجماع اعتبار العقيدة القاديانية المسماة أيضًا بالأحمدية عقيدة خارجة عن الإسلام خروجًا كاملًا، وأن معتنقيه كفار مرتدون عن الإسلام، وأن تظاهر أهلها بالإسلام إنما هو للتضليل والخداع، ويعلن مجلس المجمع الفقهي أنه يجب على المسلمين حكومات وعلماء وكتابًا ومفكرين ودعاة وغيرهم مكافحة هذه النحلة الضالة وأهلها في كل مكان من العالم وبالله التوفيق. [توقيع] [توقيع] نائب الرئيس الرئيس محمد علي الحركان عبد الله بن حميد الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي رئيس مجلس القضاء الأعلى في المملكة العربية السعودية الأعضاء [توقيع] [توقيع] [توقيع] عبد العزيز بن عبد الله بن باز محمد محمود الصواف صالح بن عثيمين الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة الإرشاد في المملكة العربية السعودية [توقيع] [توقيع] محمد بن عبد الله السبيل محمد رشيد قباني [توقيع] [توقيع] [توقيع] مصطفى الزرقاء محمد رشيدي عبد القدوس الهاشمي الندوي [سافر قبل التوقيع] أبو بكر جومي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1078 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم 4 بشأن القاديانية أما بعد: فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 – 16 ربيع الثاني 1406 هـ / 22 – 28 ديسمبر 1985م. بعد أن نظر في الاستفتاء المعروض عليه من "مجلس الفقه الإسلامي في كيبتاون بجنوب أفريقيا " بشأن الحكم في كل من (القاديانية) والفئة المتفرعة عنها التي تدعى (اللاهورية) من حيث اعتبارهما في عداد المسلمين أو عدمه، وبشأن صلاحية غير المسلم للنظر في مثل هذه القضية. وفي ضوء ما قدم لأعضاء المجمع من أبحاث ومستندات في هذا الموضوع عن (مرزا غلام أحمد القادياني) الذي ظهر في الهند في القرن الماضي وإليه تنسب نحلة القاديانية واللاهورية. وبعد التأمل فيما ذكر من معلومات عن هاتين النحلتين وبعد التأكد من أن (مرزا غلام أحمد القادياني) قد ادعى النبوة بأنه نبي مرسل يوحى إليه وثبت عنه هذا في مؤلفاته التي ادعى أن بعضها وحي أنزل عليه وظل طيلة حياته ينشر هذه الدعوى ويطلب إلى الناس في كتبه وأقواله الاعتقاد بنبوته ورسالته، كما ثبت عنه إنكار كثير مما علم من الدين بالضرورة كالجهاد. وبعد أن اطلع المجمع (أيضًا) على ما صدر عن (المجمع الفقهي بمكة المكرمة) في الموضوع نفسه. قرر ما يلي: 1- إن ما ادعاه (مرزا غلام أحمد القادياني) من النبوة والرسالة ونزول الوحي عليه إنكار صريح لما ثبت من الدين بالضرورة ثبوتًا قطعيًا يقينيًا من ختم الرسالة والنبوة بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا ينزل وحي على أحد بعده، وهذه الدعوى من (مرزا غلام أحمد القادياني) تجعله وسائر من يوافقونه عليها مرتدين خارجين عن الإسلام، وأما (اللاهورية) فإنهم كالقاديانية في الحكم عليهم بالردة، بالرغم من وصفهم (مرزا غلام أحمد القادياني) بأنه ظل وبروز لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. 2- ليس لمحكمة غير إسلامية، أو قاض غير مسلم، أن يصدر الحكم بالإسلام أو الردة، ولا سيما فيما يخالف ما أجمعت عليه الأمة الإسلامية من خلال مجامع علمائها، وذلك لأن الحكم بالإسلام أو الردة، لا يقبل إذا صدر عن مسلم عالم بكل ما يتحقق به الدخول في الإسلام، أو الخروج منه بالردة، ومدرك لحقيقة الإسلام أو الكفر، ومحيط بما ثبت في الكتاب والسنة والإجماع: فحكم مثل هذه المحكمة باطل. والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1079 استفسارات من البنك الإسلامي للتنمية – جدة بسم الله الرحمن الرحيم يسر البنك الإسلامي للتنمية أن يضع أمام المجمع الفقهي الإسلامي الموقر بعض الاستفسارات برجاء أن تكون موضع عناية أصحاب السماحة والفضيلة أعضاء المجمع، وهي تتعلق بما يلى: أولا: عمليات القروض التي يقدمها البنك الإسلامي للتنمية لمشروعات البنية الأساسية في الدول الأعضاء بالبنك وبدون فوائد. والمبلغ المقطوع الذي يتقاضاه البنك مقابل خدماته لتغطية مصاريفه الإدارية. والقروض التي يقدمها البنك الإسلامي للتنمية للدول الأعضاء لتمويل مشروعات البنية الأساسية هي قروض طويلة الأجل إذا تتراوح مدة الوفاء بين خمسة عشر وثلاثين عاما. والتزاما بأحكام الشريعة الإسلامية فإن البنك لا يتقاضى فوائد على تلك القروض. غير أنه بناء على ما نصت عليه اتفاقية تأسيسه يتقاضى البنك رسم خدمة لتغطية نفقاته الإدارية. وقد رأى البنك أن يتم تحديد رسم الخدمة في ضوء التكلفة الإدارية الفعلية التي سوف يتحملها البنك في تقويم المشروعات التي يمولها وأيضا تكلفة متابعة تنفيذها، ولما كان من الصعوبة بمكان تحديد وضبط التكلفة الإدارية الفعلية التي يتحملها البنك في كل مشروع من المشروعات التي يمولها على حدة لذا فإن البنك لحد الآن وإلى أن يصبح من الممكن عمليا تحديد التكلفة الإدارية التي يتحملها في كل مشروع على حدة على وجه الدقة يكتفى بإجراء تقدير تقريبي لتكاليف الخدمة الإدارية والتي رأى أنها تتراوح بين 2.5 و3 في المائة حسب حالة المشروع وظروفه. وبناء على ذلك فإن البنك – في حدود النسبة التقريبية المذكورة – يتقاضى مبلغا مقطوعا يلتزم المقترض بالوفاء به لتغطية هذه التكاليف الإدارية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1080 ثانيا: عمليات الإيجار التي يقوم بها البنك الإسلامي للتنمية لتمويل شراء ثم إيجار وسائط النقل مثل ناقلات البترول. والبواخر أو لتمويل شراء ثم إيجار معدات وأجهزة لمشروعات صناعية لصالح الدول الأعضاء. وطبقا للأسلوب المعمول به في البنك يتم الإيجار على الأسس التالية: (أ) بعد التحقق من الجدوى الفنية والمالية للمشروع الذي ينظر البنك في المساهمة في تمويله عن طريق الإيجار يبرم البنك اتفاقية مع الجهة القائمة على المشروع (المستأجر) ويفوض البنك بموجبها إلي تلك الجهة التعاقد باسمه مع الموردين على شراء المعدات المطلوبة (والتي يتم تعيينها وتحديد تكلفتها التقديرية في الاتفاقية) ويقوم البنك وفقا لما يتم إبرامه من عقود مع الموردين بدفع قيمة المعدات مباشرة للموردين في الآجال التي تحددها تلك العقود. (ب) تقوم الجهة المستفيدة (المستأجر) نيابة عن البنك باستلام المعدات وفحصها للتأكد من سلامتها ومطابقتها للمواصفات المتعاقد عليها ثم تقوم بالإشراف على تركيبها – متى كان التركيب لازما – للتأكد من أن ذلك يتم بطريقة سليمة حسبما تم التعاقد عليه مع الموردين. (ج) بناء على المعلومات المتوافرة لدى الجهة القائمة على المشروع وتقديرات الفنيين بها وبالبنك تحدد الاتفاقية الفترة الزمنية اللازمة لتنفيذ عملية شراء المعدات وتركيبها حتى تصبح صالحة لاستيفاء المنفعة المقصودة منها. وبناء على ذلك تنص الاتفاقية على موعد بدء الإجارة بحيث يقع ذلك بعد انتهاء الفترة المقدرة لكي تصبح المعدات محل الإيجار صالحة لاستيفاء المنفعة المقصودة منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1081 (د) أثناء مدة الإجارة يقوم المستأجر بدفع الأقساط المحددة في عقد الإجارة (أي الاتفاقية الخاصة بالإيجار) كما يلتزم بصيانة المعدات والحفاظ عليها والتأمين عليها لصالح البنك. (هـ) يلتزم البنك بموجب هذه الاتفاقية بأن يبيع المعدات للمستأجر بثمن رمزى متى انتهت المدة ودفع المستأجر كل الأقساط المتفق عليها وتم وفاؤه بجميع التزاماته الأخرى بموجب الاتفاقية. ثالثا: عمليات البيع لأجل التي يقوم بها البنك لشراء وبيع معدات وأجهزة لمشروعات صناعية لصالح الدول الأعضاء بالإضافة إلي عمليات الإيجار بدأ البنك مؤخرا في استعمال أسلوب البيع لأجل كوسيلة إضافية لتمويل شراء ثم بيع المعدات والأجهزة التي تحتاجها المشروعات الصناعية في الدول الأعضاء حيث يقوم البنك بتوكيل الجهة الراغبة في هذه المعدات والأجهزة بالتعاقد بشرائها باسمه ونيابة عنه ويقوم البنك بدفع ثمنها مباشرة للمورد ويتم الاتفاق مع المورد بأن يتم شحنها مباشرة للجهة الراغبة في شرائها في الدولة العضو المعنية. وبعد أن تقوم تلك الجهة باستلامها بصفتها وكيلا عن البنك، يقوم البنك ببيع المعدات لها بثمن يزيد عن ثمن شرائها، على أن يتم دفع هذا الثمن على إسقاط في مدة تتراوح بين ثلاث وعشر سنوات. رابعا: عمليات تمويل التجارة الخارجية بين الدول الأعضاء التي يقوم بها البنك الإسلامي للتنمية مستخدما أسلوب بيع المرابحة – مع الأجل والتقسيط – وذلك لتوفير المواد الوسيطة لاحتياجات الدول الأعضاء. والأصل في عمليات التجارة الخارجية أن تطلب إحدى الدول الأعضاء بالبنك شراء سلعة ذات صبغة تنموية فيقوم البنك الإسلامي للتنمية بشرائها بعد دراسة الطلب والموافقة عليه ثم بيعها لها. ويقوم البنك لتحقيق ذلك بإبرام اتفاقية يكون أطرافها بالإضافة إلي البنك الجهة المستفيدة في الدولة المعنية وجهة أخرى في تلك الدولة يعينها البنك بموجب الاتفاقية وكيلا عنه في شراء السلعة المطلوبة ثم بيعها بعد استلامها للجهة المستفيدة بالثمن الذي حدده البنك وهو ثمن الشراء الذي دفعه البنك للموردين وفقا للعقود التي أبرمها الوكيل نيابة عنه مع زيادة ربح يقرره البنك، ويغلب في اتفاقيات التجارة الخارجية أن يكون الوكيل الذي يعينه البنك كفيلا أيضا بأداء ثمن إعادة البيع المستحق على المستفيد. خامسا: النظر في تقرير اجتماع بعض علماء الشريعة والخبراء في المصارف هذا الاجتماع الذي انعقد في مقر البنك الإسلامي بجدة وبدعوة منه في العاشر من ربيع الأول عام 1399 هـ. وكان الغرض من الاجتماع النظر في حكم الشريعة في الفوائد المتجمعة من إيداع البنك الإسلامي للتنمية أمواله في المصارف بالدول الأجنبية (مرفق صورة من التقرير) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1082 وفي ضوء التوصيات الواردة في تقرير العلماء الأفاضل قرر مجلس محافظي البنك تخصيص خمسين في المائة (50) للاحتياطي الخاص وذلك من مجموع المبالغ المتحصلة من ودائع البنك لدى المصارف العاملة في الأسواق الدولية والاحتياطي الخاص المشار إليه مخصص لمواجهة ما قد يطرأ على انخفاض قيمة أرصدة البنك نتيجة لتذبذب العملات المودعة بها تلك الأرصدة من العملات، كما قرر المجلس أن تخصص الخمسين في المائة الأخرى لأغراض المعونة الخاصة. وبناء على قرار مجلس المحافظين صارت هذه المعونة تقدم لأغراض هي: (أ) التدريب والبحوث التي تهدف إلي مساعدة وإرشاد الدول الأعضاء في تعديل مسار نشاطها الاقتصادي والمالي والمصرفي بما يتواءم وأحكام الشريعة الإسلامية. ولتحقيق ذلك تم إنشاء المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بجدة منذ عام 1401 هـ (1981م) وهو الآن يقوم بأداء رسالته في مجالي البحوث والتدريب. (ب) توفير وسائل الإغاثة في شكل السلع والخدمات المناسبة لتقدم للدول الأعضاء والمجتمعات الإسلامية في حالة التعرض للكوارث أو المحن. (ج) توفير المساعدات المالية للدول الأعضاء من أجل دعم وتأييد القضايا الإسلامية. (د) تقديم المساعدة الفنية للدول الأعضاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1083 تقرير عن اجتماع بعض علماء الشريعة والخبراء في المصارف بمقر البنك الإسلامي للتنمية بجدة في العاشر من ربيع الأول 1399 هـ للنظر في حكم الشريعة الإسلامية في الفوائد المتخصصة للبنك في المصارف الأجنبية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن نهج نهجه. أولا: واجه البنك الإسلامي للتنمية بعض المشكلات التي تحتاج إلي حلول متفقة مع الشريعة الإسلامية ومن بينها مشكلة فوائد ودائع البنك في المصارف الأجنبية. ولقد نهج البنك المنهج الإسلامي السديد، حيث طرح هذه المشكلة التي واجهته على بعض علماء الشريعة الإسلامية لبيان الحكم الشرعي الذي يطبق في هذه المشكلة ... ثم عهد إلي فضيلة الأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء الأستاذ بكلية الشريعة بالجامعة الأردنية – بيان عدد من العلماء في العالم الإسلامي من المتخصصين في الشريعة الإسلامية والخبرة المصرفية طالبا منهم الحضور في هيئة اجتماع محدود بصفة شورى عملية لمناقشة موضوع هذه الدراسة، والانتهاء إلي بيان الحكم الشرعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1084 ثانيا: في الساعة العاشرة من صباح يوم الأربعاء العاشر من شهر ربيع الأول 1399هـ (الموافق 7/2/1979م) انعقد اجتماع الهيئة المدعوة بمقر البنك الإسلامي للتنمية بجدة. وقد ضم الاجتماع السادة: 1- الدكتور حسن علي أحمد الشاذلي مصري وكيل كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر (القاهرة) 2- الدكتور سامي حمود أردني رئيس البنك الإسلامي الأردني (عمان) 3- الشيخ صالح الحصين سعودي مستشار بديوان مجلس الوزراء 4- الشيخ عبد الرحمن شيبان جزائري عضو المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر 5- الشيخ عبد الله بن سلميان بن سبع سعودي القاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة 6- الشيخ محمد برهان الدين هندي أستاذ الحديث والتفسير بدار العلوم لندوة العلماء (الهند) 7- الإمام محمود محمد علي الهاشمي عراقي من علماء البحث 8- الأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء سوري كلية الشريعة – الجامعة الأردنية (عمان) واعتذر عن عدم الحضور السادة: الشيخ أبو بكر جومر عن اليوم الأول وناب عنه الشيخ محمد برهان الدين الشيخ أحمد حمانى وأناب عنه الشيخ عبد الرحمن شيبان الشيخ محمد باقر الصدر وأناب عنه الشيخ محمود الهاشمى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1085 وبعد افتتاح الاجتماع بتلاوة آيات من كتاب الله تعالى ابتدأ الحديث الدكتور أحمد محمد علي مرحبا بالمجتمعين، ثم اختار المجتمعون الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي لإدارة جلسات الاجتماع، وفي خلال جلستين متتاليتين في اليوم نفسه (10/3/1399هـ) ألقيت الكلمات والبحوث التالية: كلمة السيد الأستاذ الدكتور أحمد محمد علي رئيس البنك الإسلامي للتنمية الذي بين أهداف البنك والأسس التي قام عليها، والمشكلة التي واجهته وهي (الفوائد المتراكمة لحساب البنك الإسلامي للتنمية في المصارف الأجنبية) (مرفق رقم1) . 1- دراسة الأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء (مرفق رقم 2) . 2- بحث سماحة الإمام أحمد علي الشافعي (مرفق رقم 3) . 3- بحث فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن سبع (مرفق رقم 4) . 4- بحث الدكتور سامي حمود (مرفق رقم 5) . 5- بحث الأستاذ الشيخ عبد الرحمن شيبان (مرفق رقم 6) . 6- بحث فضيلة الشيخ محمد برهان الدين (مرفق رقم 7) . 7- بحث السيد الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي (مرفق رقم 8) . 8- بحث فضيلة الشيخ صالح الحصين (مرفق رقم 9) . ثالثا: وفي صباح يوم الخميس الحادي عشر من ربيع الأول 1399 هـ (الموافق 8 فبراير 1971م) اجتمع المتشاركون في هذه الندوة، وحضر الاجتماع سماحة الشيخ حسن علي أبو الحسن الندوي، وأتم المجتمعون مداولاتهم ومناقشاتهم في ضوء الدراسة والبحوث المقدمة في هذا الموضوع، وانتهوا إلي اقرار التوصيات التالية بالإجماع: (أ) التأكيد من أن إيداع البنك الإسلامي للتنمية أمواله لدى البنوك الأجنبية لا يلجأ إليه إلا في حالة الضرورة وبقدر ما تزول به دون اعتبار هذا الأسلوب الاستثماري طريقا مناسبا بالنظر الشرعي لتحقيق أي مورد للبنك الإسلامي للتنمية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1086 وبناء على ذلك فإن المشاركين في هذا الاجتماع يرون مواصلة سعي البنك الإسلامي للتنمية في سبيل التخلص من إيداع أمواله لدى البنوك الربوية وذلك بمتابعة الوسائل التي يسلكها حاليا لهذه الغاية، والبحث عن وسائل أخرى على ذلك. (ب) الاحتفاظ بالفوائد المتجمعة في الحساب الخاص المنفصل عن موارد البنك لإنفاقها في مصالح المسلمين، مثل إعانة فقرائهم في الدول الأعضاء وغير الأعضاء، وإعانة الجماعات الإسلامية في الدول غير الأعضاء لتمكنهم من المحافظة على مقومات شخصيتهم الإسلامية وحقوقهم المشروعة. هذا وإن المشاركين في هذا الاجتماع – إذ يقدرون للأستاذ الدكتور أحمد محمد علي رئيس البنك، وللسادة المديرين التنفيذيين، جهودهم المبرورة لارساء قواعد العمل التأسيسي في هذه المؤسسة المصرفية الدولية على أسس الشريعة الإسلامية – يسألون العلي القدير أن يكتب لهم دوام التوفيق ويأخذ بأيديهم ويجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون. والله الموفق والهادي إلي سواء السبيل. 11 من ربيع الأول 1399 هـ. 8 من فبراير 1979م. ملحق استفسارات البنك الإسلامي للتنمية بسم الله الرحمن الرحيم أولا: يقدم البنك الإسلامي للتنمية قروضا طويلة الأجل للدول الأعضاء من أجل تمويل مشروعات البنية الأساسية فيها، ويتقاضي بالإضافة إلي المبلغ المقرض رسوم خدمة سنوية مقطوعة تتراوح بين 2.5-3 في المائة حسب حالة المشروع وظروفه، وتبعا لمقدار المبلغ المقرض بحيث ترتفع تلكم النسبة وتنخفض ضمن الحد المذكور بنسبة طردية مع كثرة المبلغ المقرض وقلته وطول المدة وقصرها. ويلاحظ: (أ) أن الغاية من إلزام المستقرض برسوم الخدمة توفير المبالغ الكافية لتغطية النفقات الإدارية للبنك. (ب) وأنها لا تقدر في كل قرض على حسب نفقاته الإدارية الفعلية على الخصوص، وإنما تقدر افتراضا منذ بداية القرض بصورة إجمالية تقريبية مقطوعة بالنظر إلي مجموع القروض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1087 ثانيا: يضاف إلي فقرة (د) من (ثانيا) ما يلي: لا يحتمل المؤجر ما يأتي: -أي ضرر أو خسارة تنشأ بطريق مباشر أو غير مباشر عن التأخير في تسليم المعدات أو تركيبها إذا كانت تحتاج إلي التركيب أو عن الفشل في تسليمها أو اتخاذ الترتيبات اللازمة لتركيبها بطريقة مرضية وكل التكاليف والمصاريف وأي مبالغ أخرى يتكبدها فيما يتصل بأي مطالبات يقوم بها بموجب ذلك. -تبعة كل المخاطر التي تتعرض لها أي من المعدات من تاريخ تسليمها له. - التأمين، إن لم يقم به مقام المؤجر على حساب المستأجر. -تبعة أي عيب فيها أو ضرر أو نفقات أو عدم كفاية، وعليه في هذه الحالة دفع أقساط الإيجار المستحقة، مع تحمل كل التكاليف والمصاريف ونفقة المبالغ والاستبدال والاستهلاك والتلف ... الخ. -إذا زاد ثمن الشراء عن مبلغ مقدر يتعهد المستأجر بأنه سيقوم بتأدية المبالغ الإضافية المطلوبة. -إذا لحقت بالمعدات خسارة شاملة حقيقية أو خسارة شاملة حكمية بسبب ضياعها أو سرقتها أو تلفها لدرجة تجعل تكاليف إصلاحها تفوق قيمتها أو لأي سبب آخر تنتهي هذه الاتفاقية. وفي هذه الحالة يكون من حق المؤجر أقساط الإيجار المستحقة في مواعيدها المبينة في اتفاقية الإيجار. ثالثا: يتعامل البنك مع الدول الأعضاء بعقود بيع لأجل مركبة على النحو التالي: (أ) يوكل البنك الجهة الراغبة بمعدات وأجهزة معينة بشراء تلكم السلع للبنك، ويكون العميل نائبا عن البنك في إجراء العقد وقبض المبيع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1088 (ب) يلتزم الطرفان بعد إكمال العقد وتحقق القبض من قبل العميل بصفته وكيلا عن البنك بأن يتعاقد فور ذلك على بيع تلكم الأعيان من مالكها (وهو البنك) لوكيله وهو (العميل) بثمن مؤجل يزيد على الثمن المسمى في العقد (بنسبة مئوية يتفق عليها) وذلك في مواعدة بالبيع تقارن الوكالة الأولي. (ج) يعتبر قبض المبيع من قبل الوكيل (وهو العميل) في عقد الشراء السابق نائبا مناب قبضه له بموجب عقد البيع اللاحق، ولا يحتاج إلي تجديد تقابض. (د) يكون ضمان المبيع (بمعنى تحمل تبعة الهلاك والنقصان والعيب ونحوها) في مسؤولية المشترى بمجرد تسلمه على سبيل النيابة عن البنك في قبضه من الجهة المصدرة ولا يلحق البنك من ضمان ذلك المبيع البتة. رابعا: يتعامل البنك مع الدول الأعضاء بعقد من نوع جديد سماه أسلوبا من بيع المرابحة وهو كما يلي: (أ) تطلب الجهة الراغبة بالسلعة (ذات الصفة التنموية) من البنك شراء سلعة معينة منضبطة بالأوصاف المطلوبة لا يملكها البنك وقت الطلب ولا يحوزها بأية صفة. (ب) بناء على ذلك يقوم البنك بشراء تلك السلعة، ويفوض وكيلا عنه في قبضها في بلد الجهة الراغبة بها (يكون شخصا ثالثا غير الطالب) . (ج) بعد أن يقبض الوكيل المبيع، يفوض البنك نائبه المشار إليه ببيع هذه السلعة من طالبها بثمن مؤجل يزيد عن الثمن الذي اشتراها به ثم بتسليمها للمشتري الذي طلبها بعد أخذ كفيل بالمال منه يضمن ذلك الثمن، أو قيام ذلك الوكيل البائع بضمان الثمن لموكله البنك، فيقوم الوكيل بالنيابة عن البنك في إبرام هذه العقود وتنفيذها. (د) يقارن طلب الجهة الراغبة بالسلعة وموافقة البنك على هذه المعاملة في البداية التزام بطريق المواعدة من الطرفين تنفيذ ما سبق. خامسا: يقوم البنك بإيداع قسم من أمواله في بعض البنوك الأجنبية ويتقاضى من هذه البنوك الربا المقرر فيها. ثم تقسم هذه الزيادة الربوية نصفين: (أ) يتفق شطرها (50 %) منها في بعض المصالح التي يراها البنك (أشير إليها في ص4 من أصل الاستفسار) . (ب) يضاف شطرها الثاني (50 %) إلي أموال البنك كاحتياطي مخصص لمواجهة ما قد يطرأ من انخفاض على قيمة أرصدة البنك نتيجة تذبذب العملات المودعة بها تلك الأرصدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1089 تقرير لجنة استفسارات البنك الإسلامي للتنمية 10-16 ربيع الثاني 1406هـ-28 ديسمبر 1985م ملحق رقم (2) ب. د/1-2/1406هـ (1985) بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما إنا نهنئ القائمين على البنك الإسلامي للتنمية بتصميمهم على تطبيق شرع الله في معاملاتهم المالية وحرصهم على الرجوع إلي أهل الاختصاص للاطمئنان على سلامة سيرهم في الحدود التي يرضى عنها الله. كما ننوه بما جاء في مقدمة السؤال من التزام البنك عدم تقاضى فوائد على القروض وأن أجر النفقات "الكتابة والدراسة والمتابعة" تقع على المدين. وبناء على ذلك فالسؤال الموجه هو أنه هل يمكن تحديد مبلغ مقطوع من أول العقد محسوب على أساس من نسبة معينة من رأس المال قدرها فيما بين 2.5 % و3 % يلتزم المدين بدفعها مقابل تلكم الخدمات نظرا لعدم تمكن البنك من تحديد التكلفة الإدارية لكل مشروع على انفراد. وجوابا على ذلك فإن الآية القرآنية الواردة في سورة البقرة: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} صرحت بأن كل زيادة طفيفة كانت أو كثيرة هي ربا محرمة. كما أن تحايل المدين على رب الدين لينقص من رأس مال السلف هو حرام أيضا، روى أبو داود عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: ((ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1090 يقول القرطبي: "فردهم تعالى مع التوبة إلي رؤس أموالهم وقال لهم: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} . ومعنى هذا أن كل زيادة هي محرمة وهي في تقدير الإسلام بمقاييسه الحق: "ظلم". ومن قواعد الشريعة أن الشك في المماثلة هو كتحقيق التفاضل وفي تقدير الخدمات كما أسلفنا بنسبة معينة كل سنة من رأس المال، زيادة محققة يتقاضاها البنك وإن سماها أجرا وذلك: 1- أن ربطها بنسبة رأس المال لا مبرر له لأن ما يتطلبه الدين من حيث الوثائق والقيام على الاستخلاص – وتقديم وصولاته لا تختلف بمستوى النسبة بين دين ودين، فجعله واحدا أمارة على أن العملية غير قائمة على العدل. 2- أن جعل النسبة واحدة بين السنة الأولي وما لحقها من السنوات، هو أمر آخر لا نرى له وجها إذ أن السنة الأولي كما جاء في نص السؤال تشمل الدراسة وما تبعها أما في السنوات اللاحقة فلم يبق من الأعمال إلا الاستخلاص أو المراقبة – فإجراؤها على قياس واحد هو أمر غير مقبول. ولذا فإن على البنك أن يعمل على ضبط نسبة أكثر دقة وتعبيرا على تحديد النفقات موزعة على أنواع الخدمات التي يقوم بها. السؤال الثاني: بشأن عمليات الإيجار والتي يقوم بها البنك: تنحل هذه الصفقة بعد التأمل فيها إلي أربعة عقود: 1- عقد توكيل. 2- عقد بيع أول. 3- عقد إجارة. 4- عقد بيع ثان. العقد الأول: عقد بيع قد يكون على شيء حاضر ولا إشكال فيه وقد يكون على شيء غائب على الخيار لا على البت إذ أن المؤسسة التي باعت المعدات بمسؤولية عن تسليم المبيع طبق المواصفات المتفق عليها. وإذا لم تتوفر فللمشتري رفض الصفقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1091 يقول الخطاب عاطفا لما يجوز وغائب ولو بلا وصف على خياره بالرؤية أن لم يبعد كخرسان من افريقيا وبيع الغائب على مذهب ابن القاسم جائز ما لم يتفاحش. ج4 ص297. العقد الثاني: عقد توكيل: وهو عقد صحيح إذا توافرت فيه كل الأركان. العقد الثالث: عقد إجارة طويلة الأمد. وعقد الإجارة لمدة طويلة جائز. قال في المدونة: ويجوز شراء سلعة إلي عشر سنين أو عشرين وإجارة العبد عشر سنين. (الحطاب ج4 ص389) . لكن لا يحتمل المستأجر قيمة التأمين وإنما للمؤجر أن يوكل الجهة المستفيدة (المتسأجر) بالقيام بالتأمين ودفع أقساطه نيابة عن البنك. العقد الرابع: بيع المعدات بعد انتهاء المدة إلي المكترى بثمن رمزي وهذا العقد فيه ناحيتان: الناحية الأولي: اجتماع عقد بيع وعقد إجارة. وهذا أمر مختلف فيه، يقول الحطاب أن الإجارة مع البيع ليست بفاسدة بل يجوز اجتماعهما والخلاف في كونه على إطلاقه أو فيما إذا كان المبيع غير المؤاجر عليه. ولما كانت المسألة غي مجمع عليها فإنه اعتماد قول القائل بجواز اجتماع عقد الإجارة والبيع في شيء واحد (ج5 ص396) . ويقول ابن رشد: واختلفوا في اجتماع البيع والإجارة فأجازه مالك ومنعه الشافعي البداية (ج2 ص225) . أما الناحية الثانية فهي أن هذا البيع غير معلوم العوضين إذ أن المثمن غير معلوم الصفة يوم بيعه، والأجل بعيد. ولا يجوز بيع شيء بعيد الأجل إذا كان معينا كقضية الحال، وإنما يجوز ذلك فيما كان في الذمة فقط. يقول الحطاب: وإنما يجوز تأخير السلعة ولو إلي عشر سنين إذا كانت السلعة مضمونة في الذمة على شروط السلم. وأما إذا كانت معينة فلا يجوز تأخيرها أكثر من ثلاثة أيام _ج4 ص389) . والحل الشرعي أن يلتزم البنك بهبة المعدات للمكترى عند انتهاء الأجل وخلاص كل المستحقات ويحرر هذا العقد على انفراد. والسؤال الثالث: البيع إلي أجل: إن هذا الذي بسطه البنك في السؤال هو بيع العينة عند المالكية. قال في المقدمات: والممنوع من العينة أن يقول له: اشتر سلعة كذا بكذا وأنا أربحكم فيها كذا أو أبتاعها منك بكذا. وقال في التنبيهات: الحرام الذي هو ربا صراح أن يراوض الرجل الرجل على ثمن السلعة التي يساومه فيها ليبيعها منه إلي أجل ثم على ثمنه الذي يشتريها به منه بعد ذلك نقدًا أو يراوضه على ربح السلعة التي يشتريها له من غيره فيقول:؟ أنا أشتريها على أن تربحني فيها كذا أو للعشرة كذا. قال ابن حبيب: فهذا حرام. وكذا لو قال: اشترها لي وأنا أربحك وإن لم يسم ثمنا. قال: وذلك كله ربا ويفسخ هذا وليس فيه إلا رأس المال آهـ. مواهب الجليل (ج4 ص405) . أما عند غير المالكية فالحنابلة والحنفية يمنعون هذا العقد أيضا ولا يسمونه عينة. وأما الشافعية والإمامية فإنهم يجيزون هذا العقد ولا ينظرون إلا إلى الصورة الظاهرة التي هي عبارة عن بيع إلي أجل بثمن محدد يدفع أقساطا ولا مانع منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1092 السؤال الرابع: بشأن عمليات تمويل التجارة الخارجية بين الدول الأعضاء التي يقوم فيها البنك على أساس بيع المرابحة. إن هذا العقد هو شبيه بسابقه، إلا انه ينحل إلي ثلاثة عقود: 1- عقد بيع صاحب البضاعة، والبنك الإسلامي. 2- عقد وكالة مع اشتراط الضمان. 3- عقد بيع بين البنك الإسلامي والجهة المستفيدة. العقد الأول: هو عقد جائز متى توفرت فيه شروط البيع وأركانه المعروفة. العقد الثاني: جائز أيضا، ويجوز للموكل أن يشترط الضمان على الوكيل. العقد الثالث: هو نظير ما جاء في السؤال الثالث واختلاف المذاهب فيه. السؤال الخامس: إن ما جاء في فتوى السادة العلماء عن الفائدة الربوية التي تجمعت من الإيداعات هي الحق الذي نقول به. أما تصرف البنك الإسلامي في هذه الأموال بتخصيص نصفها للاحتياطي فيجب التوقف في هذا التصرف، ذلك أن الاحتياطي إذا كان لا بد منه للبنك فيكون تخصيص هذا الجزء له تحصين البنك لعمله بالفوائض الربوية وهو لا يجوز، نظير دفع الإنسان أموال زكاته للفقير الذي تلزمه نفقته. أما إذا كان الاحتياطي غير ضروري لسير البنك فلا بد من تقرير وجه صرفه إلي الجهات العامة التي جاءت في الفتوى. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1093 الشيخ محمد المختار السلامي الشيخ حجة الإسلام محمد علي تسخيري الشيخ د. عبد الله إبراهيم الشيخ هارون خليف جيلي الشيخ عبد الله بن عبد العزيز آل محمود القاضي محمد تقي عثماني الشيخ دوكورى بوبكر الشيخ محمد عبده عمر جدة في: 14/4/1406هـ الموفق 26/12/1985م. وقد أجاب عن هذه الاستفسارات جمع من الأعضاء الموقرين هم أصحاب الفضيلة: الشيخ محمد عبد الرحمن والقاضي محمد تقى العثماني والشيخ محمد عبده عمر والشيخ محمد المختار السلامى والأستاذ تجاني صابون محمد والدكتور بوبكر دوكورى والشيخ محمد على التسخيري والدكتور عبد الله إبراهيم والشيخ هارون خليف جيلي. وللتوقف في كثير من النقاط التي تحتاج إلي استبيان البنك واستيضاحه بشأنها أرجئ النظر في هذا الموضوع وصدر بشأنه القرار التالي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1094 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم 1 بشأن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية أما بعد: فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406 هـ/22-28 ديسمبر 1985م. بعد استماعه إلي عرض البنك الإسلامي للتنمية لجملة من الاسئلة والاستفسارات قصد الإفتاء بشأنها. وبعد استماعه إلي تقرير اللجنة الفرعية التي تألفت أثناء الدورة من أصحاب الفضيلة الأعضاء الذين تقدموا بردود عن المسائل المستفسر عنها ومن انضم إليهم. ولكون الموضوع يحتاج إلي دراسة أوسع وأكمل تقتضى الاتصال بالبنك وتداول النظر معه في مختلف جزئياته في لجنة مكونة من طرفه. وبناء على ذلك قرر: 1- إرجاء هذا الموضوع للدورة القادمة. 2- مطالبة البنك بتقديم تقرير من هيأته العملية الشرعية. والله أعلم.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1095 مشرُوع لمنهج سير عمل المجلس ومناقشاته وإدارة جلساته بعد دراسته وتعديله من قبل ممثلي شعب المجلس في اجتماعهم يومي 2 و 3 رجب 1406 هـ 12 و 13 / 3/1986 م بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين، وبعد فقد اجتمعت اللجنة المشكلة من مجلس المجمع لوضع مشروع منهج لسير عمل المجلس ومناقشاته وإدارة جلساته، بحضور كامل أعضائها واتفقت على ضرورة مراعاة القواعد التالية: أولًا: ضرورة الالتزام بالنظام الأساسي للمجمع واللائحة التنفيذية التزامًا كاملًا، وتوصى اللجنة بتوزيعها على الأعضاء في ملفات خاصة، ليطلعوا عليها ويتقيد الجميع بها. ثانيًا: في الأمور والأعمال التي تسبق اجتماعات المجلس: 1- استكمال دراسة الموضوعات المطروحة على جدول أعمال المجلس عن طريق إعداد الأعضاء والخبراء بحوثًا كافية فيها مستوفية للشروط العلمية المعروفة. 2- أن يقدم الباحثون خلاصات علمية محررة لبحوثهم ترفق بالبحوث. 3- ضرورة إعداد ورقة عمل تقدم خلاصة عن جميع البحوث التي قدمت في الموضوع الواحد. 4- تبذل الأمانة وسعها في جمع المواد ذات العلاقة بالموضوع المعروض على المجمع والتي تم بحثها سابقًا في مجامع أو مؤتمرات أو ندوات علمية، في أي مكان من العالم، وتجري الأمانة العامة الاتصالات اللازمة لتحقيق ذلك أولًا بأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1096 5- تتولى الأمانة العامة تزويد الأعضاء بكل ما يتعلق بموضوعات جدول الأعمال من بحوث وملخصات وأوراق عمل قبل شهرين على الأقل من اجتماع المجلس. 6- في نهاية كل دورة تحدد الموضوعات التي ستبحث في الدورة التالية بقرار من المجلس بناء على اقتراح من شعبة التخطيط. 7- يقدم كل عضو اقتراحاته مرفقة بما يبين عناصر الموضوع الأساسية والأسباب الداعية إلى بحثه بخصوص الموضوعات التي يرغب أن يتولى المجمع دراستها إلى شعبة التخطيط عن طريق الأمانة العامة 8- عند ترشيح شعبة التخطيط بعض الموضوعات لتبحث في دورة ما لابد أن ترفق بكل عنوان ورقة عمل تبين عناصره الأساسية بحيث يتضح المقصود منه. 9- تعد الدراسات والبحوث المقدمة إلى المجمع من الأعضاء والخبراء إعدادا علميًا مستوفي وبخاصة فيما يلي: (أ) المذاهب الفقهية وأدلتها. (ب) تخريج الأحاديث النبوية. (جـ) عزو الأقوال لأصحابها. (د) التوثيق الكامل للمعلومات من مصادرها المعتمدة. (هـ) بيان الباحث لوجهة نظره ما أمكن في الموضوع المطروح مدعومة بالدليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1097 10- تقدم البحوث والدراسات إلى الأمانة العامة في الوقت الذي تحدده ولها أن لا تعرض ما ورد متأخرًا منها. 11- تتولى الأمانة العامة استعراض البحوث المقدمة من الخبراء لعرض ما هو مناسب منها على المجلس. 12- ضرورة دعوة الأمانة العامة عددا كافيا من الخبراء المختصين في الموضوعات المطروحة للبحث عند الحاجة. 13- إعداد مشروع جدول الأعمال من الأمانة العامة بحيث تتناسب الموضوعات المطروحة مع أوقات الجلسات. 14- تنظم اجتماعات المجلس بحيث لا يحرم أعضاء الشعب واللجان –حين عقد جلساتها الخاصة – من الاشتراك في المناقشات العامة، فيجري تخصيص أوقات مناسبة لاجتماعات الشعب واللجان، وأوقات مناسبة لاجتماعات المجلس. ثالثًا: في الأمور والأعمال التي تراعى أثناء اجتماعات المجمع: 15- جلستا الافتتاح والاختتام تنظمها الأمانة العامة حسب الأعراف المتبعة 16- يجرى في الجلسة الأولى المغلقة التحقق من العضوية والتأكد من اكتمال النصاب. 17- تقوم الأمانة العامة بتسجيل الجلسات وكتابتها وفق الأعراف المتبعة. 18- التأكيد على التمييز بين الجلسات العلنية والمغلقة وفق ما نصت عليه المادة السابعة من النظام الأساسي. 19- يعين مقرر عام لكل دورة ومقرر لكل موضوع من الموضوعات المطروحة في الدورة باختيار رئيس المجمع والأمين العام. 20- بعد أن يقر المجلس جدول الأعمال لا يجوز إجراء أي تغيير عليه إلا بموافقة المجلس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1098 21- تقسيم أوقات الجلسات بحيث يخصص وقت لكل بحث، ووقت للتعقيب والمناقشة. 22- تقوم رئاسة الجلسة في نهاية كل جلسة بتقديم خلاصة عن حصيلة النقاش وما توصل إليه المجلس. 23- تتكون لجنة الصياغة من المقرر العام للدورة بالإضافة إلى اثنين من اعضاء المجمع يعينهما المجلس، وتستعين اللجنة بمقرري الموضوعات في صياغة القرارات. 24- تصدر قرارات المجمع بالإجماع أو بأكثرية ثلثي الأعضاء الحاضرين وللمخالف من الأعضاء أن يسجل مخالفته في محاضر الجلسات وكذلك المتوقف وتعلن قرارات المجمع بدون إشارة إلى الإجماع أو الأكثرية. التاريخ: الخميس 14 ربيع الثاني 1406 هـ / 26 /12 /1985. أعضاء اللجنة الشيخ عمر جاه د. طه جابر العلواني د. عبد السلام البعادي الشيخ محمد هشام برهاني د. عبد الستار أبو غدة د. عبد الله إبراهيم انتهي بحمد الله وحسن عونه طبع أعمال المؤتمر الثاني لمجمع الفقه الإسلامي بجدة (10- 16 ربيع الثاني 1406/ 22- 28 ديسمبر 1985) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1099 من تقرير حول ندوة "البركة" الثانية التي انعقدت بتونس من 11-14 صفر 1405هـ 1- مداولات الجلسة العامة: دار النقاش أولًا حول توصيف خطاب الضمان هل هو كفالة أولًا. رأي البعض أن خطاب الضمان غير الكفالة لأن الكفيل يحل محل المكفول في الوفاء بالتزاماته بينما البنك الذي يقدم خطاب الضمان إلى مقاول مثلا لا يطلب منه أن يقوم بالأعمال المطلوبة من المقاول. ورد آخرون بأن الكفالة يمكن أن تكون محدودة ولا يشترط أن يحل الضامن محل المكفول في كل أعماله. ثم نوقشت مسألة استحقاق البنك مقدم خطاب الضمان لأجر. فأكد البعض ما سبق أن قيل (4-ب) من أن الضمان أخذ في عصرنا هذا صورا تختلف عما عرفه الفقهاء حينما وصفوه بأنه عقد تبرع. لذلك لا يرى هؤلاء مانعًا من أخذ البنك الإسلامي أجرًا عند تقديم خطاب الضمان. وقال آخرون بأن خطاب الضمان كفالة وهي تبرع وكون العميل هو الذي لا يخرجها عن طبيعتها تلك. وقالوا إنه يجوز للبنك أخذ أجر شريطة أن لا يزيد عن التكلفة الحقيقية للخدمات المقدمة. أما مسألة الغطاء في خطاب الضمان فقد قيل أن البنك الذي يصدر خطاب ضمان غير مغطى يعتبر كفيلًا. أما إذا كان خطاب الضمان مغطى بالكامل فإن البنك له صفتان: هو وكيل بالنسبة للعميل طالب الضمان، وهو كفيل في علاقته مع الطرف الثالث المستفيد من خطاب الضمان. ويصح أخذ أجره في حالة التغطية لكون البنك وكيلًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1100 2- السؤالان المقدمان إلى لجنة العلماء. السؤال الثامن: هل يجوز للبنك الإسلامي أخذ عوض مقابل عمله المتمثل في إصدار خطاب الضمان المصرفي إما على أساس الأجر باعتبار أن هذا العمل توكيل مطلق لدفع مبلغ معين أو على أساس الوجاهة نظرًا لما يتمتع به البنك من ملاءة. الفتوى: تبين بعد المداولة في السؤال أن موضوع خطاب الضمان المصرفي يحتاج إلى مزيد من البحث ودراسة الواقع الذي يجرى عليه العمل في البنوك الإسلامية. السؤال الثاني عشر: هل يجوز للبنك الإسلامي الذي دفع له مبلغ نقدي لخطاب الضمان أن يستثمره بموافقة المودع مضاربة بنفس الشروط التي يستثمر بها للمودعين. الفتوى: يجوز للبنك الإسلامي أن يستثمر بالمضاربة المبلغ المودع لديه غطاء لخطاب الضمان الذي يصدره بنفس الشروط التي يستثمر بها للمودعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1101 من تقرير حَول ندوة البركة الثانية التي انعقدت بتونس حول خطاب الضمان المغطى – وخطاب الضمان المكشوف – وأن الأول وكالة يصح أخذ الأجرة عنها، والثاني لا يصح أخذ الأجرة عنها. قال الخطاب: أن في هذا شيئًا من عدم الاستقامة في المنطق والتطبيق العملي لا يخفي، فمن يضع غطاء أخذ منه أجر، ومن لم يضع غطاء لا يؤخذ منه؟ والواقع أنه ليس هناك شيء من عدم الاستقامة في المنطق، عند التأمل المتأني في تكييف العلاقة الشرعية بين خطاب الضمان المغطى، والآخر المكشوف، حيث يقع الضمان في الأول على الغطاء لا على البنك وإنما دور البنك هنا هو دور الوكيل في هذه الحال، ومن حق الوكيل شرعًا أن يتقاضى أجرة على القيام بعمل الوكالة، أما الكفالة فإن الضمان فيها يقع على البنك. ودوره هنا دور المقرض، فأخذ الأجرة في هذه الحالة يمثل زيادة على القرض وهو حرام ومن هنا كان الفرق بينهما – والكفالة –المالية قيل فيها معنى التبرع والمتبرع لا يطلب مقابلًا، وقيل فيها معنى المعاوضة، بدليل أنه يرجع بما يؤدي، وكلا الأمرين غير الأجرة. ويتساءل الخطاب: لماذا لا نبحث عن مخرج آخر وهو عقد الوجاهة مثلًا، ولكن هل الوجاهة شيء غيرالكفالة على وجه التبرع؟. إن أخذ البنك وديعة استثمارية عامة أو خاصة مقابل إصداره خطاب الضمان غير المغطى ربما يمثل ضمانًا لما يمثله خطاب الضمان غير المغطي من مالية، ومن هنا يكون جائزًا، وربما يمثل منفعة مشترطة لما يمثله خطاب الضمان غير المغطى من مالية، وهو في معنى القرض فيكون قرضًا جر نفعًا، وكل قرض جر نفعًا فهو حرام. كما تقول القاعدة الفقهية العامة، (الحديث: كل قرض جر نفعًا فهو حرام) الذي لم يثبت صحته. قال في المغني: وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود، أنهم نهوا عن قرض جر منفعة، وربما دخل هذا الصنيع في إطار النهي عن بيع وسلف. قال ابن قدامة: وإن شرط في القرض أن يؤجره داره. أو يبيعه شيئًا أو أن يقرضه المقترض مرة أخرى لم يجز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع وسلف، ولأنه شرط عقدًا في عقد فلم يجز كما لو باعه بشرط أن بيعه لآخر داره. وربما يرجح التفسير الثاني، أن الوديعة لا تظل جامدة كضمان وإنما تستخدم للحصول على منفعة منها، ربما لصاحبها في المقام الأول وللبنك في المقام الثاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1102 خطاب الضمان المصرفي ومدى جواز أخذ الأجر عليه (1) مقدمة الموضوع: - يعتبر خطاب الضمان المصرفي حالة من الحالات التي اختلف فيها الآراء لدى مختلف البنوك الإسلامية بين المجيزين والمانعين والمتوقفين في المسألة بانتظار القول الواضح والصريح. - وقد جاء اللبس في الغالب بسبب الاسم المعطي للعملية، وهو، الضمان ومعناه اللغوي – الكفالة – وتعتبر الكفالة في النظر الفقهي أنها ضم ذمة. وقد اختلفت الآراء الفقهية في مفهوم هذا الضم من حيث كونه مقتصرًا على المطالبة فقط أم أن الضم يشمل الدين كذلك. فقد جاء في كتاب الهداية شرح بداية المبتدي للميرغيناني في ذلك (قيل هي (أي الكفالة) ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة، وقيل في الدين والأول اصح) (راجع الجزء الثالث، صفحة (70) الطبعة الأولى – المطبعة الخيرية 1326هـ –مصر) . وجاء في شرح فتح القدير كتعقيب على ما قاله صاحب الهداية أنه (لا يثبت الدين في ذمة الكفيل خلافًا للشافعي ومالك وأحمد في رواية) ثم قال الشارح مقررًا (ولكن المختار ما ذكرنا أنه في مجرد المطالبة لا الدين) (راجع فتح القدير لابن الهمام وتكملته لشمس الدين أحمد المعروف بقاضي زاده طبعة المكتبة التجارية الكبرى – مصر) .   (1) مقدمة لندوة البركة الثالثة للاقتصاد الإسلامي المنعقدة في استنبول 9 – 12 محرم 1406 = 23 – 26 أيلول (سبتمبر) 1985 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1103 - ويتبين من هذه الشروح والآراء الفقهية أن الكفالة المبحوثة فيها عند الفقهاء هي كفالة التوثيق المبنية على وجود دين في ذمة تنضم إليها ذمة أخرى في الاستعداد للمطالبة والالتزام بالوفاء. - وأن مفهوم الضم بين الذمتين يتطلب التوافق في الالتزام. فالمدين بالمال مثلًا، يقدم كفيلًا ليلتزم كفيله بالدفع في الموعد الذي يستحق فيه الأداء وكذلك الملتزم بالقيام بعمل أو باحضار شخص يوم المحاكمة مثلًا، فإن الكفيل يلتزم بأن تقوم بذات العمل أن يحضر ذات الشخص. - فهل تنطبق هذه الخصائص على خطاب الضمان المصرفي تمامًا حتى يقال أن خطاب الضمان المصرفي هو كفالة وتسري عليه ما تسري على الكفالة من أحكام؟ ولو فرضنا أن خطاب الضمان المصرفي هو كفالة حقًا، وأن الكفالة التي بحثها الفقهاء الأقدمون تعتبر عملًا من أعمال التبرع لا يستحق فاعلها أجرًا، فهل يستمر هذا الحكم ساريا رغم اختلاف الظروف والأحوال مع أنه اجتهاد فقهي بحسب ما رآه الفقهاء –رحمهم الله- وفقًا لظروف زمانهم؟ وهذا الاجتهاد ليس قرآنًا محفوظًا ولا سنة مروية، ولكنه رأي يمكن أن يعارض بمثله وأن يتغير بتغير زمانه. فما هو الموقف الذي نراه بخصوص هذه المعاملة المصرفية المستجدة؟ أولًا – هل خطاب الضمان المصرفي كفالة بحسب مفهومها الفقهي..؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1104 - يستطيع الناظر المتجرد في خطاب الضمان المصرفي أن يميز بين الكفالة الخالصة الي تتعلق بضمان دين ثابت في الذمة في الحال أو المآل وبين خطاب الضمان المصرفي الذي هو توكيل بدفع مبلغ معين لمستفيد معين عندما يطلب ذلك المستفيد المذكور في الخطاب سواء كان هناك دين مستحق ام لم يكن هناك أي دين. - ولعل أهم ما يوضح هذه المسألة يتمثل في دراسة خطاب الضمان المصرفي الذي لا تختلف نصوصه كثيرًا بين بنك وآخر في معظم عقود المقاولات ودخول المناقصات، حيث تتمثل صيغته المبسطة بالعبارات التالية: (نموذج لخطاب ضمان مصرفي) إلى: الجهة الوسيطة. من: بنك كذا (البنك المصدر لخطاب الضمان) بناء على طلب السيد / السادة … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … نتعهد بأن ندفع لكم فور تسلمنا أول مطالبة منكم مبلغًا وقدره … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … .. على أن نتسلم مطالبتكم في أو قبل تاريخ … … … … … … … … … … … … … … … … … … … … .. وتفضلوا بقبول احترامنا عن بنك كذا … … … … … … … … الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1105 - وتتضمن القواعد المصرفية أن صدور خطاب الضمان بهذا الشكل يعطي المستفيد (المضمون له) حقًا مباشرًا تجاه البنك للمطالبة بقيمة الخطاب كلها أو جزء منها، كما أن هذا الحق لا يتأثر بأي طلب أو ادعاء قد يقدمه طالب الخطاب يتعلق بعدم تحقق أي التزام في ذمته للمستفيد. وهذا هو الأساس الذي يختلف فيه خطاب الضمان أي التزام في ذمته للمستفيد. وهذا هو الأساس الذي يختلف فيه خطاب الضمان المصرفي عن الكفالة بحسب مفهومها الفقهي. - ذلك أن من الواضح أن الكفالة العادية هي عقد تابع، ومعنى العقد التابع أن وجوده مرتبط بوجود دين أو التزام في ذمة المكفول. فإذا ثبت أنه ليس هناك دين فإن الكفالة لا تعود صالحة للمطالبة. وبناء على ذلك فإن الكفيل من حقه أن يثبت عدم تحقق الدين لأنه يدفع عن نفسه عناء التعرض للمطالبة والالتزام بالوفاء. وإذا كان موضوع الكفالة هو قيام بعمل ما، فإن الكفيل يستطيع أن يدفع عن نفسه المطالبة إذا قام بالعمل الذي بنيت عليه الكفالة، مثل إحضار شخص معين أو إزالة اعتداء على ملك الغير. فهل تنطبق هذه الخصائص على خطاب الضمان المصرفي حتى يقال أن خطاب الضمان المصرفي هو كفالة بمفهومها الفقهي المعروف.؟ - إن المقرر في القواعد الفقهيية أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني، وتطبيقا على هذه القاعدة فإنه لو استعمل لفظ الهبة في مبادلة مال بمال فإنه يطبق على هذه العلاقة حكم البيع لأن الهبة هي المال المدفوع بلا عوض، فإذا كان هناك مقابل المال انتقل الوضع من اللفظ إلى المبنى وأصبح الحكم هو البيع الذي هو مبادلة مال بمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1106 - وإن ما ينطبق على هذه الصورة من إنقلاب الهبة إلى البيع يمكن أن يطبق على خطاب الضمان المصرفي الذي استعمل فيه لفظ الضمان ظاهرًا رغم أن الحكم فيه أنه كوكيل يدفع مبلغًا معينًا لشخص معين وذلك بشرط معلق على تقديم المطالبة من ذلك الشخص المسمى. - وإن ما يرجح في نظرنا هذا الوصف هو المفارقات التالي: - 1- أن خطاب الضمان والذي هو توكيل بدفع مبلغ محدد بشرط معلق على مطالبة المستفيد يعطي لذلك المستفيد المسمى في الخطاب حقًا مباشرًا تجاه البنك المصدر ولا يسقط هذا الحق أو يتأثر بسقوط التزام طالب خطاب الضمان أو انتهائه أو إثبات الوفاء بما تعهد به. أما الكفالة فإنها عقد تابع والعقد التابع يدور مع المتبوع وجودًا وعدمًا. فإذا أثبت الكفيل أن مكفوله غير مدين فإن كفالته تسقط تبعًا لذلك وهذا يخالف واقع العمل في خطاب الضمان المصرفي حيث لا يملك البنك أن يناقش العلاقة القائمة بين المستفيد وطالب إصدار الخطاب. 2- أن المبلغ الذي يدفعه الكفيل في الكفالة العادية يعتبر وفاء للدين المضمون ويحتمل بعد ذلك أن يعود الدافع على من دفع عنه إذا كانت الكفالة قد تمت بطلب من المكفول، وهذا بخلاف الوضع في خطاب الضمان المصرفي حيث يكون المبلغ المدفوع من البنك بمثابة تأمين مدفوع باسم طالب الخطاب ولكنه ليس وفاء وإنما هو أداء تحت الحساب، فإذا ثبت أن ذمته ليست مشغولة فإنه يسترد المبلغ المدفوع عنه، كما أن البنك يرجع في جميع الأحوال على طالب الخطاب بما يدفعه عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1107 3- أن الكفيل في الكفالة المالية مخير بين أن يقوم بالعمل الذي كلفه أو أن يدفع المال وكان الأصل لو أن البنك يضم ذمته إلى ذمة المقاول في المقاولة أن يكون هناك إلزام بأن يقوم البنك بإكمال البناء الذي تعهد به المقاول على سبيل المثال. ولكن الحال في خطاب الضمان المصرفي مختلف جدًا، فقد يكون التزام المقاول أعلى أو أقل كثيرًا من خطاب الضمان ولا يملك البنك أي حق في أن يعرض إنجازما هو منسوب من نقص في المقاولة. 4- أن من الثابت أن المطالبة بالدفع في الكفالة لا تتحقق إلا في موعد استحقاق الدين أو الالتزام لأنها مرتبطة به من الأساس، أما في خطاب الضمان المصرفي فإن المطالبة بالدفع ليس لها علاقة بموعد تحقق الالتزام على طالب خطاب الضمان وذلك لأن خطاب الضمان له أجل ممتد من يوم إصداره إلى يوم انتهاء الحق في المطالبة به، ويملك المستفيد الذي يصدر له خطاب الضمان أن يطالب البنك بالدفع من أول يوم سواء كانت له تجاه طالب الخطاب التزامات مستحقة أم لم تكن. 5- فإذا كان خطاب الضمان المصرفي ليس عقدًا تابعًا كالكفالة ولكنه التزام ناتج عن توكيل تعلق به حق الغير يتضمن دفع مبلغ معين من النقود خلال مدة محددة إذا طالب بها شخص معين فإن معنى هذا أننا أمام نوع خاص من الوكالة، وبما أن الوكالة من الأعمال التي يمكن أن تقابل بالعوض فإن العمولة التي يتقاضاها البنك لقاء إصداره خطاب الضمان المصرفي تعتبر بمثابة الأجر في أي عمل من أعمال الوكالة وأما كون العمولة محسوبة بالنسبة المئوية 1 % مثلًا، فإن ذلك لا علاقة له بالمديونية لأن العرف قد جرى على حساب الأجر بنسبة من قيمة العمل كالمحامي والسمسار أو الدلال. - هذا مع ملاحظة واجب البنك الإسلامي بأن لا يخلط بين إصدار خطاب الضمان المصرفي والإقراض، فإذا كان هناك خطاب صادر فالعمل شرعي والعمولة كأجر جائزة، أما إذا تمت المطالبة بخطاب الضمان فإن المبلغ المدفوع يصبح دينًا في ذمة طالب الخطاب وعندها لا يجوز للبنك أن يتقاضى أي رسم أو عمولة مهما كان الاسم والمسمى لأن وجود عنصر المديونية يجعل الربا قائمًا في كل زيادة مأخوذة فوق قدر الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1108 - وتبقى نقطة أخيرة جديرة بالإشارة لبيان التناقض الذي وقع فيه بعض القائلين من إخواننا العلماء بأن خطاب الضمان المصرفي هو كفالة لا يجوز فيها الأجر إلا إذا قدم طالب الخطاب غطاء نقديًا كاملًا حيث يصبح العمل كأنما هو توكيل بدفع المال، وبما أن الوكالة تقبل الأجر فيكون للبنك أن يتقاضى أجرًا على خطاب الضمان المصرفي المدفوعة قيمته بالكامل، أما خطاب الضمان غير المغطى فلا يجوز فيه دفع الأجر. - وهكذا نكون أمام تناقض واضح وذلك أن من يدفع ما عليه من التزام سلفًا وبكامل القيمة المحتملة التحقق يكون عليه أن يدفع فوق ذلك عمولة وأجرًا، أما من لا يدفع شيئًا فإن البنك يتبرع له بالضمان مجانًا. - ومع علمنا بإستحالة هذا المطلب من الناحية العملية لأن من يملك المال لا يكون أصلًا بحاجة إلى خطاب الضمان، إلا أن هذا القول واضح في تناقضه – مع كامل الاحترام للعلماء الذين قالوا به -، ذلك أن التوكيل بأداء مبلغ معين من النقود يصح أن يكون بناء على دفع مسبق كأن أقول لك: خذ هذه الألف دينار وادفعها إلى فلان، أو أن يكون الأمر مبنيًا على وعد بالدفع اللاحق كأن أقول لك: ادفع لفلان مئة دينار وسأدفعها لك فور قيامك بهذا، فاي فرق بين العملين من ناحية التوكيل بالأداء؟ هل يمكن أن يقول لنا أحد أن القبض المسبق شرط في التوكيل في الأداء وأن الوكالة كالتبرع الذي يشترط فيه القبض لإتمامه … ؟ إننا لا نظن أحدًا يطبق على الوكالة هذا الشرط بلا سند أو دليل. ثانيًا: إذا سلمنا جدلًا بأن خطاب الضمان المصرفي كفالة حقًا وأنها من أعمال التبرعات كما قال الفقهاء القدبمون فهل يمتنع انقلاب العمل من التبرع إلى المعاوضة. - إن الملاحظ في الفقه أن أعمال التبرعات محكومة بالعرف وليس بالنص، ودليلنا على ذلك انقلاب العديد من أعمال التبرعات إلى أعمال تؤدي بالأجر في عهود الفقهاء الذين لم يروا ما يحول دون هذا التحول الذي تتطلبه الظروف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1109 - فقد كانت إمامة الصلاة والأذان وتعليم القرآن مثلًا من أعمال التبرعات التي انقلبت تدريجيًا إلى أعمال تؤدي بالأجر بعد أن أصبح الإمام والمؤذن والمعلم بحاجة إلى المال الذي يستحقونه لقاء حبسهم أنفسهم عن العمل. - كذلك كانت الضيافة من أعمال التبرع فكان الضيف يحل على الرحب والسعة آكلًا وشاربًا ونائمًا في بيت مضيفه دون أجر يدفعه، ولكننا نجد الفنادق هذه الأيام تؤوي الناس بالأجر وتؤكلهم بالثمن، وما من فقيه قال بأنه لا يجوز أخذ الأجر على النوم ولا دفع الثمن على الطعام إذا كان الوافد ضيفًا وإلا لأغلقت الفنادق أبوابها من الصباح الباكر. - وإذا كانت الكفالة التي لا يجوز فيها أخذ الأجر هي الكفالة الشخصية المبنية على الشهامة أو دفع الكرب عن الناس، فإن الضمان المصرفي ليس فيه من هذا المعنى شيء لأنه عمل يؤدي لفئة من رجال الأعمال الذين يعملون في قطاعات العمل الكبير من بناء وإنشاء، وهم لا يطلبون شفقة ولا إحسانًا ولكن يطلبون خدمة تيسر لهم أعمالهم ومعاملاتهم وفق اللوائح والقوانين المطبقة عليهم. ثالثًا: هل يجوز شرعًا إجبار الناس على قبول ما لا يرتضون من المشاركات دون أن يكونوا بحاجة إلى ذلك.؟ - ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى القول بأن الحل في خطاب الضمان المصرفي هو أن يدخل البنك شريكًا مع المقاول قياسًا على شركة الوجيه مع الخامل. - وهذا الاتجاه مع غرابته في الواقع الذي يحياه الناس من ناحية ومع استحالة تطبيقه عمليًا في مختلف الأحوال التي يستخدم فيها خطاب الضمان يعتبر بحسب نظرنا خروجًا على قاعدة التراضي في العقود التي يقوم عليها الأساس الشرعي لاحترام سلطان أفراده في الفقه الإسلامي. - فإذا كانت علة النهي عن بيعتين في بيعة مبنية على مظنة القبول بإحدى البيعتين على غير رضا، فهل يجوز لقائل أن يتصيد حاجة المقاول لخطاب الضمان المصرفي بمبلغ 1 % من قيمة المقاوله لكي يفرض عليه المشاركة في هذه المقاولة كلها وما يتبع ذلك من كشف للأسرار والأرقام والحسابات. - فإذا كان المقصود لدى بعض العلماء الذين رأوا ذلك هو تجنب أخذ الأجرعلى خطاب الضمان المصرفي فإنهم ومن حيث لا يدرون قد فتحوا بابًا أشد ضررًا للاستغلال الذي قد يتعرض له المقاول من جانب البنك الذي يفرض عليه مشاركته في المقاولة التي يتقدم لها بخبرته وعمله وماله. فأين المشاركة التي يقدمها البنك إذا لم تكن هناك حاجة إلى الجهد ولا إلى المال؟ الا تعتبر المشاركة المفروضة من أجل التقدم بطلب خطاب الضمان المصرفي اعتداء على حرية أفراده التي ضمن سلامتها الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1110 خلاصة القول يستخلص مما سلف بيانه ما يلي: - 1- أن الإصرار على القول بأن خطاب الضمان المصرفي هو كفالة بمفهومها الفقهي القديم ينطوي على تحميل لهذا العقد بما لا يحتمل للأسباب التالية: - (أ) أن الكفالة عقد تابع والتزام ملحق بالأصل، وأما خطاب الضمان المصرفي فإنه عقد مستقل والتزام البنك فيه منفصل عن التزام طالب الخطاب، لذلك فإن خطاب الضمان يكون أقرب للوكالة بأداء مبلغ معين من النقود عند تحقق شرط المطالبة به. (ب) أن الكفالة عقد قائم على التبرع إبتداء والمعاوضة انتهاء إذا كانت بناء على طلب المكفول. وهذا بخلاف الحال في خطاب الضمان حيث أن نية التبرع ليست قائمة لا في الحال ولا في المآل. (جـ) أن الكفالة تعطي الكفيل حق الخيار في أن يقوم بعمل المكفول أو يدفع المبلغ المطلوب وهذا بخلاف الحال في خطاب الضمان المصرفي حيث لا يملك البنك مثل هذا الخيار. وكل ما عليه هو أن ينفذ التوكيل بالدفع نظرًا لتعلق حق الغير به. 2- أن آراء بعض العلماء المطروحة لإيجاد حل لمشكلة الإصرار على وصف خطاب الضمان المصرفي بأنه كفالة يوجد في واقع الأمر مشكلتين بدلًا من المشكلة الواحدة.. (أ) فإذا قال البنك لعميلة أن يدفع كامل قيمة الخطاب (100 %) ليأخذ منه أجرًا فوق ذلك فإن البنك لا يجد عميلًا واحدًا يرضى بهذا التناقض حيث سيناقش البنك بأن يصدر له خطاب الضمان دون غطاء ودون أجر. (ب) وإذا اراد البنك أن يجبر عملية على مشاركته في أعمال دون رغبة أو حاجة من ذلك العميل فإنه قد يدفعه بذلك إلى اللجوء إلى البنوك غير الإسلامية وما يتبع ذلك من استسهال للربا. فيكون الحال هنا كمن تبقى شبة بحسب ما يظن ليوقع الناس في الحرام الصريح. ذلك أن أقوال الفقهاء هي آراء واجتهادات، وإن الاجتهاد يعارض بمثله، أما ما حرمه الله في كتابة وسنة نبيه فلا مجال للإجتهاد فيه بل هو خضوع وتسليم، فكيف يجوز للبعض أن يتمسك بشبهة الاجتهاد الفقهي حتى لو أدى الأمر إلى دفع الناس إلى تجاوز حدود ما أنزل الله. إن المسألة تتطلب النظر المؤمن المتبصر بالعواقب والنتائج وإن الله يهدي من يشاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1111 3- أن العمولة التي يتقاضاها البنك في حالة إصداره خطاب الضمان هي أجر على العمل الذي يقوم به طالما أنه لا توجد علاقة الدائنية والمديونية التي هي ركن من أركان تحقق الربا في الديون (وجود دين وزيادة مشروطة يدفعها المدين للدائن) فإن الأجر يمكن أن يكون مقطوعًا بمبلغ محدد بالمقدار مثل عشرة دنانير أو مائة ريال أو أن يكون مبلغًا محددًا بالنسبة مثل 1 % أو 2 % حيث لا عبرة بالنسبة التي هي طريقة للمحاسبة طالما لم تكن هناك علاقة بين دائن ومدين، وهذا كله بشرط أن يتم الأجر وحسابه على العمل الذي يقع قبل تحقق شرط الدفع أو المطالبة بالأداء، وأما ما يتم بعد الدفع أو المطالبة فلا يجوز للبنك الإسلامي أن يأخذ أي أجر سواء كان محددًا بمبلغ مقطوع أو بنسبة مئوية لأن تحقق الركن الأول للربا وهو عنصر المديونية يمنع الأجر أو ما هو في حكمه حيث تدخل شبهة الربا وعلى البنك الإسلامي أن يتقي الشبهات بابعد ما يستطيع. هذا هو ما هداني إليه الله من القول في هذه المسألة وهو اجتهاد يحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب. وإننا نتعامل مع رب كريم يعطي حتى لمن يخطئ في اجتهاده اجرًا واحدًا ويثيب المصيب بأجرين، وإن أقل القليل من رحمة الله الكريم لكفيل بأن يغمر القلب المؤمن بالنعمة والهناء. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1112 القسم الثالث تَقريرْ اجْتماع ممثلي شعب المجلس 2 - 3 رجب 1406هـ / 12 – 13 مارس 1986 م. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه ومن اهتدى به وسار على دربه إلى يوم الدين. وبعد 1- فقد عقد اجتماع لممثلي شعب مجلس المجمع للإعداد للدورة الثالثة للمجمع التي ستعقد في مطلع العام القادم. وقد تم هذا الاجتماع بحمد الله وتوفيقه في الفترة بين 2 – 3 رجب 1406هـ الموافق 12 – 13 مارس 1986م. 2- وترأس هذا الاجتماع معالي رئيس المجمع الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد وحضره معالي الأمين العام للمجمع الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة، وكل من: -فضيلة الدكتور عبد السلام داود العبادي مساعد رئيس المجلس -فضيلة الشيخ عبد العزيز محمد عيسى رئيس شعبة الإفتاء -فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور رئيس شعبة التخطيط والترجمة -فضيلة الدكتور إبراهيم بشير الغويل مقرر شعبة التخطيط والترجمة -فضيلة الدكتور محمد ميكو مقرر شعبة الإفتاء -فضيلة الدكتور محمد شريف أحمد مقرر شعبة الدراسات والبحوث -فضيلة الدكتور عجيل جاسم النشمى عضو مكتب المجلس -فضيلة القاضي محمد تقى عثماني عضو مكتب المجلس -سعادة السفير سيدي محمد يوسف جيري عضو مكتب المجلس -فضيلة الدكتور روحان مباي عضو مكتب المجلس -فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي عضو -فضيلة الشيخ خليل محي الدين الميس عضو -فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود الجندي عضو -فضيلة الدكتور محمد مصطفي شلبي عضو -فضيلة الدكتور عمر جاه عضو -فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غده عضو -سعادة السفير التيجاني الهدام عضو 3- افتتح الاجتماع بآيات من الذكر الحكيم ثم ألقى رئيس المجمع كلمة رحب فيها بالمشاركين وشكر الأمانة العامة على خطتها في دعوة ممثلي الشعب لحضور هذا الاجتماع تجميعًا واختصارًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1113 4- وفي الجلسة الأولى ثم إقرار جدول الأعمال كما قدمتها الأمانة العامة: 1- عرض نشاطات المجمع بعد الدورة الثانية للمجلس. 2- موضوعات الدورة الثالثة. 3- المشاريع العلمية. (أ) إحياء التراث: - إعداد قائمة بالمحققين الذين يمكن تكليفهم بتحقيق الكتب الفقهية المقررة من قبل شعبة التخطيط. - تعيين لجنة علمية لتقويم التحقيقات. (ب) مدونة أدلة الفقه الشرعي من القرآن والسنة وأقوال الصحابة - معلمة القواعد الفقهية. (جـ) الموسوعة الفقهية: - تحديد موضوعاتها. - المستكتبون. - لجنة المراجعة العلمية. 4- مشروع المنهج لسير عمل ومناقشات وإدارة جلسات المجلس. 5- ما يستجد من أعمال. 5- تم اختيار الدكتور عبد السلام داود العبادي نائب رئيس المجمع مقررًا لهذا الاجتماع. 6- عرض معالي الأمين العام النشاطات التي قام بها المجمع بعد الدورة الثانية للمجلس وحتى انعقاد اجتماع ممثلي شعب المجلس هذا. وبعد أن أنجز معالي الأمين العام عرضه أشاد المشاركون في الإجتماع بجهد الأمانة وتوجهوا بالشكر والتقدير لمعالي الأمين لما بذل من جهد وأتم من إنجازات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1114 7- استعرض المجتمعون الموضوعات المقترحة من قبل أمانة المجمع للبحث في الدورة الثالثة للمجلس وهي: - في مجال البحوث والدراسات: توحيد بدايات الشهور القمرية – الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة – أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة – سندات المقارضة وسندات التنمية والاستثمار – استفسارات البنك الإسلامي للتنمية. في مجال الفتوى: استفسارات المعهد العالي للفكر الإسلامي بواشنطن –أطفال الأنابيب – أجهزة الإنعاش – زكاة الأسهم في الشركات – توظيف الزكاة في مشاريع بلا تمليك فردي للمستحق. وقد تم إقرارها كما وردت من الأمانة العامة مع إضافة موضوع واحد لموضوعات الفتاوى هو: (زواج المسلمة بغير المسلم، والمسلم بنساء الفرق الخارجة عن الإسلام) . وهو من الموضوعات التي اقترحت من شعبة التخطيط في اجتماعها الأول بتاريخ 22- 25/8/1405 هـ الموافق 12- 15/ 5/1985 م. 9- أعلم معالي الأمين العام الاجتماع بأنه قد بدأ العمل بتحقيق كتاب (الجواهر الثمينة) لابن شاس وطلب الموافقة على أن يقوم بإجراء الاتصالات اللازمة للبدء بتحقيق بقية الكتب الداخلة في خطة المجمع وفق قوائم تعرض على الدورة الثالثة للمجمع. وقد وافق المجتمعون على ذلك ووافقوا على إضافة كتاب (معرفة السنة والآثار) للبيهقي إلى كتب التحقيق، وقد وعد الدكتور بكر أبو زيد بتقديم نسخة منه للمجمع بغرض التحقيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1115 10- وقد وافق المجتمعون على اقتراح الأمين العام على أن يجري المجمع الاتصالات العلمية اللازمة مع المفتين في العالم الإسلامي ومجالس الإفتاء ولجانه فيه. كما وافقوا على أن يجري المجمع الاتصالات مع الجامعات الإسلامية والتنسيق معها للقيام بمشاريع محددة في مجال البحوث وتحقيق كتب التراث الإسلامي الداخلة في خطة المجمع وفي إعداد قوائم من الباحثين والمحققين من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات. 11- وقد أبدى المجتمعون كل الاهتمام بفكرة نشرة المجمع وطلبوا من الأمانة العامة إعطاءها الأولوية للتعريف بالمجمع في أوساط المسلمين الرسمية والشعبية. 12- وقد بحث المجتمعون في الاقتراح المقدم من معالي رئيس المجمع للقيم بعملين علميين كبيرين هما: أولا: مدونة لأدلة الفقه الإسلامي من القرآن والسنة النبوية الشريفة وأقوال الصحابة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1116 ثانيا: معلمة للقواعد الفقهية. وقد وافق المجتمعون على التوصية بإدخال مشروع معلمة القواعد الفقهية ضمن المشاريع العلمية الي يتبناها المجمع. وأما بخصوص مدونة الأدلة فقد وافق المجتمعون على التوصية بهذا المشروع من ناحية المبدأ على أن يقدم معالي رئيس المجلس: الدكتور بكر أبو زيد ما يقترحه بخصوص المنهج الخاص بإعدادها وخطة عملها ويرسل بذلك إلى الأمانة العامة لموافاة الأعضاء بها ثم تعرض على المجمع في دورته القادمة. 13- ثم بحث المجتمعون في مشروع المنهج المقترح لسير عمل المجلس ومناقشات وإدارة جلساته المقدم من اللجنة التي شكلها المجلس في دورته الثانية والمكونة من: - الدكتور عبد السلام داود العبادي. - الدكتور طه جابر العلواني. - الدكتور عمر جاه - الدكتور عبد الستار أبو غدة - الدكتور عبد الله إبراهيم - الشيخ محمد هشام البرهاني. وبعد مناقشات موسعة واستعراض المشروع مادة مادة تمت الموافقة على التوصية به وفق الصيغة المرفقة ليعرض على اجتماع المجلس في دورته القادمة. 14- عرض معالي الأمين العام، ما تم بخصوص مشروع الموسوعة الفقهية، وقدم الدكتور عبد الستار أبو غدة التصور الذي أعده بخصوص الموسوعة الفقهية وقد جرت مناقشة ذلك بتوسع وتمخض النقاش عن الحاجة بتشكيل لجنة علمية لوضع تصور تفصيلي واضح بخطة الموسوعة ليعرض على المجمع في دورته القادمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1117 العدد الثالث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 تقديم بقلم معالي الأستاذ سيد شريف الدين بيرزاده الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد. فبين يدي القارئ عدد من المجلة العلمية الفقهية التي يصدرها مجمع الفقه الإسلامي بجدة مرة كل سنة والتي يضمنها جملة من الأبحاث العلمية المتناولة لمجالات متعددة، شرعية واقتصادية واجتماعية ونحوها، يكتبها نخبة من العلماء الأجلاء. وإنني حريص وأنا أقدم هذا العدد أن أتجنب عن قصد الإشارة إلى محتواه الزاخر بالدراسات القيمة والهامة، وذلك كي أفسح المجال للتذكير بالدور الذي يضطلع به المجمع من خلال ما يضطلع بإنجازه بكل كفاية من أعمال تدل ولا ريب على أن هذا الجهاز لم يقم بصفة اعتباطية ولكنه جاء نتيجة تفكير معمق وشعور ملح بضرورة إيجاد مؤسسة إسلامية تضطلع بدور خطير يتمثل أساسيا في توحيد كلمة المسلمين وإنارة سبيلهم وتبصيرهم بأمور دينهم حتى يكونوا بحق خير أمة أخرجت للناس. ومن منطلق المسؤولية التي أشرف بها وأنا على رأس الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، أرى لزاما علي أن أنوِّه بالإنجازات الطيبة التي حققها المجمع، وهو ما يزال في عامه الثالث. ذلك أنه عقد ثلاث دورات شارك فيه خيرة علماء العالم الإسلامي ورددت وسائل الإعلام الإسلامية صدى نجاحها بما تطارحه أولئك العلماء خلالها من موضوعات مهمة، تعكس بصورة جلية قدرة شريعتنا المطهرة على تقديم الحلول المناسبة والمعالجات الجديدة للمشكلات المعاصرة بما يحقق خير المجتمع الإسلامي ومصلحته. ولقد عقد المجمع إلى جانب ذلك (بالاشتراك مع بعض المؤسسات الإسلامية) ندوات تمهيدية تناولت قضايا اقتصادية ومصرفية معاصرة بالغة الأهمية كان لزاما أن يبحها مجلس المجمع بصورة معمقة ودقيقة قبل درسها والبت فيها على نطاق أوسع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 ووضع المجمع أيضا ضمن خطة عمله جملة من المشروعات العلمية سيكون لها بإذن الله الأثر في تقريب المسائل الفقهية من المسلمين، خاصتهم وعامتهم: - فهناك الموسوعة الفقهية التي خصصت في مرحلتها الحاضرة للمعاملات الاقتصادية القديمة والحديثة، وقد شرع عدد من العلماء في إعداد البحوث التي حددت موضوعاتها لجنة علمية عينها المجمع لهذا الغرض. - وهناك معلمة القواعد الفقهية ويمكن أن تعد من أبرز الإنجازات التي ستكون للباحثين والدارسين والمفتين والمجتهدين منارات هدي وإرشاد للكليات والقواعد والمبادئ والضوابط المعتمدة في استنباط الأحكام من أقوم السبل وأدقها. - وهناك طائفة من كتب التراث النفيسة التي سترى النور بإذن الله قريبا بعد الفراغ من تحقيقها الذي يضطلع به حاليا نخبة من المختصين الأكفياء. - وهناك مشروع تيسير الفقه الإسلامي الذي بإنجازه مؤتمر القمة الإسلامي الخامس، وهو مشروع يتطلع إليه المسلمون من غير المتخصصين في الفقه لإرواء تعطشهم إلى التفقه في الدين بطريقة تناسب إمكاناتهم وظروفهم، وتساعدهم على التكوين الملتزم بشرع الله سبحانه وتعالى في شؤون حياتهم، وتحميهم من مخاطر الأفكار والتصورات الهدامة المناقضة لعقيدتهم وأحكام دينهم. إن هذه الحركة العلمية النشيطة التي يقف وراءها مجمع الفقه الإسلامي الذي يجمع في رحابه أهل الحل والعقد من علماء أمتنا المجيدة، لجديرة بكل عناية ودعم، لما ستسهم به بإذن الله، من تكثيف الوعي لدى المسلمين في البلاد الإسلامية وفي أطراف العالم بأن الدين الذي اختاره الله عز وجل لهم صالح لكل زمان ومكان، إذ يتحقق به صالح معاشهم وخير معادهم. والله سبحانه المسؤول أن يرعى هذه الحركة المجمعية المباركة ويسدد خطاها، وهو عزت حكمته من وراء القصد ولي التوفيق. الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي سيد شريف الدين بيرزاده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 كلمة معالي د/ بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فطوع يد القارئ اليوم، العدد الثالث من (مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة) بأجزائه الثلاثة بعد أن آنسنا من أقلام العلماء رشدا وأثرا لهذه المجلة (تخللت مسلك الروح) في أبحاث وخطابات تعني الشكر والثناء، وهذا من فضل الله علينا وعلى الناس أجمعين. وذلك لما فيها – والحمد لله – من بحوث أمينة بأقلام بارعة، تطارح القارئ بأسلوب رصين لا يُتعصب لقديم لقدمه، ولا يُفتتن بجديد لجدته، لكنه الفقه في الدين، بإقامة التدليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قياس … مطاردة لأبحاث ناشزة تجلل باسم الشرع وهي تمكر بالحق، وتنابذ هداية الله وحكمته وتشريقه. وهذه المنابذة مصدر خطر عظيم على الأمة في دينها ووحدتها، وتطلعها، وطموحها لحياة راشدة آمنة تسري على الأرض مسار الشمس. فعسى أن يكون في هذا (المجمع) ما يكف هذا البأس. وهذا العدد كشقيقيه السابقين بين خاصرتيه، وقائع الدورة الثالثة، المنعقدة في (عمان) عاصمة المملكة العربية الأردنية الهاشمية، التي استضافتها حكومة جلالة الملك الحسين بن طلال حفظه الله في رحاب (المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية) من 8 / 2 / 1407 هـ إلى 13 / 2 / 1407 هـ. وهي أمامك بمقدماتها وخاتمتها، وأبحاثها، ومداولاتها، وقراراتها، وأستغني عن ذكرها بفهرسها، وفي مقدمة محتوياتها خطاب صاحب السمو الملكي ولي عهد المملكة العربية الأردنية الهاشمية الأمير الحسن بن طلال، والذي حوى الشد على معالم الحضارة الإسلامية … . وما أن اقترحت على المجمع أن يكون خطاب سموه من وثائق المجمع إلا وتلقاه رجاله بالقبول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 وكان لمعالي الأستاذ ناصر الدين الأسد (رئيس المجمع الملكي) فضل كبير بعد الله تعالى في نجاح هذه الدورة، فلمعاليه ورجال أمانة المجمع وافر الشكر والتقدير. ومن أبرز المشاريع المستقبلية التي تبناها المجمع بموافقته على اقتراح منا ما يلي: 1- مدونة الأدلة للأحكام الشرعية، من الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم. 2- معلمة القواعد الفقهية. 3- تحقيق وطبع كتاب (معرفة السنن والآثار) للبيهقي رحمه الله تعالى. وقد قامت أمانة المجمع بإجراء الخطوات التنفيذية لها، فالخطة المنهجية لمعلمة القواعد الفقهية على وشك الانتهاء بالتعاون مع بعض الأساتذة المختصين. وتحقيق كتاب (معرفة السنن والآثار) قد عهد بقسم منه إلى الشيخين الفاضلين، الشيخ بدر البدر، والشيخ محمد بن ناصر العجمي، وقد استلما نسخه الخطية لبدء العمل فيه. فأرجو أن يكون في إنجازات المجمع، ومشاريعه المستقبلية، ما يجسد أمام أهل الإسلام – عظمة دور المجمع في الأمة، وتكوينها فكريا، وثقافيا، وتخليصها من شوائب طالما كدرت عليها حياتها. وهذا تذكير لإخواني رجال هذا المجمع بأن مهمتهم عظيمة وكبيرة، ونشكر لهم جهودهم ومثابرتهم، وفق الله الجميع لصالح القول والعمل والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. بكر بن عبد الله أبو زيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 كلمة العدد لمعالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الحمد لله الذي لا يؤدي أحد من خلقه شكر نعمة من نعمه إلا بفضل ونعمة منه توجب على مؤدي الشكر بأدائها على ماضي النعم من لدنه عز وجل نعمة حادثة جديدة يجب عليه شكره بها. نحمده حق حمده ونثني عليه كما هو أهله ثناء يكافئ نعمة وآلاءه، ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يبلغ مدحته المادحون ولا يقدر على وصف عظمته الواصفون، فهو جل ثناؤه كما وصف نفسه وفوق ما يصفه به خلقه، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، خيرته من خلقه، وصفيه لوحيه، المبلغ لرسالته، المرفوع ذكره، والذي ورد في محكم التنزيل قول ربه في حقه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقوله عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد فإن الله العلي القدير قد يسر لنا مواصلة الجهد وبذل الوسع لتحقيق الغايات والأهداف التي من أجلها أسس هذا المجمع "مجمع الفقه الإسلامي" والتي نبه إليها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد أعزه الله بقوله: "إن هذا العصر يشهد الكثير من التناقضات والاجتهادات وإن على علماء المسلمين الأفاضل المشاركين في هذا المجمع أن يقدموا الحلول الإسلامية وأن يوضحوا الطريق الصحيح وأن يساعدوا الأجيال على تفادي البلبلة والارتباك، وأشار من جهة أخرى حفظه الله ونصره إلى: "أن من الخير للأمة الإسلامية أن تجمع أمرها وتوحد صفوفها في إطار عقيدتها السمحة لأن فيها خيرها وعزها وهي مصدر قوتها الحقيقية"، ولا بدع إذا ألفيناه بعد ذلك يقول أيده الله وسدد خطاه: "إننا ندعم هذا المجمع لأننا نعتقد بأن مهمته كبيرة ومسئولياته عظيمة، وأن أمة الإسلام تنتظر من ورائه الخير والفلاح إن شاء الله". وقد سار على هذا النسق الشريف في تقديره جهود المجمع وتعزيزه مع بيان المسالك العملية التي عليه أن يسعى إلى تحقيقها بجانب المشروعات العلمية التي يعدها والمؤتمرات والندوات التي يعقدها حضرة صاحب السمو الملكي الأمير حسن بن طلال حين قال: إن من ذلك: بيان تعاليم الإسلام السمحة التي يتقوم بها السلوك وبث القيم والمبادئ التي يعتمدها الإسلام منهجا للحياة، وعرض المتغيرات والقضايا المستجدة على أصول الشريعة الإسلامية التي تدرأ ما خبث وتقبل ما حسن وتوجد لكل أمر فيه رضا الله وصلاح الأمة طريقا عمليا ووجها شرعيا يرتفع به الحرج عن الناس، وبيان الأوجه العملية والطرق القريبة لمحاربة أسباب التخلف والضعف والوهن في المجتمعات الإسلامية وتجميع أسباب العزة والقوة والمنعة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق إلا باجتماع علماء الأمة وأهل الحل والعقد فيها من أصحاب النظر العلمي والشرعي الدقيق القادرين على تعمق النصوص نظرا وتدبرا واستنباط الأحكام على هدى من أسرار الشريعة ومقاصدها في ما يعرض للناس من حاجات في هذا العصر. ولقد أشاد معالي الدكتور ناصر الدين الأسد وزير التعليم بالمملكة الهاشمية الأردنية ورئيس مجمع بحوث الحضارة الإسلامية برجال المجمع حين قال – حفظه الله –: "إن هذا الموكب من مواكب العلم والنور والهداية – الذي نستقبل الساعة مفتتحه - ليسير في حناياه وعلى جنباته رجال نذروا أنفسهم لدين الله الحق الذي رضيه الله تعالى لهم، لا يألونه بحثا ودرسا وتنقيبا وتفهما واستخراجا للأحكام على قواعد وأصول ومناهج تضبط الاستنباط وتحكم الاستقراء وتوجه القياس ". كما أعلن عن دور المجمع في بحث القضايا المعروضة عليه معالي الدكتور أحمد محمد علي رئيس البنك الإسلامي للتنمية وهو يتابع بنفسه في المؤتمر الثالث للمجمع المنعقد بعمان تداول العلماء النظر بشأن الاستفسارات المقدمة من طرفه ليصدروا بشأنها الفتاوى الشرعية والقرارات الحكيمة المناسبة حين قال – حفظه الله -: "إن عملكم الرائد في مواجهة التطور في الحياة المعاصرة ومشكلاتها بالاجتهاد المتبصر والاسترشاد بمبادئ الشرع الحنيف هو قبلة اهتمام هذه الأمة التي تتطلع إلى ثمرة اجتهادكم الأصيل الفاعل بهدف إيجاد الحلول الناجعة النابعة من التراث الإسلامي والواعية لمتطلبات الأمة المتغيرة". وفعلا وبعون الله التأمت بعمان وباستضافة من الدولة الهاشمية الأردنية الكريمة الدورة الثالثة لمجمع الفقه الإسلامي المنعقدة بين 8 - 13 صفر 1479هـ 11 - 16 أكتوبر 1986 م. وتقدم أعضاء المجمع المحترمون والخبراء الموقرون الذين وفدوا على عمان بهذه المناسبة من أطراف العالم ومن الدول الإسلامية المختلفة بدراسات وبحوث جد مفيدة تم - بعد عرضها في الجلسات المتوالية لهذه الدورة مناقشة محتوياتها مناقشة جادة - اتخاذ القرارات الصادرة عن المجلس في دورته هذه. وأنه ليسرنا اليوم أن نقدم في هذا العدد الثالث للقراء الأكارم والباحثين والدارسين في أطراف العالم الإسلامي أعمال هذه الدورة وما تناولته بالدرس من قضايا هامة تشغل أفكار مختلف الجهات في المجتمع الإسلامي المعاصر. وهكذا فإن العدد الثالث من مجلتنا يقدم من نتائج اجتماع مجلس المجمع في هذه الدورة البحوث المعروضة فيها والقرارات المتخذة بشأن القضايا المطروحة على النظر والمشاريع والتوصيات التي أقرتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 وقد اشتملت البحوث على قضايا شرعية واجتماعية واقتصادية ومصرفية: أما البحوث الشرعية فقد تناولت: توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق، وتوحيد بدايات الشهور القمرية، وتحرير الإجابة عن الاستفسارات المقدمة للمجمع من المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن والإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة. وأما البحوث الاجتماعية فقد كانت هي أيضا متنوعة منها التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب وأجهزة الإنعاش. وتناولت البحوث الاقتصادية أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة. واشتملت القضايا المصرفية المعروضة على المجمع في استفسارات البنك الإسلامي للتنمية والتي بحثت في هذه الدورة على رسوم الخدمة على القروض، وعملية الإيجار، وعمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن، وعمليات تمويل التجارة الخارجية، والتصرف في فوائد الودائع. وبالرغم عما أثارته هذه الدراسات وموضوعاتها من نقاش طويل وتبادل للأنظار والآراء المتباعدة والمختلفة غير أنها بعد الجدال والتدبر والتمحيص والجهد والاجتهاد المتأني انتهت إلى قرارات حظيت بإجماع أعضاء المجلس. ونحن في نهاية هذه الكلمة نحمد الله على ما يسر، ونشكر للقادة دعمهم ورعايتهم، وللعلماء والباحثين دراساتهم وجهودهم، ولا ننسى في النهاية أن ننوه بالأيادي البيضاء التي قدمها لنا معالي الشيخ حسن عباس شربتلي إذ تفضل مشكورا – رعاه الله وحفظه – بالإذن بطبع هذا العدد الثالث بأجزائه في مطبعته وعلى نفقته، وقد قام القيمون والمشرفون على المطبعة بجهود جيدة وموفقة يستحقون عليها كل الثناء والتقدير. والله المسئول أن يجزل ثواب العاملين المخلصين والموجهين والمتبرعين وأن يسدد خطانا وخطاهم لإعلاء الحق وخدمة الشرع ونصرة الدين والنصح لهذه الأمة إنه سميع مجيب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. محمد الحبيب ابن الخوجة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 كلمة افتتاح الدورة ألقاها معالي الدكتور ناصر الدين الأسد وزير التعليم العالي ورئيس مؤسسة آل البيت بالمملكة الأردنية الهاشمية بسم الله الرحمن الرحيم سيدي صاحب السمو الملكي، نائب جلالة الملك، ولي العهد المعظم. سلام عليكم … وتحية إليك … يعطرهما شذى العرف من الحب الذي يملأ قلوبنا، ونفح الطيب من التقدير الذي يعمر عقولنا. كيف لا، وأنت منا في الذؤابة: نسبا زكيا، وفؤادا ذكيا، وخلقا رضيا، وهي صفات وخصائص عرفها فيك كل من اتصل بك من قريب أو بعيد، وهي وحدها التي تثني عليك، وتستغني بنفسها عن كل ثناء. وهذا اللقاء الكريم الذي تستضيفه وتفتتحه اليوم هو من بعض ما طمحت إليه همتك، وتوجه إليك عزمك، حين دعوت صاحب السماحة الأخ الجليل، العلامة الفقيه، الدكتور الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي في جدة ليعقد الدورة الثالثة للمجمع في عمان في رحاب آل البيت ومجمعهم الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، امتدادا لجهدك الموصول في تشجيع العلم والعلماء والفكر والمفكرين، والحفاوة بهم، واستضافة مؤتمراتهم ونداوتهم، في ظل وارف من رعاية سيدنا، الملك الهاشمي، الحسين بن طلال، واتساقا مع توجيهاته، وإنفاذا لرغباته السامية. سيدي صاحب السمو الملكي سادتي العلماء الأجلاء إن هذا الموكب من مواكب العلم والنور والهداية – الذي نستقبل الساعة مفتتحه – ليسير في حناياه وعلى جنباته، رجال نذروا أنفسهم لدين الله الحق الذي رضيه تعالى لهم، لا يألونه، بحثا ودرسا وتنقيبا، وتفهما، واستخراجا للأحكام، على قواعد وأصول ومناهج: تضبط الاستنباط، وتحكم الاستقراء، وتوجه القياس. وقبل هذا الموكب كانت مواكب، توالت على مدى العصور: موكبا إثر موكب، ولكل موكب في كل عصر أئمته: يهدون الطريق، ويسددون الخطى، ويصوبون المسيرة، حتى لا تضل الأفهام، ولا تضطرب المعايير، ولا تتفرق السبل، وحتى لا ينفصل الحاضر – بما يجد فيه – عن الأصول والجذور، ولا ينطلق المستقل منفلتا في متاهات الضياع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 ويناظر مجمع الفقه الإسلامي، ويرفده: المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية: مؤسسة آل البيت، الذي يجمع في عضويته العاملة والمراسلة، وفي نشاط لجانه وكتابة بحوثه، نحو مئتي عالم من جلة علماء المسلمين في مختلف بقاع الأرض، وهو يوجه عنايته إلى البحث العلمي في مختلف ميادين الحضارة الإسلامية وخاصة ما يتصل بأصول هذا البحث ومصادره بتوفير ما يسمى ببنوك المعلومات، وقد أصدر منها حتى الآن عشرة مجلدات من فهارس المخطوطات العربية في العالم، وفي خطته لهذا العام إصدار عشرة مجلدات أخرى، وأصدر أيضا سبعة مجلدات تتضمن كشافات تحليلية للمواضع التي ورد فيها ذكر للاقتصاد وللتربة في الإسلام، في أمهات كتب التراث، وكدنا نستوفي هذه الأمهات وننتقل إلى الكتب الحديثة، فالدوريات، ثم ما صدر باللغات الأجنبية، بحيث تصبح هذه السلاسل من الكشافات والفهارس وبنوك المعلومات، المنهل الذي لا غنى عنه لكل باحث في هذه الميادين. ذلك بالإضافة إلى إصدار ثلاثة مجلدات تتضمن ما يزيد قليلا عن اثني عشر ألفا من رؤوس المواد أو عناوين الموضوعات، أو المداخل، تمهيدا للعمل في موسوعة الحضارة الإسلامية، وقد بدأنا بتنظيم العمل في مجالين من مجالات هذه الموسوعة، ونأمل أن نتمهما خلال العام القادم، ثم نبدأ بنشر الموسوعة وإصدارها، على صورة فصول متفرقة، إن شاء الله تعالى. وقد بدأ المجمع الملكي طباعة البحوث التي أنجزت من موضوعات الخطة المتوسطة المدى، وهي: الشورى، والتربية، والإدارة المالية، ومعاملة غير المسلمين، وسيصدر خلال الشهر القادم مجلدان من مجلدات هذه البحوث. وما هذا كله إلا نماذج وأمثلة، قد يغني ما ذكرت منها عما لم أذكر. سيدي صاحب السمو الملكي سادتي العلماء الأجلاء: إن مجمع الفقه الإسلامي في جدة يمثل ظاهرة إسلامية فريدة، إذ أنه يلبي – بطبيعة تكوينه – حاجة المسلمين في هذا العصر إلى الاجتهاد الجماعي – في أوسع نطاق – فيلتقي أهل الحل والعقد من علماء المسلمين من مختلف البلاد والبيئات والمذاهب، لمواجهة القضايا المستجدة على المجتمع الإسلامي في هذا العصر في المجالات المتعددة، وخاصة المجال الاقتصادي والاجتماعي، ثم إن هذا المجمع يسعى بعلمائه الأجلاء إلى تحقيق هدف أساسي آخر، وهو: التيسير على المسلمين بتبسيط معرفة دينهم، وتقريب هذه المعرفة إليهم، من أجل تمكينهم من الالتزام بأحكام هذا الدين التزاما يوحد بين المسلمين عامة، فبارك الله في علمائه، وجزاهم عن الإسلام خير الجزاء كفاء ما يبذلون من جهد. سيدي صاحب السمو الملكي الموقف موقفك، والكلمة كلمتك، وهذا الجمع الكريم متشوق إلى سماعك، فلتتفضل مشكورا بافتتاح هذه الدورة الثالثة لمجمع الفقه الإسلامي باسم الله وعلى بركته. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 خطاب (1) صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال ولي عهد المملكة الأردنية الهاشمية الحمد لله والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه. أصحاب السماحة والفضيلة أيها السادة الأماثل، أود بادئ ذي بدء أن أرحب بكم وأن أنقل إليكم تحيات جلالة أخي الملك الحسين. إنها لمناسبة سعيدة حقا تتاح لنا اليوم، لاستقبال أعلام الفقه ورجالات الفكر الإسلامي من أنحاء العالم، ممثلين في أسرة مجمع الفقه الإسلامي، هذا الصرح الفقهي الدولي الإسلامي، الذي نغتبط باستضافة الدورة الثالثة لمؤتمره السنوي في عمان عاصمة الأردن العربي الهاشمي الذي لا يفتأ يناضل من أجل العروبة، وحماية المقدسات وعزة الإسلام، وتجديد مقومات سيادته وبعث حضارته. وإننا لنرحب أجمل ترحيب بأهل الحل والعقد، وأصحاب النظر والفتوى الوافدين علينا من الأقطار الإسلامية كلها، وبممثلي المؤسسات العديدة العاملة في مجال البحوث الفقهية والدراسات الشرعية بتداخل نظمها ووحدة أهدافها الذين تنتظمهم جميعا عضوية مجمع الفقه الإسلامي، كما نرحب أيضا بأصحاب الفضيلة الأساتذة الخبراء، ذوي الشهرة في ميادين البحث والدراسة للقضايا الاجتماعية، والصحية، والاقتصادية، والشؤون المالية، في العالم الإسلامي.   (1) قرر المجمع اعتبار خطاب سمو الأمير الحسن بن طلال وثيقة أساسية ضمن وثائق المؤتمر، يرجع إليها وتعتمد في سيره مستقبلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 أيها السادة الأفاضل إن الفقهاء والعلماء في المملكة الأردنية الهاشمية، ليبتهجون بمقدمكم، متخذين من دورتكم هذه – التي تعقدونها بين ظهرانينا – موسما علميا مشهودا، يتطلعون فيه كما نتطلع جميعا في أسرتكم الأردنية إلى الوقوف على ما سيقدم من بحوث ودراسات عن القضايا المعروضة على المجمع في مؤتمره السنوى الثالث وإلى ما سيفضي إليه النقاش والنظر، من مواقف وفتاوى وقرارات علمية ومجمعية لها شأنها في حياة المسلم في كل زمان ومكان، وإن المسلمين كافة ينتظرون الكثير من هذا المجمع الزاهر الذي يعمل جادا لربط ماضي الأمة المجيد بحاضرها المتطور فيرسخ في نفسها الثوابت التي هي مقومات ذاتها وأساس وجودها ويواجه فيها المتغيرات بما تهدي إليه أصول النظر الشرعي ومناهج الفكر الإسلامي في مختلف مجالات الحياة المعاصرة. وهذا القصد المزدوج السوي أيها الأخوة السادة الأفاضل الذي كان وما يزال بحمد الله شعار أمتنا، هو الذي ينطق به قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} فقد وصفها سبحانه بالعدالة والعزة والخيار، وبتأكد هذه المعاني لديها وصدق هذه النعوت فيها وانطباقها عليها يتم تفضيلها الذي يؤذن به قوله عز وجل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وهو يرفعها إلى المرتبة السامية. ولا شك أيها السادة الأفاضل أن للآية الكريمة التي صارت لهذه الأمة شعارا، دلالة على أن الله تعالى أكمل عقول هذه الأمة بما تنشأ عليه من اتباع العقائد السليمة ومجانبة الأوهام الضالة، ومن وجوب تلقي الشريعة من طرق العدول وإثبات أحكامها بالاستدلال استنباطا يقوم به العلماء ليتلقاه العامة فهما وممارسة. وفي هذا يكمن سر التجدد والخلود لهذه الأمة لأن علماءها والمجتهدين فيها لا تحكمهم الأهواء ولا تلوي أعناقهم الشهوات، ولكنهم – في كل ما يصدر عنهم من اجتهادات وأحكام – آخذون بالقول الفصل والهدي المبين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومما تلقاه الصحابة رضوان الله عليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيان وحكمة، فذلك هو الأصل والمرجع الذي امتن الله به على عباده في قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 ولا بدع – بعد ذلك – أن كان علماء هذه الأمة وفقهاؤها يعكفون على الكتاب والسنة في كل عصر، يدرسون ويتدربون ويفكرون ويبينون حتى نشأت من ذلك علوم القرآن وعلوم السنة، وأحكمت أصول الرواية وقواعد الدراية، ووضعت التفاسير والشروح، وجمعت الأحكام وأصولها من الأدلة التفصيلية في الكتاب والسنة، وأصبح جماع ذلك دليل الإيقان ومبلغ الاطمئنان، لقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها وعفا عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها)) . وقد نبعت من أصول الشريعة أفهام ومدارك، وتبينت أيضا أسرار ومقاصد، واتبعت مناهج وطرائق، وضبطت أصول وقواعد، كانت جميعا مرآة ظهرت عليها أقوال الصحابة والتابعين، وآراء الأئمة والمفتين، وأنظار الفقهاء والمجتهدين، وكان ذلك سببا لغنى الفقه واتساع دائرته وتأصيل نظرياته وتجديد اتجاهاته، في كل المجالات وجميع الشؤون، ولا يمكن لأي عالم أو أي فقيه أن يتنكر لهذا التراث العظيم ولتلك الثروة المميزة من الفقه الإسلامي، لما يقتضيه النظر الدقيق والبحث العلمي من الاستقراء التام للمذاهب والأقوال والاتجاهات والآراء ولما يتطلبه الاجتهاد في كل عصر من عميق التصور لغايات الشارع ومقاصده، ومن كمال الوقوف على الأحوال والملابسات للقضايا والنوازل، عند تطبيق الشريعة عليها وتنزيل الأحكام بها، وهكذا يتوصل إلى الحق ويقام العدل ويعتمد من الأدلة والأحكام ما يكون الأثبت والأقوى حجة وبرهانا والأيسر والأوفق لمصالح الناس، وإن في استيفاء النظر وفي المقارنة بين مذاهب الأئمة وآراء الفقهاء، وفي القيام بعد ذلك بالترجيح والاختيار للنصوص التي ينبغي اعتمادها في القضايا المتداولة - لجهدا تنوء به طاقات الأفراد، ولا يستطيعه إلا مجمع يكون لأعضائه من الإحاطة بمصادر الشريعة والعلم بالفقه الإسلامي، ومن الخبرة بالأصول والأسس والنظريات والقواعد، ومن القدرة على التمييز والتفريق بين الحالات المتشابهة، وعلى البت في القضايا المشكلة ما يعينه على تخريج المناط وتنقيحه وتحقيقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 وإذا كانت القضايا العادية معروفة أحكامها للناس، في العبادات والأحوال الشخصية والمعاملات والحدود وكل فروع الفقه ومسائله بما يشمل اليوم كل القوانين العامة والخاصة الدولية وغيرها، فإن التطور المادي الحضاري من جهة وما نجم عنه في أطراف العالم الإسلامي من تيارات فكرية جديدة، واكتشافات واختراعات وتقدم علمي وتكنولوجي وتنظيمات وتراتيب وشركات ومؤسسات وأعراف وعادات، يواجه الإسلام والمسلمين بتحدياته ويهدد بتقويض القواعد العظيمة التي قامت عليها معالم الفكر والحضارة الإسلامية، وليس أمام المجمع الذي ينتظم صفوة العلماء في هذا العصر ويستضيف كما ذكرت قبل قليل أصحاب اختصاص في مجالات مختلفة والذي أقيم باتفاق الدول الإسلامية عامة، إلا أن يجتهد ويبذل الوسع من أجل إنارة سبيل المؤمنين ورفع حواجز الغموض والضلال والجهل والضعف من طريقهم ومدهم من جديد بما صلح لآبائهم عند تشييدهم أكمل نظام وتأسيسهم أعظم حضارة، ويصلح لهم اليوم من التعاليم والحكمة التي تأخذ بأيديهم إلى طريق المجد، يستعيدون بها سيادتهم وإدارتهم ويتبوأون بها من جديد مقام الريادة {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فعلى أساس هذا الهدي، وما تنبثق منه من أحكام وقواعد وأصول ونظريات يستطيع المجمع أن يحقق حماية المسلمين والحفاظ على توازن المجتمع الإسلامي. ودعم الوحدة الإسلامية بعناصر القوة والمنعة مع التأكيد على الأصول والتشاور المشروع والمحبب بكل موضوعية وعمق، ويتولى دراسة المشكلات التي تعترض سبيل النمو والتقدم في العالم الإسلامي دون تمييز ومواجهة التحديات التي تقهر الإنسان العربي والمسلم وإيقاظ الروح والمنظور الإسلامي في النفوس بعثا لنهضة جديدة. وهذا الشرف التالد الذي تميزت به الأمة الإسلامية يجعل الله إياها مرجعا لغيرها، ودليلا لسواها على الخير والحق تتمسك به وتلتزمه وتبينه وتدعو إليه، هو الذي يدفع اليوم مجمع الفقه الإسلامي لاستجابة الأمر الإلهي في قوله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وفي قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 ولا يقتصر هذا الواجب الجماعي على المشروعات العلمية المختلفة التي تعدونها، ولا على المؤتمرات واللقاءات التي تقومون بها بل يتجاوز ذلك إلى جملة وظائف، منها: بيان تعاليم الإسلام السمحة التي يتقوم بها السلوك، وينضبط بها السير وتشد الفرد والجماعة إليها بما فيها من سهولة ويسر. ومنها: بث القيم والمبادئ التي يعتمدها الإسلام منهجا للحياة وذلك بوسطيته التي تجمع بين جانبي الروح والمادة، وطلب الدنيا والآخرة والقيام بالعبادة مع تحقيق معاني الاستخلاف في الأرض. ومنها: عرض المتغيرات والقضايا المستجدة على أصول الشريعة الإسلامية التي تدرأ ما خبث وتقبل ما حسن وتوجد لكل أمر فيه رضا الله وصلاح الأمة طريقا عملية ووجهاً شرعيا يرتفع به الحرج عن الناس، وإن في القياس والاستحسان والاستصلاح وتحكيم الأعراف المعتبرة شرعا ما يواجه التحديات وييسر على العباد معاشهم ويحقق لهم مصالحهم، فإن من مقاصد الشارع تحقيق مصالح الخلق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما وميسرا)) . ومن حكمته عليه السلام قوله: ((إن الدين يسر، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا)) ، وقوله: ((إن الله شرع الدين فجعله سهلا سمحا واسعا ولم يجعله ضيقا)) . ومنها: بيان الأوجه العملية والطرق القريبة لمحاربة أسباب التخلف والضعف والوهن في المجتمعات الإسلامية وتجميع أسباب العزة والقوة والمنعة التي بفضلها تعود هذه الأمة من الافتراق إلى الاتفاق، ومن الاختلاف إلى الوحدة، وفي هذا المسمى تكمن أسرار العبادة الخالصة لله التي يجزي سبحانه عنها عباده. تلك هي الأهداف التي يعمل المجمع من أجل تحقيقها وتلك هي الرسالة التي يجب أن يضطلع العلماء في هذا العصر بها على الوجه الأكمل، وهم قادرون على ذلك، ماضون للوصول إلى ما يؤملون، والله من وراء القصد، وهو ولي التوفيق. أشكركم مرة ثانية وأذكر بأن حسن الأداء والخروج بقرارات واضحة في هذا اللقاء المبارك لدلالة أخرى على وجود الإرادة الإسلامية في هذا الزمن، وفي كل زمان إن شاء الله مواجهة للتحدي والتحديات. أرجو المعذرة أن أطلت وإن أفضت ببعض العاطفة التي أشعر بها في مثل هذا الموقف، وأسلم عليكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 خطاب (1) معالي السيد سيد شريف الدين بيرزاده الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين صاحب السمو الملكي أصحاب المعالي الإخوة الأعزاء يشرفني أن أتوجه بخطابي هذا إلى الجلسة الافتتاحية للدورة الثالثة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي، وأود أن أعرب عن تقديري وامتناني لجلالة الملك الحسين بن طلال ولحكومة المملكة الأردنية الهاشمية لاستضافة هذا الاجتماع ولصاحب السمو الملكي الأمير حسن لتفضله بافتتاحه. وإني أرحب بالحقوقيين والعلماء البارزين وممثلي الدول الأعضاء بمنظمة المؤتمر الإسلامي المشاركين في هذه الدورة، وأرجو لهم جميعا طيب الإقامة في هذه المدينة الجميلة، وأتمني لهذه الدورة النجاح. صاحب السمو الإخوة الأعزاء لقد صدر قرار إنشاء مجمع الفقه الإسلامي عن مؤتمر القمة الإسلامي الثالث التاريخي الذي انعقد في مكة المكرمة، وسوف يتابع المجمع السعي لتحقيق الأهداف الحيوية للوحدة الإسلامية وتقريب المجتمع الإسلامي من الإيمان بالعمل على إيجاد حلول لمشاكل الحياة العصرية والجيل المعاصر وفقا لأحكام الشريعة. ويشكل قرار القمة الإسلامية الثالثة تطورا مهما في تاريخ جهودنا الرامية إلى تحقيق أهدافنا المشتركة، وباتخاذها هذا القرار صممت الدول الإسلامية الواقعة في مختلف بقاع الأرض وذات الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتباينة، على إنشاء مؤسسة تعمل على إبراز وحدة العالم الإسلامي وتقويته في ميدان الفقه والتشريع. وأكد إنشاء مجمع الفقه إجماع الأمة الإسلامية على الحاجة إلى جهود نظامية يقوم بها أفراد أكفاء ومؤسسات مؤهلة للنظر في مختلف جوانب هذا العصر وتهدف إلى تمكين المسلمين من تكييف حياتهم مع القواعد والتعاليم الأساسية لديننا الحنيف، وليس هذا أمرا سهلا أية حال من الأحوال، ولكنه شرط مسبق لازم للجهود الإسلامية المقررة لضمان مطابقة عملهم الفردي والجماعي لتعاليم الإسلام.   (1) ألقي الخطاب نيابة عن معالي الأمين العام، سعادة الأستاذ فؤاد الخطيب الأمين العام المساعد بمنظمة المؤتمر الإسلامي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 صاحب السمو الإخوة الأعزاء إن من دواعي سرورنا أن نلاحظ ما وصل إليه مجمع الفقه الإسلامي برئاسة فضيلة الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة أمينه العام الفذ، من تقدم كبير خلال فترة وجيزة من الزمن، والمجمع يتلقى دعما فعالا لنشاطاته من عدد كبير من العلماء المسلمين البارزين، والواقع أن المجمع أصبح مركزا لالتقاء علمائنا الأفاضل ومنبرا لهم، وقد بادر المجمع إلى النظر بتعمق في عدد من المسائل التي شغلت بال الحقوقيين منذ عشرات السنين، وتشمل هذه المسائل مختلف جوانب الاقتصاد الحديث مثل الصناعة المصرفية والفوائد المصرفية والتأمين وإعادة التأمين وجمع الزكاة وتوزيعها الخ … ونحن نتطلع إلى اليوم الذي يتطور فيه هذا المجمع الإسلامي ليصبح مركزا رئيسيا تلتف حوله الهيئات الفقهية الحالية المتعددة، وأنا واثق من أن المجمع سوف يعمل على تشجيع التعاون والتنسيق بصورة أفضل بين هذه الهيئات على أسس خطط مدروسة وعملية. الإخوة المحترمون: إن أهمية الفقه الإسلامي تتمثل في حقيقة أنه يرشد أفراد المجتمع إلى كل ما يهمهم في أمور حياتهم، كما أنه يشمل العلاقة بين المسلمين والدولة الإسلامية وكذلك أبناء الأقليات المسلمة في المجتمعات غير الإسلامية. وقد استجابت الشريعة للحاجات التشريعية للدولة الإسلامية على مر العصور وأمدتها بالمبادئ والقواعد المتعلقة بأعمالها ومسؤولياتها والتزاماتها. منذ البداية قام أفراد مستنيرون كرسوا حياتهم لدراسة القرآن الكريم وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام بتفسير الشريعة، وذلك عمل جليل، وحاول الفقهاء والعلماء المسلمون تحديد قواعد الفقه بدقة وتجميعها وتصنيفها ونقلها إلى الأجيال القادمة. نتيجة لذلك تجمعت لدينا ثروة فقهية عظيمة من المؤلفات والدراسات والبحوث، كما أن عددا من معاهد الفقه في العديد من الدول الإسلامية نشرت كتبا في الفقه. ولذلك توفر لمجمع الفقه الإسلامي مصدر ضخم مما خلفه العلماء والفقهاء المسلمون، ومن واجبنا أن ننتفع من تراث أسلافنا وأن نبدأ من حيث انتهوا لنزيد في إثرائه. والمجمع مدعو إلى المحافظة على هذا التراث وإلى العمل على تطوير الفقه الإسلامي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 كلمة معالي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس المجمع بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله الرحمن الرحيم … الحمد لله نستلهمه التوفيق والرشد، وألجأ إليه سبحانه وتعالى من مواطن العثار والزلل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لله في الغدو والأصل، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه خاتم الأنبياء والرسل اللهم صل وسلم عليه كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون ما اتصلت عين بنظر وأذن بخير، ورضي الله عن الصحابة الكرام وآل نبيه الطيبين الأطهار والتابعين لهم بإحسان … أما بعد: فإن هذا المجمع المبارك قد أتم دورتين في حولين كاملين على أرض المملكة العربية السعودية واليوم نعود والعود إن شاء الله تعالى أحمد مستقبلين له في دورته الثالثة لعامه الثالث دون النمو والارتقاء على أرض المملكة الأردنية الهاشمية مفتتحا برعاية صاحب الجلالة الملك الحسين بن طلال ورعاية صاحب السمو الملكي ولي العهد نائب جلالته الأمير الحسن بن طلال فأبدي جزيل الشكر ومحمود الثناء على هذه المكرمة الملكية الكريمة في سبيل العلم وحملته خدمة للإسلام والمسلمين، وأثني بذلك لكل من له قدم صدق من رجال هذه الحكومة الهاشمية الكريمة وأخص بالذكر مؤسسة آل البيت وفي مقدمتهم العلامة ذو اللغون والأدب والفنون الأستاذ ناصر الدين الأسد، وانطلاقا من شخصية هذا المجمع التي لا تعيش بين جذور محلية وإنما تمتد إلى أقصى حدود العالم الإسلامي فأينما حل ذلكم المجمع فهو يحل في دياره ومنازله، أقول بكل فخر واعتزاز: حياكم الله وأهلا وسهلا ودمتم في صحة وهناءة عيش وفوقة في سبيل العلم وحمل رايته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 صاحب السمو الملكي … أيها الحفل الكريم. لقد دأبت الحياة المجمعية كشأن أي كائن حي لا بد أن يمر بمراحل التكوين وإن تكلأه عين التعاهد وقد سار ذلكم المجمع كذلك يتعاهده رجاله ببليغ العناية لأن حياته تهم كل مسلم ناصح على وجه الأرض وفي كريم معارفكم العلم عسير المطلب بطئ الخطى يحتاج إلى الصبر ومطاولة السنين، والعمل المجمعي بوجه خاص يحتاج إلى ذلك وإلى جد وإلى عمل جاد لا يعرف الغلبة ولا الجلبة متأنيا لا يعرف التسرع ولا جني الثمار قبل نضوجها وأنه قد سار هذا المجمع على هذه الخطوط العريضة يتفيأ في ظلال الشرع المطهر ومن خلال ذلك وفي هذا المسار الكريم أصدر ذلكم المجمع عدة قرارات شرعية في قضايا ونوازل عصرية لجت فيها الأقلام والأفهام وفي أمور فقهية كانت تستدعي بحثا معمقا ورأيا جماعيا، وإن المجمع من خلال قراراته هذه يؤدي وظيفة مهمة في الإسلام، إذ يشد آصرة إخوانه علماء الإسلام في الصد والإيصاد لتلكم الأبواب التي يفتحها الأكالون البطالون على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مقدمة تلك الأبواب باب الملاينة وخفض الجناح على حساب الشرع المطهر، وقد توعد الله الفعلة لذلك من طراز آخر فقال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} وإذا كان هذا في حال من أطاع في بعض الأمر فكيف بحال من رضي وتابع وولج في الأمر جملة واحدة نسأل الله الصون والعافية، وتجسيدا لأهداف هذا المجمع التي من أبرزها شد الأمة إلى وحدتها وصفاء عقيدتها فإنه على لسان رجال هذا المجمع وأمانة هذه المجمع ورئاسة هذا المجمع أبعث رسالة حق من مقامي هذا إلى قادة العالم الإسلامي من مجمعهم هذا قائلا: إنه لا سبيل إلى حياة آمنة مطمئنة يحق فيها الحق ويبطل فيها الباطل ويدفع العدو الصائل إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة والأخذ بالدليل من التنزيل ومن أقوال النبي الكريم عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 ولن يتجلى ذلك إلا بمسلكين بارزين: أحدهما: مسلك تحكيم شريعة الله بين عباده في بلاده فوق أرضه وتحت سمائه إذ الكل ملك لله فيتعين على مملوكيه أن يدينوا لمالكهم بأمره ونهيه وتشريعه. والمسلك الثاني: تنقية التعليم وتصفيته وتخليصه، من كل شائبة يزنها الإسلام، والعمل على إمداده في ضوء الشارع المطهر، وقد رأينا بوادر ذلك ولله الحمد في ديار الإسلام من الصحوة الإسلامية التي تعيشها ديار الإسلام، وفي عدد من القرارات القيادية التي ترشد هذه المسالك وتجعلها في ساحة العمل، فلله الحمد على ما أنعم وتفضل وأسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعا إلى طريق الحق والصواب. صاحب السمو الملكي … أيها الحفل الكريم: لا بد لي أن أبدي شكرا وتقديرا وأرفع ذكرا لأمانة هذا المجمع التي عملت جادة في طوال العام على بذل الجهود في عقد هذه الدورة.. وشكر لجلالة الملك الحسين بن طلال، ولسموكم على هذه الاستضافة الكريمة وعلى هذا اللقاء العظيم، وإنني أستأذن سموكم بأن تكون كلمتكم هذه ميثاقا من مواثيق مجمع الفقه الإسلامي سيطبع منفردا نظرا لما تتمتع به من روح التشريع ومن الأمور المهمة ورسم الخطوط العريضة وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعا لما فيه صلاح العباد والبلاد وأن يأخذ بأيدينا جميعا إلى كل عمل صالح مبرور والله يحفظنا وإياكم بالإسلام، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 كلمة معالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام للمجمع الحمد لله الذي ميزنا على سائر الأمم برابطة ثابتة دائمة هي العروة الوثقى التي لا انفصام لها، وقد جعلها الله لنا ذكرا وشريعة ومنهاجا، ووصف الذكر فقال عز وجل: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وفصل الشريعة التي ختم بها الشرائع كلها وقابل بها بين الحق والباطل فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} ووضع لنا منهاج حياتنا، يجمع شملنا، ويسدد سلوكنا، ويدعم صفنا ويوحد كلمتنا، وذلك هو الدين الخالص الذي ارتضاه الله لنا: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وصلى الله على إمام الأئمة ونبي الرحمة سيد المرسلين وقائد الغر المحجلين سيدنا ومولانا محمد الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فأدى الرسالة، وبلغ الأمانة وعبد الله حتى أتاه اليقين وعلى آله وصحبه وسلم. حضرة نائب جلالة الملك صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال المعظم. صاحب المعالي الدكتور ناصر الدين الأسد رئيس مجمع الحاضرة الإسلامية، مؤسسة آل البيت الموقر. حضرة صاحب المعالي الأمين العام المساعد لمنظمة المؤتمر الإسلامي المبجل. حضرات أصحاب السماحة والفضيلة والسعادة أعضاء المجمع الأكارم. حضرات الأساتذة.. أيها السادة. السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد: ههنا بعاصمة البلقاء عمان قاعدة المملكة الأردنية الهامشية أرض البطولات والأمجاد، حيث يستبسل المناضلون ويرابط المجاهدون، وتزخر الحياة اليومية بألوان الكفاح من أجل تحرير الأوطان، ورفع التحديات وتحقيق عزة العروبة والإسلام وحيث تقوم الجامعات العلمية والمجامع الحضارية واللغوية والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية بجلائل الأعمال وشتى الخدمات في مختلف مجالات الحياة، وحيث تنعقد باستمرار وطوال الفصول والشهور المؤتمرات والندوات والأيام الدراسية واللقاءات، يأتلف جمعهم الكريم هذا في المؤتمر الثالث لمجمع الفقه الإسلامي بالأردن الحبيب، في ظل رعاية برة كريمة من المقام العالي صاحب الجلالة الملك المعظم الحسين بن طلال أعزه الله ونصره، بدعوة سنية من قواعد الفكر الأمير العالم أمير البيان حضرة صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير الحسن حرس الله كماله وزان بالتأييد علاءه، ولقد وجدنا من صاحب المعالي وزير التعليم العالي ورئيس مجمع الحضارة الإسلامية مؤسسة آل البيت العلامة الجليل والناقد الأديب الدكتور ناصر الدين الأسد عناية فائقة ومساعدة قيمة أسهمتا بفضل الله في توفير الأسباب الكافية لإنجاح دورة مؤتمرنا هذا، أسبغ الله على معاليه نعمه وأمده بروح منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 وإن مجمعكم الفتي الذي يشعر بدون شك يوما بعد يوم بالرعاية تحوطه، ومظاهر التقدير تسنده وتعزز جانبه، لتحفزه هذه المواقف الكريمة منه، وهو في بداية الطريق، فيمضي قدما بإذن الله في أداء رسالته والاضطلاع بالأمانة الثقيلة التي حملها من العالم الإسلامي كله، مستعينا بالله مستمدا منه الآد والتوفيق والهداية إلى أقوم السبيل {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . وهنا نحن بمناسبة عقد هذه الدورة الجديدة لمؤتمركم السنوي نضع بين أيدي حضراتكم العددين الأول والثاني من مجلة مجمع الفقه الإسلامي يكتسي الأول منهما صبغة تاريخية وثائقية فيعرض أولا القرارات التأسيسية للمجمع ويصور وقائع المؤتمر التأسيسي الذي انعقد بمكة المكرمة، وحظي بالرئاسة الفعلية لخادم الحرمين الشريفين صاحب الجلالة الملك المعظم فهد بن عبد العزيز عاهل المملكة العربية السعودية الذي أشرف عليه وتكرم فيه بإلقاء خطابه السامي المنهجي الذي يعتز المجمع به ويعتمده دستورا وخطة عمل لبلوغ العالم الإسلامي أهدافه المنتظر تحقيقها عن طريقه، ثم وقائع المؤتمر الأول لمجلس المجمع الذي انعقد بمكة المكرمة وشهده أعضاء المجمع المنتدبون فيه من طرف دول العالم الإسلامي، كما يتضمن في نهايته صورة دقيقة لأعمال شعبة التخطيط التي اجتمعت بمقر المجمع بجدة إثر انعقاد الدورة الأولي لمؤتمر مجلس المجمع. ويمثل العدد الثاني من المجلة سجلا علميا حافلا يجمع كل ما قدم من بحوث وعرض من دراسات على الدورة الثانية لمؤتمر مجلس المجمع الذي انعقد بمقره بمدينة جدة في العام الماضي، كما يتناول المناقشات الفقهية العميقة التي دارت به والقرارات المجمعية التي صدرت عنه بعد طول مداولة وإنعام النظر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 وقد كان إنجازنا لهذا العمل المادي المعتبر من أعمال المجمع بمطابع رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وإنا لنشكر جزيل الشكر الآذن بطبعه معالي الأمين العام للرابطة الدكتور عبد الله عمر نصيف جازاه الله خير الجزاء عن حسن تعاونه وكريم مساعدته. وفي الفترة ما بين المؤتمرين الماضي والحاضر قام المجمع بنشاطات عدة تجدونها حضراتكم مثبتة بالتقرير العام الذي يوزع عليكم، ومن جملة تلك النشاطات اجتماع ممثلي شعب المجلس الذي تم انعقاده بجدة أوائل شهر رجب الفرد. وإن المعروض على أصحاب السماحة والفضيلة والمعالي والسعادة أعضاء المجمع وخبرائه في هذه الدورة المباركة أحد عشر موضوعا، وصلتنا بشأنها تقارير وبحوث نرجو من الله أن نوفق لدراستها دراسة موضوعية، ونتخذ بشأنها القرارات المجمعية الدقيقة، وهذه الموضوعات والقضايا المطروحة علينا اليوم قسمان: الأول منها فيه مواصلة نظر واستكمال بحث لمسائل وقع عرضها في الدورة الثانية للمجلس، وقد قرر تأجيل البت فيها لهذه الدورة، ومن بين هذه القضايا والموضوعات: استفسارات البنك الإسلامي للتنمية التي احتاجت بعد المؤتمر الماضي إلى عقد اجتماع تمهيدي بمقر المجمع لتفصيلها وضبطها، ثم إلى اجتماع علمي بمقر بنك التنمية الإسلامي بجدة دعا إليه معالي الدكتور أحمد محمد علي، وتفضل رئيس البنك مشكورا بحضور جلساته والإجابة على كل الملاحظات التي تقدم بها الأعضاء ابتغاء تصحيح المسار الشرعي وتعديل بعض مشاريع العقود حرصا من بنك التنمية الإسلامي على الالتزام بقواعد الشريعة الإسلامية وأحكامها في معاملاته مع الأطراف المتعاونة معه. والقسم الثاني من المسائل المطروحة لأول مرة على المجمع في دورته هذه يتناول كما هو مثبت بجدول الأعمال جوانب جديدة من أحكام الزكاة ومصارفها، وقضية تعبدية تتصل بالمناسك، وموضوعين اقتصاديين ماليين جدا في عصرنا الحاضر يقتضيان الدرس والنظر وتحديد الأحكام الشرعية فيهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 وبعد هذا ينكب المجلس بإذن الله على دراسة المشاريع المعروضة عليه من طرف اللجان أو الأعضاء والتي تتعلق بالموسوعة الفقهية في قضايا المعاملات القديمة والجديدة، ومعجم المصطلحات الفقهية، وكتب إحياء التراث، والطرق الكفيلة بتيسير الفقه وتقريبه مثل معلمة القواعد الفقهية ومدونة الأدلة للأحكام الفقهية الشرعية وغيرها. وإن صفوة زكية ونخبة مختارة من فقهاء الإسلام من أطراف العالم تمثل الدول الإسلامية كلها، والمذاهب الفقهية المعتمدة جميعها، تجتمع دوريا وفي كل سنة لدراسة المشاريع العلمية، والعمل على إنجازها، ولاستعراض القضايا المستجدة للإصداع بحكم الله فيها، وتحديد المنهج الشرعي لها، لخير هيئة دولية إسلامية لتجديد الذات على أساس من صحة العقيدة، وللهيمنة على المشاكل بالتزام شريعة الله السمحة، ولتوحيد الصف بين أفراد المجتمع الإسلامي استجابة لمدلول الأمة الواحدة وتحقيقا له، وإنها لثلاثة من ثلاث تكسب العزة وتوجب السيادة وتبرئ مقام الريادة يلهم الله عباده المؤمنين طرق اكتسابها وسبل الحصول عليها في قوله عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} . ولا يستولين اليأس على قلوبنا في زمننا هذا لما نرى عليه المجتمع الإسلامي من انحراف عن الدين، أو ضلال عن الحق، وتقاطع وتدابر بين شعوبه، أو تخلف أو تأخر في مجالات الحياة العلمية الجديدة، فإن للدين ربا يحميه، وللإسلام الخالد مناهج تجديدة تعتمل وسط المجتمع الإسلامي في كل صقع من أصقاعه تبعثه وتحييه وتجدد أسباب السؤدد والعزة فيه، أكد ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبوهريرة من قوله: فيما أعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)) ، وقد تنبه إلى هذا أيضا المجاهدون والمصلحون والمجددون حتى قال الأستاذ الإمام محمد عبده: إن هذه العوارض التي غشيت الدين وصرفت قلوب المسلمين عن رعايته، وإن كان حجابها كثيفا لكن بينها وبين الاعتقادات الصحيحة التي لم يحرموها بالمرة تدافع دائم وتغالب لا ينقطع، والمنازعة بين الحق والباطل كالمدافعة بين المرض وقوة المزاج، وحيث إن الدين الحق هو أول صبغة صبغ الله بها نفوسهم، ولا يزال وميض برقه يلوح في أفئدتهم بين تلك الغيوم العارضة، فلا بد يوما أن يسطع ضياؤه ويقشع سحاب الأغيان، وما دام القرآن يتلى بين المسليمن، وهو كتابهم المنزل وإمامهم الحق، وهو القائم عليهم يأمرهم بحماية حوزتهم والدفاع عن ولايتهم ومغالبة المعتدين وطلب المنعة من كل سبيل، لا يعين لها وجها ولا يخطط لها طريقا، فإننا لا نرتاب في عودتهم إلى مثل نشأتهم ونهوضهم إلى مقاضاة الزمان ما سلب منهم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 ولقد كانت الجماعة الإسلامية التي أنشأها الرسول صلى الله عليه وسلم فئة قليلة من المؤمنين والمستضعفين، تحولت بعد قليل إلى قوم أولى قوة وبأس، وما فتئت بعد ذلك يزداد عدد أفرادها ويتسع جمهورها حتى أصبحت أمة واحدة تشد أواصر الأخوة بين جماعاتها وفئاتها في أطراف المعمورة رابطة العقيدة التي تذوب أمامها كل العلاقات وتنحل عراها، فإذا هي الآصرة الخالدة التي تتميز بها الجماعة الإسلامية، وتتجاوز بها وعن طريقها حدود الأوطان والأقاليم، وتتلاقي وتتمازج في إطارها الأعراق والأجناس، لتقوم بعد ذلك بالوظيفة السامية التي هيئت لها وأقامها على أساسها نبي الرحمة. ولقد صور هذا المعنى الدقيق ونفذ فيه إلى غايته محمد فريد وجدي حين قال: "بعث الله خاتم رسله محمدا لإحداث هذا الحدث العالمي الفذ فأنزل عليه الدين في لقائه الأول خالصا من جميع الشوائب البشرية، وأتم على يديه تأليف أمة مثالية في عشر سنين، وهي الأمة التي أعدها الحق لنشر الدين الحق وإيقاظ العقول في سباتها التقليدي إلى النظر في الوجود، والاستفادة من خصائصها الفطرية للوصول إلى الحقائق الإلهية نقية من كل ما يلابسها من وساوس الظنون وأوهام النفوس. لتحدث في العالم ما أراده الخالق له من نقاء العقيدة وصحة الإيمان، وسلامة الصدور". وقد تولدت عن هذه الرابطة العقدية التي انتظمت في سلكها عناصر أمة التوحيد جملة مقومات، منها العادات والتقاليد المشتركة، والثقافة المميزة الجامعة، والأحوال الاجتماعية المتماثلة، والتاريخ الواحد المتجانس، ووحدة القيم والأسس الأخلاقية والفكرية، ذلك أن المجتمع الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه لم يقم إلا على أساس الاستجابة للرسول الداعي، بالإيمان بالله وحده، وتنزيهه عن الشبيه والنظير وإعلان كلمة الشهادة، والانتظام في سلك الموحدين المؤمنين الذي يشرفهم الله بالحديث عنهم في قوله: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} . وقد جاءت هذه العقيدة المتجسمة في الإيمان بالله وحده وإفراده سبحانه وتعالى بالعبادة الخالصة، آمرة وناهية، بل مقتضية من المسلم جانبا سلوكيا يتعانق مع الإيمان ويجد ما صدقه في العمل الصالح والاستقامة، يدل على ذلك ما رواه مسلم من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: ((قل: آمنت بالله أو ربي الله ثم استقم)) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 والاستقامة التزام النظم التي شرعها الله في تحديد علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بأخيه المسلم وبالناس جميعا، وعلاقته بالكون وبالحياة، وقد جاء القرآن ضابطا لأصول الاستقامة، مبينا لطرق العدل، مقابلا بين العمل الصالح والعمل السيء داعيا إلى الأخذ بما شرعه الله وأمر به ونبذ ما سواه، قال عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} . وقد رتبت أحكام الشريعة التي تضمنها الكتاب الكريم وفصلتها السنة النبوية الشريفة على مقاصد وغايات كانت أساس التحليل والتحريم ومدار الأمر والنهي، وهي صلاح كلها ورحمة كلها، لا يقدر المؤمن على مخالفتها وإن أباح له ذلك ما تواضع الناس عليه من القوانين، ففي الأخذ بالشريعة أخذ بالعدل والحق، وإرضاء لله ولرسوله، وبين الإيمان الصحيح والتزام شرع الله تمام التماسك والترابط في ذهن المسلم، لأن في ذلك طاعة الله الذي آمن به، وامتثالا لحكمه، ورفض الانقياد والاستسلام منه لما شرعه الله وقدره بحكمته يحتاج إلى معالجة العقيدة وإصلاحها، ويقتضي الأوبة إلى الله وتجديد الإيمان. وقد قامت الدراسات والبحوث على بيان حقيقة الشريعة وأحكامها ومقاصدها وأهدافها فلمسنا ما بينها وبين غيرها من الشرائع والقوانين من تفاوت يدل عليه أنها الدين وقد كمل، وأنها النعمة وقد أتمها الله على عباده المؤمنين، وأنها الإسلام وقد ارتضاه رب العزة دينا للعالمين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} . وهكذا امتزجت الشريعة بالعقيدة وارتبطت بها، وكانت هذه أصلا والشريعة لها فرعا، وأدرك المؤمنون أن القطعي فيها الذي لا اجتهاد فيه معدودة مسائله، محدودة قضاياه، وأنها فيما سوى ذلك تخاطب العقل والوجدان والضمير والأخلاق، وتضع الأحكام على النحو الذي يخدم الجماعة ويحقق المصلحة العامة، وكان وما زال من المسلم عند كل مسلم أن الشريعة من الله، وأنها لا تزيغ ولا تحيف، وأنها صالحة لكل زمان ومكان. وقد اهتدى بها المسلمون وجربوها في علاج أوضاعهم الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، فوجودها الأصح والأنجح والأكمل بما فيها من قواعد كلية، وأصول عامة، ونظريات تشريعية، تواكب تطورات الزمان، وتراعي الملابسات والظروف، وتبني أحكامها على العلل والأسباب، وتعتمد القياس والاستحسان والاستصلاح. وتجري في كل الأحوال بما يناسبها من الأخذ بالعزائم مرة، وبالرخص أخرى بحسب طاقات المكلفين وأنواع الضرورات والأعذار، وهي في كل ذلك متسمة باليسر لتحقيق الوسطية، وبلوغ قمة العدالة، مع حفظ كرامة الإنسان والبعد به دائما عن مساوئ الإفراط والتفريط في أداء الواجب واقتضاء الحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 وإذا كان المجمع الفقهي بأعضائه وخبرائه ومجلسه وهيآته قد هيأه الله لتأصيل العقيدة وتصحيحها، وحماية الشريعة وتفصيلها، فإن الدول الإسلامية والمجتمع الإسلامي من ورائها لينتظران منكم أصحاب السماحة والفضيلة في ظل العدالة الإلهية ووفق أصول الشريعة الإسلامية السمحة، ومبادئها الثابتة، وقواعدها المرنة، أن تقربوا الفقه الإسلامي من المجتمعات الإسلامية لتعي أحكامه، وتعرف مسائله وفروعه، وتكون على بصيرة من أمر دينها في كل تصرفاتهم وجميع أحوالها، وإن تحددوا مجمعيا أحكام الشريعة في القضايا المستجدة على وجه يعين الناس على تحقيق معاشهم وطلب مصالحهم من غير أن تتعارض تلك الأحكام مع الأصول الثابتة والدلائل القطعية للشريعة الحكيمة الفاصلة بين الحق والباطل، ولتحرصوا بارك الله جهودكم وأمدكم بعون منه على وضع ما يمكن ويتأكد من التنظيمات والتراتيب والطرق الإجرائية لضمان قيام متطلبات العصر الراهن ومقتضيات الزمن المعاصر مثل المؤسسات الجديدة والشركات المستحدثة وما يجري بها من التصرفات والأعمال وفق أصول الشريعة الإسلامية. وإن تطبيق الشريعة لمطلب شريف وضروري وأمر حتمي تصان به الحقوق، ويستتب به الأمن، ويتحقق به العدل، وهو ممكن ويسير على المؤمنين كافة متى تبين لهم الحلال والحرام، وضبطت لهم الأحكام، وأدركت مقاصد الشارع. وقوي الوازع الديني في النفوس يجنبها الوقوع في محارم الله. وهذا كتاب الله الكريم وهذه سنة نبيه الشريفة معالم على الطريق ينيران لكم السبيل في مهامكم الشاقة وأعمالكم الجليلة. فمرحبا بكم أئمة هداة مهديين، ومرحبا بكم فقهاء مجتهدين، في هذا المؤتمر الفخور باجتماعكم فيه وفي غيره من المؤتمرات واللقاءات: تقربون ما شرد من الأنظار الصحيحة والآراء الصائبة السديدة، وتضعون الحلول للمشاكل المستعصية، وتسلكون بالناس منهجا يقيهم على الصراط المستقيم ويزيدهم تمكنا من الدين القيم الذي انتسبوا إليه مختارين، فيتحد طريق المؤمنين كما عهدنا ذلك في صدر الإسلام، وتجتمع كلمتهم، وتلتقي الأمة الواحدة أمة التوحيد أمة محمد صلى الله عليه وسلم على منهج الله وسبيل المؤمنين متآخية متضامنة متناصرة متعاونة ومستجيبة دعوة الحق سبحانه {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 2 - وقال الله تعالى {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} . جعل الله أخص صفات الأبرار الإحسان، وأن مظهر إحسانهم يتجلى في القيام من الليل، والاستغفار في السحر تعبدًا لله وتقربًا إليه، كما يتجلى في إعطاء الفقير حقه، رحمة وحنوا عليه. 3 – وقال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} . أي أن الجماعة التي يباركها الله ويشملها برحمته، هي الجماعة التي تؤمن بالله، ويتولى بعضها بعضا بالنصر والحب، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتصل ما بينها وبين الله بالصلاة، وتقوي صلاتها ببعضها بإيتاء الزكاة 4 - وقال الله تعالى {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} جعل الله إيتاء الزكاة غاية من غايات التمكين في الأرض. 1- وروى الترمذي عن أبي كبشة الأنماري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه: ما نقص مال من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)) 2- وروى أحمد والترمذي وصححه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يقبل الصدقات ويأحذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه أو فصيله حتى إن اللقمة لتصير مثل جبل أحد)) ، قال وكيع: وتصديق ذلك في كتاب الله قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} 3- وروى أحمد بسند صحيح – عن أنس رضي الله عنه قال: أتى رجل من تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إني ذو مال كثير، وذو أهل ومال وحاضرة فأخبرني كيف أصنع وكيف أنفق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تخرج الزكاة من مالك فإنها طهرة تطهرك، وتصل أقرباءك وتعرف حق المسكين والجار والسائل)) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 4- وروي أيضًا عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث أحلف عليهن، لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، وأسهم الإسلام ثلاثة الصلاة، والصوم، والزكاة، ولا يتولى الله عبدًا في الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة، ولا يحب رجل قوما إلا جعله الله معهم. والرابعة لو حلفت عليها رجوت أن لا آثم لا يستر الله عبدًا في الدنيا إلا ستره يوم القيامة)) . 5- وروى الطبراني في الأوسط، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله: أرأيت إن أدى الرجل زكاة ماله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدى زكاة ماله ذهب عنه شره)) 5- وروى البخاري، ومسلم، عن جابر بن عبد الله قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم. 3- الترهيب من منعها: 1- قال الله تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} . 2- وقال {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . 1 - وروى أحمد والشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم فيجعل صفائح فتكوى بها جنباه وجبهته حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار. وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت تستن عليه كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله أما إلى الجنة وإما إلى النار وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها ليس فيها عقصاء ولا جلحاء كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار قالوا: فالخيل يا رسول الله؟ قال:والخيل في نواصيها)) ، أو قال: ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة)) ، الخيل ثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر، فأما التي هي له أجر فالرجل يتخذها في سبيل الله ويعدها له فلا تغيب شيئا في بطونها إلا كتب الله له أجرا، ولو رعاها في مرج فما أكلت من شي إلا كتب الله له بها أجرا، ولو سقاها من نهر كان له بكل قطرة تغيبها في بطونها أجر حتى ذكر الأجر في أبوالها وأوراثها ولو استنت شرفا أو شرفين كتب له بكل خطوة يخطوها أجر، وأما التي هي له ستر، فالرجل يتخذها تكرما وتجملًا، لا ينسى حق بطونها وظهورها في عسرها ويسرها، وأما التي هي عليه وزر، فالذي يتخذها أشرا وبطرا وبذخا، ورياء الناس فذلك الذي عليه الوزر. قالوا: فالحمر يا رسول الله؟ قال: ما أنزل الله علي فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 2- وروى الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه – يعني شدقيه – ثم يقول: أنا كنزك، أنا مالك)) ثم تلا هذه الآية: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية 3- وروى ابن ماجه، والبزار، والبيهقي – واللفظ له – عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا معشر المهاجرين خصال خمس، إن ابتليتم بهن ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم. ولو ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان. ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدو من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، إلا جعل بأسهم بينهم)) 4- وروى الشيخان عن الأحنف بن قيس قال: جلست إلى ملأ من قريش فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة حتى قام عليهم فسلم ثم قال: بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه فيتزلزل ثم ولى فجلس إلى سارية، وتبعته وجلست إليه وأنا لا أدري من هو – فقلت: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت. قال: إنهم لا يعقلون شيء قال لي خليلي، قلت: من خليلك؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتبصر أحدا؟)) قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار، وأنا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسلني في حاجة له. فقلت: نعم: قال: ((ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير. وإن هؤلاء لا يعقلون، إنما يجمعون الدنيا، لا والله لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله عز وجل)) . حكم مانعها: الزكاة من الفرائض التي أجمعت عليها الأمة واشتهرت شهرة جعلتها من ضروريات الدين بحيث لو أنكر وجوبها أحد خرج عن الإسلام، وقتل كفرا، إلا إذا كان حديث عهد بإسلام فإنه يعذر لجهله بأحكامه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 على من تجب الزكاة؟ تجب الزكاة على المسلم الحر المالك للنصاب، ومن أي نوع من أنواع المال الذي تجب فيه الزكاة. ويشترط في النصاب: 1- أن يكون فاضلا عن الحاجات الضرورية التي لا غنى للمرء عنها، كالمطعم والملبس والمسكن والمركب وآلات الحرفة. 2- وأن يحول عليه الحول الهجري، ويعتبر ابتداؤه من يوم ملك النصاب، ولا بد من كماله في الحول كله، فلو نقص أثناء الحول ثم كمل اعتبر ابتداء الحول من يوم كماله. قال النووي: مذهبنا ومذهب مالك وأحمد والجمهور: أنه يشترط في المال الذي تجب الزكاة في عينه – ويعتبر فيه الحول، كالذهب والفضة والماشية – وجود النصاب في جميع الحول فإن نقص النصاب في لحظة من الحول انقطع الحول. فإن كمل بعد ذلك استؤنف الحول من حين يكمل النصاب. أداؤها وقت الوجوب: يجب إخراج الزكاة فورًا عند وجوبها، ويحرم تأخير أدائها عن وقت الوجوب، إلا إذا لم يتمكن من أدائها فيجوز له التأخير حتى يتمكن. لما رواه أحمد والبخاري عن عقبه بن الحارث قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر. فلما سلم، قام سريعًا فدخل على بعض نسائه. ثم خرج ورأى ما في وجوه القوم من تعاجبهم لسرعته، قال ((ذكرت وأنا في الصلاة تبرا عندنا، فكرهت أن يمسي أو يبيت عندنا فأمرت بقسمته)) . وروى الشافعي، والبخاري في التاريخ عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما خالطت الصدقة مالا قط إلا أهلكته)) رواه الحميدي وزاد، قال: ((يكون قد وجب عليك في مالك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحرام الحلال)) الأموال التي تجب فيها الزكاة: أوجب الإسلام الزكاة في الذهب والفضة، والزرع، والثمار وعروض التجارة، والسوائم والمعدن، والركاز. زكاة النقدين: الذهب والفضة وجوبها: جاء في زكاة الذهب والفضة قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} . والزكاة واجبة فيهما سواء أكان نقودا أم سبائك أم تبرا متى بلغ مقدار المملوك من كل منهما نصابا وحال عليه الحول وكان فارغا عن الدين والحاجات الأصلية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 نصاب الذهب ومقدار الواجب: لا شيء في الذهب حتى يبلغ عشرين دينارا فإذا بلغ عشرين دينارا وحال عليه الحول ففيها ربع العشر أي نصف دينار وما زاد على العشرين دينار يأخذ ربع عشره كذلك فعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس عليك شيء في الذهب – حتى يكون لك عشرون دينارا فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليه الحول ففيها نصف دينار فما زاد فبحساب ذلك وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول)) . رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وصححه البخاري وحسنه الحافظ وعن زريق مولى بني فزارة: أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه – حين استخلف: - خذ ممن مر بك من تجار المسلمين فيما يديرون من أموالهم من كل أربعين دينارا: دينارا واحدا فيما نقص فبحساب ما نقص حتى يبلغ عشرين فإن نقصت ثلث دينار فدعها لا تأخذ منها شيء واكتب لهم براءة بما تأخذ منهم إلى مثلها من الحول. رواه ابن أبي شيبة. قال مالك في الموطأ: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أن الزكاة تجب في عشرين دينارا كما تجب في مائتي درهم. نصاب الفضة ومقدار الواجب: وأما الفضة فلا شيء فيها حتى تبلغ مائتي درهم فإذا بلغت مائتي درهم ففيها ربع العشر وما زاد فبحسابه قل أم كثر فإنه لا عفو في زكاة النقد بعد بلوغ النصاب. فعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قد عفوت لكم عن الخيل والرقيق فآتوا صدقة الرقة الفضة من كل أربعين درهما: درهم وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم)) رواه أصحاب السنن زكاة الزروع والثمار: وجوبها: أوجب الله تعالى زكاة الزروع والثمار فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} والزكاة تسمى نفقة قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال ابن عباس: حقه الزكاة المفروضة. فقد أورد الإمام مالك في موطئه الحديث التالي فيه تحديد لمقادير الزكاة في الثمار فقال: حدثني يحيى عن مالك عن الثقة عنده عن سليمان بن يسار وعن بسر بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر)) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 الأصناف التي كانت تؤخذ منها الزكاة على عهد الرسول: وقد كانت الزكاة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تؤخذ من الحنطة والشعير والتمر والزبيب فعن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن يعلمون الناس أمر دينهم فأمرهم أن لا يأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب. رواه الدارقطني والحاكم والطبراني والبيهقي وقال: رواته ثقات وهو متصل قال ابن المنذر وابن عبد البر: وأجمع العلماء على أن الصدقة واجبة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وجاء في رواية ابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما سن الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والذرة. وفي إسناد هذه الرواية محمد بن عبيد الله العرزمي وهو متروك. الأصناف التي لم تكن تؤخذ منها: ولم تكن تؤخذ الزكاة من الخضروات ولا من غيرها من الفواكه إلا العنب والرطب. نصاب زكاة الزروع والثمار: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الزكاة لا تجب في شيء من الزروع والثمار حتى تبلغ خمسة أوسق. فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)) رواه أحمد والبيهقي بسند جيد. زكاة الحيوان: جاءت الأحاديث الصحيحة مصرحة بإيجاب الزكاة في الإبل والبقر والغنم واجتمعت الأمة على العمل. ويشترط لإيجاب الزكاة فيها: 1- أن تبلغ نصابا. 2- وأن يحول عليه الحول. 3- وأن تكون سائمة أي راعية من الكلأ المباح أكثر العام. والجمهور على اعتبار هذا الشرط ولم يخالف فيه غير مالك والليث فإنهما أوجبا الزكاة في المواشي مطلقًا سواء أكانت سائمة أو معلوفة عاملة أو غير عاملة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 زكاة الإبل: لا شيء في الإبل حتى تبلغ خمسا فإذا بلغت خمسا، وحال عليها الحول ففيها شاة فإذا بلغت عشرا ففيها شاتان وهكذا كلما زادت خمسا زادت شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض (وهي التي لها سنة ودخلت في الثانية) أو ابن لبون (وهو الذي له سنتان ودخل في الثالثة) فإذا بلغت ستة وثلاثين ففيها ابنة لبون وفي ست وأربعين حقة (وهي التي لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة) وفي إحدى وستين حقتان إلى مائة وعشرين فإذا زادت ففي كل أربعين ابنة لبون وفي كل خمسين حقة. زكاة البقرة: وأما البقرة فلا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين فإذا بلغت ثلاثين سائمة وحال عليها الحول ففيها تبيع أو تبيعة (وهو ما له سنة) ولا شيء فيها غير ذلك حتى تبلغ أربعين فإذا بلغت ففيها مسنة (وهي ما لها سنتان) ولا شيء فيها حتى تبلغ ستين فإذا بلغت ستين ففيها تبعان وفي السبعين مسنة وتبيع وفي الثمانين مسنتان وفي التسعين ثلاثة أتباع وفي المائة مسنة وتبيعان وفي العشرة والمائة مسنتان وتبيع وفي العشرين والمائة ثلاثة مسنات أو أربعة أتباع وهكذا ما زاد ففي كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة. زكاة الغنم: لا زكاة في الغنم حتى تبلغ أربعين فإذا بلغت أربعين وحال عليها الحول ففيها شاة إلى مائة وعشرين فإذا بلغت مائة وإحدى وعشرين ففيها شاتان إلى مائتين فإذا بلغت مائتين وواحدة ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة. ويؤخذ الجذع من الضمأن والثني من المعز. هذا ويجوز إخراج الذكور في الزكاة اتفاقًا إذا كان نصاب الغنم كله ذكورا فإن كان إناثا أو ذكورا وإناث جاز إخراج الذكور عند الأحناف وتعينت الأنثى عند غيرهم. مصارف الزكاة تصرف الزكاة للأصناف الثمانية المذكورة في قوله تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وفي تعريف كل واحد من هؤلاء الأصناف وما يتعلق ذلك من الأحكام تفصيل في المذهب 1- الحنفية قالوا: ) الفقير) هو الذي يملك أقل من النصاب أو يملك نصابا غير تام يستغرق حاجته أو يملك نصبا كثيرة غير تامة تستغرق الحاجة فإن ملكها لا يخرجه عن كونه فقيرا يجوز صرف الزكاة له وصرفها للفقير العالم أفضل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 (المسكين) هو الذي لا يملك شيء أصلا فيحتاج إلى المسألة لقوته أو لتحصيل ما يواري به بدنه ويحل له أن يسأل لذلك بخلاف الفقير فإنه لا تحل له المسألة ما دام يملك قوت يومه بعد سترة بدنه. (العامل) هو الذي نصبه الإمام لأخذ الصدقات والعشور فيأخذ بقدر ما عمل. (والرقاب) هم الأرقاء المكاتبون. (والغارم) هو الذي عليه دين ولا يملك نصابا كاملًا بعد دينه والدفع إليه لسداد دينه أفضل من الدفع للفقير. (وفي سبيل الله) هم الفقراء المنقطعون للغزو في سبيل الله على الأصح. (وابن السبيل) هو الغريب المنقطع عن ماله فيجوز صرف الزكاة له بقدر الحاجة فقط والأفضل له أن يستدين. أما (المؤلفة قلوبهم) فإنهم منعوا من الزكاة في خلافة الصديق. ويشترط لصحة أداء الزكاة النية المقارنة لإخراجها أو وجب إخراجه. هذا وللمالك أن يصرف الزكاة لجميع الأصناف المذكورة في الآيات الكريمة أو لبعضهم ولو واحد من أي صنف كان والأفضل أن يقتصر على واحد إلا إذا كان المدفوع أقل من نصاب فإن دفع نصابا كاملا فأكثر أجزأه مع الكراهة. إلا إذا كان استحق الزكاة مدينا فإنه يجوز للمالك أن يسدد له دينه بالزكاة ولو كانت أكثر من نصاب وكذا لو كان ذا عيال فإنه يجوز أن يصرف له من الزكاة أكثر من نصاب لكن بحيث لو وزع على عياله يصيب كل واحد منهم أقل من نصاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 ولا يجوز أن يصرف الزكاة في بناء مسجد أو مدرسة أو في حج أو جهاد أو في إصلاح طرق أو سقاية أو قنطرة أو نحو ذلك أو تكفين ميت وكل ما ليس فيه تمليك لمستحق الزكاة وقد تقدم أن التمليك ركن للزكاة ويجوز صرف الزكاة لمن يملك أقل من النصاب وإن كان صحيحا ذا كسب أما من يملك نصابا من أي مال كان فاضلا عن حاجته الأصلية وهي مسكنه وثيابه وخادمه ومركبه وسلاحه فلا يجوز صرف الزكاة له. ويجوز دفع الزكاة إلى ولد الغني الكبير إذا كان فقيرا أما ولده الصغير فلا يجوز دفع الزكاة له وكذا يجوز دفعها إلى امرأة الغني وهي فقيرة وإلي الأب المعسر إن كان ابنه موسرا ويكره نقل الزكاة من بلد إلى بلد إلا أن ينقلها إلى قرابته أو إلى قوم هم أحوج إليها من أهل بلده ولو نقل إلى غيرهم أجزأه مع الكراهة وإنما يكره النقل إذا أخرجها في حينها أما إذا أعجلها قبل حينها فلا بأس بالنقل. المعتبر في الزكاة مكان المال حتى لو كان المالك في بلد وماله في بلد أخرى تفرق الزكاة في مكان المال وإذا نوى الزكاة بما يعطيه لصبيان أقاربه أو لمن يأتيه ببشارة ونحوها أجزأه وكذا ما يدفعه للفقراء من الرجال والنساء في المواسم والأعياد. ويجوز التصدق على الذمي بغير مال الزكاة ولا تحل لبني هاشم بخلاف صدقات التطوع والوقف. 2 – الحنابلة قالوا: (الفقير) هو من لم يجد شيئا أو لم يجد نصف كفايته. (والمسكين) هو من يجد نصفه أو أكثر فيعطى كل واحد منهما من الزكاة تمام كفايته مع عائلته سنة. (والعامل عليها) هو كل من يحتاج إليه في تحصيل الزكاة فيعطى منها بقدر أجرته ولو غنيا. (والمؤلف) هو السيد المطاع في عشيرته ممن يرجى إسلامه أو يخشى شره أو يرجى قوة إيمانه أو إسلام نظيره من الكفار أو يحتاج إليه في جبايتها ممن لا يعطيها فيعطى منها ما يحصل التأليف. و (الرقاب) هو المكاتب ولو قبل حلول شيء من دين الكتابة ويعطى ما يقضي به دين الكتابة. و (الغارم) قسمان: أحدهما: من استدان للإصلاح بين الناس ثانيهما: من استدان لإصلاح نفسه في أمر مباح أو محرم وتاب ويعطى ما يفي به دينه. و (في سبيل الله) هو الغازي إن لم يكن هناك ديوان ينفق منه عليه ويعطى ما يحتاج إليه من سلاح أو فرس أو طعام أو شراب وما يفي بعودته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 و (ابن السبيل) هو الغريب الذي فرغت منه النفقة في غير بلده في سفر مباح أو محرم وتاب ويعطى ما يبلغه لبلده ولو وجد مقرضا سواء كان غنيا أو فقيرا. ويكفي الدفع لواحد من هذه الأصناف الثمانية، ويجوز أن يدفع الجماعة زكاتهم لواحد كما يجوز للواحد أن يدفع زكاته لجماعة، ولا يجوز إخراج الزكاة بقيمة الواجب، وإنما الواجب إخراج عين ما وجب، ولا يجوز دفع الزكاة للكافر، ولا لرقيق، ولا لغني بمال أو كسب، ولا لمن تلزمه نفقته ما لم يكن عاملا، أو غازيا، أو مكاتبا، أو ابن سبيل، أو غارما لإصلاح ذات بين، ولا يجوز أيضًا أن تدفع الزوجة زكاتها لزوجها، وكذلك العكس، ولا يجوز دفعها لهاشمي فإن دفعها لغير مستحقها جهلا ثم علم عدم استحقاقه لم تجزئه، ويستردها ممن أخذها وإن دفعها لمن يظنه فقيرا أجزأه كما يجزئه تفرقتها للأقارب إن لم تلزمه نفقتهم والأفضل تفرقتها لفقراء بلده ويجوز نقلها لأقل من مسافة القصر من البلد الذي فيه المال. والأفضل تفرقتها جميعا لفقراء بلده ويجوز نقلها لأقل من مسافة القصر من البلد الذي فيه المال. ويحرم نقلها إلى مسافة القصر وتجزئه. 3 – الشافعية قالوا: (الفقير) هو من لا مال له أصلا ولا كسب من حلال أو من له مال أو كسب من حلال يكفيه بأن كان أقل من النصف الكافي ولم يكن له منفق يعطيه ما يكفيه كالزوج بالنسبة لزوجته. والكفاية تعتبر بالنسبة لعمره الغالب وهو اثنان وستون سنة. إلا إذا كان له مال يتجر فيه فيعتبر ربحه في كل يوم على حده فإن كان ربحه في كل يوم أقل من نصف الكفاية في ذلك اليوم فهو فقير وكذا إذا جاوز العمر الغالب فالعبرة بكل يوم على حده فإن كان عنده من المال أو الكسب ما يكفيه في نصف اليوم فهو فقير. و (المسكين) من قدر على مال أو كسب حلال يساوي نصف ما يكفيه في العمر الغالب المتقدم أو أكثر من النصف فلا يمنع من الفقر والمسكنة وجود مسكين لائق به أو وجود ثياب كذلك ولو كانت للتجمل وكذا لا يمنع من وصف المرأة بالفقر والمسكنة وجود حلي لها تحتاج للتزين به عادة وكذا وجود كتب العلم الذي يحتاج لها للمذاكرة أو المراجعة كما أنه إذا كان له كسب من حرام أو مال غائب عنه بمرحلتين أو أكثر أو دين له مؤجل فإن ذلك كله لا يمنعه من الأخذ من الزكاة بوصف الفقر أو المسكنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 و (العامل على الزكاة) هو من له دخل في جمع الزكاة: كالساعي والحافظ والكاتب وإنما يأخذ العامل منه إذا فرقها الإمام ولم يكن له أجرة مقدرة من قبله فيعطى بقدر أجر مثله. و (المؤلفة قلوبهم) هم أربعة أنواع الأول: ضعيف الإيمان الذي أسلم حديثا فيعطى منها ليقوم إسلامه. الثاني: من أسلم وله شرف في قومه ويتوقع بعطائه من الزكاة إسلام غيره من الكفار. الثالث: مسلم قوي الإيمان: يتوقع بعطائه أن يكفينا شر من وراءه من الكفار. الرابع: من يكفينا شر مانع الزكاة. (والرقاب) هو المكاتب يعطى من الزكاة ما يستعين به على أداء نجوم الكتابة ليخلص من الرق وإنما يعطى بشروط: أن تكون كتابته صحيحة وأن يكون مسلما وأن لا يكون عنده وفاء بما عليه من دين الكتابة وأن لا يكون مكتوب لنفس المزكي. (والغارم) هو المدين وأقسامه ثلاثة: الأول: مدين للإصلاح بين المتخاصمين فيعطى منها ولو غني. الثاني: من استدان في مصلحة نفسه ليصرف في مباح أو غير مباح بشرط أن يتوب. والثالث: من عليه دين بسبب ضمان لغيره وكان معسرا هو والمضمون إذا كان الضامن بأذنه فإن تبرع هو بالضمان بدون أذن المضمون يعطى متى أعسر هو ولو أيسر المضمون ويعطى الغارم في القسمين الآخرين ما عجز عنه من الدين بخلاف القسم الأول فيعطى منها ولو غنيا. (وفي سبيل الله) هو المجاهد المتطوع للغزو وليس له نصيب من المخصصات للغزاة في الديوان ويعطى منها ما يحتاج إليه ذهابا وإيابا وإقامة ولو غنيا كما تعطى له نفقة من يمونه وكسوته وقيمة سلاح وفرس ويهيأ له ما يحمل متاعه وزاده إن لم يعتد حملها. (وابن السبيل) هو المسافر من بلد الزكاة أو المار بها فيعطى منها ما يوصله لمقصده أو لماله إن كان له مال بشرط أن يكون محتاجا حين السفر أو المرور وأن لا يكون عاصيا بسفره وأن يكون سفره لغرض صحيح شرعا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 ويشترط في أخذ الزكاة من هذه الأصناف الثمانية زيادة على الشروط الخاصة لكل صنف شروط خمسة. الأول: الإسلام. الثاني: كمال الحرية إلا إذا كان مكاتبا. الثالث: أن لا يكون من بني هاشم ولا بني المطلب ولا عتيق لواحد منهم ولو منع حقه من بيت المال ويستثنى من ذلك الحمال والكيال والحافظ للزكاة فيأخذون منها ولو كفارا أو عبيدا أو من آل البيت لأن ذلك أجره على العمل. الرابع: أن لا تكون نفقته واجبة على المزكي. الخامس: أن يكون القابض للزكاة وهو البالغ العاقل حسن التصرف. ويجب في الزكاة تعميم الأصناف الثمانية إن وجدوا سواء فرقها الإمام أو المالك إلا أن المالك لا يجب عليه التعميم إلا إذا كانت الأصناف محصورة بالبلد ووفى بهم المال وإلا وجب إعطاء ثلاثة أشخاص من كل صنف وإن فقد بعض الأصناف أعطيت للموجود واختار جماعة جواز دفع الزكاة ولو كانت زكاة مال لواحد وتشترط نية الزكاة عند دفعها للإمام أو المستحقين أو عند عزلها ولا يجوز للمالك نقل الزكاة من بلد إلى آخر ولو كان قريب متى وُجد مستحق له في بلدها أما الإمام فيجوز له نقلها. وبلد الزكاة هو المحل الذي تم الحول والمال موجود فيه. وهذا فيما يشترط فيه الحول كالذهب وأما غيره كالزروع فبلد زكاته المحل الذي تعلقت الزكاة به وهو موجود فيه. 4 – المالكيه قالوا: (الفقير) هو من يملك من المال أقل من كفاية العام فيعطى منها ولو ملك نصابا وتجب عليه زكاة هذا النصاب. وليس الفقير من وجبت نفقته على غيره متى كان ذلك الغير غنيا قادرا على دفع النفقة. فلا يجوز أن يعطي الزكاة لوالده الفقير ولو لم ينفق عليه بالفعل لأنه قادر على أخذ نفقته منه برفع الأمر فإنه يجوز أن يصرف الزكاة له. ومتى كانت له حرفه يتحصل منها على ما يكفيه أو له مرتب كذلك فلا يجوز أعطاءه من الزكاة فإن كان المرتب لا يكفيه أعطي من الزكاة بقدر كفايته. (والمسكين) من لا يملك شيئا أصلا فهو أحوج من الفقير. ويشترط في الفقير والمسكين ثلاثة شروط: الحرية والإسلام وأن لا يكون كل منهما من نسل هاشم بن عبد مناف إذا أعطوا ما يكفيهم من بيت المال والأصح إعطاؤهم حتى لا يضر بهم الفقر. وأما بنو المطلب أخي هاشم فليسوا من آل النبي صلى الله عليه وسلم فتحل لهم الزكاة وأما صدقة التطوع فتحل لبني هاشم وغيرهم. (والمؤلفة قلوبهم) هم كفار يعطون منها ترغيبا في الإسلام ولو كانوا من بني هاشم وقيل هم المسلمون حديثو عهد بالإسلام فيعطون منها ليتمكن الإيمان من قلوبهم، وعلى القول الثاني فحكمهم باق لم ينسخ، فيعطون من الزكاة الآن وأما على التفسير الأول ففي بقاء حكمهم وعدمه خلاف. والتحقيق أنه إذا دعت حاجة الإسلام إلى استئلاف الكفار أعطوا من الزكاة وإلا فلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 (والعامل على الزكاة) كالساعي والكاتب، والمفرق والذي يجمع أرباب المواشي لتحصيل الزكاة منهم، ويعطى العامل منها ولو غنيا. لا يستحقها بوصف العمل. لا الفقر، فإن كان فقيرا استحق بالوصفين. ويشترط في أخذه منها أن يكون حرا مسلما غير هاشمي. ويشترط في صحة توليته عليها أن يكون عدلا عارفا بأحكامها فلا يولى كافر، ولا فاسق ولا جاهل بأحكامها وإذا ولَّى السلطان عاملا عبدا، أو هاشميا، نفذت توليته ويعطى الأجرة من بيت المال لا من الزكاة. (وفي الرقاب) الرقبة رقيق مسلم يشترى من الزكاة ويعتق ويكون ولاؤه للمسلمين، فإذا مات ولا وارث له وله مال فهو في بيت مال المسلمين. و (الغارم) هو المدين الذي لا يملك ما يوفي به دينه من الزكاة، ولو بعد موته، وشرطه الحرية والإسلام وكونه غير هاشمي وأن يكون تداينه لغير فساد: كشرب خمر وإلا فلا يعطى منها إلا أن يتوب ويشترط أن يكون الدين لآدمي فإن كان لله: كدين الكفارات فلا يعطى من الزكاة لسداده والمجاهد يعطى من الزكاة إن كان حرا مسلما غير هاشمي ولو غنيا ويلحق به الجاسوس ولو كافرا فشرطه الحرية فقط ويصح أن يُشترى من الزكاة سلاح وخيل للجهاد ولتكن نفقة الخيل من بيت المال. (وابن السبيل) هو الغريب المحتاج لمن يوصله لوطنه فيعطى من الزكاة إن كان حرا مسلما غير هاشمي ولا عاصيا بسفره كقطاع الطريق ومتى استوفى الشروط أخذ ولو غنيا ببلده إن لم يجد من يسلفه ما يوصله إليه وإلا فلا يعطى كمن فقد أحد الشروط. ويجب في الزكاة أن ينوي مخرجها أن هذا القدر المعطى زكاة وتكون النية عند تفريقها إن لم ينو عند العزل، فإن نوى عند عزل مقدار الزكاة أنه زكاة، كفاه ذلك، فإن تركت النية أصلا فلا يعتد بما أخرجه من الزكاة ولا يلزم إعلان الآخذ بأن ما أخذه هو من الزكاة، بل يكره لما فيه من كسر قلب الفقير. ويعين تفرقة الزكاة بموضع الوجوب أو قربه، ولا يجوز نقله إلى مسافة قصر فأكثر، إلا أن يكون أهل ذلك الموضع أشد حوجة أو حاجة من أهل محل الوجوب، فيجب نقل الأكثر لهم، وتفرقه الأقل على أهله، وأجرة نقلها من بيت مال المسلمين، فإن لم يوجد بيت مال بيعت واشترى مثلها بالمحل الذي يراد النقل إليه، أو فرق ثمنها بذلك المحل على حسب المصلحة، وموضع الوجوب هو مكان الزروع والثمار، ولو لم تكن في بلد المالك ومحل المالك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 هذا في العين، وأما الماشية فموضع وجوبها محل وجودها إن كان هناك ساع وإلا فمحل المالك. ولا يجب تعميم الأصناف الثمانية في الإعطاء، بل يجوز دفعها ولو لواحد من صنف واحد، إلا العامل فلا يجوز دفعها كلها إليه إذا كانت زائدة على أجرة عمله. هل يجوز توزيع الزكاة في مشاريع ذات ريع دون تمليك فردي للمستحق؟ يتضح لنا من خلال هذا البحث ومن خلال مختلف آراء الأئمة الأربعة بأن الزكاة لا تصرف إلا إلى الجهات الثمانية التي حددها الكتاب والسنة، وأنه متى ما تم وقت الزكاة فلا بد من أدائها فورا إلى مستحقيها لأن التأخير عن أداء الزكاة يعد مخالفة للشرع حتى إن بعض السادة المالكية أعلنوا بأن تأخير الزكاة عن موعدها كتأخير الصلاة عن وقتها، وأن ذلك يترتب عليه الإثم، لأنه لا مصلحة لتأخير الزكاة والفقراء والمساكين يعانون مآسي الجوع والفاقة، فكيف ترضى نفس مؤمنة بتأخير الزكاة أو التهاون عن أدائها وإخوانهم الفقراء والمساكين بحاجة إليها وعليه فإن توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق لا يمكن أن يتم إلا إذا وجد مستحقو الزكاة حقوقهم وبقدر الكفاية المحددة لهم لأنه لابد أن يعطى الفقير القدر الذي يخرجه من الفقر إلى الغنى ومن الحاجة إلى الكفاية على الدوام، فقد قال: عمر رضي الله عنه: إذا أعطيتم فأغنوا يعني الصدقة. وقال القاضي عبد الوهاب: لم يحد مالك لذلك حدا، فإنه قال: يعطى من له المسكن، والخادم، والدابة الذي لا غنى له عنه، وقد جاء في الحديث ما يدل على أن المسألة تحل للفقير حتى يأخذ ما يقوم بعيشه ويستغني به مدى الحياة. فإذا ما وجد كل ذي حق حقه من أموال الصدقة وفاضت فيمكن بعد ذلك توجيهها إلى مثل هذا المشروع كما حدث في عهد عمر بن عبد العزيز أنه لما أبلغ بفيض أموال الصدقة بعد توزيعها إلى المستحقين أمر بتزويج العزاب من أموال الصدقة. كما أن الإمام مالك أورد في موطأه في باب القراض الحديث التالي: "حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهل، ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى ههنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكما، فتبيعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون الربح لكما، فقالا: وددنا ذلك، ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا فأربحا فلما دفعا ذلك إلى عمر قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه، فأما عبد الله سكت وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي ذلك يا أمير المؤمنين، هذا لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه، فقال عمر: أدياه، فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا، قال عمر: قد جعلته قراضا، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال. إن ذلك يدل على جواز استعمال أموال الله في مشاريع ذات ريع. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق لفضيلة الشيخ آدم شيخ عبد الله علي بسم الله الرحمن الرحيم توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق الله سبحانه وتعالى وزع الصدقات المفروضة فجعلها مصروفة إلى ثمانية أصناف المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} . بيان هذه الأصناف ومذاهب الفقهاء فيها: الصنف الأول والثاني هم الفقراء والمساكين، ولا شك أنهم المحتاجون الذين لا يفي خرجهم بدخلهم، ثم اختلفوا في الفرق بينهما، فقال بعضهم الذي يكون أشد حاجة هو الفقير، وهذا قول الشافعي رحمه الله وأصحابه، وقال آخرون: الذي أشد حاجة هو المسكين، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم، ومن الناس من قال: أنه لا فرق بين الفقراء والمساكين والله وصفهم بهذين الوصفين والمقصود شيء واحد وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله. مقدار سهمهما: اختلف الفقهاء في مقدار ما يعطى الفقير والمسكين من الزكاة، ويمكن حصر خلافهم في اتجاهين كما قاله الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه فقه الزكاة. الاتجاه الأول: إعطاؤهما ما يكفيهما تمام الكفاية بالمعروف دون تحديد مقدار معين من المال. الاتجاه الثاني: إعطاؤهما مقدارًا محددا من المال. وقد انقسم أصحاب الاتجاه الأول إلى مذهبين: 1- مذهب يقول بإعطاء كفاية العمر الغالبة. 2- مذهب يقتصر على إعطاء كفاية السنة. والمذهب الأول: يتجه إلى أن يعطى الفقير ما يكفيه بصفة دائمة، ولا يحوجه إلى الزكاة مرة أخرى، وقال الإمام النووي في المجموع: (المسألة الثانية) في قدر المصروف إلى الفقير والمسكين، وقال أصحابنا العراقيون، وكثير من الخراسانيين: يعطيان ما يخرجهما من الحاجة إلى الغنى، وهو ما تحصل به الكفاية على الدوام، وهذا هو نص الشافعي رحمه الله واستدل له الأصحاب بحديث قبيصة بن المخارق الهلالي رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوى الحجا من قومه: قد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا)) ، رواه مسلم في صحيحه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 قال أصحابنا: فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة حتى ما يسد حاجته فدل على ما ذكرناه ... قالوا فإن كان عادته الاحتراف أعطي ما يشتري به حرفته أو آلات حرفته قلت قيمة ذلك أم كثرت ويكون قدره بحيث يحصل له من ربحه ما يفي بكفايته غالبا تقريبا ويختلف باختلاف الحرف والبلاد والأزمان والأشخاص فإن لم يكون محترفا ولا يحسن صنعة أصلا ولا تجارة ولا شيئا من أنواع المكاسب أعطي كفاية العمر الغالب لأمثاله في بلاده ولا يتقدر بكفاية سنة. ووضح ذلك الشمس الرملي في شرح المنهاج للنووي فذكر أن الفقير والمسكين إن لم يحسن كل منهما كسبا بحرفة ولا تجارة يعطى كفاية ما بقي من عمر الغالب لأمثاله في بلده لأن القصد اغناؤه ولا يحصل إلا بذلك فإن زاد عمره عليه أعطي سنة بسنة وليس المراد بإعطائة من لا يحسن الكسب إعطاءه نقدا يكفية تلك المدة بل ما يكفيه دخله منه فيشترى له به عقارا يستغله ويغتني به عن الزكاة فيملكه ويورث عنه. قال: والأقرب كما بحثه الزركشي أن للإمام دون المالك شراءه له وله إلزامه بالشراء وعدم إخراجه عن ملكه وحينئذ ليس له إخراجه فلا يحل ولا يصح فيما يظهر ولو ملك هذا دون كفاية العمر الغالب كمل له من الزكاة كفايته كما بحثه السبكي قال الماوردي: لو كان معه تسعون ولا يكفيه إلا مائة أعطي العشرة الأخرى وهذا كله فيمن لا يحسن الكسب أما من يحسن حرفة لائقة تكفية فيعطى ثمن آلة حرفته وإن كثرت ومن يحسن تجارة يعطى رأس مال يكفيه ربحه غالبا باعتبار عادة بلده ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والنواحي " أهـ نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لشمس الدين الرملي م6 ص 159 وهذا ما نصه الشافعي في الأم وما رجحه وأخذ به أصحابه. وفي مذهب الإمام أحمد رواية تماثل ما نص عليه الشافعي فأجاز للفقير أن يأخذ تمام كفايته دائما بمتجر أو آلة صنعة أو نحو ذلك وقد اختار هذه الرواية بعض الحنابلة ورجحوا العمل بها وهذا يوافق ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه" إذا أعطيتم فاغنوا " وقال للموظفين الذين كانوا يعملون في توزيع الصدقات على المستحقين " كرروا عليهم الصدقة وإن راح أحدهم على مائة من الإبل ". ويقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه فقه الزكاة وتستطيع الدولة المسلمة بناء على هذا الرأي أن تنشئ من أموال الزكاة مصانع وعقارات ومؤسسات تجارية ونحوها وتملكها للفقراء كلها أو بعضها لتدر عليهم دخلا يقوم بكفايتهم ولا تجعل لهم الحق في بيعها ونقل ملكيتها لتظل شبه موقوفه عليهم. وهذا استنتاج قوي واضح وأما إنشاء الدولة المسلمة من أموال الزكاة ذلك المذكور من المصانع والعقارات ونحوها ثم تجعل الفقراء موظفين في تلك المشاريع وإعطائهم أجرة عملهم كراتب شهري من غلات هذه المشاريع من أموال الزكاة بدون تمليكهم فهذا بعيد عما فهمه الفقهاء من نظام توزيع الزكاة وخاصة سهم الفقراء والمساكين الذي يجب تمليكه لهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 المذهب الثاني: يعطي كفاية سنة وقال المالكية وجمهور الحنابلة وآخرون من الفقهاء: فيعطى الفقير والمسكين من الزكاة ما تتم به الكفاية لنفسه ولمن يعوله سنة كاملة ولم ير أصحاب هذا المذهب ضرورة لإعطائه كفاية العمر الغالب كما لم يروا أن يعطى أقل من كفاية سنة وإنما حددوا الكفاية بسنة لأنها في العادة أوسط ما يطلبه الفرد من ضمان العيش له ولأهله قوت سنة ولأن أموال الزكاة في غالبها حولية وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر لأهله قوت سنة فلا داعي لإعطاء كفاية العمر وفي كل عام تأتي حصيلة جديدة من موارد الزكاة ينفق منها على المستحقين. ويري القائلون بهذا المذهب أن كفاية السنة ليس لها حد معلوم لا تتعداه من الدراهم أو الدنانير بل يصرف للمستحق كفاية سنة بالغة ما بلغت فإذا كانت كفاية السنة لاتتم إلا بإعطاء الفقير الواحد أكثر من نصاب من نقد أو حرث أو ماشية أعطي من الزكاة ذلك القدر وإن صار به غنيا لأنه كان فقيرا مستحقا حين الدفع إليه. ويقول الدكتور يوسف القرضاوي في ترجيح أحد المذهبين: والذي اختاره أن لكل من المذهبين مجاله الذي يعمل به فيه ذلك أن الفقراء والمساكين نوعان: نوع يستطيع أن يعمل ويكسب ويكفي نفسه بنفسه كالصانع والتاجر والزارع ولكن ينقصه أدوات الصنعة أو رأس مال التجارة أو الضيعة وآلات الحرث والسقي فالواجب في مثل هذا أن يعطى من الزكاة ما يمكنه من اكتساب كفاية العمر وعدم الاحتياج إلى الزكاة مرة أخرى بشراء ما يلزمه لمزاولة حرفته وتملكه إياه استقلالا أو اشتراكا على قدر ما تسمح حصيلة الزكاة والنوع الآخر عاجز عن الكسب كالزمن والأعمى والشيخ الهرم والأرملة والطفل ونحوهم فهؤلاء لا بأس أن يعطى الواحد منهم كفاية سنة أو يعطى راتبا دوريا يتقاضاه كل عام بل ينبغي أن يوزع على أشهر العام إن خيف من المستحق الإسراف وبعثرة المال في غير حاجة ماسة وهذا هو المتبع في عصرنا فالرواتب تعطى شهرا بشهر وكذلك المساعدات الدورية. اهـ من فقه الزكاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 الصنف الثالث: العاملون عليها: وهم السعاة لجباية الصدقة ويدخل فيهم الحاشر والعريف والحاسب والكاتب والقاسم وحافظ المال ويقصد بهم كل من يعمل في الجهاز الإداري لشؤون الزكاة من تحصيلها وحفظها وتوزيعها على المستحقين لها ويعطى العامل عند أبي حنيفه ومالك ما يكفية ويكفي معاونيه بالوسط مدة ذهابهم وإيابهم ما دام المال باقيا. وعند الشافعية يعطون من سهم العاملين وهو الثمن قدر أجرة عملهم فإن زادت أجرتهم على سهمهم تمم لهم وقيل من سائر السهام وقيل من بيت المال وهذا أيضا قول عبد الله بن عمر وابن زيد وقال مجاهد وإسحاق يعطون ثمن الصدقات وقال الأكثرون حق العامل بقدر مؤنته عند الجباية والجمع ويسقط سهم العامل إذا أدى الزكاة صاحب المال إلى الإمام أو إلى الفقراء مباشرة ويشترط في العامل الإسلام والتكليف والعلم بأحكام الزكاة والقدرة على العمل. الصنف الرابع" وفي الرقاب " فيه حذف كما قاله الزجاج وتقديره وفي فك الرقاب واختلف العلماء في تفسير الرقاب على ثلاثة مذاهب وهي كالآتي: - 1 - مذهب الشافعي والليث بن سعد أن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين ليعتقوا به. 2 - مذهب الإمام مالك وأحمد وأصحابه أنه موضوع لتعتيق الرقاب يشترى به عبيد فيعتقون. 3 - مذهب أبي حنيفة وأصحابه وسعيد بن جبير والنخعي أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب. ويقول الزهري: سهم الرقاب نصفان، نصف للمكاتبين من المسلمين ونصف يشترى به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون من الزكاة. أدلة المذاهب. وحجة الشافعي وموافقوه: أن قوله تعالى " وفي الرقاب" " وفي سبيل الله " وهناك يجب الدفع إلى المجاهدين فكذا هنا يجب الدفع إلى الرقاب ولا يمكن الدفع إلى الشخص الذي يراد فك رقبته إلا إذا كان مكاتبا ولو اشترى سهم الرقاب عبيد لم يكن الدفع إليهم وإنما هو دفع إلى سادتهم وانتفاعهم بالعتق ليس تمليكا لأن العتق إسقاط واحتجوا أيضا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "وفي الرقاب" يريد المكاتبين وتأكد هذا بقوله تعالى " وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ" وحجة المالكية وموافقوهم أن الرقاب جمع رقبة وكل موضع ذكرت فيه الرقبة فالمراد عتقها والعتق لا يكون إلا في القن كما في المكفارات فلا بد من عتق رقبة كاملة ولأنه لو اختصت بالمكاتب لدخل في حكم الغارمين لظنه غارم ولأنه شراء الرقبة لتعتق أولى من إعانة المكاتب لأنه قد يعان ولا يعتق لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ولأن شراء العبيد متيسر في كل وقت بخلاف الكتابة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 وحديث البراء يدل على أن فك الرقاب غير عتقها ونص هذا الحديث عن البراء بن عازب قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يقربني إلى الجنة ويبعدني عن النار فقال: ((اعتق النسمة وفك الرقبة)) قال: يا رسول الله، أوليسا واحدا؟ قال: ((لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها)) ورواه أحمد والدارقطني وقال في مجمع الزوائد رجاله ثقات وروي عن ابن عباس أنه قال: لا بأس أن يعتق من زكاة ماله ذكره عنه أحمد والبخاري. وحجة الحنفية: أن قوله تعالى " وفي الرقاب يقتضي أن يكون للمزكي مدخل في عتق الرقبة وذلك ينافي كونه تاما فيه والقول المختارالجمع بينهما كما قال الزهري. ومن العلماء من قال: يفك الأسارى من سهم الرقاب بحجة أن فداء المسلم تخليصه من أيدي الكفار أولي من عتق مسلم تملكه يد مسلمة. وقال الشافعي وأصحابه: يجوز صرف الزكاة إلى المكاتب بغير إذن سيده ويجوز صرفها إلى سيده بإذن المكاتب ولا يجوز الصرف إلى السيد بغير إذن المكاتب والأولى صرفها للسيد بإذن المكاتب لأن الله تعالى أضاف الصدقات للأصناف الأربعة الأولى باللام ولما ذكر الرقاب أبدل حرف اللام بحرف " في فقال " وفي الرقاب " فلا بد لهذا العدول من فائدة وهي أن الأصناف الأربعة الأولي يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات على أنه ملك لهم يتصرفون فيه كما شاءوا وأما المكاتبون فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم من الرق فكان الدفع إلى السداد محققا للغرض فصرف إلى الجهة التي من أجلها استحق المكاتبون سهم الزكاة وكذلك القول في الغارمين يصرف سهمهم إلى قضاء ديونهم وفي الغزاة يصرف سهمهم إلى إعداد ما يحتاجون إليه في الغزو وابن سبيل الله كذلك يدفع سهمهم إلى إعداد ما يعينهم في بلوغ مقصدهم فيصرف المال إلى الأصناف الأربعة الأولى حتى يتصرفوا فيه كيف يشاءون وفي الأربعة الأخيرة إلى جهات الحاجات المعتبرة والصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة. والصنف الخامس هو (والمؤلفة قلوبهم) : وهذا الصنف من مصاريف الزكاة ليس من شأن الأفراد في العادة الغالبة وإنما هو من شأن الدولة أو أهل الحل والعقد في الأمة فهم الذين يستطيعون إثبات الحاجة إلى تأليف القلوب أو نفيها. وقال الإمام الشافعي: المؤلفة قلوبهم من دخل في الإسلام ولا يعطى من الصدقة مشرك ليتألف على الإسلام وإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم بعض المشركين من المؤلفة يوم حنين كان ذلك العطاء من الفيء ومن مال النبي صلى الله عليه وسلم خاصة واستدل الشافعي على ذلك بأن الله جعل الصدقات من المسلمين مردودة فيهم لا على من خالف دينهم ويشير إلى حديث معاذ وما في معناه ((تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم)) ونقل الرازي في تفسيره جـ16 ص 111 عن الواحدي قال: إن الله أغنى المسلمين عن تأليف قلوب المشركين فإذا رأى الإمام أن يؤلف قلوب قوم لبعض المصالح التي يعود نفعها إلى المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز ذلك إذ لا يجوز صرف شيء من زكوات الأموال إلى المشركين فإنما يعطون من مال الفيء لا من الصدقات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وذكر النووي عن الشافعي: أن الكفار إن جاز تأليفهم فإنما يعطون من المصالح من الفيء ونحوه لا من الزكاة لأن الزكاة لا حق فيها للكفار عنده. واختلف في سقوط سهم المؤلفة قلوبهم بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أحمد وأصحابه إلى أن حكم المؤلفة قلوبهم باق لم يلحقه نسخ ولا تبديل وبهذا قال الزهري وأبو جعفر الباقر. وعند الشافعية قولان في إعطائهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم: الأول: لا يعطون لأن الله أعز الإسلام فأغنى عن التأليف بالمال. والثاني: يعطون لأن المعني الذي أعطوه به قد يوجد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وفي مذهب المالكية قولان: الأول: بانقطاع سهم المؤلفة قلوبهم بعز الإسلام وظهوره. والثاني: ببقائه. وقال جمهور الحنفية: انتسخ سهم المؤلفة قلوبهم وذهب ولم يعطوا شيئا بعد النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعطى الآن. الصنف السادس (والغارمين) والمراد بالغارمين المدينون فإن حصل الدين بمعصية لا يدخل في الآية لأن المقصود من صرف مال الزكاة الإعانة ولا إعانة في المعصية أما إذا حصل الدين بدون معصية فهو قسمان: دين حصل بسبب نفقات ضرورية ودين حصل بسبب حمالات وإصلاح ذات البين والكل داخل في الآية وروى الأصم في تفسيره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى بالغرة في الجنين قالت العاقلة لا نملك الغرة يا رسول الله فقال لحمد بن مالك النابغة أعنهم بغرة من صدقاتهم وكان محمد على الصدقة يومئذ. الصنف السابع (وفي سبيل الله) : والسبيل هو الطريق وسبيل الله هو الطريق الاعتقادي والعملي الموصل إلى مرضاة الله ومثوبته وقد جاء في القرآن ذكر الهجرة في سبيل الله والضرب في الأرض من سبيل الله والإنفاق في سبيل الله هو طريق البر عامة ولكن اختلف الفقهاء في معنى المراد من قوله تعالى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} فعند الحنفية قولان في معنى المراد من ذلك وهما: 1 - الغزاة الفقراء. 2 - الحجاج الفقراء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 وفي كتاب تبيين الحقائق للزيلعي الحنفي شرح كتاب الدقاق مع حاشية الإمام الشلبي على هذا الشرح م1 ص 298 ما نصه: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} منقطع الغزاة عند أبي يوسف أي الفقراء منهم وعند محمد منقطع الحجاج وهم الفقراء لما روي أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل عليه الحجاج قلنا: الطاعات كلها سبيل الله ولكن عند الإطلاق يفهم منه الغزاة ولا يصرف إلى غيرهم وإنما إفراده بالذكر مع دخوله في الفقراء والمساكين لزيادة حاجته وهو الفقر والانقطاع وفي الوبري هم الحجاج والغزاة المنقطعون عن أموالهم وليس معهم شيء وقال ابن المنذر في الإشراف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد: {سَبِيلِ اللَّهِ} هو الغازي دون الحجاج وفي الغزنوي وفي سبيل الله منقطع الغزاة وعن محمد منقطع الحاج فهذا يدل على أن ذلك رواية محمد خلاف ما ذكر الجماعة ولهذا فالأصح عند الحنفية هو القول الأول. وقال الشافعي والمالكية والحنفية في الرواية الأولي يصرف سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة إلى الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان وهم الغزاة إذا نشطوا غزوا وانفرد أبو حنيفة باشتراط الفقر في المجاهد. وقال أحمد رحمه الله في أصح الروايتين عنه يجوز صرفه إلى مريد الحج وروي مثله عن ابن عمر وفي كتاب المقنع من أشهر كتب الحنابلة في عد الأصناف ما نصه: السابع {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم ولا يعطى منها في الحج وعنه أن الإمام أحمد يعطى الفقير قدر ما يحج به الفرض. وحجة الجمهور (الشافعية والمالكية والحنفية على أصح القولين عندهم) أن المفهوم المتبادر في معنى (سبيل الله) في الآية هو الغزو وكثيرا ما جاء في القرآن كذلك وأن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يدل على ذلك وهو ما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تحل الصدقة لغني إلا خمسة: لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل جار مسكين فأهدى المسكين إليه فإنه ذكر في الحديث ممن تحل الصدقة الغازي وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة إلا الذين نعطيهم في سبيل الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 وحجة الإمام أحمد ما روي عنه بحديث أبي داود عن ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله، وأنها سألتني الحج معك فقالت: احججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما عندي ما أحملك عليه قالت: احججني على جملك فلان فقلت ذلك حبيس في سبيل الله فقال أما إنك لو حججتها عليه كان في سبيل الله. وأجاب الجمهور بأن الحج يسمى سبيل الله ولكن الآية محمولة على الغزو لما ذكرناه. وفسر بعض الحنيفة سبيل الله بطلب العلم كما فسره في البدائع بجميع القرب فيدخل فيه جميع وجوه الخير مثل تكفين الموتى وبناء القناطر والحصون وعمارة المساجد. وفي تفسير المنار يجوز الصرف من هذا السهم على تأمين طرق الحج وتوفير المياه والغذاء وأسباب الصحة للحجاج إن لم يوجد له صرف آخر وترى أنه قيد بهذا القيد " إن لم يوجد له صرف آخر ولم يجوز مطلقا بل للضرورة فقط وكذلك يصرف من هذا السهم على الاستعداد للحرب بشراء السلاح وأغذية الجند وأدوات النقل وتجهيز الغزاة ولكن الذي يجهز به الغازي يعود بعد الحرب إلى بيت المال إن كان مما يبقى كالسلاح والخيل وغير ذلك لأنه لا يملكه دائما بصفة الغزو التي قامت به بل يستعمله في سبيل الله ويبقى بعد زوال تلك الصفة منه في سبيل الله بخلاف الفقير والعامل والغارم والمؤلفة قلوبهم وابن السبيل فإنهم لا يردون ما أخذوا ويدخل عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية لا التجارية والبواخر المدرعة والمناطد والطائرات الحربية والحصون والخنادق وإعداد الدعاة إلى الإسلام وإرسالهم في بلاد الكفر من قبل جمعيات منظمة تمدهم بالمال كما يفعله الكفار في نشر دينهم والمدارس الشرعية ومعلميها. وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في أحكام القرآن قوله {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال مالك سبيل الله كثير ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله ههنا الغزو من جملة سبيل الله ... إلا ما يؤثر عن أحمد وإسحاق فإنهما قالا: إنه الحج. والذي يصح عندي من قولهما أن الحج من جملة السبيل مع الغزو لأنه طريق بر فأعطي منه باسم السبيل وما جاء قط بإعطاء الزكاة في الحج أثر فقد قال علماؤنا: ويعطى منها الفقير بغير خلاف لأنه قد سمي في الآية ويعطى الغني عند مالك بوصف سبيل الله وإن كان غنيا في بلده أو في موضعه الذي يأخذ به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 وفي كتاب مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج شرح للشيخ محمد الخطيب الشربيني على متن منهاج الطالبين للنووي م3 ص 111 ما نصه وسبيل الله غزاة ذكور لا فيء لهم أي لا سهم في ديوان المرتزقة بل يتطوعون بالغزو حيث نشطوا له وهم مشتغلون بالحرف والصنائع فيعطون من الزكاة مع الغنى لعموم الآية وإعانة لهم على الغزو بخلاف من لهم الفيء وهم المرتزقة الثابت أسماؤهم في الديوان فلا يعطون من الزكاة ولو عدم الفيء في الأظهر قال ابن عباس رضي الله عنهما " كان أهل الفيء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعزل عن أهل الصدقات وأهل الصدقات بمعزل عن أهل الفيء" ولأنهم أخذوا بدل جهادهم من الفيء فلو أخذوا من الزكاة أخذوا بدلين عن بدل واحد وذلك ممتنع ولكل ضرب منهما أن ينتقل إلى الضرب الآخر وأنا أفسر سبيل الله بالغزاة لأن استعماله في الجهاد أغلب عرفا وشرعا بدليل قوله تعالى في غير موضع {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فحمل الإطلاق عليه وإن كان سبيل الله بالوضع هو الطريق الموصلة إليه هو أعلم ولعله اختص بالجهاد لأنه طريق إلى الشهادة الموصلة إلى الله تعالى فهو أحق بإطلاق سبيل الله عليه. وفي كتاب المجموع للنووي م6 ص103 ما نصه " فلو أراد الإمام أن يشتري ذلك بمال الزكاة ويسلمه إلى الغازي بغير إذنه هل يجوز؟ فيه وجهان أحدهما: لا يجوز بل يتعين تسليم مال الزكاة إلى الغازي أو إذنه وبه قطع جماعة من العراقيين وهو ظاهر عبارة آخرين منهما وأصحهما يجوز وهو الذي صححه الخراسانيون وتابعهم الرافعي على تصحيحه وقطع به جماعة منهم قال الخراسانيون: الإمام بالخيار إن شاء سلم الفرس والسلاح والآلات إلى الغازي أو ثمن ذلك تمليكا له فيملكه وإن شاء استأجر ذلك له وإن شاء اشترى من سهم سبيل الله سبحانه وتعالى أفراسا وآلات الحرب وجعلها وقفا في سبيل الله ويعطيهم عند الحاجة ما يحتاجون إليه ثم يردونه إذا انقضت حاجتهم وتختلف المصلحة في ذلك بحسب قلة المال وكثرته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 وفي نفس المجلد من المجموع ص188 ما نصه " وينبغي للإمام وللساعي إذا فوض إليه تفريق الزكوات أن يعتني بقسط المستحقين ومعرفة أعدادهم وقدر حاجاتهم واستحقاقاهم بحيث يقع الفراغ من جميع الزكوات بعد معرفة ذلك معه ليتعجل وصول حقوقهم إليهم وليأمن من هلاك المال عنده". وندرك مما ذكر أن المذاهب الأربعة قد اتفقت على دخول الجهاد في سبيل الله ومشروعية الصرف من الزكاة لأشخاص المجاهدين وعدم جواز صرف الزكاة في جهات الإصلاح العام من بناء السدود والقناطر وإنشاء المساجد والمدارس وإصلاح الطريق وتكفين الموتى ونحو ذلك وإنما عبء ذلك على موارد بيت المال الأخرى وذلك لعدم التمليك فيها أو لخروجها عن المصارف الثمانية. وفي كتاب التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي م15 في شرح {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} {إنما} تفيد الحصر ومما يدل على أن الصدقات لا تصرف إلا لهذه الأصناف الثمانية أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل: ((إن كنت من الأصناف الثمانية فلك فيها حق وإلا فهو صداع في الرأس وداء في البطن قال)) في آخر الآية {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} منصوب على التأكد لأن قوله تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} لهؤلاء جار مجري قوله فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة وذلك كالزجر عن مخالفة هذا الظاهر وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله تعالى لم يرض بقسمة الزكاة أن يتولاها ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه " والمقصود من هذا التأكيدات تحريم الزكاة عن هذه الأصناف. أهـ. الصنف الثامن (وابن السبيل) والمراد من ابن السبيل المسافر المنقطع عن بلده وماله فيعطى من الزكاة ما يعينه إلى بلوغ غرض وإن كان غنيا في بلده نظرا لما يلحقه في سفره وانقطاعه من الحاجة والعوز. وفي فتح الباري م3 ص 366 في باب استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل بعد ذكر إيراد حديث ": أن ناسا من عرينة اجتووا المدينة فرخص لهم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها" فغاية ما يفهم من حديث الباب أن للإمام أن يخص بمنفعة مال الزكاة دون الرقبة صنفا دون صنف بحسب الاحتياج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 الخلاصة. اتفق الفقهاء على أنه لايجوز صرف الصدقات المفروضة إلا على الأصناف الثمانية المذكورة في الآية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} إلخ من سورة التوبة وقد اختلفوا في المقدار المصروف على الفقراء والمساكين على ثلاثة أقوال: 1 - قدر كفايتهم لعمر الغالب. 2 - قدر كفايتهم في السنة 3 - أقل من قدر كفايتهم. وللدولة المسلمة أن تنشئ من سهم الفقراء والمساكين مشاريع ومصانع وعقارات ونحوها من المشاريع الإنمائية ثم تمليك تلك المشاريع للفقراء والمساكين لتدر لهم دخلا يقوم بكفايتهم كاملة وأما إنشاء تلك المشاريع من أموال الزكاة ثم جعل الفقراء والمساكين كموظفين فيها وإعطاء أجرة عملهم أو كفايتهم إن كانوا قادرين على العمل وإعطاءهم راتبا شهريا من غلات هذه المشاريع إن كانوا عاجزين عن العمل بدون تمليك تلك المشاريع لهم، فهذا بعيد عما فهمه الفقهاء من نظام توزيع سهم الفقراء والمساكين عليهم تمليكا لهم. 2 - حق العامل عند الأكثرين يقدر بمؤنته ويسقط إذا كان صاحب المال يؤدي الزكاة من ماله إلى الإمام أو إلى المستحقين مباشرة. 3 - وصف المؤلفة قلوبهم ليس من شأن الأفراد، وإنما هو من شأن الدولة الإسلامية أو أهل الحل والعقل وهم الذين يستطيعون إثبات الحاجة إلى تأليف القلوب أو نفيها. 4 - والمراد من المدينون المديونون بشرط عدم حصولها بالمعصية. 5 - وأما سبيل الله فقد اتفق الجمهور بأنه يصرف سهمه على الغزاة المتطوعين ومصالح الجهاد من آلات الحرب وغيره. والدولة هي التي ينبغي أن تنظر فيما يحتاجه من آلات الحرب وفيما تسترده منه بعد انقضاء الحاجة. وقال بعض الفقهاء: يصرف سهم سبيل الله إلى الحجاج والمعتمرين من الفقراء وقد توسع بعضهم في سهم سبيل الله حتى أجاز صرفه في كل قربة من إنشاء المساجد، وإصلاح الطرق وتكفين الموتى وغير ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 الاستنتاج ومما ذكر يتضح لنا بأن توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع دون تمليك فردي للمستحق بمعنى استرباح أموال الزكاة عن طريق إقامة مشاريع استنمائها غير جائز للأسباب التالية: 1 - أن هذه الأعمال تعرض المال للفائدة والخسارة فربما يترتب عليها ضياع أموال الزكاة. 2 - أن توظيف أموال الزكاة في أي من المشاريع الإنمائية يؤدي إلى انتظار الفائدة المترتبه عليها وهذا قد يأخذ وقتا طويلا فيكون سبب لتأخير تسليم أموال الزكاة لمستحقيها بدون دليل شرعي مع أن المطلوب التعجل في أداء حقوقهم كما قاله النووي في الروضة. 3 - أن أموال الزكاة أمانة في أيدي المسئولين عنها حتى يسلموها إلى أهلها وشأن الأمانة الحفظ فقط، إن تصرف الإمام أو الساعي في أموال الزكاة بدون تمليك المستحقين لها أو صرفها عليهم فغير جائز إلا في المنافع التي لا تزول أعيانها كالركوب مثلا وشرب ألبانها وما شاكل ذلك. 4 - فإذا اقتضت الحاجة من إنشاء المشاريع حربية وتصنيع الطائرات والدبابات والمدافع والصواريخ ونحوها من سهم سبيل الله فإنه يجوز للإمام أو من يقوم مقامه أن يجعل هذه المشاريع كالوقف على مصالح الجهاد وله الخيار فيما يسترده من الغازي بعد انقضاء الحاجة منه وما لا يسترده منه ويعطيه تمليكا به باعتبار المصلحة العامة كما نفهم من عبارة النووي في المجموع التي ذكرتها في معرض هذا البحث. هذا وبالله التوفيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع دون تمليك فردي للمستحق لفضيلة الشيخ حسن عبد الله الأمين بسم الله الرحمن الرحيم توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع دون تمليك فردي للمستحق 1- من مباحث الزكاة التي تشغل بال المشتغلين ببحث ودراسة الجوانب المختلفة لهذه الشعيرة والفريضة العظيمة من فرائض الإسلام التوزيع أو التصرف فيها في وجوه الاستحقاق، ولقد حدد القرآن الكريم بصورة قاطعة هذه الوجوه والجهات التي تستحق الزكاة في قوله تعالى في سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} ، ولم يعد هنالك إمكانية لزيادة بند آخر أو مجال للاجتهاد في هذا الصدد. 2- ولكن كيفية التوزيع أو التصرف في الزكاة على هذه الوجوه المحددة للمستحقين كانت مجال نظر واجتهاد للفقهاء، فذهب بعضهم إلى لزوم توزيعها على الأصناف الثمانية، ولا يصح صرفها عندهم على بعض المستحقين دون البعض الآخر. وذهب جمهور الفقهاء إلى صحة صرفها على بعض هذه الأصناف من المستحقين لأهميتهم حسب تقدير ولي الأمر. على المستوى الفردي 3- وفي ترتيب أولويات التوزيع جميعهم متفقون على البدء برفع حاجة الفقير والمسكين ولكنهم اختلفوا في المدى الذي ترفع به هذه الحاجة هل هو ما يكفي لمدة يوم واحد أو أسبوع، أو شهر أو سنة أو ماذا؟ أغلبهم ذهب إلى إعطاء الفقير أو المسكين ما يكفيه لمدة عام، سواء أكانت الزكاة نقدا أو عينا. بل ذهب بعضهم إلى إعطائه ما يغنيه العمر كله، ورأى آخرون أن يعطى ما يشتري به الآلة أو أداة عمله، أو صنعته بحيث يستغني بذلك مستقبلا عن الحاجة للزكاة، مهما بلغ ثمن ذلك الشيء، ولكن هذا كله على مستوى الفرد الفقير والمسكين أو على مستوى الأسرة الواحدة، ممثلة في شخص عائلها الذي توفر له هذه الإمكانيات من أموال الزكاة، وهذا كله في إطار الأصناف الثمانية الذين نصت عليهم آيات القرآن الكريم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 على المستوى الجماعي أما استغلال أموال الزكاة وتوظيفها في أدوات إنتاج أو مشاريع ذات ريع لمصلحة مجموع الفقراء والمساكين دون تملك فردي للمستحق فلم يسبق أن طرح على بساط البحث الفقهي – فيما نعلم – لدى الفقهاء القدامي، وإنما طرق هذا الموضوع فكريا في عصرنا الحاضر في عهد المؤسسات والشركات والمشاريع الجماعية فقيل: لماذا لا تنشأ بأموال الزكاة مشاريع إنتاجية للفقراء عموما ينتفعون بريع عائداتها دون أن يكون هنالك تملك فردي لأعيانها؟ حيث يمثل ذلك تأمينا دائما للفقير والمسكين بدلا من أن تعطى لهم أموال الزكاة نقدا أو عينا فينفقونها ويستهلكونها أولا بأول؟ وتظل حالهم على ما هي عليه من الفقر والحاجة، وربما لا توجد أموال زكوية تلبي حاجة الفقير والمسكين في وقتها على الدوام. وهذه المنشآت والمشاريع المقترحة قد يكون فيها من المنافع ما يشمل ويعم مع الفقراء والمساكين بعض الأغنياء أو أعداداً كثيرة منهم، كما إذا كانت هذه المنشآت مستشفيات أو مدارس أو غيرها مما يعم نفعه، فكيف يكون ذلك، وأصل هذه المنشآت من أموال الزكاة وهؤلاء الأغنياء ليسوا من أصحابها أو مصارفها الشرعية؟ والإجابة على ذلك أن الغني حينما ينتفع بهذه المنشآت والمشاريع الزكوية لا بد أن يكون ذلك بمقابل مالي يدفع لصندوق هذه المنشآت ليعودوا إلى جميع الفقراء والمساكين. الأساس الشرعي لفكرة توظيف أموال الزكاة فكرة توظيف أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع قلنا لم تطرق في الفقه القديم، أي أنها لم تدرس ولم يجر بحث حولها لدى الفقهاء القدامي، ولم يرد لها ذكر في كتبهم، ذلك أن هذه الفكرة إنما طرأت حديثا نتيجة لتطور الحياة الاجتماعية وتعقيداتها وتنوع أساليب العمل والإنتاج، وظهور الأشكال الجماعية وبروزها في مجال الإنتاج والاستثمار مما جعل التفكير في استثمار أموال الزكاة بالأشكال والأساليب الحديثة لمصلحة مستحقي الزكاة عموما دون ملكية فردية لكل مستحق – أمرا لا بد من طرحه، بل لا بد من ولوجه وممارسته، ومن هنا كان طرحه على بساط البحث لمعرفة ما إذا كان هذا الاتجاه نحو التصرف في أموال الزكاة وتوزيعها مقبولا شرعا فيشرع في محاولة تطبيقه أم ممنوع فيترك ويصرف النظر عنه؟ والموضوع كما يظهر من عدم التعرض له من رجال الفقه قديما أنه لا نص عليه، لعدم بروزه إلى الوجود، ولذلك حينما ظهر في العصر الحاضر واحتاج إلى رأي فقهي كان مجالا للاجتهاد بالرأي والاسئناس بالقياس ما أمكن ذلك، وبناءاً على ذلك فقد يكون من المناسب أن ينظر في هذا الموضوع على ضوء معطيات السنة الشريفة في تشجيع العمل وتهيئة الأوضاع المناسبة للقيام به كأسلوب تربوي في الاعتماد على النفس وإغنائها عن الحاجة للغير وطلب العون منهم أو مساعدتهم وذلك كما في قصة ذلك الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى عن أنس بن مالك: ((أن رجلا من الأنصار أتي النبي صلى الله عليه وسلم يسأله: فقال: أما في بيتك شيء؟)) قال: بلى يا رسول الله، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه الماء، فقال: ((ائتني بهما)) ، فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((من يشتري هذين؟)) قال رجل: أنا أخذهما بدرهم، قال: ((من يزيد على درهم؟)) مرتين أو ثلاثا، فقال رجل: أنا أخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري وقال: ((اشتر بأحدهما طعاما وأنبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوما فأتني به)) ، فشد رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده ثم قال له: ((اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما)) ، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها طعاما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مقطع، أو لذي دم موجع)) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 وفي ضوء هذا التوجيه والإرشاد النبوي للفقير من ماله القليل يمكن من باب أولى الاستئناس بهذا التوجيه النبوى الشريف بترشيد مال الزكاة لمصلحة الفقير والمسكين فيما يعود عليهم بالنفع المستمر في شكل منشآت أو مشاريع تنشأ من مال الزكاة ويوزع ريعها على المستحقين، ولعل هذه القصة الواقعة وموحياتها التوجهيهة كانت في الماضي هي المستند والمؤشر للفقهاء القدامي في توظيف أموال الزكاة للفقراء والمساكين على المستوي الفردي فيما يعود عليه بالنفع. وهذا ما يجعل قياس توظيف الأموال الزكوية في منشآت مشاريع تدر ريعا على المستحقين للزكاة في شكل جماعي أمرا موجها ومقبولا بإذن الله تعالى، من الوجهه الشرعية (1) بعض الاعتراضات على الموضوع هناك اعتراضات تثار حول توظيف أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع لدى بعض الباحثين: منها أن في هذا الأمر خروجا على أصناف توزيع الزكاة المحصورة في ثمانية بنص القرآن. والإجابة عن ذلك أن هذا التدبير لأموال الزكاة واضح النفع للمستحقين وهو تطبيق للزكاة داخل الأصناف المحددة، إنه لمصلحة الفقير والمسكين وليس خروجاً عليها. ومنها أنه حينما توظف أموال الزكاة في مشاريع ثابتة لا تملك هذه المشاريع تملكا فرديا على الفقراء والمساكين وإنما تصبح ملكيتها لشخصية اعتبارية عامة، هم مجموع الفقراء والمساكين، وهذا أمر شبيه بالوقف، ومن أركان الوقف أن يكون هناك واقف، وهنا لا يوجد واقف لأن أموال الزكاة ليست ملكا للمزكين حتى يقفوها. وأجيب على ذلك بأن هذه الحالة ذات شبه بالوقف من بعض الوجوه وليست مطابقة، ومعني ذلك أنها خارجة عن الوقف، وما دام الأمر كذلك فليست بحاجة لتوفر أركان الوقف أو شروطه وهو المطلوب. بعض المحاولات التطبيقية من الناحية الواقعية فقد بدأت بعض الجهات أو الحكومات تنفيذ فكرة توظيف الزكاة في مشاريع ذات عائد على المستحقين دون تمليك فردي لها، وكانت النتائج باهرة في تحقيق مصالح المستحقين، كما هو الحال في دولة باكستان، والدولة الأردنية وبيت الزكاة الكويتي، مما هو مفصل في أصل هذا البحث.   (1) لا بد من رفع حاجة الفقير والمسكين من مال الزكاة إلى الحد المعقول أولا وقبل توظيف الأموال في المشاريع المذكورة، فرفع حاجة الفقير ابتداء شرطة لصحة الصيرورة إلى التوظيف الآخر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 المناقشة توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق الجلسة الصباحية: صفر 1407هـ /13 أكتوبر 1986 م الرئيس: العرض في توظيف الزكاة فضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف فرفور فنرجو أن يتفضل بإعطاء عرض عن مسألة توظيف الزكاة. الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: شكرا أيها السيد الرئيس ... بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله والسلام على عباده الذين اصطفى. توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي المستحق هو عنوان البحث. يعتمد هذا المبحث على مبحث آخر لابد من التعرض له، وهو: هل تغني الإباحة عن التمليك في إخراج الواجبة؟ نص الحنفية والجمهور من الفقهاء على أنه لا تجزئ عن الزكاة الإباحة ولا الإطعام، لأنه لا بد من تمليك لقوله تعالى {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فكل ما جاء في القرآن المجيد بلفظ الإيتاء يشترط فيه التمليك لأن الإيتاء خاص معناه التمليك، والاختصاص دون الإباحة والإطعام، لكن قالوا: إذا دفع الغني للفقير المطعوم ناويا الزكاة يجزئه وذلك كما إذا وضعه في سفط ووضعه في يده بنية الزكاة، وكما لو كساه، لأنه بالدفع إلى الفقير بنية الزكاة يملكه، فيصير الفقير آكلا من ملكه، بخلاف ما لو أطعمه معه. وأجاز بعض الزيدية احتساب ما يقدمه لضيوفه الفقراء من الزكاة بشروط: أولها: أن ينوى الزكاة، وثانيها: أن تكون عين الطعام باقية كالتمر والزبيب، وثالثهما: أن يصير إلى كل واحد ما له قيمة ولا يتسامح بمثله. ورابعها: أن يقبضه الفقير أو يخلي بينه وبينه مع علمه بذلك. وخامسها: أن يعلم الفقير أنه زكاة لئلا يعتقد مجازاته ورد الجميل بمثله. المقصد من المبحث: هل يصح توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق؟ أي بلا تمليك مباشر. لم يتعرض الفقهاء القدامى ولا المعاصرون فيما أعلم إلى هذا الأمر الجديد الذي يصح أن يسمى نازلة أو واقعة. وهي مما عمت به البلوى واحتاج الناس إليه في هذا العصر، فوجب النظر من جديد على ضوء القواعد الفقهية الكبرى في مذاهب فقهاء الأمصار. أما أنظار زملائى أعضاء المجمع وخبرائه الكرام فتتلخص فيما يلى حسبما جاء في كتابتهم المشكورة. أولا: ذهب فضيلة الأخ تيجاني صابون محمد حفظه الله، وهو مالكي المذهب في مقولته هذه فيما أحسب، ذهب إلى أن توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق لا يمكن أن يتم إلا إذا وجد مستحقو الزكاة حقوقهم، وبقدر الكفاية المحددة لهم بأنه لا بد أن يعطى الفقير القدر الذي يخرجه من الفقر إلى الغنى. فإذا ما حصل ذلك ووجد كل ذي حقه من أموال الصدقة أي الزكاة وفاضت، فيمكن بعد توجيها إلى مثل هذا المشروع كما حدث في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما أبلغ بفيض أموال الصدقة بعد توزيعها إلى المستحقين أمر بتزويج العزاب منها. كما أخرجه الإمام في موطئه في باب القراض حسب عزم الشيخ والعهدة على الناقل. وقد جعله عمر قراضا فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ ابنه ربح المال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 وذهب فضيلة الأخ الدكتور حسن الأمين إلى جواز ترشيد مال الزكاة لمصلحة الفقراء فيما يعود عليهم بالنفع المستمر في شكل منشآت ومشاريع تنشأ من مال الزكاة ويوزع ريعها على المستحقين وشرط لذلك أنه لابد من رفع حاجة الفقير والمسكين من مال الزكاة إلى الحد المعقول أولا قبل توظيف المال في المشاريع المذكورة فرفع حاجة الفقير ابتداء شرط لصحة الصيرورة إلى التوظيف الآخر، واستشهد لقوله هذا بحديث أنس رضي الله عنه في قصة منع السائل عن السؤال والكدية في ضوء تشجيع العمل وإغناء النفس عن الحاجة للغير. والحديث معروف لديكم واستأنس حفظه الله بما فعلته الحكومات المعاصرة من ذلك كدولتي باكستان والأردن الشقيق وبيت الزكاة الكويتي مما حقق نتائج جيدة. وذهب فضيلة الأخ الشيخ آدم شيخ عبد الله علي حفظه الله إلى أن الفقهاء اتفقوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلا على الأصناف الثمانية القرآنية. وقد اختلفوا على ثلاثة أقوال بعد أولها قدر كفايتهم للعمر الغالب. ثانيا قدر كفايتهم في السنة. ثالثا: أقل من قدر كفايتهم. وشرح ذلك بما لا مزيد عليه ثم قال: وتوظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع دون تمليك فردي للمستحق بمعنى استرجاح أموال الزكاة عن طريق توظيفها لاستنمائها غير جائز لأسباب أربعة ذكرها في مقولته أذكرها بالنص: أولا: أن هذه الأعمال تعرض المال للفائدة والخسارة فربما يترتب عليها ضياع أموال الزكاة. ثانيا: أن توظيف أموال الزكاة في أى من المشاريع الإنمائية يؤدي إلى انتظام الفائدة المترتبة عليها. وهذا قد يأخذ وقتا طويلا فيكون سببا في تأخير تسليم أموال الزكاة لمستحقيها بدون دليل شرعي مع أن المطلوب التعجيل في أداء حقوق المستحقين للزكاة .... الشيخ عبد العزيز الخياط: ... {الْغَارِمِينَ} وقد يعطى أموالا طائلة في ذلك من مردود وكذلك أن يعطى صاحب الصنعة ما تلف من الصنعة أو من أدوات صنعته فقد نصوا كذلك على أنه يمكنه أن يعطى مزرعة أو ضيعة يستغلها. واذا كان بعض الفقراء كما ورد في الأبحاث الكريمة، وكما ورد في الفقه أنه يعطى كفايته للعمر كله وبعضهم حدده بسنة. إذن يمكن أن نتولى استثمارها في الأموال لضمان عمل ومورد لذوي البطالة غير الإجبارية للقادرين على العمل بما حصل للنبي عليه الصلاة والسلام وإن كان في غير مال الصدقة من ماله في أنه منع المتسول أن يعطى من مال الصدقة. ودفعه إلى العمل بأن باع له إناءه بدرهمين ثم كلفه بالعمل وقال له: لا أرين وجهك خمسة عشر يوما وذهب وعمل. فيستهدي بذلك في ضرورة توفير العمل لهؤلاء وإذا كنا نحن أخذنا جزءا من هذه الأموال واستثمارناها فنحن في هذا الموضوع نعطيه تمليكا لمجموع الفقراء. وهذا يقتضي أن نلجأ إلى ما أشار إليه الأستاذ الدكتور الفرفور في موضوع أن يكون القائم على ذلك هيئة أو مؤسسة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 أنا اقترحت أن تكون هناك مؤسسة للزكاة سموها ما شئتم: مؤسسة الزكاة، صندوق الزكاة، أو أي تسمية أخرى هذه المؤسسة يقوم فيها المزكون باستثمار أموال الزكاة مع الهيئة الإدارية فيها. وهذا الاستثمار كما قلنا جزء كبير من الأموال وتستغل فيه أصحاب البطالة الاختيارية وينتفي عنهم العمل هذا ما أرى أن تذهب إليه مستهديا بما قرأنا من النصوص ومستهديا ببعض آراء الفقهاء، وأقول في هذا الأمر كلمة أخيرة: نحن درسنا على مذاهب مختلفة وقد يكون لكل منا رأى مختلف ولكن ما دام هناك تيسير للمسلمين في تحقيق مصالح الفقراء في رأي من هذه الآراء فأرى ألا نتمسك برأي فقيه آخر في هذا الأمر. ولهذا أجنح وأميل إلى الأخذ بتوظيف واستثمار بعض أموال الزكاة لصالح الفقراء وشكرًا للأخوة الكرام. الرئيس: شكرا وأحب أن أسأل معالي الشيخ عبد العزيز سؤالا نظرا لأنكم أفضتم في الموضوع أنه نظرا لإلغاء الأوقاف فإذا كانت هناك في بلاد ألغيت فيها الأوقاف فكيف يقال ينشأ فيها صندوق للزكاة وتوظف فيه. الشيخ عبد العزيز الخياط: عفوا ... الأوقاف لم تلغ في كل البلاد. الرئيس: أنا أريد أن أسأل لأن السؤال في هذه النقطة خاصة بغض النظر عن أية دولة من الدول أو حكومة من الحكومات. إذا كانت حكومة بلاد تعايش أن بابا من أبواب الفقه نسف وهو تقريبا قد يكون في ثلاث حكومات أو أربع حكومات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 الشيخ عبد العزيز الخياط: إن هناك مؤسسات شرعية مازالت قائمة في كل البلاد الإسلامية وما زال العمل بقوانين تتعلق بالأحكام الشرعية في كثير من البلاد الإسلامية، فقوانين الأحوال الشخصية معمول به في جميع البلاد الإسلامية عربية أو غير عربية بالرغم من محاولات إدخال ما ليس من الأحكام الشرعية عليها في بعض البلدان، هناك القضاء الإسلامي وما يسمى بالقضاء الشرعي قائما في كثير من البلدان الإسلامية. وفي بعض البلدان الإسلامية ومنها العربية هناك قضاء واحد يحكم بالشريعة الإسلامية. من هنا أقول ما زال المسلمون بخير ونحن لا نقول بإلغاء الأوقاف، الأوقاف قائمة في كل البلاد. وإذا كانت قد ألغيت في بعض البلدان الإسلامية فلا يعني هذا عدم وجود القضاء الشرعي وعدم سيطرة المسلمين على ذلك. هذه نقطة. النقطة الثانية: أقول اشتراك المزكين أنفسهم في استثمار هذه الأموال مما يؤدي إلى ضمان وجود ثقة بين المزكي وبين المؤسسة مما يدفعها إلى تنمية هذه الأموال أما إذا كانت هناك أمور فوق قدرتنا وفوق طاقاتنا فهذا مالا نستطيع دفعه، وهو بلاء. نسأل الله أن يحمينا منه ومع ذلك علينا نحن أن نعمل بما نقتنع أنه حكم شرعي توصلنا إليه بغض النظر عما هو قائم بالبلاد العربية أو الإسلامية. وشكرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 الشيخ عبد الستار أبو غدة: بسم الله الرحمن الرحيم هذا الموضوع طرح في مؤسسة بيت الزكاة بالكويت حيث تقدم بعض المزكيين أو بعض المتصدقين برغبتهم في أن توضع أموالهم في مشاريع ثابتة. ولما عرض هذا الأمر على الهيئة الشرعية لبيت الزكاة أبدت رأيها فيه. وملخص هذا الرأي في صورة موجزة جدًا: الهيئة رأت أن هذا يدخل في الصدقة الجارية استئناسا وليس صراحة ووضعت عدة ضوابط لكي لا تزول صفة الزكاة من هذه المشاريع التي وضعت من أموال مأخوذة من الزكاة، كما أن الهيئة لاحظت فرقا كبيرا بين استثمار الزكاة وبين توظيف الزكاة في مشاريع فاستثمار الزكاة معنى ذلك أن تبقى الأموال المأخوذة زكاة نقود سائلة يمكن صرفها في أى وقت وإنما بدل أن تصرف فورا تستثمر في مثل البنوك الإسلامية والشركات الإسلامية التي يسهل فيها استرجاع هذه الأموال في أي حين فيدفع من هذه الثمرة وهذا الريع ويظل المبلغ الأصلي قابلا للصرف عند الحاجة بدون صعوبات. أما الغرض من هذا الموضوع فهو أن تتحول هذه الأموال المأخوذة من الزكاة إلى مشاريع قد يكون مصنعا من المصانع لتأهيل المحتاجين قد يكون مدرسة ليتعلم فيها الطلبة الفقراء. قد يكون مستشفى يعالج فيه المرضى المحتاجون والمستحقون للزكاة. إذا الأموال ذابت وخرجت من طوق التصرف وأصبحت هي نفسها ذات ريع وهذا الريع ثمرة هذه الزكاة. وأيضا لاحظت الهيئة الشرعية في بيت الزكاة تفرقة هذا الموضوع عن الوقف لأن الوقف فيه تثبيت العين والتصدق بالثمرة وله أحكام خاصة من حيث امتناع بيعه واستبداله إلا في ظروف خاصة أو التصدق بعينه لأن عين الوقف أصبحت على ملك الله عز وجل ولا يجوز التصرف فيها. هذا التوظيف للزكاة في مشاريع كما قلت يجري مجرى الصدقة الجارية ويشمله الحديث الشريف: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية)) ، ولفظ الصدقة هنا مطلق ولكن الهيئة الشرعية لاحظت وأصرت على ثلاثة أمور لعدم الخلط بين الزكاة وبين الصدقة المطلقة. وهذه الأمور الثلاثة هي: أولا: الانتفاع بتلك الأصول وريعها يقصر على مستحقي الزكاة من الأصناف الثمانية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 الأمر الثاني: إذا اقتضى الأمر صرف أعيان تلك الأصول لقيام الحاجة إلى ذلك لوجود وجوه صرف عاجلة ولا يوجد ما يسدها من أموال أخرى فانه يجب بيعها وصرف أثمانها في مصارف الزكاة إذ لا يجوز تأخير صرف الزكاة سواء ظهرت في صورة مبالغ أو أصول مادامت الحاجة قائمة ولا يغير هذا الحكم اشتراط المزكي خلافه. الأمر الثالث: إذا بيعت تلك الأصول لأي سبب فيجب أن ترد أثمانها إلى أموال الزكاة للصرف على المستحقين أو لشراء بديل يخصص لمثل ما كانت له. والحمد لله رب العالمين. الدكتور محمد عطا السيد: هل تستخدم أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع بعد أن تفيض هذه الأموال على المصارف التي حددها الله سبحانه وتعالى في كتابه فقط أم أيضا تستعمل قبل أن تستوفى هذه المصارف؟ في رأيي أنه إذا كان يقصد أن استخدام أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع مع عدم فيضها على هذه المصارف التي حددها الله تعالى لا أوافق على ذلك وأرى أن هذا فيه مخالفة للنص ومخالفة لروح التشريع أما إن كان يرون أن استخدامه بعد أن تفيض هذه الأموال على المصارف التي حددها الله تعالى فأنا لا أوافق الشيخ في أن هذه المسألة مما عمت به البلوى وصار نازلة تستدعي حكما عاجلا لأننا نحن نعلم اليوم حالة المسلمين وحالة الفقر التي تكلمنا عنها البارحة فبالتالي يكون هذا الموضوع ليس من المسائل التي تستأهل البت السريع في هذه المسألة. وأرى أن توضيح هذه المسالة برأي فقهي واضح مهم للغاية. الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم .... وبه أستعين .... عندي إيضاح وسؤال ودعاء ودعوة: أما الإيضاح فهو عن بيت الزكاة: بيت الزكاة أنا عضو فيه وعلى تنمية الموارد، ولكن الموارد التي تنمى في بيت الزكاة هي المنحة وليست الزكاة، أموال الزكاة التي تأتي إلى بيت الزكاة من الناس ومن المزكيين تصرف تباعا، أما المنحة التي تعطيها الدولة إلى بيت الزكاة سنويا تعطى منحة أحيانا مبالغ هذه المبالغ تنمى لأنها ليست من الزكاة والصدقة الجارية التي قال عنها أستأذنا الدكتور عبد الستار هذه أيضا ليست من باب الزكاة هي صدقة جارية ليست زكوات. السؤال: إذا كانت أبواب الزكاة ثمانية، عندنا الفقراء والمساكين هذان بابان لا نستطيع أن نهملهما يجب أن نأخذ الزكاة وننفق عليهم لأنهم في حاجة فورية لمعيشتهم اليومية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 ثم أن هناك أبواب ستة هذه الأبواب الستة فيها تراخ عند الصرف. السؤال هنا هل يمكن استثمار هذا الأموال؟ وأنا لم أفهم كلمة صرف الزكاة يعني كلمة الصرف في مشاريع ذات ريع هي ليست صرف هي توظيف واستثمار الصرف في الحقيقة هو ما يصرف وينفق إنما لو أخذنا ستة أثمان، أنفقنا ثمنين في باب الفقير والمسكين وستة أثمان هي التي تصرف على التراخي لو استثمرت بأيد أمينة على شرط بأيد أمينة وهذه الأيدي تستثمر هذه الأموال وهذه الأيدي تصرف في الزكاة وتستثمرها في استثمارات قليلة المخاطر ليس هناك استثمار ليس به مخاطر إنما قليل المخاطر وقد تكون المخاطر فيها متلاشية هذا السؤال. أما الدعاء والدعوة {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} يعني نحن ندعو الله سبحانه وتعالى بأن يلهمنا سبل الرشاد وندعو الأمة الإسلامية بأن تلتزم بدينها لأنه هو منجاتها وحبلها المتين {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} كما قال سبحانه وتعالى بهذا الدعاء والدعوة، وشكرًا. الشيخ يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} . وبعد، فموضوع توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق هذا هو العنوان المطروح علينا. البعض من الأخوة الذين قدموا البحوث ذكروا أن هذا الموضوع ليس له أصل في فقهنا الإسلامي والأخ الدكتور الفرفور. حينما لخص البحوث أيضا ذكر هذا مع أن الأخ الشيخ آدم. الشيخ عبد الله نقل ما ذكرته في كتاب فقه الزكاة في مصرف الفقراء والمساكين وهو ما قاله الشافعية في هذا الأمر، الشافعية ذهبوا إلى أن، الواجب بالنسبة للفقير والمسكين أن يعطى كفاية العمر الغالب لأمثاله ما يغنيه أخذا من حديث " سدادا من عيش أو قواما من عيش، كما قاله الإمام النووي في المجموع وأخذوا من السياسة العمرية الراشدة حيث كان عمر يقول: إذا أعطيتم فأغنوا، وكان يقول " والله لأكررن عليهم الصدقة وإن راح على أحدهم مائة من الإبل ". مائة من الإبل ما يساوي عشرين نصابا من أنصبة الزكاة. فأخذ الشافعية وهو ما نص عليه الإمام الشافعي في الأم أن الفقير يعطى ما يغنيه طول عمره. وقالوا: إذا كان زارعا تشترى له ضيعة أو حصة في ضيعة تغنيه طول العمر وإذا لم يكن يحسن تجارة أو حرفة قالوا: ليس المقصود أن يعطى مالا سائلا أو نقودا ... أي يشترى به مثل عقار يكفيه دخله منه طول عمره والأخ الشيخ آدم ذكر هذا الكلام، وليس المراد بإعطاء من لا يحسن الكسب إعطاءه نقدا يكفيه تلك المدة بل ما يكفيه دخله منه فيشترى له به عقار يستغله ويعيش به ثم يملكه ويورث عنه، قال: والأقرب كما بحثه الزركشي أن للأمام دون المالك شراءه له وله إلزامه بالشراء وعدم إخراجه عن ملكه يعني كأنه شبه وقف عليه. حينئذ ليس له إخراجه فلا يحل ولا يصح فيما يظهر ببيعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 هذا كلام الشافعية في هذا الأمر وأنا قلت بناء على هذا وتستطيع الدولة المسلمة بناء على هذا الرأي أن تنشيء من أموال الزكاة مصانع وعقارات ومؤسسات صناعية أو تجارية ونحوها وتملكها للفقراء كلها أو بعضها لتدر عليهم دخلا يقوم بكفايتهم ولا تجعل لهم الحق في بيعها بناء على ما قاله الزركشي وغيره في بيعها ونقل ملكيتها لتكون شبه موقوفة عليهم. والأخ الشيخ أدم قال: هذا استنتاج قوي واضح إلا أن الذي ذهب إليه هنا هو تمليك الفقراء هذه الأشياء استقلالا أو اشتراكا. نحن نعلم أنه لم يعد الآن من السهل أن يعطى الفقير ليعمل مصنعا بمفرده أو معملا بمفرده إنما فقراء بلد معين في إفريقيا، وكذا أن نعمل لهم مشغلا يشتغلون به أو مصنعا معينا ويملك هؤلاء الجميع المصنع ويعملون فيه ولهم أرباحه ولا نمكنهم من بيعه لأنه قد يرتكبون سفاهة ويبيعونه. هذا ممكن أن يكون في توظيف أموال الزكاة في مثل هذا الأمر لا تمليكا فرديا ولكن تمليكا للمجموع كما قالوا حصة في شيء آخر فهذا النوع لا أرى به بأسا. هناك أيضا قضية أخرى أرى أنه ينبغي أن لا يكون هناك خلاف عليها وهو مسألة الاستثمار المؤقت الاستثمار المؤقت لأموال الزكاة. وهذا أمر سألت فيه الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية لأنها تأتيها أموال الزكاة ولا تستطيع أن تصرفها في الحال لأن هناك أناسا يتقدمون بطلبات وهذه الطلبات تحتاج إلى وقت حتى تدرس وتعرف جديتها ويوثق الطالبون ويقدم الأحق فالأحق. هذه تأخذ وقتا هذا الوقت ليس من المصلحة أنك تعطل عدة ملايين من الفقراء ويمكن لهذه الملايين أنها تعمل وتستثمر وتزيد خاصة ونحن نعلم أن القوة الشرائية للنقود تتدهور. فحتى نعوض هذا من ناحية ونستثمرها من ناحية أخرى لمصلحة مجموع الفقراء من المستحقين، هذا الاستثمار المؤقت أرى أنه ليس فيه ما يمنع وخاصة ما أشار إليه الأخ الفرفور أن مذهب الحنفية يجيز التأجيل وغيرهم أيضا يجيز تأجيل الصرف لحاجة، وهذه حاجة جيدة وهي ضرورية سواء أردناها أو لم نردها لا بد أن يتأجل الصرف فاستثمار الأموال وخاصة أن هناك أموالا تأتي باستمرار. فهناك أموال أخرى بالاستثمار المؤقت لأموال الزكاة لحساب مجموع الفقراء أرى أن هذا لا مانع فيه كذلك إذا أخذنا على رأي من يتوسع في سبيل الله وهو أيضا موجود في الفقه الإسلامي ما نقله الرازي عن القفال وما مال إليه الكثيرون وهو أمر مذكور عن عدد من الفقهاء السلف أنه يجوز التوسع في سبيل الله فإذا توسعنا في سبيل الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 فهذا يمكننا أن نقول: إن في سبيل الله أن كل مصلحة أو قربه فيها خير أو نفع للمسلمين تصبح في سبيل الله. وهذا أولى من القول بأنه بالنسبة " للام " وإن سبيل الله ليس فيها تمليك والغارمين ليس فيها تمليك ولكن الآية فرقت في الحقيقة بين نوعين من المصارف ما عبر عنه بـ " اللام " وما عبر عنه بـ " في " ما عبر عنه بـ " اللام " الظاهر أنه يفيد التمليك للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم هذه هي الأربعة الأولى والأربعة الأخيرة وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فالتعبير له دلالته كما أشار الزمخشرى والمفسرون عامة أن " اللام " تفيد التمليك و " في" تفيد الظرفية أي إعطاءها في هذه المصارف وإن لم يملك أصحابها. فلو فسرنا {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهو قول وارد على كل ولو توسعنا في هذا فيمكن أن يقول هذا أننا أخذنا من الفقه الإسلامي ولا ينبغي لنا أن نقول إن هذا أمر ليس له سابقة في الفكر الإسلامي وليس له أصل بل له أصل من أكثر من وجه. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. الرئيس: شكرا لفضيلة الشيخ. وسؤال بسيط يا فضيلة الشيخ يوسف. فيه قضية يعني أحب إذا تكرمتم نتيجة ما توصلتم إليه في كتاب فقه الزكاة من فورية الزكاة وجوبها على الفور أو التراخي بس يعني إشارة بسيطة. الشيخ يوسف القرضاوى: الزكاة واجبة على الفور من غير كلام وحتى الفقهاء أو الأوصوليون الذين اختلفوا في مسألة الأمر، هل الأمر يفيد الوجوب على الفور أو على التراخي؟ قالوا: بالنسبة للزكاة هناك قرائن كثيرة وأدلة كثيرة تدل على الفورية لأن المستحقين وحاجات الفقراء والمساكين والأصناف المستحقة لها لا تتحمل التأخير فالأصل في الزكاة الفورية ولكن القضية هنا يا سيادة الرئيس الفورية حدثت وهو أن الممول أو المكلف الذ0ي وجبت عليه الزكاة دفع الزكاة فورا فعلا ووصلت إلى محلها بالنسبة للمؤسسة المسئولة أو الدولة أو الهيئة أو بيت الزكاة أو تسميه ما تسميه هي الفورية حدثت. المسألة مسألة بيت المال أو بيت الزكاة والمؤسسة المسئولة هي الآن بعد أن حصلت الفورية تفكر في ما هو أنفع لمجموع المستحقين هل تدفعه في الحال؟ هل تؤخره؟ هذا أمر آخر غير الفورية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 الشيخ تقي عثماني: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين. شكرًا سيدي الرئيس ... الموضوع المطروح أمامنا هو توظيف أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق. والذي ينبغي أن نبت فيه أولا هو أن التمليك هل هو شرط واجب لأداء الزكاة أم لا؟ والذي أرى أن مسألة التمليك في الزكاة قد جرى فيها النقاش ولا يزال منذ سنين ولكن الرأى السائد عند الفقهاء في السلف والخلف هو أن التمليك شرط لأداء الزكاة وأن الأئمة الأربعة فيما أعتقد كلهم يشترطون التمليك الفردي لأداء الزكاة ومادامت الزكاة عبادة يجب علينا أن نحتاط فيه. وأن توظيف الأموال في مشاريع ذات ريع ليس في رأيي نازلة من النوازل لم تكن معهودة عند السلف الصالح وإنما كانت هناك أموال توظف في مشاريع ذات ريع ولكن ما رأيت بعد في أحد من البحوث المقدمة الينا أنهم ذكروا سابقة من الفقهاء أو من التاريخ الإسلامي أن أموال الزكاة وظفت في مثل هذه المشاريع، مع أن مثل هذه المشاريع كانت موجودة عندهم أيضا والأمثلة التي جاء بها الباحثون فيها نظر كما تفضل به فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله مع تقديرى له واحترامي لعلمه وفضله من أن الشافعية ذكروا أن الفقير يعطى كفاية العيش كفاية العمر، ولكن المراد من ذلك أن يملك الفقير أدوات التجارة وأدوات الصناعة لا أن تصرف الأموال إلى مشاريع ذات ريع إنما تملك للفقير تمليكا فرديا يملك أدوات التجارة وأدوات الصناعة التي تكفيه لجميع عمره. فهذا شيء لم يختلف فيه أحد فالتمليك الفردي متحقق في ذلك المثال. وأما ما ذكره بعض الباحثين أن التمليك كما يمكن أن يكون فرديا يمكن أن يكون جماعيا ولكن الذي أراه أن التمليك المشترط في الزكاة هو ليس تمليكا جماعيا يكون في بيت المال أيضا ولو كان يجوز مثل هذا التمليك في الزكاة لما كان هناك معنى لتحديد مصارف الزكاة الثمانية وإنما قيل أدوا الزكاة إلى بيت المال ثم يصرفه بيت المال إلى جميع المسلمين لأن بيت المال فيه تمليك جماعي ولم يقل به أحد. وكذلك ذكر بعض الباحثين حديث القراض الذي أخرجه الإمام مالك رحمه الله في الموطأ وأظن أنه لا علاقة له بالزكاة أصلا، وإنما كان مال بيت المال قد صرفه عبيد الله بن عمر في التجارة فرده سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بيت المال وليس فيه ذكر للزكاة أصلا. ثم الذي ينبغي أن نتنبه له هو أن الإسلام لم يقصر جميع أعمال الخير على الزكاة وإنما نريد أن نقصر جميع أعمال الخير على الزكاة وكلما دعت داعية للتبرع على الفقراء نريد أن نصرف من الزكاة ما عدا الحديث واضح أن في المال حقا سوى الزكاة {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} فباب التبرع واسع جدًا فالزكاة جزء يسير من الذي يفترض على المسلمين بما يتطلبه الإسلام للمؤمنين وليس كثير أعمال الخير مختصرة على الزكاة. فلذلك أرى أنه دعت الحاجات إلى توظيف أموال لصالح الفقراء في مشاريع ذات ريع فليفعل ذلك من التبرعات العامة وليفعل ذلك من الصندوق المختص لهذا الغرض، وأريد أن أوضح في هذا الصدد أنه قد ذكر بعض الباحثين أن في باكستان توظيف أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع هذا خلاف الواقع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 الحقيقة أننا في باكستان الزكاة تصرف إلى الفقراء تمليكا فرديا ولكن جعلوا هناك صندوقا خاصا للتبرعات وبهذا الصندوق توظف الأموال في مشاريع ذات ريع، ولا علاقة له بالزكاة أصلا. فهذا ما أراه وإني أخشى أنه لو فعل ذلك تضيع أموال الزكاة في الأعمال الإدارية ويضيع حق الفقراء. وشكرًا والسلام عليكم ورحمة الله. الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: شكرًا سيدي الرئيس ... أشكر للسادة المعلقين الأفاضل تعليقاتهم القيمة المفيدة لافتا النظر إلى نقاط: أولا: أن فضيلة الأخ الدكتور القرضاوي عتب علي أني ذكرت أنني لم أر في المعاصرين ولا في القدامى من تحدث في ذلك وله العتبى ولكن قلت: فيما أعلم فيما أعلم أي من المعاصرين أما السادة العلماء الأفاضل الكرام من السلف الصالح فليس في كل ما قاله السادة العلماء الذين تكلموا في هذا الموضوع غنية في هذه المسألة حصرًا، يعني ما أحد أفتى أبدا في موضوع تطبيق الزكاة حصرا في هذه المسألة، ومع ذلك قلت فيما أعلم. هذه ناحية. الناحية الثانية: هي أن الإسلام وسط بين الإفراط والتفريط، ولا سيما في الأمور الخلافية، هذا منهج تعلمون أيها السادة العلماء أن الإمام الشاطبي الغرناطي اللخمي في الموافقات قال: الوسط أم الكتاب ولا يجنح عنه إلى غيره إلا لضرورة قصوى داعية إلى ذلك. وهذه المسألة مما مست إليها الحاجة في زماننا، وهي من الأمور التي لم نبحث فيها إلا لاضطرارانا إليها، ولو لم يضطر إليها المجتمع لما بحثناها، ففي اختلاف البلاد واختلاف العباد واختلاف الدول وأنظمة العيش وأنماط الحياة ما يضطرنا إلى مثل هذه الحلول في بلاد ربما لم يضطر إليها المسلمون في بلد آخر، ربما لا تمس هذه الحاجة أو الضرورة في بلد من بلاد المسلمين أو قطر من أقطارهم وتمس هذه الحاجة في قطر آخر لظروف معينة. وقد لفت نظر السيد الرئيس إلى هذا البارحة في جلسة خاصة ولا أستطيع أن أتكلم بكثير في هذا الموضوع كي لا يفهم كلامي على غير معناه الحقيقي فالتوسع في هذا الأمر خلال الحاجة والضرورة قلت: إن هذا حاجة عامة وضرورة والضرورة تقدر بقدرها والتضييق في هذا الأمر أيضا خلاف ليسر الإسلام وسعته ومرونته وصلوحيته لكل زمان ومكان. فالأفضل فيما أرى وترون حفظكم الله وأنتم العلماء المنصفون أن نبتغي بين ذلك سيرا وسطا لا هو إلى الإفراط ولا هو إلى التفريط كما ذكر المنصور للإمام مالك حين قال له: اكتب كتابا تبتعد فيه عن رخص ابن عباس وعن شدائد ابن عمر، وعن شواذ ابن مسعود ووطئه للناس توطئا وفيما ذكرت لعله يكون الوسط، لعله، أما فيما ذكره أخي وجاري جار الرضى الأستاذ الدكتور محمد عطا السيد في قضية أنه يا هل ترى؟ هل هذا فيما يفيض عن الحاجة أم لا يفيض؟ أقول: هذا السؤال ربما يكون في غير محله لأسباب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 منها أن الأغنياء شحوا عن دفع الزكاة فكيف يفيض المال؟ نحن في واقع اجتماعي أليم، إن الذي يدفع الزكاة في البلاد الإسلامية عامة مع اختلاف الأقطار فيما بينها اختلافا طفيفا لا يتجاوز بحد غير مبالغ فيه 40 أو 50 % إن يكن أقل فكيف نتصور في هذا العصر أن يفيض المال عن حاجة الفقراء. نحن اليوم في عصر شحت الأغنياء فيه في واقع نريد أن نعالجه كما هو عليه لا حينما تقوم الدولة الإسلامية في العالم الإسلامي ويصير للناس إمام واحد وخليفة واحد وتوزع أموال الزكاة كما وزعت في عهد عمر بن عبد العزيز. لا. في ذلك الوقت له وضع آخر وحل آخر. نريد أن نعالج مرضًا خطيرا وهو أن الفقراء إذا لم نتبين هذه الحلول الواقعية اليوم أنهم سيدخلون زمرا زمرا في أفكار إلحادية مناقضة للإسلام تحت اسم حل مشكلة الفقر وما إلى ذلك مما تعلمونه بالإشارة فضلا عن العبارة. أستغفر الله وأقول قولى هذا والحمد لله رب العالمين. الشيخ خليل محيي الدين الميس: بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد ... نعرف من تعريفات الفقهاء للزكاة قالوا: هي تمليك جزء معين من المال من فقير مسلم غير هاشمي ولا مولاه بشرط قطع المنفعة عن الملك من كل وجه لله تعالى. إذن هنالك توجه أول إلى التمليك، وتوجه آخر إلى قطع المنفعة عن الملك من كل وجه، ولذلك توجه الفقهاء إلى أنها لا يجوز صرفها إلى الأصل وإلى الفرع، هذا أمر ملاحظ. أمر آخر الحقيقة الزكاة تتوجه إلى علاج أمر واقع لا أمر متوقع علاج الفقر الواقع لا الفقر المتوقع خاصة وأنها مستمرة دورة الفقر هنا ودورة الصدقة هنا، فالصدقة هنا للفقر هذا وإلا كان هنالك الوقف. فالوقف للموجود وللقادم أما الزكاة فهى للموجود فقط تقريبا. هذا الأمر عندنا ظاهرة أشار إليها حضرة الرئيس وهي تأكل الوقف في العالم الإسلامي. الوقف كما نعرفه من الصدقات الجارية وأنه يتآكل فإذا ما نملكه لا يجوز التفريط فيه مع العلم بأنه بناء لتجربة صندوق الزكاة في لبنان تبين أن ما ينفق هو ثلاثة أوجه: الزكاة، والصدقات، والتبرعات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 ففي الحقيقة يحسن أن نقصر الزكاة في مصارفها وأن نأخذ لهذا العنوان المطروح من بابين وأظنهما أكثر من الزكاة هذا ما تحصل لنا في لبنان. أما الصدقات والتبرعات كانت أضعاف الزكاة. فإذا نجنب الزكاة ما أمكن من تجميدها ونتوجه إلى صندوق الصدقات والتبرعات ليجني منها هذا المشروع لأنه كما هو ملاحظ عند الجميع أن الفقر أمر حالي ينبغي أن يلبى وإن الفورية هو أول ما يتوجه إليه النظر في مشروعية الزكاة وكما أشار الدكتور القرضاوي أن حاجة الفقير جعلت الأمر الوارد في الآية هو للفور لا للتراخي ومعلوم أقول: معلوم أيضا أن الفقهاء قالوا: وإذا تغلب الظلمة أخذوا الزكاة ثم عاد الإمام وسيطرته بهذا المعنى فنفتي الناس بإعادة صرف الزكاة لأن الظلمة لا يوصلون هذا المال إلى مستحقيه. فما دمنا نملك هذا الأمر فالاحتياط أن تبقى الزكاة في مشاريعها المتوجهة وهي التمليك بشرط قطع المنفعة عن المملك والله أعلم. الشيخ عبد السلام العبادي: بسم الله الرحمن الرحيم أبدأ في الواقع فيما توصل إليه النقاش وأعود لبعض النقاط التي عرضت في السابق بشيء من الإيجاز. نعم تعريف الزكاة في عدد من المذاهب الفقهية يبدأ بالتمليك لكن كما هو واضح في مذاهب أخرى لم يرد في مطالع التعريف عنصر التمليك والزكاة نحن في إطار التوظيف نتحدث عن علاج أمر واقع لا متوقع. وأحب أن أشير في هذا المجال إلى أن القضية يجب أن ينظر إليها من أكثر من زاوية والمشكلة ليست مطروحة في مجال مشاريع توظيف ذات الريع إنما أيضا في مشاريع التوظيف غير ذات الريع. هنالك مشاريع يفرض الأمر الواقع أن تتوجه مؤسسة الزكاة أو جهة الزكاة في المجتمع لإقامتها لمصلحة الفقراء الملحة العاجلة كمشاريع التأهيل الآن، كمشاريع إيواء المسنين الكبار الذين لا يجدون من يؤويهم كمشاريع المستوصفات الطبية والمستشفيات الخاصة لمعالجة الفقراء كل هذه مشاريع ليست ذات ريع ولكنها تلبي حاجة ملحة قائمة عند الفقراء الآن وليست متوقعة. موضوع تمليكها قضية معضلة لأن عملية تمليك مقر أو منزل لإيواء المسنين يوقعنا في إشكالات كبيرة عند وفاة المسن أو غير ذلك فلم لا يوقف طويلا عند قضية أن تكون مؤسسة الزكاة نفسها مالكة لهذا المشروع باعتبارها جهة اعتبارية لها حق التملك مع وضع الضمانات التي أشار إليها سماحة الدكتور عبد العزيز التي تضمن ألا تستغل مثل هذه المشاريع وإن تكون الجهات الممثلة في هذه المؤسسة جهات تصون الحقوق وتحفظ مصالح الفقراء على أساس أننا ننظر إلى الحكم الشرعي أولا ونضع الاحتياطات والضمانات التي تضمن ألا يستغل، لأننا يجب أن نميز باستمرار بين الحكم الشرعي وإمكانية استغلاله حتى لو وقع هذا الاستغلال يعني بالنسبة لموضوع تآكل الوقت وإلغاء بعض الجهات في الدول الإسلامية للوقف هل نتوجه لمطالبة المسلمين الآن أن يمتنعوا عن الوقف لاحتمال أن يلغى الوقف كما وقع في بعض البلاد. نحن نقول هذا الحكم الشرعي للجهة التي تجمع الزكاة وليس للجهة التي ألغت الوقف لأننا كيف نبحث عن توظيف الزكاة في جهة ألغت الوقف لأنها قطعا لم تجمع الزكاة ما دام أنها توجهت لإلغاء الوقف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 أعود لموضوع التمليك وأقول تعقيبا وتعليقا على الكلام الذي تفضل به أستاذنا الشيخ تقي. التمليك في الواقع الفردي نوعان، التمليك الفردي نوعان: تمليك متميز، وتمليك شائع، فيمكن أن نملك مجموعة من الفقراء مصنعا أقمناه لهم، وهذه قضية أعتبر أنها يجب أن تكون منتهية في النقاش عند من يصر على أن يكون التمليك عنصرا موجودا سواء أكان فورا أو على التراخي.عندما نأخذ بهذا المبدأ يجب أن لا نفرق بين التمليك الفردي المباشر أو التمليك الفردي الشائع، التمليك الفردي المتميز والتمليك الفردي الشائع، ونعتبر أن هذه القضية قد تم الاتفاق عليها وانتهت. هناك تمليك المؤسسة وتمليك المؤسسة في الواقع يقودنا إلى فكرة وجدت في تاريخنا الإسلامي بيت مال المسلمين نص علماؤنا على أن له أقساما متعددة ولكن قسم شخصيته المتميزة من حيث التملك. وقالوا: إن بيت مال المسلمين فيه قسم خاص بأموال الزكاة. وهذا القسم في الواقع يملك أموال الزكاة كجهة قبل أن ينقلها إلى التوزيع في تلك اللحظة تعتبر المسئولية المالية ومسئولية المحاسبة والتسجيل في إطار هذا القسم بحيث نص العلماء بكل وضوح على ألا تختلط أموال هذا القسم من بيت المال بأموال بيت المال الأخرى، هذه الأموال في تلك اللحظة، لحظة وجودها في بيت المال الخاص بالزكاة، نعم هي مآلها للفقراء وهذه الجهة يجب أن توزعها للفقراء. أذكر أنني قرأت في بعض المراجع ويمكن أن نستوثق من هذا النص طويلا لأنه يعطينا تنويرا كبيرا أن عمر بن عبد العزيز قد بنى استراحات على طرق المسافرين في ظل فهمه رضي الله عنه لسهم ابن السبيل. وأن هذه الاستراحات أرادها للمسافرين المنقطعين هذه الاستراحات عندما تبنى على قطعة من الأرض هي ملك من؟ هذا مسافر منقطع يقيم فترة ثم يذهب إلى بلده. في هذه اللحظة هي ملك من؟ هي ملك بيت مال المسلمين في قسم الزكاة فهو القسم الخاص بالزكاة تابع له كملكية اعتبارية، لكن بحيث تكون الجهة المنتفعة هي مصرف للزكاة المقرر. في موضوع المشاريع التأهيلية وموضوع إيواء المسلمين نحن أمام حاجة ملحة الآن يفرضها الواقع الاجتماعي، نحن لدينا الآن في الأردن مئات من المسلمين مضطرون في الواقع إلى بناء منزل لإيوائهم. من يملك هذا المنزل؟ الواقع الذي يملك هذا المنزل صندوق الزكاة، ولكن على أن يكون متمحصا لمصلحة المسلمين الفقراء. نريد أن نقيم مشروعا تأهيليا لتعليم المعاقين وأنتم تعلمون الآن باتت مجتمعاتنا تشكو من كثرة المعاقين سمعيا، وبصريا، وعقليا، وغير ذلك كيف ستعطى للمتخلف عقليا مبلغا من المال يعيش منه؟ نريد أن نؤهله أولا ليكون قادرا على الاحتراف ولو في حرفة بسيطة. ثم بعد ذلك نطلقه إلى المجتمع شخصا نافعا. لا بد أن تكون هنالك جهة مرتبطة بصندوق الزكاة تمكننا من تأهيل هذا المعاق، فلذلك أرجو أن نميز أولا بين حالات التمليك فننتهي من بعض القضايا ثم نسلط البحث على القضايا التي يمكن أن يكون فيها خلاف لنبلور موقفا شرعيا محددا منها. وشكرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 الشيخ عمر جاه: بسم الله الرحمن الرحيم ... شكرا يا فضيلة الرئيس. أعتقد أننا ينبغي أن لا نضيق في أحد أمور التشريع في المسألة التي نعالجها في الوقت الحاضر ذلك لأننا ينبغي أن ننتبه دائما أن الهدف في تعيين وجوه صرف الزكاة هي لحل مشكلة فكلنا يعرف أن مشكلة الفقر تزداد يوما بعد يوم، الفقراء في العالم الإسلامي وبين المسلمين يزدادون يوما بعد يوم برغم وجود أموال طائلة بين المسلمين. فإخراج هذه الأموال زكاة لهذه الأوجه الثمانية التي ذكرت في القرآن، الهدف منها حل هذه المشكلة، بصرف النظر عن الفقراء والمساكين. هناك أوجه ذكرها القرآن بنفس الأهمية وينبغي دائما أن نعرف أن المصلحة تقتضي أن المسلمين يفكرون على مستوى الوقت الحاضر فمثلا أضرب مثلا واحدا: لو قام المسلمون بواجبهم خصوصا المؤسسات المالية التي تملك بلايين، يعني: لو أخرج زكاة هذه البلايين يكون مبلغا محترما كبيرا، هل من المصلحة توزيع هذه الأموال مباشرة أو توظيف هذه الأموال في فترة زمنية قصيرة تدر علينا أموالا أكثر؟ وبهذا نستطيع أن نحل مشكلة الفقر والجهل والمرض التي يعاني منها المسلمون. فأعتقد أن توظيف أموال الزكاة في مشاريع تنمية تستطيع أن تزيد حجم هذه الأموال يستطيع المسلمون بها أن يحلوا مشكلة الفقر بكيفية أكثر فاعلية. إذن فالمسألة ينبغي أن لا نضيقها ونحدها في دائرة ضيقة احتراما للنصوص، ذلك لأن واجب الفقيه أنه يفكر في حل المشاكل التي تواجهه. فمسألة التمليك كما تفضل كثير من الذين ساهموا في التعليق وأذكر مثالا واحدا هو تعليق الدكتور عبد السلام العبادي، المسألة واسعة يعني لو وظفنا أموال الزكاة في مشاريع تنموية، وبنينا منها مستشفيات، أو مستوصفات، أو بنينا منها المدارس لتأهيل أبناء المسلمين الفقراء الذين لا يستطيعون أن يعلموا أولادهم من أجل الفقر. أليس هذا من مصلحة المسلمين؟ إذا ينبغي أن نتوسع في هذا المجال وندرك تماما أن روح الشريعة روح التشريع أو الهدف الأساسي في بيان هذه الأوجه الثمانية هي لحل مشكلة المسلمين، المشاكل التي تتجدد دائما وأبدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 فالوقت الحاضر الذي نعيش فيه الآن يختلف عن الأوقات السابقة. فنحن نرى أننا نعيش في نظام اقتصادي عالمي واقع، وأحيانا هذا النظام يؤثر في المسلمين تأثيرا كبيرا. ونرى أن عدد الفقراء يزداد يوما بعد يوم ولا حل لنا في هذا. فالذين يذهبون إلى أن مسألة الصدقة فأوجه الصدقة كثيرة، لكن هذه المسألة تطوعية فنرى أن كثيرا من المسلمين يقصرون في تأدية واجبهم في هذا، لكن الزكاة ضرورة فرضها الله على المسلمين ومن الذي لا يؤديها يكون قاصرا في عقيدته وفي عمله. إذن ينبغي أن نوسع صدورنا ونتوسع في مسألة توظيف هذه الأموال حتى تستطيع أن تؤدي واجبها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الرئيس: قبل أن أعطي الكلمة للشيخ آدم الشيخ عبد العزيز له كلمة قصيرة. الشيخ عبد العزيز الخياط: بسم الله الرحمن الرحيم ... لقد أغناني الشيخ عمر والدكتور عبد السلام عن كثير من الكلام لكني أحب أن أذكر ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن تجربتنا في السودان التي أشار إليها سمو الأمير الحسن بالأمس ... أخذنا نحن من أموال الزكاة ومن التبرعات ومن الصدقات من الناس مبلغا يزيد عن ثلاث أو أربع ملايين دولار، وفكرنا فيما لو أعطيت إلى أهل السودان الفقراء ربما ضاعت أو راحت أو صرفت في بضعة أيام أو بضعه أسابيع وانتهى الأمر وبقيت المجاعة كما هي وبقي المرض كما هو. فرئي أن نقوم بتجربة، هذه التجربة أن ننشئ من هذه الأموال مستوصفات ومستشفى في منطقة الكأس وتستمر هذه وبقينا حوالى سنة أو ما يزيد عن السنة، ترسل كل شهرين طائرة كاملة بفريق من الأطباء والموظفين ومعهم الأدوية ومعهم الحاجات ومعهم بعض الأغذية توزع مباشرة من هؤلاء باستمرارية من خلال هذا المستوصف المستمر. فهذه الناحية أدت وأجدت في زمننا أكثر مما تجدي فيما لو ملكنا وأعطينا الأشخاص فهي تمليك لهم ولكن بصورة أخرى أكثر فائدة وأكثر تحقيقا للمصلحة ولمقاصد الشريعة الإسلامية، هذه نقطة. النقطة الثانية: لي تعليق على الأستاذ الشيخ تقي الدين يقول: إن أموال الزكاة تضيع في الأمور الإدارية فيما لو أنشأنا مؤسسة أو بيت مال زكاة: أو صندوق. هذا مناقض لنص الآية الكريمة في قوله سبحانه وتعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} العاملين عليها هي جزء من الأصناف الثمانية الذين يعطون من الزكاة سواء كان من الجزاء أو المنفقين أو إلخ. ولذلك في رأي أن هذه الأعمال الإدارية جزء ومعروف أن إجبارية جمع الزكاة من الدولة هو الأولى، وإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يرسل السعاة والجباة ويعطون الصدقات. ولذلك من باب أولى أن نستمر وإن نحيى في هذا الظرف وفي هذا الزمن مثل هذه المؤسسة التي تقوم بمثل هذا العمل والتي ينبغي أن تكون موضع ثقة. النقطة الثالثة: أنني أرى أن نحتاط للأمر وأن نتخذ من الناس الذين هم من ذوي الأمانة ومن ذوي الاخلاص ومن ذوي العمل سواء مشتركين من الدولة ومن المزكين أنفسهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 لكن في هذه الناحية تعليق بسيط أيضا على الأستاذ خليل الميس أنه هو يرى عدم إعطائها إذا كانوا ظلمة فماذا يفعل الأستاذ في هذه النصوص وأن نورد منها: عن أنس رضي الله عنه أن رجلا قال " يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله قال: نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها إلى الله ورسوله فلك أجرها وإثمها على من بدلها" هذا حديث. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها. قالوا: يارسول الله فما تأمرنا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم ". وقد روى البيهقي في الكبير أن المغيرة بن شعبة قال لمولى له وهو على أمواله بالطائف: كيف تصنع في صدقة مالي؟ قال: منها ما أتصدق به ومنها ما أدفع إلى السلطان. قال: وفيم أنت من ذلك؟ قال: إنهم يشترون بها الأرض ويتزوجون النساء قال: أدفعها إليهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن ندفعها إليهم ". وروى مسلم في صحيحه عن جرير بن عبد الله قال: " جاء أناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن أناسا من المصدقين جباة الصدقة يأتوننا فيظلموننا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أرضوا مصدقيكم ". وشكرًا. الشيخ آدم شيخ عبد الله: شكرا سيدي الرئيس .... بسم الله الرحمن الرحيم.. وبه نستعين. إن مسألة توظيف الزكاة في مشاريع ليست بمسألة جديدة طرأت في هذا العصر بل تكلم في شأنها الفقهاء القدامى لا بصيغتها الحالية بل بمعناها وقد نقلت من كتاب المجموع للنووي في جزئه السادس صفحة 103 ما نصه. فلو أراد الإمام أن يشتري ذلك، يعني أدوات الحرب مثل الفرس والسلاح وغيرهما، بمال الزكاة ويسلمه إلى الغازي بغير إذنه، أهل يجوز ذلك؟ هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، بل يتعين تسليم مال الزكاة إلى الغازي أو إذنه. وبه قطع جماعة من العراقيين، وأصحهما يجوز وهو الذي صححه الخراسانيون وتابعهم الرافعي على تصحيحه. وقال الخراسانيون: الإمام بالخيار، إن شاء سلم الفرس والسلاح والآلات إلى الغازي أو ثمن ذلك تمليكا له فيملكه، وإن شاء أستأجر ذلك له وإن اشترى من سهم سبيل الله سبحانه وتعالى أفراسا وآلات الحرب وجعلها وقفا في سبيل الله ويعطيهم عند الحاجة ما يحتاجون إليه ثم يردونه إذا انقضت حاجاتهم وتختلف المصلحة في ذلك بحسب قلة المال. اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 وهذا ظاهر بأن الفقهاء تكلموا في هذه المسألة فنرى أنهم أجازوا للإمام من سهم سبيل الله أن يقيم مشاريع ذات ريع وأما من سهم الفقراء والمساكين فإنهم لم يجيزوا ذلك فيه. وقد ذكر شمس الدين الرملي في شرح المنهاج للنووي أن الفقير والمسكين إن لم يحسن كل منهما كسبا بحرفة ولا تجارة يعطى كفايته أو يعطى كفاية ما بقي من العمر الغالب لأمثاله في بلده، وليس المراد بإعطاء من لم يحسن الكسب إعطاؤه نقدا يكفيه تلك المدة بل ما يكفيه دخله منه ويُشترى له به عقار يستغله ويغتني به عن الزكاة فيملكه ويورث عنه. وقالوا: إن الأصناف الأربعة في الآية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} يدفع لهم نصيبهم من الصدقات على أنه ملك لهم، وفي الأربعة الأخيرة يجوز صرف نصيبهم إلى جهات الحاجات المعتبرة والصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة ويصرف مثلا سهم الغزاة إلى إعداد ما يحتاجون إليه في الغزو وفي هذا أو بعد هذا فإننا نفهم، أنه يجوز توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع من سهم سبيل الله وأما من سهم الفقراء والمساكين وهم محتاجون حاجة ملحة، كما رأينا بالأمس عرض صور بعض الحاجات. إنني أرى أنه لا يجوز بحال أن نجعل سهم الفقراء أو نقيم من سهم الفقراء مشاريع ذات ريع بل نقضيه حالا يعني نقضيه فوريا لأن بعض الفقهاء يبينون ويقولون كما في نفس المجلد من المجموع: وينبغي للإمام وللساعي إذا فوض إليه تفريق الزكوات أن يعتني بقسط المستحقين ومعرفة أعدادهم وقدر حاجاتهم واستحقاقهم بحيث يقع الفراغ من جميع الزكوات بعد معرفة ذلك معه ليتعجل وصول حقوقهم إليهم وليأمن من هلاك المال عنده ولهذا أرى أن لا ضرورة أن نقيم مشاريع ذات ريع من سهم الفقراء والمساكين ونجيز، وأرى أنه من الممكن أن نقيم من سهم في سبيل الله مشاريع ذات ريع. وشكرًا. الشيخ مصطفى الزرقاء بسم الله الرحمن الرحيم ... إخواني الأساتذة الكرام ... أحببت أن أسمع كثيرا قبل أن أتكلم وقد رأيت أن في حصيلة ما سمعت أنه لا بد أن نعلن ونقول: إننا في معالجة قضايا الزكاة وهي من أهم القضايا التي ظهر شأنها مضاعفا أضعافا في هذا العصر كما تعلمون أننا إذا أردنا أن نعالج مشكلاتنا فيها الزمنية والعوائق التي تحول دون الاستفادة من الزكاة هذا النظام الإلهي العظيم الذي تبين أنه لا تنحل مشكلات البشرية إلا على أساسه إذا أردنا أن نعالجها في هذا العصر بالفكر السابق الفقهي الذي رآه فقهاؤنا الأولون مع مزيد احترامي وإجلالي، ورجائي أن يكونوا شفعائي عند الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 إذا أردنا أن نمشي في هذا الأسلوب فإننا لا يمكن أن نحل مشكلاتنا التي خلقت الزكاة بإرادة الله تعالى لحلها. مثلا أخونا حفظه الله الشيخ تقي يؤكد ويلح أنه لابد من التمليك الفردي وإن التمليك الجماعي غير مقبول ولا جائز، ويفسر التمليك الجماعي وهو أغرب ما سمعت في هذا، أنه يفسر كلمة التمليك الجماعي - وأين - في نطاق بحث الزكاة وتمليك الفقراء. يفسر التمليك الجماعي بما يفيد أنه يفهم منه أنه التمليك للمسلمين جميعا فقراء وأغنياء ويضرب مثلا على نفي جواز التمليك الجماعي في طريق صرف الزكاة أن أموال بيت المال هي تمليك جماعي للمسلمين جميعا فأين هذا من أن نقول التمليك الجماعي في أموال الزكاة للفقراء الذين يرون أن التمليك الجماعي كثيرا ما يكون أصلح للفقير وأنفع لا يريدون أن يملكوا المسلمين جميعا أغنياء وفقراء كبيت المال الذي هو لمصالح الأمة وإنما يراد التمليك الجماعي للفقراء كبعض الأمثلة التي ضربها إخواننا الأساتذة الكرام مثل الشيخ القرضاوي وسواه فلذلك لا نستطيع أن ننفي جواز التمليك الجماعي بهذا المنطق أبدًا. ثم أرى أنه في هذا المجال لا مناص لنا، إخواني الأساتذة الكرم، من أن نعالج قضايا الزكاة بشيء من حرية الفكر أو ما تريدون أن تسموه يعني بفكر اجتهادي حديث من أهله: ينظر في واقع حال المسلمين وظروف العصر وتطوراته العجيبة المذهلة والمشكلات التي نشأت في ظل هذه الحياة العصرية وما إلى ذلك مما تعلمون ولا حاجة للإفاضة في ذلك، أن نعالجها بفكر حر ينظر في الواقع وينظر في النصوص وقابلياتها. يعني مع احترامي لفقهائنا الأولين وللمذاهب ولكن ما عاشوا شيئا مما نعيش اليوم ولا صادفهم ما نصادفه من التيارات والمشكلات. نحن اليوم نعيش ظرفا جديدا فلذلك إذا أردنا أن نتقيد بالآراء الفقهية التي مع احترامي لمن قالوا بها ولطرق استنباطها ولكننا إذا رجعنا إلى النصوص التي استقوا منها قد نجد مجالا بأفهام لم يذكروها هم ولعلهم لو كانوا عاشوا عصرنا لما فهموا سواها. يعني قضية " اللام " مثلا، قضية " اللام " والتمليك، إخواني الأساتذة الكرام يعني أنا لا أستطيع أن أفهم من " اللام " أننا نحن يجب أن نفهم القرآن الكريم والسنة النبوية كما يفهمها العربي الأصلي ابن اللسان، و " اللام " تكون للتمليك بالمعنى المعروف للتمليك وتكون للتخصيص. وإذا أردنا أن نحصرها بأنه لابد من التمليك الفردي فقد عطلنا كثيرا من فوائض الزكاة ومن ما تحل من مشكلات وأين الدليل على التمليك الفردي من " اللام "؟ حتى أنني لا أرى فرقا بين " اللام " و " في ". النصوص عبرت بكليهما عن موضوع واحد وفي هدف واحد فدلت على أنهما مما يدلان على شيء واحد " فمثلا في القرآن العظيم جاء للفقراء بـ " اللام " في الحديث النبوي في صحيح الإمام البخاري جاء للنبي عليه الصلاة والسلام الأعرابي فقال له يا رسول الله: آراه أمرك أن تأخذ هذه الأموال من أغنيائنا فتمدها في فقرائنا قال: نعم أقره الرسول على هذا وقد عبر بـ " في "، وفي موضوع الفقراء أنفسهم القرآن عبر " اللام " والحديث النبوي أقر التعبير بـ " في " وكلمة " في " أي عربي من أولئك أبناء اللسان لما يقول أن ترد في فقراء الناس يفهم أن " في " يعني يجب أن نملكه فرديا ونسلمه بيده. التخصيص لو جمعت طائفة من أموال الزكاة وأنشئ بها مطعم للفقراء وأبناء الفقراء ينظم إطعامهم فيه بشكل أصولي يعتبر هذا وضعا بمال الزكاة في الفقراء؟ . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 لا أظن أن هذا يمكن أن يتردد به أحد إلا إذا تجرد اللهم من جميع الخلفيات المسبقة مذهبية أو آراء سابقة له يحرص عليها ويصعب عليه تغييرها أو تبديلها. هذا كله إذا أردنا أن نعالج مشكلات الزكاة ونستفيد منها لعصرنا هذا الذي نصادف فيه ما لم نكن نتوقع فإننا لا نستطيع بهذه التقيدات الحرفية لآراء الفقهاء السابقين رضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بهم وشفعهم فينا أن نتقيد لأن هناك مجالا لآراء أخرى والنصوص مزايا الشريعة الكريمة هذه النصوص التي فيها من القابليات ما لا ينتهي. فلذلك أرى أننا يجب أن نتجرد عند معالجة مشكلات الزكاة عن كثير من خلفياتنا لكي نستطيع الاستفادة منها. يعني يحضرني الآن مثال الإمام محمد بن الحسن الشيباني رضي الله تعالى عنه. فى نفسي أمور أحب أن أبينها فإذا كنتم ترون الكلام طويلا فأنا أقصر ولكن أحب أن أتكلم كما تكلم غيري، على أني خاضع لكل إشارة يراد بها إنهاء الكلام الإمام محمد بن الحسن الشيباني رضي الله تعالى عنه كان في سفر وهذه مروية في سيرته كان في سفر ومعه تلاميذه، بعض منهم فتوفي أحدهم في الطريق فأمر الإمام محمد أن تجمع أمتعته وأشياؤه وإن تباع فجمعها وباعها وحفظ ثمنها له وأخذه معه إلى أهله فقالوا: به بقية تلاميذه كيف بعت أمواله ولم يوكلك ليس هناك منه وكل أجابهم بقوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} فنحن هذا المبدأ يجب أن نضعه. ماذا هو أصلح للفقراء أن كان تمليكا فرديا وإن كان تمليكا جماعيا، طبيعي هذا لا أقصده به أن يلغى التمليك الفردي أو لا يلغي ولكنه أساس. لكن هل هذا يمنع من طرق يكون فيها الأمر أنفع للفقراء كفتح مدرسة تعلم أبناءهم الحرف، فتح مستشفى كما ذكر بعض الأساتذة تداوى به أبناؤهم أيضا أو هم أنفسهم، فهل هذه تعتبر منافية للتخصيص تخصيص الزكاة للفقراء. هذا لا أعتقد أنه ممكن أن يقال إذا تجردنا عن تلك الخلفيات التي نحن في حاجة إلى التجرد منها. وأنا أرى أننا يجب أن نميز بين أمرين: الاستثمار، وأنا أكره التعبير بالتوظيف لأن التوظيف كلمة تحتمل عدة أوجه. الاستثمار الذي هو تنمية المال، الاستثمار لأموال الزكاة وصرف هذه الأموال وثمراتها، فأما الاستثمار فإني أرى أن كل طرق الاستثمار بمعنى أن يوضع في طريق ينمو به مال الزكاة فيصبح الواحد اثنين والاثنين ثلاثة مثلا هذا كل الطرق التي تؤدي إليه على شرط أن تكون تمارسها أيد أمينة وأساليب وتحفظات مأمونة. كل هذا جائز سواء أكان عن طريق تجارة أو عن طريق صناعة أو عن طريق أي شيء يمكن أن يستثمر وليس مال الزكاة بأشد حرمة من مال القاصر اليتيم ولا سيما اليتيم الفقير فإن الفقهاء متفقون على أن لوصي اليتيم أن يتاجر بأمواله ويستثمرها لتنميتها كي لا تأكلها النفقة ولا يبقى له فيها شيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 نعم هناك النظم بعد خيانات كثير من الأوصياء، قيدوا قيودا النظم والقوانين هذا شيء آخر نحن نقول: أن تكون بأيدي أمينة بالطرق التي يرتضيها المسلمون. فهذا طريق الاستثمار مفتوح لكل باب وفيه مصلحة لهم لأنه يضاعف حصيلة الزكاة لهم. وأما الصرف فأنا أرى أن كل طريق يختص بالفقراء فهو مقبول سواء بالتمليك الفردي وهو أساس لأنه لا يمكن إلغاؤه لأن هناك حاجات فورية للفقراء، وأن يكون أيضا قسم منه يصرف على ما يعود عليهم بنفع دائم كالأمثلة التي ذكرها بعض الإخوان وإن نفتح لهم مدرسة لتعليم حرف تغنيهم وإن نفتح لهم مياتم لأبنائهم الأيتام، وإن نفتح لهم مطاعم. وكل هذا جائز في الصرف ولا ينافي تخصيص الزكاة للفقراء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الشيخ محمد سالم بن عبد الودود: إن هناك فرقا بين إخراج الزكاة من طرف المالك وبين إيصالها إلى المستحق فالمالك مأمور بالإخراج على الفور لأن الله تعالى يقول {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وإذا كان المالك يصرف إلى الفقير مباشرة فالواجب الفورية في الإخراج والدفع، وإذا كان يصرف إلى الجابي أو إلى الإمام العدل فإنه تبرأ ذمته بمجرد إخراج الزكاة وعلى الجابي من ذلك ما تحمل. وفى المذهب المالكي: يندب للمالك أن يصرف زكاته إلى الإمام العدل في صرفها. فإن كان الإمام غير عدل وأخذها جبرا من المالك برئت منها ذمته. وإن طاع بدفعها لجائر في صرفها لم تجز. أما عند الفقهاء المالكية فإنهم يتوسعون خصوصا المتأخرين منهم يتوسعون في مفهوم سبيل الله، ويجيزون توظيف الزكاة في بعض المرافق العمومية التي تعود بالخير على الفقراء أو حتى على المستضعفين وطلبة العلم في إنشاء المدارس وبناء المساجد إلى غير ذلك كما ذكره الشيخ الونشريسي في الجهاد وغيره من المفتين المتأخرين. أما تعميم الظرف في الأصناف الثمانية فهذا لا يوجبه الإمام مالك ولكن المهم عنده إيثار المضطر والاجتهاد في التعميم. فإذا كانت الحاجة في الدفاع أشد في سنة الصرف صرفت إلى الغزاة وإذا كان انقطاع الرفاق في السبيل في سنة أكثر صرفت إلى أبناء السبيل وإذا كان الفقر مدقعا صرفت إلى الفقراء. وهكذا بحسب الحاجة والمصلحة وأخص إلى أنه لا ينبغي أن يحرم الفقراء من الصرف المباشر ولا ينبغي أن يسد باب اجتهاد الإمام العدل في توزيع الزكاة وفي توظيفها أو استثمارها فيما يعود بالخير الأنفع على المستحقين، وشكرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 الشيخ وهبة الزحيلى: بسم الله الرحمن الرحيم الحقيقة أن سلفنا الصالح لم يكونوا أغبياء كما قد يثور في بعض الأذهان وإنما المشكلات الحديثة كانت تفرض وجودها على المجتمع الإسلامي في الماضي والفقهاء تصدوا لهذه المشكلات وتحدثوا عنها طويلا. فقضية إقامة المشافي والمدارس والمراكز الصحية وحماية المعوقين وغير ذلك. كل هذا قد خصص الفقهاء لها جانبا كبيرا بأن ينفق عليه من سهم المصالح العامة وهناك بند خاص في بيت المال وموارد معروفة من الجزية والخراج والعشور وغير ذلك قالوا: مثل هذه الأمور سهم المصالح يغطي هذه القضايا جميعها. ولهذا فلم تكن تنشأ عندهم مثل هذه المشكلة إلا في وقت نضب فيه الإقدام على الخير في عصرنا الحاضر والتفريط في إخراج الزكاة وعدم القيام بهذه الفريضة التي لو أديت على الوجه الأكمل لما وجدنا فقيرًا في المجتمع الإسلامي كما تدل عليه الإحصائيات. هذا شيء. الشىء الثاني فقهاؤنا أيضا فرضوا بالنسبة لتمليك الزكاة بين أغلب هؤلاء الأصناف وبين في سبيل الله وأيضا وفي الرقاب. الحقيقة المذاهب الأربعة على إيجاب التمليك، وأما ما يعرضه فضيلة أستاذنا الزرقاء فهو يجنح إلى أن يقيس هذا الأمر على قضية كفارة اليمين وهو ما قرره الحنفية في قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} أباح الحنفية ولم يشترطوا التمليك وقالوا: تجوز الإباحة. فإقامة المطاعم للفقراء يظهر أنه قاسها على هذا الأمر في قضية الكفارات ولكن لم أجد للفقهاء مثل هذا القياس وهذا اجتهاد هو الآن لأول مرة نسمعه ربما يكون محل نظر من قبلنا أما قضية الوقف التي تردد أنها ألغيت في بعض البلاد الإسلامية فالوقف الذي ألغي هو الوقف الأهلي أو الذري، أعني الوقف على الذرية في مصر وسوريا لما نشأ عنه من مشكلات كثيرة. وأعتقد أن الأستاذ الزرقاء كان قد أفتى بجواز إيقاف هذا الجانب، أما الوقف الخيري فلم يلغ إطلاقا في مثل هذه البلاد لكن اشترطت هاتان الدولتان أن يسجل لم يلغ الوقف الخيري اشترطوا تسجيله إذا أراد الإنسان أن يقف وقفا خيريا اشترطوا التسجيل لكنهم لم يمنعوه ولم يستأصلوه، ألغوا الوقف الأهلي أو الذري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 الحقيقة أنا مع قضية تمليك أو توظيف هذه الأمور التي تأتي من الزكاة من خلال فقط سهم سبيل الله، هذا من جانب فكلنا نفتي بأنه يجوز أن ندفع الزكاة لدور العلم وللمشافي والمؤسسات الصحية فهذا لا مانع منه إذا دفع جزء من الزكاة لهذه النواحي فلا مانع من أن تقوم الجهة التي تشرف عليها وتعمل بها ما هو فيه الخير، هذا جانب. الجانب الآخر: أهملنا جانب التوكيل لماذا نهمل إرادة الفقراء من الممكن أن نأتي لكل أهل قرية أو أهل ناحية أو محلة ونقول لهم هناك مثلا عشرة آلاف دينار أردني مخصص لكم. أتوكلون واحدا منكم أو القاضي الشرعي أو المؤسسة الفلانية في أن تقيم لكم مصنعا أو متجرا أو مشغلا أو حرفة أو ما شاكل ذلك؟ فإذا قاموا بالتوكيل والإنابة والنيابة أيضا هناك نيابة شرعية للولى وللسلطان وللأب والجد كما أشار الأستاذ الزرقاء، وهناك نيابة اتفاقية، فإذن من الممكن أن تخرج عن كل هذه المشكلات من طريق .... أولا: احترمنا إرادة الفقراء ولمسنا مشاعرهم وتحسسنا آلامهم وأدركنا ما هي الحاجة الملحة أمامهم فهناك فقراء، فقر مدقع كما يموت الناس الآن في المجاعات هؤلاء لا بد من أن نغينهم فورا وهناك فقراء دخلهم لا يكفيهم وهم فقراء، يجوز إعطاء الزكاة لهم هؤلاء من الممكن أن يقوموا بتوكيل وبإنابة لبعض الجهات وحنيئذ نكون قد وفقنا بين هذه الاتجاهات التي عرضت في هذا الصباح المبارك. ونستطيع أن نصل إلى نتيجة وفي الحقيقة تكون قد وفقنا بين مختلف الآراء. وشكرًا. الشيخ مصطفى الزرقاء: لما تفضل به الأخ الكريم الدكتور وهبه قال في معرض كلامه عن إلغاء الأوقاف الذرية أى الأهلية دون الخيرية قال: يظن أنني كنت موافقا على إلغاء هذه الأوقاف الواقع عكس ذلك فأنا كنت من أكبر مقاوميها عندما ألغيت، وكنت أيضا وأنا تلميذ سنة 1923 في المدرسة الشرعية في حلب وأنا تلميذ بعد كتبت رسالة لأن هذه النغمة خرجت من شخص أسمه رحيم من طرابلس في أيام الاحتلال الفرنسي ودعا فيها إلى إلغاء الأوقاف الذرية وأنا وضعت رسالة في الرد عليه وأنا دون العشرين من عمري سميتها " الشمس الجلية في الرد على من أفتى بإلغاء الأوقاف الذرية " وعندي منها بعض نسخ " والسلام عليكم " يعني آلت أموال الأوقاف لما حلت سنة 49 على أيدي حسني الزعيم صارت أملاكًا للنصاري واليهود واشتروها بأبخس الآثمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 الشيخ أحمد بن حمد الخليلى: بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد فقد استفدت كثيرا من المداولات التي كانت بين أصحاب الفضيلة في هذه المسألة واذا كانت لي كلمة فأريد قبل كل شيء أن أقول بأن دلالة الآية الكريم {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} حسب نظري دلالة الآية الكريمة تقتضى التمليك وهناك فرق بين " لام " و " لام " فقد تكون " اللام " دالة على الاختصاص إذا كان مدخولها لا يصح أن يملك أو إذا كان ما ذكر قبلها لا يصح أن يملك والمال يجوز أن يملك ومدخول " اللام " فقراء وهم بشر عاقلون فعلى كل حال التمليك ظاهر من مدلول هذه الآية الكريمة حسب نظري. وأريد أن أقول بالتفرقة ين أمرين: أولا: بين أن يكون الحاكم المسلم هو الذي يأخذ الزكاة بطرق العدل ومن الأغنياء يضعها في محلها، وبين أن يكون الأغنياء أنفسهم هم الذين يدفعونها. فالحاكم العدل هو وكيل المستحقين وهو مأمور بأن يتحرى المصلحة في ذلك، أن يتحرى مصلحة الفقراء والخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عندما فاضت الزكاة عن حاجة الفقراء عمل بها أعمالا برية متعددة، زوج منها العزاب، وبنى بها مساكن للذين لا يملكون مساكن، وأخيرا أعطى منها فقراء أهل الذمة. أما إذا كان الأغنياء هم الذين يدفعونها مباشرة للفقراء فهذه حالة أخرى، لا يصح للأغنياء أن يتصرفوا فيها بدون إذن ملاكها وهم الفقراء ثم إن هناك ناحية أخرى يجب أن تراعى، هل هناك فائض من الزكاة عن حاجة الفقراء أو ليس هناك فائض؟ اليوم كثير من الناس شردوا من أوطانهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم، هناك اللاجئون الفلسطينيون، هناك اللاجئون الأفغانيون، هناك كثير من اللاجئين بسبب الفتن التي وقعت في بلاد الإسلام. ثم هناك أيضا نفس الشئ مقاومة في سبيل الله مقاومة لليهود، مقاومة للروس في أفغانستان فالزكاة يجب أن تدفع إلى هؤلاء يستحقونها لأمرين: يستحوقنها لأجل فقرهم، ويستحقونها لأجل مقاومتهم للعدو الغاشم فما دامت الزكاة غير فائضة عن الحاجة الملحة في وقتنا هذا فلماذا نسخرها لحاجات متوقعة في المستقبل؟ الزكاة تختلف عن الفيء" الفيء حكم الله سبحانه وتعالى به للحاضرين وللذين يأتون من بعدهم كما هو واضح في سورة الحشر هذا حسب ما ظهر لى. وشكرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 الشيخ أحمد محمد جمال: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين وصلى الله عليه وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان. وبعد فإني لم أجد فيما أعلم على قلة علمي وفيما سمعت من حوار أصحاب الفضيلة العلماء لم أجد مانعا شرعيا قاطعا من اتخاذ وسيلة لتنظيم الزكاة أنا أسميه تنظيما، تنظيم الزكاة لم أجد مانعا شرعيا في القرآن والسنة يمنع من هذا التنظيم على طول الحوار بين أصحاب الفضيلة العلماء التنظيم مطلوب في أمر من أمور الدين والدنيا. نحن نريد بهذا المشروع أن ننظم الزكاة أن نضمن استمرار ريعها للفقراء والمساكين وسواء أكان هذا الاستثمار لنصيبين أو لأربعة أو لثمانية من المصارف المعروفة القرآن الكريم يقول {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} إلخ. لم يحدد الكيفية ولم يمنع اتخاذ كيفية ما تضمن أداء هذه الأنصبة وهذه المصارف فلماذا نقف طويلا في موضوع التمليك؟ التنظيم للزكاة بطريق الاستثمار أو التوظيف أو أي أسلوب آخر يضمن الريع المستمر كما يضمن توفير المال للمصارف أو للأوجه. المصارف الآن تعددت الفقر ليس فقر الجوع والعطش أنما تعددت الآن صور الفقر، مرض، تعويق، لجوء، مهاجرة من البلاد كما رأينا في أفغانستان وفي فلسطين وفي لبنان وفي غيرها. إذن يجب أن لا نقف أن لا يقف المجمع أمام عقبة التمليك والخلاف على التمليك لا الخلاف على الأسلوب. أنا أقول: إن هذا المشروع مجرد تنظيم لمصارف الزكاة والإسلام قرآن وسنة وفقه واختلاف واجتهاد لم أجد فيما أعلم وفيما سمعته الآن من حوار أصحاب الفضيلة مانعا شرعيا يمنع من التنظيم. فلنجد في وضع المشروع بحيث يكون شاملا عاما مع ضمان الأماني ممن يقوم بهذا المشروع وأرى أن ذلك ينبغي للمجمع وألا يطيل الجدال في خلافات فرعية لا تمس المشروع من قريب ولا من بعيد والسلام عليكم. الشيخ أحمد يزيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله.. اللهم صل على سيدي رسول الله. وبعد، الحقيقة يتبين من الآيتين، الآية {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} هذا أمر وهذا يجب أن يكون على الفور. ومن الآية الثانية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} إلخ الآية، هذا بيان. ثم كلمة " خذ " هذا أمر من الله للإمام العدل إذن هو وكيل عن الفقراء عليه أن يأخذ الأموال، وعليه أن يدفعها في أبوابها، وإن يعمل ما يراه صالحا لهم كوكيل عنهم وله أن يوكل من يراه من مؤسسات أو من أشخاص أمناء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 ثم إني أود أن أبين حسب التجربة أن أموال الزكاة التي ننفقها بسرعة في بيت الزكاة الكويتي ينتفع منها الفقير انتفاعا آنيا. أما الأموال التي تعطى لنا من أموال أخرى مثل المنح أو التبرعات ونستثمرها في مشاريع يبقى نفعها دائما للفقراء ثم أود أن أبين أيضا هنا بأن أعداء الله المبشرين لهم في الحقيقة من المؤسسات التي تدر عليهم في طول سنين عديدة ما يمكنهم من أن يبشروا ضد الدين الإسلامي فما المانع في الحقيقة إذا رأى الإمام أو من يفوضه أو من يوكله لصالح المسلمين أن يستثمر أو يعمل على مشاريع المستشفيات والمدارس وما إلى ذلك؟ ومشاريع استثمارية لها ديمومة العمل والاستثمار وإن تدر على المسلمين. أنا لا أرى لذلك مانعا حسب ما ظهر لى من الآية الكريمة وما سمعته من الفقهاء وأثني على رأي الأخ الذي تكلم قبلي الأخ أحمد جمال، وشكرًا. الشيخ تيجاني صابون محمد شكرًا فضيلة الرئيس ... في الحقيقة أول مرة آخذ الكلمة لأن الموضوع أهمني جدا حيث إن موضوع الزكاة بالذات موضوع هام ولابد من التداول في المناقشات. في الحقيقة نحن عندما قلنا إنه قبل أن توظف الزكاة إلى مشاريع ذات ريع لا بد من أن يجد كل ذي حق كفايته أعني بذلك طبعا المصارف الثمانية وأرى أننا في الظروف الحالية بالذات أهم مصرف توجه فيه الزكاة في الظروف الحالية بالذات هو الفقراء قبل كل شيء، وأني أعتقد أن حالة الفقراء الآن في الدول الإسلامية لو وجهت إمكانيات الزكاة إلى هؤلاء الفقراء لما كفتهم. ولذلك إني أميل إلى الرأى الذي يقول إنه لا بد من تخصيص جزء هام من هذه الأموال إلى الفقراء في الدول الإسلامية، ويمكن أن يخصص الجزء الثاني لمثل هذه المشاريع لأننا نعتقد أن هذه المشاريع أيضا تعود بالنفع إلى الفقراء لأن هناك الجهل والجوع والمرض كل ذلك موجود في الدول الإسلامية الفقيرة ولذلك فإني أرى أنه لا مانع من توظيف هذه الزكاة في مشاريع ذات ريع لأنها تعود للفقراء ويدخل أيضا في باب {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} إذا دخلنا من الباب الواسع إذا توسعنا الموضوع، وشكرًا. الشيخ محمد عبده عمر: الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين. أما بعد، فإنني من خلال ما سمعت من مداولات ومناقشات فإنه لا ينقص السادة الفقهاء والعلماء الأجلاء، لا ينقصهم الاطلاع على النصوص من الكتاب والسنة ولا ينقصهم أيضا الاطلاع على النصوص الفقهية على اختلاف المذاهب. ولكن فليسمحوا لي إذا قلت بأن النصوص التي هم على اطلاع عليها بحاجة إلى تحليل دقيق وإلى تلمس الحكمة من تلك النصوص كما تفضل شيخنا الزرقاء حيث قال: إن فقهاءنا رحمة الله عليهم لم يكونوا أو لم يعاصروا المشاكل التي نعاصرها حاليا ولو كانوا في وقتنا هذا لتلمسوا من تلك النصوص والأحكام التي فيها مخارج وفيها سعة للأمة الإسلامية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 الناحية الأولى: ناحية تلمس المصلحة أو الغاية أو ما يسميها بعض الفقهاء مقاصد الشريعة الإسلامية وأنا في اعتقادي أنه لا بد من تلمس الحكمة من النصوص وتلمس أيضا الغاية من مقاصد الشريعة الإسلامية. فمقاصد الشريعة الإسلامية كما لا تخفى على السادة الفضلاء أنها تهدف إلى إسعاد الإنسان في العاجلة والآجلة. فكما يقول الإمام ابن تيمية رحمة الله عليه بأن الشريعة الإسلامية إنما هي رحمة للإنسان في كل نواحي حياته. فإذن لا يكفي أن يكون عندنا إلمام بالنصوص من الكتاب والسنة، كما لا يكفي أن يكون عندنا أيضا إلمام بنصوص المذاهب الفقهية ما لم يكن عندنا أيضا تحليل دقيق لتلك النصوص على ضوء ما يعتمل في واقعنا الإسلامي وأيضا تلمس مقاصد وأهداف الشريعة الإسلامية، هذه ناحية. الناحية الثانية: أنا أثني شخصيا على رأي الشيخ عبد العزيز الخياط وعلى رأي الدكتور عبد السلام العبادي وعلى ما تفضل به السادة أو بعض أعضاء المجمع من أن الزكاة لابد أن تستغل وأن تستثمر لصالح الأمة الإسلامية خاصة في الوقت الذي نحن فيه والذي يحاول أعداء الإسلام أن يشوهوا الإسلام وأنه لا توجد فيه عدالة ولا توجد فيه حلول ناجحة للفقراء والمساكين. ولهذا فإن استثمار جزء من الزكاة استثمارا صحيحا على ضوء الشريعة الإسلامية أنا أعتقد أن هذا من أهم ما ينجزه المجمع في هذه الدورة، وشكرًا. الشيح روحان إمباي: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهله وصحبه أجمعين. أعتقد أن أسلوب العمل أو أسلوب النقاش ممكن أن نعيد النظر إليه لأن المناقشات التي تدور حول هذه المسألة بالذات دامت حوالي ثلاث ساعات وعلى أساس أننا كنا قد طلبنا من بعض الإخوان أن يعدوا بحوثا، وهذه البحوث وزعت علينا واطلعنا عليها وعرضت علينا باختصار من طرف دكتور فرفور، أظن أنه كان علينا أن نفرع ما جاء من المسائل أما أن تكون ننظر إلى هذه البحوث على هذه الزاوية. أما أن تعالج هذه البحوث كل المسائل كل جوانب المسألة وعليه فإما أن يكون هناك مسائل خلاف أم لا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 فإذا كان هناك مسائل خلاف وكان هذا بالإمكان أظن أن المناقشات التي تدور حول هذه البحوث ينبغي أن نفرعها ونأخذ رأي الجماعة في كل مسألة بالذات فنكون نتدرج في المناقشات فنتوصل إلى حل في أقرب وقت ممكن وعدم اعتمادنا هذه البحوث حملنا على أن يقوم كل واحد منا بما يعرفه بدون اعتماد هذه البحوث بالذات. فأتساءل هل هذه البحوث التي قدمت لها أهمية كبرى أم لا؟ كأن المسألة قد أثيرت أمامنا صباح اليوم وحاول كل واحد منا أن يبدي فكرته حول المسألة بالذات. الجانب الثاني من تدخلي يتصل بموضوع الزكاة بالذات لا أرى أننا مطالبون بالوصول إلى حل حاسم في هذا الصدد أعتقد أن الحل الوسط هو الأفضل بالنسبة لنا لا أن نهمل التوظيف ولكن ليس علينا أن نوظف كل أموال الزكاة. وعليه فإن الفكرة التي سمعتها من طرف السيد خليل أم من طرف السيد الزحيلي أظن أن هذه الفكرة ممكن أن نتوخاها وهي فكرة توظيف الزكاة في الأبواب الأربعة الأخيرة المبدوءة بـ " في " وترك الأبواب الأربعة الأولى التي بدأت بـ " لام " التمليك سواء أكانت اللام لام تمليك أم لام تخصيص. فهذا الحل الذي أراه أكثر مناسبة بالنسبة لنا لأن هذه النصوص أو هذه الأبواب الثمانية التي توجد في القرآن أعتقد أنها لا تترك لنا جانبا من الاجتهاد لأنها نص وعليه فحالة الفقر التي نعيشها في هذه العصور ربما تكون نسبيا نفس الشيء مما عيش في القرون الماضية. إذن أنا أميل إلى ألا نعتقد أننا مطالبون بالوصول إلى حل يوظف كل أموال الزكاة، وشكرًا. الشيخ عبد العزيز عيسى: أريد فيما يتعلق بتوظيف الأموال أو بعض الأموال لمصلحة الفقراء ألا يصدر القرار حتى يدرس تطبيقه في جميع البلاد، يعني طريقة التطبيق ألا نفوت على أحد مصلحة. وهذا يقتضي أولا أن تكون هناك مؤسسة كما جاء على ألسنة، بعض الإخوان تقوم بهذا العمل أو لابد أن تقوم به الدولة. إن كانت هناك مؤسسة فنخشى أن يكثر أفرادها وأن يدفع كثير من هذا المال لأننا توسعنا. جاء في أثناء الأحاديث ممكن أن نتوسع في كلمة {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} بحيث يشمل هؤلاء الأشخاص هذا لابد أن يضبط بضوابط حتى لا يضيع المال في هذا لابد أيضا من حصر المستحقين لهذه الزكوات. من الذي سنعطيه في ذلك العصر أو في هذا العام أو في العام القادم؟ هل يكون حصرا متجددا أو حصرا غير متجدد؟ وإذا اغتنى أحدهم عن أن يكون مستحقا بطل وصف الاستحقاق فيه. هل هو الذي سيبلغ عن نفسه أو ستكون هناك دراسة دائمة لنعرف بها المستحق من غير المستحق حتى لا يأكل حق غيره؟ المسائل عند التطبيق تكون عسيرة ولابد من وضع ضوابط وقيود لهذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 أنا أخشى أن يؤدي هذا الأمر إلى جنوح الفقراء للبطالة لأنه هو ما دام اطمأن إلى أنه سيرد له مرتب عشرة جنيه عشرين لا يسعى إلى أن يكون معطيا، يسعى دائما إلى أن يكون آخذا فهو مطمئن إلى أن اسمه مكتوب في كشف المستحقين لا بد من الاحتياط لمثل هذا أيضا. فيما نعلم أنه يجوز لي أن أعطي الزكاة لبعض أقربائي أنا أخشى أن يكون بعض الأقرباء يستحقون أن يقيدوا أنفسهم كما أستحي أنا أن أبلغ عن أقربائي هؤلاء وفي هؤلاء المستحقين من يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف فما هي الضوابط التي سنضعها وليس غرضنا أننا نقول: أصدر المجمع قراره بأن توظف أموال الزكاة لمصلحة الفقراء، لا، لابد أن يكون هذا أمرا دائما نفاذا، وهناك شك من الذي سيدفع الزكاة؟ الأغنياء، الأغنياء هؤلاء يمكن الشارع فرض على الأغنياء وجعلها عبادة لتكون صلة دائمة بين الأغنياء والفقراء ويشعر بأن الغني عطوف عليه، لن يشعر الفقير بالعطف أبدا مني وهو يأخذ مرتبه من المؤسسة أو من التوظيف الذي عمل للمال، كل هذه محاذير. ونحن من حقنا أن ننبه الناس ونلاحظ الضوابط التي يمكن بها إذا صدر هذا المشروع أن يبلغ إلى المسلمين في دولهم وأن يقوم المسلمون على تنفيذه التنفيذ الدقيق الصحيح، وأشكركم. الشيخ أحمد أزهر بشير: بسم الله الرحمن الرحيم تأييدا للرأي في جواز توظيف الزكاة في مشاريع استثمارية أذكر النقاط التالية: أولا: ذكر القرآن مستحقي الزكاة بدون تعيين طريقة خاصة لإيصالهم أو لإيصالها إليهم، إذن فطريقة إيصالها إلى المستحقين مجال للاجتهاد. ثانيا: ذكر القرآن الفقراء والمساكين كمجموعات لا كأفراد من بين المستحقين، فالغرض من مشروعية الزكاة حل مشكلات الفقر الذي عانى منه الفقراء والمساكين إذا اكتفينا بما يهمنا اليوم. ثالثا: فالأمر الأساسي هو كيف أصبحت الزكاة طريقة فعالة لعلاج تلك المشكلة حتى تستطيع أن تستوفي حاجات المستحقين المتنوعة من الأغذية والصحة والمسكن والعلم وهكذا. رابعا: وعلى هذا ففي رأيى ليس هناك أي مانع شرعي لتوظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع يقصد بها استثمار أموال الزكاة لصالح مستحقيها، وذلك من باب المصلحة المرسلة. وخامسا: ذكر القرآن العاملين على الزكاة من بين المستحقين إشارة إلى إمكان الاجتهاد كيف تصرف الزكاة إلى مستحقيها حسب رأي ولي الأمر، ففي هذا تسري قاعدة. تصرف الإمام منوط بمصلحة الرعية. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 الشيخ عبد الله بن بيه: فيما يتعلق بكون " اللام " للملكية أو للاختصاص أقول فقط إنه تتبعا للقرآن الكريم إذا كانت اللام من الاختصاص فإنها غالبا إلى الله كما في قوله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} للاختصاص أما إذا كانت للملك فإن اللام تضاف إلى المستحق شرعا كما في قوله سبحانه وتعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} هذا العنصر الأول. العنصر الثاني: أن شخصا مكلفا بدفع صدقة ماله لفقرائه واختلف العلماء في أن الفقير شريك في المال أو ليس شريكا في المال، وينبني على هذا الخلاف بعض المسائل والجزئيات التي تعلمونها. المهم أن المكلف لا يبرأ إلا بأحد أمرين: بدفع المال للفقير أو بدفع المال للإمام، لا نجد واسطة أخرى، لو دفعها إلى موكل والصندوق كموكل لو دفعها لشخص آخر فانه لا يبرأ ما دامت الزكاة لم تصل إلى يد الفقير. هذا المسلك أعتقد أنه في غاية الأهمية وهذا الفرق علينا أن ننتبه له. فيما يخص المال أو البند المتعلق بالفقراء والمساكين. فيما يخص البند المتعلق {سَبِيلِ اللَّهِ} فيه كلام طويل في الحقيقة والعلماء اضطروا فيه في بداية الأمر، فبعضهم قال: إنهم الغزاة وبعضهم قال: السلاح والكري ومنهم مالك رحمه الله تعالى، وبعضهم كالقفال قال: أوجه البر موجهة في سبيل الله، وتبعه بعض المتأخرين وخصوصا رشيد رضا فقال: إن {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} تشمل كثيرا من المسائل، والعلامة الألوسي أيضا يجنح، أو ذكر هذه الأقوال. فهذا البند يمكن أن يخصص جزءا معينا لإقامة بعض المؤسسات الآمنة. هناك فقط اجتهاد أو استحسان، وهو أن هذا الصندوق الذي ينوب عن صاحب المال لأن الفقير لم يوكله، وما دام المال لم يصل إلى يد الفقير فإن صاحب المال لا يضع يمكن كما قال الشيخ القرضاوي في فترة قصيرة وهو يحصي المحتاجين ويحاول أن يستكشف المستحقين أن يتصرف في هذا المال لفائدة الفقراء حتى يوصله إلى أيديهم. والسلام. الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فبعد أن استمعتم في وقت يزيد عن ثلاث ساعات من العرض والمناقشات التي أرجو من الله سبحانه وتعالى أن تكون نافعة وأن يصل المجتمعون إلى رأي يكون موافقا للوجه الشرعي الصحيح، فإنه تحصل أمامي من خلال المداولات أربعة آراء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 الرأي الأول: الجواز، وهذا الجواز اختلف المجيزون بقيود فيما بينهم لا ندخل في تفاصيلها لوجهة نظر سأبديها إن شاء الله تعالى في أخر التلخيص، وبنوا هذا على أمور مصلحية معاصرة كما سمعتم. والرأي الثاني: هو الجواز للفائض عن سهم الفقراء والمساكين. والرأي الثالث: هو الجواز من سهم في سبيل الله. والرأي الرابع: هو المنع بناء على الأصل ولأن مصارف الزكاة أتت بطريق الحصر وهذا من أبلغ صيغ الحصر وليس هناك مصرف تاسع من مصارف الزكاة، وأن " اللام " للتمليك وأن الزكاة أداؤها على الفور، وأنه لا ينبغي الإضرار بالفقراء الحاضرين على حساب فقراء مستقبلين لأن توظيف الزكاة يؤدي إلى حرمان الفقراء المشاهدين للأموال ولأن هناك بعض الملابسات العصرية من واقع العالم الإسلامي ولغير ذلك من الوجوه التي تسمعونها وقد تستنجونها. ورأي المنع هو الذي أتجه إليه وأدين الله به لأن هذه شعيرة من شعائر الإسلام وركن من أركان الإسلام فإنه لا ينبغي أن يدخل الدخل على هذه الشريعة الإسلامية العظيمة. ولهذا نظرا لتعدد الآراء فقد أجريت مشاورة مع معالي الأمين ومعالي الشيخ عبد العزيز وسعادة المقرر فاتفقنا على أن كل واحد من أصحاب الفضيلة الأعضاء العاملين يقدم رأيه فقط مختصرا بما لا يزيد عن سطر أو سطرين يقدم رأيه ويسلمه مشكورا للمقرر، ومنه هنا نستخلص ما اتجهت إليه الأكثرية وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وترفع الجلسة للاستراحة وأداء الصلاة ثم نعود إن شاء الله تعالى لموضوع طفل الأنابيب وأجهزة الإنعاش والسلام عليكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العاملين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (3) د (3/07/86 بشأن: توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407/ 11 إلى 16 أكتوبر 1986م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع " توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق " وبعد استماعه لآراء الأعضاء والخبراء فيه. قرر: يجوز من حيث المبدأ توظيف أموال الزكاة في مشاريع استثمارية تنتهي بتمليك أصحاب الاستحقاق للزكاة، أو تكون تابعة للجهة الشرعية المسؤولة عن جمع الزكاة وتوزيعها على أن تكون بعد تلبية الحاجة الماسة الفورية للمستحقين وتوافر الضمانات الكافية للبعد عن الخسائر. والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 طرق الإنجاب في الطب الحديث وحكمها الشرعي لفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد بسم الله الرحمن الرحيم طرق الإنجاب في الطب الحديث وحكمها الشرعي الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده: أما بعد، فمن نوازل العصر وقضاياه المستجدة في أعقاب تطور الطب الحديث – أمور جدت في علمي الأجنة والوراثة. ومنها ما يتعلق بالإنجاب سلبا أو ايجابا نحو: 1- الإجهاض. 2- منع الحمل. 3- تحديد النسل. 4- الولادة مع العقم وفيه: جدت طرق الإنجاب التي يجمعها حمل المرأة من غير طريق الوقاع بما اكتسب اللقب: (أ) طفل الأنابيب. (ب) التلقيح الصناعي. والأول واحد من أساليبه بل تطور " التلاعب العضوى " بالخلايا الإنسانية إلى طموحات أخرى تشتعل فى: الحيوان والنبات. وبدأت تطبيقها على الإنسان في عدة مظاهر (1) (أ) بحث التحكم في جنس الجنين: ذكر أم أنثى؟ (ب) إشباع الرغبة بجهاز إلكتروني. (ج) تكاثر الخلايا الجسدية بتحويلها إلى خلال جنينية. (د) وجود إنسان مجتر بخلط خلاياه مع خلايا بهيمية. ومحل البحث هنا هو " طرق " الإنجاب في الطب الحديث " وقد تكاثرت فيه الدراسات وعقدت له الندوات والمؤتمرات وبهر العالم وجود هذا النوع الجديد في الجنس البشري من حيث تغير طريق الحمل بغير طريق التواصل أو الالتقاء العضوى بين الزوجين، فثارت حوله أقاويل، وقامت أمامه شكوك وشبهات وصار الناس منه في أمر مريج قبولا وردا.   (1) مستخلص من بحث الأستاذ أحمد شرف الدين فى: كتاب الإنجاب: 136 – 142. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 ففي الوقت الذي أبته مجموعة من الغرب، وعللوه بغيرتهم على الجنس البشري والحفاظ عليه وسلامته من مواليد يلحق بهم علامات استفهام في شرعية سبب الحمل؟ تقبل آخرون لهذا ورأوا أنه سبيل لإغاثة العقيم البائس من نعمة الأولاد. وبعد أن دبت إلى المسلمين في ديار الغرب أو في ديارهم نازلهم علماء الشريعة بدارسة هذه النازلة وتنزيل الحكم التكليفي الشرعي عليها كل بما وصل إليه علمه ومارسه دارسة وبحثا فألفت في ذلك وسائل وأعدت بحوث ودراسات وصدرت فتاوى وقرارات مجمعية. ونهض فريق من الأطباء المسلمين فأعطوا التصور الكامل عن هذه الواقعة والطبيعة الطبية لها من حين الشروع فيها وحتى المرحلة الأخيرة بشتى أساليبها وصورها بل منهم من جمع النظرة الشرعية الفقهية لدى العلماء ولجميع أولاء الأجلة: فضل السبق لفتق الرتق في هذه النازلة، وتجسيدها واقعا وشرعا لكن لما كانت هذه الأبحاث متناثرة والآراء فيها متباينة أضحى من الضرورة بمكان تصنيف القول فيها واقعا وحكما بتصوير الواقعة وأساليبها لما هو معلوم من مبادئ العلم الأولية " الحكم فرع التصور وهذا بحكم المفروغ منه. وتكييفها فقها بترتيب النتيجة على البحث لا لنصرة رأى بعينه. ولهذا تصنيف البحث فيها على ما يلى: المبحث الأول: في بيان ما كتب في هذه النازلة. المبحث الثاني: قواعد شرعية أمام البحث. المبحث الثالث: المصطلحات الطبية في هذه النازلة. المبحث الرابع: تاريخها. المبحث الخامس: ولائدها. المبحث السادس: صورها. المبحث السابع: حكمها شرعا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 المبحث الأول: بيان ما كتب في هذه النازلة تبعا أو استقلالا. حصل بالتتبع ما يلى: أولا: الفتاوى: 1- فتاوى شيخ الأزهر محمود شلتوت ص 326 – 329. 2- فتاوى حسنين مخلوف. 3- من حقيبة المفتي، لأحمد العسكري ص 211. 4- نماذج من الفتوى لعطية خميس 1/201. 5- فتاوى المنار. 6- فتاوى معاصرة، ليوسف القرضاوي ص / 490 – 495. 7- قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة وهي: القرار الرابع عام 1402 والقرار الخامس عام 1404 هـ والقرار الثاني عام 1405 هـ 8- فتوى شيخ الأزهر جاد الحق عام 1400 هـ باسم: التلقيح الصناعي في الإنسان " 9/3213 – 3228 رقم الفتوى / 1225 من كتاب " الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية ". ثانيا: البحوث المستقلة أو في كتاب: 9 - الجنين في الإسلام، محمد سلام مدكور. ص /129 وما بعدها. 10 - الإسلام عقيدة وشريعة لمحمود شلتوت ص / 204، 208. 11 - البيان في تصحيح الإيمان لمحمد فؤاد عبد الباقي ص / 129. 12 - الحلال والحرام، ليوسف القرضاوي ص 162 – 163. ثالثا: بحوث المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت، عام 1403 هـ، فيها مجموع في كتاب مع أبحاث أخرى باسم: " الإنجاب في ضوء الإسلام " وفيها ما يلى مع ما لحقها من مناقشات: 13 - أطفال الأنابيب – الرحم الظئر. الطبيب: حسان حتحوت ص 188 - 236. 14 - الإنجاب في ضوء الإسلام للشيخ إبراهيم القطان ص / 365 – 374. 15 - أطفال بالكتالوج ... ص / 470 – 476. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 16 - أطفال الأنابيب مشكلة أخلاقيات – أمهات بالوكالة ... " ص /467 – 469. 17 - طفل الأنابيب للشيخ مصطفى الزرقاء ص / 477 - 482. 18 - آراء في التلقيح الصناعي. للشيخ بدر المتولى ص 483 – 487. 19 - آراء في التلقيح الصناعي. للشيخ على الطنطاوي ص /488 - 490. 20 - حكم الاستنجاب في الشريعة الإسلامية والقانون. لأحمد شرف الدين ص / 391 - 406 من مجموعة أبحاث المؤتمر العالمي الثالث عن الطب الإسلامي. وهذا البحث دقيق وبالغ الأهمية. رابعا: بحوث مجمع الفقه الإسلامي بجدة. وفيه: 21 - أطفال الأنابيب. للشيخ عبد الله البسام. 22 - التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب للطبيب: محمد علي البار. 23 - "أطفال الأنابيب" للشيخ رجب التميمي. خامسا: المؤلفات المفردة: 24 – الحكم الإقناعي في إبطال التلقيح الصناعي، وما يسمى بشتل الجنين، للشيخ عبد الله بن زيد آل محمود. هذا ما أمكن الوقوف عليه حين كتابة هذا الحبث وثمة أبحاث متناثرة في كتب: الإجهاض وتحديد النسل، وعلاج العقم، وكتب الطب المعاصرة. والله الموفق. المبحث الثاني: قواعد شرعية أمام البحث: التمهيد بين يدي البيان للحكم التكليفي والحكم الوضعي لهذه النازلة يعطي توطينا للنفس بالوقوف على الحكم الشرعي بأمان من إبعاد النجعة في الرأي. ولهذا فهذه قواعد شرعية ومواصفات علمية تنير السبيل في هذا البحث المهم الخطير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 القاعدة الأولى: تواضع علم الناس وعملهم على أن عملية الإنجاب في سيرها الفطري والشرعي تبدأ من التقاء عضوي التناسل بين الزوجين فيعلق حيوان الزوج المنوي ببيضة زوجته أمشاجا في رحمها في ذلكم القرار المكين، لتنمو خلال عدة مراحل حيث تتكاثر الخلايا وينفخ فيها الروح حتى تنتهي عملية الحمل بولادة المولود (1) بإذن الله تعالى: قال تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . وقال تعالى {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} وقال تعالى {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} . وقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق فقال: ((أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح)) متفق عليه. القاعدة الثانية: لكل مولود بأبيه صلة: تكوين ووراثة وأصل ذلك " الحيوان المنوي " فيه. وله بأمه صلتان: الأول: صفة تكوين ووراثة، وأصلها " البيضة " منها. الثانية: صلة حمل وولادة وحضانة وأصلها " الرحم " منها. فهذا هو المولود المتصل بأبويه شرعا وطبعا وعلى هذه الوصلة تترتب جميع الأحكام الشرعية التي رتبها الله تعالى على ذلك. فإذا كان " الحيوان المنوي " من رجل غريب متبرع لزوجة رجل ما فهذا أصبح مقطوع الصلة عقلا وواقعا وطبعا وشرعًا. فالولد للفرش وللعاهر الحجر.   (1) الطب الإسلامي. مقال أحمد شرف الدين: 391 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 وإذا كانت البييضة " من امرأة غريبة متبرعة لزوجة رجل آخر لقحت فيها، فحينئذ انفصمت إحدى الصلتين قطعا وهي " البييضة " من الزوجة ذاتها وهذا معلوم الانقطاع عقلا وواقعا. وطبعا وشرعا. وإذا كان مجموع الخلية الإنسانية " الحيوان المنوي " من الزوج و " البيضة " من الزوجة، لكن زرعا أو لقحا في رحم امرأة أجنبية متبرعة فالصلة الثانية للأم وهي " الحمل والولادة " منفصمة قطعا: عقلا وواقعا وشرعا. وعليه: فإذا انقطعت الصلتان من الزوجة فهى ليست أما بأي حال من الأحوال. ولا قائل بالأمومة من المسلمين ولا من سائر البشر أجمعين. وإذا تحققت الصلتان كانت أما طبعا وواقعا وشرعا. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} وبإجماع المسلمين الضروري من الدين أن القرار المكين رحم الأم الشرعية لا غير. قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} فالنطقة المحترمة من جميع الوجوه هي التي من الزوجين وهي محل الامتنان من الله على عباده. ولهذا قال سبحانه ممتنا على مريم عليها السلام: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} وقال تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} وقال تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} وقال تعالى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} وقال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} وقال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} فالأم في هذه الآيات هي الأم الشرعية والأب المذكور في آيات كريمة وكثيرة من التنزيل هو: الأب الشرعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 فالأبوة والأمومة الشرعية هي مجموع الهيئة الحاصلة لمولود وقع لقاحه وتكوينه بماء أبويه على فراش الزوجية فحملته به أمه في بطنها مستقرا في رحمها قراره المكين، فهذا هو المولود الذي يكتسب الأبوة والأمومة الشرعية ومتى اختلت واحدة من هذه الصلات الثلاث فالحال كما علمت قبل في صدر هذه القاعدة مفصلا. والله أعلم. القاعدة الثالثة: التدافع بين المضار والمنافع، فحيث وقع التغلب فالحكم للغالب منهما حلا وحرمة، وحيث استويا صار مجال نظر الفقية. وعليه: فصور من التلقيح الصناعي تخضع لهذه القاعدة فيخرج عليها بالمقابلة بين سوالبه ومنافعه. وهذا ما ستراه بإذن الله تعالى في بعض صوره التي يمكن تخريجها على هذه القاعدة (1) . القاعدة الرابعة: تفيد النصوص أن جسد الإنسان ومنافعه مملوكة له لكن ليس له حق التصرف في هذا الملك إلا في حدود الشرع فتصرفه منوط بالمصلحة شرعا. فكما أن نعمة النظر مملوكة له فليس له مد نظره إلى ما يحرم النظر إليه. وكما أن الشهوة مركبة فيه وشرع له إطفاؤها بماء الزوجية حرم عليه إطفاؤها بماء الزنا واللواطة. وكما ملكه الشرع أن يطأ لطلب الإنجاب من ماء الزوجية حرم عليه الإنجاب من غير ماء الزوجية ووعاء الحمل، فتدبر والله أعلم. القاعدة الخامسة: أن مواطن الحاجات والضرورات لا يفتى بها فتوى عامة وإنما إذا ابتلي المكلف استعلم أظنها ممن تسوغ فتياه لدينه وعلمه. القاعدة السادسة: المتعين إخضاع الواقع لشريعة الله وعليه فلا يجوز العكس إجماعا.   (1) الطب الاسلامي: 3/ 398 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 القاعدة السابعة: حفظ النسب والعرض من مقاصد الشرع الأساسية وهما من الضروريات الخمس التي دارت عليها أحكام الشرع. فهذه الخلية الإنسانية من حيث دفقها بل وقبل ذلك وفي جميع مراحل تكريمها ونموها إلى استهلالها يجب أن تكون بيضاء نقية خالية من أى شيء يخدشها أو شكوك تحيط بها أو مخاطر تحف بها فهى بالغة الحساسية في التأثر بما يخل بكرامتها وقيمتها الإنسانية ذات محل للعقل وتحمل للحنيفية السمحة. ولهذا صار من قواطع الأحكام في الإسلام: تحريم الزنا والقذف وسد جميع الأبواب الموصلة إليهما. فكم من إشارة ستكون حول هذا المواليد الصناعية وكم من تساؤل واستفهام؟ وقد هيأ الزوجات مجالا واسعا للخدش بالقذف والتجريح؟ فماذا سيكون وضع أمة مشكوك في أصل بنيتها وتكوينها؟ إن الشرع المطهر يوصد كل باب يوصل إلى ما هو أقل من هذا مما هو معلوم لكل من خبر الشريعة في مصادرها ومواردها. والله أعلم. إن هذه القاعدة سد منيع للتلاعب بالخلية الإنسانية والبنية الآدمية. فلنقل: ما هو حجم الاضطرابات والشكوك، وعوامل التجريح والخدش التي ستحدثها هذه النازلة في الآدميين. وما هي آثارها على النظام الاجتماعي وترابطه مكرما بأسباب هندسة الطب للبشر وجعله ساحة للتجارب كالأمصال للبقر؟ وما مدى صدمات المستقبل التي سيواجهها الإنسان؟ وما مدى اضطراباته العارمة الهادمة لبنيته؟ وما مدى سحق الطفل الأنبوبي والمولود الصناعي للمولود الطبيعي؟ وبالتالى ما مدى سحق هذا للأخلاق والفضائل والكرامة والتكريم من الرب الرحيم بعباده بمسار هذا الآدمي في جوهر نظيف يحمد الشرع الحنيف. قال الله تعالى {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} وعليه: فإن كل ما يفضي أو يغالب حفظ الإنسان والأعراض محرم شرعا. القاعدة الثامنة: واجب حملة الشرع من أهل العلم تمحيص مكتسبات العلم الحديث على ضوء التنزيل منعا للمسلمين من التلبس بشطحات وهفوات العلم الحديث (1) . وواجب أهل الإسلام عدم الإقدام إلا بعد الفتيا من علماء الشريعة المستضيئين بنورها. والتولي عن هذين الواجبين سقوط في الحظر. قال الله تعالى {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} .   (1) الإنجاب: 141 – 142 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 المبحث الثالث: فى تفسير مصطلحات طبية ونحوها يذكرها الباحثون في هذه النازلة. الأمشاج: هى الأخلاط قال الله تعالى {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} . فيتكون من الماءين نطفة الأمشاج هذه " الزيجوت " المتكونة من التحام نواة البييضة من الأنثى بنواة الحيوان المنوي من الرجل فيتحدان وعندئذ يحصل التلاقي والتلاقح وتنتقل إلى ما حدده الله بقوله {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} . وإذا ما تم هذا التلاقح بينهما بدأت هذه البييضة الملقحة تنقسم انقساماتها المعروفة المتتالية الخلية الأمشاج " الزيجوت " المكونة من التحام نواة البييضة بنواة الحيوان المنوي: تنقسم فتصبح الخلية خليتين.. والخليتان أربعا ... والأربع ثماني. ثم تدخل فيما يعرف باسم مرحلة (التوتة) وذلك في اليوم الرابع منذ التلقيح، لأنها تشبه ثمرة التوتة المعروفة. ثم تتحول هذه التوتة إلى ما يعرف باسم " الكرة الجرثومية " في الرحم. وفى هذه الأمشاج يقول الطبيب / حسان حتحوت كما في كتاب الإنجاب: 217: الحيوان المنوي والبويضة كزراعي المقص كل منهما لا يقص فإذا اشتبكا كان المقص وكان مكونا منهما معا .... فإذا التحما كانت خلية واحدة هي بداية الحياة الإنسانية أول دور في تكوين الإنسان. وتنقسم بعد هذا إلى 2 – 4 – 8 – 16 – 32 – 64 – 128 وهكذا وتبتدئ بالتدرج تكوين خلايا منها كبيرة قليلا وصغيرة ومتوسطة وعلى مدى شهرين يتكون إنسان صغير ثم يأخذ في النمو ... " انتهى باختصار. الاستدخال: (1) (1) مصطلح فقهى قديم يعني: حقن ماء الرجل في قبل المرأة وقد رتبوا عليه أبحاثا في حكمه، وحكم طلاق من استدخلت مني زوجها. الأم المستعارة: وهي التي نقل إلى رحمها البييضة اللقيحة وتسمى أيضا " مؤجرة البطن ". البييضة: وهى المعبر عنها لدى الأطباء بلفظ " البويضة " وتصغير بيضة في اللغة: بييضة (2) وهي هنا: مني الزوجة أو يقال: خلية الأنثى ".   (1) شرح المنهاج: 3/243، 3/291، 3/245، 3/347، 2/248. والطب الإسلامي: 3/393، 397. والبار: /16. (2) الإنجاب: 488. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 الحاضنة: والشيخ ابن محمود في رسالته " الحكم الإقناعي " ص / 13 يرفض هذه التسمية ويقول: (إن هذا من باب الحقائق فإنه لا حضانة إلا للطفل الصغير متى خرج إلى الوجود حيا وما دام في بطن أمه فإنه يسمى حملا، وأمه حاملا. لا يقال حاضنة) . وهذا تفريع منه على أن الولد لصاحبة الرحم التي ولدته لا لصاحبة البييضة وأن حكمه حكم ولد الزنا " الولد للفراش " والله أعلم. وتسمى أيضا: " الأم المستعارة ": الحوين: هو ماء الرجل، أى " الحيوان المنوي. (1) . وخلية المرأة " البييضة " قال الله تعالى {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (2) فإذا التقيا واختلطا سيما بالأمشاج. ويقولون: الحيوان المنوي والبييضة كذراعي المقص كل منهما لا يقص فإذا اشتبكا كان المقص، وكان مكونا منهما معا، وحينئذ تكون الأمشاج. الرحم: هو القرار المكين المذكور في قوله تعالى {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} وهو " الحوض الحقيقي " الذي تلتقي فيه الخليتان من ماء الزوجين وحينئذ تعلق في جدار الرحم وتصبح علقة عالقة. تم تنمو بعد ذلك نموا طبيعيا إلى مضغة، ومن مضغة إلى عظام يكسوها اللحم ثم ينشئها الله خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (3) الرحم الظئر: الظئر بكسر الظاء المشالة بعدها همز هي: العاطفة على ولد غيرها المرضعة له في الناس وغيرهم وجمعه " أظئر " و " آظار " كما فى: تاج العروس 12 / 460 مادة " ظئر " ومن هنا قيل للبذرة الأنثوية " البيضة " من امرأة بعد تعرضها لمني الزوج مثلها حتى يلتحم بها ثم إيداع ذلك في رحم امرأة أخرى، قيل لذلك " الرحم الظئر ". (4) وهذا اكتسب بعد اسم: " شتل الجنين ". شتل الجنين: الشتل: القطع " شتل الجنين هو واحد من المصطلحات للرحم الظئر وحقيقته: أن يجامع رجل امرأته التي هي غير صالحة للحمل، ثم ينقل الماء منها إلى رحم امرأة ذات زوج بطريقة طبية فتحمله إلى نهاية وضعه (5) وطريقة النقل هذه هي " الشتل ". ويعترض الشيخ ابن محمود فى: رسالته على تسمتيه " الجنين " وإنما يسمى " منيا " لقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} فلا يكون جنينا حتى تنفخ فيه الروح ... إلخ. وتسمى الحاملة به أيضا " المضيفة ". قناة فالوب: القناة هنا هي الطريق الطبيعي التي تصل بين الرحم والمبيض. وسميت بذلك: نسبة إلى عالم التشريح الإيطالى الذي اكتشفها (6) .   (1) الإنجاب: 448 (2) البسام: 7. (3) البار. (4) الإنجاب: 189. (5) الحكم الإقناعي: 2، 6، 12، الطب الإسلامي: 3/392، 404، مجلة العربي مفاد: الطبيب حسان حتحوت، وعنه فتاوى معاصرة: 488 (6) الزرقا: 42. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 واذا اعترى القناة انسداد أو غياب صار سببا لعدم قابلية الحمل (1) . ويحسن أن نسميها قناة الرحم " كما يفيد ذلك إطلاق الطبيب: محمد البار: 7. وتسمى " البوق " (2) . اللقيحة: هى البيضة الملقحة (3) . المضيفة: المرأة الأخرى التي ينقل إلى رحمها البييضة اللقيحة (4) . وهي أيضا " الحاضنة ". مؤجرة البطن، وتسمى أيضا الأم بالوكالة، وتسمى أيضا أجنة بالوكالة (5) . المتبرعة: وهي التي تتبرع ببيضتها لامرأة أخرى ذات زوج (6) . المانحة: وتسمى المتبرعة بها: المانحة أيضا. الميزان العصبي: هو البداية الأولى لتكوين الجهاز العصبي بعد اليوم الرابع عشر من التلقيح (7) . المبحث الرابع: تاريخ نشوء هذه النازلة زمانا ومكانا (8) : أول مولود أنبوبي خرج إلى العالم هي: لويزا بروان، التي ولدتها ليزلي بروان " وذلك في 10 نوفمبر عام 1977 م. وذلك في بريطانيا على يد الطبيبين استبتوا، وأدواردر إذ قاما بتلقيح بويضتها بماء زوجها فاشتهرت هذه الطفلة باسم " طفلة الأنبوب " وتفجر بركان خبرها في العالم، وشغل وسائل الإعلام، فصار حديث الساعة، ثم توالت مواليد أطفال الأنابيب إلى المئات في أنحاء العالم منهم مجموعة من التوائم. وفى أعقاب ذلك تولدت أيضا مجموعة من القضايا والمشاكل الأخلاقية، وأثارت الشكوك والاشتباه، وصار العالم الغربي بين القبول والرفض حتى قال رائد هذه النازلة الطبيب " أدواردر ": " إن هناك حاجة صارخة إلى وضع إطار آداب وأخلاقيات هذا الميدان". ثم خرجت بعد أول طفلة من الرحم الظئر لكن في أعقاب ولادتها دخلت قضيتها المحاكم الإنجليزية ذلك لأن الأم بالوكالة أو الرحم الظئر رفضت تسليم الطفل لصاحبة البييضة بعد ولادتها على الرغم من أنها وقعت عقدا بتسليم الطفل بعد أن تلده لصاحبة البييضة.   (1) الإنجاب: 189، والبار: 6. (2) الإنجاب: 188 (3) الطب الإسلامي: 3 / 391 أحمد شرف الدين. (4) الطب الإسلامي: 3/391 مقال لأحمد شرف الدين. (5) انظر في هذه الأسماء الإنجاب 467 (6) البار: 15. (7) البار: 5. (8) انظر: البار: وكتاب الإنجاب الصفحات: 194، 197، 199، 200، 201، 215، 217، 218، 226، 228، 230، 231، 467، 469. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 ثم تنوعت أساليب وصور: طفل الأنابيب و: التلقيح الصناعي. وجدت بعد هذا قضايا مهمة في هذا المضمار إذ الطب الغربي بمهارة يضرب السبل التي تجعل بني الإنسان " ساحة تجارب، ومعمل اختبار فما جد في ذلك. 1- بنك المني. 2- تجميد الأجنة. 3- زرع الخصية. 4- زرع الرحم. 5 - إجارة البطون، ويسمين، مؤجرات البطون، أو أمهات بالوكالة أو أجنة بالوكالة. 6 - الأم المتبرعة أى ببيضتها. 7 - الأب المتبرع أى " بمنيه " المعروف قديما في صعيد مصر باسم الصدفة. 8 - تلقيح الاستبضاع. 9 - زرع المبيض. 10 - مواليد الكاتلوج. 11 - الحمل بعد الوفاة لزوجها وهذا الواقعات مواليد. 12 - طفل الأنابيب. 13 - التلقيح الصناعي. 14 - الرحم الظئر " الحاضنة " والتي توسعت إلى مؤجرات البطون كما تقدم برقم (5) المبحث الخامس: فى ولائد هذه النازلة التي تستحق البحث والدرس من أهل الصنعة والعلم لبيان الحكم الشرعي فيها للناس تكليفا ووضعا: وقد تقدم ذكر رؤوس المسائل لها فى: المبحث الرابع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 المبحث السادس: فى صور هذه النازلة: ليعلم أن هذا الاصطلاح " طفل الأنابيب " أصبح لغة ميتة لإنه يمثل الآن واحدة من الصور وليس جميع الصور ولأن الأنبوب أصبح البديل المستعمل " الطبق " فكان الأولى أن يتحول إلى هذا اللقب " طفل الطبق " كما تقدم في المبحث. فصار " طفل الأنبوب " واحدة من صور وأساليب ما اكتسب اسم " التلقيح الصناعي " والذي ذكرت في المبحث قيل أن الاسم الذي يحسن التسمية به هو: وهذه الأساليب والصور آخذة في سبيل التكاثر والانقسام. وقد نهج الباحثون في تقسيم هذه الصور والأساليب إلى قسمين بحكم السبب الجامع الذي تندرج تحته تلك الصور. لكن جرى الخلاف في التسمية على ما يلى (1) القسم الأول: التلقيح الاصطناعي الداخلي، أو يقال الإخصاب الداخلى، أو يقال: التلقيح الإخصابي الذاتي: وهو ما أخذ فيه ماء الرجل وحقن في محله المناسب داخل مهبل المرأة زوجة أو غيرها. وفي هذا صورتان. القسم الثاني: التلقيح الاصطناعي الخارجي أو يقال: الإخصاب المعملي، حيث يتم الإخصاب في وسط معملي: وهو ما أخذ فيه الماءان من رجل وامرأة زوجين أو غيرهما وجعلا في أنبوب أو طبق اختبار ثم تزرع في مكانها المناسب من رحم المرأة وفي هذا خمس صور. وفى الواقع أن هذا التقسيم هو باعتبار واحد هو: مكان الإخصاب لكنه ينقسم أيضا باعتبار الماء إلى قسمين: الأول: تلقيح ذاتي أى بماء الزوجين ذاتهما في ذات رحم الزوجة. وهذا له صورتان: واحدة داخلية وأخرى معملية.   (1) الطب الإسلامي: 3 / 393 – 394 مقال: أحمد شرف الدين. وهو مهم، وكتاب الانجاب: 350 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 الثاني: التلقيح الأجنبي وهو الذي يكون فيه أحد الماءين أو كلاهما أجنبيا وينقسم باعتبار الرحم الذي تزرع أو تستنبت فيه اللقيحة إلى ثلاثة أقسام. الأول: رحم الزوجة ذاتها. الثاني: رحم ضرتها. الثالث: رحم امرأة أجنبية. وتنقسم باعتبار الزوجية إلى قسمين: الأول: ما يتم بين زوجين زوج وزوجته منيا وبييضة ورحما. الثاني: ما كان فيه طرف ثالث أجنبي أو كان أجنبيا متمحضا أو كان فيه طرفان أجنبيان. ثم هذان القسمان باعتبار الطريق على نوعين. 1- نوع داخلى. 2- ونوع خارجي معملي. ومن هذه الصور ما يجمع هذه التقاسم أو بعضها فمثلا. ماء رجل وزوجة يلقح ماؤه ببويضة امراة أجنبية ثم تنقل من وسطها المعلمي إلى رحم زوجته أو أجنبية أخرى سوى البييضة. فهذا تلقيح معملي أجنبي باعتبار البييضة أجنبي باعتبار الرحم. هذا ما يمكن فيه تقسيم صور هذه النازلة التي حدثت حتى تاريخه ووصل إلينا علمها وأصبحت حقيقة تنتظر الفتيا بشأنها. وبعد هذا فإلى بيان هذه الصور والأساليب على ما يلي كما وردت محررة مبنية في قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة رقم 2 في عام 1404هـ: للتلقيح الداخلى فيه أسلوبان وللخارجي خمسة من الناحية الواقعية بقطع النظر عن حلها أو حرمتها شرعا، وهي الأساليب التالية: فى التلقيح الاصطناعي الداخلى الأسلوب الأول: أن تؤخذ النطفة الذكرية من رجل متزوج وتحقن في الموقع المناسب داخل مهبل زوجته أو رحمها حتى تلتقي النطفة التقاء طبيعيا بالبويضة التي يفرزها مبيض زوجته، ويقع التلقيح بينهما ثم العلوق في جدار الرحم بإذن الله كما في حالة الجماع، وهذا الأسلوب يلجأ إليه إذا كان في الزوج قصور لسبب ما عن إيصال مائه في المواقعة إلى الموضع المناسب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 الأسلوب الثاني: أن تؤخذ نطفة من رجل وتحقن في الموقع المناسب من زوجة رجل آخر حتى يقع التلقيح داخيا، ثم العلوق في الرحم كما في الأسلوب الأول. ويلجأ إلى هذا الاسلوب حين يكون الزوج عقيما لا بذرة في مائه فيأخذون النطفة الذكرية من غيره. فى طريق التلقيح الخارجي الأسلوب الثالث: أن تؤخذ نطفة من زوج وبويضة من مبيض زوجته فتوضعا في أنبوبة اختبار طبي بشروط فيزيائية معينة حتى تلقح نطفة الزوج بويضة زوجته في وعاء الاختبار، ثم بعد أن تأخذ اللقيحة بالانقسام والتكاثر تنقل في الوقت المناسب من أنبوب الاختبار إلى رحم الزوجة نفسها صاحبة البويضة لتعلق في جداره وتنمو وتتخلق ككل جنين. ثم في نهاية مدة الحمل الطبيعية هذه تلده طفلا أو طفلة وهذا طفل الأنبوب الذي حققه الإنجاز العلمي الذي يسره الله وولد به إلى اليوم عدد من الأولاد ذكورا وأناثا وتوائم تناقلت أخبارها الصحف العالمية ووسائل الإعلام المختلفة ويلجأ إلى هذا الأسلوب الثالث عندما تكون الزوجة عقيما بسبب انسداد القناة التي تصل بين مبيضها ورحمها (قناة فالوب) . الأسلوب الرابع: أن يجرى تلقيح خارجي في أنبوب الاختبار بين نطفة مأخوذة من زوج، وبويضة مأخذوة من مبيض امرأة ليست زوجته (يسمونها متبرعة) ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته. ويلجأون إلى هذا الأسلوب عندما يكون مبيض الزوجة مستأصلا أو معطلا ولكن رحمها سليم قابل لعلوق اللقيحة فيه. الأسلوب الخامس: أن يجرى تلقيح خارجي في أنبوب اختبار بين نطفة رجل وبويضة من امرأة ليست زوجة له (يسمونهما متبرعين) ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة أخرى متزوجة. ويلجأون إلى ذلك حينما تكون المرأة المتزوجة التي زرعت اللقيحة فيها عقيما بسبب تعطل مبيضها لكن رحمها سليم وزوجها أيضا عقيم ويريدان ولدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 الأسلوب السادس: أن يجرى تلقيح خارجي في وعاء الاختبار بين بذرتى زوجين، ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة تتطوع بحملها. ويلجأون إلى ذلك حين تكون الزوجة غير قادرة على الحمل لسبب في رحمها، ولكن مبيضها سليم منتج، أو تكون غير راغبة في الحمل ترفها، فتتطوع امرأة أخرى بالحمل عنها. الأسلوب السابع: هو السادس نفسه إذا كانت المتطوعة بالحمل هي زوجة ثانية للزوج صاحب النطفة فتتطوع لها ضرتها لحمل اللقيحة عنها. وهذا الأسلوب لا يجري في البلاد الأجنبية التي يمنع نظامها تعدد الزوجات بل في البلاد التي تبيح هذا التعدد. هذه هي أساليب التلقيح الاصطناعي الذي حققه العلم لمعالجة أسباب عدم الحمل. المبحث السابع: فى تنزيل الحكم الشرعي على هذه النازلة: بعد استيعاب التصور لما وصل إليه الطب من طرائق للإنجاب، وبيان تقاسيمها باعتبارات مختلفة فإن النظر الشرعي للفقيه يختبر أوصاف المحل بمنظار الشرع المطهر حتى ينزل هذه الدخولات منزلتها. لمعرفة المحرم لذاته فهو تحريم غاية لا مجال لإباحته في أى حال. أو المحرم لما يحف به فهو تحريم وسيلة، وهل يباح بحال؟ أو المباح؟ والانفصال عن هذا في الفروع الآتية: الفرع الأول: ماءان أجنبيان في رحم امرأة متزوجة أو أحد الماءين أجنبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 الفرع الثاني: الماء من الزوجين في رحم الزوجة ذات البييضة بعد وفاة زوجها. الفرع الثالث: الماء من الزوجين والرحم أجنبي من الزوجية. الفرع الرابع: الماء من الزوجين في رحم زوجة له أخرى بتلقيح داخلى أو خارجي. الفرع الخامس: الماء من الزوجين في رحم الزوجة ذات البييضة بتلقيح داخلى أو خارجي. وتأسيسا على هذا التفريع فإلى بيان ما يظهر فيها شرعا. حكم الفرع الأول: وهو ما كان فيه الماءان أجنبيين سواء في أجنبية الحيوان المنوي والبييضة أو أحدهما. فإذا حملت الزوجة من أجنبيين أو من بييضتها وماء أجنبي فهو حمل سفاح محرم لذاته في الشرع تحريم غاية لا وسيلة قولا واحدا. والإنجاب منه شر الثلاثة هو " ولد زنا " وهذا ما لا نعلم خلافا بين من بحثوا هذه النازلة. وهذا ما توجبه الفطرة السليمة وتشهد به العقول القويمة وقامت عليه دلائل الشريعة. وقد أبان الشيخ محمود شلتوت عن مجامع الاستدلال في هذا، في فتاويه ص 328 – 329 بما يشفي ويكفي فيحسن الرجوع إليه فإنه مهم. حكم الفرع الثاني: تلقيح ماء الزوج بعد انفصام عقد الزوجية بوفاءة أو طلاق. حكم الفرع الثالث: الرحم أجنبي مستعار: فهذان الفرعان يشملها حكم الفرع الأول وهو التحريم لعدم قيام الزوجية في الفرع الثاني ولاختلاف رحم الزوجية في الفرع الثالث الذي هو من دعائم الهيئة الشرعية المحصلة للأبوة والأمومة. وقد أثبتت الإحصائيات والأخبار العالمية الموثقة وجود أعداد غير قليلة من القضايا والمنازعات على المواليد من هذه الطرق بين ذات الرحم وذات الماء وبين ذات الرحم وصاحب الماء وهكذا في سلسلة مشاكل طويلة الحلقات في ذات البنية الآدمية. كما أثبتت وجود ربع مليون طفل لا يعرف لهم أب نتيجة التلقيح الصناعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 حكم الفرع الخامس: ما كان فيه الماء من الزوجين في رحم الزوجية ذاتها ذات البويضة حال قيام الزوجية بتلقيح داخلي أو خارجي: وهذا الفرع محل خلاف كبير بين علماء العصر على أقوال: الأول: التحريم فيهما. الثاني: الجواز فيهما بشروط. الثالث: الجواز في الداخلي دون الخارجي بشروط. الرابع: التوقف. الخامس: أنه من مواطن الضرورات فلا يفتى فيه بفتوى عامة وعلى المكلف المبتلى سؤال من يثق بدينه وعلمه. هذا مع اتفاق الجميع على أن هذا الطريق يحف به عدد من المخاطر والمحاذير وبيانها على ما يلى: المخاطر والمحاذير: إن هذه المخاطر والمحاذير الشرعية هي واردة على جميع أنواع طرق الإنجاب لكن لما كانت الأربعة الأولى منها محرمة لذاتها فهو من باب حرمة الغايات لا الوسائل أكتفي بذلك عن ذكرها معه أما في هذا الفرع الخامس فإن هذه المحاذير اعتبارا وعدما يتأسس عليها القول بالحكم التكليفى جوازا أو منعا. ويمكن تكييف هذه المحاذير من خلال الأبحاث الصادرة في ذلك على ما يلى: (1) : 1 - ففى النسب: الاحتمال الكبير الخطأ بأن تؤخذ عينة من شخص وتنسب لشخص آخر، فإذا استبدل عمدا أو خطأ ماء رجل أو بويضة امرأة بآخر تحقق هدم المحافظة على النسب وحفظه من ضروريات الشرع. 2 - وفي العرض: فإن هذا المولود الذي حصل بطريقة يكتنفها الإخلال سيعرض هذه البنية الإنسانية إلى توجيه الشكوك حولها. وتوسيع دائرة الكلام في الوسط الاجتماعي تصريحا أو تعريضا، والمحافظة على العرض من ضروريات الشرع.   (1) بحث خاص الطبيب / محمد علي البار. قرار المجمع الفقهى بمكة المكرمة كتاب: الإنجاب في ضوء الإسلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 وليست هذه قضايا أعيان لا يحتمل وقوعها في المدينة الواحدة إلا لفرد أو فردين بل لها صفة التكاثر والانتشار ولتسبيبات يبديها المتاجرون لتحسين النسل وأمن التشويه، ونحو ذلك وحنيئذ على الصعيد بقوة الوضع: جنس موهوم النسب مقذوف العرض. وهذا ما يأباه دين الله وشرعه. (أ) في مجموعة الضروريات الست التي جاء بها الشرع وهي: 1- حفظ الدين. 2- حفظ النفس. 3- حفظ العقل. 4- حفظ النسب. 5- حفظ العرض. 6- حفظ المال. شرَّع الله أحكاما للمحافظة عليها فللمحافظة على النسب شرع الله حد الزنا وحرم كل وسيلة تؤدي إليه. وللمحافظة على العرض: شرع الله حد القذف، وحرم كل وسيلة تؤدي إليه. كل هذا محافظة على كيان المسلم وسلامة بنيته ومعنويته وخلوصها من أى مؤثر على قوتها وشرفها حسا ومعنى. وعليه فإن طريق الإنجاب هذه فيها محاذير على النسب وأخرى على العرض، بل موجبات للشك في شرعتيه أصلا. (ب) وقد أثبت الواقع الأثيم المطالبة بوجود بنوك المني، مراكز لحفظ المني ". وهذه سوق جديدة للمتاجرة بالنطف ووجود طراز جديد لاسترقاق بني الإنسان فأين هذا من تحططهم على الإسلام ببيع الرقيق. وعند قيام تلك فإن عامل الحصول على المال ونحن في عصر المادة والاستمتاع بالخلاق – سيدفع من لا خلاق له بالتغرير بالرجل العقيم بأن ماءه يصلح للإنجاب فيأتي محله بماء رجل آخر سليم من العقم ... وهذا ليس ببعيد أبدا فهو امتداد لإفساد قديم عرف بمصر باسم " الصوفة " وهي طريقة بدائية تقوم على أساس من التضليل ذلك أن المرأة التي تشتكي عدم الإنجاب تذهب إلى من نصبت نفسها للعلاج، فتمدها المتطببة بصوفة فيها " ماء رجل أجنبي لتضعها في قبلها فتحمل على أساس أنه دواء وترتب لها أن يواقعها زوجها بعد فستحملين بإذن الله تعالى. فحملت المرأة ففوجئ زوجها بهذا لأنه يعلم أنه عقيم لا يولد له، فرفعت القضية للمحكمة وانكشف القصة " قصة الصوفة " واتضح أن الولد من ماء أجنبي فهو منفي النسب من زوجها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 فهذه القصة عملت عملها تحت ستار العلاج على شكل شعبي، واليوم تأتي نفس النتيجة على مستوى الطب الحديث بالتلاعب العضوي في الخلايا الإنسانية بل في هذا تجسيد لطموحات أخرى أخذت تستغل في: الحيوان والنبات، وبدأ تطبيقها على الإنسان في عدة مظاهر منها: 1- بحث التحكم في جنس الجنين يكون ذكرا أو أنثى. 2- إشباع الرغبة بجهاز إلكتروني. وفى مسائل الإمام أحمد بحث في حكم الأكرميح وهو القضيب المصنوع كما في بدائع الفوائد لابن القيم رحمه الله تعالى. 3- تكاثر الخلايا الجسدية بتحويلها إلى خلايا جنينية. 4- وجود إنسان مجتر بخلط خلاياه مع خلايا بهيمة. والنتيجة: أن هذه نتائج وخلفيات تالية لا يسوغ التمهيد لفتحها ودخولها على النوع الإنساني بصفة عامة ولا على المسلمين بصفة خاصة. وعليه: يتعين سد أى وسيلة إلى هذا وأن هذا الطريق من طرق الإنجاب هو عتبه الدخول للخوض في هذه البلايا؟ (ج) أن هذه الطرق موصلة إلى المواليد التوائم ومعلوم ما في هذا من مضاعفة الخطر على المرأة في حملها ووضعها ... وذلك أن الطبيب عندما يشفط من مبيض المرأة مجموعة من البويضات قد تصل إلى اثنتي عشرة بييضة يضعها في طبق اختباره " أنبوبة الاختبار " لتلقيحهن والطبيب إذا أدخل بوضية واحدة فإن نسبة النجاح ضئيلة جدا لا تتجاوز 10 % ولهذا ولتطلعه لنجاح اللقاح فإنه يدخل بويضتين فأكثر وقد يحصل بإذن الله تعالى نجاحها فتعيش الأم تحت الخوف والخطر. ومعلوم أن الإنسان لا يسوغ له التصرف في بدنه بما يلحقه الضرر والهلاك. (د) ومن وراء هذه المخاطر مشكلة أثارت ضجة كبرى في الغرب وهي: أنه من مزاولة العملية المذكورة يبقى لدى الطبيب في المختبر مجموعة من البويضات الملحقة مجمدة " الأجنة المجمدة " تحسبا لفشل العملية ليقوم بإعادتها مرة ثانية وهكذا؟ لكن في حال نجاحها ما هو مصير هذه الأجنة المجمدة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 فهو سبيل لنقلها إلى أجنبي عنها وهذا ينسحب عليه الحرمة القطعية كما فى: النوع الأول من طرق الإنجاب، فقد وجد مجموعة من النساء يلقحن من ماء رجل واحد فكأنهن أبقار يلقحن من ثور واحد؟ وهو سبيل لتنميتها في المختبر وإجراء تجارب طبية عليها وفي هذا اعتداء على الحرمة الإنسانية. وهذا السبيل محل جدل عنيف بين الكفرة منعا وجوازا!! . وهو سبيل إلى إتلافها حال نجاح العملية وهذا أمر مستبعد في عرف الأطباء لأنها عملية صعبة يتعسر الحصول عليها وتوفيرها يدر أرباحا كبيرة وخاصة في المستشفيات التجارية. (هـ) أثبت الطب ازدياد نسبة تشوهات الأجنة بطرقه الحديثة هذه وذلك أن الطب الحديث اكتشف فى: الطريق الطبيعي الشرعي للإنجاب وجود مقاومة للحيوانات المريضة والمصابة في صبغتها، وهذا ما يفتقده التلقيح الصناعي. (و) بل ثبت في الواقع الأثيم الظالم، وجود شركات لبيع الأرحام وتأجيرها، وشركات لبنوك المني وبيع مني العباقرة والفنانين ... وشركات لبيع الحيوانات المنوية والبويضات. وقد ثارت قضايا أمام القضاء بأنها مثلا رغبت ماء رجل أبيض فولدت أسود أو بالعكس أو أنها حصلت على ماء رجل مصاب بمرض جنسي، وهكذا ما يثبت أن الطب الغربي أخذ بتقدمه الجنوني إلى إعمال: الانهيار الأخلاقي والكيان الإنساني من أساس بنيته. والله سبحانه لم يمنن على خلقه بخلقه لهم إلا بطريق الإنجاب الشرعي السليم من الشوائب في النسب والعرض. (ز) أن في طريق الإنجاب هذه أبشع صورة للتعري وفحص السوءة أو السوئتين من رجل أجنبي عنها بل وربما فريق عمل لها وعدم الإنجاب لا يحتسب ضرورة يباح في سبيلها هذا التبذل والهبوط. هذه مجموعة من المخاطر والمحاذير التي تحصل فعلا في هذه الطريق، ويرتقب حصولها فيكون سببا ووسيلة إليها. وعليه: فيظهر أن من نزع إلى المنع من باب تحريم الوسائل وما تفضى إليه من هتك المحارم فإنه قد نزع بحجج وافرة. وما لبس المسلم في حياته ولآخرته أحسن من لباس التقوى والعزة، وعيشة في محيط الكرامة الإنسانية وسلامة بنيتها ومقوماتها لتعيش في جو سليم من الوخز والهمس محافظا على دينه وعلى نفسه، وكما يحافظ على ماله من الربا وغباره يحافظ على نسبه وعرضه من إثارة الغبار عليهما بالشكوك والأوهام التي تصرع شرفه وعزته وبالتالى تخل بتماسك أمته وحفظها وصيانتها. وقد علم من مدارك الشرع أن جملة من المحرمات تحريم وسائل قد تباح في مواطن الاضطرار والضرورة تقدر بقدرها وعليه: فإن المكلف إذا ابتلى بهذا فعلية أن يسأل من يثق بدينه وعلمه، والله تعال أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 القضايا الأخلاقية الناجمة عن التحكم في تقنيات الإنجاب التلقيح الاصطناعي لسعادة الدكتور محمد علي البار بسم الله الرحمن الرحيم القضايا الأخلاقية الناجمة عن التحكم في تقنيات الإنجاب (التلقيح الاصطناعي) إن عدم الخصوبة والعقم يشكلان مشكلة طبية في مختلف مناطق العالم، فقد قدرت منظمة الصحة العالمية أن ما بين خمسة وعشرة بالمائة من الأزواج في سن الخصوبة يعانون من عدم الخصوبة infertility والعقم sterility " وفي الولايات المتحدة كان واحد من كل عشرة في سن الخصوبة يعاني من عدم الخصوبة والعقم عام 1976 وفي عام 1984 كان واحد من كل ستة يعاني من عدم الخصوبة والعقم. وفي خلال العشرين عاما الماضية بلغت الزيادة في عدم الخصوبة والعقم في الولايات المتحدة نسبة 300 بالمئة. ويرجع الباحثون هذه الزيادة إلى انتشار الأمراض الجنسية بسبب انتشار الإباحية والممارسات الجنسية الشاذة 250 مليون حالة سيلان (جونوريا) سنويا في العالم، وحوالي ضعف ذلك من الكلاميديا ... وخمسين مليون حالة زهري أولي وثانوي في كل عام) . وبسبب انتشار الإجهاض المحدث induced Abortion الذي كان يسمى الإجهاض الجنائي Crininal abortion حيث بلغ عدد حالات الإجهاض المحدث عام 1984 خمسين مليون حالة أكثر من نصفها فيما يسمى العالم الثالث وبسبب انتشار اللولب I.U.D لمنع الحمل حيث تستعمله مئات الملايين من النساء في العالم. لهذا كله فإن أي وسيلة لعلاج عدم الخصوبة والعقم تلقى ترحيبا لدى الدوائر الطبية والجمهور. ومنذ عام 1978 عندما تمت ولادة لويزا براون أول طفلة أنبوب في العالم وحتى عام 1984 تم ميلاد ألف طفل بهذه الطريقة منهم 56 توائم ثنائية وثمانية ثلاثية واثنان رباعية. وفي عام 1986 كان عدد أطفال الأنابيب قد تجاوز ثلاثة آلاف طفل، وانتشرت مراكز التلقيح الاصطناعي الخارجي I V F في مختلف أرجاء العالم منها 125 مركزًا في الولايات، ومركزين في مدينة جدة، وآخر في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية.. وقد تم بالفعل ولادة امرأتين سعوديتين بهذه الطريقة (إحداهما لقحت في بريطانيا والأخرى في جدة) وهناك أكثر من عشرين امرأة في المملكة العربية حامل حاليا كلهن تم تلقيحهن بهذه الطريقة. ومنذ فترة الستينات من القرن العشرين انتشر استخدام التلقيح الاصطناعي (الداخلي) A. I. ومنذ السبعينات انتشرت بنوك المني في كثير من مناطق العالم وخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا ومنذ ذلك الحين ظهرت طرق جديدة للتناسل غير الطريقة الطبيعية التي جعلها الله من اتصال الذكر بالأنثى، وقد بلغت هذه الطرق أكثر من 16 طريقة كلها مغايرة للفطرة. وبما أن الإسلام لا يقبل طريقا للتناسل سوى طريق الزواج، فقد أفتى علماء الإسلام الأجلاء بأن أي وسيلة للتناسل يستخدم فيها طرف ثالث هي لاغية وباطلة ومحرمة شرعا وموجبة للتعزير لكل من يشترك فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 ونقصد باستخدام طرف ثالث استخدام مني رجل آخر أو بويضة امرأة أخرى أو أن تحمل اللقيحة امرأة أخرى (رحم مستأجر) (Surrogate Mother) أو أن تزرع خصية في رجل أو مبيض في امرأة. ولابد لحصول التناسل أن يتم في إطار الزوجية أثناء قيام عقد الزوجية فإذا انتهى هذا العقد بموت أو طلاق انتهت عدته، أو طلاق بائن، فلا يجوز أن يتم التناسل بين هذين الشخصين مهما كانت الأعذار والدوافع. لهذا فإن معظم المشاكل الأخلاقية الناتجة عن استخدام التلقيح الصناعي بنوعيه الداخلي والخارجي، والتي شغلت الأطباء والقانونيين ورجال اللاهوت ورجال الإعلام في الغرب لا ينبغي أن تقوم في البلاد التي تلتزم بالشريعة الإسلامية. ذلك لأن استخدام التلقيح الاصطناعي الخارجي والداخلي بكافة طرقهما المتعددة مرفوضة في الإسلام ما عدا حالة واحدة فقط هي أن يتم التلقيح بين ماء الزوج وبويضة زوجته في حال قيام عقد الزوجية. ومع هذا فهناك مشاكل أخرى قامت وستقوم رغم هذا التحديد الصارم للحالات المسموح بها وهي كالتالي: 1 - التلقيح الاصطناعي الخارجي باهظ التكاليف (ما بين أربعة إلى ستة آلاف دولار) وبما أن معظم دول العالم تعاني من أزمات اقتصادية بما في ذلك الدول المتقدمة فإن هذه التكاليف الباهظة لا تستطيع أن تقوم بها الحكومات وخاصة في العالم الثالث حيث المشاكل الصحية الضخمة والخطيرة توجب تحويل المبالغ القليلة إلى ما هو أهم وأجدى وأنفع. 2 - نسبة نجاح التلقيح الاصطناعي لا تزال منخفضة (30 بالمئة في أحسن المراكز العالمية بينما لم تحقق بعض المراكز سوى نسبة ضئيلة من النجاح) . 3 - احتمال حدوث خطأ في المختبر بحيث يوضع مني فلان مع غير زوجته. 4 - مع عدم وجود الرقابة الصارمة وخاصة في البلاد النامية هناك احتمال كبير بأن عامل الربح سيدفع من لا خلاق له باستخدام المني الجاهز من البنك أو من شخص آخر لتلقيح امرأة عقيم، وزوجها يعاني من ندرة الحيوانات المنوية أو حتى غيابها الكلي Azospermia. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 5 - يقوم الأطباء بتنبيه المبيض لإفراز عدد من البويضات قد تصل إلى 12 بويضة أو أكثر، فإذا قام الطبيب بتلقيحها أدى ذلك إلى وجود فائض من البويضات الملقحة، وهذا الفائض من البويضات الملقحة إما أن يعاد إلى رحم المرأة وهذا يؤدي إلى الإجهاض المبكر وإذا نجح يؤدي إلى الحمل المتعدد ... وكلما زاد عدد الأجنة في رحم المرأة كلما زادت الخطورة على حياة المرأة وحياة الأجنة، أو أن تجمد هذه الأجنة وهذا يؤدي إلى مشاكل عديدة وهي: 6 - إذا حملت المرأة ماذا يصنع بالأجنة الفائضة المجمدة؟ هل تستخدم لامرأة أخرى تعاني من العقم؟ وذلك مرفوض إسلاميا لأنه يؤدي إلى اختلاط الأنساب ... بل إن هذا الجنين ليس جنينها ولم تشارك فيه ولا هي ولا زوجها سوى حمله وتغذيته وولادته وقد قرر الفقهاء حرمة ذلك ووجوب تعزير من يقوم به ويشارك فيه. إذن هل تستخدم هذه الأجنة من أجل البحث العلمى؟ وذلك قد يقيد في معرفة كثير من الأمراض الوراثية والصبغية. إلى أى يوم يجوز استخدام هذه الأجنة؟ أليس الجنين ولو كان عمره بضعة أيام له كرامة باعتبار ما سيؤول إليه؟ ورغم أن معظم الدول الغربية والاشتراكية تبيح الإجهاض إلا أنها حتى الآن لم تبح استخدام الأجنة ... وقد أباحت بعض اللجان المختصة استخدامها إلى اليوم الرابع عشر من عمر الجنين وذلك قبل تكون الشريط الأولي الذي منه يتكون الجهاز العصبي. هل ترمى الأجنة الفائضة قبل تجميدها؟ أليس الاحتمال قويا بأن تفشل محاولة الحمل الأولي فتعود المرأة ويوضع في رحمها الجنين المجمد بعد إعادته للحرارة الطبيعية وذلك يعتبر خسارة وتعبا ومشقة على المرأة والأطباء على السواء؟ إذن هلى ترمى الأجنة المجمدة إذا حملت المرأة؟ أليس في ذلك تبديد وإسراف لمادة يمكن الاستفادة منها في معالجة عقيم أو في إجراء أبحاث؟ 7 - ظهر استخدام جديد للأجنة المجمدة وهو استخدامها للعلاج في نقل الأعضاء، وبما أن الأنسجة الجنينية قابلة للنمو وفي نفس الوقت لا يرفضها الجسم بنفس السرعة التي يرفض بها الأنسجة البالغة والنامية فإن استخدام هذه الأجنة في زراعة الأعضاء يشكل فتحا جديدًا في عالم الطب، ولكنه يشكل أيضا قضية أخلاقية ودينية شائكة. 8 - اختبار الأجنة: يقوم الطبيب بفحص الجنين المجمد فإن وجد فيه عيبا ومرضا استخدمه لأغراض أخرى وإن لم يجد به عيبا أعاده إلى رحم أمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 9 - أن نكاح الاستبضاع الجاهلي قد عاد مرة أخرى حيث تشتري المرأة من بنك المني ما يناسبها من مني رجل اشتهر بالعلم أو اشتهر بالذكاء أو اشتهر بالقوة ... إلخ، وهذه الصورة واقعة في الغرب ومرفوضة تماما في الإسلام. 10 - نفس الصورة السابقة بما هو أشد وأنكى، حيث تؤخذ الحيوانات المنوية من رجل اشتهر بالذكاء والقوة وبويضات امرأة اشتهرت بالجمال والذكاء ويتم تلقيح هذه البويضات لإنتاج سلالة بشرية ممتازة (نظرية النازية) ، ويمكن أن تباع هذه الأجنة الفاخرة إلى من يريد ويدفع الثمن.. وتتعدد الصور التي يمكن أن يتم بها ذلك حيث يمكن أن تحمل المرأة هذا الجنين الممتاز أو ربما تستأجر له رحما أيضا، ثم تأخذ الجنين بعد ولادته جاهزا. كل هذه الطرق المختلفة ستؤدي إلى تجارة الأجنة وليس ذلك مستغربا فتجارة بنوك المني والأرحام المستأجرة قائمة على قدم وساق في معظم دول الغرب، وقد وافقت المجتمعات الغربية والقوانين والهيئات الدينية هناك على استخدامات بنوك المني، ولا تزال في جدل حام حول الأرحام المستأجرة والأجنة المجمدة. 11 - احتمال زيادة الأمراض التي تنتقل عبر المني حيث يحمل المني جميع الأمراض الجنسية: السيلان، الكلاميديا، الهربس، الإيدز، الزهري. . إلخ. 12 - احتمال زيادة التشوهات الخلقية حيث تتعرض الحيوانات المنوية والبويضات والأجنة المجمدة لتغييرات كثيرة حيث إنها تبقى فترة خارج بيئتها الطبيعية الفسيولوجية. 13 - المشاكل الاجتماعية والقانونية العديدة الناتجة عن التلقيح الاصطناعي بنوعيه الداخلي والخارجي: فمثلا هناك ربع مليون طفل لا يعرف لهم أب أصلا نتيجة التلقيح بواسطة بنوك المني A I D وكذلك مشكلات الأمهات المستعارات Surrogate mother ومن تكون الأم؟ أهي التي حملت وولدت أم صاحبة البويضة؟ ومن يكون الأب؟ أهو صاحب المني أم زوج المرأة صاحبة البويضة؟ أم زوج التي حملت وولدت؟ 14 - أن التلقيح الاصطناعي لا يحل سوى جزء ضئيل ونسبة محدودة من الحالات التي تعاني من عدم الخصوبة والعقم وبثمن فادح ماليا واجتماعيا وأخلاقيا وقانونيا. 15 - تؤدي التقنيات الجديدة في الإنجاب إلى إلغاء نظام الزواج وخاصة لدى الشاذات جنسيا اللائي يمارسن السحاق، وقد ظهرت موجة في الغرب من السحاق موازية للواط، وأدى ذلك، حين ترغب الشاذة في النسل، إلى أن تذهب إلى بنك المني ويلقحها الطبيب بالمني الذي تختاره من الكتالوج دون أن يمسها رجل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 16 - تؤدي التقنيات الجديدة إلى ما يسمى باختيار السلالة البشرية وتتفرغ مجموعة من النساء فقط للحمل وذلك بأخذ الأجنة جاهزة من البنك بحيث يمكن أن تحمل عشرات أو مئات النساء من هذه السلالة المرغوب فيها، كما يصنع حاليا في الأبقار والأغنام والخيول والكلاب. 17 - في الحالات التي تستخدم فيها زراعة الخصية بالنسبة للذكر وزراعة المبيض بالنسبة للأنثى، فإن الحيوانات المنوية في صفاتها الموراثية ستعود إلى صاحب الخصية وكذلك البويضات ستعود إلى صاحبة المبيض – وبذلك تعود مشكلة اختلاط الأنساب والإسلام يرفض ذلك رفضا باتا. 18 - لا يبدو أن زرع الرحم سيشكل عقبة أمام الفقهاء وخاصة إذا كان من امرأة توفيت وأوصت بالتبرع برحمها، أو أنها قد جاوزت سن الحمل أو أن لديها عددا كافية من الأطفال ... إلخ، أو أن مبيضها قد أزيل ولم يبق لها إلا الرحم ولا تستطيع أن تحمل إلا باستعارة بويضة من مانحة، وهو أمر محرم في الإسلام فتتبرع آنذاك برحمها لمن تملك المبايض ولكن رحمها قد أزيل بعملية جراحية. وهكذا يبدو أن المشاكل الأخلاقية والدينية والقانونية الناتجة عن تقنيات الإنجاب عديدة ومتنوعة. وهذه التقنيات الحديثة رغم براعتها لن تحل مشكلة عدم الخصوبة والعقم ذلك لأن أسباب المشكلة لم تحل بل إن الأسباب المؤدية إلى انتشار العقم وعدم الخصوبة تزداد يوما بعد يوم. لهذا فإن الحل الحقيقي يكمن في علاج أسباب العقم وعدم الخصوبة والوقاية منها. وبما أن أهم أسباب عدم الخصوبة والعقم تتمثل في الأمراض الجنسية، الإجهاض، استخدام اللولب، فإن الإسلام بتعاليمه التي تمنع الزنا والشذوذ الجنسي وتمنع الإجهاض، وتمنع استخدام اللولب باعتباره نوعا من الإجهاض المبكر يقدم وسيلة فعالة في إنقاذ ملايين البشر من عواقب الأمراض الجنسية والإجهاض واستخدام اللولب ومن بينها عدم الخصوبة والعقم. ولا مانع من استخدام الوسائل الطبية المتاحة في علاج حالات عدم الخصوبة والعقم بشروط: أولها: أن لا تسبب هذه الوسائل اختلاطا في الأنساب. ثانيا: أن لا تلغي نظام الزواج والأسرة. ثالثا: أن تعالج الأسباب الحقيقية، وبما أن معظم أسباب عدم الخصوبة يمكن الوقاية منها بتجنب الزنا والعلاقات الجنسية غير السليمة مثل الوطء في المحيض وإتيان محاشي النساء واللواط، وتجنب إجراء الإجهاض دونما سبب طبي قوي، وتجنب استخدام اللولب.. إلخ فإن اتخاذ أسباب الوقاية هذه (وهي من تعاليم الإسلام الأساسية) يؤدي إلى خفض نسبة المصابين بعدم الخصوبة وبالتالي خفض تكاليف علاجها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 المناقشة أطفال الأنابيب 10 صفر 1407 هـ / 13 أكتوبر 1986 م الساعة الرابعة عصرا الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. لدينا في هذه الجلسة الاستئنافية للجلسة الصباحية موضوع " أطفال الأنابيب " أو " طرق الإنجاب في الطب الحديث " ونرجو من الطبيب الأستاذ محمد علي البار أن يعطينا عرضا عن هذا الموضوع من الإيجاز، وشكرًا. الشيخ محمد عطا السيد: في الحقيقة أنا أذكر سيدي الرئيس أنه في المرة الماضية ناقشنا هذا الموضوع نقاشا مستفيضا وأذكر حتى أننا اتخذنا فيه قرارا، لعله نرجع إلى وقائع الجلسة للدورة الماضية ثم طلب الرئيس في نهاية الدورة أن يعطى فرصة حتى يأتي بورقة شاملة تجمع كل الآراء في هذا الموضوع ووافقنا على ذلك، فما أدري أسأل سماحة الرئيس هل يعرض كل الموضوع ليطرح مرة ثانية للنقاش. الرئيس: في الواقع ما ذكره الشيخ عطا هو صحيح، وأن هذا الموضوع تعلمون أنه في الدورة الثانية استغرق وقتا ليس بالقصير من المداولات والمناقشات وكانت الآراء تقريبا متفقة على عدد من أنواع التلقيح أو طرق الإنجاب، لكنه بقي عندنا طريق واحد فإذا رأيتم هل تحبون أن نجري تلخيصا لما سبق ومن البحث الذي أعددته وقدمته أو أن الطبيب البار بصفته حضر الدورة الماضية يلخص لنا هذا الشيء مع الاختصار، حتى يكون جامعا لنا، وسيجمع بين الوجهتين الطبية والفقهية نظرًا لأنه حضر المداولات. الشيخ محمد عطا السيد: أستأذن ثانيا وأقول إن بعد النقاش كانوا اتخذوا قرارا في هذه المسألة. الرئيس: اتخذ قرار بتأجيله إلى الدورة هذه بعد إعطاء دراسة شاملة والدراسة الشاملة تعرفون أنه فيه عدة دراسات من بينهما الدراسة التي كتبتها ووزعت عليكم من قبلي التي عنوانها " طرق الإنجاب في الطب الحديث ". الدكتور محمد علي البار: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على أفضل المرسلين وأهله الطيبين المباركين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. سماحة الرئيس.. أصحاب السماحة، وأصحاب الفضيلة، الإخوة المشاركون.. كما تعلمون قد تمت مناقشة هذا الموضوع مناقشة مستفضية في العام الماضي ولم يتم بشأنها قرار معين وإنما أجلت لاتخاذ القرار في هذه الدورة بإذن الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 خلاصة مشكلة الإنجاب أن عدم الخصوبة والعقم أصبحا يشكلان مشكلة طبية في مختلف مناطق العالم، وقد قدرت منظمة الصحة العالمية أن ما بين 5 و 10 % من الأزواج في سن الخصوبة يعانون من عدم الخصوبة والعقم. التفريق بينهم في الحقيقة العقم الذي لا يمكن علاجه وعدم الخصوبة التي يمكن علاجها في الولايات المتحدة كان واحدا من كل عشرة في سن الخصوبة يعاني من عدم الخصوبة عام 76 ميلادية، وفي عام 84 كان واحدا من كل ستة يعاني من عدم الخصوبة والعقم وفي خلال العشرين عاما الماضية بلغت الزيادة في عدم الخصوبة والعقم في الولايات المتحدة نسبة 30 % يرجع الباحثون أسباب هذه – اسمحوا لي أن استعرض الأسباب الحقيقية حتى تكون الصورة واضحة لهذا الموضوع – أسباب هذه الزيادة كثيرة لكن أهمها ثلاثة أسباب: انتشار الأمراض الجنسية بسبب الإباحية، والإجهاض الذي كان يعتبر جنائيا ولكن لم يعتبر جنائيا لأن معظم الدول وافقت عليه حسب الطلب تذهب المرأة حسب الطلب ويجهض حوالي 50 مليون طفل كل عام بدون سبب طبي وبدون إجهاض جنائي كان يسمى في الماضي ويسمى الآن إجهاضا محدثا. وأيضا بسبب استخدام اللولب أو الشريط للأبعاد كوسيلة من وسائل منع الحمل وهذا اللولب يستخدم على نطاق واسع في العالم حوالي يمكن مائة مليون امرأة تستخدم هذا اللولب ينتج عن هذه الاستخدامات وأشياء أخرى إتيان المرأة في المحيض وغيرها ينتج عنها عقم تأخير سن الزواج أشياء كثيرة جدًا التهابات درن ينتج عنها عقم هذه الأسباب كلها تؤدي إلى أن الأطباء يرحبون بأية وسيلة من الوسائل التي يمكن أن تقضي على هذه المشكلة. منذ عام 1978 تمت ولادة أول طفلة أنبوب في العالم ومنذ ذلك الحين حتى هذا العام في سبتمبر 86 تمت ولادة حوالى 3000 طفل أنبوب في العالم منهم مجموعة توائم ثنائية ومجموعة توائم رباعية ومجموعة توائم حتى خماسية هذا الإنجاز من الناحية الفنية التقنية يعتبر إنجازًا جيدًا، لكنه له عواقب وله مشكلات كثيرة. لم يقتصر ولادة أطفال الأنابيب على العالم الغربي وإنما دخل أيضا إلى العالم الإسلامي وتمت ولادة امرأتين في المملكة العربية السعودية والآن هناك ثلاثة مراكز في المملكة العربية السعودية، مركزان في جدة، ومركز في الرياض، لإجراء التلقيح الاصطناعي الخارجي المعروف باسم أطفال الأنابيب يعني المشكلة هذه ليست مشكلة نظرية لكنها مشكلة قد وفدت إلينا بالفعل وتم إيجاد مراكز في البلاد العربية، وحتما ستنتشر هذه المراكز يوما بعد يوم ربما يكون وجود هذه المراكز أفضل عند بعض الناس من أن تذهب المرأة إلى الخارج وتلقح بأيدي ناس كفره وليس مضمونا الطرق والوسائل التي يستخدمونها ربما يكون هذا عند بعض الناس أن له وجهة نظر أنه عندما يكون في البلاد العربية أو في البلاد الإسلامية تكون عليه رقابة وربما يكون تحت أوفق آراء الفقهاء هذه من بعض الحجج التي يقول بها بعض المناصرين لهذه الفكرة وتطبيقها في البلاد العربية الإسلامية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 لكن الواقع منذ فترة الستينات في القرن العشرين انتشر اتسخدام التلقيح الاصطناعي الداخلي والخارجي، الخارجي هو طفل الأنبوب والداخلي هو أخذ ماء الرجل وحقنه في رحم المرأة مباشرة. منذ السبعينات انتشرت بنوك المني في كثير من مناطق العالم وخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا ومنذ ذلك الحين ظهرت طرق جديدة للتناسل غير الطريقة الطبيعية التي جعلها الله من اتصال الذكر بالأنثى وقد بلغت هذه الطرق أكثر من ست عشرة طريقة كلها مغايرة للفطرة. وبما أن الإسلام لا يتقبل طريقا للتناسل سوى طريق الزواج فقد أفتى علماء الإسلام الأجلاء بأن أية وسيلة للتناسل يستخدم فيها طرف ثالث هي لاغية وباطلة ومحرمة شرعا وموجبة للتعزير ونقصد باستخدام طرف ثالث استخدام مني رجل آخر أو بويضة امرأة أخرى، أو أن تحمل اللقيحة امرأة أخرى تسمى رحما مستأجرًا أو أن تزرع خصية رجل في رجل آخر، أو مبيض امرأة في امرأة أخرى ولابد لحصول التناسل أن يتم في إطار الزوجية أثناء قيام عقد الزوجية كما قال الفقهاء الأجلاء فإذا انتهى هذا العقد بموت أو طلاق انتهت عدته أو طلاق بائن فلا يجوز أن يتم التناسل بين هذين الشخصين مهما كانت الأعذار والدوافع. لهذا فإن معظم المشاكل الأخلاقية الناتجة عن استخدام التلقيح الصناعي بنوعيه الداخلي والخارجي، والتي شغلت الأطباء والقانونيين ورجال اللاهوت ورجال الإعلام في الغرب لا ينبغي أن تقوم في البلاد التي تلتزم بالشريعة الإسلامية ذلك لأن استخدام التلقيح الاصطناعي والداخلي بكافة طرقه المتعددة مرفوضة في الإسلام ما عدا حالة واحدة فقط هي أن يتم التلقيح بين ماء الزوج وبييضة زوجته في حالة قيام عقد الزوجية سواء أكان تلقيحا داخليا أو خارجيا. ومع هذا فهناك مشاكل أخرى قامت وستقوم رغم هذا التحديد الصارم للحالات المسموح بها وهي كالتالي: انكشاف عورة المرأة، وهذه قد حلها الفقهاء بتحديد الذي ينبغي أن يقوم بالكشف أو بالعمل هذا طبيبة مسلمة، فإن لن يتيسر فطبيبة غير مسلمة، أن لم يتيسر فطبيب مسلم، فإن لم يتيسر فطبيب غير مسلم ثقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 النقطة الأخرى: التلقيح الصناعي الخارجي باهظ التكاليف تكلف المحاولة الواحدة ما بين أربعة آلاف إلى ستة آلاف دولار، المرأة التي لقحت من المملكة العربية السعودية في بريطانيا، وولدت طفلا كلفها ذلك أكثر من مائة ألف ريال حوالي عشرة آلاف دينار أردني بما أن معظم دول العالم الثالث بالذات والبلاد النامية تعاني من الفقر والأزمات الاقتصادية فإن هذه التكاليف الباهظة لا تستطيع أن تقوم بها الحكومات وخاصة في بلادنا حيث المشاكل الصحية الضخمة والخطيرة توجب تحويل المبالغ القليلة إلى ما هو أهم وأجدى وأنفع. بعد ذلك رقم ثلاثة، نسبة نجاح التلقيح الاصطناعي لا تزال منخفضة حتى في أحسن المراكز العالمية عندما تؤخذ الحيوانات المنوية والبويضة وتلقح في الأنبوبة أو في الطبق نسبة النجاح قد تصل إلى 80 % في الطبق، ثم بعد ذلك تنمى لمدة يومين أو ثلاثة ونسبة النجاح في التنمية تصل أيضا إلى 80 % مما هو حاصل في أحسن المراكز العالمية طبعا فيه مراكز أقل من هذا بكثير ثم بعد ذلك تؤخذ هذه اللقيحة أو الجنين إذا اصطلح على هذا لأنه ليس جنينا بعد، لم يستجن في الرحم ولم يختف إنما هو ظاهر للعيان وتحت الميكروسكوب هذه اللقيحة المكونة من مجموعة من الخلايا تبلغ ثماني خلايا يأخذها الطبيب ويحقنها في رحم المرأة فتعلق بإذن الله سبحانه وتعالى في الرحم نسبة العلوق تصل إلى 30 % من الجملة الأخيرة، من هذا الـ 30 % أيضا أكثر من 35 % تجهض لأسباب كثيرة. منها أن هناك تغييرات في الصبغيات وفي الكروموزومات وتؤدي إلى قتل هذا الجنين وإنزاله ميتا ثلث الحالات تقريبا، يبقى منها في النهاية المحصلة النهائية من بداية العملية إلى نهايتها في المحاولة الواحدة سوى 10 % إلى 15 % نجاح في أحسن المراكز العالمية نسبة النجاح النهائي في المحصلة النهائية تصل حوالي 15 % في أحسن المراكز العالمية، بعض المراكز لم تحقق نسبة نجاح سوى 1 إلى 2 % هذا طبعا يوضح أن هذا لن يحل مشكلة العقم. هناك أيضا احتمال حدوث خطأ في المختبر عندما تؤخذ الحيوانات المنوية وتنتشر هذه كما هو معروف في المختبرات، ويحصل أحيانا خطأ في نسبة تحليل دم هذا إلى شخص آخر هذا الاحتمال وارد وإن كان نادرًا، ما هو شيء كثير مع اتخاذ الاحتياطات في المستشفيات الخاصة وغير الخاصة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 هناك احتمال كبير بأن عامل الربح سيدفع من لا خلاق له باستخدام المني الجاهز من البنك أو من شخص آخر لتلقيح امرأة عقيم وزوجها يعاني من ندرة الحيوانات المنوية أو حتى من غيابها كليا وقد حصل هذا في أرياف مصر، وفي مصر في القاهرة قبل فترة طويلة من الزمن قبل أن تأتي التقنيات الحديثة، وكانت امرأة تعاني من العقم فكانت ذهبت إلى جارتها وجارتها أحضرت لها صوفة أو قطنة مبللة بمني أخيها، وهي تزعم لها أن فيها دواء فوضعتها في فرجها وقالت لها: اذهبي إلى زوجك، فأتاها زوجها، فحملت، ثم ذهب الزوج وتحقق أنه ليس لديه حيوانات منوية على الإطلاق ورفعت القضية واعترفت المرأة بما فعلته وطبعا حكم عليها بالسجن. فهذه القضية إذا كانت في مستوى الطرق البدائية البسيطة تؤدي إلى الحمل، بالطرق الحديثة طبعا مع عدم وجود الرقابة في المستشفيات الموجودة، الآن فيه كثير غير مسلمين وهمهم الربح فيعملون إذا كان الرجل ليس عنده حيوانات منوية وعنده حيوانات ضعيفة قليلة يأخذ منيا من أي مكان آخر أو من البنك. إذا حملت المرأة ماذا يصنع بالأجنة الفائضة؟ الطريقة هي أن يقوم الطبيب عادة بتنبيه مبيض المرأة لتغرز مجموعة كبيرة من البويضات فيأخذ هذه البييضات، قد تصل إلى 12 أو 14 بييضة يلقحها بماء زوجها إذا فرضنا ذلك، لا يستطيع أن يعيد كل البييضات الملقحة إلى الزوجة لأن ذلك يعني حملا متعددا كثيرا فيؤدي إلى الإجهاض وإلى ضرر على الأم وعلى الأجنة نفسها يعيد اثنين أو ثلاثة لأن إعادة اثنين أو ثلاثة يزيد من احتمال النجاح بنسبة بسيطة بقية الأجنة يضعها في الثلاجة ويحتفظ بها بحيث أنه إذا فشلت المحاولة الأولى أو حصل سقط " إجهاض " تعود المرأة فيكون الجنين جاهزا، بدلا من أن يقوم بعملية جديدة لإخراج البويضات وتنميتها وإدخالها المستشفى، وكل هذا فيه مشقة على المرأة وعلى الأطباء وفيها تكلفة باهظة على الأسرة، كل هذا يتجنب بإيجاد حفظ هذه الأجنة الفائضة عندما تعود مرة أخرى تلقح بهذه الأجنة الفائضة. طيب، إذا حصل حمل ماذا يصنع بهذه الأجنة الفائضة؟ بالتسامح بتعبير كلمة أجنة ماذا يصنع بهذه البويضات الملقحة التي نمت إلى ثمان خلايا أو عشر خلايا أو اثنتي عشرة خلية؟ هل ترمى؟ الأطباء يعتبرون هذه ثروة لا يمكن أن يرموا بها فماذا يطلبون؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 فى الغرب قامت بنوك للأجنة الآن ويطلبون من المرأة أو من الزوج أن تتبرع، أو تبيع هذه الأجنة الفائضة لتستخدم لمعالجة عاقر أخرى بدون تكلفة كبيرة لأن هذا يخفض التكلفة والتعب فيعطيها جنينا جاهزا من أبوين غيرهما لم تشارك فيهما بغير الحمل فهذه نقطة طبعا هذا أمر مرفوض إسلاميا لأنه يؤدي إلى اختلاط الأنساب فيأتي سؤال آخر إذن هل تستخدم هذه الأجنة من أجل البحث العلمي؟ لأن استخدام هذه الأجنة يؤدي إلى معرفة الأمراض الوراثية، أمراض الكروموزومات " الصبغيات " يؤدي إلى معرفة كثير من الأمراض والأسرار الوراثية لكن إلى أي يوم يجوز استخدام هذه الأجنة؟ الأطباء ينمون هذه الأجنة يجعلونها تنمو الخلايا ويمكن أن تنمو لأيام أو لأشهر الآن بالنسبة للحيوانات تم تنميتها لفترة طويلة أليس الجنين ولو كان عمره بضعة أيام له كرامة باعتبار ما سيؤول إليه؟ ورغم أن معظم الدول الغربية والاشتراكية تبيح الإجهاض إلا أنها حتى الآن لم تبح استخدام الأجنة. وقد أباحت بعض اللجان المختصة استخدامها إلى اليوم الرابع عشر من عمر الجنين، وذلك قبل تكوين الشريط الأول الذي يتكون منه الجهاز العصبي، يعتبر تكوين الجهاز العصبي هو بداية للإحساس، وهو بداية لتكوين الإنسان كإنسان فسمحت هذه اللجان، لم تسمح به البرلمانات إلى الآن، لكن سمحت به هذه اللجان، وقدمت تقارير بالسماح به في بريطانيا وفي فرنسا وفي ألمانيا وفي الولايات المتحدة بالسماح به إلى اليوم الرابع عشر، باعتبار أنه من بعد ذلك يتكون الجهاز العصبي، وبما أن الجهاز العصبي هو الذي يشكل الإنسان عندهم وتكوين الإنسان، فمنع ذلك حتى هذه اللجان منعت استخدام الأجنة بعد اليوم الرابع عشر. هل ترمى الأجنة الفائضة قبل تجميدها؟ إذا رميت تبقى هناك خسارة من ناحيتين، ربما تفشل المحاولة أو ربما يحصل إجهاض للمرأة وتأتي تطالب بأجنتها الموجودة فلا تجدها. ظهر استخدام جديد للأجنة المجمدة وهو استخدامها للعلاج في نقل الأعضاء وبمعالجة بعض الأمراض الأخرى وبما أن الأنسجة الجنينية قابلة للنمو وفي نفس الوقت لا يرفضها الجسم بنفس السرعة التي يرفض بها الأنسجة البالغة والنامية فإن استخدام هذه الأجنة في زراعة الأعضاء، أو معالجة بعض الأمراض يشكل بالنسبة للأطباء فتحا جديدًا في عالم الطب ولكنه أيضا يشكل قضية أخلاقية ودينية شائكة. اختيار الأجنة: يقوم الطبيب بفحص الجنين المجمد، فإن وجد فيه عيبا أو مرضا استخدمه لأغراض أخرى، وإن لم يجد به عيبا إعاده إلى رحم أمه ربما يخبر الأبوين أن جنس الجنين هذا ذكر أو أنثى فإذا كانا يرغبان في الأنثى يقولان من الأول قبل اجهاضه لا نستعمله فهناك باب لاختيار الجنين المناسب غير الحالات المرضية أيضا ما هو ليس فقط في الحالات المرضية، هناك حالات الزوج والزوجة يرغبان في ذكر فيأتي الجنين أنثى فيقول: لا، لا نريد هذه الأنثى. أيضا نكاح الاستبضاع الجاهلي قد عاد مرة أخرى حيث تشتري المرأة من بنك المني ما يناسبها من مني رجل اشتهر بالعلم أو غيره، وهذه الصورة واقعة في الغرب ومرفوضة تماما في الإسلام، ونفس الصورة السابقة حيث تؤخذ الحيوانات المنوية من رجل اشتهر بالذكاء والقوة وبويضات امرأة اشتهرت بالجمال والذكاء، ويتم تلقيح هذه البويضات لإنتاج سلالة بشرية ممتازة، وهي نظرية النازية ويمكن أن تباع هذه الأجنة الفاخرة إلى من يريد ويدفع الثمن، وتتعدد الصور التي يمكن أن يتم بها ذلك حيث يمكن أن تحمل هذه المرأة هذا الجنين الممتاز أو ربما تستأجر له رحما أيضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 كل هذه الطرق المختلفة ستؤدي إلى تجارة الأجنة وليس ذلك مستغربا فتجارة بنوك المني والأرحام المستأجرة قائمة على قدم وساق في معظم دول أوروبا والولايات المتحدة وقد وافقت المجتمعات الغربية والقوانين والهيئات الدينية هناك على استخدامات بنوك المني، ولا تزال في جدل حول الأرحام المستأجرة والأجنة المجمدة، يعني استخدام بنوك المني لغير الزوج أو لغير الزوجة مباح هناك في الغرب، وحتى إباحته بالنسبة للمساحقات ويباح هناك في الغرب قانونيا ودينيا أصحاب اللاهوت لا يعترضون على ذلك، تأتي المرأة وتكتفي النساء بالنساء وتذهب وتأخذ إذا رغبت في الولد تأخذ منيا جاهزا من بنوك المني وتحمل وهذا حصل بالفعل في الولايات المتحدة، الآن حوالي ربع مليون طفل لا يعرف لهم أب أصلا، لأنهم أخذوا من بنوك المني هناك أيضا احتمال زيادة الأمراض التي تنتقل عبر المني إذا انتشرت هذه البنوك بأي شكل من الأشكال واحتمال زيادة التشوهات الخلقية حيث تتعرض الحيوانات المنوية والبويضات والأجنة المجمدة لتغيرات كثيرة حيث إنها تبقى فترة خارج بيئتها الطبيعية الفسيولوجية. المشاكل الاجتماعية والقانونية العديدة الناتجة عن التلقيح الاصطناعي بنوعية الداخلي والخارجي كثيرة هناك مشكلة الأمهات المستعارات، أو الرحم المستعار، ومن تكون الأم أهي التي حملت وولدت أم صاحبة البويضة؟ ومن يكون الأب أهو صاحب المني أو زوج المرأة صاحبة البويضة أم زوج التي حملت وولدت؟ إن التلقيح الاصطناعي لا يحل في الواقع سوى جزء ضئيل ونسبة محدودة من الحالات التي تعاني من عدم الخصوبة والعقم وبثمن فادح ماليا واجتماعيا وأخلاقيا وقانونيا وتؤدي التقنيات الجديدة في الإنجاب إلى إلغاء نظام الزواج بالنسبة لبعض الناس وخاصة لدى الشاذات جنسيا كما أشرت إلى ذلك، كما تؤدي التقنيات الجديدة إلى ما يسمى باختيار السلالة البشرية وقد أشرت إلى ذلك، وفي الحالات التي تستخدم فيها زراعة الخصية بالنسبة للذكر، وزراعة المبيض بالنسبة للأنثى، فإن الحيوانات المنوية في صفتها الوراثية ستعاد إلى صاحب الخصية، وكذلك البويضات ستعود لصاحبة المبيض وبذلك تعود مشكلة اختلاط الأنساب. مشكلة زرع الأرحام، لا يبدو في نظري أنه سيشكل عقبة أمام الفقهاء إذا كانت من امرأة قد توفيت أو أوصت بالتبرع برحمها، أو أن مبيضها قد أزيل ولم يبق لها إلا الرحم ولا تستطيع أن تحمل إلا باستعارة بويضة من الخارج وهو أمر محرم فتتبرع حين ذاك برحمها لمن تملك المبايض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 وهكذا يبدو أن المشاكل الأخلاقية والدينية والقانونية الناتجة من تقنيات الإنجاب عديدة ومتنوعة، وهذه التقنيات الحديثة رغم براعتها لن تحل مشكلة عدم الخصوبة والعقم ذلك لأن أسباب المشكلة لم تحل بل أن الأسباب المؤدية إلى انتشار العقم وعدم الخصوبة تزداد يوما بعد يوم في المجتمعات التي تعتبر متقدمة من الناحية التقنية والطبية. لهذا فإن الحل الحقيقي يكمن في علاج أسباب العقم وعدم الخصوبة التي تتمثل في الأمراض الجنسية، الإجهاض، استخدام اللولب فإن الإسلام بتعاليمه التي تمنع الزنا والشذوذ، وتمنع الإجهاض، وتمنع استخدام اللولب باعتباره نوعا من الإجهاض المبكر عند المالكية والظاهرية وهم يمنعون الإجهاض المبكر يقدم وسيلة فعالة في إنقاذ ملايين البشر من عواقب الأمراض الجنسية والإجهاض واستخدام اللولب ومن بينها عدم الخصوبة والعقم ولا مانع من استخدام الوسائل الطبية المتاحة في علاج حالات عدم الخصوبة والعقم بشرط ألا تسبب هذه الوسائل اختلاطًا في الأنساب، وألا تلغي بأي حال نظام الزواج والأسرة، وإن تعالج الأسباب الحقيقية. وبما أن معظم أسباب عدم الخصوبة يمكن الوقاية منها بتجنب الزنا والعلاقات الجنسية مثل: الوطء في المحيض، وإتيان محاشي النساء، وغير ذلك، وتجنب إجراء الإجهاض دون ما سبب طبي قوي، وتجنب استخدام اللولب، إلى آخر ذلك فإن اتخاذ أسباب الوقاية وهي من تعاليم الإسلام الأساسية يؤدي دون شك إلى خفض نسبة المصابين بعدم الخصوبة وبالتالي خفض تكاليف علاجها والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الرئيس: في الواقع إن موضوع طفل الأنابيب أو التلقيح الصناعي، أو إن رأيتم ما يسمى بطرق الإنجاب في الطب الحديث وبمفرداتها التلقيح الصناعي ببعض أساليبه وطفل الأنابيب، وهذا سبق طرحه في مجمع الفقه الإسلامي بمكة وقد استغرق دراسة مستفيضة وكان المجمع توصل إلى تصوير أساليبه وأحواله في سبع حالات، فقرروا بالإجماع تحريم أربع منها ثم حصل خلاف في صور ثلاث وفي دورة ثانية، وكنت فيها عضوا في المجمع رجعوا عن صورة الرحم الأجنبية، أي الرحم الظئر التي هي رحم الزوجة الثانية: أن يؤخذ الماء من ماء الزوج ويجعل في رحم زوجة أخرى، فرجعوا عن القول بالإباحة في هذا وألحقوا بالأساليب التي قرروا القطعية في تحريمها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 ومن خلال دراستي لهذا الموضوع فإنه تبين لي يمكن تكييف هذه الأساليب من طريق آخر وهو أننا إذا عرفنا حقيقة الأبوة والأمومة الشرعية، وهي مجموعة الهيئة المتحصلة من ماء الزوجين على فراش الزوجية في رحم الزوجة ذاتها، هذه هي التي بها يحصل المولود الشرعي كما تدل عليه مجموع النصوص وتوالد الجنس البشري، فإنه يظهر في هذا أنه يمكن حصر طرق الإنجاب .... الشيخ مصطفى الزرقاء: ... إن الحالات التي سبق تحريمها فلا مجال للبحث فيها لأنها محرمة وهي جميع الحالات الأخرى بلا استثناء من مختلف الصور التي تفضل الآن الدكتور البار ببيانها والتي تضمنها أيضا وأشار إليها قرار المجمع الفقهي في مكة. في ضوء ذلك أعتقد أن قرار المجمع الفقهي في مكة لا سبيل إلى الشك في قبوله لأنه لا يتضمن فقط جواز هاتين الحالتين مقيدا ذلك بالضرورة، وقد بينت حالات الضرورة، وفي طليعتها أن تكون المرأة ليس لها أولاد، وبين أن عدم إنجاب المرأة قد يؤدي إلى حالات مرضية فيها نفسية، لأن المرأة: الحمل والولادة والإرضاع قد ثبت طبيبا أنه بالنسبة إليها مثل الزيت للماكينة فبدونه تسوء صحة المرأة من بعض النواحي وتعتريها عوارض، نفسية إلى آخره. فقرار المجمع الفقهي في مكة تضمن إيضاحات وتضمن تعليلات تضمن قيودا وشروطا، وتضمن مبادئ عامة، أنا أشرت إليها في دورة المجمع الثانية في جدة والتي أجل فيها البحث إلى هذه الدورة، فقد تضمن مبادئ عامة يجب أن تراعى وتطبق، ومن جملتها قضية أن يكون الطبيب امرأة مسلمة فإن لم يوجد فرجل مسلم إلى آخره، فتضمن مبادئ عامة وتضمن شروطا وقيودا، واشترط الضرورة، وبين حالة الضرورة، وحصر الجواز في هاتين الحالتين هي حالة واحدة في الحقيقة لكن لها صورتان، وهذه الحالة الواحدة: أن تكون البذرتان الذكرية والأنثوية من زوجين في زواج قائم، إما أن تلقح تلقيحا داخليا بأن يؤخذ ماء الرجل فيحقن في رحم المرأة كما أشار الدكتور البار، أو أن يجرى: بأن تأخذ البويضة من المرأة الزوجة والحيوان المنوي من زوجها ويجرى التلقيح في الوعاء الاختباري خارجيا ثم في المرحلة المناسبة للرزع في رحم المرأة ويعلق بها فهاتان الحالتان الجواز مطلقا، مع سائر الملاحظات للمبادئ العامة التي فصلت في قرار المجمع في مكة ومع ملاحظات الشروط والضرورات المبين فيه أيضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 أنا أعتقد أنه في هذا الإطار لا مناص من أن نخرج عن الجواز والحل وأن نعود فنقول: لا يجوز لأن هذا أصبح له مشكلاته في الوقت الحاضر كما تعلمون ولا سيما أن الحالات الغير جائزة تمارس في العالم الخارجي على نطاق واسع فيبقى الحرمان المطلق للنساء المحتاجات إلى الإنجاب هذا يبقى مشكلة بعد إجازته في مجمع مكة فأنا أقترح اختصارًا للكلام ودون دخول في تفاصيل، أنا أقترح أن الرأي الذي انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي في مكة أن يتبنى أو أن يقرر جواز تلك الحالتين بنفس الشرائط والقيود والمبادئ العامة التي وضعت فيه والسلام. الرئيس: فى الواقع أحب أن أشير إلى أن قرار مكة هو صدر بالأكثرية وإلا فإن هناك عددا من أصحاب السماحة والفضيلة وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز كان من المتوقفين حتى في هذين الأسلوبين الداخلي والخارجي لهذا القسم الأخير، الماء إن كان من الزوجين على فراش الزوجية في رحم الزوجة ذاتها سواء كان داخليا أو خارجيا. وأحب أن أعيد لفت النظر، إلى أن التلقيح في رحم زوجة أخرى من ماء الزوجين كان مقررا جوازه ثم رجع المجمع عنه في دورته الأخيرة فالذي أرجوه من أصحاب الفضيلة أن يعطوا هذا الموضوع حقه في هذين الأسلوبين الداخلي والخارجي في الصورة الأخيرة، حتى نكون قرارا حكيما ويحصل التحفظ على هذه البنية الإنسانية من أي تلاعب يصل إليها وأما بالنسبة لصوتي في مجمع مكة فإنني رأيت أنه لا يفتى فيه بفتوى عامة على الرغم من أنهم قيدوه بحال الضرورة وقرروا أنه يحف به كثير من المخاطر والمحاذير وأنا قلت: إنه أي المكلف نفسه المبتلى يسأل من يثق بدينه وعلمه، فعلى كل الموضوع مطروح أمامكم والكلمة للشيخ السلامي. الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. ليس تأثرا بالتوجيهات التي وردت من سيادة الرئيس مع احترامنا له ولكن في الواقع عن اقتناع فأنا مقتنع اقتناعا كاملا بأنه لا ينظر إلا فيما وصل إليه مجمع مكة اقتنعت بهذا اقتناعا كاملا ويبقى عندي إثارة ثلاث نواحي: الناحية الأولى: هو أنه للوصول إلى هذا، أي إلى التلقيح الصناعي سواء كان داخليا أو خارجيا لابد من تلقيح بييضات أكثر من اللازم، وهذه البويضات، وقد أكون متأثرا بالمذهب المالكي، أعتقد أنه في إزهاقها وقتلها أمر مشكل. ثانيا: استخدام البييضة الملقحة في التطعيم اعتبره كجزء، لأن الحياة أو التطور لم يصل بعد إلى التمام فلم أجد مشكلا فيها بل أعتقد أن البييضة الملقحة ولا بد من زيادة بحث وتعمق، ولكن رأي أولي في التطعيم أو في زراعته عند شخص آخر في بعض أعضائه قد يكون لا مانع من ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 القضية الثالثة: وهي أن هذه القضية خاصة يسأل عنها هذا ما لا يقبل بحل لأن اليوم وقد استمعنا أن في المملكة العربية السعودية أصبحت ثلاثة مراكز فالقضية خرجت من الخاصة ومن الخاصيات ومن الأمور المحدودة إلى نطاق واسع ولابد من أن يكون لنا من الشجاعة ما نعطي به حلا لهذه المشكلة. فما تفضل به فضيلة الشيخ الرئيس من أن التأثير النفسي على هذا الولد الذي هو نتاج التلقيح الصناعي وماذا سيقول له الأطفال.. إلخ، أظن أن هذا كله لا يمكن أن يبنى عليه حكم شرعي، لأنه أمر موهوم، ليست أمورًا حقيقية ولذلك فألخص رأيي أو مقترحاتي: أولا: أن تكون البييضات الملحقة بمقدار ما يكفي للزرع ولا يزاد عليها، وإن فشل الطبيب فعليه أن يعيد عمله ما ترتب على ذلك حتى لا نقتل هذه البييضات بعد تجميدها. الأمر الثاني: التعمق أكثر في استخدام الملقحة في التطعيم وفي الزراعة. الأمر الثالث: عدم اعتبار هذه القضية قضية خاصة وإنما هي قضية عامة باعتبار أن الدول حسب إمكاناتها المادية سائرة في هذا، وشكرًا. الشيخ رجب التميمى: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى أصحابه أجمعين. هذه القضية المطروحة علينا الآن هي من أخطر القضايا التي تطرح في المجتمع الإسلامي كرم الله بني آدم، وكرم الإنسان، جعل طريق النسل ونظمها وجعله بين زوجين على فراش الزوجية بالطريق الطبيعي بقيام الرجل لامرأته بدون أن يكون هناك طرف آخر وأن التلقيح بقسميه الداخلي والخارجي بين الزوجين في رحم الزوجة هو صورة من الصور التي أتى بها إلينا الغرب في شططه وفي سيره بالإنسان نحو الحيوانية إنني أرى أن الطريق الطبيعي للولد للنسل هو إتيان الرجل زوجته على فراش الزوجية فإن كان أحدهما عقيما أو الزوجة عقيمة فهذه أراده الله سبحانه وتعالى وليس العقم ضرورة حتى نلجأ إلى صورة وإلى طريق يؤدي بالمجتمع إلى الفساد. إن من القواعد الشرعية " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح " وإننا نسمع كما أشار الدكتور إلى كثير من المفاسد التي حصلت في المجتمع نتيجة إباحة، أي هذه الصورة الأخرى اتفقنا على أنها حرام، لا أريد أن أتكلم عنها، إن هذه الصورة، إباحتها يفتح شراء مستطيرا في المجتمع الإسلامي والمحافظة على هذا المجتمع تقتضي إغلاق الباب ولا ضرورة ولا غير ذلك من الأشياء التي تؤدي إلى الفساد إن الشخص الذي سيقوم بالتلقيح الداخلي أو الخارجي قد يخرج عن الطريق المستقيم، وقد يغش، وقد يؤتى بفساد نحن في الأرض لسنا ملائكة ولكننا بشر وفينا من يخطئ، وفينا من يخرج عن الطريق، وفينا من يصيب، فالشأن هو أن نمنع حصول أي شيء من الفساد بإغلاق الباب كليا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 ولذلك فإنني قد تكلمت وأبديت رأيي في الدورة الثانية وهو مسجل ولي بحث في ذلك وأعود وأقول إن هذه الطريقة أيضا محرمة يجب أن نمنعها كغيرها سدا لباب الفساد ودرءا للمفاسد حتى نخرج بحكم شرعي للعالم الإسلامي نبين لهم فيه أن هذا الباب باب للفساد والإسلام يمنع الفساد ولو بجزئية صغيرة، لأن الفساد إذا أحل اتسع واتسع واتسع، وحينئذ لا يستطيع أحد أن يغلق هذا الباب بعد فتحه واتساعه. وإني أرى أن أطلب من إخواني العلماء وهم القادة وهم أصحاب الحل والعقد بالنسبة للأحكام الشرعية أن يعمقوا نظرتهم إلى ما سيؤول إليه فتح هذا الباب ولو بجزئية صغيرة خاصة وليست عامة والله من وراء القصد والسلام عليكم. الشيخ عبد السلام العبَّادي: بسم الله الرحمن الرحيم كنت فقط أرغب في التعقيب أو بالإشارة إلى نقطة لكن بعد سماعي إلى كلام فضيلة الأستاذ الشيخ رجب أحب أن أشير إلى الأمور التالية: الواقع نحن لسنا الذين سنفتح الباب، الباب مفتوح على مصرعيه إن كان في داخل العالم الإسلامي الآن أو في خارجه، وكما أشار فضيلة الأستاذ السلامي هنالك مراكز إنجاب في كثير من بلاد المسلمين فالباب مفتوح وعلينا أن نسارع لوضع الضوابط والاحتياطات الشرعية اللازمة حتى لا تقع المحاذير الشرعية المعروفة والتي لا بد من الحذر منها كيف لا يكون معالجة العقم ضرورة؟ لا أدري كيف يكون ذلك؟ لعل الشخص الذي لم ير الأسر التي تعاني من حالات عقم هو الذي يقول مثل هذا الكلام، إن أسرا كثيرة تنهار بسبب حالات العقم والحاجة للولد {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وعلى المرء زيادة النسل التي حثت عليها الشريعة ودعت إليها بكل الأساليب والصور، الأمور النفسية إلى غير ذلك يعني أنا أستغرب في الواقع الكلام الذي يجعل العقم أمرًا يجب أن لا يتوجه لمعالجته. النقطة التي أحببت أن أنبه إليها وقد سبقني إليها فضيلة الأستاذ السلامي الذي هو موضوع قتل الأجنة في الواقع يجب أن يكون الحكم الشرعي باستمرار يغطي الواقعة المعروضة بكل أبعادها ولا يصح أن ينظر إلى بعض تفصيلاتها أو نتائجها أو يغفل عن كامل تفصيلاتها. عملية أطفال الأنابيب كما شرح الأطباء وكما يمكن أن يوضح لنا السادة الأطباء الموجودون تعتمد على تحضير ما يسمى بالأجنة المرشحة تعتمد على الملقحة عند زرعها في رحم المرأة، وهذا قد يخفف قليلا من تحفظ أستاذنا الشيخ رجب، العملية تتم بالطرق الطبيعية يعني لا تتم عملية استنبات الولد خارج رحم المرأة، هي تتم في داخل رحم المرأة، إنما عملية تيسير الزرع في رحم المرأة هي التي يعاجلها طفل الأنبوب " يتبادر إلى الذهن استخدام أطفال الأنابيب كأنما نضع الطفل في أنبوب ثم ننميه وحتى يكبر ثم يخرج وهذا يخفف من قضية الألم النفسي في المستقبل هو لم ينمُ في أنبوب، كل العملية أنه تمت عملية التلقيح خارج الرحم ثم نقلت البويضة الملحقة إلى داخل الرحم، لأن احتمالات النجاح ليست عالية، اضطر الأطباء إلى ترشيح أكثر من جنين فإذا نجحت العملية ما حكم بقية الأجنة؟ قطعا تقتل أو قد تستغل خاصة في الدول التي ليس هنالك ضوابط على هذا الأمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 أذكر زوجين أستراليين قد كانت لهما مجموعة من الأجنة في أحد المختبرات الطبية وماتا، فجاء أقرباء الزوج وطالبا بأخذ أحد الأجنة المزروعة هذه، ووضع في رحم المرأة بعد وفاة الزوجين وجود هذه الأجنة يمكن أن تستغل ويمكن أن تقتل لذلك لا بد أن يضاف قيد جديد على قرار مجمع الفقه التابع للرابطة بأن يحذر من هذه النقطة، وألا يكون هنالك ترشيح لأكثر من جنين، فالقضية تكفي بويضة واحدة ملقحة فإن نجحت العملية كان به، وإلا يمكن أن تعاد العملية حتى لا تقع في محذور قتل الأجنة وخاصة أن لدينا آراء فقهية تقول: إن من لحظة التلقيح تعتبر الحياة موجودة وبالتالي لا يجوز الاعتداء عليها بالقتل فاحتياطا لهذا الأمر لا بد من أن يضاف هذا القيد على ما انتهى إليه مجمع رابطة العالم الإسلامي ولي أيضا تحفظ على قيد " ليس لها أولاد " بل لها ولد واحد، هل يمنع عليها أن تأتي بولد آخر على هذه الطريقة؟ لا أدري لم يمنع عليها هذا خاصة إذا عشنا في ظلال حث الشريعة المستمر على زيادة النسل وتحقيق معنى الإنجاب وخاصة أن الولد له قيمة في إطار الأسرة ليس ولدا واحدا، مجموعة الأولاد، وزيادة النسل أمر مطلوب شرعا فلذلك لا أرى ضرورة لقيد " ليس لها ولد " إنما يجب أن يكون احتياطنا مركزًا على منع اختلاط الأنساب وموضوع قتل الأجنة الذي أضيف من النقاش الذي تم في هذه الفترة، وشكرًا. الشيخ محمد عطا السيد: الحمد لله رب العالمين. . اللهم صلى على محمد عبدك ورسولك. لا شك، نعلم أن العقم من المصائب الكبيرة والأشياء المحزنة جدًا التي تلم بالإنسان سواء أكان رجلا أو امرأة وكما ذكر المتحدث، كثير من الأسر تكون عائشة في حالة حزن وحالة ألم بالنسبة للزوجين وأحيانا الوالدين وكل من يتعاطف معهم من الأقرباء فلذلك أرى أنه نحن في هذا المجمع قطعًا من أهم مهماتنا هنا في المجمع أننا إذا وجدنا طريقة نيسر بها على الناس ونخرجهم من دائرة الهم والحزن والكرب الذي يعيشونه بالذات بمثل هذه الحالات الحساسة هذا يكون من أهم واجباتنا بل نستبشر خيرا إذا وجدنا طريقا ومخرجا في هذه المسائل. ولذلك أنا أرى أنه بالذات في الحالة التي ذكرها السيد الرئيس بوضوح وهي أن يكون الماء ماء الزوجية والرحم رحم المرأة الزوجة ذاتها فنرى أن هذه الحالة لا شك أننا نقبل تحليل هذه المسألة للتغلب على هذه المأساة الكبيرة التي قد يعيشها الزوج والزوجة، وأرى أن هذا الدين، من مميزات هذا الدين هو احترامه للعلم ودعوته للناس لفتح وسبر غور العلم في جميع المجالات حتى ييسر على الناس جميع أوجه الحياة، ولذلك أرى أنه أبدا ما فيه تعارض بين هذا الدين وبين هذه الاكتشافات العلمية طالما أننا تحرزنا كثيرًا من ألا نمس حرمة فيها لله تعالى. فلذلك يا سيدي الرئيس أنا أضم صوتي بوضوح لتحليل هذه الحالة الأخيرة التي ذكرناها وهي أن يكون الماء ماء الزوجية والرحم رحم الزوجة نفسها أرى تحليل هذه المسألة، ثم بعد ذلك المسائل التي ذكرها الدكتور في التحفظات التي قد تلي في مثل هذه الحالة، وهي: كشف العورة، التكاليف الباهظة، ونسبة عدم النجاح، إن الحالتين الإثنتين هذه هي حاجة متروكة للناس إذا كانت تكلفتها باهظة يترك للإنسان إذا كان يستطيع أن يقوم بهذه المسألة فبها، وإلا فتترك لحالته أو مساعدة الناس له في هذا المجال نسبة عدم النجاح هذه المسألة قد يتغلب عليها بمرور الزمان وتصبح نسبة عالية وحتى لو كان نسبة منخفضة هذا أيضا لا يدعونا ليكون سببا من الأسباب التي نحرم بها هذه الحالة ولذلك مع تحليلنا لهذه الحالة، السيد الرئيس، أرى أن نذكر أيضا في صياغة هذا الموضوع بموضوع الضرورة القصوى في هذه الحالة ثم أيضا التذكير بوضوح جدا تلافي كل الوسائل الممكنة لعدم كشف العورة وأيضا إذا كان ممكن أن تجرى هذه العملية كما ذكر عن طريق الدكتورة المسلمة ثم بعد ذلك الدكتور المسلم بهذا الترتيب الذي ذكره الدكتور وحتى يحضرني في هذه المسألة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي عملنا إياه " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن " الفقرة التي تليها مباشرة " وأعوذ بك من العجز والكسل" إذا كان في هذه المسألة كما ذكرت هي أكثر المسائل التي تهم الناس وتحزنهم وجدنا مخرجا وتكافينا وتلافينا هذا العجز فلا بأس من ذلك ونحمد الله على ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 النقطة الثانية: أرى أنه في رأيي أن نحرم بقية الصور جميعها حتى الصورة الثانية التي ورد فيها التحفظ التي أفتى فيها مجمع الفقه الإسلامي في مكة، ثم رجع عنها أنا كذلك أرى أن هذه المسألة لها خطورة كبيرة وهي أنه قد تؤدي إلى أن المرأة نفسها إذا حملت بهذا الطفل امرأة أخرى ثم وضعت هذا الطفل قد يحصل تنازع عاطفي كبير جدًا بين هذه المرأة التي حملت الطفل وبين المرأة التي زودت هذه المرأة بهذه البويضة، ولذا أرى أنه فيه مسألة حساسة جدًا قد تقود إلى مشاكل علمنا الشرع دائما أن نقفل باب هذه المعضلات وباب هذه المشاكل بالذات في هذه المسائل الحساسة ولذلك أرى تحريم جميع بقية الصور لما فيها من محرمات كاختلاط الأنساب وأيضا تبلور هذه المشاكل كالمشكلة التي ذكرت وأرى تحليل الحالة الأخرى مستبشرين بذلك مساعدين للناس في دينهم ودنياهم، إن شاء الله. الشيخ عمر جاه: بسم الله الرحمن الرحيم شكرًا فضيلة الرئيس ومما لا شك فيه أن العقم مرض وأن كل مرض يحتاج للعلاج، ولكني مع ذلك أميل إلى رأي الشيخ رجب التميمي في أننا يجب أن نحتاط وأن لا نتحمس دائما للأفكار التي تردنا من الغرب، ويبدو لي من البداية أن عملية طفل الأنابيب فكرة غريبة على العالم الإسلامي، لا شك في هذا، وإذا رجعنا إلى قرار مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة، القرار الذي أجاز حالة واحدة. وأنا أذهب أبعد من هذا، وأقول: إن هذه الحالة ينبغي أن نقسمها إلى قسمين، فالتلقيح الصناعي الداخلي لا غبار عليه، جيد جائز وجيد، وليس هناك خطر الخطر الوحيد هو في حالة التلقيح الخارجي الذي يتطلب تلقيح ماء الرجل في بويضة من المرأة ما هو الضمان؟ هل عندنا ضمان أن الطبيب الذي يقوم بهذا لا يقوم بأكثر من هذا؟ والبويضات المتبقية هل هناك ضمان أنها لا تلقح بكيفية تجارية أو كيفية تخالف الشريعة الإسلامية وأنا أرى شخصيا أنه حينما استمعنا إلى الدكتور البار في ذكر أسباب العقم، ذكر ثلاثة أسباب، وقد يكون هناك أسباب أكثر، لكن ذكر الإباحية زنا، وذكر استعمال اللولب، وذكر أيضا الإجهاض، فهذه الأسباب كلها يستطيع المسلم المؤمن حقا أن يتجنبها وبقي لنا إذن حالات قليلة لأنه لسبب من الأسباب المرأة تصاب بهذا الداء أو الرجل يصاب بهذا الداء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 فهذه الحالة الضيقة في نطاق العالم الإسلامي يمكن معالجتها باستعمال الأسلوب الأول، التلقيح مع رجل مباشرة في رحم امرأته، ونتجنب كل الأشكال المتبقية وإذا وجدنا أننا لا نستطيع لأن الحالة موجودة كما ذهب إليه كل من فضيلة الشيخ السلامي ودكتور عبد السلام العبادي، أن هناك مراكز قائمة في الدول الإسلامية ينبغي لهذا المجمع الموقر أن يصدر قرارا بعدم جواز تلقيح أكثر من بويضة واحدة في الحالة الواحدة، داخلي وخارجي، إذا اضطررنا إلى تبنيه ورأينا جوازه ينبغي أن يصدر عن هذا المجلس أنه في حالة الضرورة وفي حالة الاضطرار إلى استعمال الأسلوب الخارجي ينبغي أن لا يكون هناك تلقيح أكثر من بييضة واحدة في الحالة الواحدة حتى إذا فشلت هذه التجربة كررناها مرة ثانية، وشكرًا سيدي الرئيس. الدكتور زيد الكيلاني: أنا رئيس قسم العقم، في الأردن مركز العقم، وعندنا الواقع مركز للتلقيح خارج الجسد وأنا مبسوط كثيرا، وفي هذا المركز للنقاط إلى سأحيكها الآن في ورقتي هذه، وممكن أن تسمعوني في حوالي عشر دقائق. حضرة رئيس المجلس الموقر.. حضرات العلماء الأجلاء ... بادئ ذي بدء أقدر اهتمامكم بهذا الموضوع الحساس موضوع التلقيح الذي هو من أشد الخطورة والأهمية في وقتنا الحاضر إن من واجبكم التدقيق فيه والتأني في أخذ قراراتكم إن أي قرار خاطئ سواء أكان بالإيجابية أو بالسلبية سوف يكون له أسوأ الأثر وسوف لا يرحمكم التاريخ من إعطاء أكثر مما يلزم أو حرمان البعض مما أحله لهم الله إني وأعضاء فريق في مشروع التلقيح خارج الجسد على اطلاع على قراراتكم التي صدرت في اجتماعكم الأول والثاني بهذا الصدد، وإني وزملائى نحيي مساندتكم لهذا المشروع من حيث المبدأ. إن من أهم الأسباب التي دفعتني إلى أن أخاطبكم هذا اليوم هو ما لاحظته من عدم تفهم واستيعاب لهذا الموضوع من بعض علمائنا لقد ساءني جدًا أن أقرأ في بعض الصحف وحتى في إحدى الكتيبات تعليقات وشرحًا عن موضوع التلقيح خارج الجسد هي أبعد ما تكون عن الصحة لقد استغربت فعلا من بعض التعليقات والتي كتب معظمها عن سوء فهم ولكن وأؤكد بكل حسن نية لقد تعرض العاملون في هذا التخصص إلى الكثير من الإساءة والانتقادات اللاذعة المؤلمة إلا أنه لم نفضل لغة التراشقات كما حدث في الصحف لأهداف سامية تخدم مصلحة الوطنين العربي والإسلامي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 ها أنا ذا اليوم أقف أمامكم وبين أيديكم وتحت تصرفكم مستعدا لتوضيح أية استفسارات في خدمة هذه الأمة. أود في مطلع حديثي أن أبرز أن اصطلاح " طفل أنابيب " اصطلاح غير علمي ولائق بل ومرفوض ومنتقد من الأوساط العلمية وأرجو أن تستعملوا في كتاباتكم وخطاباتكم الرسمية اصطلاح " التلقيح خارج الجسد "، يتلخص هذا المشروع في أخذ بويضة، وعلى الأغلب من عدة بويضات من الزوجة وتلقيحها خارج جسد الأم، أي في المختبر من الحيوانات المنوية للزوج، تحتضن البويضات المأخوذة مع الحيوانات المنوية في حاضنة خاصة لمدة تتراوح من 40 إلى 72 ساعة فقط فإذا تم تلقيح هذه البويضات عندما تنقل الأجنة إلى رحم الزوجة أما عن الأمصال والمواد والسوائل المستعملة في هذا المجال فكلها معروفة الأصل ولا تتنافى قطعيا مع تعاليم الدين الإسلامي الحنيف دين العلم والمنطق دين الرحمة والإنسانية هذا ولا أريد أن أطيل عليكم الحديث في هذا المجال بتفاصيل تركيباتها إلا أنه لا مانع لدى الفريق من أن يطلعكم على أدق التفاصيل بل ويرحب بزيارتكم للمركز إن كان لأحدكم اهتمام بالموضوع، أما الحالات التي تدعو للعلاج بهذه الطريقة فتتلخص فيما يلي: حالة الزوجة عندما تكون قناة فالوب عندها مغلقة أو مصابة بعطب. حالة الزوج عندما تكون الحيوانات المنوية ضعيفة. أما موضوع الضرة فإني أعتقد أن لا مجال لخلط الأنساب فيه، ويمكن الاستفادة كثيرا من هذا المشروع في دعم روابط الأسرة الإسلامية في حالة وجود ضرة عاقر أما أبعاد المشروع الأردني فهي: أولا: إنسانية لا يعلم إلا الله مدى العذاب الذي يتعذبه زوج حرم من الإنجاب، أو زوجة مهددة بتهمة عدم المقدرة على أن تكون أما، إن الضغط النفسي الذي ترزح تحته هذه العائلة الخالي بيتها من الأطفال فوق أي وصف وإني كطبيب مهتم بهذا الموضوع أستطيع أن أكتب المجلدات عن مآسي هذه الحالة. نستطيع أن نحكي عن الموضوع ساعات لكن هذا ملخص انطباعي عن حالات العقم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 الحالة الثانية التي تهمنا الحالة الاقتصادية: إن جولاتي التدريبية في الخارج أعطتني فكرة واضحة عن ما تتكبده العائلة المحرومة من الإنجاب من تكاليف السفر والإقامة والعلاج بالإضافة إلى عذابهم النفسي وهو أن تكلفة أي محاولة لأي زوجين لا تنقص عن ألفي دينار أردني بل وقد تزيد عن ذلك بكثير خاصة السفر إلى الولايات المتحدة وإذا لزمتهم عدة مرات وأخذ معه مرافقا واحدا أو أكثر. نفسية: رغم نفسية المواطن العربي والإسلامي وخاصة أننا نواجه جارا قريبا جدا لا يتردد في استعمال، أي سلاح ليثبط من عزائم هذه الأمة ويشككها في قدراتها، وبالأخص القدرات العقلية، إنه عنيف وعميق في استعمال الأساليب النفسية، إنه يزرع في نفوسنا فكرة عدم المقدرة على مواجهة التكنولوجيا والتقنية الحديثة، ويزعزع من ثقتنا في أنفسنا. تمتلك إسرائيل في الوقت الحاضر عشرة مراكز للتلقيح خارج الجسد عشرة مراكز، أي تفوق أي مستوى في العالم فوق مستوى أمريكا ومستوى إنجلترا لأن الإحصائيات دلت أن لكل مليون ونصف مركزا واحدا، فإسرائيل وحدها لها عشرة مراكز، وعندما كنت في أحد المؤتمرات علمت وكنت أسمع مناقشة بين اثنين علمت أن الحافز من الإكثار من هذه المراكز في إسرائيل هو إقبال العرب عليهم كما علمت أن كثيرا من إخواننا المصريين ومن الضفة الغربية وتركيا يتوافدون لإسرائيل للعلاج والتكلفة هناك ألفا دولار إن سياسة إسرائيل عميقة ولها ثلاثة أهداف: (أ) إبراز الإسرائيلي بأنه عبقري ومتفوق على الغير. (ب) تشكيك المواطن العربي والمسلم بنفسه وبقدرته وجعله ينظر إلى الإسرائيلي نظرة القزم إلى العملاق وزعزعة فكرة المريض بمقدرة الطبيب العربي والمسلم. (ج) كسب مادي وسوق طبي. وأما آخر أهداف المشروع الأردني فتح الأبواب الآن وبعد إثبات النجاح أي فتح الأبواب لزملائنا في الدول العربية والإسلامية للتدريب في مركزنا وطبعا دون مقابل، التدريب في الخارج صعب جدا جدا جدا، وصعب الوصول إليه، ومعاملة العربي أو المسلم في الخارج ليست معاملة يهودي لما يطلع يتدرب فإحنا الآن في مركز نستطيع أن ندرب زملاءنا أما توصياتي فتتلخص في: أولا: الرجاء عدم التصريح بأية معلومات دون فهم الموضوع تماما ومناقشة الجهات العلمية المختصة فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 ثانيا: التصريح بتجميد الأجنة، وهذا يتطلب الكثير من المناقشة ومن أهمها مدة التجميد، تجميد الأجنة أتصور أنه أمر مهم وحق للمرأة وزوجها. ثالثا: إعادة النظر في موضوع حمل الضرة لجنين ضرتها. رابعا: دراسة موضوع زرع الجنين في رحم أم مستعارة يعني الجنين من زوج وزوجة في أم مستعارة. وأخيرًا آمل إن كان في هذا الحديث إقناع الإخوة المعارضين بأن هذا المشروع أساسي لمجتمعنا وطبعا أمر أحله الله في اعتقادي أن العمل فيه يتطلب الكثير من الجهد الجسدي والتركيز الذهني وأن شبابنا المجندين في هذا المشروع وطبعا شاباتنا، لأن طبعا فيه معنا دكتورات مسلمات كثيرات فالمشروع بحاجة لكل دعم وكل مناخ يسوده الهدوء وللتركيز على عملهم المضني العمل الشاق جدا جدا ونرغب في الدعم، وشكرًا. الشيخ علي أحمد السالوس: سبقني إلى ما كنت أريد أن أقوله الأستاذ الدكتور العبادي ولذلك أكتفي بهذا، وشكرًا. الشيخ أحمد محمد جمال: أريد في البداية أن أقول، وإن كان قد سبقني الشيخ عمر، أن العقم مرض أو علة أو داء كسائر الأدواء وإن كان هناك عقم دائم وعقم مؤقت فالتلقيح الصناعي هذا هو علاج للعقم المؤقت وينبغي للمسلمين ألا يتخلفوا أو يتأخروا أو يحجموا على علاج العقم كمرض كسائر الأمراض. الأمر الثاني: هو أننا كما سبق أن قال الشيخ المختار السلامي: إن المسلمين اليوم يواجهون تحديات ومشكلات قوية لابد من مواجهتها بما ينبغي أن يستفيد منه المسلمون عن رضا واختيار لا بمواجهة بالتحريم أو المنع المطلق نحن نعاني من هذا الوضع، هنا مراكز أو مستشفيات لإنجاب الأطفال عن طريق التلقيح الصناعي، وكما قلت إن التلقيح الصناعي هو علاج لمرض، فلماذا نرفض العلاج للمرض؟ ولماذا نرفض هذه المستشفيات أو هذه المراكز العلمية القائمة على علم؟ ونحن لا نريد أن نحل حراما، لكن ينبغي أن نتقبل المحدثات العلمية الجديدة بأسلوب شرعي، على طريقتنا نحن المسلمين، لا نواجه هذه التحديات العلمية بالمنع والتحريم ينبغي أن نستقبلها بما نجده عندنا من وسائل إباحة أو حليِّة. الأمر الثالث: أريد أن أسأل سيادة أو سماحة الرئيس الشيخ بكر أبو زيد لماذا أباح مجمع الفقه في مكة استخدام الضرة في حمل الجنين ثم حرمه، أنا أرى صواب هذه الحلية أريد أن يتفضل سماحة الرئيس ببيان أسباب الحليِّة أولا ثم أسباب المنع ثانيا. الرئيس: حيث إن الذي حضر الموضوع في التحليل والتحريم هو الشيخ مصطفى فأنني أوكل الموضوع إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 الشيخ مصطفى الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم إخواني الكرام ... مجمع مكة في دورته السابعة أباح الحالتين اللتين كنت قدمت في حلهما تقريرا وهما اللتان ذكرتا الآن في التلقيح الداخلي بين الزوجين والتلقيح الخارجي أيضا هناك وهو الشيخ عبد الله العثيمين هو الذي طرح الحالة الثالثة بين الضرتين، وقال: نحن في المجتمع الإسلامي لدينا طريق، وهي تعدد الزوجات، فيا ترى لو أن إحدى الزوجتين رحمها منزوع وضرتها رحمها سليم، والأولى مبيضها سليم فهل ممكن أن تؤخذ البييضة منها؟ أي من الضرة منزوعة الرحم أو المعطل رحمها، وأن تزرع بعد تلقيحها في وعاء الاختبار في رحم ضرتها بحث المجمع هذه النقطة ورأى أنها مبدئيا لا مانع منها باعتبار أن الاثنتين زوجتان لرجل واحد، وهنا تطرق بالمناسبة وبحكم الضرورة إلى نتيجة الولد ونسبه فقرر المجمع أنه في هذه الحالة إذا تم الحمل وولدت الضرة هذا الولد المزروع من بذرة ضرتها يكون نسب الولد الحقيقي لصاحبة البييضة، أي لضرتها وتكون الضرة التي زرع في رحمها الأم المرضعة بالأولوية لأنه أكثر من رضاع هذا ما قرره المجمع إذ ذاك وكان هذا بالإجماع وأحب أن أقول هذا بالنسبة لما تفضل به فضيلة الرئيس من أن قرار المجمع كان بالأكثرية. هذا كان بالإجماع ووضعت عليه تواقيع الجميع، ولكن بعد ذلك رئيس المجمع فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد العزيز بن باز رجع عن رأيه هذا بالنسبة للكل وهذا الرجوع كان بعد انفضاض المجمع ففي السنة اللاحقة وهي العام الماضي وجد من الأعضاء من قدم ملاحظة وكان متحفظا على حالة الضرة في الدورة الأولى، وهو الشيخ رشيد القباني من لبنان، فقال: إنه سمع من بعض الأطباء في لبنان أنه في هذه الحالة ما بين الفترة الفاصلة بين أخذ بويضة من الضرة المعطلة الرحم وتلقيحها ببذرة الزوج في وعاء اختبار ثم زرعها في رحم ضرتها الأخرى، في هذه الفترة من الممكن أن يكون حصل اتصال بين الزوج وبين الضرة التي ستزرع اللقيحة في رحمها. وفي هذه الحالة إذا نجحت الزراعة وعلقت اللقيحة وولدت، وقد اتصل الزوج بهذه الضرة قبل ذلك، فما الذي يدرينا أن الحمل حصل من اتصال الزوج بالطريق الطبيعي أو أنه لم يحصل منه حمل ولكن الحمل حصل من زرع اللقيحة فهنا يحصل اشتباه وكان الأستاذ الكريم الدكتور البار موجودًا في تلك الدورة فعندئذ لما حصل هذا التشكيك في أمر النسب في هذه الحالة سئل الأطباء الكرام الخبراء وكانوا حاضرين كانوا ثلاثة: أحدهم الأستاذ البار، ومنهم الدكتور الاختصاصي الدكتور عبد الله باسلامة سُئلوا فقالوا فإن هذا الاحتمال وارد نظريا، ولكنه عمليا لا يمكن أن يحصل لأن عملية الأخذ وغيره تحتاج إلى تحضيرات، وتكون المرأة في المستشفى يعني الضرة التي سيجرى لها، يعني هناك تحضيرات كثيرة تمنع اتصال الزوج ثم لا تخرج من المستشفى إلا بعد أن يكون قد أغلق الرحم بعد العلوق فقالوا: عمليا جدا مستبعد أن تحصل وإن كان نظريا ممكن على كل حال من باب الاحتياط المجمع قرر سحب هذه الصورة من الجواز لهذا السبب وليس لشىء آخر غيره هذه خلاصة المسألة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 الشيخ رجب التميمي: لقد أشار إلى أن الباب قد فتح وأن مراكز التلقيح موجودة في السعودية ثلاثة مراكز وقد فهمت أن هنا مركزًا، الأحكام الشرعية لا تبنى على الواقع، إن كان الواقع يأباه الشرع وإنما ينزل الواقع على الأحكام الشرعية فإذن الأحكام الشرعية تمنع وجود الواقع الذي هو موجود يجب أن يمنع أما أن ينزل الواقع دليلا على حكم شرعي وتتأثر الأحكام الشرعية بالواقع الذي يأباه الإسلام، هذا أمر غير وارد هذه نقطة. النقطة الثانية: أنا لم أقل إن العقم هو ليس ضرورة، قلت: إنه ليس ضرورة بالنسبة للتلقيح لكن العقم هو لا شك أنه ضار ويجب أن يعالج علاجا يكون كعلاج الأمراض الأخرى، العلم يتقدم والعلم كل يوم له أساليبه، ففيه أدوية الآن توصل إليها لعلاج العقم. العقم صحصح أنه ضرر وأننا نعمل على أن نعالجه، لكن لا نعالجه بما يفتح بابا فيه شر على المسلمين، لكن نعاجله بطرق الأدوية، وبالطرق العلمية الحديثة، والعلم يتقدم وأنا أقول كلمة أخيرة: إن مجتمعنا الإسلامي يأبى هذا النوع من النسل ويأبى هذا النوع من الولد، وإن الأسرة قد يكون فيها القيل والقال بالنسبة لطفل التلقيح سواء كان خارجيا أو داخليا، وإني أقول في النهاية: يجب النظر في هذا الأمر بكل دقة تلافيا لما يجلب علينا في مجتمعنا من فساد، وشكرًا. الشيخ الصديق الضرير: أرى أنه لا مانع من جواز حالة واحدة فقط، هي ايصال ماء الزوج إلى المكان المناسب من رحم زوجته بالشروط المذكورة في فتوى المجمع مضافا إليها – إلى هذه الشروط - أن يتم ذلك في حضور الزوجين، ومن غير تصرف في ماء الزوج وأنا أضفت هذين الشرطين لكي نمنع أي احتمال للتلاعب في هذه العملية لابد من حضور الزوجين معا حتى نقفل الباب أمام أحد الزوجين للتلاعب ونقفل الباب أيضا أمام الطبيب للتلاعب فبهذه القيود لا أرى مانعا مطلقا. هذه العملية تسميتها " أطفال أنابيب " غير واردة ليست هناك أنبوبة أما باقي الصور فلا أرى وجها لجوازها. وأحب أن أضيف شيئا قليلا عما قاله الأستاذ الزرقاء في إجابته على السؤال في العلة في تحريم أو في منع تلقيح أحد الضرتين بماء الأخرى، زيادة على السبب الذي توصل إليه المجمع ورجع عن رأيه يحضرني مانعان آخران: أحدهما أنه في هذه الحالة نحن نضع ماء امرأة أجنبية في رحم امرأة أخرى هل يجوز هذا؟ صحيح أن ماء الرجل هو الرجل بين الزوجتين لكن إذا اختلط به ماء زوجته ونقلناه إلى ماء الزوجة الأخرى ما العلاقة بين ماء الضرتين هل يصح هذا؟ إذا كان السحاق لا يصح فهذا لا ينبغي أن يكون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 ثانيا: وإن قال المجمع: إن النسب يلحق بصاحبة البويضة هذا الحكم لا أوافق عليه بتاتا لأنه ما هو المناط في نسبة الولد إلى الأم؟ هل هو البويضة ماء المرأة؟ أم هو الحمل؟ أم هو الولادة؟ وإن كان الحمل والولادة متلازمين. ما أرجح أنه السبب أو المناط هو البويضة من أين هذا؟ هذه العمليات الثلاثة معا. وقد أضاف إليها الرئيس أن يكون ذلك في فراش الزوجية وبالطريقة الطبيعية لا مانع من هذه هي ملحقة بها فإذا لم يكن المناط هي هذه الثلاثة فإني أرجح أن يكون الحمل والولادة وليس البويضة، لأن القرآن تحديث عن الأم ووصفها بأنها التي تحمل وتضع {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} هذا أولى إذن هذه الطريقة لا توصلنا إلى النتيجة التي نريدها، ولذلك أنا لا أتردد في منع هذه الصور كذلك لا أتردد في منع الصورة التي يكون فيها التلقيح في الخارج لأن هذا كما سمعنا فيها محاذير كثيرة وتعذر قفل باب هذه المحاذير فتبقى على المنع. الرئيس: إعادة الشرطين يا شيخ الذي ذكرتهما. الشيخ الصديق الضرير: الشرطان النص يقول: إنه لا مانع من إيصال ماء الزوج إلى المكان المناسب من رحم زوجته بالشروط المذكورة في فتوى المجمع مضافا إليها أن يتم ذلك في حضور الزوجين ومن غير تصرف في ماء الزوج يعني لابد أن يؤخذ مباشرة وكما هو يدخل في المكان المناسب من رحم زوجته ثم هذه يا سيدي الرئيس لا أقيدها بضرورة ولا حاجة وإنما يكفي فيها رغبة الزوجين في الولد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 الرئيس: في الواقع إن البحث يكاد يكون منحصرًا الآن في طرق الإنجاب بين الزوجين على فراش الزوجية سواء بأسلوبيه الداخلي والخارجي، ولكن هناك توجهات بعض المشايخ في المنع والمنع البات للتلقيح الخارجي لكن أحب أن أسأل الطبيب البار عن أمرين، وهما مسألة حدوث الخطأ بالعينات ومسألة بقاء النطف أو الاحتمال، فهل هذان الأمران يحتملان كذلك في التلقيح الداخلي أو لا يكونان إلا في التلقيح الخارجي؟ الدكتور محمد علي البار: سماحة الرئيس ما فهمت السؤال الثاني: بقاء النطف ما تقصدون بذلك؟ تجميد الأجنة. الرئيس: نعم تجميد الأجنة أعطيكم إياه من لفظكم لأنه مدون في بحثكم يا شيخ. الدكتور محمد علي البار: طيب جزاكم الله خيرًا ... بسم الله الرحمن الرحيم سماحة الرئيس ... أصحاب الفضيلة الحقيقة هناك مسألة حدوث الخطأ في العينات وارد سواء كان بالتلقيح الصناعي الداخلي أو الخارجي، وسواء كان هذا الخطأ خطأ أو متعمدا في الحالتين يمكن أن يكون هذا. والقيود، صحيح والحمد لله لا يزال كثير من الأطباء لا أشك فيهم لأنهم زملائي وهم من أحسن الناس أخلاقا وفيهم ناس على تقوى من الله سبحانه وتعالى، ويقومون بهذه العملية، وأعرف أنهم يأخذون كافة الاحتياطات اللازمة وخاصة الاحتياطات التي ذكرها الشيخ الضرير، هم يأخذونها بالفعل، يعني الدكتور عبد الله باسلامه يقوم بهذا التلقيح الداخلي في الجامعة وغيره من الأطباء بحضور الزوجين، بهذه الشروط التي ذكرها الشيخ الضرير -أمد الله في عمره - ومن غير تصرف بطبيعة الحال في مني الزوج وفي الحال، يعني يطلب من الزوج أن يكون موجودًا وينفذ هذا بالصورة التي أقترحها الشيخ الضرير، وهي صورة لا شك في أنها تضع ضمانات كثيرة جدًا في هذا الباب، لكن إذا فتح هذا الباب، الرقابة في مستشفياتنا معدومة كثير من الأطباء غير مسلمين أصلا عنصر الربح موجود، هذه العناصر كلها لا نستطيع أن ننفيها الرقابة أصلا غير موجودة غير رقابة الله سبحانه وتعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 هذه هي النقطة الأساسية في هذا الباب، بالنسبة إذا فتح باب بنك المني والاحتفاظ بالمني أو بالنطف، هذا يؤدي إلى احتمالات وجود الخطأ بدون شك، حتى ولو كانت واحدا في الألف، احتمالات وجود الخطأ موجودة مهما كتب عليها الاسم لأن الاسم أحيانا يكتب خطأ، وأخبرني الأخ الدكتور سمير عباس القائم على مشروع أطفال الأنابيب في المملكة العربية السعودية والذي استطاع أن يولد طفلة بهذه الطريقة عنده في مستشفى فقيه بالفعل، ولديه أكثر من عشرين امرأة حاملا بهذه الطريقة، وأطلعني على التفاصيل وجلست معه جلسات طويلة حتى أعرف هذه رغم هذه التفاصيل والاحتياطات وهو رجل فاضل وتخرج من طب الأزهر وعنده ناحية دينية قوية جدا ولا أزكي على الله أحدا، لكن احتمال الخطأ، أعترف بأنها لابد أن تكون موجودة، وإن كانت نادرة وهو يأخذ كافة الاحتياطات. وكان من رأيه أيضا لأخذ احتياطات أن لا يسمح بهذا الإجراء على من هبَّ ودبَّ، أي مستشفى الآن يفتح ويعمل إعلانا، الآن أصبحت بدل مركز ستصبح عشرات المراكز، وتصحيحا للدكتور الكيلاني، في الولايات المتحدة الآن أكثر من 125 مركزًا حسب الإحصائيات الأخيرة، طبعا ليست إسرائيل هي المتفوقة في هذا، وموضوع لا أريد أن ندخل في مناقشة الدكتور كيلاني في التفاصيل إقحامه موضوع إسرائيل لأن الموضوع خارج عن النطاق السياسي مهما كانت الدوافع له. تأتي النقطة المهمة وهي تجميد الأجنة، نقطة تجميد الأجنة كما يعرف الأستاذ الدكتور الكيلاني وكما يعمل بنفسه، ينبه الطبيب المبيض فيحصل على مجموعة من البويضات هذه البويضات تلقح بماء الزوج في طبق به سائل خاص، وبعد كما ذكر من 40 إلى 76 ساعة أو أكثر أو أقل حوالي ثلاثة أيام، تعاد بويضتان أو ثلاثة إلى الرحم لماذا؟ لأنه عندما كانوا يعدون بويضة واحدة كانت نسبة النجاح حوالي 10 %، طبعا من النسب التي ذكرناها في النسبة الأخيرة من العلوق 10 %، ثم يجهض منها تلقائيا حوالي الثلث فتبقى النتيجة النهائية 3 أو 5 % عندما وضعوا ثلاثة أجنة أو جنينين إذا اصطلحنا على هذا التعبير، بويضات ملقحة ولقائح، زادت نسبة النجاح إلى حوالي 20 أو 30 % يقابلها أيضا زيادة في الحمل الثنائي أو الثلاثي، وإذا وضعوا أربعة يمكن يحصل حمل رباعي، والحمل كلما زاد كلما زادت خطورته بطبيعة الحال كلما زاد عدد الأجنة كلما زاد الخطر على الأجنة وكلما زاد الخطر على الأم أيضا فماذا يفعلون؟ لا يستطيعون إعادة كل هذه الأجنة فيحتفظون بهذه الأجنة الفائضة الأجنة الفائضة فائدتها إذا فشلت المحاولة الأولى أو أن الأم أجهضت بعد أن حملت تكون قد حملت ثم تجهض لأن احتمالات الإجهاض كبيرة أكبر من الشيء الطبيعي، فتجهض، فعندما ترجع مرة أخرى تجد البويضات ملقحة جاهزة ويخفف هذا من الأعباء والتكاليف ويخفف أيضا من الجهد وإدخالها المستشفى إلى كل التكاليف الأخرى الموجودة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 ماذا يحدث عندما يتم الحمل من المحاولة الأولى؟ في 30 % ينجح الحمل ماذا يتم في الـ 30 % هذه إذا نجح الحمل هل ترمى هذه الأجنة؟ هل تستخدم للغير؟ هل تجرى عليها الفحوص؟ وإلى أي مدى؟ هذه هي المشاكل التي ينبغي أن تبحث وكان رأي كثير من السادة الفضلاء الأجلاء في تحديد ذلك، وأنهم يأخذون جنينين فقط، هما ذكروا جنينا واحدا لكن جنينا واحدا يبدو لي نسبة كثيرة، لكن لو أخذوا جنينين فقط مباشرة ووضعوها في الرحم بعد ذلك ترمى هذه الأجنة الفائضة، لا يلقح من الأساس غير ثلاث بويضات أو بويضتين من الأساس، ويعديها الطبيب مباشرة، البويضات الفائضة لا يلقحها ولا يأخذ أكثر من اثنتين، يعني أصلا في أثناء الشفط لا يحتاج إلى أن يشفط كل هذا العدد، وإذا حدث أن شفط الطبيب أكثر من بويضتين أو أكثر من ثلاث لا تزال نطفة غير ملقحة ليست لها الحرمة حتى على قول المالكية في هذه الحالة يستطيع أن يستغني عنها بويضة مثل نطفة الرجل وماء الرجل لم يحدث تلقيح بعد هذا الإجراء ربما يكون إجراء وقائيا وجيدا وشرطا طيبا يضعه المجمع في هذه النقطة. أظن أني أجبت على هذا لكن أرجو ما دام سمح لي بالكلام أن أستمر نقطة واحدة وهي في الحالة الأولى هي موضوع الأول هي المستثني حالة الضرة وإن كان الدكتور الكيلاني أراد أن يقترحه مرة أخرى لكن هذا كما يعلم السادة الفضلاء هناك تلقيح البويضات خارج الرحم، أصبح ليس محصورًا فقط بطفل الأنابيب أو الأنابيب مريضة أصبح الآن، وهذه مشكلة، تكون الأنابيب مفتوحة طبيعية جدًا، ويكون الزوج أيضا طبيعيا تماما مائة في المائة، ولكن ما يحدث هو أحد أمرين إما أن هناك عداء بين مضادات الأجسام الموجودة داخل الرحم أو المهبل فيقتل هذه الحيوانات المنوية ولا يسمح لها بأن تدخل إلى الداخل ثم بالتالي تلقح البويضة أو أن الإفرازات تكون بشكل كثيف يقتل الحيوانات وهذه ينبغي التغلب عليها بصورة من الصور في هذه الحالات حتى الأطباء في المراكز الجيدة الذين يعملون هذه العمليات الأنابيب مفتوحة، ولو حصل تلقيح في الأنابيب أو تلقيح خارجي لزوجة واستخدمت الضرة في هذا – الزوجة الأخرى – ثم أتاها زوجها، لا يوجد مانع أبدا أن تحمل من زوجها لأن الأنابيب أصلا مفتوحة، لا يمنع، فيحدث اختلاطات كثيرة في هذا الباب وأشياء لم تكن مقصودة بحيث أن التيقن لا يمكن في موضوع الضرة إلا بأن يعتزلها اعتزالا تاما حتى يتبين حملها فهذه الحالة الوحيدة. إذن هذا باب آخر وإن كنتم قد أقفلتم هذا الباب كذلك قال فضيلة الشيخ الزرقاء: إنهم اشترطوا أن لا يكون لديها أولاد مطلقا وفي قرارات المجمع الفقهي السابقة ليس فيها اشتراط بأن لا يكون لديها أولاد مطلقا. الآن للأسف أصبح تعريف عدم الإخصاب بأنه إذا استمر الزوجان لمدة سنة كاملة بدون أن ينجبوا أطفالا اعتبر هذا حالة عدم خصوبة ويسمح لهم بالتالي أن يذهبوا إلى المراكز والفحوصات فإذا الأسباب الكثيرة الداعية إلى التلقيح الاصطناعي الخارجي، الآن أصبحت متعددة منها الأنابيب مريضة أو مزالة أو قلة الحيوانات في الرجل فقط أو إفرازات عنق الرحم المعادية، أو أسباب مجهولة أو عدة أسباب أصبحت خمسة أو ستة أسباب وكل يوم تتسع القائمة التي تستخدم من أجلها موضوع تلقيح الأنابيب مع أنهم يعترفون تماما بأنه لو مكثت هذه المرأة سنتين أو ثلاثا أو أربعا ربما تحمل حملا طبيعيا دون الحاجة إلى تلقيح الأنابيب أو ما يسمى التلقيح الاصطناعي الخارجي بأي شكل من الأشكال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 فإذن هناك استخدامات غير ضرورية هناك نوع من الاستعجال في بعض الأحيان أحيانا تكون المرأة قد حملت وكان لديها ولد أو توفي هذا الولد أو لا يزال لديها ولد وتريد أولاد آخرين ومضى عليها عامان أو ثلاثة وما حملت وأنابيبها ما تزال مفتوحة، ولكن الأطباء يجرون هذا الإجراء لأن قائمة الأسباب الداعية إلى التلقيح الاصطناعي الداخلي أو الخارجي تزداد يوما بعد يوم هذا ما أحببت أن أورده على أصحاب الفضيلة ليروا رأيهم في هذا الموضوع. الرئيس: شكرًا، سؤال بسيط وأرجو أن يكون الجواب قليلا كذلك وهو قضية حدوث الخطأ في العينات في التلقيحين الداخلي والخارجي هل هي متساوية النسبة تقريبا أو يكون الخارجي أكثر؟ الدكتور محمد علي البار: حدوث الخطأ في الداخلي إذا تم بالشروط التي ذكرها الشيخ الضرير وهي التي تقام وتستخدم حاليا كما أعلم في مراكز المملكة العربية السعودية أعتقد أن نسبة الخطأ فيها ضئيلة جدا جدا جدًا هذا الداخلي أما في الخارجي فهي احتمال، فنتائج احتمالها أكثر لأنها تبقى أياما. الشيخ خليل الميس: بسم الله الرحمن الرحيم لا شك أن إخواننا العلماء يظهرون جيدًا أننا في خطب الزواج أو النكاح نقول " تناكحوا تكاثروا فإنني أباهي بكم الأمم يوم القيامه " فإذن الزواج كأنه مشروع من هذا الكلام لأجل النسل والنسل مطلب شرعي وهو دعاء الأنبياء كم كانت المنة على نبي أنه رزق بعد أن لم يكن منجبا وتبادر لي من الآيات الكريمات معنى قوله تعالى {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} وكأن الجعل هنا متميز عن الخلق فالخلق لا تغيير فيه ولكن الجعل قد يتغير {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} لم تكن موجودة فوجدت وإذا طلق خرجت المودة والرحمة إذن الآية تشير هنا إلى أن هذا الأمر ليس أمرا يخالف أو يعارض القدرة الإلهية أو القدر الإلهي، إن الجعل لم يكن فكان وربما يرتفع أيضا إذن هذا توجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 توجه آخر، العلم كل الذي فعله أنه طور أسلوب العلاج والناس يطلبون العلاج منذ عرف الناس الزواج إذن هذا العلاج هو أسلوب متطور ومع هذا الأمر نعرف توجه الشريعة لحماية الحمل أولًا والنسب ثانيا عندما نرى أن مدة الحمل عند بعض الفقهاء سنتين وأقلها ستة أشهر، وهذا أمر معروف إذن هنا يتوجه الإسلام لحماية النسب ولحماية الحمل في نفس الوقت أيضا. فمع هذا الأمر إذن هنالك حالتان: التلقيح الداخلي هذا أظن لا مانع فيه، التلقيح الخارجي يمكن شيء من التوقف لمزيد من الضمانات الطبية والله أعلم والسلام عليكم. الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين الحقيقة ما دام في مجمع الفقه في مكة بحث الفقهاء هذا الأمر ووصلوا فيه إلى نتيجة معينة، وهي النتيجة الأخيرة بعد إضافة الشرطين اللذين أضافهما الصديق الضرير، لأنه إذا أخذنا باليسر في الأمور الاقتصادية ووقعنا في خطأ ممكن تلافي هذا الخطأ، ولكن إذا وقعنا في خطأ في الأمور النسبية فكيف نتلافى هذا الخطأ. ثم عندنا باب سد الذرائع، ثم مهما كان الإنسان يريد أن يأخذ من الاحتياط، الإنسان إنسان، ومعرض للخطأ، ومهما بلغ العلم من الدقة فالدقة هذه أيضا معرضة للخطأ، وأنا أمامي أخذ دم إنسان لفحصه ثم جاءت الممرضة ووضعت على هذا الدسم اسم شخص آخر خطأ، مجتهدة ليس متعمدة، نحن لا نتهم الأطباء ولا نتهم في الحقيقة العلم، ولكن أيضا يجب علينا أن نبتعد والحقيقة، هذا التيسير في الأمور الاقتصادية إذا كان ينبغي نمتد في التيسير إلى الأمور الاجتماعية والنسبية ربما حصل عندنا خط رجعة، لأن أمورنا ونرى تلذذا في الوقوف على النصوص وعدم التطاول في الحقيقة في مثل هذه الأمور، فالمسألة خطيرة. ثم إن الأمة الإسلامية عليها أن تتقي الله في نفسها عندها رجال أسوياء يقاتل بعضهم بعضا، ونروح نركض على الأنابيب فلنتق الله في أنفسنا ونحفظ أمتنا الإسلامية، نحافظ عليها وعلى كيانها، ولعل المحبة تسود فيما بينها فأنا في الحقيقة في رأيي أن نتحوط كثيرا وأن الإنسان المريض في مثل هذا يحتسب الأجر أمام الله سبحانه وتعالى، لأنه هو الذي جعله عقيما ما هو الذي جعل نفسه عقيما وفي الحقيقة أرى أن من باب سد الذرائع: أن نقف كثيرا في هذا الأمر ولا نسمح في التلقيح الخارجي وأما ما ذهب إليه الفقهاء في مكة مع زيادة الشرطين اللذين أضافهما الأستاذ الصديق الضرير. الرئيس: ما ذهبوا إليه بالأكثرية. الشيخ أحمد بازيع الياسين: نعم بالأكثرية ذهبوا إليه وليس بالإجماع هذه مشكلة كبيرة في الحقيقة، يعني يجب علينا أن نحذر لأن الأنساب، الأمر خطير فيها، وشكرًا لكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم لا شك أنها حساسية القضايا التناسلية هي حساسية خاصة عند الجميع. ولكن إذا ما أخذنا بميزان الشرع فاننا نجد أن حفظ النفوس وحفظ النفس البشرية هو مقدم في المرتبة من قبل. واليوم تجري في المخابر التحليلات التي تتوقف عليها حياة الإنسان، وأنا أعرف صديقا لي رحمة الله عليه ذهب إلى مخبر التحليل وكان في إغماء فأعطى مخبر التحليل أنه عنده 0.5 من السكر، فأخذ الطبيب شيئا من السكر وأعطاه فمات، لأن القضية هي قضية 5 ما هي 0.5 لكن الراقمة أخطأت فهل نقول: إنه بناء على هذا الخطأ الاحتمالي الذي يقع نمنع تحليل الدم، فاحتمال الخطأ لو أخذنا الاحتمالات البعيدة لتعطل الإنسان في الحياة. هو يخرج من بيته لعله يصدم في سيارة فيموت فعليه ألا يخرج لأنه معرض حياته للخطر، والاحتمالات قائمة من احتمالات الخطأ وأنا أسأل الدكتور البار هو أن احتمال الخطأ كم نصيبه في هذه القضية؟ فعلينا ألا نهول الاحتمالات أكثر من اللازم. وأعتقد أن ما ذهب إليه القرار الفقهي في مكة قد أخذوا الاحتياطات اللازمة. وشكرا. الدكتور محمد علي البار: احتمالات الخطأ في الواقع ضئيلة بالنسبة للتلقيح الداخلي إذا كانت الزوجات موجودات فالاحتمالات تكاد تكون منعدمة. بالنسبة للتلقيح الخارجي وبقاء النطف إذا انتشرت، وطبعا كثرت هذه المراكز، وصار الطبيب عليه عنده أكثر من عشرين مريضة وعشرين مريضا، احتمالات الخطأ واردة مثل ما هي موجودة بالنسبة للمختبر العادي، العشرين عينة، كذلك احتمالات الخطأ موجودة ما أستطيع أن أحدد النسبة ولكنها نادرة، وموجودة. هذه النسبة موجودة مثلها مثل تحليل الدم مثلها مثل أي تحليل آخر موجود، ويحدث كل يوم في المختبرات لكن هذه التحاليل الأخرى قد يتعلق بها في بعض الأحيان النادرة حياة إنسان إنما في الغالب الطبيب يستطيع أن يميز على حسب حالة الشخص ونادر جدا أن يقع فيها خطأ يؤدي بحياة إنسان ويمكن المراجعة فيها. أما احتمالات الخطأ في شيء يسبب اختلاط الأنساب يحتاج إلى إعادة نظر وإلى التروي فيه، يعني الشيئين مختلفين قليلا، فيه اختلاف بين الاثنين، اختلاف في تحليل الدم هيموجلوبين مثلا بدل ما يكتب 10 كتب 1 جرام، طبعا الطبيب يستطيع بنظره أن يعرف أن هذا خطأ ويستطيع أن يراجع في هذه المسألة ويطلب التحليل مرة أخرى، لكن إذا لقح المرأة بماء غير زوجها، الخطأ فيها صعب جدا يعني يقوم بعملية إجهاض إذا عرف أن هناك خطأ حدث فلا بد كإجراء وقائي أن تسمحوا له بالإجهاض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 الرئيس: شكرا.. بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. من خلال المناقشات التي دارت في موضوع طرق الإنجاب بأنواعه وأساليبه فإنه قد توصل مجمعكم هذا إلى ما يلي: أولا: التثنية على قرار مكة الأخير بجميع الصور التي أفتى بتحريمها. ثانيا: ما يتعلق بالتلقيحين الداخلي والخارجي الذين يقعان بين الزوجين على فراش الزوجية في رحم الزوجة ذاتها، فإنه بالنسبة للتلقيح الداخلي في هذه الصورة يظهر الاتجاه العام إلى الجواز تثنية على قرار مجمع مكة. وأما بالنسبة للتلقيح الخارجي فإنه يظهر أنه الأكثرية، لكنني تحوطا أرجو من أصحاب الفضيلة الذين يرون المنع الإشارة تفضلا بأيديهم. من الأعضاء العاملين. الشيخ رجب، الشيخ الضرير، الشيخ عيسى، الشيخ إبراهيم. الشيخ عبد السلام العبادي: أرجو يا سيادة الرئيس التوضيح بالضبط المقصود بالتلقيح الخارجي. الرئيس: التلقيح الخارجي، ذكرت إن كان بين الزوجين فواضح هذا. التلقيح الخارجي والمراد التلقيح الذي يقع بين الزوجين على فراش الزوجية في رحم الزوجة ذاتها ذات البويضة، ولكنه لا يكون تلقيحا داخليا وإنما يكون تلقيحا خارجيا، أما التلقيح الداخلي فالاتجاه العام على الجواز، ولكن التلقيح الخارجي في هذه الصورة فإنني أرجو من أصحاب الفضيلة في الصف الأيمن الذين لا يرون الجواز الإشارة تفضلا بأيديهم. الأمين العام: كلمة " الخارجي " هذه حتى نكون على بينه، يراد بها المخبري الذي يوضع في المخبر وينقل إلى رحم المرأة. الرئيس: نعم هو هذا، هو المخبري، لكن الاصطلاح الطبي عليها أو الجاري ولذلك الدكتور زيد الكيلاني يقول: أرى أن يقال في هذه الأنواع: التلقيح خارج الجسد، فالاصطلاح سائد. الشيخ عبد السلام العبادي: يا سيدي ما هذا الذي أقره مجمع مكة؟ الرئيس: نعم هو أقره، هنا اختلفوا.. الشيخ هارون خلف جيلي، الشيخ عمر جاه الشيخ عمر كذلك. الشيخ عمر جاه: لا. الرئيس: المهم أن الذين لهم الخلاف هم سبعة: الشيخ إبراهيم، الشيخ الضرير، الشيخ رجب، بناء على الأصل الشيخ أبو بكر، الشيخ هارون، الشيخ آدم وبهذا تكون الأكثرية على الجواز يبقى شيء واحد هل أصحاب الفضيلة الذين يرون الجواز لديهم إضافة شروط عما تضمنه قرار مكة؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 الشيخ عمر جاه: طبعا يا فضيلة الشيخ تذكرت أنني اشترطت أن أقبل التلقيح الخارجي بشروط أنا قلت حينما تدخلت أخيرًا قلت: إن الخارجي أقبله أو أقبل الخارجي بشروط، وتفضل الشيخ الضرير وأنا أضيف صوتي إلى ما ذهب إلى أنه ينبغي أن نحدد البويضات التي تستغل أو تستعمل في حالة واحدة، يعني لا نترك للطبيب أية فرصة أن يحتفظ ببويضة أكثر من بويضة واحدة تحتاجها العملية. الرئيس: شكرًا، أما العبد الفقير فأنا أبدي توقفا في هاتين الصورتين وبهذا ترفع الجلسة وستكون إن شاء الله نعود في الساعة الخامسة. الشيخ خليل الميس: سيادة الرئيس أنا عندي توقف في الثانية ولست موافقا قلت: توقفا في الثانية. الشيخ عبد السلام العبادي: يا سيدي بالأكثرية. الرئيس: إذن صوتوا ثمانية وأنا واحد تسعة مقابل خمسين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (4) د 3 / 07 / 86 بشأن أطفال الأنابيب إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهامشية من 8 إلى 13 صفر 1407 هـ / 11 إلى 16 أكتوبر 1986. بعد استعراضه لموضوع التلقيح الصناعي "أطفال الأنابيب" وذلك بالاطلاع على البحوث المقدمة والاستماع لشرح الخبراء والأطباء. وبعد التداول: تبين للمجلس: أن طرق التلقيح الصناعي المعروفة في هذه الأيام هي سبع: الأولى: أن يجرى تلقيح بين نطقة مأخوذة من زوج وبييضة مأخوذة من امرأة ليست زوجته ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته. الثانية: أن يجرى التلقيح بين نطفة رجل غير الزوج وبييضة الزوجة ثم تزرع تلك اللقيحة في رحم الزوجة. الثالثة: أن يجرى تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة متطوعة بحملها. الرابعة: أن يجرى تلقيح خارجي بين بذرتي رجل أجنبي وبييضة امرأة أجنبة وتزرع اللقيحة في رحم الزوجة. الخامسة: أن يجرى تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى. السادسة: أن تؤخذ نطفة من زوج وبييضة من زوجته ويتم التلقيح خارجيا ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة. السابعة: أن تؤخذ بذرة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها تلقيحا داخليا. وقرر: أن الطرق الخمسة الأول كلها محرمة شرعا وممنوعة منعا باتا لذاتها أو لما يترتب عليها من اختلاط الأنساب وضياع الأمومة وغير ذلك من المحاذير الشرعية. أما الطريقان السادس والسابع فقد رأى مجلس المجمع أنه لا حرج من اللجوء إليهما عند الحاجة مع التأكيد على ضرورة أخذ كل الاحتياطات اللازمة. والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 أجهزة الإنعاش وحقيقة الوفاة بين الفقهاء والأطباء لفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد، فهذا بحث في: نازلة الإنجاز الطبي الحديث في: حال المريض تحت جهاز الإنعاش وحقيقة الوفاة بين الطب والفقه، ليس لي فيه فضل سوى الجمع والترتيب في مباحثه الخمسة وهي: المبحث الأول في: التصور لأجهزة الإنعاش. المبحث الثاني في: حقيقة الوفاة عند الأطباء، وعلاماتها. المبحث الثالث في: حقيقة الوفاة عند الفقهاء، وعلاماتها. المبحث الرابع في: حالات المرض تحت الإنعاش. المبحث الخامس في: التكييف الفقهي لهذه النازلة. وإلى بيانها والله الموفق. المبحث الأول: التصور لأجهزة الإنعاش (1) - أجهزة الإنعاش. - أجهزة الإنعاش المعقدة. - العناية المكثفة. - العناية المركزية. - إبقاء آلة الطبيب. كلها أسماء لمسمى واحد ومن مفرداتها: - جهاز التنفس الصناعي. - جهاز مانع الذبذبات. - جهاز التنظيم لضربات القلب. - العقاقير. - مجموعة الأطباء المدربة ومساعديهم. حقيقة الإنعاش: إذا أصيب شخص بتوقف القلب أو التنفس نتيجة لإصابة الدماغ بصدمة مثلًا، الذي به مركز التنفس، أو إصابته بأي عرض آخر كغرق أو خنق، أو مواد سامة، أو جلطة للقلب، أو اضطراب في النبض.. فإنه يترقب الأمل بإنعاش ما توقف من دقات قلبه أو تنفسه إذا أدخل في غرفة الإنعاش "العناية الطيبة المكثفة" بوسائلها الحديثة كالمنفسة (جهاز التنفس) ونحوه.   (1) أجهزة الإنعاش للبار: 4، 7، وكتاب الحياة الإنسانية/ بداياتها ونهاياتها طبع المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، المذكرة السعودية من وزارة الصحة في المملكة العربية السعودية والتي تم إعدادها من عدد من الأطباء السعوديين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 المبحث الثاني: حقيقة الموت عند الأطباء أو: نازلة موت الدماغ (1) وبحثها في الفقرات التالية: 1- تاريخها. 2- تكوين الدماغ. 3- المفهوم الطبي لموت الدماغ. 4- علامات موت الدماغ. وبيانها على ما يلي: 1- تاريخها: إن أول من نبه إلى موضوع موت الدماغ هو: المدرسة الفرنسية عام 1959م فيما أسمته "مرحلة ما بعد الإغماء " ثم أعقبتها المدرسة الأمريكية عام 1968م، وأخذت الأبحاث بعد تتسع وتنتشر مبينين عدة أبحاث وهي: تكوين الدماغ، ومفهوم موته، وعلاماته، والخلاف بين الأطباء في كون: موت الدماغ نهاية للحياة الإنسانية، إذ عقدت لهذا مؤتمرات وندوات ومنظمات. 2- تكوين الدماغ: يتكون الدماغ من أجزاء ثلاثة هي: المخ: وهو مركز التفكير، والذاكرة، والإحساس. المخيخ: ووظيفته توازن الجسم. جذع المخ: وهو المركز الأساسي للتنفس والتحكم في القلب، والدورة الدموية.   (1) هذا المبحث مستخلص من: مبحث البار، ومن بحوث الأطباء في كتاب: الحياة الإنسانية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 3- مفهوم موت الدماغ: هو توقفه عن العمل تمامًا وعدم قابليته للحياة. فإذا ما مات المخ أو: المخيخ من أجزاء الدماغ: أمكن للإنسان أن يحيا حياة غير عادية وهي: ما تسمى بالحياة النباتية. أما إذا مات "جذع الدماغ " فإن هذا هو الذي تصير به نهاية الحياة الإنسانية عند أكثر الأطباء على الصعيد الغربي. ويمكن حصر خلاف الأطباء في ذلك على رأيين: الأول: الاعتراف بموت جذع الدماغ: نهاية للحياة الإنسانية بدلًا من توقف القلب والدورة الدموية. الثاني: عدم الاعتراف بموت الدماغ: نهاية للحياة الإنسانية. فيكون الشخص محكومًا بموته على الرأي الأول دون الثاني. 4- علامات موت الدماغ "جذع المخ". هي على ما يلي: (أ) الإغماء الكامل. (ب) عدم الحركة. (جـ) عدم التنفس بعد إبعاد جهاز المنفسة. (د) عدم وجود أي انفعالات منعكسة. (هـ) عدم وجود أي نشاط كهربائي في رسم المخ بطريقة معروفة عند الأطباء. ويشير الطبيب أحمد شوقي إبراهيم إلى ظنية بعض هذه العلامات فيقول كما في: كتاب الحياة الإنسانية ص/ 376: " ما هي علامات موت المخ؟: ليس لدينا من العلم في ذلك إلا رسم المخ الكهربائي وهو قطعي في بعض الحالات، ولا يكون كذلك في بعض الحالات، كحالات التسمم بالأدوية المنومة مثلًا" ا. هـ. وفيه أيضًا في مبحث فقهي للأستاذ/ توفيق الواعي ص/ 484 قال: "ركز القائلون بالموت إذا فقد المخ الحياة على فقدان الشعور، وهذا لا ينهض دليلًا على الموت وإلا كان المجنون والمغمى عليه والمشلول ميتًا، وهذا ما لم يقل به إنسان إلى اليوم " أهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 المبحث الثالث: في حقيقة الموت عند الفقهاء وعلاماته. حقيقة الموت عند الفقهاء: الموت يراد به: المنية، المنون، الأجل، الحمام، السام، ونحوها كانقطاع الوتين، وانقطاع الأبهر، جميعها أسماء لمسمى واحد هو: مفارقة الروح البدن. وهذه هي حقيقة الوفاة عند الفقهاء وتكاد كلمتهم تتوارد على هذا، ولم يتم الوقوف على خلافه في كلامهم من أنه مفارقة الروح البدن. والروح قال الله تعالى في شأنها: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} فأوقف العقل عند حده وأتى على الروح بخبر لا يمكن نقضه، هذا على أحد التفسيرين للآية. ولهذا قال البعض: لا يجوز الكلام في الروح لأنه مما استأثر الله بعلمه كما في هذه الآية، والذي عليه الأكثرون الجواز فقالوا: الروح جسم نوراني لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأخضر، قال الله تعالى {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} وفي أخرى: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} والنفخ لا يتحقق إلا في جسم لطيف كما في كتاب أصول الدين للبزدوي ص/ 222. وقد جاء حديث عظيم النفع جليل القدر وهو حديث: البراء بن عازب رضي الله عنه الطويل المشهور بطوله في مسند أحمد رحمه الله تعالى، والذي جمع طرفه الدارقطني في جزء مفرد، وبسط ابن القيم القول فيه سندًا ومتنًا في كتاب: الروح. قال البراء رضي الله عنه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر إلى أن قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن قبض روح المؤمن: ((فتخرج نفسه تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها ملك الموت)) ، الحديث، وأما الكافر فقال: ((فينتزعها كما ينزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها)) الحديث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 وفي سورة الحاقة قال الله تعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} قال المفسرون: "الوتين: نياط القلب، أي لأهلكناه وهو: عرق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه، قاله ابن عباس وأكثر الناس" أهـ، من تفسير القرطبي 18/276 وذكر أقوالًا بمعناه. وفي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته من: صحيح البخاري في: كتاب المغازي 8/ 131: قالت عائشة رضي الله عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: ((يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم)) أهـ. قال الحافظ ابن حجر في: الفتح 8/ 131: "قال أهل اللغة: الأبهر، عرق مستبطن بالظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه، وقال الخطابي: يقال إن القلب متصل به" أهـ. والأبهر في اصطلاح الطب الحديث باسم "الأورطي" وهو شريان يندفع منه الدم إلى الدماغ وبقية أعضاء الجسم كما في بحث: البار ص/ 8، 9. وفي إحياء علوم الدين للغزالي 4/ 493 نص مهم ترجمه بقوله: الباب السابع: في حقيقة الموت، وما يلقاه الميت في القبر إلى نفخة الصور، ثم قال: بيان حقيقة الموت: "اعلم أن للناس في حقيقة الموت ظنونًا كاذبة قد أخطئوا فيها" فذكرها وأبطلها ثم قال: "وكل هذه ظنون فاسدة ومائلة عن الحق بل الذي تشهد له طرق الاعتبار وتنطلق به الآيات والأخبار أن الموت معناه: تغير حال فقط، وأن الروح باقية بعد مفارقة الجسد إما معذبة وإما منعمة. ومعنى مفارقتها للجسد: انقطاع تصرفها عنه بخروج الجسد عن طاعتها، فإن الأعضاء آلات للروح تستعملها حتى أنها لتبطش باليد.. إلى قوله: والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها، وكل الأعضاء آلات والروح مستعملة لها، إلى أن قال: "نعم لا يمكن كشف الغطاء عن كنه حقيقة الموت إذ لا يعرف الموت من لا يعرف الحياة.." أهـ. وعند قول الطحاوي في "عقيدته": " ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين" قال شارحها ص/ 446 في مبحث: هل تموت الروح أو لا؟ "والصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها.. أهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية 4/ 223: "قد استفاضت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الأرواح تقبض وتنعم وتعذب، ويقال لها: أخرجي أيتها الروح الطيبة أهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 الخلاصة: فمن مجموع ما تقدم نستخلص ما يلي: 1- أن حقيقة الوفاة هي: مفارقة الروح البدن. 2- وأن حقيقة المفارقة: خلوص الأعضاء كلها عن الروح، بحيث لا يبقى جهاز من أجهزة البدن فيه صفة حياتية. أمارات الوفاة عند الفقهاء ثبت في صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الروح إذا قبض أتبعه البصر)) . وفي حديث شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرًا؛ فإنه يؤمن على ما يقول أهل الميت)) رواه أحمد. فشخوص بصر المحتضر علامة ظاهرة على قبض روحه ومفارقتها لجسده. والفقهاء - رحمهم الله تعالى - يذكرون العلامات والأمارات الظاهرة التي بموجبها يحكم بموت المحتضر كما في: حاشية ابن عابدين 1/ 189، والفتاوى الهندية 1/ 154، ومختصر خليل 1/ 37، وروضة الطالبين: 2/ 98، وشرح المنهاج: 1/ 322، والمغني 2/ 452، ومنتهى الإرادات 1/ 323. وجماع ما ذكروه من العلامات هي (1) 1- انقطاع النفس. 2- استرخاء القدمين مع عدم انتصابهما. 3- انفصال الكفين. 4- ميل الأنف. 5- امتداد جلدة الوجه. 6- انخساف الصدغين. 7- تقلص خصيتيه إلى فوق مع تدلي الجلدة. 8- برودة البدن.   (1) وانظر بحوثا في كتاب: الحياة الإنسانية: 430، 475-476 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 وبالجملة فالحكم بالموت بانعدام جميع أمارات الحياة. والملحوظ في هذه الأمارات أنها أدلة وظواهر تدرك بالمشاهدة والحس ويشترك في معرفتها عموم الناس. تنبيه: ويضيف النووي في روضة الطالبين 2/98 نصا مهما عند الشك فيقول: "فإن شك بأن لا يكون به علة، واحتمل أن يكون به سكتة، أو ظهرت أمارات فزع أو غيره: أخر إلى اليقين بتغير الرائحة أو غيره" أهـ. الخلاصة الجامعة للأبحاث المتقدمة: 1- أن أجهزة الإنعاش: إنجاز طبي مهم في حياة الإنسان. 2- أن حقيقة الموت عند الأطباء هي: موت جذع الدماغ. 3- أن حقيقة الموت عند الفقهاء هي: مفارقة الروح البدن. 4- أن للموت علامات وأمارات عند الفقهاء وأخرى عند الأطباء، وأن هذه العلامات من الجائز تخلفها عند الفقهاء وعند الأطباء. واعلم أن الأطباء مع الفقهاء في الحكم على عامة الوفيات بالوفاة بمفارقة الروح البدن، والبحث لدى الأطباء بالحكم بنهاية الحياة الإنسانية بموت "جذع الدماغ " هو في الحالات التي تدخل تحت جهاز الإنعاش، لهذا فإن البحث يعني في حدود حالات ضيقة وهي: "ما يدخل تحت جهاز الإنعاش " لا غير، فإلى بيانها: المبحث الرابع: حالات المريض تحت جهاز الإنعاش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 قرر الباحثون من الأطباء والعلماء حصر أحوال المريض في: غرفة الإنعاش في صور ثلاث: الصورة الأولى: عودة أجهزة المريض من التنفس، وانتظام ضربات القلب و.. إلى حالتها الطبيعية. وحينئذ يقرر الطبيب: رفع الجهاز، لتحقق السلامة وزوال الخطر. الصورة الثانية: التوقف التام للقلب والتنفس، وعدم القابلية لآلة الطبيب. وحينئذ يقرر الطبيب موت المريض تمامًا بموت أجهزته من الدماغ والقلب، ومفارقة الحياة لهما. فحينئذ يقرر الطبيب، رفع الجهاز لتحقق الوفاة. الصورة الثالثة: فيها قيام علامات موت الدماغ من: الإغماء، وعدم الحركة، وعدم أي نشاط كهربائي في رسم المخ بآلة الطبيب، لكن بواسطة العناية المركزة وقيام أجهزتها عليه: كجهاز التنفس، وجهاز ذبذبات القلب، و.. لا يزال القلب ينبض، والنفس مستمر. وحينئذ: يقرر الطبيب موت المريض بموت جذع الدماغ مركز الإمداد للقلب، وقرر أنه بمجرد رفع الآلة عن المريض يتوقف القلب والنفس تمامًا. المبحث الخامس: التكييف الفقهي لهذه النازلة. أما في الصورتين الأولى والثانية، فلا ينبغي الخلاف برفع جهاز الإنعاش لسلامة المريض في الأولى، وتحقق موته في الثانية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 وأما في الصورة الثالثة: فهي محل البحث والنظر في هذه النازلة، وعليها ترد الأسئلة الثلاثة الآتية: 1- ما حكم رفع جهاز الإنعاش؟ 2- ما حكم نزع عضو منه كالقلب ونحوه – وهو تحت الإنعاش - لحي آخر؟ 3- هل تنسحب عليه أحكام الميت من التوارث وغيره، في هذه الصورة التي تحقق فيها موت جذع الدماغ، وقيام نبضات القلب والتنفس تحت الأجهزة الآلية؟ هذه هي الأسئلة الثلاثة الواردة حالًا على هذه النازلة. وبعد التصور الطبي لها مستخلصًا من كلام الأطباء الباحثين لها فإن التكييف الفقهي ببيان الحكم التكليفي لهذه الأسئلة الثلاثة هو فرع عن بيان الحكم الشرعي لحقيقة الوفاة عند الأطباء، "موت جذع الدماغ" هل هذه الحقيقة مسلمة شرعًا أم لا؟ وعليه: فبما أن هذه الحقيقة محل خلاف بين الأطباء، وأن علاماتها أو جلها ظنية ولم تكتسب اليقين بعد، وأن قاعدة الشرع: أن اليقين لا يزول بالشك، ونظرًا لوجود عدة وقائع يقرر فيها: موت الدماغ، ثم تستمر الحياة كما في ص/ 447، 453 من كتاب الحياة الإنسانية، وص/ من بحث: البار، وأن الشرع يتطلع إلى إحياء النفوس وإنقاذها وأن أحكامه لا تبنى على الشك، وأن الشرع يحافظ على البنية الإنسانية بجميع مقوماته ومن أصوله المطهرة المحافظة على: الضروريات الخمس ومنها "المحافظة على النفس"، ولهذا أطبق علماء الشرع على حرمة الجنين من حين نفخ الروح فيه، وبما أن الأصل في الإنسان: الحياة والاستصحاب من مصادر الشرع التبعية إذ جاءت بمراعاته ما لم يقم دليل قاطع على خلافه، ولهذا قالوا في التقعيد "الأصل بقاء ما كان على ما هو عليه حتى يجزم بزواله". فإنه لهذه التسبيبات فإنه لا يظهر أن موت الدماغ في هذه الصورة الثالثة هو "حقيقة الوفاة" فتنسحب عليه أحكام الأموات، ولكن ليس ثمة ما يمنع من كون هذا الاكتشاف الطبي الباهر: علامة وأمارة على الوفاة لهذا قال الأستاذ الشربيني في: بحثه من كتاب الحياة الإنسانية: "وقد أوضح بعض الباحثين أننا لسنا بصدد مفهومين للموت: أحدهما توقف الدماغ، والآخر توقف القلب والتنفس، بل هما مجموعتان من الأدلة والظواهر تنتهيان إلى نهاية واحدة هي محل الاعتبار؛ وهي: موت جذع الدماغ في كل الأحوال، إذ إن ذلك هو ما يحدث أيضًا عند التوقف النهائي للقلب والتنفس خلال دقائق إن لم تكن ثوان" أهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 فكما لا يسوغ: إعلان الوفاة بمجرد سكوت القلب - كما حرره النووي - لوجود الشك فكذلك لا يسوغ إعلان الوفاة بموت الدماغ مع نبض القلب وتردد التنفس تحت الآلات. وكما أن مجرد توقف القلب ليس حقيقة للوفاة بل هو من علاماته إذ من الجائز جدًّا توقف القلب ثم تعود الحياة بواسطة الإنعاش أو بدون بذل أي سبب، ومن هنا ندرك معنى ما ألف فيه بعض علماء الإسلام: باسم من عاش بعد الموت، لابن أبي الدنيا وهو مطبوع. وما يذكره العلماء عَرَضًا في بعض التراجم من أن فلانًا عاش بعد الموت أو تكلم بعد الموت. وكذلك يقال أيضًا: إن موت الدماغ علامة وأمارة على الوفاة وليس هو كل الوفاة بدليل وجود حالات ووقائع متعددة يقرر الأطباء فيها موت الدماغ ثم يحيا ذلك الإنسان. فيعود الأمر إذن إلى ما قرره العلماء من أن حقيقة الوفاة هي: مفارقة الروح البدن. وحينئذ تأتي كلمة الغزالي المهمة في معرفة ذلك فيقول: "باستعصاء الأعضاء على الروح" أي: حتى لا يبقى جزء في الإنسان مشتبكة به الروح، والله تعالى أعلم. وبناء على تحرر هذه النتيجة يمكننا الوصول إلى الجواب فقهًا للأسئلة الثلاثة فيقال: إن رفع آلة الإنعاش في الصورة الثالثة هي: عن عضو مازالت فيه حياة فجائز أن يحيا، وجائز أن يموت، وعلى كلا الحالين استواء الطرفين أو ترجح أحدهما على الآخر: 1- فإذا قرر الطبيب أن الشخص ميئوس منه: جاز رفع آلة الطبيب لأنه لا يوقف علاجًا يرجى منه شفاء المريض، وإنما يوقف إجراء لا طائل من ورائه في شخص محتضر، بل يتوجه أنه لا ينبغي إبقاء آلة الطبيب والحالة هذه لأنه يطيل عليه ما يؤلمه من حالة النزع والاحتضار. لكن لا يحكم بالوفاة التي ترتب عليها الأحكام الشرعية كالتوارث ونحوه، أو نزع عضو منه، بمجرد رفع الآلة بل بيقين مفارقة الروح البدن عن جميع الأعضاء، والحكم في هذه الحالة من باب تبعض الأحكام وله نظائر في الشرع كثيرة. 2- أما إذا قرر الطبيب أن الشخص غير ميئوس منه أو استوى لديه الأمران فالذي يتجه عدم رفع الآلة حتى يصل إلى حد اليأس أو يترقى إلى السلامة. وهذا إنما أذكره بحثًا، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. بكر بن عبد الله أبو زيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 موت الدماغ لسعادة الدكتور محمد علي البار مستشار قسم الطب الإسلامي بمركز الملك فهد للبحوث الطبية جامعة الملك عبد العزيز بسم الله الرحمن الرحيم موت الدماغ إن موت الإنسان كموت أي كائن حي هو أمر طبيعي فرضه الله على كل نفس قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} . ولم تكن هناك صعوبات شتى في تشخيص الموت إلا فيما ندر فملايين من البشر أتوا إلى هذه الدنيا دون شهادة طبيب وغادروها دون الحاجة إلى معاينة طبيب وشهادته. وفي العصور الحديثة نتيجة لحصول بعض الأخطار، أو كل تحديد الحياة بدءًا ونهاية إلى الأطباء ولم يعد من المقبول دخول إنسان إلى الحياة دون إثبات شهادة ميلاد يصدرها طبيب.. وكذلك لا يسمح له بالمواراة في جوف الأرض ما لم يحصل على شهادة طبيب تثبت الوفاة. وفي ذلك خير كثير.. فلا بد أن تكون الوفاة طبيعية وأن يشهد بذلك الطبيب وإلا فكم من جريمة قتل بصورة (تسميم مثلًا وهو أمر كان شائعًا عند القدماء وخاصة لدى الطبقات الحاكمة) يمكن أن يتم دون أن تكتشف إذا لم يكن هناك هذا الإجراء المتشدد، كما أن ذلك يحد من الوقوع في خطأ تشخيص الوفاة بينما الشخص مغمى عليه وهو لا يزال حيًا. وكان تشخيص الوفاة أمرًا غير عسير على الأطباء في الأغلبية الغالبة من الوفيات، فلا بد أن يتوقف القلب والدورة الدموية والتنفس وما يصحبها من علامات لإعلان الوفاة، وإذا شك الطبيب في سبب الوفاة أحال ذلك إلى الطبيب الشرعي، أما إذا شك في بقاء الحياة استخدم وسائل أخرى للتأكد من حصول الوفاة. ومع التقدم الطبي في العشرين عامًا الماضية بدأ استخدام أجهزة الإنعاش يتطور بسرعة مذهلة، وأمكن إيقاف القلب لعدة ساعات أثناء عمليات القلب المفتوح، وأن يستبدل القلب والرئتان في هذه المرحلة بمضخة، فإذا ما تمت العملية أعاد الأطباء القلب إلى وظيفته السابقة بعد أن تعاد درجة حرارته بالتدريج (يثلج القلب أثناء العملية حتى يقل استهلاك الطاقة إلى أدنى درجة) كما تمكن الأطباء من إخراج القلب واستبداله بقلب إنسان أو قلب قرد أو قلب صناعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 ولأول مرة في التاريخ تمكن الإنسان أن يعيش بدون قلب لعدة ساعات وبقلب إنسان آخر قد لاقى حتفه لعدة سنين وبقلب صناعي لعدة أشهر. ولم يعد مفهوم الموت مرتبطًا بالقلب في كثير من الحالات، وخاصة الحالات التي يصاب فيها الدماغ إصابات بالغة نتيجة الحوادث، أو نزف داخلي في الدماغ أو وجود ورم بالدماغ، ومع هذا فإن مفهوم موت الدماغ لم يشكل في بريطانيا حتى عام 1981 سوى 8 آلاف من مجموع الوفيات، ولا يزال توقف القلب والدورة الدموية هو الأساس في تشخيص 99.2? من جميع الوفيات في بريطانيا، ومثلها أو ما يقاربها في دول أوروبا والولايات المتحدة وكندا.. إلخ. موت الدماغ أو جذع الدماغ: يموت الدماغ إذا انقطع عنه الدم لمدة أربع دقائق، ولذلك فإن موت القلب يتبعه موت الدماغ، ولهذا فإنه إذا لم يكن إنقاذ القلب وإعادته إلى العمل فإن الدماغ سيموت خلال أربع دقائق من توقف عمل القلب، وبالتالي يعتبر مثل ذلك الشخص في عداد الموتى. ولكن المشكلة تأتي حين يصاب الدماغ إصابات بالغة نتيجة الحوادث (سيارات، ارتطام، إطلاق نار، إلخ) أو نتيجة نزف في الدماغ أو نتيجة ورم بالدماغ، وفي هذه الحالات قد يموت الدماغ وتقوم الأجهزة الحديثة بإنعاش القلب والتنفس وجعلهما يستمران في وظيفتهما. وبما أن جذع الدماغ هو المتحكم في جهازي التنفس والقلب والدورة الدموية فإن توقف جذع الدماغ وموته يؤدي لا محالة إلى توقف القلب والدورة الدموية والتنفس ولو بعد حين. وفي كثير من الحالات عندما توضع أجهزة الإنعاش لا يكون الطبيب متيقنًا من أن جذع الدماغ قد مات حيث تتميز تلك الحالات بالإغماء التام وتوقف التنفس وتحتاج إلى سرعة كبيرة لمحاولة الإنقاذ، وبالتالي يبقى المصاب تحت المنفسة Ventilator. ولكي يشخص الطبيب موت جذع الدماغ لا بد من مواصفات نجملها فيما يلي: 1- الإغماء الكامل: وعدم الاستجابة لأي مؤثرات لتنبيه المصاب مهما كانت وسائل التنبيه قوية ومؤلمة، ولو ظهرت من المصاب حركة ولو بسيطة أو صوت ولو حشرجة دل ذلك على حياة المصاب ولا يمكن بالتالي إعلان موت الدماغ. 2- عدم التنفس لمدة ثلاث دقائق (شروط مجموعة هارفارد) أو أربع دقائق (مجموعة مينوسوتا) أو 10 دقائق (المدرسة البريطانية) بعد إبعاد المنفسة، ويشترط لإيقاف المنفسة أن يتنفس المصاب أوكسجين 95 بالمائة مع 5? ثاني أكسيد الكربون لمدة 10 دقائق بواسطة قنطرة (Catheter) تدخل إلى القصبة الهوائية ويتم التنفس بواسطة المنفسة، وذلك يؤدي إلى رفع ضغط ثاني أكسيد الكربون في الدم إلى 40 مم زئبق أو فوقها) وهو مسئول عن تنبيه مركز التنفس في جذع الدماغ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 فإذا لم يتنفس المصاب بعد كل هذه التنبيهات لمركز التنفس في جذع الدماغ يعتبر ذلك دلالة على موت جذع الدماغ. 3- عدم وجود الأفعال المنعكسة من جذع الدماغ: وهي تتمثل في الآتي: (أ) عدم حركة بؤبؤ العين للضوء الشديد. (ب) لا يرمش المصاب رغم وضع قطعة من القطن على قرنية العين. (جـ) لا تتحرك مقلة العين رغم إدخال ماء بارد في الأذن. (د) لا يقطب المصاب جبينه رغم الضغط على الجبين بالإبهام. (هـ) عدم التحكم أو الكحة عند لمس الحنك وباطن الحلق بالإبهام. 4- عدم وجود حركة الدمية: عدم تحريك الرأس No Dolling إعادة فحص وظائف الدماغ من فريق آخر بعد مرور عدة ساعات (6 ساعات المدرسة البريطانية- 24 ساعة مجموعة هارفارد) . 5- لا يعتبر رسم الدماغ أساسيًا: في تشخيص موت الدماغ وإذا توفر كان دليلًا إضافيًا مفيدًا من الناحية القانونية وخاصة في الولايات المتحدة. ولا تكفي هذه الشروط لإعلان موت الدماغ بل لا بد أن يكون توقف وظائف جذع الدماغ مصحوبًا بإصابات باثوليجية وتشريحية وليس فقط إصابة وظيفة فسيوليجية وهناك مجموعة من الإصابات الوظيفية التي تؤدي إلى توقف جذع الدماغ وبالتالي إلى توقف التنفس مع وجود الإغماء وعدم وجود الأفعال المنعكسة، ورغم هذا كله لا تعتبر هذه الأسباب كافية لإعلان موت الدماغ، ولا بد من إزالة الأسباب المؤقتة لتوقف وظيفة جذع الدماغ قبل إعلان موت الدماغ، وهذه الأسباب المؤقتة أو الأسباب الوظيفية التي تؤدي إلى توقف وظائف جذع الدماغ تتمثل في الآتي: 1- العقاقير: وقائمتها طويلة جدًّا وتشمل الكحول والمنومات مثل الباربيتورات والمهدئات مثل الفاليوم والليبيريم والمخدرات مثل المورفين والهروين وأدوية الصرع مثل الفيناتوين والأدوية المضادة للكآبة مثل التربتلين والمعقلات مثل الستيلازين والكلوبرومزين والمسكنات مثل الأسبرين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 وقد يحدث أن يتناول الشخص كمية من أحد هذه العقاقير أو ما يقاربها كوسيلة للانتحار فيؤدي إلى حدوث توقف وظائف جذع الدماغ.. ولهذا لا بد من التريث في إعلان موت الدماغ في هذه الحالات حتى يزول كل أثر من آثار العقار من الجسم، ويمكن أن يتبين ذلك بفحص الدم وفحص البول، فإذا كان الدم خاليًا من العقار المتهم فإن ذلك يعني زوال تأثيره من الجسم ومن الدماغ خلال بضع ساعات. 2- برودة الجسم: كما يحدث في الجو القارس حيث تحدث نوبة إغماء ويتوقف التنفس وتنخفض حرارة الجسم، ولا بد في هذه الحالات من استمرار أجهزة الإنعاش حتى يتم رفع حرارة الجسم إلى درجتها الطبيعية، ولا يعلن موت الدماغ إلا بعد ذلك. 3- التسمم نتيجة الغازات السامة وغاز أول أكسيد الكربون: قد يؤدي التسمم إلى توقف وظائف جذع الدماغ، ولهذا لا بد من إزالة السموم من الجسم أولًا والاستمرار في الإنعاش حتى يتضح أن تأثير المواد والغازات السامة قد انتهى من الجسم ثم يمكن بعد ذلك إعلان موت الدماغ. 4- زيادة البولينا في الدم: قد يؤدي فشل الكلى إلى الغيبوبة التامة وإلى توقف وظائف جذع الدماغ، ولهذا لا بد من خفض البولينا في الدم بواسطة الديلزة (الكلى الصناعية) قبل إعلان موت الدماغ. 5- نقص السكر أو زيادته في الدم: قد تؤدي إلى الغيبوبة التامة وإلى توقف وظائف جذع الدماغ، ولا بد من إعادة توازن السكر في الدم إلى وضعه الطبيعي قبل إعلان موت الدماغ. 6 - نقص الهرمونات أو زيادتها في الدم: قد تؤدي إلى توقف وظائف جذع الدماغ مؤقتًا ولا بد من إعادة هذه الهرمونات إلى وضعها الطبيعي قبل إعلان موت الدماغ. 7- حالات الغرق وتوقف القلب الفجائي: التي يتم إنعاشها بالوسائل الحديثة وفي نفس الوقت يظهر للأطباء من الفحوصات الخاصة بجذع الدماغ أن هذا الجذع قد توقف عن وظيفته مما أدى إلى الإغماء وتوقف التنفس، وفي هذه الحالات لا يتم إعلان موت جذع الدماغ إلا بعد رفع الأوكسجين في الدم لفترة لا تقل عن 24 ساعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 8- الحالات التي أجري لها عمليات كبيرة في الدماغ: مثل ورم في الدماغ أو نزف تحت الأم العنكبوتية Subarchnoid hoemorrhage أو وجود أم الدم aneury Sm في الدماغ، وفي هذه الحالات قد يحدث توقف لوظائف جذع الدماغ من إغماء تام وتوقف عن التنفس، ولهذا لا يمكن إعلان موت جذع الدماغ قبل مرور 24 ساعة على الأقل. 9- اخماج (انتانات) ميكروبية (فيروسية وبكترية) تصيب جذع الدماغ: بالإضافة إلى إصابة مناطق أخرى من الدماغ، وقد يؤدي ذلك إلى توقف لوظائف جذع الدماغ، ولا بد في هذه الحالات من الاستمرار في أجهزة الإنعاش رغم توقف وظائف جذع الدماغ حتى يتبين بوضوح وجلاء تام عدم وجود توقف وظيفي (فسيولوجي) مؤقت لجذع الدماغ، وأن هناك إصابة دائمة نتيجة هذا الغزو الميكروبي. 10- في حالات الشك وخاصة في الأطفال تجري فحوص إضافية وهي: (أ) حقن شرايين الدماغ الأربعة: فإذا لم توجد دورة دموية في الدماغ كان ذلك دليلًا قاطعًا على موت الدماغ. (ب) إجراء الفحص السابق بواسطة المواد المشعة Radionuclide وميزة هذا الفحص سهولته النسبية، وأنه يمكن إجراؤه دون الحاجة لنقل المريض من غرفة الإنعاش إلى غرفة الأشعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 إعلان الوفاة وأجهزة الإنعاش: عند ثبوت تشخيص موت جذع الدماغ وعدم وجود أي من الأسباب المؤقتة لتوقف وظائف الجذع يكتب الأطباء المختصون شهادة بوفاة ذلك الشجص. أما بالنسبة لأجهزة الإنعاش فإنها توقف إلا إذا كان المصاب أو ذووه قد وافقوا على التبرع بأعضائه وفي هذه الحالة تستمر أجهزة الإنعاش حتى تستمر الدورة الدموية، وبالتالي تكون الأعضاء التي ستنتزع في أفضل حالاتها. وبما أن القلب بالذات سريع التلف ولا فائدة من نقل قلب تالف إلى شخص آخر لإنقاذه فإن الحاجة تبدو واضحة لاستمرار أجهزة الإنعاش لبضع ساعات حتى يتم نزع القلب والأعضاء الأخرى المتبرع بها، وهي في حالة جيدة يمكن أن تعمل في شخص آخر. في هذه الحالات المحدودة يتم إعلان موت جذع الدماغ وبالتالي موت الشخص بينما القلب لا يزال ينبض والتنفس لا يزال وإن كان بواسطة الأجهزة. وهذا هو الذي جعل كثيرًا من الفقهاء ورجال القانون يترددون في إعلان الوفاة لمثل هذا الشخص. ولكن إذا اتضحت الصورة بجلاء وهو أن تشخيص جذع الدماغ يعني أساسًا توقف التنفس التلقائي توقفًا تامًا لا رجعة فيه أدركنا أن الفروق الجوهرية محدودة جدًا، وبالتالي يجعل تشخيص موت الدماغ أو جذع الدماغ مقبولًا من الناحية الشرعية إذا اتخذت كافة الاحتياطات اللازمة في تشخيص جذع الدماغ كما أسلفنا، وذلك بعدم تشخيص موت جذع الدماغ في الحالات التي تتوقف فيها وظائف جذع الدماغ مؤقتًا، وبالتالي لا يمكن تشخيص موت جذع الدماغ إلا بعد التيقن من توقف تام لا رجعة فيه لوظائف جذع الدماغ مع وجود إصابة مرضية (باثوليجية) وتشريحية. ولا غضاضة في استمرار أجهزة الإنعاش بعد إعلان الوفاة من أجل الحصول على أعضاء في حالة جيدة، إذ أن الشخص قد مات فعلًا، وهذه التروية بأجهزة الإنعاش ليست إلا إحدى الوسائل المتعددة التي تستخدم لحفظ الأعضاء في حالة تصلح للاستخدام، ومن المعلوم أن الأعضاء بعد انتزاعها من الجثة تحفظ في سائل معين وفي درجة برودة معينة، ويمكن أن تبقى محفوظة لفترة من الزمن كما يمكن نقلها بالطائرة من بلد إلى بلد آخر واستخدامها لإنقاذ شخص آخر يوشك أن يحتضر. وعليه فإن الاحتفاظ بهذه الأعضاء بواسطة أجهزة الإنعاش لبضع ساعات أمر لا غبار عليه ولا يغير من حقيقة الوفاة شيئًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 (1) قسم الأبحاث الطبية نهاية الحياة الإنسانية للدكتور مختار المهدي رئيس قسم جراحة المخ والأعصاب مقدمة: لم يكن التساؤل عن نهاية الحياة الإنسانية يثير الكثير من الجدل والنقاش مثل ما يفعل الآن، ويرجع ذلك إلى طفرة التقدم في العلوم الحديثة ومنها العلوم الطبية، وقد كشف لنا هذا التقدم عن الكثير من دقائق الحياة، وأيضًا الكثير من أسرار الموت، وذلك من خلال استعمال الأجهزة الحديثة في أقسام العناية المركزة ومنها أجهزة التنفس الصناعي، وكذلك أجهزة قياس عمل المخ وقياس وظائف محددة بالمخ واختبار هذه الأجزاء المختلفة، ومن خلال تفهم هذه الظواهر الجديدة أصبح تحديد توقيت نهاية الحياة الإنسانية ممكنًا على درجة كبيرة من الدقة، ودقة هذا التحديد وأهميته لا ترجع فقط لما يترتب على هذه النهاية من شرع وقوانين ومراسم، ولكن أيضًا لما قد يستخلصه ذلك من بعث فرحة الأمل في إنقاذ حياة ما من خلال مرارة فقد حياة ولت وانتهت، وذلك بفتح آفاق علمية كبيرة في علم نقل وزراعة الأعضاء البشرية، وهو الأمل في الحياة من جديد عندما يصل علاج بعض الأمراض إلى طريق مسدود وتبدو في الأفق علامات نهاية حياة المريض. من هو الإنسان وما موضع المخ الحي منه؟ كلنا يذكر ببساطة أن الإنسان عبارة عن جسد وروح ولن نتحدث هنا عن كنه هذه الروح حيث إننا لا نعلم عنها شيئًا ولكننا ندرك تأثيرها في الجسد، فالجسد الميت الجامد لا يختلف كيميائيًا عن الجسد الحي على الإطلاق، كما أنه لا يختلف عنه أيضًا من الناحية الشكلية أو التشريحية أو حتى من خلال فحص الأنسجة بالميكروسكوب، وبكلام أعم لا يوجد اختلاف مادي بين الجسد الحي والميت ولكن الفرق هو في تأدية الوظائف. الجسد الحي جميع أجزائه تعمل وهذا العمل يكون على مستويات مختلفة من خلايا أو أعضاء أو كجسد متكامل، الخلية الواحدة تعمل ويتم في داخلها العشرات من الأعمال المختلفة، كلها تتم في آن واحد ولكنها تدرك أنها ليست وحدها في هذا الجسد لأنها تتعامل مع خلايا أخرى في داخل العضو أو في أعضاء أخرى، هذا التعامل يتم بأساليب مختلفة، ولكن هذا الإدراك والتعامل ليس إدراك الواعي العاقل ولكنه إدراك البرمجة بما تحتويه نوايا هذه الخلايا من أشرطة متوارثة من وقت آدم، بها تفاصيل أعمال كل خلية إنسانية ومتى تعلمها بحيث يكون عمل أجهزة الجسم كلها في انسجام وتوافق، كل في اختصاصه، بعض هذه الخلايا دائم التجدد، أي القديم يشيخ ويبلى ويحل محلها خلايا أخرى جديدة، وأخرى لا تتجدد طوال حياة الإنسان وحتى هذه فإن مكوناتها من مركبات عضوية وغير عضوية دائمة التبديل، حتى مادة الكالسيوم الصلبة التي في العظام فإنها تتجدد تدريجيًا مرة كل عدة شهور مع المحافظة على الشكل العام وذلك أيضًا بفعل البرمجة، وبمعنى آخر فالإنسان الذي نراه أمامنا بكتلته التي قد تصل إلى سبعين أو ثمانين كيلو جرامًا يتبدل تمامًا جسده من ماء وأملاح ومعادن بجسد جديد تدريجيًا كل فترة من الزمن وهذه الكيماويات تذهب في إفرازات الجسم المختلفة وتحدد من غذائه وهو ما يمكن أن نسميه بالبعث المتكرر في أثناء حياة الإنسان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 وهنا حقيقة كبرى يجب أن نتفهمها من البداية، وهي وإن كانت الخلية الإنسانية تمثل حياة وهي إحدى مظاهر إعجاز الخالق، سبحانه وتعالى، إلا أن حياة الغالبية العظمى من خلايا جسد الإنسان وكذلك أعضاؤه التي يحتويها هذا الجسد لها حياتها المستقلة عن حياة الإنسان كفرد، وكحقيقة مطلقة لا ترتبط حياة إحداهما بالأخرى، وبمعنى أوضح أن خلايا جسم الإنسان وأعضائه لا تشاركه "روحه" بدليل أننا يمكن أن نأخذ بعض خلايا من جسم الإنسان لزراعتها ودراستها بالمعمل ولا تفقد هذه الخلايا "حياتها" بخروجها من جسم الإنسان ومن الأمثلة الأخرى استئصال كلية حية من جسم إنسان لزراعتها في جسم إنسان آخر، إنها لا تفقد حياتها باستئصالها ولا تكتسب حياة جديد من الجسد المنقولة إليه ولا تتأثر لو حدث أن توفي صاحبها الأول ولكنها تستمر في حياتها الذاتية وتؤدي نفس العمل الذي خلقت له أساسًا وتحيا حياة فيها نماء وهدم وبناء طالما توافرت لها إمكانية الغذاء المناسب، بصرف النظر عمن يحتويها. هل يمكن أن نعود إلى التساؤل من هو الإنسان مرة أخرى ونقول هذه المرة هو جسد يحتوي على خلايا وأعضاء حية تعمل بوحي ذاتي على مستوى الخلية الواحدة وعلى مستوى العضو بشرط توافر أسباب هذه الحياة ماديًا، بالإضافة إلى روح قد نسميها نفسًا أو ذاتًا إنسانية وبها يتم تحديد شخصية هذا الإنسان وفرديته. أين هي إذن النفس الإنسانية من هذا التركيب؟ إننا نتعرف على بعضنا البعض بالمظهر الخارجي من شكل الجسم أو الوجه أو لون العينين أو لون البشرة وأحيانًا من بصمة الإصبع! ولكن كل هذا يمكن أن يتغير، ولن يغير ذلك من ذات الإنسان، أما عن الأعضاء الداخلية والأجهزة السابق ذكرها فإنها جميعًا يمكن استئصالها والاستغناء عنها كما أسلفنا إلا المخ، فالقلب والرئتان والكبد والكلى يمكن استئصالها واستبدالها بأعضاء أخرى إنسانية أو حتى بلاستيكية.. أيضًا مع استمرارية الذات الإنسانية وعدم تغيرها، ما هي إذن وأين تكمن هذه الذات؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 قد نظن الآن أن النفس الإنسانية تكمن في مخ الإنسان لأنه مكان استقبال جميع الحواس من سمع وبصر وشم وذوق ولمس، إنه مكان الاستقبال الوحيد من العالم الخارجي، كما أنه يحتوي على مخازن الذاكرة من قراءات وسمع وبصر.. إلخ والخبرات السابقة ومكان التفكير والابتكار، وبه تم إرسال الطباع والعادات والمثل المكتسبة، والمميزة لكل إنسان ومكان تواجد الغرائز الموروثة أيضًا، كما أنه مصدر الأفعال المترتبة على ما يستقبله من معلومات، وقد عرفنا ذلك كله لأن تلف أجزاء محددة من المخ ينتج عنه فقد قدرات معينة اختصت بها هذه الأجزاء ولكل هذه القدرات استخلفنا الله في الأرض وعلى استخدامها سنحاسب في النهاية وإذا ما فقدها إنسان فقد الأهلية وسقط عنه الحساب. ولو نظرنا بتكبير مجهري داخل المخ لوجدناه يتكون من ملايين الخلايا العصبية التي تشبه البطاريات الكهربائية الصغيرة يترجم فيها كل شيء من أحاسيس وأفكار ورغبات إلى ومضات كهربية تحملها أسلاك دقيقة معزولة تنتهي إلى أطراف دقيقة تترجم هذه الومضات السابقة إلى طاقات كيمائية تقوم بدورها بتنبيه خلايا أخرى، وهكذا تستقبل الأحاسيس من سمعية وبصرية وخلافه وتنفذ المهام من فكر وأفعال. وهنا يجب أن نلاحظ أن جميع الأحاسيس الواردة للمخ وأيضًا جميع الإشارات الصادرة عنه لتنفيذ المهام تصل منها للعلم إلى مكان معين من المخ يكون باستمرار على علم تام بمجريات الأمور ذلك هو جذع المخ وعلى الأدق نسيج معين داخله يسمى النسيج الشبكي، وهذا الجزء له تأثير كبير على أجزاء المخ الأخرى، وقد أثبتت البحوث الكثيرة أن هذا النسيج الشبكي هو المسؤول عن وعي الإنسان، وأنه إذا فقد الإنسان وعيه لسبب أو آخر فإن ذلك يحدث لأن هذا النسيج قد تعرض لضرر ما، وذلك كالإصابة في الحوادث أو بالتأثير من السموم أو الأمراض ويدخل في ذلك التخدير أو تعاطي العقاقير من منومة ومهدئة ومهلوسة، وهو المسؤول عن نوم الإنسان ويقظته.. ويبدو لنا الآن أن هذا هو الغالب مكمن النفس الإنسانية (شكل 2) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 تأثير توقف القلب على أعضاء الجسم: في ظني أن الجسم البشري يحتوي على مستويات متعددة من الحياة وتعتبر الحياة الإنسانية هي المستوى الأعلى. فعند توقف القلب عن العمل نهائيًا لأي سبب من الأسباب، وهو ما يحدث في الغالبية العظمى من حالات الموت فإن ذلك يتبعه فورًا فقدان الوعي وتوقف التنفس وهما وظيفتان من وظائف المخ الذي لا يتحمل توقف دورته الدموية إلا لثوان معدودة ولو أن خلاياه تظل حية لبضع دقائق إلا أنها تتوقف في أثنائها عن العمل. ويستنتج توقف الدورة الدموية ذلك حرمان جميع أعضاء وأنسجة الجسم من الغذاء اللازم لها وهو أساسًا سكر الجلوكوز والأكسوجين اللازمين لتوليد الطاقة وتشغيل الخلايا، كما أن الفضلات السامة المتخلفة عن هذه العملية وغالبيتها حمضية تتراكم في أماكن تولدها لعدم تصريفها بتوقف الدورة الدموية بالأنسجة. وبناء على هذه التغيرات الكيماوية تموت الخلايا والأعضاء المكونة لجسم الإنسان وهذه الأعضاء تتفاوت في فترة بقائها حية بعد توقف الدورة الدموية والتنفس اعتمادًا على درجة حساسية هذه الخلايا لنقص الغذاء وتحمل درجات الحموضة فالمخ مثلًا لا تتحمل خلاياه وبالذات خلايا القشرة (قشرة المخ) نقص الجلوكوز والأكسوجين أكثر من نحو أربع دقائق وهناك خلايا بالمخ قد تتحمل البقاء لثوان أخرى أكثر من ذلك ثم يلي ذلك خلايا الكبد والكلى، أما العضلات والعظام والجلد، فقد تستطيع الحياة لعدة ساعات بعد توقف القلب والدورة الدموية، كل هذه التوقيتات في درجات الحرارة العادية للجسم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 فترة الاحتضار: يتضح مما سبق أن هناك فترة لا تقل عن أربع دقائق بعد توقف القلب والتنفس عن العمل وتشخيص موت الإنسان الأكلينيكي من فقد للحس والوعي والإدراك والحركة والنبض والتنفس ولكن يكون الكثير من أعضائه لا يزال حيًا بل وبعضها تعمل وقابلة للاستمرار في العمل إذا أمكن إنعاشها بتوفير المحيط الملائم لها من تغذية وتصريف للفضلات، وفي هذه الدقائق الأربعة تكون خلايا مخ الإنسان ما تزال حية ولو أسعف هذا الشخص بتدليك قلبه أو بإعطائه الصدمات الكهربية مع التنفس الصناعي لدفع الأكسوجين بالدم وإعطاء المنشطات والمسعفات اللازمة قد يمكن أحيانًا أن يعود القلب للعمل ويبدأ التنفس الذاتي في العمل من جديد ويعود الإنسان إلى وعيه هذا إذا كان سبب الوفاة الأصلي يسمح بذلك وبهذه الطريقة يمكن إنقاذ حياة بعض المرضى في هذه الفترة الحرجة التي يعتبر فيها الإنسان ميتًا بكل المقاييس الأكلينيكية الطبية ولكنه بالفعل لا يكون كذلك لأن مخه ومن ثم معظم أعضاء الجسم لازالت حية فنحن لا يمكننا أن نقول إننا نستطيع أن نعيد الحياة لإنسان قد مات بالفعل، ويمكننا أن نسمي هذه الفترة بفترة الاحتضار وأرى أنه يتحتم على كل طبيب يحضر هذه الفترة أن يحاول هذه المحاولة وإذا لم يفعل فهو نوع من إهمال العلاج. تلف قشرة المخ: وفي أحيان نادرة، عند محاولة إنعاش مريض في فترة الاحتضار قد يعود القلب والتنفس للعمل بعد فترة الدقائق الأربع بعدد من الثوان ولكن قشرة المخ الحساسة تكون قد تلفت جزئيًا أو كليًا، على حين تستمر أجزاء المخ الأخرى ومنها جذع المخ في العمل، وقد يحدث هذا التلف نفسه نتيجة هبوط شديد في ضغط الدم لفترة طويلة حتى بدون توقف القلب والتنفس وذلك لوصول الغذاء للمخ بكميات غير كافية في هذه الفترة، وأحيانًا يحدث ذلك نتيجة إصابة شديدة ولكن غير مميتة للمخ. وينعكس تأثير ذلك على حالة المريض بدرجات متفاوتة حسب درجة التلف ما بين عته بسيط أو ضياع كامل للعقل أو فقدان كامل للوعي وهذه الحالات ليست لها علاج على الإطلاق فخلايا المخ التي تموت لا يمكن تعويضها. وفي الحالة الأخيرة حيث يكون هناك فقد كامل للوعي يستمر هذا الإنسان في حياة يصفها البعض خطأ بالحياة النباتية والبعض الآخر بالحياة الخلوية وكلها تعبيرات غير دقيقة من الناحية العلمية وقد تكون وصف "حياة جسدية" هو الوصف الأدق ومن الناحية النظرية يمكن لإنسان من هذا النوع أن يعيش مدى حياة كامل على هذا الوضع ويعتمد ذلك على مستوى كفاءة التمريض، والرعاية الطبية وعلاج الأمراض العارضة والتي قد تصيبه نتيجة الرقاد الطويل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 وهذا المرض يحتاج إلى إطعام عن طريق أنبوب إلى المعدة بغذاء شبه سائل بنسب متوازنة وعناية مستمرة بالجلد وتقليب الجسد أو تغيير أوضاعه كل ساعتين تقريبًا لمنع قرح الفراش وكذلك العناية بتصريف البول والبراز، وإنسان من هذا النوع يتنفس ذاتيًا لأن جذع المخ سليم ولكن حياة مثل هذه لا تكون إلا داخل مستشفى وهي بالتأكيد كارثة اقتصادية، للتكلفة المادية الباهظة وانعدام الأمل في عودة المريض إلى وعيه، وقد رأيت بنفسي إحدى هذه الحالات استمرت حياتها لمدة خمسة عشر عامًا على هذا الوضع في إحدى المستشفيات الأوروبية وكان الاحتفاظ بهذا المريض من قبيل استعراض العناية التمريضية الفائقة ولعرضه على الزوار من الأطباء الأجانب، وعادة هذه الحالات تموت نتيجة قرح الفراش أو النزلات الرئوية العارضة ومن الأطباء من يتراخى عمدًا في علاج ما يطرأ عليه من الأمراض العارضة لتسهيل موت المريض من هذا النوع. وفاة المخ (جذع المخ) : كما أسلفنا فإنه في أغلب الأحيان تنتهي الحياة الإنسانية بتوقف القلب الذي يعقبه فورًا توقف التنفس وفقدان الوعي ثم تموت الأعضاء بدءًا بالمخ في الدقائق الأولى.. إلخ ولكن هناك حالات أخرى يموت فيها المخ أولًا، وأرجو ألا يستنتج البعض أن هناك أنواعًا مختلفة من الموت ولكن هناك بالفعل أسباب مختلفة له فمريض الكبد أو مريض القلب أو مريض الرئة أو مريض الكلى قد ينتهي به الأمر إلى الموت لأن عضوًا هامًا حيويًا قد تلف في جسمه ويؤدي ذلك إلى اختلال الوظائف الحيوية بهذا الجسم مما يؤدي في أغلب الأحيان إلى هبوط في الدورة الدموية وتوقف القلب عن العمل وبالتالي موت المخ، ولكن هذا لا يمنع أبدًا أن تلف المخ المباشر يؤدي أيضًا إلى وفاة الإنسان حتى لو كانت بقية الأعضاء الأخرى بما في ذلك القلب سليمة وذلك مثل ما يحدث في بعض إصابات الرأس الشديدة في حوادث الطرق أو السقوط من أماكن مرتفعة وكذلك في بعض الأمراض مثل نزيف المخ أو أورام المخ وفي هذه الأحوال يموت المخ بالكامل أو أساسًا جذع المخ وطبيعي تبدأ سلسلة الموت في هذه الحالة بفقد الوعي وتوقف التنفس، وانقطاع الأكسجين عن الدم، إن الدورة الدموية التي ما تزال تعمل ينقص فيها الأكسجين ويتراكم ثاني أكسيد الكربون وبالتدريج تموت بقية الأعضاء الأخرى ولكن هذا لا يعني أن تزويد الجسم بالأكسجين بواسطة أجهزة التنفس الصناعي أن المخ الذي مات قد يعود ثانية، كلا فكما أسلفنا فإن خلايا المخ التي تتلف لا يمكن تعويضها، ولكننا بهذه الطريقة، وأقصد باستعمال التنفس الصناعي، يمكننا المحافظة على أعضاء الجسم الأخرى (خلاف المخ) حية لفترة من الزمن تمتد من عدة ساعات إلى أسبوعين أو نحو ذلك، وهذه المدة لا تطول حتى مع استمرار إعطاء جميع المنشطات الممكنة، فيبدأ ضغط الدم بعد ذلك في الانخفاض وتباطؤ عمليات التمثيل الغذائي وتنخفض درجة حرارة الجسم وأخيرًا يتوقف القلب ويمكننا أن نصف هذه الفترة التي يمكن الاحتفاظ فيها ببعض أعضاء الميت حية بفترة الحياة العضوية (نسبة إلى الأعضاء المتبقية) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 ومن الأمثلة المعروفة عن الموت الفوري عملية الإعدام شنقًا وفيه تنخلع الفقرات العنقية العليا عن الرأس حيث يوجد جذع المخ وعلى الفور يموت جذع المخ ولاشك أنه كان من الفهم الخاطئ وفي وقت سابق، أن طبيب السجن كان يقوم بجس نبض المذنب ولا يأذن بإنزال جثته حتى يتوقف النبض والذي يستمر لعدة دقائق ولكن جذع المخ يكون قد تلف من اللحظة الأولى لعملية الشنق والتي يفقد فيها الوعي ويقف التنفس ولو أسعف هذا المذنب في خلال هذه الدقائق بجهاز تنفس صناعي لتكررت نفس الأحداث وطالت فترة الحياة العضوية لفترة من الزمن، أسبوع أو أكثر، ولكن هذا لا يعني أن الذي شنق قد استمر في الحياة لأن الذات الإنسانية تكون قد ذهبت بلا عودة، وأجهزة الاستقبال والتفاعل والإرسال التي تتعامل بها النفس الإنسانية مع البيئة قد تدمرت نهائيًا. تلخيصًا لما سبق فإن موت الإنسان يكون عند وفاة جذع المخ سواء نتج ذلك عن توقف القلب أولًا لأكثر من دقائق معدودة تقطع الجلوكوز والأكسوجين بدرجة تسبب تلف المخ أو تكون وفاة جذع المخ والمخ عمومًا بإصابة موجهة إليه مباشرة ولا يهم موقف الأعضاء الأخرى فهي تبدأ في التحلل والتعفن مباشرة أو يمكن الاحتفاظ بحيويتها لفترة محددة باستعمال أجهزة الإنعاش الصناعية، والحقيقة التي نريد أن نؤكدها أن توقف القلب عن العمل لا يعني بالضرورة الوفاة (فترة الاحتضار) كما أن استمرار القلب في العمل بعد موت المخ لا يعني الحياة. تشخيص وفاة المخ: لقد اتفقت بعض دول العالم المتقدمة على وضع تعريف لموت المخ ووضع أسس لتشخيصه وذلك بناء على وجود علامات معينة يتفق على وجودها أكثر من أخصائي أخصائي في العلوم العصبية كل على حدة ويشترط ألا تربط أحدهما بالمريض أية معرفة سابقة وأن تمر فترة لا تقل عن ست ساعات بين فحص كل منهما للمريض ومن هذه العلامات: 1- عدم استجابة المريض للتنبيه بالألم على أي صورة من الصور (مما يعبر عن الغيبوبة العميقة وفقد الحس والحركة) . 2- فشل التنفس التلقائي نهائيًا ويختبر ذلك بفصل المريض عن جهاز التنفس الصناعي لمدة دقيقتين كاملتين وملاحظة أي محاولة ذاتية للتنفس. 3- اتساع حدقتي العينين وعدم استجابتهما للضوء. 4- اختفاء الموجات الكهربية الصادرة عن المخ في تخطيط المخ. 5- هبوط الوظائف الحيوية للمخ وجذعه وهذه يمكن الكشف عليها بأجهزة قياس حديثة. 6- توقف الدورة الدموية للمخ وهذه يمكن قياسها بطرق مباشرة أو غير مباشرة. كل هذه الاختبارات أو حتى بعضها لا يدع أي مجال للشك فيما نحن بصدده ويكون التشخيص نهائيًا، ويستبعد من هذه الحالات تمامًا حالات الغيبوبة الناتجة عن التسمم أو التهابات المخ المختلفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 وأما عن خبراتي الشخصية في هذا المجال فإننا في خلال السنوات العشر الأخيرة وحتى اليوم وبالرغم من تشخيص وفاة جذع المخ فإننا لا نرفع أجهزة التنفس الصناعي ولا نتوقف عن إعطاء كافة المسعفات حتى يتوقف القلب نهائيًا وذلك انتظارًا لكلمة الشرع في هذا المجال من ناحية، ولتوافر الأجهزة اللازمة وعدم وجود تكلفة مادية على أهل المرضى من ناحية أخرى، وعلى الرغم من ذلك ففي خلال هذه الفترة لم أشاهد أيًا من هذه الحالات قد تحسنت حالته أو استمر قلبه في الخفقان لفترة طويلة بعد هذا التشخيص، وإذا تصادف وأجريت الصفة التشريحية لمتوفي من هذا النوع عند توقف قلبه نجد أن المخ قد تحلل تمامًا وتحول إلى مادة سائلة داخل الجمجمة. وهنا قد يثار تساؤل: إذا كان نقل الأعضاء ممكنًا فماذا عن نقل المخ لمن تلف مخه والرد على هذا التساؤل بديهي لأن القاعدة هي نقل العضو الحي، ولكن المخ الحي لا يكون إلا في إنسان حي ونقل المخ منه هو قتل له، ناهيك عن الاستحالة التكنيكية للعملية فإن ذلك يتطلب نقل المخ والنخاع الشوكي مع زوائد المخ وهي العينان والأنف وتوصيل عدد من الأعصاب يصل إلى ثمانين عصبًا وعدد من الشرايين والأوردة يصل إلى مثل هذا العدد في فترة زمنية لا تتعدى الأربع دقائق! وإذا فرضنا جدلًا إمكانية حدوث ذلك فالأغلب أن الذي يتم هو نقل الجسم الذي توفي مخه إلى المخ الحي وليس العكس لأن المخ الحي يحمل معه صاحبه أي تصحبه ذاته أما الذات الإنسانية التي توفي مخها فقد انتهت من عالمنا وسبحان من له الدوام، ولنذكر قول الله تعالى في سورة الزمر آية 42: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} صدق الله العظيم. فالموت إذن هو النهاية للحياة الإنسانية والنفس الإنسانية وليس بالضرورة لأعضاء وخلايا الجسم الأخرى والتي قد تعيش سنوات وسنوات بعد نقلها في أجساد أخرى وفي الآيات السابقة وصف الله النوم بالوفاة وهي درجة من درجات الحياة كما في حالات التخدير وهو ما أطلقنا عليه الحياة الجسدية. وأرى أن أنتهز هذه الفرصة لأسجل هذه المسميات والتي قد تكون أقرب للناحية العملية والمنطق من المسميات الشائعة والخاطئة والواردة حتى في الكتب الطبية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 أولًا: الحياة الإنسانية اليقظة وهي التي تشمل على حس ووعي وحركة. ثانيًا: الحياة الجسدية وهي حياة النوم، وقد رأيت ألا أطلق عليها "حياة الوفاة" لأن هذا الوصف قد يحدث منه لبس لشيوع المعنى العكسي للكلمة وهي على أي الأحوال حياة ليس بها حس ولا وعي ولا حركة، ويجب أن نعرف أن للنوم درجات، والدرجات السطحية منه يخالطها بعض اليقظة وبعض الحس والحركة من تقليب وخلافه وأما الدرجات العميقة فلا، ونفس الشيء يحدث في التخدير وفقد الوعي المؤقت مهما اختلفت أسبابه وفقد الوعي الدائم كتلف قشرة المخ الكامل. ثالثًا: الحياة العضوية وهي ما تبقى من حياة في بعض أعضاء الجسم بعد وفاة الإنسان وهو ما زال تحت أجهزة الإنعاش ويكون جذع المخ قد تلف وما زال القلب يعمل وكلمة الحياة هنا لا تعود على الإنسان كفرد ولكن على ما تبقى من أعضائه حيًا كالقلب والكبد والكليتين.. إلخ ما عدا المخ، وهي فترة محدودة، وحدها الأقصى نحو أسبوعين وفي خلال هذه الفترة يكون كل شيء امتدادًا لما كان معتادًا قبل وفاة الإنسان من تغذية وهدم وبناء. رابعًا: الحياة النسيجية وهي تصف مجموعة خلايا حية غالبًا ما تكون في مزرعة في مختبر ما. خامسًا: الحياة الخلوية وهي عبارة عن خلية إنسانية واحدة. وفي المعامل تؤخذ خلية أو أكثر في أطباق زجاجية وتحاط بسوائل معينة بغرض تغذيتها وذلك لأعمال الدراسة المعملية. ولو تأملنا بداية الحياة الإنسانية لوجدنا أن هذه الدرجات أو المستويات المختلفة للحياة تتجمع تدريجيًا فتبدأ بخلية واحدة هي البويضة كالقلب ولم تنفخ الروح بعد فهنا تكون الحياة العضوية ثم تنفخ الروح في الجنين فتتتابع الحياة الجسدية مع الحياة الإنسانية اليقظة حسب نومه ويقظته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 في ضوء ما وصلنا إليه الآن لو عدنا مرة ثالثة للسؤال من هو الإنسان؟ فإن الإجابة تكون: الإنسان هو مخ حي يحمل نفسًا إنسانية، هذا المخ الحي تقوم على خدمته أجهزة كثيرة، بعضها لتغذيته وبعضها لتصريف فضلاته والبعض الآخر لحركته والتنقل به حيث يشاء، ومن خلال المخ تقوم النفس الإنسانية بالتحكم، والسيطرة على جميع أعضاء الجسم وأفعاله. نعود بعد ذلك لبحث موضوع تحديد وقت وفاة المخ لما لذلك من أهمية شرعية كبيرة. وأرى أن هناك أكثر من طريقة ولكن أكثرها دقة وتحديدًا هي أن يوصل أي مريض مصاب بإصابة شديدة بالمخ بأجهزة تخطيط المخ أو أجهزة قياس عمل المخ. أو أجهزة فحص عمل جذع المخ وهذه كلها أجهزة دقيقة تقوم بتحديد المطلوب وعندما تعطي هذه المؤشرات ما يفيد وفاة المخ تتم عملية الفحص الإكلينيكي بغرفة طبيبين ذوي خبرة كما ذكر سالفًا. والأهمية الكبرى لهذا التوقيت ليس فقط من الناحية الشرعية، ولكن أيضًا من ناحية قواعد علم نقل وزراعة الأعضاء والذي يتطلب الحصول على الأعضاء بعد الوفاة الإنسانية وأثناء الحياة العضوية للمتوفى وهي الطريقة الوحيدة علميًا البديلة لعملية تبرع الأحياء بأحد أعضائهم لذويهم وهذا التبرع الأخير لا يكون إلا في حالات محدودة (الأعضاء المزدوجة) كالكلى مثلًا وذلك علاوة على ما قد يتعرض له المتبرع من أخطار جراحية أو احتمال احتياجه مستقبلًا للعضو الذي تبرع به. وفي النهاية إذا ما ثبت لنا ذهاب الحياة الإنسانية فعلى الشرع عندئذ أن يدلي برأيه آخذًا في الاعتبار مئات المرضى الذين يموتون كل يوم في عالمنا الإسلامي وقد تلفت أعضاؤهم من قلوب وأكباد وكلى والذين كان بالإمكان إنقاذ بعض منهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 الموت والحياة بين الأطباء والفقهاء للدكتور عصام الدين الشربيني مستشار الأمراض الباطنية م. الصباح الكويت الطب علم سريع التطور والنمو، والطبيب في عمله يتعرض بالتالي لقضايا متجددة يحب أن يؤدي فيها واجبه، ويحب في أداءه هذا أن يسترشد بهدي دينه ويلتزم بحدود شريعته. والدين رسالة الله في الناس، قد كملت يوم نزل قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} . فلا ينبغي أن تعرض للناس قضية لا يكون للشريعة حكم فيها بنص أو باجتهاد، سواء كان الحكم بالفرض أو المنع أو الإباحة. ومع ذلك يبدو للطبيب في عمله، كما يبدو لغير الطبيب، أن هناك فجوة بين الأحكام الشرعية وبين القضايا المستحدثة في الممارسات الطبية. ومرد ذلك في نظري إلى أمرين: أولهما: المحاولات الجارية منذ أكثر من قرن بعزل الشريعة الإسلامية عن المجرى الرئيسي لحياة المسلمين، والتي بلغت ذروتها بعد سقوط الخلافة العثمانية وسيطرة دول غير إسلامية على بلاد المسلمين، وترتب على ذلك أن الطلب لم يعد مستمرًا ولا ملحًا لرأي الشريعة فيما يعرض من قضايا، وكذلك الاستجابة من الفقهاء لم تكن متصلة ولا شاملة ولا مسلمة، كما فقد عنصر التطبيق وما يقدمه من خبرة وإثراء. ثانيهما: التفاوت الكبير في ثقافة الأطباء وتربيتهم الدينية. ونستطيع أن نجملهم في طوائف ثلاث.. 1- طائفة بحكم إيمانها والتزامها وثقافتها، تحرص على تحري التوجيه الديني والحكم الشرعي، وتستطيع أن تصل إليه في أغلب الأحوال، وأحسبهم قلة نرجو أن تزيد. 2- طائفة لا تستطيع ولا تهتم بتحري ذلك. 3- طائفة يحرصون أو يغفلون عن تحري الحكم، ويصيبون أو يخطئون إن تحروا ذلك، معتمدين على أنفسهم أو مستعينين بسواهم ممن هم أكثر معرفة. ولا شك أن جهود المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية هي محاولة لسد هذه الفجوة بمؤتمريها الأول والثاني، والندوات التي تعقدها لموضوعات محددة مثل ندوة الإنجاب، وندوتكم هذه، وهي جهود تستوجب الشكر والتقدير، وتحفز الهمم لمواصلة السعي وتكثيف الجهد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 وندوتنا هذه عن الحياة والموت، أو الحياة بدايتها ونهايتها، وهي كما فهمت ندوة حوار بالدرجة الأولى يطلع فيها الفقهاء على بعض ما يعرض للأطباء وما يعانون ويواجهون، ووجهة نظرهم في ذلك، ويطلع فيها الأطباء على بعض ما يبني عليه الفقهاء آراءهم، وما يستمدون منه أحكامهم، ويسمع بعضنا لبعض وهو ما لا غنى عنه لكلا التخصصين، استقصاءً لجوانب البحث وتقليبًا لأوجه الرأي واستجلاءً لمشاكل التطبيق. وأحسب أن خير ما أشارك به من جهد هو أن أعرض على سيادتكم بعض ما يواجه الطبيب من قضايا، ومحاولتي كطبيب مسلم أن ألتمس الطريق الذي أسلكه إزاءها في ضوء التزامي المهني بالمحافظة على حياة المريض وتخفيف آلامه ما استطعت، واحترامي كذلك لنهاية هذه الحياة في مرحلتها الدنيوية وهي الموت. ثم أسألكم فقهاء وأطباء جميعًا أن تروا فيه رأيكم وتقدموا نصحكم، لا رأيًا في نقطة بعينها وحسب ولكن توجيهًا للمنهج الذي يجدر أن يتبع. اجتهاد أم نص: وأقول ابتداء إنني حاولت فيما يتيسر لطبيب مسلم متوسط الثقافة أن أجد للموت تعريفًا محددًا للحياة أو للموت، فلم أصل إلى نص شرعي يحدد أيًا من الاثنين، الابتداء أو الانتهاء، فإن صح ذلك معناه أنها تركت للاجتهاد البشري والخبرة البشرية. وقد أجد إشارات في أبواب كالإرث، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((إذا استهل المولود يرث)) (رواه أبو داود) أو قوله: ((لا يرث الصبي حتى يستهل)) (ابن ماجة) ، جاء في الموسوعة الفقهية: وتعرف حياته بالاستهلال صارخًا، واختلف الفقهاء فيما سوى الاستهلال ... ولأن الاستهلال لا يكون إلا من حي والحركة تكون من غير حي ... الخ، وفي رواية عن أحمد إذا علمت حياته بصوت أو حركة أو رضاع أو غيره ورث. وثبتت له أحكام المستهل لأنه حي، وبهذا قال النووي والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه (1) ...   (1) الموسوعة الفقهية الجزء الثالث فقرة 112 ص 66 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 وواضح أن هذا يستند إلى خبرة بشرية بجانبيها الفقهي والطبي، وأجد في باب الجنازة، (1) المسارعة في تجهيز الميت إذا تيقن موته، وإن اشتبه أمر الميت اعتبر بظهور أمارات الموت، وإن مات فجأة انتظر به حتى يتيقن موته" (معجم الفقه الحنبلي) . فإذا رجعت إلى كتاب من كتب الفقه الحديثة وجدته يقول " لا بد من تحقق الموت بواسطة الأطباء وغيرهم من العارفين". (2) ولست هنا أحاول إيجاد حكم فقهي، فتلك مهمة السادة الفقهاء، وكل ما أقوله هو توضيح ما يلمسه الطبيب من أن الحكم يعتمد على خبرة بشرية وهذه قابلة للتطور مع تطور المعرفة البشرية. النقطة الثانية التي أحب توضيحها: عملية الموت: إن الموت ليس نقطة واحدة أو خطًّا رفيعًا، ولكنه عملية لها امتداد يطول أو يقصر، والناس من قديم يعرفون أن فلانا دخل مرحلة الموت أو بدأ عملية الموت أو في حالة احتضار، وتتحدث كتب السنة عما يسن "عند الاحتضار"، وربما كان اللفظ مأخوذًا مما في الكتاب الكريم {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} (3) وقوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (4) ولا شك أن الآيتين الكريمتين تشيران إلى مرحلة من الموت دون المرحلة التي لا تقبل عندها التوبة والتي تشير إليها الآية الكريمة {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ} (5) وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)) (6) (مسلم وغيره) (وفي حديث آخر إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) (7) (الترمذي) وهنا أيضًا مرحلتان مختلفتان. والخبرة الطبية لا تختلف عن ذلك.   (1) معجم الفقه الحنبلي جـ 1 ص 193 (2) فقه السنة (سيد سابق) ط، جـ 4 ص 53 (3) سورة البقرة / 133 (4) سورة البقرة / 180 (5) سورة النساء/ 18 (6) مختصر صحيح مسلم 453 (7) رياض الصالحين للنووي باب التوبة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 فالجسم مجموعة من الخلايا والأعضاء والأجهزة تقوم كل منها بوظيفتها، ولها متطلبات لأداء هذه الوظائف من غذاء أو طاقة أو وسط يحيط بها في توازن دقيق، ويعتمد كل منها في ذلك على الآخر، فإذا اختلت وظيفة عضو أثر ذلك على أداء الأعضاء الأخرى لوظائفها بدرجات متفاوتة كما في تشبيه الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بالجسد ((إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى)) (1) ... والخلل إذا لم يتوقف تداعى إليه عضو بعد عضو حتى يحدث الموت. ولنذكر بعض الأمثلة: لا بد للأعضاء والخلايا من أكسجين، وهذه وظيفة الجهاز التنفسي فإذا امتنع ذلك لخنق أو غرق أو توقف إدخال الهواء إلى الرئتين لشلل في عضلات التنفس أو كسر في عظام القفص الصدري، أو غلبة غاز غير الأكسجين، أو مرض بالرئتين يمنع انتقال الأكسجين إلى الدم أو مادة كيميائية تمنع انتقال الأكسجين من الدم إلى الأنسجة، اختلت وظيفة الأعضاء وتداعى الخلل حتى يموت الإنسان، وتختلف الأعضاء في المدة التي تحتملها بغير أكسجين قبل أن تتلف تلفًا كاملًا. وإذا عجز القلب عن القيام بوظيفة ضخ الدم إلى أعضاء الجسم حدث مثل ذلك، سواء كان العجز لسبب من خارج القلب يعوق عمله، أو لسبب في العضلة نفسها يجعل ضخها غير مُجْدٍ أو لاضطراب في نظام القلب الكهربي، مثل ارتجاف البطين الذي يجعل كل مجموعة من الألياف تنقبض مستقلة عن غيرها من الألياف فلا يكون هناك ضخ على الإطلاق، وتختلف الأعضاء كذلك في تحملها لهذا الخلل قبل أن تتلف، ومن المشهور بين الناس أن الضخ الفعال إذا لم يعد قبل مرور دقائق أربع فإن المخ يتلف تلفًا لا يمكن علاجه. ومثل ذلك إذا أصيب الإنسان بنزف، ولم يصل للأعضاء حاجتها من الدم ولم يوقف النزف، ويعوض الدم المفقود في الوقت المناسب، أي قبل أن تتلف الأعضاء.   (1) مختصر صحيح مسلم 1774 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 وإذا عجزت الكليتان عن أداء وظيفتها وتعذر تخلص الجسم من المواد التي لا بد أن يتخلص منها، وتعذرت المحافظة على التوازن الحمضي القاعدي في سوائل الجسم، والتوازن الدقيق بين عناصر الأملاح التي تدخل في تركيبها وما يصحبها من شحنات كهربية، وكل هذا مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالوظائف البيولوجية العديدة التي تقوم بها الخلايا والأعضاء، أقول إذا حدث هذا اختلت وظائف الأعضاء وتداعى الخلل، حتى يموت الإنسان، إلا أن نقدم ما يوقف الخلل ويصححه في الوقت المناسب كالكلية الصناعية مثلًا ... وربما لاحظتم في الأمثلة السابقة تكرار تعبير الوقت المناسب، وذلك أن الخلل الوظيفي إذا لم يعالج قبل فوات هذا الوقت استمرت الأعضاء في تداعيها إلى خلل إثر خلل وقصور إثر قصور إلى أن يتم الموت، حتى لو أمكن علاج وتصحيح الخلل الأول الذي بدأ سلسة التداعي هذه. ومن أوضح الأمثلة على ذلك.. النزيف الدموي، فإنه إذا لم يسارع بوقفه قبل مرحلة معينة استمرت عملية الموت حتى لو أوقف النزيف بعد ذلك وعوض الدم المفقود. ويختلف الوقت أو المدة التي نحن بصددها تبعًا لسرعة أو بطء حدوث الخلل الوظيفي، لأن الجسم يحاول تلقائيًا تصحيح أو تعويض الخلل بما خلق الله فيه، كما تختلف بطبيعة المرض أو قل بطبيعة العضو أو الجهاز الذي يكون قد أصابه الخلل قبل وصول العلاج إلى المريض. فالعضو الواحد يختلف عن غيره في مدة احتماله لهذا القصور أو ذلك قبل أن يتلف تلفًا غير قابل للإصلاح، وقد سبق أن المخ يحتمل توقف القلب أقل من أربع دقائق، فإذا عاد القلب لعمله بعد ذلك بقي المخ تالفًا، كما أن توقف التنفس يتبعه توقف القلب بعد أقل من ذلك وهكذا ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 موت الأعضاء وموت الإنسان:- وفي ضوء ما سلف نستطيع أن نستوعب إعلان سيدني (1) "الذي صدر عن اتحاد الأطباء العالمي في جمعيته الثانية والعشرين في سيدني باستراليا سنة 1968م، وجاء فيه "أن الموت على مستوى الخلية (أو مستوى الأنسجة) عملية تدريجية، والأنسجة تختلف في تحملها لحرمانها من الأكسجين، وليس المهم تحديد موت الأعضاء المختلفة أو مجموعات الخلايا، وإنما المهم التأكد من أن عملية الموت قد وصلت إلى نقطة لا يمكن عندها وقفها مهما استعمل من وسائل العلاج والإنعاش. وأن وجود عضو أو مجموعة من الخلايا حية لا يغني بالضرورة أن الكائن ذاته حي". وربما اتضح ذلك أكثر إذا تذكرنا أن القلب يستمر في الضرب بعد أن يشنق صاحبه، وقد جرت عادة المنفذين أن يسجلوا المدة التي استمر فيها النبض بعد التنفيذ، وما نشاهده الآن من نقل كلية من أمريكا أو أوروبا بالطائرة لتزرع في مريض في الكويت مثلًا، وهي كلية حية لمريض مات ودفن قبل أن تزرع، وما نعرفه من إمكان استزراع خلايا بشرية مرة بعد مرة في المختبر بعد فصلها عن صاحبها. ويبذل أهل الاختصاص جهودًا متنامية للإبقاء على حياة هذه الأعضاء أو تلك الخلايا أطول مدة ممكنة بحفظها مثلًا في درجة حرارة معينة، وقد تصل إلى التجميد، أو بإبقائها في سائل ذي خواص معينة جار أو غير جار، يمر أو لا يمر خلاله الأكسجين. كيف يحدد الموت:- وهنا لا بد أن تنشأ قضايا أو أسئلة، هي ما نحاول في ندوتنا هذه أن نجيب على بعضها. أولها كيف يحدد الموت؟ حتى يترتب على هذا التحديد ما يترتب من قضايا فقهية وقانونية لا غنى للناس عنها. وهذا سؤال قديم لم يزل الناس على مر العصور يجتهدون في تحري الدقة في الإجابة عليه، وفي اتباع إجراءات تتيح الرصة لبعض التصحيح إن كان القرار خاطئًا، أو للتثبت إن كان الشك قائمًا. (2) وقد نذكر من بعض الوثائق صورة الراهب الذي يمر بشمعة مضاءة أمام وجه الميت حتى يتأكد أن التنفس قد توقف، ونذكر تعليمات المستشفيات منذ كنا طلبة للطب أن يسجل الطبيب في أوراق المريض الذي شهد وفاته ما قام به من محاولات لإسعافه أو إنعاشه ثم يكتب: ينقل إلى غرفة الموتى بعد ساعتين. ومنذ ظهرت السماعة الطبية تركز الانتباه على دقات القلب كعلامة مؤكدة على استمرار الحياة تتوقف بتوقفها.   (1) BMJ 1968, 3, 493 - 494 (2) Jennet, B 1981 B. J. Anaesth, 53, 1112 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 ولا يزال العديد من الموتى تحدد وفاتهم بهذه العلامات التقليدية، أي توقف القلب والتنفس كمن يموت في منزله أو في المستشفى نتيجة تطورات مرضية معروف انتهاؤها بالموت، أو كمن يموت لأي سبب وفي أي مكان قبل أن تتاح الفرصة لإسعافه بوسائل العلاج الحديثة، ولا توجد عادة صعوبة في تحديد الموت في مثل هذه الأحوال فإن مرور دقائق بعد توقف القلب والتنفس يحل المشكلة، ويحيل الشك إلى يقين. موت جذع الدماغ:- إلا أن الصورة تغيرت بعض الشيء بتطور المعرفة البشرية في مجال الطب والعلوم المساعدة له، ومن أهم هذه التطورات إمكان استمرار التنفس إذا عجز أو توقف بواسطة أجهزة صناعية، حتى فيمن يصاب إصابة قاتلة، فإذا أصيب شخص في رأسه ودماغه أمكن استمرار التنفس الصناعي، وفي هذه الحالة يستمر القلب في النبض أيامًا بعد أن يكون الدماغ قد توقف، بل بعد أن يكون قد بدأ في التحلل. ومن هنا بدأت تظهر فكرة تحديد الموت بواسطة العلامات الدالة على موت الدماغ ونعني بالتحديد موت جذع الدماغ. (Brain – stem death) . وقد أتيحت الفرصة لاستعمال هذه الأجهزة على نطاق واسع على جرحى الحرب الكورية (1950- 1953) ثم على المصابين في وباء شلل الأطفال في الدانمارك 1952م وفي أمريكا 1953 (إذ إن الشلل يصيب أيضًا عضلات التنفس) ، ثم بدأت تنتشر وحدات العناية المركزة التي تتوفر فيها هذه الأجهزة، ثم استعملت بصورة واسعة لعلاج إصابات الرأس (في إنجلترا) ... وهكذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 وتزايدت الخبرة المتجمعة، وتوافرت المعلومات الدقيقة، وبدأت تظهر دراسات محددة تحاول تحديد علامات واضحة يمكن عند توافرها الاطمئنان إلى تشخيص "موت الدماغ"، ونشرت دراسة فرنسية 1959م ثم العلامات التي حددتها جامعة هارفارد 1968م بعد دراسة قامت بها لجنة من الأطباء والمحامين ورجال الدين، ثم إعلان سيدني 1968 الذي سلفت الإشارة إليه، ثم دراسة جامعة مينيسوتا ... الخ، (1) كما أخذت السلطات الطبية في بلد إثر بلد تصدر تعليمات محددة يعتمد عليها الأطباء في تشخيص موت الدماغ. وحسبنا هنا الإشارة إلى الإعلان الصادر 1976 عن المؤتمر المشترك للكليات الملكية للأطباء في المملكة المتحدة (2) فهو يعتبر تلخيصًا وتنقيحًا ومراجعة للدراسات التي سبقته، وقد أصبح بعد عام من صدوره تعليمات قائمة من السلطات الصحية في المملكة المتحدة للأطباء العاملين بها، وهي تحدد شروطًا لا بد من توافرها لتشخيص موت الدماغ منها على سبيل المثال: 1- أن يكون المريض في حالة غيبوبة عميقة، وأن نستبعد الغيبوبة القابلة للعلاج كليًا أو جزئيًا مثل العقاقير المهدئة أو المنومة أو الانخفاض الشديد في حرارة الجسم ... الخ. 2- أن يكون المريض معتمدا على أجهزة التنفس الصناعي، لانعدام التنفس التلقائي. 3- ألا يكون هناك شك في وجود تلف في الدماغ غير قابل للعلاج (مثل إصابة بالرأس، أو نزيف تلقائي بالدماغ، أو بعد عملية جراحية في المخ ... الخ) . 4- أن يثبت الفحص السريري علامات موت جذع الدماغ كاتساع إنسان العينين اتساعًا ثابتًا لا يتأثر بالضوء، وانعدام التأثر الانعكاسي في منطقة الأعصاب القحفية وهكذا. 5- انعدام الاستجابة لمحاولات تنبيه التنفس التلقائي ..... وليس هنا مجال استقصاء هذه الشروط والعلامات، ويسهل التماس ذلك في مظانه، وإنما أحببت أن أبين أنها علامات محددة اتضحت وتجمعت وتأكدت بعد دراسات ومراجعات امتدت على طول سنوات عديدة، وأصبح من الثابت أنه متى حدث موت جذع الدماغ، فإن الأعضاء الأخرى ستتوقف عن العمل عضوًا إثر عضو مهما استمرت أجهزة التنفس الصناعي وغيرها من الأجهزة في العمل. أما إذا أوقفت الأجهزة فإن القلب يتوقف بعدها مباشرة. (وأنبه إلى أن جذع الدماغ قد يكون حيًّا في مرضى مصابين بغيبوبة أو بمرض يمنع الكلام ويمنع الحركة أو يمنع الإدراك أو يمنع الاستجابة لمحاولة الاتصال به إلخ، وهذه لا تندرج تحت تعبير موت جذع الدماغ بشروطه المحددة) .   (1) Julius Korein, 1980, Anaesthesia & Neurosurgery, 289 - Molby Co, Ed. James E. Gothell (2) B. M. J. 1976, 2. 1187 - 1188 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 مراجعة وتمحيص:- والأطباء مثلهم مثل الفقهاء لا يسلمون بالجديد، على كثرة البحوث واستمرارها، حتى يقتلوه بحثًا وتمحيصًا، وذلك ما اتبعوه مع قضيتنا هذه أي اعتبار موت جذع الدماغ موتا للمريض، ولما كان قرار تشخصي الموت يتبعه إيقاف الأجهزة الصناعية ووقف التنفس يتبعه توقف القلب، فقد كان من الضروري تمحيص هذه القضية بصورة أخرى. فأجريت دراسة استقصائية للحالات التي تم فيها تشخيص موت الدماغ، ولكن الأجهزة لم توقف لسب من الأسباب وقد زادت على سبعمائة حالة وقد ماتت الحالات جميعًا رغم استمرار الأجهزة، هذا وقد توقف القلب فيها جميعًا. بعد ساعات أو أيام من موت الدماغ، وكان متوسط المدة ثلاثة أيام ونصف يوم إلى أربعة أيام ونصف يوم وأقصى مدة سجلت لاستمرار القلب في الدق هي أربعة عشر يومًا. (1) ثم أجريت دراسة أخرى من الزاوية المقابلة على أكثر من ألف حالة أدخلوا إلى المستشفيات في حالة غيبوبة عميقة إثر إصابة بالغة بالرأس وتمت معالجتهم، وكانوا جميعًا أحياء وقت إجراء الدراسة، أي بعد ثلاثة أشهر من إصابتهم، وقد روجعت البيانات المسجلة لكل منهم، وذلك للإجابة على سؤال واحد محدد "هل كان يمكن أن يشخص موت الدماغ في إحدى هذه الحالات"؟ فلم يجد الدارسون حالة واحدة من بين هذه الحالات استوفت شروط هذا التشخيص، حتى في أسوأ مراحل الإصابة. (2) وبتعبير آخر فإن الحالات السبعمائة التي تم فيها تشخيص موت الدماغ لم يعش أحد منها على الرغم من استمرار الأجهزة الصناعية في عملها. والحالات الألف التي عاشت لم يكن من الممكن أن يشخص في إحداها موت الدماغ. متى توقف الأجهزة:- وبهذا يطمئن الطبيب عندما يشخص موت الدماغ إلى اتخاذ قرار بوقف الأجهزة، وهو هنا لا يوقف علاجًا ليسلم المريض إلى الموت، وإنما يوقف إجراءات لا طائل من ورائها في شخص قد مات بالفعل. (3) وقد أوضح بعض الباحثين أننا لسنا بصدد مفهومين للموت: أحدهما توقف الدماغ والآخر: توقف القلب والتنفس، بل هما مجموعتان من الأدلة والظواهر تنتهيان إلى نهاية واحدة هي محل الاعتبار، وهي موت الدماغ في كل الأحوال، إذ إن ذلك هو ما يحدث أيضًا عند التوقف النهائي للقلب والتنفس خلال دقائق إن لم تكن ثوان. (4)   (1) (Julius Korein 1980 Anaesthesia & Neurosurgery) Jinnet B, 1981 BJ. Anaesth., 53, 1112 (2) Jennet B et aL 1981 BMJ, 282, 533- 39 (3) Jennet B 1981 Anaesth. 33, 1113 (4) Julius Korein 1980 Anaesthesia & NeuroSurgery الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 ولعل ما أسلفت يكفي للإجابة على السؤال الثاني من الأسئلة المطروحة وهو متى يوقف الطبيب أجهزة الإنعاش؟ وكما أن المهنة الطبية لم تستقر على قبول موت جذع الدماغ كموت للإنسان إلا بعد معاناة ومخاض فكري ودراسي وتمحيصي، فكذلك الطبيب الذي يتخذ القرار وينفذه لا يأتي ذلك بسهولة أو دون روية أو دون معاناة نفسية. فالعاطفة الإنسانية غلابة بالرغم من الاقتناع العقلي وخاصة إذا كان القرار يصدر من الطبيب الذي يتولى العلاج المباشر للمريض، وقد شهدت أكثر من مرة أطباء لا جدال في طول خبرتهم وعلو كفاءتهم، وكأنهم لا يستطيعون أن يتوقفوا عن محاولات الإنعاش، بل يقاومون وقفها بالرغم من ثبوت الموت حتى يفيئوا بعد جهد إلى تذكير زملائهم وإلحاحهم. زراعة الأعضاء: وينشأ بعد ذلك السؤال الثالث وهو عن زراعة الأعضاء. وقد صدرت فتاوى تبيح نقل عضو من حي تبرع به لسواه بشروط. من أهمها ضرورة ذلك للمستفيد وعدم هلاك المتبرع، وسؤالنا هنا عن جواز أخذ أعضاء من الموتى لزراعتها في الأحياء. ونقول ابتداء: إنه لا يوجد طبيب صحيح العقل فضلًا عن طبيب مسلم يفكر في الإجهاز على مريض محتضر لنقل عضو من أعضائه إلى مرض آخر يوشك أن يموت، فللطبيب التزامه المهني بالمحافظة على الحياة الإنسانية ابتداء من لحظة الحمل حتى تحقق الموت، والمسلم يعرف قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (1) ويستشعر حرمة الحياة الإنسانية في قوله تعالى {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (2) ويحذوه في عمله الطبي قوله تعالى في نفس الآية {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (3) وإحياء النفس بإنقاذها من هلكة يندرج تحته كل أنواع العلاج بما فيها زراعة الأعضاء. وإذا كانت الفتاوى قد أجازت للحي أن يتبرع بعضو من أعضائه أثناء حياته فما يمنع أن يوصي – بالانتفاع - بهذا العضو بعد وفاته؟ وإذا لم يوص هل يجوز ذلك من وليه؟ وهل يجوز أن يحل الحاكم أو المجتمع أو القانون مكان الولي إذا لم يكن الميت قد أوصى بالتبرع أو بعدم التبرع؟ بعض الدول سنت قانونًا يبيح أخذ الأعضاء من الميت ما لم يكن قد أوصى بغير ذلك، وبعضها يمنع أخذ الأعضاء ما لم يكن الميت قد أوصى بالتبرع، وبعضها يشترط فوق ذلك موافقة الولي على إنفاذ الوصية. أين نحن كمسلمين من هذا الخضم؟ هذا ما ننتظر جوابه من الندوة الموقرة.   (1) سورة آل عمران/ 145 (2) سورة المائدة/ 32 (3) سورة المائدة/ 32 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 احتياط واستبراء: وسأكتفي هنا بذكر الاحتياطات التي تتخذها المهنة الطبية حتى تتأكد من صحة القرار الصادر بأن المريض قد مات قبل أن يؤخذ أي عضو من أعضائه ومن ذلك: (1) 1- وجود تعليمات واضحة بشروط محددة يجب توافرها لتشخيص الموت وقد سبق توضيح ذلك. 2- اشتراك أكثر من طبيب ذي خبرة كافية في قرار تشخيص الموت. 3- في الحالات التي ينتظر أخذ أعضاء منها لا يكون أحد من الأطباء المشار إليهم في الفقرة السابقة مرتبطًا بالفريق الطبي الذي ينتظر الأعضاء لزراعتها. 4- أن تكون الشروط والإجراءات واحدة سواء كان الميت ستؤخذ منه أعضاء أو لا تؤخذ. "وليس صحيحًا أن الأطباء قد يستعجلون وقف الأجهزة، بهدف أخذ أعضاء للزراعة وهي في حالة أفضل، بل العكس هو الذي قد يحدث، بمعنى أن المريض عندما يتأكد موته قد يؤجل وقف الأجهزة حتى يتاح لوليه أن يفكر في روية ويقرر في غير عجلة الموافقة على أخذ أعضاء إن شاء..". الخلاصة: وتلخيصًا لما سبق أقول: إننا تحدثنا عن تحديد الموت في غيبة النص الشرعي باجتهاد بشري (بشقيه الفقهي والطبي) وأن الموت عملية لها امتداد يطول أو يقصر، وأن حياة عضو أو مجموعة من الخلايا لا تعني بالضرورة حياة الإنسان نفسه، وأن تحديد الموت يتم عند توقف القلب والتنفس، أو عند توقف جذع الدماغ في الحالات التي يستمر فيها التنفس بوسائل صناعية، وأن موت الدماغ له شروط وعلامات محددة استقرت المهنة الطبية عليها بعد سنوات من الدراسة والتمحيص، ويترتب على هذا التشخيص وقف الأجهزة، ثم تعرضت لجواز أخذ أعضاء من الميت وتساءلت عن موقفنا من بعض القوانين التي تنظم أخذ أعضاء الموتى في دول مختلفة. ماذا عن الأحكام التي تترتب على الموت؟ وأضيف جوابًا على سؤال بعض الزملاء أننا هنا لم نتعرض لشيء من الأحكام الفقهية التي تترتب على الموت كإرث أو وصية أو قصاص.. فهي أحكام تترتب على الموت، والذين نتحدث عنه هو الموت كيف نحدده؟ ومتى صدر هذا القرار فالأحكام هي هي لم تتغير. وأحسب الوقت المتاح لي لا يتسع للحديث عن حياة الجنين والمولود، وحسبي أن أحيل إلى مداولات ندوة الإنجاب، وإلى مداولات اللجنة التي شكلها ورأسها معالي وزير صحة الكويت ورئيس المنظمة، والتي كان لي شرف عضويتها، وقد أعدت المواد الخاصة بالإجهاض من قانون مزاولة المهن الطبية الذي أقره مجلس الأمة الكويتي موافقة لجنة الفتوى عليه. وأشكر للسادة الذين نظموا هذه الندوة إتاحتهم الفرصة لي كي أتشرف بالحديث إليكم وأشكركم جميعًا على استماعكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،   (1) Jennet B, 1981 Anaesth, 53, 117 (BMJ 1976, 2, 1188) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 نهاية الحياة البشرية للدكتور أحمد شوقي إبراهيم إن خلق الإنسان سر من أسرار الخلق. . ومن أسرار الفطرة التي فطر الله خلقه عليها.. وليست معرفة سر خلق الإنسان ميسورة لعلومنا التجريبية قط.. وبالتالي فإن فهمنا لبدء حياة الإنسان ونهايتها أكثر صعوبة على فهمنا وأبعد يسرًا ومنالًا. ولا شك أن هذا الموضوع سيفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، إلا أنه يجب أن يكون أي اجتهاد في الرأي، مؤسسًا على الحق المبين الذي جاء به الوحي الإلهي في القرآن والسنة.. وينبغي قبل الحديث عن بداية الحياة البشرية ونهايتها أن نحاول التعرف على الإنسان الذي هو موضوع القضية. فمن هو الإنسان؟ قال الدكتور الكسيس كاريل المتوفى سنة 1944م (1) "إن علوم التشريح والفسيولوجيا والكيمياء والنفس والاجتماع وغيرها من العلوم لم تعطنا نتائج قطعية في ميادينها عن ماهية الإنسان، وإن الإنسان الذي يعرفه العلماء ليس إلا إنسانًا بعيدًا جدًا عن الإنسان الحقيقي، فالإنسان كائن مجهول لنفسه وسيظل جهلنا به إلى الأبد". وقال أيضًا "إن معرفتنا بالإنسان لا زالت معرفة بدائية" وقال دوكاس "إن الإنسان الحقيقي لا نعرف عنه شيئًا". ولقد سبق كل ذلك في علم الله تبارك وتعالى.. لذلك يتحدى البشر ويرد الله عز وجل عليهم في سورة الإنسان بقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} . (2) والإنسان كما علمنا من الوحي الإلهي في القرآن والسنة، ليس جسمًا فحسب، بل هو نفس وروح أيضًا.. وهنا اختلف العلماء في معرفة الإنسان.. فالأطباء يعرفونه جسمًا وخلايا، يتعرض للصحة والمرض.. وعلماء النفس يرونه شعورًا ولا شعور.. والجميع لا يدركون كنه النفس البشرية وأسرارها.. ولا يعلمون عن الروح إلا ما أخبرنا به القرآن والسنة من حق.. ولما كانت بداية حياة الإنسان ونهايتها متعلقة تعلقًا وثيقًا، بكل من الجسم والنفس والروح والعقل والقلب، فينبغي على الباحث في هذا الموضوع أن يتعرف على كل هذه المكونات في الإنسان أولًا، حتى يتمكن بعد ذلك من أن يفهم متى تبدأ حياة الإنسان ومتى تنتهي.؟   (1) الإنسان ذلك المجهول للدكتور الكسيس كاريل (2) تفسير القرطبي الجزء 12 ص 109 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 فماذا عن حياة الجسم وموته؟ خلق جسم الإنسان من طين هذه الأرض لأن كل مكونات الجسم موجودة في تراب هذه الأرض.. وجعله الله تعالى نطفة ثم علقة فمضغة فعظامًا فلحمًا، ثم نفخ فيه الروح وبذلك صار "خلقًا آخر" كما قال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك ثم بعد ذلك صار في الحياة الدنيا بشرا.. وجسم الإنسان مكون من خلايا. وخلايا الجسم تموت وتحيا.. كل خلية لها أجل مسمى.. تموت بعده وتنتهي وتحل محلها خلايا جديدة. (1) وذكر بعض الباحثين أن 125 مليون خلية تموت في جسم الإنسان كل دقيقة وتحل محلها خلايا جديدة.. وتتساقط الخلايا من الجسم كما تتساقط أوراق الشجر الميتة من أشجارها.. وأن الذرات التي تكون جسم أي إنسان منا غير موقوفة عليه.. فهي تأتي له من مصادر شتى.. وبعد أن تغادر الجسم تذهب إلى مصادر شتى كذلك. (2) فجسم الإنسان يموت ويحيا ثم يموت ويحيا في الحياة الدنيا، وهو حي يرزق.. إذن فسر الحياة غير متعلق بموت الجسم أو حياته. (3) وهذه حقيقة ينبغي أن نلتفت إليها في بحثنا عن بدء حياة الإنسان ونهايتها. ما هي النفس البشرية ومتى تحيا ومتى تموت؟ - اختلف العلماء بشأنها.. فهل هي كائن منفصل عن الجسم والروح؟ - أم هي كائن نشأ من التقاء الروح بالجسد؟ ونرجح أن النفس البشرية شيء غير الروح البشرية، لأن الروح ذكرت في القرآن والسنة تنفخ في الجسد، ولم تذكر النفس.. كذلك فالنفس تأمر بالخير والشر.. أما الروح فهو الخير الخالص لأنه من أمر الله.. فأوجب ذلك أن تكون النفس البشرية غير الروح البشرية على قدر ما نعلم. وقال الإمام أبو حامد الغزالي المتوفى 505هـ. عن النفس البشرية: (4) "إن النفس هي الأصل الجامع للصفات المذمومة في الإنسان" وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أعدى عدوك النفس التي بين جنبيك)) .   (1) سنريهم آياتنا للدكتور أحمد شوقي إبراهيم. (2) العلوم الذرية الحديثة في التراث الإسلامي (لأحمد عبد الوهاب) (3) الإسلام يتحدى: وحيد الدين خان. (4) إحياء علوم الدين الجزء 3 ص 4 للإمام أبي حامد الغزالي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 وروى الإمام أحمد والترمذي عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المجاهد من جاهد نفسه)) . ونفس الإنسان هي سر الحياة فيه.. وهي حقيقة الإنسان وذاته. والحيوان يعيش بنفس حيوانية.. وقد يكون بالإنسان نفس حيوانية ونفس إنسانية كما سنبين فيما بعد.. وتوصف النفس البشرية بأوصاف تختلف أحوالها. (1) فإذا زايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات، سميت "بالنفس المطمئنة" وإذا لامت صاحبها على تقصيره في عبادة الله، سميت "بالنفس اللوامة" وإذا أذعنت لشهوات الجسم، سميت "بالنفس الأمارة بالسوء". وذكرت النفس في القرآن في 295 موضعًا. - والنفس متعلقة بالجسم وداخلة فيه، كما وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((النفس التي بين جنبيك)) ولكنها ليست مادية.. وإذا التقت بالجسم دبت فيه الحياة.. وإذا فارقته انتهت من الإنسان الحياة.. كما قال تعالى {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) } . والنفس هي التي تموت.. وهي التي تقتل.. وليس الجسم.. لأن الجسم يحيا ويموت وسر الحياة باقٍ في الإنسان.. وقد يموت الجسم فيصبح غير صالح لوجود النفس والروح فيه.. إلا أن الموت هو موت النفس كما قال الله عز وجل في سورة الكهف: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} . وفي سورة آل عمران / 145 يقول عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} ويقول عز وجل في سورة العنكبوت / 57 {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} والحيوان فيه حياة ففيه إذن نفس حيوانية.. والإنسان حي في بطن أمه قبل نفخ الروح فيه ففيه نفس حيوانية أيضًا.. أما بعد نفخ الروح فيه فإنه يصير خلقًا آخر بشرًا له نفس بشرية أو تأخذ نفسه الصفة البشرية. فبدء حياة النفس بتكون النطفة ونهايتها بخروجها من الجسم ورجوعها إلى خالقها.   (1) إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي جزء 3 ص 4 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 ما هي الروح البشرية؟ جاء لفظ الروح في القرآن الكريم في عشرين موضعًا وله مدلولات كثيرة: جاء بمعنى جبريل كما في سورة مريم/ 17 في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} . وجاء بمعنى القرآن كما في سورة الشورى/ 51 في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} . وجاء بمعنى الوحي الإلهي كما في سورة النحل / 2 في قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} . وجاء بمعنى الروح البشرية كما في سورة الحجر/ 29 في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) } . فالروح في أي معنى من معانيه هو من أمر الله عز وجل.. ولا يحيط بعلمه إلا الله تعالى، لذلك جاء لفظ الروح بصفة شاملة بمعنى الوحي وجبريل والروح البشرية في سورة الإسراء/ 85 في قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} . وقال الإمام أبو حامد الغزالي: الروح هي اللطيفة العالمة المدركة في الإنسان وهو أمر رباني عجيب تعجز أكثر العقول والأفهام عن إدراك حقيقته. (1) وقال الإمام الشعراني: (لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم عن حقيقة الروح مع أنه سئل عنه؛ فنمسك عن الحديث عنها أدبًا) . وقال الإمام الجنيد: (إن الروح شيء استأثر الله تعالى بعلمه ولا يجوز لأحد البحث عنه أكثر من أنه موجود) . ولا تخضع الروح للعلم التجريبي أبدًا.. ومن هنا فليس لها من مصدر للعلم من علوم البشر.. وليس له من مصدر وحيد إلا ما جاء بالوحي الإلهي في القرآن والسنة.. فينبغي إذن أن نأخذ من الوحي الإلهي العلم عن الروح بدون نقاش لأن علومنا التجريبية تعجز عن أن تكون طرفًا في هذا النقاش.   (1) إحياء علوم الدين: جزء 3 ص 4 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 ما هو قلب الإنسان؟.. وهل لو توقف القلب عن النبض توقفت الحياة؟ ليس القلب الذي ينبض في صدر الإنسان هو الذي جاء ذكره خاصة في القرآن والسنة ... وإنما جاءت كلمة القلب لتعني الوعي والعقل وذكر الإمام الغزالي أن القلب يطلق على معنيين:- 1- أحدهما: العضو الذي يضخ الدم الموجود في الجانب الأيسر في الصدر ويتعلق به غرض الأطباء ولا يتعلق به الأغراض الدينية وهذا القلب موجود في البهائم.. بل هو موجود للميت.. وهو قطعة لحم لا قدر فيه. 2- المعنى الثاني: هو لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق.. وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان. والقلب هو المدرك العالم العارف من الإنسان وهو المخاطب والمطالب.. وقد تحيرت عقول أكثر الخلق في إدراك وجه علاقته بالقلب الجسماني. وأن تعلقه به يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام، والأوصاف بالموصوفات، وأننا إذا أطلقنا لفظ القلب، فإننا نعني به هذه اللطيفة الربانية. ويمكننا أن نذكر أوصافها وأحوالها. ولكننا لا نستطيع أن نذكر حقيقتها في ذاتها.. ويمكن أن يكون القلب هو عقل الإنسان وفكره، فلم تذكر كلمة العقل في القرآن وذكر القلب للدلالة عليه. وذكر الصحاح أن كلمة " قلب " تعني العقل.. كما قال الله تعالى في سورة ق {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} . وجاء في تفسير القرطبي: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} قال: لمن كان له عقل يتدبر به فكنى بالقلب عن العقل.. وقيل لمن كان له نفس مميزة، فعبر عن النفس البشرية بالقلب. وقال الفيروز أبادي في القاموس المحيط: القلب هو الفؤاد والعقل ومحض كل شيء.. كما في قوله تعالى {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أي من كانوا مرضى في عقولهم وأفكارهم، وفي سورة الشعراء/ 192 يقول الله عز وجل {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) } ، أي على وعيك وإدراكك وفكرك وعقلك. وفي سورة الكهف: 27 {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 وفي سورة التغابن/11 {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وفي سورة آل عمران / 8: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} . وكما جاء ذكر القلب بمعنى العقل، فقد جاء ذكر المصدر بمعنى النفس.. كما في سورة الأحزاب / 31 {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي نفسيته مريضة. وقوله تعالى في سورة الناس / 5 {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} أي في نفوس البشر. وفي سورة يونس/ 56 {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أي وشفاء لما في النفوس. وفي سورة الحج/ 45 جاءت آية ذكرت القلب والصدر معًا في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} قلوب يعقلون بها: أي عقول إدراكات يعقلون بها. ولكن تعمى القلوب التي في الصدور: أي العقول التي هي نفس الإنسان. وقال مجاهد في شرح هذه الآية (1) إن لكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه وعينان في قلبه لآخرته فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه فلم يضره عماه شيئًا، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه نظره شيئًا ... وقال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} . قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله فأنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزل قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} أي من كان في هذه أعمى بقلبه عن الإسلام فهو في الآخرة في النار. فالقلوب التي في الصدور هي اللطيفة الواعية المدبرة في النفس البشرية وقال ابن كثير (2) في شرح هذه الآية: ليس العمى عمى البصيرة إن كانت القلوب الباصرة سليمة، فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر.   (1) تفسير القرطبي الجزء 12 ص 77 (2) ابن كثير الجزء 3 ص 227 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 وقال الزمخشري: في شرحه لهذه الآية الكريمة: (1) {لِهِمْ قُلُوبُ} أي لهم عقول يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد ويسمعون ما يجب سماعه من الوحي، والمعنى أن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها وإنما العمى في القلب استعارة، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين، وفضل تعريف، ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار..". وقوله تعالى: {الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} زيادة في التوكيد على أن العمى ليس عمى الأبصار ولكنه عمى القلوب، وقد استعمل كلا اللفظين، "القلوب" "الصدور" استعارة للدلالة على الوعي والإدراك في النفس البشرية، وذكر البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال قلب الكبير شابًا في اثنتين: حب المال وطول الأمل)) .. وواضح أن كلمة القلب هنا معناها الحسن والإدراك. وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) في قلبه أي: في نفسه.. وروى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((القلوب أوعية بعضها أوعى من بعض فإن سألتم الله عز وجل أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة فإن الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل)) وواضح من الحديث أن القلب والقلوب هي الوعي والعقل والإدراك وليس القلب الذي يضخ الدم في الصدر. وروى أبو داود عن أسامة بن زيد قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الحرقات فنذروا بها فهربوا فأدركنا رجلًا فلما غشيناه قال: (لا إله إلا الله) فضربناه حتى قتلناه فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة)) فقلت: يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح فقال صلى الله عليه وسلم: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا ... من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة ومازال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذ)) .   (1) الجزء 3 ص 17 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 نفهم من ذلك أن القلب الذي ذكر بالقرآن والسنة، هو الوعي والإدراك والفكر والعقل، وأن القلب إذا توقف عن النبض فلا يعني هذا انتهاء العقل أو الإدراك.. أو انتهاء الحياة، فقد يتوقف القلب عن النبض فترة والإنسان حي يرزق، ثم يعود إلى النبض مرة أخرى، بأي صنف من صنوف العلاج، وأما انتهاء الحياة الإنسانية فهو موت المخ نفسه موتًا نهائيًا، لأن المخ هو آلة الوعي والعقل والفكر والإدراك، فإذا ما انتهى من الإنسان كل ذلك فلم يعد إنسانًا.. وإن عاش بعد ذلك بقلب ينبض ونفس يدخل ويخرج.. سواء من تلقاء نفسه أو تحت تنفس فإنه يعيش حياة حيوانية.. وليس حياة بشرية.. الإنسان يتميز على غيره من المخلوقات بحمل الأمانة: كما قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} . وقال الفخر الرازي: الأمانة هي التكليف وهي الأمر بخلاف ما في الطبيعة أما السماوات والأرض والجبال فهي على ما خلقت عليه. والعقل هو محل تلقي التكليف.. والمخ هو مورد العقل. ومن هنا فإذا تعطل المخ أو ماتت خلاياه سقط عن الإنسان التكليف وأصبح هو والحيوان سواء.. وبذلك تسقط عنه الصفة البشرية. وهكذا نجد أن العقل والقلب والأمانة والفؤاد كل هذه الطاقات البشرية تتصل اتصالًا وثيقًا بالمخ.. فإذا مات المخ انتهت كل هذه الطاقات ولم يعد بالجسم إلا حياة حيوانية ولم يعد إنسانًا ولم يعد بشرًا. ونأخذ من هذا دليلًا على أن نهاية الحياة الإنسانية هي بموت المخ ولو ظل القلب ينبض، ولو ظل التنفس يعمل ولو ظلت باقي خلايا الجسم تدب فيها الحياة. علاقة الجسم بالنفس والروح: الجسم إطار مادي عارض.. والجسم والنفس كمصباح معد تمامًا للإضاءة ولكنه لا يضيء بذاته حتى تنفخ فيه الروح فحينئذ يشرق ويضيء وتكتمل وظائفه. وليس علاقة الجسم بالروح في اليقظة مثل علاقته أثناء النوم.. فأثناء اليقظة تكون العلاقة كاملة، أما أثناء النوم فتضعف الرابطة بين الجسد والروح والنفس البشرية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 فالروح هو الوعي والإدراك والنفس البشرية هي شخصية الإنسان وفهمه وفكره وهو سر الحياة فيه. نقرأ في سورة الزمر/ 41 يقول الله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . فالله يقبض الأنفس حين موتها.. وحين نوم الجسم.. فأما الذي قضى عليها الموت فيمسكها عنده ولا يردها لجسدها.. والتي لم يقضه عليها فيرسلها إلى جسدها إلى أجل مسمى. كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} . فالنائم ليس ميتًا حقيقة فهو حي.. ولكنها الوفاة الصغرى لأن الجسم أثناء النوم يكون حيًا، ولكن الوعي والإدراك اختفيا عن الجسم بابتعاد النفس البشرية والروح عنه. ونقرأ في السنة من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نومه كان يقول: ((باسمك اللهم وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)) . وقال ابن عباس في تفسيره لآية سورة الزمر: (إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله منها فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الموتى عنده وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها) . وقال سعيد بن جبير: إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى أي يعيدها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كما تنامون فكذلك تموتون. وكما توقظون فكذلك تخرجون)) . وروى القرطبي عن ابن عباس أنه قال: " في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس هي العقل والتمييز والروح هي التي بها النفس والتحريك فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه". وقال القشيري: (المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين واحدة واختلف الناس في هذه الآية في النفس والروح وهل هما شيء واحد أم شيئان؟ والأظهر أنهما شيء واحد) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليضطجع على شقه الأيمن وليقل: سبحانك ربي باسمك وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فاغفر لها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)) . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عندما يستيقظ من نومه: ((الحمد لله الذي أحيانا بعد أن أماتنا وإليه النشور الحمد لله الذي رد إلى روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره)) . وقال الزمخشري في تفسير آية الزمر: أي يتوفى الله الأنفس حين تنام تشبيهًا للنائمين بالموتى حيث لا يميزون ولا يتصرفون، كما أن الموتى كذلك، فيمسك الأنفس التي قضى عليها الموت الحقيقي أي لا يردها.. ويرسل الأخرى النائمة إلى جسدها إلى أجل مسمى.. وقالوا: إن التي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة، لأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس والنائم يتنفس. وقال ابن كثير: إن الله يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى بما يرسل الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) } فذكر الوفاة الصغرى ثم الوفاة الكبرى. نفهم من ذلك أنه في حالة انتهاء الحياة البشرية تقبض الروح وترجع النفس إلى بارئها.. وقد سبق أن علمنا أن النفس والروح هما الوعي والإدراك والعقل والفكر.. وكل ذلك متصل بالمخ.. أو أن المخ هو رافدها الوحيد ... إذن فإن نهاية الحياة هي موت المخ.. وليس توقف القلب أو التنفس.. لأن توقفهما معًا أو توقف أحدهما لا يعني بالضرورة موت المخ وبالتالي لا يعني نهاية الحياة. إن رجوع النفس إلى بارئها وقبض الروح من الغيبيات التي لا تخضع للعلم التجريبي.. وبالتالي فإن الوحي الإلهي في القرآن والسنة هو المصدر الوحيد للعلم فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 أما الذي يخضع للعلم التجريبي، فهو مظهر ذلك في الجسم، وهو موت المخ. فإن ثبت موت المخ ثبتت نهاية الحياة البشرية.. ولو كان الصدر يتنفس والقلب ينبض تحت جهاز تنفس مثلًا، فالجسم حي تحت الجهاز.. ولكها حياة حيوانية.. وليست بشرية قطعًا.. وكما سبق أن تحدثنا عن القلب والصدر، فهما يعنيان العقل والفكر والنفس البشرية.. وليس القلب والصدر كأعضاء في جسم الإنسان، فليس مرض القلب أو الصدر أو أي عضو بالجسم هو السبب المباشر لنهاية حياة الإنسان.. ولكنه يكون سببًا غير مباشر لأن السبب الوحيد لنهاية الحياة هو موت الخ.. سواء بمرض في المخ نفسه أو بمرض في أي عضو آخر بالجسم أدى إلى موت المخ. ما هي علامات موت المخ؟ ليس لدينا من العلم في ذلك إلا رسم المخ الكهربائي.. وهو قطعي في معظم الحالات.. ولا يكون كذلك في بعض الحالات.. كحالات التسمم بالأدوية المنومة مثلًا.. ويهمنا هنا تعيين وقت نهاية حياة الإنسان لأهمية ذلك في شئون المعاملات مثل الإرث وغيره.. ويمكننا الجزم بأن نهاية الإنسان هو عندما بموت مخه. ولو كان القلب ينبض ولو كانت الرئتان تتنفسان.. فلو تأكد الطبيب أن المخ قد مات والمريض يتنفس وقلبه تحت جهاز.. فلا حرج عليه في أن يقرر أن هذا الإنسان قد مات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 متى تنتهي الحياة؟ للدكتور حسان حتحوت منذ كان الإنسان عرف الحياة وعرف الموت.. ودفن موتاه ولا يزال يستوي في ذلك إنسان القرون الأولى وإنسان القرن العشرين.. ومجتمع لا يعرف القراءة ولا الكتابة وآخر يعيش آخر صيحات العلم الطبي وغير الطبي. وما عرف الإنسان الحيرة ولا التردد وهو يقرر أن فلانا قد مات، ولا شغل فكره أو فتح على نفسه باب القلق بأن يجابه نفسه سائلًا ماذا يعني الموت بالضبط؟ وما هي على وجه الدقة والتحديد اللحظة من الزمن التي يقال عندها: إن العمر انتهى ووقعت الوفاة؟ وواضح أن موت الإنسان في جملته لا يعني موت أعضائه أو أنسجته أو خلاياه كلا على حدة.. فهناك فترة زمنية بعد إعلان الوفاة لو أخذت خلالها عضلة منه ونبهتها بالكهرباء لانقبضت، ولو أخذت جزءًا من خلاياه فاستزرعتها في سائل مغذ مناسب لتكاثرت، بل لو أخذت قلبه أو كليته ووصلتها بالدورة الدموية في شخص آخر لاستمر في الحياة مظهرًا ووظيفة بكل ما تعنيه الحياة.. ويمر وقت بين وفاة الإنسان ككل وبين دبيب الموت إلى أجزائه المتفرقة ثم إلى خلاياه في كل أجزائه. وقد كان تعامل البشر مع الموت ولا يزال قائمًا على اعتبار أن الموت هو انتهاء حياة الفرد في إجمالها، وليس انتظار تطرق الموت إلى آخر خلية من خلاياه. فلما تقدم العلم الطبي حتى وصل إلى إمكان نقل عضو من إنسان لإنسان، كان من الطبيعي بالنسبة لتلك الأعضاء التي لا غنى لحياة الإنسان عنها كالقلب مثلًا أن يثور السؤال الحتمي المنطقي: إن فلانًا من الناس قد مات لتوه ولكن قلبه أو كبده، أو رئتيه لم تمت بعد، فماذا لو شققنا عنها فاستخلصناها لتزرع في مريض لا أمل له في الحياة إلا إن استبدل بعضوه التالف عضو صحيح؟ وهو سؤال أجاب عنه الإسلام بالإيجاب. بحكم أن الضرورات تبيح المحظورات فالضرورة في إنقاذ الحي تبيح المحظور في جرح الميت وأخذ عضو منه. وبحكم أنه حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله والمصلحة في إبراء المريض المشرف على الهلاك جلية واضحة، وقد صدرت بذلك الفتاوى كتلك التي أصدرتها لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف بالكويت في 31/12/1979 مفصلة تفصيلًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 ثم تسلسل الأمر إلى تلك المواقف التي لم تعلن فيها وفاة الإنسان بعد، لأنه ما زال محتفظًا بأمارات تعارف الناس على أنها من أمارات الحياة كنبضة القلب وتردد الأنفاس شهيقًا وزفيرًا، في حالات معلوم فيها أن هذه الأمارات ليست ذاتية ولا تلقائية، ولكنها ترتكز على وصل الجسم بوسائل الإنعاش الصناعية، وما دامت دورة الدم والتنفس قائمتين ففي وسع سائر أعضاء الجسم أن تستوعب نصيبًا من الغذاء والأكسجين يُبقي عليها حياتها فلا يدب إليها الموت.. ويمضي زمان يطول أن يقصر حتى تفشل وسائل الإنعاش الصناعية فتنطفئ الحياة تمامًا. نقول هذه حالات لم تعلن فيها وفاة الإنسان بعد.. فلماذا استعملنا هذا التعبير ولم نقل إنهم أحياء؟ ذلك أن العلم الطبي قد اهتدى إلى أن العبرة في الموت ليست أساسًا بتوقف القلب والتنفس.. ولكنها تتوقف أولًا وآخرًا على موت المخ.. الذي يستبين بتوقف النشاط الكهربائي للمخ تمامًا وهو ما يمكن قياسه بجهاز خاص. فإذا غاضت كهرباء المخ تمامًا، فهو مخ ميت ويكون باقي الجسم قد دخل في نطاق الموت إلى مرحلة اللاعودة، ومهما احتفظ الإنعاش الصناعي بالتنفس ودورة الدم فمحال أن يعود المريض إلى الحياة أبدًا. موت المخ إذن هو معنى الموت عند الأطباء.. واللحظة التي يخمد فيها المخ تمامًا كهربائيًا هي لحظة حدوث الوفاة علميًا، ووسائل الإنعاش الصناعي تصون الجسم أو فلنقل الجثة في نطاق الحياة فترة ما فلا تتحلل ولا تتفتت ولكنها فترة إلى انتهاء. ونشأ عن هذا في العالم الطبي موقفان: الأول: ما دام الكشاف الكهربائي للمخ قد أعلن وفاة المخ.. بصدق وإخلاص وعدم تزييف، فقد أصبح الأطباء في حِلٍّ من نزع أحد أعضاء الميت الحيوية كالقلب مثلًا لزرعه لمريض تالف القلب مشرف على الهلاك ولا أمل له إلا قلب بديل صحيح، وتستغل وسائل الإنعاش الصناعي في حفظ هذا القلب حيًا في جثة صاحبه، ريثما يتم الإعداد للعملية واستدعاء المريض وتحضيره للجراحة، وهي إجراءات تستغرق بعض الوقت، ولولا تلك الوسائل الصناعية لخاس القلب وبدأت فيه تحللات الموت وفقد صلاحيته للزرع، ولما يتم تجهيز المريض المنقول إليه بعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 الثاني: أنه ما دام المخ قد مات فهذه هي الوفاة فعلًا ويكون الإصرار على الاستمرار في الإنعاش الصناعي ما لم يكن مؤقتًا وهادفًا إلى استخلاص لعضو لزرعه في مريض من الناحية الفعلية إطالة لعملية الموت وليس حفاظًا على الحياة وإرهاقًا لأعصاب الأهل في غير طائل، وإسرافًا في استعمال وسائل الإنعاش الصناعي، وهي باهظة الكلفة شحيحة التعداد، وحرمانًا منها لمريض آخر قد يكون في حاجة إليها ولم يزل مخه حيًا فله الفرصة إذن في شفاء حقيقي وحياة سوية. فهل للطبيب إذن أن يمد يده إثر موت المخ فيفصل الكهرباء عن جهاز الإنعاش ويرفعه عن جسم المريض حتى ولو كان نابض القلب متردد الأنفاس فإن فعل توقف التنفس وتوقف القلب عاجلًا أو آجلًا وعجل الغسل والدفن؟ َكلا الموقفين بطبيعة الحال رهن بموافقة الأهل أو وصية المتوفي، أما الموقف الأول فمن أمثلته أول عملية زرع قلب ناجحة وكان إجراؤها في جنوب إفريقيا على يد الجراح كريستيان برنارد. أسرة زنجية شابة تستروح في نهاية الأسبوع بلعب الكرة في الحديقة وفجأة يسقط الزوج الشاب، ويحمل للمستشفى، ويكون التشخيص نزفًا في المخ لا يجدي العلاج ويموت المخ وما زال قلبه الفتي ينبض بفعل الإنعاش الصناعي، وهناك طبيب أسنان يهودي على شفا الهلاك من هبوط قلبه ويشرح الطبيب الموقف للزوجة الشابة وللأم فتوافقان على أخذ القلب ليزرع في طبيب الأسنان فيعيش به.. تصرف نبيل وحاسم في موقف عصيب وقاس.. وقلب شاب زنجي لرجل أبيض في جنوب إفريقيا التي لا تقدم للزنوج إلا كل ما يثير الحقد ويبعث على المرارة. وبقى أن ننظر بشيء من التفصيل إلى مسألة مد اليد لإيقاف أجهزة الإنعاش في المريض الذي انطفأ مخه، وما زال قلبه يدق وما زال يتنفس وما زال جسمه يتغذى ويفرز. والخلاف حول هذه النقطة في العالم الطبي ليس خلافًا علميًا، فالموت العلمي هو موت المخ رغم أن باقي الجسم لم يزل حيًا. فريق يبني تصرفه على هذه الحقيقة العلمية ويقول: أمد يدي لإطفاء الجهاز، والفريق الآخر: يرى أن الأفعال والتصرفات لا تحكمها الحقائق العلمية ولكن تحكمها القوانين الوضعية أو الأحكام الشرعية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 وفي الشريعة والقانون تعتبر دقة القلب وتردد الأنفاس واستيعاب الغذاء وإفراز العصارات والفضلات بالتأكيد من دلائل الحياة، فإن مد الطبيب يده وبحركة واحدة أطفأ كل ذلك فهل اعتدى على الحياة فيقع بذلك تحت طائلة المساءلة أو العقوبة بالدية أو القصاص؟ وليس هذا كل ما في الأمر فلو اعتبرنا لحظة الموت هي لحظة موت المخ وإن بقي الشخص من بعدها نابض القلب متنفسًا متغذيًا مفرزًا من بعد ذلك شهرًا أو شهرين ثم مات من بعد ودفن. فمن أي التاريخين تكتب شهادة الوفاة؟ ومن أي التاريخين تبدأ عدة زوجته التي توفي عنها؟ وأي التاريخين يحتسب أساسًا للمواريث؟ وهل يحجب إخوته أبناءه إن مات أبوه فيما بين التاريخين؟ لأنه مات (بمخه) قبل موت أبيه، أو يرث ثم يرثه أبناؤه لأنه كان حيًا بدليل النبض والتنفس حال موت أبيه؟ هذه وغيرها أمور تدل على أن في الموضوع أكثر مما يظهر للنظرة السطحية العجلى أو الطبية المجردة. ولا بد أولًا من أن يضع الأطباء هذه الحقائق أمام رجال التشريع، فإن استقر الرأي على أن الموت موت المخ وأن الوفاة تبدأ من لحظته فمن الطبيعي إذن أن يقنن هذا ويدخل إلى أحكام المساءلة وأحكام عدة المتوفى عنها زوجها وأحكام المواريث. وليس من الصالح أن يظل الأطباء في عزلة عن القوانين، أو تظل القوانين في غفلة أو في إغماض على هذا المجال الهام من مصالح الناس. ونوقن أن شريعة الإسلام لا تضيق عن استيعاب المحدثات والتقنين للجدائد والوفاء بالمصالح وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 القلب وعلاقته بالحياة مدخل في مناقشة "متى تنتهي الحياة" للدكتور أحمد القاضي مستوصف أكبر، باناما سيتي، فلوريدا التعريف اللغوي لكلمة القلب وما يتعلق بها: القلب: الفؤاد العقل، اللب (مختار الصحاح) - عضو عضلي أجوف يستقبل الدم من الأوردة ويدفعه في الشرايين في الجهة اليسرى من التجويف الصدري، وسط الشيء ولبه ومحضه (المعجم الوسيط) . - مضغة من الفؤاد معلقة بالنياط، الفؤاد، العقل، اللب، خالص الشيء ومحضه (لسان العرب) . اللب: العقل (مختار الصحاح) . - خالص الشيء وخياره، العقل (المعجم الوسيط) . - خالص الشيء وخياره، العقل، نفس الشيء وحقيقته (لسان العرب) . الصدر: أول الشيء (مختار الصحاح) - مقدم كل شيء، الطائفة من الشيء، الرئيس، الجزء الممتد من أسفل العنق إلى فضاء الجوف (المعجم الصحيح) . - أعلى مقدم كل شيء وأوله كل ما واجهك من الشيء وما أشرف من أعلاه الطائفة من الشيء (لسان العرب) . النتيجة المبنية على التعريف اللغوي: القلب نوعان: قلب عضوي وقلب معنوي. المواصفات التشريحية والوظائفية للقلب العضوي: هو عضو عضلي في حجم قبضة يد صاحبه متصل بالشرايين والأوردة الرئيسية، ومتواجد في وسط القفص الصدري من الجسد الإنساني (أو الحيواني) . ومهمته الرئيسية ضخ الدم وتسييره عبر الدورة الدموية، وكأي عضو آخر في الجسد له شرايينه الخاصة التي تغذيه بالدم النقي وله أعصابه التي تؤثر فيه، وهي فروع من شبكة الاتصالات العصبية العامة، ولو أن القلب له محركه الكهربائي الذاتي إلا أنه يتأثر بالحالة العاملة لجسد صاحبه عن طريق الفروع العصبية التي تصله بالشبكة العصبية العامة للجسد كله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 المواصفات التشريحية والوظائفية للقلب المعنوي: هو لب الإنسان وجوهره، وتجتمع فيه الصفات التي نعرفها عن العقل والشخصية والنفس كلها مجتمعة، ونعتقد أن هذا هو القلب الذي يعنيه القرآن حين يذكر القلب أو الفؤاد (انظر الدليل فيما بعد) ، وهو الذي يتم به الشعور والتفكير والإدراك، وهو ليس قاصرًا على المخ وإنما هو وحدة مركبة من المخ، وما يرتبط به من شبكة اتصالات عصبية تربط بينه وبين الحواس المختلفة، وما يدور في هذه الشبكة من تحصيلات واتصالات وردود فعل، وما يتخزن في هذه الشبكة من معلومات مدركة وغير مدركة، كل هذا المذكور أعلاه يكون القلب المعنوي أو الفؤاد الذي يتحدث عنه القرآن. والقلب المعنوي له قوام عضوي وقوام معنوي، والقوام العضوي للقلب المعنوي في الجسد هو المخ وما يتصل به من شبكة اتصالات عصبية، أما القوام المعنوي للقلب المعنوي فهو مجموع الأحاسيس والمشاعر والمعرفة المكتسبة وما يترتب عليها من عاطفة وفكر وإدراك. ولتقريب المفهوم يمكن تشبيه القلب المعنوي بالحاسب الكهربي (الكمبيوتر) وما يتضمنه من جزء آلي وجزء برمجي معنوي، وهذا التشبيه لتقريب المفهوم فقط، لأن خلق الخالق ليس له شبيه من صنع المخلوق. القلب القرآني هو القلب المعنوي والدليل على ذلك: 1- كلمة "القلب" في اللغة تحتمل المعنيين: المعنى الحرفي المباشر وهو القلب العضوي في القفص الصدري، والقلب المعنوي بمعنى اللب والجوهر، ولتحديد الاختيار بين المعنيين وأيهما يناسب ما سماه القرآن بالقلب أو الفؤاد علينا مراجعة المواصفات التي أعطاها القرآن للقلب والفؤاد، ومحاولة مطابقتها على مواصفات كل من القلب المعنوي والعضوي، وأيهما يتفق مع المواصفات القرآنية يكون هو المقصود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 2- صفات القلب أو الفؤاد كما ذكرها القرآن تشمل التالي: أ- القلب القرآني يبصر {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (1) وهذه الصفة لا تتوفر في القلب العضوي وإنما تتوفر في القلب المعنوي. ب- القلب القرآني يسمع {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (2) وهذه الصفة لا تتوفر في القلب العضوي وإنما تتوفر في القلب المعنوي. جـ- القلب القرآني يفقه {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} (3) و {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} (4) وهذه الصفة لا تتوفر في القلب العضوي وإنما تتوفر في القلب المعنوي. د- القلب القرآني يحس ويشعر بالوجل والرعب والريبة والاطمئنان والخشوع وغيرها من الأحاسيس والمشاعر {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (5) و {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} (6) و {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (7) و {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (8) و {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} (9) ، وكل هذه الصفات لا تتوفر في القلب العضوي وإنما تتوفر في القلب المعنوي. هـ- القلب القرآني يمرض {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} (10) وهذه الصفة متوفرة في كل من القلب العضوي والمعنوي. 3- استعمل القرآن عبارتين لتحديد مكان القلب في الجسد، إحداهما "الجوف" {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} وهي كلمة تدل على داخل الجسد بدون تحديد جزء معين منه، وبالتالي تتناسب مع كل من القلب العضوي والمعنوي والثانية "الصدر" {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وهي كلمة تدل على معنيين: إما الجزء الأعلى من الجسد ويحيط به القفص الصدري ويحتوي على القلب العضوي والرئتين والمريء وبعض الملحقات الأخرى، أو المعنى الآخر للصدر وهو المكان أو التجويف الرئيسي أو الأساسي أو الأعلى في الجسد أو في مقدمته (انظر التعريف اللغوي) ، وإذا أخذنا بالمعنى الأخير فهو ينطبق على كل من القلب العضوي والمعنوي.   (1) 22/46 (2) 7/100 (3) 63 /3 (4) 17/ 46 (5) 8/ 2 (6) 33/ 26 (7) 9/ 45 (8) 13/ 28 (9) 57/ 17 (10) 2/ 10 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 وعلى ذلك فالعبارة القرآنية بخصوص مكان القلب ليس لها دور في تحديد الاختيار بين أي من المعنيين للقلب القرآني. شرح تعبير "موت القلب" أو "موت المخ": - موت القلب هو توقف القلب عن العمل تمامًا، وكذلك عدم قابليته للحياة. - موت المخ هو توقف المخ عن العمل تمامًا، وكذلك عدم قابليته للحياة. شرح تعبير "قابلية القلب للحياة" أو "قابلية المخ للحياة": يمكن أن يتوقف عضو ما عن العمل تمامًا ولكن يتمكن من العودة إلى العمل إذا تغيرت ظروف معينة، وفي هذه الحالة يمكن القول بأن العضو ما زال قابلًا للحياة، أو حيا ولكنه متوقف عن العمل، أما إذا توقف العضو عن العمل وأصابه تلف غير رجعي لسبب من الأسباب ففي هذه الحالة تنتفي قابليته للحياة ويصير ميتًا. ولتوضيح المذكور أعلاه نستعرض أمثلة عملية للقلب والمخ: فالقلب يمكنه أن يتوقف عن العمل تمامًا بسبب قطع الأكسجين عنه، أو قطع وصول الدم الذي يحمل الأكسجين إليه، إما تلقائيًا بسبب المرض أو بواسطة الجراح أثناء عمليات القلب المفتوح، وإذا حدث ذلك وحرارة القلب طبيعية (أي بدون تبريد) فإن القلب يبقى حيًا أو قابلا"ً للحياة لمدة تتراوح بين 20 إلى 30 دقيقة بدون تلف كبير، وإذا عاد الأكسجين إلى القلب من خلال هذه المدة (بعودة الدورة الدموية التاجية) يعود القلب إلى العمل كما كان. وإذا زادت فترة قطع الأكسجين يزداد التلف تدريجيًا حتى إذا وصلت المدة إلى 90 – 100 دقيقة (أو أقل) يفقد القلب قابليته للحياة، أي أنه لا يمكن إعادته للعمل حتى ولو عادت الدورة الدموية إلى الشرايين التاجية. أما لو انقطع وصول الأكسجين إلى القلب وحرارته منخفضة بسبب تبريده إلى درجة معينة من البرودة، فيمكن للقلب حينئذ أن يتحمل قطع الأكسجين عنه ساعات بدون تلف وبدون أن يفقد قابليته للحياة، ويمكن أن يعود إلى العمل بعد ساعات من التوقف حين تعود الدورة الدموية إلى شرايينه التاجية وترفع حرارته إلى الدرجة الطبيعية. وبالنسبة للمخ فتوجد ظروف مشابهة لما ذكر عن القلب إلا أن المخ يفقد قابليته إذا انقطع عنه الأكسجين لمدة دقائق معدودة (3-5 دقائق) وحرارته طبيعية (أي بدون تبريد) ويمكن إطالة فترة تحمل انقطاع الأكسجين إلى ساعات إذا تم تبريد المخ إلى درجة معينة من البرودة أو شبع بكمية معينة من العقاقير الحافظة. وفي هذه الحالة يمكن للمخ أن يعود للعمل بعد عدة ساعات من التوقف إذا عادت إليه الدورة الدموية الحاملة للأكسجين ورفعت درجة حرارته إلى الدرجة الطبيعية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 تأثير موت القلب العضوي على حياة صاحبه: يمكن أن يتوقف القلب العضوي عن العمل تمامًا بصفة مؤقتة أو بصفة دائمة، وتستمر حياة صاحبه بجسده وفكره وعاطفته وحواسه وإدراكه وكل مقومات شخصيته، ما دامت هناك مضخة بديلة تضخ الدم وتسيره عبر الدورة الدموية، وهذه المضخة يمكن أن تكون قلبًا عضويًا آخر من إنسان أو حيوان، أو تكون المضخة آلية بصفة تامة. وتوقف القلب العضوي عن العمل يكون تلقائيًا بسبب حالة مرضية مثل انسداد الشرايين التاجية المغذية للقلب، وما يعقب ذلك من انقطاع الأكسجين عن القلب، أو انقطاع الموصلات الكهربائية داخل القلب، أو انخفاض أو ارتفاع الضغط داخل القلب خارج نطاق معين، أو غير ذلك من الحالات المرضية للقلب أو أن يكون توقف القلب العضوي عن العمل مفتعلًا بواسطة الطبيب المعالج مثل حالة القلب أثناء جراحات القلب المفتوح حيث يوقف الجراح القلب بوسائل فنية خاصة مثل منع وصول الأكسجين إلى القلب، أو حقن الشرايين التاجية بمحلول معين أو تبريد القلب أو كل هذه الوسائل مجتمعة، ويكون إيقاف القلب لفترة تتراوح بين الدقائق والساعات حسب الحاجة الجراحية. وإذا توقف القلب العضوي عن العمل إما تلقائيًا أو افتعاليًا، ولكنه احتفظ بقابليته للحياة حسب الشرح المذكور أعلاه، فيمكن إعادته إلى العمل بوسائل فنية مختلفة مثل استعمال الصدمة الكهربائية أو إعادة الأكسجين إلى القلب، أو إعادة درجة الحرارة في القلب إلى المستوى الطبيعي، أو توصيل محرك كهربائي بعضلات القلب أو كل هذه الوسائل مجتمعة حسب الحالة والحاجة المتواجدة. أما إذا فقد القلب قابليته للحياة ومعنى ذلك أن القلب العضوي قد مات ففي هذه الحالة يمكن استعمال مضخة بديلة تقوم بضخ الدم وتسييره عبر الدورة الدموية بصفة دائمة، أي استبدل القلب كلية، وهذا يكون إما بزرع قلب عضوي آخر محل القلب الأصلي، أو استبدال القلب العضوي بمضخة آلية. وهناك حالات يكون فيها القلب العضوي عاجزًا عن القيام بأعماله كاملة ولكنه ما زال على قدر من الحياة وإن كان لا يكفي لتوفير احتياجات صاحبه، وفي هذه الحالة يمكن الإبقاء على القلب الأصلي لمساعدته. من هذا الغرض يظهر بوضوح أن موت القلب العضوي لا يعني بالضرورة موت صاحبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 تأثير موت المخ على حياة صاحبه: موت المخ يؤدي بالضرورة إلى موت صاحبه. ومن الممكن أن يتوقف المخ عن العمل جزئيًا بسبب صدمة أو احتقان أو توقف الدورة الدموية لفترة من الزمان ثم يعود إلى حالته الطبيعية ما لم يفقد الحياة أو القابلية للحياة تمامًا (حسب الشرح المذكور أعلاه) أما إذا فقد القابلية للحياة وانعدمت كل المؤشرات الكهربائية فيه فلا يمكن إصلاحه بعد ذلك، ولا يمكن للإنسان الحياة بدونه إلا إذا وجد البديل له، وبما أنه لا يوجد بديل للمخ في الوقت الحاضر ولا ينتظر أن يوجد له بديل في المستقبل القريب أو ربما البعيد، فإن موت المخ تحت الظروف الحاضرة يؤدي بالضرورة إلى موت صاحبه، وبما أن المخ هو الجزء الأساسي من القوام العضوي للقلب المعنوي، فإن موت المخ يعني موت وتعطيل عمل القلب المعنوي. تأثير موت الأعضاء الأخرى على حياة صاحبها: من الممكن أن يموت أي عضو آخر أو يستأصل جراحيًا ويحتفظ صاحبه بحياته وعقله وتفكيره وإدراكه وشخصيته وكل ما له من مقومات، إما لأن العضو يمكن الاستغناء عنه والحياة بدونه، مثل الأطراف وأجزاء من المعدة والأمعاء وما إلى ذلك، أو لتوفير البديل الذي يقوم بوظيفة هذا العضو ولو لفترة من الزمان، طالت أو قصرت مثل حالة الكلى والكبد والرئة. تساؤل والرد عليه: كيف يمكن اعتبار الإنسان ميتًا بموت المخ وربما قلبه ما زال ينبض؟ والرد على ذلك بأن بقاء عضو من الأعضاء على قيد الحياة أو في حالة قابلية للحياة لا يتعارض مع موت صاحبه، فمثلًا الشعر يستمر في النمو لمدة 24 ساعة أو أكثر بعد موت صاحبه ودفنه وبدون أي دورة دموية جارية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 والقلب العضوي يمكنه أن يستمر في العمل خارج الجسد منفصلًا عن صاحبه لساعات عديدة إذا وفر له الغذاء والحرارة المناسبة، وفي هذه الأثناء يكون صاحبه قد مات ودفن، وكذلك كثير من أعضاء الجسد، ولذلك لا يمكن الاستدلال بحياة عضو من الأعضاء على حياة أو موت صاحب هذا العضو. تساؤل آخر والرد عليه: ولو أنه لا يوجد حاليًا بديل كامل للمخ ووظائفه، فإنه يوجد بديل لإحدى وظائف المخ وهي تحريك الجهاز التنفسي عن طريق آلة التنفس مما يوفر الأكسجين للقلب وبقية الجسد، ويمكن القلب العضوي وبقية أعضاء الجسد من الاحتفاظ بقابليتهم للحياة ولو لفترة من الزمان، فلماذا لا تستعمل آلة التنفس هذه لفترة غير محدودة طالما هناك حياة في بعض الأعضاء؟ والرد على ذلك يكون بالنقاط التالية: 1- أثناء الإبقاء على حياة بعض أعضاء الجسد بالطريقة المذكورة أعلاه يكون هناك انعدام تام لحركة الإنسان وفكره وعاطفته وحواسه وإدراكه وكل مقومات شخصيته، وبالتالي لا يوجد من الإنسان إلا وعاء حاضن لتغذية الأعضاء الأخرى، ولا يفترق كثيرًا عن التوصيلات الغذائية الصناعية التي توصل بالقلب أو الكلى أو غيرهما من الأعضاء المنفصلة نم الجسد تمامًا بعد موت صاحبها للمحافظة على قابليتها للحياة في المختبر. 2- سبق أن ذكرنا أن بقاء بعض الأعضاء على قيد الحياة لا يعني بالضرورة حياة صاحبها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 3- لا يمكن الحفاظ على هذه الحالة لفترات غير محدودة، بل تتدهور الحالة تدريجيًا حتى يتوقف القلب العضوي والأعضاء الأخرى بالرغم من كل الآلات المستعملة. 4- من الناحية الخلقية الشرعية فإن الجسد الإنساني له حرمته ولا يجوز التدخل في أموره إلا إذا كانت هناك فائدة منتظرة أو تحسن مرتقب من هذا التدخل، وفي حالة موت المخ لا ينتظر حدوث أي فائدة أو تحسن من التدخل الآلي، وبذلك لا يوجد مبرر أو مبيح للتدخل. أو بعبارة أخرى فإن الأصل في الأمر هو عدم التدخل إلا إذا انتظرنا شفاء أو تحسنًا من جراء هذا التدخل، وهذا غير منتظر في حالة موت المخ. الخلاصة: المناقشة المذكورة أعلاه هي مقدمة لمحاولة الرد على السؤال عن أي الأعضاء يعتبر مؤشرًا للحياة في الجسد، وإذا مات هذا العضو يمكن الحكم بموت الإنسان صاحب هذا الجسد، وهل هذا العضو هو القلب أو المخ؟ في القديم كان التصور أن هذا العضو هو القلب العضوي، وكان الإنسان يعتبر حيًا ما دام القلب نابضًا، وإذا توقف القلب حكم بموت صاحبه. ويظهر لنا من المعلومات المذكورة في هذه المناقشة المختصرة المبسطة أن المخ كعضو محدد أو القلب المعنوي كوحدة مركبة قوامها العضوي هو المخ أولى من القلب العضوي لأن يعتبر مؤشرًا لحياة صاحبه، وبالتالي إذا مات المخ يمكن الحكم بموت صاحبه بغض النظر عن حالة القلب العضوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 نهاية الحياة الإنسانية للدكتور مصطفى صبري أردوغدو مرمره كلية الإلاهيات – استنبول إن الجسم في الإنسان له خلايا، والأعضاء تقوم بوظيفتها، فإذا اختلت وظيفة عضو، يؤثر ذلك على أداء الأعضاء الأخرى لوظائفها بدرجات متفاوتة. وإذا توقف عضو ما عن العمل تمامًا، ولكنه قد يتمكن من العودة إلى العمل إن تغيرت ظروف معينة، فمعنى ذلك أن العضو ما زال قابلًا للحياة، أو كان حيًا ولكنه متوقف عن العمل، فبذلك يمكن أن نستنتج من هذا الأمر، أنه إذا مات الإنسان تمامًا وتأكد من هذا الأطباء فهل يمكن أن ينقل من هذا الميت عضو ما أم لا؟ وهل يجوز لنا نقل الأعضاء من إنسان لإنسان؟ وهل يحق للشخص أن يوصي بأعضائه في الحياة بعد الموت؟ وهل تسمح الشريعة بالتصرف في الأعضاء أو في الجسم بأي حال من الأحوال؟ وهناك جانب آخر، هو أن الأطباء يقولون: إن القلب يتوقف عن العمل تمامًا بسبب قطع الأكسجين عنه، أو قطع وصول الدم إليه، وإذا عاد الأكسجين إلى القلب خلال 20 – 30 دقيقة يعود القلب إلى العمل كما كان. وإذا زادت فترة قطع الأكسجين يزداد تدريجيًا، حتى إذا وصلت المدة إلى مدة تتراوح بين 90 – 100 دقيقة يفقد القلب قابليته للحياة. والمخ كذلك مشابه للقلب، إلا أن المخ يفقد قابليته إذا انقطع عنه الأكسجين لمدة أربع دقائق؛ وإذا كان المخ قد دخل في نطاق الموت إلى مرحلة اللاعودة بتقرير الأطباء مهما بذل الجهد لإنعاش صناعي بالتنفس وتحريك الدم في الجسم. ففي مثل هذا الأمر، قد يمكن نقل الأعضاء من إنسان لإنسان وقد يدخل في إغاثة الملهوف، فهي واجبة لإنقاذ إنسان مشرف على الهلاك: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} . (1) ولكن الفقهاء متفقون على أنه لا يجوز في غير حالة الحرب الاعتداء – ولو عند الاضطرار- على حياة الإنسان؛ كذلك نرى أنه لا يجوز استئصال عضو من إنسان يوشك أن يموت، كالعين والقلب، لإعطائه إنسانًا آخر، تحت ستار الضرورة والرحمة المزعومة بالإنسانية، إذ إن أجزاء الإنسان ليست مملوكة له، ولا يمكن القطع بموت المريض حيث إنه لا يعمل الغيب إلا الله سبحانه.   (1) سورة المائدة: 32 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 لذلك نرى الكثيرين من أطباء العلم يعلنون أن عملية نقل القلب من رجل إلى رجل لا تتفق مع الأخلاق والقيم، لما فيها من تحقيق منفعة غير مضمونة النتائج غالبًا على حساب مصلحة وحياة إنسان آخر. لكن إذا تأكد الطبيب المسلم الثقة العدل من أن الذي يؤخذ قلبه أو عينه سيموت حتمًا، جاز نقل القلب أو العين وزرعه لآخر مضطر إليه، لأن الحي أفضل من الميت، ورعاية المصالح أمر مطلوب شرعًا، وتحقيق النفع للآخرين مندوب إليه في الإسلام، والضرورات تبيح المحظورات، لأنه يترتب على النقل إنقاذ مريض بالقلب، أو إعادة البصر لإنسان وتوفير الحياة أو البصر نعمة عظمى مطلوبة شرعًا. ويجوز التشريح لأغراض تعليمية، أو لمعرفة سبب الوفاة، وإثبات الجناية على متهم، عملًا بما أباحه المالكية والشافعية والحنفية: من شق بطن الميت لإخراج مال غيره الذي ابتلعه، إذا تعذر تسديده من التركة وكان المال كثيرًا. أقول:إن الفقهاء قد تكلموا في نهاية الحياة في الإنسان وما يتبعها من أعمال خاصة بتجهيزه وتكفينه وصلاته وغير ذلك. فقالوا: إذا تيقن الحاضرون من موت الإنسان، وعلامة ذلك انقطاع نفسه، وإحداد بصره، وانفراج شفتيه فلا ينطبقان، وسقوط قدميه فلا ينتصبان. (1) والتأكد من الموت هو خمود الجسد وسكونه سكونًا أبديًا. وحكم الموت في الإنسان بدون تحقق وتأكد يكون حكمًا على المجازفة؛ إذا فكيف يتصرف الأطباء في جسم الإنسان وما زال مشكوكًا في حياته، والقاعدة هي: "ما ثبت باليقين لا يزول بالشك"، وكذلك "الأصل بقاء ما كان حتى يثبت ما يغيره". فكيف يدعي الطبيب اليقين، والجسد لا يزال ينبض، والذي ثبت اليوم قد ينقض غدًا".   (1) مختصر خليل جـ 1/ 33، روضة الطالبين جـ 98، الفتاوى الهندية جـ 1/ 154، ابن عابدين جـ 1/ 189. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 وأمام هذه الحقائق حقائق أخرى، ألا وهي حرمة الميت، والنهي عن التمثيل بالأموات ولو كانوا كفارًا؛ كما نهينا عن إيذاء الميت المؤمن، ففي الحديث الصحيح الذي أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والطحاوي والدراقطني والبيهقي وأحمد "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي"، وفي رواية الدراقطني زيادة عليه: "في الإثم" (1) وجاء في كتب الحنابلة: "ويحرم قطع شيء من أطراف الميت، وإتلاف ذاته، وإحراقه، ولو أوصى به". (2) لذلك لا يمكن أن نعتبر الحياة شرعًا قد انتهت، ونحكم على الشخص أنه في عداد الموتى، إلا إذا كانت هناك إمارة ظاهرة كما قررها الفقهاء في كتب الفقه، فيترتب على ذلك الإرث وانتهاء العدة وغيرها من الأحكام الشرعية. إن إخواننا سوف يبدون آراءهم وقد يقولون: إن هناك مصلحة، "وإذا وجدت المصلحة فثم شرع الله". والمصالح التي جاء بها الشرع خمسة، وهي: مصلحة الدين، ومصلحة النفس، ومصلحة العقل، ومصلحة النسل، ومصلحة المال. ثم إن المصالح باعتبار الشارع ثلاثة: مصلحة معتبرة شرعًا، ومصلحة ملغاة شرعًا، ومصلحة سكت عنها الشارع فلم يعتبرها ولم يلغها. وكل هذه المصالح معروفة لدى كل المشتركين في هذه الندوة. وإنما أريد أن أقول بهذه المناسبة كلمة أخيرة، وهي: أنه في المصلحة التي ألغاها الشارع، لا ينبغي أن يبتنى عليه حكم، حيث إنه قد ألغاها فعلًا؛ وعليه فإن الإتيان بأي حكم يناقض الحكم الشرعي، خطر يحوي إغراء النفوس بالهوى؛ والسلام عليكم ورحمة الله.   (1) إرواء الغليل: 3/ 214 (2) كشاف القناع: 3/ 127 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 نهاية الحياة الإنسانية للدكتور عبد الله محمد عبد الله مستشار محكمة الاستئناف العليا – الكويت الموت معناه وما يتعلق به من الأحكام عرف علماء الكلام وكذلك الفقهاء الموت بأنه صفة وجودية تضاد الحياة تزول بها قوة الإحساس والنماء والتعقل فلا يعرى الجسم الحيواني عنهما ولا يجتمعان فيه. (1) والقول بأن الموت أمر وجودي يضاد الحياة هو مذهب أهل السنة وعند المعتزلة هو عدم الحياة عما من شأنه أن يكون حيًا؛ لأن الموت قطع مواد الحياة عن الحي واختاره كثير من المحققين. (2) وقال المازري من المالكية الموت عرض من الأعراض يضاد الحياة. ويدور نقاش بين العلماء في الروح هل تموت مع البدن أم أن الموت للبدن وحده؟ رأيان ذهب فريق إلى أن الروح تذوق الموت لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت ولقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ... وقال آخرون: لا تموت الأرواح، فإنها خلقت للبقاء وإنما تموت الأبدان مستدلين بالأحاديث التي دلت على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها، ولو ماتت الأرواح لانقطع عنها النعيم والعذاب. وذهب إلى التوفيق بين الرأيين وجمعا بين الأدلة فريق من العلماء بأن موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها لا بمعنى انعدامها واضمحلالها وبهذا الاعتبار فهي باقية بعد مفارقتها الجسد في نعيم أو عذاب نعيم. ويذهب ابن القيم إلى أن الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام:- الأول: تعلقها به في بطن الأم وجنينًا. الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض. الثالث: تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه. الرابع: تعلقها به في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقًا كليًا بحيث لا يبقى لها التفات إليه البتة. الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن لأنه تعلق لا يقبل البدن معه موتًا ولا نومًا ولا فسادًا. أمارات الموت وعلاماته: للموت علامات ظاهرة يعلمها عامة الناس فمن هذه العلامات انقطاع نفس الميت، وإحداد بصره، وانفراج شفتيه فلا ينطبقان وسقوط قدميه فلا ينتصبان (3) كما ذكروا علامات تدل على قرب حدوث الموت ممن وصل إلى درجة الاحتضار من هذه العلامات.   (1) الخرشي علي الخليل ح/2 ص 113 الدر المختار ح/ 2 ص 189 (2) حاشية البيجوري ص 29 والدر المختار ح/2 ص 189 (3) الخرشي على خليل ح/ 2 ص 122 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 الموت في الطب الحديث:- عرف الأطباء الموت بأنه توقف حياة الإنسان أو الحيوان في وقوف الأجهزة الثلاثة وهي جهاز التنفس، والدورة الدموية، والجهاز العصبي. وذكروا علامات تحدث عقب الوفاة منها أنه يترتب على توقف الدورة الدموية تغييرات كبهاتة الجثة وتكون الرسوب الدموية (الزرقة الرمية) . يتوقف التنفس. كما يتوقف تحكم الجهاز العصبي على الجسم وعلى العضلات ويشمل ذلك الارتخاء الآدمي الرمي وأن الجهاز العصبي متمثلًا في المخ الذي يوجه الشخص الحي في عقليته وتنبهه وتحكمه على حواسه وحركته كما تحدث تغيرًا في العينين وتفقد الجثة حرارتها الحيوية ثم ينتهي إلى التيبس الرمي ثم التعفن الرمي ثم التصبن الرمي ثم التحول إلى مومياء. (1) ويقرر الأطباء أن الجسم يموت أولًا كوحدة يتوقف التنفس وحركة القلب وأما الأنسجة فتموت شيئًا فشيئًا بهيئة تدريجية الواحدة تلو الأخرى ويعبر عنه بموت الخلية أو الموت الجزيئي. ويقولون: إ\ن بعض الأنسجة العضلية تعطي استجابة على هيئة تقلص لتنبيهات التيارات الكهربائية بعد الوفاة. وأنه يلاحظ استمرار تدرج الخصية في النمو المتتابع من خلية الخصية الأولية غير المميزة إلى أن تصل في نضوجها إلى الحيوان المنوي الإنساني المميز بعد الوفاة لمدة بضع ساعات. وإن خلايا الكبد تستمر في تخزين السكر العادي إلى جليوكوجين بعد الوفاة بساعات إلى أن يتم نهوكها وتفقد الحياة. (2) وهذا الذي يذكره الأطباء ويعبرون عنه بالموت الجزيئي يعبر عنه الفقهاء بآثار الحرارة الغريزية التي تبقى عقب مفارقة الروح البدن (3) فتبقى بعض التفاعلات نتيجة تلك الحرارة الغريزية ثم لا تلبث أن تنطفئ.   (1) الطب الشرعي ح/ 1 ص 285 (2) الطب الشرعي ح/ 1 ص 285 (3) نهاية المحتاج ح/ 2 ص 429 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 الأحكام الفقهية المترتبة على الموت: نبحث تحت هذا العنوان ثلاث مسائل وهي الإرث. العدة. الجناية. المسألة الأولى: الإرث. من شروط الميراث يشترط في الإرث شروطًا منها: أولًا: موت المورث حقيقة أو حكمًا أو تقديرًا. الموت الحقيقي معروف وهو ما سبق الكلام عليه، أما الموت الحكمي فكما في المفقود والغائب الذي انقطع خبره ولم تعلم حياته ولا موته فيرفع أمره إلى القضاء فيقضي القاضي بموته بشروط لا محل لبحثها في هذه العجالة. والموت التقديري فكما لو كانت امرأة حاملًا فضربها إنسان على بطنها فأسقطت جنينًا ميتًا فإن الجنين الميت يورث عنه مع أنه من الجائز أن يكون الجنين قد مات قبل الضرب. ثانيًا: أن يكون الوارث حيًا في الوقت الذي مات فيه المورث حياة حقيقية أو تقديرية الحياة الحقيقية معروفة بالمشاهدة أما الحياة التقديرية فكما في الحمل يكون في بطن أمه في الوقت الذي يموت فيه أبوه حتى ولو كان علقة أو مضغة لم تدب فيها الحياة. (1) ميراث من وصل إلى حركة المذبوح بالجناية عليه:- نص الشافعية في كتبهم على أن من وصل إلى حركة مذبوح بأن لم يبق فيه إبصار ونطق وحركة اختيار بالجناية عليه أعطي حكم الأموات مطلقًا فيجوز تجهيزه ودفنه ويجوز تزوج زوجته وحينئذ إذا انقضت عدتها كأن ولدت عقب صيرورته إلى هذه الحالة وأنه لا يرث من مات عقب هذه الحالة وتقسم تركته قبل موته. (2) واختلف علماء المالكية على أقوال فيمن وصل إلى حركة المذبوح. القول الأول: يرث ويورث. القول الثاني: لا يرث ولا يورث. (3)   (1) شرح الرحبية ص 44 (2) نهاية المحتاج ح/ 7 ص 250 (3) الخرشي على خليل ح 8 ص 7 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 المسألة الثانية: العدة العدة تجب من وقت وفاة الزوج حقيقة أو حكمًا وقد سبق بيان الموت الحقيقي والحكمي ويقصد بالموت الحكمي الغائب الذي قضى القاضي بوفاته طبق الشروط المنصوص عليها، بقي مسألة واحدة وهي من وصل إلى حركة مذبوح بالجناية عليه فقد نص الشافعية على اعتباره كالميت في سائر الأحكام فيجوز تجهيزه ودفنه وتزوج زوجته إذا انقضت عدتها بالوضع وأنه لا يرث من مات وهو في هذه الحالة وتقسم تركته. الجناية على منفوذ المقاتل: نص الفقهاء على أنه لو أجهز شخص على منفوذ المقاتل من غيره فلا يقتص إلا من الأول (1) هذه عبارة خليل الخرشي من المالكية ووضح هذه العبارة العلامة العدوي في هامشه بقوله: "أشار أبو الحسن لهذه الأقوال فقال: لو أجهز شخص على منفوذ المقاتل من غيره فقيل: يقتل به الأول ولا يرث ولا يورث، والثاني يقتل به الثاني ويرث ويورث، والثالث يقتص منه الأول ويرث ويورث وهو أحسن الأقوال، وفي سماع أبي زيد أنه يقتل به الثاني ولا يكون على الأول إلا الأدب لأنه من جملة الأحياء ويرث ويورث إلى أن قال: ولو قيل يقتلان به جميعًا لأنهما قد اشتركا في قتله لكان له وجه. (2) ونص الشافعية على أن من أوصله جان إلى حركة مذبوح بأن لم يبق فيه إبصار ونطق وحركة اختيار ثم جنى آخر عليه فالأول قاتل لأنه سيره إلى حالة الموت ومن ثم أعطي حكم الأموات مطلقًا ويعزر الثاني لهتكه حرمة ميت، وعلق الشبراملسي في حاشيته على قوله ومن ثم أعطي حكم الأموات جواز تجهيزه ودفنه –وفيه بعد- وأنه يجوز تزوج زوجته حينئذ إذا انقضت عدتها. كأن ولدت عقب صيرورته إلى هذه الحالة وأنه لا يرث من مات عقب هذه الحالة ثم عقب بقوله "ولا يعد أيضًا على قياس ذلك أنه تقسم تركته قبل موته". (3) ويقاس على من ذكر من تعاطي السم فوصل إلى حركة المذبوح في الأحكام المشار إليها. (4)   (1) الخرشي على خليل ح/ 8 ص 7 (2) الخرشي على خليل ح/ 8 ص 7 (3) نهاية المحتاج ح/ 7 ص 250 (4) منهاج الطالبين ح/ 4 ص 103، 104 يراجع المتن والشرح والهامش الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 الفرق بين من وصل إلى حركة مذبوح لمرض وبين من وصلها لجناية عليه. فرق الفقهاء بين الحالتين ونصوا على أن من وصل إلى حركة المذبوح وهو الذي لا يبقى معه سمع ولا إبصار ولا حركة اختيار (1) بالأسباب العادية من غير جناية عليه كمرض ونحوه قال الإمام النووي في المنهاج: ولو قتل مريضًا في النزع وعيشة عيش مذبوح وجب بقتله القصاص "قال في الشرح: لأنه قد يعيش بخلاف من وصل بالجناية إلى حركة مذبوح" قال العلامة عميرة في حاشيته: وعبارة الإمام لو انتهى إلى سكرات الموت وبدت أمارته وتغيرت أنفاسه لا يحكم له بالموت بل يلزم قاتله القصاص وإن كان يظن أنه في مثل حالة المقدور –أي من قد نصفيه بالجناية عليه- ويفرق بين المريض الذي انتهى إلى سكرات الموت وبين المجني عليه فإن المريض لا تشرع زوجته في العدة ولا تنتهي عدتها لو ولدت حينئذ ولا تجب مؤنة تجهيزه ولا يجوز تجهيزه ولا تصح الصلاة عليه ولا يجوز دفنه ولا ينتقل ماله للوارث بخلاف الجريح" (2) ومحصل ذلك أنه من وصل إلى حركة مذبوح ولو لم يمت بعد بالجناية عليه أو بانتحاره بشرب سم ونحوه يجوز الاستفادة من أعضائه وكذلك يجوز إيقاف الأجهزة الطبية عنه بخلاف من وصل إلى حركة مذبوح بالأسباب العادية كمرض ونحوه فإنه لا يجوز الاستفادة من أعضائه إلا بالموت الحقيقي؛ لأن الأول في حكم الميت من سائر الوجوه بخلاف الحالة الأخيرة وقد نص الفقهاء على جواز الاستفادة من عظم الميت للعلاج كما نص على جواز أكل لحمه في حالة الاضطرار إن لم يجد ما يأكله من ميتة ونحوها. (3) ومن الفتاوى الحديثة الصادرة عن لجنة الفتوى بالأزهر والمنشورة بالمجلد العشرين عدد شعبان 1368هـ تحت عنوان: نقل الدم وحاسة البصر، وهذه صيغة السؤال وجوابه "أتشرف بأن أطلب بيان حكم الله تعالى في هاتين المسألتين وذلك لأهمية ذلك حيرا عندنا في تونس ". - نقل الدم للمسلم المريض المحتاج من شخص غير مسلم.   (1) ويفرق بين هذه الحالة وبين الحياة المستقرة والحياة المستمرة فحركة المذبوح ما سبق بيانه أما الحياة المستقرة هي التي يوجد معها الحركة الاختيارية تغلب على الظن بقاء الحياة، كما الحياة المستمرة فهي الباقية إلى خروجها بذبح أو نحوه نهاية المنهاج ح/ 8 ص 109، 110 (2) منهاج الطالبين ح/ 4 ص 103، 104 (3) الخرشي على خليل ح/ 2/ 145 مبحث الجنائز، ونهاية المنهاج ح2 / ص 20 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 2- الانتفاع بجزء من عين شخص متوفي لرد بصر شخص آخر حي. الجواب:- "الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين". أما بعد. فقد اطلعت اللجنة على الاستفتاء وتفيد بأن الله تعالى قال في كتابه الكريم {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} وقال سبحانه في آية أخرى {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وفي آية أخرى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} . وهذه الآيات الكريمة تفيد أنه إذا توقف شفاء المريض أو الجريح وإنقاذ حياته على نقل الدم إليه من آخر بألا يوجد من المباح ما يقوم مقامه في شفائه وإنقاذ حياته جاز نقل الدم إليه بلا شبهة ولو من غير مسلم، وكذلك إذا توقفت سلامة عضو وقيام هذا العضو بما خلقه الله له على ذلك جاز نقل الدم إليه، أما إذا لم يتوقف أصل الشفاء على ذلك ولكن يتوقف عليه تعجيل الشفاء فنصوص الشافعية تفيد أنه يجوز نقل الدم لتعجيل الشفاء، وهو وجه عند الحنفية فقد جاء في الباب الثامن عشر من كتاب الكراهية من الفتاوى الهندية ما نصه" يجوز للعليل شرب الدم والبول وأكل الميتة للتداوي إذا أخبره طبيب مسلم بأن شفاءه فيه ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه. وإن قال الطبيب بتعجيل شفائك فيه وجهان". أما الجواب على السؤال الثاني: فقد أجاز كثير من متأخري علماء الشافعية جبر المنكسر من عظم إنسان حي بعظم إنسان ميت إذا لم يمكن جبره بغيره. وقياسًا على هذا ترى اللجنة جواز نقل جزء من عين الميت لإصلاح عين الحي إذا توقف على ذلك إصلاحها وقيامها بما خلقها الله له" هذا هو ما قضت به اللجنة والله الهادي إلى سواء السبيل رئيس لجنة الفتوى "عبد المجيد سليم" هذا ما عَنَّ لنا تدوينه في هذه العجالة والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 نهاية الحياة الإنسانية في ضوء اجتهادات العلماء المسلمين والمعطيات الطبية للدكتور محمد نعيم ياسين كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الكويت تمهيد: لا شك في أن محاولة تحديد اللحظة التي تنتهي فيها حياة الإنسان في الدنيا، تحديدًا دقيقًا من الناحية الشرعية، أصعب من البحث في معرفة الزمن الذي تبدأ منه تلك الحياة؛ ذلك أننا وجدنا في هذه الثانية منطلقًا من نص نبوي شريف صحيح ننطلق منه في النظر، ونبني عليه ملاحظاتنا واستنتاجاتنا المستفادة من النصوص الأخرى، وأما قضيتنا هذه فليس فيها نص من قرآن أو سنة يمكن اتخاذه منطلقًا للبحث. ومع غيبة النصوص في هذا الموضوع، وتعلقه بواقع مخلوق من مخلوقات الله عز وجل هو الإنسان، وابتنائه على الملاحظة والاختبار والتشخيص، أمام هذه الحقيقة نجد أنفسنا ملزمين بالاعتراف بأن الدور الحاسم في هذه القضية (متى تنتهي الحياة) ينبغي أن يكون من نصيب أهل التخصص، المشتغلين بملاحظة ذلك المخلوق وهم الأطباء، فهم الذين يقفون على الثغرة الحرجة من هذه المسألة، وعلى خط التماس مع الواقع محل البحث. ولولا وجود النص في المسألة الأولى (بداية الحياة الإنسانية) لكان الأمر فيها كما هو في هذه القضية. وهذا الاعتراف لا يعني الغض من الدور الذي يجب على علماء الشريعة أن يقوموا به، جنبًا إلى جنب مع إخوانهم الأطباء المسلمين، الذين يطلبون في ممارسة مهنتهم الانسجام مع حقائق الدين الحنيف. ودور علماء الشرع سابق لدور أهل الاختصاص ولاحق له، فهم في أول الأمر يضعون بين أيدي إخوانهم الأطباء المبادئ والحدود والشروط العامة التي يلتزم بها المسلم في ممارسة اختصاصه، مهما كان متعلقه من موجودات هذه الحياة، وهم بعد ذلك يتسلمون من إخوانهم نتائج بحوثهم وملاحظاتهم، وينطلقون منها في تقرير الأحكام المتعلقة بها، وجميع هذا محصور في القضايا التي لم ترد فيها نصوص حاسمة كهذه القضية التي نبحث فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 منطلق البحث: وبسبب ما ذكرنا من عدم وجود نص ننطلق منه في البحث عن اللحظة التي تنتهي فيها حياة الإنسان، فإن منطلقنا في ذلك سيكون من بعض المبادئ التي توصلنا إليها خلال بحثنا السابق عن مبدأ الحياة الإنسانية. المبدأ الأول: إن حياة الإنسان تنتهي بعكس ما بدأت به، فإذا كانت قد بدأت –كما توصلنا في المبحث السابق- ببدء تعلق مخلوق سماه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الروح بالبدن، بناء على أمر الله وقدره سبحانه، فإن انتهاء هذه الحياة لا بد كائن بمفارقة هذا المخلوق للجسد الذي تعلق به. المبدأ الثاني: أن الروح مخلوق خلقه الله تعالى، يمكن للإنسان البحث فيه من حيث خصائصه وصفاته وأنشطته، وآثاره في البدن وتأثره، ووقت تعلقه به، ووقت مفارقته له. أما المبدأ الأول فهو نتيجة منطقية، أصلها قاعدة السببية التي جعلها الخالق متحكمة في هذا الوجود، وفي كل نشاط يصدر عن موجوداته، والتي تفيد بأن كل شيء جعله الباري متوقفًا على سبب لا يمكن أن يقوم مع غيبة ذلك السبب، وبما أن الله عز وجل قد جعل لبداية الحياة سببًا هو اقتران الروح بالجسد، فإن نهايتها ينبغي أن تكون عند افتراقهما. وكان مقتضى هذا أن يبدأ البحث من هذه النقطة (مفارقة الروح للجسد) وأعتقد أن هذه قناعة كل باحث في هذا الموضوع، لولا أن طائفة من الإخوة المفكرين أعرضوا عن ذلك؛ لاعتقادهم بأن الروح غيب حجب الله معرفته عن عباده، وأنه لا يجوز إدخاله تحت البحث بأية صورة من الصور؛ مما اضطرهم إلى التحول في البحث إلى منطلقات أخرى لا علاقة لها بالروح. ولكن الدافع لهذا الإعراض عن الانطلاق المنطقي في البحث عن الوقت الذي تنتهي فيه حياة الإنسان، مبناه على سبب غير مسلم به عند كثير من العلماء المسلمين المعروفين بالحرص على الانسجام مع نصوص القرآن وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، ذلك أن اعتماد أولئك المعرضين إنما هو على نص غير قاطع الدلالة على حشر الروح في قائمة الغيبيات التي يحظر على المسلم الخوض فيها، وهو قول الله عز وجل {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} وإعراض الرسول عليه الصلاة والسلام عن الخوض في هذه الروح المسؤول عنها بأكثر مما أمره الله سبحانه وتعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 وقد تقدم في مبحث (بداية الحياة الإنسانية) أقوال العلماء في هذه الآية، وتفسيراتهم لموقف الرسول صلى الله عليه وسلم بما يدل في محصلته على أن هذا الدليل ليس فيه الكفاية لاعتبار الروح من الغيبيات التي لا تقع تحت طول الاجتهاد البشري، ولا يجوز له أن يحوم حولها. ولسنا بمضطرين لتكرار ما أثبتناه هنالك، فيمكن الرجوع إليه وإلى المصادر التي أخذ منها، ولكنا نذكر مرة أخرى بأن كثيرًا من العلماء بحثوا في الروح، وألفوا حولها المؤلفات، وتكلموا عن صفاتها ونشاطها وأثرها في جسم الإنسان، وأثر الجسم عليها وغير ذلك، غير خائفين من الوقوع في التعارض مع النصوص مع تدينهم وحرصهم الفائق على الالتزام بمقتضيات الهدي القرآني والنبوي، حتى صرح بعضهم بأن الروح ليست من الغيب الذي يحرم الكلام فيه، وحتى الذين ذهبوا إلى حمل النص القرآني على إرادة الروح الآدمية، والنهي عن الكلام فيها بأكثر مما ورد في ذلك النص صرحوا بأن المقصود بذلك هو البحث في كنه الروح وذاتها، ولم يمنعهم ذلك الحمل تناولها من جوانب أخرى، بصورة قد نستفيد منها في بحثنا هذا حول تحديد نهاية الحياة الإنسانية. ومما يدل على سلامة منهج أولئك العلماء الذين تكلموا في الروح وفصلوا القول في كثير من شؤونها؛ أنهم أرجعوا كلامهم في الروح إلى نصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمنها أخذوا حقيقة أنها مخلوقة وليست قديمة، ومنها أخذوا مبدأ دخولها في الجسد الإنساني، ومنها أخذوا كثيرًا من أحوالها، مما يشير إلى أن الروح التي أمر الرسول بالاقتصار في الكلام عنها على القول {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ، ليست هي الروح الآدمية، أو أن المقصود بهذه الجملة ليس النهي عن أي بحث في الروح، وإنما البحث عن حقيقة ذاتها، وإلا ألبسنا النصوص ثوب التناقض من غير قصد، أعاذنا الله من الخطأ في فهم كلامه، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام لو فهم أن المقصود بقول الله تعالى {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وأنه لا تجوز الزيادة في الكلام عن الروح عن هذا الجواب الرباني، لالتزمه بتوجيه ربه، ولما بَيَّن في أحاديثه الشريفة بيان يزيد عن ذلك، غير أننا وجدناه صلى الله عليه وسلم قد بين لنا أشياء كثيرة عن الروح، كمبدأ تعلقها بالجسد، وتآلفها وتعارفها، وتناكرها واختلافها وكيفية خروجها من جسد المؤمن، ومن جسد الكافر، وغير ذلك؛ فدل هذا على ما أسلفنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 استلهام المبدأين السابقين في البحث عن نهاية الحياة الإنسانية: فإذا سلم لنا المبدآن السابقان أمكننا استخدامهما في استثمار ما توصل إليه العلماء المسلمون من خلال النظر في النصوص الشرعية حول الروح، وما توصل إليه أهل الاختصاص من الأطباء بالنظر في واقع الكيان الإنساني، للخروج بنوع من غلبة الظن في تحديد نهاية الحياة الإنسانية يمكن أن تجعل أساسًا لبناء الأحكام الضرورية، وذلك على النحو الآتي: أولًا- الدور الذي قام به علماء الشريعة: من خلال النظر في كثير من نصوص الشرع استطاع علماء الإسلام تحصيل تصور معين عن الروح، التي تنفخ بإذن الرب تبارك وتعالى في بدن الإنسان، أهم معالمه ما يلي: أ- أن الروح مخلوق من المخلوقات، ينشئها الخالق في الجسد الذي يريد خلقه إنسانًا، يشير إلى هذا قول ابن قيم الجوزية (يرسل الله سبحانه الملك إلى الجسد، فينفخ فيه نفخة تحدث له الروح بواسطة تلك النفخة فتكون النفخة هي سبب حصول الروح وحدثوها له، كما كان الوطء والإنزال سبب تكوين جسمه، والغذاء سبب نموه، فمادة الروح من نفخة الملك ومادة الجسم من صب الماء في الرحم، فهذه مادة سماوية، وهذه مادة أرضية.. الملك أب لروحه، والتراب أب لبدنه وجسمه) (1) ب- إن من أهم وظائف الروح العلم والإدراك؛ بهذا عرَّفها من تعرَّض لتعريفها من العلماء؛ فهذا الجرجاني يعرف الروح الإنسانية "بأنها اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان الراكبة على الروح الحيواني نازل من عالم الأمر، تعجز العقول عن إدراك كنهه. وتلك الروح قد تكون مجردة وقد تكون منطبقة في البدن" (2) وأبو حامد الغزالي يعرفها بقريب من هذا فيقول: "الروح هي المعنى الذي يدرك من الإنسان العلوم وآلام الغموم ولذات الأفراح" (3) وبناء على هذا التصور لوظيفة الروح، فإنها هي التي تدرك مختلف المعاني التي يمكن إدراكها، فهي التي تدرك العلوم ونتائج تحليلها، فتتعلم وتستنبط الجزئيات من الكليات، والكليات من الفروع وغير ذلك، وهي التي تدرك مختلف المعاني من ألم ولذة وفرح وحزن، وهي التي ترضى وتغضب وتنعم وتيأس، وتغتر وتحب وتكره، وتعرف وتنكر ...   (1) الروح ص 199 طبع بيروت- سنة 1402 هـ/ 1982م. (2) التعريفات ص 99 طبع الحلبي سنة 1357هـ / 1938م (3) إحياء علوم الدين أبو حامد الغزالي جـ 4 ص 494 طبع بيروت دار المعرفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 ويرى بعض العلماء أن جانبًا من مدركات الروح يحصل لها بواسطة أعضاء الجسد وأجهزته المختلفة، وجانبًا آخر منها يحصل لها من غير توقف على الجسد، كالتألم بأنواع الحزن والغم والكمد، والتنعم بأنواع الفرح والسرور؛ فإن عمل الروح المتعلق بهذه المعاني لا يتوقف على توظيفها لأي عضو من أعضاء الإنسان، وإنما تقوم به الروح بنفسها. (1) جـ- ويرى العلماء أن الروح تؤثر في البدن الإنساني، وأن من أهم آثارها الحركة الاختيارية، وأن كل نشاط اختياري يقوم به الإنسان هو أثر من آثار الروح، وأن كل ما في العالم من الآثار الإنسانية إنما هو من تأثير الأرواح بواسطة الأبدان التي تعلقت بها؛ فالأبدان آلات للأرواح وجنود لها. (2) ويفهم من ذلك أن العلماء المسلمين يرون أن الحركة الاضطرارية التي لا اختيار فيها ليست أثرًا من آثار الروح. وبما أنا الحركة الذاتية لا يمكن صدورها عن جماد، وإن كانت هذه الحركة اضطرارية، فإنه لا مناص من الاعتراف بوجود نوع من الحياة وراء كل حركة اضطرارية يقوم بها الجسد الإنساني بنفسه، أي بغير تحريكه بمحرك خارج عنه. ولعل هذه هي الحياة التي خلقها الله عز وجل في الجسد الإنساني قبل نفخ الروح، وجعلها في خدمة الروح بعد نفخها، وقد تبقى في بعض أعضاء الجسد بعد مفارقة الروح لها، وهي التي سماها بعض علماء الطب بالحياة الخلوية، وشبهها بعض علماء الإسلام بحياة النبات كما تقدم. ومقتضى ما تقدم من تصورهم لوظائف الروح أن الحركة الاضطرارية الناشئة عن هذا النوع من الحياة ليس فيها دلالة على وجود الروح الإنسانية. د- ومع أن علماء الإسلام لم يحددوا اللحظة التي يفارق فيها الروح بدن الإنسان، لكن الذين بحثوا في هذه القضية، منهم أشاروا بصورة واضحة إلى قاعدة، سنرى مدى فاعليتها في تحديد زمن مفارقة الروح للبدن، إذا ما جمعت مع الاكتشافات الطبية الحديثة؛ ذلك أنهم أكدوا أن ملازمة الروح للجسد الإنساني مرهونة بصلاحية هذا الجسد لخدمة هذه الروح، وتنفيذ أوامرها وقبول آثارها، وأن الله عز وجل قد كتب عليها أن تفارق مسكنها المؤقت، وهو جسد الإنسان عندما يغدو عاجزًا عن القيام بتلك الوظائف.   (1) إحياء علوم الدين جـ 4 ص 494، الروح ص 286، 287 (2) الروح ص 242، 285، شرح العقيدة الطحاوية ص 381 الطبعة الثالثة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 فهذا ابن قيم الجوزية يعرف الروح (بأنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جنس نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف، بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكًا لهذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية، وإذا فسدت هذه الأعضاء، بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار، فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح، ثم عقب على ذلك بقوله (وهذا القول هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواء باطلة، وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة ... ) ، ثم ساق على هذا المذهب في تعريف الروح وعلاقتها بالجسد الإنساني مائة وستة عشر دليلًا من القرآن والسنة والمعقول، وأجاب بعد ذلك على اثنتين وعشرين شبهة أوردها المخالفون عليه (1) وممن تبنى مذهب ابن القيم في الروح شارح العقيدة الطحاوية والشيخ محمود السبكي (2) ومذهبه هذا فيه شبه كبير مما ذهب إليه أبو حامد الغزالي في تفسير الموت، ودور الروح فيه؛ حيث قال (معنى مفارقة الروح للجسد انقطاع تصرفها عن الجسد بخروج الجسد عن طاعتها، فإن الأعضاء آلات الروح تستعملها، حتى إنها لتبطش باليد وتسمع بالأذن، وتبصر بالعين، وتعلم حقيقة الأشياء بنفسها.. وإنما تعطل الجسد بالموت يضاهي تعطل أعضاء الزمن بفساد مزاج يقع فيه، وبشدة تقع في الأعصاب تمنع نفوذ الروح فيها، فتكون الروح العالمة العاقلة المدركة باقية مستعملة لبعض الأعضاء، وقد استعصى عليها بعضها. والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها، وكل الأعضاء آلات، والروح هي المستعملة لها.. ومعنى الموت انقطاع تصرفها عن البدن، وخروج البدن عن أن تكون آلة له، كما أن معنى الزمانة خروج اليد على أن تكون آلة مستعملة، فالموت زمانة مطلقة في الأعضاء كلها..) (3)   (1) الروح ص 242- 290 (2) شرح العقيدة الطحاوية ص 381، الدين الخالص –محمود السبكي جـ 7 ص 186 طبع سنة 1368هـ (3) إحياء علوم الدين جـ 4 ص 494 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 والنتيجة التي نخرج بها من أقوال هؤلاء العلماء أن حياة الإنسان في هذه الدنيا تنتهي عندما يغدو الجسد الإنساني عاجزًا عن خدمة الروح والانفعال لها، ومعنى هذه النتيجة أن العلم إذا استطاع أن يعرف اللحظة التي يصبح فيها الجسد عاجزًا عن القيام بكافة وظائفه الإرادية بصورة نهائية، فقد وصل إلى الجواب عن السؤال: متى تنتهي الحياة الإنسانية؟ هـ- ذلك هو فهم طائفة من علماء المسلمين حول علامات رحيل الروح الإنسانية عن بدن الإنسان، لم ينطلقوا في بحثهم من حاجتهم إلى استنباط أحكام فقهية لتصرفات إنسانية لها علاقة بنهاية الحياة، ولكن من منطلق الحاجة إلى معرفة حقيقة الإنسان من خلال المعلومات التي حصلوها من النصوص والحقائق الشرعية، فماذا كان موقف العلماء الذين سخروا طاقاتهم للبحث عن الأحكام العملية الشرعية، وهم الفقهاء؟ ألم يتعرضوا لحاجات واقعية ومواقف عملية اضطرتهم لإظهار رأيهم في هذه القضية بحسم ووضوح؟ الواقع أن استخراج رأي الفقهاء في هذه المسألة من أصعب الأمور، والذي يظهر أن معظم القضايا الواقعية التي تعرضوا لها في هذا المجال لم تكن كافية لتضطرهم إلى البحث عن نهاية الحياة الإنسانية بدقة وتحديد، وإنما كفاهم فيها الصورة الواضحة القاطعة لهذه النهاية والتي يندرج ضمنها النهاية الحقيقية وجزء من الزمن يمر عليها في حالات الوفاة، وهي الصورة المشاهدة المعلومة لمعظم الناس، عالمهم وجاهلهم، فبنوا أحكامهم عليها، سواء ما تعلق منها بجسد الميت من غسل وتكفين وصلاة ودفن وغير ذلك، وما تعلق منها بالحقوق التي كانت له قبل الوفاة، من نفوذ وصية وقسمة تركة، وما تعلق بالواجبات التي تفرض على زوجة المتوفى كالعدة، والفرق في النتيجة بين بناء هذه الأحكام على لحظة الوفاة الحقيقية، وبين بنائها على زمن الوفاة المتضمن تلك اللحظة وسويعات أخر، ليس بكبير. وبالرغم من أن هذا هو حال معظم القضايا المتعلقة بنهاية حياة الإنسان، فإن الفقهاء تعرضوا لمسألة وجدوا فيها أنفسهم مضطرين للبحث عن الزمن الدقيق الذي حصلت فيه الوفاة، وتحصيل غلبة الظن فيه، وبناء الأحكام عليه، وذلك التماسًا لتحقيق العدل في توزيع مسؤوليات خطيرة، يترتب على الخطأ فيه إهدار أرواح لا تستحق الموت، وإفلات أرواح مجرمة من العقوبة العادلة، وهذه هي مسألة الاشتراك في القتل العمد على التتابع، وصورتها: أن يعتدي مجرم على شخص ويتركه في حالة خطيرة، ثم يأتي مجرم آخر، ويجهز على المجني عليه، فمن منهما يعتبر قاتلًا ويستحق القصاص؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 وفي الجواب على هذا السؤال، وتحديد القاتل في نوع هذه المسائل يكاد الفقهاء يجمعون على قاعدة أساسها النظر إلى الحالة التي صار إليها المجني عليه، بسبب الفعل الأول، وقبل ورود الفعل الثاني عليه، فإن صار إلى وضع يفقد فيه كل إحساس من إبصار ونطق وغيرهما، وكل حركة اختيارية إلى غير رجعة، كان صاحب الفعل الأول هو القاتل الذي يستحق القصاص، وصاحب الفعل الثاني –مهما كان- يعزر ولا يقتص منه، وأما إذا صيره الفعل الأول إلى حالة لا يفقد معها كل إحساس وكل حركة اختيارية، كان صاحب الفعل الثاني هو القاتل الذي يستحق القصاص، ولزيادة هذه المسألة وضوحًا نثبت فيما يلي بعض النصوص الفقهية: يقول بدر الدين الزركشي (الحياة المستقرة هي أن تكون الروح في الجسد ومعها الحركة الاختيارية، دون الاضطرارية، كما لو كان إنسان، وأخرج الجاني أو حيوان مفترس حشوته وأبانها، لا يجب القصاص في هذه الحالة.. ولو طعن إنسان وقطع بموته بعد ساعة أو يوم، وقتله إنسان في هذه الحالة وجب القصاص، لأن حياته مستقرة، وحركته الاختيارية موجودة؛ ولهذا أمضوا وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بخلاف ما إذا أبنيت الحشوة، لأن مجاري النفس قد ذهبت وصارت الحركة اضطرارية. وأما حياة عيش المذبوح، فهي التي لا يبقى معها إبصار ولا نطق ولا حركة اختيارية ... ) (1) وقال الرملي (وإن أنهاه –أي المجني عليه- رجل إلى حركة مذبوح، بأن لم يبق فيه إبصار ونطق وحركة اختيار، وهي –أي حركة الاختيار- المستقرة التي يبقى معها الإدراك، ويقطع بموته بعد يوم أو أيام، ثم جنى عليه آخر فالأول قاتل، لأنه صيره إلى حالة الموت، ومن ثم أعطى حكم الأموات مطلقًا ويعزر الثاني، لهتكه حرمة ميت ... ) وقال الشبراملسي (ظاهر إطلاقهم عدم الضمان على الثاني أنه لا فرق في فعل الأول بين كونه عمدًا أو خطأ أو شبه عمد، بل عدم الفرق بين كونه مضمونًا أو غير مضمون، كما لو أنهاه سبع إلى تلك الحركة فقتله آخر، ويلحق بالحياة المستقرة حياة من شك في موته) ثم قال الرملي (ويرجع فيمن شك في وصوله إلى حالة الحياة غير المستقرة إلى عدلين خبيرين ... ) (2)   (1) المنثور في القواعد – بدر الدين الزركشي جـ 2 ص 105 وما بعدها نشر وزارة الأوقاف - الكويت - الطبعة الأولى سنة 1402 هـ / 1982 م (2) انظر هذه الأقوال في نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه جـ 8 ص 15، 16، وانظر أيضًا قريبًا مما ذكر: المهذب – أبو إسحاق الشيرازي جـ 2 ص 174، 175 – مطبعة عيسى البابي الحلبي – مصر، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد جـ 9 ص 451، 452- علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي –تحقيق محمد حامد الفقي- الطبعة الأولى سنة 1377هـ/ 1957م، والجريمة للشيخ محمد أبو زهرة ص 404 هـ طبع دار الفكر العربي، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم جـ 8 ص 335، طبع بيروت –دار المعرفة- الطبعة الثانية، والأم – الشافعي - جـ 6 ص 20، 21- طبعة مصورة عن طبعة بولاق 1321هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 وهذا الذي ذهب إليه الفقهاء في هذه المسألة يشير إلى أنهم اعتبروا فقدان الإحساس والحركة الاختيارية علامات تورث غلبة الظن بوصول المجني عليه إلى مرحلة الموت، وأن الحركة الاضطرارية الصادرة عن المجني عليه لا تعطي غلبة الظن ببقاء الروح في الجسد إذا كانت وحدها، ولم تقترن بأي نوع من الإحساس أو الحركة الاختيارية، وإلا لجعلوا القصاص من نصيب الجاني الثاني، إذ يكون فعله القاتل واردًا على جسد فيه روح. ولعلهم في هذا تأثروا بما قرره علماء الطائفة الأولى أمثال ابن القيم والغزالي من أن الروح ترحل عن جسد صاحبها في اللحظة التي يصبح فيها الجسد عاجزًا عن الانفعال للروح بأي نوع من الإحساس أو الاختيار. هذا وإن من مقتضى الأمانة العلمية في عرض مذهب الفقهاء في هذه القضية، أن نشير إلى مسألة يمكن أن ترد على ما استنتجناه من أقوال الفقهاء في صورة الاشتراك في جريمة القتل على التتابع، وتشكك في قوته.. وهذا المسألة هي أن المجني عليه إذا كان قد صار إلى مرحلة الحياة غير المستقرة بسبب مرض، لا بسبب جناية، أو فعل حيوان مفترس، كما لو صار إلى مرحلة النزع، فأجهز عليه مجرم وهو في هذه الحالة؛ فإن جمهور الفقهاء يذهبون إلى إيجاب القصاص على هذا المجرم؛ حتى قال الزركشي (إن المريض لو انتهى إلى سكرات الموت، وبدت مخايله لا يحكم له بالموت، حتى يجب القصاص على قاتله..) (1) وفرق الزركشي بين حالة ورود الجناية على الجناية، وبيَّن هذه الحالة، أن هذه لا يوجد فيها سبب يحال عليه الهلاك، بخلاف الحالة الأولى. (2)   (1) المنثور في القواعد جـ 2 ص 106 (2) المنثور في القواعد جـ 2 ص 106 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 والذي يظهر أن هذا الفرق الذي ذكره الزركشي بين الصورتين غير مؤثر في اختلاف الحكم؛ ويدل على ذلك ما صرح به نفسه، وصرح به غيره من علماء الشافعية، فيما نقلناه سابقًا، أن صاحب الفعل الأول لو كان حيوانًا مفترسًا، وأخرج حشوة المقتولة وأبانها فإن القتل لا يضاف إلى أي صاحب فعل لاحق، مهما كان. وإضافة الفعل الأول إلى حيوان مفترس لا يختلف من حيث النتيجة عن إضافته إلى أي حادث سماوي، يوصل الشخص إلى النتيجة نفسها، كانهيار بيت عليه مثلًا ونحو ذلك. ولكن المعنى المعقول الذي يمكن أن يفرق به بين الصورتين هو مدى التحقق من وصول الشخص إلى الحياة غير المستقرة التي يتيقن من عدم إمكان انعكاسها إلى حياة مستقرة. ومظاهر النزع في عهد أولئك الفقهاء لم تكن كافية لتغليب الظن –فضلًا عن التيقن- على أن المريض قد انتقل فعلًا إلى مرحلة عيش المذبوح، كما سموه؛ بدليل أن حالات كثيرة يوصف فيها الشخص بأنه وصل إلى حالة النزع الأخير ثم يتجاوزها ويعيش إلى ما شاء الله تعالى. وإذا كان هذا هو الفرق الحقيقي بين الصورتين السابقتين، فإنه لا يؤثر على فهمنا السابق لموقف الفقهاء من تحديد زمن الوفاة في مسألة الاشتراك على التتابع في جريمة القتل بل يؤيده ويقويه. خلاصة تصور علماء الشريعة عن الروح وعلاقتها بالجسد:- وخلاصة ما تقدم من بيان حول دور العلماء المسلمين في مسألة الروح وعلاقتها بالبدن الإنساني: أن الإنسان في تصورهم جسد وروح، ولا يكتسب وصف الإنسانية بواحد من العنصرين دون الآخر. وأن الجسد مسكن الروح في هذه الدنيا طوال فترة الحياة المقررة للإنسان. وأن العلم والإدراك والحس والاختيار أهم وظائف الروح. وأن وظيفة الجسد بكل ما فيه من أعضاء وأجهزة وأنظمة، خدمة الروح والانفعال لتوجيهاتها، وليس له وظيفة أخرى في فترة حياة الإنسان. وأن الروح تقوم بجانب كبير من وظائفها بواسطة الجسد، وتقوم بجانب آخر بدون وساطته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 وأن الجسد الإنساني لا يصدر عنه أي نشاط اختياري في هذه الدنيا بغير أمر الروح، وأن كل ما يصدر عنه هو بتأثيرها الذي أودعه الله فيها. وأن الموت معناه مفارقة الروح للجسد، وأنه يحصل للإنسان عند صيرورة الجسد عاجزًا عن الانفعال لأمر الروح. وأن وجود أي نوع من الحس والإدراك والحركة الاختيارية يدل على بقاء الروح في الجسد، وغياب هذه المظاهر غيابًا كاملًا يدل على مفارقة الروح للجسد. وأن مجرد وجود حركة اضطرارية لا معنى له سوى وجود بقايا الحياة المجردة عن معية الروح. ثانيًا- دور أهل الاختصاص:- ذلك هو دور علماء الإسلام واجتهاداتهم حول معنى الحياة والموت. وأما دور أهل الاختصاص، فالذي يظهر لنا منه بصورة إجمالية: أن الجسد الإنساني الحي هو مجال بحثهم، وأنهم في سبيل المحافظة عليه وتقدم المعونة له من أجل تمكينه من القيام بوظائفه، قاموا بدور جليل يحمدون عليه: فكشفوا الستار الذي ظل مسدلًا آمادًا طويلة عن مجاهل كثيرة من جسد الإنسان؛ فتعرفوا على أعضائه وأجهزته والأنظمة التي تسير عليها، وعلاقة بعضها ببعض، وتوقف بعضها على بعض، ووظيفة كل منها وأهميته. ومن أهم معالم الدور الذي قاموا به أنهم تمكنوا من التعرف على الكيفيات التي يؤدي بها ذلك الجسد كثيرًا من وظائفه، كالحس والإدراك والحركة وغير ذلك، ووصفوا بدقة العمليات الداخلية التي تتم بها كل وظيفة من تلك الوظائف، وما يحدث في الجسم عندما نبصر أو نسمع أو نتألم خطوة خطوة حتى تتم العملية بكاملها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 ومن أخطر ما توصلوا إليه اكتشافهم العضو الذي يقع من أعضاء الجسم وأجهزته المختلفة في مركز القائد المتحكم، الذي يعتبر صلاحه شرطًا لتمكن أي عضو آخر من القيام بوظيفته، ألا وهو المخ؛ فقد أفادوا أنه ما من عملية إرادية يقوم بها أي عضو من أعضاء الجسم، إلا كان مصدرها نشاطًا معينًا يقوم به الدماغ. وأنه هو الأساس في كل ذلك. وأن أي تلف جزئي فيه يقابله عجز أو تلف في أعضاء وأجهزة معينة. وأن عجزه الكامل سبب حتمي لعجز بقية الجسد عن القيام بجميع وظائفه الإرادية. كذلك أفادوا أنهم يستطيعون بواسطة الأجهزة الحديثة تشخيص حالة هذا العضو الرئيس إجمالًا وتفصيلًا، وتحديد مدى قدرته على مزاولة نشاطاته وإدراك نوعية عجزه، وتحديد ما إذا كان هذا العجز مستمرًا أو غير مستمر، قابلًا للعلاج أو غير قابل، وبالتالي تحديد حالة الجسد الإنسان ومدى قدرته على القيام بالأعمال الإرادية. ومن أخطر ما أنجزوه تمكنهم من المحافظة على أصل الحياة (أو الحياة الخلوية) في أعضاء الجسد الإنساني، وهي في معزل عنه وعن المخ وعن الروح المتعلقة به، ونقل هذه الأعضاء من جسد إلى جسد آخر. ثالثًا- محصلة الجمع بين الدورين:- الذي يغلب على الظن بالنظر فيما توصل إليه علماء الإسلام من نتائج، وما توصل إليه أهل الاختصاص من الأطباء، أنه ليس بينهما أي تناقض، وأن دور كل منهما مكمل للآخر على طريق البحث عن جواب السؤال المطروح: متى تنتهي حياة الإنسان؟ نعم قد يقع باحث متعجل يلتقط من ظواهر الأمور، ولا يغوص في أعماقها، قد يقع مثل هذا الباحث في ظن التناقض بين الطرفين فيما قدماه من تصور حول نهاية الحياة الإنسانية. فقد يظن أن علماء الشريعة قد نسبوا إلى الروح من الوظائف والأنشطة ما يشبه إلى حد كبير، ما اكتشفه أهل الاختصاص أنه من وظائف المخ وأعماله. وأنهم أطلقوا الروح على عضو حسي يخضع للاختبار والتشريح والملاحظة في عرف أهل الطب، في الوقت الذي جزموا فيه أنا لروح لا يمكن أن تكون جسمًا ماديًا، وأن هذا الخطأ إنما وقعوا فيه بحكم وجودهم في عصر من التاريخ لم يكن علم الطب فيه متقدمًا كما هي حاله الآن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 واعتقادي أن هذا نظر سطحي منطلقه أساسًا من طغيان التفسير المادي، وتعميمه على كل الظواهر، حسية كانت أو غير حسية. ذلك أن العلماء الماديين لا يبحثون إلا في المحسوس، ولا يعترفون إلا بنتائج هذا البحث المادي؛ فإذا أرادوا تفسير أي نشاط يقوم به الإنسان، تتبعوا ما يحدث لأجزاء الجسم المحسوسة عند ممارسة هذا النشاط، ولاحظوا مختلف التطورات والأفعال وردود الأفعال المحسوسة، التي تقوم بها أعضاء الجسم المختلفة، فإذا انتهى بهم المطاف إلى آخر نشاط حيوي يقع تحت آلاتهم، نسبوا إلى العضو الذي صدر عنه هذا النشاط الأخير التصرف الذي قام به الإنسان. وهكذا عندما اكتشفوا أن المخ هو العضو الأخير الذي ينفعل بأنواع من الانفعالات لكل تصرف يصدر عن الإنسان، نسبوا إليه كل تصرف إنساني مادي كان أو غير مادي. والحقيقة أنهم قد يكونون على حق في تفسير جميع الخطوات المادية التي تتم داخل الجسم عند قيام الإنسان بتصرف ما؛ فهذا مجالهم وهم أدرى به. ولكن الذي لا يقرون عليه أن ينسبوا النتائج النهائية، وهي صدور التصرفات الإنسانية بأشكالها النهائية، إلى العضو المادي الذي كانت فيه خاتمة الانفعالات المادية قبيل صدور ذلك التصرف؛ وذلك أن جميع التصرفات الإرادية الصادرة عن الإنسان فيها عنصر معنوي غير مادي هو الإرادة. والذي تدل عليه سنن الحياة ومعهودات الكون أن المادة لا يمكن أن تنتج المعاني، وإنما ينتج عن المادة مادة مثلها. ولا بد أن يكون هناك مخلوق غير مادي في جسد الإنسان خلقه الله عاقلًا، يستفيد من الحركات المادية التي تقوم بها أعضاء الجسد بتأثيره هو، وتتجمع محصلتها في المخ، فيصدر عن ذلك المخلوق التصرف الإنساني بصورته النهائية. إن مما يصعب تصديقه أن مجرد حركات تظهر على الأعضاء وتظهر محصلتها على العضو الرئيس –المخ- تنتج في النهاية إحساسًا بالألم، واللذة والسرور والطمأنينة وغير ذلك من المدركات بمختلف أنواعها. صحيح أن المخ وبقية أعضاء الجسد تختلف عن الأجهزة المادية الجامدة بأنها تتكون من خلايا حية تنمو وتتطور وتموت، ولكن هذه الحياة غير عاقلة، وهي عينها حياة الجنين قبل نفخ الروح، وهي عينها حياة القلب النابض المقلوع من جسد الإنسان، المحفوظ تحت ظروف معينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 إن محاكمة عقلية بسيطة تدلنا على خطأ تلك النتيجة النهائية التي يدعيها العلماء الماديون بنسبة كل تصرف إنسان إرادي للمخ والوقوف عنده، وهذه المحاكمة هي:- أنه إذا كان المخ وراء كل حركة إرادية في أعضاء الجسد فهل عمله هو –أي المخ- عمل إرادي أو غير إرادي؟ أي عندما يصدر المخ أوامر للأعضاء، وعندما يتسلم منها نتائج تنفيذ تلك الأوامر، ويقوم بتحليلها وإصدار النتائج النهائية على ضوئها: هل هذه الأنشطة المختلفة الصادرة عن المخ إرادية أو غير إرادية؟ لا سبيل إلى القول: إنها أنشطة اضطرارية غير إرادية؛ فإنها دعوى مخالفة للمحسوس، وتؤدي إلى القول بأن كل عمل يقوم به الإنسان عمل اضطراري، كأي نشاط يصدر عن خلايا النبتة الحية، أو خلايا الكلية الحية المفصولة عن جسد صاحبها! وإذا كانت تلك الأنشطة إرادية، فإنه لا سبيل إلى نسبتها إلى خلايا المخ المادية المحسوسة؛ لما تقدم من استحالة صدور المعاني عن المواد دون تدخل من مصدر آخر لهذه المعاني، له طبيعة خاصة مختلفة عن المحسوسات. وإذا كان كذلك فلا مناص من التسليم بوجود مخلوق حي عاقل غير مادي وغير محسوس يقف وراء كل نشاط إرادي من أنشطة الدماغ المختلفة. والذي يغلب على الظن في تفسير علاقة الروح بالجسد بصورة عامة، وبالمخ بصورة خاصة، على ضوء ما استقيناه من تصور علمائنا المسلمين، الذي يمتد بجذوره إلى كثير من النصوص، ومن النتائج العلمية التي توصل إليها أهل الاختصاص في تفسير نشاطات الأعضاء، الذي يغلب على الظن أن الجسد الإنساني الحي، بما فيه من مخ وأعضاء أخرى عبارة عن مجمع دقيق من الآلات الحيوية المتشابكة بأسلوب معجز، جعله الباري في خدمة مخلوق عاقل نفخه الله في ذلك المجمع الحيوي، اسمه الروح في مصطلح القرآن والسنة. وأن هذه الروح تسيطر على ذلك الجسد الحي في هذه الدنيا بواسطة المخ؛ فهو يشتغل بتشغيلها له وينفعل بتوجيهاتها، فيحرك أعضاء الجسد الأخرى، فيرسل عن طريقها ما تريد الروح إرساله، ويستقبل عن طريقها ما تريد الروح استقباله، فتقرأ الروح ما يتجمع في الدماغ، وتصدر الأحكام والنتائج في صورة تصرفات إنسانية، وأنه –أي المخ- إذا أصابه تلف جزئي عجز بصورة جزئية عن الانفعال لأوامر الروح، وظهر ذلك العجز الجزئي على بعض الأعضاء، وأثمر بالتالي عجزًا جزئيًا عن ممارسة التصرفات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 وأنه –أي المخ- إذا أصابه تلف كامل بسبب ما يطرأ عليه مما سماه علماؤنا بالأخلاط الغريبة، التي تبدأ بالأمراض والحوادث، مما يعرف تفصيلاته أهل الاختصاص، إذا حدث ذلك للمخ كان عاجزًا بصورة كلية عن الاستجابة لإرادة الروح، وعجزت سائر الأعضاء أيضًا بعجزه. فإن كان هذا العجز نهائيًا لا رجعة فيه، ولا أمل في استدراكه، رحلت الروح عن الجسد بإذن ربها، وقبضها ملك الموت، وأخذها في رحلة جديدة لا نعلم منها إلا ما علمنا ربنا عن طريق المصطفى عليه الصلاة والسلام، وليس مجال تفصيله في هذا البحث. فإذا استطاع أهل الاختصاص أن يعرفوا بصورة جازمة الوقت الذي يصبح فيه المخ عاجزًا عجزًا كاملًا عن القيام بأي نشاط بسبب انتهاء حياته الخلوية، ومستعصيًا استعصاء كاملًا على العلاج، لم يكن هناك أي مبرر لإنكار موت الإنسان عند هذه الحالة. هذا ما يمكن تحصيله من إجراء التفاعل بين دور علماء الشريعة الإسلامية ودور علماء الطب. المفصلين آنفًا، ويمكن تلخيصه في هذه المقابلة بين الفريقين:- علماء الشرع علماء الطب النتيجة 1- الروح التي تدرك مختلف المدركات عمليات الحس والإدراك تتم في مخ الإنسان الروح تدرك المدركات باستعمال المخ 2- الروح هي التي تتصرف بالجسد في جميع حركاته الاختيارية المخ هو الذي يسيطر على بقية أعضاء الجسد في حركاتها الاختيارية الروح هي التي تتصرف بالأعضاء بواسطة المخ 3- علامة اتصال الروح بالجسد الحس والحركة الاختيارية علامة صلاحية المخ الحس والحركة الاختيارية علامة اتصال الروح بالجسد صلاحية المخ 4- علامة مفارقة الروح للجسد غياب الحس والحركة الاختيارية بصورة نهائية علامة موت المخ غياب كلي نهائي للحس والحركة الاختيارية علامة مفارقة الروح للجسد موت المخ بصورة نهائية 5- الحركة الاضطرارية لا تدل على اتصال الروح بالجسد الحركة الاضطرارية لا تدل على صلاحية المخ لا كليًا ولا جزئيًا الحركة الاضطرارية لا تدل على حياة أو موت الإنسان 6- لا تتصل الروح بالجسد في الدنيا إلا بعد مرور أربعة أشهر على تكون الجنين إمكان فصل كثير من أعضاء الجسد مع المحافظة على حياة الخلايا المكونة لهذه الأعضاء حياة الخلايا الجسدية غير حياة الروح، وإمكان اتصالهما وانفصالهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 قوة تلك النتيجة: لا نستطيع أن ندعي أن تلك النتيجة في تحديد نهاية الحياة الإنسانية قطعية يقينية، لا تقبل إثبات خلافها. وإنما هي نتيجة مبناها على غلبة الظن؛ لأن مقدماتها وإن كان بعضها قطعيًا، لكن بعضها ظني؛ ذلك أن تحديد العجز الكامل النهائي للمخ، بما وصل إليه العلم الحديث، قد يدخله بعض الشك؛ فإن المخ كما تبين مما سبق ذكره عضو من أعضاء الجسم وإن كان رئيسها، وليس هو الروح بعينها، ولم يقم دليل شرعي ولا علمي على حلول الروح فيه دون غيره. وتعطله يكون نتيجة أمراض معينة. وكل مرض وجد أو سيوجد، اكتشف علاجه أو لم يكتشف فيه قابلية الشفاء، كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام ((ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء)) (1) وقد يأتي يوم يتقدم فيه العلم أضعافًا مضاعفة عما هو عليه الآن، ويكتشف أن العلامات التي يقررها أطباء اليوم لموت المخ نهائيًا ليست قاطعة، وأن معالجة المخ بالرغم من ظهور تلك العلامات عليه ممكنة. أو قد يأتي يوم يتمكن العلماء فيه من نقل مخ حي إلى إنسان تلف مخه بصورة كاملة. ولا يرد على ذلك ما أورده أحد الإخوة الأطباء من أن نقل مخ حي يقطع بعدم جوازه شرعًا؛ لأن صاحبه يكون حيًا بالاتفاق، ونقل مخه يكون قتلًا له؛ إذ قد يتصور أن يكون صاحب المخ الحي محكومًا عليه بالإعدام بفصل رأسه عن جسده بالسيف مثلًا، كما هو الحال في بعض الدول، وما دام العلم كما ذكر بعض الإخوة الأطباء، قد توصل إلى إمكان تبريد المخ لبضع ساعات، محتفظًا بقابليته للانبعاث من جديد، فإن احتمال إمكان النقل يظل واردًا عقلًا وشرعًا. ولو حصل هذا الاحتمال فإن معناه إمكان الحفاظ على الروح في الجسد بتعويضها عن مخ صاحبها بمخ جديد. (2)   (1) أخرجه البخاري في كتاب الطب من صحيحه (2) ولو حصل هذا لم يكن هناك أي داع للتخوف من انتقال المعاني والمسؤوليات من إنسان إلى إنسان؛ لأن المخ كما استنتجنا ليس هو الروح، وإنما هو الآلة الرئيسة لبقية آلات الجسد، ومثله في ذلك كمثل القلب، وإن كان أبلغ في أهميته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 هل يمكن بناء الأحكام العملية على هذه النتيجة؟ ليس هنالك خلاف يعول عليه بين علماء الإسلام في أن الأحكام العملية تبنى على غلبة الظن المحصلة بالأمارات والدلائل، وقد أشار إلى ذلك علماء الأصول. (1) وترتيبًا على ذلك فإنه يمكن بناء ما يحتاج إليه من الأحكام العملية على تلك النتيجة التي توصلنا إليها في تحديد نهاية الحياة الإنسانية؛ فيمكن الاستفادة منها لتحديد القاتل عند اشتراك الجناة على التتابع، كما يمكن استخدامها لمعرفة حكم نقل الأعضاء الآدمية. غير أنه في كل مرة تتخذ هذه النتيجة أساسًا لبناء حكم عملي عليها ينبغي توفر جميع الشروط اللازمة لمنع استغلالها أو الخطأ فيها؛ فينبغي أن يصدر قرار انتهاء الحياة الإنسانية بموت المخ النهائي عن لجنة من أهل الاختصاص ذوي الكفاءة والنزاهة، وأن يكون ذلك بالإجماع، وأن تسبق عملية النقل موافقة صاحب المخ الميت في خلال حياته، وأن لا يكون قد رجع عنها قبل موته، وموافقة ذويه بعد وفاته، وأن لا يكون هنالك أي بديل آخر يتوصل إليه العلم ويحقق المراد. هذا ولقائل أن يقول: كيف يصح أن تبنى أحكام خطيرة، كحكم نقل القلب، على نتيجة مبناها على غلبة الظن، والخطأ فيها معناه إهدار حياة موجودة؟ والجواب عن هذا الاعتراض أن جانبًا كبيرًا من حقائق الحياة لا يعرف إلا بغلبة الظن لا بالقطع واليقين. والاقتصار في بناء الأحكام على تحصيل اليقين، فيه تعطيل لكثير من المصالح الخطيرة. وكثير من أحكام الشرع مبناه على الظن الغالب، وبعض هذه الأحكام خطيرة جدًا قد يترتب على الخطأ في بنائها إزهاق أرواح بريئة؛ من ذلك إلزام القاضي ببناء أحكامه في قضايا الحدود والقصاص على طرق الإثبات الشرعية فيجب على القاضي أن يحكم برجم الزاني المحصن الذي يشهد عليه أربعة من الرجال العدول. وأن يحكم بالقصاص على القاتل الذي تثبت جريمته بشهادة اثنين من الرجال العدول وغير ذلك. واحتمال كذب الشهود مهما كانوا عدولًا في الظاهر أمر قائم، واحتمال خطأ الحاكم في حكمه في أمثال هذه القضايا الخطيرة لا ينكره أحد، والخطأ فيها قد يؤدي إلى إهدار أرواح بريئة كما يرى، ولم يقل أحد بحرمة إصدار الأحكام في غير محل اليقين، بل الكل مجمعون على وجوبه بحصول الظن الغالب عن طريق اتباع الطرق الشرعية.   (1) انظر: كتاب المنخول من تعليقات الأصول –لأبي حامد الغزالي ص 327 وما بعدها طبع دمشق سنة 1400هـ – 1980م- دار الفكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 على أن هناك من الصور الواقعية ما تقترب فيه غلبة الظن من اليقين، بحصول الوفاة، قبل فقدان أعضاء الميت، ومنها القلب، لقابلية الانبعاث من جديد، والاستفادة من نقلها في إحياء إنسان مشرف على الموت؛ وذلك كما لو أصيب شخص بحادث أدى إلى انفصال رأسه عن جسده، وتناثر دماغه على مسرح الحادث، واستطاع الأطباء الوصول إلى قلبه، وهو في حالة يمكن فيها الاستفادة منه: أليس من المبالغة الواضحة الجنوح إلى تحريم تلك الاستفادة؟! كذلك عندما يحكم على إنسان بالإعدام شنقًا أو بالسيف، فإذا تمت عملية الإعدام وبقي القلب نابضًا، واستطاع الأطباء الاستفادة من ذلك القلب في إنقاذ إنسان آخر من الموت في حدود ما تقدم من الشروط والقيود، فأي قاعدة شرعية تمنع ذلك؟! خلاصة ومثال من الواقع: وبناء على ما تقدم فإن أغلب الظن عندي أن مجرد وجود قلب ينبض أو كلية خلاياها حية، أو غير ذلك من أعضاء الجسد الإنساني سوى المخ، ليس قرينة على وجود الروح أو عدم وجودها؛ وذلك لإمكان قيام هذه الأعضاء بخلاياها الحية مع وجود الروح ومع غيابها. وإنما ترتبط الروح الآدمية وجودًا وعدمًا مع حياة الدماغ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 وإلى الذين يخالفون هذا الرأي أضرب هذا المثل الذي لا يستبعد وقوعه في الحياة: إنسان حكم عليه بالإعدام بالسيف، وله ولد أفاد الأطباء بصورة قطعية أن قلبه تالف، ولا أمل له في استمرار حياته إلا بتعويضه عن قلبه بقلب سليم (بعد مشيئة الله تعالى) فأوصى الوالد بقلبه بعد تنفيذ الحكم عليه لولده المريض. وفور تنفيذ الحكم عليه، وفصل رأسه عن جسده، تلقفه الأطباء وحفظوا الجسد المفصول بما فيه من قلب وغيره بوسائلهم وأمدوه بما يلزم للحفاظ على حياة الخلايا فيه، وبقي القلب الموصول بالأجهزة نابضًا: ففي هذه الحالة هل يمتنع في حكم الدين أن ينقل هذا القلب النابض إلى ذلك الولد المبتلى بقلب يوشك أن يخمد ويتوقف نبضه؟! وهل يستطيع أحد أن يدعي بقاء الروح في هذا الجسد الذي استطاع الطب –بعون الله تعالى- المحافظة على الحياة في خلاياه؟! لا أعتقد أن أحدًا يقول ببقاء الروح في جسد بلا رأس، مهما كانت خلاياه حية. وأما نقل بعض أعضاء ذلك الجسد فقد يتمسك متمسك بالمنع معتمدًا على حرمة الميت في شرع الله تعالى ولكن حرمة الميت ليست أشد ولا آكد من حرمة الإنسان الحي الذي أفتى كثير من العلماء بجواز نقل بعض أعضائه خلال حياته برضاه، كالكِلْيَةِ مثلًا. ولا شك في أن حاجة الإنسان الحي إلى كليته بل إلى ظفره أشد من حاجة جسد مفصول عنه الرأس إلى القلب الموجود فيه. وكأني ببعض الإخوة الكرام يقول: إن هذا المثال الذي ضربته يختلف عن حالات موت الدماغ بأن المخ قد ذهب إلى غير رجعة، لانفصال الرأس عن الجسد، بينما الصور الأخرى يفترض فيها بقاء الدماغ في الرأس المتصل بجسده. والجواب في هذا فرق غير مؤثر في الحكم، وهو لا يزيد عن الفرق بين إنسان مات بسكتة قلبية، وإنسان احترق بالنار، وصار جسده كله رمادًا؛ كلاهما ميت، ولا ومضة أمل في حياته ولا فرق كذلك بين دماغ ذهب وانفصل عن جسده، ودماغ حكم أهل الاختصاص بصورة قاطعة أن خلاياه قد ماتت كلها. (1) وليس الفرق في حقيقة الأمر، إلا من حيث وضوح الموت في الحالة الأولى لكل ناظر وعدم وضوحه في الحالة الثانية إلا لأهل الاختصاص. وهذا فرق غير مؤثر في الحكم؛ لأن عدم إدراك الإنسان غير المختص لواقع معين ليس له أثر في نفي هذا الواقع، وإنما الأمر في ذلك للمختصين. وهذه قاعدة مضطردة؛ ألا يرى أن المبصر لو شهد برؤية ما لا يدرك بوسيلة أخرى غير البصر، ونفى ذلك أعمى، فإن الحكم يبنى على شهادة المبصر. ولو أن الأحكام توقفت على إدراك كل الناس للوقائع، لكان هذا تعطيلًا لمعظم الأحكام.   (1) أكد ذلك كثير من الأطباء الذين حضروا ندوة الحياة الإنسانية: بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي، ولم يخالف في ذلك أحد منهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 ولا شك في أن معرفة أحوال الدماغ من حيث صحته ومرضه، وحياته وموته أمر من أمور الدنيا؛ وليس أمرًا دينيًا ولا غيبيًا. والرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم أمرنا بالرجوع في أمور دنيانا إلى المختصين العدول، فإذا وجد بيننا علماء في الطب مسلمون لا نشك في علمهم ولا نتهمهم في إخبارهم عن الواقع، وجب أن نبني الأحكام على قولهم. هذا وقد يقال لي: لماذا لم تلتزم بهذه القاعدة في رأيك عن بدء الحياة الإنسانية؟ أليس أكثر الأطباء يرون خلاف ما ذكرته هناك، وهم أهل الاختصاص؟ والجواب عن ذلك أن تلك القضية فيها نص حديث شريف، أسندت ظهري إليه، وفسرت الواقع بناء عليه، وهذا واجب كل مسلم مهما كان تخصصه ولم أخالف الأطباء فيما يدخل في اختصاصهم، وإنما فسرت بالشرع الواقع الذي أفادوه، ورددت عليهم ما ليس من تخصصهم؛ حيث حاولوا تفسير الواقع الذي اكتشفوه بما يتعارض مع حقيقة شرعية أخبر عنها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وأخيرًا قد يجادل مجادل بأن المثال الذي ذكرته فيه فرق آخر، وهو أن المحكوم عليه بالإعدام لا حرمة له؛ لأنه مهدر الدم. وهذا فرق آخر لا قيمة له ولا أثر له في الحكم الذي ذكرناه؛ لأن المحكوم عليه بالإعدام غير محكوم عليه بخلع قلبه من صدره؛ وهذا أمر زائد عن العقوبة، وهو من المثلة المنهي عنها لو تجرد عن إذن صاحبه وعن غرض مشروع. وعلى أية حال فإن هذا مجرد مثال، والواقع قد يتمخض عن أمثلة كثيرة، وخاصة في هذا الزمان الذي تضاعفت فيه الأخطار على حياة ابن آدم. وهو متصور في حوادث السيارات والطائرات والقطارات وغيرها متصور بكثرة في الحروب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 نهاية الحياة للدكتور محمد سليمان الأشقر الموسوعة الفقهية الكويتية بدأت حياة البشرية بنفخة، وتنتهي بنفخة، فسبحان الله الحي القدير. بدأت بنفخة في جسد آدم، وتنتهي بنفخة ينفخها إسرافيل في الصور {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} أي ماتوا في الحال. وأما الواحد من بني آدم فقد يطول احتضاره ومعاناته لسكرات الموت الذي كان منه يحيد، حتى إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم أعنَّي على سكرات الموت)) . ونهاية الحياة الإنسانية بما يقوم به ملك الموت ورسل الله، من إيجاد الانفصال الكامل بين تلك الروح وبين الطين الذي كان مسكنها ومطيتها، وذلك بتوفيها وإرجاعها إلى ربها الذي هي من أمره {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} . وبينما الروح بعد ذلك في روح وريحان وجنة نعيم أو في نزل من حميم وتصلية جحيم، يبدأ ذلك الطين المشكل، والمسكن الذي كان معدا لإقامة النزيل يبدأ بالتحلل، بعد رحيل ذلك النزيل شيئًا فشيئًا ليعود ترابًا كما كان، وليندمج في الأرض التي منها بدأ. ولن تستطيع قوة أو علم أو حكمة أن تجمع بين ما فرقه الله {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) } . وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لحصول ذلك الافتراق أمارة ترى: فعن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الروح إذا قبض أتبعه البصر)) (رواه مسلم) وعن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر، فإن البصر يتبع الروح. وقولوا خيرًا، فإنه يؤمن على ما يقول أهل الميت)) رواه أحمد في المسند. ويذكر الفقهاء أمارات أخرى وصل إليها علمهم، وعرفوها بمقتضى التجربة البشرية "استرخاء رجليه، وانفصال كفيه، وميل أنفه، وامتداد جلدة وجهه، وانخساف صدغيه" (المغني 2/ 452. ولا بد للحكم بموته من أن تنعدم كل أمارات الحياة. ويذكرون ذلك في استهلال المولود ليرث، قالوا "لا بد أن ينفصل حيًا حياة مستقرة، فلو مات بعد انفصاله حيًا حياة مستقرة فنصيبه لورثته، ويعلم استقرار حياته عند الحنابلة والشافعية إذا استهل صارخًا، أو عطس، أو تثاءب، أو مص الثدي، أو تنفس وطال زمن تنفسه، أو وجد منه ما يدل على حياته، لاحتمال كونها كحركة طويلة ونحوها ولو لم تكن حياة مستقرة، بل كالحركة اليسيرة، والاختلاج، والتنفس اليسير، لم يرث؛ لأنه لا يعلم بذلك استقرار حياته لاحتمال كونها كحركة المذبوح، أو كما يقع للانتشار من ضيق، أو استواء الملتوي (العذب الفائض في الفرائض 3/ 91) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 وفي شرح السراجية مما تعلم الحياة المستقرة به "صوت أو عطاس أو بكاء أو ضحك أو تحريك عضو". ولو كان عندك شاة أصيبت وقاربت الموت، فذكيتها بالذبح، فإن علمت أنك ذبحتها وفيها حياة مستقرة فهي حلال، وإن ذبحتها وهي ميتة فلا ذكاة لميت. وروي ((أن امرأة كانت ترعى غنمًا، فأصيبت شاة لها، فذكتها بحجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوها)) . قال الإمام أحمد بن حنبل: إذا مصعت بذنبها، وطرفت بعينها، وسال الدم، فأرجو إن شاء الله أن لا يكون بأكلها بأس. قال الشيخ الموفق: إن أدركها وفيها حياة مستقرة حلت، لعموم الآية والخبر، سواء كانت قد انتهت إلى حال يعلم أنها لا تعيش معه، أو تعيش (المغني 8/ 538) . ومع أنه يتوقف على تحديد لحظة الموت أمور شرعية ضخمة إلا أننا لم نجد في ما رجعنا إليه من كتب الفقه تحديدًا بشيء غير ما تقدم. فمما يتوقف على ذلك: تحديد مبدأ عدة زوجته ونهايتها. وقد يتوقف على معرفة النهاية الحكم بصحة زواجها من غيره أو البطلان. والتوارث: فقد يموت الأخوان أو القريبان في وقت متقارب، ويتوقف على التحديد أن تنتقل ملايين هذا أو ألوفه إلى ورثة الآخر، أو عكس ذلك. والوصايا: فقد يوصي ثم يموت الموصى له في الفترة المتحيرة، فلا يدري أيستحق شيئًا أم لا؟ وغسله والصلاة عليه: فإن غسل وصلي عليه، وعليه أجهزة الإنعاش وقلبه يدق ونفسه يربو وصلي عليه، فهل تلك الصلاة صحيحة لأنه ميت، أم لا لأنه حي؟ وإيقاف أجهزة الإنعاش: هل هو سلب سبب تعلقت به حياة نفس إنسانية يفضي إلى موتها، أم هو كإيقاف صنبور ماء يصب على شجرة قد يكون من الخير والاقتصاد فصله عنها. وأخذ قلبه أو كليته أو عينه: هل هو جناية أو قتل عمد، فيؤخذ قلب الجراح أو كليته أو عينه قصاصًا، أم هو عمل في ميت قد انتهى وسبقت روحه إلى السماء، يستطيع أهله بإذنهم فيه أن يهزوا ضمائر البشر لو كان يهتز لبيض الجنوب الإفريقي ضمير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 هذا وفرق بين موت الجنين وحياته عند ولادته وبين موت الحي، فإن الأصل في الجنين عدم الحياة حتى يتحقق أنه حي، والأصل في من ثبتت حياته أنه حي حتى يتحقق أنه ميت، والأصل بقاء ما كان على ما كان، لا يزول ذلك اليقين بأمر مشكوك فيه. والقلب الإنساني – دينامو الجسم البشري - يتبع فساده وتلفه الموت لا محالة "فإذا فسد فسد الجسد كله" إن نضال الطب ضد الموت حقق إنجازاته الرائعة، وقامت أجهزة الإنعاش بدور يقدر الكل قدره، في حفظ الحياة بإذن الله على مئات الألوف من البشر، وحفظ الستر على مئات الألوف من الأسر. وإن محاولة الطب الاستفادة من قلب من تحقق موته لإحياء نفس أخرى، محاولة يقدر الكل قدرها أيضًا. وكانت حياة القلب ونبضه والتنفس دليل الحياة ووجود الروح، فأمكن أن تحل أجهزة الإنعاش محل القلب، ومحل التنفس التلقائي لساعات محدودة، أو أيام معدودة، وإذا كان الدماغ في تلك الأثناء قد مات، فهل الإنسان في تلك الساعات المحدودة، أو الأيام حي أم هو ميت؟ إنها الفترة المتحيرة. وتأتي المشكلات التي تقدم بيانها عبئًا يلقيه التقدم الطبي على عاتق فقهاء العصر. وحرص إخواننا الأطباء على أن يكونوا ممن (أحيا الناس جميعًا) يحدوهم إلى أن يمهدوا الطريق، ليكون عملهم ضمن الإطار الشرعي، حيث لا إثم ولا ضمان. وقد ورد السؤال إلى لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف الكويتية في جلستها المنعقدة في 18 صفر 1402هـ الموافق 14/12/1981م. من كل من الدكتور/ رعد عبد الوهاب شاكر –مدرس في كلية الطب بجامعة الكويت، والدكتور/ عبد الرحمن حمود السميط- أخصائي الباطنية بمستشفى الصباح. وكان نصه: "في حالة التأكد من حصول الموت الدماغي، والذي تتوقف فيه كل وظائف الدماغ، ويتبعه فورًا موت بقية أعضاء الجسم لولا وجود أجهزة إنعاش التنفس والقلب وغيرهما، والتي تؤخر موت بقية أعضاء الجسم لبضعة أيام فقط: هل يجوز للطبيب المسلم العمل، وبأسرع ما يمكن، لإنهاء هذه الحالة المصطنعة، التي تؤخر توقف بقية أعضاء الجسم عن العمل لأيام، وتؤخر دفنه؟ " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 وقد أفتت اللجنة بما يلي: "إنه إذا قطع الأطباء بأن هذا المصاب لا يمكن شفاؤه، وأنه لا يعيش أكثر من عدة أيام مع وضع هذه الأجهزة عليه، ووجد من هو أحوج لهذه الأجهزة من هذا المصاب، فيجب رفع هذه الأجهزة عنه ووضعها للأحوج. أما إذا لم يكن هناك حاجة لرفعها عنه فتبقى –وجوبًا- إذا كان هناك أدنى أمل في شفائه. أما إذا لم يكن هناك حاجة لرفعها عنه فتبقى –وجوبًا- إذا كان هناك أدنى أمل في شفائه. أما إذا لم يكن هناك أدنى أمل في شفائه فيكون الأمر متروكًا للطبيب: إن شاء أبقاه تحت هذه الأجهزة، أو صرفها عنه. ولا يمكن اعتبار هذا الشخص ميتًا بموت دماغه متى كان جهاز تنفسه وجهازه الدموي فيه حياة ولو آليًا. وعلى هذا فلا يجوز أخذ عضو من أعضائه –ولا سيما إذا كان رئيسيًا- كالقلب والرئتين لإعطائها لغيره، أو للاحتفاظ بها للطوارئ كما أنه لا تُجرى عليه أحكام الموت: من التوريث، واعتداد زوجته، وتنفيذ وصاياه، إلا بعد موته الحقيقي، وتعطيل كل أجهزته. هذا وبالله التوفيق وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم". وهذا الحكم الذي أصدرته اللجنة على سبيل الجزم، عادت في 29/9/1984م فشككت فيه، فقد أصدرت الفتوى التالية وبناء على استفتاء مشابه: "لا يحكم بالموت إلا بانقضاء جميع علامات الحياة، حتى الحركة والتنفس والنبض، فلا يحكم بالموت بمجرد توقف التنفس أو النبض أو موت المخ، مع بقاء أي علامة من العلامات الظاهرة أو الباطنة التي يستدل بها على بقاء شيء من الحياة. وذلك لأن الأصل بقاء الحياة، فلا يعدل عن هذا الأصل بالشك، لأن اليقين لا يزول بالشك. هذا ما انتهت إليه اللجنة مبدئيًا وهي ترى أن الأمر يستحق مزيدًا من البحث المشترك بين الأطباء والفقهاء. والله أعلم" لقد تراجع أهل الفتيا السابقة عن الجزم بأنه لا يحكم بالموت إلا بتعطيل جميع أجهزة البدن، وقالوا: إن ذلك ما انتهوا إليه مبدئيًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 والآن تتبدى حقائق لم تكن متوفرة. ولكن يبقى تساؤلات لمزيد من الاستيضاح: أولًا: هل يظن أنه قد يأتي يوم يتمكن العلم أيضًا من إعادة النشاط الكهربائي للدماغ، أو نقل جذع الدماغ من بدن إلى بدن آخر؟ أم إن عجزنا الحالي هو الذي دعانا إلى أن ندعي أن الموت في حقيقته هو موت الدماغ دون موت القلب؟ ثانيًا: ونتساءل أيضًا عن الحكايات التي يتناقلها الناس من أن فلانًا مات، ثم دفن ثم سمع صوته صدفة، فحفر القبر وإذا به حي، أو قد غير وضعه ثم مات مرة أخرى، هل يصح علميًا من هذه الحكايات شيء؟ وهل كان القلب متوقفًا طيلة هذه المدة. ويستغرق ذلك أحيانًا ساعات طويلة والمريض غائب عن الوعي؟ وفي حالة الموت بالسكتة والصعقة والخوف والسقوط ونحوها مما قد ينتج عنه الموت المفاجئ، يطلب الفقهاء أن ينتظر بالميت احتياطيًا حتى تظهر به العلامات المعتبرة في غير هذه الأحوال من استرخاء الرجلين، وانخساف الصدغين، إلى آخره، ليتحقق الموت (المغني 2/452) ويقول ابن عابدين (1/ 572) "إن أكثر الذين يموتون بالسكتة يدفنون وهم أحياء، لأنه يعسر إدراك الموت الحقيقي إلا على أفاضل الأطباء." فهل يصح هذا كله؟ وإذا صح فكيف التنسيق بينه وبين ما يقوله الأطباء من أن القلب إذا توقف تبعه موت الدماغ يقينًا بعد ما لا يزيد عن خمس دقائق؟ ثالثًا: يذكر إخواننا الأطباء أن الموت يتبين يقينًا بانعدام كهرباء المخ، وأن من السهولة بمكان قياس ذلك. فبماذا يفسرون أن الجهات العلمية البريطانية وغيرها تشترط أنواعًا من الاختبارات غير هذا، وتقيس به وتطلب أن تعمل الاختبارات كلها. فهل يستطاع القول: إنه يبقى الشك في الوفاة قائمًا حتى مع انعدام كهرباء الدماغ؟ رابعًا: لتحديد حجم المشكلة: هي يعتقد أنه يمكن أن يأتي اليوم الذي نستغني فيه نهائيًا عن زراعة الأعضاء الإنسانية بأعضاء صناعية، أو بأعضاء الحيوانات. وقد سمعنا أخيرًا بأن طبيبًا غرس لطفلةٍ قلب قرد، فهل النجاح في هذا الميدان يبطل الحاجة إلى انتهاك حرمة المرضى الذين قد يدعى أنهم أحياء وتؤخذ قلوبهم؟ خامسًا: إذا أخذنا بالرأي القائل بأن الإنسان لا يعتبر ميتًا حقيقة إلا بتوقف عمل القلب، بالإضافة إلى توقف عمل الدماغ، فهل يعني ذلك القضاء على عمليات زراعة القلب بصورة شرعية قضاء نهائيًا؟ ومثل القلب سائر الأعضاء المفردة التي تتوقف عليها الحياة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 ولو كان المفتي يفتي بجواز زراعة القلب، ويفتي أيضًا بأن الإنسان حي ما دام قلبه يعمل إن كان دماغه قد مات، فهل تعتبر فتاواه متناقضة من وجهة النظر الطبية؟ سادسًا: ما الذي وصلت إليه القوانين بهذا الخصوص في الدول المعاصرة؟ عودة إلى الفقه الإسلامي: نعود إلى فقهنا الإسلامي العظيم لنبحث عن نور يعيننا على استجلاء ما نحن فيه من الحيرة. ونجد فقهاءنا قد تعرضوا لشيء شبيه بما نحن فيه. فقد ذكر فقهاء الحنفية لمن (قتل) إنسانًا قد وجد فيه سابقًا سبب الموت ثلاث حالات: الحالة الأولى: لو جرح إنسان آخر بأن شق بطنه أو نحو ذلك، وأشرف المجروح على الموت، ولكن فيه حياة مستقرة، فقطع عنقه آخر، فالثاني هو القاتل وليس الأول. ومعنى "فيه حياة مستقرة" أن يتوهم فيه أن يعيش يومًا أو بعض يوم. الحالة الثانية: قطع إنسان عنق آخر، وبقي من الحلقوم قليل وفيه الروح، فجاء آخر فقطع عنقه، فلا قصاص على الثاني، والقصاص على الأول، لأنه لا يتوهم بقاؤه، ولم يبق إلا اضطراب الموت، وحركته حركة مذبوح، فكأن الثاني ضرب من هو في حكم الميت، ولا قصاص في ذلك على الثاني. الحالة الثالثة: مريض في النزع، من غير جناية، لم يبق منه إلا مثل حركة المذبوح، فقتله قاتل، فاختلف كلام الحنفية، وقيل: إن الصواب أن عليه القصاص وإن كان القاتل يعلم أنه لا يعيش به، وهذا هو الذي صوبه ابن عابدين. وقيل: إذا كان يعلم أنه لا يعيش فلا قصاص على القاتل، لأن المقتول كان في حكم الميت. وذكر ابن قدامة من الحنابلة الحالتين الأوليين وقال: لا نعلم فيهما خلافًا (المغني 7/ 684) ومثله في (كشاف القناع 5/ 516) والشافعية أيضًا ذكروا الحالات الثلاث، ولم يختلف كلامهم في الحالة الثالثة أن على القاتل القصاص. أما الفرق بين الحالة الأولى والثانية فواضح. وأما الفرق بين الحالتين الثانية والثالثة فقد قال ابن عابدين "لعل الفرق بين هذا وبين من هو في حالة النزاع، أن الموت في حالة النزاع غير متحقق فأن المريض قد يصل إلى حالة تشبه النزاع، بل قد يظن أنه قد مات، ويفعل به كالموتى، ثم يعيش بعده طويلًا، بخلاف من شق بطنه، وقطعت حشوته، أو قطع عنقه، ولم يبق منه إلا حركة المذبوح، فإنه يتحقق موته، لكن إذا كان فيه من الحياة ما يعيش معها يومًا فإنها حياة معتبرة شرعًا، فلذا يكون القاتل هو الثاني، أما لو كان يضطرب اضطراب الموت من الشنق فالحياة فيه غير معتبرة أصلًا، فهو ميت حكمًا، فلذا كان القاتل هو الأول، وقال: هذا ما ظهر لي فتأمل". وكذلك فرق الشافعية: قال النووي والمحلي: "لو أوصله رجل إلى حركة مذبوح بأن لم يبق إبصار ونطق وحركة اختيار، ثم جنى عليه آخر، فالأول هو القاتل، ويعزر الثاني لهتكه حرمة ميت"، ثم قال: "ولو قتل مريضًا في النزع، وعيشه عيش مذبوح، وجب بقتله القصاص، لأنه قد يعيش، بخلاف من وصل بالجناية إلى حركة مذبوح" (شرح المنهاج 4 /103) . قالوا "ولا ينتقل ماله –أي مال الذي في النزع- للوارث، بخلاف الجريح". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 وهذا الذي قالوه من التفريق بين من فيه حياة مستقرة، وبين من لم يبق فيه إلا مثل حركة المذبوح واضح، فإن الأول حي يجري عليه حكم الأحياء، أما الثاني فهو (في حكم الميت) كما عبر الحنفية والحنابلة، أو هو (ميت) كما عبر الشافعية، ولذا نأخذ في حقه بأنه لا يرث لو مات له قريب في تلك الحال، ولو ضربه آخر ضربة أقعصته في الحال، فالقاتل الأول، ويكون على الثاني التعزير للإساءة، وقد لا يكون ثمة تعزير إن لم يكن الغرض الانتهاك. إنني أرجو تدقيق النظر من هذه الوجهة، والتأمل الحق الذي دعا إليه ابن عابدين رحمه الله: أولًا: الجريح الذي لم يبق منه إلا مثل حركة المذبوح، والذي اتفقت كلمة من ذكرناهم على اعتباره ميتًا أو في حكم الميت، فإن قلبه يعمل، وأعضاءه تتحرك، ومع ذلك فلا يعامل معاملة الحي، ولا يحكم له بحكم الحي، وما ذلك إلا لليقين الحاصل بأنه إلى الموت سائر، وأنه قد تجاوز نقطة اللاعودة، ولم يبق من حياته ما يعتد به. وثانيًا: الذي في النزع من غير جناية ولم يبق منه إلا مثل حركة المذبوح، اعتبروه في حكم الحي، لكنهم عللوا ذلك بأمر واضح، هو عدم العلم قالوا: "لأنه لا يتحقق موته" كما عبر الحنفية، أو "لأنه قد يعيش" كما عبر الشافعية. إذن يبدو أن الأمر في حق من لم يبق منه إلا مثل حياة المذبوح راجع إلى التحقق وعدمه، ووسيلة التحقق قد تكون ظاهرة لكل أحد، كالذي قطعت عنقه أو أبينت حشوته، وقد تكون خفية لا يعلمها إلا حذاق الأطباء، لكنهم منها متيقنون، كالذي مات منه الدماغ. هذا ما نقوله في هذا المؤتمر على سبيل البحث والنظر، لا على سبيل الإفتاء به، والإذن في الأخذ به لأحد من الناس. فإذا تأيد هذا في مؤتمركم الموقر، ووافق على الأخذ به علماء الشرع، يبقى القول في أمرين: الأول: أنه هل ينبغي أن يقال: إن المريض في تلك الحال (ميت حقيقة) أم أن يقال: (هو في حكم الميت) كما قال الحنفية؟ والذي أراه أنه ينبغي أن يقال: هو حي في حكم الميت، أي يعامل معاملة من قد مات في نزع أجهزة الإنعاش عنه، وفي أخذ أعضائه، لا في الميراث ونحوه (1) الثاني: ما هي الاحتياطات التي ينبغي اتخاذها من حيث الخبرة، ومن حيث الثقة والأمانة، لنضمن عدم حصول التجاوزات غير المنضبطة؟ والله أعلى وأعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.   (1) أي فلا يورث حتى يتوقف قلبه ليكون ميتًا حقيقة، وكذلك عدة زوجته ونحو ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 نظرة في حديث ابن مسعود للدكتور محمد سليمان الأشقر بسم الله الرحمن الرحيم تعليقًا على حديث ابن مسعود الذي رواه البخاري ومسلم أود أن أتكلم من وجهة نظر حديثية وأصولية صرفة، وكم كنت أود لو فرعت بحثي الذي قدمته للمؤتمر في هذه النقطة خاصة، لأنها أساس الكلام تقريبًا في هذا المؤتمر فيما يتعلق ببدء الحياة. هذا الحديث روي في الصحيحين وغيرهما، وتضمن قضايا مختلفة: القضية الأولى: أنه أخبر بكتابة الأجل والرزق، وهذا اتفقت عليه الروايات عن ابن مسعود وغيره من الصحابة، وقد بلغ عددهم كما في فتح الباري عشرة من الصحابة، فلا يشك في ذلك. القضية الثانية: أنه أخبر بزيارة المَلَك للجنين في بطن أمه، وهذا أيضًا تتفق فيه الروايات. القضية الثالثة: أن هذه الزيارة تكون بعد أربعين وأربعين وأربعين، وهذه النقطة بالذات اختلفت فيها هذه الرواية للحديث مع روايات كثيرة لغير ابن مسعود من الصحابة، بعضها في صحيح مسلم، كحديث أبي أُسيد الغفاري، أن المدة أربعون يومًا، فقط، ولم يذكر عن أي واحد من الصحابة غير ابن مسعود أنها ثلاث أربعينات، بل كلها اتفقت على أنها أربعون واحدة فقط، أو أربعون وبضعة أيام. فما موقف المحدث تجاه مثل هذا؟ إن هذا النوع هو من تعارض الروايات. ولا ينبغي في نظري أن يقال: إنها زورتان، فإن التفاصيل المذكورة في الروايات تدل على أنها زورة واحدة. إذن هذا نوع من التعارض، وإحدى الروايات هي الصحيحة، وتعبر عما صدر في الحقيقة والواقع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الرواية الأخرى - وإن صحت سندًا - فينبغي أن نحملها على تصرف من بعض الرواة بنوع من الوهم، أو نؤولها، أو نفهمها على وضع غير ما يتبادر منها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 قد قال بعض من تكلم من المحدثين في هذا الموضوع: إن اختيار البخاري لرواية الأربعينات الثلاث، وعدم ذكره لما خالفها، نوع من الترجيح. ولكن يمكن أن ننظر في هذا الأمر بطريقة أخرى، وهي أن كثرة الرواة، واتفاقهم على طريقة واحدة، ترجح على رواية الواحد. فإذا علمنا أن الرواة عن ابن مسعود في الروايات التي صحت سندًا لم يأت بالأربعينات إلا واحد منهم فقط هو المسمى زيد بن وهب: نعلم بذلك رجحان رواية أن الأربعين واحدة، حيث إنها قد صحت واتفق عليها سائر الرواة. وهذا الترجيح هو المطابق لكلام الأصوليين والمحدثين، طبقًا لما يذكرونه في باب التعارض، من أن الترجيح بكثرة الرواة أصل معتبر، خاصة وقد صحت الروايتان من حيث السند، وتكون رواية الأربعينات الثلاث شاذة. فإذا صح هذا الترجيح لزمنا أن نعتبر أن نفخ الروح، وما ذكر معه إنما يكون بعد أربعين، أو اثنين وأربعين، أو خمسة وأربعين يومًا، وليس بعد مائة وعشرين يومًا. وينبغي أن تبنى الأحكام على هذا التوقيت لا على التوقيت بأربعة أشهر. ويمكن أن نذهب إلى طريقة الجمع بين الروايتين، حيث إن الجمع في حال التعارض أولى من الترجيح. فأشير إلى أن رواية ابن مسعود التي فيها الأربعينات الثلاث رويت في الصحيحين بطرقتين: الأولى: قالت: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه المَلَكُ)) . أما الرواية الثانية: فأرجو أن يتنبه إلى لفظها: هي تقول: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك)) . فهذا الاختلاف لا شك أنه وقع بعد ابن مسعود وليس من ابن مسعود نفسه. فإذا دققنا النظر في الرواية الثانية أمكن أن تحل الإشكالات كلها، فهي قالت: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك)) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 فقوله: "في ذلك" يعود إلى ماذا؟ لم أجد أحدًا تكلم في الفرق بين الروايتين، ولعلهم استسهلوا فهم الرواية الأولى ففهموا أنها أربعينات ثلاث، ولكن أغفلوا الكلام عن الرواية الثانية: إن كلمة "في ذلك" لا يظهر لها أي مرجع ترجع إليه إلا قوله (أربعين يومًا) أي تكون أيضًا علقة في الأربعين الأولى، وكذلك مرحلة العلقة هي أيضًا في الأربعين الأولى، وبهذا تجتمع جميع الروايات عن ابن مسعود وغيره، ولا يكون بينها تعارض. ومآل الطريقتين واحد: إن قلنا بالتعارض والترجيح فالمدة أربعون يومًا فقط، وإن قلنا بالجمع فالمدة أربعون يومًا فقط كذلك. أما القضية الرابعة: التي ذكرت في رواية ابن مسعود، فهي أن المَلك ينفخ الروح في الجنين في زورته تلك، فهذه القضية لم تذكر في أي رواية أخرى إلا في رواية ابن مسعود، إلا أنها رويت عن ابن عباس من قوله. وأيضًا هنا أتكلم من وجهة نظر أصولية وحديثية صرفة. قد يظن أن هذا أيضًا من باب تعارض الروايات. ونقول: لا، ليس هذا من باب التعارض في شيء، بل هذا من زيادة بعض الرواة عن البعض الآخر، فقد أتى بتفصيل لم يذكره غيره، فيكون هذا من باب (زيادة الراوي الثقة) وليس من باب التعارض. (وزيادة الراوي الثقة) قد تضعف بسبب عدم مشاركة غيره من الرواة له في تلك الزيادة، وانفراده بذلك، لأن غيره كان يسمع كما سمع، فلماذا أتى هو بما لم يأت به غيره؟ ولكن الراجح عند العلماء أن زيادة الراوي الثقة عن غيره مقبولة، ويعلم بمضمونها وعلى هذا فرواية (نفخ الروح) في زيارة الملك معتمدة ومقبولة، وتؤيدها إشارات قرآنية وحديثية أخرى، بخلاف قضية الأربعينات الثلاث. وقد تعرضت لهذه المسألة في ندوة الإنجاب بإيجاز ولم أزل أقلبها في ذهني، وقد رجعت إلى كثير من الروايات، وأرجو أن يكون هذا الأمر الذي وصلت إليه كاشفًا للأمر، وجامعًا بين الروايات، ويثبت عندنا أن زيارة الملك إنما هي بعد أربعين واحدة فقط. والمسألة – مع ذلك - بحاجة إلى مزيد من البحث، بحيث تجمع جميع الروايات من كتب الحديث، بأسانيدها ومتونها، جمعًا مستقصيًا، ثم ينظر فيها بعد ذلك بحسب ما تقتضيه الأصول المقررة لدى المختصين، ويخرج برأي حاسم في الموضوع والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 نهاية الحياة الإنسانية في نظر الإسلام للشيخ بدر المتولي عبد الباسط باطلاعي على ما كتبه إخواننا الأطباء يكاد إجماعهم ينعقد على أن الحياة الإنسانية تنتهي بتوقف المخ عن العمل، ورتبوا على ذلك أحكامًا في غاية الخطورة، وهي جواز الانتفاع بأعضاء من هذا الشخص لآخرين حتى ولو كانت أجهزته الأساسية يقوم بعضها بأداء مهمته كالجهاز الهضمي والتنفسي والدموي، سواء أكان قيام هذه الأجهزة بنفسها أم بواسطة أجهزة من صنع الإنسان. وقبل أن أبين رأيي أسائل السادة الأطباء عن أمرين: أولهما: لو مات الجهاز التنفسي مثلًا هل كان يستجيب لأداء وظيفته بالأجهزة المستحدثة؟ ثانيهما: هل الجسم الميت يكون فيه عامل الهدم والبناء معًا.. أم لا يبقى إلا عامل الهدم دون غيره؟ وعلى ضوء الإجابة يتضح هذا الأمر الخطير.. فإن كان الجواب عن الأول بأن الأجهزة البشرية إذا ماتت حقيقة لا تستجيب للأجهزة الحديثة، فيكون الموت بموت هذه الأجهزة وليس بتوقف المخ وحده. وإن كانت هذه الأجهزة البشرية لا تستجيب إلا إذا كانت بها حياة فكيف يقال بأن الموت إنما هو بتوقف المخ فقط؟ أما السؤال الثاني: فإن توقف المخ مع بقاء الأجهزة البشرية لأداء وظيفتها بوسائل حديثة يبقى هناك عامل الهدم والبناء في الجسم البشري وهذا دليل على وجود الحياة، فكيف يقال بأن الموت يعتبر بتوقف المخ وحده مع بقاء الجسم في حالة هدم وبناء؟ والإسلام رتب على انتهاء الحياة الإنسانية أحكامًا كثيرة منها: وجوب غسله وتكفينه ودفنه وانتقال عدة المرأة إلى عدة المتوفي عنها زوجها إن لم تكن حاملًا.. كما رتب على ذلك وجوب القصاص أو الدية إذا كان انتهاء الحياة بسبب جناية، كما رتب على ذلك أيضًا أحكام الميراث والوصية فكان لا بد من تحديد الموت الحقيقي المعتبر شرعًا والذي يترتب عليه هذه الأحكام وغيرها. وبالرجوع إلى المصادر الفقهية تبين ما يأتي: يكاد يجمع الفقهاء على أنه إذا شق شخص بطن إنسان ولم يخرج حشوته، فجاء آخر وذفف عليه أي ذبحه فالقصاص على الثاني دون الأول؛ لأن شق البطن يمكن أن يعيش الإنسان معه ما لم تفصل حشوته من أمعاء ومعدة وكبد وغير ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 أما إذا شق إنسان بطن آخر وأخرج حشوته وبقي فيه حياة وجاء من ذفف عليه أي ذبحه فالقصاص على الأول، والثاني يجب تعزيره، لأن ما بقي من الحياة بعد إخراج الحشوة هي حياة غير مستقرة، ولكن لكرامة الإنسان وجب أن يحافظ على هذا القدر ولا يعتدي عليه. كما أن الفقهاء قرروا أنه لا توارث بين شخصين نفذ فيهما القتل في لحظة واحدة، إلا أنه بقي أحدهما يضطرب أكثر من الثاني، فاشترطوا أن تكون الحياة التي بموجبها يستحق الحي الميراث أن تكون حياة فوق حياة المذبوح. وبهذا يمكنني أن أقول: إن الحياة الإنسانية تنتهي –بالنسبة لبعض الأحكام كالميراث- بمباشرة سبب الوفاة وأنه لا بد في الميراث من أن تكون حياة الوارث فوق حياة المذبوح. ولكن هل يعقل أن تُجْرَى على من توقف مخه الأحكامُ الأخرى من غسل وتكفين وأن تُزَوَّجَ امرأته وهو لا يزال تحت الأجهزة يتنفس ويتغذى؟ !!! وقد وقع ما يكاد يبطل نظرية توقف المخ فقط، فقد نشرت جريدة الأهرام في صفحتها الخامسة بتاريخ: 30/ 9/ 1984 م هذا الخبر أنقله حرفيًا وعنوانه: "حالة فريدة من نوعها: أم في غيبوبة تضع طفلًا مكتمل النمو ... "حالة وضع غريبة أثارت اهتمام العلماء في العالم أجمع، تلك حالة السيدة الفنلندية انجاليتالو 32 عامًا التي وضعت طفلها الرابع وهي في غيبوبة تامة منذ شهرين ونصف، وقد دخلت الأم في هذه الغيبوبة إثر إصابتها بنزيف في المخ، والغريب أن الأم قد توفيت بعد أن وضعت طفلها ماركو بيومين.. ويؤكد د. جورما هيكينين الطبيب الذي باشر حالة السيدة أن هذه الحالة تعتبر نادرة للغاية، فقد كانت الأم تتنفس صناعيًا وتتغذى بالأنابيب وينقل لها دم مرة أسبوعيًا، وذلك لمدة عشرة أسابيع. أما الشيء الذي حير الأطباء فهو كيف أمكن اكتمال نمو الطفل بطريقة طبيعية تحت هذه الظروف؟ بل إن الطفل ولد بصحة طيبة ووزن طبيعي.. يقول الأب: إنه يعتقد أن ولادة ابنه ماركو تعتبر شيئًا من قبيل المعجزة إذ إنه كان قد فقد الأمل في أن يعيش الجنين بعد الغيبوبة التي دخلت فيها الأم، غير أن عناية الله كانت تفوق كل توقع، وكان الأطباء يباشرون حالة الجنين بانتظام عن طريق الموجات الصوتية.. وفي الأسبوع الـ 22 كان على الأطباء أن يتموا عملية الوضع لكنهم تركوا القرار الأخير للأب الذي وافقه على الفور، وكان لمولد الطفل ماركو وقع مهدئ على الأسرة لتعويضهم عن الصدمة المؤلمة التي شعروا بها بعد موت الأم وللطفل ماركو ثلاثة إخوة تتراوح أعمارهم بين 5، و 11 عامًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 فما يدرينا لعل الله سبحانه وتعالى أن يوفق بعض الباحثين إلى ما يعيد للمخ حياته بعد توقفه، كما وفق الأطباء بعض الباحثين إلى ما يعيد للمخ حياته بعد توقفه، كما وفق الأطباء إلى زرع الكلى والقلوب والأعضاء الأخرى. وما أفتى به بعض العلماء من جواز الانتفاع ببعض أعضاء الميت لإنقاذ حياة حي فإن ذلك لا يكون إلا بعد التحقق من وفاة المأخوذ منه عضوا يعيش إلا به، كالقلب والكبد، ويحفظ بالوسائل العلمية الحديثة لينتفع به.. ولا أعتقد أن عالمًا في الشريعة يستطيع أن يفتي بجواز نزع قلب شخص لا تزال به حياة –مهما كانت هذه الحياة ضئيلة- لينقل إلى شخص آخر. ومما ينبغي أن يعلم أن فقهاء الإسلام جميعًا مجمعون على أنه لو كان شخص في النزع الأخير – من غير جناية - فجاء من قتله وجب القصاص إذا كان القتل عمدًا والدية إذا كان خطأ. والذي يستريح له ضميري بعد مراجعة النصوص الفقهية، أن مثل هذه المسألة يفتى فيها بالأحوط أخذًا بقاعدة (اليقين لا يزول بالشك) . فبناء على هذا إذا كانت الحياة بعد توقف المخ مثل حياة المذبوح، فإن هذا الشخص لا يرث غيره، لأن شرط الميراث تحقق حياة الوارث بعد المورث، وحياة مثل هذا الشخص حياة مشكوك فيها، والشك لا يعارض اليقين. كما أن هذا الشخص إذا كان بهذه الحال لا يورث حتى تتحقق وفاته، لأن حياته كانت ثابتة بيقين، وحياته في هذه الحال مشكوك فيها، كما يجب أن لا تجرى عليه الأعمال التي تجرى في الوفاة من غسل وتكفين ودفن. أما عن زوجته فالذي أطمئن إليه أنه لا تبدأ عدتها إلا بعد التحقق من وفاته، بحيث لا يكون هناك شك في حياة أي جهاز من أجهزته الحيوية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 تنبيه: جاء في بعض ما كتبه إخواننا الأطباء العبارة الآتية "إذا وجدت المصلحة فثم شرع الله". وهذه العبارة تحتاج إلى توضيح فأقول وبالله التوفيق: إن المصالح التي جاء بها الشرع خمس: 1- مصلحة الدين. 2- مصلحة النفس. 3- مصلحة العقل. 4- مصلحة النسل. 5- مصلحة المال. وهذه المصالح منها ما هو ضروري بحيث تفوت المصلحة بفوته، ومنها ما هو حاجي بحيث تبقى المصلحة ولكن مع الحرج الشديد، ومنها ما هو تحسيني.. وقد تتعارض هذه المصالح فتقدم مصلحة الدين على مصلحة النفس، ومصلحة النفس على مصلحة العقل، ومصلحة العقل على مصلحة النسل.. وكل هذه المصالح تتقدم على مصلحة المال.. كما يقدم الضروري منها على الحاجي.. والحاجي على التحسيني، ثم إن المصالح بالنسبة لاعتبار الشارع ثلاث: 1- مصلحة معتبرة شرعًا. 2- مصلحة ملغاة شرعًا. 3- مصلحة سكت عنها الشارع فلم يعتبرها ولم يلغها. فأما المصالح التي ألغاها الشارع فهي كالمصلحة في الخمر والميسر فالله سبحانه وتعالى يقول {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} وكالمصلحة في الربا كما كان يزعم المرابون قديمًا بقولهم "إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا" فألغى الله ما في الربا من مصلحة بقوله {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} وكالمصلحة في التبني فقد ألغاها الله بقوله {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} فكل مصلحة ألغاها الشارع لا ينبغي أن نبني عليها حكمًا بل هي مهدرة وهي من تخييل الهوى. وأما المصالح التي سكت عنها الشارع فلم يعتبرها ولم يلغها، وهي ما يعرف عند العلماء بالمصالح المرسلة فالأمر فيها موسع، ويؤخذ فيها برأي المختصين. بعد هذا البيان ينبغي أن يفهم ما قالوه من أنه إذا وجدت المصلحة فثم شرع الله.. أن المراد بالمصلحة التي تتفق مع شرع الله هي التي لم يلغها الشارع ولم يملها الهوى وقديمًا قيل: وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا ولعله بعد هذا البيان يجب أن لا نحكم أولًا ثم نلتمس الأسباب والعلل والمسوغات التي لا يعجز العقل البشري عن التماسها عندما يكون خاضعًا للأهواء والأغراض. هذا ما بدا لي في هذا الموضوع الخطير حتى لا ننساق وراء كل جديد. والله من وراء القصد ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 متى تنتهي الحياة للشيخ محمد المختار السلامي مفتي تونس إن انتهاء الحياة له حالتان – حالة ظرفية وحالة مطلقة. الحالة الظرفية: هي حالة توقف الأجهزة الأساسية عن العمل توقفًا نهائيًا لا يمكن للعلم حسب إمكاناته ومستواه أن يعيدها إلى العمل من جديد، والأجهزة الأساسية هي القلب باعتباره المغذي لكل الأجهزة البشرية وجذع الدماغ باعتباره المنظم وبرج القيادة لكل الأجهزة فإذا امتنع الغذاء أو خربت القيادة أبديًا كان الموت. ثم إن عمل هذين قد يكون عملًا طبيعيًا ولا إشكال في هذا، وقد يكون العمل غير طبيعي كتركيب آلات بوظائف القسم المعطل، فهل يعتبر الإنسان ما دامت فيه الحياة ولو كانت حياة خلوية أو آلية هل يعتبر حيًا له حكم الأحياء؟ يقول خليل بن إسحاق: ولا سقط ما لم يستهل ولو تحرك أو بال أو رضع. إن هذه الفقرة تجعل مقياس الحياة الصوت، وقد فصل اللخمي ما تكون به الحياة فقال: اختلف في الحركة والرضاع والعطاس فقال مالك: لا يكون له بذلك حكم الحياة، قال ابن حبيب: وإن أقام يومًا يتنفس ويفتح عينيه ويتحرك حتى يسمع له صوت، وإن كان خفيًا، قال إسماعيل: وحركته كحركته في البطن لا يحكم له فيها بحياة، قال عبد الوهاب: وقد يتحرك المقتول، وعارض هذا المازري وقال: لا معنى لإنكار دلالة الرضاع على الحياة لأنا نعلم علمًا يقينيًا أنه محال بالعادة أن يرضع الميت، وليس الرضاع من الأفعال التي تكون بين الطبيعية والاختيارية، كما قال ابن الماجشون: إن العطاس يكون من الريح، والبول من استرخاء المواسك، لأن الرضاع لا يكون إلا من القصد إليه، والتشكك في دلالته على الحياة يطرق إلى هدم قواعد ضرورية –والصواب ما قاله ابن وهب وغيره إنه كالاستهلاك بالصراخ (1) ويقول المواق معلقًا على هذا البحث انظر هذا البحث من الإمام فقد كان عمر رضي الله عنه لما طعن معدودًا في الأموات لو مات له مورث لما ورثه، وهو قول ابن القاسم، ولو قتل رجل عمر رضي الله عنه لما قتل به وإن كان عمر حينئذ يتكلم ويعهد، وفرق بين ولد البقرة مثلًا تزلقه ومثله يعيش وبين المريضة التي أيس من حياتها، هذه يراعى الاستصحاب فتحسب حية وتتعلق بها الذكاة بخلاف المزلق (2)   (1) الزرقاني ج 2 ص 112 (2) شرح المواق علي خليل ج 2 ص 250 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 لقد نقلت هذا النص بطوله لبيان أن المجتهدين قد اختلفوا متى تعتبر الحياة منتهية فينتفي تبعًا لذلك ترتب أحكام الحياة، لقد رأينا أنهم لم يعتبروا الحياة تثبت إلا بالصوت والصوت حركة مرتبطة بالدماغ، فإذا كان الدماغ هامدًا لا يعطي أوامره ولا يضبط الإرجاع عن المؤاثرات فإنه لا حياة، ولذلك قدروا أن العطاس والبول والرضاع لا يعبر عن الحياة، وتنبه المازري إلى أن الرضاع حركة إرادية يعني أن الدماغ هو الذي يتدخل ليرضع الإنسان، فالامتصاص ليس عملية طبيعية وإنما هو عملية إرادية لا تكون إلا إذا كان الدماغ عاملًا. ولكن حتى عمل الدماغ لم يعتبره المواق دليل حياة ما لم يكن عمله محكومًا عليه بالدمار القريب، فإذا حصل في أجزاء الجسم ما يدمر الطاقة الذهنية وحركة الدماغ كان في حكم الميت لا يرث غيره في هذه الحالة. الرأي عندي: بعد هذا العرض من الاختلاف في تحديد حياة الإنسان واعتباره ميتًا إذا كانت الحياة السارية ليست حياة بالمعنى الكامل كحياة الذي نفذت مقاتله، أو حياة الموضوع تحت الأجهزة الآلية التي تبقى على الدورة الدموية، أقول: إن هذا الرأي يبدو لي أنه رأي غير وجيه ويترجح عندي أنه ما دامت الأجهزة الأساسية حية فالإنسان حي يأخذ كل أحكام الأحياء. إن الذي رجح عندي هذا هو أنه في السنة الماضية قرأت فصلًا في إحدى الجرائد جاء فيه أن فتاة أمريكية تعيش اصطناعيًا لمدة سنوات وطلب أبواها أن تراح من هذا العذاب المتواصل، وأن يقطع الأطباء أجهزتهم عن العمل لفائدتها، وبعد تدخل القضاء ورضا الأطباء بذلك كانت المفاجأة، إذ استمرت الحياة فيها غير معتمدة على الأجهزة، وأيضًا فإنه قبل سنوات كان المريض الذي يتوقف قلبه عن النبض تمامًا يعتبر قد انتقل من حالة المرض إلى حالة الموت، لكن توقف القلب بعد تقدم الجراحة الطبية أصبح لا يدل على موت صاحبه، بل إن عملية القلب المفتوح تقتضي توقيف القلب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 الحالة المطلقة: أعتقد جازمًا أنه لا يمكن إعطاء تحديد مطلق للموت لأن العلم يتطور تطورًا مبدعًا، وإذا أمكنه اليوم أن يعيد للقلب نبضه وانتظامه، فما المانع من أن يتمكن في يوم من الأيام من أن يعيد إلى جذع الدماغ قدرته ودوره؟ خاصة وقد دخل الدماغ الإلكتروني في الساحة الطبية، ويسر على الجراحين العمليات المعقدة والخطيرة وحقق نجاحًا مذهلًا ولذا يكون إعطاء تعريف مطلق للموت فيه من التجني على المستقبل ما لا يمكن قبوله بحال. طريقة طرح السؤال: إنه بناء على ما تقدم يكون من الخير أن يقدم السؤال لا على أساس تحديد الموت والمقياس الضابط لذلك، ولكن على أساس هل يجوز شرعًا نقل أعضاء حية إلى المصابين والذين حياتهم في خطر إذا لم يسعفوا بهذا العضو الذي لا بد أن ينقل في حالة حياة قبل أن تدمر خلاياه. إن التكييف الشرعي لنقل الأعضاء لا يرتبط بتحديد الحياة والموت ولكنه يرتبط بأمرين آخرين: الأول: المضطر لما حرم عليه المضطر: هو الإنسان الذي يبلغ درجة الاختيار بين أمرين لا ثالث لهما؛ الموت المحقق أو تناول ما يحرم عليه وقد جاءت الآية صريحة في جواز الإقدام على المحرم حفاظًا على الحياة قال تعالى {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} (1) وقال تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (2) ونص الفقهاء على أن المضطر يجب عليه أن يبقى على حياته بتناوله للمحرم، والخلاف بينهم إنما هو في تفصيلات كالبيع والتزود وأمور أخرى يهمنا منها: أ- هل التداوي كالأكل؟ يقول ابن تيمية: والتداوي بالمحرم ليس مثل أكل المضطر للميتة فإن ذلك يحصل به المقصود قطعًا وليس له عنه عوض، والأكل منها واجب فمن اضطر إلى الميتة ولم يأكل حتى مات دخل النار، وهنا لا يعلم حصول الشفاء ولا يتعين هذا الدواء، بل الله تعالى يعافي العبد بأسباب متعددة والتداوي ليس بواجب عند جمهور العلماء ولا يقاس هذا بهذا (3)   (1) سورة الأنعام آية 118 (2) سورة البقرة آية 173 (3) الفتاوى ج 24 ص 266 وما بعدها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 ويقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: ومما اختلفوا في قياسه على ضرورة الجوع ضرورة التداوي، فقيل لا يتداوى بهذه المحرمات ولا بشيء مما حرم الله كالخمر، وهو قول مالك والجمهور ولم يزل الناس يستشكلونه لاتحاد العلة وهي حفظ الحياة، وعندي أن وجهة أن تحقق العلة فيه منتف إن لم يبلغ العلم بخصائص الأدوية ظن نفعها كلها إلا ما جرب منها وكم من أغلاط كانت للمتطببين في خصائص الدواء؟ ونقل الفخر عن بعضهم إباحة تناول المحرمات من الأدوية، وعندي أنه إذا وقع قوة ظن الأطباء الثقات بنفع الدواء المحرم من مرض عظيم وتعينه أو غلب ذلك في التجربة فالجواز قياسًا على الأكل للمضطر وإلا فلا (1) ملاحظة: إن المتتبع لكلام الفقهاء يتبين له أن سبب الخلاف هو مقدار ثقة الفقيه في وصف الأطباء، إذ الطب لم يكن واثقًا من كثير من العقاقير، ولا من تشخيص المرض ولا من ملاءمتها للمريض، والمرض كما يدل عليه تعليل ابن تيمية وهنا لا يعلم حصول الشفاء ولا يتعين هذا الدواء، لذا ولأنه بمقدار ما تزيد الثقة في الصحة بالتجربة يزداد الاطمئنان إلى جواز تناول الدواء وإن ركب من محرم. أكل الميتة: إذا اضطر الإنسان لأكل الميتة جاز له الأكل منها بلا خلاف، وذلك بنص القرآن لكنهم اختلفوا رغم ذلك في أمور: أ- هل يجوز للمضطر أن يأكل ميتة الإنسان؟ يقول خليل للضرورة ما يسد (أي الرمق) غير آدمي وخمر. يقول شارحه الزرقاني واستثناؤه الآدمي مسلمًا أو كافرًا موافق للمشهود الذي صدر به في الجنائز، ثم ذكر مقابلة –ونصه "والنص عدم جواز أكله لمضطر وصحح أكله، وهل علة الحرمة التعبد وهو المشهور أو الإذاية لأنه قيل إذا جافت صارت سما. وهو لابن عمران الجورائي، ثم قوله وصحح أكله وما قبلاه من المنع شامل لأكله من نفسه كيده أو رجله. ولا يبعد القول بإباحة أكله من بعض أعضائه حفاظًا لنفسه كما ذكروه فيمن لدغته أفعى في يده وكان يرجو الحياة بقطعها قبل سريان السم فيه، أو طولها فإنه يجب". (2)   (1) التحرير والتنوير ج 2 ص 121 (2) الزرقاني ج 3 ص 28 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 ومذهب أحمد كما فصله المغني. وإن لم يجد المضطر شيئًا لم يبح له أكل بعض أعضائه. وقال بعض أصحاب الشافعي له ذلك لأن له أن يحفظ الجملة بقطع عضو كما لو وقعت فيه الأكلة. ولنا أن أكله من نفسه ربما قتله فيكون قاتلًا لنفسه، ولا يتيقن حصول البقاء بأكله، أما قطع الأكلة فإنه يخاف الهلاك بذلك العضو فأبيح له إبعاده ودفع ضرره المتوجه منه بتركه كما أبيح قتل الصائل عليه. ولم يبح له قتله لمأكله. وإن لم يجد إلا آدميًا محقون الدم لم يبح له قتله إجماعًا ولا إتلاف عضو منه مسلمًا كان أو كافرًا لأنه مثله: فلا يجوز أن يبقى نفسه بإتلافه. وهذا لا خلاف فيه وإن كان مباح الدم كالحربي والمرتد فذكر القاضي أن له قتله وأكله لأن قتله مباح. وهكذا قال أصحاب الشافعي لأنه لا حرمة له فهو بمنزلة السباع. وإن وجد ميتًا أبيح أكله لأن أكله مباح بعد قتله فكذلك بعد موته. وإن وجد معصومًا ميتًا لم يبح أكله في قول أصحابنا. قال الشافعية وبعض الحنفية يباح، وهو أولى لأن حرمة الحي أعظم ومذهب الشافعي كما ذكره الهيثمي في التحفة. وله أي المعصوم بل عليه أكل آدمي ميت محرم إذا لم يجد ميتة غيره ولو مغلطة، لأن حرمة الحي أعظم، ومن ثم لو كانت ميتة نبي امتنع الأكل منها قطعًا. وكذا ميتة مسلم والمضطر ذمي. وظاهر كلامهما أنهما حيث اتحدا إسلامًا وعصمة لم ينظر لأفضلية الميت، وإذا جاز أكله حرم طبخه وقيده شارح الأذرعي بما إذا أمكن أكله نيئًا. وله بل عليه قتل مهدر نحو مرتد وحربي وزان محصن ومحارب وتارك صلاة بشرطه ومن عليه قود بغير إذن الإمام للضرورة لا ذمي ومستأمن لعصمتهما. وصبي وحربي وامرأة حربية لحرمة قتلهما قلت الأصح قتل الصبي والمرأة الحربيين، وكذا الخنثى والمجنون ورفيقهم للأكل والله أعلم لعدم عصمتهم. وحرمة قتلهم إنما هي لحق الغانمين ومن ثم لم تجب فيه كفارة. (1)   (1) المغني جـ 8 ص 601 - 602 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 إن هذه النصوص الثلاثة يمكننا أن نستخلص منها ما يلي: أ- أكل الميت مذهب مالك أن الأكل من الإنسان الميت للضرورة مختلف فيه المشهور عدم الجواز والصحيح الجواز. مذهب أحمد أن الأكل من الإنسان الميت للضرورة مختلف فيه محترم الدم جاز أكله وإن كان محترم الدم فالأولى الجواز. مذهب الشافعي جواز الأكل من الميت إلا إذا كان المضطر ذميًا أو الميت مسلمًا. ب- قتل الحي لأكله مذهب مالك الحرمة مذهب أحمد إن كان محقون الدم فلا يجوز له قتله لأكله، وإن كان غير محقون الدم جاز قتله وأكله. مذهب الشافعي أنه يجب عليه قتل الحربي والمسلم المرتكب ما يوجب قتله، وكذا الحربي المحقون الدم كالمرأة والصبي. جـ – أكل بعض أعضائه مذهب مالك ترجيح أكله بعض أعضائه. مذهب أحمد ترجيح عدم الجواز. مذهب الشافعي جواز أكل بعض أجزائه النتائج بناء على هذا فإن نقل بعض أعضاء من إنسان إلى آخر مع بقاء حياة كل منهما لا مانع منه، لأنه حتى على مذهب أحمد هو معلل بأن الانتفاع ببعض الأعضاء ربما يؤدي إلى الموت فمتى اطمأننا إلى السلامة فلا مانع. - أنه بناء على ما ذكر صاحب التحفة فإنه يجوز أكل كل من أجزاء المحكوم عليهم بالإعدام وكذا كل من لم يكن معصوم الدم. - إذا جاز الأكل لاستبقاء الحياة فإنه يجوز الانتفاع بالعضو لاستبقاء الحياة أيضًا بواسطة زرعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 - بناء على أن أولياء الميت يملكون العفو فإذا كان الإنسان في حالة جيدة اصطناعية فلا مانع من الاستفادة ببعض أعضائه لإنقاذ حياة غيره. الثاني: الوجه الثاني من التكييف الشرعي – الإيثار. يقول الزركشي قال الإمام في باب صول الفحل لا خلاف في استحباب الإيثار وإن أدى إلى هلاك المؤثر وهو من شيم الصالحين، فإذا اضطر وانتهى إلى المخمصة ومعه ما يسد جوعه وفي رفقته مضطر فآثره بالطعام فهو حسن، وكذا القول في سائر الإيثارات التي يتدارك بها المهج. قال والده في باب التيمم من الفروق، المضطر إن أراد الإيثار بما معه لاستحياء مهجة أخرى كان له الإيثار وإن خاف فوات مهجته. (1) هذا وإنه أثناء كتابة هذا البحث اطلعت في النشرة الإخبارية لوكالات الأنباء السعودية على الخبر التالي: يستضيف مستشفى القوات المسلحة بالرياض خلال الفترة من 25 إلى 27 ربيع الأول الحالي الموافق 17/ 9 – 5 ديسمبر 1984 مؤتمر الشرق الأوسط الدولي الثاني عن زراعة الأعضاء. وفي الصفحة التالية ودعا الفريق المواطنين للاستعداد للتبرع بكلاهم وذلك بعد الموت حتى يستفاد منها، مشيرًا إلى أن ذلك واجب ديني قبل أن يكون وطنيًا، مشيرين بذلك إلى قرار هيئة كبار العلماء رقم 99 وتاريخ 6/11/1402 وقرار مجلس الوزراء رقم 4/ 29221 اللذين أجازا التبرع بالأعضاء. (2) إني سأعمل للتحصيل على الفتوى التي تفضلت بإصدارها الهيئة الموقرة لكبار علماء المملكة المشار إليها بالخبر أعلاه. وإني أدعو بهذه المناسبة رجال الإعلام أن يتوخوا الدقة فيما يكتبون وأن لا ينساقوا مع أقلامهم المغموسة بالعواطف ففرق كبير بين أن التبرع بالكلى واجب ديني وبين قولهم بعد الذي أجاز التبرع إن معنى أنه واجب ديني أن كل من لم يتبرع آثم لأنه ترك واجبًا ومعنى جائز أنه مختار له أن يفعل وأن يترك. وأنهي كلمتي هذه التي كتبتها معجلًا إذ لم يرد علي عرض المشاركة إلا في نهاية شهر نوفمبر أنهيها بالتأكيد على أن القضية اجتهادية لا مطمع في اليقين لأي عالم ولا باحث، وإنه من الخير أن يقع التنسيق أفضل بين مؤسسات العالم الإسلامي في تبادل المعلومات، فكلما بحثت دائرة أو هيئة قضية من القضايا فإنه يكون من المتأكد أن تتولى نشرها في الجهات المختصة تعميمًا للفائدة. والله من وراء القصد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته   (1) قواعد الزركشي ج 1 ص 211 (2) وكالة الأنباء السعودية مكتب تونس عدد 11/21/3/1405 ص 5 و6 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 حقيقة الموت والحياة في القرآن والأحكام الشرعية للدكتور توفيق الواعي كلية الشريعة والدراسات الإسلامية يجب أولًا أن نعرف أن الحياة والموت بيد الله سبحانه، مصداقًا لقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فكما أن الحياة سر من أسرار الله سبحانه، كذلك الموت، كل بقدر، وميعاد. وقد تتنوع معاني الحياة، ويتنوع معاني الموت، واللغة العربية، والدلالات القرآنية تستوعب هذا التنوع. والمعروف أن الحياة مقابلة للموت، والموت مقابل للحياة، فإذا عرفنا الحياة كان ما يخرج عن التعريف ميت، وإذا عرفنا الموت كان ما يخرج عن التعريف حي. تعريف الموت: إذا أردنا أن نعرف الموت لغة وجدنا أن الميم، والواو، والتاء. تشير إلى ذهاب القوة من الشيء سواء كان حيوانًا أو نباتًا. قال صلى الله عليه وسلم: ((من أكل من هذه الشجرة الخبيثة)) يعني الثوم ((فلا يقربن مصلانا إلا إذا أماتها بالطبخ)) . فأصل الكلمة في اللغة إذن تدل على ذهاب القوة النامية. وقد تستعمل في ذهاب القوة الحسية، أو النفسية. وعلى هذا تنوعت دلالات الكلمة، من هذه الدلالات إطلاقها على، 1- السكون. فكل ما سكن فقد مات، يقال: ماتت النار إذا برد رمادها فلم يبق من الجمر شيء، وماتت الريح ركدت وسكنت. 2- النوم. يطلق على النوم أنه موت حيث يقال في الدعاء المعروف: الحمد الله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور. 3- ذهاب القوة النامية. فيطلق على ذهاب القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات كقوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50] {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:19] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 4- يطلق على زوال القوة الحسية كقوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} . [مريم: 23] . 5- الجهالة. فيطلق على الجهالة موت: كقوله تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122] كقول القائل: ليس مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء إنما الميت من يعيش ذليلًا كاسفًا باله قليل الرحاء 6- مقدمات الموت "الاحتضار" كقوله تعالى {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} [البقرة: 133] . 7- باعتبار ما سيكون: يطلق الموت على الشيء باعتبار ما سيكون، كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَاَنٍ} . 8- فقدان الحياة: كما يطلق الموت على فقدان الحياة ومغادرة الروح للجسد الإنساني كقوله تعالى {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] . (1) الروح: للروح في اللغة العربية إطلاقات ومعاني منها: 1- يطلق على جبريل أنه روح لقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) } [الشعراء: 163] . 2- يطلق على الوحي أنه روح: لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] . 3- وتطلق على السر الذي أودعه الله في آدم لقوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} كما تكون بمعنى اللطيفة الربانية التي أودعها الله في الإنسان والتي أشار إليها الحق سبحانه بقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] .   (1) انظر في ذلك لسان العرب، ومقاييس اللغة، وبصائر ذوي التميز، والفروق في اللغة لأبي هلال العسكري في المادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 وإذا أردنا نلقي الضوء على الروح التي هي اللطيفة الربانية التي أودعها الله في الإنسان، وجدنا أنفسنا أمام تعريفات عدة، ولكن حسبنا أن نذكر التعريف المعول عليه عند المحققين من العلماء، وهو: "الروح عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس" سرى فيه سريان الماء في الورد، والدهن في الزيت، والنار في الفحم، لا تقبل التحلل والتبدل والتفريق والتمزق، تعطي الجسم المحسوس الحياة وتوابعها إذا كان الجسم قد تم استعداده لها، وهو المراد بقوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وتظل هذه ملازمة له ما دام صالحًا لقبولها، لعدم حدوث ما يمنع من السريان كالأخلاط الغليظة، أو التلف والفساد، ومتى حدث ذلك حصل الموت لعدم صلاحية الجسم" وهذا هو رأي ابن سينا، والفخر الرازي وابن القيم وجمهور العلماء. إذن فالروح هي التي تعطي الجسد الحياة، والجسد هو الذي يكون به الإنسان إنسانًا يتحرك وتجري عليه الأحكام، فبدونه أو بدون صلاحه لا روح ولا حياة. والإنسان لا يصير إنسانًا إلا بالروح والحياة معًا. لقوله تعالى {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} فما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم إلا بعد أن استكمل خلقه جسدًا وروحًا. الجسم الإنساني: يعرف الفخر الرازي الإنسان فيقول: الإنسان جسم موصوف متولد عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص. والفخر الرازي بهذا يعرف الإنسان بجسمه المادي الموجود أمامه يراه ويحسه ويسميه الجسم الأرضي، كما يسميه الناس اليوم الجسم العضوي. ثم يزيد الفخر الرازي تعريف الجسم إيضاحًا فيقول: الجسم الذي تغلب عليه الأرضية هو: الأعضاء الصلبة الكثيفة كالعظم والغضروف والعصب والوتر والرباط والشحم واللحم والجلد والدم، ثم قال: ولم يقل أحد من العقلاء أن الإنسان مغاير لهذا الجسم، ولم يقل أحد من العقلاء كذلك: إن الجسم عبارة عن عضو معين من هذه الأعضاء" (1) انتهى كلام الفخر.   (1) الفخر الرازي 21 /43/ 44 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 علاقة الجسد والروح بالإنسان. صرح المعتزلة بأن الإنسان جسم مخصوص بشرط كونه موصوفًا بصفة الحياة والعلم والقدرة، والحياة عرض قائم بالجسم. أي أن الروح عرض قائم بذلك الجسم،وهم بذلك قد جعلوا الروح غير منفصلة عن الجسم، وليس لها ذات مستقلة. فالإنسان على رأيهم عبارة عن جسم مخصوص بشرط كونه موصوفًا بصفة الحياة والعلم والقدرة، ويمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده، وهيئة أعضائه وأجزائه وبما أوتي من تمييز وعقل. أما أهل السنة: فيقولون: إن الإنسان مكون من جسد، وروح تحل في هذا الجسد ما دام صالحًا لاستقبال الروح. فإذا فقد صلاحيته فقد روحه. وكل من الرأيين يلتقي مع الآخر في أن الإنسان جسم يفترق عن الحيوان، لأن فيه إحساسًا وعقلًا وعلمًا وقدرة، وصفات عليا. ويفترق الرأيان في الروح فيقول المعتزلة له: الروح عرض قائم بالجسم ولا يفترق عنه والجسد، والروح شيء واحد ولا انفصال بينهما. أما أهل السنة فيقولون: إن الروح شيء والجسد شيء آخر، فهي منفصلة عنه بدليل قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} فهذا دليل على أن النفس لا تموت بموت البدن. لأن القرآن جعل النفوس ذائقة للموت. والذائق لا بد أن يكون حيًا حال الذوق. والمعنى كل نفس ذائقة موت البدن. وهذا يدل على أن النفس غير البدن، وعلى أن النفس لا تموت بموت البدن. وأيضًا فيه تنبيه على أن ضرورة الموت مختص بالحياة الجسمانية" (1) لقوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} "فالجسد إذا غير الروح المنفوخة فيه".   (1) تفسير الفخر الرازي – 9/ 125 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 الإشارة إلى الإنسان بالجسد والروح: تكلم القرآن عن الإنسان مشيرًا إليه بالجسد وحده، وأعلم الخلق أن هذا الجسد ليس بخالد، وذلك مثل قوله في الأنبياء عليهم السلام: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} . فقد اقتضت حكمة الله أن يكون الرسل من البشر، يلتقون الوحي، وما كان الرسل من قبل إلا رجالًا ذوي أجساد، وما جعلهم الله أصحاب أجساد، ثم جعلهم لا يأكلون الطعام. فأكل الطعام من مقتضيات الجسدية، والجسدية من مقتضيات البشرية، والموت من مقتضيات تلك الجسدية، فهم إذن غير خالدين في هذه الحياة. وأشار القرآن أيضًا إلى الإنسان بالروح والنفس فقال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) } [الشمس: 7] إذا فالقرآن يخاطب الإنسان بالجسد مرة وبالروح أخرى. وهذا دلالة واضحة على أن الإنسان بجسده وروحه يشار إليه بكل منهما. الموت في القرآن: ذكر الموت في القرآن بمعانيه المختلفة التي سبقت الإشارة إليها. والذي نعنيه هنا من هذه المعاني، هو حديث القرآن عن موت الإنسان، وعن صفة هذا الموت، وحالة الإنسان بعده فنجد أن القرآن دائمًا يركز على موت الجسد، ثم يتبع ذلك بذكر صفة هذا الجسد الميت سواء ذكر مع هذا الجسد الروح أو لم تذكر. فالقرآن مثلًا يقول في وصف هلاك العصاة: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) } [يس: 29] . والخمود: هو سكون الجسد وخلوه من الحركة أو التنفس أو أي علامة للحياة الجسدية ثم يقول في آية أخرى: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] ويقول {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) } [القمر: 20] . يصف القرآن بذلك أجساد الهلكى بأنها صرعى لا حراك بها، قد تحللت ولم يبق إلا هياكلها كأنها أعجاز نخل خاوية منقعرة لا حراك بها ولا حياة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 ثم نجد أن القرآن يأتي بصورة أخرى للموت تخمد فيها الحياة والحس والنفس والحركة فيقول: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] حياة لا حركة ولا همس لا نبض لا تنفس، بل خمود وزوال. تصور لك الآية فقد الحياة بكل معانيها ودلالتها وإحساساتها. ويتحدث القرآن في آيات أخرى على موت الإنسان ويحكي منظر مشاهدة الناس لهذا الوداع الأخير فيركز على أمرين، أمر غير مشاهد للناس وإنما هو معلوم لله سبحانه وأمر مشاهد للناس ومعلوم لهم وبه يعرف الحياة والموت. فيقول: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) } فالناس لا يبصرون خروج الروح وهم جلوس حول الميت، إذا فبماذا يعرفون الموت؟ بعلامات جسدية تأتي في الآية اللاحقة. فيقول القرآن: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) } قال المفسرون: بردت وماتت وفقدت حرارتها وكان عليها جوالًا" الماوردي 4/ 362. وقال الفخر الرازي: يبست ساقاه والتصقت إحداهما بالأخرى فاقدة الحركة. الفخر الرازي 30/ 232. موت القلب: أشار القرآن في بعض آياته إلى أن توقف القلب من علامات الموت، فقال تعالى: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} . [التوبة: 110] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 المعجزة القرآنية في الإحياء والإماتة: نجد القرآن ينبه ويلفت دائمًا إلى الإعجاز الباهر في خلق هذا الإنسان وفي تكوينه وتصويره على أحسن صورة وأفضلها، فيقول في سورة المؤمنين: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) } أي أن هذا الجسد البديع الخلق ينحل ويزول ويخمد ويتلاشى ثم يحييه الله سبحانه يوم القيامة. والإماتة والإحياء ينصب على تلاشي الجسد وخموده بكل يقين نسمع في ذلك القرآن الكريم في كثير من الآيات التي تقرر ذلك. {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) } . إذًا فحياة الجسد سواء كانت حياة خلوية أو حياة متحركة هي حياة تدل على إبداع الخالق وعلى عظيم صنعه. فما زالت الكلية تعمل وهذا إعجاز وما زال القلب يعمل وهذا إعجاز، وما زال الكبد والطحال والأمعاء وسائر أجهزة الجسم تعمل بإعجاز تام مع الحياة الخلوية التي يقال عنها. فهل يكون هذا حياة أو موت، تلك الأجهزة الإلهية العاملة هي صناعة إنسان أم خلق خالق. وإن كان الأطباء يمدون الجسد ببعض ما يحتاجه من غذاء أو أشياء منشطة وإن كان، ولكن هذا يديم الحياة لا يديم الموت أو يلغي الحياة. القصص القرآني يوضح الفرق بين الجسد الميت وبين الجسد الحي. نرى القرآن في قصصه عن الموت والحياة يسير حسب القاعدة العامة في حديثه عن الإحياء والإماتة، فيوضح لنا الفرق بين إنسان مات ثم بعث وبين إنسان فقد إحساسه ثم أيقظ وكان الفرق الوحيد بينهما، انحلال الجسد في الموت، وعدم انحلاله في الإيقاظ. ولنأخذ مثلًا من القصص القرآني الذي يتكلم عن موت الجسد وحياته فنذكر قصتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 الأولى: عن الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها. والثانية: قصة إبراهيم عليه السلام وطلبه من الله أن يريه إحياء الموتى" فأما عن القصة الأولى فهي قصة عزير كما يسميها بعض المفسرين فقد قال الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) } . قال ابن كثير أحياه الله: فأول ما أحيا منه أحيا عينيه ليرى بهما كيف تسري الحياة إلى جسده ويرى بهما صنع الله في خلق الحياة في الجسد. ثم لفته الله سبحانه إلى حياة حماره فنظر إلى العظام التي تجمع واللحم الذي يكسو تلك العظام. يقول الفخر الرازي: انضمت أجزاء العظام بعضها إلى بعض، ثم التصق كل عضو بما يليق به، الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه، ثم الرأس ثم العصب والعروق ثم أنبت اللحم عليهما ثم الجلد ثم نبت الشعر على الجلد، ثم نفخ فيه فإذا هو قائم". وأما القصة الثانية فهي قصة إراءة إبراهيم عليه السلام إحياء الموتى إذا قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} . قال المفسرون: قطع إبراهيم عليه السلام أجساد الطيور الأربعة ثم فرقها على جبال أربعة ثم أمسك برؤوسهن في يده، ثم دعاهن فتجمعت الأجزاء المتفرقة وجاءت الأجساد تسعى إليه كل يعرف رأسه التي مع إبراهيم عليه السلام. فقال إبراهيم: أعلم أن الله عزيز حكيم. من هذا نعرف أن حياة الجسد حياة قد ركز القرآن عليها ولفت إليها الأنظار؛ لأنها محل الإعجاز والدلالة على قدرة الله سبحانه. وسائل الإنسان نفسه قائلًا: إذا لم تسم حياة الجسد حياة، فبماذا تسمى، وإذا كان في الدماغ حياة تستطيع أن تؤثر على باقي الجسم، ففي الجسم كذلك أعضاء تفعل نفس الشيء مثل القلب والرئتين والكبد والأمعاء وكثير من الأشياء في جسم الإنسان، بدونه لا تستمر حياة الإنسان، فلماذا التركيز على عضو معين وترك باقي الأعضاء. ولماذا إضافة الحياة والموت إليه فقط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 القرآن لا يعد تعطل الإحساس موتًا. إن تعطل الإحساس لا يدل على فقد الحياة اللهم إلا إذا كان ذلك على سبيل المجاز أو التشبيه، فلا يقول عاقل مثلًا أن النائم ميت، ولا يقول أن المجنون فاقد للحياة، كما لا يقال ذلك لناقص الأهلية كالصبي غير المميز، لا يقال إن هؤلاء يعاملون معاملة الأموات، كما لا يقال أن المريض حين يكون في غيبوبة طالت أم قصرت تحت أي ظروف يعامل معاملة الأموات، إلا إذا كان الموت والحياة أصبح بيد البشر وحاشا لله أن يدعي أحد ذلك. ولهذا نرى القرآن الكريم يقص علينا قصة غيبوبة طويلة ظلت ثلاثمائة عام، وظل الجسد فيها صالحًا ثم عاد إليه الإحساس بعد تلك المدة الطويلة وبعد هذه الغيبوبة الكبيرة ولم يسم ذلك القرآن موتًا. مع العلم أن تسمية ذلك موتًا كان سهلًا وميسورًا ويدل في نظر البعض على معجزة تساوي حفظ الأجساد حية. وهي المعجزة التي أظهرتها القصة الآتية. قال تعالى {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) } أجمع الفقهاء والمفسرون على أن كلمة بعثناهم معناها أيقظناهم لأن أجسامهم كانت حية وفيها الحياة ولم تفقدها بدليل قول الله في الآيات بعد ذلك {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} إلى أن قال: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} . فرق بين موت وحياة: والناظر في القصتين قصة عزير السابقة وقصة أصحاب الكهف هذه يلاحظ في النظرة العجلى أمورًا منها: 1- عبر القرآن في قصة أصحاب الكهف بقوله {فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ} ولم يقل فأمتناهم أو ألقينا عليهم الموت، مثلًا وإنما خلت القصة من ذكر الموت تمامًا لأنه فقدان للإحساس فقط، والحياة مستمرة، ولهذا حرص القرآن على أن ينبهنا إلى سلامة الجسد وعلى عدم تحلله، بل وعلى نماء شعورهم في تلك الفترة الطويلة التي ذكرها القرآن على خلاف العادة وهي {ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) } ونماء ما ينمو في الجسد مثل الأظافر وغيرها وذلك مشار إليه في القصة بقوله {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} وذلك لطول شعورهم ونمو أظافرهم ولحاهم إلى غير ذلك مما يغير الملامح ويخيف عند زيادته عن المألوف والمتعارف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 أما في قصة عزير فقد تحلل الجسد وذهب وصرحت القصة بالموت صراحة ثم البعث بعد جمع العظام والأشلاء، فقالت {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} إلى أن قالت {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} . 2- حرص القرآن في القصة على أن يعلمنا كيف نحفظ الأجساد حين ذهاب العقل حتى لا يتلف الجسد ويفقد الحياة إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، ويفيق الإنسان أو ترد إليه الحياة الشعورية، وذلك بأمرين: أولهما: التدفئة المناسبة. ثانيهما: التقليب المستمر. وكأن القصة بهذا تعلمنا صورة من صور التمريض المتقدم، والتي تقول: يستمر الإنسان في الحياة بدون القوى العاقلة فترات طويلة، بشرط كفاءات التمريض، وعلاج الأمراض العارضة وانتظام الغذاء الأنبوبي والعناية المستمرة بالجلد وتقليبه، أو تغيير أوضاع المريض كل ساعتين بصفة مستمرة، لمنع قرح الفراش، مع العناية بتصريف البول والبراز وإذا تم ذلك بعناية يمكن أن يعيش الإنسان حياة عادية حتى سن الستين "ونلحظ في القصة أن القرآن يركز على عنصرين أساسيين: التدفئة والتقليب الجسدي المستمر، أما الغذاء فهو غذاء رباني تولاه الله، ومثل هذا الغذاء لا بول معه ولا براز فبقي ما ذكرته القصة من التقليب والتدفئة المشار إليهما في القصة بقوله تعالى {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} هذه هي التدفئة، وقوله تعالى {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} هذه هي العناية السريرية. إذن فقصة أصحاب الكهف قصة فقدان للإحساس والشعور استمر ثلاثمائة عام ولم يسم هذا القرآن موتًا وإنما سماه إيقاظًا لأن الجسد لم يفقد طبيعته أو يتحلل أما في قصة عزير فالأمر مختلف ولهذا سماه القرآن موتًا وبعثًا. فلماذا نسمي من يفقد الإحساس لبضعة أيام ميت، ولم يسمه القرآن كذلك في ثلاثمائة عام وازدادوا تسعًا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 الحياة والموت عند فقهاء المسلمين: تكلم الفقهاء في الموت والحياة في أبواب عدة من كتب الفقه، في الجنائز، وفي الميراث وفي الجنايات وفي الجهاد "الاستشهاد" وغير ذلك من الأبواب التي تتعلق بهذا الإنسان الميت. فمثلًا تكلم الفقهاء في تحديد الحياة والموت، في بدء حياة الإنسان، لما يترتب على ذلك من حقوق كالميراث، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((إذا استهل المولود ورث)) (1) وقوله: ((لا يصلي عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل)) (2) لهذا احتاج الفقهاء أن يعرفوا الحياة والموت، بعلامات الحياة التي تظهر على جسد الجنين في حركاته وسكناته وصوته إلى غير ذلك مما سنتعرض إليه، لأن الحياة لا تعرف إلا بدلالاتها وآثارها، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14] علامات الحياة: تكلم الفقهاء على علامات الحياة مثل الصياح –الصوت الخارج من جسد الطفل- أو العطاس أو التنفس، أو الحركة طويلة كانت أم يسيرة، كحركة القلب، أو التنفس أو الجسد، ويناسبنا في هذا المقام أن نتكلم على قسمين من هذه العلامات وهما: التنفس: قرر الحنفية والشافعية والحنابلة (3) أن التنفس يأخذ حكم الحركة في إثبات الحياة لأن التنفس حياة وحركة ذاتية يتحرك فيها الصدر وينبض بها القلب تلقائيًا في الجسد فكان ذلك دلالة حياة صاحب الجسد. الحركة: اتفقت المذاهب على أن الحركة في الجسد من علامات الحياة، غير أن بعضهم اعتبر الحركة الطويلة –أي التي تستمر دقيقة أو أكثر- وبعضهم اعتبر مطلق الحركة في الجسد، ومن هذا يتبين أمران:   (1) رواه أبو داود (2) رواه الترمذي وابن ماجة (3) المبسوط 16/ 114، الجمل 2/ 191، شرح الروض 3/ 19، الخرشي 2/ 46، الإنصاف 7/ 331 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 الأول: أن الجسد هو المعول عليه في معرفة الحياة والموت حيث إن الحركة تنبعث منه. الثاني: اعتبر العلماء مطلق الحركة، أو الحركة الطويلة التي تدل على الحياة، وهل هناك مثلًا حركة تدل على الحياة أكثر من حركة القلب ونبض الدم في العروق والتنفس وحركة الصدر وعمل باقي الأعضاء من كبد وكلية وأمعاء وغير ذلك، ولهذا نجد أن الفقهاء لم يجعلوا أبدًا العقل أو الإحساس هو مصدر الحياة، وإلا فكيف يعرف ذلك في الوليد حتى يقولوا به؟ أقوال الفقهاء في نهاية الحياة: تكلم الفقهاء عن نهاية الحياة في الإنسان، وما يجب أن يتبعها من أعمال خاصة بتجهيزه وقبره، لأن الموت دائمًا يعقبه قبر الميت مباشرة مصداقًا لقوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} وما يلزم ذلك المقبور من تغسيل وتكفين وصلاة وغير ذلك. فقالوا: إذا تيقن الحاضرون من موت الميت، وعلامة ذلك، انقطاع نفسه وانفراج شفتيه، وأضاف بعضهم أوصافًا أخرى مثل انخساف صدغيه أو ميل أنفه واسترخاء أعصابه ورجليه، وامتداد جلد وجهه، وتقلص خصيتيه إلى فوق مع تدلي الجلدة (1) ثم يتبعون تلك الأوصاف بشروط أخرى، فيقول النووي في روضة الطالبين جـ 2 ص 98: فإن شك في موته بأن يكون به علة، واحتمل أن يكون له سكتة، أو ظهرت عليه أمارات فزع أو غيره، كأن يكون هناك احتمال إغماء أو خلافه آخر حتى اليقين بتغير الرائحة أو غيره". بعد هذا البيان في علامات الموت عند الفقهاء، نرى أنهم حرصوا على أنه لا يحكم بالموت إلا بعد فقدان الجسم للحياة، أي حياة فقدانًا كاملًا، واشترطوا اليقين في ذلك والتأكد الذي لا يخالطه شك، فإذا كان هناك أدنى ريبة، ترك الجسد حتى تتغير رائحته وينتفي معه أي شك في الموت، هذا هو ما عليه إجماع الفقهاء من لدن الصدر الأول إلى اليوم.   (1) انظر الفتاوى الهندية 1/ 154، مختصر خليل 1/ 37، منتهى الإيردات 1/ 323، روضة الطالبين 2/ 98، ابن عابدين طـ الحلبي 1/ 189 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 لكن أن يكون الجسد حي والصدر يعلو وينخفض والنَّفَسُ يتردد والقلب ينبض والأعضاء والغدد تعمل وكل شيء حي، ما عدا المخ كما يقال، ثم يأتي من يقول: إن الإنسان قد مات، وهو ما زال راقدًا وفيه ما فيه من الحياة هذا أمر غريب لم يقل به فقيه أو حتى طبيب إلى اليوم احترامًا للحياة وللإنسان وللآدمية، إلا إذا أطلق عليه أنه ميت باعتبار ما يؤول إليه، وما يكون من أمره بعد وقت بعينه. والأحكام الإسلامية دائمًا تبنى على التحري لا على الشك وخصوصًا في مثل هذه الحالات فنرى مثلًا في إجراء أحكام الميت على المفقود في سفر أو في جهاد أو حرب أو غير ذلك، فإنه ينتظر مدة معينة حددها الفقهاء للتأكد من موته أو لغلبة الظن بحسب عادة الناس أنه لا يعيش بعد هذه المدة، ثم يعلنون موته، فتعتد امرأته ويقسم ماله ويؤخذ فيه العزاء إلى غير ذلك. الشريعة وكرامة النفس الآدمية: قررت الشريعة الإسلامية في كثير من النصوص حرمة النفس البشرية، كما أعلت شأنها ورفعت قدرها، فقال سبحانه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} . وقد أكدت الشريعة حرمة الاعتداء على النفس البشرية بما لم يسبق إليه فقال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} . ورتب الإسلام عقوبات رادعة لكل من تخول له نفسه الجناية عليها، ولم يكتف بمضاعفة الإثم والوعيد بالعذاب الأليم والخلود في الجحيم لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} النساء 93، وإنما رتب على ذلك عقوبات دنيوية رادعة أيضًا، وهذه العقوبات وإن اختلفت حسب العمد أو الخطأ أو النية إلا أنها مغلظة في كل أحوالها ويصاحبها مع ذلك القصاص أو الدية، كل ذلك حفاظًا على النفس لما لها من كرامة وحقوق وحرمة. ومما يجب أن يذكر في هذا المجال اتفاق فقهاء المسلمين على أن للجنين حرمة من حين نفخ الروح فيه، لما في ذلك من إزهاق نفس محترمة بغير حق، هذا وقد ارتفعت شفافية بعض الفقهاء فقالوا بحرمة البويضة الملقحة وحرمة النطفة حتى قبل نفخ الروح فيها، لأنها بويضة وبذرة آدمي له حرمته وكرامته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 ولهذا ينبغي أن نلفت النظر إلى ما يلي: 1- إذا كان هذا هو منطق الشريعة الإسلامية، وهذه هي أقوال فقهائها، أفلا يكون من الأولى والأجدر حفظ حياة إنسان مازالت فيه حياة نابضة منظورة قوية، واحترام حياة تتنفس وتنمو؟ 2- الإنسان ما زال موطن الأسرار، وحياته وموته ما زالت يكتنفها الغموض وإن كان العلم قد بدأ يزيح الستار عن بعض هذه المجاهيل، إلا أنه كل يوم يظهر تقدم جديد في مجال خدمة الحياة الإنسانية، فالحكم على حياة الإنسان وموته بدون تحقق وتأكد، يكون حكمًا مبنيًا على المجازفة. 3- من الأدلة الشرعية المعترف بها الاستصحاب، وهو الحكم على الشيء بما كان ثابتًا له ما دام لم يقم دليل قطعي بغيره، فمن عرف إنسانًا حيًا حكم بحياته وبنى تصرفاته على هذه الحياة، حتى يقوم الدليل الأكيد على وفاته، ومن عرف فلانة زوجة فلان شهد بالزوجية ما دام لم يقم دليل له على إنهائه، فأين هو الدليل الشرعي على انتهاء الحياة الإنسانية والجسد حي وما زال يقبل الغذاء ويبول وجسده لم يتغير بل ينمو؟ وكيف يحكم بالموت في هذه الحالة والقاعدة الشرعية المعروفة تقول: "الأصل بقاء ما كان حتى يثبت ما يغيره" وكذلك قاعدة "ما يثبت باليقين لا يزول بالشك" فكيف يدعى اليقين والجسد ينبض والحياة مليئة بالأسرار؟ وما ثبت اليوم ينقص غدًا "وما هو مستحيلًا اليوم هو حقائق الغد". الأحكام الشرعية لفاقد الحياة العاقلة: قد يكون الإنسان فاقد للحياة العاقلة فيكون فاقدًا للأهلية، كالطفل في زمن طفولته وكالمجنون في أي سن كان، فكل منهما لكونه لا عقل له فلا يكون له أهلية للأداء ولا تترتب آثار شرعية على أقواله وأفعاله. قال صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ وعن المبتلي حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر)) حديث صحيح، أخرجه أبو داود من حديث عائشة بهذا اللفظ، وأخرجه من حديث علي وعمر بلفظ ((عن المجنون)) حتى يبرأ وعن النائم حتى يعقل، وأخرجه أيضًا عنهما ((عن المجنون حتى يفيق)) وبلفظ ((عن الصبي حتى يحتلم)) فلا يجب إذن على المجنون صلاة ولا صوم ولا حج، وإذا بريء لا يقضي صلاة ولا صومًا وإذا صلى أو صام أو حج لا يقبل منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 كما يكون له أحكام شرعية في غير العبادات فعقوده وتصرفاته باطلة، غاية ما في الأمر إذا جنى أحدهما أي المجنون أو الطفل على نفس أو مال يؤاخذ ماليًا لا بدنيًا فإذا قتل الطفل أو المجنون أو أتلف مال غيره ضمن دية القتيل أو ما أتلفه ولكنه لا يقتص منه وهذا معنى قول الفقهاء "عمد الطفل أو المجنون خطأ" لأنه ما دام لا يوجد العقل لا يوجد القصد فلا يوجد العمر. ومع أن فاقد الأهلية يكون فاقدًا للأداء كما قدمنا إلا أنه تكون له أهلية وجوب كاملة. فتثبت له الحقوق، فيصح أن يوهب وأن يرث ويورث، وأن تفرض له نفقة ويكون عليه واجبات كذلك من ماله من نفقة زوجته وأولاده وما عليه من حقوق، أو تلف في مال الغير، إذن فتثبت له حقوق ويجب عليه واجبات، وهذه تثبت لكل إنسان من حين ولادته، فهو في طفولته وفي سن عدم تمييزه وبعد التمييز وبعد البلوغ وفي حالة العقل وفي حالة زواله - على أي حال كان وفي أي طور من أطوار الحياة - له أهلية وجوب كاملة بوصفه أنه إنسان سواء كان ذكرًا أم أنثى وسواء كان جنينًا أم طفلًا، مميزًا أم بالغًا أم رشيدًا أم سفيهًا، عاقلًا أو مجنونًا صحيحًا أو مريضًا؛ لأنها مبنية على خاصية فطرية في الإنسان فأهليته للوجوب هي إنسانيته، أي بمعنى أوضح هي حياته الجسدية لا حياته العقلية، فما دام له جسد حي فله أهلية وجوب كاملة. إذن فالحياة الجسدية هي المعتبرة في هذه الحالة لا الحياة العقلية وقد اعتبرت الحياة العقلية في الأداء كما قدمنا، وغالب ذلك مختص بالعبادات والتكاليف الشرعية بين العبد وربه، فكيف يأتي من يقول: لا اعتبار للحياة الجسدية ولا حرمة لها ويخالف الكتاب والسنة وإجماع المسلمين في ذلك؟ الحياة غير المستقرة: الحياة غير المستقرة في عرف الفقهاء هي اللحظات التي تسبق خمود الجسد، وهي ما يسميها الناس بحركة خروج الروح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 وهذه وإن كان لها أحكامها الخاصة من حيث حل الذبح في الحيوان وعدمه، فلها أحكامها، كذلك عند الإنسان في إثبات الفعل المؤثر في إنهاء الحياة الإنسانية، إذا تعددت المؤثرات، لما يترتب عليه من عقاب للمتسبب الحقيقي، ولما يترتب عليه من تحديد حجم الجناية والعقوبة إذا لم تتعدد المؤثرات على أثر واحد. ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه الحياة غير المستقرة سماها الفقهاء حياة لا يجوز تخطيها أو إعلان حالة الوفاة إلا بعد الانتهاء من أي حياة والتحقق من ذلك بجمود الجسد وسكونه سكونًا أبديًا. والسؤال الذي يطرح الآن: وهو اعتداء الطبيب على الإنسان في هذه الحالة بوقف الأجهزة المنشطة أو بنزع الأنابيب المغذية ما حكمه؟ نقول: إذا كان الاعتداء بدون سبب ضروري فله حكمه المعروف، وهو قتل بالتسبب ولذلك عقوبته المعروفة. أما إذا كان لا يوجد إلا جهاز واحد في المستشفى وهناك من يتحقق شفاؤه إذا وضع له هذا الجهاز فنقول: أولًا: يجب على أولي الأمر أن يوفروا الأجهزة اللازمة لذلك وإلا أثموا لأن ذلك من الضروريات، فإذا لم تتوفر لقلة ذات اليد أو لعدم العثور عليها أو عدم توفرها أو إمكان الحصول عليها فلا بأس بنزع الجهاز ممن يتأكد أنها لا تجدي معه، وتركب للذي يحتاجها لإنقاذ حياته، وهذا يشبه في نظري إجهاض الأم وإخراج الجنين للإبقاء على حياة الأم المريضة التي لا تتحمل الحمل أو تستطيعه لما فيه من التضحية بحياة مشكوك فيها لبقاء حياة مؤكدة. وقد أجازت لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف الكويتية بتاريخ 14/ 12/ 81 نزع الأجهزة من شخص يتحقق موته بعد قليل إلى شخص تتحقق حياته في نظر الأطباء إذا ركبت له هذه الأجهزة. نقل الأعضاء: أفتى العلماء بجواز نقل الأعضاء من حيوان إلى إنسان ولا شيء في ذلك ومن إنسان إلى إنسان بشروط: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 فإن كان من إنسان حي يشترط لذلك شروط: 1- أن يكون المتبرع بالعضو المنقول عاقلًا بالغًا راشدًا حيا يستطيع الحكم على الأشياء ويكون أدرى بمصلحته. 2- يشترط ألا تتعرض حياة المتبرع للخطر المحقق. 3- أن تكون هناك ضرورة لذلك كأن يكون هناك إنسان يحتاج ذلك العضو للإبقاء على حياته. 4- أن يكون البديل معدومًا أو لا يؤدي إلى الغاية المطلوبة. أما نقل الأعضاء من الميت عند موته لإحياء نفس معرضة للهلاك فهذا لا بأس به لقول الله تبارك وتعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} ولأن هذا يدخل في إغاثة الملهوف وهي واجبة لإنقاذ نفس مشرفة على الهلاك، ولأن هذا ليس فيه انتهاك لحرمة الميت، لأن المصلحة الراجحة في إنقاذ إنسان مشرف على الهلاك والموت أولى، أما عن استئذان الأهل فهذا شيء للترضية وتطيب الخاطر ولمنع حدوث فتنة، فهم لا يملكون بذل شيء من الميت أو عدمه وبهذا يكون لا مشكلة في نظري حتى تستبقي الأجساد حية للأخذ منها، فالأعضاء التي تؤخذ من الميت حال الوفاة، تحفظ وتثلج وتنقل اليوم من قطر إلى قطر دون تلف فما هو الداعي لترك الإنسان حيًا والحكم عليه بالموت، حتى تؤخذ منه قطع غيار بدون حاجة فورية إلى هذا؟ ثم ما هو الضمان حتى لا تكون هناك تجاوزات بأن تكون هذه وسيلة أخرى لبيع الأعضاء وإنشاء سوق معينة لبيعها؟ كما يلاحظ بعض التجاوزات في بعض الدول التي يباع فيها جثث أو أعضاء الموتى للطلاب ولغيرهم دون ضوابط، أو زواجر مما لا يكون في أي مجتمع يحترم نفسه فضلًا عن المجتمعات الإسلامية التي تجعل للميت حرمة كحرمة الحي، يشهد لذلك ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه الموطأ والترمذي بسند صحيح "كسر عظام المؤمن ككسره وهو حي" وهذا معروف بأن يكون هذا للتعدي أو الاستهجان أو بغير ضرورة أو لمجرد التسيب أما إذا كان لضرورة ومنفعة كما بينا، فلا بأس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 ما يترتب على إعلان الوفاة: تترتب على الوفاة أمور معينة في الدين والدنيا منها: 1- ثبات عقود معينة كان قد أبرمها الميت، وانفساخ عقود أخرى كالقراض وغيره. 2- نفاذ الوصية حيث تخرج من ماله بقدر معين منه، أو من الشريعة، وتدخل في ملك الموصى له. 3- خروج ماله عن ملكه وذهابه إلى الورثة ومن يستحقون التركة من الورثة. 4- إخراج ديونه، ما حل منها وما لم يحل. 5- آثار الموت في الكفالة والحوالة. 6- سقوط النفقة التي كانت تجب عليه لأربابها زمن حياته. 7- ارتفاع النكاح –وبدء العدة للمرأة- ولزوم ما تأخر من مهر. 8- رد الأمانات إلى أصحابها. 9- تولية خليفة أو تنصيب إمام أو قاضي بدلًا عن الميت. 10- عزل بعض الولاة بموت الإمام. 11- نقض الهدنة والنظر في العهود وما إلى ذلك. هذه مثلًا بعض الأمور الدنيوية التي تلزم بإعلان الوفاة. وهناك أمور أخرى يجب أن تتم وأحكام يجب أن تتبع ديانة منها: 1- غسل الميت ودفنه لما ورد من عدم تأخير دفن الميت إذا تحقق موته. 2- الصلاة عليه –حيث يجب الصلاة على الميت قبل الدفن، فهل يصلى عليه ويغسل فور إعلان توقف مخه أو دماغه، أم بعد وفاة الأعضاء، وغسله والقصد إلى دفنه؟ أم لا صلاة ولا دفن ما دام الميت سيفتت قطعًا ويوزع على المرضى كما يقول بعض الإخوة الأطباء؟ 3- العزاء: هل سيؤخذ العزاء بعد الدفن أم قبله والمريض يرقد في المستشفى؟ وهل هذه الأحكام الدنيوية السابقة يبدأ فيها فور إعلان وفاة المخ أم بعد وفاة الجسد؟ تطلق المرأة وتعتد وتوزع التركة إلى غير ذلك. وهل سيستبقى شيء للتكفين والتجهيز أم ماذا؟ يجب أن يُلقى الضوء على ذلك.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 أسئلة: 1- لقد استطاع العلماء أن يوجدوا بديلًا للمخ في إدارة حركة الدورة الدموية والجهاز التنفسي والجهاز الهضمي والإبقاء على صلاحية الجسد والحياة فيه وذلك هو الأجهزة فلم يعتبرون الإنسان ميتًا والبديل يعمل. 2- ركز القائلون بالموت إذا فقد المخ الحياة على فقدان الشعور، وهذا لا ينهض دليلًا على الموت. وإلا كان المجنون والمغمى عليه والمشلول ميتًا، وهذا ما لم يقل به إنسان إلى اليوم. 3- ما حكم من وقف قلبه وتنفسه وحركته، ثم عولج بالتدليك أو بالصدمة الكهربائية وعاد القلب إلى النبض من جديد هل يسمى في عرف الأطباء أنه مات ثم رجعت له الحياة من جديد أم لا يعتبر هذا في الحياة والموت وإنما يعتبر الدماغ فقط وما قولهم فيمن يموت اليوم ومن مات أمس ولم تقاس لهم موجات الدماغ أماتوا أحياء، أم أن هناك موت وموت، موت إذا وجد الجهاز وموت بدونه. 4- تدحرجت بعض الأمم حتى اعتبرت الإنسان في الشيخوخة عبء يستحسن التخلص منه، إما بإيداعه في مصلحة، أو دار للعجزة، أو ملجأ للرعاية مادام قد أصبح عديم التأثير أو النفع، فهل ستعمم تلك الفكر وتتطور حتى تنسحب على الناس كافة في حالة عجزهم أو فقدهم للقوى المؤثرة؟ إذا كان هذا اليوم شعار يسري في الأمم التي جنحت إلى الالتفات إلى المادة فقط فنحن والحمد لله ما زلنا نتمسك بتعاليم الإسلام التي تعتز بالإنسان قويًا كان أو ضعيفًا وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ((هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟)) .. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 نهاية الحياة للأستاذ عبد القادر بن محمد العماوي القاضي بالمحكمة الشرعية الأولى بقطر الموت: لا ريب أن الموت الطبيعي يكون تدريجيًا، فتموت الخلايا أولًا ثم الأنسجة ثم الأعضاء والأجهزة الحيوية، وبعد ذلك يتوقف الجسم بكامله عن العمل، ولكن هناك موتًا غير طبيعي، فإذا قطع الوتين مثلًا مات الشخص، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) } (1) وقالوا: إن الوتين هو نياط القلب وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب إذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه، قال ابن تيمية: ولم يرد أنا نقطع ذلك العرق بعينه، ولكنه أراد لو كذب علينا لأمتناه، لكان كمن قطع وتينه، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم ((مازالت أكلة خيبر تعاودني وهذا أوان قطع أبهري)) ، وقالوا: إن الأبهر عرق يتصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال هذا وإن قتلي بالسم فكنت كمن انقطع أبهره. وقال الفقهاء في أمارات الموت في الذي يموت من علة باسترخاء قدميه ولا ينتصبان ويميل أنفه أو ينخسف صدغاه أو تمتد جلدة وجهه أو ينخلع كتفاه عن ذراعيه، أو تتقلص خصيتاه إلى فوق مع تدلي الجلدة، وقال الفقهاء: فإن كان هذا شك واحتمل أن يكون به سكتة لعدم العلة، أو ظهرت أمارات فزع أو غيره أحرى إلى اليقين بتغير الرائحة أو غيرها. وقال بعض الفقهاء: إن حقيقة الموت تعتبر بجس العرق الذي بين الكعب والعرقوب وبجس عرق في الدبر، وقالوا أيضًا: إن من علامات الموت سكون الحركة في البدن كله وتغير لونه وانقطاع نفسه، ولذلك يعتبر موت الحامل بوضع كفة الميزان أو ما أشبهها على سرتها، فما دامت الكفة تتحرك فهي حية وهذا إذا تبين حملها إما بقولها أو بقول غيرها مما لا يتهم على ذلك، وهم يقولون ذلك لأنهم عاجزون عن الكشف عن الحقيقة إذ لم يكن في متناول أيديهم أجهزة كما هي الآن. والواقع أننا لا نستطيع أن نحدد الحد الفاصل بين الحياة والموت، وإذا كان الأطباء قد قالوا سابقًا: إن توقف القلب عن العمل هو الحد الفاصل، وقالوا الآن: إن موت الدماغ هو الحد الفاصل، فما يدرينا أن يكتشف العلم وسائل لإنعاش المريض وتنشيط الدماغ مثل ما حصل للقلب؟   (1) سورة الحاقة / 44، 45، 46، 47 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 لذلك فنرى ألا نعتبر الحياة شرعيًا قد انتهت ونحكم على الشخص إنه في عداد الموتى إلا إذا كانت هناك أمارات ظاهرة كما قررها الفقهاء، فنرتب على ذلك الإرث وانتهاء العدة وغيرها من الأحكام الشرعية، أما مسألة ما توصل إليه الطب من أن موت المخ هو الموت الحقيقي للشخص، فيكون ذلك في حكم الميئوس من حياته فلا يلزم الطبيب أن يبقى عليه الأجهزة التي تطيل عليه حالة النزع والاحتضار بما لا فائدة فيها، وقد قال الفقهاء إن حكم من هو في النزع حكم الميت فلا حرج على الطبيب إن هو مد يده إلى إطفاء الجهاز؛ لأن الحياة المتوقفة على جهاز غير طبيعي، ليست حياة في الحقيقة. وهم يقولون ذلك لأنهم عاجزون عن الكشف عن الحقيقة إذا لم يكن في متناول أيديهم أجهزة كما هي الآن. غير أن ترتيب الأحكام الشرعية على أمور واضحة يطلع عليها أكبر عدد من الناس العاديين أولى من ترتيبها على أشياء لا يطلع عليها إلا المختصون أو عدد محدود، ولذلك فنرى أن التقيد بما قاله الفقهاء في مسألة إرث الجنين وغير ذلك من الأحكام سيمنع كثيرًا من المشاكل لو أننا رتبنا الأحكام هذه على الحياة في بطن الأم اعتمادًا على قول الطبيب، وكذلك في مسألة علامات الموت الظاهرة فنرى التقيد بها عند ترتيب الأحكام الشرعية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 نهاية حياة الإنسان للشيخ صالح موسى شرف عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر عرف الإمام الغزالي وغيره الموت، بأنه إزهاق الروح أي خروجها بعد البدء ولهذا الخروج أسباب كثيرة كما قال القائل: تنوعت الأسباب والموت واحد، فمن الأسباب: القتل ومرض القلب وتلف أجهزة المخ وغير ذلك من الأسباب التي تؤدي إلى الموت. فإذا وجد في شخص واحد من هذه الأسباب التي شوهدت وجربت استحالت حياته، ولذلك يقول الإمام الغزالي في التوفيق بين من يقول المقتول ميت بأجله أو بغير أجله: للموت أسباب كثيرة منها القتل وغيره من الأمراض التي تؤدي للموت، فإذا تجمعت هذه الأسباب كلها في المقتول مات بأجله لأنه لو لم يقتل لمات. أما إذا لم يوجد غير القتل فقط وباقي الجسم سليم فإنه يكون ميتًا بغير أجله وعندئذ تضاعف العقوبة، ولذلك قال بعض المفسرين في قصة سيدنا موسى عليه السلام حينما وكزه فقضى عليه: إن موسى عليه السلام لم يقصد قتله، وإنما كانت هناك أمراض لهذا الشخص تؤدي إلى موته، ومن أجل هذا حينما يحصل حادث لشخص يستدعى الطبيب الشرعي لمعرفة هل هذا الحادث هو الذي أدى إلى الموت أم هناك أسباب أخرى مع الحادث أدت إلى الوفاة؟ بقي سؤال: هل يكفي في انتهاء حياة الإنسان تلف جميع أجهزة المخ مع أي نوع من الأسباب التي تؤدي إلى الموت أم يكتفى بأي نوع من أنواع المقاتل الأخرى؟ وأيضًا فإن المشاهد من التجارب هو الثاني. فإن ذبح الإنسان مثلًا فيه إتلاف للأوردة الموصلة للدم لجميع أجزاء الجسم اللهم إلا أن يقال: إن في هذا الذبح إتلافًا لأجهزة المخ الذي انقطع عنه الشريان الذي يوصل إليه الدم بسبب الذبح. لكن تلف المخ قد توجد معه الحياة زمنًا كما تحدث للمريض غيبوبة طويلة مع بقاء الأجهزة الأخرى سليمة كما حدث للمريضة في فنلندا فإنها كانت في غيبوبة طويلة ثم ماتت ووضعت طفلًا كامل النمو، فلو كانت بعض أجهزة المخ كافية في نهاية حياة الإنسان لماتت هذه المرأة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 بقي سؤال آخر حاصله: أنه إذا وجد بعض أسباب الموت مثل تلف المخ أو القلب أو الكبد ثم وجدت معه اضطرابات وحركات كالمذبوح فكيف مع هذا يقال: إنه قد مات؟ وقد نشاهد في الحيوان بعد هذا اضطرابًا وطيرانًا مما يتنافى مع الموت الذي هو سكون للجسم. والجواب على ذلك: أن هذه الاضطرابات والحركات ناشئة من بطء خروج الروح وكل عضو من أعضاء الجسم يتنازع مع خروج الروح، ويقال: إن هذا الاضطراب أثر من آثار الحياة السابقة على الذبح. والأحوط في هذا المقام الانتظار حتى يهدأ المذبوح ويتبين موته، ومن ثم تطبق الأحكام الشرعية المترتبة على الموت. ثم إن المذبوح يتحرك ويضطرب إذا جاء شخص وأجهز عليه ينظر في الذبح فإذا كان الذبح كاملًا بأن قطع الأول الودجين فالمجهز الثاني لا يعد قاتلًا إنما عليه الإثم والتعزير حتى لا يجر ذلك لكثير من الناس للتعدي على المذبوح بحجة أنه يريحه ما دام أنه لا يقصد؛ لأن للميت حرمة وكرامة، أما إذا كان الذبح غير كامل فإن المجهز عليه يعد قاتلًا وعليه القصاص كالأول الذابح. بقي أن يقال: إن إتلاف المخ وحده هو السبب الوحيد للقتل وأن الحياة تبقى في جميع بدن الجسم، واستدل القائل على هذه النظرية بزرع القلب في بدن آخر قلبه تالف فيحيا. فما ذاك إلا أن أعضاء الجسم فيها حياة. وللرد عليها نقول وبالله التوفيق: أولًا: إن الموت والحياة متضادان فكيف يجتمعان في شخص واحد؟ ثانيًا: إن القرآن الكريم دل على إبطال هذه النظرية حيث يقول الله تعالى وقوله صدق: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 فقوله تعالى: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا} يمسك التي قضى عليها دليل على موت جميع أجزاء الجسم؛ لأن النفس بها الحياة والإدراك والوعي، فما دام قد أمسكها الله عنده فقد انقطعت الحياة عن جميع أجزاء البدن. ثالثًا: إن الإنسان إذا دخل على مريض محتضر يرى أن الروح تخرج منه شيئًا فشيئًا والعضو الذي خرجت منه لا يتحرك وأصبح كالثلج باردًا لا حرارة فيه. أما الاستدلال بزرع الأعضاء في جسم حي فإن الحياة لهذا العضو المزروع قد استمدت من جسم الحي، فهو قد أفاض عليه حياة جديدة بعد أن قد مات، كالبذرة التي تضعها في الأرض ولا تتعهدها بالسقي فتموت، ثم إذا أرسلت إليها الماء عادت إليها الحياة، ولو أخذنا هذا القلب من إنسان ميت وزرعناه لإنسان آخر ميت فهل يحيا هذا القلب المزروع؟ طبعًا لا يحيا. أما الحديث عن أخذ عضو من ميت ليوضع في آخر أشرف على الموت فقد أجاز ذلك العلماء بشرط أن يتحقق موت صاحب القلب، وبأن يأذن أهله في ذلك، لأن للميت حرمته ولا يجوز التمثيل به. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التمثيل بجثث أعداء الإسلام فكيف بجثث المسلمين؟ ولكن للضرورة وهي أن الحي أبقى من الميت أجاز الشارع ذلك، إذا أذن جميع أهله. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 توصيات مؤتمر الطب الإسلامي بالكويت التوصيات بسم الله الرحمن الرحيم بحمد الله ورعايته عقدت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالاشتراك مع وزارة الصحة بدولة الكويت ندوتها الثانية من سلسلة ندواتها حول (الإسلام والمشكلات الطبية المعاصرة) وذلك تحت عنوان " الحياة الإنسانية: بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي" في الفترة ما بين 24- 26 ربيع الآخر 1405هـ التي توافقها الفترة من 15- 17 يناير 1985 م بفندق هيلتون بدولة الكويت. وقد كان ذلك استجابة للشعور العام بأن مشكلات العصر قد تعقدت فلم تعد الإحاطة بها في وسع المجتهد الواحد، فلزم أن تحشد لها جهود علماء المسلمين المتخصصين مع جهود الفقهاء حتى يكفل للرأي الشرعي أن يبنى على إحاطة وافية بالموضوع المطروح. وقد دعي إلى الندوة نخبة من الفقهاء والأطباء ورجال القانون والعلوم الإنسانية، وخصص اليوم الأول لبحث موضوع بدء الحياة، واليوم الثاني لبحث موضوع نهايتها، بينما انعقدت لجنة الصياغة في صبح اليوم الثالث لتصوغ حصيلة ما اتجهت إليه المداولات. وبعد تدارس ما تم عرضه في جلسات الندوة، وما قدمه مقررو الجلسات من مذكرات وما تقدم به – كتابة - بعض المشاركين في الندوة من اقتراحات وافقت الندوة على ما يلي: أولًا: بداية الحياة بداية الحياة تكون منذ التحام حيوان منوي ببويضة ليكونا البويضة الملقحة التي تحتوي الحقيبة الوراثية الكاملة للجنس البشري عامة وللكائن الفرد بذاته المتميز عن كل كائن آخر –على مدى الأزمنة- وتشرع في الانقسام لتعطي الجنين النامي المتطور المتجه خلال مراحل الحمل إلى الميلاد. ثانيًا: منذ يستقر الحمل في بدن المرأة فله احترام متفق عليه ويترتب عليه أحكام شرعية معلومة. ثالثًا: إذا بلغ الجنين مرحلة نفخ الروح (على خلاف في توقيته فإما مائة وعشرون يومًا وإما أربعون يومًا) تعاظمت حرمته باتفاق وترتبت على ذلك أحكام شرعية أخرى. رابعًا: من أهم تلك الأحكام أحكام الإجهاض التي وردت في الفقرة السابعة من توصيات "ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 ثانيًا: نهاية الحياة أولًا: رأت الندوة أنه في أكثر الأحوال عندما يقع الموت فلا تقوم صعوبة في معرفته استنادًا إلى ما تعارف عليه الناس من أمارات، أو اعتمادًا على الكشف الطبي الظاهري الذي يستبين غياب العلامات التي تميز الحي من الميت. ثانيًا: تبين للندوة أن هناك حالات قليلة العدد، وهي عادة تكون تحت ملاحظة طبية شاملة ودقيقة في المستشفيات والمراكز الطبية المتخصصة ووحدات العناية المركزة، تكتسب أهميتها الخاصة من وجود الحاجة الماسة إلى تشخيص الوفاة فيها، ولو بقيت في الجسم علامات تعارف الناس من قديم على أنها من علامات الحياة، سواء أكانت هذه العلامات تلقائية في بعض أعضاء الجسم أم كانت أثرًا من آثار أجهزة الإنعاش الموصولة بالجسم. ثالثًا: وقد تدارست الندوة ما ورد في كتب التراث الفقهي من الأمارات التي تدل على الموت واتضح لها أنه في غيبة نص شرعي يحدد الموت تمثل هذه الاجتهادات ما توفر آنذاك من معرفة طبية، ونظرًا لأن تشخيص الموت والعلامات الدالة عليها كان على الدوام أمرًا طبيًا يبني بمقتضاه الفقهاء أحكامهم الشرعية، فقد عرض الأطباء في الندوة الرأي الطبي المعاصر فيما يختص بحدوث الموت. رابعًا: وضح للندوة بعد ما عرضه الأطباء: أن المعتمد عليه عندهم في تشخيص موت الإنسان، هو خمود منطقة المخ المنوطة بها الوظائف الحياتية الأساسية، وهو ما يعبر عنه بموت جذع المخ. إن تشخيص موت جذع المخ له شروطه الواضحة بعد استبعاد حالات بعينها قد تكون فيها شبهة، وإن في وسع الأطباء إصدار تشخيص مستقر يطمأن إليه بموت جذع المخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 إن أيًا من الأعضاء أو الوظائف الرئيسية الأخرى كالقلب والتنفس قد يتوقف مؤقتًا، ولكن يمكن إسعافه واستنقاذ عدد من المرضى ما دام جذع المخ حيًا.. أما إن كان جذع المخ قد مات فلا أمل في إنقاذه وإنما يكون المريض قد انتهت حياته، ولو ظلت في أجهزة أخرى من الجسم بقية من حركة أو وظيفة هي بلا شك بعد موت جذع المخ صائرة إلى توقف وخمود تام. خامسًا: اتجه رأي الفقهاء تأسيسًا على هذا العرض من الأطباء، إلى أن الإنسان الذي يصل إلى مرحلة مستيقنة هي موت جذع المخ يعتبر قد استدبر الحياة، وأصبح صالحًا لأن تجري عليه بعض أحكام الموت، قياسًا –مع فارق معروف- على ما ورد في الفقه خاصًا بالمصاب الذي وصل إلى حركة المذبوح. أما تطبيق بقية أحكام الموت عليه فقد اتجه الفقهاء الحاضرون إلى تأجيله حتى تتوقف الأجهزة الرئيسية. وتوصي الندوة بأن تجرى دراسة تفصيلية أخرى لتحديد ما يعجل وما يؤجل من الأحكام. سادسًا: بناء على ما تقدم اتفق الرأي على أنه إذا تحقق موت جذع المخ بتقرير لجنة طبية مختصة جاز حينئذ إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 (2) دراسة وزارة الصحة بالمملكة العربية السعودية مقدمة الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد.. فلقد قمنا بتكليف من وزارة الصحة بالمملكة العربية السعودية بإعداد الدراسة المرفقة حول موضوع "تشخيص الوفاة في أقسام العناية الطبية المركزة، وبنينا ما جاء بهذه الدراسة من آراء على عدة مراجع عربية وأجنبية إضافة إلى ما لدينا من تجربة وخبرة في هذا المجال. والذي نود تأكيده هنا هو أننا نظرنا إلى الموضوع من الوجهة العلمية الطبية البحتة تاركين النواحي الشرعية والقانونية إلى رجال الفقه والشرع من علمائنا الأفاضل. والله نسأل أن يهدينا جميعًا إلى طريق الخير والصواب.. إنه سميع مجيب. د/ جاسر الحربش د/ محمد سعيد أبو ملحة جامعة الملك سعود مستشفى القوات المسلحة بالرياض د/ زهير القاوي د/ صالح الأسود مستشفى الملك فيصل التخصصي وزارة الصحة د/ محمد العمر الصايغ وزارة الصحة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 الهدف من الدراسة: (تشخيص حدوث الوفاة بغرض تحديد متى ترفع أجهزة الإنعاش) دواعي البحث: قال الله تعالى في محكم كتابه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وكمال الدين يعني صلاحيته لكل زمان.. لذلك فعندما تعرض للناس قضية لا بد من أن يكون للشريعة السمحاء حكم فيها بنص أو اجتهاد. ولقد أنعم الله على البشرية في هذا العصر بتقدم هائل في العلوم وبخاصة العلوم الطبية، واستطاع الإنسان أن يعرف الكثير من دقائق الحياة والكثير من ظواهر الوفاة، وذلك من خلال استخدام الأجهزة الحديثة في أقسام العناية المركزة، ومنها أجهزة التنفس الصناعي، ومراقبة عمل القلب، وكذلك أجهزة قياس عمل المخ وقياس وظائف محددة بالمخ واختبار هذه الأجزاء المختلفة. ومن خلال فهم هذه الحقائق العلمية الجديدة أصبح تشخيص نهاية الحياة الإنسانية ممكنًا على درجة كبيرة من الدقة.. ولهذا التشخيص أهميته البالغة من النواحي الشرعية والقانونية.. كما أنه يفتح آفاقًا علمية كبيرة في نقل وزراعة الأعضاء البشرية.. وهو بالنسبة لبعض المرضى أمل في الحياة من جديد عندما يصل العلاج إلى طريق مسدود. والمخ هو مكان استقبال جميع الحواس من سمع وبصر وشم وذوق ولمس.. كما أنه المكان الوحيد للاتصال بالعالم الخارجي فهو يحتوي على مخازن الذاكرة، كما يحتوي على أنماط الطباع والعادات والمثل المكتسبة وهو مكمن الغرائز.. كما أنه مصدر الأفعال المترتبة على ما يستقبله من معلومات.. وعرف الأطباء ذلك كله لأن تلف أجزاء محددة من الدماغ ينتج عنه فقد قدرات معينة اختصت بها هذه الأجزاء. أما القلب بمعناه العضوي فهو مضخة عضلية في الجزء الأيسر من التجويف الصدري للإنسان تقوم بدفع الدم في العروق لإمداد الجسم بالغذاء والأكسجين ويمكن استبداله بقلب حي آخر أو بمضخة صناعية وتستمر حياة المنقول إليه بجسده وفكره وعاطفته وحواسه وإدراكه، كما ثبت من خلال عمليات زراعة القلب البشري والصناعي.. وأصبح حقيقة علمية لا جدال فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 وتحدث حالات وفاة نهائية بالدماغ نتيجة لبعض الأمراض أو الحوادث ويكون المريض أو المصاب موجودًا في غرفة العناية المركزة (الإنعاش) ومعتمدًا في استمرار نبض قلبه على تزويده بالأكسجين عن طريق جهاز التنفس الصناعي في حين أن الدماغ تلف نهائيًا ولو أوقفت الأجهزة عنه لتوقف نبض القلب تلقائيًا مما يدل على أن هذا المصاب هو في الواقع ميت، وإنما أدى التنفس الميكانيكي له إلى استمرار نبض قلبه بالرغم من أن الوفاة حصلت بالفعل بتلف الدماغ تلفًا نهائيًا. ولما كانت مسؤولية تشخيص الوفاة من اختصاص الأطباء فقد درست هذه المشكلة من أطباء من جميع أنحاء العالم، وأظهرت هذه الدراسات قصورًا في الشروط التي تعارف عليها الأطباء قديمًا لتشخيص الوفاة مثل غياب النبض وتوقف القلب.. وثبت علميًا مما لا يدع مجالًا للشك وجود علامات ودلائل أخرى إذا ما توفرت ثبتت الوفاة قطعيًا. ومن خلال الخبرة العلمية بالمستشفيات أصبح من الثابت أن كثيرًا من حالات توقف القلب يعاد فيها القلب إلى العمل بوسائل الإنعاش.. فإذا ما أمكن إعادة عمل القلب قبل تلف الدماغ استمر المريض في الحياة بإذن الله.. أما إذا تلف الدماغ كليًا قبل استعادة عمل القلب فإن ذلك يعني أن الوفاة قد حدثت بالفعل وأصبح استمرار عمل القلب مرهونًا باستمرار عمل جهاز التنفس الصناعي ويتوقف بإيقافه.. مما يدل على أن هاتين العمليتين تؤديان حركات ميكانيكية لا تعني استمرار حياة المريض أو المصاب. وفيما يلي طرح للتساؤلات المتعلقة بهذا الموضوع والإجابة عليها على ضوء الدراسات العلمية: 1- هل يقطع العلم بموت من تلف دماغه تلفًا كاملًا؟ أجريت دراسات كثيرة في العقدين السابقين واستمرت إلى عهد قريب وكانت غايتها بحث كفاية القرائن التي تشير إلى موت الدماغ النهائي كمؤشر على أن سير المصاب نحو الوفاة قد وصل إلى نقطة اللاعودة، وقد شملت ما ينوف على الألف مصاب لم تفصل عنهم أجهزة التنفس إلى حين توقف القلب لدى الجميع دون استثناء خلال عدة أيام عقب تلف الدماغ مما يدل على أن التلف النهائي للدماغ يعني نهاية الحياة. 2- الدماغ هو أحد أعضاء الجسم وقد يتوصل العلم إلى استبداله بالزرع أو بآلة تعمل عمله، فما هو رأي العلم في ذلك؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 نظرًا لشدة تعقيد الدماغ سواء في تركيبه أو عمله فإنه لا يتوقع توصل العلماء إلى مثل هذه العملية ولو افترض جدلًا حدوث ذل فإن هذا لا ينفي حقيقة حدوث الوفاة بالتلف النهائي للدماغ في الوقت الحالي.. وإلى حين حدوث مثل هذا التطور العلمي المفترض جدلًا فعند ذلك يستدعي الأمر فقط تعديل القرائن المستعملة حاليًا لتشخيص تلف الدماغ بما يتناسب مع ما قد يستجد. 3- ما قصة عودة الوعي إلى بعض المصابين بالغيبوبة المزمنة؟ الفرق شاسع بين الغيبوبة الناجمة عن تلف الدماغ النهائي التي تنطبق عليها الشروط المحددة لتشخيص الوفاة وبين الغيبوبة المزمنة التي لا تتوفر فيها هذه الشروط، وقد أجريت دراسة عن عدد كبير من مرضى الغيبوبة المزمنة الذين استعادوا الوعي خلال ثلاثة أشهر.. واتضح أنه لم يتم تشخيص غيبوبة أي منهم في حينها على أنها وفاة بسبب تلف الدماغ النهائي، وذلك لعدم استيفائها لكل الشروط المحدودة والمطلوبة لتشخيص حدوث الوفاة. 4- ما هو الضرر الناجم عن إبقاء المريض مرتبطًا بجهاز الإنعاش رغم ثبوت تلف دماغه النهائي؟ أولًا: لأن في ذلك بذل جهد كبير فيما لا طائل تحته بل يقرب من كونه نوعًا من العبث وكما سبق الإشارة إليه فإن الدراسات العلمية أثبتت أن من توفرت فيه كل شروط تشخيص موت الدماغ قد وصل إلى نقطة اللاعودة، وأن توقف بقية الأعضاء عن العمل لا بد أن يحدث بعده مدة. ثانيًا: غرف العناية المركزة في كل مستشفيات العالم محددة العدد ومخصصة لإعطاء عناية متواصلة في كل ثانية حتى تستقر حالة المريض الصحية، وهم بحاجة ماسة لمثل هذه المراقبة والعناية ووجود مريض تلف دماغه نهائيًا على هذه الأجهزة يحجز مكان مريض آخر يكون إنقاذ حياته ممكنًا بإذن الله. ثالثًا: تكاليف العناية المركزة باهظة جدًا سواء تحملتها الدولة أو الفرد.. فمن الأولى إنفاقها فيما يعود بالنفع على المريض أو أسرته بدلًا من إهدارها بما لا جدوى منه. رابعًا: العاملون في وحدات العناية المركزة يصابون بالإحباط لمعرفته بأن مآل جهودهم آلي ويؤثر ذلك على مستوى عنايتهم بالمرضى الآخرين. خامسًا: تزداد آلام أقارب المريض وذويه ومعاناتهم بتكرار رؤيتهم له جثة هامدة. 5- إذا سلمنا بأن تلف الدماغ النهائي يعني نهاية الحياة.. فمتى يتم تحديد موت هذا الشخص.. أهو عند الإصابة.. أم عند التشخيص.. أم عند إيقاف الجهاز؟ من الناحية الطبية يعتبر الشخص في حكم الميت متى استوفيت كل شروط حدوث الوفاة الدماغية لديه كما هو موضح بالتفصيل في الاستمارة المرفقة. أما ما يتعلق بالنواحي الشرعية والقانونية المتعلقة بالوفاة.. فيترك للمتخصصين والله ولي التوفيق.. انتهى. الملحقات: 1- قائمة ببعض المراجع. 2- استمارة التشخيص. الرياض في 8/ 6/ 1406هـ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 المراجع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286   الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 تشخيص الوفاة الدماغية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290   الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 (3) ورقة العمل الأردنية قدمت للمؤتمر العربي الأول للتخدير والإنعاش موت الدماغ ورقة العمل الأردنية المقدمة من قبل الدكتور أشرف الكردي والدكتور حلمي حجازي في المؤتمر العربي الأول للتخدير والإنعاش والمعالجة الحثيثة الذي عقد في عمان بتاريخ 22- 24 أكتوبر 1985. النقاط البارزة لمحاضرة الدكتور أشرف الكردي مستشار الأمراض العصبية عن موت الدماغ تطور الطب والجراحة خلال العقدين الماضيين في مختلف حقولهما، وظهر نظام نقل الأعضاء كما رافق ذلك بروز تكنولوجيا حديثة تتمكن من الحفاظ بصورة اصطناعية على استمرار التنفس والدورة الدموية وطرح الفضلات من جسم توقف دماغه عن العمل بصورة نهائية لا عودة عنها، وظهرت مثل هذه الحالات في بلدان مختلفة من العالم وصلت مراكز المعالجة الحثيثة فيها إلى مستويات عالية من الكفاءة والمهارة.. ونتيجة لذلك أخذ الأطباء والمجتمع بصورة عامة يبدون اهتمامًا عامًا بالمشاكل المترتبة على تشخيص موت الدماغ. إن المقدرة على الوعي والتفكير والتصور والشعور والاستجابة وتنظيم وظائف الجسم وتنسيقها أمور جوهرية لتقدير الإنسانية في الجسد.. فإذا اختفت جميع هذه الوظائف اختفاءً نهائيًا لا عودة عنه لم يعد بالإمكان اعتبار الجسد ككل شخصًا حيًا بالمعنى الشامل للكلمة. إن التشخيص المبكر والصحيح لموت الدماغ هام جدًا لأسباب متعددة على رأسها الاعتبارات الطبية الشرعية لتقرير ساعة الوفاة ومثال على ذلك تقرير الإرث وتوزيعه وحوادث القتل وغيرها وكذلك العبء النفسي والجسدي الثقيل الملقى على عاتق الجهاز الطبي وكل من يمت للحالة بصلة لمتابعة مريض قد أصبح في عداد الأموات. إن معالجة الجثة كما لو كانت إنسانًا حيًا تعكس فهمًا خاطئًا وتشكل ذنبًا أخلاقيًا وإهانة للإنسان، وهكذا فإنه من الزاوية الأخلاقية والسلوكية يتوجب علينا أن نعامل الشخص الذي فقد جميع وظائف دماغه وأصبح بالتأكيد ميتًا على أنه في الواقع كذلك. ومن هذه الأسباب أيضًا تحديد الأولويات لرعاية المرضى المتواجدين في وحدة المعالجة الحثيثة، خاصة إذا كانت هذه الوحدة مزدحمة بالمرضى من جهة، وكان العديد منهم ينتظرون دورهم للحصول على سرير فيها من جهة أخرى مما يضطرهم للذهاب إلى مراكز علاجية أقل كفاءة، أما موضوع نقل الأنسجة والأعضاء فيكتسب أهمية خاصة عندما ندرك أن هذا النقل ليكون ناجحًا وليستفيد منه شخص آخر تتعلق حياته به، فإنه يجب أن يتم فور إعلان الوفاة حينما يكون العضو المنقول لا يزال محتفظًا بقدرة الحياة عن طريق أجهزة اصطناعية متقدمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 وأخيرًا لا آخرًا بالرغم من أن حياة الإنسان لا تقدر بأي ثمن فإن التكاليف الباهظة التي تنفق على إنسان يعتبر في عداد الموتى لا بد وأن تؤخذ بعين الاعتبار. ونستخلص مما سبق أن موضوع نقل الأعضاء ليس الموضوع الهام الوحيد في تشخيص موت الدماغ، وإنما هناك اعتبارات أخرى أخلاقية وسلوكية ودينية وقانونية لا بد وأن تؤخذ بعين الاعتبار. تعريف موت الدماغ: يعرف الموت تقليديًا من الناحية الطبية بواحد من شرطين: إما حدوث توقف لا رجعة فيه على القلب والتنفس، أو توقف جميع وظائف الدماغ ككل توقفًا نهائيًا لا عودة عنه. أسباب موت الدماغ: تصنف أسباب موت الدماغ على أنها: إما تلف أولي أو تلف ثانوي للدماغ. ومن أهم أسباب التلف الأولي للدماغ الإصابات المباشرة والحديثة وكذلك النزف داخل الجمجمة والجلطات الدماغية. أما أسباب التلف الثانوي للدماغ فتنتج عن نقص حاد في أوكسجين الدماغ ناجم عن توقف القلب والتنفس توقفًا مؤقتًا أو الحوادث أثناء التخدير أو عدم تروية الدماغ أو الغرق أو الصدمة العنيفة. تشخيص موت الدماغ: لما كان موت الدماغ يعني توقف جميع وظائف الدماغ بصورة نهائية فإن التشخيص يستلزم الشروط الصارمة التالية: 1- استكمال الشروط المسبقة. 2- استبعاد جميع الأسباب الأخرى للغيبوبة (السبات) . 3- غياب منعكسات جذع الدماغ. 4- إثبات وقف التنفس. 5- السكون الكهربائي في تخطيط الدماغ. وأقدم فيما يلي تفصيلًا لكل من هذه الشروط: 1- استكمال الشروط المسبقة: 1-1 : المريض في غيبوبة لا يستجيب لأي تحريض. 1-2 : المريض موضوع على جهاز التنفس الصناعي. 1-3 : المريض مصاب بتلف دماغي بنيوي لا يمكن شفاؤه. 1-4 : مرور وقت كاف للتأكد من أن التلف لا يمكن شفاؤه بالفعل. 1-5 : مراجعة الأدوية المعطاة للمريض في المستشفى مراجعة دقيقة لأن بعض هذه الأدوية يمكن أن تعطل وظائف التنفس وتؤثر على انعكاسات جذع الدماغ، وبذلك تؤثر على تقييم حالة المريض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 2- الحالات التي يجب استبعادها: استبعاد جميع حالات الغيبوبة الناتجة عن: 2-1 : العقاقير والأدوية والمواد الكيمائية. 2-2 : نقص حرارة الجسم إلى درجة أقل من 35م. 2-3 : الاضطرابات الناجمة عن التغيير في الاستقلاب (Netabolism) كحالات الغيبوبة الناجمة عن قصور وظائف الكلى أو الكبد، واضطرابات الغدد الصماء مثل غيبوبة هبوط السكر في الدم أو ارتفاعه أو الغيبوبة الناجمة عن اضطرابات غازات الدم (نقص الأكسوجين والتسمم بأول أكسيد الفحم Co والغازات السامة الأخرى. 402: الغيبوبة عند الأطفال: أما أسباب استبعاد هذه الحالات فهي: أولًا: أن أيًا من هذه الحالات منفردة أو بالاشتراك مع عوامل أخرى يمكن أن تؤدي إلى اضطرابات عميقة في وظائف جذع الدماغ ولكنها مؤقتة. ثانيًا: عندما يكون هناك أكثر من سبب واحد للغيبوبة فإنه يصبح من المستحيل تحديد القدر الذي يسهم فيه كل واحد من هذه الأسباب في إحداث الغيبوبة. ثالثًا: يمكن أن تؤدي قراءة تخطيط الدماغ الكهربائي إلى نتائج إيجابية خاطئة ومثال على ذلك الأدوية وهبوط درجة الحرارة وتأثيرها على تخطيط الدماغ. رابعًا: من المعروف أن الأطفال قادرون على تحمل الغيبوبة أكثر ممن هم أكبر سنًا، كما أن نضوج خلايا الدماغ يختلف من طفل إلى آخر، وأن قراءة تخطيط الدماغ الكهربائي عند الأطفال لها صعوباتها الخاصة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 3- منعكسات جذع الدماغ: عند اعتماد هذه المنعكسات في تشخيص موت الدماغ، فإنه من الضروري أن تكون جميع هذه المنعكسات معدومة. وهذه المنعكسات هي: رد فعل الحدقة للضوء، والمنعكس القرني، والمنعكس العيني الدماغي، والمنعكس النهليزي العيني، والاستجابة الحركية ضمن منطقة توزع الأعصاب القحفية لأي تحريض مناسب من أي منطقة في الجسم وخاصة الوجه، وأخيرًا المنعكسات التنفسية. 4- وقف التنفس: قبل إثبات تشخيص موت الدماغ يجب التأكد من توقف التنفس مدة لا تقل عن عشر دقائق بعد فصل المريض عن جهاز التنفس الاصطناعي، وهنا لا بد من التشديد على ضرورة أخذ الاحتياطات اللازمة لضمان إعطاء الأكسجين بكمية كافية وضبط ارتفاع ثاني أكسيد الفحم (C.o.2) في الدم خلال هذه الفترة. كما أنه من الضروري أن نشدد هنا أيضًا على أن هذه الاختبارات والفحوص يجب أن تجرى من قبل أخصائيين مدربين وذوي خبرة في هذا المضمار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 5- السكون الكهربائي في تخطيط الدماغ: يجب إجراء تخطيط الدماغ الكهربائي بعد إثبات الشروط الأربعة السابقة جميعها، ويجري هذا التخطيط تبعًا للقواعد التي وضعتها جمعية تخطيط الدماغ الكهربائي الأمريكية والمقبولة في العالم وظهور السكون الكهربائي في المخطط لمدة لا تقل عن عشرين دقيقة، وأعود هنا للتوكيد على أن تخطيط الدماغ الكهربائي يجب أن يقرأ ويقيم من قبل أخصائي في الأمراض العصبية وله خبرة في هذا المجال، ذلك أن مثل هذا التقييم يمكنه أن يساند التشخيص السريري ويضيف عاملًا آخر إلى سلامته، وبذلك يريح الأهل والفريق الطبي وأخيرًا لا بد من الإشارة إلى أن التشخيص النهائي يجب أن يجرى في المستشفيات المركزية فقط حيث يمكن للشروط السابقة أن تدقق من قبل أخصائيين مدربين، وحيث توجد جميع الأجهزة الضرورية الأمر الذي لا يتوفر في المستشفيات المحيطية. الفحص وإعادة الفحص: نعتقد أن الفحوص والاختبارات يجب أن تجرى من قبل ثلاثة اختصاصيين من ذوي التجربة في هذا الميدان، أحدهم يجب أن يكون أخصائيًا بالأمراض العصبية له خبرة في الفيزيولوجيا العصبية السريرية ومن الناحية العملية فإن هؤلاء الأطباء غالبًا ما يكونون أخصائيين في التخدير، والمعالجة الحثيثة وطب وجراحة الجهاز العصبي. ويجب أن تجرى الفحوص والاختبارات مرتين تفصل بينهما فترة لا تقل عن أربع ساعات وقد تكون أطول من ذلك بكثير حسب الظروف الطبية لكل حالة، والسبب في ذلك هو التأكد من أنه لم يحدث أي خطأ في المراقبة أو أي تغيير في حالة المريض، وإذا كان هناك أي شك يتعلق إما بالتشخيص أو بالشروط السابقة فإن معالجة المريض يجب أن تستمر. وإذا أظهرت الاختبارات والفحوص الأولى موت الدماغ فإن المريض يجب أن يعاد إلى جهاز التنفس الاصطناعي وتعاد جميع الفحوص والاختبارات بعد فترة لا تقل عن أربع ساعات، فإذا أكدت الاختبارات المكررة موت الدماغ، فإن الوفاة يجب أن تعلن بصورة قانونية، ويمكن عند ذلك إصدار شهادة الوفاة ويجب التوكيد هنا، خاصة في حالة نقل الأعضاء، أن استمرار المعالجة لا يشكل استمرار للحياة، وفي حالة نقل الأعضاء ولأسباب أخلاقية وطبية شرعية فإننا نؤكد على أن كل طبيب ينتسب بأية علاقة للمريض الذي سوف ينقل العضو إليه أو إلى الفريق الطبي –الجراحي الذي سوف يقوم بعملية نقل الأعضاء- يجب أن يستبعد عن تشخيص موت الدماغ عند تشخيص المتوفى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 إن هذه الشروط متبعة حاليًا في مستشفياتنا الكبرى، ونحن نشدد هنا على ضرورة التقيد بهذا تقيدًا كاملًا. وأخيرًا فإننا نتمنى أن تلاقي هذه الشروط قبولًا وتبنيًا لديكم وفي بلدان العالم العربي الأخرى إذ أنها تحمل في طياتها كل ما يستبعد الخطأ في التشخيص وما يطمئن المواطنين على مختلف فئاتهم واتجاهاتهم وتشجيعهم على قبولها. مزايا الخصائص الأردنية: 1- صرامة شروط التشخيص. 2- يجب أن يتم التشخيص في المستشفيات المركزية المجهزة لمثل هذا العمل. 3- التشديد على أهمية التشخيص المبكر. 4- أن يكون أخصائيو الأمراض العصبية طرفًا رئيسيًا في التشخيص وأن تجرى الفحوصات والاختبارات من قبل ثلاثة أخصائيين. 5- التشخيص السريري يجب أن يكون مدعومًا بتخطيط الدماغ الكهربائي. 6- في حالة نقل الأعضاء التشديد على أن يكون سبب موت الدماغ تلفًا أوليًا. 7- استبعاد أي طبيب ينتسب بأية علاقة للمريض الذي سوف ينقل العضو إليه أو أن يكون ضمن الفريق الطبي الجراحي الذي سوف يقوم بعملية نقل الأعضاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298   الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 المناقشة أجهزة الإنعاش 10 صفر 1407هـ / 13 أكتوبر 1986 م بعد صلاة العشاء الدكتور محمد علي البار: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل المرسلين.. سماحة الرئيس.. أصحاب الفضيلة.. الموضوع الحقيقة العنوان كان موضوع أجهزة الإنعاش ونوقش في المرة الماضية نقاشًا مستفيضًا حتى تبين أن ليس المقصود هو أجهزة الإنعاش في ذاتها ولا بحث أجهزة الإنعاش وإنما كان المقصود بحث مفهوم موت الدماغ بعد الجلسات المستفيضة والنقاش المستفيض تبين أن المقصود من هذا النقاش كله ليس أجهزة الإنعاش في حد ذاتها ولكن المقصود بها مفهوم موت الدماغ حتى يتحدد الوقت والنقطة المعينة التي نريد أن نناقشها لأن الموضوع ممكن أن يتسع وممكن أن نختصره. كما تعلمون موت الإنسان سيستمر ظاهرة مستمرة وكان تشخيص هذه الوفاة معتمدًا على الأشخاص غير ذوي الخبرة من غير الأطباء في السابق ثم أنيط هذا الأمر بالأطباء لأن حالات التشخيص يحدث فيها التباس ويحدث فيها أخطاء فأنيط هذا الأمر بالأطباء في كل مكان في العالم، صحيح قد لا يطبق هذا تطبيقًا مثاليًا في معظم بلاد العالم الثالث في القرى وغيرها والأرياف لا يزال الطبيب يعتمد على شهادة الأهل أحيانًا ويصدر شهادة الوفاة دون أن يرى بنفسه في بعض الأحيان نفس المريض حتى يتيقن من الوفاة. في الطب أيضًا كانت معايير الوفاة هو توقف الدورة الدموية، توقف القلب، وتوقف الدورة الدموية وتوقف التنفس، وهذا هو المعيار الذي كان ساريًا إلى عهد قريب جدًا إلى بداية الستينات أو نهاية الخمسينات من هذا القرن يعني 1959، بدأت فكرة موت الدماغ تظهر لأول مرة ولكن استمر المفهوم العام وهو توقف القلب وتوقف الدورة الدموية وتوقف التنفس هو العلامة الأساسية لمفهوم الموت وهو الذي تعتمده قوانين الدول جميعًا في تعريف الموت، منذ بداية الستينات ظهرت حالات جديدة نتيجة التقنية وأدوات الإنعاش الجديدة التي استخدمت، أمكن بالفعل- كما تعلمون جميعًا - إيقاف القلب توقفات ما، وتُجرى العمليات في القلب لبضعة ساعات يعني ساعتين أو ثلاث أو أكثر أو أقل، في جميع المستشفيات المتقدمة في العالم أجمع بما فيها طبعًا البلاد العربية الآن وآلاف الحالات تجرى لهم هذه العملية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 فهل هذا الشخص الذي توقف قلبه وتوقف التنفس الطبيعي بالنسبة له توقفت الرئتان عن التنفس، وتوقف القلب عن العمل وأنيط هذا العمل بآلة خلال ساعتين أو ثلاث ساعات من العملية هل هذا الشخص حي أم ميت؟ هو بكل المقاييس حي – المقاييس الطبية - لأن وظيفة القلب قامت بها مضخة أخرى، ووظيفة الرئتين قامت بها منفسة تنظف الدم وتأخذ ثاني أكسيد الكربون وتعطيه الأكسجين بالكميات المقدرة. إذن في هذه الحالات هذا الشخص إذا اعتبرناه بالتعريف القديم هو بتعريف أنه ميت لأن قلبه قد توقف وتنفسه قد توقف، حتى يعطى فكرة عن المفهوم الجديد الذي نريد أن نعرضه عليكم وهو أن هناك مفهومًا آخر أن هذا الشخص الذي لا يزال في العملية هو في الواقع حي لأن دماغه لا يزال حيًا لأن خلاياه لا تزال تعمل وقلبه يعود بعد العملية إلى العمل بأفضل بكثير مما كان عليه قبل العملية، وجود القلب أصبح غير ضروري في بعض الأحيان يوقف القلب أو يزال هذا القلب بالكلية ويستبدل إما بقلب صناعي أو بقلب من متبرع يعني قد جرت الحالات وأصبحت حالات معروفة جدًا. إذن دخلنا إلى مفهوم آخر وهو أن مفهوم أن القلب على أهميته، القلب طبعًا والقلب هو الذي يبدأ بالضخ من اليوم الثاني والعشرين ومن بداية تكون الجنين يعني من بداية النطفة والتلقيح في اليوم الثاني والعشرين يبدأ هذا القلب البدائي في جسم الجنين الذي لا يزيد عن حبة أرز أو حبة قمح. في اليوم الثاني والعشرين لا يزيد حجم الجنين عن حبة قمح ومع هذا فالقلب ينبض ويستمر هذا النبض والدقات متتالية حتى الوفاة لا يتوقف لحظة من ليل أو نهار، لكن هذه التقنيات الجديدة جاءت لنا بمفهوم جديد وهو أن القلب ممكن أن يتوقف أو مفهوم عكسي أنه يصاب الشخص بحادث سيارة، ورم في الدماغ، يموت هذا الدماغ أو يموت جزء من هذا الدماغ فيسرع الأطباء لإسعاف هذا الشخص وينبهون الجهاز يضعون المنفسة فيتنفس بواسطة الجهاز المنفسة "الفنتليتر" وتستمر الدورة الدموية موجودة، إما بمساعدة أو حتى تلقائيًا نتيجة وجود التنفس والدورة واستمرارها، ممكن هناك منظمات للقلب "باسميكرز" ممكن يكون هناك أدوية وعقاقير تجعل القلب يعمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 فهذه الوسائل جعلت مفهومًا جديدًا أمامنا، هذا الشخص أمامه أحد حالات ثلاث إذا وضعنا المنفسة ووضعنا أجهزة الإنعاش الحديثة، إما أن يتحسن ويعود قلبه وجهازه يتنفس طبيعيًا بدون الجهاز، ويبدأ الدماغ يعمل لأن الدماغ هو الذي يتحكم في التنفس، وهو الذي أيضًا يتحكم في ضربات القلب إلى حد كبير، فيعود الدماغ إلى العمل ويبتدأ يتحكم في هذه الأعضاء المهمة جدًا، فيعود الشخص إلى التنفس ويعتبر ناقهًا هذا المريض وينقل من غرفة الإنعاش بعد فترة من الزمن إلى غرفة عادية بحيث أنه يتنفس ولو بقي مغمى، يعني الإغماء شيء آخر لا يحس لا يأكل لا يشرب، هذا باب آخر لا يرى لا يسمع فقدان الإحساس كله، شيء آخر مختلف تمام الاختلاف عما سنتحدث عنه من موت الدماغ لأن هذا يسبب التباسًا في بعض الأذهان أحيانًا، قد يموت جزء من الدماغ لكن الدماغ ككل لم يمت بعد، جذع الدماغ لا يزال حيًّا ولا تزال هذه الأعضاء تتحرك فلا يعتبر هذا الشخص حيًا بكل المقاييس. الشخص الثاني: رغم وجود الأجهزة ورغم وجود المنفسة وغيرها يتوقف القلب حتى مع وجود هذه الأجهزة فهذا ميت بكل المقاييس ولا خلاف حوله إطلاقًا فإنه ميت. يبقى الموضوع الذي فيه نوع من الإشكال أمام الناس هو شخص إذا نزعنا منه هذه الآلات توقف قلبه وتوقفت الدورة الدموية وتوقف التنفس، فتبادر إلى الأذهان أن هذا الشخص إذا نزعنا منه آلة كانت تجعله حيًا فإذا نزعنا هذه الآلة هناك نوع من الاتهام بنوع من القتل سواء كان عمدًا أو غير عمد لكن الواقع أثبت أن هناك مواصفات معينة إذا مات هذا الدماغ وعملت الفحوصات التقنية الكاملة في هذا الباب وأزيلت الأسباب الوظيفية يعني ممكن الدماغ –سنتحدث عن هذا- إذا مات هذا الدماغ موتًا كاملًا لا رجعة فيه فإن هذه الأجهزة تصبح غير ذات فائدة وغير ذات جدوى أصلًا لأنها لا تستطيع أن تغير من حقيقة هذا الميت شيئًا. إذن لماذا نطالب بنزع هذه الأجهزة؟ نطالب بنزع هذه الأجهزة لأن بقاء هذه الأجهزة يكلف مبلغًا كبيرًا، وربما يرى الناس طبعًا أن هذا ليس مهمًا كثيرًا مهما كانت المبالغ كبيرة حياة الإنسان أغلى منها، لكن هذه الأجهزة محدودة فلا بد من أخذها لشخص آخر ربما تساهم في إنقاذه وتساهم في عودته إلى ما به من رمق من الحياة، تساعد على عودة هذا الرمق واستمرار هذا الرمق، فحرمان هؤلاء الأشخاص الذين كان يمكن إنقاذهم بينما نبقي هذه الآلات معلقة على شخص قطعًا يعرفون أنه ميت أمر غير مستساغ ولا يقبلونه ويشكل عبئًا نفسيًا عليهم كما أن ذلك يشكل عبأ على نفس الأسرة باهظ التكاليف فتعاني الأسرة من جهتين: جهة نفسية وجهة مالية أيضًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 إذن هناك أسباب معينة إذا أصيب الدماغ إصابة غير وظيفية، إصابة عضوية، هذه الإصابة عضوية بحيث يتبين أنه لا مناص من انتهاء وظيفة هذا الدماغ انتهاء كاملًا لا أمل في العودة فيه، في تلك اللحظة ينبغي أن نعترف بموت الدماغ، هناك أسباب الالتباس في الحقيقة أدت أن هناك أسبابًا وظيفية تؤدي إلى توقف عمل الدماغ، منها حالات التسمم بالعقاقير وخاصة العقاقير المرقدة أو المنومة مثل الباربوتريت وغيرها أو الكحول أو واحد وجد في ثلج فأدى انخفاض درجة الحرارة إلى توقف عمل الدماغ، في هذه الحالات إذا استعجل الأطباء وقرروا –هذه مرحلة تاريخية كانت- كان الأطباء غير متيقنين تمامًا من المواصفات فكان يعمل كل هذه الفحوصات يرى أن هذا الدماغ ميت من هذه الناحية، حصل خطأ في حالات نادرة لكن إذا استثنيت هذه الحالات التي ذكرناها هنا بالتفصيل وهي مجموعة طويلة، منها الحالات الوظيفية التي ممكن أن يحدث فيها توقف لوظيفة الدماغ دون أن يكون الدماغ كله قد مات فعلًا، العقاقير، برودة الجسم، التسمم نتيجة الغازات السامة، زيادة البويلينة في الدم، نقص السكر أو زيادته في الدم، نقص الهرمومات أو زيادتها في الدم، حالات الغرق، توقف القلب، الحالات التي أجري لها عمليات كبيرة في الدماغ، انتانات ميكروبية تصيب جذع الدماغ أيضًا. كل هذه الحالات لا بد فيها من التريث حتى نتيقن أن الأسباب الوظيفية قد انتهت يعني العقاقير كلها التي كانت تسبب موت هذا الدماغ أو توقف هذا الدماغ تكون قد انتهت من الدم وانتهت من جسم هذا الشخص، فإذا انتهت كل هذه الأسباب الوظيفية يمكن للطبيب أن يتأكد بإجراء الفحوصات التي ذكرناها والتي لا أرى ضرورة لإعادتها عليكم بالتفصيل لأنها تهم الأطباء أكثر. هذه الفحوصات الطبية التي تجعلها في درجة من اليقين أن الدماغ قد مات ولا أمل في عودته يقوم بهذا الفحص مجموعة من الأطباء ثم يعاد الفحص بمجموعة أخرى تؤكد موت هذا الدماغ ككل، فإذا مات الدماغ تم بعد ذلك إعلان الوفاة، بعد إعلان الوفاة يمكن أن تنزع الأجهزة أو أن تبقى الأجهزة إذا كان هناك غرض لاستخدامها في أخذ زرع الأعضاء إذا كان هناك غرض في أخذ الأعضاء لزرعها في شخص آخر، القلب كما نعلم وغيره من الأعضاء تفسد، إذا بقيت في درجة الحرارة العادية داخل الجسم والجسم ميت فتكون غير ذات فائدة أن أخذ قلب إنسان قد مات من فترة وتوقف قلبه فترة من الزمن أخذها لشخص آخر لأنقله لها ما فيه داع لأن ننقل له هذا القلب لأن هذا القلب لا يستطيع الصمود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 فلا بد أن أنقل أحسن ما يمكن أن أنقله، ففي هذه الحالات التي يتعين فيها أو قد تبرع فيها الشخص قبل وفاته أو تبرع بالأعضاء، في هذه الحالات يمكن للطبيب أن يستمر في استخدام الأجهزة لساعات معدودة حتى يتم نزع الأعضاء، وهي في حالة جيدة تستطيع أن تكون ذات فائدة وذات جدوى للأشخاص الآخرين. الحقيقة بجانبي أيضًا الأستاذ الدكتور أشرف الكردي، وهو أخصائي جراحة الدماغ والجهاز العصبي ومن أشهر الأطباء في العالم العربي في هذا الميدان، وأنا أحب أن أترك له الفرصة حتى يحدثنا لأنه الحقيقة يعتبر مرجعًا أيضًا من المراجع المهمة في هذا الميدان وله أبحاث كثيرة في تعريفات موت الدماغ من واقع عمله وخبرته الطويلة في هذا الميدان. الشيخ مصطفى الزرقاء: هل نفهم مما شرحه الأخ الكريم الدكتور البار أنه من الممكن بعد أن يعتبر الدماغ ميتًا بالنظر الذي بينتموه يمكن أن تكون أجهزة الإنعاش تستمر تشغل القلب والرئتين بعد أن يحكم بأن الدماغ قد مات هذا ممكن؟ أو أنه لا يمكن أن تستمر الأجهزة في تشغيل القلب والرئتين إلا ما دام الدماغ غير محكوم عليه بالموت الكلي. هذا أرجو جوابه لأنه سيبنى عليه الأمور فيما بعد. الدكتور محمد البار: جزاكم الله خيرًا، الحقيقة هذا السؤال مهم جدًا ممكن تشغيل القلب والرئتين بواسطة الأجهزة لكن لأي مدة هذا باب آخر، معظم الحالات حتى لو استمرت في تشغيل الأجهزة لا تبقى سوى بضعة أيام، ولكن هناك حالات وثيقة ونشرت في المجلات الطبية أن حالة بقيت 68 يوم، شخص اتفق الأطباء بكافة الوسائل التشخيصية الموثقة أن هذا الشخص قد مات. الشيخ مصطفى الزرقاء: مات دماغه، التعبير دائمًا بموت الدماغ لأنه نستطيع التمييز بين قولنا مات الشخص أو مات دماغه. الدكتور محمد علي البار: نعم، نعم، جزاكم الله خيرا، معذرة مات دماغه، وبعد ذلك استمروا في عملية استمرار الأجهزة ليروا كم يستمر القلب في هذه الحالة لوجدها حسب علمي استمر 68 يوما وهي حالة شاذة وحيدة وبقية الحالات كلها كان يستمر أياما. الشيخ مصطفى الزرقاء: يعني هل من الممكن بعد الحكم بموت الدماغ أن يبقى القلب والكلى يشتغلان. الدكتور محمد علي البار: ممكن تستمر. الشيخ عبد الله بسام: بدون التنفس الصناعي هل يمكن بقاء بعد موت الدماغ كليا؟ هل يمكن للجسم وضخ القلب؟ الدكتور محمد علي البار: هذا الذي نتحدث عنه يا فضيلة الشيخ. الشيخ عبد الله بسام: قصدي بدون آلة صناعية. الدكتور محمد علي البار: بدون آلة لا يمكن لأنه بمجرد نزع الآلة يتوقف تمامًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 الرئيس: الدكتور أشرف.. الدكتور أشرف الكردي: بسم الله الرحمن الرحيم.. أعتقد أن الدكتور البار أوفى في هذا الموضوع الكثير من النقاط التي ممكن أن يسأل عليها. أرغب في البدء في التفريق بين سحب أجهزة الإنعاش من مريض ميؤوس من حالته الطبية، أي لا أمل في الشفاء منه، وبين سحب أجهزة الإنعاش من إنسان توقف دماغه توقفًا نهائيًا لا عودة فيه ولا رجعة. نحن الآن في صدد الموضوع الثاني وليس في صدد الموضوع الأول. أن الرأي الطبي في البلاد العربية الإسلامية في الوقت الحاضر بالنسبة إلى سحب الأجهزة من مريض ميؤوس من حالته أي لا أمل في شفائه طبيًا يعتبر جريمة لا تغفر، أما سحب الأجهزة من إنسان فقد جميع وظائف دماغه واعتبر طبيًا أنه ميت، فهذا يجب أن تسحب الأجهزة منه من وجهة النظر الطبية ويعتبر في حكم الأطباء هو ميت حكمًا. يا سيدي إن المقدرة على الوعي والتفكير والتصور والإحساس والاستجابة وتنظيم وظائف الجسم وتنسيقها أمور جوهرية لتقرير الإنسانية في الجسد فإذا اختفت جميع هذه الوظائف اختفاء نهائيًا لا عودة عنه لم يعد بالإمكان اعتبار الجسد ككل شخصيًا حيًا بالمعنى الشامل. إن التشخيص المبكر والصحيح لموت الدماغ هام جدًا ليس فقط لأسباب طبية ولكن لأسباب كثيرة ومتعددة وعلى رأسها الاعتبارات الطبية الشرعية لتقرير ساعة الوفاة ومثال على ذلك تقرير الإرث، وهنا أضرب مثلًا أن شخصًا يوجد في مركز الإنعاش، وهذا الشخص مات دماغه واعتبر طبيًا أنه لم يمت ولم يقرر الأطباء ذلك وهو في الحقيقة ميت وفي هذه الأثناء في هذه الأيام في هذه الساعات ماتت زوجته فهو يرث من زوجته، وإذا مات هو فإخوانه يرثون منه، وهذا الحكم طبعًا غير صحيح لأنه مات قبل زوجته فتقرير الحكم والتقرير الصحيح فإن هذا الإنسان مات مهم جدًا. كذلك أضرب مثالًا آخر إلى حوادث القتل، كثير من الأشخاص الذين يصيبهم رصاص أو حوادث ينقلوا إلى وحدة الإنعاش ويعتبروا طبيًا أنهم في حكم الأموات إذا بقوا في غرفة الإنعاش، وهذه حدثت أن جاء إنسان آخر وقتلهم فمن يعتبر القاتل هل هو الأول أو هل هو الثاني؟ ولهذا يا سيدي يجب أن ننتبه إلى هذا الموضوع بصورة جدية لتقرير موت الدماغ واعتباره كموت حقيقي للأسباب التي سأذكرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 كذلك هنالك أسباب أخرى منها العبء النفسي والجسدي الثقيل الملقى على عاتق الجهاز الطبي. وكل من يمت للحالة بصلة لمتابعة مريض قد أصبح في عداد الأموات، وهذا ما رأيناه كثيرًا في بداية دراستنا لهذا الموضوع منذ عام 73. وأظن الشيخ الدكتور الزرقاء كان معنا في إحدى الندوات في هذا الموضوع سابقًا، أن أشخاصًا يعتبرون في حكم الأموات ويبقون ساعات وأسابيع تصوروا العبء النفسي الملقى على الأهل وعلى الأقارب وعلى الجهاز الطبي. إن معالجة الجثة كما لو كانت إنسانًا حيًا تعكس فهمًا خاطئًا وتشكل ذنبًا أخلاقيًا وإهانة للإنسان. وهكذا فإنه من الزاوية الأخلاقية والسلوكية يتوجب علينا أن نعامل الشخص الذي فقد جميع وظائف دماغه وأصبح بالتأكيد ميتًا على أنه في الواقع كذلك.. ومن هذه الأسباب أيضًا تحديد الأولويات لرعاية المرضى المتواجدين في وحدة المعالجة الحثيثة، خاصة إذا كانت هذه الوحدة مزدحمة بالمرضى من جهة، وكانا لعديد منهم ينتظرون دورهم للحصول على سرير فها من جهة أخرى، مما يضطرهم للذهاب إلى مراكز علاجية أقل كفاءة. أما موضوع نقل الأنسجة والأعضاء فيكتسب أهمية خاصة عندما ندرك أن هذا النقل ليكون ناجحًا وليستفيد منه شخص آخر تتعلق حياته به فإنه يجب أن يتم فور إعلان الوفاة حينما يكون العضو المنقول لا يزال محتفظًا بقدرة الحياة عن طريق أجهزة صناعية متقدمة. وأخيرًا لا آخرًا بالرغم من أن حياة الإنسان لا تقدر بأي ثمن فإن التكاليف الباهظة التي تنفق على إنسان يعتبر في عداد الموتى لا بد وأن تؤخذ بعين الاعتبار. وأحب أن أؤكد هنا أن موضوع نقل الأعضاء ليس الموضوع الهام الوحيد في تشخيص موت الدماغ، وإنما هناك اعتبارات أخرى أخلاقية وسلوكية ودينية وقانونية لا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 سيدي أريد أن أؤكد أن موضوع موت الدماغ مرتبط بحالات معينة فقد يجب أن ينطبق عليها ومن هذه الحالات هي الإصابات المباشرة للدماغ كحوادث الطرق أو إطلاق النار أو الشظايا أو النزف داخل الجمجمة أو وجود أورام، وهذه تعتبر أسباب أولية كما يوجد أسباب ثانوية منها نقص حاد في الأوكسجين أو نقص في ضغط الدم أو الغرق أو الصدمات الكهربائية أو الصدمات الناتجة عن حوادث التخدير. لهذه الحالات فقط هنا نركز على هذا الموضوع، موضوع الدماغ ويوجد حالات كثيرة يجب أن تستبعد والدكتور البار حكى فيها بالتفصيل. شروط التشخيص هي صارمة وقاسية، ولا داعي لذكرها هنا، ولكن من أهميتها أن المريض يجب أن يكون في غيبوبة دائمة لا يستجيب لأي تحريض مهما كان، وأن المريض موضوع على جهاز التنفس الاصطناعي، وأن المريض مصاب بتلف دماغي بنيوي لا يمكن شفاؤه، وأنه يجب أن يمر وقت كاف للتأكد من أن التلف لا يمكن شفاؤه بالفعل، كما يجب أن تكون انعكاسات جذع الدماغ معدومة كاملة كما أنه يجب أن يثبت وقف التنفس. وهذا شرط أساسي ومهم يجب أن لا يكون هنالك تنفس تلقائي، ولا بأي شكل من الأشكال ولمدة لا تقل عن عشر دقائق بعد إعطاء الأوكسجين الكافي لضمان إذا كان هذا الشخص أنه لن يتأثر وهذا شرط أساسي وجوهري. الشيخ مصطفى الرزقاء: تلقائي أو بواسطة الأجهزة. الدكتور أشرف الكردي: تلقائي.. ألا يكون هنالك تنفس تلقائي مهما كان إذا نزعنا الأجهزة لإثبات أن التنفس غير موجود تلقائيًا ننزع الأجهزة يا سيدي ونزعها ونضع أوكسجين للتأكد أنه لا يوجد أي تنفس تلقائي نهائيًا. ويجب أن يثبت أيضًا السكون الكهربائي في الدماغ، أي أن الكهرباء لا يوجد به أي حرارة كهربائية أو أي أمواج كهربائية أو أي ذبذبات كهربائية، كما كنا في السبعينات نستعمل حقن شرايين الدماغ بواسطة مواد ملونة حتى نرى أنه فيها دورة دموية أو لا والحقيقة أنه يجب أن لا يكون هنالك أي دورة دموية في الدماغ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 من يقوم بهذا الفحص؟ هل أي طبيب يقوم بهذا الفحص؟ الحقيقة لا، نعتقد أن الفحوص والاختبارات يجب أن تجري من قبل ثلاثة اختصاصيين من ذوي التجربة في هذا الميدان أحدهم يجب أن يكون أخصائيًا بالأمراض العصبية وله خبرة في الفزيولوجيا العصبية والسريرية. ومن الناحية العملية فإن هؤلاء الأطباء غلبًا ما يكونون أخصائيين في التخدير والمعالجة الحثيثة وطب وجراحة الجهاز العصبي بالإضافة إلى الطبيب المعالج المباشر، ويجب أن تجرى الفحوص والاختبارات مرتين تفصل بينهما فترة لا تقل عن أربع ساعات وقد تزيد عن أربع وعشرين أو ثمان وأربعين ساعة للتأكد من أنه لم يحدث أي خطأ في المراقبة، أو أي تغيير في حالة المريض. وإذا كان هنالك أي شكل يتعلق إما بالتشخيص أو بالشروط السابقة فإن معالجة المريض يجب أن تستمر. فإذا أظهرت الاختبارات والفحوص الأولى موت الدماغ فإن المريض يجب أن يعاد إلى جهاز التنفس والاصطناعي وتعاد جميع الفحوص الاختبارات بعد فترة لا تقل عن أربع ساعات، فإذا أكدت الاختبارات المكررة موت الدماغ، فإن الوفاة يجب أن تعلن بصورة قانونية، ويمكن عند ذلك إصدار شهادة الوفاة. ولكن الذي نعلمه من الناحية العملية أننا نخبر الأهل أن هذا أصبح في عداد الأموات وأصبح متوفى ونأخذ رأيهم في سحب الأجهزة. ويمكن عند ذلك إصدار شهادة الوفاة ويجب التأكد هنا خاصة في حالة نقل الأعضاء، أن استمرار المعالجة لا يشكل استمرارًا للحياة، وفي حالة نقل الأعضاء ولأسباب أخلاقية وطبية شرعية فإننا نؤكد على أن كل طبيب ينتسب بأية علاقة للمريض الذي سوف ينقل العضو إليه أو إلى الفريق الطبي الجراحي الذي سوف يقوم بعملية نقل الأعضاء، يحب أن يستبعد عن تشخيص موت الدماغ عند الشخص المتوفى. يا سيدي إن مزايا الخصائص الأردنية في هذا التشخيص هو الحقيقة ناتج هذا عن قراءتنا ودراستنا لما يعمل به في الخارج ودراستنا وخبراتنا هنا، مزايا الخصائص الأردنية في هذه الورقة هي صرامة شروط التشخيص. إن شروط التشخيص القاسية التي وضعناها لا يوجد لها أي مثيل في أي مكان في العالم، ويجب أن يتم التشخيص في المستشفيات المركزية المجهزة لمثل هذا العمل. ليس كل مستشفى ولا أي طبيب ممكن يقوم به، والتشديد على أهمية التشخيص المبكر وأن يكون أخصائيو الأمراض العصبية طرفا رئيسيا في التشخيص وأن تجرى الفحوصات والاختبارات من قبل ثلاثة اختصاصيين. ونقطة أخرى أن التشخيص السريري يجب أن يكون مدعوما بتخطيط الدماغ الكهربائي، وفي حالة نقل الأعضاء التشديد على أن يكون سبب موت الدماغ هو تلف أولي في الدماغ، وناحية أخرى هو استبعاد أي طبيب ينتسب بأي علاقة للمريض الذي سوف ينقل العضو إليه أو أن يكون ضمن الفريق الطبي الجراحي الذي سوف يقوم بعملية نقل الأعضاء. وشكرا يا سيدي. الرئيس: في الواقع إذا تكرمتم أن تصور هذه المذكرة وتسحب وتوزع على المشايخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 الدكتور محمد علي البار: يا طويل العمر هي موجودة، هذه في هذا الكتاب. الرئيس: موجودة طيب شكرًا.. فيه سؤال ذكرتم أن سبب موت الدماغ هو التلف، يعني نوعية التلف هذا، هو التلف يعين بصدمة أو بحادث أو كذا، أو جائز أن يكون تلفًا طبيعيًا. الدكتور أشرف الكردي: يجب أن يكون تلفًا أوليًا. يجب أن يكون هنالك تهتك في مادة الدماغ وليس بشكل طبيعي، يجب أن يكون هناك لها سبب. وهذا السبب مثل حوادث الطرق، شخص داسته سيارة ودماغه طلع على الشارع أو قسم من دماغه طلع لبره. أن يكون طلقات نارية، أن يكون ضرب على الرأس أو أن يكون هنالك ورم في الدماغ يأكل في خلايا الدماغ أو نزيف في داخل الدماغ ويؤدي هذا النزيف إلى تهتك في خلايا الدماغ. الرئيس: يعني معنى هذا موت الدماغ أو موت جذع الدماغ ليس علامة على الوفاة في جميع الحالات. الدكتور أشرف الكردي: لا يا سيدي، تلف جميع وظائف الدماغ ككل أنا لم أقل جذع الدماغ، جذع الدماغ هو جزء من الدماغ، أنا أقول توقف جميع وظائف الدماغ توقفًا نهائيًا لا عودة فيه ولا رجعة فيه، هذا ما أقوله. الشيخ محمد عبده عمر: أنا قصدي أستفسر: هل موت الدماغ بشكل كامل علامة صحيحة على الموت؟ يعني هل موت الدماغ بشكل كلي علامة قطعية على موت الإنسان؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فكيف يبقى القلب والدورة الدموية يشتغلان. الدكتور أشرف الكردي: يا سيدي يعتبر توقف جميع وظائف الدماغ توقفًا نهائيًا وأركز دائمًا على أن توقفًا نهائيًا لا عودة ولا رجعة فيه يعتبر الشخص المصاب فيه ميتًا، أما بالنسبة إلى القلب لماذا ينبض مع العلم بأن الدماغ قد مات؟ السبب من هذا يرجع على أن القلب فيه نبضات خاصة موجودة فيه وباستطاعتها أن تعمل بدون التوجه من الأعصاب الصادرة من الدماغ ولكن عملها هذا محدود وإلى فترة بسيطة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 الدكتور محمد علي البار: ممكن أشرح هذه الزيادة للتوضيح بأشياء تعرفونها كلكم: إذا ذبحت حيوانًا فإن هذا الحيوان أو الدجاجة أو الخروف أو غيره لا يزال يتحرك وإذا وضعت المقصلة على شخص أو المشنقة وشنق أو ضرب بحد السيف وحركة المذبوح هذه معروفة لدى الفقهاء وسجلوها من قديم. فحركة ليس عندما يموت الشخص، فيه شيئان مهمان جدًا في هذه اللحظات موت الخلايا وموت الأعضاء ممكن أن يكون موت الخلايا والأعضاء والشخص لا يزال حيًا هذا أمر معروف وفي كل لحظة تموت مئات الملايين من الخلايا في أجسامنا في هذه الجلسة مئات الملايين من الخلايا أماتها الله ثم أحيا غيرها، لكل واحد فينا أيضًا ممكن أن يموت الشخص وتخرج روحه وهذا موضوع الروح ما نعرفه نحن لكن حسب التعبير نقول خرجت روحه ويبقى بعض أعضائه وخلاياه حية وهذه الخلايا، أنت إذا أخذت اللحم بعد ذبح الشاة تجد هذا اللحم أو العضلات لا تزال تنبض. الشيخ محمد عبده عمر: لو سمحت أنا قصدي أتأكد هل موت الدماغ علامة على الموت القطعي عند كل الأطباء أو فيه خلاف؟ الدكتور محمد علي البار: لا ما فيه خلاف الآن بعد هذه التحديدات الموجودة بالشروط الموجودة، يعني الآن وضعت شروط واتفق عليها عالميًا، بهذه الشروط لا يوجد خلاف في الاعتراف بموت الدماغ بأنه مواز للموت موت الإنسان كاملًا، طبعًا لا يزال موت الدماغ يشكل أقل من 1? من جميع الوفيات، يعني لا يختلط بالأذهان أن كل الوفيات الآن لا بد أن يسجل عليه مات دماغه بل كل الوفيات التي تحصل حتى في البلاد الغربية، وحيث الأجهزة متطورة بكثرة لا تشكل أكثر من 1? من جميع الوفيات، بقية الوفيات كلها 99? هي وفيات عادية بتوقف الدورة الدموية وتوقف التنفس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 لكن في الحالات الخاصة التي يحدث فيها، كما ذكر الدكتور الكردي، خلل عضوي نسيجي في الدماغ نتيجة رصاص، نتيجة نزف، نتيجة ورم أو حتى نتيجة سبب ثانوي توقف القلب أربع دقائق ولم ينقذ هذا المريض لا شك أن دماغه سيموت بعد أربع دقائق. يعني ربما يكون التوقف من القلب، فإذا لم ينقذ هذا الشخص أو غريق أو كذا أو كذا من الأسباب الأخرى أو غاز ثاني أكسيد الكربون أو الأسباب الثانوية كلها التي ذكرناها كل هذه الأسباب الثانوية. واحد تسمم وانتحر بالمرقدات بالباروتريت ممكن أن يموت به فعلًا لكن نزيل كل أثر لهذه المادة أولًا قبل أن نحكم عليه أنه مات دماغيًا، لا بد من الانتظار حتى لا نعطي أية فرصة للخطأ، وقد بحثت ألف حالة بعد هذه التشديدات هل يمكن أن يكون فيها خطأ؟ فلم يجدوا خطأ في حالة واحدة من ألف حالة. الشيخ محمد عبده عمر: إذا سمح لي سيادة الرئيس سؤال أخير.. كيف نعرف علامات موت الدماغ؟ ما هي العلامات التي نعرف بها أن الدماغ قد مات؟ الدكتور محمد علي البار: ما أدري إذا كان يهمكم كثيرًا هذا لكن الحقيقة الدكتور الكردي أشار إليها: وأولها أن الشخص يكون مغمى إغماء كاملًا، ولا يستجيب لأية مؤثرات يعني لا يصدر منه صوت لا حشرجة، يعني لو صدرت منه حشرجة التي تسمى نزعًا لا نعتبره ميتًا، لو حركة تحركت قدمه أو رجله أو أي شيء حتى لو حاولنا نأتي مثلًا بقطنة على العين ونضعها على القرنية، الشخص العادي أو كذا ترمش عينه، فإذا رمش هذا لا يعتبر ميتًا بدون شك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 هناك مجموعة من الفحوصات ضوء شديد على بؤبؤ العين، عادة الضوء يحدث انقباض بؤبؤ العين إذا حدث مثل هذا لا يعتبر هذا ميتًا، هناك مجموعة من الفحوصات، الإغماء الكامل، عدم وجود الأفعال المنعكسة نسميها مجموعة من الفحوصات التي تدل على وظيفة الدماغ أو جذع في هذه المنطقة ثم إن عدم وجود أي حركة في هذا الشخص وجود حركة الدمية. إثبات هذا وقف التنفس مهم جدًا لا بد أن يكون التنفس قد توقف ماذا تصنع؟ ننبه الدماغ بإعطائه أوكسجين فترة ثم بعد ذلك 5? ثاني أوكسيد الكربون، المعروف أن ثاني أكسيد الكربون ينبه المراكز الموجودة في جذع الدماغ التي تكون مسؤولة عن التنفس، فإذا نبهت هذه المناطق كلها ولم يستجب هذا الشخص ولم يحدث منه أي تنفس إطلاقًا ما حدث تنفس إطلاقًا، توقف التنفس منه توقفًا تامًا، وهذا الفحص يجرى لمدة عشر دقائق طبعًا تختلف المدارس فيه بعضها جعلته خمس دقائق، أو سبع دقائق، أو عشر دقائق فنأخذ الحد الأقصى وهو عشر دقائق، كما أخذته المدرسة الأردنية الآن، بعد ذلك يعاد هذا الفحص مرة أخرى من فريق آخر من الأطباء، وليس لهم مصلحة إطلاقًا في أن يريدوا موت هذا الشخص ليأخذوا منه أعضاء جاهزة لنقل الأعضاء مثلًا ليس لهم أي علاقة إطلاقًا لا من قريب ولا من بعيد بموضوع نقل الأعضاء. لا بد أن يكون القرار من مجموعة من الأطباء ليس لها أية علاقة بنقل الأعضاء حتى تبعد أية شبهة مهما كانت موجودة ولو ضئيلة في هذا الميدان، بحيث يكون التشخيص مبنيًا على أسس لا مصلحة لأحد فيه إطلاقًا حتى ليست بدافع الرحمة، ما يسمى بالرحمة، هي مبنية على أسس واقعية علمية مضبوطة، وأن هذا الشخص قد توفي تمامًا. كذلك رسم الدماغ الكهربائي يبين أن الدماغ قد توقف تمامًا عن أي نشاط، بعض المدارس لا تهتم به، لكن المدرسة الأردنية تصر عليه باعتباره أيضًا وسيلة إضافية لتأكيد موت الدماغ، يعني نأخذ بكافة الاحتياطات المشددة التي قد لا تأخذ بها بعض البلاد الأخرى، وتكتفي بهذه العلامات وتقريرها كافية جدًا مثل المدرسة البريطانية، لكن إذا أخذنا بكافة الاحتياطات زيادة على ما هو موجود فإن ذلك يشكل ضمانة لئلا يحدث خطأ في تشخيص موت الدماغ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 الرئيس: شكرًا.. في الواقع أن من خلال عرض الطبيب الأستاذ أشرف الكردي بالنسبة لي حدث عندي تغير كامل في التصور لحقيقة الوفاة عند الأطباء لأنا كنا من خلال البحوث السابقة الذي ظهر لنا أن هناك تعارضًا بين حقيقة الوفاة عند الأطباء وحقيقة الوفاة عند الفقهاء. ثم تبين الآن كما في الصفحة الثانية تقريبًا من البحث اعتبار ما ذكره الفقهاء حقيقة للوفاة، وهو هنا يقول "تعريف موت الدماغ: يعرف الموت تقليديًا من الناحية الطبية بواحد من شرطين، إما حدوث توقف لا رجعة فيه على القلب والتنفس جميع وظائف الدماغ ككل توقفًا نهائيًا لا عودة منه، هذا شيء. الشيء الثاني هنا في تشخيص موت الدماغ ذكر هنا شرط وهو الرابع، إثبات وقف التنفس فأرجو من سعادة الطبيب شرح الناحية هذه. الدكتور أشرف الكردي: يا سيدي نحن ذكرنا أن هنالك خمسة شروط يجب أن تكون موجودة ومثبوتة وموثقة لتقرير تشخيص موت الدماغ، أحد هذه الشروط هو وقف التنفس، المريض موضوع على جهاز التنفس الاصطناعي حتى نتأكد من أن المرض تنفسه قد توقف توقفًا نهائيًا وتلقائيًا، نعطي قبل نزع جهاز التنفس الاصطناعي عن المريض نعطيه أوكسجين بكمية تتراوح لفترة تتراوح بين خمس إلى عشر دقائق قبل نزع جهاز التنفس الاصطناعي عنه، ونأخذ "سامبلز" أو عينات الدم لدراسة كمية الأوكسجين وكمية ثاني أوكسيد الكربون أو ثاني أوكسيد الفحم في الدم للتأكد أنه لن يحدث أي نقص خلال فترة العشر دقائق التي وقفنا فيها جهاز التنفس الاصطناعي عن هذا المريض حتى لا نكون نحن لنا علاقة في توقيف التنفس للمريض. وفي الحالة هذه نتابع كل ثلاثة دقائق نأخذ عينة من الدم للتأكد من أن كمية الأوكسجين كافية في داخل الجسم، وأن كمية ثاني أوكسيد الفحم غير مرتفعة كثيرًا بحيث تؤثر على أي وظيفة من وظائف الدماغ أو وظائف الجسم وتؤدي إلى نتائج عكسية، وهذا يعمل حسب شروط ومقاييس خاصة، ويجب أن يكون الطبيب الذي يعمله له خبرة في هذا الموضوع، فإذا تمت هذه العملية خلال فترة عشر دقائق وتأكدنا أن المريض لم يتنفس خلال هذه الفترة، وهذا يمكن إما بوضع اليد على صدر المريض أو بوضع آلة خاصة دقيقة التي ممكن أنها تريني أي تحركات عضلية، إذا كان هذا الشيء غير موجود وخلال فترة عشر دقائق فهنا نؤكد على أن التنفس انعدم تلقائيًا وأنه معتمد على الآلة الاصطناعية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 ولا نكتفي بهذا يا سيدي، نرجع ونعود إذا كانت جميع الشروط موجودة ومثبوتة وموثقة نرجع مرة ثانية بعد فترة لا تقل عن أربع ساعات وكما قلت قد تزيد إلى أربع وعشرين إلى ثمانية وأربعين ساعة ونعيد نفس الفحص للتأكد من أنه لم يحدث أي تغير. الشيخ عبد الله البسام: أنا لا زلت من خلال ما قرأت ومن خلال ما سمعت من الطبيبين الكريمين أرى أن هناك فرقًا بين الموت عند الأطباء والموت عند الفقهاء وعلماء الشرع، فالأطباء يقررون الموت نهائيًا بموت الدماغ على اختلاف بينهم كله أو حتى في جذعه، أما علماء الشريعة لا يرون أن هذا الموت شرعي بمعنى أنه يورث وبمعنى أنه يغسل ويدفن وبمعنى أنه لو مات أحد في هذه الأثناء في وجود نبض القلب وضخه والدورة الدموية لا تزال موجودة يعتبرونه لا يزال حيًا وأنه يحتضر وأنه لا يزال يحتضر وتجرى عليه أحكام الأحياء كلها إلا من ناحية الاعتداء عليه والجناية عليه هذه فيها تفصيل بين الفقهاء، أما من ناحية الإرث وعدم الإرث وعدة النساء وحرمته كحي فهذه علماء الشرع لا يزالون يرون أنه وإن مات الدماغ وإن كان في السابق لا يعلمون عن موت الدماغ لكن ما دام أنهم يرون أنه لا يزال فيه نبض والدورة الدموية لا تزال تعمل عملها لا يزالون يعتقدون أنه في حساب الأحياء، وبناء عليه فهناك فرق بين الموت عند الطبيب وبين الموت عند الفقيه، يعتبر ميئوسًا منه، إذا قرر الطبيب وهو صاحب الخبرة بأنه الآن مات دماغه ولا أمل في عودته ولا رجوعه، الفقيه يقول: هذا رجل ميئوس منه، حي ولكن ميئوس منه. يبقى نزع آلة الإنعاش هذه هل إن كانت لم توضع فلا داعي لوضعها؟ يعني نفس العلاج ما هو واجب أن الإنسان يعالج، وأيضًا إذا كان ميئوسًا منه يعني تزداد بعد ذلك المسألة، لكن إذا كانت آلة الطبيب أو أن التنفس أو الجهاز إن جعلا عليه على أساس أنه كان فيه أمل ثم بعد ذلك عرف أنه لا أمل فيه فأنا أرى أن نزعها من باب الإجهاز عليه، أنه حي وأجهز عليه. الرئيس: حتى ولو قرر الأطباء أنه ميؤوس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 الشيخ عبد الله البسام: حتى ولو قرر الأطباء أنه ميئوس اعتبر محتضرًا، واعتبر أن الله سبحانه وتعالى له حكمة في ذلك، وأنه قد يشدد على الإنسان في نزعه لأجل ذنوب عليه ونحو ذلك وأن تبقى آلة الطبيب إلا إذا كان هناك مثل ما تفضل الأطباء أن هناك ما هو أحوج منه إليها، هذا من باب تزاحم المصالح، أما ما دام أن الجهاز هذا غير محتاج إليه فأنا أرى أن نزعه وإن كان ميئوسًا منه من باب الجناية عليه. الرئيس: كلمة بسيطة، لأن الحقيقة النقطة هذه مهمة فهمنا من حديثكم وحديث الشيخ عبد الله، تعرفون يا شيخ عبد الله أنه في الدورة الماضية الذي تمثل أمام الجميع تقريبًا، هو يعني مثل ما تفضلتم، أن حقيقة الوفاة عند الأطباء خلاف حقيقة الوفاة عند الفقهاء، وأن هذا الذي كان بمفهومي لكن أنا من خلال هذه العبارة وهي "يعرف الموت تقليديًا من الناحية الطبية بواحد من شرطين، -يظهر المراد واحد من حالين- إما حدوث توقف لا رجعة فيه على القلب والتنفس، هذه الجملة "حدوث توقف لا رجعة فيه على القلب والتنفس" هذه أظنها تلتقي مع كلام الفقهاء، وأنا أسأل الشيخ عبد الله لأنه أعرف أنه في العام الماضي بحث فيها جيدًا وأعطى المجلس ورقة في هذا الموضوع. الشيخ عبد الله البسام: الفقهاء ذكروا علامات للموت حتى قالوا: إذا شك فيه أصبر عليه حتى يتغير. الرئيس: لكن أنا قصدي هل في هذه التقاء مع الفقهاء أو لا في العبارة هذه؟ الشيخ عبد الله البسام: ما هي العبارة؟ الرئيس: يقول هنا "يعرف تقليديًا من الناحية الطبية بواحد من شرطين" الظاهر أنه واحد من أمرين، كذا يا دكتور أشرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 الدكتور أشرف الكردي: نعم يا سيدي. الرئيس: بواحد من أمرين: إما حدوث توقف لا رجعة فيه على القلب والتنفس، أو توقف جميع وظائف الدماغ ككل توقفًا نهائيًا لا عودة منه. الشيخ عبد الله البسام: الأول هذا يعتبر موتًا عند الفقهاء، الأول عند الفقهاء موت إما الأخير.. الرئيس: الأول قصدي أن الأول فيه التقاء في حقيقة الوفاة عند الفقهاء.. كذا.. الشيخ عبد الله البسام: نعم.. أي نعم.. الرئيس: هذا الذي أريد يعني هذا الذي أنا أثرت وهي الحقيقة نقطة مهمة جدًا لأنه كما تعلمون في الدورة الماضية ما كنا نتصور التقاء حقيقة الوفاة بين الأطباء والفقهاء، يعني الذي يظهر لنا في الدورة الماضية أنهم على طرفي نقيض، هؤلاء يقولون: حقيقة الوفاة موت الدماغ أو جذع الدماغ، وهؤلاء يقولون: حقيقة الوفاة هي موت القلب وانقطاع التنفس ويذكرون العلامات المسطرة أمامكم. الشيخ عبد الله البسام: لأن الأطباء الآن هم الذين يجيبون عن هذا، أرى أنه إذا كان توقف التنفس والقلب والدورة الدموية، الدماغ نصرف النظر عنه. الدكتور أشرف الكردي: يا سيدي بالنسبة للجواب الأول: أنا بدأت حديثي في أنه يجب التفريق بين سحب الأجهزة من مريض ميئوس من حالته، ولكنه لا يزال حيًا وبين سحب الأجهزة من مريض يعتبر في عداد الأموات، يجب التفريق في مثل هذين الحالتين، الحالة الأولى: أنا أؤيد أن أسحب الأجهزة من مريض ميئوس فيه ولا تزال علائم الحياة موجودة عليه بوظائف الدماغ، هذه تعتبر جريمة لا تغفر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 الموضوع الثاني: الذي نحن حكينا فيه والذي نحن في صدده هو سحب الأجهزة من إنسان اعتبر متوفيًا ولا رجعة في أي وظيفة من وظائف دماغه نهائيًا، أما بالنسبة للموضوع الآخر وهو أنه مريض ميئوس من حالته عدم وضع أي جهاز عليه فهذا الكلام لا يقبله الأطباء مطلقًا؛ لأن وظيفة الطبيب أن يلاحق المريض لآخر لحظة ولآخر رمق في حياته إلى أن ربنا يأخذ الروح، لا نستطيع أبدًا أن نمنع جهازًا نملكه ممكن أن يساعد المريض بأي مرض كان ومهما كانت حالته. الشيخ مختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم ... سيادة الرئيس في الواقع أغنيتني عن كثير من الأسئلة، فضيلة الشيخ عبد الله البسام هو الذي دفعني إلى زيادة الكلام، أعتقد أن دخول الأطباء في اختصاص الفقهاء لا يمسح به، كما أعتقد بالأمثل أن دخول الفقهاء في اختصاص الأطباء لا يسمح به. الرئيس: إذن يتركون المريض لا حيًا ولا ميتًا، لا بد أن تتلاحم الوجهتان يا شيخ. الشيخ مختار السلامي: فأنا أسأل الطبيب أن هذا الشخص مات أو لم يمت؟ فإذا قرر الطبيب أن هذا الشخص مات لا أبحث عن العلامات التي وضعها العلماء بحثًا في طفولة العلم وأتمسك بها، فإذا قال الطبيب أو قال الطب كلمته في أن الحياة قد انتهت إذ ذاك يأتي دور الفقيه ليقول: يورث أو لا يورث، يصلى عليه، متى يصلى عليه، متى يدفن، من يرثه، هذه كلها قضايا لا يدخل فيها الطبيب، أما أن نجعل أنفسنا أطباء ونجعل أنفسنا فقهاء فأعتقد أن هذا ليس صحيحًا، وشكرًا. الرئيس: شكرًا.. في الواقع أنه لا بد أن نكون أطباء فقهاء، يعني في تقريرنا ولهذا نستدعي الأطباء حتى نستكمل التصور لأنه إن لم نستكمل التصور الطبي ويكون مفهومًا لنا مثل وضوح الشمس ما يمكن لنا أن نكيف المسألة فقهًا إطلاقًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 الشيخ مختار السلامي: يا سيدي، القلب ينبض أو لا ينبض أنا كفقيه لا أعرفه، قد يكون القلب ينبض نبضًا خفيفًا فأضع يدي وأتسمع فلا أسمع شيئًا.. والطبيب يقول لك: هذا حتى بقيت الحياة فيه وما زال حيًا، قد أحاول التنفس فلا أجد نفسًا فأقول مات، وهو التنفس بسيط ويعود إلى الحياة. القضية قضية تشخيص أو بيان الوقت الذي مات فيه المريض لا يستطيع أي فقيه مهما أوتي إلا أن يكون ذلك ادعاء لأنها قضية دقيقة جدًا وتخضع لآلات عندما أقف أجدها صماء بالنسبة لي لا تتحدث بشيء بينما هي تتحدث للطبيب بكل شيء. الدكتور أشرف الكردي: يا سيدي نحن بحاجة إليكم لأن هذا الموضوع الحقيقة هو بصدد خلق بلبلة في الكثير بين الناس، ورأي علماء الدين الأفاضل ورأي الفقهاء يساعدنا وبيطمأن الكثير من الناس، أن القرارات الطبية هذه تؤخذ بالطريقة الصحيحة لأن الشروط الصارمة والقياسية التي نحن وضعناها هي تعتبر من أقسى الشروط الموجودة في العالم، يعني يوجد هنالك شروط أقل صرامة منها ومعترف فيها في العالم أجمع، وشكرًا. الدكتور محمد علي البار: بسم الله الرحمن الرحيم ... أولًا: قلنا: إن موضوع موت القلب وتوقف القلب والتنفس هما أساسيان من الجلسات الماضية وهي التي في حوالي 99? أو أكثر من جميع حالات الوفيات التي يقررها الأطباء هذه النقطة الأولى. النقطة الثانية: أنه في حالة موت الدماغ بما أن الدماغ هو الذي يتحكم في التنفس، فيه مراكز في جذع الدماغ هي التي تجعل الإنسان يتنفس إذا ماتت هذه المراكز موتًا كاملًا فلا يمكن أن يحدث تنفس، ولهذا من شروط الفحص الدلالة القوية في علامة موت الدماغ من أهم العلامات التشخيصية لموت الدماغ هو أن يكون التنفس قد توقف لكن بما أن الأطباء يريدون أن يحرصوا على أن لا يكون لهم دور في التنفس ولو شيء بسيط يعطون هذا الشخص بواسطة أنبوبة أو قسطرة تصل إلى القصبة الهوائية تعطيه أوكسجين لفترة قبل أن ينزعوا الأجهزة، وهذه الاحتياطات وفحص الدم الذي شرحه الدكتور الكردي يوضح الاحتياطات الإضافية التي تعمل وتجرى من أجل أن يبقى مستوى الأوكسجين في الدم ومستوى ثاني أوكسيد الكربون بحيث أنه ينبه مراكز الدماغ لو كانت غير متنبهة، يعني كانت خامدة فقط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 أما بالنسبة لتعريفات الفقهاء وتشخيصات الفقهاء فلا شك أن التعريفات السابقة قد حكمت بالموت على مئات الآلاف من الأشخاص بينما كانوا أحياء، والدليل على ذلك ما ذكره الشيخ السلامي في قوله يرى الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه " أن المولود إذا لم يصرخ لا يعتبر حيًا ولو تنفس" يعني هم عندهم لو تنفس ما يعتبروا التنفس، بينما نحن لو تنفس نعتبره حيًا بدون شك ولو تنفس أو بال أو تحرك كل هذا عندنا طبعًا علامة للحياة، بينما يرى الإمام مالك أنه ليس حيًا. ومعنى هذا أنه لا يحكم له بالحياة لمجرد التنفس حتى يقرن به البكاء. وقال ابن الماجشون: إن العطاس يكون من الريح، والبول من استرخاء المواسك واعتبروا الرضاع، بدءوا يتناقشون: هل الرضاع دليل على الحياة أو لا؟ يعني الطفل حي ويرضع وكل هذا هم مصرون على أنه ميت، ثم إن عمر رضي الله عنه لما طعن وسقاه الطبيب اللبن وخرج اللبن من الأمعاء قال الطبيب: هذا ميت، واعتبره الفقهاء المتأخرون أو بعض الفقهاء على الأقل أنه ميت ولو قتل شخص عمر لما اعتبره قاتلًا، بينما هذه الحالة تعتبر تافهة جدًا مما يعتبره الطبيب، يعني "ريجان" لما ضرب بالرصاص اخترق رئتيه الرصاص واخترق التامبور يعني غشاء القلب أيضًا، غشاء القلب اخترقته الرصاصة، ومع هذا لم يعتبره الأطباء ميتًا بل سارعوا لإنقاذه. نحن في الواقع الشروط التي وضعها الفقهاء للموت شروط تؤدي إلى حكم بالموت على مئات الآلاف بل ملايين الأشخاص الأحياء لو اتخذنا تعريفات الفقهاء في أن هذا هو الموت انخسف رجله بردت يداه كل هذه التعريفات التي يتخذونها علامات ليست علامات للموت. هي علامات أحيانًا توقف الدورة نسبيًا أو شيء ما جس النبض، كل هذه العلامات لو اتخذناها لحكمنا بالموت على مئات بل على ملايين من الأشخاص إذا أخذنا النظرة التاريخية الماضية خلال ألف وأربعمائة عام لكان ذلك قتل لآلاف بل ملايين الأشخاص، بينما النظرة الطبية لهذا فرضت القوانين والدول أنه لا يحق للشخص العادي أن يعلن الموت الطبيب، فكانت معظم - يعني كل الحالات - يشخصها الطبيب ويعلن حالة الوفاة الطبيب، ويوقع على شهادة الوفاة الطبيب، لأنه هو المسئول وهو ذو الخبرة، ثم جاءت حالات ما هو أشد وأعقد نتيجة التقدم الطبي فصار الأمر إلى نوع معين من الموت وهو موت الدماغ نتيجة المحاولات الحثيثة أنقذ ما لم يكن ممكنًا إنقاذه، قبل عشرين سنة هذا لم يكن موجودًا لأنه لم يكن إنقاذ بعض هؤلاء الأشخاص، الآن بموت الدماغ أو بالوسائل الحديثة أمكن إنقاذ مجموعة من هؤلاء الأشخاص. فلا بد أن يعرف أن موت الدماغ يشمل توقف التنفس وإلا لما كان موتًا للدماغ، لو كان التنفس تلقائيًا موجودًا أو حتى لو رفعنا بالتنبيه وغيره ثم استطاع هذا الشخص أن يتنفس ولو لحظة واحدة لما اعتبر ميتًا. موت الدماغ نفسه يفرض أن التنفس قد توقف لا رجعة فيه توقفًا نهائيًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 يعني إذا فهم الأطباء هذه النقاط كلها يسهل عليهم فهم كيف أن هذا الشخص ممكن أن يستمر في حالات محدودة ينبض قلبه بالماكينة أو التنفس بالماكينة حتى يمكن أخذ الأعضاء منه وهي بحالة جيدة. أما إذا نزع الطبيب هذه وتوقف التنفس فهو توقف للتنفس وهو علامة الموت ولا بد أن ينتهي الإنسان بشكل من الأشكال ولا بد أن يتوقف تنفسه ويتوقف قلبه. فلا نستطيع أن ننفخ في جثث ميتة لفترة طويلة لأن ذلك كما ذكر الدكتور الكردي وكما ذكرت من قبل أنه يشكل مشاكل كثيرة وخطيرة. الرئيس: في الواقع يا سعادة الأستاذ في قضية أنه قد يحكم على حساب حقيقة الوفاة عند الفقهاء بموت أشخاص ثم يتبين أنهم أحياء، نفس الشيء قد يحكم على الشخص بموته لموت جذع الدماغ أو لموت الدماغ لدى الأطباء، ومن خلال ما رأينا في مطالعات في ندوة بداية الحياة الإنسانية ونهايتها في الكويت وجدنا عدة حالات حكم بها أو أعلن عنها بأن الحكم بالوفاة ثم تبين أنه حي واستمرت الحياة. فقصدي أن هذه الوقائع هل تؤدي إلى أن مجموع الوفاة طالما أنه ليس في حقيقة الوفاة نص شرعي ينص على أن حقيقة الوفاة هو موت الدماغ وأن حقيقة الوفاة هو توقف القلب وإنما هي مجرد ما لدى الفقهاء؟ يظهر، والله أعلم، أنه بحكم العلامات الظاهرة لأنه ما كان عندهم اكتشافات طبية في ذلك الوقت ليعرفوا الدماغ وبموت جذع الدماغ وإنما بحكم الظواهر التي أمامه، ولهذا جعلوا هذه العلامات مع توقف القلب وتوقف التنفس إلخ العلامات الظاهرة. فأنا قصدي هل يمكن أن يقال: إن حقيقة الوفاة هي مجموع الصفة لحاصلة على ما قرره الإمام الغزالي بأنه يقول: هي انفصال الروح عن البدن بالكلية، فإن كلمة الغزالي هذه في الحقيقة فيها جامعية بحيث إنه يكون انفصلت الروح عن جميع أجزاء البدن. ولأن الروح يقولون: إنها مشتبكة بالهيكل هكذا تمامًا. فما أدرى وجهة نظر الطب في هذا الشيء. الدكتور محمد علي البار: هذا التعريف، الحقيقة تعريف ديني، وليس للطبيب من وسيلة لمعرفة خروج الروح غير العلامات التي تحدثنا عنها، توقف القلب أو توقف التنفس أو توقف الدماغ، أما الطبيب، الحقيقة ليس لديه أي مقدرة في أي مكان في العالم أن يعرف أن الروح قد خرجت أو لم تخرج. هذا خارج نطاق بحث الطبيب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 الرئيس: قصدي في الحالات التي يحكم الأطباء بموته لموت الدماغ أو جذع الدماغ تم تثبت حياته. الدكتور أشرف الكردي: ممكن أن أجيب.. يا سيدي الذي تفضلت فيه صحيح مثل ما قال الفقهاء، لو أخذنا على حكمهم أنه فيه كثير من الناس هم يعتبرون في حكم الأموات لكنهم أحياء، كذلك الأمر بالنسبة لما ذكرت في مؤتمر الكويت، هذا الحكم صحيح، لكن إذا نظرنا إلى الشروط التي وضعت لتشخيص هذه الوفاة نجدها أنها مختلفة عن الشروط التي تكلمنا فيها هذا المساء والتي بدأنا نمشي فيها من السنة الماضية في الأردن وتبنتها كثير من البلاد العربية. المهم في الموضوع هو صرامة شروط التشخيص في الشيء الذي ذكرته في الكويت هم كانوا متبعين الطريقة الإنجليزية، الطريقة الإنجليزية تقول: إن أي طبيب حتى ممرضة ممكن أن تقوم بهذا الشيء، نحن هنا نركز أنه يجب هنالك ثلاثة اختصاصيين من ذوي المعرفة في هذا الموضوع، ويجب أن يراقب كل واحد منهم عمل الآخر، وكذلك يحدث هذا التشخيص على حالات معينة وليس على جميع الحالات. الشيخ مصطفى الرزقاء: بسم الله الرحمن الرحيم ... إخواني أنا كنت في ندوة تلفزيون هنا في الأردن مع بعض الأطباء، اشتركت طرحت نقطتين وأحب الآن أن أطرحهما لأن الواقع يتوقف عليهما الحكم في الموضوع بين قضية الوفاة الشرعية والوفاة الطبية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 أولًا: أريد أن أسأل يا ترى هل من الممكن حتى بالنظر الطبي أن يفرق ما بين حكم الميت أن يكون الشخص في حكم الميت أو أن يقول: إنه قد مات ليس دماغه مات شخص وأنا أريد أن نميز أن نقول: مات دماغه أو مات هو، فهل ممكن أن نقول: إن حالة موت الدماغ بالتعريف الطبي؟ وهذا لا ننازع الأطباء فيه لما يقولون موت الدماغ، وبمعنى أنه الدماغ أصبح قطعة معطلة لا رجعة فيها أبدًا ولا سبيل إلى أن يستمر هذا الإنسان في الحياة طويلًا. فهذا موت الدماغ الذي وصفتموه. ألا يمكن أن نقول عنده يجعل الشخص في حكم الميت، ولكنه ما دام قلبه ينبض ولو بالأجهزة ونفسه صاعد نازل فإنه لا نقول عنه ميت، بل نقول: إنه في حكم الميت، بمعنى أنه صار موته وبقاؤه سيان، هل يمكن هذا من الوجهة الطبية أو لا يمكن؟ هذا سؤال. السؤال الثاني: وهو ما يتعلق الآن مما أثير وأجاب الأخ الكريم الدكتور البار.. هل يمكن أن نقول خرج الروح يعني نحن لا نشك في النظر الشرعي عندنا الموت هو خروج الروح لكن الروح لا نراه، فمتى يحكم بأن الخروج قد خرج؟ هذا يا ترى لا شك أجاب الدكتور هناك علامات يعني تلك العلامات التي ذكرتموها لا حاجة لإعادتها فهذه العلامات كلها طبقت فوجدت أن تدل دلالة إيجابية بمعنى أنها تدل على وفاة وانعدام خصائص الشخص. تقولون: إنه يحكم بخروج روحه لأننا لا نراها، ألا يمكن أن نقول: إن هذه العلامات لا تكفي للحكم بخروج الروح الذي هو معنى الوفاة الشرعية، وهي التي أراد أساتذتنا أن يمسوها الموت عند الفقهاء، فهذا المعنى الذي هو ثابت شرعًا، أن الموت موت الشخص هو خروج روحه، أفلا يمكن أن نقول هذه العلامات لا تكفي للحكم بأنه خرج روحه ما دام نبضه شغال، قلبه دورته الدموية شغالة، نفسه ورئتاه شغالة ولو بالأجهزة. وإنما هناك علامة أخرى أنا كنت طرحتها في الندوة التلفزيونية علامة أخرى يمكن أن تكون هي العلامة الصحيحة على خروج الروح وهي ما يذكره أطباء في الطب الشرعي أحيانًا. أما علامة خروج الروح هو أن يصبح الجسم مستعدًا للتفسخ أي مستعدًا لتلقي وتقبل عوامل التفسخ التي هي المكروبات دون أن يكون عنده أي مقاومة لها تقف في وجهها لأننا نعلم أن الحي لا يتفسخ فما دام فيه حياة فيقاوم عوامل التفسخ لكن ممكن تتعطل وظائفه بالكلية ويصبح كأنه ميت لكن لا يمكن أن يتفسخ ما دام حيًا. فلا يمكن أن نقول إن الموت الحقيقي ما هو كل الدماغ، أن كلمة موت الدماغ لا أكتفي بها، أنه حتى نحكم أن الشخص قد مات بمعنى أن نقول: خرج روحه، أن نقول: آية ذلك ليست هي مسألة تعطل وظائف الدماغ أو غير ذلك وإنما هي أن يصبح هذا الجسد مستعدًا لتقبل عوامل التفسخ بلا مقاومة بمعنى أن تعمل فيه عوامل التفسخ. لا يمكن أن نقول هذا بالنظر الطبي، ثم أحب بالنسبة لمسألة حكم الميت، أنا آتي بمثال خطر لي الآن هناك حالات الشخص معدود في حكم الميت تمامًا يعني بالعادة والشهود. ومن الرأي مثلًا مرض النوم الذي يحدث في إفريقيا في بعض بلاد إفريقيا نتيجة لسعة ذبابة المعروفة (تسي تسي) ، هذا الذي أعرفه عن هذا المرض أن الشخص يصبح في غيبوبة دائمة يبقى في غيبوبة إلى أن يموت ولا يمكن أن يصحو ولا يمكن أن يمارس أو يبقى له أي وظيفة من وظائف الشخص الحي لكنه حي وقد يموت بعد فترة شهرين لا أدري المدة التي تقدر فنتيجة لسعة ذبابة (تسي تسي) ، لا يمكن أن يمارس أي وظيفة أو وظائفه الفسيولوجية كلها معطلة دماغه الخ.. ولكنه حي قطعًا، فهذا ممكن أن نقول عنه: أصبح في حكم الميت، فالذي تعطل دماغه لا يمكن أن نعده من هذا القبيل، إن هذا في حكم الميت ولكن ليس بالمعنى الشرعي ميت لأن الموت خروج الروح وأرجو أن لا تؤاخذوني لأن هذه نقاط أعتقد يتوقف عليها كثير من الأهمية في الحكم في الموضوع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 الدكتور محمد علي البار: الحقيقة الشيخ مصطفى الزرقاء بدأ الموضوع.. أنتم بدأتم الموضوع وصعبتوه علينا نسبيًا، لكن في الآخر سهلتوه جدًا. ذكرتم مثال موضوع "تسي تسي" ومرض النوم واعتبرتوه في حكم الميت، هذا الواقع ليس أبدًا إطلاقًا هو حي لأنه لا يزال يتنفس. يتحرك، التنفس يكفي، في الوقت الحاضر والدتي هي في المستشفى ولها عشرة أسابيع مغمى عليها إغماء تامًا، لا تسمع لا تبصر، لا تتكلم لا تحس أي شيء، وهي تتنفس تنفسًا طبيعيًا وتتغذى بأنبوب، ويخرج منها الإفرازات بأنبوب آخر، لكن بدون أي أجهزة إطلاقًا هذه ما دخلت أصلًا في موضوع موت الدماغ إطلاقًا. هي ما تزال حية بكل المقاييس لأنها لا تزال تتنفس، قلبها ينبض طبيعيًا بدون أي جهاز إطلاقًا. فمثل هذا الشخص الذي ذكرتوه هو ليس في حكم الميت بالنسبة لنا هو حي تمامًا ولا يدخل في حكم الميت إطلاقًا. إذا مات الإنسان دماغه فمعناه أن تنفسه أيضًا توقف متى يلتقي بسرعة الطب والفقه في هذه النقطة إذا نزعنا هذا الجهاز وأصدرنا شهادة الوفاة أنه ميت نزعنا الجهاز في تلك اللحظة على التو يدخل تعريفك مباشرة لأن تنفسه متوقف وقلبه متوقف على التو، وتبدأ التغيرات الرمية التي ابتدأت تذكرها لو تركناه ستحدث، لكن الذي يمنعنا من إتمام هذا فيه بعض الحالات النادرة التي يراد منها نقل الأعضاء إذا تركنا التغييرات الرمية تحدث التغييرات هذه فإن الأعضاء تصبح غير ذات جدوى في هذه الحالات فقط محدود حتى جزء من جزء، يعني جزءًا من حالات موت الدماغ، ليس كل حالات موت الدماغ تصلح لنقل الأعضاء ويمكن أهله غير متبرعين والشخص غير متبرع بذلك وفيه عوائق كثيرة، هذا ينزع الجهاز فيتوقف التنفس ويتوقف القلب وكل علامات الموت السابقة والقديمة واللاحقة والجديدة متوفرة فيه. الشيخ مصطفى الرزقاء: إلى أن نصل إلى هذه النقطة هل نحن إذا رفعنا الجهاز مات قطعًا؟ ولكن قبل أن نرفع الجهاز هل يمكن وقلبه ينبض وتجري الدورة الدموية فيه ونفسه شغال أن نقول عنه قد مات؟ هذه واحدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 ثانيًا: لو أردنا أخذ الأعضاء، لكن بدلًا أن نأخذها والجهاز مركب عليه وقلبه ينبض ونفسه يشتغل إذا أردنا أن نرفع الجهاز هل يمكن أخذ الأعضاء المطلوبة فورًا بعد أن يعتبر برفع الجهاز قد مات هو فعلًا، لا أن دماغاه قد مات وهذا الواقع ويقف القلب وتقف الرئة الخ.. هل يمكن أن يستفاد من الأعضاء في تلك اللحظة أن تؤخذ أو يجب أن تؤخذ والأجهزة شغالة وقلبه ينبض؟ هنا بيت القصيد، ويترتب عليه نتائج محسوسة تمامًا. هذا سؤال حساس يعني. الدكتور أشرف الكردي: يا سيدي نحن لا نعتبر الإنسان الذي يتوقف دماغه توقفًا نهائيًا أنه ميت إلا إذا أثبتنا أن تنفسه قد توقف، فهذا قد توقف وتوقف تلقائيًا ولا رجعة فيه. الشيخ مصطفى الرزقاء: يعني يتوقف مع الأجهزة القائمة. الدكتور أشرف الكردي: لا.. هذا لإثبات أنه متوفى يجب أن نعمل هذا الفحص ونثبت أن التنفس قد توقف توقفا نهائيا ويجب إعادة هذا الفحص أكثر من مرة للتأكد من أن التنفس قد توقف بشكل نهائي إن فائدة الجهاز لا يمثل علاجًا لهذا المريض. الشيخ مصطفى الرزقاء: لا يمثل علاجًا؟ الدكتور أشرف الكردي: أبدًا لا يمثل علاجًا لأن هذا يعتبر في عداد الأموات. الشيخ مصطفى الرزقاء: لا يمثل علاجًا ولكن ما دام هذا الجهاز يجعل القلب نابضًا والتنفس مستمرًا وإن لم يكن يشكل علاجًا لكن هل يمكن أن يقال: إن الشخص مات، إلا أن يكون دماغه قد توقف؟ الدكتور أشرف الكردي: نعم نعم.. نحن نعتبر أن الإنسان الذي مات دماغه موتًا نهائيًا يعتبر ميتًا. الشيخ مصطفى الرزقاء: اعتبر ... الدكتور أشرف الكردي: لا إنه ميت، مثله الشخص الذي توقف قلبه وتنفسه مع بعض. الشيخ مصطفى الرزقاء: كيف يموت وقلبه ينبض؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 الدكتور أشرف الكردي: قلبه ينبض اصطناعيًا. الشيخ مصطفى الرزقاء: السؤال الذي سألته ما أخذت جوابه، لو فرضنا رفعنا الجهاز ووقف القلب والتنفس فعلًا لأنه الواقع لا يشتغلان بغير هذا الجهازهل يمكن يستفاد من الأعضاء فورًا؟ الدكتور أشرف الكردي: لا يمكن. الشيخ مصطفى الرزقاء: لا يمكن إلا أن تؤخذ والقلب شغال. الدكتور أشرف الكردي: نعم! الدكتور محمد علي البار: توضيح زيادة.. الحقيقة بتعتمد على الأعضاء يعني إذا أردت القلب لا يمكن تستفيد منه إذا أردت العظام ممكن تجلس 24 ساعة. يختلف على نوعية العضو الذي تريده. القرنية ممكن تجلس بضع ساعات لكن القلب لا يمكن، فيعتمد على العضو المقصود به نقل الأعضاء. الشيخ مصطفى الرزقاء: يعني ما سوى القلب يمكن إلى فترة ما. الدكتور محمد علي البار: فترة محدودة جدًا. يعني تختلف من عضو إلى آخر. الشيخ مصطفى الرزقاء: يعني إذن ممكن أن يستفاد منها بعد رفع الجهاز. الدكتور محمد علي البار: نعم بعض الأعضاء لكن القلب لا يمكن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 الشيخ إبراهيم الغويل: بسم الله الرحمن الرحيم ... الحقيقة، يبدو لي أن الموضوع واضح وفقًا حتى للقرآن الكريم، فربنا هو الذي يتوفى الأنفس حين موتها. إذن العملية واضحة مع عملية التنفس ووقف التنفس التلقائي، وليس الاصطناعي، هي الحاسمة في قضية الوفاة حين الموت يكون ذلك موتًا حقيقيًا عندما تتوفى الأنفس، انتهت، كذلك وهذا الأمر أيضًا هو السر في قضية نفخ الروح القضية متصلة بالتنفس في بعث الحياة، وفي الموت كلمة الروح يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أن الطير تروح خماصًا وتغدو بطانًا)) فدائمًا عملية النفخ هو عبارة عن التنفس، النفس حينما تخرج والروح هي عبارة عن التنفس وهو داخل فبعث الحياة وانتهاؤها يتصل بعملية التنفس التلقائي بالنسبة للإنسان، هكذا يبدو لي. والله أعلم. الشيخ عبد السلام العبَّادي: الواقع النقاش الأخير الذي تم وضح الصورة إلى حد كبير، يعني نستطيع أن نقول، وأطلب من الإخوة الأطباء أن يصححوا ذلك: إن موت الدماغ يعني توقفًا فوريًا للتنفس ولحركة القلب لكن كل ما في الأمر أننا نبقي هذه الحركة الظاهرية في الدورة الدموية وفي التنفس بأجهزة، وهذه الأجهزة تبقى حركة ظاهرية يعني لا تعطي حياة لا، أسس عملية التنفس قد انتهى بموت الدماغ. فالتنفس حقيقة الذي أمامنا ليس تنفسًا حقيقيًا والدورة الدموية ليست دورة دموية حقيقية. هل هذا صحيح؟ فإذا كان صحيحًا يكون التعريف الشرعي للوفاة والتعريف الطبي للوفاة واحدًا، كل ما في الأمر أن التقدم العلمي مكننا من أن نحرك القلب حركة ظاهرية ونعمل نفسًا ظاهريًا. الدكتور محمد علي البار: صحيح. الشيخ عبد السلام العبادي: هذا يقودنا بعد أن تبلور هذا إلى نقطة أخرى. ما مدى احتمال الخطأ في التشخيص على ضوء الشروط التي وضعتها الخصائص الأردنية أو المزايا الأردنية ما مدى احتمال الخطأ في التشخيص؟ هذا سؤال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 ثم ما مدى فيما إذا صدر قرار بأن موت الدماغ يعتبر موتًا للجسم وأن الأجهزة لا تقدم ولا تؤخر كل ما في الأمر هي لمنافع أخرى ولمصالح أخرى الذي منها موضوع زرع الأعضاء ونقلها؟ ما مدى الالتزام بالشروط التي وضعت والتي تفضلتم وأشرتم في قضية الثلاثة أطباء وقضية الفحص المكرر في موضوع وقف التنفس إلخ الخ؟. ما مدى الالتزام بالشروط فيما إذا صدرت فتوى شرعية تقول: إن موت الدماغ يعتبر هو الموت الحقيقي. هل سيلتزم بهذه الشروط؟ أنتم تفضلتم أن هناك مدارس وأن بعض تلك المدارس تحكم بوفاة حالات وفق الطريقة المقررة والتي أشار إليها الدكتور أشرف لا يحكم بوفاته إذن فما مدى الالتزام بالشروط؟ قد تعود في النهاية المدارس الأخرى وليس هذه المدرسة التي فيها تحوط كبير خاصة أن هنالك قضية ملحة وقضية الاستعجال بالاستفادة من الأعضاء يعني قد يدفع إلى عملية التراخي في تطبيق هذه الشروط والالتزام بها الرغبة في الاستفادة من الأعضاء وبخاصة الأعضاء التي لا يمكن الاستفادة منها إلا وأجهزة الإنعاش موجودة على جسم الإنسان الذي حكمنا نحن بموته دماغيًا. وشكرًا. الدكتور أشرف الكردي: يا سيدي مدى الالتزام بهذه الشروط الحقيقة هذه الورقة قدمت في المؤتمر العربي للتخدير والإنعاش في أكتوبر 85 وحضر المؤتمر العديد من الدول العربية، ونوقشت هذه الورقة بإسهاب. وفي النهاية تقرر تبنيها من الدول العربية والأخذ فيها على حسب الشروط الصارمة التي وضعت فيها. وكذلك ظهرت توصية أخرى على أن تعرض كل دولة هذا الموضوع على مجلس الفقه الموجود في بلدها لأخذ الرأي في هذا الموضوع لأنه كما ذكرت سابقًا أن هذا مهم جدًا بالنسبة إلى عامة الناس. بالنسبة إلى الخطأ في التشخيص الحقيقة لما نقول: إن نحن ذكرنا ثلاثة أطباء وثلاثة أطباء اختصاصيين ولهم خبرة في هذا الموضوع ويجب أن يكونوا هم موجودين وأن توقيعهم موجود فمجال الخطأ غير وارد. ولحد الآن ما ظهر عندنا أي شيء ونحن حريصون جدًا أن لا يكون أي خطأ لأن أي خطأ في هذا الموضوع سيكون دمارًا بالنسبة لهذا الموضوع ككل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم أريد أن أتوجه بسؤال إلى السادة الأطباء. هذا السؤال هو أنه أن موت الدماغ عبارة عن عدم قبول الدماغ للتغذية هل هذا صحيح أو لا؟ الدكتور أشرف الكردي: هذا جزء منه يا سيدي. الشيخ المختار السلامي: بمعنى أنه يمكن أن يموت الدماغ، بمعنى أن قبول التغذية وعدم قبولها لا يعتبر دليلًا على الموت. الدكتور أشرف الكردي: لا يا سيدي هذا جزء منه، عدم قبول التغذية وعدم مرور الدورة الدموية التي فيها التغذية وفيها الأوكسجين هذا شرط رئيسي من شروط وفاة الدماغ أو موت الدماغ. الشيخ المختار السلامي: إذا مات الدماغ وأصبح غير قابل للتغذية وتوفرت جميع الشروط فما هو الزمن اللازم لتدمير الدماغ لان لا يبقى كبقية الأعضاء، هو يتحلل يتفسخ، بعد كم زمن يتفسخ؟ الدكتور أشرف الكردي: الحقيقة العلمية أنه إذا توقفت الدورة الدموية عن الدماغ لفترة تتراوح بين 4 دقائق إلى 6 دقائق وحتى في بعض الأحيان تؤخذ إلى 8 دقائق يعتبر أن الدماغ يبدأ في التهتك، فنحن الفترة التي أبقيناها أقل فترة ممكنة هي أربع ساعات وليست دقائق، وهذه الأربع ساعات تنطبق على إنسان دماغه تقريبًا ليس تهتك داخلا بل تهتك خارجًا يعني طلع دماغه خارج الجمجمة. الشيخ المختار السلامي: بحيث يصبح الدماغ متحللًا تحللًا كاملًا بعد أربع ساعات. الدكتور أشرف الكردي: نعم يا سيدي. الشيخ المختار السلامي: الدماغ في ذاته. لأن الذي أعرفه من الأطباء هو أنه إذا مات الدماغ فإن الدماغ ليس كبقية الأعضاء عنده خصائص من خلاياه، عنده خصائص في كل شيء، هو شيء آخر بالنسبة للإنسان فإذا مات الدماغ أسرع إليه التحلل بعد أربع دقائق يبدأ في التحلل وإذا كان أبقيناه أربع ساعات معناه أصبح ماء. فلذلك الذي يقع بالنسبة إليكم أنكم لا تأخذون الأعضاء إلا بعد أربع ساعات من موت الدماغ. الدكتور أشرف الكردي: هذا صحيح يا سيدي.. والذي ثبت في كثير من الحالات التي نعمل لها تشخيص موت الدماغ وتوقفت الأجهزة عنها، وعمل لها تشريح فورا بعد توقيف الأجهزة وجدوا أن قطعة من خلايا الدماغ موجودة في أسفل النخاع الشوكي مما يثبت الكلام الذي أنت تفضلت فيه أن الدماغ يبتدئ في التحلل بسرعة ولكن هذا الكلام لا ينطبق على بقية الأعضاء التي تحت الدماغ ما دام فيه تغذية اصطناعية لهم. الشيخ المختار السلامي: وإذا دمر الدماغ فلا عودة له. الدكتور أشرف الكردي: كلامك صحيح مائة في المائة يا سيدي.. الشيخ مصطفى الزرقاء: سؤال.. يعني في الحالة هذه يعني إذا الأجهزة شغالة والقلب نابض والنفس مشتغل لكن الدماغ متوقف عن كل وظائفه يمكن أن يبدأ التفسخ به مع بقاء النبض شغال. الدكتور أشرف الكردي: نعم. نعم. نعم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 الدكتور محمد علي البار: في الواقع، أجري الفحص على أكثر من ألف حالة، ووجد أن الدماغ أحيانًا صار فيها مثل الماء تحلل تمامًا وخاصة في الحالات التي بقي فيها أيامًا طويلة والقلب لا يزال ينبض، وبعد هذه الأيام والقلب لا يزال ينبض والتنفس ساريًا ثم فحص الدماغ فوجد الدماغ خلاص منتهيًا تمامًا قد تحلل تحللًا نهائيًا، كالماء أصبح متحللًا تمامًا تحللًا والحقيقة يبدأ التحلل بعد دقائق رغم أن النبض شغال بالأجهزة ولهذا نقول: إنه ثبت بعد ألف حالة شرحت وجد هذا الكلام أن كلها متحللة تحللًا نهائيًا وتفسخًا تامًا. الرئيس: أصحاب الفضيلة في الواقع إننا نشكر الأطباء الموجودين وندعو لنا ولهم بالتوفيق والهداية وأن ينفع الجميع بما علمنا. في الواقع نرجو أن يكون حصل تصور للموضوع من جوانب مهمة التي يمكن هي صالحة أن تكون منطلقًا لما يمكن تقديره والتوصل إليه من الوجهة الشرعية. ونظرًا لأن سعادة الطبيب البار سيسافر في الغد إن شاء الله تعالى وسعادة الطبيب أشرف كذلك مرتبط بأشغال ومواعيد فقد ترون مناسبًا , وإن كان فيه نوع من المشقة لكن يستحسن أن تؤلف لجنة بعد الاستراحة الليلة هذه، إن شاء الله تعالى، يجتمعون مع الطبيبين الكريمين ومن الشيخ مصطفى الزرقاء والشيخ السلامي وإذا أردتم أن أنضم إليكم كمرافق فلا مانع لدي. وما يتوصل إليه هو يمكن إن شاء اله تعالى يكون كمشروع يعرض في الغد أو بعد الغد. إذن تمت الموافقة وبهذا ترفع الجلسة وصلى الله على نبينا وعلى آله وصبحه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. القرار رقم (5) د 3/ 07/ 86 بشأن " أجهزة الإنعاش " إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر هـ / 11 إلى 16 أكتوبر 1986م. بعد التداول في سائر النواحي التي أثيرت حول موضوع " أجهزة الإنعاش " واستماعه إلى شرح مستفيض من الأطباء المختصين. قرر ما يلي: يعتبر شرعًا أن الشخص قد مات وتترتب جميع الأحكام المقررة شرعًا للوفاة عند ذلك إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين: 1- إذا توقف قلبه وتنفسه توقفا تامًا وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه. 2- إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلًا نهائيًا، وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه. وأخذ دماغه في التحلل، وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وإن كان بعض الأعضاء كالقلب مثلًا لا يزال يعمل آليًا بفعل الأجهزة المركبة. والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 بحث لفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد حكم إثبات أول الشهر القمري وتوحيد الرؤية فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد/ فإن المجمع رأى في دورته الثانية المنعقدة في مدينة جدة عام 1405هـ بحث مسألتين تتعلقان بأول الشهر القمري: المسألة الأولى: في حكم إثباته بالحساب. المسألة الثانية: في حكم توحيد الرؤية. وقد أدرت البحث في المسألة الأولى على ما يلي: المبحث الأول: في سياق النصوص. المبحث الثاني: في فقهها. المبحث الثالث: إجماع المسلمين على موجبها. المبحث الرابع: تفنيد الخلاف الحادث في هذه المسألة. المبحث الخامس: أدلة الخلاف الحادث. المبحث السادس: في نقضها. المبحث السابع: في ظنية الحساب. المبحث الثامن: في منابذته للشرع. فإلى بيانها: المبحث الأول: في سياق النصوص قال الله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 وشهود الشهر يكون بعد إهلاله كما في الآية الأولى. وقد علم أن ما ثبت من المؤقتات بشرع أو شرط فالهلال ميقات له كالصيام والحج، والإيلاء، والعدة، ونحوها وإنما خص الحج بالذكر متميزًا له، ولأنه علامة الحول كما أن الهلال علامة الشهر. وقال تعالى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} . فالشهور معدودة اثنا عشر شهرًا، والشهر هلالي بالاضطرار. فالسنة عددية اثنا عشر شهرًا، والشهر طبيعي معلق برؤية الهلال. وأصح المعلومات ما شوهد بالأبصار ولهذا سمي الهلال هلالًا لظهوره وبيانه. والشهر القمري يكون تارة (30) يوما، وتارة (29) يومًا كما في النصوص النبوية الآتية. وعليه فالسنة القمرية (354) يومًا وبعض يوم خمس أو سدس. وإنما يقال إنها (360) يومًا جبرًا للكسر على عادة العرب في جبر الكسور كما جعل الشرع: اليوم طبيعيًا من طلوع الشمس إلى غروبها، وجعل الأسبوع عدديًا بسير الشمس. هذا وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم الطريق الذي يعرف به الإهلال للشهر في جملة أحاديث حكى فيها التواتر واردة عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم: أبو هريرة، وابن عباس، وابن عمر وحذيفة، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وجابر، والبراء بن عازب، ورافع بن خديج، وطلق بن علي، وأبو بكرة، وسمرة، وعدي بن حاتم وعن رجال من الصحابة، وعن عطاء مرسلًا رضي الله عنهم أجمعين. وحديثا ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما، وحديث ابن عباس في صحيح مسلم، وهو وحديث حذيفة في سنن أبي داود والنسائي وغيرهما، وبقية أحاديث الجماعة والمذكورين رضي الله عنهم: خارج الكتب الستة كالموطأ، ومسندي أحمد والشافعي وغيرهما. وقد خرج أحاديثهم بألفاظها، وبيان من أخرجها: ابن الأثير في: جامع الأصول 6/ 265 – 271. والمتقي في: كنز العمال 8/ 485 – 493. والألباني في: إرواء الغليل 4/ 2 – 14. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 وغيرهم من أصحاب الكتب الجوامع. وهذه جميعها من قوله صلى الله عليه وسلم، وثبت من حديث عائشة رضي الله عنها من هديه الفعلي صلى الله عليه وسلم. وهذا بيان ألفاظ روايات حديث: أبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، وبقية أحاديث الآخرين ترجع إليهم: 1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يومًا)) ، رواه الشيخان والنسائي. وفي لفظ: قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم فأكملوا العدة)) . وفي لفظ: ((فإن غمي عليكم فأكملوا ثلاثين)) . وفي لفظ عند النسائي: ((فاقدروا له ثلاثين)) . وفي لفظ عنده أيضًا: ((فاقدروا له)) . وفي لفظ عنده أيضًا: ((الشهر تسع وعشرون. ويكون ثلاثين، فإذا رأيتموه فصوموا. وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأكملوا العدة)) . 2- حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له)) . وفي لفظ مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: ((الشهر هكذا وهكذا وهكذا، ثم عقد إبهامه في الثالثة، فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين)) . وفي لفظ: ((فاقدروا له)) . 3- حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) . رواه مالك، وأبو داود والترمذي والنسائي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 وفي رواية للنسائي أن ابن عباس قال: عجبت ممن يتقدم الشهر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) . وفي لفظ ((صوموا لرؤيته)) . الحديث. وفي لفظ ((لا تصوموا قبل رمضان صوموا لرؤيته)) .. الحديث. وفي لفظ لأبي داود: ((لا تقدموا الشهر بصيام يوم أو يومين ... ولا تصوموا حتى تروه، ثم صوموا حتى تروه)) .. الحديث. 4- أما هديه الفعلي صلى الله عليه وسلم ففي حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لم يتحفظ لغيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يومًا ثم صام)) أخرجه أبو داود. المبحث الثاني: في فقه هذه النصوص. فهذه النصوص الصحيحة تدل دلالة صريحة على أصول شرعية في أحكام الشهور وإثبات أوائلها على ما يلي: الأصل الأول: أن الشرع جعل علامة أول الشهر: الهلال لا غير، وأن ليس لأول الشهر حد عام ظاهر سواه. الثاني: أن جنس الشهر القمري الشرعي منحصر أقله في (29) يومًا، وأكثره في (30) يومًا، وأنه لا يشرع الصوم بحال حتى يمضي (29) يومًا من شعبان ولا بد أن يصام في رمضان (29) يومًا لا يصام أقل منها بحال. الثالث: أن أول الشهر لا يعتبر إلا بيقين، وهذا مطرد من قاعدة الشريعة في العبادات المؤقتة: أنه لا يصح وقوعها إلا في وقتها بيقين تام، ولهذا ربط الله أسبابها بعلامات يقينية لا مدخل للعباد فيها بل هي سنن كونية ثابتة يستوي في معرفتها عموم الخلق: علماء، وعامة، حاضرة، وبادية، وهذا من أجل أسباب اليسر ورفع الحرج في الشريعة. الرابع: أن الشرع علق الأحكام التعبدية الشهرية على الأهلة بطريقي اليقين: الرؤية أو: الإكمال، وذلك: 1- لسهولته، ويسر يقينيته. 2- ولأنه لا يدخله الخطأ. 3- ولأن كل نظام سواه الأصل فيه خطأ، كالحساب فإنه مع عسره وندرة العارف به يدخله الخطأ كثيرًا كما سيأتي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 الخامس: أن اليقين في ذلك يتحقق بأمر محسوس: حقيقية أو حكمًا، حقيقة محسوسة بالإهلاك، وفي حكم المحسوسة بالإكمال أي: 2- الإكمال لشعبان - مثلًا – ثلاثين يومًا في حال تعذر الرؤية لغيم ونحوه، وهذا محسوس حكمًا يقيني في واقع الحال، لعصمة التشريع بخبرة الصادق والذي هو من سنن الله الكونية: أن الشهر القمري لا ينقص عن (29) يومًا ولا يزيد عن (30) يومًا. فالشرع أناط الحكم بأول الشهر بوجود الهلال حقيقة لا بوجوده تقديرًا، وأن وجوده حقيقة بالرؤية البصرية بالإهلال، أو بالإكمال، وأنه بأمر لا مدخل للعباد فيه بل هو سنة كونية ثابتة. وصاحب الشرع أشعر بحصر السبب فيهما ولم ينصب سببًا سواهما. ووجه التيقن بالإكمال أيضًا هو: استصحاب الأصل، إذ الأصل بقاء الشهر وكماله فلا يترك هذا الأصل إلا ليقين بناء على أن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بمثله. قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: في الاستدلال من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: "اعلم أن الأحكام لا تجب إلا بيقين لا شك فيه، وهذا أصل عظيم من الفقه، أن لا يدع الإنسان ما هو عليه من الحال المتيقنة إلا بيقين من انتقالها، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يومًا)) يقتضي استكمال شعبان قبل الصيام، واستكمال رمضان أيضًا.. اهـ. السادس: أن الأحاديث دلت بمجموعها على انحصار الوصول إلى اليقين المذكور بأحد الطريقين. فالصيام حكم سببه: الرؤية للهلال أو الإكمال. فمنها ما يفيد بمنطوقه وجوب الصوم والفطر بعد الرؤية أو الإكمال كقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) . ومنها: ما يفيد بمنطوقه تحريم الصوم والفطر قبل الرؤية والإكمال كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 وأنه ليس في شيء من الأحاديث إناطة الحكم الشرعي بالحساب الفلكي. وتسمية الشهر به: شهرًا، بل تعليقه الحكم بأمر يقيني من رؤية أو إكمال يدل دلالة واضحة على نفي إناطة الحكم بأي سبب آخر، ففي هذا فطم عن الاعتماد على الحساب في هذا الحكم. السابع: أن ترائي الهلال مشروع لهذه الأمة لضبط مواسم تعبدها فإن كانت العبادة واجبة كصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام، كان الترائي واجبًا كفائيًا، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وإن كانت مسنونة كان الترائي مسنونًا؛ إذ الوسائل لها أحكام الغايات، فإن تمت الرؤية وإلا فالمصير إلى الإكمال، والحمد لله على اليسر ورفع الحرج. قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: (وفيه –أي حديث ابن عباس - أن الله مقيد عباده في الصوم برؤية الهلال لرمضان، أو باستكمال شعبان ثلاثين يومًا، وفيه تأويل لقول الله عز وجل {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أن شهوده ورؤيته أو العلم برؤيته) اهـ. المبحث الثالث: إجماع المسلمين على موجب هذه النصوص. موجب هذه الأحاديث أن التكليف يتبع العلم، وقد علقه الشارع بأمر محسوس يستوي فيه عموم البشر، ونهي الأمة عن الصوم إلا بأحد هذين الطريقين. فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال..)) الحديث. وهذا من باب عموم النفي لا من باب نفي العموم، أي: لا يصوم أحد حتى يرى، أو حتى يعلم أنه رؤي أو ثبت شرعًا أنه رؤي. فإذا انتفت الرؤية البصرية انتفى العلم بالإهلال، وإذا انتفى العلم به بحاسة البصر فقد جعل الشرع المصير إلى تعليق الحكم بمناط آخر يستوي فيه عموم البشر وهو إكمال شعبان مثلًا ثلاثين يومًا. ولا يعلم في شيء من النصوص تعليق المناط بغير هذين. وهذا –والله أعلم- لأن ما سواهما، إما فاسد أو مظنون، أو فيه من التكلف والحرج والعناء، وصرف الحياة إلى ما لا نفع من ورائه بما لا تأتي بمثله الشريعة المطهرة. وهذا التقرير هو ما عرفه المسلمون في شتى عصورهم، وما زالت عباداتهم قائمة وأمورهم راشدة. ولا يعرف في هذا خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، بل حكى شيخ الإسلام ابن تيمية اتفاقهم. وحكاه المهدي في البحر. ومذاهب الأئمة الأربعة متفقة على ذلك. قال مالك رحمه الله تعالى: إن من يصوم بالحساب لا يقتدى به، وقال ابن عرفة: لا أعرفه لمالكي. بل قد حكى الإجماع على موجبه غير واحد من أهل العلم في القديم والحديث منهم ابن المنذر في الإشراف، وسند من المالكية، والباجي، وابن رشد القرطبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن حجر، والسبكي، والعيني، وابن عابدين، والشوكاني، وصديق حسن خان في تفسيرهم لقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} الآية وملا علي قاري. وقال أحمد شاكر: "واتفقت كلمتهم أو كادت تتفق على ذلك". ونكتفي من النقول عنهم بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية إذ حكاه في مواضع من: اقتضاء الصراط المستقيم، ومجموع الفتاوى 25/ 132، 179، 207 فقال 25/ 132: "إنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب، أنه يرى أو لا يرى، لا يجوز، والنصوص المستفيضة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة. وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلًا، ولا خلاف حديث، إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا. وهذا القول وإن كان مقيدًا بالإغمام ومختصًا بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو، أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم" اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 المبحث الرابع: تفنيد الخلاف الحادث في هذه المسألة. كما رأينا من فرع حكي فيه الخلاف ثم يتبين عند التحقيق عدم ثبوته عن المخالف وهذا كثير في مسائل فرعية. ومنه في الصيام: حكاية الخلاف في صوم يوم الشك حيث عزاه ابن قدامة وعنه ابن الجوزي رحمهما الله تعالى لنحو عشرة من الصحابة رضي الله عنهم، ونحوهم من التابعين، ثم بين العراقي وغيره ضعف الرواية في ذلك عن عدد مهم. وفي غير الصيام ما يروى عن جماعة كثيرين من الصحابة التابعين! أنهم خضبوا بالسواد، وقد أبان الحفاظ منهم ابن القيم في (الهدي) أن في الروايات عنهم ضعفًا وانقطاعًا وهكذا. وفي هذه المسألة: لا يعرف فيها خلاف صحابي بل حكى إجماعهم، وقد حكى الخلاف فيها عن: 1- الشافعي. 2- وابن سريج. 3- ومطرف بن عبد الله بن الشخير. 4- ومحمد بن مقاتل. 5- وابن قتيبة. وقد استقرأ ابن تيمية رحمه الله تعالى: أن الخلاف الحادث في الجواز مقيد بأمرين في: حال الإغمام، وللحاسب فقط لا يتعداه إلى غيره كما تقدم قريبًا. وسيتبين من التقييد الآتي: إنه حصل الغلط في هذا الخلاف على القائل به وفي نوعه فابن سريج وابن خويز منداد غلطا في حكايتها ذلك على الشافعي وأن ابن سريج الشافعي بنى قوله على غلطة على إمامه، وأن بعض الشافعية غلط أيضًا ابن سريج في حكايته لقوله. وأن مطرف بن عبد الله لا يصح عنه، وأن محمد بن مقاتل الرازي صاحب محمد بن الحسن الشيباني ضعيف. وأن ابن قتيبة ليس من أهل هذا الفن، وأن بعض أهل العلم غلط في حكايته نوع الخلاف حيث أطلق ولم يقيد. وعليه: فتبقى حكاية الإجماع إن قبلناها قائمة، وإلا فعدم وجود المخالف في القرون المفضلة خلاف معتبر. وبيان ذلك على ما يلي: 1- الغلط على الشافعي رحمه الله تعالى: قال ابن رشد في بداية المجتهد: "حكى ابن سريج عن الشافعي أن من كان من مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر، ثم تبين له من جهة الاستدلال أن الهلال مرئي وقد غم، فإن له أن يعتقد الصوم ويجزئه" اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 وحكاه أيضًا: ابن خويز منداد المالكي عن: الشافعي كما في: التمهيد لابن عبد البر. وعند العراقي في: طرح التثريب. ولذا قال ابن تيمية: "وحكاه بعض المالكية عن الشافعي" اهـ. تعقبه: أفاد العلماء من الشافعية وغيرهم أن هذا غلط على الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وأن هذا لا يعرف من قوله ولا مذهبه. وأن الصحيح عنه خلافه، ومن الذين قرروا إنكار نسبته إلى الشافعي، ابن عبد البر، وابن العربي، والحافظ ابن حجر، والمطيعي في جماعة سواهم. وهؤلاء هم الذين ذكروا الخلاف وسموا القائلين به على ما يأتي، وتعقبوهم. ونص الشافعية المفيد لمذهبه على وفق ما قرره السلف وذهبوا إليه اتباعًا للنص، وهو ما في كتاب أحكام القرآن لشافعي جمع البيهقي رحمه الله تعالى، فثبت بهذا بطلان نسبة القول المذكور إلى الشافعي وغلط ابن سريج وابن خويز منداد فمع كونه رأسًا في نصرة السنة جذعًا في أعين المبتدعة فقد كان يغلط في حكاية الفقهيات كما في ترجمته من ترتيب المدارك وغيره والله أعلم. 2- الأصل في خلاف ابن سريج: أبو العباس أحمد بن سريج الشافعي من سنة 306هـ إمام الشافعية في وقته رحمه الله تعالى. رأى الأخذ بالحساب جوازًا في حق الحاسب خاصة إذا غم الشهر ولم يره الراءون. والذي يتجلى أن ابن سريج - مع جلالته – رتب ما ذهب إليه من تفسيره لرواية ((فاقدروا له)) أي بحساب المنازل خطاب لمن خصه الله بهذا العلم- رتبه على ما حكاه غلطًا عن الشافعي رحمه الله تعالى، وعنه اشتهر القول بذلك ومع اشتهاره اختلف عليه النقلة بين الجواز والوجوب وفي الإطلاق والتقييد، والذي يصححه علماء المذهب عنه: أنه قال بالجواز وقت الإغمام خاصًا بالحاسب نفسه لا يتعداه إلى سواه، ومن سواه يبقى على الأصل في حكم الرؤية وبسطه النووي في المجموع محررًا. وهذا الذي تحرر قولًا لابن سريج هو: عين ما حكاه هو غلطًا على الشافعي. فإذا ثبت مما تقدم قيل: إن ابن سريج رحمه الله تعالى غلط على الشافعي في ذلك فإنه إنما قال ما قال تقليدًا منه لإمام المذهب عنده، وإذ قد بطلت نسبة القول به إلى الشافعي فهذا يفرغ ما بني عليه فلم يبق ذلك قولًا لابن سريج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 وقد أنكر العلماء من الشافعية وغيرهم على ابن سريج قوله: ومنهم ابن تيمية، كما تقدم نقله في آخر المبحث الثالث. ثم إن العلامة تقي الدين السبكي الشافعي رحمه الله تعالى ألف رسالته: العلم المنشور في إثبات الشهور، انتصر فيها لرأي ابن سريج للجواز لا للوجوب مقيدًا" لذلك بشرطين: أن ينكشف الحساب جليًا من ماهر بالصنعة والعلم، وأن يكون الجواز في خصوص الصوم لا الفطر. ثم ألف الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي رحمه الله تعالى رسالته باسم: إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة، وساق اختيار السبكي ولم يتعقبه. ثم ألف الشيخ أحمد بن محمد شاكر رحمه الله تعالى رسالة باسم: أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعًا إثباتها بالحساب الفلكي؟ ثم تعقبه كل من الشيخ أبو النصر مبشر الطرازي الحسيني برسالة سماها: بحث في توحيد أوائل الشهور العربية. كما تعقبه الشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري ببحث سماه: لو غيرك قالها يا أستاذ. ثم رأيت لدى الشيخ إسماعيل خطابًا من الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى يعتذر فيه إلى الشيخ إسماعيل وأنه إنما نشر رسالته لإثارة البحث بين أهل العلم وإلا فليس له رأي بات في المسألة. وكل هؤلاء الأجلة: السبكي، فالمطيعي، فأحمد شاكر رحمهم الله تعالى ينزعون من قوس واحدة من قول ابن سريج، وقد علمت مدى العمدة في رأيه مذهبيًا. وأن السبكي قرر الجواز بالشرطين المذكورين، أما الشيخ شاكر رحمه الله تعالى فقد وسع الخطو فصرح بالوجوب ص/ 15، ثم ضعف تجاسره فأبداه بحثًا ص/ 17، 29 والله أعلم. 3- مطرف بن عبد الله بن الشخير – م سنة 87 هـ رحمه الله تعالى- كان من كبار التابعين وساداتهم وقد نفى ابن عبد البر صحة الأثر عنه فقال: "روي عن مطرف بن شخير وليس بصحيح عنه، ولو صح ما وجب اتباعه عليه لشذوذه فيه، ولمخالفة الحجة له" اهـ. ونقله عنه ابن حجر، والعراقي وغيرهما، وقال ابن تيمية 25/ 182: "إن هذا إن صح عنه فهي من زلات العلماء" اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 4- ابن قتيبة: العلامة المشارك عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري م سنة 376 هـ رحمه الله تعالى. قال ابن عبد البر متعقبًا له: "ليس هذا من شأن ابن قتيبة ولا هو ممن يعرج عليه في مثل هذا الباب" اهـ. 5- محمد بن مقاتل الرازي: صاحب محمد بن الحسن الشيباني: فهو مترجم لدى الحنفية ترجمة موجزة لا تفيد نباهته في العلم، ولم أر من نص على تاريخ وفاته، وهو مضعف في الرواية عند النقاد، قال الذهبي في المغني في ضعفاء: "محمد بن مقاتل الرازي، لا المروزي، عن وكيع، ضعيف" اهـ. وفي الميزان قال: "حدث عن وكيع وطبقته، تكلم فيه ولم يترك" اهـ. والنقل عنه في هذا لم يتم الوقوف على سند له ليتم الكشف عنه والحنفية ينقلون قوله لنقضه، وينقلونه ممرضًا كقول القاري في شرح النخبة ص/19: "وأما ما ذكره بعض علمائنا عن محمد بن مقاتل أنه كان يسأل المنجمين ويعتمد قولهم ... " فذكره ثم ذكر من تعقبه كالسرخسي وغيره. المبحث الخامس: ما استدل به المتأخرون. استدل بهم بحديثين وقياسين: 1- أن رواية ((فاقدروا له)) معناه: قدروه بحساب المنازل، وأنه خطاب لمن خصه الله بهذا لعلم وأن قوله "فأكملوا العدة" خطاب للعامة. 2- حديث: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا)) الحديث. فالأمر باعتماد الرؤية وحدها جاء معللًا بعلة منصوصة وهي: أن الأمة لا تكتب ولا تحسب، والعلة تدور مع المعلول جودًا وعدمًا، فإذا وصلت الأمة إلى حال في معرفة هذا العلم باليقين في حساب أوائل الشهور وأمكن أن يثقوا به ثقتهم بالرؤية أو أقوى صار لهم الأخذ بالحساب في إثبات أوائل الشهور. 3- ليست حقيقة الرؤية شرطًا في اللزوم لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا عمل بالحساب بإكمال العدة أو بالاجتهاد بالأمارات أن ليوم من رمضان: وجب عليه الصوم وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 المبحث السادس: في نقضها: أولًا: نقض الاستدلال بلفظ ((فاقدروا له)) . واجب على أهل العلم جمع ألفاظ الرواة، والجمع بينها ما أمكن، ولا تحمل على التعدد إلا عند التعذر، بل قد يكون التعدد مؤثرًا في صحة الرواية كما علم من قواعد الاصطلاح عند المحدثين. وعليه فألفاظ الرواة كما يلي: 1- فأتموا العدة ثلاثين. 2- فأتموا شعبان ثلاثين. 3- فأكملوا ثلاثين. 4- حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة. 5- فصوموا ثلاثين. 6- أحصوا عدة شعبان لرمضان. 7- فأكملوا العدة ثلاثين، عن حديث ابن عمر. 8- فأكملوا العدة ثلاثين فإنها ليست تغمى عليكم، أبو هريرة. 9- فعدوا ثلاثين، أبو هريرة، وابن عمر. 10- فأكملوا العدة، أبو هريرة. 11- فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا، أبو هريرة. 12- فصوموا ثلاثين يومًا، أبو هريرة. 13- فعدوا له ثلاثين يومًا، ابن عمر. 14- فاقدروا له ثلاثين، أبو هريرة، وابن عمر. 15- فاقدروا له، أبو هريرة، وابن عمر. فهذه الرواية ثبتت من أحاديث الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجميعها متفقة لفظًا ومعنى، أو معنى، على إكمال وإحصاء الشهر السابق ثلاثين يومًا لعدة الشهر اللاحق عند تعذر الرؤية، ولهذا فإن أهل الاصطلاح يذكرون هذا الحديث في مبحث المتابعات بالمعنى أو باللفظ والمعنى كما في: شرح نخبة الفكر للقاري ص/ 90- 94. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 وهذا الثابت من قوله صلى الله عليه وسلم، ثابت من سنته الفعلية صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يومًا ثم صام)) ، رواه أبو داود بسند صحيح. وجميع روايات الصحابة المذكورة رضي الله عنهم ليس فيها ((فاقدروا له)) إلا في بعض ألفاظ حديثي أبي هريرة، وابن عمر رضي الله عنهم، وقد تعددت ألفاظ روايتهما فجاء فيها مثل ألفاظ الجماعة سواء ففي لفظهما أيضًا ((فعدوا ثلاثين)) وبلفظ ((فأكملوا العدة ثلاثين)) عن ابن عمر، وبلفظ ((فأكملوا العدة)) عن أبي هريرة ونحوها من الروايات السابقة عنهما، ومنها الرواية عنهما بلفظ ((فاقدروا له ثلاثين)) عند مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه، وعند النسائي، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فاتضح أن رواية ((فاقدروا له)) هي مثل رواية ((فاقدروا له ثلاثين)) وهما بمعنى: فأتموا العدة ثلاثين، وفي التنزيل {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} أي تمامًا، وهذا هو ما فهمه أهل الحديث الذين أخرجوا الحديث، حيث يوردون الرواية المفسرة بعد المجملة كما صنع: البخاري، ومالك، وبسطه الحافظان ابن عبد البر في: التمهيد 2/ 93- 40، وابن حجر في: الفتح 4/ 120. وعليه فإن جميع مورد الروايات واحد وإن اختلفت ألفاظها، فالإكمال، والإتمام، والإحصاء، والتقدير، والعدة، هكذا وهكذا وهكذا، جميعها بمعنى واحد، وأن الذين رووا، ((فاقدروا له)) جاء عنهما ((فاقدروا له ثلاثين يومًا)) ، وجاء عنهما أيضًا مثل ألفاظ الجماعة. والواجب في السنن جمع شملها ونفي الاختلاف والتضارب عنها، وأن الاختلاف في اللفظ لا يحمل على الاختلاف في المعنى إلا عند تعدد المخارج وتعذر الجمع، كما عليه العمل عند المحدثين وأهل الأصول، وحرره ابن حجر في النكت كما أن من طريقتهم التي لا اختلاف فيها بينهم حمل المجمل على المفسر، فمثلًا لفظ: ((فاقدروا له)) يفسره لفظ ((فأتموا العدة ثلاثين)) إذ ليس بين المجمل والمفسر تعارض أصلًا، وهذا لائح الوضوح والبيان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 وأن الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى قد اضطرب في هذا غاية الاضطراب من حمله تعدد المباني على تعدد المعاني في حديث واحد من رواية صحابي واحد، فهو يناقض ما ذهب إليه مع الجمهور طردًا للقاعدة المذكورة في حديث كيفية النهوض في الصلاة ما بينه في: الأجزاء الحديثية، هل يكون باعتماد على الركبتين أم الأرض؟ وفي حديث ((الفطر يوم يفطر الناس)) وأنه بمعنى الرواية الأخرى: ((الفطر يوم يفطر الإمام)) كما بسطه في رسالته: توحيد أوائل الشهور العربية ص/ 25- 28. فسبحان من صرف بصر الأستاذ معالجته إلى هذا التأويل الذي أوصله إلى التناقض والله أعلم. ولهذا فإن السبكي في: العلم المنشور ص/ 9 قد أنصف غاية الإنصاف إذ بين تفسير الرواية: ((فاقدروا له)) بالرواية الأخرى: ((فأكملوا العدة ثلاثين يومًا)) . بل جاء في رواية أبي داود لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن ابن عمر كان لا يأخذ بهذا الحساب فهذا تفسير منه لرواية: ((فاقدروا له)) وأنها بمعنى الرواية الأخرى: ((فاقدروا له ثلاثين)) . وبعد كتابة جميع ما تقدم وجدت في المستدرك للحاكم 1/ 423، والسنن الكبرى للبيهقي 4/ 204، بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى جعل الأهلة مواقيت فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له، أتموه ثلاثين)) فهذه الرواية الصحيحة صريحة في تفسير المرفوع بالمرفوع ولم أر من أشار إليها في النقض فالحمد لله على التيسير والله أعلم. ثانيًا: نقض الاستدلال بمفهوم حديث: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) الحديث. فقد علم في اللسان أن بساط المقال كبساط الحال له تأثير في الأحكام كما علم في مسائل من الإيمان والنذور والطلاق وغيرها، فقوله صلى الله عليه وسلم هنا: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) فقرنه بقول ((الشهر هكذا ... )) أي مرة ثلاثين ومرة 29 –فهو محض- خبر من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته: أنها لا تحتاج في أمر الهلال إلى كتاب ولا حساب، إذ هو إما (30) يومًا أو (29) يومًا، ومرد معرفته بالرؤية للهلال أو بالإكمال، كما في الأحاديث المتقدمة المشعرة بالحصر في هذين السبيلين لا بكتاب ولا بحساب، فهذا خبر منه صلى الله عليه وسلم يتضمن نهيًا عن الاعتماد على الكتاب والحساب في أمر الهلال، وفطم للأمة عن الاعتماد عليه، إذ أغناهم بنصب الرؤية أو الإكمال دليلًا على أوائل الشهور، ولهذا نظائر في النصوص الخبرية كقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) فهذا خبر يفيد صفة المسلم متضمنًا النهي عن إيذاء المسلم بلسان أو يد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 وهذا الظاهر في خبرية النص هو الذي يتفق مع الحقائق الشرعية والدلائل النصية من الأحاديث السابقة، إذًا فيتعين إبقاء النص على ظاهره في الخبرية، ولا يصرف عنها إلى العلية إلا بدليل وصرفه يؤدي إلى تعارض النصوص كما هو بيِّن. وهذا معنى ما قرره المحققون من أهل العلم في توجيه هذا الحديث من أنه على ظاهره لا غير من عدم الاحتياج إلى الكتاب والحساب في أمر الهلال، قرر ذلك ابن تيمية في: الفتاوى 25/ - وابن العربي في: عارضة الأحوذي، وابن حجر في: الفتح: 4/ 122، وقال: فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلًا، ويوضحه قوله في الحديث الماضي: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) ولم يقل: فسلوا أهل الحساب والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الخلاف والنزع عنهم ... " اهـ. وابن بطال قال كما في: إرشاد أهل الملة: "وقال ابن بطال وغيره معنى الحديث: أنا لم نكلف في معرفة مواقيت صومنا ولا عباداتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة إنما ربطت عباداتنا بأعلام واضحة وأمور ظاهرة يستوي في معرفة ذلك الحساب وغيرهم" اهـ. والسبكي كما في العلم المنشور ص/ 9 قال: وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((هكذا وهكذا وهكذا)) وإشارته تحقيق لاعتماد الأمر المحسوس الذي هو من أجلى الأمور، وفطم عن اعتماد الحساب في ذلك" اهـ. ثالثًا: نقض الاستدلال بالقياس على المحسوس بالمطمورة. فهذا القياس باطل من أصله لأن المقيس عليه هنا لم يثبت بنص ولا اتفاق ومن شرط القياس توفر ذلك، وهو مفقود فهو ملغى من أصله، ثم هو على التسليم مقدوح فيه بعدة قوادح قياسية منها: فساد الاعتبار لمخالفة المقيس لصرائح النصوص المشعرة بالحصر في نصب الشارع الرؤية سببًا للحكم بأول الشهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 وأنه قياس مع الفارق إذ المحبوس معذور فيجب عليه الاجتهاد في دخول الوقت فإن انكشف له غلط قضى، والله أعلم. رابعًا: نقض قياسه على إثبات أوقات الصلوات بالحساب. فهذا القياس كسابقه باطل من أصله، لأن المقيس عليه مختلف فيه غير ثابت بنص ولا إجماع، وثبوته بنص أو اتفاق الخصمين شرط للأصل المقيس عليه، وشرط ثالث أن يكون الحكم معقول المعنى كتحريم الخمر إلا إن كان تعبديًا كأوقات الصلوات وأعداد الركعات لأن ما لا يعقل معناه لا يمكن تعديته إلى محل آخر. وعلى التسليم فهو قياس مع الفارق، وقد بسطه القرافي في: الفروق –الفرق الثاني بعد المائة- ذلك أن المشرع أناط الصلاة بوجود العلامة لوقتها فنفس الوقت هو سبب الصلاة فمن علم السبب بأي طريق كان، لزمه حكمه فلذلك اعتبر الحساب المفيد للقطع في أوقات الصلوات، وأما الأهلة فلم ينصب الشرع خروجها سببًا بل جعل السبب: الرؤية لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته)) ، ولم يقل لخروجه، فإن لم تكن رؤية رد إلى الإكمال الذي يباري الرؤية في الإهلال، ثم بسط وأورد ما للمعارض وأجاب عنه في بحث مطول، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 المبحث السادس: في ظنية الحساب. وذلك للأمور الآتية: 1- أن قطعية الحساب لا تقبل إلا بنتائج فاشية تفيد العلم اليقيني بصدق نتيجته واطرادها، وإخبار العدول على رسم الشرع من ذوي البصارة به بذلك، ويبسط طريقته بمحضر من أهل العلم لمعرفة مدى سلامة مقدماته شرعًا، هذا لو جعل الشرع المصير إليه. والواقع أنه ليس لدينا دليل متوفر على هذا المنوال ليكسب إفادته اليقين إلا شهادة بعض الفلكيين لأنفسهم بأن حسابهم يقيني، والأدلة المادية الآتية تقدح في مؤدى شهادتهم، وتقوي نفي نظرائهم في الفلك من عدم إفادته اليقين كما قررته اللجنة الشرعية الفلكية بالأزهر في قراراتها المطبوعة، إضافة إلى أن الشرع لا يعتبر صدق الخبر والشهادة إلا من مبرز في العدالة الشرعية. 2- قيام دليل مادي في ساحة المعاصرة على أن الحساب أمر تقديري اجتهادي يدخله الغلط، وذلك في النتائج الحسابية التي ينشرها الحاسبون في الصحف من تعذر ولادة شهر رمضان أو شهر الفطر مثلًا ليلة كذا، ثم تثبت رؤية الهلال بشهادة شرعية معدلة، أو رؤية فاشية في ذات الليلة التي قرروا استحالته فيها. ومنه ما حدث في هلال الفطر شهر شوال من هذا العام 1406 هـ فإن الحاسبين أعلنوا النتيجة في الصحف باستحالة رؤية هلال شوال ليلة السبت (30) من شهر رمضان، فثبت شرعًا بعشرين شاهدًا على أرض المملكة العربية السعودية في مناطق مختلفة في: عاليتها وشمالها وشرقها ورؤي في أقطار أخرى من الولايات الإسلامية. فهذا دليل مادي حاضر مشاهد على أن النتائج الفلكية المعاصرة في هذا ظنية وضعيفة ضعفًا غالبًا، وهذا في ساعة المعاصرة التي ينادي فيها البعض إلى الاعتماد على الحساب ولا أرى هذا الدليل إلا إعلانًا على عدم صدق شهادة الفلكيين لأنفسهم بأن حسابهم قطعي. 3- ومن شواهد المعاصرة على ذلك أنا رأينا بعض البلدان الإسلامية تعلن الصوم والفطر بموجب الحساب الفلكي، والفارق بينها وبين البلدان التي تثبته بالرؤية يومان أو ثلاثة، فهل يكون في الدنيا فارق في الشهور القمرية الشرعية كهذه المدة؟ وهذا هو عين دخول الخلل في مواسم التعبد مما يقطع كل عاقل بفساده، وقد بسط ابن تيمية رحمه الله تعالى ما يدخل على المسلمين من التلاعب في شعائرهم من جنس ما يحصل من أهل الكتابين وغيرهم، إذ كانت الأحكام عندهم معلقة على الأهلة، ثم جعلوها دائرة على السنة الشمسية على اصطلاحات لهم، ومن جنس النسيء الذي كان عند العرب على ضربين: الأول: تأخيرهم المحرم إلى صفر لحاجتهم إلى شن الغارات. والثاني: تأخير الحج عن وقته تحريًا منهم للسنة الشمسية كما يعلم من تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 4- ودليل آخر في ساعة المعاصرة وهو: التضارب الحاصل بالنتائج والتقاويم المنتشرة بحساب المعاصرين، فإنها متفاوتة مختلفة في إثبات أوائل الشهور وما زال اختلافها قائمًا في الولاية الواحدة ومن ولاية إلى أخرى، فهذا دليل على دفع يقينيته أو ظنيته الغالبة. 5- أن الطب مثلًا في العصر الراهن بلغ من الدقة والترقي ما هو مشاهد لعموم الناس، ومع هذا فيقع لذوي البصارة فيه ومن دونهم من الخطأ والغلط ما يكون ضحيته نفس معصومة أو منفعة أو عضو محترم، هذا مع أن لوازمه مدركة بالحواس العاملة فيه من سمع وبصر ولمس.. فكيف بحال الحساب الفلكي الذي ما زال عملة نادرة ولم تكن نتيجته فاشية باليقين، ولوازمه غير محسوسة، إذًا فكيف يسوغ التحول من المقطوع بدلالته بحكم الشرع إلى المظنون، ومن المتيقن إلى المشكوك في نتيجته. 6- الحساب الفلكي المعاصر قائم على الرصد بالمراصد الصناعية الحديثة، والمرصد كغيره من الآلات التي يؤثر على صلاحيته نتائجها: أي خلل فني فيها قد لا يشعر به الراصد، هذا فيه ظنية من حيث الآلة، ورحم الله الشيخ أحمد شاكر إذ تحوط في بحثه من حيث الراصد فنص على الوثاقة، والله أعلم. المبحث السابع: في منابذته للشرع. وذلك من وجوه: أولًا: حقيقة الشهر عند الفلكيين هي: المدة بين اجتماع الشمس والقمر مرتين بعد الاستسرار وقبل الاستهلال، وهذه المدة مقدرة عندهم بمقدار واحد هو: (29) يومًا، و (12) ساعة، و (44) دقيقة. وتمثل هذه المدة دورة القمر حول الأرض، أي دورته الاقترانية بالشمس بحيث يكون القمر واقعًا بين الأرض والشمس تمامًا، وعند اللحظة التي يغادر القمر فيها وضع الاقتران، أي ينفصل فيها القمر عن الدائرة الشعاعية ويستمر إلى أن يجتمع معها مرة ثانية حينئذ يبدأ الشهر القمري الفلكي، واعلم أن "الاقتران" عند الفلكيين هو ما يسمى بالمحاق عند المتقدمين، واعلم أنه في حال الاقتران، لا يرى القمر وذلك لأن نصف القمر المضيء يكون في اتجاه الشمس. ونصفه المظلم يكون في اتجاه الأرض، ولكن عندما يتحرك القمر بعيدًا عن وضع الاقتران يتغير وضع القمر بالنسبة لسكان الأرض وتظهر حافة القمر لامعة والتي هي: قوس دقيق بشكل هلال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 هذه هي حقيقة الشهر عند الفلكيين، وهذا مقداره عندهم. أما حقيقته الشرعية: فهي الرؤية له عند الغروب أي أول ظهور القمر بعد السواد وهذا بالإجماع، حكاه ابن رشد وغيره. ومقدار الشهر القمري الشرعي هو: لا يزيد عن (30) يومًا، ولا ينقص عن (29) يومًا. وعليه فهناك فروق الاعتبارات الشرعية والاعتبارات الفلكية في عدة أمور: 1- الشهر يبتدئ عند الفلكيين قبل البدء بالاعتبار الشرعي ونتيجة لذلك فهو ينتهي قبل. 2- الشهر مقدر بوحدة زمنية ثابتة عند الفلكيين هي (29) يومًا و (12) ساعة و (44) دقيقة، أما بالاعتبار الشرعي فهو إما (30) يومًا أو (29) يومًا. 3- أن الشهر يبتدئ باعتبار الشرع بطريق (الحس) والمشاهدة بالعين الباصرة أو بالإكمال بخروج الهلال حقيقة، أما باعتبار الفلكيين فهو: بتقدير خروجه لا بخروجه فعلًا. 4- عند الفلكيين لا فرق أن يتم الاقتران والانفصال ليلًا أو نهارًا، فلو جعل الاقتران والانفصال قبيل الفجر فاليوم عندهم هو بعيد الفجر مباشرة، ولو حصل أثناء النهار فإن الشهر يبتدئ في اللحظة التالية له، أما باعتبار الشرع فالمعتبر الرؤية بعد الغروب، فلو رؤي نهارًا بعد الزوال فهو لليلة المقبلة ولا يصام ذلك النهار الذي رؤي فيه، وهذا بلا نزاع بين أهل العلم بل حكي الإجماع عليه، أما إذا رؤي نهارًا قبل الزوال فالجمهور منهم الأربعة أنه لا عبرة بذلك ويكون لليلة المقبلة، والله أعلم. ثانيًا: دلالة النصوص النصية على أن إثبات أول الشهر بالإهلال أو الإكمال إذا لم ير الهلال وحال منظره قتام أو سحاب، فلو صار اللجوء إلى الحساب الفلكي وقرر الحاسب أن الشهر سيهل بمضي (29) يومًا لصار هذا ملغيًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكمال وقاضيًا على موجب النص. ثالثًا: أن صاحب الشرع جعل رؤية الهلال خارجًا من شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي فلا يثبت الحكم فألجأ الشرع إلى سبب شرعي آخر هو: إكمال العدة ثلاثين يومًا التي هي أقصى مدة للشهر القمري بنص الشرع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 أما الحساب ففيه منابذة لهذا، إذ جعل تقدير خروج القمر من الشعاع سببًا للصوم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) ولم يقل لتقدير خروجه من شعاع الشمس، فطالما أن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم أشعر بحصر السبب: الإهلال أو الإكمال ولم ينصب صاحب الشرع الحساب لخروجه سببًا فلا يجب صوم ولا فطر، وهذا معنى ما قرره القرافي في الفروق، والله أعلم. رابعًا: أن الشرع وقَّت أول الشهر بأمر طبيعي عام يدرك بالإبصار فلا يضل أحد عن دينه، ولا يشغله مراعاته عن شيء من مصالحه، ولا يدخل بسببه فيما لا يعنيه، ولا يكون طريقًا إلى التلبيس في دين الله، ويستوي في معرفته أهل الإسلام كافة على اختلاف طبقاتهم. وإثباته بالحساب الفلكي يفقد هذه المحاسن الشرعية كما هو بين لمن تأمله. وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هذا أشد البسط في رسالته كما في: الفتاوى 25/ 134، 136، 139، 141، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 الخلاصة: المسألة الأولى: أن طريقة إثبات أول الشهر شرعًا، بالإهلال أو الإكمال، وأن إجماع المسلمين منعقد على عدم الأخذ بالحساب في إثبات أوائل الشهور، وأن الخلاف الحاصل حادث ثم هو ليس على إطلاقه بل هو مقيد، ثم إنه وقعت في حكايته أغاليط، وأن كلمة المحققين والحفاظ على أن الخلاف الحادث في هذا شاذ تنكبه الأئمة، والله أعلم. المسألة الثانية: في توحيد الرؤية: أن هذه المسألة قد استهلكت من البحوث والدراسات الفردية والجماعية وعلى المستويات الرسمية ما لو جمع لصار في عدة مجلدات، ومنها بحثها في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة لمدة تزيد عن عشرين عامًا، وهي تدرس من جلسة إلى أخرى حتى أصدرت الرابطة آخر قرار لها في المجمع الفقهي المتضمن: أنه لا شك في اختلاف المطالع، وأن المسألة من مباحث العلم الخلافية، وأن أحوال العالم الإسلامي كما هي معلومة على ما في كتاب تبيان الأدلة في إثبات الأهلة ص/ 5، 50- 52، وأن القول بعدم توحيد الرؤية هو مذهب الجمهور منهم الأئمة الثلاثة فلكل قوم رؤيتهم والخلاف للحنابلة، واختار جماعة منهم مذهب الجمهور منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن حديث كريب مع ابن عباس رضي الله عنهم في صحيح مسلم وغيره يفيد عدم توحيد الرؤية، ولهذا قرر المجمع على أن أهل كل بلد يتبعون ما يقرره أهل الفتوى فيهم، وأن على المسلمين السعي إلى أساس توحيدهم وجمع كلمتهم في تحكيم شريعة الله وإعلان الحكم بها قولًا وعملًا. وبمثل هذا قررت: اللجنة الشرعية الفلكية بالأزهر برئاسة شيخ الأزهر محمود شلتوت عام 1979 م، وأنه لذلك ولوجود بحوث لدى المجمع كافية في هذه المسألة اقتصرت على هذه الإلمامة، وهي خلاصة ما يظهر في هذا الموضوع، وأنه لا ينبغي التهويل والإرجاف في أن اختلاف أهل الأقطار الإسلامية في يومي الصوم والإفطار مدعاة إلى تفككهم، وأن الواجب هو الالتفات إلى توثيق الأسس من حماية الاعتقاد من أسباب الزيع والانحراف، وتحكيم الشرع المطهر بين المسلمين وتربية أجيالهم على تعاليمه، وتكثيف دراستها في المدارس النظامية. والله المستعان وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 بحث لفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي بسم الله الرحمن الرحيم نظرات إسلامية في توحيد بداية الشهور القمرية إن مسألة توحيد المواسم الإسلامية هي أمنية قديمة خامرت عقول المسلمين وقلوبهم منذ زمن بعيد، ونادوا بها كلما أحسوا بالحاجة للوحدة والتضامن وجمع الكلمة، لذلك كان من المتحتم على العلماء والعاملين في الميادين الإسلامية أن يبذلوا قصارى جهدهم لإيجاد طرق وحلول من شأنها أن توحد المسلمين في أعيادهم ومواسمهم الدينية على ضوء أحكام الشريعة الإسلامية ونصوصها والعلوم الصحيحة. لقد سبق عقد عدة مؤتمرات إسلامية تناولت توحيد المواسم والأعياد بالدرس والتحليل وأصدرت في ذلك مقررات، ولكن يبدو أنها ما استطاعت أن تحقق الوحدة المنشودة بين الدول الإسلامية، سواء منها التي تعمل بالحساب أو التي تعتمد الرؤية. وفي كل سنة يكثر الجدال بين المسلمين في مسألة ثبوت شهر رمضان وثبوت عيدي الفطر والأضحى، وتعلن وسائل الإعلام الإسلامية وغيرها عن موسم واحد في تواريخ متباينة. وقد حاول كثير ممن يهتمون بالقضايا الإسلامية أن يدرجوا هذا الموضوع في المجامع العلمية والمؤتمرات العالمية علهم يظفرون بحل يزيل مظاهر اختلاف المسلمين في أعيادهم ومواسمهم الدينية. 1- المؤتمرات الإسلامية ومحاولاتها التوحيد: حسبما أعلم فإن الجامعة العربية أوصت في 28 ديسمبر 1955/ (1375) بالدعوة لعقد اجتماع بين المختصين من علماء المسلمين لبحث اقتراح توحيد أيام الصيام والأعياد في البلاد الإسلامية بطلب من الدولة الأردنية الهاشمية. وأنه لمن الصدف الغريبة أن تنعقد دورة "المجمع" هذه في عاصمة الدولة نفسها "عمان" وبعد واحد وثلاثين سنة ليتخذ المجمع قرارًا في الموضوع نفسه، مستجيبًا بذلك لرغبة إسلامية ملحة تقدمت بها " المملكة الأردنية الهاشمية ". وفي تاريخ 16 مارس 1961/ (1381) أرسلت نفس الجامعة مذكرة أرفقت بها قرارات اللجنة الشرعية الفلكية التي كونها الأزهر الشريف للنظر في أمر توحيد مبدأ الشهور القمرية ومواقيت الصلاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 كما عقدت بتونس ندوة حضرها ثلة من رجال الاختصاص في الدين والفلك من أقطار العالم الإسلامي وذلك بتاريخ 16 أكتوبر 1963 (1383) بإشراف الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور مفتي الديار التونسية في ذلك الوقت. وأبرز القرارات الصادرة في هذا الموضوع هي قرارات مؤتمر معهد البحوث الإسلامية بالأزهر المنعقد بجمادى الآخرة سنة (1385) وأكتوبر 1966. وقرارات المؤتمر الإسلامي العالمي المنعقد بكوالالمبور بدولة ماليزيا في أبريل 1969/ (1389) . وقرارات وزراء الشئون الدينية الإسلامية والأوقاف المنعقدة بالكويت في محرم (1393) /مارس 1973. وقرارات مؤتمر اسطنبول المنعقدة في سنة (1398/ 1978) . وكان آخر هذه القرارات: قرارات المجلس الفقهي الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة في شهر ربيع الآخر سنة (1401) / 1981. على أن مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر قرر أن الرؤية هي الأساس لكن لا يعتمد عليها إذا تمكنت فيها التهم تمكنًا قويًا ومن أسباب ذلك: مخالفة الحساب الفلكي الموثوق به، فكانت الفقرة الثانية من التوصيات تنص على اعتماد الحساب الفلكي في إثبات دخول الشهر إذا لم تتحقق الرؤية ولم يتيسر الوصول إلى إتمام الشهر ثلاثين يومًا. ومؤتمر ماليزيا ورد في توصياته أنه إذا تعذرت الرؤية لسبب من الأسباب وكان الحساب الفلكي يثبت إمكان رؤية الهلال يجوز الاعتماد على الحساب الفلكي بها. ومؤتمر وزراء الشؤون الدينية والأوقاف المنعقد بالكويت ينص قراره الرابع على وجوب عمل تقويم قمري بمعرفة لجنة معتمدة من فقهاء الشريعة الإسلامية وعلماء الفلك تلتزم به الحكومات الإسلامية في صومها وفطرها وفي تحديد مواسمها الدينية وفي تاريخها، ولكن هذه اللجنة لم تؤسس. أما مؤتمر اسطنبول فقد احتضن تقريبًا مقررات مؤتمر الكويت، وخطا خطوة إيجابية جديدة وهي بعث لجنة من دول إسلامية عشرة مؤلفة من فقهاء الشريعة الإسلامية وعلماء الدين لضبط التقويم الهجري الموحد سنة فسنة، وقد اجتمعت بالفعل هذه اللجنة وكنت أحد أعضائها في عدد من العواصم الإسلامية (اسطنبول – تونس – الجزائر – أنقرة) وآخر اجتماع لها كان بمكة المكرمة في المحرم سنة (1405) –آخر سنة 1955- وقد أصدرت تقاويم موحدة بداية من مؤتمر اسطنبول سنة فسنة إلى هذه السنة، واحتضنت أعمال اللجنة منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، وأذاعت كل تقاويمها وقراراتها على جميع الدول الإسلامية. أما قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بالرابطة فإنه يصرح باعتماد الرؤية البصرية خاصة دون الحساب بأي شكل من الأشكال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 وفي اعتقادي أن اعتماد الحساب في دخول الشهور القمرية، إذا كان ناتجًا عن دراسة علمية صحيحة فهو لا يمكن أن يخالف الرؤية الصحيحة بحال من الأحوال لأن العلم الصحيح لا يناقض المبادئ العامة التي قام عليها الإسلام، ونصوصه التي تخص الرؤية بالذكر. كما أعتقد أن هذا المجمع الفقهي المبارك الذي يضم خيرة من علماء العالم الإسلامي جدير بأن يعمق البحث في هذا الموضوع من جديد وأن ينظر إليه من جميع جوانبه حتى يجد الحلول المناسبة التي تتفق مع المبادئ الإسلامية وتتماشى مع روحه السمحة وتوحد الأمة الإسلامية في أعيادها وبداية شهورها، وهي أُمْنِيةٌ قلنا: إنه نادى بها كثيرون منذ زمن بعيد. 2 - إنكار المتقدمين العمل بالحساب وحججهم فالمتمسكون بظاهر الرؤية في إثبات أوائل الشهور – ويعنون بها الرؤية البصرية - لا يعتمدون الحساب، لأنهم يعتقدون أن الحساب الفلكي ليس وسيلة قطعية، بل هو لم يصل عندهم حتى إلى مرتبة الظن، لأنه حدس وتخمين، وقد نهت الشريعة عن الخوض في "علم النجوم إذ حذر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأخذ بأحكام المنجم فقال فيما رواه أبو داود وابن ماجة: ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر)) . وفي حديث آخر يقول: ((من أتى كاهنًا أو منجمًا فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) ... أخرجه أبو داود في كتاب الطب. ولأجل هذا نجد كثيرًا من المتقدمين في علم الفقه ينصون صراحة على عدم اعتماد حساب المنجمين. أولًا: لأن التفرقة عندهم لم تكن واضحة بين "التنجيم" الذي هو ليس بعلم وإنما هو تطلع إلى الغيب، وبين "علم الفلك" الذي هو من العلوم الصحيحة التي لا يختلف الناس في قواعدها العامة ولكون عالم الفلك في القديم كان المتطلع إلى معرفة الغيب، ومن هذا الخلط شك الفقهاء في الحساب الفلكي الذي كان في الغالب من المنجمين. ثانيًا: لأن علم الفلك لم يصل في القرون الإسلامية الأولى إلى درجة من النضج ولم تضح معالمه عند الناس حتى يتمكنوا من الاعتماد عليه في هذه القضايا الدينية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 ففي الفتاوى الهندية يقول: "وهل يرجع إلى قول أهل الخبرة العدول عمن يعرف علم النجوم؟ "الصحيح أنه لا يقبل"، ويقول في كتاب معراج الدراية: "ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه".. وقال ابن عرفة: "لا أعلم أن مالكًا اعتبر قول المنجم".. وقال القاضي عبد الوهاب في كتابه الأشراف: "ولا عبرة بقول المنجمين في دخول وقت الصوم". وفي الجزء الثاني من الدر المختار شرح تنوير الأبصار في باب الصوم (ص 93) : قال محمد علاء الدين الحصكفي "لا عبرة بقول الموقتين ولو كانوا عدولًا على المذهب". وقال ابن عابدين في حاشيته رد المحتار على الدر المختار في بيان قوله: ولا عبرة بقول الموقتين، أي في وجوب الصوم على الناس، بل في المعراج: لا يعتبر قولهم بالإجماع، ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه، وفي النهر: فلا يلزم بقول الموقتين أنه أي الهلال يكون في السماء ليلة كذا، وإن كانوا عدولًا في الصحيح كما في الإيضاح، ثم قال: ووجه ما قلناه أن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية بقوله: ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا)) (الجزء الثاني صفحة 93) . ولهذا حصر الشيخ شمس الدين بن فرج المقدسي في شرحه الكبير على المقنع ثبوت رمضان بواحد من ثلاثة أشياء فقط، وكلها ترجع إلى الرؤية البصرية (ص 4 من المجلد الثالث من كتاب المغني والشرح) فقال: "وجملة ذلك أي صوم شهر رمضان يجب بأحد ثلاثة أشياء". أحدها: رؤية هلال رمضان يجب بها الصوم إجماعًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) (متفق عليه) . الثاني: كمال شعبان ثلاثين يومًا يجب به الصوم، لأنه يتقين به دخول شهر رمضان ولا نعلم فيه اختلافًا، ويستحب للناس ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ليحتاطوا لصيامهم، وليسلموا من الاختلاف، وقد روى الترمذي عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أحصوا هلال شعبان لرمضان)) . الثالث: أن يحول دون منظر ليلة الثلاثين من شعبان غيم أو قتر، يجب صيامه، في ظاهر المذهب. ويقول ابن قدامة في كتابه المغني: "من بنى على قول المنجمين والحساب لم يصح صومه وإن كثرت إصابتهم، لأنه ليس بدليل شرعي، إنما الدليل قوله عليه الصلاة والسلام: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) . وفي رواية ((لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه)) فأناط وجوب الصوم برؤية الهلال. وقد نقل الباجي في المنتقى، والقرطبي في الأحكام رواية عن ابن نافع عن مالك عن الإمام لا يصوم لرؤية الهلال ولا يفطر لرؤيته وإنما يصوم ويفطر على الحساب أنه لا يقتدى به ولا يتبع (1) . وجاء في شرح مسلم للنووي نقلًا عن الماروزي: حمل جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم ((فاقدروا له)) على أن المراد إكمال العدة ثلاثين كما فسر في حديث آخر، ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين، لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم، لأنه لا يعرفه إلا أفراد، والشهر إنما يعرف بما يعرفه جماهيرهم (2) . وحجة المتمسكين بإثبات الشهور القمرية بخصوص الرؤية البصرية هي أنهم اعتمدوا جملة نصوص من السنة، واعتبروا الرؤية أمرًا تعبديًا لا يمكن العدول عنها إلى الحساب بحال من الأحوال، لأن الشريعة الإسلامية ربطت اعتماد الأهلة في كل هذه النصوص بالرؤية البصرية وهذا يؤدي إلى حتمية الرؤية وعدم جواز العمل بالحساب، واستشهدوا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له)) ، وفي رواية: ((فاقدروا له ثلاثين)) ، وفي رواية ((إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له)) وفي رواية ((إذا غم عليكم فصوموا ثلاثين يومًا)) .. وفي لفظ البخاري: ((الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) فلم يذكر صلى الله عليه وسلم علم الحساب ولا أقوال المنجمين والنصوص صريحة في اعتماد الرؤية.   (1) المنتقى ج2- ص 38، والجامع ج 2 – ص 293 (2) شرح مسلم ج 7 – ص 179 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 والقدر أو التقدير عندما تتعذر الرؤية البصرية لعارض من العوارض كالضباب وغيره إنما هو إكمال الشهر ثلاثين يومًا. كما اعتبروا أن قضية الصوم والإفطار قضية دينية بحتة يجب الرجوع فيها إلى النصوص لا إلى مقتضيات العقول لأنها ليست مجالًا للاجتهاد الذي يُفضى إلى استعماله في حالة فقدان النصوص، والمعروف أن حكمها مقرر في السنة النبوية واتفاق المسلمين في الطبقة الأولى منهم، وأغلبهم فيما بعد ذلك وإلى اليوم لم يؤولوها لأن عباراتها صريحة لا تحتمل التأويل، خصوصًا وأنه لا يوجد دليل من النصوص يعارضها. وعلى هذا الاتجاه سار العلامة ابن حجر في شرحه لحديث: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) فقال: لا نكتب ولا نحسب، تفسير لكونهم كذلك، وقيل للعرب: أميون، لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} . ولا يرد على ذلك أنه كان فيهم من يكتب ويحسب لأن الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة، والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضًا إلا النزر اليسير (كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري – الجزء الرابع ص 127) . وقال في المكان نفسه: فإن تعليق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية دون الحساب يستمر ولو حدث فيما بعدهم من يعرف الحساب، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم أصلًا، ويوضحه قوله في الحديث الماضي: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) ولم يقل: فسلوا أهل الحساب. والحكمة في ذلك أن يستوي الناس فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم. كما ذكر العلامة ابن حجر في نفس المكان تعليق ابن بطال الذي قال في حديث: ((إنا أمة أمية)) رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل وإنما المعول رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف ولا شك أن في مراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته الطويلة حول الهلال في استدلاله على عدم جواز الاعتماد على الحساب: "أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل لمطلع الهلال حسابًا مستقيمًا بل لا يمكن أن يكون إلى رؤيته طريق مطرد إلا الرؤية، وقد سلكوا طرقًا كما سلك الألوف منهم لم يضبطوا سيره إلى التعديل الذي يتفق لحساب على أنه غير مطرد وإنما هو تقريبي" (الفتاوى – ج 25- ص 183) . وقال في فقرة أخرى من نفس الرسالة: "فالذي جاءت به شريعتنا أكمل الأمور، لأن ضبط وقت الشهر بأمر طبيعي ظاهر عام تدركه الأبصار، فلا يضل أحد عن دينه، ولا تشغله مراعاته عن شيء مخصص له، ولا يدخل بسببه فيما لا يعنيه، ولا يكون طريقًا إلى التلبيس في دين الله، كما يفعل بعض علماء أهل الملل بمللهم (ص 139) . وقال في نفس الرسالة: "ما ذكرناه من أن الأحكام مثل صيام رمضان متعلقة بالأهلة لا ريب فيه، لكن الطريقة إلى معرفة طلوع الهلال هو الرؤية لا غيرها" (ص 146) . وقال (في ص 207) : "والمعتمد على الحساب في الهلال كما أنه ضال في الشريعة، مبتدع في الدين، فإنه مخطئ في العقل وعلم الحساب فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي" ... والذي يظهر لي أن كل هذه الحجج والتعاليل التي اعتمدها المانعون للعمل بالحساب ليست مقنعة ولا أنها في المنع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 ذلك أن أمر المسلمين باعتماد رؤية الهلال ليس هو أمرًا تعبديًا كما يحاول أن يقول به بعضهم، بل لأسباب أخرى منها: أولًا: أن الرؤية هي الوسيلة الممكنة في زمن البعثة لمعرفة بداية الشهور ونهايتها، لأن الكتابة كانت قليلة نادرن وأن الرصد الفلكي لم يصل إلى درجة من الوضوح والدقة حتى يصبح وسيلة لإثبات الحكم، وكثيرًا ما وصفوا حساب المنجمين بأنه حدث وتخمين. ثانيًا: أن الأمية التي وصف بها الرسول المسلمين هي وصف عارض لهم زمن البعثة، لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة ونادرة، كما قال ابن حجر: وقد جاء الإسلام ليخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور الإسلام والمعرفة، وبذلك يزول وصف "الأمية" عنهم وقد فعل. ومعنى هذا أن الحساب إذا وصل إلى درجة من الوضوح والدقة وأصبح علمًا من العلوم الصحيحة، وأصبحت الكتابة المنتشرة في غالب أنحاء العالم الإسلامي، فإنه يمكن الاعتماد على الحساب كالاعتماد على الرؤية. وإذ جاز أن يكون ضعف علم الحساب والهيئة في الماضي حجة لهم على عدم الاعتداء به، فلا يجوز أن يكون حجة في العهد الحاضر على عدم اعتباره. أما شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه يعتبر الأمية صفة للأمة الإسلامية كالوسطية لا تنفك عنها بحال فقال (في ص 162 من الجزء 25 من الفتاوى) : "فهذه الأحاديث المستفيضة المتلقاة بالقبول دلت على أمور: أحدها: أن قوله: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) هو خبر تضمن نهيًا، فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته، وهي الأمة الوسط أمية، لا تكتب ولا تحسب، ومن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة".. ومع تقديري الكامل لعلم شيخ الإسلام ابن تيمية وسمو مداركه فإني أعتقد أن تفسيره للأمية هذا لا يقره عليه عدد كبير من علماء المسلمين وخاصة في العصر الحاضر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 3- الحساب الفلكي هو غير التنجيم اعتقد علماء الفلك والهيئة من جانبهم أنهم مخاطبون شرعًا للعمل يلف هذا الميدان لا سيما والقرآن نفسه رغب الناس في علم الهيئة لمعرفة حساب الشهور والسنين من منازل القمر بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} . وقد ورد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فإذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له)) . ويتعين أن يكون المراد من ((اقدروا)) انظروا فيه وتدبروه حتى تعرفوا الأوقات، وذاك يختلف باختلاف الناس، ولا يلزم أن يكون كل الناس عارفين بالعلامات التي تدل على الأوقات، بل يكفي أن يعرف ذاك البعض، وسبيل من لم يعرف أن يسأل من يعرف، والله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . كما حفزهم على بذل الجهد في هذا الميدان بالحديث المروي عن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب الشهر هكذا وهكذا)) ، وانكبوا انكبابًا كليًا لمعرفة كل العلوم للخروج من الأمية إلى نور العلم والمعرفة محبة في الرفعة، والله يقول: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} . وهكذا انطلق علماء الفلك المسلمون على رصد سير الشمس والقمر منزلة منزلة حتى تمكنوا من التقدم في هذه العلوم تقدمًا واسعًا، كما تمكنوا من معرفة الأحوال التي يمكن أن يرى فيها الهلال إذا تعذرت رؤيته بالبصر حتى كانت نتائجهم لا تخالف الرؤية البصرية، بل كانت الرؤية تؤكد حسابهم وإرصادهم، مما جعل علم الهيئة يتبوأ الصدارة من بين العلوم لديهم، وهذا ما تفطن إليه كثير من الفقهاء في مختلف المذاهب الإسلامية، وجعلهم يميلون شيئًا فشيئًا إلى هذه الاكتشافات العلمية الصحيحة، ويعطون للحساب ما يستحقه من اعتبار في التشريع، إذ أصبح وسيلة من وسائل إثبات الصوم لا تقل قيمة عن الرؤية البصرية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 ولا أظن أن أمر الشك الذي كان يحوم حول قدرة "المنجمين" على حسب الأهلية ينصب اليوم على أكاديميات البحث العلمي والتكنولوجي، مثل معهد الأرصاد بحلوان بمصر، ومعهد قانديلي باسطنبول، والمعهد الفلكي ببوزريعة بالجزائر، والمرصد الفلكي بجاغرتا بأندونيسيا وغيرها من المراصد التي تمحضت لدراسة علم الفلك، وأصبحت عنوان التقدم العلمي في العصر الحاضر. إن هذه المعاهد اليوم تستطيع أن تحدد لحظة ميلاد القمر، وفترة مكثه بعد غروب الشمس في البلاد الإسلامية المختلفة بدقة متناهية، واحتمال الخطأ مع انضباط الحسابات في المراصد الفلكية الحديثة المختلفة أصبح من الأمور المستبعدة. وأصبحت الدراسات التي تقدم من الفلكيين في هذا الموضوع تصور بوضوح كل الأشكال التي تمر بها عملية ظهور الهلال، وقد تقدم المرصد الفلكي بقاندلي باسطنبول بخرائط جغرافية واضحة تدل بكل دقة على بداية رؤية الهلال لكل شهر من شهور السنة، كما تبين البلدان التي يمكن فيها ظهور الهلال فوق الأرض بالساعة والدقيقة والثانية، ثم كيف تستمر عملية الرؤية طبقًا لحركة القمر حول الأرض. وقد صرح كثير من الفلكيين بأنه يمكن الاستعانة بالأقمار الاصطناعية لتصبح عملية الرؤية تشاهد على شاشة التليفزيون من طرف كل الناس. هذا وإن البحث الذي تقدم به علماء الفلك بجامعة الملك عبد العزيز بجدة إلى مجمعكم هذا، ليعد نموذجًا صادقًا ودراسة علمية عميقة لمحاولة التوفيق بين النصوص الشرعية وعلم الحساب الذي أصبح من العلوم الصحيحة في هذا العصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 4- المجيزون لعمل بالحساب وحجبهم إن القول بجواز الاعتماد على الحساب ابتدأ من عهد التابعين، أمثال: مطرف بن عبد الله، وابن قتيبة من المحدثين، والقاضي عبد الجبار، وابن مقاتل الرازي من أصحاب محمد بن الحسن، وأبي العباس ابن سريج والقفال، والقاضي أبي الطيب من الشافعية كما نص على ذلك القرطبي في تفسيره (ج 2 ص 293) وقال: "وقد ذهب مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين، وابن قتيبة من اللغويين، فقالا: يعول على الحساب عند الغيم، بتقدير المنازل واعتبار حسابها، في صوم رمضان حتى إنه لو كان صحوًا لرئي، لقوله عليه السلام: ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) ، أي استدلوا عليه بمنازله، وقدروا إتمام الشهر بحسابه. وصرح صاحب الهداية الحنفي في كتابه مختارات النوازل (1) : أن علم النجوم قسمان: أحدهما الحسابي معلنًا أنه حق، وقد نطق به الكتاب قال تعالى {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي سيرهما بحساب، بل إن كثيرًا من الآيات القرآنية ترغب الناس في علم الهيئة لمعرفة حساب الشهور والسنين من منازل القمر، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . أما العلامة ابن دقيق العيد فقد قال في شرح عمدة الأحكام: "والذي أقول به أن الحساب لا يجوز أن يعتمد عليه بمفارقة القمر للشمس على ما يراه المنجمون من تقدم الشهر بالحاسب على الشهر بالرؤية بيوم أو بيومين، فإن ذلك إحداث لسبب لم يشرعه الله تعالى، وأما إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا وجود المانع، كالغيم مثلًا فهذا يقتضي الوجوب لوجود الحساب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية بمشروطة في اللزوم، لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بالحساب بإكمال العدد بالاجتهاد بالأمارات وجب عليه الصوم، وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه (كتاب أحكام الأحكام الجزء الثاني ص 17) . أما الإمام ابن السبكي فقد ذهب إلى اعتماد الحساب في إثبات الأهلة ومواقيت الصلاة، بناء على أن الحساب قطعي الثبوت، نظرًا إلى ما وصل إليه علم الحساب والفلك من الدقة، والوثوق في نتائجهما، وقرر الإمام ابن السبكي: أنه لو شهدت بينة برؤية الهلال ليلة الثلاثين من الشهر، وقال الحساب بعدم إمكان الرؤية تلك الليلة عمد بقول أهل الحساب لأن الحساب قطعي والشهادة ظنية.   (1) الشيخ علي بن بكر المرغيناني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 وابن السبكي يرى جواز الاعتماد على الحساب الفلكي، لا وجوبه، وربط الحكم الشرعي به، إذا كان القمر بعيدًا عن مغرب الشمس، بحيث يمكن رؤيته بصريًا لولا الغيم، وهو في هذا تابع لإمام سابق من أئمة الشافعية، وهو ابن سريج. وقال في تعليقه على حديث ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) في كتابه العلم المنثور: "والبحث في الحديث في موضوعين: أحدهما قوله ((فاقدروا له)) قال بعض من يقول باعتماد الحساب: معناه احسبوا له، ويكون معناه: قدروه بالحساب والمنازل كما قال تعالى {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} قاله مطرف بن عبد الله من التابعين وابن قتيبة من المحدثين وابن سريج من الشافعية وابن مقاتل من أصحاب محمد بن الحسن وطائفة من المتأخرين قالوا: ولا يلزمنا مقال المارزي من أن الناس لو كلفوا بالحساب ضاق عليهم إذ لا يعرفه إلا القليل.. لأنه إنما يلزم ذلك لو كلف عامة الناس بالحساب ولم يقل بذلك أحد، بل الذي قلناه: إن الحديث في المعنى الذي اخترناه خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وقوله في الرواية الأخرى ((فأكملوا العدة ثلاثين)) خطاب للعامة.. فلا تنافي بين الروايتين، بل هما في حالتين مختلفتين يعمل بكل منهما في حال". وقال الغزالي: "علم النجوم إذا أريد به: موت فلان وحياة فلان، وبطلوع نجم كذا يظهر موت فلان أو هلاك أمة أو ذهاب دولة، فليس يقينيًا ولا ظنيًا، فهذا القسم لا يقول به الشرع، فأما علم النجوم الذي يعرف به سير الكواكب والشمس والقمر وكذلك علم الهيئة فلن يكذبه الشرع، بل يهتدي به إلى معرفة السنين والشهور وأوقات الصيام والحج ومواقيت الصلاة، فإنكار هذا قصور وجهل. ومن هذا ما ذكره الأستاذ العلامة الشيخ محمد رشيد رضا (في الجزء الأول المجلد 28 من المنار، صفحة 63 المؤرخ 29 شعبان 1345 هجرية) ونص المقصود: "ما زلنا منذ بلغنا سن الرشد إلى أن أدركنا سن الشيخوخة نسمع المسلمين يتألمون من الاضطراب والاختلاف الذي يحدث في إثبات أول شهر رمضان لأجل الصيام الواجب، وإثبات أول شوال لأجل الفطر الوجب في يوم العيد، وكذا هلال ذي الحجة لأجل وقوف عرفة، وقد عرض لنا في هذا اليوم الجمعة 30 قبيل ظهور الشمس أي قبل طلوعها أن سمعنا دوي المدافع تنفجر في قلعة القاهرة إعلانًا لإثبات شهر رمضان، وكان الحاسبون الفلكيون قد نشروا في جميع الجرائد تذكيرًا بما دون في جميع النتائج لهذه السنة الهجرية، من أن أول رمضان فيها ليلة السبت، لأن هلاله يولد في ليلة الجمعة بعد ثلاث ساعات ونصف دقيقة واحدة من غروب الشمس، فرؤيته مستحيلة قطعًا في ليلة الجمعة، وممكنة لكل معتدل البصر في ليلة السبت". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 ويقول الشيخ رشيد رضا في مجلة المنار: "إن الشهر قد ثبت برؤية الهلال حقيقة أو حكمًا، فلا يكون إثبات وجوب الصيام بقول الفلكيين الحاسبين بل بوجود الهلال، وإنما يبينون للناس متى يرى ... ..إن إثبات أول شهر رمضان، وأول شهر شوال، هو كإثبات أوقات الصلوات الخمس، قد ناطها الشارع كلها بما يسهل لعلم به على البدو والحضر كما تقدم، وغرض الشارع من ذلك العلم بهذه الأوقات لا التعبد برؤية الهلال، ولا بتبيين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، أي انفصال كل من الآخر برؤية ضوء الفجر المسيطر من جهة المشرق، ولا التعبد برؤية ظل الزوال وقت الظهر، وصيرورة ظل الشيء مثله وقت العصر، ولا برؤية غروب الشمس، وغيبة الشقف لوقتي العشائين ... ". وينهي العلامة المرحوم رشيد رضا بحثه بقوله: "وجملة القول أننا بين أمرين: إما أن نعمل بالرؤية في جميع مواقيت العبادة أخذًا بظواهر النصوص، وحسبانها تعبدية، وحينئذ يجب على كل مؤذن أن لا يؤذن حتى يرى نور الفجر الصادق مسيطرًا منتشرًا في الأفق، وحتى يرى الزوال والغروب.. الخ. وإما أن نعمل بالحساب المقطوع به لأنه أقرب إلى مقصد الشارع، وهو العلم القطعي بالمواقيت وعدم الاختلاف فيها، وحينئذ يمكن وضع تقويم عام تبين فيه الأوقات التي يرى فيها هلال كل شهر في كل قطر، عند عدم المانع من الرؤية، وتوزع في العالم". وقد بحث الشيخ بخيت المطيع مفتي الديار المصرية سابقا في كتابه إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة واستعرض أقوال الفقهاء في المذاهب المختلفة وساق الأدلة والمناقشة من الجانبين، وذكر ما قاله صاحب الهداية الحنفي في مختارات النوازل. ثم قال: "مما يؤيد القول بالعمل بالحساب الصحيح أن أهل الشرع من الفقهاء وغيرهم يتوجهون في كل حادث إلى أهل الخبرة وذوي البصيرة فيهم، فإنهم يأخذون بقول أهل اللغة في معاني ألفاظ القرآن والحديث، وبقول الطبيب في إفطار شهر رمضان، وغير ذلك كثير ... فما الذي يمنع من بناء إكمال شعبان ورمضان وغيرهم من الأشهر على الحساب، والرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة العارفين به إذا أشكل علينا الأمر في ذلك، مع كون مقدماته قطعية وموافقة لما نطقت به آيات القرآن لكريم؟ ألا ترى أن الحاسب إذ قال بناء على حسابه: إن الخسوف أول الكسوف يقع ساعة كذا من يوم كذا، وقع كما قال قطعًا ولا يتخلف، خصوصًا وأن مبنى الحساب على الأمور المحسوسة والمشاهدة بواسطة الأرصاد وغيرها.." الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 وقال في موضع آخر: "الواجب على القاضي النظر في حال الشهود تحقق عدالتهم وتيقظهم وبراءتهم من الريبة والتهمة، وسلامة حواسهم، وحدة نظرهم، وسلامة الأفق ومحل الهلال مما يشوش الرؤية، ومعرفة منزلة الهلال التي يطلع فيها، وما يقتضيه الحساب من إمكان رؤيته وعدمها، فإن المشهود به شرطه الإمكان، فإذا دل الحساب على عدم إمكان الرؤية وأخبر مخبر برؤيتها، فالخبر يحتمل الصدق والكذب، والكذب يحتمل التعمد الغلط، ولكل منهما أسباب لا تنحصر. فليس من الرشد قبول الخبر المحتمل لذلك، أو الشهادة به مع عدم الإمكان، لأن الشرع لا يأتي بالمستحيلات، وهذه المسألة لم نجدها مسطورة فتفقهنا فيها ورأينا فيها عدم قبول الشهادة. ومن العلماء من لا يقتصر على الرؤية البصرية، لإثبات الشهر، مثل العلامة المرحوم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في بحث له، بعنوان: يسألونك عن الأهلة: نشر في مجلة الهداية التونسية بتاريخ جويلية 1974، ونشر كذلك في مجلة الأصالة الجزائرية قال: "ولمعرفتنا وجود الهلال عقب المحاق في علم الله طرق: أولها: رؤيته بالبصر، رؤية لا ريبة تتطرقها، وهذا الطريق حسي ضروري ولا خلاف في العمل به. ثانيها: مرور ثلاثين ليلة من وقت استهلالك الهلال الذي سبقه، وهذا الطريق قطعي تجريبي، وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة. ثالثها: دلالة الحساب الذي يضبطه المنجمون، أعني العالمين بسير النجوم علمًا لا يتطرق قواعده شك، وحسابًا تحققت سلامته من الغلط، وذلك هو ما يسمى بالتقويم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 فإذا ضبط الحساب وقت وجود الهلال باليوم والساعة، حصل لا محالة العلم بهذا الشهر القمري، إذ جرب التقويم في حساب السنة الشمسية عند الأمم قديمًا وحديثًا، فلم يعثر له على غلط، واتبعه المسلمون في أوقات الصلوات وفي أوقات الإمساك والإفطار في رمضان، وجرب عند العرب في حساب السنة القمرية كذلك. وإن علم الناس بوجود الهلال لم يكن له طريق في العصور الماضية سوى الرؤية فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له)) . وليس في لفظ الحديث صفة قصر الصوم على حالة رؤية الهلال وقياس حساب المنجمين على رؤية الهلال قياس جلي ... ". وذهب العلامة الشيخ علال الفاسي إلى مثل ما ذهب إليه محمد رشيد رضا ومحمد الطاهر بن عاشور وقال في حديث: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) أنه خرج مخرج الكلام المعلل وهو أن العرب بل الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ أُمَمِ العالم، لم يكونوا على درجة من العلم يجعل نتائج حساباتهم قطعية بل كانت مقدمات الحساب الفلكي لإثبات الشهر قبل الإسلام وإلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم غير متيقنة الإنتاج.. أما اليوم فقد تطورت حال معرفة المسلمين للفلك، ومنذ العصر العباسي وعلماؤنا يتعاطون هذا الفن، وانضمت إليه الدراسات المصرية فلم يعد من المكن القول بأن النتائج الحسابية ظنية بل هي قطعية بقدر ما تكون الرياضيات قطيعة، وعليه فما دام الحكم قد خرج معللًا وما دامت العلة قد انتفت أي أننا لم نعد أمة أمية بل أصبحنا نقرأ ونحسب فقد أرشدنا الحديث إلى العمل بالحساب طبقًا للقاعدة الأصولية التي تقول: "الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا" (وهذا النص نقل عن كتاب للأستاذ علال الفاسي عنوانه: الجواب الصحيح والنصح الخالص في نازلة فاس وما يتعلق بمبدأ الشهور الإسلامية العربية) . وذهب هذا المذهب عدد كبير من العلماء المعاصرين، نادوا بالعمل بالحساب في إثبات الشهور القمرية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 وهكذا فإن بعض المصلحين يقولون: لا يمكن توحيد المسلمين في هذه القضية إلا بواسطة تقويم فلكي يتفق عليه علماء الشريعة وعلماء الفلك المسلمون مع إلغاء اعتبار المطالع كما هو مذهب جل الأئمة المجتهدين وإلزام أهل الشرق والغرب، واعتبار "مكان ما" مركزًا لإمكان الرؤية، ولتكن " مكة المكرمة " وهي أم القرى وقلب العالم الإسلامي، وهذا ما صادق عليه مؤتمر الكويت. أما الذي اعتمده مؤتمر اسطنبول فهو أن أية بقعة من الأرض يرى فيها الهلال يكون بداية لدخول الشهر، وقد التزمت اللجنة الشرعية الفلكية بهذا الإجراء بداية من تكليفها بإعداد التقاويم الموحدة. إذا اعتبر أن إثبات دخول الشهر القمري بالحساب هي رؤية حسابية للهلال وأنها كالرؤية البصرية. وبهذا ندرك أن النصوص التي استشهد بها على حصر الرؤية بالبصر لا يمكن أن تكون دليلًا على منع إثبات الشهر بغير الرؤية البصرية لأن هذه النصوص وإن أفردت الرؤية بالذكر فإنها لم تقصر إثبات الشهر على البصر، بل اقتصرت على ذكر وسيلة من وسائل إثبات الرؤية. وكل من أجاز العمل بالحساب لا ينكر جواز الاعتماد على الرؤية البصرية إذا تحققت شروطها وسلمت من الطعن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 5- نتائج واقتراحات يبدو أننا لم نظفر إلى الآن بنتائج إيجابية للتقريب بين الذين يجيزون العمل بالحساب وبين الذين يقصرون ثبوت الشهر على الرؤية البصرية وحدها. فالفريق الأول يقيد العمل بالحساب بشرط أن يكون الحاسبون جماعة من المسلمين موثوقًا في دينهم وعلمهم وأن يكون حسابهم متماشيًا مع القواعد الشرعية وأن يكون مؤيدًا بحسابات المراصد الفلكية العالمية وعندما تتوفر هذه الشروط يعتبر الحساب وسيلة ثانية من وسائل الإثبات فتكون عند المسلمين وسيلتان لا وسيلة واحدة الرؤية والحساب، لاسيما وأن علم الهيئة أصبح من العلوم الصحيحة أقرته الأمة الإسلامية وقررت تدريسه في جامعاتها وأيقن عموم الناس أنه على أساس هذا العلم وغيره من العلوم الصحيحة تسير الطائرات وتطلق الأقمار الاصطناعية ومراكب الفضاء. وتمكن الإنسان من الصعود إلى القمر والنزول على سطحه والقرآن الكريم يبين أن حكمة الله اقتضت أن نظام الكواكب والأفلاك إنما يسير بحساب معين لا يختلف. وإذا تمكنت المؤتمرات والندوات الإسلامية التي انعقدت حتى الآن أن تقيد عمل الحاسبين، وأن تضبط الرؤية المرادة شرعًا، وأن تقيدها بقيود اتفق عليها علماء الشريعة والفلك، وبرزت بصيغة قرارات كانت جميعها متكاملة روعي فيها جانب النص كما روعي فيها جانب المصلحة، وكانت غايتها جمع المسلمين وتوحيد أعيادهم ومواسمهم. فإن هذه المؤتمرات لم تتمكن من جانب آخر من إقناع القائلين بانفراد الرؤية البصرية دون الحساب في إثبات الشهور لأن الرؤية عندهم أمر تعبدي لا يمكن أن يطرأ عليها أي تغيير، فالأحكام أبدية والأسباب والشروط والموانع هي كذلك أبدية من وضع إلهي، فما أثبت واجبًا يبقى كذلك وما أثبت ممنوعًا يبقى كذلك أيضًا. وقد ثبت أن الرؤية سبب شرعي للصوم والإفطار لتبق كذلك منظورًا إليها نظر الأصول الثابتة لا أن يتحيل على إلغائها باعتماد الحساب الفلكي مناطًا مستقلًا، وبالتالي الاعتماد على التقاويم في جميع الشهور. إن الذي يقول بذلك هو حاكم على الرؤية البصرية بالنسخ، وهو في الآن نفسه منتقص للدين الذي يجب أن يعتقد أنه كامل بالرؤية بالعين وغاية ما أنيط به الحكم، وسبب لوجوده، فلا يتحقق دخول الشهر إلا بها، وكل النصوص الواردة تنص على وجوب الصوم بالرؤية البصرية فلا موجب لتأويلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 وقد غفل القائلون هكذا عن أمر، وهو أن بعض النصوص التي اعتمدوها وردت معللة من الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، والقاعدة عند الأصوليين والفقهاء أن النص إذا ورد معللًا بعلة فإن للعلة تأثيرها في فهم النص، وأن الحكم يرتبط بها وجودًا وعدمًا، لا فرق في ذلك بين العبادات وغيرها. كما تغافلوا عن أن الضرورة قد يكون لها دخل في تغير الحكم، فمثلًا: جاءت النصوص بصوم الثلاثين يومًا عند الغيم ضرورة أننا لا نستطيع معرفة أول دخول الشهر إلا عن طريق الرؤية البصرية وقد تعذرت، فإذا أمكننا التعرف على دخول أول رمضان أو أول شوال بواسطة أهل الذكر وهم أهل الحساب الفلكي فلا يجوز لنا أن نعتمد على الضرورة والله تعالى يقول {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . وبذلك يتبين أن أصحاب هذا الاتجاه لم يقنعوا بأي دليل أو برهان من الأدلة والبراهين التي قدمها المجيزون لإثبات الشهر بالحساب، واعتباره وسيلة ثانية مع الرؤية على الأقل كما أن كل المعطيات الجديدة التي حفت بموضوع إثبات أوائل الشهور والتطور العلمي المدهش الذي ظهر في العالم، والرغبة الملحة من الأمة الإسلامية في التوحيد لم تغير من مواقفهم شيئًا. وإذا كان من المفروض عند علماء الحساب ومن يجيزون العمل به أنه لا يمكن أن تختلف نتيجة الحساب عن نتيجة الرؤية الصادقة بحال من الأحوال، فإن اختلاف المسلمين في بداية الشهور القمرية يدل على وجود خلل، إما في الحساب وإما في الرؤية. وقد بلغ الخلل أقصاه في السنوات الأخيرة، إذ ليس من المعقول لولاه أن تختلف بداية الشهر القمري بين بلد وآخر بمدة وصلت في السنة الماضية (1406) إلى ثلاثة أيام. وبإعادة النظر في تقييم هاتين الوسيلتين –الرؤية والحساب- بعد كل هذه الجهود التي بذلت، ولاسيما في السنوات الأخيرة، فإننا نجد ضبطًا مدققًا في التقاويم القمرية التي صدرت عن اللجنة الدولية المنبثقة عن مؤتمر اسطنبول، إذ هي التزمت بكل الضوابط التي فرضت عليها، فكان الاتفاق كاملًا بين المراصد الفلكية في كامل العالم الإسلامي، كما كان التطابق تامًا في النتائج المقدمة كل سنة من طرف المراصد، الأمر الذي دفعنا إلى الاطمئنان إلى نتائج الحساب. أما الرؤية البصرية فإنها لم تضبط في نظرنا الضبط المدقق الذي يضمن لها الصحة، ويحقق لها النتيجة الصحيحة التي لا ينبغي أن تختلف عن الحساب المصحح عادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 ويرجع هذا في نظري إلى تمسك الفقهاء بأحد قولي الإمام أحمد بن حنبل الذي يجيز في إثبات هلال رمضان قبول شاهد واحد وهو مشهور المذهب الحنبلي المستند إلى حديث ابن عباس الذي قال: ((جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا لله؟ فقال: نعم، فقال: يا بلال، أذن في الناس فليصوموا غدًا)) . بينما المشهور في المذهب الحنفي أنه لا يقبل في هلال رمضان عند الصحو إلا الاستفاضة، وقدرت بخمسين رجلًا على الأقل عند أبي يوسف، كالقسامة، وقد علل المغني اشتراط أبي حنيفة الاستفاضة بأنه لا يجوز أن ينظر الجماعة إلى مطلع الهلال، وأبصارهم واحدة، والموانع منتفية، فيراه واحد فقط، وقال ابن عابدين في تعليقه على قول الحصكفي: "جمع عظيم يقع به العلم الشرعي وهو غلبة الظن": "لأنه العلم الموجب للعمل، لا العلم بمعنى اليقين ولذلك فلا يقبل خبر واحد لأن التفرد من بين الجم الغفير بالرؤية مع توجههم طالبين لما توجه هو إليه مع فرض عدم المانع وسلامة الأبصار وإن تفاوتت في الحدة ظاهرة في غلطه" (بحر – الجزء الثاني- ص 93) . فإذا امتنع أبو حنيفة من قبول خبر الواحد في عصر التابعين، وعد شهادته بانفراده برؤية الهلال غلطًا، مع علمه بالنص الذي اعتمده من أجاز قبول خبر الواحد فكيف يكون الحال في هذا الزمان الذي اشتهر بكثيرة الكاذبين المدعين لرؤية الهلال، وكتب الفقه مليئة بالحوادث التي صام فيها المسلمون أو أفطروا تبعًا لشهادات كاذبة أو غالطة. وكم من مرة في هذه السنوات الأخيرة أعلن عن الصيام أو الإفطار بشهادة رؤية الهلال ثم لم ير الناس الهلال في الليلة الثانية وهذا يؤكد بطلان الشهادة، فلماذا نتمسك بآراء معينة أصبحت لا تحقق المصلحة المرجوة منها، مع أننا سمعنا بحوادث كثيرة توقف فيها الفقهاء وأعادوا فيها النظر دفعًا لمفسدة وأصدروا أحكامهم الجديدة معللين ذلك بفساد الزمان؟ والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه أشار إلى ضياع الأمانة وفقدان الخير وتدهور الأخلاق، بقدر ابتعاد الناس عن القرون الأولى، ففي الحديث الذي رواه الصحيحان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 فأي مانع يمنعنا في هذا الزمان الذي كثر فيه الغش، وفقدت الأمانة، وظهرت شهادة الزور في كل مكان، من أن نشترط شروطًا من شأنها أن تحفظ سلامة الشهادة التي يصوم بها مليار من المسلمين في جميع بقاع الأرض، ويحتفلون بموجبها بأعيادهم ومواسمهم. إذا اكتفى الرسول صلى الله عليه وسلم في زمن البعثة بتزكية الشاهد بالنطق بالشهادتين على يديه ثم اشترطت العدالة وقال مالك: لا بد من شاهدين عدلين، فإن مثل هذه التزكية لا تكفي في هذا الزمان الذي كثر فيه من ينطق بالشهادتين ثم يخون ويغدر ويسرق. إن التمسك بمذهب أبي حنيفة وحده في هذه المسألة ربما لا يكفي في هذا الزمان، بل لا مانع من تنظيم كيفية إثبات الرؤية بطريقة تضمن بها صحة هذه الشهادة، ولماذا لا تتعدد هيئات الرؤية في جهات متعددة من العالم الإسلامي، وحتى في القطر الواحد؟ ولماذا لا ننتخب أفراد الهيئات التي يعهد إليها أمر الرؤية ما دام احتمال الكذب، واحتمال خداع النظر، واحتمال قلة المعرفة بأمكنة طلوع الهلال قائمًا. اعتقادي أننا لا نخرج بهذه القيود الجديدة عن أصول الأحكام التي تمثل الوسائل، والتي تتبدل بتبدل الأزمان والأحوال، والأمثلة في ذلك كثيرة في الفقه الإسلامي. 1- فقد أمر الخليفة عثمان بن عفان ببيع الإبل الملتقطة بعد أن كان حكمها أن تترك لحالها حتى يلقاها ربها، كما جاء في السنة، وعلل ذلك بأن المجتمع على وشك الفساد، فخاف منه على سرقة هذه الإبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 2- وأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بتدوين السنة مع نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن، وعلل ذلك بأن أسباب منع كتابة الحديث زالت بانتشار المصاحف واستقرار القرآن في الأذهان. 3- وقد نقل ابن عابدين (ج 4 ص 178) اعتبار العرف مطلقًا وإن خالف النص عند أبي يوسف ورجحه، وعلل ذلك بقوله: لأن لنص ما كان في ذلك الوقت إلا لأن العادة كانت كذلك وقد تبدلت فتبدل الحكم. ومع ما ذكر فكثير من العلماء ممن يعتمدون الرؤية البصرية يعتبرون أن مخالفة الرؤية البصرية لما تعارف الناس عليه من قواعد علم الهيئة التي لا تتخلف، توجب تكذيب الشهود، وتعتبر من قوادح الشهادة، ومن ذلك: 1- إذا ثبت علميًا أن الهلال لم يولد فلا يمكن أن يقال إنه شوهد، لأنه لا بد من ميلاد الهلال قبل غروب الشمس، ومكثه بعد الغروب حصة تكفي لمشاهدته، واعتبروا هذا النوع من الشهادة باطلًا لأنه خداع بصر أو سراب كاذب. 2- إذا راقب الناس الهلال في آخر الشهر من جهة الشروق بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، فرأوه رؤية محققة، ثم شهد شهود برؤيتهم الهلال مساء ذلك اليوم، فيكذبون، لأن رؤيته صباحًا دليل على أنه ما زال لم يقترن مع الشمس، وما زال لم يدخل تحت شعاعها، إذ من المعلوم أن القمر لا بد أن يختفي في آخر الشهر تحت شعاع الشمس يومين على الأقل. 3- إذا راقب الناس الهلال في كل مكان فلم يروه مع الصحو التام، ثم ادعى رؤيته واحد أو أفراد قلائل من الناس، فيكذبون أيضا، لأنه لو كان موجودًا لرآه جمهور الناس. 4- إذا ادعى رؤية الهلال وانخسفت الشمس بعد ذلك بيوم أو يومين، فإن هذا دليل على كذب الرؤية، لأن الشمس لا يخسف بها في سنة الله إلا في اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين، كما دقق علماء الفلك، وحققه شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته في الصوم (في الجزء 35 ص 184، 185، من الفتاوى) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 وهكذا تكذب كل شهادة في رؤية الهلال إذا كانت في وقت تستحيل رؤيته فيه، والغريب أنه لم يقع اعتبار كل هذه الضوابط التي يقرها العقل السليم، ولم تعتبر من القوادح في الشهادة، بل اكتفى بشهادة الشهود، وقبلت ولو من واحد عند الإعلان عن الشهر القمري في بلدان من العالم الإسلامي في هذه السنوات الأخيرة، وفي نظري أن هذه الأجزاء من الأسباب التي زادت في تباين المسلمين في بداية الشهور والأعياد. فالرؤية البصرية في نظري لا يمكن أن تكون أكثر من وسيلة من وسائل العلم، والله عندما قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (فإنما أراد العلم بوجوده: فكل من علم منكم بوجود الشهر وجب عليه صومه، فوجود الشهر شرعًا يكون بوجود هلاله بعد غروب الشمس بأي طريق من طرق العلم، وإنما نص الشارع على الرؤية باعتبارها إحدى وسائل العلم بوجود الهلال، وهي المتعارفة عند نزول الآية. ولعل ما قدمه علماء الدين والفلك في هذا المجمع المبارك يمكن أن يمثل البداية للخروج من الخلاف وقد أصبحت مسألة توحيد بداية الشهور القمرية بعد كل هذه الجهود واضحة تتطلب أخذ قرار حازم من مجمعكم يأخذ كله هذه الملاحظات بعين الاعتبار لكي يبعد الأمة الإسلامية عن البلبلة التي وقعت فيها منذ سنوات، ويوضح لها معالم الطريق حتى تسير في السبيل السنوي، والله الهادي إلى سواء السبيل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. مصطفى كمال التارزي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 بحث فريق علماء جامعة الملك عبد العزيز قسم علوم الفلك مقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد، فإننا ندعو الله تعالى أن يلهمنا طريق الصواب وأن يمهد لنا طريق الحق ويبعدنا عن طريق الضلال. لم تكن مشكلة توحيد الشهور العربية قائمة في العصور السابقة وما ظهر منها فهو محدود وغير ملفت للنظر نظرًا لصعوبة الاتصال بين البلدان أما في العصر الحاضر وقد تقاربت البلدان بتقدم المواصلات وتقدمت طرق الاتصالات بين أرجاء المعمورة وفي ثوان ينتشر الخبر في جميع أنحاء العالم وأصبح المسلمون في العالم كأنهم يعيشون في بلدة واحدة ومن جهة أخرى فقد تطورت العلوم عامة والعلوم الفلكية خاصة وأتى بعدها غزو الفضاء الخارجي والذي أدى بدوره إلى ربط الحسابات الفلكية والمشاهدات والتوقعات مع الواقع الحقيقي وتم التأكد من دقة الحسابات رغم المسافات الشاسعة بين الكواكب والأجرام فأصبح بإمكان العلماء تحديد موقع ومكان الخسوف والكسوف على سبيل المثال قبل أعوام من حدوثها بدقة متناهية وتم وصف حركة الكواكب والنجوم والأقمار بدقة وتم كذلك حساب سرعتها وأوزانها وطبيعة مكوناتها. ولا يخفى على أحد بأن دين الإسلام هو آخر الأديان وهو دين عالمي لا يخص فئة بذاتها ولا منطقة بعينها، ولا يخفى علينا بأن ديننا دين توحيد والتوحيد هو إفراد الله في العبادة وتنزيهه عن كل النقائض كما أننا نقدر أن للتوحيد معنى آخر وهو تأمين وحدة المشاعر والجهود وتوحيد المناسبات الإسلامية والأعياد. إن موضوع رؤية الهلال وبداية الشهور العربية ترتبط به جميع المناسبات الإسلامية، ولذلك فإن له أهمية كبرى في حياة المسلم وعلى سبيل المثال لا الحصر عند نهاية شهر شعبان من كل سنة يبدأ النقاش في العالم الإسلامي حول بداية شهر رمضان، ويصبح لدى المسلمين شك نحو البلاد الإسلامية الأخرى التي تخالف بلادهم في بداية الصوم، وتعظم المشكلة عند المسلمين في البلاد الأوروبية والأمريكية حيث إن معظم المسلمين في تلك البلاد من جنسيات مختلفة، وأصبح كل منهم يصوم ويفطر على بلده مما سبب تمزقًا رهيبًا بينهم، وشكًا في أداء عباداتهم وقلقًا وخصامًا وجدالًا، وبذلك ذهبت فرحة استقبال رمضان والصوم، وذهبت كذلك فرحة العيد فنرى البعض صائمًا والآخر يفطر وهل هذا شيء طبيعي، وتوجه لهم من المجتمع هذه الأسئلة:- - ألستم من دين واحد؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 - لماذا لا تتفقون في مواعيد أعيادكم ومناسبتكم؟ وهل من الطبيعي أن يفطر من في العراق ويصوم من في مصر وهم يعلمون بما يفعل الآخر؟ والواقع أن لهذا الوضع حالتين: الأولى: أن أحدهما يفطر في يوم صوم. والحالة الثانية: أن أحدهما يصوم في عيد، وكلتا الحالتين محرمة شرعًا. ولا بد هنا من الذكر بأن هذا لوضع بالنسبة للمسلمين غاية في السوء، ومثار الاستنكار بين معظم عامة وعلماء المسلمين، وكذلك مدعاة للهجوم من قبل الملحدين. والسؤال الذي يجب على علماء المسلمين أن يفكروا فيه: هل هناك تعارض بين الدين والعلم؟ والجواب بالنفي معروف لدى جميع المسلمين لذلك فإننا ندعو علماء المسلمين أن يتفكروا في هذا الموضوع، ويضعوا جل اهتمامهم به، وأن يتعمقوا في فهم النواحي الفلكية حتى يتمكنوا من تصور الوضع والحلول المقترحة، وسوف نشرح فيما بعد حركة القمر والأرض وكيفية ميلاد الهلال، والقواعد التي يأخذها العلماء الفلكيون المسلمون حتى تتوافق حساباتهم مع الشريعة ومع تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم. دعوى اختلاف المطالع: إن دعوى اختلاف المطالع اجتهد فيها بعض العلماء السابقين لتفسير اختلاف الرؤية، وهم مأجورون على ذلك، والواقع أنه إذا ولد الهلال في مدينة ما والتي تقع على خط طول معين فإن ميلاد الهلال يكون مؤكدًا في جميع البلدان التي تقع على هذا الخط ويكون أيضًا مؤكدًا لجميع البلدان التي تلي ذلك الخط. وإذا أخذنا بالقول الشرعي بأنه إذا اشترك بلد مع آخر بليل فإنه يؤخذ برؤية البلد الآخر يصومان ويفطران معًا، وعل هذا الأساس فإن جميع بلدان العالم الإسلامي يجب أن تصوم وتفطر في يوم واحد لأنها جميعًا تشترك مع بعضها البعض بليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 الحساب الفلكي: لا بد أن نذكر هنا أن أي حل لبداية الشهور العربية يجب أن يتوافق مع الشريعة الإسلامية السمحة، وأننا عندنا نتبنى الرأي القائل بجواز الاعتماد على الحسابات الفلكية ليس معناه تعليق الحكم في الصوم وغيره بهذا الحساب أصلًا بل إننا نقول بأن حكم الشريعة باعتماد الرؤية البصرية باق إلى يوم الدين، علمًا بأنه هو الأصل، ذلك لأن الشرع الإسلامي لا يمكن أن يربط حكمًا شرعيًا بأمور تتوقف على علم قد يوجد وقد لا يوجد وقد نفقد قواعده وعلماءه يومًا ما، وإنما مرادنا بإمكان الاعتماد على الحساب الفلكي اليوم، هو أنه جائز ولا مانع شرعًا بعد أن وصل علم الفلك إلى ما وصل إليه من الدقة المدهشة واليقين المدعم بالشواهد والبراهين، وبذلك فنحن نعتقد بأن الحسابات الفلكية تحقق ما تحققه الرؤية بصورة أيسر وأبعد عن الخطأ مع بقاء الرؤية هي الأصل، بمعنى أنه إذا فقد هذا العلم بقيت الرؤية مستندًا في الحكم، وقد بنينا هذا الرأي على الأسس الآتية: 1- أن العالم الإسلامي بأسره اليوم يأخذ بالحسابات الفلكية في الصلاة والتي هي ثاني ركن من أركان الإسلام بعد الشهادة، ولا أحد يذهب ليرى هل ظهر الشفق؟ أو هل زال الظل؟ أو هل أصبح طول الظل ضعف طول الجسم الأصلي؟ بل ولا أحد ينظر هل غابت الشمس ليعلن دخول وقت المغرب؟ بل إن الجميع ينظر إلى التقويم ويأخذ منه الوقت وهذا محسوب بالحسابات الفلكية التي تحقق الأحكام الشرعية الأصلية في المواقيت، أما من لا تتوفر لديه تلك التقاويم يعود ويطبق تلك الأحكام. 2- أن الكثير من نصوص القرآن الكريم تدعو الناس للتفكر في خلق الله تعالى وبالأخص للتفكر في الكون فقال تعالى {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} فهذه الآيات تدل على أن حركة الأفلاك حركة دقيقة ثابتة لا تختلف عبر العصور فهي تسير على نسق منتظم، فكان انتظار دوران القمر والأرض حول الشمس سبيلًا لتحديد السنوات، والحساب، وجاء أيضًا في القرآن الكريم {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وفسر البعض "شهد" على أنها علم، أي علم بحلول الشهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 ومن جهة أخرى فإن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أتت بعدة صور وروايات وقد استنبط بعض العلماء إمكانية الرخصة ومما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) وفي رواية ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يومًا)) وفي رواية ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وإن غم عليكم فاقدروا له)) . ففي الرواية الأخيرة ((فاقدروا له)) وأحد صور التقدير تكون بالحساب وكانت الرؤية البصرية مطلوبة في ذلك الحين لعدم توفر الحسابات الفلكية حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا..)) إلى نهاية الحديث، وربط الكتابة والحساب بالشهور دليلًا على إمكانية استخدام الحساب في تحديد الشهور إذا توفر ذلك العلم، وأن الرؤية البصرية خاصة بتلك الفترات التي لا يتوفر بها علم الحساب والله أعلم. 3- لقد كان لعامة سكان الجزيرة العربية خبرة ودراية في الكواكب والنجوم والقمر حيث كان الاعتماد كبيرًا عليها لمعرفة الاتجاهات والوقت والشهور، وكذلك كان الجو خاليًا من الملوثات التي تمنع الرؤية كالدخان والإضاءة العالية، ولكن في زمننا هذا فإن عامة الناس لا يعرفون إلا القليل عن القمر والكواكب والنجوم وحتى المهتم منهم في هذا العلم لا بد له من السفر بعيدًا عن إضاءة المدينة ودخانها حتى يتسنى له رؤية السماء بوضوح، ولذلك نرى الاختلافات الكثيرة التي تحصل بين البلدان عند تحديد بداية الشهور والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى عدة أيام. 4- من المعلوم أن الأحكام الدينية تنقسم إلى قسمين هما: المقاصد، والوسائل، فصوم رمضان، والإفطار في أول يوم من شوال، والوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة يمثل المقاصد، أما تثبيت المناهج والأصول المتعلقة بتحديد أوقات هذه العبادات تمثل الوسائل، وأن الأحكام الدينية التي تمثل الوسائل يمكن أن تتبدل بتبدل الأزمان والأحوال لأنها ليست مقاصد بالذات بل هي وسائل للوصول للغايات المقصودة، قال الفقهاء: "إن الأحكام الشرعية ترتبط بالعلل والأسباب فإذا ما ثبتت العلة ثبت الحكم وإذا زالت زال الحكم تبعًا لها". والأمثلة على ذلك كثيرة، فعلى سبيل المثال نذكر أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تكتبوا عني شيئًا غير القرآن فمن كتب شيئًا غير القرآن فليمحه)) وذلك خوفًا منه صلى الله عليه وسلم أن تختلط الأحاديث بالقرآن الكريم، وعندما دونت المصاحف وانتشرت زالت الأسباب المانعة من كتابة الأحاديث، فأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بتدوين السنة، بل واعتبر كتابة الأحاديث واجبة لصونها من الضياع، فالأحكام التي تبنى على سبب خاص وتقوم على حالة معينة تزول لسبب وتستمر بدوام السبب والعلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 والسبب في اتخاذ الفقهاء الرؤية البصرية أساسًا لتحديد أوائل الشهور القمرية مستدلين من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا)) لعدم كفاية علم الفلك بتثبيت أوائل الشهور في ذلك العهد، وقد صرحت هذه العلة في الحديث النبوي الشريف ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ... )) أما اليوم فبات بالمستطاع حساب أدق حركة للقمر على وجه اليقين وأصبح بالإمكان أيضًا تحديد وقت ومكان ميلاد الهلال. علم الفلك وكيفية تحديد الشهور العربية: مما يؤسف له أن يعتقد البعض بأن علم الفلك هو علم التنجيم، أو أنه يعتمد على الظن والتخمين في حساباته والواقع أن علم الفلك مثل العلوم الأخرى كالفيزياء والكيمياء فهو يعتمد على أمور علمية محسوسة وعلى التجربة والمشاهدة وكما ذكرنا سابقًا بأن تطور العلوم والتقنية في مجال الفضاء أدى إلى التحقق في النظريات الفلكية، وأدت الأجهزة الحديثة إلى الوصول إلى مستويات عالية من الدقة في مراقبة وحسابات سير الكواكب والأجرام السماوية. تنتمي الكرة الأرضية إلى المجموعة الشمسية، والتي تتكون من الشمس ويدور حولها 9 كواكب وهي على التوالي: عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، المشترى، زحل، يورانوس، نيبتوس، وبلوتو، وتدور هذه الكواكب بمدارات حول الشمس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 الشكل (1) يوضح الشمس في المركز وحولها مدارات الكواكب وتدور الأرض بمدار شبه دائري حول الشمس وتبعد عنها بالمتوسط مسافة 149.5 مليون كيلو متر، ويدور حول معظم هذه الكواكب أقمار أقل حجمًا من الكوكب، فمثلًا يدور حول المريخ قمران وحول المشترى 16 قمرًا، وحول الأرض يدور القمر وهو يبعد عن الأرض بمسافة قدرها 365 ألف كيلو متر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 في الشكل (2) نوضح دورة الأرض حول الشمس ودورة القمر حول الأرض، حيث تمثل دورة الأرض حول الشمس دورة كاملة السنة الشمسية بفصولها الأربع بينما تمثل دورة الأرض حول نفسها يومًا كاملًا، أما بالنسبة للقمر فإن دورته الاقترانية حول الأرض تمثل طول الشهر القمري. يدور القمر حول الأرض بدورة اقترانية كل 29 و 12 ساعة و44 دقيقة بالمتوسط، ومعنى اقترانية هو اقتران القمر بالشمس أي أن يكون القمر واقعًا بين الأرض والشمس تمامًا، وتقاس مدة الدورة من وضع الاقتران إلى وضع الاقتران التالي. في الشكل (3) نوضح وضع الاقتران: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377   الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 وهذه الدورة تمثل الشهر العربي (القمري) وفي وضع الاقتران لا يرى القمر وهذا ما يسمى بالمحاق، وذلك لأن نصف القمر المضيء يكون في اتجاه الشمس ونصفه المظلم يكون في اتجاه الأرض، ولكن عندما يتحرك القمر بعيدًا عن وضع الاقتران يتغير وضع القمر بالنسبة لسكان الأرض وتظهر حافة القمر لامعة والتي هي قوس دقيق بشكل هلال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379   الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 ويبدأ الشهر فلكيًا عندما يغادر القمر وضع الاقتران، ولكن حتى نحقق شرط الرؤية التي يتطلبها الشرع وضعنا بعض الشروط اللازم توفرها حتى يتسنى لنا رؤية الهلال. تتوقف رؤية الهلال ووضوحه على ارتفاعه وقت غروب الشمس فإذا غرب القمر قبل غروب الشمس فإنه لا يرى مطلبًا في تلك الليلة، وكلما زاد ارتفاعه عن الأفق وقت غروب الشمس كلما وضحت الرؤية، ونظرًا لوجود شفق الغروب فإننا لا نستطيع رؤية الهلال إذا كان ارتفاعه أقل من 5 درجات عن الأفق وبذلك فإن الشرط الأول الذي يتطلبه الفلكيون رؤية الهلال بصريًا هو أن يكون ارتفاعه عن الأفق وقت المغرب أكثر من 5 درجات والشرط الآخر أن يكون القمر بزاوية أكثر من 8 درجات عن وضع الاقتران كما شرحنا سابقًا، أي أن يكون القمر على بعد 8 درجات من الشمس. وباستطاعة الفلكيين حساب وقت ميلاد القمر فلكيًا (وضع الاقتران) ، وزاوية انحراف القمر عن وضع الاقتران، وارتفاع القمر وقت الغروب فوق الأفق، وكذلك انحراف موضع غروب القمر عن موضع غروب الشمس لكل يوم، وذلك بمنتهى الدقة، وتوجد جداول عالمية توضح معظم هذه المعلومات لجميع المواقع على ظهر الأرض على مدار السنة، وأصبحت هذه الحسابات من الأمور المسلم بها علميًا وباستطاعة أي عالم فلكي القيام بهذه الحسابات بمنتهى السهولة والدقة. التوصية: نظرًا لما سبق ولما أتضح أن الحسابات الفلكية لا تتعارض إطلاقًا مع أحكام الشريعة ونظرًا لما لمسناه من دقة تامة في الحسابات الفلكية في تحديد مواقيت الصلاة والظواهر الفلكية المختلفة مثل الكسوف والخسوف والشروق والغروب وخلافه إننا نوصي بالآتي: (أ) الأخذ بالحسابات الفلكية التي تحقق الرؤية البصرية لتحديد أوائل الشهور العربية. (ب) الشروط اللازم توفرها لشروط الرؤية البصرية والتي يبني على أساسها الفلكيون حكم دخول الشهر العربي شرعًا: 1- أن لا يقل البعد الزاوي بين الشمس والقمر عن 8 درجات بعد الاقتران. 2- أن لا تقل زاوية ارتفاع القمر عن الأفق عند غروب الشمس عن 5 درجات. (جـ) التحقيق والتأكد من شهادة من يدعي رؤية الهلال في الوقت الذي يثبت عدم ميلاد الهلال واستحالة رؤيته بالحسابات الفلكية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 توحيد بدايات الشهور القمرية (الشمس والقمر بحسبان) لسعادة الدكتور فخر الدين الكراي بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: التكليف في الإسلام على ما هو معروف عند أهل العلم أنه بقدر الطاقة والوسع قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ونعرف حتى في شهر رمضان، يختلف حكم الصوم باختلاف حال المكلفين والمريض والمسافر مثلًا بوسعهما أن يفطرا لأن التكليف لازم دائمًا لقدرة الإنسان، وهنالك أمر آخر، قال العلماء: المرء قادر بنفسه عاجز بغيره بمعنى أن كل تكليف شرعي إنما يناط بقدرة الفرد أو قدرة الجماعة، لنضرب على ذلك مثلًا: فرض الوقت ظهر الجمعة، قال العلماء: فرض الوقت هو الظهر، إذن كل مكلف يستطيع بانفراده أن يؤدي هذه الفريضة ولكن إذا توفرت شرائط الجماعة وجب أداء الجمعة وإسقاط الظهر. ومن هذا المنطلق: إنا أمة صرنا قادرين على الحساب وهو أحد وجهي إثبات ولادة الهلال ودخول الشهر، ولم يعد الحساب في زماننا ضمن التنجيم ولكنه يناط به عند الشرق والغرب، أخطر القضايا ولا تقل عندهم أهميته عن تعبدنا بإثبات الهلال، وصار من البديهيات المعروفة أن حساباتهم الفلكية يكاد ينعدم منها الخطأ إطلاقًا، وأن معلوماتنا تؤكد بأن أوجه الخلاف بين أهل العلم قاطبة في هذا المجال جزء من ألف الثانية، وهذا كما تعلمون لا يؤثر في ولادة اليوم، ومما هو مسلم أن الأرقام الحسابية أدق حتى من الرؤية، وإلى ذلك أشار غير واحد من العلماء المسلمين من السلف والخلف بما فيهم علماء المنطق لأن الحواس التي تعتمد عليها قد تخطئ، وخاصة في مثل هذا المجال. ولئن قيل: إن الحاسبين أيضًا قد يخطئون فنعود إلى الإجابة بأن خطأهم لا يتجاوز ما ذكرنا من الوقت بينما خطأ ملتمس الهلال بوسيلة البصر هو أكثر وكتب الفقه مشحونة بذلك. وإن أول كلمة نزل بها الروح الأمين هي {اقْرَأْ} وإن قراءتنا باسم ربنا أوصلتنا إلى حقائق ثابتة لا تتعارض ولا يمكن أن تتعارض البتة مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتلمسون يا سادة أن أمصار المسلمين كان لا يصل بينها ما يصلها الآن من وسائل الاتصال الحديث وكأن العالم كله صار مصرًا واحدًا، وأن الكرة الأرضية تكاد تكون أمام علماء الفلك بمثابة الكرة الصغيرة يحيط بها من جميع جوانبها عبر الآلات الحديثة، وأن التنجيم الذي نفاه علماء المسلمين سابقًا نحن أشد نفيًا له لأنه ينطلق من مسلمات وافتراضات، بينما علماء الفلك ينطلقون من حقائق ثابتة لا مجال للشك فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 وفيما يلي بسطة علمية تفسر وتوضح النقاط التقنية التي جاءت بهذه المقدمة مقرونة ببعض الدلائل التي لا يمكن القدح فيها. منذ القديم، مثلت تحركات القمر والحالات الظاهرية التي تنشأ عنها مصدر تساؤلات عديدة، من قبل المهتمين بالمجال السماوي. فمن المعلوم أن الشعوب القديمة اهتمت بكل الظواهر التي لها علاقة بالقمر، ونجد ذلك من خلال اعتنائهم برسم خرائط سماوية يخترقها القرص القمري من حين لآخر، كما قامت بإنشاء جداول زمنية تعتمد أساسًا على الحالات التي يمر بها القمر، فكان أن ظهرت للوجود وحدة القياس الزمنية التي يعبر عنها بالشهر القمري، وهي الفترة التي تفصل بين حالتين متشابهتين لجرم الليل، ومن بين الاهتمامات الأخرى في هذا المجال قيام الفلكيين القدامى بحسابات تقريبية مكنتهم من التعرف على مختلف الدورات الزمنية للظواهر الأخرى المتعلقة بقرص القمر، ونذكر مثلًا حالات الكسوف والخسوف التي شغلت لزمان طويل لب الدارسين للأجرام الخارجية. التحركات الظاهرية للقمر: يمكن لكل واحد منا أن يلاحظ لعدة أيام أن القمر يبدأ في ظهوره في القبة السماوية من الشرق ليختفي بعد اختراقه المجال العلوي لهذه القبة من الغرب، وهذا ليس بغريب نظرًا لأن القمر يشارك الأجرام البعيدة الأخرى الحركات الظاهرية الليلية الناتجة عن دوران الأرض حول نفسها. ولكن هذه التحركات الظاهرية لهذه الأجرام البعيدة والتي تعاد كل ليلة في نفس الوقت، ليست مثل التحركات القمرية، ذلك لأن القمر يقوم بتحركات ذاتية تبعده كل ليلة عن موقعه السابق. فالذي نلاحظه كل ليلة يمكن تلخيصه كالآتي: إذا راقبنا قرص القمر في ليلة لما، وقمنا برسم موقعه على خريطة سماوية في وقت معين فإننا سنجد موقعه هذا قد تغير في الليلة المقبلة في نفس ذلك الوقت، ونجد أنه قد تأخر لمدة تقارب الساعة عن الموقع الأصلي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 وعلاوة على هذا التأخير اليومي في الرجوع إلى نفس الموقع، فإن القرص القمري يتغير شكله طيلة الشهر القمري من خلال صغير في أول الشهر إلى بدر كامل الضياء في نصفه، ثم يتراجع هذا البدر ليصبح في آخر الشهر عبارة عن هلال صغير في أول الشهر إلى بدر كامل الضياء في نصفه، ثم يتراحع هذا البدر ليصبح آخر الشهر عبارة عن هلال صغير ذي اتجاه قرني معاكس للاتجاه الذي كان عليه في أول الشهر. والقمر كغيره من الأجرام الفضائية الأخرى، يخضع في مساره الدوراني إلى كتلة أضخم منه وهي في حالنا هذا الأرض. ويمثل مدار القمر حول الأرض مستوى يبعد عن مستوى دوران الأرض حول الشمس بخمس درجات، وبما أن هذين المستويين غير متوازيين فإنهما يلتقيان في نقطتين مداريتين يعبر عنهما بالعقد. فإذا كان القمر في حالة اجتياز مستوى مدار الأرض من أعلى إلى أسفل، فإن العقدة تسمى بالنازلة، أما إذا كان الاجتياز من أسفل إلى أعلى فإن العقدة تسمى بالصاعدة، أما الخط الرابط بين العقد فإنه يتحرك بسرعة دائرية تبلغ دورة كاملة في 18 سنة وثلثي السنة، وتكون هذه الدورة في اتجاه معاكس للاتجاه المباشر المعروف للقمر حول الأرض، وهذه المدة هي التي تعيد نفس سلسلات الكسوف والخسوف كما سنرى. وفيما يخص الخصائص الأخرى لقرص القمر فإنه يمكن القول أنه يبين لنا من سطح الأرض بقطر ظاهري يتراوح بين "28.22" و"33.22" وهذا التغير في القطر الظاهري ناتج أساسًا عن المسافة غير القارة التي تفصل بين مركزي الأرض والقمر. أما المسافة التي تفصل بين مركزي الجرمين فإنها غير قارة، لأن القمر يدور حول الأرض تبعًا لمسار إهليجي تكون فيه الأرض بؤرة، ذلك طبقًا لقوانين كبلر الآنفة الذكر. الأمر ليس بسيطًا إلى هذه الدرجة، فعلاوة على هذا المدار الإهليجي، فإنه توجد تداخلات قوات أخرى تغير من خصائص المسار القمري الطبيعية. وهذه القوات لا تعدو أن تكون سوى أفعال مشتركة تسببها الأرض والشمس لأنهما يمثلان الأجرام الأكثر فاعلية على القمر نظرًا لقرب الأولى ولكبر حجم الثانية. والمسافة التي تفصل بين مركزي الأرض والقمر، تتراوح بين 5.5 و66 شعاعًا أرضيًا ومعدل هذه المسافة يكون قرابة 380000 كلم. وتبعًا للمعطيات المذكورة فإنه يمكننا أن نستخلص قيمة الشعاع القمري التي تبلغ 1736 كلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384   الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 حالات القمر ومنازله: يعتبر القمر جرم الليل نظرًا لظهوره الليلي المتميز بإشعاع قوي، وهذا الإشعاع يفوق كل الإشعاعات الصادرة عن الأجرام الأخرى سواء كانت نجومًا أو كواكب. وبما أن القمر يدور حول الأرض مرة كل شهر، وأن إشعاعه ناتج عن انعكاس الضوء الذي يستقبله من الشمس، فإنه من البديهي أن يكون لقرص القمر حالات متعددة يمكن للمشاهد الأرضي أن يرقبها كل ليلة. وقد سميت هذه الحالات بمنازل القمر، وهذا التتابع في الحالات الذي يتكرر مرة كل شهر قمري جعل بعض الشعوب والأمم تتخذ منه وحدة قياسية للزمن كالذي يحدث حاليًا بالنسبة للعديد من الدول التي تتخذ من الشهر الشمسي وحدة زمنية. ومن بين الشعوب التي اهتمت بدراسة الوجوه المختلفة لقرص القمر بصفة خاصة نجد الشعوب الإسلامية، فقد اهتمت بالخصوص بتعيين وقت دخول الشهر القمري ووقت نهايته مرورًا بالمراحل الأخرى التي تتوسطهما، وذلك لأنها اتخذت الشهر القمري كمحدد للمقاييس الزمنية. ولكن يبقى هنا أن نتساءل عن مصدر كل هذه الحالات المختلفة التي تطرأ على القرص القمري. إن الشمس بنورها الذي تبعثه في كل أرجاء الفضاء المحيط بها، تضيء كافة الأجرام بصفة مماثلة، يعني أنه لو وجد جسم كروي في هذا الفضاء فإن نور الشمس سيغطي شطره، وبالتحديد المناطق المواجهة للأشعة المرسلة من القرص الشمسي، كل هذا ينطبق إذن على القمر، فإذا افترضنا وجود مشاهد خيالي في منطقة بعيدة عن الأرض فإنه سيرى القمر مقسمًا إلى شطرين: الأول مظلم، والثني مضاء بنور الشمس كالأرض. فمن خلال هذه الملاحظات إذن يمكن أن نقول: إن الحالات المختلفة للقرص القمر لا تعدو أن تكون إلا حالات ظاهرية تبد لنا من الأرض مختلفة من يوم إلى آخر، نظرًا لاعتبارات هندسية ناتجة أساسًا عن انعكاس قسط من الأشعة التي ترسلها الشمس على القمر في مختلف مواقعها على مدارها حول الأرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 القران والمقابلة: لما تكون الشمس والقمر على نفس خط الطول السماوي، يمكن اعتبارهما في حالة قران، ويحدث مثل هذا لما يلتقي القمر في دورانه حول الأرض بالخط الهندسي الرابط بين مركزي الشمس والأرض، ويكون القمر بينهما. أما المقابلة فيه على عكس التعريف السابق، تحدث لما تكون الأرض بين القمر والشمس على نفس الخط الذي ذكرناه، وبهذا تكون الأطوار الفاصلة بين القمر والشمس بقيمة 180 درجة. أما في المراحل التي تتخلل هاتين الحالتين، والتي يوجد فيهما القمر على الخط القائم للخط الرابط بين مركزي الأرض والشمس، فإنه يمكن تسميتها بالربع الأول والربع الأخير. وبتحديدنا لهذه التعاريف يمكن لنا أن نفهم الآن الحالات المختلفة لقرص القمر التي تطرأ عليه في مدة الشهر القمري. ففي حالة القران لا يمكن لنا أن نشاهد قرص القمر وذلك لاتباعه مسار قرص الشمس، فعندما يغيب هذا الأخير يغيب معه القمر، وهذا هو مفهوم القران. ولكن هذا لا يعني أن قرص القمر سيحجب عنا قرص الشمس، لأن القران لا يمكن أن يصحبه احتجاب لقرص الشمس إلا إذا حدث في واقع قرب العقد الصاعدة أو النازلة، كما سوف نرى ذلك في حالات الكسوف، ويطلق على حالة القمر في هذه الفترة: القمر الجديد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387   الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 وبعد بضع ساعات من القران يحدث ابتعاد القمر عن الخط الرابط بين مركزي الأرض والشمس، وذلك نظرًا لسرعته الذاتية على خلاف الأجرام الأخرى التي لا يمكن لها إلا أن تتبع التحرك الليلي الظاهري الناتج عن دوران الأرض حول نفسها، وفي هذه الحالة يكون قرص القمر قد أخذ شكل هلال نظرًا للاعتبارات الهندسية المذكورة. ثم بعد أيام يصبح القرص عبارة عن نصف كرة مضاءة، وهذا ناتج عن انتقال القمر إلى منطقة في مداره تمكننا من رؤية الإضاءة الحقيقية لحجمه المدور، وتناسب هذه الفترة بالذات وجود القمر في الربع الأول. وإثر هذه الحالة، وبعد أيام أخرى يمكن لنا أن نلاحظ أن القرص القمري قد تحول إلى بدر كامل الضياء، وهذه الفترة بالذات تقابل مرور نصف شهر قمري، وهي توافق وجود القمر في منطقة مقابلة، ويعبر عن هذه الحالة عادة بالقمر الكامل. وإثر هذه المرحلة يتم القمر دورته حول الأرض ليمر بعد أيام في منطقة الربع الأخير والتي نشاهد فيها القمر على حالة مطابقة لتلك التي شاهدناه فيها في الربع الأول، ما عدا فرق واحد يتمثل في مشاهدتنا للنصف الثاني فقط من القرص القمري والذي لم يكن ظاهرًا في الربع الأول ويواصل القمر دورته إلى أن يمر شهر قمري كامل تعاد إثره كامل السلسلة التي وصفناها. هذه لمحة عن أهم الحالات التي يمر بها القمر والتي يمكن أن يشاهدها الإنسان من الأرض، يبقى في هذا المجال سؤال هام يطرح نفسه ويتمثل في المدة التي يتركها القمر ليؤدي دورته الشهرية، والتي يعبر عنها بالدورة الاقترانية، وهل أن هذه المدة قارة أم أنها تتغير طبقًا لمعطيات أخرى؟ قبل أن نبدأ الخوض في الإجابة عن هذا السؤال، نسوق بعض المعطيات لشهر قمري ما، تم فيه حساب الوقت الذي يتركه القمر ليس بكامل المراحل التي تحدثنا عنها: - بين القران والربع الأول ـــ 7 أيام و 8 ساعات و 37 دقيقة. - بين الربع الأول والمقابلة ـــ 7 أيام و 22 ساعة و 12 دقيقة. - بين المقابلة والربع الأخير ـــ 7 أيام و 8 ساعات و 45 دقيقة. - بين الربع الأخير والقران ـــ 7 أيام و 21 ساعة و 34 دقيقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 وهذه أيضًا بعض المعطيات الأخرى التي يمكن كذلك أن تساعدنا على الإجابة على بعض جوانب السؤال، وتتمثل في الأوقات التي تفصل قرانات عديدة ومتلاحقة للقمر: - القران الأول: 29 يومًا ـــ 13 ساعة ـــ 30 دقيقة. - القران الثاني: 29 يومًا ـــ 12 ساعة ـــ 4 دقائق. - القران الثالث: 29 يومًا ـــ 10 ساعات ـــ 45 دقيقة. يمكن لهذه المعطيات أن توضح الأمر قليلًا، وذلك لأنها تحتوي على عنصر هام يتمثل في الفروق الوقتية التي تفصل الحالات عن بعضها، والفروق الوقتية التي تفصل قرانات متتالية، وأخيرًا الفروق الموجودة بين الشهر الحقيقي والذي يقوم فيه القمر بدورة كاملة حول الأرض، وشهر قمري تعاد فيه نفس الحالات المذكورة آنفًا. فأما الفروق الأخيرة، يمكن تفسيرها كما يلي: فإذا حدث في فترة ما قران، فإن القران الموالي سيحصل بعد مدة قام فيها القمر بدورة كاملة، كما قامت فيها الأرض كذلك لجزء من دورتها حول الشمس، وبما أن حالات القمر المختلفة ناتجة أساسًا عن الأماكن التي تأخذها الأرض والقمر بالنسبة للشمس، فإن القمر عندما يدور مرة حول الأرض فإن القران الثاني لا يحصل في نفس الوقت الذي تمت فيه هذه الدورة نظرًا لتحرك الأرض حول الشمس، بل يحدث بعد فترة يكون فيها القمر على الخط الرابط بين الأرض والشمس وهذا الشهر القمري والذي عبر عنه بالشهر الاقتراني هو أطول من الشهر الحقيقي الذي يدور فيه القمر دورة كاملة حول الأرض بقطع النظر عن الحالات التي يكون عليها قرصه. أما الفروق الأخرى التي تهم الحالات المتتالية للقمر من جهة والفروق التي تهم المدد الفاصلة بين اقترانات متتالية من جهة أخرى، فإنها ناتجة عن أسباب معقدة تعسر حساب أوقات دخول الشهر القمري ولا تجعله ثابتًا، وأهمها أن القمر لا يخضع في دورانه إلى جرم واحد فحسب ولذلك لا يكون مداره منتظمًا نظرًا للاضطرابات التي تعتريه نتيجة لتداخل فعل قوات الأجرام المحيطة به وأهمها الأرض والشمس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 فالمعروف أنه إذا كان جرم الأرض هو المؤثر الوحيد في القمر، فسيتبع هذا الأخير في دورانه إهليجا ذات خصائص ذاتية معينة طلبًا لقوانين كبلر، فيسهل بذلك حساب أوقات المراحل المختلفة التي يمر بها القمر. ولكن هذا لا يمكن تطبيقه بصفة كلية على القمر، لأن هذا الأخير يخضع لقوات أخرى، مصدرها الشمس، التي، وإن كانت بعيدة، فإن كتلتها تؤثر بصفة مباشرة على مدارها القمري. ولهذه الأسباب فإن دراسة حركة القمر تعتبر من أعسر الدراسات الموجودة في مجال حركية الأجرام نظرًا لأنها تعتمد على مشكل الأجسام الثلاثة، والذي لا يمكن حله بصفة جذرية، ولكن بالاعتماد الحالي على الأدمغة الإلكترونية أمكن للفلكيين معرفة أوقات حدوث كافة الحالات القمرية، وبالتالي معرفة بداية الشهر القمري ونهايته، وذلك بفوارق زمنية تصل في وقتنا الحاضر مقدار جزء من ألف الثانية. والجدير بالذكر أن مثل هذه الحسابات الدقيقة هي التي مهدت للولايات المتحدة من بعث أول مركبة قضائية مسكونة إلى القمر. الرؤية العلمية والبصرية لهلال أول الشهر القمري: يحصل القران بين القمر والشمس عندما يكون هذان الجرمان على نفس خط الطول السماوي مثلما رأينا في الفقرات السابقة. وتعريف دخول الشهر القمري عند المسلمين هو عندما يبدأ الهلال في الظهور فما هي العلاقة الموجودة إذن بين ظهور الهلال وبين القران؟ لكن قبل ذلك لنا أن نسوق بعض الملاحظات: إن المتأمل للحالات المتعددة التي يمر بها القمر يمكن أن يلاحظ أن الهلال إذا ظهر في ليلة ما، فإنه يختفي بعد ساعات من غروب الشمس، ويتفاوت عدد هذه الساعات بتغير حجم الهلال من ليلة إلى أخرى، فهل أول الشهر يختلف مثلًا عن الهلال الذي مرت عليه أربعة أيام، وذلك لأن هذا الأخير يكون في مرحلة إشعاع للضوء أكثر من الأول، نظرًا لوجوده في منطقة من مداره تخول له انعكاسًا أكبر للضوء. كما أنه إذا اختفى هلال أول الشهر بعد ساعة تقريبًا من غروب الشمس، فإن الهلال الذي يكون عمره أربعة أيام يختفي في القبة السماوية في منطقة الغرب وبعد أكثر من ثلاث ساعات من غروب الشمس. وكل هذه الملاحظات يمكن أن يتتبعها أي كان عندما يبدأ الشهر القمري وكما ذكرنا في الحالات الظاهرية للقمر فإن تغير حالة قرص القمر ناتجة أساسًا عن الدوران الذاتي للقمر حول الأرض. يبقى هنا أن نفسر ما يحدث قبل أن يظهر هلال أول الشهر. بما أن القمر في حالة دوران مستمرة حول الأرض، فإنه قبل أن يظهر هلال أول الشهر يكون القمر قد مر بمرحلة هلال آخر الشهر، وهذا التعريف الأخير غير مستعمل لعدم اهتمامنا به لأنه لا يمثل بداية لوحدة قياس زمنية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391   الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 وهلال آخر الشهر يمكن أن يراه كل واحد منا في منطقة الشروق وذلك قبل أن يبزغ قرص الشمس وبين هذه الحالة وحالة هلال بداية الشهر توجد مرحلة ما يعبر عنها بالقران وهي التي يصبح فيها قرص القمر مصاحبًا لقرص الشمس بدون أن يقع تداخلهما الظاهري نظرًا لوجود كل منهما على مستوى مختلف، ولا يمكن أن تحدث حالة التداخل هذه إلا عند وجود القمر في واحدة من العقد الصاعدة أو النازلة أو قربها، وهذا بالذات يقابل حالة الكسوف. إذن يمكن القول بأن الهلال النظري يولد بعد أن يمر القمر من حالة القران التي يكون فيها حدوث كسوف الشمس ممكنًا إذا توفرت الظروف الملائمة لذلك. هذا فيما يخص الظهور العلمي للهلال الذي يكون في الدقائق التي تتلو حدوث القران أما فيما يخص الرؤية البصرية للهلال فإنها لا يمكن أن تكون إلا إذا كان بعد قرص القمر عن قرص الشمس بمقدار 8 درجات عند الغروب، وتعادل هذه القيمة ما بين تسع ساعات وعشرين ساعة بعد وقت القران. ولا يمكن لأضخم آلات الرصد الفلكية أن تعاين الهلال الجديد إلا بعد مرور ساعتين على الأقل من وقت حصول القران. وتكمن هذه الصعوبة في معاينة الهلال مباشرة بعد القران، في أن القمر حينما يجتاز هذه الحالة، يكون مجال وجوده في مجال ضوء الشمس الذي تحجب عنا قوته مشاهدة القمر الجديد، ولا يمكن بالتالي معاينة الهلال إلا بعد مرور ساعات عن القرن وفي وقت الغروب، لأن قرص الشمس في هذه الفترة يكون قد اختفى، ويكون الانفصال الزاوي بين قرصي الشمس والقمر كافيًا ليشاهد الهلال بالعين المجردة. ولنا أن نقول هنا: إنه يمكن حساب وقت حدوث القران بدقة كبيرة لا يتعدى فيها الفارق جزءًا بسيطًا من الثانية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393   الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 ويمكن لنا إذا أردنا أن نستعمل الحسابات المعتمدة في الدول المتقدمة لتعيين وقت دخول مثل هذه الظواهر، لأغراض تخدم مصالحنا الإسلامية، ومن ذلك فباستطاعتنا أن نعين وقت دخول الشهر القمري قبل عدة أشهر، ونقوم بالتثبيت التطبيقي عند حلول الشهر المعني مثلما أمرنا بذلك في الشريعة، وهذا في رأيي عين الصواب لتحاشي هفوات عديدة قد يكون ضحيتها أفراد الأمة الإسلامية من جراء رؤية قد تكون خاطئة، خصوصًا إذا كانت مصحوبة بحسابات فلكية بالية، وفي هذا السياق آخذ الواقعة التالية التي أتمنى أن يعتبر بها القارئ. منذ سنوات، أعلنت بعض الإذاعات العربية عن رؤية الهلال، فتبعها، في ذلك عدد لا يستهان به من الدول العربية الأخرى، ثم اعترفت فيما بعد بالخطأ الذي وقعت فيه وكانت رؤية الهلال في ذلك المساء بالذات مستحيلة نظرًا لأن القرار يحصل بعد 11 ساعة من الوقت الذي تم فيه الإعلان عن الرؤية، وقد أكد حدوث القران في ذلك الوقت وجود كسوف كلي في منطقة نصف الكرة الجنوبي، وكما سنرى فيما يلي فإن الكسوف إذا حدث فإنه يكون في وقت القران تمامًا، ولا يمكن لأضخم آلات الرصد الفلكية أن ترى الهلال إلا بعد مرور ساعتين على وقت حصول القران كما ذكرنا. وفي المدة التي حصلت فيها هذه الحادثة، أراد مدرسان سوفياتيان متابعة الحدث والاطلاع على كيفية تعيين دخول القمر الجديد من قبل المسلمين، فكانت المفاجأة كبيرة إذ قال أحدهما بالحرف الواحد: كيف يمكن أن يحدث هذا الخطأ في البلاد التي كانت مهدًا لأعظم فلكيي الإنسانية؟ فلنتحر إذن كل الإشاعات الموجودة التي تقول: إنه من المستحيل معرفة وقت دخول الشهر القمري أو انتهائه بصفة علمية، ولو كان الأمر كذلك لما تمت للفلكيين معرفة سلسلة الكسوفات والخسوفات التي تحدث بعد عدة سنوات، وكما سنرى، فإن الكسوف والخسوف يتطلبان حسابًا أدق من ذلك الذي تتطلبه المعاينة العلمية لدخول الشهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 ظاهرة الكسوف والخسوف: منذ العصور القديمة استرعى انتباه الإنسان حدوث ظواهر يتسبب فيها القمر حينًا عندما يحدث كسوف للشمس، والأرض حينًا آخر عندما يحدث خسوف القمر. وقد اعتمدت الشعوب القديمة في تفسيرها لهذه الظواهر على أسس دينية ليس لها أي مجال من الصحة. وقد كان الصينيون القدامى أول من حاول تفسير مثل هذه الظواهر والتعرف على الدورات الوقتية المختلفة لها، فقد قاموا بوضع جداول زمنية لحدوث الكسوف ثم محاولة تعميمها على السنوات الموالية، وقد نجحوا جزئيًا في هذه المهمة. أما العرب المسلمون فيرجع لهم الفضل في محاولة تفسير جديد للظواهر المذكورة، ويكفي أن نذكر في هذا المجال العالم المسلم ابن الهيثم الذي كان متخصصًا في علم البصريات، والذي قام بتجارب عديدة، مهدت فيما بعد الحصول على معلومات إضافية تهم حدوث الكسوف والخسوف. كيف يحدث الكسوف: نعلم أنه طبقًا لقوانين كبلر، أن القمر يدور حول الأرض تبعًا لمدار إهليجي ويتخلل هذه الدورة بعض الاضطرابات الحركية التي تؤثر في الحركة الدائرية للقمر، كما سوف نرى، ومستوى مدار القمر يختلف عن مستوى مدار الأرض حول الشمس بنحو خمس درجات. إذن يمكن أن نقول: إن القمر يدور حول الأرض تبعًا لمسار شبه دائري ومائل نحو خمس درجات للمستوى الأصلي الذي تتم فيه الدراسات الفلكية وهو مدار الأرض حول الشمس، وبما أنه توجد بعض الاضطرابات فإن هذا المدار ذا الأنحاء القار يتحرك حول خط العقد بسرعة 360 درجة في 18 سنة وثلثي سنة، وهذه المدة هي التي تعيد نفس سلسلة الكسوفات والخسوفات التي حدثت في وقت ما وتسمى بالشروق نظرًا لرجوع القمر إلى نقطة البداية في المدار الأول، إذا فسلسلة الكسوفات والخسوفات التي حدثت بين سنة 1960 وسنة 1978 هي نفسها التي حدثت بين سنة 1948 وسنة 1960 مثلًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 ولكن متى يحدث الكسوف؟ حينما يكون القمر في حالة قران وتكون منطقة وجوده على مداره على بعد زاوي أقل من درجة و 35 دقيقة بالنسبة للدائرة الكسوفية وهي مدار الأرض حول الشمس، فإنه من الأرجح أن يكون هناك كسوف. أما إذا كانت منطقة وجوده العرضية أقل من درجة و 22 دقيقة، فإن الكسوف يحدث لا محالة. وبين هاتين المنطقتين يكون حدوث الكسوف غير ثابت، ولهذا يجب القيام بحسابات أدق من السابقة للتيقن من حدوثه. ولكن لماذا يحدث الكسوف في هذه المناطق العرضية بالذات؟ للإجابة عن ذلك نقول: إنه في حالة القران يجب أن تكون زاوية العرض السماوية للقمر أقل من مجموع الزوايا التي تفصل على التوالي بين الخطين الهندسيين أرض – قمر، وأرض – شمس من جهة ونصف القطر الظاهر للقمر من جهة ونصف القطر الظاهر للقمر من جهة أخرى، وبما أن حركة القمر غير قارة كل شهر على مداره فإن مقدار هاتين الزاويتين يتغير من شهر إلى آخر. ومن جانب آخر يمكن أن نقول: إن الكسوف يحدث إذا مكان ظل القمر يحجب بصفة جزئية أو كلية رقعة من الأرض، لذلك يكون وجود القمر في نقطة ما من مداره وقت القران بالذات المحدد الوحيد لحدوث نوع من أنواع الكسوفات المختلفة أو عدم حدوث أي واحد منها. وأعني بأنواع الكسوف: الكسوفات الكلية، أو الكسوفات التوسطية، أو الكسوفات الجزئية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397   الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 ومن المعلوم أنه لما يدور القمر حول الأرض يخلف في كل نقطة من مداره ظلًا يناسب طوله والمسافة التي تفصل القمر عن الشمس، وفي كل الحالات يتراوح مقدار هذا الطول بين 57 و 59 شعاعًا أرضيًا، وهذه الأرقام تقترب إلى حد كبير من الأرقام التي تتعلق بالمسافة الفاصلة بين القمر والأرض والتي تتراوح بين 55 و 66 شعاعًا أرضيًا. ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نصف الكسوفات حسب طول الظل القمري وحسب المسافة الفاصلة بين الأرض والقمر وقت القران. (أ) الكسوف الكلي: إذا بلغ طول الظل الذي يخلفه القمر المقدار الأقصى، يعني 59 شعاعًا أرضيًا، بينما لا تكون المسافة الفاصلة بين مركزي الأرض والقمر إلا 55 شعاعًا أرضيًا، وهي المسافة الدنيا بينهما فتكون في هذه الحالة رقعة الظل الواقعة على الأرض عبارة على بقعة دائرية دكناء، يقدر شعاعها بـ 148 كلم، وهذه أكبر الرقاع التي يمكن أن يسببها كسوف للشمس. أما المناطق المحيطة بهذه الرقعة فيكون فيها الكسوف جزئيًا، وذلك لأن هذه الأماكن قد اخترقها ما تحت الظل فحسب، ومن هنا فلا يرى المشاهد الأرض في هذه المناطق بالذات سوى احتجاب جزئي لقرص الشمس. ولنصف الآن كيفية حدوث الكسوف الكلي على منطقة أرضية ما: قبل القران بساعة وبضع الساعة يبدأ قرص القمر بالدخول في مجال قرصي الشمس ويكون هذا الدخول بطبيعة الحال جانبيًا وتدريجيًا إلى أن يحجب قرص القمر جزءًا كبيرًا من قرص الشمس، وفي وقت القران بالذات يغطي قرص القمر كليًا قرص الشمس، ويخيم الظلام تمامًا على المنطقة لمدة تقارب ستة دقائق يبدأ إثرها قرص الشمس في الانجلاء شيئًا فشيئًا للرجوع بعد ساعة ونيف إلى حالة إضاءته الطبيعة. وعلى سبيل الإفادة نذكر الحدث العلمي التالي: في كسوف شمسي حدث سنة 1973 اتفقت بعض الدول المتقدمة على تمويل مشروع يقضي بمتابعة هذا الكسوف الذي حدثت معظم مراحله على القارة الإفريقية في المنطقة الاستوائية، ولكن هذه المتابعة لم تكن كسابقتها بالعين المجردة فحسب، أو بآلات رصد ثابتة، بل تعدتها لتكون على متن طائرة تتجاوز سرعتها سرعة الصوت، وقد جهزت بآلات رصد خاصة مهدت للعلماء فيها بعد التعرف على جزء كبير ومجهول من مكونات الأجواء الشمسية والتي لا يمكن دراستها إلا عند حدوث كسوف كلي. والمرحلة الكلية للكسوف التي تدوم عادة ست دقائق، تمت مراقبتها في هذه المرحلة لمدة ساعتين وذلك بمتابعة بقعة الظل القمرية التي التقت بسطح الأرض في منطقة موريتانيا وتواصلت إلى أن ابتعدت عن السطح في منطقة بكينيا، وقد انتظر الفلكيون والعلماء بشغف هذا الكسوف منذ عدة سنوات لإتمام تحضيراتهم على أحسن وجه، ولم يقتصروا على معرفة وقت بداية الكسوف فحسب، بل تعرفوا كذلك على المسار الذي تتبعته بقعة الظل، وقد تم إعطاء هذه التعليمات من قبل دماغ إلكتروني وقع تصميمه لهذا الغرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 (ب) الكسوف الجزئي: يحدث هذا النوع من الكسوف عندما تكون المسافة الفاصلة بين سطح الأرض والقمر تعادل في قيمتها طول الظل من قاعدته إلى قمته، وفي هذه الحال تكون كامل المنطقة المحيطة بالنقطة النظرية لهذه القمة في حالة كسوف جزئي، يعني أن ما تحت الظل هو الذي يغطيها وليس الظل نفسه، وتحدث مثل هذه الحالة أيضًا إذا التقى ظل القمر بمناطق قطبية يكون فيها معظم الظل وما تحت الظل خارج الكرة الأرضية. (ج) الكسوف التوسطي (الحلقي) : في حالة القران، وعندما تكون المسافة الرابطة بين مركزي القمر والأرض 66 شعاعًا أرضيًا بينما لا يتعدى طول الظل من قمته إلى قاعدته 57 شعاعًا أرضيًا فيحدث أن نرى أن قيمة الظل القمري تكون فوق سطح القمر وبهذا عندما يكون الكسوف في مرحلته القصوى فإن قرص القمر يتوسط قرص الشمس، وهذا ناتج عن كون قيمة شعاع القرص الظاهري للقمر أقل من تلك التي تكون للشمس نظرًا لأن القمر في هذه الحالة يكون في أبعد نقطة من مداره حول الأرض. أما في المناطق الشريطية المجاورة لمناطق الكسوف التوسطي، فيمكن أن نشاهد على غرار الكسوف الكلي احتجاجًا جزئيًا لقرص الشمس. بقي أن نلاحظ أن حدوث كسوف كلي في منطقة من المناطق نادرًا أن يتكرر في نفس المنطقة نظرًا لأن الشريط الأرضي الذي يمكن أن يشاهد فيه كسوف كلي صغير جدًا بالنسبة لحجم الكرة الأرضية، وكذلك نظرًا لأن سلسلة الكسوفات التي ذكرناها سابقًا والتي تعيد نفس أنواع الكسوفات في مدة 18 سنة و 11 يومًا لا تعيد الكسوف نفسه فوق المنطقة نفسها لأنه لا توجد تناظرية في عدد الأيام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 فائدة الكسوف: يتساءل المرء عن أهم الفوائد التي يمكن أن نجنيها من حصول كسوف ما على الأرض. صحيح أن هذه الفوائد كانت منعدمة في القديم، ولكن الأمور تغيرت في عصرنا الحاضر وأصبح الإنسان يحاول جاهدًا تفسير عدد من الظواهر باتت إلى حد هذا الوقت غير مفهومة، ومن بين المشاكل العلمية التي أمكن للعلماء حلها لما يحدث كسوف للشمس فذلك توصلهم لإثبات عدم وجود طبقات جو على سطح القمر، وقد كان هذا الإثبات نتيجة مقارنتهم لبقعة الظل النظرية التي يمكن أن يخلفها جسم كروي كالقمر بدون أن يكون له مجال جوي محيط به، وبين البقعة الحقيقية التي يسببها مرور القمر بين الأرض والشمس في وقت القران وفي حالة الكسوف الكلي وقد وجد العلماء أن هاتين البقعتين لهما نفس المساحة. ومثل هذه التجارب مكنت علماء الفضاء من بعث مراكب فضائية مسكونة إلى سطح القمر بدون أن يكون هناك خوف على هذه المراكب من الاحتراق إذا ما اخترقت المجال القمري، وذلك لعدم وجود طبقات جو. أما التجربة التي قام بها زملاء انشتاين لتثبيت نظريته في النسبية العامة، فقد كانت رائدة في التاريخ الفيزيائي الحديث، ولو لم تكن هذه التجربة التي قاموا بها أثناء كسوف كلي للشمس سنة 1918 والتي حاولوا عبرها إثبات انحناء شعاع الضوء عندما يمر قرب كتلة ضخمة، كما تنص على ذلك بعض الفصول النظرية لقانون النسبية العامة لما كتب لانشتاين أن يفرض ما جاء به نظرًا لما كانت تكتنفه هذه النظرية من غموض على الصعيدين النظري والتطبيقي. أما الفوائد الأخرى التي يمكن أن يقدمها حدوث كسوف كلي للشمس في منطقة ما، فإننا نذكر الدراسات القائمة على قدم وساق، والتي سوف تمكن العلماء بعد بضع سنوات من التعرف على بعض الخصائص المجهولة لجرم الشمس. وأجواء هذه الأخيرة، لا يمكن أن تدرس إلا عند حدوث كسوف كلي للشمس، ولهذا نرى أنه كلما علم بحصول كسوف كلي على منطقة ما، تهافت عليها العلماء من كل حدب وصوب للتمكن من إتمام الدراسات التي يقومون بها، ونشير هنا أن معدل الوقت تستمر فيه المراحل الكلية لكامل الكسوفات الكلية التي تحدث كل سنة على أرض لا يتجاوز 10 دقائق، وهذا الوقت جد قصير بالنسبة لدراسات هامة كتلك التي يقوم بها العلماء في هذا المجال، ولذا فإننا نراهم يستعدون كامل الاستعداد لرصد مثل هذه الحالات، وما التجربة الرائدة التي تحدثنا عنها والتي قام بها فريق من الباحثين على متن الطائرة لتتبع بقعة الظل إلا خير دليل على ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 خسوف القمر: قلنا في الجزء السابق: إنه لما يوجد القمر في نفس المستوى مع الأرض والشمس يمكن أن يكون القمر بين الأرض والشمس أو أن تكون الأرض بينه وبين الشمس. ولذا فإننا سنتناول الحالة الثانية في الفقرات الموالية: أن الظل الذي تخلفه الكرة الأرضية عندما تكون مضاءة بالشمس، أكبر من الظل الذي يخلفه القمر عندما يدور حول الأرض، فنظرًا لهذا فإن الخسوفات الكلية، عندما تحدث، يمكن أن تحجب قرص القمر تمامًا، وهذا لن يحدث عندما تكون الأرض في حالة كسوف. لكن لا يمكن للخسوفات أن تحدث كل مرة يمر فيها القمر من منطقة التقابل، وذلك لأن المدار القمري ذا الأنحاء الثابت غير قارٍّ في تحركاته، ولهذا يمكن أن نصف أنواع الخسوفات حسب زاوية العرض السماوية: 1- أقل من 21 دقيقة: خسوف كلي ثابت. 2- بين 21 و 32 دقيقة: خسوف ثابت كلي أو جزئي. 3- بين 32 و 52 دقيقة: خسوف ثابت جزئي. 4- بين 52 و 63 دقيقة: خسوف جزئي ممكن. 5- أكثر من 63 دقيقة: حدوث الخسوف مستحيل. وفي حالة حدوث خسوف كلي للقمر يمكن لمناطق الأرض التي يوجد فيها الظلام والتي يظهر فيها القمر أن تشاهد هذا الخسوف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 وقد استعمل الخسوف الكلي لفترات طويلة كمحدد رئيس لزاوية الطول الجغرافية لمنطقة ما من الأرض، كما استعمل للتعرف على وقت حدوث البدر الكامل، وقد ساعد هذا على إصلاح بعض الحسابات الفلكية القديمة التي تعتمد دورة القمر كوحدة وقتية لها. وفي حالة حدوث خسوف كلي يصبح القمر غير مرئي بالمرة، بل نرى ضياء أحمر داكنًا، وما هذا الضياء إلا نتيجة للإشعاعات الشمسية المنعكسة على مناطق سطح الأرض التي يكون فيها الوقت نهارًا. تواتر الكسوف والخسوف: اعتمادًا على ما ذكرنا سابقًا فيما يخص موقع القمر بالنسبة لمستوى مدار الأرض على مداره عندما يكون في حالة اقتران أو تقابل، اعتمادًا على هذا فإنه يمكن القول: إن عدد الخسوفات والكسوفات في السنة لا يحدث إلا نادرًا نظرًا لأن الشروط المذكرة لا تتكرر إلا في مناسبات معدودة، فالمعدل العام لحدوث نوع من الكسوفات في السنة يقارب 2.3 مرات، أما معدل الخسوف فلا يتجاوز 1.5 مرات. وتبلغ مدة الدورة الوقتية التي تعاد فيها نفس الكسوفات والخسوفات، 18 سنة و11 يومًا، ويتراوح عدد الكسوفات والخسوفات في هذه المدة بين حد أقصى يبلغ السبعة (تشمل الكسوف والخسوف) وبين حد أدنى يصل في بعض الأحيان إلى اثنين (كسوف للشمس وخسوف للقمر) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403   الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 الخلاصة اعتبر أنه من الواجب على المسلمين وجوبًا عينيًا وكفائيًا: - التزام التاريخ الهجري الذي أجمع عليه في عصر الصحابة. - حساب الشهور القمرية مرتبطة بالعبادات وبالتالي فله أهمية قصوى في حياتنا. - احترام علم الفلك وعدم مقارنته بالتنجيم الذي ليس له أي صلة بالعلوم وخصوصًا تلك التي حث عليها الإسلام. - أن التوحيد في أوائل الشهور القمرية أمر ميسور لدى أهل علم الفلك وله ما يدعمه من حقائق وثوابت فلم يبق إلا اجتهاد فقهاء العالم الإسلامي بطريقة جماعية لتحديد أوائل هذه الشهور مستعينين بما يقدمه علم الفلك والفلكيون. - بما أن الكسوف والخسوف ظاهرتان ثابتتان يمكن حسابهما وتثبيتهما، فإنه بالمثل لبداية الشهور القمرية، ويمكن إصدار تقاويم يوافق عليها علماء من الفلكيين والفقهاء، ومثل هذا ينظم ويبعد شبح التفرقة والفتنة بين أفراد أمة الإسلام. وفقنا الله لما فيه خير أمة الإسلام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 الوثائق المقدمة توحيد بداية الشهور القمرية لفضيلة الشيخ محمد علي السايس بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فما له من هاد، ونصلي ونسلم على خير أنبيائه وصفوة رسله وأوليائه، سيدنا محمد بن عبد الله المبعوث بالهدى ودين الحق بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا. أما بعد، فقد طال الجدل بين العلماء قديما وحديثا في شأن الشهور القمرية وتحديد أوائلها وأواخرها، واختلفت كلمتهم في ذلك اختلافًا كثيرًا وفي كل عام يتجدد النزاع وتحتدم المناقشة في هذا الشأن، لا سيما في أشهر رمضان وذي الحجة لارتباط الصيام والحج بهما، وكثيرًا ما تطلع الناس إلى علماء الشريعة، وراودهم الأمل في أن يطلعوا على الناس برأي يجمع كلمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ويوحد صفوفهم ويؤلف بين قلوبهم ويقضي على هذا التفرق والتنازع، وذلك لتوحيد مبدأ الشهور العربية في جميع البلاد الإسلامية، وبذلك يتوحد مظهر المسلمين جميعًا في أنحاء المعمورة في أداء عبادتهم، وفي مواسمهم وأعيادهم الدينية مطمئنة قلوبهم إلى أنهم أدوا الصوم والفطر والحج في وقته، لا يتطرق إلى نفوسهم شك ولا يساورها قلق، كما هو الشأن الآن بالنسبة للمختلفين من الصائمين والمفطرين، لا يثق أي منهم وثوقًا مطلقًا بأنه هو المحق وغيره المبطل، ولعل هذا هو ما أراده النبي –صلى الله عليه وسلم- بقوله ((صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وحجكم يوم تحجون)) . ولا شك أن توحيد مبدأ الشهور العربية في البلاد الإسلامية يعد من أقوى العوامل على تمكين الروابط بين الشعوب الإسلامية في جميع أقطار الأرض، وجمعهم على كلمة واحدة وطريقة واحدة، والناس الآن أحوج ما يكونون إلى التآلف والتقارب واتحاد الكلمة، والطابع العام للدين الإسلامي هو التوحيد، والله رب العالمين واحد، والرسول الكريم للناس كافة واحد، والقرآن واحد، والقبلة التي يتوجه إليها المسلمون في صلواتهم واحدة، والأمة الإسلامية واحدة، قال تعالى {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 وقد تقدم فضيلة الشيخ عبد الحميد السائح عضو المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية عن شرق الأردن برغبة أن يبحث المجمع هذا الموضوع، وقد استجاب المجمع لهذه الرغبة وأحال على هذا البث ليقدم إلى المؤتمر الثالث، واستعنت بالله واطلعت على نصوص من كتب المذاهب الأربعة، وبعض علماء الشيعة الإمامية والزيدية وعلى رسائل كتبت في هذا الشأن منها رسالة تنبيه الغافل والوسنان على أحكام هلال رمضان لابن عابدين، ومنها العلم المنشور في إثبات الشهور لابن السبكي قاضي قضاة دمشق0، ومنها إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة للشيخ محمد بخيت المطيعي، ومنها رسالة الهلال للشيخ طنطاوي جوهري، ومنها رسالة الصوم للشيخ عبد الرحمن تاج شيخ الأزهر سابقًا، ومنها قرارات اللجنة الشرعية الفلكية بشأن توحيد مبدأ الشهور العربية في البلاد الإسلامية لطائفة من أساتذة كلية الشريعة. وقد تبين لي والحمد لله بعد الاطلاع على هذه المراجع والرجوع إلى أهل الذكر فيما ليس لنا به علم من علماء الفلك أن هذا المطلب ليس بعزيز المنال، وأنه أيسر مما كنت أظن ويظن كثير من الناس، لكثرة اختلاف العلماء طوال الأزمان الخالية، دون أن تتلاقى وجهات نظرهم ويتفقوا على رأي واحد يريح المسلمين من هذا التنازع ويجمعهم على كلمة سواء. ولا تثريب على من اختلفوا قديمًا من العلماء، فلم يكن لديهم تلك الوسائل التي مَنَّ الله بها على عباده في هذا الزمان، والتي جعلت هذا المبدأ القويم مبدأ التوحيد يسير المنال. وأول تلك الوسائل تقدم علم الفلك وبراعة علمائه فيما يعالجونه من شؤونه، وذلك بالحساب الدقيق القطعي المبني على قواعد هندسية مبرهنة، والذي يضبطون به أحوال القمر ومنازله ومواقفه، ويحددون به أوائل الأشهر القمرية ونهايتها، مما يستعان به على رؤية الهلال رؤية عينية هي غاية العلم وهي عين اليقين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 وثانيها: ما اخترعه العلماء في هذا العصر من الآلات الحديثة التي يسهل بها كشف الهلال في ليلته الأولى مهما كان صغيرًا دقيقًا، من المراصد المجهزة بأحدث الوسائل العلمية مما ييسر أمر الرؤية في هذا العصر. وثالثها: تقدم وسائل الإذاعة والإعلام في هذا الزمان، كالراديو والتليفزيون واللاسلكي وغير ذلك مما يمكن من إعلام جميع البلاد الإسلامية بالرؤية فور ثبوتها. ويشتمل هذا البحث على أربعة فصول وخاتمة: الأول - في أقوال علماء المذاهب الأربعة وبعض الشيعة الإمامية والزيدية فيما ثبتت به هلال رمضان وشوال وغيرهما في حالتي الصحو والغيم، مع بيان وجهة كل منهم ومناقشة الأدلة وترجيح المختار منها. الثاني - في بيان آراء علماء الإسلام في مطالع القمر، وهل يؤثر اختلافها في إثبات الشهور، أو لا عبرة باختلافها فيمكن توحيد البلاد الإسلامية واجتماعها على مبدأ واحد؟ الثالث - في بيان أنواع الحساب الفلكي وما جرى عليه العمل قديمًا وحديثًا في التقاويم الرسمية وغيرها، حتى يتميز ما يصح التعويل عليه وما لا يصح. الرابع - في بيان آراء العلماء في الرأي بقول أهل الحساب والفلكيين في تحديد الشهور القمرية. أما الخاتمة - فهي في بيان ما يجب على الدول الإسلامية القيام به في شأن إثبات الشهور القمرية لنصل إلى هذه لغاية المنشودة من أقرب سبيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 الفصل الأول أقوال العلماء، فيما تثبت به الشهور القمرية مذهب الحنفية: المقرر في معتبرات الكتب عند الحنفية أنه يجب على المسلمين وجوب كفاية أن يلتمسوا هلال رمضان وغيره في اليوم التاسع والعشرين من شهر السابق لأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يومًا، فيجب عليه طلبه لإقامة الواجب، فإن رأوا الهلال ثبت الشهر الجديد، وصاموا إن كان رمضان، لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وإن غُمَّ عليكم أكملوا عدة الشهر ثلاثين يومًا لقوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا)) ، ولأن الأصل بقاء الشهر وكماله، فلا يترك هذا الأصل إلا بيقين بناء على القاعدة الشرعية: لا يزول اليقين بالشك. والمصرح به في كتبهم المتداولة أنه إذا كان بالسماء علة من غيم أو غبار يحجب الرؤية أن يقبل في تحقق رمضان خبر عدل أو مستور، ولو كان خبر العدل أو المستور على خبر مثله، ويستوي في ذلك أن يكون المخبر حرًا أو عبدًا ذكرًا أو أنثى، ولا يشترط العدد ولا لفظ الشهادة ولا تقدم الدعوى ولا حكم الحاكم ولا مجلس القضاء واستدلوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبصرت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟ فقال: نعم، قال: قم يا بلال وأذن في الناس ليصوموا غدًا)) وفي رواية ((يكفي المسلمين أحدهم قم يا بلال)) إلخ.. وعللوا ذلك أيضًا بأن هذا ليس بشاهدة، بل هو إخبار، بدليل أن حكمه يلزم الشاهد وهو الصوم، وحكم الشهادة لا يلزم الشاهد، والإنسان لا يتهم في إيجاب شيء على نفسه، إلا أنه إخبار في أمر ديني ولذلك اشترطوا في المخبر الإسلام والعقل والبلوغ، وألا يكون ظاهر الفسق، لأن قول الفاسق في الأمور الدينة التي يتيسر تلقيها من العدول غير مقبول. أما إذا لم يكن بالسماء علة فقد اختلفت كلمتهم في ذلك، ففي ظاهر الرواية لا يقبل خبر الواحد حتى يراه جمع كثير يقع العلم للقاضي بخبرهم والمراد من العلم غلبة الظن لا اليقين، وأمر القلة والكثرة مفوض إلى رأي المشهود عنده، لأن ذلك يختلف باختلاف الأوقات والأماكن. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه تقبل في هذه الحالة أيضًا شهادة الواحد العدل، وفي رواية أخرى تقبل شهادة رجلين أو رجل وامرأتين. ووجه ظاهر الرواية أن خبر الواحد العدل إنما يقبل فيما لا يكذبه الظاهر وهنا الظاهر يكذبه حيث تفرد بالرؤية والسماء صحو، والكل متوجه إلى ما توجه إليه يقلب وجهه في السماء، وفيهم من هو أقوى منه إبصارًا وأَحَدُّ نظرًا، فكان ذلك مظنة غلطه، فلا يفيد خبره غلبة الظن، فلا يقبل لاحتمال الغلط والخطأ، كما حكي عن أنس بن مالك أنه تراءى الهلال مع جماعة فيهم إياس، فقال أنس: إني أرى الهلال، ولم يره أحد ممن كان معه، فتفطن إياس بذكائه ونظر إلى عين أنس، فوجد عليها شعره بيضاء قد نزلت من حاجبيه، فرفعها إياس بيده، وقال: أرني الهلال، قال: لا أنظر الآن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 أما هلال شوال فقد قالوا: إنه إذا كان بالسماء علة لا تقبل فيه إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، مسلمين حرين عاقلين بالغين غير محدودين في قذف، كما في الشهادة في الحقوق لما روي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة رجل واحد على رؤية هلال رمضان، وكان لا يجيز الإفطار إلا بشهادة رجلين،)) ، ولأن هذا من باب الشهادة؛ لأنه لا يلزم الشاهد شيء بهذه الشهادة، بل له فيه نفع، وهو إسقاط الصوم عن نفسه، فكان متهمًا فيشترط فيه العدد نفيًا للتهمة بخلاف هلال رمضان، فيشترط في هلال الفطر نصاب الشهادة ولفظ: أشهد، ولا تقبل فيها شهادة محدود في قذف، ولكن لا يشترط فيه الدعوى؛ لأن مجيء الشهر لا يدخل تحت الحكم قصدًا. وإذا لم تكن بالسماء علة فهو كهلال رمضان لا يقبل فيه إلا خبر جماعة يحصل بخبرهم غلبة الظن، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه تقبل فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين سواء كان بالسماء علة أو كانت صحوًا. أما هلال ذي الحجة ففي ظاهر الرواية أنه كهلال الفطر في حالتي الصحو والغيم، لأنه تعلق به نفع العباد وهو التوسع بلحوم الأضاحي، وقال ابن الهمام نقلًا عن التحفة: والصحيح أنه يقبل فيها بشهادة الواحد لأن هذا من باب الخبر، فإنه يلزم المخبر أولًا ثم يتعدى منه إلى غيره، لأنه يتعلق به أمر ديني، وهو وجوب الأضحية، وحرمة صوم يوم النحر، وأيام التشريق، فصار كهلال رمضان في تعلق حق الله به، فيقبل في حالة الغيم الواحد العدل، ولا يقبل في حالة الصحو إلا ما يحصل به غلبة الظن. أما بقية الشهور التسعة فلم يتعرض المتقدمون لها، لأن الشارع لم يجعل مجيء شهر منها وقتًا لعبادة مفروضة أو لحرمة شيء خاص، وإنما تعرض لها بعض المتأخرين، فقد قال صاحب البحر في شرح الكنز: وذكر الإمام الأسبيجابي شرح مختصر الطحاوي الكبير: وأما هلال الفطر والأضحى وغيرهما من الأهلة، فإنه لا يقبل فيها إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين عدول أحرار غير محدودين في قذف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 قال المرحوم الشيخ محمد بخيت المطيعي في كتابه إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة ص 99: وما قاله صاحب البحر فهو في غير موقعه كما قال المرجاني في ناطورة الحق وقال فيها: ومن الجائز أن يكون المراد منه أي من كلام الأسبيجانبي أن هذه الأهلة (ما عدا رمضان) لا تثبت بدون شهادة شاهدين في حكم متعلق بها من حقوق العباد، من تعليق طلاق وعتاق وغير ذلك، وإلا كان معارضًا لعموم ما في الوقاية وغيرها، من قولهم: يقبل بلا دعوى ولفظ: أشهد، للصوم مع غيم خبر فرد بشرط أنه عدل، لأن جميع الأهلة في هذا كالصوم البتة ومخالفًا لاشتراط العدد في الفطر والأضحى في ظاهر الرواية لتعلق حق العباد، وعدم اشتراطه في الصوم والأضحى على رواية النوادر، لكونه من أمور الدين" اهـ يعني أنهم لم يشترطوا شيئًا آخر من الشروط التي ذكرها صاحب البحر سوى العدد في الفطر والأضحى على ظاهر الرواية، ولم يشترطوا العدد في الصوم والأضحى في رواية النوادر، فكان الخلاف في اشتراط العدد وعدمه فقط، ولم يوجد منهم ما يفيد اشتراط ما عداه من الذكورة والحرية وعدم الحد في القذف وغير ذلك، بل المدار على العدالة فبعد اتفاقهم على اشتراط العدالة اختلفوا في اشتراط العدد وعدم اشتراطه، هذا مراد المرجاني، وهو عين ما قلناه من قبل. والذي قاله من قبل أنه لا يشترك في المخبر بثبوت الرؤية إلا أن يكون عدلًا، وأما اشتراط لفظ الشهادة والحرية وغيرهما من الشروط فهو من فهم المشايخ واستنباطاتهم، ثم قال: وقد اتفقوا أصولًا وفروعًا على أن خبر الواحد مقبول في الديانات، وأنه لا يشترط فيه سوى العدالة والبلوغ والعقل، واتفقوا أيضًا على المشهور أن الشهادة رؤية رمضان من باب الخبر لا فرق فيها بين حال الصحو وحال الغيم، ولا شك في أن المعنى الذي من أجله صارت الشهادة من قبيل الرواية لا فرق فيه بين حال الصحو في رمضان وحال الغيم، فإن الصوم يلزم الشاهد كما يلزم غيره في الحالتين، وقد اتفقت كلمتهم على أن هلال الفطر في حال الصحو كهلال الصوم في حال الصحو ففي حال الغيم بالأولى، ثم قال: وقد تقدم أن القهستاني قال في جامع الرموز، والظاهر من العمادية: إن الصوم والفطر مع الغيم وبلا غيم يستويان في تلك الشروط. ثم قال: وكيف لا يكون الحكم كما قلنا، وقد اتفق علماؤنا على أن التماس هلال رمضان فرض كفاية؟ وأنه يجب على العدل إذا رأى الهلال أن يرفع الأمر إلى القاضي ويشهد بما رأى، ولو كان العدل امرأة مخدرة ذات زوج وجب عليها أن تخرج بغير إذن زوجها، ولو كانت أمة وجب أن تخرج بغير إذن سيدها في ليلة الرؤية، مخافة أن يصبح الناس مفطرين، فقد عللوا التماس الهلال كتحمل الأحاديث التي هي أدلة الأحكام الشريعة، ففي أنه فرض كفاية وأداء الشهادة برؤية هلال رمضان كتبليغ تلك الأحاديث بطريق روايتها، فلم تبق شبهة في أنه لا خلاف بين أئمتنا في قبول خبر الواحد العدل في رؤية هلال رمضان، سواء كان بالسماء علة أو لم تكن بها علة، متى لم يكن تفرده دليل الغلط أو الكذب، وأن هلال ذي الحجة كهلال رمضان عند أصحابنا خلافًا للكرخي، وأن هلال ذي الحجة كهلال رمضان أيضًا على رواية الطحاوي، وهي التي يساعدها الدليل وقد صححوها صريحًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 وأن اشتراط العدد في حال التفرد الذي لم يكن مظنة الغلط لرؤية هلال شوال إنما هو على رواية أخرى هي ظاهر الرواية أيضًا، وقد مشي عليها جميع المتون. ثم قال في صفحة 94: والحاصل أن رؤية هلال رمضان ورؤية هلال شوال ورؤية هلال ذي الحجة سواء كان بالمساء علة أو لم يكن بها علة كل منها يتعلق به أمر ديني، فهلال رمضان يتعلق به وجوب الصوم وحرمة الفطر بلا عذر يبيحه في نهار الشهر كله، وهلال الفطر يتعلق به حرمة الصوم ووجوب صلاة العيد، ووجوب زكاة الفطر في أول يوم من شوال، وهلال ذي الحجة يتعلق به حرمة الصوم في اليوم العاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر ودخول وقت الحج ووجوب الأضحية وتكبير التشريف، وغير ذلك من الأحكام الدينية المحضة، فكل من الشهادة برؤية الأهلة الثلاثة من باب الأخبار الدينية فهي شبيهة بالرواية ولا يمكن أن واحدًا منها يدخل تحت الحكم ويكون حقًا من حقوق العباد ويكون فيه إلزام محض.. إلى أن قال: "وأما قول من قال بدخول العبادات تحت الحكم، فإن كان مراده بالحكم الأمر بها فلا إشكال، وإن كان مراده بالحكم القضاء والإلزام المحض الذي يستدعي مقضيًا له ومقضيًا عليه، فيجب أن يحمل قوله على ما إذا تعلق بها حق العبد وكان المقصود منها إثباته، كما لو علق عتق عبده أو طلاق امرأته بوجوب صلاة الجمعة عليه أو بصحتها أو بفسادها، وأما أن شيئًا من العبادات والديانات المحضة يدخل تحت الحكم بمعنى القضاء والإلزام المحضي مجردًا عن حق العبد فلا قائل به أصلًا لأنه لا يتصور لا عقلًا ولا شرعًا كما هو مفصل في الأصول والفروع، فيتعين أن يحمل قول من قال باشتراط شروط الشهادة في هلال رمضان أو هلال شوال أو هلال ذي الحجة على ما إذا تعلق به حق العبد وكان ثبوته في ضمن حق من حقوق العباد بلا فرق في ذلك بين هلال وهلال". وفي ص 91 قال: "وإنما كان مجيء الأشهر لا يدخل تحت القضاء بلا فرق بين مجيء رمضان وشوال وغيرهما، لأن مجيء كل واحد منها له علامة محسوسة هي هلاله الذي يشاهد في أول ليلة منه، ولأن شيئًا منها لم يكن حقًا فمن حقوق الله أصلًا ولا من حقوق العباد بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يوجد فيها لذاتها خصومة لأحد بوجه من الوجوه الشرعية". وفي ص 198: "وما يدل على صحة ما قلناه من عدم الفرق بين شهر وشهر فما قدمناه في هلال رمضان وشوال وذي الحجة، فإنه لا فرق بين مجيء هذه الأشهر الثلاثة وبين مجيء كل شهر من الأشهر التسعة الباقية إذا اشتمل على عبادة محضة، وصار وقتًا شرعًا لها بنذر ونحوه، كما لا فرق بين مجيء أي شهر حينئذ وبين دخول أوقات الصلوات الخمس وخروجها، فإن الجميع مبني على علامات ظاهرة مشاهدة يستوي في معرفتها كافة الخلق من بني آدم لا فرق بين خواصهم وعوامهم، ولذلك أناط الشارع التكليف المؤقتة بهذه العلامات الظاهرة للجميع أيضًا ومن ذلك يتضح لك جليًا أن مجيء الأشهر القمرية التي عليها مدار الأحكام الشرعية مما لا يدخل تحت الحكم والقضاء لأن مجيئها ومضيها من الحوادث الكونية التي يشاهد العلامات الدالة على حدوثها ومضيها العام والخاص، ولا دخل للخلق فيها بل هي تقدير العزيز العليم، فلا يمكن أن شيئًا منها يكون حقًا يدخل تحت الحكم ويفصل القضاء فيه فهي كمجيء الليل بغروب الشمس، ومجيء النهار بشروقها، فكما لا يمكن عقلًا ولا شرعًا أن يدخل مجيء الليل ومجيء النهار تحت القضاء لذاته، لا يمكن أن يدخل مجيء أي شهر من الأشهر لذاته تحت القضاء، لا فرق في ذلك بين شهر وشهر". ثم قال في 121: "وأيضًا قد علمت أن إثبات رؤية هلال رمضان وغيره من الأشهر ولو كانت السماء مصحية لا يتوقف على خبر الجمع العظيم، وإنما المدار في الإثبات على الخبر الذي يفيد غلبة الظن، ولو كان ذلك الخبر خبر واحد عدل، إذا لم يكن تفرده مظنة الغلط أو الكذب، لأن غلبة الظن حجة بالإجماع في مثل هذا الحكم العلمي، وأن الذي شرط الجمع العظيم من أئمتنا أراد العدد الذي يفيد خبره العلم الشامل لغلبة الظن فإن المخبر إذا انفرد وكان تفرده مظنة الغلط أو الكذب فخبره لا يفيد ظنًا فضلًا عن غلبة الظن، ثم قال: وأن الصحيح أنه لا فرق بين هلال رمضان وهلال شوال وهلال ذي الحجة في قبول شهادة الواحد العدل في حالة الغيم وكذا في حالة الصحو إذا لم يكن تفرده مظنة الغلط والكذب، وكذا بقية الأشهر التسعة إذا اشتملت على ما هو عبادة محضة، ولعله أراد أنه لم يقصد بإثباتها إثبات حق من حقوق العباد التي لا بد فيها من القضاء أو الإلزام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 أما إذا قصد مجرد إثباتها ليتحقق ثبوت أشهر المواسم الدينية فمقتضى ما تقدم من الترجيح والتوجيه والتعليل أن يكون سبيلها في الإثبات سبيل الأشهر الثلاثة رمضان وشوال وذي الحجة، فإنه لا فرق بين شهر وشهر، كما تقدم غير مرة أن ذلك من باب الإخبار لا من باب الشهادة وأنه يكتفى في الخبر بما يفيد غلبة الظن ولو خبر واحد مستور لا فرق بين حالة الصحو وحالة الغيم، وأنه لا حاجة إلى شيء من شروط الشهادة، ولا إلى مجلس القضاء ولا إلى حكم حاكم أو أمر قاض، وأنه إنما يشترط العدد عندما يكون التفرد مظنة الغلط أو الكذب، ويكتفى بالعدد الذي يقع به غلبة الظن من غير تحدي بنصاب الشهادة ولا بنصاب الغمامة، كما لا يشترط لفظ: أشهد، ولا بتحقق شروط الشهادة في كل الشهود أو بعضهم، نعم لا بد من أن يكون المخبر مسلمًا عاقلًا بالغًا. وهذا الذي رجحه المرحوم الشيخ بخيت هو الذي أختاره لقوة مدركه وصحة توجيهه وتعليله، وهو الذي يقتضيه النظر الصحيح ويقع به التوفيق بين الأقوال المختلفة والآراء المتضاربة والله الموفق. وخلاصة ما تقدم: 1- أن الخبر الخاص برؤية الهلال من قبيل الأخبار الدينية فيجب وجوبًا كفائيًا إلى من رآه أو بلغه الخبر بطريق شرعي أن يعلنه قيامًا بالواجب الديني. 2- أن ثبوت الأهلة كلها لا يدخل تحت الحكم قصدًا، وأن حكم القاضي بالنسبة للهلال من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو من قبيل الفتوى. 3- أن أي شهر من الشهور الاثني عشر يثبت شرعًا برؤية هلاله أو بعد الشهر السابق ثلاثين يومًا. 4- أنه يكتفى في ثبوت أي شهر بخبر واحد عدل عدالة رواية في حالتي الغيم والصحو، ما لم يكن تفرده مظنة الغلط أو الكذب فلا بد من عدد تتحقق به غلبة الظن. 5- أنه لا يشترط نصاب الشهادة ولا لفظ: أشهد، ولا تقدم الدعوة ولا مجلس الحكم ولا قضاء قاض ولا أمر وال، إلا أن يكون المقصود بإثبات الشهر حقًا من حقوق العباد، فيشترط فيه ما يقتضيه هذا الحق مما هو مقرر في كتب الفقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 مذهب الشافعية: قال الإمام النووي يجب صوم رمضان بأحد أمرين: الأول: إكمال شعبان ثلاثين يومًا، والثاني رؤية الهلال ليلة الثلاثين منه، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) والراجح أنه يكتفى بعدل واحد في ثبوت هلال رمضان احتياطًا للعبادة، وكذلك يثبت الهلال بشهادة عدل لكل لشهر اشتمل على عبادة كشوال والأضحى بالنظر إلى العبادة فقط، ولا تثبت الرؤية لأي شهر بشهادة العدل بالنسبة لغير العبادة كحلول دين مؤجل وطلاق وعتق علقا به. والراجح عندهم على القول بالاكتفاء بعدل واحد أنه بطريق الشهادة لا الرواية، فلا يقبل فيها قول العبد والأنثى، ويشترط فيها لفظ أشهد، وهي شهادة حسبة لا تفتقر إلى الدعوى، ولكن لا بد في وجوب الصوم على العموم من ثبوتها عند قاض ينفذ حكمه. مذهب المالكية: يثبت رمضان أي يتحقق في الخارج سواء حكم بثبوته حاكم أم لا بأحد أمور ثلاثة: الأول: إتمام شعبان ثلاثين يومًا، وكذا ما قبل رجب أن غم، أي يجب إكمال كل شهر ثلاثين يومًا إذا كانت ليلة الثلاثين متغيمة في كل شهر، وأما إذا كانت السماء مصحية فلا يتوقف ثبوت الهلال على كماله ثلاثين يومًا بل تارة يثبت بذلك إن لم يره الهلال، وتارة يثبت برية الهلال ليلة الثلاثي، فيكون شهر شعبان وغيره تسعة وعشرين يومًا، لا بحسب منجم ومسير قمر على المشهور لأن الشارع أناط الحكم الذي هو ثبوت الشهر بالرؤية أو بإكمال الثلاثين فقال صلى الله عليه وسلم: ((الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له)) وفي رواية ((فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا)) وهي مفسرة لما قبلها. الثاني: رؤية عدلين الهلال، والمراد بهما ما قابل الجماعة المستفيضة فيصدق بالأكثر من العدلين، فكل من أخبره عدلان برؤية الهلال أو سمعهما يخبران غيره وجب عليه الصوم، لا بعدل ولا به وبامرأة، ولا به وامرأتين على المشهور في الكل، خلافًا لابن الماجشون في اشتراط العدلين فإنه قال: "يكفي عدل واحد وخلافًا لأشهب حيث قال: يكفي عدل وامرأة، وخلافًا لابن مسلمة فإنه قال: يكفي عدل وامرأتان، ثم قالوا: ويعم ثبوت رمضان جميع البلاد والأقطار إذا كان ثبوت الشهر بكمال شعبان، ولا يعم إذا كان ثبوته برؤية العدلين إلا إذا نقل شهادتهما عدلان، فكل من نقل إليه خبر العدلين بأخبار عدلين وجب عليه الصوم، ويثبت برؤية العدلين ولو كانت السماء مصحية وفي بلد كبير، وهو قول مالك وأصحابه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 الثالث: رؤية جماعة مستفيضة لا يمكن تواطؤهم عادة على الكذب، كل واحد منهم يخبر عن نفسه أنه رأى الهلال ولا يشترط أن يكونوا كلهم ذكورًا أحرارًا عدولًا. قال المرحوم الشيخ بخيت بعد أن نقل كثيرًا من فروع هذا الباب عن السادة المالكية: ومما نقلناه لك من مذهب المالكية تعلم أن مذهبهم لا يخالف ما قرره أهل الأصل، وعليه فقهاء الحنفية من أهل الأصول والفروع من أن الشهادة في هلال رمضان وهلال شوال من قبيل الإخبار بأمر ديني محض، وأنها من قبيل رواية الأحاديث، وأنهم لم يفرقوا بين هلال الفطر وهلال الصوم، ولم يشترطوا لفظ لشهادة، وإنما اشترطوا الذكورة في العدلين عند من لهم اعتناء على قول، ولم يشترطوا الذكورة ولا الحرية في العدل عند من لهم اعتناء بأمر الهلال، وكل هذا يرشدك إلى أنهم قائلون بأن الشهادة في هلال رمضان من قبيل الخبر الديني الشبيه برواية الحديث. مذهب الحنابلة: جاء في المغني والشرح الكبير والإقناع وشرحه أنه يستحب ترائي الهلال احتياطًا للصوم وحذرًا من الاختلاف، فإن رؤي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان وجب الصوم بلا خلاف، لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته فإن لم ير الهلال ليلة الثلاثين والسماء مصحية أكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا)) ويقبل في هلال رمضان قول عدل وحده، لقبول خبر الأعرابي به، ولأنه خبر ديني وهو أحوط ولا تهمة فيه، ولا فرق بين الغيم والصحو والمصر وخارجه، ولو كان الرائي في جمع كثير ولم يره غيره منهم، وهو خبر لا شهادة، فيصام بقول العدل: رأيت الهلال، ولو لم يقل: أشهد، أو شهدت أني رأيته، ويقبل فيه قول المرأة والعبد كسائر الأخبار، ولا يشترط لفظ الشهادة ولا يختص بحاكم، فيلزم الصوم كل من سمعه من عدل، قالوا: وإذا ثبتت الرؤية هلال رمضان بخبر واحد ثبتت تبعًا للصوم بقية الأحكام من وقع طلاق وعتق معلقين بدخوله، وحلول الآجال لديون مؤجلة به ونحو ذلك كانقضاء عدة وخيار شرط ومدة إيلاء، ولا يقبل في رؤية هلال رمضان خبر مستور ولا مميز لعدم الثقة بخبره، ولا يقبل في بقية الشهور كشوال وغيره إلا رجلان عدلان بلفظة الشهادة، لأن ذلك مما يطلع عليه الرجال غالبًا وليس بمال ولا يقصد به المال فأشبه القصاص، وإنما ترك ذلك في رمضان احتياطًا للعبادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 الفصل الثاني اختلاف مطالع القمر اقتضت الحكمة الإلهية أن يتفرق سكان الأرض على سطحها ليعمروها ويقوموا بخلافة الله فيها، وتبع ذلك بالضرورة اختلاف مواقع البلاد على الكرة الأرضية شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، واقتضى نظام سير الكواكب لا سيما الشمس والقمر اختلافًا وتفاوتًا في مواقيت العبادات المقدرة بشروق الشمس وغروبها وزوالها كالصلوات الخمس والمقدرة بثبوت الأهلة كالصوم، فتشرق الشمس على قوم قبل أن تشرق على آخرين بساعة وساعتين وثلاث ساعات وأكثر من ذلك على حسب التباعد بين الجهتين شرقًا وغربًا، فبينما تكون بلاد في وقت المغرب وحلول الإفطار في رمضان تكون أخرى في وقت الشروق أو الزوال أو العصر لأن كل ساعة من ساعات الليل والنهار هي طلوع الفجر وشروق الشمس وهي وقت الضحى والزوال والعصر والغروب وهي وقت ظلمة الليل أوله ووسطه وآخره على حسب مواقع البلاد، ولذلك لا يمكن أن توحد مواقيت الصلاة اليومية، ولا أوقات الإمساك والإفطار في أيام رمضان في جميع الأقطار الإسلامية ما دامت الأوضاع الكونية قاضية بتفاوت تلك المواقيت وما دام هذا التفاوت هو الواقع المشاهد، وكذلك نفس الاختلاف مطالع القمر مما وقع الاتفاق عليه ولا يمكن جحده أو المكابرة فيه، فإن الثابت واقعيًا وعلميًا والمشاهد حسيًا أن الهلال يرى في بعض البلاد بعد غروب الشمس ولا يرى في بعضها إلا في الليلة التالية، ومعنى هذا أن رؤية الهلال أول شهر قد تكون متيسرة لبعض الأقطار دون البعض، فاختلاف مطالع القمر أمر واقعي مشاهد وظاهرة كونية لا جدال فيها، لكن الذي اختلفت فيه أنظار الفقهاء هو أنه: هل لهذا الاختلاف في المطالع تأثير في ثبوت الأهلة والأحكام المتعلقة بها كالصوم والإفطار والحج والأضحية؟ أو أنه لا عبرة باختلاف المطالع؟ فإذا ثبت الهلال في أي بلد إسلامي ثبت في حق جميع المسلمين إذا بلغهم ثبوته بطريق موثوق بصحته لا خلاف لأحد في أن اختلاف مطالع الشمس معتبر شرعًا في الأحكام الشرعية المتعلقة بها، وجرى العمل بمقتضى ذلك من مبدأ الإسلام في أوقات الصلوات الخمس والإمساك والفطور ولكنهم اختلفوا بعد ذلك اختلافًا كثيرًا في اعتبار مطالع القمر وعدم اعتبارها، ولعل ذلك لأن الشارع أناط الحكم في الأوقات بوجودها، قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقال صلى الله عليه وسلم: ((وقت الظهر إذا زالت الشمس)) ومعلوم أنه ما من حركة تتحركها الشمس إلا وهي فجر عند قوم، وزوال عد قوم وغروب عند قوم وليل عند قوم لذلك أجمع العلماء في أوقات الصلوات على أن المعتبر عند كل قوم فجرهم وزوالهم وغروبهم ولا يلزمهم حكم غيرهم، أما الأهلة فقد أناط الشارع الحكم فيها برؤيتها، قال تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقال صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته)) والخطاب في الآية والحديث لعامة المسلمين، وليس معنى شهود الشهر رؤية هلاله من كل مكلف فليست رؤية المكلف الهلال شرطًا لوجوب الصوم إجماعًا، ألا ترى أن في الناس من هو أعمى أو ضعيف البصر، ومن لا يتيسر له الرؤية لأي سبب مع أن الوجوب مقرر على الجميع إجماعًا لا يتصور في ذلك خلاف، كما وقع الإجماع على أن التماس الهلال ليس فرض عين، ولو كانت الرؤية شرطًا لوجب على كل أحد أن يرى الهلال، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كما هو مقرر في الأصول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 وإذا فالمعنى، من أدرك رمضان وعلم بثبوته وهو أهل التكليف وجب عليه الصوم، وأيضًا يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته)) صوموا إذا رئي الهلال، حيث جاء الخطاب فيه عامًا للمكلفين ولم يذكر فاعل الرؤية مما يدل على أنه يكتفي برؤية البعض وهذا فعله النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمر الناس بالصيام لرؤية الأعرابي وكذلك لرؤية ابن عمر. وكان من موجبات الإجماع على الاكتفاء برؤية البعض ألا يقع خلاف في اعتبار اختلاف مطالع القمر وعدم اعتباره، لكن اتساع الرقعة الإسلامية وبُعْدَ ما بين دولها وعدم التمكن فيما سلف من تبليغ المسلمين في الأقطار المتباعدة بثبوت الهلال، جعل بعض العلماء يفهمون الآية والحديث متأثرين بقوله {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} على اعتبار أن لكل بلد رؤيته هو، لا يكلف برؤية بلد آخر يختلف مطلعه، كما أن لكل بلد شروقه وغروبه وصبحه ومساؤه وظهره وعصره، وسنقص عليك أقوالهم وحجة كل منهم، ونختتم ذلك ببيان الرأي الراجح الذي يستنده الدليل وتدعمه الحجة. مذهب الحنفية: ظاهرة مذهب الحنفية كما قال صاحب الدر المختار: إنه لا عبرة باختلاف المطالع فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب، وذلك لأن عموم الخطاب في قوله: صوموا معلق بمطلع الرؤية في قوله لرؤيته، وبرؤية قوم يصدق بهم اسم الرؤية فيثبت ما تعلق به عموم الحكم فيعم الوجوب بخلاف الزوال والغروب فإنه لم يثبت على عموم الوجوب بمطلق مسماه في خطاب من الشارع، وعلى هذا الرأي أكثر المشايخ وهو الذي عليه الفتوى، وقيل يعتبر اختلاف المطالع لأن السبب الشهر وانعقاده في حق قوم الرؤية لا يستلزم انعقاده في حق آخرين مع اختلاف المطالع، وهذا هو الذي اختاره الزيلعي حيث قال: والأشبه أن يعتبره؛ لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم وانفصال الهلال عن شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار، كما أن دخول الوقت وخروجه يختلف باختلاف الأقطار، حتى إذا زالت الشمس في المشرق لا يلزم منه أن تزول في المغرب، وكذا طلوع الفجر وغروب الشمس بل كلما تحركت الشمس درجة فتلك طلوع فجر لقوم وطلوع شمس لآخرين وغروب لقوم ونصف لليل لغيرهم، وحاصله قياس اختلاف مطالع القمر على اختلاف مطالع الشمس وسنين فيما بعد أن هذا قياس مع الفارق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 مذهب المالكية: وكذلك اختلف علماء المالكية في اعتبار اختلاف مطالع القمر وحكوا في ذلك ثلاثة مذاهب: الأول: أنه لا عبرة باختلاف المطالع مطلقًا قربت البلاد أو بعدت: قال الحطاب في مواهب الجليل: إن الحكم بثبوت رمضان يعم كل من نقل إليه إذا نقل بشهادة عدلين أو باستفاضة، وسواء كان ثبوته عند حاكم عام كالخليفة أو خاص كالأمر والقاضي على المشهور. الثاني: أنه يعتبر اختلاف المطالع إذا ثبتت الرؤية عند حاكم خاص، فإنه لا يعمل الحكم إلا من في ولايته فقط، قال الحطاب: إذ كانت الشهادة عند حاكم خاص فلا تعم إلا في ولايته، حكى هذا الرأي عن عبد الملك بن الماجشون. الثالث: يعتبر اختلاف المطالع بالنسبة للبلاد البعيدة جدًا كالأندلس من خراسان، قال الحطاب: تلبيه قال ابن عرفة قال أبو عمر (يعني ابن عبد البر) : أجمعوا على عدم لحوق حكم لرؤية ما بعد، كالأندلس من خراسان وقال ابن الجزي في القوانين الفقهية: ولا يلزم في البلاد البعيدة كالحجاز والأندلس إجماعًا. ومقتضى ما ذكره خليل في مختصره من أنه يقتصر فيه على ما به الفتوى، وقول الحطاب لأن عدم اعتبار اختلاف المطالع هو المشهور في المذاهب أن هذا القول معتبر وما عداه لا ينهض ولا يقاوم ما هو المشهور من عليه الفتوى، ودعوة ابن عبد البر الإجماع على ما ارتضاه لا تصح، لمعارضتها بشهرة خلافه ولم يعتمد المذهب إجماعات ابن عبد البر واتفاقات ابن رشد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 مذهب الشافعية: وكما اختلف الحنفية والمالكية في اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتبارها اختلف الشافعية، قال الإمام النووي: المسألة الثالثة إذا رأوا الهلال في رمضان في بلد ولم يروه في غيره، فإن تقارب البلدان فحكمها حكم بلد واحد بلا خلاف، وإن تباعدا فوجهان مشهوران أصحهما لا يجب الصوم على أهل البلاد الأخرى، والثاني: يجيب، والصحيح الأول، فيما يعتبر به البعد والقرب ثلاثة أوجه: أصحها أن التباعد باختلاف المطالع كالحجاز والعراق وخراسان، والتقارب لا يختلف كبغداد والكوفة والري وقزوين، والثاني: أن الاعتبار باتحاد الإقليم واختلافه فإن اتحد فمتقاربان وإلا فمتباعدان، والثالث: أن التباعد مسافة القصر والتقارب دونها، ثم قال: هذا الذي ذكرته هو المشهور للأصحاب في الطريقين، وانفرد الماوردي والسرخسي بطريقين آخرين، وبعد أن ذكرهما قال: فحصل في المسألة ستة وجوه: أحدها: يلزم أهل الأرض برؤيته في موضع منها. الثاني: يلزم أهل إقليم بلد الرؤية دون غيرهم. الثالث: يلزم كل بلد يوافق بلد الرؤية في المطلع دون غيره، وهذا أصحها. الرابع: يلزم كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم بلا عارض دون غيرهم. الخامس: يلزم من دون مسافة القصر دون غيرهم. السادس: لا يلزم غير بلد الرؤية. قال تقي الدين بن السبكي في رسالته العلم المنشور في إثبات الشهور: والقول بأن لكل بلد رؤيته على إطلاقه ضعيف، روى سعيد بن منصور في مصنفه بسند صحيح إلى أبي عمير بن أنس قال: أخبرني عمومة لي من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: غم علينا هلال شوال فأصبحنا صياما فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا، ثم يخرجوا لعيدهم من الغد، وفي رواية: قدم أعرابيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان فشهدوا عنده بالله لإهلال الهلال بالأمس عشية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا، واعتبار مسافة القصر في هذا المحل ضعيف، واعتبار كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم جيد، واعتبار الإقليم ضعيف، وألزم جميع البلاد إذا رئي في بلد ضعيف جدًا، لأن عمر بن الخطاب وسائر الخلفاء الراشدين لم ينقل أنهم كانوا إذا رأوا الهلال يكتبون إلى الآفاق، ولو كان لازمًا لهم لكتبوا إليهم لعنايتهم بأمور الدين لأنا نقطع بأنه قد يرى في بعض البلاد في وقت لا يمكن رؤيته في بلد آخر، كما أنا نقطع بأن الشمس تغرب في مكان قبل أن تغرب في غيره، وأجمع العلماء في أوقات الصلوات على أن المعتبر عند كل قوم فجرهم وزوالهم وغروبهم ولا يلزمهم حكم غيرهم، فكذلك الهلال بالقياس عليه، بأن الله لا يخاطب قومًا إلا بما يعرفونه مما هو عندهم وسنناقش هذه الحجج الثلاث في نهاية البحث إن شاء الله. مذهب الحنابلة: جاء في المغني والشرح الكبير ص 7 جزء ثالث فصل: "وإذا رأى الهلال أهل البلد لزم جميع البلاد الصوم" وهذا قول الليث وبعض أصحاب الشافعي، وبعد أن ساق استدلال المخالفين بحديث كريب قال: ولنا قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي لما قال له: آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: ((نعم)) ، وأجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان، وقد ثبت أن هذا اليوم من شهر رمضان بشهادة الثقات، فوجب صومه على جميع المسلمين ولأن شهر رمضان من بين الهلالين، وقد ثبت أن هذا اليوم منه في سائر الأحكام من حلول الدين ووقوع الطلاق والعتاق ووجوب النذر وغير ذلك من الأحكام فيجب صيامه بالنص وبالإجماع، ولأن البينة العادلة شهدت برؤية الهلال، فيجب الصوم كما لو تقاربت البلدان فأما حديث كريب فإنما يدل على أنهم لا يفطرون بقول كريب وحده ونحن نقول به، وإنما محل الخلاف وجوب قضاء اليوم الأول، وليس هذا في الحديث اهـ. وقد أجاب القاضي عن قول المخالف: "الهلال يجري مجرى طلوع الشمس وغروبها وقد ثبت أن لكل بلد حكم نفسه فيهما فكذا الهلال" بأن تكرر مراعاتها في ككل يوم تلحق به المشقة فتؤدي إلى قضاء العبادات، وهلال رمضان في السنة مرة واحدة فليس كبير مشقة في قضاء يوم، ودليل المسألة من الصوم يقتضي التسوية (يعني به جميع البلاد) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 مذهب الشيعة الإمامية والزيدية: اختلف فقهاء الشيعة الإمامية وكذلك علماء الزيدية في اعتبار اختلاف المطالع في ثبوت هلال رمضان، فظاهر كلام الحلي أن اختلاف المطالع معتبر فلا يعم ثبوت الشهر برؤية من اختلف مطلع بلد عن بلد الرؤية كما ذكره العاملي في الحبل المتين في أحكام الدين وهو مذهب الهادوية والإمام يحيى من الزيدية، بل لا يعم عنده في الإقليم الواحد والجهة الواحدة إن اختلفت ارتفاعًا وانحدارًا كما في البحر الزخار، وقال الصنعاني في سبل السلام: والأقرب لزوم بلدة الرؤية وما يتصل بها من الجهات التي على سمتها واختار المهدي وجماعة من الزيدية تعميم الحكم والشهادة بالرؤية جميع البلاد وقال الشوكاني: وهو الذي ينبغي اعتماده وذهب إليه جماعة من الإمامية. وبعد أن استمعنا إلى آراء علماء المسلمين وحججهم ومناقشاتهم لا يسعنا ترجيح القول بعدم اعتبار اختلاف المطالع لا لأن هذا هو ما تصبو إليه نفوس كثير من العلماء والمصلحين حتى تتوحد كلمة الأمة الإسلامية، ولا لأن القائلين به هم الكثرة الغالبة وهم الجمهور ولكن لأن سنده من الكتاب والسنة قوي متين وشبه المخالفين مردودة، وذلك لأنها تنحصر في أربعة. أولها: حديث كريب وقد سمعت رد الحنابلة على من استدل به فلا نعيده. ثانيها: ما قاله السبكي من أن عمر والخلفاء الراشدين لم يكتبوا إلى الآفاق بثبوت الرؤية لأنهم حريصون على أمر الدين، والرد على السبكي أنهم لن يكتبوا لصعوبة المواصلات في زمنهم فقد لا يتيسر وصول المكتوب إلا بعد انقضاء رمضان، فلم يعم ثبوتها جميع البلاد لتعذر بلوغهم الخبر إذ ذاك، وكلامنا فيما لو أمكن تبليغ جميع البلاد ثبوت الرؤية إثر ثبوتها بحيث تصل إليهم وهم في ليلة الشهر الجديد قبل طلوع الفجر كما هو متيسر الآن بواسطة الإذاعة واللاسلكي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 ثالثها: ما قاله السبكي وغيره من قياس اختلاف مطالع القمر على اختلاف مطالع الشمس وقد سمعت رد القاضي من الحنابلة على هذه الحجة، من أنه إنما اعتبر اختلاف مطالع الشمس لئلا يلزم الحرج وتؤدى العبادات قضاء ولا يلزم من عدم اعتبار اختلاف المطالع القمرية أي حرج، لأنه ليس في السنة إلا رمضان واحد، ولا يلزم من التوحيد في الأزمان السابقة إلا قضاء اليوم الأول الذي لم يروا الهلال فيه ولا حرج في ذلك، أما في أزماننا هذه فلا يلزم شيء أبدًا، لأنه من المتيسر جدًا بعد الاختراعات الحديثة تبليغ ثبوت الرؤية في لمح البصر، وقبل أن يطلع النهار الجديد في أي بلد إسلامي مهما كان نائيًا عن بلد الرؤية. فقد ثبت علميًا أنه ليس بين أي بلدين إسلاميين في مشارق الأرض ومغاربها أكثر من تسع ساعات فلكية، فإذا ثبتت رؤية الهلال في مراكش وهي أقصى بلد في المغرب لإنه من الممكن أن يبلغ ثبوت رؤية الهلال لأقصى بلد في المشرق بعد مرور تسع ساعات من غروب الشمس عندهم أي قبل طلوع الفجر عندهم بنحو ساعة ونصف، لأن الليل عندهم دائما اثنتا عشرة ساعة، لأنهم على خط الاستواء تقريبا وهذا القدر الباقي من الليل كافٍ لإثبات أنهم في أول ليلة من رمضان وكذلك هو كاف لتبييت النية والسحور بدون حرج ولا مشقة، هكذا قال أهل الذكر والعهدة عليهم، والله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . رابعها: ما قاله السبكي أيضًا من أن الله لم يخاطب قومًا إلا بما يعرفونه عندهم، والخطب في هذه الحجة سهل، وذلك لأنا نقول بموجبها أننا لم نقل بثبوت الهلال في حق من لم يروه من أهل البلاد النائية عن بلد الرؤية إلا إذا بلغهم خبر تلك الرؤية بطريق موثوق به وما دامت رؤية كل فرد من أفراد المكلفين ليست شرطًا لثبوت الهلال وما يتعلق به من الأحكام في حقه إجماعًا، بل الشرط العلم بها بمعنى غلبة الظن بأي طريق يقيد ذلك، فلا مناص من ترجيح القول بعدم اعتبار اختلاف المطالع، وأنه متى ثبتت الرؤية عند قوم عم ثبوتها جميع أهل الأرض متى نقلت إليهم وعلموا بها بأي طريق من طرق الإعلام ولو أنه تيسر للخلفاء والولاة في صدر الإسلام ما هو متيسر الآن من إذاعة الأخبار في جميع أنحاء المعمورة في أقل من لمح البصر ما ترددوا في إبلاغ ثبوت الأهلة إلى جميع الولايات الإسلامية، ليتوحد مظهرهم الديني ويتفقوا في بدء الصيام والإفطار وسائر أعيادهم ومواسمهم الدينية. وجملة القول أنه ما دامت مسألة اختلاف المطالع القمرية من حيث اعتبارها أو عدم اعتبارها محل اجتهاد الفقهاء، ذلك الاجتهاد الذي اختلفت فيه أنظارهم فلا يكون بدعًا أن يرجح أحد النظرين على غيره، وينفصل في المسألة بعدم التعويل على اختلاف المطالع لما قدمنا من أسباب الترجيح، وقد علمت أن هذا هو قول جمهور العلماء من أئمة الفقه في المذاهب الأربعة وغيرها، قال ابن عابدين في رسالته تنبيه الغافل والوسنان: وأنه لا عبرة باختلاف المطالع في الأقطار إلا عند الشافعي ذي العلم الزاخر ما لم يحكم به حاكم يراه، فيلزم الجميع العمل بما أمضاه، كما ذكره ابن حجر وارتضاه، وقال: لأنه صار من رمضان بموجب الحكم ومقتضاه. اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 وبما نقلنا عن ابن عابدين من أن الإمام الشافعي يوافق الأئمة الثلاثة فيما إذا ثبتت الرؤية عند حاكم يرى أن لا عبرة لاختلاف المطالع، فأمر به وأبلغه إلى أهل المطالع الأخرى كما حكاه عنه ابن حجر وارتضاه، يتقرر إجماع الأئمة الأربعة على أن اختلاف مطالع القمر لا يعتبر شرعًا إذا نقل حكم الحاكم الشرعي ببدء الشهر ووجوب الصيام والإفطار والحج والأعياد، ومن الخير أن ننقل هنا بعض ما كتب الأستاذ الشيخ محمد أبو العلا البنا، مدرس الفلك بكلية الشريعة بجامعة الأزهر، بصدد بيان أن العلوم الفلكية تؤيد توحيد أول الشهر الشرعي بين الحكومات الإسلامية. قال: إن جميع الحكومات الإسلامية تقع ما بين شاطئ آسيا الشرقي وشاطئ إفريقيا الغربي أعني من خط 120 شرق جرينتش إلى خط 15 غرب جرينتش مقدار 9 ساعات من24 تتم دورة اليوم بقسميه الليل والنهار حول الأرض من الشرق إلى الغرب. إذا علمنا ذلك تأكدنا أن بدء الدورة اليومية الإسلامية من هذا الخط يكون طبيعيًا بالنسبة لبدء حكومات الإسلام من جهة الشرق، فتجتمع كلها في يوم واحد دون تفرقة، إذ يبدأ اليوم الأسبوعي والتاريخ للعالم الإسلامي كله من أبعد البلاد الإسلامية شرقًا وهي الفلبين وأندونيسيا والملايو قبل جرينتش بـ 8 ساعات وقبل العراق والباكستان بـ 5 ساعات، وقبل مصر والسودان بـ 6 ساعات، وقبل تونس بـ 7 ساعات، وقبل مراكش التي هي أبعد البلاد الإسلامية غربًا بـ 9 ساعات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 ومعلوم أن تأخير إعلان وجوب الصيام أو الإفطار بقدر هذه الأجزاء من اليوم لا يقدح في مشاركة جميع الحكومات في نفس اليوم والتاريخ بمعنى أنه لو فرض أن الهلال لم يتكامل ليصلح للرؤية إلا في مراكش آخر الحكومات الإسلامية جهة الغرب وفيها رئي وشهدت الشهود وأثبت قاضيها الشهر وأبرقت حكومتها بذلك إلى جميع الحكومات شرقًا وهي الفلبين وأندونيسيا والملايو بعد المغرب فيها بنحو 9 ساعات بمعنى إن إذاعة الرؤية وبثبوت الشهر من مراكش عقب مغربها إنما تسمع في أندونسيا بعد مغربها هي بتسع ساعات أي قبل شروق الشمس فيها بثلاث ساعات، ضرورة أن ليلها دائمًا 12 ساعة، لوجودها على خط الاستواء تقريبًا أي قبل الفجر عندهم بنحو ساعة ونصف ساعة ومعلوم أن هذه المدة كافية لما يلزمهم من سحور وعقد النية على صيام هذا اليوم مع مراكش، وأما غير أندونيسيا من كل حكومة شرق مراكش كالعراق ومصر والجزائر فمن باب أولى. وأما وحدة هذا اليوم في باقي بلاد الدورة من سطح الأرض كأمريكا فأمرها ظاهر، إذ أنهم وقت هذه الإذاعة من مراكش كانوا في عصر اليوم السابق أو في ظهره أو في شروقه مثلًا، وحينئذ يستقبلون هذا اليوم الجديد من أوله دون تغيير في اسمه أو في تاريخه. وأما أهل البلاد القطبية التي تنعدم فيها علامات أوقات الصلوات اليومية لدوام النهار أو الليل أكثر من 24 ساعة في بعض السنة، فيدقون بدء الشهر عندهم بزمن مبدئه في العواصم المشهورة على خطوط أطوالهم كخط طول القاهرة مثلًا، فالبلاد القطبية التي عليه تجعل مبدأ الشهر عندها كأهل القاهرة، إما من ساعة المغرب في أقرب البلاد المعتدلة إليهم، وإما من ساعة المغرب لخط الاستواء، أعني رجوعهم إلى أعدل الأيام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 الفصل الثالث طرق إثبات الشهر بالحساب الفلكي من المفيد قبل أن ننقل آراء أئمة الفقه الإسلامي في صحة الاعتماد على الحساب الفلكي وبيان الراجح منها، أن نبين أنواع الحساب الفلكي حتى نحرر محل النزاع، ونبين الحساب الذي هو مراد لمن قال بجواز الاعتماد على الحساب، ومما لا شك فيه أن الأشهر القمرية هي أجزاء السنة العربية القمرية التي تنقسم إليها دورة القمر باعتبار انتقالاته في منازله واجتماعه مع الشمس تارة ومفارقته لها تارة أخرى، فباعتبار انتقالاته في منازله تتغير أحواله ويختلف نوره زيادة ونقصًا ويجتمع مع الشمس ويفارقها اثنتي عشرة مرة، ليتكون منها اثنا عشر شهرًا قال تعالى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} ويتم انتقال القمر في منازله ويقطع دورته في فلكه اثنتي عشرة مرة في السنة، فإذا اكتمل له اثنتا عشرة دورة اجتمع مع الشمس اثنتي عشرة مرة وتكونت السنة القمرية التي اعتبرها الشارع، وجعلها مدار الآجال الشرعية كتأجيل العنين وسن اليأس للنساء وغير ذلك، كما قال تعالى {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} ولما كانت السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يومًا وخمس يوم وسدس يوم، وعدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، فقد انقسم الفلكيون في تقدير الشهر إلى ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: تجعل الأشهر من الوضع الاجتماعي للشمس والقمر إلى مثله، فإن القمر: يجتمع كما قلنا مع الشمس في كل شهر مرة فإذا فارقها فهو أول الشهر عندهم إلى أن ينتهي إلى مثل تلك الحالة، وقد يكون أثناء النهار، وقد يكون في أثناء الليل والشهر عند هؤلاء دائمًا تسع وعشرون وكسر نتيجة لقسمة عدد أيام السنة على 12، وهذا الطريق ألغاه الإسلام حيث قال الله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} . ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((الشهر هكذا وهكذا وهكذا)) وعقد الإبهام في الثالثة، هكذا وهكذا وهكذا يعني تمام ثلاثين، يعني أن الشهر تارة يكون 29 يومًا وتارة يكون 30 يومًا لا يخرج عن هذين الأمرين ((فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) فاعتبر الرؤية فقط، بدليل قوله في أول هذا الحديث ((إنا أمة لا نكتب ولا نحسب)) فناط الحكم الشرعي بأمر مشاهد يتفق فيه الخاصة والعامة وجعل ما بعد مفارقته الشمس إلى تمام تسع وعشرين إن رئي الهلال، أو إلى تمام ثلاثين إن لم ير من الشهر الأول، وسواء رأيناه ليلة الثلاثين أو أكملنا ثلاثين فأول الشهر غروب الشمس من إحدى ليلتين، قال السبكي: واستفيد ذلك من إشارته صلى الله عليه وسلم وقول الراوي عنه عشرًا وعشرًا وتسعًا، فإنه يقتضي دخول الليالي في حكم الأيام لأن حذف التاء يدخل على اعتبار الليالي وهي الأصل في التاريخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 الطريقة الثانية: أن يجبروا كسر اليوم كلما زاد على نصف يوم فيصير المحرم 30 يومًا وصفر 29 وربيع الأول 30 وكذا على التوالي، ويسمى بالسير الوسطي الاصطلاحي، ومن هؤلاء من يبني تقويمه على جداول قديمة ويجعل المحرم وربيع الأول ورجب ورمضان وذا القعدة ثلاثين يومًا باستمرار، ويجعل باقي الأشهر تسعة وعشرين يومًا أبدًا إلا في السنة الكبيسة فيجعل ذا الحجة ثلاثين يومًا قال السبكي: وعلم الحساب يقتضي لأجل الكسر الذي ذكرناه في عدة أيام السنة القمرية وتكميله تارة أن تكون الأشهر الكاملة في السنة ستة والناقصة مثلها، وتارة أن تكون الكاملة سبعة والناقصة خمسة، فلا تكون الناقصة أكثر من ستة ولا الكاملة أكثر من سبعة، هذا أمر مقطوع به في علم الهيئة وليس في الشعر ما يرده، ومن المقرر عند الفلكيين أن الشهر بالوضع الاجتماعي الحقيقي يتقدم الشهر بالوضع الهلالي (من الرؤية إلى الرؤية) بيوم على الأقل وبيومين على الأكثر. وبعض علماء الفلك يبني تقويمه على حسابات الرصد، ولكنه يضم إلى ساعة الاجتماع ساعات يمكن أن يرى فيها الهلال اختلفوا في تقديرها، قال الشيخ طنطاوي جوهري: كذلك الحاسبون وإن اتفقوا تقريبا في زمن الاجتماع فهم يختلفون في تقدير الساعات التي تمر من حين الاجتماع إلى الرؤية من 4 درجات إلى 12 درجة، وهي التي يقطعها القمر مبتعدًا عن الشمس صوب المشرق في نحو 20 ساعة ونقل الشيخ محمد أبو العلا البنا عن الشيخ محمد بن جابر البناني أن القدماء -يعني اليونانيين قبل الإسلام- ما تكلموا في رؤية الهلال إلا بالقول المطلق، وهو أنه لا يمكن رؤيته لأقل من يوم وليلة، وعلق عليه بقوله: ومعلوم أن سبق القمر للشمس في ساعة يساوي نصف درجة تقريبًا وعليه فقول القدماء أن بين الاجتماع والهلال 24 ساعة أو يومًا وليلة يساوي قول من قال بعدهم 12 ساعة، ثم نقل عن ابن سينا أن القمر لا يرى ألبته حتى يكون بينه وبين الشمس 12 درجة، وما كان دون ذلك لا يرى أو هو تحت شعاع الشمس فلا تلحقه الأبصار. والخلاصة: أن الوضع الهلالي لا يسبق الوضع الاجتماعي بل إن الوضع الاجتماعي يتقدم على الهلالي بيوم أو بيومين إذ إن القمر بعد مفارقته الوضع الاجتماعي لا بد أن يسبق الشمس بمسافة يتحول فيها نوره إلى جهة الأرض، فيرى حرف منه بعد غروب الشمس وهو الهلال، وهذا السبق يقدر بنحو 12 درجة تقريبًا تحتاج إلى مضي نحو 24 ساعة. وأما العرب فكان بعضهم يعرفه برؤية الهلال نفسه، أو بمراقبة النجوم دون أن يعرف له أي حساب، وبعضهم كان يعرفه بالحساب الوسطي دون جبر الكسر فيكون الشهر 29 يومًا وكسرًا دائمًا وبعضهم كان يجبر الكسر كما قدمنا، كما كانت هذه المعرفة تقريبية لا تحديدية عندهم جميعًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 قال ابن السبكي في رسالته العلم المنشور: وقالوا (علماء الفلك والهيئة) إذا كان قوس الرؤية ست درجات وقوس النور تسعًا وقوس المكث تسعًا استحالت الرؤية عادة، وإذا زادت كل واحدة من الثلاثة درجة أمكنت بعسر، وكلما حصلت الزيادة قوي الإمكان، وقال الشيخ طنطاوي جوهري في رسالته (الهلال) وهو بصدد الإجابة عن السؤال الثاني وهو (القمر بعد الاجتماع في كم ساعة يرى هلالًا) : ولما قابلت الشيخ أحمد موسى الزرقاوي وكلمته في هذا الأمر قال: بعض الفلكيين الذين وقعت كتبهم في أيدينا كابن الشاطر قالوا: لا يمكن أن يرى الهلال إذا مكث بعد غروب الشمس نحو 50 دقيقة ويكون درج الشمس بنحو 12 درجة، قال: ومن المعلوم أن القمر يقطع الدرجة الواحدة في ساعة واحدة و 49 دقيقة، فيكون ابن الشاطر لا يعتمد رؤية الهلال إلا بعد الاجتماع بـ 48 ق 21 س، وخالفه ابن يونس المصري والسلطان ألفي بك السمرقندي والجمهور، فقالوا: إنه يرى بعد مبارحة الشمس بست درجات ومكث الهلال نحو 25 دقيقة ثم قال لي: وعندي أنه متى فارق الشمس به نحو 4 درجات ومكث نحو 16 دقيقة أمكنت الرؤية. أقول: وقد جاءني من مرصد حلوان أنه تمكن رؤيته بـ 12 درجة فلكية، ولا يقل الزمن عن عشرين ساعة فتكون أقوال علماء الفلك هكذا: ق س المرصد الفلكي بحلوان.. 20 ابن الشاطر 49 41 السلطان ألفي بك 54 10 الزرقاوي المصري 16 07 الفلكيون الروسيون 32 14 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 ثم قال: وقد ظهر أن الاعتبار في هذا مختلف من 4 إلى 12 درجة، والحق أنه يختلف باختلاف البقاع والزمان من صيف وشتاء وربيع وخريف، ولنرجح قول ابن الشاطر والمرصد الفلكي المصري، وقد نحا نحوها القلقشندي لأن صاحب الشرع أمر بالاحتياط في هذا المقام. وقد أطلنا بذكر اختلاف علماء الفلك والحساب أصحاب التقاويم القديمة والحديثة {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} ويتبين الحق من الباطل، ولتعلم أن الخير فيما ارتضاه الشارع الحكيم: أن الشهر من الرؤية إلى الرؤية، وأن العبرة بالوضع الهلالي لا بالاجتماع الحقيقي الذي يتقدم به الشهر يومًا أو يومين، ولا بالاجتماع الوسطي الذي يجعل الأشهر الأولى 30 يومًا والثانية 29 لأن ذلك حساب تقريبي فقد ثبت بالرصد أنه قد تتوالى أربعة أشهر ثلاثين، وثلاثة أشهر 29 ولا يتوالى أكثر من ذلك بحساب الرصد. وقال الشيخ أبو العلا في جواب السؤال الآتي: ما نوع الحساب المتبع في النتائج المصرية؟ إن حساب الشهور القمرية العربية المتبع نشرها في نتيجة الحكومة المصرية التي تحررها مصلحة المساحة، وغيرها كنتيجة الحلبي والزغبي والجنايني وغيرهم، مبني على (الوضع الاجتماعي) بمعنى أن يجعل فيه أول الشهر الليلة التي تلي الاجتماع مباشرة، وإن لم يمكث القمر فيها على الأفق بعد غروب الشمس غير دقيقة واحدة، وهذا الحساب الفلكي الاجتماعي كان هو المتبع لمعرفة أوائل الشهور القمرية في الأديان المتقدمة على الإسلام، كما كان معروفًا عند الأولين منهم بطريق تقريبية كطريق الأوساط عند المنجمين منهم، والمنازل عند العرب، وكانوا لا يبالون بأن هذه الطرق التقريبية تقدم الشهر يومًا أو تؤخره عن الاجتماع الحقيقي، وهي وإن أحكمت قواعدها بعد حتى صارت تنتج الاجتماع الحقيقي بالضبط إلا أن هذه الأحكام لم يخرجها عن دائرة النسخ الذي طرأ عليها في الإسلام باعتماد (الوضع الهلالي) بدل (الوضع الاجتماعي) بقوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) وليس أدل على أن المساحة تلتزم في حسابها لنتيجة الحكومة بدء الشهر بالوضع الاجتماعي من اعترافها نفسها في مبدأ هذه النتيجة بقولها: ويبدأ الشهر العربي من ليلة الاستهلال: وينتهي باستهلال الشهر التالي ويتعين الاستهلال شرعًا برؤية الهلال، ولما كانت رؤيته تتوقف على أمور متغيرة كعرض القمر، وحالة الجو، ودقة الهلال، ومقدار نوره، وغير ذلك، والحساب لا بد من أن يكون مبنيًا على أساس ثابت لذا اعتمد الحاسبون في تعيين أول الشهر على اجتماع الشمس والقمر، فإذا ما وقع الاجتماع كانت أول ليلة يغرب فيها القمر بعد غروب الشمس هي أول الشهر، وما قبلها يكون من الشهر الماضي، وهذا هو المتبع في حساب الشهور العربية في هذه النتيجة، وقد تتفق الرؤية مع الحساب، وقد يتقدم الحساب على الرؤية بيوم في الأكثر وبيومين في الأقل، ولا يمكن أن تتقدم الرؤية على الحساب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 وقد حصر فقهاء الشريعة الإسلامية صفات القمر ليلة الثلاثين من الشهر الهلالي في ثلاث حالات بالاتفاق مع الفلكيين الشرعيين علماء الرصد والهيئة: أولها: تقطع فيها بوجود القمر فوق الأفق الغربي بعد غروب الشمس عقب الاجتماع مع القطع بامتناع رؤيته، وهنا يرد القاضي شهادة الرؤية، قال السبكي: وأجمع المسلمون فيما أظن على أنه لا حكم لما يقوله الحاسب من مقارنة القمر للشمس إذا كان غير ممكن الرؤية لقربه منها، سواء أكان ذلك وقت غروب الشمس أم قبله أم بعده. ثانيها: يقطع فيها بوجود القمر كذلك مع جواز رؤيته، وهنا يقبل القاضي شهادة الرؤية. ثالثها: يقطع فيها بوجوده كذلك ورؤيته معًا، بأن يبين الحساب الموثوق به أن الهلال واضح وضَّاء، وهنا محل خلاف العلماء في اعتماد الحساب مناطًا لإثبات الشهر عند الإغمام. ومما لا شك فيه أن الفلكيين الشرعيين في النهضة العلمية الإسلامية استعملوا قواعد حسابية مبرهنة، لمعرفة كل حالة من هذه الحالات للهلال في أول كل شهر، حتى مقادير نوره ونسبتها إلى البدر، وفتحة قوسه نحو الشمال أو الجنوب أو الأعلى، ومقدار مكثه وارتفاعه عن الأفق، وغير ذلك مما يحدد كل حالة من هذه الحالات الثلاث، ما يصحح الاعتماد على حساب الوضع الهلالي الحقيقي في إثبات كل من الحالات الثلاث بشروط: الأول: أن يكون من النوع الهندسي التحديدي المبرهن. الثاني: أن ينتج إحدى حالات الرؤية الثلاثة - الاستحالة والإمكان والوجوب- بحدودها وشروطها. الثالث: أن يتفق على استخراج هذه النتيجة عدد من الحاسبين يؤمن تواطؤهم على الخطأ بحيث يثق القضاء بها ولو ظنًا، ليتمكن من تطبيق حكمه عليها من رد الشهادة أو قبولها أو اجتهاده بثبوت الشهر. وبعد أن نقلنا إليك طرفًا من أقوال المنجمين والحسابين وأصحاب التقاويم قديمًا وحديثًا في تحديد أوائل الشهور العربية نسمعك آراء أئمة الفقه في صحة الاعتماد على الحساب الفلكي لنخلص بعد ذلك إلى ما هو أقرب إلى الحق وأشبه بالصواب في هذا الباب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 الفصل الرابع في بيان آراء العلماء في الاعتماد على الحساب مذهب الحنفية: قال الشرنبلالي في مراقي الفلاح: واتفق أصحاب أبي حنيفة إلا النادر على أنه لا اعتماد على قول المنجمين في هذا، وجاء في الفتاوى الهندية: هل يرجع إلى قول أهل الخبرة والعدول ممن يعرف علم النجوم؟ الصحيح أنه لا يقبل ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه، وقد حكى صاحب القنية في هذا الشأن أقوالًا ثلاثة، فنقل أولًا عن القاضي عبد الجبار وصاحب جمع العلوم أنه لا باس بالاعتماد على قولهم، ونقل ثانيًا عن ابن مقاتل: أنه كان يسألهم ويعتمد على قولهم إذا اتفق عليه جماعة منهم، ونقل ثالثًا عن شرح السرخسي: أنه بعيد. مذهب الشافعية: قال الباجوري في حشيته على ابن القاسم الغزي: ولا يجب الصوم بقول المنجم وهو من يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني، لكن له بل عليه أن يعمل بقوله وكذلك من صدقه، ومثل المنجم الحاسب وهو من يعتمد منازل القمر في تقدير سيره، وقال شمس الدين الرملي: للحاسب أن يعمل بحسابه ويجزيه عن فرضه على المعتمد، وإن وقع في المجموع عدم إجزائه عنه، قال: وقياس قولهم: إن الظن يوجب العلم أنه يجب عليه الصوم وعلى من أخبره وغلب على ظنه صدقه، ولا ينافي هذا ما تقدم من عدم وجوب الصوم بقول المنجم، لأن الكلام فيه بالنسبة للعموم والمنجم في معنى الحاسب، وإنما أناط الشارع وجوب الصوم برؤية الهلال ولم يعتبر قول الحاسب والمنجم للعموم رحمة بالمكلفين وتيسيرًا عليهم؛ لأن رؤية الهلال أمر ظاهر يعرفه كل أحد ولا يغلط فيه، بخلاف الحساب فإنه لا يعرفه إلا القليل من الناس، فاقتضت الحكمة الآلهية التخفيف على العبد وربط الأحكام بما هو متيسر على الناس من الرؤية أو إكمال الشهر السابق ثلاثين، وقال العلامة ابن السبكي في بيان معنى الحديث ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) إلخ ومعناه والله أعلم أن الشهر تارة يكون ثلاثين، وتارة يكون تسعًا وعشرين، وليس كما يقول أهل الحساب والنجوم، فإنه دائمًا عندهم تسعًا وعشرين وكسرًا، وقوله (إنا) يعني العرب، لأن الغالب عليها ذلك، وأن كان قد يعلم بعضهم الكتابة والحساب، وجعل ذلك علمًا في الشريعة على الشهر ليكون ضبطًا بأمر ظاهر يعرفه كل أحد ولا يغلط فيه، بخلاف الحساب فإنه لا يعرفه إلا القليل من الناس ويقع الغلط فيه كثيرًا، للتقصير في علمه، ولبعد مقدماته، وربما كن بعضها ظنيًا، فاقتضت الحكمة الإلهية التخفيف علن العباد وربط الأحكام بما هو متيسر على الناس من الرؤية أو إكمال العدد ثلاثين، ليس معنى الحديث النهي عن الكتابة والحساب، ولا ذمهما وتنقيصهما بل هما فضيلة فينا، وليس في الحديث أيضًا إبطال قول الحاسب في قوله: إن القمر يجتمع مع الشمس أو يفارقها، أو تمكن رؤيته أو لا تمكن رؤيته والحكم بكذبه في ذلك، وإنما في الحديث عدم إناطة الحكم الشرعي وتسمية الشهرية، وأجمع المسلمون فيما أظن على أنه لا حكم لما يقوله الحاسب من مفارقة الشمس إذا كان غير ممكن الرؤية لقربه منها سواء كان ذلك وقت غروب الشمس أم قبله أم بعده، وما اقتضاه إطلاق الماوردي والروياني والرافعي من خلاف في ذلك ليس بصحيح، وإنما اختلفوا فيما إذا بعد عنها بحيث تمكن رؤيته وعلم ذلك بالحساب وكان هناك غيم يحول بيننا وبينه، فذهب ابن سريج والقفال والقاضي أبو الطيب من أصحابنا وجماعة من غير أصحابنا إلى جواز الصوم بذلك لمن عرفه، وبعضهم لمن عرفه ولمن قلده، وبعضهم إلى جواب الصوم بذلك على من عرفه وبعضهم على من عرفه ومن قلده، وذهب الجمهور من أصحابنا وغيرهم إلى أنه لا يعتمد ذلك أصلًا لا في الوجوب ولا في الجواز، ولا في حق نفسه ولا في حق غيره، واستدل الأولون بالقياس على أوقات الصلاة، فإنه يعمل بالحساب فيها لا نعرف في ذلك خلافًا إلا وجهًا أشار إليه صاحب الفروع وأجاب الآخرون بوجهين: أحدهما أن الشارع أناط الحكم في الأوقات بوجودها قال {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 وقال صلى الله عليه وسلم: ((وقت الظهر إذا زالت الشمس)) وأناط في الهلال برؤيته فلم يعتبر وجوده في نفس الأمر، والثاني أن مقدمات الهلال أخفى ويكثر الغلط فيها بخلاف الأوقاف، ولا محذور في أن الهلال يعلم بالحساب وجوده وإن كان رؤيته ولا يكلفنا الشرع بحكمه، ولو عمل في الأوقات كذلك كان الحكم كذلك لكنه أناط بوجودها فاتبعنا في كل باب ما قرره الشرع فيه، والمسألة محتملة يحتمل أن يقال: إذا قوي اعتقاد بعده من الشمس وإمكان رؤيته جليًا وهناك غيم يغلب على الظن أنه هو الحائل المانع من الرؤية يقوى هنا جواز الصوم والقول بعدم الجواز في مثل هذه الحالة بعيد، نعم الوجوب يبعد. فأنا اختار في ذلك قول ابن سريج ومن وافقه في الجواز خاصة لا في الوجوب وشرط اختياري للجواز حيث ينكشف من علم الحساب انكشافًا جليًا مكانه، ولا يحصل ذلك إلا لما هو في الصنعة والعلم. مذهب المالكية: المشهور في المذهب أنه لا اعتبار بقول المنجم والحساب لسير الكواكب في ثبوت الهلال في حق نفسه ولا في حق غيره، ولو وقع في القلب صدقه، قال ابن عرفه: لا أعرفه (أي اعتبار قول المنجم) لمالك، وما روي عن مالك أنه يجيز العمل بقول المنجم في الصوم فهو رواية شاذة، وإن ركن إليها بعض البغداديين، بل نقل عن ابن نافع عن مالك في الإمام الذي يعتمد الحساب أنه لا يقتدى به ولا يتبع، وحكى سند شارح المدونة الإجماع على ذلك، قال السبكي في رسالته العلم المنشور: "فصل" قال عدد من المالكية: لو كان الإمام يرى الحساب في الهلال فأثبت به لم يتبع الإجماع السلف على خلافه، واعترض السروجي بأنه يمكن أن السلف لم يعلموا به واكتفوا بالرؤية ولم يجمعوا على منع العلم به، وهذا الاعتراض جيد، ومن قال من أصحابنا وغيرهم بجواز الصوم أو وجوبه على من قلد الحاسب كيف يسلم ذلك؟ اهـ كلام ابن السبكي. وذكر القرافي أن الله لم ينصب خروج الأهلة من شعاع الشمس سببًا للصوم، بل نصب رؤية الهلال خارجًا عن شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي. وقال القاضي عبد الوهاب في الإشراف عن مسائل الخلاف: ولا يعتبر بقول المنجمين في دخول وقت الصوم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن صدق كاهنًا أو منجمًا فقد كفر لما أنزل على محمد)) وأقل ما في هذا التغليظ منع الرجوع إلى قولهم في الشرع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 مذهب الحنابلة: قال صاحب المغني: وإن من بنى على قول المنجمين وأهل المعرفة بالحساب فوافق الصواب لم يصح صومه، وإن كثرت إصابتهم لأنه ليس بدليل شرعي يجوز البناء عليه ولا العمل به، فكان وجوده كعدمه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) وفي رواية: ((لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه)) . مذهب الشيعة: ذهب ابن طاوس من الإمامية وحكي عن جماعة منهم أن علم الحساب وسير الكواكب من علوم الأنبياء، وأن من علمت إصابته وعدم خطئه أفاد قوله غلبة الظن فيعمل به، وذكر ابن طاووس أن مذهب السيد المرتضى وجماعة من الإمامية العمل بسير النجوم في الشرعيات ولم يعتمده جمهورهم ورموا السيد المرتضى بالتشديد، وأنه هو الذي لم يعمل بخبر الآحاد الصحيح، وأنه ابتلي بشيء من الجدل وهو في ذلك مخالف لشيخه المفيد. ومن ذلك تعلم مبلغ اختلاف أئمة الفقه الإسلامي سواء في ذلك الأئمة الأربعة وغيرهم في شأن الاعتماد على أقوال الحاسبين من علماء الفلك في تحديد أوائل الشهور، ووجهة كل منهم ومناقشتهم لوجهة نظر المخالفين. هذا وقد عني المرحوم الشيخ بخيت بنقل كثير من أقوال المختلفين في هذا الموضوع وناقشها وانتهى إلى اختيار القول بالعمل بالحساب الصحيح، وأيده في قوة بيان ونصوع حجة وسطوع برهان، ونسوق لك عبارته بتصرف بعد أن نقدم لك ما علق به قول ابن السبكي: "فاقتضت الحكمة الإلهية والتخفيف عن العباد وربط الأحكام بما هو متيسر على الناس من الرؤية أو إكمال العدد ثلاثين" قال رحمه الله: وليس الاعتماد على الحساب لبطلانه وعدم صحة مقدماته في الواقع ونفس الأمر وتزييفه وتكذيب قائله، بل لأن الشارع ألغاه في الحكم لما ذكرنا، والإلغاء شيء والإبطال شيء آخر، فإن الشارع ألغى أمورًا في موضع من غير أن يبطلها فقد ألغى إصابة القبلة إذا صلى بلا تحر واجتهاد، واعتبر الخطأ فيها إذا صلى بتحرٍّ واجتهاد عند اشتباهها عليه، وألغى العلم القطعي الذي يحصل للإمام أو القاضي من المشاهدة في إقامة الحدود والقتل، واعتبر الظن الذي يحصل له من شهادة الشهود، فمنعه من إقامتها في الأول وأوجب عليه إقامتها في الثاني، مع أن الأول من قبيل الحسن وهو يفيد العلم القطعي، والثاني من قبيل خبر الآحاد وهو لا يفيد إلا الظن، ثم قال: وقد قدَّمنا لك ما قاله صاحب الهداية في مختارات النوازل من أن علم النجوم في نفسه حسن غير مذموم إذ هو قسمان: حسابي وأنه حق وقد نطق به الكتاب قال تعالى {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي سيرهما بحسبان والاستدلال بسير النجوم وحركة الأفلاك على الحوادث وهو جائز كاستدلال الطبيب بالنبض على الصحة والمرض الخ.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 ثم نقل ما قاله القشيري: وإذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا وجود المانع كالغيم مثلًا فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية مشروطة في اللزوم، فإن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بإكمال العد أو الاجتهاد أن اليوم من رمضان وجب عليه الصوم وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه. قال رحمه الله وأقول: مما يؤيد القول بالعمل بالحساب الصحيح أن أهل الشرع من الفقهاء وغيرهم يرجعون في كل حادثة إلى أهل الخبرة وذوي البصيرة فيها، فإنهم يأخذون بقول أهل اللغة في معاني ألفاظ القرآن والحديث وبقول الطبيب في إفطار شهر رمضان وغير ذلك كثير فما الذي يمنع من بناء إكمال شعبان ورمضان وغيرهما من الأشهر على الحساب والرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة العارفين به إذا أشكل علينا الأمر في ذلك مع كون مقدماته قطعية وموافقة لما نطقت به آيات القرآن المتقدمة؟ ألا ترى أن الحاسب إذا قال بناء على حسابه إن الخسوف أو الكسوف يقع ساعة كذا من يوم كذا وقع كما قال قطعًا ولا يتخلف؟ خصوصًا وأن مبنى الحساب على الأمور المحسوسة والمشاهدة بواسطة الأرصاد وغيرها وقد يبلغ المخبرون بوجود الهلال وإمكان رؤيته عدد التواتر فيفيد خبرهم القاطع بوجود الهلال، وإمكان رؤيته لولا المانع، أو لا يبلغ المخبرون عدد التواتر، ولكنهم يكثرون إلى أن يفيد خبرهم غلبة الظن التي تقرب من اليقين فيطمئن القلب إلى صدق الخبر، ويبقى احتمال غيره كالعدم، ومما يؤيد ذلك أيضًا قوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وشهود الشهر إما بمعنى الحضور فيه وعدم السفر، وإما بمعنى العلم بوجوده، وهذا الثاني هو الظاهر من الآية فإن الشهود بمعنى العلم هو سبب وجود الصوم، وقوله تعالى {فَلْيَصُمْهُ} جاء مرتبًا عليه بإلغاء خبر لـ (مَنْ) أو وجوبًا للشرط، فيكون الظاهر من الآية أن كل من علم منكم بوجود الشهر المعهود وهو شهر رمضان وجب عليه صومه، ووجود الشهر شرعًا كما هو مقتضى الأحاديث بوجود هلاله بعد غروب الشمس بحيث يرى الناظر، فمن علم بوجود هلال الشهر بعد الغروب بأي طريق من طرق العلم الشاملة لغلبة الظن، سواء كان ذلك العلم برؤيته نفسه، أو بإخبار من يثق به برؤيته، أو بأمر القاضي بذلك وعلمه بأمره، أو بحساب فلكي دل على وجوده وإمكان رؤيته بلا عسر لولا المانع، وجب عليه الصوم فالذي يقتضيه النظر هو ما قاله القشيري كما تقدم من أنه دال الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا المانع كالغيم مثلًا، فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية شرطًا في اللزوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 ثم قال: وتعليق الصوم والإفطار بالرؤية لا ينافي ذلك، لأن المقصود برؤيته ظهوره، حيث يرى كما قال القشيري، وليست حقيقة الرؤية مشروطة في اللزوم كما هو مقتضى الآية المتقدمة، فإن الأعمى والمحبوس ومن في حكمهم مكلفون بالصيام مع عدم تحقق حقيقة الرؤية في حقهم، فلا اعتبار بتعصب عدة من المتأخرين على القائلين بذلك كالسبكي وأمثاله، كما لا اعتبار بقول من قال بوجوب الصوم أو جوازه عند عدم إمكان رؤيته بعد غروب الشمس لأن ذلك مخالف لما اتفقت عليه كلمة المتقدمين من أنه لا يثبت الصوم لمجرد وجوده، إذا لم تتمكن رؤيته أو تعسرت، لاتفاقهم على أن الشارع قد أناط الحكم بالرؤية بعد الغروب، وإنما الخلاف بينهم في أنه تكفي رؤيته لولا المانع بأن دل الحساب على ذلك، أو لابد من رؤيته بالفعل ولم يكن السبكي مخترعًا القول بالاعتماد على الحساب بل ذلك قول فريق من العلماء منهم ابن سريج، ومطرِّف وابن قتيبة وابن مقاتل الرازي وهو من أصحاب محمد بن الحسن، وهو قول بعض كبار التابعين وكفى بأولئك قدوة، ثم قال: وماذا يصنع الذين لا يعتمدون الحساب في البلاد التي يستمر فيها طلوع الشمس وظهوره شهرين أو أكثر إلى ستة أشهر، ويستمر اختفاؤها كذلك؟ فهل يمكن لأهل تلك البلاد أن يصوموا برؤية الهلال بالفعل بعد الغروب، أو يمكن أن يقول أحد منهم أنهم غير مكلفين بالصوم إذا وافق رمضان شهرًا من الأشهر التي تظهر فيها الشمس أو تختفي فيها، مع أن القمر يجتمع مع الشمس كل شهر مرة ويفارقها؟ فإذا فارقها فهو أول الشهر القمري وذلك لا يختلف في جميع جهات الكرة الأرضية، وإنما الاختلاف في مدة ظهور الشمس ومدة اختفائها، ففي بعض الجهات يكون ظهور الشمس شهرين أو ثلاثة إلى أن يكون في بعضها ستة اشهر، تظهر فيها الشمس وتختفي في ستة أشهر، فالأشهر القمرية متحققة في كل جهة، والسنة القمرية كذلك، وبالجملة فالدورة اليومية والشهرية السنوية بجميع أقسامها لا تختلف في جميع أنحاء الكرة الأرضية، فكما أنه في كل دورة يومية تجب الصلوات الخمس وتقدر أوقاتها بالساعات الفلكية بحسب أقرب البلاد المعتدلة إلى أولئك، مع أنه لا زوال، ولا علامة من علامات أوقات الصلاة، فجميع علامات أوقات الصلاة مفقودة في الدورة اليومية في البلاد التي يستمر فيها ظهور الشمس أو اختفاؤها أكثر من أربعة وعشرين ساعة إلى ستة اشهر، كذلك الدورة الشهرية شمسية أو قمرية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 والدورة السنوية شمسية أو قمرية موجودتان في جميع أنحاء الكرة، وقد ثبتت فرضية الصلوات على جميع سكان المعمورة بالكتاب والسنة والإجماع وأصبح ذلك معلومًا من الدين بالضرورة من غير اختصاص بأهل قطر دون قطر، بدون حصرها في أهل عصر دون عصر والآيات والأحاديث ظاهرة في تعلق الصلوات الخمس بأوقاتها وأن لكل صلاة وقتًا محددًا وعلى ذلك انعقد الإجماع، والزمان مقدار متجدد غير ثابت لا يدخل في حقيقته شيء من الألوان من الحمرة والصفرة والبيان والظلمة ولا الطلوع ولا الزوال والعشي والغروب ولا يتوقف على وجودها، وإنما هي أعلام معرفات لمضي الزمان وانقضاء المقدار المعين من الأوقات يتعرف بها حضور الأوقات التي جعلت بحكم الشرع مدارًا لأداء الصلوات ووجوبها قال تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} والمعنى والله أعلم أن الأهلة وما ماثلها من العلامات مواقيت للحج وما ماثله من العبادات، وأن هذا هو الذي يلزم المكلف السؤال عنه ومعرفته، لا ما سألوا عنه ولكن لا ينتفي شيء من ذلك بانتفائها، لأنها أعلام ومعرفات فقط، مثلها في ذلك العلامات التي توضع لبيان مقادير المسافات في الطرق، فمقادير المسافات على حالها بقيت تلك العلامات أو زالت، فالصلوات الخمس على هذا المنوال أديرت على أوقاتها ليتمكن العامة والخاصة من العلم بحضور الأوقات المعينة للصلوات ولم يجعل الشارع مدار العلم على الآلات الرصدية والعلوم الحسابية والساعات الفلكية، فإنها وإن كانت معرفة أيضًا لانقضاء الزمان وحضور الأوقات إلا أنها لا تتيسر لكل مكلف في كل موضع، ومما لا شبهة فيه أن الشارع أدار الحكم على تلك الأوقات باعتبار الغالب ولم يرد أن الصلوات تسقط إذا لم توجد تلك العلامات كما في بلاد القطبين، فتعين حينئذ أن نصير إلى معرف الآخر، لأن الشارع وإن لم يجعل مدار العلم بتلك الأوقات على علم الحساب لم يمنع من الاستدلال به على تلك الأوقات لمن يعرفها، لأنه معرف أيضًا، فعند عدم وجود تلك العلامات نقدرها بالساعات بحسب البلاد المعتدلة القريبة من البلاد التي لا توجد فيها تلك العلامات، وكذلك تكون خطابات الشارع الواردة في الصوم (التي جعلت الرؤية علامة للصيام والإفطار فيه والتي حددت وقت الصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس) مبنية على الغالب، وإلا فهل يمكن لعاقل أن يقول بوجود الصوم من وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس في اليوم الذي تمكث الشمس فيه ظاهرة مقدار شهرين أو ثلاثة أو ستة أشهر، عملًا بقوله {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} أو يقول إنه يأكل ويشرب إلى طلوع الفجر إذا اختلفت الشمس شهرًا أو شهرين أو أكثر ووافق ذلك شهر رمضان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 أم يتعين أن يقال: أن مثل هذا الخطاب مبني على الغالب، وكأنه قال: وأما الذين يستمر عندهم ظهور الشمس أو اختفاؤها أكثر من أربع وعشرين ساعة فيقدرون وقت الصوم ووقت الإفطار بالساعات بحسب أقرب الجهات المعتدلة إليهم، وذلك إنما يكون بالحساب بلا شبهة، فإن الشارع بنى أحكامه في بيان أوقات الصلاة والصيام على الغالب ولكن لم يهمل بيان حكم غير الغالب فقد أخرج مسلم في صحيحه من رواية يونس بن سمعان من حديث الدجال وفيه: ((قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكيفنا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له)) وكذلك عدة أحاديث غيره جاءت في هذا المعنى، فهل يمكن أن يقال إن معنى ((اقدروا له)) أتموه وكملوه كله بل يتعين أن يكون المراد: انظروا فيه وتدبروه حتى تعرفوا الأوقات وذلك يختلف باختلاف الناس ولا يلزم أن يكون كل الناس عارفين بالعلامات التي تدل على حضور الأوقات بل يكفي أن يعرف ذلك البعض ومن لم يعرف ممن يعرف، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . ألا ترى أن لو كان أهل البلد عميانًا ما عدا أفرادًا قلائل فإن هؤلاء المبصرين يعرفون علامات الأوقات ويخبرون الباقين فكذلك الخواص يعرفون العلامات بالحساب ويخبرون من لا يعرفون ومتى كانوا عدولًا وجب قبول خبرهم، ولاشك أن حديث الدجال، وإن كان مسوقًا لبيان حكم الصلاة في أيامه، ولكن علم أن مدار العبادات على الدورة اليومية والدورة الشهرية والدورة السنوية وبيان حكم الصلاة في أيامه مبين لحكمها فيما يماثل أيامه، والظاهر أن الشارع أشار إلى أن الأيام تختلف في الطول والقصر وأنها لا تتساوى في كل الأقطار بل يكون اليوم في بعضها كأسبوع وبعضها كشهر وبعضها كسنة، وأن حكم العبادات لا يختلف بسبب ذلك الاختلاف، ومما يرشد إلى ذلك اقتصاره في غاية الطول على سنة ولا يكون اليوم في الواقع ونفس الأمر أكثر من ذلك فإن غاية ما يكون ظهور الشمس ستة أشهر واختفاؤها كذلك فلا يتجاوز بنهاره وليله سنة أي دورة كاملة، وقد يتفاوت الليل والنهار طولًا وقصرًا في جهات الكرة الأرضية، ولكن لا يتجاوز هذا المقدار فإن الدورة لا تكون أكثر من سنة، فهذا كله يدل على أن الشارع لم يأمر بالصلاة لدلوك الشمس مثلًا ولا بالصوم لرؤية هلال رمضان، وغير ذلك من الأوقات التي جعلها علامات لأوقات العبادات إلا بناء على الغالب، ولتكون العلامات التي يُتعرف بها أوقات العبادات ظاهرة للخواص والعوام في غلب المعمورة، لا لأن العبادات تسقط إذا لم توجد تلك العلامات؛ لأن سقوطها لا يوجب سقوط نفس الأوقات فلا تسقط العبادات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 ولا لأن الشارع يمنع الاعتماد على العلامة الأخرى التي تدل على تلك الأوقات أيضًا من آلات الرصد والحساب والساعات على أن الفقهاء كثيرًا ما اعتمدوا على الحساب في تقدير السنة القمرية التي قدروا بها مدة التأجيل في العنين وسن اليأس وغير ذلك، فقالوا: إن السنة القمرية المعتبرة في ذلك ثلاثمائة يوم وأربعة وخمسون يومًا وخمس يوم وسدسه، وبعضهم قال 354 يومًا تقريبًا وأن السنة الشمسية تزيد عنه عشر أيام وكسرًا وهذا لا يمكن الوقوف عليه إلا بالحساب وسير الشمس والقمر، فاعرف ذلك فإنك لا تجده في غير هذه العجالة. ولعلك بعد هذا البيان الواضح لا تجد في صدرك حرجًا من صحة الاعتماد على الحساب الموثوق بصحته والمبني على قواعد هندسية مبرهنة ولا سيما إذا قام به من يؤمن تواطؤهم على الكذب واتفقوا عليه، وأن ذلك الحساب يفيد علمًا لا يفيده خبر واحد يجوز أن يكون مخطئًا أو كاذبًا لحاجة في نفسه، وأن بناء الأمور الدينية على المتيقن الموثوق به خير من بنائها على ما هو دون ذلك بكثير مما يعتريه الوهم والغلط، لا سيما وأن الاعتماد على الحساب المستوفي للشروط التي تنتج صحته والوثوق به يجمع المسلمين على كلمة سواء ويوحد صفوفهم، ويؤلف بين قلوبهم ويجنبهم مغبة التنازع والاختلاف. ومما تقدم يتبين لنا جليًا أنه لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذم الحساب وتنقيصه ونبذ العمل به كيف وقال الله تعالى {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} وقال {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} ، وقال {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} فأنت ترى أن الله قد حثنا على تعلم الحساب والعمل به، وقد سمعت مقالة صاحب الهداية: أن علم النجوم الحسابي حق موافق لما نطق به الكتاب وقول ابن طاووس: إن علم النجوم من علوم الأنبياء، وأما ما تعلق به البعض من مثل قوله صلى الله عليه وسلم ((من أتى كاهنًا أو منجمًا فقد كفر بما أنزل على محمد)) فلا يصح الاستناد إليه؛ لأن ذلك المنهي عنه هو التخرصات والتكهنات التي يدعيها بعض محترفي علم النجوم مما يسمونه طوالع ويتكسبون به، ويوهمون به السذج وعباد الخرافات، ويزعمون أن هذا ما دلت عليه النجوم، وهو ما يسمى بعلم النجوم الاستدلالية أي يستدلون بمطالع النجوم على الحوادث المغيبة المستقبلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 ويقولون: سيموت فلان أو يتولى منصبًا خطيرًا أو ستكون السنة القادمة مجدبة، أو يعم الرخاء فيها، أو تغلو الأسعار أو ترخص مما تفنن فيه أصحاب التقاويم عندنا، وجعلوا ينظمون في ذلك أشعارًا مملوءة بالرموز والأحاجي والألغاز حتى تروج بضاعتهم ولا ينكشف أمرهم، فهذا هو الذي عناه الحديث بلفظ الناس عن التعلق بالأوهام والخرافات ويرتفع بمستواهم عن تصديق هؤلاء فيما اختص بالله به نفسه من علم الغيوب {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} . قال الغزالي: علم النجوم إذا أريد به موت فلان وحياة فلان وبطلوع نجم كذا يظهر موت فلان أو هلاك أمة أو ذهاب دولة فليس يقينيًا ولا ظنيًا، وقد دحضه الفارابي في كتاب الفصوص، وفرق بين القضايا الحسابية والحوادث الأرضية، وقال: من العجيب أن قال: إن مرور نجم كذا يوجب أن يحصل عنه حوادث لاتفاق اتفق فيجعل قاعدة عامة، فهذا القسم لا يقول به الشرع، فأما علم النجوم الذي يعرف به سير الكواكب والشمس والقمر وكذلك علم الهيئة فلن يكذبه الشرع بل يهتدي به إلى معرفة السنين والشهور وأوقات الصيام والحج ومواقيت الصلاة فإنكار هذا قصور وجهل، ولعل الذي حمل بعض العلماء على عدم التعويل على ما يقوله الحاسبون والمنجمون ما قدمنا من اختلاف طرائقهم مما جعله يرجع هذا الاختلاف إلى أن مقدماتهم ظنية غير يقينية وأنهم يخطئون ويغلطون كثيرًا وهذا ما صرح به كثير منهم في تعليل رده لأقوالهم كما قدمنا. وهذا إن صح بالنسبة للمنجمين والحاسبين فيكون فيما قبل عصر النهضة في الدولة العباسية أما في هذا العصر وما تلاه من الأعصر التي ظهرت فيها الاكتشافات العلمية الحديثة وأنشئت المراصد المجهزة بأحدث أجهزة الكشف في العواصم الإسلامية وغيرها فقد تقدم علم الفلك وعلم الهيئة تقدمًا ملحوظًا وتمكن العلماء من وضع قوانين هندسية مبرهنة لإنتاج مقادير الحركات الظاهرة للشمس والقمر وسائر الكواكب بالتحديد، مضربين عن القواعد الفلكية الحسابية القديمة لابتنائها على الأوساط التقريبية، قال الشيخ أبو العلاء البناء: إن مقدمات الحساب الفلكي لإثبات الشهر قبل الإسلام وإلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم عند جميع العالم كانت ظنية كلها غير يقينية الإنتاج كما قدمنا ودلت التواريخ ونصوص الفلكيين على ذلك، وهذا بعينه هو الذي حمل السبكي على أن يقول في رسالته العلم المنشور: وجعل الرؤية أو الإكمال علمًا على الشهر في الشريعة ليكون ضبطًا بأمر ظاهر يعرفه كل أحد ولا يغلط فيه، بخلاف (الحساب) فإنه لا يعرفه إلا القليل من الناس ويقع الغلط فيه كثيرًا للتقصير في علمه ولبعد مقدماته وربما كان بعضها ظنيًا فاقتضت الحكمة الإلهية والشريعة الحنفية السمحة التخفيف عن العباد وربط الأحكام بما هو متيسر على الناس منا لرؤية أو إكمال العدد ثلاثين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 وقد أدركت الأمة من قديم أن الشهادة برؤية الهلال كثيرًا ما يعتريها الشكوك وتمازجها الأوهام فهذا أنس بن مالك يرى شعرة بيضاء ساقطة من حاجبيه فظنها الهلال، فلما رفعها إياس بيده قال: لا أنظره، ومن الشهود من يعتمد الكذب ليشتهر أو لإثبات عدالته أو للتقرب إلى الله جهلًا، ومنهم المخطئون لضعف الحاسة أو الوهم أو غير ذلك، فاستحسنوا الأخذ بالأسباب ليتبينوا أما إذا كانت الرؤية ممكنة أو غير ممكنة ليكون ذلك حصنًا يقي من غلط الحس أو تعمد الكذب ومن التنطع بالشهادة تقربًا إلى الله ونغير ذلك ولذا قال السبكي كما تقدم: وليس معنى الحديث ((إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب)) النهي عن الكتابة والحساب ولا ذمهما وتنقيصهما بل هما فضيلة فينا، وليس في الحديث أيضًا إبطال قول الحاسب إن القمر يجتمع مع الشمس أو يفارقها أو تمكن رؤيته أو لا تمكن والحكم بكذبه في ذلك، وإنما في الحديث عدم إناطة الحكم الشرعي بثبوت الشهر به. وإذًا فلا مناص لنا بعد الذي تقدم من الاعتماد على الحساب الفلكي إن لم يكن لإثبات الشهر به بادئ ذي بدء فلإثبات أن رؤية الهلال ممكنة أو غير ممكنة فتقبل الشهادة برؤيته ممن يشهد بذلك أن قرر علماء الفلك والحساب أنها ممكنة مع عدم المانع من غيم ونحوه، ولنردد هذه الشهادة أن قرروا أن الهلال يغرب قبل غروب الشمس أو بعدها بقليل بحيث تتعذر رؤيته، ولو بالنظارات المكبرة أو بآلات الرصد في أبعد البلاد نحو الراغب وهي مراكش كما يقولون. حقًا إن تقدم علم الفلك وبراعة علمائه وحسابهم الدقيق الذي يضبطون به أحوال القمر ومنازله، ويحددون به وقت ميلاده ومقدار ارتفاعه وغاية مكثه فوق الأفق، ويعرفون به بعد ما بينه وبين نقطة مغيب الشمس يمينًا أو شمالًا، مضافًا إلى ذلك ما أتيح لنا في هذا العصر من المخترعات الحديثة التي يسهل بها كشف الهلال في ليلته الأولى ومهما كان صغيرًا ودقيقا كل ذلك مما يساعد على إثبات الأهلة في ضبط ويسر وسهولة. وإذا كانت الشريعة السمحة لم تكلف الناس إلا بما يطيقون ولم تفرض عليهم في تحري الهلال أكثر من التماسه بالعين المجردة ولم تحتم عليهم أن يتكلفوا البحث عنه بوسائل أخرى رحمة بهم وتخفيفًا عليهم فإن ذلك لا يمنع أن تستخدم تلك الوسائل التي تسهل رؤيته والتثبت منه ما دامت موفورة ميسرة بل إني أذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إنه يجب على الحكومات الإسلامية وجوبًا كفائيًا أيضًا - بمعنى أنه إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين- أن تلتمس الهلال بعد غروب يوم 29 من كل شهر بحساب الرؤية مستخدمين كل الوسائل التي يسر الله بها أمر الرؤية في هذا الزمان فإنهم إن قاموا بهذا الواجب الديني مسترشدين بآراء الفلكيين السديدة الموثوق بها لا يمكن أن تفوتهم جميعًا رؤية الهلال متى كان نظام دورته يسمح برؤيته، وبهذا يقضى على عوام الاضطراب في إثباته وتتوحد كلمة المسلمين في جميع أنحاء المعمورة بشأن إثبات الشهور العربية وتحديد أوائلها ونهاياتها وتنحل تلك المشكلة المزمنة وتزول أسباب التفرق والاختلاف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 الخاتمة في خلاصة البحث وبيان أيسر السبل لإثبات الأهلة تبين من كل ما تقدم في هذا البحث أن الراجح ما يأتي: أولًا: أن إثبات الشهور في حد ذاته من غير نظر إلى ما يتعلق به من حقوق العباد من باب الإخبار لا من باب الشهادة، وأنه لا يدخل تحت الحكم والقضاء، فلا تلزم فيه شروط الشهادة، ويستوي في المخبر أن يكون ذكرًا أو أنثى حرًا أو عبدًا، ولا يشترط مجلس الحكم ولا تقدم الدعوى، ولا قضاء قاض ولا لفظ: أشهد، ويكفي بأن يكون المخبر مستورًا غير ظاهر الفسق. ثانيًا: أن الشهور جميعًا سواء في حالة الصحو أو الغيم يكفي في إثباتها خبر الواحد متى غلب على الظن صدقه ولم يكذبه الحساب الموثوق به القاضي باستحالة الرؤية وأنه لا تشترط الاستفاضة ولا العدد الجم إلا عند مظنة الغلط أو الخطأ أو رجحان تهمة الكذب. ثالثًا: أنه لا عبرة لاختلاف المطالع، فإذا ثبت الشهر في أية حكومة إسلامية ونقل هذا الثبوت إلى سائر البلاد الإسلامية بطريق موثوق به فإنه يعم حكمه الجميع ما داموا مشتركين مع بلد الرؤية في جزء ولو يسير من ليلة الرؤية. رابعًا: أنه لا يصح التعويل في إثبات الشهور على قواعد الفلكيين القدماء فيما قبل عصر النهضة الإسلامية في العصر العباسي لأنها قواعد تقريبية غير متيقنة ولا منضبطة كما لا يصح التعويل على الجداول الفلكية التي تجعل بعض الشهور ثلاثين يومًا أبدًا وبعضها 29 يومًا أبدًا فقد تبين خطؤها وأنه قد تتوالى أشهر كلها ثلاثون وأشهر كلها تسعة وعشرون. كما ثبت أن الحساب الفلكي المعمول به الآن في التقاويم الرسمية وغيرها لا يتفق مع الحساب الشرعي الذي يعتمد على القطع بالرؤية أو إمكانها على الأقل، لأن التقاويم الحالية تعتمد في تعيين أوائل الشهور على اجتماع الشمس والقمر فيجعلون أول ليلة يغرب يلفها القمر بعد غروب الشمس هي أول الشهر ولو استحالت الرؤية، ومن المقرر أنه قد يتفق الحسابان وذلك فيما إذا غرب القمر بعد الاجتماع قبل الشمس أو معها يكون أول الشهر الليلة التالية لليلة الواقعة بعد الاجتماع، وقد يتقدم أول الشهر بالحساب الفلكي والاجتماعي على أوله بالحساب الفلكي الشرعي المبني على إمكان رؤية الهلال بيوم في الأكثر أو بيومين في الأقل. ويلزم على الأخذ بهذه التقاويم تغيير أوقات العبادات عما حدده لها الشارع وبالتالي يلزم إحلال ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، فقد حرم الله صوم أيام العيدين وأيام التشريف وأحل الفطر في شعبان كما يلزم عليه أن يكون الوقوف بعرفة في غير التاسع وأن تذبح الأضاحي قبل وقتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 ويلزم على الأخذ بهذه التقاويم تغيير أوقات العبادات عما حدده لها الشارع وبالتالي يلزم إحلال ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، فقد حرم الله صوم أيام العيدين وأيام التشريق وأحل الفطر في شعبان كما يلزم عليه أن يكون الوقوف بعرفة في غير التاسع وأن تذبح الأضاحي قبل وقتها. خامسًا: أن الحساب الفلكي الشرعي المبني على الوضع الهلالي وإمكان رؤيته بعد غروب يوم 29 من الشهر السابق بحساب الرؤية يصلح مناطًا مستقلًا لإثبات الشهر، كما اختاره طائفة من العلماء الأثبات ممن ذكرنا كالسبكي وابن سريج وابن مقاتل وغيرهم، ورجحه الشيخ بخيت المطيعي، وأن ذلك لا يتنافى مع أحاديث إثبات الشهور بالرؤية أو الإكمال بناء على أن المراد العلم بالرؤية حقيقتها، بدليل وجوب الصوم على الأعمى والمحبوس في المطمورة وسكان القطبين والبلاد التي في حكمها، وهم محرومون من الرؤية حتمًا ويدل على ذلك أيضًا ما جاء في بعض روايات الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) فقد فسر من يرى من العلماء الأخذ بالحساب القطعي قوله صلى الله عليه وسلم ((فاقدروا له)) بمعنى فانظروه وتدبروا فيه من قولهم: قدرت الأمر نظرت فيه، وتدبرته وذلك بالحساب عند من خصهم الله بهذا العلم، قال السبكي: والبحث في هذا الحديث في موضعين، أحدهما قوله ((فاقدروا له)) قال بعض من يقول باعتماد الحساب: معناه احسبوا له، ويكون معناه قدروه بالحساب والمنازل كما قال تعالى {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} قاله مطرف بن عبد الله من التابعين وابن قتيبة من المحدثين وابن سريج من الشافعية وابن مقاتل من أصحاب محمد بن الحسن وطائفة من المتأخرين قالوا: ولا يلزمنا مقال المازري من أن الناس لو كلفوا بالحساب ضاق عليهم لأنه لا يعرفه إلا أفراد قلائل، لأنه إنما يلزم ذلك لو كلف عامة الناس بالحساب، ولم يقل بذلك أحد، بل الذي قلناه: إن قوله صلى الله عليه وسلم ((فاقدروا له)) بالمعنى الذي اخترناه خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وقوله ((فأكملوا العدة ثلاثين يومًا)) كما في الرواية الأخرى خطاب للعامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 فالذين خصهم الله بهذا العلم يكون نظرهم بالطريق المقدور لهم، وهو طريق الحساب ويكون نظر العامة الذين لا يعرفون الحساب أو لا يقلدون من يعرفه بالطريق المتيسر لهم وهو الرؤية أو إكمال العدة، فلا تنافي بين الروايتين بل نحن ننزلهما على حالين مختلفين فنكون عاملين بهما. سادسًا: يجب وجوبًا كفائيًا كما قلنا أن يكون في كل حكومة إسلامية هيئة شرعية من مهمتها إثبات الشهور العربية بوجوه الإثبات المعتبرة شرعًا مع مراعاة الاتصال بالمراصد والفلكيين العدول الموثوق بهم في دينهم وعلمهم ليتحققوا من جواز الرؤية أو استحالتها حتى لا يقعوا في الخطأ ويثبتوا الشهر قبل موعده كما حصل في بعض السنين من قاضي الرؤية المنفرد بهذا الإثبات وترتب عليه صيام المسلمين يومًا من شعبان وفطرهم يومين من رمضان. سابعًا: ليتحقق الأمل المنشود وهو توحيد أوائل الشهور العربية في جميع البلاد الإسلامية يجب أن ينبه ناشرو التقاويم الرسمية وغيرها إلى أنه يلزمهم أن يبنوا تحديد أوائل الشهور القمرية على الوضع الهلالي الحقيقي فيكون أول الشهر هو أول ليلة يمكن أن يُرى فيها الهلال بعد الاجتماع وأن يراعوا خط عرض مراكش وهو 15 درجة (غرب جرينتش) لتكون تقاويمهم هلالية شرعية عالمية مساندة ومنظمة لعملية الرؤية في جميع الحكومات الإسلامية، والله الموفق للصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 المناقشة توحيد بدايات الشهور القمرية 10 صفر 1407 هـ / 13 أكتوبر 1986 م استئناف الجلسة المسائية (بعد صلاة المغرب) الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين لدينا في هذه الجلسة المسائية إن شاء الله تعالى موضوعان: أحدهما أجهزة الإنعاش وسيؤخر إلى بعد ساعة ونصف تقريبًا حتى حضور الطبيب الذي سيكون بمعيتكم لإلقاء الأضواء الطبية على هذا الموضوع، وأما الآن فهو في مسألة "توحيد بدايات الشهور القمرية ومدى إثباتها بالحساب الفلكي" وأرجو أن نستمع إلى تلخيص من فضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي. وشكرًا. الشيخ مصطفى التارزي: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. سيدي الرئيس.. حضرات السادة الأكارم، إنكم على علم من أن موضوع توحيد بدايات الشهور القمرية درس في السنة الماضية من طرف مجمعكم الكريم، وألقيت فيه عدة دراسات علمية قيمة وزيادة في التحري فإن المجمع لم يأخذ قرارًا في هذا الموضوع بل أجل النظر فيه إلى الدورة الثالثة، وقد طلب مني أن أقدم عرضًا لجوانب هذا الموضوع حتى يكون هذا العرض منطلقًا للحوار وأخذ القرار الحاسم في الموضوع، وقد قسمت هذا العرض إلى خمسة عناوين: أولًا: المؤتمرات الإسلامية ومحاولتها التوحيد. ثانيًا: المنكرون للعمل بالحساب وحججهم على ذلك. ثالثًا: الحساب الفلكي هو غير التنجيم. رابعًا: القائلون باعتماد الحساب وحججهم. خامسًا: نتائج واقتراحات. حسبما أعلم فإن أول محاولة جدية في التوحيد كانت من الجامعة العربية التي أوصت في سنة 1376 بالدعوة لعقد اجتماع بين المختصين من علماء المسلمين لبحث اقتراح توحيد أيام الصيام والأعياد في البلاد الإسلامية بطلب من الدولة الهاشمية الأردنية ومن الصدف الغريبة أن يجتمع مجمعكم هذا في عمان بعد واحد وثلاثين سنة ليأخذ قرارًا في هذا الموضوع ويستجيب لرغبة ملحة إسلامية تقدمت بها المملكة الأردنية الهاشمية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 وفي سنة 1382 أرسلت نفس الجامعة مذكرة أرفقت بها قرارات اللجنة الشرعية الفلكية التي كونها الأزهر الشريف لنظر في أمر توحيد مبدأ الشهور القمرية ومواقيت الصلاة، كما عقدت في تونس ندوة حضرها ثلة من رجال الاختصاص في الدين والفلك من أقطار العالم الإسلامي وذلك في سنة 1384 بإشراف الشيخ محمد الفاضل بن عاشور مفتي الديار التونسية في ذلك الوقت. وأبرز القرارات الصادرة في هذا الموضوع هي قرارات مؤتمر معهد البحوث الإسلامية بالأزهر المنعقدة في سنة 1386، وقرارات المؤتمر الإسلامي العالمي المنعقدة بكوالمبور بدولة ماليزيا في سنة 1390، وقرارات مؤتمر وزراء الشئون الدينية والإسلامية والأوقاف المنعقدة بالكويت في محرم سنة 1393، وقرارات مؤتمر اسطنبول المنعقدة في سنة 1398، وآخر هذه القرارات هي قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة في شهر ربيع الآخر سنة 1401. أما مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر فقد قرر أن الرؤية هي الأساس لكن لا يعتمد عليها إذا تمكن فيها التهم تمكنًا قويًا، ومن هذه الأسباب مخالفة الحساب الفلكي الموثوق به، فكانت الفقرة الثانية من التوصيات على الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات دخول الشهر إذا لم تتحقق الرؤية ولم يتيسر الوصول إلى تمام الشهر ثلاثين يومًا. ومؤتمر ماليزيا ورد في توصياته أنه إذا تعذرت الرؤية لسبب من الأسباب وكان الحساب الفلكي يثبت إمكان رؤية الهلال يجوز الاعتماد على الحساب الفلكي بها. ومؤتمر وزراء الشئون الدينية والأوقاف المنعقد بالكويت ينص قراره الرابع على وجوب وضع تقويم قمري بمعرفة لجنة معتمدة من فقهاء الشريعة الإسلامية وعلماء الفلك تلتزم به الحكومات الإسلامية في صومها وفطرها وفي تحديد مواسمها الدينية وفي تاريخها، ولكن هذه اللجنة لم تجتمع. أما مؤتمر اسطنبول فقد احتضن تقريبًا مقررات مؤتمر الكويت وأخذ خطوة إيجابية جيدة وهي بعث لجنة من دول إسلامية عشرة معتمدة من فقهاء الشريعة الإسلامية وعلماء الدين لضبط التقويم الهجري الموحد سنة فسنة، وقد اجتمعت بالفعل هذه اللجنة وكنت أحد أفرادها في عدد من العواصم الإسلامية اسطنبول ثم تونس ثم الجزائر ثم أنقرة وأخيرًا الاجتماع الأخير الذي كان بمكة المكرمة في محرم سنة 1405 وقد أصدرت هذه اللجنة تقاويم موحدة بداية من مؤتمر اسطنبول سنة فسنة إلى هذه السنة واحتضنت أعمال هذه اللجنة منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة وأذاعت كل تقاويمها وقراراتها على جميع الدول الإسلامية. أما قرار المجمع الفقهي الإسلامي بالرابطة فإنه واضح باعتماد الرؤية البصرية خاصة دون الحساب بأي شكل من الأشكال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 العنوان الثاني: إنكار المتقدمين للعمل بالحساب وحججهم: فالمتمسكون بظاهرة الرؤية البصرية في إثبات أوائل الشهور لا يعتمدون الحساب لأنهم يعتقدون أن الحساب الفلكي ليس وسيلة قطعية بل هو لم يصل عندهم حتى إلى مرتبة الظن فهو حدس وتخمين، وقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم، ولهذا حذر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأخذ بأحكام المنجم فقال فيه فيما رواه أبو داود وابن ماجه ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر)) ولأجل هذا نجد كثيرًا من المتقدمين في علم الفقه ينصون صراحة على عدم اعتماد حساب المنجمين. أولًا: لأن التفرقة عندهم لم تكن واضحة بين التنجيم الذي هو ليس بعلم إذ هو تطلع إلى الغيب وبين علم الفلك الذي هو من العلوم الصحيحة التي لا يختلف في قواعدها العامة لا سيما وأن عالم الفلك في القديم كان في الغالب المنجم المتطلع إلى معرفة الغيب، ومن هذا الخلط شك الفقهاء في الحساب الفلكي الذي كان في الغالب صادرا عن المنجمين. ثانيًا: لأن علم الفلك لم يصل في القرون الإسلامية الأولى إلى درجة النضج ولم تتضح معالمه عند الناس حتى يمكن الاعتماد عليه في هذه القضايا الدينية. ففي الفتاوى الهندية: "وهل يرجع إلى قول أهل الخبرة العدل من يعرف علم النجوم؟ الصحيح أنه لا يقبل، ويقول في كتاب معراج الدراية: "ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه" وقال ابن عرفة: "لا أعلم أن مالكًا اعتبر قول المنجم" وقال القاضي عبد الوهاب في كتابه الأشراف: "لا عبرة بقول المنجمين في دخول وقت الصوم". وفي الجزء الثاني من الدر المختار شرح تنوير الأبصار في باب الصوم قال الشيخ محمد علاء الدين الحصكفي: "لا عبرة بقول الموقتين ولو كانوا عدولًا على المذهب". وقال ابن عابدين في حاشيته رد المحتار على الدر المختار في شرح قوله: ولا عبرة بقول الموقتين: "أي في وجوب الصوم على الناس، بل في المعراج لا يعتبر قولهم بالإجماع ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه" وفي النهر: فلا يلزم بقول الموقتين أنه - أي الهلال - يكون في المساء ليلة كذا وإن كانوا عدولًا في الصحيح كما في الإيضاح، ثم قال: ووجه ما قلناه أن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية بقول: ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا)) ولهذا حصر الشيخ شمس الدين بن فرج المقدسي في شرحه الكبير على المغني ثبوت رمضان بواحد من ثلاثة أشياء فقط وكلها ترجع إلى الرؤية البصرية فجعل أولها رؤية الهلال، والثاني: إكمال شعبان ثلاثين يومًا، والثالث: أن يحول دون منظر الليلة الثلاثين من شعبان غيم أو قتر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 ويقول ابن قدامة في كتابه المغني "من بنى على قول المنجمين والحساب لم يصح صومه وإن كثرت إصابتهم لأنه ليس بدليل شرعي إنما الدليل قوله عليه الصلاة والسلام ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) وفي رواية ((لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه)) فأناط وجوب الصوم برؤية الهلال. وقد نقل الباجي في المنتقى والقرطبي في الأحكام رواية عن مالك، روى ابن نافع عن مالك "عن الإمام لا يصوم لرؤية الهلال ولا يفطر لرؤيته إنما يصوم ويفطر على الحساب أنه لا يقتدى به ولا يتبع" وجاء في شرح مسلم للنووي نقلًا عن المازري: حمل جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم ((فاقدروا له)) على أن المراد إكمال العدة ثلاثين كما فسر في حديث آخر، ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم لأنه لا يعرفه إلا أفراد والشرع إنما يعرف بما يعرفه جماهيرهم. وحجة المتمسكين بإثبات الشهور القمرية بخصوص الرؤية البصرية جملة نصوص من السنة، واعتبروا الرؤية أمرًا تعبديًا لا يمكن العدول عنها إلى الحساب بحال من الأحوال، لأن الشريعة الإسلامية ربطت ميلاد الأهلة في كل هذه النصوص بالرؤية البصرية، وهذا يؤدي إلى حتمية الرؤية وعدم جواز العلم بالحساب، واستشهدوا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له)) وفي رواية ((فاقدروا له ثلاثين)) وفي رواية ((إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا وإن غم عليكم فاقدروا له)) وفي رواية ((إن غم عليكم فصوموا ثلاثين يومًا)) وفي لفظ البخاري: ((الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) فلم يذكر صلى الله عليه وسلم علم الحساب ولا أقوال المنجمين والنصوص صريحة في اعتماد الرؤية. والقدر أو التقدير عندما تتعذر الرؤية البصرية لعارض من العوارض كضباب وغيره إنما هو إكمال الشهر ثلاثين يومًا، كما اعتبروا أن قضية الصوم والإفطار قضية دينية بحتة يجب الرجوع فيها إلى النصوص لا إلى مقتضيات العقول لأنها ليست من مجال الاجتهاد الذي يفضي إلى استعماله في حالة فقدان النصوص والمعروف أن حكمها مقرر في السنة النبوية واتفاق المسلمين في الطبقة الأولى منهم وأغلبهم فيما بعد ذلك وإلى اليوم لم يؤولوها لأن عباراتها صريحة لا تحتمل التأويل وخصوصًا لا يوجد دليل من النصوص يعارضها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 وعلى هذا الاتجاه سار العلامة ابن حجر في شرحه لحديث ((إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب)) فقال: ((لا تكتب ولا تحسب)) تفسير لكونهم كذلك، وقيل للعرب أميون لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} ولا يرد على ذلك أنه كان فيهم من يكتب ويحسب لأن الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة، والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضًا إلا النزر اليسير، وقال في المكان نفسه: فإن تعليق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية دون الحساب يستمر ولو حدث فيما بعدهم من يعرف الحساب، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم أصلًا، ويوضحه قوله في الحديث الماضي: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) ولم يقل فاسألوا أهل الحساب والحكمة في ذلك أن يستوي الناس فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم. كما ذكر العلامة ابن حجر في نفس المكان تعليق ابن بطال الذي قال في حديث ((إنا أمة أمية)) رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل وإنما لمعول رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف، ولاشك أن في المراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته الطويلة حول الهلال في استدلاله على عدم جواز الاعتماد على الحساب "أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل لمطلع الهلال حسابًا مستقيمًا بل لا يمكن أن يكون إلى رؤيته طريق مطرد إلا الرؤية وقد سلكوا طرقًا كما سلك الأولون منهم لم يضبطوا سيره إلى التعديل الذي يتفق الحساب على أنه غير مطرد وإنما هو تقريبي". وقال في فقرة أخرى من نفس الرسالة: "فالذي جاءت به شريعتنا هو أكمل الأمور لأن ضبط وقت الشهر بأمر طبيعي ظاهر عام تدركه الأبصار، فلا يضل أحد عن دينه ولا يشغله مراعاته عن شيء مخصص له ولا يدخل بسببه فهما لا يعنيه ولا يكون طريقًا إلى التلبيس في دين الله كما يفعل بعض علماء أهل الملل بمللهم وقال في نفس الرسالة "ما ذكرنا من أن الأحكام مثل صيام رمضان متعلقة بالأهلة لا ريب فيه لكن الطريقة إلى معرفة طلوع الهلال والرؤية لا غيرها" وقال: "والمعتمد على الحساب في الهلال كما أنه ضال في الشريعة مبتدع في الدين فإنه مخطئ في العقل وعلم الحساب فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر الحساب". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 والذي يظهر لي من كل هذه الحجج والتعاليل التي اعتمدها المانعون للعمل بالحساب لا تكون دليلًا على أن الرؤية البصرية هي أمر تعبدي وذلك لأمرين اثنين. أولًا: لأن الرؤية هي الوسيلة الممكنة في زمن البعثة لمعرفة بداية الشهور ونهايتها، والكتابة كانت قليلة نادرة كما صرحوا بذلك مرات في احتجاجاتهم، وأن الرصد الفلكي لم يصل إلى درجة من الوضوح والدقة حتى يصبح وسيلة لإثبات الحكم وكثيرًا ما وصفوا حساب المنجمين بأنه حدس وتخمين وكثير من العلماء اعتمدوا هذا التعليل لعدم العلم بالحساب. ثانيًا: وأن الأمية التي وصف بها الرسول المسلمين هي وصف عارض لهم زمن البعثة لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة ونادرة كما قال ابن حجر: "وجاء الإسلام ليخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور الإسلام والمعرفة ويزيل وصف الأمية عنهم". ومعنى هذا أن الحساب إذا وصل إلى درجة من الوضوح والدقة، وأصبح علمًا من العلوم الصحيحة، وأصبحت الكتابة منتشرة في أغلب أنحاء العالم الإسلامي، فإنه يجوز الاعتماد على الرؤية، وإذا جاز أن يكون ضعف علم الحساب والهيئة في الماضي حجة لهم على عدم الاعتداء به فلا يجوز أن يكون حجة في العهد الحاضر على عدم اعتباره. أما شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه يعتبر الأمية صفة للأمة الإسلامية قارة كالوسطية لا تنفك عنها بحال، فقال في نفس رسالة الصيام: "هذه الأحاديث المستفيضة المتلقاة بالقبول دلت على أمور: أحدها: فإن قوله: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) هو خبر تضمن نهيًا فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي الأمة الوسط أمية لا تكتب ولا تحسب ومن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة" (الصفحة 162 طبعة المغرب الجزء 25) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 العنوان الثالث: الحساب الفلكي هو غير التنجيم: فقد اعتقد علماء الفلك والهيئة من المسلمين من جانبهم أنهم مخاطبون شرعًا للعمل في هذا الميدان لا سيما والقرآن نفسه رغب الناس في علم الهيئة لمعرفة حساب الشهور والسنين من منازل القمر بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} وبما ورد من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((فإذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له)) وأنه يتعين أن يكون المراد من ((اقدروا)) انظرا فيه وتدبروه حتى تعرفوا الأوقات، وذاك يختلف باختلاف الناس ولا يلزم أن يكون الناس عارفين بالعلامات التي تدل على الأوقات، بل يكفي أن يعرف ذاك البعض وسبيل من لم يعرف أن يسأل من يعرف والله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} كما حفزهم على بذل الجهد في هذا الميدان بالحديث المروي عن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا)) واتنكبوا انكبابًا كليًا لمعرفة كل العلوم للخروج بالأمة الإسلامية من الأمية إلى نور العلم والمعرفة محبة في الرفعة والله تعالى يقول: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} . وهكذا انطلق علماء الفلك المسلمون على رصد سير الشمس والقمر منزلة منزلة حتى تمكنوا من التقدم في هذه العلوم تقدمًا واسعًا كما تمكنوا من معرفة الأحوال التي يرى فيها الهلال إذا تعذرت رؤيته حتى كانت نتائجهم لا تخالف الرؤية البصرية بل كانت الرؤية تؤيد حسابهم وأرصادهم مما جعل علم الهيئة يتبوأ الصدارة من العلوم، وهذا ما تفطن إليه كثير من الفقهاء في مختلف المذاهب الإسلامية وجعلهم يقتنعون بجدوى الاكتشافات العلمية الصحيحة ويعطون الحساب ما يستحقه من اعتبار في التشريع إذ أصبح وسيلة من وسائل إثبات الصوم عندهم لا تقل قيمة عن الرؤية البصرية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 ولا أظن أن هذا الشك الذي كان يحوم حول قدرة المنجمين على حساب الأهلة ينصب اليوم على أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا مثل معهد الأرصاد بحلوان بمصر، ومعهد قانديلي باسطنبول، والمعهد الفلكي بأبو زريعة بالجزائر، والمرصد الفلكي بجاكرتا بأندونيسيا وغيرها التي تمحضت لدراسة علم الفلك وأصبحت عنوان التقدم العلمي في العصر الحاضر، مع العلم أن هذه المعاهد اليوم تستطيع أن تحدد لحظة ميلاد القمر وفترة مكثه بعد غروب الشمس في البلاد الإسلامية المختلفة بدقة متناهية، واحتمال الخطأ مع انضباط الحسابات في المراصد الفلكية الحديثة المختلفة أصبح من الأمور المستبعدة، وأصبحت الدراسات التي تقدم من الفلكيين في هذا الموضوع تصور بوضوح كل الأشكال التي تمر بها عملية ظهور الهلال. وقد تقدم المرصد الفلكي قاندلي باسطنبول بخرائط جغرافية واضحة تدل بكل دقة بداية رؤية الهلال لك لشهر من شهور السنة كما تبين البلدان التي يرى فيها ظهور الهلال فوق سطح الأرض بالساعة والدقيقة والثانية، ثم كيف تستمر عملية الرؤية طبقًا لحركات القمر حول الأرض؟ وقد صرح كثير من الفلكيين بأنه يمكن الاستعانة بالأقمار الصناعية لتصبح عملية الرؤية تشاهد على شاشة التليفزيون من طرف كل الناس. هذا وأن البحث الذي تقدم به علماء الفلك بجامعة الملك عبد العزيز بجدة إلى مجمعكم هذا ليعد نموذجًا صادقًا ودراسة علمية عميقة لمحاولة التوفيق بين النصوص الشرعية وعلم الحساب الذي أصبح من العلوم الصحيحة في هذا العصر. العنوان الرابع: المجيزون العمل بالحساب وحجبهم: إن القول بجواز الاعتماد على الحساب ابتدأ من عهد التابعين من أمثال: مطرف بن عبد الله وابن قتيبة من المحدثين والقاضي عبد الجبار وابن مقاتل الرازي من أصحاب الإمام محمد بن الحسن وأبي العباس ابن سريج والقفال والقاضي أبي الطيب من الشافعية كما نص على ذلك القرطبي في تفسيره، وقال: "وقد ذهب مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين وابن قتيبة من اللغويين، فقالا: " يعول على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل واعتبار حسابها في صوم رمضان حتى إنه لو كان صحوًا لرئي لقوله عليه السلام: ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) أي استدلوا عليه بمنازله وقدروا تمام الشهر بحسابه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 وصرح صاحب الهداية الحنفي المرغيناني في كتابه مختارات النوازل "إن علم النجوم قسمان: أحدهما الحسابي معلنًا أنه حق وقد نطق به الكتاب فقال تعالى {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي سيرهما بحساب، واستدلاله بحركة الأفلاك وسير النجوم هو جائز كاستدلال الطبيب على الصحة والمرض. أما العلامة ابن دقيق العيد فقد قال في شرح عمدة الأحكام: "والذي أقول به إن الحساب لا يجوز أن يعتمد عليه بمفارقة القمر للشمس على ما يراه المنجمون من تقدم الشهر بالحساب على الشهر بالرؤية بيوم أو بيومين، فإن ذلك إحداث لسبب لم يشرعه الله تعالى وأما إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا وجود المانع كالغيم مثلًا فهذا يقتضي الوجوب لوجود الحساب الشرعي وليس حقيقة الرؤية بمشروطة في اللزوم لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بالحساب بإكمال العدد بالاجتهاد بالأمارات وجب عليه الصوم وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه. أما الإمام ابن السبكي فقد ذهب إلى اعتماد الحساب في إثبات الأهلة ومواقيت الصلاة بناء على أن الحساب قطعي الثبوت نظرًا إلى ما وصل إليه علم الحساب والفلك من الدقة والوثوق في نتائجها وقرر الإمام ابن السبكي أنه لو شهدت بينة رؤية الهلال ليلة الثلاثين من الشهر وقال الحساب بعدم إمكان الرؤية تلك الليلة عمل بقول أهل الحساب لأن الحساب قطعي والشهادة ظنية، وابن السبكي يرى جواز الاعتماد على الحساب الفلكي لا وجوبه، وقال في تعليقه على حديث ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) في كتابه العلم المنثور: والبحث في الحديث في موضعين: أحدهما قوله ((فاقدروا له)) قال بعض من يقول باعتماد الحساب معناه احسبوا له ويكون معناه قدروه بالحساب والمنازل كما قال تعالى {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} قاله مطرف بن عبد الله وابن قتيبة من المحدثين وابن سريج من الشافعية وابن مقاتل من أصحاب محمد، إلى أن قال: إنما يلزم ذلك لو كلف عامة النسا بالحساب ولم يقل بذلك أحد بل الذي قلناه أن الحديث في المعنى الذي اخترناه خطاب لمن خصه الله بهذا العلم وقول في الرواية الأخرى ((فأكملوا عدة ثلاثين)) خطاب للعامة، فلا تنافي بين الروايتين بل هما في حالين مختلفين يعمل بكل منهما في حال. ومن هذا ما ذكره الإمام العلامة الشيخ محمد رشيد رضا في الجزء الأول المجلد 28 من المنار صفحة 63. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 ثم نمر إلى أن نصل إلى ما قاله العلامة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في بحث له بعنوان "يسألونك عن الأهلة" يقول: "ولمعرفتنا وجود الهلال عقب المحاق في علم الله طرق: أولها: رؤيته بالبصر رؤية لا يريبة تتطرقها، وهذا الطريق حسي ضروري ولا خلاف في العمل به. ثانيها: مرور ثلاثين ليلة من وقت استهلاك الهلال الذي سبقه، وهذا الطريق قطعي تجريبي ولا خلاف فيه بين الأئمة. ثالثها: دلالة الحساب الذي يضبطه المنجمون أعني العاملين بسير النجوم علمًا لا يتطرق قواعده شك، وحسابًا تحققت سلامته من الغلط وهو ما يسمى بالتقويم. وبعد ذلك تعرضنا إلى ما قاله الأستاذ علال الفاسي وكثير من الإخوان الذين تعرضوا إلى هذا الموضوع، وبهذا ندرك أن النصوص التي استشهد بها على حصر الرؤية بالبصر لا يمكن أن تكون دليلًا على منع إثبات الشهر بغير الرؤية البصرية لأن هذه النصوص وإن أفردت رؤية بالذكر فإنها لم تقصر إثبات الشهر على البصر بل اقتصرت على ذكر وسيلة من وسائل إثبات الرؤية. العنوان الخامس: نتائج واقتراحات: يبدو أننا لم نظفر إلى الآن بنتائج إيجابية للتقريب بين الذين يجيزون العمل بالحساب وبين الذين يقصرون ثبوت الشهر على الرؤية البصيرة وحدها، فالفريق الأول يقو بالعمل بالحساب بشرط أن يكون الحاسبون جماعة من المسلمين موثوق في دينهم وعلمهم وأن يكون حسابهم متماشيًا مع الضوابط الشرعية مؤيدًا بحسابات المراصد الفلكية العالمية. وعندما تتوفر هذه الشروط فلا مانع من اعتبار الحساب وسيلة ثانية من وسائل الإثبات، فتكون عند المسلمين وسيلتان لا وسيلة واحدة الرؤية والحساب، لا سيما وأن علم الهيئة أصبح من العلوم الصحيحة أقرته الأمة الإسلامية وقررت تدريسه في جامعاتها، وإذا تمكن المؤتمرات والندوات الإسلامية التي انعقدت لهذه الغاية أن تقيد عمل الحاسبين وأن تضبط الرؤية المرادة شرعًا وأن تقيدها بقيود اتفق عليها علماء الشريعة والفلك وبرزت بصيغة قرارات كانت جميعها متكاملة روعي فيها جانب النص كما روعي فيها جانب المصلحة وكانت غايتها جمع المسلمين وتوحيد أعيادهم ومواسمهم، فإن هذه المؤتمرات لم تتمكن من جانب آخر من إقناع القائلين بانفراد الرؤية البصرية على القول بالحساب في إثبات الشهور لان الرؤية عندهم أمر تعبدي لا يمكن أن يطرأ عليه أي تغير، فالأحكام أبدية والأسباب والشروط والموانع هي كذلك أبدية لأنها من وضع إلهي فما أثبت واجبًا يبقى كذلك، وقد ثبت أن الرؤية سبب شرعي للصوم والإفطار فلتبق كذلك منظورًا إليها نظر الأصول الثابتة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 ولم يقتنعوا بأن بعض النصوص التي اعتمدوها والتي وردت معللة من الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه والقاعدة عند الفقهاء أن النص إذا ورد معللًا بعلة فإن للعلة تأثيرها في فهم النص، وأن الحكم يرتبط بها وجودًا وعدمًا لا فرق في ذلك بين العبادات وغيرها، كما لم يقتنعوا بأن الضرورة قد يكون لها دخل في تغير الحكم وقد جاءت النصوص بصوم الثلاثين يومًا عند الغيم ضرورة لأننا كنا لا نستطيع معرفة دخول أول الشهر إلا عن طريق الرؤية البصرية وقد تعذرت فعملنا بما أمكن فإذا تمكنا من تعرف حقيقة دخول أول رمضان أو أول شوال بواسطة أهل الذكر وهم أهل الحساب فلا جائز أن نعتمد على الضرورة والله تعالى يقول {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . وبذلك يتبين أن أصحاب هذا الاتجاه لم يقتنعوا بأي دليل أو برهان من الأدلة والبراهين التي قدمها المجيزون لإثبات الشهر بالحساب واعتباره وسيلة ثانية مع الرؤية على الأقل كما أن كل المعطيات الجديدة التي حفت بموضوع إثبات أوائل الشهور والتطور العلمي المدهش لم يعملوا به، وإذا كان من المفروض عند علماء الحساب ومن يجيزون العمل به أنه لا يمكن أن تختلف نتيجة الحساب عن نتيجة الرؤية الصادقة بحال من الأحوال فإن اختلاف المسلمين في بداية الشهور القمرية يدل على خلل إما في الحساب وإما في الرؤية لأنه ليس من المعقول أن تختلف بداية الشهر القمري بين بلد وآخر لمدة وصلت في السنة الماضية إلى ثلاثة أيام. وبإعادة النظر في تقديم هذين الوسيلتين بعد كل هذه الجهود التي بذلت ولا سيما في السنوات الأخيرة فإننا نجد ضبطًا مدققًا في التقاويم القمرية التي صدرت عن اللجنة الدولية المنبثقة عن مؤتمر اسطنبول إذ هي التزمت بكل الضوابط التي فرضت عليها من طرف اللجنة الشرعية فكان الاتفاق كاملًا بين المراصد الفلكية في كامل العالم الإسلامي كما كان التطابق تامًا في النتائج المقدمة كل سنة من طرف المرصد، الأمر الذي دفعنا إلى الاطمئنان إلى نتائج الحساب أما الرؤية البصرية فإنها لم تضبط في نظرنا الضبط المدقق الذي يضمن لها الصحة ويحقق لها النتائج الصحيحة التي لا ينبغي أن تتخلف عن الحساب الصحيح عادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 ويرجع هذا في نظري إلى تمسك بعض الفقهاء بأحد قولي الإمام أحمد ابن حنبل الذي يجيز في إثبات هلال رمضان قبول شاهد واحد وهو مشهور المذهب الحنبلي المستند إلى حديث ابن عباس الذي قال: ((جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ فقال: نعم، فقال: يا بلال، أذن في الناس فليصوموا غدًا)) مع أن المشهور في المذهب الحنفي أنه لا يقبل في هلال رمضان عند الصحو إلا الاستفاضة وقدرت بخمسين رجلًا على الأقل، وقد علل المغني اشتراط أبي حنيفة الاستفاضة بأنه لا يجوز أن ينظر الجماعة إلى مطلع الهلال وأبصارهم واحدة والموانع منتفية فيراه واحد فقط. وقال ابن عابدين في تعليقه على قول الحصكفي: "جمع عظيم يقع به العلم الشرعي وهو غلبة الظن" لأنه العلم الموجب للعمل لا العلم بمعنى اليقين، ولذلك فلا يقبل خبر الواحد لأن التفرد من بين الجم الغفير بالرؤية مع توجههم طالبين لما توجه هو إليه مع فرض عدم المانع وسلامة الأبصار وإن تفاوتت في الحدة ظاهر في غلطه (بحر) فإذا امتنع أبو حنيفة من قبول خبر الواحد في عصر التابعين وعد شهادته بانفراده برؤية الهلال غلطًا مع علمه بالنص اعتمده من أجاز قبول خبر الواحد فكيف يكون الحال في هذا الزمان الذي اشتهر بكثرة الكاذبين المدعين للرؤية الهلال؟ وكتب الفقيه مليئة بالحوادث التي صام فيها المسلمون وأفطروا تبعًا لشهادات كاذبة أو غالطة، وكم من مرة وفي هذه السنوات الأخيرة أعلن عن الصيام والإفطار بشهادة رؤية الهلال ثم لم ير الناس الهلال في الليلة الثانية وهذا يؤكد بطلان شهادتهم، هنا يجب أن نقف لنتساءل: لماذا نتمسك بآراء معينة أصبحت لا تحقق المصلحة المرجوة منها مع أننا سمعنا بحوادث كثيرة توقف فيها الفقهاء وأعادوا فيها النظر دفعًا لمفسدة وأصدروا أحكامهم الجديدة معللين ذلك فساد الزمان؟ والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه أشار إلى ضياع الأمانة وفقدان الأخلاق بقدر ابتعاد الناس عن القرون الأولى في الحديث الذي رواه الصحيحان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم يشهدون فلا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون فلا يوفون ويظهر فيهم السمن)) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 فأي مانع يمنعنا في هذا الزمان الذي كثر فيه الغش وفقدت فيه الأمانة وظهرت شهادة الزور في كل ما كان من اشترط شروطًا من شأنها أن تحفظ سلامة هذه الشهادة التي يصوم عليها مليار من المسلمين في جميع بقاع الأرض ويحتفلون بموجبها في أعيادهم ومواسمهم فإذا اكتفى الرسول صلى الله عليه وسلم في زمن البعثة بتزكية الشاهد بالنطق بالشهادتين بين يديه ثم اشترطت العدالة، وقال مالك لا بد من شهادة عدلين فإن مثل هذه التزكية لا تكفي في هذا الزمان الذي كثر فيه من ينطق بالشهادتين ثم يخون ويغدر. واعتقادي أن التمسك بمذهب أبي حنيفة وحده في هذه المسالة ربما لا يكفي في هذا الزمان بل لا مانع من تنظيم كيفية إثبات الرؤية بطريقة نضمن بها صحة هذه الشهادة، ولماذا لا تتعدد هيئات الرؤية في جهات متعددة من العالم الإسلامي حتى في القطر الواحد؟ ولماذا لا ننتخب أفراد الهيئة التي يعهد إليها أمر الرؤية ما دام احتمال الكذب واحتمال خداع النظر واحتمال قلة المعرفة بأمكنة طلوع الهلال قائمًا، واعتقادي أنا ما دام احتمال الكذب واحتمال خداع النظر واحتمال قلة المعرفة بأمكنة طلوع الهلال قائمًا؟ واعتقادي أننا لا نخرج بهذه القيود الجديدة عن تبديل الأحكام التي تمثل الوسائل والتي تتبدل بتبدل الأزمان والأحوال، والأمثلة في ذلك كثيرة في الفقه الإسلامي فقد أمر الخليفة عثمان بن عفان ببيع الإبل الملتقطة بعد أن كان حكمها أن تترك لحالها حتى يلقاها ربها كما جاء في السنة، وعلل ذلك بأن المجتمع على وشك الفساد بخاف منه على سرقة هذه الإبل وكثير من العلماء من يعتمد الرؤية البصرية يعتبرون مخالفة الرؤية البصيرة لما تعارفه الناس من قواعد علم الهيئة التي لا تختلف أوجب تكذيب الشهود، ويعتبر من قوادح الشهادة. أولًا: من ذلك إذا ثبت علميًا أن الهلال لم يولد فلا يجب أن يقال إنه شوهد لأنه لا بد من ميلاد الهلال قبل غروب الشمس ومكثه بعد الغروب لمدة تكفي لمشاهدته واعتبروا هذا النوع من الشهادة باطلًا لأنه خداع بصري أو سراب كاذب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 ثانيًا: إذا راقب الناس الهلال في آخر الشهر من جهة الشروق بعد طلوع الفجر وقل طلوع الشمس فرأوه رؤية فإذا شهد شهود برؤيتهم الهلال مساء ذلك اليوم فيكذبون لأن رؤيته صباحًا دليل على أنه ما زال لم يجتمع مع الشمس وما زال يدخل تحت شعاعها إذ من المعلوم أن القمر لا بد أن يختفي في آخر الشهر تحت شعاع الشمس يومين على الأقل. ثالثًا: إذا راقب الناس الهلال في كل يوم فلم يروه مع الصحو التام ثم يدعي رؤيته واحد أو أفراد قلائل من الناس فيكذبون أيضًا لأنه لو كان موجودًا لرآه جمهور الناس. رابعًا: إذا ادعى رؤية الهلال وانخسفت الشمس بعد ذلك بيوم أو يومين فإن هذا دليل على كذب الرؤية لأن الشمس لا يخسف بها في سنة الله إلا في اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين كما دقق ذلك العلماء الفلك وحققه شيخ الإسلام ابن تيمية نفسه في رسالته في الجزء 25 صحيفة 184 – 185 من الفتاوى. وهكذا تكذب كل شهادة في رؤية الهلال إذا كانت في وقت مستحيلة رؤيته فيه، والغريب أنه لم يقع اعتبار كل هذه الضوابط التي يقرها العقل السليم ولم تعتبر من القوادح في الشهادة بل اكتفي في هذا الزمان بشهادة الشهود وقبلت ولو من واحد عند الإعلان عن الشهر القمري في بلدان العلام الإسلامي في هذه السنوات الأخيرة، وفي نظري كان هذا الإجراء من الأسباب التي زادت في تباين المسلمين في بداية الشهور والأعياد، فالرؤية البصرية في نظري لا يمكن أن تكون أكثر من وسيلة من وسائل العلم، والله عندما قال {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فإنما أراد العلم بوجوده، فكل من علم منكم بوجود الشهر وجب عليه صومه ووجود الشهر شرعًا يكون بوجود هلاله بعد غروب الشمس بأي طريق من طرق العلم وإنما نص الشارع على الرؤية باعتبارها إحدى وسائل العلم بوجود الهلال. ولعل ما قدمه علماء الدين والفلك في هذا المجمع المبارك من البحوث القيمة يمكن أن يمثل البداية للخروج من الخلاف، وقد أصبحت مسألة توحيد بداية الشهور القمرية بعد كل هذه الجهود واضحة تتطلب أخذ قرار حازم من مجمعكم يأخذ كل هذه الملاحظات بعين الاعتبار حتى يبعد الأمة الإسلامية عن البلبلة التي وقعت فيها منذ سنوات ويوضح لها معالم الطريق حتى تسير في السبيل السوي، والله الهادي إلى سواء السبيل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 الرئيس: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. شكرًا: في الواقع يا شيخ قبل أن أدخل في الموضوع مع عدم المؤاخذة في وسط البحث الخامس كلام فيه شيء من الشدة في تجريح الأمة وهو في شهادته وما جرى مجرى ذلك وأنتم تعلمون أن هذه الأمة لا تنفك الوسطية عنها ولله الحمد، والخير في النبي صلى الله عليه وسلم في أمته، وما زال العدول قائمين وموجودين، وأنت تعرف فضيلتكم أنه عدد من المواضيع التي تنظر في هذا المجمع وآخرها في صباح هذا اليوم في شأن توظيف الزكاة قال الإخوان: على أن يتولاه أناس ثقات أمناء. هذا موجود فمعناه وجود الثقات الأمناء فيوجدون هنا ولا يوجدون في الذين يتراءون الهلال، الحقيقة أنا أحببت أن ألفت النظر للتأمل في العبارة، والموضح خاص بيني وبينكم لتأملها فقط والأمر يعود لكم. في الواقع يا أصحاب الفضيلة إن هذا الموضوع تعلمون أنه كان من المواضيع المطروحة في الدورة الثانية والموضوع ذو شقين: الأول: في مسألة اختلاف المطالع اعتبارها من عدمه. والثاني: في مدة إثبات الرؤية بالحساب. وهذان الموضوعان كذلك قد درسا في مجمع الفقه الإسلامي بمكة وصدر فيهما قراران أو ثلاثة، أما بالنسبة لتوحيد أوائل الشهور العربية فإنهم قرروا أن مذاهب أهل العلم بما فيهم المشهور من مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم على اعتبار اختلاف المطالع، وساقوا حديث كريب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ثم قرروا أن هذا الأمر ينبغي أن يترك للمفتين في كل دولة إسلامية لأنهم يتبعون أهل العلم فيها، وهذا فيه حل وسط، وقالوا في تقريرهم أن المسألة التي بين الأمة الإسلامية ليست التفريق في مسألة توحيد الرؤية أو عدم توحيدها وإنما هو فيما هو أعلم من ذلك وهو في العودة الصحيحة إلى الكتاب والسنة، إلى تحكيم شريعة الله في إلى أحكام الشريعة الله الظاهرة والباطنة. أما مسألة إثباتها بالحساب فقد صار تناول هذه المسألة بعض الشيء في الدورة الماضية إلا أن فضيلة الشيخ الضرير رأى أن يكون بحث المسألتين: اختلاف المطالع ومدى إثباتها بالحساب الفلكي ويستخلص منهما ما يتوصل إليه المجمع بإذن الله تعالى إلى قرار في هاتين المسألتين نظرًا لترابطهما في إثبات أول الشهور العربية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 ومن جهة الخلاف حيث إن البحوث يكمل بعضها بعضًا، أما من جهة الخلاف الذي أشرتم إليه عن مطرف بن عبد الله بن الشخير رضي الله تعالى عنه ومحمد بن مقاتل الرازي وغيرهما فإن الخلاف نفسه فيه بحث في مدى ثبوته وقد أتى ابن عبد البر رحمه الله تعالى على ذلك في كتابه التمهيد، وأتى علماء الشافعية على ذلك في كتبهم في الفروع بأن نسبة الإثبات لأوائل الشهور بالحساب المنسوبة إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لا تثبت عنه {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} من أهل مذهب الإمام الشافعي فهذا هو من ينسب إلى الإمام الشافعي والذي ينسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى هو جواز صيام الحاسب بالحساب لا على صفة العموم. وقال بهذا ابن سريج من الشافعية المتوفى في السنة السادسة بعد الثلاثمائة من الهجرة، فيتحرر أن حكاية هذا القول عن الشافعي قد نفى هذا أئمة المذهب من الشافعية، وأن ابن سريج لا يحكى عنه القول على الإطلاق وإنما هو على التقييد حيث إنه قال: للحاسب خاصة، وأما ما عدا ذلك فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قال: إنني لا أعلم أنه قال ذلك على الإطلاق مسلم، وأما مطرف بن عبد الله بن الشخير فإن ابن عبد البر قال: إن الإسناد عنه لا يثب ومحمد بن مقاتل الرازي من متقدمي الحنفية، قد تتبعت ذلك في كتب الحنفية المنتشرة فلم أر التوثيق لهذا لا نقل على أن محمد بن مقاتل الرازي قال الذهبي في الميزان: ضعفوه وفي نسخة: تركوه والشأن في الرأي ثم إن هذا الرأي هو في خصوص الحاسب من في جواز الأخذ بالحساب في خصوص الحاسب توسع فيما بعد لأنه حصل غلط في حكايته عن بعض هؤلاء الذين قيل عنهم غلطًا على سبيل الثبوت فإن إجمال ما يمكن أن يستدلوا به بنصين وقياسين. أما النص الأول فهو أحد الروايات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((فاقدروا له)) لكن قد ثبت عن الصحابي نفسه وعن عدد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((فاقدروا له ثلاثين)) إضافة إلى الروايات المتعددة الصحيحة الصريحة المتكاثرة في قوله عليه الصلاة والسلام ((أكملوا العدة)) ((فاكملوا ثلاثين)) ((فأكملوا شعبان ثلاثين)) ((فأحصوا العدة ثلاثين)) إلى آخر ذلك من الروايات المشهورة المعلومة لدى الجميع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 أما الحديث الثاني فهو قوله صلى الله عليه وسلم ((إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا..)) الحديث، فهذا الحديث قد أجاب عنه المحققون من أهل العلم وبينوا معناه، وهو على سبيل الإخبار من النبي صلى الله عليه وسلم عن حال الأمة، وممن قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى وابن بطال وغيرهم من أهل العلم، ومعلوم أن بساط الحال ولسان المقال قد يحدد المعنى والغرض المراد من المقول الذي يقول كقوله صلى الله عليه وسلم وأنتم قريبوا العهد بما ذكره الشيخ مصطفى من كلام الحافظ ابن حجر ومن كلام ابن بطال، أما القياسان فأحدهما: القياس على المحبوس في المطمورة، والثاني: القياس على إثبات أوقات الصلوات الخمس بالحساب، وفي الواقع أن كل واحد من هذين القياسين لا يثبت إذا ما طبق على أركان القياس وشرائطه، لأن من شرط صحة القياس أن يكون المقيس عليه ثابتًا بنص أو متفقًا عليه وكل واحد من هذين الفرعين المقيس عليهما لم ثبت بنص وليس محل اتفاق بين أهل العلم. ولهذا فإنه قد تتابعت كلمة العلماء المتقدمين في حكاية إجماع أهل العلم بل إن بعضهم حكى إجماع الصحابة وقال البعض: إنه لا خلاف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم وممن حكى الإجماع ابن منذر في الإشراف وسند من المالكية والباجي وابن رشد القرطبي وشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن حجر والسبكي والعيني وابن عابدين والشوكاني وغيرهم. هذا فيما يتعلق في مسألة الحساب إضافة إلى أن هناك أصولًا وهو أن الشرع جعل علامة أول الشهر هو الهلال لا غير، وأن ليس لأول الشهر حد عام ظاهر سواء كما جعل أن أقل الشهر حصره في تسعة وعشرين يومًا وأكثره في ثلاثين يومًا، وأن الشهر لا يعتبر إلا بيقين، وحدد الشارع عليه الصلاة والسلام ذلك اليقين بالرؤية أو الإكمال، فالشرع أناط الحكم بأول الشهر بوجود الهلال حقيقة لا بوجوده تقديرًا عن طريق الرؤية أو الإكمال، وهذا هو على طريق الحصر كما تفيد النصوص ((لا تصوموا حتى تروا الهلال)) ، ((إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له)) . لهذا فإن مسألة الحساب فيها إجماع قديم محكي عن أهل العلم وأن الرواية التي اتكأ عليها عدد من المتأخرين هي قوله ((فاقدروا له)) ثبت عن الراوي نفسه –هذا بيت القصيد- أنه قال: ((فاقدروا له ثلاثين)) في لفظ آخر، ولهذا فإن الروايات معروف من جادة أهل العلم بالسنة النبوية أنه يفسر بعضها بعضًا وأن لا بد من جمع الروايات ولم شتاتها لأنه بهذا تعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا عرض نظرًا لأنه سبق بحثه في هذا المجمع ولأنني أعددت بحثًا موجزًا في هذا الموضوع بجزئيتيه مطروح للمناقشة على أصحاب الفضيلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 الشيخ وهبة الزحيلي: بسم الله الرحمن الرحيم. أصلي وأسلم على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد. مما لا شك فيه أن التكليف الشرعي منوط بالنصوص الآمرة المحددة لبدء التكليف ونهايته، وبناء على هذه القاعدة فإن الشرع الشريف لم يكلفنا بالنسبة للصيام بدءًا وانتهاء إلا بالاعتماد على الرؤية، فقال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا رؤيته)) فالتكليف مرتبط بالرؤية ولا يعني ذلك عدم أو إهدار ما تقدمه لنا النتائج العلمية أو علم الحساب أو غير ذلك حتى لا نتهم بأننا نقل من أهمية العلوم وخصوصًا أنها أصبحت قطعية في عصرنا الحاضر، فلذلك أرجو أن نلاحظ هذا المعنى وهو ربط الحكم الشرعي بالتكليف الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا واضح في النص القرآني {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} . فهذه عموميات لا يعارضها النص الخاص في موضوع التكليف بالصيام مرتبطًا بالرؤية التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم تحصل الرؤية فهناك أيضًا روايات يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم ((فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) وليس فقط ((فاقدروا له ثلاثين)) ، ((فاكملوا عدة شعبان ثلاثين)) وهذا دليل على أن الشرع لم يكلفنا بأمور يصعب التحكم فيها أو الاطلاع عليها، ولا يعني ذلك أننا نهدر القيم العلمية النتائج التي تتوصل ليها الأرصدة سواء في الماضي وفي الحاضر ولذلك نجد الاتجاه السائد فقهًا وهو ما عبرتم عنه بشبه الإجماع أو الإجماع في أن الحكم في هذا الموضوع مرتبط بالرؤية لا بالحساب. لكن المشكلة بعد هذا الاتجاه السائد لدى فقهائنا المشكلة في غير هذا وهي أننا أيضًا نسلم باختلاف المطالع فهذا أمر ثابت في الواقع وأهل الشام قد يرون الهلال وأهل المغرب لا يرونه وهذا استقراء ثابت في الواقع ونحن لا ننكره، والعلماء بحثوا هذه القضية واتفقوا جميعًا أيضًا اتفاقًا مضمونًا إلى التكليف بالرؤية اتفقوا على أن مبدأ اختلاف المطالع أمر مسلم به ولكن المشكلة التي نريد أن نصل إليها الآن وهي عندنا اتجاهان للفقهاء: هل إذا رئي الهلال في بلد مع التسليم باختلاف المطالع وخصوصًا أن البلاد العربية كلها يجمعها ليل واحد اثنتا عشرة ساعة ما بين المشرق والمغرب فالتي تكون على خط عرضي واحد وأما التي يجمعها ليل واحد إذا رئي فيها الهلال في بلد من البلدان فهل يجب على أهل الأقطار الأخرى أن يصوموا بناء على ثبوت الهلال مثلًا في السعودية أم لا يجب؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 عندنا اتجاهان للفقهاء في هذا الموضوع: مذهب الإمام الشافعي أنه إذا ثبت الهلال في قطر فلا يجب على أهل قطر آخر أن يروه حتى أنه بالغ الشافعية وحددوا المسافة بين القطرين بمسافة القصر يعني 90 كلم، وهذا فيه شيء من المبالغة، يعني ولا يمكن أن تخلو بلدة من البلدان في إقليم أو قطر الآن من الأقطار إلا وبينها وبين البلدة الأخرى أكثر من هذه المسافة، فهذه مبالغة في الحقيقة نجدها واضحة في مذهب الشافعية. لكن جمهور الفقهاء وهذا الذي أريد أن أعتمد عليه، وما دام هناك اتجاه جماعي لأغلب الفقهاء وهو القول بأنه إذا رئي الهلال في البلد يجب على أهل كل تلك الأقطار ما دامت على خط عرض واحد أن تصوم وأن تفطر وفي هذا ما دام عندنا مجال واتساع لكي نأخذ بهذا الرأي الأغلبي لدى الفقهاء ونوحد بداية الشهور ونهايتها، فما المانع من أن نقول بتوحيد بدايات الشهور العربية بناء على هذا الاتجاه الفقهي السائد، وأن نجنب الأمة الوقوع في الخلافات والنقد اللاذع. وما أشار إليه فضيلة الأستاذ مصطفى فعلًا كان في السنوات الأخيرة، قد يكون الفرق ثلاثة أيام، فهذا لا يمكن قبوله بحال وصمنا في بعض الأقطار في الإمارات صمنا ثمانية وعشرين يومًا ثم قضينا يومًا آخر منذ سنتين وهكذا وقعنا في إشكالات كثيرة، أما الخطأ فمرجعه إلى أن القضاء الشرعي الذي يعتمد على رؤية واحد أو اثنين هو الذي يكون قد قصر في التعرف على عدالة الشهود، فهو المؤاخذ في هذه القضية وعندئذ التقصير يكون من قبله ولا ينبغي أن نجرح الناس إنما نقول يجب عليه أن يتثبت تثبيتًا دقيقًا واعيًا لأن هذه عبادة وأن آلاف وملايين المسلمين تنتظر القول الفصل من قاض شرعي واحد، والغالب أن الدول أحيانًا تقلد بعضها بعضًا إذا ثبت في مصر فكان يثبت في المشرق وهكذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 وبالعكس فنحن نريد الوصول إلى توحيد بدايات الشهور القمرية وعندنا المجال متسع والرأي الفقهي واضح، فما أدري لماذا نصر على القول باختلاف المطالع ونكرس التفرق ونبقي هذه الظاهرة بهذا الشكل التي لا يمكن تفسيرها في تقديري إلا للعصبية المذهبية، وإلى التحجر على الآراء، ومع الأسف الشديد تدخلت السياسة أخيرًا فكانت تعاند وتعارض في أن مثلًا بلدًا من البلدان صام كان البلد الآخر يتدخل بشكل أو بآخر فلا يصوم، فهذه آفة، تدخلت السياسة وأفسدت حتى قضايا ديننا الحنيف فنحن يجب أن نكون واعين لمثل هذه الأمور وأن نقطع تدخل أولئك الذين لا يحسنون أن يكون لهم قرار في قضايا ديننا الحنيف والمجال أمامنا متسع، والله سبحانه وتعالى أسأله أن يوفقنا إلى ما فيه الخير والسداد، وشكرًا. الأستاذ فخر الدين الكراي: (أخصائي في علم الفلك بأمريكا) : بسم الله الرحمن الرحيم.. وبعد، فإني أبلغ لكم سلام بعض الجاليات المسلمة الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تنتظر منكم الكثير في مجمعكم الموقر هذا لإمكانية توحيد بداية الأشهر القمرية انطلاقًا من هذه الدورة إن شاء الله، وإنه لمن المؤلم حقًا أن ترى في هذه الجاليات الأمريكية كلا يتبع بلاده فترى المجموعة ذات الخمسين أو الستين مسلمًا تحدهم يصومون على ثلاثة، يبدءون صيامهم على ثلاثة أو يومين، وهذا يؤلم وجعل الأمريكيين والأجانب يتساءلون عن مصداقية بداية الشهور وجعلونا محل استهزاء في بعض الأحيان وهذا يؤسف له. قمت في الدراسة التي قدمتها في توحيد بداية الشهور القمرية بوصف بعض الأشياء التقنية التي طلبها مني بعض الإخوان، وهي عبارة عن التحركات الظاهرة للقمر، حالات القمر ومنازله، الكسوف والخسوف وهي من الظواهر التي تبين وتؤكد على أن هناك حسابات فلكية يمكن الاعتماد عليها للاستعانة في تعيين بداية الأشهر القمرية بداية شرعية أعني الرؤية بالعين المجردة والرؤية الصحيحة وأثبت على الرؤية الصحيحة لأنه ثبتت في العديد من السنوات الماضية أنه في عدد من دول العالم الكثيرة يعلنون عن بداية الشهور القمرية برؤى غالطة سواء في أي مناطق من دول العالم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 وهذا مما يؤسف له، ولقد أردت في هذه الدراسة الصغيرة والتي هي مستوحاة من كتاب "في أعماق الكون" كنت قدمته قبل سنتين في هذا الموضوع وقمت بمحاورات عديدة لبعض المراكز الإسلامية في الولايات المتحدة لكي أوضح لهم هذا الموضوع. وإذا تسمح سيادتكم أن أقدم لكم بعض التفسيرات على السبورة، فأقدم بعض التفسيرات إن شاء الله وقد قمت بتصوير وتلخيص ما جاء في هذه الدراسة وهو من أهم الأشياء التي تهمنا في اختلاف المطالع، (هنا يتولى الأستاذ الكراي رسم بعض الصور على السبورة ويقوم بالشروح العلمية) . بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين. في الدراسة التي تحت أيديكم أظن في الصفحة 8 هناك صورة توضح مختلف المناطق التي يوجد فيها القمر خلال دورته على الأرض، وهي صورة مبسطة جدًا لأن مدار القمر ليس بالمدور وهو ليس الإهليج كما يدعي البعض ولكنه إهليج يدور في وسط إهليج ثان وهو عبارة عن إهليج يدور في حلقة خذروفية. وهذا مما عسَّر حساب القمر منذ القديم، ولذلك لم يعتمد فيه الصحابة والرسول صلى الله عليه وسلم وبعض الفقهاء على أقوال المنجمين الذين كانوا يدعون معرفة وقت المدة الشهرية للقمر وابتداء وحساب الكسوف والخسوف، أما هنا هذه أشعة الشمس مثلًا –هذه الأرض هنا- نسبة لمشاهد خارجي عن المجموعة الشمسية أعني عن الأرض والشمس وكل الكواكب الأخرى. فإذا اعتبرنا أشعة الشمس توجد هنا والشمس كما قلنا بعيدة عن مركز الأرض بمسافة تقدر بمائة وخمسين مليون كلم، بينما تقدر المسافة الموجودة بين الأرض والقمر بمسافة معدلية تبلغ 380 ألف كلم، فهنا أخذنا لتبسيط الأمور وتوضيح الأشياء أمامكم أن مدار القمر حول الأرض هو دائرة فبالنسبة لمشاهد خارجي يعني مثلًا خارج عن المجموعة الشمسية ماذا يرى؟ فإنه يرى في مختلف هذه المناطق القمر يدور حول الأرض وكل الاشعاعات هي نفسها نصف إشعاع، نصف كرة مشعة، والقمر بالنسبة لمشاهد خارجي عن الأرض وعن المجموعة الشمسية، ولكن الأمر يختلف تمامًا بالنسبة للمشاهد الأرضي فعند التقاء القمر على نفس خط الطول السماوي بين مركز الأرض والشمس هذه الأرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 وهذه كلها المنطقة المضيئة، وهنا منطقة غروب وهنا منطقة شروق، وهذا كله النهار فهذا منتصف النهار، وهذا منتصف الليل والكرة الأرضية نرى منها القطب الشمالي هنا، فهي ارتماء للصورة وهذا القمر بينما بالنسبة لمشاهد يوجد على سطح الأرض في أي من القارات الخمس فإنه لا يرى شيئًا في هذه المنطقة التي تقابل التقاء القمر بخط الطول السماوي وهو ما يعبر عنه فلكيًا بحالة القران أو الاقتران، فإنه في هذه الحالة لا يرى شيئًا، وهذه الدائرة ليس فيها أي ضوء، وكل ما ترونه هنا هو ما يشاهد لنا من مشاهد في الأرض بينما ما ترونه هو كل موقع القمر التي تحتلها في مدارها حول الأرض ولكنها بالنسبة لشخص يوجد خارج المجموعة الشمسية، عندما ينتقل القمر من هذه المنطقة إلى هذه المنطقة سيسير ارتماء الضوء، فهو ارتماء هندسي يسير ارتماء هذا الضوء بالنسبة لمشاهد على الأرض يعطينا هذا الرسم الهندسي هو ما يعبر عنه بالهلال –بهلال أول الشهر- إذن الهلال العلمي هو في اللحظة التي يخرج فيها القمر من هذه المنطقة منطقة القران الفلكي. الشيخ عبد الله البسام: المحاق يوم أو يومان؟ الأستاذ فخري الدين الكراي: المحاق ليس له قيمة مفصلة ذلك لأن القمر ليست له سرعة قارة في كامل دورته حول الأرض، وذلك كما قلت لكم لأن القمر يخضع لمشكلة الثلاثة أجسام، فالقمر لا يحتل مدارًا إهليجيًا حول الأرض لأن الأرض ليس الجسم المؤثر الوحيد على القمر. الشيخ عبد الله البسام: لكن يوم المحاق كله يوم قران. الأستاذ فخر الدين الكراي: في كل هذه المنطقة التي سوف أفسرها وهي من 8 درجات من هنا و 8 درجات من هنا تقارب المحاق 16 درجة من بداية الاقتران وقبل الاقتران، في هذه المنطقة هي نهاية الشهر القمري وهذه المنطقة هي بداية الشهر القمري، ففي هذه المنطقة قبل يومين من نهاية الشهر القمري نرى أن القمر يبزغ قبل شروق الشمس بساعات قليلة ثم يغرب ثم بعد يوم نلاحظ أن القمر لم يظهر قبل شروق الشمس بقليل ولم يظهر إلا بعد يوم من ابتدائه بعد القران بمدة. وكل هذه المدة يعبر عنها بالمحاق وهي ليست مدة قارة: في بعض الأحيان تقارب اليوم وعشرين ساعة، وفي بعض الأحيان تقدر بيوم و 12 ساعة، وفي بعض الأحيان تقدر بيوم و 10 ساعات، فهي تختلف باختلاف سرعة القمر كما قلت لكم إذ مدار القمر هو مدار خذروفي ومعقد جدًّا، ولم يستطع علماء الفلك حل المشكلة التي أعبر عنها بمشكلة الأجسام الثلاثة إلا في بداية هذا القرن العشرين عن طريق العالم الألماني بروان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 ولكن في نفس هذه الفترة لم يتمكنوا من الحساب الدقيق لبداية الشهر ونهاية الشهر، وذلك لأن في هذه المعادلات تفاضلية معقدة جدًّا وهي حل لمشكلة الأجسام الثلاثة مكثوا مثلًا لحساب مدقق أقول ساعتين أو لثلاثة ساعات تقديرية مكثوا عشرة أيام يحسبون بمجموعة من العلماء في ذلك الوقت حسبوا لمدة عشرة أيام ولم يتوصلوا إلى دقة تقارب الساعتين أو الثلاث ساعات ولكن في العشرين سنة الماضية تطورت الحاسبات الإلكترونية وتمكن علماء الفلك من ضبط دقة هذا الموضوع وتوصلوا في سنة 1962 إلى ضبط دقة تقارب جزءًا من الألف من الثانية لمعرفة موقع القمر في مداره حول الأرض، وهذه دقة يعجب بها الإنسان، وهي دالة على نبوغ في هذا الميدان. ونفس الحساب هو الذي مكن علماء "ناسا" وكالة الفضاء الأمريكية من بعث أول إنسان إلى سطح القمر، بنفس هذه الدقة فقد تنافست عديد من الجامعات الأمريكية على هذا الموضوع وفي الأخير نجحت الجامعة الأمريكية –ويعرفها الدكتور علواني- نجحت جامعة الأمريكيين من معرفة دقة الحسابات الفلكية بجزء على ألف الثانية، وحاليًا يعرفون دقة الحسابات هذه بجزء على مائة ألف الثانية، وسبحان الله بعثوا هذا الصاروخ القمري يقولون عنه: لو لم تكن الدقة تعدل جزءًا من المائة في الثانية، لما نبعث صاروخًا من سطح الأرض نبعثه ليكون على سطح القمر إذا لم تعد لتلك الدقة فإن الصاروخ يضيع في الفضاء الخارجي، وهذه الحقيقة لا يمكن الابتعاد عنها، ومن هنا توفرت لفلكيين هذا العصر إمكانية حساب الأشياء بدقة هائلة. بقي موضوع اختلاف المطالع على الكرة الأرضية.. لنرسم هنا، لنفتح مثلًا الكرة الأرضية، الكرة الأرضية تعرفون مدورة لنفتحها مثلًا على مستوى السبورة هذه، ونرسم هنا القارة الأسيوية، القارة الأوروبية، القارة الإفريقية، والقارتين الأمريكية الشمالية والجنوبية، ونرسم هنا القطب الجنوبي وهنا القطب الشمالي، وهنا أشعة الشمس التي تغيب، أي توضيح أو شيء ممكن الإعادة. هذه مثلًا القارة الأسيوية هنا توجد القارة الأسيوية وهنا توجد القارة الأوربية مثلًا وهنا توجد القارة الإفريقية مثلًا وهنا توجد القارة الأمريكية كما ذكرت هذه كرة الأرض مدورة الشكل فتحناها وجعلناها على هذا المستوى فكل هذه المنطقة فيها ليل كما أن كل هذه المنطقة فيها ليل ومنتصف هذه المنطقة فيها النهار، فمثلًا إذا اعتبرنا أن القران في هذه اللحظة هذه معنى الولادة، الولادة العلمية للشهر القمري حدثا في ساعة منتصف النهار صباحًا في هذه المنطقة مثلًا الباكستان مثلًا توجد في هذه المنطقة غروب الشمس بينما توجد في هذه المنطقة مثلًا في وسط الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا في كلورادواو في أي منطقة يوجد الفجر فجر اليوم الجديد، وهذا غروب الشمس في هذه المنطقة في كل هذه المنطقة على نفس خط الطول هذا له نفس وقت الغروب إذا كانت الأرض في منطقة المنقلب الصيفي أو المنقلب الشتوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 وفي غير ذلك هذه المناطق ليست لها نفس وقت الغروب في هذه المنطقة بالضبط هنا غروب الشمس وولد الهلال في ساعة منتصف النهار، قلنا يولد الهلال لا يولد في منطقة واحدة يولد على العالم كله الهلال يولد على كل الكرة الأرضية ولكن المشكلة لا يمكن رؤية هذا الهلال إلا بعد وقت من ابتعاد هذه الكرة القمرية في هذه المنطقة عن منطقة القران بعد ساعات، وهذه الساعات قدرت بعدد من الدرجات يقدر بـ 8 درجات يعني مثلًا هذه المنطقة هو يصبح فيها الهلال مرئيًا، وكما ذكرت لكم، أن الثماني درجات هذه تقابل في بعض الأحيان 12 ساعة وفي بعض الأحيان 20 ساعة وفي بعض الأحيان 17 ساعة وذلك باختلاف سرعة القمر حول الشمس. قلنا غروب الشمس أعني أن في هذه المنطقة عندهم غروب والقمر في لحظة اقترانه يعني استحالة رؤية القمر في كل هذه المنطقة التي لديها غروب الشمس، ثم تدور الكرة الأرضية حول محورها وتصبح منطقة مثلًا منطقة السعودية تصبح عنده الغروب ولكن في ذلك الوقت القمر ابتعد عن هذه المنطقة –منطقة القران- ليصبح مثلا ًعمره ستة ساعات، وستة ساعات هذه مثلًا لا تقابل إمكانية رؤية الهلال. إذن أشخاص في السعودية لا يتمكنون من أن يروه مثلًا أخذت السعودية أو الكويت أو الإمارات لأنها في نفس خط الطول، كل الناس الذين يوجدون على نفس خط الطول لا يمكن لهم رؤية الهلال إذا لم يتحصل على تلك الـ 8 درجات نزيد نبتعد في الوقت تدور الكرة الأرضية في نفس الاتجاه، ويصبح مثلًا خط غروب الشمس على ليبيا مثلًا في نفس الفترة تلك الهلال عمره 8 ساعات إذن الـ 8 ساعات تقابل الـ 8 درجات التي يمكن فيها رؤية الهلال في هذه المنطقة، فإن الهلال على ليبيا يمكن رؤيته بينما السعودية غرقت في الظلام في ذلك الوقت وتستحيل رؤية الهلال لأن الهلال أول الشهر لا يمكن أن يتعدى بعد غروب الشمس 15 دقيقة، 20 دقيقة، 30 دقيقة، في أكثر الأحيان إذا لم ير في تلك الدقائق فإنه تستحيل رؤيته إلا في اليوم القادم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 إذن فالسعودية –قلنا- لن ترى الهلال وباكستان لن ترى الهلال بينما ليبيا فقط ترى الهلال، إذا ليبيا بدأت ترى الهلال فإن المغرب الذي يوجد في غرب ليبيا بثلاث ساعات أو ساعتين فإنه سوف يرى الهلال أحسن من الليبيين، فإن الهلال انتقل من هذه المنطقة إلى منطقة أبعد منها يكون فيها ارتماء الضوء أكثر من المنطقة التي كان فيها على ليبيا. وهذا ما يفسر اختلاف المطالع أعني أن باكستان لم تر الهلال، السعودية لم تر الهلال، ليبيا تراه صغيرًا بينما المغرب بدأت تراه واضحًا، وتدور الكرة الأرضية ويصبح الهلال لما يصبح الغروب شرقًا في هذه المنطقة، أي على الولايات المتحدة الأمريكية يصبح مثلًا الهلال في وقت غروب الشمس على هذه القارة عمره 22 ساعة أو 24 ساعة وذلك يقابل هلالًا كبيرًا، يعني ما خلاصة هذا القول يعني أن كل الدول التي توجد في غرب الكرة الأرضية ترى أحسن من غيرها هلال بداية الشهر، قلنا إن ليبيا ترى أحسن من باكستان والمغرب ترى أحسن من ليبيا والولايات المتحدة رئي أحسن من المغرب، وهذه الحقيقة يجب أن نتركها في الأذهان وأنه إذا رؤي الهلال في الشهر في منطقة باكستان فإنه يرى واضحًا في منطقة السعودية ويرى أوضح من ذلك في منطقة تونس والجزائر والمغرب، هذه حقيقة يجب التفطن إليها. الرئيس: لكن في الواقع يا أستاذ الكراي يظهر أن الواقع يفيد العكس فإنه مثلًا يرى في السعودية وتستحيل رؤيته في المغرب. الأستاذ فخري الدين الكراي: لا هذا هو عين الغلط. الرئيس: لا أنتم تقولون العكس. الأستاذ فخر الدين الكراي: أنا قلت: إنه في المغرب يرى أحسن من السعودية. الرئيس: أنا أقول العكس، هذا الحاصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 الأستاذ فخر الدين الكراي: نحن أناس نؤمن بكروية الأرض وأن الأرض تدور حول نفسها في الاتجاه المعاكس لحركة الساعة، كذلك القمر يدور في محورها في نفس هذا المدار فإنه في الغرب وهذا يقر به جميع علماء الفلك والناس الذي أرسلوا الصاروخ كلهم يعلمون هذه الحقائق. الشيخ عبد السلام العبادي: بسم الله الرحمن الرحيم.. كفاني بعض الإخوة شيئًا كثيرًا مما كنت سأقول، إنما أكتفي ببعض الإشارة تعقيبًا على ما قيل بخصوص مدى توافق الحقائق العلمية في مجال الدراسات الفلكية بخصوص حركة القمر مع الرؤية الشرعية. العنوان الذي اختير لهذه المسألة هو توحيد بدايات الشهور القمرية لم يختر العنوان بحيث يقال: اللجوء إلى الحساب الفلكي في مجال إثبات الرؤية وهذا أمر في الواقع له ملحظ يعني يجب أن يقام له وزن كبير. نعم الشريعة والنصوص التي وردت تركز وتحدد في المجال موضوع الرؤية البصرية لكن الرؤية البصرية إذا تطرق للشهادة بها احتمال من حيث اصطدامها مع يقين قاطع، كما تفضل الشيخ عبد اللطيف وخاصة أن العملية تناط بشاهدين أو بثلاثة شهود نقطع وفق البحث العلمي الذي تفضل الأستاذ الكريم وشرح لنا بأننا نحسب الآن حركة القمر بالنسبة لحركة الأرض بدقة تصل إلى مائة ألف من الثانية، ويأتي شخص أو شخصان أو ثلاثة ويقولون إنهم رأوا الهلال ولدينا يقين علمي نقطع معه بأن الهلال لم يكن متولدًا فلكيًا في تلك اللحظة. واضح من الناحية الشرعية الشهادة في مجال تمحيصها والاستيثاق منها إذا أتت بما هو مخالف للواقع ترد، فقضيتنا في هذا المجال ترتبط أولًا بموضوع الاستيثاق من الرؤية أو من الشهادات التي تقرر موضوع الرؤية، الذي عليه الحال في عالمنا الإسلامي في هذه الأيام، وفي أكثر من مناسبة لإثبات رؤية هلال شوال أو رؤية هلال رمضان نسأل كيف تم إثبات الهلال في البلد الفلاني يقولون: جاء شاهدان أو ثلاثة شهود وشهدوا بأنهم قد رأوا الهلال، طيب يا أخي أين نذهب بالقطع العلمي اليقيني بأن الهلال لم يكن متولدًا وقت الرؤية، وكيف نترك أمر ديننا لشهادة اثنين أو ثلاثة مع احتمال أن يكون قد وقع في شهادتهم نوع من اللبس أو الوهم أو الغموض أو غير ذلك هذا من ناحية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 من ناحية أخرى الموضوع الذي تفضل الدكتور وهبة وأشار إليه، بعد أن نستوثق من عملية الرؤية وأنها لا تخالف اليقين الفلكي، الأساس هو الرؤية لكن شريطة أن لا تخالف اليقين الفلكي في موضوع تولد الهلال إذا ثبتت الرؤية في بلد، لماذا لا يخرج هذا المجمع بقرار يتبنى فيه رأي جمهور العلماء في هذه المسألة ويقول إنه إذا رئي الهلال في بلد يجب على جماعة المسلمين أن يصوموا أو يفطروا حسب الحال المعروض في موضوع الرؤية. والقضية ليست قضية اختلاف بين المغرب والمشرق، القضية وصلت إلى درجة بين البلدين المتجاورين الموجودين على نفس خط الطول هذا يصوم وهذا يفطر يعني هذا في الواقع مثار سخرية وانتقاد ومظهر من مظاهر فرقة هذه الأمة، قد يقول بعض الإخوة كما سمعت: إن المسلمين متفرقون في أمور أشد من هذا، وإذا كان في إمكاننا أن نوحد المسلمين في هذا الأمر نتركه لأن المسلمين متفرقون في أمور أخرى ولا أدري كيف يقبل هذا المنطق. إذن لماذا نجتمع؟ ولماذا نبحث في وحدة المسلمين؟ ولماذا تقوم المنظمات الإسلامية ما دام أن المسلمين متفرقون ومختلفون؟ هذا في الواقع منطق غير مقبول ما دمنا نستطيع أن نحافظ على وحدة المسلمين في أمر يجب أن يحافظ عليه، وهذا الأمر الذي يكلفنا الله به قدر استطاعتنا. بقيت قضية أخرى في هذا المجال وهي حكم المسلمين في الدول غير الإسلامية، تفضل الإخوة وأشاروا إلى ما يحدث في الولايات المتحدة مثلًا بالنسبة للمسلمين: ما حكمهم في الواقع هل يتبع كل فرد رؤية بلده إذا صح موضوع الرؤية، أو القرب إليه؟ وبخاصة أن المسلمين قد عزفوا في هذه الأيام عن موضوع الرؤية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 تجد في البلد كله لا يأتي للشهادة إلا واحد أو اثنان لو كان الأمر كما تفضل الشيخ عبد اللطيف أنها جماعة المسلمين ترى لهانت القضية وسلم بالرؤية وحل الإشكال لكن القضية أن المسلمين انصرفوا عن عملية الرؤية ولا يتقدم إليها إلا قلة ونوادر، البلد بطوله وعرضه وملايينه لا يأتي إلا واحد أو اثنان أو ثلاثة يشهدون ونقبل شهادتهم فيما فيه قطع يقيني بمخالفته للحساب الفلكي. كنت سأقول فكاهة عندما احتدم الخلاف بين موضوع الفلكيين والشرعيين وما تفضل به بعض الإخوة يعني أيصل الأمر أن هلال الفلكيين غير هلال الشرعيين؟ نحن نتكلم عن هلال واحد، أولئك يقطعون بأن الأمر بواحد من المائة ألف من الثانية أن الهلال في المكان الفلاني من السماء ثم يأتي واحد بسيط وقد يكون أميًا في قرية من قرانا ويقول: لا أنا رأيت الهلال فيما يخالف ذلك القطع، كيف نسلم أمر ديننا لمثل هذا؟ أكتفي بهذا وشكرًا. الشيخ عبد السلام العبادي: سيدي لو سمحت على أساس أنه وجه الكلام لي كلمة صغيرة إذا سمحت، في الواقع أنا أعرف أن هنالك فرقًا بين التولد الفلكي وإمكانية الرؤية الشرعية، وإمكانية الرؤية الشرعية تأتي بعد التولد الفلكي كما تفضل وشرح الأستاذ المختص في هذا المجال، لكن هذا لا يعني أن يسبق الشهر أو بداية الشهر شرعًا البداية الفلكية، وهذا الذي قلناه وما ذهبت إليه أنه لا يمكن أن نقبل شهادة تقول بأنها رأت الهلال ولدينا قطع بأن الهلال لم يتولد فلكيًا، هذا الذي أريد أن أقوله فقط. الرئيس: قبل أن نعطي الكلمة للشيخ عبد الرحمن باه لمعالي الأمين كلمة بسيطة. الأمين العام: بسم الله الرحمن الرحيم.. صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. حقيقة إن الاستماع لهذا الحديث الطويل الممتع مهما اختلفت فيه الآراء يجعلنا مطمئنين لعنايتنا بالتكاليف الشرعية وأدائها على أحسن وجه وعلى الوجه الذي يرضي الله. اختلفت الاتجاهات في التصور، وفي التقدير، هذا طبيعي لكني أريد أن أذكر فقط بأن ما تحدث به أحد الإخوة الآن يجعلني أتردد في قبول هذه الصور ة أو هذا المثال لأنه يأتي مناقضًا لما أعتقده أو لما هو واقع، فإن المثال الذي ساقه فضيلته يجعل بداية الشهر الفلكي سابقة وقبل بداية الشهر الشرعي والذي يقع عندنا فيه الخطأ الآن في ظرفنا الحاضر هو أن يعلن عن بداية الشهر الشرعي ويقوم الشهر الفلكي بعد ذلك فيكون هذا مما يؤكد كلام ابن عابدين في حاشيته حين قال: إن العلماء لا يعتدون بالحساب الفلكي من أجل الإثبات ولكنهم يأخذون به لأنه يصلح أن يكون دليل نفي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 وهذا يسوقنا في اعتقادي إلى أن التحري الواجب بالنسبة للمواسم الشرعية أو لبدايات الشهور سواء اعتمدنا الحساب أو لم نعتمده ينبغي أن تكون الرؤية في الوقت المناسب وأن يخرج الناس وأن يعتنوا بها، كانت العناية كما قال بعض الإخوان في السابق كبيرة ببداية الشهر وكان المسلمون يخرجون ويعرفون أماكن الرؤية، الآن لا يعرفون أماكن الرؤية ولا يخرجون ثم يأتي فرد فيقول: رأيت الهلال، إذا كان خروجه قبل بداية الشهر الطبيعي فإنه لا يستطيع أن يرى الهلال، فلذلك ينبغي أن نفكر في طريقة نبتعد بها عن هذا الخطأ الجوهري الذي يوقع الناس في الفتنة ويجعلنا في كل البلاد الإسلامية في حيرة من أمرنا وشكرًا لكم. الشيخ عبد الرحمن باه: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما مسألة حكم إثبات الشهر بالحساب وحكم توحيد الرؤية لفضيلة الدكتور بكر أبو زيد فنعم نقدر ونشكر مع الامتنان كل جهوده التي بذلها لإخراج الحجج الدامغة في هذا الموضوع، لأن هذه مشكلة أهمت العالم الإسلامي كله ولم يبق إلا أن ندعو جميع المسلمين إلى نبذ الخلافات وتحكيم الشرع المطهر بين المسلمين بناء على أن الله ربط الهلال بعلامات يقينية لا مدخل للعباد فيها، بل هي سنن كونية ثابتة يستوي في معرفتها الخلق من أجل إثبات اليسر ورفع الحرج في الشريعة قال تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وبناء على أن صاحب الشرع أشعر بحصر السبب في الرؤية أو الكمال ولم ينسب سببًا سواهما وبناء على أنه ليس في شيء من الأحاديث الحكم الشرعي للحساب الفلكي، والله سبحانه وتعالى قيد عباده في الصوم برؤية الهلال لرمضان أو باستكمال شعبان ثلاثين يومًا والنصوص المستقيمة بذلك من النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة جدًا، بناء على هذا كله فيجب على المجمع تأييد هذا القرار الذي خلاصته: أن على كل بلد أن يتبعوا ما يقرره أهل التقوى فيه وأن على المسلمين السعي إلى أساس توحيدهم وجمع كلمتهم في تحكيم شريعة الله وإيذان الحكم بها دومًا وعملًا، وشكرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 الشيخ محيي الدين قادي: بسم الله الرحمن الرحيم.. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. هذا الموضوع هو موضوع طال فيه الحديث لكن لي استيضاحات.. الاستيضاح الأول: هل توحيد بداية الشهور القمرية مقصد للشارع أو ليس بمقصد؟ أنا عندما درست هذه النقطة وتوقفت عند حديث سيدنا كريب رأيت حبر الأمة عبد الله بن عباس يقول: لأهل الشام رؤيتهم ولنا رؤيتنا، ويثني على ذلك بقوله: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابي إذا قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فالحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذن هل هناك دليل على أن صاحب الشريعة أو أن الله عز وجل وهو المشرع الحقيقي قصد وأراد أن تتوحد الأمة الإسلامية في بداية الشهور القمرية؟ ثانيًا: المسألة الثانية هي قضية من المسلَّم بها وهي قضية اختلاف المطالع، هذه القضية اختلاف المطالع تجعل كما قال ابن العربي في كتاب الأحكام تجعل أن رؤية أهل أغمات لا يصوم بها أهل إشبيلية لأن سهيلًا يراه بأغمات ولا يراه بإشبيلية. إذن القضية حتى مع تقديرنا للعلم لا يمكن أن يكون هنالك يوم واحد للصوم لأن إذا كان الدكتور الكراي الآن كان يقرر بأنه يمكن أن يرى في تونس ولا تمكن رؤيته في الأردن مثلًا أو في المملكة العربية السعودية لأن وجوده في المملكة العربية السعودية 6 دقائق لا يمكن من رؤيته ووجوده في تونس 8 دقائق يمكن من رؤيته إذن حتى مع اتباعنا للعلم فنحن سنكون مختلفين، هذه نقطة هامة. ولهذا فقهاء المالكية من قبل حرروا مسألة ما روي عن مالك أنه قال: "إذا رئي بالحجاز صام من بالأندلس " حرروا هذه المسألة وقالوا "ما لم يكن البعد سحيقًا، ما لم يكن البعد سحيقًا كالبعد بين الأندلس وخراسان " لكن العلم الآن كما قال الشيخ بخيت المطيعي في كتابه إرشاد أهل الملة لإثبات الأهلة قال ما معناه: هذا لا يمكن أن يقال الآن لأن هذا قبيل يوم أن كان العالم لا يؤمن بكروية الأرض ووجد ظواهر قرآنية كثيرة تدل على أن الأرض بساط ومهاد وفراش ودحي وطحي.. الخ، ففهم التسطيح لكن أثبت العلماء من قبل كالإمام فخر الدين الرازي تأول ذلك وقال أن الكرة إذا كبرت رئيت من كل جهة مسطحة وإلا فالأرض كروية الشكل، هذه قضية الأرض كروية الشكل أصبحت هي يقينيات العلم ولهذا تأويل الظواهر التي هي من ظني الدين على حسابها وقع، وقالوا بمراعاة اتحاد البلدان في خطوط الطول إذا كانت البلدان متحدة أو مختلفة اختلافًا يسيرًا لا يؤثر على رؤية الهلال ممكن أن يصوموا لرؤية واحدة ويفطروا لرؤية واحدة، وإذا كان البلدان غير متحدة في خطوط الطول أو مختلفة اختلافًا يؤثر على رؤية الهلال فيها جميعًا فإنه لا يمكن أن يصوموا في رؤية واحدة ولا يفطروا برؤية واحدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 وأنا في جوابي على أحد الأجوبة: أطلت في هذه النقطة في جواب من أجوبة استفتاءات المعهد العالمي للفكر الإسلامي وبينت هذا بنص عن مالك أنه يقول "إذا اتفقوا إذا غم في هذه البلدة يعمل لرؤية البلدة الأخرى، هذا ما أردت أن ألاحظه، حتى العلم لا يؤيد أننا نعمل بالحساب ونصوم في يوم واحد ونفطر في يوم واحد، هذه وجهة نظر لعلها تكون صوابًا أو تكون خطأ فإن كانت صوابًا فمن فضل الله عز وجل وإن كانت خطأ فمني ومن الشيطان، والله أسأل أن يثبتنا على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم.. صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. أعتقد أننا كجماعة منتسبين إلى الفقه نعيش أزمة، هذه الأزمة تظهر فيما اقتنعنا به جميعًا أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان ثم إنه كلما عرضت علينا قضية وقفنا بها في حدود الزمن الماضي ولم نستطع أن نتقدم مع تطور الزمن ولا مع تطور العلم ولا مع تطور الأحداث، ونحن مقتنعون أيضًا بأن العلم لا يختلف عن الدين، وأن العلم حقائق ثابتة أثبته الله في سننه، ثم إذا جاء العلم بما يخالف قول مالك أو قول أبي حنيفة أو قول الشافعي كنا في أزمة تمزقنا من الداخل ولا نستطيع أن ننفك من هذا الوضع الذي نحن عليه. الصوم كركن من أركان هذا الدين جاءت فيه الآية الواضحة {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} حصر أو علم لم يبين القرآن وسيلة به ثبوت الشهر فالحكم هو صيام الشهر والوسائل بينها صلى الله عليه وسلم في هذه الناحية فقط فقال ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) لا بد من التأمل ومن التعمق في الظروف التي كانت موجودة في عهد النبوة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 فكانت الوسائل إما الرؤية البصرية وإما اعتماد أهل النجوم وليست هناك وسيلة أخرى تثبت دخول الشهر، ووسائل النجوم وكل ما اعتمد عليه التنجيم هو باطل في الإسلام، فلذلك جاء قوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) على أن الرؤية هي الوسيلة الوحيدة في عصره صلى الله عليه وسلم. فهل معنى هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قد نص على الرؤية، أن الرؤية تبقى هي الوسيلة الوحيدة أو يمكن أن توجد معها وسائل أخرى؟ نظرت هذا بقوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} فالناس في عهد هذه الدعوة من إبراهيم عليه السلام ما كانت لهم من وسيلة لبلوغ الأماكن المقدسة إلا الأرجل أو الخيل. فهل نقول اليوم إن من يحج على الطائرة أو على الباخرة أو على غير ذلك من الوسائل أنه لا يحج؟ فقضية بيان الوسيلة في عصر ليس معنى ذلك أنه يقصر عليها قوله صلى الله عليه وسلم ((نحن أمة أمية)) واردة، إخراجها عن كونها تعليلًا باعتبار أنها بيان للواقع، نعم هي بيان للواقع وهي من قبيل الإيماء لأنه قد ذكر وصف لو لم يجعل للتعليل لما كان لذكره فائدة. فهل الأمية لازمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد نزلت آية {اقْرَأْ} . وهل بقي المؤمنون بقي اليوم العالم الإسلامي بما فيه من علماء بقوا أميين كلامه صلى الله عليه وسلم لا يختلف عن الواقع، فلماذا نتمسك بأشياء ظاهرها لو أخذنا بها واطمأنا إلى تلك الظواهر يصبح الحديث متناقضا مع الواقع وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتناقض مع الواقع؟ الحساب الفلكي هل هو بينة شرعية أو ليس بينة شرعية؟ الحساب الفلكي هو علم قوته من ذاته لا يحتاج إلى بينة، واليوم أصبحنا نعتمد على وسائل كثيرة في ديننا ولم يتكلم أحد منا اليوم، نفتح الإذاعة أو نفتح التلفاز فيقول: الله أكبر فنفطر مع أنه قد ربط بغروب الشمس لا بقول المذيع: أذن المغرب. نحن الآن نأخذ الساعة ونقول: الساعة الخامسة وأربع دقائق أذن المغرب، ما خرج منا أحد إلى الشمس ورأى غروب الشمس ظاهرة وجدتها وأنا أتابع الفتاوى أن الشيخ ابن تيمية رضي الله عنه أفتى بحرمة علم الفيزياء، وقال: إن علم الفيزياء حرام وذلك لأنه إشراك في الخلق وأن الخلق لله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 يا سيدي هو كلام محق في زمانه باعتبار أن علم الفيزياء في زمانه كان ضربًا من الهوس والتهريج وابتزاز الأموال، أما علم الفيزياء اليوم فنقول إنه يجب أن نغلق كل الكليات الفيزيائية. مناقش: الكيمياء الشيخ المختار السلامي: الكيمياء، المشكل كيمياء أو فيزياء، فإن المهم هو أنه أفتى بحرمة ذلك، فهل معنى ذلك أننا نغلق الآن كل المعامل لأن الشيخ ابن تيمية أفتى فيها، في وقته صحيح لأنها ما كانت علمًا صحيحًا، أما اليوم أصبحت علمًا صحيحًا، فكيف يمكن أن نرفضها؟ فما ذكره مالك وأبو حنيفة والشافعي نعرفه ورضي الله عنهم تحدثوا عن أشياء وقد تبين لنا من الحديث الذي تكلم به أخونا الدكتور الكراي هو أن الحساب لم يصل إلى الدقة إلا في سنة 1960 وقبل 1960 ما كان الحساب دقيقًا. أنأ أعطي مثلًا بسيطًا فإن العالم الفرنسي "لابال" بحث في حركة زحل فوجد أن حركة زحل هي حركة فيها عدم انتظار وحسب القوانين التي خلق الله عليها الكون وكل شيء عنده بمقدار، قال: هذه الحركة حركة فوضوية في نظام كامل فلابد أنه توجد كتلة أخرى هذه الكتلة تجذب كوكب زحل لتعدل مساره. ولكن حاول أن يبصر هذه الكتلة فلم يجدها في السماء، ولكن تمكن العلماء بعده من إبراز ذلكم الكوكب وأصبحت كوكبًا آخر جديدًا وهو الذي وضح وعدل فكرة أو فهم كيف تفهم قضية هذه الحركة الموجودة في هذه الكواكب. هذه كلها قضايا علم، العلم ثابت، ولا يمكن عندما نقول: إن العلم لا يمكن أن يختلف مع الدين لا يمكن أن يأتيني أي إنسان أو عشرة أو خمسة ويقول: رأيت الهلال والهلال لم يوجد، فالهلال هو لا نقول بالميلاد الفلكي بمعنى بالاقتران ولا بخروجه الأولي من شعاع ولا تقبله للشعاع الأول من الشمس ولكن نقول عندما تمكن الرؤية البصرية بالحساب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 يقول أهل الفلك: إنه بعد ثماني درجات التي مقدارها كذا ساعات ممكن رؤية الهلال فإذا ادعى شخص قبل هذا أنه رأى الهلال فهو كاذب، وقد رأينا أن الناس كذبوا من قبل وفي كلمتي في السنة الماضية بينت أنه على اختلاف العصور ذكر الفقهاء كيف أنه وقع الكذب وأنه كيف سلمهم الله في وقفة عرفة فزادوا يومًا وكاد حجهم يفسد ويجب عليهم القضاء لأنه هكذا مذهب مالك. فإذن ألخص فكرتي وهو أنه ما ذكره العلماء من اعتماد الرؤية هو صحيح وما ذكره صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يجادل فيه إلا منافق ولكن هذا لا يختلف مع التقدم العلمي الذي يجب أن نأخذ به، وشكرًا لكم والسلام عليكم. الرئيس: في الواقع يا فضيلة الشيخ ملحوظة بسيطة.. مناقشة بسيطة، قضية التنظير، أما شرحكم الموضوع ورأيكم هذا شيء على كل حال هو رأيكم، لكن قضية التنظير في قوله تعالى {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} ، وقضية التنظير إذا سمع المسلم الأذان في المذياع مع أنه لم يتحقق من غروب الشمس. الحقيقة التنظيران هذان فيهما نظر، وأنت تعرف أن التنظير هو قياس، والقياس لا بد من اكتماله فالتنظير هذا أولًا في الصيام، النبي صلى الله عليه وسلم نهى قال ((لا تصوموا حتى تروا الهلال)) أما هنا في الآية ما فيه ما يقيد عدم المجيء وفي الآية الأخرى {أَوْ رُكْبَانًا} فيها العموم، ركبانًا على أي شيء، فالحقيقة قضية التنظير هذه فيها نظر. الشيخ المختار السلامي: الآية قبل كل شيء {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} ، وأما الركبان فهي آية أخرى. الرئيس: هي آية أخرى أنا أقصد أن هناك آية أخرى ليس في الموضوع آية واحدة. الشيخ المختار السلامي: لأنه سيادة الرئيس لو تذكرت أني قلت بكامل الوضوح هو أنه قيل هذا الحديث في وقت لا يوجد فيه إلا طريقان: أحدهما باطل لا يأخذ به الشرع، والآخر صحيح يأخذ به الشرع، ولذلك جاء قوله صلى الله عليه وسلم ((لا تصوموا ولا تفطروا)) لأنه ليست هناك وسيلة، لأنه لو قال الرسول صلى الله عليه وسلم: اعتمدوا الحساب، الحساب غير موجود من يعرفه؟ فهل يتحدث عن شيء غير موجود؟ فأنتم تريدون أنه من عدم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء غير موجود أنه دليل على عدم اعتباره، لا يمكن أن يستند إليه كدليل على نفي الاعتماد على الحساب العلمي اليقيني الآن. الرئيس: شكرًا.. أصحاب الفضيلة تعرفون أن لدينا موضوع أجهزة الإنعاش وفيه الطبيب محمد علي البار كان قد رتب سفره اليوم في الظهر، فلما علم أن الموضوع سيناقش هذه الليلة أخر سفره إلى الغد، والطبيب أشرف الكردي عطل عمله وحضر لأجل مناقشة هذا الموضوع فقد ترون مناسبًا أن بحث توحيد الشهور نؤجل استكمال البحث فيه إلى الجلسة الصباحية إن شاء الله تعالى، ونبحث الآن موضوع أجهزة الإنعاش طالما أن المختصين قد حضرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 الجلسة الصباحية 11 صفر 1407 هـ/ 14 أكتوبر 1986 م الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. نستكمل في جلستنا هذه البحث الذي كان في مساء الجلسة المسائية وهو توحيد بدايات الشهور القمرية والكلمة للشيخ خليل. الشيخ خليل الميس: بسم الله الرحمن الرحيم بعد أن استمعنا للبيان الذي قدمه الدكتور الكراي وما توصل إليه العلم من القطعيات التي لا شك فيها، ونحن أمام نصوص صريحة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تنيط وجوب الصوم أو الإفطار بالرؤية، فلا بد لنا من صيغة توفيقية ما بين العلم والنص حتى لا يهجر العلم ولا يترك النص، فلأن ما وصل إليه هو أقرب إلى القطع من شهادة الشهود.. وأود يا سماحة الرئيس أن أذكر بشيء، جاء في باب الجمعة في كتاب الهداية أن العلماء اختلفوا في فرض وقت الظهر يوم الجمعة فرض الوقت هل هو الظهر أم هو الجمعة؟ ومن عجيب ما قالوا: إن المرء قادر بنفسه عاجز بغيره، فلذلك قال: إن فرض الوقت هو الظهر إلا إذا وجدت شرائط الجمعة لأنه هو قادر بنفسه على أداء الظهر منفردًا ولكنه عاجز عن أداء الجمعة إلا بالجماعة. فإذن قال: فرض الوقت هو الظهر إلا إذا توفرت أسباب الجمعة فوجب عليه إسقاط الظهر إلى الجمعة، وأن الأمة لما كانت أمية والعالم من حولها في هذا المجال أمي فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكلفها إلا بقدر وسعها، نعرف الآن الأرقام لا تقبل الشك أبدًا ولا يجوز إذا وصلنا إلى العلم ما وصلنا أن نتجاوز نصوص الشريعة. على أية حال إن الرؤية إذا توافقت مع الحساب فأمر هو آكد، أما إذا اختلف الحساب عن الرؤية هنا المطلوب في الحقيقة لا ضير علينا إذا أخذنا الحساب من يوثق بدينه وعلمه، أقول: بدينه أولًا وعلمه ثانيًا، وفي ذلك لا نكون قد هجرنا النص لأن الأمة إنما كلفت بقدر وسعها والآن صار بوسعها أن تؤكد منازل القمر ووقت ولادته ولا ضير علينا في ذلك، والله ولي التوفيق، وشكرًا. الشيخ عبد الستار أبو غدة: بسم الله الرحمن الرحيم.. أريد أن أورد على مسامعكم ما توصلت إليه الهيئة العامة للفتوى في وزارة الأوقاف بالكويت التي أشارك فيها في هذا الموضع، فإنها طرحت عليها أسئلة كثيرة فأرادت أن تضع بعض المبادئ الشرعية لثبوت دخول الشهر وفيما يتصل باختلاف المطالع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 وقد استعانت الهيئة بفنيين في هذا المجال حيث استضافت لأكثر من جلسة الدكتور محمد صالح العجيري وهو الفلكي المعروف في الخليج وقدم أجوبة عن كثير من التساؤلات وقدم إيضاحات في هذا الموضوع. وخلاصة ما توصلت إليه الهيئة في هذا أنها اعتبرت الرؤية هي الأساس ولكنها استعانت بالحساب في أكثر من مجال ولا سيما في مجال النفي، فقد أخذت بأن الحساب حجة في النفي لا في الإثبات، كما أنه شدد في أمر البينة وهي الثغرة التي يؤتى منها موضوع الرؤية، واستندت في هذا إلى أحاديث وأدلة ونصوص من أقوال الفقهاء، وتوفيرًا للوقت أريد أن أشير إلى هذه المبادئ إشارة مختصرة. فيما يتصل بثبوت دخول الشهر اعتمدت الهيئة على أنه إذا رئي الهلال بعد غروب الشمس يوم التاسع والعشرين من شعبان أو رمضان أو ذي القعدة أو سائر الشهور القمرية رؤية صحيحة يثبت دخول الشهر، فإن لم ير رؤية صحيحة وجب إكمال العدة ثلاثين يومًا وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا)) أخرجه النسائي وأحمد في مسنده. أما فيما يتصل بالبينة فإن البينة المطلوبة في إثبات الرؤية إما التواتر أو الاستفاضة وهو ما يطلق عليه الجمع الغفير أو شهادة رجلين عدلين فأكثر، ولا يقبل أقل من ذلك، وذلك لما أخرجه أبو داود في السنن في الجزء الثاني صفحة 404 أن أمير مكة وهو الحارث بن حاطب أخو محمد بن حاطب خطب ثم قال: ((عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما)) ، ولما روى شقيق بن سلمة قال: أتانا كتاب عمر رضي الله عنه ونحن بخانقين: أن الأهلة بعضها أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهارًا فلا تفطروا حتى يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 وجاء هنا في كتاب المجموع للنووي، والمراد بالرؤية بالعين مباشرة أو بمساعدة الأجهزة المقربة والمكبرة كالنظارات وأجهزة المراصد لأن الرؤية من خلال هذه الوسائل رؤية حقيقية فتدخل في الرؤية المذكورة في الأحاديث دخولًا أوليًا، وفي حال الاستعانة بالمراصد يجب أيضًا اعتبار شرط الشهادة المطبق في رؤية العين مباشرة بأن تكون بلفظ الشهادة من شاهدين عدلين أو أن تحصل بمشاهدة هيئة الرؤية الشرعية نفسها التي تكون في كل بلد لا لتماس أو للسماع إلى من رأى الهلال، إذا دل الحساب القطعي على استحالة رؤية الهلال لم تقبل الشهادة برؤيته لأن من شروط صحة البينة عدم مخالفة الواقع. وقد نقل القليوبي من الشافعية عن العبادي قوله "إذا دل الحساب القطعي على عدم رؤية الهلال لم يقبل قول العدول برؤيته وترد شهادتهم بها" ثم قال: "وهو ظاهر جلي ولا يجوز الصوم حينئذ ومخالفة ذلك معاندة ومكابرة" ومما يدل على ذلك قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} وقوله {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} . هذه الاستحالة لها أمثلة وتطبيقات كثيرة لا نخوض فيها لأنها من اختصاص الفنيين ولكن على سبيل المثال إذا دل الحساب القطعي على أن الهلال سيغرب مع الشمس أو قبلها أو دل على أن الهلال موجود وله مكث بعد غروب الشمس ولكن رؤيته مستحيلة ويرجع في تقدير المدة التي تستحيل فيها الرؤية بعد ولادة الهلال إلى قول أهل الخبرة، ومن خلال ما أفاد الدكتور العجيري أن الرؤية بالعين المجردة لا تكون ممكنة قبل مضي عشرين دقيقة على غروب الشمس، وإذا كانت الرؤية بالأجهزة الحديثة فلا يمكن أن يرى قبل مضي سبع دقائق على غروب الشمس، وهذا أمر يحتاج إلى توثيق جماعي. كذلك من أمثلة الاستحالة أن يعرف بالحساب القطعي أن هناك كسوفًا سيقع بعد غروب الشمس لأن ولادة الهلال لا تكون قبل الكسوف ولا تكون إلا بعده فإذا ادعيت الرؤية ثم حصل الكسوف تبين أن الرؤية باطلة لمخالفة الواقع. فخلاصة هذا أن الحساب القطعي يجب الأخذ به في حال النفي أي القطع باستحالة الرؤية، إذا دل الحساب على إمكان الرؤية ولم يكن هناك مانع لكنه لم ير فيجب إكمال عدة الشهر ثلاثين لقوله صلى الله عليه وسلم ((فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا)) كذلك إذا تمكنت التهمة لسبب آخر غير الحساب فإنه يمنع قبول الشهادة أيضًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 أما بالنسبة لاختلاف المطالع فإنه إذا رئي الهلال في بلدة لزم العمل بتلك الرؤية في إثبات دخول الشهر ويلزم أيضًا أهل جميع الأقاليم الذي فيه تلك البلدة والبلاد التي تشترك مع ذلك الإقليم في خط الطول، ويثبت حكم تلك الرؤية أيضًا في حق كل قوم لا يتصور عندهم عدم الرؤية وهم أهل كل بلد يقع في جهة الغرب من البلدة التي حصلت فيها الرؤية، وهذه حقيقة فلكية أكدها الدكتور العجيري. وأما البلاد التي تقع على جهة الشرق من ذلك الإقليم وتشترك مع إقليم الرؤية في جزء من الليل فإن لهيئة الرؤية في ذلك الإقليم أن تأخذ بتلك الرؤية في الإفطار من رمضان مطلقًا إذا أتموا تسعة وعشرين يومًا وكذلك في دخول شهر رمضان إذا علموا بالرؤية وقد بقي من الليل عندهم ما يكفي لتبييت النية مع السحور دون ضيق أو مشقة، والله أعلم. الرئيس: شكرًا.. قبل أن أعطي الكلمة للشيخ جعيط، في الواقع يا مشائخ، في الوقت الذي يحصل فيه تحفظ على الشهادة هناك شبه القطع بقطعية الحساب وأنه قطعي وأنه من خلال تطوره واستحداث آلاته ونموه إلى الدرجة الموجودة في العصر الحاضر يكون المصير إليه إلى آخر ما يكون من البحث في هذا الموضوع، في الوقت نفسه إنا لا نعلم هذه القطعية إلا من قِبَلِ بعض الفلكيين مع أن بعض الفلكيين أنفسهم هم مختلفون، والآن مر علينا في كلام الشيخ عبد الستار في قوله: إن الفلكي محمد بن صالح العجيري قال: إنه لا تمكن الرؤية بالعين المجردة إلا بعد عشرين دقيقة من الغروب وبعد سبع دقائق، ثم قال: إن هذا يحتاج إلى توثيق. أنا أريد أن أنطلق من هنا إلى أن ما يذكره الفلكيون هو كله يحتاج إلى توثيق لا إشكال فيه، هو كله يحتاج إلى توثيق وأذكر قضية واقعة في هذا العام في رمضان فإن الصحف تناقلت كلام الفلكيين وتصريحهم بتعذر ولادة الهلال على حد تعبيرهم وإن كان التعبير غير سليم في شهر رمضان يعني خروجًا لشهر شوال ثم ثبت في أربعة من الأقطار الإسلامية وعلى سبيل الخصوص في المملكة العربية السعودية إذ ثبتت الرؤية بشهادة عشرين شاهدًا في عدد من نواحي ومناطق المملكة المختلفة، وأذكر لكم أن من هؤلاء الشهود أحد خريجي كليات الشريعة في المملكة والذي جرت المحاولة معه لجلبه إلى القضاء فامتنع حتى تخلص ولجأ إلى التدريس وهو رجل موثوق بعمله ودينه وفضله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 فالمهم أنه عشرون شاهدًا ورئي في ثلاثة أقطار عربية أخرى، والفلكيون يعلنون يقولون: تتعذر ولادته نحبط هذه الشهادات التي رسمها لنا النبي صلى الله عليه وسلم في طريق اليسر وفي طريق رفع الحرج، وما زالت الأمة على ذلك من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ونقول: لا إذا صرح الفلكيون نقول: تبطل الشهادات ونأخذ بكلام الفلكيين، مع أن كلام الفلكيين هم أنفسهم قد يختلف إضافة إلى أن هناك حقيقة فلكية وردت في التقرير الذي ورد من جامعة الملك عبد العزيز بجدة وهو أن حقيقة الشهر الشرعي التي يتعين الإيمان بها ولا يجوز المحيد عنها هي تسعة وعشرون يومًا أو ثلاثون يومًا، حقيقة الشهر لدى لفلكيين هي محددة بتسعة وعشرين يومًا واثني عشر ساعة وأربعين دقيقة فلا تكون ثلاثين يومًا ولا تكون تسعة وعشرين يومًا، ولادة الشهر في الإسلام أو في قاعدة الإسلام المقطوع بها هي برؤية القمر بعد الغروب، وعند الفلكيين بولادة القمر في أي ساعة من ساعات الليل والنهار، وهذا مصرح به في تقرير جامعة الملك عبد العزيز بجدة الذي هو بين أيديكم، فهذه المفارقة شرعية، إضافة إلى أن هذه الشريعة شريعة اليسر وشريعة رفع الحرج وما زالت الأمة على ذلك من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا والأمور فيها راشدة والأحكام نافذة، وهذا فقط إيضاح وددت أن أذكره.. الشيخ جعيط تفضل. الشيخ كمال جعيط: بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد. إن من أعظم مقاصد الشريعة الإسلامية وحدة المسلمين يظهر ذلك في قوله تعالى {وَلَا تَفَرَّقُوا} فالوحدة مطلوبة في الباطن كما هي مطلوبة في الظاهر: عقيدة واحدة وعبادة واحدة وتوجه ومن الجميع إلى قبلة واحدة واتحاد في الملبس ونزع المخيط ووقوف بعرفة في يوم واحد لأهل المشرق والمغرب بحيث هذا مقصد من مقاصد الإسلام وشريعته مما لا شك فيه، لذا أرى ونحن في القرن العشرين أن من الواجب علينا أن نوحد بين مواسمنا وأعيادنا إذ هو مظهر من مظاهر الوحدة. ولا شك أن الوحدة فيها من القوة والمنعة ما لا يخفى، وليس تحقيق ذلك ببعيد وإن اختلفت المطالع لأن الخطاب جاء في قوله عليه الصلاة والسلام ((صوموا لرؤيته)) فقد توجه بخطابه لكافة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فإذا رئي الهلال في مكان عم ذلك جميع الأقطار في العالم الإسلامي وإن اختلف الفقهاء في القديم، وقال جماعة منهم باختلاف المطالع فهم معذورون لعدم وجود وسائل الإعلام في ذلك الزمان، أما اليوم وما وصلت إليه وسائل الإعلام فلا وجه للاختلاف على أن القول باختلاف المطالع هو قول القليل منهم وغالب الأئمة لا تقول به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 ثم إن الهلال إذا رئي في المشرق فلا جائز أن لا يرى في المغرب باعتبار أن عدم ظهوره في الشرق لا يستلزم عدم ظهوره في الغرب أما ظهوره في الشرق فيستلزم ظهوره في الغرب من باب أولى وأحرى؛ لأن الغروب في الشرق سابق عن الغروب في الغرب وكلما بعد المكان إلا وزاد ارتفاع الهلال في الدرجات. هذا الزمان قد بلغ في العلم إلى درجة القطع فإذا قال علماء الفلك والحساب باستحالة خلق الهلال فيلزم من استحالة خلقه عدم الرؤية ولا يلزم من خلقه الرؤية، فإذا جاء الشاهد والاثنان وقال: رأينا الهلال، اعتبرنا الحساب جارحًا في شهادتيهما ورددناها، اللهم إلا إذا جاء جماعة من جهات مختلفة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة فإذ ذاك نعتد بهذه الشاهدة من الجمع الغفير ويكون ذلك دليلًا على أن أهل الحساب قد أخطئوا في حسباهم، أما إذا أثبت الحساب خلق الهلال وإمكان رؤيته اكتفينا ولو بواحد فقط لاختلاف الفقهاء في أن رؤية الهلال هو من قبيل الشهادة أو من قبيل الرواية، هذا ما ظهر لي والله يلهمنا الصواب، وشكرًا. الرئيس: شكرًا قبل أن تكون الكلمة للشيخ الضرير، الحقيقة ورد في كلامكم كلمة طيبة جدًا وهي أنه قرر أهل الحساب أن الشهر لا يولد ثم شهد جمع غفير ولادته فهو دليل على خطأ أهل الحساب، هكذا يا شيخ؟ الشيخ كمال جعيط: موافق. الرئيس: إذن ينبغي أن نتوقى في الكلمة الأولى وهو أن نقول: إنه قد قامت الدلائل أعني أنه قد تقرر لدينا قطعية الحساب، ينبغي أن نتوقى في هذا، نحن طلبة علم لا بد أن تقوم لدينا الدلائل الكافية في هذه الأمور وتتضح مثل اتضاح الشمس أما أنا لا نعرفه إلا من جهة الواحد والاثنين منهم ثم عرفنا بدليل المشاهدة والمعاصرة وقوع الخطأ على الرغم من هذا التطور ففي نظري أن التوقي في العبارة الأولى ينبغي أن يكون دارجًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 الشيخ كمال جعيط: على كل حال نعتد بالرؤية. الشيخ الصديق الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم أتحدث أولًا عن اعتماد الحساب: يقول الله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} "وشهد" بمعنى علم والخطاب هنا موجه إلى جميع المسلمين في جميع الأزمان والأماكن وصحيح لم يبين الله لنا طريقة العلم وقد بينتها السنة في قوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) وهذا أيضًا خطاب موجه إلى جميع المسلمين في كل زمان ومكان، فالأمة الإسلامية مأمورة بالصوم بالرؤية وليس بالحساب ولو كان يقينيًا، فكيف وهو ظني؟ أقول: هو ظني وأؤيد السيد رئيس المجلس في كل ما قاله وقد حدث لنا هذا أنه في السودان في العام الماضي نفس العام الذي يتحدث عنه السيد الرئيس اجتمع مجلس الإفتاء أعلن أن اليوم 29 تحرى وأرسل إليه أستاذ في الجامعة أستاذ في الفلك يؤكد بأن الهلال لا يمكن أن يرى في هذا ليوم وأن دعوتكم للتحري دعوة لا أساس لها ويجب ألا.. إلى آخر ما يقال. لكن اجتمع المجلس وجاء معه ذلك الأستاذ وجلسنا نتحرى فاتصلنا بعدد من الدول وتبين لنا ما قاله السيد الرئيس من أنه رئي في عدد من الدول، فهل يسوغ لأي مجلس إفتاء في هذه الحالة أن يقول أو أن يفتي بأن لا يصوم المسلمون في بلده في صبيحة ذلك اليوم؟ لا أظن أن هذا يسوغ بأي حال من الأحوال، والدليل على أن الحساب ليس قطعيًا هو ما أشار إليه السيد رئيس المجلس وقد طرحت هذا السؤال على كثير من الإخوة الذين يدعون قطعية الحساب، لِمَ تختلف النتائج والتقاويم فيما بينها؟ كيف يكون قطعيًا هذه تقول اليوم 29 وأخرى تقول اليوم 30؟ فلم أجد جوابًا مقنعًا، وما يحتج به بعض الإخوة الأفاضل من أن العلم تقدم ووصل إلى القمر وإلى وإلى، هذا لا حجة فيه في أن لا تلازم بين الأمرين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 صحيح أن العلم تقدم ووصل العلماء إلى مسائل لم تكن معروفة في الماضي ولا يمكن تطبيقها قبل أن تحصل لكن قام الدليل على أنها حق فقبلناها وما يتوصل إليه العلم ليس هو يقينًا في جميع الأحوال كما يقول بعض الإخوة، بعضه يقيني وبعضه ظني. وهذا أمر يساعد العلماء أنفسهم ليقرروا حقيقة ثم يرجعون عنها في قابل الأيام، ثم من يدرينا لعل الله قد مكن لهؤلاء العلماء وسخرهم لاكتشاف هذه الأشياء والصعود إلى القمر وحجب عنهم معرفة ظهور الهلال معرفة يقينية، ليبقى قوله صلى الله عليه وسلم باقيًا إلى يوم القيامة ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) . فنحن نتمسك بالرؤية ولكني مع هذا لا أقول بعدم الاستعانة بالحساب، يجب أن نستعين بالحساب مع أنه ظني والرؤية بشهادة الشهود أيضًا ظنية لكنا أمرنا باتباعها، الحساب ظني ولم نؤمر باتباعه لا مانع من أن نستعين به، نستعين به بمعنى أنه إذا قال الفلكيون أو أكثرهم بأن الهلال لا يرى في يوم كذا، فعلى القاضي الذي يثبت أن يتأكد ويتشدد في شهادة الشهود حتى يتيقن، أو لا يلزم اليقين طبعًا القطعي في هذه الحالة يغلب على ظنه أن هؤلاء الشهود عدول وأنهم رأوا الهلال، في هذه الحالة لا نلتفت إلى الحساب ولا يمكن أن نلغي هذه الشهادة ولا يلزم أن تكون شهادة متواترة، هذا ما يتعلق بالجانب الأول. المسألة الثانية وهي اختلاف المطالع أيضًا ارجع إلى الآية القرآنية والحديث {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وهو خطاب لجميع المسلمين ((وصوموا لرؤيته وأفطروا رؤيته)) خطاب لجميع المسلمين، هذا يعني بوضوح أن الهلال إذا رئي في أي بلد من بلاد المسلمين فعلى جميع المسلمين أن يصوموا إذا بلغهم ذلك الخبر، اختلاف المطالع هذه حقيقة لن ينكرها أحد والخلاف الذي حدث بين العلماء هو هل يعتبر اختلاف المطالع أو لا يعتبر؟ وليست في أنه هناك اختلاف أو ليس هناك اختلاف فجمهور الفقهاء على أنه لا اعتبار لاختلاف المطابع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 هذا هو رأي جمهور الفقهاء، وفي الواقع في فترة مع مكة لم أستطع أن أفهم على وجه الدقة فيه عبارة قد يفهم منها أن رأي الجمهور هو اعتبار اختلاف المطالع، لكن الذي أعرفه هو الذي ورد في كثير من البحوث التي أمامنا، إن رأي جمهور الفقهاء هو عدم اعتبار اختلاف المطالع، والحديث الذي احتج به من يقول باعتبار اختلاف المطالع حديث كريب هو الخلاف الذي حدث في الماضي مع أن الجمهور يقولون بعدم اعتبار اختلاف المطالع لا ينبغي أن يحدث الآن كما أشار إليه الأخ الفاضل الأستاذ جعيط. والسبب في هذا هو إمكان العلم بثبوت الهلال في نفس الليلة التي ثبت فيها في بلد آخر وهذا كان متعذرًا، حديث كريب، كريب جاء إلى المدينة بعد أيام فهل ترون لو أن كريبًا ركب طائرة من الشام وجاء إلى المدينة في نفس الليلة وقال لابن عباس رأيت الهلال، أو أن معاوية اتصل بابن عباس تلفونيًا وقال له: رأينا الهلال هل كان ابن عباس يقول: لا نصوم غدًا؟ رأيي أن هذا الخلاف كان له ما يبرره لكن الآن وعملًا بالآية {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} وقد علمت الآن بثبوت الشهر في نفس الليلة سمعت الإذاعة أن المملكة العربية السعودية تقول: ثبت الهلال فكيف يقول لي قائل: لا تصم غدًا؟ الهلال ثبت وقد شهدت به وانتهى الأمر، فأنا رأيي أن هذه المسألة الخلاف الذي حدث فيها في الماضي هو اختلاف يرجع إلى الزمان ولا يرجع إلى الحجة، وهذا الذي أقوله قد قررته فيما أعلم جميع المؤتمرات والندوات التي حضرتها، لكن صحيح كان في تطبيقه خلل كبير لا يرجع إلى الاقتناع وإنما يرجع إلى أمور أخرى، ولهذا فإني في هذه المسالة أرى الأخذ برأي الجمهور في عدم اعتبار اختلاف المطابع.. وشكرًا. الشيخ أحمد حمد الخليلي: بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد. فما كنت أريد أن أكرر ما سمعته كثيرًا في هذه الجلسة وإنما أردت أن أذكر أولًا أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام أراد للناس اليسر ولذلك قطع عليهم طريق النظر حتى في حجم الهلال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 فقد جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن الناس تراءوا هلال ذي الحجة ورأوه كبيرًا فمنهم من قال: هو لليلتين، ومنهم من قال: هو لثلاث وابن عباس رضي الله عنه أنكر عليهم ذلك وقال هو لليلة رأيتموه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عظمه لكم لتروه)) أراد بهذا أن يقطع الطريق على الناس حتى لا يكلفوا أنفسهم الشيء الذي فيه الشطط عليهم. والعبادات ميسرة لجميع الناس العالم والجاهل، الغبي والذكي، على اختلاف طبقاتهم. والحساب الآلي الآن إذا كان قطعيًا عند ناس فهو ظني عند أكثر الناس. أكثر الناس لا يعرفون طريقة الحساب كم في المائة؟ كم نسبة؟ لعله 1? أو أقل من 1? الذين يعرفون الحساب من المسلمين، فمن هنا كان الاعتماد على الرؤية حسب ما أراه. الناحية الثانية: ناحية توحيد الأهلة أنا أميل إلى ما اتفق عليه الفقهاء في مجمعهم بمكة؛ لأن هذه القضية درست من قريب. الصوم كما يكون واجبًا في وقت يكون حرامًا في وقت، فصوم يوم العيد حرام بإجماع الأمة لأنه يوم ضيافة الله، فإذا كان اليوم الذي يصبح اليوم الحادي والثلاثين عند أهل الشام هو عيد لأهل المدينة فإن صيامه حرام عليهم. وقد قال ابن عباس رضي الله عنه في حديث كريب: ولكن رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين أو نرى الهلال، اليوم الذي هو ثلاثون عند أهل المدينة في ذلك الوقت هو اليوم الحادي والثلاثون منذ بداية الصيام عند أهل الشام ويوم العيد قطعًا عند أهل الشام، فصومه حرام على أهل الشام فلو كان لأهل المدينة حكم أهل الشام لكان ذلك الصوم أيضًا حرامًا عليهم. وابن عباس رضي الله عنه ما قال: إن هذا اجتهادًا من نفسه وإنما قال هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابي في مثل هذا يعطي الحديث حكم الرفع، فلذلك أجنح إلى ما مال أو إلى ما اتفق عليه الفقهاء الذين اتفقت كلمتهم بمكة المكرمة بأن هذه المسألة تترك إلى فقهاء كل بلد ينظرون فيها .... وشكرًا لكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 الرئيس: شكرًا .... في الواقع إن بحث الموضوع في مكة إشارة بسيطة من أنه ليس مسجلًا هنا وأنه ليس وليد جلسة أو جلستين أو ثلاث أو سنتين أو ثلاث وإنما صار في رابطة العالم الإسلامي قبل مجيئه في مجمع الفقه، يستمر سنين وصار فيه بحوث ودراسات ثم توصلوا أخيرًا إلى هذا لأنه مع مراعاة الأوضاع الحاضرة للعالم الإسلامي.. هذه إشارة خفيفة أحببت أن أذكرها.. الشيخ يوسف. الشيخ يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد. فالموضوع موضوع قريب فعلًا كما أشار فضيلة الرئيس وبحث في مؤتمرات شتى ولا يزال يبحث لاختلاف وجهة النظر فيه من ناحية الحساب اعتماده أو عدم اعتماده ومن ناحية اختلاف المطالع إلى آخره. وهنا، الحقيقة أريد أن أنبه إلى شيء، أننا حينما نشتغل بالدعوة نقول شيئًا وحينما نشتغل بالفقه نقول شيئًا آخر. حينما نشتغل بالدعوة نقول: الإسلام دين العلم ودين المنطق ودين كذا ودين كذا، وبعد ذلك إذا جئنا نفتي نخالف قواطع العلم مع ما قاله الإخوة. أمس الشيخ الفرفور والشيخ المختار قالا: إنه لا يمكن أن تختلف حقيقة شرعية مع حقيقة علمية. ولهذا في الواقع آسفني أمس أن نجد هناك تناقضًا بين ما قاله الأخ المختص في علم الفلك وما قاله بعض الإخوة حتى ظهر كأن هناك تناقضًا بين العلم والدين، بين قواطع العلم وقواطع الدين. مسألة أن العلم الفلكي لم يعد علمًا تنجيميًا كما قال الأولون، العلم وصل به الناس إلى القمر ويحاولون الصعود به إلى الكواكب الأخرى، بناء على علم الفلك الحديث. ولذلك ينبغي أن ننظر في هذا الأمر نظرة جديدة. نحن نقول الفترة تتغير بتغير الزمان والمكان والحال ... الخ، ونقرر هذا ولا يختلف في هذا اثنان من المشتغلين بالفقه وعند التطبيق لا نطبق بالفعل، فنحن الآن تغيرت الظروف والفقيه هو الذي يزاود بين الواجب والواقع كما يقول العلامة ابن القيم، الواقع تغير الآن، كيف نغفل مسألة الحساب الآن؟ عجبت أمس أن الأخوة كانوا ينكرون على أخ يقول: إن الهلال يرى في الشرق قبل أن يرى في الغرب وإذا رئي في الشرق لا بد أن يرى في الغرب والبعض قال هذا خلاف الواقع مع إن هذا قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وقرره الفقهاء في مختلف الكتب. وما نقلته من حاشية البيجور عن الخطيب في فقه الشافعية قالوا: أعلم أنه متى حصلت الرؤية في البلد الشرقي لزم رؤيته في البلد الغربي دون عكسه كما في مكة المكرمة ومصر المحروسة، فيلزم من رؤيته في مكة رؤيته في مصر لا العكس. هذا ما قرره الفقهاء، وعاد بعض الأخوة يعارض الأخ المختص في علم الفلك، هذا ما قرره الفقهاء، وعاد بعض الأخوة يعارض الأخ المختص في علم الفلك. الواقع يا أيها الأخوة الموضوع موضوع خلافي من قديم لا يناقض شرعًا ولا يناقض نصًا. كيف يناقض الشرع والنص وفي داخل المذاهب الثلاثة الكبرى أقوال في المذهب المالكي والمذهب الشافعي والمذهب الحنفي بجواز اعتماد الحساب، خاصة للحاسب ومن يثق به؟ وبعضهم يقول بالجواز وبعضهم بالوجوب. الإمام النووي في المجموع نقل هذا الكلام وأكثر ونقل أقوال الشافعية، فهذا أمر ينبغي أن ينظر فيه. الحديث الشريف عندنا ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) والواقع الحديث فعلًا حدد وصية لإثبات الصوم أو لإثبات الشهر، هذه الوصية لا تنفي وجود وسيلة أخرى وقد سررت من كلام الأخ الشيخ مختار بالأمس في أنه إذا حدد الشرع وسيلة فهذا لا ينفي أن تكون هناك وسيلة أخرى ربما تكون أفضل منها وضرب مسألة {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} وأنا أضرب مثلًا بما هو أوضح من هذا حينما قال القرآن الكريم {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} هل إذا تركنا رباط الخيل الآن ورابطنا بالدبابات والمصفحات هل نكون خالفنا القرآن؟ ما نكون خالفنا ذلك إذا وجدنا وسيلة أفضل مما كان موجودًا عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 الرؤية وسيلة ظنية –الرؤية على غير المذهب الحنفي- الرؤية لشخص أو شخصين شاهدا أو شاهدين لا تثبت أكثر من الظن فإذا وجدنا وسيلة يترتب عليها الآن يقين قطعي فما لنا نرفضها؟ والحديث ((إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب)) هذا أمر ليس أبديًا وليست الأمية شيئًا ممتدحا، النبي عليه الصلاة والسلام هو أول من حارب الأمية، وفي عزوة بدر شجع الأسرى على أن يعلم كل واحد منهم عشرة من أولاد المسلمين، والأمية مفخرة له صلى الله عليه وسلم. كفاك بالعلم في الأمية معجزة. إنما للأمة لا، فالأمة الآن أصبحت تكتب، ولا شك أن الكتابة انتشرت من زمن قديم، والآن أضيف إليها الحساب ثم ليس مطلوبًا من الأمة كلها أن تكتب وتحسب إذا كان القصد هو رفع المشقة عن الأمة كما علل ذلك ابن حجر وغيره، وقال: إن الشرع لم يرد أن يشق علينا أراد أن ييسر علينا ويلتمس عوام الناس وجماهير الناس ما لا يستطيعون وما لا يطيقون. لا شك أنه ليس مطلوبًا من جماهير الأمة أن تتعلم الحساب الآن الذي يثبت الشهر ليس هو جماهير الناس، فيه فئة أو هيئة مختصة لوزارة العدل أو المجلس الأعلى للقضاء أو دار الفتوى، الجهة المختصة هي التي تعين هذا بواسطة المختصين. ليس مطلوبًا من الناس أن يكونوا عارفين بالحساب فسواء كان واحدًا في المائة أو واحدًا في الألف أو واحدًا في المليون يكفينا القدر الكافي في هذا. الحساب أيسر حقيقة الآن من الرؤية وفتح أبواب المحاكم للترائي والشهود.. الخ. على كل حال إذا لم نأخذ بهذا الرأي فهناك مستوى أقل وهو المستوى الذي ذهب إليه الإمام تقي الدين السبكي يعني إذا لم نأخذ بالحساب في الإثبات فلنأخذ به في النفي نجعله دليل نفي ولا مانع من هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 بعض الأخوة قالوا: إن الرؤية بينة شرعية والحساب ليس بينة شرعية فما هي البينة الشرعية؟ هذا أمر أيضًا مختلف فيه، هل البينة الشرعية شيء محدد لا يزاد عليه ولا ينقص منه؟ ناقش هذه المسألة ابن القيم في الكتب وخاصة في الطرق الحكمية، وقال: أي حيث ما استبان صبح الحق أو أسفر صبح الحق بأي دليل كان فثمة شرع الله ودينه وأمره، فالبينة كل ما أبان الحق وأظهره فلو وجدنا طريقة تبين الحق نلجأ إليها إذا لم نأخذ بالحساب في الإثبات فعلى الأقل نأخذ به في النفي أي إذا نفى الحساب القطعي وأجمع أهل العلم الموثوق بعلمهم ودينهم على أنه لا تمكن الرؤية في وقت من الأوقات أو ليلة في الليالي فلا يجوز في هذه الحالة أن يتراءى الهلال ولا أن نفتح باب المحكمة لسماع الشهود لأنه كما قال السبكي قال: إن الشهادة ظنية، والحساب قطعي والظني لا يقاوم القطعي. هذا معروف شرعًا تحمل شهادة الشاهد على الغلط على الوهم على الكذب على أي نحو من الأنحاء، وهذا في الحقيقة ما اتجه إليه مجمع البحوث الإسلامية، قرار مجمع البحوث أنه تعتمد الرؤية إلا إذا تمكنت النهمة منها وجعل من دلائل تمكن التهمة من الرؤية أن تكون معارضة للحساب الموثوق به حتى لم يقل الحساب القطعي، الحساب الموثوق به. سأقول: نحن نقول: لماذا الحساب القطعي؟ إذا كانت الشهادة منافية للحساب القطعي الذي يجمع عليه أهل العلم الفلكي في هذا العصر فلا ينبغي أن تعتمد الرؤية، وبهذا يثبت الخطأ الذي كثر في هذه السنوات الأخيرة، يثبت الهلال بالرؤية اليوم ويأتي الناس غدًا في الليلة الثانية مع أن المفروض في الليلة الثانية يبقى في الأفق زيادة عن الليلة الماضية حوالي أربعًا وخمسين دقيقة يعني يبقى ساعة وربع مثلًا، يعني يراه كل الناس، ولكن شهدنا في مناسبات كثيرة في الصيام وفي الفطر أن في الليلة الثانية لا يرى الناس الهلال فكيف ثبت في الليلة الماضية؟ هذا ثبت لأنه حدث خطأ، وما ذكره الأخ الشيخ التارزي في بحثه القيم من أنه قد يحدث أحيانًا الكسوف وتثبت الرؤية ولا يمكن أن يكون هذا وما ذكره الأخ الكراي، فهناك دلائل تدل بأن الرؤية تكون غلطًا. لو أخذنا على الأقل بهذا أنه نؤيد قرار مجمع البحوث الإسلامية أنه إذا كان هناك ما يجعل التهمة بالنسبة للشهادة ترد الشهادة. ومن هذا أن يقول الحساب: إنه لا تمكن الرؤية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 وأنا أرى أن موضوع اختلاف المطالع وتوحيد الرؤية مبني على هذا لأنه لا يمكن أن الناس تقول بتوحيد المطالع وتوحيد الإثبات إذا كان هناك شك في الإثبات أو لأن الناس تقول: أنا لا أطمئن إلى أن هذه الرؤية صحيحة ولذلك فكيف أثبت الصيام على أساسها؟ ومن هنا يبقى الخلاف يومين أو ثلاثة وفي بعض السنين من عدة سنوات قريبة كان أربعة أيام فرقا: من يوم الأحد إلى الأربعاء من سوريا إلى المغرب أربعة أيام هل هذا معقول؟ لو وقفنا على الأقل عندما نقول: إنه إذا نُفِيَ الحساب فينبغي ألا تعتمد الشهادة إطلاقًا، وإنما تبدأ تعتمد الشهادة بالرؤية عندما يقول الحساب: إنه حدث الاقتران كما يقول الفلكيون وحدثت الولادة الفلكية وحدثت الدرجات الثمانية وأصبحت الرؤية بالعين المجردة ممكنة، إذا حدث هذا أعتقد أنا بهذا نقرب على الأقل المسافة بين المختلفين ونقلل نسبة الخطأ، وشكرًا والسلام عليكم. الرئيس: شكرًا.. في الواقع يا شيخ في قضية الاختلاف بين بلدان ليومين وثلاثة وأربعة هل هذا ناتج من اعتماد المسلمين على الرؤية؟ لأن الاختلاف لثلاثة أيام ولأربعة لا يعقل لا لدى أهل الحساب ولا لدى أهل الرؤية هذا لا إشكال فيه، هل يعقل أنه فيه شهر يتأخر بين أهل الحساب وبين هل الرؤية لمدة أربعة أيام؟ أنا قصدي هل نوكل هذا إلى الذين يثبتون بالرؤية؟ الشيخ يوسف القرضاوي: لو اعتمدنا على الحساب ولو على الأقل في النفي سيقلل هذه النسبة يعني يمكن يكون فرق يوم. الرئيس: لم يأتِ هذا إلا من الذين اعتمدوا على الحساب ولا أريد أن أذكر الدولة التي اعتمدت على الحساب وثبت أنها بينها وبين البلدان التي أفطرت في العالم الإسلامي أربعة أيام، وأعلنوه قبل دخول رمضان دخولًا وخروجًا، وجعلوا الفارق بينهم وبين بلدان العالم الإسلامي أربعة أيام بطريق الحساب. الشيخ يوسف القرضاوي: لا، في المغرب لا يعتمدون الحساب على ما أعلم وفي سوريا لا يعتمدون الحساب وهم يعتمدون الرؤية ومع هذا كان بينهم أربعة أيام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 الشيخ طه جابر العلواني: بسم الله الرحمن الرحيم ... أظن أن عرض هذه القضية على هذا المجمع الموقر إنما للبحث عن اجتهاد ينتهي بما يرفع الإشكالات في أذهان المسلمين ويؤدي إلى القناعة بأنهم أدوا عبادتهم في وقتها كاملة غير منقوصة فتطمئن القلوب وتستقر النفوس، وذلك أن ما يتم باجتهاد جزئي ينتهي إما بتبني أحد الاتجاهين الفقهيين المعروفين أو بالخروج بقول ثالث، وكل ذلك إنما هو اجتهاد يقتضي إحاطة تامة بالقضية موضوع البحث من سائر جوانبها. وهذه الإحاطة فيما سمعته في هذا المجمع الموقر لا أراها متوفرة حيث إن للمسألة جوانب فنية لا يمكن استيفاؤها برواية فني واحد أو اثنين بل لا بد من تواتر علمي أو استفاضة أو شهرة على الأقل، وقد تكون الحاجة ماسة إلى ندوة من الفلكيين أنفسهم يتداولون فيها أسئلة الفقيه التي لا يتمكن الفقيه من الحكم فيها بشيء قبل أن يحصل على الجواب الشافي التام. في هذا الصباح استمعنا لمن يقول: إن الحساب قطعين واستمعنا لمن يقول: إنه ظني واستمعنا لعدة اختلافات في هذا، والفلكيون أنفسهم كذلك مختلفون فأظن أن القطع بيقينية الحساب بهذا الشكل أمر لا أراه دقيقًا بل لا بد من الاستماع إلى أكثر من واحد أو لجمع من هؤلاء يجعلون الصورة كاملة تامة تجيب على كل تساؤلات الفقيه لكي يتمكن الفقيه من إعطاء الحكم أو النسبة الخبرية التامة لهذين الأمرين كما يقولون. كذلك للمسألة جوانب أخرى فقهية منها قضية المفاهيم اللغوية المتعلقة بقضية الرؤية وتفسيرها، ما حقيقة الرؤية هنا؟ لم أسمع التعرض لها بشكل يؤدي إلى نوع من الاتفاق عليها، كذلك قضية شهود الشهر ونحوها. هناك مسألة ثانية فقهية أخرى تتعلق بالتفريق بين الوسائل وسائل إثبات دخول الشهر والحكم بثبوت دخول الشهر من الجهة المؤهلة للحكم بالثبوت هذه أيضًا قضية أخرى تحتاج إلى نوع من التناول. كذلك لاحظت أن الحديث في هذا الأمر اتسم في كثير من جوانبه بالمؤثرات المختلفة حول المواقف بحيث لم يأخذ البحث الفقهي ولا البحث الفني نصيبه الكامل التام من التناول بناء على مواقف مسبقة ومؤثرات كان لها وضعها في الأقوال التي طرحت، المألوف من الشرع أن ينيط الأحكام دائمًا بالأمر البسيط الذي يستطيع المكلف الفرد بإمكانياته العادية الوصول إليه، وهذا أمر لا مراء فيه ومعهود من الشرع. الوسائل التي بين أيدينا وسيلتان: الرؤية والحساب هل يمكن الجمع بينهما؟ سواء فيما ذكره الأستاذ القرضاوي أو فيما ذكره الإخوة الآخرون بأن يؤخذ بالحساب سواء في مجال النفي أو في المجالين معًا وأن يدعي الناس إلى محاولة الرؤية في تلك الأوقات لا التي يقررها الحساب أنها مظنة ولا نقول موضع قطع مظنة ظهور الهلال وإمكانية رؤيته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 أعتقد أنه للخروج من هذا المأزق أو أظن أن من الممكن أو من المستحسن أن يتبنى المجمع التوصية بوضع ما يسمى بكاليندر أو روزنامه للشهور روزنامه إسلامية خاصة، تبين لنا، وهذا أمر ممكن جدًا وسهل وميسور، تبين لنا دخول الشهر وخروجه في سائر أنحاء العالم الإسلامي وحتى كذلك أوقات الصلاة وتبين لنا خطوط الطول وخطوط العرض ونحوها. ثم بعد ذلك يترك لأهل كل مجموعة من البلاد تتفق خطوط الطول بينها أن يتحرروا الهلال في تلك الأيام التي تقرره الروزنامه أو الكاليندر إمكانية الرؤية فيها ثم يتخذ الحكم، يحكم المسؤولون في تلك البلاد بدخول الشهر أو عدم دخوله وفقًا لذلك، لعل في هذا ما يمكن أن يشكل مخرجًا من هذا الأمر الذي لولا المؤثرات المختلفة فيه لما اتخذ هذا الشكل الحاد، فإن المسلمين في صلواتهم مختلفون، وفي الوقت الذي نكون نحن الآن مثلًا في الساعة العاشرة إلا الثلث ضحى يكون الوقت ليلًا في بعض الأماكن ويكون الوقت مغربًا أو عصرًا في أماكن أخرى وهذا لم يشكل قضية لدى المسلمين، وكان يمكن أن يكون موضوع الصيام والفطر خارج هذه القضية لولا مؤثرات كثيرة تحيط بها وتجعل منها تلك القضية الخطيرة التي يستدل بها على تخلف المسلمين أو على عدم اهتمامهم بالوقت وهم يعرفون الحضارة: إنسان زائد وقت يساوي حضارة، فأظن أنه من الممكن لمجمعنا الموقر أن يأخذ بهذا الاتجاه ويوصي المسلمين باتخاذ روزنامه أو كاليندر لتقويم كامل لجميع البلاد الإسلامية ولجميع أنحاء العالم، وهذا أمر وارد وممكن وتؤخذ الرؤية ويؤخذ الحكم بدخول الشهر وخروجه، فإن ما تفضل الإخوة بالإشارة إليه من ... الرئيس: تشكون منها، من الروزنامه هذه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 الشيخ طه جابر العلواني: لا ... لا.. عفوًا الحكم أمر مستقل، لا بد من الفصل بين الحكم وبين الوسائل فهناك وسائل وهناك حكم يجري في البلد يتخذه أهل الفتوى يتخذه المسؤولين إلى غير ذلك فإن هذه الاختلافات التي بلغت أربعة أيام وثلاثة أيام مما لا شك فيه أن للمؤثرات الأخرى المختلفة التي ليس منها على الأقل قضية الرؤية ولا قضية الحساب الأثر الأكبر في اعتبار دخول الشهر أو خروجه وهذا أمر ملاحظ وملموس وعليه دلائل كثيرة في بلدان مختلفة، فأظن أن في تفصيل هذه المسألة إلى الجوانب التي ذكرناه أو محاولة الخروج بحل وسط في هذا الأمر لعل فيه نوعًا من الخروج من المأزق إن شاء الله، وجزاكم الله خيرًا. الشيخ عبد العزيز الخياط: بسم الله الرحمن الرحيم ... أرجو أولًا أن يسعنا فضيلة الدكتور بكر أبو زيد بسعة صدره وبحلمه فيما لو قلنا رأيًا قد يخالف ما هو عليه كما تعودنا منه فيما مضى وفيما هو آت إن شاء الله. الحقيقة كنت سأتكلم بما تكلم به بعض الأخوة وأخص بالذات فضيلة الأستاذ القرضاوي. فأنا أؤيده في معظم ما قاله ولا حاجة إلى تكرار ما قال في موضوع الاعتماد على الحساب القطعي، إذا كان الحساب قطعيًا، وما يقال: إن هناك خطأ، ممكن أن يقع في الحساب خطأ لكن خطأ في رجوع الحساب إذا كان من جهة رسمية ودولية تتولى هذا الحساب من أصحاب المناصب الفلكية فالحساب قد يكون الخطأ فيه قليلًا جدًا لكن مع هذا كله ينبغي أن نتعرض لبعض النقاط. أنا أقول بأن الاعتماد على الحساب وارد وما أشار إليه الدكتور الأستاذ الضرير بأنه ليس هناك ما يشير للأخذ بالحساب فالآيات كثيرة ونص الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) ، ((فاقدروا له)) كلمة ((اقدروا له)) احسبوا له وهو أخذ بالحساب إلا إنني مع هذا أرى أنه لا بد من الأخذ بالرؤية. وهذه الرؤية توكيد واعتماد عل الناحية أيضًا الشرعية في الإثبات في الشهادة وأن نأخذ بالأسباب الحديثة في هذه الرؤية البصرية فلِمَ لا يلجأ الناس الآن، وقد انتشرت الطائرات بأنواعها المختلفة وصعدت فوق السحب؟ أنظل معتمدين على أن نقف على الأرض أو على الجبال أو نصعد إلى المأذنة لنرى الهلال لم لا؟ والدولة عادة من دوائرها ووزاراتها الرسمية هي التي تتولى ذلك فلم لا تأخذ بالطائرة؟ طائرة هليوكوبتر ويصعد فيها أناس من أصحاب ذوي الأمانة والعدالة يراقبون الهلال وبهذا نوفق بين حساب ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 فقصدي من هذا أننا نجمع بين الشهادة وبين هذا الأمر في هذا الأسلوب، يعني نطور الأسلوب، في هذا أنا أقول أيضًا: إن ما اقترحه الأستاذ العلواني، يعني اقتراحًا وسطًا لكن فيه تناقضًا هو قال: الحساب ليس قطعيًا ولا يؤخذ به كقطعي إنما يؤخذ به من ناحية قطعية نظرًا لما اختلف فيه الفلكيون ثم يطلب أن نحضر تقويمًا ونعتمد على التقويم في بداية الشهور فاعتمدنا أيضًا على شيء ظني بشيء ظني. الشيخ طه جابر العلواني: لنستأنس به فقط وليس لنقطع به. الشيخ عبد العزيز الخياط: الاستئناس به يعني يجوز ونستأنس به وهذا ظني على كل حال إنما أريد أن أقول باختصار وكما قلت: أنا أؤيد فتوى مجمع البحوث في القاهرة وما توصل إليه في هذا الموضوع وهو الرجوع إلى آراء كثير من العلماء في هذا الاعتماد لكن أقول مع هذا نعتمد على الرؤية معًا وهو ما أشار إليه بالحل العدل الذي طرحه الأستاذ العلواني مع اختلاف الأسلوب في هذا الأمر. وأما ما يتعلق باختلاف المطالع فأحب أن أبين رأيي في هذا أنا مع رأي الجمهور أنه إذا ثبت الهلال في بلد إسلامي سواء اختلف خط الطول أو خط العرض فنأخذ به والاختلاف كما سمعت من بعض الفلكيين لا يؤدي إلى ثلاثة أيام أو يومين أو أربعة أيام، هو عبارة لا يتجاوز كما قيل لنا الأربعة والعشرين ساعة فمن هذه الناحية يؤخذ به حتى تظل كلمتنا في هذا المظهر الذي يعترض علينا دائمًا فيه كثيرًا حتى تظل كلمتنا واحدة واتجاهنا واحدًا. ونحن كما أشار الأستاذ بكر إلى أنه في العام الماضي على ما أذكر ثبت في المملكة العربية السعودية وتبعت المملكة العربية السعودية ثلاث دول وعادة من عادتنا أن نجلس وبوسائل الاتصال الحديثة نتصل بجميع الدول العربية والإسلامية الممكن الاتصال بها، نتصل بالسعودية ونتصل بمصر ونتصل بالمغرب ونتصل بالجزائر ونتصل بتونس ونتصل كذلك بباكستان لنرى هل ثبت عندهم الهلال، فإذا ثبت في بلد واحد معتمد نتصل بالبلدان الأخرى ونخبرها بما توصل إليها مع مراعاة ما يصدر من الإذاعات الرسمية من بلاغات رسمية حول هذا من قضاة أو من وزارات الأوقاف بناء على شهادات الشهود العدول عندئذ يثبت في البلد، وعلينا أن نتبع هذا. وحقيقة إذا كانت الأمة الإسلامية والعربية منها قد اختلفوا هذا الاختلاف في دولهم، إنسان يعيد اليوم، الثاني يفطر غدًا، وهكذا ويصوم اليوم الثاني ويفطر، مما جعلنا موضع هزء وسخرية عند شعوبنا قبل غيرنا، فآن الأوان أن نأخذ برأي الجمهور في هذا تيسيرًا على المسلمين وتوحيدًا لكلمتهم –وأنا مع الأستاذ الشيخ الخليلي- كلما أخذنا بالأيسر للمسلمين هو أفضل وأحسن ... وشكرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. أعتقد أن الخلاف الذي استمعنا إليه يوم أمس واليوم هو ناتج عن أمور مبدئية أولية حتى نتحدث في نطاق واحد. الأمر الأول: هل أن الحساب ظني أو قطعي؟ الحساب الفلكي هل هو ظني أو قطعي؟ للوصول إلى معرفة أن الحساب قطعي أو ظني لنا طريقان: الطريق الأول: وهو أن يدخل العالم الفقيه فيتعلم الفلك إلى أن يقتنع اقتناعًا كاملًا بأن الحساب الفلكي قطعي. الطريق الثاني: هو طريق ما يعبر عنه بالتواتر، اليقين الذي يحصل للإنسان من اتباع أخبار مختلفة من أوجه متعددة لا يستطيع ردها بعد ذلك. وهذا هو الذي في إمكاننا لو جمعنا عشرة علماء من أهل الفلك كما اقترح الدكتور العلواني ما استطعنا لا يوجب هذا العلم. لكن ونحن نتابع ما يحدث في الدنيا، فالمسابر التي تسبح الفضاء والتي الأبعاد فيها بين الكواكب أبعاد خيالية لا يستطيع الإنسان أن يتبين الرقم إلا إذا ما تأمل فيه لمدة طويلة فيقول: إن هذا المسبار سيصل إلى الزهرة وهو يقطع كذا كذا ألف كيلو متر في الثانية يصل إليها بعد ثلاث سنوات، هذا يصل إلى الكوكب بعد ثلاث سنوات بالضبط في الدقيقة التي يجب أن يصل فيها ولو زادت دقيقة واحدة لضاع في الفضاء. فالقمر الذي هو أقرب الكواكب إلينا حسابه أكثر من القطعي، القمر المسبار الذي خرج من الأرض ونزل على القمر لو كان الخلاف أو عدم الدقة في الحساب بدقيقة واحدة لذهب هو ورواده، فنحن قد امتلكنا يقينًا بهذا التواتر من نواحي متعددة كثيرة بما يقوله الفلكيون من أنهم اطمأنوا اطمئنانًا كاملًا إلى أنه عندما يطبقون النظريات على الواقع العملي فإن الاختلاف لا يتجاوز جزءًا من ألف من الثانية، وجزء من ألف من الثانية هو أمر تقدره الحاسبات الإلكترونية، ولكن لا نستطيع بعقولنا لأن يرتد إلينا الطرح هو عبارة عن أضعاف هذا المقدار فجعل قضية الحساب أو التشكيك في أن الحساب قطعي هو كالتشكيك في أن اثنين مع اثنين أربعة. وأنه يمكن أن يخطئ الطفل فيقول: اثنان مع اثنين ستة. فهذا إمكان الخطأ من غير الاختصاص أو من ضعيف العقل وهو لا يؤثر في أن اثنين مع اثنين أربعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 أما أن الفلكيين مختلفون فهذا أمر غير صحيح، إن الفلكيين متحدون ومتفقون وأن الحسابات الفلكية كما رأيناها في التقاويم التي صدرت عن علماء الفلك المسلمين والذين نأمنهم في دينهم وتقواهم وورعهم فقد اتفقوا اتفاقًا كاملًا باللحظة والثانية والذين حضروا هذه الاجتماعات واستمعوا إلى الفلكيين وقد جاءوا من أطراف العالم الإسلامي وقابلوا حساباتهم انتهوا أو وجدوا أنفسهم متفقين. الأمر الثالث: قضية اختلاف، ونعيدها اختلاف بين دخول الشهر الفلكي ودخول الشهر الشرعي لا يا سيدي لا يوجد خلاف، الفلكيون يقولون: الاقتران يقع في ساعة كذا ولكن هذا الاقتران لا يمكن معه رؤية الهلال، ماذا ترغبون يا أهل الشريعة؟ نقول: نحن نرغب في أن نرى الهلال، فيقولون: إن الهلال يمكن رؤيته حسب قواعد البصر وحسب بعد القمر عن الاقتران واستقباله لنور الشمس، تستطيعون رؤيته في هذه اللحظة ولن تستطيعوا رؤيته قبل ذلك. فليس هناك دخول شهر فلكي، وهناك دخول شهر حسابي وإنما هو أمر واحد لا فارق بينهما إلا أن الفلكيين كما يعطوننا ما قبل الاقتران يعطوننا تاريخ الاقتران ويعطوننا ما بعد الاقتران. ما توصل إليه المجمع الفقهي في مكة المكرمة هو رأي المجمع الفقهي في مكة المكرمة. وقد رأينا أن علماء المسلمين كانت لهم أقوال تختلف باعتبار ما عندهم من المعطيات، وقد رأينا المجمع الفقهي فعلًا في مكة المكرمة قال قولًا ثم تراجع عنه وهذا ما رأيناه بالأمس. الشرق والغرب قضية الشرق والغرب، وأن الشرق يرى الهلال وأن الغرب لم يثبت عنده الهلال، هذه في السنة يا سيدي في مكة المكرمة ثبت دخول الشهر بالرؤية ولم يثبت دخول الهلال في المغرب الأقصى إلا بعد أربعة أيام وكلاهما يعتمد الرؤية فهل هذا الخلاف موجبه شيء؟ موجبه إلا الرؤية لأنه لا نقول: إن الرؤية كاذبة دائمًا، ولكن الرؤية فيها كذب، وهو موجود وفيها مع الكذب خداع البصر. أنا لو أتيت بالمجمع العلمي كله وقلت له: انظر إلى القطرة النازلة من السماء لحكموا كلهم بأنه خيط نازل ويشهدون بهذا وشهادتهم حق لكانت الشهادة هي باطلة. لأنها إنما هي قطرة لكن سرعة تحول القطرة هو أكثر من اقتدار البصر على الاستيعاب فيرونه وهو ليس بخيط، فخداع النظر أو ما يتراءى من شرارات في الكون تجعل الإنسان أنه رأى الهلال وهو لم يره. شهادة عشرين في أماكن مختلفة ليس دليلًا قطعيًا لأن الواحد عندما يرى في جمع كثير ولا يراه إلا هو فلا تعمل بشهادته ولا تتأيد من ناحية أخرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 أما التأثر بناء على مواقف مسبقة فهذا أرجو أن لا يقال مثل هذا الكلام وأن لا يتهم أي منا أنه يعمل بأشياء مسبقة وجاء إلى هنا وكلنا فيما أعتقد ولا أتهم أحدًا. وإنما أعتقد أن كل واحد إنما يرغب الحق، وأن أجله لا يدري متى سيأتيه ولا ينفعه مال ولا بنون ولا أي شيء في الدنيا. ولا أتهم أحدًا ولا يَحْسُنُ لأي منا أن يتهم أحدًا، معظم الناس لا يعرفون الحساب ومعظم الناس لا يرون الهلال، معظم الناس أنا لا أرى ما أمامي من الكتابة التي كتبتها لو أزلت نظارتي لأرى الكتابة، فهل معنى هذا أني سأرى الهلال في يوم من الأيام؟ فكما أعتمد على الذين رزقهم الله البصر في الوقت الذي كانت وسيلة الرؤية هي البصر فقط فكذلك اعتمد على الذين رزقهم الله العلم بالحساب لأعتمد عليهم في معرفة دخول الشهر وخروجه. ولو أخذ الرائي الطائرة فهل كان ابن عباس يخالف، ابن عباس يخالف قطعًا لو أتاهم الخبر اليقين في الوقت؛ لأن القضية ليست قضية زمن هو قال: "لهم رؤيتهم ولنا رؤيتنا" لم يعلل بقضية البعد والقرب. فالذي أطمئن إليه من ناحية يقينية ومن ناحية أخرى ترجيحية، أما الاطمئنان هو أن الحساب يقيني وبناء على أن الحساب يقيني فلا يمكن أن نترك اليقين إلى ظن والرؤية ظنية ولا يمكن بحال من الأحوال أن تأتي رؤية مستفيضة على خلاف الحساب الصحيح اليقيني وما هذا الذي ذكره الشيخ جعيط إلا كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} فهذه هي افتراض وشأن الافتراضات العقلية أو العقل عندما يتطوع بالنظر لكن في الحقيقة أن اليقين لا يمكن أن يخالفه يقين فاليقين واحد واليقين لا يرفع. وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الرئيس: شكرًا ... مع الإشارة بأنكم يا شيخ تقول: إن عندك اطمئنانًا على أن الحساب يقيني، معناه عندك شك وأنت تقول عندي اطمئنان. الشيخ المختار السلامي: أنا مطمئن بوجود الله وأنا مطمئن بذكر الله وأنا أطمئن بوجودكم معي وأنا مطمئن إلى أني في المجلس هنا ومطمئن أنه ليس عندي شك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه وحده أستعين ... الحقيقة الموضوع حساس وخطير لأنه يتصل بشعيرة من شعائر الدين وركن من أركان الإسلام. وفي هذا الأمر يجب علينا أن نلتزم بنصوص الكتاب والسنة ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) ولا نستطيع أن نبدل بحال من الأحوال النصوص من أجل أخطاء طارئة، إنما الأخطاء ممكن تلافيها بالحرص والتثبت من الشهود والاستعانة بالمراصد الدقيقة والحساب الدقيق، وهذا ليس فيه خروج عن النصوص. والله سبحانه وتعالى قال: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} ثم إن الأمة الإسلامية أمة واحدة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} وأنا أقول بأن الحساب يختلف عن المحاسب فيه فرق بين الحساب وفيه فرق بين المحاسب وفيه بين الرؤية وبين الرائي، المحاسب قد يقع في الخطأ والرائي قد يقع في الخطأ. الواجب في الحقيقة الالتزام بالنص ثم الواجب الاستعانة بالعلم. ولكن المرجع هو النص ولا بأس من الاستعانة بالمراصد وبالحساب، وإذا ثبت شرعًا في دار إسلام فأنا من رأيي أن يثبت شرعًا في بلاد المسلمين عامة حتى في بلاد الكفار التي فيها أقليات إسلامية؛ لأن اليوم الكرة الأرضية أصبحت صغيرة وأصبح الاتصال ممكنًا في لحظة واحدة في جميع ديار المسلمين وفي جميع الكرة الأرضية. وشكرًا لكم. الشيخ أحمد محمد جمال: بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله رب العالمين وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. أنا كنت طلبت الكلام أمس ولكن حيل بيني وبينه بما حولتم إليه الحوار إلى قضية الإنعاش. كنت أريد أن أتحدث عن مفهوم الحديثين النبويين ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) والحديث الآخر الذي يقول فيه عليه أفضل الصلاة والسلام ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) ولكني وجدت الشيخ المختار والأستاذ القرضاوي كفياني الحديث في هذا الموضوع أو في مفهوم هذين الحديثين اللذين يتمسك بهما من يقول بالرؤية وحدها. وأريد أن أقول أيضًا إن القضية مطروحة أمامكم الآن من أجل اجتهاد جديد لاختلاف المسلمين في توحيد أهلتهم أو توحيد صيامهم وإفطارهم، فلا ينبغي أن يتمسك فريق بحديث الرؤية البصرية أيضًا، هناك اختلاف هل هي رؤية علمية أو رؤية بصرية؟ ما تعرض المجمع لها في حواره أمس ولا حواره اليوم، لأن الذين يقولون بأن الرؤية علمية يتأيدون بقول الله تبارك وتعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أي من علم يعني ليست الرؤية بصرية دائمة قد تكون علمية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 فالذي أريد أن أقوله أنه ينبغي للمجمع أن يصدر عن فكر جديد وعن اجتهاد جديد، لا يمنع اتخاذ الوسائل العصرية العلمية الحديثة فأرى توفيقًا للآراء أن نعتمد الرؤية أولًا وأساسًا ونستعين في ذات الوقت بالوسائل الحديثة بالحساب الفلكي وبالمراصد أيضًا. وأنا أركز هنا على المراصد لأن الأبصار ضعفت الآن نحن أولادنا وأطفالنا يولدون وفي أعينهم نظارات مكبرة، فالاعتماد على الشهادة الرؤية البصرية وحدها لا يكفي الآن. فلا بد من الاستعانة بالحساب الفلكي وبالمراصد التي تعين في التقريب والتكبير. وأذكر هنا بهذه المناسبة أن الملك عبد العزيز رحمه الله كان لا يعتمد على عامة الناس يقول: من رأى منكم الهلال فليحضر إلى المحكمة ويشهد، كان يبعث قضاة المحكمة الشرعية الكبرى إلى جبل ليروا بأنفسهم ويتحروا بأنفسهم ويكونون محل ثقة لا نشك الآن في شهادة الشهود العادلين. فالملك عبد العزيز رحمه الله كان يفعل ذلك، وأعتقد أن في مصر أيضًا يبعثون بالمفتي إلى مكان ليثبت التحري. فأرى أيضًا أن لا تعتمد شهادة عامة المسلمين، إنما تختار رجالًا بصراء أمناء لتحري الرؤية فإذا جمعنا بين الرؤية البصرية والحساب الفلكي والمراصد التي تعنيننا على الرؤية وأن يكون ذلك من قبل علماء أو قضاة في كل بلد أعتقد أن القضية منتهية بذلك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الشيخ عبد الله بن بيه: الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. في الحقيقة إن هذا الموضوع أشبع درسًا وكل ما نقوله هو تكرار لما قيل من وجه إذا لم يكن تكرارًا حرفيًا فهو تكرار معنوي، ولكن لا بد من الإدلاء بالدلو في هذا الموضوع وهو موضوع عبادي وتعبدي، عبادي يتعلق بالعبادة، وتعبدي بمعنى أنه لا ينبغي أن يكون معللًا لأن التعبدي في اصطلاح الفقهاء هو ما ليس معللًا لأنه وضع من الشارع. في هذا الموضوع ظهرت جملة من الشبه والأقوال: الشبهة الأولى: الشبهة العلمية الموهومة. هذه الشبهة كأنها أصبحت موضة وكأنها أصبحت نوعًا من التطور في مجال العلم وكأنها تجدي لنا نفعًا، لا أتهم أحدًا، أعتقد أن الجميع يتكلمون عن حسن نية وعن قناعة وأنا أيضًا أتكلم عن حسن نية إن شاء الله وعن قناعة، أعتقد أن البحث يدور حول شعيرة وحول قضية مهمة تتعلق بإثبات التكليف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 متى يكون العبد مكلفًا بالصيام؟ ومتى يكون مكلفًا بالفطر؟ هذه مسألة واضحة، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنه مكلف بالصيام عند الرؤية ومكلف بالفطر عند الرؤية، قال ذلك في عبارات واضحة ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) ((فإذا رأيتموه فصوموا)) . مرة في الشرط، والشرط من المفاهيم القوية بمعنى أننا إذا لم نره لا نصوم ومفهوم الشرط قال به كثير من الناس ممن لا يقول بمفهوم المخالفة. إذن ألا يسعنا ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكما قال الشيخ في الزمان الماضي قال له: هذا الذي تدعو الناس إليه علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أم جهلوه؟ قال له: جهلوه وعلمته أنت يا لكاع. قال له: لا أقلني، قال له: أقلتك. والمسألة على حالها علموا أم جهلوا؟ قال: علموا ادع الناس إلى مثل ما دعوتهم إليه. قال: لا. قال: ألا يسعك ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه؟ فقال الخليفة: بلى أن ذلك ليسعني. يسعنا أيها الإخوان ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. نحن أمام رؤية وهي مشاهدة بالعين وأمام استنباط واستنتاج عن طريق ما يسمى بعلم الحساب أو علم الفلك. رؤية العين والاستنباط: رؤية العين لا يمكن أن تكون كاذبة والاستنباط أيضًا قد لا يكون كاذبًا، لا أحكم عليه بالكذب. رؤية العين: شخص رأى شيئًا لا يمكن أن تقول له: أنت لم تر، الأخ يقول بالأمس: إن هذه الرؤية كاذبة، لم ير شخص، لم ير شيئًا مطلقًا. لا يمكن أن يقبل هذا عاقل: أنا أرى شيئًا تقول: لا ترى شيئًا. إن الحقائق كلها متبدلة ومتغيرة ولا يمكن لإنسان أن يعتمد على شيء إذا لم يعتمد على رؤية حسية. كما قال الإخوان: إن هذا الدين مبني على اليسر وإن من الوسائل ما يرفضه الدين ولا يعتمد عليه. الدين يقدم النادر على الغالب في كثير من المسائل فلو ادعى أورع الناس على أفقه الناس تافهًا كدرهم ما صدق، لو أدعى تافهًا كدرهم، لو ادعاه عمر على أي فاسق ما قبل منه إلا بشهادة. معنى ذلك أن الدين ألغى الغالب واعتبر النادر لحكمة فلا يمكن فرض بعض المفاهيم على الدين. وفي رأيي أنه ينبغي لنا أن نرجع إلى ما يبرئنا أمام الله سبحانه وتعالى كما قال أخي الشيخ السلامي، كل واحد يحتمل أن يموت في أي وقت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 فما هو الموقف المبرئ في الحقيقة أمام الله سبحانه وتعالى في مسألة الأهلة؟ هل هو الاعتماد على الرؤية أم الاعتماد على الحساب؟ إذا كان بعض الإخوان مقتنعًا بأن الحساب قطعي فبعضنا لا يقتنع بذلك. الأخ يقول: يراه أهل المغرب قبل أهل المشرق والدكتور شيخنا القرضاوي يقول: هو الصحيح، قنون في حاشيته على الرهوني يقول: يراه أهل المشرق قبل أهل المغرب ورؤية أهل المغرب. الشيخ يوسف القرضاوي: هذا صحيح أهل المشرق المفروض يرونه قبل أهل المغرب. الشيخ عبد الله بن بيه: هذا الذي أنتم قلتم: المغرب، قلتم ما قاله الفلكي بالأمس. الشيخ مختار السلامي: إذا ثبت مشرقًا ثبت مغربًا. الشيخ عبد الله بن بيه: لا.. لا.. لا هذا عكس ما أريد أن أقوله، أنا أقول: إن أهل المشرق يرون الهلال قبل أهل المغرب ورؤيتهم غير ملزمة لأهل المغرب، ورؤية أهل المغرب ملزمة لأهل المشرق ذلك ما قاله قنون في حاشيته على الرهوني، وممكن أن تراجعوها. الشيخ المختار السلامي: أحب أن أقف عليه لأن مذهب المالكية خلاف الرهوني، والرهوني الذي هو أقدر من قنون. الشيخ عبد الله بن بيه: إذن الخلاف ثابت، العلماء بعضهم يقولون: المشرق رؤية أهل المشرق ملزمة لأهل المغرب، وبعضهم يقول: رؤية أهل المغرب ملزمة لأهل المشرق، لا العكس ونحن نشاهد طيلة هذه القرون أن أهل المشرق يرون الهلال أولًا كما يرون الشمس قبل رؤية أهل المغرب لها، هذا شيء مطرد. وعرفه نام إذا سألت أي فلاح في مصر أو أي راع في موريتانيا يجيبك بهذا لا يحتاج إلى شيء، وهذا الدين كما قال مالك إلى العذراء في خدرها تريد أنت وأصحابك أن تجعلوه جدالًا. هذا الدين يسر، ويسر بهذه القواعد وانطلاقًا من هذا لا يوجد خلاف ولا ينبغي أن يوجد خلاف حول هذه القضية ما دام رائدنا هو رفع التكليف عن الناس بصفة مقبولة ومرضية عند الله ورسوله إن شاء الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 هناك في الحقيقة تخوف حقيقي وهو تدني عدالة المسلمين في هذا الزمان وعدم مبالاتهم وعدم اعتنائهم برؤية الهلال، هذا تخوف في محله وهو تخوف مشروع. علاج هذا قد عالجه العلماء قبلنا، يقول الزقاق بأن يكون الخبر مستفيضًا ولا أقول البينة مستفيضة أو أن يكون متواترًا والمتواتر لا حد له وإن كان السيوطي حدد المتواتر، وقوم حدده بعشرة وهو لدي أجود وقول باثني عشر وعشرين يحكي أربعين أو سبعين فيه هذا في مجال الحديث، وبعضهم قد ادعى فيه العدم وبعضهم عزته وهو أهم فالمتواتر لا حد له. فنحن نستكثر من العدول نلاحظ تدنيًا في عدالة الناس نستكثر من الشهود ونوصي بهذا وندعو جماهير المسلمين إلى الخروج لمشاهدة الهلال ولتحري الهلال وللبحث عنه. هذا ما نستطيع أن نفعله في مجلسنا هذا، يسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الخطأ في الحساب قال بعض الإخوان: الخطأ في الحساب قليل مغتفر، الخطأ في الحساب مغتفر والخطأ في الرؤية ليس مغتفرًا تعلمون بأن النبي صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين في أربعة مواضع سها في الصلاة، فالصلاة مرقعة. فالخطأ في الصوم أيضًا أن نصوم يومًا آخر يومًا زائدًا أن نقضي ذلك اليوم الذي فات. الأمر كما يقول الشاطبي الأمر ليس مهولًا إذن لا ينبغي التجريح في الرؤية، والتجريح في الرؤية لو قلنا بلازم المذهب، لو قلنا بالمآل كما يقول ابن رشد بلازم المذهب لكان كفرًا، لأن تجريح الرؤية تجريح لوسيلة حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتجريح الرؤية مطلقًا يقال: الرؤية لا يمكن أن تعتمد ولا يمكن أن تعتبر تجريحًا في هذه الوسيلة التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم حددها بتعليل قال ((صوموا لرؤيته)) لأجل رؤيته حددها في مفهوم الشرط، ((إذا رأيتم الهلال فصوموا)) في عبارات مختلفة في غاية الوضوح، فهمها الصحابة تلقوها منه، فهمها التابعون، فهمها الأئمة جميع الأئمة إلى يومنا هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 فلا أرى أن يكون مجلسنا هذا مجلسًا مهمته هدم الدين أو التجاوز على الدين، ولا أرى ذلك نافعًا في عصرنا ولا يقدم ولا يؤخر، لا يقدم ولا يؤخر حضارة، قلنا: إن الحضارة هي العمل النافع الذي ينفعنا في دنيانا وينفعنا في آخرتنا، أما مثل هذه القرارات لا أراها مطلقًا نافعة. سيدي الرئيس أريد أن أذكر أن النووي وقد أشار شيخنا القرضاوي أن النووي قال: إن الشافعي كغيره لا يقول بالحساب ذلك كلام النووي. إذن فليراجع فلعل شيخنا القرضاوي اطلع على نسخة لم أطلع عليها. النووي قال: إن الشافعي لا يعتمد مطلقًا الحساب وأنه كغيره. الشيخ يوسف القرضاوي: ليس المذهب هذا، المذهب فيه أقوال. الشيخ عبد الله بن بيه: ولكن قال: إن الشافعي قال النووي بالحرف الواحد: إن الشافعي كغيره لا يقولون مطلقًا. الشيخ يوسف القرضاوي: يصح قول في المذهب يجوز. الشيخ عبد الله بن بيه: هذا قول ابن سيرين. الرئيس: لغير الشافعية أما أئمة المذهب فقد نفوه لا إشكال. أئمة المذهب الشافعي قد نفوا نسبته إلى الشافعي ولا ينبئك مثل خبير. الشيخ عبد الله بن بيه: نعم، إنه نفى نسبته للشافعي، العلم لا يختلف مع الدين، صحيح أن العلم لا يأمر ولا ينهى في هذا الموضوع، الدين يأمر وينهى، الشارع رافع واضع، العلم لا يرفع شأنًا ولا يضعه في هذه القضية فلا خلاف بين العلم والدين هذا خلاف مصطنع. أعتقد أنا نحن نتكلم في ناحية ليست هي موضوع البحث، العلم ليس موضوع البحث، العلم والدين، العلم لا يرفع شيئًا ولا يضعه، العلم يقول: إن الخنزير يمكن أن تنزع عنه كل دودة والجراثيم التي فيه وأن لحمه يصبح طيبًا، الدين ينهى عن الخنزير، الله سبحانه وتعالى قال: إن الخنزير لا يجوز لنا أكله، فهل يمكن أن نقول اليوم: العلم أباح لكم أكل لحم الخنزير لأنه يستطيع نزع جميع الجراثيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 الأمين العام: بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هذا الموضوع الذي نتداول النظر فيه قد بحثه غيرنا من قبل في مؤتمرات عديدة والذي دعا إلى بحثه من جديد هنا هو الواقع المر الذي يعيشه المجتمع الإسلامي. وقد أدلى كل واحد بدلوه في هذا الموضوع، وأنا أشكر الشيخ عبد الله بن بيه على علمه الواسع لكثير من النصوص، وهذا ما يفيدنا ونطمئن إليه، لكن ليفرض علينا واحد من الناس رأيه فهذا غير مقبول. وهذا المؤتمر نستمع فيه إلى الآراء بغاية الأدب واللطف وعندما نستمع إلى الآراء تسجل هذه الآراء وقد استمعنا لنفي هذه الحيرة والاضطراب وكل واحد منا هنا هو لخدمة الدين، إذن الاتجاهات التي اتضحت من وراء دراسة هذا الموضوع ثلاثة: الاتجاه الأول: هو الالتزام بالرؤية وعدم الانتقال إلى غيرها مهما كان الأمر، وهو الرأي الذي بينه عدد كبير من إخواننا مع غاية من الأدب واللطف في عرض الحديث. الاتجاه الثاني: هو أنه يجوز أن ننتقل من هذه الوسيلة التي هي في نظر بعض الإخوان ليست ملزمة إلى وسائل أخرى جدت ويمكن الاستعانة بها وهي قطعية ومفيدة للعلم وهؤلاء هم الذين يقولون بالحساب. فهذان اتجاهان اثنان. هناك اتجاه ثالث: يقول نحن نطمئن إلى الرؤية وهي الأصل ولكن بعض الظروف التي حصلت في العام الماضي والذي قبله ومن سنين جعلت بعض الناس لا يحتاطون في الإعلان بالرؤية فيا لوقت المناسب إذ يعلنون عن وجود الهلال قبل القرآن، وهذا ما لا يمكن أن يصح لا شرعًا ولا منطقًا ولا علمًا، وبناء على ذلك فهم ينادون بالاحتياط في الرؤية وبالاستعانة بالحساب ليتمكنوا من الاحتياط لدينهم ولعبادتهم، فهل في هذا ضير؟ وعندئذ هذه القضايا الثلاث أو الأوجه الثلاثة مطروحة على حضراتكم لتبتوا فيها بالاختيار أو بالتصويت أو بما تشاءون لنستطيع أن نحرر القرار ويكون القرار علميًا مجمعيًا معللًا، وشكرًا لكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 وبذلك فإني أقترح إنهاء الحديث في هذا الموضوع حيث تبينت الاتجاهات، وتبينت الاتجاهات من أمس ونحن أجلنا الموضوع فقط للاطلاع على الجانب الفلكي وقد اطلعنا عليه فلا حاجة إلى الاستزادة من القول، وشكرًا لكم. الشيخ وهبة الزحيلي: أبدأ بالعمل باقتراحات فضيلة الأمين العام لقضية: هل إذا رئي الهلال بأي وسيلة نعتمدها؟ هل تلزم باقي الأقطار بهذه الرؤية أو لا تلزم؟ يعني الشق الثاني. الأمين العام: القضية هي بالنسبة لتوحيد المطالع أو اتفاق الأمة الإسلامية على الأخذ بتلك الرؤية أو بالحساب أو بما سننتهي إليه. هذا أمر موكول إليكم، وقد رأيت في الحديث الذي دار أن اتجاه أكثر الناس إلى عدم الأخذ باختلاف المطالع بمعنى إلى توحيد الأمة في قيامها بمواسمها الشرعية وبصيامها، فإن كان هناك من يتحفظ أو يخالف يسجل رأيه. الشيخ عبد الله بن بيه: نحن نرى اختلاف المطالع ولأنه واقع. الرئيس: شكرًا.. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد. فأمامنا قضيتان: الأولى: مدى تأثير اختلاف المطالع على توحيد الرؤية من عدمها. والثانية: مدى الاعتماد على الحساب في إثبات أوائل الشهور القمرية. وهاتان القضيتان قد درستا في محافل ومجامع علمية كثيرة، ولعل من آخرها درس في مجمع مكة في هاتين القضيتين والقرار الذي صدر من مجمع مكة قد وزع عليكم والقرارات الأخرى التي صدرت من مجمع البحوث الإسلامية أو من اللجنة الشرعية الفلكية في الأزهر سمعتم عرضًا عنها، ومنه ما أشير إليه في بعض هذه البحوث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 وقد انتهى مجمع مكة في قضية اختلاف المطالع إلى أن مذهب الجماهير من أهل العلم على اختلافها ثم قرروا في آخر قرارهم نظرًا لأوضاع البلدان الإسلامية وتلافيًا أو وطلبًا للاستصلاح قرروا أن أهل كل بلد يتبعون مفتيهم وما يقرره أهل العلم فيهم، وقد أثنى على هذا عدد من الأخوة الحاضرين من أعضاء هذا المجمع. فأرجو من أصحاب الفضيلة الذين يثنون على ما قرره مجمع مكة في مسألة اختلاف المطالع بهذا الرأي أن يتكرموا بالإشارة بأيديهم من الأعضاء العاملين. الشيخ يوسف جيري: سيدي الرئيس.. ينبغي –استيضاحًا- لو تكرمتم تعيدوا عرض موقف مجمع مكة لو تكرمتم. أولًا الموقف الأول ثم الموقف الثاني؛ لأننا فهمنا منكم الآن أنهم كانوا أخذوا قرارًا في الأول. الرئيس: لا، ليس فيه هذا القرار الأول والثاني، ليس في المسألة هذه، هذا في طفل الأنابيب. الشيخ يوسف جيري: في المسألة هذه أخذوا قرارًا واحدًا. الرئيس: قرار واحد. الشيخ يوسف جيري: نريد أن نعرفه. الرئيس: قالوا هنا: إنه قد قرر العلماء من كل المذاهب أن اختلاف المطالع هو المعتبر عند كثير، فقد روى ابن عبد البر الإجماع على ألا ترعى الرؤية فيما تباعد من البلدان إلى آخر، ثم قالوا في آخر قراراهم: وعلى ضوء ذلك قرر مجلس مجمع الفقه الإسلامي أنه لا حاجة إلى الدعوة إلى توحيد الأهلة والأعياد في العالم الإسلامي لأن توحيدها لا يكفل وحدتهم كما يتوهمه كثير من المقترحين لتوحيد الأهلة والأعياد وأن تترك قضية إثبات الهلال إلى دور الإفتاء والقضاء في الدول الإسلامية، لأن ذلك أولى وأجدر بالمصلحة الإسلامية العامة وأن الذي يكفل توحيد الأمة وجمع كلمتها هو اتفاقهم على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع شئونهم والله ولي التوفيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 الشيخ عبد السلام العبادي: إذا سمحت سيدي.. نقطة نظام.. إذا سمحت قليلًا، أظن نحن في هذا المجمع ليس مطلوبًا منا ولا يجوز أن نعرض قرار مجمع آخر للتصويت هنا، نحن نبحث مسائل علمية ونستأنس بما انتهت إليه المجامع الأخرى. الرئيس: فقط سأقول كلمة واحدة لننهي الموضوع، أنا أقول كلمة واحدة أقول: هل تثنون على قرار مكة أم لا؟ أنا لم أقل هذا وإنما أقول: إن عددًا من الإخوان أصحاب الفضيلة المشايخ ثنوا على قرار مكة ورأوا أن ينتهي الموضوع في هذه الجزئية بما قرره الفقهاء في مجمع مكة، فانطلاقًا من هذه كما فعلنا في طفل الأنابيب بالأمس، فما الذي أجاز لكم هذا في طفل الأنابيب بالأمس وتمنعونه اليوم؟ الشيخ يوسف جيري: لسبب واحد أنه بالنسبة لطفل الأنابيب عرضنا الفكرتين، نحن نريد الآن هذا موقف مجمع مكة، الموقف المعاكس أيضًا نريد أن نعرفه كيف نعمل تصويتًا قبل أن نعرف الاثنين؟ الرئيس: المسألة بحثت بالأمس وبحثت اليوم وأنت تسمع الآراء. الشيخ يوسف جيري: الآن لم تكتفوا بعرض الآراء التي حصلت بين الأمس واليوم بل رأيتم أن تذكرونا بما قاله مجمع مكة. الرئيس: عرضها معالي الأمين العام وأنتم تسمعون في مسألة الحساب وأنا الآن في دور استعراض الآراء هذا واضح. الشيخ مصطفى الزرقاء: إذن لماذا لا تعرضون الموضوع بعنوانه: من يرى اعتبار اختلاف المطالع أو من لا يرى ذلك، لماذا لا يكون بهذا الشكل؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 الشيخ عبد السلام العبادي: في الواقع في مجال التصويت والمعهود في كل المجالس والمجامع أن تعرض القضية أولًا، قضية الخلاف ثم بعد ذلك تعرض وجهات النظر الواردة فيها ثم يترك الأمر للتصويت. الرئيس: على كل نحن نستطيع أن نجمع بين هذه حتى نتلافى الخلاف الآخر، فعلى كل نحن لدينا قضيتان: أما القضية الأولى: فهو مدى تأثير اختلاف المطالع ولدينا في هذه المسألة فيما تحصل لنا رأيان: الأول: هو تأثير اختلاف المطالع وهذا ما ذهب إليه قرار مكة وأن يترك لأهل كل بلد الرجوع إلى المرجع الشرعي في البلاد، هذا هو الرأي الأول. الرأي الثاني: أنه لا تأثير لاختلاف المطالع وأنه إذا ثبت ثبوتًا شرعيًا في بلد إسلامي فإنه يلزم المسلمين في جميع أنحاء العالم أن يلتزموا بهذه الرؤية. فأنا أقول بالنسبة للرأي الأول وهو تأثير اختلاف المطالع وأن يعود أهل كل بلد إلى مفتيهم ومرجعهم الشرعي في البلاد، الذين يصوتون على هذا أرجو الإشارة بأيديهم. الشيخ علي التسخيري – الشيخ هارون – الشيخ أبو بكر – الشيخ عبد اللطيف سعد – الشيخ تقي عثماني – الشيخ عبد الحميد – الشيخ صالح طوغ – الشيخ عمر جاه – الشيخ عبد الله البسام – الشيخ الخليلي عبد الرحمن باه – الشيخ محمد عبده عمر – الشيخ عبد الله إبراهيم – الشيخ محمد عبد الرحمن. الشيخ تقي العثماني: سيدي الرئيس التصويت هذا لإثبات اختلاف المطالع. الرئيس: لاختلاف المطالع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 الشيخ تقي العثماني: اعتبار اختلاف المطالع أن يكون لكل أهل بلد رؤيتهم. الرئيس: يعني يرجع أهل كل بلد إلى مفتيهم، إلى رؤيتهم. الشيخ تقي العثماني: يعني إلى رؤيتهم؟ فهذا ما لا أوافق عليه. الأمين العام: حضرات أصحاب الفضيلة من فضلكم.. معالي الرئيس قدم الموضوع بغاية اليسر والسهولة لنخرج من هذا الخلاف، أريد أن أعود إلى طرح الموضوع حتى نكون على بينة، الموضوع فيها اتجاهان: الاتجاه الأول: يرى أن الرؤية تكون في بلده ويقتصر عليها ولا يأخذ بالرؤية العامة التي تشمل كل الأقطار الإسلامية بمعنى يقول باختلاف المطالع. والاتجاه الثاني: هو عدم القول باختلاف المطالع وتوحيد المسلمين عامة في رؤية واحدة يتبعونها، فالذين يلتزمون بالرؤية المختلفة بمعنى أن لكل بلد رؤية، من هم الذين يوافقون على هذا؟ الشيخ الصديق الضرير: نرجو اعتبار اختلاف المطالع، نحن لا خلاف بيننا في أن المطالع مختلفة وإنما الخلاف نعتبرها أو لا نعتبرها. الأمين العام: أنا أتحدث على اعتبارها. الشيخ الصديق الضرير: لأن قرار مكة الذي يتحدث عن اختلاف المطالع. الأمين العام: القضية هي اعتماد اختلاف المطالع، من الذي يوافق على اعتماد اختلاف المطالع؟ الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: عفوًا السيد الرئيس، سؤال يعرض للرئاسة أرجو الجواب عليه، إذا كان لأحدنا نظرية توفيقية ليست مع الأخذ باعتبار اختلاف المطالع ولا باتحاد المطالع، نظرية توفيقية لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 الرئيس: يكون له رأي ثان، يخرج من الفريقين يحدث قولًا ثالثًا. الأمين العام: من الذي يرى اعتبار اختلاف المطالع؟ الرئيس: الشيخ أبو بكر دوكوري – الشيخ محمد بن عبد اللطيف السعد – الشيخ عبد الحميد بن باكل – الشيخ صالح طوغ – الشيخ عمر جاه – الشيخ الخليلي – الشيخ عبد الرحمن باه – الشيخ محمد عبد الرحمن – الشيخ عبد الله البسام – الشيخ عبد الله بن إبراهيم – فيه أحد من غير الإخوان الذين سمعنا أسماءهم، وبكر أبو زيد أنا، كم صاروا يا شيخ؟ الشيخ عبد السلام العبادي: أحد عشر اسمًا. الرئيس: بقي من لا يرى توحيد الرؤية. الشيخ صابون – الشيخ السلامي – الشيخ هارون – الشيخ روحان – الشيخ عطا السيد – الشيخ آدم – الشيخ محمد شريف – الشيخ رجب – الشيخ الخياط – الشيخ البزيع – الشيخ يوسف – الشيخ موسى فتحي – الشيخ عبد العزيز عيسى – الشيخ محمد عبده عمر – الشيخ محمد سالم – الشيخ مصطفى الزرقاء – الشيخ الضرير – الشيخ طه –الشيخ عبد الستار أبو غدة – الشيخ خليل الميس – الشيخ عبد السلام العبادي. الشيخ هشام برهاني: هناك رأي لم يطرح أصلًا، وهو أنه نحن نستطيع أن نجمع بين الأمرين بحيث أولًا نقرر أن الحقيقية الشرعية وهي إثبات بدء الشهر ونهايته على الرؤية هذه حقيقة لا يجوز الخروج عنها، هذه نقطة، أنا أعرض قضية وأن هناك القضية الثانية التي جرت على لسان كثير من الإخوة الحاضرين وهي أن حقائق العلم لا تناقض حقائق الشرع، هذه قضية. الأمر الثاني: أن العلماء اختلفوا على ثلاثة أقوال في هذه القضية: قول يقول باختلاف المطالع، وقول لا يقول باختلافها، وقول باعتبار الاختلاف في حال البعد لا في حال القرب هذه قضية ثالثة، وليست قضيتين إنما ثلاث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 ونحن إذا استطعنا أن نفهم حقائق العلم لا يمكن أن نختلف على هذه القضية أصلًا ولو أن علماء الهيئة عرفوا المراد عند أهل الشريعة لما أخطأوا أيضًا في الحساب فنحن نريد أن نتوسع في هذه القضية من الناحية العلمية فإذا صارت يقينية فأظن أن لهذا الخلاف أصلًا لا يمكن أن يتم. ولذلك أقول وأثني على ما ورد في كلام الخبير أمس، العلماء، علماء الهيئة عندما تكلموا على الهلال والرؤية قالوا: الكرة الأرضية لا يمكن أن ترى الهلال في يوم واحد وهذا يثري قضية اختلاف الطالع لأنها حقيقة علمية وحقيقة شرعية، وأيضًا قالوا يفصل بين الجزئين خط يسمى خط اختلاف المطالع، هذا يحدد بدقة حتى بالثانية، وهذا يعتمد خطوط الطول أكثر مما يعتمد خطوط العرض، فإذا استطعنا أن نتثبت من هذه الحقائق. وقالوا أيضًا بأن الذين يقعون غرب خط المطالع كلهم يرون الهلال وكلما ابتعدنا عن هذا الخط إلى جهة الغرب كلما أصبحت الرؤية أوضح، وهذا مما أحب أن أسجله بالنسبة للكلام الذي ورد على ما عرضه مولانا الشيخ بن بيه، حقيقة علمية هذه لو استطعنا، لماذا لا يرى الهلال؟ لوجود الشمس فإذا غربت الشمس ظهر الهلال فكلما اقتربنا من الليل كلما كان ظهوره أوضح ولذلك فإن الجهات التي تقع غرب خط المطالع تكون الرؤية فيها أوضح بينما الجهات التي تقع شرق هذا الخط لا يمكنها أن ترى الهلال أصلًا. فنحن نريد أن نتثبت من هذه القضايا وقد طرح أخونا الدكتور العلواني أن يكون هناك ندوة يجمع فيها عدد من المتخصصين لتصبح هذه الحقائق معلومة لدينا وبعد ذلك نصدر حكمنا لأن إصدار الحكم قبل التثبت من هذه الحقائق ومحاولة الجمع بين حقائق الشرع وحقائق العلم أمر ضروري وإلا لا نستطيع أن نفعل شيئًا، والله تعالى أعلم. الشيخ محمد سالم عبد الودود: هناك ثلاث نقط نقول: أولًا قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه)) هذا ورد في معرض النهي عن أنه يتقدم شهر الصيام بيوم من شعبان هذا هو سبب الحديث وسبب نزول الحديث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 ثانيًا: أن رأيي الذي رفعت أصبعي لأعبر عنه هو رأي السادة المالكية، وهذا من غير تعصب ولكنها مدرسة كما أقول: السادة المالكية يرون أنه لا اعتبار باختلاف المطالع ولا بثبوت الحكم إذا ثبت عند حاكم سواء إن كان ذلك الحاكم عامًا أو خاصًا فإنه يلزم سائر البلدان إلا ما نقل ابن عبد البر من الإجماع، وإجماعات ابن عبد البر غير دقيقة، إلا ما نقل من عدم اعتبار الرؤية فيما تناءى من الأقطار ومثل خراسان من الأندلس. فالرأي الذي يتحصل على مذهب المالكية أن الهلال مثلًا إذا رؤي في مكة أمكن لأهل نواقشوط ولأهل طهران أن يعتمدوا الرؤية في مكة، ولكن إذا رئي في نواقشوط فلا يمكن لأهل طهران أن يعتمدوا على رؤية أهل نواقشوط لأنهما قطران متنائيان جدًا، وبهذا يصبح من المناسب أن تكون بحسابنا في مكة حكمًا بأنها لا تبعد من الأقطار الغربية بعد خراسان من الأندلس ولا تبعد من الأقطار الشرقية بعد خراسان من الأندلس. الملاحظة الأخيرة عندي أن حادثة كريب تشهد لما قاله أهل الفلك بأن معاوية ومن معه من المسلمين رأوا الهلال ليلة الجمعة، أما أهل الحجاز فلم يروه إلا ليلة السبت فهذه تشهد بما يقوله الفلكيون من أن الرؤية في المغرب لا تستلزم الرؤية في المشرق، وشكرًا. الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم ... أما بالنسبة للقضية الثانية وهي مدى الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات أوائل الشهور العربية. الشيخ تقي العثماني: انتهينا من القضية الأولى. الرئيس: انتهينا.. الشيخ تقي العثماني: هناك قول ثالث. الرئيس: إنك سمعت أن الأكثرية رفعوا أيديهم وسجلت أصواتهم، كم هم عددهم يا شيخ؟ الشيخ عبد السلام العبادي: اثنان وعشرون. الشيخ يوسف جيري: هذا الذي كنا نبغاه. الرئيس: عددكم اثنان وعشرون وأعلن عن عددهم الشيخ عبد السلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 القضية الثانية في مدى الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات أوائل الشهور القمرية، وقد سمعتم البحوث سواء إن كانت من طرف بعض الإخوان الفلكيين أو من خلال مداولاتكم، وسمعتم ما تقرر في عدد من المجامع العلمية سواء في مجمع البحوث العلمية بمصر، أو في مجمع اللجنة الشرعية بمصر بالأزهر، أو في مجمع الفقه بمكة، وهناك عندنا ثلاث اتجاهات: الاتجاه الأول: هو الاعتماد على الرؤية، متى ثبتت الرؤية شرعًا فإنه يعتمد عليها ولا يلتفت إلى الحساب. والرأي الثاني: هو أنه يعتمد على الحساب ولا يلتفت إلى الرؤية إذا خالفها الحساب. والرأي الثالث: هو أن العمدة هو الرؤية ويستأنس بالحساب. الشيخ المختار السلامي: يتعين أن يكون عرض الموضوع: وهو أنه يعتمد على الحساب كوسيلة للتحقق والتأكد من صحة الشهادة. الرئيس: يعني لا بالاعتماد؟ الشيخ المختار السلامي: نعم، الحساب بحيث إنه إذا جاءت الشهادة على خلاف الحساب لا تقبل. الرئيس: هذا هو الرأي الثاني الذي أنا قلته، المهم الذين يصوتون على الرأي الأول.. أنا أعرضها ثلاثة. الشيخ الصديق الضرير: نقول: الاعتماد على الحساب وتبقى الرؤية ويعلم تقويم نلتزم بما يقوله التقويم. الرئيس: هذا ما فيه أحد يقول به، قطعًا، كذا.. الشيخ عبد السلام العبادي: اسمح لي سيدي الرئيس، الواقع أنا أشارك الأخ الشيخ الصديق في أنه هنالك نحن أمام ثلاثة آراء: الرأي الأول الذي يقول باعتماد الحساب ولا حاجة لموضوع الرؤية، نضع تقويمًا ونلتزم بما يقوله التقويم وفق ما سجله الفلكيون. الرئيس: أسألك من قال هذا؟ الشيخ طه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 الشيخ عبد السلام العبادي: الرأي المطروح هذا، فهمت من رأي الشيخ المختار هكذا رأي الأستاذ القرضاوي هكذا. الرئيس: أسألك مَنْ مِنَ الإخوان من الأعضاء العاملين من الذي قال هذا القول؟ لأنا نحن الذي فهمناه هي ثلاث، أرجو أن تتكرموا. الشيخ عبد السلام العبادي: إذن هو رأيان يا سيدي. الرئيس: هذا في الواقع يرجع إلى رأيين. الشيخ طه جابر العلواني: أنا ما طلبته هو الاستفادة من تقويم كامل لكامل سنة. الرئيس: لكامل السنة لا للاعتماد. الشيخ طه جابر العلواني: للاستئناس به، والاستفادة منه. الرئيس: هذا واضح من كلامكم.. الشيخ عبد الله. الشيخ عبد الله البسام: أنا أرى أن تحرر العبارتان وتقرن ثم نصوت عليهما. الرئيس: إذن سألقي موضوع الرأي الأول فإذا كان هناك تحرير له في العبارة فنحن نتناول حتى نحرر العبارة في الرأي الأول، الرأي الأول هو الاعتماد في إثبات أوائل الشهور العربية القمرية على الرؤية الشرعية. الشيخ عبد الله البسام: لو يصير إملاء، لو يملى إملاء. الرئيس: الاعتماد في إثبات أوائل الشهور القمرية على الرؤية الشرعية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 الشيخ الصديق الضرير: من غير استئناس. الشيخ مصطفى الزرقاء: على الرؤية فقط ولا عبرة للحساب. الرئيس: يعني يضاف إليه دون الاعتماد على الحساب. الشيخ الصديق الضرير: ولا الاستئناس به ولا الاعتماد من غير الاستئناس بالحساب لأنه عندنا رأي ثان يقول الاعتماد بالرؤية الشرعية مع الاستئناس بالحساب، فهذان رأيان متقابلان. الرئيس: هذا سنأتيه، الاعتماد في إثبات الشهور القمرية على الرؤية الشرعية. الشيخ مصطفى الزرقاء: البصرية. الرئيس: دون الاعتماد على الحساب. الشيخ مصطفى الزرقاء: ودون الاستئناس به. الرئيس: والله يا شيخ مصطفى هذا إذا كان لك رأي ثالث أضعه. الشيخ مصطفى الزرقاء: هو الثالث حتى يتميز الثالث عن الأول يجب أن ينفي الاستئناس من الرأي الأول حتى يتميزا. الرئيس: الرأي الثاني. الشيخ الصديق الضرير: نعم نحرر الآراء كلها لأجل أن تكون واضحة لأنه الذي يصوت يكون عارفًا للآراء ويختار من بينها. الرئيس: الرأي الثاني: الاعتماد في إثبات أو جواز الاعتماد في إثبات أوائل الشهور. الشيخ عبد الله بن بيه: اعتماد ليس جوازًا. الرئيس: أنا أرجو من الشيخ مصطفى بما أنه متبني هذا الرأي وخالف مجمع الفقه بمكة وتبناه أرجو أن يحرر العبارة على ضوء ما تفضل.. يا شيخ مصطفى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 الشيخ مصطفى الزرقاء: جواز الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات أوائل الشهور القمرية دون حاجة إلى الرجوع للرؤية. الرئيس: طبعًا هذا رأيكم. الشيخ عبد السلام العبادي: الرأي الثالث الذي درسه من واقع كلام الإخوان هو الاعتماد على الرؤية شريطة أن لا تخالف الحساب الفلكي القطعي. الشيخ عبد العزيز عيسى: الانتفاع بالحساب كلما أمكن. الشيخ عبد السلام العبادي: لا شريطة أن لا تخالف الحساب. والرؤية هنا ليست رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم ولا رؤية الخالق جل وعلا، الرؤية المقصودة بها رؤية الشاهد، فالاعتماد على الرؤية رؤية الشاهد شريطة أن لا تخالف الحساب الفلكي القطعي. الشيخ تقي العثماني: لو جعلتم العبارة هكذا، استخدام الحساب في اتهام الشهادة على الرؤية، يعني هذا أفضل. الأمين العام: نحن لسنا بصدد الصياغة نحن ما دمنا اتفقنا على المعنى نعرض الأفكار الثلاثة أو الاتجاهات الثلاثة لنتبينها وننتقل من هذا إلى التصويت. الشيخ الصديق الضرير: أصبحت أكثر من ثلاثة يا سيدي الرئيس. الرئيس: إذن نحن أمامنا الآن ثلاثة آراء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 الشيخ الصديق الضرير: يا سيدي الرئيس أصبحت أربعة بعد هذا التحرير.. الرأي الرابع هو وجوب الاعتماد على الرؤية مع الاستئناس بالحساب الفلكي. الشيخ يوسف جيري: كلما أمكن. الشيخ الصديق الضرير: لم يقل هذا. الشيخ مصطفى الزرقاء: هذا هو الثالث. الشيخ الصديق الضرير: لا الثالث قال: الاعتماد على الرؤية شريطة أن لا تخالف، فرق بين الأمرين. الشيخ تقي العثماني: فما الفرق بين الثالث والرابع؟ الشيخ الصديق الضرير: هناك فرق واضح بين الأمرين يا سيدي. الشيخ مصطفى الزرقاء: معنى: شريطة أن لا تخالف، أننا نستأنس. الشيخ الصديق الضرير: يا إخواني إن المسالة واضحة وإنه في رأيي الخلاف بين هذين الرأيين. الرئيس: الذي يظهر لي أن القول الثالث والرابع ينبغي صياغتهما في قول واحد. الشيخ الصديق الضرير: إذا كان الأمر واحدًا فليكن هذا.. وجوب الاعتماد على الرؤية، وأصر على كلمة وجوب، مع الاعتماد على الرؤية مع الاستئناس بالحساب الفلكي في جميع الحالات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 الشيخ عبد السلام العبادي: يا سيدي أجمع بينهم إذا سمحت: وجوب الاعتماد على الرؤية مع الاستئناس. الشيخ الصديق الضرير: مع الاستئناس بالحساب، مع جواز الاستئناس حتى أعمل وجوبًا، لو سمحت لي، مع الاستئناس فقط. يجب أن نستأنس، يجب أن نستأنس بالحقائق العلمية، وجوب الاعتماد على الرؤية مع الاستئناس بالحساب الفلكي. الدكتور وهبة الزحيلي: والمراصد الفلكية. الشيخ عبد السلام العبادي: إذا سمحت سيدي لا بد من أن تلحق بها العبارة التالية: بحيث لا تخالف الحساب الفلكي الشرعي. الدكتور الصديق الضرير: لا، هذا أمر آخر. الشيخ عبد السلام العبادي: وإلا لا معنى للاستئناس. الدكتور الصديق الضرير: لا أصل إلى درجة المخالفة، هذا ليس استئناسًا. الشيخ عبد العزيز الخياط: إذا سمح لي فضيلة الأستاذ الرئيس، هو الواقع بالنسبة للرأي الأخير هما رأيان: رأي وجوب الاعتماد على الرؤية شريطة ألا تخالف الحساب الفلكي القطعي هذا رأي. وفرق في عدم المخالفة بالحساب القطعي وبين الاستئناس، الاستئناس شيء آخر، ولذلك أرى أن يكون رأيًا رابعًا. الرئيس: فليكن هذا كله، ماشي، إذن يا أصحاب الفضيلة نحن أمامنا الآن أربعة آراء وسأقرأها عليكم: أما الرأي الأول فهو الاعتماد على الرؤية الشرعية دون الاعتماد على الحساب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 الشيخ مصطفى الزرقاء: الرؤية البصرية يا سيدي. الرئيس: الرأي الثاني: جواز الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات أوائل الشهور القمرية دون حاجة إلى الرؤية. مناقش: الرؤية البصرية. الرئيس: الحقيقة هل الإخوان الذين يرون.. أنا والله يقشعر جلدي، بدون مؤاخذة، أما أنا فيقشعر جلدي من هذا الرأي وأنتم أحرار. الأمين العام: هذه الآراء عرضت وقيلت في الجلسات ما دامت هي أربعة وقد تفضل رئيس المجلس بعرضها علينا فلنأخذ كل رأي ونعد الموافقين عليه أو المخالفين. الشيخ رجب التميمي: أنا أرى أن يستبعد الرأي الثاني لأنه مخالفة صريحة للشرع فيجب أن يبعد وأن لا يصوت عليه. الرئيس: إذن الآن هل يقول بهذا الرأي أحد؟ الشيخ خليل الميس: الرأي الثاني لا يجوز عرضه أصلًا. الشيخ الصديق الضرير: بحسب الترتيب نبدأ بالسؤال الأول يا سيدي الرئيس. الرئيس: إذن الرأي الأول وهو الاعتماد في إثبات أوائل الشهور القمرية على الرؤية دون الاعتماد على الحساب. الشيخ مصطفى الزرقاء: يا مولانا بعدما تم التصويت على الأول كيف يعاد مرة أخرى. الرئيس: ما صوتنا، لم نصوت، أما بعد هذا فلن نؤاخذك في شيء يا شيخ مصطفى، التصويت الذي حصل هو على قضية اختلاف المطالع –سلمك الله- ليس على هذا، هو هكذا مائة في المائة! كل الدنيا شاهدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 الشيخ أحمد بازيع الياسين: المسألة تعرض على مجمع فقه إسلامي.. وهذه المسألة من أصلها ومن جذورها مخالفة للشريعة جذورها مخالفة للشريعة ما يجوز ولا نقبلها بأي حال من الأحوال فكيف نرفض ما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسول؟ يقول ((صوموا لرؤيته)) ونحن نقول بدون رؤية ما يجوز هذا. الرئيس: والله يا شيخ، يعني رجائي أن يتفضل الذين يحتمل أن يصوتوا على هذا الرأي الثاني وأن يصوغوه بعبارة لا تكون بهذا الوضع وإذا أصروا عليه فأنا لا يظهر لي أنهم أكثرية ونحن سنصوت على الرأي الأول. إذن الرأي الأول هو الاعتماد في إثبات أوائل الشهور القمرية على الرؤية دون الاعتماد على الحساب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 أرجو من أصحاب الفضيلة الذين يصوتون على هذا الرأي التكرم برفع أيديهم، الأعضاء العاملين. بكر أبو زيد – الشيخ عبد اللطيف السعد – الشيخ أبو بكر دوكوري – الشيخ هارون – الشيخ عطا – الشيخ الخليل - الشيخ عبد الرحمن – الشيخ رجب – الشيخ محمد عبد الرحمن – الشيخ عبد الله البسام – الشيخ محمد سالم. بقي أحد ما سمع اسمه من الأعضاء العاملين. إذن بقي الرأي الثاني وهو جواز الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات أوائل الشهور القمرية دون الحاجة إلى الرؤية، الذين يصوتون على هذا الشيخ مصطفى، أنت وحيد المجمعين يا شيخ. الرأي الثالث: الاعتماد على الرؤية شريطة أن لا يخالفها الحساب الفلكي القطعي. الشيخ عبد السلام – الشيخ الخياط – الشيخ الحبيب – الشيخ هشام – الشيخ علي – الشيخ صالح طوغ – الشيخ المختار – الشيخ عمر جاه – الشيخ روحان – الشيخ عبد اللطيف – الشيخ آدم – الشيخ أحمد شريف – الشيخ محمد عبد الرحمن – الشيخ خليل – الشيخ موسى فتحي – الشيخ يوسف جيري – الشيخ عبد العزيز عيسى – من بعد الشيخ عبد العزيز – الشيخ مصطفى يقول سحبت رأيكم من هذاك خلاص يشطب هناك الرأي إذن يشطب كله يا شيخ – الشيخ طه. الرئيس: أمامي بقي الآن رأيان أما الرأي الذي عليه التصويت فهو الاعتماد على الرؤية شريطة ألا يخالفها الحساب الفلكي القطعي، الرأي الرابع الذي سيأتي وجوب الاعتماد على الرؤية مع الاستئناس بالحساب هذا سيأتي وهو الأخير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 الشيخ الصديق الضرير: شريطة أن لا يخالفها الحساب وإلا سيكون هذا افتراضًا، لأننا اختلفنا معكم في أننا لم نعتبر الحساب قطعيًا، لو اعتبرناه قطعيًا لما اختلفنا، شريطة أن لا يخالفها الحساب المعروف الآن. الرئيس: يا شيخ الضرير لعل فيه تعديلًا هنا يجمع بين الوجهين وهو أن يقال شريطة أن لا يخالفها الحساب الفلكي متى ثبتت قطعيته. الشيخ الصديق الضرير: نحن نريد أن نصدر حكمًا في أمر واقع الآن، والآن نحن عندنا حساب فلكي اختلفنا في قطعيته وظنيته فلا نضع افتراضات. الشيخ أحمد بازيع الياسين: استفسار – معنى هذا لو أن الرؤية ثبتت والحساب أبطل الرؤية قال: ما يمكن نعتمد على الرؤية أو نعتمد على الحساب؟ المعنى يعني. الرئيس: معنى هذا لا إشكال في أنهم يعتمدون على الحساب دون الرؤية. الشيخ أحمد بازيع الياسين: الذين صوتوا بالموافقة لم يفهموا هذا. الرئيس: أحب أن يكون أن مؤدى هذا الرأي على ما يلي: وهو أنه الأصل هو الاعتماد على الرؤية متى ثبتت شرعًا هذا هو الأصل ولكن هذا الأصل مشروط بشرط وهو ألا يخالف هذا الثبوت الشرعي حساب فلكي قطعي، فأنا قصدي أن هذا هو خلاصة الرأي ما هي نتيجته؟ نتيجته طالما أن هذا الرأي يقول: إنه يعتمد أن الأصل الاعتماد على الرؤية إذا ثبتت شرعًا لكن هذا الاعتماد مشروط بشرط ألا يخالفها الحساب الفلكي القطعي. الشيخ عبد العزيز عيسى: أنا أقول: بالاعتماد على الرؤية مع الانتفاع بالحساب كلما أمكن ذلك، بدلًا من أقول: شريطة، أعلق الانتفاع على تحقق الشرط معناه إعمال الحساب لا إعمال الرؤية. لكن لما أقول: مع الانتفاع بالحساب كلما أمكن، إن كان علماء الحساب قالوا: لا يمكن ولادة الهلال في هذا اليوم أقوم أنا أحتاط للأمر وأحضر الجمع الذي هو يثبت عدم الرؤية وما إلى ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 الرئيس: على كل أنا أحب أن أقول: يا أصحاب الفضيلة، قد ترون مناسبًا لأن هذه الآراء تكون على سبيل التدرج فنبدأ بالرأي الرابع قبل الرأي الثالث حتى ينتفي الالتباس. الشيخ يوسف جيري: وتكون صياغاته على ما قاله الشيخ عيسى. الرئيس: هي موجودة هنا وهي: وجوب الاعتماد على الرؤية مع الاستئناس بالحساب الفلكي. الشيخ خليل الميس: عفوًا هذا الذي قصدناه وننسحب من الثالث. الرئيس: إذن الذين يرون هذا الرأي يرفعون أيديهم. الشيخ عبد السلام العبادي: إذا سمحتم نحن في مجال تحرير الآراء، ما دامت الآراء لم تحرر بعد فما المقصود بكلمة الاستئناس، أريد أن أسأل الذين يقولون بهذا الرأي. الرئيس: الاستعانة، يا أخي واضح. الشيخ عبد السلام العبادي: ما مدى هذه الاستعانة؟ وما هويتها إذا كان القطع الفلكي يقول بأن هذا اليوم ليس بدء رمضان وجاء شهود وقالوا: إنا رأينا هلال رمضان هل يثبت أو نترك القضية للاختيار؟ الشيخ تقي العثماني: نثبت بالشهادة فإذا ثبت بالاستفاضة شهود الهلال، بالاستفاضة أو التواتر فرضًا فحينئذ نعمل بالرؤية. الرئيس: على كل حال هو الرأي لن يكون لعامة الناس والرأي لأهل العلم، وأهل العلم يعرفون كيف ينفذون الآراء وكيف يكيفونها، فعلى كل الذين يصوتون على هذا الرأي أرجو رفع أيديهم. الشيخ هشام – الشيخ علي – الشيخ عبد الحميد – الشيخ صالح طوغ – الشيخ صابون – الشيخ عمر – الشيخ عبد اللطيف – الشيخ آدم – الشيخ عبد الستار – الشيخ طه – الشيخ الضرير – الشيخ عبد الله بن إبراهيم – الشيخ يوسف جيري – الشيخ خليل – الشيخ البازيع – الشيخ محمد بن عبد الرحمن – الشيخ محمد عبده عمر – هلي بقي أحد من المشايخ الذين يرون هذا الرأي ولم يسمع اسمهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 الشيخ أحمد محمد جمال: سيادة الرئيس، كلمة واحدة إذا سمحت، أنا أريد إضافة على الصيغة الرابعة بالاستعانة بالحساب الفلكي والمراصد الفلكية هذه تعين الرؤية. الرئيس: أقول: يا شيخ أحمد قضية المراصد الفلكية هذه ما أظن أحدًا يخالف فيها. الشيخ أحمد محمد جمال: طيب ضموها على المادة هذه، ضموها على الفقرة هذه في الصيغة الربعة. الرئيس: هذا طيب، مع الاستئناس بالحساب الفلكي. الشيخ أحمد محمد جمال: والمراصد الفلكية هذه تعين الرؤية البصرية. الرئيس: هذا طيب، أنت تعرف أنه عندنا في المملكة على سبيل الذكر فقط، عندنا ثلاثة مراصد، لكن قضية المراصد في الواقع لا دخل لها في مسألة الحساب. الشيخ أحمد محمد جمال: لا مع الرؤية – طال عمرك – لا الحساب وحده. الشيخ عبد الله البسام: أرى مسألة المراصد أن تضاف إلى البند الأول. الرئيس: البند الأول. الشيخ عبد الله البسام: نعم لأن البصرية سواء كانت بصرية مجردة أو بصرية مكبرة كالنظارات ومكبر الصورة ما عاد يكفي هذا. الرئيس: يا شيخ عبد الله هل فيه أحد يقول بمنع الاعتماد على المراصد؟ الشيخ عبد الله البسام: ما دام أضيفت هذه المادة، معناه أننا ما نرى الكلام الأول. الرئيس: يعني نفس المرصد نتيجته رؤية بصرية لكنها بواسطة، أليس كذلك؟ الشيخ مصطفى الزرقاء: هي البصرية مثل النظارة التي أصبحت ضرورية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 الشيخ أحمد مجمد جمال: مثل النظارات، نحن لا نقرأ إلا بالنظارات. الرئيس: المهم هي رؤية بصرية لكنها بواسطة، إذن هل ترون إضافتها إلى الرأي الأول؟ الشيخ أحمد محمد جمال: إلى الرأيين أحسن وأفضل. الرئيس: نقول: الاعتماد بالرؤية البصرية في إثبات أوائل الشهور القمرية على البصرية دون الاعتماد على الحساب مع الاستعانة بالمراصد الفلكية، كذا يا شيخ. الشيخ عبد الله البسام: البصرية نضيفها سواء إن كانت مجردة أو كانت بواسطة. الشيخ محمد سالم عبد الودود: بمعنى البصرية، الرؤية هي بصرية. الشيخ عبد الله البسام: هي بصرية. الشيخ عبد السلام العبادي: فيه رؤية علمية يا شيخ عبد الله. الشيخ عمر جاه: فيه رأي آخر متفرع عن الرأي الجامع بين الرؤية والحساب، الاعتماد على الحساب على شرط إمكان الرؤية البصرية، هذا على ما أفهم فكرة الشيخ مختار. الشيخ المختار السلامي: عندي بحث يوجد فيه أنه لا يمكن أن نرفض الرؤية ولكن نجعل الرؤية مشروطة بالحساب لأجل أن نزيل التهمة. الرئيس: أصحاب الفضيلة.. بقي الآن يعني: تخلص من الآراء عندنا، هي كانت أربعة آراء وكان الرأي الثاني صوت عليه الشيخ مصطفى، وبعد أن أسقطه ورجع وصوتنا على الرأي الأخير الرابع سابقًا الذي هو الثالث، بقي التصويت على الرأي الثاني وهو الاعتماد على الرؤية شريطة أن لا يخالفها الحساب الفلكي القطعي أو الفلكي هذا شيء يعود لكم لأنكم قلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 524 الشيخ عبد السلام العبادي: إذا سمحت، أنا كنت طرحت هذا الرأي مع أستاذنا المختار لكن أنا فهمي للرأي الرابع بعد أن تبلور رأي رابع أنه متضمن بالرأي الرابع لأنه لا معنى للاستئناس بالحساب الفلكي دون أن ترد الشهادة إذا كانت تخالف قطعه، لذلك سأكتب هذا التحفظ وأعزوه لنفسي أنني أفهم الرأي الذي تم التصويت عليه أن من معنى الاستئناس أنه إذا كانت الشهادة يخالفها الحساب الفلكي لا بد من ردها. الشيخ الصديق الضرير: أحب أوضح لو تسمح يا سيد الرئيس هذه النقطة، الخلاف واضح أن تقول: الاستئناس بالحساب الفلكي، وأنا أود أن أكرر وأؤكد أن ما أعنيه الحساب الفلكي القائم الآن الذي حصل خلاف في قطعيته وظنيته، الاستئناس به في حالة ما إذا كان الحساب الفلكي قال: إن الهلال لا يمكن أن يرى اليوم وجاء عدد من الناس في بلاد مختلفة فقالوا: رأينا الهلال، واجب القاضي الشرعي الشخص الذي سيثبت الهلال أن يشدد في إثبات الهلال في هذه الحالة فإذا قام بهذا التشديد ومع ذلك غلب على ظنه أن هؤلاء الشهود عدول، وقد رأوا الهلال في هذه الحالة لأنه لا أقول كما يقول الذين يرون إسقاط الرؤية لا آخذ بالرؤية في هذه الحالة مع قول الفلكيين: إن الهلال لا يرى، وفي هذه الحالة ليكن حتى ولو توصلنا إلى أن المسألة الفلكيين قالوا هذا يقينًا فليكن كما قال الشيخ علي أنه في هذه الحالة هذه الرؤية من الجماعة الكثيرة في بلاد مختلفة شككت في قطعية الحساب الفلكي هذا هو ما نقصده فخلافه فرق كبير بين قولنا الاعتماد على الرؤية بشرط ألا تخالف الحساب الفلكي وبين قولنا مع الاستئناس بالحساب الفلكي. الشيخ رجب التميمي: يعني على شرط ألا تخالف تسقط الرؤية، أما الاستئناس لا تسقط الرؤية. الشيخ عبد العزيز الخياط: إذا سمح لي فضيلة الرئيس أن أبين بالنسبة للرأي الثالث: شريطة أن لا تخالف الحساب الفلكي القاطع، لأنا على هذا وليس معنى هذا أننا نعتمد الحساب إذا اختلف مع الرؤية البصرية لكن معنى هذا أنه لا بد أن نتثبت إذا صدر الرأي الفلكي القاطع أن نتثبت من الرؤية حتى لا يقع فيها خداع، وهذا المقصود بهذا الأمر فقد يأتي بلد ويكون فيه الرؤية غير صحيحة فلا بد من إعادة التثبيت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 525 الرئيس: على كل، من كلمة الشيخ هذه أنا تلمحت شيئًا مهمًا، قد –إن شاء الله تعالى – ننهي به الموضوع، لأنه يقول: إنه إذا ثبتت الآن الرؤية شرعًا ثم قرر الحاسبون على ما يفيد ما يناقض هذا الثبوت، فالشيخ يقول: مثلًا هناك أمران هو أن نمحص هذه الرؤية وأن نمحص الحساب نفسه هل هو قاطع أو حساب مغلوط كغلط الرؤية فإذا محصنا الرؤية وصارت الرؤية الثابتة لا غبار عليها نمحص الحساب هل هو ثابت أو قطعي لكن يبقى واحدة فقط أسأل الشيخ عنها: إذا محصنا الرؤية وثبتت تمامًا أسال الشيخ عبد العزيز إذا ثبتت الرؤية بعد تمحصيها وتحرر ثبوتها فما يصير مصيرنا في الحساب؟ الشيخ عبد العزيز الخياط: الواقع القاعدة التي تقولونها أن لا تصادم حقيقة علمية مع حقيقة شرعية فإذا ثبت هذا قطعًا فمعنى هذا أنه لم تصدم مع الرؤية قطعًا، وهذا افتراض إذ إن الاصطدام افتراض. الرئيس: يعني إذا حصلت قطعية الرؤية تسقط قطعية الحساب؟ الشيخ المختار السلامي: يا سيدي كلمة بسيطة، هذا رأي أعبر عنه، لو ثبت تواترًا أن فلان بن فلان قد توفي وشاهدوه، ثم جاءنا حيًا ماذا نأخذ؟ فاليقين اليقين الأيقن، الشهادة في قوتها ظنية، إن هي إلا أمر ظني. الرئيس: على كل الذين يصوتون على هذا الرأي أرجو إقفال المناقشة والذين يصوتون على هذا الرأي، الشيخ عبد السلام – الشيخ الخياط – الشيخ المختار. الشيخ أحمد محمد جمال: هناك حقيقة ثابتة كما تفضل أستاذنا أنه لا تختلف الحقيقة العلمية إطلاقًا عن الحقيقة الشرعية، وكما يقول ابن رشد إن الحق يوافق الحق ولا يخالفه بل يشهد له، ولذلك لا يمكن أن يخالف الحساب الفلكي القاطع الرؤية البصرية وإلا اصطدمت قاعدتان حقيقيتان واقعتان وهذا مستحيل، ولذلك أنا مع الرأي الرابع. الرئيس: وبهذا ننتهي وترفع الجلسة وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، مع ملاحظة أن تكون العودة للجلسة المسائية في الساعة الرابعة إن شاء الله تعالى، والسلام عليكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 526 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى اله وصحبه. قرار رقم 4 بشأن توحيد بدايات الشهور القمرية أما بعد: فان مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني من10 - 16 ربيع الثاني 6 140 هـ /22 - 28 ديسمبر1985م. بعد أن استعرض البحوث المقدمة إليه من الأعضاء والخبراء حول توحيد بدايات الشهور القمرية. وبعد أن ناقش الحاضرون العروض المقدمة في الموضوع مناقشة مستفيضة واستمعوا لعديد من الآراء حول اعتماد الحساب في إثبات دخول الشهور القمرية. قرر: ا - تكليف الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بتوفير الدراسات العلمية الموثقة من خبراء أمناء في الحساب الفلكي والأرصاد الجوية. 2 - تسجيل موضوع توحيد بدايات الشهور القمرية في جدول أعمال الجلسة القادمة لاستيفاء البحث فيه من الناحيتين الفنية والفقهية الشرعية. 3 - تكليف الأمانة العامة باستقدام عدد كاف من الخبراء المذكورين وذلك لمشاركة الفقهاء في تصوير جوانب الموضوع كلها تصويرا واضحا يمكن اعتماده لبيان الحكم الشرعي. والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 527 من أين يحرم القادم بالطائر جوًا للحج أو العمرة؟ لفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء بسم الله الرحمن الرحيم من أين يحرم القادم بالطائرة جوًا للحج أو للعمرة؟ تمهيد: منذ أكثر من أربعين عاما، والناس تتساءل، وتساءل أهل العلم من فقهاء الشريعة عن مكان الإحرام الذي لا يجوز لقاصد البيت العتيق أن يتجاوزه إلا محرما ملبيا، هاجرا ملذاته ورفاهيته التي كان يعيشها، ومتجردا من ملابسه المخيطة، ومكتفيا من متعة هذه الحياة الدنيا، وزينتها بالإزار والرداء، ذلك الرمز العظيم الذي يُذكِّره بصورة فعلية - لا قولية فقط - بذلك اليوم الرهيب الذي سيقبل فيه على ربه بعد أن ينتزعه الموت المحتم من قلب كل متعة أو زينة أو لذة أو نعمة أو سلطة أو وجاهة أو أموال كان يتمتع وينعم بها في دنياه. هذا الإحرام الجليل المعني الذي أوجبه الإسلام على قاصد الحج أو العمرة أين ميقاته لمن يأتي جوا بالطائرة؟ تلك الوسيلة الحديثة التي لم تكن معروفة ولا تخطر في البال حين حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم حدوده المكانية للقادمين إلى الحج أو العمرة من مختلف البقاع والجهات الأرضية، فلا يجوز لأحد أن يتجاوزها إلا محرما؛ تعظيما لشأن البيت العتيق قبل الوصول إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 528 إني هنا لا أريد أن أتعرض لشيء ما من أحكام الإحرام، وما يوجبه على المحرم من التزامات، وما يحظره عليه من محظورات، وما يترتب على فعل شيء من المحظورات من جزاء، وكون الإحرام واجبا لمن أتى على ميقات مكاني قاصدا مكة لأي غرض كان، كالتجارة والسياحة مثلا، أو لا يجب الإحرام على من مرّ بأحد مواقيته المكانية إلا إذا كان قاصدا حجا أو عمرة ... إلى غير ذلك من الأحكام المتعلقة بالإحرام وما يستلزمه من مستلزمات فرعية، وما حولها من اختلاف الفقهاء، فكل ذلك لا يعنينا منه شيء؛ لأنه ليس هو محل هذا البحث، ولا مقصودا بالبيان من قريب أو بعيد. فالتعرض له هنا خروج عن الموضوع، ومضيعة للوقت، وإطالة في غير طائل. لذا سأحصر كلامي في الناحية المطلوبة المطروحة للبحث، والتي هي وحدها من أهم قضايا الساعة التي شغلت أذهان الناس وكثر السؤال عنها، واختلفت فيها أفهام علماء العصر وأحكامهم اختلافا ليست نتيجته على المكلفين سهلة يسيرة كيفما كانت، بل هي نتيجة ذات بال، تحمل على الناس كافة عبئا وإصرا لا يستهان به في سبيل الحج والعمرة، أو لا تحمله عليهم. وأقول: على الناس كافة؛ لأن الطائرة قد أصبحت اليوم في عصر السرعة هذا الذي نعيشه هي الواسطة الأساسية للحج والعمرة، وكذلك لمختلف الأسفار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 529 فكلامي فيما يلي مقصور على هذه الناحية المقصودة بالبحث، وهي: من أين يحرم القادم بطريق الجو لحج أو لعمرة، دون أي شيء آخر سواها مما يتعلق بالإحرام. فأقول مستعينا بالله، راجيا أن يهديني إلى الصواب الحق من أقرب محجة، وأوضح حجة، إنه هو ولي التوفيق. مما لا خلاف فيه بين أئمة السلف من محدثين وفقهاء أن المواقيت المكانية للإحرام قد حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم للقادمين من جهات أربع كما يلي: 1- ذو الحليفة لأهل المدينة من أراد منهم الحج أو العمرة، وهذه أبعد المواقيت مسافة عن مكة، وتسمى اليوم " آبار علي ". 2- الجحفة لأهل الشام. 3- قرن المنازل لأهل نجد القادمين من الشرق. 4- يلملم لأهل اليمن القادمين من الجنوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 530 وقد أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حددها أن هذه الحدود هي مواقيت لأهل تلك الجهات، ولمن أتى عليهن من غير أهلن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دون ذلك (أي من كان مقامه في موضع يقع بين أحد هذه المواقيت وبين مكة) فإنه يحرم من مقامه ذاك، حتى إن أهل مكة يهلون من مكة. (أخرجه البخاري في باب مهل أهل مكة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم في مواقيت الحج والعمرة، وأبو داود والنسائي في ميقات أهل اليمن، كما نقله غيرهم من أئمة الحديث) . وواضح أن حديث المواقيت هذا لا يشمل بالنص إلا أهل تلك المواقيت، ومن مر بها فقط. فليس فيه شيء عمن لا يمر فعلا بأحدها ولكنه حاذى من قريب بعض تلك المواقيت. فإلحاق المحاذاة بالمرور إنما تقرر بالاجتهاد، فقد روى أئمة الحديث أن عمر رضي الله عنه هو الذي حدد ذات عرق ميقاتا لأهل العراق، لمحاذاتها قرن المنازل، اجتهادا منه، وذلك بعد فتح العراق. فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " لما فتح هذان المصران – الكوفة والبصرة – أتوا عمر بن الخطاب فقالوا: يا أمير المؤمنين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنًا، وأنه جور عن طريقنا، وإن أردنا أن نأتي قرنًا شق علينا؟ قال: فانظروا حذوها عمن طريقكم. قال: فحد لهم ذات عرق. وروى الإمام الشافعي رضي الله عنه في الأم عن ابن جريح عن ابن طاوس عن أبيه، قال: ((لم يوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات عرق، ولم يكن حينئذ أهل مشرق، فوقت الناس ذات عرق)) . وروى الشافعي أيضًا مثل ذلك عن أبي الشعثاء (ر: الأم: 2/118) وهناك من الأئمة من يرى أن تحديد ذات عرق مهلا لأهل المشرق وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس اجتهادا من عمر رضي الله عنه، ويوردون أحاديث في ذلك. ولكن جمهور أهل الحديث يقررون أن الأحاديث التي ورد فيها النص على ذات عرق ميقاتا لحرام أهل المشرق كلها ضعيفة لا تنهض حجة. فالصحيح عندهم أن هذا التحديد لأهل العراق والمشرق إنما هو اجتهاد من عمر، أخذا بالمحاذاة السمتية لأقرب ميقات إلى جهتهم. (ر: المجموع: 7/191 – ونيل الأوطار: 4/332) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 531 مما تقدم يتضح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدد مواقيت مكانية إلا للقادمين برًّا من أطراف شبه الجزيرة العربية الثلاثة: وهي الشمال والشرق والجنوب؛ لأن هذه الجهات الثلاث هي التي يمكن إذ ذاك أن يأتي منها المسلمون حجاجًا أو معتمرين، وقد حدد للقادمين من الشمال ميقاتين: واحدًا لأهل المدينة (ذو الحليفة) ، وآخر لأهل الشام (الجحفة) ؛ لأن الشام كان فيه لأهل الحجاز رحلة الصيف التجارية، فقد يعودون من الشام قاصدين حجا أو عمرة، فهؤلاء عندئذ أما أن يأتوا من طريق يثرب، فيتبعون ميقات أهلها، وأما أن يأتوا من طريق أخرى لا تمر بيثرب، فجعل الجحفة عندئذ ميقاتًا لهم، وهي قريب من مكة. أما جهة الغرب فلم يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم لها ميقاتًا مكانيا؛ لأن الجهة الغربية بحر، وفي الغرب منه أفريقية التي لم يصل إليها الإسلام إذّاك، ولا يعلم ما سيكون من أمرها إلا الله. وقد حدد الفقهاء فيما بعد لأهل مصر والمغرب إذا جاؤوا بطريق البر ميقات أهل الشام وهو الجحفة؛ لأنه طريقهم الطبيعي إذ ذاك قبل شق قناة السويس في عصرنا هذا. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم – كما هو معروف – لا يرغب أن يقرر أحكاما مسبقة لأمور غير واقعية، حتى أنه لم يكن يرغب أن يسأل عما سكت عنه، بل كان يترك ذلك للاجتهاد في ضوء سنته الشريفة ومقاصد الشريعة المستفادة من كتاب الله تعالى الحكيم، وخاصة منها دفع الحرج، كما نوه به القرآن العظيم. ومعروفة قصة الصحابي الذي سأل عن الحج حين أوجبه الله على من استطاع إليه سبيلا: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال له: ((لو قلت: نعم، لوجب عليكم، ولما استطعتم)) . وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح أحاديثه: ((إن الله حد حدودا فلا تعتدوها ... وسكت عن أشياء رحمة بكم فقلا تسألوا عنها)) أي لا تسألوا عنها قبل وقوعها، فإذا وقعت فاجتهدوا برأيكم. وَعَلَّمهم: أو اسألوا عندئذ أهل الذكر والعلم، وليس المراد عدم السؤال عنها أبدا، إذ لو وقعت في مستقبل الزمن واحتيج إلى معرفة حكم الشرع فيها لابد حينئذ من السؤال عنها والبحث فيها لمعرفة ما يجب بشأنها في ضوء أدلة الشريعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 532 وفي ضوء ما تقدم يتبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد أيضًا ميقاتًا بحريا؛ لأن المجيء للحج والعمرة إذ ذاك في حياة الرسول عليه السلام لم يكن بالسفن من جهة البحر الأحمر (بحر القلزم) . فيبقى حكمه في المستقبل للاجتهاد أيضًا إذا قدّر الله للإسلام أن يمتد غربا إلى أفريقية، كما حصل فيما بعد والحمد لله. هذا وقد قرر الفقهاء أن من لم يمرّ بأحد هذه المواقيت، بل سلك طريقا بين ميقاتين، فإنه يتحرى ما يحاذي أحدهما من طريقه بغلبة الظن فيحرم منه، فإن لم يتبين له قال الحنفية: يهل عندئذ بالإحرام على بعد مرحلتين من مكة؛ لأن هذه المسافة هي مسافة أدنى تلك المواقيت إلى مكة (ر: الدر المختار: 2/154 – البولاقية الأولى – والمقنع من كتب الحنابلة: 1/394، والمغني مع الشرح الكبير/ط أولى: 3/214، والإنصاف للمرداوي: 3/427) . في ضوء ما تقدم من عرض الواقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من تحديد ما حدده بالنصر الصريح من مواقيت الإحرام، وما سكت عنه وتركه للاجتهاد من علماء الأمة، وما حدث بعده من اعتماد المحاذاة باجتهاد عمر رضي الله عنه، أقول: أن معالجة قضايا الساعة لا يصح منا أن نعالجها ونقرر لها حلولا شرعية منطلقين من خلفية مذهبية، أو فكرة مسبقة ننظر من زاويتها إلى القضية المستجدة، ونجردها من ملابساتها وظروفها الخاصة لنجرها جرًا إلى المقعد الذي هيأناه سلفا؛ إلحاقا وتعميما، سواء أكان ملائما لطبيعتها وظروفها وملابساتها أم غير ملائم، ولو كان هذا الإلحاق والتعميم سيزج بالمكلفين في مشقة وحرج نفتهما النصوص القطعية في الكتاب والسنة عن هذه الشريعة السمحة الخالدة. قضايا الساعة (ومن أكبرها أهمية وحاجة للحلول الشرعية المناسبة اليوم موضوعنا هذا، وهو: من أين يجب أن يحرم القادم جوًا بالطائرة إلى الحج أو العمرة) يجب أن تعالج بفكر فقهي حر، كأنما يريد أن يرى النصوص والأدلة المتعلقة بها الأول مرة مجردًا عن الخلفيات المذهبية والآراء المسبقة التي تتحكم في توجيه فكره دون أني يشعر. وعليه أن ينعم النظر في النصوص وأن يتفهمها وفقًا للغة وأساليب البيان المعهود في وقت ورد النص الشرعي، وما يوحي به للسامع من فهم بحسب القواعد والدلالات العرفية. هذا إلى جانب الأساس المهم الآخر، وهو مقاصد الشريعة التي دلت عليها النصوص القطعية العامة، والتي لا يمكن عزلها وقطع علاقتها بالنصوص الخاصة إذا أدرنا أن نفهمها فهمًا سديدًا لا نبغي فيه سوى معرفة حكم الشارع، والحل الصحيح في القضية المستجدة، سواء وافق تصوراتنا السابقة فيها أو خالفها، فإن التعصب لرأي أو تصور سابق يحجب عن البصيرة الرؤية السليمة، والإحاطة بالمسألة من جميع جوانبها وظروفها. فبناء على هذا المنطلق أقول: إن حديث المواقيت المكانية الذي روته كتب السنة الصحيحة، وهو النص الأصلي الوحيد في الموضوع لا يمكن أن يعتبر شاملا للطريق الجوي اليوم، ولو مرت الطائرة القادمة بقاصدي الحج أو العمرة من فوق أحد المواقيت الأرضية، وبالتالي: لا يمكن فيه تطبيق حكم المحاذاة لأحد المواقيت تلك المحاذاة التي ألحقها سيدنا عمر رضي الله عنه بالمرور بالميقات، وذلك لما يلي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 533 إن حديث المواقيت محمول على الطرق المعروفة المألوفة في ذلك الوقت، وهي الطرق البرية التي يمكن أن يسلكها القادمون لحج أو عمرة من أطراف الجزيرة العربية التي مد عليها الإسلام رواقه. وهو في الوقت نفسه لم يحدد ميقاتًا من جهة الغرب، كما سبق أن أوضحته وبينت سببه. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حين حدد هذه المواقيت للإحرام قد خصها نصا وصراحة بمن يمر بها فعلا، وذلك حين قال عليه السلام: ((هن مواقيت لأهلهن)) . وهذا الإتيان لا يمكن أن يتصوره أي سامع إلا أنه المرور في الأرض. وإذ كان أهل الميقات المقيمون حوله قد وجب عليهم الإحرام منه، فمن أتى على هذا الميقات من خارجه وكان طريقًا له أصبح هو وأهل ذلك الميقات سواء، لأنه قد أصبح بينهم كواحد منهم، فلا يعقل أن يجب عليهم الإحرام منه ولا يجب عليه. وهذا المعنى لا يتحقق إلا فيمن مر بالميقات نفسه أرضا، لأن المرور فوق الميقات جوًا كما تمر الطيور لم يكن في بال أحد من الصحابة أهل اللسان الذين خوطبوا به ولا في حسبانه، ولا يمكن أن يتصوره حتى يفهم أنه داخل في هذا التحديد. بل أستطيع القول: إن الطيران بالطائرات التي تسافر بها اليوم لو كان موجودًا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حين حدد هذه المواقيت الأرضية لأجل الإحرام لما كان المرور جوًا بالطائرة فوق بقعة الميقات مشمولاً بهذا الحديث، لأن المرور بالميقات الذي يجعل المار به كأهل الميقات لا يفهم منه في أسلوب البيان إلا المرور الأرضي فعلا، فهذا ما يفهمه أهل اللسان الذين خوطبوا به، وهذا أي ما يفهمه أهل اللسان في اللغة التي جاء بها النص، هو أساس، في فهم النص، عظيم الأهمية لا يمكن تجاهله وتجاوزه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 534 إن الإمام أبا إسحاق الشاطبي رحمه الله في كتابه الإبداعي، " الموافقات في أصول الشريعة " قد بسط القول في قسم المقاصد من كتابه هذا تحت عنوان (قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام) حول أساسين في فهم قصد الشارع، لا تجوز الغفلة عنهما، وهما: أولاً – أن هذه الشريعة الإسلامية المباركة عربية، وأن القرآن الحكيم عربي". ثانيًا – أن هذه " الشريعة المباركة أمية، لأن أهلها كذلك ". أما الأول فلقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] وقد تكرر هذا الإعلام في آيات أخرى. وأما الثاني فلقوله تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2] وقد تكرر أيضًا هذا في آيات أخرى. وجاء في صحاح الأحاديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((بعثت إلى أمة أمية)) وقوله: ((نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب)) : الشهر هكذا وهكذا ... " وقد فسر الشاطبي الأمي بأنه " منسوب إلى الأم "، وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره " فهو على أصل خلقته التي ولد عليها " وفسر الأمة الأمية بأنهم: " ليس لهم معرفة بعلوم الأقدمين "، وقد يبدو لأول وهلة أن كون القرآن عربيا، والحديث النبوي عربيا، هو من البديهات التي لا تحتاج إلى بسط وإيضاح وشواهد وأمثلة وتنبيهات في فصول كتاب، كما فعل الشاطبي رحمه الله في موافقاته. ولكن الذي يرى النتائج التي بينها الشاطبي رحمه الله بناء على هذين الأصلين الأساسيين في فهم الشريعة وتنزيل نصوصها في الكتاب والسنة النبوية على منازلها الصحيحة يدرك عندئذ أن قضية هذين الأساسين ليست من البساطة والبداهة كما يتراءى لأول وهلة. (ر: الموافقات 2 /64– 107) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 535 وأول هذه النتائج وأهمها يتلخص في أن المقصود هنا من بيان الأساس الأول هو أن القرآن قد نزل بلسان العرب وأساليبهم البيانية. فطلب فهمه إنما يكون بالطريق التي يفهمه من خوطبوا به حين ألقي إليهم، وهم أهل هذا اللسان خاصة، على أميتهم وجهلهم بالعلوم والفلسفات التي وجدت لدى غيرهم من الأمم، وبالاصطلاحات والمفاهيم الطارئة حين أسست العلوم ووضعت فيها الاصطلاحات وحددت لها المفاهيم العلمية في اللغة العربية بعد ذلك. وهذا يستلزم أن من يكون أكبر فقهي وأرسخ عالم في العصور العلمية اللاحقة يجب أن يفهم النص القرآن أو الحديث النبوي كما يفهمه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما يفهمه البدوي الأمي من العرب إذ ذاك؛ لأنهم هم أهل اللسان الذي خوطبوا به. ففهم أي عالم لمدلول النص بعد ذلك، مهما علا كعبه في العلوم وطال باعه، يجب أن يكون تبعا لفهم ذلك العربي الأول ابن اللسان الذي جاء به ذلك النص، وخوطب به. قال الإمام الشاطبي رحمه الله في هذا المقام: " فإن قلنا: إن القرآن نزل بلسان العرب، وأنه عربي لا عجمة فيه، فيعني أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة، وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهرة وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به غير الظاهر. وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره. وإنها تتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة ... وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 536 فإذا كان ذلك فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب، والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام في رسالته الموضوعة في أصول الفقه، وإن كثيرا ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ، فيجب التنبه لذلك، وبالله التوفيق (الموافقات: 2/66) . أقول: ومن الواضح أن مثل هذا الاعتبار يجب أن يراعى في فهم كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وتنزيل أحاديثه الشريفة – وهي من جوامع الكلم العربي – على هذا الترتيب نفسه في فهم نصوص القرآن. ثم أفاض الشاطبي في شرح " أن الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك؛ إذ لم يكن لهم معرفة بعلوم الأقدمين "، وأن تنزيلها على مقتضى حال الذين نزلت عليهم من أميتهم هو الأوفق والأجرى مع رعاية المصالح التي يقصدها الشارع الحكيم. وقد أوضح العلامة الشيخ عبد الله دراز في تعليقاته أنه وفقا لهذا الاعتبار ربطت الشريعة مواقيت الصلاة بالدلائل الحسية المشهودة من الزوال والغروب والشفق، مما لا يحتاج إلى علوم كونية وآلات وتقاويم فلكية. أقول: وواضح أن الشريعة السمحة الخالدة إذا صلحت للأميين حتى يسهل تطبيقها عليهم، صلحت لغيرهم من أهل العلوم وللناس أجمعين، ولا عكس. وهذا من أسرار آخريتها وصلوحها للخلود ما دام لبني الإنسان وجود، فجلت حكمة الله فيما شرع لعباده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 537 ثم قال الشاطبي بصدد ما تفرع عن أمية الشريعة: " إنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأمي، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثًمَّ عرف فلا يصح أن يجري في فهمها على ما لا تعرفه. وهذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب .... ". بعد هذه المقتطفات من كلام الإمام الشاطبي عن أن الشريعة أمية، وأنها ودستورها - وهو القرآن - عربيان بالمعنى المشروح، (وكذلك بيان رسولها نبي الهدى صلى الله عليه وسلم) ، نعود إلى موضوعنا حول ميقات الإحرام الواجب للقادم جوًا بالطائرة لحج أو لعمرة، في ضوء ما نقلنا عن الشاطبي رحمه الله، فأقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد تلك المواقيت المكانية لأهلها، ولمن أتى عليها ومر بها من غير أهلها. وهذا منه بيان وتحديد لقوم أميين، وبلسان عربي مبين هم أهله الأصليون، وأن علينا وعلى جميع الأجيال المسلمة التي تتلوهم من علماء في الشريعة وفي الطبيعة وفي مختلف العلوم من عرب وأعاجم، أن لا نفهم من نصوص القرآن وكلام الرسول عليه السلام إلا ما يفهمه إذ ذاك أولئك الأميون أهل العربية المخاطبون بها بحسب مألوفهم ومعهودهم وعرفهم، كما يقول الإمام الشاطبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 538 وإذا كان كذلك فمن الذي يستطيع أن يزعم أنهم يمكن أن يفهموا من تحديد الرسول لهم تلك المواقيت المكانية أنها شاملة للقادم جوًا بطائرة في مستقبل الدهر إذا اخترع البشر آلة تطير بهم، ومرت بأحد ركابها فوق ميقات أرضي وهو في السماء، أو حاذى سمته؟ مع العلم أننا أوضحنا قبلا أن الحديث النبوي المذكور لا يشمل المحاذاة من قريب أو بعيد، بل هو مقصور على أهل تلك المواقيت ومن مر بأحدها، وأن إلحاق المحاذاة لأحد المواقيت بالمرور به فعلا هو اجتهاد عمر رضي الله عنه. ونحن نضع اجتهاده هذا فوق الرأس والعينين وهو معقول في ذاته؛ لأن ما تقتضيه حرمة البيت المعظم من أن يتهيأ من يقصده لحج أو لعمرة بالإحرام قبل الوصول إليه، هو مما ينبغي أن يستوي فيه كل قاصد، سواء مر بالميقات الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو جاء من طريق أخرى لا تمر به، فَجَعْلُ المحاذاة لأحد المواقيت هي الحد لغير من يمر بالميقات هي قيَاس معقول مبني على علة متحدة. ولكن هذا القياس السليم لا يجوز أن يخرج عن أرضية المسألة، وهي أن تلك المواقيت التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفهم منها أهل اللسان الذين خوطبوا به، إلا أنها لأهلها ولمن يمر بها المرور المعتاد الذي لا يعرفون سواه، وهو المرور بها في موقعها على سطح الأرض؛ لأن هذا هو ما تدل عليه لغتهم التي خوطبوا بها حين قال لهم الرسول عن هذه المواقيت: هن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ولا يمكن أن يتصور أحدهم إذ ذاك مرور أحد من فوق الميقات وهو طائر في الجو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 539 وقد رأينا آنفًا قول الشاطبي: " إنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ... وأنه لا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا يعرفونه، وأن هذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب ". فاجتهاد عمر رضي الله عنه في إلحاق المحاذاة لا يمكن أن يتجاوز الأصل، فكما أن النص الأصلي، وهو حديث المواقيت معناه المرور بالميقات فعلا على سطح الأرض، فإن المحاذاة التي ألحقها به عمر معناها المحاذاة ممن يمر حذو الميقات المرور المعتاد على سطح الأرض؛ ذلك لأن المقيس لا يمكن أن يعطي أكثر من حكم المقيس عليه. فإذا كان نص الحديث النبوي لا يتناول القدوم جوًا مما لم يكن في حسبان أهل اللسان ولا معهودهم، فكذلك المحاذاة الملحقة بطريق القياس والاجتهاد لا تطبق على طريق الجو الذي لم يكن يتصوره عمر نفسه صاحب هذا الاجتهاد القياسي. إنني أخلص من جميع ما تقدم بيانه إلى أن القادمين اليوم بطريق الجو في الطائرات لحج أو عمرة لا يشملهم تحديد المواقيت الأرضية التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في الجو. فهي حالة قد سكت عنها النص؛ لأنها لم تكن في التصور أصلاً، كما سكت عن القادمين من الجهة الغربية إذ لم يكن إذ ذاك مسلمون يقدمون من أفريقية من وراء البحر، ولا من مصر. أما الشام فإنه وإن لم يكن فيه مسلمون إذ ذاك قد كانت تجارة قريش وعرب الحجاز قائمة مع الشام في رحلة الصيف، فقد يعودون منه قاصدين حجًا أو عمرة، فلذا حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم للقادمين من الشام الجحفة ميقاتًا لهم، كما أسلفنا بيانه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 540 وإذا كان القدوم جوًا ليس مشمولاً بتحديد المواقيت المكانية لما قد بينا، فهو إذن خاضع للاجتهاد في تحديد ميقات مكاني للقادمين منه بالوسائط الجديدة المبتكرة في عصرنا هذا، كسائر قضايا الساعة التي ليس عليها نص، فيجب أن يقرر الاجتهاد لها الحكم المناسب في ضوء أصول الشريعة ومقاصدها، وفي طليعتها دفع الحرج. وفي نظري أن الحكم المناسب في هذا الموضوع، والذي لا يترتب عليه حرج ولا إخلال، هو أن القادمين بالطائرات اليوم لا يجب عليهم الإحرام إلا من بعد أن تهبط الطائرة بهم في البلد الذي سيسلكون بعده الطريق الأرضي، فإذا هبطت الطائرة بهم في بلد يقع خارج المواقيت، يكون عندئذ ميقاتهم للإحرام هو الميقات الذي سيمرون به، أو من الموقع الذي يحاذي أحد المواقيت المحددة لمختلف الجهات إذا كانوا لا يمرون بأحد تلك المواقيت. أما إذا كان المكان الذي تهبط فيه الطائرة بلدًا يقع بعد أحد المواقيت المذكورة، أي بينه وبين الحرم، فإن ميقاته للإحرام هو ذلك البلد نفسه، فيصبح حينئذ كأهله فلا يجوز له أن يجاوزه إلا محرمًا. وبما أن المطار الدولي اليوم الذي يهبط فيه الحجاج والمعتمرون هو في مدينة جدة، وهي واقعة ضمن بعض المواقيت، فإن القادمين بطريق الجو إلى جدة لحج أو لعمرة، يكون ميقاتهم للإحرام مدينة جدة، فلا يجوز أن يتجاوزوها إلا محرمين؛ لأنهم يصبحون عندئذ كأهل جدة فيحرمون من حيث يحرم أهلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 541 فلو أن المطار الذي يهبط فيه الحجاج والمعتمرون نقل فيما بعد إلى مكة لأصبح القادمون جوا كأهل مكة، فيحرمون من حيث يحرم المكيون، أي أن القادم بالطائرة بوجه عام، من أي جهة كان قدومه، متى هبطت طائرته في آخر مكان لكي يتابع بعده السير بالطريق البري، يأخذ عندئذ حكم أهل ذلك المكان بشأن الإحرام. أما القول بأن عليه أن يحرم وهو في الطائرة في الجو متى مرت الطائرة بأحد المواقيت أو حاذته، فهذا لا أرى دليلا شرعيًا يوجبه، وهو مبني على تصور أن القدوم جوًا بالطائرة مشمول بالحديث النبوي الذي حدد المواقيت الأرضية. وهذا في نظري رأي غير سليم في فهم النصوص فهما فقهيا كما سبق إيضاحه، علاوة على ما فيه من حرج شديد وصعوبة قد تصل إلى حد التعذر، بالنظر إلى حال الطائرات العامة، ولاسيما الدرجة السياحية فيها (وهي التي تأخذها الجماهير) ، وضيق مقاعدها لاعتبارات تجارية، حتى إن الراكب ينزل في مقعده كما ينزل الإسفين في الخشب، ويعسر عليه التحرك في تناول وجبة الطعام، فضلاً عن أن يخلع ملابسه المخيطة ويرتدى الرداء والإزار، وأين في الطائرة مغتسل ومصلى ليقيم سنة الإحرام؟ وأغرب من ذلك قول من يقول: إن هذا الحرج يمكن دفعه بأن يحرم بملابسه في الطائرة، ثم يخلعها بعد الهبوط ويفدي بدم جزاء، فمتى كانت هذه الشريعة الحكيمة السمحة تكلف أحدًا بما يشبه المستحيل لتعسره أو تعذره، على أن يخالفه المكلف ويتحمل بدلا منه جزاء مكلفًا؟ إن الشريعة الحكيمة براء من مثل هذا التكليف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 542 وأشد غرابة من هذا رأي من يقول – وكل هذا قد سمعناه – أن الحل لهذه المشكلة هو أن يحرم من يريد القدوم بالطائرة من بيته قبل ركوبها. فماذا يقول هؤلاء إذا كان قاصد الحج أو العمرة من أهل موسكو أو سيبيريا قادما في الشتاء حيث درجة الحرارة خمسون تحت الصفر بمقياس سنتيغراد؟ هذا ما يبدو لي أنه الوجه الصحيح في هذه القضية واستنباط الحل والحكم الشرعي الذي يناسبها، بعد إعمال الفكر منذ سنوات في ملابساتها، وإنعام النظر في الأدلة، والاستئناس بالدلائل، فقد كثر السؤال عنها، وكلما تقدم الزمن سنة ألحت الحاجة إلى البيان الشافي فيها بصورة مدروسة بصيرة، لا تسرع فيها ولا ابتسار، يُنظر فيها إلى هذه القضية من مختلف الزوايا لا من زاوية واحدة. وما يدرينا لعل سنوات قادمة غير بعيدة تصبح فيها الطائرة من الوسائل العتيقة البطيئة، ويحل محلها الصاروخ الذي يطوي المسافات الزمانية والمكانية الطويلة والبعيدة، فيختزلها في دقائق معدودات، كما يتنبأ به كثير من رجال العلم والفكر. وأن ما شهدناه في هذا العصر من عجيب الإنجازات، التي كلما تحقق منها شيء لم يكن ليصدق لو رؤي في المنام، فتح تحققه طريقا لما هو أعجب منه. وهذا الحل الذي ارتأيته بالدليل الذي رأيته - وأرجو أن يكون صوابا _ هو صالح لأن يتمشى مع مختلف الوسائل المبتكرة في النقل والأسفار مهما تطورت. فإن كان صوابا فمن فضل الله تعالى، وإن كان خطأ فمن قصور فكري وعلمي. والله سبحانه أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل. مصطفى أحمد الزرقاء كلية الشريعة – الجامعة الأردنية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 543 الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة لفضيلة الشيخ محمد علي عبد الله بسم الله الرحمن الرحيم ورد في مصنف الفقه على المذاهب الأربعة: أن الحج لغة هو: القصد إلى معظم، وشرعا: أعمال مخصوصة تؤدى في زمان مخصوص ومكان مخصوص. والحج فرض في العمر مرة على كل فرد من ذكر أو أنثى. وقد ثبتت فريضته بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج)) رواه البخاري، ومسلم عن ابن عمر. وأما الإجماع فقد اتفقت الأمة على فريضته، ولم يخالف أحد من المسلمين، ومنكرها كافر كمنكر فريضة الصلاة والصيام والزكاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 544 وقد ورد في تفسير البغوي المعروف بمعالم التنزيل: قال العلماء: الحج واجب على كل مسلم. وهو أحد أركان الإسلام الخمسة. ولوجوب الحج خمس شرائط: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والاستطاعة. ولا يجب على الكافر والمجنون ولو حجَّا لم يصح؛ لأن الكافر ليس من أهل القربة، ولا حكم لقول المجنون، ولا يجب على الصبي والعبد، ولو حج الصبي يعقل أو يحج عبد صح حجهما تطوعا ولا يسقط الفرض، فإذا بلغ الصبي وعتق العبد، واجتمع فيهما شرائط الحج وجب عليهما أن يحجا ثانيًا، ولا يجب على غير المستطيع لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] . فلو تكلف غير المستطيع الحج وحج، صحَّ حجُّه وسقط عنه فرض حجة الإسلام، وبالتالي يعتبر الشيخ أحمد بن غنيم بن سالم بن مهتا النفراوي أن الحج أشد أركان الإسلام (كتاب الفواكه الدواني) فهو فريضة على كل من استطاع إلى ذلك سبيلا من المسلمين الأحرار البالغين مرة في عمره، والسبيل الطريق السابلة: فمن شروط الحج إذن الاستطاعة، فلا يجب الحج على غير المستطيع، باتفاق المذاهب الأربعة، إلا أن هاته المذاهب اختلفت في تفسير معنى الاستطاعة. فالاستطاعة لدى الحنفية هي القدرة على الزاد والراحلة، بشرط أن يكونا زائدين عن حاجياته الأصلية، كالدَّيْن الذي عليه والمسكن، والملبس والمواشي اللازمة له، وأن يكونا زائدتين عن نفقة من تلزمه نفقتهم مدة غيابه إلى أن يعود، ويعتبر في الراحلة ما يليق بالشخص عادة وعرفا، ويختلف ذلك لديهم باختلاف الناس واختلاف أحوالهم، فالرجل الذي لم يستطع أن يستأجر محملا، فإنه لا يجب عليه الحج، أو لا يكون قادرا على هذه الحالة. ومثله من لا يستطيع أن يستأجر مركبا يركب عليه وحده، فلو قدر على راحلة مع شريك له، بحيث يتعاقبان الركوب عليها، فيمشي كل منهما تارة، ويركب الآخر، فإنه لا يعتبر قادرا، ولا يجب عليه الحج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 545 والاستطاعة لدى المالكية هي إمكان الوصول إلى مكة ومواضع النسك إمكانا ماديًا، سواء كان ماشيا أو راكبا، وسواء كان ما يركبه مملوكا له أو مستأجرا، ويشترط أن لا تلحق مشقة عظيمة بالسفر، فمن قدر على الوصول مع المشقة الفائقة فلا يكون مستطيعا، ولا يجب عليه الحج، ولكن لو تكلفه وتجشم المشقة أجزأه ووقع فرضا، كما أن من قدر على الحج بأمر غير معتاد، كالطيران ونحوه لا يعد مستطيعا، ولكن لو فعله أجزأه (أي كفاه) . ويعتبر المالكية في شأن الاستطاعة أنه لا فرق بين البر والبحر متى كانت السلامة فيه غالبة، فإن لم تغلب فلا يجب الحج إذا تعين البحر طريقا. يزاد لدى المالكية في حق المرأة أن يكون معها زوجها أو محرم من عائلتها أو رفقة مأمونة، فإذا فُقِدَ جميع ذلك، فلا يجب عليها الحج، وأن يكون الركوب ميسورا لها إذا كانت المسافة بعيدة، والبعد لا يُحد بمسافة القصر، بل بما يشق على المرأة المشي فيه، ويختلف ذلك باختلاف النساء، فيلاحظ في كلٍّ ما يناسبها، فإذا شق المشي على المرأة ولم يتيسر لها الركوب، فلا يجب عليها، كما لا يجب عليها إذا تعين السفر في سفن صغيرة لا تتمكن فيها المرأة من الستر وحفظ نفسها. أما السفن الكبيرة التي يوجد فيها محالٌّ يمكن أن تكون المرأة فيها محفوظة، فيجب السفر فيها إذا تعينت طريقا، ولا يسقط الحج عنها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 546 والاستطاعة لدى الحنابلة هي القدرة على الزاد الصالحة لمثله. كما يشترط الحنابلة لوجوب الحج أمن الطريق، بحيث لا يوجد مانع من خوف على النفس أو المال أو العرض، أو نحو ذلك. أما المرأة فلا يجب عليها الحج إلا إذا كان معها زوجها أو أحد من محارمها. ولم يتعرض الحنابلة إلى مسألة الطائرة بل الإحرام عن طريق الجو أو السفينة فكل ما لديهم أن يكون الطريق آمنا. أما الشافعية، فالاستطاعة لديهم على نوعين: 1- الاستطاعة بالنفس والقدرة على ما يلزمه من زاد وأجرة الكفارة ونحو ذلك من الذهاب والإقامة بمكة والإياب منها. 2- وجوب الراحلة، ويعتبر ذلك لديهم في حق المرأة مطلقا سواء كانت المسافة طويلة أو قصيرة، وفي حق الرجل إن كانت المسافة طويلة، فإن كانت قصيرة وقدر على المشي بدون مشقة وجب عليه الحج بدون وجود الراحلة وإلا فلا يجب، وفسر الشافعية الراحلة بأنها ما يمكن الوصول عليه، سواء كانت مختصة أو مشتركة، بشرط أن يجد من يركب معه. فإن لم يجد من يركب معه ولم ييسر له ركوبها وحده فلا يجب عليه الحج، ولا بد أن تكون الراحلة مهيئة بما لابد منه في السفر، كخيمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 547 وقال ابن حبيب: الاستطاعة هي الزاد والراحلة، وعلى العموم من قدر على المشي وجبت عليه وإن عدم الركوب، وكذلك الأعمى إذا وجد قائدا ولم يجد طريقا إلا البحر لم يسقط عنه الحج (خلافا لموقف الشافعي كما رأيناه آنفا) ، إلا أن يكون الخوف أو يعلم أنه يعطل الصلاة بالميد. ولو كان لا يجد موضعا للسجود للضيق إلا ظهر أخيه فلا يركبه، والمعطوب الذي لا يستمسك على الراحلة لا يلزمه أن يجمع عنه غيره من ماله، ويسقط الحج إذا كان في الطريق عدو. وعلى العموم الحج عن طريق البر والبحر مقبول لدى الفقهاء والمسألة المتعلقة عن الإحرام عن طريق الجو هو الذي لم يقع الاتفاق عليه، فقد قال الإمام مالك عن الإحرام عن طريق الجو أنه من قدر على الحج عن طريق الطيران ونحوه لا يعد مستطيعا، إلا أنه لو قام بذلك أجزأه، ونحن نعلم أن السفر عن طريق الجو كان معدوما في ذلك الحين، أما الآن فهو مصلحة ضرورية ووسيلة ناجحة للسفر، ولو إلى المكان المقصود في أقل وقت ممكن، وبالتالي يمكن إدراج الإحرام عن طريق الطائرة ضمن الاستطاعة إذ إنه قول يحقق الإحرام لمستقلِّ الطائرة عند نزولها في المطار، إذ ما دام المحرم في الطائرة وهي في الجو لا يمكنه معرفة الميقات الزماني والمكاني. وكذلك مستقل الباخرة الإحرام لديه يبدأ من بلوغه الميناء والنزول على مطية الباخرة. علما بأن المواقيت تنقسم إلى قسمين: - ميقات زماني ومكاني: فالزماني شوال وذو القعدة والعشر الأُوَل من ذي الحجة، فمن أحرم قبل ذلك انعقد وصح على كراهية وفقا لأبي حنيفة، وقيل لا ينعقد وفاقا لداود، وقال الشافعي: يسقط وينقلب حجه إلى عمرة. وعلى الكل هذا قد لا يقع فيه خلاف كثير كما هو للنشأ فيما يخص الميقات المكاني، التي تنقسم إلى خمسة، منقسمة على جهات الحرم وهي، الحليفة لأهل المدينة، وقرن لأهل نجد، والجحفة لأهل الشام ومصر والمغرب، ويلملم لأهل اليمن، وذات عرق لأهل العراق وخرسان والمشرق. ويكره تقديمه عليها ويلزم إن فعل. ويقول الشافعي: الأخيرة أن يحرم من بلده، والأولى لمن مر بذي الحليفة من ميقات الجحفة أن يحرم من ذي الحليفة؛ لأنه ميقات النبي صلى الله عليه وسلم. وأما للمقيم بمكة فيحرم منها، وميقات العمرة من مكان مواقيت الحج إلا لمن كان في الحرم، فعليه أن يخرج إلى الحل ولو إلى أوله، ليجمع بين الحرم والحل كما يجمع بينهما الحاج، والاختيار له أن يحرم بالعمرة من الجعرانة أو التنعيم. ومن كان منزله أقرب إلى مكة من الميقات، فميقاته من منزله في الحج أو العمرة، ومن مر على ميقات فله ثلاثة أحوال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 548 1- المسألة الأولى: أن يمر لحاجة دون مكة فلا إحرام عليه. 2- المسألة الثانية: أن يريد دخول مكة لحاجة، فيلزمه الإحرام وهو لازم لكل من دخلها إلا من خرج من أهلها لحاجة ثم عاد. ومن أكثر التردد إليها كالحطاب أو غيره لا يلزم عند بعض الكتاب. 3- الحالة الثالثة: أن يريد الحج والعمرة فيحرم من الميقات ولا يتجاوزه إلى ما بعده، فإن تجاوز رجع ما لم يحرم، ولا دَمَ عليه، فإن أحرم مضى ولزمه الدم، وإن رجع بعد إحرامه لم يسقط عنه الدم. ويجدر التنبيه بأن الإحرام ينعقد بالنية المقترنة بقول أو فعل متعلق بالحج كالتلبية والتوجه إلى الطريق، وسننها أربعة. 1- الغسل تنظيفا، ولا يتطيب قبل الغسل ولا بعده بما يبقى رائحة. 2- التجرد عن المخيط في إزار ورداء ونعلين. 3- صلاة ركعتين فأكثر، فإن إحرام عقب الغرق فلا بأس. 4- التلبية من حين يأخذ في المشي، ويجددها عند كل هبوط وصعود وحدوث حادث وخلف الصلوات. وعلى هذا نكون قد أتينا على آخر بحثنا وعلى الله التوفيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 549 الإحرام للقادم إلى الحج بالطائرة أو الباخرة لفضيلة الشيخ تجاني صابون محمد بسم الله الرحمن الرحيم الإحرام للقادم إلى الحج بالطائرة أو الباخرة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. يعتبر الإحرام الركن الأول من أركان الحج ومعناه في الشرع: نية الدخول في الحج والعمرة. ولا يلزم في تحققه اقترانه بتلبية أو سوق هدي أو نحو ذلك عند الشافعية. أما الأحناف فقد قالوا بأن الإحرام يتحقق بأمرين، الأول: النية، والثاني: اقترانها بالتلبية، ويقوم مقام التلبية مطلق الذكر أو تقليد البدنة مع سوقها، فلو نوى بدون تلبية أو ما يقوم مقامها مما ذُكِرَ أو لبّى ولم ينو لا يكون محرما، وكذلك لو أشعر البدنة بجرح سنامها الأيسر أو وضع الجل عليها أو أرسلها، وكان غير متمتع بالعمرة إلى الحج ولم يلحقها، أو قلّد شاة، لا يكون محرما. أما المالكية فقد ذكروا معنى الإحرام بما يلي: الإحرام هو الدخول في حرمات الحج، ويتحقق بالنية فقط على المعتمد، ويسن اقترانه بقول كالتلبية والتهليل، أو فعل متعلق بالحج كالتوجه وتقليد البدنة. أما المواقيت فهي تنقسم إلى قسمين: زمانية ومكانية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 550 فالميقات الزماني بالحج مفردا أو قارنا هو من أول شوال إلى طلوع الفجر من يوم النحر. أما المواقيت المكانية فهي تختلف باختلاف الجهات، فأهل الشام ومصر والسودان والمغرب ومن دونهم فيمقاتهم الجحفة، وأهل العراق وسائر أهل المشرق فميقاتهم ذات عرق، وهي قرية على مرحلتين من مكة، وأهل المدينة المنورة بنور النبي صلى الله عليه وسلم ميقاتهم ذو الحليفة، وهي تبعد عن المدينة بخمسة أميال، وهي أبعد المواقيت من مكة، والميقات لأهل اليمن والهند يلملم، وهي تبعد بمرحلتين من مكة، ولأهل نجد قرن، وهي أيضًا على مرحلتين من مكة. فهذه المواقيت لأهل هذه الجهات المذكورة، ولكل من مر بها أو حاذاها، وإن لم يكن من أهل جهتها. فمن مر بميقات منها أو حاذاه قاصدا النسك، وَجَبَ عليه الإحرام منه، ويجوز له أن يجاوزه بدون إحرام، فإن جاوزه ولم يحرم وجب عليه الرجوع إليه ليحرم منه إن كان الطريق مأمونا، وكان الوقت متسعا، بحيث لا يفوته الحج لو رجع، فإن لم يرجع لزمه هدي لأنه جاوز الميقات بدون إحرام، سواء أمكنه الرجوع أم لم يمكن لخوف الطريق أو ضيق الوقت، إلا أنه في حالة إمكان الرجوع يأثم بتركه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون أمامه مواقيت أخرى في طريقه أو لا، وهذا الحكم أقرته الشافعية والحنابلة. أما الأحناف فقالوا: إن جاوز الميقات بدون إحرام حرم عليه ذلك ويلزمه الدم إن لم يكن أمامه ميقات يمر عليه بعد، وإلا فالأفضل إحرامه من الأول فقط إن أمن على نفسه من ارتكاب ما ينافي الإحرام، فإن لم يأمن فالأفضل أن يؤخر الإحرام إلى آخر المواقيت التي يمر بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 551 أما المالكية فقالوا: هذه المواقيت معتبرة بأنفسها لا بأسمائها. فإذا كان الميقات قرية فخربت أو انتقلت عمارتها واسمها إلى موضع آخر كان الاعتبار بالأول؛ لأن الحكم تعلق به، فمتى مر بميقات من هذه المواقيت وجب عليه الإحرام منه، فإن جاوزه بدون إحرام حرم ولزمه دم، إلا إذا كان ميقات جهته أمامه يمر عليه فيما بعد، فإن كان كذلك ندب له الإحرام من الأول فقط، فإن لم يحرم منه فلا أثم عليه ولا دم وخالف المندوب. وهذا كله فيما كان خارجا عن هذه المواقيت، وأما من كان بينها فميقاته من بيته، ومن كان بمكة من غير أهلها وأراد الإحرام بالحج صح إحرامه من مكة بلا إثم ولكن يندب له أن يخرج إلى ميقات ليحرم منه إن كان الوقت متسعا وأمن على نفسه وماله لو خرج، وإلا فلا يندب له الخروج. أما من حج في البحر من أهل مصر وشبههم فليحرم إذا حاذى الجحفة هذا ما أقره جل السادة المالكية، خلافا على ما جاء عن بعض منهم حيث يرون الأفضل تأخير الإحرام حتى بلوغ سواحل جدة، ويرى في هذا الرأي الأخير تجاوز الميقات. أما حكم الإحرام في الطائرة فإن حكمه حكم الإحرام في الباخرة، فإذا أمكن للحاج أن يحاذي ميقاته أحرم وإن وجد مشقة في الإحرام داخل الطائرة وفي تحديد مكان الميقات (كما هو الحال في معظم الطائرات) وخاف مجاوزة الميقات دون إحرام، فإنه يحرم قبل ركوبه الطائرة؛ لأن أمر الإحرام قبل الميقات أخف من الإحرام بعده، حيث إن الأول مكروه على المذهب المالكي، والثاني يوجب الهدي والإثم في بعض الحالات، كما مر في سياق هذا البحث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 552 وقد جاء في حاشية الإمام الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل في الجزء الثاني صفحة (428) ما يلي: قال رجل لمالك بن أنس: من أين أحرم؟ فقال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعاد عليه مرارا. قال: فإن زدت على ذلك؟ قال: فلا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة. قال: وما في هذا من الفتنة إنما هي أميال أزيدها؟ فقال مالك: قال الله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] قال: وأي فتنة في هذا؟ قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك أصبت فضلا قصّر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ترى أن اختيارك لنفسك خير من اختيار الله تعالى لك واختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعلى ضوء ذلك فإنه يتعذر علينا وجود رخصة في تحديد ميقات قبل أو بعد المواقيت المحددة من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن يجب على الاجتهاد أن يجري في المحافظة عليها ومراعاتها. فنسأل الله الكريم أن يهدينا إلى طريق الصواب، وأن يحفظ ديننا الذي ارتضاه لنا. والسلام عليكم ورحمة الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 553 الإحرام من جدة لركاب الطائرات في الفقه الإسلامي لفضيلة الشيخ محيي الدين قادي بسم الله الرحمن الرحيم الإحرام من جدة لركاب الطائرات في الفقه الإسلامي (1) الحمد لله الذي شرح صدورنا للإسلام، وجعلنا من أمة الحاشر الخاتم خير الأنام، سيدنا ومولانا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، فبيّن لنا الحدود والأحكام، وفصل لنا الحلال والحرام، وأورث فقهاء أمته التوقيع عن رب العالمين، فكانوا كواكب الهدى وأنوار الدجى وخدموا الشريعة خدمة جليلة فجازاهم الله عنا أحسن الجزاء، وجعلنا وإياهم من الفائزين بالحسنى وزيادة يوم الجزاء. وبعد، تأملت هذا الموضوع فوجدته يندرج ضمن عديد الموضوعات التي أثارتها على الساحة الإسلامية حركةُ التقدم الحضاري والتقني؛ وذلك لأن هذه القضية حدثت حصيلة تطور وسائل النقل تطورا كبيرا من عائمة من أعماق البحار، إلى طائرة في أجواء الفضاء إلى متجاوزة لذلك كله، ونازحة على سطح القمر حاضرا، وكواكب أخرى مستقبلا، ولا يخفى أن هذا التطور في وسائل النقل أحدث العديد من المشاكل في حياة المسلمين عبادات ومعاملات، وأصبح المسلم في حيرة من أمره يتساءل: هل تجوز الصلاة في الطائرة إذا انحرفت عن القبلة؟ وهل تجوز فيها إذا طارت فوق مكة وأصبحت المعاملة والمعانية متعذرتين؟ ولو طارت الطائرة في أجواء الفضاء بحيث تدور الأرض ولا تدور، هل يقصر ويفطر؟   (1) التزمْتُ المذاهب الأربعة غالبا، وفي بعض الأحيان المذاهب السبعة المتواجدة على الساحة الإسلامية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 554 لو صلى في مركبة فضائية خارج نظام الجاذبية، فينعدم الوزن انعداما كليا، ويتغير الأمر تغيرا جذريا، ويكون معلقا في الفضاء، وفي حركة عشوائية قسرية لا تمكنه من القيام، ولا من الاتجاه إلى الأرض، فكيف يصلي؟ ولو ركب قمرا صناعيا فدار به في الليل والنهار عشر مرات حول الأرض، وكل دورة لها ليل ونهار، فهل تجب عليه الصلوات الخمس في جميع الدورات؟ ولو سافر بالطائرة إلى الحج، فهل يحرم من الميقات؟ أو قبله؟ أو يؤخر إحرامه إلى أول مكان في البر وهو جدة في حاضرنا الإسلامي؟ كل هذه التساؤلات لا تجد الحلول الفقهية السريعة سرعةَ التقدم الحضاري والتقني بصفة عامة، وسرعةَ التطور الخطير في وسائل النقل بصفة خاصة؛ وذلك أن تكوين الفقهاء المعاصرين محدود، فلم يبق فيهم المجتهد المطلق، ولا مجتهد المذهب، ولا مجتهد الفتوى، وإنما هم مقلدون يفتون الناس بنقل أقوال الأئمة في حادثة ما، أو التخريج عليها، وتنزيل هذه الأقوال منزلة الأدلة لدى الأئمة المجتهدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 555 ولرأب هذا الصدق أنشئت المجامع الفقهية لتحقيق الاجتهاد الجماعي العاجل في المشاكل المستحدثة، ولكتابة الموسوعات والمعاجم الفقهية، والمجلات ذات المستوى العالي في البحوث الفقهية وغيرها من الوسائل لتيسير عملية الاجتهاد الفردي بين الفقهاء، وذلك ما اعتبره هذا المجمع العالمي للفقه الإسلامي مهمته وهدفه، ويوم يتحقق ذلك يفرح المسلمون بعودة الازدهار إلى أعظم مأثرة من مآثر حضارتهم وهو: " فقههم ". ولنكف اليراع عن الاسترسال فيما يجب إنجازه لتيسير عملية الاجتهاد الفردي، فذلك ما يتطلب بدوره بحثا، أو بحوثا، ولنسارع إلى بيان الخطة التي قام عليها هذا البحث فنقول، ومنه - عم نواله - نستمد بلوغ المأمول: اقتضت طبيعة هذا البحث أن يكون مشتملا على خمسة مباحث، رتبتها على النسق التالي: المبحث الأول: تعريف الإحرام: ويشتمل على أربع نقاط: النقطة الأولى: تعريف الإحرام لغة. النقطة الثانية: تعريف الإحرام شرعا في المذاهب الفقهية. النقطة الثالثة: شرح تعريف الإمام ابن عرفة. النقطة الرابعة: نقد لهذه التعاريف ونتيجة. المبحث الثاني: حكم الإحرام: ويشتمل على نقطتين: النقطة الأولى: ركنية الإحرام. النقطة الثانية: هل ركنية الإحرام قدر متفق عليه بين المذاهب الإسلامية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 556 المبحث الثالث: الميقات الزماني للعمرة والحج: ويشتمل على خمس نقاط: النقطة الأولى: تعريف الميقات لغة. النقطة الثانية: تعريف الميقات الزماني شرعا. النقطة الثالثة: الميقات الزماني للعمرة. النقطة الرابعة: الميقات الزماني للحج. النقطة الخامسة: الإحرام قبل الميقات الزماني. المبحث الرابع: الميقات المكاني للحج والعمرة: ويشتمل على تسع نقاط: النقطة الأولى: تعريف الميقات المكاني شرعًا. النقطة الثانية: الميقات المكاني لمن بالحل. النقطة الثالثة: الميقات المكاني لمن بمكة المكرمة. النقطة الرابعة: الميقات المكاني للأفقيين. النقطة الخامسة: الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وقّت المواقيت. النقطة السادسة: المواقيت لأهلها ولمن مر بها من غير أهلها. النقطة السابعة: جواز الإحرام قبل المواقيت. النقطة الثامنة: الإحرام بعدها بين الضيق وبين السعة. النقطة التاسعة: إحرام من لم يمر بالمواقيت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 557 المبحث الخامس: الترخيص لركاب الطائرات في تأخير الإحرام إلى جدة: ويشتمل على ثلاث نقاط: النقطة الأولى: مقاصد شرعية عامة تساعد على الترخيص للأفقيين في تأخير الإحرام إلى جدة. النقطة الثانية: تيسيرات خاصة بالحج. النقطة الثالثة: نصوص فقهاء الإسلام تُرخص للقادمين جوا في تأخير الإحرام إلى جدة. ملحق: يتضمن عدة فتاوى مصورة لأعلام من الفقهاء المعاصرين شرقا وغربا. هذا واعتمدت في تحرير مسائل هذا البحث على مصادر ومراجع متعددة، اختلفت درجة استعمالها، واتفقت في كونها معتمدة في باباها، سيجدها القارئ في هوامش البحث، وفي فهرست مصادره ومراجعه – إن شاء الله – ولا أزعم أنني وصلت في موضوع هذا البحث إلى القول الفصل، ولكنني أصّلته، وأرجعت أقوال الفقهاء إلى مداركها، حاولت في المبحث الخامس ربطها بمقاصدها، والتخريج عليها بدون تعسف ولا إكراه لها، راجيا من وراء ذلك أن ينفعني الله بما علمت، وينفع بي، وأن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم وهو حسبي ونعم الوكيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 558 المبحث الأول تعريف الإحرام ويشتمل على النقاط التالية: النقطة الأولى: تعريف الإحرام لغة. النقطة الثانية: تعريف الإحرام شرعا في المذاهب الفقهية. النقطة الثالثة: شرح تعريفة ابن عرفة. النقطة الرابعة: نقد لهذه التعاريف ونتيجة. النقطة الأولى تعريف الإحرام لغة الإحرام في لسان العرب: الدخول في حرمة لا تهتك، وإحرام الحاج أو المعتمر الدخول في عمل حرم عليه به ما كان حلالا (1) . وهو مصدر أحرم الرجل، يحرم، إحراما: إذا أهلّ بالحج، أو العمرة، وباشر أسبابهما وشروطهما، من خلع المخيط واجتناب الأشياء التي منعه الشرع منها، كالطيب والنكاح والصيد، وغير ذلك. والأصل فيه المنع، فكأن المحرم ممتنع من هذه الأشياء، ومنه حديث: ((الصلاة تحريمها التكبير)) كأن المصلي بالتكبير والدخول في الصلاة، صار ممنوعا من الكلام والأفعال الخارجية عن كلام الصلاة وأفعالها. فقيل للتكبير؛ تحريم؛ لمنعه المصلي من ذلك (2) .   (1) مجد الدين بن يعقوب الفيروزآبادي. القاموس المحيط: 4/95. (2) محمد بن مكرم ابن منظور. لسان العرب: 49/122. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 559 والملاحظة وجود تداخل بين المعاني اللغوية وبين المعنى الشرعي لكلمة "إحرام "، وذلك ما يفوت على الباحث معرفة العلاقة بين المعنى اللغوي وبين المعنى الشرعي، وهل هي النقل أو التخصيص أو التعميم؟ ويبدو لي هذا التداخل في قولهم: أحرم الحاج، أو المعتمر: دخل في عمل حرم عليه به ما كان حلالا، ذلك ما قاله مجد الدين في القاموس المحيط، ويزداد هذا التداخل وضوحا عند صاحب اللسان إذ يقول: وهو مصدر أحرم الرجل يحرم إحراما: إذا أهل بالحج أو العمرة، وباشر أسبابهما وشروطهما، من خلع المخيط إلى آخر ما سلف، ويعرب عن هذا التداخل بصورة جلية لا لبس فيها أحمدُ الفيوميُّ في المصباح المنير حين يقول: أحرم الشخص: نوى الدخول في حج أو عمرة (1) . النقطة الثانية تعريف الإحرام شرعا في المذاهب الفقهية لقد تناول فقهاء المذاهب السبعة المنتشرة في بقاع العالم الإسلامي رسم الإحرام شرعا، فرسمه عدد كبير من الفقهاء الأحناف برسوم متقاربة، ومن ذلك ما رسمه به الكمال بن الهمام حيث قال: الإحرام: الدخول في حرمات مخصوصة أي التزامها، غير أنه لا يتحقق شرعا إلا بالنية والذكر (2) .   (1) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للإمام الرافعي: 1/84. (2) فتح القدير: 2/134. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 560 ورسمه من المالكية الإمام ابن عرفة رحمه الله فقال: صفة حكمية، توجب لموصوفها حرمة مقدمات الوطء مطلقا، وإلقاء التفث، والطيب، ولبس الذكور المخيط، والصيد لغير ضرورة لا يبطل بما تمنعه " (1) . ورسمه من الشافعية الرملي فقال: يطلق الإحرام على نية الدخول في النسك (2) . ورسمه من الحنابلة البهوتي بقوله: نية الدخول في النسك، لا نيته ليحج أو يعتمر (3) . ورسمه من الزيدية أحمد بن يحيى المرتضى بقوله: الإحرام: نية الحج أو العمرة أو هما معا، عند الميقات (4) . ورسمه من الإمامية العاملي فقال: الإحرام: هو في الحقيقة عبارة عن النية (5) . ورسمه من الإباضية محمد بن يوسف أطفيش بقوله: الإحرام هو النية والتلبية، ونصه الحَرْفِيّ هو التالي: " يعقد نية الإحرام بحج، ويقول: لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد والنعمة والملك لك، لا شريك لك، لبيك بحج تمامه وبلاغه عليك يا الله، ومن لم يلب لم يدخل في حج ولم يصح إحرامه، والتلبية مع نية الإحرام بحج أو بعمرة، أو بهما، قيل: كافيتان عن ذكر حج أو عمرة، أو ذكرهما في التلبية، والأولى الذي هو ذكر أحدهما، أو ذكرهما في التلبية أصح (6) . ومن هذه الفقرة استخلصت رسم الإحرام شرعا عند الاباضية وهو النية المصاحبة للتلبية. والله أعلم.   (1) الرصاع. الهداية الكافية الشافية لبيان حقائق الإمام ابن عرفة الوافية: 104. (2) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: 3/265. (3) كشاف القناع عن متن الإقناع: 2/406. (4) البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار: 2. (5) الرضوة البهية شرح اللمعة الدمشقية: 1/173. (6) كتاب شرح النيل وشفاء العليل: 2/299. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 561 النقطة الثالثة شرح تعريف الإمام ابن عرفة لم أشرح الرسوم الستة ليسرها، ولقربها من التعريفات اللغوية، وخصصت تعريف الإمام ابن عرفة بالشرح لغموضه، فلو لم يُشرح لاستعصى فهمه على ذوي الاختصاص فضلا عن غيرهم. ومن قديمٍ عرف أسلافنا من الفقهاء المالكية هذه الميزة لتأليف ابن عرفة بصورة عامة، ولحدوده بصورة خاصة، وإنما أعانهم على فقهها أنهم شيخوها، ولم يتسوروا عليها، ومن حين لآخر، ورغما عن تمشيتهم لشرحها تعترضهم عقبة كأداء، وكان المبرزون منهم يفخرون بفكّ رموزها، وفهم إشاراتها خلفا عن سلف (1) ، وناهيك بحدود يعجز مؤلفها عن فهم واحد منها وهو حد الإجارة في أخريات عمره، وتوقف يومين وهو يتضرع إلى الله في فهمها، وأجاب في اليوم الثاني (2) . ولم أدع هذا الرسم الذي رسم به الإمام ابن عرفة – رحمه الله – الإحرام لكونه أدق محاولة من المحاولات التي ذكرتها في رسمه، ولكونه على شدة اختصاره وغموضه معينا على تصور إجمالي لحقيقة الإحرام، وإن كنت لا أدعي سلامته من النقد، كما سأبين ذلك في النقطة الموالية. وبعد هذه الإضاءة فإلى شرح التعريف، وشرحه يقوم على إبراز مراكز الاهتمام فيه وهي:   (1) الرصاع، الهداية الكافية الشافية لبيان حقائق الإمام ابن عرفة الوافية: 3. (2) محمد الحجوى. الفكر السامي: 2/400. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 562 1- قوله: " صفة حُكْمِيَّة ": هذا القيد ذكره في عدة رسوم كالطهارة، والطلاق، والقضاء، وغير ذلك، وهو جنس يشمل ما ذكر وما لم يذكر من كل ما هو معنى تقديري؛ لأن المراد بالصفة الحكمية معنى تقديري يحكم بها الذهن ولا وجود لها في الخارج. وأخرج بقوله " حكمية " الصفة الحسية كالطول والقصر، والسواد والبياض، والصفة العقلية كالعلم والقدرة وغير ذلك. 2- قوله: " حرمة " قيد يخرج الطهارة، وقد عرفها من قبل بأنها: " صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصلاة " ... إلخ. 3- قوله: " مقدمات الوطء " نبه بحرمة مقدمات الوطء على حرمة الوطء نفسه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. 4- قوله: " مطلقا ": يتأتى تفسير الإطلاق بتفسيرين: (أ) أن الإطلاق يراد به جميع الحالات التي يكون عليها الحاج أو المعتمر في ليله ونهاره، في سره وإعلانه، سواء كان يمارس منسكا أو يمارس غيره. (ب) أن الإطلاق يريد به في حالة الضرورة وفي غيرها بخلاف إلقاء التفث والطيب، وهذا أقرب الاحتمالين. وهذا القيد " مطلقا " له أهمية في الرسم، فلو أسقطه وقال: " صفة حكمية توجب لموصوفها حرمة مقدمات الوطء وإلقاء التفث ... إلخ، للزم على ذلك صدقه في حالة الطواف مثلا، فصدق في إحرام الحج أنه أوجب حرمة المقدمات، بما وقع بعد ذلك من أجزاء الحج، لا يدل على عموم التحريم فيه، إلا بزيادة قيد الإطلاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 563 5- قوله: " ولبس الذكور المخيط " قيد أخرج به المرأة؛ لأن لبس المخيط لا يحرم في حقها، وفيه إشارة إلى أن إحرام الرجل مغاير لإحرام المرأة. 6- قوله: " والصيد " معطوف على المضاف إليه " الوطء " والمراد به في هذا الرسم: الاصطياد لا ملك الصيد؛ وذلك لأن الذي ملك صيدا في الحل ثم يُحرم، ولم يكن حامله، لا يسقط ملكه عنه. 7- قوله " لغير ضرورة " قيد راجع للأربعة المذكورة قبل ذلك، وهي: إلقاء التفث، والتطيب، ولبس الذكور المخيط، ولا صيد؛ لأنها تكون ممنوعة اختيارا كما نص على ذلك. 8- قوله " لا يبطل بما يمنعه " أراد بهذه الفقرة بيان العرف بين ممنوعات إحرام الحج والعمرة، وبين إحرام غير الحج والعمرة كالصلاة والصوم والاعتكاف، فإن ممنوعات الإحرام بالحج أو العمرة إذا ارتكبها الحاج أو المعتمر لا تبطل الحج وإن كان الممنوع مما يفسد الحج كالوطء، وإن ممنوعات غير الحج كالصلاة والصوم والاعتكاف إذا ارتكبها المصلي أو الصائم أو المعتكف فإنها تبطل عليه صلاته أو صومه أو اعتكافه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 564 النقطة الرابعة نقد التعاريف السالفة، ونتيجة إن تعريف الإحرام أُشْكٍلَ على الفقهاء قديما وحديثا، والرسوم التي ذكرتها آنفا لفقهاء المذاهب لم تسلم من الاعتراض والنقد، فالتعريف الأول وهو تعريف ابن الهمام يتسنى نقده من وجوه ثلاثة: (أ) أن يكون ابن الهمام – رحمه الله – أراد بـ " الدخول " في التعريف المذكور مطلق فعل الحاج أو المعتمر، وعلى هذا التفسير يلزم نفي الإحرام عن المحصر؛ لأنه غير متمكن من فعل النسكين، ويلزم عنه أيضًا أن النائم والمغمى عليه لا إحرام لهما. (ب) أن يكون ابن الهمام أراد بالدخول حقيقته، وهي انشاؤه، يلزم على هذا الشرح أن يكون بعد إنشاء الدخول غير محرم؛ لأن الإحرام عنده إنشاء الدخول، وإذا دخل في أحد النسكين: الحج أو العمرة، أو هما معا، فلا يمكن وجود الإحرام حقيقة بعد ذلك. وتلزم من ذلك لازمة خطيرة، وهو أن يكون غير محرم بدخوله هذا. (ج) الذي يقع به الدخول في الإحرام النيةُ والتلبيةُ، أو ما يقوم مقام التلبية من الذكر، وتقليد البدنة مع السوق (1) ، والواجب من هذه النية وحدها، وما ليس بواجب لا يكون جزءا من واجب، والإحرام جزء. وأما تعاريف الرملي الشافعي، والبهوتي الحنبلي، والمرتضى الزيدي، والعاملي الإمامي، فمعترضة من جهة أنها عرفت الإحرام بأنه النية، والنية شرط في الحج، فهي خارجة عن الماهية، والإحرام ركن فهو داخل في الماهية، وعندية الميقات عند المرتضى كذلك. وأما تعريف أطفيش الإباضي فينقد من وجهين:   (1) ابن عابدين. رد المحتار على الدر المختار: 2/147. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 565 1- أن النية التي جعلها الإحرام هي شرط، والشرط خارج عن الماهية والإحرام ركن، والركن داخل في الماهية. 2- أن التلبية التي جعلها جزءا من حقيقة الإحرام ليست ركنا، وما ليس بركن لا يكون جزءا من ركن (1) . وقد علل الإمام ابن عرفة – رحمه الله – وقوع الغلط في تعريف الإحرام لدى كثير من الفقهاء فقال: " إن سبب وقوع الغلط من عدم تحقق الشعور بمميز ماهية الإحرام ومعرفة حقيقته عن الذي ينعقد به الإحرام وبوجوده، فالنية ينعقد بها الإحرام، وكذلك التوجه، وذلك كله سبب في حصول الإحرام، والسبب غير المسبب قطعا، كما نقول: الصلاة لها إحرام، وتكبير إحرام، فالتكبير مع النية سبب في حصول الإحرام والإحرام مسبب (2) . بيد أن ابن عرفة الذي بين سبب وقوع الغلط لدى الفقهاء في تعريف الإحرام لم يسلم ترعيفه السالف من اعتراض، وذلك لأن ابن عرفة عرض لما ينشأ عن الإحرام من الآثار حين قال: " صفة حكمية توجب لموصوفها " إلخ.. ,لم يعرف ماهية الإحرام. إذن تعريف الإحرام لم يفارقه الإشكال، ولم يخل تعريف عن اعتراض، والذي يظهر لي والله أعلم: أن أول ما يفعله قاصد الحج والعمرة إذا أراد الدخول فيهما أن يحرم بذلك، وقبل ذلك فهو قاصد الحج أو العمرة ولم يدخل فيهما، بمنزلة الذي يخرج إلى صلاة الجمعة، فله أجر السعي ولا يدخل في الصلاة حتى يحرم بها، فإذا وصل مريد النسك إلى الميقات أحرم (3) .   (1) أردت بالواجب والركن في هذا النقد شيئًا واحدا. (2) الرصاع. الهداية الكافية الشافية لبيان حقائق الإمام ابن عرفة الوافية: 104. (3) ابن تيمية: الفتاوى: 26/99. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 566 المبحث الثاني حكم الإحرام ويشتمل على نقطتين: النقطة الأولى: ركنية الإحرام. النقطة الثانية: هل ركنية الإحرام قدر متفق عليه بين المذاهب. النقطة الأولى ركنية الإحرام قديما قيل: الحكم عن الشيء فرع عن تصوره، وعملا بهذه القاعدة الأساسية لا بد لنا من معرفة الركن لغة واصطلاحا؛ حتى يتضح في أذهاننا المراد بركنية الإحرام. والركن لغة: الجانب الأقوى (1) ، واصطلاحا: ركن الشيء ما به يتم، وهو داخل فيه (2) . وبعد معرفة معنى الركن لغة واصطلاحا نقول: إن ركنية الإحرام ثابتة من الثوابت في المذهب المالكي والشافعي والحنبلي والزيدي والإمامي والإباضي، والنصوص في ذلك قواطع: قال خليل بن إسحاق المالكي: " وركنهما الإحرام (3) " يعني الحج والعمرة. وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في منهجه: " أركان الحج: إحرام " (4) ... إلخ، وكذلك عدّ البهوتي الحنبلي أركانَ الحج أربعة، وذكر منها الإحرام (5) ، وعده المرتضى الزيدي ركنا وفرضا.   (1) مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي. القاموس المحيط: 4/231. (2) علي بن محمد الجرجاني. التعريفات: 51. (3) المختصر: 69. (4) المنهج بشرحه عليه: 2/488. (5) كشاف القناع عن متن الاقناع: 2/521. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 567 جاء في البحر الزخار له: " أركان الحج هي: الإحرام، والوقوف، وطواف الزيارة، وفروضه الأركان وطواف القدوم " فعده ركنا وفرضا (1) ، وعده العاملي الإمامي الركنَ الأعظم لاستمراره ومصاحبته لأكثر الأفعال، وكثرةِ أحكامه (2) ، وعده أبو زكريا الجناوتي الإباضي ركنا من أركان الحج (3) . وأما في المذهب النعماني فالإحرام كما يقول محمد علاء الدين الحصكفي في كتابه: " الدر المختار شرح تنوير الأبصار ": شرطٌ ابتداءً، وله حكمُ الركنِ انتهاءً. وعلّل ركنيته انتهاءً بأن الذي فاته الحج لا يجوز له استدامة الإحرام ليقضي به من قابل (4) . وتعقبه محشيه خاتمة المحققين في المذهب الحنفي ابن عابدين فقال: " قوله: وهو شرط ابتداء " حتى صح تقديمه على أشهر الحج وإن كُره، و " قوله: حتى لم يجز ... إلخ " تفريع على شبهه بالركن، يعني أن فائت الحج لا يجوز له استدامة الإحرام، بل عليه التحلل بعمرة والقضاء من قابل، ويتفرع عليه أيضًا من أنه لو أحرم ثم ارتد – والعياذ بالله تعالى – بطل إحرامه، وإلا بالردة لا تبطل الشرط الحقيقي كالطهارة للصلاة، وكذا اشتراط النية فيه، والشرط المحض لا يحتاج إلى نية، وكذا ما مر من عدم سقوط الفرض عن صبي بلغ ما لم يجدده (5) .   (1) البحر: 2/294. (2) الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية: 1/173. (3) كتاب الوضع: 1/206. (4) الحصكفي: 2/147. (5) رد المحتار على الدر المختار: 2/147. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 568 والذي يظهر من كلام ابن عابدين – رحمه الله – غلبةُ شبهةِ الركنية على الإحرام من الشرطية؛ لأنه عدّدَ وجوهَ الشبه في الركنية، واقتصر على وجه شبه واحد بالشرط. النقطة الثانية هل ركنية الإحرام قدر متفق عليه بين المذاهب؟ يبدو لنا الإجماع من خلال المذاهب السبعة المذكورة آنفا على ركنية الإحرام للنسك، ولو انتهاء كما هو الشأن في المذهب النعماني، أو إضافة الفرضية إلى الركنية، كما هو الحال في المذهب الزيدي، أو الركنية فقط كما هو الأمر في باقي المذاهب السبعة، مع وصفه بالركن الأعظم عند العاملي من الإمامية. فما المراد بالركن في باب الحج؟ الركن في باب الحج هو الذي لو لم يفعل بطل الحج، ولا يجبر بالدم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 569 المبحث الثالث الميقات الزماني للحج والعمرة ويشتمل على نقاط خمسة: النقطة الأولى: تعريف الميقات لغة. النقطة الثانية: تعريف الميقات الزماني شرعا. النقطة الثالثة: الميقات الزماني للعمرة. النقطة الربعة: الميقات الزماني للحج. النقطة الخامسة: الإحرام قبله. النقطة الأولى والثانية تعريف الميقات لغة وشرعا الميقات: الوقت المضروب للفعل، قال تعالى:: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] قال الزجاج: جعل لها وقت واحد للفعل في القضاء بين الأمة. وقال الفرّاء: جمعت لوقتها يوم القيامة. وقال تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] أي موقتا مقدرا. وقد يكون " وَقّت " بمعنى أوجب عليهم الإحرام في الحج والصلاة عند دخول وقتها (1) . إذن كلمة ميقات تحمل بين طياتها: التحديد الموحد للزمن، كما جاء في تفسير الزجاج للآية الكريمة {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] ، والتحديد الموحد للمقدار الممارس من الفعل في ذلك الزمن كما تنطق بذلك الآية الكريمة: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] . هذا والملاحظ أن هنالك تداخلا بين المعنى اللغوي وبين المعنى الشرعي، كما جاء في الفقرة الأخيرة: " وَقّتَ " بمعنى أوجب عليهم الإحرام في الحج والصلاة عند دخول وقتها. وهذا الأمر خطير، وواجب المختصين في شؤون المعجم العربي أن يُصَفُّوا المعجم من هذا الأمر ومن غيره، مما لا علاقة له بالمعاني اللغوية حقيقة ومجازا. ووجه خطورته أن مصادر التشريع من قرآن وسنة وآثار هي بلسان عربي مبين، فإذا أراد الفقيه أن يفسر آية أو يشرح حديثا ليستخلص فقها ولم يجد معاني لغوية محضة وقع في الخلط وسوء الفهم. وأما تعريف الميقات الزماني شرعا هو أزمنة معينة لعبادة مخصوصة.   (1) ابن منظور. لسان العرب: 7/107 – 108 بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 570 النقطة الثالثة الميقات الزماني للعمرة الميقات الزماني للعمرة: العام كله، فجميعه وقت للإحرام بها، غير أن أبا حنيفة – رحمه الله – يقول: تجوز في كل السنة، إلا يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق فمكروهة كراهة تحريم، قال محمد التمرتاشي في تنوير اللأبصار: " وكرهت يوم عرفة، وأربعة بعدها " وقال شارحه محمد الحصكفي: أي كرهت تحريما (1) ، ويزاد على الأيام خمسة كراهة فعلها في أشهر الحج لأهل مكة ومن بمعناهم، أي من المقيمين، ومن في داخل الميقات؛ لأن الغالب عليهم أن يحجوا في سنتهم فيكونوا مقيمين وهم عن التمتع ممنوعون، وإلا فلا يمنع المكي عن العمرة المفردة في أشهر الحج إذا لم يحج في تلك السنة (2) . وكره مالك – رحمه الله - لمن أحرم بالحج مفردا أن يحرم بعمرة بعد ذلك، من لدن يحرم بالحج حتى يفرغ من حجه ويحل، كما كان يكره الإحرام بالعمرة بعد الطواف بمكة أول ما دخل، أو بعد الخروج إلى منى، أو في وقوفه بعرفة، أو في أيام التشريق. لكن هل كان مالك يأمر من أحرم بالعمرة في هذه الأيام المذكورة برفضها؟ قال ابن القاسم: لا أحفظ عن مالك أنه أمر برفضها.   (1) تنوير الأبصار بشرح الدر المختار: 2/151 – 152. (2) ابن عابدين. رد المحتار على الدر المختار: 2/152. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 571 بقي: هل تلزمه؟ قال ابن القاسم: لا أحفظ عن مالك أنه قال: تلزمه، وأرى أنه قد أساء فيما صنع حين أحرم بالعمرة بعد إحرامه بالحج قبل أن يفرغ من حجه، ولا أرى العمرة تلزمه، وقد بلغني ذلك عن مالك (1) . وإذا قلنا: لا تلزمه كما يرى ابن القاسم، فهل عليه عمرة مكان هذه التي أحرم بها في أيام الحج بعد فراغه بهذه التي لا يرى ابن القاسم لزومها له؟ ليس عليه شيء فيما يرى ابن القاسم (2) ، وقوله: قد أساء فيما صنع، ينطق بالحرمة. النقطة الرابعة الميقات الزماني للحج الميقات الزماني للحج الخُلْفُ يجري فيه على أربعة أقوال (3) . 1- ميقات الحج الزماني: شوال وذو القعدة وذو الحجة كله، وبهذا القول قال ابن مسعود، وابن عمر، وعروة بن الزبير، وعطاء، والربيع، ومجاهد، والزهري. ورواه ابن المنذر عن مالك – رضي الله عنهم جميعا (4) ، وهو المشهور عن مالك.   (1) اجتهاد ابن القاسم موافق لما بلغه عن مالك رحمه الله لكنه لم يحفظه عنه. (2) سحنون. المدونة: 1/370. (3) ميقات الحج الذي فيه الخلف أعلاه هو ميقات من ليس بمكة. (4) يراجع في ذلك: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/405، والتحرير والتنوير لسماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور تغمده الله برحمته: 2/232. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 572 2- ميقات الحج الزماني: شوال وذو القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجة، وبه قال ابن عباس، وابن مسعود في رواية عنه، والسدي، والشعبي، والنخعي، وأبو حنيفة، ورواه ابن حبيب عن مالك، رضي الله عنهم جميعا (1) . 3- ميقات الحج الزماني: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة. وبه قال من الصحابة ابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن الزبير، ومن التابعين الحسن البصري، وابن سيرين، والشعبي وهو قول الشافعي والثوري وأبي ثور، رضي الله عنهم جميعًا (2) . 4- ميقات الحج الزماني: شوال وذو القعدة وثلاثة عشر يوما من ذي الحجة، وهو قول لمالك – رحمه الله – ذكره ابن العربي ولم ينسبه كما ذكره ابن الحاجب في جامع الأمهات ولم يعزه أيضًا (3) . واستدل أصحاب القول الأول بأن الله تبارك وتعالى ذكر أشهر الحج بصيغة الجمع، وأقل الجمع المطلق ثلاثة، هذا أولاً، وثانيا: أن كل شهر كان أوله من أشهر الحج كان آخره كذلك (4) .   (1) يراجع في ذلك المصدران السابقان، كل في جزئه وصفحته. (2) الخازن: لباب التأويل في معاني التنزيل: 1/126. (3) يراجع في ذلك: أحكام القرآن لابن العربي: 1/131، والتحرير والتنوير للأستاذ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله: 2/232. (4) الخازن. لباب التأويل في معاني التنزيل: 1/126. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 573 واستدل أصحاب القول الثاني بأن طواف الإفاضة، وهو الطواف الركن يفعل في اليوم العاشر (1) . واستدل أصحاب القول الثالث بصحة الوقوف بعرفة وهو الحج كله، وأنه يفوت بطلوع الفجر الثاني من يوم النحر، والعبادة لا تفوت مع بقاء وقتها، فدل ذلك على أن يوم النحر ليس من أشهر الحج (2) . وأما أصحاب القول الرابع والأخير فقد احتجوا بأن الرمي من أفعال الحج وشعائره وهو يمارس في أيام التشريق (3) . وثمرة الخلاف بين أئمة الفقه الإسلامي من لدن عصر الصحابة والتابعين إلى عصر نشأة المذاهب ما أشار إليه ابن رشد الحفيد بقوله: تأخر طواف الإفاضة إلى آخر الشهر، يقبل على القول الأول ولا يقبل على الأقوال الثلاثة الأخرى (4) . ويزيد ابن العربي المسألة بيانا فيقول: فائدة من جعله ذا الحجة كله، أنه إذا أخر طواف الإفاضة إلى آخره لم يكن عليه دم؛ لأنه جاء به في أيام الحج (5) . هذا وما قرر في الميقات الزمني للحج على اختلاف مناحي الاجتهاد فيه إنما هو في غير من بمكة المشرفة.   (1) ابن العربي. أحكام القرآن: 1/132. (2) الخازن. لباب التأويل في معاني التنزيل: 1/126. (3) ابن العربي. المصدر السابق والجزء والصفحة. (4) ابن رشد. بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 1/315. (5) ابن العربي. المصدر السابق والجزء والصفحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 574 وأما أهل مكة – زادها الله شرفا – ومن بها من غيرهم، إذا كانوا بها فإهلالهم بالحج يكون عند رؤية هلال ذي الحجة، جاء في الموطأ عن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – أنه قال: " يا أهل مكة، ما شأن الناس يأتون شعثا وأنتم مدهنون، أهلوا إذا رأيتم الهلال ". وجاء فيها أيضًا إن عبد الله بن الزبير أقام بمكة تسع سنين وهو يهل بالحج لهلال ذي الحجة، وعروة بن الزبير معه يفعل ذلك (1) . وإهلال أهل مكة ومن بها من غيرهم بالحج لرؤية هلال ذي الحجة لم يوافق عليه عبد الله بن عمر أباه، بل كان يهل بالحج يوم التروية. وعلل الباجي فعل ابن عمر بعلتين: (أ) أنه لم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم يُهل حتى تنبعث به راحلته. (ب) أن من دأب المحرم عدم الإقامة بموضع ينشئ فيه إحرامه، وإنما يحرم ويلبي عند أخذه في التوجه إليه حيث يقتضي إحرامه التوجه إليه، فكره أن يحرم بمكة، ثم يقيم بها بعد إحرامه ثمانية أيام (2) . وبكل من القولين قال جماعة من السلف والأئمة، وهما روايتان عن مالك رحمه الله، بقول عمر جاءت رواية المدونة، وبقول عبد الله بن عمر جاءت الرواية عن مالك أيضًا (3) ، والخلاف في الأفضل، والكل جائز بالإجماع، جاء في المدونة: قلت (سحنون) لابن القاسم: أهل مكة في التلبية كغيرهم من الناس في قول مالك؟ قال: نعم. قال: وقال مالك: أحب إلي أن يحرم أهل مكة إذا أهل هلال ذي الحجة (4) .   (1) مالك. الموطأ. كتاب الحج، إهلال أهل مكة ومن بها من غيرهم: 2/258. (2) المنتقى: 2/219. (3) الزرقاني. شرحه على الموطأ: 2/258. (4) سحنون. المدونة: 1/369. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 575 النقطة الخامسة الإحرام قبل الميقات الزماني الإحرام بالحج قبل أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة جرى فيه الخلف بين الفقهاء على أقوال: 1- ينعقد إحرامه إحرام عمرة، وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والشافعي. 2- يكره إحرامه وينعقد ويصح، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد، رضوان الله عليهم جميعًا. 3- لا يصح إحرامه، ذكره ابن رشد في بداية المجتهد ولم ينسبه (1) . واستدل أصحاب القول الأول بأن من التزم عبادة وقت نظيرتها انقلبت إلى النظير، مثل أن يصوم نذرا في رمضان هذا أولا، وثانيا: الله جل جلاله جعل هذه الأشهر الثلاثة وقتا للإحرام بالحج وقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أي الحج حج أشهر معلومات فلو انعقد في غيرها لم يكن لهذا التخصيص وجه ولا فائدة، وثالثًا: الحج كالصلاة، وهذه لا تقع في غير وقتها فكذلك الحج. واستدل أصحاب القول الثاني بعموم قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وقالوا: متى أحرم انعقد إحرامه؛ لأنه مأمور بالإتمام، وربما شبهوا الحج في هذا المعنى بالعمرة، وشبهوا ميقات الحج الزماني بميقات العمرة، وتأولوا الآية: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] كالتالي: أشهر الحج أشهر معلومات، هذا أولاً، وثانيًا: احتجوا بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] وقالوا: المولى تبارك وتعالى جعل الأهلة كلها ظرفا للحج، فصح أن يحرم في جميعها.   (1) البداية: 1/315. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 576 وأما أصحاب القول الثالث فلم يذكر ابن رشد لهم دليلاً فيما يبدو لي على حدة، ويصلح لهم الثالث من أدلة أصحاب القول الأول على ما يظهر من كلام ابن رشد في بدايته (1) . والقول الأول والذي به يقول الإمام الشافعي يبدو أنه أصح الأقوال الثلاثة؛ وذلك لأن ما تمسك به أصحاب القول الثاني لم يثبت ثبوت أدلة الشافعي والتي سقنا البعض منها. وبيان ذلك أن أصحاب القول الثاني تمسكوا بعموم قوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، وليس بالتمسك القوي؛ لاحتمال أن الأمر: " أتموا " يراد به تحصيل الفعل من أول الأمر، وذلك من سنن العرب في كلامهم، كقولهم: " وسع فم الركية " أي أوجدها كذلك من أول الأمر، وكقولك: أسرع السير فادع لها فلانا، تخاطب به من لم يشرع في السير بعد، وإنما تأمره بإحداث سير سريع من بادئ الأمر، وكقول القرآن جريا على هذا الأسلوب: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] ، وهو ضرب من ضروب التعبير ليس بكناية ولا مجاز (2) فمدلول الآية: أوجدوهما من أول الأمر تامين. وكذلك رُدَّ على أصحاب القول الثاني ما تمسكوا به من الاحتجاج بأية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] ، وبأن المراد منها جعل الأهلة كلها ظرفا لذلك، فصح أن يحرم في جميعها بالحج، وقالوا لهم: إن هذه الآية عامة، وآية {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] خاصة، والخاص مقدم على العام، وقيل أيضًا: إن آية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] مجملة، والثانية وهي آية: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] مفسرة ومبينة لها، وهو بيان مؤخر عن المبين، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة واقع غير مرة (3) .   (1) ابن رشد: 1/315. (2) الأستاذ الإمام محمد طاهر ابن عاشور رحمه الله. التحرير والتنوير: 2/217 في غير السياق الذي استثمرنا كلامه فيه. (3) الخازن. لباب التأويل في معاني التنزيل: 1/126. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 577 المبحث الرابع الميقات المكاني للحج والعمرة ويشتمل على تسع نقاط: النقطة الأولى: تعريف الميقات المكاني شرعًا. النقطة الثانية: الميقات المكاني لمن بالحل. النقطة الثالثة: الميقات المكاني لمن بمكة المكرمة. النقطة الرابعة: الميقات المكاني للأفقيين. النقطة الخامسة: الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وقت المواقيت. النقطة السادسة: المواقيت لأهلها ولمن مر بها من غير أهلها. النقطة السابعة: جواز الإحرام قبل المواقيت. النقطة الثامنة: الإحرام بعدها بين الضيق وبين السعة. النقطة التاسعة: الإحرام لمن لم يمر بالمواقيت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 578 النقطة الأولى تعريف الميقات المكاني شرعا لم أعرف الميقات المكاني لغة للمجانسة الموجودة بينه وبين التعريف اللغوي للميقات الزماني. وأما تعريفه شرعا فحين طلبته في كتب الفقه لم أظفر به في صورته الجامعة المانعة، وإنما وجدت تعريفات لا تزيد على ذكر خاصة من خواص الميقات المكاني تقربه إلى الأذهان، كقول سليمان الجمل الشافعي: "مكان العبادة " (1) ، وكقول البهوتي الحنبلي: " موضع معين لعبادة مخصوصة " (2) فحاولت تعريفه في صورته المطردة المنعكسة فقلت: الميقات المكاني: الموضع المعين من لدن صاحب الشرع، والذي لا يجوز تأخير التلبس بالإحرام عنه لمريد النسك اتفاقا، ولغيره عند الجمهور، لغير ضرورة بهما، ولا حرج. النقطة الثانية الميقات المكاني لمن بالحل إن الميقات المكاني يختلف باختلاف الحجاج والعمار فإنهم أنماط ثلاثة: 1- حليون. 2- مكيون، أو حرميون بعبارة أشمل.   (1) حاشية على شرح المنهج لزكريا الأنصاري: 2/395. (2) كشاف القناع عن متن الإقناع: 2/399. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 579 3- آفاقيون (1) والحليون: هم الذين يقطنون بعد المواقيت، ودون الحرم. والمذهب النعماني في إحرام الحليين لا يفرق بين من سكن عند الميقات وبين من سكن وراءه في المنصوص من الرواية، كما صرح بذلك الكمال بن الهمام في الفتح، أو ابن نجيم في البحر وغيرهما من فقهاء الحنفية. والحليون هؤلاء لا يخلو حالهم من أمرين: (أ) أن يدخلوا مكة المشرفة بنية النسك. (ب) أن يدخلوا مكة المشرفة بغير نية ذلك، ولحاجة.   (1) نسبة إلى الجمع آفَاق، وهي خطأ مشهور بين الفقهاء، والصواب أُفُقي وأُفُقيون بضمتين أو أَفَقي وأَفَقيون بفتحتين على غير قياس تخفيفا، قال الفيومي في مصباحه: والنسبة إلى آفاق أُفُقي ردا على الواحد وربما قيل: أَفَقي بفتحتين تخفيفا على غير قياس حكاهما ابن السكيت وغيره. ولا ينسب إلى الآفاق على لفظها: 1/12. وقد أشار ابن مالك إلى هذه القاعدة في الخلاصة (الرجز) : والواحد اذكر ناصبا للجمع إن لم يشابه واحد في الوضع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 580 وفي الصورة الأولى يجب عليهم الإحرام قبل دخول الحرم بميقاتهم الحل كل الحل إلى الحرم. ومما يجب التيقظ إليه – كما قال القطبي في منسكه -: ما يفعله أهل جدة (1) ، وحدة (2) ، وأهل الأودية الغربية من مكة المشرفة، فإنهم غالبا ما يقدمون مكة – زادها الله شرفا – سادس أو سابع ذي الحجة بلا إحرام، ويحرمون للحج من مكة، فعليهم دم لمجاوزة الميقات بلا إحرام، لكن بعد توجههم إلى عرفة ينبغي سقوطه عنهم بوصولهم إلى أول الحل ملبين، إلا أن يقال: إن هذا لا يعد رجوعا إلى الميقات لعدم قصدهم العودة لجبر ما لزمهم بالمجاوزة، بل قصدوا التوجه إلى عرفة. وقال القاضي محمد عيد في شرح نسكه: والظاهر السقوط؛ لأن الرجوع إلى الميقات مع مصاحبة التلبية له، مسقط للهدي الذي ترتب على مجاوزة الميقات بغير إحرام، ولو لم يكن هنالك قصد لحصول المقصود وهو التعظيم (3) . وفي الصورة الثانية يجوز له دخولها بغير إحرام لنفي الحرج كحطابي مكة إذا دخلوا للحل ولم يتجاوزوا المواقيت الموقتة للأفقيين (4) .   (1) جُدّة: بضم الجيم وتشديد الدال المهملة: بلدة على ساحل البحر بينها وبين مكة مرحلتان. (النووي. تهذيب الأسماء واللغات: 2/202) . (2) حدة: بالفتح: موضع بين مكة وجدة، وكانت تسمى حداء (الفيروز آبادي. القاموس المحيط: 1/297) . (3) ابن عابدين. رد المحتار: 2/155. (4) محمد علاء الدين الحصكفي. الدر المختار: 2/155. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 581 بقي لابد من ملاحظة، وهي أن من وجد بين ميقاتين كمن كان منزله بين ذي الحليفة والجحفة، فإنه بالنظر إلى الجحفة خارج الميقات ولا يحل له دخول الحرم إلا بإحرام، وبالنظر إلى ذي الحليفة داخل الميقات (1) فيجوز له ذلك. وأما في مذهب مالك فالحليون لا يخلو حالهم من أمور أربعة هي: 1- حلي منزله عند الميقات أو داخله. 2- حلي بين ميقاتين كأهل بدر بين ذي الحليفة وبين الجحفة. 3- حلي بين الميقات وبين مكة كأهل جدة وحدة. 4- حلي سافر إلى ما قبل المواقيت. وفي الصورة الأولى مكان إحرامه منزله، فإن كان منزله قريبا من الميقات ندب له الذهاب إليه، والإحرام منه. وفي الصورة الثانية مكان إحرامه داره أيضًا. وفي الصورة الثالثة مكان إحرامهم مساكنهم ويخيرون بين بيوتهم وبين مساجدهم. وفي الصورة الرابعة يخير بين التأخير إلى منزله، وبين الإحرام من الميقات، وإحرامه من الميقات أفضل.   (1) ابن عابدين، المصدر السابق والصفحة والجزء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 582 وفي الصور الأربعة المذكورة إن تجاوزوا المنازل بغير إحرام فعليهم الهدي، كمن تجاوز من الآفاقيين ميقاته بدون إحرام (1) . وأما على مذهب الشافعي فالحليون مكان إحرامهم منازلهم إن أرادوا النسك، قال سليمان الجمل: وهذا مقيد بما إذا لم يكن بينه وبين مكة ميقات آخر كأهل بدر والصفراء، فإنهم بعد ذي الحليفة وقبل الجحفة، وميقاتهم الثاني وهو الجحفة (2) . وأما على مذهب الإمام أحمد بن حنبل فالأمر يختلف عن مذهب الإمام الشافعي، لولا ذلك القيد الذي ذكره سليمان الجمل، قال البهوتي: ومن منزله بين الميقات ومكة كأهل خليص وعسفان، ميقاته من موضعه. واحتج لذلك بحديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي وَقّتَ لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، فهن لهن ولمن أتى عليهم من غير أهلن ممن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمن أهله، حتى أهل مكة يهلون (3) منها (4) .   (1) يراجع في ذلك الشرح الصغير لأحمد الدردير: 1/266؛ وأسهل المدارك: 1/452- 453 لأبي بكر بن حسن الكشناوي (2) حاشية على شرح المنهج: 2/404. (3) كشاف القناع عن متن الإقناع: 2/401. (4) البخاري الجامع الصحيح كتاب الحج باب مهل من كان دون المواقيت: 3/388 مع فتح الباري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 583 النقطة الثانية الميقات المكاني لمن بمكة المشرفة: قبل الكلام عن الميقات المكاني لمن بمكة المشرفة حدا بي أن أُمهد بتمهيد يتضمن المسألتين التاليتين: 1- أن مكة حرم، وما أحاط بها قريبا حرمٌ أيضًا، والحرم قد ضرب على حدوده بالمنار القديمة التي أظهر خليل الله إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم مشاعرها. ومن لدن عهد إبراهيم عليه السلام وحدود الحرم متعارفة، وقريش سكان الحرم المبارك يعلمون أن ما دون المنار إلى مكة – زادها الله شرفا – من الحرم، وما وراء المنار ليس من الحرم (1) قال ابن عابدين: إن على الحرم علامات منصوبة في جميع جوانبه نصبها إبراهيم الخليل عليه السلام وكان جبريل يريه مواضعها، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتجديدها، ثم عمر، ثم عثمان، ثم معاوية (2) وقال مالك في المدونة: وسأل عمر في أعلام الحرم واتبع رعاةً قدماء مشيخة من مكة كانوا يرعون في الجاهلية، حتى تتبع أنصاب الحرم مجددة، فهو الذي حد أنصاب الحرم ونصبه (3) .   (1) ابن منظور لسان العرب: 49/122. (2) رد المحتار على الدر المختار: 2/156. (3) المدونة: 1/352. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 584 وحدود الحرم على مقتضى ضبط خليل بن إسحاق المالكي في مختصره هي: 1- من جهة طيبة الغراء أربعة أميال أو خمسة للتنعيم. 2- من جهة العراق ثمانية أميال للمقطع. 3- من جهة عرفة تسعة أميال. 4- من جهة جدة عشر أميال لآخر الحديبية. وكما ضبطها – رضي الله عنه – بالمسح، ضبطها بالعلامة وهي وقوف سيول الحل كلها دونه (1) ، ولله در شمس الدين بن حزم إذا يقول (البسيط) : إِنْ رُمْتَ لِلْحَرَمِ الْمَكِّيِّ مَعْرِفَةً فَاسْمَعْ وَكُنْ وَاعِيًا قَوْلِي وَمَا أَصِفُ وَاعْلَمْ بَأَنْ سُيُولَ الْحِلَّ قَاطِبَةً إِذَا جَرَتْ نَحْوَهُ فَدُونَهُ تَقِفُ (2) . والضبط بالعلامة أغلبي. قال عبد الباقي الزرقاني: فلا ينافي قول الأزرقي: يدخله من جهة التنعيم، ولا قول الفاكهاني من جهات أخر (3) .   (1) المختصر: 78. (2) أبو عبد الله سيدي محمد الطالب بن حمدون بن الحاج حاشيته على صغير ميارة: 2/98. (3) شرحه على مختصر خليل: 2/310. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 585 1- أن من يسكنون في الحرم، وليسوا من أهل مكة كأهل منى ومزدلفة حكمهم حكم أهل مكة، ومن أقام بها إقامة تقطع السفر أو لا. وبعد هذا التمهيد نقول: إن أهل مكة ومن حكمهم لا يخلو حالهم من أمرين: (أ) أن يكونوا بالحج محرمين. (ب) أن يكونوا بالعمرة محرمين. فإن كانوا محرمين بالحج ففي المذهب النعماني الحرم كله مكان للإحرام من أي مكان شاؤوا أحرموا، من الأبطح أو من غيره، والمسجد أفضل؛ لأن الإحرام عبادة، والعبادة في المسجد أولى كالصلاة. ولو خالف الحرمي فأحرم من الحل لزمه دم، إلا إذا عاد إلى الحرم ملبيا وأحرم منه. وأما إن كانوا محرمين بالعمرة ومهلهم الحل ليقع الجمع بين الحل والحرم، كما وقع بالحج عند الوقوف بعرفة، وعرفة في الحل، وأي مكان في الحل وقع الإحرام منه كفى، والتنعيم أفضل، وهو أقرب موضع من الحل، ويعرف بمسجد عائشة رضي الله عنها وهو في المذهب الحنفي الإحرام منه أفضل من الإحرام من الجعرانة؛ لأمره عليه الصلاة والسلام عبدَ الرحمن بأن يذهب بأخته أم المؤمنين عائشة إلى التنعيم لتحرم منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 586 ولا يرد على الأحناف إحرامه صلوات الله وسلامه عليه من الجعرانة؛ لأن هذه سنة فعلية، وتلك سنة قولية، والسنة القولية مقدمة على الفعلية في الاستدلال بما عندهم، خلافا للشافعي رضي الله عنه (1) . وأما على مذهب مالك رحمه الله فالمحرمون بالحج لا يخلو حال أحوالهم من أمرين: (أ) الإفراد. (ب) القِران. فإن أحرموا بالحج مفردا أحرموا من أي مكان في الحرم وندب لهم الإحرام بالمسجد الحرام في مواضع صلاتهم وهم جلوس، وليس عليهم القيام من مصلاهم، ولا أن يتقدموا جهة البيت، ثم يلبون بعد ذلك، بل يشرعون في التلبية من مواضع صلاتهم. هذا وندب لأفقيٍّ الخروج إلى ميقاته الموقّت له إذا توفر شرطان: 1- أن يكون في الوقت سعة بحيث يتأتى الذهاب إلى الميقات، والرجوع منع، وأدراك الوقوف بعرفة هنيهة قبل طلوع الفجر. 2- أن يتحقق من الأمن في الطريق ذهابا وإيابا.   (1) ابن عابدين رد المحتار: 2/155. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 587 قال الصاوي: ومع عدم الأمن لا يندب له، بل ربما كان رجوعه حراما (1) . وأما إن أحرموا قارنين بين الحج وبين العمرة، فمكان إحرامه الحل على المشهور من المذهب خلافا لعبد الملك؛ وذلك لأن كل إحرام لابد فيه من الجمع بين الحرم والحل، فلو أحرم بالقران من مكة لم يجمع في إحرامه بين الحل والحرم بالنسبة إلى العمرة؛ لأن خروجه إلى عرفة – وهو حل- إنما هو للحج فقط، بخلاف إحرامه بالحج من مكة فإنه يخرج إلى عرفة وهو في الحل، فيقع الجمع بين الحل والحرم الذي هو شرط في كل إحرام. ولا يطلب في القران مكان معين من الحل. هذا هو حكم المحرمين إفرادا وقرانا في مذهب مالك رحمه الله. وأما المحرمون بالعمرة في مذهبه فمكان إحرامه الحل أيضًا، جاء في الموطأ: وسئل مالك عن رجل من أهل مكة، هل يهل من جوف الكعبة بعمرة؟ قال: بل يخرج إلى الحل (2) ، والعلة ما سلف من الجمع في كل إحرام بين الحرم وبين الحل.   (1) بلغة السالك: 1/266. (2) الموطأ مع شرح الزرقاني: 2/259. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 588 ويندب للمعتمرين الإحرام من الجعرانة، ففي الموطأ عن مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل من الجعرانة بعمرة (1) . والمذهب الشافعي الميقات المكاني للحج فيه لمن بمكة نفس مكة، مكيا كان أو أفقيا، والميقات المكاني للعمرة الحل ولو بأقل من خطوة ليقع الجمع بين الحل والحرم، كما في الحج، فإن فيه الجمع بين الحرم والحل بعرفة. وأفضل بقاع الحل الجعرانة، ثم التنعيم، ثم الحديبية (2) . وأما المذهب الحنبلي فالإحرام بالحج لمن بمكة نفس مكة، ولو كان متمتعا لقول جابر: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح)) (3) وذكر البهوتي في كشاف القناع من متن الإقناع مازجا كلامه بكلام صاحب المتن، ونصه في رواية حرب: من المسجد، وفي الإيضاح والمبهج: من تحت الميزاب ويسمى الحطيم، ويجوز إحرامه من سائر الحرم ومن الحل كالعمرة. وأما الإحرام بالعمرة فمن الحل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن أن يعمر عائشة من التنعيم؛ ولأن أفعال العمرة كلها في الحرم، فيلزم الحل للقاعدة القائلة: أن كل إحرام لابد فيه من الجمع بين الحرم والحل بخلاف الحج، فإنه يخرج إلى عرفة وهو من الحل، فيحصل الجمع بين الحل وبين الحرم (4) .   (1) الموطأ مع شرح الزرقاني: 2/241. (2) إبراهيم البيجورى حاشيته على شرح ابن قاسم الغزى على متن أبي شجاع: 11/387- 388. (3) ابن تيمية الجد، منتقى الأخبار مع نيل الأوطار، كتاب المناسك، باب النهي عن التحلل بعد السعي إلا للمتمتع إذا لم يسق هديا وبيان متى يوجه المتمع إلى منى ومتى يحرم بالحج: 5/129. (4) البهوتي: 2/401. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 589 النقطة الرابعة الميقات المكاني للأفقيين تعدد الميقات المكاني للأفقيين بتعدد الأصقاع المحيطة بالحرم، وعدد المواقيت المكانية للأفقيين خمسة: 1- ذو الحليفة، وهي ميقات أهل المدينة – زادها الله شرفا – تبعد على المدينة بستة أميال، قال العلامة ابن عابدين: وقيل: سبعة، وقيل أربعة، قال العلامة القطبي في منسكه: والمحرر من ذلك ما قاله السيد السنهوري في تاريخه: قد اختبرت ذلك، فكان من عتبة باب المسجد النبوي الشريف المعروف بباب السلام إلى عتبة مسجد الشجرة بذي الحليفة تسعة عشر ألف ذراع ونصف ذراع، بذراع اليد. وذلك دون خمسة أميال، فإن الميل عندنا (في عصر ابن عابدين) أربعة آلاف ذراع بذراع الحديد المستعمل الآن، والله أعلم. وتبعد على مكة بعشر مراحل أو تسع (1) . وهذا الخلاف في التحديد بالمسح يثير إشكالا خطيرًا في بادئ الأمر؛ لأن من بالمدينة لا يخلو حاله أما أن يحرم قبل الميقات أو يتجاوز الميقات غير محرم، لكن العلامة ابن تيمية يُرجع ذلك إلى تعدد الطرق واختلافها قُربا وبعدًا من مكة المكرمة (2) . وأنا أقول: وهو الشأن بالنسبة إلى المدينة المنورة (3) . وهي أبعد المواقيت وتقع شمال مكة، وفي الجنوب الغربي للمدينة، وحكمة ذلك أن يعظم أجور أهلها.   (1) رد المحتار على الدر المختار: 2/152. (2) الفتاوى: 26/99. (3) وقد ضبط الشيخ أحمد الشرباصى بُعد ذي الحليفة على المدينة بالكيلو متر، فقال: تبعد بنحو 18 كيلو متر (يسألونك في الدين والحياة: 1/174 – دار الجيل بيروت) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 590 ولهذا الميقات خصوصية على غيره من المواقيت؛ لأن المحرم منه يحرم من حرم المدينة، ويحل في حرم مكة، فله شرف الانتهاء والابتداء أيضًا هو ميقاته صلى الله عليه وسلم (1) ، ومن أجل ذلك إن مر من أهل الشام وأهل مصر ومن وراءهم بذى الحليفة، فأحب أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة، فذلك واسع، ولكن الأفضل له أن يهل من ميقات النبي عليه السلام إذا مر به (2) ولو كان المار حائضا أو نفساء تَرجوانِ رفعَ الدم عند الوصول إلى الجحفة، فالأفضل أن تحرما منه، ولو من غير صلاة للإحرام لأن ركوعها للإحرام لا يفى بفضل تقديم إحرامها من الميقات الباقي الشريف (3) . وما ذكرته هو المقرر في مذهب مالك رحمه الله وبه قال الحنفية وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية، ومن هنا يتبين خلاف الصواب فيما حكاه الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم فقال شارحا قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولمن أتى عليهن)) معناه أن الشامى إذا مر بميقات المدينة في ذهابه لزمه أن يحرم من ميقات المدينة، ولا يجوز له ميقات الشام الذي هو الجحفة وكذا الباقي من المواقيت، وهذا لا خلاف فيه (4) .   (1) أحمد بن غنيم النفراوي: الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: 2/62. (2) سحنون. المدونة: 1/377. (3) الحطاب. مواهب الجليل: 3/37. (4) النووي: 5/201 بهامش إرشاد الساري، وكذلك نفي الخلاف في شرح المهذب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 591 وقد حاول الحافظ ابن حجر العسقلاني تصويب ما حكاه الإمام النووي من الاتفاق بأنه أراد اتفاق الشافعية (1) ولكن هذه المحاولة لا تثبت فيما يبدو لوجود ابن المنذر مخالفا للشافعية وهو من أجل فقهائهم. هذا ومكان الإحرام من ذي الحليفة المندوب إليه، المرغب فيه من مسجد الشجرة؛ لما جاء في الموطأ عن سالم بن عبد الله: أنه سمع أباه يقول: " بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد. يعني مسجد ذي الحليفة (2) . 2- الجحفة: وهي قرية كبيرة كانت عامرة، وقد زالت معالمها واندرست، تقع في الشمال الغربي لمكة المكرمة على بعد سبعة وثمانين ومائة كيلو متر منها على ساحل البحر الأحمر الشرقى. وهي ميقات أهل الشام، كما في حديث الموطأ الآتى فيما بعد، وزاد النسائي من حديث عائشة: ومصر، وزاد الشافعي في روايته: والمغرب (3) وأهلها يحرمون الآن من رابغ احتياطا، وهي شمال الجحفة، فالمحرم منها كالمحرم من الجحفة على ما اختاره المنوفي، واقتصر عليه ابن فرحون في مناسكه.   (1) فتح الباري: 3/386. (2) مالك. الموطأ. كتاب المناسك، العمل في الإهلال: 2/244. (3) محمد الزرقاني. شرحه على الموطأ: 2/239. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 592 وحجة هذا الاختيار إجماع الناس على الإحرام منه. وذهب عبد الله بن الحاج صاحب المدخل إلى القول بأنها قبل الميقات فيكره الإحرام منها، إذ هي تبعد على مكة بأربع ومائتى كيلو متر، وأشار خليل في مختصره إلى تردد شيخيه فقال: " وفي رابغ تردد " (1) ، (2) . 3- قرن المنازل (3) : وهو ميقات أهل نجد (4) ، وهو جبل شرقي مكة يشرف على عرفات، بينه وبين مكة مرحلتان أي أربع وتسعون كيلو متر، وهو أقرب المواقيت إليها.   (1) أبو عبد الله محمد الطالب بن حمدون بن الحاج. حاشيته على صغير ميارة: 2/76. (2) خليل. المختصر: 69. (3) ضبطه الجوهرى في صحاحه بفتح القاف والراء، قال: والقرن موضع، وهو ميقات أهل نجد، ومنه أويس القرني: 6/2181. وضبطه النووي بفتح القاف وإسكان الراء وقال: " لا خلاف في هذا بين رواه الحديث، وأهل اللغة، والفقهاء، وأصحاب الأخبار، وغيرهم، وغلطوا الجوهرى صاحب الصحاح في قوله: أنه يفتح الراء وفي قوله: أن أويس القرني رضي الله عنه منسوب إليه، فإن الصواب المشهور لكل أحد أن هذا ساكن الراء، وأن أويسا رضي الله تعالى عنه منسوب إلى فوق بفتح القاف بطن من قبيلة مراد المعروفة. تهذيب الأسماء واللغات: 2/100. (4) نجد: اسم لعشرة مواضع، والمراد هنا منها أعلى تهامة واليمن وأسفلها الشام والعراق (محمد الزرقاني. شرحه على الموطأ: 2/239. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 593 4- يلملم (1) : جبل تهامة، على مرحلتين من مكة – شرفها الله تعالى – وهو ميقات أهل اليمن، وضبط المسافة بينه وبين مكة بالكيلو متر أربع وتسعون كيلو متر. 5- ذات عرق (2) : وهي الحد بين أهل نجد وتهامة، ومنها يحرم أهل العراق، على مرحلتين من مكة المكرمة أي ما يساوي أربعًا وتسعين كيلو متر، وتقع في الشمال الشرقي لمكة المكرمة. 6- العقيق (3) : وهو الميقات المستحب عند بعض الأئمة من أهل السنة لأهل العراق ومن يمر عليه من غيرهم، والمتعين في حق من ذكر عند الإمامية، يقول أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسى: " فوقت لأهل العراق ومن حج على طريقهم العقيق، وله ثلاثة أوقات: أولها المسلح (4) وهو أفضلها، ولا ينبغي أن يؤخر الإنسان الإحرام منه إلا عند الضرورة، وأوسطه غمرة (5) ، وآخره ذات عرق، ولا يجعل إحرامه من ذات عرق إلا عند الضرورة والتقية، ولا يتجاوز ذات عرق إلا محرما على حال " (6) . وهو واد يجري ماؤه من غوري تهامة، وأوسطه بحذاء ذات عرق، ويبعد عن مكة بمائة كيلو متر على التقريب.   (1) يلملم: بفتح الياء واللامين وإسكان الميم بينهما، ويقال: الملم قال الفيومي: ولا يكون من لفظ لملمت لأن ذوات الأربعة لا تلحقها الزيادة من أولها إلا في الأسماء الجارية على أفعالها مثل دحرج فهو مدحرج. المصباح: 1/14. (2) ذات عرق. بكسر العين وإسكان الراء النووى. تهذيب الأسماء واللغات: 1/114. (3) العقيق: الوادى الذي شقه السيل قديما وهو في بلاد العرب عدة مواضع، منها العقيق الذي يجري ماؤه من غوري تهامة. وأوسطه بحذاء ذات عرق الفيومى. المصباح المنير: 2/44. (4) المسلح: منزل على أربع منازل من مكة (ابن منظور. لسان العرب: 10/488. وفي تحرير الوسيلة: المسلخ بالخاء المعجمة ولعله تحريف مطبعي. (5) غمرة: منهل بطريق مكة فصل بين تهامة ونجد. الفيروز آبادى. القاموس المحيط: 2/108 (6) النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: 210. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 594 النقطة الخامسة الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وقتها: المواقيت السالفة الذكر في النقطة الرابعة من نقاط المبحث الرابع أجمع الفقهاء على أن الأربعة الأول منها وَقّتَها رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أنه قال: ((أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة أن يهلوا من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن)) (1) . قال عبد الله بن عمر: أما هؤلاء الثلاثة فسمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأُخْبرتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ويهل أهل اليمن من يلملم)) ، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنال، ولأهل اليمن يلملم، وهن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة)) (2) .   (1) الموطأ. كتاب الحج. مواقيت الأهلال: 2/239 – 240 مع شرح الزرقاني، وكان الأولى نقل الحديث الذي قبله، لأنه سلسلة الذهب. (2) البخاري. الجامع الصحيح مع الفتح. كتاب الحج، باب مهل مكة للحج والعمرة: 3/384. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 595 واختلف الفقهاء في ميقات أهل العراق من وجهين: 1- ما هو؟ 2- من وَقَّتَه؟ أما ما هو؟ فقال جمهور فقهاء الأمصار: ميقاتهم ذات عرق وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأبي ثور وغيرهم. لكن قال الشافعي: إن أهلوا من العقيق كان أحبُّ إلينا، وبقوله قال ابن عبد العزيز من المالكية، والثوري (1) . وعند الإمامية الميقات الموقّت من لدنه صلى الله عليه وسلم لأهل العراق ولمن مر بهم، والذي لا يجوز الإحرام قبله ولا ينعقد (2) . وأما من وقته؟ فقالت طائفة: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبه قال مالك في المدونة، ونصها: وَقّتَ عمرُ بن الخطاب ذاتَ عرق لأهل العراق (3) ، وكذلك قال الشافعي: لم يثبت عن النبي أنه حد ذات عرق، وإنما أجمع عليه الناس (4) . وهذا يدل على أن ميقات ذات عرق ليس منصوصا، وبه قطع الغزالي والرافعي في شرح المسند والنووي في شرح مسلم. وصحح الحنفية والحنابلة، وجمهور الشافعية، والرافعي في الشرح الصغير، والنووي في شرح المهذب أنه منصوص (5) . واحتج أصحاب القول الأول بما جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((لما فُتح هذان المصران أتوا عمر، فقالوا: يا أمير المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّ لأهل نجد قرنا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنا شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم. فحد لهم ذات عرق)) (6) .   (1) ابن رشد. بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 1/313. (2) أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي. النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: 210. (3) سُحنون. المدونة: 1/377. (4) ابن حجر العسقلاني. فتح الباري: 3/389. (5) المرجع السابق: 3/389- 390. (6) البخاري. الجامع الصحيح مع الفتح: كتاب الحج، باب ذات عرق لأهل العراق: 3/389. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 596 واحتج أصحاب القول الثاني بما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَقّتَ لأهل العراق ذات عرق (1) . وخلاصة القول أن التنصيص على ذات عرق ميقاتا للعراق ومن أتى عليها من غير أهل العراق، ليس في القوة كغيره، فإن ثبت فليس ببدع أن يجتهد الفاروق مطابقا له، فإن كان موفقا للصواب، فهو مجتهد في الحالتين: حالة ثبوته، وحالة عدم ثبوته بطريق الأولى. النقطة السادسة المواقيت لأهلها ولمن مر بها من غير أهلها من مر بغير ميقاته، هل يجب عليه الإحرام منه، وإن كان سيمر بميقاته أو لا؟ اختلف الفقهاء في ذلك. 1- قال فقهاء السادة الأحناف: لو مرّ بميقاتين، فإحرامه من الأبعد أفضل إذا أمن الوقوع في محظورات الإحرام، وجاء في كتاب الكافي للحاكم الشهيد الذي هو جمع كلام محمد بن الحسن الشيباني في كتب ظاهر الرواية (2) : " ومن جاوز وقته غير محرم، ثم أتى وقتا آخر فأحرم منه أجزأه، ولو كان أحرم من وقته كان أحبَّ إليّ " (3) .   (1) أبو داود: السنن: كتاب المناسك: باب في المواقيت: 2/243. (2) كتب ظاهر الرواية: مصطلح حنبلي يقصد به الكتب التي ألفها محمد بن الحسن الشيباني والتي بقيت مستندًا في مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وهي الجامع الصغير والكبير، والسير الصغير والكبير، والمبسوط، والزيادات. (3) انظر رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين: 2/153 دون التقيد بوجهة نظره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 597 ويظهر مما نقله الحاكم الشهيد في كافيه عن محمد أن الحكم يعم كل المواقيت إذا مر بميقاتين منها كان الثاني أمامه أم لا. 2- استثنى المالكية من عموم قوله صلى الله عليه وسلم ((هن لهن، ولمن أتى عليهم من غير أهلهن)) من ميقاته الجحفة يمر بذي الحليفة فلا يجب إحرامه منها لمروره على ميقاته بعد، ولكن يندب له الإحرام من ذي الحليفة، قال خليل: " وحيث حاذى واحدا أو مر ولو ببحر، إلا كمصري يمر بذى الحليفة، فهو أولى وإن لحيض وفي رفعه " (1) . هذا وإن لم يرد المرور بميقاته الجحفة ولا محاذاته وجب عليه أن يحرم من ذي الحليفة، كما يجب إحرام النجدي والعراقي واليمني وسائر أهل البلدان سوى مَن ميقاتُهم الجحفة من المغاربة والمصريين والشاميين فمن ذي الحليفة، إذ لا يتعدونها إلى ميقات لهم بدون إحرام. 3- الشافعية: يقول فقهاء الشافعية: من سلك طريقا، ومر بمقاتين فيجب عليه أن يحرم من الأول وإن لم يكن مؤقتا له، فإذا حج الشامي من المدينة، ومر بذي الحليفة وجب عليه الإحرام منه، ولا يجوز له تأخير إحرامه إلى ميقاته الجحفة، ولو حج من اليمن بميقاته يلملم أو من العراق بميقاته ذات عرق أو العقيق استحبابا، وهلم جرا. قال النووي معقبا على قوله صاحب المهذب: " وهذه المواقيت لأهلها ولكل من مر بها من غير أهلها؛ لما روى ابن عباس: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأحل المدينة ذا الحليفة)) الحديث. وهذا الحكم الذي ذكره المصنف متفق عليه، فإذا مر شامي من طريق العراق أو المدينة، أو عراقي من طريق اليمن، فيمقاته ميقات الإقليم الذي مر به، وهكذا عادة حجيج الشام في هذه الأزمان أنهم يمرون بالمدينة، فيكون ميقاتهم ذا الحليفة، ولا يجوز لهم تأخير الإحرام الجحفة " (2) .   (1) خليل. المختصر: 69. (2) المجموع: 7/198. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 598 وقال في شرحه على صحيح مسلم شارحا قوله صلى الله عليه وسلم ((ولمن أتى عليهم من غير أهلهن)) معناه أن الشامي إذا مر بمقيات المدينة في ذهابه لزمه أن يحرم من ميقات المدينة، ولا يجوز له تأخيره إلى ميقات الشام الذي هو الجحفة، وكذا الباقي من المواقيت، وهذا لا خلاف فيه " (1) . وبقول الشافعية قال الحنابلة، قال ابنُ قدامة: مَن سلك طريقا فيها ميقات فهو ميقاته، فإذا حج الشامي من المدينة فمر بذي الحليفة فهي ميقاته، وإن حج من اليمن فميقاته يلملم، وإن حج من العراق فميقاته ذات عرق، وهكذا لكل من مر على ميقات غير ميقات بلده صار ميقاتا له (2) ، وبقول الشافعية والحنابلة قال إسحاق. بقي إذا مر من غير طريق ذي الحليفة أحرم من الجحفة مطلقا شاميا كان أو مدنيا؛ لما روى أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يُسأل عن المهل، فقال: سمعته (ثم انتهى وقال) ، أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة)) (3) ، (4) .   (1) النووي: 5/201 بهامش إرشاد الساري. (2) المغني: 3/263. (3) مسلم. صحيحه. كتاب الحج، باب المواقيت: 5/204 – 205 مع النووي. (4) ابن قدامة. المغني: 3/263 – 264. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 599 والاحتجاج بحديث جابر كان من ابن قدامة صاحب المغني وهو حنبلي (1) . وأما النووي الشافعي فقد قال في شرحه على صحيح مسلم: " لا يحتج بهذا الحديث مرفوعا؛ لكونه لم يجزم برفعه " (2) . وبعد عرض هذه الأقوال جدير بي التنبيه على ما وقع فيه الإمام النووي رضي الله تعالى عنه من خلاف الصواب حين حكى الاتفاق في السالك لطريق يؤدي إلى ميقاتين، وقال: يجب عليه الإحرام من الأول، ورده يسير، فالمذهبان الحنبلي والمالكي على خلافه، وابن المنذر من الشافعية على خلافه ... إلخ، ما رددت به هذا الرأي في المبحث الرابع عند الكلام على النقطة الرابعة. ولنسارع لذكر أدلة أصحاب الأقوال الثلاثة فنقول: استدل أصحاب القول الأول والثاني كل من زاويته بأدلة منها: 1- ما روي عن أبي قتادة الأنصاري في قصة صيده للحمار الوحشي وهو غير محرم، قال ((فقال النبي صلى الله عليه وسلم –لأصحابه، وكانوا محرمين: هل منكم أحد أمره، أو أشار إليه بشيء؟ . فقالوا: لا. قال: فكلوا ما بقي من لحمه)) (3) ، ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن أبا قتادة أخر إحرامه إلى الجحفة، ولم يحرم من ذي الحليفة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر أصحابه، ولم ينكر عليه الرسول ذلك، فدل ذلك على جواز التأخير للإحرام لمن يمر بميقاتين أبعد وأقرب عند الأحناف، أو لمن يمر بذي الحليفة وأمامه الجحفة من المدنيين والشاميين والمصريين والمغاربة عند المالكية.   (1) المغني: 3/263- 264. (2) النووي: 5/204 – 205. (3) ابن حجر العسقلاني. بلوغ المرام من أدلة الأحكام، كتاب الحج، باب المواقيت: 2/193. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 600 2- ما روي عن سعيد بن المسيب أن عائشة رضي الله عنها اعتمرت في سنه مرتين: مرة من ذي الحليفة، ومرة من الجحفة. 3- ما ذكره ابن المنذر وغيره عن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت الحج أحرمت من ذي الحليفة، وإذا أرادت العمرة من الجحفة. ولو لم تكن الجحفة ميقاتا لذلك، لما جاز تأخير إحرام العمرة إليها؛ لأنه لا فرق بالنسبة للأفقي بين ميقات الحج وبين ميقات العمرة. وتمسك الشافعية والحنابلة ومن قال بقولهم بما يلى: 1- ما رواه ابن عباس رضي الله عنها من قوله صلى الله عليه وسلم: ((هن لهن ولمن أتى عليهم من غير أهلن)) ، وقالوا: هذا الحديث يعمُّ من ميقاته بين يدي هذه المواقيت التي مر بها ومن لا. 2- أن أي ميقات هو كسائر المواقيت لا يجوز تجاوزه بغير إحرام (1) . ويبدو لى أن هذا المعنى الاجتهادى للشافعية والحنابلة ومن قال بقولهم هو الراجح – رغم قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس – رضي الله عنه – في المدونة وهي أم المذهب، وظاهرها نص، وقولها دليل: ((ومن مر من أهل الشام، واهل مصر، ومن وراءهم، بذى الحليفة، وأحب أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة فذلك له واسع، ولكن الفضل له، في أن يهل من ميقات – النبي عليه السلام)) (2) .   (1) ابن قدامة. المغنى: 3/263. (2) سحنون. المدونة: 1/377. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 601 وذلك لأن حديث البخاري من قواطع الأدلة في هذه المسألة، ولأن ما تمسكوا به طرقه الاحتمال فسقط به الاستدلال كما هو القاعدة. وسأرد أدلة أصحاب القول الأول والقول الثانى دليلاً فأقول: رد استدلالهم بحديث أبي قتادة من وجوه أربعة: 1- أن أبا قتادة بعثة رسول الله في مهمة وهي كشف عدو للمسلمين بالساحل. 2- لم يخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم –بل بعثة أهل المدينة. 3- أن المواقيت لم توقت بعد، وذلك لأن ما وقع من أبي قتادة كان عام الحديبية، والمواقيت وقتت في حجة الوداع (1) . 4- أن أبا قتادة لم يمر في احتمال حسب الرد الأول والثانى بذى الحليفة، ومن لم يمر بها أحرم من الجحفة. لحديث جابر حين سئل عن المهل فقال: ((مهل أهل المدينة ذي الحليفة، وللطريق الآخر الجحفة)) الحديث، وهذا الرد الرابع رد به الاستدلال بحديثى عائشة – رضي الله عنها – فهي لم تتجاوز ذا الحليفة غير محرمة إلى الجحفة وإنما لم ترم به (2) .   (1) يراجع سبل السلام للصنعانى: 2/193. (2) ابن قدامة: 3/264. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 602 النقطة السابعة الإحرام قبل المواقيت المكانية إذا أحرم الحاج أو المعتمر قبل المواقيت المكانية فما حكم ذلك؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: 1- ذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أفضلية الإحرام للحاج أو المعتمر من دويرة أهلة بشرطين: (أ) أن يكون ذلك في أشهر الحج (1) . (ب) أن يأمن على نفسه الوقوع في محظورات الإحرام. 2- ذهب المالكية والحنابلة إلى أن الأفضل لمن فوق الميقات أن يحرم من الميقات لا قبله، جاء في المدونة: قلت لابن القاسم: أكان مالك يكره للرجل أن يحرم من قبل أن يأتي الميقات؟ قال: نعم. قلت: فإن أحرم قبل الميقات، أكان يُلزمه مالك الإحرام؟ قال: نعم. (2) وأشار خليل في مختصره، وهو الذي يلتزم ما به الفتوى، إلى هذه المسألة فقال: " وكُره قبله كمكانه " (3) ، أي كره الإحرام قبل الميقات الزمني كما كُره الإحرام قبل الميقات المكاني وقال ابنُ مفلح الحنبلي: يكره الإحرام قبل الميقات ويصح، قال أحمد: هو أعجب إليّ (4) .   (1) محمد علاء الدين الحصكفى. الدر المختار: 2/155. (2) سحنون. المدونة: 1/363. (3) خليل المختصر: 69. (4) ابن مفلح: كتاب الفروع: 3/284. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 603 وأما الشافعية فقد جرى عندهم خلاف في هذه المسألة فقيل: " الأفضل لمن فوق الميقات إحرام منه " (1) وقيل الأفضل من دويرة أهله، والقول الأول هو الأظهر عندهم (2) ، والروايتان عن الشافعي رضي الله عنه (3) . ولكل من القولين وجهة وأدلة. احتج أصحاب القول الأول بحجج منها: 1- أن التقديم على المواقيت بشرطيه أكثر أجرًا؛ لأنه أكثر تعظيما وأوفر مشقة، والأجر على قد المشقة (4) . 2- جمع من الصحابة والتابعين كانوا يستحبون الإحرام بالحج والعمرة من الأماكن البعيدة، فابنُ عمر أحرم من بيت المقدس، وعمران بن الحصين من البصرة، وابن عباس من الشام، وابن مسعود من القادسية، رضوان الله عليهم جميعا (5) . وقال أبو داود: يرحم الله وكيعا أحرم من بيت المقدس (6) .   (1) زكريا الأنصارى المنهج وشرحه: 2/403. (2) سليمان الجمل. حاشيته على المنهج: 2/403. (3) ابن قدامة. المغني 3/264. والقاضي عبد الوهاب. الأشراف: 1/224. (4) ابن عابدين: رد المحتار: 2/155. (5) ابن عابدين. رد المحتار: 2/155. (6) السنن. كتاب المناسك. باب المواقيت: 2/144. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 604 3- أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام؛ غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)) أو ((وجبت له الجنة)) شك عبدُ الله أيتهما قال (1) ... (وعبد الله هو ابن عبد الرحمن ابن يحنس) . 4- روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196] ، أنهما قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك (2) . هذا أهم ما استدل به أصحاب القول الأول. واحتج أصحاب القول الثاني بحجج أهمها ما يلي: 1- أن حديث البخاري السالف الذكر: ((وَقّتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة..)) الحديثَ، يقضي بالإهلال من هذه المواقيت، ويقضي بنفي النقص والزيادة، فإن لم تكن الزيادة حراما، فلا أقل من الكراهة، ولولا ما حكاه ابن المنذر: من إجماع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات محرم يلزمه الإحرام، لكان الإحرام قبل الميقات محرما، لأحاديث التوقيت، ولأن الزيادة على المقدرات من المشروعات كأعداد الصلاة ورمى الجمار، لا تشرع، كالنقص منها، وإنما لم يقع الجزم بالحرمة لورود الإجماع على كراهة ذلك (3) .   (1) المرجع السابق. (2) ابن عابدين: المرجع السابق. (3) الصنعاني. سبل السلام: 2/189. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 605 2- إنكار سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عمران بن حصين إحرامه من البصرة (1) ، وإنكار سيدنا عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه من خراسان أو كرمان (2) . 3- تضييق الحجاج والعمار على أنفسهم ما وسّع الله عليهم، وأنه لا يؤمن ما يقع من التباس على الناس في الميقات، ولا يؤمن الوقوع في محظورات إن طال ذلك عليهم، وقال عطاء بن أبي رباح: انظروا هذه المواقيت التي وُقِّتت لكم، فخذوا برخصة الله فيها، فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنبا في إحرامه، فيكون أعظم لوزره، فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك. 4- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا من الميقات، ولا يفعلون إلا الأفضل، ومن بعده خلفاؤه الراشدون وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، وهم أفضل الخلق من بعده ومن قبله خلا رسل وأنبياءه، وأحرص على الدرجات العلى (3) .   (1) الزرقاني. شرح الموطأ: 2/241. (2) البخاري. الجامع الصحيح. كتاب الحج. باب قول الله تعالى: {الحَجُّ أَشْهُر مَّعْلُومَات} ... إلخ. (مع الفتح) : 3/419. (3) ابن قدامة. المغني: 3/265. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 606 ويبدو لي أن القول الثاني أرجح؛ لأن خير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم، وما استدل به أصحاب القول الأول لا يثبت على محك النقد. أما الدليل الأول وهو: أن التقديم للاحترام على المواقيت المكانية أعظم أجرا وأكثر تعظيما، فليس بصواب؛ لأن (وَقّت) في حديث ابن عباس وغيره تقضي بالإهلال من هذه المواقيت، فيكون التقديم من الزيادة على المقدرات من المشروعات، وذلك لا يجوز، فهذا أولا، وثانيا: أن الأجر يكون على قدر المشقة، إنما يكون صحيحًا إذا كانت لازمة لتحصيل الأعمال التي يتوجه قصد المكلف إليها، لا ما جعلها المكلف هدفا من أهدافه، روى أمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه في الموطأ عن حميد بن قيس وثور بن زيد الديلي أنهما أخبراه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأحدهما يزيد في الحديث على صاحبه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((رأى رجلاً قائما في الشمس، فقال: ما بال هذا؟ فقالوا: نذر إلا يتكلم، ولا يستظل من الشمس، ولا يجلس ويصوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مروه فليتكلم، وليستظل، وليجلس وليتم صيامه)) (1) . قال مالك رحمه الله: أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتم ما كان لله طاعة، ويترك ما كان لله معصية (2) . ويتضح من الحديث، ومن تعليق ذي الإمامتين عليه أن الحنيفية السمحة ليس فيها مما يُتقرب به إلى الله إدخال المشقة والإعنات عن النفس.   (1) الموطأ كتاب النذور والإيمان. مالا يجوز من النذور في معصية الله: 3/11 مع شرح الزرقاني. (2) الموطأ: 3/61 مع شرح الزرقاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 607 وهذا الأصل من الأصول المقطوع بها في الشريعة الإسلامية؛ لأن أدلته في نصوصها كثيرة منتشرة. وأما الدليل الثاني من أدلة أصحاب القول الأول وهو: أن جمعا من الصحابة والتابعين كانوا يستحبون الإحرام بالحج والعمرة من الأماكن البعيدة ... إلخ، فمردود بإنكار سيدنا عمر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وبإنكار سيدنا عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه من خراسان أو كرمان، وهذا أولا، وثانيا: أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه وخلفاءه الراشدين وأصحابه - خلا من ذُكِرَ وهم قلة - لم يفعلوا ذلك، وأحرموا من المواقيت (1) ، وخصوصا أن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رويا حديثي التوقيت السالفين، فدلت مخالفتهما لما رويا أنهما فقها أن المراد منع مجاوزة المواقيت حلالا، لا منع الإحرام قبلها، وأما الكراهة فلقدر آخر لعلة أخرى (2) سبق ذكرها في أدلة أصحاب القول الثاني. وأما الدليل الثالث فمردود؛ لأن حديث أم سلمة رضي الله عنها كما قال ابن المنذر: اختلفت الرواة في متنه وإسناده اختلافا كثيرًا، وضعفه عبد الحق وغيره (3) هذا أولا، وثانيا: إن سلمنا أن إسناد الحديث جيد كما هو رأي جماعة من الرواة (4) ، فيحتمل اختصاص هذا ببيت المقدس – أرجعه الله إلى حظيرة الإسلام، آمين – دون غيره، ليجمع الحاج أو المعتمر بين الصلاة في المسجد الأقصى المبارك والمسجد الحرام، في إحرام واحد، ولذلك أحرم ابن عمر منه، ولم يكن يحرم من غيره إلا عند الميقات (5) ، وثالثا تؤول بأن ينشئ الحاج والمعتمر سفرا من بيت المقدس (6) . وأما الدليل الرابع من أدلة أصحاب القول الأول وهو: ما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في تفسير قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] أنهما قالا: اتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، فمردود بأن عليا وعمر لم يحرما إلا من الميقات. هذا أولا، وثانيا تؤول مرادهما أن يوجد مريد النسك له سفرا من بلده كما فعل صلى الله عليه وسلم لعمرة الحديبية والقضاء، سفرا من المدينة. ومما يعضد ما ذكرنا قولنا سابقا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاءه وجماهير صحابته لم يحرموا من دويرة أهلهم، ومنهم علي وعمر (7) .   (1) ابن قدامة. المغني: 3/265. (2) الزرقاني. شرحه على الموطأ: 2/241 بتصرف. (3) المرجع السابق. (4) ابن مفلح. كتاب الفروع: 3/285. (5) ابن قدامة. المرجع السابق. (6) الصنعاني. سبل السلام: 2/190. (7) يراجع مغنى ابن قدامة: 3/266. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 608 النقطة الثامنة الإحرام بعدها بين الضيق وبين السعة فائدة نصب المواقيت تعيين الإحرام عندها، فإن أحرم قبلها فقد علمنا ذلك، وإن أحرم بعدها فلا يخلو الحال من أمرين: 1- أن يكون مريدا للنسك، وهو ممن يخاطب بالإحرام وجوبا. 2- أن لا يريد ذلك، وهو ممن يخاطب بالإحرام وجوبا. فإن أراد النسك، وتجاوزها غير محرم، فعليه أن يرجع إلى الميقات ويحرم منه، إن تسنى له ذلك، ولا فرق في مجاوزة الميقات بين أن يكون عالما بأنه تجاوزه، وبين أن يكون غير عالم بذلك، وبين أن يكون عارفا بحكم المجاوزة أو جاهلا بالحكم. فإن رجع إلى الميقات فأحرم منه فلا شيء عليه بلا خلاف (1) ما لم يشارف مكة عند مالك في قول وعليه الدم (2) ، لأنه أي الذي رجع إلى الميقات قد أحرم من الميقات فكأنه لم يتجاوزه، وكأن شيئا لم يكن. وإن تجاوز مريد النسك الميقات، وأحرم من دونه، فقد اختلف الفقهاء على أقوال: 1- قال أبو حنيفة: إن رجع إلى الميقات فلبى سقط عنه الدم، وإن لم يلب لم يسقط (3) . 2- قال مالك: يتمادى ولا يرجع، وعليه دم تعدي الميقات، ولا يسقط عنه إن رجع، وبقوله قال الثورى وغيره (4) . مذهب الشافعية: أن من جاوز الميقات من مريدي النسك غير محرم، وأحرم من دونه فلا شيء عليه قبل تلبسه بنسك ويسقط عنه الدم. وأما إن عادة بعد تلبسه بنسك، ولو طواف قدوم فلا يسقط الدم عنه لتأدي النسك بإحرام ناقص، وحيث لم يجب بعوده، لم تكن مجاوزته محرمة كما جزم به المعاملي والروياني (5) . 4- الحنابلة: إن أحرم من الميقات فلا إشكال كما سلف، وإن تجاوز الميقات بلا إحرام وأحرم بعده من موضع التجاوز فعليه دم وأن رجع.   (1) ابن قدامة. المغني: 3/266. (2) ابن عبد البر. الكافى: 1/281. (3) الكاسانى. البدائع: 2/165. (4) الأبي. إكمال المعلم: 3/298. (5) الرملي. نهاية المحتاج: 2/254. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 609 وهذا هو المذهب، وجزم به في المغني ابن قدامة، وفي الفروع ابن مفلح وغيرهما. وفي رواية عن الإمام أحمد: يسقط الدم إن رجع إلى الميقات (1) . 5- وعن. عطاء والحسن والنخعي: لا شيء على من ترك الميقات بدون إحرام. 6- وعند سعيد بن جبير رضي الله عنه: لا حج لمن ترك الميقات. ودليل الجمهور ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من ترك نسكا فعليه دم)) روي موقوفا ومرفوعا هذا أولا، وثانيا: أحرم دون ميقاته فاستقر عليه الدم، كما لو لم يرجع، أو كما لو طاف عند الشافعي، أو كما لو لم يلب عند أبي حنيفة؛ ولأنه ترك الإحرام من ميقاته فلزمه الدم، ولأن الدم ترتب على تركه الإحرام من الميقات فلا يسقط عنه برجوعه إلى الميقات ولا بتلبيته (2) . ودليل أبي حنيفة أنه استدرك ما فاته بالرجوع ملبيا، وتحمل ما نقصه هذا أولا، وثانيا: ما روي عن ابن عباس أنه قال للذى أحرم بعد الميقات: أرجع إلى الميقات فلب وإلا فلا حج (3) . وذكر ابن العربي وجها لمن أسقط على المتجاوز الميقات والمحرم بعده الدم وقال: وجه من قال: لا دم عليه، أنه لم يخل بعمل وإنما أخره، والدم إنما يجب على من ترك شيئا وأسقطه (4) . ولم يظهر لي مدرك قول سعيد بن جبير. بقي أنه لابد من التنبيه على الفرق بين مريد النسك الذي ترك الميقات، ثم عاد إليه ولم يحرم وأحرم منه، وبين مريد النسك الذي ترك الميقات وأحرم بعده، ثم عاد إليه، فالأول لم يترك الإحرام ولم يهتكه، والثاني ترك الإحرام منه وهتك حرمته (5) . وإذا لم يعد إلى الميقات وأفسد إحرامه بالجماع قبل طواف العمرة، إن كان إحرامه بعمرة، أو قبل الوقوف بعرفه إن كان إحرامه بحج، أو بعبارة أشمل أفسد المحرم من دون الميقات نسكه، فهل يسقط عنه الدم؟   (1) المرداوي. الإنصاف: 3/429. (2) ابن قدامة. المغني: 3/267. (3) الكاساني. البدائع: 2/165. (4) عارضة الأحوذي: 3/52. (5) ابن قدامة: المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 610 قال الحنفية: سقط عنه ذلك الدم؛ لوجوب القضاء عليه، فينجبر ذلك كله بالقضاء (1) ، وبهذا القول الثوري (2) . وقال المالكية: لا يسقط عنه الدم لتماديه على إحرامه، قال بعض: ولا أعلم فيه خلافا كما هو ظاهر كلام خليل في مختصره (3) ، وبقول المالكية قال الشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر (4) . ودليل الحنفية قياسه على من سها في صلاته ثم أفسدها فقضاها، أنه لا يجب عليه سجود السهو، وكذلك إذا أفسد حجه لزمه القضاء، وليس عليه دم (5) . ودليل الجمهور أن الدم واجب عليه بموجب هذا الإحرام، فلم يسقط بوجوب القضاء كبقية المناسك وكجزاء الصيد (6) . ومن جاوز الميقات من مريدي النسك غير محرم، فخشي فوات الحج أحرم من موضعه، قال ابن قدامة: لا نعلم في ذلك خلافا، إلا أنه روي عن سعيد بن جبير: " من ترك الميقات فلا حج له " وما عليه الجمهور أولى، فإنه لو كان من أركان الحج، لم يختلف باختلاف الناس والأماكن كالوقوف والطواف. وإذا أحرم من موضعه بعد الميقات فعلية دم، لا نعلم في ذلك خلافا عند من أوجب الإحرام من الميقات؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من ترك نسكا فعليه دم)) . وإنما أبيح له الإحرام من موضعه بعد الميقات من اجل إدراك الحج، فإن مراعاة ذلك أولى من مراعاة واجب فيه مع فواته. ومن لم يمكنه الرجوع لعدم الرفقة، أو الخوف من عدو أو لص أو مرض أو لا يعرف الطريق ونحو هذا مما يمنع الرجوع، فهو كخائف الفوات يحرم من موضعه بعد الميقات وعليه دم (7) . بقي لابد من بيان أن ما قرر من الأحكام السابقة إنما هو في حق من خوطب بالحج.   (1) راجع بدائع الكاسانى: 2/165. (2) ابن قدامة. المغني: 3/267. (3) عبد الباقى الزرقاني. شرحه على مختصر خليل: 2/255. (4) راجع مغني ابن قدامة: 3/267. (5) الكاساني. البدائع: 2/165. (6) ابن قدامة. المرجع السابق. (7) ابن قدامة. المرجع السابق: 3/270. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 611 أما غير المخاطب به من عبد وصبي وكافر إذا تجاوز الميقات وهو على حالته المذكورة، ثم تغيرت حالته بعد ذلك بأن عتق العبد وبلغ الصبي وأسلم الكافر، فإنهم يحرمون من الموضع الذي تغيرت فيه حالتهم، ولا دم عليهم. وبهذا قال عطاء ومالك والثوري والأوزاعي وإسحاق، وهو قول الحنفية في الكافر يسلم، والصبي يبلغ، وقالوا في العبد: عليه دم، وقال الشافعي: على كل واحد منهم دم، وعن أحمد في الكافر يسلم كقوله، ويتخرج في الصبي والعبد كذلك قياسا على الكافر يسلم؛ لأنهم تجاوزوا الميقات بغير إحرام، وأحرموا دونه، فلزمهم الدم كالمسلم البالغ العاقل. ودليل الجمهور أن العبد الذي عتق، والصبي الذي بلغ، والكافر الذي أسلم بعد مجاوزة الميقات بغير إحرام، ثم أحرم من موضعه، أنهم أحرموا من المكان الذي وجب عليهم الإحرام منه، فأشبهوا المكي، ومن قريته دون الميقات كبستان بني عامر إذا أحرم منها، ولا يشبهون بحال من خوطبوا بالإحرام قبل الميقات، ثم مروا به وتركوا الإحرام؛ لأنهم تركوا الواجب عليهم (1) . وأما من لا يريد نسكا أصلا، وهو ممن يخاطب بالإحرام وجوبا، فمذهب الحنفية أن مكة حرام، فلا يجوز لأحد أن يدخلها إلا بالإحرام واستثنى الحنفية من ذلك من لم يرد مكة ولا الحرم، وإنما أراد أن يأتي ما بين الميقات والحرم كبستان بني عامر أو غيره مما هو داخل الميقات لحاجة فلا شيء عليه؛ لأن لزوم الحج، أو العمرة بالمجاوزة من غير إحرام لحرمة الميقات تعظيما للبقعة، وتمييزا لها من بين سائر البقاع في الشرف والفضيلة فيصير ملتزما للإحرام منه، فإذا لم يرد البيت لم يصر ملتزما للإحرام فلا يلزمه شيء. فإن حصل في البستان، أو فيما وراءه من الحل، ثم بدا له أن يدخل مكة لحاجة من غير إحرام، فله؛ ذلك لأنه بوصوله إلى أهل البستان صار كواحد منهم ولهم أن يدخلوا مكة لحاجة بغير إحرام فكذا له (2) . وروى عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يسقط عنه الإحرام ولا يجوز له أن يدخل مكة بغير إحرام، ما لم يجاوز الميقات بنية أن يقيم بالبستان خمسة عشر يوما فصاعدا؛ لأنه لا يثبت للبستان حكم الوطن في حقه إلا بنية مدة الإقامة (3) .   (1) ابن قدامة. المغني: 3/268 – 269. (2) الكاساني. البدائع: 2/116. (3) الكاسانى. البدائع: 2/166. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 612 وأما مذهب المالكية: فمن أتي الميقات لا يريد نسكا، ولا دخول مكة، وإنما حاجته دونها أنه كان غير ضرورة، أو ضرورة ولا يستطيع، لم يلزمه إحرام، فإن كان مستطيعا ففي لزوم الإحرام له قولان، سببهما: هل الحج واجب على الفور أو على التراخي؟ (1) ؟ وأما من أتى الميقات لا يريد نسكا ويريد دخول مكة فإن دخلها لقتال بوجه جائز، أو تكرر كالحطابين وأصحاب الفواكه، وغيرهم ممن قرب إلى مكة، فكل هؤلاء يجوز أن يدخلوها حلالا، والاستحباب أن يأتى أول مرة محرما، فإذا تكرر منه ذلك لم يكن في ذلك شيء. وأما أن دخلها لتجارة وما شاكلها مما لا يتكرر من الحاجات، فذكر ابن القصار عن مالك رحمة الله أنه استحب أن يدخل مكة حراما والى هذا يرجع قوله في المدونة، وإن فعل فلا شيء عليه، وذكر عبد الوهاب عنه أنه قال: عليه الدم وأرى أن الإحرام واجب عليه (2) . وأما مذهب الشافعية: فقال النووي رضي الله تعالى عنه: من أتى الميقات لا يريد نسكا فلا يلزمه الإحرام لدخول مكة على الصحيح من مذهبنا سواء دخل لحاجة تتكرر كحطاب وحشاش وصياد ونحوهم، أو لا تتكرر كتجارة وزيادة ونحوهما. وللشافعى قول ضعيف إنه يجب الإحرام بحج أو عمرة إن دخل مكة أو غيرها لما لا يتكرر (3) بشرط أن لا يدخل لقتال، ولا خائفا من ظهوره وبروزه (4) . وأما مذهب الحنابلة: فمن أتى الميقات لا يريد نسكا، ولا دخول مكة ولا الحرم بصفة عامة، لم يلزمه إحرام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أتوا بدرا مرتين، وكانوا يسافرون للجهاد، فيمرون بذي الحليفة بغير إحرام. وأما إن أتى الميقات لا يريد نسكا، ويريد دخول مكة، فإن فعلها لقتال مباح، أو خوف، أو حاجة متكررة، ومكي يتردد إلى قريته بالحل، جاز للجميع دخولها بغير إحرام.   (1) الأبي إكمال المعلم: 3/298. (2) أبو الحسن الصغير. تقييده على المدونة (تهذيب البرادعي) : 1/99 وجها – 155 ظهرا. (3) شرحه على صحيح مسلم: 5/200. (4) المرجع السابق: 5/188. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 613 وأدلة ذلك دخوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعلى رأسه المغفر، ولم يُنقل عنه، ولا عن أحد من أصحابه الإحرام يومئذ، وألحق الخوف بالقتال المباح، هذا بالنسبة للقتال المباح والخوف، وأما بالنسبة لذوي الحاجات المتكررة فما رواه حرب عن ابن عباس: " لا يدخل إنسان مكة إلا محرما، إلا الحمالين والحطابين، وأصحاب منافعها " احتج به أحمد، وأما بالنسبة للمكي المتردد إلى قريته بالحل، فلنفي الحرج الذي هو أصل من أصول الدين الحنيف هذا أولا، وثانيا: قال ابن عقيل: وكتحية المسجد في حق قيمه للمشقة (1) . والذي يظهر لى أن المذهب الصحيح عند الشافعية هو القوي وذلك لأمور: 1- ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((هن لهن ولكل آت عليهن من غيرهم ممن أراد الحج والعمرة)) مفهومه أن من أتى المواقيت لا يريد حجا ولا عمرة لا إحرام عليه، وهو مفهوم عام. 2- ما رواه مالك عن نافع، أن عبد الله بن عمر أقبل من مكة حتى إذا كان بقديد جاءه خبر من المدينة، فرجع فدخل مكة بغير إحرام (2) . 3- لما يلزم على الأقوال الأخرى من إيجاب حج غير واجب، أو عمرة غير واجبة. 4- دخلها صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وعلى رأسه المغفر وهو غير محرم (3) . هذا ولو لم يأت أي دليل وقعت الكفاية بأنه لم يأت بإيجاب الإحرام على من قصدها لغير حج أو عمرة، والله أعلم. النقطة التاسعة إحرام من لم يمر بالمواقيت المواقيت التي وَقّتها رسول الله صلى الله عليه وسلم محيطة بالحرم المكي الشريف، وإن اختلفت قربا وبعدا، فذو الحليفة شامية ويلملم يمانية، والجحفة غربية، وقرن شرقية، وذات عرق حذوها. إذا علمنا هذا، فمن سلك طريقا لا يمر فيه بميقات من المواقيت فمن أين يحرم؟ الجواب عن هذا السؤال أسٌّ متين من أسس هذا البحث: " الإحرام من جدة لركاب الطائرات في الفقه الإسلامي "، وقد تجانست فيه المذاهب أصلا، واختلفت تجزئة وتفصيلا، ونذكر اجتهادات المذاهب في هذه النقطة من نقاط هذا البحث كالتالي فنقول:   (1) البهوتى. كشاف القناع عن متن الإقناع: 2/403. (2) الموطأ مع شرح الزرقاني. كتاب الحج، جامع الحج: 2/398. (3) إشارة إلى الحديث المروي عن مالك، والذي انفرد به ولم يروه أحد عن الزهري سواه (الموطأ مع شرح الزرقاني انظر الشرح: 2/397) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 614 1- المذهب الحنفى: من كان في بر أو بحر، لا يمر بواحد من هذه المواقيت المذكورة، فعليه أن يحرم إذا حاذى آخرها (1) وآخر المواقيت أقربها إلى مكة، وأقربها إليها – زادها الله شرفا – قرن المنازل فالمسافر من المغرب الأقصى أو الجزائر أو تونس، أو ليبيا أو مصر أو بلاد الشام، إذا سلك طريقا برا أو بحرا، لا ينتهي إلى رابغ، وإنما يحاذيه، له أن يؤخر إحرامه إلى محاذاة قرن المنازل؛ لأنه آخر المواقيت، قال العلامة ابن نجيم في البحر: " آخر المواقيت باعتبار المحاذاة قرن المنازل " (2) . وسبيل معرفة المحاذاة، سؤال ذوي الخبرة بالطرق: إن وُجدوا، وإلا اجتهد السالك لطريق لا ينتهي إلى الميقات وأحرم، والتحري أن يغلب على ظنه أنه محاذ له (3) ، فإن لم يعلم المحاذاة لا باجتهاده ولا وجد أهل الخبرة بذلك، أحرم حين يصل إلى مكان يبعد مرحلتين عن مكة المشرفة.   (1) ابن نجيم: البحر الرائق شرح كنز الدقائق: 2/241. (2) المرجع السابق. (3) ابن عابدين رد المحتار: 2/154. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 615 ووجه التقدير عند جهل المحاذاة بالمرحلتين أن ذلك أوسط المسافات،، وإلا فالاحتياط الزيادة (1) . بقي مما ينبغي التنبيه إليه في هذه المسألة الأخيرة قول ابن نجيم في البحر: " فإذا لم يكن بحيث يحاذي " (2) إلخ، فليس بصواب لأن المواقيت محيطة بالحرم كما أسلفت ففي أي جهة كان حاذى، وكذلك قول الحصكفي في الدر المختار: " فإن لم يكن بحيث يحاذي " (3) ، وإن اختلف التعبير بينهما فصاحب البحر عبر بـ (إذ) المفيدة لليقين، وصاحب الدب بـ (إن) المفيدة للشك. وسبب هذا الخطأ عدم المعرفة بجغرافية الحرم المكي الشريف وما حوله. هذا ولم يعرض ابن نجيم في البحر، ولا الحصكفي في الدر، ولا ابن عابدين في حاشيته عليهما لمعنى المحاذاة الدقيق، فطلبتها من مكانها الأصلي وهو معاجم اللغة العربية، فوجدت الزمخشري في الأساس يقول: " حذى لي النَّعّال نعلا: قطعها على مثال، وحذوت النعل بالنعل: قطعتها مماثلة " (4) والمماثلة تعني المشابهة والمساواة، وجاء فيه أيضًا: " ومثله به، وتمثل به، تشبه به ومثل الشيء بالشيء: سوي به، وقدر تقديره " (5) ، ووجدت الفيروز آبادي يقول: " حاذاه: آزاه، والحذاء: الإزاء، ويقال: هو حذاءك، وحذوتك، وحذتك، بكسرهن، ومحاذاك، وداري حذوه داره، وحذتها، وحذتها بالفتح مرفوعا ومنصوبا: إزاؤها " (6) ، والإزاء هنا يفسره صاحب القاموس بقوله: " وهم إزاؤهم: أقرانهم وأزى الشيء: حاذاه، وحاره " (7) ، " والحرا، والحراة: الناحية " (8) ، ويزيد ابن منظور المعنى وضوحا فيقول: " وجاء الرجلان حذيتين: أي كل واحد منهما إلى جنب صاحبه، وجاء الرجلان حذتين: أي جميعا، كل واحد منهما إلى جنب صاحبه " (9) .   (1) ابن عابدين، رد المحتار: 2/154. (2) البحر: 2/241. (3) الحصكفي: 2/154. (4) الزمخشري: 78. (5) الزمخشري: 420. (6) القاموس المحيط: 4/317. (7) القاموس: 4/301. (8) المرجع السابق: 4/318. (9) اللسان: 59/171. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 616 وبعد عرضنا لنصوص بعض المعاجم الأساسية فيما يتعلق بمعنى المحاذاة يتضح لنا أنها تعنى: الازاء، والجانب ميامنة، أو مياسرة مع المماثلة والمساواة. بقي هل يشترط في المذهب النعماني أن تكون المحاذاة قريبة؟ قال الحصكفي: " وأحرم إذا حاذاه أحدها " (1) ، وقال صاحب البدائع: " إذا قصدها (أي مكة المكرمة) من طريق غير مسلوك فإنه يحرم إذا بلغ موضعا يحاذي ميقاتا من هذه المواقيت " (2) . وقال عبد الغني الغنيمي الدمشقي الحنفي من علماء القرن الثالث في مصنفه: " اللباب في شرح الكتاب ": وإن لم يمر بميقات، تحرى وأحرم إذا حاذى أحدها " (3) ، و (أحد) في عبارة صاحب الدر وصاحب اللباب نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم، صرح به إمام الحرمين في البرهان، وتابعه عليه الأنبارى في شرحه له، واقتضاه كلام الآمدى وابن الحاجب (4) ، وكذلك " موضعا " في عبارة صاحب البدائع، وإذا قلنا بإفادة (أحد) وموضوع العموم اتضح عدم اشتراط القرب في المحاذاة، فقول ابن نجيم في البحر: " ولعل مرادهم بالمحاذاة المحاذاة القريبة من الميقات " يتنافى وما يفهم من عبارات فقهاء الأحناف مثل التي ذكرنا المفيدة للعموم، هذا أولا، وثانيا: رده أخوه عمر بن نجيم في النهر بقوله: " من لم يمر على المواقيت يحرم إذا حاذى آخرها قربت المحاذاة أو بعدت " (5) .   (1) الدر المختار: 2/154. (2) الكاساني: 2/164. (3) اللباب: 2/170. (4) عبد الرحيم الإسنوي. التمهيد في تخريج الفروع على الأصول: 318. (5) ابن عابدين. حاشيته على البحر الرائق: 2/242. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 617 2- المذهب المالكي: ليس هنالك اتفاق داخل المذهب في خصوص هذه المسألة بل اختلفت الأنظار فيها على النحو التالي: 1- حيث حاذى أحد المواقيت المذكورة أحرم ببر أو ببحر، سواء كان البحر محاذيا للميقات كبحر السويس بالنسبة للجحفة، محاذاة قريبة، أو محاذاة بعيدة كبحر عيذاب بالنسبة لها، ولا يؤخره إلى البر، فإن أخر لزمه دم، قال خليل: " وحيث حاذى واحدا ولو ببحر " (1) وقال الخرشي معقبا على قوله: " ولو ببحر " يعني أن من سافر في البحر، فإنه يحرم إذا حاذى الميقات، ولا يؤخر إلى البر، ظاهره سواء كان ببحر القلزم أو ببحر عيذاب على ظاهر المذهب. بقي إذا كان محاذيا في البر لأحد المواقيت المذكورة، وكان منزله قريبا من الميقات، فالأفضل الذهاب إليه، والإحرام منه (2) . 2- يفصل وهو لسند بن عنان، ويقوم تفصيله على تقييده لإطلاق قول مالك الذي أورده ابن أبي زيد في النوادر نقلا عن محمد بن المواز والذي يقول فيه مالك: " ومن حج في البحر من أهل مصر وشبههم إذا حاذى الجحفة ". وتقييده لقول مالك هذا هو التالي: من أتى بحر عيذاب حيث لا يساحل البر، فلا يجب عليه الإحرام في البحر إلى أن يصل إلى البر، إلا أن يخرج على بر أبعد من ميقات أهل الشام، وأهل اليمن، ولا يلزمه بتأخير الإحرام هدي. وأما أن أتي بحر القلزم حيث يساحل البر، فالإحرام عليه في البحر واجب، لكن يرخص له التأخير إلى البر ويلزمه أن يهريق دما. وبنى سند هذه التفرقة بين من في اللجة كالمسافر في بحر عيذاب، وبين من يساحل كالمسافر في بحر القلزم، على أساس أن الأول لو أحرم في البحر وهو في اللجة ولا يساحل الميقات ففى ذلك خطر خوفا من أن ترده الريح فيبقى محرما، ويطول إحرامه، حتى يتسنى له أن يقلع إقلاعا سالما، وفي ذلك أعظم الحرج المنفي من الدين. وإذا ثبت جواز تأخير الإحرام بالنسبة له إلى البر فلا يلزمه دم، حتى يقوم دليل على اللزوم، ولا دليل. وأما الثاني فإنه قادر على الإحرام من البر، حيث يمكنه النزول إلى البر والإحرام منه، لكن فيه مضرة بمفارقة رحله، فيجوز له تأخير الإحرام إلى البر للمضرة وعليه دم، كما يجوز استباحة ممنوعات الإحرام للضرورة مع لزوم الفدية.   (1) المختصر: 66. (2) شرحه الصغير على المختصر: 2/303. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 618 ومما يجب التنبيه عليه أن النقل لقول سند ساده الغموض والإجمال عند جماعة من فقهاء المالكية، ومن بينهم العلامة خليل بن إسحاق الذي نقل في مناسكه ما يلي: ومن سافر في البحر أحرم أيضًا في البحر إذا حاذاه على ظاهر المذهب، خلافا لسند في قوله: يحرم إذا وصل البر، خوفا من أن ترده الريح فيبقى محرما، وهو ظاهر من جهة المعنى ونقل ابن الحاج عن ابن نافع مثل قول سند فقال: وقال ابن نافع: لا يحرم في السفن، ورواه عن مالك. ونلاحظ على ما نقله خليل ملاحظتين: 1- أنه في قول سند أجمل ولم يبين، كما بينا سابقا. 2- أنه تقييد سند لما نقله ابن المواز عن مالك، ليس كقول ابن نافع من كل وجه. لكنه في توضيحه نقل تقييد سند المذكور ولم يتعقبه بأنه خلاف ظاهر المذهب كما قال في مناسكه، وكذلك القرافى في ذخيرته، وابن عرفة، والتادلى، وابن فرحون في شرحه على جامع الأمهات وفي مناسكه، وقال الحطاب: ظاهر كلامهم أنهم قبلوا تقييد سند لكلام مالك بما ذكر، وهذا هو الظاهر، وقد شاهدت الوالد (محمد بن عبد الرحمن الحطاب) يفتي بما قاله سند غير مرة، والله أعلم. بقي إذا أخر إحرامه إلى البر: قال سند: لا يرحل من جدة إلا محرما؛ لأن جواز التأخير إنما كان للضرورة، وقد زالت. وهل يحرم إذا وصل البر؟ أو إذا ظعن من جدة؟ الوجهان محتملان، والظاهر إذا ظعن؛ لأنه سنه من أحرم، وقصد البيت أن يتصل إهلاله بالمسير. وهذا التفصيل الذي ذكره سند في جهة الشام في بحر عيذاب وبحر القلزم (السويس) يقال مثله في جهة اليمن والهند، وهذا ظاهر (1) . وبعد عرضنا لمذهب مالك رضي الله عنه في من حاذى ببر أو بحر، نلاحظ أن فقهاء المالكية اضطربوا في بيان مدلول كلمة محاذاة بين تارك لتفسيرها كالحطاب في مواهب الجليل (2) ، وبين محدد لها كالشيخ عبد الباقى الزرقاني الذي شرح قول خليل السالف: " وحيث حاذى واحدا، ولو ببحر ": فساوى بمقابلة، أو ميامنة أو مياسرة. وهو تحديد لم يسلم من الخطأ، وقد بين الخطأ محشيه المحقق البناني بقوله: قول الزرقاني: ساوى بمقابلة ... إلخ، بل ميامنة ومياسرة فقط، ولا تتصور المقابلة (3) ، وفي نفس الخطأ وقع أبو البركات الشيخ أحمد الدردير في شرحيه الكبير (4) والصغير (5) ، وفيه وقع الشيخ على العدوى في حاشيته على صغير الخرشى، حيث تابع الخرشي في تفسير حاذى بسَامَتَ، وأضاف إليه: أي سَامَتَ من بُعدٍ بمقابلة أو ميامنة أو مياسرة (6) ، ولا تتصور المقابلة؛ لأن للميقات سيصل إليه، ويحرم منه، ما لم ينحرف، وأن أحرم حين قابله الميقات، كان إحرامه قبله، وهو جائز مع الكراهة، وإن انحرف وأصبح محاذيا حين الوصول إليه أخذ حكم المحاذي.   (1) الحطاب. مواهب الجليل: 3/35- 36. (2) السابق: 3/34. (3) شرحه على مختصر خليل: 2/252 مع حاشية البنانى عليه. (4) الدردير: 2/23 (5) الشرح الصغير للدردير: 1/266. (6) الخرشي: 2/303. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 619 وليس هذا الخطأ في تفسير هذه الكلمة " محاذاة " مقصورًا على من ذُكر، وإنما نبهت عليهم بالخصوص لتداول كتبهم بين المشتغلين بدراسة الفقه الإسلامي من خلال مذهب أمام دار الهجرة رضي الله عنه. 3- المذهب الشافعي: من سلك طريقا لا يؤدي إلى ميقات من المواقيت المذكورة، أحرم بالنسك حين يحاذي ميقاتا منها، قال الشيرازي: قد اجتهد عمر في ميقات أهل العراق واعتبر المحاذاة (1) ، قال النووي: وهذا الذي ذكره المصنف نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب. وسبيل معرفة أنه حاذى ميقاتا سؤالُ ذوي الخبرة إن وُجدوا وإلا تحرى مريد النسك، واستظهر حتى يتيقن أنها حاذى الميقات أو فوقه استحبابا عند جمهور فقهاء الشافعية، ووجوبا عند القاضى أبي الطيب منهم، والمذهب ما عليه الجمهور (2) . فإن حاذى ميقاتين أحرم من محاذاة أقربهما إليه. فإن استويا في القرب أحرم من محاذاة أبعدهما من مكة. وإن لم يحاذ ميقاتا أحرم على مرحلتين من مكة (3) . هذا وقد فسر فقهاء الشافعية الذين رجعتُ إلى كتبهم كلمة محاذاة تعبيرا صحيحا. ومنهم شيخ الإسلام زكريا الأنصارى الذي يفسر المحاذاة بالمسامتة بيمينه أو يساره (4) ، ويضيف إليه سليمان الجمل تكميلاً فيقول: لا بظهره ولا بوجهه؛ لأن الأول وراءه والثانى أمامه (5) . 4- المذهب الحنبلي: من سلك طريقا لا يمر بميقات من المواقيت المذكورة، أو عرج عن الميقات، بأن مشى في طريق لا تمر عليه أحرم إذا حاذى أقرب المواقيت لقول عمر رضي الله عنه لأهل العراق: " انظروا حذوها من طريقكم ". فحد لهم ذات عرق، وسبيل معرفة المحاذاة الاجتهاد والتقدير كالقبلة. وإن جهلت المحاذاة يستحب الاحتياط، فإن الإحرام قبل الميقات مكروه وتأخيره عنه حرام (6) . هذا وإن تساوى الميقات في القرب إلى طريقه أحرم من حذو أبعدهما عن مكة من طريقة، وأطلق الآجري فقال: من خرج عن المواقيت يحرم إذا حاذى (7) .   (1) المهذب مع المجموع: 7/198. بتصرف. (2) المجموع: 7/198. (3) إبراهيم البيجوري، حاشية على شرح ابن قاسم الغزي على متن أبي شجاع: 1/388. (4) المنهج وشرحه له: 2/404. (5) حاشيته على شرح المنهج: 2/404. (6) البهوتي. كشاف القناه عن متن الإقناع: 2/402. (7) المرداوي. الإنصاف: 3/427. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 620 وإما من لم يحاذ ميقاتا أصلا، فإنه يحرم بمقدار مرحلتين من مكة، نقل هذا ابن مفلح في كتابه الفروع ووصفه بأنه متجه (1) ونقله عنه المرداوي في الإنصاف وأقره (2) . 5- المذهب الزيدى: من سلك طريقا غير طريق المواقيت، فمن أرائها وعليه اليقين أن أمكنت المعاينة، وإلا فالظن كالقبلة، والاحتياط بتقديم الإحرام على المواقيت أفضل (3) . 6- المذهب الإمامي: لو حج على طريق لا يمر فيه بميقات من المواقيت، قيل: يحرم إذا غلب على ظنه محاذاة أقرب المواقيت إلى مكة، وكذا من حج في البحر (4) . قال محمد جواد في مغنيه: ولا فرق في المحاذاة بين أن يكون السفر في البر أو البحر، أما السفر في الجو فلا تتحقق فيه المحاذاة إطلاقا،؛ لأن المحاذاة معناها أن يكون المحاذي عن يمينك أو يسارك، لا تحتك أو فوقك.   (1) ابن مفلح: 3/277. (2) الإنصاف: 3/427. (3) أحمد بن يحيى المرتضى. البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار: 2/288. (4) نجم الدين جعفر بن الحسن الحلي: 4/1/241. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 621 وتثبت بقول أهل الخبرة، ويكتفى فيها بحصول الظن (1) . المذهب الإباضي: من حاذى ميقاتا في بر أو بحر فميقاته المحاذاة، فالجحفة مثلاً ميقات من سلك من أهل المغرب طريق الساحل، فمن مر بها أو عن يمينها أو عن يسارها، أو في البر أو في البحر، فليحرم من مقابلها أو قبله. "وقال الشيخ نور الدين السالمي في شرح حديث المواقيت من الجامع الصحيح للربيع بين حبيب ما نصه: قال أبو صفرة رحمه الله تعالى: كنا نحرم من جدة في الصيف، فلما جاء الشتاء، شق ذلك بنا، فصرنا نحرم من ذات عرق، وذلك أنه كان رحمة الله عليه من أهل العراق، وكلامه هذا يدل على أن جدة كانت أبعد من مكة من ذات عرق يحرمون منها قبل الميقات (2) . وقال الشيخ بيوض إبراهيم عمر متحدثا عن مسألة إحرام ركاب الطائرات من جدة ما نصه: " ليس على حجاج الطائرات الذاهبين إلى جدة إحرام إلا من ميقات أهل جدة، ولا نرى هذا رخصة بل نراه عزيمة، فإنها لم تعارض دليلاً معتبرًا، ولقد روينا عن شيوخنا الأمر بفتوى الناس بما يسعهم، ومن أراد التضييق فيشدد على نفسه، قال العلامة الجليل أبو أيوب وائل بن أيوب من طبقة الربيع بن حبيب رحمه الله: " إنما الفقيه الذي يعلم ما يسع الناس فيه مما يسألونه، وأما التضييق فمن شاء أخذ بالاحتياط " وقال الإمام أبو سعيد الكدمى من كبار آئمة العلم بعمان: ليس العالم من حمل الناس على ورعه، إنما العالم من أفتى الناس بما يسعهم من العلم " (3) .   (1) فقه جعفر الصادق: 1/170. (2) محمد بن يوسف أطفيش: شرحه على كتاب النيل وشفاء الغليل: 4/42. (3) أجوبة وفتاوى: 5/17- 18. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 622 المبحث الخامس الإرخاص لركاب الطائرات في تأخير الإحرام إلى جدة ويشتمل على النقاط الآتية: النقطة الأولى: مقاصد شرعية عامة تساعد على الترخيص للأفقيين في تأخير الإحرام إلى جدة. النقطة الثانية: تيسرات خاصة بالحج. النقطة الثالثة: نصوص فقهاء الإسلام ترخص للقادمين جوا في تأخير الإحرام إلى جدة. النقطة الأولى مقاصد شرعية عامة تساعد على الترخيص للافقيين من ركاب الطائرات في تأخير الإحرام إلى جدة قبل الشروع في دراسة مسائل هذه النقطة، لابد من تقديم نقطتين هامتين هما: 1- أن هذه المقاصد الشرعية التي سأتناولها بالدرس قطعية ثابتة بالأدلة الفاشية المنتشرة في نصوص الشريعة الإسلامية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 623 2- أن اعتمادي عليها اعتماد دعم للنصوص المنقولة عن أئمة الفقه الإسلامي، واستعانة على التخريج عليها لا استمدادا مباشر منها، فذلك داب المجتهدين. وبعد هذا التقديم نشرع في دراسة مسائل هذه النقطة فنقول: المقاصد الشرعية العامة المساعدة بالاعتبار السالف على الترخيص لركاب الطائرات من الأفقيين في تأخير الإحرام إلى جدة هي: 1- أن الشريعة الإسلامية تعتمد التيسير أصلا من أصولها القواطع الثابتة بالأدلة الفاشية المنتشرة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار السلف الصالح لهذه الأمة. أما القرآن الكريم فآي كثيرة منها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقوله جل من قائل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وقوله تبارك وتقدس: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مَّن حَرَج} [المائدة: 6] . وأما السنة النبوية الشريفة فأحاديث كثيرة منها قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسدودا وقاربوا، وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)) (1) وقوله صلى الله عليه وسلم لما بعث أبا موسى الأشعري ومعاذا إلى اليمن: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)) (2) .   (1) البخاري. الجامع الصحيح. كتاب الإيمان باب الدين يسر: 1/93 مع الفتح. (2) البخاري، الجامع الصحيح، كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع: 8/62 مع الفتح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 624 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)) . (1) ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين قط، إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه)) الحديث (2) . وأما آثار السلف فكثيرة: منها قول مطرف بن الشخير التابعي " خير الأمر أوساطها " (3) ، ومنها قول الشعبي: " إذا اختلف عليك في أمرين فخذ بأيسرهما "، ثم قرأ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] (4) ، ومنها قول أمام الفقه والحديث مالك بن أنس رضي الله عنه في مواضع كثيرة من الموطأ: " دين الله يسر " (5) ، ولا أخاله قالها إلا بعد استقراء تام لنصوص الشريعة ومواردها، واستخلاص هذا المقصد من مقاصدها. واليسر وسط بين الشدة والتساهل، والتشدد والتساهل يدعو إليهما الهوى، وقد حذرنا الشرع من اتباعه في مواضع كثيرة، فقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] ، وقال جل وعلا: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] ، وقال جل جلاله، محذرا هذه الأمة المحمدية من الغلو في الدين والابتداع كما فعل ذلك أهل الكتاب فاستوجبوا غضب الله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] ، وقال صلوات الله وسلامة عليه في حق إليهود: ((إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شدودا شدد الله عليهم الحديث)) (6) . وحين نقف موقفا وسطا بين الشدة وبين التساهل في قضية الإرخاص لركاب الطائرات من الأفقيين في الإحرام من جدة، نجد أن قيام الشريعة على الوسيطة يساعدنا على إيجاد الجواب الصحيح، وهو الجواز فيما يبدو؛ لأن الحاج من الأفقيين على الطائرة لابد من النزول بجدة، وفيما يؤذن له، أو لا يؤذن بدخول مكة من طرف الحكومة السعودية، فإذا أضفنا إلى ذلك مشقة ركوب الطائرة وحمل الأمتعة بعد النزول واجتياز الجمارك، ومكاتب جوازات السفر، واستعداد ذي النسك بعد ذلك لتبديل عملته، وحمل أمتعته، والسفر إلى مكة، فهل من تيسير الشريعة الذي سقنا أدلته أن يقوم بهذه الأعمال كلها وهو محرم؟ ويكفي ما يتعرض إليه من توتر الأعصاب والإرهاق والغضب وكبح النفس عن الشهوات، مما يجبره قصرا وهو يعاني هذه الأتعاب إلى حرج شديد عند الأكثر، وإلى سباب وشتم عند البعض.   (1) ابن حمزة الحسيني، البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف: 2/111. (2) مالك، الموطأ، كتاب الجامع، ما جاء في حسن الخلق: 4/251. (3) ابن عاشور رحمه الله، مقاصد الشريعة 62، قال وبعضهم يرويه حديثا. (4) الخطيب البغدادي، الفقيه والمتفقه 2/204. (5) ابن عاشور أصول النظام الاجتماعى في الإسلام: 26-27. (6) ابن جرير الطبرى. جامع البيان في تفسير القرآن: 1/175. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 625 ونحن نعلم أن الخصام من محظورات الإحرام، فعلينا بالتدبر والاعتبار في هذا كله واضعين نصب أعيننا أن السماحة أول أوصاف الإسلام وأكبر مقاصده، وأن الإسلام قد حافظ على استدامة السماحة وقدر لها إن عرض لها عارض من العوارض الزمنية أو الحالية ما يصيرها مشتملة على شدة، انفتح لها باب الرخص المشروع بقوله تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وبقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمة)) (1) ، (2) ، أفلا يكون من اليسر مع هذا المقصد أن نيسر على حجاج البيت وعماره بواسطة الطائرات، فنرخص لهم في الإحرام من جدة، فذلك ما تقتضيه الفطرة السليمة التي تأبى الإعنات والشدة، وذلك ما يستلزمه عموم الإسلام وخلوده من نفي الضيق والحرج على هذه الأمة، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] ، وقال تبارك وتقدس: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وقال الجصاص: قال ابن عباس: مِن ضيق، وكذلك قال مجاهد، ويحتج به في كل ما اختلف فيه من الحوادث إن أدى إلى الضيق فهو منفي، وما أوجب التوسعة فهو أولى " (3) وقال الشاطبي في عديد من المواضع من كتاب المواقيت: " إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع " (4) .   (1) راجع مبحث السماحة في كتاب " أصول النظام الاجتماعى في الإسلام " للأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور: 27. (2) ابن حجر العسقلاني. بلوغ المرام مع سبل السلام كتاب الصلاة باب صلاة المسافر: 2/28. (3) أحكام القرآن: 3/251. (4) الشاطبي. الموافقات: 1/203- 204. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 626 2- ما أقره الفقهاء قاعدةً أساسية من قواعد الفقه الإسلامي: المشقة تجلب التيسير، وقد ذكر السيوطى " أن على هذه القاعدة خرجت جميع رخص الشرع وتخفيفاته، كما ذكر أن أسباب التخفيف في العبادات وغيرها أولها: السفر، وهو نوعان: طويل وغير طويل، ورخصه ثمانية على ما قال النووى، وهي تنقسم - باعتبار طول السفر وقصره - أربعة أقسام: 1- ما يختص بالسفر الطويل: القصر، والفطر. 2- ما لا يختص به قطعا: وهو ترك الجمعة، وأكل الميتة. 3- ما فيه خلاف والأصح اختصاصه به، وهو الجمع. 4- ما فيه خلاف والأصح عدم اختصاصه كالتنفل عن الدابة ونحوه (1) . والحج سفر طويل على كل المذاهب في تحديد السفر الطويل، فيه من المشاق المادية والمعنوية ما وصفت سالفا، ولو كان بالطائرة أفلا يكون هذا السفر مدعاة للتخفيف واليسر، وهما روح الحنيفية السمحة المبنية على نفي الحرج والضيق. والعجب أن فقهاءنا المعاصرين يفتون المسافر بالقصر والفطر والجمع طريقا ومكوثا بالنزل الفاخرة لا يقطع السفر، وبعضهم لا يفتيه بتأخير إحرامه إلى جدة، معرضا صفحا عما يعانيه من المشاق، مقترحا تقديم إحرامه من دويرة أهله، أو من المطار في بلده، غير مراع ما يحصل من المشاق المادية والنفسية، وبخاصة الجنسية في الطائرة، وبعد النزول كما وصفت، أو غير حاسب حسابا للطبائع البشرية هذا أولا. وثانيا: فقد أنكر عمر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وأنكر عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه من خرسان، قال الحافظ ابن عبد البر: وهذا من هؤلاء – والله أعلم – كراهة أن يضيق المرء على نفسه ما وسع الله عليه، وأن يتعرض لما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه، وقال عطاء: انظروا هذه المواقيت التي وُقتت لكم فخذوا برخصة الله فيها، فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنبا في إحرامه، فيكون أعظم لوزره، فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك. وعن سفيان بن عيينة قال: قال رجل لمالك بن أنس: من أين أحرم؟ قال: أحرم من حيث أحرم صلى الله عليه وسلم. فأعاد عليه مرارًا، وقال: فإن زدتُ على ذلك. قال: فلا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة. قال: وما في هذا من الفتنة؟ إنما هي أميال أزيدها. فقال مالك: قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] ، قال: وأى فتنة في هذا؟ قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك أصبت فضلا قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ترى اختيارك لنفسك في هذا خير من اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .   (1) الأشباة والنظائر: 77. (2) الحطاب مواهب الجليل: 3/40. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 627 وقال ابن العربي في الرد على القول بأفضلية الإحرام من دويرة الأهل: فإنها مشقة رفعها الشرع وهدمتها السنة بما وقت النبي صلى الله عليه وسلم من المواقيت (1) . فإن وجدت المشقة جاز القياس، ورجعت المشقة كما فعل عمر في توقيت ذات عرق باجتهاده؛ دفعا للمشقة الحاصلة لأهل العراق إذا أحرموا من قرن وهو جور عليهم، وأما القصد إلى الاحتياط بالزيادة فهو من الزيادة على المقدرات الشرعية، ومزلفة نحو هاوية الفتنة إن نوى حصول فضل زائد عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ((وخير ديننا أيسره)) الحديث (2) أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه. 3- تتبع الرخص: يبدو لى أن من أفضل الطرق لمعالجة المشاكل المستجدة التي حدثت حصيلة التقدم الحضاري والتقني أن نأخذ برخص المذاهب الفقهية، خصوصا ونحن نعاني فقدان المجتهد في حاضرنا الإسلامي، إذا لم يمنع من ذلك مانع شرعي، بأن نأخذ من كل مذهب بما هو الأهون والأسهل، في أمور ديننا عبادات ومعاملات، قال الكمال بن الهمام في تحريره: " ولا يمنع منه (تتبع الرخص) مانع شرعي، إذا للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل، وكان عليه الصلاة والسلام يحب ما خف على أمته " (3) وعلل محمد العزيز جعيط شيخ الإسلام المالكي بالديار التونسية سابقا جوازَ تتبع الرخص فقال: " لأنه نوع من اللطف بالعباد، والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد، بل تحصيل الصالح، كالطبيب يريد بالدواء شفاء المريض لا إيذاءه، وإن لزم من ذلك الإيذاء، والمسألة ذات خلاف. وممن مال إلى القول بالجواز عز الدين بن عبد السلام، والشهاب القرافى والكمال بن الهمام " (4) .   (1) ابن العربي أحكام القرآن: 1/118. (2) حديث الخطيب البغدادي الفقه والمتفقه: 2/24 (3) محمد بخيت المطيعى. سلم الوصول لشرح نهاية السول: 4/626. (4) مجالس العرفان ومواهب الرحمان: 1/114- 115. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 628 ولعل مما يدعم الأخذ بالرخص ما لم يمنع مانع شرعى ما جرى على ألسنة السلف الصالح لهذه الأمة، وتغنى به خلفها، وهو: أن خلاف الفقهاء رحمة؛ لأنه من تيسير الله على العباد، وأوضح ذلك القاسم بن محمد فقال: " لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيرا منه قد عمله "، وعنه أيضًا: " أي ذلك أخذت به لم يكن في نفسك منه شيء "، ومثله مروي عن عمر بن عبد العزيز: " ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم "، قال القاسم: " لقد أعجبني قول عمر ابن عبد العزيز: " ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا " (1) . وعلل ذلك شيخ الإسلام المالكي محمد العزيز جعيط بقوله: " لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة " (2) . وهذا على رأي من يرى تخيير العامي في العمل بآراء المجتهدين، والمسألة ذات خلاف، ولكن من تيسير مواكبة الشريعة الإسلامية لقافلة الحياة الإسلامية المعاصرة في غيبة الاجتهاد أن نعمل بهذا الرأي.   (1) محمد العزيز جعيط. مجالس العرفان ومواهب الرحمان: 1/111-112. (2) المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 629 وبناء على ذلك أقول: قد سبق لنا أن الحسن وعطاء والنخعي لم يروا في مجاوزة الميقات بدون إحرام شيئا، أي أثما أو دما، وناهيك بهؤلاء من خيرة فقهاء التابعين، وروى ابن نافع عن مالك أنه قال رحمه الله: " ولا يحرم في السفن "، وعلق عليه الأستاذ الإمام المغفور له محمد الطاهر بن عاشور بقوله: وهذا يحتمل وجوب النزول إلى الميقات وفيه مشقة ينبغي نفيها عن الدين، ويحتمل أن يريد أنه يرخص له تأخير الإحرام إلى النزول إلى الأرض " (1) ، وأنا أقول: والاحتمال الثانى هو الذي يتناسب مع المقصد الشرعي الذي ردده مالك في مواضع من الموطأ أن " دين الله يسر " هذا أولا. وثانيا قال ابن ناجي في شرحه على رسالة ابن أبي زيد القيروانى: " ذكر لى بعض أشياخي أن في المذهب قولا آخر، أنه يؤخر الإحرام إلى البر " (2) ، وابن ناجي يقول في مقدمة شرحه المذكور: " مهما عبرت ببعض شيوخنا، فهو الشيخ الفقيه العالم الصالح التقى الزاهد أبو عبد الله محمد بن الشيخ الصالح المجاور المرحوم أبي عبد الله محمد بن عرفة الورغمى " (3) ، وقال ابن حزم أما المدرسة الظاهرية بالأندلس: " ومن كان طريقه لا تمر بشيء من هذه المواقيت فليحرم من حيث شاء برا أو بحرا " (4) . فإذا تخيرتُ هذه الأقوال الميسرة وما شاكلها، وجنحتُ إلى القول بترخيص الإحرام من جدة للأفقيين القادمين بطريق الجو، أفعليَّ حرج في ذلك؟ خصوصا وأن القادمين بطريق الجو لا يتأتى منهم المرور بالميقات، كما جاء في فتوى الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور حيث يقول: " أما المسافر في الطائرة فهو لا يمر بالأرض أصلا " (5) ، وأكد ذلك سماحة الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة – دام حفظه – في فتواه في نفس الموضوع، فقال: " إن المسافر في الطائرة لا يمر بالميقات بالأرض أصلا " (6) وغيرهما كثير مشرقا ومغربا، لكن لم أر لواحد تعليلا في عدم اعتبار من طار فوق الميقات مارا به. ويبدو لي أن حديث المواقيت جاء فيه ((هن لهن، ولمن أتى عليهن)) ، و (على) في كلام العرب تفيد الاستعلاء، وهو كما قال ابن هشام: أما على المجرور كقوله تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [غافر: 80] ، أو على ما يقرب منه، نحو: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 10] وقوله: وبات على النار الندى والمعلق (7) .   (1) محمد الطاهر ابن عاشور. إحرام المسافر إلى الحج في المركبة الجوية، والهداية: عدد 2 س 5 ذو القعدة 1379 هـ/21. (2) ابن ناجي. شرح الرسالة: 1/347. (3) المرجع السابق: 1/4. (4) المحلى: 7/71. (5) محمد الطاهر ابن عاشور إحرام المسافر إلى الحج في المركبة الجوية الهداية: عدد 2 س 5 ذو القعدة 1379 هـ./21. (6) محمد الحبيب ابن الخوجة فتاوى الهداية. الهداية. عدد 6 س 4 رجب 1397 هـ - 91. (7) المغني: 1/116. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 630 وهو المراد هنا بمعنى قوله صلوات الله وسلامه عليه ((ولمن أتى عليهن)) إتيانا ملاصقا أو قريبا، ويدعم ذلك أن شراح الحديث جميعهم فيما رأيت فسروا كلمة أتى بـ (مر) ، كما فسرت كلمة أتى بمعنى المجيء بعينه في القرآن بـ (مر) قال الزمخشرى في كشافه في تفسير قوله تعالى {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: 40] ، يعني أن قريشا مروا مرارا كثيرة في متاجرهم إلى الشام على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة من السماء (1) ، وقال في تفسير قوله تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] ، مروا على قوم (2) ، ومر يتعدى إلى المفعول به بنفسه، وبحرفي الجر الباء وعلى، كما في القاموس: تقول " مره ومر به: جاز عليه، وامتر به وعليه كمر " (3) . والباء في التراكيب السابقة تفيد الإلصاق وهو المعنى الذي لا يعارض بالرغم من تعدد معانيها حتى أوصلها ابن هشام إلى أربعة عشر معنى، ومن أجل كون معنى الإلصاق لا يفارقها في جميع معانيها اقتصر عليه سيبويه، يقال: مررت بزيد، أي ألصقت مروري بمكان يقرب من زيد (4) . إذا علمنا هذا فأي إلصاق؟ وأي مرور قريب بالميقات لراكب طائرة تجتاز السحاب، ولا يتسنى نزولها إلا في المطارات، والمطار المعد لنزول الطائرات المقلة لحجاج البيت وعماره هو مطار جدة، ولا يُعترض علينا بأن سطح المسجد من المسجد، وبأن الهواء تابع للقرار، فالتابع غير المبتوع، ونحن متعبّدون بالمرور بالميقات أو المحاذاة له، وواضح عدم تصور المحاذاة لركاب الطائرة؛ لأن محاذاتك للشيء أن يكون على يمينك أو يسارك، لا فوقك ولا تحتك. هذا والأخذ من كل مذهب بما هو الأهون والأسهل وقع فعلا من أعلام في الفقه الإسلامي، انتقلوا من مذهبهم إلى مذهب آخر قصد التيسير في زمن لم ينقطع فيه اجتهاد المذهب، أو اجتهد الفتوى على الأقل، لا في وقت لا يوجد فيه إلا من يقلد، حُكِيَ أنه أقيمت صلاة الجمعة، وهمَّ القاضى أبو الطيبِ بالتكبير، فإذا طائر قد ذرق عليه، فقال: أنا حنبلي. ثم أحرم بالصلاة، ومعلوم أن الشيخ شافعي يقول بنجاسة ذرق الطائر، فلم يمنعه مذهبه من تقليد المذهب الحنبلي قصدَ التيسير ودفعا للحاجة، كما ذكروا أن القاضى أبا عاصم العامري الحنفي كان يفتي على باب مسجد القفال، والمؤذن يؤذن بالمغرب، فترك الفتوى ودخل المسجد، فلما رآه القفال أمر المؤذن أن يُثني الإقامة، وقدّم القاضي للإمامة، فتقدم وجهر بالبسملة مع القراءة جريا على المذهب الشافعي.   (1) الزمخشرى. الكشاف: 2/110. (2) المرجع السابق: 1/505. (3) الفيرروز آبادي. القاموس المحيط: 2/137. (4) المغني: 1/88. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 631 ونقل صاحب الفتاوى البزازية أن الإمام أبا يوسف صلى يوم الجمعة إماما بالناس مغتسلا من الحمام، وبعد تفرق الجماعة أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام، فقال – وهو المجتهد –: إذن نأخذ بقول إخواننا أهل المدينة: " إذا بلغ الماء القلتين لم يحمل خبثا ". وما ذلك إلا لقصد التيسير، نقل هذا الشرنبلالي في رسالته في جواز التقليد ساكتا عليها (1) . 4- أن منافع الإنسان مقدمة على العبادات، جاء في صحيح البخاري عن الأزرق بن قيس قال: " كنا بالأهواز نقاتل الحرورية، فبينا أنا على جرف، إذا رجل يصلي، وإذا لجام دابته بيده، فجعلت الدابة تنازعه، وجعل يتبعها – قال شعبة: هو أبو برزة الأسلمي – فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم افعل بهذا الشيخ. فلما انصرف الشيخ قال: أنى سمعت قولكم، وإني غزوت مع رسول الله ست غزوات - أو ثمانيا - وشهدت تيسيره، وأني أن كنت أن أراجع مع دابتي أحب إلى من أن أدعها ترجع إلى مألفها فيشق علي " (2) . قال ابن حجر العسقلاني قد أخذ الفقهاء قاعدة أن كل شيء يخشى إتلافه من متاع وغيره يجوز قطع الصلاة لأجله (3) .   (1) محمد العزيز جعيط. مجالس العرفان ومواهب الرحمان: 1/110- 111. (2) البخاري. الجامع الصحيح باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة 3/81 مع الفتح. (3) ابن حجر. فتح الباري: 3/82. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 632 ووقع في رواية حماد: فقال: " إن منزلي متراخ - أي متباعد - فلو صليت وتركته – أي الفرس – لم آت أهلي إلى الليل " أي لبعد المكان (1) . وترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: باب: إذا انفلتت الدابة في الصلاة، وقال قتادة: إذا أخذ ثوبه يتبع السارق، ويدع الصلاة " (2) ، وفقه البخاري يتجلى في تراجمه. وعلق عليه الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله فقال: مشاهدته أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعددة، استخلص منها أن من مقاصد الشريعة التيسير، فرأى أن قطع صلاته من أجل إدراكه فرسه، ثم الرجوع إلى استئناف صلاته، أولى من استمراره على صلاته مع إضاعة فرسه؛ لما في ذلك من شديد الحرج، فهذا المقصد بالنسبة لأبي برزة مظنون ظنا قريبا من القطع (3) . وإن ظهر للأستاذ الإمام فيما عقب به على هذا الحديث الحرج الشديد في إضاعة الفرس، فإن الحرج يسير في الوصول إلى المنزل متأخرًا، وأيسر منه إضاعة الثوب، ولكن سيدنا قتادة رضي الله عنه يقول: إذا أخذ ثوبه يتبع السارق ويدع الصلاة. وإذا كانت الصلاة يقطعها من أجل أن لا يدرك أهله متأخرا، أو من أجل ثوب أخذه سارق، أو من أجل متاع وغيره يخشى أتلافه، أفلا يرخص للحاج أو المعتمر وهو يعاني مشاق السفر التي وصفت في تأخير إحرامه إلى جدة، والصلاة عماد الدين والفيصل بين الكفر والإيمان، وأفضل من الحج ومقدمة عليه، قال الشهاب القرافي رحمه الله: " تقدم ركعة من العشاء على الحج، إذا لم يبق قبل الفجر إلا مقدار ركعة العشاء والوقوف. قال أصحابنا رحمهم الله: يفوّت الحج ويصلي. وللشافعية رحمهم الله أقوال: يفوّتها ويقدم الحج لعظم مشقته، يصلي وهو يمشي كصلاة المسايفة، والحق مذهب مالك لأن الصلاة أفضل، وهي فورية إجماعا (4) . ولو أعمل الفقهاء المخرّجون على أقوال الأئمة فيما يَجِدُّ من المسائل النظرَ مليا، فيما كان عليه سلفنا الصالح من مراعاة مقصد التيسير؛ لَيَسَّرُوا على المسلمين ولم يعنتوهم.   (1) ابن حجر. السابق. (2) البخاري، الجامع الصحيح مع الفتح: 3/81. (3) مقاصد الشريعة الإسلامية: 18. (4) الفروق: 2/230. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 633 النقطة الثانية تيسيرات خاصة بالحج الحج مبني على كثرة المشاق فناسبه التخفيف، ذلك ما صرح به الشهاب القرافي في فروقه، وذلك ما ينطبق على شرط الاستطاعة لحج البيت. وقد جاءت هذه التيسيرات من النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وصحابته الخيرة المنتجبين، وورثة هديه علماء أمته العاملين، رضوان الله عليهم أجمعين. وإحصاء هذه التيسيرات الخاصة بالحج يحتاج إلى تأليف خاص، ولكن سنعرض لنماذج من هذه التخفيفات، تفتح لنا باب التيسير على ذوي النسك القادمين إلى الحج أو العمرة بطريق الجو، وتساعدنا على الفتوى بالإرخاص لهم في الإحرام من جدة، وهذه النماذج هي: 1- توقيت المواقيت من لدنه عليه الصلاة والسلام، نمط من رخص الله للأمة الوسط، وتخفيف من المشاق. 2- وقوفه عليه الصلاة والسلام بمنى، وتيسيره على أمته أداء النسك، روى مالك في الموطأ عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: "وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، والناس يسألونه، فجاءه رجل فقال له: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انحر ولا حرج)) ، ثم جاءه آخر فقال: يا رسول الله، لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي. قال: ((أرم ولا حرج)) قال: فما سئل صلى الله عليه وسلم عن شيء قُدِّمَ ولا أُخِّرَ إلا قال: ((افعل ولا حرج)) (1) .   (1) كتاب الحج، جامع الحج: 2/390- 391. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 634 3- رخص الرعاة: روى مالك في الموطأ، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن أبيه أن أبا البداح بن عاصم بن عدي أخبره عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أرخص لرعاء الإبل في البيتوته خارجين عن منى يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر)) (1) . وروي عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عطاء بن أبي رباح، أنه سمعه يذكر أنه ((أرخص للرعاة أن يرموا بالليل، يقول: في الزمان الأول)) (2) . والرخصة التي تضمنها الحديث الثانى أولوية؛ لأنه إذا رخص لهم في تأخير اليوم الثانى فرميهم بالليل أولى. 4- انعقاد الإجماع على جواز التمتع: روى مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب أنه حدثه ((، أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك بن قيس: لا يفعل ذلك إلا من جهل أمر الله عز وجل. فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخى. فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك. فقال سعد: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصنعناها معه.)) (3) . والمسألة مفصلة في كتب الفقه، ولا نريد أن نطيل هنا بجلب ما قيل فيها، ولكن سنقتصر على ما رواه مسلم حين سُئل عمر عما أحدث في التمتع من نهي، فقال: ((قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رؤسهم.)) (4) . قال الزرقاني: فبيّن عمرُ العلة التي لأجلها كره التمتع، وكان من رأيه عدم التوجه للحاج بكل طريق، فكره قرب عهدهم بالنساء؛ لئلا يستمر الليل إلى ذلك، بخلاف من بعد عهده به، ومن تفطم ينفطم (5) . 5- حد عمر رضي الله عنه لأهل العراق ذات عرق باجتهاد منه اعتمادا على محاذاتها لقرن، ولو محاذاة بعيدة، حين قالوا له: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّ لأهل نجد قرنا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنا شق علينا؟ قال: ((فانظروا حذوها من طريقكم. فحد لهم ذات عرق)) .   (1) الموطأ كتاب الحج، الرخصة في رمي الجمار: 2/371. (2) المرجع السابق. (3) الموطأ كتاب الحج، ما جاء في التمتع: 2/265. (4) مسلم، صحيحه، كتاب الحج، باب جواز التمتع: 5/335. (5) الزرقاني شرحه على الموطأ: 2/265. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 635 6- إنكار عمر وعثمان على من قَدّم الإحرام: فقد أنكر عمر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وأنكر عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه من خراسان، قال الحافظ ابن عبد البر معللا ذلك: وهذا من هؤلاء – والله أعلم – كراهةَ أن يضيقَ المرءُ على نفسه ما وسع الله عليه، وأن يتعرض لما لا يُؤْمَن أن يحدث في إحرامه. 7- اتحاد الفدية لمن ارتكب العديد من محظورات الإحرام متأولا بسقوط الأجزاء، أو جاهلا بموجب إتمامه: قال الشهاب القرافى في كتاب " الفروق " في الفرق الثانى عشر بعد المائة بين قاعدة تداخل الجوابر في الحج، وقاعدة ما لا يتداخل الجوابر فيه في الحج: قال مالك رحمه الله: من أفسد حجه فأصاب صيدا، أو حلق، أو تطيب مرة بعد مرة تعددت الفدية وجزاء الصيد أن أصابه. فإن كان متأولا بسقوط أجزائه، أو جاهلا بموجب إتمامه اتحدت الفدية؛ لأنه لم يوجد منه الجرأة على محرم، فعذره الجهل، وإن كانت القاعدة عدم عذره به؛ لأنه جهل يمكن دفعه بالتعلم، كما قال في الصلاة، غير أنه لاحظ هنا معنى مفقودًا في الصلاة، وهو كثرة مشاق الحج، فناسب التخفيف (1) . وبعد عرض هذه التيسيرات من المنعوت في القرآن الكريم بالرؤوف الرحيم محمد صلى الله عليه وسلم ومن خلفائه الراشدين المهديين بهديه من بعده، وورثة فقه شريعته من الأئمة المجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين، أفلا نتأسى بهم، ونرخص لحجاج البيت وعماره بطريق الجو في الإحرام من جدة التي هم مضطرون إلى النزول بها لا مختارون، والتي منها يؤذن لهم، أو لا يؤذن في الدخول إلى مكة، فهم بنفي الحرج أولى، وقد نفاه الرسول بمنى على من قدّم أو أخر بعض الواجبات عن بعض، ولم يراعِ الترتيب المطلوب، حتى قال راوي الحديث: فما سئل عن شيء قُدّم ولا أُخّر إلا قال: ((افعل ولا حرج)) ، وأن ندفع عنهم المشاق ما أمكن حتى يكملوا واجبات التعارف، واجتياز حرس الحدود، وتبديل العملة وتهيئة السفر إلى مكة ... كما دفعها عمر رضي الله عنه عن أهل العراق حين شق الإحرام من قرن عليهم، وأن نراعي أثر محظورات الإحرام عن نفس ذي النسك، خصوصا أن نصوص فقهاء الإسلام إذا أُحسن تخريجها تُرخص في ذلك بلا تعسف.   (1) الزرقاني شرحه على الموطأ: 2/265. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 636 النقطة الثالثة نصوص فقهاء الإسلام ترخص للقادمين جوا في تأخير الإحرام إلى جدة هذه المسألة من المسائل المستحدثة، فلا توجد صرائح النصوص الدالة عليها بصريح العبارة، ولكن بقرب من التخريج غير المتكلف نجد نصوص الفقه ترخص للقادمين إلى جدة بطريق الجو في الإحرام منها. ففى المذهب الحنفى: إذا ثبت أن راكب الطائرة لا يمر بالميقات أصلاً؛ لأن الميقات أرضي وهو لا يمر بالأرض، ولا يحاذيه من باب أولى، لأن المحاذاة المسامتة ميامنةً أو مياسرةً فحسب، فقد نص فقهاء هذا المذهب على حكم من لم يمر بالميقات وجهل المحاذاة، فقال خاتمة المحققين العلامة ابن عابدين: فإن لم يعلم المحاذاة فعلى مرحلتين من مكة، ووجهه أن المرحلتين أوسط المسافات، وإلا فالاحتياط الزيادة. ومن انعدم عنده المرور بالميقات؛ لأنه طائر في أجواز الفضاء وفوق السحاب، ولا تتصور بالنسبة إليه محاذاة، أولى أن يحرم قبل مكة بمرحلتين وجدة تبعد عن مكة بمرحلتين. وأما في المذهب المالكي فقد سبق أن نقلنا ما نقله صاحب المدخل في مناسكه عن ابن نافع رواية عن مالك أنه قال: " لا يحرم في السفن " بإطلاق، وعلق الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمة الله عليه على هذه القولة فقال: " وهذا يحتمل وجوب النزول إلى الميقات وفيه مشقة ينبغى نفيها عن الدين، ويحتمل أن يريد أنه يرخص له تأخير الإحرام إلى النزول إلى الأرض "، وأنا أقول: والاحتمال الثانى هو الذي يتناسب مع المقصد الشرعي الذي ردده مالك في مواضع كثيرة من الموطأ؛ أن " دين الله يسر " وأيضا فما يدعمه ما نقله ابن ناجي في شرحه على رسالة ابن أبي زيد القيرواني حيث قال: " ذَكر لى بعض أشياخي أن في المذهب قولا آخر أنه يؤخر الإحرام إلى البرّ "، وابن ناجي ذكر أنه إذا قال: قال بعض شيوخى، فالمقصود ابن عرفة، نقادة المذهب المالكى، ونقل الحطاب في مواهب الجليل عن أبي إسحاق التونسي أنه قال: " ومن كان بلده بعيدًا عن الميقات، مشرقا عن الميقات أو مغربا عنه، وإذا قصد إلى الميقات شقّ عليه ذلك، لإمكان أن تكون مسافة بلده إلى الميقات مثل مسافة بلده إلى مكة، فإذا حاذى الميقات بالتقدير والتحري أحرم ولم يلزمه السير إلى الميقات (1) .   (1) الحطاب مواهب الجليل: 3/34. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 637 وما نقله الحطاب عن أبي إسحاق التونسي، وجه الاستدلال به أن هذا الفقيه جعل من لم يمر بالميقات، وجهل المحاذاة ممن وصف يحرم بالتحري والتقدير، ولم يلزمه بالذهاب إلى الميقات؛ دفعا للمشقة وتيسيرا على ذوى النسك، كما حد عمر رضي الله عنه ذات عرق لأهل العراق لما شق عليهم قرن المنازل، أفلا نرخص لركاب الطائرات من ذوى النسك، وهم الذين لا يمرون بالميقات بالأرض أصلا، ولا تتصور منهم محاذاة، أن يحرموا من جدة حين يحاذون قرن المنازل محاذاة بعيدة مع العلم أني لم أر في كتب المالكية والحنابلة والشافعية من اشترط القرب من المحاذاة، وحين قال ابن نجيم في البحر: " ولعل مرادهم بالمحاذاة القريبة من الميقات " تعقبه محشيه ابن عابدين ردا عليه بما قاله أخوه (عمر بن نجيم) في النهر "من لم يمر على المواقيت يحرم إذا حاذى آخرها، قربت المحاذاة أو بعدت "، وقواعد المذهب المالكي لا تأباه، بل ربما يستروح ذلك من تقييد سند القائم على التفريق بين من يساحل الجحفة كالمسافر في بحر السويس، وبين من لا يساحل كالمسافر في بحر عيذاب. هذا وقد أفتى علم مشهور من أعلام المالكية في العالم الإسلامي الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمة الله عليه المسافر إلى الحج في المركبة الجوية بالإحرام من جدة؛ معتمدًا بالدرجة الأولى في فتواه المشار إليها في النقطة الأولى من هذا المبحث تقييد سند بن عنان لقول مالك الذي يرويه ابن أبي زيد في النوادر عن ابن المواز عن مالك أنه قال: " ومن حج في البحر من أهل مصر، وشبههم إذا حاذى الجحفة " الذي وسعت القول فيه في النقطة التاسعة من المبحث الرابع. ويظهر أنه قاس من في الطائرة على المحاذي في اللجنة ولا يستطيع النزول إلى البر كالمسافر في بحر عيذاب، وما استظهرته هو الذي أكده بوضوح سماحة الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة – دام حفظه – حيث قال " إن المسافر في الطائرة لا يمر بالميقات بالأرض أصلا، ولا يتصور فيه إمكان النزول إلى البر قبل الوصول إلى مركز الميناء الجوي المعد لنزول الطائرة، فأشبه حاله حال من سافر في بحر لا يحاذي الشواطئ مثل بحر الهند، وبحر اليمن، وبحر عيذاب ". قال سند: من أتى بحر عيذاب حيث لا يحاذي البر، فلا يجب عليه الإحرام في البحر، إلى أن يصل إلى البر، ولا يلزمه بتأخير الإحرام إلى البر هدي. وهذا هو الذي نراه، وهو ما أفتى به شيخنا المقدس المبرور محمد الطاهر ابن عاشور رحمة الله عليه إلخ الفتوى التي أشرت إليها في النقطة الأولى من نقاط هذا المبحث. وأما في المذهب الشافعي فيبدو أن ما قرر في حق من سلك طريقا لا ميقات فيه من بر أو بحر، ولم يحاذ ميقاتًا أحرم على مرحلتين من مكة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 638 وركاب الطائرات لا يمرون بالميقات بالأرض أصلا، ولا يحاذون، إذ المحاذاة كما فسرها شيخ الإسلام زكريا الأنصارى الشافعي في شرحه على منهج: المسامتة بيمينه أو يساره، وأكملها محشيه سليمان الجمل فأضاف إلى تيسيره قوله: " لا بوجهه، ولا بظهره؛ لأن الأول أمامه، والثانى وراءه، ومن هنا يحرمون على مرحلتين من مكة، وجدة تبعد عن مكة بمرحلتين. وكذلك الشأن في المذهب الحنبلى، يقول البهوتي في كشاف القناع عن متن الإقناع: " وإحرام من لم يحاذ ميقاتا بقدر مرحلتين عن مكة ". هذا ما اهتديت إليه من تخريج لقضية البحث: " الإحرام من جدة لركاب الطائرات " والله أسأل أن يكون صوبا من فضله جل جلاله. ولا يفوتني هنا أن أشير إلى كثرة ما صدر في هذه القضية من فتاوى يتسنى تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: 1- القسم الأول يجيز بإطلاق غير راء على المحرم من جدة إثما ولا دما، ومن هؤلاء محمد الطاهر ابن عاشور رحمة الله عليه وسماحة الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة، والشيخ محمد المهيري من تونس والشيخ عبد الله كنون من المغرب، والشيخ بيوض إبراهيم بن عمر من بني ميزاب من الجزائر، والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، والشيخ عبد الله الأنصارى من قطر، ولجنة الفتوى بالأزهر الشريف في تصحيحها لفتوى المرحوم الشيخ جعفر بن أبي اللبني الحنفي المدرس بالحرم المكي لركاب السفن في الإحرام من جدة، والتي نشرها في شكل رسالة سماها: " دفع الشدة بجواز تأخير الآفاقي الإحرام إلى جدة "، وطبعت في الأستانة سنة 1327 هـ، وغيرهم. 2- المجيز بتقييد وهو القائل بنفي الإثم ولزوم الهدي، ولم أطلع على فتوى من هذا القبيل، ولكن رأيت ذلك في " أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك " لأبي بكر بن حسن الكشناوي من العلماء المعاصرين يقول: " قد أفتى العلماء المعتبرون من أهل العصر بوجوب الهدي على من تعدى الميقات على الطائرة وغيرها من المركوب الحادث". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 639 وعلى تلك الفتوى لو أحرم القادم على الطائرة وغيرها قبل الميقات المكاني لسقط عنه الدم، وإن كان الإحرام قبل الميقات مكروها، والكراهة لا تنافي الجواز، فلقد قال الحافظ أحمد الطبري في " القرى لقاصد أم القرى ": والتقديم جائز بالإجماع وإنما كرهه قوم (1) . 3- المانع لركاب الطائرات أن يحرموا من جدة ومن أشهرهم سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز، سواء فيما نشر بركن الفتاوى في مجلة الدعوى السعودية بملحق خاص بمناسبة موسم الحج سنة 1403 هـ، أو في " التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيادة على ضوء الكتاب والسنة " قبل ذلك، أو في رده على ما أملاه الشيخ عبد الله الأنصارى، ونقل في التقويم القطرى المنشور بمجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تحت عنوان " بيان خطأ من جعل جدة ميقاتا لحجاج الجو والبحر " (2) . ولكل وجهة، ونسأل الله إجزال الأجر والثواب لكل من قصد بتيسيره أو أخذه الحيطة في اجتهاد ابتغاء مرضاة الله، وخدمة شريعته، إنه سميع مجيب، وهو حسبي ونعم الوكيل (3) .   (1) الطبري القرى: 1/451. (2) عدد 53 المحرم – صفر - ربيع الأول 1402، 0/93 – 94- 95- 96. (3) سأصور ما تصل إليه يدى من الفتاوى التي ذكرتها، وتكون ملحقا لهذا البحث بعونه تعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 640 الوثائق كتاب حدود المشاعر المقدسة لفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام بسم الله الرحمن الرحيم كتاب حدود المشاعر المقدسة 1103- الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله: وبعد: فأنا من أكثر من عشرين سنة وأنا حريص على معرفة حدود المشاعر وما قاله العلماء عنها، وأقف عليها مصطحبا معي أهل الخبرة فيها والمعرفة، ومقيدًا كل ما أعثر عليه من علم عنها. وشاركت في عدة لجان شكلت بأوامر سامية لتحديدها، وأكثر القرارات الصادرة من اللجان أنا الذي أحضر نصوصها وأكتب قراراتها، فصار عندي خبرة جيدة فيها، واجتمع عندي أصول لتلك القرارات التي اعتمدت ونفذ أكثرها. وعند تأليفي لهذا الكتاب رأيت أن أشرك القراء بالاطلاع عليها. فمعرفة المواقيت وحدود الحرم وسائر المشاعر المقدسة أمر يهم المسلم؛ لأنه يترتب على ذلك أداء المناسك على الوجه المشروع، ولهذه المشاعر من الأحكام والخصائص ما ليس لغيرها، ولها في صدور المسلمين من المكانة والتعظيم ما يوجبه عليهم دينهم. قال الله تعالى {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] . ورأيت أن أفرد تحديد هذه المشاعر وحدها لتأخذ موضوعا واحدًا أمام القراء. وأسأل الله تعالى أن يجعله عملا خالصا لوجهه الكريم مقربا لديه في جنات النعيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 641 موقع مكة المكرمة من العالم 1104- كتب الأستاذ حسين كمال الدين أحمد بحثا في مجلة البحوث الإسلامية بين فيه أن مكة المكرمة في الإسقاط المساحي المكي هي مركز العالم كله. نلخص من هذا البحث خلاصة نلحقها في هذا البحث لعلاقته به من حيث جغرافية البلاد، هذا النوع من إسقاط الخرائط هو نوع جديد من جميع الوجوه، ولا يرتبط بنوع من أنواع الإسقاطات الأخرى للخرائط المعروفة بين علماء المساحة أو الجغرافيا. والغرض من كتابة هذا البحث هو شرح هذا الإسقاط الجديد، ليمكن معرفة موقع مكة المكرمة من القارات السبع. ولقد أصبح من البديهي الآن أن الأرض جسم كروي، ونظرًا لهذا فإن أي نقطة من سطح الأرض تتميز عن غيرها من النقط السطحية، فلجأنا إلى تصور وجود خطوط وهمية على سطح الكرة الأرضية. وإذا تصورنا أن الكرة الأرضية تدور حول نفسها دورة منتظمة، فإن ذلك يستوجب فرض محور ثابت داخل هذه الكرة يحدد هاتين النقطتين الثابتتين القطب الشمالي والقطب الجنوبى. والخط الدائري بين هذين النصفين هو خط الاستواء. وبعد، فالإسقاط المكي للعالم هو نوع جديد، والذي دفعنا إلى هذا العمل هو البحث عن طريقة خاصة تساعد على اتجاه القبلة والمحافظة على الاتجاه الصحيح بين أي بلد وبين مكة المكرمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 642 وبما أن الأرض كرة منتظمة إذن من الممكن الربط بين أي مكانين بعدد كثير من الأقواس، ولكن الاتجاه الصحيح الوحيد بين هذين المكانين هو أقصر هذه الأقواس طولا، فيكون الاتجاه الصحيح للصلاة في أي مدينة هو أقصر قوس يربط بينها وبين مكة المكرمة، وعندما تم توقيع حدود القارات السبع على خريطة الإسقاط، وجدنا أن الحدود الخارجية لهذه القارات يجعلها محيط دائرة واحدة مركزها عند مكة المكرمة أي أن مكة المكرمة تعتبر مركزًا وسطا للأرض اليابسة على سطح الكرة الأرضية. وكذلك إذا أخذنا في الاعتبار القارات الثلاث أوروبا وآسيا وأفريقيا التي تحتل العالم القديم وقت الرسالة الإسلامية، نجدها كذلك تكاد تحيط بمدينة مكة المكرمة. فهذا الإسقاط المكي الجديد يعطي مكة المكرمة مركزا خاصا بين جميع أماكن العالم، ولله تعالى في خلقه حكم وأسرار {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 643 باب المواقيت 1105- المواقيت: جمع ميقات، وهي زمانية ومكانية. فالزمانية: أشهر الحج، شوال، وذو القعدة، وعشر ذو الحجة. والمكانية: ما ذكرتْ في الحديثين الآتيين. وجعلتْ هذه المواقيت تعظيما للبيت الحرام وتكريما؛ ليأتي إليه الحجاج والزوار من هذه الحدود، معظمين خاضعين خاشعين. ولذا حرم ما حوله من الصيد وقطع الشجر، لأن في ذلك استخفافا بحرمته، وغضا من كرامته. والله سبحانه وتعالى جعله مثابة للناس وأمنا، ورزق أهله من الثمرات لعلهم يشكرون. الأول: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقّتَ لأهل المدينة " ذا الحليفة " ولآل الشام " الجحفة " ولأهل نجد " قرن المنازل " ولأهل اليمن " يلملم " وقال: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة)) . والثانى: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن المنازل)) قال عبد الله: وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ويهل أهل اليمن من يلملم)) . ذو الحُلَيْفَةَ: بضم الحاء وفتح اللام تصغير الحلفاء: نبت معروف ينبت بتلك المنطقة وتسمى الآن " آبَارُ عَلَيّ "، ويكاد عمران المدينة المنورة – الآن – يصل إليها، وتبلغ المسافة من ضفة وادي الحليفة إلى المسجد النبوي ثلاثة عشر كيلا، ومن تلك الضفة إلى مكة المكرمة عن طريق وادي الجموم أربعمائة وعشرين كيلا، والحليفة ميقات أهل المدينة ومن أتى عن طريقهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 644 الجُحْفَة: بضم الجيم وسكون الحاء المهملة وفتح الفاء بعدها هاء: قرية بينها وبين البحر الأحمر عشرة أكيال، وهي الآن خَرَاب ويحرم الناس من: رَابغ: مدينة كبيرة فيها الدوائر والمرافق والمدارس الحكومية، وتبعد عن مكة المكرمة عن طريق وادي الجموم مائة وستة وثمانين كيلا، ويحرم من رابغ من لم يمر بالمدينة المنورة من أهل لبنان وسوريا والأردن وفلسطين ومصر والسودان وحكومات المغرب الأربع وبلدان أفريقيا وبعض المنطقة الشمالية في المملكة العربية السعودية. يَلَمْلَم: بفتح الياء المثناة التحتية فلام فميم فلام أخرى بعدها ميم أخرى ويقال: أَلَمْلَم، وسكان تلك المنطقة الآن يقولون: لَمْلَم، ولما زفلتت حكومتنا الطريق الآتى من ساحل المملكة العربية الجنوبي إلى مكة المكرمة والمار بوادى يلملم من غير مكان الإحرام القديم المسمى "السعدية " كنت أحد أعضاء لجنة شكلت لمعرفة مكان الإحرام مع الطريق الجديد، فذهبنا إليه ومعنا أهل الخبرة والعارفون بالمسيمات، واجتمعنا بأعيان وكبار السن من سكان تلك المنطقة وسألناهم عن مسمى يلملم هل هو جبل أم واد؟ فقالوا: إن يلملم هذا الوادي الذي أمامكم، وإننا لا نعرف جبلا يسمى بهذا الاسم، وإنما الاسم خاص بهذا الوادى وسيوله تنزل من جبال السراة ثم تمده الأودية في جانبيه، وهو يعظم حتى صار هذا الوادي الفحل الذي تشاهدونه، وإن مجراه ممتد من الشرق إلى الغرب حتى يصب في البحر الأحمر عند مكان في الساحل يسمى "المجيرمة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 645 وإنه من سفوح جبال السراة حتى مصبه في البحر الأحمر يقدر بنحو مائة وخمسين كيلا، ونحن الآن في السعدية في نحو نصف مجراه، وبعد التجول في المنطقة والمشاهدة وتطبيق كلام العلماء وسؤال أهل الخبرة والسكان تقرر لدينا أن مسمى يلملم الوارد في الحديث الشريف ميقاتا لأهل اليمن ومن أتى عن طريقهم؛ هو كل هذا الوادى المعترض لجميع طرق اليمن الساحلي وساحل المملكة العربية السعودية، وأن الاسم عليه من فروعه في سفوح جبال السراة إلى مصبه في البحر الأحمر، وأنه لا يحل لمن أراد نسكا ومر به أن يتجاوزه بلا إحرام من أي جهة من جهاته وطريق من طرقه. وقد كان الطريق يمر بالسعدية وهي قرية فيها بئر السعدية، وفيها إمارة ومدرسة ومسجد قديم جدد الآن ينسب إلى معاذ بن جبل، والسعدية تبعد عن مكة المكرمة اثنين وتسعين كيلا، أما الطريق التي زفلتته حكومتنا فهو يقع عن السعدية غربا بنحو عشرين كيلا يمر على وادي يلملم، وعند ممره إلى يلملم يكون وادي يلملم عن مكة مائة وعشرين كيلا، ونحن بيّنا للمسئولين جواز الإحرام من الطريق القديم والطريق الجديد وغيرهما مما يمر في هذا، وذلك في حج عام 1401 هـ، والآن صار طريق الناس من الطريق الجديد وصارت ضفة الوادى الجنوبية قرية يحرم منها الناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 646 ويحرم من يلملم أهل اليمن الساحلي وسواحل المملكة العربية السعودية وإندونيسيا وماليزيا والصين والهند وغيرهم من حجاج جنوب آسيا، والآن أصبح الحج غالبه عن طريق الطائرات أو البواخر التي لا ترسو إلا في موانئ جدة. قَرْنُ الْمَنَازِلِ: بفتح القاف وسكون الراء وقد يقال: قَرْنَ الثَّعَالِبِ لوجود أربع روابي صغار تسكنها الثعالب، وقد أزيلت إحدى تلك الروابي لتوسعة طريق مكة – الطائف وبقى الآن منها ثلاثة، أما الثعالب فمع توسع العمران هربت عن المنطقة، والقرن هو الجبل الصغير. وهذا الميقات اشتهر اسمه الآن " بالسَّيْلِ الْكَبير " ومسافته من بطن الوادى إلى مكة المكرمة ثمانية وسبعون كيلا، ومن المقاهي والأمكنة التي اعتاد الناس أن يحرموا منها خمسة وسبعين كيلا، والسيل الكبير الآن قرية كبيرة فيها محكمة وإمارة وجميع الدوائر والمرافق والخدمات والمدارس المنوعة. ويحرم من قرن المنازل أهل نجد وحجاج الشرق كله من أهل الخليج والعراق وإيران وغيرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 647 وَادِي محرم: هذا هو أعلى " قرن المنازل " وهو قرية عامرة فيها مدرسة وكان لا يحرم منه إلا قله حتى فتحت حكومتنا طريق الطائف – مكة المار بالهدا فصار محرما هاما مزدحما، فبنت فيه الحكومة مسجدًا كبيرا جدا له طرقه المزفلته الداخلية والخارجية ومواقف السيارات ومكان الراحة وأمكنة الاغتسال ودورات المياه بأحدث تصميم وبناء لهذا المحرم الهام، وهو لا يعتبر ميقاتا مستقلا من حيث الاسم؛ لأنه هو قرن المنازل، فاسم قرن شامل للوادي كله، سواء من طريق ما يسمى " بالسيل الكبير " أو من طريق ما يسمى " الهدا "، ولذا جاء في الإقناع وغيره: وميقات أهل نجد اليمن وأهل نجد الحجاز وأهل الطائف قرن، فوادي قرن هو الطريق السالك من هذه الجهات الثلاث، وبهذا يكون قرن بمعنى المنصوص عليه. قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ما خلاصته: لا خلاف بين أهل العلم فيما اقتضته الأحاديث من أن " قرن المنازل " هو ميقات أهل نجد وأهل الطائف وبعد أن سمي في تسهيل طريق كرا وغلب على ظني نجاح ذلك، صرت إلى مزيد من الاحتياط لهذا الميقات المسمى " محرما " فعمدت إلى لجنة علمية مؤلفة من عالمين فاضلين لديهما الملكة العلمية والخبرة الوطنية والفقه والنباهة ما لا يوجد عند كثير من أضرابهما وهما: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 648 الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر رئيس هيئة التمييز للمنطقة الغربية، والشيخ محمد بن على البيز رئيس محكمة الطائف أن يذهبا إلى " وادي محرم " المذكور وينظرا هو أعلى وادي قرن المسمى بالسيل، فذهبا ونظرا وبذلا وسعهما واستصحبا في مسيرهما خبراء من أهل تلك الناحية، وتحصّل لديهما أنه هو أعلى وادي قرن المنازل، وكتبا لنا بذلك كتابة صريحة واضحة بأنه هو أعلى وادي قرن المنازل. وقد صرحت كثير من وثائق عقارات أهل وادي محرم الموجودة في سجلات محكمة الطائف بما لا يدع للشك مجالا، أن وادي محرم هو وادي قرن، ولا تظن أن تلك العقارات هي في أسفل الوادي المسمى بالسيل، بل كلها أو أكثرها في أعلاه المسمى " وادي محرم " كالدار البيضاء وقرية المشائخ وغيرها. قلت: ويبعد عن مكة بخمسة وسبعين كيلا، ولولا كثرة تعرجات جبل كرا لكان عن مكة نحو ستين كيلا فقط. ويحرم منه من يحرم من الميقات الذي في أسفل الوادي ويزيد بحجاج الطائف وحجاج جنوب المملكة الحجازي وحجاج اليمن الحجازي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 649 تكميل: ذَاتُ عِرْقٍ: بكسر العين وسكون الراء بعدها قاف سمي بذلك لأن فيه عرقا، وهو الجبل الصغير، ويسمى الآن " الضريبة " قال ياقوت: الضريبة واد حجازي يدفع سيله في ذات عرق.اهـ. والضَّرِيبَة: بفتح الضاد المعجمة بعدها راء مكسورة، ثم ياء مثناة تحتية، ثم باء موحدة تحتية، ثم هاء، واحدة الضراب، وهي الجبال الصغار، وهذا الميقات لم يرد في حديث الصحيحين ولكن في بعض السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم وَقّتَ لأهل العراق ذات عرق، وقد ضعف بعض أهل العلم هذا الحديث. قال في فتح الباري: والذي في البخاري عن ابن عمر قال: لما فتحت الكوفةُ والبصرةُ أتوا عمرَ فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّ لأهل نجد قرنا، وهو جور عن طريقنا. قال: فانظروا في طريقكم. فحد لهم ذات عرق ". قال الشافعي: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حد ذات عرق، وإنما أجمع عليه الناس. هذا يدل على أن ذات عرق ليس منصوصا عليه، وبه قطع الغزالي والرافعي في شرح المسند والنووي في شرح مسلم، وكذا وقع في المدونة لمالك. وصحح الحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية أنه منصوص، وقد وقع ذلك في حديث جابر عند مسلم إلا أنه مشكوك في رفعه، وقد رفع في حديث عائشة وحديث الحارث السهمي، وكلاهما عند أحمد وأبي داود والنسائي، وهذا يدل على أن للحديث أصلا، فلعل من قال: إنه غير منصوص عليه لم يبلغه، أو رأى ضعف الحديث. اهـ، ملخصا من فتح الباري. قلت: وعلى كل فقد صح توقيته عن عمر رضي الله عنه، فإن كان منصوصا عليه وجهله فهو من موافقاته المعروفة، وإن لم يكن نص عليه فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)) . وقد أجمع المسلمون على أنه أحد مواقيت الحج، ولله الحمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 650 وقد قمت بشهر محرم في عام 1402هـ من مكة المكرمة إلى هذا الميقات ومعي الشريف: محمد بن فوزان الحارثي، وهو من العارفين بتلك المنطقة، ومن المطلعين على التاريخ، وقصدي بحث طريق الحج من الضريبة إلى مكة على الإبل، فوجدت الميقات المذكور شِعْبًا بين هضاب، طوله من الشرق إلى الغرب ثلاثة أكيال، وعرضه من الجنوب إلى الشمال نصف الكيل، ويحده من جانبيه الشمالي والجنوبي هضابة، ويحده من الشرق "ريع أنخل "، ويحده من الغرب وادي الضريبة الذي يصب في وادي مر الظهران، ويعتبر هذا الميقات من الحجاز، فلا هو من نجد ولا هو من تهامة، ولكنه حجاز منخفض يكاد يكون حرة، فليس فيه جبال عالية، ويقع عنه شرقا بنحو عشرة أكيال وادي العقيق، ثم يلي العقيق شرقا " صحراء ركبة " الواسعة، حيث تبتدئ بلاد نجد، ويحرم من العقيق الشيعة، والمسافة من ميقات ذات عرق حتى مكة مائة كيل، وأشهر الأمكنة التي يمر بها الطريق مكة - الزقة، وفيها آثار وبركة عظيمة قديمة من آثار بني العباس، ثم وادي نخلة الشامية، ثم المضيق، ثم البرود، ثم شرائع المجاهدية، ثم العدل، وهذا الميقات مهجور الآن، فلا يحرم منه أحد؛ لأن الطرق المزفلتة في نجد وفي الشرق لا تمر عليه، وإنما على الطائف والسيل الكبير " قرن المنازل ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 651 ملاحظة: جميع مواقيت الإحرام أودية عظام، ولذا فإن الاحتياط أن يحرم الحاج أو المعتمر من الضفة التي لا تلي مكة من الوادي؛ لئلا يعتبر متجاوزا لليمقات. ومن تجاوز الميقات بلا إحرام يريد نسكا فرضا أو نفلا ولو كان جاهلا أنه الميقات أو حكمه أو ناسيا أو مكرها؛ لزمه أن يرجع إلى الميقات فيحرم منه حيث أمكن كسائر الواجبات، فإن خاف لم يلزمه الرجوع ويحرم من موضعه، فإن رجع إلى الميقات فأحرم منه فلا دم عليه لأنه أتى بالواجب عليه، كما لو لم يجاوزه ابتداء. وإن أحرم دون الميقات لعذر أو غيره صح وعليه دم وفاقا للأئمة الثلاثة، وإن رجع محرما إلى الميقات لم يسقط عنه الدم برجوعه نص عليه؛ لأنه وجب عليه لتركه إحرامه من ميقاته فلم يسقط، كما لو لم يرجع. وإذا كان في الطائرة قادما من نجد فميقاته قرن المنازل " السيل الكبير ". وإذا كانت الطائرة فوقه نوى الإحرام وإن كان عنه يمنة أو يسرة فإذا حاذاه لا يؤخر إحرامه حتى يصل جدة لأن ميقاته هذا. فبناء عليه فإنه يتأهب للإحرام بخلع المخيط وكشف الرأس فلبس لباس الإحرام إذا كان رجلا قبل وصوله لأنه وهو في الطائرة لا يتمكن من عمل هذا عند محاذاته حتى تكون جاوزته بمسافة بعيدة وهكذا كل من قدم إلى جدة بالطائرة من أي جهة كانت، لأن جدة ليس ميقاتا وإنما هي داخل المواقيت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 652 الحرم المكي وحدوده 1106- الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فهذا تحديد للحرم المكي الشريف يكتب لأول مرة في التاريخ فيما أعلم؛ ذلك أنى اشتركت في تحديده مع هيئتين من أهل العلم ومن أهل الخبرة ومن سكان كل جهة من جهات الحرم. الهيئة الأولى، قامت بالعمل في عام 1385 هـ واستمر عملها عدة أشهر. والهيئة الثانية، عملت فيه سنتين في فترات خلال عام 1398 هـ وعام 1400 هـ. وقد عمدت الهيئتان بأوامر سامية تصدر على رئاسة القضاء ثم على وزارة العدل وعلى وزارة الحج والأوقاف وعلى رئاسة شئون الحرمين، والهيئتان مكونتان من الأعضاء الآتية أسماؤهم: 1- الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر رئيس هيئة التمييز بمكة المكرمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 653 2- محرر هذه الأسطر عبد الله بن عبد الرحمن البسام في الأولى قاضي المحكمة المستعجلة الثانية بمكة المكرمة، وفي الثانية قاضي محكمة التمييز بمكة المكرمة. 3- الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع قاضي محكمة التمييز بمكة المكرمة. 4- الشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل أحد أئمة المسجد الحرام ونائب رئيس رئاسة شئون الحرمين. 5- الشيخ حسن بابصيل أحد قضاة المحكمة الكبرى بمكة ومندوب عن وزارة الحج والأوقاف. 6- الشريف شاكر بن هزاع أبو طين قائم قام مكة المكرمة. 7- الشريف محمد بن فوزان الحارثي عضو هيئة النظر بالمحكمة الكبرى. 8- عدد كبير من سكان تلك المناطق تستعين الهيئة بخبرتهم بالمسميات لكل جهة، ممن عُرفوا بالخبرة والمعرفة والثقة رافقتنا في هذه المهمة، فعمدة بحثي هذا ومصدره الأمور الآتية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 654 الأول: الاطلاع على مصادر النصوص من كتب معاجم البلدان وتواريخ مكة وكتب المناسك وكتب الأحكام والتفاسير وشروح الأحاديث وغير ذلك. الثاني: استصحاب أهل الخبرة والمعرفة وثقات سكان كل منطقة من جهات الحرم ومناقشتهم ومعرفة المسميات والجبال والشعاب والأدوية والبقاع، وتطبيقها على ما ورد في المصادر العلمية. الثالث: الوقوف على الحدود مع أهل الخبرة والصعود إلى قمم الجبال وسفوحها للبحث عن الأعلام القديمة وآثارها ومعرفة المسافة فيما بين حدٍّ وآخر، وصعودنا تارة طلوعا بالرجال والأخرى بالطائرة العمودية. والذي يقوم بمعرفة ثقات السكان ويحضرهم هو أميرهم الشريف شاكر ابن هزاع قائم قام العاصمة المقدسة. وكان أغلب عملنا هو في فصل الشتاء وفصل الربيع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 655 المقدمة قال الله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص: 57] . وقال تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] . وجاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم هذا البلد حرمة الله يوم خلق السموات والأرض فهي حرام بحرمة الله عز وجل إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده)) . وجاء في الصحيحين أيضًا عن أبي شريح العدوي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتحه مكة يقول: ((إن مكة حرمها الله تعالى ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد شجرة، فليبلغ الشاهد الغائب)) . وأخرج النسائي والترمذي وابن حبان وغيرهم عن عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لمكة: ((والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت)) . وروى صاحب القرى بسنده إلى أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الدجال لا يدخل مكة، على كل نقب من نقابها ملك شاهر سيفه)) . ولما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتّاب بن أسيد على أهل مكة قال: ((يا عتاب، أتدري على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله، فاستوص بهم خيرًا. يقولها ثلاثا.)) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 656 المسجد الحرام هو الحرم كله أخرج سعيد بن منصور في سننه عن ابن عباس قال: " الحرم كله المسجد الحرام. وهو قول بعض أهل العلم، ويتأيد بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] وكان ذلك من بيت أمِّ هانئ، وأصرح منه قوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} [البقرة: 217] . وأخرج ابن ماجة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك شهر رمضان في مكة فصامه؛ كتب له مائة ألف شهر رمضان فيما سواه)) . وقال الحسن البصري: " صوم يوم بمكة بمائة ألف، وصدقة درهم بمائة ألف، وكل حسنة بمائة ألف " وقال المحب الطبري: وهذا الحديث يدل على أن المراد بالمسجد الحرام الحرم جميعه؛ لأنه عمم التضعيف في جميع الحرم، وكذلك حديث تضعيف الصوم عممه في جميع مكة وحكم الحرم ومكة في ذلك سواء بالاتفاق ".اهـ. القرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 657 وقال ابن القيم في زاد المعاد: قال الشافعي: الحديبية بعضها من الحل وبعضها من الحرم. وروى الإمام أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل، وفي هذا كالدلالة على أن مضاعفة الصلاة بمكة تتعلق بجميع الحرم، ولا يُخص بها المسجد الذي هو مكان الطواف، وأن قوله: ((صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في مسجدي)) كقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] وقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] ، وكان الإسراء من بيت أم هانئ. وذكر أن ابن عمر كان يتنزل في الحل قرب الحرم، فإذا أراد الصلاة دخل حدود الحرم فصلى، قال في الفروع: وظاهر كلام أصحاب أحمد " في المسجد الحرام " أنه نفس المسجد، ومع هذا فالحرم أفضل من الحل، فالصلاة فيه أفضل، ولهذا ذكر في المنتقى قصة الحديبية من رواية أحمد والبخاري: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل ". وذكر ابن الجوزي: أن الإسراء كان من بيت أم هانئ عند أكثر المفسرين، فعلى هذا المسجد الحرام والحرم كله مسجد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 658 وذكر القاضي وغيره: مرادهم في التسمية لا في الأحكام. وقد يتوجه من هذا حصول المضاعفة بالحرم كنفس المسجد، وجزم به صاحب الهدي من أصحابنا، لاسيما عند من جعله كالمسجد في المرور قدّام المصلى وغيره. أما فضيلة الحرم فلا شك فيها. وروي في المختار بسنده إلى ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة، والماشى سبعون حسنة من حسنات الحرم)) قيل: يا رسول الله ما حسنات الحرم؟ قال: ((الحسنة فيها بمائة ألف حسنة)) هـ. وقال عطاء بن أبي رباح: الحرم كله مسجد. اختلف العلماء: هل الذي حرّم مكةَ وحَرَمَها – بأمر الله تعالى – هو إبراهيم عليه السلام وكانت قبل دعوته حلالا أم ما زالت حرما؟ فمن رأى أنها حرمت بدعوة إبراهيم استدل بمثل قوله تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا} [إبراهيم: 35] وبما رواه مسلم عن جابر ((إن إبراهيم حَرّمَ مكة، وإني حرمت المدينة)) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 659 وبما في الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم المدينة ما بين لابتيها)) واللفظ للبخاري. وأما من يرى أزلية تحريمها قبل إبراهيم فيستدل بما جاء في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين فتح مكة: ((هذا بلد حرمه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض، وهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة)) وبما جاء في الصحيحين أيضًا عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس)) ، والجمع بين هذه الأدلة أن يقال: إنها كانت محرمة منذ خلق الله السماوات والأرض، وكان تحريمها خفيا مهجورا، فأظهره الله تعالى على لسان رسوله وخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم. خصائص الحرم وأحكامه 1107- أولا – فضله وكرامته وأن العبادة فيه أفضل من العبادة في الحل، وهذا باتفاق العلماء. ثانيا – مضاعفة الأعمال الصالحة فيه كمضاعفتها بالمسجد الحرام وهذا قول طائفة من أهل العلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 660 ثالثا – عظم السيئات وغلظها وشدتها فيه، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] . قال ابن مسعود: لو أن رجلا أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن لأذاقه الله من العذاب الأليم، ولما هَمّ أصحاب الفيل بتخريب البيت أرسل الله عليهم طيرا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، وقد دمرتهم قبل أن يصلوا أو يعلموا. ولقد جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يغزو هذا البيت جيش، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم)) ، فأمر هذا البيت وحرمه عظيم، رزقنا الله فيه الاستقامة، آمين. رابعا – تحريم صيده على المحرم والحلال، وهذا بإجماع العلماء. خامسا – تحريم قطع شجره وحشيشه الأخضرين إلا الإذخر، واستثنى بعض العلماء ما له شوك فلا يحرم، فيقاس على الحيوان المؤذي، ويُستثنى ما أنبته الآدميُّ فلا يحرم. سادسا – يكره إخراج تراب وحجارة الحرم إلى الحل، كما يكره إدخال حجارة وتراب الحل إلى الحرم، وهذا حكم له وجه صحيح من النظر. ولذا أرى أن ينبه ولاة الأمور على أصحاب المباني ومقاولي البناء وأصحاب الأعمال والشركات على ذلك، ليحافظوا على هذا الحكم ولو ببعض ما يستطاع كالبطحاء. سابعا – يحرم أن يدخله الكافر لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] قال عطاء: الحرم كله قبلة ومسجد؛ فينبغى أن يمنعوا من دخول الحرم لقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] وإنما رفع من بيت أم هانئ. وله خصائص وأحكام تتعلق بالعبادات والمناسك كثيرة، وهناك خصائص طبيعية لم أتحقق من صحتها تركتها لذلك. حدود الحرم 1108- هذا هو البحث الجديد الذي ربما أنه لم يُكتب قبل هذه المرة، وإليك البيان، فالهيئتان ابتدأتا عملهما بالبحث عن حدود الحرم من نَمِرَةَ، وهي بفتح النون وكسر الميم بعدها تاء مربوطة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 661 هي المنتهى الشرقي لسلسلة جبال فاصلة بين طريق المأزمين وطريق ضب ويذكر الفقهاء أن على جبالها أنصاب الحرم، إلا أننا لم نجد الأنصاب إلا في السهل الواقع على الضفة الغربية لوادي " عرنة " بالنون، ففي سهل نمرة المذكورة وجدنا أربعة أعلام: علمين قديمين متهدمين لم يبق منهما إلا أنصافهما، وعلمين أَجدَّ منهما، ومن المتفق عليه بين المسلمين أن هذه الأعلام هي أعلام الحرم الفاصلة بينه وبين الحل، فما عنهن شَرّقَ فهو عرنة من الحل، وما عنهن غَرّبَ فهو من الحرم. ويذكر مؤرخو مكة في كتبهم أن المظفر صاحب إربل أمر بعمارة علمين للحرم من جهة عرفة - بالفاء الموحدة - وذلك سنة ست عشرة وستمائة بعد الهجرة. ثم اتجهنا نحو الشمال الشرقى نسير على الضفة الغربية لوادي عرنة (بالنون) ، فوصلنا إلى مكان يسمى " الخطم " عنده قرية لآل أبي سمن من قريش، ففى الوقوف الأول الذي هو في صباح عشرين شعبان عام 1385 هـ وجدنا علما قديما متهدما لم يبق منه إلا نحو نصف المتر، أسطواني التصميم مبني بالحجارة والنورة، وهو مسامت لأعلام " نَمِرَة "المتقدم ذكرها، ويبعد عنها بنحو كيلوين. أما في وقوفنا المرة الثانية الموافقة أربعة وعشرين محرم عام 1399 هـ فلم نجد من العلم المذكور إلا أساسه، وأخبرنا المرافقون أنهم أدركوه بطول القامة، ثم اتجهنا شمالا حتى وصلنا جبلا يسمى " ستر " وقال لنا المرافقون: إن سبب التسمية أنه ستر ما يليه من الحرم عن الحل؛ لأنه حد الحرم من الحل فما سال منه غربا فهو في الحرم، وما سال منه شرقا فهو في الحل. ووجدنا في جانبيه علمين مصممين تصميما أسطوانيا بين أحدهما عن الآخر نحو عشرة أمتار، والعلمان واقعان في عرض الجبل المذكور. كما وجدنا فوق قمة الجبل علما قائما على شكل أسطواني أيضًا يبعد عن هذين العلمين نحو خمسة عشر مترا، ثم وجدنا في سفح جبل ستر مما يلي الشمال بمسافة تبعد عن الأعلام الثلاثة مائة متر علما في شكل وتصميم الأعلام الثلاثة قد تهدم بعضه وبقي منه نحو ثلاثة أرباع المتر. ثم اتجهنا نحو الشمال حتى وصلنا إلى ثينة يقال: أنها تسمى " ثينة عبد الله بن كرز " وهي واقعة في سفح جبل الطارقي، فوجدنا فيها علما على شكل الذي تقدّم قبله لم يبق منه إلا أساسه، ويبعد هذا العلم عن أعلام جبل ستر نحو خمسة كيلوات، وهو واقع عنها شمالا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 662 قال الأزرقي: النبعة بعضها في الحل وبعضها في الحرم، فما سال منه شمالا فهو في الحرم، وما سال منها جنوبا فهو حل، ثم صعدنا جبل الطارقي فوجدنا في شرقيه علما، ثم اتجهنا في أرض مستوية حتى وصلنا إلى علمي طريق نجد والعراق المار بالشرائع، وهما علمان كبيران يمر بهما الطريق العام متجها إلى السيل والطائف والحوية ونجد والعراق وبلاد الشرق، وتقدر المسافة بين هذين العلمين وبين ثينة عبد الله بن كريز بنحو أربعة كيلوات. ثم اتجهنا إلى جبل " الستار " قال الأزرقي: سمي " الستار" لأنه ستر ما بين الحل والحرم، فوجدنا فيه علما أسطوانيا باقيا لم يندثر إلا قليل من رأسه، وهو في الجانب الشمالي من الجبل، ويبعد جبل الستار عن علمي طريق الشرائع المتجه إلى نجد نحو كيلو ونصف الكيلو، وجبل الستار يقابله شرقا جبل المقطع، ويمر من بينهما حل المستنفرة. ثم اتجهنا إلى ثينة هي سفح جبل المقطع، وهذه الثينة منتهى الحرم من طريق العراق وسماها الفاكهي " ثينية خل الصفاح " فقال: ثينية خل الصفاح بطرف المقطع منتهى الحرم من طريق العراق. ثم اتجهنا شمالا مع السفح الغربي لجبل المقطع، حتى وصلنا إلى شعب بين السفح الغربي لجبل المقطع والسفح الغربي لجبل الستار فوجدنا ثلاثة جبال صغار سود يقال لهن: "الغربان"، وتقع شمال جبلي الستار والمقطع، وفي الوسط من هذه الجبال الثلاثة علم قد بني بالحجارة والنورة وهو الآن متهدم. ثم اتجهنا شمالا إلى ثينة بيضاء، هي الفاصلة بين وادي ثرير وشعب عبد الله بن خالد بن أسيد، فما سال منها شرقا نزل على ملعب لحيان وهو رأس وادي ثرير وهو حِلٌّ، وما نزل منها غربا فهو على شعب عبد الله بن خالد بن أسيد وهو حرم، وتسمى هذه الثينة البيضاء "المستنفرة "قال الأزرقي: المستنفرة ثينة تظهر على حائط " ثرير "، على رأسها أنصاب الحرم، فما سال منها على ثرير فهو حل، وما سال منها على الشعب فهو حرم. ثم اتجهنا نحو الغرب، فوصلنا إلى ثينية يقال لها: " النقوى "، ونزلنا من هذه الثينة على شعب عبد الله بن خالد بن أسيد، ونحن في هذا السير متجهون نحو الغرب وعلى يميننا سلسلة جبال تحد الشعب المذكور من ضفته الشمالية، فبحثنا في قمم هذه السلسلة فوجدنا فيها أعلاما كثيرة متهدمة، مما يؤكد أن ما سال من السلسلة على شعب عبد الله بن أسيد وهي السفوح الجنوبية فهو حرم، وما سال على السفوح الشمالية فهو حل، فقمم هذه السلسلة سائرة نحو الغرب حتى إلى " التنعيم "، وسنفصلها فيما يلي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 663 بشم: بالباء الموحدة ثم شين معجمة ثم آخره ميم: ريع ينزل على شعب عبد الله بن أسيد، وجد في القمة إلى الثنية علم كالأعلام السابقة، وقد أكد لنا المرافقون أنهم أدركوه علما قائما. كما أكدوا أن ما سال من هذه القمة شمالا فهو حل، وما سال منها جنوبا فهو حرم. وبين ريع بشم وبين النقوى المتقدمة نحو أربعة كيلوات. بغبغة: باء موحدة بعدها غين معجمة، ثم باء موحدة ثم غين معجمة ثم تاء مربوطة: قمة حمراء بينها وبين "بشم" نحو أربعة كيلوات. وفي قمة "بغبغة" علم كالأعلام السابقة. حجلى: شعب فيه علم كالعلمين في بشم وبغبغة. وبين حجلى وقمة بغبغة نحو خمسة كيلوات. جبال اليسر: قمم جبال متصل بعضها ببعض تبعد عن قمة حجلى بنحو نصف كيلو. وجدنا فيها ثلاثة أعلام مشابهات للأعلام السابقة. الشرفة: ثنية تنفذ على "وادي ياج" بالياء المثناه التحتية. قال لنا المرافقون من السكان وأهل الخبرة: ما سال من هذه الشرفة شمالا فهو على وادي ياج فهو حل، وما سال منها جنوبا فهو حرم. ومن جبال اليسر إلى بشم نحو ثلاثة كيلوات. ثم اتجهنا إلى التنعيم، والتنعيم يمر به الطريق العام المتجه إلى وادي الجموم "وادي مر الظهران"، وهو طريق المدينة المنورة وتسميه الناس " مساجد عائشة "؛ لأن عائشة رضي الله عنها أحرمت منه لعمرتها عام حجة الوداع، لأنه أقرب الحل إلى المسجد الحرام. قال مؤرخو مكة ومنهم الفاسي وإبراهيم رفعت وطاهر الكردي وغيرهم: إن العلمين الكبيرين اللذين في التنعيم أمر بعمارتهما الخليفة العباسي الراضي، وذلك في عام خمسة وعشرين وثلاثمائة. قال الفاسي في شفاء الغرام: واسمه مكتوب عليهما. قال في المنقور نقلا عن جمع الجوامع لابن عبد الهادي: الأعلام المنصوبة عند مساجد عائشة هما علمان كبيران وأعلام صغار متصلة بالجبلين من الجانبين يسميها العامة "خطوات النبي" أو "خطوات علي". شرفة شيق: ثم اتجهنا من التنعيم غربا مع شعب يقال له: "ملحة" يمتد إلى "شرفة شيق"، وقد وجدنا علمين مندثرين: أحدهما فوق ربوة يبعد عن أعلام التنعيم نحو ثلاثة كيلوات. والعلم الثانى إلى الشمال بنحو نصف كيلو، ثم يتصل الحد إلى شعب شيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 664 ذات الحنظل: قال الأزرقي: شيق طرف بلدح الذي يسلك إلى ذات الحنظل من يمين طريق جدة. وذات الحنظل ثنية في مؤخر هذا الشعب وأنصاب الحرم على رأس الثنية. اهـ. كلام الأزرقي. قلت: ذات الحنظل هي ما يسمى الآن "أم الجود"، فما سال من رأس الثنية المذكورة شمالا فهو حرم. وكان رأس الثنية هو أحد مدخلي مكة من المدينة المنورة ووادي الجموم. قال الأزرقى: هو طريق المدينة الغربي، والأنصاب على هذه الطريق على رأس الثنية تسمى ذات الحنظل. والمسافة بين "التنعيم" وبين "ذات الحنظل" تقدر بنحو خمسة كيلوات. الرحا: ثم يتجه الحد غربا ليتصل "بالرحا" والرحا: ريع يصب من جهته الجنوبية بذات الحنظل وهو حرم، ويصب بجهته الشمالية في وادي سرف وهو حل. ووجدنا في رأس هذا الريع علمين على يمين الريع وعلى يساره كقبضتي الباب. قال الأزرقي: الرحا في الحرم وهو ما بين أنصاب المصانع إلى ذات الجيش. والرحا: ثينة ينفذ منها من بين جبال شاهقة، وهذه الثينة هي كانت طريق المدينة المنورة الغربي كما تقدم، ذكر ذلك عند ذات الحنظل. أما الطريق الشرقي فهو الطريق العام الآن والمار بالتنعيم كما تقدم وصفه. وبناء على أن هذا أحد مدخلي مكة المكرمة من المدينة ومن وادي الجموم، فقد وجدنا أعلاما كثيرة تزيد عن العشرة على قمم تلك الجبال، فكونها طريقا رئيسيا حظيت بالعناية بكثرة الأعلام لتمييز الحل فيها عن الحرم، فسيل هذه الجبال من الجنوب في الحرم وسيلها من الشمال في الحل. الْمُرَيْر: ومن ثينة الرحال، يتجه الحرم غربا بسلسلة جبال حتى يصل إلى ثينة المرير، تصغير مر، وعلى قمم هذه السلسلة أعلام كثيرة تزيد عن العشرين مندثرة، وباقي مؤنتها من الحجارة والنورة عندها. وما سال من هذه الجبال شمالا فهو في الحل، وما سال منها جنوبا فهو في الحرم. ثم بعد ثينة المرير تستمر سلسلة جبال متجهة إلى الغرب تطل على وادي "الجوف"، ووجدنا في قسمها أعلاما كثيرة بين كل علم عن الآخر نحو خمسين مترا وهي مهدمة، وآخر علم منها يبعد "ثينة المرير" بنحو كيلو ونصف كيلو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 665 قال ابن إسحاق في السيرة: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك في ثينة المرار بركت ناقته، فقال الناس: خلأت ناقته، فقال: ((ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها)) . قال ياقوت: وثينة المرار مهبط الحديبية. وبعد سلسلة تلك الجبال تستمر حدود الحرم على الأمكنة الآتية: الراحة: على يمين الذاهب إلى جدة. الجفة: ردهة يجتمع فيها الماء يقال لها: النحاير: وبعض النحاير في الحل وبعضها في الحرم، وهي على يمين الذاهب إلى جدة. الأعشاش: ردهة تتصل من الشرق بالنحائر ومن الغرب بالحديبية، ويسمى الآن " الشميس " بعض الأعشاش في الحرم وبعضها في الحل، فما أقبل من الأعشاش شمالا فهو حل وسيله يتجه إلى مر الظهران، وما أقبل منه جنوبا فهو حرم؛ لأن سيله يصب في المرير من الحرم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 666 الحديبة: ثم اتجهنا إلى "أعلام الشميس" الحديبة، وفيها العلمان الكبيران اللذان يمزجهما طريق مكة – جدة القديم المار بجدة ثم بحرة ثم أم السلم. ولم أعثر على تاريخ هذين العلمين ولا من بناهما، وإنما الذي وجدته للشيخ طاهر الكردى قوله: يوجد علمان عند الشميس المسمى قديما بالحديبة بطريق جدة، وهما يقابلان الكيلو 19، يعني من مكة. وهذان العلمان قديمان يقعان في الطريق القديم لقافلة الجمال، ثم إنه في جمادى الأولى من سنة (1376 هـ) ست وسبعين وثلاثمائة وألف بني علمان آخران في مقابلة العلمين القديمين، وبنيا في طريق السيارات المزفلت عند الكيلو 19، وكان ذلك بأمر صاحب الجلالة الملك المعظم سعود بن عبد العزيز آل سعود وفقه الله تعالى لكل خير. اهـ. قال ياقوت الحموي وغيره: الحديبة قرية متوسطة ليست بالكبيرة، سميت ببئر هناك عندها مسجد الشجرة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه تحتها، وبعض الحديبة في الحل وبعضها في الحرم، وهي أبعد الحل من البيت، وليست في طول الحرم ولا في عرضه، بل هي في مثل زاوية الحرم، فلذلك صار بينها وبين المسجد أكثر من يوم ". اهـ. وتسمى الآن الشميس" بسبب أحجار فيها حمر يعمل منها الرحي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 667 وبئرها المذكور تسمى "الهديبة"، وأخبرني الشيخ محمد حسين نصيف رحمه الله أنه كان يسكن عندها رجل ليس بعربي، وكان يسقى الناس منها ويسميها بلغته "الهديبة"، فنسي الاسم الصحيح وبقي الاسم المحرف. فتحقق لنا أن في الشميس أربعة أعلام: اثنان قديمان على الطريق الحالي وكان طريق الإبل وغيرها في القديم. والعلمان الآخران بحذوهما من الجنوب أمر ببنائهما الملك سعود بن عبد العزيز رحمه الله. وبعد أعلام الشميسي اتجهنا جنوبا إلى "أظلم" جبل يمتد من الشمال إلى الجنوب ويقطعه طريق جدة – مكة الجديد السريع، وبين طرفه الشمالي وبين الشميسي نحو ثلاثة كيلوات، أما جبل "أظلم" فيمتد إلى طريق الليث بطول بنحو سبعة كيلوات. ووجدنا عليه سبعة أعلام متهدمة، وفي الوقوف الأول عام (1385 هـ) لم يكن عند الهيئة تردد في أنه حد للحرم. أما في هذه المرة عام (1400 هـ) فصار عند الشيخ عبد الله بن منيع والشيخ محمد بن سبيل بعض التردد في كونه حدا، إلا أن المرافقين من السكان وأهل الخبرة لم يترددوا في صحة الحد واعتبارهم إياه حدا يتوارثونه مع وجود الإعلام فيه ومحاذاته لأعلام الشميسي. الدوقة: ومن سلسلة جبل "أظلم" اتجهنا نحو الشرق مع سهل ممتد، قال المرافقون: إن هذه بلدان لجماعة من الأشراف يقال لهم: العرامطة، يسمى ذلك السهل: "أم هشيم"، حتى وصلنا هضبة تسمى الدومة الجنوبية، ووجدنا فيها علما مندثرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 668 البشائم: ثم في نفس الاتجاه ذهبنا إلى "البشائم" قال الأزرقي: البشائم ردهة تمسك الماء فيما بين أضاة لبن، بعضها في الحل وبعضها في الحرم. أضاة لبن: وبالقرب من البشائم في نفس الاتجاه "أضاة لبن" قال الأزرقي: أضاة لبن في طريق اليمن من جهة تهامة، وأنصاب الحرم على رأس جبل غراب بعضه في الحل وبعضه في الحرم. وقال ياقوت: أضاة لبن من حدود الحرم على طريق اليمن. اهـ. وقال الفاكهي: وأما لبن فهو في طرق أضاة لبن، والأضاة هي الأرض، ولبن هو جبل طويل له رأسان، والأضاة من أسفله. غُرَّاب: بضم الغين المعجمة وتشديد الراء: جبل يلي أضاة لبن في الحل وبعضه في الحرم. قال الأزرقي: غراب جبل بأسفل قرية بعضه في الحل وبعضه في الحرم. البيبان: على نفس طريق اليمن فيها أكمات بينها منافذ تشبه البيبان، وعلى تلك الأكمات أعلام واضحة هي حدود الحرم. مهجرة: ويليها من الشرق جبل أسمر يقال له: "مهجرة" وفيه علم قديم. ووضعنا عليه مسار حديد في الوقوف الأول عام 1385 هـ. ووجدناه في الوقوف الثاني عام 1400 هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 669 صيفي: وفي شرق جبل مهجرة قرن صغير أبيض يقال له: "صيفي" عليه علم وهو في سمت مهجرة نحو الشرق. عارض الحصن: ثم يمتد حد الحرم من القرن المسمى صيفي إلى سلسلة جبال تمتد من الغرب إلى الشرق يقال لها: "عارض الحصن" فما سال من سلسلة تلك الجبال شمالا فهو حرم، وما سال منها جنوبا فهو في الحل. والحدود الثلاثة مهجرة وصيفي وعارض الحصن في بلدان زراعية تسمى "الحسينية" قرن العميرية: ومن عارض الحصن يتصل الحد بضفة وادي عرنة الغربية، وهي نهاية حد الحرم من هذه الناحية، وعلى ضفة الوادي جبل يقال له: "قرن العميرية" نسبة إلى بلاد زراعية تحته. نمرة: ومن قرن العميرية يسامته على ضفة الوادي المذكور جبال نمرة التي هي حد الحرم، والتي كان منها ابتداء التحديد. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. 1109 – وقد اختلف المؤرخون في تحديد قدر المسافات التي بين الكعبة المشرفة وحدود الحرم من كل جهة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 670 ولعل هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف الابتداء من المسجد الحرام إلى تلك الحدود. على أنهم لم يذكروا إلا مسافات الطرق الرئيسية ونحن نذكر تحديداتهم باختصار: طريق عرفة: قيل: سبعة أميال، وقيل: تسعة أميال، وقيل: ثمان عشرة ميلا، وقيل: أحد عشر ميلا، ولعله أقربهن إلى الصواب. طريق نجد والعراق: قيل: ستة أميال، وقيل: ثمانية أميال، وقيل: عشرة أميال، وقيل: سبعة أميال، وهو أقربهن إلى الصواب. طريق الجعرانة: قيل: اثنا عشر ميلا، وقيل: تسعة أميال، وهو أقربهما للصواب. طريق التنعيم: ثلاثة أميال قريب جدًا. طريق جدة: قيل: أحد عشر ميلا، وقيل: ثمان عشرة ميلا، وهو أقربهما إلى الصواب. طريق اليمن: قيل: ستة أميال، وقيل: سبعة أميال، وهو أقربهما إلى الصواب. وهذا الاختلاف في قدر المسافات إما راجع إلى اختلاف الطرق، وإما إلى تحديد المبدأ، وإما إلى اختلاف في وحدة المقاييس، وإلا فهم متفقون على المنتهى حيث يصلون إلى الأنصاب التي على الطرق الرئيسية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 671 المحصب 1110 – اختلف العلماء في النزول بالمحصب ليلة الرابع عشر من ذي الحجة بعد النزول من منى، هل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من هذا النزول سُنة ومنسك من مناسك الحج فالأفضل اتباعه فيه، أم أنه منزل عادة نزله لأنه أسهل لخروجه من مكة إلى المدينة؟ فبعض العلماء ذهب إلى هذا، وبعضهم ذهب إلى الآخر. والمحصب هو جزء من "وادي إبراهيم" الداخل من أعلى مكة والخارج من أسفلها. وحده من "المنحنى" الواقع عند قصر آل الشيبي مقر إمارة مكة المكرمة الآن، حتى الحجون الثنية الصاعدة فيما بين مقابر المعلاة، وقد جعل عليها الآن جسر ومساران، وسمي محصبا لأن فيه حصباء. أما الآن فأصبح هذا المحصب شارعا مزفلتا تحف به المساكن العالية والأرصفة المبلطة ودكاكين ومعارض البضائع والسلع، وازدحم بالسكان والسيارات والمارة ولم يبق للتحصيب فيه مجال، سواء كان سنة أو منزلا عاديا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 672 حدود منى 1111 – صدر قرار من وكيل وزارة الحج إلى مدير الإدارة الفنية في وزارة الحج برقم 522/1 وتاريخ 28/1/1393هـ بشأن إنشاء أعلام لحدود مزدلفة ومنى، لتوضيح حدود هذين المشعرين. وتشكيل لجنة من وزارة العدل والإشراف الديني بالمسجد الحرام والرئاسة العامة لهيئات الأمر بالمعروف وأمانة العاصمة المقدسة والإدارة الفنية في وزارة الحج. فشكلت اللجنة المذكورة وقامت بالعمل المذكور وتحقق لديها بموجب قرارها المؤرخ في 25/2/1393 هـ ما يلي: (أ) ظهر أن مبتدأ منى من جهة مكة المكرمة هو جمرة العقبة، وحدها من جهة مزدلفة ضفة وادي محسر مما يلي منى، ليكون وادي محسر فاصلا بين منى ومزدلفة، وذلك استنادا منا إلى ما جاء عن عالم مكة ومفتيها عطاء بن أبي رباح. قال الأزرقي في أخبار مكة بسنده عن ابن جريح قال: قلت لعطاء بن أبي رباح: أين منى؟ قال: من العقبة إلى محسر. قال: فلا أحب أن ينزل أحد إلا فيما بين العقبة إلى محسر، هذا طولا. (ب) ظهر أن عرض منى ما بين الجبلين الكبيرين بامتدادهما من العقبة إلى وادي محسر، ليكون ما بينهما من الشعاب والهضاب وما لهما من السفوح والوجوه الموالية لمنى كلها مشعر منى، وليكون كل ما أدخله "وادي محسر" ابتداء من روافده في أصل جبل ثبير حتى يصل إلى حد منى في أصل جبلها الجنوبي بامتداد ضفته الغربية، كل ذلك داخل في حدود منى. وهذا التحديد استناد إلى ما نص عليه العلماء وطبقناه على الحدود المذكورة بالمشاهدة. قال النووي في المجموع: "واعلم أن منى شعب محدود بين جبلين أحدهما ثبير والآخر الصايح. قال الأصحاب: ما أقبل على منى من الجبال فهو منها وما أدبر فليس منها". اهـ كلامه. وقد وجدنا أعلاما على ضفة وادي محسر ما بين منى ليست بعيدة العهد، ووجدنا وضعها مقاربا للحد الشرعي فأقريناها وأوصينا أن تجعل الأعلام الجديدة بجانبها، إلا أن تلك الأعلام لم تستوف تمام الحد، فقررنا استيفاء ما بقي منه بالأعلام الجديدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 673 حدود مزدلفة 1112 – أما حدود مزدلفة من قرار لجنة وزارة العدل والإشراف الديني وهيئات الأمر بالمعروف ووزارة الحج ومندوب أمانة العاصمة المقدسة المشكلة من قبل وكيل وزارة الحج برقم 522/1 في 28/1/1393 هـ فقرر لحدود مزدلفة بقراره المؤرخ في 25/3/1393 هـ ما يلي: (جـ) ظهر أن مبتدأ حد مزدلفة مما يلي منى هو ضفة وادي محسر الشرقية ليكون الوادي المذكور فاصلا بينها وبين منى، فإذا وصل الوادي المذكور إلى جبل منى الجنوبي، وتغير اتجاهه من الجنوب إلى الشرق جاعلا الجبل المذكور يمينه ومزدلفة يساره، ثم فاض مع سفح الجبل المسمى "دقم الوبر"، حيث يعتدل اتجاهه إلى الجنوب (كما كان) ، فظهر أن ضفة الوادي الشمالية هي حد مزدلفة من هذه الجهة. كما ظهر أن حد مزدلفة مما يلي عرفات هو مفيض المأزمين مما يليها (يلي مزدلفة) ، كما أن حدها من طريق ضب ما يسامت مفيض المأزمين، وقد وجدنا أعلاما فأبقيناها، وأوصينا بأن تجعل الأعلام الجديدة بجانبها، هذا هو حد الطول. أما حد مزدلفة العرضي فما بين هذين الجبلين الكبيرين هو مزدلفة. فظهر لنا أن ما بين حدي مزدلفة طولا وما بين حديها عرضا من الشعاب والهضاب والقلاع والروابي ووجوه الجبال؛ كلها تابعة لمشعر مزدلفة وداخل في حدودها. وذلك استنادا إلى النصوص التي قمنا بتطبيقها على الحدود المذكورة حين الوقوف والمشاهدة، ومن تلك النصوص ما يلي: روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((وقفت هاهنا وجمع كلها موقف)) . وروى الإمام مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((المزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن محسر)) . وروى ابن جرير في تفسيره قال: "عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال "ما بين الجبلين اللذين بجمع مشعر". وقال في المغني "وحد مزدلفة ما بين وادي محسر ومأزمي عرفة إلى قرن محسر، وما على يمين ذلك وشماله من الشعاب ففي أي موضع وقف أجزأ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 674 وقال الأزرقي: "حد مزدلفة ما بين وادي محسر ومأزمي عرفة، وليس الحدان من المزدلفة، فجميع تلك الشعاب القوابل والظواهر والجبال الداخلة في الحد المذكور". هذا ما قررناه بخصوص حدود هذين المشعرين العظيمين: منى ومزدلفة. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. بعد هذا أثير موضوع حدي مزدلفة الشمالي الغربي والجنوبي الغربي، ودرس من عدة لجان، وأخيرا درس من هيئة كبار العلماء واشتركت معهم أنا محرر هذه الأسطر (عبد الله بن عبد الرحمن البسام) ، وقائمقام العاصمة المقدسة شاكر بن هزاع، والشريف محمد بن فوزان الحارثي، بصفتهما من أهل البلاد وصاحبا خبرة ودراية بهذه الديار. وعقد في نفس الحدود مخيم اجتمع غالب أعضاء هيئة كبار العلماء، وأقاموا فيه يومين وقفوا على الحدود ودرسوا الموضوع بما أعد فيه من نصوص وقرارات سابقة وتداولوا الرأي، وذلك برئاسة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. وبعد هذا صدر من المجلس القرار الذي ننقل منه الغرض المطلوب في الموضوع وهو: استمع المجلس إلى نصوص العلماء في تحديد مزدلفة، ورجع إلى محاضر اللجان السابقة، فاطلع على قرار اللجنة المؤرخ في 25/2/1393 هـ، الموقع من مندوب وزارة العدل ورئاسة الإشراف الديني بالمسجد الحرام والرئاسة العام للهيئات بالحجاز ووزارة الحج وبلدية منى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 675 واطلع على المحضر المؤرخ في 11/10/1396 هـ الموقع من رئيس المحكمة الكبرى بمكة وعضو هيئة التمييز وقائمقام العاصمة ومندوب إمارة مكة ومندوب أمانة العاصمة الخاص بالحد الجنوبي الغربي لمزدلفة. واطلع على المحضر الموقع في 3/11/1402 هـ من فضيلة الشيخ سليمان بن عبيد وفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع وفضيلة الشيخ عبد الله بن بسام، والخاص بالحدين الشمالي والغربي والجنوبي الغربي لمزدلفة. وانتهى المجلس بالأكثرية على ما رأته اللجنة السابقة في محضر 11/10/1396 هـ أن الحد للجهة الجنوبية الغربية من هذا المشعر يبتدئ من الجهة الشمالية بالجبل المسمى "بقرن" الواقع شرقي وادي محسر والمقابل لدقم الوبر، فيقع دقم الوبر عنه غربا شمالا ويمتد الحد من جهة الجنوب من قمة القرن المذكور إلى خشم الجبل الذي يقع في نهاية الجبال الممتدة من مزدلفة جهة الجنوب، فكل ما وقع شرقي هذا الحد يعتبر من مشعر مزدلفة، وما كان غربيه فهو خارج عنها، وبهذا يتضح أن جزءا كبيرا من حدائق أمانة العاصمة الموجودة هناك داخل في حدود مزدلفة. وتقترح اللجنة أن الأعلام الموضوعة في الجانب الشرقي الشمالي من وادي محسر يوضع أعلام مماثلة لها بمحاذاتها حتى تصل إلى خشم الجبل الجنوبي الموضح أعلاه. انتهى ما يتصل بحدود مزدلفة من هذا القرار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 676 المعارضون 1113 – توقف عن التحديد جملة وتفصيلا بعض الأعضاء وبعضهم غائب، ولكن حصل القرار المذكور بأكثرية المجلس ممن تم بهم النصاب وعارض في الحد الجنوبي الغربي: 1- الشيخ محمد بن جبير. 2- الشيخ عبد الله بن منيع. 3- الشيخ عبد الله بن بسام (محرر هذه الأسطر) . ويرون أنه – كما نص العلماء – جميع الحد الغربي لمزدلفة هو " وادي محسر " وأن الحد الجنوبي لمزدلفة هو جبالها الجنوبية المنحرفة خشما جبل مزدلفة الجنوبي، فإذا حاذى الوادي خشم الجبل ثم الحد الجنوبي الغربي لمزدلفة بمحاذاة الوادي لخشم الجبل الغربى، وتسمى تلك الجبال الجنوبية لمزدلفة "جبال المريخيات". وبهذا تكون حدائق أمانة العاصمة كلها داخلة في حدود مزدلفة. هذا ما نقرره ونعتقده ونرى أن النصوص تدل عليه. والله من وراء القصد. أما الحد الشمالي الغربي لمزدلفة فقد قرر هيئة كبار العلماء عنه قرارا نأخذ منه قدر موضع الحاجة بما يلي: في الدورة العشرين لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في الطائف من الخامس والعشرين في شوال حتى السادس من ذي القعدة عام 1402 هـ، نظر المجلس في مزدلفة من الناحية الشمالية الغربية بناء على الأمر السامي رقم 11148 في 12/5/1402 هـ. واستمع المجلس إلى نصوص العلماء في تحديد مزدلفة، ورجع إلى محاضر اللجان السابقة، واطلع المجلس على المحضر المؤرخ في 3/11/1402 هـ والموقع من فضيلة الشيخ سليمان بن عبيد وفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع وفضيلة الشيخ عبد الله بن بسام، والخاص بالحدين الشمالي الغربي والجنوبي الغربى. وفي الدورة الواحدة والعشرين أعاد بحث الموضوع فرأى أن البت فيه ينبغي أن يكون بعد وقوف المجلس على الموقع وتطبيق كلام أهل العلم. وفي الدورة الاستثنائية السادسة المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة من يوم الأربعاء الموافق 3/5/1403 هـ حتى يوم الأحد الموافق 7/5/1403 هـ رجع المجلس إلى كلام أهل العلم مرة أخرى، وإلى محاضر اللجان السابقة، ووقف في المكانين المذكورين عدة مرات واستمع إلى ما لدى كل من فضيلة الشيخ عبد الله ابن بسام والشريف شاكر بن هزاع والشريف محمد بن فوازان الحارثي وانتهى بعد ذلك إلى ما يلي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 677 نظرا إلى أن العلماء قد نصوا على أن حد منى من الجهة الشرقية وادي محسر وحد مزدلفة من الجهة الغربية الوادى نفسه، ونصوا أيضًا على أن حد مزدلفة شمالا جبل ثبير، وحيث أن جبل ثبير ينعطف شمالا قبل أن يصل إلى وادي محسر، فإن المجلس بالأكثرية يرى أن الحد يمتد غربا من منعطف ثبير مارًّا بجنوبي الجبل المقابل لمنعطف ثبير إلى وادي محسر، فما أقبل من الجبال جنوبا فهو من مزدلفة، وما أدبر شمالا فهو خارج عنها. وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. رقم القرار – 105 – وتاريخه 7/5/1403 هـ. وسبق قرار الحد الغربي الجنوبي بالقرار رقم 106 في 7/5/1403.اهـ. وتأكد هذان القراران بالموافقة السامية بخطاب موجه من رئيس مجلس الوزراء إلى وزير الداخلية برقم 4/986/م في 30/4/1404 هـ. وجاء فيه. نخبركم بموافقتنا على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء بقراريه رقم 105 – 5/106 في 7/5/1403 هـ بالأكثرية من حيث تحديد مزدلفة من الناحيتين الشمالية الغربية والجنوبية الغربية، وعلى وزارتكم إنفاذ مقتضاه وقد زودنا الجهات المعنية بنسخة من أمرنا هذا للاعتماد فأكملوا ما يلزم بموجبه. رئيس مجلس الوزراء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 678 حدود عرفات 1114 – في عام 1386 هـ تشكل لجنة لتحديد عرفات بناء على تعميد المقام السامي على رئاسة القضاة. 1- الشيخ عبد الله بن عمر بن دهيش – رئيس المحكمة الكبرى بمكة المكرمة. 2- كاتب هذه الأسطر عبد الله بن عبد الرحمن البسام – قاضي المحكمة المستعجلة الثالثة كلاهما مندوبا عن رئاسة القضاة. 3- الشيخ سيد علوى بن عباس مالكي المدرس بالمسجد الحرام. 4- الشيخ أحمد العربي مدير أوقاف العاصمة المقدسة. 5- قائمقام العاصمة الشريف شاكر بن هزاع. وعدد كبير من أهل الخبرة بالمنطقة من السكان فأحضرنا النصوص من مراجعها من كتب التفسير والحديث والأحكام والمناسك والتواريخ ومعاجم البلدان، وطال ترددنا على مشعر عرفات والوقوف عليه والبحث مع السكان وأهل الخبرة. وبعد أن قارب الموضوع على أن ينتهي أحيل الشيخ عبد الله بن دهيش على المعاش، ونقلت أنا إلى رئاسة المحكمة الكبرى بالطائف. فشكلت لجنة أخرى لدراسة الموضوع مرة أخرى وصدر فيها القرار الآتي ما نحتاج إليه منه: الحمد لله وحده، وبعد؛ فبناء على ما تلقيناه من سماحة رئيس القضاة برقم 3615 في 22/8/1388 هـ نحن عبد الله بن جاسر وسليمان عبيد والسيد علوي مالكي وعبد العزيز بن فوزان، على أمر صاحب الجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز بتشكيل هيئة مؤلفة من طلبة العلم ومن سكان عرفات ومن وزارة الحج والأوقاف والشيخ بابصيل والمهندس فؤاد حوارى واستعرضنا النصوص في حدود عرفات ووقفنا على منتهى جميع جهات عرفات لنا بعد الدراسة: الحد الشمالي: حد موقف عرفة من جهة الشمال الشرقي هو الجبل المشرف على بطن عرفة المسمى "جبل سعد". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 679 الحد الغربي: وحد موقف عرفة من الجهة الغربية وادي عرنة يبتدئ من الجهة الشمالية من ملتقى وادي وصيق بوادي عرنة، وينتهي من جهة الجنوب عندما يحاذي أول سفح الجبل الواقع جنوبي المأزمين وطريق ضب. وتبلغ المساحة لهذا الحد ابتداء من ملتقى وصيق بوادي عرنة من الجهة الشمالية إلى منتهاه من الجهة الجنوبية (خمسة آلاف متر) . الحد الجنوبي: ويحد موقف عرفات من الجهة الجنوبية الجبال المقابلة للجبل الشمالي ويمتد الحد حتى يلتقي بمجرى وادي عرنة، وبهذا ينتهي الحد من الجهة الجنوبية الغربية. أما منتهاه الجنوبي الشرقي، فهو من الجهة الجنوبية الشرقية سلسلة الجبال الجنوبية من جهة الشرق التي يخترقها طريق السيارات الذاهبة إلى الطائف. الحد الشرقى: ويحد موقف عرفات من الجهة الشرقية جبل سعد. قال محرره: هكذا قالت اللجنة وجبل سعد تقدم أنه حد شمالي ولكن الحد الشرقى لعرفات هو ما ذكره صاحب جغرافية شبه الجزيرة العربية حيث قال: وهناك تحد جبل سعد خلف الوادي "عرفات" وقفله أمامك من الشرق بشكل قوس كبير، وعلى طرف القوس من جهة الجنوب طريق الطائف، فهذا في الحق هو الحد الشرقي لعرفات (1) . هذا ويعلم أن وجوه الجبال المحيطة بعرفات داخلة في الموقف كما قال ذلك إمام الحرمين، حيث قال: "ويطيف بمنعرجات عرفات جبال وجوهها المقبلة من عرفات. وقال الماوردي عن الشافعي: عرفات حيث وقف الناس من عرفات من جوانبها ونواحيها وجبالها وسهولها وبطاحها وأوديتها". اهـ. هذا ما ظهر لنا من حدود هذا الموقف العظيم بعد استقصاء للأدلة وتتبع الآثار والمعالم وسؤال أهل الخبرة من سكان تلك الجهة. هذا ونوصي بأن يوضح على الحدود التي أوضحناها أعلام كبيرة عالية وكتب عليها باللغات المشتهرة بأنها حدود الموقف، وأن يكون بين كل علمين مائتا متر على الحد الأقصى. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.   (1) هذا قبل أن يحدث الطريق السريع الذي يجعل جميع عرفات عن يساره للذاهب إلى الطائف.اهـ. عبد الله البسام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 680 حدود حمى المشاعر 1115 – الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد، بناء على أمر المقام السامي رقم 4/4/1155 في 18/5/1401 هـ، المبني على خطاب سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد رقم (473/2) في 7/3/1401 هـ. المتضمن ما جاء بقرار مجلس هيئة كبار العلماء في الدورتين (السادسة عشرة) و (الخامسة الاستثنائية) حول ما رفع من التعديات على أجزاء من المشاعر المقدسة والطرق المؤدية إليها ... إلخ. وموافقة المقام السامي الكريم على ما جاء فيه من لجنة مكونة من: 1- الرئيس العام لشئون الحرمين الشريفين سليمان بن عبيد. 2- القاضي بمحكمة التمييز عبد الله البسام. 3- القاضي بمحكمة التمييز عبد الله المنيع. 4- وكيل إمارة منطقة مكة المكرمة حمد بن محمد الشاوي. 5- أمين العاصمة المقدسة عبد القادر كوشك. 6- قائمقام العاصمة المقدسة الشريف شاكر بن هزاع. 7- مندوب عن وزارة الحج والأوقاف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 681 للنظر والقيام بما يلي: وذكر أشياء يهمنا منها هنا ما يلي: إزالة جميع التعديات التي حدثت على المشاعر وطرقها وما ينبغي أن يكون من مرافقها وحماها، وقد أوصى المجلس اللجنة المذكورة بالاهتمام بالعناية بها والاهتمام بأمر المشاعر والمحافظة عليها في الحاضر والمستقبل، وملاحظة الاحتياط في العمل والإسراع في إنجازه، وبعد ذلك تبدأ اللجنة بكامل أعضائها بدراسة الموضوع. وقامت بعدة استطلاعات على مشعري عرفة ومزدلفة وما يجب أن يكون حمى لها وبعد تداول الرأي وتبادل المشورة والاستماع إلى وجهات النظر تقرر ما يلي. ثالثا: فيما يتعلق بحمى المشاعر من طرق ومواقف للسيارات ومرافق عامة، فيكون الحد الغربي لها الطريق العام المسمى شارع مزدلفة الممتد من دقم الوبر جنوبا حتى يصل إلى جسر الشارع العام طريق الطائف السريع، ثم ينعطف شرقا مع الشارع طريق الطائف المذكور ليشكل حدا جنوبيا، حتى يصل إلى جسر مفرق الطريق المؤدي إلى جدة الواقع جنوب شرقي عرفة، ثم ينعطف إلى الشمال مع سلسلة جبال ملحة حتى يتصل بجبل سعد، ويمتد هذا الحد إلى أن يصل إلى ملتقى "وادي وصيق" بوادي عرنة ثم يمتد متجها إلى الجهة الشمالية الغربية مع ضفة "فج الحرمان" الشرقية الشمالية، حتى يصل إلى جبل الطارقي، ثم ينعطف الحد غربا حتى يلتقي بوادي سديرة المشهور بوادي المعيصب، ثم يستمر الحد مع وادي المعيصب حتى يصل إلى سفح الناحية الشرقية من جبل ثبير الواقع شمال منى. وتوصي اللجنة بأن يعهد إلى جهة الاختصاص فتقوم بوضع أعلام على مرافق المشاعر ومحارمها. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. تواقيع اللجنة التاريخ 9/3/1402 هـ. بعد هذا صدرت الموافقة السامية بموجب خطاب نائب رئيس مجلس الوزراء إلى وزير الداخلية بخطابه رقم 18366 في 2/8/1402 هـ الذي جاء فيه: يقوم معالي الرئيس العام لشئون الحرمين الشريفين الشيخ سليمان بن عبيد وفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع وفضيلة الشيخ عبد الله بن بسام بالإشراف على تنفيذ ما قررته اللجنة المذكورة ومتابعة العمل ومواصلة الجهود حتى يتم ذلك على الوجه الأكمل. ولموافقتنا على ذلك نرغب إليكم إكمال ما يلزم بموجبه، وقد زودنا كلا من وزارة العدل وأصحاب الفضيلة بنسخة من أمرنا هذا للاعتماد. نائب رئيس مجلس الوزراء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 682 الجمرات 1116 – الجمرات جمع جمرة: قال في المصباح: هي مجتمع الحصى بمنى، فكل كومة من الحصى جمرة، والجمع جمرات. قال الشيخ محمد حسن مكرم في كتابه "غيبة الناسك": الجمرة: موضع الشاخص لا الشاخص، فإنه علامة الجمرة، فإن وقع الحصى في الشاخص ولم ينزل لا يجزئه. قال في النخبة: محل الرمي هو الموضع الذي عليه الشاخص وما حوله لا الشاخص، وقدروا مجتمع الحصى بثلاثة أذرع، فلو كان في الشاخص طاق فاستقرت الحصاة فيه لم يجزئ. وقال الشافعي رحمه الله: الجمرة مجتمع الحصى لا ما سال من الحصى، فمن أصاب مجتمع الحصى بالرمي أجزأه ومن أصاب مسائل الحصى الذي ليس هو مجتمعه لم يجزه. والمراد مجتمع الحصى في موضعه المعروف، والذي هو كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن حجر الهيثمي: حَدَّهُ الجمالُ الطبري بأنه ما كان بينه وبين أصل الجمرة ثلاثة أذرع فقط. وهذا من تفقهه وكأنه قرر به مجتمع الحصى غير السائل، والمشاهدة تؤيده، فإن مجتمعه غالبا لا ينقص عن ذلك. وقال ابن حجر الهيثمي أيضًا قول النووي: والمراد مجتمع الحصى المعهود الآن بسائر جوانب الجمرتين الأوليين، وتحت شاخص جمرة العقبة هو الذي كان في عهده صلى الله عليه وسلم. وقال المحب الطبري: وليس للمرمى حد معلوم، غير أن كل جمرة عليها علم، وهو عمود معلق هناك فيرمى تحته وحوله ولا يبعد عنه احتياطا. وحده بعض المتأخرين بثلاثة أذرع من سائر الجوانب، إلا في جمرة العقبة فليس لها إلا جانب واحد لأنها تحت جبل. وقال الشيخ منصور البهوتي: فظهر أن موضع الحصى لا ما سال منه ولا الشاخص كما نص عليه الشافعي رحمه الله تعالى. وقال الشيخ سليمان بن علي: المرمى الذي يترتب عليه الأحكام هو الأرض المحيطة بالميل المبني ولم أقف على حد ذلك هل هو ذراع أو أكثر أو اقل. فلو طرح الحصاة على رأس البناء لا يعتد بها لأنها لم تحصل بالمرمى، هذا في الجمرتين، أما جمرة العقبة، فالذي يظهر لي والله أعلم أن المرمى منها الأرض التي في أصل البناء مما يلي بطن الوادى فلو رمى ظهرها لم يعتد برميه. اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 683 قال محرره عبد الله بن بسام: كأن الشيخ سليمان بن علي لم يطلع على أقوال العلماء التي نقلناها وغيرها. وبعد، فما تقدم من النصوص في بيان وتحديد مكان رمي الجمرات منقول عن علماء مكة المكرمة ويلاحظ منه أمور: أولا: كان مرمى الجمار الثلاث غير محوط، وكان الناس يرمون الحصى بأصل الشاخص وما قرب منه من الأرض، والعلماء قد اختلفوا في قدر المرمى، فبعضهم يقدره إلى أصل الشاخص بثلاثة أذرع وبعضهم باقل من ذلك والثالث منهم يرون أن الشاخص وأرضه ليسا من المرمى، فلو تعلقت الحصاة في المرمى لم تجز، ولو أزيل الشاخص فرمى مكانه لم يجز، فبينهم في ذلك خلاف طويل جدًا، لاسيما بين علماء الحنفية وعلماء الشافعية. أما الحنابلة فلم نعثر لهم على تقدير وتحديد لموضع المرمى، وإنما يتناقلون عبارة الشافعي المتقدمة. قال الشيخ محمد شكري إسماعيل حافظ كتب الحرم المكي ؤفى رسالته "الأنهار الأربعة في مرمى جمرة العقبة". الزحمة عند جمرة العقبة يلزم إزالتها بوضع شباك حواليها. هكذا أفتى كل من العلامة إبراهيم أدهم أفندي قاضي مكة المكرمة، والفاضل إسحاق أفندي قاضي مكة المكرمة، والفاضل إسحاق أفندي قاضي المدينة المنورة، والشيخ الكامل أحمد أفندي الطاغستاني مدرس السليمانية، والفاضل حسن أفندي مدرس الداوودية، والمولوك عبد الحق من أكابر علماء الهند، والفاضل محمد أفندي الشليانى المدرس بالحرم المكي، وغيرهم من العلماء، قال كل منهم: يجب إزالة الزحمة بالشباك، فأحدث في آخر شهر ذي القعدة من شهور السنة إحدى وتسعين ومائتين وألف شباك حديدى، والحامل لهم على ذلك دفع معظم زحمة الرامين لجمرة العقبة، لا لتحديد ذات المرمى، ومساحة يسار العلم إلى جهة منى ما بين ركن العلم والشباك بذراع اليد أربعة أذرع وخمس أصابع ونصف، ويمينه إلى جهة مكة ما بين ركنه والشباك خمسة أذرع، وأما من جهة الوادى ذراع واحد وعشرة أصابع من جهة مكة ومنى وما بين طرفي الشباك مع إدخال مساحة العلم فيه ثلاثة عشر ذراعا وعشر أصابع ونصف. فهذه حدود العلم إلى الشباك. قال محرره عبد الله بن عبد الرحمن البسام: وقد اعترض على أحداث هذه الشباك بعض العلماء، وأشدهم إنكارا له الشيخ على باصرين عالم مدينة جدة في زمنه، فقال في رسالة له: أن المقصود من وضع ذلك الشباك رفع معظم زحمة الرامين وهو حسن، غير أنه بالتحويط بذلك الشباك وعلى ما يعتبر فيه الرمي وما لا يعتبر؛ يحصل إيهام العوام، فيتوهمون أن جميع ما أحاط به ذلك مرمى، وليس الأمر كذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 684 ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فكان يتعين على فاعلي ذلك بالقصد الحسن أن يتداركوا رفع إيهام المفسدة الشرعية بأحد أمرين: أحدهما: إحداث شباك ثان من حديد يكون بقدر منصوص المرمى المتفق عليه في عرض أساس العلم المبني والثلاثة الأذرع معتبرة من أساس ظاهر العلم إلى جهة الوادي. الثانى: وضع دكة مرتفعة من حجر على المرمى المذكور بخصوصه ليميز من غيره مما أحاط به الشباك الحادث من الأرض التي لا يجزئ الرمي فيها. وأما بإزالة هذا الشباك الحادث الموهم. وإذا لم يفعل شباك ثان يحيط بالمرمى المتفق عليه فقط لم يخل بقاؤه على هذه الهيئة من إيهام ما لا ينبغى، فحينئذ يجب أن يفعل شباك ثان ليتميز عن غيره ويندفع ما يخشى من إيهام الشباك الأول. قال محرره عبد الله بن عبد الرحمن البسام: بعد مناقشة حول وضع هذا الشباك والتحقق أن وجوده يوهم بأن ما حواه كله مرمى أزيل، وأحدث بدله بناء أحواض حول الجمار الثلاثة، وذلك في السنة التي بعدها وهي سنة اثنتين وتسعين ومائتين وألف. ويظهر لى من الرسالة والبحث والمناقشة أن أحواض الجمار لما ثبت عام (1392 هـ) بنيت بشكل واسع ثم اختصرت أحواضها على ما هي عليه الآن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 685 وأرى أن الواجب هو إبقاء المشاعر على ما هي عليه بلا إحداثات فيها. وكلمة الإمام مالك رضي الله عنه للخليفة كلمة جيدة حينما قال: يا أمير المؤمنين، أخشى أن تتخذ الملوك بيت الله ملعبة. فالأحداث في المشاعر سبب لاتخاذها من الولاة ملعبة. نسأل الله تعالى أن يحفظ دينه ومشاعره ومقدساته، آمين. ثانيا: أن الشاخص الذي على الجمرات الثلاث كان موجودا زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقبله. قال أبو طالب في قصيدته اللامية وهو يعد المشاعر المقدسة ويعظمها: وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها يؤمون قذفا رأسها بالجنادل ثالثا: تقدير المرمى بثلاث أذرع. أما علماء القرن الرابع عشر الهجري فذكروا وجود هذا الحائط بالمدار على المرمى لأنهم ألفوا كتبهم بعد بنائه. قال إبراهيم رفعت في كتابه "مكة الحرمين": الجمار: هي حائط من الحجر ارتفاعه نحو ثلاثة أمتار في عرض نحو مترين، أقيم على منطقة صخرية مرتفعة عن الأرض بنحو متر ونصف، ومن أسفل هذا الحائط حوض من البناء تسقط إليه حجارة الرجم. اهـ. وقال الشيخ عبده بن علي العمري الحضرمي في منسكه "دليل الطريق لحجاج بيت الله العتيق" الذي ألف كتابه عام 1355 هـ: "المرمى: هو المحل المبني فيه العلم - أي العمود - وضبط بثلاثة اذرع من مجموع جوانبه، وقد حوط الآن على هذا المقدار بجدار قصير فالمرمى يكون داخله. وهذا في غير جمرة العقبة أما هي فلها جهة واحدة وعليه دائرة أمامها، فالمرمى يكون في وسط الدائرة تحتها " اهـ. قلت أنا محرر هذه الأسطر عبد الله بن بسام: وقد أدركت جمرة العقبة وهي في سفح العقبة المذكورة والجمرة في جهتها الغربية الجنوبية وقد أزيلت العقبة المذكورة وجعل وراء الجمرة ما يلي الشمال الشرقي قاعدة بناء لمنع الرمى من خلفها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 686 قال العالم المعاصر الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر: قولهم: ترمى جمرة العقبة من فوقها، وذلك أن هناك عقبة معتلية في جانب الجمرة، وقد أزيلت العقبة في زمننا هذا. فما ذكره العلماء من رمي جمرة العقبة من فوقها إنما كان ذلك قبل إزالة العقبة التي في ظهر الجمرة المذكورة شمالا شرقا. وكان إزالة العقبة في جمادى الأولى سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف هجري. وإزالة العقبة لصالح توسعة شوارع، وذلك بموجب خطاب من رئيس القضاة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ جاء فيه: من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم رئيس الديوان العام الموقر. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. بالإشارة إلى خطابكم رقم 15/5/3175 وتاريخ 11/8/1375 هـ حول توسيع ما حول جمرة العقبة نفيدكم أنه جرى الاطلاع على قرار رئيس المحكمة الكبرى بمكة بهذا الخصوص، ونرى الموافقة عليه على أساس أن يكون الأخذ من الجبل المذكور الذي تستند إليه جمرة العقبة بطريقة التسهيل فقط، على أساس أن لا يمس الشاخص والحوض وما يليه، ويكون الوصول إلى المرمى من تلك الجهة سهلا وتبقى الجهة التي فوق المشعر المذكور مع العلم أن التسامح في التسهيل المذكور نظرا للحالة الحاضرة ووجود الزحام الذي ينشأ عنه ما ينشأ من أضرار ولولا ذلك بقي كل شيء على ما كان عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تاريخ 1/9/1375 هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 687 قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رئيس القضاة في خطاب له وجهه إلى أمير مكة المكرمة بتاريخ 2/7/1383 هـ عند الكلام على جمرة العقبة: يتعين إبقاء المرمى – وهو الحوض – على ما كان عليه فلا يزداد فيه ولا ينقص منه بل يبقى حسب حالته السابقة كنصف دائرة والشاخص في جانبها الشمالي. أما الشاخص فيبقى على حالته قائما ملاصقا لجدار الجمرة الشمالي ، وينبغى أن يكون إصلاح ما ذكر بحضرة مندوب من قبلنا لإيضاح معنى ما قررناه وتطبيق ما تضمنته الفتوى. والسلام عليكم. 1117 – وقد بحث موضوع أحواض الجمرات في مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية أصدر فيه القرار الآتي: قرار رقم (127) في 29/6/1405 هـ الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخامسة والعشرين المنعقدة بمدينة الرياض في الفترة من 18/6/1405 هـ إلى 29/6/1405 هـ. قد نظر في موضوع توسعة حواف دوائر الرجم العلوية في الجمرات وإنشاء مستودعات أرضية لاستيعاب الحصى، وذلك بناء على كتاب المقام السامى رقم 4/237/م في 14/2/1405 هـ، وقد اطلعت الهيئة على البحث الذي سبق أن أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في موضوع الجمرات، وعلى قرار المجلس رقم (12) في 16/4/1393 هـ وبعد المناقشة وتداول الرأى، قرر المجلس بالأكثرية إبقاء ما كان على ما كان وعدم أحداث شيء مما ذكر، سواء عمل مستودعات لحصى الجمار تحت حوض كل جمرة أو توسعة حواف جدار دوائر الرجم من اعلى. ومعلوم أن الحصى متى وصل إلى الحوض أجزأ ولو لم يستقر فيه، وتدحرج وسقط خارجه، وفي الإمكان تخفيف حصى الجمار المتجمع في الاحواض وحولها في جزء من آخر الليل لقلة الناس في ذلك الوقت. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 688 1118 – من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب الجلالة الملك سعود ابن عبد العزيز حفظه الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، اطلعت على خطاب الشيخ حمود التويجرى لجلالتكم المؤرخ في 9/11/1376 هـ المتضمن النصيحة حول البناء في منى. والحقيقة – حفظكم الله – أن ما ذكره هو عين الصواب. وكما أن المسجد الحرام لا يجوز لأحد أن يبني فيه منزلا فهذا المشعر كذلك، ومن استولى على شيء منه تملكا وصلى فيه فصلاته غير صحيحة؛ لأنه صلى في مكان غصب، فالله الله يا إمام المسلمين في كف هذه الأيدى الغاصبة عن هذا المشعر الذي هو موضع العبادة الخاصة إلى يوم القيامة، واغتصاب شيء منه أعظم من اغتصاب أملاك المسلمين المحترمة. وبعد أن كثر الحجاج واشتد الزحام على الجمرات فكر المسئولون بإنشاء دورتين للجمرات. فسئل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رئيس القضاة عن ذلك فأجاب بما يلي: 1119 – من محمد بن إبراهيم إلى حضرة معالى وزير الحج والأوقاف: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، اطلعنا على خطابكم رقم 1667/1 في 11/4/1382 هـ حول إنشاء دورتين للجمار الثلاث، كما اطلعنا على صورة الخرائط والمواصفات التي وضعت لهذا المشروع. ونفيدكم أننا لا نرى مانعا من ذلك بشرط الإتيان على الغرض المقصود، والخلو من أي محذور شرعى. وفق الله الجميع، وجعل هذا العمل نافعا. والسلام عليكم. التاريخ 25/6/1382 هـ. مقام إبراهيم 1120 – قال الشيخ محمد بن إبراهيم: مقام إبراهيم عليه السلام كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وبعض خلافة عمر رضي الله عنهما في سقع البيت. ثم أخره عمر أول مرة مخافة التشويش على الطائفين، ورده المرة الثانية حين حمله السيل إلى ذلك الموضع الذي وضعه فيه أول مرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 689 وما دام الأمر كذلك فلا مانع من تأخير المقام اليوم عن ذلك الموضع إلى موضع آخر في المسجد الحرام يحاذيه ويقرب منه، نظرًا إلى ما ترتب اليوم على استمراره في ذلك الموضع من حرج أشد على الطائفين من مجرد التشويش عليهم الذي حمل ذلك الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أن يؤخره من الموضع الذي كان فيه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وصدر خلافة عمر. وبتأخيره نكون مقتدين بعمر بن الخطاب المأمورين بالاقتداء به، ونرفع الحرج من ناحية أخرى عن الأمة المحمدية التي دلت النصوص القطعية على رفع الحرج عنها. قال العلماء الآتية أسماؤهم: أما تنحية مقام إبراهيم عن موضعه الآن شرقا مسمتا ليتسع المطاف، فحيث توقف بعض المشايخ في ذلك اتفق الرأى من الجميع على اختصار هذا الهيكل الذي على المقام الآن بجعله مترا في متر فقط، والباقي يبقى توسعة في المطاف، فيكون من المطاف من وجه وزيادة في مصلى الركعتين من وجه خر، إذا فقدت الزحمة صارت صلاة الركعتين فيه وفيما خلفه من المصلى الأول، وإذا وجدت الزحمة انشغل هذا الزائد بالطائفين وصلى المصلون ركعتي الطواف خلفه: محمد بن إبراهيم آل الشيخ – عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ – عبد العزيز باز – عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر – عبد الله بن عمر بن دهيش – حسن بن عبد الله آل الشيخ – عبد العزيز بن ناصر بن رشيد – علوي عباس مالكي – محمد بن علي الحركان – عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ – أمين كتبي – محمد يحيى أمان. تاريخ الخطاب المرفق بهذا القرار في 2/1/1380 هـ. 1121 – هذه فقرات مقتطفة من قرار الهيئة العلمية الآتية أسماؤهم: جرى البحث فيما يتعلق بتحديد عرض المسعى، فجرت مراجعة كلام العلماء لم نجد للحنابلة تحديدا لعرض المسعى. وقال النووي في المجموع: قال الشافعي والأصحاب: لا يجوز السعي في غير موضع السعى، لو مر وراء موضع السعي لم يصح سعيه؛ لأن السعي مختص بمكان فلا يجوز فعله في غيره كالطواف. قال الشافعي في القديم: فإن التوى يسيرا أجزأه، وإن عدل حتى يفارق الوادي المؤدي إلى زقاق العطارين لم يجز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 690 وقال الرفاعي: أن التوى في السعى يسيرا جاز، وإن دخل المسجد أو زقاق العطارين فلا. والله أعلم. وقال الرملي الشافعى: لم أر في كلامهم ضبط عرض المسعى وسكوتهم عنه لعدم الاحتياج إليه، فإن الواجب استبعاد المسافة التي بين الصفا والمروة كلها، ولو التوى في سعيه عن محل السعي يسيرا لم يضر، كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه. وقال في تحفة المحتاج: الظاهر أن التقدير لعرضه بخمسة وثلاثين أو نحوها على الترتيب، إذ لا نص يحفظ من السنة فلا يضر الالتواء اليسير بخلاف الكثير فإنه بخرج عن تقدير العرض ولو على التقريب. وقال الأزرقي: وذرع ما بين العلم الذي على جانب باب المسجد إلى العلم الذي بحذائه على باب دار العباس بن عبد المطلب وبينهما عرض المسعى خمسة وثلاثون ذراعا ونصف ذراع. وحيث أن الحال ما ذكر بعاليه ونظرا إلى أنه في أوقات الزحمة عندما ينصرف بعض الجهال من أهل البوادي ونحوهم من الصفا قاصدا المروة يلتوي كثيرا حتى يسقط في الشارع العام، فيخرج من حد الطول من ناحية "باب الصفا" والعرض معا، ويخالف المقصود من البينية بين الصفا والمروة، وحيث أن الأصل في السعي عدم وجود بناء وأن البناء حادث قديما وحديثا، وأن مكان السعي تعبدي وأن الالتواء اليسير لا يضر؛ لأن التحديد المذكور بعاليه تقريبي بخلاف الالتواء الكثير، كما تقدمت الإشارة إليه في كلامهم فإننا نقرر ما يلي: أولا: لا بأس ببقاء العلم الأخضر الذي بين دار الشيبي ومحل الأغوات، ولا بأس من السعي في موضع دار الشيبي؛ لأن مساحتها في بطن الوادي بين الصفا والمروة، على أن لا يتجاوز الساعي ما كان بين الميل والمسجد مما يلي الشارع العام وذلك للاحتياط والتقريب. ثانيا: إننا نرى عرض كل ما ذكرناه على سماحة المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم حفظه الله. الهيئة علوي بن عباس مالكي – عبد الملك بن إبراهيم – عبد الله بن دهيش. جلالة الملك المعظم – من خصوص قرار الهيئة في حدود المسعى قد اطلعنا عليه فوجدناه صوابا حفظكم الله. محمد بن إبراهيم في 23/10/1374 هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 691 جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحرية لفضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحرية لقد طلب مني أحد العلماء الأجلاء أن أدلي بدلوي في استنباط طريق الفقه الشرعي في جواز الإحرام بالحج من جدة أو عدمه. لهذا وجب علي أن أبين للناس ما ظهر لي في حكمه حسب ما وصل إليه علمي، وقد يخفى علي ما عسى أن يظهر لغيري. " إذ الحق فوق قول كل أحد. وفوق كل ذي علم عليم". وأنه مما لا خلاف فيه ولا خفاء ما ثبت في البخاري ومسلم، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ميقات أهل المدينة ذو الحليفة وتسمى الآن: آبار علي وميقات أهل الشام الجحفة، وميقات أهل نجد قرن المنازل. وميقات أهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة)) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 692 وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فتح هذا المصران (العراق ومصر) أتوا عمر. فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنًا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنًا شق علينا. قال: فانظروا حذوها من طريقكم. فحد لهم (أهل العراق) ذات عرق. وهذه المواقيت المكانية تعد من معجزات النبوة، حيث وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه البلدان قبل إسلام أهلها، كما أشار إليه النظم بقوله: وتعيينها من معجزات نبينا لتعيينه من قبل فتح المعدد لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يفتح في زمنه سوى مكة والطائف، والذي حج مع النبي صلى الله عليه وسلم هم أهل المدينة، وعرب الحجاز ومن يليهم من أهل نجد، وبعض من أسلم من أهل اليمن، فكانوا قليلين بالنسبة إلى الحجاج في هذه السنين. وهذا التحديد بهذه الصفة، وقع حيث كان حج الناس على الدواب من الإبل والخيل والحمير، ويمرون بهذه الطرق، وهي المواقيت المكانية لسائر أهلها، ولمن مر عليها إلى يوم القيامة. وقد انتشر الإسلام، وامتد سلطان المسلمين على كثير من البلدان التي لم يقع لها ذكر في التحديد، كمصر، والسودان، والمغرب، وسائر أفريقيا، وبلدان الترك، والهند، وكثير من المسلمين الذين يسكنون في بلدان النصارى، وفي الصين، واليابان، وروسيا، بحيث أنهم في تلك الأزمنة لا يستطيعون حيلة في الوصول إلى مكة، ولا يهتدون إليها سبيلاً، فلم يقع لهم ذكر في التحديد من جهة البحر سوى قوله: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) (1) . ومن المعلوم أن ركاب الطائرات لا يأتون إلى هذه المواقيت، ولا يمرون عليها. وقد صار حج جميع أولئك على متون الطائرات التي تحلق بهم إلى أجواء السماء مسافة الألوف من الأقدام في الارتفاع، حتى تهبط بهم على ساحل جدة بحيث لا يمرون بشيء من المواقيت. والحكم يدور مع علته، ولكل حادث حديث، ولن يعجز الفقه الإسلامي الصحيح الواسع الأفق عن إخراج حكم صحيح في تعيين ميقات يعترف به لحج هؤلاء القادمين على متون الطائرات؛ لكون شريعة الإسلام كفيلة بحل مشاكل العالم ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع بعد أعوام.   (1) رواه مسلم عن ابن عباس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 693 وحاجة تعيين ميقات في جدة للقادمين على الطائرات آكد من هذا كله، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا ويرى كثرة النازلين من أجواء السماء إلى ساحة جدة، يؤمنون هذا البيت للحج والعمرة، لبادر إلى تعيين ميقات لهم من جدة نفسها، لكونها من مقتضى أصوله ونصوصه. والحكمة في وضع المواقيت موضعها، أنها جعلت بمسالك طرق الناس إلى مكة، فهي كالأبواب إلى دخول مكة المشرفة. وفيها يعمل الحاج عمله في تنظيم دخوله في إحرامه، وما يلزم ذلك من التنظيف والاغتسال، وقلم الأظفار، والطيب، ثم التخلي عن المخيط، ولبس الإحرام المشبه بالأكفان، إزار ورداء، ثم تعليم العوام كيفية الدخول في النسك، وهذه الأعمال تطلب وقتًا ومكانًا، فشرع تعيين المواقيت لها، أو ما علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع نزل بذي الحليفة ميقات أهل المدينة، ضحى، فأقام بها يومه وليلته وبعض اليوم الثاني، بحيث صلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد تلك الليلة حتى صلى الصبح، فلما أضحى من اليوم الثاني اغتسل وتطيب. وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه "إعلام الموقعين"، قال: فصل في تغير الفتوى واختلافها، بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوايد. قال: "وهذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا يطاق، مما يعلم أن الشريعة الباهرة لا تأتي به؛ لأن الشريعة مبناها على الحكمة والمصلحة للعباد في المعاش والمعاد، وهي عدل ورحمة ومصالح، وكل ما خرج عن العدل والرحمة والمصلحة فليس من الشريعة وأن نسب إليها". انتهى. وقد يظن بعض من يسمع هذا الكلام، أن العلامة ابن القيم يقول بجواز تغير نصوص الدين وأصوله عن أصله كما سبق إليه فهم بعض الناس. وإنما يعني به: تغير الفتوى في فروع الفقه، مما وقع فيه التسهيل والتيسير في الشريعة نفسها، فما جعل عليكم في الدين من حرج، كما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الصور، من ذلك ما روى الإمام أحمد، وأبو داود، والدارقطني، عن عمرو بن العاص، أنه احتلم في ليلة باردة شديدة البرد في عزوة ذات السلاسل، قال: فأشفقت أن اغتسلت أن أهلك، فتيممت وصليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له أصحابي ما صنعت، فقال لي: يا عمرو أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم يا رسول الله، ذكرت قول الله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فتيممت وصليت. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يقل شيئًا مما يدل على إقراره لهذه السنة بمقتضى سكوته عنها، وهي حقيقة في تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال، إذ الأصل وجوب الغسل لواجد الماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 694 ومثله ما روى الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، أن سعد بن عبادة ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رويجلا ضعيفًا في أبياتهم زنى بامرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اضربوه حده" فاقل سعد: أنه أضعف من ذلك. قال: خذوا عثكالا فيه مائة شمراخا فاضربوه به ضربة واحدة، ففعلوا. فقد عرفت كيف تغيرت فتوى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا من حالة الشدة إلى حالة التيسير والتسهيل إذ الأصل في جلد الحد تفريق الضربات حتى تأخذ كل ضربة مكانها من جسده ونظرا لضعف حاله جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم جلدة واحدة بعثكول فيه مائة شمراخ. وله نظائر كثيرة، وقد أفتى الصحابة بجواز فطر الحامل والمرضع متى خافتا على أنفسهما أو على ولديهما، وليس كل حامل أو مرضع تفتى بهذا. وهذا هو عين الفقه، ولو حكم بموجبه قاض لرموه بالتشنيع والزراية، ونسبوه إلى عدم الرواية والدراية، وإلى التساهل في أمر الدين، كما أنهم الآن يعيبون كل من أفتى بالتيسير فيما يقتضيه، متى وجد العالم إليه سبيلاً، فيرمونه بالتساهل في أمر دينه، وكونه مستخفًا بحرمات الله وحدوده؛ لأن بعض الفقهاء المتحجرة أفهامهم يميلون إلى التشديد في أقضيتهم وأحكامهم، ويقيدون الشريعة بقيود توهن الانقياد، ويجعلونها ضيقة النطاق. وقد قال لي أحد الفقهاء في محضر محشود بكبار العلماء، قد عقد للمناظرة في قولي بجواز رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق عند حصول هذا الحشد العظيم، حينما فتحت مشارق الأرض ومغاربها لحج بيت الله العتيق بالآلات الحديثة من السيارات والطائرات حتى ضاقت الأرض، فكان من قول هذا العالم: "أن من تتبع الرخص تزندق"، قاله بمسمع من جميع العلماء الحاضرين، حتى كأن التشديد والغلو من سنة الدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 695 وخفي على هذا العالم أن هذه كلمة كبيرة عند الله تنادي بإبطال سنة الله التي شرعها لعبادة؛ صدقة منه عليهم، ورحمة منه بهم؛ إذ الرخصة هي التسهيل، وهي ما ورد على خلاف أمر مؤكد لمعارض راجح، وضد الرخصة العزيمة، وهي الأمر المؤكد، ولما نزل قوله سبحانه: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] . ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هي صدقة من الله تصدق بها عليكم فاقبلوا صدقته)) . فقصر الصلاة في السفر رخصة، وفطر الصائم في السفر رخصة، وفطر المريض رخصة، والمسح على الخفين رخصة، والمسح على الجبيرة رخصة. أفيكون من عمل بهذه الرخصة زنديقًا؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، فإن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته. وقد سمى الله الرخصة تيسيرًا في جواز فطر المريض، والمسافر، والشيخ الكبير، فقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] . ولما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن. قال لهما: ((يسرا ولا تعسرا)) . وقال يومًا لأصحابه: ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) . فالتيسير متى وجد العالم إليه سبيلاً، وجب أن يفتي بموجبه؛ لأنه من شريعة الدين الذي قال الله فيها: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 8] . أراد الله تيسيرًا وأنتم من التعسير عندكم ضروب ولا ينبغي لنا أن نكون من سجناء الألفاظ، بحيث متى حفظ أحدنا قولاً من أقوال فقهائنا القدماء ليس له نصيب من الدليل والصحة، جعلناه حقًا لا محيص عنه ولا محيد، فنكون من سجناء الألفاظ الذين عناهم العلامة ابن القيم بقوله: وأكثرهم بسجن اللفظ محبو سون خوف معرة السجان والكل إلا الفرد يقبل مذهبا في قالب ويرده في ثاني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 696 جواز جعل جدة ميقاتًا لركاب الطائرات الجوية والسفن البحرية إنه متى كان أصل فرض الحج موقوفًا على الاستطاعة، وكونه يسقط بجملته عمن لا يستطيعه سقوطًا كليًا بدون استنابة على القول الصحيح. ويسقط عمن يخاف على نفسه خوفًا محققًا، فكذلك سائر واجباته تسقط عمن لا يستطيعها بدون استنابة ولا فدية، ومتى كان الأمر بهذه الصفة، وأن جميع الطائرات التي تحمل الحاج مكلفة حسب النظام بالنزول في مطار جدة، ولا يحيد أحد عن هذا النظام الحكومي، وقد هيأت الحكومة - حرسها الله - للحجاج في مطار جدة سائر ما يحتاجون إليه، من وسائل الراحة والرفاهية، فأعدت لهم المحلات الواسعة المنظمة بالماء للشرب وللوضوء والاغتسال، ومواضع الراحة والصلاة، وكذا الكهرباء والأكل، بحيث يتمكنون من فعل الإحرام براحة وسعة. ويوجد هناك من العلماء من يرشدهم إلى تعليم الدخول في النسك، وتعليم ما ينبغي لهم فعله، وبيان ما يجب عليهم اجتنابه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في المواقيت: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) (1) . ومن العلوم أن مرور الطائرة فوق سماء الميقات، وهي محلقة في السماء، لا يصدق على أهلها أنهم أتوا الميقات المحدد لهم، لا لغة ولا عرفًا؛ لكون الاتيان هو الوصول إلى الشيء في محله، كقوله سبحانه {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] . فإتيان البيوت هو: الوصول إليها أو دخولها، فلا يأثم من جاوزها في الطائرة، ولا يتعلق به دم عن المخالفة، كما أنه لن يتمكن ركاب الطائرات من الإحرام في بطن الطائرة بين السماء والأرض؛ لكونهم مشغولين بالاضطراب والخوف من خطر الطائرة خشية وقوع الحادث بها، ولن يزالوا في خوف حتى يصلوا إلى ساحل السلامة.   (1) رواه مسلم عن ابن عباس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 697 فمتى كان الأمر بهذه الصفة، وأن القضية هي موضع اجتهاد، وتطلب من العلماء والحكام تحقيق النظر في تعيين الميقات لهؤلاء القادمين على متون الطائرات لحجهم وعمرتهم، ولا أَوْفَقَ ولا أَرْفَقَ مِن جَعْلِ جدة هي الميقات، إذ هي باب الدخول إلى مكة من جهة البحر، فتكون ميقاتًا لجميع القادمين إليها على الطائرات أو البواخر والسفن لتمكن الحاج من فعل ما يسن في الإحرام، أشبه ما فعله عمر حين وقت لأهل العراق ذات عرق، ويجب على جميع الكافة طاعتهم ومتابعتهم على هذا التوقيت؛ لقوله سبحانه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} [النساء: 59] ، فألو الأمر هم: العلماء والحكام الذين تجب طاعتهم في مثل هذا، إذ هو من طاعة الله سبحانه. وبما أن الحكمة في وضع المواقيت في أماكنها الحالية كونها بطرق الناس وعلى مداخل مكة، وكلها تقع بأطراف الحجاز، وقد صارت جدة طريقًا لجميع ركاب الطائرات، ويحتاجون بداعي الضرورة إلى تعيين ميقات أرضي يحرمون منه لحجهم وعمرتهم، فوجبت إجابتهم، كما وقت عمر لأهل العراق ذات عرق، إذ لا يمكن جعل الميقات في أجواء السماء أو في لجة البحر الذي لا يتمكن الناس فيه من فعل ما ينبغي لهم فعله، من خلع الثياب والاغتسال للإحرام والصلاة وسائر ما يسن للإحرام؛ إذ هو مما تقتضيه الضرورة، وتوجبه المصلحة، ويوافقه المعقول، ولا يخالف نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذه نصحيتي للملوك والحكام، وللعلماء الكرام، والله خليفتي عليهم، والسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 698 حكم الإحرام من جدة للواردين إليها من غيرها القرار الثاني لمجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة القرار الثاني حكم الإحرام من جدة للواردين إليها من غيرها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد ناقش في جلسته الثالثة صباح يوم الخميس الموافق 10/4/1402 هـ. والمصادف 4/2/1982 م موضوع "حكم الإحرام من جدة وما يتعرض إليه الكثير من الوافدين إلى مكة المكرمة للحج والعمرة عن طريق الجو والبحر" لجهلهم عن محاذاة المواقيت التي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب الإحرام منها على أهلها ومن مر عليها من غيرهم ممن يريد الحج أو العمرة. وبعد التدارس واستعراض النصوص الشرعية الواردة في ذلك قرر المجلس ما يأتي: أولاً: إن المواقيت التي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب الإحرام منها على أهلها وعلى من مر عليها من غيرهم ممن يريد الحج والعمرة، وهي: ذو الحليفة لأهل المدينة ومن مر عليهم من غيرهم وتسمى حاليًا (أبيار علي) ، والجحفة وهي لأهل الشام ومصر والمغرب ومن مر عليها من غيرهم وتسمى حاليًا (رابغ) ، وقرن المنازل وهي لأهل نجد ومن مر عليها من غيرهم وتسمى حاليًا (وادي محرم) وتسمى أيضًا (السيل) ، وذات عرق لأهل العراق وخراسان ومن مر عليها من غيرهم وتسمى (الضريبة) ، ويلملم لأهل اليمن ومن مر عليها من غيرهم. وقرر أن الواجب عليهم أن يحرموا إذا حاذوا أقرب ميقات إليهم من هذه المواقيت الخمسة جوًا أو بحرًا، فإن اشتبه عليهم ذلك ولم يجدوا معهم من يرشدهم إلى المحاذاة وجب عليهم أن يحتاطوا وأن يحرموا قبل ذلك بوقت يعتقدون أو يغلب على ظنهم أنهم أحرموا قبل المحاذاة؛ لأن الإحرام قبل الميقات جائز مع الكراهة ومنعقد، ومع التحرى والاحتياط خوفًا من تجاوز الميقات بغير إحرام فتزول الكراهة؛ لأنه لا كراهة في أداء الواجب، وقد نص أهل العلم في جميع المذاهب الأربعة على ما ذكرنا، واحتجوا على ذلك بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في توقيت المواقيت للحجاج والعمار، واحتجوا أيضًا بما ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال له أهل العراق: إن قرنا جور عن طريقنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 699 قال لهم رضي الله عنه: انظروا حذوها من طريقكم. قالوا: ولأن الله سبحانه أوجب على عباده أن يتقوه ما استطاعوا، وهذا هو المستطاع في حق من لم يمر على نفس الميقات، إذا علم هذا فليس للحجاج والعمار الوافدين من طريق الجو والبحر ولا غيرهم أن يؤخروا الإحرام إلى وصولهم إلى جدة؛ لأن جدة ليست من المواقيت التي وقتها رسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا من لم يحمل معه ملابس الإحرام، فإنه ليس له أن يؤخر إحرامه إلى جدة، بل الواجب عليه أن يحرم في السراويل إذا كان ليس معه إزار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل. وعليه كشف رأسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: عما يلبس المحرم؟ قال: لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا الخفاف إلا لمن لم يجد النعلين)) . الحديث متفق عليه. فلا يجوز أن يكون على رأس المحرم عمامة ولا قلنسوة ولا غيرهما مما يلبس على الرأس. وإذا كان لديه عمامة ساترة يمكنه أن يجعلها إزارا يتزر بها، ولم يجز له لبس السراويل، فإذا وصل إلى جدة وجب عليه أن يخلع السراويل ويستبدلها بإزار إذا قدر على ذلك، فإن لم يكن عليه سراويل وليس لديه عمامة تصلح أن تكون إزارا حين محاذاته للميقات في الطائرة أو الباخرة أو السفينة؛ جاز له أن يحرم في قميصه الذي عليه مع كشف رأسه، فإذا وصل إلى جدة اشترى إزارا وخلع القميص وعليه عن لبسه القميص كفارة، وهي إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من تمر أو أرز أو غيرهما من قوت البلد، أو صيام ثلاثة أيام، أو ذبح شاة، هو مخير بين هذه الثلاثة كما خيّر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة لما أذن له في حلق رأسه وهو محرم للمرض الذي أصابه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 700 ثانيًا: يكلف المجلس الأمانة العامة للرابطة بالكتابة إلى شركات الطيران والبواخر بتنبيه الركاب قبل القرب من الميقات بأنهم سيمرون على الميقات قبل مسافة ممكنة. ثالثًا: خالف عضو مجلس المجمع الفقهي الإسلامي معال الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء في ذلك، كما خالف فضيلة الشيخ أبو بكر محمود جومي عضو المجلس بالنسبة للقادمين من سواكن إلى جدة فقط، وعلى هذا جرى التوقيع والله ولي التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. (توقيع) محمد علي الحركان (1) نائب الرئيس - (اعتذر لمرضه) رئيس مجلس المجمع الفقهى عبد الله بن حميد - الأعضاء - (توقيع) عبد العزيز بن عبد الله بن باز - (تخلف عن الحضور) مبروك العوادي (توقيع) محمد بن عبد الله بن السبيل - (حضر بعض الجلسات واعتذر) عبد القدوس الهاشمي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 701 (1) مع التحفظ في وجوب الفدية على لبس القميص في هذه الحالة، حيث أنه مضطر لعدم وجود ملابس الإحرام حين عقده وخلعه حين وجود الملابس لما ذكره في الفروع، حيث قال: فإن احرم في قميص ونحوه خلعه ولم يشقه ولا فدية؛ لأن يعلى بن أمية أحرم في جبة فأمره النبي بخلعها. متفق عليه. ولأبي داود: فخلعها من رأسه ولم يأمره بشق ولا فدية. اهـ. (توقيع) مصطفى أحمد الزرقاء (توقيع) أبو بكر محمود جومي (تخلف عن الحضور) أبو الحسن على الحسنى الندوي (تخلف عن الحضور) محمود شتيت خطاب (توقيع) محمد رشيد قباني (توقيع) محمد محمود الصواف (توقيع) صالح بن عثيمين (توقيع) محمد رشيدي (توقيع) محمد الشاذلي النيفر (تخلف عن الحضور) حسنين محمد مخلوف - (توقيع) محمد سالم عدود (مقرر المجمع الفقهي الإسلامي) محمد عبد الرحيم الخالد نائب الرئيس محمد علي الحركان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 702 المناقشة الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة 11 صفر 1407 هـ/14 أكتوبر 1986م الجلسة المسائية الثانية بعد المغرب الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين. الموضوع الذي أمامنا هو الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة. هل يكون ميقاته من جدة أو يكون من المواقيت أو إذا حاذى المواقيت سواء كان جوًا أو بحرًا. وهذه المسألة هي كذلك من المسائل التي طرحت في مجمع الفقه الإسلامي بمكة، ولها تاريخ طويل، وأعد فيها هنا عدة بحوث، ونرجو من فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء أن يتفضل بعرض موجز عن هذه القضية وشكرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 703 الشيخ مصطفى الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم. إخواني الكرام، استهللت أنا بحثي ببيان حكمة الله تعالى والإسلام في الإحرام وكونه قبل الوصول إلى البيت العتيق، هذه الحكمة استعرضتها بشيء بسيط، يعني بكلام لطيف، وبينت أن هذه فيها تعظيمًا للبيت قبل الوصول إليه، وفيها التهيؤ لهذا التجرد الذي أوجبه الإسلام على الإنسان في ملابسه ورفاهيته وما إلى ذلك حتى يمثل يوم الحشر كيف يلقى ربه لكي يقبل متجردًا عن هذه الدنيا هو رمز للتجرد عن هذه الدنيا. وكما هو معلوم أشرت إلى هذا إشارة عابرة، ثم بينت أن كلامي في هذا الموضوع سوف يحدد بأني سأقتصر فقط لا غير على بيان حكم الإحرام وميقاته للقادم جوًا بالطائرة، دون الوسائط الأخرى البرية ودون التكلم عن بقية أحكام الإحرام؛ لأن هذه ليست محل بحث، ورأيت أن كثيرين لما يبحثون عن موضوعنا الأساسي وهو القادم بالطائرة يتعرضون لأحكام الإحرام بوجه عام، مما هو ليس محل بحث، وإنما هو إطالة فقط بدون جدوى، بعد ذلك بينت قلت: مما لا خلاف فيه بين أئمة السلف من محدثين وفقهاء أن المواقيت المكانية للإحرام قد حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم للقادمين من جهات أربع كما يلي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 704 ذو الحليفة لأهل المدينة من أرد منهم الحج أو العمرة، الجحفة لأهل الشام، قرن المنازل لأهل نجد من الشرق، يلملم لأهل اليمن. وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حددها أن هذه الحدود هي مواقيت لأهل تلك الجهات ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دون ذلك، أي من كان مقامه في موضع يقع بين أحد هذه المواقيت وبين مكة، فإنه يحرم في مقامه ذلك، حتى إن أهل مكة يهلون من مكة. أخرجه البخاري في باب مهل أهل مكة عن ابن عباس إلى آخر مما هو مدون، ومسلم والنسائي يعني أهل السنن. واضح، قلت: أن حديث المواقيت هذا لا يشمل بالنص إلا أهل تلك المواقيت ومن مر بها فقط، فليس فيه شيء عمن لا يمر فعلاً بأحدها، ولكنه حاذى من قريب بعض تلك المواقيت، فإلحاق المحاذاة بالمرور إنما تقرر بالاجتهاد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 705 فقد روى أئمة الحديث أن عمر رضي الله عنه هو الذي حدد ذات عرق ميقاتًا لأهل العراق لمحاذاتها قرن المنازل اجتهادًا منه، وذلك بعد فتح العراق، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فتح هذان المصران الكوفة والبصرة أتوا عمر بن الخطاب فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنًا، وإنه جور عن طريقنا – أي مائل – وإن أردنا أن نأتي قرنًا شق علينا. قال: فانظروا حذوها من طريقكم. قال: فحد لهم ذات عرق. وروى الإمام الشافعي رضي الله عنه في الأم عن ابن جريح عن ابن طاوس عن أبيه قال: لم يوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات عرق، ولم يكن حينئذ أهل مشرق، فوقت للناس ذات عرق. وروى الشافعي أيضًا مثل ذلك عن أبي الشعثاء في الأم وهذا الإحالة عليه. وهناك من الأئمة من يرى أن تحديد ذات عرق مهلا لأهل المشرق وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس اجتهادًا من عمر؛ ولكن بينت أن أهل الحديث يضعفون هذه الرواية، ولم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد ذات عرق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 706 يتضح مما تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدد مواقيت مكانية إلا للقادمين برًا، وأؤكد على كلمة "برًا"، من أطراف شبه الجزيرة العربية الثلاثة، وهي الشمال والشرق والجنوب فقط؛ لأن هذه الجهات الثلاث هي التي يمكن إذ ذاك - وأقول: إذ ذاك وأؤكد عليها أيضًا - أن يأتي منها المسلمون حجاجًا أو معتمرين. وقد حدد للقادمين من الشمال ميقاتين: واحدًا لأهل المدينة ذا الحليفة، وآخر لأهل الشام الجحفة؛ لأن الشام كان فيه لأهل الحجاز رحلة الصيف التجارية، فقد يعودون من الشام قاصدين حجًا أو عمرة. فهؤلاء عندئذ إما أن يأتوا من طريق يثرب فيتبعون ميقات أهلها، وإما أن يأتوا من طريق أخرى لا تمر بيثرب، فجعل الجحفة عندئذ ميقاتًا لهم، وهي قريب من مكة. أما جهة الغرب فلم يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم لها ميقاتًا مكانيًا؛ لأن الجهة الغربية بحر وفي الغرب منه أفريقية التي لم يصل إليها الإسلام إذ ذاك، ولا يعلم ما سيكون من أمرها إلا الله. وقد حد الفقهاء فيما بعد لأهل مصر والمغرب إذا جاءوا بطريق البحر ميقات أهل الشام وهو الجحفة؛ لأنه طريقهم الطبيعي إذ ذاك قبل شق قناة السويس في عصرنا هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 707 وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم – كما هو معروف – لا يرغب أن يقرر أحكامًا مسبقة لأمور غير واقعية، حتى إنه لم يكن يرغب أن يسأل عما سكت عنه، بل كان يترك ذلك للاجتهاد في ضوء سنته الشريفة ومقاصد الشريعة المستفادة من كتاب الله تعالى الحكيم، وخاصة منها دفع الحرج، كما نَوّه به القرآن العظيم. ومعروفة قصة الصحابي الذي سأل عن الحج حين أوجبه الله على من استطاع إليه سبيلاً: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال له: ((لو قلت: نعم، لوجب عليكم، ولما استطعتم)) . وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح أحاديثه: ((إن الله حد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم فلا تسألوا عنها)) أي لا تسألوا عنها قبل وقوعها، فإذا وقعت فاجتهدوا برأيكم وعلمكم، أو اسألوا عندئذ أهل الذكر والعلم، أي بعد وقوعها، وليس المراد عدم السؤال عنها أبدًا، إذ لو وقعت في مستقبل الزمن واحتيج إلى معرفة حكم الشرع فيها لا بد حينئذ من السؤال عنها والبحث فيها لمعرفة ما يجب بشأنها في ضوء أدلة الشريعة. ففي ضوء ما تقدم يتبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد أيضًا ميقاتًا بحريًا؛ لأن المجيء للحج والعمرة إذ ذاك في حياة الرسول عليه السلام لم يكن بالسفن من جهة البحر الأحمر – بحر القلزم – فيبقى حكمه في المستقبل للاجتهاد أيضًا، إذا قَدّر الله للإسلام أن يمتد غربًا إلى أفريقية، كما حصل فيما بعد، والحمد لله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 708 هذا، وقد قرر الفقهاء أن من لم يمر بأحد هذه المواقيت، بل سلك طريقًا بين ميقاتين، فإنه يتحرى ما يحاذي أحدهما من طريقه بغلبة الظن فيحرم منه، فإن لم يتبين له قال الحنفية: يهل عندئذ بالإحرام على بعد مرحلتين من مكة؛ لأن هذه المسافة هي مسافة أدنى تلك المواقيت إلى مكة. هذا ما ذكره في الدر المختار الطبعة البولاقية مبين صفحاتها، والمقنع من كتب الحنابلة، والمغني مع الشرح الكبير، والإنصاف للمرداوي. في ضوء ما تقدم من عرض الواقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من تحديد ما حدده بالنص الصريح من مواقيت الإحرام، وما سكت عنه وتركه للاجتهاد من علماء الأمة، وما حدث من اعتماد المحاذاة باجتهاد عمر رضي الله عنه؛ أقول في ضوء ذلك: إن معالجة قضايا الساعة لا يصح منا أن نعالجها ونقرر لها حلولاً شرعية منطلقين من خلفية مذهبية، أو فكرة مسبقة ننظر من زاويتها إلى القضية المستجدة ونجردها من ملابساتها وظروفها الخاصة، لنجرها جرًا إلى المقعد الذي هيأناه سلفًا لها إلحاقًا وتعميمًا، سواء أكان ملائمًا لطبيعتها وظروفها وملابساتها أم غير ملائم، ولو كان هذا الإلحاق والتعميم سيزج بالمكلفين في مشقة وحرج نفتهما النصوص القطعية في الكتاب والسنة عن هذه الشريعة السمحة الخالدة. فهذا - أي معالجة الأمور بهذه الخليفة المذهبية - لا يجوز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 709 فقضايا الساعة، ومن أكبرها أهمية وحاجة للحلول الشرعية المناسبة اليوم موضوعنا هذا، وهو من أين يجب أن يحرم القادم جوًا بالطائرة إلى الحج أو العمر؟ يجب أن تعالج قضايا الساعة هذه بفكر فقهي حر، كأنما يريد أن يرى النصوص والأدلة المتعلقة بها لأول مرة، مجردًا عن الخلفيات المذهبية والآراء المسبقة التي تتحكم في توجيه فكرة دون أن يشعر، وعليه أن يمعن النظر في النصوص، وأن يتفهمها وفقًا للغة وأساليب البيان المعهودة في وقت ورود النص الشرعي، وما يوحي به للسامع من فهم بحسب القواعد والدلالات العرفية. هذا إلى جانب الأساس المهم الآخر، وهو مقاصد الشريعة التي دلت عليها النصوص القطعية العامة، والتي لا يمكن عزلها وقطع علاقتها بالنصوص الخاصة إذا أردنا أن نفهمها فهمًا سديدًا، لا نبغي فيه سوى معرفة حكم الشارع والحل الصحيح في القضية المستجدة، سواء وافق تصوراتنا السابقة أو خالفها، فإن التعصب لرأي أو تصور سابق يحجب عن البصيرة الرؤية السليمة والإحاطة بالمسألة من جميع جوانبها وظروفها. فبناء على هذا المنطلق أقول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 710 إن حديث المواقيت المكانية الذي روته كتب السنة الصحيحة، وهو النص الأصلي الوحيد في الموضوع- وأؤكد أيضًا على كلمة الوحيد في الموضوع - لا يمكن أن يعتبر شاملاً للطريق الجوي اليوم، ولو مرت الطائرة القادمة بقاصدي الحج أو العمرة من فوق أحد المواقيت الأرضية، وبالتالي لا يمكن فيه تطبيق حكم المحاذاة لأحد المواقيت تلك المحاذاة التي ألحقها سيدنا عمر رضي الله عنه بالمرور بالميقات، وذلك لما يلي: أن حديث المواقيت محمول على الطرق المعروفة المألوفة في ذلك الوقت، وهي الطرق البرية التي يمكن أن يسلكها القادمون لحج أو عمرة من أطراف الجزيرة العربية التي مد عليها الإسلام رواقه. وهو في الوقت نفسه لم يحدد ميقاتًا من جهة الغرب، كما سبق أن أوضحته وبينت سببه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حين حدد هذه المواقيت للإحرام قد خصها نصًا وصراحة بمن يمر بها فعلاً، وذلك حين قال عليه السلام: ((هن مواقيت لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) . وهذا الإتيان لا يمكن أن يتصوره أي سامع إلا أنه المرور في الأرض، وإن كان أهل الميقات المقيمين حوله قد وجب عليهم الإحرام منه فمن أتى على هذا الميقات من خارجه، وكان طريقًا له، أصبح هو وأهل ذلك الميقات سواء؛ لأنه قد أصبح بينهم كواحد منهم، فلا يعقل أن يجب عليهم الإحرام من هذا الميقات ولا يجب عليه. وهذا المعنى لا يتحقق إلا فيمن مر بالميقات نفسه أرضًا؛ لأن المرور فوق الميقات جوًا كما تمر الطيور لم يكن في بال أحد من الصحابة أهل اللسان الذين خوطبوا به ولا في حسبانه ولا يمكن أن يتصوره حتى يفهم أنه داخل في هذا التحديد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 711 بل أستطيع القول: إن الطيران بالطائرات التي نسافر بها اليوم لو كان موجودًا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حين حدد هذه المواقيت الأرضية لأجل الإحرام؛ لما كان المرور جوًا بالطائرة فوق بقعة الميقات مشمولاً بهذا الحديث؛ لأن المرور بالميقات الذي يجعل المار به كأهل الميقات لا يفهم منه بأسلوب البيان إلا المرور الأرضي فعلاً. فهذا ما يفهمه أهل اللسان الذين خوطبوا به. وهذا أيضًا ما يفهمه أهل اللسان في اللغة التي جاء بها النص هو أساس في فهم النص عظيم الأهمية لا يمكن تجاهله وتجاوزه. إن الإمام أبا إسحاق الشاطبي رحمه الله في كتابه الإبداعي الموافقات في أصول الشريعة قد بسط القول في قسم المقاصد من كتابه هذا تحت عنوان "قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام"؛ بسط القول حول أساسين في فهم قصد الشارع لا تجوز الغفلة عنهما وهما: أولاً: أن هذه الشريعة الإسلامية المباركة عربية، كلامه أنا آتي به، وأن القرآن الحكيم عربي. ثانيًا: أن هذه الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك. أما الأول فلقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] . وقد تكرر هذا الإعلان في آيات أخرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 712 وأما الثاني فلقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا} [الجمعة: 2] . وقد تكرر أيضًا هذا في آيات أخرى. وجاء أيضًا في صحاح الأحاديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((بعثت إلى أمة أمية)) ، وقوله: ((نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا)) هذا كله كلام الشاطبي وقد اختصرت منه بعض مقاطع. ولكن الذي أتينا به كله من كلامه وعباراته بالحرف. وقد فسر الشاطبي الأمي بأنه منسوب إلى الأم، وهو الباقي على ولادة الأم لم يتعلم كتابًا ولا غيره، فهو على أصل خلقته التي ولد عليها. وفسر الأمة الأمية بأنهم ليس لهم معرفة بعلوم الأقدمين. أقول: وقد يبدو لأول وهلة أن كون القرآن عربيًا والحديث النبوي عربيًا هو من البديهيات التي لا تحتاج إلى بسط وإيضاح وشواهد وأمثلة وتنبيهات في فصول من كتاب كما فعل الشاطبي رحمه الله في موافقاته. ولكن الذي يرى النتائج التي بينها الشاطبي رحمه الله بناء على هذين الأصلين الأساسيين في فهم الشريعة، وتنزيل نصوصها في الكتاب والسنة النبوية على منازلها الصحيحة، يدرك عندئذ أن قضية هذين الأساسيين ليست من البساطة والبداهة كما يتراءى لأول وهلة. (فلتنظر الموافقات: 2/64 إلى 107) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 713 وأول هذه النتائج وأهمها يتلخص في أن المقصود هنا من بيان الأساس الأول هو: أن القرآن قد نزل بلسان العرب وأساليبهم البيانية، فطلب فهمه إنما يكون بالطريق التي يفهمه بها من خوطبوا به حين ألقي إليهم، وهم أهل هذا اللسان خاصة على أميتهم وجهلهم بالعلوم والفلسفات التي وجدت لدى غيرهم من الأمم، وبالاصطلاحات والمفاهيم الطارئة حين أسست العلوم ووضعت فيها الاصطلاحات، وحددت لها المفاهيم العلمية في اللغة العربية بعد ذلك. يعني كل هذا لا يجوز أن ينظر إليه في فهم النص العربي. وهذا يستلزم أن من يكون أكبر فقيه وأرسخ عالم في العصور اللاحقة يجب أن يفهم النص القرآني أو الحديث النبوي كما يفهمه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما يفهمه البدوي الأمي من العرب إذ ذاك؛ لأنهم هم أهل اللسان الذين خوطبوا به، ففهم أي عالم لمدلول النص بعد ذلك، مهما علا كعبه في العلوم وطال باعه، يجب أن يكون تبعًا لفهم ذلك العربي الأول ابن اللسان الذي جاء به ذلك النص وخوطب به. قال الإمام الشاطبي رحمه الله في هذا المقام: "فإن قلنا: إن القرآن نزل بلسان العرب، وأنه عربي لا عجمة فيه، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص، وبالظاهر يراد به غير الظاهر. وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وأنها تتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره أو آخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة. وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها. فإذا كان كذلك فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب. والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام في رسالته الموضوعة في أصول الفقه. وإن كثيرًا ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ، فيجب التنبيه لذلك، وبالله التوفيق". هذا كلام الشاطبي في الموافقات نقلته بحرفه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 714 أقول: ومن الواضح أن مثل هذا الاعتبار يجب أن يراعى في فهم كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنزيل أحاديثه الشريفة وهي من جوامع الكلام العربي على هذا الترتيب نفسه في فهم نصوص القرآن. ثم أفاض الشاطبي في شرحه: إن الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك، إذ لم يكن لهم معرفة بعلوم الأقدمين، وأن تنزيلها على مقتضى حال الذين نزلت عليهم من أميتهم هو الأوفق والأجرى مع رعاية المصالح التي يقصدها الشارع الحكيم. وقد أوضح العلامة الشيخ عبد الله دراز في تعليقاته، أنه وفقًا لهذا الاعتبار ربطت الشريعة مواقيت الصلاة بالدلائل الحسية المشهودة من الزوال والغروب والشفق، مما لا يحتاج إلى علوم كونية وآلات وتقاويم فلكية. أقول – من كلامي هذا – وواضح أن الشريعة السمحة الخالدة إذا صلحت للأميين حتى يسهل تطبيقها عليهم، صلحت لغيرهم من أهل العلوم وللناس أجمعين، ولا عكس. وهذا من أسرار آخريتها وصلوحها للخلود، ما دام لبني الإنسان وجود، فجعلت حكمة الله فيما شرع لعباده. ثم قال الشاطبي بصدد ما تفرع عن أمية الشريعة: " إنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثم عرف فلا يصح أن يجرى في فهمهما على ما لا تعرفه. وهذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب" إلى آخر ما قال. هذا كلام الشاطبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 715 أقول: بعد هذه المقتطفات من كلام الإمام الشاطبي عن أن الشريعة أمية، وأنها ودستورها وهو القرآن عربيان بالمعنى المشروح، وكذلك بيان رسولها نبي الهدى صلى الله عليه وسلم، نعود إلى موضوعنا الآن حول ميقات الإحرام الواجب للقادم جوًا بالطائرة لحج أو لعمرة في ضوء ما نقلناه عن الشاطبي رحمه الله، فأقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد تلك المواقيت لأهلها، ولمن أتى عليها ومر بها من غير أهلها، وهذا منه بيان وتحديد لقوم أميين، وبلسان عربي مبين، هم أهله الأصليون، وأن علينا وعلى جميع الأجيال المسلمة التي تتلوهم من علماء في الشريعة وفي الطبيعة وفي مختلف العلوم من عرب وأعاجم، علينا أن لا نفهم من نصوص القرآن وكلام الرسول عليه السلام إلا ما يفهمه إذ ذاك أولئك الأميون أهل العربية المخاطبون بها بحسب مألوفهم ومعهودهم وعرفهم، كما يقول الإمام الشاطبي. وإذا كان كذلك فمن الذي يستطيع أن يزعم أنهم يمكن أن يفهموا من تحديد الرسول لهم تلك المواقيت المكانية أنها شاملة للقادم جوًا بطائرة في مستقبل الدهر إذا اخترع البشر آلة تطير بهم، ومرت بأحد ركابها فوق ميقات أرضي وهو في السماء أو حاذى سمته، من الذي يزعم أنهم يفهمون ذلك، مع العلم أننا أوضحنا قبلاً أن الحديث النبوي المذكور لا يشمل المحاذاة من قريب أو بعيد، بل هو مقصور على أهل تلك المواقيت ومن مر بأحدها، وأن إلحاق المحاذاة لأحد المواقيت بالمرور به فعلاً هو اجتهاد عمر رضي الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 716 ونحن نضع اجتهاد عمر هذا فوق الرأس والعينين – يعني أنا لا أقصد أن أخالف اجتهاد عمر حاشا لله – ونحن نضع اجتهاده هذا فوق الرأس والعينين، وهو معقول في ذاته؛ لأن ما تقتضيه حرمة البيت المعظم من أن يتهيأ من يقصده لحج أو لعمرة بالإحرام أن يتهيأ له بالإحرام قبل الوصول إليه، هو مما ينبغي أن يستوي فيه كل قاصد، سواء مر بالميقات الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو جاء من طريق أخرى لا تمر به، فجعل المحاذاة لأحد المواقيت هي الحد لغير من يمر بالميقات هي قياس معقول مبني على علة متحددة. ولكن هذا القياس السليم لا يجوز أن يخرج عن أرضية المسألة، وهي أن تلك المواقيت التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفهم منها أهل اللسان الذين خوطبوا به إلا أنها لأهلها، أي للساكنين فيها، ولمن يمر بها المرور المعتاد الذي لا يعرفون سواه، وهو المرور بها في موقعها على سطح الأرض؛ لأن هذا هو ما تدل عليه لغتهم التي خوطبوا بها حين قال لهم الرسول عن هذه المواقيت: ((هن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) ، ولا يمكن أن يتصور أحدهم إذ ذاك مرور أحد من فوق الميقات وهو طائر في الجو. وقد رأينا آنفًا قول الشاطبي رحمه الله: "أنه لابد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، وأنه لا يصح أنه يجرى في فهمها على ما لا يعرفونه، وأن هذا جاز في المعاني والألفاظ والأساليب" إلى آخره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 717 فلاجتهاد عمر رضي الله عنه في إلحاق المحاذاة لا يمكن أن يتجاوز الأصل، فكما أن النص الأصلي وهو حديث المواقيت معناه المرور بالميقات فعلاً على سطح الأرض، فإن المحاذاة التي ألحقها به عمر معناها أيضًا المحاذاة ممن يمر فعلا حذو الميقات المرور المعتاد على سطح الأرض؛ ذلك لأن المقيس لا يمكن أن يعطى أكثر من حكم المقيس عليه. فإذا كان نص الحديث النبوي لا يتناول القدوم جوًا، مما لم يكن في حسبان أهل اللسان ولا معهودهم، فكذلك المحاذاة الملحقة بطريق القياس والاجتهاد لا تطبق على طريق الجو الذي لم يكن يتصوره عمر نفسه صاحب هذا الاجتهاد القياسي. إننى أخلص من جميع ما تقدم بيانه إلى أن القادمين اليوم بطريق الجو في الطائرات لحج أو عمرة لا يشملهم تحديد المواقيت الأرضية التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في الجو، فهي حالة قد سكت عنها النص، وأكرر قولي فهي حالة قد سكت عنها النص؛ لأنها لم تكن في التصور أصلاً، كما سكت عن القادمين من الجهة الغربية إذ لم يكن إذ ذاك مسلمون يقدمون من أفريقية من وراء البحر ولا من مصر، أما الشام فإنه وإن لم يكن فيه مسلمون إذ ذاك قد كانت تجارة قريش وعرب الحجاز قائمة مع الشام في رحلة الصيف، فقد يعودون منه قاصدين جحا أو عمرة، فلذا حدد رسول صلى الله عليه وسلم للقادمين من الشام الجحفة ميقاتًا لهم كما أسلفنا بيانه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 718 وإذا كان القادم جوًا ليس مشمولاً بتحديد المواقيت المكانية لما قد بينا، فهو إذن خاضع للاجتهاد في تحديد ميقات مكاني للقادمين منه بالوسائط الجديدة المبتكرة في عصرنا هذا، كسائر قضايا الساعة التي ليس عليها نص، فيجب أن يقرر الاجتهاد لها الحكم المناسب، وأقول الحكم المناسب، في ضوء أصول الشريعة ومقاصدها وفي طليعتها دفع الحرج. وفي نظري أن الحكم المناسب في هذا الموضوع، والذي لا يترتب عليه حرج ولا إخلال هو أن القادمين بالطائرة اليوم لا يجب عليهم الإحرام إلا من بعد أن تهبط الطائرة بهم في البلد الذي سيسلكون بعده الطريق الأرضي، أما إذا كان ترانزيت ينزلون في بلد وهم لا يزالون يركبون الجو، فهذا أيضًا لا يشملهم متى وصلوا إلى النقطة التي ليس لهم بعدها إلا الطريق الأرضي، هنا التفصيل: فإذا هبطت الطائرة بهم في بلد يقع خارج المواقيت يكون عندئذ ميقاتهم للإحرام هو الميقات الذي سيمرون به، أو من الموقع الذي يحاذي أحد المواقيت المحددة لمختلف الجهات، إذا كانوا لا يمرون بأحد تلك المواقيت، وهنا تأتي مسألة المحاذاة أما إذا كان المكان الذي تهبط فيه الطائرة بلدا يقع بعد أحد المواقيت المذكورة أي بينه وبين الحرم فإن ميقاته للإحرام هو ذلك البلد نفسه، فيصبح حينئذ كأهله، فلا يجوز له أن يجاوزه إلا محرمًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 719 وبما أن المطار الدولي اليوم الذي يهبط فيه الحجاج والمعتمرون، هو في مدينة جدة، وهي واقعة ضمن بعض المواقيت، فإن القادمين بطريق الجو إلى جدة لحج أو لعمرة يكون ميقاتهم للإحرام مدينة جدة، فلا يجوز أن يتجاوزوها إلا محرمين؛ لأنهم يصبحون عندئذ كأهل جدة، فيحرمون من حيث يحرم أهلها. فلو أن المطار الذي يهبط فيه الحجاج والمعتمرون نقل فيما بعد إلى مكة، لأصبح القادمون جوا كأهل مكة، فيحرمون من حيث يحرم المكيون، أي أن القادم بالطائرة بوجه عام من أي جهة كان قدومه متى هبطت طائرته في آخر مكان لكي يتابع بعده السير بالطريق البري؛ يأخذ عندئذ حكم أهل ذلك المكان بشأن الإحرام. أما القول بأن عليه أن يحرم وهو في الطائرة في الجو متى مرت الطائرة بأحد المواقيت أو حاذته، فهذا لا أرى دليلاً شرعيًا يوجبه، وهو مبني على تصور أن القدوم جوًا بالطائرة مشمول بالحديث النبوي الذي حدد المواقيت الأرضية. وهذا في نظري رأي غير سليم في فهم النصوص فهما فقهيًا كما سبق إيضاحه، علاوة على ما فيه من حرج شديد وصعوبة قد تصل إلى حد التعذر بالنظر إلى حال الطائرات العامة، ولا سيما الدرجة فيها، وهي التي تأخذها الجماهير، وضيق مقاعدها لاعتبارات تجارية، حتى إن الراكب ينزل في مقعده منها كما ينزل الأسفين في الخشب، ويعسر عليه التحرك في تناول وجبة الطعام، فضلاً عن أن يخلع ملابسه المخيطة ويرتدي الرداء والإزار، وأين في الطائرة مغتسل ومصلى ليقيم سنة الإحرام؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 720 وأغرب من ذلك قول من يقول: إن هذا الحرج يمكن دفعه بأن يحرم بملابسه في الطائرة، ثم يخلعها بعد الهبوط ويفدي بدم جزاء، فمتى كانت هذه الشريعة الحكيمة السمحة تكلف أحدًا بما يشبه المستحيل لتعسره أو تعذره، على أن يخالفه المكلف ويتحمل بدلاً منه جزاء مكلفًا، إن الشريعة الحكيمة براء من مثل هذا التكليف. وأشد غرابة من هذا رأي من يقول، وكل هذا قد سمعناه،: إن الحل لهذه المشكلة هو أن يحرم من يريد القدوم بالطائرة من بيته قبل ركوبها، فماذا يقول هؤلاء إذا كان قاصد الحج أو العمرة من أهل موسكو أو سيبيريا قادمًا في الشتاء، حيث درجة الحرارة تصل إلى خمسين تحت الصفر بمقياس سنتيغراد؟ هذا ما يبدو لي أنه الوجه الصحيح في هذه القضية واستنباط الحل والحكم الشريعي الذي يناسبها، وأقول: الذي يناسبها، بعد أعمال الفكر منذ سنوات في ملابساتها، وإمعان النظر في الأدلة، والاستئناس بالدلائل، فقد كثر السؤال عنها، وكلما تقدم الزمن سنة ألحت الحاجة إلى البيان الشافي فيها بصورة مدروسة بصيرة لا تسرع فيها ولا ابتسار، ينظر فيها إلى هذه القضية من مختلف الزوايا لا من زاوية واحدة. وما يدرينا لعل سنوات قادمة غير بعيدة تصبح فيها الطائرات من الوسائل العتيقة البطيئة، ويحل محلها الصاروخ الذي يطوي المسافات الزمانية والمكانية الطويلة والبعيدة يختزلها في دقائق معدودات، كما يتنبأ به كثير من رجال العلم والفكر. وأن ما شهدناه في هذا العصر من عجيب الإنجازات التي كلما تحقق منها شيء لم يكن ليصدق لو رئي في المنام، فَتَحَ تحققُهُ طريقًا لما هو أعجب منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 721 وهذا الحل الذي ارتأيته بالدليل الذي رأيته - وأرجو أن يكون صوابًا - هو صالح لأن يتمشى مع مختلف الوسائل المبتكرة في النقل والأسفار مهما تطورت، فإن كان صوابًا فمن فضل الله تعالى، وإن كان خطأ فمن قصور فكري وعلمي، واللهُ سبحانه أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل. والسلام عليكم ورحمة الله. الرئيس: شكرًا.. فيه سؤلان يا فضيلة الشيخ: السؤال الأول لم تتعرضوا للقادم بحرا عن طريق البحر. الشيخ مصطفى الزرقاء: يا مولانا أنا لما كتبت هذا البحث كنت متصورًا السؤال في ذهني من السابق أنه عن الجو، وتعرضت إلى البحر عرضًا لكن لم أركز عليه بما يكفي؛ لأني قلت: إنه لم يحدد للجو، الرسول عليه السلام لم يشمل تحديده البحر وبينت السبب لذلك، وقلت: إن الميقات البحري أيضًا غير مشمول بالنص وخاضع للاجتهاد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 722 الرئيس: لأنكم ركزتم على كلمة، وهو أنه مواقيت أرضية، والبحار لا يطلق عليها أرض. الشيخ مصطفى الزرقاء: نعم، مادام العرب يقدمون بالسفن من البحر الأحمر. الرئيس: فهل معنى هذا أن الذين يقدمون في البواخر أن حكمهم حكم نقلهم في الجو؟ الشيخ مصطفى الزرقاء: نعم، يعني من جدة. الرئيس: إذن معنى هذا أنه بيان هذا الحكم في عصر النبوة لم يحصل والقادم في البواخر موجودين، وعلى عهد عمر رضي الله تعالى عنه وعلى عهد أبي بكر وعلى عهد الخلفاء الراشدين. الشيخ مصطفى الزرقاء: عمر رضي الله تعالى عنه ما حدد لأهل البحر أيضًا بطريق إلا بالقياس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 723 الرئيس: لا أنا أقول: ألا يوجد حجاج يأتون من البحر؟ الشيخ مصطفى الزرقاء: هو مجال للبحث، أنا أرى أن البحر كالجو غير مشمول بالنص، وأن الحل الأحسن له هو من حيث الوصول إلى البر مثل الطائرة، من حيث ينزل، نفس الحكم، وكلامي يشعر بهذا وإن لم أكن قد ذكرت. الرئيس: لا، أنا فقط أردت أن أثير الشهادة. السؤال الثاني، سلمك الله، في قضية أهل المدينة أنت تعرف أن ميقات أهل المدينة مجاور للمدنية. فاليوم الذي يريد أن يطير من المدينة لا يأخذ ولا دقيقة واحدة وهو فوق الميقات، دقيقة واحدة ما يأخذ ويمشي بعد ذلك أربعمائة كيلو متر إلى جدة يترك الإحرام من الميقات ولا يحرم من جدة. الشيخ مصطفى الزرقاء: إذا أراد أن يطير من المدينة بالطائرة إلى جدة عندئذ هذا لم يمر مرورًا أرضيًا بالميقات، فحكمه حكم من يكون قادم من الجو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 724 الرئيس: أقل من دقيقة بينه وبين الميقات أو نصف دقيقة. الشيخ مصطفى الزرقاء: ليس هي القضية، الصاروخ قد يصل بثوان ممكن، وقد قرأت كتابًا لبعض العلماء يقدر أنه في سنة 2020 عندئذ ستصبح الأسفار بالصواريخ تحسب بالثواني ما بين القارات. الرئيس: شكرًا.. في الواقع قبل أن أعطي الكلمة للشيخ محمد عبده عمر، أحب أن أشير، أعطي ملخصًا عن المرحلة التي مر بها هذا الموضوع من خلال المجمع هذا. فإن هذا الموضوع سبق طرحه في الدورة الثانية، وقُدّمت فيه بعض البحوث التي هي بين أيديكم الآن عدد منها، ثم إنه جرت مداولات بشأنه، وقد رئي تأجيله لأمرين: الأمر الأول: أنه يحتاج إلى مزيد من الدراسة وقد قدم فضيلة الشيخ عبد الله البسام الدراسة من الوجهة الشرعية في هذا الشأن؛ ولأن هناك أحد الأخوان من السودان الذين يعملون في رابطة العالم الإسلامي بمكة لديه دراسة ميدانية للمواقيت وللخطوط الجوية التي ترد إلى جدة، ليقرر مسألة المحاذاة من عدمها. فدراسة الشيخ البسام وصلت، أما دراسة الأخ السوداني لا يظهر أنها وصلت حتى الآن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 725 المهم أن هذا الموضوع سبق أن طرح في تلك الدورة، كما سبق، وهو من المواضيع التي يبحثها علماء الحرم بمكة - شرفها الله تعالى - والموضوع ليس جديدًا في بحثه، فقد أُلّفت فيه رسائل عدة من علماء مكة، وإضافة إلى ذلك تتابعت عليه الدراسات، وكان آخر دراسة جماعية هي دراسة مجمع الفقه الإسلامي بمكة الذي فضيلة الشيخ مصطفى هو أحد أعضائه. وقد درس هذا في مجمع مكة كما هو بين أيديكم، وقرر المجمع بالإجماع ما عدا عضوين من أعضاء المجلس على إنفاذ مقتضى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في توقيت المواقيت، وعلى أن الذي يقدم في الطائرة فإنه يحرم إذا حاذى الميقات، وقد عمم هذا القرار على سفارات الدول لإعلانه في طائراتها إذا قدموا للحج أو العمرة. وصارت المخالفة لعضوين: فضيلة الشيخ مصطفى، وفضيلة الشيخ أبو بكر جومي في نقطة واحدة فقط، وهي الذين يقدمون إلى جدة عن طريق السواحل، هذا عرض تلخيص كما سبق أو دار في هذا الموضوع. والكلمة لفضيلة الشيخ عبده عمر. الشيخ محمد عبده عمر: الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، أما بعد: سيادة رئيس المجلس، فإن كلمتي تتخلص في ثلاث نقاط: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 726 النقطة الأولى: هي وصف الأمة الإسلامية بالأمية: سمعنا في حديث الأمس من شيخنا الفاضل الشيخ التارزي في حديث أن الأمة الإسلامية موصوفة بأنها أمة أمية، وأن هذا الوصف لازم لها لا ينفك عنها. أيضًا تأكد هذا الوصف من خلال استدلال شيخنا الفاضل مصطفى الزرقاء، حيث استدل بالآية: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2] . أيضًا قال: إن وصف الأمية للأمة الإسلامية وصف لازم لا ينفك عنها، وعلما بأن الإسلام هو دين العلم. ولا يخفى على فضيلة مشايخ المجمع بأن من الآيات التي جاءت تشير بالعلم وبالتعلم وبأن الدين الإسلامي هو دين العلم لا دين الأمية، وأن الأمية هي وصف مؤقت في ذلك، وليس وصف لازم في كل الأوقات للأمة الإسلامية، فمن هذه الآيات على سبيل المثال قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] . فبدأ جل جلاله بالعلم حتى على التوحيد، قَدّم الله العلم على كلمة التوحيد. فنحن في مجمع إسلامي، وهذه المفاهيم يجب أن تأخذ الصفة العلمية الدقيقة؛ لأنها تحمل إلى جميع بقاع العالم الإسلامي، فوصف الأمة الإسلامية بأنها أمية، وإن وصف الأمة الإسلامية بأنها أمية وأن وصف الأمية وصف ملازم لا ينفك عنها. أنا هذا الفهم لا يناسبني ولا أنسجم معه، ولا أيضًا النصوص تنسجم ولا الإسلام بكلياته وجزئياته ينسجم مع هذا الفهم. الرئيس: أرجو الدخول في الموضوع يا شيخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 727 الشيخ محمد عبده عمر: النقطة الثانية: شيخنا الفاضل مصطفى يقول: أن على جميع أعضاء المجلس أن يدخلوا في أي مسألة دون التأثر بأي مذهب كان أو بأي قول سابق، لكنه من خلال حديثه قال حفظه الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يعلم بأن الطيران سوف يكون من فوق هذه المواقيت لقال بعدم توقيت المحاذاة من فوق المواقيت التي حددها عليه الصلاة والسلام، وهذا تحكم منه دون دليل. النقطة الثالثة: هو أن شيخنا الفاضل قال: إن من حكمة توقيت هذه المواقيت في هذه الأماكن وهو الحديث النبوي الصحيح في صحيح البخاري حدد النبي، أو وقت النبي عليه الصلاة والسلام لأهل المدينة: ذو الحليفة، ولأهل الشام ومصر: الجحفة، ولأهل نجد: قرن المنازل، ولأهل اليمن: يلملم. هذه المواقيت، وقال في الحديث ((هن لهم ومن أتى عليهن من غير أهلهن لمن أراد الحج والعمرة حتى أهل مكة من مكة)) . قال حفظه الله: إن من حكمة توقيت هذه المواقيت إنما المقصود بها تعظيم البيت الحرام، بحيث الإنسان أن يتهيأ وتسبيح الله وتقديسه واستذكار عظمة الله وعظمة ما هو قادم عليه، ثم يتناقض في نفس البحث فيقول: إن القادم عن طريق الطيران ليس بلازم أن يخضع لهذه المواقيت، حتى ولو كان الطيران في مكة عليه أيضًا أن ينزل ويحرم من مكة مثل أهل مكة، علمًا بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولم يوقت عليه الصلاة والسلام هذه المواقيت في هذه الأماكن إلا ليتخذ من النصوص قدوة وأسوة لحرمه البيت العتيق، سواء كان طريق الحاج عن طريق الطيران أو عن طريق المواقيت الأرضية، وأيضًا لو قلنا: إنه فيه فرق بين الطيران وبين المواقيت المحددة، الأوتوبيس والسيارة أيضًا، نحن لا نمشي على الأتوبيس والسيارة وأيضًا الناقة والخيل أيضًا في ذلك الوقت أيضًا الحاج ماشي بين السماء والأرض، فلماذا لم نجعل حكم الطيران مثل حكم الخيل والبغال التي تنقل الحجاج في ذلك الوقت هذا، وشكرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 728 الشيخ مصطفى الزرقاء: يا مولانا نقطة تصحيح إذا أردت … الأخ الكريم حفظه الله وبارك فيه، قال: إنني قلت: إن الرسول عليه الصلاة والسلام لو كان هناك طائرات للنقل تنقل الناس جوًا عندما قال ((هن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) فإن الرسول كان لا يجعل المحاذاة أو المرور بالجو واجبًا فيه. أنا لم أقل هذا، قال: هذا تحكم. أنا ما قلت هذا، أنا قلت: إن الرسول عليه السلام لو كان في عهده طائرات تنقل الناس جوًا، وعبر هذا التعبير الذي نقله الرواة إلينا بأن قال ((هن لأهلهن ولمن أتى عليهن)) أي مر بهن، فهذا التعبير باللسان العربي لا يدخل فيه المرور جوًا، هذا الذي قلته، وما قلت: إن الرسول كان يوجب كذا أو لا يوجب كذا، هذا لم أقله. الشيخ أحمد محمد جمال: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد؛ في البداية لا بد أن نشكر فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء شكرًا عظيمًا على هذه المحاضرة القيمة في فهم النصوص أولاً، وفي فهم موضوع الأمية والأميين، لكن لا أريد أن أعلق على هذا الموضوع لأنه خارج عن نطاق المسألة المطروحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 729 ثانيًا: فضيلة الشيخ الزرقاء يقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام حدد المواقيت الأرضية فقط، وأن النص في هذا لا ينسحب على المواقيت للقادمين بطريق الجو والبحر، الواقع لو اتخذنا هذا الفهم في تناول النصوص القرآنية والنبوية لما أجيز لنا كثير من الأعمال أو الأحكام. الرسول عليه الصلاة والسلام يقول ((: جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا)) أفلا نصلي في الطائرة، وهناك نص على أن الأرض فقط للصلاة والطهور. لقد أجيز أن نصلي في الطائرة، وأخيرًا أيضًا أن نصلي في الطابق الثاني والثالث في المسجد والإمام في الطابق الأول. فالقول بأن هذا الحديث النبوي لا يعني إلا المواقيت الأرضية فقط حجر وتضييق من ناحية. فلا بد من الأخذ بأن المواقيت وإن شرعت للمارين بها أرضًا شرعت للمارين بها جوًا وبحرًا، وإذا كانت هناك مصاعب كما تفضل الأستاذ الزرقاء وقام بشرحها للقادمين من بلاد بعيدة كموسكو أو أمريكا، فهؤلاء الحل بالنسبة لهم بسيط وموجود؛ يحرمون من بلادهم وينوون الحج من الطائرة، أي لا يحتاجون إلى اغتسال في الطائرة؛ لأن الطائرة فعلاً ليست مجال اغتسال وتطهر، إنما يحرمون من بلادهم وينوون. الرئيس: يتأهبون من بلادهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 730 الشيخ أحمد محمد جمال: يتأهبون من بلادهم، وعدد هؤلاء الحجاج بالنسبة للأكثرية قليل جدًا، الذين يحجون من موسكو ومن واشنطن، ولكن الحجاج الذين يردون من بلاد عربية وإسلامية قريبة حول البيت هم الأكثرية، فلماذا نضيق واسعًا؟ هذه ملاحظتي بالنسبة ما دامت أجيزت الصلاة في الجو، فكذلك يجوز اعتبار المواقيت أيضًا للجو وللبحر كذلك.. وشكرًا. الشيخ عبد الله البسام: ملاحظة على سماحة الشيخ مصطفى الزرقاء، هو أن العلماء قالوا: إن الهواء تابع للقران، وحتى قالوا: أن لو قف بعرفة جوًا صح حجه، والآن الأعراف الدولية أن الأجواء لا تنتهك تابعة للقران، تابعة لقرانها، ومملوكة كما أن التخوم مملوكة، وكذلك الهواء تابع للقران، والنبي صلى الله عليه وسلم في أحكامه ليس هذا معناه أنه ترك هذه الأشياء لعدم دخولها، أو أنه لا يسبق الحوادث، وإنما ترك هذا لفهم المسلمين. أي عربي يقول: إن النهر كذا وكذا سواء أن كان عن طريق البر أو عن طريق البحر، فهذه اللغة العربية هي الآن تشمل هذا، الطير الفلاني مر بكذا وكذا وطار على كذا وكذا. وشكرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 731 الشيخ خليل الميس: في الحقيقة هنالك فكرتان أشترك فيها مع من عقّب: الأولى كما تفضل فضيلة الشيخ وهي المجال الجوي، الآن نعرف أن أي عبور للطائرات لا بد له من إذْنٍ مسبق هذا معروف والمجال الجوي، وأيضًا أضيف المجال البحري تابع للأرض، ولذلك يسمونه وهذا معروف قصة بنزرت والمناورات حولها. أمر آخر: التحكم على العرب أنهم يفهمون أولا يفهمون هذا أمر عجيب. ثالثًا: أستاذنا الجليل بالغ بالنقل عن الشاطبي بحيث كان يكفي جملة واحدة، وإذا بالحديث كله يصير للشاطبي، وأن الأفكار أعيدت مرة ثانية وثالثة ورابعة ويكفي مرة واحدة، وما نقله عن الشاطبي كأنه حجة على المحاضر وليس حجة له. والسلام عليكم. الشيخ وهبة الزحيلي: بسم الله الرحمن الرحيم. يبدو لي أني يجب عليَّ أن أؤكد ما قاله الأخ الدكتور عمر أن قضية الأمية هي قيد لبيان الواقع، كما هو معروف لدى الجميع، مثل {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] . {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ} [الجمعة: 2] . وهذا يعني غريب في وسط علمي في مستوى القرن العشرين أن نقبل أننا بهذا الوصف والوصف ملازم لنا وإلا كذبه الواقع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 732 ويستحيل أن يصدر عن النبي عليه الصلاة والسلام أمر وهو يخبر عن المستقبل وبيانه معجز وقد أخبر كثيرًا، وقد وقع أنه سيحدث في آخر الزمان كذا وكذا، ثم نقول: إن وصف الأمية ملازم، إذن هذا قيد إن قبلناه فنحن نكذّب هذا الخبر؛ لأن الواقع يكذب خلاف ما كان موجودًا في الأمة الجاهلية، والإسلام بدد ظلمات الجهل. هذا أول شيء. الشيء الثاني: من البديهيات المقررة لدى علماء الإسلام أولاً ما قاله الأستاذ البسام، أن الوقوف فوق عرفة يجزئ، وأن الصلاة فوق الكعبة المشرفة مجزئة، وأن العلماء قالوا في أحكام المساجد مثل الزركشي وهو معروف ومطبوع في الكويت وكان فضيلة الأستاذ موجودًا هناك، قالوا: المسجد مسجد إلى سابع سماوات وإلى سابع أراضين. ثم ما قاله الشيخ خليل: الأقليم الجوي تابع للأقليم البري، وهناك أقليم أيضًا بحري تابع للأقليم الجوي، الأعراف الدولية الحديثة تقرر ما قرره فقهاؤنا في الماضي. فأرى أن الحديث واضح كل الوضوح، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام ماذا ننتظر من وعي يقول أبلغ من هذا البيان الشافي الكافي أنه حدد الجهات الثلاث أو الأربع، وأن سيدنا عمر - ونأخذ من كلام فضيلة أستاذنا فعلاً - قاس قضيةَ ذاتِ عرق على قرن المنازل، فَلِمَ لا نحدد الآن الجهات الأربع ونضع مخططًا جغرافيًا لهذه الأماكن أو دائرة تشملها بحيث تكون قرن المنازل مع الجحفة، فإن تجاوز أهل السودان هذا الخط ودخلوا ما يوازي هذا الخط بين يلملم والجحفة فهم تجاوزوا المحاذاة اللازمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 733 فسيدنا عمر الذي قرر ذلك بالنسبة لأهل العراق نحن أولى أن نقرره بالنسبة لأهل الغرب. وتكون هناك دائرة متخصصة وبالتالي لا يجوز تجاوزها بأي حال، أما الحرج في قضية الإحرام، حجزت وجئت بالطائرة مرات ولم أشعر بهذا الضيق إطلاقًا. اليوم حتى إننا نلبس البنطال نسلت هذا البنطال بسهولة ونحن في مقعدنا الضيق ومعنا كيس بملابس الإحرام ثم نرتديها. أما النساء طبعًا يحرمن بملابسهن فلا حرج. قضية الغسل وصلاة ركعتين هذه سنن وعادة كنت أفعلها قبل خروجي إلى الطائرة في المدينة مثلاً أصلي ركعتي الإحرام وهذا جائز بنية الإحرام الذي سيأتي وأغتسل بالنية التي ستأتي وعند ركوب الطائرة، وخصوصًا أن الطائرة قد تتأخر، إما نحرم من المطار أو نحرم من الجو ولا حرج في ذلك إطلاقًا، فأين المشقة؟ وأين الحرج؟ وأين الضيق؟ وأين الحاجة إلى مثل هذه الأحكام؟ وأعتقد أن رأي فضيلة أستاذنا يمكن يكون تابعًا لرأيه في الصباح. والله سبحانه وتعالى يلهمنا سواء السبيل. الشيخ علي السالوس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. نقطة الإحرام من الميقات في الطائرة هذه نقطة الإخوة الأفاضل تحدثوا عنها ولا أكرر، ولكن أقول هنا: إذا كان يتعذر أو من المشقة أن يحرم في الطائرة فهل يقدّم الإحرام قبل الميقات أم يؤخره بعد الميقات؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 734 عندنا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كما نُسَلِّمُ جميعًا أَفْهَمُ الناسِ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندنا: عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس وأم سلمة رضي الله تعالى عنهم جميعًا، ابن عمر أحرم قبل الميقات وابن عباس أحرم قبل الميقات. ابن عمر المعروف بشدائده وابن عباس المعروف برخصه الاثنان التقيا هنا في الإحرام قبل الميقات، وعمر رواية فيها النهي ورواية فيها الأمر. بالنسبة لسيدنا عثمان الرواية التي فيها النهي رواها الإمام البخاري تعليقًا في باب "الحج أشهر معلومات" قال الإمام البخاري: وكره عثمان رضي الله عنه أن يحرم من خراسان. هنا الباب "الحج أشهر معلومات" وهذا توقيت زماني، ثم وكره عثمان خراسان هذه توقيت مكاني، فقال فقال ابن حجر: ومناسبة هذا الأثر للذي قبله أن بين خراسان ومكة أكثر من مسافة أشهر الحج، فيستلزم أن يكون أحرم في غير أشهر الحج، فكره ذلك عثمان، وإلا فظاهره يتعلق بكراهة الإحرام قبل الميقات، فيكون من متعلق الميقات المكاني لا الزماني. إذن ما ثبت عن سيدنا عثمان والإمام البخاري ذكره تعليقًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 735 ومعلوم أن ما ذكره تعليقًا وصله ابن حجر وبيّن إسناده في كتاب تعليق التعليق، وفعلاً هنا في الفتح بين أنه وصله سعيد بن منصور وأخذ يتحدث الإسناد. إذن عثمان نهى لأن الإحرام كان قبل الميقات الزماني لا الميقات المكاني، بالنسبة لسيدنا عمر ما روي عنه لم أجد رواية تسقط رواية أخرى، فالأسانيد في مستوى واحد، فليس فيها رواية صحيحة وأخرى ضعيفة حتى نقول ولذلك وعن عمر روايتان. إذن هنا إمكان الإحرام قبل الميقات فعله تلامذة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان هناك طائرات وما كان هناك مشقة، بل أن الذين نهوا عن الإحرام قبل الميقات - كما رأينا فيما بعد - إنما نهوا من أجل المشقة، حيث بيّن هؤلاء بأنه لو أحرم مثلاً في البحر وهو في اللجنة ولم يساحل الميقات ففي ذلك خطر؛ خوفًا من أن ترده الريح فيبقى محرمًا، ويطول إحرامه حتى يتسنى له أن يقلع إقلاعًا سليمًا، وفي ذلك أعظم الحرج المنفي من الدين. إذن الذين نهوا عن الإحرام قبل الميقات لأن للإحرام محظورات، ورأوا أن الوقت قد يطول، وبذلك يمكن أن يكون فيه مشقة. لهذا الفقهاء أجمعوا على جواز الإحرام قبل الميقات، أجمعوا. والإحرام بعد الميقات فيه المنع المعروف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 736 إذن نقول هنا: الذي يركب الطائرة إذا كان الأيسر له الأيسر أن يحرم من بيته فليحرم، أن يحرم من المطار فليحرم، أن يحرم في الطائرة من الميقات فليحرم، فليختر الأيسر، أحرم من بيته فلا حرج، من المطار لا حرج. ومسألة الصعوبة في الطائرة لا أدري كيف أنها صعوبة، يعني الأستاذ الدكتور تكلم عن البنطلون كذا، لا ممكن الأزار وفوق الأزار الجلباب، وفي الطائرة نخلع الجلباب ونضع الرداء بسهولة ويسر بدون أي مشقة. فعلى أي حال هنا الذي أرجو أن يتبناه المجمع الموقر هو أن الحاج بالطائرة له أن يحرم قبل الميقات إذا تعذر أو شق عليه أن يحرم من الميقات وهو في الطائرة، ولا يؤجل هذا إلى ما بعد الميقات. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. الرئيس: شكرًا، في الواقع أولاً: أحب أن أشير إلى النقطة التي أشار إليها الشيخ علي السالوس، وهي الإحرام قبل الميقات، هي كذلك نفس قرار مكة، قرر الشيء هذا في قراره. الشيء الذي أحبه يا مشايخ في الحقيقة يظهر لي أن الاتجاه العام هو على ما في قرار مكة، يعني هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما يشمل أهل الأرض والبحر يشمل من يأتي عن طريق الجو، فإن رأيتم أنه يعمل التصويت عليه وينهي الموضوع، فهو مناسب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 737 مناقش: موافقون على قرار مكة. الرئيس: خلاص، أنا في نظري أن وجهة المخالفين كشف عنها الشيخ مصطفى، ووجهة الذين يبدو – والله أعلم – أنهم الأكثرية يعني اتضحت بعدد من المناقشات، ولا أظن أن المناقشات ستؤدي إلى رأي ثالث. فأنا أقول: إذا كانت المناقشات في محيط هذين الرأيين فقد تتكرمون بأن ننهي الموضوع بالتصويت، وإذا كان ثمة رأي ثالث فلا حرج. الدكتور حسن عبد الله الأمين: هنالك جهات ليس لها قياس صحيح يا مولانا. الشيخ مصطفى الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم. استرعى انتباهي ما تفضل به الأخ الكريم الدكتور وهبه الزحيلي من انتقاده على أن تكون الأمية وصفًا ملازمًا لهذه الأمة إلى يوم القيامة، وبين أن هذا يكذبه الواقع ولذلك نحن هنا. أنا نقلت كلام الشاطبي، وكلام الشاطبي ليس كما فهم منه الأخ الكريم الدكتور وهبه الزحيلي، فلا الشاطبي ولا أنا الذي نقلت كلامه وأقررته، لم يقل أحد منا بأن هذه الأمية وصف لازم للأمة إلى يوم القيامة، هذا كلام الشاطبي سأعيد اللقطة التي أخذتها منه، وإنما كان الكلام واردًا من الشاطبي ومما بينته أنا أن العرب الذين نزلت عليهم الشريعة هم أميون، ولذلك توصف الشريعة بأنها أمية، وفسر معنى الأمية بأن أحكامها لا تبنى على أمور علمية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 738 الرئيس: على كل حال يا شيخ كلامكم متضح للناس. الشيخ مصطفى الزرقاء: سأقرأ كلمة الشاطبي سطرين. الرئيس: كلمة الشاطبي موجودة عندنا يا شيخ. الشيخ مصطفى الزرقاء: فلذلك لو عاد الأخ إليها لتبين له أنه قد فهم خطأ. الشيخ رجب التميمي: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة، الرسول صلى الله عليه وسلم في كلماته الشريفة: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] ، وكلامه صلى الله عليه وسلم صالح لكل زمان ومكان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 739 ومن إعجاز هذا الحديث الشريف وما فيه من معان جميلة سامية أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((هن مواقيت لأهلهن ومن أتى عليهن من غير أهلهن)) لم يحدد، ذلك عام ((من أتى عليهن)) ، صحيح في ذلك الوقت لم يكن الطيران معروفًا لكن ((من أتى عليهن)) بأي وسيلة، لم يحدد الوسيلة، لم يكن أرضًا. ولذلك لا يصح لنا أن نقول في مجال الحديث: إن الطيران والطائرات التي نسافر بها اليوم لو كان موجودًا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حين حدد هذه المواقيت الأرضية لأجل الإحرام، لما كان المرور جوًا بالطائرة فوق بقعة الميقات مشمولة. هذا الكلام لا يقال، صحيح أن الطيران لم يكن موجودًا، ولم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لنا أن نقصر الحديث ونقول: إنه لا يشمل وقتنا هذا، ومن المعلوم أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هي شريعة ووحي من الله، وهي صالحة لكل زمان ومكان. وأنا أقول في تفسير هذا الحديث أنه يشمل كل الطريق الذي يمر على المواقيت بأي أداة كانت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى. وقد أخبر في أحاديث كثيرة عن المغيبات التي وقعت في عصرنا هذا. فصلى الله عليه وسلم حينما يشرع يشرع تشريعًا عامًا في كل زمان ومكان، والعلم يتقدم والإسلام موافق للعلم، والآية الكريمة التي نقرأها في كتاب الله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] . منها الطائرة والباخرة وكل شيء، فلا يصح أن نقصر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وحي يوحى، فحينما نقرأ الأحاديث نتصور الناحية الروحية ولا نقصرها على الناحية المادية؛ لأن هذا لا يليق بأحاديث الرسول وهي وحي من عند الله {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] . وتكفي هذه الإشارة والتعقيب، ولا أريد أن أطيل، فالبحث طويل لكن اختصارًا للوقت. وشكرا للإخوان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 740 الشيخ يوسف جيري: شكرًا سيدي الرئيس، الواقع كما تفضل السيد الرئيس يعني هناك اتجاه عام إلى التمسك بما كان العمل به عند أسلافنا رضوان الله عليهم أجمعين، إلا أنه من الناحية العملية والتنظيمية في القارة الأفريقية اتجاه عام الآن، يعني وأريد الآن أن أعرف موقع هذا الاتجاه العام في القرار الذي سنتخذه. العادة التي جرى عليها العمل الآن في القارة الأفريقية أو في كثير من تنظيمات الحج في الدول الأفريقية، أن الحاج لما يخرج من بلده يتجه إلى جدة ومن جدة يذهب إلى المدينة ليبقى في المدينة المنورة بضعة أيام، ثم من المدينة يقوم ويتجه إلى مكة، وفي هذا أنه يتعدى الميقات ويدخل في جدة ثم يخرج ثانيًا عن طريق آخر. فكثير من علماء الدين في القارة الأفريقية يقولون بأن ما جاء في الحديث ((هن لأهلهن ومن أتى عليهن من غير أهلهن)) ربما يطبق في هذه الحالات، وهذا يعني أن هؤلاء عندما يخرجون لا يحرمون، ولا يحرمون عندما يحاذون الميقات؛ لأنهم لما يدخلون جدة يخرجون أيضًا إلى المدينة المنورة، لكن عندما يخرجون من المدينة المنورة عليهم حكم أهل المدينة ويحرمون من الميقات، فلهذا أريد أن أعرف موقع هذا الحكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 741 الرئيس: على كل حال الموضوع الحكم في هذا فيه وضوح ومنصوص عليه عند أهل العلم، وهو لا دخل له في أصل القضية؛ لأن هناك مسألة في قول النبي صلى الله عليه وسلم ((ممن أراد الحج والعمرة)) ، فهؤلاء يأتون مرتبين أحوالهم على ما يلي يرتبون زيادة المدينة النبوية، فمعناه ما أرادوا الحج والعمرة لأول وهلة. هذا هو. الرئيس: أرجو مع تقديري للشيخ حسن والشيخ قادي أمامكم أحد عشر اسما معذرة، أنا مقيد أسماءكم. ما عندي استعداد، أمامكم أحد عشر اسما، فهل ترون أنني أقيد الآن ما يقرب من عشرين اسما والقضية واحدة، أو نبتّ في الموضوع. إذن الذين يرون أن الميقات هو على حد قول رسول صلى الله عليه وسلم أنهم إذا حاذوا الميقات يحرمون؛ يتفضلون برفع أيديهم. الشيخ عبد العزيز عيسى: ما معنى المحاذاة؟ أسأل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 742 الرئيس: المحاذاة يا شيخ محمد سالم كما قررتم. الشيخ محمد سالم عبد الودود: عندي سؤال فيما قررته أنا مثلاً الذي يأتي فيما بين يلملم والجحفة معروف أن المواقيت ليست على نسب متساوية حتى تكون دائرة حول الحرم، فإذا أردنا أن نفرض المحاذاة فيما بين الجحفة ويلملم، فهل نفرض دائرة أو وترا نفرض قوسًا أو ترًا؟ الرئيس: يا شيخ، قضية المحاذاة معلومة عند أهل الخطوط ومرسوم لها وواضحة، على كل أنه من خلال رفع الأيدي، فلا شك أن الأكثرية المطلقة هي تتفق مع ما في قرار مكة، من أن على مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي مرّ على أسماعكم الكريمة، وبهذه تنتهي جلستنا هذه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 743 القرار بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (7) د 3/07/86 بشأن "الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة" إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمرة الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407 هـ/11-16 أكتوبر 1986م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة بخصوص موضوع "الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة". قرر: أن المواقيت المكانية التي حددتها السنة النبوية يجب الإحرام منها لمريد الحج أو العمرة، للمار عليها أو للمحاذي لها أرضًا أو جوًا أو بحرًا؛ لعموم الأمر بالإحرام منها في الأحاديث النبوية الشريفة. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 744 تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي لفضيلة الدكتور نزيه كمال حماد بسم الله الرحمن الرحيم تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي توطئة 1- إن من أبرز المشكلات الاقتصادية المعاصرة التي تمس الفرد والجماعة في أغلب دول العالم اليوم مشكلة التضخم، وما يرافقه من تأثير كبير وخطير على القوة الشرائية للنقد، حيث تضعف هذه القوة وتقل، مما يؤدي إلى رخص النقود تجاه السلع والمنافع والخدمات التي تبذل عوضًا عنها. كما أن السياسية الاقتصادية لكثير من الدول الحاضرة قد تدعوها إلى تخفيض قيمة عملتها بالنسبة إلى بعض العملات الأخرى أو بالنسبة إلى الذهب، فتخفضها بالقدر المناسب، وقد تدعوها على عكس ذلك إلى رفع قيمة عملتها، فترفعها بالنسبة الملائمة. وهناك العديد من الدول المعاصرة تحظر التعامل بنقدها خارج حدود أراضيها وفق سياسة اقتصادية معينة، وتمنع بالتالي إخراجه منها إلى أية دولة أخرى، ولو حدث أن أخرج منها بصورة ما، فإنها تمنع إدخاله إليها ثانية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 745 وقد تمنع بعض الدول التعامل بالذهب أو بأية عملة غير عملتها في داخل أراضيها، وتعتبر ذلك من قبيل النظام العام الذي لا تجوز مخالفته، وتجعل كل اتفاق على خلافه باطلاً، وقد تلغي بعض الدول شيئًا من عملاتها الرائجة، وتستبدلها بنقد آخر تصطلح على التعامل به.. وقد.. وقد.. هذا في نطاق السياسية الاقتصادية للدول، أما في مجال المعاملات الفردية، فكثيرًا ما يقرض المرء لغيره مبلغًا من المال إلى أجل معين؛ رفقًا به ومعونة له، ودفعًا لحاجته، وتفريجًا لكربته، فإذا ما حل أجل الوفاء، وجد المقرض أن هذا المبلغ الذي عاد إليه أقل أو أكثر – بقليل أو كثير – من المبلغ الذي دفعه له قرضًا من حيث قوته الشرائية، أو من حيث قيمته بالنسبة إلى الذهب، أو بالنسبة إلى العملات الأخرى يوم أقرضه، وإن كان مماثلاً له في الكم والعدد، وكثيرًا ما يشتري التاجر بضاعة بنقد محدد مؤجل الوفاء إلى أمد متفق عليه، وعندما يحل الأجل ويحين وقت الأداء، يجد كل واحد من المتبايعين أن المبلغ المتفق عليه قد اختلف حاله من حيث القوة الشرائية، أو من حيث القيمة بالنسبة إلى الذهب أو إلى العملات الأخرى عن الوضع الذي كان عليه وقت وجوبه في الذمة بالعقد، وفي كثير من البلدان الإسلامية جرى العرف بين الناس على جعل بعض مهر الزوجة أو أكثره أو كله دينًا مؤجلاً في ذمة الزوج، لا يحل إلا بالموت أو الفرقة، ويسمونه "المهر المؤجل". وواقع الأمر في غالب حالات المهر المؤجل طروء التغير الفاحش على قيمة النقد الذي جعل مهرًا، وصار دينًا في ذمة الزوج عند حلوله بالنظر إلى يوم ثبوته في ذمته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 746 هذه بعض صور القضية، وللقضية تعلقات شائكة وآثار خطيرة وأبعاد كثيرة لا تكاد تحصى، وأنها لتمس الفرد والمجتمع والدولة في مجالات مختلفة وجوانب شتى، غير أن الذي يعنينا بحثه في هذا المقام ما يتصل بالمعاملات المالية عند تغير أحوال النقد، وأثر ذلك على الديون في الذمم، أيًا كان سببها ومنشئوها. وهذا الجانب – في الحقيقة ونفس الأمر – وإن كان عظيم الأهمية وبالغ الخطورة في هذا العصر على الخصوص، فإن مبادئه وأسسه موجودة ومعروفة في تعامل المسلمين وفقههم منذ أكثر من ألف عام مضى، ولفقهائهم في ذلك آراء ونظرات هامة جديرة بالعناية بها والإفادة منها، وبيان ذلك: (أ) تغيرات النقود الذهبية والفضية 2- إن الدين الثابت في الذمة إذا كان عملة ذهبية أو فضية محدودة مسماة، فغلت أو رخصت عند حلول وقت الأداء، فلا يلزم المدين أن يؤدي غيرها؛ لأنها نقد بالخلقة – كما يعبر الفقهاء – وهذا التغير في قيمتها لا تأثير له على الدين البتة (1) . يقول ابن عابدين في رسالته "تنبيه الرقود على مسائل النقود": "وهذا كالريال الفرنجي والذهب العتيق في زماننا، فإذا تبايعا بنوع منهما، ثم غلا أو رخص، بأن باع ثوبًا بعشرين ريالاً مثلاً، أو استقرض ذلك، يجب رده بعينه، غلا أو رخص" (2) . ويقول أيضًا: "وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جار حتى في الذهب والفضة – كالشريفي والبندقي والمحمدي والكلب والريال – فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع (3) . وعلى هذا نصت المادة (805) من "مرشد الحيران"، حيث جاء فيها: وإن استقرض شيئًا من المكيلات أو الموزونات أو المسكوكات من الذهب والفضة، فرخصت أسعارها أو غلت، فعليه رد مثلها ولا عبرة برخصها وغلوها". 3- وحتى لو زادت الجهة المصدرة لهذه العملة سعرها أو أنقصته، فلا يلزم المدين إلا ما جرى عليه العقد (4) .   (1) تنبيه الرقود لابن عابدين: 2/64. (2) تنبيه الرقود: 2/64. (3) تنبيه الرقود: 2/64. (4) منح الجليل لعليش: 2/534، قطع المجادلة عند تغيير المعاملة للسيوطي (مطبوع ضمن الحاوي للفتاوى) : 1/97 وما بعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 747 يقول ابن عابدين: "ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه. والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينًا، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال أفرنجي أو مائة ذهب عتيق" (1) . 4- ولو أبطلت السلطة المصدرة لهذه العملة التعامل بها، فإنه لا يلزم المدين سواها وفاء بالعقد، إذ هي المعقود عليها دون غيرها. وعلى ذلك نص الإمام الشافعي والمالكية في المشهور عندهم (2) . قال الشافعي في "الأم": "ومن سلف فلوسًا أو دراهم أو باع بها، ثم أبطلها السلطان، فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي سلف أو باع بها" (3) . وجاء في نوازل ابن رشد ما نصه: "وسئل رضي الله عنه عن الدنانير والدراهم إذا قطعت السكة فيها وأبدلت بسكة غيرها، ما الواجب في الديون والمعاملات المتقدمة وأشباه ذلك؟ فقال: المنصوص لأصحابنا وغيرهم من أهل العلم رحمهم الله، أنه لا يجب عليه إلا ما وقعت به المعاملة. فقال له السائل: فإن بعض الفقهاء يقول: أنه لا يجب عليه إلا السكة المتأخرة؛ لأن السلطان قد قطع تلك السكة وأبطلها، فصارت كلا شيء. فقال: لا يلتفت إلى هذا القول، فليس بقول لأحد من أهل العلم. وهذا نقض لأحكام الإسلام، ومخالفة لكتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام في النهي عن أكل المال بالباطل" (4) . ثم قال: "ويلزم هذا القائل أن يقول: "إن السلطان إذا أبدل المكاييل بأصغر أو أكبر، أو الموازين بأنقص أو أوفى، وقد وقعت المعاملة بينهما بالمكيال الأول أو الميزان الأول أنه ليس للمبتاع إلا بالكيل الأخير، وإن كان أصغر. وأن على البائع الدفع بالثاني أيضًا وإن كان أكبر. وهذا مما لا خفاء في بطلانه. وبالله التوفيق (5) . 5- وقال بعض المالكية: إذا أبطلت تلك العملة واستبدلت بغيرها. فيرجع إلى قيمة العملة الملغاة من الذهب، ويأخذ صاحب الدين القيمة ذهبًا (6) . 6- أما إذا عدمت تلك العملة أو انقطعت أو فقدت في بلد المتعاقدين، فتجب عندئذ قيمتها.   (1) تنبيه الرقود: 2/66. (2) حاشية الرهوني: 5/118، 119، ومنح الجليل: 2/534، حاشية المدني على كنون: 5/118. (3) الأم: 3/33. (4) حاشية الرهوني: 5/119. (5) حاشية الرهوني: 5/119. (6) حاشية الرهوني: 5/119. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 748 جاء في مختصر خليل وشرحه لعليش: "وإن بطلت فلوس فالمثل، أو عدمت الفلوس أو الدنانير أو الدراهم بعد ترتبها في ذمة شخص ببيع أو قرض من بلد المتعاقدين، وإن وجدت في غيرها، فالقيمة واجبة على من ترتبت عليه مما تجدد التعامل به، معتبرة وقت اجتماع الاستحقاق – وذلك يوم حلول أجلها – والعدم لها، ولا يجتمعان إلا وقت المتأخر منهما. فإن استحقت ثم عدمت، فالتقويم يوم العدم. وإن عدمت ثم استحقت، قومت يوم استحقاقها" (1) . 7- ولو قلت أو عز وجودها في أيدي الناس، فإنه لا يجب غيرها، لإمكان تحصيلها مع العزة، بخلاف انقطاعها وانعدامها وفقدها (2) . جاء في "تحفة المحتاج" للهيثمي: "ولو باع بنقد دراهم أو دنانير، وعين شيئًا موجودًا، اتبع وإن عز" (3) . 8- وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن الحنابلة قيدوا القول بإلزام الدائن بقبول مثل النقد الذي ثبت في ذمة المدين، وإلزام المدين بأدائه إذا كان متوفرًا: بأن يكون التعامل بذلك النقد مسموحًا به من قبل الدولة. أما إذا منعت الدولة الناس من التعامل به، فلا يجبر الدائن على قبوله، ويكون له القيمة وقت ثبوت الدين من غير جنسه من النقود إن ترتب على أخذ القيمة من جنسه ربا الفضل (4) سواء اتفق الناس على ترك التعامل بهذا النقد أو لم يتفقوا (5) .   (1) منح الجليل: 2/535. (2) نهاية المحتاج للرملي: 3/397. (3) تحفة المحتاج: 4/255. (4) أما إذا لم يترتب على أداء القيمة من جنسه ربا الفضل، فلا مانع من أن يكون الوفاء بقيمته من جنسه. (5) كشاف القناع: 3/301، الشرح الكبير على المقنع: 4/358، المغني: 4/365، المبدع: 4/207، المحرر: 1/335. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 749 جاء في "منتهى الإرادات" وشرحه للبهوتي: " … ما لم يكن القرض فلوسًا أو دراهم مكسرة فيحرمها السلطان – أي يمنع التعامل بها – ولو لم يتفق الناس على ترك التعامل بها. فإن كانت كذلك، فله – أي المقرض – قيمته، أي القرض المذكور وقت قرض نصًا؛ لأنها تعيبت في ملكه، وسواء نقصت قيمتها قليلاً أو كثيرًا. وتكون القيمة من غير جنسه – أي القرض – إن جرى فيه – أي أخذ القيمة من جنسه – ربا فضل، بأن اقترض دراهم مكسرة، وحرمت، وقيمتها يوم القرض أنقص من وزنها، فإنه يعطيه بقيمتها ذهبًا (1) . (ب) تغيرات النقود الاصطلاحية 9- أما إذا كان الدين الثابت في الذمة نقدًا بالاصطلاح لا بالخلقة، كسائر العملات الأخرى غير الذهبية والفضية (2) ، فطرأ عليه تغير عند حلوله، فعندئذ يفرق بين خمس حالات.   (1) شرح منتهى الإرادات: 2/226. (2) يقول العلامة الشيخ أحمد الزرقاء في "شرح القواعد الفقهية، ص 121: "هذا والذي يظهر أن الورق النقدي المسمي الآن بالورق السوري الرائج في بلادنا الآن، ونظيره الرائج في البلاد الأخرى، وهو معتبر من الفلوس النافقة، وما قيل فيها من الأحكام السابقة يقال فيه؛ لأن الفلوس النافقة هي ما كان متخذًا من غير النقدين، الذهب والفضة، وجرى الاصطلاح على استعماله استعمال النقدين، والورق المذكور من هذا القبيل، ومن يدعي تخصيص الفلوس النافقة بالمتخذ من المعادن فعليه البيان ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 750 الحالة الأولى الكساد العام للنقد 10- وذلك بأن توقف الجهة المصدرة للنقد التعامل به، فتترك المعاملة به في جميع البلاد، وهو ما يسميه الفقهاء بـ "كساد النقد" (1) . ففي هذه الحالة: لو اشترى شخص سلعة ما بنقد محدد معلوم، ثم كسد ذلك النقد قبل الوفاء، أو استدان نقدًا معلومًا ثم كسد قبل الأداء، أو وجب في ذمته المهر المؤجل من نقد محدد، ثم كسد قبل حلوله، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال: 11- القول الأول: لأبي حنيفة، وهو أن النقد الذي كسد إذا كان ثمنًا في بيع، فإنه يفسد العقد، ويجب الفسخ مادام ممكنًا؛ لأنه بالكساد خرج عن كونه ثمنًا؛ لأن ثمنيته ثبتت بالاصطلاح، فإذا ترك الناس التعامل به، فإنها تزول عنه صفة الثمنية، فيبقى المبيع بلا ثمن، فيفسد البيع. أما إذا كان دينًا في قرض أو مهرًا مؤجلاً، فيجب رد مثله ولو كان كاسدًا، لأنه هو الثابت في الذمة لا غيره (2) . وحجة أبي حنيفة كما حكى الزيلعي في "تبيين الحقائق": "أن القرض إعارة، وموجبها رد العين معنى، وذلك يتحقق برد مثله – ولو صار كاسدًا – لأن الثمنية زيادة فيه، حيث إن صحة القرض لا تعتمد الثمنية، بل تعتمد المثل، وبالكساد لم يخرج من أن يكون مثلاً. ولهذا صح استقراضه بعد الكساد، وصح استقراض ما ليس بثمن كالجوز والبيض والمكيل والموزون وإن لم يكن ثمنًا، ولولا أنه إعارة في المعنى لما صح؛ لأنه يكون مبادلة الجنس بالجنس نسيئة، وأنه حرام. فصار المردود عين المقبوض حكمًا، فلا يشترط فيه الرواج، كرد العين المغصوبة، والقرض كالغصب، إذ هو مضمون بمثله" (3) . وقد جاء في "بدائع الصنائع": "ولو اشترى بفلوس نافقة، ثم كسدت قبل القبض انفسخ عند أبي حنيفة، وعلى المشتري رد المبيع إن كان قائمًا، وقيمته (4) أو مثله (5) إن كان هالكًا" (6) .   (1) الكساد في اللغة: من كسد الشيء يكسد – من باب قتل -: لم ينفق لقلة الرغبات، فهو كاسد وكسيد. ويتعدى بالهمزة، فيقال: "أكسده الله". وكسدت السوق، فهي كاسد- بغير هاء – في الصحاح، وبهاء في التهذيب، ويقال: أصل الكساد الفساد (المصباح المنير: 2/644) . أما الكساد في اصطلاح الفقهاء: "فهو أن يبطل التداول بنوع من العملة، ويسقط رواجها في البلاد كافة" (شرح المجلة لعلي حيدر: 1/108، تبيين الحقائق: 4/143، تنبيه الرقود: 2/60. (2) الفتاوى الهندية: 3/225، بدائع الصنائع: 7/3244 وما بعدها، تبيين الحقائق: 4/142، درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 3/94. (3) تبيين الحقائق: 4/144. (4) أي أن كان قيميًا. (الزيلعي: 4/142) . (5) أي أن كان مثليًا. (الزيلعي: 4/142) . (6) بدائع الصنائع: 7/3244. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 751 وفيها أيضًا: "ولو استقرض فلوسًا نافقة وقبضها فكسدت، فعليه رد مثل ما قبض من الفلوس عددًا في قول أبي حنيفة" (1) . 12- والقول الثاني: لأبي يوسف (2) والحنابلة على الراجح (3) عندهم والمالكية في غير المشهور (4) ، وهو أنه لا يجزئ رد المثل بعد ما كسد، ويجب على المدين رد قيمة النقد الذي وقع عليه العقد – يوم التعامل – من نقد آخر (5) . وبهذا الرأي أخذت المادة (805) من مرشد الحيران، حيث جاء فيها: "إذا استقرض مقدارًا معينًا من الفلوس الرائجة والنقود غالبة الغش (6) فكسدت وبطل التعامل بها، فعليه رد قيمتها يوم قبضها لا يوم ردها". واستدلوا على ذلك: أولاً: بأن إيقاف التعامل بها من قبل الجهة المصدرة لها منع لنفاقها وإبطال لماليتها، إذ هي أثمان بالاصطلاح لا بالخلقة، فصار ذلك إتلافًا لها، فيجب بدلها، وهو القيمة بناء على قاعدة الجوابر. ثانيًا: ولأن الدائن قد دفع شيئًا منتفعًا به لأخذ عوض منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به. 13- وإنما اعتبرت القيمة يوم التعامل؛ لأنه وقت الوجوب في الذمة. يقول ابن قدامة في "المغني": "وان كان القرض فلوسًا أو مكسرة، فحرمها السلطان، وتركت المعاملة بها، كان للمقرض قيمتها، ولم يلزمه قبولها، سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها؛ لأنها تعيبت في ملكه، نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة، وقال: يقوّمها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه، وسواء نقصت قيمتها قليلاً أو كثيرًا" (7) . 14- وذهب فريق آخر من المالكية – في ثمن المبيع – أنه تجب قيمة السلعة يوم قبضها من النقد الرائج (8) .   (1) بدائع الصنائع: 7/3245 (2) تبيين الحقائق: 4/142، الفتاوي الهندية: 3/225، درر الحكام: 3/94. (3) كشاف القناع: 3/301، شرح منتهى الإرادات: 2/226، الشرح الكبير على المقنع: 4/358. (4) حاشية الرهوني: 5/120، حاشية المدني: 5/118. (5) وقد حكى صاحب "الذخيرة البرهانية" أن هذا القول هو المفتى به في مذهب الحنفية؛ وذلك لأنه أيسر، حيث إن القيمة يوم التعامل تكون معلومة، بخلاف يوم الكساد فإنها لا تعرف فيه إلا بحرج. (انظر الفتاوي الهندية: 3/225، تبيين الحقائق: 4/144، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 4/132، تنبيه الرقود: 2/59. (6) المراد بالنقود غالبة الغش: العملة التي يكون غالبها من معدن غير الذهب والفضة. (7) المغني: 4/365. (8) حاشية المدني: 5/118، حاشية الرهوني: 5/120. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 752 15- والقول الثالث: لمحمد بن الحسن الشيباني (1) وبعض الحنابلة (2) ، وهو أنه يجب على المدين رد قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر وقت الكساد، أي في آخر نفاقها، وهو آخر ما تعامل الناس بها؛ لأنه وقت الانتقال إلى القيمة، إذ كان يلزمه رد مثلها مادامت نافقة، فإذا كسدت انتقل إلى قيمتها وقتئذ. جاء في "جواهر الفتاوى": "قال القاضي الزاهدي: إذا باع شيئًا بنقد معلوم، ثم كسد النقد قبل قبض الثمن، فإنه يفسد البيع، ثم ينظر: إن كان المبيع قائمًا في يد المشتري يجب رده عليه، وإن كان خرج من ملكه بوجه من الوجوه، أو اتصل بزيادة بصنع من المشتري، أو أحدث في صنعة متقومة، مثل أن كان ثوبًا فخاطه، أو دخل في حيز الاستهلاك وتبدل الجنس، مثل أن كان هناك حنطة فطحنها أو سمسمًا فعصره أو وسمة فضربها نيلاً؛ فإنه يجب عليه رد مثله إن كان من ذوات الأمثال – كالمكيل والموزون والعددي الذي لا يتفاوت كالجوز والبيض – ومن كان من ذوات القيم – كالثوب والحيوان – فإنه يجب قيمة المبيع يوم القبض من نقد كان موجودًا وقت البيع لم يكسد، ولو كان مكان البيع إجارة، فإنه تبطل الإجارة، ويجب على المستأجر أجر المثل. وإن كان قرضًا أو مهرًا يجب رد مثله. هذا كله قول أبي حنيفة.   (1) وقد جاء في كتب الحنفية نقلاً عن المحيط واليتيمة والحقائق أن الفتوى في المذهب بقول محمد بن الحسن رفقًا بالمدينين، حيث إن القيمة في آخر النفاق تكون عادة أقل منها يوم التعامل (انظر الفتاوي الهندية: 3/225، الزيلعي: 4/143، الشلبي على تبيين الحقائق: 4/142، تنبيه الرقود: 2/59، درر الحكام: 3/94) . (2) الشرح الكبير على المقنع: 4/358. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 753 وقال أبو يوسف: "يجب عليه قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل" وقال محمد: "يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس" (1) . 16- والقول الرابع: للشافعية (2) والمالكية على المشهور (3) ، وهو أن النقد إذا كسد بعد ثبوته في الذمة وقبل أدائه، فليس للدائن سواه، ويعتبر هذا الكساد كجائحة نزلت بالدائن، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدين قرضًا أو ثمن مبيع أو غير ذلك. جاء في "نهاية المحتاج" للرملي: "ولو أبطل السلطان ما باع به أو أقرضه لم يكن له غيره بحال" (4) . وجاء فيها أيضًا: "ويرد المثل في المثلي؛ لأنه أقرب إلى حقه، ولو في نقد بطلب المعاملة به، فشمل ذلك ما عمت به البلوى في زماننا في الديار المصرية من إقراض الفلوس الجدد، ثم إبطالها وإخراج غيرها، وإن لم تكن نقدًا" (5) . وقال النووي في "المجموع": "إذا باع بنقد معين، أو بنقد مطلق، وحملناه على نقد البلد فأبطل السلطان المعاملة به قبل القبض، قال أصحابنا: لا ينفسخ العقد، ولا خيار للبائع، وليس له إلا ذلك النقد المعقود عليه، كما لو اشترى حنطة فرخصت قبل القبض، أو أسلم فيها فرخصت قبل المحل، فليس له غيرها. هكذا قطع به الجمهور. وحكى البغوي والرافعي وجها أن البائع مخير: إن شاء أجاز البيع بذلك النقد، وإن شاء فسخه، كما لو تعيب قبل القبض، والمذهب الأول. قال المتولي وغيره: ولو جاء المشتري بالنقد الذي أحدثه السلطان، لم يلزم البائع قبوله فإن تراضيا به، فهو اعتياض، وحكمه حكم الاعتياض عن الثمن. دليلنا عليه في الأول: أنه غير الذي التزمه المشتري، فلم يجب قبوله، كما لو اشترى بدراهم، وأحضر دنانير. ودليلنا في الثاني: أن المعقود عليه باق، مقدور على تسليمه، فلم ينفسخ العقد فيه، كما لو اشترى شيئًا في حال الغلاء فرخصت الأسعار" (6) .   (1) تنبيه الرقود لابن عابدين: 2/58. (2) تحفة المحتاج وحاشية الشرواني عليه: 4/258، 5/44، أسنى المطالب: 2/143، قطع المجادلة عند تغيير المعاملة: 1/97 وما بعدها، المجموع شرح المهذب: 9/331، الأم: 3/33. (3) الخرشي على مختصر خليل: 5/55، الزرقاني على خليل: 5/60، حاشية الرهوني: 5/120، 121. (4) نهاية المحتاج: 3/399. (5) نهاية المحتاج: 4/223. (6) المجموع شرح المهذب: 9/282. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 754 وجاء في "منح الجليل" لعليش: "ومن ابتاع بنقد أو اقترضه، ثم بطل التعامل به، لم يكن عليه غيره أن وجد، ومن اقترض دنانير أو دراهم أو فلوسًا أو باع بها وهي سكة معروفة، ثم غير السلطان السكة وأبدلها بغيرها، فإنما عليه مثل السكة التي قبضها ولزمته يوم العقد. وفيها (أي المدونة) : ومن أسلفته فلوسًا، فأخذت بها رهنا، فكسدت الفلوس، فليس لك عليه إلا مثل فلوسك، ويأخذ رهنه. وإن بعته سلعة بفلوس إلى أجل، فإنما لك مثل هذه الفلوس يوم البيع، ولا يلتف لكسادها، (1) . الحالة الثانية الكساد المحلي للنقد 17- وذلك بأن يكسد النقد في بعض البلاد لا في جميعها. ومثله في عصرنا الحاضر العملات التي تصدرها بعض الدول وتمنع تداولها في خارج حدود أراضيها. 18- ففي هذه الحالة إذا اشترى شخص بنقد نافق ثم كسد في البلد الذي وقع فيه البيع قبل الأداء، فإن البيع لا يفسد، ويكون البائع بالخيار بين أن يطالبه بالنقد الذي وقع به البيع، وبين أخذ قيمة ذلك النقد من عمله رائجة. وهذا هو القول المعتمد في مذهب الحنفية (2) . جاء في "عيون المسائل" (3) : "وعدم الرواج إنما يوجب الفساد إذا كان لا يروج في جميع البلدان (4) ؛ لأنه حينئذ يصير هالكًا، ويبقي المبيع بلا ثمن. فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة فقط، ويروج في غيرها فلا يفسد البيع؛ لأنه لم يهلك، ولكنه تعيب، فكان للبائع الخيار: إن شاء قال: أعطني مثل النقد الذي وقع عليه البيع، وإن شاء أخذ قيمة ذلك دنانير" (5) . وقال ابن عابدين: "وان كانت تروج في بعض البلاد لا يبطل، ولكنه يتعيب إذا لم يرج في بلدهم، فيتخير البائع: إن شاء أخذه، وإن شاء أخذ قيمته" (6) . 19- وحكى عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه إذا كسد النقد في بلدة واحدة فيجري عليه فيها حكم الكساد العام في سائر البلاد اعتبارًا لاصطلاح أهل تلك البلدة (7) .   (1) منح الجليل: 2/534. (2) تبيين الحقائق للزيلعي: 4/143. (3) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 4/143، تنبيه الرقود لابن عابدين: 2/59. (4) أي على رأي الإمام أبي حنيفة. (5) المراد بها الدنانير الذهبية. (6) تنبيه الرقود: 2/60. (7) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 4/143. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 755 الحالة الثالثة انقطاع النقد 20- وذلك بأن يفقد النقد من أيدي الناس، ولا يتوفر في الأسواق لمن يريده (1) . وفي هذه الحالة لو اشترى شخص سلعة بنقد معين، ثم انقطع قبل أن يؤدي الثمن، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال: 21 – القول الأول: للحنابلة (2) ومحمد بن الحسن الشيباني وهو المفتى به في مذهب الحنفية (3) ، وهو أن على المشتري أداء ما يساويه في القيمة في آخر يوم قبل الانقطاع؛ لتعذر تسليم مثل النقد بعد انقطاعه، فيصار إلى بدله وهو القيمة. ومثل ذلك يقال في دين القرض وغيره. وإنما اعتبرت القيمة قبيل الانقطاع؛ لأنه الوقت الذي ينتقل الوجوب فيه من المثل إلى القيمة. جاء في "تنبيه الرقود" لابن عابدين: "وإن انقطعت تلك الدراهم اليوم، كان عليه قيمة الدراهم قبل الانقطاع عند محمد، وعليه الفتوى" (4) . وفي "المضمرات": فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع. وهو المختار" (5) .   (1) وحد الانقطاع – كما جاء في تبيين الحقائق والذخيرة البرهانية – هو "ألا يوجد في السوق، وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت". (انظر تبيين الحقائق: 4/143، تنبيه الرقود: 2/60) وفي شرح المجلة لعلي حيدر: "الانقطاع: هو عدم وجود مثل الشيء في الأسواق، ولو وجد ذلك المثل في البيوت، فإنه ما لم يوجد في الأسواق، فيعد منقطعًا " (درر الحكام: 1/108) . وقال الخرشي والزرقاني في ضابط الانقطاع: "إن العبرة بالعدم في بلد المعاملة، أي البلد التي تعاملا فيها، ولو وجد في غيرها فإنه يعتبر منقطعًا". (انظر شرح الخرشي: 5/55، شرح الزرقاني علي خليل: 5/60) . (2) الشرح الكبير على المقنع: 4/358. (3) تبيين الحقائق للزيلعي وحاشية الشلبي عليه: 4/142. (4) تنبيه الرقود: 2/59. (5) تنبيه الرقود: 2/60. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 756 22- والقول الثاني: لأبي يوسف، وهو أنه يجب على المدين أداء ما يساويه في القيمة يوم التعامل؛ لأنه وقت الوجوب في الذمة (1) . 23- والقول الثالث: لأبي حنيفة، وهو أن الانقطاع كالكساد يوجب فساد البيع (2) قال التمرتاشي في رسالته: "بذل المجهود في مسألة تغير النقود": والانقطاع عن أيدي الناس كالكساد، وحكم الدراهم كذلك. فإذا اشترى بالدراهم ثم كسدت أو انقطعت بطل البيع، ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائمًا، ومثله إن كان هالكًا وكان مثليًا، وإلا فقيمته. وإن لم يكن مقبوضًا فلا حكم لهذا البيع أصلاً. وهذا عند الإمام الأعظم. وقالا: لا يبطل البيع؛ لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد، وذلك لا يوجب الفساد لاحتمال الزوال بالرواج (3) . 24- والقول الرابع: للشافعية والمالكية، وهو أنه وإن أمكن الحصول على ذلك النقد مع فقده وانقطاعه، فيجب الوفاء به، وإلا فتجب قيمته، سواء أكان دين قرض أو ثمن مبيع أو غير ذلك. لكن أصحاب هذا القول اختلفوا في الوقت الذي تقدر فيه القيمة عندما يصار إليها: - فقال الشافعية: تجب في وقت المطالبة (4) . - وقال المالكية في المشهور عندهم (5) : تجب في أبعد الأجلين من الاستحقاق – وهو حلول الأجل – والعدم، الذي هو الانقطاع (6) . - وذهب بعض المالكية إلى أن القيمة إنما تقدر وقت الحكم (7) .   (1) الفتاوى الهندية: 3/225، تبيين الحقائق: 4/142. (2) الفتاوى الهندية: 3/225، تبيين الحقائق: 4/142. (3) تنبيه الرقود: 2/59. (4) تحفة المحتاج للهيثمي: 4/258، وانظر قطع المجادلة عند تغيير المعاملة للسيوطي: 1/97. (5) منح الجليل: 2/535، الخرشي على خليل: 5/55، الزرقاني على خليل: 5/60. (6) سواء مطله المدين بها أم لا، كما هو ظاهر كلام خليل والمدونة. وذهب الخرشي وغيره إلى أن هذا مقيد بما إذا لم يحصل من المدين مطل، وإلا وجب عليه ما آل إليه الأمر من السكه الجديدة الزائدة على القديمة؛لأنه ظالم. وقال صاحب تكميل المنهاج: هذا ظاهر إذا آل الأمر إلى الأحسن، فإن آل إلى الأردأ فإنما يعطيه ما ترتب في ذمته. (انظر الخرشي: 5/55، شرح الزرقاني: 5/60، منح الجليل: 2/535، حاشية الرهوني: 5/121. (7) منح الجليل: 2/535، شرح الزرقاني على خليل: 5/60. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 757 قال الرملي في "نهاية المحتاج": فإن فقد وله مثل وجب، وإلا فقيمته وقت المطالبة. وهذه المسألة قد عمت بها البلوى في زمننا في الديار المصرية في الفلوس" (1) . وقال القرافي: "ولو انقطع ذلك النقد حتى لا يوجد، لكان له قيمته يوم انقطاعه إن كان حالاً، وإلا فيوم يحل الأجل، لعدم استحقاق المطالبة قبله (2) . وجاء في "شرح الخرشي على مختصر خليل": وإن عدمت فالواجب على من ترتبت عليه قيمتها مما تجدد وظهر، وتعتبر قيمتها وقت أبعد الأجلين عند تخالف الوقتين عن العدم والاستحقاق" (3) . الحالة الرابعة غلاء النقد ورخصه 25- وذلك بأن تزيد قيمة النقد أو تنقص بالنسبة إلى الذهب والفضة (4) . ويعبر الفقهاء عن ذلك بـ "الغلاء و"الرخص". وفي هذه الحالة إذا تغيرت قيمة النقد غلاء أو رخصًا بعد ما ثبت في ذمة المدين بدلا في قرض أو دين مهر أو ثمن مبيع أو غيره، وقبل أن يؤديه، فقد اختلف الفقهاء في ما يلزم المدين أداؤه على ثلاثة أقوال: 26- القول الأول: لأبي حنيفة (5) والمالكية في المشهور عندهم (6) والشافعية (7) والحنابلة (8) ، وهو أن الواجب على المدين أداؤه هو نفس النقد المحدد في العقد، والثابت دينًا في الذمة، دون زيادة أو نقصان، وليس للدائن سواه. وقد كان القاضي أبو يوسف يذهب إلى هذا الرأي أولاً ثم رجع عنه. جاء في "بدائع الصنائع" في الكلام على تغير الثمن: "ولو لم تكسد، ولكنها رخصت قيمتها أو غلت، لا ينفسخ البيع بالإجماع، وعلى المشتري أن ينقد مثلها عددًا، ولا يلتفت إلى القيمة ههنا؛ لأن الرخص والغلاء لا يوجب بطلان الثمنية، ألا ترى أن الدراهم قد ترخص وقد تغلو، وهي على حالها أثمان" (9) .   (1) نهاية المحتاج: 3/399. (2) منح الجليل: 2/534. (3) الخرشي: 5/55. (4) يقول العلامة علي حيدر في "درر الحكام": "وقد اعتبر الذهب والفضة هما المقياس الذي تقدر بالنظر إليه أثمان الأشياء وقيمتها، ويعدان ثمنًا. أما النقود النحاسية والأوراق النقدية "البنكنوت" فتعد سلعة ومتاعًا، فهي في وقت رواجها تعتبر مثلية وثمنًا، وفي وقت الكساد تعد قيمية وعروضًا". (درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 1/101) . (5) تنبيه الرقود: 2/60، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 4/142، 143. (6) الزرقاني علي خليل: 5/60، حاشية الرهوني: 5/121. (7) قطع المجادلة عند تغيير المعاملة للسيوطي: 1/97-99. (8) الشرح الكبير على المقنع: 4/358، شرح منتهى الإرادات: 2/226. (9) بدائع الصنائع: 7/3245. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 758 وجاء فيه أيضًا – في الكلام على تغير قيمة دين القرض -: "ولو لم تكسد، ولكنها رخصت أو غلت، فعليه رد مثل ما قبض" (1) . وقال ابن قدامة في "المغني": وأما رخص السعر فلا يمنع ردها، سواء كان كثيرًا – مثل إن كانت عشرة بدانق فصارت عشرين بدانق – أو قليلاً؛ لأنه لم يحدث فيها شيء، إنما تغير السعر، فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت" (2) . وقال البهوتي في "كشاف القناع": "إن الفلوس إن لم يحرمها – أي يمنع السلطان المعاملة بها – وجب رد مثلها، غلت أو رخصت أو كسدت" (3) . وقال السيوطي في رسالته "قطع المجادلة عند تغيير المعاملة": " وقد تقرر أن القرض الصحيح يرد فيه المثل مطلقًا، فإذا اقترض منه رطل فلوس، فالواجب رد رطل من ذلك الجنس، سواء زادت قيمته أم نقصت". أما في صورة الزيادة، فلأن القرض كالسلم، وأما في صورة النقص، فقد قال في "الروضة" من زوائده: ولو أقرضه نقدًا، فأبطل السلطان المعاملة به، فليس له إلا النقد الذي أقرضه. نص عليه الشافعي رضي الله عنه، فإذا كان هذا مع إبطاله، فمع نقص قيمته من باب أولى" (4) . ثم قال فيها في معرض كلامه من السلم: "ومنها السلم، والأصح جوازه في الدراهم والدنانير والفلوس بشرطه، فإذا حل الأجل لزمه القدر الذي أسلم فيه وزنا، سواء زادت قيمته عما كانت وقت السلم أم نقصت، ويجب تحصيله بالغًا ثمنه ما بلغ" (5) . وجاء في "مختصر خليل" وشرحه لعليش: "وإن بطلت فلوس فالمثل لما بطل التعامل به على من ترتب في ذمته، وأولى إن تغيرت قيمتها مع استمرار التعامل بها" (6) . وفي "المدونة": "وكذلك إن أقرضته دراهم فلوسًا، وهو يومئذ مائة فلس بدرهم، ثم صارت مائتي فلس بدرهم، فإنما يرد إليك مثل ما أخذ لا غير ذلك" (7) . وبهذا الرأي أخذت مجلة الأحكام الشرعية الحنبلية، حيث جاء في م (750) منها: "إذا كان القرض فلوسًا أو دراهم مكسرة أو أوراقًا نقدية، فغلت أو رخصت أو كسدت ولم تحرم المعاملة بها وجب رد مثلها، وكذا الحكم في سائر الديون، وفي ثمن لم يقبض، وفي أجرة عوض خلع وعتق ومتلف، وثمن مقبوض لزم البائع رده".   (1) بدائع الصنائع: 7/3245. (2) المغني: 4/365. (3) كشاف القناع: 3/301. (4) قطع المجادلة: 1/97. (5) قطع المجادلة: 1/97. (6) منح الجليل: 2/534. (7) نقل عن منح الجليل: 2/535. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 759 27- والقول الثاني: لأبي يوسف، وعليه الفتوى عند الحنفية (1) وهو أنه يجب على المدين أن يؤدي قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة من نقد رائج، ففي البيع تجب القيمة يوم العقد، وفي القرض يوم القبض (2) . قال التمرتاشي في رسالة "بذل المجهود في مسألة تغير النقود" – بعد كلام في المسألة طويل – " (وفي البزازية معزيًا إلى المنتقى: غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول (3) والثاني (4) أولاً (5) : ليس عليه غيرها. وقال الثاني (6) ثانيًا (7) : عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض (8) . هكذا في الذخيرة والخلاصة بالعزو إلى المنتقى. وقد نقله شيخنا في بحره وأقره. فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات، فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء؛ لأن المفتي والقاضي واجب عليهما الميل إلى الراجح من مذهب إمامهما ومقلدهما، ولا يجوز لهما الأخذ بمقابله؛ لأنه مرجوح بالنسبة إليه" (9) .   (1) قاله ابن عابدين، (انظر تنبيه الرقود: 2/60، 61) . (2) تنبيه الرقود: 2/60، 63. (3) أي أبي حنيفة. (4) أي أبي يوسف. (5) ، أي في قوله الأول الذي وافق فيه الإمام أبا حنيفة، ثم رجع عنه. (6) أي أبي يوسف. (7) أي في قوله الثاني الذي استقر عليه واعتمده. (8) أي يوم البيع في عقد البيع، ويوم القبض في عقد القرض. كذا في النهر. (انظر تنبيه الرقود: 2/63) . (9) تنبيه الرقود: 2/60. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 760 28- والقول الثالث: وجه عند المالكية، وهو أن التغير إذا كان فاحشًا، فيجب أداء، قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص. أما إذا لم يكن فاحشًا فالمثل (1) . يقول الرهوني معلقًا على قول المالكية المشهور بلزوم المثل ولو تغير النقد بزيادة أو نقص: "قلت: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدًا، حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه، لوجود العلة (2) التي علل بها المخالف" (3) . 29 – وبالنظر في هذه الأقوال الثلاثة وتعليلاتها يلوح لي: (أ) أن الاتجاه الفقهي لإيجاب أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة هو الأولى بالاعتبار من رأي الجهور الذاهبين إلى أن الواجب على المدين أداؤه، إنما هو نفس النقد المحدد في العقد والثابت في الذمة دون زيادة أو نقصان، وذلك لاعتبارين: أحدهما: أن هذا الرأي هو الأقرب للعدالة والإنصاف، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل. والله يأمر بالقسط. والثاني: أن فيه رفعًا للضرر عن كل من الدائن والمدين، فلو أقرضه مالاً فنقصت قيمته، وأوجبنا عليه قبول المثل عددًا تضرر الدائن؛ لأن المال الذي تقرر له ليس هو المستحق، إذ أصبح بعد نقصان القيمة معيبًا بعيب النوع المشابه لعيب العين المعينة (حيث إن عيب العين المعينة هو خروجها عن الكمال بالنقص، وعيب الأنواع نقصان قيمتها) . ولو أقرضه مالاً فزادت قيمته، وأوجبنا عليه أداء المثل عددًا تضرر المدين، لإلزامه بأداء زيادة عما أخذ، والقاعدة الشرعية الكلية أنه " لا ضرر ولا ضرار ". (ب) أن الرأي الذي استظهره الرهوني من المالكية بلزوم المثل عند تغير النقد بزيادة أو نقص إذا كان ذلك التغير يسيرًا، ووجوب القيمة إذا كان التغير فاحشًا أولى في نظري من رأي أبي يوسف – المفتي به عند الحنفية – بوجوب القيمة مطلقًا؛ وذلك لاعتبارين:   (1) حاشية المدني: 5/118. (2) ويقصد العلة التي استدل بها أصحاب القول المقابل للمشهور في مسألة كساد النقلد، وهي أن الدائن قد دفع شيئًا منتفعًا به لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به (انظر حاشية الرهوني: 5/120، حاشية المدني: 5/118) . (3) حاشية الرهوني: 5/121. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 761 أحدهما: أن التغير اليسير مغتفر قياسًا على الغبن اليسير والغرر اليسير المغتفرين شرعًا في عقود المعاوضات المالية من أجل رفع الحرج عن الناس نظرًا لعسر نفيهما في المعاملات بالكلية، ولغرض تحقيق أصل تشريعي مهم وهو استقرار التعامل بين الناس، بخلاف الغبن الفاحش والغرر الفاحش فإنهما ممنوعان في أبواب البيوع والمعاملات. والثانى: أن التغير اليسير مغتفر تفريعًا على القاعدة الفقهية الكلية أن " ما قارب الشيء يعطي حكمه " (1) ، بخلاف التغير الفاحش، فإن الضرر فيه بين والجور فيه محقق. الحالة الخامسة التضخم والانكماش (2) .   (1) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي: 170، المنثور في القواعد للزركشي: 3/144. (2) التضخم: مصطلح اقتصادي حديث يراد به: وضع يكون فيه الطالب الكلي متجاوزًا العرض الكلي، وعادة ما تكون هناك زيادة كبيرة في كمية النقود في الدولة – أوراق البنكنوت والودائع المصرفية – دون أن تصاحب ذلك زيادة مناظرة في حجم الناتج من مختلف السلع. وهنا فإن الزيادة في القوة الشرائية والطلب الفعال يؤدي في الاقتصاد الحر إلى ارتفاع في الأسعار والأجور، مما يفضي في النهاية إلى "دورة مفرغة" من الزيادات المتلاحقة في الأجور والأسعار. وعندما تفرض الدولة قيودًا على إنفاق المستهلكين في صور رقابة على الأسعار ونظام البطاقات فإن التضخم لا تتكشف مظاهره المألوفة. أما الانكماش: فيدل على الحالة العكسية، أي الحالة التي تعمد فيها السلطات النقدية إلى إنقاص كمية النقود والائتمان. وهنا يهبط مستوى الأسعار والأجور وتتفشى البطالة بين العمال (موسوعة المصطلحات الاقتصادية للدكتور حسين عمر: 69) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 762 30- وهذه الحالة لم يذكرها الفقهاء في كتبهم ولم يتعرضوا لها في مدوناتهم، إذ لم يكن لها من الخطر في زمانهم مثل ما لها في عصرنا الحاضر. وحقيقة هذه الحالة أن يطرأ التضخم أو الانكماش بعد الوجوب في الذمة وقبل والوفاء، بحيث تنخفض أو ترتفع القوة الشرائية للنقد الثابت دينًا في الذمة تجاه السلع والمنافع الخدمات التي تبذل عوضًا عنه. والذي يُستنتج من كلام الفقهاء في مسألة تغير النقود، أن التضخم أو الانكماش وحدهما لا تأثير لهما على الديون البتة، ولو حدث أن قارن التضخم والانكماش إحدى الحالات الآنفة الذكر، فإن الحكم يناط بتلك الحالة بغض النظر عن التضخم والانكماش الملازم أو العارض. 31- هذا هو الحكم في الديون التي لا ارتباط لها عند وجوبها بالقوة الشرائية للنقد. أما الديون التي روعي في تحديدها قوة النقد الشرائية وقت الوجوب، ثم طرأ التضخم المالي وانخفضت تلك القوة الشرائية، فإنها تتغير بحسب نسبة التضخم الحادث، كما في دين النفقة إذا قدره القاضي وفرضه على من تجب عليه بالنظر إلى أسعار الأشياء التي يحتاجها مستحق النفقة وقت التقرير، ثم ارتفعت أسعار هذه الحاجيات في السوق، ففي هذه الحالة يحكم بتغير الدين تبعًا لتغير الوضع المالي للنقد؛ لأن القاعدة التي بنى عليها تقدير النفقة إنما هي تحقيق الكفاية للمنفق عليه، وهذا المبلغ المقرر بعد طروء التضخم أصبح غير كاف للوفاء بالغرض المناط به، فلهذا يتغير الدين تبعًا لتغير مناطه، ويزاد مقداره وفقًا لنسبة التضخم الحادث (1) .   (1) انظر قطع المجادلة عند تغير المعاملة للسيوطي: 1/100. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 763 وعكس ذلك يقال في حالة طروء الانكماش في مثل هذه الواقعة. والله تعالى أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. المراجع البهوتي: منصور بن يونس ت 1501 هـ. - شرح منتهى الإرادات. ط. القاهرة من غير تاريخ. - كشاف القناع عن متن الإقناع. مطبعة الحكومة بمكة المكرمة سنة 1394 هـ. ابن حجر الهيثمي أحمد بن محمد بن علي المكي ت 974 هـ. - تحفة المحتاج شرح المناهج. وبهامشه حاشية عبد الحميد الشرواني. - وحاشية ابن قاسم العبادي عليه. المطبعة الميمنية بالقاهرة سنة 1315 هـ. الخرشي: محمد بن عبد الله. - شرح مختصر خليل. وبهامشه حاشية على العدوي الصعيدي. مطبعة بولاق سنة 1318 هـ. الرملي: محمد بن أحمد المصري ت 1004 هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 764 - نهاية المحتاج شرح المنهاج. طبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1357هـ 1938 م. الرهوني: محمد بن أحمد. - حاشية على شرح الزرقاني لمختصر خليل. وبهامشه حاشية محمد ابن المدني على كنون. المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1306 هـ الزرقاء: أحمد - شرح القواعد الفقهية. تحقيق د/عبد الستار أبو غدة. دار الغرب الإسلامي ببيروت سنة 1403 هـ. الزرقاني: عبد الباقي بن يوسف ت 1099 هـ. - شرح مختصر خليل. مطبعة محمد مصطفى بالقاهرة سنة 1307 هـ وبهامشه حاشية محمد ابن الحسن البناني عليه. الزيلعي: عثمان بن علي. - تبين الحقائق شرح كنز الدقائق. وبهامشه حاشية أحمد الشلبي عليه. المطبعة الأميركية ببولاق سنة 1314 هـ. السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ت 911 هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 765 - قطع المجادلة عند تغيير المعاملة. مطبوع ضمن كتابه الحاوي للفتاوى الطبعة الثانية لدار الكتب العلمية ببيروت سنة 1395 هـ/1975 م. الشافعي: محمد بن إدريس ت 204 هـ. - الأم. طبعة دار المعرفة ببيروت سنة 1393 هـ. ابن عابدين: محمد أمين. - تنبيه الرقود على مسائل النقود. مطبوعة ضمن رسائل ابن عابدين في إستانبول من غير تاريخ. عالم كير: أبو المظفر محيي الدين محمد أورنك. - الفتاوى الهندية. المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1310 هـ. علي حيدر: - درر الحكام شرح مجلة الأحكام. تعريب فهمي الحسيني. ط. مكتبة النهضة في بيروت وبغداد. عليش: محمد بن أحمد ت 1299 هـ. - منح الجليل شرح مختصر الخليل. المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1294 هـ. ابن قدامة: عبد الرحمن بن قدامة ت 682 هـ. - الشرح الكبير على المقنع. مطبعة المنار بالقاهرة سنة 1374 هـ. بهامش المغني. ابن قدامة: موفق الدين عبد الله بن أحمد المقدسي ت 620 هـ. - المغني. مطبعة المنار بالقاهرة سنة 1347 هـ. الكاساني: علاء الدين أبو بكر بن مسعود ت 587 هـ. - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع. مطبعة الإمام بالقاهرة من غير تاريخ. النووي: يحيي بن شرف ت 676 هـ. - المجموع شرح المهذب. مطبعة التضامن الأخوي بالقاهرة سنة 1347 هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 766 أحكام أوراق النقود والعملات لفضيلة القاضي محمد تقي العثماني بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. التخريج الفقهي للأوراق النقدية: قبل أن نخوض في أحكام الأوراق النقدية (البنكنوت) بجزئياتها وتفاصيلها يجب أن نعرف حقيقة هذه الأوراق، هل هي وثائق مالية؟ أو أثمان عرفية؟ فمن جعلها وثائق مالية اعتبرها سندات في ذمة مصدرها، فليست هذه الأوراق – حسب هذا الرأي – أثمانًا ولا أموالاً، وإنما هي عبارة عن وثيقة كتبها المديون، ليتسنى للدائن القبض على دينه إذا أراد، فكل من يدفع إلى غيره ورقًا من هذه الأوراق، فإنه لا يدفع إليه مالاً، وإنما يحيله على مديونه الذي أصدر ذلك الورق كوثيقة، فتجري عليه أحكام الحوالة الفقهية، فيجوز دفع هذه الأوراق قضاء لحق الآخر، حيث تجوز الحوالة فقط، فإن غطاء هذه الأوراق ذهب أو فضة، فلا يجوز أن يشتري بها الذهب أو الفضة أصلاً؛ لأن مبادلة الذهب أو الفضة بأحدهما صرف، والصرف يشترط فيه التقابض، والقبض على هذه الأوراق ليس قبضًا على غطائها من ذهب أو فضة، فانعدم التقابض الذي هو شرط في جواز الصرف، فبطلت هذه المعاملة شرعًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 767 وكذلك لو دفع غني هذه الأوراق إلى فقير لأداء الزكاة الواجبة عليه، فإن الزكاة لا تتأدى حتى يقبض الفقير على غطائه أو يشتري بها عروضًا، ولو ضاعت هذه الأوراق عند الفقير قبل أن يستمتع بها، لم تفرغ ذمة الغني الذي دفها من الزكاة الواجبة عليه. ولكن هناك رأي آخر، وذلك أن هذه الأوراق قد أصبحت اليوم أثمانًا عرفية بنفسها، فدفعها دفع للمال أو للثمن، وليس حوالة للدين، فتتأدى بأدائها الزكاة، ويجوز شراء الذهب والفضة بها. فيجب قبل الدخول في أحكام الأوراق النقدية والعملات المختلفة، أن نبت في أحد الرأيين في التخريج الفقهي لهذه الأوراق. وإني بعد دراسة هذا الموضوع في كتب الفقه والاقتصاد، ممن يميل إلى الرأي الثاني، وهو أن هذه الأوراق أثمان عرفية، وليست حوالة. وبما أن معرفة حقيقة هذه الأوراق تحتاج إلى معرفة تطور النظام النقدي في العالم، نريد أن نلم في البداية بشيء من خلاصة هذا التطور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 768 تطور النظام النقدي في العالم: من المعروف أن الناس في بداية الحياة البشرية كانوا يتبادلون الأشياء عن طريق المقايضة Barter، ولكن هذا الطريق كان فيه من مناقص تمنع من استعمالها كطريق عام يصلح في كل زمان ومكان. فراج بعد ذلك نظام آخر يسمى "نظام النقود السلعية" (Commodity money System) ، وذلك أن الناس قد اختاروا بعض السلع لتستعمل استعمال الأثمان في معظم عقود المبادلة، وانتقيت من أجل ذلك سلع يكثر استعمالها، وتشتد الحاجة إليها في بيئة خاصة، كالحبوب الغذائية والملح والجلود وما إلى ذلك. ولكن استعمال هذه السلع في التبادل كان فيه من مشاكل الحمل والنقل ما لا يخفى، فلما كثر العمران وازدادت الحاجات وكثرت المبادلات، شعر الناس بحاجة إلى اختيار نقد يخف حمله، وتتوفر ثقة الناس به. ففي المرحلة الثالثة بدأ الناس في استعمال الذهب والفضة كأثمان في المبادلات؛ لقيمتها الذاتية في صنع الحلي والأواني، ولسهولة حملها وادخارها، حتى أصبح هذان المعدنان عيارا للقيمة يعتمد عليها الناس في جميع البلاد والأقطار. وإن هذا النظام النقدي يسمى "نظام النقود المعدنية (Metalic Money System) ، وقد مرت عليه تطورات كثيرة نستطيع أن نلخصها كما يلي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 769 1- ففي البداية استعمل الناس الذهب والفضة كسلع نقدية في صورة قطع متباينة الحجم والوزن والنقاء، سواء كانت تبرا أو مصوغة في صورة الحلي أو الأواني وغيرها، وكان التعامل بهما يتم بالوزن. 2- ثم شرع الناس في سبك النقود من الذهب في بعض البلاد، ومن الفضة في بلاد أخرى، كوحدات متساوية في الحجم والوزن والنقاء، مختومة بختم رسمي يشهد بسلامتها وقابليتها للتداول. وكانت قيمة القطع الاسمية (Face Value) مساوية لقيمة ما تحتويه من ذهب أو فضة (Gold or Silver Content) ، وإن قيمة الذهب المسبوك بهذا الشكل كانت مساوية لقيمة التبر إذا كان وزنها واحدًا، وإن هذا النظام يسمى "نظام قاعدة التبر" أو "نظام قاعدة الورق (Gold Specie Standard) . ويقال: إن أول من روج هذا النظام هم الصينيون في القرن السابع قبل ميلاد المسيح عليه السلام. وكان المتعاملون في هذا النظام أحرارًا في التعامل بالذهب تبرا أو مسبوكًا أو مسكوكًا، وفي استيراده وإصداره خارج البلاد. وكانت الدولة تلزم بسك كل ما يرغب سكه من قبل المواطنين، فيأتي إليها الناس بتبر أو ذهب مصوغ، فتتولى الدولة ضربهما سكة، وردهما إلى مالكهما، وكذلك يأتي بعضهم بذهب مسكوك ويريدون تذويبه، فتتولى الدولة ذلك أيضًا، وترد إليهم الذهب بعد تذويبه تبرا. 3- اختار بعض الدول كلا المعدنين وليس معدنًا واحدًا فحسب كقاعدة نقدية في وقت واحد. وقررت قيمتهما كعيار لمبادلة أحدهما بالآخر، ويستعمل الذهب لقطع النقود الكبيرة، والفضة لقطع النقود الصغيرة، وإن هذا النظام يسمى "نظام المعدن الثنائي" (Bi metalism) . ولكن هذا النظام أحدث مشاكل أخرى؛ وذلك لأن نسبة القيمة بين قطع الذهب والفضة كانت تختلف بين بلد وآخر، فتحث الناس على المتاجرة بالعملة، فإن كانت القطعة الواحدة من الذهب تقوم بخمس عشرة قطعة من الفضة في أمريكا مثلاً، فإنها في نفس الوقت تقوم في أوروبا بخمس عشرة ونصف. وهذا يجعل تجار أمريكا يقتنون الذهب ويصدرونها إلى أوروبا؛ ليكسبوا بذلك كمية أكثر من الفضة، ويستوردونها إلى أمريكا؛ ليحولوها إلى الذهب، ثم يصدرون الذهب مرة أخرى، وهكذا. وصارت نتيجة هذه المتاجرة أن ذهب أمريكا مازال ينتقل إلى أوروبا، وأن القطع الفضية أخرجت القطع الذهبية من البلاد، ولما غيرت أمريكا النسبة في عام 1834 م فقومت قطعة الذهب بست عشرة قطعة من الفضة، حدث العكس وأقصت القطعُ الذهبية قطعَ الفضة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 770 4- ثم إن القطع النقدية، سواء كانت من الذهب أو من الفضة، وإن كان يخف حملها بالنسبة إلى السلع النقدية، ولكنها في جانب آخر يسهل سرقتها في نفس الوقت، وكان من الصعب على الأثرياء أن يخزنوا كميات كبيرة من هذه القطع في بيوتهم، فجعلوا يودعون هذه الكميات الكبيرة عند بعض الصاغة والصيارفة، وكان هؤلاء الصاغة والصيارفة عندما يقبلون هذه الودائع يسلمون إلى المودعين أوراقًا كوثائق أو إيصالات (Receipts) لتلك الودائع، ولما ازدادت ثقة الناس بهؤلاء الصاغة صارت هذه الإيصالات تستعمل في دفع الثمن عند البياعات، فكان المشتري بدل أن يدفع القيمة نقدًا، يسلم إلى البائع ورقًا من هذه الإيصالات. وكان البائع يقبلها ثقة بالصاغة الذين أصدروها. فهذه هي بداية الأوراق النقدية، ولكنها في بداية أمرها لم تكن لها صورة رسمية، ولا سلطة تلزم الناس قبولها، وإنما كان المرجع في قبولها وردها إلى ثقة البائع أو الدائن بمن أصدرها. 5- لما كثر تداول الإيصالات في السوق في مطلع القرن السابع عشر الميلادي تطورت هذه الأوراق إلى صورة رسمية تسمى " البنكنوت " ويقال: إن بنك إستاك هوم بالسويد أول من أصدرها كأوراق نقدية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 771 وكانت هذه الأوراق النقدية آنذاك مغطاة بغطاء كامل عند البنك الذي أصدرها، ومدعومة بالذهب بنسبة مائة في المائة، وكان البنك يلتزم بأن لا يصدر هذه الأوراق إلا بقدر ما عنده من ذهب. وكان لكل من يحمل هذه الأوراق أن يذهب بها متى شاء إلى البنك، ويحول ما شاء منها إلى سبائك الذهب، ومن هنا يسمى هذا النظام "قاعدة سبيكة الذهب" (Gold bullion Standard) . 6- لما ازداد شيوع "البنكنوت" جعلتها الدول ثمنًا قانونيًا (Legal Tender) في سنة 1833م، وألزمت كل دائن أن يقبلها في اقتضاء دينه، كما يلزمه قبول النقود المعدنية، ثم منعت البنوك التجارية أيضًا من إصدارها، واقتصر إصدارها على البنوك الرئيسة الحكومية فقط. 7- ثم واجهت الحكومات مشاكل تمويل مشاريعها في السلع والحرب مع قلة ريعها، فلجأت إلى طبع كميات كبيرة من النقود الورقية، تزيد عن كمية الذهب الموجودة عندهم؛ لتستعملها في سد حاجاتها، فصار غطاء الأوراق النقدية يتناقص شيئًا فشيئًا، وهبطت نسبة دعمها بالذهب الحقيقي عن المائة في المائة إلى نسبة أدنى بكثير؛ وذلك لأن البنوك التي تصدر الأوراق النقدية كانت تستيقن بأن جميع هذه الأوراق لا يطلب تحويلها إلى الذهب في وقت واحد، وبعبارة أخرى قد راجعت في السوق أوراق نقدية لم تكن مدعومة بالذهب ولكن التجار قبلوها، لثقتهم بأن مصدرها يقدر على تحويلها إلى الذهب كلما طلب منه ذلك، بفضل الذهب الموجود عنده، وإن كانت كمية الذهب أقل من كمية الأوراق الصادرة من عنده. وإن هذه الأوراق النقدية تسمى "نقود الثقة" (Fiduciary Money) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 772 ومن جهة أخرى، اضطرت الدول التي لم تزل تتعامل بالنقود المعدنية إلى تقليل كمية المعدن، أو تنقيص جودته في كل قطعة، بحيث أصبحت قيمتها الاسمية (Face Value) أعلى بكثير من قيمة ما تحتويه من ذهب أو فضة، (Intrinsic Value) ، وإن مثل هذه النقود تسمى "نقودًا رمزية" (Token Money) بحيث يرمز أصلها المعدني إلى قيمتها الاسمية التي تمثل قيمتها الحقيقية السابقة. 8- وإن تزايد "نقود الثقة" قد تدرج إلى حد أن الأوراق بلغت إلى مقدار ما يساوي أضعاف مقدار الذهب الموجود في البلاد، حتى خشيت الحكومات أن مقدار الذهب الموجود لا يفي بطلبات تحويل الأوراق إلى الذهب، ووقع ذلك فعلاً في بعض البلاد، حيث إن بعض البنوك لم تستطع تلبية بعض الطلبات في بعض الأحيان. وحينئذ شرعت الدول تنفذ شروطًا قاسية على الذين يريدون تحويل أوراقهم إلى الذهب، وقد عطلت إنكلترا هذا التحويل بتاتًا بعد حرب 1914م، ثم عادت إلى جواز التحويل في سنة 1925م، ولكن بشرط أن ما يطلب من البنك تحويله، لا يكون أقل من ألف وسبعمائة جنيه، بما جعل عامة الناس لا يقدرون على تحويل أوراقهم إلى الذهب، ولكنهم لم يحتفلوا بذلك لشيوع الأوراق كنقد قانوني تنفعهم في متاجراتهم الأهلية ما تنفع الأوراق المعدنية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 773 9- ثم في سنة 1931م منعت حكومة بريطانيا من تحويل الأوراق إلى الذهب إطلاقًا، حتى لمن يطلب أكثر من ألف وسبعمائة جنيه، وألزمت على الناس أن يقتنعوا بهذه الأوراق كبديل للذهب، ويتعاملوا بها في سائر مداولاتهم. ولكن الحكومات استمرت في احترام حق بعضها لبعض، فإن تحويل الأوراق وإن كان ممنوعًا داخل البلاد، ولكن كانت كل دولة ملتزمة بتحويل عملتها إلى الذهب لدولة أخرى إن تقدمت إليها بعملة الدولة الأولى، فلو شاءت أمريكا مثلاً أن تتقدم بأوراق جنيهات استرلينية إلى انكلترا، فإن إنكلترا كانت ملتزمة بتحويل تلك الأوراق إلى الذهب. وإن هذا النظام يسمى "قاعدة التعامل بالذهب" (Gold Exchange Standard) . 10- وقد ظل العمل بهذه القاعدة مستمرًا إلى أن واجهت الولايات المتحدة أزمة شديدة في سعر دولارها، وتدفق الذهب منها في سنة 1971م فاضطرت إلى إيقاف تحويل الدولار إلى الذهب للدول الأخرى أيضًا، وذلك للخامس عشر من شهر أغسطس سنة 1971م وبهذا قد قضي على آخر شكل من دعم الأوراق بالذهب. وفي سنة 1974 م اختار "الصندوق المالي العالمي " (International Monetary Fund) فكرة " حقوق السحب الخاصة " (Special Drawing Rights) كبديل لاحتياطي الذهب. وحاصل ذلك أن أعضاء هذا الصندوق يستحقون سحب كمية معينة من عملات شتى الدول لأداء ديونهم إلى الدول الأجنبية الأخرى، واعتبر 888676 جرامًا من الذهب كعيار لتعيين هذه الكمية، وإن حقهم لسحب هذه الكمية اعتبر بديلاً لاحتياطي الذهب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 774 وهكذا أصبحت الذهب خارجًا عن نطاق النقود بتاتًا، وأصبحت الأوراق النقدية الرمزية تحتل مكانه من كل ناحية. وأن الأوراق النقدية لا تمثل اليوم ذهبًا ولا فضة، وإنما تمثل قوة شراء فرضية. وبما أن هذا النظام لم ترس قواعده بعد، كنظام أبدي خالد، وهنالك أصوات في كل بلد، للعودة إلى جعل الذهب كأساس للنظام المالي، حتى وللعودة إلى "قاعدة سبائك الذهب" فإن الدول لا تزعم أنفسها مستغنية عن الذهب إطلاقًا، بل تجتهد للإكثار من رصائدها الذهبية كأوثق احتياطي يفيدها في انقلابات الظروف المتغيرة، ولكن هذا الرصيد الذهبي، مهما عظم مقداره، احتياطي مجرد، ليس له علاقة رسمية بالنقود الرائجة في شكل الأوراق، أو في شكل العملة المعدنية الرمزية. فهذه هي خلاصة تطورات النظام النقدي في العالم (1)   (1) إن هذه الخلاصة لتاريخ النقود وتطوراتها مستمدة من الكتب الآتية: 1- An outline of Money, by Geoffrey Growther. 2- Money And Man, by Elgin Groseclose, Ivth. Ed. University of Okiahoma Press, Norman 197. 3- Modern Economic Theory, by K.K. Dewett New Delhi, 4- Encyclopaedia Britannica Banking and Credit Money Currency. 5- حكم التعامل في الذهب والفضة، للدكتور محمد هاشم عوض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 775 وإن هذه الدراسة تدل على أن الأوراق النقدية لم تكن قائمة على طور واحد في حقيقتها ومكانتها القانونية، وإنما مرت عليها أدوار وأطوار شتى. فلا شك أنها كانت وثائق للديون في مبدأ أمرها، ولذلك أفتى كثير من العلماء بأنها سندات ديون وليست أموالاً ولا أثمانًا، يقول العلامة السيد أحمد بك الحسيني رحمه الله في كتاب "بهجة المشتاق في بيان حكم زكاة الأوراق": " ولذلك لو بحثنا عن ماهية كلمة " بنك نوت " لوجدناها من الاصطلاح الفرنسي، وقد نص لاروس، وهو أكبر وأشهر قاموس للغة الفرنساوية الآن، في تعريف أوراق البنك، حيث قال: ورقة البنك هي ورقة عملة قابلة لدفع قيمتها عينًا لدى الاطلاع لحاملها، وهي يتعامل بها كما يتعامل بالعملة المعدنية نفسها، غير أنه ينبغي أن تكون مضمونة ليثق الناس بالتعامل بها". اهـ. " فقوله: "قابلة لدفع قيمتها عينًا لدى الاطلاع لحاملها" لم يجعل شكًا في أنها سندات ديون"، ولا عبرة بما توهمه عبارته "التعامل بها كما يتعامل بالعملة المعدنية"؛ لأن معنى تلك العبارة أن الناس يأخذونها بدل العملة، ولكن مع ملاحظة أن قيمتها تدفع لحاملها، وأنها مضمونة بدفع قيمتها، وهذا صريح في أن تلك الأوراق هي سندات ديون" (1) .   (1) هذه العبارة مأخوذة من "بلوغ الأماني، شرح الفتح الرباني، للساعاتي رحمه الله: 8/248. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 776 وكذلك أفتى كثير من علماء الهند في القرن السابق بكون هذه الأوراق وثائق دين، فلا تتأدى بأدائها الزكاة، حتى يصرفها الفقير، ولا يجوز شراء الذهب والفضة بها (1) . ولكن كان هناك في الوقت نفسه ثلة من العلماء والفقهاء، يعتبرون هذه الأوراق أموالاً، كأثمان عرفية. وقد أشبع الكلام على هذه المسألة العلامة أحمد الساعاتي رحمه الله، صاحب ترتيب مسند أحمد وشرحه، فقال في كتاب الزكاة من كتابه المذكور: "فالذي أراه حقًا، وأدين الله عليه: أن حكم الورق المالي كحكم النقدين في الزكاة سواء بسواء؛ لأنه يتعامل به كالنقدين تمامًا؛ لأن مالكه يمكن صرفه وقضاء مصالحه به في أي وقت شاء. فمن ملك النصاب من الورق المالي، ومكث عنده حولا كاملاً وجبت عليه زكاته ... " إلخ (2) . وبعين هذا الرأي كان يرى بعض علماء الهند، مثل مولانا الشيخ فتح محمد اللكنوي رحمه الله، صاحب "عطر الهداية" و "خلاصة التفاسير" وتلميذ الإمام عبد الحي اللكنوي رحمه الله، صاحب المؤلفات المعروفة في العلوم الإسلامية. وقد شرح ابنه المفتي سعيد أحمد اللكنوي رحمه الله رأيه في آخر كتابه "عطر الهداية"، وذكر أن الإِمام عبد الحي اللكنوي رحمه الله كان يوافقه في هذه المسألة.   (1) راجع إمداد الفتاوى، للشيخ أشرف علي التهانوي رحمه الله: 2/5 والمجلد الثالث. (2) شرح الفتح الرباني، آخر باب زكاة الذهب والفضة: 8/251. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 777 وخلاصة قوله: أن أوراق العملة لها جهتان: الأولى: أنها يتعامل بها في البيوع والإجارات، وسائر العقود المالية كالسكك والأثمان سواء بسواء، بل وقد ألزمت الدول جميع الناس لقبولها في اقتضاء الديون والحقوق، فلا يسع لدائن في القانون اليوم أن يمتنع من قبولها في اقتضاء دينه. ومن هذه الجهة صارت هذه الأوراق أثمانًا عرفية. والجهة الثانية: أنها وثيقة من قبل الحكومة، والتزمت الحكومة بأداء بدلها عند هلاكها، فمن هذه الجهة أنها تخالف الأثمان العرفية المسكوكة، فإن الحكومة لا تؤدي بدلها عند هلاكها، ومن هذه الجهة ينبغي أن تعتبر كسندات لديون، أو كوثائق مالية أخرى. ولكننا إذا أمعنا النظر في الجهة الثانية، رأينا أنها لا تبطل ثمنية هذه الأوراق، فإن الأصل أن الحكومة كانت تريد أن تصدر هذه الأوراق كأثمان عرفية، ولهذا ألزمت الناس قبولها في اقتضاء ديونهم، ولكن الأثمان المسكوكة سابقًا، حتى النقود الرمزية منها، كانت في أنفسها أموالاً لها قيمة يعتد بها، ولم يكن تقومها موقوفًا على إعلان الحكومة، ولا بجعلها أثمانًا رمزية، فإنها كانت تصنع تارة من الذهب والفضة، ومرة من الصفر، وأخرى من النحاس أو الحديد، مما هي أموال في أنفسها، ولو أبطلت الحكومة ثمنيتها بقي تقومها من حيث موادها. وأما هذه الأوراق فليست أموالاً في أنفسها، وإنما جاء فيها التقوم من قبل الحكومة، ولو أبطلت الحكومة ثمنيتها بطل تقومها، فلم تكن هذه الأوراق لتحوز من ثقة الناس ما تحوزه الأثمان المعدنية، ولهذا التزمت الحكومة بأداء بدلها عند هلاكها أو ضياعها، لا لأنها لم تكن أثمانًا عرفية في نظر الحكومة، بل لتحوز هذه الأثمان ثقة العامة، ويتعامل بها الناس دون أيما خطر. فليست جهة كونها وثيقة مما يبطل ثمنيتها، فإنها تنبئى عن وعد الحكومة بأداء بدلها، وليس لهذا الوعد أي أثر في تعامل الناس فيما بينهم، ولو كانت الحكومة لا تريد أن تجعلها أثمانًا عرفية، لما جبرت الناس على قبولها، بل إن هذه الجهة قد منحت هذه الأوراق من الثقة ما هو فوق ثقة الأثمان الأخرى، فإنها تهلك وتضيع بلا بدل، وهذه يمكن إبدالها من الحكومة. (1) . رأينا في المسألة: ولو أردنا أن نحاكم بين هذين الرأيين، فإنى أرى أن كلا الرأيين مصيب بالنسبة إلى أزمنة مختلفة، فقد شرحنا عند بيان تاريخ النقود ما مر على هذه الأوراق من تطورات.   (1) راجع "عطر الهداية" للشيخ اللكنوي 218-227 طبع ديو بند الهند. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 778 فلا شك أنها كانت في بداية أمرها سندات لديوان، فقد جاء في دائرة المعارف البريطانية: "أن البنكنوت ظهر في العالم قبل الشيكات المصرفية، ويمكن اعتباره كسند عند الدائن لدين له على البنك، وأن حقوق هذا الورق تنتقل إلى رجل آخر بتسليمه إليه، فيصير حامله دائنًا للبنك بطريقة تلقائية، ولهذا صار أداء الحقوق المالية بهذه الأوراق كأداءها بالنقود، وإن أداء المبالغ الكثيرة بالنقود المسكوكة عسيرة جدًا، فإنها تحتاج إلى عد ونقد، وربما يحتاج نقلها وحملها إلى تكاليف معتدة بها، باستعمال هذه الأوراق قد قلل من مشقة العد، وأذهب المشاق الأخرى رأسا" (1) . ولكننا رأينا في تطورات هذه النقود أنها لم تبق على هذه الحالة في الأزمان الآتية، إنها كانت في بداية أمرها إيصالات مكتوبة شخصيًا من قبل بعض الصاغة والصيارفة، دون أن تكون لها صورة رسمية، ولا جهة واحدة تصدرها، ولم يكن أحد يجبر على قبولها عند اقتضاء حقه. ثم لما ازداد شيوعها جعلتها الحكومات عملة قانونية Legal Tender ومنعت البنوك الشخصية في إصدارها. وحينئذ اختلفت حقيقتها عن الوثائق المالية الأخرى في جهات تالية:   (1) Encyclopadia Britannica 1950, V. 3p. 44 Banking And Credit الجزء: 3 ¦ الصفحة: 779 1- أنها صارت عملة قانونية، وجبر الناس بقبولها كالأثمان العرفية الأخرى، في حين أن الوثائق المالية الأخرى لا يجبر أحد على قبولها في اقتضاء دينه، كالشيكات المصرفية مع أنها قد عم التعامل بها أيضًا. 2- أنها صارت عملية قانونية غير محدودة (Unlimited Legal Tender) في حين أن النقود المعدنية الرمزية عملة قانونية محدودة (Limited Legal Tender) . فيمكن قضاء الدين بالأوراق النقدية، مهما عظم مقدار الدين، ولا يستطيع الدائن أن يرفض قبول شيء منها، بخلاف النقود المعدنية الرمزية، فإن الدائن يستطيع أن يرفضها في اقتضاء مبلغ كبير، فهذا يدل على أن أوراق العملة هذه قد فاقت العملة المعدنية الرمزية بكثير، في شيوع التعامل بها، واعتماد الناس عليها، وصفتها القانونية. 3- أن سند الدين يستطيع أن يصدره كل أحد، وليس هناك أي مانع قانوني ولا شرعي، أن يكتب مديون وثيقة لدائنه، ولا مانع من أن يستعملها ذلك الدائن في أداء دينه إلى دائن آخر، وهكذا، ولكن الأوراق النقدية لا تصدر إلا من جهة واحدة فقط، وهي الجهة الرسمية، كما هو شأن النقود المعدنية. 4- أن هذه الأوراق يطلق عليها كلمة "النقود"، "والأثمان"، "والعملة" في كل من العرف والقانون في جميع البلاد والأقطار، في حين أن هذه الكلمات لا تطلق على شيء من الوثائق الأخرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 780 5- أنها يتعامل بها الناس بنفس الاعتماد الذي يتعاملون به في النقود المعدنية الرمزية، ولا يخطر ببال أحد عند التعامل بها أنه يتعامل بدين، ولا يوجد اليوم أحد يطمع فيما وراءها من ذهب أو فضة أو عملة مسكوكة أخرى. 6- قد سبق في بيان تطورات هذه الأوراق أنها لم يبق اليوم وراءها شيء من الذهب والفضة فعلاً، ولا يمكن تحويلها إلى الذهب، حتى في المداولات الدولية. يقول جيوفر كزاؤتهر: The Promise to Pay Which appears on their face is now utterly meaningless. Not even in amounts of 1.700 can notes now be converted into gold. The note is no more than a piece of paper, of no intrinisie value whatever and if it were presented for redemption, the Bank of England could honour its Promise to pay one Pound only by giving Silver coins or another note but it is money throughtout the British Isles (1) . " إن وعد الأداء الذي يرى مكتوبًا على وجه الأوراق النقدية صار الآن لا معنى له إطلاقًا. لا ورق يمكن تحويله إلى الذهب الآن، حتى بمقدار ألف وسبعمائة جنيه. الورق النقدي الآن ليست إلا قطعة من الكاغد، ليس لها قيمة ذاتية، وأنها لو قدمت إلى البنك الرئيسي البريطاني لافتكاكها، فإن البنك لا يستطيع الوفاء بوعده إلا بإعطاء عملة رمزية، أو ورق نقدي آخر. ولكنه يعتبر في سائر الجزر البريطانية.   (1) Geoffrey Grpwther: An Outline of money p16 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 781 وحاصل ذلك أن هذا الوعد المكتوب لا يعبر اليوم إلا عن ضمان الحكومة لحامله بالحفاظ على قيمة الورق الاسمية (Face Value) وإن قيمته الاسمية عبارة عن عيار مخصوص لقوة الشراء، ولذلك لا يلتزم البنك بأداء الذهب أو الفضة أو العملة المعدنية الأخرى، بل ربما يفي بوعده بإبدال ذلك الورق بورق آخر يساويه في قيمته الاسمية، فليس ذلك أداء الدين، وإنما هو إبدال الثمن بثمن آخر، قد التزم به البنك الرئيسي، لا لأن الورق ليس ثمنًا رمزيًا، بل للحفاظ على ثقة الناس بهذا الثمن الرمزي. فاتضح بما ذكرنا أن النقود الورقية لم تبق الآن سندات لديون في تخريجها الفقهي، وإنما صارت أثمانًا رمزية يعبر عنها الفقهاء بكلمة " الفلوس النافقة " فإن الفلوس النافقة تكون قيمتها الاسمية أكثر بكثير من قيمتها الذاتية، فكذلك الأوراق النقدية تكون قيمتها الاسمية أضعاف قيمتها الذاتية، وجرى بها التعامل العام فيما بين الناس، دون أيما فرق بينهما وبين الفلوس النافقة، حتى لا توجد العملة المعدنية اليوم – ولو رمزية – إلا نزرًا قليلاً، فالحكم بعدم أداء الزكاة بهذه الأوراق، ومنع مبادلة بعضها ببعض على أساس كونه بيع بالكالئ، ومنع اشتراء الذهب والفضة بها لفقدان التقابض، فيه حرج عظيم لا يتحمل، والمعهود من الشريعة السمحة في مثله السعة والسهولة، والعمل بالعرف العام المتفاهم بين الناس، دون التدقيق في أبحاث قد أصبحت اليوم فلسفة نظرية ليس لها في الحياة لعملية أثر، ولا يسمع لها خبر، والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 782 وبعدما ثبت كون هذه الأوراق في حكم الفلوس، ننتقل إلى الأحكام المتعلقة بها، والله سبحانه المستعان. 1- الزكاة والأوراق المالية: تجب الزكاة على الأوراق النقدية بالإجماع، وليس على قول من يقول بوجوب الزكاة على الدين فقط؛ لأنها ليست سندات دين، وإنما هي في حكم الفلوس النافقة، والفلوس النافقة في حق الزكاة كعروض التجارة، تجب عليها الزكاة إذا بلغت قيمتها نصاب الفضة. وكذلك يجوز أداء الأوراق النقدية إلى الفقير زكاة، وتتأدي بها الزكاة فور ما يستلمها الفقر، دون انتظار أن يصرفها، أو يحولها إلى عملة معدنية، كما تتأدي الزكاة بأداء الفلوس إلى الفقير، ولا يشترط لأداء الزكاة بها أن يصرفها الفقير، أو يأخذ بدلها شيئًا من الذهب أو الفضة. 2- أحكام مبادلة الأوراق بالأوراق: إن مبادلة الأوراق بالأوراق تمكن على وجهين: الأول: المبادلة بين الأوراق الأهلية، وذلك أن تكون الأوراق في كلا الجانبين أوراق دولة واحدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 783 والثاني: المبادلة بين الأوراق الأجنبية، وذلك أن يكون التبادل بين عملات دول مختلفة. فلنتكلم على كلتا الجهتين على حدة: المبادلة بين الأوراق الأهلية: قدمنا أن النقود الورقية في حكم الفلوس سواء بسواء، فتجري على مبادلتها أحكام بيع الفلوس بعضها ببعض. فلو بيعت هذه الأوراق على التساوي، بأن تكون قيمة البدلين متساوية، فهذا جائز بالإجماع، بشرط أن يتحقق قبض أحد البدلين في المجلس قبل أن يتفرق المتبايعان، فإن تفرقا ولم يقبض أحد شيئًا، فسد العقد عند الحنفية وبعض المالكية؛ لأن الفلوس لا تتعين بالتعيين عندهم، وإنما تتعين بالقبض، فصارت دينا على كل أحد، والافتراق عن دين بدين لا يجوز (1) . وأما بيعها على التفاضل بأن تكون قيمة أحد البدلين أكثر من الآخر، كبيع الربية بالربيتين، والريال بالريالين، والدولار بالدولارين، فتجري فيه أحكام الفلوس بالتفاضل، وفيه خلاف مشهور للفقهاء. وذلك أن بيع الفلس بالفلسين حرام مطلقًا، وهو من الربا المحرم شرعًا عند الإمام مالك بن أنس، ومحمد بن الحسن الشيباني من الحنفية، وهو أشهر الوجهين عند الحنابلة، وبه يقول الإمام أبو حنيفة وأبو يوسف، إذا كان البدلان غير متعينين.   (1) راجع له الدر المختار، وحاشيته لابن عابدين رحمه الله: 4/184. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 784 فأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فلأنه يعتبر الثمنية علة لتحريم التفاضل والنسيئة، سواء كانت الثمنية جوهرية، كما في الذهب والفضة، أو عرفية مصطلحة، كما في الفلوس، فلا يجوز التفاضل والنسيئة في مبادلتها بجنسها. وجاء في المدونة الكبرى للإمام مالك: "ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود، حتى يكون لها سكة وعين، لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة؛ لأن مالكًا قال: لا يجوز فلس بفلسين، ولا تجوز الفلوس بالذهب والفضة ولا بالدنانير نظرة" (1) . وأما الحنفية فإن العلة عندهم، وإن كانت الوزن، ولا يوجد ذلك في الفلوس ولكنهم يقولون: إنها أمثال متساوية قطعًا، لاصطلاح الناس بإهدار الجودة منها، فلو بيع فلس واحد بفلسين كان أحد الفلسين خاليًا عن العوض مشروطًا في العقد، وهو الربا، وهذا مادامت ثمنيتها باقية بأن لا تتعين بالتعيين، ثم يقول محمد بن الحسن رحمه الله: إنه لا سبيل إلى إسقاط ثمنيتها ما دامت رائجة؛ لأنها صارت ثمنًا بالاصطلاح، فلا تبطل إلا باصطلاح الجميع، فليس للمتعاقدين إبطالها وتعيينها، فلا يجوز الفلس بالفلسين بحال. ويقول أبو حنيفة وأبو يوسف: إن للمتعاقدين إبطال ثمنيتها بتعينها، وحينئذ تصير عروضًا متعينة، ويجوز فيها التفاضل (2) .   (1) المدونة الكبرى، للإمام مالك: 7/104. (2) راجع لتفصيله العناية على هامش فتح القدير: 5/287. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 785 وأما الإمام أحمد، فعنه في هذه المسألة روايتان: الأولى: أنه يجوز الفلس بالفلسين؛ لأن علة الربا عنده الوزن، ولا يوجد في الفلوس لكونها عددية. والثانية: لا يجوز، ويجري فيها الربا؛ لأن أصله الوزن، فلا يخرج بالصناعة عنه كالخبز، وذكر ابن قدامة أن اختيار القاضي أن ما كان يقصد وزنه بعد عمله كالإِسطال ففيه الربا، وما لا فلا (1) . وقياس هذا التعليل أن يجوز عنده بيع الأوراق النقدية متفاضلة؛ لأن الورق ليس موزونًا من أصله، بخلاف الفلوس المعدنية، والله سبحانه أعلم. والمذهب الثاني للفقهاء في هذا الباب: أنه يجوز بيع الفلس بالفلسين، ويجوز التفاضل في مبادلة الفلوس بالغًا ما بلغ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله؛ وذلك لأن علة الربا عنده جوهرية الثمن، فتختص بالذهب والفضة، وليست الفلوس في حكمها، فلا ربا عنده في الفلوس وإن راجت، فيجوز عنده بيع بعضها ببعض متفاضلاً (2) . وكذلك أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يجوزان الفلس بالفلسين، إذا كانا بأعيانهما، وعينهما العاقدان، لفوات ثمنيتهما حينئذ، وكونهما عروضًا محضة، كما قدمنا.   (1) المغني لابن قدامة، مع الشرح الكبير: 4/128و 129، وفتاوى ابن تيمية: 29/460. (2) راجع نهاية المحتاج، للرملي: 3/418، وتحفة المحتاج، لابن حجر، مع حاشية الشرواني: 4/279. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 786 الرأي الراجح في هذا الباب: كان اختلاف الفقهاء هذا في زمن يسود فيه الذهب والفضة كعيار للأثمان، وتتداول فيه النقود الذهبية والفضية بكل حرية، ولا تستعمل الفلوس إلا في مبادلات بسيطة. وأما الآن فقد فقدت النقود المعدنية من الذهب والفضة، ولا يوجد اليوم منها شيء في العالم كله، واحتلت النقود الرمزية محلها في سائر المعاملات كما بينا في بداية هذه المقالة. فيجب الآن – فيما أرى – أن يختار قول الإمام مالك أو الإمام محمد رحمهما الله تعالى في مسألة بيع النقود الرمزية بعضها ببعض؛ وذلك لأنه لو وقع الحكم اليوم بمذهب الإمام الشافعي، أو الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله، لانفتح باب الربا على مصراعيه، وصارت كل معاملة ربوية حلالا تحت هذا الستار، فإن المقرض أن أراد الربا باع نقوده الرمزية من الآخر بنقود رمزية أكثر من قيمة ما دفعه. والذي يغلب على الظن أن هؤلاء الفقهاء لو كانوا أحياء في هذا الزمان، وشاهدوا من تغير أحوال النقود ما نشاهده، لأفتوا بحرمة الفلس بالفلسين، وقد رأينا ذلك فعلاً من بعض الفقهاء المتقدمين، إذ حرم مشايخ ما وراء النهر التفاضل في العدالي والغطارفة، وهي النقود التي كان يغلب عليها الغش، ولم تكن فيها الفضة إلا بنسبة ضئيلة، وكان أصل مذهب الحنفية في مثل هذه النقود جواز التفاضل، صرفا للجنس إلى خلاف الجنس، ولكن مشايخ ما وراء النهر أفتوا بحرمة التفاضل فيها، وعللوا ذلك بقولهم: أنها أعز الأموال في ديارنا، فلو أبيح التفاضل فيها ينفتح باب الربا (1) . ثم إن قول الإمام محمد رحمة الله تعالى يبدو راجحًا من حيث الدليل أيضًا، إذا قورن بمذهب شيخيه الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى؛ لأن إبطال ثمنية الفلوس لا يتصور صحيح، فقلما يوجد من يطمع في خصوص مادة الفلوس من حيث كونها قطعات صفرا أو حديدا، وإنما يرغب فيها من حيث ثمنيتها، فلو تصالحها على إبطال ثمنيتها، لا يكون ذلك إلا حيلة مصطنعة لتحليل التفاضل، ومثل ذلك لا يقبله الشرع، ولا سيما في زماننا، حيث لا يتصور الربا إلا في النقود الرمزية، لنفاد النقود الخلقية وفقدانها من العالم كله. نعم، يمكن أن يتصور قول الشيخين في الفلوس التي يقصد اقتناؤها من حيث موادها وصنعتها، ولا يقصد التبادل بها، كما هو معتاد عند بعض الناس في عصرنا من اقتناء عملات شتى البلاد وشتى الأنواع؛ لتكون ذكرى تاريخية. ففي مثل هذه الفلوس يمكن أن يتصور ما قاله الشيخان رحمهما الله، ويبدو أن في التفاضل في مثل هذه الفلوس سعة على قولهما، وأما الفلوس التي يقصد بها التبادل دون خصوص المادة، فلا ينبغي المساهلة في أمرها، فإنها من أقوى الذرائع إلى الربا، والله سبحانه وتعالى أعلم.   (1) راجع الهداية مع فتح القدير باب الصرف: 5/382 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 787 فالصحيح الراجح في زماننا أن مبادلة الأوراق النقدية إنما تجوز بشرط تماثلها، ولا يجوز التفاضل فيها. ثم التماثل ههنا لا يكون بعدد الأوراق، وإنما يكون بقيمة الأوراق الاسمية، فيجوز بيع ورق واحد قيمته الاسمية خمسون ربية بخمسة أوراق قيمة كل واحد منها عشر ربيات؛ لأن مجموع قيمة هذه الخمسة تساوي خمسين ربية، وذلك لأن المقصود من بيع هذه الأوراق ليس ذات الورق ولا وزنه أو عدده، وإنما المقصود هو القيمة التي يمثلها، فيجب التساوي في تلك القيمة، وهذا كما جعل الفقهاء الفلوس عددية، مع أن أصلها من معدن موزون، وما ذلك إلا لأن المقصود منها ليس ذواتها، وإنما المقصود هو القيمة التي تمثلها هذه الفلوس، فلو كانت قطعة منها تساوى عشرة فلوس، فإنه يباح بيعها بعشر قطعات قيمة كل منها فلس واحد، حتى عند من يحرم بيع الفلس بالفلسين؛ لأنها مساوية في القيمة، أو لأن قطعة العشرة وإن كانت واحدة في العدد، ولكنها في حكم عشر قطع، فتساوي عشر قطعات، فكذلك الأوراق النقدية لا يعتبر فيها عددها الظاهر، بل عددها الحكمي الذي يظهر من قيمتها الاسمية. والله سبحانه أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 788 مبادلة عملات الدول المختلفة: ثم الذي يظهر أن عملة الدولة الواحدة الرمزية كلها جنس واحد، وعملات الدول المختلفة أجناس مختلفة؛ وذلك لأن العملة اليوم لا يقصد بها مادتها، وإنما هي عبارة عن عيار مخصوص لقوة الشراء، وأن ذلك العيار يختلف باختلاف البلاد، كالربية في باكستان والريال في المملكة السعودية والدولار في أمريكا، وما إلى ذلك، وأن عيار كل دولة ينبني على قائمة أسعارها، وقدر إيرادها وإصدارها، وليس هناك شيء مادي ينبئ عن نسبة ثابتة بين هذه العيارات، وإنما تختلف هذه النسبة كل يوم، بل كل ساعة، بناء على تغير الظروف الاقتصادية في شتى البلاد، ولذلك لا يوجد بين عملات البلاد المختلفة علاقة ثابتة تجعل هذه العملات جنسًا واحدًا، بخلاف عملة الدولة الواحدة، فإن أنواعها المختلفة مرتبطة بينها بنسبة ثابتة لا تتغير، كالربية والبيسة في باكستان، بينهما نسبة الواحد والمائة، وأنها نسبة ثابتة لا تتأثر بتغير أسعار الربية. وأما الربية الباكستانية والريال السعودي، فليس بينهما نسبة ثابتة، بل إنها تتغير كل حين بتغير أسعار هذا أو ذاك. فتبين أن عملات الدول المختلفة أجناس مختلفة، ولذلك تختلف أسماؤها وموازينها ووحداتها المنشعبة منها. ولما كانت عملات الدول أجناسًا مختلفة جاز بيعها بالتفاضل بالإجماع، أما عند الشافعي رحمه الله فلأنه يجوز بيع الفلس بالفلسين في عملة واحدة، ففي العملات المختلفة أولى، وهو رأي في مذهب الحنابلة كما قدمنا، وأما عند مالك رحمه الله فلأنه يجعل هذه العملات من الأموال الربوية فإذا اختلفت أجناسها جاز التفاضل، وأما عند أبي حنيفة وأصحابه فلأن تحريم بيع الفلس بالفلسين مبني عندهم على كون الفلوس أمثالاً متساوية قطعًا، فيبقى عند التفاضل فضل خال عن العوض، ولكن عملات البلاد المختلفة لما كانت أجناسًا مختلفة، لم تكن أمثالاً متساوية، فلا يتصور الفضل الخالي عن العوض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 789 فيجوز إذن أن يباع الريال السعودي مثلاً بعدد أكثر من الربيات الباكستانية. ثم إن أسعار هذه العملات بالنسبة إلى العملات الأخرى، ربما تعين من قبل الحكومات، فهل يجوز بيعها بأقل أو أكثر من ذلك السعر المحدد؟ والجواب عندي أن البيع بخلاف هذا السعر الرسمي لا يعتبر ربا؛ لما قدمنا من أنها أجناس مختلفة، ولكن تجري عليه أحكام التسعير، فمن جوز التسعير في العروض، جاز عنده هذا التعسير أيضًا، ولا ينبغي مخالفة هذا السعر، إما لأن طاعة الإمام فيما ليس بمعصية واجب (1) ، وإما لأن كل من يسكن دولة فإنه يلتزم قولاً أو عملاً بأنه يتبع قوانينها، وحينئذ يجب عليه اتباع أحكامها، مادامت تلك القوانين لا تجبر على معصبة دينية (2) . بيع العملات بدون التقابض: ثم إن هذه الأوراق النقدية، وإن كان لا يجوز فيها التفاضل، ولكن بيعها ليس بصرف، فلا يشترط فيه التقابض في مجلس العقد، نعم يشترط قبض أحد البدلين عند الإمام أبي حنيفة وأصحابه؛ لأن الفلوس عندهم لا تتعين بالتعيين، فلو افترقا دون أن يقبض أحد البدلين، لزم الافتراق عن دين بدين (3) . وأما عند الأئمة الثلاثة فينبغي أن لا يشترط ذلك إن كان أحد البدلين متعينًا؛ لأن الأثمان تتعين بالتعيين عندهم (4) .   (1) هذه القاعدة صرح بها الفقهاء، راجع مثلاً "شرح السير الكبير للسرخسي: 1/96 ورد المحتار، باب العيدين: 1/780 وباب الاستسقاء 1/792، وكتاب الحظر والإباحة: 5/407. (2) راجع أحكام القرآن للشيخ المفتي محمد شفيع رحمة الله: 5/43. (3) راجع الدر المختار مع رد المحتار: 4/183 و 184. (4) راجع المغني لابن قدامة، باب الصرف: 4/169. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 790 وهل يجوز هذا البيع نسيئة؟ كما هو معمول به اليوم عند كثير من التجار وعامة الناس، أنهم يعطون عملة بلدهم، بشرط أن يؤدي الآخذ بدلها في شكل عملة بلد آخر بعد مدة، مثل أن يعطي زيد عمرا ألف ريال سعودي في المملكة السعودية، بشرط أن يؤدي عمرو بدلها أربعة آلاف ربية باكستانية في باكستان. فأما عند الحنفية فيجوز هذا البيع؛ لأن الأثمان لا يشترط فيها كونها مملوكة للعاقد عند البيع عندهم، فيصح فيها التأجيل عند اختلاف الجنس، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وإذا اشترى الرجل فلوسًا بدراهم ونقد الثمن، ولم تكن الفلوس عند البائع، فالبيع جائز؛ لأن الفلوس الرائجة ثمن كالنقود. وقد بينا أن حكم العقد في الثمن وجوبها ووجودها معًا، ولا يشترط قيامها في ملك بائعها لصحة العقد، كما لا يشترط ذلك في الدراهم والدنانير" (1) . فصار البيع حينئذ بيعًا بثمن مؤجل، وذلك جائز في الأجناس المختلفة، ثم يمكن تخريجه على قاعدة السلم أيضًا؛ لأن السلم في الفلوس جائز عند أكثر الفقهاء؛ لأنها عددية غير متفاوتة تنضبط بالضبط، حتى عند محمد رحمه الله أيضًا، الذي يقول بحرمة الفلس بالفلسين (2) . وكذلك يجوز السلم في كل ما لا يتفاوت من العدديات عند أحمد رحمه الله (3) . وحينئذ يجب أن تراعي في هذا العقد شرائط السلم، على اختلاف أقوال الفقهاء فيها، وهي معروفة. والله سبحانه وتعالى أعلم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.   (1) مبسوط السرخسي: 14/24. (2) راجع فتح القدير: 5/327. (3) المغني لابن قدامة: 4/327. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 791 أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة لفضيلة الشيخ محمد علي عبد الله بسم الله الرحمن الرحيم أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)) . ويقصد بكلمة (تشفوا) هذا تزيدوا. وقد ورد هذا الحديث للنهي عن ربا الفضل الذي يقصد به بيع أحد الجنسين بمثله بدون تأخير في القبض. وقد وقع النهي عن ذلك لما عساه أن يوجد من التحايل والتلبيس على بعض ضعاف العقول. فيقدم لهم القطعة المنقوشة نقشًا بديعًا من الذهب تساوي زنتها مرتين، وبالتالي يقع الغبن. والحديث الشريف ينهي عن بيع الذهب بالذهب والأصناف المتجانسة بمثلها مع زيادة كان يتم بيع قطعة من الذهب زنتها عشرة مثاقيل بقطعة من الذهب زنتها اثنا عشر مثقالاً، وكذلك في الصرف الورق بالورق. فإذا ما اختلف الجنسان فإنه يصح البيع والشراء بالزيادة على قيمته وبنقصها، فيصح أن يشترى الجنيه الذي قيمته مائة وعشرة، كما يصح أن يصرفه بتسعين قرشًا، إلا أنه يشترط هنا فيه التقابض، فلا يصح صرف جنيه بفضة إلا إذا كان كل واحد يأخذ ماله في المجلس. وبالتالى يجب أن يكون المبيع والثمن موجودين في ملك البائع والمشتري، فإذا ما وقع دفع سبعين قرشًا وأجل عشر قروش مثله، فإن ذلك يدخل ضمن ربا الفضل وهو حرام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 792 وللقروش أو الفلوس أحكامها في المذاهب. فحسب الشافعية الأوراق النقدية أو الفلوس لا يدخلها الربا، سواء كانت رائجة يتعامل بها أو لا، وبالتالي يجوز بيع بعضها ببعض متفاضلاً إلى أجل، فإذا باع عشرين قرشًا صاغًا من العملة المحلية بخمسين قرشًا من القروش التعريفة يدفعها بعد شهر فإن ذلك يصح رغم وجود زيادة خمسة قروش. أما الحنيفة: قد ورد لديهم الفلوس المأخوذة من غير الذهب والفضة، إلا أنه يصح بيع بعضها ببعض مفاضلة، ولا يشترط فيها التقابض من الجانبين، فإذا اشترى قرشًا من الصاغ، بقرش من التعريفة أكثر منها لأجل فإنه يصح إذا قبض القروش الصاغ، وأما إذا افترقا قبل أن يقبض أحدهما فإنه لا يصح. الحنابلة من ناحيتهم إذا ما اشترى فلوسًا يتعامل بها مأخوذة من غير الذهب والفضة فإن يجوز شراؤها بالنقد متفاضلة إلى أجل، فيصح أن يشتري ثلاثين قرشًا صاغًا من العملة المصرية مثلاً بريالين يدفعهما بعد شهر، إلا أن البعض اشترط هنا التقابض في المجلس. وأخيرًا المالكية قالوا بأن الفلوس على ما اتخذت من نحاس ونحوه وهي كعروض التجارة، فيجوز شراؤها بالذهب والفضة، كما يجوز أن يشتري بها حليًا فيه ذهب وفضة، أما شراؤه بالذهب فقط أو الفضة فإنه لا يجوز نقدًا، سواء كانت الفضة أقل من الذهب أو العكس. وملخص القول إباحة تغير القيمة، أو بالأحرى التعامل بالنقود الورقية وتغير قيمة العملة غير مخالف للشرع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 793 أحكام النقود الورقية لفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور بسم الله الرحمن الرحيم خطبة الرسالة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه أرسله رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد … فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ألا وأن الله عز وجل أناط تمام الإيمان بالتحاكم إلى شرعه العظيم ونبيه الكريم، فقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 794 هذا، وأنه قد جد في هذا العصر نوازل ووقائع تتطلب تحاكمًا إلى الشريعة المطهرة، وذلك لا يكون إلا عن طريق علماء الشرع وفقهاء العصر الذين هم أهل الذكر في هذا الأمر {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء: 83] كما قال ربنا في كتابه المجيد. وقد جدت في هذه النوازل واقعة النقود الورقية، وعم بها التعامل، وصارت من عموم البلوي، واختلف الناس في كونها نقودًا كالذهب والفضة تجب فيها الزكاة ويحرم بها الربا أم لا؟ وذهب الجمهور إلى الأول، وذهب البعض إلى الثاني، وإني مع قوة أدلتهم ووضوحها، ومع هذا فقد تعرضت لقول البعض وشبه أدلتهم، وذكرت ما عليه الجمهور من الأدلة والبراهين الدافعة. قسمت البحث إلى بابين بعد مدخل للبحث لابد منه في شروح لغوية واصطلاحية ولمحة تاريخية. كان الباب الأول في أحكام الأوراق المالية العرفية وفيه فصلان: الأول في الأحكام الفقهية، والثاني في نقول من أقوال الفقهاء المعاصرين. وأما الباب الثاني فاشتمل على أحكام تغير قيمة العملة في الفقه الإسلامي، وخلاصة لما قاله العلامة ابن عابدين في أحكام تغير قيمة العملة غلاء ورخصًا وكسادًا في المذهب الحنفي، مع تعرضي للمذاهب الأخرى من المذاهب الثلاثة، وهو لدي الراجح المعمول عليه. هذا ما توصلت إليه في بحثي المتواضع، أقدمه لا أدعى فيه الإحاطة والشمول والتمام، بل هو جهد فتحت به للباحثين بابًا يلجونه. ولعل الله يجعلني في عملي هذا من أصحاب الأجر الواحد إن لم أكن من أصحاب الأجرين. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 795 مدخل إلى البحث 1- معنى النقد. 2- شرح كلمة بنك نوت. 3- النقود المتعامل بها قديمًا وحديثًا. (1) معنى النقد لغة واصطلاحًا النقد في اللغة خلاف النسيئة يقال: نقد الشيء قبضه، والنقد الجيد الوازن من الدراهم، ودرهم نقد ونقود جياد. وفي حديث جابر رضي الله عنه قال: فنقدني ثمنه، أي أعطانيه نقدًا معجلاً، فالنقد يطلق مصدرًا واسمًا بمعنى المنقود، وهو الثمن الحال، والفقهاء خصوه بالمضروب من الذهب والفضة معجلاً أو مؤجلاً جيدًا أو غير جيد، فلا يطلقون اسم النقد على الأثمان الأخرى سواء كانت متخذة من المعادن أو غيرها إلا على ضرب من التشبيه. وعلماء الاقتصاد توسعوا في ذلك فأطلقوا اسم النقد على كل ما كان واسطة في المبادلات وعاملاً في الحصول على مقابل مرغوب فيه لسد حاجة أو دفع ضرورة أو غير ذلك، مع اتفاق الفريقين على أن ما اتخذ أثمانًا رائجة واتفقت الملة على اعتباره يؤدي وظيفة النقد المعد للماء وهو الذهب والفضة، إذ ليس في الشريعة ما يمنع اتخاذ أي نوع من أنواع العروض ثمنًا يتعامل به مع الذهب والفضة أو بدلاً عنهما، سواء كان متفقًا عليه بين الكل أو لا. ولهم أن يسموه نقدًا أو عملة أو ثمنًا أو بدلاً، إلى غير ذلك من الأسماء، إذ لا نزاع في التسمية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 796 نعم يشترط في صحة الثمن كالثمن شروط تكفلت ببيانها كتب الفروع، والاقتصاديون لا يلتفتون إليها في معاملاتهم لعدم تقيدهم في ذلك بأحكام الدين، فإذا اتفقت الملة على أن يأخذوا أي شيء كان صنفه ويعتبرونه ثمنًا يبيعون به ويشترون، أو رأت الحكومة ضرب أي عملة وقدرت لها قيمة للتعامل بها، فذلك سائغ عندهم، وأما عند الشرعيين فلا بد لها من شروط، منها أن يكون طاهرًا منتفعًا به شرعًا فلا يجوز اتخاذ من جلود الميتة، ولا من الخمور والزيوت النجسة، ولا من آلات اللهو والطرب كالأعواد والمزامير ونحوها. وعلى كل حال فلا بد لكل أمة من الاتفاق على نقد واحد يجري به التعامل بينهم، ويحفظ التوازن في المبادلة بحيث يعطي به الفرد كما يأخذ،، فإن تبادل المنافع ضروري في المجتمع الإنساني، إذ ليس كل إنسان لديه جميع ما يحتاج إليه ولا في استطاعته الحصول عليه بدون الاستعانة بغيره، ولا يمكن أن يستأثر بحاجيات نفسه ومنافع غيره بدون عوض يبذله وبدل يدفعه. والأصل في العوض المماثلة ولو التقريبية، وتحقيقها من العسر بمكان في المبادلة بالسلع، فلا بد من الاتفاق على بدل مقارب تتفاوت أصنافه في القيم إما بالخلقة والذات أو بالوضع والتقدير، وأجوده وأقومه نقد الذهب والفضة لقلة وجودهما ووفرة نفقات استخراجهما، وأسهله وأيسره اتخاذًا ومعاملة نقد الأوراق والكواغد وقطع الجلود ونحوها (1) .   (1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ حسنين مخلوف: 34. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 797 (2) شرح معنى كلمة بنك نوت جاء في كتاب بهجة المشتاق لمؤلفه العلامة فضيلة الشيخ الشريف أحمد الحسيني الشافعي رحمه الله تعالى في ص 68. بنك نوت: هو لفظ إفرنسي، وقد نص قاموس (لاروس) وهو أكبر وأشهر قاموس للغة الفرنساوية الآن في تعريف أوراق البنك حيث قال: ورقة البنك هي ورقة قابلة لدفع قيمتها عينًا لدى الاطلاع لحاملها، وهي يتعامل بها كما يتعامل بالعملة المعدنية. وجاء في ص 71 قوله: (إن المعاملة بهذه الأوراق، إنما تخرج على قاعدة الحوالة، لمن يجيز المعاملة بالمعاطاة من غير اشتراط صيغة، والحوالة كالبيع فمن يقول بصحة البيع بالمعاطاة يقول بصحة الحوالة بالمعاطاة من غير اشتراط صيغة، وهناك قول وجيه في مذهب السادة الشافعية يجيز المعاملة بالمعاطاة) .اهـ. هذه البنوك وكذا الصيارفة مستعدون لدفع قيمة ما معك من الأوراق بأي عملة كانت، لأي دولة اتبعت؛ لأن منع التعامل بالذهب والفضة أقرته جميع الحكومات للمحافظة على ما عندها من الذهب والفضة؛ خوفًا من تسربهما للخارج كما مر آنفًا. لذلك كان الورق النقدي حالاً محلهما، بل هو الذهب والفضة بعينه (1) .   (1) ينظر رسالة (زكاة الأوراق) للأستاذ محمد نبهان الخباز: 44. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 798 (3) النقود المتعامل بها قديمًا وحديثًا وقد اختلفت الأمم قديمًا وحديثًا في الاصطلاح على النقود ولا تزال مختلفة فيه حتى الآن، فقد اتخذ الأحباش قديمًا نقودًا من الملح زمنًا مديدًا، واتخذ الأقدمون من سكان جمهورية المكسيك بأمريكا الشمالية نقودًا من صنف الكاكاو، واتخذ الأقدمون من سكان إنجلترا نقودًا من الودع والشاي، وكان لأهالي الروسيا نقود من قوالب الشاي المضغوط، ولبعض سكان الأقاليم الشمالية بأفريقيا نقود من جلود السنجاب والحيتان، ولأهالي الصين نقود من قشر شجر التوت، واتخذ اليونان في عهد أرسطو نقودًا من الحديد، واليابان والصين نقودًا من النحاس، والعبريون نقودًا من الرصاص، واتخذ الكثير من الأمم نقودًا من القصدير والزنك والصفيح. إلا أن النقود النحاسية كانت أكثر استعمالاً لعلو قيمة النحاس بالنسبة لغيره بسب كثرة نفقات استخراجه، فحلت محل النقود الحديدية، وأصبحت أكثر النقود تداولاً وذيوعًا في أوروبا في القرون الوسطى، إلى أن استكشفت بيرو في أميركا الجنوبية وجمهورية المكسيك الغنيتين بمعدن الفضة، فكثر التعامل بالنقود الفضية وصارت نقدًا رئيسيًا في الممالك الغنية، ولا تزال من النقود المهمة حتى الآن. ويقال: إن أول استعمال للفضة نقدًا برومة كان سنة 269 قبل الميلاد. واتخذ الذهب نقدًا نفيسًا في عدة بلاد، وأقدم بلاد اتخذته مصر. وهو الفضة من أجود المعادن وأليقهما في صناعة النقود، ولذلك حظرت الشريعة استعمالهما في غير ما أُعِدَّا له إلا في أحوال خاصة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 799 أما تاريخ اتخاذ النقود من الورق فيرجع عهده إلى القرن الثالث عشر من الميلاد، حيث اتخذ الصينيون إذ ذاك نقودًا من قشر شجر التوت، ثم تبعهم الفرس فاليابان فأهل أوربا بعد قرون عديدة، إلى أن فشا استعماله نقدًا في أكثر بلاد العالم الآن. ولا يكون له في الحقيقة ذلك الأثر الذي للنقود الأصلية إلا باعتبار ما يعادله من النقد الخلقي. ولكثرة التعامل به وحلوله محل المعادن في المبادلة واتخاذه مالاً وثروة، حتى لا يعد فقيرًا من عنده منه كمية وافرة أو ورقة واحدة ذات قيمة كبيرة، كان من الحكمة الاعتداد به كالنقد وإخراج زكاته حتى لا يحرم الفقير من الجزء الذي يستحقه من مال الغني، ولا يفتح للأغنياء باب التخلص من الزكاة الواجبة في أموالهم بتحويلها إلى أوراق مالية، فإنهم أشحة بالمال، والفقراء من أجل ذلك سيئو الحال، ولا بد من تفريج كربهم وسد عوزهم بدفع ما أوجب الله على الأغنياء في أموالهم، حتى لا يقعوا من جرائهم في شر عظيم وشقاء دائم (1) .   (1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ حسنين مخلوف: 45. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 800 الباب الأول أحكام الأوراق المالية العرفية الفصل الأول: الأحكام الفقهية عند البعض والجمهور. الفصل الثاني: نقول من أقوال الفقهاء المعاصرين. الفصل الأول الأحكام الفقهية للأوراق المالية العرفية المبحث الأول: شبه حكم الورق عند من لا يعده نقدًا. المبحث الثاني: حكم هذه الأوراق عند الجمهور. المبحث الثالث: مسالك تخريج قول الجمهور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 801 المبحث الأول شبهة حكم الورق المعروف بالنوط عند من لا يعده نقدًا من الفقهاء القدامى والمعاصرين ذكر الأستاذ رشيد الراشد في كتابه الدرر النقية في المطالب الفقهية ص 93 قوله: "قال محمد محفوظ الترمسي في حاشيته على شرح ابن حجر على المقدمة الحضرمية على مذهب السادة الشافعية: اختلف المتأخرون في الورق المعروف بالنوط، فعند الشيخ سالم بن سمير والحبيب عبد الله بن سميط: أنها من قبيل الديون نظرًا إلى ما تضمنته الورقة المذكورة من النقود والتعامل بها. وعند الشيخ محمد الإنبابي والحبيب عبد الله بن أبي بكر، أنها كالفلوس المضروبة والتعامل بها صحيح عند الكل، وتجب زكاة ما تضمنته الأوراق من النقود. وإذا علمت ذلك تعلم أن ما كتبه العلامة عبد الحميد الشرواني محشي التحفة في أوائل كتاب البيع من جزمه بعدم صحة التعامل بها مطلقًا، وجزمه بعدم وجوب الزكاة، معللاً عدم الصحة بأن الأوراق المذكورة لا منفعة منها وأنها كحبتي بر، هذا غير صحيح؛ لأنها ذات قيمة ومنفعة منتفع بها غاية الانتفاع، على أنك قد علمت أن القصد ما دلت عليه من النقود المقدرة، فلا يتم التعليل، فتنبه لهذه المسألة، فإن التجار ذوي الأموال يتشبثون بما صدر من المحشي المذكور رحمه الله تعالى، ويمتنعون من إخراج الزكاة، وهذا جهل منهم وغرور، والمحشي قال فيها بحسب ما بدا له من غير نص، فلا يؤخذ بقوله، وللاحتياط في أمثال هذه المسألة مما هو متعين؛ لأنه ينشأ منه فساد كبير، وغرور عظيم للجهال ومن تمكن حب الدنيا بقلبه.) اهـ (1) .   (1) وقد رد الأستاذ محمد نبهان الخباز على هذه الشبهة بقوله: أليست هذه الأوراق النقدية في العالم نقدًا حل محل الذهب والفضة وضع للتعامل بين الناس؟ أجل إنه مال به نبيع وبه نشتري، وبه نتزوج، ونزوج به بناتنا، والله تعالىيقول: {فِي أَمْوَالهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ} ، أليست فتوى المحشي تنسخ ركنا من أركان الإسلام وهو (الزكاة) باعتبار قوله: لا منفعة منها، وأنها كحبتي بر وليست بمال، نجرئ الناس على بيعها المائة بمائة وخمسين، نكون بذلك قد فتحنا باب الربا على مصراعيه، ونستحق الحرب من الله ورسوله كما جاء في الآيات القرآنية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 802 المبحث الثاني زكاة النقود العرفية عند الجمهور من الفقهاء (1) زكاة الكواغد وقطع الجلود ونحوهما هذه الأشياء قد جرى التعامل بها في بعض الجهات إتمامًا للمقومات، كما يتعامل بالدينار والدرهم بدون أن يكون لها من النقود ما يعادلها في المصارف الرسمية، فهل حكمها حكم الفلوس النحاس بتنزيل قيمتها الوضعية منزلة القيمة الخلقية، فيجري فيها ما جرى في زكاة الفلوس الجدد من الخلاف، بناء على أن زكاة النقدين معلومة أو غير معلومة، أو بناء على إلحاقها بسلع التجارة، نظرًا إلى أنها أثمان رائجة، أو عدم إلحاقها بها، أو ليس حكمها حكم الفلوس فلا زكاة فيها اتفاقًا، ويفرق بينها وبين الفلوس بأن الفلوس لم تلحق بالنقدين - على القول - زكاتها إلا باعتبار كونها من معادن ذات قيمة أصلية؛ لأن الوجوب في الزكاة العين على القول بتعليله منوط بالثمنية المالية، أي القيمة الذاتية الخلقية، فإنها من أجود المعادن ذات القيم المعتد بها، ولذا جعلت أثمانًا مطلقة للحاجيات المعاشية بجميع أنواعها. فالعلة في الحقيقة لزكاتها ليست مجرد الثمنية الوضعية، بل الثمنية مع المالية الذاتية، وحينئذ فلا يلحق بها في وجوب الزكاة إلا ما له شبه بها من هذه الجهة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 803 والكواغد وقطع الجلود ونحوهما ليست كذلك، بخلاف الفلوس، فإنها وإن كانت من معادن أقل من معدن الذهب والفضة، إلا أنها ذات قيمة أصلية يعتد بها ولا يخفى أن هذا الفرق إنما يظهر في كواغد وقطع جلود قيمتها تافهة، أقل من قيمة قطع النحاس والرصاص، أما إذا كانت مصنوعة من كنود وجلود جيدة بصفة تجعلها في درجة الفلوس وترفعها إلى قيمتها أو أعلى فلا يظهر الفرق المذكور، إذ أصل كل منهما عروض جعلت أثمانًا ورؤوس أموال كغيرها من المقومات، وحيث تكون الكواغد وقطع الجلود كالفلوس يجري فيها الخلاف المذكور، ومثل ما إذا اتخذت نقود من جواهر نفيسة غير الذهب والفضة وتعومل بها بين الناس، فحكمها كالفلوس مع أنها ذات قيمة عالية، فيجري فيها الخلاف المذكور، وإن كان المعتمد عند المالكية تخصيص الزكاة في الأثمان بالنقدين وأنها للثمنية الخلقية التي لا يشترك فيها مع النقدين غيرهما من المعدن والنبات، سواء كان جواهر أو فلوسًا أو كواغد أو قطع جلود أو غيرها، والكلام في زكاتها زكاة النقدين الواجبة على المالك مطلقًا تاجرًا أو غيره، وأما إذا اتخذت التجارة فلا نزاع في زكاتها زكاة للعروض باعتبار قيمتها، كما تقدم في زكاة الفلوس النحاس سواء، والظاهر أن القيمة تعتبر حسب التعامل بها لأن الانتفاع منوط بها دون قيمتها الذاتية قلت أو كثرت، ولأن الوجوب في أموال التجارة معلق بالمعنى وهو المالية والقيمة، والأموال كلها في هذا المعنى جنس واحد، ولذا لا تختلف أصنافها فيما يزكي ولا فيما يخرج من قيمتها حبوبًا وحيوانًا ومعدنًا ونباتًا، وعلى ذلك فمجرد اتخاذ الكواغد وقطع الجلود أثمانًا رائجة يصيرها كالنوقد أو كسلع التجارة، كما تقدم في الفلوس عند الحنفية. وفي حواشي الرهوني قال مالك في الفلوس: لا خير فيها نظرة بالذهب ولا بالورق، ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين، لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة، ولا يجوز فلس بفلسين. وفي موضع آخر: ولو جرت الجلود بين الناس مجرى العين المسكوك لكرهنا بيعها بذهب وورق نظرة.اهـ. وجرت عادة الإمام رضي الله عنه أن يعبر بالكراهة عما يشمل الحرمة، وهو ظاهر في أن الكواغد وقطع الجلود ونحوها متى جرى التعامل بها كانت كالفلوس سواء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 804 فتوى مفتي المالكية في زكاة الكاغد وفي فتاوى أبي عبد الله محمد عليش مفتي المالكية ما نصه: "ما قولكم في الكاغد الذي فيه ختم السلطان ويتعامل به كالدراهم والدنانير، هل يزكي زكاة العين أو العرض أولا زكاة فيه؟ " فأجبته بما نصه: "الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله: لا زكاة فيه؛ لانحصارها في النعم وأصناف مخصوصة من الحبوب والثمار والذهب والفضة، ومنها قيمة عرض المدير، وثمن عرض المحتكر والمذكور، وليس داخلاً في شيء منها، ويقوي ذلك أن الفلوس النحاس المختومة بختم السلطان المتعامل بها لا زكاة في عينها لخروجها عن ذلك، قال في المدونة: ومن حال الحول على فلوس عنده قيمتها مائتا درهم فلا زكاة عليه إلا أن يكون مديرًا فيقومها كالعروض. انتهى. وظاهر قوله في المدونة: "إلا أن يكون مديرًا فيقومها كالعروض" أي كعروض التجارة أنها تقوم مطلقًا، سواء كانت سلع تجارة أو أثمانًا فيها، وحينئذ فيقومها كالعروض وتزكي زكاتها، أي باعتبار قيمتها لا باعتبار عينها. وأما إذا كانت مدخرة عنده أو مستعملة في قضاء حوائجه المستهلكة أو المقتناة، فلا زكاة فيها لا باعتبار عينها ولا باعتبار قيمتها على المشهور. والحاصل أن الكواغد التي يتعامل بها في بعض البلاد كالدراهم والدنانير إن استعملت في التجارة ثمنًا أو مثمنًا زكيت زكاة عروضها؛ بشرط أن يتوفر فيها شروط زكاة العرض، وإن لم تستعمل كذلك فلا زكاة فيها، وذلك ما يقتضيه تسويتها بالفلوس النحاس، فإن أصلها عروض كالكواغد جرى التعامل بها أثمانًا للأشياء كما يتعامل بالدينار والدرهم، وغايته أن الفلوس قد قيل بزكاتها كالنقدين باعتبار قيمتها وقد علمت مبناه، وأنه إلحاقها بالنقدين أو عروض التجارة فيجري مثله في الكواغد وقطع الجلود؛ لأنها أثمان تعومل بها وأصلها من العروض كالنحاس والرصاص سواء. وقد علمت قول الحنفية في ذلك، وأن جعلها أثمانًا رائجة بمنزلة كونها سلعًا للتجارة، وظاهره سواء استعملها المالك في حوائجه أو التاجر في سلعته فتزكى باعتبار قيمتها الوضعية، أي إن تحقق النصاب فيها لا يكون إلا باعتبار قيمتها ذهبًا أو فضة، مهما بلغ عددها أو وزنها فهي شبيهة بالعروض والنقدين، وظاهر أن السؤال والجواب مفروضان في الكاغد الذي يتعامل به في غير التجارة كالمدخر أو المستعمل في حوائجه المستهلكة أو المقتناة فإنه لا زكاة فيه على المشهور مطلقًا، لا زكاة عين ولا زكاة عرض، أما إذا تعومل به في التجارة فيزكي زكاة العرض بشرطه كالفلوس الجدد كما تقدم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 805 هذا، والقيمة فيما أصله العرض ونقل إلى التعامل به معاملة النقدين منظور فيها لحالته التي هو عليها، كقيمة العروض الأصلية من جودة أو رداءة أو سكة أو صياغة أو نحو ذلك، فما أعد للماء والتجارة إما بجعله ثمنًا كالفلوس والكواغد، أو مثمنًا كما في غيرها من عروض التجارة تعتبر قيمته بالحالة التي هو عليها. ويلحق بالأثمان المطلقة لما طرأ عليه من الإعداد للنمو ويزكى زكاة العروض أو الأثمان الأصلية باعتبار قيمته لا باعتبار عينه، إذ لا تتصور الزكاة فيه باعتبار العين وزنًا أو عددًا كما في زكاة النقدين، إذ العروض الأصلية لا تتعلق الزكاة بها من حيث ذاتها، فإن الأصل فيها القنية والانتفاع بعينها كالثياب والرقيق وآلات الحرث والدرس، وما وجبت الزكاة فيها إلا لما طرأ عليها من الإعداد للماء والتجارة، فألحقت بالأثمان وتعلقت الزكاة بها من هذه الجهة التي يجب مراعاتها في تقدير نصابها والمزكي في الحقيقة عوض قيمتها الذي هو الثمن، فالزكاة فيما يتعامل به ثمنًا أو مثمنًا إنما تتعلق بالأثمان مطلقة أو مقيدة، ولا فرق في ذلك بين العروض الأصلية وبين ما نقل منها إلى التعامل فلوسًا أو غيرها. والحاصل أن الكواغد وقطع الجلود ونحوها إن قلنا إن ثمنيتها كثمنية الفلوس الجدد، فمجرد اتخاذها أثمانًا يحلقها بعروض التجارة، فتجب الزكاة فيها عند الحنفية، سواء كان التعامل بها في تجارة أو غيرها. وعند المالكية لا زكاة فيها إلا إذا نوى بها التجارة كالعروض، فيزكيها التاجر دون غيره على المشهور، وقيل: إنها تزكي كالفلوس النحاس إلحاقًا لها بالنقدين (1) .   (1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ حسنين مخلوف: ص 31 – 35. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 806 (2) زكاة الفلوس الجدد وهي المتخذة من غير الذهب والفضة كالنحاس والرصاص والحديد ونحو ذلك، فهذه وإن لم يرد نص بوجوب زكاتها، بل الظواهر والورادة في زكاة الأثمان المطلقة دالة على عدم وجوب الزكاة فيها، ولكن وقع للعلماء في زكاتها خلاف بعد ضربها واتخاذها للتعامل، مبناه كما هو ظاهر على الخلاف في تعلق الوجوب بالنقدين، هل هو معلوم فيدخله القياس؟ أو ليس بمعلول فلا يدخله؟ وتقدمت الإشارة إليه في المطلب الأول، وفي الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني ما نصه: أفهم اقتصاره، أي للصنف كغيره من الصنفين على الذهب والفضة أن الفلوس الجدد لا زكاة فيها، وهو كذلك، قال في الطراز المذهب: لا زكاة في أعيانها، وظاهره ولو تعومل بها عددا خلافًا لبعض الشيوخ. اهـ. وفي حواشي ابن تركي على العشماوية ما نصه: لا زكاة في الفلوس النحاس المسماة بالجدد على المعتمد. اهـ. ونقل خاتمة أبو عبد الله محمد عليش في فتاويه عن صاحب الطراز أن المذهب عدم وجوب الزكاة في عينها؛ إذ لا خلاف أنه لا يعتبر وزنها ولا عددها، وإنما المعتبر قيمتها فلو وجبت في عينها لاعتبر النصاب من عينها ومبلغها لا من قيمتها كما اعتبر في الورق والذهب والحبوب والثمار، فمتى انقطع تعلقها بعينها جرت على حكم جنسها من النحاس والحديد وشبهه. اهـ. فقوله: جرت على حكم جنسها، أي فتزكى زكاة العروض باعتبار قيمتها من الدنانير والدارهم كما يزكى النحاس والحديد. وفي حواشي ابن عابدين من كتب الحنفية ما نصه: "فرع في الشرنبلالية": "الفلوس إن كانت أثمانًا رائجة أو سلعًا للتجارة تجب الزكاة في قيمتها، وإلا فلا".اهـ. وفي فتاوي قاري الهداية: الفتوى على وجوب الزكاة في الفلوس إذا تعومل بها، وبلغت ما يساوي مئتي درهم أو عشرين مثقالاً من الذهب. اهـ. فأفاد أن كونها أثمانًا رائجة بمنزلة كونها سلعًا للتجارة، فتجب فيها الزكاة، وبالضرورة لا تجب في عينها وزنًا أو عددًا، بل في قيمتها كما سيأتي، ولا شك أن خلاف العلماء في زكاتها على هذا الوجه مع عدم وجود نص من الكتاب أو السنة بزكاتها أو بعدم زكاتها؛ يدل على وجود خلاف في تعليل زكاة النقدين، فإن كانت معلولة قيس عليها زكاة الفلوس وإلا فلا، ولكن لا على اعتبار النصاب من عينها، بل على اعتباره من قيمتها ذهبًا أو فضة، وذكر صاحب الطراز عن أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما وجوب الزكاة في عينها مع تعلقها بقيمها، وهو يؤيد قول بعض المالكية بوجوب زكاتها. وفي حواشي الرهوني علي عبد الباقي قال عياض في تنبيهاته: اختلف لفظه (أي الامام) في الفلوس بحسب اختلاف رأيه في أصلها، أهي كالعرض أو كالعين؟ فله هنا، أي في باب الصرف والتشديد، وأنه لا يصلح فيها النظرة، أي التأخير، ولا تجوز، فشبهها بالعين، وظاهره المنع جملة كالفضة والذهب، ثم قال: وليست كالدنانير والدراهم في جميع الأشياء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 807 وقال ابن عرفة: وفي كون الفلوس ربوية كالعين ثالثُ الروايات يكره فيها، وفي السلم الأول والصفر النحاس عرض ما لم تضرب فلوسًا، فإذا ضربت فلوسًا جرت مجرى الذهب والورق فيما يحل ويحرم، وفي الإرشاد ما نصه: والنصوص كراهة التفاضل والنساء في الفلوس. وقال في باب الزكاة: لا تزكى إلا في الإدارة كالعرض.اهـ. فالخلاف فيها قوي جدًا. اهـ. وبالجملة فنصوص المالكية ظاهرة في أن التماثل بوجوب الزكاة في الفلوس إنما يقول به تشبيهًا لها بالعين، وأن التعامل بها ناقل لها عن أصلها، ويرى أن تشبيهها بالعين في باب الزكاة التي هي من قبيل المواساة والبر بالفقراء، بل هي أدخل منها في باب المعروف، أولى من تشبيهها بها في باب آخر ومالك رضي الله عنه شبهها فيما يشدد فيه كالصرف والبيع بالعين، وفيما يحل كالزكاة بالعرض، فلا تزكى لأنها ليست من أحد النقدين، ولا من أحد الأصناف الداخلة في عموم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] . ونحو "أدوا زكاة أموالكم"، فإنه مخصص في الأثمان عنده بالذهب والفضة، كما يؤخذ من الأحاديث الواردة في ذلك، واسم المال قد يختلف معناه باختلاف موارده. قال ابن الأثير: المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم، فاسم المال ليس نصًا في الشمول، والسنة مبينة للتنزيل، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم مجمل القرآن في الزكاة وغيرها، وحصر عمومه المراد به الخصوص، كما أمر الله تعالى به قولاً وعملاً، فبين ما تؤخذ الزكاة من الأموال، وممن تؤخذ من الناس، وكم يؤخذ منها، ومتى تؤخذ من الناس، وكم يؤخذ ومتى تؤخذ. كما ذكره ابن رشد في مقدماته. وبعد أن ساق أحاديث البيان في ذلك قال: فالزكاة لا تجب إلا في ثلاثة أشياء: في الحرث، والعين، والماشية. والعين هي الذهب والفضة. والماشية الابل والبقر والغنم. والحرث ما يخرج من الأرض من الحبوب والثمار والكروم؛ لأن السنة قد خصصت ماعدا هذه الثلاثة أشياء من عموم قول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] . وخصص من هذه الثلاثة الأشياء بعضها على ما تقدم.اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 808 والمراد بعدم زكاة الفلوس على مشهور مذهب مالك أنها لا تزكي زكاة النقود، أي لا يزكيها المالك باعتبار ذاتها، ولا باعتبار قيمتها، وهذا لا ينافي أنها إذا اتخذت للتجارة والنماء فإنها تزكي زكاة العروض كما تقدم؛ لأنها عروض تجارة مسكوكة، وسيأتي أن عرض التجارة عند المالكية إذا كان فلوسًا يزكى مطلقًا، سك أو لم يسك، متى توفرت شروطه، وليس ضربها والتعامل بها واتخاذها أثمانًا رائجة بمنزلة نية التجارة في السلع؛ لأنها لما لم تكن عندهم للتجارة والنماء خلقة فلا تصير بها إلا بقصد التجارة فعلاً؛ إلحاقًا لها بأصلها وهو العروض التي ليست أثمانًا. وظاهر فرع الشرنبلالية وغيرها من كتب الحنفية، حيث سووا في الحكم بين كونها أثمانًا رائجة وبين كونها سلعًا للتجارة، أن ضربها والتعامل بها بمنزلة نية التجارة، وقد نص الحنفية على وجوب ضم قيمة العروض إلى الذهب والفضة حتى يتم النصاب. ووجهوه بأن الوجوب في الكل باعتبار التجارة وإن افترقت جهة الإعداد، ففي العروض من جهة العباد بالصنع الذي هو بمنزلة الخلقة لها. وفي النقدين من جهة الله تعالى بخلق الذهب والفضة للتجارة، والافتراق في الجهة لا يكون مانعًا من الضم بعد حصول ما هو الأصل وهو للنماء، وقد علمت مشهور مذهب مالك وأنها لا تصير للتجارة، بحيث تزكى زكاة عروضها إلا بنية التجارة وقصدها فعلاً، والإعداد بغير نية التجارة لا يعتبر في وجوب الزكاة، إلا إذا كان خلقيًا بإعداد الله تعالى كما في الذهب والفضة. قال في المدونة: ومن حال الحول على فلوس عنده قيمتها مائتا درهم فلا زكاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 809 المبحث الثاني مسالك تخريج زكاة الأوراق المالية العرفية عند الجمهور المسلك الأول تخريج زكاة الأوراق المالية على زكاة الدين: المعروف عند الفقهاء المنظور إليه في زكاة هذه الأوراق هو قيمة الديون المشغولة بها ذمة البنك المتوثق منها بالمال المخزون الذي به تتحقق ملاءة البنك، فإذا اعتبرت قيمة الأموال الواصلة إلى البنك وإلى من عليه ديون من المتعاملين بهذه الأوراق، كدين واحد في ذمة شخص معين، فتخرج زكاتها على زكاة الدين، وحكم زكاة الدين في مشهور مذهب مالك رضي الله عنه أنه إذا كان لأحد على آخر دين لا يزكيه مادام غائبًا عنه تحت يد الغريم وفي ذمته، فإن قبضه منه زكاه لسنة فقط، وإن أقام عند المدين أعوامًا، بشروط ثلاثة: الأول: أن يكون الدين عينًا ذهبًا أو فضة من قرض أو ثمن عروض بغير مدير. الثاني: أن يقبضه عينًا ذهبًا أو فضة، فإن قبضه عرضًا فلا زكاة عليه حتى يبيعه (1) . الثالث: أن يقبض نصابًا كاملاً ولو في مرات، أو يقبض بعض نصاب وعنده ما يكمل النصاب. أما التاجر المدير وهو الذي يبيع بالسعر الواقع كيف كان ويخلف ما باعه بغيره، فإذا نض له من سلعة ولو درهمًا واحدًا، فإنه يقوم كل عام السلعة التي للتجارة ويضم لها ما عنده من العين وما له من عدد الدين المعد للنماء، إذا كان نقدًا حالاً مرجو الخلاص، ومنه مبلغ ما عنده من الأوراق المالية، ويزكي الجميع دفعة واحدة كل سنة، ويعتبر هذا الدين كأنه نقد محصل بخزانته، أما إذا كان الدين الذي له ليس معدًا للنماء كدين القرض، فلا يضم في التقويم لسلعة، بل يزكيه لسنة واحدة بعد قبضه، وإن كان عرضًا أو مؤجلاً مرجوًا فيها فلا يزكي عدده، بل يقومه على نفسه قيمة عدل، ويزكي القيمة مع ما عنده كل سنة؛ لأن المرجو في قوة المقبوض بالنسبة للمدير. أما غير المرجو فلا يقومه بل يزكيه إن قبضه لعام واحد كالعين الضائعة والمغصوبة. وفي بداية المجتهد لابن رشد: واختلفوا في زكاة الدين، هل يزكيه كل عام أو لعام أو يستقبل به سنة من يوم قبضه؟ فمن قال: يستقبل بالدين حولا، لم يوجب فيه الزكاة، ومن قال الزكاة بعدد الأحوال، شبهه بالمال الحاضر.   (1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ مخلوف: 21-25. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 810 وأما من قال: الزكاة فيه لحول واحد وإن أقام أحوالاً، فلا أعرف له مستندًا في وقتي هذا؛ لأنه لا يخلو مادام دينًا أن يقول: فيه زكاة، أو لا يقول ذلك. ولعله يقول: فيه الزكاة مع اشتراط الحول، إلا أنه يقول كلما انقضى حول فلم يتمكن من أدائه سقط عنه ذلك الحق اللازم في دبر الحول، فإن الزكاة وجبت بشرطين: حضور عين المال، وحلول الحلول، فلم يبق إلا حق العام الأخير. وهذا شبهه مالك بالعروض التي للتجارة، لا زكاة فيها إلا إذا باعها، وإن أقامت عنده أعوامًا. اهـ. إذا علمت هذا فحكم الورقة المسئول عنها على مشهور مذهب مالك في زكاة الدين، إذا كان صاحبها ليس بتاجر مدير كأن كان غير تاجر أو تاجرًا محتكرًا، أنه لا يزكيها ولو أقامت عنده أعوامًا عديدة، إلا إذا استبدل بها عينًا ذهبًا أو فضة، وحينئذ يزكي ما قبضه لسنة واحدة، كما يزكي الدين لو قبض من الغريم عينًا، وإن كان مديرًا زكى عددها، أي قيمتها المضمونة بها متى نض له من سلمه، أي باع منها ولو بدرهم واحد، ولو لم يستبدل بها نقودًا ذهبًا أو فضة. هذا ما يقتضيه حكم زكاة الدين عند المالكية، وإن كانت حالة الدين المضمون بهذه الأوراق لا تتفق تمامًا مع الاعتبارات الفقهية التي تراعي في باب الدين؛ لأن الدين المذكور ليس في ذمة معينة حقيقة، ولا روعي في تحرير سنده أن يكون لشخص معين، ولكن مسألة الزكاة شيء وتحرير سند الدين وتقريره في ذمة معينة شيء آخر؛ إذ لا نزاع في أن صاحب الورقة المذكورة مالك لنصاب حال عليه حول يمكنه أن يقبضه نقدا ذهبًا أو فضة في أي وقت شاء، ومن أي شخص كان، وأن يستبدل به مقومًا أو يهبه أو يتصدق به على شخص آخر بواسطة هذه الورقة التي يعتبر وصولها إلى يد أخرى حوالة على الصرف الذي أصدرها أصالة، بحيث إذا قدمت إليه أو إلى من أنابه عنه لزمه قبولها ودفع قيمتها كمبادلة النقدين سواء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 811 وليس مجرد وضع اليد على ورق البنك نوت واستلامه من الدين يعد قبضًا للدين، فمن له على آخر عشرة جنيهات من ثمن مبيع مثلاً فأعطاه ورقة بهذه القيمة بعد حول أو أكثر، لا يعد بذلك قابضًا للدين حتى تجب عليه زكاته الآن، بل يعد محالاً به على خزانة البنك، فلا يزكي هذه الورقة حتى يقبض قيمتها نقدًا، ولو بقيت عنده أعوامًا فيزكيها لسنة واحدة كما مضى. هذا ما يؤخذ من مشهور مذهب مالك في تخريجها على زكاة الدين. ولا يخفى أن ذلك التخريج مجحف بالفقراء غير واف بمقصود الشارع من شرع الزكاة، وهو سد خلة الفقير، ولا سيما في البلاد التي يكون غالب أموالها الزكاة من قبيل الأثمان كمصر، فإن ما يزكى من الماشية والحرث فيها قليل جدًا بالنسبة لما يقصد منه ثمنه من المحصولات الأخرى كالقطن ونحوه، ومذهب الحنابلة أن من له دين على مليء باذل من قرض أو دين عروض تجارة أو ثمن مبيع وحال عليه الحول، كلما قبض شيئًا أخرج زكاته لما مضى، وهو قريب من مذهب مالك، فتخريجه تخريجه. والمأخوذ من مذهب الحنفية أن هذه الأوراق إذا اعتبرت كمستندات ديون لا تؤدى زكاتها إلا بعد القبض، أي استبدالها بنقود على تفصيل عندهم في أنواع الدين. ومذهب السادة الشافعية أن الدين في بعض أحواله يزكى كل عام، حيث قالوا: إن من له دينًا على آخر وكان حالاً، والمدين موسرًا غير جاحد ولا مماطل فيه، فعليه تعجيل زكاته كالوديعة قبضه أو لم يقبضه إذا حال عليه الحول، وعلى هذه فالزكاة واجبة في هذه الأوراق إذا حال عليها الحول، وإن لم تستبدل النقود بها. ولما كانت زكاة الأموال من أفضل أعمال البر بالإنسان، وقد شرعت لسد خلة المحتاجين، وتفريج كرب البائسين، ومنع صولة الفقراء على الأغنياء، وانتهاب أموالهم، ويخشى أن يحتال أرباب الأموال على إسقاط زكاتها باستيفاء هذه الأوراق في أيديهم بدون استبدالها بأحد النقدين؛ كان الأرفق بالفقراء والأحوط في الدين الأخذ بمذهب السادة الشافعية في زكاة هذه الأوراق، وإفتاء العامة به، وإن كانوا متعبدين على مذهب آخر؛ لأن العامي مذهبه في النازلة مذهب مفتيه (1) .   (1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ مخلوف: 37-41. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 812 (2) المسلك الثاني تخريج زكاة الأوراق المالية على زكاة الدين العرفي ولا يخفى أن تخريج زكاة الأوراق المالية على زكاة الدين مع كونه مجحفًا بحق الفقراء - على غير ما ذهب إليه الشافعية - مبني على اعتبار القيمة المضمونة بهذه الأوراق كدين حقيقي في ذمة شخص مدين، وأن هذه الأوراق كمستندات ديون حقيقية، مع أن هناك فرقًا بين هذه الأوراق وما هو مضمون بها، وبين المدين الحقيقي وسنده المعروف عند الفقهاء، فإن الدين ما دام في ذمة المدين ولا ينتفع به ربه ولا يجري التعامل بسنده رسمًا، ولذلك قيل بعدم وجوب زكاته؛ لأنه ليس مالاً حاضرًا معدًا للنماء، بحيث ينتفع به ربه، بخلاف قيمة هذه الأوراق فإنها نامية منتفع بها كمًا ينتفع بالأموال الحاضرة. وكيف يقال: إن هذه الأوراق من قبيل مستندات الديون، ومستند الدين ما أُخذ على الدين للتوثق وخشية الضياع، لا لتنمية الدين في ذمة المدين ولا للتعامل به، أو يقال: لا تجب الزكاة فيها حتى يقبض بدلها نقدًا ذهبًا أو فضة، مع أن عدم الزكاة في الدين - كما علمنا - إنما هو بكونه ليس معدًا للنماء، ولا محفوظًا بعينه في خزانة المدين، والفقهاء إنما حكموا بعدم زكاة الدين مادام في ذمة المدين حتى يقبضه المالك؛ نظرًا لهذه العلة. واستثنى الشافعية دين الموسر إذا كان حالاًّ فإنه يزكى قبل قبضه كالوديعة؛ نظرًا إلى أنه في حكم الحاضر المعد للنماء، فلو فرض نماؤه كما في بدل الأوراق المالية، لما كان هناك وجه لتوقف الزكاة على الفقير، ولما خالف في ذلك أحد من العلماء فالحل أن هذا النوع من الدين نوع آخر مستحدث لا ينطبق عليه حقيقة الدين وشروطه المعروفة عن الفقهاء، ولا يجري فيه الخلاف الذي جرى في زكاة الدين، بل ينبغي أن يتفق على وجوب الزكاة فيه؛ لما علمت أنه كالمال الحاضر، وغايته أن نموه والانتفاع به بواسطة هذه الأوراق المعتمد في إصدارها والتعامل بها على وجود ما يعادل قيمتها في المصارف المالية، فكأنه بهذا مال حاضر بين المتعاملين يتحرك وينمو بحركة هذا الرسم المضروب، فالنصاب المملوك هو ذلك النوع من البدل، والرسم المضروب إنما هو لحفظه والتعامل به فزكاته زكاته وقبضه قبضه، وذلك بخلاف الدين، فإن ما نسميه دينًا ونشترط في زكاته شروطًا، يجب أن يكون مضمونًا في الذمة، وليس معدًّا للنماء والحركة، وإلا وجبت فيه الزكاة كالمال الحاضر (1)   (1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ مخلوف: 40. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 813 (3) المسلك الثالث تخريج زكاة الأوراق باعتبار المال المحفوظ بخزانة البنك ولو قيل: إن حق المتعاملين بهذه الأوراق متعلق بعين النقود المحفوظة بالبنك، كما قد يفهم مما جاء في نظامها السابق حيث قيل فيه (وعند التصفية يكون هذا المال مخصصًا لدفع قيمة الأوراق واستعادتها) ؛ لكان له وجه، وحينئذ يكون المال المحفوظ بالبنك بدلاً عن رؤوس الأموال والمقومات الواصلة إليه من المتعاملين بتلك الأوراق، وكأن الحكومة بالنيابة عنهم تعاقدت مع البنك على هذه الصورة، وعلى ذلك فلا تخرج زكاة هذه الأوراق على زكاة الدين مطلقًا، بل تجب الزكاة فيها اتفقًا باعتبار ما يعادلها من النقود المحفوظة، لا باعتبار ذاتها ولا باعتبار شيء مضمون في الذمة، وتكون هذه الأوراق كمستندات ودائع محفوظة في خزائن الأمناء، جعل التعامل بها طريقًا للتعامل بالبدل المحفوظ بالمصارف، ينمو بنمائها، ويتحرك بحركتها، ويربح ويخسر بربحها وخسارتها. وإذا بطلت المعاملة بها كان للمالك الحق في الرجوع بقيمتها ذهبًا أو فضة على خزانة البنك بمقتضى التعهد السابق التعامل، وإن لم يجر به مباشرة، إلا أنه جار فيه بصورته ورسمه، وثمنية الأوراق إنما هي باعتبار هذا المال المخزون، بحيث لو عدم عدمت ثمنيتها وبطل التعامل بها، وحينئذ فالزكاة في الحقيقة واجبة فيه لا في الأوراق، وانتفاع الفقير بجزئه المعتبر شرعًا كانتفاع المالك بسائر أجزائه، وعلى ذلك فلا خلاف في زكاتها بلا توقف على قض، ولكن يبعد هذا القول أن التعهد السابق يقيد أن ما في البنك نصفه نقود ونصفه قراطيس مالية، بل يصبح في ظروف خاصة أن يكون أقل من ذلك (1)   (1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ مخلوف: 41. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 814 (4) المسلك الرابع تخريج زكاة الأوراق باعتبار قيمتها الوضعية ولو فرض أنه ليس في البنك شيء من العقود، ونظرًا إلى تلك الأوراق في ذاتها بقطع النظر عما يعادلها وعن التزام التعهد المرقوم بها، واعتبر جهة إصدار الحكومة لها واعتبار الملة أثمانًا رائجة؛ لكانت كالنقدين تجب زكاتها على القول بأن الزكاة في النقدين معلولة بمجرد الثمنية، ولو لم تكن خلقية، كما تقدم في زكاة الفلوس وقطع الجلود والكواغد، فتحصل أن الأوراق المالية يصح أن تزكى باعتبارات أربعة: الأول: باعتبار المال المضمون بها في ذمة البنك وأنه كمال حاضر مقبوض، وإن لم يكن كالدين المعروف عند الفقهاء من كل وجه. الثاني: زكاتها باعتبار الأموال المحفوظة بخزانة البنك، وعلى هذين الاعتبارين فالزكاة واجبة فيها اتفاقًا. الثالث: زكاتها باعتبار قيمتها دينًا في ذمة البنك، فتزكى زكاة الدين الحال على مليء، كما ذهب إليه السادة الشافعية. الرابع: زكاتها باعتبار قيمتها الوضعية عند جريان الرسم بها في المعاملات واتفاق الملة على اتخاذها أثمانًا للمقومات، وعلى ذلك فوجوب الزكاة فيها ثابت بالقياس، كزكاة الفلوس النحاس وقطع الجلود ونحوهما، ولكن هذا لا يتم إلا إذا تحقق الغرض المذكور في الأوراق المالية، وحينئذ يكون التعامل بها كالتعامل بالفلوس وقطع الجلود سواء، وإلا فالتعامل بها الآن منظور فيه إلى قيمتها المضمونة بذمة البنك والمودعة في خزانته، وأنه حتم عليه أن يدفع تلك القيمة متى طلب منه ذلك، فهي كالعقود بخلاف العملة المعدنية غير الذهب والفضة (1) .   (1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ مخلوف: 42. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 815 الفصل الثاني نقول من أقوال الفقهاء المعاصرين تؤيد مذهب الجمهور (1) فتوى للشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي في شأن زكاة الأوراق المالية زكاة الأوراق المالية الجاري بها التعامل الآن اعلم أنه قد ورد إلينا بتاريخ 11 أحد عشر ربيع الأول سنة 1324 ألف وثلثماية وأربعة وعشرين هجرية؛ خطابٌ من أحد أهالي الفيوم، يتضمن السؤال عن حكم زكاتها شرعًا؛ وصورته: إذا وجد عند شخص ورقة (بنك نوت) قيمتها مائة جنيه مثلاً، وحال عليها الحول، هل تجب فيها الزكاة أو لا؟ فأجبناه إذ ذاك بوجوب الزكاة فيها تخريجًا على زكاة الدين عند السادة الشافعية؛ لأن المزكى في الحقيقة هو المال المضمون بها، وتفصيل الجواب: أن الأوراق المالية الجاري بها التعامل الآن في القطر المصري معتبرة كسندات ديون على شخص معنوي، كما هو الظاهر في التعهد المرقوم عليها وصورته: " أتعهد بأن أدفع لدى الطلب مبلغ كذا لحامله. تحرر هذا السند بمقتضى الدكريتو المؤرخ في 25 يونيو سنة 1898. عن البنك الأهلي المصري الإمضاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 816 ونص المادة الثانية من الدكريتو المذكور للبنك الأهلي المصري: الامتياز بإصدار أوراق مالية تدفع قيمتها لحاملها عند تقديمها، وذلك حسب القيود والشروط المدونة في النظامات المذكورة، ولا يمنح هذا الامتياز لبنك آخر طول مدة بقاء هذه الشركة، ومما جاء في النظامات المشار إليها أن من أعمال البنك إنشاء أوراق مالية تدفع قيمتها لحاملها أو إلى المحول إليه، وأنه يجب أن يكون مخزونًا في البنك ذهب يعادل نصف قيمتها، والنصف الثاني يكون ملكه من القراطيس المالية التي تعينها الحكومة بدون أن يكون هذا الحق المحول للحكومة المصرية مترتبًا على أقل مسئولية، وإذا لم يكن في البنك من القراطيس المالية ما يوازي قيمة نصف ثمن أوراقه، فيجب أن يخزن البنك ذهبًا عينًا يوازي كمية الناقص، حتى تكون الأوراق التي يضعها هذا البنك وتتداول بين الناس مخزونًا ما يساوي قيمتها تمامًا في البنك، أما كمية الأوراق التي توضع للمداولة والتعامل، فالحكومة تتفق مع إدارة البنك على مقدارها والمال المخزون في البنك من ذهب وقراطيس يكون ضمانة لأوراق البنك المتداولة، وعند التصفية يكون هذا المال مخصصًا لدفع قيمة الأوراق واستعادتها. اهـ (1) . (2) مقولة الأستاذ خلاف قال العلامة الشيخ عبد الوهاب خلاف: إن الأوراق النقدية، أي أوراق البنكنوت هي عملة نقدية، وليست سندات ديون، وإن كانت في الصورة سندات ديون، فالورقة هي جنيه أو خمسة أو عشرة أو خمسون أو مائة تجب فيها الزكاة شرعًا، على أنها نقود؛ لأن الناس يتبادلون التعامل بها على هذا. ولا فرق في وجوب الزكاة بين أن تكون الأموال النقدية في يد مالكها، أو بحفظها رصيدًا في مصرف من المصارف، أو يدخرها في صندوق ادخار (2) وقال مؤلف كتاب التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "بقي الكلام على الأوراق المالية (البنكنوت) فعليها الزكاة؛ لأنها يتعامل بها كالنقدين (الذهب والفضة) ، وتقوم مقامها، وتصرف بها" (3) .   (1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ مخلوف: 35. (2) انظر لواء الإسلام، العدد الخامس لسنتها الرابعة، لغرة المحرم عام 1370 هـ ص 339. (3) انظر كتاب التاج الثاني: 22 لمؤلفه الشيخ منصور ناصيف الشافعي المصري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 817 وجاء في كتاب الدين الخاص للعلامة الشيخ محمود خطاب السبكي أنه قال: قال الشافعية: الورق النقدي وهو المسمى (بالبنكنوت) التعامل به من قبيل الحوالة على البنك بقيمته، فيملك قيمته دينًا على البنك، والبنك مدين مليء، مقر مستعد للدفع حاضر، ومتى كان المدين بهذه الأوصاف وجبت زكاة الدين في الحال، وعدم الإيجاب والقبول اللفظيين في الحوالة لا يبطلها، حيث جرى العرف بذلك، على أن بعض أئمة الشافعية قال: المراد بالإيجاب والقبول كل ما يشعر بالرضا من قبول أو فعل، والرضا هنا متحقق (1) . وقال أستاذنا العلامة الشيخ محمد أبو زهرة رحمة الله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم قدر النصاب بمائتي درهم على أساس قيمتها، أي عشرون دينارًا في عصره عليه الصلاة والسلام، وقد بين الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم هذه القيمة بعشرين دينارًا أو مثقالاً من الذهب، فتجعل هذه القيمة أساس التقدير في كل العصور، وبذلك يتوحد النصاب في كل الأقطار الإسلامية، والآن نجد أكثر التعامل بالأوراق النقدية، فهل تكون هي وعاء الزكاة؟ لقد أخذ بعض الناس من ظاهر ما يكتب عليها، من أنها سند يجب الوفاء به، باعتبارها دينًا، وأجروا عليها أحكام الدين، ولكن الحقيقة أن الأوراق النقدية تعد الآن نقودًا حالة محل الذهب، وقيمتها فيما تدل عليه من قيمة ذهبية في الأسواق - أسواق الذهب العامة- ولو لم تجب فيها الزكاة لكان ذلك إلغاء لزكاة النقد، وإهمالاً لأمر الشارع الإٍسلامي في الزكاة.   (1) انظر كتاب الدين الخالص: 8/148. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 818 وإذا كانت وعاء للزكاة كما هو المنطق والأمر الذي يتفق مع مقاصد الشارع الإسلامي، والغاية من فرضية الزكاة، فإننا نقدر النصاب فيها على أساس القيمة الذهبية، وما يتحقق فيه نصاب الزكاة على أساس أن يكون مجموع الأوراق مشتملاً على ما قيمته عشرون دينارًا ذهبيًا (1) . وقال كذلك أستاذنا العلامة الجليل الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى ما نصه: "وأما الأوراق النقدية، والعملة التي تكون من غير الذهب والفضة، كالعملة المتخذة من النيكل وغيره، فإننا نرى أن الزكاة تجب فيها، وإن لم يرد نص عليها، ولأنها لم تكن معروفة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن القياس الفقهي يجري فيها بشروط إنتاجه كاملة، فإن هذه النقود يجري التعامل بها في داخل الدولة، فهي تعد مقياسًا دقيقًا لقيم الأشياء في الدولة، وتكون في الدولة كالذهب، وإن كان هو أدق قياسًا، وأوسع شمولاً، إذ يسير حكمه في الميزان في كل الأقطار والأمصار. وفوق ذلك فإن هذه النقود تعد نامية بالقوة؛ لأنها تتخذ طريقًا للاتجار والتبادل في داخل المملكة الواحدة، فكانت بهذا الاعتبار نامية بالقوة، ولا فرق بينها وبين القضية في ذلك، بل هما في هذا سواء، وإذا تحقق فيها الوصف المؤثر المنتج وهو النماء، فقد تحقق موجب الزكاة، فتجب. ثم قال حفظه الله تعالى: هذه أحكام النقود بكل ألوانها وأنواعها ما دامت في حوزة صاحبها، ويستوي في ذلك أن تكون في خزائن بيته، أو أن تكون في المصارف المالية مودعة فيها أمانة؛ لأن يد المصارف عليها يد نائبة عن يده فهما سواء، وكذلك إذا كانت رصيدًا تجاريًا؛ لأنها تكون دينًا، واجب الوفاء، ممكن الأداء في أي وقت شاء، بل إن شئت فقل: إنها ودائع وإن كانت غير معينة بالتعيين؛ لأنها تحت تصرف صاحبها في أي وقت يطلبها، ولا مظنة مطلقًا للإرجاء." (2) اهـ.   (1) انظر كتاب (في المجتمع الإسلامي) : 92. (2) انظر مجلة لواء الإسلام للسنة الرابعة والعدد الثامن لشهر ربيع الثاني عام 1370 – ص 600. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 819 (5) فتوى العالم المفتي الشيخ محمد سعيد العرفي مفتي محافظة الفرات، رحمه الله تعالى "أما ما ذكرتم عن الورق السوري، فقد أصبح بعد منع التعامل بالذهب هو العملة المرعية، وبعبارة أصرح هو الذهب والفضة، فلا يجوز بيعه نسيئة إلا هكذا بهكذا – أي بغير أجل – وإلا كان ربا، وإذا كان المتقدمون لم يبحثوا هذه الجهة فلم يذكر التاريخ أن التعامل بالذهب ممنوع إلا في عصرنا هذا، إذن أصبح هذا – أي الورق السوري – هو الذهب بعينه، فيجب أن يأخذ حكمه قطعًا، وما حصول الاختلاف إلا ترويجًا للربا بإيجاد وسيلة، كما كانوا يحتالون عليه، وسموها حيلة شرعية، بلا خجل ممن يعلم السر وأخفى. وأما بيع الليرة الذهبية بالورق إلى أجل فإنه لا يجوز لأسباب كثيرة، منها: أنه عرض نفسه لخطر التبعة؛ لأنه مسئول أمام القانون، فالاختلاف في الجواز إباحة لتعريض الضعيف إلى الوقوع بالتهلكة يستفيد منها أرباب الثروة، أكابر مجرميها ليمكروا فيها، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون. إن الوقوف على إيجاد نص موهوم لزمن غير هذا الزمن لم يحصل فيه هذا المنع بالتعامل، ما هو إلا استحلال للربا عن طريق الشرع، ظنًا منه أن هذا يحل له ونسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم ربما يكون ألحن من أحيه بحجته، فأقضي له، فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه، فإنما يأخذ قطعة من نار)) رواه البخاري. ولذلك فإنك إذا فحصت المجوز تجده إما من أرباب الثروة أو من أذنابهم، ممن يرجو صدقاتهم التي هي أوساخ الناس، يبيع دينه بدين غيره؛ أملاً في استفادة موهومة. إلى أن قال رحمه الله تعالى: "وقانا الله شر الربا والذي ابتليت به البلاد الإسلامية، فلا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأنهم نسوا اتفاق الأمة: على أن كل قرض جر نفعًا فهو ربا، ونسوا قول الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] . وبالختام أرجو أن لا تنسوني من دعواتكم الصالحة، جعل الله تجارة الجميع رابحة، وزودكم بالتقوى، فإنها خير زاد وأفضله، وأخذ بيدكم إلى سواء السبيل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 820 دير الزور في 11/ربيع الأول سنة 1365 (1) . مفتي محافظة الفرات الإمضاء (6) مقولة الأستاذ السعدي قد بحث هذا الموضوع فضيلة الأستاذ العلامة الكبير الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في رسالته المسماة "الأوراق البنكية" المطبوعة في مكة المكرمة عام 1378 هـ. وتعرض فضيلته فيها لآراء بعض العلماء في الأوراق المذكورة، فقال في الصفحة الرابعة من الرسالة: "إن الأنواط (2) حكمها حكم فلوس المعدن تجب فيها الزكاة وغيرها من العبادات المالية، وتتمول في جميع المعاملات، فلا يجري فيها ربا الفضل، فيجوز بيع بعضها ببعض (3) بالنقد متماثلاً (4) ومتفاضلاً، إذا لم يكن في ذلك أجل، وهذا حاصل حكمها على وجه الإيجاز".اهـ. ثم قال فضيلة الشيخ عبد الرحمن السعدي: "وأما منعي لبيع بعضها ببعض (5) أو مع أحد النقدين مؤجلاً، فهو لسد باب الربا النسيئة، ومن أصول الشريعة سد أبواب الربا الصريح بكل طريق". اهـ (6) . (7) شهادة عالم كبير في تقريظه "بهجة المشتاق" للسيد أحمد الحسيني جاء في تفريظ العلامة الكبير صاحب الفضيلة الشيخ سعيد بن على الموجي أحد كبار علماء الشافعية بالأزهر الشريف، على كتاب بهجة المشتاق في بيان حكم زكاة الأوراق في ص 211 قوله:   (1) هذه الفتوى خطية بخط صاحبها وخاتمه موجودة في خزانة الأستاذ محمد نبهان الخباز أدرجها في رسالته القيمة. (2) أي ورق البنكنوت. (3) يعني بيع الأوراق النقدية إذا اختلف مصدرها. (4) إذا كان المصدر أو السند لها واحدا في قطر واحد، وبالسعر الذي أخذته بين باقي العملات المختلفة في المصدر أو القطر. (5) يعني الأنواط أو الأوراق النقدية (بنكنوت) . (6) ينظر رسالة (زكاة الأوراق) للأستاذ محمد نبهان الخباز: 40. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 821 " وبعد فإن لله العزيز سلطانه، العزيز بيانه، الحكيم برهانه، في كل حادثة حكمًا محكمًا، وفي كل نازلة قضاء مبرمًا، إما ظاهرًا جليًا، وإما مشكلاً خفيًا، تبعًا لمحله ظهورًا وبطونًا، وجلاء وكمونًا، وأن الفقهاء من العلماء الأعلام، أنصار ملة الإسلام، الذين هم هم، وقليل ما هم، رضي الله عنهم قد عنوا بأحكام قواعد الدين ومعاقده، وهدوا إلى استنباط أحكام جزئيات موضوعاتها مفترضين بأنوار أذنه وشواهده، ولم يفرطوا في شيء من ذلك حتى جمعوا بين نوافره وشوارده، وإن مما خفي حكمه حادثة أوراق البنك نوت، التي راجت رواج النقدين في أنحاء المعمورة وأطرافها، فضلاً عن أواسطها وعواصمها، حتى لم يبق سوقة ولا ملك، إلا وقعت في يده، وحلت محل نقده، بل استأثر بها أكثر الموسرين الماليين لخفتهما، وقلة مؤنتها، ولقد ولع الناس بالسؤال عنها، والبحث عن حكم الله فيها، هل تزكى زكاة النقد الذهب والفضة؟ ونزع من سئلوا عنها في الجواب عنه، فكانوا ما بين غريب غير نسيب، يرجم بالغيب ولا يصيب، وبين غريب نسيب، حقيق التحقيق أصيل، غير دخيل، غير أنه أضل السبيل، ولم يوفق لجواب يحل المسألة المشكلة كفيل. وبالجملة قد وقعوا في بيداء تيها، وخبطوا خبط عشواء، إلى أن قيض الله عز وجل شأنه، وعلا سلطانه، وتمت كلمته، وبلغت حجته، من عترة نبيه الكريم، وأسرة رسوله العظيم، وذلك الموفق وهو الذي جنب الكسل وحبب إليه العمل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 822 السيد السند الهمام الأمجد العالم الحبر الإمام الأوحد ومن الذي لو قلت فيه: مجدد ما كان بدعًا والعيان الشاهد إن المجدد في الكثير من اسمه في القائمين محمد أو أحمد هو أبو الحسين أحمد بن أحمد بن يوسف بن أحمد الحسيني، أدام الله بهجته، وحفظ مهجته، فصرف في ذلك الشأن طرفًا من عنايته، وجانبًا من رعايته وكان مطمح نظره، ومطرح فكره، انبعاث همته إلى مراجعة القوانين الموضوعة في ذلك الشأن، والبحث عن جميع أوراق ممالك المعمورة وولاياتها في عواصمها (1) ومستتباتها والمسماة (بالبنك نوت) وجمع أصنافها، حتى اجتمع له منها ما لم يظفر به غيره، ممن عني بهذا الشأن، وإلى ترجمة ما كتب في وجوهها بلغاتها الكثيرة كلها، وتوصل بذلك كله إلى أن تبين أنها صكاك ديون، ومستندات لذويها وأصحابها ومن هي في يده، يرجعون بها إلى (البنك نوت) ما تضمنته من الديون المضمونة، وإلى تبين أن الزكاة واجبة فيما تضمنته من تلك الديون بشرطه المتعارف بين علماء المذاهب، ولقد أودع ذلك كله كتابًا أبدع فيه كل الإبداع، ووضع الغرض الذي رمي إليه فيه على طرف التمام وجعل الذراع، وسماه "بهجة المشتاق في بيان حكم زكاة أموال الأوراق"، وما أحراه أن يسمى: أنوار الآفاق ليطابق الاسم مسماه، فقد انكشف بهذا المسعى حكم المسألة المعني وقد أسمعني حفظه الله بعضه فأحطت بمعناه، ووقفت على مغزاه، فإذا هو كتاب في بابه جليل، وبحل المسألة المشكلة كفيل، أقوم قيلاً، وأقوى دليلاً، وأكثر تحصيلاً، وأحسن تفصيلاً، وأكثر تفضيلاً، انحلت به العقدة، وصار في ذلك وحده، وهو العمدة، والناس عالة عليه بعده، يقتفون هديه، ويشكرون له سعيه … ) . اهـ.   (1) ينظر رسالة (زكاة الأوراق) للأستاذ محمد نبهان الخباز: 45. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 823 (8) مقولة الأستاذ محمد بنهان الخباز في رسالة في حكم الأوراق "بحث أكابر العلماء الأعلام في قضية الورق النقدي واعتباره نقدًا كالذهب والفضة؛ لأن اعتباره عروض تجارة تباع وتشترى كما يزعم البعض، يعطل فرضًا من فروض الإسلام وهو الزكاة، وقد منعت أكثر دول العالم التعامل بالذهب، واستعاضت عنه بالورق البنكنوت؛ حرصًا على أمنها وسلامتها، وصونًا له من التهريب، فينتفع به الأعداء بإضعاف قوة النقد المتداول، كما يعرض الحياة الاقتصادية والاجتماعية لمضاعفات خطيرة، وهزات عنيفة في الحياة المعاشية. وعليه فالورق النقدي قد أصبح هو العملة المرعية بعد منع التعامل بالذهب والفضة، وأنه قد أخذ حكم الذهب والفضة تمامًا، فلا يجوز بيعه ولا شراؤه نسيئة- أي إلى أجل إلا يدًا بيد- كعقد الصرف مثلاً؛ الصرافة، روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد)) رواه الإمام مسلم في صحيحه (1) .   (1) رسالة (زكاة الأوراق) للأستاذ محمد نبهان الخباز: 25. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 824 (9) خلاصة لما ذهب إليه الأخ الأستاذ محمد نبهان الخباز السوري حفظه الله في رسالته القيمة. "يتضح لنا مما جاء في بيان هذه الرسالة الأحكام التالية: (أ) أن النقد الورقي السوري هو العملة المرعية. (ب) وأنه هو الذهب والفضة وأحكامه تجري كأحكامها. (جـ) وأنه لا يجوز اعتباره عروض تجارة تباع وتشترى نسيئة إلا هاء بهاء كالصرافة مثلاً، وإلا انقلب إلى ربا إن كان لأجل. (د) وأن كل قرض جر نفعًا فهو ربا. (هـ) وأن كل حيلة تحلل حرامًا فهي باطلة، وخاصة الحيلة التي تهدم أصلاً شرعيًا، أو تتناقض مع مصلحة دينية، أو تؤدي إلى التلاعب بدين الله والاستهزاء بشرعه الحنيف هي محرمة باتفاق جمهور العلماء. " (1) .   (1) المرجع السابق 39. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 825 الباب الثاني أحكام تغير العملة بإطلاق في الفقه الإسلامي السيد محمد أمين عابدين تقرير العلامة ابن عابدين الكبير صاحب حاشية رد المحتار على الدر المتوفي 1252 هـ. في أحكام تغير قيمة العملة في المذهب الحنفي. قال رحمه الله في رسالته "تنبيه الرقود على مسائل النقود" في مجموع رسائله: "قال في الولوالجية في الفصل الخامس من كتاب البيوع: رجل اشترى ثوبًا بدراهم نقد البلدة، فانتقدها حتى تغيرت، فهذا على وجهين: إن كانت تلك الدارهم لا تروج اليوم في السوق أصلاً فسد البيع لأنه هلك الثمن، وإن كانت تروج لكن انتقص قيمتها لا يفسد لأنه لم يهلك وليس له إلا ذلك، وإن انقطع بحيث لا يقدرعليها، فعليه قيمتها في آخر يوم انقطع من الذهب والفضة هو المختار، ونظير هذا ما نص في كتاب الصرف: إذا اشترى شيئًا بالفلوس ثم كسدت قبل القبض بطل الشراء؛ يعني فسد ولو رجعت (1) لا يفسد".اهـ. وفي جواهر الفتاوى قال القاضي الإمام الزاهدي أبو نصر الحسين بن علي: إذا باع شيئًا بنقد معلوم ثم كسد النقد قبل قبض الثمن فإنه يفسد البيع، ثم ينتظر إن كان المبيع قائمًا في يد المشتري يجب رده عليه، وإن كان خرج من ملكه بوجه من الوجوه، أو اتصل بزيادة بصنع من المشتري، أو أحدث فيه صنعة منقوصة مثل أن كان ثوبًا فخاطه، أو دخل في حيز الاستهلاك وتبدل الجنس، مثل أن كان حنطة فطحنها، أو سمسمًا فعصره، أو وسمة فضربها نيلاً؛ فإنه يجب عليه رد مثله إن كان من ذوات القيم كالثوب والحيوان، فإنه يجب قيمة المبيع يوم القبض من نقد كان موجودًا وقت البيع لم يكسد، ولو كان مكان البيع إجارة فإنه تبطل الإجارة، ويجب على المستأجر أجر المثل، وإن كان قرضًا أو مهرًا يجب رد مثله. هذا كله قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يجب عليه قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل. وقال محمد: يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس. قال القاضي: الفتوى في المهر والقرض على قول أبي يوسف، وفيما سوى ذلك على قول أبي حنيفة. انتهى. وفي الفصل الخامس من التتارخانية: إذا اشترى شيئًا بدراهم من نقد البلد، ولم ينقد الدراهم حتى تغيرت، فإن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق فسد البيع، وإن كانت تروج لكن انتقصت قيمتها لا يفسد البيع. وقال في الخانية: لم يكن له إلا ذلك. وعن أبي يوسف: أن له أن يفسخ البيع في نقصان القيمة أيضًا، وإن انقطعت تلك الدراهم اليوم كان عليه قيمة الدراهم قبل الانقطاع عند محمد، وعليه الفتوى.   (1) قوله: ولو رجعت أي نقص ثمنها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 826 وفي عيون المسائل: عدم الرواج إنما يوجب الفساد إذا كان لا يروج في جميع البلدان؛ لأنه حينئذ يصير هالكًا، ويبقى المبيع بلا ثمن، فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة فقط فلا يفسد البيع؛ لأنه لا يملك ولكنه تعيب، وكان للبائع الخيار إن شاء قال: أعطني مثل الذي وقع عليه البيع، وإن شاء أخذ قيمة ذلك دنانير. انتهى. وتمامه فيها، وكذا في الفصل الرابع من الذخيرة البرهانية، والحاصل: أنها إما أن لا تروج، وإما أن تزيد قيمتها أو تنقص، فإن كانت كاسدة لا تروج يفسد البيع، وإن انقطعت فعليه قيمتها قبل الانقطاع، وإن زادت فالبيع على حاله ولا يتحيز المشتري كما سيأتي، وكذا إن انتقصت لا يفسد البيع، وللبائع غيرها. وما ذكرناه من التفرقة بين الكساد والانقطاع هو المفهوم مما قدمناه. وذكر العلامة شيخ الإسلام محمد بن عبد الله الغزي التمرتاشي في رسالة سماها "بذل المجهود في مسألة تغير النقود: " اعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها أو بالفلوس، وكان كل منهما نافقًا حتى جاز البيع لقيام الاصطلاح على الثمنية، ولعدم الحاجة إلى الإشارة لالتحاقها بالثمن، ولم يسلمها المشترى للبائع، ثم كسدت؛ بطل البيع (و) الانقطاع عن أيدى الناس كالكساد، (و) حكم الدراهم كذلك، فإذا اشترى بالدراهم ثم كسدت أو انقطعت؛ بطل البيع، ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائمًا، ومثله إن كان مالكًا، وكان مثليًا، وإلا بقيمته، وإن لم يكن مقبوضًا فلا حكم لهذا البيع أصلاً، وهذا عند الإمام الأعظم وقال: لا يبطل البيع لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد، وذلك لا يوجب الفساد لاحتمال الزوال بالرواج، كما لو اشترى شيئًا بالرطبة ثم انقطع، وإذا لم يبطل وتعذر تسليمه وجبت قيمته، لكن عند أبي يوسف يوم البيع، وعند محمد يوم الكساد، وهو آخر ما تعامل الناس بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 827 وفي الذخيرة: الفتوى على قول أبي يوسف. وفي المحيط والتتمة والحقائق: بقول محمد يفتى رفقًا بالناس. ولأبي حنيفة أن الثمنية بالاصطلاح، فيبطل الزوال الموجب، فيبقى البيع بلا ثمن، والعقد إنما يتناول عينها بصفة الثمنية، وقد انعدمت بخلاف انقطاع الرطب، فإنه يعود غالبًا في العام القابل، بخلاف النحاس فإنه بالكساد رجع إلى أصله. والكساد لغة - كما في المصباح - من كسد الشيء يكسد، من باب قتل: لم ينفق لقلة الرغبات، فهو كاسد وكسيد، يتعدى بالهمزة فيقال: أكسده الله، وكسدت السوق فهي كاسدة بغيرها في الصحاح، وبالهاء في التهذيب. ويقال: أصل الكساد والفساد. وعند الفقهاء أن نترك المعاملة بها في جميع البلاد، وإن كانت تروج في بعض البلاد لا يبطل، لكنه يتعيب إذا لم يرج في بلدهم، فيتخير البائع إن شاء أخذه وإن شاء أخذ قيمته. وحد الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت، هكذا. والانقطاع كالكساد كما في كثير من الكتب، لكن قال في المضمرات: فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع هو المختار. ثم قال في الذخيرة: الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت. وقيل: إذا كان يوجد في أيدي الصيارفة فليس بمنقطع، والأول أصح. انتهى. هذه عبارة الغزي في رسالته. وفي الذخيرة البرهانية بعد كلام طويل: هذا إذا كسدت الدراهم أو الفلوس قبل القبض، فأما إذا غلت فإن ازدادت قيمتها فالبيع على حاله ولا يتخير المشترى، وإذا انتقصت قيمتها ورخصت فالبيع على حاله ويطالبه بالدراهم بذلك العيار الذي كان وقت البيع. وفي المنتقى: إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت قال أبو يوسف: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء، وليس له غيرها. ثم رجع أبو يوسف وقال عليه: قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض، والذي ذكرناه من الجواب في الكساد فهو الجواب في الانقطاع. انتهى. و (قوله) : يوم وقع البيع،، أي في صورة البيع. (وقوله) : ويوم وقع القبض، أي في صورة القبض، كما نبه عليه في النهر، وبه علم أن في الانقطاع قولين: الأول: فساد البيع كما في صورة الكساد. والثاني: أنه يجب قيمة المنقطع في آخر يوم انقطع، وهو المختار كما مر عن المضمرات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 828 وكذا في الرخص والغلا قولان أيضًا: الأول: ليس له غيرها. والثاني: له قيمتها يوم البيع وعليه الفتوى كما يأتي. وقال العلامة الغزي عقب ما قدمناه عنه: هذا إذا كسدت أو انقطعت، أما إذا غلت قيمتها أو انقطعت، فالبيع على حاله، ولا يتخير المشتري، ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع، كذا في فتح القدير، وفي البزازية معزيًا إلى المنتقى: غلت الفلوس أو رخصت، فعند الإمام الأول والثاني - أولاً -: ليس عليه غيرها، وقال الثاني - ثانيًا -: عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض. وعليه الفتوى، وهكذا في الذخيرة. والخلاصة بالعزو إلى المنتقى، وقد نقله شيخنا في بحره وأقره، فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء؛ لأن المفتي والقاضي واجب عليهما الميل إلى الراجح من مذهب إمامهما ومقلدهما، ولا يجوز لهما الأخذ بمقابلة؛ لأنه مرجوح بالنسبة إليه. وفي فتاوى قاضي خان: يلزمه المثل، وهكذا ذكر الإسبجابي قال: ولا ينظر إلى القيمة. وفي البزازية: والإجارة كالبيع والدين على هذا، وفي النكاح يلزمه قيمة تلك الدراهم. وفي مجمع الفتاوى معزيًا إلى المحيط: رخص العد إلى قال الشيخ الإمام الأجل الأستاذ: لا يعتبر هذا ويطالبه بما وقع عليه العقد والدين على هذا، ولو كان يروج لكن انتقص قيمته لا يفسد، وليس له إلا ذلك، وبه كان يفتي الإمام، وفتوى الإمام ظهير الدين على أنه يطالب بالدراهم التي يوم البيع يعني بذلك العيار، ولا يرجع عليه بالتفاوت والدين على هذا والانقطاع والكساد سواء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 829 فإن قلت: يشكل على هذا ما ذكر في مجمع الفتاوى من قوله: ولو غلت أو رخصت فعليه رد المثل بالاتفاق. انتهى. قلت: لا يشكل؛ لأن أبا يوسف كان يقول أولاً بمقالة الإمام ثم رجع عنها، وقال ثانيًا: الواجب عليه قيمتها كما نقلناه فيما سبق عن البزازية وصاحب الخلاصة والذخيرة، فحكاية الاتفاق بناء على موافقته للإمام أولاً، كما لا يخفى، والله تعالى أعلم. وقد تتبعت كثيرًا من المعتبرات من كتب مشايخنا المعتمدة فلم أر من جعل الفتوى على قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، بل قالوا: به كان يفتي القاضي الإمام. وأما قول أبي يوسف فقد جعلوا الفتوى عليه في كثير من المعتبرات فليكن المعول عليه. انتهى كلام الغزي رحمه الله تعالى. ثم أطال بعده في كيفية الإفتاء والحكم حيث كان للإمام قول وخالفه صاحباه أو وافقه أحدهما إلى آخر الزمان وأيد قول أبي يوسف الثاني كما ذكره هنا. ومشى العلامة الغزي في متنه تنوير الأبصار في مسألة الكساد على قول الإمام في القرض والبيع، فقال في فصل القرض: استقرض من الفلوس الرائجة والعدالي فكسدت، فعليه مثلها كاسدة لا قيمتها. انتهى. وقال في الصرف هو وشارحه الشيخ علاء الدين: اشترى شيئًا به أي بغالب الغش وهو نافق أو بفلوس نافقة، فكسد ذلك قبل التسليم للبائع؛ بطل البيع، كما لو انقطعت عن أيدي الناس فإنه كالكساد، وكذا حكم الدراهم لو كسدت أو انقطعت بطل. وصححاه بقيمة البيع وبه يفتى؛ رفقًا بالناس. بحر وحقائق. انتهى. وقوله: بقيمة المبيع صوابه بقيمة الكاسد، كما نبه عليه بعضهم ويعلم مما مر، ولم يتعرض لمسألة الغلاء والرخص. ثم اعلم أن الظاهر من كلامهم أن جميع ما مر إنما هو في الفلوس والدراهم التي غلب غشها، كما يظهر بالتأمل، ويدل عليه اقتصارهم في بعض المواضع على الفلوس، وفي بعضها ذكر العدالي معها، فإن العدالي كما في البحر عن البناية بفتح العين المهملة وتخفيف الدال وكسر اللام: الدارهم المنسوبة إلى العدل، وكأنه اسم ملك ينسب إليه ضربهم، فيه غش. وكذا رأيت التقييد بالغالبة الغش في غاية البيان، وتقدم مثله في شرح التنوير.اهـ. ويدل عليه تعليلهم لقول أبي حنيفة بعد حكايتهم الخلاف بأن الثمنية بطلت بالكاسد؛ لأن الدراهم التي غلب غشها إنما جعلت ثمنًا بالاصطلاح، فإذا ترك الناس المعاملة بها بطل الاصطلاح، فلم تبق ثمنًا، فبقي البيع بلا ثمن فبطل، ويدل عليه أيضًا تعبيرهم بالغلاء والرخص، فإنه إنما يظهر إذا كانت غالبة الغش تعوم بغيرها، وكذا اختلافهم في أن الواجب رد المثل أو القيمة، فإنه حيث كانت لا غش فيها لم يظهر للاختلاف معنى، بل كان الواجب رد المثل بلا نزاع أصلاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 830 وهذا كالصريح فيما قلنا، وفي الهداية عند الكلام على الدراهم التي غلب غشا: وإذا اشترى بها سلعة ثم كسدت وترك الناس المعاملة بها؛ بطل البيع عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: عليه قيمتها يوم البيع، وقال محمد: قيمتها آخر ما يتعامل الناس. ثم قال في الهداية: وإذا باع بالفلوس النافقة ثم كسدت بطل البيع عن أبي حنيفة خلافًا لهما، وهو نظير الاختلاف الذي بيناه، ولو استقرض فلوسًا فكسدت؛ عليه مثلها. اهـ. قال في غاية البيان: قيد بالكساد احترازًا عن الرخص والغلاء؛ لأن الإمام الإسبجابي في شرح الطحاوي قال: وأجمعوا أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت، فعليه مثل ما قبض من العدد. وقال أبو الحسن: لم تختلف الرواية عن أبي حنيفة في قرض الفلوس إذا كسدت أن عليه مثلها. قال أبو يوسف: عليه قيمتها من الذهب يوم وقع القرض في الدراهم التي ذكرت لك أصنافها، يعني التجارية والطبرية واليزيدية. وقال محمد: قيمتها في آخر نفاقها. قال القدوري: وإذا ثبت من قول أبي حنيفة في قرض الفلوس ما ذكرنا، فالدراهم التجارية فلوس على صفة مخصوصة، والطبرية واليزيدية هي التي غلب الغش عليها، فتجري مجرى الفلوس، فلذلك قاسها أبو يوسف على الفلوس. انتهى ما في غاية البيان مخلصًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 831 وما ذكره في القرض جار في البيع أيضًا كما قدمناه عن الذخيرة من قوله: يوم وقع البيع. فهذا الذي ذكرنا صريح فيما قلنا من أن الكلام في الدراهم الغالبة الغش والفلوس. وعليه يحمل ما قدمناه من إطلاق الولوالجية وجواهر الفتاوى. وما نقلنا عن الإسبجابي من دعوى الإجماع مخالف لما قدمناه عن الذخيرة عن المنتقى. وعلمت الفرق بينها في كلام الغزي، وسيأتي توفيق آخر. ولم يظهر حكم النقود الخالصة أو المغلوبة الغش، وكأنهم لم يتعرضوا لها لندوة انقطاعها أو كسادها، لكن يكثر في زماننا غلاؤها ورخصها فيحتاج إلى بيان الحكم فيها، ولم أر من نبه عليها من الشراح والله تعالى أعلم. نعم يفهم من التقييد أن الخالصة أو المغلوبة الغش ليس حكمها كذلك. ورأيت في حاشية الشيخ خير الدين الرملي على البحر عند قوله: وحكم الدراهم كذلك، أقول: يريد به الدراهم التي لم يغلب عليها الغش كما هو ظاهر، فعلى هذا لا يختص هذا الحكم بغالب الغش ولا بالفلوس في التنصيص عليها دون الدراهم الجيدة لغلبة الكساد. فيهما دونهما، تأمل. ثم نقل التعليل في المسألة لقول الإمام عن فتح القدير بنحو ما قدمناه. ثم قال: أقول وربما يفهم من هذا أن حكمها خلاف حكم الفلوس والدراهم المغلوبة بالغش، ولا يبطل البيع بعدم رواجها لأنها أثمان بأصل خلقتها، وليس كذلك. بقي الكلام فيما إذا نقصت قيمتها فهل للمستقرض رد مثلها وكذا المشترى أو قيمتها؟ لا شك أن عند أبي حنيفة يجب رد مثلها، وأما على قولهما فقياس ما ذكروا في الفلوس أنه يجب قيمتها من الذهب يوم القبض عند أبي يوسف ويوم الكساد عند محمد. والمحل محتاج إلى التحرير.اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 832 وفي حملة الدراهم في كلام البحر على التي لم يغلب غشها نظر ظاهر؛ إذ ليس المراد إلا الغالبة الغش، كما قدمناه، وصرح به شراح الهداية وغيرهم. والذي يغلب على الظن ويميل إليه القلب أن الدراهم المغلوبة الغش أو الخالصة إذا غلت أو رخصت لا يفسد البيع قطعًا، ولا يجب إلا ما وقع عليه العقد من النوع المذكور فيه، فإنها أثمان عرفًا وخلقة، والغش المغلوب كالعدم، ولا يجري في ذلك خلاف أبي يوسف، على أنه ذكر بعض الفضلاء أن خلاف أبي يوسف في مسألة ما إذا غلت أو رخصت إنما هو في الفلوس فقط، وأما الدراهم التي غلب غشها فلا خلاف له فيها. وبهذا يحصل التوفيق بين حكاية الخلاف تارة والإجماع تارة أخرى. وهذا أحسن مما قدمناه عن الغزي، ويدل عليه عباراتهم، فحيث كان الواجب ما وقع عليه العقد في الدراهم التي غلب غشها إجماعهًا، فما في الخلاصة ونحوها أولى. وهذا ما نقله السيد محمد أبو السعود في حاشية منلاً مسكين عن شيخه ونص عبارته: قيّد بالكساد؛ لأنها لو نقصت قيمتها قبل القبض فالبيع على حالة بالإجماع ولا يتخير البائع، وكذا لو غلت وازدادت ولا يتخير المشري. وفي الخلاصة والبزازية: غلبت الفلوس أو رخصت، فعند الإمام الأول والثاني - أولاً -: ليس عليه غيرها، وقال الثاني - ثانيًا -: عليه قيمتها يوم البيع والقبض، وعليه الفتوى. انتهى. أي يوم البيع في البيع ويوم القبض في القرض. كذا في النهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 833 واعلم أن الضمير في قوله: قيد بالكساد؛ لأنها ... إلخ، للدراهم التي غلب غشها، وحينئذ فما ذكره مما يقتضي لزوم المثل بالإجماع بعد الغلاء والرخص حيث قال: فالبيع على حالة بالإجماع، ولا يتخير البائع ... إلخ. لا ينافي حكاية الخلاف عن الخلاصة والبزازية فيما إذا غلت الفلوس أو رخصت هل يلزمه القيمة أو ليس عليه غيرها. هذا حاصل ما أشار إليه شيخنا من التوفيق. قال شيخنا: وإذا علم الحكم في الثمن الذي غلب غشه إذا نقصت قيمته قبل القبض، كان الحكم معلومًا بالأولى في الثمن الذي غلب جيده على غشه، إذا نقصت قيمته لا يتخير البائع بالإجماع فلا يكون له سواء، وكذا لو غلت قيمته لا يتخير المشتري بالإجماع، قال: وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جارٍ حتى في الذهب والفضة، كالشريفي البندقي والمحمدي والكلب والريال، فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع، فإن ذلك الفهم خطأ صريح ناشئ عن عدم التفرقة بين الفلوس والنقود. انتهى ما في الحاشية، وهو كلام حسن وجيه لا يخفى على فقيه نبيه، وبه ظهر أن ما ذكره الشيخ خير الدين غير محرر، فتدبر. وهذا كالريال الفرنجي والذهب العتيق في زماننا، فإذا تبايعا بنوع منهما ثم غلا أو رخص بأن باع ثوبًا بعشرين ريالاً مثلاً واستقرض ذلك يجب رده بعينه غلا أو رخص، وأما الكساد والانقطاع فالذي يظهر أن البيع لا يفسد إجماعًا إذا سميا نوعًا منه؛ وذلك لأنهم ذكروا في الدراهم التي غلب غشها ثلاثة أقوال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 834 الأول: قول أبي حنيفة بالبطلان. والثاني: قول الصاحبين بعدمه هو وقول الشافعي واحد. لكن قال أبو يوسف: عليه قيمتها يوم البيع. وقال محمد: يوم الانقطاع. وفي الذخيرة الفتوى على قول أبي يوسف، وفي التتمة والمختار والحقائق بقول محمد يفتى رفقًا بالناس. كذا في فتح القدير. وعلل لأبي حنيفة بأن الثمن يهلك بالكساد؛ لأن الفلوس والدراهم الغالبة الغش أثمان بالاصطلاح لا بالخلقة، وإذا انتفى الاصطلاح انتفت المالية، وعلل للصاحبين بأن الكساد لا يوجب الفاسد، كما إذا اشترى بالرطب شيئًا فانقطع في أوانه لا يبطل اتفاقًا، وتجب القيمة أو ينتظر زمان الرطب في السنة الثانية، فكذا هنا. اهـ. ففي مسألتنا الكساد لا يوجد الفساد اتفاقًا، أما على قول الصاحبين فظاهر، وأما على قول الإمام فلأنه قال بالفساد لبطلان الثمنية بانتفاء الاصطلاح عليهما، فعاد الثمن إلى أصل خلقته من عدم الثمنية، ولم توجد العلة هنا لأنها أثمان خلقة واصطلاحًا. هذا ما ظهر لي ولم أره منقولاً، فتأمله. تنبيه: إذا اشترى بنوع مسمى من الأثمان فالأمر ظاهر. وأما إذا أطلق كأن قال: بمئة ريال أو مئة ذهب، فإن لم يكن الأنواع واحد من هذا الجنس ينصرف إليه، وصار المسمى، فإن كان منه الوماع، فإن كان أحدهما أروج من الآخر وغلب تعاملاً ينصرف إليه لأنه المتعارف، فينصرف المطلق إليه وصار كالمسمى أيضًا، وإن اتفقت رواجًا فإن اختلف مالية فسد البيع ما لم يبين في المجلس ويرضى الآخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 835 قال في البحر: فالحاصل أن المسألة رباعية لأنها: إما أن تستوى في الرواج والمالية معًا، أو تختلف فيهما، أو تسوى في أحدهما دون الآخر، والفساد في صورة واحدة وهو الاستواء في الرواج والاختلاف في المالية، والصحة في ثلاث صور: فيما إذا كان مختلفة في الرواج والمالية، فينصرف إلى الأروج. وفيما إذا كانت مختلفة في الرواج مستوية في المائة، فينصرف إلى الأروج أيضًا. وفيما إذا استوت فيهما، وإنما الاختلاف في الاسم كالمصري فيتخير في دفع أيهما شاء، فلو طلب البائع أحدهما للمشتري أن يدفع غيره لأن امتناع البائع من قبول ما دفعه المشتري ولا فضل تعنت. ولذا قلنا: إن النقد لا يتعين في المعاوضات. اهـ. بقي هنا شيء ينبغي التنبيه عليه، وهو أنهم اعتبروا العرف هنا حيث أطلقت الدراهم وبعضها أروج، فصرفوه إلى المتعارف ولم يفسدوا البيع، وهو تخصيص بالعرف القولي، وهو من أفراد ترك الحقيقة. قال المحقق ابن الهمام في تحرير الأصول: العرف العملي مخصص عند الحنفية خلافًا للشافعية، كحرمة الطعام وعادتهم أكل البر انصرف إليه، وهو - أي قول الحنفية - أوجه. أما التخصيص بالعرف القولي فاتفقا كالدابة عل الحمار، والدراهم على النقد الغالب. انتهى. قال شارحه ابن أمير حاج: العرف القولي هو أن يتعارف قوم إطلاق لفظ لمعنى بحيث لا يتبادر عند سماعه إلا ذلك المعنى. اهـ. وقد شاع في عرف أهل زماننا أنهم يتبايعون بالقرون، وهي عبارة عن قطع معلومة من الفضة، ومنها كبار كل واحد باثنين، ومنها أنصاف وأرباع، والقرش الواحد عبارة عن أربعين مصرية، ولكن الآن غلبت تلك القطع وزادت قيمتها، فصار القرش الواحد بخمسين مصرية، والكبير بمائة مصرية، وبقي عرفهم على إطلاق القرش ويريدون به أربعين مصرية، كما كان في الأصل، ولكن لا يردون عين المصاري، بل يطلقون القروش وقت العقد ويدفعون بمقدار ما سموه في العقد تارة من المصاري، وتارة من غيرها ذهبًا أو فضة، فصار القرش عندهم بيانًا لمقدار الثمن من النقود الرائجة المختلفة المالية، لا لبيان نوعه ولا لبيان جنسه، فيشتري أحدهم بمائة قرش ثوبًا مثلاً، فيدفع مصارى كل قرش بأربعين، أو يدفع من القروش الصحاح أو من الريال أو من الذهب على اختلاف أنواعه بقيمته المعلومة من المصاري. هكذا شاع عرفهم، ولا يفهم أحد منهم أنه إذا اشترى بالقروش أن الواجب عليه دفع عينها، فقد صار ذلك عندهم عرفًا قوليًا فيخصص كما نقلناه عن التحرير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 836 وقد رأيت بفضل الله تعالى في القنية نظير هذا، حيث قال في باب المتعارف بين البحر كالشروط برمز علاء الدين الترجماني باع شيئًا بعشرة دنانير، وجرت العادة في ذلك البلد أنهم يعطون كل خمسة أسداس مكان الدينار، فاشتهرت بينهم، فالعقد ينصرف إلى ما يتعارف الناس فيما بينهم في تلك التجارة. ثم رمز لفتاوى أبي الفضل الكرماني جرت العادة فيما بين أهل خوارزم أنهم يشترون سلعة بدينار، ثم ينقدون ثلثي دينار محمودية، أو ثلثي دينار وطسوج نيابورية، قال: يجري على المواضعة ولا تبقى الزيادة دينًا عليهم له. وهذا نص فقهي في مسألتنا، ولله الحمد والمنة، وحينئذ فقد صار ما تعورف في زماننا نظير مسألة ما إذا تساوت النقود في الرواج والمالية، فيتخير المشتري في ما شاء من النقود الرائجة، وإن امتنع البائع لأنه يكون متعنتا كما مر. ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقض، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد أو كان معينًا، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال أفرنجي أو مائة ذهب عتيق، أو دفع نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد، إذا لم يعين المتبائعان نوعًا، والخيار فيه للدافع، كما كان الخيار له وقت العقد، ولكن الأول ظاهر سواء كان بيعًا أو قرضًا بناء على ما قدمناه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 837 وأما الثاني فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين، فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت، فبعض الأنواع جعله أرخص من بعض، فيختار المشتري ما هو أكثر رخصًا وأضر للبائع فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصًا على حساب ما هو أكثر رخصًا، فقد ينقص نوع من النقود قرشًا ونوع آخر قرشين، فلا يدفع إلا ما نقص قرشين وإذا دفع ما نقص قرشًا للبائع يحسب عليه قرشًا آخر نظرًا إلى نقص النوع الآخر. وهذا مما لا شك في عدم جوازه. وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأفقههم وأورعهم، فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من لضرر، وأنه يفتي بالصلح حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما، بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد، فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد وإن امتنع البائع، لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته. أما في هذه الصورة فلا؛ لأنه ظهر أنه يمتنع عن قصد اضراره، ولا سيما إذا كان المال مال أيتام أو وقف، فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به اختيار الأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط، خصوصًا والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فإن المنصوص عليها إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش، كما علمته مما قدمناه، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصًا، لا الأقل ولا الأكثر؛ كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري. وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطي بالسعر الدارج وقت الدفع، ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلاً، ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري، لا يقال ما ذكرته من أن الأولى للصلح في مثل هذه الحالة مخالف لما قدمته عن حاشية أبي السعود، من لزوم ما كان وقت العقد بدون تخيير بالإجماع إذا كانت فضة خالصة أو غالبة لا، فالقول ذاك فيما إذا وقع العقد على نوع مخصوص كالريال مثلاً. وهذا ظاهر كما قدمناه ولا كلام لنا فيه، وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة، فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص. ووجه ما أفتى به بعض المفتين كما قدمناه آنفًا، أن القروش في زماننا بيان لمقدار الثمن لا لبيان نوعه ولا جنسه، فإذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلاً، ودفع له المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشًا من الريال أو الذهب مثلاً، لم يحصل للبائع ذلك المقدار الذي قدره ورضي به ثمنًا لسلعته، لكن قد يقال: لما كان راضيًا وقت العقد يأخذ غير القروش بالقيمة من أي نوع كان صار كأن العقد وقع على الأنواع كلها، فإذا رخصت كان عليه أن يأخذ بذلك العيار الذي كان راضيًا به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 838 وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الأضرار، كما قلنا، وفي الحديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) ولو تساوى رخصها لما قلنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد، كأن صار مثلاً ما كان قيمته مائة قرش من الريال يساوي تسعين، وكذا سائر الأنواع، أما إذا صار ما كان قيمته مائة من نوع يساوي تسعين ومن نوع آخر خمسة وتسعين ومن آخر ثمانية وتسعين، فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوي التسعين بمائة فقد اختص الضرر به، وأن ألزمنا المشتري بدفعه بتسعين اختص الضرر به، فينبغي وقوع الصلح على الأوسط. والله تعالى أعلم". (1) . مصادر البحث ومراجعة 1- حاشية رد المحتار على الدر العلامة ابن عابدين. 2- مجموع رسائل العابدينية العلامة ابن عابدين. 3- ابن عابدين وأثره في الفقه (دراسة مقارنة بالقانون) الدكتور الفرفور. 4- تنقيح الفتاوى الحامدية العلامة ابن عابدين. 5- التبيان في زكاة الأثمان الشيخ محمد حسنين مخلوف. 6- رسالة في زكاة الأوراق الأستاذ محمد نبهان الخباز. 7- بهجة المشتاق في زكاة الأوراق السيد أحمد الحسيني. 8- في المجتمع الإسلامي أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة. 9- الدين الخالص الشيخ محمود السبكي. 10- المجموع شرح المهذب الإمام النووي   (1) انظر مجموع الرسائل العابدينية: 2/56 إلى 67. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 839 وأما الثاني فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين، فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت، فبعض الأنواع جعله أرخص من بعض، فيختار المشتري ما هو أكثر رخصًا وأضر للبائع فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصًا على حساب ما هو أكثر رخصًا، فقد ينقص نوع من النقود قرشًا ونوع آخر قرشين، فلا يدفع إلا ما نقص قرشين وإذا دفع ما نقص قرشًا للبائع يحسب عليه قرشًا آخر نظرًا إلى نقص النوع الآخر. وهذا مما لا شك في عدم جوازه. وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأفقههم وأورعهم، فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من لضرر، وأنه يفتي بالصلح حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما، بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد، فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد وإن امتنع البائع، لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته. أما في هذه الصورة فلا؛ لأنه ظهر أنه يمتنع عن قصد اضراره، ولا سيما إذا كان المال مال أيتام أو وقف، فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به اختيار الأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط، خصوصًا والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فإن المنصوص عليها إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش، كما علمته مما قدمناه، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصًا، لا الأقل ولا الأكثر؛ كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري. وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطي بالسعر الدارج وقت الدفع، ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلاً، ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري، لا يقال ما ذكرته من أن الأولى للصلح في مثل هذه الحالة مخالف لما قدمته عن حاشية أبي السعود، من لزوم ما كان وقت العقد بدون تخيير بالإجماع إذا كانت فضة خالصة أو غالبة لا، فالقول ذاك فيما إذا وقع العقد على نوع مخصوص كالريال مثلاً. وهذا ظاهر كما قدمناه ولا كلام لنا فيه، وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة، فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص. ووجه ما أفتى به بعض المفتين كما قدمناه آنفًا، أن القروش في زماننا بيان لمقدار الثمن لا لبيان نوعه ولا جنسه، فإذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلاً، ودفع له المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشًا من الريال أو الذهب مثلاً، لم يحصل للبائع ذلك المقدار الذي قدره ورضي به ثمنًا لسلعته، لكن قد يقال: لما كان راضيًا وقت العقد يأخذ غير القروش بالقيمة من أي نوع كان صار كأن العقد وقع على الأنواع كلها، فإذا رخصت كان عليه أن يأخذ بذلك العيار الذي كان راضيًا به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 840 وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الأضرار، كما قلنا، وفي الحديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) ولو تساوى رخصها لما قلنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد، كأن صار مثلاً ما كان قيمته مائة قرش من الريال يساوي تسعين، وكذا سائر الأنواع، أما إذا صار ما كان قيمته مائة من نوع يساوي تسعين ومن نوع آخر خمسة وتسعين ومن آخر ثمانية وتسعين، فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوي التسعين بمائة فقد اختص الضرر به، وأن ألزمنا المشتري بدفعه بتسعين اختص الضرر به، فينبغي وقوع الصلح على الأوسط. والله تعالى أعلم". (1) . مصادر البحث ومراجعة 1- حاشية رد المحتار على الدر العلامة ابن عابدين. 2- مجموع رسائل العابدينية العلامة ابن عابدين. 3- ابن عابدين وأثره في الفقه (دراسة مقارنة بالقانون) الدكتور الفرفور. 4- تنقيح الفتاوى الحامدية العلامة ابن عابدين. 5- التبيان في زكاة الأثمان الشيخ محمد حسنين مخلوف. 6- رسالة في زكاة الأوراق الأستاذ محمد نبهان الخباز. 7- بهجة المشتاق في زكاة الأوراق السيد أحمد الحسيني. 8- في المجتمع الإسلامي أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة. 9- الدين الخالص الشيخ محمود السبكي. 10- المجموع شرح المهذب الإمام النووي   (1) انظر مجموع الرسائل العابدينية: 2/56 إلى 67. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 841 أحكام النقود الورقية لفضيلة الدكتور أبو بكر دوكوري بسم الله الرحمن الرحيم أحكام النقود الورقية النقود الورقية عبارة عن قطع من أوراق خاصة مزينة بنقوش خاصة تحمل أعدادًا صحيحة يقابلها في العادة رصيد معدني بنسبة خاصة يحددها القانون، وتكون صادرة من حكومة ما أو من هيئة رسمية ليتداولها الناس عملة. وهذه الأموال المالية هي المستعملة حاليًا في كافة أرجاء العالم نتيجة لاتساع نطاق المعاملات التجارية بين الأفراد والمؤسسات والدول، مما جعل استعمال النقود المعدنية متعذرًا أو عسيرًا باعتبار ندرتها من جهة، فلا تكفي وحدها لتلبية ما تتطلبه الحركة الاقتصادية العالمية المتطورة، وباعتبار ثقلها من جهة أخرى، فيصعب تداولها بين الأفراد وبين المؤسسات المالية المختلفة. ومع أن النقود الورقية ليست في الأصل إلا تعهدًا بالدفع، إلا أنها يعتمد عليها في كل المعاملات المالية والمبادلات التجارية أكثر مما يعتمد على العملة المعدنية، فصارت هي كالأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 842 قلنا: إن الحاجة الملحة هي التي دفعت جميع الدول في العصر الحاضر إلى الاعتماد على النقود الورقية، ولا نجد رأيًا لفقهاء السلف حول هذه النقود الورقية لعدم وجودها في عصرهم، غير أن علماء العصر وجدوا أنفسهم أمام الأمر الواقع هو كون العملة الورقية قد حلت محل الذهب والفضة في استعمالها مقياسًا للتقييم وواسطة للتبادل وأداة للادخار، فغدت بذلك نقدًا قائمًا بذاته يجب أن يعرف حكم الله فيها، لذلك اجتهدوا وكان طبيعيًا أن يختلفوا في أول الأمر؛ شأن كل مسألة اجتهادية جديدة، فقد رأى بعض العلماء عدم وجوب الزكاة في هذه النقود الورقية؛ لكون النقود الشرعية هي فقط الذهب والفضة، وأما هذه النقود الورقية فقيمتها ليست في ذاتها، بل هي مجرد سندات وتعهد بالدفع، وتفقد قيمتها بمجرد إلغاء التبادل بها، وينسب هذا المذهب إلى بعض المالكية كالشيخ محمد عليش مفتي المالكية في مصر في عصره، فقد سئل عن حكم "الكاغد" وهو ورق فيه ختم السلطان كانوا يتعاملون به كالدراهم والدنانير، فأفتى بعدم وجوب الزكاة فيها (1) . وأفتى بعض الشافعية كذلك بعدم وجوب الزكاة فيها، أي الأوراق المالية ما لم تقبض قيمتها ذهبًا أو فضة ويمضي على ذلك حول، معللين ذلك بأن التعامل بها حوالة غير صحيحة شرعًا لعدم الإيجاب والقبول اللفظيين، غير أن الغالبية العظمى من الشافعية يرون أن عدم الإيجاب والقبول اللفظيين في الحوالة لا يبطلها إذا جرى العرف بذلك، وقال بعض أئمتهم: المراد بالإيجاب والقبول كل ما يشعر بالرضا قولاً كان أو فعلاً، فيكون الرضا هنا محقق (2) .   (1) راجع فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي: 1/271. (2) راجع فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي: 1/271. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 843 فعلى هذا فالورق النقدي وإن كان التعامل به من قبيل الحوالة على البنك، إلا أن مالكه يملك دينًا على البنك، والبنك مليء مقر مستعد للدفع حاضر، ومتى كان المدين بهذه الحالة فإن الزكاة تجب على الدين في الحال. وبهذا التوجيه أوجب جمهور الشافعية الزكاة على النقود الورقية. أما الأحناف فقالوا: إن الأوراق المالية من قبيل الدين القوى، لكن لما أمكن صرفها فضة على الفور وجب فيها الزكاة على الفور. وذهبت المالكية إلى أن هذه الأوراق المالية وأن كانت سندات دين إلا أنها يمكن صرفها فضة على الفور، كما أنها تقوم مقام الذهب في التعامل، فيجب فيها الزكاة بشروطها. وذهب الحنابلة إلى أنها لا زكاة فيها إلا إذا صرفت ذهبًا أو فضة بالفعل ووجدت فيها شروط الزكاة. ومن هنا ندرك أن العمدة في جميع المذاهب الأربعة وجوب الزكاة في الأوراق المالية باعتبارها سندات دين على بنك الإصدار، وأنها يمكن صرف قيمتها فضة على الفور، وإذا أمعنا النظر في مستندهم هذا نجد أنه ليس بقوي؛ لأن البنوك أصبحت غير ملزمة قانونًا بصرف هذه الأوراق المالية بالذهب أو الفضة. أضف إلى ذلك أن هناك فروقًا جوهرية بين هذه الأوراق المالية وما هو مضمون بها، وبين الدين الحقيقي وسنده المعروف عند الفقهاء، إذ لا ينطبق عليها لا حقيقة الدين ولا شروطه المعروفة عندهم، فلا يصح اعتبار هذه الأوراق المالية دينًا على بنك الإصدار فتوجب الزكاة فيها بناء على ذلك. ومن أوجه الفرق: أن الدين إذا كان في ذمة المدين فإنه لا ينمو ولا ينفع به ربه، ولا يجري التعامل بسنده رسميًا؛ لأنه ليس مالاً حاضرًا معدًّا للنماء يحذف هذه النقود الورقية. إذن فخير ما نعلل به وجوب الزكاة فيها هو أن نقول: إن هذه الأوراق المالية أصبحت هي أساس التعامل بين الناس بعد اعتمادها لدى جميع السلطات الشرعية في العالم، في أثمان الأشياء وبها وبواسطتها تتم عمليات البيع والشراء ويرضي بها الجميع في جميع الاستحقاقات المالية في الأجور والمهور والديات وغيرها، فهي بذلك لها قوة الذهب والفضة في قضاء الحاجات وتحقيق المكاسب والأرباح، بل وأكثر؛ لأن العملة الذهبية أو الفضية أصبحت نادرة لا تكاد ترى. ولا يشك أحد في أن هذه الأوراق المالية بسبب جميع الصلاحيات التي ذكرناها هي أموال نامية أو قابلة للنماء، كما هو الحال في الذهب والفضة، فنوجب فيها الزكاة قياسًا عليهما؛ لأنه قد تقرر بعد التحقيق أن علة وجوب الزكاة في الذهب والفضة هي النماء وقد وجد في الأوراق المالية فنعطيها حكمها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 844 أما فيما يتعلق بتغير قيمة العملة، فإنه لا تأثير بعد أن عرفنا أن نصاب الذهب عشرون دينارًا، أي 85 جرامًا، وأن نصاب الفضة مائتا درهم أي 595 جرامًا، فمن ملك من العملة الورقية ما يساوي قيمة 85 جرامًا من الذهب أو 595 جرامًا من الفضة، فعليه أن يزكيها ربع العشر أي 2.5 بالمائة. ولا أعتقد أنه يوجد في عالمنا اليوم عالم إسلامي معتبر يقول بعدم وجوب الزكاة في هذه الأوراق المالية؛ لما في ذلك من ظلم الفقراء وتضييع حقوق المساكين وتعطيل مصالح الإسلامي والمسلمين، فمن عنده أدنى إلمام بمقاصد الشريعة وأهدافها السامية فإنه لا يتردد في إيجاب الزكاة في هذه الأوراق المالية بالقياس الأولى؛ لأن علة وجوب الزكاة في النقدين متحققة فيها بشكل أجلى وأوضح، سواء قلنا بأن علة وجوب الزكاة فيها الثمنية أو النماء. هذا فيما يتعلق ببقية الأحكام كجريان الربا – بنوعيه – عليها فضلاً ونسيئة، وكجواز جعلها رأس مال في بيع السلم والشركات ونحوها، والله أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 845 أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة في نظر الشريعة الإسلامية لفضيلة الشيخ محمد عبده عمر بسم الله الرحمن الرحيم أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة في نظر الشريعة الإسلامية المقدمة قال تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19] . 1- لقد عبرت آيات كثيرة في القرآن الكريم عن البشرية جمعاء بأنها أمة واحدة في نشأتها الأولى وفي حقيقتها الذاتية، انبثقت إلى الوجود من أصل واحد، وأنها في حقيقة مصيرها تنتهي إلى نهاية واحدة وهي لقاء الله جل جلاله الذي خلقها من العدم المحض بفيض فضل رحمته. وإن اختلفت موازين الجزاء خيرًا أو شرًا، ومهما تنوعت أشكالها أو تعددت أجناسها أو اختلفت ألسنتها أو توزعت شعوبها وتباعدت أقطارها؛ فإنهم جميعًا ينتهون إلى نهاية واحدة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 846 وقال تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] . وقد صرح نبي الإسلام بهذه الوحدة الإنسانية الشاملة في سنته البيانية لما أنزل عليه بقوله: ((كلكم لآدم وآدم خلق من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى)) . وقد ألقى كافة المقاسات والموازين البشرية التي قد يستغلها بعضها ضد بعضها الآخر فردًا كان أو جماعة، شعبًا أو سلطة، من فقر أو غنى، أوجاه أو سلطان، أو حسب أو نسب، أو بياض البشرة أو سوادها، أو عربية اللسان أو عجمتها، الكل سواء في ميزان الحق الإلهي الذي خلق الكل من تراب مجسدًا في أصلها آدم، الذي خلقه الله بيده، واصطفاه نبيًا إلى ذريته، وخاطبه بكلامه، وأسجد له ملائكته، وجعله خليفته في أرضه، وأتمنه بالأمانة التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال، وجعل خلق السموات والأرض واختلاف الألسن والألوان وتعاقب الليالي والأيام، آيات بالغات للتفكر والاعتبار. وأوضح القرآن الكريم بأن اختلاف الألوان والأجناس والألسن من آيات عظمة الحكمة الإلهية وبديع صنعها، ولا يصح أن تكون معارضًا لأصل الوحدة الإنسانية، كما لا يصح بأي حال من الأحوال أن تكون سببًا للنزاع أو الخصام، أو للتعالي بالحسب والنسب، أو التباهي بالجاه والمال وعزة السلطان، أو للقهر والتسلط والاستغلال، بل يجب أن نكون سببًا لإرساء دعائم التعارف والتواد وغاية لترسيخ موازين العدل والمساواة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 847 هذا صريح القرآن بأن حكمة الاختلاف للتعارف لا للتناكر ولا للاستغلال والتظالم. والتعارف المقصود من الآية الكريمة وغيرها من الآيات القرآنية ونصوص السنة النبوية البيانية، ليس فقط المعرفة المجردة التي لا تحقق الحكمة الإلهية من التعارف، بل المقصود بالتعارف الذي يحقق الحكمة الإلهية هي المعرفة المثمرة التي تتعاون وتتلاقى فيها كل القوى الإنسانية الخيرية لخير الإنسان، ويتحقق خير الأرض لابن الأرض، وبذلك تتبادل المنافع، وينتفع ابن الأرض بخير الأرض كلها. وذلك هو التعارف الذي أشارت إليه النصوص القرآنية والنبوية، ويدخل في هذه النصوص أسس العلاقات الدولية التي مازالت تحكمها قوانين التمييز العنصري، وطغيان جبروت القوة الظالمة وتحكم الشعوب القوية بالشعوب الضعيفة، والتي تتعارض صراحة مع مبادئ العلاقات الاجتماعية الدولية في نصوص الإسلام الصريحة وسنة بيانه الواضحة. لقد وضع نبي الإسلام الإطار الإلهي الصحيح لحرية الإنسان وحقوقه في إطار الأسرة الإنسانية الشاملة وليس بمعزل عنها، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أحب لأخيك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لنفسك)) وتخرج مبادئ الحرية الإنسانية وكرامة الإنسان من فؤاده وفمه تشع نورًا من سناها الغامر، فيقول لبعض من وقف أمام عظمة شخصه النبوية، التي تهبط عليها ملائكة السماء صباحًا ومساء، خاشعًا واجفًا لجلال المهابة: ((هون على نفسك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة)) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 848 هكذا كان محمد صلوات الله وسلامه يقدر الحرية الحقيقية في غيره، كما يقدرها في نفسه، فالحرية الحقيقية في تعاليم الإسلام وفي منهج محمد صلوات الله وسلامه عليه؛ هي أن تقدر الحرية في غيرك كما تقدرها في نفسك، وأول مظاهرها سيادة الإنسان على نفسه، والتي تقتضي كبح النفس عن أهوائها وشهواتها؛ لأن الحرية معنى اجتماعي ليست بمعزل عن بني البشر تظهر علاقة الإنسان بغيره، ومراعاة حقوق غيره كما يراعي حقوق نفسه. ومن هنا شددت نصوص الإسلام من الكتاب والسنة على محاربة الهوى والأنانية والأثرة، والحرية الحقيقية في نظر الإسلام لا تجتمع مع الأنانية والأثرة والهوىن وأوضحت بأن الحرية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا بين متماثلين في الحقوق والواجبات ولا يمكن أن تكون بين أدنى وأعلى، ولا بين سيد وعبد، ولا بين مسيطر ومقهور. وأن التعارف الذي دعا إليه الإسلام بين أبناء الأسرة الإنسانية جمعًا لا يمكن أن يتحقق إلا يتحقق الحرية التي دعا إليها الإسلام، والتي بها يحل التعارف والتعاون بدل التناكر، والانسجام والتآلف بدل النزاع والتناحر، والعدل والمساواة بدل الاستغلال والتظالم. وبالتالي عدم قيام الحروب والمنازعات على ما رزق الله الناس وإخراج لهم من معادن الأرض. لقد أثبت الإسلام الوحدة الإنسانية في عالم القرن العشرين، والبشرية كلها في أشد الحاجة إلحاحًا إلى هذه الوحدة التي نادى بها الإسلام منذ أربعة عشر قرنًا خلت ونيفا، وكأنه يعبر عن مشاعر الإنسانية وأحاسيسها التي دمرتها الحروب وطحنتها مبادئ الأثرة والإنانية والتظالم، ومزقتها العنصرية وتمايز الأجناس والألوان والألسن، بالإضافة إلى سلاح إبادة البشرية الذي يهدد حياتها في كل لحظة. وهكذا يثبت الإسلام معجزته الخالدة وخلودها الأبدي: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] . إنها الوحدة الإنسانية الشاملة التي تنطلق من وحدة الأصل، ووحدة التكوين، ووحدة الغرائز، ووحدة الاستعداد للخير والشر، فالغرائز كلها واحدة، فغرائز الإنسان في أقصى الشرق هي غرائزه في أقصى الغرب. وكل نفس من نفوس بني آدم فيها نزوع إلى الخير وإلى الشر، كما قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] أي نجد الخير والشر، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 849 ومن هنا كان التعارف في الإسلام غاية مقدسة في ذاته لتحقيق الحكمة الآلهية في اختلاف الأمم والشعوب في الألوان والألسن وتوزيعهم في الأرض. وكان هذا التعارف كافيًا لحل كل نزاع، أو محو كل أثرة من استغلال أو ظلم في جماعاتهم وأفرادهم في ظل هداية الإسلام وتشريعه العادل وتنظيمه الشامل للعلاقات الفردية والاجتماعية والدولة؛ ذلك أن مبادئ الإسلام العامة وقواعده الكلية تنطبق على الدول والشعوب، كما تنطبق على الأفراد والجماعات سواء بسواء، فلا فرق ولا استثناء ولا تمايز في قانون العدل والميزان الإلهي، فما يطالب به الفرد يطالب به المجتمع، وإن اختلفت وسائل تحقيق المطلوب فالغاية واحدة، وهي جعل الإنسانية أمة واحدة متساوية في الحقوق والواجبات، لا فضل لفرد على آخر إلا بالتقوى، والتي لا تتحقق إلا بتقوى الله في حقوق النفس الواحدة، والتي لا ينالها أي فرد إلا بالقدر الذي يضحي فيه في سبيل إسعاد الآخرين. ويترجم مضامين الإسلام في سبيل إسعاد أمته ومجتمعه. فميزان التفاضل في الإسلام لا يقبل في كفته العادلة لونًا ولا جنسًا، ولا لغة ولا سلطانًا، ولا ثروة مالية، ولا سلالة حسبية أو نسبية، ولا جبروت قوة عاتية، وإنما يقبل في ميزانية كرامة التقوى المكتسبة من صلاح العمل وزكي النفس وصفاء لفائف إشراق حناياها الذي يفيض بكل الخير على كل موجود في عالم الوجود، كرامة التقوى المكتسبة من إيثار النفس غيرها عليها من الأفراد والجماعات وحبها الخير والهداية إليه لكل نفس خلقت أو تخلق من أفراد النفس الواحدة التي هي في حقيقتها الذاتية جزء من فصيلتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 850 هذه هي ترجمة الإسلام العملية لميزان التفاضل، فليس هناك فضل لبعض الأفراد أو الجماعات أو الدول والشعوب على بعض الآخر في ميزان التقوى، وفي ترجمة مفاهيم الإسلام غير العمل الصالح التي تكسبه تلك النفس الفاضلة، وليس هناك نموذجًا يقتدى به في ميزان تفاضل التقوى وترجمة الإسلام الصحيحة غير النموذج الأوحد في عالم الكمالات الإنسانية وسمو معارج التقوى الإلهية محمد صلوات الله وسلامه عليه، الذي دخلت أعواد الحصير وتركت انطباعاتها الضاغطة في جسده، وكنوز الذهب والفضة يوزعها أكوامًا بين الناس ويحثيها حثى الحصاة بين يديه، ويصعد المنبر وراياته تملأ الأفق عزيزة ظافرة، فيقول: ((أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت أخذت منه مالاً فهذا مالي فليأخذ منه)) . ويسأله عمه العباس أن يوليه عملاً من الأعمال التي كان يعين عليها بعض المسلمين فيصرفه برفق ويقول له: ((والله يا عم إنا لا نولي هذا الأمر أحدًا طلبه أو يحرص عليه)) ، ويضع لنفسه ولأهل بيته مبدأ من مبادئ التفضيل في الإسلام لا يحيدون عنه، هو أن يكونوا أول من يجوع إذا جاع الناس وآخر من يشبع إذا شبع الناس. ودانت الدنيا ووقف أكثر ملوك الأرض أمام رسالته واجفين، فما استطاعت ذرة من لهو أو كبر أن تمر بخاطره. وألقى كل أعداء رسالته السلاح ومدوا إليه أعناقهم ليحكم فيها بما يشاء ومعه عشرة آلاف سيف تتوهج بأيدي المسلمين يوم فتح مكة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 851 فلم يزد على أن قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) . ووقف وحيدًا يدعو إلى توحيد الله وإلى تحرير العبيد والمستضعفين. وجعل الدين المعاملة والنصيحة. وأعلن تحريم الربا والمفاضلة التي تؤدي إلى الظلم والاستغلال. وجاء برسالته الإنسانية العالمية الخالدة التي تتصدع من عظمتها القدسية الجبال الراسية قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] . لقد جاءت الشريعة الإسلامية بمبادئها وتوجيهاتها وأحكامها تحمل الصبغة الإنسانية العالمية؛ هداية للناس ورحمة وداعية إلى صراط الحق المستقيم. ولم تكن تشريعًا لجنس دون جنس ولا لاقليم معين من الأرض، بل جاءت تشريعًا عامًا للإنسان من حيث هو إنسان أبيض أسود، عربي أو عجمي، في الشرق أو في الغرب، فلا عنصرية ولا عصبية في شريعة من خلق الإنسانية جمعاء من نفس واحدة. ولو كان واضعها فردا أو فئة من الناس لتعصبت بوعي أو بلا وعي لجنسها أو وطنها أو طبقتها أو مصالحها، ولكن الشارع هو رب الناس ملك الناس آله الناس وهم جميعًا عباده فليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، ولا فضل لفرد منهم على آخر، ولا لقوة على أخرى بحكم الخلق والنشأة الأولى، والمصير إلى حساب الخالق جل جلاله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 852 ولقد ثبت في ماضي الإنسانية وحاضرها بأنها لم تثبت أقدامها على مبادئ العدل الإلهي المطلق بين أبناء النفس الواحدة، بل سادها الظلم والاستعباد والقهر وحب الامتلاك والغلبة، وحل التناكر محل التعارف والاستعباد محل الحرية، والظلم والتعسف والاستغلال محل العدل والمساواة، والأثرة والأنانية محل الإيثار والجشع، والظلم والعدوان محل البر والتقوى، وتخلى المسلمون عن مضامين الإسلام وتحلوا بأضدادها واحتفظوا بأسمائهم وانتسابهم إليه وأوهموا من لا يفهم الإسلام بأن ما هم عليه هو الإسلام، فكانت الكارثة الكبرى، وكان الخروج من دين الله أفواجًا، وساد العلاقات الدولية الظلم والاستبعاد إذ اشتغلت هي بتنظيم العلاقات. فلا بد إذن من هداية السماء لتنظيم التعارف الحقيقي والعلاقات العادلة بين البشر، وتهدي للتي هي أقوم، وخاتمة رسالات السماء، وآخر لبنة في صرح الرسالات الإلهية بأصولها الخالدة التي تنظم قواعد العلاقات الإنسانية بين الآحاد والجماعات والدول، بأصولها العامة النظرية التي تستطيع - والإعجاز يتوجها - علاج الوقائع والمشكلات المتطورة طوال مراحل عصور البشرية، وعلى اختلاف بيئاتها الاجتماعية والحضارية وخصائصها الذاتية، وتقيم العدل المطلق بين الناس جميعًا، وتحقق الإلخاء بينهم وتصون وتحمي دماءهم وأعراضهم وأموالهم وعقولهم. ومن هنا يتعاظم الواجب على علماء الإسلام، الذين يجب أن يكون لهم حظ وافر وإدراك واسع وفكر حر في علوم الشريعة الإسلامية. وخاصة ما تشير إليه نصوص آيات وأحاديث العلاقات الإنسانية والدولية، حتى تتحقق حكمة الوجود ويسود العدل، ويظهر إعجاز الشريعة الخالدة بيقين، ويدخل الناس في دين الله أفواجًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 853 لمحة تاريخية 1- لقد كانت العملة النقدية في التاريخ قوامها النقود الذهبية والفضية، وكان الأغنياء يحرصون على صيانة ذهبهم وفضتهم من السرقة والضياع، فكانوا يعهدون بحفظه إلى محترفي صياغة الذهب والفضة ليودعوه في خزائنهم ويسترد المودعون منه بقدر ما يحتاجون إليه في معاملاتهم، وكانوا يدفعون إلى الصيرفي أجرًا على حفظ هذه الودائع، وإذا أراد أحدهم الانتقال من بلد إلى آخر أو إلى دولة غير دولته كان لا ينوء بحمل الذهب والفضة وتعريضها للضياع أو السرقة، بل كان يأخذ من الصيرفي أمرًا إلى زميل له في البلد الآخر بتسليمه المبلغ المطلوب. وكانت الفئة الغالبة من محترفي صياغة الذهب والفضة وصيارفة الذهب وتجار النقود من اليهود الذين جبلت نفوسهم على حب المادة إلى الحد الذي قصه الله عنهم في كتابه من انحدار بشريتهم إلى عبادة العجل الذي صنعوه بأيديهم من الذهب، وعبدوه من دون الله، كما جبلت نفوسهم على الزنا وأكل أموال الناس بالباطل والسحت إلى الحد الذي قالوا فيه {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 76] . فكانوا يعطون كل من أودع عندهم ذهبًا أو فضة سندات لها قيمة وديعته من الذهب أو الفضة، ثم أخذ المودعون يتعاملون فيما بينهم بهذه السندات؛ لأن تداولها أخف من تداول الذهب والفضة، فإذا كنت قد أودعت مائة دينار ذهبًا عند الصيرفي وأردت أن أدفع لدائني هذا المبلغ فإنني أسلمه السند الممثل لهذه القيمة ليسترد هو المبلغ من الصيرفي، وهو بدوره قد يعطيه لدائنه سداد الدين عليه وهلم جرا. كل هذه العمليات أراحت المودعين في معاملاتهم من نقل الذهب أو الفضة من يد إلى أخرى. ثم وجدت هذه الفئة من الصيارفة والتي أغلبها من إليهود، بأن هذه السندات الممثلة لقيمة ذهبية أو فضية، قلما يأتي حامل السند ليطلب قيمته النقدية، وبالتالي يبقى الذهب أو الفضة المودع في خزائنهم جاثمًا فيها مددًا طويلة، واتضح بالتجربة والممارسة بأن حامل السند لا يأتي ليستلم قيمته النقدية التي تسحب، إلا إذا كان محتاجًا إليه بصفة استثنائية، ومع ذلك فإن قيمة السندات النقدية التي تسحب لا يتجاوز عشر الذهب والفضة المودعين في خزائنهم، ومن هنا واتتهم الفكرة لماذا لا يستغلون هذه الكميات الهائلة من الذهب والفضة بالإقراض وبالفائدة التي يحددونها، بناء على ما يلمسون من حاجة المجتمع إليهم بغير حدود أو قيود تقدر الفائدة الربوية التي يفرضونها وبعد أخذ الضمانات الوثيقة منهم كفالة لسداد القروض عند حلول الأجل، وعند سداد هذه القروض وفائدتها المرتفعة يستغلونها مرة أخرى في الإقراض الربوي، وهكذا دواليك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 854 وعلى هذا النحو تضخمت ثرواتهم التي لم تكن في أصلها إلا مال المودعين. وكلما تضخمت ثرواتهم الخاصة من هذه المصادر استخدموها بالمثل في الإقراض بالربا بالإضافة إلى أموال الودائع، وكانت هذه الفئة طوال تاريخها موضع إزدراء الكافة، وكان تواجدها في الأحياء اليهودية المنعزلة عن المجتمع. ثم تطورت الصناعات بتطور المجتمع البشري واحتاج الناس إلى توسيع صناعاتهم وإنشاء صناعات جديدة، واتسع نطاق التبادل التجاري بين الدول والشعوب. وتطور بالمقابل نشاط هؤلاء الصيارفة وتجار النقود، فبعد أن كان النشاط المصرفي يقتصر على القروض الاستهلاكية تطور إلى القروض الإنتاجية، وبعد أن كان الربا محاربًا من الديانات السماوية أحلته الشرائع الوضعية. وتطور مركز الصيرفي فأصبح صاحب بنك له احترامه عند الكافة، ونشأت البنوك الحديثة في صورة شركات مساهمة رأس مالها يقدمه المؤسسون والمساهمون، ولكنه يكون رأس مال ضئيل، فليكن مثلاً عشرة ملايين. إلا أن الودائع تنهال على البنك فيصبح رأس ماله مئات الملايين، وبالتالي تصبح مكانة كل بنك في العالم مقياسها هذه الودائع، وصارت البنوك تقدم لأصحاب هذه الودائع فوائد ضئيلة لإغرائهم بالإيداع، مصورين لهم أن الربح الضئيل الثابت خير لهم من المجازفة بتوظيف أموالهم في مشروعات قد تفشل وتهلك فيها أموالهم ويبؤون بالخسران، ثم يقرضون هذه الودائع بفوائد مرتفعة ويستغلون الفرق بين الفائدتين. هذا كان المصدر الأكبر للقوة المالية التي أحرزتها البنوك الحديثة، هذه القوة المالية التي انتزعت السيطرة الكاملة على اقتصاديات عالمنا المعاصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 855 هذا الأخطبوط الذي يتألف أغلبه من إليهود، أنشب مخالبه في لحوم البشر ودمائهم ومصائرهم، وأشعل العديد من الحروب المدمرة، وأخذ بيد الاستعمار في انتهابه لخيرات الأرض، وأخذ يوجه تمويله إلى مشاريع تهدف أكثر ما تهدف إلى هدم أخلاق الشعوب ونشر الفساد في كل مجتمع، مادامت أرباحها أكبر من مشروعات تلبي للناس مطالبهم من ضروريات الحياة. ولم يقف هذا الأخطبوط عند هذه المآسي، بل امتدت سيطرته إلى تشويه أسلوب التفكير لدى الشعوب وحجب الحقائق عنها، بما أتيح له من سيطرة على أجهزة النشر ووسائل الإعلام. ومن هنا كانت هذه الفئة محاربة لله ورسوله في شريعة الإسلام لامتصاصها الشريان الحيوي لدماء المجتمع ونشر الفساد والرذيلة فيه، ولم تأتي آية في كتاب الله تعلن الحرب على أي فرد أو فئة من فئات المجتمع البشري - مهما كانت ذنوبها ومعاصيها، ومهما كان عنادها لله ورسول - غير فئة المرائيين، وجرثومة المجتمع القاتلة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 278 -280] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 856 لقد نشط إليهود في هذا المجال نشاطًا يعجز عنه الوصف، وتضخمت ثرواتهم في العالم من هذا المصدر الخبيث الذي استغلوا فيه التحكم في العملة النقدية من الذهب والفضة، وعملوا على اكتنازهما للتحكم العالمي في العملات الورقية التي تصدرها دول العالم. ومن هنا نفهم المدلول الفقهي العام الأوسع لقول الحق تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34-35] . هكذا يخاطب الله جل جلاله الماليين المتحكمين بمصير الأمم والشعوب ويقودونها إلى الهاوية. وهكذا يظهر الإعجاز القرآني في عالم القرن العشرين بتهديده لفئة قليلة تكدست في يدها الثروات الذهبية بأساليب فاجرة وتستغلها في سيطرة اقتصادية لا ضابط لها من دين ولا وازع من خلق، سيطرة فئة قليلة تصول وتجول في ابتلاع سبائك الذهب وخزنه؛ ليجعلوا منه ميزانًا لحماية استغلالهم والتحكم في العملات الورقية للدول والشعوب التي لا تمتلك تلك الخزائن المكنوزة من الذهب والفضة والتي هي في حقيقتها ليست أموالهم، ولكنها أموال المودعين والفوائد الربوية التي يفرضونها عليها ويديرونها ويتصرفون بها كما لو كانوا هم ملاكها بالفعل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 857 إنها لقوة هائلة تلك القوة التي يصل بها هؤلاء في سيطرتهم المطلقة على المال وعلى القروض التي يوزعونها بمحض مشيئتهم المطلقة، فكأنهم بذلك يوزعون الدم اللازم لحيوية الجهاز الاقتصادي بكل أوضاعه، فإذا شاءوا حرموه دم الحياة فلا يستطيع أن يتنفس، وإذا شاءوا قدروا مدى انسيابه في جسم هذا الجهاز التقدير الذي يتفق مع مصالحهم الذاتية. وبالتالي فإن تجمع هذه الثروات المالية الهائلة في أيديهم يؤدي في الأخير إلى الاستيلاء على السلطة السياسية في النهاية، ويتحقق لهم ذلك على خطوات ثلاث متدرجة متساندة: الأولى: الكفاح في سبيل إحراز السيادة الاقتصادية، ثم الكفاح في جمع مقاليد السيادة السياسية في أيديهم، ومتى تحققت لهم بادروا إلى استغلال طاقاتها وسلطانها في تدعيم سيادتهم الاقتصادية، وفي النهاية ينقلون المعركة إلى المجال الدولي العالمي. وبالتالي فإن ولي الأمر الذي كان المفروض فيه أن يمثل مصالح المجتمع، وأن يحكم من مكانه الرفيع في نزاهة وحياد وعدل وإيثار لصالح المجتمع، قد سقط إلى درك الرقيق لهذه القوى الرأسمالية وأصبح أداة طيعة لتنفيذ أهوائها وشهواتها. وأن الواجب المقدس على المسلمين إعادة سلطان الدولة الذي انتزعته القوى المرابية والرأسمالية. وعندما يعود ولي الأمر إلى كامل اختصاصه الذي ناطه به الإسلام، عندئذ تتحول ثروة نقود الذهب الهائلة من مارد شرير إلى خادم طيب يبني المجتمع ويصون الحرمان ويسعد الإنسان، كما كان في عهد سلفنا الصالح وطليعة الإسلام الأولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 858 وقبل الدخول في لب الموضوع. فإنه يجدر بنا – في هذا الموضوع الهام الذي يمثل جانبًا هامًا من الدراسات الفقهية العملية التي تعني بمعالجة أحكام الوقائع والنوازل والحوادث المستجدة في ضوء مقررات الفقه وقواعده، وما اشتملت عليه أصوله النظرية من السعة والمرونة والخصوبة – أن نتعرض بالإشارة إلى بعض أبعاد الموضوع المطروح للبحث والدراسة، وبالتالي بناء الحكم الشرعي عليه من قبل مجمعنا الموقر وسادته العلماء الأفاضل لربما تلك الأبعاد أو بعضها قد تخفى على البعض. والقاعدة المشهورة عند فقهائنا تقول: الحكم على الشيء فرع عن تصوره. وفي كثير من المسائل الفقهية أومن أحكام القضايا المستجدة يظهر الخلاف في استنباط الحكم الشرعي بين الفقهاء، ويكون مرجع خلافهم في الغالب إلى عدم الوضوح عند بعضهم، وليس إلى حقيقة الحكم الشرعي. ومن هنا كان التصور الصحيح والإلمام الشامل لكل جوانب القضية المطروحة هو الأصل في النظر الصحيح إلى النص الشرعي من الكتاب أو السنة وإلى علة الحكم التي تكون صريحة أو إيماء، وإلى النظر إلى مسالك العلة ومناط الحكم كما هو معروف لدى السادة العلماء في مظانه، ثم يأتي الحكم الشرعي بعد ذلك كفرع لذلك التصور. 1- أن أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة في نظر الشريعة الإسلامية، وهو نص الموضوع المطروح للدراسة والبحث والإفتاء أمام مجمعنا الموقر، ليس هو غاية في ذاته؛ لأن النقود وتغير العملة ليست غاية في ذاتها بقدر ما هي أداة لتأدية وظائف معينة، وهذه الوظائف هي الأخرى تختلف من حيث المصدر وأولوية الهدف ونطاق التطبيق، فهناك الوظائف التقليدية ذات الطابع النقدي البحت والمرتبطة أصلاً بالنشاط التاريخي للنقود، وهناك الوظائف الأكثر عمومية والمرتبطة بالنشاط الاقتصادي وتطور الاقتصاد المعاصرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 859 إن النقود كمقياس للقيمة، وهنا تثار مشكلة تقييم الكميات الاقتصادية بصفة عامة، والسلع والخدمات بصفة خاصة، فهل ينظر إلى النقود كمقياس طبيعي مجرد؟ أو عن طريق محاولة تقييم السلع والخدمات بأوزنانها المادية؟ كأن تستخدم ساعات العمل لقياس الخدمات، والمتر أو الطن لتقدير كميات المواد الأولية، وهو في الغالب قياس مطلق لأنه عند تقويمه للسلعة ينظر إلى خصائصها المادية دون مراعاة لعلاقاتها التبادلية مع السلع الأخرى. ومن الصعب وجود وحدات قياس طبيعية مشتركة لجميع السلع نظرًا لاختلاف الأخيرة في أوصافها الطبيعية قياس سلعي تبادلي، أي محاولة قياس قيمة كل سلعة بالنسبة للسلع الأخرى وبطريقة مباشرة، كأن يقال للعامل أو الموظف: إن عشر ساعات عمل تساوي قيمة رطلين لحم من لحم الضأن البلدي أو قميص قطن، وهذه الطريقة من الناحية العملية صعبة جدًا وخاصة في العصر الحديث؛ نظرًا لتعدد السلع واختلاف قيمتها تبعًا لظروف الزمان والمكان. أما عند النظر إلى النقود كمقياس حقيقي للقيمة مجردًا عن تقييم السلع أو الخدمات أي استخدام النقود كمقياس للقيمة النقدية ووحدة المحاسبة، فإن عدد الوحدات النقدية اللازمة للحصول على السلعة أو التي تستبدل بها السلعة تعتبر ثمنًا أو قيمة لهذه السلعة، وحيث إن النقود تعتبر وحدات قياس مشتركة لقياس قيم جميع السلع، نستطيع إذن بالمقارنة بين القيم النسبية المختلفة للسلع عن طريق تقدير عدد الوحدات النقدية اللازمة للحصول على كل سلعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 860 ومن هنا فإن النقود تسمح بترجمة التغيرات في قيمة السلع، كما أنها تخضع لتقلبات ذاتية، أي تصبح لها قوة شرائية مرتفعة أو منخفضة، تبعًا لتغير الظروف الاقتصادية بالسلع. ويتمثل أيضًا في أن القياس النقدي يجنبنا المشاكل التي تعترض التحليل الاقتصادي الكلي نتيجة لعناصر الإنتاج: العمل، المواد الأولية، الآلات ... إلخ غير متماثلة الخصائص، ومن هنا اقتضت الضرورة تحقيق نوع التماثل الذي يستدعى إيجاد عنصر مشترك يتمثل في الأثمان النقدية لهذه العناصر، وبذلك تتحول العملية الإنتاجية في صورتها الحقيقية من صورتها الفنية إلى صورتها الاقتصادية، وبالتالي تكون العلاقة تكاملية بين نوعي القياس. أما العلاقة بين القياس السلعي والقياس النقدي أو القيمي، فهي التفرقة بين الأسعار النسبية والأسعار المطلقة، فالقياس السلعي نسبي، أي أنه يرتبط بالمقارنة الحقيقة بين كميات السلع المتبادلة، وهو يعكس بذلك الثمن الحقيقي أو معدل المبادلة لسلعة معينة بالنسبة لسلعة أو السلع أخرى. ولما كان من الصعب تحديد وتقدير قيمة كل سلعة بالنسبة للسلع الأخرى بعلاقات كمية، مثلاً كمية القمح بكمية القطن. فنحن نلجأ إلى استخدام وحدات مشتركة لها نفس القيمة في ذات اللحظة بالنسبة للسلعتين المتبادلين يقيم من دور هذه المحلات في التأثير في نسب المبادلة، وتعرف هذه النسب بالأسعار النسبية أو الحقيقية للمبادلة بين السلع. وعلى العكس من ذلك الأسعار المطلقة فهي أسعار نقدية بحتة تعكس مدى تطور قيمة النقود ويمثلها المستوى العام للأسعار أو النظرة الشاملة لمجموع الأسعار معبرًا عنها بالنقود، وتصبح المشكلة الحقيقية أو الأساسية هي كيفية تحقيق التوازن بين الأسعار الحقيقية والنسبية والأسعار المطلقة أو النقدية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 861 ولقد كانت العملة النقدية هي السائدة حتى القرن التاسع عشرة، حيث كانت أغلب النقود المستخدمة في التعامل تتكون من نقود معدنية وبصفة خاصة من النقود الذهبية، ولم تكن تعرف العملة الورقية أو الأثمانية. وكانت قيمة وحدة النقود المعدنية تستمد قيمتها من قيمة المعدن المتكونة منه أو الذي تصنع منه، أو بمعنى آخر فإن قيمة النقود المعدنية تعتمد على الأسعار النسبية أي قيمة مبادلة المعدن بالسلع الأخرى. وفي فترات أخرى من القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ساعد هذا المعيار على تمتع النقود بثبات في القيمة، ولكن هذا الثبات في القيمة لم يستمر طويلاً بفعل قانون الندرة فقد زادت كميات الذهب والفضة المكتشفة في أستراليا وأجزاء أخرى من العالم، وأدت وفرة هذه المعادن إلى انخفاض قيمتها بالنسبة للسلع الأخرى، وبالتالي إلى انخفاض قيم النقود المصنوعة من تلك المعادن في فترة تاريخية معينة، اعتبر هذا المعيار صالحًا لتحديد قيمة النقود. أما في عصرنا الحاضر فلم يعد الأمر كذلك، فقد هجرت قاعدة المعدن: الذهب والفضة، وفقدت النقود محتوياتها من المعادن، وحلت محلها قاعدة النقد الورقية، وأصبح دور الذهب قاصرًا على اعتباره من ضمن مكونات غطاء الإصدار وعملة احتياطية دولية، كما أصبحت كافة النقود المستخدمة في التداول أما ورقية أو ائتمانية وتمتعت النقود الورقية التي يصدرها البنك المركزي بخاصتي القبول الإجباري في المعاملات والنهاية في التحويل. ثانيًا القيمة الخارجية للنقود، أي نسبة مبادلة وحدات النقد الوطنية بوحدات النقد الأجنبية عند تسوية المعاملات الخارجية: سعر الصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 862 وهذه القيمة الخارجية تحدد مقدرة النقود الوطنية على شراء السلع الأجنبية وأسعار الصرف، سواء كانت ثابتة أو متغيرة، تعتبر مؤشرات للقوة الشرائية للنقود الوطنية في الاقتصاد العالمي، كما يؤثر التغيير في القيمة الخارجية للنقود الوطنية على القوة الشرائية الداخلية لها. فعندما ترفع دولة ما من قيمة عملتها بالنسبة للعملات الأجنبية، فإنها تعمل في نفس الوقت على زيادة القوة الشرائية للعملة الوطنية بالنسبة للسلع الأجنبية المعروضة في السوق الداخلية، أو القيمة الخارجية للعملة الوطنية تتوقف على القرار السياسي الذي تتخذه السلطات العامة تحت تأثير الكثير من العوامل الاقتصادية، وخاصة ما يتعلق منها بالعجز أو الفائض في ميزان المدفوعات أو بهدف مكافحة التضخم المستورد، أو لتشجيع الصادرات أو الواردات. وعلى أي حال فإن علاقة وثيقة بين قيمة العملة الداخلية وقيمتها الخارجية فعالية الاقتصاديات الوطنية، والتي أصبح اليوم كثير منها مذبذبًا في أسواق الاقتصاد العالمي من خلال التجارة الخارجية - حركة رؤوس الأموال - لأن المقايضة بين السلع والخدمات لا تناسب عصرنا الحديث، وإنما تناسب مجتمعًا بدائيًا محددًا، ومن هنا كان ابتكار وحدة عملة النقود التي حلت محلها الآن العملة الورقية، ولكن على الرغم من ابتكار هذه العملة الورقية، وما تحققه من إراحة للمجتمع البشري من سرعة تبادل العملة النقدية أو المقايضة بين السلع الذي لا يساير تطور المجتمع البشري، فقد اعترض العملة الورقية صعوبات يرجع بعضها إلى وزن العملة الورقية المادي أو احتمال الضياع أو السرقة، فكان النظام الائتماني المصرفي هو الكفيل بتيسير الصعوبات المشار إليها عن طريق مجرد وعد بدفع ثمن السلعة أو الخدمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 863 هذه الوعود بالدفع مكنت الناس من التأمل بينهم بدون حاجة إلى تداول النقود من يد إلى أخرى، بالإضافة إلى بعض المعاملات التي تعارف عليها الناس، فصارت أشبه بعملة غير رسمية يجري سداد قيمتها في البنوك عن طريق المقايضة. فمثلاً إذا أعطيتك وعدًا بدفع مبلغ من النقود ثمنًا لسلعة أو أجرًا عن خدمة، وأنت أعطيت ثالثًا وعدًا بدفع مبلغ من النقود ثمنًا لسلعة أو أجرًا عن خدمة، وهذا الثالث أعطاني وعدًا بالدفع عن سلعة أو خدمة أديتها إليه. هذه الوعود الثلاثة كلها تلتقي في البنك، ويجري سدادها جميعها بالقيد في دفاتر البنك لحساب كل من الثلاثة بغير انتقال مادي للنقود من يد إلى أخرى. والوعد بهذا الدفع قد يتخذ صورًا عدة: منها الشيك الذي يصدره العميل إلى مصرفه، يأمره فيه بدفع مبلغ معين إلى شخص أو لحامل الشيك، والبنك من جانبه يدفع قيمة الشيك إلى الشخص المسمى فيه أو لحامله من حساب ما أودعه العميل في خزائنه من قبل. وقد يتخذ الوعد بدفع صورة فتح اعتماد من البنك إلى أحد عملائه، فيتعهد البنك يجعل مبلغ معين تحت تصرف عميل لمدة معينة يسحب منه تباعًا، فإنه يذهب إلى مصرفه وعلى أساس حساب ودائعه فيه يأخذ منه خطاب اعتماد، يوجهه مصرفه إلى فرعه في الدولة الأخرى أو إلى مصرف آخر يأمره بدفع المبلغ المطلوب إلى العميل، والمصرف في هذه الحالة لا يأخذ من عميله فائدة ربوية على هذه الخدمة، بل يكتفي بعملة بسيطة لا تتجاوز في كثير من الأحوال 4/1 أو واحد في المائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 864 ومن صور هذا الوعد أيضًا أو التعهد بالدفع صورة السند الإذني وهو التزام مكتوب يتعهد فيه شخص معين يسمى المحرر بدفع مبلغ معين في تاريخ معين لشخص معين آخر، أو لإذنه يسمى المستفيد، ويصبح السند الإذني أداة وفاء يستطيع المستفيد أن يصرف قيمة السند من البنك فورًا قبل حلول تاريخ السداد، مقابل فائدة ربوية يخصمها البنك من المستفيد مقابل الأجل. وهناك أيضًا صور الكمبيالات وهي أمر مكتوب يتوجه به شخص يسمى الساحب إلى شخص آخر يسمى المسحوب عليه، طالبًا منه دفع مبلغ معين لإذن شخص ثالث يسمى المستفيد، فإذا قدم المستفيد الكمبيالة إلى مصرفه بعد أن أظهرها المسحوب عليه، دفع البنك قيمة الكمبيالة بعد خصم الفائدة الربوية على المدة التي سوف تمضي قبل حلول أجل الوفاء المقدر في الكمبيالة. هذه طائفة من صورة العملة المصرفية التي تخضع اليوم للأحكام القانونية الدولية في عالمنا المعاصر، والتي تهدف إلى تحقيق تيسير التبادل بين الناس. أما الشيك فصورته معروفة، وهو أمر من العميل إلى البنك ليدفع إلى شخص ثالث المبلغ المدون في الشيك من حسابه الجاري في البنك. وتصويره الشرعي أيضًا واضح، فالعميل مودع لمال مثلي في البنك المودع لديه. والشيك: أمر بدفع جزء من المال إلى شخص ثالث، هو في الحقيقة تنفيذ لعقد الوديعة بين البنك والعميل، وهو في نظري تصرف شرعي لا إثم فيه ولا ربا، بل إنه يؤدي خدمات جليلة وإنسانية للمجتمع الإنساني بتيسير التعامل بين الناس. فهذا الجانب من النشاط المصرفي والعملة الورقية أو الشيك في نظري لا شبهة فيه على الإطلاق؛ لأنه ليس فيه فائدة يؤديها البنك إلى المودعين في الحسابات الجارية، ولكن النظر الشرعي في هذا الجانب قد يدقق في المعاملات الأخرى، والذي قد يكون اطراد التعامل بالشيكات بين الناس وعلى أساس ودائعهم الجارية قد أدى بقوة مالية جديدة على خلق النقود. أما أوامر الدفع الموجهة إلى البنك من عملائه، إنما هو في حقيقته تصرف من الودائع الجارية أي الودائع التي هي تحت الطلب، وهو ما يسمى في الاصطلاح المصرفي بالحساب الجاري، وهو يختلف عن الودائع الثابتة في أنه جائز السحب في أي وقت. وهناك صور أخرى كثيرة تدخل تحت عنوان البحث: "أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة "، وإن بحث هذه المسألة العالمية والمتشعبة الجوانب يفترض في نظرنا وضعها على بساط البحث في صورتها الواضحة والمتكاملة، والإلمام الدقيق بكل فروعها المختلفة وجزئياتها المتنوعة، وبالتالي التأصيل في التحليل والتعمق في البحث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 865 وإذا كانت العملة النقدية أو الورقية ليست غاية في ذاتها بقدر ما هي أداة لتأدية وظائف معينة للمجتمع البشري، فإن العدالة بالمقابل هي الغاية المنشودة لذاتها في الشريعة الإسلامية. وفي هذا المجال تعصر عقول المجتهدين من علماء الأمة الإسلامية، وينصب إنتاجها على بيان أحكام الشريعة الإسلامية من نصوصها الشرعية، أو من قواعد أصولها الاجتهادية. ومن المعلوم أن الشريعة الإسلامية قد كفلت في مصادرها العامة وقواعدها الكلية النصوص الصريحة على منع مجموعة من النشاطات الاقتصادية المعيقة في نظر الإسلام عن تحقيق العدل الاجتماعي للبشرية الذي ينشده الإسلام. كما كفلت الشريعة الإسلامية حق مبدأ الإشراف العام الممثل بالدولة، الأمر بالصلاحيات العامة على كافة المجالات الاقتصادية ذات النشاط الاجتماعي العام. وبالتالي ضمنت حق تدخل الدولة؛ لحماية مصالح المجتمع العامة ورعايتها، وحراستها بالحد الشرعي من حريات المصالح الفردية، ومن حريات الأفراد فيما يمارسونه من أعمال تتنافى ومصالح الأفراد العامة في ذاتها وفي مجموعها. ومن هنا كان وضع هذا المبدأ العام في الشريعة الإسلامية ضروريًا لكي تضمن الشريعة الإسلامية ذاتها تحقيق مثلها العليا ومفاهيمها السامية في العدالة الاجتماعية على مر الزمن، وتعاقب الأجيال، ومستجدات التطور، انطلاقًا من مبدأ خلود الشريعة المشتملة في مضامينها على متطلبات العدالة الاجتماعية التي يدعو إليها الإسلام في مبادئه العامة وكلياته الشمولية ومنطلقاته الأصولية الكفيلة باستيعاب مضامين العدالة في كل زمان ومكان لكافة أبناء البشرية جمعاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 866 وإن قضية الآثار والأحكام المترتبة على النقود الورقية وتغير قيمة العملة تدخل في صميم العدالة العالمية التي تسود فيها هذه المعاملات، والتي تشتمل على صور شتى يعرفها رجال الاقتصاد، واكتفيت بذكر بعضها لكوني لا أستطيع حصر الصور ولا الجواب عليها، ولكن نوضح حكم الشرع في نظرنا عن بعض صورها، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن باطلاً فمني، والله ورسوله بريئان منه. 1- الشطر الأول من الموضوع: أحكام النقود الورقية، أي إحلال العملة الورقية محل العملة النقدية في التعامل وتقييم السلع والخدمات بها ... إلخ. لقد مرت البشرية خلال تاريخها الطويل بمراحل في ميدان ابتكار تبادل المنافع والخدمات، ولقد أشرت في مقدمة الموضوع إلى أن القرآن العظيم قد أشار إلى ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . فكانت المرحلة الأولى من مراحل التعارف تبادل السلع والمنافع والخدمات بين أبناء البشرية على نطاق جماعاتها ومجتمعاتها المحدودة. ولم يكن التعامل بالنقد من الذهب والفضة أو أي معدن آخر معروفًا، وإنما كانت المعاملة تتم بواسطة المقايضة بين السلع وتقييم أجرة المنافع والخدمات بقيمة السلعة، وكان هذا الوضع هو الوضع المناسب للمجتمع البدائي. ثم تطور المجتمع البشري واتسع نطاق التعاون، وزاد من حجم الخيرات والمنتجات وحاجة الناس إلى الحصول على تلك الخيرات المتنوعة، فكان ابتكار العملة النقد، وعلى وجه الخصوص الذهب والفضة، فسهلت على مجتمعات تلك المراحل التاريخية التعامل فيما بينها بواسطة قطع العملة النقدية من الذهب والفضة، وبدلاً من تقييم قيمة سلعة بسلعة أخرى، والتي كانت تحتاج إلى وقت، أو تقييم خدمة أو أجرة عمل بثمن تلك السلعة؛ أصبح المجتمع البشري يقيم كافة قيمة السلع والخدمات وأجرة العمل بقيمة تلك العملة النقدية المتفق على قيمتها. إلا أن تلك العملة كانت تكتنفها المخاطر وخاصة عند نقلها من بلد إلى بلد، والتي تتمثل بالسرقة أو الضياع، بالإضافة إلى صعوبة نقلها بسبب وزنها المادي، إضافة أيضًا إلى بطء التعامل الذي لا يناسب مجتمع تطور الإنسانية، وبناء الحضارة التي ينشدونها في شتى مجالات الحياة. وبالتالي فإن التعامل بالعملة النقدية لم يعد يناسب عصر السرعة ولا يلبي حاجة الإنسان، فكان ابتكار العملة الورقية وإحلالها محل العملة النقدية في القيمة المالية مساهمة كبرى في تطور الحضارة الإنسانية وتقدم الإنسان ومازالت كذلك، ولا نعلم ماذا يكون عليه الحال، ولكن الذي يهمنا أن نعلمه هو حكم الله في هذا التعامل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 867 ولا شك في أن من أصول التشريع في الشريعة الخالدة التي أصلها القرآن الكريم والسنة المطهرة، كالتيسير ودفع الحرج عن الناس، وهذا الأصل مقصود به دوام الشريعة واستمرار إقامة أحكامها؛ لأن الشريعة الحاكمة على أفعال المكلفين، والمشتملة على السعادة الحقة في العاجلة والآجلة، وضعت أصولها على أساس العدل الوسط: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] . وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] . وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] . وقد وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم. بما أتى به من أحكام لأمته {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] . وبذلك سمى محمد صلى الله عليه وسلم الشريعةَ التي أُرسل بها بالشريعة السمحة. ويجدر بنا في هذا المقام أن نشير إلى ما أورده الإمام ابن القيم رحمة الله عليه في كتاب أعلام الموقعين: 3/3 وما بعدها، إذ يقول تحت عنوان "بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد" " هذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلطٌ عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي هي أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم ... إلخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 868 بهذا الاستعراض أردنا أن نبين بأن قصد الشريعة الإسلامية اليسر والسهولة ورفع الحرج والمشقة عن الناس، فرفع الحرج والمشقة من شريعة الله يعتبر أصلاً من أصولها ويكشف سر الإعجاز في خلودها. ولما كان القصد من إحلال العملة الورقية محل العملة النقدية هو اليسر والسهولة، ورفع الحرج والمشقة عن الناس، وتلبية لقضاء حاجاتهم، وتحقيقًا لضمان مصالحهم بأيسر السبل وأخفها مشقة، وعملاً بأصل رفع الحرج والمشقة في شريعة الله؛ فإنني - وحسب علمي - لا أجد مانعًا شرعيًا من إحلال العملة الورقية محل العملة النقدية، طالما كانت تلك العملة الورقية تخضع في أحكامها لأحكام الشريعة النافذة على العملة النقدية، والتي أوضحَتْها سنةُ البيان النبوي على قواعد ضمان ميزان العدل بين الناس، وتحديد قيمتها المالية على أصول التعامل الشرعي، بقوله عليه الصلاة والسلام: ((الذهب بالذهب رباء إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة رباء إلا هاء وهاء)) إلى آخر الحديث. رواه مسلم. ومن خلال نص الحديث المشار إليه وغيره من الأحاديث الخاصة بالنقدين الذهب والفضة؛ فإننا نرى جواز التعامل بالعملة الورقية، وإحلالها في الأحكام الشرعية محل أحكام النقدين، وأن حكمها حكم النقدين، يجري عليها ما يجري على النقدين، ولأن البدل له حكم المبدل في عرف الفقهاء. وبالله التوفيق والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 869 أما الشطر الآخر من الموضوع: تغير قيمة العملة، فإن أساس بحث هذه المسألة العالمية ومناط الأشكال فيها يفترض في نظرنا وضعها في صورتها المتكاملة والواضحة، والإلمام الدقيق بكل أبعادها، وأسباب مسبباتها كقضية عالمية عميقة الجذور متشعبة الجوانب، لا يقتصر تأثيرها على شعب أو مجتمع بمعزل عما يدور بين الأمم والشعوب في عالمنا المعاصر، نظرًا لترابط المجتمعات والشعوب في عالم اليوم الذي لم يَسُدْ فيه ميزان العدالة الدولية، حيث عمل الاستعمار مباشرة - وما زال يعمل - على نهب خيرات الشعوب، وعلى زرع الفتن بينها، حتى لا تتفرغ لاستثمار ما أودعه الله في خزائن الأرض وأعماق البحار، كما جند في جانب آخر شركاته العالمية الاحتكارية، التي تتحكم بمصير اقتصادية أكثر الشعوب في ميادين الاقتصاد العالمي اليوم، حيث منعت هذه الشركات نقل التقنية الصناعية إلى الشعوب النامية والفقيرة وغيرها، مما يعتبر في عالم اليوم من الأسس الضرورية لرفع مستوى حياة هذه الشعوب، كما عملت من جانب آخر على رفع ثمن السلع الاستهلاكية وطلب قيمتها بالعملات الصعبة التي من خلالها يتم تحكمها على القيمة المالية للاقتصاد العالمي من خلال بنوكها ومصارفها العالمية، والذي يديرها اليوم كثير من يهود العالم بعد أن تمكنوا منذ قرون من جمع العملة النقدية من الذهب والفضة، وبالتالي جعلها مقياسًا لقوة الشعوب الاقتصادية، والتي تملك منها الشعوب الفقيرة والنامية نسبة ضئيلة لا تفي بجعل عملتها الورقية، ولا حتى بقوة اقتصادها، بأن تقف على قدم المساواة - فضلاً عن ميزان العدالة - في تقييم السلع المصدرة والمستوردة في القيمة المالية الحقيقية لما تصدره هذه الشعوب، حتى لا تملك مستودعات الذهب، ولما تستورد أيضًا تبعًا لميزان العدالة الدولية المختل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 870 أضف إلى ذا وذاك امتصاص العملة الصعبة إذا ما قدر لها الدخول بكميات ضئيلة إلى الشعوب النامية والفقيرة بأساليب رهيبة، منها بخس أثمان منتوجات هذه الشعوب، والتحيل عليها من عدم الحصول على العملة الصعبة بخلق الفتن بين شعوبها وزعزعة الأمن في شئونها الداخلية، وبالتالي تصدير الأسلحة إلى هذه الشعوب التي لم تكن بحاجتها، وبالتالي تتم المقايضة غير المتكافئة. وهناك أساليب تكبل اليوم الكثير من شعوب العالم الثالث لا يجيدها إلا أقطاب الاقتصاد العالمي ومصاصو دماء الشعوب ... إلخ. ولقد أطلت نفس القلم في صلب هذا البحث، ونوهت في مقدمته إلى تحكيم العلاقات الإنسانية بين الأمم والشعوب إن لم تحكم شريعة السماء الخالدة. هذه المسألة بحاجة ماسة إلى التأصيل والتحليل والتعمق في البحث، لقناعتنا في أن موضوع تغير العملة وبيان حكم الشريعة الإسلامية لا يمكن أن يكون بمعزل عما يؤثر في انخفاض سعر العملات، وأن آثار الأحكام المترتبة على تغيير العملة بالكامل وإحلال عملة أخرى محلها، أو تغير سعرها زيادة أو نقصانًا، وإن لم تغير عين العملة ذاتها إلى عملة أخرى. إنما يعبر في حقيقة الأمر على عظمة قدرة الشريعة الإسلامية على مواجهة كل جديد، واتساعها لمقتضيات كل عصر، وتلبيتها لحاجاته على الوجه الأرشد والأكمل، والذي يكمن في تبصر توجيهاتها، وتدبر حكمها وأسرارها، وفهم دقيق لمقاصدها وأهدافها. ولا عجب في ذلك إذ أن الشريعة الإسلامية هي خاتمة الشرائع الإلهية التي أنعم الله بها على الإنسان. ولا يتصور مؤمن بكمال علم الله وحكمته ورحمته وبره بخلقه، أن الله تعالى يغلق باب النبوة دونهم ويقطع وحيه عنهم، ثم يتعبدهم بشريعة قاصرة تصلح لقوم ولا تصلح لآخرين، وتصلح لزمان ولا تصلح لآخر، بل كانت أحكامها الكلية وقواعدها الأصولية تستطيع بكل يسر وسهولة وقوة أن تشيد للإنسانية بنيانًا يقوم على أساس ثابت من العدل الشامل، ومن الحق المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد. وإن تدبر توجيهاتها، وسبر أغوارها، وفهم أسرارها ومقاصدها، والغوص في أعماق لججها لاستخراج لآلئها وأصدافها النورانية البهية من شأنه أن يصقل مواهب وعقول المجتهدين من جهابذة العلماء العاملين، وينور بصائرهم بأشعة جلال أنوارها، ويلاقي بين ينابيع خواطرهم ومعين أفكارهم، ويعبر عنهم بعقل مجمعهم، ويبلور بين المفاهيم والأسرار التي تجيش بها نفحات خواطرهم ذات المعين الإلهي الفياض، والرحمة الإلهية الخاتمة التي لا تنضب. وإن الفهم الدقيق والصحيح لمبادئ الإسلام العامة وقواعده الكلية، هو الأساس الفكري والدعامة الأساسية لفكرة الاجتهاد والتجديد والعودة بأمتنا الإسلامية إلى حقائق الشريعة الإسلامية المقدمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 871 كما أنه الطريق الصحيح الذي يرسم لنا بيقين كيف نعالج الأوضاع الاقتصادية في ضوء الشريعة الخالدة، والتي أنزلها الله بعلمه على محمد صلى الله عليه وسلم ليقيم بها عدله في الأرض، ويحقق بها مصالح العباد في المعاش والمعاد. كما دلت على ذلك استقراء نصوص الأحكام الشرعية وقواعدها الكلية، وأسس مبادئها الأصولية العامة، وتعليلات جزئياتها من الكتاب والسنة وأنه سبحانه خص هذه الشريعة بالعموم والاستمرار والخلود دون سائر الشرائع الأخرى، وأن أصولها النظرية قد استوعبت علاج الوقائع والمشكلات بشهادة التاريخ لها، وما زالت قادرة - وبطريقة يتوجها الإعجاز - على علاج الوقائع والمشكلات المتجددة والمتطورة. ولا شك بأن من أهداف مقاصد الشريعة إقامة العدل المطلق بين الناس جميعًا، وتحقيق الإخاء بينهم، وحماية وصيانة دمائهم وأموالهم وعقولهم وأخلاقهم، وأنها لا تحقق مصلحة طبقة دون أخرى، ولا مصلحة فرد خاصة دون آخر، ولا شعب دون شعب، ولا مصلحة دنيوية دون النظر إلى المصالح الأخروية، كما هو الحال في التشريعات الوضعية. وأن السبيل الأقوى والأقوم لاستيضاح حكم وأسرار الشريعة ميسر بإذن الله لترجمة الحكم الشرعي من دليله المعتبر، وبالتالي إظهار الحق وإثباته من مصدره الشرعي الذي يعطي المجتهد الوضوح والجلاء الذي يعتبر الأساس الصحيح للنهوض العلمي برسالة المجمع. وبالتالي أيضًا يستوعب اجتهاد المجتهد منطلقات الأدلة الشرعية ومفاهيم النصوص المتعارضة أو المتداخلة بالعموم والخصوص، أو بتهذيب العلة وتحقيق المناط ... إلخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 872 وإن الهدف من هذا البحث المتواضع هو إيضاح حكم الشريعة الإسلامية في العملة الورقية والنقدية في هذا العصر الذي سيطرت فيه على جميع مجالات نشاطها، وبالتالي تغلغل الربا بكل أنواعه وبكل شروره وآثامه في كل مجال منها، وكيف تظهر هذه العملية، وتطورها تطورًا ينأى بها عن كل الانحرافات، وبالمقابل فإن النهوض برسالة المجمع لا يتم إلا بالتعبير عن المشاكل التي تحس بها أمتنا الإسلامية، والتي تراها أيضًا بالنسبة لأي قضية إسلامية، وخاصة في مجال العدالة العالمية والاجتماعية التي لا تحمل جنسية غير جنسية الإنسانية، ولا حدود على الأرض التي يعيش فيها الإنسان، والتي هي الغاية من اجتهاد العلماء في بيان حكم الله الذي هو عين العدل؛ لأننا نعلم بأن العملة ليست غاية في حد ذاتها لبيان حكم الشرع، بل هي وسيلة لقضاء حاجات الإنسان، أما الغاية من بيان حكم الله فيها من حرمة وحلال وصحة وبطلان، إنما هو تحقيق العدل بين الناس في هذه العملة والتعامل بها بين الناس، والعدل الحقيقي إنما يعرف من أحكام الله العادلة بين العباد. وهذه القاعدة من أجل القواعد التي تعطي الصورة العالمية للمجمع والشمولية لشريعة الإسلام والخلود لمبادئه العادلة التي يحلم بها عالم البشرية اليوم، والتي تجنى منها ثمار العقول اليانعة والأفهام المستنيرة بنور الكتاب والسنة. وأن أساس القضية ومناط الإشكال في الشق الآخر من الموضوع المطروح: تغير قيمة العملة، والذي تدخل تحته من الصور والمستجدات مالا يمكن حصره. ولكن تصويرنا وحكمنا على بعضها حكم منا على بعضها الآخر، إلحاقًا لها في تحقيق المناط، فنقول وبالله نستعين: 1- من المعلوم بأن الثمن في البيع ركن، ومعرفة قدره وصفته شرط لصحة البيع، أما إذا ذكر في عقد البيع قدر الثمن دون صفته، فإنه ينصرف في عرف الفقهاء إلى الغالب من نقد البلد الذي تم فيها العقد؛ لأنه المتعارف عليه عند الإطلاق، ويكون في عرف الفقهاء من أفراد ترك الحقيقة بدلالة العرف القولي، فإن كان في البلد الذي تم فيه العقد نقود غيرها من جنسها واستوت في المالية، لكن بعضها يتداوله الناس في معاملاتهم بصورة أكثر من البعض الآخر، فينصرف إلى النقد الذي يكون أكثر انتشارًا في معاملات الناس. أما إن استوت في تداول الناس وفي معاملاتهم واتفقت في المالية، فإن المشتري يخير؛ لأن الجنس والقيمة متحدان، وإن استوت في التداول واختلفت في المالية، كما إذا باع شيئًا بثلاثة دنانير دون أن يوضح نوعها يمني أو كويتي، فإن البيع يفسد للاختلاف في المالية، ولكن إذا كان التعاقد بالدينار في الكويت مثلاً، فإن العرف ينطلق على الدينار الكويتي، وإن كان التعاقد بالدينار باليمن فإن العرف ينطلق على الدينار اليمني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 873 ومن الصورة فيما لو أخذت من شخص مائة دينار يمني قرضًا حسنا إلى أجل معلوم لدفع ذلك المبلغ، وكان سعر الدينار ثلاثة دولارات أمريكي وقت استلام القرض، وبعد أن حان أجل إعادة ذلك القرض نزل سعر الدولار، فكان الدينار ثلاثة دولار ونصف، أو العكس، طلع سعر الدولار وانخفضت قيمة الدينار، بأن كانت قيمة الدينار ثلاثة دولارات إلا ربع، وقس على ذلك بقية الحالات والصور التي تساويها في تحقيق المناط، سواء أكانت تلك الصور والحالات من عقود المعاملات بعوض، أم كانت من العقود التي ليس فيها معاوضة كالقروض والمداينة، وسواء كان انخفاضًا أو زيادة ما تضمنته تلك العقود من ناحية انخفاض أو زيادة قيمة العملة المتفق عليها في صيغة العقد، أو من ناحية تغير قيمتها بالكامل بأن حلت محلها عملة أخرى مثلاً بدل الدينار اليمني جنيه يمني أو أي اسم آخر للعملة الجديدة، فإن الحكم الاجتهادي الشرعي في نظري - حيث لا نص ولا إجماع - الذي ينطبق على الحالات المشار إليها أو ما يشابها، أن للبائع أو لصاحب الدين أو القرض المسمى في العقد من أنواع العملة؛ لأنه الأصل الذي تم التعاقد عليه لا على غيره، ولأنه هو الذي شغلت به ذمة المشتري أو المدين لا غيره، ومن هنا قال الفقهاء: إذا جهل الثمن محل العقد فسد البيع أو العقد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 874 وكذا إذا كسدت العملة المتفق عليها نهائيًا بدون بديل لها فسد البيع، أما إذا تغيرت العملة المتفق عليها إلى عملة أخرى، فإن الحكم ينصب على ما يعدل قيمة تلك العملة من العملة التي حلت بديلها بسعرها وقت القبض وليس وقت العقد أو البيع، دون تفرقة بين ما إذا كانت تلك العملة متساوية في السعر أو متفاوتة في قيمتها المالية؛ ذلك بأن الواجب شرعًا في ذمة المشتري أو المدين، والذي ينصب عليه الحكم الشرعي إنما هو المسمى والمتفق عليه في صيغة العقد لا غيره، وليس للمشتري أو المدين بحساب الصرف من أي نوع كان بالسعر السائد، إذا كان عين العملة المذكورة في العقد قائمة وسائدة إلا برضى البائع أو الدائن، وأنه لو أراد المشتري دفعها بالدولار بدلاً من الدينار، وبالسعر القائم والسائد وقت الأداء ورفض البائع أو الدائن أو من له الحق في تلك العملة المنصوص عليها في العقد، فإنه لا يجبر على قبضها لاختلاف المالية وإن تساوت القيمة؛ لأن الأحكام الفقهية إنما تنظر إلى ما اشتملت عليه صيغة العقد لا إلى شيء آخر لم يذكر في العقد، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يجبر من له الحق على أخذ حقه بالسعر القديم؟ علمًا بأن سعر العملات في عصرنا الحاضر ليست مستقرة في قيمتها المالية على حالة ثابتة، فإذا لم نلزم من عليه الحق بما يثبت في ذمته وقت التعاقد وبالسعر الذي تصل إليه تلك العملة وقت الأداء سواء طلعت تلك العملة أو انخفضت، لاضطربت معاملات الناس، وبالتالي عُدم الثبات القانوني، وعدم ثابت الحكم الشرعي، وبالتالي أيضًا عدمت الضوابط القانونية والشرعية لتكييف هذه المعاملة بين الناس، وبنفس الوقت تجاهل صيغة العقد وعدم احترام صيغ العقد الشرعية، وهذا باطل لا يجوز باتفاق الفقهاء. وهذا في نظري يشمل كل صور التعامل التي تشابه هذه المسائل في تحقيق المناط وتشتمل عليها نظرية العقد في هذا الباب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 875 ومن ناحية أخرى فإننا بحاجة إلى بحوث مستفيضة حول نظرية العقود، وتصنيف الصور والمسائل التي تدخل تحت كل عقد على حدة، مثلاً نظرية عقد البيع وما يلحق به من العقود، نظرية عقد العملة وما يلحق بها من العقود، حتى إننا في باب نظرية الوكالة نستطيع تكييف خطاب الضمان الذي نظر فيه المجمع في دورته الثانية تحت نظرية عقد ثابتة. وبالتالي نستطيع أن نضمن الصور والمسائل التي قد تتفرع عنه، ونضمن في الأخير الثبات القانوني لأحكامه الشرعية الاجتهادية، وهكذا عقد الرهن والحوالة ... إلخ. إن المجتهد أول ما ينظر في معاملات الناس وفي تصرفاتهم إلى صيغة تلك العقود من ناحية الصحة أو البطلان، انطلاقًا من أن العقد ملزم للطرفين المتعاقدين عند توفر شروط العقد الصحيحة وانتفاء موانعه. وعندما ينظر المجتهد إلى النزاع بين طرفي العقد لا ينظر إلى زيادة سعر العملة في السوق أو نقصانها، إنما ينظر أولاً إلى صيغة العقد وإلى ما اشتمل عليه ذلك العقد، فإذا وجد صيغة العقد سليمة من العيوب المبطلة أو المفسدة للعقد فإنه يحكم على الطرفين الوفاء بما التزم به، حيث كان التزامهما صحيحًا شرعيًا، فإذا كان العقد ينص على مبلغ مائة دينار يمني على فلان من الناس لآخر، وكان الدينار قائم الاعتبار القانوني في التعامل به بين الناس، فإن من عليه المبلغ المذكور عليه رد ذلك المبلغ المعين في العقد وقت حلول أجل الأداء، سواء طلع ذلك المبلغ بعملة أخرى أو نزل؛ ذلك لأن تحديده وتعينه في صيغة العقد قطع كل ما يؤدي إلى التنازع بين الطرفين المتعاقدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 876 والقول هنا بدفع ما يعدل ذلك بالسعر الذي كان يوم البيع أو العقد - أي وقت الثبوت في الذمة - قول مخالف لما تم عليه التعاقد صراحة، وكل ما أدى إلى إبطال العقد الشرعي الصحيح فهو باطل، ولا يقف الحد عند بطلان ذلك العقد من حيث عدم احترام صيغة العقد ذاته، بل لأنه يؤدي إلى جهالة الثمن؛ لأن ذلك الثمن الذي قد يحسب بحسب صرف قيمة العملة التي اشتمل عليها العقد وقت الأداء لم يكن مذكورًا في العقد. وبالتالي يؤدي ذلك إلى النزاع المستمر، والشريعة الإسلامية يلاحظ في أحكامها قطع النزاع وسد أي ذريعة تؤدي إلى إثارة النزاع في معاملاتهم، وترك من عليه التعاقد وجهل الثمن وعدم ثبات العملة في عالم اليوم كفيلٌ بما يؤدي إلى النزاع والخلاف، ومن هنا شدد الفقهاء عند وضعهم شروط معرفة قدره وصفته كل ذلك؛ مخافة النزاع، فكيف يتجاهل المجتهد كل تلك الأركان والشروط التي يجب توافرها لصحة العقد، ويجتهد في معرفة حكم سعر تلك العملة في السوق، والتي هي خارجة عن نطاق العقد وأركانه وشروطه. نعم نقول: إن رضي عن الحق فيما اشتمل عليه العقد صراحة فلا مانع، كما لو انقطع التعامل بالدينار بأن حلت محله عملة أخرى، مثلاً بدل الدينار جنيه يمني، فإن الحكم في هذه الحالة يختلف، إذ ليس لصاحب الحق إلا بما يعدل القيمة المالية للدينار بحسب الصرف من أي من العملة بين الناس، وبالسعر السائد بالسوق وقت الأداء، إذ ليس لصاحب الحق إلا أخذ المسمى في العقد أو مثله برضاه، ولكن إذا لم يوجد المسمى في العقد بسبب فساد العملة وانقطاعها، فليس لصاحب الحق إلا المثيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 877 ومن الصور في ذلك: قيمة الدينار اليمني إلى عشرين قطعة نقدية تسمى كل قطعة درهمًا، فلو صدر قرار من الجهة المختصة بعدم التعامل بالدينار وإحلال عملة أخرى بدل الدينار تحمل نفس القيمة المالية للدينار، وإنما زادت وحدات القطع النقدية لهذه العملة الجديدة بأن كانت خمسة وعشرين درهمًا بدلاً من عشرين درهمًا بالعملة الملغاة، أو كان العكس، بأن نقصت وحدات العملة الجديدة، فكانت قطع الوحدات النقدية خمسة عشر قطعة نقدية، أي خمسة عشر درهمًا مع تساوي قيمة العملة المالية الجديدة بقيمة العملة المالية الملغاة، والتي تم التعاقد بها، فإن الأداء يجب أن يكون بتلك العملة التي حلت محل الدينار في قيمته المالية، سواء زادت قطعها النقدية بأن كانت خمسة وعشرين درهمًا، أو نقصت بأن كانت خمسة عشر ردهمًا، طالما كانت القيمة المالية للعملة الجديدة تحمل نفس القيمة المالية للعملة الملغاة. قس على ذلك كل عملة ألغيت وحلت محلها عملة أخرى تحمل نفس قيمتها المالية، فإن لم توجد عملة أخرى تحمل قيمتها المالية وتحل محل العملة الملغاة، فليس لصاحب الحق إلا ما يعادل قيمة العملة الملغاة قبل إلغائها من أنواع العملات السائدة في معاملات الناس وقت ثبوت هذا الحق في الذمة، وبسعره وقت الأداء من الغلاء يرخص، وليس من حق من وجب الحق بذمته أن يدفع وقت الأداء السعر الذي كان يوم العقد أو يوم ثبوته في ذمته، ولا نعتقد قائلاً به من الفقهاء؛ لأن الدينار اليمني الذي ضربنا به المثل إذا كانت وحداته النقدية عشرين درهمًا، ثم زادت تلك القطع النقدية إلى خمسة وعشرين درهمًا، أو نقصت إلى خمسة عشر درهمًا، وصار ذلك هو حقيقة قيمة الدينار المالية في البلد يتعامل به الناس كذلك، فكيف يحسب بصرف يوم التعاقد؟ أي بعشرين درهمًا، ولو كان الدينار موجودًا والتعامل به قائمًا بين الناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 878 فلو قائل قال بأن سعر الدينار كان يوم العقد أي يوم ثبوته في ذمة المشتري أو المدين عشرين درهمًا، نقول: لقد قوي عليه الالتباس، وزاد حدا في القياس، إنما المعتبر شرعًا قيمة المسمى في العقد وليس غيره. ولم يقل أحد من الفقهاء - حسب علمي - باعتبار غير المسمى، ولو قلنا بذلك للزمت الجهالة في الثمن وحصل النزاع الذي كان العلماء دائمًا يراعونه في أحكامهم وفتاويهم، بل وفي استنباطاتهم الفقهية، جاعلين نصب أعينهم قاعدة الفقهاء المشهورة: " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح "، وليس من حق المشتري أو المدين أن يكون مخيرًا في أداء ما وجب عليه من أي نوع شاء من العملة، بل الواجب عليه التقيد بنوع العملة الواردة في العقد إن كانت قائمة، أو ما يعادل قيمتها وقت العقد أو وقت ثبوتها في الذمة، وبسعرها وقت الأداء طلوعًا كان سعرها أو نزولاً، إلا إذا رضي من له الحق، وكانت العملة البديلة مستوية في قيمتها المالية مع قيمة العملة المبدل منها وفي انتشارها في التعامل بين الناس، إلا برضى من له الحق. فإن أراد المشتري أو المدين دفع الدينار الكويتي بدلاً من الدينار اليمني بالسعر السائد بين وقت الأداء وأبى من له الحق، لا يجبر على القبض لاختلاف العملة والجنس، فكيف يجبر على قبضه بالسعر القديم؟ كما أنه ليس للمشتري جبر البائع على أخذ الذهب بدلاً من الفضة أو الدينار بدلاً من الدولار، فلو باع بالدينار وكتب المشتري الثمن بالريالات بدون إذن البائع، فإن من حق البائع أن يطالب المشتري بدفع الثمن بالعملة التي تم عليها التعاقد، فإن لم يستجب المشتري فمن حق البائع أيضًا أن يرفع القضية إلى القضاء، فإذا لم يستطع البائع إقناع القضاء بالأدلة المتوفرة لديه، فليس للقاضي إلا تحليف البائع على صحة دعواه، ويحكم له بدفع الثمن بالدينار الذي عليه التعاقد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 879 ومن هنا يتضح بأن البائع إذا كان لا يجبر على قبض الريال بالدينار، ولا الذهب بالفضة، ولا قبض غير المسمى في العقد مما اختلفت ماليته وإن انتفت قيمته، فكيف ينبغي القول بوجوب إعطاء البائع النقود المتفق عليها بالسعر القديم؟ وهل عند القائل بهذا نقل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح؟ فإذا احتج بمسألة رخص العملة المتقدمة التي تم عليها التعاقد، فجوابه بأن مسألة الغلاء والرخص في المسمى في العقد لا في غيره من النقود،، وإذا باع في حالة غلاء الذهب أو غلاء الريال، فهل يتناوله لفظ الدينار ويكون من باب فرد من أفراده مع اختلاف حقيقته؟ كمن باع بالدينار ثم رخص الذهب أو الريال، ومن هنا نرى الواجب شرعًا والأسلم لذمة المشتري أو المدين أو من ثبت في ذمته الحق في نظر الشرع الذي شدد في نصوص لا تحصى كثرة على تحقيق العدالة بين الناس في معاملاتهم، وبوجه أخص فيما تعود قيمته المالية من العملات إلى ميزان النقد - الذهب والفضة - الذي حرم الشارع التفاضل والنسيئة فيه، إلا أن الواجب الشرعي الذي تطمئن إليه نفس المجتهد إنما هو عين المسمى في العقد أو مثله أو قيمته كما تقدم ولا رابع لها، وبالتالي فلا أجد أي تخريج لحكم شرعي اجتهادي لدفع غير المسمى في العقد من النقود بأي وجه من وجوه تخريج الأحكام الاجتهادية من ضوابط قواعد الفقه وأصوله حسب علمي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 880 ومثل عقد الإجارة، كما إذا أجد شيئًا بمائة دينار، فإن الناس قد تعارفوا على تأجيل دفع الأجرة المستحقة المنصوص عليها في عقد الإيجار إلى نهاية مدة التأجير، فإن المؤجر يقبضها بالسعر السائد وقت الأداء لا وقت العقد، سواء طلعت قيمة العملة المنصوص عليها في عقد الإجارة أو هبطت عن سعرها وقت العقد، فليس للمؤجر إلا العملة المنصوص عليها في العقد بسعرها وقت حلول الأجل، سواء أكان السعر لصالحه أم لصالح المستأجر؛ لأن زيادة سعر العملة أو نقصانها منصب على العملة المسماة المتفق عليها في العقد لا في غيرها. ولو قلنا: يأخذها المستأجر بسعرها يوم الإجارة، فقد يكون سعرها طلع ثم انخفض عند الأداء، وبالإضافة إلى المحاذير التي سبقت الإشارة إليها، فإننا لو سمحنا لأحد طرفي العقد بأن يعطيها حسب تقلبات سعر تلك العملة في الأسواق، فإنه يلزمنًا التناقض في الأحكام الشرعية وعدم ثباتها في القضية الواحدة؛ فتارة نحكم للمستأجر إذا انخفض سعر العملة وقت العقد، وتارة نحكم عليه إذا كان سعر العملة وقت العقد مرتفعًا ثم انخفض سعرها وقت الأداء. وهذا باب واسع للحيل وفتح الفتن والنزاع، فإن الناس عامة يحرصون على مصالحهم، والتي قد لا تكون هذه المصالح مشروعة في كثير الأحيان من الأوقات. فقد يرفض المؤجر عن استلام أجرته إذا لم يكن لسدادها وقت محدد؛ طمعًا في طلوع سعر تلك العملة، وقد يؤخرها المستأجر إذا لم يكن دفعها مجددًا بوقت معين طمعا في انخفاض سعر العملة التي اشتمل عليها عقد الإيجار، وقس على ذلك البيوع والديون ... إلخ. والذي جرى عليه عرف المسلمين بأن المائة الدينار المنصوص عليها في عقد الإيجار يدفع المستأجر وقت الأداء بسعرها السائد في السوق، وبقيمتها المالية مائة دينار المنصوص عليها في العقد، فيدفعها بسعرها وقت الأداء، سواء زاد سعرها عن يوم العقد أو نقص؛ لأن زيادة السعر أو نقصانه واردة على المسمى في العقد لا على غيره، والمحذور شرعًا هو أن يزاد عن القيمة المالية الحقيقية لتلك العملة التي اشتمل عليها العقد، وبأن يزيد مثلاً المؤجر على المائة الدينار خمسة دنانير، فتصبح مائة وخمسة، وهي التي نهى عنها الشرع، أما زيادة أو نقصان العملة ذاتها المتفق عليها فإنها لا تدخل تحت أي باب من أبواب الربا على الإطلاق. وهذا ما عليه التعامل في البلاد الإسلامية، فكان ذلك إجماعًا منهم على صحته، وإن كان إجماعًا سكوتيا إلا أنه في ميدان المعاملة من الضروريات التي لا يخفى على المسلمين حكمها، فكان إجماعهم السكوتي في قوة الإجماع الصريح، ونحن خلف لخير السلف لا نقول بغير هذا. وبالله التوفيق والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 881 مراجع البحث 1- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2- الجامع لأحكام القرآن محمد بن محمد الأنصاري 3- الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 4- تفسير ابن كثير إسماعيل ابن كثير 5- ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض 6- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 7- فتح العلام لشرح بلوغ المرام أنور الحسين 8- مختصر نيل الأوطار د. نقوي مبارك 9- الفكر الإسلامي الحديث محمد البهي 10- الإسلام والرأسمالية مكسيم رودنسون 11- كتاب المعاملات السيد فكري 12- فلسفة الفكر الديني لويس غريب 13- المدونة الكبرى الإمام مالك بن أنس. 14- الفتاوى الكبرى لابن تيمية 15- أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية 16- فقه القرآن والسنة على قراعة 17- الاقتصاد النقدي والمصرفي د. مصطفى رشيدي. 18- اقتصاديات النقود د. عبد الرحمن يسري أحمد 19- النظرية والسياسات النقدية د. مصطفى رشيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 882 النقود الورقية لفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس بسم الله الرحمن الرحيم (إياك نعبد وإياك نستعين) الحمد لله حمدًا طيبًا طاهرًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين. أما بعد؛ فمما يعد أصلاً في موضوعنا ما رواه الخمسة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالنقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخد الدنانير؟ فقال: ((لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) . وفي لفظ بعضهم: ((أبيع بالدنانير وآخد مكانها الورق، وأبيع بالورق وأخد مكانها الدناير)) . فابن عمر كان يبيع الإبل بالدنانير أو بالدراهم، وقد يقبض الثمن في الحال، وقد يبيع بيعًا آجلاً، وعند قبض الثمن ربما لا يجد مع المشتري بالدنانير إلا دراهم، وقد يجد من اشترى بدراهم ليس معه إلا دنانير، أفياخذ قيمة الثمن يوم ثبوت الدين أم يوم الأداء؟ مثلاً إذا باع بمائة دينار، وكان سعر الصرف: الدينار بعشرة دراهم، أي أن له ما قيمته ألف درهم، وتغير سعر الصرف يوم الأداء، فأصبح الدينار مثلاً بأحد عشر درهمًا، أفيأخذ الألف أم ألفا ومائة؟ وإذا أصبح بتسعة دراهم فقط، أفيأخذ تسعمائة درهم يمكن صرفها بمائة دينار يوم الأداء، أم يأخذ ألف درهم قيمة مائة الدينار يوم البيع؟ بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبرة بسعر الصرف يوم الأداء، وابن عمر الذي عرف الحكم من الرسول الكريم سأله بكر بن عبد الله المزني ومسروق العجلي عن كريّ لهما، له عليهما دراهم وليس معهما إلا دنانير، فقال ابن عمر: أعطوه بسعر السوق. فهذا الحديث الشريف يعتبر أصلاً في أن الدين يؤدى بمثله لا بقيمته، حيث يؤدى عند تعذر المثلية إلى ما يقوم مقامها، وهو سعر الصرف يوم الأداء، لا يوم ثبوت الدين. وهذا الحكم الشرعي من الأحكام التي استقرت في الفقه الإسلامي، ولم يختلف حولها الأئمة الأعلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 883 ومما ساعد على استقرار الحكم، إلى جانب وجود النص، أن النقود كانت سلعية، وكانت من الذهب أو الفضة قبل التعامل بالفلس. وبعد انتشار الفلس كان له دور محدود للغاية كنقد مساعد، وظهر الخلاف في إلحاقه بالنقدين، وتحدثت عن النقود وأحكامها في كتاب "النقود واستبدال العملات دراسة وحوار"، فأرجو التكرم بالرجوع إليه. في عصر التشريع كان سعر الصرف غالبًا الدينار بعشرة دراهم، ولذا كان نصاب الزكاة عشرين دينارًا أو مائتي درهم، وبالبحث في النصاب، ووزن كل من الدينار والدرهم، نجد أن قيمة الذهب كانت سبعة أضعاف الفضة. ومع أن الذهب والفضة يتميزان بالاستقرار النسبي، غير أن العلاقة بينهما لم تظل ثابتة، فتغير سعر الصرف من وقت لآخر حتى وجدنا الفضة تهبط إلى ما يقرب من واحد في المائة (1 %) من قيمة الذهب. كما أن العلاقة بينهما وبين باقي الأشياء لم تظل ثابتة، مثال هذا عندما غلت الإبل في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فزاد مقدار الدية من النقدين. إن هذه الزيادة تعني أن النقود انخفضت قيمتها بالنسبة للإبل، ولكن الأمر لم يكن قاصرًا على الإبل، فغيرها قد يرتفع ثمنه وقد ينخفض، وارتفاع الثمن يعني انخفاض قيمة النقود، وانخفاض ثمن السلع يعني ارتفاع النقود. ومع احتمال زيادة قيمة السلع أو النقود ما وجدنا إمامًا من أئمتنا يفتي بأن القرض يرد بقيمته لا بمثله. غير أن الزيادة والنقصان لم تكن بالصورة التي شهدها عصرنا، عصر النقود الورقية، وعلى الأخص بعد التخلي عن الغطاء الذهبي، ولجوء بعض الدول أو اضطرارها إلى خفض قيمة ورقها النقدي. ومن هنا وجدنا من يدعو إلى رد القرض بقيمته يوم الإقراض لا بمثله، ومن يقول: إن المثلية ذاتها غير متحققة في الورق النقدي الذي انخفضت قيمته. والواقع أن هذه مشكلة تحتاج إلى دراسة واجتهاد عصري، ولقد أحسن المجمع صنعًا إذ جعل هذا الموضوع من أبحاث مؤتمره الثالث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 884 وأحب أن أضع أمام مؤتمركم الموقر ما يلي: أولاً: الموضوع فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وإجماع لم يرد ما يخالفه من الصحابة أو التابعين أو الأئمة المجتهدين، والاجتهاد يجب أن يكون في ضوء النص والإجماع. ثانيًا: العقود المشروعة لا تشتمل على جهالة تفضي إلى الخلاف والنزاع. ورد النقود الورقية بقيمتها تجعل المقرض لا يدري ماذا سيأخذ، والمقترض بماذا سيطالب؟ ولا يدري الاثنان المقياس الذي يلجئان إليه عند الخلاف في القول بالزيادة أو النقصان أو الثبات، وتحديد مقدار الزيادة أو النقصان. ولهذا وجدنا القوانين الوضعية، مع سوئها وإباحتها الربا المحرم، تنص على أن القرض يرد بمثله عددًا دون نظر إلى القيمة. ثالثًا: ما استقر في الفقه الإسلامي من رد القرض بمثله لا بقيمته، وهو ما تسير عليه القوانين الوضعية في البلاد الإسلامية وغيرها من بلدان العالم، هو أيضًا ما أخذت به القوانين الدولية، فالقروض الدولية ترد بمثلها عددًا. فكيف نطالب دولنا الإسلامية بترك هذه القوانين التي تتفق ولا تتعارض مع الفقه الإسلامي؟ رابعًا: الذين دعوا إلى رد القرض بقيمته نظروا إلى الانخفاض فقط، ولو أخذ بالقيمة لوجب النظر إلى الزيادة والنقصان معًا. وعلى سبيل المثال: إذا اقترض أحد من أخيه في الدول النفطية التي تعد نقودها أساسًا ثمنًا للنفط، ثم انخفض النفط إلى الربع، فما حق المقرض؟ أهو الربع فقط؟ فإذا اقرضه أربعة آلاف، وهي ثمن قدر معين من النفط، فبعد الانخفاض يكون ثمن هذا ألفا فقط، فهل من حق المقترض أن يقول للمقرض: ليس لك عندي إلا ألف، أو مقدار كذا من النفط قيمة الألف بسعر اليوم، وقيمة أربعة الآلاف وقت الإقراض؟ وإذا تركنا النفط وجئنا لغيره. مثلاً كيس الذرة وصل إلى مائتي جنيه، ثم انخفض إلى خمسة وعشرين، فإذا اقترض مائتين ليشتري كيس الذرة، فهل بعد الانخفاض يرد كيس ذرة أو خمسة وعشرين جنيها فقط؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 885 خامسًا: الذين دعوا إلى رد القرض بقيمته نظروا أيضًا إلى الأفراد فقط ولم ينظروا إلى الدول والهيئات والشركات، فمثلاً الحساب الجاري في المصارف يعتبر عقد قرض؛ لأن المصرف يمتلك المال، وينتفع به ويتصرف فيه كيف يشاء، الربح له والخسارة عليه، وهو ضمان لرد المثل. وما قال أحد بأن المصرف مطالب برد القيمة، وإن كانت المصارف ملكًا لدولة هي نفسها خفضت قيمة نقدها. (ملحظ: أثبت أن ودائع البنوك عقد قرض شرعًا وقانونًا في بحث قدمته للمؤتمر الثاني للمجمع، كما بينت هذا في أكثر من كتاب) . سادسًا: زيادة التضخم تعني انخفاض قيمة النقود، ويلاحظ أن هذه الزيادة تفوق ما تحققه المصارف الإسلامية من أرباح، وما تحدده البنوك الربوية من ربا. فلو أن القرض يرد بقيمته فلا حاجة للاستثمار وللتعامل مع البنوك، ويكفي أن تعطي الأموال مقترضًا يحتفظ لنا بقيمة القرض، ويتحمل زيادة التضخم التي تصل أحيانًا إلى مئات في المائة. سابعًا: التضخم يعد من مساوئ النظام النقدي المعاصر، فهل المقترض هو الذي يتحمل هذه المساوئ؟ أفلا يجب البحث عن أسباب التضخم وعلاجه، وعن عيوب النظام النقدي، ووسائل تجنبها؟ أفلا نبحث عن نظام نقدي إسلامي نقدمه للعالم كما قدمنا له مثلاً البديل الإسلامي للبنوك الربوية؟ ثامنًا: القرض عقد إرفاق له ثوابه وجزاؤه من الله عز وجل، وقد ينتهي بالتصدق {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280] فكيف اتجهت الأنظار إلى المقترض بالذات ليتحمل فروق التضخم ومساوئ النظام؟! والقروض الإنتاجية الاستثمارية من النادر أن نجدها في عصرنا من باب البر والإحسان، وإنما هي في الغالب الأعم تعود إلى ما كانت عليه في الجاهلية، فهي قروض ربوية. وهنا نجد الحل الإسلامي عن طريق الشركات وغيرها مما لا ينظر فيه إلى تغير قيمة النقود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 886 تاسعًا: من حق المقرض أن يمنح ما يرى أنه أكثر ثباتًا وأقل عرضة للانخفاض، من حقه أن يقرض ذهبًا أو فضة أو عملة يرى أنها أكثر نفعًا له، ولعل هذا يساعد على وجود مخرج لمن يحجم عن الإقراض خوفًا من انخفاض قيمة النقود الورقية، فكأنه يدخر ما يرى أنه أنفع له، ولكن ليس من حقه بعد هذا أن يطالب بغير المثل إذا جاء الأمر على خلاف ما توقع، فماذا يفعل من انخفاض قيمة مدخراته في غير حالة الإقراض؟ عاشرًا: عندما ننتهي من خير القرون، وعصر الأئمة المجتهدين، ونأتي إلى متأخري الفقهاء، فلا أعلم أحدًا قال: إن القرض يرد بقيمته لا بمثله إلا إذا تعذرت المثلية، كأن يكون القرض فلوسًا أبطلها السلطان. أما الدين إذا كان ثمنًا لبيع آجل، وانخفضت القيمة انخفاضًا يتضرر منه البائع، فقد ذهب بعض المتأخرين هؤلاء، إلى القول باللجوء إلى الصلح لمنع الخلاف. وفي عصرنا ظهرت الدعوة إلى رد القيمة في القرض، ولم نكد نسمع من يقول بالالتزام بالقيمة في البيع الآجل الذي قد يمتد أكثر من عشرين سنة، تنخفض النقود خلالها إلى ما لا يمكن تصوره وقت البيع. والمشتري يلتزم بالثمن المحدد عددًا لا قيمة، والبائع لا يطالب بأكثر من هذا، وليس من حقه إلا ما حدد عند عقد البيع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 887 فلو جاز النظر إلى القيمة لكان في مثل هذا البيع لا في القرض الذي يجب ألا يكون إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى. حادي عشر: تغير قيمة النقود لا يظهر في القروض والديون فقط، وإنما يظهر أيضًا في عقود أخرى، فمؤجر العقار مثلاً في معظم البلاد الإسلامية ليس من حقه إنهاء العقد واسترداد ما يملك إلا بموافقة المستأجر، ولهذا يمتد العقد إلى عشرات السنين، وقد تصبح قيمة الإيجار لا تزيد عن واحد أو اثنين في المائة من قيمة النقود عند بدء العقد. فالنظرة إلى تغير قيمة النقود لا بد أن تكون شاملة عامة. ثاني عشر: ومن الشمول والعموم أيضًا - وهو ضروري وهام جدًا - أن ننظر إلى من يلتزم بالقيمة أو بالمثل. فمثلاً الأجير الخاص الذي يأخذ راتبًا شهريًا محددًا، عندما تنخفض قيمة النقود فهذا يعني أن راتبه قد انخفض في الواقع العملي، فإذا كان مقترضًا ومدينًا بثمن شراء ومستأجرًا، فكيف نطالبه بالزيادة العددية التي تعوض نقص القيمة قبل أن نعوضه هو شخصيًا عما أصابه من نقص في قيمة راتبه؟ وبعد: فلم أعلم بأن الموضوع سيناقش في هذا المؤتمر إلا في وقت متأخر، وكنت غير مهيأ للبحث مكانًا وزمانًا، فرأيت أن أكتب هذه الكلمة الموجزة علها تسهم في توضيح الفكرة، وتساعد على الوصول إلى الصواب إن شاء الله تعالى. والله من وراء القصد، وهو يهدي إلى سواء السبيل، وهو المستعان. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) . كتبه د. على أحمد السالوس كلية الشريعة جامعة قطر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 888 الربا فضيلة الأستاذ أحمد بازيع الياسين بسم الله الرحمن الرحيم الربا بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وهو المستعان سبحانه وتعالى، الحمد لله رب العالمين، خلقنا ورزقنا، ويميتنا ثم يحيينا، لا إله إلا هو الحي القيوم، بديع السموات والأرض، والصلاة والسلام الأكملان على من اختاره ربه رحمة للعالمين نبينا محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الكرام الغر الميامين، أهل التقى والرشاد، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد؛ فإن الربا في وقتنا هذا انتشر في المعمورة انتشارًا عامًّا، حتى لا تكاد تسلم منه قرية من القرى، أو مغارة من المغارات، وهو متمثل بالنظام المصرفي العالمي الذي يقنن له من قبل دول العالم كافة، وكأنه ضرورة من ضروريات الحياة، بينما هو شر مستطير، وربما يكون انتشاره بهذه الطريقة سببًا في دمار العالم وفنائه وهلاكه، استنادًا إلى قوله تعالى: {بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35] ، وأي فسق أعظم من أكل أموال الناس بالباطل؟ وأي خطر أعظم من إعلان جبار السموات والأرض الحرب على آكله؟ ربَّاه لطفك ورحمتك وسترك الجميل. وبعد هذه المقدمة أقول: ما هو الربا؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 889 الربا: المعنى اللغوي: هو الزيادة والمرتفع من الأرض، يقال له رابية أو ربوة وأصل الكلمة المجردة ربا: زاد، ربت الأرض بعد نزول المطر: ارتفعت وتشققت وأنبتت، وفي قوله تعالى: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] الآية دليل على ذلك. المعنى الفقهي: كل زيادة بدون عوض بعقد، معنى ذلك كل زيادة بدون مقابل في أي عقد من عقود المعاملات بين صنفين من نفس النوع فهو من الربا المحرم شرعًا، وهو الكبائر ومن السبع الموبقات، جاء تحريمه نصًا صريحًا بالكتاب والسنة، ويقينًا قطعيًا لا لبس فيه ولا شك في ذلك. قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 275-276] . قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278-279] . وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] . وقال: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] . وقال: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] . ومن أحاديث الرسول الكريم في الربا قوله: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)) رواه البخاري. قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أين هذا؟)) . قال بلال: كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أوه عين الربا عين الربا،‍ لا تفعل, لكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتره)) . أخرجه البخاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 890 وروي أبو سعيد الخدري وأبو هريرة رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكل تمر خيبر هكذا؟)) . قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا)) . أخرجه البخاري. ما حكم الفائدة المصرفية؟ : الجواب: انشغل علماء الفقه الإسلامي أهل الاختصاص بعد أن تصوروا تصورًا تامًّا ما هي الفائدة البنكية وكيفيتها وقواعدها وأصلها وفروعها وأسبابها ومسبباتها وآثارها بالبحث المتواصل الدؤوب، بدون ملل، وبتجرد من المؤثرات، وبحرية تامة؛ لما لهذا الموضوع من حساسية وخطورة تؤثر على الأمة الإسلامية جميعها، وحصيلة البحوث المتكررة، قرر الفقهاء المسلمون المعاصرون الباحثون: أن الفائدة البنكية هي من الربا المحرم شرعًا وإليك قراراتهم: قرار مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية القاهرة نقلاً عن مقال الدكتور أحمد النجار لسنة 1975م: المعاملات المصرفية في إطار التشريع الإسلامي في البلاغ الكويتية (بتاريخ 6 جمادى الثانية سنة 1395 هـ الموافق 15 يونيو 1975م العدد 209) نذكر ما اتفق عليه علماء مؤتمر البحوث الإسلامية الثاني في شأن المعاملات المصرية حيث قرروا ما يلي: (أ) الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي؛ لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين. (ب) كثير الربا وقليله حرام كما يشير إلى ذلك الفهم الصحيح في تحريم النوعين. (جـ) الإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك، ولا يرتفع إثمه عن المقترض إلا إذا دعت الضرورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 891 (د) أعمال البنوك من الحسابات الجارية وصرف الشيكات وخطابات الاعتماد والكمبيالات التداخلية، التي يقوم عليها العمل بين المتاجر والبنوك في الداخل، كل هذا من المعاملات المصرفية الجائزة، وما يؤخذ في نظير هذه الأعمال ليس من باب الربا. (هـ) الحسابات ذات الأجل وفتح الاعتماد بفائدة وسائر أنواع الإقراض نظير فائدة، كلها من المعاملات الربوية، وهي محرمة. (و) أما المعاملات المصرفية المتعلقة بالكمبيالات الخارجية فقد أُجِّلَ النظر فيها إلى أن يتم بحثها. المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي: إن مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي، المنعقد بمقر بنك دبي الإسلامي بإمارة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، خلال المدة من 23 جمادى الثانية إلى 25 جمادى الثانية عام 1399 هـ (الموافق من 20 إلى 22 مايو 1979م) . قد تناول بالبحث والدراسة المواضيع الفقهية الشرعية والاقتصادية المتعلقة بأعمال المصارف الإسلامية وفحص هذه الأعمال وبحثها بحثًا مستفيضًا بما ارتاحت إليه قلوب المؤتمرين من فقهاء الشريعة الإسلامية والمفكرين والاقتصاديين، ورجال الاقتصاد ورجال القانون من حيث سلامة تلك الأعمال، والتحقق من نفعها الأكيد، ومطابقتها لأحكام الشريعة الإسلامية الغراء. لذلك يؤكد المؤتمر أن ثقتهم في أن السلوك الذي تنتهجه المصارف الإسلامية، وكذلك التطبيق الذي تلتزم به خليقان بأن يصححا المسار الاقتصادي للأمة الإسلامية، وما تفرضه عليهم تعاليم دينهم الحنيف، وما ترتاح إليه ضمائرهم وقلوبهم. ولذلك يناشد المؤتمر دول العالم الإسلامي أجمع أن تبادر إلى إقامة مصارفها على أسس وقواعد المصارف الإسلامية، وأن تقدم لهذه المصارف كافة المساعدات التي تمكنها من تسيير أعمالها بيسر، وأن تباشر نشاطها بما يدعم اقتصاديات العالم الإسلامي وتحقيق تكاملها، وبما يمكن من إتمام المبادلات التجارية الخارجية فيما بين تلك الدول بطريقة مباشرة وبدون وساطة، وبما يطابق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 892 كما يهيب المؤتمر بالمسلمين جميعًا في أرجاء العالم أن يساندوا هذه المصارف؛ لتمكينها من تحقيق رسالتها الاقتصادية الإسلامية. المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي: (6 – 8 جمادى الثانية 1403 هـ 21 – 23/3/1983م) . جاء في التوصيات والفتاوى الثلاث الأولى للجنة العلماء ما يلي: 1- يؤكد المؤتمر أن ما يسمى بالفائدة في اصطلاح الاقتصاديين الغربيين ومن تابعهم هو من الربا المحرم شرعًا. 2- يوصي المؤتمر أصحاب الأموال من المسلمين بتوجيه أموالهم أولاً إلى المصارف والمؤسسات والشركات الإسلامية داخل البلاد العربية والبلاد الإسلامية ثم إلى خارجها، وإلى أن يتم ذلك تكون الفائدة التي يحصلون عليها كسبًا خبيثًا، وعليهم استيفاؤها والتخلص منها بصرفها في مصالح المسلمين العامة. ويعتبر الاستمرار في إيداع الأموال في البنوك والمؤسسات الربوية مع إمكان تفادي ذلك؛ عملاً محرمًا شرعًا. 3- يوصي المؤتمر بتشجيع المصارف الإسلامية القائمة ودعم إنشاء المزيد من هذه المصارف لتعم منافعها على جميع المستويات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 893 المؤتمر الثالث للمصرف الإسلامي: (9-11 صفر 1406 – 25/10/1985) : جاء في فتاوى لجنة العلماء بالمؤتمر في البندين (1 – 2) ما يلي: أولاً – إقامة المصارف الإسلامية على أسس شرع الله ودينه من تحريم الربا والغرر والجهلة وغيرها؛ ضرورة شرعية، ومصلحة من مصالح الأمة الجوهرية. ثانيًا – نظرًا للخدمات التي تؤديها المصارف الإسلامية من تيسير التجارة الدولية والمحلية، وتسهيل استبدال العملات، وجمع فائض الأموال من المسلمين واستثمارها على الوجه المشروع، وتوجيهها إلى مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي لا غنى للمجتمع المسلم عنها، تقرر أن: إقامة المصارف الإسلامية – حيث يوجد تجمع للمسلمين – فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم به أحد فالكل آثمون. ويحرم التعامل مع البنوك الربوية في جميع المعاملات المحظورة شرعًا. ويتعين على المسلم التعامل مع المصارف الإسلامية إن أمكن ذلك؛ توقيًا من الوقوع في الحرام أو الإعانة عليه. ثالثًا – يحرم على كل مسلم يتيسر له التعامل مع مصرف إسلامي أن يتعامل مع المصارف الربوية في الداخل والخارج، إذ لا عذر له في التعامل معها بعد وجود البديل الإسلامي، ويجب عليه أن يستعيض عن الخبيث بالطيب، ويستغني بالحلال عن الحرام. رابعًا- يدعو المجلس المسؤولين في البلاد الإسلامية والقائمين على المصارف الربوية فيها إلى المبادرة الجادة لتطهيرها من رجس الربا؛ استجابة لنداء ربهم في قوله سبحانه: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] وبذلك يسهمون في تحرير مجتمعاتهم من آثار الاستعمار القانونية والاقتصادية. خامسًا – كل ما جاء عن طريق الفوائد الربوية هو مال حرام شرعًا، لا يجوز أن ينتفع به المسلم – مودع المال – لنفسه أو لأحد ممن يعوله في أي شأن شؤونه، ويجب أن يصرف في المصالح العامة للمسلمين، من مدارس ومستشفيات وغيرها، وليس هذا من باب الصدقة، وإنما هو من باب التطهير من الحرام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 894 توصيات ندوة البركة في المدينة المنورة: جاء في إحدى فتاوى الندوة جوابًا على سؤال: هل يجوز أن يقوم البنك بالتعامل بالطريقتين الربوية واللاربوية – إذا كانت السلطات الحكومية في ذلك البلد اشترطت ذلك حتى تقتنع السلطات بالطريقة اللاربوية ومدى تطبيقها وفاعليتها؟ جاء في الفتوى ما يلي: "التعامل الربوي غير جائز شرعًا، ويوصي فقهاء الندوة بأن تتعاون البنوك الإسلامية في إنشاء بنك أو أكثر خارج البلاد الإسلامية، وأن تتعاون وتتعامل مع أي بنك إسلامي قائم فعلاً أو يقوم في المستقبل:. ويؤكد فقهاء الندوة أيضًا الجهود التي قام بها الشيخ صالح عبد الله كامل في إنشاء البنك الإسلامي في أوربا وتحرجه من أي تعامل ربوي) . وكانت الهيئة التي صدرت عنها تلك الفتاوى مكونة من: 1- فضيلة الشيخ عبد الحميد السائح. 2- فضيلة الشيخ صديق الضرير. 3- الأستاذ الدكتور زكريا البري. 4- فضيلة الشيخ حسن عبد الله الأمين. 5- فضيلة الشيخ عبد الله ناصح علوان. فتاوى المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية: جاء في الفتوى رقم 413 من الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية المجلد الثالث حول دراهم البنك، هل هي حرام أم لا؟ وفيما يؤخذ منها على سبيل التجارة، هل يعد ربا أم لا؟ جاء ما يلي: "أما الجواب عن حرمة دراهم البنك أو حلها فيؤخذ من حاشية الحموي على الأشباه، ونص عبارتها في التمر تأتي في باب مسائل متفرقة من كتاب الكراهة مانصه: "للرجل مال حلال اختلطه مال من الربا أو الرشا أو الغلول أو السحت أو مال الغصب أو السرقة أو الخيانة أو مال يتيم، فصار ماله كله شبهة، ليس لأحد أن يشاركه أو يبايعه أو يستقرض منه أو يقبل هدية أو يأكل في بيته. وكذا إذا منع صدقاته وزكاته وعشره، صار ماله شبهة لما فيه أخذه من مال الفقير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 895 وينبغي أن ترى الأشياء حلالاً في أيدي الناس في ظاهر الحكم، ما لم يتبين لك شيء مما وصفناه". انتهى. وأما الأخذ من دراهم البنك على سبيل التجارة بالفائض كما هو المعتاد الآن، فلا شك أنه من باب الربا المحرم إجماعًا. تقرير اللجنة الباكستانية: وجاء في الفصل الأول من تقرير اللجنة الباكستانية تحت عنوان "القضايا والمشاكل الإستراتيجية" (المسلم المعاصر ع 28) : لقد حرم القرآن الكريم الربا بشكل واضح ومؤكد، وثمة إجماع تام بين جميع المدارس الفكرية في الإسلامي على أن الربا يعني الفائدة بجميع أنواعها وأشكالها، وأن لغة الآيات التي يطالب فيها الناس باجتناب الفائدة وقوة التحذير الذي يوجه لهؤلاء الذين لا يلتزمون بالتعليم الإلهي في هذا الصدد، لا تترك أي شك في الذهن أن نظام الربا يعد بغيضًا تمامًا لروح الإسلام، يقول تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 275-276] . ويستمر الموضوع نفسه من الآيات 278- 279 من السورة نفسها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278-279] . إن التحذير السابق ذكره {بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] يوضح لنا تمامًا أن نظام الفائدة يتعارض مع الشريعة الإسلامية، ولا بد من إيجاد نظام اقتصادي واجتماعي خال من الربا والاستغلال والتسلط. وبعد هذه القرارات هل يأتي أحد يقول: أعيدوا النظر، وجاروا العصر، وكونوا معتدلين، وعدلوا القرارات، وقولوا مجاراة للعصر الحديث: إن الفائدة البنكية ليست من الربا المحرم شرعًا؟ الله أكبر، إذا كانت الفائدة البنكية ليست من الربا المحرم شرعًا، فما هو الربا المحرم شرعًا إذًا؟ أليس بيع نقد بنقد بزيادة، سواء أكان آجلاً أم عاجلاً ربا فالأمة الإسلامية مدعوة الآن - وبأكثر من أي وقت آخر - لتصحيح المسار من منهج ربوي إلى منهج مشروع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 896 بيوع النقود بالأجل محرمة حيث لا يجوز بيع النقود بأجل حتى ولو اختلفت أجناسها، ولا يجوز بزيادة إذا كانت من نفس النوع، والربا قاعدة فيها جور وظلم على الإنسان تخدش كرامته وتذل الناس بعضهم لبعض، وإليك بعض مضارها التي ظهرت لي: 1- الوقوع فيما حرم الله تعالى، والتعرض لمحاربة الله القوي العزيز. 2- أكل أموال الناس بالباطل. 3- زيادة التكلفة على الحاجيات التي يحتاجها الناس بمقدار ما تحمل من فوائد بسيطة أو مركبة. 4- تركيز الثروة عند فئة قليلة من الناس غير منتجة تعيش على كدح الآخرين. 5- عند عجز المدين عن الوفاء يتراكم عليه الدين بزيادة الفائدة، مما يزيد من عجزه حتى يثقل كاهله، فإما يعلن إفلاسه أو تستمر الفائدة بالزيادة حتى يركع ويبيع كل ما عنده ليسدد دينه وفوائده. 6- الحقد والكراهية والحسد بين طبقات الناس، مما يؤدي إلى الفتن والحروب. 7- تسلط الفئة الدائنة على المدينين، وتسيير السياسة التي يفرضونها على مجتمعاتهم بما يتمشى مع مصالحهم حتى ولو تضرر المجتمع. 8- عند عجز المدينين عن الوفاء للفئة الدائنة تعجز هذه الفئة عن تسليم الودائع لأصحابها عند حلولها، وبالتالي يعتبر الجميع في حالة إفلاس. 9- النقود وحدة قياسية للأثمان بها قوة اعتبارية وقوة ثمنية، والوحدة القياسية ثابتة عندما تقاس مع ذاتها تساوي ذاتها تمامًا، كالوحدة القياسية الطولية المتر، وكالوحدة القياسية للأوزان، فالمتر يساوي مترًا، والكيلو يساوي كيلو، وكذلك الدينار يساوي دينارًا، وإذا قلنا غير ذلك اختلت القواعد للوحدات، القياسية ويحصل الارتباك العظيم. على أن الله سبحانه وتعالى عندما حرم الربا أحل البيع وأبوابًا أخرى كثيرة، منها القراض والشراكة والإجارة والوكالة، فانظر إلى الفرق بين عملية الربا وعملية البيع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 897 فتمامًا كما حرم الله الزنا أحل الزواج، فالربا ظلم اقتصادي وفوضى اقتصادية، والزنا ظلم اجتماعي وفوضى في الأنساب والأعراض. فعلمية الربا: طرفان يتعاقدان على تبادل صنف مماثل لنفس الصنف بزيادة، مثل ذهب بذهب بزيادة، أو فضة بفضة بزيادة، أو عملة بعملة من جنسها بزيادة، سواء كان هذا التبادل عاجلاً بعاجل أو عاجلا بآجل أو آجلا بآجل فما الذي فعله الطرفان؟ الجواب: عمل الطرفان تضخمًا في الأثمان للصنف المتعاقد عليه بدون مبرر، فكلما تكررت العملية تكرر التضخم لذات الصنف، وهو لم يطرأ عليه تغيير. وهذا التضخم بالتالي من يعاني منه؟ الجواب: المستهلك هو الذي يعاني من هذا التضخم، والمستهلك غالبًا من أصحاب الدخل المتوسط أو المحدود. وحرم الله سبحانه وتعالى هذا التعامل بين الناس حتى لا تكون الأموال دولة بين الأغنياء بدون وجه حق وبدون مسوغ أو أي مبرر، هذا فهم متواضع حسبما ظهر لي في الربا، ناهيك عن بقية المحذورات المترتبة على استمرار التعامل بالربا من أمراض اجتماعية وأخلاقية وسياسية حتى الأمراض البدانية، وما الفتن والحروب بين الناس والتباغض والتطاحن إلا نتيجة للربا. والعالم الآن يعاني من هذا، والعجيب العجيب انهم يعانون من الربا ولا يريدون الخلاص منه، كالمخمور الذي قضت عليه الخمر ولا يريد الفكاك منها، إنا لله وإنا إليه راجعون. خبروني: متى تسدد البلاد النامية الديون التي عليها بعد أن تراكمت عليها الفوائد؟ ثم خبروني: هل تستطيع المصارف العالمية أن تقف على أرجلها إذا سحب أصحاب الودائع ودائعهم منها، أم أنها الحرب المنتظرة ويكون سببها الربا؟ المعاملات البديلة: عندما أغلق الإسلام أبواب الربا أتى بالبدائل المشروعة ومنها: البيع: أما البيع فهو معاملة بين طرفين على صنفين مختلفين، إما نقد مقابل عين، أو عين مقابل صنف آخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 898 فالعين المباعة مقابل النقد، تمت هذه المعاملة بين طرفين، طرف محتاج للعين المباعة وطرف محتاج للنقد، هذا أخذ العين وانتفع بها انتفاعًا مباشرًا، والآخر أخذ النقد وراجت سلعته وتحركت ونمت تجارته أو صناعته أو أي نوع من أنواع الاستثمار، وبذلك حصل المستهلك على بضاعته بسعرها المجرد من التضخم، وصاحب السلعة المباعة أو المستثمر استطاع أن ينمي عمله. ومعنى هذا تشغيل اليد العاملة، والقضاء البطالة قضاء على الأمراض سالفة الذكر. ثم انظر عندما تنمو التجارة، أوجب الله تعالى فيها الزكاة، كما أوجب الزكاة على النقود وعلى ريع المستغلات؛ لأن عروض التجارة تعتبر بحكم النقود السائلة، فيزكى (رأس المال والربح) ، أما المستغلات فلكونها استثمارًا طويل الأجل استفادت وتستفيد منه اليد العاملة، فإن الزكاة فيها قاصرة على الريع دون أصولها. نظام القراض (المضاربة) : أحله الإسلام وهو اشتراك المال مع العمل حسب شروط معينة مقبولة لدى المتعاقدين: صاحب المال يأخذ نصيبه من الربح، وصاحب العمل يأخذ نصيبه من الربح حسب الاتفاق، إذا – لا سمح الله – حصلت خسارة لا يتحمل العامل أي خسارة، ويرجع ما بقي من المال لصاحبه، إلا إذا قصّر العامل أو أهمل أو تسبب للخسارة، فهذه لها حكمها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 899 نظام الشراكة: بين طرفي المال والإدارة أو في المال فقط، ويدار العمل حسب مقتضى الشريعة، وتقسيم الأرباح والخسائر بينهما حسب الاتفاق. الإجارة: العين المؤجرة ينتفع بها المستأجر مقابل مبلغ من المال يدفعه حسب الاتفاق، كإيجار العمارات والآلات والسيارات والبواخر والطائرات، فالمنافع متبادلة بين المتعاقدين، والمدرس والطبيب والمهندس والموظف يجوز أن يعمل هؤلاء بأجر متفق عليه، وكلها خدمات ملموسة. الوكالة: عمل يقوم به أحد الأطراف للآخر مقابل مبلغ من المال متفق عليه، وهذا جائز كالمحامي والمهندس المشرف. وتجوز الوكالة في كثير من الأعمال كالمتاجرة ووكيل العقارات ووكيل في الصناعة والزراعة، أو أي عمل مشروع استثماري يجوز التوكيل فيه. انظر أيها المسلم في هذه الأعمال المشروعة تجدها ذات فائدة للجميع، دون أن تطغى فائدة فئة معينة على فئة أخرى، وفيها العدل وفي ذلك المحافظة على كرامة الإنسان التي يعتبرها الإسلام في المرتبة الأولى في المنهج الإسلامي {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء: 70] وكتب الفقه الإسلامي تزهو بالتفصيلات الكافية لما تقدم، وما عليك إلا أن تطالعها وتفقهها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 900 ثم بغض النظر عن معرفة هذه الحقائق أو جهلها، أو معرفة غيرها من الحقائق، فنحن كأمة إسلامية مطالبون بتطبيق منهج الله تعالى الذي فرضه وأرسل به نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم تطبيقًا كاملاً في العبادات والمعاملات والسلوك والأخلاقيات، فمتى يتحقق ذلك؟ ونقلع عن اتباع منهج الهوى والشيطان، فإما الرجوع إلى الله تعالى وإلا فالاستعداد لتلقي الكوارث، كارثة تلو الأخرى. فالأمة الإسلامية مدعوة في هذه الأيام وبسرعة لإعادة النظر في المنهج المستورد وتغييره بالالتزام بمنهج الله تعالى، ولو عزمت على ذلك فليس هناك قوة على وجه الأرض تجبرها على غير ذلك، والله ناصرها ومؤيدها، وبذلك يكون فتح باب خير للأمم الأخرى المحتارة لاتباع منهج الله تعالى، ويكون بذلك خلاصها من شرور الدنيا والحصول على الحياة السعيدة في آخرتها، أما إذا عزفت الأمة الإسلامية عن تطبيق منهج الله تعالى في جميع أمورها، فبذلك تكون انتفت الحكمة من وجودها في هذا الكون، حيث قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، ومفهوم العبادة شامل لكل ما يحبه الله ويرضاه. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] . والله المستعان وهو ولي التوفيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 901 أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله الحى القيوم، العزيز الحكيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وصحبه أهل العلم الصحيح والمنهج القويم والذوق السليم. وبعد؛ فهذا بحث في نقود الكاغد محذوف الشواهد، مطروح الزوائد، يحتوي - إن شاء الله - على بعض الفوائد، لا يدعي اقتناص الشوارد، ولا تقيد الأوابد، في مجال لم يترك الرواد فيه وشلا لوارد، صغته في شكل مسائل، وسلكت فيه سبيل أهل الفتوى في النوازل، لا أقول فيه كما قال الشاعر: كَمْ تَرَكَ الْأَوْلُ لِلْآخِر بل اكتفى على قدر الجهد بالاتباع، واغتني بنصيف المد عن تطفيف الصاع. فضيلة الشيخ عبد الله ولد بيه أستاذ بجامعة الملك عبد العزيز كلية الآداب جدة في 20/1/1407هـ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 902 التعريف: النقود جمع نقد، وهو في الأصل مصدر لنقد إذا ميز الدراهم الجياد من الزايفة، أو إذا أعطاها معجلة، إلا أنه مصدر وُصف به، فقيل: درهم نقد: أي جيد، وأصبح فيما بعد اسما لواسطة التبادل، وتنوسي أصل المصدرية كما تنوسي أصل الوصفية، فأصبح مرادفًا للدرهم والدينار وما في معناهما، وذلك ليس بمستبعد من الناحية اللغوية. فالوصف إذا كثر استعماله يقوم مقام الموصوف، فلا يحتاج إلى تقدير موصوف، كقولهم: هبت الجنوب والشمال، بدون حاجة إلى ذكر الريح، وكالهجان أصلها صفة للأبل البيض الكرام، يستوي فيها الفرد والجمع، والمذكر والمؤنث، يقال: جمل هجان وإبل هجان قال جرير: سيكفيك العواذل أرحبي هجان اللون كالفرد اللياح ويجمع على الهجن والهجائن، وأصبحت الهجن وصفًا قائما ًمقام الإبل مهما كان لونها، فيقولون: سباق الهجن، وله أصل في اللغة العربية قال الشماخ: أعائش ما لقومك لا أراهم يضيعون الهجان مع المضيع يريد به الإبل، وكانت زوجته عائشة تلومه على عدم إتلاف ماله فردّ عليها بأن قومها لا يتلفون مالهم، (ذلك رأى سيبويه الذي حكم بأصالة (لا) في البيت) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 903 ونعتقد أن هذا التفسير سائغ لدى النقاد، فلا نحتاج إلى ذكر النقاد، وتتبع مادة نقد كما فعل القس الكرملي الذي جعله من النقاد لجنس من الغنم وهو بعيد، بل أصله وصف أخذ محل الموصوف بسبب كثرة الاستعمال، فأصبح يوصف كما قال مرتضى في التاج: ونقود جياد. وكذلك الزمخشري في أساس البلاغة فوصف النقود بأنها جياد، يعنى أنها أصبحت اسما يوصف بدلاً من أن تكون وصفًا يصف. التعريف الاصطلاحى: كلمة (النقود) قد مرت بمراحل وتطورات فقهية جعلت من الصعب تعريفها تعريفًا ثابتًا لا علاقة له بالزمن، ولا يعرف المخاطبين. إذن فالتعريف يمكن أن يكون عرفيا، ومن المعلوم أن الحقيقة العرفية لا يُلجأ إليها إلا بعد عزل الحقيقة اللغوية؛ لعدم أدائها للمعنى المطلوب وانعدام الحقيقة الشرعية، فهذه الكلمة بعد أن رأينا أنها كانت يعنى بها الدرهم الجيد الكامل - لغةً - نجدها تطلق على النقود: الذهب والفضية، ونجدها بعد ذلك تختص بالمضروب منها دنانير ودراهم. قوله: " نقد " يوهم قصر الربا على المسكوك؛ لأن النقد خاص به، فتكون مرادفة للعين. قال الخطابي: التبر قطع الذهب والفضة قبل أن تضرب وتطبع، والعين المضروب دنانير ودراهم. القرطبي. وانتشر التعبير بالنقد في كل ما استعمل ثمنًا للأشياء وغيرها مما يكون واسطة للتبادل، ويشعر إمام الحرمين بالحرج لذلك فيقول: "قال قائلون ممن يصحح العلة القاصرة: فائدة تعليل تحريم التفاضل في النقدين تحريم التفاضل في الفلوس إذا جرت نقود" إلى آخر كلامه الذي قد نتعرض له في مناقشة الربوية (1) .   (1) البرهان: 2/1082-1083. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 904 فإمام الحرمين لا ينفي إطلاقا إطلاق الاسم على الفلوس؛ لأنه مرادف للوساطة في التبادل أي الثمنية، وإنما ينفي النتائج المترتبة على ذلك. وقد انتشر هذا التعريف للنقد في أوساط الفقهاء، وهنا يلتقي الفقهاء مع تعريف الاقتصاديين الذي يتمثل باختصار في كون النقد كل شيء يلقى قبولاً ورواجًا كوسيط للتبادل، مهما كان ذلك الشيء، وعلى أي حال يكون. ولا نطيل عليكم بذكر التعريفات المختلفة. وهذا التعريف للنقد لا نجد حرجًا من قبوله كمصطلح اقتصادي، فقد رأينا أن الفقهاء وصلوا إليه في النهاية، وخصوصًا المدرسة المعللة بالثمنية المتعدية، فقد بالغت في ذلك حتى إن ابن العربي ضرب مثلاً بالخبز في بغداد، وقد شاهده كوسيلة تبادل حتى إن الحمام يُدخل به. فهذا هو غاية تطور كلمة النقد عند الفقهاء، ولا نطيل عليكم بتطور النقود في أوربا من سندات إلى أوراق معتمدة لها غطاء وبدون غطاء، فهذه أمور معروفة لديكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 905 أحكام النقود الورقية في مسائل المسألة الأولى حكم طبع النقود الورقية هو الجواز إذا خضع لضوابط تمنع إنزال الضرر بالناس لحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) . أخرجه مالك في الموطأ مرسلاً وأحمد وأبو داود، وقال السيوطي: إنه صحيح. ولهذا فيمنع إحداث نقود تؤدي إلى الفوضى والتضخم، فلا يجوز للأفراد ولا للسلطة أن تحدث ذلك للقاعدة الشرعية. فالعفو هو الأصل، وإن كانت السكة في ذلك الوقت تعني الدنانير الهرقلية والدراهم البغلية الفارسية التي كانت ترد على العرب، وأقرب في زمنه صلى الله عليه وسلم وفي زمن الخلفاء الراشدين، حتى زمن دولة بنى أمية، حيث ضرب عبد الملك بن مروان سنة خمس وسبعين السكة (1) . وقد ظهرت الفلوس في صدر الإسلام بجانب الدناير والدراهم، كما تدل عليه فتاوى الأئمة الكبار في ذلك الوقت؛ قال السيوطي في الحاوي: التعامل بالفلوس قديم. وبعد ذكره التعريف اللغوي قال: "قال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا محمد بن أبان عن حماد عن إبراهيم قال: لا بأس بالسلف في الفلوس". أخرجه الشافعي في الأم، والبيهقي في سننه دليلاً على أنه لا ربا في الفلوس. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن مجاهد "لا بأس بالفلس بالفلسين يدا بيد". وأخرج عن حماد مثله، وأخرج عن الزهري أنه سئل عن الرجل يشتري الفلوس بالدراهم، قال: "هو صرف فلا تفارق حتى تستوفيه". وذكر الصولي في كتاب الأوراق أنه سنة إحدى وسبعين ومائتين ولي هارون بن إبراهيم الهاشمي حسبة بغداد في زمن الخليفة المعتمد، فأمر أهل بغداد أن يتعاملوا بالفلوس، فتعاملوا بها على كره ثم تركوها".   (1) البلاذري في فتوح البلدان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 906 وكانت خاصة باشتراء المحقرات كما يقول المقريزي في كتابه: "إغاثة الأمة بكشف الغمة": "إن سبب ضرب الفلوس أيام الكامل من الدولة الايوبية، هو شكوى امرأة إلى خطيب الجامع بمصر أبي الطاهر المحلي مسألة من مسائل الصرف الربوي تصعب السلامة منها؛ لأنها تشتري الماء من السقاء بنصف درهم، فتعطي درهما ويرد السقاء نصف درهم ورقا، فكأنها اشترت الماء ونصف درهم، فأنكر أبو الطاهر ذلك وكلم السلطان، فضرب الفلوس، واستمر الناس في ذلك حتى أصبحت هي الرائجة في مصر، وحلت محل الذهب والفضة، وخصوصًا أيام السلطان برقوق إلى أيام المقريزي في القرن التاسع. ولعله يشير بهذه الحكاية إلى المسألة المشهورة عند الشافعية بمد عجوة ودرهم؛ وهي: أن يبيع أحد ربويين بمثله ومع أحد العوضين جنس آخر، فالبيع باطل عند الشافعية والمالكية، إلا أن هؤلاء يتسامحون في المحقرات. أما النقود الورقية فإنها ظهرت في الصين لأول مرة كما يذكر ابن بطوطة: ثم ظهرت في الغرب فكان بنك استكهولم بالسويد أول حلقة سنة 1608م في سلسلة تطور النقود الورقية الذي استمر إلى عصرنا الحالى من سندات إلى أوراق مغطاة بالذهب، إلى أوراق غير مغطاة. ولا أرى ضرورة للتوقف عند ذلك، المهم أنه لا اعتراض للفقهاء على توسيط أي شيء في التبادل ما لم يكن محرم العين أو مغشوشًا بشكل لا يمكن تحديد نسبته ولم يتواضع عليه، علمًا بأن بعض العلماء كالمقريزي في كتابه "إغاثة الأمة" أنكر إنكارًا شديدًا التعامل بالفلوس واستبعاد الذهب والفضة من دورة التعامل قائلاً بعد أن ذكر أن الفلوس أصبحت عوضًا عن المبيعات كلها، من أصناف المأكولات والمشروبات، وسائر أنواع المبيعات: ويأخذونها في خراج الأرضيين، وعشور أموال التجارة، وعامة مجابي السلطان، ويصيرونها فيها في الأعمال جليلها وحقيرها، ولا نقد لهم سواها، ولا مال إلا إياها، بدعة أحدثوها، وبلية ابتدأوها، لا أصل لها في سنة نبوية، ولا مستند لفعلها من طريقة شرعية، ولا شبهة لمبتدعها في الاقتداء بفعل أحد ممن غبر. إلى آخر كلامه، حيث أبرز ما حل بالبلاد من الدمار والاضمحلال بسبب التعامل بالفلوس. وقال: إن النقود المعتبرة شرعًا وعقلاً وعادة، إنما هي الذهب والفضة فقط، وما عداهما لا يصح أن يكون نقدًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 907 إلا أن ضابط الجواز هو ما ذكرناه سابقا من عدم إلحاق الضرب الناس في ممتلكاتهم، ومعاملاتهم وعدم بخس أشيائهم وتعريض اقتصادهم للفوضى والاضمحلال، فالأصل الجواز فيما سلم من ذلك، خصوصًا إذا عري عن سبب يجعل شبهة التحريم قائمة، كنيابة النقود الورقية عن العين الغائبة، مما يؤدي إلى الصرف المؤجل، ومع ذلك فنحن نشاهد فوضى نقدية تتلاعب بأموال الناس، وتحيل أرصدتهم إلى أوراق من الكاغد لا قيمة لها، مما يجعل جوازها خاضعًا للقاعدة الشرعية المتمثلة في أن الحاجي ينزل منزلة الضروري كالإجارة، حيث خالفت القياس لورود العقد على منافع معدومة. فالحاصل أنها إذا لم تترتب عليها أضرار اقتصادية فهي جائزة. المسألة الثانية هل بيع هذه النقود بعضها ببعض يدخله الربا؟ إذا كان بيع هذه النقود بعضها ببعض أو بالذهب والفضة يدخلهما الربا كما يدخل في الذهب والفضة، أولا يدخل فيها الربا إلا ما يدخل في العروض، فما هو الحكم في هذه المسألة؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 908 إن هذه المسألة مطروحة منذ ظهرت الفلوس، وأفتى فيها الأئمة، ولم يخل مذهب من خلاف في داخله حول هذه القضية، حتى وصلت إلى عصرنا هذا. ولا يزال النقاش مفتوحًا لصعوبة إقناع أيٍّ من الفريقين الآخرَ في غيبة نص صريح أو أثر للخلاف رافع، أو إجماع قاطع، أو قياس جلي ناصع. ويمكن أن نقسم اختلاف الفقهاء إلى موقفين: موقف يعتمد النص الحرفي أو دلالته القريبة، ويتمثل في مذهب أهل الظاهر، وهو رأي كثير من علماء المذاهب الأخرى. وموقف يبتعد عن النص إلى حد ما عن طريق التعليل واستكناه مغزى النصوص ومراميها، ويجد سندا في بعض المذاهب الأخرى. ولكثرة ما كتب في الموضوع فسأتحدث بإيجاز عن كلا الموقفين، ثم أذكر مختاري في المسألة. الموقف الأول: يتمثل في انتفاء الربوية، وقد يختلف معتنقوه في التعبير عنه بسبب اختلاف مشاربهم ومذاهبهم بين مانع القياس مكتفيا بالنص كأساس في سائر الأصناف، وبين من لا يتخذ هذا الموقف المبدئي فهو يجيز القياس، إلا أنه ينفي وجود علة في هذا المكان بالذات، أو يعترف بوجود علة فيه، غير أنه يدعي فيها القصور. واقتصارا للبحث فإننا نجعل تحت هذا الموقف من يعتبرها كالفلوس وهو ينفي الربوية عن الفلوس، ومن يجعلها كالعروض لأنه يثبت للفلوس نوعًا من الربوية لا يخضع لعلة الثمنية. أما الظاهرية فإن موقفهم ينسجم مع مذهبهم الذي يرفض القياس ويرى من النصوص كفاية للقضايا المتجددة، وقد دافع ابن حزم عن موقفهم، ورد عليه ابن القيم وغيره بضراوة لا تقل قوة. فموقف الظاهرية معروف له ما له وعليه ما عليه. وقد نحى منحى الظاهرية في هذه المسألة جملة من العلماء، فمن السلف طاوس وقتادة وعثمان البتي وأبو سليمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 909 كما حذا حذوهم ابن عقيل من الحنابلة، وأبو بكر الباقلاني من المالكية، والأخير عن ابن رشد في البداية، واللخمي أيضًا من المالكية عن أحمد بن علي المنجور، في شرحه القواعد في مخطوطة ابن التلاميذ الشنقيطي ص60. ونصف في نفس الاتجاه من يعلل علة لا تتناول النقود الورقية، كالوزن عند أبي حنيفة وأحمد في أحد قوليه، ولا داعي لنقل كلام هؤلاء لوضوح كلامهم واشتهاره، كما نصف في نفس الاتجاه أيضًا من يعلل بالثمنية أو الثمنية الغالبة، وهو يصرح بأن هذه العلة قاصرة وليست صالحة للتعدية إلى غير محلها، وهؤلاء يجدر بنا أن نتعرض لبعض أقوالهم وآرائهم نظرًا للالتباس الذي يوحي به التعليل بالثمنية. ونقف وقفة قبل أن نسترسل معهم لنشير إلى أن بعض العلماء ممن يعترف بمبدأ القياس يقترب في تحليل فقهه من الظاهرية، وكمثال على ذلك نذكر ما نقله إمام الحرمين عن القاضي أبي بكر الباقلاني المالكي – وقد رأينا أنه غير معلل في هذه المسألة – حيث قال القاضي: الكتاب والسنة متلقيان بالقبول والإجماع ملحق بهما، والقياس المستند إلى الإجماع هو الذي يعتمد حكما وأصله متفق عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 910 أما الاستدلال فقسم لا يشهد له أصل من الأصول الثلاثة، وليس يدل لعينه دلالة أدلة العقول على مدلولاتها، فانتقاء الدليل على العمل بالاستدلال دليل انتفاء العمل به، وقال أيضًا: المعاني إذا حصرتها الأصول ضبطتها النصوص، كانت منحصرة في ضبط الشارع. وإذا لم يكن يشترط استنادها إلى الأصول لم ينضبط واتسع الأمر ورجع الشرع إلى اتباع وجوه الرأي واقتنفاء حكمة الحكماء. فيصير ذوو الأحلام بمنزلة الأنبياء، إلى أن قال: ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان وأصناف الخلق، وهو في الحقيقة خروج عما درج عليه الأولون (1) . ولعل كلام القاضي، وإن كان إمام الحرمين اعترضه، إلا أنه ليس بعيدًا من تفكير الشافعية، فهم وإن كانوا يقولون بالثمنية أو غلبة الثمنية لعلة، إلا أنهم يقولون بأنها علة قاصرة، والعلة القاصرة عند من يقول بها هي التي لا تتعدى معلولها؛ لكونها محل الحكم أو جزء علة أو وصفًا لازمًا. وقد ناقش علماء الأصول العلة القاصرة لإثبات وجودها، ثم بعد ذلك لتحديد وظيفتها وعلاقتها بهذه المسألة، ومن هؤلاء إمام الحرمين في البرهان (2) . مسألة: إذا استنبط القائس علة في محل النص، وكانت مقتصرة عليه منحصرة فيه لا تتعداه، فالعلة صحيحة عند الامام الشافعي رضي الله عنه. ونفرض المسألة في تعليل الشافعي تحريم ربا الفضل في النقدين بالنقدية، وهي خاصة بالنقدين لا تتعداهما، وقد أطال النفس وناقش نفاة العلة القاصرة كالأحناف. وفي هذه المناقشة عرج على مسألة الفلوس أكثر من مرة، فقال: ولقد اضطرب أرباب الأصول عند هذا المنتهى، ونحن نذكر المختار من طرفهم، ونعترض على ما يتطرق الاعتراض إليه، ثم نص على ما نراه. قال قائلون ممن لا يصحح العلة القاصرة: فائدة تعليل تحريم التفاضل في النقدين تحريم التفاضل في الفلوس إذا جرت نقودا، وهو خرق من قائله، وضبط على الفرع والأصل، فإن المذهب أن الربا لا يجري في الفلوس إن استعملت نقودا، فإن النقدية الشرعية مختصة بالمصنوعات من التبرين، والفلوس في حكم العروض، وإن غلب استعمالها، ثم إن صح المذهب قيل لصاحبه: إن كانت الفلوس داخلة تحت اسم الدراهم فالنص متناول لها، والطلبة بالفائدة قائمة، وإن لم يتناولها النص فالعلة متعدية إذًا، والمسألة مفروضة في العلة القاصرة.   (1) البرهان: 1115 قطر. (2) البرهان: 1080. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 911 كلام إمام الحرمين واضح في أن النقدية قاصرة على النقدين، وافتراضه الجدلي ظاهر في صعوبة منحاه، حيث يجعل النقدية وهي الثمنية علة، ثم يمنع طردها. ثم قال بعد ذلك: فإن قيل: ما ذكرتموه تصريح باطل إلى التعليل بالنقدية قلنا: لم نر أحدًا ممن خاض في مسائل الربا على تحصيل فيما نورده. والصحيح عندنا أن مسائل الربا شبهية، ومن طلب فيها إخالة اجترأ على العرب، كما قررناه في مجموعاتنا. ثم الشُّبَهُ على وجوه، فمنها التعلق بالمقصود، وقد بينا أن المقصود من الأشياء الأربعة الطعم، ومن النقدين النقدية، وهي مقتصرة لا محالة وليست علة، إذ لا شبهة فيها ولا إخالة فيها. . . إلى آخر كلامه. وقال بعد ذلك في التعارض بين العلة القاصرة والمتعدية وما قررناه لا يجري في النقدين، فإن العلة التي عداها الخصم فيهما باطلة من وجوه سوى المعارضة. وقال أيضًا فإن قيل: قد علل أبو حنيفة رحمه الله في باب النقدين بالوزن وهو متعد إلى كل موزون، وعلل الشافعي رحمه الله بكونهما جوهري النقدين. وهذا مقتصر على محل النص فما قولكم في ذلك؟ قلنا: الوزن علة باطلة عند الشافعية، والقول في التقديم والترجيح يتفرع على اتصاف كل واحدة من العلتين بما يقتضي صحتها لو انفردت (1) . وقد أوضح النووي في المجموع مذهب الشافعي فقال: وأما الذهب والفضة فالعلة عند الشافعية فيهما كونهما جنس الأثمان غالبًا، وهذه عنده علة قاصرة عليهما؛ إذ لا توجد في غيرهما. وبعد ذلك يوضح المسألة فيقول: إذا راجت الفلوس رواج النقود لم يحرم الربا فيها، هذا هو الصحيح المنصوص وبه قطع المصنف والجمهور (2) . وقد أطال جلال الدين المحلي في شرحه لجمع الجوامع للسبكي حيث قال ممزوجا بالنص " والعلة القاصرة وهي التي لا تتعدى محل النص منعها قوم أن يعلل بها مطلقًا"، والحنفية منعوها إن لم تكن ثابتة بنص أو اجماع، قالوا جميعا: لعدم فائدتها، وحكاية القاضي أبي بكر الباقلاني الاتفاق على جواز الثابتة بالنص معترضة بحكاية القاضي عبد الوهاب.   (1) البرهان: 1269. (2) المجموع مطبعة العاصمة: 9/444-447. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 912 كما أشار إلى ذلك المصنف بحكاية الخلاف. والصحيح جوازها مطلقًا، وفائدتها معرفة المناسبة بين الحكم ومحله، فيكون أدعى للقبول ومنع الإلحاق بمحل معلولها، حيث يشتمل على وصف متعد لمعارضتها له ما لم يثبت استغلالها بالعلة، إلى أن قال: ومن صورها ما ضبطه بقوله: "ولا تعدي لها" أي العلة عند كونها محل الحكم، أو جزءه الخاص بأن لا يوجد في غيره، أو وصفه اللازم بأن لا يتصف به غيره لاستحالة التعدي حينئذ. مثال الأول: تعليل حرمة الربا في الذهب بكونه ذهبًا، وفي الفضة كذلك. ومثال الثاني: تعليل نقض الوضوء في الخارج من السبيلين بالخروج. ومثال الثالث: تعليل حرمة الربا في النقدين بكونهما قيم الأشياء. وبمراجعة كلام السبكي وشارحه جلال الدين يتضح أن الثمنية لا تعني التعدي، وأنها ثمنية تختص بمحل الحكم لكونها وصفه اللازم. وقد نظم سيدي عبد الله الشنقيطي المالكي في "مراقي السعود" كلام السبكي فقال: وَعَلَّلُوا بِمَا خَلَتْ مِنْ تَعْدِيَهْ لِيُعْلَمَ امْتِنَاعُهُ وَالتَّقْوِيَهْ مِنْهَا مَحَلُّ الْحُكْمِ أَوْ جُزْء وَزَدْ وَصْفًا إِذَا كُلٌّ لُزُومِيًّا يَرِدْ قال في شرحه "نشر البنود": يعنى أن المالكية والشافعية والحنابلة جوزوا التعليل بالعلة القاصرة، إلى أن قال: فتعدية العلة شرط في صحة القياس ااتفاقًا، والجمهور على أنها ليست شرطا في صحة التعليل بالوصف كتعليل طهورية الماء بالرقة والنظافة دون الإزالة. وتعليل الربا في النقدين بالنقدية أو بالثمنية أو بغلية الثمنية. . . إلى أن قال: يعني أن من صور العلل القاصرة أن تكون العلة محل الحكم أو جزءه الخاص به أو وصفه اللازم له، والمحل ما وضع اللفظ له كالخمرية، إلى أن قال: والمراد بالوصف اللازم هنا هو ما لا يتصف غير المحل به، كالنقدية في الذهب والفضة، أي كونهما أثمان الأشياء، فإنهما وصف لازم لهما في أكثر البلاد (1) . ونلاحظ حرصهم على التمثيل للعلة القاصرة بالنقدية أو الثمنية أو غلبة الثمنية، أو كونهما قيمة للأشياء، كل هذا يدل على أن المعللين بالثمنية أو غلبتها ويقولون بقصور العلة، يرون أنها ثمنية من نوع خاص، وهذا كقول البهوتي الحنبلي في زكاة الذهب والفضة في كتابه"كشاف القناع": وهما الأثمان فلا تدخل فيها الفلوس ولو كانت رائجة. إن النقدية الشرعية - كما سماها إمام الحرمين - تعني فيما يبدو كون النقدين أثمانًا بالخلقة، حين تعتبر ثمنية غيرها ثمنية عارضة. ونرى أن علماء الفروع بنى كثير منهم على هذه النظرية فقال الشيخ زكريا الشافعي: إنما يحرم الربا في نقدين ذهب وفضة، ولو غير مضروبين كحلي تبر، بخلاف العروض، كفلوس وإن راجت. وفي الدر المختار للشيخ محمد علاء الدين قوله: يحل بيع فلس بفلسين أو أكثر. وفي حاشية ابن عابدين جوازه عند أبي حنيفة، وأبي يوسف: ليست أثمان خلقة فهي كالعروض.   (1) المنجور: 60. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 913 وقد أسقط جل المالكية الزكاة في الفلوس، إلا أن موقفهم ظل من الربوية مترجحًا بين الحكم بها وعدمه، فهي إذًا ثمنية من نوع خاص؛ لأنها وحدها الغالبة، ولأنها: "أصل الأثمان عند الشافعي " (1) ، ولأنها النقد الشرعي، كل هذه العبارات تدل على تهرب المعللين بالعلة القاصرة من شمولها للفلوس وما جرى مجراها. أما وجهة النظر الأخرى التي تقول بالثمنية المتعدية - سواء عبر عنها بغلبة الثمنية، أي غلبة الاستعمال في التبادل، أو مطلق الثمنية - ويمثلها المالكية؛ لأن مالكًا رحمه الله كره ذلك. قال ابن القاسم: سألت مالكًا عن الفلوس تباع بالدنانير والدراهم نظرة - أي تأخيرا - ويباع الفلس بالفلسين؟ قال مالك: إني أكره ذلك، وما أراه مثل الذهب والورق في الكراهة. وفي المدونة نصوص تدل على كراهة مالك لبيع الفلوس بالذهب والفضة نظرة، ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود، وكانت لها عين وسكة فإن مالكًا يكره بيعها بالذهب والفضة نظرة. وانطلاقا من نص الامام فإن علماء المالكية وضعوا قاعدة الثمنية أوغلبيتها، أي هل تعتبر مطلق الثمنية كافيا لتلحق الفلوس بالنقدين، أو لا بد من أن يكون استعمالها غالبا؟ وكلا العلتين متعدية عند أكثر المتأخرين من أصحاب مالك، إلا أنهم بسبب الترجح بين العلتين، أي بين علة واقعة وهي الثمنية القائمة في الفلوس فعلا، وبين علة لم تقع زمانهم وهي غلبة الثمنية، وعلى أصل مالك في التوسط بين الدليلين وهو ما يسمى بالبينية، أي وجود حكم بين دليلين، وهو إعمال كل من الدليلين من وجه يناسب أعماله.   (1) المنجور: 60. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 914 قال الزقاق في المنهج المنتخب: وَبَيْع ذِمِّيٍّ وَعِتْق هَلْ وَرَدْ الْحُكْم بَيْنَ كَوْنِهِ اعْتَقدْ كَالْبَيْعِ منْ شَرط يَصِحّ وَبَطلْ وَحُكْمُ زِنْدِيقٍ وَشُبهة نقلْ قال المنجور في شرحه (مخطوطة) ابن التلاميذ الشنقيطي ص57: اختلف هل ورد الحكم بين بين، أي حكم بين حكمين، فأثبته المالكية وهو من أصولهم، ونفاه الشافعية، ويعمل به عند من أثبته في بعض صور تعارض الأدلة ولا ترجيح، كما أذا اشبه الفرع أصلين ولم يترجح أحد الشبهين، ونقل أمثلة منها البيع بشرط عدم القيام بالجائحة، فإن البيع يصح والشرط يبطل، وساق الأدلة المتعلقة بالشروط، إلى أن قال: قال أبو عبد الله المقري: قاعدة: قال ابن العربي: القضاء بالترجيح لا يقطع حكم المرجوح بالكلية، بل يجب العطل عليه بحسب مرتبته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام ((الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة)) . وهذا مستند مالك فيما كره أكله، فإنه حكم بالتحليل لظهور الدليل وأعطى المعارض أثره، فتبين مسائله تجدها على ما رسمت لك. وقد نقل قبل ذلك انتقاد تقي الدين ابن دقيق العيد حيث قال عنه: "جعل بعض المالكية الحديث دليلا لقاعدة من قواعد مذهبهم، هي أن الفرع إذا أشبه أصلين ودار بينهما يعطى حكمًا بين حكمين؛ لأنه لو أعطى حكم أحدهما فقط لزم إلغاء شبهة بالآخر، والفرض أنه أشبه" إلى آخر كلامه (1) . انتهى محل الاستشهاد منه. ولهذا فإن كثير من علماء المذهب المالكي جزموا بالكراهة وقالوا: إن " أَكْرَهُ " على بابها ولا تعنى الحرمة، وبنوا هذه المسألة أيضًا على قاعدة أخرى هي قولهم: هل يعطى النادر حكم نفسه، أو يلحق بالغالب في حكمه؟ قال أبو عبد الله المقري في قواعده: قاعدة: اختلف المالكية في مراعاة حكم النادر، في نفسه أو إجراء حكم الغالب عليه، وقد نظم ذلك أبو الحسن على بن القاسم الفاسي الشهير بالزقاق في المنهج المنتخب فقال: وَهَلْ لِمَا نَدُرْ حُكْمُ مَا غَلَبْ أَوْ حُكْمُ نَفْس كَالْفُلُوسِ وَالرُّطَبْ وَكَسُلَحْفَاةٍ وَقُوتٍ نَدُرَا كَذَا مُخُالِطٌ وَعَكْسٌ ذُكٍرَا.   (1) المنجور (مخطوط) : 57. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 915 قال أحمد بن علي الشهير بالمنجور في شرحه لهذه الأبيات: أي نوادر الصور هل تعطى حكم نفسها أو حكم غالبها؟ وعليه إجراء ابن بشير الربا في الفلوس، ثالثها يكره، ورد إجراء اللخمي على أنه في العين غير معلل، والعلة الثمنية والقيمة. يقول أشهب: إن القائسين مُجمعون على التعليل، وإن اختلفوا في عين العلة، اللخمي: من رأى أن علة الربا في النقدين كونهما أثمان المبيعات وقيمة المتلفات، ألحق بهما الفلوس. ومن رأى أنه شرع غير معلل منع لحوق الفلوس بهما، ابن بشير: وهذا غير صحيح للإجماع أنه معلل، وإنما اختلفوا في عين العلة، وإنما سبب الخلاف في الفلوس الصور النادرة هل تراعى؟ فمن رعاها ألحق الفلوس بالعين، ومن لا فلا. ويمكن أن يتخرج الخلاف فيها على اختلاف العوائد، فيحمل على الجواز حيث لا يعمل بها والمنع على العكس. ثم قال بعد ذكر بعض الأمثلة وذكر نص المقري في القاعدة السابقة: هو عندي على أن العلة في العين كونها ثمنًا أو قيمة أو كونها أصلاً في ذلك الشافعى. وقال النعمان بالوزن وأجرى الربا في كل موزون، وقال ابن العربي: ليست العلة القاصرة في الأصول إلا في هذه المسألة (1) .   (1) المنجور (مخطوط) : 60. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 916 يلاحظ عزو المنجور الإجماع على التعليل لابن بشير، وقد علمت مما مر أن الإجماع غير وارد، والصواب مع أشهب أن الإجماع إجماع القائسين، ثم أن اللخمي من علماء مذهب الإمام مالك يعتبر خلافه مؤثرا داخل المذهب، حتى إن خليلاً في مختصره التزم ذكر اختياراته. وقد أوجز ميارة الفاسي موقف المالكية بقوله في التكميل: الثَّمَنِيَّة وَقِيلَ الْغَلَبَهْ فِي الثَّمَنِيَّة فَحَقِّقْ مَذْهَبَهْ. عِلَّة ذَا الرِّبَا عَلَيْهِمَا الْفلُوس نُقُودًا أَوْ عَرَضًا فَحقِّقِ الْأُسس وَجُلُّ قَوْلِهِ الْكَرَاهِيَةَ بِذَا تَوَسُّطًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ خُذَا قال الرهوني في حاشيته على الزرقاني: إن مالكا رحمه الله تردد في علة الربا في النقدين، هل هي الثمنية المطلقة فتكون الفلوس ربوية؟ أو الثمنية المقيدة بالغالبية فلا تكون الفلوس ربوية؟ ففى بعض أبواب الفقه جعل العلة هي الثمنية المطلقة كالسلم؛ لأنه جعل الفلوس فيه كالعين، وكذلك في باب الرهن وغيرهما، وفي بعض الأبواب جعلها الثمنية المقيدة بالغالبية كالقراض؛ لأنه قال: لا يقارض بالفلوس؛ لأنها تؤول إلى الفساد والكساد، فجعلها كالعرض، ولم يجعلها كالعين في كل شيء، وقد اختصر مذهبه ابن عرفة بقوله: وفي كون الفلوس ربوية ثالث الروايات يكره فيها. . . إلى آخره. ومع أن جميع شروح خليل ذكروا القول بالحرمة في باب السلم، فإنهم ذكروا الكراهة، وقال الرهوني: إنها الراجحة، ولكنهم تركوا الباب مفتوحًا لتحقيق المناط، أي للحكم بالربوية عندما تتحقق غلبية الثمنية؛ لأنهم لا يفسرون الغلبية كما يفسرها غيرهم بأنها صفة لازمة للنقدين لتكون العلة قاصرة. وإنما اعتبروها حالة واقعة بحيث إذا تحققت تلك الحال فلا مناص من تحقق الحكم طبقا لتعريف جمهور الأصوليين، فإن تحقيق المناط إثبات الصلة المتفق عليها أصلا في الفرع. قال سيدي عبد الله الشنقيطي ناظما كلام السبكي في جمع الجوامع: تَحْقِيق عِلّة عَلَيْهَا ائْتَلَفَا فِي الْفَرْعِ تَحْقِيقُ مَنَاط ألفَا قال في نشر البنود: يعنى أن تحقيق المناط، أي العلة هو إثبات العلة المتفق عليها في الفرع كتحقيق أن النباش الذي ينبش القبور ويأخذ الأكفان سارق، فإنه وجدت فيه العلة وهي أخذ المال خفية من حرز مثله، فيقطع خلافا لأبي حنيفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 917 وتجدر الإشارة هنا إلى أن: تحقيق المناط ليس من المسالك، بل هو دليل تثبت به الأحكام، فلا خلاف في وجوب العمل به بين الأمة، وإليه يحتاج في كل شريعة. قال أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: "لابد من الاجتهاد فيه في كل زمن، ولا ينقطع؛ إذ لا يمكن التكليف إلا به ومنه". وقال القرافي في شرح التنقيح في تعريفه ما نصه: "وأما تحقيق المناط فهو تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع". مثاله: أن يتفق على أن العلة في الربا (يعنى في البر والشعير) هي القوت الغالب ويختلف في الربا في التين، بناء على أنه يقتات به غالبا في الأندلس أو لا، نظرا إلى الحجاز وغيره، فهذا هو تحقيق المناط، ينظر هل هو محقق أم لا بعد الاتفاق عليه. ومثله في البيضاوي. وعرفه الآمدي في الإحكام بأنه النظر في معرفة وجود علة الحكم ومناطه في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها. ومثل له بالنظر في وجود علة تحريم الخمر، وهي الشدة المطربة في النبيذ. وسلك الإمام الغزالي في تعريفه طريقا آخر ترجع إلى الاجتهاد في تطبيق حكم كلي منصوص عليه في بعض جزئياته، فقال في كتابه المستصفى ما نصه: "أما الاجتهادي في تحقيق مناط الحكم فلا نعرف خلافا بين الأمة في جوازه، مثاله: الاجتهاد في تعيين الإمام بالاجتهاد مع قدرة الشارع على تعيين الإمام الأول بالنص، وكذا تعيين الولاة والقضاة، وكذلك في تقدير المقدرات وتقدير الكفايات في نفقة القرابات وإيجاد المثل في قيم المتلفات، وأروش الجنايات وطلب المثل في جزاء الصيد، فإن مناط الحكم في نفقة القريب الكفاية، وذلك معلوم بالنص، أما أن الرطل كفاية لهذا الشخص أم لا فيدرك بالاجتهاد والتخمين. فتحصل من مراجعة كتب المالكية والعلل التي أشاروا إليها والقواعد التي قعدوها في المسألة قيام ثلاثة أقول: 1- قول بالتحريم. 2- وقول بالجواز. وقول بالكراهة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 918 ومن المعلوم أن بعض العلماء الأعلام خارج المذهب المالكي شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى يتخذان موقفا متميزًا يجعل الثمنية المطلقة علة صالحة وكافية للحكم بربوية النقود، وقد أكدوا ذلك تأكيدا لا يضاهيه إلا موقف القاضي أبو بكر بن العربي رحمهم الله جميعًا حيث قال في " العارضة" عند كلامه على حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ما نصه: "نبه بالبر على ما يقتات في حال الاختيار، وبالشعير على ما يقتات في حال الاضطرار، وبالتمر على القوت الذي يتحلى به كالزبيب والعسل، ونبه بالملح على ما يصلح الأقوات من توابل الطعام. ونبه بالذهب والفضة على ما يتخذ أثمانًا للأشياء وقيما للمتلفات كالفلوس ونحوها. وهذه حكم ما غاص على جوهرها إلا مالك، وقد بيناها في مسائل الخلاف للنظر هنالك، وذكر علماؤنا عن مالك أن علة الربا في النقدين كونهما أثمانًا للأشياء، وقيما للمتلفات، وأنهما علة قاصرة لا تتعدى، وقال مالك: إنها تتعدى إلى ما يتخذه الناس أثمانًا للأشياء، حتى لو اتخذ الناس الجلود بينهم أثمانًا لجرى فيها الربا، وقد رأيت أهل بغداد يتجرون بالخبز، حتى إن الحمام يُدخل به، وبه يبتاع كل إدام، فإذا اجتمع عندهم أوردوه على الخباز باردًا، وباعه بسعر آخر حتى يفنى بالأكل، إذ لا يعاد ثانية إلى الشراء به، فصارت العلة عند مالك معنوية، وهو الصحيح". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 919 وتكلم أبو عبد الله محمد بن خليفة الوشتاتي المالكي الشهير بالأبي في شرح صحيح مسلم عند كلامه على حديث أبي سعيد الخدري ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)) . فذكر قولين في الفلوس واستشهد لربويتها بقول المدونة في آخر السلم " الثالث: لا يصح فلس بفلسين لا نقدا ولا مؤجلاً". ثم قال في تعريف الصرف: الصرف بيع الذهب بالفضة أو أحدهما بفلوس لقوله في المدونة " ومن صرف دراهم بفلوس، فأطلق على ذلك اسم الصرف. والأصل في الإطلاق الحقيقة". وذكر كل شراح خليل الخلاف في المسألة مفرعين على الحرمة غالبًا في الصرف وعلى الكراهة أيضًا، ويجري مثل ذلك في السلم، وكلامهم معروف لا نطيل عليكم بنقله. المناقشة فتلخص مما مر قيام مذهبين أو موقفين من النقود الورقية: أولهما: موقف من يقول بعدم ربوية النقود، أو على الأصح يذهب إلى عدمها؛ لأنه لا نص من الأقدمين في النقود الورقية، ولكنها مشمولة بالعموم، وبالنص على المثيل، وهذا الموقف هو رأي أكثر العلماء كما أسلفنا. ويمكن إرجاع بواعثهم حسب رأينا إذا قرأنا كلامهم قراءة متأنية إلى ما يلي: 1- أن تحريم الربا أمر تعبدي لا تظهر له علة واضحة معقولة، فهو من قبيل الابتلاء والاختبار، وما كان من هذا القبيل يقتصر فيه على محل الورود. 2- أن الذهب والفضة لهما مزايا وخصائص لا توجد في غيرهما، فهما معدنان نفيسان قابلان للكنز واختزان الثروة، ويبقيان على الزمن، هذا من ناحية الخلقة، أما من الناحية الشرعية فيحرم اقتناء آنيتهما، ولا يجوز التحلي بهما للرجال غير ما استثنى الشارع. فهما أثمان بالخلقة، وهما أصل الثمنية، وهما النقدان الشرعيان. 3- صعوبة إبراز علة مقنعة سالمة من القوادح مطردة منعكسة، وقد قدمنا قول إمام الحرمين أنه لا شبهة فيها ولا إخالة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 920 4- نوع من الخوف من التجاوز والافتيات على النصوص، نجد مثالاً له في ترجيح العلة القاصرة على المتعدية على رأي الأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني إذا صح التعليل بهما "ومن رجح العلة القاصرة احتج بأنها متأيدة بالنص، وصاحبها آمن من الزلل في حكم العلة، فكان التمسك بها أولى" (1) . 5- أن ثمنية غير النقدين ثمنية مستعارة ومعرضة الزوال في أي لحظة، ومن شأن هذا أن يجعل الثمنية فيه صفة عارضة. 6- أن التحريم تكليف والتكليف يحتاج إلى ورود النص كحديث ((الطعام بالطعام)) الذي جعل الشافعي رحمه الله يرجع عله الطعمية، ويسهل ذلك على أصحابه المترددين في قبول العلة، وقبول تعديها، ولأن جهة التحريم محصورة، وجهة الإباحة لا حصر لها، فالواقعة إذا ترددت بين الطرفين ووجدت في شق الحصر فذلك، وإلا حكم فيها بحكم الآخر الذي أعفي من الحصر. 7- في الربا من الخطورة والتحريم ما لو كان قائمًا في هذه المسألة ما ترك بيانها، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] . أما الفريق الآخر فيعتضد بما يلي: 1- الشريعة جاءت لمصالح العباد ويستحيل أن تحرم شيئًا لمفسدة، وتترك شيئا فيه نفس المفسدة فنظير الحرام حرام (2) . 2- التعليل أولى لأنه أكثر فائدة، وترك التعليل خشية، وما في ترجيح العلة القاصرة من الأمن لا وقع له، فإنه راجع إلى استشعار خيفة، لا إلى تغليب ظن وتلويح متلقى من مسالك الاجتهاد (3) . 3- إعمال التعليل في أربعة من الستة وتركه في اثنين تحكم، أي ترجيح بلا مرجح. 4- أن الغلبة الثمنية أصبحت واقعًا للنقود الورقية، فالاعتراف لها بأحكام النقدين إنما هو من تحقيق المناط وليس إحداثًا لاجتهاد جديد إلا بقدر ما يقتضيه تحقيق المناط؛ لأن الحكم كان موجودا معلقًا، وقد تحقق شرطه في جزئيته، فيجب إثبات الحكم.   (1) البرهان: 1266. (2) ابن القيم. إعلام الموقعين. (3) البرهان: 1267. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 921 5- أن عدم إجراء الربا فيها تعطيل لحكم يتعلق بمسألة خطيرة من مسائل المعاملات. وبعد، فإن تصفح كلام العلماء لا شك يساعد على تكوين رأي وإعطاء صورة مميزة لأي موضوع، ذلك هو الهدف وراء مراجعة كلام الأقدمين والمتأخرين، ومقارنة أقوال المحللين والمحرمين. إلا أن النتيجة الأولى التي يمكن أن يخرج بها المرء بعد أن طالع أقوال الفقهاء، هي ملاحظة الاضطراب الواضح عند أكثرهم في هذه المسألة، فلا يكاد أحدهم يبرم رأيا إلا كر عليه بالنقض، ولا يبسط وجها إلا عاد عليه بالقبض، وهكذا دواليك، حتى يقول القارئ: حنانيك بعض القول أهون من بعض، والفلوس إلا تكن عينًا فإنها ليست غير عرض ((ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)) . والشبهة بدون شك قائمة إذ حدها: ما تجاذبته الأدلة، أو أشبه أصلين دون قياس علة مستقل، وهنا تجاذب هذه القضية العفو، وهو أصل يرجع إليه عند سكوت الشارع، وعدم ثبوت سبب أو قيام مانع لحديث: ((وما سكت عنه فهو عفو فاقبلو من الله عافيته، فإن الله لم يكن ينسى شيئًا. ثم تلا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] )) (1) .   (1) أخرجه البزار في مسنده، والحاكم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال البزار: إسناده صالح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 922 والأصل الثاني: هو شبه النقود الورقية بالعين لوجود علة مظنونة وحكمة مقدرة، وقد أجمل الفخر الرازي حكمة الربا في أربعة أسباب: 1- أولهما أنه أخذ مال الغير بغير عوض. 2- ثانيهما: أن في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاق الاشتغال في الاكتساب؛ لأنه إذا تعود صاحب المال أخذ الربا؛ خف عليه اكتساب المعيشة، فإذا فشى في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق؛ لأن مصلحة العالم لا تنتظم إلا بالتجارة والصناعة والعمارة. 3- الثالث: أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض. 4- الرابع: أن الغالب في المقرض أن يكون غنيًا، وفي المستقرض أن يكون فقيرًا، فلو أبيح الربا لتمكن الغني من أخذ مال الضعيف (1) . وعلله الشيخ ابن عاشور بأنه حكم معلل بالمظنة. أن كثرة العلل قد يدل على صعوبة التعليل، وفي التعليل بالمظنة خروج من المأزق، وكل ذلك يدل على صعوبة مركب القائسين وتوجه وجه حكم بين حكمين، لاشتباه الشبه في أوجه السالكين، فالشبهة تنشأ عن أسباب منها كون النص خفيا وورود نصين متعارضين، ومنها ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيرا" (2) . ومعلوم أن موضوعنا لا يوجد فيه نص خفي أو ظاهر، فضلا عن وجود نصين متعارضين، فهو بالطبع من النوع الثالث الذي يؤخذ من القياس، وقد اختلف فيه العلماء، فهو إذًا شبهة، فما هو حكم الشبهة؟ وقد فسر الإمام أحمد رحمه الله الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام (3) . وقال الماوردي "هي المكروه؛ لأنه عقبة بين الحلال والحرام" (4) .   (1) التحرير والتنوير للشيخ ابن عاشور: 3/85-86. (2) جامع العلوم والحكم. ابن رجب: 60. (3) نفس المصدر 61. (4) الشبرخيتي على الأربعين النووية: 113. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 923 فإذا كان الأمر على ما ذكرت، والإمام مالك يصرح بالكراهة، ومن أصول مذهبه قيام حكم بين حكمين، والأئمة الآخرون لا يكرهون، فأنا أكره ما كرهه مالك رحمه الله، والكراهة حكم من الأحكام الخمسة يجب أن يعاد إلى حياة المسلمين العملية في بيوعهم وأنكحتهم، فيمتاز أهل الورع عن غيرهم، ويترك لذي الحاجة مندوحة عن ارتكاب الأثم السافر، إلا أنها كراهة تحريم شديدة، والله أعلم. وكأني بقائل يقول: أحللت الربا، وأنا أقول ما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أفتى في الخمر بأنها إذا طبخت وتخللت حتى ذهبت شدتها يجوز شربها، فقال له قائل: احللتها ياعمر. فقال: والله لا أحل إلا ما أحل الله ولا أحرم إلا ما حرم الله، والحق أحق أن يتبع". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 924 المسألة الثالثة التغيرات التي تطرأ على العملات من غير الذهب والفضة من بطلان ونقصان أو رجحان، وأثرها في المعاملات: 1- إذا بطل التداول بعملة كانت رائجة في جميع البلدان، فهل لذلك تأثير على العقود التي وقعت بها؟ ومن كانت مترتبة في ذمته، فهل له أن يدفعها بعينها وإن كانت باطلة، أو عليه أن يدفع قيمتها؟ في ذلك مذاهب، ومذهب أبي حنيفة أن العقد يفسد ببطلان رواج الثمن، ويفسخ البيع ما دام ذلك ممكنا بوجود المبيع بحاله قبل قبضه، فيرده المشتري، وإن تلف رد مثله أو قيمته، وإن كانت قرضا أو مهرا مؤجلاً رد مثلها وإن كانت كاسدة؛ لأنها هي الثابتة في ذمته. والمشهور عند الشافعية والمالكية أن ذلك لا يفسد العقد، وأن الذي ترتب في ذمة المدين وليس عليه الدائن سواه، ويعتبر ذلك كجائحة نزلت به، سواء كان الدين قرضا أو ثمن مبيع أوغير ذلك، وذهب بعض المالكية إلى أن الواجب على المدين السلعة يوم قبضها من العملة الرائجة. ومن الجدير بالملاحظة أن الخلاف في المذهب المالكي، وإن كان الراجح فيه أن يدفع مثل الفلوس الباطلة، كما قال خليل في مختصره: "وإن بطلت فلوس فالمثل، أو عدمت فالقيمة"، فإنهم مع ذلك بنوا هذه المسألة على قاعدة يفهم منها اعتبار القول المقابل؛ لأنهم بنوا عليه لزوم القيمة إذا مطل المدين، وبناء القول الراجح على قول مرجوح يدل على أن له حظا من النظر، تلك القاعدة هي: إذا فقد المعنى المقصود مع وجود العين المحسوسة، هل يجعل الحكم تابعًا للمعنى فيقرر بعدمه عدم العين، أو لا يقدر كالعدم لوجود عينه؟ قال ميارة الفاسي في تكميل المنهج: إِن فقدَ الْمعنَى الذي قَد قَصَدَا مع بقاءِ العينِ فِي حسٍّ بَدَا هلْ يجعلُ الحكمَ لمعنًى تَبعا أو يتبعُ العين خلافٌ سُمِعَا كَسِكةٍ فِي ذمةٍ ثم انقطعْ بِهَا التعاملُ فَحقّقْ تتبعْ لِلأولِ القيمةُ والثاني المثل وشهرَ الثاني نعم به العمل لكنه مقيدٌ بما إِذا لم يحصلِ المطلُ فقلْ ياحبَّذَا وإن يكن فأوجبنْ عليهِ ما آلَ لهُ الأمرُ لظلمٍ قد سَمَا قلتُ وهذا ظاهرٌ إِن كان ما آلَ له الأمرُ رفيعًا فَاعْلَمَا (1) .   (1) تكميل المنهج شرح الفقيه محمد الأمين بن أحمد زيدان الشنقيطي دار الكتاب المصري: 53. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 925 2- بطلان رواجها في بعض البلاد دون بعض، فالمشهور عند الأحناف أن ذلك لا يوجب فساد العقد، وأن البائع بالخيار بين أن يدفع له المشتري العملة التي وقع العقد عليها، أو التي تروج في بعض البلدان، وإن كانت لا تروج في بلد البيع، وبين أخذ قيمتها من عملة رائجة فيه، وحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن الحكم في ذلك مثل الحكم في بطلان العملة في جميع البلدان. 3- انعدام العملة المترتبة في الذمة بفقدانها وعدم توفرها في الأسواق، والجمهور على أنه تجب قيمتها، إلا أنهم اختلفوا في الوقت الذي تجب فيه، فعند الحنابلة أنه آخر وقت قبل الانقطاع، وهو مذهب الحنفية المفتى به عندهم وهو، قول محمد بن الحسن، وقال أبو يوسف: إنه يوم التعامل. وأما أبو حنيفة فقال: إن ذلك يوجب فسادا لبيع كبطلان العملة، وعند الشافعية أن القيمة تجب في وقت المطالبة. والمشهور عند المالكية أنها تجب في أبعد الأجلين من الاستحقاق والانعدام، على ما اختاره خليل بن إسحاق في مختصره تبعًا لابن الحاجب، والقول الثاني أنها تعتبر يوم الحكم، قال أبو الحسن: وهو الصواب. البرزلي: وهو ظاهر المدونة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 926 فكان على المصنف أن يذكر القولين أو يقتصر على الثاني. 4- طرق النقصان والرجحان، أي أن العملة بعد تقررها في ذمة المدين تغيرت قيمتها بالزيادة أو بالنقص، فماذا عليه أن يؤديه للداين في هذه الحال؟ فيه ثلاث أقوال: الأول: وهو المشهور عند المالكية والشافعية والحنابلة وقولٌ لأبي حنيفة: أن الواجب على المدين أداؤه نفس العملة التي وقع التعاقد عليها وإن نقصت أو زادت. الثانى: قول أبي يوسف وهو: أن على المدين أن يؤدي قيمة العملة التي تغيرت بالنقصان أو بالزيادة، ولا يلزم الدائن أن يقبل ما وقع عليه التعاقد إذا نقص. الثالث: ما استظهره الرهوني من التفصيل مقيدا به القول المشهور في مذهب المالكية من كون اللازم في بطلان الفلوس وأولى تغيرها بالزيادة والنقصان؛ هو المثل. قال: وينبغى أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه؛ لوجود العلة التي علل بها المخالف (1) .   (1) الزرقاني على مختصر خليل: 5/60. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 927 وبعد، فإن تفصيل الرهوني جيد، إلا أنه لم يحدد النسبة التي إذا وصل إليها الرخص رجع بها الدائن على المدين، سواء كان دين قرض يقصد به المعروف والإحسان أو دين بيع تتوخى فيه المكايسة والربح، ونحن نقترح للبحث نسبة الثلث قياسا له على الجائحة في الثمار؛ لأن الجائحة أمر خارج عن إرادة المتعاقدين، وليست من فعل أحد حتى يرجع عليه البائع أن شاء. أما ما كان بفعل آدمي فقال القاضي: المشتري بالخيار بين فسخ العقد ومطالبة البائع بالثمن، وبين البقاء عليه ومطالبة الجاني بالقيمة، وهنا لا يوجد شخص معين مسئول حتى يقيم عليه المتضرر دعوى، فالحكمة في الجائحة أنه لما كان الناس لابد لهم من بيع ثمارهم أَمَرَ الشارع برد الجائحة. ففى الحديث ((إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، لم تأخذ مال أخيك بغير حق؟)) ، رواه مسلم في صحيحه وابن ماجه وأحمد، يدل على أن العلة في وضع الجائحة هو أخذ المال بغير حق، وهو إيماء إلى العلة، وذهب إلى اعتبار الجائحة في الجملة أحمد ومالك وأكثر أهل المدينة، وبه قال الشافعي في القديم،، وقد رد الاستشهاد بالحديث الذي تمسك به الشافعي في الجديد وأبو حنيفة. وقال مالك: إن الجائحة تكون في ضمان البائع إذا وصلت إلى الثلث فما فوق، وهي رواية عن أحمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 928 كما أن الثلث يعتبر في الغبن الذي يقع على أحد المتعاقدين قبل الاكتفاء بالثلث، لتحقيق الغبن عند ابن عاصم، وقيل: لا بد من الزيادة على الثلث عند ابن القصار، ونفى خليل اعتباره مطلقًا فقال: "لا بغبن، ولو خالف العادة". وقال ابن عاصم الغرناطي: وَمَنْ بِغَبْنٍ فِي مَبِيعٍ قَامَا فَشَرْطُهُ أَنْ لاَ يَجُوزَ الْعَامَا وَأَنْ يكونَ جَاهِلاً بِمَا صَنَعْ وَالْغَبْنُ بِالثُّلُثِ فَمَا زَادَ وَقَعْ. والحاصل أن الغرر اليسير مغتفر، والغرر الكثير معتبر، والثلث مرة كثير ومرة يسير عند الفقهاء. قال الزقاق في المنهج المنتخب: وكثرةُ الثلثِ فِي الْمعَاقلهْ جَائِحَة خَفَّ وحملُ العاقلهْ وَذَنب الأضْحَاةِ وَالَّذي اسْتحَقّ مِن فندقٍ وشبهه قاضٍ يحقّ أَن ْيَنْقَسمَ كَدَارِ سُكْنَى رَدفْ لاَ ضرَّ لا نَقْصَ وفِي الْعَيْبْ اخْتلفْ فِي الدَّارِ كالمِثلي مُطلقًا كَما فِي ذنب وَنَزر نصفٌ عُلِمَا إلى أن قال في المسائل التي يعتبر الثلث فيها نزرًا، إذ لابد من الزيادة عليه لإحداث حكم مؤثر: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 929 أمَّا مسائل الوصايا وَالْغَلثْ تَبرعُ العرسِ فَمن نزرَ الثلثْ فِي قصدِهَا لا ذِي خلافٍ وَثمرْ كصُبْرةٍ دَانيةٍ وَمن ذكرْ غَبنًا فَمنْهُ وبياض قَد ألفْ فِي أُذنِ أصخاةٍ تَرددٌ عُرفْ كَحليةٍ وَالحوزِ والأباري مَسَائل الزَّكاةِ غرس جَارِي تَبرعُ المريضِ أو حَابى وما ضُمِن كالعرسِ وَشبه عُلِمَا أجمل المنجور في شرحه هذه الأبيات عند كلامه على الغبن أقوال المالكية. فقال ابن عبد السلام: مشهور المذهب عدم القيام بالغبن، وعن ابن الحاجب قيل: الثلث غبن، وقيل: ما خرج عن المعتاد. ابن القصار: يقام بالغبن إذا زاد على الثلث. ولعل هذه المسألة يرجع فيها إلى قاعدة أخرى، وهي: هل يتعين ما في الذمة أو لا يتعين، فإذا قلنا بتعيينه لزمه ما تقرر في الذمة يوم التعاقد قدرًا وصفة، وإذا قلنا بعدم تعينه لم يلزمه إلا ما آل إليه الأمل، وهذه القاعدة ذكرها صاحب المنهج المنتخب فقال: وَهل تعين لِمَا فِي الذمةِ هل ينقل الحكم بعَيدِ نيتى تبدلت ... إلخ. يراجع في هذه المسألة المنجور، والفرق السابع والثمانون من فروق شهاب الدين الفراقي. والله ولي التوفيق والهادي إلى سواء الطريق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 930 الخلاصة الحاصل أن هذه المسألة وإن كانت أكثر نصوص الفقهاء فيها على عدم إلزام المدين بجبر الضرر الذي نزل بالدائن؛ فإن وجه المصلحة بيّن، واندراج هذه الجزئية تحت عمومات كثيرة ترقى بها عن المصالح المرسلة لتجعلها في نطاق المصالح المعتبرة للشارع؛ لعموم قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وخبر ((لا ضرر ولا ضرار)) ، ((ولم تأخذ مال أخيك بغير حق؟)) . وهي جديرة بالاجتهاد؛ لأن تغير العملة يقترب من الجوائح كالثمار في مهب الرياح الغوادي والروائح مما يستدعي الاستنجاد بمقيدات ومرسلات المصالح. وبهذا يقيد استرسال الأقلام، ونكتفى من طرق الموضوع بالإلمام، وإن لا نكن قد وفقنا في فتق رتقه وفتحه، فعسى أن نكون قد ساهمنا في إثارة بحثه وطرحه. ونستغفر الله العظيم ونتوب إليه مما بدر منا فيه من هفوة أو زلل، أو تقصير في حق أو تجاوز في نطق أو علم. اللهم صل على عبدك ونبيك سيدنا محمد وعلى آله وصبحه وسلم تسليمًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 931 الوثائق أحكام النقود واستبدال العملات في الفقه الإسلامي فضيلة الدكتور علي أحمد السالوس بسم الله الرحمن الرحيم أحكام النقود واستبدال العملات في الفقه الإسلامي الحمد لله، نحمده سبحانه وتعالى، ونستعينه ونستهديه، ونسأله عز وجل أن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل، ونصلي ونسلم على سيدنا رسول الله وعلى آله وصبحه ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين. أيها الأخوة. . . الذين يدرسون تاريخ النقود، وتاريخ التعامل البشري، يعرفون أن الإنسان، مر بمراحل تسبق النقود، عندما كان هناك نظام المقايضة، وأن نظام المقايضة كانت له عيوبه الكثيرة، ولذلك اهتدى الإنسان بفضل الله تعالى، إلى اختراع وسيلة للتبادل، تكون مقياسًا للقيمة، وتكون معيارًا متعارفًا عليه، لتقييم السلع والخدمات، ووسيلة للتعامل، يقبلها الناس، عامة الناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 932 اتخذ الإنسان أشياء معينة أو أنواعًا معينة من السلع، إلى أن هداه الله تعالى إلى الذهب والفضة. فأخذ الإنسان يتعامل بهذين المعدنين كالنقود؛ لما للذهب والفضة من خصائص تميز كلا منهما، من حيث البقاء دون تلف، والتقسيم إلى قطع، وعدم التغير بالاستعمال، وعدم التغير بالتخزين. . . إلى آخره. لا نريد أن نخوض كثيرًا في هذه النواحى الاقتصادية، ولكن الذي أريد أن أقوله بأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بعث كان العالم آنذاك يتعامل بنوعين من النقود، هما: الدينار الذهبي، والدرهم الفضى. وقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم أحكامًا عامة لتعامل الناس، من هذه الأحكام ما يتصل بالنقود، ولذلك نجد في أبواب الفقه بابًا يسمى "باب الصرف"، وهذا خلاف النحو والصرف. ونجد عنوان "الربا في الصرف"، فما الصرف؟ تعريف الفقهاء للصرف هو: بيع الأثمان بعضها ببعض: فإذا بعنا ثمنًا بثمن فهو صرف. والأثمان آنذاك كانت من الدنانير الذهبية والدراهم الفضية، هذا الباب" - باب الصرف - له أحكام خاصة. حتى نعرف هذه الأحكام، ننظر إلى ما روي من أحاديث شريفة تبين هذه الأحكام. من هذه الأحاديث الشريفة ما رواه الإمام مسلم فى صحيحه، من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد)) . ومن الأحاديث الشريفة الأخرى: ((الذهب بالورق ربا، إلا هاء وهاء)) (والورق: العملة الفضية) . وفي رواية أخرى: ((فمن زاد أو استزدا فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء)) . إذا تتبعنا أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد أن هذه الأحكام التي ذكرت اتصلت بستة أصناف هي: القمح، والشعير، والتمر، والملح، والذهب أو الدينار، والفضة أو الدرهم. وهذه الأصناف الستة هي المسماة بالأصناف الربوية، أي الأصناف التي لها تعامل خاص، فإذا خالفنا هذا التعامل وقعنا في الربا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 933 ما هذا التعامل؟ ننظر مرة أخرى: بعد ذكر الأصناف ((مثلاً بمثل، سواء بسواء)) ، ثم ((يدًا بيد)) وفي حديث آخر ((هاء وهاء)) وكلمة هاء معناها: خذ، ومعنى ذلك أن كل واحد من المتبايعين يقول للآخر: خذ وفي رواية ((هاء وهات)) أي خذ وهات. من هذه الأحاديث الشريفة استنبط الفقهاء شرطين واضحين، ولا خلاف حول هذين الشرطين. ما هذان الشرطان؟ الأصناف الستة التي ذكرت، عند تبادل صنف بصنف من نفس الجنس، وإن اختلفا في الجودة أو الرداءة، لا بد أن يكون بنفس الكيل أو الوزن؛ ((مثلاً بمثل، سواء بسواء)) هذا شرط. والشرط الثاني هو ((يدًا بيد)) ((هاء وهاء)) خذ وهات، أي القبض في المجلس. إذن معنى هذا أيها الأخوة، أننا عندما نتعامل في هذه الأصناف الستة – حتى لا نقع في الربا، ولسنا في حاجة إلى أن نتحدث عن الربا وما ذكره القرآن الكريم عن هذا الموضوع وكذلك السنة النبوية الشريفة، لعل القرآن الكريم لم يتحدث عن شيء بالصورة التي تحدث بها عن الربا بالنسبة للمعاملات، حتى ذكر الخلود في النار بقوله: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] لسنا في حاجة إلى أن نتحدث في هذا، حتى لا يطول الحديث، وإنما تقول هنا: هذه الأصناف الستة، إذا أردنا أن نبادل جنسًا بجنسه فلا بد من أمرين: 1- التساوي في الكيل أو الوزن. 2- القبض في المجلس. يعنى مثلاً: عندي نوع من التمر، وأنت عندك نوع آخر من التمر، وأنا أريد ما عندك، وأنت تريد ما عندى. يشترط هنا أن يكون نفس الكيل، وأن يتم القبض في المجلس، ربما قال بعضهم: إنه مختلف هذا، جيد وهذا ردئ، فكيف يكون نفس الكيل؟ التمر الجيد هذا مثل التمر الرديء! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 934 حدث هذا في عهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءه نوع من التمر جيد، يسمى "جنيب" ليس فيه صفة رديئة يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام: أكل تمر خيبر هكذا؟ قالوا: لا يا رسول الله، إنا نبتاع الصاع من هذا بالصاعين، (نبتاع أي نشتري) والصاعين بالثلاثة. فقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تفعل)) . وفي رواية أخرى ((إنه عين الربا)) . ماذا يفعل إذن؟ تمر جيد وتمر ردئ، قال له: ((بع الجمع (أى الرديء) بالدراهم، وابتع بالدراهم جنيبًا)) ومعنى هذا أننا إذا أردنا أن نتبادل نوعًا بنوع آخر من الجنس نفسه، فلا بد من التساوي في الكيل أو الوزن، فإذا كان الفرق بين النوعين كبيرًا من حيث الجودة، ولا نرضى بالتساوي مع هذا الفرق، ولا يجوز التفاضل مع اتحاد الجنس، فمن الممكن أن نبيع هذا بالنقود ونشتري ذاك، فعندئذ نعود إلى المقياس، مقياس القيمة، الوسيلة التي نتبادل بها، كمقياس للقيمة، للسلع والخدمات، الوسيلة المتعارف عليها " بع الجمع بالدراهم - بالنقود - ثم ابتع بالدراهم جنيبًا". إذن هنا الأصناف الستة هذه عند تبادل الصنف بالصنف، لا بد من أن يكون التماثل تامًا في الوزن أو الكيل، وأن يكون القبض في المجلس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 935 "فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم - لا مساواة ولا تماثل - إذا كان يدًا بيد ". ومعنى هذا أن الشرطين ذهب منهما شرط، وبقي شرط آخر دنانير بدراهم: لا مانع، ولكن إذا كان يدًا بيد ((الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ... )) (في المجلس) ولذلك أيها الإخوة، من الأخطاء الشائعة في عصرنا تبادل بعض هذه الأصناف وعدم القبض في المجلس، أو تبادل جنس بجنسه والاختلاف في الوزن، مثل: ذهب قديم وذهب جديد. هذه المسألة شائعة، الفرق الذي يدفع في مثل هذه المسألة ربا، مثل التمر الجنيب والجمع. فإذا أردت أن ابتعد عن الربا هنا إما أن يكون نفس الوزن، أو أبيع هذا الذهب وأشتري غيره، أما في حالة التبادل، فلا بد أن يكون بنفس الكيل أو نفس الوزن، بالنسبة لهذه الأصناف الستة. الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر أصنافًا ستة، فهل معنى ذلك أن التعامل بهذين الشرطين، يقتصر على الأصناف الستة؟ أم أن هذا ذكر كأمثلة، وما يشترك مع هذه الأصناف في العلة، يأخذ نفس الحكم؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 936 أهل الظاهر، قالوا: لا، الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر ستة أصناف، فالحكم لا يتعداها، لا يشمل شيئًا غيرها. الصحابة الكرام والفقهاء قالوا غير هذا. إن هناك قاعدة أصولية أبسطها: البر والشعير هذا يسمى (لقب) ، فإذا ذكر شيء مع التحديد باللقب فهنا ننظر: ما يخالف هذا اللقب، وإن اشتراك معه في العلة، أيدخل أم لا يدخل؟ جمهور الأصوليين يقول: بأن اللقب لا يؤخذ به في مفهوم المخالفة؛ لأننا إذا قلنا بأن في البر زكاة أو في الماشية زكاة، فهذا لا يعني ألَّا زكاة في غير البر ولا زكاة في غير الماشية. ولذلك جمهور الفقهاء قالوا: هنا توجد علة. لنبحث عن هذه العلة، بدأوا يبحثون عن هذه العلة، فقسموا الأصناف الستة إلى قسمين: الأول: الذهب والفضة (الدنانير والدراهم) ، هذا قسم. الثاني: البر والشعير والتمر والملح، قسم آخر. وجعلوا للأصناف الأربعة علة، وللصنفين علة. فما علة الأصناف الأربعة؟ قال بعضهم: الطعام. وقال آخرون: طعام يدخر، وقال آخرون: شيء يكال. أى أن من قال بالطعام فقد أدخل كل الطعام، وهذا هو الرأي الراجح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 937 ويؤيده ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الطعام بالطعام)) وهنا ذكرت كلمة ((طعام)) . أما بالنسبة للذهب والفضة - الدنانير والدراهم - فوجدنا الفقهاء هنا يختلفون أيضًا في العلة. الإمام أبو حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد أن العلة هنا هي الوزن، أي أن هذه الأشياء توزن، فكل ما يوزن ينطبق عليه نفس الحكم. (النحاس، الرصاص، الحديد ... إلخ) . الإمام مالك والإمام الشافعي ورواية ثانية عن الإمام أحمد: أن العلة هنا هي الثمنية، أى أن هذه الأشياء أثمان. ونلاحظ هنا أيها الأخوة دقة هؤلاء الفقهاء، وكيف أن الله عز وجل قد وهبهم الفقه ودقة الفهم، بالنسبة للأثمان لم توجد أثمان أخرى غير هذا، ولكنهم لحظوا هنا أن العلة الثمنية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 938 ولذلك نجد في تعريف الصرف: بيع الأثمان بعضها ببعض، إذن هنا أثمان وطعام. طعام من نفس الجنس، أو ثمن من نفس الجنس. الشرطان لا بد منهما: التماثل، والقبض في المجلس. والطعام إن كان من جنس آخر من الطعام، والذهب بالفضة، في هذه الحالة يسقط شرط التماثل، ويبقى شرط القبض في المجلس، الطعام بثمن، أو الثمن بطعام، في هذه الحالة يسقط الشرطان، ولعلكم تذكرون هنا الأحكام الخاصة بالبيع الآجل والسلم. البيع الآجل هو أن تكون السلعة حاضرة والثمن مؤجلاً. والسلم هو أن يكون الثمن حاضرًا والسلعة مؤجلة. إذن معنى هذا: لا يشترط التماثل في الكيل ولا في الوزن، ولا يشترط قبض في المجلس إلا للسلعة في البيع الآجل، ورأس مال السلم. . نترك ما يتصل بالطعام ونأتي إلى موضوعنا وهو: أحكام النقود. في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام وجدنا هنا أن الحكم الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتصل بالذهب أو الدينار، والفضة أو الدرهم، ونلاحظ أنه لم يكن هناك دينار إسلامى؛ لأن الدينار الإسلامي لم يظهر إلا في عهد الوليد بن عبد الملك، الخليفة الأموي، فكان المنتشر هناك الدنانير الرومية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 939 فإذا أريد استبدالها بغيرها من الدنانير أو من الذهب، فلا بد عندئذ من التماثل في الوزن، والعدد عند التساوى في الوزن، وكذلك الدراهم إن كانت يمانية بشامية أو غير ذلك، فلا بد من نفس الوزن أو نفس العدد ما دام التبادل دراهم بدراهم أو دينار بدينار، أما دراهم بدنانير، فالتبادل بحسب السعر السائد، ولكن يشترط القبض في المجلس. هذا الحكم يسمى حكم الصرف، لكن وجدنا أحكامًا أخرى متصلة بالنقود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وجدنا السلم فرأس مال السلم يكون من النقود، عندما ندفع، ندفع نقودًا، شركة المضاربة - الشركة التي تقوم عليها البنوك الإسلامية الآن - رأس مالها كان من الذهب أو الفضة، الدنانير أو الدراهم. حد السرقة، ربع دينار، نقطة أهم من هذا بكثير، الزكاة، عندنا زكاة الزروع، زكاة الحيوان، زكاة التجارة، ولكن النقود أخذت حكما خاصًا، فجعل في النقود زكاة، سواء استخدمناها في التجارة أم لم نستخدمها، عندنا سلع نتاجر فيها، نأتي في نهاية العام ونقوم القيمة ونخرج الزكاة، هذه السلع إذا لم نستخدمها في التجارة، لا شيء عليها مهما بلغت قيمتها، ولكن إذا كان لدينا نقود من الذهب أو الفضة ننظر: هل تصل النصاب أم لا تصل؟ إذا وصلت النصاب لابد من الزكاة، حتى لو كانت مدخرة في البيت غير موظفة في عمل ما، والرسول صلى الله عليه وسلم حدد نصاب الزكاة، زكاة النقود والتجارة 2. 5 %، ولكن النصاب حدده المصطفى صلى الله عليه وسلم بـ 20 دينارًا من الذهب أو 200 درهم من الفضة، إذن من وجد عنده عشرين دينارًا أو أكثر - وهذا المبلغ زائد عن حاجاته الفعلية - هنا يخرج الزكان بنسبة 2. 5 % من مجموع المبلغ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 940 عنده 200 درهم، هنا يخرج أيضًا 2. 5 %، إذن تحدد النصاب بالدنانير الذهبية والدراهم الفضية، وجاء القرآن محذرًا: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 35] الذهب والفضة يشملان كما ذكرنا من قبل الدنانير الذهبية والدراهم الفضية، وأي كنز لا بد من الإنفاق منه، وكل مال أخرجت زكاته فليس بكنز، هذه ناحية. وناحية أخرى أنه مادام مالاً، فيجب أن يكون في صالح الجماعة؛ لأن المال مال الله، ومال الله معناه أن يكون في صالح الجماعة، ولذلك حتى مع إخراج الزكاة، على المسلم إلا يكنزه، إلا إذا كان مضطرًا، ولكن إذا استطاع أن يستثمره لصالحه وصالح الجماعة، فلا بد أن يفعل هذا، والأحكام هنا جاءت هكذا، بلا مشكلات، ثم بدأت تظهر مشكلة. بعد مدة ظهرت الفلوس، والفلس عملة نحاسية، الدينار يمكن أن يؤخذ من عدد أكبر من الدراهم. ولكن الدرهم إذا أردنا أقل منه فما كنا نجد عملة أقل إلا أجزاءه كالنصف والربع. فبدأت تظهر الفلوس، وهنا بدأ الخلاف يظهر في التطبيق العملي. الفلوس: أتأخذ حكم الذهب والفضة، أم لا تأخذ؟ ما دامت أثمانًا فهل ينفذ عليها حكم الذهب والفضة؟ سئل الإمام مالك عن ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 941 وأرجو أن نلاحظ هنا كيف كان فقهاؤنا؟ انظروا إلى ما قاله إمام دار الهجرة بعد أن بين أن الفلوس تأخذ نفس الحكم ما دامت أثمانًا. قال: لو أن الناس اتخذوا الجلود حتى يكون لها سكة وعين (فتكون مثل الدنانير والدراهم) لكرهتها أن تباع نظرة (أى نسيئة وتأجيلاً) ، أي لا بد أن يكون القبض في المجلس. ننظر إلى هذا القول من الإمام مالك. الفلوس تأخذ حكم الدنانير والدراهم، ليس هذا فقط بل إذا وجدنا الناس يتعاملون بالجلود، فأصبحت الجلود مقياسًا للقيمة ووسيلة للتبادل، وتحظى بالقبول العام، هنا تأخذ نفس الحكم؛ لأنها أصبحت نقودًا، فتأخذ نفس الحكم. الذين قالوا بأن العلة هي الوزن، قالوا هنا: مع أن هذه من النحاس، والنحاس يوزن، إلا أن هذا خرج عن الوزن، فأصبح بالعد، فلا يأخذ الحكم، ولكن إذا كان النحاس عملة رائجة، فلا يجوز أن نتبادل مع الزيادة. الشافعية مع أنهم قالوا بأن العلة هي الثمن، قالوا: هذا لا ينطبق على الفلوس؛ لأنها عروض وليست أثمانًا. علماء خراسان من الشافعية رأوا الفلوس تروج هناك، فقالوا: تأخذ نفس الحكم، وجمهور الشافعية اعتبر هذا رأيا شاذًا، فلم يوافقوا علماء خراسان. وتأتي هنا مناقشة لطيفة بين فقهاء الحنفية وفقهاء الشافعية، قال الحنفية للشافعية: أنتم قلتم بأن العلة هي الثمنية، وأن هذه العلة قاصرة، لا تتعدى الذهب والفضة، فما قيمة هذه العلة؟ ما دمنا قد أخذنا الحكم من النص، بالنسبة للذهب والفضة، فالعلة إنما هي للتطبيق؛ لإلحاق شيء بشيء، أما أنتم فلم تلحقوا. فرد الشافعية هنا بقولهم: إن العلة القاصرة لها فائدتان: الأولى: حتى نعلم أن هذه الأشياء لا يقاس عليها، فلا نطمع أن نقيس عليها شيئًا آخر. والثانية: أنه قد يجدّ شيء يشترك مع هذه الأشياء في العلة، فيلحق بها. معنى هذا أنهم رأوا في وقتهم، ما جاء شيء يلحق بالذهب والفضة. واعتبروا أن النحاس ليس من الأثمان، والعملة النحاسية عملة صغيرة، ولذلك كلمة المفلس تطلق على من لا يملك إلا الفلوس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 942 أنهم اعتبروا أن هذه لا تبلغ أن تكون قيمة للأشياء وأثمانًا؛ لأن هناك الذهب والفضة. إذن بدأ الخلاف هنا بالنسبة للفلوس، وقد كان للفلوس دور قليل جدًا، فالخلاف لم يبد له أثر، هذا الخلاف على أشياء لا قيمة لها، أشياء ثانوية، ولكن نجد بعد هذا تطور النقود، حتى وجدنا العملة الذهبية تختفي، والعملة الفضية كذلك، وهنا تأتي المشكلة الحقيقية. الأحكام تعلقت بالعملة الذهبية والعملة الفضية، وفي عصرنا لا توجد عملة ذهبية ولا فضية، وإنما يتعامل الناس بالعملة الورقية، أوراق بنكنوت شيكات ... إلخ. فهنا أصبحت مشكلة بالنسبة لأحكام الصرف، هل تطبق أم لا تطبق؟ الربا: هل يطبق على هذه النقود أم لا يطبق؟ الزكاة: هل تخرج من هذه النقود، أم هي ليست نقودًا فلا نخرج زكاة؟ السارق إذا سرق بعض هذه الأوراق؟ هل تقطع يده أم لا تقطع؟ أتعتبر هذه الأوراق نقودًا أم لا نعتبرها؟ شركة المضاربة الآن، لا يوجد نقود من ذهب ولا فضة، إذن لا توجد شركة مضاربة الآن، لا يحل أن تكون هذه شركة موجودة الآن، لذلك كان الأمر محتاجًا إلى اجتهاد من فقهاء العصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 943 مجمع البحوث الإسلامية نظر في هذا الموضوع من ناحية الزكاة، هل هذه الأوراق نقود أم ليست كذلك؟ لا شك أنها نقود؛ لأنها تقوم بنفس الدور الذي كان يقوم به الدينار الذهبي والدرهم الفضي، نفس الشيء، مقياس للقيمة قيمة السلع والخدمات ووسيلة للتبادل يحظى بالقبول العام، بل الآن أصبح القبول العام إجباريًا. هنا ننظر باعتبار أنها نقود أمر مفروغ منه، وإنما النظر بالنسبة للزكاة. هذه الأوراق نخرج زكاتها أم لا زكاة فيها؟ وإذا كنا نخرج عنها زكاة فما نصابها؟ بحث المؤتمر هذا الموضوع المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية وقرر الآتي: إن هذه الأوراق تقدر بقيمتها ذهبًا، فإذا بلغت نصابًا وجبت فيها الزكاة. وما النصاب؟ عشرون دينارًا، وأين الدنانير هذه؟ بالبحث وجد أن العشرين دينارًا تزن خمسة وثمانين جرامًا من الذهب، إذن معنى هذا مثلاً إذا كان معي ريالات قطرية، فلكي أعرف أوصلت نصابًا أم لا؟ فعلي أن أبحث عن سعر الذهب، فإذا وجدت هذه الريالات تساوي ما قيمته 85 جرامًا من الذهب أو أكثر ففي هذه الحالة تجب الزكاة، فأخرج ريالاً عن كل أربعين ريالاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 944 بعض الناس عندما ظهرت العملة الورقية لأول مرة شككوا فيها، وما عرفوا تكييفها، بعضهم يقول: هذه ليست نقودًا، وآخرون يقولون: هذه نقود، ثم بحث هذا الأمر هيئة كبار العلماء بالسعودية، فماذا قالوا؟ فتوى هذه الهيئة بعد البحث والتعاون مع خبراء من الاقتصاد، رأي هؤلاء العلماء أن النقود لها وظيفة، وليس لها حد شرعي، كما ذكر ذلك من قبل ابن تميمة، فما قام بنفس الوظيفة التي كان يقوم بها الدينار والدرهم أخذ نفس الأحكام. إذن هذه نقود، مثل الدنانير الذهبية والدراهم الفضية، ولكن إذا كان ريال قطري بريال قطري، نعرف أن هذا مثل هذا، فإن اختلف الأمر بين الدنانير والدراهم، فكيف نحدد الاختلاف؟ قالوا هنا بأن عملة كل دولة تعتبر جنسًا، فالريالات السعودية جنس، والقطرية جنس، والدولار الأمريكى جنس، والجنيه الاسترلينى جنس، وهكذا … فإذا أردت أن أبادل ريالات قطرية، بأخرى سعودية فلا مانع مع الزيادة أو النقصان، " إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد "، وإن سمي هذا ريالا وذاك ريالاً، فدرهم قطر مثلاً غير درهم الإمارات، والجنيه المصري غير الجنيه الإسترليني، والدينار الكويتي غير الدينار العراقي، وهكذا ... إذن هنا أصبح عندنا نقود لكل دولة، وكل نقد يعتبر جنسًا، فلا يحل أن أعطي ريالات قطرية بريالات قطرية أكثر، لا يحل هذا لأنه ربا، ولا يحل أن أبادل ريالات قطرية بأخرى سعودية ما لم يتم القبض في المجلس، إذن عند اتحاد العملة يشترط هنا التساوي تمامًا، فإذا اختلفت العملة جاز التبادل، مع اشتراط القبض في المجلس، فإن العملة الورقية الحالية تقوم، لا بدور الفلوس، وإنما بدور الذهب والفضة تمامًا. فلان غني، ليس معناه أن عنده مبلغًا كبيرًا من الذهب والفضة، فقد لا يملك إلا ثروة ضخمة من العملة الورقية. السارق إن سرق، فإنه يسرق ورقًا. مهر الزوجة مجموعة ورق، وتُستحل الفروج بهذه الأوراق، ما لم تكن نقودًا فكيف تستحل؟ البنوك الإسلامية عندما قامت وأرادت أن تطبق نظام شركة المضاربة اعتمدت على العملة الورقية الحالية. عندما نشتري بطريق السلم الآن، فرأس مال السلم الآن عملة ورقية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 945 إذن العملة الورقية تقوم بنفس الدور تمامًا، وإذا لم نكنز ذهبًا ولا فضة، ولكن كنزنا مليارًا من العملة الورقية، ألا يعتبر ذلك كنزًا وإن لم يكن ذهبًا ولا فضة؟ إننا لا نتعامل بنقود ذهبية ولا فضية، والآن يعرف فلان بأنه غنى؛ لأن عنده مبلغ كذا من الريالات الورقية مثلاً، أو غير الريالات، إذن لابد أن نتقيد بهذا القيد، وهو القبض في المجلس عند التبادل، ما دامت نقود اليوم تأخذ أحكام نقود الأمس. تذهب إلى البنك، إلى محل الصرافة، إلى أي مكان؛ لتغيير عملة واستبدالها بعملة أخرى، لا بد من القبض الفوري في نفس المجلس. إذا تأخرت أو أجلت، ولو لوقت قصير، وقعت في الربا. ولكن أيها الأخوة، جدت في عصرنا مشكلات، فمثلاً: معي ريالات قطرية أريد أن أستبدلها بجنيهات مصرية، لو ذهبت إلى البنك لأخذ جنيهات مصرية، فلا يمكن أن أقبضها؛ لأن الدولة تمنع هذا، وكثير من الدول تمنع هذا فعلاً، نسمع هذه عملة حرة، وهذه عليها قيود معينة في الدخول والخروج، فلا يسمح بذلك إلا بشروط معينة. إذن هنا: سأدفع هنا وأتسلم في مصر. واحد هنا يريد أن يرسل مالا لابنه في أمريكا، يدفع هنا ويتسلم ابنه في أمريكا، أين القبض في المجلس؟ مشكلة. واحد عليه دين بالجنيهات المصرية، ويريد أن يدفعها هنا بالريالات القطرية، مشكلات كثيرة جدت. ننظر أيها الأخوة إلى شيء حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وشيء آخر حدث بعد عهده. الذي حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، هو: أن عبد الله بن عمر كان يبيع الأبل بالنقيع، فكان يبيع أحيانًا بالعاجل وأحيانًا بالآجل، فيبيع لهذا بالدنانير، ثم يأتي عند الاستلام، فيقول له صاحب الدنانير: ليس معي إلا دراهم. ويبيع لهذا بدراهم، وعند الدفع يقول له المشتري: ليس معي إلا دنانير، فذهب إلى الرسول فقال: جئت أسألك أني أبيع الأبل بالنقيع، أبيع بالدنانير، وآخذ مكانها الورق، وأبيع بالدراهم وآخذ مكانها الدنانير. قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لا بأس إن كان بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 946 ما معنى هذا؟ باع هذا بعشرة دنانير، وجاء يوم السداد فقال له: ليس معي إلا دراهم. ننظر إلى السعر في هذا اليوم، يوم السداد، عشرة دنانير تساوي كم درهمًا؟ فهو يأخذ عند السداد من الدراهم ما يساوي تمامًا الدنانير العشرة، أي كأنه يأخذ عشرة دنانير غير منقوصة. وهذا " ما لم تفترقا وبينكما شيء "، أي لا بد من السعر الآن، ولا بد من القبض في المجلس. يعني لا نأتي ونحول في الذمة ثم ننصرف، وبعد ذلك نأخذ الدراهم، فلا بد إذن من أن نتسلم بسعر اليوم عند السداد، وفي الحال. شيء آخر، نحن عرفنا من قبل ما كان من شأن الزبير بن العوام رضي الله عنه، وكيف أن الله عز وجل بارك في ماله. عبد الله بن الزبير كان في مكة، وأخوه مصعب كان في العراق، فكان بعضهم يأتي إلى عبد الله أحيانًا ويقول له: أنا ذاهب إلى العراق، ومعي نقود من الذهب أو الفضة، وأخشى عليها أن تضيع مني في الطريق، ثم يعرض عليه أن يأخذ منه نقوده في مكة، ليتسلم بدلا منها في العراق من أخيه مصعب، فيقبلها ابن الزبير، ويكتب له ورقة، فإذا وصل المسافر إلى العراق، ذهب إلى مصعب، وأبرز الورقة، ثم يأخذ المبلغ المكتوب فيها، والذي سلمه إلى ابن الزبير في مكة. الورقة هذه التي أعطاها عبد الله بن الزبير لذلك الرجل في مثل هذه الحالة، تسمى في الفقه الإسلامي "السَُفْتَجة"، وهذا نظير ما يحدث الآن؛ أذهب إلى البنك وأقول له: أريد جنيهات مصرية، أعطني شيكًا بتاريخ اليوم أو حوالة، فكأن القبض في المجلس قد تم. فكما تم مع عبد الله بن الزبير، (النقود من جانب، والسفتجة من جانب آخر) والآن أيضًا، النقود من جانب، والشيك أو الحوالة من جانب آخر، بشرط تاريخ اليوم وسعر اليوم. ولذلك مجمع البحوث بحث مسألة الحوالة هذه، وأفتى بأنها حلال. تأتي النقطة الأخرى، وهي: ما واجهنا بكثير من الأسئلة، مسألة الديون، أنا حولت كذا منذ كذا عام لفلان، وأريد أن آخذ منه الآن، نقول له: ماذا طلب منك؟ هل طلب منك ريالات، أم جنيهات مصرية؟ يقول: جنيهات مصرية. إذن هو مدين لك بكم؟ ألف جنيه مصري. إذن لك عنده ألف جنيه مصري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 947 يقول هذا ألف جنيه مصري الآن، أحول كذا (ريال) ، ولكن وقتها كذا (ريال) ، لا شأن لنا بهذا، هو مدين بكذا، إذن يعطيك ألف جنيه مصري، وإذا أخذت جنيهًا واحدًا زيادة، فهو ربا. فإذا أردت أن تأخذ بالريالات يعطيك بسعر اليوم، وليس بسعر عام أو عامين. يقول المقرض: أنا دفعت وقتها 400 ريال مثلاً، فآخذ الآن 400 ريال. نقول له: انظر إلى القرض، أنت ماذا اقرضت؟ أقرضت ريالات؟ أم جنيهات؟ إذا كان ريالات تأخذ ريالات، وإن كان جنيهات تأخذ جنيهات. ولذلك نذكر هنا من عمل البنوك الإسلامية ما يتصل بموضوعنا، أشرنا من قبل إلى الاعتمادات المستندية. وقلنا بأنه أحيانًا، بعد النظر في المستندات، البنك عندما يدفع النقود للمصدر، قد يجد النقود لا تكفي، فيدفع مما معه جزءا من النقود، البنك الإسلامي يذكر صراحة أن هذا القرض حسن، والبنك الربوي يحسب هذا بفائدة، من يوم الدفع إلى يوم وصول المستندات، فإذا وصلت المستندات ولم يدفع يعتبر لهذا دينا بفائدة أعلى. أما البنك الإسلامي فيذكر صراحة أن هذا قرض حسن. البنك هنا عندما يدفع النقود للمصدر في دولة أخرى، قد يدفع عملة مختلفة عن التي يتعامل بها مع عميله. مثلا: بيت التمويل الكويتي يستورد أشياء من إنجلترا، المصدر هنا يريد الإسترليني، والبنك يتعامل بالدينار، ولا شأن له بالجنيه الإسترليني، ماذا يعمل؟ هناك وكيل على العميل، يدفع بالدينار الكويتي، ويقوم بعملية الصرف بالإسترليني، ويقيد الآن في الحال ما دفعه بالدينار الكويتي، بعد هذا إذا ارتفع الدينار أو انخفض، لا شأن له. يقول له: أنا دفعت لك مبلغ كذا بالدينار الكويتي، والمصدر طلب الثمن بالجنيه الإسترليني، فحولنا فالتحويل كان كذا، الآن لو أنني أريد أن أقرض أحدًا، وأخشى مثلاً من العملة هذه. أقرض بعملة أخرى، ولكن العملة التي أقرض بها هي التي آخذها عند السداد، لا أقرض بعملة وآخذ بأخرى، فإذا أخذت بأخرى، آخذ بسعر يوم السداد، وليس بسعر يوم الدفع. فلا بد أولاً أن أحدد القرض الآن بأي عملة؟ اختر العملة التي تشاء، ولكن المهم أنني ما دامت أقرضت، فلا أنظر إلى اختلاف سعر العملة بين يوم القرض وبين هذا اليوم، وإنما آخذ نفس العدد الذي أقرضته بسعر يوم السداد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 948 عقدت عدة مؤتمرات، وبحث موضوع النقود وأحكام النقود، وأقرت الكثرة الكاثرة التي حضرت هذه المؤتمرات بأن العملة الورقية الحالية ينطبق عليها أحكام الصرف. ولذلك نجد بعض البنوك الربوية تتعامل بسعرين: بالسعر العاجل كذا، والسعر الآجل كذا، البنوك الإسلامية، إذا أردت أن تستبدل عملة منها، لا بد أن يكون في الحال، سعر الصرف، سعر اليوم كذا، لا تسمح بالتأجيل. ولهذا أيها الإخوة ما نسمع عنه من أعمال البورصة، وأن هناك شراء أو بيع عملة بالآجل، هذا نوع من الربا، لكي نتبادل عملة لا بد أن يكون الآن القبض في المجلس، فإذا لم يتم ذلك لسبب من الأسباب، أو ضرورة من الضرورات، أو ظرف من الظروف القاهرة، فهناك شيء يقوم مقامه، كما قامت السفتجة، بغير هذا نقع في الربا، والعياذ بالله. إذن مجمع البحوث الإسلامية، هيئة كبار علماء السعودية، مؤتمرات مختلفة. كل هؤلاء قالوا بأن هذه نقود؛ لأنها هي كذلك فعلاً، تقوم بدور النقود، وأن الاقتصاديين يعرفون النقود بالوظيفة بأنها هي كل ما يقوم بدور النقود. إذا وجدنا رأيا يعارض هذا، فإننا نقول: ما وجدنا رأيًا جماعيًا قط، وإنما وجدنا رأي فَردٍ، نتج عنه أشياء خطيرة للغاية، كيف هذا؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 949 يأتي أحدهم لتحويل عملة - وهذا كان شائعًا لدرجة غير عادية في الكويت نتيجة فتوى معينة - يقول: أنا أريد أن أحول دنانير إلى جنيهات مصرية، فيسألونه: أتريد الآن؟ الدينار مثلاً بثلاثة جنيهات، أو بعد شهر: بزيادة عشرين قرشًا، أو بعد عام: أربعة جنيهات، وهكذا … يزيد الثمن كلما زاد الأجل، معنى هذا أيها الإخوة أنها حيلة للوصول إلى الربا. يعني: هو أخذ بثلاثة جنيهات، مائة دينار بثلاثمائة جنيه، ثم قال له: بعد شهر مثلاً كم تبلغ فائدتها؟ ويرفع الفائدة، بعد عام، الفائدة كم؟ فيرفع الفائدة … لا يقول له: فائدة، وإنما ما دام مؤجلاً فهو بسعر كذا، فجاءت فتوى بأن هذا حلال. فقلنا: إذا كان هذا حلالا، فما الربا إذن؟ أي حالة ربوية يمكن أن نحولها إلى بيع بهذه الطريقة، والفتوى قاست هذه المعاملة على السلم. ولكن معنى السلم: سعلة ونقود، النقود أولا والسلعة مؤجلة، وإنما هذه المعاملة: نقود بنقود، والنقود لا يكون فيها سلم، وإنما فيها قبض في المجلس، ولذلك السلم فيما يقوم به السعر ربا، والشبهة آتية من أن النقود مثل السلعة في نظر الذي أفتى بالحل، نقول له حينئذ: لا، السلعة نريدها ذاتها، نستعملها، نستفيد منها، أما الورقة هذه فلا قيمة لها إلا أنها مقياس لقيمة، ووسيلة للتبادل، أما في ذاتها فقد نجد ورقة مثل هذه نافعة أكثر منها (وأشار المحاضر إلى منديل من الورق) . إذن، هذه الفتوى كان لها أضرار خطيرة للغاية. والحمد لله تعالى أن الفتاوى الجماعية ظهرت، فأوقفتها عند حدها، وأبطلت ما جاءت به، وإلا لكانت كارثة. لذلك عندما رد على هذا رد ببيان الفتاوى الجماعية، وبالطبع مشكلات العصر لا تحل باجتهاد فردي، وإنما تحل باجتهاد جماعي. هذا والحمد لله تعالى، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 950 قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة: بـ. د/7/2- 1406/3 القرار السادس حول العملة الورقية الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد اطلع على البحث المقدم إليه في موضوع العملة الورقية وأحكامها من الناحية الشرعية، وبعد المناقشة والمداولة بين أعضائه، قرر ما يلي: أولاً: أنه بناء على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة، وبناء على أن علة جريان الربا فيهما هي مطلق الثمنية في أصح الأقوال عند فقهاء الشريعة. وبما أن الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضة، وإن كان معدنهما هو الأصل. وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمنًا، وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها، وبها تقوم الأشياء في هذا العصر؛ لاختفاء التعامل بالذهب والفضة، وتطمئن النفوس بتمولها وادخارها، ويحصل الوفاء والإبراء العام بها، رغم أن قيمتها ليست في ذاتها، وإنما في أمر خارج عنها، وهو حصول الثقة بها، كوسيط في التداول والتبادل، وذلك هو سر مناطها بالثمنية. وحيث إن التحقيق في علة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية، وهي متحققة في العملة الورقية، لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، يقرر أن العملة الورقية نقد قائم بذاته، له حكم النقدين من الذهب والفضة، فتجب الزكاة فيها، ويجري الربا عليها بنوعيه، فضلاً ونسيًا، كما يجرى ذلك في النقدين من الذهب والفضة تمامًا؛ باعتبار الثمنية في العملة الورقية قياسا عليهما. وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها. ثانيا: يعتبر الورق النقدي نقدًا قائمًا بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان، كما يعتبر الورق النقدي أجناسًا مختلفة، تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة، بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس. وأن الورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وبذلك يجري فيها الربا بنوعيه فضلاً ونسيًا، كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرها من الأثمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 951 وهذا كله يقتضي بما يلي: (أ) لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما، نسيئة مطلقًا، فلا يجوز مثلاً بيع ريال سعودي بعملة أخرى متفاضلاً نسيئة بدون تقابض. (ب) لا يجوز بيع الجنس الواحد من العملة الورقية بعضه ببعض متفاضلا، سواء كان ذلك نسيئة أو يدًا بيد، فلا يجوز مثلا بيع عشرة ريالات سعودية ورقًا بأحد عشر ريالا سعوديا ورقًا، نسيئة أو يدا بيد. (جـ) يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقًا، إذا كان ذلك يدًا بيد، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي، ورقًا كان أو فضة، أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاث ريالات سعودية أو أقل من ذلك أو أكثر، إذا كان ذلك يدا بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاث ريالات سعودية ورق، أو أقل من ذلك أو أكثر، يدا بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة. ثالثًا: وجوب زكاة الأوراق النقدية إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة، أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة. رابعًا: جواز جعل الأوراق النقدية رأس مال في بيع السلم والشركات، والله أعلم، وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 952 المناقشة أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة 13 صفر 1407/16 أكتوبر 1986م الجلسة الصباحية الأولى الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. نفتتح الجلسة الصباحية مستعينين بالله سبحانه وتعالى، ونسألة التوفيق، وأن يلهمنا الصواب. وفي هذه الجلسة موضوعان: أحدهما: أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة. والثاني: سندات المقارضة، وقبل الشروع في أحكام النقود الورقية فإن معالي الشيخ عبد العزيز يحب أن يلقي على مسامعكم كلمة قصيرة فليتفضل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 953 الشيخ عبد العزيز الخياط: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. إخوتي العلماء الأفاضل والأساتذة الكرام، أحببت أن أتحدث في أمرين حديثًا قصيرًا. الأمر الأول: أن هناك توجهًا وطلبًا وأملاً من هذا المجمع الكريم مجمع الفقه الإسلامي، وقد خاض في أبحاث قيمة عرضت عليه، واتخذ في بعضها قرارات مهمة، وقام بأصالة العلماء وتقواهم وعمق النظرة الاجتهادية في اتخاذ بعض القرارات التي ستتخذ، أو ستعلن في التوصيات الأخيرة، وهي قرارات مهمة. هناك توجه من أخوتى العلماء الأفاضل ومن بعض الكتاب في الأردن، أن يتوجه هذا المجمع الكريم في المستقبل في جلساته القادمة إلى العناية بالأبحاث في أمور تتعلق بحياتنا كما عرضت هذه الأمور. أن يهتم بأمور العقيدة، وأن يهتم بالأمور المتعلقة بالجهاد والأحكام الشرعية فيها. والأمور الاقتصادية والقضايا والمشكلات المهمة التي نحياها ونعيشها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 954 ولذلك أرجو أن تقوم شعبة التخطيط بالتوجه والتوجيه إلى هذه النواحى لتقديم الأبحاث والدراسات في هذه الأمور، ولا سيما ونحن نواجه أيضًا بعض المشكلات الشرعية، المشكلات التي تحتاج إلى بيان حكم شرعي في جهادنا مع الأعداء، بالنسبة إلى أعدائنا في فلسطين، أعدائنا في أفغانستان، أعدائنا في لبنان، وفي بعض القضايا، مما يترتب عليه بعض المشكلات لا بد من بيانها، وأرجو أن نتقدم إلى لجنة التخطيط ببعض هذه الأمور لبحثها والتخطيط لها في المستقبل، هذا الأمر الأول. الأمر الثاني: وقد اجتمع في هذا المجلس الكريم جلة العلماء الأفاضل ممن لهم باع طويل في الاجتهاد والفقه والعمل، وقاموا بجهود مشكورة في الدعوى إلى الله وبيان الأحكام الشرعية في هذا الزمن العصيب الذي بعد فيه كثير من الناس عن الدين، والذين خشوا تنبه المسلمين وصحوتهم، فبدأوا بالعمل في أسلوب جديد للقضاء على العلماء، ومازلنا نذكر كيف استشهد عالم فاضل كبير من علمائنا هو وزوجته، ممن خدم الإسلام والمسلمين في أمريكا المرحوم إسماعيل الفاروقي، وكيف اعتدي عليها. وبالأمس القريب اعتدي أيضًا على عالم فاضل من زملائنا وأحبائنا كذلك الأستاذ الدكتور صبحي الصالح من علماء لبنان رحمة الله عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 955 وفي هذا الصباح حقيقة تذكرت أخي الدكتور صبحي الصالح، كما ذكرت من قبل أخانا المرحوم إسماعيل الفاروقي، فأحببت فقط أن أنقل بعض مشاعري لأخوتي في هذا الصباح أقرع بها أذهانكم وقلوبكم، وفاضت أريحتي بأبيات أحببت أن أسمعكم إياها. كنت أذكر بعض أبيات لشاعر لبنان، فعلى نمطها خرجت معي هذه الأبيات. لا أريد توصية لكن لأذكركم بأن كل عالم منا يحمل الدعوة إلى الله معرض أن يكرمه الله بالشهادة في حمله لهذه الدعوة، وقد كرم الله إخواننا بالشهادة، وهي أمنية قد لا يستطيع كل إنسان أن ينالها. وأذكر بهذه المناسبة أن الشيخ عز الدين شيخ العلماء وسلطان العلماء في مصر، لما أراد نائب السلطنة أن يقتله جاء إلى بيته وطرق الباب وهو حامل للسيف، فرآه ابنه، فهرول إلى أبيه مذعورًا يقول له: يا أبتى، إن نائب السلطنة جاء ليقتلك، فكان جواب الشيخ عز الدين رحمة الله عليه أن قال: هون عليك يا بني، فإن أباك لم يبلغ بعد درجة الشهداء حتى يقتله نائب السلطان. فتلك كرامة نالها هؤلاء الإخوان قلت: ذكرتك يا صبحي ففاضت مدامعي وزادت هموم القلب تعسا على تعس وعادت بي الذكرى لعهد محب جديد الليالي كان أصفى من الورس ودهر قضيناه على الحب والرضى نفيق الجهاد المر في غمرة البؤس ذكرتك والسحر الخلوب بيانه وصوت الدعاة الحر في قوة الجرس فيا ويح نفسي كيف يقضى صديقنا على يد نذل مجرم القلب جبس لقولة حق في مجال تباعض وصيحة إيمان الخلي من الوكس أليس ضياع العلم إذا مات أهله وفقدان أهل الدين أنكى على النفس فيا أخوة الفقه والدين والهدى أذكركم صبحي وما كان في لوح الهدى منسي وعذرا إذا قصرت في الحزن والبكا فقد جفت دموع الحزن من سكتة الخرس وشكرا لكم وبارك الله فيكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 956 الرئيس: شكرًا لا فض فوك، نرجو من فضيلة الشيخ نزيه حماد أن يتفضل بالعرض لموضوع النقود الورقية وتغير قيمة العملة. الشيخ نزيه حماد: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. إن من أبرز المشكلات الاقتصادية المعاصرة التي تمس الفرد والجماعة في أغلب دون العالم اليوم مشكلة التضخم، وما يرافقه من تأثير كبير وخطير على القوة الشرائية للنقد، حيث تضعف هذه القوة وتقل، مما يؤدي إلى رخص النقود تجاه السلع والمنافع والخدمات التي تبذل عوضًا عنها. كما أن السياسة الاقتصادية لكثير من الدول الحاضرة قد تدعوها إلى تخفيض قيمة عملتها بالنسبة إلى بعض العملات الأخرى، أو بالنسبة إلى الذهب، فتخفضها بالقدر المناسب، وقد تدعوها على عكس ذلك إلى رفع قيمة عملتها فترفعها بالنسبة الملائمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 957 وهناك العديد من الدول المعاصرة تحظر التعامل بنقدها خارج حدود أراضيها وفق سياسة اقتصادية معينة، وتمنع بالتالي إخراجه منها إلى أية دولة أخرى، ولو حدث أن أخرج منها بصورة ما، فإنها تمنع إدخاله إليها ثانية. وقد تمنع بعض الدول التعامل بالذهب أو بأية عملة غير عملتها في داخل أراضيها، وتعتبر ذلك من قبيل النظام العام الذي لا تجوز مخالفته، وتجعل كل اتفاق على خلافه باطلا، وقد تلغي بعض الدول شيئا من عملاتها الرائجة تستبدلها بنقد آخر تصطلح على التعامل به ... إلى آخر ذلك من حالات وصور. هذا في نطاق السياسة الاقتصادية للدول، أما في مجالات المعاملات الفردية فكثيرًا ما يقرض المرء لغيره مبلغًا من المال إلى أجل معين؛ رفقا به، ومعونة له، ودفعا لحاجته، وتفريجا لكربته، فإذا ما حل أجل الوفاء وجد المقرض أن هذا المبلغ الذي عاد إليه أقل أو أكثر بقليل أو كثير من المبلغ الذي دفعه له قرضا، من حيث قوته الشرائية، أو من حيث قيمته بالنسبة إلى الذهب، أو بالنسبة إلى العملات الأخرى يوم أقرضه، وإن كان مماثلاً له في الكم والعدد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 958 وكثيرًا ما يشتري التاجر بضاعة بنقد محدد مؤجل الوفاء إلى أمد متفق عليه، وعندما يحل الأجل ويحين وقت الأداء يجد كل واحد من المتبايعين أن المبلغ المتفق عليه قد اختلف حاله، من حيث القوة الشرائية، أو من حيث القيمة بالنسبة إلى الذهب، أو بالنسبة إلى العملات الأخرى عن الوضع الذي كان عليه وقت وجوبه في الذمة بالعقد. وفي كثير من البلدان الإسلامية جرى العرف بين الناس على جعل بعض مهر الزوجة أو أكثره أو كله دينًا مؤجلا في ذمة الزوج، لا يحل إلا بالموت أو الفرقة ويسمونه المهر المؤجل. وواقع الأمر في غالب حالات المهر المؤجل طرو التغير الفاحش على قيمة النقد الذي جُعل مهرًا، وصار دينا في ذمة الزوج عند حلوله، بالنظر إلى يوم ثبوته في الذمة. هذه بعض صور القضية، وللقضية تعلقات شائكة، وآثار خطيرة، وأبعاد كثيرة لا تكاد تحصى، وإنها لتمس الفرد والمجتمع والدولة في مجالات مختلفة وجوانب شتى، غير أن الذي يعنينا بحثه في هذا المقام ما يتصل بالمعاملات المالية عند تغير أحوال النقد، وأثر ذلك على الديون في الذمم أيا كان سببها ومنشؤها. وهذا الجانب في الحقيقة ونفس الأمر، وإن كان عظيم الأهمية وبالغ الخطورة في هذا العصر على الخصوص، فإن مبادئه وأسسه موجودة ومعروفة في تعامل المسلمين وفقههم، ولفقائهم في ذلك آراء ونظرات هامة جديرة بالعناية بها والإفادة منها، وبيان ذلك: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 959 أولاً: تغيرات النقود الذهبية والفضية: إن الدين الثابت في الذمة إذا كان عملة ذهبية أو فضية محدودة مسماة، فغلت أو رخصت عند حلول وقت الأداء، فلا يلزم المدين أن يؤدي غيرها؛ لأنها نقد بالخلقة، كما يعبر الفقهاء. وهذا التغير في قيمتها لا تأثير له على الدين البتة. وحتى لو زادت الجهة المصدرة لهذه العملة سعرها أو أنقصته، فلا يلزم المدين إلا ما جرى عليه العقد. ولو أبطلت السلطة المصدرة لهذه العملة التعامل بها، فإنه لا يلزم المدين سواها وفاء بالعقد؛ إذ هي المعقود عليها دون غيرها. وعلى ذلك نص الإمام الشافعي والمالكية في المشهور عندهم. وقال بعض المالكية: إذا أبطلت تلك العملة واستبدلت بغيرها فيرجع إلى قيمة العملة الملغاة من الذهب، ويأخذ صاحب الدين القيمة ذهبًا. ثانيًا: تغيرات النقود الاصطلاحية: إذا كان الدين الثابت في الذمة نقدا بالاصطلاح لا بالخلقة، كسائر العملات الأخرى غير الذهبية والفضية، فطرأ عليه تغير عند حلوله، فعندئذ يفرق بين خمس حالات: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 960 الحالة الأولى الكساد العام للنقد: وذلك بأن توقف الجهة المصدرة للنقد التعامل به، فتترك المعاملة به في جميع البلاد، وهو ما يسميه الفقهاء بكساد النقد. ففي هذه الحالة لو اشترى شخص سلعة ما بنقد محدد معلوم، ثم كسد ذلك النقد قبل الوفاء، أو استدان نقدًا معلومًا ثم كسد قبل الأداء، أو وجب في ذمته المهر المؤجل من نقد محدد ثم كسد قبل حلوله، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول لأبي حنيفة: وهو أن النقد الذي كسد إذا كان ثمنًا في بيع، فإنه يفسد العقد ويجب الفسخ ما دام ممكنا؛ لأنه بالكساد خرج عن كونه ثمنًا؛ لأن ثمنيته ثبتت بالاصطلاح، فإذا ترك الناس التعامل به فإنها تزول عنه صفة الثمنية، فيبقى المبيع بلا ثمن، فيفسد البيع , أما إذا كان دينا في قرض، أو مهرا مؤجلاً، فيجب رد مثله ولو كان كاسدًا؛ لأنه هو الثابت في الذمة لا غيره. القول الثاني لأبي يوسف، والحنابلة على الراجح عندهم، والمالكية في غير المشهور: وهو أنه لا يجزئ رد المثل بعد ما كسد، ويجب على المدين رد قيمة النقد الذي وقع عليه العقد يوم التعامل من نقد آخر. وإنما اعتبرت القيمة يوم التعامل؛ لأنه وقت الوجوب في الذمة. والقول الثالث لمحمد بن الحسن الشيباني وبعض الحنابلة: وهو أنه يجب على المدين رد قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر وقت الكساد، أي في آخر نفاقها، وهو آخر ما تعامل الناس بها؛ لأنه وقت الانتقال إلى القيمة، إذ كان يلزمه برد مثلها مادامت نافقة، فإذا كسدت انتقل إلى قيمتها وقتئذ. الشيخ عبد الله البسام: هذا هو المشهور لمن؟ الشيخ نزيه حماد: مشهور المذهب. والقول الرابع للشافعية والمالكية على المشهور عندهم: وهو أن النقد إذا كسد بعد ثبوته في الذمة وقبل أدائه، فليس للدائن سواه، ويعتبر هذا الكساد كجائحة نزلت بالدائن، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدين قرضا أو ثمن مبيع أو غير ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 961 الحالة الثانية الكساد المحلي للنقد: وذلك بأن يكسد النقد في بعض البلاد لا في جميعها، ومثله في عصرنا الحاضر العملات التي تصدرها بعض الدول وتمنع تداولها في خارج حدود أراضيها. وفي هذه الحالة إذا اشترى شخص بنقد نافق، ثم كسد في البلد الذي وقع فيه البيع قبل الأداء، فإن البيع لا يفسد، ويكون البائع بالخيار بين أن يطالبه بالنقد الذي وقع به البيع، وبين أخذ قيمة ذلك النقد من عملة رائجة، وهذا هو القول المعتمد عند الحنفية. وحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه إذا كسد النقد في بلدة واحدة فيجرى عليه فيها حكم الكساد العام في سائر البلاد، اعتبارًا لاصطلاح أهل تلك البلدة. الحالة الثالثة انقطاع النقد: وذلك بأن يفقد النقد من أيدي الناس ولا يتوفر في الأسواق لمن يريده. وفي هذه الحالة لو اشترى شخص سلعة بنقد معين ثم انقطع قبل أن يؤدي الثمن، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول للحنابلة ومحمد بن الحسن الشيباني وهو المفتى به في مذهب الحنفية: وهو أن على المشتري أداء ما يساويه في القيمة في آخر يوم قبل الانقطاع، لتعذر تسليم مثل النقد بعد انقطاعه، فيصار إلى بدله وهو القيمة. ومثل ذلك يقال في دين القرض وغيره. وإنما اعتبرت القيمة قبيل الانقطاع لأنه الوقت الذي ينتقل الوجوب فيه من المثل إلى القيمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 962 والقول الثاني لأبي يوسف: وهو أنه يجب على المدين أداء ما يساويه في القيمة يوم التعامل؛ لأنه وقت الوجوب في الذمة. والقول الثالث لأبي حنيفة: وهو أن الانقطاع كالكساد يوجب فساد البيع. والقول الرابع للشافعية والمالكية: وهو أنه إن أمكن الحصول على ذلك النقد مع فقده وانقطاعه فيجب الوفاء به، وإلا فتجب قيمته، سواء أكان دين قرض أو ثمن مبيع أو غير ذلك. الحالة الرابعة غلاء النقد ورخصه: وذلك بأن تزيد قيمة النقد أو تنقص بالنسبة إلى الذهب والفضة. ويعبر الفقهاء عن ذلك بالغلاء والرخص. وفي هذه الحالة إذا تغيرت قيمة النقد غلاء أو رخصًا بعد ما ثبت في ذمة المدين بدلا في قرض أو دين مهر أو ثمن مبيع أو غيره، وقبل أن يؤديه، فقد اختلف الفقهاء في ما يلزم المدين أداؤه على ثلاثة أقوال: القول الأول لأبي حنيفة والمالكية في المشهور عندهم والشافعية والحنابلة: وهو أن الواجب على المدين أداؤه هو نفس النقد المحدد في العقد والثابت دينا في الذمة، دون زيادة أو نقصان، وليس للدائن سواه. وقد كان القاضي أبو يوسف ذهب إلى هذا الرأي أولا ثم رجع عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 963 والقول الثاني لأبي يوسف أخيرا وعليه الفتوى عند الحنفية: وهو أنه يجب على المدين أن يؤدي قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة من نقد رائج، ففي البيع تجب القيمة يوم العقد، وفي القرض يوم القبض. والقول الثالث وجه عند المالكية: وهو أن التغير إذا كان فاحشًا فيجب أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص. أما إذا لم يكن فاحشًا فالمثل. يقول الرهوني، معلنًا على قول المالكية المشهور بلزوم المثل ولو تغير النقد بزيادة أو نقص. يقول الرهوني: قلت: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدًا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه لوجود العلة التي علل بها المخالف. وبالنظر في هذه الأقوال الثلاثة وتعليلاتها يلوح لي: (أ) أن الاتجاه الفقهي لإيجاب أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة، هو الأول بالاعتبار من رأي الجمهور الذاهبين إلى أن الواجب على المدين أداؤه إنما هو نفس النقد المحدد في العقد والثابت في الذمة، دون زيادة أو نقصان، وذلك لاعتبارين: أحدهما: أن هذا الرأي هو الأقرب للعدالة والإنصاف، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، والله يأمر بالقسط. والثاني: أن فيه رفعا للضرر عن كل من الدائن والمدين، فلو أقرضه مالا فنقصت قيمته، وأوجبنا عليه قبول أداء المثل عددًا تضرر الدائن؛ لأن المال الذي تقرر له ليس هو المستحق، إذ أصبح بعد نقصان القيمة معيبا بعيب النوع المشابه لعيب العين المعينة، حيث إن عيب العين المعينة هو خروجها عن الكمال بالنقص، وعيب الأنواع نقصان قيمتها. ولو أقرضه مالا فزادت قيمته وأوجبنا عليه أداء المثل عددًا تضرر المدين لإلزامه بأداء زيادة عما أخذ، والقاعدة الشرعية الكلية أنه لا ضرر ولا ضرار. (ب) أن الرأي الذي استظهره الرهوني من المالكية بلزوم المثل عند تغير النقد بزيادة أو نقص إذا كان ذلك التغير يسيرا، ووجوب القيمة إذا كان التغير فاحشا أولى في نظري من رأي أبي يوسف المفتى به عند الحنفية بوجوب القيمة مطلقا، وذلك لاعتبارين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 964 أحدهما: أن التغير اليسير مغتفر قياسا على الغبن اليسير والغرر اليسير المغتفرين شرعًا في عقود المعاوضات المالية؛ من أجل رفع الحرج عن الناس، نظرًا لعسر نفيهما في المعاملات بالكلية، ولغرض تحقيق أصل تشريعي مهم؛ وهو استقرار التعامل بين الناس، بخلاف الغبن الفاحش والغرر الفاحش، فإنهما ممنوعان في أبواب البيوع والمعاملات. والاعتبار الثاني: أن التغير اليسير مغتفر تفريعا على القاعدة الفقهية الكلية: أن ما قارب الشيء يعطى حكمه، بخلاف التغير الفاحش، فإن الضرر فيه بين والجور فيه محقق. الحالة الخامسة التضخم والانكماش: وهذه الحالة لم يذكرها الفقهاء في كتبهم، ولم يتعرضوا لها في مدوناتهم؛ إذ لم يكن لها من الخطر في زمانهم مثل مالها في عصرنا الحاضر. وحقيقة هذه الحالة أن يطرأ التضخم أو الانكماش بعد الوجوب في الذمة وقبل الوفاء، بحيث تنخفض أو ترتفع القوة الشرائية للنقد الثابت دينا في الذمة تجاه السلع والمنافع والخدمات التي تبذل عوضًا عنه. والذي يستنتج من كلام الفقهاء في مسألة تغير النقود، أن التضخم أو الانكماش وحدهما لا تأثير لهما على الديون البتة، ولو حدث أن قارن التضخم أو الانكماش إحدى الحالات الآنفة الذكر، فإن الحكم يناط بتلك الحالة بغض النظر عن التضخم والانكماش الملازم أو العارض. هذا هو الحكم في الديون التي لا ارتباط لها عند وجوبها بالقوة الشرائية للنقد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 965 أما الديون التي روعي في تحديدها قوة النقد الشرائية وقت الوجوب، ثم طرأ التضخم المالي وانخفضت تلك القوة الشرائية، فإنها تتغير بحسب نسبة التضخم الحادث، كما في دين النفقة إذا قدره القاضي وفرضه على من تجب عليه بالنظر إلى أسعار الأشياء التي يحتاجها مستحق النفقة وقت التقرير، ثم ارتفعت أسعار هذه الحاجيات في السوق، ففي هذه الحالة يحكم بتغير الدين تبعًا لتغير الوضع المالي للنقد؛ لأن القاعدة التي بني عليها تقدير النفقة إنما هي تحقيق الكفاية للمنفق عليه. وهذا المبلغ المقرر بعد طروء التضخم أصبح غير كاف للوفاء بالغرض المناط به، فلهذا يتغير الدين تبعًا لتغير مناطه، ويزاد مقداره وفقًا لنسبة التضخم الحادث. وعكس ذلك يقال في حالة طروء الانكماش في مثل هذه الواقعة، ومثل ذلك مرتبات الموظفين والجند والعمال إذا كان تقديرها لهم معتبرا بالكفاية، فإنها تتغير ارتفاعًا وانخفاضا بحسب الغلاء والرخص، وتبعا للتضخم والانكماش. نص على ذلك الماوردي في الأحكام السلطانية، وأبو يعلى في الأحكام السلطانية، وبدر الدين ابن جماعة في تحرير الكلام وغيرهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. هذه هي القضية الأولى المطروحة في الموضوع، وهناك عدة قضايا أخرى. هل يرى الرئيس أن أعرضها الآن أم بالتسلسل؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 966 الرئيس: الذي نعرفه أن الذي لدينا قضيتان: إحداهما قضية تغير قيمة العملة وتفضلتم بها، والثاني أحكام النقود الورقية من حيث العلة، ومن حيث نظرية تكييفها الفقهي. الشيخ نزيه حماد: تحب نعاود الثانية؟ الرئيس: تفضل المفروض أن تكون هي الأولى. الشيخ نزيه حماد: هذه هي القضية الأولى التي طرحتها في الموضوع، أما الثانية فهي قضية اعتبار العملة الورقية نقدا قائما بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة؛ نظرًا لتحقق الثمنية فيه. وهذا ما اتجه إليه مجمع الفقه الإسلامي بمكة والأبحاث المقدمة في الموضوع، باستثناء بحث فضيلة الشيخ العثماني، فقد جعل العملة الورقية في حكم الفلوس الرائجة، وأثر ذلك الاختلاف يتضح فيما يلي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 967 أولاً: في الجزم بعدم صحة بيع الجنس الواحد من العملة الورقية ببعض متفاضلا بإطلاق، فلا يجوز بيع عشرة ريالات سعودية ورقا بأحد عشر ريالاً ورقًا، ولو مع تعجيل البدلين، وهذا ما اتجه إليه مجمع الفقه الإسلامي بمكة وآراء الباحثين الكاتبين في الموضوع جميعهم. ثانيًا: يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقا إذا كان يدا بيد، كبيع الدينار الأردني بالدولار الأمريكي مع التفاضل، إذا كان ذلك يدا بيد، ولا يجوز ذلك من غير تقابض. وهذا ما اتجهت إليه آراء الكاتبين في الموضوع باستثناء بحث فضيلة القاضي الشيخ العثماني الذي مال إلى رأي الحنفية في الفلوس الرائجة، فلم يشترط التقابض في المجلس من الطرفين، واكتفى بإيجاب تسليم أحد العاقدين بدله؛ لئلا تؤول المعاملة إلى بيع الكالئ بالكالئ. ثالثا: وجوب زكاة الأوراق النقدية إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة، أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة. وبهذا أخذ مجمع الفقه الإسلامي بمكة، واتجهت إلى ذلك آراء الباحثين في الموضوع، وهذه خلاصة الكلام في أحكام العملة الورقية وفي تغير النقود. وشكرًا. الرئيس: شكرًا، بسم الله الرحمن الرحيم ... الواقع أن الذي أمامنا هو بحثان: أحدهما الموضوع الأصل وهو أحكام النقود الورقية، والثاني: تغير قيمة العملة. أما الموضوع الأول وهو الثاني عرضا عند فضيلة الشيخ نزيه، فهو أحكام النقود الورقية، وركيزة البحث في هذا الموضوع تنطلق من أمرين: أما الأمر الأول فهو التصحيح لعليتها، وتعلمون أن لأهل العلم في هذا أقوالاً ثلاثة: القول الأول: أن العلية أو العلة هي الوزن، وهذه العلة منقوضة بالإجماع على إسلامها في الموزونات. والعلة الثانية: هي غلبة الثمنية، وغلبة الثمنية في الموضوع الواقع هي علة قاصرة لا تتجاوز النقدين الذهب والفضة. القول الثالث: هو مطلق الثمنية، ومطلق الثمنية عليه جماعة من أهل العلم ومن المحققين وهو الذي ذهب إليه عدد من المجامع العلمية والدراسات المعاصرة، وهو تعليل في الواقع بوصف مناسب؛ لأن النقدين كما تعلمون ليس لهما حد موضوع من الشارع، وإنما يحصلان بالقوة الاقتصادية والقوة السلطانية، وإنما من حيث تكييفها الفقهي فقد حصل في ذلك عدة نظريات لدى أهل العلم المتأخرين والمتقدمين، فالنظرية أو الاعتبار الأول: اعتبارها إسنادًا، وهذا أمر فيه من الضيق والحرج ما لا يخفى. والنظرية أو الاعتبار الثاني: اعتبارها عروض تجارة، وهذا فيه من التوسع وإفقادها لقيمتها الثمينة ما لا يخفى، إضافة إلى أنه يترتب على هذا إذا اعتبرناها عروض تجارة، فإنه لا تجب فيها الزكاة إلا إذا نوى صاحبها أو مالكها فيها التجارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 968 والنظرية الثالثة أو الاعتبار الثالث: إلحاقها بالفلوس. والرابعة: هو اعتبار هذه الأوراق النقدية ثمنا قائمًا بنفسه، وللعلامة الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى بحث مستفيض بهذا. وقد ذهبت إليه لجنة الفتيا في الأزهر في ذلك الوقت. هذه الأشياء التي يمكن أن ينطلق منها البحث في موضوع أحكام النقود الورقية. وكان مجمع الفقه الإسلامي بمكة - كما تفضل الشيخ نزيه - قد أصدروا قرارهم في هذه الناحية فقط، إذ اعتبروا هذه الأوراق ثمنا قائما بذاتها، واعتبروا العلة هي مطلق الثمنية. والأمر على كلٍّ عُرضَ هنا الآن، وهو مطروح لمداولاتكم وآرائكم، وما يفتح الله به سبحانه وتعالى عليكم. أما تغير قيمة العملة فمع جلالة البحث الذي تفضل به الشيخ نزيه وعرضه للخلاف وحصره لمواطن الخلاف في هذه المسألة على اختلاف فروعها، إلا أنكم تلحظون أن المسألة من الأهمية بمكان، فإنها تنتظم عددا من أبواب الفقه فهي تنتظم باب النكاح وتنتظم كتاب المعاملات في عدد من أبوابه، كالبيع والقرض ونحوهما. وعلى كلٍّ الأمرُ في هاتين القضيتين مطروح على نظركم، وقد ترون مناسبًا أن نبدأ البحث في المسألة الأولى، وهي أحكام النقود الورقية، وشكرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 969 الشيخ عبد الله بن بيه: الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. وبعد، فقد أعددت في هذه القضية بحثًا هو بين أيديكم بدأته بمقدمة قصيرة. الحمد لله الحي القيوم، العزيز الحكيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وصحبه أهل العلم الصحيح والمنهج القويم، والذوق السليم. وبعد، فهذا بحث في نقود الكاغد، محذوف الشواهد، مطروح الزوائد، يحتوي إن شاء الله على بعض الفوائد، لا يدعي اقتناص الشوارد، ولا تقيد الأوابد، في مجال لم يترك الرواد فيه وشلا لوارد، صغته في شكل مسائل، وسلكت فيه سبيل أهل الفتوى في النوازل، لا أقول فيه كما قال الشاعر: كم ترك الأول للآخر بل أكتفى ... الرئيس: يا شيخ عبد الله هل ستقرءون البحث؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 970 الشيخ عبد الله بن بيه: والله إذا اتسع الوقت أفضل أقرأه أو أختصره. الرئيس: نحن كما تعلمون حددنا منهجا معينا، وهو أن يكون العرض لواحد من الباحثين، ثم بعد ذلك أصحاب البحوث في المداولة والمناقشة. وفضيلتكم في رأس الذين كتبوا بحثا مستفيضًا في هذا الموضوع. فإذا كان لكم مناقشة في موضوع أحكام النقود الورقية وليس في تغير قيمة العملة لأن هذا موضوع ثان، نريد أن نخلص من هذا وندخل في الموضوع الثاني. الشيخ عبد الله بن بيه: نعم إذن سأحاول أن شاء الله إن أقدم جوابًا على المسألة مختصر: في مسألة النقود قمت أولاً بتعريف لغوي وتعريف اصطلاحي للنقود، التعريف اللغوي أعفيكم منه وكذلك التعريف الاصطلاحي فهو معروف. وقد قدم هذا التعريف جملة من الفقهاء الذين قدموا البحوث. ثم بعد ذلك قسمت مسألة النقود إلى مسائل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 971 المسألة الأولى: تتعلق بحكم طبع النقود الورقية، وقلت: إن الجواز يخضع لضوابط تمنع إنزال الضرر بالناس لحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) ، وسقت على ذلك جملة من الأدلة. ختمت هذه المسألة الأولى بقولي: إلا أن ضابط الجواز هو ما ذكرناه سابقًا من عدم إلحاق الضرر بالناس في ممتلكاتهم ومعاملاتهم وعدم بخس أشيائهم، وتعريض اقتصادهم للفوضى والاضمحلال. فالأصل الجواز فيما سلم من ذلك، خصوصًا إذا عري عن سبب يجعل شبهة التحريم قائمة كنيابة النقود الورقية عن العين الغائبة، مما يؤدي إلى الصرف المؤجل، ومع ذلك فنحن نشاهد فوضى نقدية تتلاعب بأموال الناس، وتحيل أرصدتهم إلى أوراق من الكاغد لا قيمة لها، مما يجعل جوازها خاضعًا للقاعدة الشرعية المتمثلة في أن الحاجي ينزل منزلة الضروري كالإجارة، حيث خالفت القياس لورود العقد على منافع معدومة. فالحاصل أنها إذا لم تترتب عليها أضرار اقتصادية فهي جائزة. هذا أولاً في مسألة جواز طبع النقود الورقية. المسألة الثانية: تتعلق ببيع هذه النقود بعضها ببعض، هل يدخله الربا؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 972 إذا كان بيع هذه النقود بعضها ببعض أو بالذهب والفضة يدخلهما الربا، كما يدخل في الذهب والفضة، أو لا يدخل فيهما الربا إلا ما يدخل في العروض، فما هو الحكم في هذه المسألة؟ هذه المسألة رأيت أن للعلماء فيها موقفين، قسمت مواقف العلماء إلى موقفين: الموقف الأول: يتمثل في انتفاء الربوية، وقد يختلف معتنقوه في التعبير عنه بسبب اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، بين مانع للقياس مكتفيًا بالنص، وهذا ما لم تشيروا إليه يا سيادة الرئيس، وهو موقف موجود كأساس في سائر الأصناف، وبين من لا يتخذ هذا الموقف المبدئي فهو يجيز القياس، إلا أنه ينفي وجود علة في هذا المكان بالذات، أو يعترف بوجود علة فيه غير أنه يدعي فيها القصور. واختصارا للبحث فإننا نجعل تحت هذا الموقف من يعتبرها كالفلوس، وهو ينفي الربوية عن الفلوس، ومن يجعلها كالعروض لأنه يثبت للفلوس نوعًا من الربوية لا يخضع لعلة الثمنية. أما الظاهرية فإن موقفهم ينسجم مع مذهبهم الذي يرفض القياس، ويرى في النصوص كفاية للقضايا المتجددة، ولهم ما لهم وعليهم ما عليهم. وقد نحا منحى الظاهرية في هذه المسألة جملة من العلماء، فمن السلف طاوس وقتادة وعثمان البتي وأبو سليمان. كما حذا حذوهم ابن عقيل من الحنابلة وأبو بكر الباقلاني من المالكية والأخير عن ابن رشد في البداية واللخمي أيضًا من المالكية عن أحمد بن علي المنجور في شرحه القواعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 973 ونصنف في نفس الاتجاه من يعلل علة لا تتناول النقود الورقية، كالوزن عند أبي حنيفة وأحمد في أحد قوليه، ولا داعي لنقل كلام هؤلاء لوضوح كلامهم واشتهاره. كما نصف في نفس الاتجاه أيضًا من يعلل بالثمنية أو الثمنية الغالبية، وهو يصرح بأن هذه العلة قاصرة وليست صالحة للتعدية إلى غير محلها. وهؤلاء يجدر بنا أن نتعرض لبعض أقوالهم وآرائهم؛ نظرًا للالتباس الذي يوحي به التعليل بالثمنية. ونقف وقفة قبل أن نسترسل معهم لنشير إلى أني ذكرت هنا كلامًا لأبي بكر الباقلاني وهو قوله: أما الاستدلال فقسم لا يشهد له أصل من الأصول الثلاثية، وهو كلام في موضوع آخر، إلا أنه له علاقة حميمة بهذا الموضوع يقول: وإذا لم يكن يشترط استناد الأمور إلى الأصول لم ينضبط الشرع، واتسع الأمر، ورجع الشرع إلى اتباع وجوه الرأي واقتضاء حكمة الحكماء، فيصير ذوو الأحلام بمنزلة الأنبياء، إلى أن قال: ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان وأصناف الخلق، وهو في الحقيقة خروج عما درج عليه الأولون. ولعل الشافعية يفكرون مثل تفكير القاضي أبي بكر الباقلاني وإن كان إمام الحرمين قد اعترض عليه في موضوع لا يتعلق بهذا الموضوع، فنجد أن إمام الحرمين ناقش هذه المسألة بالعلة القاصرة، ورددها مرارا فقال: إذا استنبط القائس علة في محل النص وكانت مقتصرة عليه منحصرة فيه لا تتعداه، فالعلة صحيحة عند الإمام الشافعي رضي الله عنه. ونفرض المسألة في تعليل الشافعي: تحريم ربا الفضل في النقدين بالنقدية، وهي خاصة بالنقدين لا تتعداهما، وقد أطال النفس، وناقش نفاة العلة القاصرة كالأحناف في هذه المسألة، وعرج على مسألة الفلوس أكثر من مرة قائلاً: ولقد اضطرب أرباب الأصول عند هذا المنتهى، ونحن نذكر المختار من طرقهم.. إلى آخر ما ذكره إمام الحرمين، وما ذكره السبكي في ذلك، وما ذكره النووي من اعتبارهما العلة قاصرة على النقدين. وتعرضت هنا للعلة القاصرة وعرفتها بما ذكره الآمدي وماذكره السبكي وما ذكره سيدي عبد الله في نشرالبنود، وما ذكره أبو حامد الغزالي حول العلة القاصرة، وبينت هنا ما هي هذه الثمنية. منحاهم صعب هم يقولون بالثمنية ويقولون: هي قاصرة، ونلاحظ حرصهم على التمثيل للعلة القاصرة بالنقدية أو الثمنية أو غلبة الثمنية أو كونها قيمة للأشياء، كل هذا يدل على أن المعللين بالثمنية أو غلبتها ويقولون بقصور العلة، يرون أنها ثمنية من نوع خاص. وهذا كقول البهوتي الحنبلي في زكاة الذهب والفضة في كتابه كشاف القناع: وهما الأثمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 974 ثانيًا: إن النقدية الشرعية كما سماها إمام الحرمين تعني فيما يبدو كون النقدين أثمانا بالخلقة، حيث تعتبر ثمنية غيرها ثمنية عارضة. ونرى أن علماء الفروع بنى كثير منهم على هذه النظرية، وذكرت كلامهم في النقدين. أما وجهة النظر الأخرى القائلة بالثمنية المتعدية، وجهة النظر الأخرى الفريق الآخر الذي يقول بالربوية، فهو الفريق الذي يقول بالثمنية المتعدية. وقد عبر عنها الغلبية الثمنية أي غلبة الاستعمال في التبادل أو مطلق الثمنية، ويمثلها المالكية لأن مالكًا ... وذكرت كلام مالك في ذلك، وهو كلام معروف عندكم، وذكرت أقوال المالكية. وقد بينت هنا طريقًا خاصًا وهو أن هذه المسألة مبنية على القاعدة المعروفة عند المالكية بقاعدة البينة. وهي إيجاد حكم بين حكمين، أو إيجاد حكم يستند إلى دليلين، قاعدة البينة إذا وجد دليلان راجحان يشبه حكم كل واحد منهما، ولم يتمحض شبهه لواحد منهما، فإن المالكية يبنون على ذلك قاعدة يسمونها بقاعدة البينية ذكرها الزقاق فقال: وبيع ذمي وعتق هل ورد الحكم بين بين كونه اعتقد كالبيع مع شرط يصح وبطل وحكم زنديق وشبهه نقل وذكرت كلام المنجور في شرحه للزقاق في مخطوطة لأحد تلاميذه التي هي عندي. وبنوها أيضًا على قاعدة حكم النادر: هل النادر يعتبر حكمه في نفسه أو يعتبر له حكم الغالب؟ وهل لم ندر حكم ما غلب وحكم نفس كالفلوس والرطب وكسلحفاة وقت ندرًا كذا مخالط وعكس ذكرًا ذكرت هنا كلام المنجور وهو كلام غير معروف لأنه مازال مخطوطًا عندما ذكر أن اللخمي يقول: هذا شرح غير معلل، وأن بعض العلماء "ابن بشير " ادعى الإجماع على التعليل، وأشهب قال: إن القائسين مجموعون على التعليل، ثم ذكر قول أبي بكر بن العربي رحمه الله تعالى أن العلة قاصرة في هذا الموضوع لا يعرف موضع توجد فيه العلة قاصرة في الأصول إلا في هذا الموضع بالذات. ثم بعد ذلك تعرضنا لكلام ميارة الذي أوجز فيه أقوال علماء المالكية الثمنية قبل الغلبة، وهو معروف عندكم. في النهاية أشرت إلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وكلام أبي بكر بن العربي. كلام أبي بكر بن العربي الذي اعتبر أقوى كلام على الإطلاق عند المالكية. كلام أبي بكر ابن العربي يقول: إن الناس لو تعاملوا بالجلود، وذكر كلام مالك ثم قال: إنه رأى الناس يتعاملون في بغداد بالخبز، وجعل التعامل بالخبز كافيا لجعله ثمنا للأشياء، وهو من أقوى كلام ذكره علماء المالكية وقال: إن مالكا اعتبر المعنى، وأن هذا المعنى لم يتفطن له غير مالك، وتبعه جماعة من المالكية. فالمسألة يمكن أن تعامل بتحقيق المناط، وقد ذكرت تعريف القرافي لتحقيق المناط، بمعنى أن الثمنية لم تكن موجودة في ذلك الوقت ولم تكن غالبة، وحينما وجدت أو غلبت فيحقق المناط، ويقال بأنها أصبحت ربوية؛ لأن الثمنية أصبحت غالبة. وغلبة الثمنية عند المالكية ليست كغلبة الثمنية عند الشافعية، غلبة الثمنية عند الشافعية تعني أنها أصل الأثمان، كما عبر به المنجور قائلاً عن الشافعي: إنها أصل الإثمان، أصل الإثمان هو الذهب والفضة أو أنها ثمنية من نوع خاص؛ لأنها النقود الشرعية كما قال إمام الحرمين. هنا عبارات يجب التنبيه إليها في كلام الشافعية عند هذه القضية. في النهاية ذكرت بواعث الطرفين، وهذا فقد ساقه هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 975 فتلخص مما مر قيام مذهبين أو موقفين من النقود الورقية: أولهما: موقف من يقول بعدم ربوية النقود أو على الأصح يذهب إلى عدمها؛ لأنه لا نص من الأقدمين في النقود الورقية، ولكنها مشمولة بالعموم وبالنص على المثيل، وهذا الموقف هو رأي أكثر العلماء كما أسلفنا. ويمكن إرجاع بواعثهم حسب رأينا إذا قرأنا كلامهم قراءه متأنية إلى ما يلي: أولاً: أن تحريم الربا أمر تعبدي لا تظهر له علة واضحة معقولة، فهو من قبيل الابتلاء والاختيار، وما كان من هذا القبيل يقتصر على محل الورود، والقرآن يشهد؛ لأن بعض التكاليف تأتي للابتلاء، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] فالتكاليف اختلف العلماء هي للامتثال أو الابتلاء. هذا معروف لديكم من كلام الأصولين. الباعث الأول هو الابتلاء. ثانيًا: إن الذهب والفضة لهما مزايا وخصائص لا توجد في غيرهما، فهما معدنان نفيسان قابلان للكنز واختزان الثروة ويبقيان على الزمن، هذا من ناحية الخلقة. أما من ناحية الشرعية فيحرم اقتناء آنيتهما، ولا يجوز التحلي بهما للرجال غير ما استثنى الشارع، فهما أثمان بالخلقة، وهما أصل الثمنية، وهما النقدان الشرعيان. ثالثًا: صعوبة إبراز علة مقنعة سالمة من القوادح مطردة منعكسة. وقد قدمنا قول إمام الحرمين أنه لا شبهة فيها ولا إخالة. رابعًا: نوع من الخوف من التجاوز والافتيات على النصوص. نجد مثالاً له في ترجيح العلة القاصرة على المتعدية على رأي الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني إذا صح التعليل بهما. ومن رجح العلة القاصرة احتج بأنها متأيدة بالنص، وصاحبها آمن من الزلل في حكم العلة فكان، التمسك بها أولى. (البرهان إمام الحرمين) خامسًا: أن ثمنية غير النقدين ثمنية مستعارة ومعرضة للزوال في أي لحظة، ومن شأن هذا أن يجعل الثمنية فيهما صفة عارضة. سادسًا: إن التحريم تكليف، والتكليف يحتاج إلى ورود النص كحديث ((الطعام بالطعام)) الذي جعل الشافعي رحمه الله يرجح علة الطعمية، ويسهل ذلك على أصحابه المترددين – هنا إمام الحرمين يتردد كثيرًا في وجود العلة وقد قبلها بسبب هذا الحديث – مترددين في قبول تعديها؛ ولأن جهة التحريم محصورة، وجهة الإباحة لا حصر لها، فالواقعة إذا ترددت بين الطرفين ووجدت في شق الحصر فذلك، وإلا حكم فيها بحكم الآخر الذي أعفي من الحصر (إمام الحرمين أيضًا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 976 سابعًا: في الربا من الخطورة والتحريم ما لو كان قائمًا في هذه المسألة ما ترك بيانها، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] ، والفلوس كانت موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. أما الفريق الآخر فيعتضد بما يلي: أولاً: الشريعة جاءت لمصالح العباد ويستحيل أن تحرم شيئًا لمفسدة، وتترك شيئًا فيه نفس المفسدة، فنظير الحرام حرام. (ابن القيم) . ثانيًا: التعليل أولى؛ لأنه أكثر فائدة وترك التعليل خشية، وما في ترجيح العلة القاصرة من الأمن ولا وقع له، فإنه راجح إلى استشعار خيفة لا إلى تغليب ظن وتلويح ملتقى من مسالك الاجتهاد. (إمام الحرمين) . ثالثًا: إعمال التعليل في أربعة من الستة وتركه في اثنين تحكم، أي ترجيح بلا مرجح. رابعًا: أن الغلبة الثمنية أصبحت واقعًا للنقود الورقية، فالاعتراف لها بأحكام النقدين إنما هو من تحقيق المناط، وليس إحداثًا لاجتهاد جديد، إلا بقدر ما يقتضيه تحقيق المناط؛ لأن الحكم كان موجود معلقًا، وقد تحقق شرطه في جزئية، فيجب إثبات الحكم. خامسًا: إن عدم إجراء الربا فيها تعطيل لحكم يتعلق بمسألة خطيرة من مسائل المعاملات. هذه والله سبحانه وتعالى أعلم هي بواعث الطرفين، ذكرتها كما هي، وذكرت أقوالهم كما هي، أمانة لا تبرأ من أمانة نقلي، حتى أكون أمينًا فيما نقلته عن الطرفين. وبعد هذا رأيي وهو رأي توقف في الحقيقة، أنا متوقف، رأيي هو التوقف. وبعد فإن تصفح كلام العلماء لا شك يساعد على تكوين رأي، وإعطاء صورة مميزة لأي موضوع، ذلك هو الهدف وراء مراجعة كلام الأقدمين والمتأخرين، ومقارنة أقوال المحلين والمحرمين. إلا أن النتيجة الأولى التي يمكن أن يخرج بها المرء بعد أن طالع أقوال الفقهاء هي ملاحظة الاضطراب الواضح عند أكثرهم في هذه المسألة. فلا يكاد أحدهم يبرم رأيا إلا كر عليه بالنقض، ولا يبسط وجها إلا عاد بالقبض. وهكذا دواليك حتى يقول القارئ: حنانيك بعض القول أهون من بعض. والفلوس إلا تكن عينا فإنها ليست غير عرض ((ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)) ، والشبهة بدون شك قائمة؛ إذ حدها ما تجاذبته الأدلة، أو أشبه أصلين دون قياس علة مستقل. وهنا تجاذب هذه القضية العفو، وهو أصل يرجع إليه عند سكوت الشارع، وعدم ثبوت سبب أو قيام مانع لحديث: " وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن ينسى شيئًا "، ثم تلا هذه الآية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 977 {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] أخرجة البراز في مسنده والحاكم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال: إسناده صالح. والأصل الثاني: هو شبه النقود الورقية بالعين لوجود علة مظنونة وحكمة مقدرة، وقد أجمل الفخر الرازي حكمة الربا في أربعة أسباب: أولها: أنه أخذُ مال الغير بدون عوض. ثانيهما: إن في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاق الإشغال في الاكتساب؛ لأنه إذا تعود صاحب المال أخذ الربا خف عليه اكتساب المعيشة، فإذا فشى في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق؛ لأن مصلحة العالم لا تنتظم إلا بالتجارة والصناعة والعمارة. الثالث: أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض. الرابع: أن الغالب في المقرض أن يكون غنيًا وفي المستقرض أن يكون فقيرًا، فلو أبيح الربا لتمكن الغني من أخذ مال الضعيف. وعلله الشيخ ابن عاشور بأنه حكم معلل بالمظنة. إن كثرة العلل قد تدل على صعوبة التعليل، وفي التعليل بالمظنة خروج من المأزق، وكل ذلك يدل على صعوبة مركب القائسين وتوجه وجه حكم بين حكمين؛ لاشتباه الشبه في أوجه السالكين. فالشبهة تنشأ عن أسباب، منها: كون النص خفيًا، وورود نصين متعارضين، ومنها: ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيرًا. هذا كلام ابن رجب الحنبلي. ومعلوم إن موضوعنا لا يوجد فيه نص خفي أو ظاهر، فضلاً عن وجود نصين متعارضين، فهو بالطبع من النوع الثالث الذي يؤخذ من القياس، وقد اختلف فيه العلماء، فهو إذن شبهة، فما هو حكم الشبهة؟ وقد فسر الإمام أحمد رحمه الله تعالى في أحد قوليه الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام. وقال الماوردي: هي المكروه بين الحلال والحرام، والقول لابن رجب في جامع علوم الحكم، الماوردي لأنه عقبة بين الحلال والحرام، ذكر ذلك الشبراخيتي في شرحه على الأربعين النووية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 978 فإذا كان الأمر على ما ذكرت، والإمام مالك يصرح بالكراهة، ومن أصول مذهبه هي قيام حكم بين حكمين، والأئمة الآخرون لا يكرهون، فإن المسألة فيما يبدو مسألة كراهة، والكراهة حكم من الأحكام الشرعية يجب أن يعاد إلى حياة المسلمين العملية في بيوعهم وأنكحتهم، فيمتاز أهل الورع عن غيرهم، ويترك لدى الحاجة مندوحة عن ارتكاب الإثم السافر، إلا أنها كراهة شديدة؛ كراهة تحريم، والله سبحانه وتعالى أعلم. ومذهبي في الحقيقة هو التوقف؛ لأننا لا يمكن أن نلغي مرة واحدة أقوال الأئمة بسبب علة مظنونة. هذه العلة قد تكر على أصلها بالإبطال، بحيث لو قلنا: إن الثمنية هي العلة، وإن الذهب والفضة لم يعودا الآن أثمانا للأشياء، معنى ذلك: إن الربا يبطل فيهما، والربا لن يبطل فيهما إلى قيام الساعة؛ لأنه هو موضوع النص، ولأن الإجماع وقع على ذلك، فكيف نقول بعلة تكر على أصلها بالبطلان، هذا لا يمكن مطلقًا. الله سبحانه وتعالى أعلم. الرئيس: شكرًا، في الواقع أن الذي يقرأ كلامكم يا شيخ أو يسمعه، فيكاد يقطع عن رأيكم أن العلة هي مطلق الثمنية، والتوقف سمعناه سماعًا فقط، هذا الذي يظهر؛ لأنه واضح الاتجاه في البحث هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 979 الشيخ عبد الله بن بيه: سيدي الرئيس: لأنك لم تسمع بواعث الآخرين ذكرت بواعث الطرفين. الرئيس: لا؛ لأني قرأته، قرأت بحثكم ليس جديدًا عليّ أنا قرأته. الشيخ إبراهيم الغويل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. بعد أن استمعنا إلى تحرير موضوع المناقشة من السيد رئيس المجمع، ثم استمعنا لتصفح آراء الأقدمين في هذا البحث القيم من الشيخ ابن بيه، أعتقد أنه قد يكون من المناسب أن نلم ولو إلمامًا بالتصور العصري لقضية النقود الورقية بالذات تعرض في مجالين: تعرض في مجال تاريخ النقود، وتعرض في مجال وظائف النقود. في تاريخ النقود بدأت النقود أصلا بالذهب والفضة، ثم انتقلت إلى معادن أقل من ذلك، ثم إلى الورق، وهذا ينتظمه قانون يعرف بقانون " جريشم " الذي يقول الانتقال من الجيد إلى الرديء. وظائف النقود حينما كانت النقود تقوم على الذهب والفضة، وهما كما استمعنا في الأصل هنا العلة أو المحددون للثمينة في العالم، وفي تاريخ الإنسانية لم تكن أمامنا هذه المشاكل التي استمعنا إليها هذا الصباح حول قضية التضخم والانكماش؛ لأن النقود كانت في ذلك الوقت عبارة عن مقياس للسلع ووسيلة تبادل، حينما أضيفت قضية الاختزان، وهي التي حاربها الإسلام في منع اكتناز الذهب والفضة، بدأت البشرية تنظر إلى مرحلة جديدة غريبة، وهي التي يبدو لي أنها كانت مطروحة في الورقة الأساسية، قضية الاختزان مكنت للنقود مكانًا خاصًا، بحيث أصبحت لها وظيفة جديدة لم تعرفها البشرية قبل ذلك. فهي في الأصل مقياس للسلع، وأداة للتبادل، ومنع أن تكون وسيلة للاختزان، على التطور المعاصر والحديث أصبحت وسيلة اختزان، وأصبحت هذه هي العامل المهم، ولذلك لجأوا إلى قضية السبائك الذهبية بداية، ثم لجأوا إلى قضية الغطاء الذهبي الذي يوجد في المصارف، ثم أخيرًا هذا في السبعينات الآن أو أواخر الستينات، تمكنت أمريكا أن تلغي الغطاء الذهبي، وبالتالي لم يعد هناك مرجع ذهبي تقاس إليه النقود، فأصبحت الوسيلة التي كانت أساسا مقياسًا للسلع قابلة لأن تزيد وتنقص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 980 المتر محدد بمائة سنتيمتر، ولا يقبل أحد أن أخرج على الناس غدًا لأقول لهم: اليوم المتر مائة وخمسة أو مائة وعشرة. ولا يقبلون أن أخرج عليهم بعد غد لأقول: لهم اليوم المتر خمسة وتسعون سنتيمترا، لا يقبل أحد، بل يضربون على يد من يخرج للناس يقول: الكيلو اليوم تسعمائة وخمسون جرامًا وغدًا ألف وخمسون جراما، ولكن أمكن للتلاعب في النقد أن يقبل الناس أن مقياس السلع يزيد وينقص، لذلك يظل الإسلام يقدم حلا للبشرية المعاصرة، كما قدم دوما حينما يقول: إن الأصل النقدان، هما النقدان الذهب والفضة، وإذا وجدت عملة ورقية فهي تسند أو تقاس إلى غطاء ذهبي في ذلك. هذه هي القضية التي سارت عليها أكبر معركة بين مدرستين كبيرتين في العالم المعاصر المدرسة الفرنسية والمدرسة الأمريكية، ودافع ديجول بشدة على قضية الغطاء الذهبي، ولكن أمريكا تمكنت أن تجر العالم إلى أن يكون غطاؤها هو الدولار وتلعب بالدولار كما تشاء، فتسقط مداخيل شعوب ودول وتزيد متى شاءت. فإذا نحن نملك حلاً وفقًا لما استمعنا من عرض آراء السابقين، ووفقًا للعرض القيم في تحرير موضع النقاش الذي قدمه السيد رئيس المجمع، أن نعود إلى النظر في العلية، ونؤكد على فكرة غالبية الثمنية على التعبير الذي لم يرغبه أستاذنا ابن بيه، ولكن أيضًا نقول، إنها علة قاصرة على الذهب والفضة، ولابد أن تقاس إليها النقود من جديد. أما أن انجررنا وراء علمية الأوراق النقدية في تاريخ الفكر سننجر إلى قضية الاختزان، والاختزان هو الذي أسس عليه فكرة سعر الفائدة وإباحة الربا، هذه هي القضية من وجهة النظر الحديثة والمعاصرة، وما أعتقد أنه يمكن للإسلام أن يقدمه إلى العالم المعاصر، وشكرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 981 الرئيس: شكرًا، إضافة بسيطة لما تفضل به الشيخ إبراهيم من عدم وجود الغطاء لهذه الأوراق، وهو باب الإضافة، وإلا فالأمر فيه وضوح. هو أن هذه القضية لما درست في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية استحضروا محافظ مؤسسة النقد، فأخذوا منه تقريرًا يفيد على أنه ليس هناك غطاء، وأن هذه العبارة الموجودة تتعهد الحكومة الفلانية لإعطائها القوة السلطانية والقوة الاقتصادية فقط. وإلا فإنه في الحقيقة ليس لها غطاء من ذهب ولا فضة. الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه وحده أستعين، الحقيقة، الإنسان عندما يريد أن يتكلم عن النقود الورقية وعن أحكامها وعن تغيرها، لابد أن يستشعر، وأن يضع أمامه موضوعًا متعلقًا بها، وهو موضوع الربا؛ لأنه لا ينفك عنها. فكتبت في هذه كلمة، وبينت الربا، والآيات القرآنية والأحاديث لا تخفى على فضيلتكم. ثم الذي يعنينا هنا أيضًا أن نبين ما هو حكم الفائدة المصرفية، هل هي ربا أم لا؟ وهذا انتهى منه العلماء والمسلمون وفقهاؤهم، أتيت أيضًا بالكلمة بقرارات المؤتمرات ومجامع البحوث، بأن الفائدة البنكية هي الربا المحرم شرعًا، أو من الربا المحرم شرعًا. ثم أتيت كإنسان يعمل في هذا العمل، وفي هذا الميدان منذ أربعين سنة، أقول بعد هذه القرارات التي مرت في الورقة: هل يأتي أحد ويقول: أعيدوا النظر، وجاروا العصر، وكونوا معتدلين، وعدلوا القرارات؛ لأن كل شيء ... بحث فقهاء المسلمين خمسين عاما وهم يبحثون هذا الموضوع، قتلوه بحثًا، وانتهوا به إلى حكم فقهي. ويقولون مجاراة للعصر: إن الفائدة البنكية ليست من الربا. ثم عرجت على النقد، وقلت: أليس بيع نقد بنقد بزيادة، سواء أكان آجلاً أم عاجلا ربا، فالأمة الإسلامية في الحقيقة مدعوة الآن، وبأكثر من أي وقت آخر لتصحيح المسار من منهج ربوي إلى منهج مشروع. ثم بينت بيوع النقد بالأجل وحرمته. وبينت ما ظهر لي في ست نقاط عن مضار التعامل بالربا وبالفائدة البنكية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 982 أولاً: الوقوع فيما حرم الله، ثم أكل أموال الناس بالباطل. ثم بينت أن زيادة التكلفة على الحاجيات التي يحتاجها الناس بمقدار ما تحمل من فوائد بسيطة أو مركبة. ثم تركيز الثروة عند فئة قليلة من الناس غير منتجة تعيش على كدح الآخرين. وعند عجز المدين عن الوفاء يتراكن عليه الدين بزيادة الفائدة، مما يزيد من عجزه حتى يثقل كاهله، فإما يعلن إفلاسه، أو تستمر الفائدة بالزيادة حتى يركع ويبيع كل ما عنده ليسدد دينه وفوائده. الحقد والكراهية وما يؤدي إلى الفتن والحروب. تسلط الفئة الدائنة على المدينين وتسيير السياسة التي يفرضها الدائنون على مجتمعاتهم بما يتمشى مع مصالحهم، حتى ولو تضرر المجتمع. عند عجز المدينين عن الوفاء للفئة الدائنة تعجز الفئة عن تسليم الودائع لأصحابها عند حلولها، وبالتالي يعتبر الجميع في حالة إفلاس ثم النقود مثل ما قال أخي إبراهيم: النقود في الحقيقة - حسب ما ظهر لي كإنسان يعمل في هذا الميدان - وحدة قياسية للأثمان، بها قوتان: قوة اصطلاحية واعتبارية وسلطانية – كما قال فضيلة الأخ الرئيس – وقوة ثمنية. والوحدة القياسية ثابتة عندما تقاس مع ذاتها تساوي ذاتها تمامًا، كالوحدة القياسية الطويلة التي أشار لها الأستاذ ووحدة الأوزان، وإذا قلنا غير ذلك اختلت القواعد للوحدات القياسية، ويحصل الارتباك العظيم. ثم في موضوع الأحكام، يعني في أحكام الورق، لما قلنا: إنه يعني فيه قوتان ثمنية واعتبارية، إذن حل محل النقدين الذهب والفضة، فيأخذ حكمهما شرعًا تباعًا. وهذا في الحقيقة ما اتفق عليه علماء المسلمين، فيه الزكاة وفيه الحد، وفيه ما يصير على الذهب والفضة ينطبق على النقود الورقية، وهذا ما ذهب إليه جمهور فقهاء المسلمين في جميع مؤتمراتهم. لو أردنا أن نأخذ بموضوع القوة الشرائية؛ لأنه في الحقيقة الموضوعان متشابكان لا يمكن فكهما، هو موضوع واحد: الربا والنقود الورقية وتغيرها، إذا أخذنا وقلنا: القوة الشرائية بالنسبة للنقد إيجابا أو سلبا، هذه الحقيقة سنة كونية منذ أن خلق الله الخليقة، القياس ثابت، والمتغير هو المقيس. فلو أردنا أن نقول: واحد داين واحد بمبلغ من المال، ثم بعد سنة عندما أراد أن يستوفي هذا المال لا يأتي بالقوة الشرائية، طيب، أي قوة شرائية؟ لشراء الأراضي، يعني نقيسه بأي عين من الأعيان؛ لأن الأعيان تختلف منسوبة إلى النقد ضعفها من قوتها فيه مثلا بعض المواد الغذائية تختلف عن مواد البناء، تختلف عن العقارات، تختلف عن كثير، يعني ليس هناك نسبة محددة يمكن قياسها، وتنضبط بالنسبة إلى القوة الشرائية من ضعفها أو قوتها. ثم إذا قلنا: أحد داين أحد الإخوان ألف دينار مثلاً، ثم جئت في آخر السنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 983 فالعملية في الحقيقة كيف أعطيه ألفا وخمسة دنانير، هذا أوقعنا في الربا، أو أعطيه خمسة وتسعين. كيف أقيس هذه القوة، ليس هناك وحدة قياسية منتظمة لهذا الموضوع. وهذا أيضًا بحث في ليبيا من قبل فقهاء المسلمين، وأنا حضرته والقانونيون موجودون والفقهاء والمحاسبون والبنك المركزي، وانتهينا إلى قرار بأن ما ينطبق على الذهب والفضة من أحكام ينطبق على الأوراق النقدية. وهذا ما أدين الله سبحانه وتعالى عليه، وأشكركم، والسلام عليكم. الشيخ إبراهيم الغويل: شاء ربي أن يقدم الدليل الواقعي دائما أمام البشرية. حينما قدرت الدية في الإسلام قدرت بمائة رأس من الابل، ثم جاء الأحناف وقدروها بألف دينار ذهبية، قاسوا الألف دينار ذهبية كما كانت في ذلك العصر. واليوم مائة رأس من الابل ستجدونها سويًا هذا السر في وحدة القياس الثابتة في الذهب والفضة، إن اعتمدنا الغطاء الذهبي، وأمكننا أن نُذهب عن البشرية الخطر الذي دخلت فيه؛ لحفظنا لها وحدة قياس ثابتة. وشكرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 984 الشيخ عبد العزيز الخياط: بسم الله الرحمن الرحيم، وأصلى وأسلم على نبيه الكريم. شكرًا فضيلة الرئيس.. الحقيقة استمعتم إلى بحث الأستاذ نزيه حماد، وإلى بحث الأستاذ عبد الله، ثم إلى مداخلات الأستاذ إبراهيم والأستاذ بازيع، وكل أبدى وجهة نظر جيدة، والبحوث مستفيضة، لكني قبل أن أبين رأيي في بعض النقاط، حقيقة أؤيد ما ذهب إليه الدكتور إبراهيم حينما تحدث عن وظائف النقود، وأن المشكلات العالمية التي نعانيها الآن هي بسبب فقدان التعامل بالذهب والفضة. ومن المعلوم أن الفرس كانوا يتعاملون بالدرهم بالفضة، والرومان كانوا يتعاملون بالذهب، وأن الإسلام اعتبر الذهب والفضة أساسين في التعامل. هذا أمر أرجو الله سبحانه وتعالى أن تتمكن الأمة الإسلامية في دولها المتعددة، حين يشاء الله أن تصبح دولة واحدة ش، أو على الأقل شبه دولة واحدة في اتحادها وقوتها، فتعيد العمل بالذهب والفضة أساسًا، وننجو من جميع المشكلات التي نقع فيها الآن ويقع فيها العالم، إلا أنني بالرغم من هذا أحب أن أقول: هناك واقع نعانيه الآن، وإلى أن نتمكن من الخلوص من هذا الواقع السيئ الذي يحياه المسلمون، أقول: سواء كانت العلة هي القوت والطعام والقابلية للادخار، أو الثمنية، أو الوزن والكيل في الأشياء المحرمة في الحديث الشريف، سواء أكان ذلك هذا الرأي بالنسبة للعلة، أو في رأي بعض المحدثين العلماء أنه لا يعتبر أية علة لتحريم تعامل الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة والبر بالبر ... إلى آخر الحديث الشريف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 985 فيعتبر التحريم بالنص أنه لا علة فيه، وأن الثمنية والوزن أو الادخار أو غيرها أنها أوصاف لذلك، بغض النظر عن هذا أرى أن هذه العلة على كل حال هي علة استنباطية، أي بالاجتهاد، فليس هناك نص على أن العلة الثمنية أو الادخار أو الوزن ... إلى غير ذلك. والاجتهاد معرض للخطأ وللصواب، ولسنا نحن ملزمين بأخذ رأي مجتهد بعينه، إلا من يشاء أن يأخذ رأي مجتهد. والرأي المجتهد ممكن أن يتغير طبعًا إذا تغير مناط الحكم، ولهذا إذا تغير وصف العلة وهي الثمنية للذهب والفضة الآن، وبإلغاء التعامل بالذهب والفضة أصبحتا سلعتين كأي سلعتين أخريين في التعامل القائم الآن، وزال عنهما وصف الثمنية، وإذا كنا كذلك فانتقل التعامل بالذهب والفضة إلى التعامل بالأوراق، وحلت الأوراق النقدية محلها في التعامل، فينطبق حينئذ عليهما ما ينطبق على الذهب والفضة، وهو ما أشار إليه الأستاذ البازيع حفظه الله، وما أشار إليه من القرارات التي اتخذت بهذا الشأن. وإذا جاز التفاضل في بيع الذهب والفضة جاز التفاضل في بيع الأوراق النقدية المختلفة، أما الأوراق من جنس واحد كالدينار الأردني بدينار أردني، كالدولار بالدولار، فلا يجوز التفاضل فيه كبيع الذهب بالذهب، وما اشترطه الفقهاء في ذلك فمعروف. أما الأوراق المالية النقود ممكن أن نتناول بعض أنواعها مع بعض الحكم إذا سمح لي بدقيقتين فضيلة الرئيس، فأنا لا أحب الإطالة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 986 أولاً: النقود الورقية النائبة عن الذهب والفضة فحكمها حكم الذهب والفضة، نقود ورقية تمثل تعهدًا من الجهة المصدرة بصرف قيمتها ذهبًا عند الطلب، هذا نوع من أنواع النقود. هذا مجرد التزام من تلك الجهة من تلك الدولة التي تصدرها، فالتعامل فيها أيضًا في رأيي أنه تعامل على أساس الذهب. أما إذا كانت الورقة تعهدا من الجهة المصدرة لتلك الأوراق لدفع قيمتها ذهبًا فهي سند ووثيقة، أي دين على تلك الجهة، فلا يسري عليها حكم الذهب، وليس لها قيمته الأصلية. وأما إذا كانت الأوراق التي تعطي بقانون خاص من صرف قيمته ذهبًا، هذه الأوراق حقيقة ليس هذا تعهد لا نستطيع أن نسميها لها غطاء ذهبيًا أو من ذلك وهذه من ناحية قانونية لذلك بعضهم طبيعي يضع لها إذا كانت ديونًا أن يكون لها أي غطاء، كما تفعل بعض الدول، ففي رأيي أن هذه لا تعامل على أساس الذهب والفضة. هناك أنواع من النقود، هذه النقود وكما هو معروف أن البنك المركزي الدولي أجبر جميع الدول ماعدا الولايات المتحدة ألا يزيد غطاؤها النقدي الذهبي لأي نقد عن 25 %، وبعضها لا غطاء له، فلجأت بعض الدول إلى أن تجعل الغطاء النقدي في بلادها، إما من الدولار وإما من الين، وإما من المارك، على اعتبار أنه إذا ارتفع الدولار هبط الفرنك مثلاً أو هبط الين. وهكذا للمحافظة على عملتها، بعضهم لجأ إلى أن تكون غطاء النقد من غير الذهب والفضة من سندات تجارية أو عقارات أو أملاك هذا يختلف بحسب النقد بحسب الغطاء، ولذلك ترتفع قيمتها وتهبط. ومن هنا أقول: إنه إذا كان لها غطاء فتعتبر في التعامل كأساس الذهب والفضة، أما إذا لم يكن لها غطاء فإنها تسقط بطبيعتها ولا قيمة لها، كما نجد في بعض النقود، وشكرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 987 الشيخ تقي العثماني: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد؛ فإن أحكام النقود الورقية تنبني على تكييفها الفقهي، وما تفضل به أخونا الدكتور إبراهيم هو جيد جدًا، من حيث أنه ينبغي أن نعود إلى قاعدة الغطاء الذهبي، ولكنني كما تفضل به الدكتور عبد العزيز حفظه الله نواجه واقعًا عمليًا، فهناك في مسألة تكييف النقود الورقية آراء للعلماء تتلخص في ثلاثة أراء: الرأي الأول: إن هذه النقود ليست أموالاً، وإنما هي وثائق مالية لا سندات دين. والرأي الثاني: أنها أثمان عرفية، أثمان رمزية واصطلاحية. والرأي الثالث: أنها أثمان كالذهب والفضة، أثمان حقيقية كالذهب والفضة. فأما الرأي الأول وهو أنها وثائق مالية وليست سندات دين، فإن هذا الرأي يتفرع منه أن لا يجوز مبادلة بعض الأوراق ببعضها ولو متماثلة؛ لأنها تكون حينئذ بيع الكالئ بالكالئ، أو بيع الدين بالدين، والحقيقة أن الأوراق النقدية وإن كانت في بداية أمرها وثائق وسندات لديون، ولكن ذكرت في بحثي عن تاريخ تطوير هذه النقود أنها لم تعد اليوم سندات لدين؛ لأنها ليس وراءها أي غطاء اليوم، غطاء من الذهب أو الفضة، وإنما صارت أثمانا اصطلاحيًا وعملة قانونية، حتى إن الفلوس هي عملة قانونية محدودة، والأوراق النقدية هي عملة قانونية غير محدودة. بمعنى أن المدين يجبر على قبولها، بغض النظر عن مقدار الدين، فحينئذ صارت هذه النقود لم تعد اليوم وثائق مالية أو سندات دين. فبقي عندنا رأيان: الرأي الأول: هو أن تكون هذه الأوراق أثمانا حقيقية كالذهب والفضة. فهذا فيما أظن مخالف للبداهة؛ لأن الآثمان الحقيقية هي التي تعتبر أثمانا لقيمتها الذاتية، والنقود الورقية ليس فيها قيمة ذاتية، إنما هي قيمة اعتبارية، وهي التي يسميها علماء الاقتصاد الثمن الرمزي. فالحقيقة أن هذه النقود إنما صارت أثمانا باصطلاح الناس، وما صار ثمنا باصطلاح الناس فهو ثمن رمزي، ثمن اصطلاحي، ثمن عرفي، ولا يقال: إنه ثمن حقيقي. ولكن حينما نقول: إنها أثمان عرفية ليس معنى ذلك أنها لا يجري فيها الربا؛ لأنها إذا اعتبرت أثمانا عرفية صارت في حكم الفلوس، والرأي الراجح عند جمهور الفقهاء هو أن بيع الفلوس بالفلوس لا يجوز بالتفاضل، ويجري فيها الربا إذا بيعت متفاضلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 988 نعم هناك رأي للشافعية ورأي لأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله في جواز التفاضل في بيع الفلوس بالفلوس في أحوال مخصوصة، ولكن بعض العلماء قد رجحوا أن التفاضل في بيع الفلوس بالفلوس لا يجوز. فحينئذ الذي يبدو لي أن هذه الأوراق النقدية صارت أثمانا عرفية، ولكن لا يجوز مبادلة بعضها ببعض بالتفاضل، ويجري فيها الربا، وكذلك حينما صارت أثمانا عرفية تجب فيها الزكاة، وتتأدى بها الزكاة، وأخذت في جميع الأحكام حكم الآثمان. والله سبحانه وتعالى أعلم. الرئيس: في الواقع يعني إضافة إلى الذين يلحقونها بالفلوس، تعرفون أن الذين يلحقونها بالفلوس هم ينقسمون على أنفسهم إلى فريقين: فريق يلحقها بعروض التجارة، وفريق يجعل حقيقة العلة فيها هي الثمنية، فلذلك يلحقها بالنقدين الذهب والفضة. الشيخ تقي العثماني: لا، هناك مسألة العلية مسألة مستقلة، يعني مسألة تكييف هذه النقود مسألة أخرى ليس هناك تناقض بين هذا وذاك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 989 الشيخ على السالوس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أحكام النقود بينتها بالتفصيل في كتاب النقود واستبدال العملات، وبالطبع لا أريد أن ألخص الكتاب، وهو موزع على حضراتكم، ولكن أريد أن أقف عند بعض النقاط فقط: النقود كانت قبل اكتشاف الذهب والفضة، وكان الناس يتعاملون بعد عصر المقايضة بنقود ليست من الذهب والفضة كالجلود، وأحيانًا البر، إلى غير ذلك، ثم اكتشف الإنسان الذهب والفضة بفضل الله تعالى، فظل هذا إلى أن بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت النقود آنذاك من الذهب والفضة. إذن التشريع عندما جاء بالنسبة للدينار والدرهم إنما كان تشريعًا لنقود عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم وجدنا أن النقود تطورت بعد ذلك ولها وظيفة معينة، ولذلك عندما نأتي إلى تعريف النقود فإنا نراها تعرف تعريفًا وظيفيًا لا وصفيا، لا يقال بأن النقود ما شكله كذا، أو ما يتكون من كذا، وإنما تعريف النقود: أي شيء يكون وسيلة للقيمة، وسيلة للتبادل، ومقياس للقيمة يحظي بالقبول العام. ولذلك وجدنا في عصر التشريع أن النقود كانت تأتي من خارج البلاد الإسلامية، وكان فيها أشياء تتنافى مع العقيدة الإسلامية، فغيرت تغييرًا طفيفًا، يعني مثلاً النقود في عصر التشريع كانت ولاية الصليب على النقود، فبدأ بكسر جزء من الصليب النار بالنسبة للفرس وراعي النار، هنا أيضًا تغيرات طفيفة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لو أمر بترك هذه النقود وهذه المسألة ثابتة ومصورة، يعني وجدت نقود من عصور سابقة وعليها هذه الرسوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 990 ومن يدرس تاريخ النقود يعرف هذا تمامًا، لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بترك هذه النقود، واستخدام نقود إسلامية، لما حظيت بالقبول العام، يعني من يذهب إلى الشام من يذهب إلى اليمن، لا يستطيع أن يصرف هذه النقود. إذن النقود لها وظيفة وتعريفها وظيفي. فإذا قلنا بأن النقود في عصر التشريع لها أحكام كذا، والنقود قابلة للتطور والتغير، إذا لم تكن هذه الأحكام ثابتة للنقود في أي عصر من العصور فمعنى ذلك أنه إذا انتهى عصر الذهب والفضة انتهى عصر النقود، وانتهت الأحكام المتصلة بالنقود. وأضرب هنا مثلاً، عندما كثر تزييف الدراهم في عهد سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، فكر في أن يصنع نقودًا من الجلود ويترك الفضة ما دامت الدراهم كثر فيها التزييف، يترك هذا ويتخذ من جلود الإبل نقودًا، وكان له مجلس شورى كما تعرفون، فاستشار، فقالوا: إذن لا بعير؛ لأن الكل سيذبح ليأخذ الجلود ليتخذوا نقودًا، فأمسك، يعني توقف، لم يقولوا له بأن هذا لا يجوز؛ لأن النقود شرعًا من الفضة، وهو نفسه لو كانت النقود شرعًا لا بد أن تكون من الفضة لما فكر في هذا. إذن أحكام النقود ما لم تكن باقية إلى يوم القياة فإن الإسلام بأحكامه في النقود يكون لفترة زمنية ضيقة محدودة، وينتهي الربا، وتنتهي الزكاة، والسلم، رأس مال المضاربة، كلها أحكام النقود. أمر آخر هنا الإمام مالك عندما قال: لو أن الناس اتخذوا الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهت (معناها التحريم) لكرهت أن تباع بالذهب والورق نظرة. هنا لو أن الناس معنى ذلك أن النقود مردها إلى الاصطلاح. وأثبتوا هذا في فصل كبير في الكتاب بأن النقود مردها إلى الاصطلاح، بأن النقود مردها إلى الاصطلاح، ما اصطلح الناس عليه أنه نقود فهو نقود. إذن هنا اتخذوا الجلود، الآن اتخذوا الأوراق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 991 النقطة الأخرى التي أريد أن أقف عندها أيضًا، مسألة من يأتي ويقول النقوة الذهب والفضة فقط؛ لأن الحديث قال: الذهب والفضة فقط، ويستدل بالنص ويقول: الدليل هو النص، هذا ليس دليلا، النص دليل على الأصناف الستة لكنه ليس دليلاً على نفي ماعدا الأصناف الستة، وأن غير الأصناف الستة يأخذ حكمًا مخالفًا، ليس دليلاً لأن هنا غير الأصناف الستة يكون مفهوم المخالفة، وهنا اللقب: الذهب، الفضة، البر، هذه ألقاب، ومعروف عند جمهور الأصوليين أنه لا يؤخذ بمفهوم المخالفة في اللقب، يعني في غير اللقب كالعدد والغاية، فيه خلاف بين الأصوليين من يأخذ ومن لا يأخذ. ولكن كل الأصوليين أجمعوا في اللقب لا يؤخذ بمفهوم المخالفة، بل قال الشوكاني: لا يؤخذ به عقلا ولا شرعًا؛ لأنه إن قلنا: في البر زكاة، فليس معنى ذلك أنه لا يوجد زكاة في غير البر، إذن هنا من استدل بالحديث الشريف على نفي انطباق الربا أو الزكاة أو غير ذلك على غير الأصناف الستة، فإن هذا لا يكون دليلاً، وإنما هو دليل على الأصناف الستة، النقود الورقية إذا قلنا العلة الثمنية، وأن العلة تتعدى النقود الذهبية والفضية إلى نقود ورقية، هذا أمر قد يكون واضحًا، ولكن أقول أيضًا يمكن بغير قياس أن تأخذ النقود الورقية حكم الدينار والدرهم بدلالة النص عندما يقول الدينار والدرهم، الدينار بالدينار، الدرهم بالدرهم؛ لأنه قال: الذهب بالذهب والدينار بالدينار، في أحاديث: الدينار بالدينار والفضة بالفضة، وأحاديث أخرى: الذهب بالذهب والفضة بالفضة، ففيه الدينار وفيه الفضة. وفيه كذلك الذهب والورق، فهذا مأخوذ وهذا معمول، إذن دلالة الخطاب هنا كل ما يكون دينارًا، وكل ما يكون درهمًا، وكل ما يكون بهذه الوظيفة يأخذ نفس الحكم بغير حاجة إلى القياس، دون أن نأخذ حاجة إلى القياس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 992 أمر ثالث أريد أن أقف عنده أيضًا وهو مسألة العلة القاصرة. ما معنى العلة القاصرة؟ لأن الشافعية يقولون بالعلة القاصرة، فالحنفية قالوا لهم: علتكم قاصرة ونحن عرفنا الحكم من النص، فما فائدتها؟ ما فائدة العلة القاصرة؟ فأجاب الشافعية: العلة قد تكون متعدية وقد تكون قاصرة، والقاصرة لها فائدتان: الفائدة الأولى: أن تعلم أن الحكم لا يتعداهما، فلا تطمع في القياس، في الوقت الذي قيل فيه بأن العلة قاصرة. والآخر: قد يجدّ ما يشترك مع الأصل في العلة فيأخذ الحكم، قد يجد ما تصور الشافعي آنذاك أن الناس سيتركون النقود السلعية ويأتون إلى النقود الائتمانية الورقية. ثم إن الإمام مالكًا والمالكية الذين قالوا بالعلة القاصرة ألحقوا الفلوس بالذهب والفضة، وتعبير الإمام مالك نفسه، الإمام مالك عندما يقول: لو أن الناس اتخذوا الجلود، مع القول بالعلة القاصرة ماذا يعني؟ هنا كما حاولت أن أفهم هذ وبينته والله أعلم بالصواب، فهمت هنا أن العلة القاصرة بمعنى أنها علة قاصرة على الذهب والفضة. فلا يشترك مع الذهب والفضة أي معدن آخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 993 أما الدينار والدرهم وأي نقد آخر فلا تكون هنا علة قاصرة. إذن العلة القاصرة على الذهب والفضة في حالة النقود وفي حالة غير النقود، ثم الدينار والدرهم هذا يمكن أن يشمل أي دينار وأي درهم، ولذلك كما قال شيخ الإسلام: بأن الدينار والدرهم ليس للدينار حد طبيعي ولا شرعي؛ لأن الشرع لم يحدد بالضبط ما هو الدينار وما هو الدرهم، وإنما موجود، وكان الدينار له أوزان مختلفة، والدرهم كان له أوزان مختلفة. إذن هنا القول بالعلة القاصرة لا يعني أن النقود الورقية لا تأخذ حكم الذهب والفضة، وإنما تأخذ حكم الدينار والدرهم، فإذا انتفت الثمنية عن الأوراق النقدية فلا تلحق بالذهب والفضة، يعني إذن عندنا الدينار الذهبي إذا انتفت الثمنية ولم يتعامل به بقي ثمنًا في ذاته وأخذ الحكم، الأوراق النقدية والجلود، لو أن الناس تعاملو وأتخذوا الجلود، الجلود إذًا لم تكن نقودًا، انتفت الثمنية، فلا يشترك هذا مع الذهب والفضة، ولذلك الفلوس عندما ألحقت بالنقود، بالذهب والفضة، وعندما لم تلحق عند آخريين، الحنفية على سبيل المثال، الذين لم يلحقوا الفلوس بالنقود الذهبية والفضية؛ لأنهم قالوا: هذه نقود بالخلقة، قالوا هنا عند تبادل الفلس بالفلسين: تبادل مع الزيادة، قالوا هنا: أن يكون تبادل فلس بعينه بفلسين بعينيهما، ومعنى بعينه يعني هذا الفلس كقطعة نحاس، أما إذا كان الفلس غير معين، فلسا بغير عين بفلسين بغير عينهما، فإن فلسًا يقوم مقام فلس، ويكون الفلس الآخر ربا، هكذا نص الحنفية، مع قولهم بأن الفلوس لا تلحق بالذهب والفضة، ولكن عندما راجت قالوا: هنا الزيادة تكون ربا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 994 إذن القول بالعلة القاصرة أو عدم القول بعلة الثمنية لا يمنع أن النقود الورقية تأخذ نفس الحكم، وإلا أوقفنا الزكاة في عصرنا انتهى الربا في عصرنا؛ لأن مشكلة الربا الآن ليست في البر والشعير والتمر والملح، مشكلة الربا الآن ليست في هذا، وليست في الذهب والفضة أيضا، وإنما مشكلة الربا الآن في النقود الورقية. أمر آخر أريد أيضًا أن أقف عنده هو أننا الآن مطالبون بأن نقول حكمًا في النقود التي نتعامل بها الآن، وليس قبل الآن؛ لأنه بعد عام 1393، بعد أن تخلى الدولار عن القاعدة الذهبية، هنا أصبحت هذه النقود لا تمثل شيئًا معينا من الذهب، ليست مرتبطة بالذهب ولا بالفضة، وإنما نقود كل دولة ترتبط باقتصادها. إذن هنا مسألة أن هذه إذا كان لها رصيد أو ليس لها رصيد، لا الآن ليس لها رصيد ليس لها رصيد ذهبي حقيقة، بعض الدول تجعل شيئًا من الرصيد من باب أنها تكون في شيء من الأمان، والبنك الدولي يشترط رصيدًا في النقود التي أخذها من الدول حتى يقرض، إنما النقود بصفة عامة تخلت عن القاعدة الذهبية والقاعدة الفضية. إذن الآن هذه أثمان في ذاتها وأثمان بالإلزام، يعني لا يملك أحد أن يقول: لا أنا لاآخذ هذا، لو أن أحدا عليه مائة دينار أردني، وجاء الآخر وقال له: خذ مائة دينار أردني، وقال: لا، لا آخذ هذا، أنا أريد ذهبًا أو فضة، الدولة تلزمه أن يأخذ هذه، فهذا إلزامية. إذن ما أريد أن أخرج منه بسرعة هو أن النقود الورقية التي نتعامل بها اليوم، ما لم تكن مثل النقود في عصر التشريع، أو النقود السلعية من قبل؛ لأن النقود كانت سلعية ثم أصبحت ائتمانية، ما لم تكن كذلك فإنها لا يمكن الآن أن تستحل بها الفروج في الزواج، ولا أن تكون ثمنًا للمبيعات، ولا أن يكون فيها ربا، ولا أن تكون فيها زكاة. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وهو يهدينا إلى سواء السبيل، والسلام عليكم ورحمة الله. الرئيس: شكرًا، يعني الخلاصة أنكم ترون أن تكييفها الفقهي أنها ثمن قائم بذاته، وأن العلة هي مطلق الثمنية. الشيخ على السالوس: أو بغير علة من دلالة النص، مفهوم الموافقة، بدون علة. يعني ممكن علة، وممكن أن تكون بدون علة أيضًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 995 الرئيس: طالما أنه ثمن قائم بذاته ... الشيخ محمد عبده عمر. الشيخ محمد عبده عمر: الحمد لله، والصلا والسلام على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين. أما بعد؛ سيادة الرئيس، فإني أثني على ما تفضل به فضيلة الشيخ الدكتور على السالوس، فقد أعفاني عن الحديث في هذا الموضوع، وقد أتى عن كل ما كان يختلج في نفسي، إلا أنني أحب أن أضيف بأن القول بأن تقيم كافة العملات بالذهب والفضة، أضيف إلى هذا بأن القول بأن تقييم كافة العملات بالذهب والفضة، أضيف إلى هذا بأن الذهب والفضة هي مكدسة في خزائن اليهود الذين حاولوا الاستيلاء على الذهب والفضة من قديم الزمن، فإذا ما حاولنا أن نخضع عملات الشعوب لغطاء الذهب والفضة التي تتحكم به اليوم الصهيونية العالمية، فإن هذا يجعلنا ويجعل شعوبنا الإسلامية تخضع في أموالها وفي معاملاتها وفي قوة اقتصادها إلى الصهيونية العالمية، وعلى هذا فإنني لا أميل إلى أن تكون عملاتنا أو أوراقنا، أن يكون لها غطاء ذهبي، أو تقيم بالنقد الذهبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 996 مناقش: يكون غطاؤها دولار؟ الشيخ محمد عبده عمر: لا، هو الدولار الآن يتحكم في العالم لأنه يستند إلى قوة الذهب، الدولار الأمريكي الآن يتحكم في العالم لأنه يستند إلى قوة الذهب. الصهيونية العالمية الآن تتحكم في الذهب والفضة، وتخزنه وتتحكم في عملات العالم. فأنا مع رأي شيخنا علي السالوس بالنسبة لجعل العملة لا تغطى بالذهب والفضة، وإنما على شعوبنا الإسلامية أن تختار سلعة من السلع التي هي في أشد الحاجة إليها، ونقيم كل ما نملكه من اقتصاد بهذه السلعة التي مجتمعاتنا الاسمية بحاجة ماسة لها. وشكرًا. الشيخ عبد العزيز الخياط: بسم الله الرحمن الرحيم ... عفوًا إذا تدخلت بالكلام، ولكني أريد أن أوضح بعض النقاط. فورد في كلام بعض الإخوة أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ الذهب والفضة نقدين، إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الذهب والفضة لا على أساس أنهما نقدان، وإنهما الوصف القائم في ذلك الوقت. الواقع في رأيي أن ذكر النبي عليه الصلاة والسلام للذهب والفضة، واعتمادهما في التعامل، هو تثبيت شرعي لهما نقدًا، ولذلك ما زلت مع الرأي الذي قال به الأستاذ إبراهيم وأيده بعض الإخوة في أن العودة إلى التعامل بالذهب والفضة هو الذي ينجينا من كثير المشكلات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 997 وتوزع الثروة النقدية لدى المسلمين في بلاد المسلمين، ولا تكون بيد فرد معين، وإنما تكون عند كل أفراد المسلمين، ولا يمكن لأي إنسان أن ينتزع ثروة البلد عن طريق الدولة وحدها، بل تكون موزعة. هذه نقطة. النقطة الثانية: ولذلك لابد أن يكون الذهب والفضة غطاء لكل عملة. ما ذهب إليه الأستاذ السالوس أرى أن فيه خطرًا كبيرًا إذا جعلنا كل نقد ورقي عملة قائمة بذاتها، مع تعدد العملات في العالم كله. معنى هذا أننا أسقطنا حتى العملات التي نتعامل بها في البلاد الإسلامية ومنها البلاد العربية، وبالتالي أضعنا اقتصادنا وأضعنا ما بين أيدينا من عملات، هذا في رأيي. الدولار الأمريكي مغطى بأكثر من دولار ذهبي أمريكى، وأمريكا استطاعت أن تأخذ معظم ذهب العالم، ولعله وليس بخاف على الإخوة أن ذهب البرازيل وذهب أفريقيا وذهب بعض البلدان كله تأخذه أمريكا وتضعه عندها، إلى درجة أن الدولة الكبرى الثانية الاتحاد السوفيتي اضطرت إلى أن تجعل التعامل بالروبل على أساس الدولار الأمريكي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 998 وكنت قبل مدة، وكان معنا بعض الإخوان هناك، لجأوا إلى تعويم الروبل باعتبار أنه في السوق السوداء لا قيمة له، أو قيمته منخفضة جدًا،، حتى لا يتعامل في السوق السوداء، لجأوا إلى إصدار روبل سموه روبل ذهبي، قيمته دولار ونصف أمريكي، فاعتمدوا الدولار الأمريكي أساسًا باعتبار أن الدولار الأمريكي مغطى بالذهب كله، وطبيعي ليس بحث هذا الأمر. أعود فأقول هذا من ناحية. النقطة الأخيرة التي أريد أن أقولها في تعليقي، إذا جعلنا الدينار الورقي القائم الآن بتسميته دينارًا أو الدرهم الورقي القائم الآن بتسميته درهما بالتسمية، إذا جعلناه موازيا للدينار الذهبي فهذه مغالطة، كيف يكون الدينار الورقي بعملة قائمة بذاتها، والدرهم الورقي بعملة قائمة بذاتها، موازيًا للدينار الذهبي أو للدرهم الورقي؟ فأتصور أن هذه نقطة تحتاج إلى توضيح وبحث في هذا الأمر. أما إذا كنا، وهو ما قاله الأستاذ البازيع، وعقبت عليه فيه، أننا، وقاله الأستاذ أيضًا تقي، بأننا نعتبر نظرًا لعدم التعامل بالذهب والفضة، نعتبر الدينار القائم موازيًا بغطاء ذهبي للدينار الذهبي، هذا اعتبار قائم، نقوم به ونعامله على أساس التعامل بالذهب والفضة. فهذا الاعتبار هو للخروج للنتيجة التي أردت ألا نقع فيما يمنع، عندئذ لا يكون ربا، لا يكون زكاة، لا يكون كذا، بعودتنا إلى التعامل على أساس اعتبار التعامل الورقي المغطى بذهب، أو مغطى بعملات أخرى، كما يوزن البنك الدولي في هذا تغطية لحد معين، فنعتبره معاملة بالدينار الذهبي والدرهم الفضي، وشكرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 999 الشيخ يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم.. في الحقيقة أعفاني أخي الدكتور على السالوس في بيانه الجامع عن كثير مما كنت أريد أن أقوله، ولكن أريد أن أفرق بين أمرين: الأمر الأول: هو ما نتمناه جميعًا أن يعود للذهب والفضة منزلتهما في اعتبارهما النقود الأساسية والشرعية، والتي تبعد الناس عن كثير مما يشكون منه الآن من تغير قيمة العملات وتدهورها أحيانًا، إلى أن تصبح اقل من 1 % مما كانت عليه منذ سنوات، كما نرى في الليرة التركية مثلاً، وهذه أمنية. لكن هناك شيء آخر وهو ما أشار إليه الكثير من الإخوة، وهو الأمر الواقع الآن، الأمر الواقع الآن أن هناك نقودًا ورقية إلزامية أصبحت هي السائدة، والتي يتعامل الناس بها، وما عدنا نرى الذهب ولا الفضة في شيء من معاملاتنا. هذه النقود ما موقفنا منها؟ وما الحكم فيها؟ لأن هناك للأسف بعض الذين ينتسبون إلى الشرع وإلى العمل بالنصوص، أو ما أسميهم الظاهرية الجدد حالا يقولون: هذه ليست نقود شرعية، النقود الشرعية الذهب والفضة، وعلى هذا الأساس لا يريدون أن يجروا فيها ربا، ولا أن يوجبوا فيها زكاة. كيف يجوز هذا مع أن بقية أحكام النقود نجريها عليها كما أشار الأخ الدكتور السالوس، وأنا سجلت هذا في كتابي "فقه الزكاة " للذين قالوا: لا زكاة فيها، أو الذين اعتبروها سندا وحوالة وأجازوها على بعض المذاهب دون بعض، وهذا كله نوع من التشكيك لا يجوز أن يقال أبدًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1000 هذه باعتمادات السلطات الشرعية إياها أصبحت نقودًا، ولا شك ندفعها مهرًا فتستحل بها الفروج، ندفعها ثمنا فيستحل بها المشتري المبيع، ندفعها أجرًا فنستحل بها عرق الأجير، ندفعها في الدية، نقبض بها رواتبنا، من سرق هذه النقود يعاقب من غير شك، من ملك منها الكثير اعتبر غنيًا، من لم يملك منها شيئًا أو ملك منها القليل اعتبر فقيرًا. كيف نتجرأ نقول: إن هذه لا تجب فيها الزكاة، أو لا يجري فيها الربا، أو نشكك في هذا؟ أمر خطير. الحقيقة فمادمنا نعاملها على أنها نقود في سائر المعاملات، فينبغي أن يجري فيها الربا تمامًا كما يجري في الذهب والفضة، وأن تجب فيها الزكاة قولاً واحدًا. ولا ندع مجالاً للاشتباه في هذا، وأنا هذا ما أردت أن أؤكد عليه. الرئيس: يعني تكون ثمنًا قائما بذاته؟ الشيخ يوسف القرضاوي: أنا في الحقيقة تحديد العبارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1001 الرئيس: لأجل – طال عمرك – قضية التكييف الفقهي؛ لأن ما حضرت، وأمور لا تخافكم وهو موجود كتابكم فيه كونها إسنادية أو إلحاقها بالفلوس، أو إلحاقها بدلاً للذهب والفضة، أو كونها ثمنًا قائمًا بذاته، يعني قضية التكييف الفقهي، المنزع الفقهي لهذه القضية، لابد، يعني أعد كلامكم على أنها ثمن قائم بذاته. الشيخ يوسف القرضاوي: نعم.. نعم.. ثمن. الرئيس: أحب أن أسأل فضيلة الشيخ في قضية يعني المناشدة بأن تكون العملة بالذهب والفضة أنا لا يعني في الحقيقة قد يخفى علي بعض الأمور في هذا الجانب، لكن هل هي مناشدة ممكنة ولو إلى عشرين في المائة؟ الشيخ يوسف القرضاوي: والله هذا لا أستطيع أن أجيب عليه، يحتاج إلى إخوة من الاقتصاديين. وأنا أقول: أمنية، ما أدري هل هي ممكنة أم لا؟ لأنه أنا أرى أنه فيها صعوبة في عصرنا حقيقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1002 الشيخ عبد الله إبراهيم: شكرًا فضيلة الرئيس، في الواقع أن ما أوضحه الأستاذان الفاضلان السالوس والقرضاوي قد أصبح واضحًا لدينا جميعًا، بحيث إنه لا نحتاج إلى خلاف أو اختلاف بعده، ومع ذلك أضيف هنا أن هذه النقود الورقية فإن كلا منا يتعامل بها ونرغب فيها، كل النفوس ترغب فيها، وإن الناس أو أي واحد منا إذا امتلك مقدارًا كبيرًا من هذه النقود يعد من الأغنياء، أصبح غنيًا من الأغنياء، وإن كان لم يملك جرامًا واحدًا من الذهب أو الفضة، وإذا امتلك مقدارًا كبيرًا من هذه النقود الورقية فإنه سيصبح في عداد الأغنياء. ومن ناحية أخرى فإن مسألة الغطاء بالنسبة لرأيي فإنه ليس بأمر هام، فإنه سواء كان لهذه النقود غطاء أو لا يوجد لها غطاء، فإن هذه النقود مقبولة عند الناس جميعًا. وأن الناس لا يرون هذا الغطاء فإنهم يقبلون التعامل بها ولا يرفضها أحد. فهي إذن تأخذ مقام الذهب والفضة تمامًا، وتجري فيها جميع أحكام الذهب والفضة من حيث الربا والزكاة وما إلى ذلك، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1003 الشيخ عبد الله بن بيه: الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. في الحقيقة أن ما أردت أن أقوله في تدخلي وهو ما بررت به توقفي. ولكن بعد تدخل الدكتور علي السالوس أردت أن أتدخل لأني استغربت بعض العبارات التي قالها، هي عبارة أولاً: دينار ودرهم هذه دنانير ودراهم، إذن معنى ذلك أن الدولار لا ربا فيه، الدينار أعتقد في بعض الدول عندها الدينار هنا، أعتقد في الأردن دينار في تونس دينار، فبعض الدول لها دينار، إذن هذه الألفاظ الأصل معاني، والألفاظ إذا لم تقم على المعنى الحقيقي لا تعتبر؛ لأن هذا جميع العملات لا تسمى الآن دنانير ودراهم. السؤال الذي كنت أريد أن أسألة هل يجوز بيع الذهب بالفضة نسيئة الآن إذا صارتا سلعتين؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1004 الفلوس إطلاق أن مالكا قال بالحرمة هو إطلاق فيه مجازفة، أعتقد أن من واجبنا أن ننصف العلم والعلماء، أن نذكر كل أقوال العلماء، وأن نختار ونرجح على قواعد شرعية سليمة، وأن لا نغمط أحدا حقه، ألا نغمط قولاً حقه معناه ألا نتجاز على قول، ألا نحاول أن نقول على إمام لم يقله، مالك اختلفت أصحابه عنه، بعضهم قال: إن الحرمة هي كراهة وأكثرهم قالوا: إنها الكراهة، قالوا: إن الكراهة في قول مالك هي الكراهة على بابها، وشروح خليل يقولون: الكراهة في قول مالك على بابها، واضطرب مالك رحمه الله تعالى في القرض قال: لا أكره ذلك وفي القراض قال: لا أقول: لا يقارض بها؛ لأنها تؤدي إلى الفساد والكساد. إذن الإمام مالك قال كلمة الكراهة، والقول بأن هذه الكراهة تعني الحرمة هو مجرد قول من أقوال أتباع مالك، بعضهم قال: إن الكراهة تعني الكراهة على بابها؛ لأن مالكًا رحمه الله تعالى يقول بوجود حكم بين دليلين، هذه قاعدة عن مالك معروفة. مسألة أخرى يقول الدكتور السالوس: الشافعية لا يتصورون في ذلك الزمان أن الفلوس ستكون رائجة وتقوم مقام النقود، الشافعية فعلاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1005 الشيخ علي السالوس: إن النقود ستأتي. الشيخ عبد الله بن بيه: إن النقود ستأتي، أنا أسميها فلوسًا وأعتبرها كالفلوس تمامًا، الشافعية تصوروا ذلك، الشافعي رحمه الله تعالى يقول في الأم: لا ربا في الفلوس، وذكرت ما ذكره الشافعي، وما ذكره عن مصنف ابن أبي شيبة عن مجاهد وغير ذلك. نعم الشافعية كانوا يتصورون ذلك. فقد قاله إمام الحرمين وكرره مرات كثيرة، فقال: لو راجت الفلوس رواج النقود ما كان فيها من الربا ما يكون في النقود؛ لأن نقديتها ليست نقدية شرعية. إمام الحرمين كرر هذ وأكده، كذلك ذكره النووي وقال: لو راجت رواج النقود ما كان فيها ربا؛ لأن العلة قاصرة عند الإمام، وقصور العلة قد حاولت هنا تفسيره بأنها أصل الآثمان أو أن غلبية الثمنية غلبية خاصة، وأنها ثمنية من نوع خاص. أعتقد أنه لا يجوز لنا أن نتجاوز على أقوال العلماء: العلة قاصرة لا يمكن أن تتعدى، وقال العلماء: فائدتها هي تقوية الحكم، بمعنى أن المكلف يتلقى الحكم بالقبول، وهذا ما لم تذكروه، وقد ذكروه من الفوائد لأنها العلة، وعللوا بما خلت من تعدية ليعلم امتناعه، يعني امتناع القياس والتقوية، ولأنها تقوي الحكم في نفس المكلف، انتهاء الربا في عصرنا، الربا لا ينتهي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1006 الرئيس: يا شيخ عبد الله، طالما أنكم متوقفون فيظهر لي أن امتداد البحث ما أدري.. الشيخ عبد الله بن بيه: يا سيدي الرئيس، أريد إنصاف أقوال العلماء، أريد أن نتصف بإنصاف أقوال العلماء، أن نذكر جميع أقوالهم، أن لا نغمط قولاً أو مذهبًا، حقًا أن نذكر جميع أقوالهم، وأن نحاول التأصيل الفقهي كما أشرتم إليه، يعني طلبتم من الأخوان أن يؤصلوا ذلك تأصيلاً فقهيًا، فهذا الذي أحاوله بتجرد إن شاء الله سبحانه وتعالى، ولا أنتصر حقيقة لقول؛ لأن المسألة ملتبسة، قلت: هي شبهة، والشبهة قد تكون حرامًا إذا قلنا ما في حديث مسلم رحمه الله تعالى ((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) زيادة مسلم على البخاري، البخاري ليس فيه ((وقع في الحرام)) ، الشبهة قد تكون حرامًا وقد تكون مكروهة. الرئيس: طيب استمر يا شيخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1007 الشيخ عبد الله بن بيه: إذن الحقيقة أنا أعرف أن المسألة بالنسبة لكم هي مسألة الوقت. لا يمكن أن تستحل بها الفروج، هذا أيضًا كلام أعتقد أنه ليس في موضوعنا حتى ولو لم تكن ربوية. الفروج تستحل بكثير من العروض التي ليست ربوية. فهذا كلام في الحقيقة فيه زيادة، وهو من نوع الخطاب. هناك بعض المسائل التي كنت أريد أن أذكرها، أنبه عليها: الفلوس استعملت مرتين في التاريخ من أجل نفي الربا، فذكروا أن في سنة بالذات ذكرت هذه المسألة، استعملت في زمن الأيوبيين لما اشتكت امرأة إلى الخطيب أنها تشتري ماء بدرهم فيرد لها نصف درهم ورقا وماء، فكأنها المسألة المعروفة عند الشافعية بمد عجوة وسلعة أخرى، فهذه المسألة أنكرها أبو الطاهر المحلي، وضربت الفلوس من أجل تجنب هذه المسألة، ثم ضربت في وقت آخر في زمن الدولة العباسية في بغداد وتعامل الناس بها زمنًا ثم تركوها. إذن لا يمكن أبدًا أن نقفز على التاريخ قفزًا، وأن نفترض ثمنية هذه الثمنية هل تنفونها؟ أرجع إلى سؤالي، معنى ذلك أن الذهب والفضة لم يعد فيهما ربا، وعلى جوابكم أريد أن أتكلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1008 الشيخ عبد السلام العبادي: بسم الله الرحمن الرحيم.. الواقع أنني أستمع إلى هذا النقاش الذي يدور بملاحظة أننا ما بلورنا بالضبط نقطة النزاع على ماذا نحن نختلف؟ أو هل هنالك اختلاف؟ هل من بيننا من يرى أن النقد الورقي ليس فيه مجال لوقوع الربا أو استخدامه في مجالات الذهب والفضة السابقة، عندما كانت الذهب والفضة هي أساس النقدية؟ فتحرير محل النزاع قد يخفف في الواقع كثيرًا من النقاش، تحديد النقطة بالضبط التي يختلف عليها؛ لأني لاحظت بقدر قليل البحث نحا منحى اقتصادي، أنه بماذا ننصح دولنا؟ هل ننصح دولنا بأن يكون النقد مغطى تغطية كاملة بالذهب والفضة، أو ليس مغطى تغطية كاملة بالذهب والفضة. وهذا ليس لنا. هذا الواقع يمكن أن يبحث في مجال آخر. نحن ننظر لما هو واقع بيننا كما تفضل أستاذنا الشيخ يوسف القرضاوي؛ لنرى ما الحكم الشرعي فيما يتعلق به. فلذلك أقترح أن يتحدد محل البحث، وأن يركز عليه، وأن نترك قضية: هل الأفضل أن يكون هناك غطاء ذهبي أو لا يكون؟ لأن هذا أمر جهة أخرى ولا، يمكن أن يكون في مجال هذا المجمع، إلا إذا كان عدم وجود لتغطية الذهبية، مما يترتب عليه حكم شرعي، يعني يكون حرامًا أو يكون مكروهًا، فعند ذلك يمكن أن نتصدى إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1009 أما في إطار ما هو كائن، كثير من العملات الآن باتت بغير تغطية ذهبية ونتعامل بها، ما الحكم الشرعي فيما يتعلق باعتبارها مالا؟ ما الحكم الشرعي فيما يتعلق بالتفاضل بينها؟ إلى غير ذلك من القضايا. فهذا هو صلب الموضوع، وشكرًا. الرئيس: شكرًا.. أظن أن الإشارة حصلت في أول البحث في هذا الموضوع، وأنه لابد من التكييف الفقهي لهذه الأوراق، وكان الشيخ عبد السلام موجودًا، وأكثر بحوث الأخوان هي على قضية التكييف الفقهي. الشيخ عبد السلام العبادي: النقاش يا سيدي. الشيخ علي السالوس: فقط للتوضيح.. السيد الوزير مسألة الغطاء الذهبي أنا لا أتحدث عن رأي، وإنما أتحدث عن واقع، يعني الدولار كان مغطى غطاء ذهبيًا إلى عام 1973، وبعد هذا تخلى عن العطاء الذهبي. وأشرت أيضًا إلى أن البنك الدولي يشترط جزءًا من الذهب بالنسبة للمال الذي يودع عنده هو، وليس لمال لدولة، أشرت أنا أيضًا إلى هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1010 مسألة أننا نصل إلى الغطاء الذهبي أو إلى الدينار الذهبي والدرهم الفضي، هذا ما قلت شيئًا فيه، يعني لو عدنا لهذا لكان أفضل من الأوراق النقدية الآن التي لا قيمة لها. وبالنسبة لفضيلة الشيخ ابن بيه أقول: هنا دينار ودرهم، ليس معناه الاسم وإنما الدلالة، دينار كنقد، درهم كنقد، دولار، جنيه كنقد، فكل ما قام بدور الدينار والدرهم فهو نقد. ويبقى بعد ذلك بالنسبة للذهب والفضة الثمنية لازمة للذهب والفضة في حالة كونهما نقدا أو غير نقد لأن هذه ثمنية طبيعية بالنسبة للذهب والفضة، ولذلك كما حدث في المؤتمر الثاني للمصارف الإسلامية أن اتخذ قرارًا بأن عندنا الآن الذهب والفضة والعملات الورقية، يعني الذهب جنس، الفضة جنس، عملة كل دولة جنس، فلا يجوز التبايع مع زيادة في الجنس، ولا يجوز إلا مع التقابض في المجلس. إذن شراء الذهب لا بد فيه من التقابض بعملة ورقية، شراء الفضة وهكذا. بالنسبة لو راجت فلوس أنا ذكرت هذا أيضًا في الكتاب، وأن الشافعية من أهل خراسان قالوا بأن هذه تلحق بالدينار والدرهم، وأن باقي الشافعية اعتبروا هذا الرأي شاذا ورفضوا، وذكر النووي في المجموع بأن الفلوس لو راجت رواج النقدين لما ألحقت بالذهب والفضة، هذا ذكرته، وإنما قلت كلام الشافعية الذي ذكرته موجود، مناقشة الحنفية للشافعية بالنسبة للعلة القاصرة، قالوا: للعلة القاصرة فائدتان، وأنا ذكرت هذا وهذا موجود في كتبهم وليس افتراء عليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1011 الكراهة أقول هنا بالنسبة للكراهة والتحريم، الأصل بالنسبة للأقدمين أكثر قولهم كراهة يراد به التحريم، بعض آرائهم وآراء أخرى بأنها لا تقصد التحريم. أحسنت وجزاك الله خيرًا، والحمد لله، وشكرًا لكم. الشيخ خليل الميس: من الملاحظ في الحقيقة أننا نعالج أمرا واقعًا. وهذا أمر طيب ومطلوب أيضًا، ولكن عندي اقتراح قد يكون غريبًا بعض الشيء، هل يمكن لمجتمعنا ولملتقانا هذا، مجمعنا الكريم من خلال الخبراء بالاقتصاد أن يوجهوا عالمنا الإسلامي إلى نظام في العملة أقرب إلى الواقع والشرعية، ما دمنا لنا ملاحظات ولنا إشارات على هذا النظام وعلى ذاك النظام؟ هل يمكن أن نقترح البديل الذي يجعلنا نقترب من واقعية العملة هذه؟ نرجو أن يكون ذلك ممكنًا. وشكرًا. الشيخ أحمد محمد جمال: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم باحسان إلى يوم الدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1012 وبعد؛ فأرى أننا نجادل في أمر واضح وفي واقع ملموس لا يمكن تغييره بأي حال من الأحوال. العملة الورقية قائمة وواقعة، ولا تستطيع دولة واحدة في العالم أن تغير هذا الأمر، وأرى أن الاصطلاح السلطاني، بالتعبير القديم، أو الاصطلاح الدولي، على ثمنية هذه العملة الورقية هو العلة القائمة الواقعة، وما يسري أو ما سرى على الذهب والفضة قديمًا يسري على العملة الورقية حديثًا، بدون أي جدال ولا خلاف في الرأي، والاصطلاح على الثمنية، الدول كلها مصطلحة على هذه الثمنية في العملة الورقية تمامًا، كما كانت الثمنية في الذهب والفضة، ولا يمكن تغيير هذا الوضع بحال من الأحوال، وينبغي أن تسري الأحكام الشرعية على العملة الورقية كما سرت على الذهب والفضة في كل المعاملات بلا اختلاف. هذا شيء واضح وواقع يجب ألا نختلف عليه كثيرًا. الأمر الثاني: أحب أن أعلق على فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه فيما عقب به على فضيلة الشيخ علي السالوس، من أن الدرهم والدينار لا يعتبران عملة، أو أن الإسلام لم يعتبرهما عملة فيما سبق، فهمت هذا من تعقيب الشيح عبد الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1013 الشيخ عبد الله بن بيه: هو قال: إن النص يتناولهما، فقلت: إن النص لا يتناولها قال: الدرهم والدينار. الشيخ أحمد محمد جمال: على أي حال إن الإسلام، أو إن التشريع الإسلامي اعتبر الدرهم والدينار عملة في رأيي أنا في نظري؛ لأن القرآن ذكر الدينار في آية {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] والحديث النبوي حديث المفلس ((قالوا المفلس فينا أو عندنا من لا درهم له ولا دينار)) فأحببت أن أعلق بهذا التعليق البسيط، وشكرًا لكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1014 الشيخ محمد علي عبد الله. شكرًا حضرة الرئيس.. لكي لا أكرر ما قاله الإخوان قبلي أريد أن أقول شيئًا، فيما يخص تغيير العملة وأحكام النقود الورقية. أرى من الواجب العودة إلى الشريعة وللدين، وهذا ما قررته في بحثي المعتمد على أقوال الصحابة وأقوال الفقهاء، ولكن من الواقع أيضًا أن لا يخفى عنا الوضع الحاضر، الوضع الاقتصادي الحاضر، الوضع الذي فرضه الاستعمار، فرضه علينا كل من يحارب الدين، وذلك أقصد بهذا أمريكا؛ لأن أمريكا كانت قبل السنوات السبعين ترى أن الدول الإسلامية كقوة لا بد من وضع حد لها، وكان الحل الوحيد الذي وجدته هو وضع هذا الحد من القوة الإسلامية، هو استعمال ما تسميه بالدولار أو الغطاء الدولاري. وأخشى أن الزميل الذي قال: إن لا نعود إلى هذه الفكرة، أن يكون قد نسي أن الموضوع هو وجود وهو إيجاد حل لتوحيد الكيان الإسلامي، إيجاد حل لإخراج المسلمين من كل ما يؤدي إلى وجود أي مسلم، أي قطر إسلامي تحت سلطة غير مسلمة، وبالتالي أن لا بد من العودة إلى الغطاء الذهبي؛ لأن الغطاء الذهبي هو حماية كل اقتصاد إسلامي. أقصد ما زال لحماية كل اقتصاد إسلامي هو أنه إذا اعتمدنا على الدولار الذي هو قوة عميلة قوة كالسيف ضد الإسلام، يعني هذا تبعية، والتبعية نقصد بهذه التبعية أن وجود مناطق اقتصادية، وبالتالي الدول الإسلامية الصغيرة لا تستطيع أن تتقاضى أو تقوم بأي عملية اقتصادية دون إذن أو إشارة من الدول الاستعمارية، الدول غير الإسلامية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1015 وثانيًا: إذا قلنا: إن عدم العودة إلى الغطاء الذهبي أو الفضة، يعني إذا قلنا بالعمل بالنقود الورقية فقط، هذا يعني أن كان شخص غنيًا قد يصبح فقيرًا فقط؛ لأن الحكومة قررت في يوم ما عدم اعتبار الورقة القديمة كعملة، وتغيير ورقة جديدة يعني أن الشخص الذي كانت له أوراق مالية في بنوك أخرى قد لا يجد الوقت الكافي لتعويض تلك النقود واستعمالها، وهذا يؤدي لإفلاسه، أما إذا كانت العملة معتمدة على الذهب والفضة فمهما كان القرار الاستعماري، فهذا الشخص أو هذه الدولة يكون له قوة كما كانت. وشكرًا. الشيخ تقي العثماني: شكرًا سيدي الرئيس.. إنما أريد أن أشير إلى نقطة واحدة فقط، وهي أن الاتجاه السائد الذي أرى من الإخوة هو أن تعامل النقود الورقية في معاملة الربا بمثل أحكام الذهب والفضة. ولكن هناك فرق بين أن تجري على النقود الورقية أحكام الربا، وبين أن نجري عليها أحكام الصرف. فقد تكلمنا عن أحكام الربا، ولكن هل نجري عليها أحكام الصرف، يعني هل يشترط التقابض في مجلس العقد عند المعاملة بين العملات المختلفة؟ مثلاً إذا عاملت أحدًا أديتها – الدنانير الأردنية هنا – وعاملته أن آخذ بدلها الروبية الباكستانية في باكستان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1016 فإذا جعلنا النقود الورقية أجرينا عليها أحكام الصرف، ينبغي ألا يجوز هذا العقد، وأما إذا جعلناها أثمانًا عرفية إثمانًا اصطلاحية، فيجوز أن لا يشترط له التقابض، فينبغي أن نبحث في هذا الموضوع أيضًا، هل يجري على النقود الورقية أحكام الصرف ويشترط لها التقابض، سواء أن كانت المعاملة جنس بجنس أو بجنس آخر أو لا؟ الرئيس: في الواقع الذي تفضلتم به صحيح، لكن إذا عللت؛ لأنه لا ينبغي أن يفك بين التكييف الفقهي وبين التعليل. إذا عللت بمطلق الثمنية مع كونها أثمانًا قائمة بذاتها، فمعنى هذا أنه تجب فيها الزكاة، يجوز فيها السلم، يمتنع فيها النسيء، يجوز التفاضل بين أجناس الأوراق، عملة سعودية وعملة أردنية إذا كان يدًا بيد، فتجري فيها هذه الأحكام، وفعلاً يظهر أن الرأي – كما تفضل الشيخ تقي – أن الرأي السائد يتجه إلى هذا. فهل ترون أن تنتهي المداولة بهذا حتى ننتقل؛ لأن أمامنا في هذه الجلسة الصباحية موضوعين؟ الشيخ تقي العثماني: ولكن لابد من البت في أمر الصرف، هل يشترط التقابض؟ الرئيس: هو يكون لها حكم الذهب والفضة. هذا لا إشكال فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1017 الشيخ تقي العثماني: يعني لو جعلناها أثمانًا عرفية كما رأيت معظم الإخوان يقولون: إنها أثمان باصطلاح الناس. الرئيس: أصلاً العملة كلها يا شيخ، كلها من أصلها ليس لها حد شرعي ولا طبيعي، وإنما هي بالاصطلاح والمواطأة. الشيخ تقي العثماني: لا، الذهب والفضة لها قيمة ذاتية، وإنها أثمان خلقية. الرئيس: لكن هي جعلت أثمانا هي أثمان بذاتها مع القوة السلطانية لها. هذا لا إشكال، ولذلك السبائك الذهبية هل تعد إثمانًا؟ هذا سؤال يا شيخ، السبائك الذهبية هل تعد ثمنًا؟ هل تعد عملة؟ فعلى كل إذن نسجل الأسماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1018 الشيخ رجب التميمي: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. إن الأوراق المالية التي هي عملات في العالم على اختلاف أسمائها أساسًا هي كانت قبل الورق عملات ذهبية، لكن لما تطور الاقتصاد وأخذ بالعملات الورقية، وصارت هذه العملات تقل قيمتها تبعًا لتطور الاقتصاد، كان في أول الأمر الدينار أو الجنية يساوي الجنية الذهبي، ثم لما تطور الاقتصاد صار الاختلاف في القيمة بين الذهب والورق، وذلك أننا حينما نرجع إلى تقدير النصاب، نصاب الزكاة أساسًا موجود تقديره في الفقه بالذهب والفضة، فحينما تقدرها بالعملات الورقية هي ثمن وتقدر، هل عندما نقدر نصاب الزكاة بالأوراق المالية الموجودة الآن في العالم الإسلامي لا بد أن نقيسها على القيمة الذهبية حتى يمكن أن نقدر النصاب، كذلك الدية الشرعية عندما جاءت بالذهب والفضة، وحينما نقدرها بالأوراق المالية نرجع إلى الذهب والفضة، فالعملات الورقية، فحينما نقدر قيمتها الآن نرجع إلى القيمة الأصلية وهي الذهب والفضة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1019 هذا هو الموضوع الذي يمكن أن نبحث الأمر على أساسه. عندنا أحكام شرعية بالذهب والفضة، والذهب والفضة هي العملة السائدة قبل وجود الأوراق المالية، فسنرجع في الثمنية إلى الذهب والفضة، ولذلك تجب فيها الزكاة، ولذلك هي لا ترقى، بينها وبين الذهب والفضة، إلا من ناحية القيمة، قيمتها تتضاءل يومًا بعد يوم. وهذا الأمر يجب أن نقدر القيمة في كل بلد حسب وضعه، ثم نرجعه إلى الذهب والفضة، حتى يمكن للمسلم وللمكلف شرعًا أن يعلم القيمة، النصاب، نصاب الزكاة، حتى يمكن للمسلم أو لأولى الأمر حينما يقدرون الدية بالعملة الورقية يرجعون فيها إلى الذهب والفضة. هذه هي ثمرة الخلاف والبحث. فعندنا أحكام شرعية مقدرة بالذهب والفضة، هذه القيمة الورقية هي بديل عنها في الأول. ولذلك مثلاً قبل أربعين أو خمسين سنة كان الجنيه المصري بدله الجنيه الذهب تمامًا قيمة الجنيه الذهب قيمة الورق في ذلك الوقت، كان الدينار الأردني الذي هو بدله الجنيه الفلسطيني كان الذهب تمامًا مثل الورق، لكن تطور الاقتصاد والتضخم المالي والتلاعب الاقتصادي العالمي وسيطرة العملات للدول الكبرى مثل الدولار وغيره هو الذي بدل قيمة الأوراق المالية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1020 نحن حينما نرجع ونبحث موضوع الأوراق المالية يجب أن نردها لأصولها في التقدير والقيمة؛ حتى نستطيع أن نقدر نصاب الزكاة حتى نستطيع أن نقدر الديات، حتى نستطيع أن نقدر بقية الأحكام الشرعية؛ ليعلم الناس كيف يقدرون ما وجب عليهم بهذه الأوراق المالية التي تتناقص يومًا بعد يوم. والله أعلم. الشيخ عمر جاه: بسم الله الرحمن الرحيم.. شكرًا سيدي الرئيس.. في الحقيقة بعد الاستماع إلى كثير من المعلقين، والذين تفضلوا بتوضيح البحوث التي قدموها لهذا المجمع، أرجع وأتساءل، وهذا السؤال أعتقد أنه إذا أجيب عليه قد يكون لنا مخرج، ذلك ما هو المطلوب من هذا المجمع حينما طرحت هذه الموضوعات، موضوع النقود الورقية ما هو المطلوب منا؟ يبدو أننا تطرقنا إلى موضوعات كثيرة ومتشعبة، قد لا تكون في الحقيقة في اختصاص هذا المجمع. ومما لا شك فيه أن النقود الورقية في الوقت الحاضر هي أثمان قائمة بذاتها، ونشتري بها كل شيء، ونتعامل بها في كل معاملاتنا، من غير تطوير. أنا أريد من يتطوع سواء كان الرئيس أو من المختصين الذين قدموا بحوثًا جيدة، وأنا أشير إلى بعض التعليقات التي عبرت عما كان يدور في خلدي، تعليق الدكتور عبد السلام العبادي، وتعليق الأستاذ أحمد جمال، وتعليق الأخ السالوس، وأتساءل: ما هو الهدف الأساسي من مناقشة هذا الموضوع؟ وما هي الغاية التي نريد أن نحققها بهذه المناقشة؟ وشكرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1021 الرئيس: شكرًا.. أظن أن الغاية والأساس والهدف الذي من أجل هذا الموضوع هو ما أشير إليه في افتتاحية الجلسة، وما اتجهت إليه أكثر الأنظار، أحكام النقود الورقية، بمعنى: هل هي ملحقة تقوم مقام الذهب والفضة في جميع أحكامها، من جريان الربا، من وجوب الزكاة، من جميع الأحكام المتعلقة بالذهب والفضة أم لا؟ هل هي إسناد؟ هل هي عروض تجارة؟ هل هي ملحقة بالفلوس؟ هذا هو التكييف الفقهي. وأنا أظن أشرت إلى ملخص لهذا في أول هذه الجلسة إضافة إلى أنه من المتعين تحديد الاجتهاد في تحديد العلة الشرعية في هذه النقود؛ لأنه بهذا نستطيع أن نلحق مدى لحوقها بالذهب والفضة من عدمه. وشكرًا. الشيخ عمر جاه: إذن أرجو أن ينحصر الكلام في هذا، ونبت في هذا القرار. الرئيس: هو منحصر يا شيخ.. شكرًا.. هو بقي عندنا ثلاثة من المشايخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1022 الشيخ مصطفى الزرقا: بسم الله الرحمن الرحيم، إخواني فضيلة الرئيس، إخواني الأساتذة الكرام. أنا لم أكن حاضرًا في بداية البحث؛ لأنا كنا في لجنة تعمل الأعمال الفرعية، ولكن ما حضرته عندما جئت الآن وسمعته تبين لي فيه الآراء التي تدور فيه، فأنا لا أريد أن أطيل الكلام، ولكني أريد أن أقول: إن ما سمعته في هذه الفترة يمكن أن أصنفه إلى صنفين: الصنف الأول من الكلام أعتقد أنه لا علاقة لهذا المجمع به، وهو الرأي الذي يقول: إنه يجب أن يكون لهذه الأوراق النقدية غطاء من الذهب وما إلى ذلك، هذا أمر إذا تدخلنا نحن فيه نكون في بحر ظلمات، وانحرافنا إلى ما لا نملك فيه مجالاً، ولا أقوالاً ولا ... قضية وجوب أن يكون للورق النقدي في أي دولة من الدول غطاء ذهبي، هذا أمر دولي لا يخضع لفتوانا، وإن أفتينا بذلك لا يوجد من يسمع كلامنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1023 هذه قضية اقتصادية سياسية دولية تتعلق بالسياسة المالية للدول، وفقدان الغطاء الذهبي له عوامله الكثيرة المشتركة، أولاً بين جميع الدول المتخلفة - بالتعبير الصحيح - أو النامية - بالتعبير الملطف - إلى آخره، فهذا الغطاء الذهبي هو مشكلة المشكلات، ولا يمكن بشكل من الأشكال في وقتنا الحاضر، بل حتى الدول الغنية والتي كانت هي في أوج سلطانها، مثل إنجلترا وفرنسا وغيرها، وحتى أمريكا نفسها أصبحت عاجزة عن أن توفر الغطاء الذهبي لعملتها الورقية، لعوامل كثيرة لا أريد ذكرها؛ لأن ضغط النفقات، وتزايد الميزانيات، ومحدودية إنتاج الذهب؛ لأن هذا شيء في جوف الأرض، ولا يملك أحد أن يزيد فيه أو ينقص. هذه المشكلة مع تزايد النفقات والحاجة إلى العملات هي التي أحلت – في ما كنت عبرت به في مثل هذا الموضوع – هي التي أحلت المطابع مكان المناجم، كانت العملات هي الذهب والفضة، وهي تستخرج من المناجم، ولا يستطيع الإنسان أن يزيد فيها في ما في المنجم أو ينقص، ولكن لما حصل الضغط على البلاد ولاسيما النامية، وعلى غيرها بتزايد النفقات العظيمة مع الزمن، ولاسيما نفقات التسلح، وما إلى ذلك مما أصبح يضر بآلاف الملايين، يعني مضاعفات، فكل هذا جعل هذه الدول تقلب الموضوع من أمر الغطاء الذهبي الكامل إلى غطاء ذهبي ناقص، إلى غطاء ذهبي أنقص، إلى.. إلى حتى إلى صفر من الغطاء الذهبي. معروف الموضوع. وهنا منشأ التضخم الذي نسمع عنه، فالتضخم نشأ، أي التضخم هبوط القوة الشرائية للعملة، هبوط هذه القوة الشرائية، هذا نشأ من إحلال المطابع محل المناجم، وأصبح كل دولة لما تعضها الأزمات المالية وتريد أن تحل مشكلة، تشغل المطبعة، وتخرج من الأوراق ما تشاء، وتوزع على مواطنيها، وهذا يؤدي إلى هبوط القيمة إلى آخره، وهو التضخم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1024 فنحن تجاه وضع عالمي إذا أردنا أن نبحث في وجوب غطاء ذهبي فهذا معناه أن الناس يستخفون بأبحاثنا كلها، ونخرج عن حدودنا، وعن إمكانياتنا، وعن ... وعن ... إلى آخره. هذا أمر يجب أن يستبعد موضوع أن نفتي بوجوب الغطاء الذهبي أو غيره. هذا كلام لا يمكن أن يجري. الأمر الثاني: والذي يدخل في اختصاص هذا المجمع الكريم، هو حكم هذه الأوراق كأمر واقع. اليوم هي العملة الدولية، وأقول لأنكم كلكم تعلمون أن البلاد التي كانت تحت الاستعمار، ثم انقضى الاستعمار وأصبحت مستقلة، لا تزال تطبق القوانين التي أصدرها الاستعمار في هذا الموضوع، وهو منع التعامل بالذهب والفضة، منع، تحت طائلة القانون، واعتبار كل عقد يعقد بالذهب يعتبر باطلاً بالنص الصريح، كما هو معروف في سوريا وغيرها، يعتبر العقد باطلاً، ويستبدل رغمًا عن عاقديه، يستبدل بالذهب، العملة الورقية بالتسعيرة الرسمية. هذا أمر نحن لا نملك فيه تقديمًا ولا تأخيرًا، وله أسباب وعوامل كما قلت راسخة فيما يتعلق بالسياسة المالية للدول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1025 لذلك مهمتنا هذه العملة الورقية كأمر واقع في ظل أنه ممنوع علينا التعامل بالذهب، وأن التعاقد به باطل ... إلى آخره، بل في بعض البلاد يعتبر جريمة ويعاقب عليها، نحن في ظل هذا الوضع، هذه الأوراق التي لم يعد في العالم أجمع عملة سواها، الآن حتى إن الجنيه الإنجليزي، الذهب الذي كان يعتبر عملة ذهبية تخص إنجلترا، وكان التزييف فيه، إذا زيف الجنيه الإنجليزي الذهب أو سواه يعتبر جرمًا، تزييف ويعاقب عليه بالعقوبات الشديدة، كما تعلمون عن المزيفين. بعدما اعتبر في المحاكم الدولية في سويسرا في قضايا معروفة رفعها رجال القانون، وصدر القرار في المحكمة الدولية بأن العملة الذهبية أو الدنانير الذهبية أصبحت سلعة، أي ذهبًا مسبوكًا. ولم يبق لها القيمة الرسمية التي يعتبر تقليدها تزييفًا، وبرأوا المدعى عليه بالتزييف براءة كاملة إلى آخره، واعتبروا أن هذا التزييف مباح لكل من أراد؛ لأن الذهب أصبح يعتبر بالوزن، لا أكثر ولا أقل، نحن في ظل هذا الوضع، فهذه الأوراق، والتي لم يبق هناك في التعامل العالمي أبدًا سواها، والذهب أصبح معدنًا بالوزن يباع ويشترى، فنحن في ظل هذا ماذا نحكم على هذه الأوراق؟ لا أريد أن أطيل الكلام، ولكن أريد أن أتكلم كلمتين مختصرتين بعد هذا التمهيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1026 إن كل تفكير بأن تكون الأوراق النقدية لا تأخذ حكم الذهب والفضة من كل الوجوه، كل تفكير يخالف هذا، ويعتبرها أنها ليست كالذهب والفضة هو تفكير قاصر ويؤدي إلى إباحة الربا على مصراعيه. هذه كلمة مختصرة مفيدة، وأظن لا نحتاج لها إذا أردتم الأدلة حتى أوضح، ولكن أعتقد أن ذلك كاف، كل تفكير هي يجب أن تعتبر كالذهب والفضة بلا تردد أبدًا، وما يقال في الربا بين المبادلة بين الذهب، نعم يعتبر كل نوع ورق الدولة، مثلاً الدينار الأردني الدولار الأمريكي إلى آخره الريال السعودي، هذا يعتبر التبادل بينه كالتبادل بين الذهب والفضة، يعني بين النقدين من جنس مختلف، فيجوز التفاضل؛ لأنه كما يجوز بين الذهب والفضة، ولكن النساء ممنوع، وكل غير ذلك هو قاصر. الرئيس: المهم تلحق بالذهب والفضة. الشيخ مصطفى الزرقا: تلحق بالذهب والفضة تمامًا من كل الوجوه إلى أخره، والسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1027 الرئيس: شكرًا.. الشيخ أحمد مع الاختصار إذا تفضلتم لكم وللإخوان؛ لأنه بقي ثلاثة لدينا، ثم ننهي إن شاء الله تعالى. الشيخ أحمد بازيع الياسين: أقول وبالله التوفيق في الحقيقة النقود الذهبية - وليس الذهب - النقود الذهبية بها صفتان: بها الثمنية وبها قوة الاصطلاح والاعتبار. النقود الورقية فيها نفس الصفتين: فيها ثمن مهما قل أو كثر، وفيه قوة الاعتبارية، ثم أحب أن أبين نقطة هنا هامة أنه ليس بالضرورة أن النقود الورقية تغطى بالذهب، إنما كل النقود الورقية مغطى بالأصناف الستة الربوية، هل فيه بلد من البلدان ليس فيه قمح أو شعير أو تمر أو ملح؟ والورق مغطى باقتصاد البلد. هذا أحببت أن أوضحه، وخاصة لأستاذنا ابن بيه. وشكرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1028 الشيخ عبد الله البسام: الذي أريد أن أقوله أنا لا أشك إن شاء الله أن النقود أصبحت الآن عملة قائمة بذاتها، وأنها آخذة جميع أحكام الذهب والفضة من حيث المعاملات ومن حيث الربا والزكوات وغير ذلك، لكن لا أحب مثلاً أن نربطها ونقول: إنها بدل من الذهب والفضة. الرئيس: لا لم يقل الإخوان يا شيخ أنها بدل الذهب، قالوا: إنها ثمن قائم بنفسه، يعني بذاته، لكن تنسحب عليه أحكام الذهب والفضة. الشيخ عبد الله البسام: يعني لو قلنا: إنها بدل عنه. الرئيس: لا ما قلنا: بدلاً. الشيخ مصطفى الزرقا: لها حكم الذهب والفضة. الشيخ عبد الله البسام: يعني كيف أخذت حكمها: من الثمنية، أو من قوة اعتبارية؟ الشيخ مصطفى الزرقا: تعتبر أثمانًا. الشيخ عبد الله البسام: ما هو الذي جعلنا نربطها بالذهب والفضة، يعني لم قلنا: إنها قائمة مقام الذهب والفضة؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1029 الرئيس: العلة الثمنية، لكن كون أنها بدل عن الذهب والفضة ما أحد أبدى في مناقشته أنها بدل. وإنما قالوا: إنها ثمن قائم بذاته، وهذا ما عليه جمهور المشايخ، والعلة فيها هي الثمنية اجتهادًا طبعًا، ولهذا تنسحب عليها أحكام الذهب والفضة. الشيخ عبد الله البسام: ما الذي يجعلنا أن نسحب عليها أحكام الذهب والفضة، هي أن نقول أنها بدل عنه؟ ما هي العلاقة بين هذه النقود الورقية وبين الذهب؟ الرئيس: لأن أشار إليه الشيخ لعله البازيع على أن العملة أو النقد ليس له حد طبيعي ولا شرعي، وإنما هو حد سلطاني اقتصادي. الشيخ عبد الله البسام. هذا يجب علينا أننا نبعد مسألة الذهب والفضة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1030 الرئيس: هو الحقيقة نستطيع أن نبعدها، لكن ما نأتي بها إلا على وجه التقريب، يعني على وجه التحديد؛ لأن الناس المرتسم في أذهانهم الربا في الذهب والفضة، أو وجوب الزكاة، السلم، جريان الربا ... إلى آخره، فيؤتي بها لأجل بيان انسحاب الأحكام على هذه الأوراق الجديدة، لا لأنها بديلة عنها. هذا الذي ظهر لي أنا تصورًا من مداولات المشايخ. الشيخ المختار السلامي: شيء جديد يربط بالذهب والفضة ربطًا كاملاً. الرئيس: أي نعم هو هذا، أنا أقول الشيء هذا، أقول: لأن مثلاً الناس مرتسم في أذهانهم الذهب والفضة. فلجدة هذا يربطونه ويقول: إنها تجري فيها الأمور هذه من الزكاة، وجريان الربا، وجواز السلم، وربا الفضل، وربا النسيئة، كما تنسحب على أحكام النقدين من الذهب والفضة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1031 الشيخ عبد الله البسام: والله ما اتضح لي الحقيقة، مثلاً أن ندندن على الذهب والفضة ونجعل بينهما علاقة. الرئيس: طيب ماذا نقول؟ ماذا نحرر؟ الشيخ عبد الله البسام: نقول: إنها علة قائمة بذاتها لا علاقة لها بالنقدين القديمين الذهب والفضة. الرئيس: أصلاً الإخوان ما قالوا: لها علاقة بالنقدين. لكن سؤال هل يجري فيها الربا؟ الشيخ عبد الله البسام: يجري فيها الربا. الرئيس: وتجب فيها الزكاة؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1032 الشيخ عبد الله البسام: كل الأحكام تجري فيها. الرئيس: ما هي كل الأحكام التي تجري فيها؟ الشيخ عبد الله البسام: مثلاً نجد أننا مثلاً عندنا عملات كثيرة تمثل أنواعًا من الذهب، وعملات كثيرة تمثل عملات من فضة، فإذا قلنا مثلاً فيه علاقة بين الذهب والفضة وبين هذه النقود أصبح أننا لا نستطيع أن نبيع دينارًا آخر من غير نوعه إذا كان كل منهما يمثل نوع الذهب. الرئيس: أما هذا أنا ذكرته للشيخ تقي في بحث بيننا وبينه وأنتم تسمعونه، فعلى كلٍّ المحذورُ الذي أنتم خفتم منه هو قضية البدلية، هي غير واردة في مداولات المشايخ على وجه العموم. الشيخ تقي العثماني: اقتصرتم على الأثمان يا شيخ. على أنها صارت أثمانًا؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1033 الرئيس: إنها أثمان قائمة بنفسها، وإن العلة فيها هي مطلق الثمنية، وإنه يجري فيها ما يجري في النقدين الذهب والفضة: من وجوب الزكاة، وجريان الربا، وجواز السلم ... إلى آخر ذلك من الأحكام. وبهذا هو ما يتجه إليه الأكثر وبه ينتهي. وصلى الله على نبينا محمد وصحبه. بقي لنا موضوعان.. الآن نقوم إن شاء الله تعالى لأداء الصلاة واستراحة نصف ساعة، ثم نعود في الساعة الثانية عشر إن شاء الله تعالى لاستكمال هذين الموضوعين. بعد أداء الصلاة الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أمامنا المسألة الثانية من البحث في أوراق النقود وهو حكم تغير قيمة العملة، وقد سمعتم العرض من بعض أصحاب الفضيلة المشايخ، وهو على الرغم مما فيه من عرض للمذاهب وأقوال أهل العلم، ولأنه جمع ما تفرق في عدد من كتب أهل العلم، وكذلك البحوث الموجودة بحوث ماتعة، لكن الأمر متروك، لكن في أحد أمرين: إما طرحه للمداولة الآن وتقررون ما تنتهون إليه إن شاء الله تعالى، أو وهذا من خلال تصوري الشخصي، أنا في الواقع لم يحصل عندي الرصيد الكامل في الفقه ومناهجه، والتعليلات لهذه القضية أكثر مما أفهمه من مذهب الحنابلة. ولهذا قد ترون مناسبًا تأجيلها مع إعداد بحث شرعي دقيق شامل مستهديًا بهذه البحوث التي أعدها أصحاب الفضيلة؛ لأنه لا يخفى أن هناك أمرين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1034 الأمر الأول: أن هذه القضية تغير قيمة العملة ليست بحجم عنوانها، أنها أضعاف أضعافه من الأهمية؛ لأنها تتدخل في أمور كثيرة، في القرض، في المداينات، في البيوع، في الرواتب في النفقات، وما جرى مجرى ذلك. الأمر الثاني: أننا إذا أصدرنا قرار ليس قرارا إداريًا، سنقول: إنه اتجه المجمع إلى أن هذا كذا وهذا كذا، لا بد له من تقعيدات شرعية وتعليلات، ونبنيه على أسس متينة. فعلى كل الأمر متروك لكم في هذا الموضوع. الشيخ تقي العثماني: أنا أوافق على التأجيل. تأجيل هذا الموضوع. الشيخ أحمد بازيع الياسين: أثني على ذلك، ولكن مع تعيين وقت آخر. الرئيس: هو الوقت الآخر إن شاء الله تعالى في الدورة الآتية بإذن الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1035 الشيخ محمد سالم عبد الودود: هل نحيله على شعبة الفتوى لتضع فيه مشروع فتوى؟ الرئيس: مهمة الأمانة بأن تكاتب اثنين أو ثلاثة من أصحاب الفضيلة المشايخ من أعضاء المجمع ومن خارجه؛ ليعدوا بحثًا فيه، وتجعل هناك عناصر حتى يكون البحث نستطيع أن ننطلق منه. إذن بهذا ننتهي من هذا الموضوع، ويكون مآله إلى التأجيل، مع إعداد بحوث مستوعبة فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1036 القرار بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (9) د 3/ 07/ 86 بشأن " أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة" إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع " أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة ". قرر: أولاً: بخصوص أحكام العملات الورقية: أنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم، وسائر أحكامها. ثانيًا: بخصوص قيمة العملة: تأجيل النظر في هذه المسألة حتى تستوفي دراسة كل جوانبها لتنظر في الدورة الرابعة للمجلس. والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1037 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (1) / د / 3 / 07 / 86 بشأن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهامشية من 8 إلى ص13 صفر 1407 هـ / 11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. - بعد دراسة مستفيضة ومناقشات واسعة لجميع الاستفسارات التي تقدم بها البنك إلى المجمع، انتهى إلى ما يلي: (أ) بخصوص أجور خدمات القروض في البنك الإسلامي للتنمية: قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية: 1- جواز أخذ أجور عن خدمات القروض. 2- أن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية. 3- كل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعا. (ب) بخصوص عمليات الإيجار: قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية فيها: المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعا. المبدأ الثاني: أن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء بعد حيازة الوكيل لها هو توكيل مقبول شرعا، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك. المبدأ الثالث: أن عقد الإيجار يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات وأن يبرم بعقد منفصل عن عقد الوكالة والوعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1038 المبدأ الرابع: أن الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة جائز بعقد منفصل. المبدأ الخامس: أن تبعة الهلاك والتعيب تكون على البنك بصفته مالك للمعدات ما لم يكن ذلك بتعد أو تقصير من المستأجر فتكون التبعة عندئذ عليه. المبدأ السادس: أن نفقات التأمين لدى الشركات الإسلامية كلما أمكن ذلك، يتحملها البنك. (ج) بخصوص عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن: قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية فيها: المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية ببيع المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعا. المبدأ الثاني: أن توكيل البنك أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك، بغية أن يبيعه البنك تلك الأشياء بعد وصولها وحصولها في يد الوكيل، هو توكيل مقبول شرعا، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك. المبدأ الثالث: أن عقد البيع يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات والقبض لها. وأن يبرم بعقد منفصل. (د) بخصوص عمليات تمويل التجارة الخارجية: قرر مجلس المجمع أنه ينطبق على هذه العمليات المبادئ المطبقة على عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن. (هـ) بخصوص التصرف في فوائد الودائع التي يضطر البنك الإسلامي للتنمية لإيداعها في المصارف الأجنبية: قرر مجلس المجمع بشأن ذلك ما يلي: يحرم على البنك أن يحمي القيمة الحقيقية لأمواله من آثار تذبذب العملات بواسطة الفوائد المتجرة من إيداعاته، ولذا يجب أن تصرف تلك الفوائد في أغراض النفع العام كالتدريب والبحوث وتوفير وسائل الإغاثة، وتوفير المساعدات للدول الأعضاء وتقديم المساعدة الفنية لها، وكذلك للمؤسسات العلمية والمعاهد والمدارس وما يتصل بنشر المعرفة الإسلامية. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1039 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العاملين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (3) د (3/07/86 بشأن: توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407/ 11 إلى 16 أكتوبر 1986م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع " توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق " وبعد استماعه لآراء الأعضاء والخبراء فيه. قرر: يجوز من حيث المبدأ توظيف أموال الزكاة في مشاريع استثمارية تنتهي بتمليك أصحاب الاستحقاق للزكاة، أو تكون تابعة للجهة الشرعية المسؤولة عن جمع الزكاة وتوزيعها على أن تكون بعد تلبية الحاجة الماسة الفورية للمستحقين وتوافر الضمانات الكافية للبعد عن الخسائر. والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1040 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (4) د 3 / 07 / 86 بشأن أطفال الأنابيب إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهامشية من 8 إلى 13 صفر 1407 هـ / 11 إلى 16 أكتوبر 1986. بعد استعراضه لموضوع التلقيح الصناعي "أطفال الأنابيب" وذلك بالاطلاع على البحوث المقدمة والاستماع لشرح الخبراء والأطباء. وبعد التداول: تبين للمجلس: أن طرق التلقيح الصناعي المعروفة في هذه الأيام هي سبع: الأولى: أن يجرى تلقيح بين نطقة مأخوذة من زوج وبييضة مأخوذة من امرأة ليست زوجته ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته. الثانية: أن يجرى التلقيح بين نطفة رجل غير الزوج وبييضة الزوجة ثم تزرع تلك اللقيحة في رحم الزوجة. الثالثة: أن يجرى تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة متطوعة بحملها. الرابعة: أن يجرى تلقيح خارجي بين بذرتي رجل أجنبي وبييضة امرأة أجنبة وتزرع اللقيحة في رحم الزوجة. الخامسة: أن يجرى تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى. السادسة: أن تؤخذ نطفة من زوج وبييضة من زوجته ويتم التلقيح خارجيا ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة. السابعة: أن تؤخذ بذرة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها تلقيحا داخليا. وقرر: أن الطرق الخمسة الأول كلها محرمة شرعا وممنوعة منعا باتا لذاتها أو لما يترتب عليها من اختلاط الأنساب وضياع الأمومة وغير ذلك من المحاذير الشرعية. أما الطريقان السادس والسابع فقد رأى مجلس المجمع أنه لا حرج من اللجوء إليهما عند الحاجة مع التأكيد على ضرورة أخذ كل الاحتياطات اللازمة. والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1041 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. القرار رقم (5) د 3/ 07/ 86 بشأن " أجهزة الإنعاش " إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر هـ / 11 إلى 16 أكتوبر 1986م. بعد التداول في سائر النواحي التي أثيرت حول موضوع " أجهزة الإنعاش " واستماعه إلى شرح مستفيض من الأطباء المختصين. قرر ما يلي: يعتبر شرعًا أن الشخص قد مات وتترتب جميع الأحكام المقررة شرعًا للوفاة عند ذلك إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين: 1- إذا توقف قلبه وتنفسه توقفا تامًا وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه. 2- إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلًا نهائيًا، وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه. وأخذ دماغه في التحلل، وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وإن كان بعض الأعضاء كالقلب مثلًا لا يزال يعمل آليًا بفعل الأجهزة المركبة. والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1042 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (6) د 3/ 07/ 86 بشأن "توحيد بدايات الشهور القمرية" إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407 هـ / 11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. بعد استعراضه في قضية "توحيد بدايات الشهور القمرية" مسألتين: الأولى: مدى تأثير اختلاف المطالع على توحيد بداية الشهور. الثانية: حكم إثبات أوائل الشهور القمرية بالحساب الفلكي. وبعد استماعه إلى الدراسات المقدمة من الأعضاء والخبراء حول هذه المسألة. قرر: 1- في المسألة الأولى: إذا ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها ولا عبرة لاختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار. 2- في المسألة الثانية: وجوب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد ومراعاة للأحاديث النبوية والحقائق العلمية. والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1043 القرار بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (7) د 3/07/86 بشأن "الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة" إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمرة الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407 هـ/11-16 أكتوبر 1986م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة بخصوص موضوع "الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة". قرر: أن المواقيت المكانية التي حددتها السنة النبوية يجب الإحرام منها لمريد الحج أو العمرة، للمار عليها أو للمحاذي لها أرضًا أو جوًا أو بحرًا؛ لعموم الأمر بالإحرام منها في الأحاديث النبوية الشريفة. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1044 القرار بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (9) د 3/ 07/ 86 بشأن " أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة" إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع " أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة ". قرر: أولاً: بخصوص أحكام العملات الورقية: أنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم، وسائر أحكامها. ثانيًا: بخصوص قيمة العملة: تأجيل النظر في هذه المسألة حتى تستوفي دراسة كل جوانبها لتنظر في الدورة الرابعة للمجلس. والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1045 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه قرار رقم (11) د 3/ 07/ 86 بشأن "استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن " إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407هـ / 11- 16 أكتوبر 1986م. بعد اطلاعه على الاستفسارات التي عرضها "المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن" وما أعد من إجابات عليها من بعض الأعضاء والخبراء. قرر تكليف الأمانة العامة للمجمع بتبليغ المعهد المذكور بما أقره المجلس من إجابات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1046 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (12) د 3/ 07/ 86 بشأن " المشاريع العلمية للمجمع " إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. بعد دراسة تقرير شعبة التخطيط عن اجتماعها يومي 8 و 9 صفر 1407 هـ /11 –12 أكتوبر 1986 م، والذي بحثت فيه عددًا من الأمور المدرجة على جدول أعمالها. قرر: أولاً: الموافقة على المشاريع التالية بعد أن أدخل عليها بعض التعديلات: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1047 1- الموسوعة الفقهية. 2- معجم المصطلحات الفقهية. 3- معلمة القواعد الفقهية 4- مدونة أدلة الأحكام الفقهية 5- إحياء التراث الفقهي 6- اللائحة المالية للموسوعة الفقهية. 7- اللائحة المالية لمعجم المصطلحات الفقهية 8- اللائحة المالية لإحياء التراث الفقهي. 9- منهج سير عمل ومناقشات وإدارة جلسات المجلس. ثانيًا: تأليف لجنة علمية رباعية لوضع منهج لكل من مشروعي معلمة القواعد الفقهية ومدونة أدلة الأحكام الفقهية بالتشاور بين رئيس المجلس والأمين العام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1048 القسم الثاني بحوث المؤتمر وفتاواه استفسارات البنك الإسلامي للتنمية - مذكرة من أمين عام المجمع لعرض الموضوع. - محضر اجتماع أصحاب الفضيلة علماء الشريعة مع البنك الإسلامي للتنمية. - المناقشة. - تقرير لجنة الإجابة عن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية بعد مداولات المجلس حول محضر اجتماع أصحاب الفضيلة علماء الشريعة. - مناقشة تقرير لجنة الإجابة عن الاستفسارات. - القرار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1049 مذكرة أمين عام المجمع لعرض الاستفسارات بسم الله الرحمن الرحيم مذكرة من الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي إلى أصحاب السماحة والفضيلة أعضاء المجمع الموضوع: استفسارات البنك الإسلامي للتنمية بشأن عملياته التمويلية. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تعلمون سماحتكم أن البنك الإسلامي للتنمية، مؤسسة دولية أنشأتها حكومات البلدان الإسلامية منذ عام 1395 هـ (1975 هـ) بهدف "دعم التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي لشعوب الدول الأعضاء والمجتمعات الإسلامية مجتمعة ومنفردة وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية". وما فتئ البنك منذ بدء عملياته في أساليب التمويل التي يراها مطابقة للشرع، مستعينا بأعيان العلماء وذوي الدراية بفقه المعاملات الذين يلجأ إليهم من حين لآخر فرادى تارة ومجموعة تارة أخرى. ولم يكد مجمعكم الموقر يبدأ نشاطه ويعقد اجتماعه التأسيسي، حتى وجد البنك الإسلامي للتنمية في المجمع جهازا مناسبا للإرشاد والتوجيه إلى أفضل السبل لتطبيق الأحكام الشرعية على معاملات البنك المالية. وهكذا تقدم البنك إلى الدورة الثانية لمجمعكم الموقر بعدد من الاستفسارات تناولت العمليات التمويلية التي يمارسها البنك، وذلك بغرض الحصول على رأي فقهي حول مجرياتها والتثبت من مطابقتها للأحكام الشرعية. وبعد أن نظرت لجنة متفرعة من المجمع لهذه الاستفسارات، رأت هذه اللجنة أن الموضوعات التي أثارها البنك تحتاج إلى دراسة موسعة، وتبادل النظر مع الجهات المعنية بالبنك حول جزئيات المسائل المثارة وجوانبها التطبيقية، على أن يتم النظر في هذا الموضوع ثانية خلال الدورة الثالثة للمجمع. وفي الفترة من 14 إلى 17 شوال 1406 هـ، اجتمع بمقر البنك الإسلامي للتنمية فريق من أصحاب الفضيلة العلماء، وقاموا بمدارسة استفسارات البنك واصدروا بشأنها آراء، تجدونها في المحضر الموزع هنا على حضراتكم، والملحقة به نماذج من اتفاقيات التمويل بعد أن أجريت عليها التعديلات المقترحة من قبل أصحاب الفضيلة العلماء. والغرض من هذه المذكرة هو عرض نتائج أعمال هذا الفريق على حضراتكم، واستطلاع رأي المجمع الموقر حول الاستفسارات التي طرحها البنك الإسلامي للتنمية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1050 بسم الله الرحمن الرحيم استفسارات من البنك الإسلامي للتنمية بجدة يسر البنك الإسلامي للتنمية أن يضع أمام المجمع الفقهي الإسلامي الموقر بعض الاستفسارات برجاء أن تكون موضع عناية أصحاب السماحة والفضيلة أعضاء المجمع، وهي تتعلق بما يلي: أولا: عمليات القروض التي يقدمها البنك الإسلامي للتنمية لمشروعات البنية الأساسية في الدول الأعضاء بالبنك وبدون فوائد، والمبلغ المقطوع الذي يتقاضاه البنك مقابل خدماته لتغطية مصاريفه الإدارية. والقروض التي يقدمها البنك الإسلامي للتنمية للدول الأعضاء لتمويل مشروعات البنية الأساسية هي قروض طويلة الأجل إذ تتراوح مدة الوفاء بين خمسة عشر وثلاثين عاما. والتزاما بأحكام الشريعة الإسلامية فإن البنك لا يتقاضي فوائد على تلك القروض، غير أنه بناء على ما نصت عليه اتفاقية تأسيسه يتقاضى البنك رسم خدمة لتغطية نفقاته الإدارية. وقد رأى البنك أن يتم تحديد رسم الخدمة في ضوء التكلفة الإدارية الفعلية التي سوف يتحملها البنك في تقويم المشروعات التي يمولها، وأيضا تكلفة متابعة تنفيذها، ولما كان من الصعوبة بمكان تحديد وضبط التكلفة الإدارية الفعلية التي يتحملها البنك في كل مشروع من المشروعات التي يمولها على حدة لذا فإن البنك لحد الآن وإلى أن يصبح من الممكن عمليا تحديد التكلفة الإدارية التي يتحملها كل مشروع على حدة على وجه الدقة يكتفي بإجراء تقدير تقريبي لتكاليف الخدمة الإدارية والتي رأي أنها تتراوح بين 2.5 و3 في المائة حسب حالة المشروع وظروفه، وبناء على ذلك فإن البنك – في حدود النسبة التقريبية المذكورة – يتقاضى مبلغا مقطوعا يلتزم المقترض بالوفاء به لتغطية هذه التكاليف الإدارية. ثانيا: عمليات الإيجار التي يقوم بها البنك الإسلامي للتنمية لتمويل شراء ثم إيجار وسائط النقل مثل ناقلات البترول، والبواخر، أو لتمويل شراء ثم إيجار معدات وأجهزة لمشروعات صناعية لصالح الدول الأعضاء. وطبقا للأسلوب المعمول به في البنك يتم الإيجار على الأسس التالية: (أ) بعد التحقق من الجدوى الفنية والمالية للمشروع الذي ينظر البنك في المساهمة في تمويله عن طريق الإيجار يبرم البنك اتفاقية مع الجهة القائمة على المشروع (المستأجر) ويفوض البنك بموجبها إلى تلك الجهة التعاقد باسمه مع الموردين على شراء المعدات المطلوبة (والتي يتم تعيينها وتحديد تكلفتها التقديرية في الاتفاقية) ويقوم البنك وفقا لما يتم إبرامه من عقود مع الموردين بدفع قيمة المعدات مباشرة للموردين في الآجال التي تحددها تلك العقود. (ب) تقوم الجهة المستفيدة (المستأجر) نيابة عن البنك باستلام المعدات وفحصها للتأكد من سلامتها ومطابقتها للمواصفات المتعاقد عليها ثم تقوم بالإشراف على تركيبها – متى كان التركيب لازما – للتأكد من أن ذلك يتم بطريقة سليمة حسبما تم التعاقد عليه مع الموردين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1051 (ج) بناء على المعلومات المتوافرة لدى الجهة القائمة على المشروع وتقديرات الفنيين بها وبالبنك تحدد الاتفاقية الفترة الزمنية اللازمة لتنفيذ عملية شراء المعدات وتركيبها حتى تصبح صالحة لاستيفاء المنفعة المقصودة منها. وبناء على ذلك تنص الاتفاقية على موعد بدء الإجارة بحيث يقع ذلك بعد انتهاء الفترة المقدرة لكي تصبح المعدات محل الإيجار صالحة لاستيفاء المنفعة المقصودة منها. (د) أثناء مدة الإجارة يقوم المستأجر بدفع الأقساط المحددة في عقد الإجارة (أي الاتفاقية الخاصة بالإيجار) كما يلتزم بصيانة المعدات والحفاظ عليها والتأمين عليها لصالح البنك. (هـ) يلتزم البنك بموجب هذه الاتفاقية بأن يبيع المعدات للمستأجر بثمن رمزي متى انتهت المدة ودفع المستأجر كل الأقساط المتفق عليها وتم وفاؤه بجميع التزاماته الأخرى بموجب الاتفاقية. ثالثا: عمليات البيع لأجل التي يقوم بها البنك لشراء وبيع معدات وأجهزة لمشروعات صناعية لصالح الدول الأعضاء بالإضافة إلى عمليات الإيجار بدأ البنك مؤخرا في استعمال أسلوب البيع لأجل كوسيلة إضافية لتمويل شراء ثم بيع المعدات والأجهزة التي تحتاجها المشروعات الصناعية في الدول الأعضاء حيث يقوم البنك بتوكيل الجهة الراغبة في هذه المعدات والأجهزة بالتعاقد بشرائها باسمه ونيابة عنه ويقوم البنك بدفع ثمنها مباشرة للمورد، ويتم الاتفاق مع المورد بأن يتم شحنها مباشرة للجهة الراغبة في شرائها في الدولة العضو المعنية، وبعد أن تقوم تلك الجهة باستلامها بصفتها وكيلا عن البنك، يقوم البنك ببيع المعدات لها بثمن يزيد عن ثمن شرائها، على أن يتم دفع هذا الثمن على أقساط في مدة تتراوح بين ثلاث وعشر سنوات. رابعا: عمليات تمويل التجارة الخارجية بين الدول الأعضاء التي يقوم بها البنك الإسلامي للتنمية مستخدما أسلوب بيع المرابحة – مع الأجل والتقسيط – وذلك لتوفير المواد الوسيطة لاحتياجات الدول الأعضاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1052 والأصل في عمليات التجارة الخارجية أن تطلب إحدى الدول الأعضاء بالبنك شراء سلعة ذات صبغة تنموية فيقوم البنك الإسلامي للتنمية بشرائها بعد دراسة الطلب والموافقة عليه ثم يبيعها لها، ويقوم البنك لتحقيق ذلك بإبرام اتفاقية يكون أطرافها بالإضافة إلى البنك الجهة المستفيدة في الدولة المعنية وجهة أخرى في تلك الدولة يُعيِّنها البنك بموجب الاتفاقية وكيلا عنه في شراء السلعة المطلوبة ثم بيعها بعد استلامها للجهة المستفيدة بالثمن الذي حدده البنك وهو ثمن الشراء الذي دفعه البنك للموردين وفقا للعقود التي أبرمها الوكيل نيابة عنه مع زيادة ربح يقرره البنك، ويغلب في اتفاقيات التجارة الخارجية أن يكون الوكيل الذي يعينه البنك كفيلا أيضا بأداء ثمن إعادة البيع المستحق على المستفيد. خامسا: النظر في تقرير اجتماع بعض علماء الشريعة والخبراء في المصارف، هذا الاجتماع الذي انعقد في مقر البنك الإسلامي للتنمية بجدة وبدعوة منه في العاشر من ربيع الأول عام 1399 هـ، وكان الغرض من الاجتماع النظر في حكم الشرعية في الفوائد المتجمعة من إيداع البنك الإسلامي للتنمية أمواله في المصارف العالمية بالدول الأجنبية (مرفق صورة من التقرير) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1053 وفي ضوء التوصيات الواردة في تقرير العلماء الأفاضل قرر مجلس محافظي البنك تخصيص خمسين في المائة 50 % للاحتياطي الخاص وذلك من مجموع المبالغ المتحصلة من ودائع البنك لدى المصارف العاملة في الأسواق الدولية والاحتياطي الخاص المشار إليه مخصص لمواجهة ما قد يطرأ على انخفاض قيمة أرصدة البنك نتيجة لتذبذب العملات المودعة بها تلك الأرصدة من العملات، كما قرر المجلس أن تخصص الخمسون في المائة الأخرى لأغراض المعونة الخاصة. وبناء على قرار مجلس المحافظين صارت هذه المعونة تقدم لأغراض هي: (أ) التدريب والبحوث التي تهدف إلى مساعدة وإرشاد الدول الأعضاء في تعديل مسار نشاطها الاقتصادي والمالي والمصرفي بما يتواءم وأحكام الشريعة الإسلامية، ولتحقيق ذلك تم إنشاء المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بجدة منذ عام 1401 هـ (1981 م) وهو الآن يقوم بأداء رسالته في مجالي البحوث والتدريب. (ب) توفير وسائل الإغاثة في شكل السلع والخدمات المناسبة لتقدم للدول الأعضاء والمجتمعات الإسلامية في حالة التعرض للكوارث الطبيعية أو المحن. (ج) توفير المساعدات المالية للدول الأعضاء من أجل دعم وتأييد القضايا الإسلامية. (د) تقديم المساعدة الفنية للدول الأعضاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1054 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (1) / د / 3 / 07 / 86 بشأن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهامشية من 8 إلى ص13 صفر 1407 هـ / 11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. - بعد دراسة مستفيضة ومناقشات واسعة لجميع الاستفسارات التي تقدم بها البنك إلى المجمع، انتهى إلى ما يلي: (أ) بخصوص أجور خدمات القروض في البنك الإسلامي للتنمية: قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية: 1- جواز أخذ أجور عن خدمات القروض. 2- أن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية. 3- كل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعا. (ب) بخصوص عمليات الإيجار: قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية فيها: المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعا. المبدأ الثاني: أن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء بعد حيازة الوكيل لها هو توكيل مقبول شرعا، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك. المبدأ الثالث: أن عقد الإيجار يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات وأن يبرم بعقد منفصل عن عقد الوكالة والوعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1055 المبدأ الرابع: أن الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة جائز بعقد منفصل. المبدأ الخامس: أن تبعة الهلاك والتعيب تكون على البنك بصفته مالك للمعدات ما لم يكن ذلك بتعد أو تقصير من المستأجر فتكون التبعة عندئذ عليه. المبدأ السادس: أن نفقات التأمين لدى الشركات الإسلامية كلما أمكن ذلك، يتحملها البنك. (ج) بخصوص عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن: قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية فيها: المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية ببيع المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعا. المبدأ الثاني: أن توكيل البنك أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك، بغية أن يبيعه البنك تلك الأشياء بعد وصولها وحصولها في يد الوكيل، هو توكيل مقبول شرعا، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك. المبدأ الثالث: أن عقد البيع يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات والقبض لها. وأن يبرم بعقد منفصل. (د) بخصوص عمليات تمويل التجارة الخارجية: قرر مجلس المجمع أنه ينطبق على هذه العمليات المبادئ المطبقة على عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن. (هـ) بخصوص التصرف في فوائد الودائع التي يضطر البنك الإسلامي للتنمية لإيداعها في المصارف الأجنبية: قرر مجلس المجمع بشأن ذلك ما يلي: يحرم على البنك أن يحمي القيمة الحقيقية لأمواله من آثار تذبذب العملات بواسطة الفوائد المتجرة من إيداعاته، ولذا يجب أن تصرف تلك الفوائد في أغراض النفع العام كالتدريب والبحوث وتوفير وسائل الإغاثة، وتوفير المساعدات للدول الأعضاء وتقديم المساعدة الفنية لها، وكذلك للمؤسسات العلمية والمعاهد والمدارس وما يتصل بنشر المعرفة الإسلامية. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1056 فتوى فقهية في واقعة توظيف أموال الزكاة مع عدم التمليك للمستحق لفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور بسم الله الرحمن الرحيم فتوى فقهية في واقعة توظيف أموال الزكاة مع عدم التمليك للمستحق يعتمد هذا البحث على مبحث آخر لا بد من التعرض له، وهو (هل تغني الإباحة عن التمليك في إخراج الزكاة الواجبة؟) نص الحنفية والجمهور من الفقهاء على أنه لا تجزئ عن الزكاة الإباحة والإطعام، لأنه لا بد من تمليك لقوله تعالى {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فكل ما جاء في القرآن المجيد بلفظ الإيتاء يشترط فيه التمليك لأن الإيتاء خاص معناه التمليك والاختصاص دون الإباحة والإطعام، لكن قالوا: إذا دفع الغني للفقير المطعوم ناويا الزكاة يجزئه، وذلك كما إذا وضعه في سقط ووضعه في يده بنية الزكاة، وكما لو كساه، لأنه بالدفع إلى الفقير بنية الزكاة يملكه، فيصير الفقير من أكل من ملكه، بخلاف ما لو أطعمه معه (1) . وأجاز بعض الزيدية احتساب ما يقدمه لضيوفه الفقراء من الزكاة بشروط أولها: أن ينوي الزكاة، وثانيها: ثم أن تكون عين الطعام باقية كالثمر والزبيب، وثالثها: أن يصير إلى كل واحد ما له قيمته ولا يتسامح بمثله، رابعها: أن يقبضه الفقير أو يخلي بينه وبينه مع علمه بذلك، وخامسها: أن يعلم الفقير أنه زكاة لئلا يعتقد مجاوزاته ورد الجميل بمثله (2) . المقصد من المبحث هل يصح توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق؟ لم يتعرض الفقهاء القدامى ولا المعاصرون فيما أعلم إلى هذا الأمر الجديد الذي يصح أن يسمى نازلة أو واقعة، وهي ما عمت به البلوى واحتاج الناس إليه في هذا العصر، فوجب النظر من جديد على ضوء القواعد الفقهية الكبرى في مذاهب فقهاء الأمصار. والذي يظهر لي والله تعالى أعلم أنه يجوز ذلك (بشكل مؤقت لا بصورة دائمة) بشروط: 1- أولها: أن يكون هذا العمل الذي أجزناه استحسانا خلافا للقياس للضرورة، أو الحاجة بإشراف ولي الأمر أو من يفوضه كالقاضي الشرعي. والنص في صك تشغيل هذه الأموال على أنها مال الفقراء وحقهم الخاص، وأن هذا التوظيف مؤقت دعت إليه الحاجة، وأنه عند انتهاء هذا التوقيت فسوف تملك هذه الأموال للفقراء، ويوقع على ذلك القائمون على التوظيف مع تعهد رسمي بكاتب العدل بذلك، وربما احتيج إلى كفالة أو رهن أو توثيق حفظا لحق الفقراء في نهاية المطاف كي لا يكون ذلك التوظيف مدعاة لاختلاس هذه الأموال واغتصابها مع مرور الزمن كما حصل للعقارات الوقفية المؤجرة بالإجارة الطويلة، حيث اختلست في نهاية الأمر من هؤلاء المستأجرين أو من ورثتهم.   (1) رد المحتار: 2 / 3 (2) شرح الأزهار وحواشيه: 542، وفقه الزكاة: 2 / 850 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1057 2- والشرط الثاني: أن يكون في ذلك نفع بالربح للفقير ولو بأغلب الظن، أما إذا حصل الشك بالنفع أو بالخسارة أو استوى الأمران أو غلب الظن بالخسارة فلا يجوز. 3- والشرط الثالث: كون ذلك بإشراف أهل الحل والعقد وبيد أمناء موثوقين ومعروفين، وأفضل أن يكون ذلك أيضا برأي القاضي الشرعي الأول ورعايته. كي لا تمتد إليها الأيادي الآثمة وأن يكون عمل القائمين على هذا التوظيف مأجورا بأجر يراه القاضي الشرعي، وعليه فإذا انتهى الأجل المضروب للتوظيف رفع كل من القائمين على التوظيف يده وأعاد القاضي أو ولي الأمر الأموال إلى الفقراء المستحقين بالتمليك الشرعي مع الريع الناتج عن ذلك طيلة هذه المدة بعد قطع أجور العاملين والمصارف المشروعة والمتعارف عليها والضرائب الأميرية. أما إذا وقعت الخسارة فأرى أن بيت المال أو خزينة الدولة هي التي تتحمل هذه الخسارة المحتملة احتمالا ضعيفا كي لا يضيع حق الفقير، هذا ما ظهر لي والله أعلم. أما دليل ذلك، فهو أن الأمر في نهايته راجع إلى ملكية الفقراء لهذا المال ولو بعد حين مع أرباحه وتثميره لهم، وكل ما فعله ولي الأمر وأهل الحل والعقد أو من فوضه كالقاضي الشرعي هو زيادة هذه الأموال بالتوظيف حتى تغطي حاجة الفقراء أو مصلحة الأمة، وليس هذا التوظيف إلا مرحلة قبل التمليك اقتضتها المصلحة العامة بموجب ولاية ولي الأمر العامة على الأمة، أو ولاية من يفوضه والحمد للذي بنعمته تتم الصالحات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1058 رأي في توظيف الزكاة واستثمارها لمعالي الدكتور عبد العزيز الخياط بسم الله الرحمن الرحيم رأي في توظيف الزكاة واستثمارها أؤيد استثمار الزكاة وتوظيفها في مشاريع ذات ريع يعود على المستحقين من الأصناف الثمانية على أن لا يستثمر كل مال الزكاة بل ينفق بعضه على المستحقين، ويستثمر الباقي وذلك من خلال هيئة رسمية (مؤسسة أو صندوق أو بيت الزكاة … الخ) تؤسسها الدولة ويشترك في الإدارة الحكومة وممثلون عن المزكين وذلك للأدلة التالية: 1- استثمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إبل الصدقات وغنمها وأنعامها وأنفق ذلك على الفقراء. 2- يجوز تأجيل دفع الزكاة على مذهب أبي حنيفة فيجوز استثمار أموال الزكاة بتأجيل دفعها إلى مستحقيها. 3- توسع العلماء في معني (سبيل الله) فشمل كل قربة إلى الله تعالى كبناء الملاجئ والمستشفيات وغيرها، فيجوز استثمار أموال الزكاة في مثل هذه المشروعات. 4- سواء أكانت اللام في الآية الكريمة للتمليك أو للاختصاص فإن تمليك الجماعة من الفقراء والمساكين جائز. 5- أن تغيير الأسلوب من اللام إلى استعمال (في) {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} لدلالة على أن جانب التمليك ليس وحده في الآية وإنما جانب الصرف فهو للأربعة الأخيرة في الآية وهو أيضا للأربعة الأولى فيها. 6- دلت الآية على وجوب إعطاء الغارمين وليس في الآية ما يمنع من أن يستثمروا أموال الزكاة، وقد أعطوها في استعادة تجارتهم أو صناعتهم أو في استغلالها زراعيا للإنفاق عليها. 7- المصانع أو المشاريع التي تنشأ بقصد الربح لصالح جهات استحقاق الزكاة هي ملك للمستحقين عامة ويجوز أن تكون ملكا لأصناف منهم تشرف عليه الدولة، وكما أن الدولة شخص اعتباري له أن يتملك كالمسجد والوقف، فالمؤسسة شخص اعتباري ينوب على المستحقين فلا مانع من أن يعتبر ملك هذه المصانع لجهات الاستحقاق تستثمرها وتديرها الدولة وبعض المزكين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1059 8- موضوع تعرض المؤسسة للربح والخسارة هو نفس موضوع تعرض المزرعة أو الضيعة التي تعطى للفقير ليستغلها ونفس موضوع تعرض مال الزكاة الذي أعطي للتاجر الغارم ليستعيد تجارته، فقد ينحرق الزرع أو يتلف وقد تخسر التجارة. 9- الزكاة مال نام، فيمكن تعويض خسارة المشروعات من أموال الزكوات التالية وسدادها من الربح القادم. 10- أن معني سداد العيش الوارد في الحديث الشريف يدل على أن سداد العيش المستمر بعمل الفقير القادر على العمل في أموال الزكاة المستثمرة أولى وأفضل من أن يعطى لفترة قصيرة فيصرفه ويعود مستحقا. 11- أن إنشاء المشروعات يفيد الأمة قطعا ويحيى اقتصادها ويدفع البطالة عن المحتاجين القادرين على العمل ونستهدي بذلك في دفع الرسول صلى الله عليه وسلم السائل إلى العمل بالاحتطاب وعدم السؤال. 12- أن معظم العلماء الباحثين والمفتين أجازوا استثمار بعض أموال الزكاة بعد إعطاء الفقراء والمساكين حاجتهم، ومن الفائض أو عند الضرورة، فأصبح مبدأ جواز الاستثمار قائما. لذلك فإني أؤكد لهذه الأسباب وغيرها ضرورة توظيف واستثمار بعض أموال الزكوات في المشروعات الخيرية والصناعية والتجارية، لصالح جهات الاستحقاق في الآية الكريمة ولا سيما من جهات العاملين عليها والغارمين والرقاب وابن السبيل وفي سبيل الله. والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1060 استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن 1- الاستفسارات المقدمة من المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن. 2- الأجوبة المقدمة: - معالي الحاج عبد الرحمن باه. - فضيلة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل سعد. - فضيلة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي. - حجة الإسلام محمد علي التسخيري. - فضيلة القاضي محمد تقي العثماني. - فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي. - فضيلة الشيخ محيي الدين قادي. 3- المناقشة. 4- مناقشة أجوبة اللجنة المكونة للإجابة عن الاستفسارات. 5- الأجوبة التي أقرها المجمع. 6- القرار الاستفسارات المقدمة من المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن بسم الله الرحمن الرحيم صاحب السماحة: الشيخ الجليل الأستاذ: محمد الحبيب ابن الخوجه حفظه الله، لا يخفى على سماحتكم أن أمريكا الشمالية يعيش اليوم فيها ما يربو على ثلاثة ملايين من المسلمين، كثيرون منهم قد استوطن أجدادهم وآباؤهم هذه البلاد منذ خمسين عامًا تزيد قليلًا أو تنقص، وبعضهم ممن هداهم الله إلى الإسلام حديثًا وكانوا قبل ذلك على النصرانية أو اليهودية أو الوثنية أو الإلحاد، كما أن هناك آلافًا من الطلاب المسلمين يفدون إلى هذه البلاد للدراسة في جامعاتها المختلفة، وفي أوربا وأمريكا الجنوبية أعداد أخرى من هؤلاء المسلمين إن لم تزد عن أعدادهم في أمريكا الشمالية فلا تقل كثيرًا عنها، ولهذا النوع من المجتمعات خصائص وتأثيرات على من يعيشون فيه وعلى أهليهم وأبنائهم. ولهذه البلدان أنظمة حياة لا بد أن تنعكس على من يعيشون فيها بشكل أو بآخر سلبيًا أو إيجابيًا، وبالتالي فإن للأقليات المسلمة حاجات فقهية، وأسئلة قل أن يثار مثلها في بلاد المسلمين أو البلدان التي يشكل المسلمون فيها أغلبية كبيرة، ولندرة الفقهاء في هذه الأماكن وقصور الكثيرين منهم عن مستوى الفتوى، وتسرع البعض وقلة تثبته، أو ضعف فهمه لمدرك الفقهاء ومناحي مذاهبهم فقد تحول كثير من تلك المسائل إلى وسائل اختلاف، وإثارة منازعات بين المسلمين جعلتهم في وضع سيئ ينذر بعواقب وخيمة أقلها تفرق قد يؤدي إلى ذوبانهم في البيئات التي يعيشون فيها ثم نسيان انتمائهم إلى الإسلام والمسلمين، لا قدر الله ذلك. وبما أن الفتاوى الفردية، أو الفتاوى التي لا تقترن بالاستدلال والتعليل قليلة الأثر في هذه البيئات ونحوها فقد حرصنا على أن نجمع أهم المسائل التي تكثر إثارتها، وتشتد حاجة المسلمين إلى الوصول إلى القول الفصل فيها لنضعها بين أيديكم، ونحصل على أجوبة شافية عنها لتقطع مادة الجدل والنقاش وتبصر المسلمين بأمور دينهم. فنرجو التفضل بإيلاء هذه المسائل ما تستحقه من العناية وإجابتنا عنها لتوعية الدعاة وأئمة المساجد والمسلمين على أحكامها والإسهام في حل عوامل الفرقة والاختلاف بين المسلمين. وتجدون سماحتكم شفع خطابنا هذا ثبتا بتلك المسائل وفقكم الله ورعاكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. د. طه جابر العلواني مدير الأبحاث والدراسات وعضو المجمع الفقهي بجدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1061 المسائل التي يكثر تساؤل المسلمين عنها في أمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا. 1- ما حكم التجنس بالجنسية الأجنبية الأمريكية كانت أو أوربية، علمًا بأن معظم الذين قبلوا التجنس بهذه الجنسيات أو يعتزمون الحصول عليها يؤكدون أنهم ما فعلوا ذلك إلا لأنهم قد أوذوا واضطهدوا في بلادهم الأصلية بالسجن أو التهديد ومصادرة الأموال وغيرها. وبعضهم يرى أنه ما دامت الأحكام الشرعية والحدود معطلة في بلاده الأصلية فأي فرق بين أن يحمل جنسية ذلك البلد الذي اضطهده والبلد الذي اختار أن يستوطن فيه، وفي كليهما لا تطبق الأحكام التشريعية، ولا تقام الحدود، وهو في بلد مهجره مصانة حقوقه الشخصية دمه وماله وعرضه، ولا يمكن سجنه أو تهديده إلا إذا فعل ما يستوجب ذلك. 2- لولادة الأبناء وتنشئتهم في أمريكا وأوروبا ونحوها من بلاد غير المسلمين مساوئ ومخاطر، وبعض المحاسن، واحتمال اكتسابهم من عادات أبناء النصارى واليهود الكثير احتمال قائم – خاصة – في حالة انشغال الوالدين أو وفاة أحدهما أو كليهما، فما أثر هذا الضرر المظنون في حكم الهجرة إلى هذه البلدان والإقامة الدائمة فيها، مع ملاحظة أن كثيرًا من الناس هنا على الدوام يذكرون بأن أبناءهم في بعض البلدان الإسلامية التي كانوا يقيمون فيها يتعرضون لاحتمال الردة باعتناق الشيوعية واللادينية أو نحوها من الأفكار الإلحادية التي تروج لها حكومات بعض البلدان الإسلامية وتدخلها في برامج التعليم والتوجيه العام، وتضطهد من يرفضها؟ ويؤكد المستوطنون هنا من المسلمين أنه لم يطلب من أحدهم أن يغير دينه أو أنه وجه نحو دين آخر، وذلك لضعف الاهتمام بالناحية الدينية هنا. 3- ما حكم زواج المسلمة بغير المسلم خاصة إذا طمعت في إسلامه بعد الزواج حيث تدعي مسلمات كثيرات أنه لا يتوافر لهن الأكفاء من المسلمين في غالب الأحيان، وأنهن مهددات بالانحراف أو يعشن في وضع شديد الحرج؟ 4- ما حكم استمرار الزوجية والمعاشرة بين زوجة دخلت الإسلام وبقي زوجها على الكفر، ولها منه أولاد تخشى عليهم الضياع والانحراف، ولها طمع في أن يهتدي زوجها إلى الإسلام لو استمرت العلاقة الزوجية بينها وبينه؟ وما الحكم فيما إذا لم يكن هناك طمع في إسلامه، ولكن يحسن معاشرتها وتخشى لو تركته ألا تعثر على زوج مسلم؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1062 5- ما حكم دفن المسلم في مقابر غير المسلمين، حيث لا يسمح بالدفن خارج المقابر المعدة لذلك، ولا توجد مقابر خاصة بالمسلمين في معظم الولايات الأمريكية والأقطار الأوربية؟ 6- ما حكم بيع المسجد (إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها وخيف تلفه أو الاستيلاء عليه) فكثيرًا ما يشتري المسلمون منزلًا ويحولونه مسجدًا، فإذا انتقلت غالبية المسلمين من المنطقة لظروف العلم هجر المسجد أو أهمل، وقد يستولي عليه آخرون، ومن الممكن بيعه واستبداله بمسجد يؤسس في مكان فيه مسلمون، فما حكم هذا البيع أو الاستبدال؟ وإذا لم تتيسر فرصة استبداله بمسجد آخر، فما أقرب الوجوه التي يجوز صرف ثمن المسجد فيها؟ 7- كثيرات من بنات المسلمين ونسائهم تدعوهن ظروف العمل أو الدراسة إلى السفر إلى ولايات أخرى (أبعد من مسافة القصر) بالطائرة أو غيرها من وسائل السفر، بدون محرم، ومن غير رفقة من نسوة تعرفهن أو يعرفنها غير رفقة المسافرين والمسافرات عادة، فما حكم هذا السفر؟ 8- بعض النساء أو الفتيات تضطرهن ظروف العمل أو الدراسة إلى الإقامة بمفردهن، أو مع نسوة غير مسلمات، فما حكم هذه الإقامة؟ 9- كثيرات من النساء هنا يذكرن أن أقصى ما بإمكانهن ستره من أجسادهن هو ما عدا الوجه والكفين، وبعضهن تمنعهن جهات العمل أو الدراسة من ستر رؤوسهن وأعناقهن، فما أقصى ما يمكن السماح بكشفه من أجزاء جسم المرأة بين الأجانب في محلات العمل أو الدراسة؟ 10- يضطر كثير من الطلاب المسلمين إلى العمل في هذه البلاد لتغطية نفقات الدراسة والمعيشة، لأن كثيرًا منهم لا يكفيه ما يرده من ذويه مما يجعل العمل ضرورة له لا يمكن أن يعيش بدونه، وكثير منهم لا يجد عملًا إلا في المطاعم تبيع الخمور أو تقدم وجبات فيها لحم الخنزير وغيرها من المحرمات فما حكم عمله في هذه المحلات؟ 11- ما حكم بيع المسلم للخمور والخنازير، أو صناعة الخمور وبيعها لغير المسلمين؟ علمًا بأن بعض المسلمين في هذه البلدان قد اتخذوا من ذلك حرفة لهم. 12- هناك كثير من الأدوية تحوي كميات مختلفة من الكحول تتراوح بين 1? و 25? ومعظم هذه الأدوية من أدوية الزكام واحتقان الأنف والحنجرة والسعال وغيرها من الأمراض السائدة، وتمثل هذه الأدوية الحاوية للكحول ما يقارب 95? من الأدوية في هذا المجال مما يجعل الحصول على الأدوية الخالية من الكحول عملية صعبة أو متعذرة، فما حكم تناول هذه الأدوية؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1063 13- هناك الخمائر والجلاتين يوجد فيها عناصر مستخلصة من الخنزير بنسب ضئيلة جدًا فهل يجوز استعمال هذه الخمائر والجلاتين؟ 14- يضطر معظم المسلمين إلى إقامة حفلات الزفاف لبناتهم في مساجدهم وكثيرًا ما يتخلل هذه الحفلات رقص وإنشاد أو غناء، ولا تتوفر لهم أماكن تتسع لمثل هذه الحفلات فما حكم إقامة مثل هذه الحفلات في المساجد؟ 15- بعض الحكومات النصرانية (خاصة في أمريكا الجنوبية) تفرض على رعاياها التسمي بالأسماء النصرانية، وتضع قوائم بأسماء اختارتها للأطفال ذكورًا كانوا أو إناثًا، ولا تسمح بتسجيل المواليد بأسماء تختار من غير هذه القوائم، فما حكم تسمي المسلمين بهذه الأسماء، وما الحلول التي تقترحونها في هذه الأحوال؟ 16- ما حكم زواج الطالب أو الطالبة المسلمة زواجًا لا ينوى استدامته بل النية منعقدة عنده على إنهائه بمجرد انتهاء الدراسة، والعزم على العودة إلى مكان الإقامة الدائم، ولكن العقد يكون عادة عقدًا عاديًا وبنفس الصيغة التي يعقد بها الزواج المؤبد، فما حكم هذا الزواج؟ 17- ما حكم ظهور المرأة في محلات العمل أو الدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبيها وتكحل؟ 18- بعض المسلمات يجدن حرجًا في عدم مصافحتهن للأجانب الذين يرتادون الأماكن التي يعملن أو يدرسن فيها، فيصافحن الأجانب دفعًا للحرج، فما حكم هذه المصافحة؟ وكذلك الحال بالنسبة لكثير من المسلمين الذين تتقدم إليهم نساء أجنبيات مصافحات، وامتناعهم عن مصافحتهن يوقعهم في شيء من الحرج على حد ما يذكرون ويذكرن؟ 19- ما حكم استئجار الكنائس أماكن لإقامة الصلوات الخمس أو صلاة الجمعة والعيدين، مع وجود التماثيل وما تحتويه الكنائس عادة، علمًا بأن الكناس في الغالب أرخص الأماكن التي يمكن استئجارها من النصارى وبعضها تقدمه الجامعات أو الهيئات الخيرية للاستفادة منه في هذه المناسبات بدون مقابل؟ 20- ما حكم ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى وما يقدمونه من طعام في مطاعمهم مع عدم العلم بالتسمية عليها؟ 21- كثير من المناسبات العامة التي يدعى المسلمون إلى حضورها تقدم فيها الخمور ويختلط فيها النساء والرجال، واعتزال المسلمين لبعض هذه المناسبات قد يؤدي إلى عزلهم عن بقية أبناء المجتمع، وفقدانهم لبعض الفوائد فما حكم حضور هذه الحفلات من غير مشاركة لهم في شرب الخمر أو الرقص أو تناول الخنزير؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1064 22- بعض الأقطار في شمال أوربا يقصر فيها الليل كثيرًا ويطول فيها النهار كثيرًا، حيث تصل ساعات الصيام في بعض هذه البلدان إلى عشرين ساعة أو تزيد، وكثير من المسلمين يجدون مشقة زائدة في الصيام، فهل يجوز اللجوء في هذه البلدان إلى التقدير، وما نوع التقدير الذي يمكن اعتماده إذا كان جائزًا، وهل يكون التقدير بساعات الصيام في مكة أو بساعات النهار في أقرب البلدان اعتدالًا، أو بماذا؟ وإذا لم يكن ذلك جائزًا فهل يعتبر هذا النوع من المشقة من المشاق التي يجب على المسلم احتمالها والصبر عليها مع احتمال الضرر، وهل يجب عليه أن يترك عمله في شهر الصيام إذا لم يكن بمقدوره الصيام إلا بترك العمل من قبيل ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب. 23- في كثير من الولايات الأمريكية وكذلك الأقطار الأوربية تصعب أو تتعذر رؤية هلال رمضان أو شوال، والتقدم العلمي الموجود في كثير من هذه البلدان يمكن من معرفة ولادة الهلال بشكل دقيق بطريق الحساب، فهل يجوز اعتماد الحساب في هذه البلدان؟ وهل تجوز الاستعانة بالمراصد وقبول قول الكفار المشرفين عليها علمًا بأن الغالب على الظن صدق قولهم في هذه الأمور؟ ومما يجدر بالملاحظة أن تباع المسلمين في أمريكا وأوروبا لبعض البلدان الإسلامية المشرقية في صيامها أو إفطارها قد أثار بينهم اختلافات كثيرة، غالبًا ما تذهب بأهم فوائد الأعياد، وتثير مشكلات شبه دائمة، وفي الأخذ بالحساب ما قد يقضي على هذا في نظر البعض أو يكاد؟ 24- ما حكم عمل المسلمين في دوائر ووزارات الحكومة الأمريكية أو غيرها من حكومات البلاد الكافرة، خاصة في مجالات هامة كالصناعات الذرية أو الدراسات الاستراتيجية ونحوها؟ 25- ما حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها علمًا بأن هذا هو جزء من عمله في الشركة الموظفة له، وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل؟ 26- كثير من العائلات المسلمة يعمل رجالها في بيع الخمور والخنزير وما شابه ذلك، وزوجاتهم وأولادهم كارهون لذلك علمًا بأنهم يعيشون بمال الرجل، فهل عليهم من حرج في ذلك؟ 27- ما حكم تبرع المسلم فردًا كان أو هيئة لمؤسسات تعليمية أو تنصيرية أو كنسية؟ 28- ما حكم شراء منزل السُكْنى، وسيارة الاستعمال الشخصي، وأثاث المنزل بواسطة البنوك والمؤسسات التي تفرض ربحًا محددًا على تلك القروض لقاء رهن تلك الأصول علمًا بأنه في حالة البيوت والسيارات والأثاث عمومًا، يعتبر البديل عن البيع هو الإيجار بقسط شهري يزيد في الغالب عن قسط الشراء الذي تستوفيه البنوك؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1065 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه قرار رقم (11) د 3/ 07/ 86 بشأن "استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن " إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407هـ / 11- 16 أكتوبر 1986م. بعد اطلاعه على الاستفسارات التي عرضها "المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن" وما أعد من إجابات عليها من بعض الأعضاء والخبراء. قرر تكليف الأمانة العامة للمجمع بتبليغ المعهد المذكور بما أقره المجلس من إجابات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1066 أجوبة معالي الحاج عبد الرحمن باه بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. صاحب السماحة: الشيخ الجليل محمد الحبيب ابن خوجة حفظه الله. يا صاحب السماحة. إننا نرسل إلى سماحتكم هذه الوثيقة وفي ضمنها الأجوبة التي وردتكم أسئلتها من المؤسسة الإسلامية العالمية بأمريكا الشمالية أو الجنوبية، وقد راعينا وحرصنا على أن تكون الأجوبة على ضوء الكتاب والسنة، راجين من الله تعالى التوفيق والسداد. الجواب الأول: التجنس بالجنسيات غير المسلمة سواء كانت أمريكية أو أوربية أو غيرها قد تكون جائزة إذا دعت الضرورة إليه، لا حبًا للتشبه بأهل الكفر والتسمي بأسمائهم أو الاتصاف بصفاتهم، بشرط أن لا يؤدي هذا التجنس إلى تعطيل أو نقص شيء من أمور دينه، أو يجره إلى موالاة أعداء الله وإلا فلا، قال تعالى {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} إلخ الآية. الجواب الثاني لا تجوز الهجرة من بلد الإسلام إلى بلد الكفر إذا كانت الهجرة حبًا لأهل الكفر، أما إذا كان لمجرد طلب حاجة إنسانية مثل طلب العلوم التي يصعب الحصول على المستويات العالية منها في البلاد الإسلامية أو الكسب الحلال تجارة كانت أو صناعة فلا بأس بتلك الهجرة على الرجوع المعنوي أو المادي أو الشخصي بعد الحصول على الحاجة، قال تعالى {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} . الجواب الثالث لا يجوز زواج المسلمة بغير المسلم بأي حال من الأحوال لأنه يؤدي إلى تغيير المسلمة لضعفها بدليل قوله تعالى {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} الآية {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} . الجواب الرابع إذا أسلم أحد الزوجين انفسخ النكاح بطلاق وقيل بدون طلاق، ووجب التفريق بينهما، إن أسلم الثاني (الزوج) قبل انقضاء العدة بقيا على نكاحهما، فإن تأخر إسلامه إلى ما بعد العدة، فلا بد من عقد جيد على حد قول الجمهور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1067 الجواب الخامس لا يحرم دفن المسلم في مقابر غير المسلمين إذا لم تكن في البلدة مقبرة خاصة بالمسلمين ولم تكن طاقة لنقل جثمانه إلى البلاد الإسلامية. الجواب السادس لا يحرم بيع المسجد في البلد الغير الإسلامي لضرورة انتقال الأقلية المسلمة إلى مكان آخر، وصرف ثمنها في بناء مسجد جديد سواء كان في مكان الانتقال أو غيره، ويجوز كذلك صرف ثمنها لعمل خيري إسلامي عند الاستغناء عن المسجد مثل المدارس أو المستشفيات الإسلامية، ويحرم صرفه إلى عمل شخصي لا يرجع نفعه إلى المسلمين. الجواب السابع لا يجوز للمرأة المسلمة أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع زوجها أو واحد من ذوي محارمها، أو مع رفقة مأمونة إلى بلد مأمونة، أما سفر الآنسات المسلمات إلى مثل أوربا وأمريكا بحجة التعلم أو غيره فهذا هو البلاء العظيم. الجواب الثامن لا يجوز للمرأة المسلمة أن تسكن أو تعاشر غير المسلمات فإن الأخلاق غير متكافئة، اللهم إلا لضرورة قصوى مثل أن لا تجد مسكنًا خاصًا بها، كما لا يجوز لها أن تدخل معهن الحمام لعدم الاحتشام، والدين حياء. الجواب التاسع لا يجوز للمرأة المسلمة الحرة أن تكشف جسمها للأجانب ما عدا الوجه والكفين بدليل قوله تعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} وقوله تعالى {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ} أما إذا أحوجها عصرها إلى السعي فلتكن مستورة محتشمة بعيدة عن الذئاب. الجواب العاشر لا يجوز لأي مسلم طالبًا كان أو غيره أن يعمل أو يتعامل مع تجار الخمور والخنازير بدليل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} وقوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} وقوله صلى الله عليه وسلم ((من تشبه بقوم فهو منهم)) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1068 الجواب الحادي عشر القاعدة العامة عند علماء المسلمين سلفًا وخلفًا أن كل ما حَرَّمَ الله حَرُمَ بيعه، والخمر والخنزير محرمان بنص الكتاب والسنة، فعلى هذا الأساس لا يجوز بيع شيء من تلك المحرمات، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله شارب الخمر وبائعها وعاصرها وحاملها والمحمول إليه)) . الجواب الثاني عشر أن من القواعد الأصولية أن "الضرورات تبيح المحظورات" على هذا الأساس أيضًا يجوز تناول هذه الأدوية على نية التداوي ما لم تسبب ذهاب العقل الذي يرتكز عليه الهيكل الإنساني وإلا فلا، قال تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . الجواب الثالث عشر لحم الخنزير حرام قليله وكثيره، لأن الله لم يستثن شيئًا من أجزائه أما كونه مختلطًا بشيء جائز فحكمه كالماء القليل النجس يختلط بماء كثير طاهر فالحكم حكم التغيير للأوصاف الثلاثة وإلا فلا،إلا أن لا يجد غيره فيجوز تناوله إلى حين الاستغناء عنه وذلك على أساس القاعدة السابقة. الجواب الرابع عشر لا يجوز الرقص أو الغناء في المساجد إذا لم تبن لذلك، ومن الظلم أن يجعل الشيء في غير مكانه قال تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا ينشد ضالة في المسجد فنهاه عن ذلك، وأما رقص غلمان الحبشة فكان في فناء المسجد لا في داخله، وبدون موسيقى أو آلات طرب وغناء وما يقوم به بعض المسلمين من إحداث الضجات والوشوشات في المساجد فهذا جهل محض لا يجوز على أي حال. الجواب الخامس عشر يجوز التسمي بالأسماء غير العربية ما دمنا نعرف دلالة الاسم بحيث إنه لا يقوض العقيدة والإيمان ولا يدل على الشرك، أما إذا دل على شيء من ذلك فيحرم على المسلم التسمي به، وقد جاء الأثر: "خير الأسماء ما حُمِّدَ أو عُبِّدَ" وذلك متروك لبيئات الناس ومجتمعاتهم في البلدان الإسلامية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1069 الجواب السادس عشر هذا النوع من النكاح يسمى عند الفقهاء بـ "نكاح المتعة أو النكاح إلى أجل" وقد حرمه النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حيث أمر الإمام عليًا بإعلان تحريمه مع لحوم الحمر الأهلية تحريمًا مؤبدًا فيحرم على كل مسلم عقد مثل ذلك النكاح. الجواب السابع عشر إذا كانت ظروف الحياة تجبر المرأة الحرة المسلمة على الخروج من بيتها للعمل أو الدراسة، فلتخرج مع مراعاة آداب الإسلام وقوانينه، غير متبرجة بزينة، ولا مظهرة لمفاتن جسمها مثل العنق والصدر والساقين، ولا لابسة ثيابًا تصفها وصفًا، ولا آخذة من شعر حاجبيها شيئًا، فقد قال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} . الجواب الثامن عشر لم يرد في الآثار النبوية والسير أنه صلى الله عليه وسلم صافح أجنبية في حياته لا هو ولا أصحابه، فما لم يكن بالأمس دينًا لا يكون اليوم دينًا ولنطرح عنا أقوال المتشدقين باسم المدنية والعصر والثقافة، فما هي إلا أحابيل لصيد الشباب المسلم وإبعادهم عن الحضارة الإسلامية الحقة وإيقاعهم في شرك الزنا الفاحش على أيدي المومسات الخليعات في البلدان التي لا تقيم للإسلام وزنًا ولا لمبادئه السامية قيمة، وقد قال تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ} . الجواب التاسع عشر المأثور عن عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة أن الكنيسة إذا كانت خالية من جميع آثار الشرك جازت الصلاة فيها، أما إذا كانت فيها صور أو تماثيل لم تجز الصلاة فيها؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه تماثيل أو صور بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة يوم الفتح إلا بعد أن محي ما كان فيها من صور، وكسر ما فيها من تماثيل فهذا دليل قاطع لكل مسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1070 الجواب العشرون ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى حل لكل مسلم وفي كل مكان ما دام تأكد ذبحه بيد أحدهم بدليل قول تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} اللهم إلا ما كان منها محرمًا علينا مثل الخمر والخنزير. الجواب الحادي والعشرون لا يجوز للمسلم حضور المراسم التي تمارس فيها الفجور والخلاعة مثل الاختلاط بالأجنبيات والرقص معهن، وكذلك غشيان مجالس شرب الخمور، ولو كان لخوف فوات بعض منافع دنيوية مثل الجاه أو المنصب وما شابه ذلك، فإنه لا يجوز طلب رضا المخلوقين بسخط الخالق {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} . الجواب الثاني والعشرون أن المسلم في تلك الحالة يقدر ساعات نهار أقرب البلدان اعتدالًا ويصوم على هذا التقدير ويفطر عليه ودين الله يسر. الجواب الثالث والعشرون قد تتعذر رؤية هلال رمضان في بعض البلدان، ولكن لا يتعذر إكمال شعبان أو رمضان ثلاثين يومًا فقد أعطانا الرسول الحكيم كلمة الفصل في ذلك بقوله: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يومًا)) وأما في هذا العصر الحديث عصر الأجهزة والأقمار الصناعية والمراكب الفضائية فيجوز أن يعتد بتلك الأجهزة الراصدة إذا كانت بأيد إسلامية أمينة غيورة على دينها غير منتهكة لحرمات هذا الدين الحنيف الذي يعلو ولا يعلى عليه. الجواب الرابع والعشرون يجوز للمسلم العمل في دوائر وزارات الحكومات غير المسلمة ما دام ذلك العمل لا يجبره على ترك دينه، وذلك للاستفادة من خبرات تلك الأعمال كالصناعات الذرية والتقنية أو الطب، وخصوصًا إذا كانت نية هذا المسلم الاستفادة من خبرات ذلك العمل أو المهنة ونقله إلى البلاد الإسلامية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1071 الجواب الخامس والعشرون لا يجوز للمهندس المسلم أن يقوم بتصميم كنائس النصارى وهياكل اليهود، لأن في ذلك إعانة على الكفر والشرك وقد قال تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أما المباني الأخرى كدور السكن والمصانع وغيرها فلا مانع من ذلك إذا لم يجد عملًا أو أجرًا كافيًا في البلدان الإسلامية. الجواب السادس والعشرون لا يجوز للمسلم أن يتجر في الخمر والخنزير مع العلم بحرمتها، ويجب على أسرته أن ينهروه من ذلك ولا يشاركوه في شيء من ذلك، أما إذا كان هو المعيل الوحيد لهم ولم يبلغوا السعي لمعاشهم كالأبناء الصغار والزوجة أو فقراء كالوالدين، فيأكلون من ماله بقدر ما تحفظ لهم حياتهم إلى أن يهديه الله ويوفقه للصواب، وقال تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . الجواب السابع والعشرون لا يجوز للمسلم فردًا كان أو هيئة أو شركة أو حكومة أن يتبرع لمؤسسات تنصرية أو بناء كنائس أو هياكل، لأن في ذلك تعاونًا على الشرك والكفر وتقويضًا للإسلام، وقد نهانا الله عن ذلك بقوله {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وهل ضاقت البلاد الإسلامية بالمساجد والمؤسسات الخيرية حتى يجعل المسلم ماله تحت يد الشيطان وأوليائه؟ {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . الجواب الثامن والعشرون والأخير أنه لا يجوز للمسلم أن يتعامل بالربا على كل حال وقد نهانا الله عنه وحذرنا عاقبته الوخيمة بقوله عز من قائل {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} . وقال صلوات الله عليه وسلامه: ((لعن الله آكل الربا وشاهديه وكاتبه وموكله ... )) الحديث. سماحة الشيخ محمد الحبيب ابن خوجة، رئيس المجمع الفقهي المتشعب من المؤتمر الإسلامي، هذه هي الأجوبة التي حضرتنا لما سبق أن أرسلتموها لنا من أسئلة حول بعض المشاكل الفقهية التي وردتكم من أمريكا الشمالية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أخوكم وحبيبكم الحاج جرن عبد الرحمن باه وزير الشئون الدينية بغينيا كوناكرى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1072 أجوبة فضيلة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل سعد 1- لا مانع من التجنس خاصة إذا كان من يرغب في التجنس مضطهدًا في بلده الأصلي وهو في مهجره مصانة حقوقه الشخصية دمه وماله وعرضه. 2- خطورة تنشئة الأبناء المسلمين في البلاد الأجنبية قائمة، ولكن بإمكان الجاليات الإسلامية القيام بالمحافظة على تنشئة هؤلاء الأبناء في ظل تعاليم الإسلام السمحة وليكن الآباء والأمهات خير قدوة لهم في البيت وفي خارجه. 3- لا يجوز للمسلمة التزوج بغير المسلم مطلقًا، طمعت في إسلامه بعد الزواج أو لم تطمع مهما كانت الظروف التي تعاني منها. 4- لا يجوز لمن دخلت في الإسلام أن تبقى مع زوجها الذي لم يسلم ولو كان لها منه أولاد ولو طمعت في إسلامه أو في حسن معاشرته، ولها أن تنتظره حتى يسلم وتعود الحياة الزوجية بينهما. 5- يجوز دفن المسلم في مقابر غير المسلمين إذا لم تكن للمسلمين مقابر خاصة بهم خاصة وهم يعيشون في بلاد لا يسمح أهلها بدفن الموتى في غير مقابر خاصة المقابر المعدة للدفن إذا لم يمكن دفن الموتى في بلد إسلامي قريب من بلاد المهجر. 6- يجوز بيع المسجد إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها وخيف عليه التلف أو الاستيلاء عليه من الكفار وبالأولى إذا كان منزلًا حول إلى مسجد فهذا من الممكن بيعه ونصرف ثمنه في بناء مسجد آخر أو استبداله بمنزل آخر يخصص لأداء الصلاة فيها وإذا لم تتيسر فرصة استبداله بمسجد آخر فإن ثمنه يصرف في كل ما يعتبر قربة إلى الله. 7- لا يجوز للمرأة المسلمة السفر أبعد من مسافة القصر بدون محرم، ولكن للظروف أحكامًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1073 8- تجوز لهن الإقامة بمفردهن أو مع نسوة مسلمات إذا أمنت المسلمة على دينها وعرضها. 9- لا يجوز للمرأة المسلمة أن تكشف أكثر من وجهها وكفيها مع غير محارمها من الأجانب سواء في محلات العمل أو الدراسة. 10- إذا لم يجد المسلم ما يعيش به في هذه البلاد الأجنبية غير العمل في المطاعم التي يقدم لروادها لحم الخنزير والخمر فربما تشمله حالة الضرورة التي تبيح له المحظورات، وقد تساوت البلاد الإسلامية بالبلدان الأجنبية في ذلك مع الأسف. 11- لا يجوز للمسلم أن يحترف بيع الخنزير والخمر ولو لغير المسلمين وكذلك صنع الخمر. 12- يجوز تناول هذه الأدوية خصوصًا وأنه لا يوجد غيرها والناس في أمس الحاجة إليها. 13- لا يجوز استعمال هذه الخمائر والجلاتين المستخلصة من الخنزير لا سيما إذا لم تكن هناك ضرورة. 14- جعلت المساجد للصلاة والعبادة ولا يجوز إقامة حفلات الزواج بها وهناك أماكن أخرى معدة لمثل هذه الحفلات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1074 15- هناك أسماء يتسمى بها أبناء المسلمين وغير أبناء المسلمين وربما الممنوع ما عبد أو حمد من الأسماء ويمكن تسجيل اسم المولود في شهادة الميلاد باسم يشتمل عليه هذه القوائم وتسميته باسم آخر في محيط العائلة. 16- الأصل في الزواج التأبيد ولكن إذا جرى عقد الزواج بنفس الصيغة التي يقعد بها الزواج المؤبد واشتمل العقد على بقية الأركان والشروط المطلوبة في عقد الزواج وكان نيته إنهاء هذه الحياة الزوجية بمجرد انتهاء الدراسة والعزم على مكان إقامته الدائمة فحكم هذا الزواج الصحة. 17- لا بأس من ظهور المرأة في محلات العمل أو الدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبيها وتكتحل ما لم تخش الفتنة. 18- ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح المبايعات من المسلمات وقد اعتادت المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية في هذه العصور المتأخرة مصافحة الرجال للنساء والنساء للرجال وقد عمت البلوى. 19- إذا لم تكن هناك أماكن معدة لإقامة الصلوات الخمس وصلاة الجمعة وصلاة العيدين فلا بأس من الصلاة في الكنيسة؛ لأن الصلاة في الكنائس مكروهة وإقامة الشعائر الدينية خير من تركها، وإنما الأعمال بالنيات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1075 20- يجوز أكل ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى بنص القرآن {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} ولم تتعرض الآية لتسمية أو عدمها وهي مخصصة لقوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} . 21- لا يجوز للمسلمين حضور مثل هذه المناسبات العامة التي يقدم فيها الخنزير ويختلط فيها الرجال بالنساء وهم يتراقصون ولا بد من المحافظة على الشخصية الإسلامية وإلا ما الفرق بين المسلمين وغير المسلمين. 22- يجوز للمسلمين في هذه الحالة الأخذ بتقدير زمن من الصيام لأقرب بلد منهم وإذا صام المسلم واحتمل الصيام فثوابه عند الله مضاعف، وإذا أمكنه أخذ أجازته السنوية في شهر الصيام فذلك حسن، ولا داعي لترك العمل. 23- لا يجوز اعتماد الحساب من غير رؤية الهلال سواء كانت الرؤية في نفس بلد الصائم أو في أي بلد إسلامي آخر، ويجوز الاستعانة بالمراصد ولا تجوز شهادة غير المسلم في إثبات رؤية الأهلة، واتباع المسلمين في مثل هذه البلدان لإخوانهم المسلمين في البلاد العربية والإسلامية في الصيام والأعياد أولى من الأخذ بالحساب والخلاف موجود في العالم الإسلامي وسوف يبقى. 24- يجوز للمسلم العمل في الوزارات والدوائر الحكومية في أمريكا أو غيرها من حكومات البلاد الكافرة في الصناعات أو الدراسات الاستراتيجية. 25- يجوز للمهندس المسلم تصميم المباني الخاصة بالكنائس لأنها محلات عبادة أقر أهلها على إقامة شعائرهم فيها. 26- عمل هؤلاء الرجال في بيع الخمور والخنزير إذا لم يوجد لهم عمل آخر لكسب رزقهم واضطروا لذلك فلا حرج عليهم وعلى من يعولون من النساء والأولاد من العيش بهذا المال العائد من مثل هذا العمل. 27- لا يجوز للمسلم أن يتبرع بإنشاء كنيسة أو مؤسسة تعليمية للتنصير وكذلك لا يجوز للهيئات الإسلامية التبرع لمثل ذلك. 28- القرض بفائدة لا يجوز لأنه ربا محرم، أما شراء البنك للبيت أو السيارة أو الأثاث وبيعه بالمرابحة أي بأكثر من سعر الشراء فهذا جائز، وإذا كان الإيجار بالقسط الشهري يزيد عن قسط الشراء ولا ربا فيه فهو أولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1076 أجوبة فضيلة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد فهذه إجابتنا على استفتاء المركز الإسلامي بواشنطن حول المسائل التي يكثر تساؤل المسلمين عنها في أمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا. 1- التجنس بجنسية دولة غير مسلمة تتوقف الفتيا فيه على النظر في جوانب مختلفة منه، فالتجنس يعني الالتحاق التام بمواطني الدولة المانحة للجنسية في الحقوق والواجبات بحيث يكون للمتجنس وعليه ما للمواطنين الأصليين وعليهم من حقوق المواطنة وواجباتها، فلو اقتضى الأمر فرض ذلك الدولة على مواطنيها مقاومة دولة إسلامية لكان على هذا المسلم الحامل لجنسيتها، بموجب نظامها أن ينخرط في هذا السلك ويتحمل هذا الفرض، لذلك نرى أن التجنس بجنسية دولة غير مسلمة من الأمور التي يصار إليها مع الضرورة، كما إذا طورد المسلم ولم يأمن على حياته أو عرضه أو ولده أو ما ماثل ذلك، ولم يتمكن من اللجوء إلى بلد إسلامي لانسداد الأبواب بين يديه ومع ذلك فإن عليه أن ينوي في قرارة نفسه العودة إلى بلاد الإسلام متى وجد الباب مفتوحًا والمحذور مرتفعًا كما أن عليه أن يختار من بين الدول التي يلجا إليها حال الخوف، الدولة التي يتمكن فيها من ممارسة جميع واجباته الدينية بحرية كاملة سواء كانت هذه الواجبات شخصية أم اجتماعية. 2- من القواعد الشرعية المتفق عليها أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وعليه فإن الهجرة إلى بلاد الكفر إن كانت تفضي إلى تأثر أولاد المهاجر بالكفار في عقائدهم أو عاداتهم أو أخلاقهم أو نحو ذلك تعد محجورة شرعًا ولو كانت وراءها مصالح وكذا إن كانت وفاة الوالد الذي يمنحهم الرعاية الدينية تؤدي بهم عادة إلى الذوبان في ذلك المجتمع الغريب. 3- زواج المسلمة بغير المسلم حرام بالنص والإجماع قال تعالى {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وقال {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وهذا مما لم يخالف فيه أحد من الأمة، وادعاء أن هذا الزواج قد يكون وسيلة لإقناع الزوج بالإسلام ليست مبررة له، بل لا بد أن يكون إسلامه قبل عقد الزواج وبدون ذلك يعد سفاحًا ليس له شيء من أحكام النكاح الشرعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1077 4- إذا أسلمت لامرأة وبقي الزوج على كفره انحلت عقدة الزواج بينهما إلا إن أسلم قبل انقضاء العدة فإن انقضت عدتها لم تحل إلا بعد إسلامه وعقد جديد. 5- إذا تعذر دفن المسلم في مقابر المسلمين في أي مكان وتعذر دفنه في غير مقابر الكفار فذلك من الضرورات إذ مواراة جثته واجب، وإنما ينبغي مراعاة درجات الكفر فمقابر النصارى –عند الضرورة- أولى من مقابر اليهود ومقابر اليهود أولى من مقابر الوثنيين والملاحدة. 6- المسجد بيت الله {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} فلا يجوز لأحد التصرف فيه بما لم يأذن به الله، وقد جعل الله للمساجد حرمات ليست لغيرها من المباني فلا يدخلها الجنب ولا الحائض حتى يطهرا ولا يحدث فيها ولا ينشد فيها ولا يجوز فيها البيع والشراء وإذا بيع المسجد تعذرت المحافظة على هذه المحرمات وهي ثابتة بيقين، واليقين لا يرفع إلا بيقين مثله، لذلك نرى عدم جواز بيع المسجد المؤسس على التقوى أول يوم ولو انتقل من حوله المسلمون فالله أولى بحفظ بيوته إن شاء، ولعل الله يهيئ له من عبادها الركع السجود من يعمره بالعبادة والقيام، أما ما كان من المباني التي اشتراها المسلمون لإقامة صلواتهم فيها ففي بيعها متسع إذا نأى عنها المصلون وخيف عليها عبث المفسدين ويشترى بثمنها ما يعوضها حيث انتقل القائمون فيها. 7- ثبت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن سفر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم، وكفى به زجرًا عن التعدي والمخالفة، نعم يجوز للمرأة أن تسافر ولو وحدها في حالات الضرورة القصوى كأن تخرج من موضع إقامتها –إن خافت مع البقاء على حياتها أو عرضها- إلى حيث تجد لها مأمنًا وليس من الضرورة سفرها للتعلم أو العلم فإن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1078 8- لا حرج على المسلمات إن أقمن بأنفسهن في بيوت خاصة ولو في غير المجتمعات الإسلامية إن كن مطمئنات إلى سلامة دينهن ودنياهن، وأما اختلاطهن بالأجنبيات فهو مظنة الفساد والشر ومع الضرورة ليس عليهن في ذلك حرج إذا ما أحرزن لدينهن. 9- لا يجوز للمرأة المسلمة أن تبدي للأجانب شيئًا غير وجهها وكفيها، كان ذلك في مجال الدراسة أو العمل أو في أي مجال آخر، وإن فعلت ذلك باءت بالوزر لمخالفتها قول الله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} . 10- لا يجوز لمسلم أن يقوم بتقديم الخمور ولحم الخنزير إلى رواد المطاعم وإذا لم يجد عملًا آخر يسد به خلته لزمه أن يضرب في الأرض بحثًا عن العمل الحلال. 11- لا يجوز احتراف بيع المسكرات أو أي شيء من المحرمات. 13- العلاج من ضرورات الحياة اللازمة، ولذلك نرى عدم المانع من تناول الأدوية غير الخالية من المواد الكحولية إن لم تتوفر أدوية خالية منها ويدخل لك فيما استثناه الله بقوله {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} . 14- يجب تنزيه المساجد من حفلات الرقص والغناء فإنها بنيت لما بنيت له من ذكر الله {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} وقد نهى عن إنشاد الضالة فيها فكيف بالرقص والغناء. 15- الاسم سمة على المسمى فإن كان يوحي بأن مسماه غير مسلم وجب على المسلم أن يجنبه أولاده إلا مع الضرورة وهي تقدر بقدرها فإن لم يكن بد فليكن ذلك قاصرًا على الدوائر الرسمية مع وجود بديل له في المحيط الأسري والاجتماعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1079 16- الزواج في الإسلام هو ربط مصير بمصير ونواة لتكوين الأسرة وليس هو مجرد إطفاء لسعار الشهوة لذلك كان حكمه التأييد ما لم يطرأ عليه ما يهدم بنيانه ويقطع حبله من طلاق أو خلع أو نحوهما، غير أن انطواء المتزوج على نية الطلاق من غير أن يفصح عنها في العقد أو الاتفاق لا يؤثر على صحة العقد، وإنما نختار له عدم التلبس بهذه النية فإن رأى ما يدعوه إلى الطلاق فهو الذي بيده عقدة النكاح فليس حلها بمشكل عليه وإن كان ذلك أبغض الحلال إلى الله. 17- أخذ المرأة من شعر حاجبيها نفسه منكر وإن كانت لا تخرج من قعر بيتها لثبوت لعن النامصة والمتنمصة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا اضطرت المرأة إلى العمل خارج بيتها فعليها أن تلتزم في خروجها إليه الستر الشرعي مع اجتناب جميع أسباب الإثارة؛ فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنات أن لا يخرجن من المسجد إلا وهن متلفعات وقال ((من أصابت بخورًا فلا تشهد معنا الصلاة)) . 18- التصافح بين الرجل والمرأة الأجنبيين غير جائز لحديث ((لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له من يمس امرأة ليس له عليها سبيل)) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، ولامتناعه صلى الله عليه وسلم عن مصافحة النساء المؤمنات حتى عند مبايعتهن له، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم لم يصافح امرأة أجنبية قط، ولنا فيه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة. 19- لا مانع من الصلاة في الكنائس إن لم تكن التماثيل في قبلة المصلي لعدم دخولها في الأماكن المنهي عن الصلاة فيها في الحديث.. وقد روى ذلك عمر رضي الله عنه واستدل به بعض العلماء بقوله تعالى {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1080 20- ذبائح أهل الكتاب داخلة في طعامهم الذي أحله الله بقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ولكن يجب ألا نغفل في عصرنا هذا عن أمرين: أولهما: التأكد من كتابية الذابح لنشر الإلحاد وانتشار اللادينية في بلاد الغرب. ثانيها: التأكد من سلامة الطريقة المتبعة في الذبح لما عرف عن العالم الغربي اليوم من قتل البهائم بطرائق ليس لها أصل في الدين كالخنق والوقذ وقد حرم الله المنخنقة والموقوذة بالنص القطعي. 21- الحضور في الحفلات الراقصة الماجنة التي تقدم فيها الخمور وتنتشر فيها الرذائل وتتقلص فيها الفضائل غير جائز لمسلم ولا مسلمة لما في ذلك من الاشتراك في المنكر، وكفى بنفس حضورها اشتراك في منكرات ولما في ذلك من التشجيع الضمني عليها. 22- الأصل في الصيام أن يكون جميع نهار رمضان لقول الله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وإنما يستثنى ذلك ما إذا بلغ قِصَر الليل وطول النهار إلى قدر ما لا يحتمل معه صوم جميع النهار عادة فيرجع في هذه الحالة إلى تقدير وقت الصوم بالساعات، والأولى اتباع أقرب بلد يتيسر فيه صوم النهار كله. 23- الأصل في الصوم والإفطار رؤية الهلال أو إتمام العدة ثلاثين يومًا، وقد استفاضت بذلك الروايات واعتمده السلف وعندما تكون الرؤية بالعين المجردة متعسرة حيث يندر الصحو لكثرة الضباب والغيوم ولا تمنع الاستعانة بالآلات والمراصد الموثوق بها شريطة أن تكون بأيدي المسلمين أمناء تقوم بهم الحجة في الصوم والفطر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1081 24- لا يمنع المسلم من العمل بدوائر حكومة غير مسلمة ومؤسساتها سواء أكان ذلك في الصناعات الذرية والدراسات الاستراتيجية أو غيرها على أن يكون ذلك العمل مفضيًا إلى الإضرار بالمسلمين كالتجسس على دولة مسلمة أو جماعة المسلمين. 25- من المعلوم أن الكنيسة لم تعد محلًا للعبادة فحسب بل أصبحت معلمًا للتفضيل ووكرًا للتآمر على المسلمين بل على الإنسانية كلها فضلًا عما في الطقوس الدينية التي تمارس فيها من البعد عن الهدى والرشاد لذلك نرى على المهندس المسلم أن يتجنب التخطيط للكنائس لئلا يكون عونًا على الإثم وقد نهى الله عنه {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} . 26- الاتجار في الخمر والخنزير وغيرهما من المحرمات حرام على المسلم حرمة تناول هذه المحرمات فكل ما حرم تناوله حرم بيعه كما يدل عليه "لعن بائع الخمر" في الحديث الصحيح، وإن كانت الأسرة ليس لها عائل إلا من يتجر في المحرمات لم يكن عليهم في ذلك حرج لأن عولهم واجب عليه وهو الذي يبوء، ويتأكد انتفاء الحرج عنهم إن كان له مصدر آخر للرزق لاحتمال أن يكون الإنفاق من ذلك المصدر. 27- لا يجوز التبرع للكنائس أو المؤسسات غير الإسلامية لما في ذلك من التقوية للكفر والنقض لعرى الإسلام وهذا لا يعني عدم جواز عون المنكوبين وإغاثة الملهوفين من غير المسلمين، فقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا إلى الجياع في مكة في عام المجاعة وهم لا يزالون على الكفر وإنما يحرم أن يكون هذا التبرع بواسطة هذه المؤسسات التي لا تفتأ تحارب الله ورسوله ودنيه ولو من خلال ما ظاهره أنه خدمة إنسانية. 28- الربا حرام أخذه وإعطاؤه لحديث ((لعن الله الربا وآكله ومؤكله وكاتبه وشاهده)) فلا يجوز الاقتراض بالربا من فرد ولا من مؤسسة لأجل شراء سيارة ولا غيرها وبذل ما هو أكثر من ثمن الشراء فالاستئجار أولى من الاقتراض الربوي لأجل الابتياع لما في ذلك من سلامة الدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1082 أجوبة فضيلة القاضي محمد تقي الدين العثماني بسم الله الرحمن الرحيم التجنس بالجنسيات الأجنبية: 1- إن التجنس بجنسيات البلاد غير المسلمة يختلف حكمه حسب الظروف، والأحوال، وأغراض هذا التجنس، على الشكل التالي: إن اضطر إليه مسلم بسبب أنه أوذي في وطنه، أو اضطهد بالسجن، أو مصادرة أمواله لغير ما ذنب أو جريمة، ولم يجد لنفسه مأمنًا إلا في مثل هذه البلاد، فإنه يجوز له التجنس بهذه الجنسيات دون أي كراهة، بشرط أن يعزم على نفسه المحافظة على دينه في حياته العملية، والابتعاد عن المنكرات الشائعة هناك. والدليل على ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم هاجروا إلى الحبشة بعد ما اضطهدوا من قبل أهل مكة، والحبشة يومئذ يسودها الكفار، وأقاموا بها حتى إن بعض الصحابة لم يزالوا مقيمين بها بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فإنما رجع أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عند غزوة خيبر، يعني في السنة السابعة من الهجرة. ثم من حقوق النفس أن يصونها المرء من كل نوع من أنواع الظلم، فإذا لم يجد الإنسان مأمنًا لنفسه إلا في بلاد الكفار، فلا مانع من هجرته إليها، ما دام يحتفظ بفرائضه الدينية، والابتعاد عن المنكرات المحرمة. وكذلك إن اضطر إليه مسلم بسب أنه لم تتيسر له في بلده وسائل المعاش الضرورية التي لا بد له منها، ولم يجدها إلا في مثل هذه البلاد، فإنه يجوز له ذلك أيضًا بالشرط المذكور، وذلك أن كسب المعاش فريضة بعد الفريضة، ولم يقيده الشرع بمكان دون مكان، فقال الله تعالى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1083 ولو تجنس مسلم بهذه الجنسية لدعوة أهلها إلى الإسلام، أو لتبليغ الأحكام الشرعية إلى المسلمين المقيمين بها، فإنه يثاب على ذلك، فضلًا عن كونه جائزًا، فكم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم توطنوا بلاد الكفار لهذا الغرض المحمود وعد ذلك من مناقبهم وفضائلهم. أما إذا كان الرجل تتيسر له وسائل المعاش في بلده المسلم على مستوى أهل بلده، ولكنه هاجر إلى بلاد الكفار للاستزادة منها، والحصول على محض الترفه والتنعم، فإن ذلك لا يخلو من كراهة، لما فيه من عرض النفس على المنكرات الشائعة هناك، وتحمل خطر الانهيار الخلقي والديني من غير ضرورة داعية لذلك، والتجربة شاهدة على أن الذين يتجنسون بهذه الجنسيات الأجنبية لمجرد الترفه، ينتقص فيه من الوازع الديني، فيذوبون أمام الإغراءات الكافرة ذوبانًا ذريعًا، ومن هنا ورد في الحديث النهي عن مساكنة المشركين بدون حاجة ملحة. أخرج أبو داود عن سمرة بن جندب، قال: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من جامع المشرك، وسكن معه فإنه مثله)) أخرجه أبو داود قبيل كتاب الضحايا، وعلقه الترمذي في السير. أخرج أبو داود، والترمذي عن جرير بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله، لِمَ؟ قال: لا تراءى ناراهما)) . قال الخطابي في شرحه: "فيه وجوه: أحدها معناه، لا يستوي حكماهما، قاله بعض أهل العلم، وقال بعضهم: معناه أن الله قد فرق بين داري الإسلام والكفر، فلا يجوز لمسلم أن يساكن الكفار في بلادهم، حتى إذا أوقدوا نارًا كان منهم بحيث يراها، وفيه دلالة على كراهة دخول المسلم دار الحرب للتجارة والمقام فيها أكثر من مدة أربعة أيام" (معالم السنن للخطابي، كتاب الجهاد، باب على ما يقاتل المشركون، 3/ 437) . وأخرج أبو داود في المراسيل عن مكحول، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتركوا الذرية إزاء العدو)) ذكره ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن 3: 437، في سياق كراهة مساكنة المشركين. ومن هنا ذكر بعض الفقهاء أن سكنى دار الحرب وتكثير سوادهم لأجل المال مما يسقط العدالة (راجع تكملة رد المحتار: 1/ 101) . أما إذا كان التجنس بالجنسيات الأجنبية اعتزازًا بها، وافتخارًا، أو لتفضيلها على الجنسيات المسلمة، أو للتشبه بأهلها في الحياة العملية، فإن ذلك حرام مطلقًا، ولا حاجة إلى التدليل على ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1084 2- أما خطورة تنشئة الأبناء المسلمين في البلاد الأجنبية: فخطورة واقعة فيجتنب عنها في الظروف التي يكره أو يحرم فيها التجنس حسب ما ذكرنا في الجواب عن السؤال الأول. وأما في الظروف التي يجوز فيها التجنس بدون كراهة، فإنها مواضع ضرورة، أو حاجة، فيجب على المبتلي به في مثل هذه المواضع، أن يعنى بتربية أولاده عناية خاصة، ويجب على المسلمين المقيمين في تلك البلاد أن يحدثوا من أجل ذلك جوًا تربويًا فيه الناشئة المسلمة محافظة على عقائدها، وأعمالها، وأخلاقها الدينية. 3 و 4 – زواج المسلمة بغير المسلم: لا يجوز لمسلمة أن تنكح غير مسلم في حال من الأحوال، قال الله تعالى {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} وقال تعالى {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} . وإن الطمع في الإسلام أحد لا يبرر لمسلمة أن تعقد معه الزواج، فإن مثل هذا الطمع الموهوم لا يحل حرامًا. وكذلك لو أسلمت المرأة وزوجها كافر، فإن النكاح ينقطع بينها وبينه بمجرد إسلامها عند الجمهور، وبإنكار الزوج عن الإسلام بعد العرض عليه عند الحنفية، فلو أسلم الزوج وهي في عدته، رجع النكاح الأول، ولو لم يسلم إلا بعد العدة، لا ترجع إليه الزوجة المسلمة إلا بنكاح جديد بينهما، وهذا أمر فقد اتفق عليه الفقهاء قديمًا وحديثًا، وإن الطمع الموهوم في إسلام الزوج لا يغير حكم الشرع. 5- الدفن في مقابر غير المسلمين: لا يجوز دفن موتى المسلمين في مقابر غير المسلمين إلا إذا لم يكن من ذلك بد، وذلك بأن لا يكون للمسلمين مقبرة، ولا يسمح لهم بالدفن خارج مقبرة الكفار، كما هو مذكور في السؤال، فحينئذ يجوز ذلك للضرورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1085 6- حكم بيع المساجد: إن المواضع التي يصلي فيها المسلمون في البلاد الغربية على قسمين: الأول: ما يتخذونه موضع صلاة للمسلمين، ومحل اجتماعاتهم الدينية، دون أن يجعلوه مسجدًا فقهيًا، بأن يقفوا ذلك المحل والبناء كمسجد، ولذلك ربما يسمونها "المركز الإسلامي" أو "دار صلاة" أو "دار جماعة" ولا يسمونه مسجدًا. وأن الأمر في مثل هذه المواضع سهل ميسور، لأنها وإن كانت تستعمل للصلاة فيها، ليست مساجد شرعية، لأن أهلها لم يجعلوها مسجدًا، فكلما أراد أهلها أن يبيعوا هذه المواضع لصالح المسلمين جاز لهم ذلك بالإجماع. والثاني: ما اتخذوه مسجدًا شرعيًا، وجعلوا أرضه وقفًا كمسجد، فالحكم في مثل ذلك عند جمهور الفقهاء أن هذا المكان يبقى مسجدًا إلى قيام الساعة، ولا يجوز بيعه في حال من الأحوال، ولا يرجع إلى ملك واقفه أبدًا، وهذا مذهب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهم الله تعالى. يقول الخطيب الشربيني الشافعي رحمه الله: "ولو انهدم مسجد، وتعذرت إعادته أو تعطل بخراب البلد مثلًا، لم يعد ملكًا، ولم يبع بحال، كالعبد إذا عتق، ثم زمن، ولم ينقض إن لم يخف عليه لإمكان الصلاة فيه، ولإمكان عوده كما كان.. فإن خيف عليه نقض، وبنى الحاكم بنقضه مسجدًا آخر إن رأى ذلك وإلا حفظه، وبناؤه بقربه أولى، ولا يبنى به بئرًا". ويقول المواق من فقهاء المالكية: "ابن عرفة من المدونة وغيرها: يمنع ما خرب من ربع الحبس مطلقًا،.. وعبارة الرسالة: ولا يباع الحبس وإن خرب.. وفي الطرر عن ابن عبد الغفور: لا يجوز بيع مواضع المسجد الخربة، لأنها وقف، ولا بأس ببيع نقضها". وجاء في الهداية من كتب الفقه الحنفي: "ومن اتخذ أرضه مسجدًا لم يكن له أني رجع فيه، ولا يبيعه ولا يورث عنه، لأنه تجرد عن حق العباد، وصار خالصًا لله، وهذا لأن الأشياء كلها لله تعالى، وإذا أسقط العقد ما ثبت له من الحق رجع إلى أصله، فانقطع تصرفه عنه، كما في الإعتاق، ولو خرب ما حول المسجد واستغنى عنه يبقى مسجدًا عند أبي يوسف لأنه إسقاط منه، فلا يعود إلى ملكه" (المداية مع فتح القدير: 5/ 446) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1086 إلا أن مذهب الإمام أحمد رحمه الله في مثل هذا أن المسجد يجوز بيعه عندما وقع الاستغناء عنه بالكلية فقد جاء في المغني لابن قدامة: "أن الوقف إذا خرب، وتعطلت منافعه، كدار انهدمت أو أرض خربت، وعادت مواتًا، ولم تمكن عمارتها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه، وصار في موضع لا يصلى فيه، أو ضاق بأهله، ولم يمكن توسيعه في وضعه، أو تشعب جميعه، فلم تمكن عمارته ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه، جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته، وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه، (المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير: 6/ 225) . وهناك قول آخر: وهو قول الإمام محمد بن الحسن الشيباني، أن الوقت إذا استغني عنه تمامًا، فإنه يعود إلى ملك الواقف، أو إلى وراثه بعد موته، يقول صاحب الهداية: "وعند محمد يعود إلى ملك الباني، أو إلى وراثه بعد موته، لأنه عينه لنوع قربة، وقد انقطعت، فصار كحصير المسجد وحشيشه إذا استغني عنه" (5/ 446) . فإذا عاد إلى ملك الواقف جاز له بيعه بعد ذلك. وأن الجمهور استدلوا على قولهم بعدم جواز البيع، وعدم انتقاله إلى ملك الواقف، بقصة عمر رضي الله عنه بخيبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من شرائط الوقف: ((أنه لا يباع أصلها، ولا تابع، ولا تورث ولا توهب)) أخرجه الشيخان وهذا لفظ مسلم في باب الوقف. واستدل الإمام أبو يوسف للجمهور بالكعبة أيضًا، فإن في زمن الفَتْرَة قد كان حول الكعبة عبدة أصنام، وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية، ثم لم يخرج موضع الكعبة به من أن يكون موضع طاعة وقربة خالصة لله تعالى فكذلك سائر المساجد، واعترض عليه ابن الهمام في فتح القدير: 5/ 446، بأن الطواف لم يزل باقيًا على عهد الفترة أيضًا، فلم تترك العبادة المقصودة بالكعبة رأسًا، وأجاب عنه الشيخ العثماني التهانوي رحمه الله بأن القربة التي عينت لها لكعبة هي الصلاة إليها، دون الطواف وحده، لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام بعد ذكر إسكانه ذريته عند البيت الحرام {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} ولم يذكر الطواف، وقوله {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} مفسر بالمسافرين والمقيمين كقوله {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (راجع إعلاء السنن: 13/ 212) ، وإن من أقوى أدلة الجمهور في هذا الباب قوله الله تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1087 قال ابن العربي: إذا تعينت لله أصلًا، وعينت له عقدًا، صارت عتيقة عن التملك، مشتركة بين الخليفة في العبادة " أ" (أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1869) وأخرج ابن جرير في تفسيره 29/ 73 عن عكرمة {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} قال: المساجد كلها. وأما الإمام أحمد فاستدل له ابن قدامة في المغني: 6/ 226، بما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد لما بلغ أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة: انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصل. وأجاب عنه ابن الهمام (في فتح القدير: 5/ 446) بأن يمكن أنه أمره باتخاذ بيت المال في المسجد. ويبدو أن المذهب الراجح في هذا مذهب الجمهور، فلا ينبغي أن يباع مسجد بعد ما تقرر كونه مسجدًا، وإلا لصارت المساجد مثل كنائس النصارى، يبيعونها كلما شاءوا، ولكن المسألة لما كانت مجتهدًا فيها، وفي كلا الجانبين دلائل من الكتاب والسنة، فلو خيف الاستيلاء من قبل الكفار على مسجد ارتحل عن جواره أهله، ولم يرج عود المسلمين إلى ذلك المكان، ففي مثل هذه الضرورة الشديدة، يبدو أنه لا بأس بالأخذ بقول الإمام أحمد أو محمد بن الحسن رحمهما الله تعالى، ويباع بناء المسجد ويصرف ثمنه إلى بناء مسجد آخر، لا إلى مصرف سوى المسجد، قد نص عليه فقهاء الحنابلة حيث قالوا: "ولو جاز جعل أسفل المسجد سقاية وحوانيت لهذه الحاجة، لجاز تخريب المسجد، جعله سقاية وحوانيت، ويجعل بدله مسجدًا في موضع آخر" (راجع المغني لابن قدامة: 6/ 228) . ثم إن جواز هذا البيع إنما يصار إليه أن تحقق انتقال جميع السكان هما حول المسجد، ولم يرجع عودهم إليه، فإن انتقل أكثر السكان، وبقي منهم بعض، فلا سبيل إليه، قد نص عليه الفقهاء الحنابلة أيضًا حيث قالوا: "وإن لم تتعطل مصلحة الوقف بالكلية لكن قلت: وكان غيره أنفع منه، وأكثر ردًا على أهل الوقف لم يجز بيعه، لأن الأصل تحريم البيع، وإنما أبيح للضرورة صيانة لمقصود الوقف عن الضياع مع إمكان تحصيله، ومع الانتفاع وإن قل ما يضيع المقصود (المغني لابن قدامة: 6/ 227) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1088 7- سفر المرأة بغير محرم: أخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسافر المرأة فوق ثلاث إلا ومعها زوج أو ذو رحم محرم منها)) هذا الحكم الصريح قد أخذ به جمهور الفقهاء، حتى إنهم لم يجوزوا لها أن تسافر بدون محرم لضرورة الحج، وأن الدراسة والعمل في البلاد الأجنبية ليس من ضرورة النساء المسلمات في شيء، إن الشريعة لم تأذن للمرأة بالخروج من دارها إلا لحاجة ملحة، وقد ألزم أباها وزوجها بأن يكفل لها بجميع حاجاتها المالية، فليس لها أن تسافر بغير محرم لمثل هذه الحوائج. أما إذا كانت المرأة ليس لها زوج أو أب، أو غيرهما من أقاربها الذين يتكفلون لها بالمعيشة، وليس عندها من المال ما يسد حاجتها، فحينئذ يجوز لها أن تخرج للاكتساب بقدر الضرورة، ملتزمة بأحكام الحجاب، فيكفي لها في مثل هذه الحال أن تكتسب في وطنها، ولا حاجة لها إلى السفر إلى البلاد الأجنبية، ولو لم تجد بدًا من السفر في وطنها من بلد إلى آخر، ولم تجد أحدًا من محارمها، ففي مثل هذه الحالة فقط يسع لها أن تأخذ بمذهب مالك، والشافعي، حيث جوزوا لها السفر مع النساء المسلمات الثقات، (راجع له المغني لابن قدامة: 3/ 170) . 8 - إقامة النساء بمفردهن: قد ذكرنا في الجواب عن السؤال السابع أن النسوة المسلمات لا ينبغي لهن السفر إلى بلاد غير المسلمين للدراسة أو الاكتساب، وأما إذا كانت المرأة قد توطنت إحدى هذه البلاد مع محارمها، ثم بقيت مفردة لموت محارمها، أو انتقالهم من ذلك المكان لسبب ما، فإنه لا مانع لها من الإقامة بمفردها، ما دامت ملتزمة بأحكام الشرع في الحجاب. 9- حجاب الوجه والكفين: إن جواب هذا السؤال موقوف على مسألة مستقلة وهي: هل الوجه داخل في أحكام الحجاب أو لا؟ وإن هذه المسألة تحتاج أن تكون موضوعًا مستقلًا من موضوعات الدراسة التي في المجمع، فإن البحث فيه يطول، فالمناسب أن تجعل هذه المسألة في جدول أعمال المجمع لدورة من الدورات القادمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1089 10 و 11 – العمل في المطاعم التي تبيع الخمور والخنازير: العمل في مطاعم الكفار إنما يجوز بشرط أن لا يباشر المسلم سقي الخمر أو تقديم الخنزير، أو المحرمات الأخرى، فإن سقي الخمر أو تقديمها إلى من يشربها حرام بنص صريح، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه)) . (أخرجه أبو داود في الأشربة، باب العنب يعصر للخمر: 3/ 326 رقم الحديث: 3674) . وأخرج الترمذي عن أنس بن مالك، قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له)) ، قال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث أنس، وقد روى نحو هذا عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. (جامع الترمذي: 2/ 280 كتاب البيوع باب ما جاء في بيع الخمر: رقم: 1313) . وأخرج ابن ماجه حديث أنس بلفظ: ((عاصرها، ومعتصرها، والمعصورة له، وحاملها، والمحمولة له، وبائعها، والمبيوعة له، وساقيها، والمستقاة له)) (سنن ابن ماجه: 6/ 1122، كتاب الأشربة، رقم: 3381) . وقد أخرج الشيخان عن عائشة قالت: ((لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقترأهن على الناس، ثم نهى عن التجارة في الخمر)) (أخرجه البخاري في المساجد، وفي البيوع، وفي تفسير سورة البقرة، ومسلم في البيوع، باب تحريم بيع الخمر) . وأخرج مسلم عن ابن عباس مرفوعًا ((أن الذي حرم شربها حرم بيعها)) وأخرجه أحمد في مسنده: 1/ 244) عن عبد الرحمن بن وعلة أنه سأل ابن عباس، قال: إنا بأرض لنا بها الكروم، وإن أكثر غلاتها الخمر فذكر ابن عباس أن رجلًا أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم رواية خمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الذي حرَّم شربها حرَّم بيعها)) . فتبين من هذه الأحاديث أن التجارة في الخمر أو حملها، أو سقيها بالأجرة حرام، وظهر من فتوى ابن عباس رضي الله عنه أن ذلك لا يحل لمسلم، ولو للاكتساب في أرض شاع فيها عصر الخمر من الكروم. ولا أعلم أحدًا من الفقهاء أباح مثل هذا العمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1090 12- حكم الأدوية المركبة من الكحول: هذه المسألة لا تختص بالبلاد الأجنبية، وإنما عمت بها البلوى في سائر البلدان، بما فيه البلاد الإسلامية، والحكم فيها على طريق الحنفية سهل، لأن الأشربة المتخذة من غير العنب والتمر تحل عند أبي حنيفة وأبي يوسف بقصد التقوي أو التداوي، ما لم تبلغ حد الإسكار (كما في فتح القدير: 8/ 160) ، وإن معظم الكحول المستعملة في الأدوية اليوم لا تصنع من عنب ولا تمر، وإنما تصنع من السلفات والكبريتات، والعسل، والدبس، والحب، والشعير، والجودار، وغيرها. (راجع دائرة المعارف البريطانية: 6/ 544، المطبوعة 1950 م) . فإن كانت الكحول المستعملة في الأدوية متخذة من غير العنب والتمر فإن تناولها جائز في مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، ما لم تبلغ حد الإسكار، ويمكن أن يؤخذ بقولهما لحاجة التداوي، وأما إذا كانت الكحول متخذة من العنب أو التمر، فلا يجوز استعمالها إلا إذا أخبر طبيب عدل أنه ليس له دواء آخر، لأن التداوي بالمحرم يجوز عند الحنفية في هذه الحالة (كما في البحر الرائق 1/ 116) . وأما الشافعية فلا يجوز عندهم استعمال الأشربة المحرمة للدواء صرفًا، ولكن إذا كانت مستهلكة مع دواء آخر، فيجوز التداوي بها عندهم إن عرف بنفعها وتعيينها، بأن لا يغني عنها طاهر، كما صرح به الرملي في نهاية المحتاج حيث قال: "أما مستهلكة مع دواء آخر، فيجوز التداوي بها، كصرف بقية النجاسات إن عرف، أو أخبره طبيب عدل بنفعها بأن لا يغني عنها طاهر". (نهاية المحتاج للرملي: 8/ 12) . والكحول لا تستعمل للدواء صرفًا، وإنما تكون مستهلكة في دواء آخر، فتناولها لحاجة الدواء جائز عند الشافعية أيضًا. وأما المالكية والحنابلة فلا يجوز عندهم فيما أعلم التداوي بالمحرم في حال من الأحوال إلا عند الاضطرار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1091 وحيث عمت البلوى في هذه الأدوية، فينبغي أن يؤخذ في هذا الباب بمذهب الحنفية، أو الشافعية، والله أعلم. ثم هناك جهة أخرى، ينبغي أن يسأل عنها خبراء الكيمياء وهو: أن هذه الكحول بعد تركيبها بأدوية أخرى، هل تبقى على حقيقتها أو تستحيل حقيقتها وماهيتها بعمليات كيمياوية؟ فإن كانت ماهيتها تستحيل بهذه العمليات بحيث لا تبقى "كحول" وإنما تصير شيئًا آخر، فيظهر أن عند ذلك يجوز تناولها باتفاق الأئمة، لأن الخمر إذا صارت خلًّا جاز تناولها في قولهم جميعًا لاستحالة الحقيقة. 13- الخمائر والجلاتين المتخذة عن الخنزير: إن كان العنصر المستخلص من الخنزير تستحيل ماهيته بعملية كيمياوية، بحيث تنقلب حقيقته تمامًا، زالت حرمته ونجاسته، وإن لم تنقلب حقيقته بقي على حرمته ونجاسته، لأن انقلاب الحقيقة مؤثر في زوال الطهارة والحرمة عند الحنفية. 14- حفلات الزواج في المساجد: أما عقد النكاح في المسجد فشيء مندوب، نطقت باستحبابه الأحاديث ولكن ما يصحبه من الرقص، والغناء فلا يجوز أصلًا، فإن كانت حفلات الزواج لا تخلو من هذه المنكرات، فلتجنب المساجد منها. 15- التسمي بالأسماء النصرانية: إذ كان التسمي بالأسماء النصرانية لازمًا من قبل الحكومة، فيجوز أن يختار من الأسماء ما هو مشترك بين المسلمين، والنصارى، كإسحاق، وداود، وسليمان، ومريم، ولبنى، وراحيل، وصفوراء، وما إلى ذلك، ويمكن أيضًا أن يسجل المولود باسم من أسماء القائمة اللازمة في دوائر الحكومة، ويدعى في البيت باسم آخر إسلامي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1092 16- النكاح بإضمار نية الفرقة: ما دامت صيغة النكاح لا تتقيد بوقت ولا زمان، وتستوفي الشروط انعقاد النكاح، فإن النكاح منعقد، والتمتع به جائز، وأما ما يضمره المتعاقدان أو أحدهما من نية الفرقة بعد اكتمال مدة ما، فلا أثر له في صحة النكاح غير أنه لما كان النكاح في الشريعة عقدًا مؤبدًا، فالمطلوب فيه أن يستدام من قبل الزوجين، ولا ينقص إلا عند حاجة شديدة تقتضي ذلك، وإن إضمار نية الفرقة منذ أول الأمر ينافي هذا المقصود، فلا يخلو من كراهية ديانة، فلا يصار إليه لا عند الضرورة من شدة الشبق فرارًا من الزنا الحرام. 17- التزين في محلات العمل: قد أسلفنا في الجواب عن السؤال السابع حكم خروج المرأة للاكتساب، وبناء على ذلك، لو كان هنالك ما يبرر خروجها شرعًا، فمن اللازم عليها ألا تخرج متبرجة بزينة. 18- مصافحة المرأة للأجانب: إن مصافحة المرأة للأجانب لا تجوز بحال، قد نطقت بذلك الأحاديث، واتفق عليها الفقهاء. 19- استئجار الكنائس لإقامة الصلاة: لا بأس باستئجار الكنائس لتتخذ أماكن لإقامة الصلاة، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((جعلت لي الأرض كلها مسجدًا)) ولكن ينبغي أن تزاح منها التماثيل والأصنام، فإن الصلاة في بيت فيه تماثيل مكروهة، وقد امتنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من دخول الكنائس من أجل التماثيل، فيما علقه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في البيعة، وأسنده عبد الرزاق، وذكر البخاري أيضًا أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل وأسنده البغوي في الجعديات، وزاد فيه: "فإن كان فيها تماثيل خرج، فصلى في المطر" (راجع فتح الباري: 1/ 532 رقم 435) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1093 20- حكم ذبائح أهل الكتاب: الذي أعتقده وأدين الله تعالى عليه أن مجرد كون الذابح من أهل الكتاب لا يجعل الذبيحة حلالًا، حتى يسمى الله تعالى عليه، ويفري الأوداج بطريق شرعي، كما أن مجرد كون الذابح مسلمًا، لا يذكي الذبيحة، حتى يستوفي جميع شرائط الزكاة الشرعية، وإنما أحل الإسلام ذبائح أهل الكتاب دون من سواهم من المشركين؛ لأن أهل الكتاب كانوا ملتزمين بشروط الزكاة الإسلامية. وعلى هذا الأساس، لا تحل ذبائح أهل الكتاب إلا بهذه الشروط، وبما أن معظم النصارى قد تركوا اليوم الالتزام بشروط الزكاة التي هي واجبة في أصل دينهم فإن ذبائحهم لا تحل للمسلمين إلا إذا تحقق أنهم قد استوفوا هذه الشروط. وهذا بخلاف ما يزعمه كثير من الناس اليوم أن ذبائحهم حلال، وإن لم يذكروا اسم الله عليها، وعندي في ذلك دلائل قوية من الكتاب والسنة، وأقوال الفقهاء، وعبارات كتب أهل الكتاب، ولكن هذا الموضوع يحتاج إلى تفصيل لا يسعه هذه الفتوى فالأحسن أن يدرج هذا الموضوع في قائمة أعمال المجمع، ويطلب من الأعضاء الكتابة عليه كموضوع مستقل، وحينئذ تعرض الدلائل ببسط وتفصيل إن شاء الله تعالى. 21- حضور المناسبات التي فيها منكرات شرعية: لا يجوز للمسلمين أن يحضروا مثل هذه المناسبات التي تتعاطى فيها الخمور والخنازير، وتراقص فيها النساء الرجال، ولا ضرورة داعية لذلك، إلا الحصول على الجاه والسمعة، ولا ينبغي لمسلم أن يخضع لكل ما يعتريه من أسباب الفسق، وخوارم الديانة، وإنما ييجب عليه في مثل هذه المواضع أن يصمد على دينه ولو أجمع المسلمون- وعددهم في البلاد الأجنبية غير قليل- على تجنب مثل هذه المناسبات، للجأ الأجانب عند دعوتهم إلى إخلائها من هذه المنكرات. 22 و 23 – إن هذين السؤالين يجب أن يكونا موضوعين مستقلين في قائمة أعمال الدراسات في المجمع، لأن الجواب عنهما يحتاج إلى دراسة أوسع وأعمق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1094 24- عمل المسلم في دوائر الحكومة: لا باس بأن يتوظف الرجل عملًا في دوائر وزارات الحكومة الأمريكية، أو غيرها من حكومات البلاد الكافرة، وكذلك لا بأس بقبول مثل هذه الأعمال في مجالات الصناعة الذرية، أو الدراسات الاستراتيجية، ولكن إن فرض إليه عمل يضر بعامة المسلمين في بلد من البلاد، فمن الواجب عليه أن يتجنبه، ولا يعنيهم لفي ذلك ولو على قيمة استقالته من ذلك العمل. 25- تصميم المهندس كنائس النصارى: لا يجوز لمهندس مسلم أن يصمم معابد الكفار لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . 26- عمل الأزواج والآباء في بيع الخمور: يجب على الزوجات في مثل هذه الحال أن يبذلوا أقصى ما في وسعهم في تحذير أزواجهن عن العمل في بيع الخمور والخنازير ولكنهم إن أبوا إلا العمل فيه، فإن تيسر لهن تحمل نفقات أنفسهن بطرق مباحة، فلا يجوز لهن الأكل من أموال أزواجهن، وإن لم يتيسر لهن ذلك، فيسع لهم الأكل، والإثم على الأزواج والآباء، للأطفال الصغار حكم الزوجات، أما الأولاد الكبار فعليهم أن يكتسبوا لأنفسهم، ولا يأكلوا من هذا المال. وجواز الأكل للزوجة في مثل هذه الحالة قد صرح به بعض الفقهاء، قال ابن عابدين رحمه الله: "امرأة زوجها في أرض الجور، إذا أكلت من طعامه ولم يكن عينه غصبًا أو اشترى طعامًا أو كسوة مال أصله ليس بطيب فهي في سعة من ذلك، والإثم على الزوج" (رد المحتار، كتاب الحظر والإباحة، فصل في البيع: 5/ 247 وكتاب البيوع، باب البيع الفاسد) . 27- التبرع للكنيسة: لا يجوز لمسلم سواء كان فردًا أو هيئة، أن يتبرع لمؤسسات تنصيرية، أو كنيسة أما المؤسسات التعليمية الخالصة، فلا بأس بالتبرع لها. 28 - شراء المنزل بواسطة البنوك: إن المعاملة المذكورة غير جائزة لاشتمالها على الربا الحرام شرعًا، وينبغي للمسلمين وعددهم غير قليل أن يجتهدوا لإيجاد بدائل هذه المعاملة الموافقة للشرعية الإسلامية، بأن يكون البنك نفسه هوا لبائع بتقسيط، ويزيد في ثمن البيوت وغيرها من الثمن المعروف، فيشتريها من الباعة، ويبيعها إلى زبائنها بربح مناسب، وينبغي أن تطرح هذه المسألة على لجنة مستقلة تكون لتخطيط نظام البنوك اللاربوي، لتنظر في تفاصيلها. هذا ما تبين لي، الله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1095 أجوبة فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. السؤال الأول: حكم التجنس بجنسية بلد غير إسلامي: الجنسية أمر حادث نشأ في القرن الثامن عشر تبعًا لتطور المفهوم الوطني وقد قام أولًا على نظريتين متقابلتين: النظرية الأولى: نظرية جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، "كل إنسان هو في ذاته ليس لأي كان مهما كانت الذريعة التي يتذرع بها أن يخضع غيره بدون موافقته، وانفتحت فكرة الإرادة العامة هذا أخيرًا على مبدأ السيادة القومية، فتبع الإعلان عن حقوق الإنسان الإعلان عن حقوق الأمم. فإذا كانت السيادة تكمن في الشعب وإذا كان القانون من جهة ثانية تعبيرًا عن الإرادة الجماعية فإنه يتبع ذلك أن الإدارة العامة هي وحدها المؤهلة لأن تفرض أو تتنازل أو تحول السيادة فيستطيع المجلس التأسيسي أن يعلن مبكرًا حق الشعوب في قيادة نفسها بنفسها". أما النظرية الثانية: فهي النظرية الألمانية التي تؤمن بأن الجنسية هي عبارة عن اتخاذ جماعة بشرية في التاريخ واللغة والجنس ويقول فيشت في حواره الخامس: الجنسية الألمانية: إن الذين يتكلمون لغة واحدة هم ينسبون قبل كل شيء إلى جنسية واحدة. تصارعت النظريتان بين الثوريين الفرنسيين الذين يرون الجنسية عقد يقوم على حرية الإرادة والنظرية الألمانية التي تقوم على أن الجنسية كائن عضوي يقوم على حرية الإرادة والنظرية الألمانية التي تقوم على أن الجنسية كائن عضوي بصفة أصلية في اللغة الأولى للشعب. وكان ميدان الصراع الذي طبقت فيه النظريتان الألراس واللوران. وقد انتهى الصراع بفوز النظرية الفرنسية خاصة بعد إعلان ولسون في الحرب العالمية الأولى وإعلان ميثاق الأطلنطي أثناء الحرب العالمية الثانية فكلما تألفت مجموعة بعقد اجتماعي بينها نابع من الإرادة الحرة، تكونت الدولة والجنسية الخاصة، إلا أن هذه الجماعة لتحمي نفسها ووحدتها تعطي شروط الانتساب إليها، فثارت قضية التجنس ويسرت بعض الشعوب قيود الانتساب إليها، وضيقت أمم أخرى حسب المصالح الخاصة لكل دولة، وبما أن الدولة عقد اجتماعي فكل داخل في الجنسية الجديدة هو قطعًا ملزم باحترام الميثاق الاجتماعي في كل بنوده وفصوله، وينفذ عليه، رعاية لما اتفقت عليه كلمة الجماعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1096 ولما كان كل إنسان منتسبًا إلى دولة من الدول فإن خروجه عن جنسيته وانتسابه إلى جنسية أخرى يتبعها حتمًا انتهاء سيادة الدولة الأولى عليه وقبوله بسيادة الدولة الجديدة دون تفصيل، فهو يعامل حتى في بلده الأصلي معاملة الأجنبي عنه. إلا أنه حدث في النصف الثاني من هذا القرن إمكانية جديدة تجعل الفرد قادرًا على الانتساب إلى جنسيته الأصلية، وإلى جنسية البلد الذي يقيم فيه جنسية مزدوجة. وبهذا أصبح البشر على ثلاثة أنواع: - محتفظ بجنسيته الأصلية لم يتخل عنها. - متخل عن جنسيته الأصلية منتسب بعد قبوله إلى الدولة الجديدة. - جامع لجنسيتين يعتبر في كلا البلدين مواطنًا لذلك البلد. التحصيل على الجنسية: يتبع المولود جنسية أبويه، وفي بعض الدول يعتبر مواطنًا يحمل جنسية البلد كل من ولد بين حدود ذلك البلد كما نصت التشريعات على الشروط التي يخول بموجبها قبول انتساب أي شخص من جنسية أخرى في جنسية البلد الذي يرغب في الانتقال إليه، فإذا ما قبل طبقت عليه أحكام ذلك البلد في الحقوق والواجبات. التجنيس في العهد الاستعماري: عملت بعض الدول الاستعمارية على تيسير دخول المستعمرين في جنسيتها بل أغرتهم على ذلك بفوائد مادية، وهي تهدف من ذلك إلى كثير أفراد شعبنا من ناحية وإلى سلخ القوة العديدة للشعب المستعمرة وقام العلماء في أقطار العالم الإسلامي بفضح الكيد الاستعماري وتحذير المسلمين من ذلك اعتبروا ذلك خروجًا عن الملة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1097 فبينوا أولًا: أن المتجنس هو شخص قد اختار عن طواعية رفض أحكام الشريعة مفضلًا عليها أحكام القانون الوضعي، فيصبح ملزمًا في حياته الزوجية بتطبيق الأحكام الوضعية لا ينفذ له طلاق ويجبر على الإقامة معها والإنفاق عليها، وتقسيم تركته حسب القانون الوضعي المتغير، ولا يترافع في قضاياه إلى المحاكم الشرعية بل يرفعها إلى المحاكم القانونية الوضعية ويقبل أحكامها مطبقًا. وحدوث الفتاوى بكفره اعتمادًا على ما جاء في الفتاوى الخيرية، سئل عن رجل قال: لا أعمل بالشرع، إنه إذا قال ذلك لاعتقاد عدم أحقية الشرع أو استخفافًا فلا ريب في كفره (ص 106) والمتجنس رافض لحكم الشرع. وكذا على ما جاء في الفتاوى الهندية أنه لو طلب أحد الخصمين غريمه أن يذهب معه إلى الشرع فامتنع قائلًا: لا أذهب إلا جبرًا، يكون كافرًا (2 / 722) وفي نفس الصفحة لو قال الرجل لغيره: حكم الشرع في الحادثة كذا، فقال: أنا أعمل بالرسم لا بالشرع يكفر. واستندت فتاواهم من كفر المتجنس إلى قوله تعالى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وإلى قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} ثم قوله بعد ذلك {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1098 والمتجنس في العهد الاستعماري هو رجل يقيم في دار الإسلام بعد أن تغلب عليها غير المسلمين فيكون اختباره لتغيير جنسيته رفضًا لأحكام الإسلام وتفضيلًا أن يطبق علي قانون الدولة الغازية، ولا شك أن ذلك موجبا للارتداد، يقول القرطبي: وكل من طعن في حكم الحاكم ورده فيه ردة، يستتاب، وأما إن طعن في الحاكم نفسه لا في الحكم فله تعزيره وله أن يصفح عنه (أحكام القرآن: 5/ 266) إذ الطعن في الحكم معناه رمي الشارع إما بالظلم أو القصور، وكلاهما موجب كفر. ثم إنه بعد أن استقلت الأمم الإسلامية واجهت مشاكل متعددة بعضها اقتصادي إذ كانت سوق العمل لا تستطيع أن تستوعب الأيدي العاملة، فهاجر كثير من العمال بالفكر أو الساعد إلى الدول غير المسلمة، وهاجر البعض الآخر لأن ظروف العمل في الدول الصناعية أفضل منه في الدول الإسلامية، وهاجر فريق ثالث لأن نشاطه الإسلامي يعرضه للخطر في بلده: إما في ذاته بالسجن أو التصفية الجسدية وإما في ماله. القسم الأول والثاني: منها أن العامل الأجنبي لا يتمتع بنفس الامتيازات التي يتمتع بها العامل من أبناء البلد، خاصة في المنح الاجتماعية، كما أن حقه في البقاء في عمله أضعف من حق ابن البلد، فكان هذا التمييز في الحقوق دافعًا لكثير من المقيمين بأرض الكفر أن يطلبوا سحب جنسية البلدان الكافرة عليهم، وفعلًا تحصل بعضهم على الجنسية المطلوبة وبعضهم في طريق التحصيل. اندفعوا إلى هذا الاختيار دون أن يعودوا بالسؤال لمعرفة حكم الله في العمل الذي قاموا به وهذا تقصير منهم وتهاون بمقتضيات دينهم. إن من يتجنس بجنسية بلد غير إسلامي معناه أنه أصبح مواطنًا يتمتع بكامل الحقوق التي لأبناء ذلك الوطن ويلزم بأن يقوم أيضًا بكل الواجبات ويترتب على ذلك أحكام يلزم بها رغب في ذلك أو لم يرغب. أولًا: إن قضايا العلاقات في تكوين الأسرة وانحلالها وحقوقها ونقل الملكية بطريق الإرث تطبق فيها الأحكام التي تقرها الدولة التي انتسب إليها: 1- هو راض عن زواجه لا يكون زواجًا إلا إذا سجل مدنيًا وهذا لا ضير فيه. 2- هو راض أنه لا تطلق زوجته عليه بلفظ الطلاق ولا بغيره إلا إذا حكم الحاكم ولو حكم بالفراق البدني مع بقاء العصمة فهو ملزم بقبوله. وأن ابنته إذا بلغت سن الرشد القانوني ارتفعت كل ولاية له عليها، وأنه لا يستطيع أن يمنع ولده من ارتكاب أي محرم في الإسلام إذا كان قانون الدولة التي انتسب إليها يبيحه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1099 3- هو راض بأن تقسم تركته بعد موته حسب القانون وأن يرث هو غيره حسب القانون. هو راض بأن الزنا إذا كان برضا الطرفين الراشدين لا منكر فيه. ثانيًا: أنه عضو من أعضاء الدولة التي انتسب إليها فإذا اشتعلت الحرب بينها وبين دولة إسلامية فهو مطالب قيامًا بواجبه أن يقاتل المسلمين وأن يصب على رؤوسهم القنابل ويعمل جهده ويبذل كل طاقته لهزمهم والتنكيل بهم. وقد طالعت في هذه السنة بجريدة لوموند الفرنسية (1986) أن الولايات المتحدة الأمريكية أجرت بحثًا سريًا لمعرفة قيام الجنود الأمريكيين من أصل ألماني قيامهم بواجبهم الوطني في تهديم القوة الألمانية حربيًا واقتصاديًا، فكشف البحث أنه لم يسجل أن أي جندي أمريكي غلب أصل انتسابه على واجباته القتالية إذ كانوا جميعًا متحمسين لهزيمة ألمانيا بلد أجدادهم وأصولهم. الخلاصة: أن كل ما قدمناه من لوازم التجنس هو رفض قاطع لأحكام الإسلام، وعزم أكيد على التنكر لها وابتغاء حكم غير حكم الله، وإطراح اختياري لما ثبت من ضروريات الدين، ولذا رأى بعض العلماء أن هذا موجب للردة، يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} شرط وجوابه أي لأنه خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا ووجب معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم فصار منهم أي من أصحابهم (6/ 217) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1100 وذهب كثير من المفسرين إلى أنه من باب التغليط يقول الألوسي: "أي من جملتهم وحكمه حكمهم كالمستنتج من قبله وهو مخرج التشديد والمبالغة من الزجر لأنه لو كان المتولي منهم حقيقة لكان كافرًا وليس بمقصود، وقيل: المراد من {يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} فإنه كافر مثلهم حقيقة، وحكى عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولعل ذلك إذا كان توليهم من حيث كونهم يهودًا أو نصارى (6/ 140) . فالألوسي يصرح بأن مجرد التحالف مع اليهود والنصارى والتناصر لا يخرج المؤمن من الإيمان وإنما الذي يوجب ارتداده واعتقاده أن دين اليهودية أو النصرانية أولى بالتزام وأن النصراني بالتحالف والتناصر لكونه نصرانيًّا، فهو إذن لا يعتبر مرتدًا إلا إذا فضَّل اليهودية أو النصرانية على الإسلام. وهذا الحل هو الذي ارتضاه أبو حيان قال: ومن تولاهم بأفعاله دون معتقده ولا اختلاف بإيمان لهو منهم في المقت والمذمة، ومن تولاهم في المعتقد فهو منهم في الكفر (البحر: 3/ 506) . وعلى هذا جاءت فتوى علماء الأندلس التي ذكرها الونشريسي في المعيار (12/ 148) وما بعدها فعلماء الأندلس لم يزيدوا على وصف الذين خرجوا عن جماعة المسلمين واستنصروا بصاحب قشتالة لم يعتبروهم مرتدين وإنما هو عصاة واحتجوا بالآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1101 نص فتوى المعيار حكم الشرع فيمن نبذ بيعة الإمام وسئل فقهاء الأندلس بما نصه: سيدي رضي الله عنكم وأدام النفع بكم، جوابكم في عصابة من قواد الأندلس وفرسانها نبذوا بيعة مولانا أبي الحسن نصره الله وخرجوا عن طاعته وقاموا بدعوة ابنه ودعوا الناس إلى بيعته، وطاوعهم على ذلك من شاء الله تعالى، إلى أن وقعت كائنة اللسان وفقد فيها جملة منهم وأُسِرَ الأمير وانجلى من سلم منهم عن الحضرة فلجأوا إلى صاحب قشتالة - دمره الله - مستنصرين به، ومعتصمين بحبل جواره، فواطؤوه على شروط التزموها، ووعدهم بتسريح الأمير المذكور للخروج به لأرض المسلمين وعقد له صلحًا ما طاع له من البلاد، ولا خفاء بما هو قصد الكافر قصمه الله في هذا الذي فعل فلكم الفضل في الجواب عن فعلهم، أولًا:هل كان له متمسك من الشرع أو إنما كل بمحض عصيان الله تعالى وخروج عن طاعة الله وطاعته رسوله؟ وإن قدرة الله بخروجهم من أرض النصارى مصرين على ما كانوا عليه من التعصب على الفتنة والخلاف، فهل يحل لأحد من المسلمين مساعدتهم على ذلك والأخذ معهم فيه؟ وهل يحل لأهل مدينة من المدن أو حصن من الحصون أن يأويهم؟ وما حكم الله فيمن آواهم وأعانهم وانتظم في سننهم أو مال بقلبه أو قوله أو فعله إليهم؟ بينوا لنا ذلك بيانًا شافيًا ليستضاء بنوره، ويهتدى بهديه، والله يبقي بركتكم، ويعطي أعلام العلماء درجتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فأجابوا بما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله. صدرت الفيتا من السادات العلماء، الجلة الأعلام، هداة الأنام، ومصابيح الظلام، بالحضرة العلية غرناطة حرسها الله، على السؤال فوقه: وهم: السيد البركة المفتي أبو عبد الله المواق، والسيد قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن الأزرق، والسيد المفتي أبو الحسن علي بن داود، والسيد المفتي أبو عبد الله محمد الجعدالة، والسيد الخطيب أبو عبد الله محمد الفخار، والسيد الشيخ الحاج أبو الحسن علي القلصادي، والسيد الشيخ أبو حامد بن الحسن، والسيد القاضي أبو عبد الله محمد بن سرحونة، والسيد الخطيب أبو عبد الله محمد المشدالي، والسيد الخطيب أبو محمد عبد الله الزليجي، والسيد الخطيب أبو عبد الله محمد الحذام، والأستاذ الشيخ الحاج أبو جعفر أحمد بن عبد الجليل، والأستاذ أبو عبد الله محمد بن فتح، والقاضي أبو عبد الله محمد بن عبد البر، والأستاذ أبو جعفر محمد البقني، أبقى الله بركتهم، وحفظ في درجة العلام رتبتهم، بأن خلع القوم المسؤول عنهم، لبيعة مولانا أبي الحسن نصره الله، وقيامهم بدعوة ابنه، ليس له متمسك من دين الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1102 وإنما هو محض عصيان، وخروج عن طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ارتكبوه بذلك من وجوه المفاسد التي لا يرضى الله بها من شق عصا الإسلام في هذا الوطن الغريب، وتفريق أمره بعد ما كان مجتمعًا، وإيقاد نار الفتنة، وإلقاء العداوة والبغضاء بسببها في قلوب المسلمين وإفساد ذات البين التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما هي الحالقة)) مع ما في ذلك من توهين المسلمين وإطماع العدو الكافر في استئصال بيضتهم، واستباحة حريمهم، وكل ذلك محرم بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع العلماء فإلى غير ذلك من وجوه المعاطب التي لا تخفر وأن ركونهم إلى الكفار واستنصارهم بهم، لا يخفى أنهم داخلون به في وعيد قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وقال سبحانه في الآية الأخرى {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} ، وأن تجديد بيعتهم للأمير المأسور، إصرارًا على ما ذكر من المعاصي والمحرمات، وتأكيدا لما ارتكبوه من الجرائم والسيئات، فمن آواهم أو أعانهم بقول أو فعل، فهو معين على معصية الله تعالى، ومخالف لسنة رسوله، ومن هوى فعلهم أو أحب ظهورهم، فقد أحب أن يُعصى الله في أرضه بأعظم العصيان، هذا ما داموا مصرين على فعلهم، فإن تابوا ورجعوا عما هم عليه من الشقاق والخلاف، فالواجب على المسلمين قبولهم، لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر نفوسنا، وأن يصلح ذات بيننا أنه ولي ذلك والقادر عليه، ومن أشهده السادات المذكورون فيه، بما سطر وكتب عنهم من الجواب على السؤال المنبه عليه، وأنهم قائلون به، وصادر عنهم ولا خفاء بمعرفتهم وهم بحال كما الإشهاد قيد بذلك شهادته في أواسط شهر رمضان المعظم، عام ثمانية وثمانين وثمانمائة عرفنا الله خيره، محمد بن شهد ومحمد بن علي بن شهد، أعلم بثبوته محمد بن علي الأصبحي، وفقه الله وكان له انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1103 وإذ قد اختلف العلماء فيمن يوالي النصارى اليهود ويدخل في حلف معهم هل هو مرتد أو لا؟ وإذ قد تجاوزنا العهد الاستعماري الذي كان التجنس فيه مفضيًا لذوبان الأمة الإسلامية وفقد شخصيتها ونظرًا لما حققه الشاطبي من اختلاف الحكم يبن الجزئية المنفردة وبين الكلية العامة، وأن المباح بالجزء قد يصير واجبًا بالكل. وانظر خاصة المسألة السادسة في الأوامر والنواهي في قوله: وأما المنهيات فإنك تجده قد جعل اتخاذ الكافرين أولياء والرضى بحكم الطاغوت والوهن بالأعداء والخيانة من النواهي التي لما بلغ بها نص الشارع الغاية من الترهيب فليس ذلك دليلًا على أن جزئياتها على وزان واحد بل هي محل اجتهاد (3/ 136 – 144) . لذلك كله فالذي مرجح عندي أن التجنس بجنسية دولة غير إسلامية معصية لا تبلغ درجة الردة إذا كان إقدامه على ذلك تسوية لأوضاعه المادية مع اقتناعه وإيمانه أن الإسلام هو الدين الوحيد وأنه يغضب الله من كل من يحاول النيل من الإسلام أو التطاول عليه، أما إذا كان أمر الدين عنده لا يوازي مصالحه وأنه متهاون به لا يشعر برابطة بينه وبين دينه إلا رابطة تاريخية ضعيفة الأثر فلا شك عندي في ارتداده، وخروجه من الملة. على أن القسم الأول مطالب بأن يحرص على تلقين أبنائه أصول الإسلام وأن يحرص على إقامة شعائرهم معهم وأن لا يتهاون في هذا الأمر، ليكون ما في يقوله بلسانه مصدقًا بأعماله مع دعوته إلى العمل على الإقلاع عن المعصية والتوبة والعزم على عدم العودة بالإسراع للانسلاخ من الجنسية التي اكتسبها إن كان يحمل جنسية واحدة أو بالرجوع إلى بلده الأصلي إن كان يحمل جنسيتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1104 القسم الثالث الذين يتعرضون إلى الفتنة في حياتهم سجنًا وقتلًا أو في عائلاتهم تشريدًا وتتبعًا أو في أموالهم استصفاء فهؤلاء يجوز لهم أن يتجنسوا بجنسية غير إسلامية إذ لم يجدوا بلدًا إسلاميًا يقبلهم ويحميهم {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} . قال ابن العربي: قسم العلماء رضي الله عنهم الذهاب من الأرض قسمين: هربًا وطلبًا. فالأول: ينقسم إلى ستة أقسام: الأول: الهجرة وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وكان فرضًا من أيام النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان من أسلم في دار الحرب وجب عليه الخروج إلى دار الإسلام، فإن بقي في دار الحرب عصى ويختلف في حاله. الثاني: الخروج من أرض البدعة، قال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف، قال ابن العربي: وهذا صحيح فإن المنكر إذا لم تقدر أن تغيره فزل عنه، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} قوله (الظالمين) . الثالث: الخروج من أرض غلب عليها الحرام فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم. الرابع: الفرار من الأذية في البدن وذلك فضل من الله رخص فيه، فإذا خشي على نفسه أذن الله في الخروج عنه والفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور. وأول من فعله إبراهيم عليه السلام فإنه لما خاف من قومه قال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} وقال {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} وقال عن موسى {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} . الخامس: خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النزهة وقد أذن الله للرعاة حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصحوا وقد استثنى من ذلك الخروج من الطاعون فمنع الله منه بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بيد أن علماءنا قالوا: هو مكروه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1105 السادس: الفرار خوف الأذية في المال فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه. والأهل مثله وأوكد – (القرطبي: 5/ 350) . وذكر ابن قدامة: أن الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب: أحدها: من تجب عليه وهو يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه الهجرة لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى قوله تعالى {مَصِيرًا} وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. الثاني: من لا تجب عليه، وهو من يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف لقوله تعالى {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} . الثالث: من تستحب له ولا تجب عليه وهو من يقدر عليها لكن يتمكن من إظهار دينه وإقامته في دار الكفر فتستحب له يتمكن من جهادهم وتكثير المسلمين وعمومتهم ويتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ورؤية المنكر بينهم ولا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة وقد كان العباس مقيمًا بمكة مع إسلامه (المغني: 2/ 457) . إن ما ذكره ابن العربي في القسم الرابع والسادس يبين لنا أن الملتجيء إلى دولة غير إسلامية حفاظًا على نفسه أو ماله لا يعد عاصيًا فضلًا عن كونه كافرًا وإذا كان أمنه لا يتم إلا بتجنسه كان له أن يتجنس مع شد عزمه على تحين أول فرصة يستطيع فيها أن يعش آمنًا في ديار الإسلام ليغتنمها، ذلك أن هذا قد أبيح له كضرورة تقدر بقدرها وعلى المضطر أن يجتهد للخروج من حالة الاستثناء. والمنطبق على المتجنس في دار الكفر من تقسيم صاحب المغني هو القسم الثاني وليس الثالث ذلك أن المتجنس في بلاد الكفر لا يتمكن من إقامة دينه في جميع أحكامه وإن كانت بعض الأحكام في بلاد الإسلام لا يقرها الإسلام إلا أن الشعائر الدينية معلنة والمجتمع إسلامي يؤثر في تربية الأطفال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1106 السؤال الثاني حكم الهجرة باعتبار تأثيره على الذرية يقول أبو بكر الرازي الجصاص في قوله تعالى {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} هذا يدل على الخروج من أرض الشرك إلى أي أرض كانت من أرض الإسلام (2/ 305) . وقال مالك: هذه الآية دالة على أنه ليس لأحد المقام بأرض يسب فيها السلف ويعمل فيه بغير الحق (جامع لأحكام القرآن للقرطبي: 5/ 348) . إن ما قدمناه في الجواب عن السؤال الأول يجري في الإجابة عن هذا السؤال على ما فصلنا له من الأقسام. إن ما جاء في تبرير الهجرة وأن خطر الانحراف بذريتهم عن الإسلام وارد في بلاد الإسلام وروده من غيرها من بلاد الكفر بل أشد، ما جاء من التبرير هو مغالطة غير مقبولة فالدولة التي تجبر رعاياها على التنكر للإسلام هي دولة غير إسلامية، وما هو موجود في البرامج التعليمية من توضيح لبعض المذاهب المادية أو الفلسفات الإلحادية ليس دعوة إليها وإنما هو ثقافات عامة قد يسيء بعض الأساتذة عند السكوت عن تهافتها وسقطها، وليس معنى ذلك أن أية دولة إسلامية تدعو إلى الإلحاح، على أني أؤكد هنا ما ورد في الجواب السابق أن البيئة لها أثرها الكبير في تكوين الطفل، فسماعة للأذان، وابتهاج الأمة بشهر رمضان، وبعيد الفطر، ووفود الحجاج إلى بيت الله الحرام، وعيد الأضحى، وما يلقاه من عادات إسلامية في مباشرة الحياة، ومن حرص على الطهارة، وابتداء بالسلام، وذكر اسم الله على لسان كثير من أهل الفضل، كل ذلك يجعل البيئة الإسلامية بيئات تختلف أساسًا عن البيئة في بلاد الكفر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1107 السؤال الثالث حكم زواج المسلمه بغير المسلم يقول تعالى {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فزوج المسلمة لا بد أن يكون مسلمًا، وقد أكد القرآن هذا التأكيد ليركز في نفوس المؤمنات والمؤمنين أن زواج المسلمة بغير المسلم باطل ومنكر سواء نظرت إليه من جانب الزوج أو من جانب الزوجة {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} نظير قوله تعالى {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} إيماء إلى قوة الاتصال والتلبس. أما الطمع في الإسلام فلا معنى للطمع في الأحكام إذ الأحكام تبنى على الواقع لا المتوقع إنما الحكمة التي يظهرها الفقهاء للأحكام تأليفًا للعقول بشرع الله هي التي يعتمد فيها الفقيه الواقع والمتوقع. والكفاءة المتحدث عنها جماعها قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة (فيض القدير: 1/ 243) . ويقول الإمام الشافعي: إذا أسلمت لامرأة أو ولدت على الإسلام أو اسلم أحد أبويها وهي صبية لم تبلغ حرم على كل مشرك كتابي ووثني نكاحها بكل حال، ولو كان أبواها مشركين فوصفت الإسلام وهي تعقل صفته منعتها من أن ينكحها مشرك (الأم: 5/ 5) . فيتبين مما قدمناه أنه يحرم زواج المسلمة بغير المسلم، ولا عذر يبرر ذلك، والنكاح لاغ غير معتبر شرعًا لو وقع فعلًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1108 السؤال الرابع حكم استمرار الزوجية إذا أسلمت الزوجة إذا أسلمت المرأة وبقي الزوج كافرًا فإنه يفرق بينهما ويمكن أن تعود الزوجية بينهما بدون عقد جديد إذا أسلم زوجها السابق قبل أن تخرج من عدتها، أما إذا أسلم بعد العدة فلابد من عقد جديد وما ذكر في السؤال من ضياع الأولاد والانحراف احتمالات لاغية تؤثر في الحكم نظير احتمال موت الزوج المسلم. السؤال الخامس حكم دفن المسلم بمقابر غير المسلمين الواجب الأول بعد تحقق الموت هو الغسل ثم الصلاة على الميت ثم دفنه فإذا مات بديار الإسلام دفن في مقابر المسلمين وإن كانت الهالكة حاملًا من زوج مسلم وهي غير مسلمة دفنت بين مقبرة المسلمين والنصارى ووجهها عكس القبلة ليكون جنينها متجهًا إلى القبلة، وإذا كانت الوفاة بأرض الكفر وتعذر نقله إلى بلاد الإسلام دفن حيثما تيسر وعلى المجموعات الإسلامية أن تتدارك هذه الناحية وتعمل على تخصيص جانب من المقبرة العامة لموتى المسلمين إذا لم يتيسر لها تخصيص المسلمين بمقبرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1109 السؤال السادس حكم بيع المسجد لانتقال الجالية الإسلامية ذكر صاحب المعيار نازلتين: الأولى: استفتي فيها الشيخ الحفار لما سئل عن رجل بنى مسجدًا لله في ملكه وحبس له أحباسًا من أرض وزيتون، ثم انتقل الناس عنها وبقي في ربضها القليل من الناس فهل لها أن تبدل إلى موقع آخر بالقرب من الديار الكثيرة؟ وكان جوابه: أن نقل المسجد المذكور عن محله لا يحل ولا يجوز لأن ذلك تغيير للحبس من غير موجب بل يصلي فيه من بقي منهم ولو رجل واحد والله حسيب من يسعى في تغييره (7/ 136) . الثانية: استفتي فيها ابن سراج لما سئل عن مسجد قرية خلت من السكان ولم يبق فيها للسكنى إلا داران غير أن القرية والمسجد في وسط العمران وعلى طريق تسللك على الدوام فقلما يخلو المسجد ممن يصلي وله حبس أضيف إلى حبس مسجد القرية القريبة منه التي هي عامرة وأصبح ينتفع به ومسجد القرية هو جيد البناء إلا أن بعضه يحتاج إلى الإصلاح وفيه مدة جيدة فهل يجوز هدمه واستخلاص أنقاضه وآلته ويبنى بذلك مسجد القرية العامرة لكون بعض أهل الموضع يرون ذلك خوفًا أن يبقى المسجد الذي بالقرية الخالية على ما هو عليه فتهدم آلته أم يؤخذ من فائدة أحباسه التي أضيفت لمسجد القرية العامرة ما يصلح به بناؤه ويبقى مسجدًا كما كان؟ على أن القرية الخالية لم يبق فيها أحد يسكن وهي منذ عشرين عامًا خالية وإنما بقي من الدارين اللتين بقيتا فيها بعض بنائهما بغير سكنى فكان جوابه: أنه إن كان المسجد المشار إليه في السؤال أعلاه يخاف من اجتماع أهل الشر والفساد فيه فيهدم ويستعان بنقضه في مسجد آخر وإن كان لا يخاف من ذلك فيه فيبنى ما تهدم منه من أوقاف التي نقلت لغيره من المساجد (7/ 154) . فالفتوى الأولى والثانية بينهما تكامل ذلك أن الفتوى الأولى عن مسجد في قرية لم تخل بتاتًا من السكان وإنما تحول معظم الناس عنها وبقي قليل فالباقي حقه ثابت في إقامة الصلاة بالمسجد ولا يحول المسجد عن مكانه، أما القضية الثانية فقد خلت القرية عن السكان تمامًا، وأن الدارين الباقيتين خاليتان من السكان ويخشى من بقائه في الخلاء وأن يتخذه أهل المنكر وكرًا للفساد فكان الجواب بهدمه ونقل نقضه. وفي صورة السؤال الوارد إن انقطع السكان المسلمون تمامًا من ذلك ولم يبق أي واحد منهم فيجوز بيع المسجد وتحويل أمواله لشراء أو توسيع أو ترميم مسجد آخر يؤمه المسلمون لأداء الصلاة جماعة وإن لم ينقطع المسلمون من تلك البلدة بل قالوا فلا يحل نقل المسجد ولا التفويت فيه، إذ هو يقوم بوظيفته وأما في الصورة الأولى فقد انقطع عن القيام بوظيفته وسيحتله قطعًا غير المسلمين إما للسكنى أو لغير ذلك. كما أني لا أجد وجهًا لصرف المال في أي وجه من وجوه الخير غير بناء أو ترميم مسجد آخر، لأن الذين ساهموا في تأسيس المسجد الأول إنما ساهموا في إقامة بيت من بيوت الله فلا يحول ما لهم إلى غير الجهة التي قصدوها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1110 السؤال السابع سفر المرأة بدون محرم من مقاصد الشريعة حفظ الأنساب وهو أصل من الأصول التي اتفقت عليها الشرائع ومما يكمل حفظ هذا الأصل ما جاء من الأمر بغض البصر وستر مواطن الفتنة، ومنع المرأة من السفر إلا مع ذي محرم يغار عليها ويحفظها، ولذا رأى مالك أن امرأة الأب لا تسافر مع ربيبها وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، فروى مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((لا تسافر المرأة ثلاثًا إلا ومعها ذو محرم)) وفي رواية ((مسيرة ثلاث ليال)) وفي رواية ((فوق ثلاث)) وفي رواية ((يومين)) وفي رواية ((يوم)) وفي أخرى ((ليلة)) وفي أخرى ((لا يخلو رجل بامرأة إلا معها ذو محرم)) . يقول القرطبي: ليس هذا اختلافًا في الحديث ولكن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكرر سؤاله عن السفر كل مرة بظرف فكان يجيب السائل حسب سؤاله. ويقول الأبي: الفقه جمع أحاديث الباب وحق الناظر أن يستحضر جميعها وينظر أخصها وينيط به الحكم وأخصها باعتبار ترتيب الحكم عليه يوم لأنه إذا امتنع فيه امتنع فيما هوأكثر ثم أخص من يوم وصف السفر المذكور في جميعها فيمتنع في أقل ما يصدق عليه اسم سفر، ثم أخص من السفر الخلوة. هذا في السفر غير الواجب وأما في السفر الواجب فرأى مالك والشافعي أن لها أن تخرج مع رفقة مأمونة، يشترط الشافعي وجدود امرأة تقية مع الرجال، واختلف تأويل قول مالك واستند مالك والشافعي إلى الآية {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} واستأنسا بأن المرأة إذا أسلمت هاجرت من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام ولو بدون محرم ولا رفقة. وقال الباجي: إن هذه الأحكام هي في الانفراد والعدد القليل، وأما القوافل العظيمة فهي عندنا كالبلاد تسافر فيها دون فساد ودون محرم. وقال آخرون: هذا التفصيل يعني من اشتراط المحرمية أو الرفقة المأمونة هو في الشابة: أما العجوز التي لا أرب لرجل فيها فلها أن تسافر وحدها. (الأبي: 3/ 436، الزرقاني على الموطأ: 4/ 213) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1111 ما نقلته عن العلماء يدل على أن الاختلاف بينهم في غير الحج هو على ثلاثة أنحاء: 1- لا تسافر إلا مع محرم. 2- تسافر مع القوافل العظيمة المأمونة. 3- الشابة لا تسافر إلا مع محرم والعجوز تسافر وحدها. والذي أطمئن إليه حسبما ينشر في الصحف من انتشار حوادث الاغتصاب التي بلغت حدًا مفزعًا وتسلط الاغتصاب حتى على العجائز أنه لا تسافر المرأة إلا مع محرم يصونها ويحميها وأن التساهل في سفرها بدون رعاية محرمية قد تسببت عنه فضائح معلنة ومناكير وإن سترت على الأسماع وحفظت من القالة وإلا أنه دنس عنه الشرف واختلط النسب وقد يكون وضع المرأة في ظرف محدود ملجئًا لها إلى السفر فهي جزئية يعود فيها السائل أو السائلة بعينه ليعرضها على الفقيه الذي ينظر في كل الملابسات ويحدد الحكم حسب ظهور الضرورة وحدها ولا يصح إعطاء فتوى عامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1112 السؤال الثامن لا يجوز للمرأة المسلمة أن تقيم مع نسوة غير مسلمات بعيدة عن بلد الإسلام. السؤال التاسع لا خلاف بين العلماء أن عورة المرأة مع غير المحرم من الرجال جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها لما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((يا أسماء، إن المرأة إذا بلغة المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه)) (مختصر المنذري6/ 58) . إلا أن ما ورد في السؤال من أن بعض الجهات تمنعهن من ستر ما أمر الله بستره، فالسؤال مجمل ولا تتسنى الإجابة عنه إلا إذا بين المواطن التي تؤمر بكشفها وما تتعرض له إذا لم تكشف وما هو موقف الجماعة الإسلامية من ذلك. السؤال العاشر يقول في البحر الرائق شارحًا لقول الكنز: وحمل خمر لذمي بأجرة يعني جاز ذلك، وهذا عند الإمام وقال يكره لأنه عليه الصلاة والسلام لعن في الخمرعشرة وعد منها حاملها وله الإدارة على الحمل وهو ليس معصية وإنما المعصية بفعل فاعل مختار فصار كمن استأجره لعصر خمر العنب وقطفه، والحديث يحمل على الحمل المقرون بقصد المعصية، وعلى هذا الخلاف إذا آجر دابته ليحمل عليها الخمر أو نفسه ليرعى الخنازير فإنه يطلب له الأجر عنده وعندهما يكره، وفي التتارخانية وإن آجر المسلم نفسه ليعمل في الكنيسة فلا بأس به (البحر: 8/ 231) ، قال في النهاية: وقول الإمام قياس وقولهما استحسان (ابن عابدين: 5/ 251) . وبناء على أن فرص العمل المحدودة بالنسبة للمسلمين في بلاد الكفر ولما كان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه يبني على اصل القياس القول بجواز ذلك فإنه يفتى به ويعتمد، ولا أثم على العامل في مطعم يقدم فيه الخمر لغير المسلمين أما إذا كان أحد حرفاء المطعم مسلمًا وطلب أن يقدم له مع طعامه خمرًا أو لحم خنزير، فإنه يحرم على النادل أن يقوم بذلك. وإذا جهل دين الحريف يحمل على أنه غير مسلم لأنه الغالب ومع الجهل يحمل على الغالب في كل شيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1113 السؤال الحادي عشر حكم التجارة في الخمر أو صناعته حكم تجارة الخمر أو صناعتها لا شك في حرمتها وأن صاحبها ملعون ولو كان ذلك لغير المسلمين وما اتخذه بعض المسلمين حرفة لهم في بلاد الكفر لا يحل ما حرمه الله وفي الحلال سعة، مع أن علمي أنه حتى في بلاد الكفر تكونت جمعيات تحارب الخمور والتزم أصحابها أن لا يقدموا في مطاعمهم خمرًا وتحصلوا من الدولة على إعفاءات تعوض لهم بعض الخسارة وهم حماية للأخلاق تنازلوا عما يوفره لهم بيع الخمر من ربح مع أن دينهم لا يمنعهم من تناولها وترويجها، فكيف يليق بالمسلم الذي حرم الله عليه ملابسة الخمر أن يصبح مروجًا لها، وإن جرت له منفعة مالية {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} . السؤال الثاني عشر الأدوية المحتوية على نسبة من الكحول ينظر فيها من ناحيتين: 1- الإسكار. 2- النجاسة أما القسم الأول: فإن هذه الأدوية المحتوية على نسب من الكحول هي أدوية تفاعل فيها عنصر الكحول مع بقية العناصر من العقاقير وذهبت كل خصائص الكحول ولا يتخذ أي دواء للسكر. ومن ناحية أخرى، فإن المسكر هو المطرب الذي يندفع به شاربه إلى ارتكاب الفواحش ويتكون منه نوع من الإقدام وارتفاع الحياة ما لا يجده عندما يكون صاحيا وهذه الأدوية لا يتكون منها ذلك بل على العكس هي توجب أضعاف التهيج والتشنجات. وقد ذكر القرافي في الفرق الأربعين ما ملخصه: فالمسكر هو المغيب للعقل مع نشوة وسرور ويدلك على ضابط المسكر قول الشاعر: ونشربها فتتركنا ملوكًا وأسدًا ما ينهنهنا اللقاء فالمسكر يزيد في الشجاعة والمسرة وقوة النفس والميل إلى البطش والانتقال من الأعداء والمناسبة في العطاء أخلاق الكرماء. ثم عقد تنبيهًا قال فيه ما ملخصه: تنفرد المسكرات عن المرقدات بثلاثة أحكام الحد والتنجس وتحريم اليسير، والمرقدات والمفسدات لا حد فيها ولا نجاسة فمن صلى بالبنج معه أو الأفيون لم تبطل صلاته إجماعًا، ويجوز تناول اليسير منها لا لم يصل إلى حد التأثير في العقل أو الحواس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1114 وتناول الأدوية المختلطة بالكحول هو من النوع المرقد لا المسكر المحدث للنشوة ولا المفسد المثير للأخلاط الكامنة على أن الحنفية يرون عدم الحرمة أصلًا ولو خلط الخل بالخمر وصار حامضًا يحل وأن غلب الخمر وإذا دخل فيه بعض الحموضية لا يصير خلًا عنده حتى تذهب تمام المرارة وعندها يصير خلالً (5/ 295) . أما القسم الثاني: وهو نجاسة الدواء بحلول الكحول فيه، فالمسألة مختلف فيها يقول ابن عباس، (5/ 291) : عبارة صاحب الهداية في باب الأنجاس: وفي باقي الأشربة روايات التغليظ والتخفيف والطهارة، اهـ، وذهب إلى طهارتها ربيعة والليث والمزني وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة وقصروا الحرمة على شربها (الجامع لأحكام القرآن: 6/ 299) . السؤال الثالث عشر الخمائر الجلاتين على نوعين حيوانية ونباتية، فالنباتية جائزة بلا خلاف، وأما الجلاتين الحيواني فبعضه مستخرج من تحت جلد الخنزير وهذا لا خلاف في نجاسته وحرمة أكله ولا ضرورة تدعو للانتفاع به لإمكان الاستغناء عنه بالجلاتين النباتي أو الجلاتين الحيواني المستخرج من البقر. السؤال الرابع عشر يقول الله تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} فهذا هو القصد من بناء المسجد واختلف في تدريس العربية والشعر بها وكذلك اتخاذ القاضي مجلسه بها، يقول ابن عاصم: وحيث لاق للقضاء يقعد وفي البلاد يستحب المسجد وعللوا ذلك بأن المسجد لا يعترض على داخله فيصل إليه كل الناس. وذكر الشيخ المهدي في خاتمة بحثه لجلوس القاضي في المسجد نقلًا عن ميارة، واعتبار حال الوقت يرجح ترك جلوسه اليوم بالمسجد، وإذا قال ابن عبد السلام: والأقرب من زماننا اليوم الكراهة وسلمه المصنف في التوضيح فكيف بزماننا هذا؟ ولذا قال أبو علي بعد أن صرح بأن المشهور ما عند المصنف الجلوس به ما نصه: هذا تحرير الكلام من جهة النقل وأما من جهة المعنى فما قاله ابن عبد السلام والمصنف من أن الكراهة باعتبار وقت لا إشكال في أصله ولا يتوقف فيه إلا من لم ينصف أو من لم يطلع على ما يقع في المساجد في هذه الأزمنة التي هي بعد أزمنة ابن عبد السلام بكثير، وأما الكلام في تحريم القضاء في المسجد في هذه الأوقات والذي أتقلده وإن كنت لست أهلًا لأن أقلد هو التحريم لأن الأحكام تتغير بحسب ما يعرض لها وإن وردت عن الشارح وقد أشار علي الأجهوري لبعض هذا، وهذا الذي ذكرنا تلقيناه من أشياخنا غير ما مرة (ج أكراس 15 ص 3 و 4) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1115 وقد ختم الترمذي البيوع بباب النهي عن البيع في المسجد وروى فيه حديثًا حسنًا عن أبي هريرة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم من يبيع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيها الضالة فقولوا: لا رد الله عليه)) علق عليه ابن العربي: اختلف فيه العلماء فمنهم من كرهه، ومنهم من رخص فيه، وقوله تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} يعني عما لا يجوز فأما المباح فيجوز منه اليسير، أما النكاح فيه فجائز، وقد عقد صلى الله عليه وسلم في الموهوبة نصًا وذلك لأنه قربة ولأنه أيضًا نادر، والله أعلم (6/ 62) . وقد ذكر القرطبي في تفسير سورة النور من الجامع أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع صوت رجل في المسجد فقال: ما هذا الصوت؟ أتدري أين أنت؟ ثم قال: وقد كره بعض أصحابنا تعليم الصبيان في المساجد، ورأى أنه من باب البيع، وهذا إذا كان بأجرة فلو كان بغير أجرة لمنع أيضًا من وجه آخر، وهو أن الصبيان لا يتحرزون من الأقذار والوسخ. وبهذا يتضح أن إقامة الحفلات في المساجد مع الرقص والإنشاد حرام ولا ضرورة لإقامة مثل ذلك إذ إن أمره صلى الله عليه وسلم بإعلان الزواج وإطعام بعض الناس لا يبلغ درجة الرقص والغناء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1116 السؤال الخامس عشر أمر صلى الله عليه وسلم الوالد بأن يحسن تسمية ابنه، والأسماء الممنوعة هي الأسماء الدالة على شرك، فلا يجوز أن يسمي ابنه الله أو الواحد القهار، ولذا فإن اضطر الأب لتسمية ابنه من قائمة لا شرك فيها جائز، ولكن الذي شاهدته في الصين أن المولود يحمل اسمين اسمًا إداريًا على الطريقة الصينية، واسمًا عائليًا إسلاميًا تناديه به عائلته: محمد، علي، صالح، إلخ. السؤال السادس عشر جاء في السؤال حكم زواج الطالب أو الطالبة، والحكم لا يختص بالطالب أو الطالبة، إذ الزواج ينعقد إذا ما توفرت أركانه من الزوج والزوجة والصيغة والمهر والولي، والشهود على خلاف بين العلماء في بعض هذه الأركان. ونية الزوج عند العقد أنه سيطلق زوجته بعد مدة إذا قدرها في نفسه ولم يبح لها ولم يقع عليها العقد، إن هذه النية غير مؤثرة كنية الزوج طلاق زوجته ولم يصرح ذلك فالعصمة قائمة. ثم إن هذه النية كثيرًا ما ينفيها الزوج ذاته إذ يجد من زوجته ما يغريه بالحياة معها وكثيرًا ما ينجبان فيكون الولد عامل استقرار. ونكاح المتعة المنهي عنه هو نكاح ينفسخ عند حلول الأجل من ذاته فهو من تاريخ العقد مبني على الاستمتاع المحدود الأجل فإذا جاء الأجل ذهب كل في سبيل حاله ولا يحتاج إلى طلاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1117 السؤال الثامن عشر عجبت من هذا السؤال، الحرج من عدم مد الأنثى يدها لمصافحة الأجانب عنها، الحرج من امتناع الرجل من مصافحة المرأة التي تمد يدها إليه كان مصدر عجبي تعميم كلمة الحرج في كل مناسبة وفي كل أمر فيه تراخٍ خلقي الحرج له مفهوم في الإسلام وهو كل ما أوقع المسلم في ضيق حقيقي لا وهمي يجد صعوبة زائدة على المعتاد ومشقة من تحمله، وهذا قد نفاه الله عن المسلمين فقال تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . أما مجرد الصعوبة والمشقة فهو أمر مقارن للتشريع، والتكليف ما أطلق حقيقة إلا على ما فيه كلفة، ولذلك وقع البحث في إدخال المباح في الأحكام التكليفية. واتقاء الشبهات أصل من أصول تكوين الفرد المسلم ((فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) . لقد اتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الشبهة وهي مصافحة النساء فروى في الصحيح عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما مست يده يد امرأة قط)) وروي ((أنه بايعهن بين يديه وأيديهن في ثوب)) . وقالت أم عطية ((: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب فقام على الباب فسلم فرددن عليه السلام فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن: ألا تشركن بالله شيئًا. فقلن: نعم، فمد يده من خارج البيت ومددن أيدينا من داخل البيت)) . (القرطبي: 6550) . إن هذه الأحاديث لا خلاف بينها وإن لم يقبل منها ابن العربي إلا ما ورد في الصحيح لأنها تؤكد على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تمس يده يد امرأة ولم يباشر ذلك. وأن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يمس هو يد امرأة معروفة بعينها وإنما كانت النساء خلف الستر والمبايعة مختلطة تنفي الريبة. وما ورد من إطلاق في بيعة الصفا يحمل على المقيد الوارد فيه أن المبايعة كانت بحائل أو من وراء ستر. وبناء على ما قدمناه فإن الذي نطمئن إليه أن المرأة لا تصافح أجنبيًا غير محرم ولا زوج، وأن الرجل لا يصافح امرأة أجنبية عنه، وقد رأيت في البلاد الشيوعية أن المرأة المسلمة لا تمد يدها لأي رجل أجنبي وتشير بابتسامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1118 السؤال التاسع عشر الصلاة في الكنائس إذا كانت على طاهر أو الأرض فالصلاة جائزة لقوله صلى الله عليه وسلم ((جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا)) فعم إذ لا دليل على التخصيص، والتماثيل لا تبطل الصلاة وإنما أمرها أنها ربما تشغل عن الصلاة فليصرف بصره عنها كما لا يتعمد التوجه إليها بل ينحرف قليلًا. السؤال العشرون طعام أهل الكتاب أنواع: 1- الطعام الذي لم يدخل اللحم في تركيبه، وهذا جائز أكله وهو الوجه الأول من الأوجه التي حملت عليها الآية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} . يقول ابن العربي: في ذكر الطعام قولان: أحدهما: أنه كل مطعوم على ما يقتضيه مطلق اللفظ وظاهر الاشتقاق، كان حالهم ألا يؤكل طعامهم لقلة احتراسهم عن النجاسات ولكن الشرع سمح بذلك لأنهم أيضًا يتوقون القاذورات ولهم في دينهم مروءة يوطونها، ألا ترى أن المجوس الذين لا تؤكل ذبائحهم لا يؤكل طعامهم ويستقدزرون ويستنجسون في أوانيهم. 2- الطعام الذي دخل اللحم في التركيبة، وهذا أيضًا على نوعين: (أ) ما ذبح أو نحر على الطريقة الشرعية وسمي الله عليه فهذا يؤكل. (ب) اللحم الذي لم يجمع شروط الذبح الشرعي كما لم يسم الذابح عليه اسم الله، يقول ابن العربي: قال جماعة من العلماء: تؤكل ذبائحهم وإن ذكروا عليها اسم غير المسيح، وهي مسألة حسنة نذكر لكم منها قولًا بديعًا، وذلك أن الله سبحانه حرم ما لم يسم الله عليه من الذبائح وأذن في طعام أهل الكتاب وهم يقولون: إن الله هو المسيح ابن مريم وأنه ثالث ثلاثة، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، فإن لم يذكروا اسم الله سبحانه أُكِلَ طعامهم، وإن ذكروا فقد علم ربك ما ذكروا وأنه غير الإله وقد سمح فيه فلا ينبغي أن يخالف أمر الله ولا يقبل عليه، ولا تضرب الأمثال له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1119 وقد قلت لشيخنا المقدسي: إنهم يذكرون غير الله قال لي: هم من آبائهم، وقد جعلهم الله تبعًا لمن قبلهم مع علمه بحالهم، وكالقتل لا على الطريقة الشرعية وقد رأى ابن العربي جوازه أيضًا، يقول الحطاب: واختلف المذهب إذا كان يسل عنق الدجاجة فالمشهور لا تؤكل وأجاز ابن العربي أكلها ولو رأيناه يسل عنقها لأنه من طعامهم، قال ابن عبد السلام: وهو يعمد ويحث معه (ابن عرفة: 3/ 213) . ومثله لابن ناجي في شرح الرسالة وقد انتصر لابن العربي اعتمادًا على قوله لأن الله لما أباح أكل طعامهم فهو عالم بطريقة إزهاق روح ما يأكلونه من الحيوان (ابن ناجي 1/ 337) . السؤال الواحد والعشرون حكم حضور الحفلات التي تختلط فيها النساء بالرجال وتقدم الخمور حرام وإن كان في ذلك اعتزال المسلمين، والواجب أن يكونوا بعيدين عن هذه التجمعات وقد بين الفقهاء حكم إجابة الدعوة وأنها تكون حرامًا إذا كان مما يقع فيها حرامًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1120 السؤال الثاني والعشرون أوقات الصلاة في بعض البلدان التي لا تتبين فيها الأوقات ذكر ابن عابدين أن في ذلك ثلاثة أنظار: 1- أن الصلاة التي فقد وقتها تسقط عن المكلف باعتبار أن السبب ما يلزم من أجل وجوده الوجود ومن أجل عدمه العدم بالنظر لذاته وأوقات الصلوات أسباب الوجود فإذا لم يدخل الوقت يسقط الوجوب. 2- أن يقدر وقت دخول الصلاة على قرب البلدان إليهم ويكون أداء فينوي الأداء. 3- أن يقدر الوقت حسب أقرب البلاد إليهم وينوي القضاء لفوات الوقت بطلوع الفجر، (انظر رد المحتار: 1/ 242- 243) . وما يرجع عدم سقوط الصلاة الحديث الذي أخرجه مسلم عن النواس بن سمعان والذي جاء فيه: ((قلنا يا رسول الله، وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يومًا يوم كسنة ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم، قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا اقدروا له قدرة)) (إكمال الإكمال: 7/ 269- 270) . كما أنه لا يستبعد بناء على الحديث الذي رواه مالك في موطئه، عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بين هذين وقت)) أن يكون وقت المدينة مرجعًا لمن تداخل عندهم الوقت، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1121 السؤال الثالث والعشرون الذي أعتقده حسبما هو مفصل في البحث الذي قدمته لمجمع الفقه الإسلامي أن دخول الشهور هو من الوقت الذي يمكن فيه رؤية الهلال وهذا الوقت قد يستند إلى الرؤية البصرية مع ما يصحب الرؤية البصرية من وهم وخداع نظر وإمكان كذب المخبر، وقد يستند إمكان رؤية الهلال إلى الحساب، وقد بلغ من الدقة في عصرنا هذا مبلغ اليقين وإذا كانت الرؤية البصرية ظنية والرؤية الحسابية يقينية فإن من القواعد تقديم اليقين على الظن إلا أن الحساب يجب أن يدقق لا على وقت ميلاد الهلال وإنما على وقت إمكان رؤيته. السؤال الرابع والعشرون حكم عمل المسلم في الدوائر الحكومية في البلدان المسلمة قد اختلفت فيه أقوال العلماء: فذهب ابن رشد إلى أن إجارة المسلم نفسه من الكافر على أربعة أنواع: جائزة: أن يعمل المسلم عملًا في محله لا في محل الكافر كالصانع الذي يعمل للناس في مصنعه. ومكروهة: أن يكون العمل كله للمؤجر، ولكنه ليس تحت يده كالمقارض والمساقي. ومحظور: ما كان تحت يد الكافر كأجير في بيت وإجارة المرأة نفسها المرضع ولده. والحرام: أن يؤاجر منه نفسه فما لا يحل من عمل الخمر ورعي الخنازير وهذا يفسخ فإن فات تصدق بالأجرة على المساكين (الحطاب: 3/ 419) . وفي المهذب أن من الشافعية من قال: لو استأجر الكافر مسلمًا ففيه قولان: ومنهم من قال: يصح قولًا واحدا (التحفة بحاشية الشرواني: 6/ 122) . وبهذا فإن عمل المسلم في الحقل الإداري غير الإسلامي قد تبين حكمه في أعلاه ونزيد هنا بيانًا لبعض الخصوصيات: أن العمل في الدوائر الاستراتيجية أو الذرية إن كان الغرض من ذلك مجرد التحصيل على القوت بواسطة الشغل فإن العمل في هذه الدوائر لا يجوز لأن فيه عونا على تخريب العالم وتهديد أمنه، وإن كان الغرض منه اكتساب الخبرات ليستفيد منها العالم الإسلامي في يوم من الأيام فهي جائزة بل مأجور صاحبها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1122 أجوبة فضيلة الشيخ محيي الدين قادي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على أفضاله وأهل الصلاة والسلام سيدنا محمد وصحبه وآله. السؤال الثالث (1) ما حكم زواج المسلمة بغير المسلم، خاصة إذا طمعت في إسلامه بعد الزواج حيث تدعي مسلمات كثيرات أنه لا يتوفر لهن الأكفاء من المسلمين في غالب الأحيان إذ إنهن مهددات بالانحراف، أو يعشن في وضع شديد الحرج؟ وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد بأن زواج المسلمة بغير المسلم محظور لا يجوز بحال من الأحوال عند فقهاء الإسلام. جاء في المذهب الحنفي أن زواج المسلمة بغير المسلم لا يجوز لقوله تعالى {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} لأن في إنكاح المؤمنة الكافر خوف وقوع في الكفر؛ لأن الزوج يدعوها إلى دينه، والنساء في العادات يتبعن الرجال فيما يؤثرون من الأفعال ويقلدنهم في الدين. وقد أشار القرآن إلى ذلك في آخر الآية الكريمة السالفة الذكر بقوله تعالى {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} لأنهن يدعون المؤمنات إلى الكفر، والدعاء إلى الكفر دعاء إلى النار، لأن الكفر يوجب النار فكان نكاح الكافر المسلمة سببًا داعيًا إلى الحرام فكان حرامًا. والنص وإن ورد في المشركين لكن العلة وهي الدعاء إلى النار تعم الكفرة أجمعين، فيعم الحكم بعموم العلة، فلا يجوز إنكاح المسلمة الكتابي كما لا يجوز إنكاحها الوثني والمجوسي، لأن الشرع قطع ولاية الكافرين عن المؤمنين بقوله تعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} فلو جاز إنكاح الكافر المؤمنة لثبت له عليها سبيل وهذا لا يجوز (2) وجاء في المذهب المالكي أن زواج المسلمة بغير المسلم لا يجوز البتة وقد أخذ ابن القاسم الحكم بعدم زواج المسلمة من غير المسلم من قول مالك في ذمي اشترى أمة مسلمة ووطئها: أن يقدم إلى أهل الذمة في ذلك أشد التقدم ويعاقبوا على ذلك ويضربوا بعد التقدم (3) فإذا كان هذا في وطء الكافر الأمة المسلمة فمن باب أولى نكاحه الحرة المسلمة عند مالك.   (1) اعتذر كاتب البحث عن الجواب على السؤالين الأول والثاني (2) الكاساني، البدائع: 2/ 271 – 272 بتصرف (3) سحنون، المدونة: 2/ 297 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1123 وقد أورد سحنون فيها عدة آثار مع الصحابة والتابعين تمنع زواج المسلمة بغير المسلم بكل وضوح، وها هي ذي تلكم الآثار: 1- روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه كتب يقول: إن المسلم ينكح النصرانية، ولا ينكح النصراني المسلمة. 2- وروي عن الإمام علي كرم الله وجهه أنه قال: لا ينكح اليهودي المسلمة ولا النصراني المسلمة. 3- وروي عن ربيعة شيخ مالك بن أنس وأحد فقهاء التابعين أنه قال: لا يجوز للنصراني أن ينكح الحرة المسلمة. وعنه أيضًا أنه قال في نصراني أنكحه قوم، وهو يخبرهم أنه مسلم فلما خشي أن يطلع عليه أسلم وقد بنى بها. قال: يفرق بينهما وإن رضي أهل المرأة؛ لأن نكاحه كان لا يحل، وكان لها الصداق ثم إن رجع إلى الكفر بعد إسلامه ضربت عنقه. 4- روي عن مخرمة بن بكير عن أبيه قال: سمعت عبد الله بن أبي سلمة يسأل: هل يصح للمسلمة أن تنكح النصراني؟ قال: لا. قال بكيري: وقال ذلك قسيط والقاسم بن محمد،قال: ولا يهودي، وسليمان بن يسار وأبو سلمة بن عبد الرحمن، قالوا: فإن فعل ذلك فرق بينهما السلطان (1) وهكذا في المذهبين: الشافعي والحنبلي قال في المغني: والإجماع منعقد على تحريم تزوج المسلمات للكفار (2)   (1) المدونة: 296- 298 بتصرف (2) ابن قدامة: المغني: 6/ 617 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1124 والإجماع كما قال سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور –رحمه الله- إما مستند إلى دليل تلقاء الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر بينهم، وإما مستند إلى تضافر الأدلة الشرعية كقوله تعالى {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فعلق النهي عن الكفر وهو أعلم من الشرك وكقوله تعالى {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} في الآية الآنفة الذكر، والإشارة إلى المشركين والمشركات إلا لا وجه لتخصيصه بالمشركين خاصة لصلوحيته للعود إلى الجميع، وهي تعليل للنهي عن نكاح المشركات، وإنكاح المشركين، والدعاء إلى النار معناه الدعاء إلى أسباب الدخول إلى النار لأن ما هم عليه يجر إلى النار من غير علم. ولما كانت رابطة الزواج رابطة اتصال ومعاشرة نهي عن وقوعها ممن يدعون إلى النار خشية أن تؤثر تلك الدعوة في النفس فإن بين الزوجين مودة وإلفا يبعثان على إرضاء أشدهما للآخر، ولما كانت هذه الدعوة من المشركين شديدة لأنهم لا يوحدون الله، ولا يؤمنون بالرسل كان البون بينهم وبين المسلمين في الدين بعيدًا جدًا، لا يجمعهم شيء يتفقون عليه فلم يبح الله مخالطتهم بالتزوج من كلا الجانبين. أما أهل الكتاب فيجمع بينهم وبين المسلمين اعتقاد وجود الله، وانفراده بالخلق والإيمان بالأنبياء، ويفرق بيننا وبين النصارى الاعتقاد ببنوة عيسى من طرفهم وعدم اعتقادنا ذلك، وإيماننا برسالة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وعدم إيمانهم بذلك، ويفرق بيننا وبين اليهود عدم إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وعدم تصديقهم بنبوة عيسى عليه السلام فأباح الله للمسلم أن يتزوج الكتابية، ولم يبح تزويج المسلمة من الكتابي اعتدادًا بقوة تأثير الرجل على امرأته فالمسلم يؤمن بأنبياء الكتابية، وبصحة دينها قبل النسخ فيوشك أن يكون ذلك جالبًا إياه إلى الإسلام لأنها أضعف منه جانبًا. وأما الكافر فهو لا يؤمن بدين المسلمة ولا برسولها فيوشك أن يجرها إلى دينه لذلك السبب، وهذا كان يجيب به شيخنا الأستاذ سالم أبو حاجب عن وجه إباحة تزوج المسلم الكتابية ومنع تزوج الكتابي المسلمة (1)   (1) سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير: 2/ 342 – 343 بتصرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1125 وما سقناه من نصوص عن فقهاء المذاهب الإسلامية يتضح منع زواج المسلمة بغير المسلم دل على ذلك: 1- ظواهر القرآن الكريم كقوله تعالى {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية، وكقوله جل جلاله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} . 2- ظواهر من الآثار عن الصحابة والتابعين – رضوان الله عليهم أجمعين. 3- القياس كما جاء فيما نقلناه عن سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور – رحمه الله- ولعله يعني قياس الكتابي على المشرك في حرمة تزوج المسلمة به. 4- إجماع فقهاء الإسلام من لدن انتقاله صلوات الله وسلامه عليه إلى الرفيق الأعلى إلى يوم الناس هذا، وهو أظهر الأدلة وأقواها، إما الاستناد إلى تضافر الأدلة الشرعية، وإما إلى دليل تلقاه الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر بينهم إذ الاجتماع لا يحصل إلا بذلك. 5- ما يمكن أن نسميه بالدليل العقلي، والذي نقله سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور عن شيخه الأستاذ سالم أبي حاجب رحمهما الله. وانطلاقًا من كل ذلك نجيب بعدم حلية زواج المسلمة بغير المسلم ولو رجت إسلامه بعد الزواج. وأما دعوى مسلمات كثيرات عدم توفر الأكفاء من المسلمين في غالب الأحيان وتوافر الأكفاء في غيرهم فمردودة إذ لا كفاءة بحال من الأحوال بين مسلمة وكافر ولو أعجبها لما سقناه من الأدلة السابقة، ولأن الكفاءة قائمة بالقرآن والسنة بين المسلمين والمسلمات، وليعلم هؤلاء النسبة أن مسلمًا ذا دين خير من كافر ولو أعجبهن قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} والأخوة تقتضي المساواة بين الإخوة ما لم يقم مانع شرعي يمنعها، وقال تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وقال تعالى {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1126 وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، وإلا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) ، قالوا: وإن كان فيه؟ (أي فقر وقلة مثلًا) فقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاءكم من ترضون)) الحديث ثلاث مرات (1) وقال صلى الله عليه وسلم ((إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي إن أوليائي المتقون حيث كانوا وأين كانوا)) (2) وزوج النبي زينب بنت جحش من زيد بن حارثة مولاه (3) وقد قال تعالى {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} إذن فالكافر في الدين بهذا المفهوم أعني الطاعة والإدعاء لأوامر الله، واجتناب لنواهيه سرًا وعلانية مجمع عليها بين فقهاء الإسلام أيضًا. وقول هؤلاء النسوة: إنهن إن لم يتزوجن بأكفاء غير مسلمين يتعرضن إلى الانحراف أو يعشن في وضع حرج هو من نزغ الشيطان ومن رواسب الجاهلية، فعليهن أن يبرأن إلى الله من خواطر ولَّدَهَا الهوى ورباها الكبرياء وأن يدرسنَّ بإمعان سيرة النساء الصحابيات، وأن يتزودن لحسن الأسوة بما ثبت عن الله ورسوله في النسوة حتى يكنَّ على بصيرة من الأمر والله الموفق للجميع.   (1) ابن تيمية الجد، منتقى الأخبار مع نيل الأوطار، كتاب النكاح، باب ما جاء في الكفاءة في النكاح، 6/ 261 (2) ابن قيم الجوزية: زاد المعاد في هدي خير العباد، حكمه صلى الله عليه وسلم في الكفاءة في النكاح: 4/ 22 (3) زاد المعاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1127 السؤال الرابع ما حكم استمرار الزوجية والمعاشرة بين زوجة دخلت الإسلام وبقي زوجها على الكفر، ولها منه أولاد تخشى عليهم الضياع والانحراف، ولها طمع في أن يهتدي زوجها إلى الإسلام لو استمرت العلاقة الزوجية بينها وبينه؟ وما الحكم فيما إذا لم يكن هناك طمع في إسلامه، ولكنه يحسن معاشرتها وتخشى لو تركته ألا تعثر على زوج مسلم؟ وفي الجواب على هذا السؤال، والله الموفق للصواب، أقول: إذا أسلمت الزوجة، وبقي زوجها على الكفر فلا يخلو الحال من أمرين: 1- أن تسلم قبل البناء فلم يقر على زوجيتها لبينونتها بمجرد إسلامها قال خليل بن إسحاق المالكي: "وقبل البناء بانت مكانها" (1) 2- وأما إن أسلمت الزوجة بعد البناء: فلا فرق بين أن تكون مجوسية أو كتابية (أي يهودية أو نصرانية) فقد قال إمام دار الهجرة رضي الله عنه "الزوج أملك بالمرأة إذا أسلم وهي في عدتها، فإن انقضت عدتها فلا سبيل له عليها" (2) . ولا تقبل دعواه الإسلام قبل انقضاء العدة إلا ببينة (3) . وإن بانت منه بانقضاء عدتها فهل بينونتها طلاق أو فسخ؟ سئل مالك رضي الله عنه عن ذلك فقال: "لا يكون إسلام أحد الزوجين طلاقًا إنما هو فسخ بلا طلاق" (4)   (1) المختصر: 113 (2) سحنون، المدونة: 2/ 298 (3) النفراوي، الفواكه الدواني: 2/ 80: 3/ 156 (4) سحنون، المدونة: 2/ 298 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1128 والأدلة على ما ذكر معرفة في هدي خير العباد صلى الله عليه وسلم مستفيضة منها: ما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب أنه بلغه، أن نساء كن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرضهن وهن غير مهاجرات وأزواجهن حين أسلمن كفار، منهن بنت الوليد بن المغيرة، وكانت تحت صفوان بن أمية فأسلمت يوم الفتح وهرب زوجها صفوان بن أمية من الإسلام، إلى أن قال: فشهد حنينًا والطائف وهو كافر وامرأته مسلمة، ولم يفرق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بينه وبين امرأته حتى أسلم صفوان واستقرت عنه امرأته بذلك النكاح (1) والمدة التي كانت بين إسلام صفوان بن أمية وبين إسلام زوجته عاتكة نحوا من شهرين وروى مالك رحمه الله في الموطأ عن ابن شهاب أنه قال: "كان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحوا من شهرين، قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله ورسوله وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجرًا قبل أن تنقضي عدتها" (2) والمراد بعدم التفرقة بين صفوان بن أمية وزوجته أن نكاحهما لم يفسخ من لدنه صلى الله عليه وسلم وأما التفرقة بأن لا يجامعها فهي متيقنة وأن يذكر الراوي كما قال الباجي (3) والمدة قدرت في هذا الحديث بنحو الشهرين وجاء في المدونة أن مالكًا قال: قال ابن شهاب: كان بين إسلام امرأة صفوان وبين إسلام صفوان نحوا من شهر (4) ومنها ما رواه مالك أيضًا عن ابن شهاب: "أن أم حكيم بنت الحراث بن هشام وكانت تحت عكرمة بن أبي جهل فأسلمت يوم الفتح، وهرب زوجها عكرمة بن أبي جهل من الإسلام حتى قدم اليمن، فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن، فدعته إلى الإسلام فأسلم، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحًا، وما عليه رداء حتى بايعه فثبتا على نكاحهما ذلك" (5) والحديثان مرسلان.   (1) كتاب النكاح: نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله (2) كتاب النكاح: نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله: 3/ 157 مع شرح الزرقاني (3) المنتقى: 3/ 343 (4) المنتقى: 2/ 299 (5) الموطأ، كتاب النكاح، نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله: 3/ 157 - 158 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1129 قال الباجي: "ومراسيل ابن شهاب لا يحتج بها غير أن هاتين القصتين: قصة صفوان بن أمية، وقصة عكرمة قد شهرتا وتواتر خبرهما فكان ذلك يقوم لهما مقام الإسناد المتصل" (1) ومن الأدلة أيضًا ما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينت على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول لم يحدث شيئًا" رواه أحمد وأبو داود وفي لفظ: رد ابنته زينب على أبي العاص زوجها بنكاحها الأول بعد سنتين ولم يحدث صداقًا" وكان إسلامها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول، ولم يحدث شهادة ولا صداقًا" رواه أحمد وأبو داود، وكذلك الترمذي وقال فيه: ((لم يحدث نكاحًا)) وقال: هذا حديث ليس بإسناده بأس (2) وقد روي بإسناد ضعيف عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده، ((أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رد ابنته على أبي العاص بمهر جديد ونكاح جديد)) قال الترمذي في إسناده قال: وقال أحمد: هذا حديث ضعيف، والحديث الصحيح الذي روي أنه أقرهما على النكاح الأول، وقال الدارقطني: هذا حديث لا يثبت والصواب حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ردها بالنكاح الأول (3) وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما يبدو معارضًا لما قلناه سالفًا من أنهما يقران على الزواج الأول ما لم تنقض عدة الزوجة، فإذا انقضت عدتها حصلت الفرقة بين الزوجين، وقد حوصل الباجي إجابات العلماء عن هذا الحديث فقال: ولو ثبت ما روي عن عكرمة عن ابن عباس أنه ردها عليه بالنكاح الأول لاحتمل أن يريد به على مثل الصداق الأول، وقال الزهري: كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض، وقال قتادة: كان ذلك قبل أن تنزل سورة براءة بقطع العهود بين المشركين والمسلمين، ويحتمل أنها لم تكن استكملت ثلاث حيض، ويحتمل أن يكون حكمها منسوخًا، وثبت النسخ بالإجماع على أنها إذا انقضت عدتها وقد بانت منه.. (4)   (1) المنتقى: 3/ 343 (2) ابن تيمية الجد، منتقى الأخبار مع نيل الأوطار، كتاب النكاح، باب الزوجين الكافرين يسلم أحدهما قبل الآخر: 6/ 304 (3) ابن تيمية الجد، منتقى الأخبار، كتاب النكاح، باب الزوجين الكافرين يسلم أحدهما قبل الآخر: 6/ 304 - 305 (4) المنتقى: 3/ 345 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1130 وأما الحديث المروي بإسناد ضعيف عن عمرو بن شعيب عن جده فحسبنا ما قبل فيه وما نقلناه عن المذهب المالكي: فمن أسلمت بعد البناء بها هو ما ذهب جمهور الفقهاء والأمصار خلافًا لأهل الكوفة في قولهم: هذا حكم الحربيين دون الوثنين وأهل الذمة فإن أسلمت منهم المرأة قبل عرض عليه (أي الإسلام) فإن أسلم في الوقت فهو أحق بها، وإن لم يسلم عجل التفريق بينهما. والدليل على ما نقوله: أن هذا كفر يمنع استدامة النكاح فكان حكمه موقوفًا على إسلام ككفر الكتابيين الحربيين" (1) وخلافًا للنخعي الذي شذ عن جمهور الفقهاء فلم يتبعه أحد زعم أنها ترد إلى زوجها وإن طالت المدة لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((رد زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع بعد ست سنين بالنكاح الأول ولم يحدث نكاحًا)) أي يكون الزوج أملك لحق الزوجية وإن طالت المدة (2) وقد ذهب ابن القيم مذهبًا آخر فقال ما ملخصه: إن اعتبار العدة مجال لإقرار الزوجية بين الزوجة التي أسلمت وتأخر إسلام زوجها عن إسلامها لا نعرفه في شيء من الأحاديث ولا نعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل امرأة أسلمت وتأخر إسلام زوجها عنها هل انقضت عدتك أم لا؟ ولو كان مجرد الإسلام فرقة لكان فرقة بائنة لا رجعة فيها فلا يكون للعدة أثر في بقاء النكاح الأول، وإنما أثرها في صنع نكاحا لغير زوجها الأول فلو كان الإسلام قد نجز الفرقة بينهما لم يكن أحق بها في العدة، ولكن الذي دل عليه حكمه صلى الله عليه وآله وسلم أن النكاح موقوف، فإن أسلم قبل انقضاء عدتها فهي زوجته، وإن انتهت العدة فهي بالخيار إن شاءت تزوجت غيره، وإن شاءت انتظرته، فإن أسلم لم يحتج إلى إحداث زواج جديد، وحسبه زواجه الأول ولا نعلم أحدًا ممن أسلم بعد إسلام زوجته جدد إسلامه البتة.   (1) المنتقى: بتصرف (2) الصنعاني، سبل السلام: 3/ 133 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1131 وبعد عرض ابن القيم وجهة نظره أعرب عن كونها منبثقة عن اختيار الخلال وأبي بكر صاحب الخلال وابن المنذر وابن حزم، وكونها مذهب الحسن وطاوس وعكرمة وقتادة والحكم (1) ووصف الشوكاني وجهة نظر ابن القيم هذه معقبًا عليها بقوله: وهذا كلام في غاية الحسن والمتانة (2) ووصفها الصنعاني بقوله: هي الأقرب في المسالة (3) وأنا أقول: إنني منذ اهتممت بهذه المسألة في السنة النبوية نحيت هذا المنحى لموافقته لنصوص الحديث الشريف ومواردها، ولكن قلت لا بد من نص من إمام رواية ودراية فوجدت ضالتي في زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم، وناهيك به من إمام. وبعد عرضي لمناحي الاجتهاد في هذه القضية، وتعلقي بالمنحنى الاجتهادي القيم لابن القيم أفتي السائلين بأن الزوجة التي أسلمت وطمعت في إسلام زوجها الذي ظل كافرًا بعدها بأن لا تمكنه من الوطء ولا تساكنه في خلوة سدا لذرائع الفساد، وهي زوجته ما دامت في العدة، وتدعوه إلى الإسلام، وتكون معه كأم حكيم مع عكرمة كلما دعاها إلى الفراش وهما باليمن تأبى وتقول أنت كافر وأنا مسلمة فقال: إن أمرًا منعك مني لأمر كبير، كما روى ذلك ابن مردويه والدارقطني والحاكم (4) وإن لم يسلم حتى خرجت من العدة فإن شاءت تزوجت، وإن أحبت انتظرته بشرط عدم ملامسته لها المجمع على تحريمه. وأما ما جاء في السؤال من قول السائل: ما الحكم إذا لم تطمع في إسلامه ولكنه يحسن معاشرتها فمردود بأنه لا يتصور إسلاميًا حسن معاشرة مع زوج كافر يشرب الخمر، ويأكل الخنزير ويكفر برسولها وبكتابها ويلد أولادًا فيتبعونه في دينه، وتطعمه الحرام وتسقيه، ويقوم عليها والشرع قد قطع ولاية الكافرين على المؤمنين فقال تعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} . وأما إدعاء السائل من خوفها على ضياع الأولاد وانحرافهم فمردود أيضًا لأن مالكًا رضي الله عنه سئل عن زوجين نصرانيين أسلمت الزوجة ولها أولاد منه صغار لمن تكون الأولاد؟ وعلى دين من؟ فأجاب: هل على دين الأب.. وكذلك النصرانية إذا كانت حاملًا فأسلمت، ثم ولدت بعد ما أسلمت أن الولد للأب وهم على دين الأب (5) فأي انحراف يزعمه هذا السائل بعد الكفر؟ بهذا أفتي وأسال الله التوفيق للصواب والله أعلم.   (1) زاد المعاد في هدي خير العباد: 2/ 14 – 15- 16 باختصار وتصرف. (2) نيل الأوطار: 6/ 370 (3) سبل السلام: 3/ 134 بتصرف (4) الزرقاني: شرحه على الموطأ: 3/ 185 (5) سحنون، المدونة: 2/ 307 - 308 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1132 السؤال الخامس ما حكم دفن المسلم في مقابر غير المسلمين حيث لا يسمح بالدفن خارج المقابر المعدة لذلك، ولا توجد مقابر خاصة بالمسلمين في معظم الولايات الأمريكية، والأقطار الأوربية؟ وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد والله الملهم للصواب فأقول: إن الدفن للمسلم في مقابر الكفار في الظروف العادية، ومع الاختيار محرم، وإن حصل وجب التداول ما لم يخش التغير، جاء في العتبية أن ابن القاسم سئل عن امرأة نصرانية قال لها ختنها: أسلمي يا فلانة. فقالت: نعم، وأمرت بغسل ثيابها، وقالت كيف أقول؟ قال: قلت لها: قولي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته، فقالت كل هذا، ثم ماتت، فدفنت في قبور النصارى. وقال ابن القاسم: اذهب فانبشها، ثم غسلوها، وصلوا عليها، إلا أن تكون قد تغيرت (1) قال ابن رشد في شرحه عليها المسمى بـ "البيان والتحصيل" وهذا كما قال لأن الكفار يعذبون في قبورهم وهي تتأذى من أجل ذلك لمجاورتهم، فواجب أن تنبش وتحول إلى مقابر المسلمين (2) وإلى هذه المسألة أشار خليل بن إسحاق في مختصره وقال عاطفًا على ما يتدارك بعد الدفن بالنبش، "ودفن من أسلم بمقبرة الكفار، إن لم يخف التغير" (3) وقد صرح سيدي عبد الباقي الزرقاني في شرحه عليه بأن التدارك هنا واجب ما لم يخش التغير (4) وذكر الشيخ سليمان الجمل من فقهاء الشافعية أنه إذا مات مسلم بالبحر في سفينة والساحل بعيد، أو به مانع فيجب غسله، وتكفينه، والصلاة عليه، ثم يجعل ندبًا بين لوحين لئلا ينتفخ ثم يلقى لينبذه البحر إلى الساحل وإن كان أهله كفارًا، لاحتمال أن يجده مسلم فيدفنه، ويجوز أن يثقل لينزل إلى القرار وإن كان أهل البر مسلمين.   (1) البيان والتحصيل: 2/ 255 - 256 (2) البيان والتحصيل: 2/ 255 – 256 (3) المختصر: 47 (4) شرح المختصر: 2/ 100 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1133 وذلك لأن القصد من دفن الميت في شرعنا العزيز صونه عن انتهاك جسمه، وانتشار ريحه، المستلزم للتأذي بها، واستقذار جيفته، ومنع أذاها عمن عند القبر بحيث لا يتأذى تأذيًا لا يحتمل عادة (1) كما ندبت إلى دفنه في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون والشهداء لتناله بركتهم، وكذلك في البقاع الشريفة، وقد روى البخاري ومسلم بإسنادهما أن موسى عليه السلام لما حضره الموت سأل الله تعالى أن يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية بحجر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر)) (2) ونهت نهي تحريم عن دفنه في مقابر الكفار لتأذيه بمجاورتهم، قال الخرقي من فقهاء الحنابلة: "وإن ماتت نصرانية، وهي حاملة من مسلم دفنت بين مقبرة المسلمين ومقبرة النصارى (3) قال شارحه ابن قدامة: اختار هذا أحمد لأنها كافرة لا تدفن في مقبرة المسلمين فيتأذوا بعذابها ولا في مقبرة الكفار لأن ولدها مسلم فيتأذى بعذابهم، وتدفن منفردة (4)   (1) حاشيته على شرح شيخ الإسلام أبي زكريا الأنصاري على منهجه: 2/ 195 (2) ابن قدامة: المغني: 2/ 509 (3) متن الخرقي مع شرح ابن قدامة عليه: 2/ 563 (4) المغني: 2/ 563 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1134 إلى هذا الحد شدد فقهاء الإسلام النكير على دفن المسلم في مقابر الكفار، فإن توفي ببلاد الكفر وحيث لا توجد مقبرة خاصة بالمسلمين فكيف الصنيع في ميزان الشرع؟ إن أمكن نقله إلى بلدة بها مقبرة خاصة بالمسلمين، لا يخشى تغير الميت في أثنائه، وانتهاك حرمته، وثقل مؤنته، ونقل وجوبًا، وإن خيف تغيره أثناء النقل أو ثقلت مؤنة النقل بالوسائل السريعة لا ينقل، أما الأول فلانتهاك الحرمة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((كسر عظم الميت ككسره حيًّا)) قال السيوطي في بيان سبب هذا الحديث وسياقه ما يلي: عن جابر: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفير القبر وجلسنا معه، فأخرج الحفار عظمًا ساقًا أو عضدًا فذهب ليكسرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تكسرها فإن كسرك إياه ميتًا ككسرك إياه حيًا، ولكن درسه في جانب القبر)) (1) فالحديث دليل صريح على أن حرمة الإنسان ميتًا كحرمته حيًا. وأما الثاني فلثقل المؤنة: فالنقل بالطائرة يستلزم أموالًا باهظة لا يستطيعها الكثير ويستطيعها النزر اليسر، والحي من المسلمين أولى بها، ولذلك أنكرت عائشة رضي الله عنها لما وقفت على قبر عبد الرحمن أخيها، وقد نقل من الحبشة إلى مكة حيث دفن والمسافة بعيدة، فقالت: والله لو حضرتك ما دُفِنْتَ إلا حيث مِتَّ، قال صاحب المغني: لأن ذلك أخف لمؤنته، وأسلم له من التغيير (2) وترتيبًا على ما ذكر أفتي إخواني في بلاد الغربة لأن يدفنوا موتاهم متى بعدت المسافة عن مقابر إسلامية بمقابر الكفار، لأن ذلك أخف مؤنة على الأحياء وأبقى لحرمة الأموات وأسلم لهم من التغيير، والله أعلم.   (1) دار الإفتاء المصرية، الفتاوى الإسلامية: 4/ 1332 (2) المغني: 2/ 510 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1135 السؤال السادس ما حكم بيع المسجد إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها، وخيف تلفه أو الاستيلاء عليه، فكثيرًا ما يشتري المسلمون منزلًا ويحولونه مسجدًا فإذا انتقلت غالبية المسلمين من المنطقة لظروف العمل هجر المسجد أو أهمل، وقد يستولي عليه آخرون، ومن الممكن بيعه واستبداله بمسجد مؤسس في مكان فيه مسلمون فما حكم هذا البيع أو الاستبدال؟ إذا لم تتيسر فرصة استبداله بمسجد آخر فما أقرب الوجوه التي يجوز صرف ثمن المسجد فيها؟ وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد –والله الموفق للصواب- سلف المالكية لا يرون بيع الأحباس الأصول والمسجد منها، قال خليل بن إسحاق في مختصره "لا عقار، وإن خرب، ونقض ولو بغير خرب" (1) عاطفا على ما لا يجوز. وأدلتهم على ذلك ما يلي: 1- قوله عليه الصلاة والسلام حين قال له عمر: ((أصبحت أرضًا بخيبر لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه فما تأمرني؟ إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث)) (2) الحديث رواه الجماعة. 2- عمل السلف الصالح يدل على عدم جواز بيع الأحباس الأصول وإن خربت، جاء فيها: لو كان البيع يجوز فيها (أي الأصول) لما أغفله من مضي ولكن بقاؤه خربًا دليل على أن بيعه غير مستقيم، وبحسبك حجة قفي أمر قد كان متقادمًا بأن تأخذ منه ما جرى منه، فالأحباس قديمة ولم تزل وجل ما يوجد منها بالذي به، لم يزل يجري عليه فهو دليلها، فبقاء هذه خرابًا دليل على أن البيع فيها غير مستقيم، لأنه لو استقام لما أخطأ من مضى من صدر هذه الأمة، وما جهله من لم يعمل به حتى تركت خرابًا" (3) 3- إن ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع تعطلها كالمعتق.   (1) المختصر: 249 (2) ابن تيمية الجد، منتفى الأخبار، كتاب الوقف: 6/ 127 (3) سحنون، المدونة: 6/ 100 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1136 4- سد ذريعة التطرق إلى بيع الأوقاف بدعوى الخراب. ولا يمكن أن يتأول موقف السلف بحال، جاء عن مالك بكتاب ابن المواز: "وما خرب من الحبس فأراد صاحبه بيعه، والاتخاذ بثمنه ما هو أفضل منه، أو انتقل أهل تلك الناحية، وبطل الموضع فأراد صاحبه، أو من هو بيده بحبس، أو بحوزه أو ولاية بيعه، والاشتراء بثمنه في موضع ظاهر عامر يكون حبسًا لا يجوز له ذلك في الرباع بحال وإن ذهب به الزمان أو العدو (1) بقي أن سلف المالكية استثنوا من الحكم السابق أرضًا بجوار المسجد يعني محبسة احتيج إليها لتوسعة المسجد أو الطريق، قال ابن جزي: العقار لا يجوز بيعه إلا أن يكون مسجدًا تحيط به دور محبسة، فلا بأس أن يشتري منها ليوسع به، والطريق كالمسجد في ذلك، وقيل: إن ذلك في مساجد الأمصار لا في مساجد القبائل (2) ورأى المتأخرون من المالكية جواز بيع الأحباس الأصول إذا خربت وتعطلت منفعتها، وتعويضًا بأصل آخر وجعله حبسًا عوضًا عنها، وكثرت فتاواهم بذلك فقد أفتى أبو عبد الله محمد الحفار ببيع فدان محبس على مصرف من مصاريف البر لا منفعة فيه: أن يباع ويشترى بثمنه فدان آخر يحبس وتصرف غلته في المصرف الذي حبس عليه الأول على ما أفتى به كثير من العلماء في هذا النحو، وأفتى ابن رشد في أرض محبسة عدمت منفعتها بسبب جيران: أن تباع ويعوض بثمنها ما فيه منفعة على ما قاله جماعة من العلماء في الربع المحبس إذا خرب، ويكون ذلك بحكم القاضي بعد أن يثبت أن المنفعة فيه، قاله محمد الحفار.   (1) يحيى الخطاب، رسالة في بيع الوقف إذا خرب: 8 (2) القوانين الفقهية: 356 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1137 وبمثل فتوى أبي يعبد الله الحفار أفتى الأستاذ سعيد بن لب (1) وبمثل فتواهما أفتى ابن هلال في سدس جنان محبس بتازة لا تفي غلته بخدمته: بأن يباع، ويعوض بثمنه ما هو أغبط للحبس (2) وفي النوازل البرزلي عن شيخه الإمام ابن عرفة ما نصه: "وقعت عندنا مسائل بتونس منها: فندق ابن معطاس تهدم، أفتى شيخنا أن تباع أنقاضه ويغير عن حاله دارًا ورجع هذا القول وحكم به قاضي الجماعة. ومنها دار خربت من دور المدرسة بالقنطرة أفتى شيخنا ببيعها فبيعت واشترى بثمنها رسم في الغابة بتونس (3) والقول الأول هو المشهور وعليه جرى العلامة خليل في مختصره، وإن كان العمل قد جرى بتونس وفاس على القول الثاني الذي هو قول المتأخرين والعبرة في جريان العمل العرف لا شهرة القول ورجحانه، قال الزقاق في لاميته: فإن قيل إن البعض مما نقلته ضعيف، نعم لكن العرف عولا (4) وكما أفتى المتأخرون من المالكية بجواز بيع الأحباس الأصول إذا خربت وتعطلت منفعتها أو قلت أفتوا بجواز الاستبدال والمناقلة والحالة ما ذكر. قال الشيخ ابن أبي زيد القيرواني خاتمة المتقدمين، وفاتحة المتأخرين الملقب بمالك الصغير: "واختلف في المعاوضة بالربع الخرب بربع غير خرب" (5) وعدم جواز المعاوضة فيما ذكر هو المشهور والذي عليه ابن القاسم، وجرى عليه العلامة خليل في قوله الذي نقلته سابقًا عاطفًا على ما لا يجوز: لا عقار وإن خرب ونقض ولو بغير خرب، أي لا يجوز بيع الربع الخرب ولا استبداله بغير خرب ولا بيع أنقاضه، ولكن جرى العمل في تونس وفاس بغير قول ابن القاسم وبغير ما نقله عن مالك وأفتى الكثير من علماء القطرين بجواز معاوضة الربع الحبس الخرب بغير خرب متى وجد الخراب وقَلَّتِ المنعفة، أو تعطلت من باب أولى، وكان الربع الجديد أكثر قيمة ونفعًا في العمليات الفاسية: كذا معاوضة ربع الحبس على شروط أسست للمؤتسي   (1) ميارة، الإتقان والأحكام: 2/ 150 (2) الشيخ الشاذلي بن صالح باش مفتي المالكية بتونس، فتوى في حكم بيع الوقف إذا خرب، نشرت بمجموع طبع بتونس سنة 1316 ص 7 (3) الشيخ الشاذلي بن صالح باش مفتي المالكية بتونس، فتوى في حكم بيع الوقف إذا خرب، نشرت بمجموع طبع بتونس سنة 1316 ص 7 (4) متن اللامية مع متن العاصمية: 176 (5) الرسالة بهامش الفواكه الدواني: 3/ 45 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1138 وما قررته سابقًا من الخلاف بين المتقدمين والمتأخرين في حكم بيع الوقف الأصل إذا خرب وتعطلت منفعته أو قلت مقيدًا بما إذا لم يجعل الواقف للموقوف عليه بيعه، وإلا جاز بيعه بإطلاق، كما لو شرط الواقف بيعه لنفسه فيجوز له بيعه عملًا بالشرط قياسًا على شرط الرجوع في صدقته. ومقيد أيضًا بغير المساجد عند المتأخرين منهم. أما المساجد فلا يجوز بيعها بحال ولو خربت وتعطلت منفعتها، أو كان بجانبها جيران سوء، أو انتقلت العمارة عنها، قال ابن عسكر المالكي البغدادي في كتابه إرشاد السالك: "ولا يجوز بيع المسجد وإن انتقلت العمارة" (1) وقال القرطبي: ولا يجوز نقض المسجد ولا بيعه ولا تعطيله وإن خربت المحلة" (2) وحكى ابن جزي الإجماع على ذلك (3) واختلفوا في بيع أنقاضها فعن ابن عبد الغفور: لا يجوز بيع مواضع المساجد الخربة، لأنها وقف، ولا بأس ببيع نقضها إذا أضيف عليه الفساد للضرورة إلى ذلك، وأفتى ابن عرفة في مساجد خربت وأيس من عمارتها بدفع أنقاضها إلى مساجد عامرة احتاجت إليها (4) وقد أفاض أبو إسحاق الشاطبي في هذه المسألة بما فيه مزيد ضبط وتحقيق فليراجعه من شاء ذلك في الفتاوى له (5) والخلاصة أن المتقدمين من فقهاء مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله لا يرون جواز بيع الأحباس الأصول ولو خربت، وتعطلت منفعتها، ولا معاوضتها بربع غير خرب إلا لتوسعة المسجد، والطريق، أو المقبرة، ولا سبيل إلى التوسعة إلا بها، ما لم يجعل الواقف عليه ذلك ولا جاز ما ذكر.   (1) إرشاد السالك مع أسهل المدارك: 3/ 104 (2) الجامع لأحكام القرآن: 2/ 78 (3) القوانين الفقهية: 356 (4) ميارة، الإتقان والأحكام: 2/ 150 (5) جمع وتحقيق محمد أبي الأجفان: 168 وما بعدها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1139 وإن المتأخرين منهم أجازوا ذلك بشرط خراب الوقف، وتعطل منفعته، وجعل ما اشتري أو استبدل من ربع غير خرب حبسًا في مصرف البر الذي كان فيه الأول لكنهم قيدوا ذلك بغير المساجد، أما المساجد فلا يجوز بيعها ولو خربت وتعطلت منفعتها، أو خربت العمارة حولها، ولا استبدالها بما هو أغبط بالإجماع، واختلفوا في جواز بيع أنقاضها، أو دفعها إلى عمارة مسجد آخر كما سبق. وأما المذهب النعماني فقد جاء فيه: إذا خرب ما حول المسجد، واستغني عنه، قال أبو حنيفة وأبو يوسف يبقى مسجدًا، لأن المحبس أسقط ملكه بتحبيسه فلا يعود إلى ملكه كالإعتاق، ولأن المسجد الحرام استغنى عنه أهله في زمن الفترة، ولما جاء الله بالإسلام لم يعد إلى ورثة الباني له. وقال محمد بن الحسن الشيباني: لا يبقى مسجدًا، ويعود إلى ملك المحبس، أو إلى ملك ورثته بعد موته، لأنه عينه لجهة وقد انقطعت بخرابه ففات غرضه منه، وهو القرابة إلى الله تعالى بمكان يصلي فيه الناس فيعود إلى ملكه، كما لو كفن ميتًا ثم أكله سبع وبقي الكفن يعود إلى ملكه كذا هذا، وقال أيضًا: إذا خرب المسجد حتى لا يصلى فيه، فالذي بناه إن شاء أدخله داره وإن شاء باعه، فإن لم يبق المسجد بان فخرب، وبنى أهل المسجد مسجدًا آخر، ثم أجمعوا على بيعه واستعانوا بثمنه، في بناء المسجد الآخر فلا بأس بذلك كما جاء عنه أيضًا: مسجد بادت القرية من حوله، خربت وجعلت مزارع، وخرب المسجد، ولا يصلي فيه أحد، ولا بأس أن يأخذه صاحبه ويبعه لمن يجعله مزرعة، ويأخذ ثمنه فيأكله، أو يجعله مزرعته (1) وفي المذهب الشافعي: إذا تعطل المسجد بتفرق الناس عن البلد أو خرابها أو بخراب المسجد فلا يعود مملوكًا خلافًا لمحمد بن الحسن "ولا يجوز بيعه بحال ولا التصرف فيه كما لو أعتق عبدًا، ثم زمن لا يعود مملوكًا ثم إن خيف أن تنقضه الشياطين نقض وحفظ، وإن رأى القاضي أن يبنى بنقضه مسجدًا آخر، قال القاضي وابن الصباغ والمتولي: يجوز، وقال المتولي: الأولى من ينقل إلى أقرب الجهات إليه، فإن نقل إلى البعيد جاز، ولا يصرف النقض إلى غير المسجد كالرباطات والقناطر والآبار كما لا يجوز عكسه، لأن الوقت لازم، وقد دعت الضرورة إلى تبديل المحل دون الجهة، والحاصل من ريع وقف عمارة هذا المسجد يصرف إلى عمارة مسجد آخر.   (1) راجع: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي مع حاشية الشهاب الشبي عليه: 3/ 330 - 331 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1140 وقال في الحاوي: ريع المسجد الذي خربت محلته يصرف إلى المساكين لأنه مصرف لا ينقطع لفافتهم على الأبد وقال الخوارزمي في الكافي: إذا خرب المسجد لا يجوز بيعه، ولا بيع شيء منه، ولا نقله إلى موضع آخر، ولا نقل شيء منه، هذا هو المنقول عن عامة الأصحاب، قال: وكذلك مسجد في محلة، أو قرية خربت المحلة واندرست القرية لا يجوز نقل ذلك المسجد إلى موضع آخر، قال: والأصلح عندي جواز نقله إلى موضع آخر وهو مذهب أحمد (1) (محرر مذهب الشافعي من إعلان الساجد للزركشي) . وفي المذهب الحنبلي إذا خرب الوقف وتعطلت منافعه كدار انهدمت أو أرض خربت وعادت مواتًا ولم تمكن عمارتها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه، وصار في موضع لا يصلى فيه، أو ضاق بأهله، ولا يمكن توسعه في موضعه، أو تشعب جميعه فلم تمكن عمارته، ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه. وجاء في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية إفاضة في هذا الموضوع وبيانًا للمفتى به في المذهب الحنبلي ومما جاء في فتاواه: إجازة نقل المسجد من مكان إلى آخر محتجًا بعمل عمر -رضي الله عنه – وذلك لما قدم عبد الله بن مسعود على بيت المال كان سعد بن مالك قد بنى القصر، واتخذ مسجدًا عند أصحاب التمر فنقب بيت المال فأخذ الرجل الذي نقبه فكتب إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر: أن لا تقطع الرجل وانقل المسجد، واجعل بيت المال في قبلته فإنه لن يزال في المسجد مصلى فنقله عبد الله، فخط له هذه الخطة. وكذلك أفتى بنقله لضيق المسجد، أو لقذارة موضعه، أو لخوف اللصوص وبجواز بيعه ونقله إلى موضع آخر، فعمر بن الخطاب خرب المسجد الأول مسجد الجامع الذي كان لأهل الكوفة وجعل بدله مسجدًا في موضع آخر، وصار موضع المسجد الأول سوق التمارين.   (1) الزركشي: إعلام الساجد بأحكام المساجد: 345 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1141 وذكر أن هذه الصورة هي التي احتج بها أحمد وأصحابه على من خالفهم، وقال أصحاب أحمد: هذا يقتضي إجماع الصحابة –رضي الله عنهم- عليها من غير نكير، مع كونهم لا يسكتون عن إنكار ما يعدون خطأ لأنهم أنكروا على عمر النهي عن المغالاة في الصدقات حتى ردت عليه امرأة، وردوه عن أن يحد الحامل فقالوا: إن جعل الله لك على ظهرها سبيلًا فما جعل لك على ما في بطنها سبيلًا، وأنكروا على عثمان في إتمام الصلاة في الحج حتى قال: إني دخلت بلدًا فيه أهلي، وعارضوا عليًا فحين رأى بيع أمهات الأولاد، فلو كان نقل المساجد منكرًا لكان أحق بالإنكار، لأنه أمر ظاهر ففيه شناعة ونقل عن أبي عبد الله ابن تيمية في "ترغيب القاصد" أن المسجد إذا ضاق بأهله أو تفرق الناس عنه، لخراب المحلة، فإنه يباع، ويصرف ثمنه في إنشاء مسجد آخر أو في شقص (مناب) في المسجد (1) وبعد عرض نصوص المذاهب وأدلتها، وبعد يقيننا بأنه متى وجدت المصلحة فثم شرع الله، وأنه إذا لم يبع ما اتخذ مسجدًا، استولى عليه آخرون، ولم يبقوه مسجدًا، وإن عمر من أجل المصلحة نقل المسجد الجامع من مكانه، وصير المسجد العتيق سوقًا تجارية تعرف في ذلك العهد بسوق التمارين أفتي وأن فقير ربه محيي الدين قادي بجواز بيع المسجد الذي انتقلت بسوق التمارين أفتي وأنا فقير ربه محيي الدين قادي بجواز بيع المسجد الذي انتقلت غالبية المسلمين عنه لمنطقة أخرى وشراء محل صغير للأقلية الباقية لاتخاذه مسجدًا، والاشتراء بالباقي من ثمنه مسجدًا آخر أو منابًا في مسجد، وإن لم يفِ بذلك صرف في سبل الخير لأن ذلك أصلح المسلمين لما روي عن عائشة –رضي الله عنها- لما قيل لها: إن كسوة الكعبة قد يداول عليها؟ فقالت: تباع، ويجعل ثمنها في سبيل الخير (2) والله أعلم.   (1) شيخ الإسلام ابن تيمية، الفتاوى: 31/ 227 (2) الفتاوى: 223 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1142 السؤال السابع كثيرات من بنات المسلمين ونسائهم تدعوهن ظروف العمل أو الدراسة إلى السفر إلى ولايات أخرى (أبعد من مسافة القصر) بالطائرة أو غيرها من وسائل السفر بدون محرم، ومن غير رفقة من نسوة تعرفهن أو يعرفنها غير رفقة المسافرين والمسافرات عادة، فما حكم هذا السفر؟ فأقول في الجواب –والله الموفق للصواب-: ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مالك في الموطأ عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((: لا يحل لامرأة تؤمن باله وباليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها)) (1) والحديث ناطق بحرمة سفر المرأة وحدها، ولا فرق في المرأة بين الشابة والمتجالة (التي ليس للرجل فيها مطمع) وفي نقل للقاضي عياض رحمه الله عن بعض الفقهاء: أن النهي منوط بالشابة، وأما المتجالة فتسافر كل الأسفار بلا محرم ولا زوج. وتعقبه ابن دقيق العيد: بأنه تخصيص للعموم بالنظر إلى المعنى، وإن لم يرتضه القرطبي وقال: فيه بعد؛ لعدم جواز الخلوة بالمتجالة واعتبار ما لا يطلع لعيه غالبًا من حسدها عورة يحرم النظر إليه، فالظنة موجودة فيها، والعموم صالح فينبغي أن تخرج منه. وأما ما ورد في السؤال من تقييد السفر بمسافة القصر فمرجعه أن الحديث روي بعديد من الروايات، فحديث أبي سعيد عند الشيخين وغيرهما: ((أن تسافر فوق ثلاثة أيام فصاعدًا)) وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين وسنن أبي داود: ((لا تسافر المرأة ثلاثًا إلا ومعها زوج أو محرم)) وفي رواية أحمد رضي الله عنه ((يوم)) وفي أبي داود: ((بريد)) عوض ((يوم)) وفي رواية ((بيومين)) وفي رواية إطلاق السفر من غير التقييد (2)   (1) الموطأ مع شرح الزرقاني: 4/ 391 - 392 (2) محمد الزرقاني، شرحه على الموطأ: 4/ 392 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1143 والفقهاء قد اختلفوا في مسافة القصر على نحو عشرين قولًا، ومن بين أسباب الاختلاف بينهم اختلاف السنن والآثار ومن بينها هذا الحديث المروي بروايات متعددة. والحق أنه لا تلازم بين مسافة القصر، ووجوب المحرم، لجواز التوسعة في إيجاب المحرم تخفيفًا على العباد (1) بالإضافة إلى ما أجاب به العلماء على اختلاف هذه الروايات وأنه لا تعارض بينها، وأن هذا الاختلاف بحسب السائلين، فسئل مرة عن سفر المرأة يومًا؛ فقال: "لا" وهلم جرا، وليس فيه تحديد، ولا مفهوم أحدها. والخلاصة أن كل ما يطلق عليه اسم السفر لا يجوز للمرأة وإلا ومعها ذو محرم منها (2) ولم يستثن الإمام الأعظم والإمام أحمد ومن وافقهما سفرًا من الأسفار لا سفر الحج ولا غيره عند انعدام الزوج أو المحرم منها، قالوا: إن الزوج أو المرحم شرط في استطاعة الحج للمرأة، فالسفر حرام عليها إلا مع أحدهما. وذهب مالك والشافعي في المشهور عنهما ومن وافقهما إلى عدم اشتراط المحرم في سفر الحج، وجاء في المدونة: من لا ولي لها تخرج مع من تثق به من الرجال والنساء واختلف في تأويلها: هل مرادة مجموع الصنفين أو مع جماعة من صنف منهما؟ وأكثر ما نقل عن الإمام رضي الله عنه: اشتراط النساء (3) وقال الشافعي: تحج مع امرأة مسلمة حرة ثقة. هذا والخلاف يجري في حج الفرض، أما حج التطوع فالاتفاق جار على اشتراط المحرم منها أو الزوج (4) وقيده لحطاب من المالكية بيوم وليلة فأكثر، شابة كانت أو متجالة.   (1) الصنعاني، سبل السلام: 2/ 39 (2) النووي: شرحه على صحيح مسلم مع إرشاد الساري: 6/ 33 (3) محمد الزرقاني: شرحه على موطأ مالك: 4/ 392 (4) الحطاب، مواهب الجليل: 2/ 524 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1144 وسبب الخلاف في حج الفرض معارضة الأمر بالحج والسفر إليه للنهي عن سفر المرأة ثلاثًا إلا مع ذي محرم وذلك أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر أنه قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم)) فمن غلب عموم الأمر قال: تسافر للحج وإن لم يكن معها ذو محرم، ومن خصص العموم بهذا الحديث أو رأى أنه من باب تفسير الاستطاعة قال: لا تسافر للحج إلا مع ذي محرم (1) وقد نقل الحطاب أن حكم سفرها الواجب جميعه حكم سفرها لحجة الفريضة في الخروج مع الرفقة المأمونة، وعزا هذا القول إلى القاضي عبد الوهاب وغيره، وذلك كسفرها لحجة النذر، والقضاء وجميع الأسفار الواجبة عليها. كما نقل عن الباجي تقييد إطلاق الحديث بالانفراد والعدد اليسير، أما القوافل العظيمة فهي عند الباجي كالبلاد يصح سفر المرأة فيها بدون نساء وذوي محارم، وذكر هذا القيد الزناتي في شرحه على رسالة ابن أبي زيد رضي الله عنه على أساس أنه المذهب وقيد به قول ابن أبي زيد: والقوة على الوصول إلى مكة، إما راكبًا أو راجلًا مع صحة البدن، ونص كلام الزناتي على ما ذكر الحطاب ما يلي: "إذا كانت في رفقة مأمونة ذات عَدَدٍ وعُدَدٍ أو جيش مأمون من الغلبة والمحلة العظيمة فلا خلاف في جواز سفرها من غير ذي محرم في جميع الأسفار الواجب منها والمندوب والمباح من قول مالك وغيره إذ لا فرق بين ما تقدم ذكره وبين البلد، هكذا ذكره القابسي ونقله في الإكمال عن الباجي وقَبِلَه: ولم يذكر خلافه " (2) . وبعد بسطنا للمسألة من خلال فقه أئمة المذاهب، واعتمادًا منا على ما قيد به الباجي الحديث، وعلى وصف الزناتي لذلك القيد بأنه المذهب (أي المعتمد في المذهب المالكي) وعزوه للقابسي وبعد نقل صاحب الإكمال له، دون ذكر خلافه، وبعد نظرنا في تطور وسائل النقل تطورًا سريعًا تكفي الدقائق لانتقال الإنسان من ولاية إلى ولاية أبعد من مسافة القصر وبعد نظرنا في تقييد الحطاب السفر بمسيرة ليوم وليلة فأكثر وبعد الاطلاع على أن للشافعي قولًا أنها تسافر وحدها إذا كان الطريق آمنًا (3) أفتى هؤلاء البنات المسلمات بجواز السفر بالحافلات والقطارات والطيارات وبغيرها من وسائل النقل التي تعظم فيها الجماعات ويكون لها شبه بالجيوش والبلدان والمحلات بغير زوج لهن ولا محرم منهم، والله أعلم. حرره فقير ربه محي الدين قادي.   (1) ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 1/ 311 - 312 (2) مواهب الجليل: 2/ 524 (3) الصنعاني: 2/ 183 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1145 السؤال الثامن بعض النساء أو الفتيات تضطرهن ظروف العمل، أو الدراسة إلى الإقامة بمفردهن، أو مع نسوة غير مسلمات، فما حكم هذه الإقامة؟ وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد –والله ولي التسديد- فأقول: جاء الإسلام الحنيف معلنا مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في أصل الخلقة الإنسانية، فقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وقال صلى الله عليه وسلم: ((النساء شقائق الرجال)) ، رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي، ومبدأ المساواة بينهما في الانتساب إلى الجامعة الإسلامية، فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وصرح فقهاء الإسلام بأن خطاب الأمة الإسلامية في القرآن الكريم يشمل الجنسين: الذكر والأنثى ولو كان بصيغة التذكير. وانطلاقًا من مساواة المرأة للرجل فيما ذكر، جاءت المساواة في التشريع بينهما أصلًا لا يتخلف، إلا عند وجود مانع: جبلي أو شرعي أو اجتماعي، أو سياسي، وفي كل إما أن تكون دائمًا أو مؤقتًا (1) ، ولم ينص على شيء من ذلك فيما أعلم. واهتداء هذا الأصل من أصول التشريع الإسلامي للنظام الاجتماعي تقرر في الفقه الإسلامي جواز إقامة المرأة المسلمة في مسكن خاص بها له غلق ومرافق متى توفر لها الأمن ولا أعلم في ذلك خلافًا، فعن ابن مسعود رضي الله عنه في نساء نعي إليهن أزواجهن، وتشكين الوحشة يجتمعن بالنهار، ثم ترجع كل امرأة إلى بيتها بالليل، وأخرج الشافعي وعبد الرزاق عن مجاهد مرسلًا: ((أن رجالًا استشهدوا بأحد، فقال نساؤهم: يا رسول اله، أنا نستوحش في بيوتنا أفنبيت عند إحدانا؟ فأذن لهن أن يتحدثن عن إحداهن، فإذا كان وقت النوم تأوي كل واحدة إلى بيتها)) كما دل قوله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم في صحيحه: ((لا يبيتن رجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحًا أو ذا محرم)) بطريق دلالة الالتزام على أن المسلمة يجوز لها أن تقيم في مسكن بمفردها وإلا لما ورد النهي عن البيات معها إلا لناكح أو ذي محرم.   (1) راجع كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية لسماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله: 100 وما بعدها، وكتاب أصول النظام الاجتماعي في الإسلام له أيضًا: 147 وما بعدها، والأشباه والنظائر للسيوطي رحمه الله: 237 وما بعدها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1146 هذا ما يتعلق بشطر السؤال الأول، وهو إقامتها بمفردها في منزل خاص بها. وأما ما يتعلق بشطر السؤال الثاني وهو: إقامتها مع نسوة غير مسلمات فلا يجوز لها ذلك، قال تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} إلى أن قال جل جلاله {أَوْ نِسَائِهِنَّ} قال القرطبي في تفسير ذلك يعني المسلمات، وتدخل في هذا الإماء المؤمنات، ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة غيرهم فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئًا من بدنها بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها، فذلك قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} وكان ابن جريح وعبادة بن نسي وهشام القارئ يكرهون أن تقبل النصرانية المسلمة، أو ترى عورتها، ويتأولون {أَوْ نِسَائِهِنَّ} وقال عبادة بن نسي: وكتب عمر صلى الله عليه وسلم إلى أبي عبيدة بن الجراح: "أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين، فامنع ذلك، وحُلْ دونه فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة، قال: فعند ذلك قام أبو عبيدة، وابتهل وقال: أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر، لا تريد إلا أن تبيض وجهها، فسود الله وجهها يوم تبيض الوجوه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية أو نصرانية لئلا تصرفها لزوجها، وفي هذه المسألة خلاف للفقهاء" (1) وهذا أولًا، وثانيًا عملًا بقاعدة سد الذرائع وذلك أن المرأة المسلمة موجودة بمجتمع الغرب الذي يعيش بلا قيم ولا أخلاق، لا سيما في مجال الجنس فقد أصبح طليقًا من كل اليوم، فلا يعقل أن نلقي بها في بؤرة فساد ونلزمها بعد ذلك أن تكون عفيفة طاهرة؛ لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه: ألقاه في اليم مكتوفًا، وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء وثالثًا: أن الخلاف قد جرى بين السلف من الفقهاء في نظر غير المسلمة إلى المسلمة، لا في مساكنتها، وللمساكنة معنى زائد عن النظر. رابعًا: أن الخلاف بين السلف من الفقهاء في نظر الذمية إلى المسلمة. ونحن نعلم أن شيمة أهل الذمة الصغار بخلاف كفار اليوم فهم الأعزاء والمتسلطون على العالم. وترتيبًا على ذلك أُفتي أخواتي في بلاد الغربة بأنه يجوز لهن الإقامة بمفردهن في مسكن خاص له غلق ومرافق متى توفر الآن، ولا يجوز لهن أن يساكن غير المسلمات كتابيات أو غير كتابيات لأنهن كالرجل الأجنبي بالنسبة لهن، والله أعلم.   (1) الجامع لأحكام القرآن: 12/ 233 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1147 السؤال التاسع كثيرات من النساء هنا (أمريكا الشمالية) يذكرن أن أقصى ما بإمكانهن سترة من أجسادهن هو ما عدا الوجه والكفين، وبعضهن تمنعهن جهات العمل، أو الدراسة، من ستر رؤوسهن وأعناقهن، فما أقصى ما يمكن السماح بكشفه من أجزاء جسم المرأة بين الأجانب في محلات العمل أو الدراسة؟ وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد والله الموافق للصواب: أن ما قاله جل النسوة من أن أقصى ما يستطعن ستره من أجسادهن هو ما عدا الوجه والكفين هو شرع الله جلل جلاله، إذ عورة المرأة إذا حاضت جميع جسدها ما عدا الوجه والكفين عند مالك والشافعي وأحمد في إحدى روايتيه: أن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها، مع قول أبي حنيفة: أنها كلها عورة كذلك إلا وجهها وكفيها وقدميها ومع الرواية الأخرى عن أحمد: إلا وجهها خاصة (1) ونسب ابن رشد الحفيد إلى الأمام أحمد قولًا ثالثًا وهو أن المرأة كلها عورة (2) ولم يعزه ابن قدامة في مغنيه إلى الإمام أحمد وإنما إلى بعض أهل المذهب الحنبلي، فقال: وقال بعض أصحابنا المرأة: كلها عورة لأنه قد روى في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((المرأة عورة)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ولكن رخص لها في كشف وجهها وكفيها لما في تغطيته من المشقة، وأبيح النظر إليه لأجل الخطبة لأنه مجمع المحاسن، وهذا قول أبي بكر الحارث ابن هشام قال: المرأة كلها عورة حتى ظفرها (3) وأرجع ابن رشد الحفيد الخلاف في هذه المسألة إلى الاحتمال القائم في قوله عز وجل {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} هل هذا المستثنى إلى أن المقصود أعضاء محدودة أم إنما المقصود ما لا يملك ظهوره؟ فمن ذهب إلى أن المقصود من ذلك ما لا يملك ظهوره عند الحركة، قال: بدنها كله عورة حتى ظهرها واحتج لذلك بعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} . ومن رأى أن المقصود من ذلك ما جرت به العادة بأنه لا يستر وهو الوجه والكفان ذهب إلى أنهما ليسا بعورة، واحتج لذلك بأن المرأة ليست تستر وجهها في الحج" (4)   (1) الشعراني، الميزان الكبرى: 1/ 170 (2) بداية المجتهد: 1/ 111 (3) بداية المجتهد: 1/ 601 (4) بداية المجتهد: 1/ 111 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1148 وسيأتي في الجواب عن السؤال السابع عشر مزيد إيضاح لهذه المسألة. وأما منع بعض الجهات النسوة العاملات عندهن وبعض أماكن الدراسة التلميذات أو الطالبات أو المدرسات من ستر رؤوسهن وأعناقهن وسؤالهن عن أقصى ما يمكن السماح بكشفه من أجزاء جسم المرأة، فالجواب عنه على حسب مذهب الجمهور هو أن بدن المرأة كله عورة ما عدا وجها وكفيها إذا بلغت المحيض، ورخص ابن جرير الطبري لها في كشف يديها إلى نصف الذراع معتمدًا على حديث يرويه عن سيدتي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وهو: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى هاهنا وقبض على نصف الذراع)) (1) كما ذكر الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور أن بعض الفقهاء جعل الشعر من الزينة الظاهرة حاكيًا له بقيل المشعرة بتمريضه (2) ويدل على ضعفه وأيضًا أنه إذا كشف شعر الرأس بدا الجيد واللبة، ولا أحد من الفقهاء فيما أعلم قال بجواز كشفهما، بل جاء في حواشي يوسف الصفتي من المالكية على شرح ابن تركي على متن العشماوية أن الوجه في العورة غير الوجه في الوضوء، لأنه يجب ستر الشعر ولو كانت غماء (3) هذا أولًا، وثانيًا لما لهما من الأثر العجيب في تحريك الشهوة. وترتيبًا على ذلك أقول: لا يجوز للمرأة إذا عركت- عاملة كانت أو تلميذة في ثانوية، أو طالبة في جامعة أو مدرسة- أن تبدي أكثر من وجهها وكفيها، والله أعلم.   (1) القرطبي الجامع لأحكام القرآن: 12/ 222 (2) التحرير والتنوير: 18/ 207 (3) حواشي الصفتي: 83 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1149 السؤال العاشر يضطر كثير من الطلاب المسلمين إلى العمل في هذه البلاد لتغطية نفقات الدراسة والمعيشة لأن كثيرًا منهم لا يكفيه ما يرده من ذويه مما يجعل العمل ضرورة له، لا يمكن أن يعيش بدونه، وكثير منهم لا يجد عملًا إلا في المطاعم تبيع الخمور وتقدم الوجبات فيها لحم الخنزير وغيره من المحرمات فما حكم عمله في هذه المحلات؟ وفي الجواب عن هذا السؤال والله الموفق للصواب، أقول: لم يضبط في السؤال دين صاحب المطعم أو نحلته، والذي يظهر أنه غير مسلم أصالة أو استحلالًا للمحرمات، أو فاسقا معايشا للمعاصي. وعلى كل فالشريعة الإسلامية تحرم على السلم إجارة نفسه للمعاصي قال عبد الرحمن بن عسكر البغدادي المالكي: "لا تجوز إجارة نفسه أو عبده أو دابته أو داره في عمل معصية" (1) ، فإن فعل شيئًا من ذلك فقد تعدى حدود الله {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وللقاضي ردعه وتأديبه (2) ودليل ذلك قوله تعالى {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} والإجارة على المعصية إعانة عليها. وتنوعت أمثلة ذلك، قال ابن عبد البر في كافيه: ولا يجوز لأحد أن يكري معصرته ولا دابته، ولا سفينته ممن يعمل الخمر ويحملها، وإن فعل ذلك أخذ منه ما قبض ذلك من النصراني لم يحكم له بشيء، وهكذا لو أكرى بيته، أو حانوته، أو قطعة من أرضه ممن يبيع فيها الخمر (3) وكلام ابن عبد البر عام في المؤاجر نفسه لمعصية عند مسلم أو عند كافر، وأما قوله: "وإن لم يقبض من النصراني" فهو مخرج على الغالب، أن المعهود في عصره رحمه الله أنه لا يتاجر في الخمرة بيعًا إلى النصارى.   (1) إرشاد السالك إلى أشرف المسالك مع شرحه أسهل المدارك: 2/ 342 (2) الكشناوي، أسهل المدارك: 2/ 342 (3) ابن عبد البر، الكافي: 2/ 756 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1150 وأما إن كان هؤلاء الطلبة يؤاجرون أنفسهم في بلاد الحرب لغير المسلمين في مطاعم تبيح الخمور ولحم الخنزير لحرفائها وغيرها من المحرمات فذلك أشد لأن فقهاء الإسلام كرهوا للمسلم مؤاجرة نفسه للنصراني واليهودي في الحلال له، قال ابن القاسم المالكي: وبلغني أن مالكًا كره أن يؤاجر المسلم نفسه من النصراني (1) وقال أيضًا: سئل مالك عن المسلم يأخذ من النصراني مالًا قرضًا، فكره ذلك له وغيره من أهل العلم قد كره ذلك، وقال: سئل مالك عن المسلم يؤاجر نفسه لنصراني ليحرس له زيتونه، أو يجره له أو يبني له بنيانًا؟ فأجاب: أكره أن يؤاجر نفسه في خدمة هذا النصراني" (2) والكراهة هنا كراهة تنزيه، ويجوز للمسلم ذلك لأن الإجارة عقد معاوضة كالبيع وإجارة المسلم نفسه فيها مباح له لخدمة النصراني مشروطة بعدم إذلالها أو ليس للمسلم أن يذل نفسه عمومًا وخصوصًا للكافر والله جل جلاله يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وأما مع الإهانة فحرام ككونه خادمًا في بيته يقدم له الطعام ويغسل يديه منه ويجري خلفه ويفسخ وله أجر ما عمل (3) وأما موقف فقهاء الإسلام من مؤاجرة المسلم نفسه في عمل معصيته هي محرمة عليه في شريعة الإسلام فالمنع البات جاء في المدونة: قلت: أرأيت مسلمًا آجر نفسه من نصراني يحمل له خمرًا على دابته أو على نفسه، أيكون له من الأجر شيء؟ أم تكون له إجارة مثله؟   (1) سحنون، المدونة: 4/ 433 (2) سحنون المدونة: 4/ 433 (3) أحمد الدردير، الشرح الكبير: 4/ 19 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1151 قال: قال مالك: لا تصلح هذه الإجارة، ولا أرى أنا له من الإجارة التي سمى، ولا من إجارة مثله قليلًا ولا كثيرًا، لأن مالكًا قال في الرجل المسلم يبيع خمرًا، قال مالك: لا أرى أن يعطى من ثمنها قليلًا ولا كثيرًا، والكراء عندي بهذه المنزلة لا أرى أن يعطى من الإجارة قليلًا ولا كثيرًا، قلت: وكذلك أن آجر حانوته من نصراني يبيع فيه خمرًا قال ابن القاسم: وأرى كل مسلم آجر نفسه أو غلامه أو دابته أو داره أو بيته أو شيئًا مما يملكه في شيء من الخمر فلا أرى له من الإجارة قليلًا ولا كثيرًا، ولكن يفعل فيه إن كان قبض ما وصفت لك في ثمن الخمر" (1) قال خليل بن إسحاق المالكي رحمه الله في مختصره ذاكرًا مفهوم المنفعة المحظورة: "ولا تعليم غناء ودخول حائص لمسجد أو دار لتتخذ كنيسة كبيعها لذلك وتصدق بالكراء وبفضلة الثمن على الأرجح" (2) ومثل ذلك الإجارة على تقديم لحم الخنزير الذي هو حرام على المسلم في هذه المطاعم، ويؤدب فاعل ذلك، قال ابن القاسم في مسلم آجر نفسه لنصراني ليرعى له خنازيره: أنا أرى أن تؤخذ الإجارة من هذا النصراني ويتصدق بها على المساكين ولا يعطاها هذا المسلم أدبًا لهذا المسلم، ولأن الإجارة أيضًا لا تحل لهذا المسلم إذا كانت إجارته من رعيه الخنازير، ورأى أن يضرب هذا المسلم أدبًا، فيما صنع من رعيه الخنازير ورضاه من رعيه الخنازير إلا أن يكون ممن يعذر بالجهالة فيكف عنه في الضرب ولا يعطى من الإجارة شيء، ويتصدق بالأجرة على المسلمين ولا تترك الأجرة للنصراني" (3) وجاء في المذهب الحنفي: "من استأجر حمالًا يحمل له الخمر فله الأجر في قول أبي حنيفة، عند أبي يوسف ومحمد لا أجر له، كذا ذكر في الأصل وذكر في الجامع الصغير أنه يطيب له الأجر في قول أبي حنيفة وعندهما يكره لهما لأن هذه إجارة على المعصية، لأن حمل الخمر معصية، لكونه إعانة على المعصية وقد قال الله عز وجل: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ولهذا لعن الله تعالى عشرة منهم: حاملها والمحمول إليه، ولأبي حنيفة أن نفس الحمل ليس بمعصية بدليل أن حملها للإراقة والتخليل مباح، وكذا ليس بسبب المعصية وهو الشرب لأن ذلك يحصل بفعل فاعل مختار وليس الحمل من ضرورات الشرب فكانت سببًا محضًا فلا حكم له كعصر العنب وقطفه، والحديث محمول على الحمل بنية الشرب، وبه نقول: إن ذلك معصية ويكره أكل أجرته (4)   (1) المدونة: 4/ 424 – 425 (2) المختصر: 239 (3) سحنون، المدونة: 4/ 426 (4) الكاساني، البدائع: 4/ 190 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1152 السؤال العاشر ما قررناه في المذهب المالكي قال به الإمام الشافعي واعتمد في المذهب الحنبلي حسبما ذكره ابن قدامة في مغنيه (1) وأدلة تحريمه كثيرة مستفيضة في هدي خير العباد وفي آثار السلف الصالح. أما هديه صلى الله عليه وسلم فمن جوامع كلمه قوله: ((إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه)) ، وفي حديث الموطأ أن ابن وعلة المصري سأل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عما يعصر من العنب؟ فقال: ابن عباس: ((أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما علمت أن الله حرمها؟ قال: لا، فساره رجل إلى جنبه، فقال له صلى الله عليه وسلم: بم ساررته؟ قال: أمرته أن يبيعها: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرم شربها حرم بيعها)) (2) والإجارة بيع لمنفعة. وأما أثار السلف الصالح فقد ساق منها سحنون في المدونة الكثير من ذلك: 1- ما روي عن عياض بن عبد الله السلامي أنه قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إن لي إبلًا تعمل في السوق ريعها صدقة تحمل الطعام فإذا لم تجحد فربما حملت خمرًا؟ فقال: لا يحل ثمنها، ولا كراؤها ولا شيء منه كان ثمنها فيه سببا" ففتوى عبدا لله بن عمر صريحة ناطقة بتحريم كل ثمن أنجز من حركة في الخمر.   (1) المغني: 5/ 551 (2) ابن القيم: زاد المعاد، ذكر أحكامه صلى الله عليه وسلم في البيوع: 4/ 239 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1153 2- ما روي عن عميرة المعافري فقال: خرجت حاجًا أنا وصاحب لي حتى قدمنا المدينة فأكرى صاحبي راحلته من صاحب خمر فأخبرني فذهب إلى عبد الله بن عمر فسأله عن ذلك فنهاه عن ذلك وقال: لا خير فيه. 3- ما روي عن مالك بن كلثوم أنه سأل سعيد بن المسيب عن غلمان له يعملون في السوق على دواب له، فربما حملت خمرًا، قال: فنهاني سعيد عن ذلك أشد النهي، وقال: إن استطعت أن لا تدخل البيت الذي فيه الخمر فلا تدخله (1) وبعد هذا العرض الواسع والمشتمل على تحريم الإجارة في كل منفعة محرمة وبعد إفرادنا للإجارة في الخمر عصرًا وحملًا، وللإجارة على رعي الخنازير وهو أقل جرمًا من تقديم لحومها إلى آكليها، وهو (أقل جرمًا) وبعد تيقنا من أن السنة النبوية الشريفة ما حرمت شيئًا إلا حرمت أكل ثمنه بيعًا، وأنها لعنت في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له، وبعد علمنا بكل ذلك أفتي هؤلاء الطلبة أن لا يؤاجروا أنفسهم في شيء من عمل الخمر، ولا من عمل الخنازير حملًا وتقديمًا وغير ذلك ولا في عمل محرم لأن الله ما حرم شيئًا إلا حرم أكل ثمنه، وما جعل كسب المسلم في ما حرم عليه وما أحل الله أوسع وأطيب، والله الموفق للصواب وهو حسبي ونعم الوكيل.   (1) المدونة: 4/ 425 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1154 السؤال الحادي عشر ما حكم بيع المسلم للخمور والخنازير، أو صناعة الخمور وبيعها لغير المسلمين، علمًا بأن بعض المسلمين في هذه البلدان قد اتخذوا من ذلك حرفة لهم؟ وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد والله الموفق للصواب أقول: روى مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم وعن أبي وعلة المصري أنه سأل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عما يعصر من العنب؟ فقال ابن عباس: ((أهدى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما علمت أن الله حرمها؟ قال: لا، فساره رجل إلى جنبه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم ساررته؟ فقال: أمرته أن يبيعها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرم شربها حرم بيعها، ففتح الراجل المزادتين حتى ذهب ما فيهما)) (1) وروى مالك في الموطأ أيضًا " عن نافع عن بن الله أن رجالًا من أهل العراق قالوا له: يا أبا عبد الرحمن، أنا نبتاع من ثمر النخل والعنب فعنصره خمرًا، فنبيعها؟ فقال عبد الله بن عمر: إني أشهد الله عليكم وملائكته، ومن سمع من الجن والإنس أني لا آمركم أن تبيعوها، ولا تباعوها ولا تعصروها، ولا تشربوها ولا تسقوها، فإنها رجس من علم الشيطان" (2) وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: هو حرام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ((قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه)) رواه الجماعة (3)   (1) الموطأ، كتاب الأشربة: جامع تحريم الخمر: 4/ 172 (2) الموطأ: 4/ 174 (3) ابن تيمية الجد، منتقى الأخبار، كتاب البيوع: باب ما جاء في بيع النجاسة وآلة المعصية، وما لا نفع فيه: 5/ 235 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1155 وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وأن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه)) رواه أحمد وأبو داود. وإذا تأملنا هذه الأحاديث الشريفة وجدنا أن حديث الموطأ الأول متضمن حرمة عصر الخمور وصناعتها، لأن ابن وعلة المصري سأل حبر الأمة عن حكم ذلك فروى له هذا الحديث الشريف جوابًا عن سؤاله، كما تضمن الحديث أن حرمة أكل الثمن، تابعة لحرمة الشرب. وأما علة التحريم فالرجسية أي النجاسة، والنجس لا يصح بيعه بوجه عام إلا ما رخص فيه، فقال ابن عاصم في تحفة الأحكام: ونجس صفقته محظورة ورخصوا في الزبل للضرورة هذا أولًا، وثانيًا: سد الذريعة، لأن إباحة بيعها تؤدي إلى شربها، ذلك ما قاله العلامة الزرقاني في شرحه على الموطأ (1) هذا وإذا عصرها مسلم لتشرب خمرًا محظورًا وجب عليه أن يريقها، فإن اجترأ وخللها فعن مالك في ذلك روايتان: بالجواز والكراهة. وأما حديث الموطأ الثاني فالعراقيون السائلون لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما صانعو خمور ولعلهم حديثو عهد بالإسلام (كما قال الزرقاني) وابن عمر منعهم من ذلك، ولا خلاف نعلمه في منعه، والأصل في ذلك الحديث الأول فقد قال صلوات الله وسلامه عليه، للذي أهدي إليه راوية خمر: ((إن الذي حرم شربها حرم بيعها)) .   (1) شرح الموطأ: 4/ 172 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1156 والعصير المستخلص من التمر والعنب متفق على ما منبع بيعه وابتياعه وجمهور الفقهاء على إطلاق اسم الخمير على كل ما خامر العقل فأسكره، وأن ما أسكر كثيره قليله حرام شراب وبيعها، فقد صح عنه صلوات الله وسلامه عليه: ((كل مسكر خمر)) قال ابن القيم: وهذا نص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح الذي لا مطعن في سنده: ولا إجمالا في متنه.. وإخراج صنف من أصناف المسكر عن اسم الخمر يتضمن محذورين: أحدهما: أن يخرج من كلامه ما قصد دخوله فيه. والثاني: أن يشرع لذلك النوع الذي أخرج حكم غير حكمه، فيكون تغييرًا لألفاظ الشارع ومعانيه، فإنه إذا سمى ذلك النوع بغير الإسم الذي سماه به الشارع أزال عنه حكم ذلك المسمى وأعطاه حكمًا آخر. ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن من أمته من يبتلى بهذا كما قال: ((ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)) قضى قضية كلية عامة، لا يتطرق إلها إجمالًا ولا احتمال، بل هي شافية كافية فقال صلى الله عليه وسلم ((كل مسكر خمر)) (1) هذا والذي يظهر من قول ابن عمر رضي الله عنهما: "ولا تعصروها ولا تشربوها، ولا تسقوها فإنها رجس من عمل الشيطان" المنع من كل تصرف مقصود فيها، وعمل لها، معللًا ذلك بالرجسية، وكونها من عمل الشيطان ومريدًا والله أعلم قوله تعالى {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} والاجتناب قاض بالكف عن كل تصرف مقصود ففها وعمل لها، وفي الحديث: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبايعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له)) هذا ما يتعلق ببيع الخمر وعصرها وصناعتها، وكل تصرف مقصود فيها، وعمل لها. وأما ما يتعلق بيع الخنازير فقد ورد في هدى خير العباد في الحديث الثالث الذي رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما تحريم بيع الخمر الخنزير والانتفاع به مع ترخيص المالكية في الانتفاع بشعره للخرز بعد جزه لطهارته، فقال خليل بن إسحاق بالعطف على الطاهر وشعر ولو من خنزير إن جزت (2) وعلى هذا أبو يوسف والأوزاعي. والجمهور على أن علة تحريم بيع الخنزير نجاسته، وعند المالكية ومن وافقهم تحريمه (3) وأما ما ورد في السؤال ممن تقيد بيعها بغير المسلمين فهو قيد لاغ، لأن اختلاف الدارين لتباين الأحكام إذ دعوة الإسلام نور وهدى، ورحمة وشفاء لا يختلف باختلاف الرباع والأماكن، فإن باع مسلم نصرانيًا خمرًا تراق عليه بحكم أن كان ثم حاكم يرى تخليلها، وإلا أراقها من غير رفع، لأن المسلم لا يصح له تملك الخمر بحال. وترتيبًا على كل ما سبق أفتي وأنا فقير ربه محيي الدين قادي أنه لا يجوز لمسلم أن يبيع الخمور والخنازير، ولا أن يصنع الخمر وأن ليؤدي على ذلك، والله أعلم.   (1) زاد المعاد في هدى خير العباد: 2/ 240 (2) المختصر: 5 (3) راجع فتح الباري لابن حجر: 4/ 425 - 426 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1157 السؤال الثاني عشر هناك كثير من الأدوية تحوي كميات مختلفة من الكحول تتراوح بين 01? و 25? ومعظم هذه الأدوية من أدوية الزكام واحتقان الأنف والحنجرة والسعال وغيرها من الأمراض السائدة، وتمثل هذه الأدوية الحاوية للكحول ما يقرب من 95? من الأدوية في هذا المجال مما يجعل الحصول على الأدوية الخالية من الكحول عملية صعبة أو متعذرة فما حكم تناول هذه الأدوية؟ وفي الجواب عن هذا السؤال أقول والله الموفق للصواب: التداوي بالخمر مسألة جرى فيها الخلاف بين علماء الإسلام ففي المذهب الحنفي أثيرت هذه المسألة فقال الزيلعي في شرحه على الكنز في كتاب الكراهية: كل تداو لا يجوز إلا بالأشياء الطاهرة ولا يجوز بالنجس كالخمر، لما روى ابن مسعود أنه عليه السلام قال: ((أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)) ذكره البخاري. وقال: وقال في النهاية: يجوز التداوي بالمحرم كالخمر والبول، إذا أخبره طبيب مسلم أن فيه شفاء، ولم يجد غيره من المباح ما يقوم مقامه، والحرمة ترتفع للضرورة فلم يكن متداويًا بالمحرم، فلم يتناوله حديث مسعود. ويتحمل أنه قال في داء عرف له دواء غير المحرم (1) كلام الزيلعي. وقال العلامة ابن نجيم في البحر من كتاب الشهادات: إن الإنسان لو شرب الخمر للتداوي لم تسقط عدالته، لأن الاجتهاد فيه مساغًا، ونسبه لابن الكمال (2) وجاء في المذهب المالكي في هاته المسألة الإشارة أيضًا إلى الخلاف داخل المذهب فيما قال المواق في التاج والإكليل في باب: المباح طعام طاهر، بعد أن تكلم عن جواز إزالة الغصة بالخمر وعدم الجواز: وأما التداوي بها فمشهور المذهب أنه لا يحل، وإذا قلنا: إنه لا يجوز التداوي بها ويجوز استعماله للضرورة، فالفرق أن التداوي لا يتيقن البرء بها" (3)   (1) بيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 6/ 23 (2) البحر: 7/ 26 (3) التاج والإكليل مع مواهب الجليل بالهامش: 3/ 233 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1158 وقال العتبي: وسئل (أي مالك) عن الذي تكون له القرحة أيغسلها بالبول والخمر؟ فقال: إذا أنقى ذلك بالماء بعد فنعم له ذلك، وأني لأكره الخمر في كل شيء الدواء وغيره يعمد إلى ما حرم الله في كتابه، وذكر نجاسته يتداوى به، ولقد بلغني أنها أشياء يدخلها من يريد الطعن في الدين والغض عليه، فقيل له: فالبول عندك أخف؟ فقال: نعم. قال ابن رشد الجد في شرحه على العتبية: "إنما رأى غسل الجرح بالبول أخف من غسله بالخمر، لأن لله تبارك وتعالى قال في الخمر: أنها رجس، وأمر باجتنابها حيث يقول: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فاقتضى ظاهر الأمر باجتنابها بحمله على مقتضاه من العموم الشرب وغيره، والبول لم يأت فيه ذلك إلا أنه نجس بالإجماع، فحرم التداوي بشربه، وجاز الانتفاع به في غسل الجرح وشبهه، قياسًا على ما أجازته السنة من الانتفاع بجلد الميتة النجس" (1) إذن مذهب إمام دار الهجرة يحرم التداوي بالخمر شربًا وغسلًا ودهنًا على المعتمد، وأما المذهب الشافعي فقد قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "كتاب الأشربة والتعازير" من شرحه على منهجه: "كل شراب أسكر كثيره من خمر أو غيره حرم تناوله وإن قل ولم يسكر لآية {إِنَّمَا الْخَمْرُ} ولخبر الصحيحين: ((كل شراب أسكره فهو حرام)) وخبر مسلم: ((كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)) ولو كان تناوله للتداول أو عطش لو لم يجد غيره لعموم النهي عنه (2)   (1) ابن رشد: البيان والتحصيل: 188/ 428 - 429 (2) شرح المنهج: 5/ 158 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1159 وقيد سلمان الجمل في حاشيته على شرح شيخ الإسلام زكريا الأنصاري على منهجه كلامه بقيدين: 1- ما لم تستهلك الخمر في غيرها. 2- أن لا يوجد دواء طاهر يقوم مقامها. وإلا جاز التداوي بها. ثم قال: والأصح تحريمها صرفًا لخبر: ((إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها)) . وأما مستهلكة مع دواء آخر فيجوز التداوي بها كصرف بقية النجاسات، إن عرف، أو أخبر طبيب عدل بنفعها وتعينها بأن لا يغني عنها طاهر. ولو احتيج في قطع يد متآكلة إلى زوال عقل صاحبها نحو ساعة ببنج جاز لا بمسكر مائع (1) وجاء في آخر كتاب الأشربة لابن عابدين في حاشية رد المحتار على الدر المختار ما نصه: سئل ابن حجر المكي عمن ابتلي بأكل نحو الأفيون وصار إن لم يأكل منه هلك؟ فأجاب: إن علم ذلك قطعًا حل له بل وجب لاضطراره إلى إبقاء روحه كالميتة للمضطر، ويجب عليه التدريج في تنقيصه شيئًا فشيئًا حتى يزول تولع المعدة به من غير أن تشعر فإن ترك ذلك فهو آثم فاسق. قال الرملي: وقواعدنا لا تخالفه (2) وفي المذهب الحنبلي لا يجوز شربها للتداوي فإن شربها لذلك لم يبح له. وعليه الحد. ودليلهم ما رواه الإمام أحمد بإسناد عن طارق بن سويد أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أصنعه للدواء، فقال: ((إنه ليس بدواء ولكنه داء)) . وبإسناده عن مخارق ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة، وقد نبذت في جرة، فخرج والنبيذ يهدر، فقال: ما هذا؟ فقالت: فلانة اشتكت بطنها فنقعت لها، فدافعه برجله فكسره، وقال: إن الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاء)) ولأنه محرم لعينه، فلم يبح للتداوي كلحم الخنزير، ولأن الضرورة لا تندفع به فلم يبح كالتداوي بها فيما لا تصلح له (3)   (1) حاشية الجمل على شرح المنهج: 5/ 158 (2) نهاية المحتاج: 5/ 297 (3) ابن قدامة، المغني: 8/ 308 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1160 وبعد عرض نصوص المذاهب الأربعة من أمهاتها المعتمدة في الفتوى وبعد استخلاص أن ثلاثة منها جري فيها الخلاف في جواز التداوي بالخمر وعدم الجواز وهي الحنفي والمالكي والشافعي وأن المذهب الحنبلي فقط لا يجيز شربها للتداوي فيما علمت، وبعد وضعنا نصب أعيننا ما رواه وائل بن حجر أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه عنها: فقال: ((إنما أصنعها للدواء؟ فال: إنه ليس بدواء ولكنه داء)) وقول ابن مسعود في المسكر الذي ذكره البخاري: أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم، وما رواه الإمام أحمد عن مخارق: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة وقد نبذت نبذًا في جرة، فخرج ولا نبيذ يهدر فقال: ((ما هذا؟)) فقالت: فلانة اشتكت بطنها، فنقعت لها، فدفعه برجله فكسره، وقال: ((إن الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاء)) ، وبعد العلم أنه لا منازع في عموم قوله تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} وأنهم اختلفوا في تخصيص القرآن العام بالسنة واتفقوا على عدم تخصيص عموم القرآن بالحديث الضعيف، وبعد العلم بما أولت به هذه الأحاديث وما شابهها من قبل القائلين بجواز التداوي بالمحرمات وبالمسكر منه فقالوا: إن الأحاديث المانعة من التعالج بالخمر محمولة بالمحرمات وبالمسكر منها فقالوا: إن الأحاديث المانعة من التعالج بالخمر محمولة على أن الحرمة ارتفعت بالضرورة، أو الحاجة منزلتها لما يلحق تارك التعالج بها من انخرام في صحته، أو لحاق شديد الحرج به إن لم يتداو بها، فلم تتناول الأحاديث المذكورة، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك في أمراض عرف لها دواء طاهر ميسور غيرا لخمر أو أنها محمولة على الخمر صرفًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1161 فإذا وعينا كل هذا وأضفنا إليه أن مادة الكحول في عالمنا المعاصر لها الأثر الفعال في ميدان التطبيب وقاية وعلاجًا، وأن كثيرًا من الأدوية كما جاء بالسؤال تحوي على كميات منها تتراوح بين 01? و 25? وأن معظم هذه الأدوية من أدوية الزكام واحتقان الأنف والحنجرة والسعال وغيرها من الأمراض المنتشرة لا سيما في البلاد البردة، وأن هذه الأدوية تمثل ما يقارب 95? من لأدوية، وأن الحصول على أدوية غير كحولية عملية صعبة وشاقة، وأن علما لطب أثبت لبعض الأدوية التي يتوقف علاج بعض الأمراض عليها كالبنيسلين ضررًا، ولكنه أخف من المرض المعالج به، وأن من قواعد فقهاء الإسلام المتعارفة بينهم: أن الضرر الأشد يزال بالأخف (1) وأنه من القدر الدواء، وأن التداوي إن لم يكن ضروريًا فهو حاجي، وأن الحاجة عامة كانت أو خاصة تتنزل منزلة الضرورة (2) وأن الضرورة أو الحاجة تقدر بقدرها (3) وانطلاقًا من كل ما سلف، وترتيبًا عليه أفتي وأنا فقير ربه محي الدين قادي وإني بدار الغربة بجواز التداوي بالأدوية الكحولية متى أخبر بنفع ذلك طبيب عارف بمهنته، ثقة فيها، ولم يوجد دواء غير كحولي ميسور، أو كان دون الكحولي في النفع فدين الله يسر، وليس بعسر، والله أعلم.   (1) ابن نجيم: الأشباه والنظائر: 96 (2) السيوطي، الأشباه والنظائر: 88 (3) السيوطي، الأشباه والنظائر: 88 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1162 السؤال الثالث عشر هناك الخمائر والجلاتين توجد فيها عناصر مستخلصة من الخنزير بنسب ضئيلة جدًا، فهل يجوز استعمال الخمائر والجلاتين؟ وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد والله ولي التوفيق فأقول: هناك قاعدة مشهورة: " الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ومعرفة حكم استعمال هذه الخمائر والجلاتين يتوقف على تصورنا لحقيقتها". جاء في دائرة المعارف لمحمد فريد وجدي: يسمى بالخميرة أجسام متعضونة لا ترى إلا بالميكروسكوب، وهي قد تكون نباتية أو حيوانية تحيا وتنمو في بعض الأجسام العضوية، فتحيلها إلى متحصلات أخرى، العمل الكيماوي الذي تحدثه الخميرة يسمى " تخميرًا " (1) كما ورد في نفس الموضوع ذكر الجلوتين باعتباره مادة تخمر الأشياء (2) وبهذا التصور الإجمالي لكلمتي خمائر وجلاتين، وبعد معرفتنا أن السؤال وارد عن بعض هذه الخمائر والجلاتين المحتوي على نسب ضئيلة من أكياس توجد في معدة الخنزير بالنسبة إلى الخماير أو من عظمه بالنسبة إلى الجلاتين، وأن هذه النسبة الضئيلة جدًا أقول: إن الخلاف جار بين الفقهاء في كون النجاسة تطهر بالاستحالة أو لا؟ قال ميارة عن كلامه على ما يظهر بالاستحالة: "ومنه القمح النجس يزرع، فينبت هو طاهر.. ومنه الخمر إذا تحجر، أي جمد، وصار طرطارًا على المشهور وكذلك إن صارت خلًا، وفي ذلك طريقتان: طريقة ابن رشد: إن تخللت بنفسها فلا خلاف في طهارتها، ومحل القولين إذا خللها صاحبها بالمعاناة والمعالجة. والطريقة الثانية: أن القولين في المخللة بذاتها، والمخللة بالصنعة حكاها عياض عن وضاح. ولأبي محمد عبد الواحد الونشريسي في نظم إيضاح المسالك لوالده: ولابن رشد حل ما تخللا بنفسه، والخلف فيما خللا (3) وجاء في البيان والتحصيل لابن رشد: "قال ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب الضحايا: في الجدي يرضع الخنزيرة، أحب إلى أن لا يذبح حتى يذهب ما فيه بطنه ولو ذبح مكانه لم ير به بأسًا" (4)   (1) دائرة المعارف: 3/ 795 (2) دائرة المعارف: 3/ 795 (3) الشرح الكبير على المرشد المعين: 88 - 89 (4) البيان والتحصيل: 1/ 155 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1163 ولعل النظير والشبيه لهذه القضية المطروحة ما جرى بالمغرب الأقصى في القرن الثالث عشر الهجري حين أخبر بعض الثقات ممن له مزيد فطنة، ويتيقظ أن سكر القالب الذي جلب من بلاد الروم، ويجعلون فيه الدم المسفوح عند طبخه للتصفية، ثم يبالغون فيه بالعمل طبخًا وتصفية إلى أن يصير في النهاية من البياض والصلابة مفرغًا في القوالب على الشكل المواصل إلينا، وكثر التساؤل نظمًا ونثرًا عن حكم ما استعمل فيه من المشروبات والمأكولات أهو الجواز أو الحرمة؟ وتعددت الإجابات، واختلفت. وممن أجاب عن السؤال وأجاب أبو الربيع سليمان الحوات في نحو كراسة، ومما جاء في إجابته، "وهب أن تنجيس النصارى للسكر بما ذكر، قد ثبت الثبوت المعتبر، بل تواتر فيما مضى وغبر، لا يحرم أكله، ولا يمنع بيعه لطهارته بعد الاستحالة إلى صلاح، وعدم استقذاره فإنه دم منعقد طاهر لاستحالته إلى صلاح، وإن كان جزء حيوان، لاتصافه بنقيض علة النجاسة، وهي علة الاستقذار وقد قال الحطاب: إن جواز أكله كالمعلوم من الدين بالضرورة، وكلام الفقهاء في أكل المحرم الطعم الممسك دليل على ذلك. وقد صحح البرزلي جواز استعمال ما يصبغ بالدم، أو بالبول، وأجراهما على النجاسة تنقلب أعيانها إلى صلاح، وأما طهارته لكثرة الأعمال فيه، من تكرار طبخه مرارًا، والسكر في أوان تختلف بحسب كل طور من أطوار طبخه، إلى غير ذلك مما في التذكرة للشيخ داود فكأنه به أحمر قان مائع، فإذا هو أبيض جامد كالحجارة أو أشد لا أكثر لعين الدم النجس فيه بحال طعمًا ولا لونًا، لا ريحًا، وإذا تحقق ذهاب عين النجاسة فلا معنى لمنع ما سواه نحو ما في الرحلة العياشية عن سيدي أحمد بن عمران في الملف الذي يصنع ببلاد الروم من الصوف لمنتوف من الغنم الحية، إن الجزء النجس منها لا يبقى مع الأعمال الكثيرة التي يصير بعدها ملفًا بالغ الصنعة من دق وغسل وقصر وغزل، ونسيج وغير ذلك، بل يضمحل بالكلية، فلا يمنع حينئذ من لبسه لتحقق ذهاب عين النجاسة منه، ودون هذه الأعمال المتداولة على السكر والملف بكثير عمل الزيت المتنجس، وقد أفتى المازري بجواز استعماله إن لم يتغير أحد أوصافه، وقال: إنه الصحيح عندي على أصل المحققين ثم التطهير بكثرة الأعمال في المتنجس كالسكر والزيت أظهر منه في نفس النجس الذي هو الصوف المنتوف كما أنه أظهر فيهما معا من الطعام الذي طبخ فيه روث الفرس وهو غالب على الطعام وقد أفتى ابن عرفة بأكله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1164 لا يقال: إن هذا السكر يحتمل عقلًا أن يبقى فيه شيء من أثر الدم النجس ولو بولغ في أعماله؛ لأنا نقول: هذا الاحتمال إنما هو من جملة التجويزات العقلية وهي لا تعتبر في الأحكام الفقهية التي هي على غلبة الظن مبنية على أنه احتمال جار عقلًا في أكثر الأشياء دائمًا، إذ ما من طعام، أو شراب أو ثياب أو غيرها إلا وهو محتمل عقلًا لتعلق شيء من النجاسة به، ولا ينتفي الاحتمال عنه بتكرر الأعمال فيه أبدًا، فالاستثناء إذن في ذلك إنما هو إلى حكم العادة ولا إلى مجرد التجويز العقلي (1) وقال ابن تيمية من فقهاء الحنابلة: الاستقراء دلنا أن كل ما بدأ الله بتحليله وتبديله من جنس إلى جنس مثل جعل الخمر خلا، والدم منيا، والعلقة مضغة، ولحم الجلالة الخبيث طيبا، وكذلك بيضها ولبنها والزرع المسقى بالنجس إذا سقي بالماء الطاهر وغير ذلك، وأنه يزول حكم التنجيس، ويزول حقيقة النجس، واسمه التابع للحقيقة، وهذا ضروري لا يمكن المنازعة فيه فإن جميع الأجسام المخلوقة في الأرض فإن الله يحولها من حال إلى حال ويبدلها خلقًا بعد خلق، ولا التفات إلى موادها وعناصرها. وأما ما استحال بسب كسب الإنسان كإحراق الروث حتى يصير رمادًا ووضع الخنزير في الملاحة حتى يصير ملحًا ففيه خلاف مشهور، والقول بالتطهير اتجاه وظهور (2) وانطلاقًا من كل النصوص الفقهية التي نقلت والمقتضية أن النجاسة تطهر بالاستحالة أفتي إخواني المسلمين في بلاد الغربة وغيرها من بلاد الإسلام بحلية ما تستعمل فيه الخمائر والجلاتين المذكورة، واستعمال غيره من الخمائر النباتية، أو الجلاتين التي تحتوي على نسب من عظم حيوانات مذكاة ويحل لنا أكلها كالبقر أولى وأدخل في باب اتقاء ما يريب، والله أعلم.   (1) محمد الطالب بن حمدون بن الحاج السلمي، حاشية على الشرح الصغير لميارة علي المرشد: 146 - 147 (2) ابن تيمية، الفتاوى: 21/ 600 - 601 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1165 السؤال الرابع عشر يضطر معظم المسلمين إلى إقامة حفلات الزفاف لبناتهم في مساجدهم، وكثيرًا ما يتخلل هذه الحفلات رقص وإنشاد، أو غناء، ولا تتوفر لهم أماكن تتسع لمثل هذه الحفلات، فما حكم الإقامة هذه الحفلات في المساجد؟ في الجواب عن هذا السؤال أفيد والله ولي الهداية والتسديد فأقول: لقد ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بإعلان النكاح، والضرب بالدفوف، ورفع الأصوات بالغناء فعن محمد بن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت والنكاح)) رواه الخمسة إلا أبا داود، وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالغربال)) 9. وعن ابن عباس قال: أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أهديتكم الفتلة؟ قالوا: نعم، قال: أرسلتم معها من يغني؟ قالت: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأنصار قوم فيها غزل، فلو جمعتم معها من يقول: أتيناكم، أتيناكم ... فحيانا، وحياكم)) رواهما ابن ماجه (1) وفي هذه الأحاديث التي سقتها دليل على جواز ضرب الأدفاف، ورفع الأصوات بشيء من الكلام نحو: أتيناكم الخ.. وما يشاكله، لا بالأغاني المهيجة للشرور، المشتملة على وصف الجمال والفجور، ومعاقرة الخمور فإن ذلك يحرم في النكاح كما يحرم في غيره، وكذلك سائر الملاهي الملهية (2) وقلت في صدر الكلام: ورد الأمر في السنة وظاهر الأمر الوجوب ولعله لا قائل به فيكون مسنونًا (3) وذلك بالشرط السالف الذكر.   (1) ابن تيمية الجد، منتقى الأخبار، كتاب النكاح، باب الدف واللهو في النكاح: 6/ 336 (2) الشوكاني، نيل الأوطار: 6/ 337 (3) الصنعاني، سبل السلام: 3/ 117 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1166 إذن حفلات الزفاف إذا روعيت فيها الآداب الإسلامية مندوب غليها مرغب فيها لكن إقامتها في المساجد هي مركز الاهتمام، قال محمد بن رشد: المساجد إنما اتخذت لعبادة الله عز وجل بالصلاة والذكر والدعاء فينبغي أن تنزه عما سوى ذلك، قال الله عز وجل {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أي أمر بذلك، ومن ترفيعها ألا ينشد فيها الشعر (1) وقال خاتمة المحققين ابن عابدين الحنفي: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنشد الأشعار في المسجد.. ووفق بينه وبين ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم وضع لحسان منبرًا ينشد عليه الشعر، يحمل الأول على ما كانت قريش تهجو به ونحوه مما فيه ضرر، أو على ما يغلب على المسجد حتى يكون أكثر من فيه مشتغلًا به (2) وقيد رحمه الله الإنشاء بنشيد الأعراب وهو إنشاد الشعر من غير لحن (3) والقضية التي وقعت الإشارة إليها في كلام ابن رشد الجد عجوز المذهب كما يلقب عند المالكية، وعند العلامة ابن عابدين الذي أدركنا شيوخنا بجامع الزيتونة يلقبونه بخاتمة المحققين، في المذهب النعماني هي جواز إنشاد الشعر بالمساجد أو منعه، واختلاف الفقه في ذلك لورود أحاديث متعارضة في ظاهرها، فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن عمر رضي الله عنه مر بحسان بن ثابت رضي الله عنه ينشد في المسجد فلحظ إليه –أي نظر إليه وكان حسان فهم من نظرة عمر إنكاره لصنيعه) فقال: قد كنت أنشد فيه، وفيه خير منك –يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم- متفق عليه. وفي هذا الحديث الشريف جواز إنشاد الشعر في المسجد، وقد عارضته أحاديث أخر، منها ما أخرجه ابن خزيمة وصححه الترمذي من حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تناشد الأشعار في المسجد. وقد وقع الجمع بين هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض بما ذكره العلامة ابن عابدين وبغيره لكن الوجه الأخير من وجه التوفيق بين هذه الأحاديث المتعارضة هو الصواب، والوجه الأول مردود بحديث جابر بن سمرة الذي رواه الإمام أحمد عنه قال: ((شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة في المسجد وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت، فربما تبسم معهم)) أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح.   (1) البيان والتحصيل: 1/ 237 (2) رد المحتار على الدر المختار: 1/ 444 (3) رد المحتار على الدر المحتار: 1/ 443 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1167 وفي هذا الحديث التصريح بأنهم يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية، فيكون المنهي عنه ما إذا كان التناشد غالبًا على المسجد حتى يتشاغل به من فيه، وقد قيد ابن العربي إنشاد الشعر في المسجد بعدم رفع الصوت بالإنشاد بحيث يشوش بذلك على مصل أو قارئ أو منتظر الصلاة، فإن أدى إلى ذلك كره، ولو قيل بتحريمه لم يكن بعيدًا (1) وقال الونشريسي من فقهاء المالكية: أجاز الشيوخ قراءة الحساب في المسجد وإعراب الأشعار الستة بخلاف قراءة المقامات لما فيها من الكذب والفحش، وكان ابن البراء بالجامع الأعظم بتونس لا يقرؤها فيه إلا بالدويرة منه، إذ ليس للدويرة حكم الجامع. قال ابن عرفة: وفي فتوى ابن رشد بإدخال من لا غنى له عن مبيته بالمسجد من سدنته لحراسته، ومن اضطر لمبيت به من شيخ ضعيف أو زمنٍ أو مريض، أو رجل لا يستطيع الخروج ليلًا للمطر والريح والظلمة ظروفًا لها للبول نظر، لأن ما يجوز له اتخاذه بها غير واجب، وصونها عن ظروف البول واجب، ولا يخل في نفل بمعصية، ولا تسل به سيوف، ولا يحدث به حدث الريح، وعمل الحبشة به منسوخ، قال عياض: ولأنه من أعمال البر. وأفتى ابن لبابة أيضًا وأصحابه بعدم منع المستحلقين في المسجد للخوض في العلم وضروبه لفعل الأئمة ومالك، قال سهل: إطلاقه غير صحيح إنما ذلك لمن يوثق بعلمه ودينه، وقصر كلامه على ما يعلمه في غير أوقات الصلوات حتى لا يضر بالمصلي، أهـ.   (1) الشوكاني، نيل الأوطار: 2/ 168 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1168 قال ابن عرفة: وهذا التقييد صحيح لانعقاد الإجماع على عدم قبول الفتيا من مجهول الحال حتى يشتهر بالعلم والدين (1) فإذا كانت المقامات لا تقرأ بجامع الزيتونة من طرف لإمامة ابن البراء فيه وإنما تقرأ في الدويرة: بالرغم على أنها تقرأ للتعلم أو التعليم. وإذا منع من اضطر لمبيت بالمسجد من مريض وزمن، وعاجز عن الخروج بالليل لمطر لاحتياجه إلى ظروف البول، والواجب تنزيه المسجد عنها، جريًا على القاعدة التي رواها أشهب عن مالك: لا يدخل في نفل بمعصية، وإذا كان رقص الحبشة في المسجد النبوي الشريف بالدف والحراب بحضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو مدرسة لتعلم فنون الحرب في ذلك الزمن قد اختلف العلماء فيه، فمن قائل بالنسخ ومن قائل: إنه عمل من أعمال البر. وإذ كانت حِلَقِ العلم تقيد العلوم والمعارف التي تلقى فيها بعلم الحق، حتى لا يقال في بيت من بيوت الله أن ترفع باطل، وبصحة الدين حتى تراعى آداب المسجد، ويقيد وجودها في غير أوقات الصلوات حتى لا يشغل ذلك مصلٍّ وإلا كان المنع منها. وإذا كان هذا التقييد من طرف بن سهل بما ذكر لكلام ابن لبابة يكفي التأييد من الإمام ابن عرفة رحمه الله مدعمًا له بأن الإجماع على عدم قبول الفتيا من مجهول الحال حتى يشتهر بالعلم والدين. وإذا كان كل ذلك فكيف تنتهك حرمة المسجد الذي هو بيت الله، ومكان العبادة والذكر والتسبيح، بالغناء المثير للشهوة الجنسية، وبالرقص الذي هو من أعظم المهيجات لها في شتى أنماطه وأشكاله في التي تشتمل على تثن وانعطاف لا سيما النمط الغربي فهو مغرق في التهييج لها، وصورة مصفرة من الزنا، هذا أولًا، وثانيًا: سئل إمام دار الهجرة عن الغناء الذي يفعل بالمدينة فقال: إنما يفعله عندنا الفساق.   (1) المعيار: 11/ 13 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1169 وهذا محمول على غناء النساء، وأما الرجال فغناؤهم مذموم أيضًا، بحيث إذا داوم أحد على فعله أو سماعه سقطت عدالته، لما فيه من إسقاط المروءة ومخالفة السلف، حكى عياض عن التميمي أنه قال: كنا عند مالك وأصحابه حوله فقال رجل من أهل نصيبين: يا أبا عبد الله، عندنا قوم يقال لهم الصوفية، يأكلون كثيرًا، ثم يأخذون في القصائد ثم يقومون فيرقصون؟ فقال مالك: أصبيان هم؟ قال: لا، قال: أمجانين هم؟ قال: لا، قوم مشائخ وغير ذلك عقلاء، فقال مالك: ما سمعت أحدًا من أهل الإسلام يفعل هذا. انظر كيف أنكر مالك وهو إمام السنة أن يكون في أهل الإسلام من يفعل هذا إلا أن يكون مجنونًا أو صبيًا، فهذا بين أنه ليس من شأن الإسلام، ثم يقال: ولو جعلوه على جهة اللعب كما يفعله الصبي، لكان أخف عليهم مع ما فيه من إسقاط الحشمة وإذهاب المروءة، وترك هدي أهل الإسلام وأرباب العقول (1) ولنتأمل في نص هذه الفتوى من إمام دار الهجرة ومن التعليق عليها الوارد في معيار الونشريسي في الغناء والرقص، ولنقف عند الغناء في أي مكان من الغناء المحتوي على الغزل والفجور صناعة الفساق وعد الرقص ولو من طرف من يفعلونه تقربًا إلى الله كالصوفية من البدع المنكرة، لنعرف على أي خطر سيقدم من يقيم حفلة فيها رقص وغناء في بيت من بيوت الله التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه، لأنه يمارس في المسجد الغناء وهو فعل الفساق، والرقص ذا التثني والانعطاف والمثير للشهوة وهو صورة مصغرة من الزنا إذا كان في شكله الغربي، ولا ضرورة تدعو لذلك حتى في غير المساجد، إذ الضرورة هي التي إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة يدل على فساد وفوت حياة وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم. (2) وانطلاقًا من كل ذلك أُفتي بحرمة التجمعات المختلطة من الجنسين في المساجد إذا لم تراع فيها الآداب المطلوبة في الفقه الإسلامي من جلوس المرأة في قاع المسجد، وبحرمة ممارسة الرقص والغناء في المساجد وعد ذلك من أشد المنكرات المسقطة للعدالة والمذهبة للمروءة. والله أعلم.   (1) المعيار: 11/ 41 (2) الشاطبي: الموافقات 2/ 4 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1170 السؤال الخامس عشر ما حكم زواج الطالب والطالبة المسلمة زواجًا لا ينوي استدامته، بل النية منعقدة عنده على إنهائه بمجرد انتهاء الدراسة والعزم على العودة إلى مكان الإقامة الدائم ولكن العقد يكون –عادة- عقدًا عاديًا وبنفس الصيغة التي يعقد بها الزواج المؤبد فما حكم هذا الزواج؟ وفي الجواب عن هذا السؤال أقول –ومنه جل جلاله بلوغا المأمول-: إن حكم زواج الطالب المسلم بدار الغربة زواجًا لا ينوي استدامته، بل نيته منعقدة على إنهاءه بمجرد انتهاء الدراسة، والعزم على العودة إلى دار الإسلام الجواز. جاء في الشرح الكبير لأبي البركات سيدي أحمد الدردير: وحقيقة نكاح المتعة الذي يفسخ أبدًا أن يقع العقد مع ذكر الأجل للمرأة أو وليتها، وأما إذا لم يقع ذلك في العقد، لم يعلمها الزوج بذلك، وإنما قصده في نفسه، وفهمت المرأة أو وليها المفارقة بعد مدة فإنه لا يضر. وهي فائدة تنفع المتغرب (1) لكن قال مالك –رحمه الله- ليس من أخلاق الناس (2) المعنى أن النكاح كما ذكر في قول أبي البركات صحيح في قول عامة أهل العلم إلا الأوزاعي قال: هو نكاح المتعة. ثم قال: إنه لا بأس به، ولا تضر نيته، وليس على الرجل أن ينوي حبس امرأته وحبسه إن وافقته وإلا طلقها. (3) وأما المطالبة الواردة في السؤال فهي مقحمة لا معنى لإقحامها في السؤال، إذ المرأة لا تملك فك العصمة، وإنما ذلك ملك للزوج قال عليه الصلاة والسلام "إنما الطلاق لمن أخذ بالساق" رواه الدارقطني وابن ماجة، وأخرجه الطبراني وابن عدي. ولكن قال شيخنا محمد الحطاب بوشناق المفتي الحنفي بمحروسة تونس سابقًا: وإنما للمرأة أن تشترط وقت النكاح أن تكون عصمتها بيدها فيصير الطلاق حينئذ من حقوقها توقعه في أي وقت. (4) وترتيبًا على ما ذكر أفتي - وأنا الفقير إلى ربه الغني محيي الدين قادي - إخواني بدار الغربة بذلك. والله أعلم.   (1) الشرح الكبير: 2/ 239 (2) د. محمد سويسي، الفتاوى التونسية في القرن الرابع عشر الهجري: 2/ 812 مرقونة. (3) ابن قدامة. المغني: 6/ 665 (4) د. محمد سويسي، الفتاوى التونسية في القرن الرابع عشر الهجري: 2/ 810 مرقونة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1171 السؤال السادس عشر بعض الحكومات النصرانية (خاصة في أمريكا الجنوبية) تفرض على رعاياها التسمي بالأسماء النصرانية، وتضع قوائم بأسماء اختارتها للأطفال ذكورًا كانوا أو إناثًا، ولا تسمح بتسجيل المواليد بأسماء تختار من غير هذه القوائم، فما حكم تسمي المسلمين بهذه الأسماء؟ وما الحلول التي تقترحونها في هذه الأحوال؟ وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد –والله ولي الفتح والتسديد-: التسمي بالأسماء النصرانية جائز للمسلم ما لم يكن فيه انتماء لصنم، أو وثن، أو عبودية لغير الله كعبد المسيح، أو تبرك بمتعبداتهم كابن كنيسة القيامة، أو نصراني أو نصرانية يزعمون أنهما من الصالحين، ولم يثبت ذلك عندنا، أما إذا جاء في شرعنا الإسلامي نسبته إلى الصلاح كمتى ويهوذا، أو برنبا من حواري السيد المسيح عليه السلام فيجوز للمسلم أن يسمي ابنه بذلك الاسم، بل يندب إليه لأنه اسم لولي من أولياء الله، ولأنه قصد به التفاؤل، أو إشعار بتزكية كصلاح الدين ومحيي الدين ذكر ذلك العلامة ابن عابدين وذكر أن بعض المالكية ألف في منع الأسماء المشعرة بتزكية مؤلفًا خاصًا، ونقل عن القرطبي المالكي التصريح بذلك في شرح أسماء الله الحسنى، كما نقل عن الإمام النووي أنه كان يكره من يلقبه بمحيي الدين، يقول: لا أجعل من دعاني به في حل. (1) فإذا خلا الاسم النصراني أو غيره عما ذكرته جاز بصورة عامة، وندب إذا قصد به صاحبه التفاؤل لمن سماه به كما ذكرت.   (1) يراجع رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين: 5/ 268 - 269 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1172 ويندب لإخواننا المسلمين في بلاد الغربة أن يراعوا الآداب التي نص عليها فقهاء الإسلام في تسمية البنين والبنات ما استطاعوا لذلك سبيلًا، فيختارون من ضمن هذه القوائم ما تعريبه عبد الله، أو عبد الرحمن، إن وجد هذان الاسمان في القوائم المعدة المفروضة على المتواجدين ببعض الحكومات النصرانية، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم من طريق نافع عن ابن عمر رفعه: ((إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن)) واختار له اسمًا من أسمائه عليه الصلاة والسلام غير المشهور به كمحمد وأحمد فمثلًا يسميه "الطيب" أو من أسماء إخوانه الرسل على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام كإلياس واليسع ودنيال، لما روى عن سعيد بن المسيب أنه قال: ((أحب الأسماء إلى الله تعالى أسماء الأنبياء)) ولا تعارض بين الحديث الأول وبين هذا الحديث، إذ الأول محمول على من أراد التسمي بالعبودية، لأن أهل الجاهلية كانوا يسمون عبد شمس عبد الدار وإلا فمحمد وأحمد ومحمود أحب إلى الله تعالى من جميع الأسماء، فإنه لم يختر لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أحب الأسماء إليه، هذا هو الصواب، ولا يجوز حمل الحديث الأول على الإطلاق. (1) وأنا أقول: إن باقي الخمس والعشرين من الرسل المذكورين في القرآن الكريم ليس فيهم واحد مدعو بعبد الله، أو عبد الرحمن، وقد سمى رسول الله أبناءه الذكور –خلا عبد الله- بغير العبودية فسمى مثلًا ابنه من مارية القبطية إبراهيم" عليه السلام باسم أبينا إبراهيم عليه السلام. وكذلك هم مطلوبون على وجه الندب بتحسين أسماء أولادهم من ضمن تلك القوائم "كوروجو" أي الشجاع اسم حسن، و"شربوني" أي الفحام اسم خلاف ذلك.   (1) يراجع رد المحتار لابن عابدين: 5/ 268 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1173 ((فعن ابن المسيب عن أبيه أن أباه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما اسمك؟ قال: حزن، قال: أنت سهل، قال: لا أغير اسمًا سمانيه أبي، قال ابن المسيب: ما زالت الحزونة فينا بعد)) ومقياس الاسم الحسن هو: أن لا تستكَّ من سماعه المسامع، وأن يصل إلى النفس من أقرب سبيل، ويؤخذ منه فأل حسن، وقد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما رواه أبو داود ((العاصي وعتلة، وشيطانًا، وغربا، وحبابا، وشهابا، وحربا)) وكان لعمر بنت تسمى عاصية فسماها جميلة، روى مالك في الموطأ في كتاب الجامع فيما يكره من الأسماء ((عن يحيى بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: للقحة تحلب: من يحلب هذه؟ فقام رجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما اسمك؟ فقال له الرجل: مرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجلس، ثم قال: من يحلب هذه؟ فقام رجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ فقال: حرب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجلس، ثم قال: من يحلب هذه؟ فقام رجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ فقال يعيش، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: احلب)) وروي عنه أيضًا في نفس الكتاب والباب: أن عمر بن الخطاب قال لرجل: ما اسمك؟ فقال: جرمة. فقال: ابن من؟ فقال: ابن شهاب، قال: ممن؟ قال: من الحرقة، قال: أين مسكنك؟ قال: بحرة النار، قال: بأيها؟ قال: بذات لظى، قال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا، قال: فكان كما قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه. والحديث الأول ما تضمنته ليس طيرة لأنه من المحال أن ينهى عليه الصلاة والسلام عن الطيرة ويتطير، وإنما هو من باب الفأل الحسن وقد كان أخبرهم عن سيئ الأسماء: حرب ومرة، وأكد ذلك حتى لا يتسمى بهما أحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1174 والحديث الثاني كذلك يأمر بتحسين الاسم واحتوائه على فأل حسن، والأمر بتحسين الأسماء، وبتغيير الاسم إلى ما أحسن منه ليس على سبيل الوجوب كما ذكر ذلك ابن بطال في شرحه لحديث سعيد بن المسيب، وقد ورد ذلك صريحًا فيما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان من حديث أبي الدرداء رفعه: ((إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم..)) ورجاله ثقات، قال الطبري، لا تنبغي التسمية باسم قبيح المعنى، ولا باسم يقتضي التزكية له، ولا باسم معناه السب. (1) وليلاحظ أن ابن جرير لا يرى في الاسم المُشْعِر بتزكية أكثر من ترك مندوب بينما يراه ابن عابدين كما أسلفت من الحرام التسمية به، وهو مذهب المالكية للنهي عن تزكية النفس قرآنًا وسنة، أما القرآن فقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} والآية تقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل، فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له. وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: ((سميت ابنتي برة فقالت لي زينت بنت أم مسلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت بَرَّةَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم، فقالوا: بم نسميها؟ فقال: سموها زينب)) فقد دل الكتاب والسنة على حرمة أن يزكي الإنسان نفسه، قال القرطبي وعقب عليه بقوله: ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية كزكي الدين ومحيي الدين وما أشبه ذلك، ولكن لما كثرت قبائح المسلمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئًا. (2)   (1) ابن حجر: الفتح: 10/ 755 و 757 (2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 5/ 246 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1175 وإن لم يتسن لإخواننا المسلمين في بلاد الغربة مراعاة الآداب المطلوبة في تسمية الولد فالتسمية باسم لم يذكر الله تعالى في عباده، ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا استعمله المسلمون فالأولى أن لا يفعل كما تكلموا، هذا ما قاله ابن عابدين، والمسلم مختار في تسمية ولده تمام الاختيار وليس مجبورًا على قوائم بعينها لا يتجاوزها، والظاهر أنه في الأسماء البديعة لا ما عرف من أسماء المسلمين من فرس كقاشاني، أو روم كمارية أو غيرها بعد الفتوح الإسلامية ودخول أمم عديدة في الإسلام وبقائها على أسمائها، لأن الأحكام الشرعية لا تناط بالأسماء، وقد أخطأ بعض الفقهاء في صنف من الحيتان يسميه البعض خنزير البحر، فقالوا: يحرم أكله لأنه خنزير، ومن أجل ألا يقع خطأ في إناطة الحكم بالاسم كره مالك –رضي الله عنه- أن يسمى هذا النوع من الحيتان بخنزير الماء، ومن أجل أن المراعى في التسمية اقتران الاسم بصفته وحقيقته، وأن لا يفتى بحلية التسمية به أو حرمة ذلك إلا بعد معرفة ما ذكر أنذر رسول الله طائفة من أمته يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها منكرًا ذلك عليهم فقال: ((ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)) رواه أحمد وابن أبي شيبة، فتغيير الاسم لا يؤثر بمنطوق الحديث الشريف في تحليل الحرام، كذلك لا يكون مؤثرًا في تحريم الحلال، وبعبارة أحوط واشمل لا تكون الأسماء مناط الأحكام، ولكنها تدل على مسمى ذي أوصاف تلك الأوصاف هي مناط الأحكام فالمنظور إليه هو الأوصاف خاصة (1) فالاسم النصراني ما خلا عما اشترطناه في صدر هذه الفتوى وقعت التسمية به على ما وصفت في الحكم، وليس ذلك من الركون إلى الكفار المنهي عنه بقوله تعالى {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} لأن المسلم لا يميل كما هو إطار السؤال إلى الأسماء الموجودة بهذه القوائم، ولكن لا مندوحة له عنها. وانطلاقًا من كل ذلك وترتيبًا على ما ذكر أفتي وأنا الفقير إلى مولاه الغني محيي الدين قادي إخواني في بلاد الغربة أن يسموا أبناءهم بالأسماء النصرانية ما خلت عن شرك أو تبرك بمن يزعمه النصارى من الصالحين أو تزكية، أو تحريف لاسم مقدس في الإسلام وله حرمة، والله أعلم، وهو ولي التوفيق.   (1) سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور –رحمه الله- المقاصد: 0/ 155 – 111- 112 بتصرف واختصار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1176 السؤال السابع عشر ما حكم ظهور المرأة في محلات العمل، أو الدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبيها وتكتحل؟ وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد –والله الموفق للصواب-: أن أخذ المرأة من حاجبيها جرى فيه الخلاف بين فقهاء الإسلام فقد جاء في أحكام القرآن لابن العربي أن ذلك من تغيير خلق الله حيث يقول وهو يفسر ما اشتمل عليه قوله تعالى: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} الآية. المسألة السادسة: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والواشرة والمؤتشرة، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)) . وذكر أن النامصة ناتفة الشعر تتحسن. (1) قال القرطبي: واختلف في المعنى الذي نهى لأجلها، فقيل: لأنها من باب التدليس، وقيل: من باب تغيير خلق الله. كما قال ابن مسعود وهو أصح، وهو يتضمن المعنى الأول. ثم قيل: هذا المنهي عنه إنما هو فيما يكون باقيًا، لأنه من باب تغيير خلق الله تعالى، فأما ما لايكون باقيًا كالكحل والتزين به للنساء فقد أجاز العلماء ذلك: مالك وغيره، وكرهه مالك للرجال قال الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور –رحمه الله-: وليس من تغيير خلق الله التصرف في المخلوقات بما أذن الله فيه، ولا ما يدخل في معنى الحسن فإن الختان من تغيير خلق الله، ولكنه لفوائد صحية، وكذلك حلق الشعر لفائدة د\فع الأضرار، وتقليم الأظافر لفائدة تيسير العمل بالأيدي. وكذلك ثقب الآذان للنساء لوضع الأقراط والتزين. وأما ما ورد في السنة من لعن الواصلات، والمتنمصات والمتفلجات للحسن، فمما أشكل تأويله، وأحسب تأويله أن الغرض منه النهي عن سمات كانت تعد من سمات العواهر في ذلك العهد، أو من سمات المشركات، وإلا فلو فرضنا هذه منهيًا عنها لما بلغ النهي إلى حد لعن فاعلات ذلك. وملاك الأمر أن تغيير خلق الله إنما يكون إثمًا إذا كان فيه حظ من طاعة الشيطان، بأن يجعل علامة لنحلة شيطانية كما هو سياق الآية واتصال الحديث بها" (2)   (1) القرطبي: 1/ 501 (2) التحرير والتنوير: 5/ 205 - 206 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1177 وقد زاد هذا المعنى إيضاحًا في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية في المبحث الذي خصصه لبيان أن قصد الشريعة الإسلامية من أحكامها نوطها بمعان وأوصاف، لا بأسماء وأشكال وبرهن على ذلك بأدلة من السنة واجتهادات الفقه الإسلامي ومن بين ذلك ما علق به على حديث: ((لعن الواصلة والمستوصلة)) (1) الخ.. فقال: وكذلك قد أخطأ بعض المتقدمين في حكم وصل الشعر للمرأة ذات الزوج، وتفليج أسنانها، وتنميص حاجبيها، فجعل لذلك من التغليط في الإثم ما ينافي سماحة الإسلام تمسكًا بظواهر أثر يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن فيه الواصلة، والواشمة والمتفلجة والمتنمصة)) ، وأنا أجزم بأن ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا كان كذلك ورد عنه: إنما أراد به ما كان من ذلك شعارًا لرقة عفاف نساء معلومات، كما إذا قلنا بتونس: بئست المرأة التي تخرج لافة على يدها منديلًا". وقد قصد سماحة الأستاذ الإمام رحمه الله: أن هذه الأوصاف المذكورة في هذا الأثر ليست أوصافًا مقصودة للتشريع وإنما أوصاف مقارنة له لا تعلق لغرض الشارع بها. وقد ذكر في موضع آخر من كتابه السالف الذكر أن الفهم يكاد يضل في فهم المراد من حديث ابن مسعود إذ يرى ذلك صنفًا من أصناف التزين المأذون في جنسه. للمرأة كالتحمير والحلوق والسواك يتعجب من النهي الغليظ عنه، ثم وجهه رحمه الله – بما وجهه به من قبل من أن تلك الأحوال أمارات رقة حصانة المرأة، فالنهي عنها نهي عن الباعث عليها، أو عن التعرض لهتك العرض بسببها. وحيث اتضح لنا أن تلك الأوصاف ليست مقصودة للتشريع وإنما أوصاف مقارنة لا تعلق لغرض الشارع بها، وأن النهي عنها عن الباعث.   (1) مقاصد الشريعة: 111 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1178 وحيث روي عن أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- جواز الوصل للشعر لقصة الزينة للنساء بشعر أو غيره من صوف وخرق ولو أن رواية هذا القول عنها وصفها الإمام النووي –رضي الله عنه- بأنها لم تصح عنها، وأن الصحيح عنها كقول الجمهور وترتيبًا على هذه الرواية عن أم المؤمنين عائشة، والتي يدعمها ذلك التخريج القائم على سبر خلجات أغوار الشريعة الإسلامية أقول –والله الموفق للصواب-: إن أخذ المرأة شيئًا من شعر حاجبيها بالنماص ونحوه جائز في حاضرنا لفقدان علة النهي وهي أنه أمارة على رقة العفاف وإنما هو نمط من أنماط التزين للنساء الذي ليس فيه اتباع لنحلة شيطانية. وحيث ثبت ذلك أقول: إن ظهور المرأة في محلات العمل أو الدراسة بعد أخذها من شعر حاجبيها، واكتحالها جائز، لأنه من الزينة الظاهرة التي في سترها حرج عليها من طرف زوجها أو من جانب صورتها، أو من ناحية أترابها، وليس من اليسير إزالتها عند بدوها أمام الرجال وإرجاعها عند الخلو في البيت وكذلك ما كان محل وضعه غير مأمور بستره كالخواتيم، ذلك ما قاله العلامة أبو بكر بن العربي في بيان معنى الزينة الظاهرة ونقله عنه الأستاذ الإمام في التحرير والتنوير، (1) ولم أقف عليه في مظنته وهي قوله تعالى {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} في أحكام القرآن. ويعرض القرطبي إلى تفسير الزينة الظاهرة في قوله تعالى {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فيقول: قال ابن مسعود: ظاهر الزينة هو الثياب، وزاد ابن جبير: الوجه. وقال سعيد بن جبير أيضًا وعطاء والأوزاعي: الوجه والكفان ولثياب، وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة: ظاهر الزينة، هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع، والقرطة والفتخ ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس. وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آخر عن عائشة –رضي الله عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى هنا)) وقبض على نصف الذراع (2) وقال ابن العربي: قال ابن القاسم عن مالك: الخضاب ليس من الزينة الظاهرة، وقيده ابن العربي بما إذا كان في القدمين. (3) وترتيبًا على كل ما سبق نقله من نصوص أفتي وأنا فقير ربه محيي قادي بجواز ظهور المرأة في محلات العمل أو الدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبيها وتكتحل والله أعلم.   (1) التحرير والتنوير: 18/ 206 (2) الجامع لأحكام القرآن: 12/ 228 - 229 (3) الجامع لأحكام القرآن: 3/ 1369 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1179 السؤال الثامن عشر بعض المسلمات يجدن حرجًا في عدم مصافحتهن للأجانب الذين يرتادون الأماكن التي يعملن، أو يدرسن فيها، فيصافحن الأجانب دفعًا للحرج، فما حكم هذه المصافحة؟ وكذلك الحال بالنسبة لكثير من المسلمين الذين تتقدم إليهم نساء أجنبيات مصافحات وامتناعهم عن مصافحتهن يوقعهم في شيء من الحرج على حد ما يذكرون ويذكرن؟ وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد –والله ولي الفتح-: لم أر في أمهات المذهب المالكي إثارة هذه القضية، ولكنها في القرون الأخيرة أثيرت حين أصبح بعض طلاب الفقه يقولون: تحرم مصافحة الأجنبية مع قصد اللذة أو وجدانها وإلا فلا حرمة فجاء الجواب الصحيح من طرف بعض شيوخ المذهب عن حكم مصافحة المرأة الأجنبية، فقال الشيخ يوسف الصفتي في حواشيه على شرح ابن تركي على متن العشماوية، تحرم مصافحة المرأة لغير المحرم سواء حصلت لذة أم لا بغير حائل، وعزا نقله هذا إلى الشيخ على الصعيدي في حاشيته على شرح الخرشي على مختصر خليل، ثم حذر –رحمه الله – من خطأ بعض الطلاب في هذه المسألة فقال: فتنبه له، وقد أخطأ في كثير من الطلبة، وزعموا أنه إن حصل قصد اللذة أو وجودها فهو حرام، وإلا فلا، قياسًا على نقض الوضوء. وليس كذلك بل حرام مطلقًا. (1) ويقول الشيخ عبد الباقي الزرقاني في شرحه على مقدمة له "والمصافحة حسنة" أي مستحبة لرجل مع مثله، أو لامرأة مع مثلها، لا رجل ولو لمتجالة (المرأة التي لا أرب للرجال فيها) لأنها من المباشرة، إن لم يكن محرمها (2) وقول الصفتي: بلا حائل" مفهومه أنها مع وجود الحائل غير محرمة ولم أعثر على من صرح بحكم هذا المفهوم من فقهاء مذهبنا المالكي، وقواعده تأبى على الأخذ بمفهومات الكتب وأقوال المشائخ، واعتبارها حجة، قال القاضي أبو عبد الله المقري –رحمه الله- في قواعده الفقهية: لا يجوز نسبة التخريج والإلزام بطريق المفهوم أو غيره، إلى غير المعصوم عند المحققين لإمكان الغفلة أو الفارق، أو الرجوع عن الأصل عند الإلزام والتقييد بما ينفيه، أو إبداء معارض في المسكوت أقوى، أو عدم اعتقاد العكس إلى غير ذلك، فلا يعتمد في التقييد ولا يعد في الخلاف. (3)   (1) حواشي الصفتي: 31 (2) شرح الزرقاني: 337 - 338 (3) الونشريسي. المعيار: 6/ 376 - 377 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1180 لكن ورد جواز المصافحة للأجنبية بحائل صريحًا في فقه الشافعية حيث يقول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري –رحمه الله- في شرحه على منهجه ما نصه: "وحيث حرم نظر حرم مس"، لأنه أبلغ منه في اللذة بدليل أنه لو مس فأنزل بطل صومه ولو نظر فأنزل لم يبطل، فيحرم على الرجل دلك فخذ رجل بلا حائل" وتعقب محشية الشيخ سليمان الجمل قوله: "ويحرم على الرجل دلك فخد رجل بلا حائل" بأنه يجوز للرجل دلك فخذ الرجل بشرط حائل، وأمن فتنة، وأخذ منه حل مصافحته الأجنبية مع ذينك أي الحائل أمن الفتنة وأفهم تخصيصه الحل معهما بالمصافحة حرمة مس غير وجهها وكفيها من وراء حائل ولو مع أمن الفتنة، وعدم الشهوة، ووجهه أنها مظنة لأحدهما كالنظر. (1) وقد عرض لها العلامة الحصكفي في الدر المختار في كتاب الحظر والإباحة في الفصل الذي خصصه للنظر والمس فقال: "وما حل نظره حل لمسه إلا من أجنبية فلا يحل مس وجهها وكفها، وإن أمن من الشهوة، لأنه أغلظ، ولذا يثبت به حرمة المصاهرة. وهذا في الشابة، أما العجوز التي لا تشتهى فلا بأس بمصافحتها ومس يدها إذا أمن الفتنة. (2) وكره الإمام أحمد –رضي الله عنه- مصافحة النساء، وشدد أيضًا حتى لمحرم وجوزه لوالد ويتوجه، ولمحرم، وجوز أخذ يد عجوز شوهاء. (3) وبعد عرض نصوص فقه المذاهب الأربعة يبدو أنها مجمعة على حرمة مصافحة الأجنبية الشابة بدون حائل، لكن الذي يؤخذ أنها لم تعرض إلى الاستدلال على ذلك، والأدلة عليه قائمة، وأهمها ما يلي: 1- المصافحة مباشرة، وهي اتصال البشرة بالبشرة، وهو محرم في غير الزوجة، وما ملكت اليمين، وملامسة أيضًا من اللمس وهو إلصاق الجارحة بالشيء وهو عرف في اليد لأنها آلته الغالبة، وهو أيضًا محرم في غير ما ذكر أولًا.   (1) شرح المنهج: 4/ 125 - 126 (2) الدر المختار: 5/ 235 (3) ابن مفلح. كتاب الفروع: 5/ 158 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1181 2- السنة: روى مالك في الموطأ في كتاب الجامع فيما جاء في البيعة عن أميمة بنت رقية أنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة بايعنه على الإسلام، فقلنا: يا رسول الله نبايعك على أن لا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فيما استطعتن وأطقتن)) قال: فقلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، هلم نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لا أصافح النساء)) الحديث قال الباجي قوله صلى الله عليه وسلم ((إني لا أصافح النساء)) يريد لا أباشر أيديهن بيدي، يريد –والله أعلم- الاجتناب، وذلك من حكم مبايعة الرجال المصافحة، فمنع من ذلك في مبايعة النساء لما فيه من مباشرتهن. (1) وروى البخاري في كتاب التفسير في باب {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} عن عائشة أنها قالت: "والله ما مست يده امرأة في المبايعة" قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد جاء في أخبار أخرى أنهن كن يأخذن بيده عند المبايعة من فوق ثوب، أخرجه يحيى بن سلام في تفسيره عن الشعبي. (2) قال الزرقاني: معقبًا على كلام الحافظ ابن حجر وأخرجه ابن عبدا لبر عن عطاء وعن قيس ابن أبي حازم أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: إذا بايع لم يصافح إلا وعلى يده ثوب. (3)   (1) المنتقى: 7/ 308 (2) الجامع الصحيح: 8/ 627 (3) الزرقاني: شرحه على الموطأ: 4/ 399 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1182 وكون النسوة يصافحن النبي صلى الله عليه وسلم عند المبايعة من فوق ثوب تفسر اشتراط الفقهاء الذين نقلت عنهم نصوصهم عدم الحائل في حرمة مصافحة الأجنبية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له أن يمس امرأة لا تحل له)) ، رواه الطبراني والبيهقي، ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح. (1) والمس على ما جاء في لسان العرب له معنيان: حقيقي، وهو مسك الشيء بيدك.. ويقال: مسست الشيء أمسه مسًا: إذا لمسته بيدك، وله معنى مجازي وهو الجماع، مس المرأة وماسها: أتاها، وهو عرف في اليد لأنها آلته الغالبة، (2) ومن أجل ذلك سقت الحديث دليلًا على حرمة المصافحة. 3- المصافحة باليد ذريعة إلى الزنا، وأصل من أصول التشريع الإسلامي سد ذرائع الفساد، حدث عبد الله بن المبارك عن أشياخ الشام: من أعطى أسباب الفتنة من نفسه أولًا، لم ينج منها آخرًا، وإن كان جاهدًا". (3) قال هذا في السلف الصالح لهذه الأمة فما بالك بهذا الخلف الموجود في بلاد الغربة التي لا قيد فيها يقيد العلاقات الجنسية، واليد هي المفتاح السحري في هذا المجال، فمن أعطت يدها لا تستطيع أن تمنع ما وراء ذلك من كبيرة الزنا، والوسيلة تأخذ حكم المقصد كما هي القاعدة. وبناء على ذلك، وانطلاقًا منه أفتي أخواتي بحرمة مصافحة الرجل للأجنبية ولو متجالة. حرره محيي الدين قادي الفقير إلى مولاه الغني. والله أعلم.   (1) محمد صديق حسن خان القنوجي البخاري. حسن الأسوة فيما ثبت عن الله ورسوله في النسوة: 522 (2) اللسان: 26/ 218 - 219 (3) ابن مفلح. كتاب الفروع: 5/ 158 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1183 السؤال التاسع عشر ما حكم استئجار الكنائس أماكن لإقامة الصلوات الخمس، أو صلاة الجمعة والعيدين مع وجود التماثيل، وما تحتويه الكنائس عادة علمًا بأن الكنائس في الغالب أرخص الأماكن التي استئجرها من النصارى وبعضها تقدمه الجامعات والهيئات الخيرية للاستفادة منه في المناسبات هذه بدون مقابل؟ وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد –والله الموفق للصواب- فأقول: قال العتبي: وحدثني عن ابن القاسم عن مالك عن نافع أن عمر بن الخطاب كان يكره الصلاة في الكنائس التي فيها الصور، قال مالك: وأنا أكره الصلاة في الكنائس لأن موضعها نجس، ووطئهم بأقدامهم فيها. (1) هذا ما قاله صاحب العتبية، وقال شارحها ابن رشد: وفي قوله: "التي فيها الصور" دليل على أنه إنما كرهت الصلاة فيها إذا كانت عامرة، لأن العامرة هي التي تكون فيها الصور. وقد اختلف في علة الكراهة على ثلاثة أقوال: الأول: قال مالك: هي النجاسة الآتية من وطء أقدامهم يدخلونه فيها من النجاسات. الثاني: قال ابن حبيب: لأنها بيوت متخذة للكفر. الثالث: قيل: مجموعة الأمرين. فمن صلى فيها فهل يعيد في الوقت، أو يعيد أبدًا، أو لا يعيد أصلًا؟ فعلى القول بأن علة الكراهة نجاستها، لم تجب عليه إعادة أن صلى على ثوب بسطه، وأن صلى دون أن يبسط فالإعادة أبدًا، على قول ابن حبيب، لأن الأصل عنده أن من صلى على ثوب نجس عامدًا يعيد أبدًا، وقيل يعيد في الوقت، وقيد ذلك بغير المضطر إلى النزول أما المضطر فلا يعيد أبدًا، ولا وقتًا من أجل أن نجاستها متيقنة، وهو قول سحنون. (2) وقد حرر النفراوي المالكي هذه المسألة تحريرًا دقيقًا، تعلق فيه بأمور ثلاثة: 1- أن كراهة الصلاة في الكنائس كراهة تنزيه.   (1) العتبية مع البيان والتحصيل: 17/ 305 (2) البيان والتحصيل: 16/ 305 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1184 2- أن الكراهة في العامرة والخاربة، صلى على فرشها، أو غير فرشها، حيث صلى فيها اختيارًا. 3- أن الإعادة في الوقت مشروطة بشرط هي: 1- أن يصلي فيها اختيارًا. 2- أن تكون عامرة. 3- أن يصلي على فرشها. ونظير ذلك من صلى على نجاسة ناسيًا. وأما لو صلى فيها مكرهًا، أو كانت خارجة، ولو صلى على فرشها، أو عامرة وصلى على شيء طاهر فلا إعادة. والخلاصة: أن الكراهية معلقة بالصلاة فيها على وجه الاختيار، ولو صلى على فرش طاهر والإعادة مقيدة بالقيود الثلاثة. ويلزم من الإعادة الكراهة، ولا يلزم من الكراهة الإعادة. وجاء عنه أيضًا أن الصلاة تكره في الأماكن التي فيها صور وتماثيل. (1) هذا ما يتعلق بالصلاة في البيع والكنائس. وأما اتخاذ الكنائس مساجد فجائز لحديث عثمان بن أبي العاصي: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد أهل الطائف حيث كانت طواغيتهم)) . (2) وقال الزركشي من فقهاء الشافعية: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لنصراني: إنا لا ندخل عليكم بيعكم من أجل الصور التي فيها. (3) وعن أبي موسى الأشعري أنه صلى في كنسية، وعن الحسن والشعبي الترخيص في الصلاة في البيع والكنائس. (4) هذا ما دامت الكنائس مرخصًا في الصلاة فيها فهل يجوز استئجارها لاتخاذها مسجدًا؟ نعم، يجوز ذلك، لأن التجارة مع الكافر في أرض الحرب جائزة على الجملة بقيودها واستئجار مكان ما ليجعل مسجدًا جائز أيضًا جاء في المدونة: أرأيت إن أكريت دارًا على أن يتخذوها مسجدًا عشر سنين؟ قال: ذلك جائز، قلت: فإن مضت العشر سنين؟ قال: إذا انقضت الإجارة رجعت الدار إلى ربها، قلت: أتحفظه عن مالك؟ قال: لا. (5) وانطلاقًا من كل ذلك وترتيبًا عليه أفتي بالترخيص في صلاة الجمعة وغيرها من الصلوات بالكنائس والبيع بعد أن تطهر بالماء احتياطًا، وتغطى الصور والتماثيل فيها بستائر تحجبها عن أعين المصلين، لأن الأرض كلها مسجد للمسلم. والله أعلم.   (1) الفواكه الدواني: 1/ 150 (2) ابن تيميمة الجد، منتقى الأخبار، كتاب الصلاة، باب اتخاذ متعبدات الكفار ومواضع القبور إذا نبشت مساجد: 2/ 150 (3) أخرجه البخاري تعليقًا بلفظ: أنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها، عمدة القارئ: 4/ 122 (4) الزركشي، أعلام المساجد: 384 (5) المدونة: 4/ 423 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1185 السؤال العشرون ما حكم ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وما يقدمونه من طعام في مطاعمهم مع عدم العلم بالتسمية عليها؟ وعن هذا السؤال أفيد والله ولي الفتح فأقول: لا بد من محاولة تحديد أهل الكتاب وهم: على ما قال حافظ المذهب في عصره الشيخ سيدي محمد المهدي الوزاني: اليهود والنصارى. وأما الصائبة فهم: طائفة من اليهود والنصارى يعبدون الكواكب السبعة أو الملائكة، وليسوا من أهل الكتاب، وكذلك المجوس وهم قوم يعبدون النار. وقيل: الشمس، وقيل اعتزلوا النصارى ولبسوا المسوح، وقيل: اخذوا من دين النصارى شيئًا ومن دين اليهود شيئًا، وهم القائلون بأن للعالم إلهين: النور، والظلمة، وقيل: هم قوم يستعملون النجاسات، والأصل نجوس بالنون فأبدلتم ميمًا، وعزا كل هذه المعاني إلى بعض المفسرين (1) ولم يتعرض -رحمه الله- للسامرة، وهم على ما قال الخشري: طائفة من اليهود من بني يعقوب عليه السلام تنكر ما عدا نبوة موسى وهارون ويوشع ابن نون من أنبياء بني إسرائيل، تنكر المعاد الجسماني كالنصارى، ولا يرون لبيت المقدس حركة كاليهود، ويحرمون من جبال نابلس ويزعمون أن بأيديهم توراة بدلها لهم أحبار اليهود (2) وقد عدهم خليل بن إسحاق من أهل الكتاب الحلال طعامهم وقال وإن سامريا (3) أي وإن كان فاعل الذبح والنحر سامريا ومبالغته مشعرة بأن الصابئ ليس كذلك، بينما السامري قد أخذ ببعض اليهود، والصابئ قد أخذ ببعض النصرانية، فما وجه الفرق الخرشي بينهما فقال: لعل أخذ الصابئ بالنصرانية دون أخذ السامري باليهودية" (4)   (1) المعيار الجديد: 1/ 257 (2) الشرح الصغير له: 3/ 4 - 5 (3) المختصر: 83 (4) المختصر: 5 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1186 وقول الشيخ المهدي: اليهود والنصارى وكذلك من تهود أو تنصر، فالعبرة أنهم أتباع للديانة الموسوية أو العيساوية سواء كانوا ممن دعاهم موسى وعيسى عليهما السلام إلى اتباع الدين، أو ممن دخلوا في الدينين اختيارًا فإن موسى وعيسى دعوا بني إسرائيل خاصة، وقد تهود من العرب أهل اليمن، وتنصر من العرب تغلب، وبهراء، وكلب، ولخم، نجران وبعض ربيعة، وغسان فهؤلاء أيضًا من أهل الكتاب عند الجمهور عدا علي بن أبي طالب فإنه قال: لا تحل ذبائح نصارى تغلب، وقال: أنهم لم يتمسكوا من النصرانية بشيء سوى شرب الخمر، وعزاه القرطبي إلى الشافعي، وروى الربيع عن الشافعي: لا خير في ذبائح نصارى العرب من تغلب، وعن الشافعيين: من كان من أهل الكتاب قبل البعثة المحمدية فهو من أهل الكتاب، ومن دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن فلا يقبل منه إلا الإسلام، ولا تقبل منه الجزية أي كالمشركين. وأما المجوس فليسوا أهل الكتاب بالإجماع، فلا تؤكل ذبائحهم، وشذ من جعلهم أهل كتاب، وإن كان لهم كتاب ولكنه ليس بسماوي فللأتباع زرادشت كتاب: "الزندفستا" وهؤلاء هم محل الخلاف. وأما أتباع ماني، والمعروفون بالمانوية، فليس لهم كتاب، وهم أباحيون (1) مع العلم أن اتباع الكتب السماوية غير التوراة والإنجيل من أهل الكتاب الذين أبيح لنا طعامهم، وكذلك المسلم المتهود أو المتنصر ليس من أهل الكتاب، وأما المشركون وعبدة الأوثان، ومن بقيت عندهم أثارة من ملة إبراهيم مع عبادتهم للأوثان والأصنام فليسوا من أهل الكتاب بلا خلاف. والخلاصة: أن الكتابي هو الذي يدين باليهودية، ولو سامريًا، أو النصرانية، ممن دعاهم موسى وعيسى عليهما السلام أو دخلوا في الديانتين بعد ذلك، قبل الإسلام أو بعده، خلافًا للشافعي رضي الله عنه فيمن دخل فيهما بعد الإسلام.   (1) الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير: 6/ 120 – 121 بتصرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1187 وبعد هذه المحاولة لضبط مدلول أهل الكتاب، والتي لها أهمية كبرى بالنسبة للسؤال الذي يهم الإخوة المغتربين، ويهم المسلمين عامة، والمسلمين العرب خاصة في مصر وسورية ولبنان وفلسطين.. نأتي إلى الجواب عن حكم ذبائح أهل الكتاب فنقول: قال فقهاء المالكية: يشترط لحل ذبيحة الكتابي يهوديًا أو نصرانيًا: 1- أن لا يذبح الكتابي ذبيحته لصنم، وهي الأنصاب المذكورة في القرآن الكريم، والمراد بما يذبح للصنم، أي ما يكون مستحقًا له دون غيره في زعم الكتابي، لأنه مما أهل به لغير الله، أي بأن قال: باسم الصنم بدل باسم الله، فإن ذكر اسم الله مع اسم الصنم، أكل تغليبا ًلاسم الله، مع أنه يبعد ذكر اسمه تعالى مع قصده اختصاص الصنم بما ذبح إذ لا يصدق عليه مع ذكر اسم الله جل جلاله لأنه يذبح لصنم ما يستحقه دون غيره في زعمه، وكذلك ما ذبحوه لعيسى أو لمريم أو لكنيسة، وذكروا اسم الله عليه أكل ولو قدموا غيره لأنه يعلو ولا يعلى عليه، قاله الأمير في المجموع (1) 2- وهو متعلق بمن يستحل منهم أكل الميتة المحرمة علينا بالخصوص في القرآن الكريم وهو أن لا يغيب الكتابي حال ذبحها عنا، بل لابد من حضور مسلم عارف بالذكاة الشرعية، خوفًا من كونه قتلها أو نخعها، فإن غاب لم تؤكل، وهذا التفصيل هوا لمشهور من المذهب، قال ابن رشد الجد، القياس أنه إذا كان يستحل الميتة، لم تؤكل ذبيحته، ولو لم يغب عليها، لأن الذكاة لابد فيها من النية وإذا استحل الميتة فكيف ينوي الذكاة؟ وإن ادعى أنه نواها فكيف يصدق؟ وقبله ابن ناجي وابن عرفة. 3- وهو خاص باليهود، أن يكون ما ذبحوه مما يحل لهم في شريعة الإسلام فإن ذبح اليهودي ما لا يحل له في شرعنا من ذي الظفر أو المخلب أو الحافر كالإبل وحمر الوحش والنعام، والأوز، وكل ما ليس مشقوق الظلف، ولا منفرج القوائم، فلا يحل لنا أكله أن ذبحه اليهودي، وليس من ذي الظفر الدجاج والحمام لأنهما ليسا من ذي الظفر، إذ هما مشقوقًا الأصابع وليس بينهما اتصال، فإن ذبح اليهودي الدجاج والحمام حل لنا أكله.   (1) راجع الشرح الصغير للدردير مع حاشية الصاوي عليه: 1/ 314 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1188 وأما ما هو مشقوف الظلف كالبقرة والغنم إذا ذبحه اليهودي حل لنا أكله ودليل حرمة ذي الظفر على اليهود في شرعنا قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} . وأما النصارى فلم يحرم عليهم شيء في شرعنا الإسلامي الحنيف، بقيت مسألة شحوم البقر والغنم فهي حرام على اليهود بنص القرآن الكريم إلا ما استثنى منها، قال الله تعالى {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} فإذا ذبح اليهودي البقر والغنم كره للمسلم أكل الشحوم، وهذا أحد الأقوال الثلاثة وقيل يجوز أكلها بلا كراهة، وقيل يمنع، ذكرها المحقق البناني ونسبها إلى ابن رشد الجد.. ثم قال: والأصل في هذا اختلافهم في تأويل قول الله سبحانه وتعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} هل المراد بذلك ما يأكلون لم يجز أكل شحومهم؟ لأن الله سبحانه وتعالى حرمها عليهم في التوراة على ما أخبر به القرآن الكريم، فليس مما يأكلون. وأما ما حرم على اليهود في الديانة اليهودية كالطريفة، وهي أن توجد الذبيحة فاسدة الرئة، أي ملتصقة بظهر الحيوان كره لنا أكله من غير تحريم على المشهور، وإنما كانت الطريفة محرمة عند اليهود لأن ذلك علامة على أنها لا تعيش من ذلك فلا تعمل فيها الذكاة عندهم، كالحيوان المنفوذ المقاتل عندنا، وأما شراء الطريفة فلا يجوز ويفسخ إذا وقع، وقيل يكره، فيكون القول بفسخ بيعها محمولًا على الندب، قاله علي الأجهوري ويكره للإمام أن يبقى اليهود جزارين، وفي المدونة: كره مالك الشراء من مجازر اليهود وقال: نهى عمر أن يكونوا في أسواقنا جزارين أو صيارفة وأمر أن يقاموا من الأسواق، وقال ابن حبيب عن مطرف وعبد الملك ينهى عن الشراء منهم ولا يشتري منهم إلا رجل سوء ولا يفسخ شراؤه، وقد ظلم نفسه ويكره للإمام أيضًا أن يبقيه جزارًا في البيوت على القول بصحة استنابته، وإنما كره من اليهود ما كره لعدم نصحهم للمسلمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1189 4- أن يكون ما ذبحه الكتابي ملكًا له، فإن كان ما ذبحه ملكًا للمسلمين أو مشتركًا بينه وبينه، فيكره لنا أكله على أرجح الأقوال، وقيل يجوز بلا كراهة وقيل: يمنع (1) وقد جاءت خلاصة ما بينته في قول خليل بن إسحاق المالكي: وأن سامريًّا أو مجوسيًّا تنصر وذبح لنفسه مستحلة وأن أكل الميتة إن لم يغب، إلى أن قال: "وذبح لصنم وذبح غير حل إذا ثبت بشرعنا، وإلا كره كجزارته" (2) 5- أن لا يكون ما ذبح الكتابي مما حرمها لله علينا بعينه كالخنزير والدم، أو مما حرمه علينا بوصفه كالميتة، إذا كانوا يستحلون ذلك، فلا يباح لنا أكله بذكاتهم (3) بقيت مسألة هامة وهي: إذا خالفت ذكاته ذكاتنا مخالفة تقصير لا زيادة كالذكية بالضرب على الرأس فتموت أو فتل العنق فتمزق العروق، قال جمهور الفقهاء: لا تؤكل، وقال أبو بكر بن العربي من المالكية: تؤكل لأنها طعامهم وطعام أحبارهم ورهبانهم، وإليكم فتواه بنصها قال: ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة، ثم يطبخها: هل يؤكل معه، أو تؤخذ طعامًا منه؟ فقلت: تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانهم وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا، ولكن الله تعالى أباح طعامهم مطلقًا، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا في ديننا إلا ما كذبهم الله سبحانه فيه، ولقد قال علماؤنا: إنهم يعطوننا أولادهم ونسائهم ملكًا في الصلح، فيحل لنا وطؤهن فكيف لا تحل ذبائحهم، والأكل دون الوطء في الحل والحرمة؟ " (4)   (1) الدردير، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه: 2/ 130 (2) المختصر: 33 (3) الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير: 6/ 122 بتصرف (4) أحكام القرآن: 2/ 556 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1190 ومنذ أفتى القاضي أبو بكر بن العربي بما أفتي والفقهاء مهتمون بفتواه في كتبهم وفتاويهم ومجالس دروسهم، على اختلاف مواقفهم من الفتوى، فاستبعدها خليل في توضيح قائلًا: لأن معنى طعامهم الحلال لهم، وأهل شرعهم مطبقون على منع ذلك وتحريمه (1) ، وقال المواق: انظروا ما عقروه من الإنسي، وقالوا: إنه ذكي عندهم، كان سيدي ابن سراج رحمه الله يقول: أما على مذهب المدونة إنا لا نستبيح الوحشي بعقرهم، فمن باب أولى الإنسي وعلى القول بالاستباحة علله اللخمي بأنه ذكاة عندنا وعقرهم الإنسي ليس بذكاة عندنا فلا نسستبيحه بذلك فما وقع لابن العربي فهو هفوة، وقد اتبع الفقهاء في أحكام القرآن وفي غيره من كتبه (2) وقد وصفها بالمرجوحية والضعف باش مفتي تونس العارف بالله سيدي إبراهيم الرياحي رحمه الله في جواب له عن سؤال وجهه إليه الشيخ أحمد بن أبي الضياف، ووصفاه الأستاذ الإمام سيدي محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير بأنها "شذوذ" (3) ولكن إلى جانب المستبعدين فتوى ابن العربي كثير من المؤيدين لها من أثبات الفقهاء قديمًا وحديثًا، فهذا أبو عبد الله الحفار إمام غرناطة، ومحدثها ومفتيها يقول: لا إشكال فيها عند التأمل؛ لأن الله تعالى أباح لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم على الوجه الذي أبيح لهم من ذكاة فيما شرعت لهم فيه الذكاة على الوجه الذي شرعت. ولا يشترط أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا في ذلك الحيوان الذكي، ولا يستثنى من ذلك إلا ما حرمه الله سبحانه علينا على الخصوص كالخنزير وإن كان من طعامهم، ويستحلونه بالذكاة التي يستحلون بها بهيمة الأنعام وكالميتة، وأما ما لم يحرم علينا على الخصوص فهو مباح لنا كسائر أطعمتهم، وكل ما يفتقر إلى الذكاة من الحيوانات فإذا ذكوا على مقتضى دينهم حل لنا أكله ولا يشترط في ذلك موافقة ذكاتهم لذكاتنا، وذلك رخصة من الله وتيسير علينا (4)   (1) محمد المهدي الوزاني، المعيار الجديد: 1/ 258 (2) التاج والإكليل: 3/ 214 (3) التحرير والتنوير: 6/ 122 (4) الونشريسي، المعيار: 2/ 9 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1191 وكذلك ابن ناصر حين سئل عن طعام اليهود والنصارى الصابئين والمجوس أيحل أكله أم لا؟ وهل هؤلاء كلهم أهل كتاب أم لا؟ بعض الطلبة أفتى بأكله مستدلًا بقوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وكيف يأكل المسلم ما مسته أيدي اليهود وهو نجس بين لنا؟ فأجاب: أما طعام اليهود والنصارى، وهم أهل الكتاب، يجوز أكله مطلقًا، وأما غيرهم إن كان طعامهم مما ليس فيه ذكاة فلا بأس بأكله وإلا فلا، ومن عفاف ذلك تركه (1) ومن المعاصرين الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في الفتوى الترنسفالية الشهيرة، والتي أخذ فيها وهو المالكي مذهبًا باجتهاد ابن العربي وقد نشرت الفتوى في المجلد السادس في الجزء عشرين بتاريخ 16 من شوال سنة 1321 والوقوف عليها ميسور (2) وكذلك العلامة البحر المفتي المالكي بالديار التونسية شيخي وسيدي محمد الفاضل ابن عاشور رحمه الله الذي سئل: ما هو حكم الله في أكل اللحم المعروض للبيع عند جزارين أوربيين في أوربا؟ فأجاب: إن هذه المسألة مختلف فيها بين العلماء وأن الإمام القاضي أبا بكر بن العربي من فقهاء المالكية أفتى أن ما يقتله النصراني على أن من دينه ويأكل منه رهبانه، ولم يرد في ديننا ما يقتضي تكذيبهم في ذلك فإنه حلال لنا في ديننا والسلام (3)   (1) محمد المهدي الوزاني، المعيار الجديد: 1/ 257 (2) وقد نشر ما يتعلق بالفتوى المذكورة معارضة وتأييدًا مع ترجيح جانب التأييد بتاريخ الأستاذ الإمام للشيخ رشيد رضا: 1/ 675 – 778 (3) د. محمد السويسي، الفتاوى التونسية في ق 14 هـ: 2/ 738 مرقون بالكلية الزيتونية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1192 ويدل على تأييده لابن العربي أمور: أ- تلك التحلية له بالإمام القاضي. ب- أن القاعدة في الفتوى أنها لا تكون إلا بالراجح أو المشهور أو مما جرى به العمل من أقوال ضعيفة أيدها العرف، وإلى هذا الأخير أشار الزقاق في اللامية في الفصل الذي خصصه لما جرى به العمل في فاس بقوله: فإن قيل إن البعض مما نقلته ضعفت؟ نعم لكن العرف عولا (1) ج – لم يذكر أي وصف من مرجوحية، أو شذوذ لقول ابن العربي، والذي يبدو لي والله أعلم بالصواب، أن قول ابن العربي راجح لا مرجوح للأدلة التالية: 1- أن الآية القرآنية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} مطلقة. 2- روى الإمام أحمد والإمام البخاري والإمام مسلم من حديث عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا أرسلت كلبك وسميت فكل، قلت: فإن أكل؟ قال: فلا تأكل، فإنه لم يمسك عليك وإنما أمسك على نفسه، قلت: أرسل كلبي فأجد معه كلبًا آخر؟ قال: لا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على الآخر)) واللفظ للبخاري وجاء في البخاري أيضًا في كتاب الذبائح والصيد في باب ما أصاب المعراض بعرضه عن عدي بن حاتم من حديث له أنه سأل النبي فقال: ((إنا نرمي بالمعراض، قال: كل ما خرق، وما أصابه بعرضه فلا تأكل)) وفي نفس الكتاب من صحيح البخاري في باب صيد القوس روى الإمام البخاري قال: فقال: وقال الحسن وإبراهيم: إذا ضرب صيد فبان منه يد أو رجل، لا تأكل الذي بان وكل سائره، وقال إبراهيم: إذا ضربت عنقه أو وسطه فكله، وقال الأعمش عن زيد: استعصى على رجل من آل عبد الله حمار فأمرهم أن يضربوه حيث تيسر، دعوا ما سقط منه وكلوه". وروى البخاري أيضًا أن جارية لكعب بن مالك ترعى غنمًا له بالجبيل الذي بالسوق وهو بسلع فأصيبت بشاة، فكسرت حجرًا فذبحتها به فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بأكلها. وروى البخاري أيضًا عن رافع بن خديج قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل – يعني ما أنهر الدم- إلا السن والظفر)) .   (1) متن لامية الزقاق مع متن العاصمية: 176 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1193 وروى أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: ((إذا رميت سهمك فغاب ثلاثة أيام، فأدركته فكله ما لم ينتن)) . فهذه الأحاديث وغيرها مما أذكر تدل على مدى التيسير في صيد المسلم بكلبه المعلم وبمعراضه، وهو سهم لا نصل له ولا ريش، وقيل: هو خشبة ثقيلة في آخرها عصا محدد رأسها، وقيل هو عصا في طرفها حديدة، وكأنه كان يطلق على هذه الأشياء وكانوا يرمون الصيد بها (1) وبقوسه على مدى التيسير في ذبحه بكل ما أنهر الدم من حجر أو غيره خلا السن والظفر رفقًا بالحيوان، أفلا يقاس عليها التيسير على المسلم الذي أباح له الله جل جلاله الارتباط بأهل الكتاب وأباح لهم طعامهم بإطلاق، أي ذبائحهم على قول جمهور المفسرين بأية وسيلة أنهرت الدم خلال السن والظفر؟ 3- قال أبو عبد الله الحفار مدعمًا وجهة نظر ابن العربي: إذ كانت الذكاة تختلف في شريعتنا فيكون ذبحًا في بعض الحيوانات، ونحرًا في بعض، وعقرا في بعض، وقطع عضو كرأس وشبهه كما هي ذكاة الجراد، أو وضع في ماء حار كذكاة الحلزون، فإذا كان هذا الاختلاف موجودًا بالنسبة إلى الحيوانات، فكذلك قد يكون شرع في غير ملتنا سل عنق الحيوان على وجه الذكاة، فإذا اجتزأ الكتابي بذلك أكلنا طعامه كما أذن لنا ربنا سبحانه، ولا يلزمنا أن نبحث على شريعتهم في ذلك إذ رأينا ذوي دينهم يستحلون ذلك، أكلنا كما قال القاضي: لأنها طعام أحبارهم ورهبانهم (2) ولا يفوتني وأنا بصدد الحديث على من استبعدوا فتوى أبي بكر بن العربي أن أشير إلى ما أوهمه قول بعض الفقهاء المعاصرين من المالكية أن ابن عرفة لم يسلم استبعاد شيخه ابن عبد السلام الهواري ورده اعتمادًا على ما قاله الحطاب وهذا نصه: قال ابن ناجي في شرح الرسالة: واختلف المذهب إذا كان يسل عنق الدجاجة فالمشهور لا تؤكل، وأجاز ابن العربي أكلها، ولو رأيناه يسل عنقها لأنه من طعامهم، قال ابن عبد السلام: وهو بعيد، وبحث ابن عرفة مع ابن عبد السلام في ذلك (3)   (1) رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام: 1/ 679 - 680 (2) الونشريسي، المعيار: 2/ 9 (3) الحطاب، مواهب الجليل: 3/ 212 - 213 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1194 ونص المسألة كما في المختصر الفقهي لابن عرفة من باب الذكاة، وقول ابن عبد السلام وأجاز ابن العربي أكل ما قتله الكتابي، ولو رآه يقتل الشاة لأنه من طعامهم، يرد بأن ظاهره نوى بذلك الذكاة أم لا؟ وليس كذلك، بل نصه وأورد ابن عرفة نص فتوى الإمام ابن العربي السالف الذكر، وقال: فحاصله أن ما يرونه مذكى عندهم حلال لنا أكله، وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة (1) فكلام ابن عرفة ليس ردًا على ابن العربي، ولا تأييدًا، وإنما هو تصويب لما وقع فيه شيخه من خطأ في أن ابن العربي يحل ما قتله الكتابي نوى بذلك الذكاة أو لم ينو بينما ابن العربي لا يحل إلا ما كان قتله عندنا ذكاة عند الكتابي لكن لابن عرفة رد على ابن العربي في تقييدات بعض الطلبة لما يلقيه في دروس تفسيره عند تفسيره لقوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قال: أخذ من هذا ابن العربي جواز أكل المسلم من الدجاجة التي فك النصراني عنقها إذا طبخها لنفسه وأطعمه منها، لأنها من طعامه، ثم رده بأنه ليس من طعامهم الفعلي الوجودي الذي أباحه شرعهم لهم، وهو إذا في شرعهم محرم عليهم، قال باش مفتي تونس الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي: وهو قريب من كلام شيخه ابن عبد السلام (2) وبعد كل ما سبق يتضح أن فتوى ابن العربي ليست مرجوحة لقوة الدليل ولا شاذة لتبني أثبات لها، وإصدار فتاويهم على مقتضاه، ولا بعيدة كما وصفها ابن عبد السلام وخليل لأن ما أيد به ابن عبد السلام استبعاده قد رده نقادة المذهب ابن عرفة، وما أيد به خليل استبعاده من أن فتل عنق الدجاجة ليس ذكاة عندهم بإطباق أهل شرعهم على منع أكل ذلك وتحريمه لا يخالف القاضي فيه، لأنه حين أفتى اشترط أن يكون ذلك طعامًا للنصراني وطعامًا لرهبانه ومراده واضح، ويزيده وضوحًا أنه قبل الفتوى وفي نفس تفسيره للآية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قال فإن قيل: فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس؟ فالجواب: أن هذه ميتة، وهي حرام بالنص، وإن أكلوها فلا نأكلها نحن كالخنزير فإنه حلال لهم، ومن طعامهم وهو علينا.   (1) عمر الرياحي، تعطير النواحي بترجمة الشيخ إبراهيم الرياحي: 2/ 32 بتصرف (2) عمر الرياحي، تعطير النواحي بترجمة الشيخ إبراهيم الرياحي: 3/ 33 بتصرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1195 فالمدار في حيلة أكلها، وحرمته على أن فتل العنق ذكاة عند الكتابي فيحل الأكل، أو ليس بذكاة فلا يحل –والله أعلم- وقد جاءت الإشارة إلى ما ذكرت في كلام المحقق الرهوني في رده على ابن سراج السالف الذكر. وأما ما جاء في تقييدات بعض طلبة ابن عرفة من دروسه في التفسير فالرد عليه واضح وجلي، وذلك لأن ابن عرفة –رحمه الله- رد قول ابن العربي بأن أكل المسلم من الدجاجة التي فك النصراني عنقها إذا طبخها لنفسه وأطعمه منها حلال له أكلها لأنها طعامه وطعام أحباره بقوله: إنه ليس من طعامهم الفعلي الذي أباحه شرعهم لهم، وهو إذا في شرعهم محرم، وكان هذا من الإمام ابن عرفة خلاف الصواب على كلا احتمالين لكلامه وهما: 1- أن فتل عنق الدجاجة ليس ذكاة للكتابي، والجواب ما أجبت به عن استبعاد العلامة خليل قول ابن العربي سابقًا. 2- وإن أراد أن ذلك ليس ذكاة في شرعهم قبل التبديل والتحريف (1) فالجواب أن الآية نزلت مبيحة طعام أهل الكتاب رخصة للمسلمين وتيسيرًا عليهم، وأهل الكتاب هم الذين كفروا لاعتقادهم التثليث وبنسبة عيسى إلى ربه وبقولهم هو الله وهم يفرقون بين الله ورسله ويحرفون التوراة والإنجيل ويغلون في دينهم وقد لعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم وكانوا يعتدون ولا يتناهون عن منكر فعلوه ويلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون ويخونون في الدينار إذا أؤتمن أحدهم به فلا يؤديه إلى من ائتمنه إلا ما دام عليه قائمًا، ويقتلون النبيين ويكذبونهم، ويستهزئون بالمسلمين، وكان منهم القردة والخنازير وعبدة الطاغوت ... " (2) أي شيء أحدثه أهل الكتاب في فترة التنزيل من القبائح لم يكن في أوائلهم؟ وأي شيء أحدثوه من القبائح في فترة صدور الفتوى عن ابن العربي زائدًا على ما كان عليه الأولون منهم؟ فالقول بأنهم حرفوا شرعهم وبدلوه مردود كما ترى –والله أعلم- فأهل الكتاب هم قبل الإسلام وبعده.   (1) وإن كنت إلى هذا الرأي أميل (2) أبو بكر محمود عمر قاضي قضاة نيجيريا الشمالية. فتوى في ذبائح أهل الكتاب "المسلمون" ربيع الأول 1384 هـ ع 1/ 52 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1196 ومما ينبغي الحذر منه قول بعض المفتين بحتمية التأكد من كتابية الذابح لفشو الإلحاد واللائكية في بلاد الغرب، فهو خطأ لما قلته سلفًا، ولما رواه مالك في الموطأ في كتاب الذبائح فيما يجوز من الذكاة حال الضرورة عن عبد الله بن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا بأس بها، وتلا هذه الآية {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ولأن ذلك من المشادة في الدين ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، ومذهب ابن عباس هو مذهب جمهور الصحابة، وكان علي رضي الله عنه ينهى عن ذبائح بني تغلب لأنهم عرب، ويقول: إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر، وهو قول الشافعي، وعلى هذا فليس ينهي عن ذبائح النصارى المحققين منهم وكذلك اليهود (1) وأما ما جاء في السؤال من عدم التسمية على الذبيحة فالتسمية في حق الكتابي لدى فقهاء المالكية ليست بواجبة في حقه. قال سيدي عبد الباقي الزرقاني في شرحه على مختصر خليل في باب الذكاة: تؤكل ذبيحة الكافر ... ولو لم ينو أو يسم لأنهما خاصان بالمسلم. (2) قال الأجهوري: محل وجوب التسمية إذا كان المذكي مسلمًا، وأما إن كان كافرًا فلا يعتبر في أكل ذكاته نية ولا تسمية، وقال الشيخ إبراهيم اللقاني: إن نية الذكاة لا بد منها حتى في حق الكافر، وأما النية تقربًا فتطلب من المسلم دون الكافر، ولكن نية الفعل كافية على الصواب، ولو لم يلاحظ التقريب. (3) هذا وما ذكرته هنا لا ينافي ما ذكرته سابقًا من أن ذبحه لصنم لا يؤكل لأن عدم أكله لكونه ذبح لصنم، ولم يذكر اسم الله عليه، وأما ذبحه لا لصنم ولا لوثن، ولم يذكر اسم الله عليه فيؤكل.   (1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 6/ 78 (2) الزرقاني: 3/ 6 (3) النفراوي، الفواكه الدواني: 2/ 99 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1197 بقي أن صيد البر بالنسبة لأهل الكتاب من اليهود والنصارى هل يأخذ حكم الذبائح فيحل أكله في الإطار المذكور آنفًا، أو لا يحل لقوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} ؟ قال مالك رحمه الله: تؤكل ذبيحتهما فأما صيدهما فلا يؤكل، وتلا هذه الآية {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} فلم يذكر الله بهذا النصارى ولا اليهود، ولا يؤكل صيدهما. قال ابن القاسم: ورأيي أن لا يأكله (1) قال الحطاب: وفي التوضيح لخليل: المشهور منع الصيد البري للكتابي. وقال ابن هارون وأشهب بإباحته واختاره ابن يونس والباجي واللخمي لأنه من طعامهم، ولمالك في الموازية كراهته. قال ابن بشير: ويمكن حمل المدونة عليه (2) أي على الكراهة للإطلاق في الآية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} . وأما صيد البحر فيحل أكله ولو من مجوسي، روى ابن القاسم عن مالك رحمه الله أنه سئل: أرأيت ما صاده المجوسي من البحر أيؤكل؟ فقال: نعم. (3) ولا بد من ملاحظة أن ما ذكرته من عدم افتقار ذكاة الكتابي إلى تسمية أو نية، إنما هو فيما ذكاه لنفسه ويباح أكله، وأما ما ذكاه لمسلم فقيل: بإباحة أكله، وقيل بعدم ذلك، وذلك مقيد بغير الأضحية، أما الأضحية فلا تصح أضحيته، قال خليل بن إسحاق رحمه الله: وفي ذبح كتابي لمسلم قولان (4) : قال النفراوي معقبًا على قول خليل هذا في جواز الأكل وعدمه، في غير الضحية، وأما الضحية فلا تصح ضحيته إذ ذكاها الكتابي اتفاقًا، ويجري في أكلها القولان (5) وبهذا تنتهي الإجابة عن الجزء الأول من السؤال. وأما الجزء الثاني من السؤال وهو حكم ما يقدمونه في مطاعمهم: فالجواب عنه أنه لا خلاف بين الفقهاء في أن الطعام الذي لا علاقة له بالذكاة كالفاكهة والبر جائز أكله، وما فيه محاولة منعه لا تعلق للدين بها كخبز الدقيق وعصر الزيت فيباح أكله أيضًا، وإن تجنب من الذمي فعلى وجه التقزز (6)   (1) سحنون، المدونة: 2/ 56 (2) مواهب الجليل: 3/ 214 (3) سحنون، المدونة: 2/ 56 (4) المختصر: 83 (5) النفراوي، الفواكه الدواني: 2/ 99 (6) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 6/ 77 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1198 وأما ما له علاقة بالذكاة كجبن الروم الوارد علينا من النصارى من سائر أصقاع العالم فإن شاهده يجبن بأنفحة الميتة أو الخنزير أو يجعل بعد تجبينه في بطون الخنازير ليحل ما فيها من الودك إليه، أو كتب عليه من طرف المصنع إعلان بذلك أو تواتر ذلك حتى حد القطع فلا يحل لنا أكله؛ لأن الله حرم علينا بالخصوص الميتة والخنزير. وأما إذا لم يحصل لنا علم بالطرق السالفة جاز لنا الأكل من غير بحث عن ذلك، وكذلك الشأن في الأطعمة المحتوية على شيء من عين الخمر بشتى أصنافه، جاء في العتبية أن مالكًا رحمه الله سئل عن جبن الروم، فقال: ما أحب أن أحرم حلالًا، وأما أن يكرهه رجل في خاصة نفسه فلا أرى بذلك بأسًا، وأما أن أحرمه على الناس فلا أدري ما حقيقته، قد قيل: إنهم يجعلون فيه أنفحة الخنزير وهم نصارى، وما أحب أن أحرم حلالًا، وأما أن يتقيه رجل في خاصة نفسه فلا أرى بذلك بأسًا (1) قال ابن رشد في شرحه عليها الموسوم بالبيان والتحصيل: كره للرجل في خاصة نفسه من أجل ما قيل له: إنهم يجعلون فيه أنفحة الخنزير ولو لم يسمع ذلك لم يكن عليه أن يبحث عن ذلك، لأن الله قد أباح لنا أكل طعامهم بقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فأكل طعامهم جائز ما لم يوقن فيه بنجاسة، فإن خشي الرجل لشيء سمعه استحب له أن يتركه (2) وحل الطعام الذي لا علاقة له بالذكاة لا يقتصر على الكتابيين فحسب، قال القرطبي: ولا بأس بأكل طعام من لا كتاب له كالمشركين وعبدة الأوثان ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة" (3) أو له كتاب وليس بسماوي كالمجوس.   (1) العتبي، العتبية مع البيان والتحصيل: 3/ 272 - 273 (2) البيان والتحصيل: 3/ 273 (3) القرطبي: 6/ 77- 78 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1199 وجاء في العتبية عن ابن القاسم أنه قال: " وسمعت مالكًا يقول: أكره جبن المجوس لما يجعل فيه من أنافح الميتة، وأما السمن والزيت فلا أرى به بأسًا إذا كانت آنيتهم لا بأس بها، فإن كان في آنيتهم بعض ذلك فلا أرى أن يؤكل، وإن شككت في آنيتهم، وكانوا يأكلون الميتة فلا أحب ذلك (1) قال ابن رشد في شرحه المذكور سابقًا: أما المجوس فبين أنه لا خير فيه لأنه إنما يجعلون فيه من أنافيح ذبائحهم التي لا تحل لنا، فقوله: أكره ذلك لفظ فيه تجاوز، وقد روي أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يذكر أن المجوس لما رأوا المسلمين لا يشترون جبنهم وإنما يشترون جبن أهل الكتاب عمدوا فصلبوا (أي جعلوا عليه صورة صليب) على الجبن كما يصلب أهل الكتاب ليشترى من جبنهم فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " ما تبين لكم أنه من صنعتهم فلا تأكلوه، وما لم يتبين لكم فكلوه ولا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم" (2) والخلاصة أن طعام أهل الكتاب وغير أهل الكتاب لا علاقة له بالذكاة ولا يحتوي على شيء من النجاسات المحرمة علينا حلال أكله، وإن ترك أكله خشية نجاسة محرمة من المسلم تورعًا فحسن، وقد تورع عمر بن الخطاب وابن عباس وابن مسعود في خاصة أنفسهم رضي الله عنهم عن أكل الجبن مخافة أن يكون من جبن المجوس (3) هذا وقد اقتصرت في هذه الفتوى على مذهب الإمام رحمه الله غالبًا (4) وبناء على كل ما سبق واعتمادًا على ما نقلته عن فقهاء مذهب إمام دار الهجرة، أفتي المسلمين في أي صقع من أصقاع الأرض كانوا بإباحة ذبائح أهل الكتاب ولو كانوا يذكونها بحطم الرأس وفتل العنق من غير ذكر اسم الله عليها، إذا أكل منها أحبارهم ورهبانهم ما لم تكن محرمة علينا بالخصوص، كالميتة إن كانوا يستحلونها وكالخنزير الذي هو حلال عندهم، أو محرمة عليهم في كتابنا فلا تعمل فيها ذكاتهم كالإبل والأوز وكل ذي ظفر المحرم عند اليهود، وبكل الأطعمة التي طهيت بها، وبالشراء من جزاريهم رخصة من الله لنا وتيسيرًا علينا، وبإباحة أكل ما يقدمونه في مطاعمهم من شتى صنوف الأطعمة والفواكه ما لم نقطع باحتواء بعضها على نجاسة فلا يحل لنا أكلها من غير بحث منا عن ذلك، ومن تورع من المسلمين عن أكل بعض الأطعمة خشية احتوائها على نجاسة فحسن لتورع ثلة من السلف الصالح من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم عن أكل الجبن خشية أن يكون جبن المجوس. هذا ما ظهر لي في هذه المسألة والله أعلم.   (1) محمد العتبي، العتبية مع البيان والتحصيل: 3/ 271 (2) ابن رشد: البيان والتحصيل: 3/ 261 - 272 (3) ابن رشد: البيان والتحصيل: 7/ 272 (4) هناك فتوى للشيخ محمد بيرم الرابع على مقتضى المذهب الحنفي أجاب بها أحمد باشا باي الأول عن حكم الله في طعام أهل الكتاب عن طريق الشيخ ابن أبي الضياف هي غاية في الدقة والضبط نشرت بالمجلة الزيتونية مج: 2 ج 4 سنة 1356: 18 - 20 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1200 السؤال الواحد والعشرون كثير من المناسبات العامة التي يدعى المسلمون لحضورها تقدم فيها الخمور، ويختلط فيها النساء والرجال، واعتزال المسلمين لبعض هذه المناسبات قد يؤدي إلى عزلهم عن بقية أبناء المجتمع، وفقدانهم لبعض الفوائد. فما حكم حضور هذه الحفلات من غير مشاركة لهم في شرب الخمر والرقص أو تناول الخنزير؟ وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد والله ولي الإرشاد والتسديد قال أشهب عن مالك: لا يدخل في طاعة الله بمعصية الله، وأنا أقول: لا نظفر ببعض الفوائد، ونجترح كبائر الذنوب فقد جاء من الدردري في الوليمة وأحكامها بيان ما يمنع من حضورها، وإن كان المدعو صائمًا فيجب الأكل، وإن المفطر فلا يجب، إن لم يكن في المجلس من يتأذى منه لأمر ديني كمن شأنه الخوض في أعراض الناس، أو من يؤذيه، أو منكر كفرش حرير يجلس عليه هو أو غيره بحضرته، وآنية نقد من ذهب أو فضة لأكل أو شرب أو تبخير أو نحو ذلك، ولو كان المستعمل غيره بحضرته كسماع غانية ورقص نساء، وآلة لهو غير دف وزمارة وبوق، وصور حيوان كاملة لها ظل لا منقوشة بحائط، أو فرش إذا كانت تدوم كخشب وطين.. والنظر إلى الحرام حرام، أو كثرة زحام فإنها مسقطة لوجوب الدعوة. وقد تعقب محشية الصاوي قوله: أو كثرة زحام فقال: مثله إذا كان الداعي امرأة غير محرم، أو كانت الوليمة لغير مسلم، ولو كان الداعي مسلمًا، أو كان في الطعام شبهة كطعام مكاس.. أو كانت الطريق فيها نساء واقفات يتعرضن للداخل (1) ففي هذه الحالات كلها يسقط وجوب تلبية الدعوة ويحرم الذهاب؛ لأن الذهاب وسيلة والغاية الوليمة وقد اختلط فيها الحلال بالحرام والقاعدة الفقهية المتعارفة تقول: "ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال" قال الحافظ أبو الفضل العراقي: ولا أصل له، رادًا على من أورده حديثًا، وقال السبكي في الأشباه والنظائر نقلًا عن البيهقي: هو حديث رواه جابر الجعفي رجل ضعيف عن الشعبي عن ابن مسعود وهو منقطع، وأخرجه عبد الرزاق من هذا الطريق في مصنفه، وهو موقوف على ابن مسعود لا مرفوع. ثم قال السبكي: غير أن القاعدة في نفسها صحيحة، قال الجويني: لم يخرج عنها إلا ما ندر.   (1) الشرح الصغير على أقرب المسالك مع حاشية الصاوي عليه: 1/ 435 - 436 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1201 قال الأئمة: وإنما كان التحريم أحب لأن فيه ترك مباح لاجتناب محرم (1) وأما كون الأصل في الدعوة إلى الوليمة وجوب التلبية والحرمة عرضت نقول: مقصد من مقاصد شريعة الإسلام، أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فاتوا به ما استطعتم)) وجاء عن ابن جزي: المجالسة والمواكلة لا تجوز مع من يمنع النظر إليه إلا لضرورة (2) وجاء عن الونشريسي: يجب نهي النساء عن اجتماعهن مع الرجال اجتماع ملاصقة، لأن ذلك كله حرام، ومن غلب على ظنك أنه يعلم ذلك ويستبيحه فهذا كافر يجب جهاده بيدك أو بلسانك، فإن لم تقدر فبقبلك (3) وجاء عن الونشريسي أيضًا: وسئلت عمن له زوجة تخرج بادية الوجه وترعى وتحضر الأعراس والولائم مع الرجال والنساء يرقصن، والرجال يكفون: هل يجرح من له زوجة تفعل ذلك؟ فأجاب بما نصه: الحمد لله وحده: الجواب والله سبحانه ولي التوفيق بفضله: أن الشيخ أبا علي منصور بن أحمد المشذالي أفتى فيمن كانت له زوجة تخرج وتتصرف في حوائجها بادية الوجه والأطراف كما جرت به عوائد البوادي انه لا تجوز إمامته، ولا تقبل شهادته، ولا يحل أن تعطى له الزكاة إن احتاج إليها، وأنه لا يزال في غضب الله ما دام مصرًا على ذلك. وقال أبو عبد الله الزواوي: إن كان قادرًا على منعها ولم يفعل فما ذكر أبو علي صحيح، وقال سيدي أبو عبد الله محمد بن مرزوق: إن قدر على حجبها ممن يرى منها ما لا يحل ولم يفعل فهي جرحة في حقه، وإن لم يقدر على ذلك بوجه فلا. ومسألة هؤلاء القوم أخفض رتبة مما سألتم عنه، فإنه ليس فيها أزيد من خروجها وتصرفها بادية الوجه والأطراف، فإذا أفتوا فيها بجرحة الزوج فجرحته في هذه المسؤول عنها أولى وأحرى لضميمه ما ذكر في السؤال من الشطح والرقص بين يدي الرجال والأجانب ولا يخفى ما ينتج الاختلاط في هذه المواطن الرذلة من المفاسد وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((باعدوا بين أنفاس الرجال وأنفاس النساء، حتى لو كان عظم هذه بالمشرق وعظم هذا بالمغرب لحن هذا إلى هذا حتى يلتقيان)) عصمنا الله وإياكم من الضلالة والفتن ما ظهر منها وما بطن وهو سبحانه ولي التوفيق بفضله (4)   (1) السيوطي، الأشباه والنظائر: 105 - 106 (2) القوانين الفقهية: 429 (3) المعيار: 11/ 228 (4) المعيار: 11/ 193 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1202 وجاء عن الغزالي في إحياء علوم الدين في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منكرات الضيافة أن منها: فرش الحرير للرجال فهو حرام، وكذلك تبخير البخور في مجمرة فضة أو ذهب، أو الشراب أو الأكل في أواني الذهب والفضة أو استعمال ماء الورد في مرشات الذهب والفضة، وسماع الأوتار، وسماع القينات، واجتماع النساء على السطوح للنظر إلى الرجال مهما كان في الرجال شباب يخاف الفتنة منهم فكل ذلك محظور ومنكر يجب تغييره، وقد خرج الإمام أحمد رضي الله عنه من ضيافة من أجل وجود مكحلة فضة في مجلس الضيافة ومن عجز عن التغيير لزمه الخروج، ولم يجز له الجلوس فلا رخصة له في الجلوس في مشاهدة المنكرات. وإن كان فيها من يتعاطى شرب الخمر وحده فلا يجوز الحضور، إذ لا يحل حضور مجالس الشراب، وإن كان مع ترك الشراب، ولا يجوز مجالسة الفاسق في حالة مباشرته لفسقه، وكذلك إن كان في مجلس الضيافة من يلبس الحرير وخاتم الذهب من الرجال فهو فاسق لا يجوز الجلوس معه من غير ضرورة، وكذلك المبتدع يتكلم ببدعته لا يجوز حضور الضيافة معه لغير القادر على الرد عليه وإفهامه، كما لا يجوز حضور ضيافة فيها مضحك بالفحش والكذب. وعند الحضور يجب الإنكار. وهكذا مهما كان الطعام حرامًا، أو كان الموضع مغصوبًا، أو كانت الثياب المفروشة حرامًا فالحضور في مجلس الضيافة من أشد المنكرات (1) هذا وقد أكثرت من جلب النصوص حتى نرى رأي العين ونلمس لمس اليد أن فقهاء الإسلام حرموا حضور مجالس اللهو والشراب والقيان والرقص والحرام بصورة عامة، وعدوا حضورها وحضور موائدها من أشد المنكرات، وجرحوا في عدالة من يسمح لزوجته في حضور هذه المجالس لحديث: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) ولحديث ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري، والمشتراة له)) رواه الترمذي وابن ماجه ولما روي عن ابن مسعود: ((الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل)) رواه أبو داود ورواه البيهقي. وانطلاقًا من كل ذلك، وترتيبًا على ما ذكرت لا يجوز لإخواني في بلاد الغربة حضور حفلات من النوع الموصوف في السؤال ولو مع عدم المشاركة، والله أعلم.   (1) الإحياء: 2/ 298 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1203 السؤال الثاني والعشرون بعض الأقطار في شمال أوربا يقصر فيها الليل كثيرًا، ويطول فيها النهار، حيث تصل ساعات الصيام في بعض هذه البلدان إلى عشرين ساعة أو تزيد، وكثير من المسلمين يجدون مشقة زائدة في الصيام، هل يجوز اللجوء في هذه البلدان إلى التقدير؟ وما نوع التقدير الذي يمكن اعتماده إذا كان جائزًا؟ وهل يكون التقدير بساعات الصيام في مكة؟ أو بساعات النهار في أقرب البلدان اعتدالًا، أو بماذا؟ وإذا لم يكن ذلك جائزًا، فهل يعتبر هذا النوع من المشقة من المشاق التي يجب على المسلم احتمالها، والصبر عليها مع احتمال الضرر؟ وهل يجب عليه أن يترك عمله في شهر الصيام، إذا لم يكن بمقدوره الصيام إلا بترك العمل من قبيل ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب؟ وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد والله ولي الفتح والتسديد في السؤال المطروح ليل قصير، ونهار طويل، ليل طوله ثلاث ساعات ونهار طوله إحدى وعشرون ساعة، ومجموع الليل والنهار أربع وعشرون ساعة، فالحكم يكون منوطًا بطلوع الفجر الصادق وغروب الشمس فيجب على المسلم المكلف صوم نهاره، وإفطار ليله، قال تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فجعل تبارك وتعالى الليل ظرفًا للأكل والشرب والجماع والنهار ظرفًا للصيام، فبين أحكام الزمانين، وغاير بينهما، فلا يجوز في النهار شيء مما أباحه في الليل إلا لمريض أو مسافر، شرعًا عامًا خالدًا لسائر أصقاع الدنيا لا فارق بين قطر وقطر، قال العلامة شهاب الدين القرافي من المالكية في كتابه "اليواقيت في أحكام المواقيت": "مسألة من نوادر أحكام المواقيت، فتيا جاءت من بلاد البرغال (هكذا) من الإقليم السابع إلى بخاري يقولون فيها: " إنه جاءنا رمضان وطول الليل نحو ثلث ساعة إن اشتغلنا بالفطر طلع علينا الفجر قبل أن نصلي المغرب والعشاء، وإن اشتغلنا بالصلاة فاتنا الفطر لضيق الزمان بأيهما نبدأ؟ وأيهما يفوت؟ فأفتاهم فقهاء بخارى بالاشتغال بالفطر، وتفويت الصلاة لأن مصلحة الأجساد مقدمة على العبادات، بدليل المريض يسقط الطهارات، وإن كان الصلوات والصوم وغير ذلك. وهذا الفرض ممكن قطعًا، وواقع فيما إذا كان عرض البلاد نيفا وستين درجة.. فهذه الفتيا صحيحة، وواقعة غير أن هذه الحالة لا تدوم في جميع الأعوام، بل تصادف رمضان في بعض السنين، وفي بعضها لا تصادفه بحسب اختلاف الشمس مع حركة القمر والهلال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1204 ولا بد من وقفة تأمل في هذه الفتيا الصادرة عن فقهاء بخارى، ومراكز الاهتمام فيها ثلاثة: 1- لم يطرح السائلون قضية التقدير بأقرب البلاد إليهم، وإنما سألوا هل تقدم صلاة المغرب والعشاء؟ أو يقدم الفطر؟ 2- لم يطرح فقهاء بخارى قضية التقدير لأن هنالك ليلا ونهارًا وفجرًا وغروبًا وإن كان الليل يساوي عشرين دقيقة، ولو كان التقدير شرع الله فكيف يكتمونه؟ والفتوى إعلام الموقعين عن رب العالمين. 3- أن العلامة شهاب الدين القرافي وصف الفتيا بالصحة وهو العالم بعلم الهيئة والمواقيت وقد عقب على فتوى فقهاء بخارى بقوله: "وقد بينت في الجهاد الموضوع، والسقف المرفوع، وهو جغرافيًا وضعتها وصورت فيها، أحكام الأرض وأصقاعها وبحارها وأوضاعها، وأحوال السموات وأسرارها، وأن النهار والليل يكون كل واحد منهما من عشر عشر ساعة إلى نصف السنة، وأكثر من ستة أشهر لا يكون، وذلك مما قام عليه البرهان القطعي في علم الهيئة. وقبل القرافي بقرون نجد أمام الحرمين يقول: "ولا خلاف في أن الشمس تغرب عند قوم، وتطلع عند آخرين، والليل يطول عند قوم ويقصر عند آخرين، وبين الليل والنهار اختلاف ما في الطول والقصر عند خط الاستواء، وفي بعض البلاد قد يطلع الفجر قبل أن يغيب شفق الغروب، وفي عرض تسعين لا تزال ما دامت في البروج الشمالية، وغاربة ما دامت في البروج الجنوبية فالسنة نصفها ليل، ونصفها نهار، (1) ونجد الكرخي الحنفي يقول: "إن الليل والنهار كما يختلفان بالطول والقصر في الأزمنة فهما مختلفان في الأمكنة، فكل ساعة عينتها، فتلك الساعة في موضع من الأرض صبح، وفي موضع آخر ظهر، وفي آخر عصر، وفي آخر مغرب، وفي آخر عشاء، وهلم جرا.   (1) ابن عبد الوهاب المراكشي، العذب الزلال في مباحث رؤية الهلال: 1/ 233 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1205 هذا إذا اعتبرنا البلاد المختلفة في الطول، أما البلاد المختلفة في العرض فكل بلد يكون عرضه للشمال أكثر، كانت أيامه الصيفية أطول، وأيامه الشتوية بالضد من ذلك. فهذه الأحوال المختلفة في الأيام والليالي بحسب اختلاف أطوال البلاد وعروضها أمر عجيب (1) وغير هؤلاء كثير، فالفقهاء في شتى المذاهب كانوا على علم بما يحتاجون إليه من علم الهيئة فأمر التقدير الذي يذهب إليه فقهاؤنا المعارضون في مثل السؤال المطروح، أو أضيق منه مثل السؤال الوارد على فقهاء بخارى السالف الذكر، لا أدري ما هو دليلهم في قولهم بالتقدير والليل ليل، والنهار نهار، وإن اختلفا طولًا وقصرًا، حتى أوقعوا المسلمين في حيرة من الأمر وتساءلوا مشرقًا ومغربًا كيف تكون الشمس في السماء والمسلم مفطر نظرًا لكون النهار طويلًا، والليل قصيرًا؟ وحديث الدجال الذي اعتمده من قال بالتقدير من المعاصرين لا ينطبق على الصورة التي تضمنها السؤال المطروح وأمثاله من الأسئلة، ونص الحديث كما رواه مسلم في صحيحه عن النواس بن سمعان الطويل وما به الحاجة منه هو: ((قلنا: يا رسول الله، وما لبثته في الأرض؟ قال أربعون يومًا، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، قلنا: يا رسول الله، بذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره)) . الحديث. وذلك لأن الصورة المطروحة في السؤال الزمان فيها يحتوي على ليل ونهار، وفجر وغروب، غاية ما في الأمر أن الليل قصير، والنهار طويل، وطوله مع قصر الليل لم يزد عن الأربع والعشرين ساعة، ويوم الدجال طوله سنة، هذا أولًا. وثانيًا: قال القاضي عياض من المالكية: هذا حكم مخصوص بذلك الزمان شرعه لنا صاحب الشرع، ولو وكلنا فيه لاجتهادنا لكانت الصلاة فيه عند الأوقات المعروفة، واكتفينا بالصلوات الخمس، ونقله عنه النووي وقبله (2)   (1) ابن عبد الوهاب المراكشي، العذب الزلال في مباحث رؤية الهلال: 1/ 234 (2) الحطاب، مواهب الجليل: 1/ 388 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1206 هذا، وحيث لا تتحدد الأوقات في اليوم والليلة بأربع وعشرين ساعة وهو الناموس الذي أقام عليه أغلب أصقاع الأرض، يخرق هذا النظام حيث تكون السنة فيها يومًا وليلة، نصفها نهار، ونصفها ليل، فإن الفقهاء قالوا بالتقدير على اختلافهم في كيفيته والمراد به، صلاة وصومًا، وكذلك الشأن إذا كان الليل والنهار أربعًا وعشرين ساعة ولكن لا يتميز أحدهما عن الآخر. قال العلامة شهاب الدين القرافي رحمه الله ناقلًا مسألة وقعت في مذهب الشافعي وهي: قطر يطلع فيه الفجر قبل غروب الشفق لصغر القوس الكائنة تحت الأرض من دائرة الشمس فكيف يصنع بالصلاتين الفجر والعشاء؟ هل يصير الصبح قبل مغيب الشفق أم لا يجوز ذلك؟ وهي يقضى على العشاء بالقضاء لأجل طلوع الفجر؟ أم يقضى عليها ببقاء الشفق؟ قال الشيخ أبو محمد والد إمام الحرمين: لا يصلى العشاء حتى يغيب الشفق ولا يكون قضاء لبقاء وقتها، ويتحرى بصلاة الصبح فجر من يليهم من البلاد ولا يعتبر فجرًا هذا الفجر الذي هم فيه (1) ونقل الحطاب هذه المسألة، وعقب عليها بقوله: وكأنه ارتضاه، ولم يسلم نقله للمسألة من تحريف حيث نسب القول إلى إمام الحرمين (2) وليس بقوله، وإنما هو قول والده كما نقلته سالفًا فراجعه مقارنًا إياه بما ورد في كتاب المواقيت، وقد ذكرها الحصكفي من الحنفية في الدر المختار وقال: إن ذلك يحصل في أربعينية الشتاء، وصوبه محشيه خاتمة المحققين في المذهب النعماني العلامة ابن عابدين رحمه الله بقوله: صوابه في أربعينية الصيف كما في الباقالي وعبارة البحر وغيره: في أقصر ليالي السنة (3) وأفاض في المراد بالتقدير بين علماء الأحناف ودليل كل واحد منهم، فليراجعه من شاء.   (1) اليواقيت في أحكام المواقيت: 61 ظهرًا (2) الحطاب: 1/ 388 (3) رد المحتار: 1/ 242 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1207 والعجيب أن العلامة شلتوت في فتاواه قال بالتقدير في مسلم يوجد بجهة يطول نهارها حتى لا يكون ليلها إلا جزءًا يسيرًا، ومجموع الليل والنهار فيها يساوي أربعًا وعشرين ساعة (1) ولعل فتواه رحمه الله سببت ما لاحظه قراء جريدة "المسلمون" من اضطراب في فتاوى مجلة الأزهر في هذا الموضوع ففي عدد شوال سنة أربع وتسعين وثلاثمائة وألف لهجرة خير الأنام صلى الله عليه وسلم جاء في باب الفتوى الذي يعده محمد أبو شادي بعد الديباجة ما يلي: متى كان هناك شروق وغروب مجموع الليل والنهار معهما أربع وعشرون ساعة فإن الحكم يكون منوطًا بالشروق والغروب فيجب صوم نهاره من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وإفطار ليله الخ.. وجاء في عدد رمضان سنة سبع وتسعين وثلاثمائة وألف في باب الفتوى الذي يعده محمود رسلان نقل فتوى سماحة الشيخ محمود شلتوت رحمه الله واعتمادها جوابًا (2) (3) بقي ما يتعلق بشطر السؤال الثاني وهو قول السائل، وإذا لم يكن ذلك جائزًا فهل يعتبر هذا النوع من المشقة من المشاق التي يجب على المسلم احتمالها والصبر عليها مع احتمال الضرر؟ وهل يجب عليه أن يترك عمله في شهر الصيام، إذا لم يكن بمقدوره الصيام إلا بترك العمل من قبيل ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب؟ وعند التأمل فيه نجده يتفرع إلى فرعين: 1- بيان المشقة المعتبرة في العبادة والتي يجب على المسلم تحملها مع احتمال الضرر. 2- هل يجب عليه أن يفوت عمله، إذا لم يستطع الجمع بينه وبين الصيام؟   (1) راجع فتاوى الشيخ شلتوت: 144 - 146 (2) الأزهر من عدد 846 شوال 1394 هـ 1974/ 895 – 896 (3) الأزهر من ع 749 رمضان 1397 هـ – 1977 م 1419 وما بعدها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1208 أما الفرع الأول فقد تقرر أن قصد الشارع من وضع الشرائع إخراج النفوس عن أهوائها، وعوائدها، فلا تعتبر في شرعية الرخصة بالنسبة إلى أكل من هويت نفسه أمرًا، ألا ترى كيف ذم الله تعالى من اعتذر بما يتعلق بأهواء النفوس ليترخص كقوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} الآية، لأن الجد بن قيس قال: إيذن لي في التخلف عن الغزو ولا تفتني ببنات الأصفر فإني لا أقدر على الصبر عنهن، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} الآية، ثم بين القدر الصحيح في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} الآيات، فبين أهل الأعذار وهم الذين لا يطيقون الجهاد وهم الزَّمْنَى والصبيان والشيوخ والمجانين والعميان ونحوهم، وكذلك من لم يجد نفقة أصلًا ولا وجد من يحمله، وقال فيه {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} ومن جملة النصيحة لله ورسوله أن لا يبقوا من أنفسهم بقية في طاعة الله ألا ترى إلى قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} وقال {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} الآية، فما ظنك فيمن كان عذره هوى نفسه؟ نعم وضع الشريعة على أن تكون أهواء النفوس تابعة لمقصود الشارع فيها. وقد وسع الله تعالى على العباد في شهواتهم وأحوالهم وتنعماتهم على وجه لا يفضي إلى مفسدة، ولا يحصل بها المكلف على مشقة، ولا ينقطع بها عنه التمتع إذا أخذه على الوجه المحدود له فلذلك شرع له ابتداء رخصة السلم، والقراض، والمساقاة وغير ذلك مما هو توسعة عليه، وإن كان فيه مانع في قاعدة أخرى، وأحل له من متاع الدنيا أشياء كثيرة، فمتى جمحت نفسه إلى هوى قد جعل الشرع له منه مخرجًا وإليه سبيلًا، فإن لم يأته من بابه كان هوى شيطانيًا واجبًا عليه الانفكاك عنه كالمولع بمعصية من المعاصي فلا رخصة له البتة، لأن الرخصة هنا هي عين مخالفة الشرع بخلاف الرخص المتقدمة فإن لها في الشرع موافقة إذا وزنت بميزانها" (1)   (1) الشاطبي، الموافقات: 1/ 201 - 202 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1209 وأما الفرع الثاني وهو إذا لم يستطع الجمع بين عمله وبين الصيام فيجب أن يكون السبب وهو حصول مشقة يتعذر معها الصوم عادة مطردة في أنه يوجد ووجد بالفعل، أي صام هؤلاء الإخوة في بلاد الغربة من شمال أوربا وأجهدهم الصوم إلى حد لم يستطيعوا معه القيام بأعمالهم، ولو قرنوا بين الصوم والعمل لأضر بهم في أبدانهم، وأموالهم، فهؤلاء يرخص لهم في الفطر عند حصول ذلك بالفعل لا أنهم منذ الليل يظنون أن ذلك سيحصل فينوون الفطر ويصبحون مفطرين فيلزمهم القضاء والكفارة، لأن أهواء النفوس الأمارة بالسوء تقدر أشياء لا حقيقة لها وإنما هي من إملاء الشيطان فليحذر إخوتي في بلاد الغربة أن يقولوا مقالة الجد بن قيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم السالفة الذكر، وفي نوازل البرزلي الفتوى عندنا: أن الحصاد المحتاج يجوز له الحصاد وإن أدى إلى الفطر، وإلا كره له، بخلاف رب الزرع فلا حرج عليه مطلقًا لحراسة ماله وقد نهي عن إضاعة المال. قال ميارة معقبًا على كلام البرزلي بعد نقله: وإنما يجوز الفطر للحصاد بعد أن تناله الضرورة لا قبل ذلك فلا يجوز أن يصبح مفطرًا، إذ من الجائز أن يصده أمر عن الحصاد رأسًا في ذلك اليوم فيكون كمن أفطر قبل أن يسافر أو في يوم الحيض قبل مجيئه. قال شيخنا الإمام العالم أبو زيد عبد الرحمن الفاسي رحمه الله في بعض فتاويه ما نصه: ينبغي تقييد مسألة رب الزرع بعدم إمكان استئجاره لمن ينوب عنه في ذلك ممن يكون محتاجًا ومضطرًا للأجرة على ذلك، إما بأن لا يكون له مال يستأجر به على زرعه، أو يكون ولكن لا يجد من يستأجره على ذلك كما تقرر في مسألة الحامل والمرضع، وإما إن وجد ما يستأجر به، ومن يستأجر فلا يتعاطى ذلك ويدخل نفسه فيما يضطره إلى الفطر لعدم الضرورة حينئذ، ووجود المندوحة عن إضاعة المال.. ومثل مسألة الحصاد ما أفتى به الإمام ابن عرفة من أن المرأة المحتاجة يجوز لها غزل الكتان في رمضان دون غيرها (1) وعلى ضوء فتاوى الأسلاف من فقهاء بخارى والبرزلي وشيخه الإمام ابن عرفة أفتي إخواني في بلاد الغربة من شمال أوربا أنهم يصومون رمضان كسائر إخوانهم المسلمين نهارهم، ويفطرون ليلهم لوجود ليل ونهار متمايزين، ويقومون بأعمالهم المحتاجين إليها في معاشهم، أو التي يلزم من عدم القيام بها إضاعة أموالهم فإن أجهدتهم مشقة الصوم إجهادًا يعود عليهم بالضرر ورخص لهم في الفطر كما رخص للحصادين المحتاجين للأجرة بدون كراهة إن كانوا محتاجين إليها، وإن كانوا غير محتاجين لحراسة ماله، وقد نهي عن إضاعته إن كانوا من أصحاب المصانع أو الورشات أو غير ذلك والله أعلم. حرره الفقير إلى مولاه الغني محيي الدين قادي.   (1) محمد ميارة: الدر الثمين والمورد المعين شرح المرشد المعين: 329 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1210 السؤال الثالث والعشرون في كثير من الولايات الأمريكية وكذلك الأقطار الأوربية تصعب أو تتعذر رؤية هلال رمضان أو شوال، والتقدم العلمي الموجود في كثير من هذه البلدان يمكِّن من معرفة ولادة الهلال بشك دقيق بطريق الحساب، فهل يجوز اعتماد الحساب في هذه البلدان؟ وهل تجوز الاستعانة بالمراصد وقبول قول الكفار المشرفين عليها؟ علمًا أن الغالب على الظن صدق قولهم في هذه الأمور. وما يجدر بالملاحظة أن اتباع المسلمين في أمريكا وأوربا لبعض البلدان الإسلامية المشرقية في صيامها أو إفطارها قد أثار بينهم اختلافات كثيرة، غالبًا ما تذهب بأهم فوائد الأعياد، وتثير مشكلات شبه دائمة، وفي الأخذ بالحساب ما قد يقضي على هذا في نظر البعض أو يكاد. وفي الجواب عن هذا أفيد والله ولي التوفيق فأقول: هذه المسألة من مداحض الأنظار فعلى المفتي فيها بالتدبر والاعتبار، وقد كتبت فيها الرسائل والكتب قديمًا وحديثًا، فقد كتب فيها ابن البناء رسالة عام سبعمائة، وكتب فيه السبكي رسالة عام ثمان وأربعين وسبعمائة، وكتب فيها العلامة بخيت رسالة عام تسع وعشرين وثلاثمائة، وكتب فيها الشيخ طنطاوي جوهري رسالة سنة اثنتين وثلاثمائة، وكتب فيه الشيخ أحمد بن محمد السلاوي التطاوني سنة إحدى وتسعين ومائتين، وكتب فيها الشيخ محمد بن عوض رسالته "منحة العلي المتعال" سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وكتب فيها الشيخ عبد الرحمن بن زيدان كتابه "تبيين وجوه الاختلال في مستند إعلان العدلية لثبوت رؤية الهلال" وذلك عام خمس وستين وثلاثمائة وألف. وتناولتها المجلات الإسلامية القيمة كالمنار ونور الإسلام والأزهر والمجلة الزيتونية باعتبارها مشكلة من مشاغل المسلمين. وعقدت من أجلها المؤتمرات العديدة في أصقاع عالمنا الإسلامي ومع هذه الجهود كلها فالقضية ما زالت تثير جدلًا حادًا، وما انفكت مناخ نظر إثبات الفقهاء بمجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة أو مجمع الفقه الإسلامي بجدة. ولعل من الأعمال العلمية الجادة في هذه القضية، لدراستها للمشكلة دراسة معمقة من ناحيتي الفقه والفلك ذلكم المجلد الضخم ذا الجزأين المرسوم بـ "العذب الزلال في مباحث رؤية الهلال" للعلامة محمد بن عبد الوهاب المراكشي، والذي فرغ من تأليفه في 18 محرم الحرام 1367 هـ وطبع لأول مرة بتحقيق الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري مدير الشؤون الدينية بدولة قطر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1211 هذا وقصدت من هذا التقديم الذي ليس من طبيعة الفتاوى إلى مزيد الاهتمام من المجامع الفقهية، ومجمع البحوث الإسلامية، والجامعات الإسلامية، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن والمراكز الإسلامية ببلاد الغرب، وجمع الشمل في أيام دراسية لهذه القضية، والوصول إلى اجتهاد جماعي في حلها، ونشر هذا الاجتهاد في عالمنا الإسلامي بشتى لغاته في شكل رسالة، وتتولى كل جهة مختصة في كل قطر إسلامي الإعلان عن ذلك بوسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، ويومها فقط يتحقق لأمتنا الإسلامية ما يصير اختلافها اتفاقًا واضطرابها طمأنينة في مسألة من أهم مسائل دينها لكثرة ما ينبني عليها من الأحكام الدينية والدنيوية، قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره لقوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} إن تقدير الزمن بالشهور فيه منافع بعضها متصل بالدين، وبعضها بالدنيا، أما ما يتصل منها بالدين فكثيرة، منها: الصوم، قال تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ} وثانيها: الحج قال الله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ثالثها: عدة المتوفى عنها زوجها: قال الله تعالى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ورابعها: النذر التي تتعلق بالأوقات، ولفضائل الصوم أيام لا تعلم إلا بالأهلة. وأما ما يتصل منها بالدنيا فهو كالمداينات، والإجارات، والمواعد، ومدة الحمل والرضاع، كما قال {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وغيرها، فكل ذلك ما لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الاختلاف في شكل القمر (1) والسؤال المعروض على المجمع الموقر يتعلق بالصوم والإفطار، وهل يمكن اعتماد المسلمين المغتربين بأميركا وأوربا وغيرهما من بلاد الكفر، أو الذين أسلموا من هذه البلاد على الحساب في إثبات دخول شهر رمضان وشوال لتعذر رؤية الهلال في هذه الأصقاع من الدنيا، ووجود تقدم علمي دقيق وأمين بها؟ وهو جانب من هذه المشكلة. والجواب والله الملهم للصواب: لا يجوز لهؤلاء الإخوة المغتربين أو أبناء هذه البلدان الذين أسلموا التعويل على الحساب في الصوم والفطر، والاستغناء عن الرؤية، قال ابن رشد الجد من المالكية: لا يجوز لأحد أن يعول في صومه، وفطره على ذلك فيستغني عن النظر إلى الأهلة بإجماع من العلماء.   (1) الحطاب، مواهب الجليل: 2/ 388 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1212 وإنما اختلف أهل العلم فيمن كان من أهل هذا الشأن إذا أغمي الهلال هل له أن يعمل على معرفته بذلك أم لا؟ فقال مطرف بن الشخير: إنه يعمل في خاصته على ذلك، وقاله الشافعي أيضًا في رواية، والمعلوم من مذهبه ما عليه الجمهور من أنه لا يعمل على ذلك (1) وقال الباجي في المنتقى: وقد روى ابن نافع عن مالك في المدنية في الإمام: لا يصوم لرؤية الهلال، ولا يفطر لرؤيته، وإنما يصوم ويفطر على الحساب: إنه لا يقتدى به (2) وقال العلامة ابن عابدين من الحنفية: لا عبرة بقول المنجمين ولو كانوا عدولًا بالإجماع (3) وقال الجمل من الشافعية: لا يجب رمضان بقول المنجم، ولا يجوز صومه به، نعم له أن يعمل بحسابه، ويجزئه عن فرضه على المعتمد وإن وقع في المجموع عدم إجزائه عنه. والحاسب وهو من يعتمد منازل القمر، وتقدير سيره في معنى المنجم وهو من يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني (4) وأدلة الجمهور قائمة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع السلف الصالح. أما السنة فحديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له)) وروى ابن عمر أيضًا: ((الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) رواهما الإمام البخاري في الجامع الصحيح، وروى مالك عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) وفي رواية للبخاري ((فإن غمي عليكم فاكملوا عدة شعبان ثلاثين)) وهناك روايات أخرى.   (1) الحطاب، مواهب الجليل: 2/ 388 (2) المنتقى: 2/ 38 (3) رد المحتار على الدر المختار: 2/ 92 (4) حاشية الجمل على شرح المنهج: 2/ 304 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1213 وجمهور السلف والخلف إلى أن معناه: قدروا له تمام العدة ثلاثين يومًا، قال أهل اللغة: قدرت الشيء أَقْدُرُهُ وأُقَدِّرُهُ، وقَدَرْتُه وأَقْدَرْتُه بمعنى واحد، وهو من التقدير، قال الخطابي ومنه قوله تعالى {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} واحتج الجمهور بالروايات المذكورة فأكملوا العدة ثلاثين، وهو تفسير ((فاقدروا له)) ، ولهذا لم يجتمعا في رواية واحدة، بل تارة يذكر هذا، وتارة يذكر هذا، ويؤكده رواية، ((فاقدروا له ثلاثين)) قال الباجي في قوله: ((فاقدروا له)) يريد: قدروا الشهر وتقديره إتمام الشهر الذي أنت فيه ثلاثين، لأن الشهر إنما يكون تسعة وعشرين يومًا بالرؤية، فأما بالتقدير فلا يكون إلا ثلاثين، وقد فسر ذلك في حديث أبي هريرة فقال صلى الله عليه وسلم: ((فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) ، وفي حديث ربعي بن خراش: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة)) (1) وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن معنى ((اقدروا له)) : ضيقوا له وقدروه تحت السحاب: قال ابن قدامة: اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فروى عنه "وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه وقد أجزأ إذا كان من شهر رمضان" واختارها أكثر شيوخ أصحابنا وهو مذهب عمر وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة وأنس ومعاوية وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر، وبه قال بكر بن عبد الله وأبو عثمان النهدي وابن أبي مريم ومطرف وميمون بن مهران وطاوس ومجاهد. وروي عنه: أن الناس تبع للإمام، فإن صام صاموا، وإن أفطر أفطروا، وهذا قول الحسن وابن سيرين لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون)) قيل معناه: الصوم والفطر مع الجماعة ومعظم الناس، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.   (1) المنتقى: 2/ 38 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1214 وحكى ابن قدامة رواية ثالثة عن الإمام أحمد كالجمهور والأئمة الثلاثة (1) وقال ابن سريج وجماعة منهم: مطرف بن الشخير من كبار التابعين وابن قتيبة: معناه قدروه بحساب المنازل، وحكى ابن سريج عن الشافعي أنه قال: من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر، ثم تبين له من جهة الاستدلال أن الهلال مرئي قد غم فإن له أن يعتقد الصوم ويجزئه. ومذهب الجمهور حجته لا تدحض بحال، لأن روايات ((اقدروا له)) مجملة، وروايات إتمام العدة مفسرة، والقاعدة الأصولية المتفق عليها بينهم أن المجمل يحمل على المفسر، ولا تعارض عند الأصوليين بنيهما (2) أصلًا، هذا أولًا. وثانيًا: ما قاله القرافي ملخصًا في الفرق الثاني والمائة بين قاعدة أوقات الصلاة يجوز إثباتها بالحساب والآلات وكل ما دل عليها، وبين قاعدة الأهلة في الرمضانات لا يجوز إثباتها بالحساب، المذهب عدم اعتبار الحساب، قال سند: إن كان الإمام يرى الحساب، فأثبت الهلال به، لم يتبع لإجماع السلف على خلافه، مع أن حساب الأهلة والخسوف والكسوف قطعي فإن الله سبحانه أجرى عادته بأن حركات الأفلاك وانتقالات الكواكب السبعة السيارة على نظام واحد طول الدهر بتقدير العزيز العليم، قال الله تعالى {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} وقال تعالى {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي هما ذوا حساب فلا ينخرم ذلك أبدًا، وكذلك الفصول الأربعة لا ينخرم حسابها، والعوائد إذا استمرت أفادت القطع، كما إذا رأينا شيخا نجزم بأنه لم يولد كذلك، بل طفلًا لأجل عادة الله تعالى بذلك، وإلا فالعقل يجوِّز ولادته كذلك، والقطع الحاصل فيه إنما هو لأجل العادة وإذا حصل القطع بالحساب ينبغي أن يعتمد عليه كأوقات الصلوات فإنه لا غاية بعد حصول القطع.   (1) المغني: 3/ 89 - 90 (2) ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد: 1/ 275 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1215 والفرق - وهو المطلوب ههنا وهو عمدة السلف والخلف - أن الله تعالى نصب زوال الشمس سبب وجوب الظهر، وكذلك بقية الأوقات بالأوامر الواردة في الكتاب والسنة الدالة على أن نفس الوقت السبب، فمن علم السبب بأي طريق كان، لزمه حكمه، فلذلك اعتبر الحساب المفيد للقطع في أوقات الصلوات. وأما الأهلة فلم ينصب صاحب الشرع خروجها من الشعاع سببًا للصوم بل رؤية الهلال خارجًا من شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي، فلا يثبت الحكم. ويدل على أن صاحب الشرع لم ينصب نفس خروج الهلال عن شعاع الشمس سببًا للصوم قوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) ولم يقل لخروجه عن شعاع الشمس، كما قال تعالى {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ثم قال: فإن غم عليكم، أي خفيت عليكم رؤيته ((فاقدروا له)) وفي رواية ((فأكملوا العدة ثلاثين)) فنصب ((رؤية الهلال)) أو إكمال العدة ثلاثين، ولم يتعرض لخروج الهلال عن الشعاع (1) وهذه التفرقة حسنة من العلامة شهاب الدين القرافي الفقيه الفلكي والذي اهتم بأثر علم الهيئة في الأحكام الشرعية في كتابه اليواقيت في أحكام المواقيت (2) واهتم بأحكام الأرض وأصقاعها وبحارها وأوضاعها وأحوال السموات وأسرارها في كتاب الجغرافيا الذي وضعه وهو: المهاد الموضوع والسقف المرفوع (3) وتقوم حجة قاطعة على أن مذهب الجمهور هو الحق خصوصًا أن ابن الشاط قد قبلها، وأن الحطاب وصفها بالحسن (4) وثالثًا: قال المازري رضي الله عنه: حمل جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم ((فاقدروا له)) على أن المراد إكمال العدة ثلاثين، كما فسر في حديث آخر، قالوا: ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين، لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم، لأنه لا يعرفه إلا أفراد، والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم، والله أعلم (5)   (1) الفروق: 2/ 199 وما بعدها (2) مخطوط بدار الكتب الوطنية التونسية تحت 8688 (3) ذكره في اليواقيت في أحكام المواقيت: 61 وجهًا (4) مواهب الجليل: 2/ 388 (5) النووي: شرحه على صحيح مسلم: 5/ 56 بهامش إرشاد الساري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1216 هذا والذي يبدو لي من خلال ما نقلته من نصوص أن عدم الاعتماد على الحساب ليس راجعًا إلى بطلانه، وعدم الوثوق بصحة نتائجه في الواقع إذ لا أحد من الفقهاء يقول بتزييفها بعد التفريق بين التنجيم الذي هو استدلال بحركة الأفلاك على الحوادث، والذي فيه ادعاء علم الغيب، وبين الحساب الذي هو علم صحيح، بل رأينا حذاق الفقهاء يصرحون بإفادته القطع، إذ لم يقع خطأ من الحاسبين كالعلامة شهاب الدين القرافي، وإنما كل ما في الأمر أن الشارع ألغى ربط الصوم بخروج الهلال من شعاع الشمس دفعًا للعسر؛ إذ لا يتسنى ذلك إلا ليسير الأفراد وربطه برؤية خروج الهلال من شعاع الشمس، أو بإكمال العدة ثلاثين، رحمة بالمكلفين وتيسيرًا عليهم، إذ هو متآت لجماهيرهم والإلغاء شيء والبطلان شيء آخر كما يعرف ذلك من علم أصول الفقه. وأما استفسار الإخوة المغتربين في الولايات المتحدة الأمريكية والأقطار الأوربية عن قبول حساب الكفار المشرفين على المراصد في هذه الأصقاع فمردود من وجهتين: 1- أن العمل بالحساب في الصوم والفطر والاستغناء عن الرؤية لا يجوز كما أسلفت. 2- أن الكفار لا تقبل شهادتهم ولا روايتهم في أمور الديانة، قال سعد الدين التفتزاني في التلويح عند اشتراط صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود في قبول خبر الواحد في الديانات ورد حبر الكافر فيها مع أن الكذب حرام في كل دين. وتوجيه ذلك: وربما كان الكافر مستقيمًا في دينه، فيغلب على الظن صدقه، ومع ذلك يرد قوله في الديانات لأن شأن الكافر التعصب على دين الإسلام وهدم أركانه بقدر الطاقة، وعدم المبالاة فيه، فيرد قوله فيه، فظهر أن رد قول الكافر لا لأنه يصدق أو يكذب بل لأن صاحب الشرع من أصوله المؤسسة في هذا الدين أن أقوال المعتوه والكافر كلها ساقطة عن الاعتبار في الديانات، والقول الفصل أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه أعرابي فقال: إني رأيت الهلال، فقال له صلى الله عليه وسلم: ((أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال، أذن في الناس أن يصوموا غدًا)) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1217 هذا بعض ما جاء في فتوى سماحة الشيخ سيدي أحمد بن الخوجة المفتي الحنفي بتونس رحمه الله للوزير خير الدين في برقية تضمنت الإعلام بثبوت رؤية هلال شهر رمضان زمن الحماية الفرنسية من مشرف كافر على مصلحة البرق (1) وفي المذهب المالكي كذلك إذ من أوصاف الشاهد الإسلام قال ابن رشد القفصي: لا تجوز شهادة الكافر أصلًا، أو ارتدادًا سواء شهد لمسلم أو كافر، لأن الشهادة من شرطها العدالة، ولا عدالة لكافر وقد تقدم الخلاف في قبول شهادته في الوصية في السفر (2) ويقول المالكية: قال الشافعية جاء في شرح المنهج لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري: فلا تقبل (أي الشهادة) ممن به رق أو صبا أو جنون، ولا من عادم مروءة أو مغفل لا يضبط، وأخرس ومحجور عليه بسفه ومتهم وغير عدل من كافر الخ.. وتعقبه محشيه سليمان الجمل بقوله: ولو على مثله لأنه أخس الفساق (3) وذكر الخرقي الحنبلي أن شهادتهم لا تجوز في غير الوصية فقال ما نصه: "وتجوز شهادة الكفار من أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم ولا تجوز شهادتهم في غير ذلك" (4) فالأخبار بثبوت هلال رمضان أو شوال من أمور الديانة التي لا تقبل فيها شهادة أو رواية من كافر بالإجماع بين فقهاء المذاهب. وأما قول السائل: إن اتباع المسلمين المغتربين في أمريكا وأوروبا أو غيرهما من بلاد الكفر لرؤية مشرقية إلخ ما جاء في السؤال؟ فالجواب عنه: أن هؤلاء الإخوة إذا تعذرت عليهم رؤية هلال رمضان وشوال لغيم، أو قتر أو أي مانع آخر أتموا شعبان ثلاثين كما جاء ذلك في الحديث الشريف برواياته السالفة.   (1) د. محمد سويسي، الفتاوى التونسية في ق 14: 2/ 653 مرقون بمكتبة الكلية الزيتونية (2) الفائق في معرفة الأحكام والوثائق: 4/ 161 مخطوط بمكتبتي (3) شرح المنهج مع حاشية الجمل: 5/ 378 (4) الخرقي، مختصره مع شرح المغني: 9/ 182 و184 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1218 وإذا اتصل غم الهلال أشهرًا فقد روى ابن نافع عن مالك في المدنية في القوم يكونون في مركب فلا يرون هلال رجب ولا شعبان، ولا رمضان، فقال: ينظرون أي هلال رأوه رمضان أو غيره فيعدونه ثلاثين، ثم رجب بثلاثين، ثم شعبان بثلاثين، ثم رمضان بثلاثين، فإن تبين لهم هلال شوال قبل الثلاثين أفطروا وقضوا ما أفطروا، وروى عيسى عن ابن القاسم مثله (1) وذكر ابن الأثير، وكذلك الزمخشري أن ناسًا كانوا يسكنون بين الجبال فأتوا عمر رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنا ناس بين الجبال، لا نهل الهلال إذا أهلته الناس فيم أمرنا؟ فقال: صوموا من الوضع إلى الوضع (2) فإن خفي عليكم فأتموا العدة ثلاثين يومًا ثم انسكوه، وفي رواية أن عمر كتب إلى امرأة الأجناد المفندة، صوموا لرؤية الهلال، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يومًا، ثم صوموا وأفطروا (3) وهذا إذ لم ير في بلد غير متباعد. وأما تخصيص السائل الرؤية بالمشرقية فليس بصواب لأن العبرة في رؤية بلد غير البلد الموجود فيه الشخص إنما هي بأن لا يكون متباعدًا لا بمشرقيته، ولا بمغربيته، قال الباجي: وإذا رأى أهل البصرة هلال رمضان، ثم بلغ ذلك إلى أهل الكوفة، والمدينة واليمن فالذي رواه ابن القاسم وابن وهب عن مالك في المجموعة، لزمهم الصيام، أو القضاء إن فات الأداء. وروى القاضي أبو إسحاق عن ابن الماجشون أنه إن كان ثبت بالبصرة بأمر شائع ذائع يستغنى عن الشهادة والتعديل فإنه يلزم غيرهم من أهل البلاد القضاء، وإن كان إنما ثبت عندهم بشهادة شاهدين عدلين لم يلزم ذلك من البلاد إلا من كان يلزمه حكم ذلك الحاكم ممن هو في ولايته، أو يكون ذلك ثبت عند أمير المؤمنين فيلزم القضاء جماعة المسلمين، قال: وهذا قول مالك (4) ونقل القرطبي هذا النص في تفسيره لقوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ} في آخر المسألة السادسة قبله في نفس المسألة السادسة عن ابن عمر الإجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كالأندلس من خراسان، قال: ولكل بلد رؤيتهم إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين.   (1) الباجي، المنتقى: 2/ 38 (2) المنتقى: 2/ 38 (3) محمد عبد الوهاب المراكشي، العذب الزلال في مباحث رؤية الهلال: 1/ 34 (4) المنتقى: 2/ 37 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1219 كما نقل عن ابن العربي الاختلاف في تأويل قول ابن عباس رضي الله عنهما، في حديث كريب المشهور: "هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل رده لأنه خبر واحد، وقيل رده لأن الأقطار مختلفة في المطالع وهو الصحيح لأن كريبًا لم يشهد وإنما أخبر عن حكم ثابت بالشهادة، ولا خلاف في الحكم الثابت أنه يجري فيه خبر الواحد، ونظيره ما لو ثبت أنه أهل ليلة الجمعة بأغمات وأهل بإشبيلية ليلة السبت، فيكون لأهل كل بلد رؤيتهم، لأن سهيلًا يكشف من أغمات ولا يكشف من إشبيلية، وهذا يدل على اختلاف المطالع (1) وممن نقل الإجماع من فقهاء المالكية على أنه لا نقل مع البعد جدًا ابن رشد الحفيد حيث قال بعد أن نقل الخلاف إلى تعدي الرؤية من بلد إلى بلد: وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية كالأندلس والحجاز (2) ونقله أيضًا ابن جزي حيث قال: إذا رأوه (هكذا بلهجة أسد شنوءة) أهل بلد لزم الحكم غيرهم من أهل البلدان إلى أن قال: ولا يلزم في البلاد البعيدة كالأندلس والحجاز إجماعًا، (3) وقال الحطاب عند قول خليل: وعم أن نقل بهما عنهما، تنبيه: قال ابن عرفة: قال ابن عمر: وأجمعوا على عدم لحوق رؤية ما بعد كالأندلس من خراسان، (4) وكأنه ارتضاه واستحسنه. وقال أبو الحسن القابسي رحمه الله في كتاب الأسئلة: جملة المتفقهين يطلقون لزوم حكم الرؤية عن موضعها من غير تقييد، ولا فرق بين بعيد فقط وبين بعيد أبعد بما تختلف به أحوال الأقاليم، وتتباعد فيه الأراضي بانخفاض وارتفاع، وبحسب ذلك تختلف المطالع والمغارب والاستواءات وغير ذلك مما لا خفاء به عند أهل المعرفة بوضع الأرض، وتسيير الأفلاك، وإطلاق ذلك مع الافتقار إلى البيان، ومسيس الحاجة إليه من الخطأ البين الذي لا يشك فيه أحد (5) ونقله غيرهم كالبناني وجنون وابن البناء. ومن العلماء الأثبات الذين حرروا القول في هذه المسألة تحريرًا شافيًا كافيًا لجمعه بين العمق في الفقه وبين المعرفة بعلم الهيئة الفقيه الأصولي الفلكي الحنفي محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية سابقًا رحمه الله، في كتابه "إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة" فقال: وبالجملة فالقول بعدم اعتبار اختلاف المطالع مخالف للمعقول والمنقول.   (1) القرطبي: 2/ 295 - 296 (2) بداية المجتهد: 1/ 278 (3) القوانين الفقهية: 119 (4) مواهب الجليل: 2/ 384 (5) محمد بن عبد الوهاب المراكشي، العذب الزلال في مباحث رؤية الهلال: 1/ 39 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1220 أما مخالفته للمعقول فلما علمته من مخالفته لما هو ثابت بالضرورة من اختلاف الأوقات، وأن النهار عند قوم قد يكون ليلًا عند آخرين. وأما مخالفته للمنقول فلأنه مخالف لما تقدم عن كريب، وذلك لأن المتبادر من قول كريب لابن عباس: نعم رأيته ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية، وقول ابن عباس: لكنا رأيناه.. إلخ وقول كريب بعد ذلك: أولا تكتفي برؤية معاوية؟ وقول ابن عباس في جوابه: لا، أي لا نكتفي برؤية معاوية، أن قوله: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجع إلى عدم الاكتفاء برؤية معاوية ورؤية كريب، والناس وصومهم، وصوم معاوية، وهذا ظاهر في أن كل قوم مكلفون برؤيتهم، ولا شك أن مورد هذا النص في الشام والحجاز، وقد وجد بينهما مسافة القصر، واختلاف الإقليم، واختلاف المطالع، واحتمال عدم الرؤية، فاستند كل طائفة إلى واحد منها وأيد به قوله: كذا قال الإمام الأسنوي، لكن احتمال عدم الرؤية بعد أن قال ابن عباس لكريب: أنت رأيته؟ فقال له: نعم، ورواه الناس وصاموا، وصام معاوية، ومعاوية كان الخليفة بعيدًا جدًا، لا يلتفت إليه فلم يبق إلا احتمال مسافة القصر، واختلاف الأقاليم واختلاف المطالع، فإذا رجعنا إلى الواقع نجد أنه لا دخل في اختلاف الناس في رؤية الهلال بعد الغروب لمسافة القصر، ولا لاختلاف الأقاليم، وأن المدار في ذلك على اختلاف المطالع. وبعد تحرير العلامة محمد بخيت المطيعي رحمه الله لمدار المسافة قال في موضع آخر من الكتاب السالف الذكر: فالواجب التوفيق بما وفقت به المالكية، فيحمل على قول من قال بعدم اعتبار اختلاف المطالع على ما إذا كان اختلافها لا يؤدي إلى تفاوت في رؤية الهلال بعد الغروب وقول من قال باعتباره على ما إذا كان اختلافها يؤدي إلى ذلك فإن اختلاف مطالع البلاد كما علمت مبني على اختلاف عروضها، وأن عرض كل بلد هو بعده عن خط الاستواء، وهذا الاختلاف قد يكون يسيرًا جدًا لا يترتب عليه اختلاف في رؤية الهلال بين البلدين بعد الغروب، وقد يكون فاحشًا يترتب عليه ذلك، وهذا الذي يتعين المصير إليه حملًا لكلامهم على السداد، لأن الشرع لا يأتي بالمستحيلات، والله الموفق لما فيه الصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1221 ولا عبرة بغير ما قررت من القول بتعدي رؤية بلد إلى سائر البلدان الإسلامية، لأن ذلك مداره على القول بعدم اختلاف المطالع، وهو قول قال به كثير من الفقهاء بمعطيات عصورهم، ولكن لا ينبغي أن يقرر اختلافًا فقهيًا في عصرنا الحاضر لانبنائه على خطأ قديم وقع فيه جمع من المفسرين، وشايعهم عليه كثير من الفقهاء، وهو القول بأن الأرض مسطحة، لأخبار كثير من الآيات بأن الأرض فراش، وبساط ومهاد، وقرار، ومد، ودحي، ووضع، وبسط، وطحي، وكلها ألفاظ متقاربة تفيد التسطيح، وقد تأولها الإثبات من المفسرين والفقهاء قديمًا وحديثًا بما يطول جلبه هنا. ولا مجال في عصرنا الحاضر إلى الخلاف في كروية الأرض إذ هذا قد أصبح من يقيني العلم الموجب لتأويل ظواهر النصوص الشرعية بما يتفق معه، تأويلًا غير متعسف كقول الفخر الرازي: إن الكرة إذا كانت في غاية الكبر كانت كل قطعة منها تشاهد كالسطح، إلى غير ذلك من وجوه التأويل وهي كثيرة. وبعد كل ما ذكرت، وانطلاقًا منه، وترتيبًا عليه أخلص إلى أن الاتحاد بين المسلمين في وقت الصوم والفطر ليس مقصدًا للشارع، وأنه لا يجوز للمسلمين في أي صقع من أصقاع الأرض كانوا، التعويل على الحساب في صومهم وفطرهم، وإنما يصومون لرؤية الهلال، ويفطرون لرؤيته في بلدهم الذي هم فيه، أو في بلد متحد معه في خطوط العرض، أو مختلف اختلافًا يسيرًا لا يؤدي إلى تفاوت في رؤية الهلال بعد الغروب، وإن تعذر ذلك أكملوا عدة شعبان، أو رمضان ثلاثين، وإذا اتصل غم الهلال في بلدهم الذي هم فيه، أو البلد المتحد معه في خطوط العرض أو المختلف اختلافًا يسيرًا أشهرًا متوالية نظروا إلى هلال رأوه، هلال رمضان أو غيره فيعدونه بثلاثين ثم رجب بثلاثين ثم شعبان بثلاثين ثم رمضان بثلاثين، فإن تبين لهم هلال شوال قبل الثلاثين أفطروا وقضوا ما أفطروا، أفتي بذلك وأنا الفقير إلى رحمة مولاه الغني محيي الدين قادي فإن كان صوابًا فمن فضل الله علي، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله الموفق للصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1222 السؤال الرابع والعشرون ما حكم عمل المسلم في دوائر الوزارات الحكومة الأمريكية أو غيرها من حكومات البلاد الكافرة، وخاصة في مجالات هامة كالصناعات الذرية، أو الدراسات الاستراتيجية ونحوها؟ وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد والله ولي التوفيق: يجوز للمسلم أن يعمل في دوائر الوزارات الحكومات الكافرة رغبة منه في العدل وإقامة الحق والإحسان إذا علم أنه يصلح بعض الأحوال، ويستطيع المحافظة على عزة المسلم وكرامته وإبائه، بل يطلب ذلك ويسعى إليه إذا تعين فيه إقامة الحق وبسط العدل دون سواه، وقد طلب رسول الله يوسف عليه السلام حين علم أن المكين الأمين عند فرعون مصر الولاية على خزائن أقوات أرض مصر وأموالها ليتوصل، كما قال الزمخشري إلى إبقاء أحكام الله تعالى وإقامة الحق وبسط العدل والتمكن مما من أجله تبعث الأنبياء إلى العباد (1) ومن فرعون مصر ذكر ذلك القرآن الكريم في سورة يوسف حيث يقول تعالى {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} . وهذه الآية الكريمة كما يقول سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله: أصل وجوب عرض المرء نفسه لولاية عمل من أمور الأمة إذا علم أنه لا يصلح له غيره لأن ذلك من النصح للأمة وخاصة إذا لم يكن ممن يتهم على إيثار منفعة نفسه على مصلحة الأمة، وقد علم يوسف عليه السلام أنه أفضل الناس هنالك لأنه كان المؤمن الوحيد في ذلك القطر فهو لإيمانه بالله يبث أصول الفضائل التي تقتضيها شريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، فلا يعارض هذا ما جاء في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الرحمن، لا تسال الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها)) لأن عبد الرحمن بن سمرة لم يكن منفردًا بالفضل من بين أمثاله ولا راجحًا على جميعهم. ومن هذه الآية أخذ ففقهاء المذاهب جواز طلب القضاء لمن يعلم أنه أهل، وإن لم يول ضاعت الحقوق، قال المازري: يجب على من هو أهل الاجتهاد والعدالة السعي في طلب القضاء إن علم أنه لم يله ضاعت الحقوق، أو وليه من لا يحل أن يولى وكذلك إن كان وليه من لا تحل توليته ولا سبيل لعزله إلا بطلب أهله.   (1) الكشاف: 1/ 639 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1223 وقال ابن مرزوق: لم أقف على هذا لأحد من قدماء أهل المذهب غير المارزي. وقال عياض في كتاب الإمارة من شرحه على صحيح مسلم: ما ظاهره، الاتفاق على جواز الطلب في هذه الحالة (1) وما خصه السائل بمزيد الاهتمام ففي السؤال الملقى على المجمع الموقر بالذكر من الصناعات الذرية، والدراسات الاستراتيجية فجوازه للمسلم أحرى لأنه إن وجه إلى الشر حاول المسلم بكياسة منعه كلية أو التخفيف منه في حدود ما تسمح به إمكانياته وإن وجه إلى الخير دفعه بكل ما أوتي من مكانة وظيفية، وخبرة علمية، وإخلاص في البر بالناس، قال ابن جزي من المالكية: ويستدل بطلب يوسف الولاية، رغبة منه في العدل، وإقامة الحق الإحسان، على أنه يجوز للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر: إذا علم أنه يصلح بعض الأحوال (2) ولنقف عند قوله: "بعض الأحوال" ولنتأمل مدى واقعيته، فلم يقل: كل الأحوال وذلك هو المشروع والمعقول، وفعل رسول الله يوسف عليه السلام في قطر لا يوجد فيه مؤمن سواه يثبت أصول الفضائل التي اقتضتها شريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام فهؤلاء المغتربون من المؤمنين شموع تضيء وسط حالك ظلام الكفر، إن أخلصوا لرب العالمين، هذا أولًا. وثانيًا: هنالك ضرورة إسلامية إلى معرفة التخطيط العلمي للأشياء، والصناعات الذرية المندرجة ضمن الواجبات الكفائية، في حق الأمة الإسلامية كما تنطق بذلك النصوص الفقهية، قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله وهو يتحدث عن العلوم الواجبة كفائيًا: "أما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب، إذ هو ضروري في بقاء حاجة الأبدان، وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها. وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها، حرج أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين. فلا يتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة (3) وقال العلامة ابن عابدين رحمه الله وهو يقرر ما يجب وجوبًا كفائيًا على المسلمين من العلوم والصناعات: "وأما فرض الكفاية من العلم فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب والحساب واللغة.. وأصول الصناعات كالفلاحة والحياكة والنسيج والسياسة والحجامة" (4) وفي حاضرنا الإسلامي إذا لم تعلم أمة الإسلام بعمق علم التخطيط والصناعات والذرية حرجت وإذا تعلم عدد من المسلمين ذلك بمقدار ما فيه الكفاية ارتفع الإثم عن الجميع. والعلم بالنسبة إلى الإسلام لا يعرف حدود المكان ولا حدود الزمن ولا يتقيد بدين الشخص ليقع التعلم عليه، بل هو مطلق من كل ذلك، فقد روى العسكري من حديث عنبسة بن عبد الرحمن عن شبيب بن بشير عن أنس رفعه: ((العلم ضالة المؤمن حيث وجده أخذه)) (5) بالمفهوم الذي تضمنه السياق كله هذا ما فتح الله به على في الإجابة عن هذا السؤال ولا أراه مندرجًا في باب الإجارة، وإنما هو من صميم الأحكام السلطانية والله أعلم.   (1) التحرير والتنوير: 13/ 9 - 10 (2) كتاب التسهيل لعلوم التنزيل: 2/ 122 (3) الإحياء: 1/ 15 (4) رد المحتار على الدر المختار: 1/ 29 – 30 بتصرف (5) السخاوي: المقاصد الحسنة: 192 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1224 السؤال الخامس والعشرون ما حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها علمًا بأن هذا هو جزء من عمله في الشركة الموظفة له، وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل؟ وفي الجواب عن هذا السؤال المفيد والله ولي التسديد: العمل في شركة من أعمالها الأساسية ما هو حرام على الإسلام لا يجوز من البداية قال ابن رشد في البيان والتحصيل: إن إجارة المسلم نفسه من النصراني واليهودي على أربعة أقسام جائزة، ومكروهة، ومحظورة وحرام. فالجائز: أن يعلم له المسلم عملًا في بيت نفسه كالصانع الذي يعمل للناس. والمكروهة: أن يشيد بجميع عمله من غير أن يكون تحت يده، مثل أن يكون مقارضًا أو مساقيًا. والمحظورة: أن يؤاجر نفسه في علم يكون فيه تحت يده كأجير الخدمة في بيته، وإجارة المرأة لترضع له ابنته في بيته وما أشبه ذلك، فهذه تفسخ أن عثر عليها، فإن فاتت مضت، وكانت لها الأجرة. والحرام: أن يؤاجر نفسه منه فيما لا يحل: من عمل الخمر أو رعي الخنازير، فهذا يفسخ قبل العمل، فإن فات تصدق بالأجرة على المساكين (1) وتصميم المهندس المسلم لمباني ذات صبغة دينية كالكنائس والبيع والمراكز التنصير هي من القسم الرابع وهو مؤاجرة المسلم نفسه من الكتابي فيما لا يحل له من عمل الخمر، ورعي الخنازير. جاء في المدونة: قلت: أرأيت لو أن مسلمًا آجر نفسه من نصراني يرعى له الخنازير فرعاها، فأراد إجارته، قال: قال مالك في النصراني يبيع من المسلم خمرًا: أن النصراني يضرب على بيعه الخمر من المسلم إذا كان النصراني يعرف أنه مسلم فباعه، وهو يعرف أنه مسلم أدبًا للنصراني، ويكسر الخمر في يد المسلم،   (1) الحطاب، مواهب الجليل: 5/ 419 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1225 قال ابن القاسم: وأنا أرى أن تؤخذ الإجارة من هذا النصراني ويتصدق بها على المساكين ولا يعطاها هذا المسلم أبدًا لهذا المسلم، ولأن الإجارة أيضًا لا تحل لهذا إذا كانت إجارته من رعي الخنازير، وأرى أن يضرب هذا المسلم أدبًا له فيما صنع من رعيه الخنازير ورضاه بالأجر من رعيه الخنازير إلا أن يكون ممن يعذر بالجهالة فيكف عنه في الضرب، ولا يعطى من الإجارة شيئاَ ويتصدق بالأجرة على المساكين ولا تترك الأجرة للنصراني مثل قول مالك في الخمر (1) ونص المدونة ألقى الأضواء على الإجراءات الواجب اتخاذه مع المسلم المؤاجر نفسه من كتابي فيما فلا يحل له، وأبان أن الإجارة باطلة من هذا النوع، فقول السائل: وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل ولا يكون مبررًا، إذ العمل من أصله لا يجيزون فلا يرخص له من أجل تعرضه للفصل في الاستمرار في العمل ولو مع فعل المحرم. قال السيوطي: إن فعل الرخصة متى توقف على وجود شيء نظر في ذلك الشيء فإن كان تعاطيه في نفسه حرامًا امتنع معه فعل الرخصة وإلا فلا (2) والعمل بالشركة التي من بين أعمالها ما هو محرم على المسلم عمل حرام لا يجوز بحال، لأن المسلم مهان فيه، في أقدس الأشياء لديه وهو دينه، وفاقد لعزته والله جل جلاله يقول {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} هذا ما ظهر للعبد الفقير إلى مولاه الغني محيي الدين وبه أفتي إخواني في بلاد الغربة، والله أعلم.   (1) سحنون، المدونة: 4/ 426 (2) الأشباه والنظائر: 140 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1226 السؤال السادس والعشرون كثير من العائلات المسلمة يعمل رجالها في بيع الخمور والخنزير، وما شاب ذلك، وزوجاتهم وأولادهم كارهون لذلك، علمًا بأنهم يعيشون بمال الرجل فهل عليهم من حرج في ذلك؟ وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد والله الملهم بالصواب، فأقول: قد جاء الأمر الملزم بأكل الحلال، وجاء النهي عن أكل الحرام في فيض آي القرآن وسنة رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام وآثار السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضوان الله عليهم أجمعين. أما الآي الكريمة فمنها قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} قال ابن عباس رضي الله عنهما: وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين، وقد قدم تعالى أكل الحلال على صالح الأعمال، تبينها على أن الانتفاع بالأعمال لا يتوصل إليه إلا إصلاح الرزق واكتسابه من حله. وأما السنة الشريفة فمنها قوله عليه الصلاة والسلام الذي رواه الترمذي من حديث كعب بن عجرة وحسنه: ((كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به)) ، وقوله عليه الصلاة والسلام الذي رواه مسلم: ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا وأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، فأنى يستجاب له؟)) وأما آثار السلف الصالح فمنها: أن الصديق رضي الله عنه شرب لبنًا من كسب عبده ثم سأله، فقال: تكهنت لقوم فأعطوني، فأدخل يده في فيه، وجعل يقيء، وقال سفيان الثوري رضي الله عنه: من أنفق من الحرام في طاعة كان كمن طهر الثوب النجس بالبول، والثوري النجس لا يطهره إلا الماء، والذنب لا يكفره إلا الحلال، وقال الإمام علي كرم الله وجهه: إن الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب وشبهتها عتاب (1) وقال عمر: كنا ندع أربعين بابًا من الحلال مخافة الوقوع في الشبهة من الحرام، وإنما الورع في الحلال، وأما الحرام فتركه واجب (2)   (1) راجع إحياء علوم الدين مع المغني عن حمل الأسفار: 2/ 80 – 82 (2) ميارة، الشرح الكبير: 321 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1227 وقال مالك في رواية ابن وهب عنه: إذا كان المسلم معروفًا بأكل الربا والعمل به وبيع الخمر لم أر لأحد أن يستلف منه، ولا يقتضي دينه منه، ولا يخالطه، ولا يؤكله (1) لأن الله ما حرم شيئًا إلا حرم أكل ثمنه، فقولة مالك صريحة في حرمة اقتضاء الحقوق من المال الحرام. وقال أصبغ من المالكية في مال المرابي وعاصر الخمر والغاصب، والظالم وتارك الزكاة: إنه فاسد كله، لا يجوز أن يؤكل منه شيء دون شيء، ولا يشرب (2) وترتيبًا على هذه النصوص القرآنية، والسنية من أحاديث وآثار، وفقهية أقول: لا يجوز للمسلم المكلف أكل المال الحرام، ولا لبس اللباس الحرام، ولا سكنى المسكن الحرام، ولا استعمال أي شيء مما ينتفع به من الحرام. وجاء في السؤال كراهية الزوجات والأولاد لا كلهم من كسب عائلهم، وليس الأمر كراهة فحسب بل حرام، ويجب امتناعهم عن الأكل من كسبه لأن أكلهم لو كان الكسب حلالًا حق والحقوق لا تقتضي من الحرام كما جاء ذلك عن إمام دار الهجرة في النص السالف، وعن أصبغ. ومحل حرمة ذلك بالنسبة للأولاد إذا كانوا مكلفين وشأن الزوجات التكليف، هذا كله إذا كان كسب عائلهم من الحرام المحض.   (1) العتبي، العتبية مع البيان والتحصيل: 18/ 514 (2) ابن رشد، المقدمات: 2/ 617 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1228 وأما إذا كان مختلطًا لأنه يبيع في مغازته مثلًا المحرمات كالخمر ولحم الخنزير والنتن (السجاير) ويبيع المبارحات كالمواد الغذائية، ولم يتعين الحلال من الحرام ولم يمتز هذا عن ذاك فيجوز لمن ذكر الأكل من ماله وكسبه في طعامهم وشرابهم وملبسهم ومسكنهم وما ينتفعون به، قال حجة الإسلام الغزالي رحمة الله عليه في كتاب الحلال والحرام من إحياء علوم الدين: في اختلاط الحلال بالحرام غير المحصورين: والذي نختاره أنه لا يحرم بهذا الاختلاط أن يتناول شيئًا بعينه احتمل أنه حرام، وأنه حلال إلا أن يقترن بتلك العين علامة تدل على أنه من الحرام، فإن لم يكن هناك علامة تدل على أنه من الحرام فتركه ورع، وأخذه حلال، ولا يفسق به آكله (1) وعدم جواز الأكل بالنسبة للزوجات والأولاد المكلفين مقيد بما إذا كانوا قادرين على العمل بالحلال، وواجدين له في حدود الكفاية. وأما إذا كانوا عاجزين عن العمل حقيقة أو حكمًا، وسدت في وجوههم الأبواب كل الأبواب من العمل الحلال واضطروا إلى الأكل من كسبه الحرام، أكلوا منه ما يسد رمقهم، ويحفظ حياتهم إذ الضرورة تقدر بقدرها، قال تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . ويجب عليهم السعي ما استطاعوا إليه سبيلًا لإيجاد عمل حلال، مهما كانت نوعية العمل المقدور عليه، ومتى وجدوه حرم عليهم الأكل من كسب عائلهم المتمحض للحرام كما ذكر، لأن ما جاز للضرورة أو الحاجة المنزلة منزلها بطل بزوالها. هذا ما ظهر في الإجابة عن هذا السؤال، وهذا ما أفتي به إخواني السائلين والله أعلم.   (1) الأحياء: 2/ 93 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1229 السؤال السابع والعشرون ما حكم تبرع المسلم فردًا كان أو هيئة لمؤسسات تعليمية أو تنصيرية، أو كنسية؟ وفي الجواب عن هذا أفيد والله ولي التوفيق فأقول: إن كلمة تبرع في السؤال غير دقيقة إذ التبرعات أنماط في الفقه الإسلامي عديدة، ولكن سنحاول الإجابة عن السؤال عارضين لأهمها من صدقة، وهبة، ووقف، ووصية. وقبل الشروع في الإجابة حتم علي تفكيك السؤال إلى قسمين: أ- تبرع مسلم فرد أو هيئة إسلامية لمؤسسات تعليمية. ب- تبرع مسلم فرد أو هيئة إسلامية لمؤسسات تنصيرية أو كنسية. أما الفرع الأول فالجواب أن العلم سلاح ذو حدين فما يفيد البشرية فائدة حقيقية، تقرها الشريعة الإسلامية، من عمل دنيوي سياسي أو اقتصادي أو زراعي أو تجاري هو من البر الذي يحبه الله لعباده ويأمرهم بالتعاون عليه قال صلى الله عليه وسلم ((الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله)) ، رواه البزار والبيهقي وأبو نعيم وأبو يعلى والطبراني والحارث بن أبي أسامة وابن أبي الدنيا والعسكري وآخرون من جهة يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس مرفوعًا، وعن ابن أن عمر مرفوعًا، قال: قيل يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ قال: ((أنفع الناس للناس)) وروى الطبراني من حديث زيد بن خالد مرفوعًا: ((خير العلم ما نفع وخير الهدى ما اتبع، وخير الناس أنفعهم للناس)) وبعضها يؤكد بعضًا، قاله السخاوي (1) والعلم المختص في السياسة، أو الاقتصاد أو الزراعة والتجارة أو غير ذلك مما ينفع الناس هو السبيل إلى ذلك، فإعانة هذه المؤسسات التعليمية في بلاد الغربة في الإطار الذي حددت بما ندبت الشريعة إليه ورغبت فيه، لأن العلم المحاط بسياج من الخلق العظيم إنساني النفع، سواء تصدق عليها، ووهب لها، أو وقف عليها أوقافًا، أو أوصى لها أو بعبارة أشمل تبرع عليها بوجه من وجه التبرع المشروع، وأما العلوم التي لا فائدة فيها بل تحمل الضرر والدمار كمصانع الأسلحة المدمرة والمؤسسات التي تؤهل المختصين في صناعتها وكعلم الشعوذة، وقراءة الكف، والفلسفة الملحدة، ومعاهد الاقتصاد الشيوعي أو نحو ذلك فهذه لا يجوز التبرع لها بوجه من وجوه التبرع، والتبرع عليها حرام؛ لأنها تمرد على شريعة الإسلام، وعصيان الديانة، وتعاون على الإثم والعدوان.   (1) المقاصد الحسنة: 201 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1230 وأما الفرع الثاني فلا يجوز له وهبة ولا صدقة، ولا وقف ولا وصية ولا غيرها من التبرعات التي ندب الإسلام إليها، قال ابن قدامة: لا يصح الوقف على معصية كبيت النار والبيع والكنائس وكتب التوراة والإنجيل لأن ذلك معصية، فإن هذه المواضع بنيت للكفر وهذه الكتب مبدلة منسوخة، ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة وقال: ((أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان موسى أخي حيًا ما وسعه ألا اتباعي)) ولولا أن ذلك معصية ما غضب منه، والوقف على قناديل البيعة وفرشها ومن يخدمها ويعمرها كالوقف عليها لأنه يراد تعظيمها. وسوءا كان الواقف مسلمًا أو ذميًا، قال أحمد في نصارى وقفوا على البيعة ضياعًا كثيرة وماتوا ولهم أبناء نصارى فأسلموا والضياع بيد النصارى فلهم أخذها وللمسلمين عونهم حتى يستخرجوها من أيديهم. وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافًا (1) وقال في المغني أيضًا: ولا تصح الوصية بمعصية وفعل محرم مسلمًا كان الموصي أو ذميًا، فلو وصى ببناء كنسية، أو بيت نار أو عمارتهما، أو الإنفاق عليهما كان باطلًا، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه وأبو ثور، وقال أصحاب الرأي: يصح، فأجاز أبو حنيفة بأرض تبنى كنيسة وخالفه صاحباه، وأجاز أصحاب الرأي أن يوصى بشراء خمر أو خنازير ويتصدق بها على أهل الذمة. وهذه وصايا باطلة، وأفعال محرمة لأنها معصية فلم تصح الوصية بها كما لو وصى بعبده أو أمته للفجور. وإن وصى لكتب التوراة والإنجيل لم تصح لأنها كتب منسوخة إلخ ما ذكره سابقًا في عدم صحة الوقف عليها (2) وجاء عن القرافي في الفرق الثامن والخمسين بين قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل أن وسيلة المحرم محرمة (3) وانطلاقًا من كل ما سلف وترتيبًا عليه أفتي وأنا الفقير إلى مولاه الغني محيي الدين قادي بعدم جواز تبرع المسلم فردًا كان أو هيئة لمؤسسة تنصيرية أو كنيسة، ومن فعل ذلك من المسلمين فقد نزع ربقة الإسلام من عنقه كما جاء في الفروق للقرافي "إن إرادة الكفر كفر، وبناء كنيسة يكفر فيها بالله كفر، لأنه إرادة الكفر" (4) وجواز التبرع بكل وجوهه لمؤسسة التعليم النافع. والله أعلم.   (1) المغني: 5/ 645 (2) المغني: 6/ 105 (3) الفروق: 2/ 40 (4) الفروق: 1/ 160 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1231 السؤال الثامن والعشرون ما حكم شراء منزل السكنى، وسيارة الاستعمال الشخصي، وأثاث المنزل بواسطة البنوك والمؤسسات التي تفرض ربحًا محددًا على تلك القروض، لقاء رهن تلك الأصول، علمًا بأنه في حالة البيوت والسيارات والأثاث عمومًا يعتبر البديل عن البيع هو الإيجار بقسط شهري يزيد في الغالب عن قسط الشراء الذي تستوفيه البنوك؟ وفي الجواب عن السؤال أفيد والله ولي الإرشاد والتسديد: مهما كان القرض محتويًا على فائض ولو يسيرًا، ومعلومًا في عقد القرض فالقرض قرض ربوي لا يجوز شرعًا بحال، والتعامل به من أشد المنكرات، قال الله تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 275، 276، 277، 278] وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله)) رواه مسلم زاد الترمذي وغيره: ((وشاهديه وكاتبه)) ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الربا بضع وسبعون بابًا والشرك مثل ذلك)) ، رواه البزار ورواته رواة الصحيح وهو عند ابن ماجة بإسناد صحيح باختصار، والشرك مثل ذلك، وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه)) رواه البخاري هكذا في البيوع مختصرًا (1) إلى غير ذلك مما ورد في الترهيب من الربا وهو كثير، فليحذر الإخوة المسلمون حيثما كانوا من التعامل بالربا لغير ضرورة فجماع الخير كله تقوى الله، ورأس الحكمة مخالفته والله أعلم.   (1) المنذري، الترغيب والترهيب، الترهيب من الربا: 2/ 246 - 248 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1232 المناقشة استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن 11 صفر 1407 هـ / 14 أكتوبر 1986م الجلسة المسائية الأولى (الرابعة بعد العصر) الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الموضوع الذي بين أيدينا اليوم هو استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، وهي ثمانية وعشرون سؤالا، وعلى سبيل الاختصار سبعة وعشرون، لأن أحد الأسئلة انتهى بقراركم اليوم في مسألة إثبات الهلال بالرؤية وبحث الحساب. وهذه الأسئلة أجاب عليها عدد من المشايخ كما هي بين أيدكم ونرجو من الشيخ محيي الدين قادي أن يتفضل بالعرض باختصار عن الأجوبة وشكرًا. الشيخ محيي الدين قادي: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله عم نواله والسلام على سيدنا محمد وصحبه وآله، وبعد. فيا سيادة الرئيس. فيا سماحة الأمين العام. حضرات أصحاب الفضيلة. الموضوع الذي بين أيدينا هو عبارة عن ثمانية وعشرين بحثا، وقد حاولت في ستة وعشرين سؤالا من هذه الأسئلة وتوقفت في الإجابة عن سؤالين هما التجنس بجنسية بلاد الكفر والانتقال إلى بلاد الكفر، أما بقية الأسئلة فقد حاولت جهدي أن أجيب عنها فإن كان صوابا فمن فضل الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان. وسأقرأ الأجوبة مختصرة وإن احتجنا إلى شيء من التفصيل رجعنا إلى الأصل. بالنسبة إلى السؤال الأول: ما حكم زواج المسلمة بغير المسلم خاصة إذ طمعت في إسلامه بعد الزواج حيث تدعي مسلمات كثيرات أنه لا يتوفر لهن الأكفاء من المسلمين في غالب الأحيان وأنهن مهددات بالانحراف ويعشن في وضع شديد الحرج؟ هذا الجواب وقع عليه الاتفاق. وهو لا يجوز زواج المسلمة من غير المسلم ولو رجت إسلامه بعد الزواج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1233 السؤال الرابع: ما حكم استمرار الزوجية والمعاشرة بين زوجة دخلت الإسلام وبقي زوجها على الكفر ولها منه أولاد تخشى عليهم الضياع والانحراف ولها طمع في أن يهتدي زوجها إلى الإسلام لو استمرت العلاقة الزوجية بينها وبينه؟ وما الحكم فيما إذا لم يكن هناك طمع في إسلامه ولكنه يحسن معاشرتها وتخشى لو تركته ألا تعثر على زوج مسلم؟ الجواب: أن الزوجة التي أسلمت وطمعت في إسلام زوجها الذي ظل كافرا بعدها بأن لا تمكنه من الوطء ولا تساكنه في خلوة سدا لذرائع الفساد وهو أملك لها ما دامت في العدة وتدعوه إلى الإسلام. وإن لم يسلم حتى خرجت من العدة فإن شاءت تزوجت وإن أحبت انتظرت إسلامه بشرط عدم ملامسته لها المجمع على تحريمه. أما حكم التي لم تطمع في إسلام زوجها غير المسلم لكنه يحسن معاشرتها فالقول بحسن المعاشرة مردود لأنه لا يتصور إسلاما حسن معاشرة مع زوج كافر يشرب الخمر ويأكل الخنزير ويكفر بمحمد ورسالة محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبالكتاب الذي أنزل عليه ويلد أولادا فيتبعونه في دينه. السؤال الخامس: ما حكم دفن المسلم في مقابر غير المسلمين حيث لا يسمح بالدفن خارج المقابر المعدة لذلك ولا توجد مقابر خاصة بالمسلمين في معظم الولايات الأمريكية والأقطار الأوربية؟ الجواب: إذا بعدت المسافة عن مقابر إسلامة ولم توجد مقابر مخصصة يجوز دفن موتى المسلمين أو المغتربين في غير دار السلام بمقابر الكفار لأن ذلك أخف مؤونة على الأحياء وأبقى لحرمة الأموات وأسلم لهم من التغيير. السؤال السادس: ما حكم بيع المسجد إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها وخيف تلفه أو الاستيلاء عليه. فكثيرا ما يشترى المسلمون منزلًا ويحولونه مسجدًا فإذا انتقلت غالبية المسلمين من المنطقة لظروف العمل هجر المسجد أو أهمل، وقد يستولي عليه آخرون ومن الممكن بيعه واستبداله بمسجد يؤسس في مكان فيه مسلمون، فما حكم هذا البيع أو الاستبدال؟ وإذا لم تتيسر فرصة استبداله بمسجد آخر فما أقرب الوجوه التي يجوز صرف ثمن المسجد فيها؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1234 الجواب بالنسبة إلى المذهب المالكي المسجد لا يباع مهما كانت الصور ولكن رخص المتأخرون من فقهاء المذهب كابن عرفة والبرزلي في بيع أنقاضه. وأما الأصل والعين فلا يباع وبالنسبة إلى المذهب الشافعي هو كالمذهب المالكي. وبالنسبة إلى المذهب الحنفي، أبو حنيفة وأبو يوسف على هذا الرأي أنه لا يباع وأما محمد بن الحسن الشيباني فقد أجاز بيع المسجد واعتبره إذا أهمل ولم يؤد وظيفة الصلاة فهو ممكن لبانيه حتى أنه جوز له أن يجعله مزرعة.. الخ، والرأي الذي اعتمدته هو رأي ابن تيمية في فتاويه الذي يقول بأنه يجوز بيع المسجد إذا انتقل المسلمون عنه وهجروه واستدل بما وقع في خلافة عمر رضي الله عنه من أن سيدنا عمر لما نقب بيت المال الذي كان مجاورًا للمسجد وسرق وأخبره بذلك الوالي بعث إليه أن أنقل المسجد من ذلك المكان وابنه في مكان آخر فنقل المسجد من ذلك المكان وبُني في مكان آخر، وجعل المسجد القديم سوقا للتمارين في عهد عمر، فعلوا هذا عندما لم يؤدِ المسجد وظيفته وإذا بيع هنا السؤال. والجواب للأخوة المغتربين قلت: إذا بيع المسجد هذا الذي أهمل يبني للأقلية مسجد صغير أو يكتري الأقلية بيتًا صغيرًا ويجعل مسجدًا والباقي من ثمنه نستطيع أن نبني به مسجدًا آخر في مكان آخر، ونستطيع إذا لم يعط بذلك أن نصرفه في وجوه البر اعتمادًا على ما أفتت أم المؤمنين عائشة في كسوة الكعبة حينما سئلت عن أن الكعبة جددت لها الكسوة والكسوة القديمة قالت: تباع وتصرف في وجوه البر، فهذا هو ملخص الجواب عن هذا السؤال. السابع: كثيرات من بنات المسلمين ونسائهم تدعوهن ظروف العمل أو الدراسة إلى السفر إلى ولايات أخرى أبعد من مسافة القصر بالطائرة أو غيرها من وسائل السفر بدون محرم ومن غير رفقة من نسوة تعرفهن أو يعرفنها غير رفقة المسافرين والمسافرات عادة فما حكم هذا السفر؟ الجواب: يجوز للمسلمات بنات ونساء السفر بالحافلات والقطارات والطائرات وبغيرها من وسائل النقل التي تعظم فيها الجماعات ويكون لها شبه بالجيوش والبلدان والمحلات بغير وزج لهم ولا محرم منهن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1235 هذا التقييد الذي قيدت به روايات الحديث المتعددة لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا ومعها ذو محرم إلى غير ذلك من الروايات التي روي بها الحديث، هذا التقييد وجدته في كلام الباجي في المنتقى في شرحه على الموطأ قيد به هذا الحديث. ونقل الحطاب في مواهب الجليل في شرحه على مختصر خليل أن الزناتي في شرحه على الرسالة جعله تقييدًا للحديث عند كل الناس. معناه قيد به الحديث وجعله يجوز للمرأة أن تسافر في شبه المحلات والعدد الكثير بدون محرم. هذا رأي الزناتي وقال هو: وللمذهب يعني المذهب المالكي هو قول المذهب والمشهود به في الحطاب في قضية سفر المرأة بدون محرم في الحج، وعلى ضوء هذا أنا طرحت هذا الرأي ما دام هذا هو المذهب يعني هو القول المشهور بمذهب مالك طرحته للسؤال وإن اختلفت مع الإخوة. اللهم نسألك أن توفقنا لما هو صواب لا لما هو خطأ. السؤال الثامن: بعض النساء أو الفتيات تضطرهن ظروف العمل أو الدراسة إلى الإقامة بمفردهن أو مع نسوة غير مسلمات فما حكم هذه الإقامة؟ هذا السؤال يعني فيه جزءان: الجزء الأول: إقامة المرأة بمفردها وهذا قلت بجوازه إذا كانت تقيم في بيت في محلة آمنة فيه غلق وله مرافق. والجزء الثاني منه وهو أن تقيم مع المرأة أجنبية، فلا، لأن المرأة الأجنبية منزلة منزلة الرجل الأجنبي هذا ما قاله القرطبي في تفسير قوله تعالى {أَوْ نِسَائِهِنَّ} . السؤال التاسع: كثيرات من النساء هن يذكرن أن أقصى ما بإمكانهن ستره من أجسادهن هو ما عدا الوجه والكفين، وبعضهن تمنعهن جهات العمل أو الدراسة من ستر رؤوسهن وأعناقهن، فما أقصى ما يمكن السماح بكشفه من أجزاء جسم المرأة بين الأجانب في محلات العمل أو الدراسة؟ هذا الموضوع هو مطروح في فقه الصحابة ومطروح في فقه التابعين ومطروح في فقه الأئمة، والخلافات تجري، لكن حوصلة هذه الخلافات إنما هي في الزينة الظاهرة لا الزينة الباطنة، أي ما المقدار الذي لم يقع فيه الخلاف إلا من شذ، لم يخالف فيه إلا من شذ وأنه لا يجوز للمرأة أن تظهر أمام الأجانب مكشوفة الوجه والكفين يعني كل بدنها يجب ستره ما عدا وجهها وكفيها. وهناك رأي ذكره ابن قدامة في مغنيه وقال: إنه مذهب لكثير من فقهاء المذهب الحنبلي وهو أنه لا يجوز أن تكشف شيئًا من بدنها لا وجهها ولا كفيها، والمتأخرون أيضًا من المالكية قالوا: إذا خشيت الفتنة، وهذا لعله قول غير المالكية إذا خشيت الفتنة لا يجوز أن تكشف شيئًا من بدنها لكن الذي هو مشهور في المذهب المالكي وفي غيره أنه يجوز لها أن تكشف من بدنها وجهها وكفيها. هذه هي المسألة والقول مبسوط فيها في تفسير قوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1236 السؤال العاشر: يضطر كثير من الطلاب المسلمين إلى العمل في خارج بلاده في الغرب لتغطية نفقات الدراسة والمعيشة، لأن كثيرًا منهم لا يكفيه ما يرده من ذويه مما يجعل العمل ضرورة له لا يمكن أن يعيش بدونه، وكثيرًا منهم لا يجد عملًا إلا في مطاعم تبيع الخمور أو تقدم وجبات فيها لحم الخنزير وغيرها من المحرمات فما حكم عمله في هذه المحلات؟ الجواب: لا يجوز لهؤلاء الطلبة المسلمين أن يؤجروا أنفسهم في شيء من عمل الخمر ولا من عمل الخنازير حملًا وتقديمًا ومناولة وغير ذلك، ولا في عمل محرم لأن ما حرم شيء إلا حرم أكل ثمنه وما جعل كسب المسلم فيما حرم عليه. وما أحل الله أوسع وأطيب. السؤال الحادي عشر: ما حكم بيع المسلم للخمور والخنازير أو صناعة الخمور وبيعها لغير المسلمين، علمًا بأن بعض المسلمين في هذه البلدان قد اختلفوا من ذلك حرفة لهم؟ الجواب: لا يجوز لمسلم بيع الخمور والخنازير، ولا أن يصنع الخمر، وأن صنعه أدب على ذلك. السؤال الثاني عشر: هناك كثير من الأدوية تحوي كميات مختلفة من الكحول تتراوح بين 01 و 25 % ومعظم هذه الأدوية من أدوية الزكام واحتقان الأنف والحنجرة والسعال وغيرها من الأمراض السائدة. وتمثل هذه الأدوية الحاوية للكحول على ما يقارب 25 من الأدوية في هذا المجال مما يجعل الحصول على الأدوية الخالية من الكحول عملية صعبة أو متعذرة، فما حكم تناول هذه الأدوية؟ الجواب: يجوز للمسلمين بدار الغرب التداوي بالأدوية الكحولية متى أخبر بنفع ذلك طبيب عارف بمهنته ثقة فيها، وقع في التحرير: كثير ممن اشترط الإسلام، نحن لا نشترط في الطبيب الإسلام وإنما نشترط المعرفة بالمهنة والثقة به ولم يوجد دواء غير كحولي ميسور أو كان دون الكحولي في النفع فدين الله يسر وليس بعسر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1237 الثالث عشر: هناك الخمائر والجلاتين توجد فيها عناصر مستخلصة من الخنزير بنسب ضئيلة جدًا فهل يجوز استعمال هذه الخمائر والجلاتين؟ هذا السؤال ربما وقع فيه الخلاف بيني وبين الموجبين. وأنا قد اعتمدت فيه على أقوال لابن رشد في البيان والتحصيل في أن النجاسة تطهر بالاستحالة، وعلى أقوال أوردها ميارة في شرحه الكبير على متن ابن عاشر لأن النجاسة تطهر بالاستحالة وعلى فتوى ذات قيمة من الناحية الفقهية وأن تجاوزها التاريخ، وقد صدرت في المغرب الأقصى في قضية سكر طوابع عندما قيل إنه يحتوي على بعض الأنفحة على عصير من بعض الأنفحة غير المزكاة، وأجاب بجواب طويل أحد علماء المالكية ناقلًا أقوال المالكية أن النجاسة تطهر بالاستحالة وبين أن هذا ولو على فرض أنه يحتوي على هذه المادة فقد طهرت بالتغذية والتبخر. السؤال الرابع عشر: يضطر معظم المسلمين إلى إقامة حفلات الزفاف لبناتهم في مساجدهم، وكثيرًا مال يتخلل هذه الحفلات رقص وإنشاد أو غناء ولا تتوفر لهم أماكن تتسع لهذه الحفلات، فما حكم مثل هذه الحفلات في المساجد؟ والجواب على هذا السؤال: لا تجوز التجمعات المختلطة من الجنسين في المساجد إذا لم تراعَ فيها الآداب المطلوبة في الفقه الإسلامي من جلوس المرأة في قاع المسجد كما لا تجوز ممارسة الرقص والغناء في المساجد. وعد ذلك من أشد المنكرات المسقطة للعدالة والمذهبة للمروءة. وذلك لأن المسجد كما جاء في القرآن الكريم: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} . السؤال الخامس عشر: بعض الحكومات النصرانية خاصة في أمريكا الجنوبية تفرض على رعاياها التسمي بالأسماء النصرانية وتضع قوائم بأسماء اختارتها للأطفال ذكورًا كانوا أو إناثًا ولا تسمح بتسجيل المواليد بأسماء تختار من غير هذه القوائم. فما حكم تسمي المسلمين بهذه الأسماء؟ وما الحلول التي تقترحونها في هذه الأحوال؟ الجواب: يجوز للمسلمين في البلاد التي تفرض حكوماتها النصرانية على رعاياها التسمي بالأسماء النصرانية أن يسموا أبنائهم بالأسماء النصرانية ما خلت من شرك أو تبرك بمن يزعمه النصارى من الصالحين أو تزكية أو تحريف لاسم مقدس في الإسلامي وله حرمة. واعتمدت كثيرًا من الأدلة ومن بينها الاعتماد على أن من مقاصد الشريعة نوط الأحكام بالمعاني لا بالأسماء ويؤيد هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((تشرب أمتي الخمر وتسميها بأسماء أخرى)) ، فالاسم لا قيمة له كما يبدو من هذا الحديث وإنما العبرة بالجوهر، وقد أطال الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله رحمة واسعة في كتابة مقاصد الشريعة في هذه النقطة وبين أن كثيرًا من أخطاء الفقهاء نتجت عن نوط الأحكام بالأسماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1238 الرئيس: يا شيخ نقطة هنا إيضاحية بسيطة وإن كان ينبغي أن تستمر. هو أن قضية: أن العبرة بالمعاني لا بالمباني وأن إناطة الأحكام بالحقائق لا بالأسماء هذا فيما يقصد ذات الحقائق لكن عندما قضية الألفاظ لها قيمتها العظيمة ومنزلتها العظيمة في الإسلام في صدر سورة البقرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} فلهذا بعض الألفاظ منهي عنها عن اللفظ لذاته وبعض الألفاظ منهي عنه بمتعلقاته. قصدي لما ذكرتم أن العبرة بالحقائق لا بالأسماء يعني الاستدلال في هذا الموضوع بالذات يظهر لي فيه شيء. الشيخ محيي الدين قادي: حتى في هذه الآية التي ذكرتم وهي آية سورة البقرة لم ينه عن راعنا لمجرد أنها اسم وإنما نهى عنها لأن اليهود يستخدمونها على حسب لغتهم. الرئيس: وأحيانا لذات اللفظ كما في حديث السند. الشيخ محيي الدين قادي: وهي تفيد دعاء بالشر على رسول الله. الرئيس: لا يقول أحدكم: خبثت نفسي ولكن ليقل نقصت نفسي، أحيانًا يكون النهي لذات اللفظ. الشيخ محيي الدين قادي: ... أن الرسول صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام لما أسلم الكفار هل غير أسماء الكفار كلها وأبدلها لم يغير إلا ما كان منافيًا، غير عبد اللات لأنه فيه انتماء لصنم، غير أسماء تصطك فيها المسامع، يعني غير أسماء لا تبعث على فأل حسن، وإن كان لا طيرة في الإسلام، كما قال ذلك الزرقاني في شرحه على موطأ مالك لكن معناه غير أسماء لهذه المعاني معناه تغير. ومعناه القوائم أمامنا والمسلم عندما يختار وأنا اقترحت اقتراحات طويلة أن يتأدب بآداب الإسلام ويختار. يختار اسم محمد، ولو مترجم، أو أحمد ولو مترجم إلى الفرنسية أو الإنجليزية لأن الفائدة أن مؤداه محمود أو أحمد أو حامدًا أو كذا مثل ما جاء في التوراة والإنجيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1239 السؤال الذي بعد السابع عشر: ما حكم ظهور المرأة في محلات لعمل أو الدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبيها وتكتحل؟ الجواب: يجوز ظهور المرأة في محلات العمل والدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبتها وتكتحل لماذا؟ لأن الكحل ليس مختلفًا فيه فقد ذكر في تفسير القرطبي، وعند ابن العربي: أن الكحل من الزينة الظاهرة. وأما قضية أخذ الشعر من الحاجبين، فالحرمة لا تتعلق بأخذ الشعر من الحاجبين بحد ذاتها لأنه معناه بل هي زينة ظاهرة لكن تتعلق بقضية، وهو أن حديث سيدنا عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه ((لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة المتفلجات لحسن المغيرات خلق الله)) هذا الحديث وقف منه سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير موقفًا وقال: ليس هذا من تغيير خلق الله وإنما هو من التزين المباح في شرع الله وضرب على ذلك نظائر كالختان أظهر فيه تغييرًا للخلقة ولكنه فيه تحسين. وكذا قص الأظافر ففيه تغيير للخلقة ولكن فيه تزيين إلى غير ذلك من النظائر التي ساقها في كتابه التحرير والتنوير كما قال إن المنهي عنه هو التغيير الذي من إملاء الشيطان والذي هو محرم في الإسلام {وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} على تغيير خلق الله هذا بالنسبة ثم قال ما كان فقال: إنما الحديث وارد في سياق معين وهو أن نساء الجاهلية البغايا كن يتزين بذلك، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء المسلمات عن ذلك حتى لا يتشبهن بالبغايا في العصر الجاهلي. هذا رأي الشيخ في مقاصد الشريعة ومما يدعمه أن ما ذكره الأبي في شرحه على مسلم أنه رواية عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وإن كان الإمام النووي قد ضعف هذه الرواية فالأبي لم يضعفها وعلوان كذلك لم يضعفها. هذا رأي مطروح لأنه ليس قضية الظهور به وإنما هل هذا يجوز أو لا يجوز؟ فقط هذه القضية. السؤال الذي بعد: ما حكم زواج الطالب أو الطالبة المسلمة زواجًا لا ينوي استدامته بل النية منعقدة عنده على إنهائه بمجرد انتهاء الدراسة والعزم على العودة إلى مكان الإقامة الدائم. ولكن العقد يكون عادة عقدًا عاديًا وبنفس الصيغة التي يعقد بها الزواج المؤبد فما حكم هذا الزواج؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1240 القضية هذه مطروحة في كتب المالكية وفي غير كتب المالكية والشيخ الدردير نبه في شرحه على خليل أنه إذا لم يقع التصريح لولي وللزوجة بهذه النية وإنما أسرها في نفسه ولم يبدها لهما جاز ذلك ثم عقب على ذلك فقال: وهو تيسير على المغتربين، هذا يغني ولا أرى غير الدردير من الفقهاء المالكية أن هذا هو الحد الفاصل بين نكاح المتعة وبين النكاح الجائز، قالوا: إذا وقع التصريح بذلك والتحديد باللفظ لولي الزوجة والزوجة فذلك هو نكاح المتعة الممنوع، إذن معناه اتفاق المذاهب ما عدا مذهب الإمامية تقريبًا يعني إذا لم يقع التصريح فهذا جائز ولا شيء يحرمه وكذلك نقلت عن صاحب المغني أن هذا أيضًا جائز. السؤال الثامن عشر: بعض المسلمات يجدن حرجًا في عدم مصافحتهن للأجانب الذين يرتادون الأماكن التي يعملن أو يدرسن فيها فيصافحهن الأجانب دفعًا للحرج فما حكم هذه المصافحة؟ هذا السؤال لم يقع فيه خلاف فالقضية طرحت عند المتأخرين في المذهب المالكي كالخرشي والصفتي وغيرهم، وبت فيها بأنه لا يجوز للمرأة المسلمة ولا للرجل المسلم أن يصافح أجنبية عنه أو تصافح أجنبيًا عنها وأنه ليس هذا وليس هذا من الباب المتعلق بقضية قصد اللذة أو عدم قصدها بل شدد بعضهم حتى في المتجالة قال: لا يجوز أن تصافح الرجال ولا يجوز للأجنبي أن يصافحها لأن اليد هي المفتاح السحري للشهوة. هذا من جهة ولأن حتى المعروف في الغرب أنه إذا ضغط على يدها فقد راودها عن نفسها. وأما قضية الحرج على المسلمين أن لا يروا حرجًا في أي شيء جاء به إسلامهم إلا إذا كان هذا الشيء محرمًا أو مكروها في الإسلام، أما كونه قد أملاه الهوى أو لبسته النزوات والشهوات فهذا لا يقال فيه بالحرج. قضية ما حكم استئجار الكنائس أماكن لإقامة الصلوات؟ الإجابة تقريبًا تكاد تكون متفقة. الجواب: يجوز أداء صلاة الجمعة وغيرها من الصلوات بالكنائس والبيع بعد أن تطهر بالماء احتياطًا وتغطى الصور والتماثيل فيها بساتر تحجبها عن أعين المجلس لأن الأرض كلها مسجد كما جاء في الحديث. يزال منها ما هو حرام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1241 السؤال العشرون: ما حكم ذبائح أهل الكتاب؟ أنا أستسمح، أنا كتبت ما هو بحث لكن أستسمح بالإطالة نسبيًا في هذه القضية، لابن العربي في كتاب الأحكام فتوى جيدة هذه الفتوى هو أن ابن العربي في كتاب الأحكام فرق بين أمرين: إذا كان الكافر من أهل الكتاب لا يعتبر حطم الرأس ولا قتل العنق زكاة وفعل ذلك بحيوان من الحيوان قال: لا يجوز لنا أكله لأنه محرم عليه في دينه، إذا كان هو ليس ذلك عليه وإنما حطم رأسها أو فتل عنقها بدون أن يكون ذلك من باب التذكية لا يجوز لنا أكله لأنه محرم علينا بذاته وهو ميتة. وأما إذا كان الكتابي نصرانيًا أو يهوديًا التذكية عنده بحطم الرأي أو فتل العنق، وإذا ذبح بتلك الكيفية أكل منها أحبارهم ورهبانهم قال: فيجوز لنا أكل ذلك لأن ربي قال {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وهذا من طعامهم. ومنذ أن أفتى ابن العربي وفقهاء المالكية بين مؤيد ومعترض، وفي الواقع المعترض كلهم عندما حوصلت هذا كخليل والمواق، وكذا كلهم قد تكلفت بالرد على خليل وعلى المواق وعلى الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي وعلى كثير من الفقهاء المالكية القدامى والجدد، واستغربت أن الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله في كتاب التحرير والتنوير وصف فتوى ابن العربي بأنها شذوذ، لكن للشيخ رحمه الله فتوى في المنار في مجلة المنار أفتى فيها مؤيدًا لفتوى الترنسفال يعني المشهورة بالفتوى الترنسفالية للشيخ محمد عبده، ولكن لا يدري. نحن عندنا قاعدة ذكرت في كتبنا أنه لا يدري إذا كان وردت الأقوال المختلفة كالعمل بالسابق إذا علم تاريخه لكن عندنا ما لم يعلم يعتبر اجتهادان، ويجوز العمل بهما معًا. هذه قضية على كل ولا أريد أن أطيل أكثر من ذلك لأن الوقت لا يسمح. ومن بين من أفتى بها من المحدثين شيخنا العلامة البحر محمد الفاضل ابن عاشور رحمه الله، وقد صدرت له الفتوى في مجلة جوهر الإسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1242 السؤال الواحد والعشرون: كثير من المناسبات العامة التي يدعى المسلمون لحضورها تقدم فيه الخمور ويختلط فيها النساء والرجال، واعتزال المسلمين لبعض هذه المناسبات قد يؤدي إلى عزلهم عن بقية أبناء المجتمع وفقدانهم لبعض الفوائد. فما حكم حضور هذه الحفلات من غير مشاركة لهم في شرب الخمر أو الرقص أو تناول الخنزير؟ الجواب على هذا: لا يجوز للمسلمين نساء أو رجالًا حضور مثل هذه الحفلات ولا يمكن الترخيص في ذلك لأن الرخص لا تناط بالمحرمات، ونحن نعلم أن الخمر قد لعن فيها عشرة ومن بين ذلك الجليس. واللعن معناه الطرد من رحمة الله. السؤال الثاني والعشرون: بعض الأقطار في شمال أوربا يقصر فيها الليل كثيرًا ويطول فيها النهار كثيرًا حيث تصل ساعات الصيام في بعض هذه البلدان إلى عشرين ساعة أو تزيد، وكثير من المسلمين يجدون مشقة زائدة في الصيام، فهل يجوز اللجوء في هذه البلدان إلى التقدير؟ وما نوع التقدير الذي يمكن اعتماده إذا كان جائزًا؟ وهل يكون التقدير بساعات الصيام في مكة أو بساعات النهار في أقرب البلدان اعتدالًا أو بماذا؟ هذه مسألة في الواقع احتياطًا –سيادة الرئيس- احتياطيًا لدين الله أنا أريد التبسط في هذه الحالة، قضية التقدير هذه لا أساس لها في مثل السؤال المعروض لأن السؤال المعروض النهار يساوي فيه ثلاثة ساعات والليل يساوي فيه واحدًا وعشرين ساعة وهنالك ليل وهنالك نهار. والقرآن صريح في تحديد الصيام والإفطار {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وأستغرب أن من هذا نص، أستغرب كيف يقول بعض الناس بالتقدير بل البعض رأيته يستدل بحديث الدجال على هذه القضية. حديث الدجال هذا وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الدجال عندما يأتي الدجال سيكون له ليل يساوي –نص الحديث- يساوي نحو جمعة وليل كيوم ويوم كسنة ويم كشهر، سأله الصحابة على هذا اليوم سألوه قالوا: كيف نصنع أنصلي في هذا اليوم خمس صلوات أم نصلي فيه مقدار الأيام كلها؟ فقال: ((اقدروا لصلاتكم)) قدروا لصلاة الوقت التقدير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1243 القاضي عياض يقف من هذا الحديث موقفًا يقول بالنسخ في حديث الدجال. وهذا جواب بالمنع، والجواب بالتسليم عرى فرض هذا أن حديث الدجال حديث غير منسوخ. القضية مربوطة بشيء آخر وهو أن الدجال لا يتميز الليل من النهار في هذه المدة يوم كسنة ويوم كشهر، لا يتميز الليل من النهار، فلهذا جاءت قضية التقدير. أما هؤلاء فعندهم ليل وعندهم نهار فمن أين يأتي التقدير؟ وبقيت في حيرة من هذه الفتاوى التي تنشر وقد اضطربت لجنة الفتوى بالأزهر فمرة اعتمدت على أن الليل ليل وأن النهار نهار وأنه لا يجوز التقدير وأخرى اعتمد على فتوى للمرحوم شيخ الأزهر محمود شلتوت أنه يقول بالتقدير، لكن بقيت غير مقتن بقضية التقدير إلى أن ظفرت في كتاب اليواقيت في أحكام المواقيت لشهاب الدين القرافي وهو كتاب مخطوط أنا نظرت فيه بنفس القضية، قال علماء: جاءت فتوى إلى علماء بخارى قالوا لهم: النهار ثلاث وعشرون ساعة وأربعون دقيقة وليل يساوي عشرين دقيقة وهذا موجود قال من إقليم بلغارًا، قالوا لهم: إذا كان قدمنا الإفطار فاتتنا صلاة المغرب وصلاتة العشاء وإذا كان قدمنا صلاة العشاء وصلاة المغرب فاتنا الإفطار فأي الأمرين نقدم أو نؤخر؟ فأفتاهم علماء بخارى بتقديم الإفطار لأن مصلحة الأجساد مقدمة، لا هؤلاء المسلمون في بلغارا افترضوا قضية التقدير ولا علماء بخارى وهم فقهاء موقعون على رب العالمين افترضوا هذا التقدير ولا الشهاب القرافي ووزنه ثقيل في المذهب المالكي علق على هذا التقدير أو عقب على هذا التقدير فلا أدري كيف يقول من قال بالتقدير؟ وما هو دليله؟ لكننا في الواقع أصبنا بفقه أصبح يقال بمقتضى العقل يعني بمقتضى العقل كذا وكذا، يعني ونحن نريد أن الفقه يكون بالدليل وهذه القضية إذا كان هذا الشق الأول أنه لا يجوز للإخوة المغتربين ولا لمسلم في أي مكان ما دام عنده ليل وعنده نهار أن يفطر. بقيت قضية المشقة، المشقة إذا كانت خفيفة فالعبادات ما هو التكليف إلزام ما فيه كلفة وأما إذا بلغ إلى درجة لا يستطيع معها الصوم وقد جلبت نصًا من الموافقات للشاطبي وهو طويل في هذه القضية، إذا كان وصل إلى درجة لا يستطيع معها الصوم فدين الله يسر وليس بعسر {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} يفطر وقد قال الفقهاء بذلك في الناس في زمن الحصاد سواء أكانوا ملاكًا أو عمالًا على تفصيل في كل منهما. ذكره ميارة في شرحه على متن ابن عاشر وذكره غيره من فقهاء المالكية. ولهذا لا يجوز لهؤلاء الإخوة التقدير، فقضية التقدير غير مطروحة ومن طرحها وأفتى بها فليمدنا بالدليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1244 السؤال الثالث والعشرون: هذا بت فيه من طرف المجمع فلا فائدة فيه وإن كان فيه نص من القرافي يقضي على نزاع دار في الصباح لكن لا فائدة فيه بعد البت يعني سيكون ما بت فيه واتخذ فيه قرار هو الساري. الرابع والعشرون: ما حكم عمل المسلم في دوائر وزارات الحكومة الأمريكية أو غيرها من حكومات البلاد الكافرة خاصة في مجالات هامة كالصناعات الذرية أو الدراسات الاستراتيجية ونحوها؟ العلم بالنسبة إلى الإسلام لا يعرف حدود المكان ولا حدود الزمن ولا يتقيد بدين الشخص الذي يقع التعليم عليه بل هو مطلق من كل ذلك. هذا التلخيص في الواقع علقت بأنه غير كاف ليس هذا جوابًا الجواب عن السؤال هو التالي: إذا كان في الدوائر الحكومية هذه مسلم يعمل بصفته مديرًا أو نائب مدير، يعني كذلك من العمل المرغب فيه لماذا؟ لأن المسلم إذا كان في أمريكا أو في أي بلد من بلاد الكفر إذا رأى شرًا في استعمال الذرة حاول بمقتضى وظيفته أن يخفف منه وأن ينقص من هذا الشر بما تمكنه منه إمكانياته الوظيفية، وإذا كان خيرًا استزاد منه لأنه لفائدة البشرية، ونحن نعرف أن الذرة سلاح ذو حدين فيمكن أن تسخر لفائدة البشرية ولو مسخرة ويمكن أن تسخر لتدمير العالم وهي أيضًا مسخرة وقانا الله شرها. فلهذا المسلم وجوده هنا هو وجود يوسف عليه السلام مع فرعون مصر وهو المؤمن الوحيد في ذلك الزمن معناه قال {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} بينما اقتصاديات مصر وشئون مصر كلها على مقتضى أعراف وعلى مقتضى قوانين غير شرعية ولا يستطيع يوسف عليه السلام أن يفرض على المجتمع المصري الفرعوني إذ ذاك قوانين شريعة سيدنا إبراهيم أو شريعة سيدنا إسحاق أو شريعة سيدنا يعقوب، وإنما كما قال ابن جزي في كتابه التسهيل في تفسيره التسهيل: ليصلح بعض الأحوال. ومن هنا أخذ فقهاء المالكية وغيرهم أن المسلم إذا استطاع في بلاد الكفر أن يتولى شأنًا من الشئون الهامة ليصلح بعض الأحوال الفاسدة لا كلها، لأن هذا غير ممكن فله ذلك، وأفتوه بالجواز واعتمادًا على ما قالوه في قضية يوسف وعلى ما استنتجوه من المسائل الفقهية أفتيت إخوتي الموجودين في أمريكا بجواز أن يتسلموا هذه الوظائف ليخففوا من شرها أو يستزيد البشرية من خيرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1245 السؤال الخامس والعشرون: ما حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها علمًا بأن هذا هو جزء من عمله في الشركة الموظفة له، وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل؟ الذي هو موجود في كتب الفقه وبخاصة المسألة فصلت في مغنى ابن قدامة: أنه لا يجوز للمسلم أن يدخل بادئ ذي بدء في عمل فيه جانب من جوانب الحرام يعني يعمله هو ويفرض عليه. ربما يختلف الأول والثاني، الأول سيصلح ويعمل أما هذا سيعمل وسيقوم بعمل حرام ولهذا لا يجوز، هذا وقد أتيت بنصوص فقهية وبعدة آثار تدل على حرمة ذلك. السؤال السادس والعشرون: كثير من العائلات المسلمة يعمل من يعولها في بيع الخمور والخنزير وما شابه ذلك وزوجاتهم وأولادهم كارهون لذلك علمًا بأن يعيشون بمال الرجل. فهل عليهم من حرج في ذلك؟ الجواب: لا يجوز للمسلم المكلف أكل المال الحرام ولا لبس اللبس الحرام ولا سكنى المسكن الحرام ولا استعمال أي شيء حرام مما ينتفع به. وعلى أفراد الأسرة المكتسب عائلها بالحرام الامتناع من أكل ما كسبه عائلهم لأن أكلهم لو كان الكسب حلالًا حقًا والحقوق لا تقضي من الحرام. ومحل حرمة ذلك بالنسبة للأولاد إذا كانوا مكلفين وشأن الزوجات التكليف، أما إذا كان أفراد الأسرة المكتسب عائلها بطريق الحرام عاجزين عن العمل حقيقة أو حكمًا وسدت في وجوههم كل الأبواب من العمل الحلال واضطروا إلى الأكل من كسب عائلهم أكلوا منه ما يسد رمقهم ويحفظ حياتهم إذ الضرورة تقدر بقدرها، ويجب عليهم السعي ما استطاعوا إليه سبيلًا لإيجاد عمل حلال مهما كانت نوعية العمل المقدور عليه، ومتى وجدوه حرم عليهم الأكل من تكسب عائلهم المتمحض للحرام لأن ما جاز للضرورة أو الحاجة المنزلة منزلتها يقدر بقدرها ولا يزاد عليها هذا هو الجواب. السؤال السابع والعشرون: ما حكم تبرع المسلم فردًا كان أو هيئة لمؤسسات تعليمية أو تنصيرية أو كنسية؟ الجواب: عدم جواز تبرع المسلم فردًا كان أو هيئة لمؤسسة تنصيرية أو كنسية ومن فعل ذلك من المسلمين فقد نزع ربقة الإسلام من عنقه، وجواز التبرع بكل وجوهه لمؤسسات التعليم النافع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1246 الثامن والعشرون: ما حكم شراء منزل السكنى وسيارة الاستعمال الشخصي وأثاث المنزل بواسطة البنوك والمؤسسات التي تفرض ربحًا محددًا على تلك القروض لقاء رهن تلك الأصول علمًا بأنه في حالة البيوت والسيارة والأثاث عمومًا يعتبر البديل عن البيع هو الإيجار بقسط شهري يزيد في الغالب عن قسط الشراء الذي تستوفيه البنوك؟ الجواب: مهما كان القرض محتويًا على ربا ولو يسيرًا ومعلومًا في عقد القرض فالقرض قرض ربوي، ولا يجوز شرعًا بحال والتعامل به من أشد المنكرات حسب نصوص القرآن والسنة. وبذلك انتهى. الرئيس: شكرًا.. بسم الله الرحمن الرحيم ... وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فإن استفسارات المركز الإسلامي بواشنطن قد جرى عليها عدد من الأجوبة من عدد من أصحاب الفضيلة من أعضاء هذا المجمع وقد حصلت مقارنة بين أجوبة المشايخ فوجد أنه حصل اتفاق منهم على كثير من هذه الأجوبة، وكما تعلمون أن كثيرًا من هذه الأجوبة هي ولله الحمد مما علم جوابها بوضوح من نصوص الشريعة. ونظرًا لضيق الوقت ولأنه سيحصل هناك حصيلة من إجابة البنك الإسلامي لبعض أسئلته فمن المستحسن أن يؤلف لجنة من أعضاء هذا المجمع ليستعرضوا هذه الأسئلة ويحرروا الجواب عليها فيما يمكن الجواب عليه مما يكون محل اتفاق بإذن الله تعالى، وما يرون إرجاءه فإنه يرجأ إلى الجلسة القادمة، وليس في هذا ما يمنع، وتحرر البحوث لما يكون في حاجة إلى مزيد من البحث والدراسة واللجنة هي: الشيخ أحمد الخليلي، الشيخ عبد الله البسام، الشيخ تقي عثماني، الشيخ محيي الدين قادي، الشيخ طه جابر العلواني. شكرًا، وبهذا وترفع الجلسة لنؤدي صلاة المغرب ونعود بعد الصلاة مباشرة وصلى الله على نبينا محمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1247 مناقشة أجوبة اللجنة المكونة للإجابة عن الاستفسارات مناقشة اللجنة 12 صفر 1407هـ/ 15 أكتوبر 1986م الجلسة المسائية وقبل أن ندخل في أجوبة اللجنة على استفسارات المركز العالمي الإسلامي بواشنطن فإنه قد وزع عليكم مشروع معجم المصطلحات الفقهية، ومشروع الموسوعة الفقهية وتقرير على اجتماع شعبة التخطيط وهذه المشاريع الثلاثة هي بين أيديكم وإن أمانة المجمع هي بانتظار ملاحظاتكم ووجهات نظركم على هذه المذكرات الثلاث التي وزعت عليكم، وأنه إذا لم يرد شيء أي ملحوظة على أي من هذه المشاريع الثلاثة من أي أصحاب الفضيلة الأعضاء فإنه يعتبر إقرارًا لهذا المشروع. ملحوظة مكتوبة وتوجه بعد أن تنصرفوا لأن الموضوع سيعرض على لجنة في الأمانة على التراخي لكن بصفته لن يعرض إلا في الدورة القادمة بإذن الله تعالى. والآن نستمع إلى الشيخ طه. الشيخ طه جابر العلواني: بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه ومن اتبعه واهتدى بهديه إلى يوم الدين. وبعد، فقد كان المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن قد لاحظ انتشار الخلافات الفقهية بين المسلمين وتفشي المنازعات في ديار الاغتراب بينهم حول كثير من المسائل الشرعية الأمر الذي أصبح يهدد الكثير من المساجد والمراكز الإسلامية بالتعطل والإغلاق لما يحدث بينها من منازعات تبدأ بالجدل حول تلك المسائل وتنتهي في بعض الأحيان المحاكم الكافرة يلجأ إليها المتخاصمون لتحكم بالمسجد أو المركز لفريق منهم دون فريق، وكثيرًا ما يغلق المسجد أو المركز ويعطل أشهرًا وسنين في بعض الأحيان إلى أن تبت المحاكم في النزاع، وقد كان الناس كثيرًا ما يلجأون إلى أولئك الأساتذة أو الدعاة الزائرين يستفتونهم في تلك المسائل، فما تزيدهم الفتاوى الفردية مهما بلغت من القوة الفقهية إلا خلافًا وشقاقًا. فرأينا أن نلجأ إلى نوع من الفتاوى الجماعية، فشكلت لجنة فقهية تضم جملة من الأساتذة المسلمين الذي تخرجوا من جامعات إسلامية مختلفة وذهبوا إلى الغرب لمواصلة الدراسة أو العمل أو الإقامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1248 وبدأت هذه اللجنة تعالج بعض القضايا وكان لذلك أثر طيب والحمد لله. وكثيرًا ما تعقد هذه اللجنة مؤتمرًا للمذاكرة في مسألة من مسائل الفقه وتبلغ للناس ما تتوصل إليه كما تعقد لقاءات دورية بحسب الحاجة، ولكننا رأينا أن نحسم مادة النزاع أو نقلل من فرص الخلاف ما وجدنا إلى ذلك سبيلًا. فكان أن جمعنا كثيرًا من تلك القضايا وتوجهنا بها إلى مجمعكم الموقر أملًا بالحصول على فتاوى مجمعية مستندة إلى الدليل، غير مغفلة للتعليل، قادرة على الإقناع، باعثة على الطمأنينة إن شاء الله. وإننا لنشكر الأمانة العام للمجلس على ما أولت هذا الأمر من عناية فائقة ورعاية تامة حيث ندبت الأعضاء الكرام لدراسة هذه القضايا قبل موعد انعقاد الدورة الثانية فجاءت بعد الدراسات والفتاوى الجادة ولكنها آثرت إعطاء كل موضوع منها ما يستحق من العناية والبحث، فأجلت إصدار هذه الفتاوى إلى هذه الدورة الثالثة. وها هي الآن موضع بحثكم ونظركم. هذا وقد كانت الأمانة العامة قد شكلت في الدورة الثانية لجنة ضمت الأساتذة الشيخ أحمد الخليلي. والشيخ المختار السلامي، والشيخ قادي، والشيخ محمد تقي العثماني، وطه جابر، فدرست من تلك القضايا ما تيسر لها، ثم استقر الرأي على تأجيلها إلى هذه الدورة كاملة وندب الأعضاء للكتابة فيها والإجابة عنها فأعد كل من الأساتذة التالية أسماؤهم بحثًا فيها وهم: الشيخ المختار السلامي، والشيخ أحمد الخليلي، والشيخ تقي العثماني، والشيخ قادي، وقد استمع مجلسكم الموقر أمس إلى العرض المستفيض الذي قدمه الأستاذ الشيخ قادي للأسئلة وما توصل إليه من الأجوبة. الرئيس: الشيخ البسام ما كان معكم؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1249 الشيخ طه جابر العلواني: ليس هذه اللجنة المقصود هذه لجنة سابقة. وقد استمع مجلسكم الموقر إلى العرض المستفيض الذي قدمه الأستاذ الشيخ قادي للأسئلة وما توصل إليه من إجابات عنها، ثم رأت الرئاسة والأمانة العامة تشكيل لجنة لدراسة تلك الإجابات والخروج بإجابات محددة موجزة يمكن إعلانها واتخاذ قرار من مجلسكم الموقر بها لتقوم الأمانة العام بعد ذلك بالتعاون مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي بكتابتها بشكل مناسب مع إلحاق الأدلة والعلل وما يكفي لهذه الفتاوى إن شاء الله تعالى لتحقيق الغرض منها وانتفاع المسلمين بها وطباعتها بالعربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية. وقد ضمت اللجنة المشكلة لغرض تحرير موجز الفتاوى السادة: الشيخ عبد الله البسام والشيخ أحمد الخليلي والشيخ قادي والشيخ تقي الدين العثماني والدكتور وهبة الزحيلي وطه جابر العلواني، وقد اجتمعت اللجنة الليلة البارحة وحررت الإجابات بالشكل التالي الذي صادق عليه المجمع. الرئيس: يا شيخ طه، مر في الجواب يعني التجنس بجنسية البلاد الأجنبية أو غير المسلمة ما هو معنى الأجنبية هنا؟ الشيخ طه جابر العلواني: فسرنا الأجنبية بغير المسلمة. الرئيس: لماذا لا تقول الأجنبية غير المسلمة؟ الشيخ طه جابر العلواني: التجنس بجنسية البلاد غير المسلمة. الرئيس: تحذف أو. هذا واحد. الشيخ طه جابر العلواني: بلاد غير مسلمة.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1250 الرئيس: إذن تحذف أجنبية كلها. هذه واحدة. ثانيًا: تقول ليس محرمًا لذاته شرعا، إذا رأيتم أخف من باب التوقي ليس محرمًا لذاته ونحذف كلمة شرعًا. مناقش: الحلال والحرام لا يكون إلا شرعًا. الرئيس: هو شرعًا، لكن هذه لست من ذات الأدلة. الشيخ طه جابر العلواني: طيب، لا حرمة فيه لذاته. الشيخ سالم بن عبد الودود: هو في الحقيقة الإقامة في هذه البلاد أصلها حرام يقول الونشريسي في رسالة، هذه الرسالة ذكرها الونشريسي. الرئيس: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أنا برئ)) دعنا من الونشريسي. الشيخ سالم بن عبد الودود: لا تتراءى مسلم وكافر إذا كنت. الرئيس: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم الحديث الصحاح: ((أنا برئ من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين)) . الشيخ سالم بن عبد الودود: لا يتراءى نارهما. الشيخ عبد الرحمن باه: وهل يجوز للمسلم الذي يعيش في بلاد الإسلام أن يتجنس بجنسية غير مسلمة وربما يجر ذلك إلى أن يحكم بغير أحكام الإسلام؟ هذا مسلم يعيش في بلاد الإسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1251 الأمين العام: موجود في النص هذا. النص الذي أجاب به الآن الذي تلاه علينا يتضمن الجواب عن هذه النقطة. دكتور جابر لو تكرمت تعيد قراءة النص. الشيخ طه جابر العلواني: التجنس بجنسية البلاد غير المسلمة لا حرمة فيه لذاته إذا لم يجد المسلم في بلاد المسلمين أمنًا على نفسه أو عرضه أو ماله أو افتقد سبيل الكسب الضروري الحلال لمعيشته في بلاده. ويشترط أيضًا أمن الفتنة في البلاد التي يريد حمل جنسيتها على دينه ودين أولاده، ومع ذلك فلا يخلو أمر التجنس بجنسية غير المسلمين من محاذير ومخاطر وكراهة شرعية إذا لم يكن ذلك لتحقيق هدف مرعي شرعًا كالأهداف التي أشرنا إليها أو للدعوة إلى الله تعالى. الشيخ عبد الرحمن باه: هذا رجل مسلم يعيش في بلدة إسلامية. الأمين العام: هذا السؤال الذي ورد علينا ليس من موضوعنا لأن الأسئلة عندنا محددة نجيب عنها. وهذه قضية أخرى. الشيخ عبد السلام العبَّادي: الواقع كأن مطلع الجواب يتعارض مع نهايته أولًا: شيء نريد نحسم قضية التجنس بجنسية غير المسلمين ما حكمها الشرعي في الأمور العادية، هو حرام تجوز بعد ذلك للضرورات التي ذكرتموها فالأصل أن يقال كيف أنها ليست حرامًا لذاتها. الرئيس: لأنه إذا كانت لمجرد الإقامة محرمة يعني نهت عنها السنة فكيف بالتجنس الذي هو أعظم من الإقامة؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1252 الأمين العام: يعني الأصل فيها الحرمة. الشيخ طه جابر العلواني: لأنكم اضطررتم في الأخير أن تقولوا كراهة شرعية. الشيخ طه جابر العلواني: يقال: إذن التجنس بجنسية البلاد غير المسلمة. الرئيس: لا يجوز شرعًا الشيخ طه جابر العلواني: أو الأصل فيه الحرمة. الرئيس: أبدًا لا يجوز شرعًا للأحاديث المصرحة بالنهي عن إقامة المسلمين بين ظهراني المشركين ثم بعد ذلك يأتي الاستثناء هذا. يا شيخ طه لو تكرمتم الأجوبة ستصور وتوزع على المشايخ هذا أحسن لأن المسألة يعني ليست بالسهولة بمكان وإن شاء الله تعالى سييسر أمرها، والآن ما بقي على الصلاة إلا خمس دقائق. الشيخ محمد عبده عمر: يا سيدي أنا عندي سؤال بالنسبة لإجابة السؤال الأول إذا لم يجد الأمن في أي بلد أو في أي دولة يجد الأمن في الدولة الأخرى. أما أنه لا يجد أي أمن في الدول الإسلامية كلها هذا صعب جدًا. السؤال يقول: إذا لم يجد الأمن في البلاد الإسلامية وهذه حاجة مستحيلة أنه لا يجد فيها الأمن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1253 الرئيس: هي، ما هي مسألة الأمن وحدها، يعني إذا ما وجد أمن أو ما وجد مثلًا أنت تعرف الآن أعدادًا من المسلمين لا سيما من المفكرين الإسلاميين يلاحقون في عدد من الديار الإسلامية، هذا واضح ما فيه إشكال. الشيخ محمد عبده عمر: يعني بشكل شمولي؟ الرئيس: أنا ما أدري بشكل شمولي، أنا أعرف أعدادًا وأنت تعرف، وكلنا يعرف، هذا لا إشكال فيه. الشيخ محمد عبده عمر: لا، أنا أقول بشكل شمولي، هذا حاجة مستحيلة. الرئيس: يلاحق من بلد إسلامي إلى بلد إسلامي الشيخ محمد عبده عمر: هذا صحيح لكن بشكل شمولي في الدول الإسلامية كلها هذه حاجة مستحيلة أو أن لقمة العيش تنعدم من الدول الإسلامية حتى يضطر الإنسان إلى الذهاب إلى هذه الديار الكافرة. الرئيس: والله، أنا كنت لما تأملت الأسئلة، كنت رأيت أن السؤال هذا سبق إن صدر فيه قرار مجمعي من مكة، فقلت: إنه لو يترك هذا، والشيخ طه طبعا يأخذ القرار المجمعي من مكة. الشيخ محمد عبده عمر: أنا كذلك يا سيدي: لكن اتضح لي أن من نفس الشروط أن هذه الشخص الذي أبحنا له التجنس بجنسية الدولة غير المسلمة الذي يجد الآن في البلاد الإسلامية أو لا يجد لقمة من البلد الإسلامية، وهذه مسألة بصراحة صعبة جدًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1254 الرئيس: وقد يكون افتراضا متعذرا في الواقع، يعين بالنسبة لعموم البلدان الإسلامية 45 دولة إسلامية. الشيخ محمد سالم عبد الودود: لماذا لا تقولون فيه 45 دولة إسلامية تستطيع أن تستوعب المسلمين. الأمين العام: يا سيدي القضية ليست نظرية، يعني ممكن أن يكون، ننظر إلى الواقع هناك مجتمع كبير من المسلمين على أجيال متوالية متعاقبة في البلاد النصرانية يعيشون فيها ويقيمون بها. الرئيس: أما أنا فأعرف عدة أشخاص قد يبلغون الخمسة من الجزيرة سكنوا في أمريكا وفي أوربا وتجنسوا وأولادهم الآن لا يعرفون العربية وبناتهم تزوجن من الديار. هذا شيء مثل الشمس واضح، فالمسألة الواقع هي خطيرة ليست من السهولة يعني فيها شيء من الارتباط. الشيخ طه جابر العلواني: نسمع فتوى مجمع مكة إذا تكرمت. الرئيس: عندك هي موجودة. الشيخ طه جابر العلواني: لا ليست عندي. الأمين العام: يا أخي نحن صغنا النص لا داعي إلى الرجوع، نحن انتهينا من القضية. الرئيس: على كل حال قرار مكة يفيدنا كثيرًا لأنه قرار بني على دراسات وتداوله المشايخ والشيخ محمد سالم موجود كان حاضرًا فيعني ما يمنع أن نستفيد من آراء الآخرين إطلاقًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1255 الأمين العام: لا أنا أقول: لا يمنع إذا كان موجودا الآن هذا القرار، أما إذا كان غير موجود فكيف لنا به، نجتهد ونعدل الصيغة. الرئيس: ولهذا أنا رأيت أن السؤال هذا هو والثاني الذي بعده وسؤالين آخرين أربعة وخمسة أنها تؤجل هذا الذي كنت رأيت، لأن الحقيقة، البقية لو مرينا عليها مشت، أما الشيء الذي نشك فيه أو الذي صدر فيه قرار مجمعي ونحن لا نعرف هذا القرار المجمعي، وهم علماء لهم وزنهم ولهم ثقلهم ما نعرف ماذا قرروا ونجيء، نحن من المسألة ما تصلح الأمور هذه. أمور هامة " نتعجل فيها ما هو المانع هي ثمانية وعشرون سؤالا إذا أجلنا منها خمسا أو ستا أو سبعا فيه شيء"؟ ما فيها شيء المسألة أمر سهل إذا كان قصدكم قرار مجمعي، فعندكم قرار مكة أقصد الشيخ طه أنا أرسله له أبعثه إليه. الشيخ طه جابر العلواني: أنا كما ذكرت في مقدمتي أن هناك خلافا شديدا يصل إلى درجة العراك والتضارب في المساجد ويؤدي إلى التقاضي أمام المحاكم الأمريكية، وتغلق تلك المساجد والمراكز نتيجة جدل حول قضايا من هذا النوع، فاللجوء إليكم إنما هو من أجل صدور قرار ذي قيمة من شأنه أن يحسم مادة النزاع هذا هو المهم لكن أنا طالب علم، والحمد لله، وبإمكاني أن أفتي في كثير من هذه القضايا. فيه طلبة علم آخرون أيضا يستطيعون أن ينظروا في هذا الأمر فنحن لم نحلها من أجل العجز أو الجهل بأحكامها الشرعية أو عدم القدرة على الرجوع لمذاهب الفقهاء في هذا الأمر، ولكن إحالتها إنما هو لصدور فتوى مجمعية تكون مقنعة ملزمة تحسم مادة النزاع في هذا لا أكثر. فإن رأيتم أن تحسموا في هذا الأمر جزاكم الله خير. الرئيس: على كل مجموعة قرارات مجمع مكة عندي في الغرفة، فلعله يكون في المجموعة التي لدي فأنا إن شاء الله تعالى بعد الصلاة أقدمها. الشيخ طه جابر العلواني: اللجنة أيضا الشيخ عبد الله كان من أعضاء مجمع مكة وكان معنا في اللجنة وهو رئيس لجنتنا هذه الأخيرة في ليلة أمس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1256 الشيخ عبد العزيز عيسى هل هذا القرار سيقطع الخلاف بين المسلمين في أمريكا؟ والواقع سبب الخلاف جاءت لهم بأحكام الدين عن جهل عمد ولا يمكن أن القرار سواء إن كان من مجمع الفقه الإسلامي أو مجمع مكة أو أي مجمع أخر أن يقطع الخلاف أبدا بين هؤلاء الناس. وهذه مسألة من بلايا العصر الحاضر، وفي كل بلد نازحون من أبنائها إلى البلاد الأوربية أو الأمريكية. وهم وجدوا هناك سبيل العيش لهم ميسرة وأيسر مما في بلدهم فماذا نفعل؟ أنا لا أريد أن نقول هذا يجوز أو لا يجوز لا بد أن ننظر في حل لهم بالطريقة هذه يعني لو نزح من السعودية مائة شخص نقول لهم حرام عليكم أنتم في الحرمة أو قربتم من الكفر وهم يمكن يجدون حالهم هناك. وما طريقة العيشة وليس دائما في خلاف. يا أستاذ طه هم في خلاف دائما ولا الخلاف بين واحد أو اثنين؟ المفروض أنكم تفصلوا بينهم من غير حكم شرعي لأن الحكم الشرعي هم يجهلونه ولا يقدرونه ولا يعرفون مجمع الفقه الإسلامي ولا مجمع مكة ولا مجمع مصر لا يعرفون هذا الكلام وليسوا موقرين لهؤلاء. أنا أرى العملية عصرية نريد أن نرى ما هي الفتوى التي تصدر في ذلك الوقت وبخاصة من مجمع الفقه الإسلامي متعلقة بهذا الموضوع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1257 الشيخ خليل الميس: نرجو أن نلفت الانتباه إلى أن هذا السؤال سيجرنا إلى قضية خطيرة هذه القضية لا بأس بذكرها. الأمين العام: إذا سمحت بعد الصلاة نرجع إلى الحديث في الموضوع وفضيلة الشيخ سيأتينا بالقرار قرار مكة ونستأنس به وانتهت القضية. الشيخ خليل الميس: القضية التي تحصل عندنا في لبنان وهو فتح أبواب الهجرة لشبابنا وتشجيع كل الجنسيات قيد الدرس وبالأخص الفلسطينيين على الهجرة والتجنس. نرجو أن نلحظ هذا من خلال هذه الفتوى ويكاد البلد يفرغ من شبابه، يكاد يفرغ إلى هذا الحد فتحت أبواب الهجرة إلى أستراليا ودول أوروبا كلها وأمريكا والشباب بالآلاف يذهبون وتهيأ لهم أسباب الهجرة والتجنس ولا يخفى ما وراء ذلك ليس فقط القيام بدار الشرك ولكن إسقاط قضية معروفة على الأرض. نرجو أن نلحظ هذا عند الإجابة على التجنس بجنسية أجنبية وشكرًا. الأمين العام: ذهب فضيلة الشيخ لإحضار قرار مكة ونستأنس به وانتهت القضية ونمر إلى غيره من الأسئلة، وإلا ستطول بنا الجلسة من غير أن نصل إلى نتيجة. نحن كونا لجنة للنظر في هذه الصيغة حتى لا نتداول البحث فيها من جديد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1258 بعد الصلاة الرئيس: نحن نستمر يظهر لي أن الحكم والأجوبة عن الأسئلة تقريبا متفق عليها حتى تقطع مرحلة. الشيخ طه جابر العلواني: بسم الله الرحمن الرحيم. السؤال الثالث: في زواج المسلمة بغير المسلم: زواج المسلمة بغير المسلم ممنوع شرعا بالكتاب والسنة والإجماع، وإذا وقع فهو باطل، ولا تترتب عليه الآثار الشرعية المترتبة على النكاح والأولاد المتولدون عن هذا الزواج أولاد غير شرعيين ورجاء إسلام الرجل لا يغير من هذا الحكم شيئا. السؤال الرابع: استمرار الزوجية بين من أسلمت وبقى زوجها على دينه. بمجرد إسلام المرأة ينفسخ نكاحهما، فلا تحل معاشرته لها، ولكنها تنتظر مدة العدة فإن أسلم خلالها عادت إليه بعقدهما السابق. أما إذا انقضت عدتها ولم يسلم فقد انقطع ما بينهما. فإن أسلم بعد ذلك ورغب في العودة إلى زواجهما عادا بعقد جديد ولا تأثير لما يسمى بحسن المعاشرة في إباحة استمرار الزوجية. الشيخ محمد عبده عمر: مسألة إذا أسلم كافر يعود إلى زوجته السابقة بعقد جديد يعني، إذا رغب العودة لها يكون بعقد جديد. الرئيس: فإن أسلم بعد ذلك بعد خروج العدة ورغب في العودة إلى زواجها عاد بعقد جديد. الشيخ محمد عبده عمر: قصة السيدة زينب بنت النبي عليه الصلاة والسلام مع زوجها واضحة. لما أسلم عاد إليها دون عقد جديد وهذا حديث صحيح ثابت. الشيخ الصديق الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم.. بمجرد إسلام المرأة ينفسخ نكاحها. أرى هنا أن نأخذ بقول آخر، بمجرد إسلام المرأة وإباء الزوج الإسلام ينفسخ نكاحهما ليترتب الفسخ على إباء الإسلام وليس على الإسلام وإن كانت المسألة فيها رأيان. الشيخ خليل الميس: القول بالانفساخ ما هو صحيح. إنه يتوقف العقد. الرئيس: على كل حال تشمي يا شيخ ... نعم الخامس. الشيخ طه جابر العلواني: السؤال الخامس: هو الدفن في مقابر غير المسلمين: إن دفن المسلم في مقابر غير المسلمين في بلاد غير إسلامية جائز للضرورة إذا بعدت المسافة عن مقابر المسلمين. والدفن في مقابر أهل الكتاب أولى من الدفن في مقابر غيرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1259 الرئيس: والله، أن في نظري أنها تحذف إذا بعدت المسافة ويكون جائزا للضرورة حتى يشمل قضية المسافة وغيرها، هذا الذي يظهر، ثم أحيانا بعد المسافة لا يسبب ضرورة يظهر هكذا. هكذا يا شيخ وهبة؟ الشيخ وهبة الزحيلي: إذا كانت المسافة قريبة ينقل. الرئيس: لأن هذا معناه جائز للضرورة إذا بعدت المسافة تيسيرا للضرورة فالمدار على الضرورة. الشيخ محمد عبده عمر: ملاحظة على السؤال. والدفن في مقابر أهل الكتاب أولى من الدفن في مقابر غيرهم. يعني ما هو المستند لهذا التفضيل؟ الرئيس: والله، الذي ترون فيه الخير، ولكن أنا في نظري أنه لو قيل: إن دفن المسلم في مقابر غير المسلمين في بلاد غير إسلامية جائز للضرورة. وفقط. الشيخ طه جابر العلواني: يحذف الباقي؟ الرئيس: والله إذا يرى المشايخ هذا. الكفر ملة واحدة ولا سيما بعد الموت، هذا يظهر كذا والله أعلم. أنتم أدرى لأنكم عرفتم الديار واختلطتم، أنتم نزلتم في الساحة أكثر منا لكن أنا يظهر لي أن زيادة القيود إذا كان يدعمها وجه شرعي فحياه الله. الشيخ خليس الميس: هل من الممكن أن يقال: إن يكون في جانب من المقبرة؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1260 الرئيس: يا شيخ هم ما يتصرفون، الناس هم الذين يصرفونهم، أنا أذكر أحد علماء القصيم من الزهاد الورعين العلماء ذهب به إلى العلاج فقال لأولاده وهم معه في لندن، قال: إن كتب الله وتوفيت فلا تنقولني عن هذه البلد لأن إن كان لي عمل صالح سيؤنسني في أي مكان كنت، وإلا إذا لم يكن لدى الإنسان عمل صالح فلن يفيدني نقلي إلى أي بلد كان. رحمه الله فدفن في لندن هناك على كل حال واقعة عين ليست من باب الحجج. الأمين العام: أنا يظهر لي سيدي بالنسبة للندن وغيرها أن فيها مقابر وبها أجنحة خاصة أو أماكن خاصة للمسلمين، ولهذا يكون الدفن في الجناح الخاص بالمسلمين. نظم موجود في أمريكا وفي فرنسا. الرئيس: على كل أنا في نظري أن الكفر ملة واحدة، هذا الذي يظهر لا سيما كما قال الشيخ ابن عبد الودود لا سيما بعد الموت. للضرورة فقط يكفي. الشيخ طه جابر العلواني: السؤال السادس: بيع المساجد المعطلة: يجوز بيع المسجد الذي تعطل الانتفاع به، أو هجر المسلمون المكان الذي هو فيه، وخيف استيلاء الكفار عليه على أن يشترى بثمنه مكان آخر ويتخذ مسجدا. الرئيس: أنا في نظري إن خيف استيلاء الكفار عليه لا محل له لأن المقرر فقها أنه إذا تعطل الانتفاع به وهجر المسلمون المكان ما هو الذي يجلس ينقل إلى مكان آخر إلى مسجد آخر أو إلى مصلحة مسجد آخر. الشيخ طه جابر العلواني: يعني نحذف: وخيف؟ الرئيس: إلا إذا قيل: أو خيف، ما فيه إشكال يا شيخ يصير (أو) إذا جعلت (أو) ممكن تمشي. الشيخ طه جابر العلواني: يعني نعملها (أو) ؟ الرئيس: نعم الشيخ طه جابر العلواني: السؤال السابع: سفر المرأة بغير محرم: الأصل فيه المنع لدى الأكثرين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1261 الرئيس: الأصل فيه المنع شرعا. الشيخ طه جابر العلواني: الأصل فيه المنع شرعا لدى الأكثرين. الرئيس: على كل أو الأصل فيه المنع للأحاديث المستفيضة لأن فيه جملة كبيرة من الأحاديث الصحاح والسنن وغيرها. أما (لدى الأكثرين) تحذف. الأصل فيه المنع للأحاديث الصحيحة. الشيخ خليل الميس: عفوا نقول: هو حرام بصريح النص، بدل ما نقول: الأصل. الشيخ طه جابر العلواني: المنع، لأن فيه اختلافا في قضية الحرمة. الرئيس: على كل حال الممنوع في الأصول يتنزل منزلة الحرام. الأصل فيه المنع للأحاديث الصحيحة فتجتنبه المسلمة ما استطاعت. الشيخ طه جابر العلواني: (ما استطاعت) ولكن أخذا ببعض المذاهب الإسلامية وتيسيرا على ما تحملها ظروفها على السفر بغير محرم، فإن المجمع لا يرى مانعا من سفر المرأة بغير محرم في الجماعات الغفيرة ووسائط النقل العامة الكبيرة كالطائرات والقطارات والحافلات الكبيرة التي يؤمن في مثلها على دين المرأة وعرضها كما لو كانت سائرة في المدينة العامرة. الرئيس: أما أنا لأنه سبق لي دراسة مستفيضة في هذا الموضوع وعلى إثر كتابات حصلت فيه فأنا أرى أن هذا الموضوع إذا رأيتم هذا السؤال أنه يرجأ من الأسئلة التي تؤجل. الشيخ محمد عبده عمر: موافق على أرجائه. موافقون على تأخيره. الشيخ وهبة الزحيلي: أنا لي في المذهب المالكي ما دام هناك حجة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1262 الرئيس: ما علينا من المذاهب، علينا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة على أي مذهب طالما أنه في أحاديث صحيحة صريحة بالمنع. حتى في مذهب الحنابلة قالوا: إذا كانت تحج مع رفقة من النساء أو شيء من هذا القبيل وكانت مرأة كبيرة أو شيء من هذا. لكن أنا أقول نحن عندنا أصل، وعندنا ضرورة فنحن نقرر الأصل والضرورة إذا جاء اصحب الضرورة تقدر له بقدرها. الشيخ مصطفى الزرقا: بسم الله الرحمن الرحيم ... أنا لا أرى بأسا في بقاء العبارة كما هي إلى آخرها لأن الحالة الاستثنائية هذه أصبحت اليوم يمكن أن يقال عنها: إنها ضرورة لما نشاهد من كثير من الحالات يضطر فيه الإنسان أن يرسل أحيانا زوجته أو ابنته أو أخته إلى جهة فيها محارمها أيضا ويستقبلونها في المطار وهو يوصلها إلى الطائرة ويوصي بها من يلزم. يعني هذه حالة أصبحت اليوم في عصرنا هذا في مختلف الحالات التي توجب بعض الأسفار لا يمكن اجتنابها، واليوم السفر بالطائرة أنا أعتقد أن السفر بالطائرة من قارة إلى قارة أهون وآمن على المرأة من أن تسافر إلى قرية أقل من ثلاثة أيام كما أباحه الفقهاء أن تسافر وحدها. لذلك هذه لا نستطيع، أعتقد الفقرة مليحة جدا وإني أسأل فضيلة الرئيس الكريم أنه إذا قلنا: إنه ما لنا وللمذاهب نحن أمامنا أصل، فأنا أسأل، هل المذاهب جهلت ذلك الأصل؟ كل هذه المذاهب لم تعرف هذه الأحاديث التي هي الأصل ونحن الآن عرفناها. إنهم أيضا عرفوا هذه الأصول وتدبروا فيها وهم أهل دين وورع وعلم وتقى. الرئيس: في الواقع يا شيخ مصطفى مع تقديري البالغ: إن التساؤل في غير محله لأن أنا قصدي لما هو معروف عند أهل العلم أنه إذا جاء الحديث جاء النص بطل الخلاف ولا إشكال. وليس معنى هذا أن الأئمة خالفوا النصوص لا لكن ربما أن هذا الإمام لم يبلغه نص ربما أنه ثبت عنده ضعفه أو ربما كذا لكن أنا أرى يؤجل ونمشي للسؤالات وبعدين نعود على الأسئلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1263 الشيخ مصطفى الزرقا: كل حديث قابل أحيانا لعدة أفهام وإذا نحن رأينا الحديث واضحا هل الأئمة السابقون هؤلاء لم يكن لديهم النص موجودا نفسه وفهموا فهما آخر أو رأوا أنه محمول على حالات دون أخرى؟ يعني لا نستطيع أن تقول: متى وجدنا الحديث نتجاهل الأئمة كلهم، هذا غير ممكن. الشيخ محمد عبده عمر: الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أنا عندي ملاحظتان: الملاحظة الأولى هو أن الاجتهاد الفقهي يجب أن يكون ضمن نصوص شرعية من الكتاب والسنة وألا يتجاوزها. في هذه المسألة أعتقد أن فيها حديثا صحيحا عن النبي عليه الصلاة والسلام ما معناه: لا يجوز لامرأة تؤمن بالله والله الآخر أن تسافر يوما وليلة بدون محرم. فالحديث قاطع في محل الخلاف ولا اجتهاد مع نص. هذه ملاحظة. الملاحظة الثانية: حسبما أعلمه في المذهب الشافعي أن منع الإمام نفسه رحمة الله عليه منع أن تسافر عجوز ولو مع جمع غفير فلما سئل عن عجوز لا تشتهي عجوز ليس فيها جمال وعجوز طاعنة في السن لماذا لا يسمح لها بالسفر؟ قال رضي الله تعالى عنه: إن لكل ساقطة لاقطة، إن كانت هناك عجوز فقد يكون هناك عجوز أيضا يهواها فبلغ المنع في المذهب الشافعي إلى هذا الحد. وعلى هذا يجب أن نلاحظ أول الحديث الصحيح ولا اجتهاد مع النص ثم أيضا نلاحظ أقوال بعض الأئمة الكبار مثل الإمام الشافعي رحمة الله عليه. الشيخ محمد سالم بن عبد الودود: سيدي الرئيس. أنا بعد العبارة التي توصف نقول مع التيسير يقال: الأصل فيه المنع شرعا للأحاديث وللضرورة أحكامها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1264 الشيخ أحمد محمد جمال: بسم الله الرحمن الرحيم ... إذا يسمح حضرات أصحاب الفضيلة جميعا أذكرهم بقوله صلى الله عليه وسلم ((يسروا ولا تعسروا)) . هذا الحديث يعطينا وسيلة أو سبيلا إلى أن نيسر ولا نعسر. ثم الإمام مالك رحمه الله أجاز سفر المرأة بدون محرم مع نساء ثقات. وأصبح هذا الأمر واقعًا في الحج والعمرة وفي سفر الطالبات لتلقي العلم، وفي سفر الزوجات فينبغي ألا ننكر هذا الواقع، الضرورة أصبحت، واقعًا متسعًا، ليس واقعًا نادرًا، واقعًا متسعًا فلماذا لا نيسر على النساء للحج وللعمرة ولسفر الضرورة إلى المستشفى للعلاج إذا كان مع نسوة ثقات؟ كما قال الإمام مالك، أجاز سفر المرأة الأجنبية مع نساء ثقات، فأنا أرى ألا نعسر وأن نيسر. الرئيس: إذا رأيتم يا مشايخ أن يكون النص: الأصل فيه المنع للأحاديث الصحيحة فتجتنبه المسلمة وللضرورة أحكام تقدر بقدرها. هل ترون هذا لأننا إذا قلنا: للضرورة أحكام تقدر بقدرها معناه: أن المسألة فيها ضيق يعني ليست المسألة مفتوحة، الأصل المنع، لكن إذا حصلت ضرورة تقدر بقدرها. الشيخ مصطفى الزرقاء: القيود التي وضعت هنا وضعت على أساس الوضع الزمني، وهذا الوضع الزمني اليوم قضية الوسائط العامة التي عرفت اليوم ولم تكن معروفة من قبل، قبل لم يكن إلا الدواب هو في هذه البراري، فهذه قيود جيدة جدًا إذا سافرت في سيارة خاصة مثلًا هذا لا يجوز أو صغيرة، ولكن بهذه الوسائط العامة التي تداركها هنا الجواب، هذه جدًا مهمة لأن الأمان حتى لو بعدت المسافات بين قارات فإن هذه الوسائط فيها أمان أكثر من يومين على ظهور الدواب. الرئيس: إذن تكون العبارة إذا رأيتم: الأصل فيه المنع للأحاديث الصحيحة فتجتنبه المسلمة، وللضرورة أحكام تقدر بقدرها إذا كان سفر المرأة بغير محرم في الجماعات الغفيرة إلى آخره. الشيخ مصطفى الزرقاء: مع نساء ثقات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1265 الرئيس: وللضرورة أحكام تقدر بقدرها إذا كان سفر المرأة بغير محرم إلى آخره، يا شيخ أظن لعلها على هذا ماشي. الشيخ طه جابر العلواني: أعد على العبارة، طال عمرك. الرئيس: الأصل فيه المنع للأحاديث الصحيحة فتجتنبه المسلمة، وللضرورة أحكام تقدر بقدرها وفي حال الضرورة فإن المجمع لا يرى مانعًا من سفر المرأة بغير محرم في الجماعات الغفيرة. الشيخ رجب التميمي: مع النساء الثقات وليس الجماعات لأن الجماعات تختلف، والله هذه فتوى تتعلق بنا صعب مع جماعات غفيرة في الطائرة فيه مائة طائرة. الرئيس: إذا كان جماعات غفيرة كلهم رجال يعني لا بد التحديد. الشيخ مصطفى الزرقاء: فضيلة الرئيس، ظاهر من اتجاهه وهذا كل ما نتمناه نحن أيضًا هو يريد التشديد في الترخيص، وهذا حق ولكن في الوقت نفسه أنا أستغرب أن النص هنا الذي بين أيدينا تضمن قيودًا ممتازة جدًا بالنسبة لوضعنا الزمني الحالي. وقضية الطائرات والقطارات والحافلات هذه فيها أمان أكثر من كل شيء آخر، ففي الوقت الذي يميل فيه فضيلة الرئيس إلى تضييق الترخيص يميل إلى حذف هذه القيود، فلا أدري كيف ذلك؟ ولعله لو بقي كما هو فهو أفضل حل، والطائرات والقطارات هذه حتى لو كان كل المسافرين فيها رجال فهي آمن على المرأة اليوم في وضعنا الحاضر أن تسافر مع جماعة غفيرة من النساء في غير هذه الوسائط. الرئيس: يكون بجانبها رجل؟ الشيخ مصطفى الزرقاء: لو بقي الأمر كما هو.. الرئيس: قصدي نحن نأتي باحتمال الوارد إذا كانت الحافلة كلها رجال فالكراسي الذي بجانبها رجل، عن يمينها رجل، وعن شمالها رجل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1266 الشيخ مصطفى الزرقاء: ممكن أن نقول على ألا تكون بين الرجال فقط. أما موضوع القطارات والطائرات وكذا وكذا هذا لا يجوز حذفه. الرئيس: أحب أقول يا شيخ أنا لهذا سبق أني ذكرت أنني لما قرأته عرفت أن هناك حوالي سبعة أسئلة يقين أنها ستكون محلًا للأخذ والرد فأنا أرى أن هذه الأسئلة التي تدور بيننا الآن نؤجلها وفي آخر الجلسة ممكن نعود إليها. دعونا نمشي في الأسئلة التي هي تقريبًا متفق عليها. نعم الثامن. الشيخ طه جابر العلواني: الثامن في إقامة المرأة وحدها: للمرأة المسلمة أن تقيم وحدها شرعًا في بلاد الغربة إذا كان المسكن مستقلًا آمنا. الشيخ رجب التميمي: ما معنى مستقلًا آمنًا؟ ومن أين الاستقلال مع الأمان؟ مسكن مستقل وحدها لا تكون آمنة، أين الأماكن؟ الشيخ طه جابر العلواني: هذا ما رأيكم فيه؟ الشيخ رجب التميمي: في بلاد الغربة ليست بين المسلمين وليست بين أحياء الإسلام. الشيخ مصطفى الزرقاء: هذا الثامن أنا لا أرى أن يباح إقامتها وحدها في بلاد الغربة ولو كان المسكن مستقلًا أبدًا. إخواني الكرام. أرى أن هذا البند الثامن بصورته الحاضرة خطير جدًا. إقامة المرأة وحدها في بلاد الغربة ولو كان في مسكن مستقل، هذا فيه منتهى الخطورة، يعني لو قطعنا النظر عن موضوع احتمالات الفساد الممكنة بمختلف الطوارئ والصور والتقلبات التي لا نعرف ماذا تصادف المرأة في غربتها. هناك أيضًا قضية السطو، يعني مثلًا اليوم في بلاد الغربة امرأة وحدها في بيت مستقل للصوص. ولهذا هي مطمع بهذا الشكل للصوص الأموال والأعراض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1267 الرئيس: على كل، هل ترى إرجاءه أو تعديله؟ الشيخ مصطفى الزرقاء: إقامتها وحدها لا نجوزها أبدًا. الرئيس: إذن يرجأ يا شيخ طه. الشيخ تجاني صابون: أنا أرى لا داعي للإرجاء، الموضوع واضح كيف يمكننا أن نبيح لامرأة أن تسكن أو أن تقيم وحدها في دولة أجنبية في بيت وحدها لماذا نرجئ هذا الأمر الواضح؟ نقول: لا، وخلاص. الرئيس: إذا اتفقتم على: لا، أو اتفقتم على: نعم، الرأي رأيكم. الشيخ أحمد بازيع الياسين: نحن في الحقيقة في الكويت عندنا ممنوع قانونا، هذا قانونا. الشيخ رجب التميمي: يمنع. الرئيس: حتى في المملكة ممنوع أن المرأة وحدها تقيم. الشيخ رجب التميمي: أرى أن الحكم هو المنع وليس كل سؤال يأتينا سنجاوب عليه ونتحايل على الإجازة، فيه أسئلة الجواب عليها هو المنع. الشيخ محمد عبده عمر: أنا مع رأي الشيخ مصطفى هو المنع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1268 الشيخ مصطفى الزرقاء: أقترح أن يحذف. الشيخ رجب التميمي: بالتصريح بالمنع، ولا يوجد ضرورة هنا. الشيخ تقي الدين عثمان: سدا للذريعة. الرئيس: طالما أن الاتجاه للمنع إذن لا يجوز للمرأة المسلمة أن تقيم وحدها شرعًا في بلاد الغربة. الشيخ رجب التميمي: هذا هو الجواب. الشيخ طه جابر العلواني: إلا للضرورة أو بدون؟ الرئيس: يا شيخ مصطفى التدليل المجمل على المنع لما يحف به من المخاطر. الشيخ مصطفى الزرقاء: ولا شك سد الذرائع. الرئيس: لما يحف به من المخاطر. التاسع. الشيخ طه جابر العلواني: إلا للضرورة؟ الرئيس: لا. دع الضرورة، هو فيه نية الضرورة إذا حصلت تقدر يا شيخ. لا نريد قراراتنا كلها ضرورة، ضرورة، أن الضرورات تقدر بقدرها يا شيخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1269 الشيخ مصطفى الزرقاء: الضرورات مدلولها النصوص العامة. الرئيس: التاسع. الشيخ طه جابر العلواني: إن حجاب المرأة المسلمة عند جمهور العلماء هو ستر جميع بدنها عدا الوجه والكفين إذا لم تخش فتنة فإن خيفت فتنة وجب سترهما أيضًا. الرئيس: هذا طيب فيه توسط بين الخلاف. الشيخ طه جابر العلواني: السؤالان العاشر والحادي عشر: العمل في المطاعم التي تقدم فيها المحرمات: للمسلم العمل في مطاعم الكفار بشرط أن لا يباشر بنفسه سقي الخمر أو حملها أو صناعتها أو الاتجار بها، وكذلك الحكم بالنسبة لتقديم لحوم الخنزير وغيرها من المحرمات. الشيخ رجب التميمي: هنا إذا أبحنا الجواب بحالته الواضحة يبقى أن المسلم إذا لم يباشر ذلك ينظر إلى الخمر وينظر إلى المحرمات لأنه يشتغل في نفس المطعم، ولا شك أن الأحاديث لا تبيح النظر للخمر، ولذلك بشرط أن لا يباشر بنفسه المنع إذا كان في المطعم خمر أو خنزير والرزق على الله. الشيخ وهبة الزحيلي: لا يوجد حديث يحرم النظر إلى الخمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1270 الشيخ محمد سالم بن عبد الودود: دائمًا في حدود المدرسة نحن عندنا عمل المسلم للكفار إذا كان المسلم في عمل حرام هو حرام ويفسخ العقد إذا عمل لم يستحق الأجر بل يتصدق به لا يبقى للكافر ولا يملكه المسلم، إذا عمل عملًا مباحًا ولكن كانت يد الكفار جارية عليه ومختصًا به يعمل في محل الكافر والكافر يختص بهؤلاء ويعمل الكافر ويد الكفار جارية عليه، فهذا قريب من الحرام ويعبرون عنه بالمحظور. وإذا عمل عملًا مباحًا والعمل فيه للكافر والمسلم وليست عليه يد للكافر ولكن يعمل في محله فهذا مكروه. الشيء الوحيد الذي يجوز من عمل المسلم للكافر على وجه الإيجار أن يعمل عملًا مباحًا في مكانه من غير أن يختص به الكافر ولا أن تجري عليه يده. الرئيس: الذي يظهر والله أعلم، أن الجواب مقبول لأنه إذا عمل لدى الكافر لم يخدمه في دينه. وهنا السؤال في المطاعم فقط، وهو في هذا المطعم لم يقدم خمرًا ولم يقدم له خنزيرًا ولم يقدم له محرمًا. الشيخ طه جابر العلواني: سيدي في هذه الحالة، أمنع الزراعة لأن الحنطة بتاعتك تصير خبزًا ويأكلها الكافر والخروف الذي تربيه ممكن أن يذبح ويأكله الكافر. الرئيس: على كل الذي ترون فيه الخير، لكن أنا والله أعلم، طالما أنه لا يقدم محرمًا في الشريعة وهو تسليم منكم بجواز إقامته لدى الكفار، فما دام وجوده بين الكفار وبين ظهرانيهم جائزًا، فمن باب أولى أن يجوز أن يشتغل في عمل ليس فيه محرم شرعًا والمحرمات لا يصير موظفًا فيها ولا يؤيد فيها خدمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1271 الشيخ محمد عطا السيد: سيدي الرئيس، أنا أرى بأنه حتى لو رأينا أنه فيه ضرورة اقتضت وجوده بين الكفار لا أوافق أن يعمل في مطعم فيه الخمور وهو يرى ذلك وأنا أرى أن الأرض لم تضق بالمسلم للدرجة التي لا يجد فيها رزقًا إلا في مثل هذه الأعمال. الشيخ وهبة الزحيلي: الملاحظ في أغلب هذه الأسئلة أنها في ديار الكفار ونحن نعيش الآن في رفاه يمر طلاب كثيرون من الجاليات الإسلامية في تلك البلاد تنقطع عنهم المرتبات ويكادون أن يبقوا في الشوارع فلا يلجأون لمثل هذه الأمور غالبا كل هذا الأسئلة ملحوظ فيها الضرورة القصوى عموما هذه في بلاد الطلاب أحيانًا، ماذا يفعل هل يرتكب الحرام الصريح أم نجد له مساغًا فيه شيء من الإباحة وقد أباحه بعض الفقهاء؟ الرئيس: يا شيخ وهبة، لو لم تكن هذه الأسئلة والأجوبة في هذا المحيط الذي هو في محيط بلاد الكفر، في الواقع بالنسبة لي وعد ذلك الرأي رأيكم ما تسامحنا في كثير مما مر ومما سيأتي، هذا الواقع، أنا أقول لكم بصراحة إن حجاب المرأة المسلمة الذي أدين الله به أنه يشمل الوجه والكفين، وأن النصوص صريحة صحيحة في هذا. وأن جماعة المحققين من أهل العلم على هذا. لكن في جنس هذا المحيط وفي جنس هذه البلاد التي العري هو سنتها وطريقتها وجادتها يعني إذا وجد امرأة ساترة لجميع بدنها ما عدا الوجه والكفين هذه تعد ... الشيخ رجب التميمي: مظهر طيب. الرئيس: فعلى كل هل ترون يرجأ حتى نعود إليه في آخر الجلسة، هذا السؤال أو يلغى أو يرجأ مرة واحدة، أو يترك؟ الشيخ عبد الله بن بيه: هذا. أعتقد يترك هذا السؤال صحيح بحاله هذا نظر كما تفضلتم للمحيط، ولا ينبغي أن نتوقف فيه مطلقًا، هو يعيش في هذه الظروف، يعيش مع الكفار، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش في مكة يدخل عند الكعبة وفيها الأصنام وأنه لا يستطيع تغييرًا لذلك. هذه المسألة لا ينبغي أن نتوقف فيها مطلقًا. الشيخ عبد الله بن بيه: كل هذا عند الحاجة. كل هذا بسبب الحاجة. الرئيس: والله إن رأيتم يمكن هذا القيد يخلص المسألة. للمسلم عند الضرورة، هو ما أحد يشتغل إلا وهو محتاج، أقول: ما أحد يشتغل إلا وهو محتاج مهما كان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1272 الشيخ الصديق الضرير: يعمل بمطاعم الكفار إذا لم يجد عملًا في غيرها. الرئيس: إذن ضرورة. الشيخ رجب التميمي: إذا لم يجد عملًا في غيرها، إذا لم يجد عملًا آخر. الرئيس: هو طيب يا شيخ، يا شيخ طه، للمسلم إذا لم يجد عملًا آخر مباحًا شرعًا العمل في مطاعم الكفار إلى آخره. الشيخ مصطفى الزرقاء: بدون كلمة "آخر" إذا بدئي بها ذكر الكلام، إن المسلم إذا لم يجد عملًا آخر ما تقدم شيء نقول "آخر" إذا لم يجد عملًا مباحًا. الرئيس: اسمع يا شيخ، للمسلم إذا لم يجد عملًا مباحًا شرعًا العمل.. إلى آخره الثاني عشر. الشيخ طه جابر العلواني: الثاني عشر: في الأدوية المشتملة على الكحول: للمريض المسلم عند الحاجة تناول الأدوية المشتملة على نسبة من الكحول إذا لم يتيسر دواء خال منها ووصف ذلك الدواء طبيب ثقة أمين في مهنته. الشيخ رجب التميمي: أنا أرى أنه لا يجوز لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا شفاء في النجس)) والأدوية التي تختلط بالكحول أصبحت نجسة. الشيخ عبد الله بن بيه: بسم الله الرحمن الرحيم.. مسألة الخمور ينبغي أن تقيد بالضرورة القصوى لما تعلمون أن كثيرًا من الفقهاء قالوا: لا يجوز التداوي بها مطلقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((إنها داء وليست دواء)) ولأجل ذلك قال بعض العلماء: لا يجوز التداوي بها مطلقًا. وقال بعضهم: يجوز التداوي لغصة. فهو لا بد أن تكون الضرورة شديدة يخاف على نفسه منها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1273 الرئيس: ولهذا الخمر لغصة مقررة في مذهب الحنابلة كذلك، فإذا رأيتم يقال: للمريض المسلم عند الضرورة. الشيخ عبد الله بن بيه: للضرورة الشديدة ليست للضرورة فقط. الشيخ طه جابر العلواني: يبدو أن المشايخ لم ينتبهوا للسؤال جيدًا. السؤال ليس في الخمر إطلاقًا السؤال في الأدوية التي تشتمل على شيء من كحول والأدوية المشتملة على شيء من كحول معظم الأدوية 95 % من الأدوية التي نتناولها للسعال وللكحة وللإنفلونزا وللصداع. الرئيس: الحقيقة، طالما أنا في نظري أنه مقيد بالأدوية ما هو شراب، قال: الأدوية المشتملة على الكحول فأنا أرى أن الجواب كاف حتى في نظري أنا أرى أنها لو حذفت عند الحاجة لو حذفت لا أرى بها بأسًا. الشيخ عبد الله بن بيه: لا يمكن أن تحذف لأن ما أسكر كثيره فقليله حرام. الرئيس: إذا صار دواء، الكحول نسبي، الكحول في هذا الدواء نسبي هذه العمليات الآن ما تعمل إلا بالبنج، تبنيج، تخدير، تسكير للبدن كامل خمسة ساعات وهو سكران. الشيخ رجب التميمي: ما أسكر كثيره فقليله حرام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1274 الرئيس: ما تستطيعون أن تطبقوه يا شيخ، النزول في ساحة العمل شيء والتقدير على الكراسي شيء آخر، نحن نعاصر هذا الشيء ونعرفه يقينًا، أنا لما لفت نظرنا الشيخ طه أن السؤال أن الأدوية المشتملة على الكحول فأنا أرى الذي ترون فيه الخير لكن أنا أرى أن الجواب ماشي. الشيخ محمد عبده عمر: بسم الله.. هو السؤال واضح عند الحاجة تناول الأدوية المشتملة على نسبة من الكحول وليس على كل كحول، على نسبة من الكحول. الرئيس: لا، المشتملة على كحول، وتحذف الألف واللام. الشيخ محمد عبده عمر: بمعنى أنها على نسبة من الكحول. يعني نسبة صغيرة. الرئيس: خلاص هذا الجواب طالما أنه في الجواب يكفي. الشيخ عبد الله بن بيه: يبدو سيدي الرئيس أنكم اطلعتم على شيء يرخص إن شاء الله أحسن مما اطلعنا عليه والله أعلم لأننا نحن نعرف العلماء شددوا كثيرًا بسبب هذا الحديث ولعلكم اطلعتم على مواقف، والله أعلم. الشيخ خليل الميس: حضرة الرئيس أظن إجابات في مثل هذه البساطة من مجمع كهذا غير مناسبة. الرئيس: لا أصلًا يا شيخ قد يظهر، هو سيعرض عليكم رأي في آخر الجلسة، وهو أن هذه الاستفسارات توجه بخطاب من أمين المجمع إلى مدير المركز لأنها عرضت على المجمع وقرر فيها ما يلي أو رأى فيها ما يلي. فهذا ليس قرارًا بمعنى القرار الذي يرفق مع القرارات لكنه يكتسب صفة الشرعية. ما فيها شيء ماذا فيه؟ نحن نجتهد بقدر ما يسعنا وهؤلاء في حاجة، والحمد لله أنه يوجد في هذه البلدان من يلجأون إلى علماء المسلمين ويتلهفون إلى معرفة الوجه الشرعي، فإذا أخطأنا في سؤال أو سؤالين فيه شيء ما زال العلماء سلفًا وخلفًا يخطئون إذا تبين رجعنا فيما بعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1275 الشيخ خليل الميس: ألا ترون أن لكل إجابة من هنا أن يكون لها ملف أيضًا عندنا لأنه فعلًا، أنا في الإجابة الأول كاتب 22 صفحة موجودة لكن ما لحقنا نطبعه، والذي هي زواج المسلمة من غير المسلم أو إسلام الزوجة الكتابية تحت الكفر 22 صفحة ولم أخلص منها لأنه لا بد، عفوًا، إنما مجمع في مثل هذا المستوى العلمي لا بد أن يكون له مذكرة تفسيرية لكل سؤال. الأمين العام: سيدي إذا سمحت. كل الموضوعات المطروحة عليكم في هذه الجلسة وبخاصة بالنسبة للموضوعات التي ترجع إلى استفسارات الإخوان في المركز الإسلامي بواشنطن لها ملفاتها، وهذه الملفات محتفظ بها في المجمع وكل ملف يحتوي على دراسات لا على دراسة واحدة وهذا الذي قدم إلينا من طرف الشيخ محيي قادي ومن طرف بقية الإخوان في السنة الماضية وفي هذه السنة دليل على ذلك، والقضية ترتيبية، هذا راجع لنظام المجمع أما الذي نحن فيه فهو صدور فتوى في هذه المسائل المعروضة عليكم والتي بحثناها بحثًا مستفيضًا. الرئيس: المهم هذا السؤال: هل ترون أنه يرجأ أو يبت فيه؟ خلاص يبت فيه على ما هو محرر، نعم، الثالث عشر، أنا أرى هذا التحرير في الجواب بناء كلام الشيخ طه أنه بوجود هذه النسبة في الأدوية منتشرًا في دواء الكحة في دواء الزكام في دواء كذا. الشيخ طه جابر العلواني: السؤال الثالث عشر: مواد الكيك ونحوه: يحل للمسلم استعمال الخمائر والجلاتين المأخوذة من الخنازير في الأغذية إذا تحققت الاستحالة. التحول من عين إلى عين أخرى قادرة والخمائر والجلاتين المتخذة من النباتات أو الحيوانات المذكاة شرعًا أولى وأبعث عن الريب والشبه. الرئيس: والله، أما في الخمائر والجلاتين المأخوذة من الخنازير فهذه أنا عندي توقف فيها على طول الخط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1276 الشيخ رجب التميمي: هذا شيء محرم الشيخ محمد عبده عمر: في الواقع يا شيخ لو سمحت في الصياغة يقول: إذا تحققت الاستحالة التحول من عين إلى عين آخر، إذا تحققت الاستحالة لا ينسجم. الرئيس: وهذا ينبغي يراقبها حتى تستحيل. الشيخ محمد عبده عمر: لا، كلمة الاستحالة هذه لأنها صارت العكس. الرئيس: إذا رأيتم أنه يؤثر على النباتي. الشيخ عمر جاه: أنا معك يا فضيلة الرئيس. الشيخ محمد عطا السيد: سيدي الرئيس في الحقيقة أحب أذكر: أنا من الناس الذين مكثوا في الولايات المتحدة لعدة سنوات، وأذكر أن الطلاب المسلمين وكثيرًا جدًا من المسلمين في الولايات المتحدة متمسكون بدينهم أشد تمسك وصدق بأن أعدادًا كبيرة منهم أحيانًا يحرصون على دينهم والتمسك بدينهم حتى المسلمين من الأمريكان إخواننا الأمريكان السود متمسكون بدينهم أشد تمسك، ولذلك فرضوا الآن على الشركات التجارية في الولايات المتحدة أن تنتج منتوجات تكتب عليها خالية من منتجات الخنزير وغيره من هذه الأشياء، أنا أثرت هذه النقطة يا سيدي الرئيس بالذات لكي أثنى على نقطة الأخ ممثل الجمهورية اللبنانية بأنه لا زلت أذكر بأنه لا بد من التمسك الشديد بالأحكام الشرعية في هذه المسألة، ولا يلبس علينا أننا نعالج قضية طلاب في أمريكا، ولذلك يجب أن نتساهل معهم غير هذا التساهل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1277 الرئيس: أظن أنه ما فيه شك أن دين الله للجميع لا يختص به ناس دون ناس لكن فيه بعض الأشياء ربما يحصل الإنسان شيء من التجوز طالما أن فيها خلافًا مشهورًا أو خلافًا مشهورًا قويًا أو ضرورة قائمة لكن في مثل هذه الأشياء مواد الكيك الحقيقة يعني أن أعرف. الشيخ رجب التميمي: ليست فيها ضرورة. الرئيس: أنا لا أستطيع أن أقرر فيها شيئًا لا أعرف حقائق هذه الأشياء. الأمين العام: القضية هذه عرضت في كثير من البلاد الإسلامية وفي البلاد الأمريكية والأوربية، والمسلمون أجمعوا في هذا العصر، وصدرت في ذلك فتاوى عديدة بأن الأشياء التي لها بديل مثل النباتات أو الحيوانات المذكاة يمكن أن يصنع منها الجلاتين وما إلى ذلك. فإذا وجدت فنحن نأخذ بهذا فإن لم توجد فالقضية ليست ضرورية. لنا أن نترك الكيك ونأخذ غيره فهو ليس أمرًا ضروريًا، ولهذا نعود إلى صياغة هذا الجواب بالنسبة للسؤال الثالث عشر ونتركه إلى آخر الجلسة. الرئيس: يوضع في أوله: لا يحل. الشيخ عمر جاه: تحذف كلمة الجلاتين المأخوذة من الخنازير ونبقي الباقي. الرئيس: نحن نكتب: لا يحل للمسلم استعمال الخمائر والجلاتين المأخوذة من الخنازير في الأغذية إذا تحققت، تحذف، يا شيخ طه العبارة: لا يحل للمسلم استعمال الخمائر والجلاتين المأخوذة من الخنازير في الأغذية، أحذف الذي بعدها ثم تقول: وفي الخمائر والجلاتين المتخذة من النباتات أو الحيوانات المذكاة شرعًا غنية، هذا ما فيه نجوزها يا شيخ هل في هذا حرمة؟ أنا أسألكم الخمائر المتخذة من النباتات هل يعتريها شيء من الحرمة؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1278 الشيخ رجب التميمي: لا.. لا. الرئيس: خلاص لماذا نقول يجوز؟ نقول: وفي الخمائر والجلاتين المتخذة من النباتات أو الحيوانات المذكاة شرعًا غنية عن ذلك. الشيخ محمد عطا السيد: سيدي الرئيس ما عدا نقطة واحدة. العنوان واضح كيف مواد الكيك وغيره الوارد في رأس الموضوع يمكن حذف هذه المسألة مواد الكيك وغيره، يمكن حذف هذه الكلمة حتى يكون الحكم شاملًا لكل الأشياء. الرئيس: كيف تصير صيغة السؤال؟ الشيخ محمد عطا السيد: لا مواد الكيك الموضوعة في بداية الإجابة مواد الكيك كان هذه المسألة قاصرة على الكيك. الرئيس: كيف ترى صيغة السؤال؟ الشيخ محمد عطا السيد: أنا أوافق على الصيغة يا سيدي. الرئيس: هذا في السؤال الكيك في السؤال ليست في الجواب. الشيخ محمد عطا السيد: لكن سؤالي يا سيدي الرئيس: هل هذه الإجابة مقتصرة على الكيك فقط؟ الرئيس: وغيره، ونحوه، عندك ونحوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1279 الشيخ محمد عطا السيد: لكن أنا فضلت لو حذفت كلها ويصير الحكم كما هو. الرئيس: ماذا يقال في السؤال سلمك الله؟ ماذا يقال في السؤال؟ أعطنا صياغة السؤال. الشيخ محمد عطا السيد: أنا في رأيي فقط أن الإجابة تكون كما هي، لا يحل للمسلم استعمال الخمائر والجلاتين إلى آخره، ما حببت أن الموضوع يكون فيه ذكر نوع معين من الأغذية. الرئيس: نحن ما وضعنا نوعًا معينًا لكن هذه في السؤال، العنوان الرابع عشر. الشيخ طه جابر العلواني: الرابع عشر: عقد النكاح والاحتفالات في المساجد: يندب عقد النكاح في المساجد ولا تجوز إقامة الحفلات فيها إذا اقترنت بمحظور شرعي كاختلاط الرجال بالنساء وتبرجهن أو الرقص والغناء. الشيخ محمد عبده عمر: الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. الاحتفالات في المسجد، العقد نعم يندب العقد، لأن العقد مقدس يندب العقد أنه يكون في مكان مقدس مثل المسجد، هذا نعم، مسألة الاحتفالات في المسجد سواء إن كانت بمحظور أو ليست بمحظور لا تجوز قطعًا. لأنه فيه استخفاف بقدسية المكان. الرئيس: أليس الحبشة كانوا يلعبون يوم العيد في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، يلعبون بحرابهم؟ الشيخ محمد عبده عمر: هذا كان من الجهاد. أين هذا من هذا؟ لا وجه للقياس. الرئيس: ثم أنا الذي فهمت من الشيخ طه على أن المسجد بالنسبة للبلدان هذه أنهم لا يجدون متسعًا. كذا يا شيخ وإلا لا. الشيخ طه جابر العلواني: نعم المسجد هناك كل شيء بالنسبة لهؤلاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1280 الرئيس: إذن ينبغي لك في السؤال نفسه، في السؤال تصوغ السؤال بما يفيد الظرف الذي يعاش فيه. الشيخ طه جابر العلواني: واضح طال عمرك أني جايب أسئلة من أمريكا. الرئيس: لا ما علينا نقول عقد النكاح والاحتفالات في المساجد حيث إنهم لا يجدون مكانًا يتسع. الشيخ محمد عبده عمر: يا سيدي إذا فتحنا هذا بفتوى مجمعية باكر تنتشر في جميع العالم الإسلامي بفتح مجال ليس فيه مصلحة للمساجد في جميع العالم الإسلامي. الشيخ محمد عبده عمر: الشيخ طه جابر العلواني: يا شيخ عبده، أعتقد أنه ليس في اليمن وإنما في أمريكا، أعتقد.. الشيخ محمد عبده عمر: ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. الشيخ وهبة الزحيلي: وقف المسلمين بالمسجد فيه مصالح كثيرة عندهم، يعني إلى ماذا يعمر المسجد ويشاهدون المصلين جماعات وما إلى ذلك. الرئيس: ما دخلوا لأجل أن يشاهدوا المصلين يا شيخ هم قالوا لنا: ما وجدوا مكانًا يحتفلون فيه لكن الحقيقة نحن إذا نظرنا إلى أمور نظرنا إلى قضية الجلوس المجرد عن العبادة في المسجد فهو جائز، وإذا نظرنا إلى الأكل والشرب في المسجد فهو جائز، هذا لا إشكال في الأمور هذه، وإذا نظرنا إلى دخول الرجال والنساء متحجبات وغير مختلطين، وليس هنا يحف به رقص ولا غناء. وفي أمريكا وفي مثل هذه الظروف والله الذي ترون فيه الخير لكن الذي لا يظهر لي مشكل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1281 الشيخ محمد عبده عمر: يا سيدي اسمح لي. المسألة فيها كلمة: احتفال، والاحتفالات ما معناه اختلاط الرجال والنساء، ومعناه الزغاريد ومعناه فوضى في المسجد. الرئيس: يا شيخ طه كلمة: احتفال تغير، لكن الحقيقة أن العرف قيدها، حفلة الزواج أو شيء من هذا القبيل. الشيخ عبد الله بيه: يعني أقول: ولا تجوز الاجتماعات في المساجد. الرئيس: هذا معنى كلامه. الشيخ محمد عبده عمر: لا ممكن نقول: إذا كان في المسجد زاوية معينة لا يصلى فيها، يعني حاجة مرفقة في المسجد. الأمين العام: قضية الجواب اتفقنا عليه من زمان. الجواب اتفق عليه، الذي اختلف فيه هو تحديد الظرف والشكل الذي يقع في أمريكا وعندئذ لو أضفنا قلنا: عقد النكاح والاحتفالات في المسجد كما يقع في أمريكا، هذا هو السؤال. والجواب قد حرر بعد لم يبق فيه أي تغيير. إذا قلنا يندب عقد النكاح في المسجد ولا تجوز إقامة الحفلات فيها إذا اقترنت بمحظور شرعي كاختلاط إلى آخره. عقد النكاح في المساجد كما هو في أمريكا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1282 الشيخ محمد عبده عمر: يا شيخ، هذه فتوى مجمعية تنتشر في جميع أنحاء العالم الإسلامي ولا يقيد في بلد معين. الأمين العام: يا سيدي الأسئلة جاءت من جهة معينة ونحن سنجيب هذه الجهة. الشيخ محمد عبده عمر: لكن الفتيا ملك الجميع. الأمين العام: عندما نكتب الفتوى الطويلة العريضة التي تشتمل على الأدلة لتكون مودعة في أطراف الدنيا نكتبها بالشكل الذي أردتم. الشيخ محمد عطا السيد: سيدي الرئيس، أنا أحب أن أذكر أعضاء المجمع بنقطة واحدة، وجائز الدكتور طه يوافقني فيها، ليس في أمريكا مشكلة بالنسبة للمسلمين أن يقيموا احتفالاتهم في أي مكان والدكتور طه يعلم أن المسلمين كانوا يقيمون اجتماعاتهم وتلاوة القرآن والمحاضرات الدينية كلها في بقاع كبيرة جدا بالجامعة في أماكن مختلفة. المسلمون لا يتصور حاليا في أمريكا كأنهم محصورون في المسجد ولا يستطيعون إقامة اجتماع في غير المسجد. هذا غير صحيح. الشيخ طه جابر العلواني: أنت تعرف وكل من هناك يعرف أن المسجد بالنسبة لأية جالية مقيمة هناك يعتبر مكان دراستهم وتجمعهم ولقائهم وأنشطتهم. نعم يوجد " كومنتن سنتر " مثلا يكون فيه مراكز وفيه حدائق كل شيء لكن من أجل أن تربط أبناء المسلمين في المسجد ولأجل أن تجعل. الرئيس: لا، يا شيخ طه. كلمة: من أجل أن تربط أبناء المسلمين في المسجد، أرجو إذا كانت هذه هي التعليل القائم فنحن نقول: لا، لا حاجة إلى السؤال. الشيخ طه جابر العلواني: اسمح لي أكمل فقط، والصورة المتفق عليها بيني وبين الدكتور عطا نعم موجودة، هناك أماكن كثيرة جدا لكن المسجد يعتبر المكان الأهم بالنسبة للمسلمين خاصة في هذه المناسبات. نعم هناك جاليات كبيرة أمامها متسع لكن هناك جاليات لا تملك إلا المسجد يعني 10، 15 بيت مسلمين لا يملكون إلا المسجد يقيمون فيه كل شيء ونحن في مقام فتوى لمثل هذه الحالات الخاصة التي تحدث فيها هذه الأمور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1283 الشيخ محمد عطا السيد: أنا ما مانعت أن المسلمين يقيمون نشاطاتهم المختلفة في المسجد وحتى يعقد عقد النكاح في المسجد لا أمانع في ذلك ولكن في موضوع الحفلات إذا اقتصر ذلك على توزيع المرطبات أو الكيك أو بعض الأشياء فلا بأس من ذلك، هذا هو، أنا أقبل بذلك ولكن أي تجاوز قد يؤدي إلى أن يكون فيه أي نوع من الأشياء الأخرى. الشيخ طه جابر العلواني: يا أخي الفتوى مقيدة تماما اقرأها يا دكتور عطا. الرئيس: في الواقع، يا شيخ طه، أنا بدا لي سؤال بسيط. الآن إقامة مثلا على سبيل المثال، إقامة المسلمين لأمثال هذه الحفلات في المساجد في أمريكا ألا تكون محل تندر من أهل الكتاب هناك، أو من الكفار هناك، بأن هذا فيه نوع امتهان لشعائر المسلمين ويقولون انظروا إلى المسلمين كيف يمتهنون أماكن شعيرتهم. الشيخ طه جابر العلواني: أبدأ نحمد الله ونشكره أن أهل الكتاب يحترمون المسلمين وأماكنهم بالنسبة لهذه الأمور لأنه فعلا تعتبر أماكن نموذجية بالنسبة لما يجري حولهم ولما يدور في الكنائس على أن المسلمين في الغالب هذه الاحتفالات كانت في بعض المساجد في بعض الأماكن يخالفه الكثير من الريب إلى أن طهرت لكن الآن يقتصر الأمر على حفل نكاح يجري عادة في الحفل ضرب دفوف وشيء من اختلاط أو الزغاريد، ونحو هذا بعض الناس يتحرجون منه، بعض الناس يقولون: لا لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وأنه كان يأمر بأن يغنى في النكاح للبنات الصغيرات أو الأولاد أو شيء من هذا، فهذا الأمر مثار خلاف، أنتم ماذا تقولون فيه لحسم هذا الخلاف؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1284 الرئيس: يعني يجري غناء وزغاريد في المسجد؟ الشيخ طه جابر العلواني: ممكن. الرئيس: لا، لا، إذا كان شيء من هذا فنحن، لكن لماذا لم تعطنا الصورة واضحة في السؤال هذا؟ الشيخ طه جابر العلواني: أنا أعطيتك الصورة الواضحة ولذلك تحوطت وقلنا: ولا تجوز إقامة الحفلات فيها إذا اقترنت بمحظور شرعي كاختلاط الرجال والنساء وتبرجهن والرقص والغناء فماذا يراد أكثر من هذا التحوط؟ الشيخ عمر جاه: أعتقد أنني أتكلم عن تجربة شخصية، أنا عشت في أمريكا الشمالية لفترة زمنية طويلة وأعرف أن مفهوم الاحتفال الذي يشير إليه السؤال هو احتفال قد يكون احتفالا بصيغة دينية أكثر مما هو بترفهٍ، فكما أشار الأخ عطا السيد أن هناك أماكن متوفرة لإقامة الحفلات، صحيح، لكن عقد الزواج في المسجد ومفهوم المسجد عندهم قد لا يكون نفس البناء الذي نفهم في خارج هذه المنطقة. إذن بعد هذه التحذيرات وهذه الاستثناءات القوية في هذه الإجابة أعتقد أننا يجب أن نتبناها ونستمر في عملنا. الشيخ أحمد بزيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم.. في الحقيقة عقد النكاح مثل ما تفضلتم يندب في المساجد، إنما الحفلات أخشى أن يتوسع فيها إلى ما لا يليق. هذا في الحقيقة هو ما أخشاه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1285 الرئيس: والله هذا الذي نخشاه. الشيخ أحمد محمد جمال: يا سيادة الرئيس.. ويا حضرات الأعضاء.. والحكم هنا مقيد قال: ولا يجوز إقامة الحفلات إذا اقترنت برقص وغناء وتبرج واختلاط. يعني ما هناك أي حرج ما أبغي أي محظور. لا ينبغي التوقف بهذه الصورة عند هذا الحكم. الشيخ طه جابر العلواني: التسمي بأسماء غير إسلامية: يجوز للمسلمين في البلاد التي تفرض حكوماتها على المسلمين التسمي بأسماء تختارها إذا خلت من شرك أو تبرك بما ينافي العقيدة الإسلامية أو تحريف لاسم معظم في الإسلام له حرمة. فإن لم يكن إلا ذلك، حمل الاسم المفروض عليه رسميا على أن يتخذ اسما آخر غيره ينادى به في بيته وبين خاصته. الشيخ محمد عبده عمر: يا سيدي لو سمحت في السؤال الذي قبل هذا أسجل تحفظي أنا متحفظ على هذه الإجابة. الشيخ يوسف جيري: بسم الله الرحمن الرحيم.. سيدي الرئيس بالنسبة لهذا السؤال الخامس عشر التسمي بأسماء غير إسلامية، الحقيقة أن مسألة الأسماء الإسلامية تحتاج إلى تعريف محدد وخاصة بالنسبة للبلاد التي الأسماء فيها غير عربية في الأصل، لأننا في الحقيقة في بلادنا نجابه بنوع من الوضع المؤسف حيث إننا نلاحظ من بعض الناس يدخلون الإسلام، نلاحظ أن اسمهم مثلا وعلى لغة من لغاتنا. وهذا يعني الشبل فنحن نطلب من هذا الشخص لحرمة الإسلام أن يرضى بأن يغير اسمه إلى اسم إسلامي. وهذا في أغلب الأحيان ما نلاقي فيها أية صعوبة. لكن إذا رجعنا إلى بلاد إخواننا العرب المسلمين نلاحظ أسماء ربما تكون مترجمة حرفية لهذه الأسماء مثل شبل مثل نمر وما شابه هذا، فلهذا لا أقول: إن هذه الأسماء العربية محرمة لم أقلها إنما أقول: إننا نحتاج إلى تعريف دقيق لما يسمى بالأسماء الإسلامية. شكرا سيدي الرئيس. الرئيس: هذا موجود عندكم في أمريكا يا شيخ طه؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1286 الشيخ طه جابر العلواني: هذا في البرازيل ويوغوسلافيا موجود. الرئيس: يعني للمواطنين المسلمين الذين في تلك البلاد؟ الشيخ طه جابر العلواني: نعم، وفي بلغاريا أيضا نجد فيها هذا. الرئيس: والله، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ماذا يعمل الناس طالما أنه هذا هو بلده زيادة على هذا مثلا في البرازيل في بلغاريا بلده وفرض عليه الشيء هذا فرضا وطالما أنكم جعلتم بديلا لاستعماله مع أي مسلم من أهل بيته وغيرهم. الذين ترون فيه الخير إن شاء الله. الشيخ محمد عطا السيد: أنا لا اعترض عليه. الشيخ رجب التميمي: الجواب صحيح. الرئيس: المهم سؤال: هل ترونه يمشي أو لا؟ مناقشون: يمشي .... يمشي. الشيخ إبراهيم بشير الغويل: هل من المناسب مثل هذه الإجابة الآن والمسلمون في بلغاريا يواجهون ما يواجهون؟ هل من المناسب الآن أن يصدر عن المجمع مثل هذا الرأي؟ الرئيس: لكم علاقة في بلغاريا يا شيخ طه؟ الشيخ طه جابر العلواني: لا، لكن هذا ورد لنا وعرضناه عليكم. الشيخ إبراهيم بشير الغويل: أنا بأحكي على موضوع آخر، المؤتمر الإسلامي، وجهات عديدة تضغط الآن على بلغاريا لكي توقف عملية تغيير الأسماء، هناك ضغط من كافة الحكومات الإسلامية على بلغاريا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1287 الرئيس: والله، أنا أقو لو يترك هذا السؤال كلية لأن الحقيقة هو أن المسألة لو صارت اختيارا لا شك أننا نؤكد أن الاسم يصير متمحضا في الإسلام متمحضا في العروبة متمحضا في حسن الاسم هذا لا إشكال، لكن في جنس هذا الظرف الحرج مسلمون يضطهدون في بلادهم ونروح نفتيهم في اسمهم. أنا إذا رأيتم تركه فهو أولى. الشيخ رجب التميمي: الأفضل تركه. الشيخ مصطفى الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم ... فضيلة الرئيس ... ومعالي الأمين العام. إنا لا أرى مسوغا لأن يصدر رأي إيجابي ولا سلبي في هذا الموضوع. أرى يترك، وأقول في هذه المناسبة: لا شك أنكم تعرفون أن من الفقهاء في المذاهب، المذهب الحنفي كثيرا ما يطرحون مسائل ويقولون هذه يمكن أن يفتى بها بكذا بالجواز، ولكن يفتى بصورة خاصة ولا يعلن. الشيخ أحمد بازيع ياسين: بهذه المناسبة أحب أبين معلومة لمجمعكم الموقر بأن في بعض البلاد الإسلامية المبشرون إذا تنصر المسلم يقولون له: لا تغير اسمك ابق على اسمك الإسلامي، محمد، أحمد، عبد الله، عبد الرحمن، ولكن على عقيدة النصارى وهذا من المكائد فيجب علينا أن ننتبه لهذا. الرئيس: عندكم شيء من هذا يا شيخ طه ... إذن الخامس عشر يحذف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1288 الشيخ محمد عطا السيد: ملحوظة أيضا بسيطة جدا لذكر الدكتور طه. أنا فقط أذكر ملحوظة لأنه توجد أسماء حتى في البلاد الغربية مشتركة بين الإسلام وبين المسيحية. الرئيس: لكن نحن حذفناها. رجائي يا شيخ نحن حذفناها. الشيخ محمد عطا السيد: أذكر طه فقط يا سيدي الرئيس إنما أذكره لعله إذا ما سئل في هذه المسألة أن يفتي بها، إنه فيه أسماء مثل زكريا مثلا، مثل مريم، مثل موسى مثلا، مثل هارون مثلا، فهذه الأسماء إذا سئل عنها ممكن يفتي بأنها تصير. الشيخ طه جابر العلواني: السادس عشر: النكاح بنية الطلاق: الأصل في الزواج الاستمرار والتأبيد وإقامة أسرة مستقرة ما لم يطرأ عليه ما ينهيه غير أن مجرد نية الفراق لا تؤثر في صحة انعقاد الزواج وترتيب آثاره الشرعية. الرئيس: هذا موصوف متعة. السؤال هذا فيه كلمة واحدة طبعا غير أن مجرد نية الفراق هل يكون التي أسرها الزوج في نفسه أو التي علمت الزوجة ولو لم تشترط في العقد، كأنه حديث سابق أو شيء من هذا القبيل. الشيخ أحمد محمد جمال: بسم الله الرحمن الرحيم.. أنا لي ملاحظة على هذه المسألة قدمتها لفضيلة الشيخ الحبيب ابن الخوجة ليعرضها على اللجنة قبل أن تبت. قلت: إن هذا سبق أن أفتى بها بعض العلماء عندنا في المملكة العربية السعودية، وكتبت فيها بحثا ودراسة مطولة وقلت: إنها نكاح متعة وإلى جانب أنها نكاح متعة هي نكاح خدعة لأن الزوج يكتم عن الزوجة أنه سيطلقها هكذا قالوا بشرط إخفاء النية عن الزوجة عن ولي أمرها، فهو نكاح متعة ونكاح خدعة أيضا واستدلت بما جاء في كتاب الحيل وفي كتاب الإيمان ((إنما الأعمال بالنيات)) وقلت: إن الله يؤاخذنا على النية حسابا وعقابا، فهذا نكاح متعة. طبعا البحث طويل فأرى أن ذلك نكاح متعة، ثم بعد ذلك وجدت أن الإمام الأوزاعي أمام أهل الشام يقول: إنه نكاح متعة بلا جدال، والفرق بين نكاح المتعة أن الزوج يجهر بنيته يتفق مع الزوجة على التأجيل وهذا يكتم النية فهذا أشد إثما لأن الذي يبين للزوجة أنه سيطلقها بعد فترة قد أوضح أمره لكن الذي يكتم نيته عنها وعن ولي أمرها فهو أشد إثما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1289 الرئيس: يعني تبييتا للخداع. الشيخ أحمد محمد جمال: المهم أنا أقول: إن هذا نكاح متعة. على مذهب الإمام الأوزاعي من ناحية وأقول: إنه نكاح خدعة والبحث طويل عندي. الرئيس: على كل، الفتوى التي أشار إليها الشيخ أحمد، أنا أذكر أنه صار لها أعاصير شديدة والحقيقة أنه لا ينبغي أن يهول أمامنا وضع المسلمين في أمريكا. الذي يظهر أن هناك ثلة عظيمة فيهم خير وفيهم صلاح وفيهم تحمس وأنه يوجد لديهم من التقوى الشيء الكثير، ولهذا أذكر أنه من خلال تلك الفتوى التي أشار إليها الشيخ أحمد أتت رسائل لا عد لها ولا حصر وهي تلتهب باستنكار. وهم مجرد مسلمين ليسوا طلبة علم، وإنما استنكروا الفتوى ورأوا أن فيها فتحا للباب على مصرعيه. ولهذا فأنني لما تتبعت الأسئلة وعلمت مقارنة وإلا فإن في مذهب الحنابلة مقرر على أن تبييت النية إذا انتشرت في العقد لا شيء فيه لكن هذا بالنسبة للعبد الفقير، أنا لا أدين الله به ولا أعتقده ولا أقوله ولا أعرفه إنني أجبت عليه سائلًا فأنا أرى أن هذا السؤال يحذف بالكلية. الشيخ طه جابر العلواني: نحن هناك نفتي بل نحذر من مثل هذا النوع من الخدعة كما سماها الأستاذ جمال لكن حينما صدرت الفتوى هناك أثيرت القضية على نطاق واسع جدًّا وأصبحت حديث الطلبة والمشايخ والمساجد والصراع والتنديد إلى آخره. فهي في الحقيقة أعطت المسلمين سبيلًا كبيرًا، وفتحت عليهم باب فتنة، وأصبح ينظر إليهم وكأنهم اليهود الذين قالوا {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} فما دامت هذه أجنبية وما دمنا في بلاد الكفار فلنعمل ما نشتهي، أما بالنسبة لبلادنا فتكون لنا أخلاق أخرى فكانت حجة ضدنا من أفظع ما يمكن، لكننا في الوقت نفسه حينما نعرضها عليكم إنما كما قلت: نحن نريد الرأي الذي تتفقون عليه لنسكت هؤلاء المساكين الذين تثور الأعاصير عندهم في الفتاوى الفردية والجزئية التي لا يُعنى بدراستها ولا يؤخذ فيها لا ظرف الزمان والمكان ولا قضية الإنسان ولا المجتمعات ولا كيف تبني ولا غير هذا فالمرجو ملاحظة الأمور هذه كلها مجتمعة عندما نقول شيئًا لهؤلاء الناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1290 الرئيس: على كل يظهر من كلام الشيخ طه أنه لا يجوز ما أقول: لا يسوغ لكن لا يجوز لنا أن نعيد الفتوى مرة ثانية وإذا رأيتم أحد أمرين: إما أن نحذفه بالكلية أو نقول: الأصل في الزواج الاستمرار والتأبيد وإقامة أسرة مستقرة ما لم يطرأ عليها ما ينهيه ونقف عند ههنا. هل ترون هذا يحذف؟ الشيخ طه جابر العلواني: نعم، نعم – السؤال السابع عشر: الاكتحال للمرأة، الاكتحال للرجال والنساء جائز شرعًا، أما نتف الحاجبين فيجوز إذا كان الشعر مشوهًا لخلقة المرأة. الرئيس: أولًا السؤال ليس شرعيًا لأنه لا أحد من المسلمين يشك في الاكتحال، في مشروعيته إلا إذا قلتم الاكتحال كونها تكتحل وتطلع للأجانب تراها ويرونها، شيء آخر. الشيخ طه جابر العلواني: تمام، هذا هو السؤال. الرئيس: لماذا لا توضحوا السؤال يا أخي؟ الشيخ طه جابر العلواني: السؤال واضح، طال عمركم، السؤال من الجواب، قلنا اختصارا للأسئلة وللأجوبة فأنا ما أعطيت من أعطيت من السؤال إلا عنوانًا اخترناه بعبارة واحدة بناء على طلبكم وأوامركم، وما اخترنا من الجواب الأجوبة التي أعدها الشيخ قادي مجلد. الرئيس: لا. لا. قصدي السؤال فقط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1291 الشيخ طه جابر العلواني: سيدي كل سؤال بخمسة أو ستة أسطر تقريبًا من هذه مشروح ومبين ولكن أنا لم آت إلا العنوانين كما طلبتم قلتم لي: اختصر وأتنا بالعنوان وبالحكم فقط. الرئيس: لكن في الصياغة الأخيرة هل ستعيدون صياغة السؤال أو هي كذا؟ الشيخ طه جابر العلواني: طبيعي ما أعلنا من البداية سنعيد العلة والدليل. الرئيس: خلاص، الثامن عشر. الشيخ طه جابر العلواني: ماشي هذا؟ الرئيس: ماشي والله أنا أرى ما هو فيه شيء.. ترون فيه شيئًا يا مشايخ؟ الشيخ طه جابر العلواني: السؤال الثامن عشر: المصافحة بين الرجال والنساء: مصافحة الرجل المرأة. الرئيس: أريد أن أسأل سؤالا يا شيخ. لما سألتم عن الاكتحال فيه أحد أثار الاكتحال يقول: ما هو حكمه؟ الشيخ محمد سالم بن عبد الودود: هم يقولون هذه المرأة إذا اكتحلت وزججت حاجبها أو زادت بعض التصليحات هل تدخل الجامعة أو لا؟ الشيخ مصطفى الزرقاء: لو سمحت سيدي الرئيس بالنسبة لصيغة الجواب يعني أنا لا أرى أن يقال بهذا الشكل بل ينبغي أن يقال في صلب الجواب: نتف شيء منه، لأن هناك عادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1292 الرئيس: هذا طيب جزيت خيرا يا شيخ. الشيخ رجب التميمي: سيدي الرئيس أنا لي كلمة في هذا الموضوع. هذا السؤال مجمل الاكتحال للمرأة جائز في بيتها. أما أن تخرج إلى الشارع وتبدي الزينة وتبدي الاكتحال فهذا أمر ممنوع. أما الاكتحال في البيت لا شيء فيه، أما أن تتكحل والكحل الآن يا فضيلة الأستاذ ليس كحلا مثل الكحل العادي تضع عدة أصناف على العيون مع الكحل وتخرج إلى الشارع. الشيخ طه جابر العلواني: الشيخ تميمي لو لم يدخل في الموضوع سنثير موضوع اللحية، حلق اللحية بالنسبة للرجل. الأمين العام: السؤال على غير الكحل غير وارد. الرئيس: ماذا تقول يا شيخ طه؟ الشيخ طه جابر العلواني: بعد ذلك سيجيء سؤال حول حلق اللحية بالنسبة للرجل فأرجو الشيخ تميمي أن يفتي في هذا. الرئيس: والله، العهدة عليك، أنت المفروض أنك سألت عنه. وفي الواقع بهذه المناسبة أرجو من أصحاب الفضيلة أن تتسع صدورهم شيئا، ولو أن الشيخ طه لم يثر هذا الموضوع ما أثرته. الحقيقة أنا أحب أن أقول كلمة مع اعتذاري البالغ من أصحاب الفضيلة. الحقيقة أن الإنسان العاقل لا يعمل شيئا إلا أنه يعرف أن فيه مصلحة، هذا على طول الخط شيء معروف، المسلم لا يقدم قدما ويؤخر إلا إذا عرف هدي النبي صلى الله عليه وسلم. ففي الحقيقة حلق اللحية عقلا ماذا المعنى منه؟ واحد يسلمها كل صباح ما هو المعني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أعفوا اللحى، وفروا اللحى، أرخوا اللحى)) ، الأحاديث متكاثرة في هذا عن خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذي عليه المحققون هو وجوب توفير اللحية، وأقل الأقوال فيها هو السنية والاستحباب، والذي عليه جماهير أهل العلم والمحققين هو وجوب إعفائها لأن الأوامر صحيحة صريحة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل صحابته رضي الله تعالى عنهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1293 ففي الحقيقة أنه بالنسبة لمجمعنا هذا ونحن الرجال نفتي ونوقع عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه أنا أهيب بإخوتي لأن كل واحد منا مكمل للآخر والنصيحة متعينة فيما بيننا، فإنه ينبغي أن نظهر بالمظهر الذي نأمل فيه رضوان الله سبحانه وتعالى علينا وأن يكون لنا صفة. لا قصدي أننا نحن نظهر بها أمام الناس، ولكن أن ندل على الله بهدينا قبل أن ندل عليه بأقوالنا وفتاوينا. وشكرا. السؤال الثامن عشر يا شيخ. الشيخ محمد عطا السيد: سيدي الرئيس. أنا في نفسي شيء في الجزء الثاني أخذ شيء من الحاجبين فيجوز. أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما نهى عن هذه المسألة قال: ماذا يلفت النظر؟ هل هي تفعل ذلك عبثا؟ إن كانت تفعل ذلك لا تفعلن ذلك بغية التجمل. الرئيس: أحسنت إذن الجواب واضح من كلامك يا شيخ. هن يفعلن هذا بغية التجمل على ما يردنه من التجمل لكن لم يزلنه لأنه مشوه فهنا قيل لأنه مشوه. أريد أسألك سؤالا يا شيخ، الآن الإنسان إذا صار له سن زائدة، الإنسان فوق 16 وأسفل وصار فيه 17 يغير خلق الله، إذا صار للمرأة يعني في وجهها شعر لها لحية شيء من هذا القبيل يعني أظن الموضوع ما فيه شيء. الشيخ محمد عطا السيد: حتى يفتح المجال لكل امرأة أنها تظن بأن وضع حاجبيها وضع غير جميل ولذلك إذا أفتينا بهذه الفتيا. الرئيس: مشوه إذا كان مشوها لخلقه المرأة. الشيخ محمد عطا السيد: إذا كان مشوها لخلقة المرأة هذا من باب الضرورة لا شك. لكن أنا ما زلت أعتقد أن هذه الصياغة نفسها، أنا ضد. أما نتف شيء من الحاجبين فيجوز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1294 الشيخ على السالوس: نأتي بالتحريم أولا ثم بعد ذلك الاستثناء، يعني المنع أولا ثم نقول الاستثناء. الرئيس: هذا طيب، يقال: أما نتف شيء من الحاجبين فلا يجوز إلا إذا كان الشعر مشوها لخلقه المرأة. الشيخ محمد عطا السيد: ممكن نقول: إلا للضرورة. الشيخ أحمد محمد جمال: أقول هذا الموجود في النص: أما نتف شعر الحاجبين فيجوز إذا كان الشعر مشوها لخلقة المرأة. الرئيس: نقول: فلا يجوز إلا إذا كان.. هذا طيب. جزاك الله خير يا شيخ عطا. الشيخ طه جابر العلواني: بارك الله فيك. السؤال الثامن عشر: المصافحة بين الرجال والنساء: مصافحة الرجل المرأة الأجنبية البالغة بغير حائل ممنوعة شرعا. الرئيس: هذا الجواب ماشي لكن من أين أتيتم من غير حائل؟ الشيخ محيي الدين قادي: قال بهذا من فقهاء المالكية وهو الشيخ يوسف الصفتي والخرشي أيضا، كل واحد منهما نقل، قال بغير حائل، لكن لم ينص على أنها بالحائل جائزة. في المذهب الشافعي وفي حاشية الشيخ سليمان الجمل على شرح المنهج قال: إن المصافحة.. بعد كلام طويل خلص إلى أن مصافحة الرجل للمرأة بحائل جائزة. الأصل في ذلك أنا بقيت متوقفا، الأصل في ذلك أن الحديث الذي رواه الإمام البخاري فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لا أصافح النساء)) وفيها أنه صافح النساء ويده في ثوبه، الروايات في البخاري كلها الذين قالوا هذا من الشافعية اعتمدوا على هذه الرواية. والأمر مطروح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1295 الرئيس: قصدك الحديث الذي في البخاري في حديث البيعة، لا أبدأ. هذا ليس هو، الذي في حديث البيعة أنه كان يمد يده بدون مصافحة، هذا واضح لكن أنت غاب عنك النص. الشيخ محيي الدين قادي: وهناك رواية أخرى لابن حجر. الرئيس: لا، لا، ليس فيه روايات. الشيخ وهبة الزحيلي: موجودة يا سيدي هذا دليل الشافعية. الرئيس: نص الرواية ما هو؟ الشيخ محيي الدين قادي: على أنه كان يصافح النساء وفي يده ثوبه. الرئيس: الآن حديث البيعة الصحيح ((أنا لا أصافح النساء ما قولي لامرأة ألا كقولي لمائة امرأة)) تقول: إنه يصافحها. الشيخ محمد سالم عبد الودود: طرح التدريب قول لابن ولي الدين العراقي ابن شرعة نص على بطلان تلك الروايات التي تذكر أن عمر كان يصافحهن وأنهن يغمسن أيدهن في ماء ويغمس الرسول يده فيها وكذا هذا من عندي أن الحديث نص هذا الحديث ((أنا لا أصافح النساء وإنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة)) . الرئيس: الشيخ محمد حامد رحمه الله تعالى له رسالة منشورة لا بد أنكم اطلعتم عليها ورأيتموها، الحقيقة حرر فيها الروايات وجمع فيها ألفاظ السنن ويتأكد الموضوع في حرمة مصافحة المرأة الأجنبية فأنا أرى أنه يقال: مصافحة الرجل المرأة الأجنبية البالغة ممنوع شرعا فقط ويترك الباقي، المهم: بغير حائل، تحذف يا شيخ طه إذا وضعت حائل تسأل في ذلك الوقت. السؤال التاسع عشر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1296 الشيخ طه جابر العلواني: السؤال التاسع عشر: الصلاة في الكنائس، استئجار الكنائس للصلاة لا مانع عند الحاجة وتجنب الصلاة إلى التماثيل والصور وتستر بحائل إذا كانت باتجاه القبلة. السؤال العشرون: ذبائح الكتابيين جائزة شرعًا إذا ذكيت بالطريقة المقبولة شرعًا ولم يذكر غير اسم الله عليها، ويوصي المجمع بدارسة متعمقة للموضوع في دورة قادمة. الشيخ محمد عبده عمر: السؤال الأول: لو سمحت يا سيادة الرئيس، هذا السؤال التاسع عشر ما الداعي إلى استئجار الكنائس للصالة، ممكن نستأجر إن كان ولا بد مكانًا ليس كنيسة، بيتًا أو مصلى، لكن ما الحاجة إلى أن نستأجر أيضًا مكان كنيسة، إذا كان لا بد من الاستئجار نستأجر مكانًا آخر أنزه وأبعد من الشبهة من الكنيسة. الرئيس: ما هو الذي يدعو يا شيخ إلى استئجار الكنيسة، الشيخ طه؟ الشيخ طه جابر العلواني: الذي يدعو عدم وجود أماكن أن الكنائس، غالبًا تتبرع الكنيسة لأداء الصلاة، فيها قاعات مناسبة لأداء الصلاة فإن وجدوا أماكن في الجامعات استأجروا تلك الأماكن أو استأذنوا الكلية أو الجامعة فيها المكان المخصص وإلا إذا كان يوجد مكان في الكنيسة صلوا فيه. الرئيس: طالما أنه قيل عند الحاجة فعلى كل الذي ترون فيه الخير، هل ترون يمشي الجواب لا؟ السيخ محمد عبده عمر: أنا متحفظ. الشيخ رجب التميمي: أرى أن تشطب كلمة استئجار الصلاة في كذا، يعني نعطي المسلمين الحق أو الجواز أن يستأجروا وهذا لا يجوز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1297 الرئيس: فيه سؤال يا شيخ طه أنا بدا لي شيء آخر، ما هو الداعي للاستئجار، لأجل ماذا؟ الشيخ طه جابر العلواني: صلاة الجمعة. الرئيس: لا يصلون الجمعة يا أخي. الشيخ طه جابر العلواني: لا يصلون الجمعة‍!! هو هذه الرابطة الوحيدة بينهم التي نستطيع أن نجمعهم فيها ونجعلهم يلتقون مع بعض ويتذكرون بأنهم مسلمون والحمد لله ويخطب لهم ويوعظون وينصحون إلى آخره فلو فرطنا هذا العقد يصبح من المتعذر. الرئيس: يعني لا لأجل إقامة صلاة الجمعة؟ الشيخ طه جابر العلواني: يعني هي الجمعة حقيقة وسيلة باعتبار ذهن المسلم. الرئيس: شوف يا شيخ، إذا كانت لأجل إقامة صلاة الجمعة أو لأجل إقامة صلاة جماعة أو لأجل إقامة صلاة جمعة فأنا لا أشك أنه لا يكلف الله عباده إذا لم يجدوا مكانًا أن يستأجروا مكانًا يصلون فيه لكن إذا كان فيه مصالح بالنسبة لهذه البلدان مثل ما تفضلت لربط المسلمين لربط الشباب، لجمعهم، لتذكيرهم، لتحقيق لقاء بينهم، هذا لا شك يعطي.. الشيخ طه جابر العلواني: شيخنا ابن باز حفظه الله ورعاه أرسل لنا فتوى مكتوبة موقعة من عنده بأن لا شيء في هذا لو عرض فيها لأدلة كثيرة من آثار ومن بعض الأحاديث الموقوفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1298 الرئيس: الآثار كثيرة يا شيخ في عمل الصحابة رضي الله تعالى عنهم في صلاة الكنيسة، لكن المسألة مسألة استئجار، أنا أقول إذا كان الاستئجار لأجل الصلاة فقط، فهذا يعني لنا جواب وتعرض المسألة من هذه الناحية أما إذا كان الاستئجار هو بالنسبة لهذه البلاد ليس هناك ملتقى يلتقي فيه المسلمون ويجتمعون ويجري وعظهم وتذكيرهم وتبصيرهم في دينهم فعلى كل يظهر لي أن الجواب ماشي. الشيخ محمد عطا السيد: أوافق على النقطة الثانية التي ذكرتها أنه إذا كان للصلاة لا داعي واجب أن أؤكد مرة ثانية أنه ليست هنالك الآن في الولايات المتحدة أية حاجة تدعو إلى هذه المسائل إطلاقًا، وكيف يا سيدي الرئيس، نحن إذا مررنا بكنيسة للنصارى وخاصة أن فيها تماثيل نتعوذ ونحمد الله سبحانه وتعالى الذي هدانا وهدى أبناءنا فكيف نصل إلى الدرجة التي نسمح فيها لأبناءنا أن يدخلوا كنيسة ويغطوا التماثيل لكي يصلوا وليس هنالك حاجة ولذلك أرى يا سيدي الرئيس أبدًا ليس هنالك داع. الشيخ طه جابر العلواني: يبدو لي سيادة الرئيس أن الدكتور عطا لطول إقامته في السودان نسي أمريكا ونسي طول الفترة التي قضاها هناك وأصبح يعتقد أن أمريكا هي السودان وبلد مسلمين وأتمنى من الله لو حدث هذا. الشيخ محمد عطا السيد: ما أتذكر مرة واحدة أننا اضطررنا إلى استئجار كنيسة قط وصلينا العيد خمسمائة نسمة. الشيخ طه جابر العلواني: هذه يا سيد عطا لا افترضناها افتراضًا ولا جئنا لنزعج الأدمغة المباركة فيها وإنما أتينا بها لأنها تعرض علينا ويطلب منا جواب. الشيخ عبد الله إبراهيم: شكرًا فضيلة الرئيس.. مع الأخذ في الاعتبار الضرورة فإني أرى أن استئجار الكنيسة للصلاة أو مثلها أرى أن فيه مكسبًا للإسلام، فإننا يمكن أن نقيم شعائرنا ثم نرفع صوت الإسلام صوت الأذان من على الكنيسة بدل أن نترك لهم يدقون الأجراس. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1299 الرئيس: شكرًا. لكن لاحظ يا شيخ طه أن الجواب قال: استئجار الكنائس للصلاة فيظهر أن السؤال إنما ورد عن الصلاة ذاتها، لكن هل في السؤال التبريرات التي ذكرت؟ الشيخ طه جابر العلواني: قلنا: إنه لا يجد المسلمون سواها وتؤجر لهم بمبالغ زهيدة جدًا وأحيانًا تقدم تبرعًا تقدمها الكنيسة. الرئيس: لا. لا. قصدي ما هو أنه لا يجد المسلمون سواها وأنهم يتبرعون لكن أنا قصدي الأغراض التي أشرت إليها. الشيخ طه جابر العلواني: أنا أحب أن أقول لأخ الشيخ عطا إنه للآن في واشنطن العاصمة وحتى معظم السفارات العربية والإسلامية تحيط بها يؤدي المسلمون صلاة الجمعة في دور أرضي في كنيسة، وفي كنيسة جورج واشنطن في الجامعة واشنطن ديسي. الشيخ رجب التميمي: الواقع أنه للمسلمين مساجدهم، وللنصارى كنائسهم يقيمون صلاتهم وشعائرهم، نحن نستطيع في أمريكا أن نأخذ قاعة أو ناديًا نصلي فيه. أما في الكنيسة هذا أمر يكون له سابقة خطيرة، لأننا نعظم الكنيسة بصلاتنا فيها، وهذا أمر محظور، صلاة المسلم في الكنيسة لا شيء فيه أما أن نستأجرها لنقيم صلاة جماعة أو صلاة جمعة هذا أمر محظور شرعًا أما واشنطن ففيها مسجد وأنا صليت فيه جماعة وخطبت في المسجد وصليت الجمعة فيه في واشنطن بالذات، أما أن نتخذ الوسيلة مكانًا لأن الصلاة عبادة نتخذها للعبادة لا يجوز أن يتخذ مكان العبادة مكانًا للازدواج بين عبادتين، ولا بين دينين، نحن مسلمون ومكان عبادتنا المسجد، الكنيسة للنصارى والكنس لليهود غدًا تقول: أود أستأجر كنيسًا يهوديًا تعطي الوسيلة لليهود لتخلص عيشتنا، الآن المسجد الإبراهيمي في الخليل ثلاثة أرباعه اتخذه اليهود كنيسًا وقمنا وقاومنا وقلنا: لا يجوز ازدواج العبادة في المساجد وللمسيحيون كنائسهم ولليهود كنسهم وللمسلمين مساجدهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1300 الشيخ طه جابر العلواني: إذا تسمح لي أن أحببتم تسحب السؤال وتكفينا فتوى الشيخ عبد العزيز ابن باز حفظه الله والإمام الخوري. الرئيس: يا شيخ طه نرجيه وأعطونا السؤال العشرون. الشيخ طه جابر العلواني: العشرون: ذبائح الكتابيين جائزة شرعًا إذا ذكيت بالطريقة المقبولة شرعًا لم يذكر غير اسم الله عليها ويوصي المجمع بدراسة متعمقة للموضوع في دورة قادمة. الشيخ خليل الميس: إعادة صياغة فقط يعني ذبائح الكتابيين جائزة شرعًا إذا استوفيت الشرائط. الشيخ طه جابر العلواني: نحن قلنا: إذا ذكيت يا شيخ خليل، الله يحفظك. الأمين العام: نقطة فنية فقط. السؤال العشرون ذبائح الكتابيين جائزة شرعًا إذا ذكيت بالطريقة المقبولة شرعًا لديهم، ولكن قولكم: ويوصي المجمع بدارسة معمقة، ليس هذا مكانه لأن قضية التوصيات سوف تكون وحدها وقضية القرارات تكون وحدها فأنا أفضل أن نترك قضية التوصيات، وشكرًا. الشيخ طه جابر العلواني: أصر إخواني في اللجنة على وضع هذا. الأمين العام: خلاص أنا فقط بينت الوجه التنظيمي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1301 الرئيس: هو يعني لا يخفاكم أن المسألة حاصل بها بحوث ولا يخفاكم خلافات وفيها أخذ وفيها رد وفيها الشيء الكثير. الشيخ طه جابر العلواني: السؤال الحادي والعشرون: في حضور حفلات تقدم فيها الخمور لا ينبغي للمسلم أو المسلمة حضور مجالس المعاصي والمنكرات. الرئيس: فقط لا ينبغي!! لا يجوز، لا يجوز للمسلم أوالمسلمة حضور مجالس المعاصي والمنكرات {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . الشيخ طه جابر العلواني: تفضلون: يحرم مثلًا؟ الرئيس: لا يجوز. الشيخ طه جابر العلواني: سيادة الرئيس، أنا لا يهمني شيء من هذه الأسئلة الحمد لله لا أقارف شيئًا من هذه الأمور، هذه أمور تهم غيري. السؤال الثاني والعشرون: في تقدير الوقت للصوم والإفطار: إن الإفطار التي فيها نهار متميز ولو طويلًا وليل متميز ولو قصيرًا فلكل منهما حكمه في العبادات ومنها الصلاة والصيام، وعلى كل مسلم أن يعقد نية الصيام ليلًا فإن تعرض لخطر على حياته أو صحته جاز له الفطر ووجب عليه القضاء. الرئيس: والله يا مشايخ أنا أحب أن أقول لكم إن السؤال هذا سبق أن درس في مجمع الفقه الإسلامي مرتين في مكة. وصدر قرار ينقض قرارًا. وأذكر أن أحد القرارين لا أدري الأول أو الأخير لأني كنت متوقفًا في القرار، أحد القرارين الأول أو الأخير، على ما بلغنا وإلا أنا لم أر شيئًا جاءت استفساراته يقارن هذا يتعذر تنفيذه وهذا يتعذر تطبيقه وشيء من هذا القبيل فالمهم أنهم وصل لهم القرار الأخير بعد القرار الأخير ما أدري ماذا تم. فأنا هل ترون قرار مجمع مكة هل وصلكم أم لا؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1302 الشيخ طه جابر العلواني: لا! الرئيس: لأن نفس اللجنة التي جاءتنا هي من أمريكا من عندكم، أليس من عندكم؟ الشيخ طه جابر العلواني: لا! الأمين العام: فيه فتاوى كثيرة بعكس هذا، واعتمد الفقهاء أوجهًا أخرى وقالوا: يقاس على المحل الأقرب اعتدالًا، ومنهم من قال بأنه يفتى بالصوم والفطر على مكة أو على المدينة وهناك من قال يعتمد الخط العرض 45 أو 48، بحيث القضية وقع فيها تداول النظر بين جمهور من الفقهاء قديمًا وحديثًا، حتى في بعض الفتاوى التي صدرت، في الفتاوى الهندية أشير إلى شيء من ذلك. فأنا أتوقف لا بأس بإعادة النظر في هذا الموضوع فيه تنفير للناس. الرئيس: على كل قرار مجمع مكة موجود هل تحبون نقرأه؟ أو أنا في الحقيقة، أنا بدون مؤاخذة أعرف أن الموضوع ما رايح ينتهي بهذه البساطة أمامنا هذا الرأي، وأمامنا قرار مجمع مكة، يعني المسألة تتطلب شيئًا من التروي فأنا أقول: طالما فيه قرار من مجمع مكة وأذكر للشيخ طه أن القرار الثاني هو بعد هذا، فطالما أن فيه قرارًا فهو الآن يعالج الوضع بصفة حاضرة، ويكفي لما نكاثر القرارات على جهة يتضاربون ونبلبل أفكارهم. الشيخ أحمد محمد جمال: إذا سمحت ما هو قرار مجمع مكة؟ الرئيس: والله يا شيخ القرار الأول هنا والقرار الثاني صدر في الدورة الماضية هذه. الشيخ أحمد محمد جمال: نريد أن نسمعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1303 الرئيس: ليس موجودًا عندنا القرار الأول موجود هنا. الأمين العام: أنا أقرأ عليكم ملخص القرار الأول: تنقسم الجهات التي تقع على خطوط العرض ذات الدرجات العالية إلى ثلاث: الأولى: تلك التي يستمر فيها الليل أو النهار أربعًا وعشرين ساعة فأكثر بحسب اختلاف فصول السنة، ففي هذه الحال تقدر مواقيت الصلاة والصيام وغيرهما في تلك الجهات على حسب أقرب الجهات إليها مما يكون فيها ليل ونهار متمايزان في ظرف أربع وعشرين ساعة. الثانية: البلاد التي لا يغيب فيها شفق الغروب حتى يقع الفجر بحيث لا يتميز شفق الشروق من شفق الغروب، ففي هذه الجهات يقدر وقت العشاء الآخرة والإمساك في الصوم وقت صلاة الفجر بحسب آخر فترة يتمايز فيها الشفقان. الثالثة: تلك التي يظهر فيها الليل والنهار خلال أربع وعشرين ساعة وتتمايز فيها الأوقات إلا أن الليل يطول فيها فترة من السنة طولًا مفرطًا ويطول النهار في فترة أخرى طولًا مفرطًا. ومن كان يقيم في بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع الفجر وغروب الشمس إلا أن نهارها يطول جدًا في الصيف ويقصر في الشتاء وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعًا لعموم قوله تعالى {أَقِمِ الصَّلَاةَ} وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ولما ثبت عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلًا سأله عن وقت الصلاة ثم إلى غير ذلك من الأحاديث، هذا بالنسبة لتحديد أوقات صلاتهم، وأما بالنسبة لتحديد أوقات صيامهم شهر رمضان، فعلى المكلفين أن يمسكوا كل يوم منه عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في بلادهم ما دام النهار يتمايز في بلادهم من الليل وكان مجموع زمانهما أربعًا وعشرين ساعة ويحل لهم الطعام والشراب والجماع ونحوه في ليلهم فقط وإن كان قصيرًا؛ فإن شريعة الإسلام عامة للناس في جميع البلاد قال تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1304 ومن عجز عن إتمام صوم يوم لطوله أو علم بالأمارات أو التجربة أو إخبار طبيب أمين حاذق أو غلب على ظنه أن الصوم يفضي إلى مرضه مرضًا شديدًا أو يفضي إلى زيادة مرضه إلى آخره، تمكن فيه القضاء قال تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} هذا خلاصة ما جاء في القرار الأول. الرئيس: ثم جاء بعده قرار فيه نوع اختلاف مع هذا. الشيخ عبد الستار أبو غدة: أقترح تأجيل هذا البحث لأن هذه الفتوى تحتاج إلى كتابة أبحاث فيها. الرئيس: على كل أنا أقول تؤجل فهل ترون تأجيلها؟ الثالث والعشرون. الشيخ طه جابر العلواني: في توحيد الشهور القمرية: قال فيه يؤخذ فيه بقرار المجمع. الرابع والعشرون: يجوز للمسلم العمل المباح شرعًا في دوائر ومؤسسات حكومات غير إسلامية إذا لم يؤد عمله ذلك إلى إلحاق ضرر بالمسلمين أو كان فيما ينفعهم. الرئيس: يا شيخ طه إذا رأيتم أنه: يقول ومؤسسات حكومية غير إسلامية. إذا لم يؤد عمله ذلك إلى إلحاق ضرر بالمسلمين، يعني معناه من باب أولى إذا كان فيه ما ينفعهم، فتحذف هذه. الشيخ طه جابر العلواني: الخامس والعشرون والسابع والعشرون: لا يجوز للمسلم تصميم أو بناء معابد الكفار أو الإسهام في ذلك ماليًا أو فعليًا. السؤال السادس والعشرون: للزوجة والأولاد غير القادرين على الكسب أن يأكلوا للضرورة من كسب الزوج المحرم شرعًا كبيع الخمر والخنزير وغيرهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1305 الشيخ محمد عبده عمر: بسم الله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين. سيدي الرئيس بالنسبة للسؤال السابق المتعلق بصلاة المسلمين بالكنائس أو استئجار المسلمين للصلاة في هذه الكنائس إذا كان مجمعكم الموقر يجيز هذه المسألة فإني متحفظ وعللت بالنسبة لاستئجار الكنائس والصلاة فيها، لأنه طالما المسلمون يملكون إيجارًا ويملكون نقودًا ممكن يستأجرون مكانًا آخر ناديًا كما قال الشيخ التميمي، ناديًا أو بيتًا أو أي مكان آخر لا شبهة فيه فيصلون فيه لكن دفع إيجار. الرئيس: أصلًا هذه يا شيخ، أوقفت، وطالما أنها أوقفت انتهينا منها. الشيخ محمد عبده عمر: أوقفت. شكرًا. الشيخ طه جابر العلواني: عفوًا باقي الثامن والعشرون كأن الورقة لم تصور لأصحاب الفضيلة. الرئيس: فعلًا هي ثمانية وعشرون سؤالًا باقي سؤالان. الشيخ طه جابر العلواني: لا باقي سؤال واحد عفوًا لأنه أخذنا الخامس والعشرين والسابع والعشرين معًا ثم أتينا بالسادس والعشرين بقي الثامن والعشرون والسؤال: ما حكم شراء منزل السكنى وسيارة الاستعمال الشخصي وأثاث المنزل بواسطة البنوك، والمؤسسات التي تفرض ربحًا محددًا على تلك القروض لقاء رهن تلك الأصول، علمًا بأنه في حالة البيوت والسيارات والأثاث عمومًا يعتبر البديل عن البيع هو الإيجار بقسط شهري يزيد عن قسط الشراء في بعض الأحيان الذي يستوفيه البنك وقد أجابت اللجنة أعدت اللجنة على هذا السؤال جوابًا بعدم الجواز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1306 الرئيس: هذا صحيح، جزاكم الله خيرًا وهو الذي اتفق عليه الباحثون كلهم، الباحثون الأربعة وبهذا تنتهي الجلسة وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الشيخ وهبة الزحيلي: ألا يجب أن نعود إلى الأسئلة الأولى التي أرجئت؟ الرئيس: لا! ما عندنا استعداد، الأول والثاني والتي كتبنا عليها ترجى، ترجى لأنه والحمد لله حصل الذي فيه الخير إن شاء الله. الأمين العام: أصحاب الفضيلة بعد شكركم على تجشمكم الأتعاب الكثيرة في دراسة هذه القضايا التي عرضت عليكم فإني أريد أن أذكركم بأن الجلسة الصباحية غدًا هي جلسة مغلقة لا يشهدها إلا الأعضاء العاملون، وشكرًا. الساعة الثامنة والنصف كالعادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1307 الأجوبة التي صادق عليها المجمع بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ما أقره المجمع من أجوبة على الاستفسارات (1) السؤال الثالث: ما حكم زواج المسلمة بغير المسلم خاصة إذا طمعت في إسلامه بعد الزواج حيث تدَّعي مسلمات كثيرات أنه لا يتوفر لهن الأكفاء من المسلمين في غالب الأحيان، وأنهن مهددات بالانحراف أو يعشن في وضع شديد الحرج؟ الجواب: زواج المسلمة بغير المسلم ممنوع شرعًا بالكتاب والسنة والإجماع، وإذا وقع فهو باطل، ولا تتربت عليه الآثار الشرعية المترتبة على النكاح، والأولاد المولودون عن هذا الزواج أولاد غير شرعيين، ورجاء إسلام الرجال لا يغير من هذا الحكم شيئًا. السؤال الرابع: ما حكم استمرار الزوجية والمعاشرة بين زوجة دخلت الإسلام وبقي زوجها على الكفر ولها منه أولاد تخشى عليهم الضياع والانحراف، ولها طمع في أن يهتدي زوجها إلى الإسلام لو استمرت العلاقة الزوجية بينها وبينه؟ وما الحكم فيما إذا لم يكن هناك طمع في إسلامه، ولكنه يحسن معاشرتها وتخشى لو تركته ألا تعثر على زوج مسلم؟ الجواب: بمجرد إسلام المرأة وأبى الزوج الإسلام ينفسخ نكاحهما، فلا تحل معاشرته لها، ولكنها تنتظر مدة العدة فإن أسلم خلالها عادت إليه بعقدها السابق. أما إذا انقضت عدتها ولم يسلم فقد انقطع ما بينهما فإن أسلم –بعد ذلك- ورغب العودة إلى زواجهما عاد بعقد جديد. ولا تأثير لما يسمى بحسن المعاشرة في إباحة استمرار الزوجية.   (1) أرجئ اتخاذ القرار بالنسبة للأسئلة 1، 2، 7، 15، 22 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1308 السؤال الخامس: ما حكم دفن المسلم في مقابر غير المسلمين، حيث لا يسمح للدفن خارج المقابر المعدة لذلك ولا توجد مقابر خاصة بالمسلمين في معظم الولايات الأمريكية والأقطار الأوروبية؟ الجواب: أن دفن المسلم في مقابر غير المسلمين في بلاد غير إسلامية جائز للضرورة. السؤال السادس: ما حكم بيع المسجد "إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها وخيف تلفه أو الاستيلاء عليه" فكثيرًا ما يشتري المسلمون منزلًا ويحولونه مسجدًا فإذا انتقلت غالبية المسلمين من المنطقة لظروف العمل هجر المسجد أو أهمل، وقد يستولي عليه آخرون، ومن الممكن بيعه واستبداله بمسجد يؤسس في مكان فيه مسلمون، فما حكم هذا البيع أو الاستبدال؟ وإذا لم تتيسر فرصة استبداله بمسجد آخر فما أقرب الوجوه التي يجوز صرف ثمن المسجد فيها؟ الجواب: يجوز بيع المسجد الذي تعطل الانتفاع به، أو هجر المسلمون المكان الذي هو فيه أو خيف استيلاء الكفار عليه، على أن يُشترى بثمنه مكان آخر يتخذ مسجدًا. السؤال الثامن: بعض النساء أو الفتيات تضطر من ظروف العمل أو الدراسة إلى الإقامة بمفردهن، أو مع نسوة غير مسلمات، فما حكم هذه الإقامة؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1309 الجواب: لا يجوز للمرأة المسلمة أن تقيم وحدها شرعًا في بلاد الغربة. السؤال التاسع: كثيرات من النساء هنا، يذكرن أن أقصى ما بإمكانهن ستره من أجسادهن هو ما عدا الوجه والكفين، وبعضهن تمنعهن جهات العمل من ستر رؤوسهن فما أقصى ما يمكن السماح بكشفه من أجزاء جسم المرأة بين الأجانب في محلات العمل أو الدراسة؟ الجواب: أن حجاب المرأة المسلمة –عند جمهور العلماء- ستر جميع بدنها عدا الوجه والكفين إذا لم تخش فتنة، فإن خيفت فتنة يجب سترهما أيضًا. السؤال العاشر والحادي عشر: يضطر الكثير من الطلاب المسلمين إلى العمل في هذه البلاد لتغطية نفقات الدراسة والمعيشة لأن كثيرًا منهم لا يكفيه ما يرده من ذويه مما يجعل العمل ضرورة له لا يمكن أن يعيش بدونه، وكثيرًا من لا يجد عملًا إلا في مطاعم تبيع الخمور أو تقدم وجبات فيها لحم خنزير وغيره من المحرمات بحكم عمله في هذه المحلات؟ وما حكم بيع المسلم للخمور والخنازير، أو صناعة الخمور وبيعها لغير المسلمين؟ علمًا بأن بعض المسلمين في هذه البلدان قد اتخذوا من ذلك حرفة لهم. الجواب: للمسلم إذا لم يجد عملًا مباحًا شرعًا العمل في مطاعم الكفار بشرط أن لا يباشر بنفسه سقي الخمر أو حملها أو صناعتها أو الاتجار بها، وكذلك الحال بالنسبة لتقديم لحوم الخنازير ونحوها من المحرمات. السؤال الثاني عشر: هناك كثير من الأدوية تحوي كميات مختلفة من الكحول تتراوح بين 1 % و25 % ومعظم هذه الأدوية من أدوية الزكام واحتقان الحنجرة والسعال وغيرها من الأمراض السائدة، وتمثل هذه الأدوية الحاوية للكحول ما يقارب 95 % من الأدوية في هذا المجال مما يجعل الحصول على الأدوية الخالية من الكحول عملية صعبة أو متعذرة، فما حكم تناول هذه الأدوية؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1310 الجواب: للمريض المسلم تناول الأدوية المشتملة على نسبة من الكحول إذا لم يتيسر دواء خالٍ منها، ووصف ذلك الدواء طبيب ثقة أمين في مهنته. السؤال الثالث عشر: هناك الخمائر والجلاتين توجد فيها عناصر مستخلصة من الخنزير بنسب ضئيلة جدًا فهل يجوز استعمال هذه الخمائر والجلاتين؟ الجواب: لا يحل للمسلم استعمال الخمائر والجلاتين المأخوذة من الخنازير في الأغذية. وفي الخمائر والجلاتين المتخذة من النباتات أو الحيوانات المذكاة شرعًا غنية عن ذلك. السؤال الرابع عشر: اضطر معظم المسلمين إلى إقامة حفلات الزفاف لبناتهم في مساجد، وكثيرًا ما يتخلل هذه الحفلات رقص وإنشاد أو غناء، ولا تتوفر لهم أماكن تتسع لمثل هذه الحفلات فما حكم إقامة هذه الحفلات في المساجد؟ الجواب: يندب عقد النكاح في المساجد، ولا تجوز إقامة الحفلات فيها إذا اقترنت بمحظور شرعي كاختلاط الرجال بالنساء وتبرجهن والرقص والغناء. السؤال السادس عشر: ما حكم زواج الطالب أو الطالبة المسلمة زواجًا لا ينوي استدامته بل النية منعقدة عنده على إنهائه بمجرد انتهاء الدراسة والعزم على العودة إلى مكان الإقامة الدائم، ولكن العقد يكون –عادة- عقدًا عاديًا وبنفس الصيغة التي يعقد بها الزواج المؤبد، فما حكم هذا الزواج؟ الجواب: الأصل في الزواج الاستمرار والتأبيد وإقامة أسرة مستقرة ما لم يطرأ عليه ما ينهيه. السؤال السابع عشر: ما حكم ظهور المرأة في محلات العمل أو الدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبيها وتكتحل؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1311 الجواب: الاكتحال للرجال والنساء جائز شرعًا. أما نتف بعض الحاجبين فلا يجوز إلا إذا كان الشعر مشوهًا لخلقة المرأة. السؤال الثامن عشر: بعض المسلمات يجدن حرجًا في عدم مصافحتهن للأجانب الذين يرتادون الأماكن التي يعملن أو يدرسن فيها، فيصافحن الأجانب دفعًا للحرج، فما حكم هذه المصافحة؟ وكذلك الحال بالنسبة لكثير من المسلمين الذين تتقدم إليها نساء أجنبيات مصافحات، وامتناعهم عن مصافحتهن يوقعهم في شيء من الحرج على حد ما يذكرون ويذكرن؟ الجواب: مصافحة الرجل المرأة الأجنبية البالغة ممنوعة شرعًا وكذلك العكس. السؤال التاسع عشر: ما حكم استئجار الكنائس أماكن لإقامة الصلوات الخمس أو صلاة الجمعة والعيدين، مع وجود التماثيل وما تحتويه الكنائس عادة.. علمًا بأن الكنائس – في الغالب- أرخص الأماكن التي يمكن استئجارها من النصارى وبعضها تقدمه الجامعات أو الهيئات الخيرية للاستفادة منه في المناسبات هذه دون مقابل؟ الجواب: استئجار الكنائس للصلاة لا مانع منه شرعًا عند الحاجة، وتجتنب الصلاة إلى التماثيل والصور وتستر بحائل إذا كانت باتجاه القبلة. السؤال العشرون: ما حكم ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى وما يقدمونه من طعام في مطاعمهم مع عدم العلم بالتسمية عليها؟ الجواب: ذبائح الكتابيين جائزة شرعًا إذا ذكيت بالطريقة المقبولة شرعًا، ولم يذكر اسم الله عليها ويوصي المجمع بدراسة متعمقة للموضوع في دورته القادمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1312 السؤال الحادي والعشرون: كثير من المناسبات العامة التي يدعى المسلمون لحضورها تقدم فيها الخمور ويختلط فيها النساء والرجال، واعتزال المسلمين لبعض هذه المناسبات قد يؤدي إلى عزلهم عن بقية أبناء المجتمع، وفقدانهم لبعض الفوائد؟ فما حكم حضور هذه الحفلات من غير مشاركة في شرب الخمر أو الرقص أو تناول الخنزير؟ الجواب: في حضور حفلات تقدم فيها الخمور لا يجوز للمسلم أو المسلمة حضور مجالس المعاصي والمنكرات. السؤال الثالث والعشرون: في كثير من الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك الأقطار الأوربية تصعب أو تتعذر رؤية هلال رمضان أو شوال، والتقدم العلمي الموجود في كثير من هذه البلدان يمكِّن من معرفة ولادة الهلال بشكل دقيق بطريق الحساب، فهل يجوز اعتماد الحساب في هذه البلدان؟؟ وهل تجوز الاستعانة بالمراصد وقبول قول الكفار المشرفين عليها علمًا أن الغالب على الظن صدق قولهم في هذه الأمور؟؟ ومما يجدر بالملاحظة أن اتباع المسلمين في أمريكا وأوربا لبعض البلدان الإسلامية المشرقية في صيامها أو إفطارها قد أثار بينهم اختلافات كثيرة، غالبًا ما تذهب بأهم فوائد الأعياد، وتثير مشكلات شبه دائمة، وفي الأخذ بالحساب ما قد يقضي على هذا في نظر البعض أو يكاد. الجواب: يجب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد مراعاة للأحاديث النبوية والحقائق العلمية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1313 وإذا ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها ولا عبرة لاختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار. السؤال الرابع والعشرون: ما حكم عمل المسلم في دوائر ووزارات الحكومة الأمريكية أو غيرها من حكومات البلاد الكافرة، خاصة في مجالات هامة كالصناعات الذرية أو الدراسات الاستراتيجية ونحوها؟؟ الجواب: يجوز للمسلم العمل المباح شرعًا في دوائر ومؤسسات حكومات غير إسلامية إذا لم يؤد عمله ذلك إلى إلحاق ضرر بالمسلمين. السؤال الخامس والعشرون: ما حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها علمًا بأن هذا هو جزء من عمله في الشركة الموظفة له، وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل؟؟ السؤال السابع والعشرون: ما حكم تبرع المسلم فردًا كان أو هيئة لمؤسسات تعليمية أو تنصيرية أو كنسية؟ الجواب: لا يجوز للمسلم تصميم أو بناء معابد الكفار أو الإسهام في ذلك ماليًا أو فعليًا. السؤال السادس والعشرون: كثير من العائلات المسلمة يعمل رجالها في بيع الخمور والخنزير وما شابه ذلك، وزوجاتهم وأولادهم كارهون لذلك علمًا بأنهم يعيشون بمال الرجل، فهل عليهم من حرج في ذلك؟ الجواب: للزوجة والأولاد غير القادرين على الكسب الحلال أن يأكلوا للضرورة من كسب الزوج المحرم شرعًا. كبيع الخمر والخنزير وغيرهما من المكاسب الحرام بعد بذل الجهد في إقناعه بالكسب الحلال والبحث عن عمل. السؤال الثامن والعشرون: ما حكم شراء منزل السكنى وسيارة الاستعمال الشخصي وأثاث المنزل بواسطة البنوك والمؤسسات التي تفرض ربحًا محددًا على تلك القروض لقاء رهن تلك الأصول، علمًا بأنه في حالة البيوت والسيارات والأثاث عمومًا، يعتبر البديل عن البيع هو الإيجار لقسط شهري يزيد في الغالب عن قسط الشراء الذي تستوفيه البنوك؟ الجواب: لا يجوز شرعًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1314 الموسوعة الفقهية العناصر المميزة لخطة كتابة موسوعة المجمع لفقه المعاملات أولاً: الالتزام بالترتيب الموضوعي وفق منهج مختار يلحظ فيه الطرائق المختلفة للمذاهب، والكتب في المذهب الواحد. وأي تطوير يلحظ فيه المعمول به في العصر الحاضر في مجال الموسوعات الموضوعية الحقوقية ومناهج التدريس في الجامعات، وهذا المنهج يمكن من عرض الموضوعات دون تشتيت، كما أنه يتيح الفرصة للبدء بما هو أشد حاجة للعمل فيها. (ملحوظة: يستعان بكشاف لجميع العناوين لبيان موطن بحثها) . ثانيًا: يتصل بذلك الترتيب الموضوعي: اختيار تقسيمات مفصلة لزمر الأبواب بطريقة محكمة، مستأنسا فيها بما وصل إليه الكتاب المعاصرون بأوسع نظرة. وهذه من الأعمال التي تحتاج إلى إعداد متأن بعد استحضار المراجع القديمة والحديثة. وقد تضمن " الهيكل الموضوعي " نموذجا للترتيب المختار مستمدا من المتبع في كتب الفقه الإسلامي باعتبار (التصرف، والواقعة، والنظريات الأساسية) من خلال زمر تجمع الأبواب المتشابهة في الغرض، وليس من خلال نظرية الالتزام المعروفة في القانون المدني. وفيما يلي توضيح لخصائص الترتيب العام للمعاملات (الزمر) ، والترتيب الخاص للتصرفات والواقعات (الأبواب) : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1315 (أ) الترتيب العام للمعاملات: لا يخفى على المشتغلين بالفقه غلبة التقسيم الرباعي على جميع المؤلفات الفقهية، والمشتمل على قسم المعاملات، لكن لا يمكن القول بأن هناك طريقة موحدة أو متقاربة في تتابع المعاملات ضمن القسم المخصص لها، فهناك فروق شديدة، ويلتمس لها الشراح وأصحاب الحواشي اعتبارات لا يخلو أكثرها من التكلف. ولكن هذا لا يؤدي بنا إلى إهمال هذا الترتيب المتداول في الجملة بين الفقهاء، والأخذ بالترتيب القانوني المحض، والذي تمثله نظرية الالتزامات، وما يتصل بها من الكلام عن الحق والملكية أو الأموال. فإن هذه الطريقة ليست هي الوحيدة في مجال القوانين الوضعية، ولم تسلم هي ولا غيرها من النقد الشديد. فهناك اتجاهات قانونية حديثة تأخذ في ترتيب النظرية العامة للتعامل المالي بأساس له جذور فقهية أصيلة، وهو " التصرف الشرعي والواقعة الشرعية". وبهذا يتم تجنب البون الشاسع بين المتبع في كتب الفقه وبين التقسيم الذي سلكته نظرية الالتزام العامة. كما يؤمن من العيوب الملحوظة فيها. والبديل هو اعتبار التصرف (وهو أعم من العقد) والواقعة، وهي تشمل الفعل الإرادي وغير الإرادي كالولادة والموت.. وإضافة جملة من النظريات الأساسية كالحق، والمال، والملكية، والعقد، والشرط ... إلخ، تكتب لإعطاء التصور التام للعلاقة العامة بينها وبين التصرفات، ولا تتخللها تلك التصرفات إلا للربط والتعريف. وإذا كان لابد من مقاسم كبرى تنتظم التصرفات والواقعات، وهو مفيد لاختصار ما هو مشترك بينها من خصائص وأحكام عامة، فإن البديل هو أسلوب جمعها في زمر، وهو صنيع فقهي له بدائل قانونية أيضًا. وهذه الزمر متداولة على ألسنة الفقهاء وهي: التمليكات، التبرعات، الإسقاطات، الضمانات، الأمانات، التوثيقات ... إلخ، ومن السهل جمعها واستيعابها لجميع التصرفات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1316 (ب) الترتيب الخاص للتصرفات (التخطيط) : إذا تحللنا من الالتزام بنظرية الالتزام في تشجيرها الشامل للمعاملات، فإن ما وراء ذلك من التقسيمات الداخلية أمر مدروس ومحكم لدى الفقهاء، وهو أسلوب من الترتيب المنطقي لا يوصف بالقدم أو المعاصرة، ويمكن التصرف فيه عند الحاجة، والخطب فيه يسير. وللفقهاء في ترتيب المحتوى ضمن كل تصرف مناهج شتى أيضًا، لكن في كل مذهب كتاب أو كتب حظيت بالاهتمام حتى أصبح ما عداها محاذيا لها. وعلى سبيل المثال: للحنفية كتاب " بدائع الصنائع " للكاساني، لا يخفى ولعه برسم التصور الشامل للبحث قبل معالجته، وللشافعية كتاب " الوجيز " للغزالي، وللمالكية كتاب " لباب اللباب " لابن راشد القفصي، وكذلك " بداية المجتهد " لابن رشد ومنهجه التبويبي فريد. وللحنابلة كتاب " دليل الطالب"، ثم لغير هؤلاء كتب يمكن تلمسها منها: الأزهار، والنيل، والمختصر النافع ... ويستعان بقوائم بيبليوغرافية، وبخبرة أهل كل مذهب لترشيح الكتاب الأمثل من حيث التبويب. وهذا يتيح انتقاء تسلسل مناسب لأجزاء البحث، تحصل به خطة تفصيلية له، مع استيعاب المسائل التي لا يخلو منها أي تصرف أو واقعة بوضع (استمارة) فيها أشمل صورة لهذه المقاسم الداخلية، ومن ثم يتحرى الكاتب تغطية جميعها أو أكثرها حسب المقام. ثالثًا: شمول المذاهب الفقهية كلها (وكذلك مذاهب الصحابة والتابعين والمذاهب غير المتبوعة) ، وسلوك طريقة الاتجاهات الفقهية، بأن تعرض صورة المسألة، ثم يتم تشعيب الخلاف بإدراج المذاهب المتماثلة في رأي ثم الرأي الآخر،وهكذا. وذلك لتفادي تكررا العرض، ولتقديم تصور واضح لمنحى الخلاف، ولاختصار حجم الموسوعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1317 الغرض من سلوك طريقة الاتجاهات: تحاشي التكرار الذي يؤدي إليه ذكر كل مذهب على حدة، وما يستلزمه ذلك من تقديم مذهب معين. والمقصود من الأخذ بطريقة الاتجاهات أن تذكر المذاهب تبعًا لذكر المواقف (إذا لم تكن المسألة موضع اتفاق) . وذلك بمراعاة الأولوية المنطقية للبدء، بتقديم ما لا يتوقف فهمه على ما بعده، وذكر البسيط قبل المركب أو ما فيه تفصيل، وحين تتكافأ الاتجاهات من حيث الأولوية المنطقية يبدأ بما ذهب إليه الأكثرون، ثم تستكمل مواقف من بعدها. وتربط المذاهب بالآراء التي اندرجت تحتها، حتى لو كان للمذهب الواحد أكثر من رأي، فإنه يذكر المذهب ثانية عند الرأي الآخر. والعرض وفقًا للاتجاهات يلحظ فيه كل مسألة أو مجموعة متلازمة من المسائل، وليس بحسب البحث كله، أو أجزائه الكبرى. رابعًا: تدخل في الموسوعة جميع المسائل المستجدة والقضايا العصرية، في أبوابها المناسبة، وكذلك التطبيقات الجديدة للأحكام المقررة في كتب الفقه. المراد بالمسائل المستجدة كل واقعة جديدة في الظهور أو في الشهرة، وليس لها في المراجع الفقهية المعتمدة حكم ظاهر مفصل. فلا عبرة بالإشارات أو التعرض الخاطف لها في كتب الفقه، من فقيه واحد أو اثنين، أو لدى مذهب دون غيره، فهي تعتبر مستجدة طالما لم تحظ بالمعالجة المتكررة كغيرها من المسائل المتداولة في المتون والشروح والحواشي. كما يشار للتطبيقات الجديدة إذا كان في ذلك التطبيق ما يختلف من حيث المبدأ أو المنهج عن التطبيق السابق. خامسًا: اقتران الأحكام بأدلتها، ووجه الاستدلال إن لزم، مع تحري التوضيح والسهولة في عرضها. وإذا كان للمسألة أكثر من دليل يقتصر على أقواها وتشمل الأدلة النصوص والأقيسة والتعليلات. الأدلة الشرعية: " تذكر مع الأحكام أدلتها الشرعية من نصوص أو غيرها دون المناقشات فيها مع الاقتصار على المهم الذي يعرف به وجه استنباط الحكم من نص أو غيره. ويستتبع ذلك عزو الآيات، وتخريج الأحاديث ببيان موجز لمرجع الحديث ودرجته عند علماء الحديث". موطن ذكر الأدلة تال لذكر الحكم. تفاديا من تكرار تصويره فيما لو فصلت الأدلة عن مدلولها. ولا يذكر من الأدلة إلا ما استدل به أصحاب كل مذهب لمذهبهم في كتبهم. ولا يتعرض لمناقشات الأدلة سواء أوردها أصحاب المذهب أو غيرهم. وتخريج الأحاديث وبيان ضعفها أحيانا لا يتعارض مع إيراد المسألة الفقهية التي اقتضت ذكر الحديث؛ لأنه قد يكون للحكم دليل آخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1318 سادسًا: حق الترجيح بين الأدلة، أو استظهار بعض الآراء، يقتصر على لجنة التحرير والمراجعة. ويمكن للكتاب إثبات ما يبدو لهم من ترجيح أو استظهار في الهوامش ويترك البت فيها للجنة. يقصد بالترجيح الشخصي الذي لا يسمح بالإشارة إليه، رأي الكاتب، مما لم ينقله عن أئمة المذهب، ويجب ذكر ما رجحه فقهاء كل مذهب فيما يتصل بمذهبهم، مع وجوب التنصيص على درجة الرأي في المذهب بالعبارات المصطلح عليها فيه (حسب أصول الإفتاء المعبر عنها برسم المفتي) . سابعًا: اختيار الأسلوب الملائم لمتوسطي الثقافة، بعيدا عن التركيز العلمي الملحوظ في معظم النصوص الفقهية، وبعيدا عن الأسلوب الأدبي الإنشائي غير المنضبط، وعدم سرد النصوص من الكتب كما هي، إلا إذا كان يتحقق فيها اليسر والوضوح، فيقتصر على أجمعها معنى، وأوضحها دلالة، وأقربها أسلوبا. لا مانع من التزام عبارات المؤلفين في المراجع الفقهية ما دامت واضحة مناسبة لما يقتضيه المقام، مع التصرف فيها في حال غموضها أو تعقيدها أو أسهابها أو إيجازها المخل. التصرف في عبارات المراجع الفقهية قد يكون ضروريا لسلوك طريقة الاتجاهات الفقهية (المطلوب في البند الرابع) ، وكذلك الاستمداد من أكثر من مرجع لكل مذهب (المطلوب في البند السادس) . فلا بد لمراعاة الأمرين من التصرف بصورة يحافظ فيها على مراد المؤلف. ثامنًا: إفراد أصول الفقه بعمل مستقل وعدم تناوله في الموسوعة، لا سيما بعد التزام الترتيب الموضوعي للفقه. ستشتمل الموسوعة بين مصطلحاتها الفقهية على (إحالات) بجميع المصطلحات الأصولية يكتفى فيها بتعريفها وتصويرها بما يمنع اللبس، كذكر تقاسيمها الأساسية وأهم أمثلتها، مع الإحالة بالتفصيل إلى الملحق الأصولي الموضوعي، مع الاستفادة مما كتب في علم الأصول قديما أو حديثا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1319 والملحظ في إفراد الأصول بملحق هو النظر إلى طبيعته الخاصة، من حيث عرض المذاهب على أسس أوسع من المذاهب المعروفة، كما أن الغرض من ترتيبه موضوعيا هو لمُّ أجزاء مباحثه تسهيلاً للإفادة منه، مع وضع كشاف تحليلي ألفبائي بأول الملحق للدلالة على مواطن مصطلحاته، فضلاً عن أخذ جميع العناوين الأصولية في صورة إحالات بين مصطلحات الموسوعة الفقهية، وكذلك يفرد ما بتوابع أصول الفقه (وهو القواعد الفقهية، والأشباه والنظائر، والفروق) لتأرجحها بين الفقه والأصول، فتفرد عن الموسوعة بمدونات مناسبة. تاسعًا: ذكر المقابل القانوني للمصطلحات الفقهية بين قوسين، سواء في التقسيمات أو الأبحاث والمسائل. ليس من شأن هذه الموسوعة استعراض الأحكام القانونية؛ لأنها موسوعة فقهية، ولكن من اللازم المقارنة بين مصطلحات الفقه ومصطلحات القانون في الموضوع نفسه، كذلك يستعان بالتقسيمات المناسبة فقهية كانت أو قانونية. إن المبدأ القائل " لا مشاحة في الاصطلاح" يحكم هنا، فإنه لا سبيل إلى إهمال ما تعارفه الناس من تعابير فنية، سواء كانت موروثة أو مستحدثة، حتى لو كانت مشتركة، فإن من الممكن إلحاق ما يقطع الاشتراك بين القوسين. والمصطلحات الفقهية معروفة للفقهاء والمشتغلين بكتبهم، ولها مؤلفاتها المشار إليها في بعض ما نشرته أمانة المجمع من مقالات الأعضاء. أما المصطلحات القانونية فهي في الغالب مترجمة عن اللغات الأخرى التي راجت مع المستعمرين المتعددين حسب كل بلد خضع لهم، ومن هنا جاء التفاوت والازدواجية فيما بينها من جهة، وبينها جميعها وبين المصطلحات الفقهية. وإن كانت هذه أيضًا قد تختلف حسب المذاهب أو ينفرد المذهب بما لا مقابل له في المذاهب الأخرى وهو يسير. ولذا لا بد من الاقتران بين المصطلح الفقهي وما يقابله واحدا أو أكثر،، إما في صلب البحث للمرة الأولى، ثم يختار الكاتب ما هو أوسع تداولا، وإما في الهامش. ومن الممكن أن يستعان بقوائم معدة لهذا الغرض تلحق بالمادة العلمية وتستوعب البدائل. وفيما أصدره مكتب تنسيق التعريب من مصطلحات الفقه والقانون نماذج ومواد أولية للاستكمال. كما أن الكشاف المعد للمصطلحات ينبغي أن يشتمل على جميع ما تداوله الفقهاء أو القانونيون منها مع رموز تبين طبيعة هذا المصطلح الفقهية أو القانونية. وسيكون المعجم العام للمصطلحات مرجعا أصيلا للموسوعة،ولاسيما إذا تمت المبادرة إلى إخراجه قبلها؛ لأن الأعمال فيه محصورة، وتأخذ طابع الجمع والترتيب بعد الاختيار، خلافا للموسوعة التي تقوم على التمثل للمعلومات وصياغتها بطريقة مقارنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1320 عاشرًا: الإفادة من جميع ما كتب سواء في القرون السابقة أم في العصر الحاضر، بحيث يستعين الكاتب بكل ما وصل إلى علمه ويرجع إلى المؤلفات الحديثة والدوريات ونشرات المجامع والجامعات والمؤسسات العلمية. لضمان تمثيل المذاهب هناك مراجع أساسية معتمدة لكل مذهب لا بد للكاتب من الرجوع إليها كحد أدنى، سواء نقل منها جميعها أو اجتزأ بما يغني عن غيره، وهي في مجموعها تحقق خصائص عديدة مثل أصالة المذهب، والعناية بالاستدلال من المنقول والمعقول، والتوسع في التفريع، والترجيح والاعتماد للفتوى، وتأخر زمن المؤلف ليشمل ما قبله من كتابات. - المراجع الأساسية في المذهب الحنفي: 1- المبسوط، للسرخسي. 2- رد المحتار (حاشية ابن عابدين) . 3- فتح القدير شرح الهداية، لابن الهمام. 4- بدائع الصنائع. للكاساني. 5- الفتاوى الهندية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1321 - المراجع الأساسية في المذهب المالكي: 1- المدونة، رواية سحنون عن الإمام مالك. 2- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير على مختصر خليل. 3- شرح الزرقاني على خليل بحاشية الرهوني. 4- حاشية العدوي على شرح أبي الحسن على الرسالة لابن أبي زيد القيرواني " كفاية الطالب الرباني". 5- مواهب الجليل للحطاب شرح مختصر خليل. - المراجع الأساسية في المذهب الشافعي: 1- الأم، رواية الربيع عن الإمام الشافعي. 2- حاشية الجمل على شرح المنهج. 3- أسنى المطالب شرح روض الطالب، للقاضي زكريا الأنصاري. 4- الروضة، للإمام النووي. 5- نهاية المحتاج شرح المنهاج، للشمس الرملي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1322 المراجع الأساسية في المذهب الحنبلي: 1- مسائل الإمام أحمد لأبي داود، وغيره. 2- كشاف القناع شرح الإقناع، للبهوتي. 3- المغني، لابن قدامة. 4- الفروع، لابن مفلح. 5- مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى. المذاهب الأربعة الأخرى: هناك كتب مشهورة في هذه المذاهب، كشروح الأزهار في المذهب الزيدي، وشرح النيل لأطفيش، والإيضاح للشماخي في المذهب الأباضي، وشرح اللمعة، وشرح المختصر النافع، وتذكرة الفقهاء في المذهب الإمامي، والمحلى في المذهب الظاهري. ويستعان بفقهاء كل مذهب بوضع قائمة مفصلة للمراجع الممثلة لفقه المذهب، مع الخصائص المشار إليها في بداية الكلام عن المراجع من حيث الأصالة والرجحان والاستدلال ... من المراجع لفقه السلف والفقه العام: يستمد ذلك من كتب الخلاف، كاختلاف الفقهاء لابن جرير الطبري، والمحلى لابن حزم، والمغني لابن قدامة، والمجموع للنووي، والقوانين الفقهية لابن جزي، وبداية المجتهد لابن رشد، والبحر الزخار للمهدي وغيرها من المطولات الفقهية. ويستمد من كتب الحديث وشروحه كمصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، وشرح معاني الآثار للطحاوي، والاستذكار والتمهيد كلاهما لابن عبد البر، وفتح الباري لابن حجر، ونيل الأوطار للشوكاني. ويستمد من كتب التفسير المطولة كالطبري والقرطبي والجصاص وأبي بكر ابن العربي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1323 الهيكل الموضوعي التقسيم المختار للموسوعة الفقهية للمعاملات من حيث الزمر، والأبواب لكل زمرة تمهيد: نظرا للاقتصار على قسم المعاملات من الفقه (بالتقسيم الرباعي القديم المشتمل على العبادات، والمعاملات، والمناكحات، والعقوبات مع المرافعات، فإن هناك حاجة للبت في بعض الأبواب المتأرجحة بين تلك الأقسام الأربعة. وسيقتصر البحث فيما هناك احتمال بدخوله في قسم المعاملات، دون ما كان التردد فيه قاصرا على الأقسام الأخرى مع الجزم بعدم صلته المباشرة بالمعاملات. هذا مع العلم بأن هذه الأمور لم تسلم من الخلاف الواسع فيها، وهو خلاف لا مناص من الاختيار منه دون إمكانية حسمه. - فالأبواب المتعلقة بالأيمان والنذور والواجبات أو المندوبات المالية كالأضحية والعقيقة، لا تندرج في المعاملات بالرغم من العنصر المالي فيها؛ لأنها لا مطالب لها من العباد، ولا يجري فيها القضاء. - والهبة وإن أدرجتها بعض قوانين الأحوال الشخصية بين أبوابها، فإنها من صميم قسم المعاملات. - والوصية والوقف: مع التسليم بالعلاقة الشديدة بينهما وبين ما تدور عليه أبواب الأحوال الشخصية مع القرابة ونحوها، فإن الوصية لا تختص بالأقارب، وكذلك الوقف الخيري، وهما في غاية الأهمية بالنسبة للدراسات الاقتصادية الحديثة؛ لأنهما من قبيل الموارد العامة، لذا أدرج هذان الموضوعان في المعاملات. - واللقطة: لما اعتبرت من المعاملات المالية استتبع ذلك الكلام عن اللقيط مع أنه يتصل بشخصه وأحواله، لكن غالب الأحوال هي العلاقة المالية من جهة التصرف بما وجد معه وما ينفق عليه. - والتخارج: يعتبر لدى الفقهاء من توابع الإرث؛ لأن معظم تطبيقاته فيه، لكن قابلية هذا العقد تتسع لما سوى الإرث من الحقوق المشتركة، لذا أدرج في موسوعة المعاملات المالية. - والصلح والإقرار: رغم علاقتهما بالمرافعات، ولكن العنصر المالي فيهما هو الأهم، لذا كانا مشمولين. - والحجر: مع أنه قيد على الأهلية، لكن تقييده على أهلية التصرف بالمال وأثر ذلك في التعامل مع المحجور، وكذلك الحال في المأذون، وهو هنا قاصر على الصبي المأذون له بالتجارة دون الرقيق لعدم التطبيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1324 أما باب الإفلاس: فلا ريب في إدراجه في قسم المعاملات. - والإيصاء أو الوصاية: هي من مشمولات الأحوال الشخصية، لكنها تشبه إلى حد كبير الوكالة وأنواع النيابة عن الغير في التصرفات المالية. - والغصب: وإن كان كثير من الفقهاء يورده عقب السرقة، لكنه من المعاملات لا من العقوبات. - كذلك الحال في الإتلاف، أو الإكراه: فإنه مدرج مع المعاملات لأثره على التصرفات عموما، ومنها التصرفات المالية. كما ألحق بالغصب: باب الاستحقاق، لأن أكثر الفقهاء يورده مع البيع. أما توزيع قسم المعاملات إلى زمر، فإن البيانات فيه قليلة متناثرة في بدايات الأبواب، والغرض منه ليس أكثر من الملاءمة بين تتابع الأبواب التي تضمها طبيعة عامة واحدة لكي يختصر الكلام عن الخصائص التي تشترك فيها. وقد اختيرت الزمر المشتملة على أبواب من بين التسميات الكثيرة التي يلحظ أن بعضها لا يجذب أبوابا، بل هو للمسائل وبعض الفروع، فكانت الزمر المختارة والجارية في قسم المعاملات بقطع النظر عن كثرة أبواب كل زمرة أو قلتها، هي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1325 1- التبرعات. 2- المعاوضات وتجمعهما زمرة كبرى هي " التمليكات" لكن التخصيص في اسم الزمرتين أولى بالاعتبار، ولم تؤخذ زمرة للإسقاطات؛ لأنها ليست لها أبواب. 3- المشاركات وألحق بها ما تنتهي به الشركة كالقسمة، أو الشفعة، وحقوق الشركاء في الجوار والمرافق. 4- الاستحفاظات 5- الإطلاقات 6- التقييدات 7- الضمانات 8- التوثيقات ولوحظ في الحوالة والكفالة أنهما توثيق مع أدائهما أدوارا أخرى، كالبيع أو الهبة في حالات الإطلاق أو التقييد والرجوع أو عدمه. وفيما يلي الأبواب التي تشملها كل زمرة: 1- (زمرة) المعاوضات: البيع (الاحتكار – التسعير) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1326 المقايضة الصرف السلم. بيوع الأمانة المرابحة /التولية/الإشراك/الوضيعة بيع المعاطاة بيع الوفاء بيع الربا بيع التلجئة الصلح التحكيم الإجارة الجعالة الاستصناع الإقالة 2- (زمرة) التبرعات: الهبة العمرى الرقبي العرية المنحة الإرفاق الإسكان الإخدام الهدية الإيراد بمرتب مدى الحياة الإباحة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1327 التزام التبرع (الوعد) الإبراء الإعارة المسابقة والمناضلة والجوائز الوصية الوقف القرض 3- (زمرة) المشاركات: الشركات (المفاوضة / العنان /الوجود، التقبل) القراض (المضاربة) الإبضاع المزارعة المساقاة (أو المعاملة أو المعاقدة) المغارسة. الشفعة أحكام الجوار والمرافق المشتركة القسمة المهاياة التخارج (المخارجة) عقد الموالاة الشركات الحديثة (بجميع أنواعها) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1328 4- (زمرة) الاستحفاظات: الإيداع الحراسة اللقطة اللقيط من حيث الملك والتصرف المفقود 5- (زمرة) الإطلاقات: الوكالة. الإيصاء الإذن للمميز (المأذون) . إحياء الموات والتحجر. 6- (زمرة) التقييدات: الحجر التفليس 7- (زمرة) التوثيقات: الرهن الكفالة الحوالة الإقرار التأمين 8- (زمرة) الضمانات: الغصب الإتلاف الإكراه الاستحقاق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1329 النظريات الأساسية المتصلة بفقه المعاملات 1- الأموال 2- الملكية 3- العقد 4- الشرط 5- الخيار 6- الأجل 7- الضمان 8- الأهلية 9- الغرر 10- القبض 11- الغبن 12- الفسخ 13- البطلان والفساد ... إلخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1330 بسم الله الرحمن الرحيم الخطوات العملية لإعداد الموسوعة الموسوعة عمل علمي يتصف بالطابع الجماعي الذي هو أهم العوامل التي تبعث الثقة فيها. وهذه الطبيعة تستتبع المرور بمراحل عديدة يتلو بعضها بعضا، ولا يمكن حذف بعضها أو تغيير موقعه. وذلك كله بعد تحديد خصائص الموسوعة المطلوبة من خلال خطة الكتابة بخصائصها وقيودها، ومن خلال الهيكل الموضوعي لها. وهذه المراحل هي: الاستكتاب، المراجعة، الاعتماد، الإخراج. الاستكتاب والمراجعة والاعتماد والإخراج: توطئة: بالرغم من أن هذه المهام هي تنفيذية، وتحتاج إلى جملة مفصلة من الإجراءات، ومجموعة من اللوائح الفنية والإدارية والمالية، وهي مما لا يمكن وضعه إلا من قبل لجنة، على ما تضمنته التوصيات التي تمخضت عنها الدورة الثانية، تحسن الإشارة هنا إلى بعض المعالم مما سلكته المشاريع القائمة، سواء أكانت فقهية أو غيرها، والتركيز هنا على الفقهية. ففي مجال الاستكتاب: لا بد أن يسبقه وضع خريطة شاملة لفقه المعاملات بترتيب عام مختار، ثم بتخطيط تفصيلي مستوعب لكل معاملة (تصرف أو واقعة) . وهذه التجزئة تتيح تجنيد أكبر قدر من الطاقات العلمية للكتابة وتؤدي للإسراع في الإنجاز، على أن يختار لكل (زمرة) من الزمر الفقهية لجنة من ثلاثة فقط، لتنسيق ما تضمه الزمرة، من النواحي الخارجية دون الغوص في المضمون، فذاك من عمل المراجعة بعد أن يحال إليها ما كتب منسجما في مكوناته وروابطه. والمتبع في بعض المشاريع أن لا يعهد بالكتابة إلا لمن له تجربة سابقة بإعداد رسالة دكتوراه مثلاً، أو كتب تدريسية رفيعة المستوى، أو مراجع في صميم الفقه بطريقة حديثة، ولا بد هنا من اختيار الطبقة العليا من هذه النوعية؛ لخطورة البحث الفقهي في المعاملات، وخاصة إلى معايشة التطبيقات القائمة، ويتم استكتاب الفقهاء في مواطن عملهم ويختار لكل باب من له سابق اهتمام به. أما المراجعة: فهي إما فردية أو جماعية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1331 والمراجعة الفردية أسهل وأقل تكاليف، ولذا يصار إليها في كل ما كتب. أما الاعتماد أي المراجعة الجماعية: فتكون للزمر بعد انتهاء كتابة محتواها ومراجعته، وتتم بمعرفة المجمع من لجنة الموسوعة. والمراجعون - حسب المتبع في بعض المشاريع - لا ينبغي أن تخلو عن رؤساء أقسام الفقه ممن بلغ درجة الاستناذية في الفقه، ومن في مستواهم من غير ذوي المؤهلات الرسمية. ويستعان في المراجعة بمتعمقين في الفقه في مواطن عملهم أيضًا دون تفرغ، ويراعى في عملية المراجعة – فضلا عما اشتملت عليه خطة الكتابة، وفضلاً عما تكشفه خبرة المراجع – تفقّد الأمور التالية: (أ) أصالة البحث. (ب) بذل جهد جديد في الموضوع من حيث المعلومات وترتيبها. (ج) جودة التعبير سواء كانت العبارة منشأة من الباحث أو مختارة من النصوص الفقهية. (د) التركيز على الموضوع وعدم الخروج عنه. (هـ) تنسيق المعلومات ومنهجية البحث. (و) تحديد المراجع بالعزو للجزء والصفحة وبيان الطبعة. والإخراج: عمل مزيج بين الفقه وأصول التحقيق والنشر، ويستعان فيه ببعض المختصين على هذا النحو، وتكفي له لجنة أو لجنتان لا تزيد كل منهما عن ثلاثة. هذا، ويمكن وضع الخطوط لإعداد الموسوعة على النحو التالي: الإخراج: يهدف الإخراج إلى إدخال اللمسات الفنية في عرض الموسوعة باستكمال علامات الترقيم والعناوين والفقرات والقواعد التنظيمية الأخرى، وفيما يلي نماذج لما ينبغي مراعاتها: أولاً: الورق والحجم والغلاف: الورق وزن (80) جرام أبيض ناعم، مقاس الصفحة 28 × 22 بعد القص تقريبًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1332 معلومات الغلاف – باليمين: الشعار وتحته اسم المجمع والأمانة، ثم في الوسط " موسوعة فقه المعاملات "، وتحتها رقم الجزء بالحروف، وتحته اسم الزمرة، أو الزمر التي في المجلد، وجميع المصطلحات الممثلة للزمرة، وفي الأسفل " حقوق الطبع محفوظة "، والغلاف الأيسر مماثل للأيمن باللغتين الإنجليزية من الخارج والفرنسية من الداخل، وتكون معلومات الكعب مماثلة للغلاف الأيمن، باستثناء الجزء فيذكر رقما لا حرفا، ويكون حجم المجلد من 300 – 400 صفحة. ثانيًا: تنظيم محتوى الصفحة: (أ) يلتزم ما أمكن التصريح باسم مؤلف المرجع في الصلب وباسم كتابه في الحاشية مع الجزء والصفحة. (ب) يذكر الرقم المتسلسل للصفحات بأسفل الصفحة في الوسط. (ج) يذكر في طرة الصفحة اليمنى اسم الزمرة والباب أو الأبواب الواردة في الصفحة، مع بيان رقم الفقرة في المصطلحات الأصلية الممتدة. وكذلك في الصفحة المقابلة. وذلك ببنط أسود مع خط منقط فاصل بين معلومات الطرة وبين الصلب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1333 (د) تتكون الصفحة من عمودين مع بيان فاصل بينهما دون خط، وذلك بالنسبة لكل ما في المجلد من مقدمة وبحوث وتراجم وفهراس. (هـ) أرقام الفقرات بنط 24 أسود متبوعة بخط أفقي، بارزة عن الكلام. (و) الكلام في الصلب يطبع ببنط 18 تقريبًا والحواشي بنط 12 تقريبًا. (ز) تستعمل علامات الترقيم المعهودة والمأخوذة من كتاب " كيف تكتب بحثا " للدكتور أحمد شلبي ص 173. (ح) الإحالة إلى مصطلح آخر أثناء الكتابة أو في نهايته تكون بحرف الراء متبوعًا بنقطتين في المصطلح المحال عليه، ورقم الفقرة فيه، وذلك كله بين قوسين هكذا (كذا: ر: كذا ف/..) وفي الإحالة لفقرة في نفس المصطلح يكتفى بذكر رقمها فقط. (ط) العناوين: عنوان الزمرة والباب يكتب خطا (روسم – كليشه) في وسط العمود. وأما عناوين الدلالة مثل (كذا/ر: كذا) فتطبع ببنط أسود من نفس بنط الكلام في وسط مستقل، وكذلك العناوين التقسيمية للبحث التي تكون في الوسط، وكذلك العناوين الجانبية للمسائل. (ي) الهامش والعزو للمراجع: يكتفى بذكر المراجع في الحواشي مع بيان الطبعة في أول ذكر لها في البحث، ويفترض أن كل ما لم تحدد طبعته من مواطن النقل عن الكتاب هو مطابق للمذكور أولا، فإن تغيرت فلا بد من تحديد الطبعة بازاء ذلك المكان يكون العزو للمرجع بالصورة التالية: اسم الكتاب، فرقم الجزء والصفحة مفصولاً بينهما بخط مائل، ثم تُبيّن الطبعة بعد حرف ط هكذا (0/0 ط 0 0 0) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1334 وإذا كان النقل غير مباشر يُبيّن المرجع المباشر متبوعا بعبارة " نقلا عن كذا "، ويكتفى في المعاجم بذكر اسم الكتاب والمادة. الهامش للمراجع وتخريج الآيات والأحاديث، فضلاً عن تخصيص توضع فيه الترجيحات والملاحظات التي تبدو للكاتب. وكذلك شرح المفردات للغوية الغريبة، والأسماء المبهمة مثل فقهاء المدينة، مشايخ بلخ. ويلاحظ بروز أرقام الهوامش، وتكون أرقام هوامش الصفحة متسلسلة فيها فقط، وتحت كل عمود هوامشه المتصلة به، وتفصل الحاشية عن الصلب بخط أفقي قصير. ثالثًا: تخريج الآيات والأحاديث: 1- تشكل الآيات شكلا كاملاً، وتخرج في الصلب بذكر اسم السورة متبوعًا برقم الآية هكذا مثلا {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] بين قوسين معقوفين. 2- يشكل من الأحاديث ما هو مُشكَِل فقط بحسب الضرورة (أي تشكل شكلا جزئيًا) . 3- يصحح لفظ الحديث حسب الأصل المنقول منه، فإن اختلف ذلك عما في كتب الأحاديث صحح في الهامش، وإن كان مرويا بالمعنى يوضح ذلك. 4- يخرج الحديث تخريجا موجزا بنسبته إلى الأصول المسندة التي أوردته بالجزء والصفحة. 5- تذكر درجة الحديث من الصحة والضعف ونحوهما، منسوبة إلى من نص عليها من الأئمة، وإن اختلفت نصوصهم تذكر باختصار، فإن لم ينص عليه أحد تذكر خلاصة ما في كتب التخريج بإيجاز. رابعًا: التراجم: 1- يترجم الفقهاء خاصة دون غيرهم من الأعلام المذكورين في الموسوعة. 2- تذكر تراجم الأعلام الواردة في جميع المجلدات مجتمعة في ملحق في آخرها، مرتبة بحسب حروف المعجم. 3- تذكر الترجمة باختصار بما لا يزيد عن ثلاثة أسطر. 4- تطبع التراجم بحرف من بنط 14 ويكون العلم ببنط أسود بارزا إلى اليمين مسافة مناسبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1335 خامسًا: ترتيب محتويات المجلد: ترتيب محتويات المجلد كما يلي: 1- صفحة العنوان. 2- الصفحة الثانية تذكر فيها الطبعة وسنة الطبع. 3- تقديم الأمانة. 4- مقدمة الموسوعة والإيضاحات الضرورية. 5- متن الموسوعة. 6- (في الأخير تماما) فهرس تفصيلي شامل لجميع الموضوعات الواردة في المجلد وما يتبع كل موضوع من العناوين الفرعية مسرودة كما وردت في الواقع مع بيان الصفحات والفقرات مع اقتران رقم الفقرة في الفهرس بحرف (ف) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1336 سادسًا: خطوات العمل في الإخراج الطباعي: 1- تصحيح البحث من حيث اللغة، وإضافة علامات الترقيم وتطبيق لائحة الإخراج مع توقيع كل من المكلفين بالتصحيح على كل ورقة من أوراق البحث قبل إرسالها للمطبعة وعند الاعتماد للطبع. 2- إضافة العناوين الرئيسية والجانبية التي يقتضيها البحث. 3- ترقيم فقرات البحث. 4- استخراج الفهرس التفصيلي لمحتوى المجلد من واقع العناوين. (هـ) الفهارس والكشافات لموسوعة فقه المعاملات: مهما تصورنا الإسراف في أمر فلا إسراف في أمر الفهارس الفنية والكشافات.. لأنها لا عبء فيها على المطالع، بل هي عبء حمله عنه صانع الفهرس وبذل وقته الطويل ليحفظ وقت غيره. وفي الكشافات علاج للأخذ بطريقة ما في الترتيب الموضوعي دون أخرى لأن التعويض عن الطرائق المعدول عنها أن تلحق على صورة فهارس ويتم الربط بينها وبين ما أخذ به. وعلى سبيل المثال يمكننا – وهو ضروري أيضًا – أن نلحق بالمادة العلمية فهرسا يمثل نظرية الالتزام بأوسع تصور لها مع تشعيب أجزائها ويشار إلى مكان بحث كل جزئية من خلال نظام ربط يعتمد المصطلحات والفقرات أو التبويب العنواني: كتاب، باب، فصل إلخ. كذلك لا بد من صنع فهرس تحليلي لجميع المسائل ملقبة كانت أو غير ملقبة عن طريق تصدير المسألة باللفظ الاصطلاحي الفقهي وترتيب هذه المسائل الفبائيا، ثم الإشارة إلى موطن بحثها.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1337 وهكذا يتم استيفاء جميع الفهارس النافعة ولو بأدنى صلة، ومن المتاح الاستعانة بالفهارس التي تم صنعها في الكويت من قبل وزارة الأوقاف كعمل مساعد للموسوعة وقد خدمت أكثر من أربعين مرجعا فقهيًا، وهناك خطة تعاون بين الوزارة وبين البنك الإسلامي للتنمية لإكمال هذا المشروع ليصبح كشافا شاملا لمصادر الفقه الإسلامي، ويوضع في متناول الباحثين في جميع البلاد الإسلامية بعد توفير التقنية اللازمة من كومبيوتر وميكروفيش وإعادة طباعة تلك المراجع حسب الطبعات المعتمدة للفهرسة وتعميمها عن طريق البنك إلى المراكز العلمية. وأعمال الفهرسة – بالطبع – تخرج عن العمل الكتابي للموسوعة ولكن لا بد أن يكون العاملون فيها من المشتغلين بالفقه وإن لم يصلوا إلى مرتبة الكتابة الموسوعية. وقد استعين في مشروع وزارة الأوقاف بالعاملين في المساجد من أئمة وخطباء مؤهلين فقهيا (كخريجي كلية الشريعة فقط) وكذلك بالعاملين في تدريس التربية الإسلامية أو التوجيه من نفس النوعية.. ولا بد أن يقرن بهؤلاء بعض المختصين المكتبيين لضمان عصرية الفهرسة وأخذها بما هناك من تطوير في وسائل العمل أو أشكاله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1338 معجم المصطلحات الفقهية معجم المصطلحات الفقهية عناصر الموضوع: 1- النظام الأساسي: جاء في المادة الخامسة من الباب الثالث من النظام الأساسي للمجمع: " وضع معجم للمصطلحات الفقهية ييسر على المسلمين إدراك معناها لغة واصطلاحًا عن طريق لجان متخصصة". 2- توصية شعبة التخطيط: رأت الشعبة في اجتماعها الأخير بجدة (شعبان 1405 هـ/مايو 1985 م) أن يكون المعجم المراد وضعه معجما تعريفيا بالمصطلحات الفقهية لا مجرد فهرس للمصطلحات، ودون اشتماله على أحكام فقهية تفصيلية، وأن يكون شاملا لجميع ما ورد من مصطلحات في المذاهب الفقهية. ولقد طلبت الشعبة من الأمانة العامة تكوين لجنة تستعرض الجهود السابقة في هذا المجال والاقتراحات التي قدمت في الموضوع إلى أمانة المجمع، وتستعين بالفهارس التي تم إنجازها للكتب الفقهية؛ لوضع منهج واضح لإخراج معجم شامل للمصطلحات الفقهية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1339 على أن يتم توثيق معاني هذه المصطلحات في المعجم المأمول بالرد إلى كتب المذاهب المتعددة، وعلى أن تراعي الأمانة العامة، عند تشكيل هذه اللجنة إمكانيات المجمع وتسهيل العمل، وبحيث يصار إلى البدء بتنفيذ العمل بتكليف مختصين لعمل معجم لمصطلحات كل مذهب على حدة، ثم يجري إخراج المعجم الشامل. 3- قرار المجمع في دورته الثانية بناء على محضر لجنة المعجم: المعجم: أما المعجم المقرر إعداده للمصطلحات الفقهية، فقد رأت اللجنة أن ما جاء عنه في تقارير الأعضاء، وما اشتمل عليه تقرير لجنة التخطيط يعتبر كافيا، لأن ما بعد هذا التصور يعتبر من القضايا التنفيذية التي تتطلب القيام بالإعداد الفعلي مستعانا بالأعمال السابقة سواء في مجال المعاجم (معجم المحلى، ومعجم المغني الصادر في الكويت) أو الفهارس التحليلية للمراجع الفقهية الكثيرة التي تقوم بها وزارة الأوقاف في الكويت وأن اللجنة العلمية المقترحة للموسوعة سيكون من عملها الإشراف على إعداد المعجم. والله الموفق. توقيع أعضاء لجنة الموسوعة الفقهية والمعجم: الشيخ عبد الله البسام د. عبد السلام العبادي الأستاذ عبد الحليم الجندي د. محمد عبد اللطيف فرفور (مقرر اللجنة) الدكتور عبد الستار أبو غدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1340 توطئة عن الخطوات التنفيذية: في ضوء عناصر الموضوع المستخلصة مما جاء عن " المعجم " في النظام الأساسي للمجمع، وتوصيات شعبة التخطيط، وتوصية لجنة المعجم التي اعتمدت ضمن قرارات الدورة الثانية للمجمع فإن المرحلة الحالية هي مرحلة التنفيذ والإعداد الفعلي للمعجم بالاستفادة من كل من المعاجم السابقة، والفهارس التحليلية للمراجع الفقهية. وتقتضي إجراءات التنفيذ تقديم نماذج لما ستكون عليه بيانات المعجم، مع قوائم بالمعاجم والفهارس التحليلية المنجزة أو التي هي قيد الإنجاز، وكذلك قوائم بالفهارس الفقهية القديمة وكتب التعريفات والمصطلحات. وقد تم إعداد ذلك كله كخطوة عملية للتنفيذ. المجمع والجهات المعنية بالمعاجم الفقهية: غير أن من الضروري الإشارة إلى عنصر جديد في سبيل إعداد معجم المصطلحات الفقهية من شأنه " توفير إمكانيات المجمع، وتسهيل العمل " وهو أيضًا منسجم مع رغبة شعبة التخطيط في عمل معجمات لمصطلحات كل مذهب على حدة تمهيدا لإخراج المعجم الشامل، هذا العنصر الجديد هو اهتمام مشترك بين وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في الكويت والبنك الإسلامي للتنمية في جدة، انطلاقًا من عناية الوزارة بفهرسة المراجع الفقهية وعناية البنك بالمصطلحات الاقتصادية الإسلامية (أي فقه المعاملات) وهو ما لا يتم بصورة كاملة إلا من خلال العناية بمصطلحات الفقه كله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1341 وقد تمخض عن هذا الاهتمام المشترك توقيع ميثاق تعاون لإصدار " الكشاف الشامل لمصطلحات الفقه الإسلامي" بنهوض الوزارة بالعبء العلمي، وتكفل البنك بكل ما يتطلبه تعميم الانتفاع بهذا الجهد، ومن الواضح أن " الكشاف الشامل " نافذة واسعة إلى مقومات المعجم الذي يعتزم المجمع إعداده، لأن الفهارس التحليلية لكتب الفقه تؤدي إلى ما يلي من البيانات – وهي كلها من لوازم مادة المعجم: - - حصر المصطلحات لكل مذهب، ومن ثم لجميع المذاهب الفقهية. - الوقوف على مواطن " تعريف " تلك المصطلحات. - الوقوف على مواطن " الحكم الإجمالي " لتلك المصطلحات. الاقتراح: ولهذا أتقدم باقتراح لتوحيد الجهود بين المجمع وبين الجهتين المتعاونتين المشار إليهما وهو أن ينضم المجمع رسميا إلى ذلك الميثاق ويكون هو الجهة الأولى المستفيدة من تلك الأعمال وفي الوقت نفسه هو مناط الاعتماد والتقويم لها، ومنحها الثقة المجمعية من خلال لجنة المعجم خاصة ومساهمات الأعضاء عامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1342 المرفقات: 1- الكشاف الشامل لقائمة المصادر المباشرة للمصطلحات والتعريفات. 2- نماذج للبيانات التي سيشتمل عليها المعجم بالنسبة لكل مصطلح. الكشاف الشامل (67) فهرسا تحليليا فقهيًا 1- الفواكه الدواني شرح الرسالة جزءان مجموع صفحاتهما (944) 2- حاشية الباجوري علي ابن قاسم (4) أجزاء. مجموع صفحاتها (1856) . 3- كفاية الأخيار للحصني جزءان مجموع صفحاتهما (626) . 4- إعانة الطالبين (4) أجزاء مجموع صفحاتها (1377) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1343 5- شرح البهجة للقاضي زكريا (5) أجزاء مجموع صفحاتها (2150) . 6- تحفة المحتاج لابن حجر (10) أجزاء. مجموع صفحاتها (4735) 7- الغاية القصوى للبيضاوي جزءان مجموع صفحاتهما (1633) 8- البناية شرح الهداية للعيني (10) أجزاء مجموع صفحاتها (8676) 9- البحر الرائق لابن نجيم (8) أجزاء مجموع صفحاتها (3160) 10- حاشية أبي السعود على شرح الكنز (3) أجزاء مجموع صفحاتها (1793) 11- مجمع الأنهر جزءان مجموع صفحاتهما (1420) 12- كشف الحقائق للأفناني جزءان مجموع صفحاتهما (704) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1344 13- أسهل المسالك (3) أجزاء مجموع صفحاتها (1299) 14- منح الجليل شرح خليل لعليش (4) أجزاء مجموع صفحاتها (3138) 15- حاشية الرهوني علي الزرقاني على خليل (8) أجزاء مجموع صفحاتها (3019) 16- فتح الجواد لابن حجر جزءان مجموع صفحاتهما (1089) 17- نيل المآرب للشيباني جزءان مجموع صفحاتهما (990) 18- الكافي لابن قدامة (4) أجزاء مجموع صفحاتها (2111) . 19- منار السبيل شرح الدليل لابن ضويان جزءان مجموع صفحاتهما (4099) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1345 20- المبدع لابن مفلح (10) أجزاء مجموع صفحاتها (4099) 21- الإنصاف شرح المقنع للمرداوي (12) جزءا مجموع صفحاتها (5782) 22- الروض النضير للسيافي (4) أجزاء. مجموع صفحاتها (1805) 23- البحر الزخار لابن المرتضى (5) أجزاء مجموع صفحاتها (2195) 24- المنتزع المحتار لابن مفتاح (4) أجزاء مجموع صفحاتها (2353) . 25 - الفروع لابن مفلح (6) أجزاء مجموع صفحاتها (3888) 26- الشرح الصغير بحاشية الصاوي (4) أجزاء مجموع صفحاتها (3050) 27- شرح منتهى الإرادات (3) أجزاء مجموع صفحاتها (1514) 28- حاشية ابن عابدين (5) أجزاء مجموع صفحاتها (2804) . 29- أسنى المطالب شرح الروض (4) أجزاء مجموع صفحاتها (2062) 30 – مدونة الإمام مالك (6) أجزاء مجموع صفحاتها (2970) . 31- المبسوط للسرخسي (30) جزءا مجموع صفحاتها (6368) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1346 32- البدائع للكاساني (7) أجزاء مجموع صفحاتها (2134) . 33- الفتاوى الهندية (6) أجزاء مجموع صفحاتها (3789) 34- مواهب الجليل للحطاب (6) أجزاء مجموع صفحاتها (3526) . 35- الأم للشافعي (7) أجزاء. مجموع صفحاتها (1960) 36- روضة الطالبين للنووي (12) جزءا مجموع صفحاتها (5023) 37- نهاية المحتاج للرملي (8) أجزاء مجموع صفحاتها (3758) 38- مسائل الإمام أحمد لأبي داود. جزء واحد مجموع صفحاته (326) 39- مسائل الإمام أحمد لابن هاني جزءان مجموع صفحاتهما (497) 40 – المغني لابن قدامة (12) جزءا ط (1) المنار مجموع صفحاتها (8065) 41- المغني لابن قدامة (9) أجزاء ط، الرياض، مجموع صفحاتها (6203) . 42- الاختيار شرح المختار للموصلي (5) أجزاء مجموع صفحاتها (846) 43- المحلى لابن حزم (11) جزءا مجموع صفحاتها (1480) 44- جمع الجوامع بشرح المحلى جزء واحد مجموع صفحاته (439) 45- مسلم الثبوت شرحه للأنصاري جزءان مجموع صفحاتهما (742) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1347 46- المجموع للنووي شرح المهذب (12) جزءا مجموع صفحاتها (5697) 47- المعيار للونشريسي (12) جزءا مجموع صفحاتها (5422) 48- فتاوى ابن تيمية (35) جزءا مجموع صفحاتها (15367) 49- بداية المجتهد لابن رشد (2) جزءان مجموع صفحاتها (952) 50- الإقناع للخطيب الشربيني (4) أجزاء مجموع صفحاتها (619) 51- الشرقاوي على شرح التحرير جزءان مجموع صفحاتهما (1069) 52- الفتاوى الحامدية جزءان مجموع صفحاتهما (1026) 53- الفتاوى المهدية (7) أجزاء مجموع صفحاتها (3998) 54- فتاوى ابن حجر الكبرى (4) أجزاء. مجموع صفحاتها (1735) 55- فتاوى الرملي (4) أجزاء مجموع صفحاتها (1735) 56- فتاوى السبكي (2) جزءان مجموع صفحاتها (1162) 57 – فتاوى عليش (فتح العلي المالك) (2) جزءان مجموع صفحاتهما (823) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1348 58- الفتاوى الأنقروية جزءان مجموع صفحاتهما (895) 59- فتح القدير (8) أجزاء مجموع صفحاتها (3806) 60 – شرح الزرقاني (8) أجزاء مجموع صفحاتها (2174) 61 – كفاية الطالب الرباني جزءان مجموع صفحاتهما (868) 62 – مطالب أولي النهي (6) أجزاء مجموع صفحاتها (4475) 63 - حاشية الجمل (5) أجزاء مجموع صفحاتها (3722) 64 – حاشية الدسوقي علي شرح الكبير (4) أجزاء مجموع صفحاتها (2134) 65 – كشاف القناع (6) أجزاء مجموع صفحاتها (3723) 66- جواهر الأكليل جزءان مجموع صفحاتهما (750) 67 – شرح المنهاج بحاشية القليوبي وعميرة (4) أجزاء. مجموع صفحاتها (2443) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1349 نموذج (1) من العبادات الترجيع التعريف: الترجيح في اللغة ترديد الصوت في قراءة أو أذان أو غناء أو زمر أو غير ذلك مما يترنم (لسان العرب مادة " رجع ") . ويستعمل الفقهاء كلمة الترجيح بمعنيين: 1- رفع المؤذن صوته بالشهادتين بعد أن خفض بهما (حاشية الشلبي بهامش الزيلعي 1/ 90) . 2- التلحين، وهو إخراج الحرف عما يجوز له في الأداء من نقص من الحروف أو من كيفياتها وهي الحركات والسكنات أو زيادة شيء فيها (حاشية الشلبي بهامش الزيلعي 1/ 91، والبحر الرائق لابن نجيم) . الحكم الإجمالي: الترجيع بالمعنى الأول: أن الأذان لا ترجيع فيه. بهذا قال الحنفية والحنابلة على الصحيح من المذهب والإباضية والزيدية والإمامية. (الزيلعي 1/ 90، والبحر الرائق 1/ 269، والبناية 2/ 9، والمغنى مع الشرح الكبير 1/ 416، والإيضاح للشيخ الشماخي 1/ 397 ط. مطبعة الوطن، عيون الأزهار في فقه الأئمة الأطهار ص 82، واللمعة الدمشقية 1/ 239 نشر جامعة النجف) . وقال المالكية والشافعية على المذهب الصحيح والظاهرية بسنة الترجيع في الأذان. (حاشية العدوي 1/ 223، والمجموع 3/ 90، 91، وروضة الطالبين 1/ 199، والمغني مع الشرح الكبير 1/ 416، والمحلى لابن حزم 3/ 149، 150 الفقرة/331) . وأما الترجيع بالمعنى الثاني وهو التلحين فينظر في (قراءة ولحن) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1350 نموذج (2) من العقوبات لوث التعريف: اللوث في اللغة معناها البينة الضعيفة غير الكاملة. (المصباح المنير مادة " لوث ") وللوث عند الفقهاء، تعاريف متعددة منها أنه قرينة لصدق المدعي بأن وجد قتيل في محلة أو قرية صغيرة لاعدائه أو تفرق عنه جميع محصورون ولو لم يكونوا أعداه. (شرح المنهاج للمحلى 4/ 164، حاشية الشرقاوي 2/ 383 نشر دار المعرفة) . (ومنها) أنه هو الأمر الذي ينشأ عنه غلبة الظن بصدق المدعى بالقتل. (الدسوقي 4/ 287 ط. عيسى الحلبي) . (ومنها) أنه العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر وما بين الشرطة واللصوص وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله. (المغني مع الشرح الكبير 10/ 7 – 8) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1351 الحكم الإجمالي: لا تجب القسامة إلا إذا كان هناك لوث. بهذا قال المالكية والشافعية والحنابلة والإمامية والظاهرية والزيدية. (حاشية الدسوقي 4/ 287 ط. الحلبي، الشرقاوي/383، وكشاف القناع 6/68، واللمعة الدمشقية 10/ 72 نشر جامعة النجف، والمحلى 11/ 84، والمشرع المختار 4/ 460) . ولا يشترط الحنفية والإباضية اللوث لوجوب القسامة. ومن أهم وجوه اللوث: العداوة، تفرق جماعة عن قتيل، وجود قتيل لا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكين ملطخ بالدم ولا يوجد غيره ممن يغلب على الظن أنه قتله، اقتتال فئتين فيفترقون عن قتيل من أحدهما، شهادة العبيد والنساء بالقتل، قول المجروح: دمي عند فلان. ومن الفقهاء من يشترط لتحقق اللوث أن يكون بالقتيل أثر ومنهم من لا يشترط. (البناية 1/ 328 – 331، والنيل وشفاء العليل 15/ 161، 162) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1352 نموذج (3) من المعاملات اشتباه التعريف: الاشتباه مصدر اشتبه، مثال: اشتبه الشيئان وتشابها: أشبه كل واحد منهما الآخر، والمشتبهات من الأمور: المشكلات. والشبهة اسم من الاشتباه وهو الالتباس. (لسان العرب والمصباح المنير مادة شبه) . والاشتباه في الاستعمال الفقهي أخص منه في اللغة فقد عرف الجرجاني الشبهة: بأنها ما لم يتيقن كونه حراما أو حلالا. (التعريفات للجرجاني ص 110) . من أهم أسباب الاشتباه. الاشتراك الواقع في الألفاظ واحتمالها للتأويلات، دوران الدليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه، اختلاف الرواية، اختلاف الإعراب، دعوى النسخ وعدمه، وتعارض الأدلة دون رجح. (الموافقات للشاطبي 4/ 213 – 214 ط. المكتبة التجارية، والإحكام لابن حزم 2/ 124، ومقدمة بداية المجتهد) . من أهم طرق إزالة الاشتباه: التحري (الفتاوى الهندية 5/ 382) ، والأخذ بالقرائن (مجلة الأحكام العدلية المادة 7141) ، واستصحاب الحال (مجلة الأحكام العدلية المادة 5) ، والأخذ باحتياط (إرشاد الفحول ص 244 – 245) ، وإجراء القرعة (القواعد لابن رجب) . ومن أمثلة المسائل الفقهية التي يقع فيها الاشتباه. اشتباه الثياب الطاهرة بغيرها. فقد ذهب الحنفية والمالكية على المشهور والشافعية إلى أن من تحقق من إصابة النجاسة لأحد ثوبيه وطهارة الآخر فاشتبه الطاهر بالنجس فإنه يتحرى أي يجتهد بعلامة تميز له الطاهر منهما من النجس. فما أداه اجتهاده إلى أنه طاهر صلى به وما أداه اجتهاده إلى أنه نجس تركه حتى يغسله. (الفتاوى الهندية 1/ 60 ومواهب الجليل 1/ 160، والمهذب 1/ 61) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1353 ويرى الحنابلة والإمامية وابن الماجشون من المالكية أن من اشتبهت عليه ثياب طاهرة بنجسة لم يجز له التحرى وصلى في كل ثوب بعدد النجس وزاد صلاة. (كشاف القناع 1/ 12 نشر دار المعرفة، والمغنى لابن قدامة 1/ 63 ط. الرياض، ومفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة 1/ 182، والحطاب 1/ 160) . وقال الزيدية: إذا التبس الثوب الطاهر بغيره صلى في كل وحد من الثوبين مرة. (شرح الأزهار 1/ 179 – 180 ط، مطبعة الحجازي بالقاهرة) وقال الإباضية: ثوب الريبة في الصلاة أولى من الثوب المنجوس والحديد والنحاس والرصاص والذهب والحرير. (كتاب الإيضاح للشيخ الشماخي 1/ 429؛ والنيل وشفاء العليل 2/ 58 نشر دار الفتح) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1354 نموذج (4) من الأنكحة (الأحوال الشخصية) اهتداء التعريف: الاهتداء: مصدر اهتدى، يقال: اهتدى الرجل امرأته إذا جمعها إليه وضمها، وهي مهدية وهدى أيضًا. (لسان العرب مادة هدى) . وخلوة الاهتداء عند المالكية – وهم أكثر الفقهاء استعمالاً لهذا اللفظ – هي إرخاء الستور إن كان هناك إرخاء ستور أو غلق باب أو غيره. (حاشية الدسوقي 2/ 301 ط. دار الفكر) . فخلوة الاهتداء هي خلوة بناء، وهي غير الخلوة التي تكون لا لأجل البناء. (انظر التاج والإكليل بهامش الحطاب 3/ 507) . الحكم الإجمالي: إذا اختلى الزوج بزوجته خلوة اهتداء ثم طلقها وتنازعا في المسيس، فقال الزوج: ما أصبتها، وقالت هي: بل أصباني، فإنها تصدق في ذلك بيمين، بكرًا كانت أو ثيبا، كان الزوج صالحًا أم لا. (حاشية الدسوقي 2/ 301، ومواهب الجليل 3/ 507) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1355 معلمة القواعد الفقهية المقدمة: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد، فإن علماء الشريعة العاملين نضر وجوهم، ذهبوا في خدمة الشريعة كل مذهب متفننين بالتدوين والتأليف فنتج من هذا الإثراء تولد عدد غير قليل من العلوم الشرعية ومن أجلها: الفروع الفقهية بدقائقها التفصيلية المنتزعة من مصادرها الأصلية: الكتاب والسنة. والأثر. فكان من ثمار تلك التفريعات: ظهور القواعد الفقهية الجامعة لعدد من المسائل الفرعية فقد تحيط القاعدة بمآت الفروع. فصارت القاعدة عندهم تعني: كل تأصيل فقهي كلي أو أغلبي يحوي بتقعيده قضاياه وفروعه المتناثرة التي موضوعها هو فعل المكلف. وهذا التقعيد مسبوق بلسان النبوة في: جوامع الكلم ثم على لسان الصحابة والتابعين، ثم يجدها الناظر في عصور التدوين منثورة في ثنايا الأحكام الفقهية التكليفية للتعليل والتدليل، حتى تكونت أمام العلماء ظاهرة الاهتمام بأفرادها في تأليف مستقلة، وكان ذلك في طلائع القرن الرابع الهجري على يد علماء المذهب الحنفي وفي مقدمتهم الكرخي عبد الله بن الحسن م سنة 340 هـ في كتابه المسمى: أصول الكرخي، وأبو زيد عبد الله بن عمر الدبوسي م سنة 430 هـ رحمهما الله تعالى. ثم أخذت الكتب في هذا الفن العلمي الجامع تنشر لدى علماء المذاهب وفقهاء الملة، وقد وقع لي نحو من (200) كتاب استخرجتها من كشف الظنون وذيليه. يضاف إليها ما يوجد من القواعد المحررة المشروحة بمآت الأمثلة التفريعية لدى شيخ الإسلام ابن تيمية ولدى تلميذه ابن القيم، وقد استقرأت ما لدى ابن القيم فبلغت نحوًا من مائتي قاعدة فقهية طبعت في الجزء الأول من كتابي التقريب لفقه ابن القيم 1/ص 259 – 292 مبينًا مواضعها من كتبه المطبوعة وهي (31) كتابًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1356 المؤلفات المطبوعة فيها: هذا وقد مَنَّ الله تعالى على المسلمين وهو المانَّ وحده بظهور عدد من كتب القواعد الفقهية مطبوعًا منها ما يلي: 1- أصول النظر. للكرخي 2- تأسيس النظر. للدبوسي 3- القواعد النورانية الفقهية الفقهية لابن تيمية 4- قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام. 5- القواعد لابن رجب. 6- الفرائد البهية في القواعد الفقهية، للحسيني الدمشقي م سنة 1305 هـ. 7- الأشباه والنظائر. لابن نجيم. 8- شرحه، غمز عيون البصائر للحموي. 9- إتحاف الأبصار والبصائر بتبويب الأشباه والنظائر، لأبي الفتح الحنفي، وهو في مجلدين. 10- نزهة النواظر على الأشباه والنظائر، لابن عابدين. 11- الإسعاف بالطلب على قواعد المذهب، للتواني المالكي. 12- إيضاح المسالك إلى قواعد مالك. للونشريسي المالكي. 13- الأشباه والنظائر للسيوطي الشافعي. 14- المنثور في القواعد، للزركشي الشافعي. 15- القواعد لابن اللحام الحنبلي. 16- مجلة الأحكام العدلية (99) قاعدة في مقدمتها. 17- شرح القواعد الفقهية، لأحمد الزرقاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1357 18- المدخل لمصطفى الزرقاء. 19- مجلة الحكام الشرعية على مذهب الحنابلة في مقدمتها (160) قاعدة. 20 - مختصر قواعد العلائي. 21- خاتمة مجامع الحقائق. للخادمي الحنفي م سنة 1176 هـ 22- في: الفروق للقرافي المالكي. 23- القواعد للمقري المالكي م سنة 1758، وقد حقق منه قسم العبادات في: جامعة أم القرى بمكة حرسها الله تعالى. 24- التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للأسنوي. 25- تخريج الفروع على الأصول للزنجاني وهناك رسائل قديمة وحديثة وأخرى جامعية في دراسة قاعدة فقهية بعينها كقواعد: العرف، والضرر، والمصلحة، وسدّ الذرائع والضمان، والضرورة، ونحوها، وهي مطبوعة ومنتشرة ولله الحمد. بل برزت كتب مطبوعة شارحة للقواعد في جوانبها كافة، منها: 1- القواعد الفقهية، لعلي بن أحمد الندوي. 2- أثر الاختلاف في القواعد الأصولية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1358 أسباب الدعوة إلى هذا المشروع: مما تقدم يظهر مدى اهتمام العلماء بتشخيص القواعد الفقهية والتفريع عليها، وتظهر أهميتها بما يلي: 1- جامعيتها، فإن القاعدة قد تنظم عددًا كثيرًا من الفروع في عامة أبواب الفقه. 2- إسعافها للقاضي والمفتي عند غياب النص الفقهي. 3- فعاليتها المهمة في التطبيقات والنوازل المعاصرة، أنه امتداد لاهتمام العلماء بها وبالغ أهميتها ولما يلي: (أ) عدم وجود مؤلف مستقل ينظم تلك القواعد لدى علماء المذاهب الفقهية. (ب) الحاجة إلى تحرير نص القاعدة. (ج) إيجاد أقرب سبيل للوقوف عليها. إن لهذه الأسباب ولأن المجامع العلمية ينبغي أن تتبنى مشاريع فيها جدية وتجديد وجامعية واستقطاب، ولأنه لم تسبق حسب التتبع الدعوة إلى هذا المشروع وأعماله فإنه يظهر مناسبًا أن يكون من بواكير الإنتاج لهذا المجمع وطلائعه عمل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1359 معلمة القواعد الفقهية مراعاة فيها ما يلي: 1- تحرير نص القاعدة وترتيبها. 2- توثيقها بذكر مصادرها الأصلية والمذهبية. 3- توجيهها أو التدليل عليها. 4- ذكر بعض فروعها. 5- التطبيقات المعاصرة عليها ما أمكن. وهذا المشروع مع ضخامته لن ينوء به إن شاء الله، مجمع يمثل دول العالم الإسلامي ويضم نحو " الهنيدة " من العلماء، وأنه عند الموافقة عليه فإنني إن شاء الله تعالى مستعد للقيام به، وعلى أن ترشح لجنة ثلاثية متخصصة تفحص دوريًا ما يتم إنجازه من هذا المشروع المبارك. منح الله الجميع التقوى ومن العمل ما يحب ويرضى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. كتبه بكر أبو زيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1360 مدونة أدلة الأحكام الفقهية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد، فإن النداء إلى عمل موسوعة " للحديث " النبوي هو امتداد لجهود علماء السنة في " المجامع " مثل: جامع الأصول لابن الأثير، ومجمع الزوائد للهيثمي، والمطالب العالية لابن حجر، وجامعي السيوطي في طائفة كثيرة نحوها. وإن النداء إلى عمل " مدونة – موسوعة، لأدلة الأحكام هو امتداد للكتب الحديثة في أدلة الأحكام مثل: عمدة الأحكام لابن سرورة المقدسي، وعمدة الأحكام لابن دقيق العيد، والمنتقى للمجد ابن تيمية، وبلغ المرام للحافظ ابن حجر، وهكذا في عدد كثير من هذا الطراز. فالدعوة اليوم إلى عمل " مدونة – موسوعة – لأدلة الأحكام، هو امتداد لجهود الأجداد على يد الأحفاد. وإنه في عام 1368 هـ، دعا العلامة المحدث أبو الأشبال أحمد بن محمد شاكر إلى عمل تدوين جامع للأدلة من السنة النبوية للأحكام الشرعية، وبعث في هذا مكاتبة لسماحة مفتي المملكة العربية السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى فكانت محل استحسان من الشيخ رحمهما الله تعالى، لكن حال دون ذلك عدم استكمال طباعة كافة العمد من كتب السنة. أما اليوم وقد أفاء الله تعالى على المسلمين بطباعة الأصول من كتب السنة كالصحاح، والمساند، والمعاجم، والمصنفات، والسنن، والجوامع، والمجامع، والأجزاء، والتخاريج، والمستخرجات في سلسلة كريمة هائلة. كما أفاء الله سبحانه وهو المان وحده بظهور عدد كبير من المعاجم والفهارس والأطراف التي بواسطتها يحصل الكشف بلحظات على الحديث المطلوب من المساند ونحوها، وذلك في نحو خمسين مؤلفًا من الفهارس وما في حكمها جميعها في متناول أهل العلم مطبوعة ميسرة ولله الحمد. إنه والحال كذلك يتأكد على أهل العلم التجديد لذلك النداء وأعماله بعمل مدونة موسعة تستقطب أدلة الأحكام من الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، مرتبة على أبواب الفقه ومصنفة على موضوعاته ليسهل الكشف، ويسلك في سياقها طريقة ميسورة سهلة في الخطوات الآتية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1361 1- ما في الباب من آيات القرآن الكريم. 2- سياق نص الحديث بذكر صحابيه. 3- ذكر من أخرجه. 4- تفصيل روايات المخرجين عند الاختلاف في مروياتهم وألفاظهم. 5- بيان كلام العلماء في الحكم على هذا الحديث إن كان خارج الصحيحين. 6- يتلو ذلك سياق أقوال الصحابة رضي الله عنهم على هذا المنوال. وقد كنت طبعت أنموذجًا لهذا المشروع عام 1403 هـ، لنصوص الحوالة حيث إنه لم يرد فيها إلا حديث واحد مرفوع وأثار. وفي ص/12 – 13 ما نصه. " وعسى أن يكون بداية خير، وفتح باب لنظر إخواني طلاب العلم في الأخذ بعمل: موسوعة لنصوص الأحكام الفقهية قبل عمل: الموسوعة الفقهية وهذا هو أسلم طريق يوصل إلى العلم الشرعي الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن صحابته رضي الله تعالى عنهم، فإنه إذا استوعبت النصوص في الباب وجمعت مرتبة في صعيد واحد وحرر الثابت منها من غيره، أمكن للفقيه المتجرد من العصبية: استنباط الأحكام الفقهية من أدلتها الشرعية وهو في غاية ما يكون من الاطمئنان للقول الحق والوصول إلى الصواب من فقه علماء الأمصار، رحم الله الجميع وأجزل لهم الأجر والثواب … " اهـ. هذا عرض موجز عن مدونة الأدلة للأحكام الشرعية وفي تضاعيفه تفصيلات معلومة أو بحكم المعلومة، إذا تمت الموافقة على هذا المشروع الجليل فأرى تأليف لجنة من أهل الاختصاص لتحرير خطوات التدوين مفصلة. وقبل الختام، ألفت النظر إلى أن هذا المشروع بهذه الكيفية على الأبواب الفقهية إذا تم باب فقهي منه مثل باب الصلح، باب العارية، باب الربا والصرف، وهكذا فهو عمل مستقل بنفسه ويكون إنجازا رائعًا لا يرتبط طبعه ونشره وتكامل الفائدة منه بالأبواب الأخرى. والله الموفق. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كتبه بكر أبو زيد 30/ 10/ 1406هـ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1362 تقرير لجنة الإجابة عن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية بعد مداولات المجلس حول محضر أصحاب الفضيلة علماء الشريعة تقرير لجنة الإجابة عن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية بعد المداولات حول محضر اجتماع أصحاب الفضيلة علماء الشريعة بحمد الله اجتمعت اللجنة يومي 10 و 11 صفر 1407 هـ الموافق 14 و 15 / 10 / 1986 م. للنظر في الاستفسارات في ضوء محضر اجتماع علماء الشريعة الذي عقد في جدة بدعوة من البنك الإسلامي للتنمية في الفترة من 14 – 17 شوال 1406 هـ، وفي ضوء المناقشات التي جرت حولها في كل من دورتي المجمع الثانية والثالثة. وقد حضر اجتماعات اللجنة كل من: - فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي – رئيسا. - فضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء. - فضيلة الدكتور الصديق محمد أمين الضرير. - فضيلة الدكتور وهبة الزحيلي. - فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور. - فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة – مقررا. وحضر من البنك الإسلامي للتنمية كل من: - الدكتور محمد الفاتح. - الدكتور منذر قحف. - الدكتور عبد الرزاق اللبابيدي. - السيد درمس كافدار. - السيد عبد الملك القادني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1363 وقد استعرضت المبادئ المشار إليها في محضر اجتماع علماء الشريعة، وما تقدم به الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير من ملاحظات على المحضر (حيث لم يتمكن من حضور الاجتماع المذكور عند دعوته لحضوره) وبعد التداول والمناقشات انتهى الحاضرون إلى المبادئ التالية: المبادئ المقررة حول عمليات الإيجار المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعا. المبدأ الثاني: أن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء بعد وصولها وحصولها في يد الوكيل هو توكيل مقبول شرعا، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك. المبدأ الثالث: أن عقد الإجارة يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات، وأن يبرم بعقد منفصل عن عقد الوكالة والوعد. المبدأ الرابع: أن الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة جائز بعقد منفصل، كما أن تعليقها على وفاء المستأجر بالتزامات مقبول شرعا. المبدأ الخامس: أن تبعة الهلاك والتعيب تكون على البنك بصفته مالكا للمعدات ما لم يكن ذلك بتعد أو تقصير من المستأجر فتكون التبعة عندئذ عليه. المبدأ السادس: أن نفقات التأمين لدى الشركات الإسلامية كلما أمكن ذلك – يتحملها البنك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1364 المبادئ المقررة حول عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية ببيع المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعا. المبدأ الثاني: أن توكيل البنك أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك، بغية أن يبيعه البنك تلك الأشياء بعد وصولها وحصولها في يد الوكيل هو توكيل مقبول شرعا. والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك. المبدأ الثالث: أن عقد البيع يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات والقبض لها، وأن يبرم بعقد منفصل عن عقد الوكالة والوعد. المبادئ المقررة حول عمليات تمويل التجارة الخارجية تنطبق على هذه العمليات المبادئ المطبقة على (عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن) المبادئ المقررة حول التصرف في فوائد الودائع تأكيدا لما جاء في محضر اجتماع علماء الشريعة بشأن الفوائد ومنع حماية البنك القيمة الحقيقية من الـ 50 % التي قررها مجلس المحافظين للاحتياطي فإنه يجب أن يطبق على جميع الفوائد المبدأ الشرعي وهو صرفها في وجوه الخير والبر العام حسب المبادئ الخمسة المشار إليها في محضر اجتماع علماء الشريعة. وانتهى الاجتماع بحمد الله تعالى. تواقيع الحاضرين من أعضاء المجمع وخبرائه: رئيس اللجنة مقرر اللجنة محمد المختار السلام د/ عبد الستار أبو غدة عضو اللجنة عضو اللجنة د/ مصطفى أحمد الزرقاء د/ الصديق محمد الأمين الضرير عضو اللجنة عضو اللجنة د/ وهبة الزحيلي د/ محمد عبد اللطيف الفرفور تواقيع الحاضرين عن البنك الإسلامي للتنمية د/ محمد الفاتح د/ منذر قحف د/ عبد الرزاق اللبابيدي السيد درمس كاندار السيد عبد الملك الفادني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1365 مناقشة تقرير لجنة الإجابة عن الاستفسارات مناقشة ما قررته اللجنة الخاصة باستفسارات البنك جلسة يوم 13 صفر 1407 هـ / 16 / 10 / 1986 م. الشيخ عبد السلام العبادي: بعد مداولات مستفيضة ومناقشات واسعة لجميع الاستفسارات التي تقدم بها البنك إلى المجمع انتهى مجلس المجمع إلى ما يلي: (أ) أجور خدمات القروض: قرر المجمع اعتماد المبادئ التالية في هذا الموضوع: 1- جواز أخذ أجور عن خدمات القروض. 2- أن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية. 3- كل زيادة عن الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعا. (ب) عمليات الإيجار: قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية فيها: المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية في إيجار المعدات الرئيس: مندوب البنك يا شيخ عبد السلام موجود والله إذا رأيتم. الشيخ عبد السلام العبادي: على فكرة إذا سمح الإخوان نحن أخذنا هذه تماما كما قررتها اللجنة اشترك فيها الموافقون بالصيغة الأولى وعدد من الإخوة الذين كانوا تولوا عملية النقاش هنا والقرار منظور وموقع منهم وأخذناه كما هو دون أي تعديل نحن قمنا بدورنا كلجنة صياغة فقط. الشيخ محمد عطا السيد: السيد الرئيس نطلب أن هذا الموضوع كنا قد اتخذنا فيه قرارات حتى أنه صعب أن يثبت الآن، على كل هذه نقطة نظام. الرئيس: الذي أعرفه أن الأسئلة الأربعة الأخيرة أنه عندما حصل كثرة البحث فيها بين الإخوان ولم يصلوا إلى نتيجة قاطعة أنه رؤي أن يؤلف من وجهتي النظر لجنة أظن سداسية أو خماسية ويجتمعون ويدرسون الموضوع ثم يعرض هذا الذي كنت أعرفه ويدرسون ثم يعرض لكن الآن هو بمثابة العرض لا بمثابة قرار، إن أقررتموه وإن لم تقروه فهذا الأمر متروك لكم كذا يا مشايخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1366 الشيخ عبد السلام العبادي: المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية لإيجار المعدات إلى العاملين بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعا … لا العاملين، أتصور المتعاملين. الشيخ الصديق الضرير: لإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعا، هذا هو النص. الشيخ عبد السلام العبادي: بالضبط أي نعم. الأمين العام: أعد اقرأ لنا الجملة الشيخ عبد السلام العبادي: إن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعا. المبدأ الثاني: أن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بُغيَة أن يؤجره البنك تلك الأشياء بعد وصولها في يد الوكيل هو توكيل مقبول شرعا، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك. الشيخ الصديق الضرير: بعد وصولها وحصولها في يد الوكيل. الشيخ تقي العثماني: سيادة الرئيس، نتم القراءة ثم نناقش نقطة نقطة. الشيخ عبد العزيز عيسى: إن توكيل البنك الإسلامي يجعل الفتوى خاصة بالبنك الإسلامي فهل الأمر على ذلك. الرئيس: هي خاصة بالبنك يا شيخ، كونها خاصة هذا لا إشكال فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1367 الشيخ عبد السلام العبادي: المبدأ الثالث: أن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء بعد حصولها. الشيخ المختار السلامي: بعد وصولها وحصولها. الشيخ عبد السلام العبادي: كيف يا سيدي وصولها وحصولها. الرئيس: بعد حوزتها في يد الوكيل. الشيخ عبد السلام العبادي: هذه الخطوة التالية بعد حصولها في يد الوكيل. الرئيس: بعد حوزتها، ما الذي يمنع من أن تتركوا وصولها وحصولها؟ الشيخ عبد السلام العبادي: بعد تسلمها من الوكيل. الشيخ عبد الله البسام: بعد حوزتها، كلمة جيدة. الرئيس: هذه عبارة فقهية يا شيخ. الشيخ الصديق الضرير: الوكيل هو الذي سيتسلم وتسلم الوكيل تسلم للأصيل. الشيخ عبد السلام العبادي: بعد تسلمها من الوكيل. الشيخ الصديق الضرير: في يد الوكيل الذي يتسلم هو الوكيل نفسه، إما أن يقال بعد تسلمها فقط أو بعد حيازتها سواء كان الحائز هو الوكيل أو الأصيل. الشيخ مصطفى الزرقاء: البضاعات كما هو معروف اليوم من أمر الشحن وما إلى ذلك تصل إلى البلد المرسلة إليه ولكن لا تحصل في يد المشتري على الفور فمتى وصلت إلى المرفأ أو الميناء أو إلى الجمارك، هذا وصول لكن هذا لا يعتبر أنه قد تسلمها ولذلك الوصول وحده لا يكفي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1368 الرئيس: في الواقع ما يمنعكم من العبارة الفقهية "بعد حوزتها" ماذا يمنع؟ بعد حيازتها في يد الوكيل، تلك عشرة كاملة. الشيخ مصطفى الزرقاء: بعد حيازة الوكيل إياها الرئيس: بعد حيازة الوكيل لها. الشيخ عبد السلام العبادي: بعد حيازة الوكيل لها، هو توكيل مقبول شرعا والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك. المبدأ الثالث: أن عقد الإيجار يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات وأن يبرم بعقد منفصل عن عقد الوكالة والوعد. المبدأ الرابع: أن الوعد بهبة المعدات عنه انتهاء أمد الإجارة جائز بعقد منفصل كما أن تعليقها على وفاء المستأجر بالتزاماته مقبول شرعا. المبدأ الخامس: أن تبعة الهلاك والتعييب تكون على البنك بصفته مالكا للمعدات ما لم يكن ذلك بتعد أو بتقصير من المستأجر فتكون عندئذ التبعة عليه. المبدأ السادس: أن نفقات التأمين لدى الشركات الإسلامية كلما أمكن ذلك يتحملها البنك. ج - عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن. الشيخ تقي الدين العثماني: نناقش أولا. الشيخ عبد السلام العبادي: ننتهي من هذه الصفحة ونبدأ نناقش. الرئيس: على كلٍ كل هذه المبادئ التي ذكرها الإخوان هي أمامكم، وكما ذكرت سلفا أنه كونت لجنة من وجهتي النظر المتعارضين ليعدوا ما يتوصلون إليه ليطرح للنظر لا لأنه قرار، فالآن جمع الصفتين على أنه صيغة قرار إن اتفقتم عليه أو ذهب الأكثرية إليه فهو على ما هو عليه ويمشي وإن كان هناك اتجاهات أخرى فعلى كل حال التصويت … الشيخ تقي ثم الشيخ عطا ومع رجاء عدم الإطالة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1369 الشيخ تقي العثماني: المبدأ الرابع: هو أن الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة كما أذكر أنه ذهبت الأكثرية وكان الاتجاه السائد حين ذاك أنه يلغى هذا الشرط وقد وافقنا عليه صاحب البنك أيضا لأن الهبة تخرج العقد من طبيعة الإجارة. الرئيس: هو فعلا أذكر أن صاحب البنك وافق إن لم تخني الذاكرة كان الشيخ أحمد محمد على موجودا وقال المشايخ: إن الأولى أن كانت للحذف تحذف؟ الشيخ عبد السلام العبادي: الإخوان قالوا بعقد منفصل. الرئيس: لكن المهم طالما أن صاحب الصفة المعني يقول تحذف فهل ترون أن الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة، يقال مثلا: حيث إن البنك لا يرى مانعا من حذف الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة صَرَفَ النظر عن بحث مختار السلامي لحكم الشرعي خطأ فإذا كان خطأ أزلناه.. إذا كان ليس حكما شرعيا وفيه خطأ نحذفه، وإذا كان صوابا فلم نحذفه؟ الرئيس: على كل أما أنا فأرى أن هذه المبادئ الستة آخذ بعضها بحجز البعض هذا الصحيح وإن هذه المعاملة متركبة من هذه المبادئ الستة، ولهذا يعني تعرفون وجهة نظري في الجلسة أنني لا أرى أنه عقد حقيقي وإنما ليتوصل به وهذه المبادئ هي نفس الشيء توصل إلى نفس الصيغة، فمن جهتي أنا متحفظ على هذه المبادئ الموجودة والمقبلة لأني قرأتها وتأملتها والرأي للإخوان، الشيخ يوسف. الشيخ يوسف جيري: بسم الله الرحمن الرحيم.. سيدي الرئيس.. بعد أن أثني على الاقتراح الوجيه الذي تقدم به الأخ تقي العثماني فإني أرى أنه نظرا لأن هذا الموضوع قد قدم بتعاون من الطرفين اللذين كان لهما نوع من التعارض في الآراء عندما تطرقنا إلى دراسة هذا الموضوع، نظرا لأن الطرفين قد اتفقا على أن يطلع المشروع بهذه الصورة ونظرا لأنها فعلا تحقق المقصود فإنني أقترح على مجلسكم الموقر أن يقرر هذا بصورته هذه بعد حذف المبدأ الرابع، وشكرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1370 الشيخ محمد شريف أحمد: الحقيقة، إن رأيي وقد أكون مخطئا فيه أن عمليات البنك الإسلامي تعتبر من العمليات ومن العقود الجديدة وهي لا تنطبق عليها هذه المبادئ لا يجوز لنا أن نحللها إلى هذه المبادئ بل لنا أن ننظر لها نظرة مستقلة على أنها عملية واحدة تتركب من عدة عمليات فإن توفرت فيها مقاصد الشريعة الإسلامية فهي حلال جائز وإن لم تتوفر فيها المقاصد الشرعية فهي حرام، فلا يجوز لنا أن نتعمق في تفصيلات العقود والوكالة ونطبق عليها كل شرط من شروط هذه العقود وإلا أغرقنا البنك وأغرقنا أنفسنا في متاهات لا نخرج منها إطلاقا لمصلحة البنك ولا لمصلحة اقتصادنا الإسلامي. الشيخ محمد عطا السيد: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين، اللهم صلى على محمد عبدك ورسولك. الحقيقة يا سيدي الرئيس أنا حريص جدا وأتمنى أن هذا المجمع لا يخرج أبدا من هذا الاجتماع إلا بإجابات مقنعة، والسبب في ذلك أن هذه المسألة عرضت من الدورة الماضية واستوفت النقاش في هذه الدورة، وأخشى ما أخشاه أن المجمع لو ما استطاع أن يتوصل إلى حلول في هذه المسألة تبدو وكأن الشريعة عاجزة عن مواجهة هذه المسائل المصرفية الحديثة وهذا ما أخشاه جدا. ولذلك أرجو أن تتسع صدور الأعضاء إلى هذه المسألة ومناقشتها باستفاضة مهما كلفنا ذلك من وقت وحتى نصل فيها إلى قرارات. الأمين العام: سيدي الرئيس … أثني على ما قاله الدكتور عطا السيد، وأريد أن أشير واذكر بما قاله سيادة الرئيس في أول الاجتماع نحن قد تدارسنا هذا الموضوع مدة طويلة في العام الماضي وفي هذه السنة، وقد شكلت لجان، اللجنة الأولى في المؤتمر الماضي واجتماع ثان بعد المؤتمر، واجتماع ثالث علمي فيما بين المؤتمرين، ثم عرض هنا فكان الخلاف قويا وشديدا بين فئتين من العلماء لكن هاتين الفئتين اجتمعتا ودرستا الموضوع بتأن وانتهتا بالاتفاق إلى ما هو معروض على حضراتكم فنحن ينبغي أن ننظر في هذه المبادئ إن كانت مستقيمة من الناحية الشرعية قبلناه وإن كانت متعارضة مع الأصول الشرعية رفضناه، أما أنه قال: إن هذا الموضوعات لا تعنينا وهي تهم البنك وحده.. الخ. فهذا مما لا سبيل إليه، البنك هو نفسه عرض هذا الموضوع على مجمع له أهميته ليقول في هذا رأيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1371 الرئيس: يا شيخ عطا انطلاقا من كلامك هذا هل رأيك أن هذه المبادئ الستة تصوت عليها وتراها؟ الشيخ محمد عطا السيد: أبدا أنا رأيي يا سيد الرئيس أن تستوفى نقاشا فقهيا كاملا. الرئيس: اسمع أنتم الآن سمعتم المداولات قبل وبعد، وأنا أسالك الآن عن وجهة نظرك شرعا هل تراها مبادئ شرعية؟ الشيخ محمد عطا السيد: والله يا سيدي أنا رفعت يدي لأعبر عن النقاش في نقطة من النقاط ثم دار النقاش في أن: هل تغلق أو لا تغلق؟ إن لدي إذا أردت أن أقوله يمكن أن أقوله. الشيخ عبد السلام العبادي: في الواقع أنا أثني على ما تفضل به الأمين العام، قضية النقاش، كان نوقش هذا الموضوع بما لا مزيد من نقاش وكان القرار الذي اتخذه المجمع تشكيل لجنة من الطرفين اللذين كانا مختلفين، والذين كانوا ماسكين بحجز بعض كما يقولون في هذه القضية وكنا نحن نشارك مشاركات بسيطة وجلسوا جلسات وانتهوا إلى هذه التوصيات، الآن القضية يجب أن يبت في أمرها أما أننا نوافق على هذا أو لا نوافق، أما أن نفتح الموضوع مرة أخرى للنقاش ما فيه وقت. الشيخ عمر جاه: بسم الله الرحمن الرحيم.. أعتقد أن العمل الجاد يقتضي أننا نستفيد من الطاقات التي نسخرها لخدمتنا، فالموضوع نوقش أكثر من مرة وأنا دائما أشعر بشيء من الضيق إذا كلفنا لجنة مؤهلة تتكون من أناس نثق في عملهم وفي تقواهم وفي ورعهم وقدموا إلينا تقريرا ونتج عنه هذا لنكون مرة أخرى فهذه اللجنة موجودة أمامنا بتوقيع أعضائها، على ضوء هذا أقترح كما ذهب زميلي الأخ يوسف أننا نتبنى هذا من غير مناقشة أو إن كان هناك إنسان يرى أنه فيه شيء مخالف يبينه لنا وننتهي. الشيخ عبد السلام العبادي: وفي هذا إبراء للذمة لما عمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1372 الشيخ هشام برهاني: بسم الله الرحمن الرحيم. الحقيقة التي ظهرت لي من هذه المعاملة من أول المناقشة إلى آخرها أن المقصود فيها مجموعة هذه العقود مركب بعضها على بعض، وهذه العملية في جملتها أنا أراها أنها طريق لأكل الربا الحرام، ولذلك أنا أتحفظ على جواز هذه المبادئ وإن كانت صحيحة كل مبدأ بذاته منفصل عن غيره صحيح، لكنها عقود مركبة بعضها على بعض ولم يدخل البند واحد منها إلا لأن وراءه عقدا آخر، هذه الصورة التي أراها، والله سبحانه وتعالى أعلم. الرئيس: شكرا.. في الواقع أنا يعني قلت للشيخ أحمد محمد علي هل ترى مناسبا أن يتألف من هذا المجمع لجنة شرعية تكون لموضوعات البنك ليست هذه فحسب وإنما لموضوعات البنك الحاضرة والمستقبلية وتضمون إليها خبراء اقتصاديين إسلاميين؟ قال: ما عندنا مانع من هذا، ففي الحقيقة في نظري والرأي متروك لكم ومطروح أمامكم، وإنما شيء جرى بحث فيه فأردت أن أطرحه على مسامعكم، أنه كون يؤلف لجنة شرعية من هذا المجمع ففيه التبني من هذا المجمع وفيه لجوء إليه وهذا فيه كذلك عصمة أو توفيق للبنك في تصحيح لمساراته، وفي جعلهم ما يخطون خطوة إلا من هذه اللجنة الشرعية الموثوق بها، ولا يكون مقتصرا على هذه الفقرات الخمس وإنما لها ولغيرها، يعني ما أدري، تفضل يا شيخ مختار. الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم.. أعتقد أن المجمع الموقر هذا لما صوت بالإجماع على تكوين لجنة للنظر في هذه القضايا.. وتكفلت بالنظر فيها وسهرت الليالي للإتيان بعمل لا لأن نعود إلى المبدأ ونقول: أن نكون لجنة سادسة أو سابعة فإذا كان هناك عدم اقتناع من سيادة الرئيس فقد استمعنا أن وجهة نظره تخالف هذا وليعرض من فضله القضية على التصويت وكفانا من التأثير. الرئيس: في الواقع يعني إذا كان الشيخ المختار فاهم غلط، أن البنك لا يوجد اللجنة لهذه القضايا فحسب وإنما لهذه القضايا ولغيرها من القضايا وفي معاملاته وفي الواقع أنا أرى أن هذا كسب عظيم كونه يكون في البنك لجنة شرعية منطلقة من هذا المجمع معناها أن المجمع بدأ يدخل في ساحة العمل في تلك البنوك وفي غيرها وأنا ناقل وهذا استعداد من البنك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1373 الأمين العام: سيدي الرئيس من فضلك.. قضية تشكيل لجنة، أعود إلى هذا الموضوع.. اللجنة قد شكلت والتقت فيها آراء متضاربة وقامت بدراسة هذا الموضوع وانتهت إلى ما أعدته لنا وقد أمضى كل أعضائها على هذا البلاغ أو على هذا البيان، الذي أريد أن أقَّفي به على كلام سيادة الرئيس هو أن البنك له لجنته الشرعية وكل البنوك لها لجانها الشرعية "لجان المراقبة" هي أرادت أن تتجاوز هذه اللجان لتعرض الأمر على المجمع ليكون هو القوة الأخيرة والسلطة الحاكمة التي تتلاقى فيها أنظار المراقبين الشرعيين، وقد تم هذا بالفعل فكثير من الذين شاركوا في نقد هذه الورقة كانوا من فقهاء شرعيين مراقبين في بنوك عديدة، فكانت هذه الحصيلة التي تزهو بها وقد تم النظر فيها، فالقضية إذن هي إما أن تعرض على التصويت، وإما أن نقول نحن: لا نريد أن ندرس أية قضية تأتينا من البنك أو من غيره، هذه قضية دامت سنين والفضيحة الكبرى أن لا نقول فيها كلمتنا وأن يكون المجمع عاجزا عن الإدلاء برأيه، ثم عقدنا لها لجنة علمية تتكون من أطراف متناقضة ومختلفة وانتهت إلى ما انتهت إليه والنص ممهور بإمضاء الجماعة، فأنا أقترح التصويت. الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم.. في الحقيقة أن اللجنة أو الهيئة هي ضرورة لكل بنك إسلامي لأن البنوك الإسلامية تستجد عندها يوميا معاملات فيجب على كل بنك إسلامي أن تكون عنده هيئة استشارية شرعية تفتيه وتراقب عمله، هذا شيء في الحقيقة أمر ضروري، وإذا أوصيت بهذا للبنك الإسلامي فهذا شيء جميل وشيء طيب. أما النقطة الثانية هي إيحاء إعادة الأسئلة إعادة الأسئلة هذه برمتها إلى اللجنة لتنظر فيها أو أن هذه اللجنة المقترحة لما يستجد من أعمال فيما بعد ذلك هذا الكلام الذي نود أن نستبينه ونستوضحه. الرئيس: الكلام الذي حصل مع الشيخ أحمد ونقلته لكم هو لهذه ولغيرها بالحرف الواحد قال لي لا مانع لدينا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1374 الشيخ الصديق الضرير: إذا كان الأمر كذلك وأن السيد رئيس البنك قد اتفق مع السيد الرئيس على تكوين لجنة من المجمع لتنظر في هذه الموضوعات وفي غيرها ويعمل البنك بها ويكون هذا عملا من المجمع أيضا إذن الأمر أصبح سهلا، اللجنة كونت ونظرت في هذه المسائل وأصدرت فتواها بالنسبة لها فلنعتبر المبادئ أو هذه القرارات على أنها من اللجنة التي كونها المجمع الموقر بناء على موافقة السيد رئيس البنك للسيد رئيس المجمع، وإذا رأى المجمع أن يعتبر هذه اللجنة هي التي شاورها البنك في مستقبله وفي تنفيذ هذه المبادئ والتأكد من سلامة صحتها فلا أعتقد أن أعضاء هذه اللجنة سيمانعون في هذا وبهذا تكون قد انتهينا وكفينا هذا المجمع وبقية الأعضاء مؤونة البحث. الرئيس: لعل يكون في هذا حل وسط، لعل يكون هذا حاصل. الشيخ المختار السلامي: إن هذه اللجنة لم يكونها البنك وإنما كونها المجمع ورجعت إلى المجمع ليقول كلمته، ومنذ بدأنا وعلى هذا أنا ابتدأت من أول الأمر بالاعتراض على التأخير لأني قلت: إن هذا فيه نية لترك القضية إلى جهل، وقد ظهر فعلا ما كنت أتوقعه فأرجوكم سيدي الرئيس وقد تكونت هذه اللجنة من المجمع وقد أبلغت قراراتها إلى المجمع وما على المجمع إلا أن ينظر فيها، ثم يقرر في ذلك ما يشاء وقد استمعنا إلى وجهة نظركم التي هي لم تختلف عما استمعنا إليه من قبل ورأيكم محترم وعلى الرأس وملء العينين، وأرجوكم أن تحترموا أيضا آراءنا. الشيخ يوسف جيري: شكرا سيدي الرئيس … الحقيقة أنه كما تفضل الأخ عمر جاه حفظه الله يجب علينا من الناحية المنهجية أن يكون فيه نوع من الالتزام بقراراتنا، هذه اللجنة التي عملت أياما وليالي على إعداد هذا القرار نحن الذين طلبنا في مستوى هذا المجلس من هذه اللجنة أن تعمل وتعرض علينا نتيجة عملها، فأنا لا أتصور أبدا بعد أن توصلنا إلى هذه النتيجة أن نطرح القضية إلى دورة أخرى أو إلى لجنة إسلامية أو تشريعية أخرى، القضية كالتالي، وهذا قناعتي الشخصية، أن هذه القضية بعد أن تدارسناها، وأنا أعتقد أننا سنستمع رأيا جديدا، كل الآراء التي سمعناها الآن من الأخ مندوب العراق حفظه الله، ومن الأخ مندوب الإمارات، هذه الآراء سمعنا بها قبل وكان التشدد من جهة الطرفين هو ما حدا بنا إلى أن نطلب تكوين هذه اللجنة فبما أن اللجنة جاءت بنتيجة عملها ما علينا إلا شيئان، أولا:إن كان هناك موافقة بالإجماع فهو كذلك وإن لم يكن هنالك موافقة بالإجماع ننظر إذا كان هنالك تحفظ أو تحفظان أو ثلاثة، أشياء قليلة، وفي هذه الحالة لا نرقى إلى التصويت، أما إذا رأينا أن هناك فريقين كبيرين ففي هذه الحالة نصوت، أما التصويت بالنسبة لي فهي الصيغة الأخيرة، وأنا أرى من خلال المباحثات أن هنالك تحفظات قليلة فلماذا نلجأ إلى التصويت؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1375 الرئيس: لا، إلى الآن ما ندري عن عملية التحفظات، لكن الآن بالنسبة إلى عمليات الإيجار سمعتم المبادئ الستة فهل ترون إقراراها كما كتبت أو هناك تعديل أو وجهة نظر أو تحفظ أو كذا؟ الشيخ تقي العثماني: نرى إقرارها بالتعديل بحذف مبدأ الهبة. الشيخ يوسف جيري: هذه خلاص انتهينا منها.. الذين يرفعون أيديهم … خلاص ما فيه تصويت السكوت رضا. الشيخ محمد عطا السيد سيدي الرئيس ما عدا النقطة الرابعة أوافق على المضي في إجازة هذه المسائل ما عدا النقطة الرابعة أبدى فيها أخ زميل رأيه وما زلت أبدي فيها رأيا بتحفظ حتى زيادة على ما قال إنه الوعد لعله لا يكون جائزا. أرى أنه حتى تضمين الفقرة الثانية مازال يدخلنا في مشاكل بخصوص ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من صيغتين في صيغة لأنه بالرجوع إلى الصيغة الأولى. فما زلت بدون إطالة. الرئيس: يعني المبدأ الثاني. الشيخ محمد عطا السيد: المبدأ الرابع مازلت أتحفظ عليه الرئيس: ما هو المبدأ الرابع قلت يشطب … ترى قضية الشطب كأنكم أغفلتموه لكن نظرا إلى أن رئيس البنك وانتم تسمعون لما قلت ما رأيكم في حذفه أظن قال: لا مانع. الشيخ عمر جاه: سيدي الرئيس … أنا أتذكر تماما أنه قال: إذا رأيتم، وقال هذا، نزولا على ما ذهب إليه بعض الأعضاء. الرئيس: طالما أنه الوعد كذلك قد ترون مناسبا أن يقال: إن الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة طالما أن معالي رئيس البنك رأى أنه ليس هناك مانع من حذفه فقد انتهى الموضوع بذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1376 الشيخ المختار السلامي: نحن نتأثر بحكم الله أن ما ظنه الفقيه هو حكم الله، الفقيه يخبر عن حكم الله ولا يخبر عن حكم نفسه، ولو كان يخبر عن حكم نفسه لما أقبل عليه أحد. الشيخ محمد عطا السيد: السيد الرئيس التحفظ الذي أبديته أنه ما هو بخصوص الجزئية الثانية من المبدأ الرابع لكن هنالك تعليقا على الجزء الأول، وهو أن رئيس البنك على حسب ما أتذكر، ولعلكم تتذكرون ذكر أن هذا الوعد فيه فائدة الطرف الثاني وهو الضعيف، الطرف الذي يستغرق هذه المسائل ذكر بأن هذا الوعد بما يطمئن هذه الدول في نهاية الأمر ستؤول ملكية هذه المسائل إليها ولذلك التحفظ الذي أبديته إنما أبديته على الفقرة الثانية كما أن تعليقها على وفاء المستهلك بالتزاماته مقبول شرعا هذه رأيت حذفها لكن الجزء الأول مازلت على قولي: إنه يمكن أن يكون هنالك عقد منفصل في الوعد بهبة المعدات. الرئيس: المهم الذين يرون إقرار مبدأ عقد الإجارة بمبادئه يتفضلون بالإشارة بأيديهم الشيخ تقي العثماني: لكن بحذف الهبة الرئيس: هل نحذف المادة الرابعة وتصير خمسا؟ الشيخ عبد السلام العبادي: أي نعم تصير خمس مبادئ الدكتور عبد السيد (مندوب البنك) إذا حذفت الهبة لن تتم العملية لأن الأساس في هذه العملية هو هذه الهبة لأنها من مصلحة الضعيف. هذه النقطة من مصلحة الضعيف. الشيخ الصديق الضرير: موضوع الهبة هذه كما قال الدكتور عطا السيد هي لمصلحة عميل البنك لأنه هو في هذه العملية على أن هذا العميل سيتملك هذه المعدات بعد مدة محددة بعد أن ينتهي عقد الإجارة فهي لمصلحة هذا الشخص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1377 النقطة التي اعترض عليها عطا السيد قد تكون مقبولة شرعا أكثر من الوعد. تعليق الهبة جائز عند الشافعية والمالكية، الحنفية هم الذين منعوا هذا. عقود التمليكات كلما قالوا: لا يصح، تعليقه على أن ابن تيمية أجاز تعليق جميع العقود حتى عقود التمليكات فكون أن أقول لشخص: إن حصل هذا فقد وهبتك هذه المعدات، هذا شيء مقبول شرعا عند الأئمة، يعني لا خلاف في هذا. ومع ذلك إذا رؤي أن يحذف هذا وقبل الطرف المستفيد من غير أن ينص عليه في العقد فالبنك في سعة يستطيع بعد أن ينتهي عقد الإجارة أن يقول له: وهبتك هذه المعدات. ولذلك أنا لا مانع عندي من الحذف مع اعتقادي الجازم بأن هذا المبدأ سليم من الناحية الشرعية. الشيخ المختار السلامي: القضية قبل العقود لما عرضت علينا كان فيها وعد بالبيع إثر انتهاء الإيجار وهذا الوعد بالبيع قلنا لا يصح واعترضنا عليه وقلنا والهبة أفضل. الرئيس: يا مشايخ.. أرجو أن تبتوا في الموضوع لنمشي لأن عندنا جلسة مفتوحة وعندنا الذي يريد أن يسافر، يعني يحذف الرابع أو لا؟ الشيخ عبد السلام العبادي: يبقى في صدره ويحذف الصدر الثاني " كما أن تعليقها ". الرئيس: المهم من هم الذين يرون إقرار عقد الإجارة بمبادئه الستة بحذف الجزء الأخير واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة … خلاص يكفي. الله في عوننا وإياكم الشيخ عبد السلام العبادي: عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن. الشيخ أحمد بازيع الياسين: اسمح لي طال عمرك إن خدمات القروض لم نناقشها. الشيخ عبد السلام العبادي: يا سيدي ما دامت فعلية. انتهى ما فيه مشكلة ما دام فقط … .. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1378 الرئيس: ماذا عندك فيها يا شيخ؟ الشيخ أحمد بازيع الياسين: أريد أن نقرر بأنها خدمات قروض بنك التنمية الإسلامي وأنها تخص البنك وحده الشيخ المختار السلامي: نصصنا على أنه البنك الإسلامي للتنمية، أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية، أن توكيل البنك الإسلامي للتنمية الرئيس: ما عليهش يا شيخ المختار طيب خلوها عبارة تسمي توقي همة الجميع يقال: أ - أجور خدمات القرض في البنك الإسلامي للتنمية. حطوها ياشيخ الشيخ المختار السلامي: عمليات الإجارة في البنك الإسلامي للتنمية. الشيخ عبد السلام العبادي: ج – عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن. الشيخ المختار السلامي: عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن للبنك الإسلامي للتنمية الشيخ أحمد بازيع الياسين: بالنسبة طال عمرك من أول القرض … أولا وثانيا وثالثا كلها في الحقيقة بند واحد الرئيس: هو صحيح ولكن للتوضيح. الشيخ أحمد بازيع الياسين: لا أخشى أن يؤخذ كل واحد على حدة. الرئيس: قرر المجمع اعتماد المبادئ التالية في هذا الموضوع يا شيخ. الشيخ أحمد بازيع الياسين نعم … . جواز أخذ أجور عن خدمات القروض وأن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية … . إلخ الرئيس: سجلوها … خلاص يا شيخ الشيخ عبد السلام العبادي عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن قرر المجمع اعتماد المبادئ التالية فيها: المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية ببيع المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1379 المبدأ الثاني: أن توكيل البنك أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وأليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية أن يبيعه البنك تلك الأشياء بعد وصولها وحصولها في يد الوكيل هو توكيل مقبول شرعا والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك. المبدأ الثالث: أن عقد البيع يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات والقبض لها وأن يبرم بعقد منفصل عن عقد الوكالة والوعد. د - عمليات تمويل التجارة الخارجية: قرر مجلس المجمع أنه ينطبق على هذه العمليات المبادئ المطبقة على عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن. الرئيس: هذه عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن هل لأحد من الإخوان ملاحظة عليه؟ أو هل الذين أجازوا الأول أجازوا الثاني؟ الشيخ تقي العثماني: سيدي ملاحظة بسيطة حول جميع هذه العمليات وهي إن صحت من حيث الفكر ولكن الذي يخاف منه جميع الإخوان أنه يكون تحيلا على الربا ولذلك أقترح أن يوصي المؤتمر والمجمع أيضا مع الجواب عن هذا الاستفتاء ألا يستخدم البنك هذه المسائل إلا في مشروعات لا يمكن فيها الشركة والمضاربة لأن الشركة والمضاربة هي البديل الحقيقي للربا للبنك. وأما إذا أديرت جميع المعاملات البنكية المصرفية على هذه الأسس فحينذاك لا نأتي للعالم ببديل للنظام الرأسمالي الربوي وتدور عملياتنا كتحيل على الربا. فلذلك أقترح أن يكون مع هذه الأجوبة توصية من المؤتمر بألا يستخدم البنك … الرئيس: جزاك الله خيرا، لكن الناس يصيحون ليل نهار يوصونهم بتقوى الله يوصونهم بعدم الربا ويوصونهم بكذا.. فقصدي، هم يهمهم وجود المبادئ فإذا وجدوا المبادئ فالله إن شاء الله تعالى يبرأ ذمة الجميع ويعينهم ويغفر لهم. الشيخ تقي العثماني: ولكن لا ضرر في هذه التوصية. الرئيس: هي فيها نفع … الشيخ عطا. الشيخ محمد عطا السيد: اسمح لي، سؤال بسيط، سيادة الرئيس.. في المبدأ الثاني في (ج) الذي هو عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن والمبدأ الثاني الذي أجزناه فقط، هذا سؤال هل هي عملية متداخلة في بعضها؟ لأن الأولى إنما هي تأتي للإجارة، يؤجر له هذه المعدات التي اشتراها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1380 الرئيس: هي ليست عمليات متداخلة في بعضها، ولذلك أنا قدمت عبارة قلت: إن جميع هذه العمليات آخذة بحجز بعضها كلها جاءت كذلك، لا يمكن أن عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن إلا بهذه المبادئ الثلاثة، ولا يمكن أن عقد الإجارة إلا بمبادئه الستة أو الخمسة، خذ فكرك من الآن، ما هي المسألة؟ أنا لا شك أنه لو جاءني المبدأ الأول أهلا وسهلا، الحالة واحدة مفيش شيء. لو أتاني المبدأ الثاني بوحده هذه بديهيات شرعية ليست محل بحث، لكن المسألة قضية التحليل هذه، التحليل الموضوعي له مبادئ، وهي أمامكم وأنتم أصحاب الشأن. الشيخ المختار السلامي: سيدي، اسمح لي، أنا أريد أن أتحدث في موضوع هام وإن كان لا أريد أن أطيل فيه ولكن لا بد من بيانه، هو الفرق الجوهري بين عمليات البنك الإسلامي وبين العمليات الربوية، فالربا يبدأ بتوجه الشخص إلى البنك ويقترض مالا هذا المال يستطيع أن يكون به مشروعا صناعيا وإن ينفقه في أغراضه وفي شهواته ويشتري به سيارة بينما هذه تبدأ من أولها على أساس تطوير اقتصاد إسلامي. فالبنك الإسلامي لا يقرض مليما لشخص ليشتري به شيئا لذاته وإنما يقرض أو يقوم بهذه العملية لتطوير الاقتصاد الإسلامي ثم في النهاية يختلف الربا عن ذلك، ذلك أنه في العقود الربوية كلما تأخر يوما دفع في مقابل ذلك وهو معني الربا أضعافا مضاعفة، بينما هذا عادة يتأخر الشهر والشهرين والسنة والسنتين ويرفع للتحكيم ولا يضاف عليه ولا مليم واحد، ففي بدايته ونهايته العقدان مختلفان، هذا تنشيط للاقتصاد الإسلامي ولا بد للمستثمرين أن يكون لهم عائد ولما لم يكن للمستثمرين عائد لاحتفظوا بأموالهم. الشيخ أحمد بازيع الياسين: في الحقيقة لنا عشر سنوات مع المشايخ في جميع المؤتمرات وقرروا بأن هذا لا بأس فيه لأنها ليست من العقود الصورية، هناك بائع، وهناك مشتر، وهناك عين مباعة حقيقية، وهناك ثمن، فالعملية عملية حقيقية وليست صورية، وأود أن أبين للجماعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1381 الرئيس: يا شيخ عقد الإجارة الذي مر علينا بمبادئه الخمسة أو الستة عقد حقيقي. الشيخ أحمد بازيع الياسين: نعم. الشيخ عبد السلام العبادي: فيه مسؤولية وضمان. الشيخ المختار السلامي: وضمان المال ضامن بينما البنك عند المال لا يهمه هو يأخذ منك الفائدة والمال ولا يهمه شيء. الرئيس: المهم يا مشايخ، هذه عمليات البيع بالأجل الذي يرون الموافقة عليه كما هو يتكرمون برفع أيديهم. الشيخ تقي العثماني: ولكن التوصية. الرئيس: التوصية يظهر منها جيدة. الرئيس: في فوائد الودائع. الشيخ عبد السلام العبادي: قرر مجلس المجمع أنه يحرم على البنك أن يحمي القيمة الحقيقية لأمواله من آثار تذبذب العملات بواسطة الفوائد المنجرة من إيداعاته، ولذا يجب أن تصرف تلك الفوائد في أغراض النفع العام كالتدريب والبحوث وتوفير وسائل الإغاثة وتوفير المساعدات المالية للدول الأعضاء وتقديم المساعدة الفنية لها وكذلك للمؤسسات العلمية والمعاهد والمدارس وما يتصل بنشر المعرفة الإسلامية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1382 الشيخ رجب التميمي: بسم الله الرحمن الرحيم.. كلمة فوائد الودائع هذه ربا لأن الودائع لا يجوز أخذ الربا عنها، فالفوائد محرمة شرعا فكيف نجيز أن نصرف هذه الفوائد، وأنا هي في رأيي وفي نظري وفي يقيني أنها محرمة، في وجوه البر والخير لا يجوز أن تصرف الأموال المحرمة في وجوه البر أو غيرها ما دامت محرمة، أنا أرى أن فوائد الودائع أمر محرم. الرئيس: جزاك الله خيرا.. نحن كذلك … على كل حال الذي يرى التصرف يرفع يده.. أحب أسأل يا شيخ هل ستغير شيئا؟ الشيخ المختار السلامي: لا طبعا هذا ليس رأيي هذا بيان واقع، القضية هو أن البنك الإسلامي له إيداعات في بنوك أمريكا وأن هذه البنوك تعطي له عن إيداعاته في نهاية السنة فوائد، فجاء البنك وقال: أهذه الفوائد نأخذها أو نتركها لأمريكا؟ هذه واحدة. ثم إنه أخذ هذه الفوائد قلنا إن البنك الإسلامي هل يصح للبنك أن يقول أن أعطيها للبنك الأمريكي فقلنا له: لا خذها، قال: طيب، أنا آخذها، لما جاء مجلس المديرين قال: إن هناك تذبذبا في العملات فأنا أعطي 50 % من هذه الفوائد تحصين عملاتي و 50 % من الفوائد للمشاريع العامة، قلنا له: لا يجوز لك أن تحمي أموالك ولو بمليم واحد من هذه الفوائد، ويجب أن تصرف للمشاريع العامة الإسلامية، هذا مفهوم الأمر. الشيخ رجب التميمي: إذن لا ضرورة لوجود بنك التنمية الإسلامي ما دام في المال أن يتعامل مع البنوك الربوية ويأخذ منها يعني نمشي نقول: حلال مع بنك التنمية، ثم يتعامل بنك التنمية مع البنوك الربوية ويتعامل بالربا. الرئيس: يا مشايخ الذي يرى هذه الفقرة يرفع يده. الشيخ خليل الميس: فيه توضيح سيادة الرئيس إذن بتأمر، هذه المسألة تتبعتها في ثلاث عشرة سنة حتى عثرت على نص صريح من مذهب الإمام مالك تفسير القرطبي الجزء الثالث صفحة 366 في بيان قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} قال شأنها أن توزع في مصالح المسلمين وليستغفر الله تعالى، نص عليها نصا كنا متوقفين حتى وجدنا، نص عليه مالك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1383 المشاريع - تقرير عن اجتماع شعبة التخطيط حول المشاريع. - الموسوعة الفقهية. - معجم المصطلحات الفقهية. - معلمة القواعد الفقهية. - مدونة أدلة الأحكام الفقهية. - القرار. تقرير عن اجتماع شعبة التخطيط حول مشاريع المجمع بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى به وسار على دربه إلى يوم الدين. وبعد؛ فقد عقد اجتماع لشعبة التخطيط للنظر في مشاريع المجمع القائمة والمستقبلية، وما أعد عنها من مذكرات مقدمة في الدورة الثالثة للمجمع. وقد تم هذا الاجتماع – بحمد الله وتوفيقه – في الفترة من 8 – 9 صفر 1407 هـ الموافق 11 – 12/10/1986م. وقد حضر جانبا من اجتماع الشعبة كل من معالي رئيس المجمع الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، ومعالي الأمين العام للمجمع الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة. وحضر الاجتماع كل من: 1- فضيلة الدكتور عبد اللطيف الفرفور رئيس شعبة التخطيط. 2- فضيلة الدكتور إبراهيم بشير الغويل مقرر شعبة التخطيط. 3- فضيلة الدكتور عبد السلام العبادي مساعد رئيس المجمع. 4- فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة عضو (مع القيام بمساعدة المقرر) حيث تأخر وصول المقرر من بلده إلى اليوم الثاني للاجتماع. 5- سعادة السفير سيدي محمد يوسف جيري عضو مكتب المجلس. 6- فضيلة الشيخ سالم بن عبد الودود عضو. 7- فضيلة الشيخ محمد هشام البرهاني عضو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1384 8- فضيلة الشيخ تيجاني صابون محمد عضو. 9- فضيلة الشيخ خليل محيي الدين الميس عضو المجمع 10- فضيلة الشيخ رجب التميمي عضو المجمع. وفي الجلسة الأولى تم إقرار جدول الأعمال كما قدمته الأمانة العامة، وهو يشتمل على (10) عشرة بنود، وقد أضيف إليه بندان هما: تقنين الفقه، واستقطاب المزيد من الموضوعات المستجدة (عدا ما سبق جمعه) ، وبذلك كان على الشعبة النظر في الموضوعات الاثني عشر التالية: 1- الموسوعة الفقهية. 2- معلمة القواعد الفقهية. 3- مدونة الأدلة للأحكام الفقهية. 4- معجم المصطلحات الفقهية. 5- إحياء التراث. 6- تيسير الفقه. 7- مشروع المنهج لسير عمل ومناقشات وإدارة جلسات المجلس. 8- اللائحة المالية للموسوعة الفقهية. 9- اللائحة المالية لمعجم المصطلحات الفقهية. 10- اللائحة المالية لإحياء التراث. 11- تقنين الفقه. 12- استقطاب المزيد من الموضوعات المستجدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1385 1- مشروع الموسوعة الفقهية: أشار فضيلة الدكتور الأمين العام للمجمع إلى ما سبق إقراره من لجنة الموسوعة وخصائصها وقيودها، وأنه عهد إلى الدكتور عبد الستار أبو غدة مقرر تلك اللجنة بوضع مذكرة إيضاحية للعناصر المميزة للموسوعة، ووضع الهيكل الموضعي لها، وكذلك الخطوات اللازمة للتنفيذ، وقد ترك له أمر الاستعانة بمن يشاء من المهتمين بالموسوعة من أعضاء المجمع أو غيرهم من الخبراء في الكويت – تفاديا لتكاليف عقد اجتماعات خاصة لذلك. وقد قام الدكتور أبو غدة بما طلب منه بجهد فردي، ثم عرضه على عدد من المعنيين بالموسوعة من العاملين في موسوعة الكويت، أو المدرسين بكلية الشريعة، أو كلية الحقوق بجامعة الكويت. وقدم مذكرة بذلك وزعت على أعضاء الشعبة، تمهيدا للتداول فيها بشكل مفصل. وقد استعرضت الشعبة في اليوم الثاني من اجتماعها ما جاء في المذكرة بعد تقديم معدها إيضاحًا عما سأل عنه الأعضاء. وقد انتهت الشعبة إلى إقرار ما جاء في المذكرة واستحسان المنهج والخطوات التنفيذية المذكورة فيها للبدء عمليا بالمشروع حسب الهيكل الموضوعي المبين في المذكرة. 2 و 3 – مشروع معلمة القواعد الفقهية ومشروع مدونة الأدلة: أشار معالي الأمين العام إلى المذكرتين اللتين قدمهما معالي رئيس المجمع الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، حول المشروعين، وهما توسعة لما سبق أن عرضه في الدورة السابقة، وسيصار إلى وضع الخطوات العملية لتنفيذ ذلك عقب المناقشة التي ستتم للمشروع في اليوم المحدد للمشاريع. 4- معجم المصطلحات الفقهية: أشار معالي الأمين العام إلى أنه كلف في البداية الدكتور عبد الستار أبو غدة لوضع الخطة العملية للسير في إعداد المعجم في ضوء اهتمام الموسوعة الفقهية بالكويت بالفهارس والمعاجم الفقهية، وأن المذكور قدم مذكرة بذلك تتضمن أبعادا جديدة للتعاون في إنجاز الفهرسة للمصادر الفقهية، فضلا عن المعجم، ثم أشار معالي الأمين العام إلى الأخذ بالاعتبار لما هو قائم في (فاس) بالمملكة المغربية من اهتمام بالفقه المالكي من حيث فهرسته ووضع معجم لمصطلحاته، وهذا ينسجم مع الفكرة القائمة على وضع معاجم مذهبية، ثم إدماجها في معجم واحد. وأن هذا الاهتمام وراءه المجالس العلمية بالمغرب، وذلك يتطلب التنسيق مع تلك الجهة في ضوء ما يتجدد من أخبار هذا الاهتمام ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1386 وقد تداولت الشعبة في اليوم الثاني للاجتماع في موضوع معجم المصطلحات الفقهية. بعد دراستها للمذكرة الموزعة عليها عن المعجم، وأبدت تقديرها لجهود وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في الكويت وتعاون البنك الإسلامي للتنمية من خلال (الميثاق المشترك) بينهما لإعداد (الكشاف الشامل لمصادر الفقه الإسلامي) . والشعبة تؤدي اقتراح معد المذكرة لدخول المجمع شريكا في هذا التعاون بصفته جهة علمية بالطاقات الفقهية. 5- مشروع إحياء التراث: أشار معالي الأمين العام إلى ما سبق للجنة التراث – إعطاؤه الأولوية بالنشر بعد التحقيق أو التحرير وهو: كل ما يتصل بالخلاف العالي (الفقه المقارن) ، والرسائل المفردة في موضوعات فقهية خاصة، وأحكام القرآن، وأحكام السنة، والعلوم الفقهية المساعدة من الأشباه والنظائر والقواعد والفروق. وأفاد أن على رأس قائمة ما سينشره المجمع كتاب " الجواهر الثمينة في فقه عالم المدنية " لابن شاس. وهو الذي تفضل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز بالانفاق لنشره وتوزيعه، وقد كلف بتحقيقه كلا من الدكتور عبد الحفيظ منصور، والدكتور محمد أبو الأجفان، وهما بصدد استكمال مخطوطاته، كما أن في قائمة النشر كتاب " التنبيهات على المدونة "، والذي سيتعاون في إخراجه مع كل من فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي والشيخ مصطفى الغزالي. وأضاف فضيلة الدكتور رئيس المجمع بيانات عن كتاب يتم السعي لإخراجه من المجمع – بناء على توصيات سابقة – وهو كتاب " معرفة السنن والآثار " للبيهقي بعد أن توقفت الجهة التي نشرت جزءا واحدا منه، حيث تم العصور على مخطوطة كاملة له بإحدى قرى الرياض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1387 6- مشروع تيسير الفقه: بعد التداول طويلا في هذا المشروع وملابساته ومشكلاته، انتهت الشعبة إلى وضع الضوابط التالية لكتابة المؤلف المطلوب في الفقه الميسر، وهي: 1- أن تتم الكتابة من لجنة لا من أفراد. 2- أن تشتمل اللجنة على فقهاء، وممثلين للمذاهب المعتبرة من أصحاب الثقة والورع. 3- عدم الخروج عن الراجح المفتى به في المذاهب الأربعة. 4- أن يجرد عن الآراء الشخصية. 5- أن يكون العرض موثقا. 6- أن يختار ما هو أرجح دليلا، وأيسر للعامة، وشرح المصطلحات الغريبة، وتحديث الأمثلة. 7- أن تراعى المستويات المختلفة في صياغة واحدة. 8- طي المسائل التي لا وجود لها في التطبيق الآن. 9- أن يذكر المتفق عليه، ويضم إليه ما عداه دون التزام مذهب معين، واستئناسا بما عليه العمل في مؤلفات التربية الإسلامية للمدارس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1388 11- مشروع تقنين الفقه: في ضوء مبادرة أمانة المجمع لحصر التقنينات الشرعية من شتى البلاد الإسلامية، تدعو الحاجة إلى إعداد تقنين مختار لأحكام المعاملات: (المدنية، والأسرية الأحوال الشخصية والجنائية والدولية) والهدف من هذا: (أ) إيجاد البديل الإسلامي للتقنينات الوضعية المطبقة لكي يعرف منهج الشريعة ولا يندثر بعدم العمل بها، لتستمر الدراسات والبحوث المقارنة. (ب) تمكين الدول الإسلامية التي تتجه لتغيير المعمول به من التشريعات وتطويرها بما يوافق الشريعة، بحيث تجد ما يصلح لسد الفراغ عند أي توجه من هذا القبيل. وهذا يتطلب عقد ندوة فيها بعض أعضاء المجمع المهتمين بالتقنين مع قانونيين مختصين لوضع المنهج العلمي، ثم تشكيل لجنة عملية لكل قسم من أقسام المعاملات المدنية – والأسرية – والجنائية – والدولية. تتقدم الشعبة بتوصية إلى الأمانة لمخاطبة الجهات المسؤولة عن مشاريع القوانين الموحدة من مثل (مشروع قانون الأحوال الشخصية) الذي أعدته الجامعة العربية ووزعته على الدول الإسلامية؛ لإبداء الرأي دون أن تحسب حسابا للمجمع في النظر فيه، لذا ينبغي الطلب إلى الجهة المسؤولة لإرسال نسخة من المشروع إلى (المجمع) بصورة رسمية، مع إرجاء البت فيه إلى أن يبدي المجمع رأيه الشرعي فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1389 12- إضافة موضوعات مستجدة (للفتوى أو البحث) : (فتوى) تأخير دفن الميت لأسباب. (بحث) الديات وتقديرها في العصر الحاضر. (بحث) المقادير والمقاييس الشرعية. (بحث) تقسيم العالم إلى دور: الإسلام والحرب والعهد، والأصل في العلاقة مع غير المسلمين. (بحث) تقسيم الأراضي إلى عشرية وخراجية. (بحث) النفط، ملكيته وزكاته. (بحث) مجادلة غير المسلمين وضوابطها (الحوار الإسلامي - المسيحي مثلا) . (بحث) الاستفادة من صيغة مولى الموالاة في مشردي الحروب والكوارث. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. رئيس لجنة التخطيط والترجمة مقرر الشعبة مساعد المقرر د. عبد اللطيف الفرفور د. إبراهيم بشير الغويل د. عبد الستار أبو غدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1390 الجلسة الافتتاحية المغلقة الجلسة الأولي 6 صفر 1407 هـ – 12 أكتوبر 1986 م الساعة الثامنة والنصف صباحا الرئيس: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فنفتتح مستعينين بالله تعالى مستمدين من التوفيق إلهاما والسداد في الأقوال والأعمال وصلاح النية فيما نقول ونذر، هذه الجلسة الصباحية الأولي من جلسات الدورة الثالثة من مجمعكم هذا وكما تعلمون فإن هذه الجلسة الصباحية هي لدراسة استفسارات البنك الإسلامي للتنمية، وقبل هذا هناك أمور إدارية لا بد من ترتيبها وبقوة لائحة نظام المجمع، التي يختار فيها رئيس المجمع وأمينه مقررا عاما للدورة، فقد وقع الاتفاق فيما بيني وبين معالي الشيخ الحبيب أمين عام المجمع على اختيار فضيلة ممثل المملكة الأردنية الهاشمية الشيخ عبد السلام العبَّادي مقررا عاما لهذه الدورة. وطلبا لحسن الأداء في الصياغة والعرض للموضوعات واختصار للوقت فقد جرى الاتفاق كذلك على اختيار بعض من أصحاب الفضيلة للعرض والبعض الآخر للصياغة حسب البيان الذي سيوزع عليكم وهو كالآتي: في موضوعات البحوث والدراسات: توحيد بدايات الشهور القمرية: العرض: فضيلة الشيخ كمال التارزي، والدكتور فخر الدين الكراي والصياغة محدثكم. استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن: العرض فضيلة الشيخ محيى الدين قادي والصياغة فضيلة الشيخ القاضي تقي الدين العثماني وفضيلة الشيخ أحمد حمد الخليلي وفضيلة الدكتور طه جابر العلواني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1391 الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة: العرض: لفضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء والصياغة لفضيلة الشيخ محي الدين قادي. أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة: العرض لفضيلة الشيخ نزيه حماد والصياغة لفضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور. سندات المقارضة وسندات التنمية والاستثمار: العرض والصياغة لفضيلة الشيخ عبد السلام العبادي. وفي موضوعات شعبة الفتوى: استفسارات البنك الإسلامي للتنمية: يقوم بالعرض والصياغة فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي. زكاة الأسهم في الشركات: عرض: فضيلة الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير، صياغة فضيلة الشيخ وهبة الزحيلي. توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق: العرض لفضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور، والصياغة لفضيلة الشيخ وهبه الزحيلي. أطفال الأنابيب: العرض للأستاذ محمد علي البار والصياغة لفضيلة الشيخ عبد الله البسام. أجهزة الإنعاش: العرض للأستاذ محمد علي البار والصياغة لفضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء. وبعد هذا فإن اللائحة نصت على أنه لا بد في الصياغة العامة بالإضافة إلى المقرر العام، من إضافة عضوين من أعضاء هذا المجمع فهذا موكول إلى اختياركم. الشيخ أحمد البازيع ياسين: نقترح الشيخ عبد الله البسام. الشيخ أحمد الخليلي: فضيلة الشيخ السلامى. الرئيس: إذن هل من معارض في جهة نظر هذا الاختيار؟ إذن تمت الموافقة على ضم الشيخين إلى لجنة الصياغة النهائية لمشاريع هذه الدورة وبالله التوفيق. وبعد هذا ندخل في موضوع جلستنا هذه وهناك توطئة وعرض لبعض المعلومات حول هذه المواضيع الاقتصادية، نرجو من فضيلة الشيخ عبد السلام العبادي أن يتفضل بالإيضاح عنها وشكرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1392 الشيخ عبد السلام العبادي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد من رب العالمين وأصلي على رسوله الكريم. لا يسعني في بداية هذه الكلمة التي أتيحت لي إلا أن أتقدم بالشكر والتقدير على اختياري مقررا عاما لهذه الدورة راجيا من الله سبحانه وتعالى أن يعينني بالمشاركة مع الإخوة في لجنة الصياغة على أداء ما أوكل إلى من مهمة ولا يفوتني أيضا في مطلع الكلمة هذه أن أرحب بجميع الأخوة الكرام أعضاء هذا المجلس الموقر في بلدهم الأردن مرة أخرى في صباح هذا اليوم المبارك. أقر مجلسكم الكريم أمس ترتيب جدول الأعمال بحيث جمع الموضوعات الاقتصادية في مطلع هذه الدورة، وهذا تأكيد من المجلس الكريم على أهمية هذه الموضوعات وضرورة التصدي العاجل لمشكلات المسلمين الملحة وكما يعلم الإخوة الكرام أن القضايا المطروحة على الساحة في واقع المسلمين في هذه الأيام أمام المعاناة التي تعيشها قطاعات عريضة منهم في رحاب عالمنا الإسلامي الواسع من مشكلات المرض والجهل والفقر توجب على فقهاء الشريعة الإسلامية أن يسارعوا لرحاب هذه الشريعة الخاتمة شريعة الله التي جاءت لإصلاح الواقع الإنساني وتنظيم الحياة الإنسانية بكل أبعادها بما يحقق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة أن يسارعوا إلى هذه الشريعة لتلمس الحلول الناجعة لمشكلات هذه الأمة في واقعها ومختلف جنبات حياتها ومن هنا كان نص النظام الأساسي في هذا المجمع على أن من واجبه تقديم الحلول لمشكلات المسلمين الملحة المعاصرة في هذه الأيام. وبحمد الله جاءت الموضوعات المطروحة على هذه الدورة رغم أنها عند النظر السريع تمثل موضوعات جزئية في قضايا متنوعة لكنها عند التدقيق تشكل في الواقع أرضية لنوع من التوجه الواسع الكبير نحو موضوعات هي في ذاتها فيما إذا أُحسن التعامل معها في إطار الشريعة الإسلامية تقدم التصور الإسلامي لحل مشكلات المسلمين في هذه الأيام في مواجهتهم للأمراض الثلاثة التي أشرت إليها. استفسارات البنك الإسلامي تمثل في مجملها طرحا لمعالجة إسلامية في مجالات تحقيق تنمية في واقع المسلمين وفق قواعد الشريعة وأصولها. الحديث عن الزكاة يمثل في الواقع طرحا لمعالجة إسلامية فذة لمشكلات الفقر وتحقيق الحياة الكريم لكل مسلم في رحاب الأرض. وموضوع شهادات الاستثمار للتنمية التي نحتاجها في مجال تحقيق هذه التنمية. قدمت للسادة العلماء هذا النموذج ليعلموا وليوقنوا بعمق ما تعاني لتكون معالجتنا المطروحة في ظلال إلحاح هذه المشكلة ومدي ما تسبب في رحاب عالمنا من آثار وآلام، ولعل عند ذلك حديثنا في مجال التنمية وتقديم الصيغ الإسلامية المتطورة لتحقيق هذه التنمية وتوفير ضمانات العيش الكريم للمسلمين ضمن ما قدمت الشريعة من معالجات، لعل ذلك يدفعنا إلى مزيد من التبحر والنظر ويدفعنا إلى مزيد من الصياغة الفاعلة وهو مطروح علينا من معالجات استفسارات وآراء، لذلك أرجو الإخوة الكرام أن يقدموا لنا هذا النموذج الذي لا يِأخذ من وقتكم الثمين إلا دقائق معدودة لنكون في جو المعانات ولتكون بعد ذلك أنظارنا ومعالجتنا في حجم المعالجة الفاعلة السريعة وشكرا. "إثر هذه الكلمة وقع عرض شريط مصور عن معاناة الأشقاء في بعض المناطق في السودان من جراء الجفاف وقلة المدد". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1393 صاحب السمو الملكي الأمير الحسن ولي العهد المعظم بسم الله الرحمن الرحيم … أيها الإخوة أخاطبكم بعد أن عدت من زيارة رسمية للسودان الشقيق وقلبي يعتصره الحزن والألم وقد أتاحت لي زيارتي للسودان الاطلاع على أحوال مخيمات السودانيين الذين تضرروا بالجفاف وسوء التغذية وكذلك الأمر في بعض مخيمات اللاجئين الذين ما زالوا يتدفقون على السودان من الدول المجاورة وقد استمعت إلى ما يملأ نفوسكم من ألم ومرارة نتيجة تقصير إخوانهم العرب وأشقائهم المسلمين ووقوفهم موقف المفتوح بينما تطاحنهم المحنة من كل جانب وهو يتطلعون إلى إخوانهم بروح الأمل والرجاء. أيها الإخوة: لقد مرت على السودان خمس سنوات متوالية من الجفاف وانحباس الأمطار مما أدى إلى صعوبات اقتصادية وتخلف زراعي وانتشار للجوع والمرض والحرمان لا مثيل له في هذا القرن وحسب تقديرات الأمم المتحدة يعاني ثمانية ملايين وأربعمائة ألف سوداني هذه المعاناة كما يعاني سكان إقليم دارفور وكردفان من شح الغذاء وقلة مساعدات من يمثلهم من البقاء على قيد الحياة، هذا بالإضافة إلى المشاكل الناجمة عن تدفق أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ من إرتيريا وتشاد وزائير وأوغندا على السودان يتزايد عددهم باستمرار وتتولى خمس وعشرون وكالة تطوعية أعمال الإغاثة وتقديم المساعدات لهؤلاء اللاجئين معظمها من أوروبا وأمريكا بينما غابت الوكالات والجمعيات العربية والآسيوية إلا واحدة عن تقديم العون للمنكوبين الذين تصل نسبة المسلمين فيهم إلى أربعة وثمانين بالمائة، كما عاني هؤلاء اللاجئون من بؤس وجفاف لسنوات طويلة نتيجة سوء التنمية والجوع والصراعات المسلحة على أراضيهم كما ضم الجوع مئات الألوف مما يجسد حرمانهم ظلم الإنسان لأخيه الإنسان فآلاف الأطفال ما زالوا يواجهون الموت يوميا بسبب الجوع والمرض، ومن منطلق الإيمان بواجبنا الإنساني وإحساسنا في الأردن من واقع المأساة على شعب السودان الشقيق وبتوجيه من جلالة الحسين فقد وضع الأردن برنامجا لمساعدة عاجلة للسودان الشقيق وبوصفي رئيسا وعضوا مؤسسا للجنة المشكلة للقضايا الإنسانية الدولية بحثت مع المسئولين في السودان الإجراءات التي يمكن اتخاذها على المستوي الدولي واتفق على العمل لتأمين أنصبة مالية مباشرة للمزارعين الصغار وإنشاء جهاز فعال للمتابعة قبل حصولها وبالبحث عن أمور لازمة لأوضاع اللاجئين في السودان. أيها الإخوة أخاطبكم لأنقل لكم استغاثة أشقائكم في السودان في ذكرى مباركة عطرة من ذكريات رسالة الرسول الكريم وذكري نفحة من نفحات نبوية وهي ذكرى هجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة لجمع كلمة المسلمين على الخير والتواد والتراحم، وأية ذكرى أكرم يتجول فيها الإنسان مع أخيه المسلم لمد يد العون والإغاثة والإنقاذ لمن أهلكت المحنة والمجاعة ما لديهم من حرث ونسل وكادت تفني البقية الباقية من المواد البشرية والمادية. أيها الإخوة الكرام.. إن البؤس والحرمان اللذين يتحملهما الملايين من إخواننا في السودان يذكر بقول الرسول العظيم: إن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل جسد واحد إذا اشتكي منه عضو تدعي له سائر الجسد بالسهر والحمي، إني أوصيكم أن تهبوا إلى نجدة إخوانكم في السودان الذين يتطلعون إليكم لإنقاذ أطفالهم وحياتهم وذويهم {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1394 الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. صاحب السمو الملكي … . أصحاب الفضيلة الأعضاء إننا تأملنا الصور لأوضاع إخواننا في السودان التي تمت مشاهدتهم الآن وقال المذيع ومندوب المملكة الأردنية: إنه يهيب بإخوانه المسلمين إلى مد يد العون والإغاثة فإنه بدورنا ينبغي أن نناشد دولنا وحكوماتنا بأن يمدوا يد العون والإغاثة وأن يكثفوا الجهود لإغاثة إخوان لنا في الله في الإسلام وفي العقيدة وألا يكون هذا محل النسيان منا أو التكاسل إن هذا من أصول الإسلام ومن واجباته العظام وإن هذه لفتة كريمة من هذه الدولة المباركة، ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله. صاحب السمو.. في الوقت الذي نتشرف فيه بحضور سموكم فإن صاحب السمو الملكي يرغب بأن يُلقي على مسامعكم الكريمة كلمته التي نرجو الله سبحانه وتعالى أن تعطي هذه الدورة دفعة وشحنة إلى الأخذ بقرارات شرعية حاسمة في قضايا اقتصادية على ضوء الشريعة الإسلامية وشكرا. صاحب السمو الملكي الأمير الحسن: أصحاب الفضيلة.. أيها العلماء الأجلاء … استجابة للدعوة الكريمة من فضيلة الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة وفضيلة الدكتور بكر أبو زيد حضرت اليوم لأتابع المناقشة فيما يتعلق بجوانب من الاستصلاح أي تعظيم المصلحة العامة، وهذه الجوانب في بحثكم اليوم الموصول بإذن الله تتناول قضايا مالية وددت فقط أن أعتذر في بداية حديثي أنني أشعر أن واجب الضيافة لا يتعدى إلا الاطمئنان على سير العمل بصورة مرضية بإذن الله ولكنني عند المشاركة في بحث موضوع أعتقد أنه يتعدى البعد المالي والمادي إلى الوصول إلى البعد الإنساني، شعرت من واجبي أن أبلغ الرسالة والأمانة. كنت تحدثت من خلال ما شاهدتم الآن عن الأوضاع في السودان وربما كان بوسعي أن أتحدث أيضا عن مظاهر أخرى للتخلف والحرمان منها ظاهرة ما يسمى بأطفال الشوارع والذين يؤمون المدن الكبيرة في هذا العالم بأعداد تصل بحسب تقديرات اللجنة الدولة إلى ثمانين مليونا. وكان بمقدوري أن أتحدث بالتفاصيل عن المرض لأقول لكم بأن هنالك إلى جانب موقع الفريق الطبي الأردني في السودان تجمع لأربعة آلاف مجذوم من مجموع يقدر بإحصاءات منظمة الصحة العالمية في حدود الثمانية ملايين مجذوم في القارة الإفريقية ولو أردنا أن نتحدث عن التصحر والجفاف لأشرنا إلى أوضاع دول عضوة كما على سبيل المثال والتي تعاني من أمرِّ وأصعب الظروف في تاريخها ربما ولعلها هذه الصور في الألبوم المصور (1) لأحوال المرض الذي أرجو من السادة الأفاضل أن يتناقلوه ويتصفحوه لمثل آخر على ما وجهنا به في زيارة السودان عند دخول المعسكر الأول للاجئين هرع أطفال المعسكر لاستقبالنا بعبارة: الخواجات الخواجات على اعتبار أنه رسخ في الذهن أن لا يقدم الدعم في مثل هذه الحالات إلا الجمعيات التبشيرية وعندما وضح مضيفنا السوداني بالإشارة إلى أن الوافد آت من الأردن لم يتجاوبوا معه فالأردن أو الدول الأقطار في إطار مفهوم العصر ليست من أعلام التراث والذاكرة لتلك القبائل ولكنه عندما قال يأتون من الأردن الهامشي وتردد كلمة هاشمي وهنا ارتفع الهتاف: الله أكبر ولله الحمد، ولا أدعي فضلا من قريب أو من بعيد في هذه المبادرة فعندما عدت وجهت النداء الذي شاهدتموه إلى المجتمع الأردني وتجاوب هذا المجتمع الطيب بالمساهمة خلال أشهر معدودة بمبلغ يتجاوز الأربعة مليون دولار وللمقارنة مع الولايات المتحدة الأمريكية عندما أعلن يوم لدعم الفقراء في أمريكا وامتدت الأيدي من الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي الأمريكي تضامنا مع الفقراء كانت حصيلة ذلك اليوم خمسة عشر مليون دولار ونحن ثلاثة ملايين هنا في الأردن، المهم أنه أول ما صادف اللجنة.   (1) عرض سموه على الحاضرين ألبومات مصورة عن الوضع في بعض مناطق السودان الشقيق، الناجم عن الجفاف وقلة المدد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1395 وهنا ملاحظتي المتصلة في موضوعات البحث السؤال من المواطن ما هو موقف الزكاة من هذا التبرع؟ وهل يحسب زكاة؟ وكانت الإجابة – وصححني الدكتور عبد السلام – هذه المبالغ الذاهبة لصندوق مخصص للسودان ذاهبة لتوظيف خدمة المعوزين فبمفهوم التوظيف لخدمة هذه الفئة المحرومة من الناس كنت أتطلع إلى إمكانية العودة إلى موضوع الزكاة في المنظور الدولي لأن هنالك منظورا قطريا لكل قطر من أقطار المؤتمر الإسلامي، ونعم هنالك بحوث على مستوي القمة الإسلامية، وأنا حضرت شخصيا القمة الأخيرة في الدار البيضاء عندما بحث موضوع الزكاة لم يتحمل القادة دقائق وأرجئ البحث للقاء القادم والسبب لذلك واضح في نظري وهو ذو شقين: أولا: عدم الرغبة في الخوض في مجال أو عدم التأهيل لذلك المنبر السياسي في أن يخوض في مسائل فقهية. والسبب الثاني واضح أيضا في نظري: أن الأحوال الاجتماعية للعالم الإسلامي ليست ماثلة بنفس السوية من الفهم والدراية بالعمق لجميع المشاركين عندما نتحدث عن معركة بقاء حياة وموت نتحدث حقيقة عن هوية جماعية مهددة في ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، مهددة في ظلم الإنسان لبيئته، ولا أريد أن أتحدث عن الظلم ما بين الإنسان وربه، ولكن هذه العناصر الثلاثة وخاصة يبدو لي أن العنصرين الأول والثاني اللذين نستطيع على الأقل أن نتعامل معهما في مواجهة المفاهيم الثلاثة للاستصلاح وهي الإنسان والأرض والماء الطيب. إن شاء الله وهي ورقة عمل مقدمة للدورة من البنك الإسلامي للتنمية تتعلق في موضوع نقل الأموال من الدول الإسلامية. وهنالك أعود للقاء الأخير للبنك ولا أريد هنا التحدث باسم البنك وذلك لوجود من يغنيني بالحديث الكفء والمتعمق وأكرر ما لمسته من توجه البنك ولكن عند لقائنا الأخير كنت توجهت للبنك باقتراح هل يمكن للبنك عودة لقضية الفقراء وجيوب الفقر الكثيرة المتناثرة في العالم الإسلامي أن يبلور مفهوم المناطق المدعومة أي أن ييسر الوصول إلى الأموال من المصادر الإسلامية داخل تلك الشبكة المتحددة من البنوك الإسلامية ليستمر في رسالة التجاوب مع المشروعات الاجتماعية والاقتصادية خاصة بذوي الدخل المحدود؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1396 ثانيا: كان سؤالي موجها لموضوع الأولويات في اتفاقنا في العالم الإسلامي هل يستطيع البنك من خلال هذا التوجه أن يسهم في تصويب الأولويات على اعتبار أن أي معيار لقياس أوضاع المسلمين في أنحاء العالم يدلنا على أن نسبة الدخل للفرد تؤهل تلك الدول لما يسمى بالقروض السهلة من قبل المصارف الدولية والغربية ولكننا لم نتفاعل بصورة كاملة وشاملة مع القارة الإفريقية على سبيل المثال، وأود هنا أن أذكر ما آلت إليه المنظمات الاقتصادية للجامعة العربية من اضطراب وارتباك وكذلك جهود مخلصة تبذل في هذه الساعة المتأخرة للنهوض بمستوي تلك المنظمات ولكنني أخشى أننا إذا استمرينا في أوضاعنا الحالية ضمن إطار المؤتمر الإسلامي أننا سنواجه أوضاعا مشابهة للمنظمات المتخصصة في المؤتمر المذكور، واقترحت أيضا أن يتعاون البنك وفريق من المتخصصين في أخذ بعض الأمثلة الناجحة ومنها اعتبر البنك سندات المقارضة المعمول بها في هذا الصباح وستكون لي بإذن الله المداخلة الأخيرة لأني أترك الموضوع لكم بالدرجة الأولى إذا اعتبرتموني حلقة وصل فإنني توجهت في الماضي إلى القادة السياسيين فرادى وجماعة وكانت الملاحظة أن هنالك معوقات ولن أعتبرها معوقات فقهية تحول دون التوجه كما تصفه في موضوع التوظيف وتلك الخلافات هي جزء من الخلافات بصفة عامة في حياة الأمة، فأتوجه إليكم بتوضيح جزء من الصورة كما رأيناها، وأرجو عند الحديث عن الإرادة أننا نستطيع حقيقة أن ننفذ من خلال هذا اللقاء إلى التعبير عن الإرادة في أشرف وأعمق صورة وهو في نظري مد العون لإخواننا في الله حيثما وجدوا من المحرومين المعوزين الذين إذا بقوا على أحوالهم الحالية سيتأثرون بأنواع التيارات الفكرية التي عادة ترتفع في مثل ذلك المناخ لتقلب الإنسان على عقيدته وعلى إيمانه. أرجو المعذرة إذا لم أوفق في توضيح الصورة ولكنني وددت فقط أن أنقل جو اللقاء من النصوص والإحصاءات والأرقام والتقارير إلى البعد الإنساني كما رأيناه، وأنتم أعلم مني لتمثيلكم رقعة أوسع جغرافيا من ما استطعت أن أصف ولكن تجوالي في كثير من هذه الدول وعملي مع اللجنة الدولية بالاطلاع على تقاريرها المختلفة أشعرني حقيقة في عظم المسؤولية وأيضا الفرصة السانحة لهذا التجمع الكريم في أن يكون القدوة للآخرين في هذا العالم في مثل هذه المبادرة الأصيلة. أشكركم وأشكر الرئيس على السماح لي بأن أخاطبكم في هذا الصباح وسأستمع معكم بدقة للبحث والمداولات في هذه المواضيع الهامة. رئيس المجلس: نشكر صاحب السمو الملكي نائب جلالة الملك على ما كنا نستمع إليه من حديث فائق وعرض موثق ومعلومات اقتصادية دقيقة وتوجيهات تنطلق من منظور إسلامي إنساني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1397 محضر اجتماع أصحاب الفضيلة علماء الشريعة مع البنك الإسلامي للتنمية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه. بدعوة من السيد رئيس البنك الإسلامي للتنمية الدكتور أحمد محمد علي اجتمع كل من أصحاب الفضيلة العلماء الموضحة أسماؤهم (1) بعد: الأستاذ / أحمد بزيع الياسين. فضيلة الشيخ/ بدر المتولي عبد الباسط. الدكتور/ عبد الله محمد عبد الله. الدكتور/ عبد الستار أبو غدة. الأستاذ / محمد الحبيب ابن الخوجة. الأستاذ / محمد المختار السلامي. الأستاذ / مصطفى أحمد الزرقاء. وقد اعتذر عن الحضور كل من السادة: الدكتور / سامي حمود. سماحة الشيخ / صالح الحصين. سماحة الشيخ / محمد الأمين الضرير. وحضر عن البنك الإسلامي للتنمية كل من: الدكتور / أحمد محمد علي رئيس البنك الأستاذ / عثمان سيك نائب رئيس البنك الأستاذ / عمر عبد الله سجيني الأستاذ / عبد الرحمن نور حرزي. الدكتور / محمد الفاتح. الأخ / منصور بن فتي. الأخ / المقداد حامد الرشيد. وذلك خلال الفترة من 14 - 17 من شوال 1406 هـ الموافق 21 – 24 من يونيو 1086م بمقر البنك الإسلامي للتنمية بجدة، بغرض دراسة الاستفسارات المعروضة عليهم من قبل البنك الإسلامي للتنمية والتي تتناول الموضوعات التالية: رسوم الخدمة على القروض. عملية الإيجار. عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن. عمليات تمويل التجارة الخارجية. التصرف في فوائد الودائع.   (1) حسب الترتيب الأبجدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1398 الاستفسار الأول: رسوم الخدمة على القروض: بالنسبة للموضوع الأول وهو تقدير رسم الخدمات على القروض التي يقدمها البنك، إلى الدول الأعضاء، تم ما يلي: أولا: قدم البنك بيانا عن الأعمال التي تقتضيها هذه القروض. ثانيا: اتضح تعذر تقدير النفقات التي يستوجبها إنجاز هذه القروض بكامل التدقيق وأنه لا بد من إعطاء تقدير للنفقات يكون أقرب ما يكون للواقع. وبعد أن تدارس المشاركون هذا الموضوع انتهوا إلى الأمور الآتية: أولا: بما أن اتفاقية تأسيس البنك الإسلامي للتنمية المصادق عليها من قبل الدول الأعضاء بالبنك، نصت في مجال تمويل القروض على أن يتقاضى البنك رسم خدمة مقابل مصروفاته الإدارية. وهذا الأمر تم الاتفاق على قبوله من كافة الحاضرين كمبدأ من المبادئ. ونظرا إلى أن تقدير هذه النفقات يتعذر بكامل الدقة حسب ما قدمه البنك واقتنع به كل الحاضرين. لذلك اتفقوا على أنه لا مناص من اللجوء إلى التقدير التقريبي العادل الذي لا يُظلم فيه أي شيء من طرفي العملية: المقترض والبنك. ثانيا: أن ما جري عليه عمل البنك من تقدير رسم الخدمات بين 2.50 % و3 % عن جميع مدة القرض لاحظ عليه الحاضرون أنه أمر مبالغ فيه وأنه لا بد من إعادة النظر فيه على أسس جديدة في تقدير معدل النفقات على القروض. ونظرا لما لوحظ من وجود تفاوت بين مرحلتين: أولاهما: عند إنجاز القرض حيث إن هناك نفقات كبيرة تتمثل في الدراسة ومتابعة الإنجاز. وثانيتهما: المرحلة اللاحقة التي يقل فيها الجهد وتكون نفقاتها محدودة. فقد اتفق الحاضرون على أن البنك يتقاضى تكاليف الخدمة عن مدة إنجاز المشروع فقط ويتغاضى عن المدة اللاحقة وعن المصاريف الإدارية المتعلقة بها بعد إنجاز المشروع، خلال فترة الوفاء تنزها عن الشبهات. ثالثا: بالنسبة لتقدير هذه النفقات عن مدة الإنجاز التي يتحملها المقترض والتي لا بد من تقديرها التقريبي حسب الاعتبارات السابقة واعتماد على ما قدمه البنك من بيانات حول هذه النقطة، قرر الحاضرون أن نفقات الخدم تقدر بالمعادلة التالية: قسمة الحصة التقديرية للعمليات العادية من المصاريف على الاعتمادات المقررة للعمليات العادية خلال خمس سنوات ماضية ثم استخراج النسبة المئوية لتضرب هذه النسبة في مبلغ القرض في عدد سنوات إنجاز كل مشروع على حدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1399 ويشكل الناتج مبلغا مقطوعا يدفعه المقترض منجما على سنوات الوفاء، وعند الانتهاء من إنجاز المشروع تقارن المدة المقدرة بالمدة الفعلية للإنجاز فإن ساوتها فبها ونعمت، وإن كانت إقل خصم من المقدار الإجمالى للخدمة ما يتناسب مع المدة من الأقساط الباقية، وإن كانت أكبر يضاف إلى الخدمات بحسب تلك النسبة. ويلزم المقترض بالوفاء بها مع الأقساط الباقية. وقد أنتجت هذه القسمة بالنسبة ليوم الاجتماع نسبة 3.33 % ومرفق بهذا التقرير صورة تطبيقية توضح طريقة إجراء هذا الحساب مقارنة بالطريقة التي كان يجري العمل عليها في البنك. كما اتفق الحاضرون على أن تقدير هذه النسبة ليس تقديرا جامدا بل يجب إعادة النظر فيها سنويا وذلك بحذف السنة الأولى من السنوات الخمس في التقدير وإضافة السنة الأخيرة بدلا عنها. ولقد انفرد فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء، برأي خاص بالنسبة للجزئية التالية: وهي أنه عند احتساب النسبة يقسم مجموع تكاليف الخدمات على مجموع الاعتمادات المقررة بصورة تشمل تمويل التجارة الخارجية. الاستفسار الثاني: عملية الإيجار: عرض البنك على الحاضرين الطريقة التي يتبعها في عملية الإيجار التي تتلخص فيما يلي: أولا: بعد التحقق من الجدوى يوكل البنك المستأجر ليقوم مقامه في شراء المعدات وقبولها والتأكد من سلامتها وحسن تركيبها … الخ. ثانيا: عندما يتلقي البنك من الوكيل ما يفيد أن البائع قد وفَّى بالتزاماته يقوم البنك بإيجار هذه المعدات إلى الوكيل بمقدار معلوم هو حاصل رأس المال مع الأرباح مقسطا على سنوات معينة. ويتضمن عقد الإيجار التزاما من البنك بهبة المعدات المستأجرة عقب وفاء جميع الأقساط الإجارة. ثالثا: يلتزم المستأجر بالتأمين على المعدات لصالح البنك على نفقة المستأجر وكذلك صيانة المعدات والمحافظة عليها. وبعد أن تدارس الحاضرون موضوع هذا العقد قرروا: 1- التأكيد على الفصل بين عقد التوكيل وعقد الإجارة. 2- التأكيد على انتهاء عملية الإجارة بهبة المعدات للمستأجر لا ببيعها. 3- أن يكون البنك هو الذي يتولى التأمين على المعدات على نفقته وليس على نفقة المستأجر. أن كل ما نتج عن تقصير المستأجر أو تعديه فإن المستأجر وحده هو الذي يتحمل ما يترتب على تقصيره أو تعديه فقط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1400 الاستفسار الثالث: عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن: عرض البنك الطريقة التي يتبعها في ذلك والتي تتمثل فيما يلي: 1- يقع وعد بشراء المعدات المطلوبة من المستفيد. 2- يقوم البنك بتوكيل المستفيد بشراء تلك المعدات باسم البنك ويقوم البنك بدفع ثمنها للمورد. 3- بعد أن يتلقى البنك من الوكيل ما يفيد تسلمه لكامل المعدات سليمة وصالحة للاستعمال يقوم البنك بعقد بيع بينه وبين الوكيل بثمن يزيد عن ثمن الشراء بربح متفق عليه، ويدفع المشتري الثمن على أقساط محددة في زمن يتراوح بين ثلاث وعشر سنوات. وبعد تداول النظر بين الحاضرين اتفقوا على ما يلي: أولا: التأكيد على الفصل بين عقد الوكالة وعقد البيع. ثانيا: أن هذه العملية هي عملية مقبولة شرعا مع ملاحظة وجوب الفصل بين عقد الوكالة وعقد البيع. الاستفسار الرابع: عمليات تمويل التجارة الخارجية: عرض البنك الطريقة العملية المتبعة في ذلك وهي أنه بعد أن يتلقى البنك طلبا من إحدى الدول الأعضاء بشراء سلع أو مواد وبعد الموافقة المبدئية من قبل البنك على الطلب يقوم البنك بإبرام اتفاقية بين ثلاثة أطراف: 1- البنك. 2- الجهة المستفيدة. 3- الضامن. وبعد هذا يُوَكِّل البنك الجهة المستفيدة أو الضامنة لشراء السلعة المطلوبة وعندما يتلقى البنك إشعارا من الوكيل بتسلمه السلعة موضوع العقد يتم البيع بين البنك والجهة المستفيدة بواسطة تبادل الرسائل المبرقة (التلكس) بثمن هو حاصل رأس المال المدفوع مع ربح معين، ويقسط الثمن على المدة المتفق عليها على أساس أن كل شحنة يتم تسليمها يدفع ما يخصها من الثمن عند أجله. وبعد تداول النظر بين الحاضرين قرر المجتمعون بالإجماع ما يلي: 1- وجوب فصل عقد البيع عن عقد التوكيل. 2- أن هذه العملية بعد الفصل بين العقدين مقبولة شرعا. الاستفسار الخامس: التصرف في فوائد الودائع: تم النظر في تقرير اجتماع بعض علماء الشريعة والخبراء في المصارف المنعقد بمقر البنك الإسلامي للتنمية بجدة بتاريخ 10 ربيع الأول 1399 هـ. بشأن حكم الشريعة في الفوائد المتجمعة من إيداع البنك الإسلامي للتنمية عند الحاجة، المبالغ غير العاملة من أمواله في المصارف العالمية بالدول الأجنبية، وقد وافق المجتمعون على ما تضمنه التقرير بشأن استخدام تلك الودائع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1401 وبعد أن عرض البنك الطريقة التطبيقية التي قررها مجلس المحافظين للبنك الإسلامي للتنمية من تخصيص 50 % من الاحتياطي الخاص لمواجهة ما يطرأ من انخفاض قيمة الودائع نتيجة تذبب العملات وإن تخصص الـ 50 % الأخرى لأغراض النفع العام وهي التدريب والبحوث، توفير وسائل الإغاثة، توفير المساعدات المالية للدول الأعضاء، تقديم المساعدات الفنية للدول الأعضاء. وبعد تداول النظر بين الحاضرين قرر المجتمعون ما يلي: 1- لا يسوغ للبنك أن يحمي القيمة الحقيقية لأمواله من الـ 50 % التي قررها مجلس المحافظين للاحتياطي. 2- أن يضاف إلى المصارف الأربعة السابقة المؤسسات العلمية والمعاهد والمدارس وما يتصل بنشر المعرفة الإسلامية. 3- باستطاعة البنك أن يُخصص، لأغراض النفع العام المشار إليه، أية أموال أخرى من فوائد تلك الوادئع مثل التي كان قد قرر تخصيصها كاحتياطي لتذبذب العملات. هذا ما انتهى إليه المجتمعون في شأن الموضوعات الخمسة، وبما أن تلك الموضوعات قد ألحق بالأربعة منها نماذج اتفاقيات لتوضيح طريقة تطبيق المبادئ، وهي مصوغة من قبل، وقد أبدى المجتمعون ملاحظات حولها، بعضها يتصل بالموضوع والأحكام الشرعية، وبعضها يتصل بالإجراءات والأسلوب، فقد قرر المجتمعون أنه لا بد من تعديل هذه الاتفاقيات بعد قراءتها بدقة، ورشحوا لهذا العمل: - فضيلة الشيخ / محمد المختار السلامي. - فضيلة الدكتور / عبد الستار أبو غدة. وذلك بأن يقوما مجتمعين بتعديل الاتفاقيات الأربع في ضوء أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية وإرسالها بعد ذلك إلى البنك لتطبيق التعديلات والعمل بها. التوقيع الشيخ محمد مختار السلامي رئيس لجنة الصياغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1402 بسم الله الرحمن الرحيم حساب تكاليف خدمة القروض على أساس المصاريف إلى العمليات 1 - يفترض أن مصاريف البنك الإدارية تنفق لإدارة عمليات البنك بكاملها، وأن هذه العمليات في مجملها فئتان: - فئة العمليات العادة التي هي أكثر حصة في التكاليف والخدمة. - فئة التجارة الخارجية والاستثمار بالودائع التي لا تتطلب كثير عمل نسبيا. 2 - تقدير حصة العمليات العادية من التكاليف تقريبا بـ 80 % من المصروفات الإدارية، ويقسم هذا المبلغ على مبالغ تمويل العلميات العادية، لتحديد نسبة التكاليف إلى الاعتمادات في كل سنة. 3 - تضرب هذا النسبة في عدد سنوات العمل الكثيف المتصل بالمشروع، وتقدر هذه الفترة في المتوسط بـ 5 سنوات، وهي مدة تنتهي باكتمال إنجاز المشروع، وقد تنزل هذه الفترة إلى 2 وقد تبلغ حتى أكثر من 6 سنوات حسب كل مشروع. 4 - حاصل ضرب النسبة في مبلغ القرض في عدد السنوات المذكورة، يشكل المبلغ المقطوع كرسم خدمة للعملية، يستوفى على أقساط متساوية خلال فترة الوفاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1403 بسم الله الرحمن الرحيم تطبيق الطريقة المقترحة على مثال واقعي (الجدول المرفق) مبلغ القرض:: 1925000 دينار إسلامي. المدة: 30 سنة منها 5 سنوات سماح. - حساب 80 % من المصروفات الإدارية المقدرة بـ 68.25 = 54.6م د. - توزيع المصروفات بعد الخصم على العمليات العادية (الاعتمادات 1638.89) = 3.33 % - ضرب الحاصل في سنوات الإنجاز الخمس = 16.66 % - المبلغ المقطوع خلال كل فترة = 320705 - هذا بالمقارنة مع مبلغ = 75/854218 حسب طريقة الحساب المعمول بها حاليا. القرض: 1925000 دينار إسلامي الجدول رقم 1 (ب) رسم الخدمة: 75/854218 دينار إسلامي رسم الخدمة المدة: 30 سنة بما فيها 5 سنوات سماح. (الحساب المعمول به) الجدول حسب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1404 الرقم تاريخ الاستحقاق المبلغ بالدينار الإسلامي التقرير الجديد 1 50 / 24062 08 / 5345 2 50 / 24062 08 / 5345 3 50 / 24062 08 / 5345 4 50 / 24062 08 / 5345 5 50 / 24062 08 / 5345 6 50 / 24062 08 / 5345 7 50 / 24062 08 / 5345 8 50 / 24062 08 / 5345 9 50 / 24062 08 / 5345 10 50 / 24062 08 / 5345 11 50 / 24062 08 / 5345 12 25/23581 08 / 5345 13 00 / 23100 08 / 5345 14 75 / 22618 08 / 5345 15 50 / 22137 08 / 5345 16 25 / 21656 08 / 5345 17 00 / 21175 08 / 5345 18 75 / 20693 08 / 5345 19 50 / 20212 08 / 5345 20 25 / 19731 08 / 5345 21 00 / 19250 08 / 5345 22 75 / 18768 08 / 5345 23 50 / 18287 08 / 5345 24 25 / 17806 08 / 5345 25 00 / 17325 08 / 5345 26 75 / 16843 08 / 5345 27 50 / 16362 08 / 5345 28 25 / 15881 08 / 5345 29 00 / 15400 08 / 5345 30 75 / 14918 08 / 5345 31 50 / 14437 08 / 5345 32 25 / 13956 08 / 5345 33 00 / 13475 08 / 5345 34 75 / 12993 08 / 5345 35 50 / 12512 08 / 5345 36 25 / 12031 08 / 5345 37 00 / 11550 08 / 5345 38 75 / 11068 08 / 5345 39 50 / 10587 08 / 5345 40 25 / 10106 08 / 5345 41 00 / 9625 08 / 5345 42 75 / 9143 08 / 5345 43 50 / 8662 08 / 5345 44 25/ 8181 08 / 5345 45 00 / 7700 08 / 5345 46 75 / 7218 08 / 5345 47 50 / 6737 08 / 5345 48 25 / 6256 08 / 5345 49 00 / 5775 08 / 5345 50 75 / 5293 08 / 5345 51 50 / 4812 08 / 5345 52 25 / 4331 08 / 5345 53 00 / 3850 08 / 5345 54 75 / 3368 08 / 5345 55 50 / 2887 08 / 5345 56 25 / 2406 08 / 5345 57 00 / 1925 08 / 5345 58 75 / 1443 98 / 5345 59 50 / 962 08 / 5345 60 25 / 481 28 / 5345 الإجمالي 75/ 854218 00 / 320705 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1405 بسم الله الرحمن الرحيم البنك الإسلامي للتنمية المركز الرئيسي – جدة بيان تحليلي بمصروفات البنك عن فترة الخمس أعوام الماضية 1401 – 1405 هـ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1406 بسم الله الرحمن الرحيم اتفاقية قرض بين حكومة والبنك الإسلامي للتنمية اتفاقية قرض أبرمت اتفاقية القرض هذه بتاريخ … … … … … … … … … الموافق … … … … … … … … … بين حكومة … … … … … … … … … (ويشار إليها فيما يلي بالمقترض) والبنك الإسلامي للتنمية (ويشار إليه فيما يلي بالبنك) . بما أن المقترض قد طلب من البنك مساعدته في تمويل … … … … … … … … … (ويشار إليه فيما يلي "بالمشروع") كما ورد وصفه في الجدول رقم (2) الملحق بهذه الاتفاقية وذلك بمنحه قرضا كما هو مبين فيما يلي. وبما أن من أغراض البنك مساعدة الدول الأعضاء عن طريق منح القروض لتمويل المشروعات والبرامج الإنتاجية. وبما أن المشروع يعتبر سليما فنيا وله ما يبرره اقتصاديا وماليا ولا يتنافى مع أحكام الشريعة الإسلامية، وبما أن المقترض قد أبرم (بصدد إبرام) اتفاقيات قروض مع كل من … … … … … … … … … وبما أن البنك بناء على ما تقدم قد وافق على منح قرض للمقترض بالشروط والأوضاع المبينة في هذه الاتفاقية. لذلك فقد اتفق الطرفان على ما يلي: المادة الأولى شروط عامة وتعريفات الفقرة 1 - 1: شروط عامة: يوافق طرفا هذه الاتفاقية على جميع نصوص الشروط العامة المطبقة على اتفاقيات البنك للقروض والضمانات المؤرخة في 8 / 11 / 1976 م (وتسمى فيما يلي "الشروط العامة") وسيكون لها ذات القوة ونفس الأثر كما لو وضعت بكاملها في صلب هذه الاتفاقية. الفقرة 1 - 2: تعريفات: كلما وردت في هذه الاتفاقية المصطلحات الوارد تعريفها في الشروط العامة سيكون لها نفس المعاني الموضحة هناك ما لم يتطلب سياق النص معنى آخر. كما يكون للعبارات الإضافية الآتية المعنى الموضح أمام كل منها: (أ) (ب) (ج) "الاتفاقيات الأخرى" تعني القروض المشار إليها في مستهل هذه الاتفاقية. (د) "المشروع" وأية إشارة لأجزاء منه تعني المشروع وأجزاءه الموصوفة في الجدول رقم (2) الملحق بهذه الاتفاقية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1407 المادة الثانية القرض الفقرة 2 - 1: المبلغ: يوافق البنك على منح المقترض قرضا من موارد البنك المادية بمبلغ لا يتجاوز … … … … … … … … … دينار إسلامي والدينار الإسلامي كما ورد تعريفه في المادة 4 (1) (1) من اتفاقية تأسيس البنك يعادل وحدة من حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي. الفقرة 2 - 2: يتم الحصول على عقود الخدمات والبضائع التي تمول من حصيلة القرض وفقا للإجراءات التي يحددها البنك وذلك ما لم يوافق البنك على خلاف ذلك، على أن يلتزم المقترض باللوائح الصادرة أو التي تصدرها منظمة المؤتمر الإسلامي المتعلقة بحظر التعامل مع جنوب أفريقيا وإسرائيل. المادة الثالثة السداد، رسم الخدمة، مكان السداد الفقرة 3 - 1: السداد: يلتزم المقترض بسداد أصل مبلغ القرض على مدى … … … … … … … … … بما فيها … … … … … … سنوات مدة سماح تبدأ من تاريخ إبرام هذه الاتفاقية، على أن يتم السداد على … … … … … … طبقا للجدول رقم (1) الملحق بهذه الاتفاقية. الفقرة 3 - 2: رسم الخدمة: (أ) يلتزم المقترض بأن يدفع للبنك رسم خدمة مقداره … … … … … … … … … دينارا إسلاميا فقط. وذلك طبقا للجدول رقم (ب) الملحق بهذه الاتفاقية. (ت) وسيكون رسم الخدمة مستحقا من تاريخ الالتزام كما ورد تعريفه في الفقرة 9 - 2 من هذه الاتفاقية. الفقرة 3 –3: مكان السداد: ستعتبر جميع المبالغ الواجب أداؤها بما فيها أقساط أصل القرض قد سددت عندما تكون هذه المدفوعات قد قيدت في الحساب المخصص لهذا القرض بسجلات البنك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1408 الفقرة 3 –4: مع عدم المساس بعمومية نص البند 3 –3 أعلاه، فإن جميع المبالغ الواجب أداؤها بمقتضى هذه الاتفاقية تعتبر قد سددت إلى البنك عندما يؤكد أي بنك من البنوك الآتية إتمام إيداع تلك المبالغ في حساب البنك الإسلامي للتنمية لديه: (1) إذا كان السداد بالدولار الإمريكي: (1) Account No. 001591 - 11 Saudi International Bank 99 Bishopsgate, London Ec 2M 3tB Telex Numbers: 8812261 8812262 (2) Account No. B 10507 Arab Banking Corporation p. o Box 5698, Manama, Bahrain Telex Numbers: 9385, 9431 / 2 / 3 9442 ABCBAH BN (2) إذا كان السداد بالفرنك الفرنسي Account No. 96965. 9. 001. 00 Union de Nanques Arabes et Framcaises (U.B.A.F) 190 Aveue Chaies de Gaulle 92523 Neuilty Cedex, France Telex Number: 610334 UBAFRA (3) إذا كان السداد بالجنيه الاسترليني Account No, 708372 Gulf International Bank 2 - 6 Canon Street, London EC 4M 6xp Telex Numbers 8813326 8812889 المادة الرابعة سحب مبالغ القرض واستعمالها الفقرة 4 – 1: المسحوبات: يحق للمقترض أن يسحب مبلغ القرض وفقا للجدول رقم (3) من هذه الاتفاقية ووفقا لنصوصها وأحكامها ونصوص الشروط العامة وقواعد السحب المتبعة في البنك، وذلك للأغراض الموضحة بهذه الاتفاقية كالمبالغ التي صرفت على التكلفة المعقولة للبضائع والخدمات المطلوبة التي تمول بموجب هذه الاتفاقية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1409 الفقرة 4 – 2: تاريخ طلب السحب الأول: إذا لم يتقدم المقترض بطلب للبنك للسحب الأول قبل يوم … … … … … … … … … أو في تاريخ لاحق لهذا التاريخ بسحب ما يتم عليه الاتفاق بين المقترض والبنك يجوز للبنك - في هذه الحالة – أن ينهي أثر هذه الاتفاقية بعد إخطار المقترض بهذا الإنهاء. الفقرة 4 – 3: تاريخ انتهاء السحب: يكون يوم … … … … … … … … … في أي تاريخ لاحق له يحدد باتفاق المقترض والبنك هو تاريخ انتهاء حق المقترض في السحب من القرض لأغراض الفقرة 6 بند (3) (ج) من المادة السادسة من الشروط العامة. الفقرة 4 – 4: استعمال مبالغ القرض: يلتزم المقترض بأن يستعمل جميع المبالغ التي يسحبها من حساب القرض فقط في أغراض تنفيذ المشروع الذي يموله البنك. المادة الخامسة تنفيذ المشروع الفقرة 5 – 1: يقوم المقترض: (أ) بتنفيذ المشروع والقيام بكل ما يتعلق بتنفيذه من عمليات وشئون بسرعة وفعالية ووفقا للنظم والممارسات الإدارية والمالية والهندسية والاقتصادية السليمة عن طريق الهيئة المنفذة للمشروع وذلك تحت إشراف إدارة ذات كفاية وخبرة وهيئة موظفين أكفاء من ذوي الاختصاص والخبرة وطبقا لجدول الاستثمار والميزانية والخطط والمواصفات التي قدمت للبنك ووافق عليها. (ب) بالتقدم إلى البنك للموافقة بأية تعديلات هامة ومتوقعة في الميزانية وخطط ومواصفات المشروع وأية تغييرات جوهرية في أي عقد للحصول على الخدمات وشراء بضائع تتصل بتنفيذ المشروع وذلك بالقدر المعقول من التفصيل الذي يطلبه البنك. الفقرة 5 – 2: على المقترض أن يمنح البنك فترة معقولة لإبداء رأيه في أية تغييرات جوهرية أو أي تمديد للفترة المنصوص عليها في أي عقد للحصول على الخدمات أو شراء بضائع تتصل بتنفيذ المشروع، وذلك دون أي تحديد أو قيد على أي من الالتزامات الأخرى بموجب هذه الاتفاقية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1410 المادة السادسة شروط إضافية واجب استيفاؤها قبل أن يسمح البنك بإجراء السحب على القرض يجب على المقترض قبل أن يتقدم بطلبه للبنك للسحب الأول أو يوضح الإجراءات التي ينوي أن يتبعها أو يعمل على أن تتبع في طرح العطاءات تمشيا مع أحكام الفقرة 2 –2 من هذه الاتفاقية للحصول على موافقة البنك على ذلك. المادة السابعة أحكام خاصة الفقرة 7 – 1: يتعهد المقترض بأن يوفر بقدر الحاجة جميع المبالغ المطلوبة لتنفيذ المشروع بالشروط والأوضاع التي تكون مقنعة للبنك بما في ذلك احتياجات المشروع بالعملة المحلية، وأي تجاوز في تكلفة المشروع المقدرة. الفقرة 7 – 2: يقوم المقترض بإرساء جميع العقود المتعلقة بتنفيذ المشروع والممولة من هذا القرض عن طريق طرح المناقصة المفتوحة وأن يحصل المقترض على الموافقة المسبقة من البنك لإرساء أي مناقصة، أو إبرام أي عقد تزيد قيمته عما يعادل مائة وخمسين ألف دينار إسلامي (150.000) إلا إذا وافق البنك على خلاف ذلك. الفقرة 7 – 3: على المقترض أن يقدم للبنك حالا وفور إقرارها من قبل المقترض كافة دراسات المشروع والتصميمات والمواصفات وجدول مواعيد التنفيذ وأية تعديلات جوهرية تتم بعد ذلك وبالتفاصيل التي يطلبها البنك من وقت لآخر. الفقرة 7 – 4: على المقترض أن يضع ويمسك سجلات نظامية مستوفاة تمكن من يرجع إليها من التعرف على البضائع والخدمات التي تم تمويلها من متحصلات القرض وبيان استخدامها في أغراض تتصل بالمشروع ومن التعرف على سير العمل فيه كما تعكس وفقا للأسس والنظم المحاسبية المعترف بها عمليات التشغيل والمركز المالي للهيئة المنفذة للمشروع. الفقرة 7 – 5: يقدم القرض كافة التسهيلات المعقولة لتمكين مندوبي البنك المعتمدين من القيام بزيارات لأغراض متعلقة بالقرض وتنفيذ المشروع ومراجعة البضائع وفحص أية وثائق متصلة بالمشروع وأن يوافي البنك بالمعلومات التي يطلبها في حدود المعقول والمتعلقة بإنفاق متحصلات القرض وبالمشروع وبالبضائع وبالعمليات وبالمركز المالي للهيئة المنفذة للمشروع. الفقرة 7 – 6: يتعهد المقترض في سبيل تنفيذ المشروع وتشغيله أن يتخذ التدابير المناسبة لتعمل الهيئة المنفذة للمشروع طبقا لأنظمة وقواعد فنية كفيلة بتحقيق أغراض المشروع شكلا وموضوعا وبصورة مرضية للبنك وأن يكون لها من الصلاحيات والسلطة الإدارية ما يمكنها من تنفيذ المشروع بالعناية والكفاية اللازمتين لتنفيذ المشروع وإدارته وتشغيله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1411 الفقرة 7 – 7: يقوم المقترض بنفسه أو بواسطة غيره بالتأمين على جميع البضائع الممولة من متحصلات القرض ضد المخاطر المتصلة بالحصول على تلك البضائع على أن يغطي هذا التأمين مخاطر النقل البحري والعبور والمخاطر الأخرى حتى توصيلها وتسليمها إلى بلد المقترض وموقع العمل في المشروع، ويكون ذلك لدى شركات التأمين المعتمدة وبالمبالغ المقبولة في العرف التجاري السليم وأن يكون التأمين واجب الدفع في حالات ما يوجب استحقاقه بنفس العملة التي تم بها شراء البضائع المؤمن عليها أو بعملة أخرى قابلة للتحويل. الفقرة 7 – 8: يتخذ المقترض كافة الإجراءات اللازمة للحصول على كل الأراضي وما يتعلق بها من حقوق والتي تكون مطلوبة لتنفيذ المشروع ويزود البنك بناء على طلبه بدليل مقنع للبنك بأن تلك الأراضي وما يتعلق بها من حقوق متاحة للأغراض المتصلة بالمشروع. الفقرة 7 – 9: يلتزم المقترض بأن يتخذ بنفسه أو بواسطة غيره كل إجراء أو عمل لازم لتمكين الوكالة أو الهيئة المنفذة للمشروع من تنفيذ المشروع وبأن لا يقوم بأي عمل أو يسمح بالقيام بأي عمل يكون من شأنه عرقلة وإعاقة تنفيذ المشروع أو يحول دون تطبيق أي نص من نصوص هذه الاتفاقية، كما يلتزم المقترض بأن يخطر البنك فورا عن أية أحوال تعوق أو تهدد بإعاقة تحقيق أغراض القرض أو المحافظة على الخدمات التي يقدمها القرض وقيام المقترض بالتزاماته التي تقضي بها هذه الاتفاقية. الفقرة 7 – 10: يجب اعتبار جميع وثائق البنك وسجلاته والمراسلات وأية مستندات أخرى مماثلة سرية من قبل المقترض. المادة الثامنة التقارير الفقرة 8 - 1: (أ) سيتعاون المقترض والبنك تعاونا وثيقا يكفل تحقيق أغراض القرض. وللوصول إلى هذه الغاية يزود كل من الطرفين الآخر بالمعلومات والبيانات التي يطلبها في حدود المعقول والمتصلة بالحالة العامة للقرض، ومن جانب المقترض ستشمل مثل تلك البيانات المعلومات الخاصة بالوضع الاقتصادي والمالي في بلاد المقترض وميزان مدفوعاته. يقوم البنك والمقترض من حين لآخر بالمشاورة وتبادل الرأي بواسطة مندوبيهم بالنسبة للمسائل المتعلقة بأغراض القرض والمحافظة على خدماتهم وقيام المقترض بالتزاماته التي تقضي بها هذه الاتفاقية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1412 الفقرة 8 – 2: (أ) يتعهد المقترض بأن يتأكد بنفسه أو بواسطة غيره من تقديم التقارير الآتية للبنك على أن تنال تلك التقارير الرضا الكامل للبنك وأن تقدم في الأوقات المحددة لتقديمها: (1) تقارير تقدم خلال … … … … بعد مضي ربع عام ميلادي أو بعد مضي فترة يتفق على تحديدها الطرفان المتعاقدان عن تنفيذ المشروع بالصورة التي يحددها البنك من وقت لآخر. (2) تقارير أخرى وفق ما يتطلبه البنك في حدود المعقول عن استثمار مبالغ القرض المسحوبة، وعن تقدم سير العمل في المشروع. (3) على المقترض أن يعد ويقدم إلى البنك فور إنجاز المشروع وفي جميع الأحوال في موعد لا يتعدى ستة أشهر من تاريخ انتهاء السحب أو أي تاريخ لاحق يتفق عليه لهذا الغرض بين المقترض والبنك – تقرير إنجاز حول تنفيذ المشروع والبدء في تشغيله – وذلك في النطاق وبالتفصيل الذي يطلبه البنك على نحو معقول. (ب) يتم توثيق كافة التقارير المذكورة في الفقرة السابقة بحسب اختيار البنك وبالطريقة التي يحددها في حدود المعقول. المادة التاسعة نفاذ الاتفاقية وتاريخ الالتزام الفقرة 9 – 1: نفاذ الاتفاقية: لا تصبح هذه الاتفاقية نافذة إلا إذا: (أ) 1 - قدمت إلى البنك أدلة مقنعة تفيد بأن توقيع وتسليم هذه الاتفاقية نيابة عن المقترض قد تم بمعرفة الجهات الحكومية وأنه قد تم التصديق عليها باستيفاء جميع الإجراءات المطلوبة. 2 - قدم المقترض رأيا قانونيا من جهة قانونية حكومية مقبولة لدى البنك يفيد بأنه قد تم التصريح باتفاقية القرض وأنه قد تم التوقيع عليها نيابة عن المقترض والتصديق عليها على الوجه الصحيح وأن الاتفاقية ملزمة للمقترض قانونا طبقا لأحكامها. (ب) تم إصدار خطاب تفويض من وزارة مالية الحكومة المقترضة أو من أي جهة حكومية أخرى مخولا لها من الحكومة المقترضة إلى البنك المركزي أو ما يقوم مقامه في بلد المقترض متضمنا تعليمات لذلك البنك بأن يقوم البنك المذكور أو ما يقوم مقامه بتنفيذ الدفع للوفاء بالقرض ورسم الخدمة في التواريخ التي يحل فيها استحقاق الأداء، وعلى الوزارة أو الجهة المعنية أن توجه إلى البنك الإسلامي للتنمية صورة من خطاب التفويض هذا مع خطاب من البنك المركزي أو ما يقوم مقامه يفيد فيه بأنه استلم أصل خطاب التفويض وقبل العمل بمحتوياته. جـ- قدمت إلى البنك أدلة مقنعة تفيد بأنه قد تم الوفاء بكل الشروط السابقة لحق المقترض في الحصول على الأموال من قروض أخرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1413 الفقرة 9 –2: تاريخ الالتزام: يبدأ تاريخ الالتزام بعد (60) يوما من تاريخ هذه الاتفاقية أو من التاريخ الذي يكون المقترض قد استوفى جميع الشروط لنفاذ هذه الاتفاقية أيهما يسبق. المادة العاشرة أحكام متفرقة الفقرة 10 – 1: المندوبون المعتمدون: يكون المندوبون المعتمدون هم ....................... في بلد المقترض وأي شخص أو أشخاص ينتدبهم المقترض كتابة ويكون اعتمادهم كمندوبين معتمدين لأغراض أحكام المادة العاشرة الفقرة 10 بند 3 من الشروط العامة. الفقرة 10 – 2: تاريخ الاتفاقية: يكون تاريخ هذه الاتفاقية لتحقيق كافة أغراضها هو التاريخ الموضح في افتتاحية هذه الاتفاقية. الفقرة 10 – 3: العناوين: تم تحديد العناوين التالية لأغراض أحكام الفقرة 10 – 1 من الشروط العامة. عنوان المقترض: عنوان البنك: البنك الإسلامي للتنمية، ص. ب. رقم 5925 – جدة – 21432، المملكة العربية السعودية. برقيا: بنك إسلامي – جدة. تليكس: 401137 – أي اس دى بي – اس جي. وإقرارا بما تقدم فإن البنك والمقترض عن طريق ممثليهما المعتمدين والمخول لهما قد وقعا هذه الاتفاقية باللغة العربية في التاريخ الموضح في افتتاحية هذه الاتفاقية. عن حكومة … … … … … … … … … .............. عن البنك الإسلامي للتنمية … … … … … … … … … … … … … … الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1414 بسم الله الرحمن الرحيم اتفاقية تمويل تجارة خارجية بين البنك الإسلامي للتنمية اتفاقية تمويل تجارة خارجية أبرمت هذه الاتفاقية في هذا اليوم … … … … … … … … … الموافق … … … … … … … … … بين البنك الإسلامي للتنمية (ويشار إليه فيما يلي "بالبنك") و: 1- … … … … … … … … … (ويشار إليه فيما بعد "بالمستفيد") . 2- … … … … … … … … … (ويشار إليه فيما بعد "بالضامن") . بما أن: (أ) حكومة … … … … … … … … … قد طلبت من البنك الإسلامي للتنمية بأن يقوم بشراء … … … … … … … … … (ويشار لها فيما بعد "بالبضاعة") . ثم بيعها مرابحة للمستفيد … … … … … … … … … (ب) مجلس المديرين التنفيذيين للبنك الإسلامي قد وافق في جلسته المنعقدة في … … … … … … … … … بناء على تقرير وتوصيات رئيس البنك على تمويل شراء كمية من … … … … … … … … … في حدود مبلغ لا يتجاوز … … … … … … … … … دولار أمريكي (ويشار لهذا المبلغ فيما يلي "بالمبلغ المعتمد") وبيع تلك الكمية للمستفيد بضمان الضامن وفقا للأوضاع والشروط المنصوص عليها في هذه الاتفاقية. وقد أخطرت حكومة … … … … … … … … … بذلك بمقتضى التليكس المؤرخ في … … … … … … … … … . (ج) البنك قد وافق بالشروط والأوضاع المبينة في هذه الاتفاقية بأن يخول المستفيد كنائب ووكيل عنه في حدود "المبلغ المعتمد" بالتفاوض مع مورد أو موردين وإبرام عقد لشراء البضاعة (يشار إليه فيما يلي "بعقد الشراء ") . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1415 لذلك فقد تم الاتفاق على ما يلي: المادة الأولى شراء البضاعة (1) من المتفق عليه بين أطراف هذه الاتفاقية أن سلطة المستفيد في شراء "البضاعة" نيابة عن البنك مقيدة بشرائها من إحدى الدول الأعضاء بالبنك، ويتعين الحصول على موافقة البنك المسبقة في حالة شراء البضاعة من أية دولة أخرى، ويخضع شراء البضاعة للشروط التي يقرها البنك ويتبع في شأنه إجراءات الشراء المعمول بها في البنك أو أية إجراءات أخرى يوافق عليها الأخير كتابة. (2) يلتزم المستفيد بأن يتأكد بأن المورد ليس مدرجا في قائمة جامعة الدول العربية الخاصة بمقاطعة إسرائيل أو قائمة منظمة الوحدة الإفريقية الخاصة بمقاطعة جنوب إفريقيا. (3) يلتزم المستفيد بأن يقدم مشروع عقد الشراء للبنك بغرض الحصول على موافقته قبل أن يتم توقيعه من المستفيد، وكل إشارة فيما يلي إلى عقد الشراء تقرأ على أنها إشارة إلى ذلك العقد بعد موافقة البنك عليه وإبرامه نيابة عنه. (4) يتعهد المستفيد ويلتزم بأن يتأكد من أن شراء "البضاعة" والتوقيع على عقد الشراء قد تم بدون مساعدة أو تدخل مباشر أو غير مباشر من وسيط أو سمسار أو ما شابه ذلك. المادة الثانية التأمين (1) على المستفيد أن يؤمن أو يعمل على تأمين البضاعة أثناء نقلها وإلى أن تسلم للمستفيد بالقيمة الكاملة لاستبدالها مع شركة تأمين ذات سمعة طيبة يوافق عليها البنك على أن يكون التأمين باسم البنك وعلى نفقته على أن يغطي التأمين المخاطر التي يؤمن ضدها عادة كل من ينقل بضاعة مماثلة للبضاعة بنفس الطريقة، وعلى المستفيد أن يتاكد من أن أحد شروط بوليصة التأمين تنص على أن عائدات التأمين ستدفع عند حدوث ما يوجب دفعها بعملة حرة قابلة للتحويل. (2) إذا لم ينص مشروع عقد الشراء على التأمين على البضاعة بالكيفية المنصوص عليها في الفقرة (1) من هذه المادة. يلتزم المستفيد بأن يبين للبنك عند تقديمه مشروع عقد الشراء للبنك للموافقة عليه وفقا للفقرة (3) من المادة الأولى من هذه الاتفاقية، الترتيبات التي قام باتخاذها أو سيقوم باتخاذها للتأمين على البضاعة بالكيفية المحددة في الفقرة (1) من هذه المادة للحصول على موافقة البنك على تلك الترتيبات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1416 المادة الثالثة التسليم على المستفيد أن يتأكد من أن عقد الشراء على تسليم البضاعة مباشرة له أو لأمره نيابة عن البنك ويكون المستفيد مسؤولا عن فحص نوعيتها وكميتها ومواصفاتها الفنية وكافة الأمور الأخرى المتعلقة بها. المادة الرابعة دفع ثمن البضاعة من قبل البنك (1) يقوم المستفيد نيابة عن البنك باتخاذ الترتيبات اللازمة مع البنك الذي يتعامل معه لفتح خطاب اعتماد بثمن الشحنات لصالح المورد بالطريقة المطلوبة في عقد الشراء وسيقوم المستفيد بمراجعة كل المستندات المؤدية للدفع بموجب خطاب الاعتماد كما سيقوم باصدار تعليماته للبنك الذي فتح عن طريقه خطاب الاعتماد بأن يرسل للبنك نسخة معززة بالمفتاح السري لكامل نص خطاب الاعتماد وأي تعديلات مقترحة عليه، وسيقوم البنك باتخاذ الترتيبات اللازمة لتعويض البنك الفاتح للاعتماد عن أي مبالغ دفعها بموجب خطاب الاعتماد على أن يتم هذا التعويض عن طريق بنك من الدرجة الأولى مراسل للبنك أو لمؤسسة النقد العربي السعودي مقابل استلام ذلك البنك لشهادة من البنك الفاتح للاعتماد يؤكد فيها بأن كل شروط خطاب الاعتماد قد استوفيت تماما وعلى الوجه السليم. (2) مع مراعاة ما نص عليه البند (1) من هذه المادة، فإن فتح أول خطاب الاعتماد الخاص باستخدام المبلغ المعتمد يجب أن يتم في موعد أقصاه … … … … … … … … … وإذا لم يتمكن المستفيد من فتح أول خطاب اعتماد خلال تلك المدة يجوز للبنك – إذا لم يقتنع بالأسباب المقدمة لتبرير التأخير في فتح خطاب الاعتماد – إلغاء العملية موضوع هذه الاتفاقية بعد إشعار أطراف هذه الاتفاقية بذلك. (3) من المتفق عليه بين أطراف هذه الاتفاقية أن جميع المبلغ المعتمد ينبغي أن يسحب في موعد أقصاه … … … … … … … … … شهرا من تاريخ سحب أول مبلغ يتعلق باستخدامه، فإذا بقي جزء من المبلغ المعتمد دون سحب بعد انتهاء موعد السحب المنصوص عليه في هذا البند اعتبر ذلك الجزء المتبقي ملغي ما لم يوافق البنك على خلاف ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1417 المادة الخامسة الوعد بشراء البضاعة (1) يتعهد المستفيد بأن يشتري البضاعة بعد قبضه لها نيابة عن البنك ويوافق البنك على بيعها له بالشروط المبينة في المواد من السادسة إلى الخامسة عشرة من هذه الاتفاقية. (2) يتم إبرام عقد بيع البضاعة للمستفيد بتبادل الرسائل المبرقة بين المستفيد والبنك على أن يتم ذلك فور قبض المستفيد للبضاعة نيابة عن البنك بإيجاب من المستفيد بالصيغة المبينة في الملحق رقم (1) وقبول من البنك بالصيغة المبينة في الملحق رقم (2) . فإذا لم يتصل المستفيد بالبنك لإنهاء إجراءات إبرام العقد في ظرف ثلاثة أسابيع من تاريخ قبضه للبضاعة نيابة عن البنك دون سبب معقول فإن المستفيد يضمن للبنك كل ما ترتب على إخلاله بالتزامه في إبرام العقد. المادة السادسة بيع البضاعة من البنك إلى المستفيد يكون ثمن إعادة بيع البضاعة للمستفيد بالنسبة لكل شحنة (ويشار إليه فيما يلي "بثمن إعادة البيع ") هو الثمن الذي دفعه البنك للمورد وفقا لعقد الشراء المتعلق بتلك الشحنة (ويشار إليه فيما يلي "بثمن الشحنة") زائدا هامش ربح محدد بمبلغ. المادة السابعة التزامات البنك وحقوق المستفيد عند إعادة بيع البضاعة يضمن البنك جميع العيوب الخفية في البضاعة ويلتزم البنك بانه متى ظهر أي عيب خفي في البضاعة بأن يحول إلى المستفيد الاستفادة من الضمانات والتعهدات التي حصل عليها من المورد واطلع عليها وارتضاها المشتري وأي تعهدات أو ضمانات أخرى تكون مقررة قانونا أو جرى بها العرف لصالح البائع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1418 المادة الثامنة تقويم ثمن إعادة البيع بالدينار الإسلامي يتم تقويم ثمن إعادة البيع بالدينار الإسلامي، والدينار الإسلامي وفقا لنص المادة 4 (1) (1) من اتفاقية تأسيس البنك يعادل وحدة من وحدات حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي، وسيقوم البنك في أقرب فرصة ممكنة بعد دفع ثمن كل شحنة بإخطار كل من المستفيد والضامن بثمن إعادة البيع المقابل بالدينار الإسلامي محسوبا على أساس سعر الصرف السائد في يوم العمل في جدة الذي يسبق مباشرة اليوم الذي دفع فيه البنك ثمن الشحنة المعنية، وذلك استنادا إلى أسعار الصرف السائدة في نفس اليوم بين وحدة من وحدات حقوق السحب الخاصة والدينار الإسلامي والمعلنة من قبل صندوق النقد الدولي ويلتزم المستفيد بأن يدفع ثمن إعادة البيع بعملة حرة قابلة للتحويل وفق ما يحدده البنك من وقت لآخر ويخطر به كلا من المستفيد والضامن وسيتم احتساب ثمن إعادة البيع بتحويل ثمن إعادة البيع بالدينار الإسلامي إلى العملة التي سيتم بها الدفع بسعر الصرف السائد في يوم العمل في جدة الذي يسبق مباشرة التاريخ الذي يصبح فيه ثمن إعادة البيع مستحقا وفقا لنص المادة (9) من هذه الاتفاقية. المادة التاسعة تاريخ استحقاق دفع ثمن إعادة البيع (1) مع مراعاة حكم المادة الثانية عشرة من هذه الاتفاقية يلتزم المستفيد بأن يدفع للبنك ثمن إعادة البيع بعد … … … … … … … … … شهرا من التاريخ الذي يدفع فيه البنك ثمن الشحنة المعنية للمورد. إذا استحق دفع ثمن البيع في يوم تكون فيه البنوك غير مفتوحة رسميا للعمل في المكان الذي سيقوم فيه المستفيد بالدفع بالعملة المعنية، فينبغي أن يتم دفع ذلك المبلغ في أول يوم تال تكون فيه تلك البنوك مفتوحة رسميا للعمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1419 المادة العاشرة طريقة سداد ثمن إعادة البيع من قبل المستفيد (1) يقوم المستفيد بسداد ثمن إعادة البيع للبنك عن طريق التحويل بالمبرقة أو التحويل البرقي للحساب الذي يحدده البنك من وقت لآخر لكل من المستفيد والضامن أو بأية طريقة أخرى يحددها البنك. (2) دون مساس بعمومية الفقرة (1) من هذه المادة، ستعتبر كل المبالغ المستحقة الدفع بموجب هذه الاتفاقية قد تم دفعها عندما يؤكد أحد البنوك التالية للبنك أن المبلغ المستحق قد أودع في حساب البنك الإسلامي للتنمية لديه: (1) إذا كان السداد بالدولار الأمريكي: (1) Account No. 001591.11 Saudi International Bank 99 Bishopsgate. London Ec 2M 3TB Telex Number: 8812261 8812262 (2) Account No. B 10507 Arab Bank Corporation p. O. Box: 5698, Manama, Nahrain Telex Numbers: 9385 9421/2/3 9442 ABCBAH BN (2) إذا كان السداد بالفرنك الفرنسي: Account No. 96965. 9. 001. 00 Union Des Banque Arabes Et Francaises (U.B.A.F) 190 Avenue Charles De Gaulle 922523 Neuilly Cedex, France Telex Numbers: 610334 UBAFRA (3) إذا كان السداد بالجنيه الاسترليني: Account No. 708372 Gulf International Bank 2 – 6 Canon Street, London EC 4M 6xp Telex Numbers: 8813362 8812899 (3) يتحمل المستفيد ويدفع كل النفقات والمصاريف المتعلقة بسداد المبالغ المستحقة للبنك. (4) يلتزم المستفيد بسداد كل المبالغ المستحقة للبنك بموجب هذه الاتفاقية دون خصم أي جزء منها بسبب مقاصة أو مطالبة مقابلة أو ضريبة أو تكاليف أو خصومات أو حبس أيا كان نوعه ويكون كل ما سبق على حساب المستفيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1420 المادة الحادية عشرة الضمان في مقابل موافقة البنك على إعادة بيع البضاعة للمستفيد بالكيفية المبينة في هذه الاتفاقية، يوافق الضامن على أن يضمن للبنك ضمانا غير مشروط وغير قابل للإلغاء بأن يؤدي للبنك بناء على طلب منه كل ثمن إعادة البيع بالكامل وفي موعد استحقاقه كما يضمن أداء كل المبالغ الأخرى المستحقة للبنك بموجب هذه الاتفاقية في مواعيد استحقاقها وذلك بصرف النظر عما إذا كان بإمكان البنك أن يسترد تلك المبالغ من المستفيد عن طريق الإجراءات القانونية ودون أن يطلب منه اتخاذ تلك الإجراءات القانونية أولا، كما يلتزم الضامن بأن يقوم بسداد نفس المبالغ المطلوبة من المستفيد بموجب هذه الاتفاقية بالكيفية المبينة في هذه الاتفاقية فيما يتعلق بالسداد من قبل المستفيد. المادة الثانية عشرة المدة المقررة لتنفيذ العملية يجب أن تنفذ نصوص وشروط عملية تمويل التجارة الخارجية موضوع هذه الاتفاقية بما في ذلك عمليات السحب والسداد في مدة … … … … … … … … … شهرا () من تاريخ أول مبلغ يتعلق بهذه العملية يدفعه البنك. المادة الثالثة عشرة التأخير في استعمال الحق من المتفق عليه أن أي تأخير أو امتناع أو أي تساهل من قبل البنك في ممارسة حقوقه بمقتضى هذه الاتفاقية في مواجهة أي من المستفيد أو الضامن لا يعتبر تنازلا عن تلك الحقوق. المادة الرابعة عشرة تسوية الخلافات كل خلاف أو نزاع ينشأ بين أطراف هذه الاتفاقية ويتعلق بتفسيرها أو تطبيقها ويتعذر تسويته بالطرق الودية يحال إلى التحكيم وفقا لإجراءات التحكيم المنصوص عليها في المادة التاسعة الفقرة (9) بند (4) من الشروط العامة التي تنطبق على اتفاقيات القرض وضمان القرض للبنك والمؤرخة في 8 / 11 / 1976 م. وتقرأ كل إشارة فيها للبنك على أنها إشارة للبنك الإسلامي للتنمية وكل إشارة فيها للمقترض والضامن على أنها إشارة للمستفيد والضامن على التوالي. الفقرة 7 – 10: يجب اعتبار جميع وثائق البنك وسجلاته والمراسلات وأية مستندات أخرى مماثلة سرية من قبل المقترض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1421 المادة الخامسة عشرة التقارير الفقرة 8 – 1: (أ) سيتعاون المقترض والبنك تعاونا وثيقا يكفل تحقيق أغراض القرض. وللوصول إلى هذه الغاية يزود كل من الطرفين الآخر بالمعلومات والبيانات التي يطلبها في حدود المعقول والمتصلة بالحالة العامة للقرض. ومن جانب المقترض ستشمل مثل تلك البيانات المعلومات الخاصة بالوضع الاقتصادي والمالي في بلاد المقترض وميزان مدفوعاته. (ب) يقوم البنك والمقترض من حين لآخر بالمشاورة وتبادل الرأى بواسطة مندوبيهم بالنسبة للمسائل المتعلقة بأغراض القرض والمحافظة على خدماته وقيام المقترض بالتزاماته التي تقضي بها هذه الاتفاقية. الفقرة 8 – 2: (أ) يتعهد المقترض بأن يتأكد بنفسه أو بواسطة غيره من تقديم التقارير الآتية للبنك على أن تنال تلك التقارير الرضا الكامل للبنك وأن تقدم في الأوقات المحددة لتقديمها. وإشهادا على ما تقدم فإن أطراف هذه الاتفاقية عن طريق ممثليهم المفوضين قانونا بذلك قد وقعوا هذه الاتفاقية في التاريخ المذكور في افتتاحيتها. عن البنك الإسلامي للتنمية … … … … … … … … … عن المستفيد … … … … … … … … … عن الضامن … … … … … … … … … الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1422 ملحق رقم (1) (صيغة الإيجاب) إلى … … … … … … … … … "المستفيد" بناء على الاتفاقية المبرمة بيني وبين البنك الإسلامي للتنمية في … … … … … … … … … وعملا بما جاء في المادة الخامسة الفصل الأول فإني أرغب في شراء البضاعة أو الشحنة التي تسلمتها نيابة عن البنك بالشروط المبينة في المواد من السادسة إلى الخامسة عشرة من الاتفاقية. ملحق رقم (2) "صيغة القبول " فإن البنك الإسلامي للتنمية بناء على طلبكم الوارد بواسطة … … … … … … رقم ............. يبيع إليكم البضاعة التي تسلمتموها نيابة عنه بالشروط المبينة في المواد من السادسة إلى الخامسة عشرة من الاتفاقية المبرمة بينكم وبينه في ................... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1423 بسم الله الرحمن الرحيم اتفاقية بين البنك الإسلامي للتنمية و … … … … … … … … … بشأن توكيل … … … … … … … … … لشراء معدات نيابة عن البنك … … … … … … … … … اتفاقية بين البنك الإسلامي للتنمية و ......................................... أبرمت هذه الاتفاقية في هذا اليوم … … … … … … الموافق … … … … … … بين البنك الإسلامي للتنمية (ويشار إليه فيما يلي "بالبنك") . و ............................... (ويشار إليه فيما يلي "بالوكيل") . بما إن: (أ) حكومة … … … … … … قد طلبت من البنك بأن يشتري المعدات المبينة تفصيلا في الملحق رقم (2) من هذه الاتفاقية (ويشار لها فيما يلي "بالمعدات") ثم يبيعها للوكيل مرابحة إلى أجل مع تقسيط الثمن، وذلك لأغراض المشروع الوارد وصفه في الملحق رقم (2) من هذه الاتفاقية. (ب) مجلس المديرين التنفيذيين للبنك قد وافق على هذا الطلب في اجتماعه رقم () المنعقد في … … … … … … في حدود مبلغ لا يتجاوز … … … … … … وبالشروط المضمنة في قراره رقم … … … … … … . فقد تم الاتفاق على ما يلي: (1) تعاريف: في هذه الاتفاقية وما لم يقتض السياق معني آخر تكون للعبارات التالية المعاني الموضحة أمام كل منها: عقد / عقود / الشراء: العقد (العقود) التي يبرمها الوكيل مع البائع نيابة عن البنك ولحسابه. ثمن الشراء: المبالغ مستحقة الدفع بموجب عقد (عقود) الشراء وتشمل ثمن المعدات وتكاليف نقلها والتأمين عليها، وتكاليف أي خدمات أخرى يكون البنك ملزما بدفعها بموجب هذه الاتفاقية. المعدات: المعدات والآليات الوارد وصفها تحديدا في الملحق رقم (2) من هذه الاتفاقية وتشمل الأجزاء المكملة لها. البائع: مورد المعدات بصرف النظر عما إذا كان هو الصانع أو لم يكن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1424 دينار إسلامي: الوحدة الحسابية للبنك الإسلامي للتنمية طبقا لما هو مقرر في المادة 4 (1) (1) من اتفاقية تأسيس البنك الإسلامي للتنمية وتعادل وحدة من وحدات حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي. (2) التوكيل بشراء المعدات وقبضها: 2 - 1 يوافق البنك على تفويض الوكيل ليقوم نيابة عنه وباسمه وفي حدود الشروط والأحكام الواردة في هذه الاتفاقية: (أ) بالتفاوض مع البائع والاتفاق معه على ثمن المعدات ومواصفاتها وجميع الشروط والأحكام الأخرى المتعلقة بشرائها وتسليمها للبنك. (ب) بقبض المعدات من البائع نيابة عن البنك وفقاً لطريقة القبض المنصوص عليها في عقد الشراء. 2 –2 يلتزم الوكيل بأن يتبع في شراء المعدات إجراءات الشراء التي يحددها البنك وبوجه خاص ودون مساس بعمومية ما تقدم، على الوكيل مراعاة النظم الصادرة من منظمة المؤتمر الإسلامي الخاصة بمقاطعة جنوب إفريقيا وإسرائيل. 2 – 3 يلتزم الوكيل بأن يتأكد من أن كل عقد شراء: (أ) ينص على أن ملكية المعدات تنتقل مباشرة من البائع إلى البنك. (ب) يتضمن نصا بالتأمين الكافي باسم البنك على المعدات أثناء ترحيلها وإلى أن يتم بيعها للوكيل وفقا لحكم المادة 7 – 2 من هذه الاتفاقية. على أن يكون ذلك التأمين بالقيمة الكاملة لاستبدال المعدات وأن يغطي كل المخاطر التي يؤمن ضدها عادة كل من يقوم بترحيل معدات مماثلة بنفس الطريقة بما في ذلك المخاطر البحرية ومخاطر العبور وأن يكون التأمين مع شركة تأمين ذات سمعة طيبة يوافق عليها البنك، وعلى الوكيل أن يتأكد من أن بوليصة التأمين تنص على أن عوائد التأمين ستكون مستحقة الدفع – إذا حدث ما يوجب ذلك – بعملة حرة قابلة للتحويل. 2 - 4 يتعهد الوكيل بأن يقوم نيابة عن البنك بالحصول على جميع التصاريح والأذونات اللازمة لتوريد المعدات في … … … … … … … … … … … … 2 - 5 لا يجوز للوكيل أن يبرم أي عقد لشراء المعدات قبل أن يحصل على موافقة البنك على أحكام وشروط ذلك العقد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1425 2 – 6 لا يجوز للوكيل أن يوافق على أي تعديل أو تغيير أو تنازل أو خروج عن أحكام وشروط أي عقد شراء سبق أن وافق عليه البنك قبل أن يحصل على موافقة البنك المسبقة على ذلك. 2 - 7 تنتهي سلطة الوكيل في التعاقد لشراء المعدات نيابة عن البنك عندما يبلغ مجموع ثمن المعدات المتعاقد عليها … … … … … … … … … … … … أو عند فسخ هذه الاتفاقية أي الأجلين أسبق. (3) قبول الوكالة: يوافق الوكيل وفقا لأحكام وشروط هذه الاتفاقية على التفاوض مع البائع والاتفاق معه على شراء المعدات، كما يوافق على قبض المعدات من البائع نيابة عن البنك. (4) تنفيذ عقد الشراء: يتعهد الوكيل بأن يبذل العناية والاهتمام اللازمين في متابعة تنفيذ عقد الشراء مع البائع نيابة عن البنك وأن يخطر البنك فورا بأي تأخير أو إخلال آخر بعقد الشراء والتشاور معه بشأن الإجراءات التي يتعين اتخاذها قبل البائع. (5) قبض المعدات: 5 - 1 يتعهد الوكيل بأن يقوم بفحص المعدات قبل قبضها ليتأكد من أنها مطابقة للمواصفات المنصوص عليها في عقد الشراء وأنها في حالة جيدة وخالية من العيوب التي يمكن تبينها بالفحص السليم للمعدات. 5 - 2 يتعهد الوكيل بأن يقوم فورا بعد الانتهاء من فحص المعدات بإخطار البنك بالمبرقة (التليكس) عما إذا كان قد وجد المعدات مطابقة من كل الوجوه لعقد الشراء وقبضها أو أنه قد وجدها غير مطابقة، فإذا لم يتسلم البنك هذا الإخطار في خلال ثلاثين يوما من التاريخ المحدد في عقد الشراء لوصول المعدات ولم يتصل البنك من الوكيل بما يبرر التأخير – فإن البنك يعتبر أن الوكيل ضامن للمعدات مطابقة لعقد الشراء من جميع الوجوه. 5 - 3 إذا تبين للوكيل عند فحص المعدات أنها غير مطابقة في أي وجه من الوجوه لعقد الشراء، فعلى الوكيل أن يتصل فورا بالبنك للتشاور حول ما إذا كان يتعين رد المعدات للبائع أو إمساكها ومطالبته بالتعويض. 5 - 4 يكون الوكيل مسئولا عن كل عيب أو تلف يصيب المعدات نتيجة تعديه أو تفريطه في المحافظة عليها من تاريخ قبضه لها نيابة عن البنك، وإلى أن يتم بيعها له بموجب عقد البيع الذي سيبرمه مع البنك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1426 (6) أداء ثمن الشراء: يتعهد البنك بدفع ثمن المعدات وفقا لشروط وأحكام عقد الشراء وإجراءات السحب المعمول بها بالبنك وذلك بعد أن يتأكد من: (أ) أن المعدات قد تم شراؤها وفقا لإجراءات الشراء المعمول بها لدى البنك أو أي إجراءات أخرى يكون البنك قد وافق عليها مسبقا. (ب) أن البنك قد وافق على أحكام وشروط عقد الشراء. (ج) أن وصف المعدات مطابق لوصفها المبين في الملحق رقم (2) من هذه الاتفاقية. (د) أن مجموع ثمن الشراء لن يزيد عن المبلغ الذي وافق البنك عليه. (7) الوعد بشراء المعدات من البنك: 7 - 1 يتعهد الوكيل بأن يشتري المعدات من البنك بعد قبضه لها نيابة عن البنك ويتعهد البنك ببيعها له وذلك بالشروط التي وافق عليها مجلس المديرين التنفيذيين في جلسته بتاريخ … … … … … … … … … وقبلها الوكيل بموجب رسالته المبرقة المؤرخة في … … … … … … والشروط الأخرى المبينة في مشروع عقد البيع الملحق بهذه الاتفاقية. 7 - 2 يوافق البنك والوكيل ويلتزمان بتوقيع عقد بيع المعدات خلال مدة لا تتجاوز ثلاثة أسابيع من التاريخ الذي يخطر فيه الوكيل البنك بقبضه للمعدات، فإذا لم يتصل الوكيل خلال هذه المدة مع البنك لإنهاء إجراءات إبرام العقد دون سبب معقول فإنه يضمن للبنك كل ما ترتب على إخلاله بالتزامه في توقيع العقد. (8) نفاذ الاتفاقية: لا تصبح هذه الاتفاقية نافذة إلا إذا: (أ) قدمت للبنك أدلة مقنعة تفيد بأن توقيع هذه الاتفاقية نيابة عن الوكيل قد تم بموجب تفويض صحيح وطبقا للقوانين المعمول بها في … … … … … … (ب) قدم الوكيل للبنك ضمانا بالصيغة التي يقبلها البنك من حكومة … … … … … … أو من بنك تجاري يقبله البنك، يلتزم فيه الضامن بكفالة أداء الوكيل لالتزاماته بموجب عقد البيع الذي سيبرمه مع البنك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1427 (9) عدم استعمال أو التمسك بالحق: إن عدم قيام البنك باستعمال أو بالتمسك بأي حق من حقوقه الثابتة بموجب هذه الاتفاقية أو تأخره في أي من ذلك أو عدم استعماله أو تمسكه بأي جزاء مقرر له ضد الوكيل أو تأخره في ذلك لا يخل بذلك الحق أو الجزاء ولا يجوز أن يفسر على أنه تنازل عن ذلك الحق أو الجزاء. (10) تسوية الخلافات: يسعى الطرفان إلى تسوية أي خلاف في تفسير أو تطبيق هذه الاتفاقية بالطرق الودية، فإذا لم يتم الاتفاق الودي بينهما يعرض النزاع على التحكيم وفقا لإجراءات التحكيم المنصوص عليها في المادة التاسعة الفقرة 9 بند 4 من الشروط العامة التي تنطبق على اتفاقيات القرض وضمان القرض للبنك الإسلامي للتنمية والمؤرخة في 8 / 11 / 1976 م، وتقرأ كل إشارة في تلك الشروط العامة للمقترض على أنها إشارة "للوكيل". (11) الإشعارات: 11 - 1 كل طلب أو إشعار يوجهه أحد الطرفين إلى الآخر بناء على هذه الاتفاقية أو بمناسبة تطبيقها يتعين أن يكون كتابة، ويعتبر أن أيا من الطلب أو الإشعار قد تم قانونا بمجرد أن يسلم بالبريد أو البرق أو المبرقة إلى الطرف الموجهة له في عنوانه المبين في البند (2) من هذه المادة أو أي عنوان آخر يحدد بموجب إشعار إلى الطرف الآخر. 11 - 2 تنفيذا لحكم البند (1) من هذه المادة فقد حدد الطرفان عنوانيهما كالتالي: البنك: البنك الإسلامي للتنمية، ص. ب. رقم 5925 – جدة – 21432. المملكة العربية السعودية. برقيا: بنك إسلامي – جدة. تليكس: 401137 – أي اس دي بي اس جي. الوكيل: وإقرارا بما تقدم وقع الطرفان هذه الاتفاقية في التاريخ المذكور في مطلعها بواسطة الممثلين المفوضين قانونا من جانب الطرفين. عن البنك … … … … … … … … … … … … عن الوكيل … … … … … … … … … … … … الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1428 ملحق رقم (1) اتفاقية بيع لأجل مع تقسيط الثمن أبرمت هذه الاتفاقية في هذا اليوم / / 14 هـ الموافق / / 19 م بين البنك الإسلامي للتنمية (ويشار إليه فيما يلي "بالبائع") … … … … … … … … … … … (ويشار إليه فيما يلي "بالمشتري") … … … … … … … … … … … بما أن: (أ) البائع كان قد أبرم مع المشتري اتفاقية بتاريخ … … … … … … … … الموافق … … … … … … … … (ويشار لها فيما يلي "باتفاقية الوكالة ") فوض البائع بموجبها المشتري بأن يشتري نيابة عنه المعدات الوارد تحديدها في الملحق رقم (2) لتلك الاتفاقية، وذلك لأغراض المشروع الوارد وصفه في الملحق رقم (3) لتلك الاتفاقية. (ب) المشتري بموجب اتفاقية الوكالة ووفقا لأحكامها وشروطها قد قام بشراء وقبض المعدات نيابة عن البائع. (ج) المشتري قد وعد بموجب اتفاقية الوكالة بشراء المعدات بعد قبضها نيابة عن البائع. فقد تم الاتفاق بين البائع والمشتري على ما يلي: (1) تعاريف: في هذه الاتفاقية وما لم يقتض السياق معني آخر، تكون للعبارات التالية المعاني الموضحة أمام كل منها: يوم عمل: أي يوم تكون فيه البنوك مفتوحة رسميا للعمل في المكان الذي سيؤدي فيه المشتري إلى البائع أي مبالغ مستحقة بمقتضى هذه الاتفاقية بالعملة التي سيتم بها أداء تلك المبالغ. عقد (عقود) الشراء: العقد (العقود) التي أبرمها المشتري بصفته وكيلا عن البائع بموجب اتفاقية الوكالة. المعدات: المعدات والآليات الوارد وصفها تحديدا في الملحق رقم (2) من هذه الاتفاقية وتشمل الأجزاء المكملة لها. المورد: البائع الذي اشتري منه البنك المعدات بموجب عقد الشراء بصرف النظر عما إذا كان هو الصانع أم لا. ضريبة: أي ضريبة أو جباية أو رسوم أو أي تكليف مماثل، وتشمل دون حصر أي غرامة جزائية واجبة الدفع في حالة الفشل أو التأخير في دفع أي مما سبق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1429 دينار إسلامي: الوحدة الحسابية للبنك الإسلامي للتنمية طبقا لما هو مقرر في المادة 4 (1) (1) من اتفاقية تأسيس البنك الإسلامي للتنمية وتعادل وحدة من وحدات حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي. (2) بيع المعدات للمشتري مرابحة لأجل مع تقسيط الثمن: 2 - 1 يوافق البائع على بيع المعدات للمشتري ويوافق المشتري على شراءها بالثمن المحدد في هذه الاتفاقية ووفقا لشروطها وأحكامها. 2 - 2 تنتقل ملكية المعدات للمشتري بموجب عقد البيع هذا من تاريخه، ويصبح قبض المشتري للمعدات من هذا التاريخ قبضا لها بصفته مالكا للمعدات وتنتقل إليه من ذلك التاريخ تبعة تلفها أو ضياعها أو هلاكها. 2 - 3 يقر المشتري بأنه قد فحص المعدات وأنه قد وجدها في حالة جيدة وليس بها أي عيب يمكن تبينه من الفحص السليم لها وأنها مطابقة من كل الوجوه للمواصفات المحددة في عقد الشراء. 2 - 4 يلتزم البائع بأنه متى ظهر أي عيب خفي في المعدات بأن يحول إلى المشتري الاستفادة من الضمانات والتعهدات التي تتعلق بحالة المعدات والتي حصل عليها من المورد واطلع عليها وارتضاها المشتري وأية تعهدات أو ضمانات أخرى تكون مقررة قانونا أو جرى بها العرف لصالح البائع. (3) أداء ثمن البيع: يلتزم المشتري بأن يؤدي للبائع مبلغ … … … … … … … … … دينار إسلامي يمثل مجموع ثمن بيع المعدات وذلك على أقساط نصف سنوية ومتتابعة يصبح القسط الأول منها مستحقا وواجب الدفع بعد ستة أشهر من تاريخ هذه الاتفاقية وتستحق بقية الأقساط وتصبح واجبة الدفع في التواريخ المبينة في الملحق رقم (3) من هذه الاتفاقية. (4) كيفية أداء ثمن البيع: 4 - 1 يجب أن يتم أداء ثمن البيع إلى حساب البائع أو بأي طريقة أخرى يشعر بها البائع المشتري كتابة من وقت لآخر على أن يكون ذلك بعملة حرة قابلة لتحويل يقبلها البائع حسب قيمتها في تاريخ الاستحقاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1430 4 - 2 ستعتبر جميع المبالغ الواجب أداؤها بموجب هذه الاتفاقية بما فيها سداد أقساط الإيجار قد تم دفعها للبنك عندما يؤكد أي من البنوك الآتية إتمام إيداع تلك المبالغ في حساب البنك الإسلامي للتنمية لديه: (1) إذا كان السداد بالدولار الأمريكي: (1) Account No. 001591.11 Saudi International Bank 99 Bishopsgate. London Ec 2M 3TB Telex Number: 8812261 8812262 (2) Account No. B 10507 Arab Bank Corporation P. O. Box: 5698, Manama, Bahrain Telex Numbers: 9385, 9431/2/3 9442 ABCBAH BN (2) إذا كان السداد بالفرنك الفرنسي: Account No. 96965. 9. 001. 00 Union Des Banques Arabes Et Francaises (U.B.A.F) 190 Avenue Charles De Gaulle 92523 Neuilly Cedex, France Telex Numbers: 610334 UBAFRA (3) إذا كان السداد بالجنيه الاسترليني: Account No. 708372 Gulf International Bank 2 – 6 Canon Street, London EC 4M 6xp Telex Numbers: 8813362 8812899 4 - 3 إذا كان أي قسط من أقساط الثمن مستحق الأداء في غير يوم عمل يتم أداؤه في أول يوم عمل يعقب يوم استحقاقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1431 4 - 4 يكون الدينار الإسلامي هو الوحدة الحسابية لكل مبلغ يكون مستحقا من المشتري في أي وقت بموجب هذه الاتفاقية، وكلما لزم تحويل أي مبالغ لأغراض هذه الاتفاقية من الدينار الإسلامي لأية عملة أو من أية عملة إلى الدينار الإسلامي يتم ذلك على أساس سعر الصرف المعلن لحقوق السحب الخاصة بصندوق النقد الدولي في اليوم الذي تم فيه دفع تلك المبالغ طبقا للأسعار التي يقوم بنشرها صندوق النقد الدولي. 4 - 5 يتم أداء ثمن البيع وأي مبالغ أخرى قد تكون مستحقة بموجب هذه الاتفاقية دون خصم أو حجز أي مبلغ بسبب أي ضريبة أو مقاصة أو مطالبة أو أي أمر آخر. فإذا كان المشتري ملزما بموجب أي قانون ساري المفعول بأن يجري مثل ذلك الخصم أو الحجز، فعليه أن يوفر من المبالغ ما يمكنه من أن يحول للبائع بعد إجراء ذلك الخصم مبلغا صافيا غير خاضع لأي التزام يساوي المبلغ المستحق الذي يكون من حق البائع استلامه والاحتفاظ به. (5) تأكيد المشتري: يؤكد المشتري للبائع ما يلي: (أ) أنه شركة (مؤسسة) قائمة بموجب قوانين … … … … … … … وأنه يتمتع بالسلطة اللازمة لإبرام هذه الاتفاقية وممارسة الحقوق الناشئة عنها والوفاء بالالتزامات التي تحمل بها بمقتضي هذه الاتفاقية. (ب) أن كل الإجراءات المطلوبة قانونا لتمكينه من إبرام هذه الاتفاقية على وجه مشروع وممارسة حقوقه الناشئة عنها والوفاء بالالتزامات التي تحمل بها بمقتضاها قد تم اتخاذها حسب الأصول وأن تلك الإجراءات لا تزال سارية المفعول. (ج) أن الالتزامات التي تحمل بها بموجب هذه الاتفاقية التزامات قانونية صحيحة وملزمة له وفقا لأحكامها بموجب القوانين القائمة في … … … … … … … … … وأنه لا يلزم لضمان قانونية أو صحة أو نفاذ هذه الاتفاقية إيداعها أو قيدها أو تسجيلها لدى أية محكمة أو جهة. (6) الإخلال بالالتزامات: يعتبر أن المشتري قد أخل بالتزاماته بموجب هذه الاتفاقية في الحالات الآتية: (أ) إذا فشل في أن يؤدي بالكامل أي مبلغ مستحق بموجب هذه الاتفاقية خلال (30) يوما من تاريخ استحقاقه ولا يعتبر قبول البائع بجزء من المبلغ المستحق تنازلا عن اعتبار المشتري مخلا بأداء التزامه بأداء كامل المبلغ المستحق. (ب) إذا تبين أن أيا من البيانات أو التأكيدات التي قدمها في هذه الاتفاقية غير صحيحة في أمر يعتبره البائع جوهريا في الوقت الذي قدمت فيه هذه البيانات أو التأكيدات. (ج) إذا فشل في تنفيذ أو خالف أي حكم أو شرط جوهري في هذه الاتفاقية وعجز عن تصحيح هذا الوضع خلال (30) يوما من التاريخ الذي يشعره فيه البائع بعدم تنفيذه أو مخالفته لذلك الحكم أو الشرط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1432 (7) جزاء الإخلال بالالتزامات: يتعهد المشتري بأن يدفع فورا للبائع ما تبقى من أقساط ثمن البيع وذلك إذا استلم من البائع إشعارا يفيد وقوع إخلال من قبله في أداء التزاماته بموجب هذه الاتفاقية ولم تجر تسوية هذا الإخلال في بحر (30) يوما من تاريخ الإشعار بوقوعه. (8) نفاذ الاتفاقية: لا تصبح هذه الاتفاقية نافذة إلا إذا: (أ) قدمت للبائع أدلة مقنعة تفيد بأن توقيع هذه الاتفاقية نيابة عن المشتري قد تم بموجب تفويض صحيح وطبقا للقوانين المعمول بها في … … … … … … … … … (ب) … … … … … … (9) التقارير: يتعهد المشتري أن يقدم التقارير الآتية للبائع: (أ) تقرير عن سير العمل في تنفيذ المشروع بالكيفية التي يحددها البائع من وقت لآخر ويقدم هذا التقرير بعد ثلاثة أشهر من تاريخ النفاذ ومن ثم كل ثلاثة أشهر. (ب) تقرير عن المركز المالي للمشتري ونتائج عملياته عن السنة المالية المنتهية مصحوبا ببيان الحسابات المراجعة بما في ذلك كشف الموازنة وحساب الأرباح والخسائر عن السنة المالية المنتهية ويقدم هذا التقرير بعد (90) تسعين يوما من نهاية كل سنة مالية. (ج) تقرير إنجاز بالتفصيل الذي يطلبه البائع بصورة معقولة عن تنفيذ المشروع والتشغيل الابتدائي له، ويقدم هذا التقرير فور إكمال تنفيذ المشروع والتشغيل الابتدائي له. (د) أي تقرير أو معلومات أخرى يطلبها البائع بصورة معقولة من وقت لآخر. (10) عدم استعمال أو التمسك بالحق: إن عدم قيام البائع باستعمال أو بالتمسك بأي حق من حقوقه الثابتة بموجب هذه الاتفاقية أو تأخره في أي من ذلك أو عدم استعماله أو تمسكه بأي جزء مقرر له ضد المشتري أو تأخره في ذلك لا يخل بذلك الحق أو الجزاء ولا يجوز أن يفسر على أنه تنازل عن ذلك الحق أو الجزاء. (11) تسوية الخلافات: يسعى الطرفان إلى تسوية أي خلاف في تفسير أو تطبيق هذه الاتفاقية بالطرق الودية، فإذا لم يتم الاتفاق الودي بينهما يعرض النزاع على التحكيم وفقا لإجراءات التحكيم المنصوص عليها في المادة التاسعة الفقرة 9 بند 4 من الشروط العامة التي تنطبق على اتفاقيات القرض وضمان القرض للبنك الإسلامي للتنمية والمؤرخة في 8 / 11 / 1976 م، وتقرأ كل إشارة في تلك الشروط العامة "للبنك" على أنها إشارة ""للبائع" كما تقرأ كل إشارة فيها "للمقترض" على أنها إشارة "للمشتري". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1433 (12) الإشعارات: 12 - 1 كل طلب أو إشعار يوجهه أحد الطرفين إلى الآخر بناء على هذه الاتفاقية أو بمناسبة تطبيقها يتعين أن يكون كتابة. ويعتبر أن أيا من الطلب أو الإشعار قد تم قانونا بمجرد أن يسلم باليد أو بالبريد أو البرق أو المبرقة إلى الطرف الموجه له في عنوانه المبين في البند (2) من هذه المادة أو أي عنوان آخر يحدده بموجب إشعار إلى الطرف الآخر. 12 - 2 تنفيذا لحكم البند (1) من هذه المادة فقد حدد الطرفان عنوانيهما كالتالي: المشتري: البائع: البنك الإسلامي للتنمية، ص. ب رقم 5925 – جدة – 21432، المملكة العربية السعودية. برقيا: بنك إسلامي جدة. تكلس: 401137 – أي اس دي بي – اس جي. وإقرارا بما تقدم وقع الطرفان هذه الاتفاقية في التاريخ المذكور في مطلعها بواسطة الممثلين المفوضين قانونا من جانب الطرفين. عن البنك الإسلامي للتنمية … … … … … … … عن … … … … … … … … … الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1434 بسم الله الرحمن الرحيم اتفاقية بين البنك الإسلامي للتنمية وبشأن توكيل لشراء معدات نيابة عن البنك اتفاقية بين البنك الإسلامي للتنمية و … … … … … أبرمت هذه الاتفاقية في هذا اليوم / / 140 هـ الموافق / / 198 م بين البنك الإسلامي للتنمية (ويشار إليه فيما يلي "بالبنك") و … … … … … … … … … … … … … … (ويشار إليه فيما يلي "بالوكيل") . بما أن: (أ) حكومة … … … … … … … … … … قد طلبت من البنك الإسلامي للتنمية بأن يشتري المعدات المبينة تفصيلا في الملحق رقم (2) من هذه الاتفاقية (ويشار لها فيما يلي "بالمعدات" ثم يؤجرها للوكيل، وذلك لأغراض المشروع الوارد وصفه في الملحق رقم 5 من هذه الاتفاقية. (ب) مجلس المديرين التنفيذيين بالبنك الإسلامي للتنمية قد وافق على هذا الطلب في اجتماعه رقم () المنعقد في … … … … … … … … … … حدود مبلغ لا يتجاوز … … … … … … … … … … وبالشروط المضمنة في قراره رقم … … … … … … … … … … فقد تم الاتفاق على ما يلي: (1) تعاريف: في هذه الاتفاقية وما لم يقتض السياق معنى آخر تكون للعبارات التالية المعاني الموضحة أمام كل منها: عقد / عقود / الشراء: العقد (العقود) التي يبرمها الوكيل مع البائع نيابة عن البنك ولحسابه. ثمن الشراء: المبالغ مستحقة الدفع بموجب عقد (عقود) الشراء وتشمل ثمن المعدات وتكاليف نقلها والتأمين عليها وتكاليف أي خدمات أخرى يكون البنك ملزما بدفعها بموجب هذه الاتفاقية. المعدات: المعدات والآليات الوارد وصفها وتحديدا في المحلق رقم (2) من هذه الاتفاقية وتشمل الأجزاء المكملة لها. البائع: مورد المعدات بصرف النظر عما إذا كان هو الصانع أو لم يكن. دينار إسلامي: الوحدة الحسابية للبنك الإسلامي للتنمية طبقا لما هو مقرر في المادة 4 (1) (1) من اتفاقية تأسيس البنك الإسلامي للتنمية وتعادل وحدة من وحدات حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1435 (2) التوكيل بشراء المعدات وقبضها: 2 - 1 يوافق البنك على تفويض الوكيل ليقوم نيابة عنه وباسمه وفي حدود الشروط والأحكام الواردة في هذه الاتفاقية: (أ) بالتفاوض مع البائع والاتفاق معه على ثمن المعدات ومواصفاتها وجميع الشروط والأحكام الأخرى المتعلقة بشرائها وتسليمها للبنك. (ب) بقبض المعدات من البائع نيابة عن البنك وفقا لطريقة القبض المنصوص عليها في عقد الشراء. 2 - 2 يلتزم الوكيل بأن يتبع في شراء المعدات إجراءات الشراء التي يحددها البنك وبوجه خاص ودون مساس بعمومية ما تقدم، على الوكيل مراعاة النظم الصادرة من منظمة المؤتمر الإسلامي الخاصة بمقاطعة جنوب إفريقيا وإسرائيل. 2 - 3 يلتزم الوكيل بأن يتأكد من أن كل عقد شراء: (أ) ينص على أن ملكية المعدات تنتقل مباشرة من البائع إلى البنك. (ب) يتضمن نصا بالتأمين الكافي باسم البنك على المعدات أثناء ترحيلها وإلى أن يتم إيجارها للوكيل وفقا لحكم المادة 7 - 2 من هذه الاتفاقية. على أن يكون ذلك التأمين بالقيمة الكاملة لاستبدال المعدات، وأن يُغطي كل المخاطر التي يؤمن ضدها عادة كل من يقوم بترحيل معدات مماثلة بنفس الطريقة بما في ذلك المخاطر البحرية ومخاطر العبور وأن يكون التأمين مع شركة تأمين ذات سمعة طيبة يوافق عليها البنك وعلى الوكيل أن يتأكد من أن بوليصة التأمين تنص على أن عوائد التأمين ستكون مستحقا الدفع - إذا حدث ما يوجب ذلك – بعملة حرة قابلة للتحويل. 2 - 4 يتعهد الوكيل بأن يقوم نيابة عن البنك بالحصول على جميع التصاريح والأذونات اللازمة لتوريد المعدات في … 2 - 5 لا يجوز للوكيل أن يبرم أي عقد لشراء المعدات قبل أن يحصل على موافقة البنك على أحكام وشروط مشروع ذلك العقد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1436 2 - 6 لا يجوز للوكيل أن يوافق على أي تعديل أو تغيير أو تنازل أو خروج عن أحكام وشروط أي عقد شراء سبق أن وافق عليه البنك قبل أن يحصل على موافقة البنك المسبقة على ذلك. 2 - 7 تنتهي سلطة الوكيل في التعاقد لشراء المعدات نيابة عن البنك عندما يبلغ مجموع ثمن المعدات المتعاقد عليها … … … … … … … … … … أو عند فسخ هذه الاتفاقية أي الأجلين أسبق. (3) قبول الوكالة: يوافق الوكيل وفقا لأحكام وشروط هذه الاتفاقية على التفاوض مع البائع والاتفاق معه على شراء المعدات، كما يوافق على قبض المعدات من البائع نيابة عن البنك. (4) تنفيذ عقد الشراء: يتعهد الوكيل بأن يبذل العناية والاهتمام اللازمين في متابعة تنفيذ عقد الشراء مع البائع نيابة عن البنك وأن يخطر البنك فورا بأي تأخير أو إخلال آخر بعقد الشراء والتشاور معه بشأن الإجراءات التي يتعين اتخاذها قبل البائع. (5) قبض المعدات: 5 - 1 يتعهد الوكيل بأن يقوم بفحص المعدات قبل قبضها ليتأكد من أنها مطابقة للمواصفات المنصوص عليها في عقد الشراء وأنها في حالة جيدة وخالية من العيوب التي يمكن تبينها بالفحص السليم للمعدات. 5 - 2 يتعهد الوكيل بأن يقوم فورا بعد الانتهاء من فحص المعدات بإخطار البنك بالمبرقة (التليكس) عما إذا كان قد وجد المعدات مطابقة من كل الوجوه لعقد الشراء وقبضها أو أنه قد وجدها غير مطابقة، فإذا لم يتسلم البنك هذا الإخطار في خلال ثلاثين يوما من التاريخ المحدد في عقد الشراء لوصول المعدات، سيعتبر البنك أن الوكيل ضامن للمعدات مطابقة لعقد الشراء من جميع الوجوه. 5 - 3 إذا تبين للوكيل عند فحص المعدات أنها غير مطابقة في أي وجه من الوجوه لعقد الشراء، فعلى الوكيل أن يتصل فورا بالبنك للتشاور حول ما إذا كان يتعين رد المعدات للبائع أو إمساكها ومطالبته بالتعويض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1437 5 - 4 يكون الوكيل مسئولا عن كل عيب أو تلف يصيب المعدات نتيجة تعديه أو تفريطه في المحافظة عليها من تاريخ قبضه لها نيابة عن البنك وإلى أن يتم إيجارها له بموجب عقد الإيجار الذي سيبرمه مع البنك. (6) أداء ثمن الشراء: يتعهد البنك بدفع ثمن المعدات وفقا لشروط وأحكام عقد الشراء وإجراءات السحب المعمول بها بالبنك وذلك بعد أن يتأكد من: (أ) أن المعدات قد تم شراؤها وفقا لإجراءات الشراء المعمول بها لدى البنك أو أي إجراءات أخرى يكون البنك قد وافق عليها مسبقا. (ب) أن البنك قد وافق على أحكام وشروط عقد الشراء. (ج) أن وصف المعدات مطابق لوصفها المبين في الملحق رقم (2) من هذه الاتفاقية. (د) أن مجموع ثمن الشراء لن يزيد عن المبلغ الذي وافق البنك عليه. (7) الوعد بإيجار المعدات من البنك: 7 - 1 يتعهد الوكيل بأن يستأجر المعدات من البنك بعد قبضه لها نيابة عن البنك ويتعهد البنك بإيجارها له وذلك بالشروط التي وافق عليها مجلس المديرين التنفيذيين في جلسته بتاريخ … … … وقبلها الوكيل بموجب رسالته المبرقة المؤرخة في … … … والشروط الأخرى المبينة في مشروع عقد الإيجار الملحق بهذه الاتفاقية. 7 - 2 يوافق البنك والوكيل ويلتزمان بتوقيع عقد إيجار المعدات خلال مدة لا تتجاوز ثلاثة أسابيع من التاريخ الذي يخطر فيه الوكيل البنك بقبضه للمعدات، فإذا لم يوف الوكيل بالتزامه من توقيع عقد الإيجار خلال تلك المدة فإنه يضمن للبنك كل ما يترتب عن إخلاله بالتزامه في توقيع العقد. (8) نفاذ الاتفاقية: لا تصبح هذه الاتفاقية نافذة إلا إذا: (أ) قدمت للبنك أدلة مقنعة تفيد بأن توقيع هذه الاتفاقية نيابة عن الوكيل قد تم بموجب تفويض صحيح وطبقا للقوانين المعمول بها في … … … . (ب) قدم الوكيل للبنك ضمانا بالصيغة التي يقبلها البنك من حكومة … … … أو من بنك تجاري يقبله البنك يلتزم فيه الضامن بكفالة أداء الوكيل لالتزاماته بموجب عقد الإيجار الذي سيبرمه مع البنك. (9) عدم استعمال أو التمسك بالحق: إن عدم قيام البنك باستعمال أو بالتمسك بأي حق من حقوقه الثابتة بموجب هذه الاتفاقية أو تأخره في أي من ذلك أو عدم استعماله أو تمسكه بأي جزاء مقرر له ضد الوكيل أو تأخره في ذلك لا يخل بذلك الحق أو الجزاء ولا يجوز أن يفسر على أنه تنازل عن ذلك الحق أو الجزاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1438 (10) تسوية الخلافات: يسعى الطرفان إلى تسوية أي خلاف في تفسير أو تطبيق هذه الاتفاقية بالطرق الودية، فإذا لم يتم الاتفاق الودي بينهما يعرض النزاع على التحكيم وفقا لإجراءات التحكيم المنصوص عليها في المادة التاسعة الفقرة (9) بند (4) من الشروط العامة التي تنطبق على اتفاقيات القرض وضمان القرض للبنك الإسلامي للتنمية والمؤرخة في 8 / 11 / 1976 م، وتقرأ كل إشارة في تلك الشروط العامة للمقترض على أنها إشارة "للوكيل". (11) الإشعارات: 11 - 1 كل طلب أو إشعار يوجهه أحد الطرفين إلى الآخر بناء على هذه الاتفاقية أو بمناسبة تطبيقها يتعين أن يكون كتابة ويعتبر أن أيا من الطلب أو الإشعار قد تم قانونا بمجرد أن يسلم بالبريد أو البرق أو المبرقة إلى الطرف الموجهة له في عنوانه المبين في البند (2) من هذه المادة أو أي عنوان آخر يحدد بموجب إشعار إلى الطرف الآخر. 11 - 2 تنفيذا لحكم البند (1) من هذه المادة فقد حدد الطرفان عنوانيهما كالتالي: البنك: البنك الإسلامي للتنمية ص. ب رقم 5925 – جدة – 21432، المملكة العربية السعودية. برقيا: بنك إسلامي – جدة. تليكس: 401137 – أي اس دي – بي – اس جي. الوكيل: وإقرارا بما تقدم وقع الطرفان هذه الاتفاقية في التاريخ المذكور في مطلعها بواسطة الممثلين المفوضين قانونا من جانب الطرفين. عن البنك الإسلامي للتنمية … … … … … … … … … … … … عن الوكيل / … … … … … … … … … … … … … … … الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1439 ملحق رقم (1) اتفاقية إيجار أبرمت هذه الاتفاقية في هذا اليوم الموافق بين البنك الإسلامي للتنمية (ويشار إليه فيما يلي "بالمؤجر") . و … … … … … … … … … (ويشار إليه فيما يلي "بالمستأجر") . بما أن: (أ) المؤجر كان قد أبرم مع المستأجر اتفاقية بتاريخ … … … … … … الموافق … … … … … … (ويشار لها فيما يلي "باتفاقية الوكالة ") فوض المؤجر بموجبها المستأجر بأن يشتري نيابة عنه المعدات الوارد تحديدها في الملحق رقم (2) لتلك الاتفاقية، وذلك لأغراض المشروع الوارد وصفه تفصيلا في الملحق رقم (3) لتلك الاتفاقية. (ب) المستأجر بموجب اتفاقية الوكالة ووفقا لأحكامها وشروطها قد قام بشراء وقبض المعدات نيابة عن المؤجر. (ج) المستأجر قد وعد بموجب اتفاقية الوكالة باستئجار المعدات بعد قبضها نيابة عن المؤجر. فقد تم الاتفاق بين المؤجر والمستأجر على ما يلي: (1) تعاريف: في هذه الاتفاقية وما لم يقتض السياق معني آخر، تكون للعبارات التالية المعاني الموضحة أمام كل منها: يوم عمل: أي يوم تكون فيه البنوك مفتوحة رسميا للعمل في المكان الذي سيؤدي فيه المؤجر إلى المستأجر أي مبالغ مستحقة عليه بمقتضى هذه الاتفاقية بالعملة التي سيتم بها أداء تلك المبالغ. عقد (عقود) الشراء: العقد (العقود) التي أبرمها المستأجر بصفته وكيلا عن المؤجر بموجب اتفاقية الوكالة. المعدات: المعدات والآليات الوارد وصفها تحديدا في الملحق رقم (1) من هذه الاتفاقية وتشمل الأجزاء المكملة لها. المورد: البائع الذي اشتري منه البنك المعدات بموجب عقد الشراء بصرف النظر عما إذا كان هو الصانع أم لا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1440 فترة الإيجار: المدة التي تبدأ من تاريخ نفاذ هذه الاتفاقية وتنتهي بعد … … … … … … شهرا من ذلك التاريخ. تاريخ النفاذ: التاريخ الذي يعلن فيه البنك نفاذ هذه الاتفاقية. تواريخ أداء أقساط الإيجار: التواريخ التي تقع بعد 6 , 12 , 18, 24, 30 , 36 شهرا من تاريخ النفاذ. ضريبة: أي ضريبة أو جباية أو رسوم أو أي تكليف مماثل، وتشمل دون حصر أي غرامة جزائية واجبة الدفع في حالة الفشل أو التأخير في دفع أي مما سبق. دينار إسلامي: الوحدة الحسابية للبنك الإسلامي للتنمية طبقا لما هو مقرر في المادة 4 (1) (1) من اتفاقية تأسيس البنك الإسلامي للتنمية وتعادل وحدة من وحدات حقوق السحب لصندوق النقد الدولي. (2) الإيجار: 2 - 1 مع مراعاة أحكام وشروط هذه الاتفاقية يوافق المؤجر على إيجار المعدات للمستأجر لفترة الإيجار ويوافق المستأجر على استئجارها. 2 - 2 تبدأ فترة الإيجار من تاريخ نفاذ هذه الاتفاقية ليصبح قبض المستأجر للمعدات من ذلك التاريخ قبضا لها بصفته مستأجرا للمعدات. (3) أقساط الإيجار: في مقابل إيجار المعدات للمستأجر، يلتزم المستأجر بأن يدفع للمؤجر مبلغ … … … … … … دينار إسلامي يمثل مجموع إيجار المعدات خلال فترة الإيجار وذلك على أقساط متتالية يصبح كل منها مستحقا وواجب الدفع في تاريخ أدائه طبقا لما هو مبين تفصيلا في المحلق (3) من هذه الاتفاقية. (4) ملكية المعدات: تظل المعدات مملوكة للمؤجر وحده في جميع الأوقات حتى تنتقل ملكيتها للمستأجر وفقا للمادة (13) من هذه الاتفاقية وعلى المستأجر ألا يقوم أو يسمح بالقيام بأي شيء من شأنه المساس بحقوق المؤجر في المعدات أو تعريضها للخطر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1441 (5) لوحات إثبات الملكية: يوافق المستأجر على أن يلصق بالمعدات لوحات إثبات ملكية تحمل العبارة التالية: "هذه المعدات مملوكة للبنك الإسلامي للتنمية ومؤجرة لـ … … … … … … " ويتعهد المستأجر بأن يتأكد من أن اللوحات ستظل ملصقة وبصورة واضحة بالمعدات طيلة فترة الإيجار. (6) موقع المعدات: تظل المعدات خلال مدة الاتفاقية في حيازة وحفظ المستأجر ويتم تركيبها بـ … … … … … … ولا يجوز نقلها أو نقل أي جزء منها من ذلك الموقع دون موافقة مكتوبة مسبقة من المؤجر. (7) تشغيل المعدات واستعمالها وصيانتها: 7 - 1 على المستأجر أن يستعمل المعدات بعناية وبطريقة سليمة طبقا لتعليمات التشغيل الخاصة بها الصادرة من موردها، ولا يجوز للمستأجر أن يسمح باستعمال المعدات لغير الأغراض التي صممت لأجلها أو لأي غرض غير مشروع وعلى المستأجر ألا يسمح لغير الفنيين المؤهلين باستعمال أو تشغيل المعدات. 7 - 2 على المستأجر الحفاظ على المعدات في جميع الأوقات في حالة سليمة وصالحة للعمل وعليه أن يقوم على نفقته بإصلاح أو استبدال ما يتعيب أو يستهلك أو يتلف من أجزائها ولا يجوز للمستأجر أن يسمح لغير الأشخاص ذوي الخبرة والتأهيل المناسب بإصلاح أو خدمة المعدات. 7 - 3 على المستأجر أن يقوم على نفقته في أي وقت بإصلاح أو خدمة المعدات بالحصول على كل التصاريح والتراخيص وأي إذن آخر فقد يكون مطلوبا في أي وقت خلال فترة الإيجار فيما يتعلق بحيازة أو استخدام المعدات أو المباني التي ستوضع أو فيما يتعلق بتنفيذ المستأجر لالتزاماته بموجب هذه الاتفاقية وعلى المستأجر أن يتأكد أن هذه التصاريح والتراخيص وأي إذن آخر قد يكون مطلوبا سيبقى ساري المفعول في جميع الأوقات، كذلك على المستأجر أن يمتثل لجميع الالتزامات القانونية وغيرها من الالتزامات المتعلقة بحيازة أو استعمال المعدات وعليه أن يقوم وعلى نفقته بإضافة أو تركيب أدوات السلامة مع المعدات وأي أدوات أخرى يتطلب القانون إضافتها إلى المعدات أو تركيبها معها لأغراض استعمال أو تشغيل المعدات على نحو مشروع. 7 - 4 يؤكد المستأجر بأن جميع الاختبارات اللازمة ستجري على المعدات قبل البدء في استعمالها للتأكد من أنه قد تم تصميمها وتصنيعها وتشغيلها بطريقة لن تعرض صحة أو سلامة العاملين عليها أو غيرهم من الأشخاص الذين يستعملونها للخطر، كما يتعهد بأن يتخذ في جميع الأوقات كل الترتيبات اللازمة لضمان تشغيل واستعمال المعدات دون تعريض أي شخص لما سبق ذكره من مخاطر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1442 7 - 5 يوافق المستأجر على أن يعوض المؤجر عن جميع المطالبات والدعاوى التي قد يتعرض لها المؤجر فيما يتعلق بأية إصابة أو ضرر أو خسارة تنشأ عن تقصير المستأجر أو تعديه في حيازة أو تشغيل المعدات. (8) حظر التصرف في المعدات: 8 - 1 لا يجوز للمستأجر إيجار المعدات لغيره أو رهنها أو إنشاء أي تأمين آخر عليها أو بيعها أو بيع أي جزء منها، كما لا يجوز له أن يحيل حقوقه الناشئة عن هذه الاتفاقية أو أن يسمح بأن ينشأ لأي شخص حق في حبس أي من المعدات، كما لا يجوز له أن يتخلى عن حيازة المعدات دون موافقة مسبقة مكتوبة من المؤجر. 8 - 2 لا يجوز للمستأجر بدون موافقة المؤجر المسبقة كتابة أن يثبت المعدات على أي أرض أو مباني، بحيث لا يمكن فصلها عن تلك الأرض أو المباني دون تلف أو تغيير في هيئتها. ويتعهد المستأجر بأن يتخذ كل الترتيبات اللازمة التي تمنع نقل ملكية المعدات لمالك تلك الأرض أو المباني. 8 - 3 لا يجوز للمستأجر بدون موافقة المؤجر المسبقة كتابة أن يدخل أي إضافات أو تغيير أو تعديلات على المعدات أو أن يلصق بها أي ملحقات لا يمكن فصلها عنها دون تلف أو تغيير في هيئة المعدات. وتصبح أي ملحقات يجري إلصاقها إخلالا بهذا البند ملكا للمؤجر وذلك دون مساس بحق المؤجر في التعويض. 8 - 4 فيما بين المؤجر والمستأجر وخلفائهما تظل المعدات من المنقولات وتبقى مملوكة للمؤجر بصرف النظر عما إذا كان قد تم تثبيتها على أي أرض أو مبان، ويكون المستأجر مسئولا عن أي ضرر يصيب تلك الأرض أو المباني من جراء تثبيت المعدات عليها أو فصلها منها. (9) التأمين على المعدات: 9 - 1 يلتزم المستأجر أن يقوم على نفقة المؤجر بالتأمين تأمينا شاملا على المعدات من تاريخ تسليمها له إلى نهاية فترة الإيجار بما يعادل القيمة الكاملة لاستبدالها بمثيلاتها شريطة ألا تقل تلك القيمة تحت أي ظرف عن ثمن الشراء وأن يكون التأمين عند شركة تأمين ذات سمعة طيبة يوافق عليها المؤجر ويجب أن تغطي بوليصة التأمين أي ضرر أو خسارة تنجم عن الحريق أو السرقة أو الفيضان أو الزلزال أو الإعصار أو الحوادث، كما تغطي مخاطر الغير والمخاطر التي يتم التأمين ضدها عادة في عرف الصناعة التي يشتغل بها المستأجر وأي مخاطر أخرى يطلب المؤجر التأمين عليها. 9 - 2 يجب أن تحتوي بوليصة التأمين على ما يفيد بأن المعدات مملوكة للبنك الإسلامي للتنمية ومؤجرة لـ … … … … … … وأن تكون عائدات التأمين مستحقة الدفع بعملة حرة قابلة للتحويل وأن تكون تلك العائدات واجبة الدفع للبنك الإسلامي للتنمية وإذا عزم أي من المستأجر أو شركة التأمين على إلغاء بوليصة التأمين أو تعديل شروطها أو عدم تجديدها فلا بد من إشعار المؤجر قبل (90) تسعين يوما من التاريخ الذي يعتزم فيه أي من المذكورين إلغاء أو تعديل أو عدم تجديد بوليصة التأمين حسبما تكون الحال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1443 9 - 3 على المستأجر أن يقدم للمؤجر متى طلب منه ذلك كل بوليصة من بوالص التأمين المذكورة والإيصالات الخاصة بما تم دفعه من أقساط التأمين. 9 - 4 إذا فشل المستأجر في التأمين على المعدات أو في تقديم ما سبق ذكره من بوالص التأمين وإيصالات يجب عليه إشعار المؤجر بذلك فورا ويتولى المؤجر بنفسه وعلى نفقته التأمين المطلوب على المعدات. 9 - 5 على المستأجر ألا يسمح بأي فعل أو امتناع عن فعل يخالف أحكام أي بوليصة تأمين أو يكون من شأنه أن يعطي شركة التأمين الحق في إلغاء بوليصة التأمين أو يقلل أو يعفيها من مسؤوليتها المقررة بموجب بوليصة التأمين. 9 - 6 على المستأجر أن يشعر المؤجر فورا عند حدوث أي ظرف ينشأ عنه أو قد ينشأ عنه الحق في المطالبة بموجب بوليصة التأمين ليحصل على موافقة المؤجر على المطالبة بموجب بوليصة التأمين، وعلى المستأجر ألا يوافق على أي تسوية للمطالبة دون حصوله كتابة على الموافقة المسبقة للمؤجر. (10) حق التفتيش: يوافق المستأجر على أن يسمح للمؤجر وموظفيه وأي شخص آخر مفوض من قبله بالدخول في جميع الأوقات المناسبة في الموقع الذي توجد به المعدات وذلك بغرض تفتيش المعدات وفحص حالتها. (11) دفع المبالغ المستحقة بموجب الاتفاقية: 11 - 1 يجب أن يتم دفع كل مبلغ يؤديه المستأجر إلى المؤجر بموجب هذه الاتفاقية بعملة حرة قابلة للتحويل يقبلها المؤجر بحسب قيمتها في تاريخ الاستحقاق إلى حساب المؤجر أو بأية طريقة أخرى يشعر بها المؤجر المستأجر كتابة من وقت لآخر. 11 - 2 ستعتبر جميع المبالغ الواجب أداؤها بموجب هذه الاتفاقية بما فيها سداد أقساط الإيجار قد تم دفعها للبنك عندما يؤكد أي من البنوك الآتية إتمام إيداع تلك المبالغ في حساب البنك الإسلامي للتنمية لديه: (1) إذا كان السداد بالدولار الأمريكي: (3) Account No. 001591.11 Saudi International Bank 99 Bishopsgate. London Ec 2M 3TB Telex Number: 8812261 8812262 (2) Account No. B 10507 Arab Bank Corporation P. O. Box: 5698, Manama, Bahrain Telex Numbers: 9385, 9431/2/3 9442 ABCBAH BN (2) إذا كان السداد بالفرنك الفرنسي: Account No. 96965. 9. 001. 00 Union De Banques Arabes Et Francaises (U.B.A.F) 190 Avenue Charles De Gaulle 92523 Neuilly Cedex, France Telex Numbers: 610334 UBAFRA (3) إذا كان السداد بالجنيه الاسترليني: Account No. 708372 Gulf International Bank 2 – 6 Canon Street, London EC 4M 6xp Telex Numbers: 8813326 8812899 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1444 11 - 3 إذا أصبحت أية مدفوعات مستحقة الدفع في غير يوم عمل يتم دفعها في أول يوم عمل يعقب ذلك اليوم. 11 - 4 يكون الدينار الإسلامي هو الوحدة الحسابية لكل مبلغ يكون مستحقا من المستأجر في أي وقت بموجب هذه الاتفاقية، وكلما لزم تحويل أي مبالغ لأغراض هذه الاتفاقية من وإلى الدينار الإسلامي لأي من العملات الأخرى، يتم ذلك على أساس سعر الصرف المعلن لحقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي في اليوم الذي تم فيه دفع تلك المبالغ وفقا للأسعار التي يقوم بنشرها صندوق النقد الدولي. 11 - 5 يتم دفع كل المبالغ المستحقة بموجب هذه الاتفاقية دون خصم أو حجز أي مبلغ بسبب أي ضريبة أو مقاصة أو مطالبة مقابلة أو أي أمر آخر. فإذا كان المستأجر ملزما بموجب أي قانون ساري المفعول بأن يجري مثل ذلك الخصم أو الحجز فعليه أن يوفر من المبالغ ما يمكنه من أن يحول للمؤجر بعد إجراء ذلك الخصم مبلغا صافيا غير خاضع لأي التزام يساوي المبلغ المستحق الذي كان من حق المؤجر استلامه والاحتفاظ به، لولا ذلك الخصم أو الحجز. (12) الخسارة الشاملة: 12 - 1 إذا لحقت بالمعدات خسارة شاملة أو خسارة شاملة حكمية بسبب ضياعها أو سرقتها أو تلفها لدرجة تجعل تكاليف إصلاحها تفوق قيمتها أو لأي سبب آخر، تنتهي هذه الاتفاقية دون مساس بحقوق المؤجر التي استحقت بموجب هذه الاتفاقية ويتم دفع جميع عوائد التأمين للمؤجر بحيث لا يقل ما يحصل عليه المؤجر في هذه الحالة عن ثمن شراء المعدات المؤجرة أو ما تبقى له من أقساط إيجار لم يحن موعد سدادها أيهما أقل. وإذا لم يكف عائد التأمين لتعويض المؤجر وفقا لما تقدم، يحق للمؤجر الرجوع على المستأجر بالفرق إذا كانت الخسارة بسبب تقصير المستأجر أو تعديه وفي حالة كون عائد التأمين الذي استلمه المؤجر يزيد عن قيمة أقساط الإيجار التي لم يحن موعد سدادها، يلتزم المؤجر بإعادة الفرق إلى شركة التأمين. 12 - 2 يكون المستأجر ملزما وعلى نفقته وحده بأن يعيد المعدات التي لم تلحق بها خسارة شاملة أو خسارة شاملة حكمية إلى حالتها الأولى وأن يقوم بإصلاحها، ومع مراعاة حكم البند (3) من هذه المادة، فإن أي عوائد تأمين يتم دفعها لغير الخسارة الشاملة الحكمية يستفاد منها إما في مقابل تكلفة إعادة المعدات إلى حالتها أو إصلاحها بصورة يرضى عنها المؤجر أو لتعويض المستأجر عما يكون قد أنفقه من تكاليف لإعادتها لحالتها الأولى أو إصلاحها. 12 - 3 إذا كان المستأجر مخلا بأي من التزاماته بموجب هذه الاتفاقية فللمؤجر بحسب اختياره أن يستفيد من أي عوائد تأمين مدفوعة لغير الخسارة الشاملة أو الخسارة الشاملة الحكمية في مقابلة أي مبالغ يكون المستأجر مدينا بها للمؤجر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1445 (13) هبة المعدات للمستأجر: إذا لم تلحق بالمعدات خسارة شاملة ولم يكن المستأجر مخلا أو مقصرا في أي من التزاماته المقررة بموجب هذه الاتفاقية يقوم المؤجر في أول يوم عمل يعقب تاريخ أداء آخر قسط من أقساط الإيجار بنقل ملكية المعدات إلى المستأجر على أساس الهبة. (14) تأكيدات المستأجر: يؤكد المستأجر: (أ) أنه شركة (مؤسسة) قائمة بموجب قوانين … … … … … … وأنه يتمتع بالسلطة اللازمة لإبرام هذه الاتفاقية وممارسة الحقوق الناشئة عنها والوفاء بالالتزامات التي تحمل بها بمقتضى هذه الاتفاقية. (ب) أن كل الإجراءات المطلوبة قانونا لتمكينه من إبرام هذه الاتفاقية على وجه مشروع وممارسة حقوقه الناشئة عنها والوفاء بالالتزامات التي تحمل بها بمقتضاها قد تم اتخاذها حسب الأصول وأن تلك الإجراءات لا تزال سارية المفعول. (ج) أن الالتزامات التي تحمل بها بموجب هذه الاتفاقية التزامات قانونية صحيحة وملزمة له وفقا لأحكامها بموجب القوانين القائمة في … … … … … … … … … … وأنه لا يلزم لضمان قانونية أو صحة أو نفاذ هذه الاتفاقية إيداعها أو قيدها أو تسجيلها لدى أي محكمة أو جهة حكومية في … … … … … … . (15) التقارير: يتعهد المستأجر أن يقدم التقارير الآتية للمؤجر: (أ) تقرير عن سير العمل في تنفيذ المشروع بالكيفية التي يحددها المؤجر من وقت لآخر ويقدم هذا التقرير بعد ثلاثة أشهر من تاريخ النفاذ ومن ثم كل ثلاثة أشهر. (ب) تقرير عن المركز المالي للمستأجر ونتائج عملياته عن السنة المالية المنتهية مصحوبا ببيان الحسابات المراجعة بما في ذلك كشف الموازنة وحساب الأرباح والخسائر عن السنة المالية المنتهية، ويقدم هذا التقرير بعد (90) تسعين يوما من نهاية كل سنة مالية. (ج) تقرير إنجاز بالتفصيل الذي يطلبه المؤجر بصورة معقولة عن تنفيذ المشروع والتشغيل الابتدائي له ويقدم هذا التقرير فور إكمال تنفيذ المشروع. (د) أي تقرير أو معلومات أخرى يطلبها المؤجر بصورة معقولة من وقت لآخر. (16) نفاذ الاتفاقية: لا تصبح هذه الاتفاقية نافذة إلا إذا: (أ) قدمت للبنك أدلة مقنعة تفيد بأن توقيع هذه الاتفاقية نيابة عن المستأجر قد تم بموجب تفويض صحيح ومطابق للقانون الأساسي ولوائح المستأجر. … … . (ب) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1446 (17) إنهاء الاتفاقية: 17 - 1 يجوز للمؤجر أن ينهي هذه الاتفاقية بإشعار مكتوب للمستأجر: (أ) إذا عجز المستأجر عن دفع أي مبلغ مستحق الدفع بموجب هذه الاتفاقية أو إذا فشل في مراعاة أو تنفيذ أي حكم أو شرط من هذه الاتفاقية أو إذا تبين أن أيا من التأكيدات أو البيانات التي قدمها في هذه الاتفاقية أو أي مستند أو شهادة قدمها عملا بهذه الاتفاقية أو فيما يتعلق بها غير صحيحة أو مضللة في أمر جوهري حين تقديمها. (ب) إذا تم اتخاذ أي إجراء أو بدأت إجراءات قانونية لتصفية المستأجر أو حله أو إعادة تنظيمه (باستثناء إعادة التنظيم بفرض الدمج أو إعادة التشكيل والمستأجر ملئ وبالشروط التي يكون المؤجر قد وافق عليها مسبقا وكتابة) أو تعيين مُتَوَلٍّ أو قَيِّم أو أي موظف مماثل على المستأجر أو على كل أو أي جزء من إيراداته أو أصوله. 17 - 2 يكون إنهاء هذه الاتفاقية بموجب الفقرات (أ) (ب) من البند (1) من هذه المادة دون مساس بحقوق المؤجر التي أصبحت مستحقة بموجب هذه الاتفاقية. 17 - 3 إذا تم إنهاء هذه الاتفاقية بموجب الفقرة (1) من البند (1) من هذه المادة يبيع المؤجر المعدات إلى المستأجر ويوافق المستأجر على شراء المعدات بمبلغ يساوي القيمة الحقيقية للمعدات يوم البيع ويعتمد في تقديرها على رأي الخبراء وذلك دون إخلال بحكم البند (2) من هذه المادة ويصبح ذلك المبلغ مستحق الدفع من تاريخ البيع. (18) عدم التمسك بالحق: أن عدم قيام المؤجر باستعمال أو التمسك بأي حق من حقوقه الثابتة بموجب هذه الاتفاقية أو تأخره في أي من ذلك أو عدم استعماله أو تمسكه بأي جزء مقر له ضد المستأجر أو تأخره في ذلك لا يخل بذلك الحق أو الجزاء ولا يجوز أن يفسر على أنه تنازل عن ذلك الحق أو الجزاء. (19) تسوية الخلافات: يسعى الطرفان إلى تسوية أي خلاف في تفسير أو تطبيق هذه الاتفاقية بالطرق الودية، فإذا لم يتم الاتفاق الودي بينهما يعرض النزاع على التحكيم وفقا لإجراءات التحكيم المنصوص عليها في المادة التاسعة الفقرة (9) بند (4) من الشروط العامة التي تنطبق على اتفاقية القرض وضمان القرض للبنك الإسلامي للتنمية والمؤرخة في 8 / 11 / 1976 م. وتقرأ كل إشارة في تلك الشروط العامة "للبنك" على أنها إشارة "للمؤجر" كما تقرأ كل إشارة فيها "للمقترض" على أنها إشارة "للمستأجر". (20) الإشعارات: 20 - 1 كل طلب أو إشعار يوجهه أحد الطرفين إلى الآخر بناء على هذه الاتفاقية أو بمناسبة تطبيقها تعين أن يكون كتابة، ويعتبر أن أيا من الطلب أو الإشعار قد تم قانونا بمجرد أن يسلم باليد أو بالبريد أو البرق أو المبرقة (التليكس) إلى الطرف الموجهة له في عنوانه المبين في البند (2) من هذه المادة أو أي عنوان آخر يحدده بموجب إشعار إلى الطرف الآخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1447 20 - 2 تنفيذا لحكم البند (1) من هذه المادة، فقد حدد الطرفان عنوانيهما كالتالي: المؤجر: المستأجر: البنك الإسلامي للتنمية، ص. ب. رقم 5925 – جدة 21432. المملكة العربية السعودية. برقيا: بنك إسلامي – جدة. تليكس: 401137 – أي اس دي بي – اس جي. وإقرارا بما تقدم وقع الطرفان هذه الاتفاقية في التاريخ المذكور في مطلعها بواسطة الممثلين المفوضين قانونا من جانب الطرفين. عن البنك الإسلامي للتنمية … … … … … … … … … … … … … عن … … … … … … … … … … … … الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1448 الملحق رقم (2) وصف المعدات المحلق رقم (3) جدول سداد أقساط الإيجار الملحق رقم (4) اتفاقية ضمان أبرمت هذه الاتفاقية في اليوم … … … … … … الموافق … … … … … … بين حكومة … … … … … … (الضامن) والبنك الإسلامي للتنمية (البنك) . بما أن: (أ) البنك الإسلامي للتنمية قد وافق على تمويل معدات عن طريق الإيجار لمشروع شركة … … … … … … (الشركة) بمبلغ لا يتجاوز … … … … … … دولار أمريكي (أي ما يعادل … … … … … … دينار إسلامي) وفقا للأحكام والشروط المنصوص عليها في اتفاقية الإيجار بين البنك والشركة (اتفاقية الإيجار) والمبرمة بتاريخ … … … … … … . (ب) تقديم الضامن لهذا الضمان لالتزامات الشركة هو أحد شروط نفاذ اتفاقية الإيجار. (ج) الضامن قد وافق في مقابل إيجار البنك للمعدات المذكورة للشركة على ضمان الالتزامات التي تعهدت بها الشركة والواردة تفصيلا في اتفاقية الإيجار. لذلك فقد تم الاتفاق بين الطرفين على ما يلي: المادة الأولى الضمان 1- في مقابل قيام البنك بإيجار المعدات المذكورة للشركة يضمن الضامن الشركة كما لو كان مدينا أصليا ضمانا غير معلق على شرط وغير قابل للإلغاء بأن تقوم الشركة بالوفاء في المواعيد المحددة بكل المبالغ المستحقة عليها وفقا لاتفاقية الإيجار أو فيما يتصل بها ويتعهد الضامن للبنك بأنه في كل مرة تفشل فيها الشركة في دفع أي مبلغ مستحق للبنك بموجب اتفاقية الإيجار يقوم الضامن بناء على طلب كتابي من البنك بدفع ذلك المبلغ كما لو كان هو المدين الأصلي عوضا عن الشركة. 2- أن التزامات الضامن بموجب هذا الضمان لن تتأثر بأي فعل أو امتناع أو أي ظرف آخر من شأنه - لولا هذا النص - أن يعفي الضامن من التزاماته بموجب هذا الضمان أو أن يؤثر على تلك الالتزامات وبوجه خاص دون تحديد لما سبق تظل التزامات الضامن المقررة بموجب هذا الضمان صحيحة ونافذة طبقا لأحكامها بغض النظر عن أحكام أي قانون أو أمر ينطوي على تخفيض تلك الالتزامات أو التأثير بأي شكل آخر عليها، وأن هذا الضمان يفسر وكان ذلك القانون أو الأمر لا يوجدان. 3- يتنازل الضامن عن أي حق قد يكون له في مطالبة البنك بأن يرفع دعوى ضد الشركة ليطالبها بدفع المبالغ المستحقة عليها بموجب اتفاقية الإيجار أو أن ينفذ أي ضمان ممنوح له من أي جهة أخرى قبل رجوعه على الضمان بموجب هذا الضمان. 4- أن أي مطالبة مكتوبة من البنك تبين المبلغ المستحق على الشركة بموجب اتفاقية الإيجار تعتبر دليلا حسب الظاهر لإثبات المبلغ المذكور. 5- يتعهد الضامن بأنه في حالة تصفية الشركة سيقوم بدفع ما يترتب على المستأجر طبقا للمادة 17 – 3 من اتفاقية الإيجار وقد وافق البنك على أنه متى دفع الضامن ما التزم به للبنك سينقل ملكية المعدات للضامن. 6- يكون هذا الضمان ملزما للضامن وخلفائه ويؤول لصالح البنك وخلفائه. 7- يظل هذا الضمان ساري المفعول إلى أن تقوم الشركة بدفع كل المبالغ المستحقة عليها بموجب اتفاقية الإيجار أو فيما يتصل بها والوفاء بكل التزاماتها بموجب الاتفاقية المذكورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1449 المادة الثانية التزامات أخرى يتعهد الضامن: 1- بإعفاء البنك من جميع الضرائب ومن جميع الرسوم الجمركية المفروضة بموجب قوانين … … … … … … فيما يتعلق بالمعدات محل الإيجار أو فيما يتعلق بأي مبالغ مستحقة للبنك بموجب اتفاقية الإيجار. 2- بأن تتمتع المعدات محل الإيجار بالحصانة من التفتيش أو الاستيلاء والمصادرة ونزع الملكية وأي شكل من أشكال الاستيلاء أو الحجز بإجراء إداري أو تشريعي على أن يستمر تمتعها بهذه الحصانة إلى أن تؤول ملكيتها إلى الشركة بموجب اتفاقية الإيجار أو إلى الضامن بموجب هذه الاتفاقية. 3- بأن كل المبالغ المستحقة للبنك بموجب اتفاقية الإيجار أو هذه الاتفاقية أو ما يتصل بهما سيتم تحويلها بالكامل بأي عملة قابلة للتحويل يحددها البنك إلى أي مكان خارج … … … … … … يحدده البنك. المادة الثالثة تسوية الخلاف يسعى الطرفان إلى تسوية أي خلاف في تفسير أو تطبيق هذه الاتفاقية بالطرق الودية، فإذا لم يتم الاتفاق الودي بينهما عرض النزاع على التحكيم وفقا للأحكام المنصوص عليها في المادة التاسعة الفقرة 9 بند 4 من الشروط العامة التي تطبق على اتفاقيات القرض وضمان القرض للبنك الإسلامي للتنمية والمؤرخة في 8 نوفمبر 1976 م. المادة الرابعة 1- كل طلب أو إشعار يوجهه أحد الطرفين إلى الآخر بناء على هذه الاتفاقية أو بمناسبة تطبيقها يتعين أن يكون كتابة ويجوز أن يكون على شكل رسالة أو تليكس، ويعتبر أن أيا من الطلب أو الإشعار قد تم قانونا بمجرد أن يسلم باليد أو بالبريد إلى الطرف الموجه له في عنوانه المبين في الفقرة (2) من هذه المادة أو أي عنوان آخر يحدده بموجب إشعار إلى الطرف الآخر. 2- تنفيذا لأحكام الفقرة (1) من هذه المادة، فقد حدد الطرفان عنوانيهما كالتالي: الضامن: البنك: البنك الإسلامي للتنمية، ص. ب رقم 5925 – جدة – 21432، المملكة العربية السعودية. برقيا: بنك إسلامي جدة. تليكس: 401127 – أي اس دي بي – اس جي. وإقرارا بما تقدم وقع الطرفان هذه الاتفاقية في التاريخ المذكور في مطلعها بواسطة الممثلين المفوضين قانونا من جانب الطرفين. عن حكومة … … … … … … … … … … … … … … … … … … عن البنك الإسلامي للتنمية … … … … … … … … … … … … الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1450 المناقشة استفسارات البنك الإسلامي للتنمية 9 صفر 1407 هـ الموافق 12 أكتوبر 1986 م الرئيس: الكلمة لمعالي الأستاذ أحمد محمد علي. الدكتور أحمد محمد علي: بسم الله الرحمن الرحيم.. أحمده وأصلى وأسلم على نبيه الأمين. صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال نائب جلالة الملك وولي العهد. سماحة رئيس مجمع الفقه الإسلامي. سماحة الأمين العام. أصحاب السماحة والمعالي والفضيلة. سلام من الله عليكم ورحمته وبركاته. لا أريد أن آخذ من وقتكم الثمين ولكني أجدها فرصة سانحة لأعبر باسم البنك الإسلامي للتنمية لصاحب الجلالة الملك الحسين حفظه الله وللمملكة الأردنية الهاشمية حرسها الله عن خالص الشكر والامتنان على استضافة هذه الدورة للمجمع الفقهي والثناء العاطر لسموكم الكريم – حفظكم الله – على تفضلكم بافتتاح الدورة بكلمتكم البليغة التي عبرت تعبيرا صادقا عما نكنه جميعا لهذا المجمع وعن آمالنا وتطلعاتنا إلى إنجازاته في مجال مساعدة الأمة في مواجهة متغيرات هذا العصر، وعلى حضور سموكم هذا الصباح ومشاركتكم الإيجابية الفاعلة في هذه اللقاء المبارك بإذن الله. إن استضافة الأردن العظيم لأول مرة دورة مجلس مجمع الفقه الإسلامي تعقد خارج دولة المقر واستضافة الأردن في شهر آذار الماضي للاجتماع العاشر لمجلس محافظي البنك الإسلامي للتنمية يعتبر دلالة بليغة على الدعم المتين الذي يمنحه الأردن للعمل الإسلامي المشترك وعلى الدور الفاعل الذي ما فتئت الحكومة الهاشمية تضطلع به في مجال تقوية التعامل التعاوني والتضامني بين الدول الإسلامية، كما يسعدني أن أعبر عن خالص الشكر والتقدير لمعالي الأخ الدكتور ناصر الدين الأسد وزير التعليم العالي ورئيس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية مؤسسة آل البيت على الجهود التي بذلتها المؤسسة لتنظيم هذه الدورة. وإنه لمن دواعي سعادتي الغامرة أن أعبر عن عظيم تقدير البنك الإسلامي للتنمية للمهام الجسيمة التي أُنيطت بمجمع الفقه الإسلامي وللجهود العظيمة التي يقوم بها أعضاؤه في مجال خدمة الشريعة الغراء بالبيان والإيضاح والله أسأل لمجمع الفقه الإسلامي الموقر مزيدا من التوفيق في هذه الجهود الهادفة إلى تبصير المسلمين بأمور دينهم وتوعيتهم وإرشادهم إلى ما فيه تمكينهم باتباع نور القرآن الكريم وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا العصر العصيب. أصحاب السماحة … إن عملكم الرائد في مواجهة التطور في الحياة المعاصرة ومشكلاتها بالاجتهاد المتبصر والاسترشاد بمبادئ الشرع الحنيف هو قبلة اهتمام هذه الأمة التي تتطلع إلى ثمرة اجتهادكم الأصيل الفاعل بهدف إيجاد الحلول الناجعة النابعة من التراث الإسلامي والواعية لمتطلبات الأمة المتغيرة وإنني أغتنم هذه الفرصة للإعراب عن خالص امتنان البنك الإسلامي للتنمية للتجاوب العظيم الذي لقيه من المجمع والجهود المباركة التي بذلها منذ الدورة الماضية أعضاؤه المكلفون بالتدقيق في استفسارات البنك المتعلقة بعملياته كما أعرب بصفة خاصة عن عظيم الشكر لأصحاب الفضيلة العلماء الذين حضروا الاجتماع الاستشاري الذي عقد بمقر البنك الإسلامي للتنمية خلال شهر شوال الماضي بغرض دراسة استفسارات البنك والنظر في اتفاقيات التمويل التي يبرمها مع الحكومات والمؤسسات المستفيدة في دولة الأعضاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1451 وأسأل الله العلى القدير لهؤلاء العلماء الأجلاء جزيل المثوبة وخير الجزاء وسوف يقوم هؤلاء العلماء الذين حضروا الاجتماع المذكور بتقديم تقرير لمجمعكم الكريم عن نتائج الأعمال التي توصلوا إليها وهم أقدر مني على ذلك وهم أدرى بكنه أبحاثهم الجليلة التي قاموا بها، ويسعدني أن أعبر لسماحة الأمين العام للمجمع عن تقدير البنك الإسلامي للتنمية للجهود التي بذلتها الأمانة العامة في سبيل تسهيل البحث في الموضوعات المتعلقة بالبنك وتهيئتها للعرض على نظركم الكريم معبرة بالتوضيحات والبيانات المعينة على تصور المجمع لجوانبها الكاملة، ويسرني أن أعبر عن استعداد وفد البنك الإسلامي للتنمية إلى هذه الدورة لتزويد أصحاب الفضيلة أعضاء المجمع بأي إيضاحات حول الاستفسارات قيد البحث مما يمكن المجمع من إعطاء توجيهاته حول الموضوع. والله أسأل أن يمن على هذا اللقاء الإسلامي بوافر النجاح والتوفيق في أعماله، والله يحفظكم ويرعاكم وسلام عليكم من الله ورحمته وبركاته. الرئيس: شكرا لمعالي الأستاذ. الآن ندخل في الموضوع ونرجو من فضيلة الشيخ المختار السلامي أن يعطي عرضا لاستفسارات البنك الإسلامي للتنمية. الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، ربنا عليك توكلنا واليك أنبنا واليك المصير، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. صاحب السمو الملكي – أصحاب المعالي – أصحاب الفضيلة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: بين أيديكم التقرير الشامل للبنك الإسلامي في أسئلته وفيما تمخض عنه الاجتماع وفي الطرق التطبيقية بالتوصيات والتعديلات التي أدخلت على الاتفاقيات وإني أريد فقط أن أقدم مقدمة لكل ذلك تكون فاتحة للبحث فأقول: أولا: إن الاقتصاد قد تطور تطورا البشرية وأنه شاهد تطورا في هذا العصر ما شاهده من قبل ولست من رجال الاقتصاد حتى أنفذ إلى كل أبعاده ولكني أكتفي بظاهرتين: الظاهرة الأولى: هي التحول من طابع الفردية إلى طابع الاشتراك والاجتماع. الأمر الثاني: وهو أن قيمة الثروة التي بين يدي الإنسان قد نمت نموا بالغا لأنه قد دخل في الثروة عناصر جديدة هي واردة من ذي الأرض ودخول الطاقة كقيمة مضافة للإنتاج، وهذا التطور الذي دخل العالم لم يشذ عنه العالم الإسلامي والعالم الإسلامي بذلك ومن هاتين الناحيتين أصبح يواجه مشاكل وهذه المشاكل تستدعي حلولا، هذه الحلول لا بد أن يواجهها الفقهاء بشجاعة مع اعتبار الظروف العامة والخاصة وتقديرها في ضوء النصوص الخاصة والعامة أيضا، ولأزيد توضيحا لكلامي توفرت ثروات ضخمة بين أيدي الأفراد وهؤلاء يرغبون في استثمار أموالهم وهي مشكلة تتطلب قطعا إيجاد منظمات تقوم على هذا الاستثمار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1452 ثانيا: هو أن الدول بذاتها أصبحت تواجه مشاكل التنمية والتجهيزات وحاجات التمويل ليس البنك الإسلامي إلا مظهر من مظاهر الاستجابة لهذه الحاجة الملحة للتنمية بعض الصعوبات الاقتصادية التي تنشأ عن اختلاف في التوازن الداخلي للدول تبعا للأزمات الداخلية أو العالمية فكان بروز المشاكل التي واجهها البنك الإسلامي في عمله والتي أحالها على مجمعكم الموقر هي الآتية: أولا قضية القرض: وقضية القرض هذه، هي أن دولة من الدول تكون في حاجة إلى التحصيل على سيولة مالية تواجه بها مشكلة من مشاكلها الاقتصادية فتتقدم الدولة الإسلامية بطلب إلى البنك الإسلامي ليمولها بقرض مالي. يقوم البنك على الدراسة الشاملة للقرض وأغراضه فإذا ما كان مستجيبا لأهداف البنك وكان فعلا يعود بالخير على البلد المقترض فإذا ما كانت الدراسة إيجابية وافق البنك على القرض. وهذه الموافقة تقتضى بعد ذلك أن يقدم البنك على المشروع دراسة معمقة فلو فرضنا أن الدولة تريد أن تحول مجرى من مجاري الأنهار هي في حاجة إلى تحويل اقتصادها فإذا وجد البنك أن هذا المشروع يعود بالخير على البلد فالواقع الموافقة المبدئية بعد حضور أمنائه، ثم بعد ذلك يقوم بالدراسات الحقيقية التفصيلية المعمقة، ثم يتابع المشروع من خطواته الأولى إلى أن يتم تنفيذه حسب الخطة وحسب المنهج المقدم، وهذا يقتضي نفقات على الدراسات ونفقات على المتابعة هذه النفقات يتحملها المقترض ولا يتحملها البنك، ولكن ما قيمة هذه النفقات، هذه النفقات لم يستطع البنك أن يحددها تحديدا مضبوطا حتى يقول من أول يوم أن النفقات كذا وكذا على هذا العمل. والأمر واضح، مثلا: أمين عام يعقد اجتماعا فيقضي يوما في متابعة هذا القرض هذا اليوم الذي يقضيه كم قيمته؟ والموظف الآخر يقضى ساعة في هذا بمعني أنه لا يمكن أن نفرغ لا الأمين العام ولا الموظفين تفرغا كاملا لهذا القرض لأن الكلفة ستكون كبيرة جدا، فرأي البنك الإسلامي أن يجعل النسبة 2.5 % إلى 3 % على كامل مدة القرض، هذه المدة التي تتراوح عادة بين خمس عشرة سنة وثلاثين سنة، اجتمع بعض إخوانكم وتحدثوا مع البنك في هذه النسبة التي قدرها وأقروا أولا كمبدأ مقبول هو أن المقترض هو الذي يتحمل النفقات التي تلزم الدراسة والتي تلزم الإنجاز، ولكن بقى التقدير، وبعد مناقشات دامت يومين وثلاثة إلى منتصف الليل من الثامنة صباحا إلى منتصف الليل وبعد دراسات حسابية وصلنا إلى الحساب الآتي: وهو أن البنك له مشاريع غير هذا وله نشاط يزيد على غير نشاط القروض، هذه الأنشطة التي فيها دراسات يعرف البنك ما ينفقه كل سنة، النفقات التي ينفقها على الدراسات عموما كل سنة ويعلم المحفظة المالية التي في هذا النوع من النشاط ما قيمتها.. فقلنا يوزع نسبة النفقات على نسبة الأموال المرصدة للدورة، وهذه النسبة هي النسبة الحقيقية وهذه النسبة تؤخذ فقط على سنوات إنجاز المشروع لا على كل السنوات فوصلنا بذلك إلى أن النسبة هي بين 3، 3.5 % وأن هذه النسبة تؤخذ على حساب الزمن المقدر لإنجاز المشروع الذي هو بين أربع، خمس سنوات، ست سنوات، لا يتجاوز ست سنوات ثم ينظر في هذه النسبة لا على أساس سنة واحدة ولكن على أساس الخمس سنوات معدل الخمس سنوات الماضية، وهذا النسبة ليست قارة وإنما كل سنة تمضي نطرح السنة القديمة ونعوضها بسنة جديدة حتى يكون التقدير أقرب إلى الواقع، فإذا ما أنجز المشروع في زمن أقل من الزمن المقدر فإنه يخصم عدد السنوات من النسبة ولا يدفع المقترض إلا عن السنوات التي يتطلبها الإنجاز فقط، فهذه هي القضية الأولى أو الموضوع الأول الذي استفسرنا فيه البنك والذي وصلنا فيه إلى الحل الذي عرضناه عليكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1453 الموضوع الثاني هو عملية الإيجار، وعملية الإيجار هو أن دولة من الدول تطلب من البنك. الرئيس: قد ترون حسنا على أنه تعرض الموضوعات واحدا واحدا فطالما أنه عرض الموضوع الأول ويظهر أنكم استكملتم العرض إذن يطرح للمداولة ثم بعد ذلك يأتي العرض للموضوع الثاني. شكرا، إذن يكون هذا الموضوع وهو رسوم الخدمة على القروض الذي تفضل بعرضها الشيخ المختار مطروحا للمداولة من أصحاب الفضيلة المشايخ. الشيخ أحمد البازيع ياسين: بسم الله الرحمن الرحيم وبه وحده أستعين وهو المستعان على كل حال، الحمد لله رب العالمين خلقنا ورزقنا ويميتنا ثم يحيينا لا إله إلا هو الحي القيوم بديع السموات والأرض. والصلاة والسلام الأكملان الأتمان على من اختاره ربه رحمة للعالمين نبينا محمد عبد الله ورسوله وعلى آله الطيبين الطاهرين الأتقياء الأنقياء وعلى صحابته الكرام الغر الميامين أهل التقي والرشاد وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد فإن ما سمعناه وما نعلمه من كوارث ومن مصائب ومن أزمات ومن محن ومن فتن حلت في الأمة الإسلامية لا بد لمجمعنا هذا أن يقف على أسبابها وإني أري أن السبب الرئيسي هو بعد الأمة الإسلامية عن دينها وعن تطبيق شرع الله فإذا أخذنا جزئية من الجزئيات وهي الربا الذي حرمه الله سبحانه وتعالى على المسلمين نرى أنه منتشر ومتفش في الأقطار العربية والإسلامية حتى لا تكاد تسلم منه قرية من القرى أو مغارة من المغارات متمثلا بالنظام المصرفي العالمي، الذي يتعاطى بالفائدة المصرفية، والفائدة المصرفية قرر علماء المسلمين وفقهائهم في مؤتمرات عديدة ومؤتمرات في الحقيقة عقدت في جميع أنحاء المعمورة الإسلامية قرروا بأن الفائدة المصرفية هي عين الربا أو هي من الربا المحرم شرعا، والله سبحانه وتعالى أنزل في كتابه العزيز وقال في آخر آية في سورة الأحقاف {بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} وأي فسق أعظم من تعاطي الربا الذي أذن الله سبحانه وتعالى لمن يتعامل به بالحرب فإذا أردنا فعلا، ونحن جادون، أمة إسلامية نرفع عن هذه الأمة آثار الظلم والهوان والفقر والكوارث، علينا أول شيء أن ندعو الأمة الإسلامية التي نمثلها بالابتعاد عن الربا، ومن هذا المنطلق من الابتعاد عن الربا إن الفائدة البنكية ربا انطلق الفقهاء الخمسة أو الستة الذين اجتمعوا في البنك الإسلامي للنظر في المواضيع المطروحة. والموضوع الأول هي الخدمة على المشاريع وليس على المال، الخدمة على المشاريع التي يقوم بها المصرف أو البنك الإسلامي للأمة الإسلامية، حينما يقوم بخدمات دراسة المشاريع ودراسة جدوى ثم جميع ما يتعلق بهذا من أمور حتمية للقيام بالمشروع وتنفيذه كالقرض المالي ليس في الحقيقة معني في هذا، أن المعني هو الخدمة المصرفية، المال على الخدمة، وهذا مبين في التقرير أنه مبلغ مقطوع يقرر، وكنا نريد من البنك أن يعطينا كل مبلغ ولكل مشروع على حدة لو أمكنه ذلك وقال: إنه يتعذر ويستحيل عليه ذلك، فإذا لجأ المشايخ إلى حساب جميع المصاريف الإدارية بالإضافة إلى المصاريف الأخرى الطارئة حين تنفيذ المشاريع وأضيفت إلى مجمل المصاريف السنوية، ثم أضيف لخمس سنوات وأخذ المعدل وظهر 3.33 % وقدر لإنشاء المصروف حوالي خمس سنوات فظهرت المصاريف تقريبا 16 % وكسور لكل مشروع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1454 وهنا أود أن أبين أن بعض المشاريع بما يكون في الحقيقة مبلغها مليونا وتتحمل من المصاريف أكثر من المشاريع التي مبلغها عشرة ملايين ولكن بالنسبة لتعذر استحالة معرفة المصاريف الفعلية بالدقة لجأ المشايخ إلى الأخذ بالتقريب، ثم عملوا هذه النسبة وجعلوا النسبة على 16 % لمدة خمس سنين، وهذه الخمس سنين هي مدة تنفيذ المشروع ومدة العمل للمشروع، ومدة الخدمة للمشروع إنما هي بقية السنين خمسة وعشرين سنة أو عشرين سنة أو ثلاثين سنة التالية لا أجر عليها من وهنا نبين أن الخدمة ليست نظير المال المستثمر في المشروع إنما المال أجر للخدمة وودت إيضاح ذلك، وأشكركم. الرئيس: شكرا … الشيخ وهبه الزحيلي الشيخ وهبة الزحيلي: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله وأصلى وأسلم على سيدنا رسول الله، وبعد، كلنا نتحسس هذه الآلام العميقة والجراح البالغة التي تمر بأمتنا على المستوي الجماعي والفردي وكلنا يود أن يصل إلى حل حاسم يقضي على مشكلة التخلف والفقر في أرجاء البلاد الإسلامية والعربية، وكلنا متفقون أنه في هذه الصحوة المباركة الإسلامية المجيدة التي تتجه نحو استقاء الأحكام الشرعية من شرع الله ودينه، نحن متفقون جميعا على أن استقاء هذه الأحكام ينبغي أن يكون وفق الأصل الدستوري الأول القرآن العظيم ثم سنة نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام ثم اجتهادات الفقهاء، ومما قرره فقهاؤنا في هذا الصدد بالإضافة لما هو معروف لديكم لا داعي لتكرار ما يمس قضية تحريم الربا كله صغيره وكبيره ولو كان 1 % أو 0.5 % بالإضافة إلى ما هو معروف أن الفقهاء لم يفرقوا في الأحكام الشرعية بين أحكام تتعلق بالفرد وأحكام تتعلق بالدولة أو المؤسسة العامة، فنحن لا نستطيع الفصل بين حكم يمس الفرد المسلم العادي الفقير وبين رئيس الدولة أو الحاكم، المؤسسة العامة أو البنك أو غير ذلك من القطاعات العامة فكلهم أمام شرع الله ودينه على السواء، فإذن ينبغي أن يكون الحكم واحدا للجميع. ومن خلال هذه النظرة التي نظرناها إلى قضية رسوم الخدمة تفضل الأستاذ بزيع، الحقيقة هي رسوم الخدمة لكن هل هي خدمة لصالح المقترض أم هي خدمة لصالح البنك المقترض قام بالدراسة واستفاد من الخبرات ودرس المشروع وأنفق عليه الكثير فهو وضع التصميم النهائي بعد دراسة مستفيضة. الحقيقة أن الدراسة التي يقوم بها البنك وخبراؤه هي من أجل ضمان مصلحة البنك حتى لا تضيع أمواله سدى ولا تهدر ولكي يطمئن في المستقبل إلى أنه سيحصل على رسوم الخدمات وطبعا يحافظ بشكل أساسي على أصل مبلغ القروض، والمعروف أن فقهاءنا وشرعنا يقر القرض الحسن الخالي من أي فائدة تعود إلى المقرض كل "قرض جر نفعا فهو ربا" فلذلك أرجو أن يكون إذا كنا نريد أن ننجح هذه العملية أن يكون هناك ورع دقيق يراقب الله فيه أهل البنك وخبراؤه والقائمون عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1455 إن مثل هذه الرسوم لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تتجاوز فعلا ما هو داخل في حدود الضرورة والضرورة تقدر بقدرها وأن يكون أيضا المقابل لهذه الأعباء الذي يتحملها البنك من خبراته وخبرائه تكون موازية فعلا للخبرة المقدمة وأن يكون أيضا المبدأ الثالث كما قرر الإخوة العلماء في هذه الفتوى التي قدموها أن يكون مبلغا مقطوعا، ولكني في الحقيقة ألاحظ أن المبلغ المقطوع يصعب تقديره وإن هناك مبدأ قريبا من قضية المبلغ المقطوع وهو الوفاء، بشكل عادل قريب من النفقات التي يؤديها البنك، لذلك النتيجة المتحصلة من هذا الموضوع ما نجد عليه البنوك الربوية عندما تقدم قرضا مثل هذه القروض، البنك الربوي يأخذ أقل من البنوك الإسلامية. ثانيا: أصحاب الفضيلة الذين أفتوا البنك بقدر رسوم الخدمة بـ 2.5 % 3 % أصحاب الفضيلة أعطوه فائضا جديدا رفعوها إلى 3.33 % فهذا الكرم على حساب من؟ هذه الأموال المودعة بالبنوك هي لأناس مسلمين يستثمرون أموالهم وليست ملكي ولا ملك البنك ولا أي شخص من الأشخاص، فبأي حق نحن ندفع مثل هذه النسبة وتكون في النتيجة مردودة ربحا للبنك سواء سميناه رسوم خدمة أو فائدة ولا أي نفع من المنافع؟ المهم ينبغي أن نكون مراقبين الله عز وجل في مثل هذا الأمر وأن تكون فعلا الرسوم مطابقة إن لم تكن مائة في المائة لا يوجد يقين في الأحكام الشرعية إلا القليل، ولكن يوجد ما هو غالب الظن، ما هو قريب من اليقين، فنحن نحمل البنك الإسلامي هذه الأمانة الكبرى وأن نقدر هذا تقديرا صادقا دقيقا عندئذ حتى نستطيع أن نفتي بالحل وإن نؤيد الفتوى التي صدرت من أصحاب الفضيلة، وأنا في قلبي شك من أن مثل هذا التقدير الذي يعني أوجده أصحاب الفضيلة في هذه الفتوى، الحقيقة هو أكثر مما يتطلبه البنك سواء بالصرف على الخبرات أو الدراسات أو النفقات أو ما شاكل ذلك فنحن لا نستطيع بالنسبة لي أن أؤيد مثل هذه النسبة المقررة لرسوم الخدمة، وشكرا. . . الشيخ أحمد جمال الدين: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. إذا يسمح أصحاب الفضيلة بملاحظة عن أمرين: الأول أن دعوى البنك بأنه لا يستطيع التقدير سلفا دعوى فيها نظر، لأننا نلاحظ دائما المكاتب الفردية أو العادية والمؤسسات الاقتصادية العادية لا تقوم بمشروع فردي إلا بعد أن تقدر خدماته وكل تكاليفه وتعرف ماذا تنفق وما تتكلف، فالذي أراه أن البنك يستطيع التقدير سلفا، هذا أمر واحد. الأمر الثاني: لماذا لا يكون في العقد شرط من البنك على المقترض بأنه يدفع ما يتحقق فعلا من مصاريف الخدمات لئلا يكون هناك تقدير نسبة مقدمة سلفا ففي ذلك شبهة الربا إذا قدر البنك سلفا أنه يأخذ 2.5 أو 3 أو 4 أو 5 سلفا يكون في هذا شبهة ربا، لكن إذا شرط على الطرف الثاني المقترض أنه يستعد بدفع ما تحقق فعلا من خدمات يكون سلم من شبه الربا. هذان الأمران ينبغي أن يلاحظا في المشروع، وشكرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1456 الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. إني وأنا أستمع إلى تدخل السادة العلماء وخاصة فضيلة الشيخ وهبة الزحيلي حضر في ذهني ما أجاب به مالك رضي الله عنه لما حكم على ولد رجل شيخ بحكم الله فقال له هذا: اتق الله يا مالك فوالله ما خلقت النار باطلا، فما كان جواب مالك إلا أن قال: رزقني الله وإياك تقواه، وأنا أقول لفضيلة الشيخ: رزقني الله وإياك هذا الورع، لعلى لم أبلغ ببياني أن أوضحت مقصدي ولذلك حصل هذا الاشتباه عنده، فرأي أن الخدمات هي للبنك، ولست أفهم أن البنك وما فائدته من أن يقوم بالدراسة في بلاد الصومال لمشروع من المشاريع ويبعث بخبرائه ويتابع المشروع إلى أن يتم بما في ذلك من سفر ونفقات إلى آخره. الأمر الثاني هو أنه زاد في حدته فقال: إن البنوك الربوية لعلها أفضل من البنك الإسلامي وتأخذ أقل يا سيدي أن البنوك الربوية الآن هي بين 14 % و 20 % كل سنة وأن النسبة التي يتقاضاها عن خدماته هي لصفر فاصل 0.83 % عن القرض وهي نسبة لا يرضى بها أي شخص كيفما كانت حالته يريد الربح، إن البنك الإسلامي لا يوجد فيه فرد مشارك ولكن المشاركين هم الدول فنحن لا نتفضل على البنك لنحصل منه على شيء وإنما هو النظر الذي راقبنا فيه الله وهو النظر السامي الذي لا يفضل أحدا لا المقرض ولا المقترض، وسيادته وهو من كبار الفقهاء يعلم أن الفقهاء قد قالوا: إن المغتصب الذي غصب شيئا وحوله عن مكانه لا يرد ذلك من مال المغتصب وإنما يراد مال المغصوب منه قال: لأننا نحترم مال المغتصب كما نحترم مال المغصوب منه، وهذا شأن الإسلام في عدالته فنحن ما راعينا البنك طلبا في ثواب، ولكننا نظرنا، ولو كنتم معنا لشاهدتم المشادَّات والليالي التي تحاورنا فيها مع ممثلي البنك وكلنا يرغب في الحقيقة لأن البنك إذا أراد الاستثمار فلا يعطي قرضا لأنه لا يوجد استثمار يرضى به أصحاب مؤسسة مالية يدر عليهم 0.83 % وقد نزلنا بالبنك النسبة فقد كانت حسب المشروع الذي مضى عليه البنك وأنا أعتقد أنه كان على حسن نية كانت النسبة تبلغ 0.86 % فنزلت بعد هذا التعديل الذي رأيتم فيه فائضا إلى نسبة 16 % فهي أقل من الخمس، فهذه توضيحات أردت بيانها وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الشيخ إبراهيم الغويل: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. لندخل رأسا في موضوع البحث، الورقة بالأصل تشير إلى أن المصرف يرى إلى أن يصبح المصلح من الممكن عمليا تحديد التكلفة الإدارية فإنه كان يكتفي بإجراء تقدير معين أخشى أن نكون قد رفعنا عليه هذا التحرز وأشعرناه أن يقرر نسبة وكان الأمر قد وصل فيه إلى رأي أعتقد أن هذا الاحتراز رغم عدم قناعتي به لأنني أعتقد أنه وفقا للحسابات والقدرات المتاحة في العالم المعاصر، يمكن احتساب التكلفة الإدارية ولكن على الأقل، كان من الممكن أن نبقي هذا الاحتراز، الذي أود أن نقف أمامه كثيرا قبل أن ندرجه في أي قرار نصدره لأنني أود أن يؤخذ الرأي العلمي في هذا الأمر لأن هناك مصارف تعاونية جرت عادة أن تحتسب احتسابا احتواريا وحسابات أخرى بحيث تستطيع أن تحدد بدقة التكلفة الإدارية ثم لم أفهم بعد كيف، وقد رفعت النسبة إلى 3.33 % أن ذلك كان تخفيضا بينما المصرف كان يقدر بين 2.5 % أو 3 % رغم أني استمعت إلى الشرح، من فضيلة الشيخ سماحة المفتي، ولكن لا زلت لا أعرف كيف يمكن لأن النسبة هذه 2.5 أو 3 سنوية ولكنها إذا امتد المشروع لأكثر لاستمرت، هذا القيد هل هو موجود؟ أكرر أننا دائما – وكنت أود ونحن قد استمعنا إلى الكلمة الكريمة التي لفتت انتباهنا إلى أننا ونحن نعالج هذه المشكلات إنما نعالج مشكلة جوهرية تتعلق بقضية عدم شكر النعمة بكفرها أو الظلم وإن الأمر لا بد أن ينظر إلى أولويات المشاريع التي يجب أن يهتم بها البنك وأن ينظر فيها أيضا إلى أن يكون ذلك من أجل تحقيق نوع من الكفاية والعدالة لشعوب المسلمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1457 أخ كريم لا أذكر الآن، أظن الأخ جمال أشار إلى كلمة أو لعل الشيخ ياسين أو الشيخ علي أن أموال المسلمين، ولعل هذا يتصل بالكلمة الكريمة التي استمعنا إليها أيضا، لو وضعت بنظر يرى أن المسلمين جميعا يحملون مسئوليتهم معا لكان ذلك أولى، ويقدم حلا مناسبا والكلمة الكريمة أشارت إلى الزكاة والنظر في أماكن الزكاة أو صندوق الزكاة، وبالأخص بند الفقراء والمساكين باعتباره لكل العالم الإسلامي وليس لأماكن محلية معينة، ما زلت أكرر من جديد مع الشيخ والدكتور وهبة الزحيلي أن في النفس شيئا من هذا الأمر الذي يراد أن يفتى به في هذا الموضوع ما زلت أكرر أن العلم وتقدم العصر يمكن من تقدير المصاريف الإدارية على وجه الدقة ولا أفهم لماذا رفعت النسبة رغم الشروح التي استمعنا إليها وشكرا. الشيخ أحمد البازيع ياسين: بسم الله … الحقيقة، للإيضاح فقط إن النسبة لم ترفع لأن نسبة البنك 0 0.86 % والنسبة التي قررها الفقهاء 16 % إنما يظهر من بين 2.5 إلى 3 % زيادة إنما الثلاثة مقصورة على خمس سنين المشروع لأن المشايخ قالوا بأن النسبة هذه خدمة للمشروع وليس على المال، وليس على المال المستثمر النسبة هي على المشروع، والمشروع خدمته مدة خمس سنين وخمس سنين من ثلاثة تساوي 15 إلى 16 % إنما نسبة البنك كانت 2.5 % طبعا 2.5 من 3 فيها نزول لكن 2.5 ممتدة إلى ثلاثين سنة وامتدادها إلى ثلاثين سنة تساوي 0.86 % وأمامهم في الجدول مثلا مبلغ مليون وتسعمائة كانت النسبة التي تؤخذ من قبل البنك سابقا 854218 وحسب تعديل المشايخ خفضت إلى 320000 في صحيفة 3 يجدونها وإنما الذي أنا أراه أنه ليس هناك خلاف بأن تؤخذ الأجرة خدمة على المشروع وليس هناك خلاف بألا نأخذ فائدة على المبلغ، إذن النقطة هنا كيف تحسب هذه الخدمة؟ يعني ما هو الأسلوب الذي نحسب فيه الخدمة؟ الأسلوب الذي رأته الهيئة هو التقدير الممكن عمله حسبما أفاد البنك وإذا كان هناك وسيلة تمكننا من معرفة النسبة بطريقة أدق فليتفضل فيها الأخوان وتدرس. الشيخ يوسف جيري: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه الكرام. أود بادئ ذي بدء أن أشكر سمو الأمير الحسن لما تفضل به من عرض لوضع المسلمين في القارة الإفريقية وفي المناطق الأخرى الذي فيها مسلمون يعيشون في حالات مماثلة أو أقل أو أكثر، وأشكر الأخوان المنظمين لهذه الدورة حيث فطنوا إلى أهمية الصورة وقاموا بتأييد كل كلمة قيلت أو استقبال بخصوص هذا الوضع بما رأيناه على شاشة التليفزيون من أشياء ربما لم نصل إليها في عبارتنا المتواضعة، كما نشكر كذلك سمو الأمير أن جعل هذه الصورة حية أكثر في ذهننا بما تفضل وتقدم به إلينا من صور نظرنا إليها في الألبومات والتي لما بدأت أتصفحها في الحقيقة لم استطع أن أصل إلى النهاية، لأن كل صورة تحيي في ذاكراتي صورا ربما تكون أبشع وأسوا بكثير من التي رأيتها في هذا الدفتر وربما للحياء والحشمة فظن سموه أن لا توضع بعض الصور أمام الناس، وأننا في الحقيقة نشكر الإخوان الذين تفضلوا بالكلام وأرجع إلى حقيقة الوضع الذي نعيش فيه في العالم الإسلامي اليوم إلى أننا ابتعدنا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالمأساة في بعدنا عن كتاب الله وسنة رسوله بعدنا في مجال التطبيق، بعدنا في مجال الامتثال كما أراده الله، مثلما يريده الله ورسوله لنا، نحن الأمة التي يقول فيها المولى سبحانه وتعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} بعد ذلك أتطرق إلى الموضوع الذي نحن بصدده موضوع تساؤلات البنك الإسلامي للتنمية، الحقيقة يا سادة أن القضية كما أراها ليست قضية الربا في مستوى البنك الإسلامي فأنا أعتقد أن هذه القضية مفروغ منها لسبب بسيط وهو أن البنك نفسه وضع نفسه تحت تصرف هذا المجمع ومجامع أخرى لكي يقولوا له ما يرونه بخصوص قضية الربا وما يرونه بخصوص تعامل البنك مع الدول أو مع الجهات التي يتعامل معها البنك فالقضية ليست قضية الربا إنما هي قضية شبهة الربا، وفيه فرق بين الاثنين هل أسلوب تعامل البنك مع الدول ومع الجهات التي يتعامل معها البنك يوهم بشبهة الربا أو لا يوهم بشبهة الربا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1458 وأنتم أهل علم وأهل دراية وتعرفون أن الشبهة ربما تكون في كثير من الأحيان أفجع وأسوأ حتى من الحقيقة. فالحقيقة إن الذي نريد أن نقوله: إن أية عملية أو أي أسلوب في التعامل يوحي بشبهة الربا يجب أن نبتعد عنه، إذا أمكن أن نجد حلا بديلا والقضية في نظرنا كالتالي: البنك يتعامل مع كل دولة على انفراد، وهذه حقيقة ثابتة، إذا تقدمت دولة بالتماس أو طلب إلى البنك الإسلامي يكون التعاقد مع هذه الدولة على انفراد ويرسل إلى هذه الدولة وفود على انفراد، ويؤخذ القرار النهائي بخصوص التماس هذه الدولة على انفراد، فالقضية إذن لا يمكن للبنك الإسلامي أن يتوصل إلى صيغة يتعهد فيها الطرف الآخر التي هي الدولة التي يتعامل معها البنك على أن تدفع هذه الدولة تكاليف العمليات الإدارية وغيرها إذا كان هذا الحل البديل ممكنا فلا أرى أي فائدة في أن ندخل في عمليات التقديرات، ويقول: هذا التقدير مقبول، وهذا التقدير غير مقبول، لن نتطرق إلى عملية التقدير إلا إذا اتضح لنا بصورة لا تقبل مجالا للشك أن الحل البديل غير ممكن، إذا كان الحل البديل ممكنا يجب علينا أن نتشبث به وأن نترك التقديرات. وشكرا جزيلا سيدي الرئيس والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الشيخ خليل الميس: لا شك مع ثقتنا مسبقا بأعضاء اللجنة الكريمة وعلى رأسها وفيها سماحة المفتي، نذكر أن سلفنا الصالح كيف تعاملوا مع القرض، كان إذا أقرض أحدهم الآخر مالا تحاشى أن يستظل بظل جداره وتحاشى أيضا أن يقابله في الطريق حتى لا يكون التعظيم في السلام هو ضرب من النفع في القرض، إذا كانوا يتعاملون مع هذا المبدأ بمزيد من الورع والآن لا شك أن اللجنة الكريمة ونحن معها في مبدأ التعويض، ولكن نقطة واحدة لماذا لا تحدد النفقات وتضاف دون تحديد النسبة 3 % نعم نحن معها بتحديد نفقات الدراسة وتضاف إلى القرض لأنها دراسات نتجت عن هذا الأمر تضاف على هذا الأمر تضاف على القرض لأنها جزء من القرض دون تحديد 2 % أو 3 % ونكون بذلك قد خرجنا من شبهة الربا، وشكرا. الشيخ علي السالوس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. اذكر هنا أن البنوك الإسلامية من قبل بحثت موضوع خدمة القرض وهل يمكن أن تأخذ مقابل هذه الخدمة أم لا؟ والبحث نشر في الموسوعة العلمية والعملية باتحاد البنوك الإسلامية وانتهوا بعد الدراسة إلى أن هذا وإن كان جائزا لاعتبار أنه يقابل خدمة عملية ولا يقابل القرض إنما اتقاء للشبهة فإن البنوك الإسلامية ترى أن يبقى القرض دون أخذ شيء مقابل الخدمة حتى لا تكون هناك شبة في الربا هذه ناحية، فالذي أخشاه هو أن يعلن أن مجمع الفقه أفتى بنك التنمية بجواز أخذ أجر على العمل المصاحب للقرض فتعود هذه البنوك الإسلامية وتأخذ بهذه الفتوى وتطبقها على نفسها ونفاجأ من هذه البنوك كأعضاء رقابة شرعية مثلا بأن المجمع أفتى بكذا فلماذا أنتم ترفضون هذا بالنسبة للبنك؟ هذا ما أخشاه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1459 الأمر الآخر، ما دام البنك لا يستربح نتيجة القرض وإنما هو يريد ألا يغرم ويكفي أنه يقرض قرضا حسنا ويتعامل مع دول وليس مع أفراد أفلا يمكن أن تكون هنا دور خبرة نطمئن إليها ويطمئن إليها المقترض أيضا وتقوم هي بدور الدراسة والمتابعة وتأخذ أجرها من المقترض لا من المقرض أما البنك المقرض فله رأس المال فقط {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} . ألا يمكن أن يكون هذا حلاً أرجو أن يبحث إذا أمكن أن نصل إلى إيجاد دور خبرة تستطيع أن تقوم بهذا العمل وتأخذ هي الأجر إذا البنك معناه أن يعطي القرض ويأخذ راس المال، دار الخبرة هي التي أخذت أجرها وهي لم تقرض، وبذلك نكون قد فصلنا ما يتصل بخدمة القرض عن القرض وجعلنا الخدمة في مكان والقرض في مكان آخر، ثم أمر كذلك وهو المفروض بالنسبة للبنوك الإسلامية ألا تتوسع في الإقراض لأن المودعين إنما أودعوا للاستثمار ولذلك يمكن أن لا تقرض إلا عند الضرورة ويمكن أن تحول بدلا من أن تقرض أن تفكر في بديل شرعي يكون الهدف منه الاستثمار مع الرفق بهؤلاء المستثمرين. هذا ما بدا لي والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وشكرا لكم جميعا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الرئيس: أرجو من الشيخ يوسف أن يعيد بإيجاز مع التفضل وجهة النظر. الشيخ يوسف جيري: شكرا سيدي الرئيس … أرجو المعذرة إذ لم يكن كلامي واضحا، الذي أردت أن أقوله إننا ونحن بصدد دراسة أو البحث عن حل إسلامي للتعامل المصرفي في يومنا هذا يجب علينا أن نبتعد كل الابتعاد عن كل ما به شبهة أو عن كل شيء يقربنا من التعامل السائد الربوي الحالي في العالم، فقلت إذا لا ندخل في عمليات التقدير إذا كان الحل البديل ممكنا والحل البديل في نظري أن البنك الإسلامي يتعامل مع كل دولة على انفراد ويرسل وفودا فنية إلى كل دولة على انفراد ولا يصل القرار إلى الصيغة النهائية مع بلد معين إلا بعد أن تدرس الأوضاع مع هذه الدولة على انفراد ولماذا إذن لا يقوم البنك الإسلامي بإيجاد صيغة تعهد بين البنك والدولة على أن تتعهد الدولة بدفع تكاليف الأعمال والأشياء الإدارية بعيدا عن التقديرات وأن لا نلجأ إلى التقديرات إلا إذا اتضح لنا أن الحل البديل غير ممكن، وشكرا سيدي الرئيس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1460 معالي الدكتور أحمد محمد علي: شكرا سماحة الرئيس … الحقيقة فيما تفضل به الأخ يوسف إذا أخذنا باقتراحه هذا يعني أن يكون في البنك قسم خاص لكل دولة إذا كانت أربعة وأربعين فيجب أن يكون هناك إدارة مستقلة لكل دولة تتعامل معها، وهذا يزداد وهناك أشياء عديدة جدا في البنك، صحيح هناك اتفاقية مع كل دولة لكن للدراسات والتخصصات الموجودة كلها في البنك لا بد أن تخدم كل الدول الأقسام الموجودة في البنك لا بد أن تخدم كل الدول ويصعب أنك تفرق تكاليف كل دولة على حدة بدءا من الجهاز الإداري والجهاز الفني وكل أجهزة البنك، يصعب جدا أنك تفصل كل دولة على حدة، النقطة التي تفضل بها الأخ على السالوس. هو تحدث في الحقيقة عن البنوك الإسلامية الخاصة حيث رأى أنها لا تتوسع في الإقراض هذا غير وارد بالنسبة للبنك الإسلامي للتنمية، البنك الإسلامي للتنمية لا بد أن يقدم القروض لمشروعات البنية الأساسية: بناء على الطرق بناء المطارات، بناء المواني ما هي البنوك الخاصة التي يمكن أن تقدم قروضا للدول هذه المشروعات، فهنا غير وارد مشروع الاستثمار، توصية للبنك الإسلامي للتنمية بعدم التوسع في الإقراض هذا لا يخدم مصلحة الأمة فلا بد أن يفرق بين البنوك الإسلامية الخاصة وبين البنك الإسلامي للتنمية الذي يخدم الدول الإسلامية ولا بد أن يسعى إلى إقراضها لمشروعات البنية الأساسية فأحب أن أؤكد إلى الإخوة الكرام أنه يصعب إن لم يكن يستحيل معرفة التكلفة لكل مشروع على حدة وأصحاب الفضيلة العلماء الذين اجتمعوا بالبنك أول جهدهم ركزوه على هذا الأمر وتبين للجميع مهما قيل عن وسائل المحاسبة الحديثة إلى غير ذلك ويصعب أنك تعرف تكلفة كل مشروع على حدة بسبب بسيط، البنك عنده عدة اجتماعات لبحث المشروعات في كل اجتماع يبحث ستة، سبعة، إلى عشرة مشروعات، كيف تستطيع أنك تعرف كل مشروع على حدة حينما تذهب بعثة إلى غرب إفريقيا تبحث لعدد من المشروعات: بعضها تتعرف على بعض المشروعات وبعضها لتقييم المشروعات، وبعضها لمتابعة المشروعات، فيصعب أنك توزع هذه التكاليف لكل مشروع على حدة هذا أمر على حد ما هو موجود في الوقت الحاضر فربما يتطور العلم مستقبلا لكن كما هو في الوقت الحاضر يكاد يكون من المستحيل أنك تعرف بالدقة تكلفة كل مشروع على حجة، التقدير أمر لا مفر منه في الوقت الحاضر، وشكرا. الشيخ رجب التميمي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. إن الموضوع الذي أمامنا هو موضوع خطير جدا ذلك لأننا إذا اتجهنا إلى أخذ الفائدة أو الخدمات التي يقدمها البنك للقروض على حسب النسبة كأنما نقع في شبهة الربا ذلك لأن كل مشروع له تكاليفه الخاصة، فإذا أجملنا المشاريع بنسبة مقدرة والمشاريع تختلف بالنسبة لمصاريفها فإننا نقع في شبهة الربا، لا أقول في الربا فإنني أشكر الإخوة أعضاء اللجنة الذين توصلوا إلى النسبة لكن توصلوا إليها بصفة عامة بكل المشاريع التي يقرضها بنك التنمية، أنا لست مع الرأي الذي يقول إنه لا يمكن معرفة تكاليف كل قرض، هذا أمر سهل وإن كان الأخ معالي رئيس البنك قال إنه يصعب، نحن نريد ألا نتأسى أو نمشي مع البنوك الربوية التي تستعمل النسبة الربوية في القروض، لا نريد أن نتشبه بها، نحن نريد أن نتخلص من النسبة، نحن لا نتعامل بالنسبة أبدا، نتعامل مع كل قرض بما تجري فيه من تكاليف تضاف إلى رأس المال لا على أساس نسبي لأن الأساس النسبي غير دقيق في المشاريع، قد يختلف مشروع عن مشروع آخر في تكاليفه، في خبراته، في دراسته وإني أرى أن نتعمق في البحث وأن نأخذ وقد أمكن للجنة أن تصل إلى التكاليف الفعلية أو التقريبية للمشاريع وحددت النسبة، أنا أقول النسبة، يجب أن نبعدها في الفوائد أو الخدمات أو قرض ونأخذ التكاليف الفعلية لكل مشروع لأنني أعتقد أن المشاريع لا تتشابه في الخدمات، قد يكلف مشروع 300.000 وقد يتكلف مشروع 299.000 وقد يكلف مشروع 290.000 فأخذ النسبة فيها شبهة، أرى أن نبتعد عن تقدير النسبة وأن نحدد الخدمات الفعلية لكل مشروع، وهذا أمر ممكن إذا اتبعنا طريق الدقة في التقديرات، وهو أعتقد أنه ممكن ولا نمشي وراء البنوك التي تقدر النسبة، صحيح أنها تقدر النسبة بفوائد ربوية، نريد ألا نتشبث بها لتقدير النسبة ونبتعد عنها، شكرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1461 الشيخ عمر جاه: بسم الله الرحمن الرحيم أولا أنا أشكر سمو الأمير على اهتمامه بقضايا المسلمين وخاصة قضية المجاعة في إفريقيا واهتمام سموه ينبغي ألا نستغربه ذلك لأن الشيء من معدنه لا يستغرب. بالنسبة للقضية التي نحن بصددها هي مسالة استفسارات البنك الإسلامي للتنمية أحترم الإخوة الذين عبروا عن تخوفهم من الوقوع في شبهة الربا، ولكنني مع هذا أريد أن أشير إلى الهدف الأساسي مع إنشاء البنك الإسلامي للتنمية، وأشير أيضا إلى أن الاكتتاب في هذه البنك للدول الإسلامية ليس للأفراد والبنك ملك للدول الإسلامية التي تستفيد من هذه القروض، إذن إمكانية استغلال وإلا قد لا يكون من الإمكان أن ننفيه تماما لكن الاستغلال في إمكانية البنك أقل وكذا الاستغلال بين البنوك الإسلامية والأفراد أصحاب الفضيلة الفقهاء والخبراء في شؤون الأعمال البنكية وقدموا لنا التقرير بعد جهد جهيد وبعد مداولات طويلة، أعتقد أننا لكي نراعي المصلحة العامة ولكي نتقدم في عملنا أن نركز على تقرير هذه اللجنة ونتبناه، وشكرا. الشيخ أحمد بزيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم الحقيقة نقطة إيضاح: المصاريف هنا ليست تقديرية، المصاريف هنا فعلية لخمس سنوات مكتوبة ثمانية وستين مليون لخمس سنوات مصاريف فعلية للبنك على جميع أعماله المتمثلة بما يأتي: متمثلة بعمليات البنك العادية ألف وستمائة وثمانية وثلاثين مليون، أي تشكل تقريبا 80 % من المصاريف، ثم بعمليات البنك للتجارة الخارجية تمثل أربعة ألاف وأربعمائة وخمسا وستين مليونا، المصاريف التقديرية هي في الحقيقة بين مجمل المشاريع إنما المشاريع كلها مصاريفها معروفة وليست تقديرية، هي ثمانية وستون مليونا وزعت على جميع المصاريف بنسبة 3.3 % بالتساوي يعني أخذ المعدل مثل المشاريع بالتساوي وجميع الأسئلة التي طرحت الآن من الإخوة في الحقيقة وأكثر منها طرح على السادة في بنك التنمية الإسلامي والآن أنا شخصيا أرتاح وأشعر بالطمأنينة لأنهم وافقوا على أخذ الأجرة على خدمة المشروع وليس أجرة على المال المستثمر والقيمة هي 68 ليست تقديرية إنما فعلية لكن وزعت على المشاريع كلها، والمشاريع أمامنا الآن إنما المشاريع قيل إن عمليات البنك للتجارة الخارجية الذي انفرد به فضيلة الشيخ الزرقاء قال بأن هذه يجب أن تجمع مع الألف وستمائة وثلاثين مليونا وتؤخذ النسبة عليها بالتساوي ولم يوافقه الإخوة المشايخ لأن الأربعة آلاف وأربعمائة خمسة وستين مليونا لا تأخذ مجهودا من البنك ولا تأخذ خدمة عالية إنما الخدمة كلها منصبة على الألف وستمائة وثمانين وثلاثين مليونا، وللإيضاح أعيد وأكرر أن النسبة ليست تقديرية، هي فعلية إنما التقدير هي أنها وزعت على المشاريع بالنسبة، نعم ربما مشروع مثلا يختلف عن مشروع آخر ولكن روعيت النسبة يعني اتفاقا للوسطية في هذا الأمر، وشكرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1462 معالي الدكتور أحمد محمد علي: شكرا سماحة الرئيس، في الحقيقة أحب أن أطمئن فضيلة الشيخ رجب أن البنك حينما يتعامل مع المقترضين لا يتعامل معهم بأية نسبة وإنما يتعامل بمبلغ مقطوع مقدر للتكاليف، فهذه النسبة التي تبحث هي فقط نسبة لاحتساب مبلغ التكاليف الكلية للقروض ولكن التعامل بكل قرض على حدة هو بمبلغ مقطوع على عدد سنوات الدفع وليس بنسبة معينة. فحينما يقرض البنك الإسلامي للتنمية مثلا دولة "س" لمشروع بناء طريق معين بمبلغ مثلا 8 ملايين دينارا إسلاميا تقدر التكلفة بمبلغ مقطوع في العقد بمبلغ كذا من الدنانير الإسلامية تدفع على دفعات لعدد من السنوات، فليس هناك نسبة إطلاقا وإنما النسبة كما ذكرت والتي أتحدث عنها الآن هي فقط لاحتساب نسبة التكلفة ككل لتقدير التكلفة، أما كل قرض على حدة فهو بمبلغ مقطوع من المال وليس بنسبة من القرض، وشكرا. الرئيس: شكرا، ونحب نسأل يا شيخ أحمد بين ما ذكرتموه الآن على أن التقادير بما يفيد كلامكم على أنها معلومة بينما قرر لدى اللجنة التي أولت الدراسة على أنه يتعذر على البنك تقديره. معالي الدكتور أحمد محمد علي: يتعذر تقدير أو معرفة احتساب تكلفة مشروع معين الذي هو مثلا مشروع بناء طريق في تونس مثلا: القرض نفترض أنه بـ 8 ملايين دينارا إسلاميا يعني يصعب أن يعرف بالدقة ما هي تكاليف البنك الإسلامي للتنمية لهذا المشروع لكن على الأسلوب الذي أقترحه أصحاب الفضيلة يمكن تقدير المبلغ الإجمالي، فحينما تقدر التكلفة مثلا بمبلغ "س" من المبالغ بالدينار الإسلامي احتسب هذا المبلغ كتكلفة لهذا المشروع فهي مقدرة تقديرا، ولكن حينما أحسبها أدخلها في الاتفاقية بين تلك الدولة بأنني سأتقاضى مبلغ كذا لتكاليف البنك لهذا القرض، فالمبلغ هو مقدر يعني للوصول إليه تقديرا لكن حينما نصل إليه نضعه ذلك المبلغ في الاتفاقية أن الدولة تلتزم بدفع هذا المبلغ مقابل التكاليف، وكما تفضل أصحاب الفضيلة عند نهاية الفترة نرى ما عدد السنوات التي استغرقها تنفيذ المشروع فلو قدرنا في البداية أن تنفيذ المشروع يستغرق خمس سنوات ثم نفذ مثلا في ثلاث سنوات أعيد احتساب المبلغ هذا "س" وأنقص منه بنفس النسبة وبذلك يصبح مبلغا أقل بعد انتهاء المشروع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1463 الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم.. متابعة للكلمة الأولى التي قلتها ولما استمعته من السادة المشايخ الجلة أريد أن أبدي بعض الملاحظات زيادة في التوضيح فقط، وهي ملاحظة تفضل بها الشيخ أحمد محمد علي هو أن هذه النسبة ليست موجودة في العقد، وإنما هي للفهم قمنا بها نحن لفهم ما يؤخذ على كل قرض وحتى لا يظلم أحد الأطراف على بقية الأطراف لأنه لا يعرض علينا كل اتفاقية في الحاضر وفي المستقبل ولكن لما عرفنا نسبة نفقات البنك على عملياته قلنا هذه النسبة نأخذ بها لتقدير النفقات وتضرب في خمس سنوات ثم تحسب حسابا إجماليا جمليا يضاف إلى القرض كخدمات فإذا لم يبلغ مدة الخدمات نفس المدة الخمس سنوات فإنه ينقص بحساب ذلك. الأمر الثاني أقول: إن ما تفضل به الإخوان هو المثل الأعلى والأولى أن يعرف كل حساب كل قرض على انفراد، هذا لا يمكن أن يجادل فيه أحد وهو الذي حاولناه مع البنك من أول يوم، هل يمكن لنا أن نعطي كل قرض صفته الخاصة ربما قدم لنا من استحالة ذلك اقتنعنا بأنه لا يمكن حساب كل قرض على انفراد ولكن يمكن حساب مجموع العمليات فشبهة الربا بمعني أن البنك سيستفيد ولو بجزء من ألف في المائة هي شبهة منفية لأن الذي أعطانا البنك أعطانا ما ينفقه على جملة نشاطه الاقتصادي، عندما قسمناه على مجموع المال أعطي نسبة 3.33 % وقلنا: إذن هذه النسبة هي ليست نسبة ثابتة ولكنها نسبة يجب أن تراجع كل سنة بأن تحذف السنة الأولى ونعوضها بالسنة الجديدة لأنه يمكن أن تزيد في سنة عن 3.33 % وممكن أن تنقص عن 3.33 % فدائما وأبدا نحسب فقط ما أنفقه البنك دون أن يزيد على ذلك ولو مليما واحدا بالتقريب، لكن قد تقع بين المقترضين أن بعضهم يدفع أقل مما يجب عليه فعلا وبعضهم يدفع أكثر مما وجب عليه فعلا، فهذه هي الناحية التي أردت بيانها وشكرا. الشيخ يوسف جيري: شكرا سيدي الرئيس … الحقيقة أني لما استمعت إلى الأخ العزيز من الكويت عندما قال إن المصاريف فعلية وليست تقديرية لم أستطع إلى الآن أن أفهم المقصد الحقيقي من هذه الفرق فإذا كانت التكاليف فعلية وليست تقديرية كيف نستطيع والمشروع لم ينفذ بعد أن يتوصل إلى تكاليف فعلية، لن نتوصل إلى التكاليف الفعلية إلا بعد إنجاز العمل، فإذن القضية سميناها نسبية أو وجدنا اسما آخر في مصطلح الرياضيات. ثانيا: الأخ العزيز الفاضل والذي أنا شخصيا أشهد له بالنزاهة والتمسك والغيرة على الدين الحنيف وهو الشيخ أحمد محمد علي رئيس البنك الإسلامي وأقولها من هذا المنبر والله شاهد على ما أقول: إن هذا الإنسان المسلم خدم بلدي بصفة لن أنساها أبدا عندما كنت سفيرا في المملكة العربية السعودية، ونحن كلنا نعرف غيرته على الإسلام وحرصه على اتباع تعاليم الإسلام، ومن هذا المنطلق نفسه نرى لزاما أن نسارع في هذه العملية {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1464 فالقضية أنه يرى وهو رجل الميدان أنه يتعذر، إن لم يكن مستحيلا، تحديد التكاليف لكل دولة على حدة، وهذا يجرنا إلى نقطة أخرى، وأرى أن هذه النقطة هي بيت القصيد. ما هي العناصر المكونة للتكاليف الإدارية؟ يجب علينا أن نعرف العناصر المكونة للتكاليف أو المصاريف الإدارية ونقتنع كلنا هنا بأنه لا يمكن أن تحدد هذه المصاريف لكل بلد على حدة، لأننا كما قلت، والشيء الذي فهمته من خلال تجربتي المتواضعة أنه يرسل إلى كل بلد وفد، أو وفدان أو وفود وأنه بالإمكان في نهاية تسديد القروض أن يكون هناك تجميع للتكاليف التي سببت بخصوص مشروع معين على أن تتعهد الدولة من بداية القرض أن تدفع هذه التكاليف. الشيخ أحمد بازيع الياسين: ثمانية وستون مليونا، فهذه المصاريف الفعلية لخمس سنوات وأخذ معدل الوسط من هذه المصاريف إنما المصاريف تباعا في كل سنة يؤخذ الخمس سنوات مثلا في سنة 1406 نحذف 1401 وتضاف 1406 إنما طبعا إنه من المعروف أن المصاريف لكل مشروع ما تنفق إلا بعد القيام بالمشروع إنما هذه المصاريف التي أقصد فيها أنها فعلية هي فعلا فعلية لسنوات مضت، لخمس سنين مضت أخذ عليها التقدير كما قال الشيخ: أجر المثل، وشكرا. الشيخ يوسف جيري: الحقيقة إنه بالنسبة للتكاليف أو المصاريف الفعلية المنصوص عليها في الأوراق هذه المصاريف تخص فترة مضت وانقضت والمشاريع التي نحن بصددها هي مشاريع مستقبلية فكوننا نأخذ خمس سنوات مضت بتكاليفها ونأخذ منها أشياء نسميها فعلية لنطبقها على خمس سنوات قديمة لا أعتقد أن هذا ممكن أن نسميها فعلية هي مصاريف تقديرية بالنسبة للسنوات الخمس القادمة لكنها ربما تكون مصاريف فعلية بالنسبة للخمس سنوات التي مضت، وشكرا. الشيخ عبد الستار أبو غده: الحقيقة أن مما ينبغي مراعاته وملاحظته أن هناك مقرضا ومقترضا المقرض هو البنك، والمقترض هو تلك الدول، وليست دولة واحدة تستفيد من خدمات البنك الإسلامي للتنمية، والذي يهمنا أن المقترض لا يأخذ أكثر مما دفع ولا يأخذ أكثر من حقه فيما تكلفه من تكاليف وهذا متوفر في هذه المعاملات، إنما الذي لم يتوفر أن المقترض يدفع أحيانا أكثر من التكاليف التي تخص مشروعه، وهذا أمر مغتفر لأنه دخل فيه التقدير ضرورة، وليس هذا بدعا من الأمر فهناك تطبيق موجود وهو موجود في المصارف الإسلامية منذ زمن طويل ولا يستطيع أحد أن يتخلص منه ولا أن يعلق عليه، كلنا يعلم أن المصارف الإسلامية تطبق طريقة المضاربة، فالمصرف هو العامل وأصحاب التوفيرات والودائع الاستثمارية هم أرباب الأموال، هناك ربح يتحقق، المصرف يتقاضى نصيبه من الربح دون زيادة ولا نقصان لأن هناك نسبة توضع في البداية بأن للعامل مبلغ كذا من الربح، ولكن أصحاب الأموال لا يأخذون حقهم بالضبط وإنما يدخل فيه التقدير لأن هذه الأموال تعمل عملا متفاوتا، أموالا تدخل في فترة وأموالا تدخل في فترة أخرى، وقد يوضع هذا المال في مشروع ناجح مائة في المائة، وهذا المال في مشروع أقل نجاحا، وفي النهاية عند التنضيد الذي يتم في نهاية المدة وهو تنضيد تقديري لا يستوفي أصحاب الأموال نصيبهم بدقة من الربح فيما بينهم وإن كانوا لا يأخذون من نصيب العامل شيئا، وهذا لا يحصل في معاملات البنك الإسلامي للتنمية فإنه حينما يقرض يسترد مقدار القرض فقط، ويسترد التكاليف التي تكلفها في هذه الخدمة على القرض، ولكن المقترضين قد يدفع واحد منهم أكثر مما دفع الآخر كما يحصل في عمليات المصارف الإسلامية في اقتسام الأرباح، والذي يهمنا أن المقترض لا يأخذ أكثر لأن هذا الذي يأخذه يكون ربا وهذا لم يحصل فأما المقترضون فإنهم فيما بينهم حصلت هذه المبارءة وهذه المسامحة، وهذا التداخل ضرورة عدم إمكان ضبط هذه المبالغ ولا بد من التقدير، والتقدير إذا صير إليه للضرورة أمر لا بد منه وحسبنا أن نتذكر حديث الأشعريين الذين كانوا إذا أرملوا يضعون كل ما لديهم ثم يأخذون فقد يأخذ الواحد أكثر مما تقدم به من مال، وهذه ضرورة لأن الضرورة تقدر بقدرها، والسلام عليكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1465 الرئيس: ولكن ما كان يشترطونها يا شيخ عبد الستار، هناك نقطة مرت في كلام أحد المشايخ فقط دون الآخرين وهي أن المصاريف التي يأخذها البنك للخدمات التي يجريها هي للحفاظ على قرضه وليست مصاريف للخدمات التي يجريها بالتعاون مع الدولة، هل هناك من مناقشة حول هذه النقطة بالذات؟ الشيخ المختار السلامي: علينا أن نعلم أن قضية القرض بين البنك وبين الدول المستفيدة هي الدول وأن البنك لا فائدة له من ذلك لأنه لو كانت تعود له فائدة لقلنا: إنه يمنع، وهذا قرض فكل الخدمات التي يقوم بها البنك من دراسات لأن الواقع هو أن في بعض الدول جربت التجربة فإذا بالقروض عند إنفاقها تأخذ طريقا آخر غير الطريق الذي طلبت منه فيضيع على المجموعة الإسلامية الأحقية ويشتري بها ذهبا ومصوغا وغيره من أوروبا أو تصرف أو تنفق على فساد، فلتحقق منفعة القرض للمجموعة الإسلامية يقوم البنك بالدراسة والمتابعة والإنجاز ولا ينفق أي مليم أي أو دينار إلا في الوجه الذي من أجله، وهذه هي الرقابة التي هي تتابع القرض في إنجازه، وشكرا. الشيخ أحمد محمد جمال: لكن نبتعد عن شبهة الربا بتقدير نسبة معينة نلجأ إلى الاشتراط على الدولة المقترضة في العقد بأن تدفع التكاليف الفعلية نهائيا ووافق عليه كثير من الأعضاء بعد ذلك على هذا الرأي وقالوا بمثل ما قلت. الآن بدا لي حل آخر وهو أن تتعهد الدولة بنفقات الخدمة من القرض الذي تتسلمه، أي أن البنك لا يصرف على الخدمات، البنك يحتاج إلى دراسة ومتابعة وإنجاز، الدولة تنفق من نفس القرض ولو زادت عليه شيئا، يعني بدل أن تأخذ 20 مليون دينار تأخذ 22 مليونا وهي التي تنفق رسوم الخدمات أو نفقات الخدمات ونخلص من شبهة الربا. الدكتور الصديق الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد. ما قدمته اللجنة الموقرة يتضمن حكمين: الحكم الأول: مبدأ أخذ نفقات القرض من المقترض شريطة أن تكون مساوية تماما لهذه النفقات، وهذا المبدأ - وإن كنت لا أقول: إنه ممنوع أو حرام - ولكني أرى أنه خلاف الأولى وسأبين هذا فيما بعد. الحكم الثاني: على افتراض أننا قبلنا بالمبدأ وهو ما قدرته اللجنة بنسبة مئوية 3.33 % وقد سمعنا ما دار حول هذا التقدير، فمن قائل: إن التقدير الحقيقي ممكن ولا يصح أن نلجأ إلى التقديرات بهذه الكيفية، ومن قائل: إن هذا التقدير كثير إلى درجة أن بعضهم قال: إنه أكثر مما تأخذه بعض الجهات الربوية من فائدة، وقد ردَّ السيد رئيس اللجنة على هذا بأن النسبة 14 % ولكني أود أن أقول هنا بأننا نعلم أن بعض الدول غير الإسلامية تقدم قروضا بفائدة للدول النامية المحتاجة بفائدة قد تكون 1 % وهذا حادث مشاهد فشبهة أو ما قد يقال من أن البنك الإسلامي للتنمية يأخذ على هذه النفقات أكثر مما يؤخذ فائدة وارد، ولهذا فإني أرى أن نأخذ بالأولى وإن نقفل هذا وذلك لأن أموال البنك الإسلامي للتنمية تأتي من دول غنية وسع الله لها في الرزق وفوضت البنك في استثمار بعض هذه الأموال استثمارا يدر عليها ربحا، وفوضته أيضا في إقراض بعضها للدول المحتاجة، وهذا هو أصل القرض، القرض إنما يعطى للمحتاج ابتغاء وجه الله وثوابه في الآخرة وليس في الدنيا، ونسبته كما تؤخذ من الحديث 18 % القرض بثمانية عشر فماذا يضير هذه الدول الغنية التي وضعت أموالها في البنك الإسلامي للتنمية أن يتحمل البنك هذه النفقات يحملها لهذه الدول الغنية ويعطي هذا القرض للدول المحتاجة الفقيرة للتنمية وترده كما هو، وبهذا نخلص من هذا الخلاف الواسع الذي وقعنا فيه وما قد يشاع ويردده أعداء الإسلام من أن البنوك الإسلامية، وهذا أمر حادث وسمعناه كثيرا ويتلقطون الشبه ليقوضوا بها هذا العمل الإسلامي، خلاصة رأيي أرى أن لا يؤخذ من هذه الدول المقترضة أي شيء نظير هذه النفقات وتتحملها الدول الغنية ولها ثوابها عند الله وقد يكون هذا سببا في تنمية أموالها المستثمرة بما يزيد عن هذه الثلاثة أو الخمسة في المائة، وشكرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1466 الشيخ عبد الله بن بيه: الحمد لله رب العالمين … اللهم صلى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. في الحقيقة أعتقد أننا ابتعدنا كثيرا عن مسار المناقشة وعن المسار الذي يجب أن تسير فيه مناقشتنا، نحن هنا في جمعية إفتاء تحولنا إلى أطراف تتفاوض مع البنك هل تستطيع أن تفعل كذا أن تفعل كذا، هذه المفاوضات فيما أعتقد غير مقبولة بالنسبة لمجمع كمجمعنا الإفتاء هو أن نقول: إن الطريقة المثلى التي لا غبار عليها أن يقرض البنك بدون أية رسوم، الطريقة الثانية إذا كان البنك لا يستطيع أن يقوم بهذا العمل الخالص لوجه الله سبحانه وتعالى أن يقرض برسوم لكن هذه الرسوم تحسب في النهاية. المسألة الثانية: إذا تعذرت كل هذه السبل وانسدت كل هذه الطرق فإن البنك حينئذ يستطيع أن يلجأ إلى طريقة التقدير بسبب تنزيل الحاجي العام منزلة الضروري عند الفقهاء، ثم ألاحظ ملاحظة أخرى أنه ينبغي أن توضع في هذه الأجوبة الأدلة الشرعية، الأدلة الشرعية أساسية بالنسبة لمجمعنا فإن المرجع هو الشريعة ولا يجب أن نصدر فتاوى كفتاوى البابا، نحن لسنا باباوات، نحن نرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولأجل هذا فمن الضروري أن توضع الأدلة الشرعية بجانب الفتاوى التي يصدرها هذا المجمع، وأشكركم. الشيخ يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد. فقد طال الكلام ولا أريد أن أزيده طولا ولكن أريد أن أقول كلمات موجزة أولا: هناك أصل شرعي للتقدير التقريبي، هذا الأصل هو ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخرص فيما يجب من مقادير الزكاة في الثمار والتمور وغير ذلك وهو تقدير تقريبي يقوم به الخبراء، قد يقدر في بستان من النخيل أو الأعناب كذا طنا أو قنطارا، وكل مسألة فوق ذلك أو دون ذلك لو حسبناها بالضبط ولكن هذا مما تسومح فيه وأجازه الفقهاء لأنه ثبت فيه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. في ناحية من النواحي كما في الطب مثلا أو غير ذلك، ويختلف الفقيه مع الطبيب، أنا أعتقد الفقيه يؤخذ بقوله في الفقه والخبير يؤخذ بقوله في فنه، يعني نحن لربما نقول: إنه يمكن تقدير التكاليف تقديرا فعليا ولكن المختصين يقولون: إنه يصعب أو يتعذر أو يتعسر هذا، أعتقد أن الخبير إذا كان مسلما عدلا مؤتمنا فقوله مصدق في هذه الناحية ولسنا مطالبين بأكثر من ذلك. شيء ثالث أريد أن أضيف هنا هو أنه قد عرف مجموع ما راجع إلى أرقام فعلية، ولكن ما يخص كل مقترض هو الذي يمكن أن يأخذ بعض الناس أكثر من حقه أو دون حقه، ولكن كما قال فعلا أخونا الدكتور عبد الستار: إن هذا مما يتسامح فيه وما يتغابن الناس في مثله، كما قالوا في أمور البيع والشراء الغبن غير الفاحش والذي يمكن أن يتسامح فيه يمكن أن يتسامح فيه يمكن أن يغتفر ولا شيء في ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1467 أمر رابع هنا ما يتعلق بالورع والعمل بالأولى وغير ذلك هذا في الواقع أمر يمكن أن يكون في معاملات الأفراد بعضهم مع بعض وليس كل الأفراد أيضا، هناك فرد يبحث عن الأفضل والأولى، وبعض الأفراد لا يقبل منهم هذا، كما قال ابن عمر لمن سألوه عن دم البعوض في الإحرام فقال: من أين أنتم، أنتم من كذا؟ تسفكون دم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألون عن دم البعوض، حينما ترتكب الموبقات والمحرمات لا يبحث الناس عن خلاف الأولى وعن الوضع لأنا في حاجة إلى أن نحرم الناس من الموبقات الكبرى. وبذلك قد يتورع الإنسان في خاصة نفسه وقد يفتي بالأحوط بالنسبة للورعين من الناس إنما بالنسبة للمؤسسات وللأمور العامة. هنا أرى أنه ليس المهم الأحوط وإنما المهم الأيسر والرسول صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، قد نقول للبنك الإسلامي: إن الأولى أن لا تأخذ شيئا ولكن هذا لا يلزمه الذي يلزمه الحلال والحرام فإن كان هناك فرصة للحل فينبغي ألا نتركها وقد فتح أخونا الشيخ تقي العثماني بابا آخر وهو باب تقدير التكاليف ينبغي أن ينظر إليه ولا ينسى وهو باب إعطاء أجرة المثل، وشكرا والسلام عليكم ورحمة الله. الرئيس: إضافة إلى ما تفضلتم به يا شيخ يوسف في مسألة خرص الثمار، كذلك في الأسهم المعاصرة الذي عليه أهل العلم هو جواز بيعها والسهم؟ إذا بيع فإنه ليست قيمته أعيان جميعها ففي شركة الكهرباء مثلا يكون قيمته أعيان وفيه نقدا، لكن ما لم يثبت استقلالا فيغتفر هذا النقد الضئيل بجانب الأعيان الموجودة المتكاثرة. بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد. فإنه من خلال هذه المداولات التي جرت بين أصحاب الفضيلة في حكم رسوم الخدمة على القرض، أي في أخذ رسوم الخدمة والرسوم الإدارية من بنك التنمية الإسلامي في جدة على القروض التي يدفعها إلى الدول فإن هذا الاستفتاء إنما ورد فرارا من الربا ومن الوقوع فيه، وفي الوقت نفسه لا بد أن نفر من التحيل على الربا، ومن صور التحيل على الربا، ولهذا فإن أمامنا عدة ركائز شرعية لهذا الموضوع: الأولى: وأرجو من أصحاب الفضيلة إذا كان هناك أية مخالفة في أي ركيزة من هذه الركائز أن يتفضلوا بالإشارة، وإلا فإننا سنعتبره رأيا جماعيا في كل ركيزة ألخصها على مسامعكم الكريمة. الأولى: جواز أخذ العمولات الإدارية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1468 الشيخ عبد الله البسام: الأجدر ألا نسميها عمولات … نسميها أجورا. الرئيس: هذا في الصياغة وأنتم في لجنة الصياغة يا شيخ، جزاكما لله خيرا، ولا شك أننا نحن كما نعني في الإعداد نعني في الصياغة. الركيزة الأولى جواز أخذ الرسوم الإدارية. الشيخ أحمد جمال: إنما العاقد يتحمل مصروفات الاستيفاء. الرئيس: يا شيخ محمد هي ليست أجور الاستيفاء فقط إنما هي أجور القرض نفسه الأجور الإدارية بكتابة الدين وما يتبع ذلك من الأشخاص والأعمال والأوراق والآلات واللجان، هذا لا يدخل في الاستيفاء، هذا قبل الاستيفاء هذا الآن في القرض نفسه في الأداء. الشيخ مصطفى الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم … سيادة الرئيس أنا لا أستحسن لا التعبير بالعمولة ولا بالرسوم، التعبير الذي في نظري هو الأفضل أن يقال: نفقات الإدارة أو ما يقابل نفقات الإدارة الفعلية على القرض. الشيخ المختار السلامي: أنا عندي شيئان.. أما استيفاء القرض فإن البنك قد تنازل عنه ولا يأخذ على استيفاء القرض ولا مليما واحدا وشكرا لهم على أن وصلنا إلى هذا. ثانيا: هي أجور الخدمات اللازمة للقرض، فهذه أجور الخدمة اللازمة للقرض هي التي يتحملها المقترض، وشكرا. الرئيس: على كل فإنه يظهر لي أن هناك خلافا في التعبير أما في الإعداد والنتيجة أن هناك اتفاقا عليها. إذن أطلب من أصحاب الفضيلة المقررين أن يسجلوا هذه الركيزة الأولى. الثانية: هي جواز أخذ البنك لمقابل الخدمات الفعلية.. الفرق الأول واضح لأن الأول هو على ضوء العمل المعتاد مع أي ساحب شيك أو ساحب سهم أو كذا فإنه يأخذ منه عمولة حتى إلى الآجال المعدودة. الثالث أو الركيزة الثالثة هي المنع البات أو التحريم لأخذ زيادة من المقترض في موضوع الخدمات لأن كل قرض جر نفعا فهو ربا. الشيخ عبد الله البسام: هذه تحتاج إلى تفصيل يعني الخدمات قد تكون أكثر، قد تكون أقل. الرئيس: يا شيخ نقول مقابلها من غير زيادة. الشيخ عبد الله البسام: لا نستطيع أن نقول من غير زيادة ولا نقص نقول مقابلها فقط ولا نجعل فوائد أخرى لغير الخدمات. الرئيس: هو، سلمك الله، هو فقرتان، هو أخذ مقابل الخدمات من غير زيادة الخدمات الفعلية من غير زيادة ثم بعد هذا تأتي فقرة ثالثة وهي أنه يحرم أخذ الزيادة لأن كل قرض جر نفعا فهو ربا، هذه كقاعدة شرعية تساق هنا على سبيل التحوط في أخذ الزيادة في مقابل الخدمات التي كثر فيها البحث من المشايخ. في الواقع إن هذا السؤال من استفسارات البنك لي عليه عنده من التساؤلات ولكني سأرجيها لأني أعرف جيدا أن ما لدى أصحاب الفضيلة المشايخ سيغطيها وزيادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1469 الشيخ وهبة الزحلي: بسم الله الرحمن الرحيم.. أما بعد. فقد أصابت اللجنة عندما قررت مبدأين في فتواها حول هذا الموضوع، الناحية الأولى هي الفصل بين عقد التوكيل وعقد الإجارة. وذلك بعدا عن الوقوع في المنهي عنه، وهو نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، ومن خلال هذا النهي كنت أنتظر أن يكمل النهي في الحديث نفسه أن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا نهى عن بيع وشرط، فالتزام البنك بأن يهب إلى الدولة المستفيدة في نهاية المطاف هذه الآلات، هذا الالتزام هو عقد إيجار أعقبه، أو تضمن أيضا التزاما بشرط الهبة فهو أيضا عقد مقرون بشرط والعقد المقرون بالشرط غير سائر، فكنت أتوقع أن يكون هناك انسجام في الفتوى من حيث المبدأ بين هاتين الناحيتين، هذه ناحية. أصابت اللجنة أيضا في الناحية الأخرى وهي عدم تحميل المستأجر الضمان، وقررت المبدأ الشرعي المعروف أن المستأجر أمين والأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو بالتقسيط وهذا مطابق تماما لما اتفق عليه الفقهاء. ومن حيث تأصيل هذه العملية وتفصيلها بعد هذا النقد الجزئي انظر إلى العملية ككل وهي أن هذه العملية تنفصل إلى ثلاثة عقود أقرتها اللجنة ببراعة أقرت عقد الوكالة ولا أحد يعترض على جواز هذا العقد، كذلك عقد الإيجار، كذلك عقد الهبة هذه عقود مشروعة مقررة معروفة في الإسلام لا شك في اعتبارها وفي إقرار مشروعيتها، لكني أجد أن الجمع بين هذه العقود وإقرارها من حيث الظاهر، هذا تأثر ببعض الاتجاهات الفقهية كمذهب الإمام الشافعي إذ يقر ظواهر هذه العقود، وتركت اللجنة ما قاله الإمام الشافعي: "إني أقر ظاهر هذا العقد وأدع القصد المؤثم لله عز وجل" حتى إن الإمام الشافعي الذي ينظر إلى ظواهر هذه العقود فيقرها نظرا لاكتمال أركانها وشروطها واستيفاء كل ما تتطلبه فهو لن ينسى الناحية أو الباعث الذي بعث المتعاقد إلى الوقوع في الحرام فقال: وأدع القصد المؤثم لله عز وجل، يعني أن العقد وإن كان صحيحا في الظاهر فهو حرام يوقع صاحبه في الباطل ويأثم، نحن كما تعلمون لا يصح أن نفصل بين صحة العقد وبين النظرة التحريمية لهذا العقد فالإمام الشافعي بالرغم من أنه يقر ظاهر هذا العقد وكذلك مثله، وهو أيضا مثل الإمام أبي حنيفة يقر ظاهر هذه العقود، والنظرة الظاهرية موجودة عند هذين الإمامين إلا أنهما أيضا لم ينسيا جانب النية والباعث وحرما العقد من حيث الديانة وإن كانا أقرا هذه العقود من حيث الظاهر، وهذا موجود في بيع العينة، هذا شيء فبراعة اللجنة فعلا أقرت ظاهر هذه العقود ولكني أنظر إلى مجموع هذه العقود من ناحية أخرى، أنظر إلى الباعث، وأنظر إلى الهدف والمقصد والغاية والمال الذي ينشده البنك من هذه العملية، أليس البنك قد ضمن الأجرة وهي في العقد الثاني، العقد الأول لا اعتراض لي عليه وكالة، هذا عمل ابتدائي جيد لا أعترض عليه، ثم ضم مع هذا الوكيل عقدا آخر سرنا على رأي اللجنة بانفصال العقدين، أنا أقول: ولو سرنا على هذا الانفصال لكنه من حيث النتيجة عقد انضم مع نفس العاقد الأول، فمن هذه الناحية ألم يقم البنك في الجملة، وهذا يعني الفتوى لم تتعرض له وفيه شيء من التغطية في الأجرة يقرر البنك ما يشاء من أرباح تحت اسم الأجرة، يقولون: الإجارة مشروعية وبالتالي العمل جائز فمن خلال الجمع بين هذه العقود في عملية واحدة لا يخلو طرفاها من اثنين: البنك والجهة المستفيدة، الحقيقة هذه بحسب اطمئناني إلى القواعد الفقهية، هذه كلها جسور للوصول في الباطن إذا ضم المستأجر ما يريده من أرباح من خلال الأجرة، هذا في رأيي أنهم اتخذوا العقود جسورا إلى الوصول إلى الحرام، وكما قرر الفقهاء في بيع العينة أنهم عندما يتخذون بيعين في بيعتين، البيع الأول منجز والثاني مؤجل، اتخذوا البيع وسيلة خدمة بخدمة لكن النتيجة أنهم عندما اشترى نفس البائع الأول نفس المبيع من المشتري بثمن مؤجل أكثر من الثمن المعجل. الحقيقة هو بيع مقترن بالوصول إلى الربا والقرض بفائدة أو بيع مع الربا فالنتيجة تكون الوصول إلى الربا والعقود في الظاهر سليمة ولكنها من حيث الحقيقة والباطن حيل شرعية للوصول إلى الهدف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1470 فأرجو التوضيح حول هذه الملاحظات، حول ظاهر العقود وعقود متكررة مع عاقدين فقط، ولو سرنا على رأي اللجنة في الانفصال، ثم أيضا أرجو الاستفسار عن دور البنك ألا يضمن ما يريده من ربح تحت ستار الأجرة، وإن هذا عقد إجارة، وأنه أيضا الوكالة عقد صحيح وبعد ذلك أريد الاستفسار حول النهي عن عقد وشرط كيف يصح له أن يشترط الهبة مع أن النصوص أيضا تحرم ذلك؟ وشكرا لكم. الشيخ محمد تقي عثماني: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحقيقة طلبت الكلمة، لعين ما تفضل به الأستاذ الدكتور وهبة، فلا أريد أن أطيل وأتنازل عن كلمتى لأني أؤيده بكل معني الكلمة، وشكرا. الرئيس: في الواقع إضافة إلى ما تساءل عنه الشيخ وهبة أحب أن أسأل الشيخ المختار باعتباره أنه هو الذي باشر هذه العملية، يعني هو من الذين باشروا هذه العملية في أدوارها، هل يا شيخ مختار ظهر لكم أن عقد الإجارة هو عقد حقيقي مراد؟ هذا هو السؤال الوارد وإن كانت هناك عدة أسئلة، لكن هذا هو بيت القصيد، هل ظهر لكم من خلال هذا الاستفسار أن عقد الإجارة هذا هو بيت القصيد، هل ظهر لكم من خلال هذا الاستفسار أن عقد الإجارة عقد حقيقي مراد ولا يراد التوصل إلى غيره؟ الشيخ المختار السلامى: بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. ما أثاره فضيلة الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي: أولا أن هذا العقد فيه شرط، وكل عقد تضمن شرطا هو عقد باطل، ما قاله صحيح بالنسبة للمذهب الحنفي ولو كنا نلتزم في هذا المجمع الافتاء أو أن الإنسان يلتزم مذهبا معينا لكنت موافقا له تمام الموافقة ولكن العقود بشروط ليست مجمعا عليها. والواقع أنه خلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم وبين التابعين أيضا. ويجمع الأقوال: بيع الشروط الحنفي حرمه وجابر سوغ لابن شبرمة وفصلت لابن أبي ليلى الأمة ومالك إلى الثلاث قسمه فهي مذاهب أربعة: يرى الإمام أبو حنيفة أن الشرط حرام وأن البيع فاسد، ويرى ابن شبرمة أن الشرط جائز وأن البيع صحيح، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من جابر ناقة واشترط عليه جابر حلابها وحمولتها إلى المدينة، وأقره صلى الله عليه وسلم على ذلك، وأما ابن أبي ليلى فقد قال: إن البيع صحيح وإن الشرط باطل اعتمادا على حديث بريرة المعروف وشرط لهم الولاء، وأما مالك فرأى أن الشروط على ثلاثة أنواع: قد يكون الشرط حراما وهذا يفسد العقد، وقد يكون الشرط حلالا ولا تأثير له بالثمن وهذا لا يفسد العقد، وهو شرط مقبول، وقد يكون شرطا حلالا لكن فيه نوع من التأثير في الثمن فهذا يصح معه العقد ويبطل الشرط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1471 فإذن ليست المسألة اجتماعية. الأمر الثاني هو أن هذه البنوك الإسلامية هي بنوك تودع فيها أموال المسلمين وأموال الأثرياء ويريدون تنمية أموالهم هذا أمر لا بد أن نقر به وأنه لنا خيار إما أن تودع هذه الأموال في بنوك إسلامية لتستثمر وإلا فإن هذه الأموال ستنصرف إلى ما كانت منصرفة إليه من إيداعها في بنوك أجنبية يتحكمون فيها وفي فوائدها وقد رأينا التحكمات الأجنبية في أموال الدول وفي أموال الأفراد لما أرادت الدول القوية هذا. فإرجاع الأموال الإسلامية إلى البلاد الإسلامية، وتوظيف الأموال الإسلامية في خدمة المسلمين، وما رأيناه من مشاكل ديون ما رأيناه مما يدمي القلب لا العين فقط هو كله ناتج عن أن العالم الإسلامي ليس عالما فقيرا ولكنه عالم لم يحسن استخدام ثرواته وأول خطوة من استخدام الثروات ألا تفر هذه الثروات، إذن لا بد لهؤلاء المستثمرين أن نجد لهم حلولا مقبولة لاستثمار أموالهم، وفرق بين التجرؤ على الحرام مباشرة وما فيه استهانة الفرد بصلته بالله، وبين أنه يبحث عن حل يبيح له ذلك، وهذا الذي ذهبنا إليه هي حلول رأينا أنه لا يمكن لهذه البنوك أن تستمر في أداء رسالتها إلا إذا وجدنا لها أمثال هذه الحلول، أما إذا أخذنا القضية بالظاهر وبكل السهولة وبكل اليسر وفتحنا كتابا من كتب الفقه وقلنا هذا النية كذا والعزم كذا إلى آخره، فمعني ذلك أننا نأمر هذه البنوك بإقفال أبوابها وتنتهي القضية والسلام، وهي قضية خطيرة في نظري على مستقبل الاقتصاد الإسلامي، وشكرا لكم. الرئيس: شكرا … نريد الجواب على السؤال يا شيخ مختار، التساؤل الذي ذكرته تحب أعيده أم هو مفهوم؟ الشيخ المختار السلامي: ما ذكرته مفهوم جدا قلت: إنني لو أخذت بأن نية البنك هو أن يأخذ هذا عقد الإجارة، ولعله يريد أن يربح منه إذا أردنا أن نبحث في كل هذا فمعني ذلك أن نقول للبنك الإسلامي: شكرا لقد قمت لمدة سنوات واقفل أبوابك وأرجع أموال الناس إلى أصحابها. الرئيس: نحن لا نريد هذا يا شيخ نحن نريد الذي اتضح لكم على بساط الحقيقة هل عقد إيجار حقيقة أو لا؟ الشيخ المختار السلامي: الذي اتضح لي على بساط الحقيقة هي ثلاثة عقود قدمت لي كل عقد منها صحيح فإذا أردنا أن ننفذ إلى القلوب فسيادة رئيس البنك الإسلامي تستطيعون أن تتوجهوا إليه بهذا السؤال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1472 الشيخ خليل الميس: أتوجه إلى أخينا الدكتور وهبة الزحيلي في مذهب الأحناف أنه لا يجوز الانتفاع بالعين المرهونة وعند غيرهم يجوز، ولذلك استحدثوا بيع الوفاء، وبيع الوفاء كما هو معروف أن يستفيد هذا الذي اشترى وهو راهن مرتهن في الحقيقة بالعين المرهونة وعندما يحصل الثمن لمن رهن يعيد العين ويكون قد انتفع بمثل هذه العين، الحقيقة هذا العقد المستحدث كما قالوا بالفقه الحنفي تلبية لرغبات، وتوافقا مع مذهب متبع مع إمام متبع، فما دام الأمر في غير مذهب الأحناف جائز فلا بأس بأن نيسر الأمر وإلا هناك محظور كبير كما قالوا، أما أن نجمد أموالنا وألا علينا أن نجد الحل وإلا فرت من بلادنا ومن بنوكنا، والله أعلم. الرئيس: كلمة بسيطة يا شيخ خليل.. وهو أن بيع الوفاء تعلمون أنه لم يحدثه إلا الكرخي في أوائل القرن الخامس، ولهذا نسبته للإمام قد لا تكون متأخرة المهم أنه نسبته للإمام قد لا تكون متأخرة عند الأحناف وعلى وجه التحديد أربعمائة وخمسة وعشرين هجرية. الشيخ خليل الميس: إذا قلنا: متأخرا، وأنا لم أقل: متأخرا. الرئيس: نعم أحسنت وشكرا. الدكتور الصديق الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم. هذه المعاملة هي في حقيقتها بيع بالتقسيط وليست إجارة، جاء في المذكرة: يقوم البنك بإيجار هذه المعدات إلى الوكيل بمقدار معلوم هو حاصل رأس المال مع الأرباح مقسطا على سنوات معينة، مؤدى هذا أن هذا المستأجر عندما يدفع هذا الذي سمي مستأجرا، عندما يدفع هذه الأقساط وتمضي السنوات المعينة طبيعي يكون قد دفع رأس المال زائدا الأرباح فما الحاجة إلى عقد بعد ذلك؟ فهذه وإن كانت وضعت في صورة إجارة هي حقيقتها بيع بالتقسيط ولا أدري، ولعل للبنك غرضا صحيحا في تحويلها من بيع بالتقسيط مع أن هذا المبسط والسهل إلى جعلها إجارة وجعلها تحتاج بعد ذلك إلى الهبة بعدما تدفع كل الأقساط أو إلى بيع من البيع الرمزي إلى آخر هذه التعقيدات التي لا أدري لها مبررا إذا اعتبرنا هذا بيعا بالتقسيط فأريد أن أفهم لم لجأ البنك إلى جعل هذه العملية إجارة؟ وشكرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1473 الشيخ عبد الله البسام: بسم الله الرحمن الرحيم.. أنا ما أرى يعني محظورا كبيرا من هذه العملية والحيل إذا لم يتوصل بها إلى محرم هي لا بأس بها، وكلكم تعلمون قصة خيبر أن عبد الله بن رواحة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جيد فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا، وإنما نبيع الصاع بالصاعين، قال: لا، هذا هو الربا، بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم الجيد، وقد يشتري من نفس هذا الرجل مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال لا تشتر من صاحب هذا التمر، أمن له هذا، هذا يعني أنه أرشده إلى طريق يتخلص فيها من الربا بطريقة ميسرة بأنه لا بد أن يشتري من رجل آخر مع بيع التمر بالتمر معروف متطابق فبناء عليه فأنا ما أرى محظورا ما دام ما تحققنا يقينا من أن البنك ولا شققنا على قلوبهم يريد بهذا التوصل إلى الأعمال الربوية، هذه ناحية. نريد إذا حددت الأجرة، إذا كانت الأجرة محددة ومعقولة، فهذه قرينة تدل على حسن نيتهم، لكن أحب أن أدخل على هذا مثلا يعني بعض التعديلات وهو أن المستفيد لا يتولى هو بنفسه الشراء وإنما الذي يتولاه البنك لأن البيع له عهد يعرفونها والحمد لله المشايخ كلهم وعهدها على المشتري وإن كان هذا وكيلا ولكن البنك لا يعرف هذا الوكيل ما يعرف إلا هذا الوكيل أنه أصيل ومشتر. نقطة أخرى أريد أن أقولها هو التزام البنك بالبيع أو بالهبة في آخر مراحل الإجارة، هذا يعني نقطة تحتاج إلى تأمل لأن هذا وعد والوعد لا يجب الالتزام به، فإذا دخلت تحسينات على مثل هذا العقد فأنا أرى أن فيه تسهيلا وتيسيرا لا بأس منهما، وشكرا. الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه استعين: الحقيقة حينما بدأت البنوك الإسلامية تفتح في البلاد الإسلامية أهل الأغراض والمناوئون لهذه الفكرة يقولون: كيف تريدون من هذه البنوك أن تعمل بدون فوائد؟ فقيل لهم: إن البنك الربوي يدور حول المحور الربوي وهي الفائدة المصرفية، والبنوك الإسلامية تخلع هذا المحور وتنزعه وتضع محاور أخرى مشروعة: الوكالة، والإجارة، والشراكة، والقراض، التجارة، وكل هذه الأبواب المشروعة يضعها البنك الإسلامي ويدور حولها وإذا قلنا بأن المقاصد والحيل، فالحقيقة أن الأمر يكون عسيرا على معرفة المقصد لأن المقصد لا يعرفه إلا الله سبحانه وتعالى، إنما المقصد الأصلي المفهوم هو استثمار أموال المسلمين في ديار المسلمين لمنفعة المسلمين بالطرق المشروعة فإذا كان عقد الوكالة فيه بند من البنود لا تجيزه الشريعة الإسلامية، فالحقيقة لنا أن ندرسه ولكن إذا كان عقد الوكالة عقدا شرعيا ليس فيه ما يخله في الشريعة الإسلامية فليس لنا أن نقول للبنوك: لا تستعملوا هذا العقد، لأننا لا نعلم مقصدكم، ثم بالنسبة إلى الهبة البنك فيه فرق في أن يكون مؤجرا وأن يكون مالكا البيع بالأجل يكون البنك مالكا للعين المؤجرة يكون المشتري مالكا للعين، فبالتالي جميع الآثار المترتبة عليه من خلل، من مخاطر، من تلف كلها يتحملها المشتري إنما البنك الآن هو مؤجر والمؤجر يملك العين المؤجرة، فهناك فرق بين بيع الأجل وبين التأجير لأن بيع الأجل لا يتحمل البنك مخاطر ما يجري على هذه العين، فالعملية عملية عقود، عقد وكالة وإجارة ممكن الاطلاع على بنوده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1474 أما الهبة فهنا في الحقيقة للبنك أن يهب لأنه ملكه، للبنك أن يهب، وله أن يبيع وله أن يتصرف في ما يملك لأنه في الحقيقة مالك له، وهذا الشرط الذي رأته اللجنة هو في الحقيقة لمنفعة المستأجر، يعني اللجنة أكدت وليس شرطا من قبل المستأجر، إنما اللجنة أكدت بأن تكون هذه من باب المعاونة من قبل البنك المقترض بدون أن يبدي شرطا هو، وإذا رأيتم في مجمعكم حذف هذا ونترك مسألة الهبة للبنك أن يهب وللبنك أن يبيع أو هذا فهذا له، وشكرا. الشيخ أحمد محمد جمال: ملاحظتي أن هناك عقودا متداخلة وإجراءات معقدة وأن الدفاع عنها لا بأس أن نلجأ إلى الحيلة إذا كانت موصولة إلى الحلال أو ينبغي أن نشفق على الأموال الإسلامية من أجل بقاء العمل الاستثماري الإسلامي الذي أراه أن ينبغي للمجمع أن يصدر فتاوى صريحة واضحة لا يلجأ فيها لا إلى الحيل ولا إلى العقود المتداخلة ولا إلى مجرد الشفقة على الأموال الإسلامية واستثمارها، هذه العقود المتداخلة ممكن اختصارها عقد بيع بالتقسيط، أنا أسأل لماذا يوكل البنك الدولة المقترضة لتشتري ثم هو يؤجرها عليه؟ لماذا هذا اللف أو الدوران أو التداخل؟ البنك عليه أن يشتري المعدات لحسابه ثم يبيعها للدولة بيعا بالتقسيط وزيادة الثمن جائز في البيع بالتقسيط، يبقى عقد واحد لا ثلاثة عقود، لا هبة ولا بيع ولا إجارة ولا توكيل يشتري هو المعدات ثم يبيعها بالتقسيط على الدولة وتنتهي كل هذه العقود وتحل كل هذه الشبهات وهذا رأيي. الرئيس: ممكن معالي الشيخ أحمد محمد علي أن يكون هناك أمران: الأمر الأول: وهو التساؤل الوارد هل حقيقة عقد الإيجار مقصودة هنا أم لا؟ أم أن المقصود هو يعني وصول هذا المبلغ أو هذه السلع وصول هذه الأرباح الناتجة التي نتجت عن الإيجار؟ تلك إلى الدولة المباع عليها والربح للبنك، ثم الرأي في البديل الذي ذكره الشيخ أحمد، وشكرا. معالي الدكتور أحمد محمد علي: بسم الله الرحمن الرحيم … شكرا سماحة الرئيس. الحقيقة أن البنك يباشر العمليتين، عملية البيع بالتقسيط، وعملية التأجير، ولجوء البنك في بعض الحالات إلى عقد التأجير تقضي به العملية ذاتها نوع المعدات، ففي بعض الحالات يكون من مصلحة الدولة أن تكون على أساس تأجير عما يحدث لتلك العين، وأيضا أحيانا لبعض القوانين الخاصة في بعضهم من مصالح المشروع حينما يكون المشروع جديدا أن يكون على أساس التأجير بحيث إن بعض القوانين الضرائبية تقلل الأعباء الضريبية على المشروع سيما في بداية المشروع وهناك العديد من العوامل والعديد من الظروف إما متعلقة بالمشروع ذاته أو متعلقة بالقوانين الضريبية في تلك الدولة أو لبعض المصالح الأخرى نجد أن من المصلحة أن تتم المعاملة على أساس عقد الإجارة بدلا من عقد البيع لأجل، نحن نتعامل مع الاثنين مع العقدين وفقا للمصلحة ووفقا لما تقتضيه مصلحة المشروع ومصلحة الجهة المستفيدة وشكرا، أرجو أن يكون في ذلك إجابة على الاستفسار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1475 الدكتور عبد السلام العبادي: بسم الله الرحمن الرحيم إذا سمح لي السادة العلماء أريد أن أعود بالمسألة إلى أصلها، لماذا جرى التفكير بمثل هذه الصيغ وطرحت للعمل في بعض المؤسسات أو للنقاش في بعض المحافل العلمية، صيغة التمويل المطروحة في البنوك الربوية هي صيغة القرض الربوي يدفع البنك مبلغا من المال ويشترط على المقترض دفع نسبة معينة متفق عليها مسبقا تدفع للممول بصرف النظر عما سيؤول إليه المشروع ودون أن يتحمل الممول أي مسئولية أو أي مخاطرة. في الاقتصاد الإسلامي الصورة المقابلة في مجال التمويل تقوم على ضرورة اشتراك صاحب المال في المسؤولية كمبدأ عام وتعرضه للمخاطرة مع صاحبه مع العامل أو المقترض ما هنا جرى بحث في تخريج صيغ للوصول إلى معاملات إسلامية جديدة تستخدم ما هو متاح في الفقه الإسلامي من صيغ تعامل فقهي وتحاول أن تطور في هذه الصيغ ضمن المبدأ الأساسي المقرر. وهو أن صاحب المال لا يجوز أن يتقاضى فائدة مقطوعة ينالها بصرف النظر عن نتيجة المشروع التي هي لب وأساس الفكرة الربوية، ومن هنا هذه الصيغة المقترحة بيننا أمامنا كان في أصل الصيغة شرط يحمي الممول من المسؤولية وهي أن يتحمل المستأجر المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها العين محل الإجارة ويتحملها المستأجر وليس المؤجر، جاء تعديل اللجنة تعديلا صائبا لهذه المعاملة إذ حملت عملية أي مخاطر تتعرض لها العين المستأجرة للمؤجر الذي هو في الأصل الممول لأن هي كل الصيغة في الأساس هي اقتراح لصيغة جديدة على أساس جملة قواعد في الفقه الإسلامي شريطة عدم الوقوع في المحظور وهو الربا، لأن الأساس حتى في تحريم الشروط في الشريعة الإسلامية عندما ركز هو عدم الوقوع في المحاذير، ليس فكرة الشرط حتى عند الحنفية الذين تمسكوا بظاهر هذا الحديث استثنوا بعض الشروط عندما تم التيقن بأن ليس هناك وقوع في الحرام ضمن المفهوم الذي قدموه، فلذلك ما دامت هذه الصيغة بصرف النظر عن مكوناتها التفصيلية، ما دامت لا تؤدي في تفصيلاتها ولا في نتائجها إلى الوقوع في الحرام، سواء كان الحرام الربوي أو أي حرام آخر، نصت عليه الشريعة بشكل محدد، التوجه عند اللجنة كما هو ظاهر إلى إجازتها، ونقتها مما كان يمكن أن يوقعها في أشكال الربا عندنا هنالك نوع من حماية المؤجر من أي مسؤولية يمكن أن يتعرض لها في هذا المجال، يعني يصير في هذا المجال، يعني في الواقع أن دفع قرض الراغب في العملية التمويلية وتقاضي عليه فائدة، التي هي الربح الذي حسبه في قضية الإجارة وخلا من أي مسؤلية تحميله إلى هذه المسؤولية، في الواقع هو الذي أعاد الصيغة إلى جوازها، وأظن أن القضية إذا نظر لها على أساس أننا نطرح صيغا اجتهادية جديدة بديلة للتعامل الربوي، وتخلصنا من مشكلاته ضمن هذا الإطار لا بد من التوجه وإلا كما قال الإخوان: ليضرب صفحا عن كل هذه المحاولات ونترك العملية الاستثمارية في أبعادها الخطيرة الاقتصادية، نتركها من أي تدخل إسلامي ولتسر الدنيا كما تريد ولا نريد أن نواجه هذه الظروف الاقتصادية المعقدة بحلول إسلامية لا يمكن أن نأتي إلى معالجة طرحت في ظل فقهنا الإسلامي في ظرف من الظروف ونأتيها إلى هذا العصر بتعقده الاقتصادي ونقول: نريد أن نأخذ هذه الصيغة كما هي ونقدمها كيف؟ لا بد في الواقع من أن ننحت ونخرج صيغا جديدة نتحاشي فيها الوقوع في المحاذير الشرعية كونها لم تعهد في فقهنا الإسلامي سابقا، لا يعني أنها ممنوعة المهم أن يؤتى بدليل يقول: إن هذا الأمر يوقعنا في الحرام والحرام المقطوع به وفق كذا وكذا، عند ذلك نمتنع، أما أن يقال: إن الأمر يقترح صيغة جديدة، ولم لا يقترح صيغة جديدة؟ فليقترح صيغة جديدة ما دام أننا نتاحشي الوقوع في الربا، وشكرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1476 الرئيس: شكرا، في الواقع بعد أن حصل التساؤل هل المراد في حقيقة العقد الإجارة أو لا؟ لا شك أنه يظهر لي أنه اتضحت الرؤيا في تجلي هذه الحقيقة لكن يبقى سؤال واحد وهو من باب التقعيدات الشرعية، هل يعرف من قواعد الشرع تشريع العقود الوهمية التي ظاهرها السلامة للتوصل إلى مثل هذه المعاملات، لأننا إذا نظرنا إلى أحكام التشريع كما في عقد المحلل والعينة، وما جرى مجرى ذلك، نجد أن الشرع لم يعد يجيزها مع أن عقد التحرير ظاهرة الصحة فهو عقد لولي وشاهدين إلى غير ذلك، فالمسألة تنطلق من تقعيد شرعي هل في الشريعة قاعدة تجيز العقود الوهمية للوصول إلى مثل هذه المعاملات أم لا؟ هذا في الحقيقة إذا رأي أصحاب الفضيلة أن يغطى بمداولات أن رأوها جديرة. الشيخ عبد الله بن بيه: الحمد لله رب العالمين، اللهم صلى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. أولا: أعتقد أن الصيغة التي بين أيدينا يجب أن نحللها إلى جملة من العناصر: العنصر الأول: يتعلق بالتوكيل، وكما قال الشيخ عبد الله البسام: هذا عنصر ينبغي أن ينظر فيه فإن كون اليد قابضة دافعة مسألة من المعروف أنها لا تنبعي وإن كانت مبنية على قاعدة من قواعد الخلاف، وهي: تقبض اليد وتدفع معا، لأن المستأجر هنا قبض ودفع لنفسه كان وكيلا في بداية الأمر ثم تحولت النية وهي قاعدة أيضا أخرى ليصبح قابضا لنفسه هذه النقطة الأولى. ويجب أن نتجنب، إذا كان ذلك ممكنا، بأن يوكل شخص آخر على القبض أو يأخذ البنك أو يقبض البنك بنفسه. المسألة الثانية: مسألة الإيجار جائزة، الإيجار جائز يبقى العنصر الثالث الذي يؤثر على العنصر الثاني وهو وعد بالهبة، هذا الأمر ليس خطيرا أن يعد شخص شخصا بالهبة إذا فعل أمرا معينا، يمكن أن يخرج على وجهين: أن تكون إجارة وجعالة أو أن تكون إجارة، وهبة، بمعني: أن شخصا يقول لشخص إذا فعلت كذا فإني أهبك كذا، ويكون هذا الوعد ملزما على مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى، الذي يرى إلزام الوعد إذا اشتمل على توريط كما يقول خليل: وابن الوعد أن ورطها، إذا وعدها بالخلع ثم باعت دارها لذلك فإن الوعد يكون ملزما، وهو الذي قال فيه الزقاق: فيجب الوفاء بالوعد نعم أو لا نعم لسبب وإن لزم أي إذا كان يوجد سبب فهذا هو قول تفصيلي يكون الوعد لازما، ولمالك مستند من كتاب الله من قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ومستند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أنه وصف المنافق بأنه إذا وعد أخلف، فالعدة لازمة ولا أرى ضررا ولا محظورا في هذه المعاملة بهذا الشكل، نحن نعرف أن المحلل لم ينفق الفقهاء على فسخ نكاحه إذا تزوجها بعد المحلل لم يتفق الفقهاء على فسخ نكاح المحلل لم يتفقوا على فسخه، مالك قال بالفسخ، وقال غيره أبو حنيفة بعدم الفسخ على تقي، قال بعدم الفسخ في نكاح المحلل اعتبروا أن لعن النبي صلى الله عليه وسلم هو دليل على أن الفعل حرام وحرمة الفعل لا تدل عند أبي حنيفة على بطلان العقد، إذن بالرجوع إلى هذه العناصر وخصوصا بالرجوع إلى روح القضية وهي محاولة بالمصالحة بين الوضع الذي نعيش فيه والذي زج بنا فيه لأسباب خارجة عن إرادتنا لأننا نعيش ضمن عالم لا نتمكن من فرض إرادتنا، كما قلنا مع الأسف بالنظر إلى شيء من هذا يمكن أن تعتبر المعاملة سليمة إذا سلمت من العنصر الأول الذي يتعلق بعنصر التوكيل، وشكرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1477 الشيخ أحمد حمد الخليلي: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه. في الواقع العقود ينظر فيها إلى الأطراف المتعاقدة، ففي هذه القضية طرفان: الطرف الأول هو البنك والطرف الآخر هو المتعامل مع البنك أو المستأجر، فهذا المستأجر الذي استأجر هذه الآلة مثلا هل استأجرها لتكون ملكا لغيره أو استأجرها لأجل الغاية التي يطمح إليها وهي أن يوهب إياها فيما بعد؟ فهل من ناحية إذا سكتنا عن ناحية التوكيل وقلنا: إن البنك ما يتوكل وإنما بنفسه يؤجر هذه المعدات من أول الأمر للمستأجرين، وفي نفس الدخول في هذا المأزق حل آخر وهو أولى، أليس بالإمكان أن يكون البنك مراعيا لمتطلبات الناس باختلاف بلدانهم؟ فأصحاب الأعمال المختلفة يأتي لهم المعدات كما يأتي التجار البضائع المختلفة بحسب ما ينظرون إلى حاجات الناس في ظروفهم المختلفة، فالبنك يراعي هذه الناحية ثم يبيع ما يبيعه أقساطا بالأسعار التي يفرضها بنفسه ويربح من وراء هذه الأقساط، في هذا فيما يتبين لي إذا أمكن حل هذه المكلة الخروج من هذه المآزق، وشكرا لكم. الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم وأصلي وأسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. أردت بعد متابعتي للنقاش في كثير من الوجوه أن أبين أمرا أول: أنه بمجرد ما حرم الربا ظنوا أن تحريم الربا لا فرق بينه، أنه غير معقول المعني لأنه كالبيع، ذلك بأنهم {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} فإذا إنسان باع إلى أجل وللأجل حصة من الثمن فمعني ذلك أنه قد رجع من يده أكثر مما أعطي لكن جاء الجواب {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فالعقود إذا كانت سليمة وواضحة وتوفرت فيها كل الشروط الشرعية فهي عقود جائزة {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} وتورعا من الإمام مالك وممن كان معه في عصره من العلماء كانوا يخشون من كلمة حرام خشية كبرى ويقول: أكره هذا أو كان طلبته وتلاميذه يفهمون هذا على أنه حرام، فقضية تحريم معاملة من المعاملات هي من الخطر كقضية تحليل معاملة من المعاملات، كلاهما سواء، وكلاهما حكم شرعي يجب ألا يقدم عليه الإنسان إلا مع كامل الاحتياط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1478 يتساءل الشيخ الضرير وهو من كبار علمائنا يقول: هذه المعاملة بيعا بالتقسيط وما الحاجة إلى هذا وهل يعقد عقد بيع؟ هذا جائز صحيح إجارة الضمان فيه على البنك ليس على المستأجر، وهو عقد يختلف بذلك جوهريا عن عقد البيع فلماذا تشترطون علي وتريدون أن أقلب عقد البيع إلى الإجارة إلى عقد بيع، فهو عقد سليم جائز. فضيلة الشيخ أحمد جمال يقول: إن هذه العقود متداخلة وكيف لا نلجأ إلى الحيل والإشفاق على الأمة الإسلامية لا تنظر إليه، هذه وجهة نظر. ولكني أقول: إن الفقيه وهو ينظر في قضية من القضايا لا يستطيع أن يعطي حكما إذا لم ينظر في كل المعطيات المتاحة بين يديه وإن إغفال أي معطى من المعطيات هو لا يصل به إلى الحكم الصحيح الذي يحقق المصلحة للأمة الإسلامية، وأذكر في هذا أن الإمام القرافي يقول في التنقيح: إذا جاءك رجل مستفت من بلد فاسأله عن عرف بلده فإن الجمود عن المسطور في الكتب جهل بالدين وتنكر لهدي رب العالمين، فيما أظن هذا الكلام. أعتقد أنه لا بد ومن الضروري أن ننظر في وضعنا كأمة إسلامية وما عانيناه وما نعانيه وما سنعانيه فيما بعد، وكيف نستطيع أن نُخرج الأمة الإسلامية من وضعها هذا إلى وضع أفضل؟ أما ما تفضل به الشيخ عبد الله بن بيه وهو إمام في الفقه والأصول فإن اليد قابضة دافعة إنما هذا محله إذا كان في عقد واحد، فعقد واحد إذا كانت اليد قابضة دافعة فيه مقال، أما إذا توالى عقدان في زمنين مختلفين فإنه لا أعلم فيما أعلم أنه يوجد من يعترض على مثل هذه المعاملة. أما ما تفضل به الشيخ الخليلي من قلب البنك إلى تاجر مشتري ويبيع فإنه حسبما سمعت من البنك أنه عمل أنا كنت أتصوره الأول أنه يمكنه أن يفعل هذا قال: يا أخي أنا أشتري الباخرة ما أصنع بها وأشتري طائرة ما أصنع بها فالقضية ليست قضية مواد غذائية، ولا ملابس تشترى وتباع ولكنها قضايا أكبر من هذا وتجهيزات أساسية لدول، وهي لا يمكن أن تشترى وتباع إلا إذا ما توفرت فيها عدة ظروف ومعطيات يراعيها البنك في التعامل حتى يكون تعامله تعامل الرشيد ليس تعامل السفيه، فهذه بعض من النواحي التي أردت أن أوضحها، وشكرا لكم على الاستماع، والسلام عليكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1479 الرئيس: قبل أن نعطي الكلمة للشيخ مصطفى، هناك يظهر لي أنا في مسألة المعدات وإيجار ها أن هناك نوعا من المعدات إذا أخذ باسم عقد الإجارة فهو ثابت في العمل الذي استأجر له بحيث أنه يوضع ويركب بحيث لا يسوغ إزالته، ولو أزيل لأصابه الدمار، هذا لا أشكال فيه يأتي شيء من هذا القبيل، إذن يظهر لي من هذا أنه قد تتجلى الصورة بأن الإجارة أنها للوصول فقط ولذات مرادها، لأن صاحب المؤجر لو أراد استرجاع الآلة لكان من المتعذر والمستحيل إعادة هذه الآلة التي أصبحت مركبة في مبني أو في أي مشروع من المشاريع. الشيخ مصطفى الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم. فضيلة الرئيس أحب أن أضع بعض النقاط على الحروف لعلها تعطي ضوءا كافيا يقطع الخلاف وأحب أن أكون منصفا في القول كما هو الواقع. الواقع أننا لا نستطيع أن نجادل أو ننكر أن العملية في الحقيقة إجازة هي تغطية لغاية البيع لأن الإجارة تقسط أجورها أقساطا بما يعادل رأس المال زائد ربح وعلى مدى معين ولو أنها جعلت بيعها لبيع أيضا على طرق المرابحة للآمر بالشراء بيع أيضا برأس ماله، وربح مقسط إلى نفس الأقساط الواقع أن هذا هو مقصد البنك فلماذا الإجارة؟ كما سأل أخونا الدكتور الضرير، سأل هذا السؤال وهو سؤال وجيه بحق، لماذا الإجارة؟ ولماذا لا تجعل القضية من أساسها بيعا بمرابحة؟ وهذا موضوع السؤال الثالث، هناك موضوع بيع بالمرابحة وهو يغني عن هذه، هذا سؤال وارد، لكن الجواب الذي تفضل به رئيس البنك الدكتور أحمد محمد على أوضح مبررا لهذا، وهو أن النظم في البلاد تختلف فيما يتعلق بالضرائب فيما يتعلق بأمور أخرى يعني بعض البلاد يناشد أن يكون العقد الذي يجريه البنك على أساس إجارة تنتهي بملكية، وفي بعضها لا يناشد فيتخذ بيع المرابحة هذا جواب معقول في التفريق وإن كان في النتيجة في رأيي، وهذا لا نستطيع الجدال فيه، إن الغاية واحدة تكاد تكون فهي إذن مسايرة لبعض النظم التي لا يملكون فيها لا تغييرا ولا تبديلا فيكون أمامهم طريقان: أحدهما أمر من الآخر بحسب الظروف المحلية هذه ناحية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1480 الناحية الأخرى التساؤل أنه لماذا الوكالة؟ وقد تساءل عن هذا عدد من أصحاب الفضيلة الأساتذة الكرام كذلك، هذا سؤال وجيه أن يلقى، ولكن من عرف ملابسات الأمور في مثل هذه الأحوال ووضع البنك الحقيقي وأهدافه يجد المبرر، وذلك أن البنك الإسلامي للتنمية لا يستطيع أن يكون ككل تاجر يشتري منه أو يكون هناك من وعده ولكن هو يقوم فيفتش هو عن البضاعة ويتبع الأسواق، ثم يشتري ثم ينتظر من يشتري منه أو يكون هناك من وعده ولكن هو يقوم فيفتش، البنك الإسلامي يتعامل على نطاق واسع ومعاملاته كثيرة جدا فهو لا يستطيع أن يتتبع الأسواق وأن يعقد ويفتش عن المواصفات وعن وعن الخ.. لذلك هو مضطر أن يجعل صاحب الحاجة هو يفتش ويرى المواصفات وسائر حاجاته ثم بعد ذلك لكي يتحقق امتلاك البنك. البنك أيضا ليس عنده مجال أن يعقد صفقات مباشرة مع المصانع مع المعامل بنفسه، فهو يوكل صاحب المصلحة ليقوم عنه هذه المهمة والمقصود في النتيجة هذه المعدات تشتري للبنك، وهذا الوكيل الذي هو صاحب الحاجة الأصلي يقوم بهذه المهمة وهو يرى أنه لمصلحته يسهل الأمر على البنك لأن البنك إذا كلف أنه هو تولى العقود والصفقات لصرف النظر عن الموضوع ولحرم صاحب الحاجة من هذه المعاونة من البنك عن طريق المرابحة الوكالة، فلذلك الوكالة اللجوء إليها واضح السبب، وعلى هذا أرى أنه سبب غير مشروع سبب يتفقان عليه ويكون فيه صاحب الحاجة مقام البنك في أن يغنينا عن هذه المهمة. النقطة الأخرى وهي موضوع شرط الهبة، الواقع أن شرط الهبة هذا المقصود به يؤكد ما ذكرته أولا أن الحقيقة بين العقدين عن طريق الإجارة وعن طريق بيع المرابحة واحدة وأن اختلاف الأسلوب كما ذكر رئيس البنك بحسب اختلاف النظم في نواحي عديدة فيلجأون إلى هذه تارة وإلى تلك أخرى فهذه قضية تؤكد هذا المعني: أن المقصود أن يملك المستأجر هذه المعدات في النهاية ملكا مجانيا لأن البنك يكون قد استوفى رأس ماله مثل طريق بيع المرابحة، استوفى رأس ماله، واستوفى الربح المشروع الذي يرتبه عليه لقاء بيع بأجل، فلذلك يجب أن تنتهي العملية بملك المستأجر بلا ثمن فجعل هذا عن طريق الهبة، وإذا قيل: إن شرط الهبة هذا شرط صفقة في صفقة هذا يمكن أن يجاب عنه أولا بالمناسبة ما قيل عن المذهب الحنفي: أنه يرى الشروط المقرونة بالعقد باطلة أو مبطلة هذا غير صحيح، والحنفية يقسمون الشروط إلى ثلاثة أنواع: فشرط صحيح ملزم، وشرط فاسد مفسد، وشرط لا يؤثر على العقد كما هو معروف، فإذا الحنفية يمسكون السلم بالعرض ويقولون قول شرط لا يقبل لا، لكن قد يقال: إن شرط الهبة يعتبر شرط عقد في عقد يدخل في الظاهر تحت نهيه عليه السلام عن صفقتين بصفقة، ولكن هذا علاجه سهل جدا وهو بأن تصاغ الهبة لا بصورة شرط بل بصورة وعد إذا جعلت الهبة في صيغة وعد وليست في صيغة شرط فعندئذ ممكن، هذا يحل المشكل ويكون هذا الوعد ملزما بحسب قواعد المذهب المالكي في الوعود والحالات التي يكون فيها الوعد ملزما إذا دخل الموعود على المفتى به عندهم إذا دخل الموعود تحت التزام نتيجة للوعد، وهنا يدخل تحت التزام نتيجة للوعد ولذلك يدخل البنك تحت هذا الالتزام وعندئذ يكون الوعد ملزما ونخرجه على أساس أنه وعد بالهبة ملزم، أخذا بالمذهب المالكي، ملزم، ونحن لا نتقيد بمذهب معين حتى في المسألة الواحدة يمكن أن يؤخذ بعض حكمها من مذهب وبعض حكمها من مذهب آخر ما دام كلاهما وجيها، وبذلك أيضا تحل من هذا الطريق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1481 الرئيس: يا فضيلة الشيخ أنتم تذكرون في خطاب الضمان نصصنا في أحد صور خطابات الضمان فل العام الماضي في الدورة الثانية على جواز أخذ الأجرة الإدارية، وهذا أظن حقيقة مصرفية ليست محل بحث قضية الأجور الإدارية حقيقة مصرفية لا أحد يستطيع أن يأخذ فيها وأن الذي يريد أن يلتبس في المفاهيم هم يلتبسون في القرآن {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} ويتركون الباقي التلبيس باب مفتوح لكن الشأن في أننا لا ننازع الواقع طالما أن هناك مصاريف إدارية تأخذها البنوك ولا إشكال في إباحتها ولا أحد يقول فيها شيئا لكن كون الناس مثلا يفسرون هذا ويؤولونه، فنحن نتحوط في العبارة، والرقيب هو الله سبحانه وتعالى. الشيخ أحمد بازيع الياسين: اسمح لي لا بد أن أسجل هنا نقطة بصفتي أعمل في البنوك، هناك فروق بين البنوك التجارية وبين بنك التنمية الإسلامي فرق شاسع ولو أني حضرت حضوري للبنوك لما أقررت الخدمة الإدارية لأن البنوك لما يعرف الواحد تاريخها، وكيف التسلسل الذي مرت به فيه يرى من البداية كان الإنسان الذي يودع ماله في البنك يأخذ عليه أجرا ثم تطورت الأمور، ما أريد أن أطول في الموضوع إلى أن الإنسان الذي يعطي البنك ماله يعطيه فائدة على ذلك، أنا أخشى من خلال هذه النقطة في الحقيقة أن يتوسع الناس في الربا إذا قلنا لهم: إن لكم أن تأخذوا على المصاريف الإدارية أجرة، يا بنوك تجارية، قالوا: هذا ما نريده ثم ينفقون مع الآخرين ويقولون الأجرة 5 %، 10 %. الرئيس: في بيت التمويل لا تأخذون أجرة؟ الشيخ أحمد بازيع الياسين: لا أبدا. الرئيس: إدارية إطلاقا؟ الشيخ أحمد بازيع الياسين: إطلاقا لا في البنوك وجميع البنوك الإسلامية. لسنا متبرعين ولكن نحن متحوطين، نحن نخشى أن نقع في الربا "من حام حول الحمي يوشك أن يقع فيه" يجب أن نبتعد، وهذه النقطة خطيرة أتحفظ عليها ولا أوافق عليها، موضوع بنك التنمية الإسلامي، فهذا شيء آخر هو ليس كالبنوك وعمله مستقل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1482 الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: شكرا يا سيدي الرئيس.. إنني أوافق أخي وزميلي ممثل دولة الكويت على ما تفضل به سدا للذرائع الفاسدة فإن هذا خطر كبير جدا وكل شيء أوله يسير وآخره انحراف شديد وخطير، ولا يجوز لنا ونحن مجمع إسلامي عالمي، وكلمتنا فصل في هذا الموضوع أن نفتي بهذا، وإني أتحفظ على أخذ أجر، أتحفظ، وأرجو أن يكتب تحفظي موازيا ومنجمعا إلى تحفظ الأستاذ ممثل دولة الكويت وشكرا. الرئيس: يا شيخ عبد اللطيف هل تحفظتم في خطاب الضمان على منع الأجور الإدارية؟ أنا أقول لم تتحفظوا. الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: أنا أقول: إني تحفظت شفويا ولم يكتب ذلك. الرئيس: على كل أنا أرى شيئا واحدا وهو أنه بالنسبة للنقطة الأولى فإن لجنة الصياغة، وهم من الأعضاء والذين صار لهم مداولات إذا اجتمعوا فمن خلال هذه المداولات يمكن أن يأتونا بنص تتلافى فيه هذه المحاذير أو أن تحذف مرة واحدة، الشيء الذي يتوصلون إليه طالما أن الاتجاه العام للجواز لا إشكال ولكن هناك لمسات جيدة وإن رأيتم أن ينضم إلى اللجنة لهذا العنصر خاصة الشيخ أحمد فهو مناسب. وشكرا. ما بعد ذلك كون أننا نوجه البنك بأن يأخذها مبالغ مقطوعة أو أن يأخذها نسبا وما جرى مجرى ذلك الذي يظهر قد ترون مناسبا أننا نترك التفصيل والدخول في لجة هذه الأمور لأننا طالما قعدنا قاعدة، وهو أنه لا يجوز للبنك، أي للمصرف أن يأخذ أكثر من قيمة التكاليف الفعلية وأجور المثل للتكاليف الفعلية أو الخدمات الفعلية فكون أنه مقابل خدماته الفعلية وأجور المثل للخدمات الفعلية كونه يأخذها مقطوعة أو يجعلها نسبا، أو ما جرى مجرى ذلك حسب تعامله مع المقترض هذا أمر مفوض إليه، فنحن لا ندخل في لجة هذه الأمور ونتركها لأن الذي يقول: يجوز، أنه يجزئها على خمس سنوات، لا شك أنه يقول: إنه يجوز له أن يأخذها مقطوعة، هذا لا إشكال، ولهذا فإن من باب الاحتياط وأن لا ندخل في التصرفات الداخلية طالما أننا نجعل القواعد ونرسم الأصول، فقد ترون مناسبا أن يكتفي بهذه الأصول الثلاثة وهي: أن كل قرض جر نفعا فهو ربا، فلا يجوز أخذ الزيادة وأنه لا يجوز أخذ أكثر من أجور المثل أو مقابل التكاليف للخدمات الفعلية، والثالث ما سيجري البحث فيه وتكييفه لدى لجنة الصياغة بانضمام الشيخ أحمد البازيع إليهم في الأجور الإدارية. وبهذا ينتهي وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومعذرة لصاحب السمو من الإطالة وترفع الجلسة، وشكرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1483 بعد الصلاة الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم.. نستأنف جلستنا هذه … الشيخ مختار السؤال الثاني. الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم.. ونصلى ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. الموضوع الثاني هو عملية الإجارة ويتمثل هذا النشاط من البنك الإسلامي في أنه يتلقى طلبا من دولة من الدول ليؤجر لها البنك طائرة مثلا أو باخرة أو شيئا مثل هذا من التجهيزات الأساسية للدولة، وبعدد الدراسة الأولية والموافقة على المشروع، يرى البنك أن في هذا المشروع فائدة للدولة الطالبة حسب خبرائه إذاك يتفق البنك مع الجهة المستفيدة بأن يوكلها لشراء المعدات المطلوبة، فيقوم مثلا بعقد بيع من الصانع إلى البنك، والذي يتولى هذه العملية هي الجهة المستفيدة حتى تحقق المواصفات التي ترغب فيها وعندما يتم تجهيز الطلب يدفع البنك الثمن للصانع ثم بعد ذلك يؤجر البنك إلى الدولة المتعاقد معها المعدات بثمن هو حاصل رأس المال والربح المتفق عليه موزعا على سنوات وبانتهاء السنوات المتفق عليها في الإيجار عرض البنك أنه يبيع المعدات إلى الدولة المستأجرة بثمن رمزي وأن المستأجر يؤمن على المعدات وعلى حصوله … الشيخ مصطفى الزرقاء: قد تكون أدوات ثبتت في الأرض ولا يمكن نزعها، كما أن البنك لا يريد أن يدخل في دعاوى من هذا القبيل، فإذن اللجوء إلى الإجارة ليس هو بنفس الدافع الذي تلجأ إليه الشركات في ظل القوانين الوضعية وإنما هو لغاية أخرى لها مبررها ومعقوليتها وباختلاف النظم، وما تستدعيه من أن يلجأ إلى الإجارة تارة وإلى البيع أخرى، ولذلك من حيث النتيجة أنا لا أرى بأسا في الصيغة هذه كلها على أن تصاغ الهبة بصيغة الوعد بالهبة لا بصيغة شرط، وشكرا. الشيخ تقي العثماني: بسم الله الرحمن الرحيم.. الذي جعل هذا العقد أشبه بالحيلة منه بالعقد الجاد هو شطب جملة في آخر هذا العقد، فالذي أريد أن أسأل أصحاب البنك وهل من الممكن أن يلغى هذا الشرط ويكون العقد مشتملا على الوكالة على النية فقط؟ ثم بعد انتهاء مدة الإجارة يكون من الخيار للبنك إن شاء استعاد ما أمكن وإن شاء تركه للجهة المستفيدة، فهذا ممكن أو لا عملا؟ وشكرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1484 مناقش: الحقيقة لا أرى بأسا من ذلك، وإذا كان أصحاب الفضيلة يرون أنه إذا عدل على أن يكون وعدا وليس عقدا بالهبة أعتقد أن هذا أيضا يكون مناسبا باعتبار أن العمل هنا عمل مؤسسة دولية مع دولة أخرى، إذا أمكن أن يكون وعد، فهذا أفضل وتكون الأمور أوضح. الشيخ عبد الله البسام: هو عندي نقطتان باختصار جدا: الأولى: أني ما أدرى الإخوان المجيبون هم أهملوا نقطة وهي ذكر مدة الإجارة لأن الإجارة هذه لا بد لها من مدة فلا بد من ذكرها، الفقهاء ذكروا أن مدة الإجارة هذه قد تطول ما دامت العين موجودة، وبهذا يكون هذا يصح مثلا أن تكون مدة الإجارة مثلا يقدرونها بالمدة التي تصل إلى درجة إلى الوقت الذي تنتهي فيه مدة الإجارة ويأتي وعد الهبة وإذا قلنا وهو قول جمهورنا: إن الإجارة عقد لازم ذهب عنا، ما تسائل سماحة الرئيس من إمكان الرجوع في المعدات بعد تثبتها، ما دام قلنا: إن الإجارة عقد لازم من الطرفين، وإنه لا يجوز إيجار معناه أن هذا العقد سيتسمر إلى نهاية الحاجة من هذه الآلة المجعولة (إلى نهاية المدة) ، وهذه المدة نقدرها بنهاية العمل (الحاجة من هذه الآلة) ، أنا أرى أنه ليس هناك مانع من ذكر الوعد كما هو مذهب الإمام مالك واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وقول الإمام أحمد اختار كثير من مشايخنا أن الوعد يجب الوفاء به {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فأنا ما أرى مانعا من ذكر هذه الصيغة وتكون لازمة من جانب البنك. الرئيس: مع تقديري لكلام فضيلتكم الوعد لم يأت ابتداء وإنما أتي اجترارا لهذا العقد الموجود الذي تكيف وكالة ثم إجارة. الشيخ عبد الله البسام: المستفيد لا يلزم البنك بهذا وإنما تكرما من البنك ومحافظة على هذه الآلة حتى لا يرهقها في مدة قصيرة، محافظة لهذا ورعاية لهذا يعمد البنك بأنه يعد المستفيد بأنه بعد المدة الفلانية التي يحددونها أنه سيهبها له. الرئيس: لكن إذا كانت الآلة ثابتة بحيث لا يمكن إزالتها بعد، وهي إنما حازها بناء على الإجارة لا على التملك فكيف يصدق عليها أنها إجارة، هذا سؤال لعله وارد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1485 الشيخ عبد الله البسام: إذا قلنا: إن العقد لازم من الطرفين لا نؤجر ولا نستأجر ما يستطيعون حال هذا العقد إلا باتفاقهما. الرئيس: لكن هو لمدة معينة ولذلك منصوص في نفس الصفحة هنا مقسطا على سنوات معينة. الشيخ عبد الله البسام: مدة معينة أن يجعلها المؤجر والمستأجر يمدونها بحيث حتى تنتهي هذه الآلة. الرئيس: ما تنتهي هنا الآلة. الشيخ عبد الله البسام: ينتهي الغرض منها. الرئيس: الغرض منها قد يستمر سنين طويلة لا حد لها. الشيخ عبد الله البسام: لها حدود مدة معينة أو سنوية بمدة معينة. الرئيس: المدة موجودة، هذا الذي تساءلت عنه هو في آخر الصفحة مقسط على سنوات معينة فقط، معينة لا إشكال فيها، لكن نفس الإيجار مع الربح مقسط على سنوات معينة فأنا أقول: هذه الآلة التي يسوغ إزالتها عن مكانها بحال من الأحوال بحيث إنه إذا أزيلت فإنها تكون تلفا على المشروع وتلفا للآلة نفسها فكيف نسميها إجارة؟ الشيخ عبد الله البسام: الحكر في الحجاز وفي غير الحجاز والصبر في نجد ما هي إجارة. الرئيس: تعرفهم أنه مستوفى أن القيمة مستوفى تقديمها بقي إلا شيء رمزي. الشيخ عبد الله البسام: لهذا يحددون لها مدة لتصحيح العقد إلى خمسمائة عام، شكرا. معالي الدكتور أحمد محمد علي: شكرا سماحة الشيخ الحقيقة دوما في عقود الإيجار التي يبرمها البنك، فيسعي إلى أن تكون العين المؤجرة لها دور تقوم بذاته في المصنع وممكن أيضا فصله مثلا، ممكن تكون غلاية في أغلب الأحيان قد تكون سفن، قد تكون قاطرات. قد تكون مركبات قاطرات، وقد تكون في بعض الأحيان معدات في المصانع، ولكن يكون لها وظيفة قائمة بذاتها، ممكن إن تكرمتم الدكتور فاتح يشرح هذه النقطة بالذات دائما يسعى في عقود التأجير أن تكون الآلة لها صفة قائمة بذاتها. الرئيس: تفضل يا أستاذ فاتح مع الإيجاز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1486 الدكتور فاتح خان: شكرا سيدي الرئيس … بسم الله الرحمن الرحيم. أحب أن أشير إلى شرط في جميع مشروعات العقود، عقود الإيجار التي يقوم بها البنك، هذا الشرط ينص على الآتي: لا يجوز للمستأجر بدون موافقة المؤجر المسبقة كتابة أن يثبت المعدات على أي أرض أو مبان بحيث لا يمكن فصلها عن تلك الأرض أو المباني دون تلف أو تغير في هيئتها، ويتعهد المستأجر بأن يتخذ كل الترتيبات اللازمة التي تمنع نقل ملكية المعدات لمالك تلك الأرض أو المباني، شكرا سيدي الرئيس. الرئيس: في الواقع مع معذرتي لجميع الإخوان المشايخ لا شك عندي بأن تصوير الاستفسارات أنه قاصر، فالمفروض أنه في هذه الاستفسارات التي وضعت أمامنا لأن الحكم فرع التصور ومعني هذا أن الاستفسارات ينبغي أن تحمل جميع التصورات لهذه المعاملة القائمة بذاتها. الآن من خلال هذه المناقشة البسيطة تبين لنا ما لم يذكر ويصور في هذا السؤال، ولهذا فالحقيقة يا مشايخ نحن نجد حرجا، وتعرفون أنه في الدورة الماضية، إن لم نقل جميع الاستفسارات فهو أغلبها كان التصور لها على خلاف ما كان يعمل عليه البنك، ولهذا كونت لجنة في نفس الدورة فوصلوا إلى تصور ثم اجتمعت اللجنة الأخيرة التي أبدت جهودا لا تنكر وهي آخر لجنة انعقدت في رجب أو في شعبان أو في شوال عند معالي الشيخ في البنك ثم أبدت التصور الأخير، وعلى الرغم من هذا فإنه لا يزال ثمة نواقص ونحن يتعذر علينا تعذرا كاملا أن نفتي في مسألة أو استفتاء أو استفسار لم يكن مستكملا للتصور لأنه قد يكون هناك نقطة أهملت وهي تنسف الموضوع نسفا وقد تكون هناك نقطة أهملت، وهي تبرر الموضوع ليكون شرعيا، وفوت الأمور هو من طبيعة البشر ولا شك، لأن أمثال هذه الأمور هي عمليات حسابية مصرفية، عقود تتلاحق عليها عدة عقود، وفيها شيء من التعقيد وتحتاج إلى إعمال الذهن، فلهذا نحن في جلستنا هذه ننهي المناقشة ونستأنف الجلسة المسائية بإذن الله تعالى، وسوف يكون الاستئناف في الجلسة المسائية في الاستفسار الثالث لأن فيه تشابها حتى نربط بين الاستفسار الثاني والثالث وعلى ضوئه إن شاء الله تعالى نتوصل إلى نتيجة، وشكرا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1487 الجلسة المسائية الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ونفتتح مستعينين بالله تعالى هذه الجلسة المسائية والتي كان من المفترض فيها أن تكون لزكاة الأسهم في الشركات ولبحث توظيف الزكاة، إلا أنه نظرا لامتداد البحث في استفسارات البنك الإسلامي للتنمية فإننا سنواصل في جلستنا هذه بإذن الله تعالى العرض والمداولة لاستفسارات البنك الإسلامي للتنمية. وأرجو أمرين: الأمر الأول: أنه إذا أخذ المشايخ الكلمة يدخل في الموضوع مباشرة ورجائي إعفاؤنا من المقدمات التي لا معنى لها، تضيع لنا الوقت. الشيء الثاني: الإيجاز ما أمكن. الأمر الثالث: إذا تكرمت وأرجو المعذرة أنه لا داعي للتعقيبات التي قد تبدو هناك حساسية في بعض الأشياء يعني ينبغي أن قيمتنا الأدبية أكبر من هذا الشيء، نغتفرها ونسير فيكون عملنا موضوعيا ونترك المناقشة الجانبية، وأرجو المعذرة في هذا الشيء وأرجو من فضيلة الشيخ المختار أن يتفضل في الاستفسار الثالث. الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب. الموضوع الثالث: وإن كنا لم نكمل الحديث في الموضوع الثاني وهما لا تلازم بينهما بل يصح أن تتمثل "أيها المنكح الثريا سهيلا" هو الوعد بالشراء، الوعد بالشراء هو أن دولة من الدول ترغب من البنك أن يشتري لها أمرا ثم يبيعها بعد ذلك فيقع العقد على النحو التالي بعد أن يتأكد البنك من صلاحية الطلب لاقتصاد الدولة الطالبة إذ ذاك يقع وعد بشراء المعدات، أو بشراء ما يرغب في شرائه، بين البنك وبين الجهة المستفيدة، أي الدولة الراغبة في الشراء، وبعد هذا الوعد يوكل البنك وبين الجهة المستفيدة أي الدولة الراغبة في الشراء، وبعد هذا الوعد يوكل البنك الراغب في القيام نيابة عنه بالشراء ومتابعة العملية إلى تمامها حتى يكون ما وعد بشرائه وما تم العقد على شرائه كاملا جاهزا لا نقص فيه بعد أن يتسلم الوكيل المعدات وتكون سليمة يبرم عقد بيع بين البنك وبين الجهة المستفيدة بثمن معين هو حاصل ثمن الشراء مضاف إليه الربح ويقسط هذا الثمن العام على آجال تتراوح بين ثلاث سنوات وعشر سنوات فهي إذا ثلاث عقود. العقد الأول: هو وعد بالشراء. العقد الثاني: هو توكيل. العقد الثالث: هو بيع من البنك إلى الجهة المستفيدة. وقد رأت اللجنة بعد البحث والتأمل أن هذه العقود الثلاثة هي عقود سائغة، ولكنهم يؤكدون على الفصل بين عقد الوكالة وبين عقد البيع، وكذلك الوعد بالشراء فكل عقد هو على انفراد، وقد أنجزنا، وهذا ما لم أقله في الصباح، تطبيق التوصيات كلها على العقود فكانت العقود غير مستجيبة للتوصيات التي قمنا بها، فقمنا بتحرير العقود على أساس الاستجابة للملاحظة الشرعية التي رأيناها، وشكرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1488 الشيخ إبراهيم الغويل: سيدي الرئيس أنا أود أن أدخل إلى الموضوع مباشرة ولكنني أود أن أقدم لذلك ملاحظة أو ملاحظتين ثم أقترح اقتراحا عمليا. الملاحظة التي خطرت لي وأنا أقرأ السؤال الثاني، وهذا السؤال هو أن تجزئة كل عملية إلى عدة عقود أعتقد أنه لا يفيد كثيرا في تجنب النتيجة التي نراها جميعا وهي أن العمليات بالخلاصة وبالأخير هي نفس العمليات التي تجريها المصارف فكأننا نحاول أن ندخل هذه الترتيبات وهذه التوزيعات وهذه التجزئات لنصل في الأخير إلى قرار بأن ما تجربه المصارف في العادة هو صحيح، أعتقد أن الأمر الأولى أن نواجه المشكلة مباشرة هذه تصرفات توجد لدى المصارف نقبلها أو لا نقبلها، إنما محاولة جعلها أجزاء وكل جزء صحيح وفقا للعقد الفلاني، ثم الانتهاء في الأخير إلى القرار بأنها صحيحة هو واحد إذا أردنا أن نقر العمليات المصرفية أو البنكية كما هي فلنقرها إن لم يرد ذلك، فأعتقد أن نواجه هذا الأمر بشكل أوضح، ولاحظت أيضا ولا بد أن أعود لهذه الملاحظة أن هناك في كثير من الأحيان نوعا من التصورات لهذه المعاملات على غير ما هو معروف في العالم المعاصر، مثلا كأن قال يعني في السؤال الثاني بأن التقرير الواقع غير ممكن أنا أعرف بحكم أن لدى مكتبا استشاريا والمكاتب الاستشارية أو مكاتب الخبرة تعرف ثلاثة أنواع من المعاملات في التقديرات فنحن لدينا نظام يقول: إن هناك اشتراكا محددا أو ما نسميه "الاشتراك الثابت" أو هناك طريقة أخرى في التقدير تقوم على عدد الساعات ومن نخصصه لمتابعة أمر من الأمور ونعرف ذلك بدقة وفقا للساعات وللجهد المبذول وهناك طريقة أخرى نسميها طريقة "النسب" والطرق الثلاث تختلف عندنا في المكاتب الاستشارية، ودور الخبرة اختلافا واضحا بينا صريحا معروفا وفقا لأنظمة المحاسبات العصرية، ولقد استغربت صباح اليوم أن يشار أن البنك يرى أن أعمال النسبة وعدم إمكانية التقدير يسيران معا، لا أعتقد أن ذلك ما نعرفه نحن في مكاتب الاستشارات ومكاتب الخبرة، ولكن تغلبتم على هذه المشكلة حينما أشرتم إلى أجر المثل ولا بد من ضبط هذه الأمور وفقا لأسس محاسبية معروفة وروح العصر الذي نعيش فيه. لذلك لدي اقتراح عملي أن مثل هذه الأسئلة لكي تضبط ضبطا دقيقا وتناقش بدقة أكثر لابد أن تدرس ضمن نظرة كاملة لنظام اقتصادي إسلامي، اقتراحي العملي الذي أرجوه وأقترحه أنه وفقا لهذا المجمع ومن الممكن أيضا بالتعاون مع البنك الإسلامي أن ندعي إلى ندوة علمية بين متخصصين في الاقتصاد العالمي من الاقتصاديين الإسلاميين ومع فقهاء لمناقشة هذه الأمور بنظرة أوسع حول نظام اقتصادي جديد يقوم على أسس إسلامية إنما هذه التأويلات يؤسفني أنها … أقول أن تذكرني أنه قيل يوما حينما أراد بنو إسرائيل أن يتخلصوا من عبء ما تصوروه من تآمر على عيسى عليه السلام فقالوا لنترك للرومان أن يحاكموه ولنطلب لصانع الصليب أن يصنع صليبا دون أن يعرف وليحمل الصليب طفل صغير ولينفذ الحكم أناس غير إسرائيليين وبتوزيع المسؤولية نخلص منها بالتمام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1489 أنا لا أرى أن الطريقة المثلى في معالجة هذه القضايا أن نوزع العقود ونتأولها ثم ننتهي لنفس النتيجة، وهو إقرار النظام المصرفي الغربي الرأس مالي كما هو لذلك أعتقد أن الحل العلمي أن يدعى إلى ندوة علمية يحضرها اقتصاديون يشرحون الأمور الاقتصادية يشرحون الأمور المحاسبية تناقش بدقة تفصيلية ويكون هناك اقتصاديون مسلمون ويكون هناك المجموعة المكلفة من هذا المجمع الكريم. ولذلك مع كل اعتذاري ودون محاولة لجعل الأمر كما يقولون كأنه يحول من وقت إلى وقت ولكن هذه الأسئلة ومعالجتها بهذه الطريقة لا أعتقد أن هذه هي المعالجة المثلى على الأقل من وجهة نظري. اقتراحي الذي أقدمه أن مثل هذه الأسئلة تناقش ضمن إطار كلي لنظرة اقتصادية إسلامية تعالج الأمور من جذورها، وشكرا. الشيخ وهبة الزحيلي: بسم الله الرحمن الرحيم. ما زلت أؤكد ما قلته في الصباح عن الاستفسار الثاني بأن هذا المجموع من العقود التي ظاهرها الصحة يراد بها الاحتيال إلى التوصل إلى ما هو مشروع في الظاهر وهو فاسد وباطل في الحقيقة والباطن. ولذلك أؤكد ما قلته في الصباح وأجعل العمليتين حكمهما واحدا، وأوجه الشكر لمعالي السيد الرئيس حيث ربط بين الموضوعين ربطا علميا دقيقا لأن الحكم فيهما واحد، وأيضا الذي أؤكد وأثني على ما اقترحه الأستاذ الغويل في أن مثل هذه الأمور لا يصح أن تعالج بهذه الطرق التي لا تخفى عن العوامل، وسرعان ما يتهموننا أننا كما يقول ابن القيم عندما يصف الذين يقولون بالحيل: قال أرباب الحيل فنحن أصبحنا تماما أرباب حيل، ونحن لا نعارض ما يريده إخوتنا من التنمية والنشاط والتصدي للحياة الحاضرة، ولكن نحن نعارضهم في الأسلوب نحن معهم أكثر تحمسا في الوصول إلى الأهداف التي يرجونها، لكن من طريق الحلال لا من طريق الحرام، فنحن لا نقر الواقع الظالم والشر ونعالج الشر بشر مثله، لأننا عجزنا عن أن نجد مخرجا إسلاميا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1490 واقترح الأستاذ الدكتور الصديق الضرير الزميل الفاضل أن نبسط هذه الأمور ونجعل بدل هذه الثلاثة عقود في كل زمرة زمرة ونجعل صورة واحدة، والبنك يعرض هذا الشيء على الناس فمن يريد قبوله هو يتحكم فيما يريد هو الطرف الأقوى وهو الذي يحتاجه المقترضون فهو الذي يحدد من خلال عقد واحد كالبيع بالتقسيط الذي لا غبار على مشروعيته في البنك الإسلامي عندئذ يمكن أن نتوصل إلى هذه النتيجة ولا داعي للتأقلم أو الدخول في هذه المتاهات أو القول: إن الوعد جائز وملزم عند الإمام مالك وهل ينازع أحد كما تفضل السيد الرئيس، هذا ابتداء لكن أن يكون من خلال عقد آخر لم يقل به أحد من فقهاء الإسلام. الوعد ملزم عند الإمام مالك ونحترمه ولكن ليس هذا في صورة عقد، كذلك أن نربط عقدا بعقد. والحقيقة الطرفان العاقدان هما اثنان فقط والعقد الأول والثاني والثالث بين طرفين، وإنما هي محاولة لعبور جسر عبور من مرحلة إلى مرحلة والوصول إلى النتيجة الظالمة، وهي الوقوع في الربا شئنا أم أبينا ولا يعد هذا عرقلة منا للنظام الذي يراد نجاحه، فنحن أشد الناس حماسا لإنجاح نظام البنوك الإسلامية والمصارف الإسلامية والمنشآت الإسلامية وأن نحول الناس من الإقبال على البنوك الربوية إلى طريقة إسلامية سليمة ومنهجية، نحن إذن نحاول العثور على الحل الذي يتفق مع الأحكام الشرعية، هذه مهمتنا والله ولي التوفيق، وشكرا. الشيخ محمد سالم بن عبد الودود: بسم الله الرحمن الرحيم. الحقيقة: هذه الصورة أو الصورتان بالنسبة للفقه المالكي وأنا لا أقول: مالكي بالنسبة للمذهب المالكي ولكني مالكي المدرسة من الباب الذي يسميه المالكية العينة، وهو اشتر لي سلعة فلان بكذا وآخذها منك بكذا، اشترها لي بعشرة نقدا وآخذها باثني عشر، وهذا نوع من العقود المحرمة عندهم تحريما لا غبار عليه، فإذا قال الآمر: اشترها لي بعشرة نقدا أخذها باثني عشر بأجل فهذا الحرام البين عند المالكية، وتلزم الأمر بالثمن الذي اتفق عليه المأمور مع المالك ولا يكون للمأمور شيء في هذه الحالة، وفي بعض التفصيلات الفصل يلزم للمأمور سمسرة مثله فإذا قالت الدولة للبنك اشتر لنا كمية من البواخر أو من الطائرات أو من المعدات بمبلغ كذا ونحن نشتريها منك، فهذا من العينة المحرمة عند المالكية، أما إذا جاءت الدولة إلى البنك تقول: أنا محتاجة إلى عدد كذا من الأدوات، يقول: بكم تشتريها؟ تقول الدولة: بكذا فيقول: بعد شهر خابريني والبنك يشتري على ذمته وعلى مسؤوليته فإذا جاءت إليه المعدات تشتريها الدولة بعقد منفصل تماما وليس وعدا بالشراء، فهذا يجوز وهو ما صدر به المالكية الكلام، عن العينة بقولهم: جاء لمطلوب منه سلعة أن يشتريها ليبيعها بنماء، فينبغي أن لا نخلط بين الصور الجائزة والصور المحظورة ونتكئ على المذهب المالكي ونقول: هذا وعد يلزم عند المالكية، المالكية هم أبعد الناس من الحيل، وهذا خلاصة مذهبهم في الموضوع، وشكرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1491 الرئيس: في الواقع معالي الشيخ أحمد علي … في الواقع الموضوع هو مطروح من قبل معاليكم وفي الحقيقة ليس موضوع معاليكم، وموضوع البنك هو موضوعنا جميعا لأن الوجهة الشرعية هي تهم الجميع، ونحن نعايشكم في همومكم وفي مهماتكم إلا أن من خلال المداولة في الاستفسار الثاني ومبادئ المداولة في الاستفسار الثالث يبدو أن هناك شبه اتجاه عام إلى التوقف أو المنع، ونحن حفاظا على قيمة البنك وإن لا يصدر ما يؤثر عليه وإن تكون القرارات التي تصدر هي قرارات شرعية متمحضة فإن معاليكم بصفتكم أصحاب الشأن قد ترون مناسبا وجهة النظر التي تفضل بها بعض الإخوان وثني عليها آخرون بأن يؤلف لجنة فيها فقهاء، لكن عصب هذه اللجنة هم اقتصاديون إسلاميون متخصصون معروفون بتخصصهم الدقيق في الأمور الحسابية والمصرفية ودراستهم الإسلامية ويشاركهم فقهاء من هذا المجمع، وعلى ضوئه يعد تقرير، ويوجهون بأن ما يتصلون فيه بعد تسجيل هذه المداولات لهم، ما يتصلون فيه أنه عقد فيه شائبة الحرمة أو شائبة الربا فإنهم يجدون بديلا لنا وعلى ضوء هذا في نظري أنه يجنب البنك، أي علامة استفهام أو تعثر ويحفظ همة الجميع، وعهدنا في معاليكم أنكم نحن ما جئنا نطلب منكم، أنتم الذين تطوعتم بدافع من دينكم وإسلامكم وغيرتكم الدينية في مجال الاقتصاد الإسلامي فقد ترون هذا مناسبا وإن شاء الله تعالى كل آت قريب وهذا لا يؤثر في الموضوع شيئا وإنما يدل على نفاذ البصيرة ويدل على التأني في طلب الحق يعني ما أدري عن نظر معاليكم في هذا الشيء. معالي الدكتور أحمد محمد علي: شكرا معالي الرئيس.. هذا الأمر متروك لكم كما ذكرتم، البنك اقترح هذه الأسئلة وتفضلتم بتكوين لجنة في الاجتماع السابق وحدث الاجتماع الذي أشرتم إليه وقدم لكم تقرير لجنة الذي ترتؤون في شأن هذا راجع لكم بالكامل أي شيء ترتؤونه أنتم. الرئيس: قصدي أن نختصر الوقت ونتلافى كثرة المناقشات والتصويت لأن الموضوعات التي كانت مرتبة في المساء فاتت علينا، المهم أننا ننتج سواء كان في استفسارات البنك أو في غيرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1492 الشيخ عبد العزيز الخياط: بسم الله الرحمن الرحيم.. أعتقد أنه لا بد من أن نخرج من هذا الاستفسار برأي ما دام قد طرح للإخوة العلماء الأفاضل هذه واحدة، والشيء الثاني هناك اقتراح مقدم من اللجنة التي درست هذا الموضوع وهذا الاقتراح اعترض عليه بعض الإخوة اعترضوا أنه لا يجوز تفتيت العقد في مثل هذه العملية عقد توكيل وعقد بيع من البنك، أرى في رأيي أنه لو بحثناها من وجهة نظر أخرى صوبناها من وجهة نظر أخرى بأن ننزلها على بيع مرابحة فيكون هناك وعد بالشراء هذا الوعد سواء كان ملزما على رأي الإمام مالك أو غير ملزم إنما يقوم البنك بشراء هذه المعدات اللازمة وبعدئذ يبيعها بعقد ثان لمن طلبها أو وعد بشرائها بيع مرابحة بالربح الذي يراه أو بالتقسيط الذي يراه وشكرا. الشيخ المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم.. أعتقد أننا وصلنا في الصباح إلى نقطة هي التي بقيت محل سؤال هي أنه هل تقرن الهبة بالعقد أو لا تقرن، ولما طلبت الكلمة منكم في الصباح لأقرأ عليكم نص الفصل الثالث عشر الذي هو وعد بالهبة وليس فيه هبة كاملا، لأن نص الفصل الثالث عشر يقول: هبة المعدات المستأجرة إذا لم تلحق بالمعدات خسارة شاملة ولم يكن المستأجر مخلا أو مقصرا في أي من التزاماته المقررة بموجب هذه الاتفاقية يقوم المؤجر في أول يوم عمل يعقب تاريخ أداء آخر قسط من أقساط الإيجار بنقل ملكية المعدات إلى المستأجر على أساس الهبة فقلت في كلمتي: إن هذه التوصيات أو هذه الملاحظات التي لاحظناها حاولنا أن نجعل العقود متناسبة معها وانتهينا في الصباح إلى أن هذه العقود وهي مفرقة كل عقد على انفراد لا يستطيع أي منا أن يدعي حرمته وإنما تجاوز ذلك إلى أنه لا يطمئن إليه أو في نفسه منه شيء ما أعتقد أن الأحكام تعود إلى ما في النفس من شيء ولكن الأحكام مبنية على الدليل، قضية ما جاء اليوم من وعد بالشراء ثم توكيل بالشراء ثم بيع المعدات بعد ذلك هذا أمر إذا نظرنا للعقود الثلاثة فإن كان الإمام مالك فعلا، وقد نص على هذا حافظ المذهب ابن رشد، ومنه نقل خليل على هذه الصورة، لكن ليس مذهب مالك هو المذهب الوحيد بل من العلماء من الشافعية من يجوز هذه العقود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1493 فإذا كان العقد جائزا وإذا كانت العقود كل عقد على انفراد وهو عقد جائز فما معني أن هذه العقود؟ لأننا لم نألفها وشأن الشخص إذا لم يألف عقدا أو لم يألف شيئا تقع بينه وبينه جفوة، والعبرة بالعقود في صيغتها وفي اشتمالها على كافة الأركان والشروط، فعلينا إذن كل شخص يريد أن يناقش لكن حبذا أن تكون المناقشة مناقشة علمية على أن هذا العقد فيه من العيوب كذا وكذا وكذا ولذلك فهو غير مقبول شرعا، ونتناقش على أساس، أما أن هذه العقود في النفس منها شيء وهذا تحايل وهذا كذا، فهذه تهم أعتقد أنه من الأفضل إذا أرادنا أن نسلك هذا العمل بجدية ألا يكون العمل والطريقة هي هذه الطريقة، وطريقة التأجيل والتأجيل والتأجيل هي ليست طريقة ثانية وإنما هي طريق للهروب من مواجهة المشاكل، وشكرا. الرئيس: في الواقع إن من خلال التجربة في هذا الموضوع على وجه الخصوص تعرفون أنه طرح في المجمع في الدورة الماضية فكونت لجنة منبثقة من نفس المجمع، ثم عرض قرارها أو تصوراتها في آخر الدورة فوجد أن ما تصور أخيرا كشف لنا أمورا كانت غائبة قبل، ثم كانت اللجنة التي فيها أصحاب الفضيلة المشايخ التي انعقدت في شوال في مقر البنك في جدة ثم حصل من التصورات أكثر وأدق مما كان عليه قبل ثم من خلال المناقشة في الجلسة الصباحية حصل أن هناك نقطة لم تدون في السؤال الثاني، ولا شك أن مثل هذه لها تأثير سلب أو إيجاب، ولهذا فإن موضوع تأليف اللجنة هي ليست لجنة عائمة أو لجنة مطلقة كذا، وإنما لجنة متخصصة من الذين حضروا هذه المداولات وعرفوا التوجيهات ووجهات الآراء، ومن المتخصصين العارفين بالمصارف وأحكامها وطرقها والمحاسبات فيها وعلى ضوء هذا يظهر أنه سيكون هناك جلاء في النتيجة التي ستعرض عليكم فيما بعد إن شاء الله تعالى، ولهذا فإنني نظرا لقرب صلاة المغرب وأن معالي رئيس البنك لا يرى مانعا، متى ما توجه المشايخ إلى هذا فأرجو إشارة أصحاب المشايخ بأيديهم الذين يرون التأجيل بأن يوكل إلى لجنة قضائية فقهية اقتصادية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1494 الدكتور عبد السلام العبادي: سيدي لا أريد أن أدخل في مناقشة القضية من حيث الموضوع لأني أبديت رأيي في الجلسة الصباحية وأريد أن أقول إذا كان فيه توجه إلى مثل هذا الاقتراح نحن نكرر أنفسنا في الواقع، الاقتراح هذا، بني بشكل أو بآخر في الدورة السابقة، نحن نستطيع أن نقول إننا بين خيارين إما أن نقول: إن هذه قضية تحتاج إلى بحث واستفسار ويتركها المجمع يعني يترك المجمع هذه القضية لمجموعة من الفقهاء والمتخصصين من الاقتصاديين أو غيرهم ليدلوا برأيهم مباشرة إلى البنك من أجل أن تبرأ ذمة البنك فيما يتعلق بالحكم الشرعي لأنه إذا أحلناها إلى لجنة من هذا النوع ستأتي اللجنة بدراستها إلى هذا المجمع وسيعود النقاش مرة أخرى بنفس الصيغة إلا إذا قلنا إن عددا كبيرا من أعضاء المجمع سيكونون هم أعضاء هذه اللجنة ويشتركون مع مجموعة كبيرة من الاقتصاديين لبحث هذه القضية، هنالك في الواقع وجهتا نظر في هذا المجال واضحتان، ولا يمكن في الواقع أن تتفقا، وهذا أيضا معروف في ساحات أخرى وفي دراسات أعدت في هذا الموضوع: وجهة نظر تنطلق من القيود التقليدية المقررة في مجال ضبط العقود من الناحية التفصيلية ووجهة نظر تنظر إلى روح الشريعة وحكم تحريم الربا، وإن القاعدة ترتبط بمدى مسؤولية المقرض الممول لا بد أن يظل الخلاف، فإما أن يتجه المجلس لدراسة هذه القضية بإفاضة ولو أخذت عدة جلسات ومع ازدحام جدول الأعمال يبدو أن هذا الأمر مستحيل وإما أن يدع القضية أن تعاد مرة أخرى ونحيلها إلى هؤلاء العلماء الكبار الذين اجتمعوا في رحاب البنك، وهم ممن نثق بعلمهم وبينهم اقتصاديون ومنهم فقهاء درسوا هذه القضية واستجمعوا كل المعلومات واطلعوا على كل التقارير وعلى كل التفاصيل وانتهوا إلى هذا، تحفظنا على ما انتهوا إليه ما الذي يمنع أن نكرر أنفسنا أيضا عندما تأتينا لجنة أخرى وتأتي بنفس الاقتراحات أو بالحلول المقاربة، القضية لا تعالج بأسلوب إحالتها مرة أخرى إلى لجنة يمكن معالجتها بأن يرفع المجلس يده عن هذا الموضوع ويترك لإدارة البنك أن يعالجه بالطريقة التي يراها مناسبة.. وشكرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1495 الرئيس: في الواقع يا شيخ عبد السلام هذا إنما انطلق من خلال المناسبة التي جرت في الجلسة الصباحية في الاستفسار الثاني وهو في عملية الإجارة لا شك أن الاتجاه العام هو المنع أو إلى التفصيل في الموضوع، والبنك مؤسسة للجميع يحرص الجميع على أنها تسير في أعمالها وأنها لا يعتريها شيء يعثرها، ولهذا فإنه لا بد أن يصحح هذا المسار طالما أنه فيه اتجاه للمنع يصحح هذا المسار، أو أنه يقرر تقريرا نهائيا بالمنع لكي يوجد لهم البديل، ومن خلال تسجيل المداولات في الصباح فيه اتجاه إلى المنع أو التفصيل فطالما أن الأمر كذلك فالحقيقة أنه يعني بقدر ما هو محافظة على ذمة الجميع هو محافظة على قيمة البنك الأدبية في معاملاته. الشيخ عبد الله بن بيه: الحمد لله رب العالمين اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا. في الحقيقة العملية لا شك ولا ريب أن الحيلة فيها واضحة، لا شك ولا ريب في ذلك لو حذفنا مسألة التوكيل كما ذكرت صباحا وحذفنا تلك الوعود وبدأت القضية بالبيع والوعد بالهبة لأمكن على المذهب المالكي أن نجد حلا لها ولذلك حتى لا أطيل عليكم أقترح أن تشكل لجنة حالا وأن هذه اللجنة تقدم الأدلة لأن ما قدمته هذه اللجنة ليس كافيا كما قلت صباح اليوم لسنا بأبوات لا نصدر قرارا هكذا. نصدر القرارات انطلاقا من الأدلة المتوفرة النابعة من الكتاب والسنة وأقوال الفقهاء، هذا الكلام الذي أمامنا لا يجد دليلا لابد أن توضع الأدلة الشرعية الواحد تلو الواحد ليقرر لها حكما هذا رأيي والله أعلم، والسلام عليكم. الرئيس: ترفع الجلسة لأداء صلاة المغرب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1496 بعد صلاة المغرب الرئيس: أصحاب الفضيلة في مدارسة بيني وبين معالي أمين عام المجمع قد يكون هناك وجهة نظر لعلها تجمع وتحقق المطلوب بإذن الله تعالى وهو أن تؤلف لجنة من مجمعنا هذا ويباشرون النظر في هذه الاستفسارات وما قررته اللجنة السابقة وما حصل من مداولات ثم ينتهون إلينا في آخر هذا الأسبوع بما يتوصلون إليه، وهذا اللجنة تتكون من المشايخ. الشيخ وهبة الزحيلي – الشيخ المختار السلامي – الشيخ مصطفى الزرقاء – الدكتور الشيخ الصديق الضرير – الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور. وإذا رغبوا لعله يكون معهم معالي الأمين أو أحد خبراء البنك أو لعلهم يكتفون بما لديهم من ورقة العمل فلعلكم ترون هذا مناسبا، وبه إذا رأيتم ذلك مناسبا وتمت الموافقة عليه. إذن تمت الموافقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1497 التوصيات والاختتام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. توصيات الدورة الثالثة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407 هـ/11 – 16 أكتوبر 1986 م. بعد استماعه إلى بيان سمو ولي عهد المملكة الأردنية الهاشمية الأمير الحسن بن طلال، حول المشكلات الملحة التي يعاني منها المسلمون في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وضرورة التوجه لتلبية الحاجات الملحة للمسلمين في مواجهة آثار الفقر والمرض والجهل، وتحقيق الحياة الكريمة للإنسان. وبعد اطلاعه على نداء سمو ولي عهد المملكة الأردنية الهاشمية الموجه إلى العالم العربي والإسلامي لإغاثة السودان. وبعد استشعاره وهو ينعقد على مقربة من المسجد الأقصى المبارك بضرورة مضاعفة الجهد من أجل استنقاذ أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. وفي ضوء قناعته بضرورة الاهتمام بالدرجة الأولى بالقضايا التي تتصل بحياة المسلمين الاجتماعية والاقتصادية والتضامنية، وبضرورة تعميق الدراسة والبحث فيها بالتركيز على الندوات العلمية والأيام الدراسية ونحوها. يوصي بما يلي: أولاً: ضرورة تبني برنامج إسلامي واسع للإغاثة ينفع عليه من صندوق مستقل ينشأ لهذا الغرض ويمول من أموال الزكاة والتبرعات والأوقاف الخيرية. ثانيًا: مناشدة الأمة الإسلامية شعوبًا وحكومات أن تعمل جهدها لاستنقاذ أُولَى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وتحرير الأرض المحتلة بحشد طاقاتها وبناء ذاتها وتوحيد صفوفها والتسامي على كل أسباب الاختلاف بينها وتحكيم شريعة الله سبحانه في حياتها الخاصة والعامة. ثالثًا: الاهتمام بأعمال المجمع في مجالات الدراسات والبحوث والفتوى والمشاريع، بالقضايا الهامة للمسلمين والتي تتصل بحياتهم الاجتماعية والاقتصادية وتوحيد صفوفهم وجمع كلمتهم وتحقيق أسباب التكافل والتضامن بينهم وتمكينهم من مواجهة كل التحديات ومن إقامة حياتهم على هدي من شريعة الله سبحانه. رابعًا: التمييز بين قضايا الدراسات والبحوث وموضوعات الفتوى وذلك بالتركيز في البحوث والدراسات بصفة خاصة على الندوات العلمية والأيام الدراسية وفق خطة تعدها شعبة التخطيط لتعرض على المجلس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1498 بسم الله الرحمن الرحيم تحية دورة الجمع للدكتور: محمد عبد اللطيف صالح الفرفور بوركت أرض يعرب والسماء وضفاف الأردن والبلقاء أمة بورك الزمان عليها ورعتها يد له سحاء أنها أمتي التي رفع الله منارًا لها به الاهتداء أنها خير أمة لنبي كان من بعض جنده الأنبياء نبعة العز فيهمو وبهم قا م عماد لدينهم واعتلاء هذه أرضهم عليها لواء من أضاح ما فوقهن لواء رويت تربة العروبة منهم فالأقاحي جذورها شهداء ولئن باحت الورود بسر ند منها فوجنتاها دماء أرضنا ضمخت بعطر الضحايا فالروابي زهورها أشلاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1499 فعلى الأرض من شذاها عبير وعليها من البهاء رواء بوركت أمة النبي وأرض شرفتها نعل له غبراء هذه الأرض أرضنا وحمانا وهي عرض تحميه منا الدماء لو بقينا بعد القتال رفاتا قام من ذلك الرفات القضاء أبدا لن ترى العدو يجوس الدار إلا وأهلها قد أساءوا مزقتهم حمى الزعامة فيهم فهموا في حماهمو أشلاء إيه يا أمة النبي وأنت اليوم أنت المني وأنت الرجاء يا بني أمتي إلام ابتعادا عن هداه يهدي له من يشاء عزَّ آباؤكم بنصرهمو الل هـ وهم في نفوسهم ضعفاء والبطولات في دماكم تلظت هي وقف عليكمو وبناء لا تقولوا قد فاتنا الركب إنا قد أُكِلْنَا وما بذاك بقاء إن تعاقد هذي الخناصر نضحي لبلاء ما بعد ذاك بلاء يا لمهد المسيح والحرم الأقصى وأرض ترابها أنبياء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1500 جاسها السيد الكليم بتوراة وفيها الشريعة الغراء ولقد شرف المسيح ترابا وطئته برجلها العذارء وبإسرائك المبارك أضحي برؤه في محمد وانتهاء إيهِ أرض البلقاء فيك عظام لأناس هم همو العظماء في ثراك الصحابة الغر ناموا وهمو للنبي فيهم فداء مؤتة من تلاحم المجد فيها تتجلى البطولة العرباء شهدت موت جعفر فهو طير من طيور الجنان كيف يشاء عبق المجد والبطولة عطر ليس يدري عبيره الجبناء يا لهول اليرموك في غسق الفجر وما للمحاربين اهتداء وجيوش الرومان تسرع في وا قوصة في جحيمها البلواء عندها تسمع الهدير هريرًا وبجوف الظلام يعلو النداء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1501 ما تنادوا (الله أكبر) إلا رقص السيف واستحر اللقاء أمتي أمة الحضارات فيها ظللتها الظلال والأفياء نبعت في ثري رباها عيون وعلوم وحكمة علياء لم تك الحرب في شريعتها العظمى اشتفاء وأين منها الشفاء إنما الحرب للطواغيت حتى ظهر الحق للشعوب وفاؤوا دخل الناس في الشريعة أفواجًا ويحدوهمو إليها رضاء بعث الدين في العقول انبعاثًا للمعالي وهن قَبْلُ هواء فإذا جوهر الحضارة فيهم فهمو في شعوبهم حكماء وأنارت تلك الحضارات دربًا أين منها النجوم والجوزاء وبهذا الإسلام نصنع صرحًا للحضارات ما إليه انتهاء يا بلاد الشام يا أمل الدن يا ويا بارقا سناك ضياء كنت كهف العلوم والفكر حتى غالك الدهر والليالي وفاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1502 هذه صحوة ومنبعها الشام وأردنها ونعم العطاء إن تفرق منا حدود فإنا نحن يوم الشدائد الأوفياء إن ذكرت الشام يومًا فعمان وتلك الخريدة المعطاء نحن في الروع أمة وحد الد ين عراها وباركتها السماء ما دمشق عندي وعمان إلا بلد واحد له الانتماء أبدًا لن تزول أمتي الكبـ ـرى ولن يغلب العلا لأواء شرف باذخ ومجد تليد ولنا في المجامع الآباء ولعمري كل البلاد وطائي من بلاد الإسلام وهو الغطاء مجمع الفقه يا كبير المعاني أنت في ليلنا هدى وسناء فيك ناطت هذي الشعوب جسامًا هي للقوم عزة وارتقاء وعليك الآمال تعقد فينا ولديك المحجة البيضاء فأعد مجد ديننا واجمع الشمـ ـل وحقق ما أخفقت به الزعماء رد للمسلمين عزة دنياهم وصحح ما قد يكون أساؤوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1503 هذه أمة تجاوزها التاريخ في عقر دراهم بؤساء هل وجدتم فيما وصلتم علاجًا فلماذا لم تشبع الفقراء؟ ليس تحت السماء أرحم من دين رحيم رجاله رحماء مجمع الفقه يا عبير الأقاحي قد تندت بعطرك الأرجاء كنت ريحانة القلوب فلما زرتنا اليوم كان منك العطاء امض نحو الخلود أيدك اللـ ـه وفيك الجهابذ الأكفاء امض نحو الرشاد والنور والإشر اق قدما تحوطك الأمناء فكأين من مجمع مات لما ولدت منه صرخة بلهاء لا تخف فالحبيب فينا مكين وله عزة وفيه مضاء ورئيس لنا هو الأمل المرجو واليمن والهدى والنقاء لم أقم مادحًا وما ذاك من شأ ني ولكن أمانة وذماء في رحاب الأردن كان لقاء وبذكر الحسين يحلو اللقاء وأخوه الأمير سدده الله كفاء ونعم ذاك الكفاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1504 من عرين الأٍسود جئنا إلى النسر وعرش تهفو له العلياء وشهدنا من ناصريه أسودًا فهمو عليه الورى العلماء إيهِ يا مجمع الحضارة آل البيت يا من تعطرت أنحاء لهواكم في القلب أحلى من الشـ ـهد وروضاته بكم فيحاء وقلوب العشاق فيها أنين وصدور لهم بها برحاء وقواف نظمتها في هواكم بعضها شكرهم وبعض دعاء فلعل الزمان يسمح يومًا بتلاق وأين ذاك اللقاء؟ ففؤادي ومجمعي وبلادي يا حسبنا مني إليك تناء وقريضي وما عسى أن توفى لك مني القصائد العصماء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1505 قائمة بأسماء المشاركين في الدورة الثالثة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي عمان: 8 – 13 صفر 1407 هـ 11 – 16 أكتوبر 1986 م قائمة بأسماء المشاركين في الدورة الثالثة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي عمان 8 –13 صفر 1407 هـ 11 – 16 أكتوبر 1986 م. أولاً: الأعضاء المنتدبون: 1- فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد المملكة العربية السعودية رئيس 2- فضلة الحاج عبد الرحمن باه جمهورية غينيا نائب الرئيس 3- فضيلة الدكتور عبد السلام العبادي المملكة الأردنية الهاشمية نائب الرئيس 4- فضيلة الدكتور عبد الله الحاج إبراهيم ماليزيا نائب الرئيس 5- فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور الجمهورية العربية السورية رئيس شعبة التخطيط 6- فضيلة الشيخ عبد العزيز محمد عيسى جمهورية مصر العربية رئيس شعبة الإفتاء 7- فضيلة الأستاذ إبراهيم بشير الغويل الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية مقرر شعبة التخطيط 8- فضيلة الأستاذ محمد ميكو المملكة المغربية مقرر شعبة الإفتاء 9- فضيلة الدكتور محمد شريف أحمد الجمهورية العراقية مقرر شعبة البحوث والدراسات 10- سيدي محمد يوسف جبري جمهورية مالي عضو مكتب المجلس 11- فضيلة القاضي محمد تقي العثماني جمهورية باكستان الإسلامية عضو مكتب المجلس 12- فضيلة الدكتور روحان أمبابي جمهورية السنغال عضو مكتب المجلس 13- البروفيسور صالح طوغ الجمهورية التركية عضو مكتب المجلس 14- فضيلة الشيخ محمد هشام البرهاني الإمارات العربية المتحدة عضو 15- فضيلة الشيخ أحمد أزهر بشير جمهورية أندونيسيا عضو 16- فضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف آل سعد دولة البحرين عضو 17- فضيلة الدكتور دوكوري أبو بكر جمهورية بوركينا فاسو عضو 18- فضيلة الشيخ عبد الحميد بن باكل سلطنة بروني دار السلام عضو 19- حجة الإسلام محمد علي التسخيري جمهورية إيران الإسلامية عضو 20- فضيلة الشيخ محمد علي عبد الله جمهورية النيجر عضو 21- فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي الجمهورية التونسية عضو 22- سعادة الدكتور عمر جاه جمهورية غامبيا عضو 23 – فضيلة الشيخ هارون خليف جيلي جمهورية جيبوتي عضو 24 – فضيلة الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد جمهورية السودان عضو 25- فضيلة الشيخ آدم الشيخ عبد الله علي جمهورية الصومال الديمقراطية عضو 26- فضيلة الشيخ تيجاني صابون محمد جمهورية تشاد عضو 27- فضيلة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي سلطنة عمان عضو 28- فضيلة الشيخ رجب بيوض التميمي فلسطين عضو 29- فضيلة الشيخ خليل محيي الدين الميس الجمهورية اللبنانية عضو 30- فضيلة الشيخ موسى فتحي جمهورية المالديف عضو 31- معالي الشيخ محمد سالم محمد علي عبد الودود جمهورية موريتانيا الإسلامية عضو 32 – فضيلة الشيخ سعيد محمد عبد الرحمن آل الشيخ جمهورية القمر الاتحادية الإسلامية عضو 33- فضيلة الشيخ محمد عبده عمر جمهورية اليمن الديمقراطية عضو 34 – فضيلة الشيخ أنس عبد النور خاليصا جمهورية أوغندا عضو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1506 ثانيًا: الأعضاء المعينون: 1- معالي الدكتور عبد العزيز الخياط: مؤسسة آل البيت 2- معالي الأستاذ عبد الهادي بو طالب: المدير العالم للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم الثقافية (المملكة الغربية) 3- فضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير: أستاذ بجامعة الخرطوم. 4- فضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء: أستاذ في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية – عمان 5- فضيلة الشيخ عبد الرحمن البسام: عضو مجمع الفقه الإسلامي (بمكة المكرمة) 6- فضيلة الشيخ طه جابر العلواني: مدير المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن. 7- فضيلة الدكتور عبد الستار عبد الكريم أبو غدة: خبير ومقرر الموسوعة الفقهية بالكويت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1507 ثالثا: الخبراء: 1- فضيلة الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي: عميد كلية الشريعة ومدير مركز بحوث السنة والسيرة بجامعة قطر. 2- فضيلة الدكتور وهبة الزحيلي: رئيس قسم الشريعة الإسلامية، جامعة الإمارات كلية الشريعة والقانون. 3- فضيلة الدكتور علي أحمد السالوس: أستاذ مساعد بكلية الشريعة. جامعة قطر. 4- سعادة الدكتور محمد علي البار: طبيب – مستشار قسم الطب الإسلامي مركز الملك فهد للبحوث الطبية جامعة الملك عبد العزيز – جدة. 5- سعادة الأستاذ أحمد بزيع الياسين: مدير بيت التمويل الكويتي. 6- فضيلة الشيخ كمال الدين جعيط: أستاذ بالكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين بتونس. وخبير لدى جامعة الدول العربية. 7- فضيلة الدكتور نزيه كمال حماد: أستاذ مشارك في قسم القضاء بجامعة أم القرى – بمكة المكرمة) . 8- فضيلة الدكتور حسن عبد الله الأمين: معهد البحوث (البنك الإسلامي للتنمية بجدة) 9- فضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي: أستاذ. 10- فضيلة الشيخ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه: أستاذ بجامعة الملك عبد العزيز/كلية الآداب بجدة. 11- فضيلة الشيخ محيي الدين قادي: أستاذ. 12- فضيلة الشيخ أحمد محمد جمال: عضو مجلس الشورى وأستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. 13- سعادة الدكتور فخر الدين بن عثمان الكراي: باحث علوم الفضاء بالولايات الإمريكية المتحدة 14- فضيلة الأستاذ علي حيدري: خبير في شؤون الاقتصاد. رابعًا: الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي: 1- معالي الشيخ فؤاد عبد الحميد الخطيب: الأمين العام المساعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1508 خامسًا: المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) : 1- معالي الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد: وزير التعليم العالي، ورئيس مؤسسة آل البيت. 2- الأستاذ فاروق جرار: أمين النشر والشؤون العلمية بالمؤسسة. سادسًا: البنك الإسلامي للتنمية: 1- معالي الدكتور أحمد محمد علي: رئيس البنك. 2- الأستاذ محمد الفاتح حامد: مستشار قانوني. 3- الدكتور عبد الرزاق اللبابيدي. 4- الأستاذ دورموس شفدار. 5 – الدكتور منذر قحف: باحث اقتصادي. سابعًا: الأمانة العامة للمجمع: 1- فضيلة الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة: الأمين العام تم بحمد الله وحسن عونه طبع هذا العدد الثالث من مجلة مجمع الفقه الإسلامي، ونحن نعتذر للقارئ الكريم عما قد يكون حصل فيه من سهو أو خطأ. كما يؤسفنا سقوط بعض صفحات منه لم يقع الانتباه إليها إلا في المرحلة الأخيرة من الطبع بحيث لم نتمكن من تداركها، وإنا لنرجو أن نقوم بذلك في العدد القادم إن شاء الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1509 كلمة معالي الدكتور بكر عبد الله أبو زيد رئيس مجلس المجمع كلمة معالي الدكتور بكر أبو زيد رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي في اختتام أعمال الدورة الثالثة بسم الله الرحمن الرحيم … الحمد للذي فتق لسان العرب بأفصح لسان وأبلغ بيان وأنزل سبحانه به القرآن والحمد لله الذي جعلنا من أهله ومن خدمة سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده رسوله اللهم صلى الله عليه وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد … وبعد حمد الله وشكره على ما مَنَّ به علينا من إتمام أعمال دورتنا هذه الدورة الثالثة للمجمع الفقهي الإسلامي المنعقدة في عمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية فإن من محمود السنن وكرائم الطرق إبداء الشكر لذوي الفضل والمآثر، فابدأ الشكر لحكومة جلالة الملك الحسين بن طلال ملك المملكة الأردنية الهاشمية على هذه الاستضافة الكريمة وعلى ما لقيناه من بليغ العناية والإكرام. كما أشكر صاحب السمو الملكي ولي عهده الأمير الحسن بن طلال على متابعاته الدقيقة للاطمئنان على سير أعمال هذا المجمع وتوفر مستلزمات هذه الدورة، وقد أحسن حكومة جلالته كل الإحسان، حيث عهدت بذلك إلى مؤسسة آل البيت المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، وصاحب الدار أدري بما فيها، ومن رأيي علائم فحولة الرجال تبدو على طلعة معالي رئيس ذلكم المجمع مؤسسة آل البيت، فإنه لا يستكثر ما لمسناه بكل وضوح من دقة في الإجراء ومن عناية بالغة وحفاوة ظاهرة قل أن نجد لها مثيلاً، وأقول هذا بكل فخر واعتزاز ولله الحمد واعترافًا بالفضل لأهله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1510 فجزى الله ناصرًا كل خير وجزى أسرته أسرة مؤسسة آل البيت كل خير إذا وقفوا أنفسهم لليالي متعددة ليل نهار في هذا المجمع لخدمة رجال هذا المجمع. وإنني لا أنسى أبدًا أن أشكر معالي أمين هذا المجمع فضيلة الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة على جهوده المتواصلة، وإنني أغبطه على روحه الفتية وجهوده المتواصلة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. كما أشكر جميع الإخوة العاملين في الأمانة من الموظفين والسكرتاريين والنساخ. ووفق الله الجميع لكل خير أنه على كل شيء قدير. أيها الجمع الكريم، إن الوسطية صفة ملازمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن الاعتدال في الرأي مسلك راشد نهجه أهل العلم سلفًا وخلفًا، وأن مراقبة الله سبحانه وتعالى في السر والعلن قاعدة أصلية في شريعة الله ودينه، وأن الرد إلى الله تعالى وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معصم للعلم وحلية له وعصمة للقول والعمل، وإنني أقول بكل ثبات: إنه من خلال قراراتكم المجمعية في دورتيه الثانية والثالثة تدل بإيجابياتها على الخطة المنهجية التي سار عليها هذا المجمع، وعلى أن هذه القواعد أو تلكم القواعد الثوابت، هي أجلي خطوط هذا المجمع التي سار عليها، فلله الحمد على ما أنعم وتفضل وأجزل وتكرم، ونسأله سبحانه وتعالى المزيد من فضله، وأن يثبتنا وإياكم على الإسلام، وأن يأخذ بأيدينا إلى كل عمل صالح مبرور، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يوفق قادة العالم الإسلامي إلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، أنه على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1511 كلمة معالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام للمجمع كلمة معالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام للمجمع في اختتام أعمال الدورة الثالثة الحمد لله نحمده ونستعين ونتوب إليه ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضله له، ومن يضلل فلا هادي له، وصلى الله على نبي الرحمة وإمام الأمة الهادي إلى صراط الله العزيز الحميد، سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. سيدي الدكتور ناصر الدين الأسد رئس مؤسسة آل البيت المبجل. سيدي الرئيس الموقر حضرات أصحاب الفضيلة والسعادة أعضاء المجلس وخبرائه المحترمين حضرات الأساتذة، أيها السادة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1512 من السبت إلى الخميس، على مدى ستة أيام تواصلت في هذه القاعة جلساتكم العلمية صباح مساء. وقد طرحت عليكم جملة من القضايا الفقهية والمسائل المتعددة ذات الأسس المتعلقة بالدين والاجتماع والاقتصاد. وتقدم الباحثون بعروضهم وتداولت المناقشات حول تلك العروض وكانت نتائج ذلك بحمد الله استجلاء للحقائق وتلمسًا للأحوال والملابسات وتوصلاً للأحكام الشرعية بالاستنباط من الكتاب والسنة والاستئناس بمذاهب الأئمة والترجيح بين الأقوال. وقد كانت اتجاهات الأنظار بين تمسك بالعزائم وأخذ بالرخص ولكنها في كل حال لا تريد إلا الحق ولا تبتعد عن التزام مناهج الفقهاء السابقين الذين تقدمونا زمانا وإحسانًا. وقد كان من بين ما عرض من القضايا ما له صبغة اقتصادية شرعية محضة كاستفسارات البنك الإسلامي للتنمية عن معاملاته ووجه تصحيح المسار الشرعي فيها، وأحكام النقود الورقية، وتغير قيمة العملة، وسندات المقارضة والاستثمار. ومنها ما له صبغة اجتماعية دينية كزكاة الأسهم في الشركات وتوظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق، وأسئلة المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن. ومنها ما كان ذا علاقة بالعلوم الطبية والعلاجية مثل التلقيح الصناعي وأجهزة الإنعاش، ومنها العبادي الشرعي كبدايات الشهور القمرية وارتباط الرؤية فيها بالحساب الفلكي، وقضية الإحرام من المواقيت أو من بعدها لم نتجاوزها ومصارف الزكاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1513 وقد أخذت هذه البحوث وقتًا طويلاً واقتضت من حضراتكم جهدًا كبيرًا وتوصلتم في آخرها إلى نتائج طيبة تنطق بها القرارات المجمعية الصادرة اليوم عن مجلسكم الموقر. هذا وقد بحثت المشاريع العلمية التي شملت موسوعة الفقه الاقتصادية فقه المعاملات ومعجم المصطلحات الفقهية، ومناهج تيسير الفقه عن طريق معلمة القواعد ومدونة الأدلة الشرعية وغيرها. وصدرت عن المجمع توصيات باعتمادها. وبتوجيه الدراسات في المجمع نحو القضايا الهامة التي تشغل من قريب فكر العالم الإسلامي. ولقد كانت الكلمة الأميرية المتمثلة في الخطاب المنهجي الذي ألقاه حضرة صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير الحسن موحية ومنبهة كما كانت تدخلات سموه في الجلسات حافزًا للبحث في القضايا المطروحة فعلاً في العالم الإسلامي على وجه يجعل من الدين والعلم ومن الفكر والواقع سبيلاً لعلاج كل مشاكلنا وطريقا لرفع التحديات من طريقنا. وإني إذ أحمد الله على ما وفق إليه ويسره من تلك الجهود والنتائج، أرفع خالص الشكر والتقدير للرعاية الملكية الهاشمية السامية وأقدم أوفى الشكر وأجزله لسمو الأمير الحسن على ضيافته للمؤتمر وتعهده له بالتوجيه والنصح، وأتقدم إلى أسرة مجمع الحضارة الإسلامية ورئيس مؤسسة آل البيت الدكتور ناصر ببالغ الامتنان والاعتراف بما أولانا من جميل ويسره من أمر، ولا أنسى الجهود الموفقة والعناية الكريمة من سماحة الدكتور عبد العزيز الخياط وزير الأوقاف والمقدسات الإسلامية ومن وكيل الوزارة الدكتور عبد السلام العبادي عضوي المجمع اللذين سهرا عليه طوال هذا الأسبوع وحققا له ما بلغ من نجاح. وإني في ختام هذا الأسبوع لأجدد الثناء والشكر لرئيس مجلس المجمع لحكمته وحسن تدبيره في إدارة جلسات هذه الدورة، كما أشكر للجنة الصياغة وللمقررين وللأعضاء وللخبراء كافة جهودهم المتواصلة وعملهم الدؤوب، نرجو لهم ولنا من الله التوفيق وحسن العون. وإلى دورة قابلة إن شاء الله نعقدها ومجتمعنا الإسلامي يسانده الوئام ويتحقق فيه التناصر والتضامن والتعاون, وتكلؤه رعاية الله ويقدمه العز والنصر بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1514 العدد الرابع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 كلمة معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الأستاذ/ سيد شريف الدين بيرزاده بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد، يسعدني أن أقدم هذا العدد الرابع من المجلة العلمية الفقهية التي يصدرها مجمع الفقه الإسلامي بجدة، وقد جاء بفضل الله زاخرا بالبحوث العلمية والدراسات المستفيضة التي تناولت كالعادة قضايا هامة ذات صلة مباشرة بحياتنا اليومية، وذلك بعد أن تم عرضها ومناقشتها واتخاذ القرارات بشأنها في المؤتمر الرابع لمجلس المجمع المنعقد بجدة في دورته الأخيرة. وإنه لشرف عظيم لي أن أرفع إلى حضرة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز ـ أيده الله بنصره ـ وإلى كل أصحاب الجلالة والفخامة والسمو من الملوك والرؤساء والأمراء إلى المسلمين كافة في أقطار العالم نتاج هذا الجهد المحمود الذي قامت به ثلة من العلماء المبرزين ـ جزاهم الله خيراً ـ قصد بيان ما قد يغمض على البعض فهمه من المسائل المستعصية والقضايا المعقدة وإنارة السبيل للمسلمين ليكون مسلكهم قويماً وسعيهم حميداً. وإني لمعتز بهذه الثروة العلمية في مجال الفقه والدراسات الإسلامية التي يكون المجمع قد أضاف بإنجازها لبنة جديدة إلى ما توصلت إليه الدورات السابقة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي مما تضمنته أعداد مجلته الغراء. هذه المجلة التي أصبحت تعد من أبرز المراجع الأساسية الهامة، وتتيح للباحث بلوغ غايته بأيسر السبل مستعينا بما أقره الفقهاء الأجلاء والعلماء الأفاضل من توجيهات سديدة استمداداً من كتاب الله جل وعلا واعتماداً على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأود بهذه المناسبة أن أنوه أولاً بالعناية الممتازة الراقية التي يوليها مجمع الفقه الإسلامي لمشكلات العصر، وثانياً باهتمامه المتواصل بالقضايا التي تشغل ألباب المسلمين إزاء التطورات التي يعيشونها سواء في مجال معاملاتهم اليومية أو في حقل ما يمارسونه ويتأثرون به من الاكتشافات العلمية الحديثة المحتاجة في تطبيقاتها إلى معرفة دقيقة بأحكام الفقه الإسلامي، وما يعرضه أحياناً كثيرة من حلول وبدائل ضرورية لمواجهة التحديات والمضي دائماً في سبل الرقي والتقدم. ويسرني في ختام هذه الكلمة أن أنوه بالدور الهام الذي يقوم به معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة في إدارة المجمع وتنظيم أعماله وترتيب ندواته والإعداد لمؤتمراته، مشيدا بالجهد المرموق الذي يبذله في كل مراحل هذا العمل متحلياً بأبرز صفات العلماء من كد وجد وتواضع. والله أدعو أن يوفق جهود الخيرين من أبناء هذه الأمة الصالحين، وأن يكتب لأعمال مجمع الفقه الإسلامي تواصل العطاء ومزيد الإسهام في إثراء الفكر الإسلامي والعالمي. والله سبحانه المسؤول أن يرعى هذه الحركة المجمعية المباركة ويسدد خطاها، وهو عزت حكمته من وراء القصد وهو ولي التوفيق. سيد شريف الدين بيرزاده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 كلمة معالي رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فهذا هو العدد الرابع من " مجلة الفقه الإسلامي بجدة " يشمل أعمال الدورة الرابعة للمجمع المنعقدة في مقره من 18/ 6/ 1408 إلى 23/ 6 / 1408 بما حوته تلك الدورة من أبحاث ومداولات وقرارات، رؤي من الخير جمعها بين الدفتين لتكون بين أيدي الأخصاء والباحثين، مؤمنين بأنها بإذن الله ستنير فكرا، وتفتح إلى الخير أفقاً. ومن وجه آخر تكون مرآة لهذا المجمع المبارك، يتجلى من خلالها جانب من اهتمامات علماء المسلمين في قضايا أمتهم ومعالجتها على منهاج النبوة " الكتاب والسنة " وإن ما أنتجه من قرارات لم يبت فيها إلا بعد استكمال التصور الواقعي للنازلة، وجمع أطراف القول فيها قديماً وحديثاً. وثالثة: فتح المداولة الموسعة بشأنها حتى تتضح الرؤية الصحيحة لها بتنزيلها على ضوء الشرع المطهر. أرجو أن يجد المسلم فيها الوفاء بهذين الجانبين. وأسأل الله سبحانه أن يأخذ بيد القائمين على هذا المجمع إلى ما فيه خدمة الأمة الإسلامية وصلاحها في أمر دينها ودنياها. والله الموفق. الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 كلمة معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل الشريعة الإسلامية التي نزل بها وحيه، وعم بها عدله، مشكاة للهداة المتبصرين، ونبراساً للأئمة المتقين، وسندا لمعرفة الطريق القويم، وسببا للاستقامة على مناهج الدين. أشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق القوي المتين الرحمن الرحيم وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين وإمام المرسلين، حرر العقول بتلقين الوحدانية، وبيان حقائق الألوهية، وكشف أسرار الربانية، وزكى النفوس بما أنزل إليه من هدى وبيان وحكمة، فمحا الظلمات، ومحق الباطل، وقضى على الضلالات، واقتلع من الصدور أسباب التعسف والظلم والأثرة والأنانية والطغيان والفساد في الأرض. ودعا إلى التمسك بكتاب الله وسنة نبيه الأصلين العظيمين ليكونا للمؤمنين مصدر إشعاع وهداية، وسبب نجاح وتوفيق، وسبيل تيسير ورحمة، في عالم اكفهرت فيه الأجواء، وتلبدت به الشرور، وحاقت بالناس نكاده وأنكاله، فلا يجدون بعده فيه من واحات الأمن والسلام والاستقرار والاطمئنان والعزة والكرامة إلا ما أنبتته موارد الشرع وأظلته أفياء هداه. وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع طريقه وسلك سبيله إلى يوم الدين. وبعد، فإن في الهدي الديني والمنهج الإسلامي طريقاً لتسديد الوجهة وبلوغ القصد، وسبيلاً لتذليل العقبات والهيمنة على التحديات، وهما إلى ذلك أساسَا الحفاظ على الملة. وتحقيق وحدة الأمة، وعلاج أوضاع المجتمعات، وإصلاح شؤون الخلق في هذه الحياة، والرقي والنجاح، والسيادة والريادة، وهل هذا الدين إلا هدى ورحمة، وهل خطابه ودعوته إلا بلاغ للناس كافة. ولئن كانت الصفوة من الفقهاء والعلماء تجتمع في كل عام في رحاب مجمع الفقه الإسلامي الدولي، تأوي إليه من أطراف العالم لتتدارس ـ بعد مراجعة وبحث وتدبر وإعداد ـ كل القضايا المعروضة عليها في كل دورة، وتعمل على إيجاد الحلول المناسبة للمشاكل الناجمة في مجتمعاتها، في ضوء الشريعة الإسلامية المطهرة، وعن طريق الاجتهاد الجماعي الفقهي، فإن ذلك ليس أمراً سهلاً، ولا هو بالذي يمكن أن يطرد لولا العناية الإلهية، وصدق العزم، والشعور بالأمانة الثقيلة والمسؤولية العظمى أمام الله، وتجاه المسلمين عامة في مشارق الأرض ومغاربها. وقد وجد المجمع بفضل ما قام به من مؤتمرات وندوات، وبحثه وهيأه من مشاريع في عديد المجالات، وطبعه ونشره من بحوث ودراسات، ما لفت الأنظار إليه، وأثار الاهتمام به، وهو لا يزداد مع الأيام إلا خيراً ومع تداول الأعوام إلا رشداً. وإنا في هذا العدد الرابع من مجلته العلمية ونشرته السنوية لنقدم للباحثين والدارسين والفقهاء والاقتصاديين ورجال الجامعات والطلاب في كل الأقطار والأقاليم من الدول العربية والإسلامية وغيرها أعمال المؤتمر الرابع لمجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 كان الفضل في إقامة الدورة الرابعة في إبانها وفي اجتماع العلماء بجدة من أجلها فيما بين 18و 23 جمادى الآخرة 1408 الموافق لما بين 6و 11 فبراير 1988 للأريحية الكريمة والصلة السنية التي وهبها لمؤسستنا بهذا القصد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، أطال الله عمره، وأيد ملكه ونصره، وهو من يوم تأسيس المجمع وقيامه في ظل الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة مجدد به العناية، وسابغ عليه حفظه الله من ألوان الرعاية ما قوّى عوده، وشد عضده، وساعده على السير قدماً إلى غايته النبيلة. وإن حصيلة أعمال الدورة الرابعة هذه التي شهدها وأسهم فيها عدد كبير من أصحاب المعالي الوزراء، وأصحاب الفضيلة العلماء ونخبة من الباحثين المقتدرين، والخبراء المبرزين إلى جانب أعضاء المجمع من منتدبين عن الدول الإسلامية، وممثلين للهيئات العلمية والمؤسسات الفكرية لتتميز شكلاً ومضموناً عن أعمال الدورات السابقة. فقد غطت الإذاعة والتلفزة السعودية مشكورة أشغال هذه الدورة يومياً خلال انعقاد مؤتمر المجمع، وكانت الصحافة السعودية وغير السعودية تتحدث عن جلسات الدورة وما كان يقدم فيها من عروض، ويناقش بها من قضايا، ويدرس فيها من مشاريع، ويتخذ بها من قرارات، مع أحاديث خصبة وجيدة أجرتها بالمناسبة مع ثلة من كبار الشخصيات السياسية والعلمية التي شاركت في الدورة، فكانت على مدى عشرة أيام أو أكثر سجلاً حافلاً للأعمال المجمعية، ومظهر عناية بالدراسات الشرعية والفقهية التي تخدم واقع مجتمعاتنا الإسلامية، وتوحي بالنظرة المستقبلية لبناء غدنا الأفضل على الأصول الثابتة والمتينة. وقد حظيت هذه الدورة أيضاً في الجلسة الافتتاحية بخطاب كريم لمعالي وزير الأوقاف بدولة الكويت الشيخ خالد أحمد الجسار الذي عبر فيه عن وجوب تشجيع المجمع، ودعم ما يقوم به من جهود خيرة في سبيل إحياء الفقه الإسلامي، ودفع حركة البحث والاجتهاد في مختلف مجالاته الواسعة، معلناً بالمناسبة وبتكليف من أمير الكويت عن استضافة سمو الأمير الشيخ جابر الأحمد الصباح أعزه الله وأيده للدورة الخامسة لمؤتمر المجمع التي تنعقد بإذن الله في جمادى الأولى 1409/ ديسمبر 1988 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 وإلى جوانب شواهد التوفيق الإلهي ودلائل العناية الربانية هذه بمجمع الفقه الإسلامي الدولي عرضت في رحابه بمقره بجدة خلال انعقاد دورته الرابعة جملة كبيرة من البحوث والدراسات المتنوعة: العقدي: (1) البهائية الشرعي: (2) زكاة الأسهم في الشركات 10 بحوث توكيل صندوق التضامن الإسلامي بصرف ما يتجمع لديه من أموال الزكاة 3 بحوث السياسي (4) مجالات الوحدة الإسلامية وسبل الاستفادة منها 4 بحوث الاجتماعي الطبي: (5) زارعة الأعضاء 7بحوث الاجتماعي: (6) انتزاع الملكية للمصلحة العامة 6بحوث (7) كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقية بحثان الاقتصادي: (8) سندات المقارضة وسندات الاستثمار 10 بحوث التجاري: (9) بدل الخلو 5 بحوث وسجلت بأثر عرض كل موضوع المداولات والمناقشات بشأنه، كما ختمت هذه المناقشات بالقرارات والتوصيات الصادرة عن مجلس المجمع في هذه الدورة. ومما يلفت النظر في هذا العدد جملة المشاريع العلمية التي وقع إقرارها لاتخاذ ما يلزم بشأنها والشروع فيها وهي: الموسوعة الفقهية، ومعلمة القواعد الفقهية، ومشروع تيسير الفقه. وإنا حين نقدم للقراء الأكارم هذا العدد الرابع الجديد من مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة لا يفوتنا أن نشكر للعلماء الباحثين جهودهم العظيمة، وللخبراء والدارسين إسهاماتهم الفائقة المباركة، وللجان التي بحثت المشاريع وأعدت المخططات كل ما تستحقه من ثناء وتقدير. وفي ختام هذه الكلمة نحمد الله على التسديد والتوفيق، ونثني على ما لقيناه من القادة والمفكرين في كل بلد من دعم ورعاية، وعلى ما وجدناه من الأستاذ الجلي معالي الدكتور محمد أحمد الشريف المربي والداعية الإسلامي من تقدير وعون، غير غافلين عن التنويه باللجنة التنفيذية للمجلس العالمي للدعوة الإسلامية الذي منح المجمع باسم جمعية الدعوة الإسلامية العالمية بطرابلس مساعدة سخية تمكنا بها من الإنفاق على طبع هذا العدد بأجزائه. فشكر الله جهودهم ووفقنا وإياهم إلى صالح العمل إلى ما يرضي الله من جهاد في سبيله فتبقى كلمة الحق والعدل بين الناس، والله الجليل الكريم يهدينا إلى أقوم السبل، ويسدد خطانا في خدمة ديننا والعناية بشريعتنا وتعزيز ملتنا، إنه سميع مجيب، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 كلمة صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبد المحسن نائب أمير منطقة مكة المكرمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ... والصلاة والسلام على أشرف المرسلين القائل ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)) . أيها الإخوة الحضور ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نيابة عن خادم الحرمين الشريفين ... يسرني أن ألتقي بكم في هذا الاجتماع المبارك للدورة الرابعة للمجمع الفقهي الإسلامي.. وهو الصرح الإسلامي الكبير الذي آلى على نفسه وبجهود أعضائه الكرام الأخذ في إبراز معالم الدين الإسلامي الحنيف ... وإلقاء الضوء والنور على ما استجد في عالمنا المعاصر من قضايا ومشكلات. إن عالم اليوم يواجه التقدم التكنولوجي الهائل ... والاختراعات العلمية المعقدة في شتى ألوان الحياة ... مما يتمخض عنه بعض القضايا التي لم تواجه أسلافنا.. أعلام الفقه الإسلامي مما يجعل حتما علينا فتح باب الاجتهاد الإسلامي ... والذي لم يقفل قط في تاريخنا المضيء، وقد من الله علينا بعدد وفير من أولي الأحلام والنهى ومن هم في محل التقدير والإكبار في مجال الفتوى.. مما يسهل على أبناء المسلمين الاسترشاد بآرائهم في حل قضاياهم ومشاكلهم التي يعاصرونها في حياتهم اليومية.. أيها الإخوة: إن عالمنا الإسلامي يواجه كل يوم عدداً ونوعاً جديداً من التحديات الصليبية الحاقدة.. والشيوعية الملحدة ... والتي لا تألو جهداً " متحدة أو منفصلة " في المساس من كرامة الإسلام وسماحته.. وغزو أبنائه في عقيدتهم.. وأخلاقهم ... وسلوكياتهم ... وتتحداهم في عقر دارهم ... مما يجعلهم ينطبق عليهم ما جاء في الأثر: " سيأتي زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر ". وإنني أهيب بأعضاء المجمع الموقرين وبكافة علماء العالم الإسلامي أن لا يدخروا وسعاً في سبيل تحقيق الأهداف الإسلامية والإنسانية العامة للمجمع.. كما يسرني أن أؤكد أن حكومة خادم الحرمين الشريفين ... وكما هو معروف لدى الجميع ... تؤيد وتناصر دوماً وتعمل على كل ما فيه رفعة الإسلام وعزة المسلمين. كما أنني أشكر فضيلة الأمين العام للمجمع الدكتور/ الحبيب بن الخوجة، على حسن إدارته وكل من يؤازره في ذلك. وختاماً أسأل الله الكريم للجميع دوام التوفيق والسداد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 كلمة معالي الأستاذ سيد شريف الدين بيرزاده الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبد المحسن بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة بالنيابة. أصحاب السماحة والمعالي أيها الإخوة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد، فإنني سعيد بمشاركتي اليوم في افتتاح الدورة الرابعة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي، هذه المؤسسة الإسلامية المهمة التي انعقد مؤتمرها التأسيسي بمكة المكرمة في شهر شعبان من عام 1403 هـ (يونيو 1983) برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، ملك المملكة العربية السعودية الذي تفضل يومذاك فألقى خطابا ضافياً ضمنه توجيهاته السديدة حول مهمة المجمع، وأعرب فيه عن الآمال الكبيرة التي تعقدها الأمة الإسلامية على المجمع. وأعرب، بادئ ذي بدء، عن ترحيبي بوفود الدول الإسلامية التي جاءت هذا البلد الأمين للمشاركة في هذه الدورة التي أرجو أن تكون أعمالها ناجحة ومثمرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 أيها الإخوة لقد أراد قادة الأمة حين قرروا في قمتهم الإسلامية الثالثة بمكة المكرمة إقامة هذه المؤسسة، أن يتخطى شرف خدمة الشريعة الإسلامية حدود الجهود الفردية والإقليمية، ويجتاز الحدود السياسية إلى العمل الجماعي المنظم، ومن هذا المنطلق أنشئ هذا المجمع، الذي هو أول مؤسسة عالمية إسلامية في هذا المجال، تعبيراً عن الرغبة الصادقة في أن تتعزز به مسيرة العمل الإسلامي المشترك، وفي أن يستعيد الفقه الإسلامي تحت مظلة هذا المجمع، دوره النشيط في مواكبة العصر والحياة المتطورة. وإنني لسعيد حقا، بأن هذه المؤسسة أصبحت اليوم ملتقى صفوة فقهاء هذه الأمة ومثابة لعلمائها ومفكريها وحكمائها. إن التطور العلمي والتقني المتلاحق في هذه الأيام، تلاحقاً مذهلاً مؤثراً في حياة الأمم والشعوب، يفرض على المسلمين أكثر من أي وقت مضى، أن يفهموا الإسلام ـ خاتمة الشرائع السماوية ـ حق الفهم، ليزدادوا تمسكاً بأصوله وفروعه، وليتعرفوا ما وسعتهم المعرفة، على جوهر الشريعة الغراء، وليظفروا نتيجة البحث والدراسة والتمحيص بالحلول المناسبة لما يعترض بني الإنسان من مشكلات على صعد مختلفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 أيها الإخوة إن إسهام الإسلام في حضارة الإنسان، وخاصة في مجالات علم الأحياء والفلك والتجارة والجغرافيا والقانون والرياضيات والطب والعلوم الطبيعية والمؤسسات الاجتماعية، لإسهام كبير واسع ومتنوع ومنظم يعترف به غير المسلمين. فمن المعروف في ميدان القانون مثلاً أن " نابليون بونابرت " تأثر تأثراً عميقاً، حين وضع مدونة القوانين الفرنسية، بالقرآن الكريم، ومن المعروف في تاريخ القانون التجاري أن الحوالات (وهي الوثائق التي تحول بها الديون) لم تكن معروفة في أوروبا قبل القرن الثاني عشر الميلادي مع أنها كانت معروفة ومسجلة في الكتب الإسلامية التي يرجع عهدها إلى القرن الثامن الميلادي، ويقال: إن التعامل بمثل هذه الوثائق قد أدخل إلى الغرب إبان الحروب الصليبية عن طريق إيطاليا، من ناحية، وعن طريق الأندلس، من ناحية ثانية، حين كانت بلداً عربياً. وعرف الغرب بعد ذلك فكرة شركات المساهمة من المشروعات التجارية المشتركة للتجار المسلمين والإيطاليين. ونبعت فكرة المشاركة المحدودة من " القراض " لدى المسلمين. وقانون العقود مدين بالكثير للقرآن الكريم الذي يمنح العقود مكانة كبيرة. ويشير البروفيسور " ووكر " في كتابه " تاريخ الأمم وقوانينها " إلى المؤلفات العربية القديمة حول القانون الدولي التي كانت تلقى إقبالا شديداً في جامعات أوروبا، وإلى أن كتب " جورا بيللي " ـ أن قوانين الحرب ـ بنيت كلها على مؤلفات رجال القانون العرب. ويمكن أن نرجع أصل اتفاقية فيينا حول قانون المعاهدات إلى الطريقة التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاتفاقيات التي كان قد أبرمها ولا سيما " معاهدة الحديبية ". وقبل أن توضع اتفاقية الحصانة الدبلوماسية بوقت طويل، كان رسول الله يمنح مثل تلك الحصانة للسفراء والوفود التي كانت تفد عليه صلى الله عليه وسلم. ويقول البروفسير " رفائيل لامكين " الذي صاغ للأمم المتحدة ما أصبح يعرف باتفاقية " منع الإبادة الجماعية ": إنه صاغ هذه الاتفاقية وفقاً لما جاء في القرآن الكريم الذي هو على حد تعبيره، أكثر الأديان التي عرفها الإنسان تسامحاً وتفتحاً. وليس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في حقيقة الأمر سوى صدى لما انطوت عليه " خطبة الوداع " التي خاطب بها الرسول الكريم المسلمين قبل أربعة عشر قرناً، وبين فيها أنه لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 أيها الإخوة وليس لنا نحن ـ معشر المسلمين ـ من خيار، أمام التحديات التي يواجهنا بها أعداؤنا داخل الوطن الإسلامي وخارجه، وأمام طغيان المادة وتحديات العصر، إلا أن نوحد ونجمع طاقاتنا للثبات أمام كل خطر يهدد قيمنا الروحية، وأمام كل من يحاول أن يطمس معالم هويتنا وشخصيتنا الإسلامية، ذلك أن هذه الأمة لا تصلح إلا بما صلح به أولها، ولا منقذ لها إلا في أن تحتكم في قضاياها كلها إلى الأصول العامة والقواعد الشاملة التي انطوت عليها الشريعة الإسلامية. وكما لبت هذه الشريعة في الماضي حاجات دار الإسلام، في شتى المجالات والأوضاع، على مر القرون، حيث أمدتها بالمبادئ المرنة والقواعد السليمة لحل مشكلات الأفراد والجماعات، تحقيقاً للمصلحة العامة، فإن تلك الشريعة ما تزال، وستبقى قادرة على تلبية حاجات المسلمين في أي زمان ومكان. ولقد حرص أجدادنا، كما هو معروف، على تدوين قواعد الفقه وعلى جمع ما استنبطوه من أحكام وفتاوى بوسائل شتى، مما وفر للأجيال اللاحقة معيناً لا ينضب وثروة طائلة من المؤلفات والدراسات والأبحاث الفقهية التي عالجت مشكلات الناس في أيامهم، والتي تعد اليوم أساساً مكيناً ورصيداً كبيراً لعمل هذا المجمع، الذي شرع في حمل الأمانة بطريقة نأمل أن يحافظ بها من ناحية، على تراث الآباء والأجداد، ويلبي بها، من ناحية أخرى، حاجات هذه الأمة في هذا الزمان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 أيها الإخوة: لا يخفى أن الميادين التي يعمل فيها المجمع ميادين رحبة واسعة، رحابة هذه الشريعة السماوية الخالدة، ذلك أن أهمية الفقه الإسلامي، تتجسد في كونه يتناول، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، حياة الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم، كما يتناول العلاقات بين المجتمعات المسلمة، والمجتمعات الواقعة خارج دار الإسلام. وستنظر الدورة العلمية الفقهية الرابعة للمجمع، بحول الله، طائفة من الموضوعات العامة ذات الصلة المباشرة بحياة المسلمين، ومنها وحدة الأمة الإسلامية، ومنها كذلك الحفاظ على الصحة العامة، ووقاية مجتمعاتنا المسلمة من المخدرات، وحرمة جسم الإنسان، وموضوعات أخرى تتناول شؤوناً مالية واقتصادية واجتماعية مختلفة. وإذا كنا نرجو أن تتيسر لمجمع الفقه الإسلامي أسباب العمل لكي يؤدي رسالته ويحقق الآمال التي تعقدها هذه الأمة عليه، فإن من حقه أن يحظى بدعمها المادي والمعنوي، لذا فإنني أدعو المسلمين كافة، إلى أن يسهموا في إعانة المجمع بكل صورة ممكنة كي يتمكن من الاضطلاع على خير وجه بالمهمة النبيلة التي أنيط بها، وهي خدمة الشريعة الإسلامية، ومن ضمن الأعمال التي ينهمك المجمع في إصدارها " موسوعة القواعد الفقهية " "والموسوعة الفقهية". وأرجو من الله أن يتمكن المجمع من إنجاز هذين المشروعين الضخمين في وقت قريب. واسمحوا لي في ختام هذه الكلمة بأن أرفع إلى مقام خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز أجمل عبارات الامتنان والتقدير لما أسبغه على هذا المجمع وعلى منظمة المؤتمر الإسلامي من ضروب الرعاية والعناية، ولتفضله حفظه الله، بإنابة صاحب السمو الملكي الأمير الجليل سعود بن عبد المحسن بن عبد العزيز عنه، في افتتاح أعمال هذه الدورة. أمد الله في عمر خادم الحرمين الشريفين وأعانه على العمل لما فيه خير المملكة العربية السعودية وخير بلاد المسلمين. واسمحوا لي أيضاً أن أثني على الجهود الموفقة التي بذلها أخي المحترم الدكتور الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي. وأسأل الله أن يوفق المجمع وأعضاءه ومفكريه في العمل لما فيه صلاح هذه الأمة لتعود كما كانت أمة قوية عزيزة كريمة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. سيد شريف الدين بيرزاده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 كلمة معالي رئيس البنك الإسلامي للتنمية الدكتور/ أحمد محمد علي بسم الله الرحمن الرحيم أحمد الله تبارك وتعالى وأصلي وأسلم على رسوله الكريم وعلى صحابته أجمعين. صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبد المحسن آل سعود نائب أمير منطقة مكة المكرمة أصحاب السماحة والفضيلة والمعالي والسعادة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. يسرني أن أعبر عن أجل الثناء للدور العظيم الذي تقومون به في هذا المجمع الموقر لخدمة قضايا الأمة الإسلامية، وبيان حكم الإسلام في كثير من المشكلات والأمور التي جدت في عصرنا الحاضر. إن قيام مجمع الفقه الإسلامي حقق أملا عظيماً للأمة الإسلامية، إذ إنه يمثل الإجماع الذي لم يتيسر للمسلمين بعد عصور الإسلام الأولى، وإن الأمة الإسلامية لتتطلع إلى ما يصدر عن مجمعكم الجليل من آراء وقرارات وفتاوى خصوصاً في القضايا التي نشغل بال المسلمين في هذا العصر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 أصحاب السماحة والفضيلة كما يسعدني أن أنقل لكم شكر البنك الإسلامي للتنمية على استجابتكم الكريمة لطلب البنك النظر في جميع عملياته التي يقوم بها لخدمة التنمية الاقتصادية للدول الأعضاء وبيان الحكم الشرعي في كل منها، وذلك لحرص البنك على أن تكون مسيرته في نطاق مهمته التي حددتها له اتفاقية تأسيسه وهي أن تكون جميع عملياته وأعماله متفقة وأحكام الشريعة الإسلامية السمحة. وما صدر عن مجلسكم الموقر في دورته الثالثة ـ التي انعقدت بمدينة عمان بالمملكة الأردنية الهاشمية ـ أي القرار رقم (1) د / 3 /07 / 86 ـ بشأن عمليات البنك التي تقدم بها للاستفسار عن رأي الشرع في كل منها تم تطبيقه بالكامل، ولقد حرص البنك على الاسترشاد بما جاء في ذلك القرار من مبادئ وأحكام، واتخذها البنك نبراساً في طريق مسيرته نحو تحقيق أهدافه، وفور صدور قراركم بادر البنك باتخاذ ما يلزم من الإجراءات لتطبيق ما جاء فيه، سواء على مستوى الإدارة أو على مستوى مجلس المديرين التنفيذيين للبنك أو فيما يتعلق باختصاص مجلس محافظي البنك. وقد أجرت إدارة البنك بناء على ذلك التعديلات اللازمة على نصوص اتفاقيات تمويل العمليات والمشروعات التي تبرم بين البنك والأطراف المعنية بما يحقق مطابقتها لإرشادات مجلس المجمع الموقر. كما رفعت الإدارة إلى عناية كل من مجلسي المحافظين والمديرين والتنفيذيين للبنك الأمور التي وردت بقرار مجلسكم الموقر، والتي تقع في نطاق اختصاص المجلسين، وأصدر كل من مجلس المحافظين ومجلس المديرين التنفيذيين القرارات اللازمة لتنفيذ التوجيهات التي وردت في قراركم. وإنني إذ أعبر مرة أخرى عن شكر البنك وتقديره لمجلسكم الموقر على هذا العمل الجليل والجهد العلمي القيم الذي سيساعد البنك على الالتزام بوضوح تام بأحكام الشريعة الغراء ليسرني أن أؤكد رغبة البنك في التعاون دوماً مع المجمع الموقر، ولذا سيحرص على تقديم كل ما يجد أو يطرأ بالنسبة لعملياته أو إجراءاته إلى مجلس المجمع الموقر لتكون مسيرة البنك على بصيرة وهدى من الشرع الحنيف. وإن البنك ليسره ـ أيضاً ـ أن يضع إمكانات المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب في خدمة أهداف المجمع الموقر ورهن إشارته فيما يتعلق بالبحوث والدراسات ذات الصلة بالاقتصاد الإسلامي والأعمال المالية والمصرفية بما يتفق ومبادئ الشريعة الغراء. ويسعدني أن أشيد بالتعاون الكريم بين أمانة المجمع والبنك الإسلامي للتنمية، ومن ذلك مشاركة أمانة المجمع الموقر في حلقة عمل بمقر البنك بجدة في شعبان 1407 هـ عن " ربط الحقوق والالتزامات بتغير الأسعار من وجهة النظر الإسلامية"، كما تم التعاون بين أمانة المجمع والبنك في تنظيم ندوة عن " سندات المقارضة وسندات الاستثمار " في مطلع هذا العام، كما ستنظم المؤسستان خلال هذا العام بإذن الله حلقة عن أسواق المال الإسلامية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 أصحاب السماحة والفضيلة إن جدول أعمال هذه الدورة لمجلسكم الموقر حافل بالمسائل التي تهم المسلمين، ومنها موضوعات ذات علاقة وثيقة بالعمل المصرفي والمؤسسات التي تعنى بالاستثمار بما يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، مثل سندات المقارضة وسندات الاستثمار، والإيجار المنتهي بالتمليك، والمرابحة للآمر بالشراء، وتغير قيمة العملة، وإن رأي مجلسكم الموقر في كل مسألة من هذه المسائل سيجعل المعنيين بالأمر على بينة ووضوح، وسيكون خير عون في مجال تثمير الأموال بما يتفق وأحكام الشريعة، وسينير الطريق أمام جميع المؤسسات العاملة في هذا الميدان الحيوي الهام. وإن مشاركة بعض أهل الاختصاص في بعض فروع المعرفة في أعمال هذه الدورة مع أصحاب السماحة والفضيلة ليعد عملاً جليلاً جديراً بالثناء والتقدير؛ إذ في هذه المشاركة ما يعين على وضوح كثير من المشكلات والمسائل التي جدت في عصرنا الحاضر حتى يأتي الحكم الشرعي إزاءها متفقاً مع مرامي الشرع الحنيف بإذن الله تعالى. أصحاب المعالي والسعادة والسماحة يسعدني في هذه المناسبة الكريمة أن أتقدم بخالص الشكر لحكومة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، أعزه الله، على مساندتها لجميع مؤسسات العمل الإسلامي المشترك التي تخدم قضايا التضامن الإسلامي والأهداف المشتركة لأمة الإسلام، وعلى استضافتها للدورة الرابعة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي ورعايتها له. ويسرني أن أعبر عن أجزل الشكر لمعالي الدكتور/ محمد الحبيب ابن الخوجة ـ الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي، على جهوده الموفقة وعلى تعاونه المتصل. ويسعدني أن أعبر ـ أيضاً ـ عن أجزل الشكر على الجهود التي بذلت، وعلى الترتيبات الممتازة التي أعدت لإنجاح أعمال هذه الدورة، وأتوجه إلى العلي القدير أن يوفق مجلسكم الموقر وأن يسدد على طريق الخير والحق خطاه، وأن يتحقق لهذا الاجتماع العظيم كل نجاح في تحقيق أهدافه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الدكتور/ أحمد محمد علي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 كلمة معالي الأمين العام بالنيابة لرابطة العالم الإسلامي الأستاذ/ أمين عقيل عطّاس بسم الله الرحمن الرحيم أحمد الله سبحانه وتعالى وأصلي وأسلم على الرحمة المهداة المبعوث للخلق هادياً ومعلماً وسراجاً منيراً سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. صاحب السمو الملكي أمير منطقة مكة المكرمة بالنيابة عن الأمير سعود بن عبد المحسن، أصحاب السماحة والفضيلة والمعالي والسعادة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. يسرني أن ألتقي بكم في رحاب المملكة العربية السعودية في هذا اللقاء المبارك بحضور هذه الجماعة من علماء العالم الإسلامي الذين حضروا لخدمة المجتمع الإسلامي التي تتجلى فيما تقدمونه من أحكام شرعية مستنبطة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة بطريق الاجتهاد الجماعي الذي أصبح ضرورة من ضروريات الحياة، فأنتم إن شاء الله عدول ممن ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. وإن عالمنا الإسلامي اليوم يعيش وسط تيارات تعصف به، غايتها هدم هذا الدين الإسلامي والتشكيك فيه، ويأبى الله ذلك حيث قال عز من قائل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وقال جلَّ شأنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . لذا فقد أصبح لزاماً أن يجتمع فقهاء العصر للاجتهاد الجماعي للصمود أمام تيارات الغزو الفكري من أعداء الإسلام ولبيان الأحكام الشرعية فيما يستجد من قضايا وأمور في حياتنا. وإن في تراثنا الفقهي سعة لبيان أحكامها وحل معضلاتها تتجلى فيها خصوبة ومرونة الفقه الإسلامي، وإن هذا لبيان في حاضرنا اليوم لا يصدر إلا عن مجمع فقهي يلتقي في رحابه الفقهاء ممن هم أهل الاجتهاد وعدول هذا الوقت إن شاء الله، وإن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز حفظه الله الذي تشهد له مواقفه العظيمة الدائمة بأخذ زمام المبادرة في كل ما فيه خدمة الإسلام والمسلمين، ومنها هذا المجمع الفقهي الذي قدمه هدية منه للعالم الإسلامي حيث رعاه وحباه بكل أنواع الدعم، كما أني أشير إلى التعاون القائم بين هذا المجمع والمجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة التابع لرابطة العالم الإسلامي الذي قدم ويقدم منذ إنشائه الخدمات الجليلة لعالمنا الإسلامي. وأخيراً أسأل الله أن يرينا جميعاً الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أمين عقيل عطّاس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 كلمة معالي وزير الأوقاف بدولة الكويت الشيخ خالد أحمد الجسار بسم الله الرحمن الرحيم هذه ساعة من الساعات الطيبة التي يحبها الله؛ لأنه تجتمع فيها وجوه خيرة وأدمغة اتجهت إلى الخير، ليس لعقيدتها ودينها فحسب، وإنما للدنيا بأسرها، كما كان رسولها صلى الله عليه وسلم، وإذا كنا نسعد بحضورنا بهذا الاجتماع للمجمع الفقهي الإسلامي الرابع، فإننا نحس ونشعر أن هناك أموراً جدت في العالم الإسلامي من المعاملات لا يعرف الناس حكمها وما موقف الإسلام منها. فهناك سندات المقارضة، وسندات الاستثمار وبيع الاسم التجاري والخلو، وما إلى ذلك، وسيجد في المستقبل معاملات أشد تعقيداً من التي ذكرت، ما حكمها؟ وما موقف الإسلام منها؟ هذا المجمع الذي تجتمعون اليوم فيه وهو ثمرة من ثمرات مؤتمر القمة الإسلامي الثالث الذي انعقد بمكة المكرمة، سيأتي بثماره إن شاء الله. إذن لا بد من حلول لهذه المعضلات، ولا بد أن يفتح باب الاجتهاد على نطاقه علماً ودراية، بل وفهما، وفي الأمة رجال على هذا المستوى، فهم ليسوا أقل ممن مضى، ولذلك أرى أن هذا المجمع وهو المجمع الفقهي الإسلامي سيكون هو المصدر لحل المشكلات والمعضلات. أيها الإخوان إن دولة الكويت بصفتها تحتضن مؤتمر القمة الإسلامي الخامس، ويرأسه صاحب السمو جابر الأحمد الصباح أمير البلاد، فإنني أولاً أبلغكم كما حملني لكم تحياته الطيبة وتمنياته الخالصة لهذا المؤتمر، وحملني دعوة للاجتماع القادم وهو الخامس لكي يكون في الكويت، فأهلاً وسهلاً بكم في بلدكم الكويت، وأبلغكم أداء للأمانة ما حملني سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء من تحياته الطيبة وأمانيه المخلصة لكم في هذا المؤتمر. أيها الإخوان يجب علي وأنا في هذا الموقف، ويجب علينا جميعاً ونحن في هذا المؤتمر أن نشيد وأن نشكر المسؤولين في المملكة العربية السعودية البلد الطيب المضياف الذي احتضن هذا المؤتمر مؤتمر الفقه الإسلامي الرابع، واحتضن من قبله مؤتمرات كثيرة، ودافع عن الإسلام وحمى العقيدة من أن تدخلها الشوائب، إن الإسلام كالماء، عند نبعه صاف كالزلال، فإذا صار هذا الماء من نبعه متجهاً إلى مصبه أخذ من خشاش الأرض حتى أصبح آسنا، فالحفاظ على العقيدة شيء مهم قبل كل شيء، فيجب أن نحافظ على التوحيد أولاً وقبل كل شيء من أن تدخله الشوائب، وكذلك يجب علينا جميعاً أن نشكر المسؤولين في هذه البلاد، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز. فجزاهم الله خيراً وجعل ذلك في موازينهم يوم القيامة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا حسب النيات وحسب المقاصد، والله الموفق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته خالد أحمد الجسار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 كلمة معالي رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا في أسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه وخاتم رسله وأنبيائه، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد ففي مقيدات التراجم والسير أن ثلة من العلماء تذاكروا عن آية من كتاب الله تعالى يناسب أن ترسم على طرة التنزيل فيما لو أريد ذلك معبراً عن وظائف القرآن الكريم فافترعها عالم منهم بقول الله تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} . ثم عن آية من كتاب الله تعالى تعبر عن وظائف أهل القرآن الكريم، فأجمعوا على قول الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} في نظائر لها، واليوم نعايش ساعة من أبهج ساعات العمر نباشر فيها جانباً مهماً من جوانب وظيفتنا الرئيسية في هذه الحياة الدنيا، من وظائف أهل القرآن وظيفة التعبد بالتفقه والبلاغ في فقه السنة والكتاب وقفوا أثر السلف الصالح للاتباع وذلكم في الدورة الرابعة لمجمع الفقق الإسلامي، في فواتح ساعاته وعزيز لحظاته مكللة بوجوه أهل العلم وتشريفهم، مفتتحة برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية حفظه الله بنيابة صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبد المحسن بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله تعالى أمير منطقة الحرم الحرام أمير منطقة مكة المكرمة حرسها الله تعالى، فشكر الله لخادم الحرمين الشريفين جهوده في سبيل العلم والعلماء، وشكر الله لصاحب السمو تشريفه، وشكر الله لكم أيها العلماء الأجلاء تشريفكم وإجابتكم الدعوة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 صاحب السمو الملكي أيها العلماء الأجلاء أيها الجمع الكريم يسير الناس في أرض الله طولا وعرضا ويقطعون بلاد الله شرقاً وغربا، وكل الخلق يبحث عن حياة راشدة آمنة مستقرة، وكل الخلق في الحقيقة قاعدون متخلفون ما برحوا مكانهم إلا من عصم الله تعالى بأن عاش والإسلام بين جوانحه، وقد أعمل فيه جوارحه فيعيش تحت مظلة الإسلام فوق أي أرض وتحت أي سماء؛ لأن الإسلام هو المنقذ الوحيد للبشرية بأجمعها والإسلام مع شرفه وعظيم قدره، وأنه المنقذ الوحيد للبشرية ما يزال على سنة الصراع بين قوى الخير والشر، وينهش أهله الأعداء من كل جانب، فعدو واقف في الفناء ليقتحم الدار وعدو ممسك بعضادة الباب وعدو رابض في وسط الأمة يشرب بكأسها ويتزيا بزيها، ويدعو إلى غير وجهتها، وهذا هو أعدى أعداء أمة الإسلام، وهو الجواد الذي يمتطيه العدو الخارج عنها طلباً لإدغام الأمة في غيرها وخفضها عن مكانتها وكسر حاجز النفرة بينها وبين الكافرين، ولكن يعيش بإذن الله تعالى لتلكم الحفنات الهابطة حراس الشريعة القائمون بوظائف أهل القرآن في عامة ديار الإسلام ومنازله، فإنهم وإن تباعدت منهم واختلفت منهم الأنساب والأسباب فإن بينهم رحما ماسة وشجنة متعاطفة وآصرة متآخية متقاربة تحت سلطان الجامعة الكبرى والجامعية الشاملة شريعة الإسلام الخالدة. ومجمعكم يعلق المسلمون عليه آمالاً وآمالاً في أن يقوم بوظائف أهل القرآن وأن يقوم بوظائف الكتاب والسنة، وأن يدعو إلى الله على بصيرة، فأجمعوا أمركم رحمكم الله تعالى لإزهاق تلكم البواطن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 أيها العلماء الأجلاء: لقد أتيتم من بلادكم في سبيل كلمة الحق، وتفرقتم منها لتجتمعوا هنا لجمع كلمة المسلمين على الحق، فمهمتكم جليلة وعظيمة ومتعددة الجوانب، وإن من ورائنا نواة تنتظر منكم السقي والتعهد شباب الأمة مجدها ودمها المجدد لحياتها، فخرها إذا عدت المفاخر، وذخرها إذا عدت الذخائر، فلا بد من النزول في ساحة المعاصرة منكم أيها العلماء الأجلاء، ومن كل عالم يسير إلى الله على بصيرة يسمع كلمتي هذه من هذا المقام المبارك لصيانة شباب الأمة من الانحرافات والاتجاهات الفكرية والتموجات العقدية والطائفية والحزبية التي تميد بهم ذات اليمين وذات الشمال عن صراط الله المستقيم. وهناك في بلاد الله ويلات طاف طائفها وفيها من جاءتهم النذر فتماروا فيها، وفي بلاد الله أناس يثيرون عليه النقع هم ضرائر للحق. في سوق المعاصرة مذاهب ونحل محاها الإسلام دعاة إليها وفي جوانبهم رماة والمسلمون هم الهدف، ومن أعظم ما يكون وأسوأ ما يكون هو المذاهب ذات الفكر العلماني التي تنتشر في عدد كبير من مكتبات بلاد المسلمين، وقد كنا نفرح أشد الفرح لقيام المعارض العالمية للكتاب. وإذا بالفرحة تعود ترحة فتصل الأخبار ونشاهد بالعيان أجنحة واسعة فيها كتب فخمة مجلدة أحسن تجليد وأعظم إخراج وبأرخص الأسعار، وتدعو إلى إنكار وجود الله في بلاد المسلمين. هذه من أسوأ الويلات التي يعايشها أهل الإسلام فماذا أعددنا لها؟ وماذا عمل المسلمون لها، وهي مهمتكم أيها العلماء ومهمة رجال هذا المجمع. في بلاد الإسلام جنسيات مسلمة، لكنها تحمل تجنسات متعددة؛ تجنساً في الفكر وتجنساً في اللغة وتجنساً في التراث إلى آخر ما هنالك من تلكم التجنسات الماسخة للأمة من مكانتها في بلاء متناسق مما يثير الرهج ويؤذي المهج، وأمام هذا أقول ألية ضارة ويمين قارة إن هذه المعايشات المؤلمة التي يعايشها المسلمون هي بحاجة إلى جهودكم وإلى إخلاصكم ونصحكم ومناصحتكم ودعوتكم الصادقة؛ لأن هذا هو من باب استصلاح أحوال المسلمين، واستصلاح أحوال المسلمين هو مهمة المهمات لنا في هذه الحياة الدنيا، وهو رأس في وظيفة أهل القرآن، وقد طرز الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى كتابه الحافل العظيم في شرح صحيح الإمام البخاري بكلمة نقلها عن الوزير الحافظ ابن هبيرة الحنبلي رحمه الله تعالى أنه قال: " إن استصلاح أحوال المسلمين هو أولى من مجاهدة الكافرين للإدخال في الإسلام؛ لأن استصلاح أحوال المسلمين هو من باب المحافظة على رأس المال وهل يطلب الربح من يفقد رأس ماله، فأجمعوا أمركم رحمكم الله تعالى. فيا سعادة من راغ على تلكم البواطيل ضرباً باليمين بلسان الحجة والدليل، وكم للدليل في العقلية الإسلامية من نفاة ويعرفه الذين آمنوا كما يعرفون أبناءهم، والله تعالى يحفظنا وإياكم بالإسلام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 كلمة معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي قيض في هذا العصر في مشارق الأرض ومغاربها أئمة ودعاة مبشرين ومنذرين، يغرسون في النفوس العقيدة الصحيحة، ويذكرون المؤمنين عامة بآيات الله ويوقظون الروح الديني في المسلمين، وينشرون بينهم في أطراف المعمورة صحوة إسلامية مباركة تقود إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وتهدي العالمين سبل السلام وطرق السعادتين. وقد عزز سبحانه منهجه القويم بقادة يحرسونه وساسة يعتدون بهذا الدين، يمضون في تأييده، ويسعون طاقتهم للالتزام به والانقياد إليه، ويزعون بالسلطان الذي ائتمنهم الله عليه ما لا يزعه سبحانه بالقرآن؛ صوناً للعقائد وحماية للمشاعر ودرءاً للمفاسد وجلباً للمصالح. وجعل العزيز الحكيم من وراء هؤلاء وأولئك علماء عاملين وفقهاء نابهين يأخذون بكتاب الله الكريم. ويستهدون بهدي رسوله الأمين في كل مجال من مجالات الحياة، وينزعون في تقريراتهم وأنظارهم وأحكامهم وفتاويهم منزع الراشدين والأئمة المتبعين فلا يجتهدون في موارد النصوص، ولكنهم أمام تغيرات الحياة وتطوراتها واختلاف الأزمان والأعراف يمثلون الوقائع بنظائرها، ويشبهونها بأمثالها، ويردون بعضها إلى بعض فيقيسون ويستعينون بالقواعد الكلية فيما وراء ذلك، وهي كثيرة وكثيرة جداً، عليها يقوم الاجتهاد، وبها تصان الشريعة من التحريف والتغيير والتبديل، وتناط الأحكام الاجتهادية بالمصالح المعتبرة، وتراعى فيما يصدرون عنه مجتمعين حكمة التشريع الإسلامي وأسراره النفيسة، فلله الحمد، لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، حمداً يكافئ نعمه التي لا تحصى وآلاءه التي لا تستقصى، وأصلي وأسلم على النور المبين، لسان الحق الناطق بالصدق، أمين الله على وحيه، وخيرته من خلقه، إمام المتقين، ورسول رب العالمين، وخاتم النبيين، وحجة الله على خلقه أجمعين، سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 حضرة صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبد المحسن نائب أمير منطقة مكة المكرمة الموقر حضرة صاحب المعالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي المبجل أصحاب المعالي والسماحة والفضيلة المكرمين. أيها الجمع الكريم السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد إن الأيام والشهور لتجري متوالية متعاقبة إلى قدر. وقد مضى على اجتماعنا السابق بهذه القاعة من مقر مجمعكم الموقر ستة وعشرون شهراً تفصلنا عن الدورة الثانية لأعمال مجلسكم الفقهي هذا، كما مضى على انعقاد الدورة الثالثة بعاصمة البلقاء عمان ستة عشر شهراً، ونحن فيما بين الدورة الأخيرة ودورتكم الرابعة هذه نعيش وتعيش الأمة الإسلامية أحداثاً جساماً لا يمكن أن يغفل عن ذكرها أحد، كما أنه من اللازم أن تتوافر الجهود المخلصة للدعاة والساسة والعلماء على مواجهتها؛ تصحيحاً للمسار، وتخليصاً للديار، وجمعا لكلمة الأمة الإسلامية، ومعالجة لقضاياها المتنوعة في مجال السياسة والنضال والاجتماع والاقتصاد ونحوها بروح من الدين القيم ومدد من هدي الرحمن. فالحرب المشتعلة بين الأختين الشقيقتين المسلمتين العراق وإيران دخلت عامها الثامن وهي لا تزيد إلا استعاراً. تهدم الديار، وتقوض المعالم، وتبيد الأبرياء، وتلتهم الطاقات الحية المسلمة التهاما، وتجر بعيداً إلى الوراء مجتمعا إسلامياً كنا نعده قوة ومكاسب، فإذا هو يطويه التباب والوباء ويمحقه الدمار والفناء، وعبثاً توسطت أطراف متعددة، وصدرت الدعوات والقرارات من أجل وضع أوزار هذه الحرب وإطفاء نارها، وهي إن لم تجد مواجهة صادقة فسوف تستشري في المنطقة كلها وتصبح تهديداً للسلم العالمية، ومن المعلوم أن الإسلام صلح على الحقيقة، ألا ترى أنه لا قتال بين أهله وأنهم يد واحدة على من سواهم، وقد أمرنا الله بالتقوى وإصلاح ذات البين في قوله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} كما دعانا عز وجل إلى صيانة الأخوة الإسلامية وحمايتها من كل تصدع فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . وما يجري بأفغانستان من إبادة جماعية للمسلمين وتقويض للمدن والقرى، وقتل للأنفس البشرية البريئة على أيدي الدخلاء وعملائهم ليحمل العالم بأسره على تقدير ومظاهرة جهود المجاهدين الذين يستميتون في سبيل إعلاء كلمة الله وحماية عقيدتهم وتحرير بلادهم المسلمة من كل عدوان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 والانتفاضة المباركة التي نعيشها هذه الأيام مع الشيوخ والنساء والشبان والأطفال بالضفة الغربية وغزة وبالأراضي المحتلة لتدعو إلى الفخر والاعتزاز بأبطال الصراع المجاهدين الفلسطينيين الذين استجابوا لقوله عز وجل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} . فبذلوا نفوسهم في سبيل الحق، وجادوا بأرواحهم لتحرير أوطانهم ومقدساتهم مرددين: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} . راموا النعيم السرمدي فأبعدوا في نيله مرمى وعز مرام جنحوا إلى العلياء فاهتجروا المنى فعلى جفونهم المنام حرام إخوان صدق منهم من قد قضى نحبا، ومنهم من له يستام باعوا النفوس فحبذا من مشتر رب لديه البر والإنعام فعلى نفوسهم الزكية رحمة من ربهم وتحية وسلام وعلى وجوههم البهية نضرة الـ إجلال موصول بها الإكرام ولا تزيد هذه الانتفاضة المسلمين إلا تثبيتاً في مواقفهم، واستبسالا في جهادهم. وإيماناً بأن الأقصى وما حوله من أرض مباركة ستنزاح عنه بإذن الله مهما طال الزمن القوات الغاشمة المغتصبة، فتتحرر الأرض وينجز الوعد ويهزم الأحزاب، ويعود القدس قبلة المسلمين الأولى، كأول عهده آهلاً بالمؤمنين، مكللاً بالنصرة والعزة. ألا إن نصر الله قريب. وإن هذه الأحداث الجسام وأمثالها التي يعاني منها المسلمون في أطراف البلاد وفي البلاد غير الإسلامية فتهددهم بالذوبان والمحق لتشغل بال المسلمين عامة والمسؤولين منهم خاصة، فتدعوهم إلى التفكر والتدبر، وبذل الجهد من أجل إقامة العدل ونشر الأمن ونصرة المجاهدين أينما كانوا. وهي تدعونا نحن أيضاً إلى جانب نشاطاتنا العلمية المكثفة التي تجدونها حضراتكم مفصلة في التقرير الأدبي الذي بين أيديكم، إلى العناية في هذه الدورة الرابعة بقضايا الساعة هذه. فنسهم قدر المستطاع بواجبنا في تحقيق وحدة أمتنا الإسلامية، وبناء عزتها، وصيانة حقوقها، والذود عنها، ونشر تعاليمها الإلهية المقدسة التي كان بها ظهورها على غيرها، وبيان سبل الخير والسلام عن طريقها وطريق الدعوة إليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 ولئن تم هذا اللقاء بحمد الله وتوفيقه ولو بعد شهور من موعده المقرر له فإن ذلك من فضل الله علينا وجميل عنايته بنا، فهذا خادم الحرمين الشريفين وحامي حماهما الملك فهد بن عبد العزيز نصره الله وأيده، وهو الذي واكب هذا المجمع من تأسيسه، وتعهد خطاه برعايته، وذكره غير مرة في مجالسه، ونوه في تصريحاته بدوره العلمي الكبير وبرسالته العظيمة في البحث عن طرق تحقيق الوحدة الإسلامية الشاملة، وأسباب ترسيخ الأخوة بين كل شعوب هذه الأمة، على أساس من وحدة العقيدة، والاشتراك في القيم والمبادئ الخالدة لهذه الملة الحنيفية، وفي علاج المشاكل ومواجهة التحديات التي تتعرض لها في هذا العصر أمتنا الإسلامية، اعتماداً على أحكام الشريعة الغراء وروح الإسلام السمحة، واستناداً إلى كتاب الله العزيز الحكيم وسنة نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم، قد منح - أجزل الله جزاءه - مجمعكم الموقر، مكرمة سنية مكنته من عقد هذا الاجتماع الجليل الذي يضم أهل الحل والعقد من كل بلد، ليتدارسوا في دورتهم الرابعة ببوابة الحرمين الشريفين عروس البحر الأحمر مدينة جدة القضايا المعروضة عليهم والتي أعدوا لها طوال هذه السنة بحوثهم الممتعة ودراساتهم القيمة. ولقد وجدنا من أعضاده الميامين وأعضاء حكومته الرشيدة أصحاب السمو الملكي وأصحاب المعالي كل عون ودعم جعلنا نمضي قدماً بهذه المؤسسة العلمية في طريق الإنتاج والعمل الجاد والعطاء النافع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 ولا بد في هذه المناسبة الكريمة من شكر سمو الأمير الحسن ولي عهد المملكة الأردنية الهاشمية على تشجيعه ورعايته ومن الاعتراف بالفضل والتقدير للدعوة الكريمة التي أعلن عنها معالي الشيخ خالد أحمد الجسار، أحسن الله إليه، والصادرة عن سمو أمير الكويت المبجل لعقد الدورة الخامسة القادمة بإذن الله في رعايته وبأرض الكويت المضياف الشقيق. وإني لأشيد بما يلقاه المجمع من رعاية من المؤسسة الأم والأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي وبما حققه من تعاون وإنجازات مع البنك الإسلامي للتنمية، والمعهد الإسلامي للبحث والتدريب التابع له، ومع رابطة العالم الإسلامي، ومجمعها الفقهي، ومركز الدراسات الإسلامية بمؤسسة الملك فيصل الخيرية. وإن أنس في هذا المقام فلن أنسى الرحم العلمية التي تربطنا بمختلف الجامعات بالمملكة مثل جامعة أم القرى ومركز البحث فيها، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض والقصيم، وجامعة الملك عبد العزيز، ومركز الملك فهد للدراسات الطبية، ومركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي بها. ولقد اتسعت بفضل الله دائرة التعاون هذه فشملت القطاع الخاص، وأرسيت قواعد للتعاون مع مؤسسة اقرأ، وتعاطف مع المجمع أصحاب الفكر والعلم والخير والبر لما لاحظوا من جد في سيره، وصدق في عمله. فتقدموا بتبرعات لمكتبته مثل بيت التمويل الكويتي، والسادة الدكتور سمير شما، والأستاذ عبد الله بن عدوان، أو قاموا بمساعدته على طبع مجلته كالذي فعلته في العام الماضي رابطة العالم الإسلامي بطبع العددين الأول والثاني منها وقام به في هذه السنة السري الماجد المحسن معالي السيد حسن عباس شربتلي بطبعه للعدد الثالث الذي بين أيديكم بأجزائه الثلاثة، أجزل الله ثوابهم جميعاً وأدام معروفهم. ولعمري إن مما يزيد في تشجيعنا واعتزازنا بالقيام بالرسالة المجمعية تشريف أصحاب المعالي الوزراء وأصحاب السماحة العلماء ضيوفنا الكرام الذين جاؤوا من المشارق والمغارب يؤكدون ـ بحضورهم هذه الدورة معنا ـ ما نجده دائماً لديهم من تقدير وتعزيز ومساندة ودعم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 إن العلاقة بحمد الله لدائمة متينة، وجيدة مثمرة بين المجمع ووزارة الأوقاف المصرية، والأزهر الشريف، وكلية الشريعة بالجامعات الأزهرية، ومجمع البحوث الإسلامية، وهي على أكرم ما تطمح إليه النفس قوة مع وزارة الأوقاف، والموسوعة الفقهية بالكويت، ومنظمة الطب الإسلامي به، وعلى أفضل ما يكون عليه التعاون بين المجمع وبين مؤسسة آل البيت بالأردن " مجمع الحضارة الإسلامية"، وكذا ما جد ويجد من تواصل العمل العلمي المشترك مع الجامعة الزيتونية التي وافت البشائر ببعثها منذ شهر، ومع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية برباط الفتح التي تتولى التنسيق معنا والإعداد لتنفيذ أحد مشاريعنا، وجامعة القرويين العتيدة بفاس العتيق وتطوان ومراكش الحمراء، ومع وزارة الأوقاف بالعراق التي وافتنا في هذه المدة الأخيرة ومن قبل، ببعض منشوراتها التراثية القيمة. وإن هذا التعاون العلمي المكثف، الذي كله جهد وعطاء وبذل وسخاء، ليجعلنا نؤمن بأن الغد لنا ولأمتنا الإسلامية، وذلك متى استأنفت هذه الأمة دورها الجاد العلمي في تعديل سلوك المجتمع الإنساني والبعد عن الهاوية التي تتردى فيها الحضارة المادية بسبب عناصر الفناء والإبادة فيها. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . ومتى كانت أعمالنا في مجمعكم ماضية على الوجه الذي بينا، وكانت خالصة لله ابتغاء التوفيق إلى الحق وتحقيق المقاصد السامية الدينية والشرعية، وكان التعاون عليها سنة مطردة ومنهجاً قائماً، لا يلتبس مع الأهواء ولا يزيغ مع الباطل، ولكن يقوم على النظر والتدبر والتشاور والمراجعة والتكامل والتحقيق، التي هي سمات الاجتهادات الجماعية، في بلوغ الهدف من نشاط المجمع ودراساته وقرارات مجالسه تكون بإذن الله ذات جدوى وتحقق الغرض منها بإذن الله، فتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر. وإني وإن أوجزت القول فلا يفوتني أن أتقدم بجزيل الشكر إلى سماحة الشيخ الجليل عبد الله البسام على مساعداته النفيسة الكريمة، وأن أثني على الجد والعمل الدؤوب وحسن التدبير وفائق العناية التي يتسم بها سماحة رئيس مجلسنا الشيخ الدكتور بكر أبو زيد في متابعته الدائمة لعمل المجمع وإشرافه بنفسه على الندوات العلمية واللجان التخصصية طوال السنة، كما يطيب لي أن أذكر بكامل التقدير والإكبار الجهود العلمية المباركة والدراسات الفقهية العميقة التي تقدمتم وتتقدمون بها في هذه الدورة أنتم أصحاب السماحة والفضيلة والمعالي والسعادة حضرات الأعضاء الموقرين والخبراء المبرزين. وختاماً يسعدني أن ينتظم جمعكم الكريم في مجمعكم هذا، وأرحب بكم أجمل ترحيب في هذا الموسم الديني الفقهي الاجتهادي الإسلامي، وأتمنى لكم طيب الإقامة بين ظهرانينا في بلد مقر مجمعكم المبارك، معتذراً عن كل تقصير قد حصل ويحصل في هذه الدورة، فإن أشياء كثيرة خارجة عن طاقتنا، وأدعو الله أن يسدد خطانا جميعاً ويجري الخير على أيدينا، إنه سميع مجيب، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 كلمة الوفود المشاركة ألقاها بالنيابة سعادة السفير الدكتور عمر جاه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين سيدنا ونبينا ومولانا محمد بن عبد الله النبي العربي الأمي الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. نحمدك اللهم على نعمة الإسلام الذي اخترته للناس كافة {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} صدق الله العظيم. نستغفرك اللهم ونتوب إليك ونتوكل عليك ونعوذ بك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبد المحسن نائب أمير منطقة مكة المكرمة صاحب المعالي السيد شريف الدين بيرزاده الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي صاحب الفضيلة الدكتور بكر أبو زيد رئيس مجمع الفقه الإسلامي. أصحاب الفضيلة والمعالي والسادة إخواني أعضاء مجمع الفقه الإسلامي ضيوفنا الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن أعضاء مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة يشرفني أن أحييكم جميعاً وأتقدم بالشكر والتقدير لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود ولحكومة المملكة العربية السعودية الرشيدة، ولشعبها الكريم المضياف باسمنا جميعاً نشكر هذه المملكة ومليكها وشعبها على تحمل مسؤولية حماية الأراضي المقدسة ورعايتها، بتوفير الأمن والاستقرار فيها. كما نشكر هذه المملكة وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين على استضافة مجمع الفقه الإسلامي ورعايته بدعم مادي ومعنوي سخي، ندعو المولى جلت قدرته أن يجازيهم عنا خيراً وأن يديم علينا جميعاً نعمة الأمن والاستقرار، كما نتضرع إليه سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، إنه سميع قريب مجيب الدعوات. ها نحن اليوم نجتمع، وللمرة الرابعة، في هذه البقعة الطاهرة المباركة وفي هذه الظروف الدقيقة التي تواجه فيها أمتنا الإسلامية سلسلة من التحديات في كل ميدان من ميادين الحياة، ولقد أصبحت هذه التحديات تهدد وجودنا كخير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 نجتمع اليوم ونحن نمثل نخبة من علماء الأمة ومفكريها لنتدارس قضايا العصر ومشاكل الحياة في محاولة لإيجاد حلول عملية لهذه المشاكل في ضوء شريعة الإسلام الغراء. فسلاحنا الوحيد في هذه المعركة المصيرية هو إيماننا بالله سبحانه وتعالى وتمسكنا بكتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واتباع سنة نبيه المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وبهذا السلاح نستطيع أن ندخل معركة الاستنباط والاجتهاد الجماعي مطمئنين لقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} . راجين من المولى عز وجل أن يلهمنا من لطائف حكمته وفيوضات أنواره ما ينير لنا الطريق إلى الحق ويهدينا إلى سواء السبيل {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} صدق الله العظيم. وغني عن البيان أيها الإخوة الأفاضل أن أنظار الأمة موجهة إلينا وأن مآلها في إيجاد حلول عملية لمشاكلها الاجتماعية والاقتصادية معلقة علينا. ولأننا لا نستطيع أن نخيب آمالهم فينا ينبغي أن نتسلح بسلاح الإيمان ونتحلى بالصبر وسعة الصدر، ونبذل الغالي والرخيص في سبيل الوصول إلى الحق الذي يكفل لنا حياة شريفة وعزيزة في ظل القرآن الكريم، الذي قال فيه الحق سبحانه وتعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . صاحب السمو وأصحاب المعالي والسعادة، قبل أن اختتم هذه الكلمة أريد أن أنوه بالجهود المشكورة التي يبذلها فضيلة الدكتور بكر أبو زيد رئيس المجمع وبالطريقة العملية التي أدار بها مداولاته في الماضي والتي نأمل أن يدير بها مداولاتنا في هذه الدورة وفي الدورات القادمة إن شاء الله، لكي نصل بسفينة بحثنا هذه إلى بر الأمان في إطار شريعتنا السمحة، كما أسجل شكرنا وتقديرنا لفضيلة الشيخ الدكتور الحبيب ابن الخوجة الأمين العام للمجمع، نشكره على دقة التنظيم وحسن الأداء التي تتميز بها إدارته لشؤون الأمانة، على الرغم من قلة الموارد المالية، ولا شك أن الذي شد أزره في هذا هو إيمانه بالله، ووجود الشباب المؤمن الذي يقف وراءه وينفذ أوامره، فجزاهم الله عنا خير جزاء، وباسمكم جميعاً أشكر حكومة دولة الكويت وعلى رأسها أمير دولة الكويت وشعبه على دعوتهم الكريمة لاستضافة الدورة الخامسة لمجمع الفقه الإسلامي. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. د/ عمر جاه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 رسالة صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال ولي عهد المملكة الأردنية الهاشمية إلى معالي رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم معالي الأخ الكريم الدكتور بكر أبو زيد حفظه الله تعالى رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فقد انتهزت فرصة مشاركة الأخ الدكتور عبد السلام العبادي، في دورة المجمع التي ستعقد في جدة، فرغبت أن يحمل إليكم رسالتي للاطمئنان على صحتكم ولينقل إليكم خالص تحياتي وأطيب تمنياتي مقرونة بالدعاء إلى الله العلي القدير أن يديم عليكم الصحة والعافية، ويكلل جهودكم الخيرة بالتوفيق والنجاح، إنه سميع مجيب الدعاء. ولقد تابعت باهتمام بالغ الترتيبات الخاصة بانعقاد دورة المجمع الرابعة، وسررت بمواصلة هذه المؤسسة العلمية الدولية الإسلامية لمسيرتها، وعملها الدؤوب لأداء رسالتها في خدمة الإسلام والمسلمين، خاصة في مواجهة القضايا المستجدة التي تحتاج من علمائنا النظر والبحث، لإيجاد الحلول الناجعة على هدي من شريعتنا الإسلامية الغراء، ولقد لاحظت أن موضوعات دورتكم هذه تمتاز بالجدية والأصالة كتلك الموضوعات التي بحثت في دورة المجمع الثالثة التي عقدت في عمان، فالأمة الإسلامية جميعها أصبحت تنظر إليكم بعين الأمل والدعاء لأن يسدد الله خطاكم وليعينكم على الخروج بقرارات وتوصيات تلبي طموحات أمتنا الإسلامية وتحقق رجاءها في علمائها وفقهائها الأجلاء، فهي في هذه الأيام أحوج ما تكون إلى كل جهد خير يقدمه الفقهاء والعلماء إليها. فموضوعات أبحاثكم متنوعة وهامة، ووحدة الفكر والرأي والكلمة وجمع الصف لأمتنا الإسلامية هو كل ما نهدف إليه، في هذا الوقت الذي نرى فيه أمتنا مستهدفة في هويتها وتراثها الإسلامي. واللَّه نسأل أن يوفقنا في مسعانا وأن يأخذ بيدنا لما يحبه ويرضاه. حفظكم الله ورعاكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 رسالة صحاب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال ولي عهد المملكة الأردنية الهاشمية إلى معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم سماحة الأخ العزيز الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فيسرني أن يحمل رسالتي لسماحتكم الأخ الدكتور عبد السلام العبادي، بمناسبة مشاركته في ندوة مجمع الفقه الإسلامي، لينقل إليكم خالص تحياتي وأطيب تمنياتي مقرونة بالدعاء إلى الله العلي القدير، أن يديم عليكم الصحة والعافية، ويكلل جهودكم الخيرة بالتوفيق والنجاح. ولقد اطلعت على المعلومات الخاصة بانعقاد دورة المجمع الرابعة، فسررت كثيراً بمواصلة هذا المجمع العلمي الدولي الإسلامي لمسيرته الخيرة، بغية تحقيق الأهداف والغايات النبيلة التي أنشئ من أجلها، ولا شك بأن قيامكم على أمانته العامة له أكبر الأثر في نجاح قراراته وتوصياته، فرسالة هذا المجمع هي موضع اهتمام ومحط أنظار أمتنا الإسلامية التي ترجو من علمائها وفقهائها الأجلاء مساعدتها على جمع كلمتها في الرأي والفكر والصف، خاصة في هذا الوقت الذي نجد أمتنا مستهدفة من الطامعين في خيراتها وموقعها، والذين يخططون لبقائها في فرقة وعزلة، ويعملون ما أمكن لإضعاف إيمانها وتمسكها في عقيدتها، مستغلين نفوس الحاقدين والضعفاء والمندسين بين صفوفنا. نسأل العلي القدير وندعوه أن يسدد خطانا ويؤيد مسعانا جميعاً لكل ما فيه خير الإسلام والمسلمين آملين أن يوافينا الأخ الدكتور العبادي بعد عودته إن شاء الله بكل ما توصلتم إليه من قرارات وتوصيات، ونحن دائماً على العهد لتسخير ما نملك من أجل خدمة أمتنا الإسلامية وقضاياها. حفظكم الله ورعاكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً إعداد معالي الدكتور محمد علي البار عضو الكليات الملكية للأطباء بلندن وجلاسكو وأدنبره مستشار قسم الطب الإسلامي بمركز الملك فهد للبحوث الطبية ـ جامعة الملك عبد العزيز بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين وآله الطيبين وصحبه الميامين. أما بعد، فإن موضوع غرس الأعضاء موضوع حساس لأنه يتصل بالأحياء والأموات، وقد تقدم الطب في العشرين عاماً الماضية تقدماً كبيراً بحيث فتح آفاقاً جديدة في هذا الميدان وخاصة بعد ظهور مفهوم موت الدماغ، وبعد التقدم الجراحي الواسع، وبعد استحداث عقاقير جديدة فعالة في تثبيط جهاز المناعة الذي يقوم برفض الأعضاء المغروسة. وقد بحث الفقهاء الأجلاء هذا الموضوع بشكل من الأشكال منذ عهود بعيدة، عندما قام الأطباء بتوصيل العظام بعظام الأموات من بني البشر أو بعظام الحيوانات، وكانت هذه العظام الموصولة تفيد كثيراً، وإن كان الجسم يلفظها بعد فترة ويمتصها، وتأتي فائدتها من أنها تعمل كالسقالة التي يتم عليها البناء ثم تزال. وقد توالت الفتاوى في هذا الموضوع منذ ظهور نقل الدم، الذي يعتبر طبياً، جهازاً من أجهزة الجسم يحتوي على خلايا متنوعة. ثم اتسع النطاق مع ظهور عمليات زرع (غرس) الأعضاء المختلفة. وقد قسمنا هذا البحث إلى ثلاثة فصول لا بد منها: الأول: في تاريخ غرس الأعضاء. الثاني: في تعريفات وتصنيف غرس الأعضاء. الثالث: الموقف الفقهي من غرس الأعضاء. وفي نهاية الفصل الأخير ذكرنا الأسئلة التي يثيرها الأطباء العاملون في هذا الحقل. وذلك بعد حضور ندوة خاصة في هذا الموضوع نظمها المركز الطبي لنقل الكلى في الرياض في 28 محرم 1408 هـ (21/9/ 1987 م) وشارك فيها كاتب هذه السطور بإلقاء محاضرة أساسية عن مفهوم موت الدماغ بين الطب والدين والقانون، كما شارك في المناقشات التي تمت في موضوع غرس الأعضاء ومشاكله وصعوباته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 تاريخ غرس (زرع) الأعضاء إن موضوع غرس الأعضاء ليس أمراً حديثاً يشهده القرن العشرون، كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، ولكنه أمر قديم عرفته البشرية بشكل من الأشكال البدائية، وفي بعض الأحيان بصورة متقدمة نسبياًَ. وقد عرف الإنسان في العصر البرونزي عملية التربنة Trephine وهي إزالة جزء من عظم القحفة (Cranium) نتيجة إصابة الرأس. وقد وصف جوثري في كتابه الطب (1) جمجمة أجريت لها عملية تربنة ثم أعيدت قطعة العظم المأخوذة بعد فترة وذلك منذ العصر البرونزي (وأوضح صورة تلك الجمجمة) . ويبدو من الحفريات القديمة أن المصريين القدماء عرفوا عمليات زرع الأسنان التي أخذها عنهم اليونان والرومان فيما بعد (2) وتدل المكتشفات الأثرية على أن سكان الأمريكتين قد مارسوا زرع الأسنان قبل أن يعرفها الأوربيون، وكذلك عرف الأطباء المسلمون زرع الأسنان في القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) (3) . وقد ورد في كتب السنة ((أن قتادة بن النعمان رضي الله عنه، أصيبت عينه يوم بدر ويرد في رواية يوم أحد فندرت حدقته فأخذها في راحته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأعادها إلى موضعها، فكانت أحسن عينيه وأحدهما بصراً)) أخرجه البيهقي وابن عدي والطبراني وأبو نعيم وأبو يعلى) (4) . وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم. وهو أول زرع للعين Replatation (أو إعادة زرع)   (1) Guthrie D.A History of Medicine. Philadelphia USA. Lippincott co. 1946 P.12 (2) Peer L.A. Transplantation of tissue Baltimore. USA Williams wikins co. (3) Peer L.A. Transplantation of tissue Baltimore. USA Williams wikins co. (4) نقلاً عن سعيد حواء في كتابه: " الرسول " ج2/ ص 97، الطبعة الثانية، 1971 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 وقد وصف الجراحون الهنود القدماء عمليات بارعة في إصلاح الأنف والأذن المقطوعة أو المتآكلة نتيجة مرض. وقد وصفوا بدقة ترقيع الجلد ونقله من الخد إلى موضع الأنف سنة 700 قبل الميلاد (كتاب سرسوتا سانهيتا) (1) . وقد انتشرت هذه الطريقة البارعة في استخدام الرقعة الذاتية من الهنود إلى غيرهم من الأمم، ووصلت إلى اليونان ثم الرومان. ثم نقلها الجراحون الأوربيون وبالذات تاجليكوزي الإيطالي (القرن السادس عشر الميلادي) ولا تزال هذه الطريقة تستخدم مع بعض التعديلات الطفيفة إلى اليوم. وفي عصر النبوة قام عرفجة بن أسعد رضي الله عنه باتخاذ أنف من الفضة بعد أن أصيبت أنفه يوم كلاب، فلما أنتنت أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب، فلم ينتن، ولا يدخل هذا في زرع الأعضاء بل يدخل في عمليات التجميل. وقد ذكرنا هذا لنوضح أن الجراحين العرب حتى في العهد القديم كانوا على براعة غير متوقعة في إجراء عمليات تجميلية. وتطورت زراعة الأعضاء وخاصة الزرع الذاتي Autograft في القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين. وفي عام 1770 م استطاع Missa أن يقوم بعملية نقل وتر العضلة الباسطة للأصبع الوسطى إلى السبابة، وفي خلال القرن التاسع عشر تمت عمليات نقل الأوتار والعضلات والجلد والأعصاب والغضاريف والقرنيات والغدة الكظرية والدرقية والمبايض وأجزاء من الأمعاء والمثانة وذلك بالنسبة لحيوانات التجارب.   (1) woodruff M.f. the transplantation of tissues and organs. Springfield USA charles thomas co. 1960 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 أما بالنسبة للإنسان فقد تمت بنجاح خلال القرن التاسع عشر عمليات ترقيع الجلد، وخاصة الترقيع الذاتي Autograft كما تم الترقيع المتباين Allograft حتى إن ونستون تشرشل تبرع أثناء الحرب بقطعة من جلده لأحد زملائه وذلك عام 1898. وفي القرن العشرين تكثف نشاط الجراحين بالنسبة لزرع القرنية في الفترة ما بين 1925و 1945 وانتشر كذلك نقل الدم بصورة واسعة. وبدأ زرع الكلى على مستوى الحيوانات عام 1902 على يد أولمان Ulman في فيينا وفون دي كاستلو الذي نقل كلية من كلب إلى آخر. وقام جابوليه في فرنسا (ليون) بزرع كلية حيوان لإنسان، وبطبيعة الحال فشلت تلك العملية على الفور. واستطاع كاريل تلميذ جابوليه أن يحسن بشكل باهر عمليات توصيل الأوعية الدموية مما مكنه من إجراء العديد من عمليات نقل الأعضاء من فصيلة واحدة Allograft وبنجاح نسبي. وقام الجراح الأوكراني Yu Vorony عام 1933 بأول عملية زرع كلية من إنسان لإنسان، واستمرت الكلية المنقولة في العمل لمدة ست ساعات فقط، وقد قام YO Vornoy بست عمليات مماثلة حتى عام 1949، وكلها باءت بالفشل. وبدأ مورتون سيمونسون من الدينمارك في بداية الخمسينات دراسته لأسباب رفض الكلى وغيرها من الأعضاء.. وبدأت الدراسات تتوالى حول جهاز المناعة وأسباب الرفض، وفي عام 1653 قام هامبرجر Hamburger في باريس بنقل كلية من أم إلى ابنها واستمرت الكلية في العمل لمدة 22 يوما ثم رفضها الجسم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 وبدأت الدراسات المكثفة للتغلب على عمليات الرفض التي يقوم بها جهاز المناعة. ومنذ بداية الستينات من القرن العشرين ظهرت عدة محاولات للتغلب على مشكلة الرفض Rejection للأعضاء المزروعة ... وتمثلت الوسائل في الآتي: 1) استخدام الأشعة للجسم بأكمله ... وسرعان ما اندثرت هذه الطريقة لخطورتها. 2) استخدام العقاقير وبالذات Azathiopurine الذي ظهر عام 1961 واستخدم في عمليات زرع الكلى عام 1962 ... وتبعه بعد ذلك البريدينزلون (من مشتقات الكورتيزون) ... وظل هذا العقار حجر الزاوية في معالجة مشكلة الرفض للأعضاء المزروعة حتى ظهر في 1968 عقار سيكلوسبورين الذي فتح آفاقاً أمام زرع الأعضاء وحقق نجاحاً طبياً في مجال مشكلة الرفض. 3) وبتحسن الوسائل الجراحية، وتحسن الديلزة Dialysis واكتشاف عقار السيكلوسبورين حققت عمليات زراعة الكلى نجاحاً كبيراً ومطرداً في مختلف أنحاء العالم. وفتحت مراكز متعددة لزراعة الكلى في مختلف الأقطار، حتى في البلاد النامية، رغم الكلفة العالية نسبياً لهذه العمليات، وتكلفة علاج مشكلة الرفض بالعقاقير الباهظة الثمن مدى الحياة. ولم تقتصر عمليات زرع الأعضاء بطبيعة الحال على الكلى وإنما شملت كل الأعضاء تقريباً ما عدا الدماغ. ولم تؤخذ الأعضاء من الأحياء والأموات فحسب، بل بدأ عهد جديد في أخذ الأعضاء والأنسجة من الأجنة. ومنذ ظهر مفهوم موت الدماغ وتقبلته الدوائر الطبية أولاً ثم القانونية وذلك في السبعينات وبداية الثمانينات في القرن العشرين تمكن الجراحون من أخذ الأعضاء وهي لا تزال في حالة جيدة بسبب التروية الدموية المستمرة حتى لحظة نزع العضو أو قبيله مباشرة. وقام مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثالثة المنعقدة في عمان صفر 1407 أكتوبر 1986 بإصدار قراره التاريخي بالاعتراف بموت الدماغ واعتباره مساوياً لتوقف القلب والتنفس توقفاً تاماً لا رجعة فيه. وبدأ بذلك عهد جديد له ميزاته وله محاذيره ومخاطره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 تعريف وتصنيف (زرع) غرس الأعضاء التعريفات: غرس الأعضاء (زرع الأعضاء) : يقصد به نقل عضو سليم أو مجموعة من الأنسجة من متبرع Donner إلى مستقبل Recipient ليقوم مقام العضو أو النسيج التالف. المتبرع Donner: هو الشخص أو الحيوان الذي تؤخذ منه الأعضاء. ويمكن أن يكون المتبرع إنساناً وهو الغالب، أو حيواناً وهو أمر أصبح نادر الحدوث بسبب عمليات الرفض القديمة. كذلك يمكن أن يكون المتبرع حياً، وذلك بالنسبة للأعضاء المزدوجة أو التي يمكن تعويضها مثل الدم ونخاع (نقي) العظام والجلد، أو ميتاً. وبما أن الأعضاء التي ستغرس ينبغي أن تكون في حالة جيدة وليست تالفة، لا بد أن تبقى هذه الأعضاء وهي تتلقى التروية الدموية عبر الدورة الدموية للشخص الذي مات.. أي لا بد أن يكون هذا الشخص قد مات نتيجة موت دماغه لا قلبه ... ويبقى القلب في هذه الحالات يضخ الدم بمساعدة الأجهزة والعقاقير.. ويشترط أن يبقى ضغط الدم في حدود 100 مم زئبق للضغط الانقباضي حتى تتم تروية الأعضاء تروية جيدة لحين عملية نقل هذا العضو أو الأعضاء المتبرع بها. المستقبل (المضيف) (Recipient (Hot: هو الجسم الذي يتلقى الغريسة (العضو) ويمكن أن يكون إنساناً أو حيواناً. وبالنسبة للإنسان لا بد من توافر عدة شروط في المستقبل من ناحية السن ونوعية المرض ومدى استفحاله ... إلخ. الغريسة (الرقعة) graft (Transplant) ويقصد به العضو المغروس، وجمعها غرائس. والغريسة إما أن تكون عضواً كاملاً مثل الكلية والكبد والقلب.. إلخ، أو تكون جزءاً من عضو كالقرنية (وهي الجزء الشفاف الخارجي من العين) أو تكون نسيجاً أو خلايا كما هو الحال في نقل الدم ونقي العظام وغرس جزر لانجرهان من البنكرياس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 وتصنيف الغرائس تصنيفات عدة، وأول هذه التصانيف هي حسب طبيعة ترويتها الدموية، فهناك غرائس ذات تروية دموية مباشرة مثل القلب والكبد والكلية. وهناك غرائس لا تحتاج إلى أوعية دموية ترتبط مباشرة، مثل غرس طبقة من الجلد، وهناك غرائس لا تحتج مطلقاً إلى أوعية دموية مثل القرنية التي تصاب بالتلف إذا تخللتها الأوعية الدموية. وثاني هذه التصانيف هو تصنيف الغريسة حسب علاقتها بالجسم المستقبل وهي كالتالي: 1) غرائس ذاتية Auto Graft: وفي هذه الحالة تؤخذ الغريسة (العضو) من منطقة إلى منطقة أخرى في نفس الجسم. ويحدث هذا كثيراً في نقل الجلد وخاصة في الحروق. حين يقوم الجراح بنقل جزء من جلد المصاب من الجهة السليمة ليغطي الجزء المحروق. كذلك قد يستخدم الجراح غضاريف من الأضلاع التي تستخدم لسد الفجوة في العظام نتيجة استئصال ورم أو كسر كبير متهشم. 2) غرائس متماثلة Isograft: ومثالها أن ينقل عضو من الأخ لأخيه التوأم المتماثل Identical twin والتوائم نوعان: أ) التوائم المتماثلة: وهي التي نتجت عن بويضة واحدة مخصبة ثم انقسمت إلى خليتين مستقلتين وأنتجت كل واحدة منها جنيناً. وهذه التوائم متماثلة في جميع الخصائص الوراثية. ب) التوائم غير المتماثلة: وهي التي نتجت عن تلقيح بويضتين أو أكثر في وقت واحد. وتم تلقيح كل بويضة بحيوان منوي. ولذا فهي مختلفة من الناحية الوراثية. ولا تتشابه إلا كما يتشابه الإخوة من أب وأم. وقد تكون إحداها ذكراً والآخر أنثى. وتتميز الغرائس المتماثلة بأنها لا تحتاج إلى عقاقير خفض المناعة؛ لأن الجسم لا يرفضها بل يعتبرها جزءاً منه. وهي بطبيعة الحال أفضل أنواع الغرائس، وأطولها عمراً وأكثرها فائدة، وأقلها تعرضاً للتلف، ولا تحتاج إلى استخدام عقاقير خفض المناعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 3) الغرائس المتباينة Allugraft: وهي الغرائس التي تؤخذ من أشخاص مختلفين من جنس واحد ... أي من إنسان لإنسان أو من أرنب لأرنب.. وهكذا. ويدعى هذا النوع أحياناً الغريسة المتجانسة Homorgraft لحدوثة بين فصيلة متجانسة. وهذا النوع من الزرع هو الأكثر انتشاراً وقد يكون المتبرع حياً Living Donner أو ميتاً Cadaver Donner. وكلاهما يسبب رفض الغريسة (العضو المزروع) بواسطة المستقبل Recipient، ولذا لا بد من إعطاء العقاقير الخافضة للمناعة Immu-nosuppressants مدى الحياة، وفي ذلك من الخطورة ما فيه. 4) الغريسة الغربية أو الدخيلة Xenograft: وهي الغرائس المنقولة بين جنسين أو فصيلتين مختلفتين.. ومثالها غرس عضو من كلب لقط أو من قرد لإنسان ... وقد وقع هذا كثيراً ولا يزال في مجال الحيوانات على سبيل التجارب، واستخدمت عظام الحيوانات للإنسان، وقد ذكر الفقهاء منذ أزمنة قديمة استخدام عضو الحيوان لتوصيل العظام. قال الإمام النووي في منهاج الطالبين (1) : " ولو وصل عظمه بنجس لفقد طاهر فمعذور وإلا وجب نزعه إن لم يخف ضرراً ظاهراً، وقيل: وإن خاف، فإن مات لم ينزع على الصحيح. وعلق الإمام الشربيني في مغني المحتاج (2) على ذلك بقوله: " وظاهر هذا أنه لا فرق بين الآدمي المحترم وغيره. وهو كذلك ". وقال: " ولو صل عظمه " لانكساره مثلاً واحتياجه إلى الوصل (بنجس لفقد طاهر) الصالح للوصل، أو وجده، وقال أهل الخبرة: إنه لا ينفع ووصله بنجس (فمعذور) في ذلك تصح صلاته معه للضرورة ". وذكر القزويني في عجائب المخلوقات (3) أن من خواص عظم الخنزير أنه يوصل بعظم الإنسان ويلتئم سريعاً ويستقيم من غير اعوجاج!!   (1) مغني المحتاج على متن منهاج الطالبين: ج 1/190 (2) مغني المحتاج على متن منهاج الطالبين: ج1/ 190 (3) زكريا القزويني: عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، تقديم فاروق سعد، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثالثة 1978: ص 422 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 وبما أن العظام تبقى فترة طويلة بعد أن تموت حتى يمتصها الجسم ويحل محلها عظم جديد ولذا تعمل كسقالة Scaffolding لذا فإن عملية الرفض في العظام غير مهمة كثيراً، وقد قام الأطباء حديثاً بمحاولة زرع قلب قرد في طفلة، وأدى ذلك إلى رفض الجسم بسرعة لهذا القلب. لهذا يتجنب الأطباء عمليات الغرس من الحيوانات للإنسان، على الأقل في الوقت الراهن، ومع هذا فإن استخدام بعض أجزاء من الحيوان للإنسان أمر يستخدم حتى اليوم، ومثاله الأنسولين البقري أو الخنزيري الذي يستخدم لعلاج مرض البدل السكري (الديابيطس) أو استخدام صمامات القلب من البقر والخنازير لإبدال الصمامات التالفة في الإنسان، إذا لم يتمكن الجراح من إصلاح الصمام التالف، أو أخذ صمام من أوردة المصاب ذاته. وفي الوقت الراهن قل استخدام هذه الصمامات البقرية والخنزيرية مع التقدم الجراحي في هذا الميدان، وازدياد مقدرة الجراحين في إصلاح الصمامات المعطوبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 موضع الغرس: قد يوضع العضو المغروس (الغريسة) في مكان العضو التالف ويسمى هذا النوع الموضع السوي Ortho topic ومثاله غرس القلب والرئتين والكبد والقرنية. وقد تغرس الأعضاء في غير موضعها المعهود ويسمى ذلك الموضع المختلف Hetero topic ومثاله زرع الكلى التي توضع في الحفرة الحرقفية بدلاً من موضعها في الخاصرة. أنواع الغرس (الزرع) : لقد قام الأطباء بزرع مختلف الأعضاء والأنسجة، وأكثر هذه الأنواع شيوعاً نقل الدم، حيث تنقل ملايين اللترات من الدم سنوياً وينقذ بذلك مئات الآلاف من الأشخاص في كل عام. وفي الولايات المتحدة الأمريكية يتم نقل 12 مليون عملية نقل دم سنوياً (1) ونظراً لكثرة استخدام نقل الدم وعدم وجود أي مضاعفات خطيرة من نقله، إذا أعطي ضمن الشروط المعتبرة، فإن هذا الإجراء لا يذكر عادة ضمن موضوع غرس الأعضاء K وإن كان في الأصل داخلاً فيه. ويلي نقل الدم، استخدام الجلد وغرسه. وهو إجراء واسع الانتشار أيضاً وقليل المضاعفات وخاصة إذا كان ذاتياً (أي من نفس الشخص) . وانتشر في الوقت الراهن نقل الكلى (غرس الكلى) . وأنشئت مراكز في معظم بلدان العالم بما في ذلك ثلاثة مراكز في المملكة العربية السعودية التي تم فيها حتى الآن إجراء قرابة خمسمائة عملية نقل كلى تمت بنسبة نجاح كبيرة. كذلك ينتشر منذ زمن نقل القرنية، ومشاكل غرسها محدودة جداً؛ لأن القرنية لا تعتمد على التروية ورفضها محدود جداً. وتوجد مراكز لنقل القرنية في مصر والسعودية وبعض البلاد العربية الأخرى. ولا يزال غرس القلب قاصراً على الدول المتقدمة تقنياً لصعوبته البالغة وكلفته العالية، وإن كان قد تم في الأردن إجراء عمليات زرع قلب كما تم في الرياض بالمملكة العربية السعودية إجراء هذه العملية بنجاح. ويواجه غرس الكبد والرئتين مصاعب كثيرة حتى في البلاد المتقدمة تقنيا. وبدأ يحقق بعض النجاح بعد استخدام عقار السيكلوسبودين لمعالجة مشاكل الرفض ... وأنشئت مراكز عدة في مختلف الأقطار لزرع العظام ولا أظن أن هناك مشاكل عويصة لا يمكن التغلب عليها في هذا المجال، وكذلك أنشئت مراكز لنقل المفاصل، وهي لا تزال في مراحلها الأولى.   (1) merk manual of diagnosis and therpay. (1982. 14 th edition Merk sharp & dohme NJ. p.p 1093 - 1098. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 أما نقل البنكرياس، أو بعض خلاياه، فقد حقق في الآونة الأخيرة نجاحاً مطرداً بعد فترة فشل طويلة. وحقق غرس نقي العظام نجاحاً طيباً بعد استخدام عقار السيكلوسبودين. وهناك موضوع غرس الأعضاء التناسلية والغدد التناسلية وما يثيره من مشاكل بالنسبة للمسلمين، وكذلك غرس الأجنة المجمدة وموضوع الرحم الظئر وما يعتورهما من مشاكل أخلاقية وقانونية ودينية. وقد فتح باب جديد مؤخراً، وهو تنمية الأجنة في المختبرات واستخدام أنسجتها للغرس في مختلف الأمراض، وهو باب جديد له مشاكله الأخلاقية والدينية العديدة. ولا يدخل في موضوع غرس الأعضاء إدخال أجزاء من المعادن أو غيرها مثل السيلكون والداكرون والتيفلون، ومثالها صمامات القلب الصناعية، وصمامات الأوعية الدموية، والأوعية الدموية الصناعية ... والمفاصل الصناعية والصفائح والمسامير التي توضح لتجبير العظام المكسورة. وفي العادة لا تدخل أيضاً الصمامات المستخرجة من الخنازير والبقر والتي تستخدم أحياناً لإصلاح صمامات القلب المعطوبة في الإنسان، ولا تذكر عادة ضمن موضوع غرس الأعضاء، وإن كانت في الأصل ضمن هذا الموضوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 فترة نقص التروية الدافئة Warm ischaemic Time: ويقصد بها المدة الزمنية التي يستطيع العضو أن يتحملها بعد انقطاع التروية الدموية عنه. ولا يستطيع الدماغ أن يعيش أكثر من أربع دقائق بدون تروية دموية، وربما يبدأ الفساد بعد دقيقتين فقط من توقف التروية الدموية عن الدماغ، ويستطيع القلب البقاء لعدة دقائق، أما الكلى فيمكن أن تصمد بدون تروية دموية لمدة أقصاها 45 دقيقة. ويبقى الجلد لفترة زمنية طويلة نسبياً (12 ساعة) وكذلك القرنية. أما العظام والغضاريف فإنها تتحمل انقطاع الدم عنها لمدة يوم أو يومين. فترة نقص التروية الباردة Cold Ischaemic time: ويقصد بها المدة الزمنية التي يمكن أن يبقى فيها العضو بعد استقطاعه من الجسم ووضعه في محلول مثلج في درجة حرارة منخفضة. ويمكن للكلى أن تبقى دون فساد في درجة حرارة 4 مئوية في محلول مبرد لمدة 24 ساعة على الأكثر، وإذا استخدمت صدمات دفقية محددة بواسطة المحلول المبرد فإنه يمكن الاحتفاظ بالكلى لمدة 72 ساعة دون حدوث نخر أنبوبي حاد Acute Tubular Necvosis ويمكن الاحتفاظ بالقلب في السوائل المبردة بالدفق الخاص لمدة ساعتين فقط. (1) أما الأنسجة والخلايا فيمكن الاحتفاظ بها تحت النتروجين السائل في درجة حرارة منخفضة جداً (76 تحت الصفر) لمدة طويلة، ويمكن الاحتفاظ بالمني والأجنة المجمدة وغيرها من الأنسجة والخلايا لمدة عشر سنوات أو أكثر. وقد حددت القوانين في بعض البلاد الغربية وأستراليا أقصى مدة للاحتفاظ بالمني والأجنة المجمدة بعشر سنوات.   (1) Ascher N. etal; multiple organ Donnatson from a cadaver. In (eds) ; Simmons R. Finch M. Ascher N. Najerant. Manual of vogular Access. organ Donnation & transplantation. Springer - Verlog ltd. New York Berline - Tokyo. 1984 pp. 105 118 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 ويمكن الاحتفاظ بالكبد بعد التبريد بواسطة المحلول المبرد بالدفق المحدد لمدة 8 ساعات فقط وتبقى البنكرياس في مثل هذه الحالة لمدة 72 ساعة Warm Ischaemic time Cold Ischaemic time بقاء الأعضاء دون تروية في درجة حرارة عادية بقاء الأعضاء بعد تبريدها بواسطة محلول مثلج بالدفق المحدد (أي بعد أخذها من الجثة أو الجسم) العضو دقائق ساعات الدماغ مدة أقصاها 4 دقائق نهاية الحياة القلب مدة أقصاها بضع دقائق (يبرد موضعياً) ساعتان الكلى مدة أقصاها 45 دقيقة 72 ساعة الكبد 8 دقائق 8 ساعات البنكرياس مدة أقصاها 20 دقيقة 12 ساعة كل البنكرياس 72 ساعة جزء من البنكرياس الجلد 24 ساعة العظام 24 ساعة القرنية 24 ساعة إذا كان الجلد مبرداً 48 ساعة ـ وبطريقة ماكاري كوفمان 4 أيام أما الحفظ بالتجميد فيمكث فترة طويلة ولكنه يحتاج إلى مستوى فني عال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 الموقف الفقهي من غرس الأعضاء رغم أن غرس الأعضاء يعتبر من المواضيع المستحدثة والمستجدة في القرن العشرين إلا أن بدايات هذا الموضوع قد تمت منذ عصور قديمة (1) . وأول ذكر لغرس الأعضاء أو إعادة غرس عضو لنفس الشخص الذي فقد ذلك العضو في التاريخ الإسلامي هو ((ما حدث لقتادة بن النعمان رضي الله عنه الذي فقد عينه في معركة أحد (وفي رواية في معركة بدر) ثم أعادها النبي صلى الله عليه وسلم فكانت أحسن عينيه وأحدهما بصراً.)) وتحدث الفقهاء منذ أزمنة متطاولة عن وصل العظام بعظم إنسان ميت أو عظم حيوان طاهر أو نجس، ومثال ذلك ما ذكره الإمام النووي في منهاج الطالبين حيث قال: " ولو وصل عظمه بنجس لفقد الطاهر فمعذور وإلا وجب نزعه" (2) وما ذكره الخطيب الشربيني في مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج من أن وصل العظم الذي انكسر بعظم آدمي (محترم أو غير محترم) جائز شرعاً متى قال ذلك أهل الخبرة. وكذلك جواز وصل العظم بعظم حيوان طاهر (مذكى) أو نجس (غير مذكى أو خنزير) متى ما قرر ذلك أهل الخبرة أو أن عظم الآدمي غير متوفر (3) . وتحدث الفقهاء أيضاً في موضوع الغرس الذاتي منذ أزمنة بعيدة. ويذكر الدكتور محمد فوزي فيض الله أن الإمام النووي قرر في هذه المسألة وجهين: أحدهما لأبي إسحاق وقد استجازه، لأنه إحياء نفس بعضو، فجاز، كما يجوز أن يقطع عضواً إذا وقعت فيه الأكلة وذلك إحياء لنفسه، والآخر لا يجوز، لأنه إذا قطع عضواً منه كانت المخافة عليه أكثر" (4)   (1) انظر تاريخ غرس الأعضاء ص 2ـ 4 (2) مغني المحتاج على متن منهاج الطالبين للإمام النووي (شرح الخطيب الشربيني) دار الفكر ج 1/ 190 (3) مغني المحتاج على متن منهاج الطالبين للإمام النووي (شرح الخطيب الشربيني) دار الفكر ج 1/ 190 (4) د. محمد فوزي فيض الله، التصرف في أعضاء الإنسان مجلة الوعي الإسلامي العدد 276 ذو الحجة 1407 هـ (أغسطس 1987 م) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 ومنذ ظهور مسألة نقل الدم كتب العديد من الفقهاء المحدثين فتاواهم في إباحته، نذكر منهم فضيلة الشيخ حسن مأمون (مفتي مصر) فتوى رقم 1065، وفتوى الدكتور أحمد فهمي أبو سنة (بحث مقدم للمجمع الفقهي رابطة العالم الإسلامي في دورته الثامنة 1405 وسبق نشره في مجلة التضامن) كما ظهر كتاب بعنوان نقل الدم وأحكامه الشرعية للشيخ محمد صافي (سورية حمص ـ مؤسسة الزعبي 1392 هـ/ 1973) وقد أباحت هذه الفتاوى وغيرها كثير، إجراء نقل الدم واعتبرته من أعمال البر والخير، وذلك لما فيه من إنقاذ حياة أشخاص كثيرين. وكذلك ظهرت كتابات وفتاوى متعددة في موضوع نقل الأعضاء وكلها قد أباحته، وكان لبعض هؤلاء بعض الشروط التي سنذكرها في حينها. ونذكر من هذه الفتاوى ما يلي كأمثلة فحسب: 1) فتوى فضيلة الشيخ محمد خاطر (في 3 ذي الحجة 1392/ 3 فبراير 1973) بإباحة سلخ جلد الميت لعلاج حروق الأحياء بفتوى رقم 1069 واشترط في الإباحة الاقتصار على الموتى الذين لا أهل لهم، أو الموتى الذين أوصوا بذلك في حياتهم، أو الموتى الذين أذن أهلهم بذلك. 2) فتوى فضيلة الشيخ حسن مأمون (6 شوال 1378 هـ/ 4 إبريل 1959 م) برقم 1087 في إباحة نقل عيون الموتى إلى الأحياء، وأن ذلك جائز بإذن الموتى الذين لهم أهل أو الميت الذي أوصى بذلك، أو الميت الذي لا أهل له (بدون إذن) . 3) فتوى الشيخ أحمد هريدي (23 أكتوبر 1966) برقم 993 بجواز سلخ قرنية العين من ميت وتركيبها لحي، وذلك من الميت الذي لا أهل له، أو الميت الذي أذن أهله بذلك، أو الميت الذي أوصى بذلك قبل وفاته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 4) فتوى الشيخ جاد الحق علي جاد الحق في 15 محرم 1400/ 5 ديسمبر 1979 برقم 1323 بإباحة نقل الأعضاء من إنسان إلى آخر، وقد أباح نقل الأعضاء بشروط تشبه الشروط السابقة المذكورة أعلاه (الميت الذي لا أهل له. أو الذي أذن أهله بذلك) وأما المتبرع الحي فتبرعه مقيد بأن لا يتبرع بعضو ينتج عنه هلاكه. 5) بحث الدكتور أحمد فهمي أبو سنة المقدم إلى المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي (الدورة الثامنة 1405 هـ) بعنوان حكم العلاج بنقل دم الإنسان أو نقل أعضائه أو أجزاء منها. 6) فتاوى مقدمة لقسم الطب الإسلامي مركز الملك فهد للبحوث الطبية ـ جامعة الملك عبد العزيز بجدة ـ والأبحاث مقدمة من الشيخ السيد أحمد الشاطري والسيد عمر حامد الجيلاني والدكتور محمد عبد الجواد محمد. وجميعها أباحت نقل الأعضاء واعتبرته عملاً نبيلاً لإنقاذ حياة الكثيرين. 7) بحث فضيلة الشيخ عبد الله البسام حول زرع الأعضاء والمقدم إلى المجمع الفقهي، رابطة العالم الإسلامي (الدورة الثامنة 1405 هـ) وقد أباح الزرع بشروط عدم الإضرار بالمتبرع ضرراً بالغاً ولا يجوز التضحية بحياة المتبرع من أجل شخص آخر. 8) بحث فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا قباني حول زرع الأعضاء والمقدم إلى المجمع الفقهي، رابطة العالم الإسلامي في الدورة الثامنة 1405 هـ، وقد أباح أيضاً الزرع بشروط أهمها عدم حصول الضرر على المتبرع. 9) الفتوى الصادرة uن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت برقم 132/ 79 (بتاريخ 5 صفر 1400 هـ 24/12/ 1979 م) . وقد أجازت اللجنة نقل الأعضاء سواء من الميت أو من الحي، على أنه إذا كان المنقول ميتاً جاز النقل سواء أوصى أم لم يوص. إذ إن الضرورة في إنقاذ الحي تبيح المحظور ويقدم الموصي له في ذلك عن غيره، كما يقدم الآخذ من جثة من أوصى أو سمحت أسرته بذلك عن غيره. أما إذا كان المنقول منه حياً، فإذا كان الجزء المنقول يفضي إلى موته كالقلب والرئتين أو فيه تعطيل له عن واجب كاليدين والرجلين معاً، فإن النقل يكون حراماً مطلقاً سواء أذن أم لم يأذن، أما نقل إحدى الكليتين أو العينين أو إحدى الأسنان أو بعض الدم فهو جائز بشروط الحصول على إذن المنقول منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 10) فتوى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بقرار رقم 99 في 6/11/ 1402 هـ والقاضي بإباحة نقل الأعضاء من المتبرع الحي أو من الميت. 11) بحث الدكتور أحمد شرف الدين بعنوان الأحكام الشرعية للأعمال الطبية تناول فيه موضوع زرع الأعضاء وموت الدماغ ببحث مطول (إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 1402 هـ/ 1982 م) . 12) قامت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالاشتراك مع وزارة الصحة بالكويت بتنظيم ندوة تحت عنوان " الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي " في الفترة ما بين 24 ـ 26 ربيع الآخر 1405 هـ (15 ـ 17 يناير 1985 م) شارك فيها نخبة من الفقهاء والأطباء ودرست موضوع الدماغ ووافقت على اعتبار موت الدماغ موتاً للإنسان وارتأت زيادة بحث الموضوع في فترة لاحقة. 13) قام مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بدراسة مفصلة لموضوع موت الدماغ استغرقت دورتين إحداهما في جدة (1406 هـ/ 1986 م) والثانية في عمان (صفر 1407 هـ، أكتوبر 1986 م) . وصدر في نهايتها القرار التاريخي باعتبار موت الدماغ موتاً للإنسان، وقد نص القرار على الآتي: " يعتبر شرعاً أن الشخص قد مات وتترتب جميع الأحكام المقررة شرعاً للوفاة عند ذلك، إذا تبينت إحدى العلامتين التاليتين: أ) إذا توقف قلبه وتنفسه توقفاً تاماً، وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه. ب) إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائياً، وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطيل لا رجعة فيه، وأخذ دماغه في التحلل. وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وإن كان بعض الأعضاء كالقلب مثلاً لا يزال يعمل آلياً بفعل الأجهزة المركبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 وستتضح الأهمية البالغة لهذا القرار في موضوع غرس الأعضاء عند مناقشة نقل الأعضاء من الموتى. 14) قام مجمع الفقه الإسلامي، رابطة العالم الإسلامي بدراسة موضوع موت الدماغ في الدورة الثامنة (1405 هـ) والدورة التاسعة (1406 هـ) ولكنه لم يصدر قراراً بهذا الشأن. 15) قدم محمد زين العابدين طاهر المدرس بكلية الشريعة والقانون بالجامعة الأزهرية فرع أسيوط أطروحته لنيل درجة الدكتوراه بعنوان " نطاق الحماية الجنائية لعمليات زرع الأعضاء في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي " درس فيها موضوع زرع الأعضاء بتفصيل وما يتبع ذلك من أحكام فقهية.. وإعادة الأعضاء المقطوعة حداً (كالسرقة) وهل يجوز إعادة وصلها إلى جسم الإنسان وانتهى إلى عدم الجواز. وقد أوضح الباحث جواز نقل الأعضاء من الأحياء المتبرعين بأعضائهم بشرط أن لا يسبب ذلك خطراً على حياتهم. وجواز نقل الأعضاء من الموتى، وقد جاءت الأطروحة في 850 صفحة وأشرف عليها الأستاذ الدكتور يوسف محمد عبد المقصود والأستاذ حسنين صالح عبيد، ونال بها الباحث درجة الدكتوراه بامتياز مع مرتبة الشرف. 16) قدم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بحثا قيماً بعنوان " انتفاع الإنسان بأعضاء إنسان آخر حياً أو ميتاً" إلى مجمع الفقه الإسلامي بجدة ليعرض في دورته الرابعة (1408 هـ/ 1987 م) وأجاز نقل الأعضاء من الحي بشرط أن لا يضر ذلك بالمتبرع كما أجاز نقل الأعضاء من الموتى بإذن الورثة، ومن المحكوم عليهم بالإعدام وغير المحترم ومن لا ولي له. وتحدث عن موت الدماغ باعتباره نذيراً للموت ولم يعتبره موتاً. ولذا لا يجوز أخذ الأعضاء الحيوية قبل توقف القلب توقفاً تاماً. 17) قدم الدكتور محمد فوزي فيض الله بحثاً بعنوان (التصرف في أعضاء الإنسان " إلى ندوة وزارة الصحة الكويتية " الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية " ونشرتها مجلة الوعي الإسلامي في عددها رقم 276 ذو الحجة 1407/ أغسطس 1987. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 وقد أجاز التبرع بالأعضاء من الحي بشرط عدم الإضرار بالمتبرع كما أجاز الاقتطاع من الميت بعد تحقق الوفاة (ولم يتحدث عن موت الدماغ) ومنع الاقتطاع لمجرد قرب الوفاة كالمحكوم عليه نهائياً بالإعدام، ولا يجوز شراء أعضاء إنسان آخر غير أنه إذا اضطر المريض ولم يجد من يتبرع له بذلك العضو جاز له شراؤه والإثم في ذلك على البائع. هذه مجموعة من الأبحاث التي تحت يدي ولا شك أن غيرها كثير في هذا الباب وتتلخص المشكلة فيما أحسب في الآتي: 1) الغرس (الزرع) من المتبرع الحي: أجمع الفقهاء الذين كتبوا في هذا الموضوع على جواز التبرع بالأعضاء بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى ضرر بالغ بالمتبرع، واعتبروا ذلك من الإيثار الذي حث عليه الإسلام. وقد جاء في فتوى لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف الكويتية رقم 32/ 79 بتاريخ 5 صفر 1400/ 24/12/ 1979 جواز نقل الأعضاء من المتبرع الحي بشرط أن لا يفضي العضو المنقول إلى موت المتبرع كالقلب والرئتين مثلاً، أو فيه تعطيل له عن واجب كاليدين أو الرجلين معاً. أما نقل إحدى الكليتين أو العينين أو إحدى الأسنان أو بعض الدم فهو جائز بشرط الحصول على إذن المنقول منه. ويعتبر نقل الدم من الأمور التي تحدث يومياً. ولا ضرر فيها على المتبرع ما لم يكن يعاني من فقر دم بل فيه فائدة له ... وقد يحدث الضرر للمتلقي للدم، ولذا لا بد من توفر شروط عدة في الدم المنقول منها خلوه من الأمراض المعدية كالملاريا والزهري وفيروس الإيدز وفيروس التهاب الكبد من نوع B خاصة. ومنها مطابقة فصيلة الدم المنقول له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 ويتحاشى الأطباء نقل عين أو يد أو رجل من شخص حي لأن في ذلك ضرراً بالغاً وهو أمر غير مقبول لديهم وإن أفتى به بعض الفقهاء. كما أنهم لا يقبلون المتبرعين بالكلى إلا إذا كانوا أقارب للمريض، رغم وجود عدد من المتبرعين الذين يلحون على الأطباء في قبول تبرعهم. ويتحاشى الأطباء أخذ الكلى من المتبرعين غير أقارب المريض للأسباب التالية: 1) احتمال وجود عملية بيع وشراء في الخفاء بين المتبرع والمريض. 2) احتمال ندم المتبرع وخاصة إذا أصيبت كليته الباقية بمرض ما، وما يسببه من متاعب له ... وربما ذهب إلى الملتقي (المستقبل) للغريسة ونغص عليه حياته. 3) هناك مجموعة من المساجين الذين أعلنوا استعدادهم للتبرع بكلاهم ... أملا في العفو عنهم وهناك احتمال مضايقة المتلقي وابتزازه مالياً فيما بعد. 4) أن الكلى والأعضاء من الموتى يمكن أن تقوم مقام المتبرعين الأحياء. ولا ضرر في ذلك على أحد، بينما أخذ الأعضاء من الأحياء محفوف بالمخاطر وإن كانت نادرة الوقوع ... ويعتبر التبرع من غير الأقارب من الأحياء مماثلاً للأخذ من الأموات. وقد أجمع الفقهاء على عدم جواز بيع الأعضاء من الحر ... ولكنهم لم يذكروا جواز أخذها من المملوك، وهذه نقطة تحتاج إلى إيضاح. وعلى أية حال فإن عصر المماليك قد انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 ويعتبر الغرس من المتبرع الحي القريب للمريض ذا ميزات هي: 1) وجود تطابق في الأنسجة أكثر بكثير من غير الأقارب. ولذا تقل عمليات الرفض ... وهي بذلك أفضل من الزرع (الغرس) من المتبرع الحي البعيد أو من الأموات ... وأفضلها دون شك هو الزرع من التوائم المتماثلة حيث تتطابق الأنسجة تماماً ولا يحدث أي رفض مطلقاً. 2) وجود الترابط بين الأقارب. والاطمئنان إلى عدم وجود عملية بيع وشراء، 3) ندرة المشاكل التي تقوم بين المتبرع والمتلقي. 4) وجود وقت كاف لإجراء فحص تطابق الأنسجة بين المتبرع والمتلقي (المستقبل) . وتوضح اللوائح أو القوانين أن المتبرع ينبغي أن يكون عاقلاً بالغاً 18 عاماً فما فوقها مدركاً تماماً لما يمكن أن يحدث من مخاطر ولو كانت على سبيل الاحتمال، وينبغي أن يكون متزناً نفسياً. وليس من حق الوالد أن يتبرع عن ولده القاصر ولا من حق الولي أن يتبرع عن وليه المجنون. وهذه نقطة للبحث بالنسبة للفقهاء الأجلاء، حيث لم أجد في الفتاوى الموجودة بين يدي من أولاها عنايته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 الزرع من الموتى Cadaver Donner: يعتبر الزرع للأعضاء من الميت هو الإجراء الأكثر شيوعاً الآن. وذلك للأسباب التالية: 1) حدوث مفهوم موت الدماغ وانتشار استخدامه في معظم مناطق العالم: لقد ظهر لدى الأطباء مفهوم موت الدماغ وأول من نبه إليه المدرسة الفرنسية عام 1959 ولكن هذا الموضوع لم يلق الاهتمام الجدير به إلا بعد أن انتشر استخدام الآلات الحديثة للإنعاش (جهاز المنفسة) وقامت مجموعة هارفارد بوضع شروط ومواصفات موت الدماغ عام 1968 ثم تبعتها مجموعة مينسوتا عام 1971. ثم الكليات الملكية للأطباء في بريطانيا التي وضعت المواصفات عام 1976. وأخذ الأطباء في مختلف أصقاع العالم يدرسون هذه المواصفات ويطبقونها بعد أن اتفقوا عليها ... وأخذت القوانين تعترف تباعاً بمفهوم موت الدماغ وأنه مساو لموت القلب. وقد أعلن مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في عمان في دورته الثالثة صفر 1407/ أكتوبر 1986 قبوله لمفهوم موت الدماغ وأنه مساو لموت القلب. وتأتي أهمية هذا المفهوم بالنسبة لنقل الأعضاء وغرسها أنه يتيح نقل الأعضاء وهي لا تزال حية تستطيع العمل ... إذ إن هذه الأعضاء تفسد وتموت وتصبح غير صالحة للنقل إذا توقفت عنها التروية الدموية لفترة تختلف من عضو لآخر. وتسمى هذه الفترة، فترة نقص التروية الدافئة Warm Ischaemic time ولا يستطيع الدماغ أن يعيش أكثر من أربع دقائق بدون تروية دموية، وفي معظم الحالات يبدأ الفساد بعد دقيقتين، أما القلب فيمكن أن يبقى لبضع دقائق، بينما يمكن للكلى أن تبقى لمدة أقصاها 45 ـ 50 دقيقة قبل أن تصبح ميتة ولا تصلح للزرع، ويمكن للجلد أن يبقى لبضع ساعات، أما القرنية فيمكن أن تبقى لـ 12 ساعة ... وتستطيع العظام والغضاريف أن تتحمل نقص التروية أو توقفها التام لمدة يوم أو يومين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 وفي تعريف موت الدماغ لا بد من موت الدماغ بما في ذلك جذع الدماغ الذي به مراكز التحكم في التنفس والدورة الدموية.. ويمكن أن يستمر القلب في الضخ والرئتان في التنفس بعد إعلان موت الدماغ. وفي الغالب، يتوقف القلب تماماً عن العمل مهما أعطي من منشطات واستخدمت من الآلات بعد موت الدماغ بساعات أو أيام قلائل، ولكن هناك حالة موثقة استمرت 68 يوماً بعد إعلان موت الدماغ. (1) (مجلة نيوإنجلند الطبية في 7 يناير 1982) . لهذا فإن الفقهاء الذين أباحوا نقل الأعضاء من الموتى بشرط توقف القلب تماماً عن العمل، يلعنون في الواقع العملي هذه الإباحة. إذ لا فائدة من نقل عضو فسد وتحلل. وهذه المشكلة تعتبر محلولة بالنسبة للفقهاء الذين قبلوا موت الدماغ باعتباره مساوياً لموت القلب. أما الفقهاء الذين لم يقبلوا بعد هذا المفهوم، فإنهم في الواقع لا يقبلون نقل الأعضاء. 2) كثرة حوادث المرور في العالم: لقد ازدادت حوادث المرور في العالم أجمع ... ويرجع ذلك إلى زيادة في تناول الخمور والمخدرات وإلى تهور كثير من السائقين. وترجع منظمة الصحة العالمية WHO، نصف حوادث المرور في العالم أجمع إلى شرب الخمر. وفي فرنسا ترجع السلطات 70 % من حوادث المرور لشرب الخمور. ويوضح الجدول التالي ضحايا حوادث المرور يلاقون حتفهم سنوياً في بعض البلدان: الولايات المتحدة 60.000 فرنسا 11.000 بريطانيا 10.000 المملكة العربية السعودية 3.500 وفي الغالب فإن أكثر ضحايا حوادث المرور ممن هم في مقتبل العمر ولا يعانون من أي أمراض مزمنة وتكون وفاة عدد كبير منهم نتيجة موت الدماغ، وبالتالي فإنهم من أكثر المجموعات الصالحة لنقل الأعضاء.   (1) Parisi etal: Brain Death with Prolonged Somatic survival. new Engl J Medicine 306: 14 - 16. 1982 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 3) النوبات الدماغية وأورام الدماغ: تحدث النوبات الدماغية ونزف الدماغ نتيجة انفجار أحد شرايين الدماغ، كما تحدث أورام دماغية، وفي هذه الحالات قد يموت الدماغ قبل موت القلب ... وفي كثير منها تصلح هذه الحالات لنقل الأعضاء. 4) الغرس من الموتى ليست له أي مخاطر من الناحية الطبية: لا توجد أية محاذير بالنسبة للمتبرع الميت على عكس المتبرع الحي الذي قد يواجه بعض الأخطار المستقبلية عند التبرع بالكلية مثلاً. ونتيجة التقدم الطبي في استخدام عقاقير خفض المناعة فإن استخدام أعضاء الموتى الذين تبقى أعضاؤهم سليمة بواسطة التروية بأجهزة الإنعاش، يعتبر أمراً لا ضرر منه حتى على المستقبل (المتلقي) . وقد أمكن التوصل إلى درجة نجاح تبلغ 85 بالمائة بالنسبة لزرع (غرس) الكلى في السنة الأولى ثم تفشل بعد ذلك خمس حالات من كل مائة سنوياً. وارتفعت كذلك نسبة نجاح عمليات زرع القلب والبنكرياس والكبد. وقد وصلت نسبة نجاح عملية زرع البنكرياس 65 بالمائة في السنة الأولى بينما لم تكن تجاوز 30 بالمائة قبل بضع سنوات. 5) الزرع من الميت يوفر أعضاء عديدة لجملة من المرضى في وقت واحد: يمكن أخذ العديد من الأعضاء من متبرع واحد وخاصة في المراكز المتقدمة حيث يمكن أخذ القرنيتين والقلب والكبد والبنكرياس والكلى والجلد والعظام إلخ ... ومعظم المراكز المنتشرة حالياً لا تستطيع أخذ هذه الأعضاء.. وفي المملكة العربية السعودية يتم أخذ الكلى فقط. وليس هناك بطبيعة الحال أي تمثيل بالجثة في هذه الحالة. 6) الزرع من الميت يوفر أعضاء يستحيل توفيرها من المتبرع الحي: وهي الأعضاء الأساسية مثل القلب والرئتين والكبد والبنكرياس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 الشروط المفروض توافرها لنقل الأعضاء من الموتى: 1) أن تكون هناك وصية من الشخص قبل وفاته يعلن فيها تبرعه. وتصدر مراكز الكلى بطاقات خاصة يعلن فيها الشخص تبرعه بكليته حال الوفاة.. وبطبيعة الحال لا تؤخذ الكلى إلا من الذين يتوفون نتيجة ما يسمى موت الدماغ، وبحيث تبقى أعضاؤهم صالحة للاستعمال بواسطة أجهزة الإنعاش. 2) في حالة عدم وجود وصية تشترط معظم البلدان موافقة الورثة على أخذ الأعضاء من ميتهم. وقد ذكرت ذلك معظم الفتاوى الصادرة من دار الإفتاء المصرية وفتوى لجنة الإفتاء في وزارة الأوقاف الكويتية وفتوى هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية. وقد أفتى كثير من هؤلاء المفتين بجواز أخذ الأعضاء ممن لا أهل لهم، ويعتبر ولي الأمر في هذه الحالة وليه ... كما أصدرت لجنة الفتوى في الكويت رأيها بالسماح بأخذ الأعضاء عند الحاجة من الموتى حتى مع عدم موافقة ذويهم. وهو أمر لم تقره وزارة الصحة الكويتية والبرلمان الكويتي. وهناك سؤال يطرحه الأطباء هو: مَن مِن الورثة له حق السماح بأخذ الأعضاء من ميتهم؟ وهل يشترط موافقة جميع الأسرة أو الورثة أو يكفي في ذلك واحدة منهم؟ وهذا السؤال لم أجد له جواباً. وهو سؤال مطروح من الأطباء الذين يعملون في هذا الحقل حيث لا توجد أمور واضحة بهذا الخصوص في الوقت الراهن. 3) في بعض البلاد مثل فرنسا وبعض دول أوربا يحق لولي الأمر أن يأمر باستقطاع الأعضاء من شخص توفي نتيجة موت الدماغ، بشرط أن لا يكون هذا الشخص قد أوصى في حياته بعدم أخذ أعضائه عند وفاته ... ولا يعتبر في هذه الحالة رضا الورثة ضرورياً. 4) أن لا يكون المتوفى قد جاوز 55ـ 60 عاماً بالنسبة لزرع الكلى وأن لا يكون تجاوز خمسين عاماً بالنسبة لزرع القلب. 5) أن لا يكون المتوفى مصاباً بضغط الدم وضيق الشرايين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 6) أن لا يكون مصاباً بالأمراض المعدية مثل السل (الدرن) ، التهاب الكبد الفيروسي من فصيلة B، الإيدز (مرض نقصان المناعة المكتسب) الزهري ... إلخ. 7) أن لا يكون هناك ورم خبيثي في الجسم ما عدا ورم الدماغ أو أورام الجلد غير المنتشرة. 8) أن لا يكون مصاباً بالبول السكري بدرجة شديدة تؤثر على أعضائه. 9) أن لا يكون هناك إنتان في الجسم Seps. S أو في الدم Septicaemic. 10) أن يكون العضو المراد استقطاعه صالحاً. ففي حالة استقطاع الكلية مثلاً لا بد أن يتم تشخيص موت الدماغ أولاً من قبل فريق لا علاقة له بفريق زرع الأعضاء..وينبغي أن يبقى الميت تحت أجهزة الإنعاش لحين استقطاع الأعضاء ... وينبغي أن تكون الكلى تعمل بحيث تفرز البول بنسبة لا تقل عن 600 ملليلتر يومياً وأن تفرز الكلى البول بمقدار 200 ملليتر في الساعة الأخيرة قبل الاستقطاع. ويعطى الميت عقاقير تزيد إفراز البول مثل اللاسكي (فروسامايد Frusamide) مع المحاليل وأدوية رفع الضغوط بحيث لا يقل الضغط الانقباضي عن 90 مم زئبق.. ولا بد أن يكون العضو المراد استقطاعه خالياً من الأمراض. 11) أن تكون فصيلة الدم مطابقة للشخص الذي سينقل إليه العضو. ويجري فحص المقارنة المتصالب Cross matching لخلايا الدم الحمراء مع مصل الدم، وأن لا يكون هناك تعارض وتضاد بين دم المريض المتلقي (المستقبل) ودم الميت (المتبرع) . 12) لا يعد إجراء فحص مطابقة الأنسجة Tissue cross matching ضرورياً وإن كان مستحباً. وفي الغالب يكون من المتعذر إجراء هذا الفحص بالنسبة للجثث؛ لأن الفحص يتطلب وقتاً طويلاً نسبياً، بينما قد لا يبقى القلب ينبض بعد موت الدماغ إلا سويعات معدودة، وبما أنه من الضروري جداً الإسراع في أخذ الأعضاء قبل توقف سويعات معدودة، وبما أنه من الضروري جداً الإسراع في أخذ الأعضاء قبل توقف التروية الدموية فإن إجراء هذا الفحص لمطابقة الأنسجة يكون متعذراً في معظم الأحوال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 ويجرى نقل الأعضاء من الموتى في بعض المراكز دون إجراء فحص مطابقة الأنسجة، وخاصة بعد التقدم في مجال العقاقير الخافضة للمناعة Immuno suppressants وبالذات بعد استعمال عقار السيكلوسبودين. الأسئلة المطروحة على الفقهاء الأجلاء: 1) بالنسبة للمتبرع الحي لا بد من تحديد مواصفات المتبرع الحي ... والأعضاء التي يجوز له التبرع بها. 2) بالنسبة للموتى الذين لم يكتبوا وصية بالسماح باستقطاع أعضاء منهم: أ) هل يكفي أمر ولي الأمر في ذلك؟ ب) في حال موافقة الورثة. مَن مِن الورثة له حق الموافقة؟ وهل لا بد من موافقتهم جميعاً؟ أو الاكتفاء بالأقرب، الأب أو الابن مثلاً؟ ج) الموتى مجهولو الهوية والذين لا أهل لهم هل يجوز أخذ أعضائهم دون إذن؟ 3) بالنسبة للأعضاء التي تستقطع وتزرع: هل يجوز استقطاع الأعضاء التناسلية؟ بالنسبة للمرأة التي تلفت مبايضها مثلاً هل يجوز لها أن تتبرع برحمها الذي لا فائدة منه، وتعطية لامرأة أخرى مبايضها سليمة ورحمها تالف؟ وهل يجوز استقطاع الأعضاء التناسلية (القضيب) مثلاً من الميت وزرعه في المجبوب؟ وهل يجوز نقل الخصيتين أو المبيضين أو إحداهما من الميت أو من الحي وزرعه في شخص آخر؟ وهي مشكلة خاصة حيث إن الحيوانات المنوية والبويضات ستعود إلى المتبرع لا للمتلقي. وهل يجوز استخدام الأجنة التي تستنبت وتؤخذ منها الأنسجة؟ وهناك أجنة فائضة من مشاريع أطفال الأنابيب يمكن أن تستنبت في المختبر إلى فترة معينة من العمر، وقد سمحت لجنة وارنك في بريطانيا التي عينها البرلمان البريطاني باستخدام الأجنة واستنباتها إلى اليوم الرابع عشر منذ التلقيح، باعتباره بداية لتكوين الجهاز العصبي. وهل يجوز نقل الأجنة الفائضة المجمدة إلى من يعانون العقم؟ وهناك فتاوى من المجامع الفقهية الموقرة تمنع دخول طرف ثالث في الإنجاب والمقصود بالطرف الثالث بويضة من متبرعة، حيوان منوي من متبرع، لقيحة، (جنين) جاهزة من متبرعين، استخدام الرحم الظئر (الأم المستعارة) ... إلخ. وهناك مجال جديد في زرع الأعضاء له مخاطره المستقبلية، فقد بدأ بالفعل زرع خلايا من الجهاز العصبي من الأجنة وزرعها لمعالجة بعض أمراض الجهاز العصبي.. كما تم بالفعل أخذ خلايا الغدة الكظرية (فوق الكلية) وزرعت في الدماغ لمعالجة مرض الشلل الرعاش (مرض باركنسون) . وإذا تطور هذا المجال فيمكن غرس خلايا عصبية في الجهاز العصبي والدماغ. وذلك قد يؤثر على شخصية المتلقي.. إذ إن التفكير والعاطفة والإرادة ... إلخ، مركزها في الدماغ. أو هكذا يبدو للعلم التجريبي في الوقت الراهن على الأقل. فهل تتأثر شخصية المتلقي بهذا الغرس؟ 4) إعادة الغرس: بالنسبة للمحكوم عليهم بقطع اليد في السرقة أو القصاص، هل يجوز إعادة غرس (زرع) الجزء المستقطع؟ أفتى بعض الفقهاء بعدم جواز ذلك؟ لأن العبرة من إقامة الحد لم تتم في هذه الحالة، ومال بعضهم إلى أن الحكم قد نفذ ولا مانع من إعادة الجزء المستقطع. هذه بعض الأسئلة المطروحة على الفقهاء الأجلاء التي يرغب الأطباء في معرفة جوابها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً غرس الأعضاء في جسم الإنسان مشاكله الاجتماعية وقضاياه الفقهية إعداد معالي الدكتور محمد أيمن صافي أستاذ مساعد بقسم الجراثيم والمناعة كلية الطب/ جامعة الملك عبد العزيز مقدمة عن التداوي وصون النفس وقواعدها الفقهية بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الحمد لله خالق كل شيء، خالق الداء، وخالق الدواء، وجاعل لكل داء دواء، والذي أمرنا بالتداوي على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم القائل ((عباد الله، تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد هو الهرم)) . (أخرجه الشيخان) والقائل أيضاً ((إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام)) . [أخرجه أبو داوود) والقائل أيضا ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)) . [أخرجه البخاري] فالإنسان مخلوق كرمه الله على سائر المخلوقات وشرفه بحمل الأمانة {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] . وجدير بهذا الإنسان الذي حمل الأمانة التي رفضتها سائر المخلوقات أن يكون مؤتمناً على جسده وبدنه، فالجسد ملك لله عز وجل خالق هذا الجسد، والإنسان لا يملك من هذا الجسد إلا الأمانة عليه، فهو أمين على جسده ومأمور بأن يحسن التصرف بهذه الأمانة ليحقق ما يصلحها ويتجنب ما يفسدها، فأمره الله أن يتداوى وألا يتداوى إلا بحلال طيب؛ لأنه لا شفاء بحرام إذ يقول عليه الصلاة والسلام ((إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)) أخرجه البخاري. وذلك لأن الحرام هو الخبيث الضار والحلال هو الطيب النافع إذ يقول الله جل جلاله {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} الأعراف 157 وقد ميز الله الخبيث من الطيب إذ قال جل جلاله {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} آل عمران: 179. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء بالخبيث)) رواه أبو داود. تلك هي حدود الله تؤمن للإنسان الصلاح والإصلاح وتبعد عنه الشر والفساد، فإن تجاوز الإنسان للحدود وتصرف في جسده بما يتعارض مع إصلاحه وصلاحه كان خائناً للأمانة التي ائتمنه الله عليها، وكان تصرفه محرماً وباطلاً. ويتم اختيار الطيب دون الخبيث والصالح دون الفاسد والنافع دون الضار حسب القواعد الفقهية المتفق عليها: 1) وجوب صون النفس. ودرء المفاسد مقدم على طلب المنافع. 2) الضرورات تبيح المحظورات. 3) الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف. 4) يتم اختيار أهون الشرين. 5) يتحمل الضرر الخاص بدفع ضرر عام. 6) إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمها ضرراً بارتكاب أخفهما. 7) ما حرم أخذه حرم عطاؤه، وما حرم فعله حرم طلبه. فمثلاً أجاز جمهور الفقهاء شق بطن الأم التي هي في حال الاحتضار لاستخراج جنين حي أو ترجى حياته، كما أجازوا شق بطن الآدمي بعد وفاته لاستخراج ما ابتلعه أثناء حياته من أشياء ثمينة كالذهب والحلي والجواهر. ففي الحالة الأولى يتضح أن ضرر شق بطن الأم أقل من ضرر موت الجنين ولذلك روعي أعظمها ضرراً بارتكاب أخفهما وهو شق بطن الأم، وشق بطن الأم هو أهون الشرين، وفيه أيضاً إزالة للضرر الأشد بارتكاب الضرر الأخف، أما في الحالة الثانية فضرورة إخراج الأشياء الثمينة والتي قد تكون ملك الغير أباحت المحظور وهو شق بطن الآدمي، وكذلك يلجأ إلى شق بطن الآدمي عندما يكون ضرر بقاء الأشياء الثمينة في جوفه أشد من ضرر فتح بطنه فيتم اختيار أهون الشرين ويراعى الضرر الأعظم بارتكاب الضرر الأخف ألا وهو شق البطن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 نعم إن الدين الإسلامي كرم الإنسان حياً وميتاً، فحرم العبث بجثث الموتى والتمثيل بها، إلا أن الشريعة أجازت تشريح جثث الموتى عندما يكون تشريح الجثة وسيلة ضرورية للتعليم وإتقان مهنة الطب لتأهيل أطباء أكفاء يفيدون المجتمع الإسلامي، بل يجوز تشريح الجثث في الطب الشرعي لتحديد سبب الوفاة في الأمور الجنائية. فالإسلام كرم الإنسان حياً وميتاً فحرم التمثيل بالجثث، إلا أن تشريح الجثث من أجل العلم والطب الشرعي يخدم غرضاً نبيلاً، بعكس التمثيل بالجثة والذي يهدف إلى قطع أعضاء وأجزاء الإنسان لتشويه الجثة وللانتقام وإخماد الغضب وللسخرية والاستهزاء. فإجراءات التشريح والتمثيل واحدة شكلاً، وهي قطع أعضاء الجثة، إلا أن الغاية والنتيجة المرجوة مختلفة، فحسب القواعد الفقهية المذكورة سابقاً جاز التشريح وحرم التمثيل، واستناداً إلى هذه القواعد الفقهية أيضاً أجاز الفقهاء نقل أعضاء الميت إلى جسم آدمي حي هو بحاجة إلى الأعضاء. وجاءت هذه الفتوى بقرار هيئة كبار العلماء بالرياض رقم 99 (في 6/11/ 1402 هـ) . فجواز نقل أعضاء الموتى مشروط بالقواعد الفقهية السابقة إذ يجب أن يخدم غرضاً نبيلاً نافعاً، كأن ينقذ حياة المريض أو يشفيه من مرض عضال لا يتم شفاؤه (بإذن الله) إلا عن طريق نقل العضو، وقد ثبت أن نقل الأعضاء (ويعرف باسم غرس الأعضاء (1) يخدم الطب بشكل كبير.   (1) الاسم الشائع هو زرع الأعضاء، وهي تسمية خاطئة كما هو مبين لاحقاً في صفحة 125 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 وغرس الأعضاء من الأساليب العلاجية المهمة جداً والتي أفادت في الشفاء (بإذن الله) من أمراض عضال كثيرة تستعصي على أساليب العلاج الأخرى، فاليوم هنالك ما يفوق عن مائة ألف عملية غرس كلية ثم إجراؤها في العالم لعلاج المراحل المتأخرة من أمراض الكلى، كما تم بنجاح إجراء العديد من عمليات غرس القلب (والرئة) محققاً نتائج طيبة (بإذن الله) لمرضى القلب والرئتين الذين كانت حالاتهم ميئوساً منها. وها هي عمليات غرس نقي العظام تجرى بنجاح لعلاج أدواء نقص المناعة وأدواء انحلال الدم الخطيرة، وغرس الكبد لعلاج العديد من أمراض تليف الكبد وغرس البنكرياس لعلاج بعض حالات مرض السكري وبعض أمراض عجز البنكرياس أو التهاباته المزمنة. أما غرس قرنية العين فقد طبقت في مجالات واسعة لإعادة الرؤية إلى المرضى (بإذن الله) . وبالرغم من أن التقدم العلمي والتقني أدى إلى تطور كبير في غرس الأعضاء إلا أنه خلق مشاكل أخلاقية وقضايا فقهية جديدة يجب حلها، ولذلك توخيت في بحثي هذا أن ألقي الضوء على بعض هذه القضايا والمشاكل التي نشأت والتي يمكن أن تنشأ (من جراء تطور غرس الأعضاء) وسأخص بالذكر منها ما يلي: أ) غرس الخصية. ب) غرس أعضاء الأجنة. ج) انتقال الإيدز عن طريق غرس الأعضاء. د) ضرورة غرس أعضاء الإنسان الحي ومشاكلها. وقد بدأت هذا البحث بموجز عن تعريف غرس الأعضاء وتاريخه؛ لما للتاريخ من أهمية لدى الباحث الفقيه، وأنهيته ببعض الاقتراحات التي أعتقد أنها ضرورية. وحيث إن البحث في موضوع غرس الأعضاء يحتاج إلى مادة علمية غنية (من جميع جوانب هذا الموضوع) يمكن الرجوع إليها عند الضرورة فقد كان لي شرف كتابة أول مرجع شامل باللغة العربية عن " غرس الأعضاء في جسم الإنسان " سأرفقه مع هذا البحث أملا أن يكون فيه ما يشبع الشغف وينير الدرب، وأن تكون فيه الإفادة لمن أراد المزيد حول هذا الموضوع. وعلى الإنسان أن يسعى وبالله التوفيق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 تعريف غرس الأعضاء وتاريخه لا بد أولا أن أنوه وألفت الانتباه إلى وجوب استبدال عبارة " زرع الأعضاء " (الشائعة الاستعمال) بعبارة " غرس الأعضاء " تبعاً للمبررات الآتية: غرس الأعضاء يقصد به نقل عضو سليم من جسم متبرع (معطي، مانح) سواء كان إنساناً أو حيواناً أو أي كائن حي، وإثباته في الجسم المستقبل (الآخذ، المتلقي) ليقوم مقام العضو المريض في أداء وظائفه، وعبارة " غرس الأعضاء " هي التسمية الصحيحة وليس عبارة " زرع الأعضاء "؛ فقد اتفقت جميع معاجم اللغة العربية (لسان العرب والمحيط وغيرها) أن عبارة غرس في اللغة العربية تعني إثبات الشيء المغروس (الغريسة) في مكان الغرس، فيقال: غرس الشجر؛ أي: أثبته في الأرض. أما " الزرع" فهو طرح الزُّرعة " أي البذر " في الأرض فيقال: زرع الأرض أي ألقى فيها البذر، ويقال زرع الحب أي بذره، والاسم الزرع. وقد جاء في المصباح المنير أن " الزرع" هو ما استنبت بالبذرة، وبهذا نجد أن كلمة " غرس " أدق وأصح من كلمة " زرع " لاستعمالها في مجال نقل الأعضاء. بالإضافة إلى دقة المعنى نجد أن الاشتقاقات في كلمة غرس هي الأنسب لاستعمالها في مجال نقل الأعضاء، فنقول: " غريسة " للدلالة على العضو المغروس، وجمعها " غرائس" أي الأعضاء المغروسة. أما اشتقاقات كلمة " زرع " فهنالك " الزُّرعة " وهو البذر المطروح في الأرض وهنالك " زريعة " وهو ما بذر، وتطلق أيضاً على الشيء المزروع مثل الأرض المزروعة، وهنالك " الزريع " وهو ما ينبت في الأرض مما سقط فيها من الحب أيام الحصاد. وكلها غير مناسبة للدلالة على العضو المراد نقله، بعكس كلمة " غريسة " والتي تعني الفسيلة ساعة توضع حتى تعلق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 وخير ما يؤيد ذلك أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام: عن جابر رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة)) وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان له به صدقة)) . رواه البخاري ومسلم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يغرس مسلم غرساً ولا يزرع زرعا، فيأكل منه إنسان ولا طائر ولا شيء إلا كان له أجر)) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن. ومن هذه الأحاديث يتضح أن الزرع غير الغرس وأن الغرس مرتبط بالغريسة وهي الفسيلة كالشجر والنخل كما في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((سبع يجري أجرهن للعبد وهو في قبره بعد موته؛ من علم علماً أو كرى نهراً أو غرس نخلاً أو بنى مسجداً أو ورث مصحفاً أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته)) . ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)) . وكثيرة هي الأحاديث التي تبين أن الغرس غير الزرع وأن الزرع يتعلق بالبذور والغرس يتعلق بالشجر والفسيلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 تاريخ غرس الأعضاء يقول علماء غرس الأعضاء إن عمليات غرس الأعضاء لم تبدأ إلا في أواخر القرن التاسع عشر. إلا أنه كما ((ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد حين أصيبت عين قتادة بن النعمان فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها عليه بيده، وكانت أصح عينيه وأحسنهما)) رواه الدارقطني وابن شاهين والبيهقي وقد اختلف أهل العلم في تصحيحه (زاد المعاد الجزء الثالث ص 198) . وهذه القصة تجعلنا نقول: إن أقدم وأسرع عمليات غرس العيون كانت بمشيئة الله على يد الرسول عليه الصلاة والسلام وهي معجزة إلهية. إلا أن التاريخ لم يذكر شيئاً من غرس الأعضاء حتى أواخر القرن التاسع عشر إذ بدأت محاولات غرس الجلد في الحيوان على يد الجراح الفرنسي جاك لويس ريفيردين وحاول الطبيب روبسون عام 1893 غرس البنكرياس في طفل. وبدأت أول عمليات غرس القرنية (رأب القرنية) في عام 1905م وتنسب إلى الجراح التشيكوسلوفاكي (ادوارد دزيوم) أما عمليات غرس الكلى فقد بدأت أول تجاربها على الحيوان في عام 1908 م على يد (ولمان) في فيينا. إلا أن تطور غرس الأعضاء حدث في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث أجريت أول عملية ناجحة في غرس الكلى، وفي منتصف الستينات بدأت أولى عمليات غرس القلب والكبد والبنكرياس، وقد قفزت عمليات غرس الأعضاء قفزات رائعة في السنوات الأخيرة وما ذلك إلا نتيجة لتطور التقنية الجراحية ولاكتشاف مستضدات (انتيجين) التطابق النسيجي والآليات المناعية المسؤولة عن رفض الغرائس والتي يعود الفضل فيها إلى العالم الأمريكي اللبناني الأصل (مدَوَّر) أضف إلى ذلك اكتشاف عقار السايكلوسبورين المثبط للمناعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 وإلى الآن أصبحت معظم الأعضاء تغرس في جسم الإنسان مثل الجلد ونقي العظام والقرنية والكلية والقلب والرئتين والكبد والبنكرياس، وتفاصيل عمليات غرس كل عضو من هذه الأعضاء ومجالات تطبيقاتها وتطورها ومدى نجاحها مشروع بشكل مفصل في كتابنا غرس الأعضاء في جسم الإنسان (ص 121 ـ 257) وقد أدى غرس هذه الأعضاء إلى الشفاء من أمراض عضال مستعصية على أساليب العلاج المختلفة. ومما زاد في تطور عمليات غرس الأعضاء التقنية الحديثة التي يتم بواسطتها تجميد الأعضاء إلى درجات حرارة منخفضة جداً تصل إلى 170 درجة مئوية تحت الصفر، وبذلك يحفظ الأعضاء لمدة طويلة جداً إلى حين استعمالها، فعند الحاجة لاستعمالها تسخن إلى درجة حرارة الجسم فتعود إلى حالتها الطبيعية (والمبدأ العلمي وطريقة الحفظ بالتجميد مشروحة بالتفصيل في كتابنا غرس الأعضاء في جسم الإنسان (ص 23 ـ 24) . وبالرغم من أن التقدم العلمي والتطور الهائل في التقنيات المستخدمة في غرس الأعضاء أفاد كثيراً وأدى إلى خدمة البشرية إلا أنه من جهة أخرى وضعنا أمام قضايا فقهية جديدة ومشاكل أخلاقية نذكر منها ما يلي: أ- غرس الخصية: الخصيتان (في الذكر) والمبيضان (في الأنثى) هي الغدد التناسلية في الإنسان، وتعتبر كمصانع لإنتاج الخلايا التناسلية. فالخصية مصنع لإنتاج الحيوانات المنوية (إضافة إلى إفراز الهرمونات الذكرية) كما أن المبيض مصنع لإنتاج البويضات، إضافة إلى إفراز هرمونات الأنوثة. فمتى تنضج هذه الغدد؟؟ وهل يمكن استخدام غدة الأجنة كغرائس؟؟ وهل يتم إنتاج الخلايا التناسلية (النطاف والبويضات) بشكل كامل داخل الغدد التناسلية؟؟ وفي أي مرحلة من تطور الجنين يتم ذلك؟؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 فالإجابة على هذه التساؤلات ستنير الطريق أمامنا لكي نفهم طبيعة غرس الخصية والمبيض وخاصة المأخوذة من الأجنة، ولكي يتم وضع الأحكام الشرعية. في بداية الأسبوع السابع لا يوجد في الجنين أعضاء تناسلية إلا أنه توجد حدبة تناسلية غير محددة الهوية (ذكورة أم أنوثة) . توجد بالقرب من منطقة الكلية بين الصلب (العمود الفقري والترائب) (الأضلاع) . إنه ابتداء من الأسبوع السابع من الحمل تبدأ الخصية بالنمو (قبل المبيض) ويظهر فيها نسيج خاص يكون ملفوفاً بغلاف أبيض يدعى اللفافة البيضاء، وتنمو الخصية (أو المبيض) في الحدبة التناسيلة (سابقة الذكر) وإنه يمكن في الأسبوع الثامن التعرف على الغدد التناسلية إن كانت خصية أم مبيضاً، وفي الأسبوع التاسع من الحمل تبدأ الأعضاء التناسلية الخارجية بالتميز بين الأنوثة والذكورة / وإنه في الأسبوع الثاني عشر تتميز الأعضاء التناسلية الخارجية بشكل كامل أي في نهاية الشهر الثالث. وكما ذكرنا آنفاً يكون موضع الخصية قبل الشهر الثالث (في الأسبوع الثامن) بالقرب من موضع الكلية بين الصلب (العمود الفقري) والترائب (الأضلاع) ثم تنزل الخصية تدريجياً أثناء الحمل إلى أن تصل إلى الحوض في الشهر السابع وعلى عكس المبيض الذي يستقر في الحوض تتابع الخصية نزولها حتى إنها في الشهر التاسع من الحمل (الأسبوع 36) تنزل إلى كيس الصفن خارج البدن. وقد ثبت أن النطاف متواجدة منذ بدء تطور الخصية إلا إنها تكون متواجدة بجدار القنيات المنوية بشكل خلايا أصلية (ينشأ منها كل النطاف طوال العمر الجنسي) ، إلا أن الخصية تكون خامدة هاجعة حتى سن البلوغ، وتحت تأثير هرمونات منطقة الوطاء (منطقة تحت السرير البصري، أو منطقة تحت المهاد (Hypothalamus) تبدأ الغدة النخامية بإرسال رسولها المنشط (المغذي) للغدد التناسلية فتتنبه الخلايا الأصلية (الأولية) الموجودة بجدار القنيات المنوية فتقوم من هجعتها الطويلة وتبدأ بالانقسام منذ تلك اللحظة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 وبالرغم من أن النطاف متواجدة في الخصية منذ مرحلة الجنين وتكون متواجدة بجدار القنيات المنوية بشكل خلايا أصلية هاجعة (كامنة) فإنه لا يمكن اثبات أو نفي (1) . إن كان نقل خصية جنين إلى إنسان بالغ سيؤدي إلى خروج الخصية من هجعتها وبالتالي إلى نشاط الخلايا الأصلية وإنتاج النطاف تحت تأثير الغدد النخامية في الجسم. وقد ورد أن الخصية نفسها تفرز هرمونا ذكورة، وأنها ابتداء من الشهر الرابع من عمر الجنين تصبح قادرة على إفراز هرمونات الذكورة تحت تأثير غدة أمه النخامية، ولذلك يمكن بعد الشهر الرابع من عمر الجنين استخدام الخصية لغرسها في جسم إنسان بالغ وستقوم هذه الخصية بجميع وظائفها الهرمونية بشكل كامل تحت تأثير الغدة النخامية في الإنسان البالغ المتلقي للخصية، وقد ذكر ذلك الدكتور (ك. حنش) وهو صاحب أول عملية غرس خصية في الإنسان. فكما يذكر في كتابه الجنس والعقم (ص 266) أنه غرس خصيتي جنين (2) في شاب في العشرينات من عمره يشكو من غياب خصيتيه إلا أن غدته النخامية سليمة الوظائف، وبعد العملية بسبعة أيام بدأت تظهر على الشاب صفات الذكورة الثانوية وهكذا حتى أصبح الشاب ذا مظهر رجولي طبيعي ومن ثم بدأ يقذف وبدأ يمارس الجنس (3) . إلا أن المؤلف لم يذكر شيئاً عن وصل الحبال المنوية في هذه العملية (؟!!) إذن فغرس الخصية هذه أفاد من الناحية الهرمونية؛ إذ استطاعت الخصية المغروسة من إفراز هرمونات الذكورة مما أدى إلى ظهور الصفات المذكورة أعلاه. فما رأي الشرع؟؟ لا بد أن الأمر يحتاج إلى استشارة أخصائي أمراض المسالك البولية والعقم وقد سألت الأستاذ الدكتور/ ربيع عبد الحليم أستاذ المسالك البولية في كلية الطب بجامعة الملك عبد العزيز فأفاد بأنه لا يوجد وصف لعلاج العقم بواسطة غرس الخصية فلا يعتقد بأن الخصية المغروسة تستطيع توليد النطاف إلا أننا لا نستطيع إثبات ذلك أو نفيه لأنه لا توجد أبحاث حول هذه النقطة والحالة التي ذكرها الدكتور/ حنش إنما تعني قدرة الخصية المغروسة على إنتاج هرمونات الذكورة، وعادة تغرس الخصية بدون وصل الحبال المنوية في حالات غرس الخصية الذاتي (انتهى رأي د. ربيع) .   (1) لا توجد تجارب أو أبحاث عملية بهذا الخصوص (2) ذكر المؤلف كمال حنش في كتابه أنه تم تسجيل هذه العملية في المجلة الأمريكية للعقم (3) هذا لا يعني أنه يقذف حيوانات منوية. فلربما يقذف سائل البروستات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 فالأمر بهذه الصورة يتلخص بوجود عملية غرس خصية غريبة للاستفادة من هرموناتها لمعالجة المرضى (الذين يشكون من غياب أو عطب الخصيتين) من الناحية الهرمونية لاستعادة صفاتهم الذكرية بدون إنتاج نطاق. وأود بهذا الصدد أن أفترض حالة من نسيج الخيال والافتراض العلمي، فلو فرضنا جدلاً أنه في عملية غرس خصية جنينية تم توصيل الحبال المنوية واستطاعت الخصية من إفراز النطاف فهل يسمح شرعاً بغرس الخصية لعلاج المرضى الذين يئسوا من حياتهم بسبب غياب الخصية عندهم؟ هل يسمح بهذا ونحن نعلم أن إنتاج النطاف محصور بالخصية ليس إلا، فالخصية هي المصنع المتكامل الذي ينتج النطاف ولا تحتاج لعملها هذا إلا أوامر من الغدة النخامية، ولا تحتاج إلى أية مواد خارجية تدخل في تصنيع النطاف، وهذا يعني أن الإنسان الذي يتلقى الخصية لا دخل له في إنتاج النطاف سوى أن غدته النخامية ترسل أوامر بواسطة رسلها الكيماوية (الهرمونات) إلى الخصية الغريبة المغروسة، ثم تقوم الخصية بإنتاج النطاف ذاتياً طوال فترة العمر الجنسي، فالنطاف من الخصية.. والخصية ملك الرجل المتبرع ... فلمن يكون الأولاد؟ فإذا كان الجواب إنهم لصاحب الخصية (وهو الأرجح) ، فهل يا ترى يسمح بغرس الخصية مع جعل نسب الأبناء لصاحب الخصية؟؟ أم يا ترى نحرم غرس الخصية (وهو الأرجح) ؟! لأن ذلك كما يبدو إنما هو تلقيح بويضة الزوجة بنطفة غير نطفة الزوج وهذا حرام لأنه ينطوي ضمن دائرة الزواج الذي يستخدم طرفاً ثالثاً ألا وهو نطفة غريبة. فكما أسلفت فإني طرحت هذه الحالة لإثارة الجدل العلمي فقط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 ب- غرس أعضاء الأجنة: غرس أعضاء الأجنة أخذ طريقه حديثاً إلى عالم " غرس الأعضاء "، وقبل الخوض بشرحه لا بد أولاً من إلقاء الضوء على تطور الجنين واكتمال أنسجته وأعضائه فكيف يتطور الجنين؟ نقطة البدء هي التقاء البويضة مع النطفة (التلقيح) ويتم التلقيح في الثلث الأول من قناة فالوب وتحتاج البيضة الملقحة إلى ستة أيام كي تصل إلى الرحم، وعند وصولها إلى الرحم تكون بشكل التوتة فتنفرز في جدار الرحم وتستمر في تطورها لتصبح بشكل القرص في الأسبوع الثالث، ومن الأسبوع الثالث وحتى نهاية الأسبوع السابع (أربعة أسابيع تقريباً) يحدث التطور السريع للجنين ويتحول إلى شكل متميز وتتشكل جميع الأعضاء: الجلد والشعر والأظفار والجهاز العصبي والعضلات والعظام والأوعية الدموية والأمعاء والكبد والمرارة والبنكرياس والحنجرة والرئتين والقلب. وفي منتصف الأسبوع السادس يصبح له خفقة قلب الإنسان العادي ويكون بطول 1.5 سم. أما الغدد التناسلية الخصيتان (ذكر) والمبيضان (أنثى) فتنشأ من حدبة تناسلية تكون غير محددة الهوية في بداية الأسبوع السابع وعندها تبدأ هذه الحدبة بالنمو لتعطي إما خصية (ذكر) أو مبيضاً (أنثى) فيصبح بالإمكان التعرف على الغدد التناسلية أذكرية هي (الخصية) أم أنثوية (المبيض) ؟ ومن نهاية الأسبوع السابع وحتى الأسبوع الثاني عشر (أربعة أسابيع تقريباً) تكون مرحلة نمو فقط إذ إنه في الأسبوع الثامن يصبح للجنين الشكل الإنساني المتميز حيث تكونت معظم الأعضاء والأجهزة بصورتها الشبيهة بما هي عليه عند المولود ويكون طوله 3 سم تقريباً ووزنه 2 غ وله جفون مغلقة وأصابع وأسنان، وفي الأسبوع الثاني عشر يصبح طوله 7.5 سم تقريباً ووزنه 140 غ وأجهزته مكتملة وإن كانت لم تبدأ في أداء دورها وواجبها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 في الشهر الثالث من نمو الجنين، يكون التخلق الجنسي أكثر وضوحاً، فالمهبل والرحم يبدأان في التكون، ويبدأ القضيب في البروز وتتكون الكليتان والمثانة ومجاري البول ويبدأ الجنين بإفراز البول بكميات ضئيلة، ويكون الدماغ في غضون الأسبوع العاشر مثله عند الولادة وفي نهاية الأسبوع الثاني عشر (نهاية الشهر الثالث) تتميز الأعضاء التناسلية الخارجية بشكل كامل. ويستمر نمو الجنين حتى إن نهاية الشهر الخامس يصبح الجنين درجة من كمال النمو واكتمال الأعضاء حتى ليكاد الإنسان يظن أن الجنين يستطيع أن يحيا خارج الرحم ولكن هذا ليس إلا من قبل الأوهام، فالجنين في هذا العمر لا تكتب له الحياة عادة، فالرئتان والبشرة وجهاز الهضم ليست قادرة بعد على العمل المنوط بها خارجاً. والجنين في هذا العمر صغير يبلغ طوله بحدود ثماني بوصات (20 سم تقريباً) ووزنه 225 غراماً، أما أصغر عمر يستطيع الجنين متى بلغه أن يحيا خارج الرحم هو 25 أسبوعاً ويكون وزنه بحدود 450 غراماً. نعم لقد بدأ استخدام أجنة الإنسان في مجالات غرس الأعضاء، فكما أسلفت هناك حالة غرس خصيتي جنين أجراها الدكتور/ كمال حنش وذكرها في كتابه الجنس والعقم، وقد نجحت العملية وكانت نتائجها جيدة (1) ، وهي أول عملية غرس خصية في العالم، بالإضافة إلى عملية غرس خصيتي الجنين الناجحة، هنالك أيضاً عمليات غرس الغدة السعترية (التيموس) من الأجنة إلى أطفال يعانون من نقص في المناعة نتيجة غياب أو عطب الغدة السعترية. ومن الثابت أن الغدة السعترية مسؤولة عن تطور بعض خلايا المناعة. وأن غيابها يؤدي إلى نقص في المناعة. ولقد أبدت النتائج تحسناً ملحوظاً في مناعة الأطفال المرضى، وتعتبر هذه العملية من الإجراءات المأمولة لعلاج أمراض نقص المناعة الخلوية عند الأطفال، وكذلك تم غرس بعض خلايا بنكرياس الجنين التي تفرز الإنسولين لمعالجة نوع من أنواع السكري وقد وجد بعض التحسن عند استعمال خلايا مجمدة فقط، وكذلك هنالك محاولات لغرس بعض خلايا الأجنة لدماغ الإنسان لعلاج مرض باركنسون.   (1) انظر ص 12 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 كل هذه الأمثلة تؤكد استعمال أعضاء وخلايا الأجنة في علاج الأمراض المستعصية، وإن كان الأمر ذا فائدة طبية إلا أنه يضعنا أمام قضايا فقهية وقضايا أخلاقية. فالجنين كائن حي ذو حياة نباتية بادئ الأمر إلى أن تنفخ فيه الروح، ونفخ الروح يكون بعد أربعين يوماً حسب رأي بعض الفقهاء أو أو بعد مائة وعشرين يوماً حسب رأي البعض الآخر من الفقهاء، فهل يا ترى يجوز استعمال الجنين في المداواة (غرس الأعضاء) ؟ بعد أن عرفنا أن أعضاء الجنين تستعمل عادة بعد الشهور الثلاثة الأولى (إذ تكون الأعضاء قد تطورت، فمثلاً يجب استئصال الخصية من جنين عمره أكثر من أربعة شهور) أي بعد نفخ الروح (120 يوماً على أكثر الاحتمالات) ؟ فإذا كان الشرع أجاز استخدام أعضاء الموتى للأمور العلاجية.. فهل الأمر كذلك في بعض حالات استخدام الجنين؟؟ فمثلاً عندما تشتكي الأم من بعض أمراض المشيمة أثناء الحمل (انسلاخ المشيمة) فلا بد عندها من التضحية بحياة الجنين لإنقاذ حياة الأم ... فإن كان عمر الجنين أقل من 25 أسبوعاً فلا حياة له ترتجى إن هو أخرج من الرحم ... فما المانع من استخدام هذا الجنين في مجالات علاجية كغرس الأعضاء؟ ... إلا أن الأمر يجب أن يكون ضمن ضوابط شرعية.. لمنع المشاكل الأخلاقية التي يمكن أن تنشأ عن سوء استخدام الأجنة، فبعض النسوة قد يلجأن إلى الحمل بغية استخدام الجنين لعلاجهن أو علاج أقربائهن ... أو قد يجبرن على ذلك من قبل أزواجهن إضافة إلى تأجير الأرحام التي انتشرت في المجتمعات الغربية ووصل الأمر (1) . (حسب تقرير جريدة " المسلمون " العدد 142) أو سيصل إلى إنتاج الأجنة في الأرحام المستأجرة.. وإضافة إلى كونها ظاهرة اجتماعية وأخلاقية كبيرة الخطورة فإنها بالوقت نفسه تشكل خطراً لانتشار أمراض خطيرة كمرض الإيدز (كما سيتم شرحه لاحقاً) .   (1) جريدة المسلمون العدد (142) الجمعة 1 ربيع الأول، 1408 هـ (23/ 10/ 1987) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 جـ- انتقال الإيدز عن طريق غرس الأعضاء: الإيدز " مرض نقص المناعة المكتسب " مرض خطير يوصف بأنه طاعون العصر الذي يفتك بصاحبه دون رحمة، فما أن يصاب إنسان به حتى تغزوه الإنتانات الكثيرة (الانتهازية) وتتدهور صحته ويموت خلال خمس سنوات. ظهر هذا المرض في أواخر السبعينات من هذا القرن، لكن لم يعرف باسم " الإيدز " إلا في أوائل الثمانينات 1981، وبعد ذلك اكتشف أن سبب هذا المرض هو فيروس ينتمي إلى مجموعة الفيروسات المتراجعة Retrovirueses والذي أطلق اسم HTLV.III، وهذه الكلمة اختصار لعدة كلمات هي Human T-Lymphocyte virus وقد أطلقه الباحثون الأمريكيون بينما استعمل الفرنسيون اسماً آخر LAV وهو اختصار الكلمات Lymphadenopathy- assocociated virus إلا أن الاسم الجديد الذي يوحد الاسمين السابقين معاً هو HIV وهو اختصار الكلمات Human Immunodeficiency Viruses يهاجم هذا الفيروس الخلايا اللمفاوية (تي) المساعدة (T4) T-helper Iymphocytes بشكل رئيسي فيفتك بها ويخربها وبذلك تنعدم المناعة في الجسم ويصبح المريض عرضة لغزو الإنتانات (العدوى) الانتهازية الفتاكة، كما يصاب المريض بسرطان كابوس ويموت خلال خمس سنوات. ينتشر هذا المرض بين الممارسين للشذوذ الجنسي، وبين مدمني المخدرات، وبين المهاجرين من جزر هايتي، وبين سكان الحزام الأفريقي، وبين مرضى الناعور (هيموفيليا) وقد أطلق على هذه المجموعات اسم مجموعات خطر الإيدز. بالإضافة لهؤلاء الناس ينتقل هذا المرض عن طريق الاتصال الجنسي الطبيعي بين الذكر والأنثى إذا كان أحد الطرفين مصاباً أو حاوياً على فيروسات المرض، كما ينتقل عبر المشيمة من الأم إلى الجنين، كما ينتقل عن طريق الرضاعة. وموضوع انتقال وانتشار الإيدز واسع ويحتاج إلى تفصيل واف، وهناك تفصيل كاف وواف في كتابنا " الإيدز مرض العصر ". ولكن ما يهمنا في موضوعنا الآن هو علاقة الإيدز بغرس الأعضاء. فالسؤال الذي يطرح هو هل ينتقل الإيدز عن طريق غرس الأعضاء؟ حقيقة الأمر أن عمليات غرس الأعضاء تتضمن إجراءين اثنين يتدخلان في نقل مرض الإيدز، وهما نقل الدم، وغرس العضو المطلوب نقله، إضافة إلى إمكانية انتقال الإيدز عند استعمال أنسجة الأجنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 1) نقل الدم: من الإجراءات المهمة التي تجرى قبل عمليات غرس الأعضاء هو نقل الدم، فمنذ عام 1973 أصبح مؤكداً أن نقل الدم للمريض الذي ستجرى له عملية غرس الأعضاء تعطي نتائج جيدة في رفع معدل بقاء الغريسة وفي تخفيض حدوث رفض الغريسة. ويوجد شرح كاف وواف لتأثر نقل الدم في تحسين نتائج غرس الأعضاء في فصل غرس الكلية (ص 207) من كتابنا " غرس الأعضاء في جسم الإنسان " وقد ثبت مما لا يدع مجالاً للشك أن فيروس الإيدز ينتقل عن طريق نقل الدم، ولا تتعلق العدوى (عن طريق نقل الدم) بكمية الدم المنقولة فيكفي أن تكون كمية قليلة جداً من الدم ملوثة بفيروس الإيدز حتى تتم العدوى، بل إن دخول أثر قليل من الدم الملوث عن طريق وخز الإبرة الملوثة يكفي لحدوث العدوى، كما ثبت أن فيروس الإيدز ينتقل بواسطة نقل أحد مشتقات الدم مثل العامل الثامن والذي ينقل عادة إلى مرض الناعور (الهيموفيليا، وهو سوء تجلط الدم) ولهذا نجد أن هؤلاء المرضى هم مجموعات خطر الإيدز، في مجال غرس الأعضاء يتلقى المريض قبل عملية الغرس عدة وحدات من الدم قد تصل إلى خمس وحدات، بهذا يتبين إمكانية حصوله على الدم من عدة متبرعين وبذا يزيد احتمال الإصابة بمرض الإيدز. وقد أصبح كشف فيروسات الإيدز من الإجراءات التي تجرى في معظم المختبرات الطبية، وتعتمد الطريقة على كشف الأضداد النوعية للفيروس antibodies في المصل. وهنالك العديد من الطرق المستعملة لهذا الغرض المذكورة في ص (108 ـ 114) من كتابنا غرس الأعضاء في جسم الإنسان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 2) غرس الأعضاء: قبل عام 1985 لم يكن يعرف أن الإيدز ينتقل عن طريق نقل أعضاء الإنسان من شخص إلى آخر. ففي أيلول (سبتمبر) من عام 1985 ظهر أو تقرير عن انتقال مرض الإيدز جراء غرس كلية مأخوذة من مريض مصاب بمرض الناعور (الهيوفيليا) . وقد تأكد هذا عندما أعلن فريق طبي ألماني أن فيروس الإيدز ينتقل عن طريق غرس الكلى المأخوذة من متبرعين مصابين بالإيدز، ونفى هذا الفريق أن يكون سبب ظهور الإيدز في مرضاهم المستقبلين لغرائس الكلى ناتجاً عن نقل الدم الذي أجري لهؤلاء المرضى، فقد كانت كل وحدات الدم المنقولة سليمة وخالية من الفيروس، بينما كانت كل الكلى المنقولة لمرضاهم مأخوذة من متبرعين مصابين بالإيدز، وقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن سبب انتقال مرض الإيدز هو الكلى المغروسة، وثبت حديثاً أن مرض الإيدز ينتقل عن طريق غرس الجلد، وحتى عن طريق الجلد المحفوظ بواسطة التجميد. إذن لا بد من إجراء فحوصات كشف فيروسات الإيدز وأضدادها على المتبرعين بالأعضاء المختلفة. وقد جاءت توصية من منظمة الصحة العالمية بضرورة إجراء فحوصات كشف فيروس الإيدز في المتبرعين بالدم والسائل المنوي والأعضاء والأنسجة ويجب استبعاد المتبرعين من مجموعات خطر الإيدز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 3) غرس أنسجة الأجنة: لقد أدى التطور التقني والعلمي في مجال غرس الأعضاء إلى غرس أنسجة الأجنة وقد ثبت أن هذه الأعضاء الجنينية تؤدي الغرض المطلوب إضافة إلى أنها أقل عرضة للرفض من قبل الجسم المستقبل. ولهذا فإن المريضات قد يطلبن إجهاضهن أو يكرهن على الإجهاض من قبل أزواجهن واستخدام أعضاء وأنسجة الجنين في المداواة. والأعظم من ذلك نشوء فكرة إنتاج أجنة عن طريق المومسات والعاهرات بنطاف أجنبية ومن ثم إسقاط الجنين واستخدامه في غرس الأعضاء (جريدة المسلمون: العدد 142 ـ الجمعة 1 ربيع الأول 1408 هـ) . وقد ثبت انتقال فيروس الإيدز من الأم إلى الجنين، ونحن نعلم أن نسبة كبيرة من العاهرات والبغايا والمومسات يحملن فيروس الإيدز، أضف إلى ذلك أن كثيراً من الشاذات جنسياً يرغبن في الحمل ولكن ليس عن طريق الجماع فيلجأن إلى تأجير أرحامهن من أجل إنتاج الأجنة وهؤلاء الشاذات هن من أخطر مجموعات مرض الإيدز. ومن هنا يتضح خطورة استعمال أنسجة الأجنة في نقل مرض الإيدز، مع العلم أن تجميد الجنين سيؤدي إلى حفظ الفيروس ويضمن بقاءه في الأنسجة، وما يجب قوله: إن الأجنة قد تستخدم أيضاً في تصنيع مستحضرات التجميل، وقد نشرت جريدة " المسلمون " تقريراً كاملاً عن هذا الإجراء وفي ذلك خطورة كبيرة (1) لأنه لم يثبت أن طريقة تحضير مستحضرات التجميل تؤدي إلى تخريب فيروس الإيدز في حالة وجوده في أنسجة الأجنة، وبذلك توجد خطورة كبيرة لانتقال مرض الإيدز عن طريق مستحضرات التجميل. وقد يحتج البعض بأن شركات تحضير مستحضرات التجميل تؤكد سلامة المستحضرات من جميع الكائنات الممرضة وخاصة فيروس الإيدز، إلا أننا نتساءل عن مدى صحة هذه التصريحات وخاصة فيما يخص المستحضرات التي تصدر خصيصاً إلى البلاد الإسلامية، وقد قرأنا أكثر من مرة عن إرسال مواد غذائية منتهية الصلاحية أو ملوثة أو ذبائح غير شرعية مكتوب عليها أنها ذبحت على الطريقة الإسلامية، فالمجتمعات الغربية بعد أن باعت أخلاقياتها أصبح بالإمكان أن تفعل كل شيء " إذا لم تستح فاصنع ما شئت ".   (1) المصدر الوحيد هو جريدة المسلمون (العدد 142) ـ تاريخ 1/3/ 408 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 د- ضرورة غرس أعضاء الإنسان الحي ومشاكلها: كثير من أعضاء الإنسان لا يمكن الحصول عليها من متبرعين أحياء؛ وذلك لأنها أعضاء فردية في الجسم وذات وظائف حيوية ضرورية مثل القلب والكبد والبنكرياس والدماغ ... فلا بد من الحصول عليها من جثت الموتى حديثي الولادة.. أما الأعضاء غير الفردية مثل الكلية فمن الممكن أن يتبرع بها الأحياء، إذ إن الآدمي الحي يستطيع أن يعيش بكلية واحدة سليمة. ولقد أجاز السادة الفقهاء الأجلاء استعمال أعضاء جثث حديثي الوفاة (حسب قرار هيئة كبار العلماء في الرياض رقم 99 بتاريخ 6/11/ 1402 هـ) كما أن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الذي انعقد في عمان أقر موت الدماغ (1) كدليل على موت الإنسان، ولا شك أن تلك القرارات قد ساعدت كثيراً في تذليل كثير من الصعوبات التي تقف في وجه التداوي بواسطة غرس الأعضاء. فإن كان التقدم العلمي قد ذلل بعض الصعوبات التقنية إلا أن الصعوبات الاجتماعية تعتبر من أهم الصعوبات ... فالصعوبات الأساسية تتمثل في الحصول على الأعضاء وليست في التقنية، فالصعوبات التقنية لم تعد مشكلة في الوقت الحاضر مع هذا التقدم الهائل في التقنيات الحديثة، فقد أصبح بالإمكان أجراء عمليات غرس معظم أعضاء الجسم، وأصبح بالإمكان التغلب على رفض الجسم للغرائس بواسطة اختيار التبرع المناسب وبواسطة استخدام الأدوية المخمدة للجهاز المناعي، وقد ارتفع معدل الحياة بشكل ملحوظ في أكثر أنواع غرس الأعضاء (ومن أراد المزيد حول التقنيات الحديثة وتأثيرها فليرجع إلى كتابنا غرس الأعضاء في جسم الإنسان) إلا أن المشكلة والصعوبة الكبيرة التي يواجهها المهتمون في هذا المجال هو قلة المتبرعين، فلو عرفنا أن عدد المحتاجين (2) لغرس الكلى في المملكة يصل إلى ما يزيد عن 600 مريض سنويا وأن كل الأقارب لا تشكل سوى 10 % من الاحتياج فسيحتاج الأمر إلى استيراد الكلى من الخارج.. إلا أن الكلى المستوردة من الخارج تشكل خطراً كبيراً لنقل مرض الإيدز كما تم تفصيله سابقاً، أضف إلى ذلك أنها لا تغطي سوى 5 % من احتياجات المملكة. وبالرغم من أن القرارات الفقهية سابقة الذكر قد ساعدت كثيراً إلا أن المشكلة ما زالت قائمة.   (1) يوجد في كتابنا " غرس الأعضاء في جسم الإنسان " ص 12 تفصيل واف عن موت الدماغ وقرارات مجلس مجمع الفقه الإسلامي (2) حسب تقرير المركز السعودي لغرس الأعضاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 والضرورة شديدة وملحة للحصول على الأعضاء من متبرعين أحياء، ونحن أمام قضية فقهية اجتماعية في الوقت نفسه. فإنقاذ حياة مريض الكلى يتوقف كلية على وجود المتبرعين الأحياء ... فالأمر لم يعد يقتصر فقط على إجازة التبرع بالكلى ... بل يجب التشجيع على ذلك. معتمدين على تعاليم ديننا الحنيف التي تحث على الإيثار والتكافل الاجتماعي والتعاون والتضحية ... وخاصة أن استيراد الكلى من الخارج (وإن كان يشكل فقط 5 %) يشكل خطورة لجلب مرض الإيدز ... فيجب الانتقال من مرحلة تحليل استخدام أعضاء الأحياء إلى مرحلة الحض والتشجيع على ذلك ... وها نحن أمام تجربة جليلة وجيدة ألا وهي الحض على التبرع بالدم، فالدم (ومشتقاته) لم تعد حالياً تستورد من الخارج، بل أصبح يعتمد على التبرع داخل المملكة.. وقد ساعد كثيراً التوعية والجوائز التشجيعية.. فالأمر يجب أن يكون كذلك بالنسبة للتبرع بالأعضاء.. فالتوعية الدينية والجوائز التشجيعية والحض على حمل بطاقات التبرع بعد الوفاة (لا سمح الله) كلها ستساعد أيضاً في التغلب على ظاهرة اجتماعية خطيرة ألا وهي بيع الأعضاء ... أليس بيع الأعضاء محرماً شرعاً؟ وهل تعتبر الجوائز التشجيعية بمثابة البيع والشراء؟ وهل يمكن لذوي الأجنة المجهضة طبياً أن يتبرعوا بالجنين لأغراض علاجية ودوائية؟ وما هذه التساؤلات إلا غيض من فيض. فكثيرة هي التساؤلات التي تنشأ عند طرح موضوع غرس الأعضاء ولا بد من دراسة مستفيضة متأنية للخروج بأحكام شرعية تفيد المجتمع الإسلامي المعاصر. الدكتور محمد أيمن صافي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 مقترحات مما سبق يتضح أن غرس الأعضاء من القضايا الفقهية كغرس الخصية واستعمال أعضاء الأجنة، كما أنه يواجه مشاكل اجتماعية كقلة المتبرعين واللجوء إلى بيع الأعضاء أو بيع الأجنة، إضافة إلى خطورة نقل مرض الإيدز فكما ذكرنا أن كلا الإجراءين الرئيسين المستعملين في غرس الأعضاء (وهما نقل الدم وغرس العضو المرغوب) تعتبر وسائل هامة لنقل العدوى بمرض الإيدز. وفي ذلك خطورة كبيرة على الإنسان في البلاد العربية بشكل عام والإسلامية بشكل خاص؛ لأن معظم أكياس الدم المتوفرة في بنوك الدم في بلادنا (قبل اتخاذ الإجراءات الوقائية) إنما مصدرها البلاد الأجنبية الموبوءة بهذا المرض اللعين، " والإيدز " ومعظم الناس الذين يبيعون دماءهم في تلك البلاد هم المحتاجون المعوزون وغالبيتهم من مدمني المخدرات ومن الشاذين جنسياً (أي من أخطر مجموعات خطر العدوي) . أضف إلى ذلك أن 5 % من غرائس الكلى تستورد أيضاً من الخارج، ولهذا نضع المقترحات التالية: 1) يجب عدم استيراد الدم من الخارج وخاصة من البلاد الموبوءة مثل الولايات المتحدة وأوروبا وذلك للأسباب المذكورة سابقاً، وهذا ينطبق أيضاً على استيراد مشتقات الدم مثل البلازما أو العامل الثامن وهو العامل المهم في تجلط الدم والذي ينقل لمرضى الهيموفيليا (الناعور) ويجب أن ينطبق أيضاً على استيراد الأعضاء (من أجل غرس الأعضاء) . وقد اتخذت المملكة العربية السعودية (ومعظم البلاد العربية والمسلمة) إجراء وقائياً بأن منعت استيراد الدم ومشتقاته قطعياً، وأصبح نقل الدم يقتصر على الدم الذي يجمع داخل المملكة في المراكز الطبية والمستشفيات، تحت شروط وقائية والتي تشمل السلامة الصحية للمتبرع، وخلوه من الأمراض المختلفة وخاصة الزهري والتهاب الكبد، إضافة لخلوه من الأضداد النوعية لفيروس الإيدز. 2) يجب على جميع أبناء البلاد العربية والمسلمة أن يتبرعوا بدمائهم؛ لأن ذلك سيقلل الحاجة إلى استيراد الدم من الخارج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 3) يجب تشجيع وتوعية أبناء البلاد العربية والمسلمة لحمل بطاقة التبرع بالكلى، والتي تدل على الرغبة في التبرع بالكلى عند الوفاة، لا سمح الله. ويمكن الحصول على هذه البطاقة من المراكز الطبيبة ومشافي المملكة العربية السعودية، ويجب أن تشمل البطاقات بقية أعضاء الإنسان وخاصة بعد أن أجازت الشريعة الإسلامية نقل أعضاء الموتى إلى الأحياء (انظر ص3) ففي الوقت الحاضر تقوم عدة مراكز طبية بإجراء غرس الكلى في المملكة العربية السعودية، وللأسف فإن أكثر ما يعانون منه هو قلة المتبرعين، إذ إن الكلى المأخوذة من أقارب المرضى تغطي فقط (10 %) من الاحتياج الحقيقي، وهذا ما يدفع إلى استيراد الكلى من الخارج، إلا أن الكلى المستوردة تشكل خطراً كبيراً لنقل مرض الإيدز، أضف إلى ذلك أنها لا تغطي سوى 5 % من احتياجات المملكة. وبناء عليه أصبح مطلوباً من جميع أبناء البلاد أن يشجعوا على التبرع بالكلى بعد الوفاة، وأن يسارع كل شخص لحمل بطاقة التبرع والتي تدل على رغبة في التبرع بكليتيه بعد وفاته، لا سمح الله. ولا بد من الإشارة إلى أن حمل بطاقة التبرع بالكلى لن تؤثر أبداً على العلاج الذي سوف يتلقاه الإنسان عندما يصاب بمرض أو حادث ما، لا سمح الله. 4) إذا دعت الضرورة القصوى إلى استيراد كلى من الخارج فيجب التأكد من خلوها من فيروس الإيدز أو أضداده، ويجب معرفة تاريخ حياة المتبرع، والتأكد من أنه ليس مصاباً بالإيدز وأنه لا ينتمي إلى مجموعات خطر الإيدز. 5) إجراء فحص الأضداد النوعية لفيروس الإيدز لكل من يتبرع بدمه ولكل من يتبرع بأعضائه، فإن ثبت بالتحليل وجود الأضداد النوعية لهذا الفيروس منع هذا الشخص من التبرع. 6) إجراء فحص الأضداد لفيروس الإيدز في الدم والبلازما ومشتقات الدم الموجودة في بنوك الدم، وإتلاف أي مادة موجودة يثبت فيها وجود أجسام مضادة لفيروس الإيدز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 7) يجب أن يمنع من التبرع بالدم أو الأعضاء من المصابين بمرض الناعورية ومدمني المخدرات والذين يخالطون مريضاً بالإيدز أو يخالطون الممارسين للشذوذ الجنسي والذين أصيبوا بمرض الزهري. 8) ضرورة تجنيد كافة وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية لتوعية المواطنين عن موضوع غرس الأعضاء وفوائده وقضاياه الفقهية ومشاكله الأخلاقية والاجتماعية ولحثهم على التبرع وضرورة حمل بطاقات التبرع. 9) نؤكد أن أعضاء الإنسان تختلف في وظائفها الفسيولوجية، فمثلاً: الخصية والمبيض تتدخلان في الأنساب، كما أن الدماغ يتدخل في وظائف حيوية تسيطر على شخصية الإنسان وتصرفاته وسلوكه، فإن كان الهدف من غرس الخصية هو المعالجة الهرمونية فقط دون إنتاج النطاف فالأمر يختلف عن كونه علاجاً للعقم، فلا بد من وجود ضوابط شرعية لكل عضو على حِدَة ولا بد عند وضع هذه الضوابط أن تناقش الأعضاء المختلفة على أنها حالات فردية، لكلِّ عضو خواصُّه ووظائفه المختلفة عن الآخر، ولا بد من الرجوع إلى الأخصائيين في كل عضو من الأعضاء لوضع دراسة متكاملة عن غرس هذا العضو من جميع النواحي التي تهم الفقيهَ. 10) إن ما نشرته جريدة المسلمون في عددها 146 عن تحضير مستحضرات التجميل من الأجنة يثير قضية أخلاقية ذات خطورة لنقل مرض الإيدز كما ذكرنا، فيجب التأكد من الموضوع ومن ثم اتخاذ الإجراءات الفقهية والإعلامية الضرورية حول الموضوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 المراجع العلمية - England M.A.A colour Atlas of life before birth (Wolf) 1983. - England M.A.A colour Atlas of life before birth (Wolf) 1983. - Gibert P/ Your Pregnancy Diary (Macdoland) 1984. 3) محمد علي البار، خلق الإنسان بين الطب والقرآن. (الدار السعودية للنشر والتوزيع) . 4) محمد على البار ـ طفل الأنبوب والتلقيح الصناعي. (الدار السعودية للنشر والتوزيع) . 5) محمد أيمن صافي ـ " غرس الأعضاء في جسم الإنسان ". (دار المطبوعات الحديثة) 1987 ـ وكل المراجع الموجودة فيه. 6) كمال حنش ـ الجنس والعقم: أوهام وحقائق طبية (دار النشر العالمية) 1986. الصحف: 1) جريدة المسلمون، العدد (142) الجمعة 1 ربيع الأول 1408 (23 أكتوبر 1987) 2) جريدة المسلمون العدد 138 الجمعة 9 صفر 1408 (26 أكتوبر 1987) . 3) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 التشريح الجثماني والنقل والتعويض الإنساني إعداد فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فإن الطبيب يعايش في الوقت الحاضر، أنواعاً من الممارسات الطبية الفاعلة على بدن الإنسان في مفردات متعددة من العمليات تجمعها أوعية ثلاثة: 1- العمليات المجردة. 2- التشريح. 3- النقل والتعويض الإنساني. والعمليات المجردة كالزائدة الدودية، والفتق ... حكمها الجواز شرعاً بالإجماع، طرداً لقاعدة الشرع في أصل مشروعية الجواز والذي قد يصل إلى (الوجوب) إذا توقفت عليه الحياة. والبحث إنما يكون في متعلقاتها من: التخدير، والعلاج بها على البرء.. والنظر الشرعي هنا يتجاذب معهم الحوار في: 1- حرفة التشريح. 2- وصور النقل والتعويض الإنساني، في دم، أو عضو، أو أنسجة، أو شرايين ... قد عقدت لهذا، أو لبعض مفرداته مؤتمرات وأعدت له ندوات، وكتبت فيه أبحاث ومؤلفات، وصدرت فتاوى، بين الإباحة والحظر، في إطار التفصيل والضوابط والشروط. فصار لا بد من تحرير النظر لتلتقي الحقيقة الشرعية مع الحقيقة الطبية، إذ الحكم فرع التصور، عسى أن ينتج من هذا القول الصحيح، المبني على الدليل الصريح، والنظر الرجيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 ويجري البحث في هذين على سبيل تخريج النوازل على قواعدها، وإرجاع الفروع إلى أصولها. وإناطة الأحكام بعللها ومداركها. لنعلم بعد حين: أن البحث في حكم التشريح للتعلم والتعليم يستلزم البحث في حصر صور التشريح. وأن البحث في حكم القرنية، والترقيع، فرع البحث في أحكام النقل والتعويض الإنساني. وإن هذين الوعائين، بفروعهما المتكاثرة، والتي زادت في إنجاز الطب عن عشرة فروع، تلتقي في البحث والاستدلال، وتجاذب الخلاف واختلاف الأنظار؛ لأنها تنزع من قوس واحدة. " التصرف الفاعل في بدن الإنسان إدخالاً وإخراجاً" فهي مشتبكة، اشتباك الروح بالهيكل، وكما أن محلها بدن الإنسان، فهي تلتقي في المآخذ الشرعية من حيث الأصول والقواعد الكلية من حيث: بدن الإنسان في: طهارته، ورعاية حرمته وكرامته، وهل هو مالك لبدنه أم أمين ووصي عليه، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار، في إطار مقصد الشرع في " حفظ النفس". والمهم في بيان أحكام هذه النوازل المستجدة تحرير النتيجة الحكمية للقواعد التي تخرج عليها، وسلامة التخريج وتثبيت مدرك الحكم والتعليل، فإنه متى صحت مع الباحث هذه المطالب سهل عليه بإذن الله تعالى ترتيب الحكم بأمان واطمئنان، وهذه رؤوس المقيدات فيها مع أبحاث تمهيدية لها: المبحث الأول: المؤلفات فيها. المبحث الثاني: حكم التداوي في أصل الشرع. المبحث الثالث: التاريخ القديم لها. المبحث الرابع: حصر التصرفات الطبية الفاعلة على بدن الإنسان. المبحث الخامس: القواعد والأصول الشرعية التي تخرج عليها هذه النوازل الطبية جوازاً أو تحريماً. المبحث السادس: التخريج لهذه القضايا عليها: 1- العمليات المجردة. 2- التشريح. 3- النقل والتعويض الإنساني. المبحث السابع: الشروط العامة للنقل والتعويض. المبحث الثامن: حكم المعاوضات المالية على الدم والأعضاء. وهذا أوانها، والله الموفق والمعين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 المبحث الأول وفيه بيان ما كتب في هذه النوازل من: 1- المؤلفات والرسائل. 2- أبحاث وأجوبة في مؤلفات. 3- بحوث مجمعية. مؤتمرات. ندوات. 4- أبحاث ومقالات في: الدوريات. 5- الفتاوى. وهذا تقييدها: أولاً: المؤلفات والرسائل: 1- الأحكام الشرعية للأعمال الطبية. تأليف: أحمد شرف الدين ص/ 23 ـ 160 ـ طبع عام 1407 هـ بمصر. 2- نطاق الحماية الجنائية لعمليات زرع الأعضاء في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي. رسالة " دكتوراه" قدمت لكلية الشريعة بالجامعة الأزهرية فرع أسيوط. تقع في (850) صفحة. 3- نقل الدم وأحكامه الشرعية. تأليف: محمد صافي. نشر: مؤسسة الزعبي. حمص عام 1392 هـ. 4 - شفاء التباريح والأدواء في حكم التشريع ونقل الأعضاء. للشيخ إبراهيم يعقوبي رحمه الله تعالى. طبع بدمشق عام 1407 هـ. نشر مكتبة الغزالي. وهو مهم في بابه لما حواه من النقول المتناثرة. 5- تعريف أهل الإسلام بأن نقل العضو حرام. لأبي الفضل عبد الله بن الصديق الغماري. رسالة في (28) صفحة طبعت عام 1407 هـ في دار مصر للطباعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 6- تشريح جسم الإنسان لأغراض التعليم الطبي. بحث: قنديل شاكر شبير. نشر عام 1978 م في ليبيا. ثانياً: أبحاث وأجوبة في مؤلفات: 7- الفتاوى السعدية. للشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله تعالى. بحث فيه جواباً عن سؤال 1/320 ـ 325. طبع عام 1388هـ. 8- مجموعة بحوث فقهية تأليف: عبد الكريم زيدان. ص/163 ـ 164. 9- ردود على أباطيل. للشيخ: محمد الحامد رحمه الله تعالى. ص/125 ـ 126. 10- بحث في تفسير " معارف القرآن" أردو. لمفتي باكستان: محمد شفيع م. سنة 1396 هـ رحمه الله تعالى. ترجم جملة منه: محمد برهان الدين السنبهلي في: مجلة البعث الإسلامي عدد/1 المجلد/32 لعام 1407 هـ ص/67 ـ 68. 11- من حقيبة المفتي. تأليف: أحمد العسكري. ص/168، 212، 239. ثالثاً: بحوث مجمعية. مؤتمرات. ندوات: 12 ـ 14 ثلاثة بحوث في: نزع القرنية من عين إنسان وزرعها في إنسان آخر. إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة: سماحة الشيخ/ عبد العزيز ابن باز. عام 1396 هـ، 1397 هـ. 15- قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية رقم/ 66 في عام 1398 هـ. بشأن: نقل القرنية من عين إنسان إلى آخر. 16- قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم/99 لعام 1402 هـ. بشأن: نقل عضو من إنسان حي أو ميت إلى آخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 17- بحث: زراعة الأعضاء الإنسانية في جسم الإنسان. إعداد: الشيخ عبد الله عبد الرحمن البسام. نشر في: مجلة المجمع الفقهي بمكة العدد/1 عام 1408 هـ السنة الأولى. من ص/13 ـ إلى ص/22. 18- حكم العلاج بنقل دم الإنسان أو نقل أعضاء أو أجزاء منها. إعداد: أحمد فهمي أبو سنة. نشر في: مجلة المجمع الفقهي بمكة المكرمة ص/23 ـ 26. العدد/1 السنة/1 عام 1408 هـ. بحث مقدم: للمجمع الفقهي بمكة. ونشر أيضاً في مجلة: التضامن الإسلامي. 19- زراعة الأعضاء الإنسانية في جسم الإنسان. إعداد: محمد رشيد رضا قباني. نشر في: مجلة المجمع الفقهي بمكة ص/27 ـ 34. العدد/ 1 السنة/1 لعام 1408 هـ. 20- قرار المجمع الفقهي بمكة حرسها الله تعالى. في دورته الثامنة لعام 1405 هـ. بشأن: زراعة الأعضاء. 21- انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً. الطبيب: محمد علي البار. بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي بجدة. الدورة الرابعة عام 1408 هـ. 22- انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً. إعداد: الشيخ خليل محي الدين الميس. لبنان. بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي بجدة عام 1408 هـ. 23 - انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً. للشيخ/ محمد بن عبد الرحمن. بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي بجدة. الدورة الرابعة عام 1408 هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 24- انتفاع الإنسان بأعضاء إنسان آخر حياً أو ميتاً. إعداد: محمد سعيد رمضان البوطي. بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي بجدة عام 1408 هـ. 25- بحوث بشأن نقل الأعضاء. من محفوظات: قسم الطب الإسلامي في مركز الملك فهد للبحوث الطبية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة. 26- المؤتمر الإسلامي الدولي. انعقد في: ماليزيا في شهر أبريل عام 1969 م. وبحث فيه: نقل قرنية العين، والأعضاء. بواسطة: بحث رئاسة الإفتاء بالرياض. البحث الثالث لعام 1397 هـ ص/ 22. 27- ندوة نقل الكلى. عقدها: المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة عام 1978م. 28- ندوة المركز الطبي لنقل الكلى في الرياض. محرم عام 1408 هـ. رابعاً: أبحاث ومقالات في: الدوريات: 29- تشريح الميت. فتوى: للشيخ يوسف الدجوي. نشرت في: مجلة الأزهر عام 1355 هـ. العدد/ 7و 8، المجلد/9. وفي: مجلة نور الإسلام. المجلد السابع. وخلاصتها في: شفاء التباريح والأدواء. 30- حرمة التشريح. للشيخ: محمد عبد الوهاب بحيري. نشر في: مجلة نور الإسلام. وهو رد على مقال: الشيخ الدجوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 31- ورَدَّ عليه ـ أي على الدجوي ـ أيضاً: الشيخ العربي بو عياد الطنجي. وخلاصته في: شفاء التباريح والأدواء. 32- استخدام أعضاء الإنسان في جسم غيره من الإنسان، والأخطار الناشئة عنه. بحث: للشيخ أبي الأعلى المودودي. نشر في: مجلة البعث الإسلامي ص/53 ـ 55. العدد/2 المجلد 32 لعام 1407 هـ. 33- نقل الكلى وموقف الإسلام منها. إعداد: عبد الرحمن النجار. نشر في: المجلة الجنائية القومية بالقاهرة عام 1978 م. العدد/ 1 34- حكم الشريعة الإسلامية في التداوي بالأشياء النجسة ودم الإنسان. بحث: للشيخ محمد برهان الدين السنبهلي. نشر في: مجلة البعث الإسلامي ص/62 ـ 73، العدد/1 المجلد/ 32، رمضان لعام 1407 هـ. 35- حكم الشريعة الإسلامية في زرع الأعضاء الإنسانية. بحث: الشيخ محمد برهان الدين السنبهلي. نشر في: مجلة البعث الإسلامي ص/ 44 ـ 55. العدد/ 2 المجلد/ 32، عام 1407 هـ. 36- التصرف في أعضاء الإنسان. إعداد: فوزي فيض الله. نشر في: مجلة الوعي الإسلامي. العدد/ 276. لشهر ذي الحجة عام 1407 هـ. 37- الإنسان لا يملك جسده، فكيف يتبرع بأجزائه أو يبيعها. بحث: للشيخ محمد متولي الشعراوي. نشر في مجلة: اللواء الإسلامي. العدد/226. لشهر جمادى الآخرة عام 1407 هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 خامساً: الفتاوى. وتقدم بعضها، ومنها: 38- فتوى الشيخ محمد بخيت المطيعي. وخلاصتها في: شفاء التباريح والأدواء. 39- فتوى مفتي مصر: الشيخ محمد حسنين مخلوف. في: فتاويه 1/ 360. 40- فتوى الشيخ حسن مأمون. في جواز نقل الدم. مفتي مصر سابقاً. رقم الفتوى/ 1065 41- فتوى الشيخ حسن مأمون. مصر رقم/ 1087 عام 1378 هـ. بشأن: نقل عين ميت إلى حي بشرطه. 42- فتوى الشيخ محمد خاطر. مصر. عام 1392 هـ. بشأن علاج حروق الأحياء من جلد الميت بشرطه 43- فتوى الشيخ أحمد هريدي. مصر. برقم/ 992 عام 1966 م. بشأن: سلخ القرنية من الميت للحي بشرطه 44- فتوى الشيخ جاد الحق علي جاد الحق. مصر. برقم 1323 عام 1400 هـ. بشأن: نقل العضو من إنسان إلى آخر. بشرطه. 45- فتوى مفتي سوريا: الشيخ محمد أبو اليسر عابدين. وخلاصتها في: شفاء التباريح والأدواء. 46- فتوى لجنة الإفتاء في المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر عام 1392 هـ. موجودة بنصها في (البحث الثالث) من أبحاث اللجنة الدائمة في رئاسة الإفتاء بالرياض. ص/17 ـ 21 47- فتوى من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت. رقم/ 132/ 79 عام 1400 هـ. بشأن نقل الأعضاء من حي أو ميت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 المبحث الثاني في حكم التداوي قال العز بن عبد السلام (1) : "الطب كالشرع، وضع لجلب مصالح السلامة والعافية ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام". وقد علم من الشرع بالضرورة مشروعية التداوي، وأن حكمه في الأصل الجواز، توفيراً لمقاصد الشرع في حفظ النوع الإنساني، المعروف في ضرورياته باسم " حفظ النفس". وقد حكي الإجماع على أن حكمه الجواز، لكن قيل: بل إن أحكام التكليف تنسحب عليه، فمنه ما هو واجب، وهو ما يعلم حصول بقاء النفس به لا بغيره.. (2) . فهو يختلف حكماً باختلاف الغاية منه. ومنها (3) 1- حفظ الصحة الموجودة. 2- حفظ الصحة المفقودة بقدر الإمكان. 3- إزالة العلة أو تقليلها بقدر الإمكان. 4- تحمل أدنى المفسدتين لإزالة أعظمهما. 5- تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعظمها.   (1) قواعد الأحكام. 1 / 4 (2) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية. 37/92، 5/106 الفتاوى الهندية، 5/355، تحفة المحتاج: 3/182 (3) زاد المعاد: 3/111، والطب النبوي: 114 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 المبحث الثالث التاريخ القديم لعمليات النقل والتعويض لقاء تزاحم التطورات الطبية في العصر الحديث. وغرابتها في الإبداع. وبعد الإنسان خاصة المسلم عن قراءة التاريخ ومآثر الأسلاف ـ ظن أن هذه من مولدات العصر، وأنها منقطعة الاتصال بالقرون الخوالي، والحال ليس كذلك، بل إن تاريخها يرجع إلى ما قبل الإسلام، لدى: اليونان، والرومان، وسكان الأمريكتين، والهند.. (1) . لكن كانت بحكم ما يملكونه من وسائل وإمكانات في تلك العصور. وعليه فالذي حصل إنما هو تطور في التشريح، والترقيع، وامتداده من الإنسان إلى الإنسان. والذي يهمنا هنا هو ذكر الوقائع التي حصل الوقوف عليها في سالف عصور الإسلام منها ما يلي.   (1) انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً. للطبيب محمد علي البار ص/ 2 ـ4 بحث مرقوم لمجمع الفقه الإسلامي بجدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 المبحث الرابع حصر التصرفات الطبية الفاعلة على بدن الإنسان من أعظم المطالب حصر المتفرق في ضوابط جامعة، وعبارات مترابطة تكون كالمتن، وما يلحقها كالشرح لها، فإن ذلك أدعى للفهم وجمع الذهن عليه. اعلم أن التصرفات الطبية الفاعلة على بدن الإنسان، تنقسم بحكم التتبع والاستقراء إلى أقسام ثلاثة: 1- عمليات مجردة كعملية الفتق، و" الزائدة الدودية " ونحوهما. وهذا لا يعلم في جوازه خلاف طرداً لأصل مشروعية التداوي، وستعلم بعد مدى انسحاب أحكام التكاليف الخمسة على التداوي. 2- عمليات " النقل والتعويض الإنساني " بين شخصين، أو في الشخص ذاته في نقولاتها الأربعة: نقل الدم، النقل الذاتي، النقل من حي إلى حي، النقل من ميت إلى حي. كزراعة الأعضاء. 3- حرفة التشريح في واحد من أغراضه الثلاثة، لكشف الجريمة، أو لكشف المرض، أو للتعلم والتعليم. وهذان القسمان هما محل التجاذب، والنزاع بين أهل العلم في مفرداتهما بالجملة، فمنها ما هو محل نزاع قوي كنقل عضو من حي إلى حي، ومنها ما هو محل خلاف ضعيف كنقل دم من حي إلى حي، ومنها ما هو متفق على تحريمه كنقل مضر بالحي إلى حي، ومنها ما ليس محل خلاف على جوازه كترقيع شقة من بدن الحي ذاته، وتحرير النظر فيها نراه بعد تحرير التصور الطبي الواقعي لها وهذا أوانها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 المبحث الخامس القواعد والأصول الشرعية التي تخرج عليها هذه النوازل الطبية يمكن إجمال القول في تصنيف مهماتها على ما يلي: 1- طهارة الآدمي: القاعدة الفقهية أن " ما أبين من حي فهو كميتته " للحديث في ذلك. ويأتي. أي: كميتته طهارة ونجاسة، فما أبين من بهيمة الأنعام وهي حية فله حكم الميتة منها حتف أنفها " النجاسة " فهو نجس. وما أبين من السمك والجراد وهو حي فله حكم ميتته منها " الطهارة " أي فهو طاهر. قالوا: والكافر نجس، فما أبين منه حياً أو ميتاً فهو نجس، لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} التوبة: 28 وللأمر باغتساله إذا أسلم. والآدمي المسلم ميتته نجسة، فما أبين منه وهو حي فله حكم ميتته " النجاسة " فهو نجس، وبدليل تغسيله بعد موته. وعليه: فإن ترقيع المسلم بما هو نجس فيه إخلال بواجبات الشريعة كصحة الصلاة، لكن هذا التعقيد يرد عليه أمور: أولاً: أن تعلم أن أصل قول الفقهاء رحمهم الله تعالى (ما أبين من حي فهو كميتته) يذكرونه في بابي الطهارة، والصيد، ويريدون ما أبين من حيوان مأكول. وأصل هذا قد ورد مقيداً (بالبهيمة) في حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه، وحديث ابن عمر رضي الله عنه، وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وحديث تميم الداري رضي الله عنه. وهذا الحديث له قصة وهي كما في رواية أبي واقد رضي الله عنه قال: ((كان الناس في الجاهلية قبل الإسلام، يجبون أسنمة الأبل ويقطعون أليات الغنم، فيأكلونها، يحملون منها الودك، فلما قدم النبي سألوه عن ذلك فقال: " ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت ")) رواه أحمد وابن الجعد، وأبو يعلى وأبو داود، والترمذي، والدارمي، والدارقطني، والطبراني، وابن عدي، والحاكم، والبيهقي. ترجم عليه أبو داود في الصيد بقوله: باب في صيد قطع منه قطعة. وترجم عليه الترمذي في الصيد بقوله: باب ما جاء ما قطع من الحي فهو ميت. وترجمه البيهقي ترجمتين في الطهارة بقوله: باب المنع من الانتفاع بشعر الميتة. وفي الصيد بقوله: ما قطع من الحي فهو ميتة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 وأما حديث ابن عمر فهو بلفظ: ((ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت)) ، فرواه ابن ماجه، والبزار، والدارقطني. وحديث أبي سعيد: ((ما قطع من حي فهو ميت)) ، رواه الحاكم. ورواه أبو نعيم في الحلية وابن عدي في الكامل: كل شيء قطع من الحي فهو ميت. وحديث تميم الداري رضي الله عنه بلفظ: ((ما أخذ من البهيمة وهي حية فهو ميت)) ، رواه الطبراني، وابن عدي. ورواه ابن ماجه بسنده عنه بلفظ: ((يكون في آخر الزمان قوم يجبون أسنام الإبل ويقطعون أليات الغنم، ألا فما قطع من حي فهو ميت.)) وهذا اللفظ فيه: الهذلي وهو متروك. هذا الحديث مقيد بسببه ولفظه بالبهيمة، فلا يتجاوزها إلى غيرها والله أعلم. وقد قال المناوي في شرحه له 6/461: فإن كان طاهراً فطاهر، أو نجساً فنجس، فيد الآدمي طاهرة، وألية الخروف نجسة، ما خرج عن ذلك إلا نمو شعر المأكول وصوفه وريشه ووبره ومسك فارته فإنه طاهر لعموم الاحتياج" اهـ. ثانياً: وأما آية التوبة/ 28 {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فقد علم أن النجاسة أنواع: نجاسة خبث وحدث، ونجاسة عينية وحكمية. والمراد بنجاسة المشركين في هذه الآية هي النجاسة الحكمية، وعلى هذا المحققون من المفسرين، بدليل أن سؤر اليهودي والنصراني طاهر، وآنيتهم التي يصنعون فيها المائعات ويغمسون فيها أيديهم طاهرة، وقد أباح الله للمسلمين التزوج بالكتابيات ولم يوجب عليهم غسل الأيدي عند ملامستهم أو غسل ما لامسوه وهكذا ـ 21/ 67 الفتاوى، وأما غسل الكافر بعد موته، فليس لنجاسته ولكن لما عسى أن يكون عليه من جنابة، وإعلاناً لغسل الكفر وحبه للإسلام. وأما تغسيل المسلم بعد وفاته فهو أمر تعبدي، لم يعلله أحد بالنجاسة، إذ لو كان نجساً ويطهر بالغسل لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد وغيرهم من الشهداء بلا اغتسال، فغسل المسلم الميت، لأنه قادم على ربه فيكون في طهارة من الحدث متيقنة. والله أعلم. وبناء على ما تقدم، فلم يظهر دليل يفيد نجاسة بدن الآدمي مسلماً كان أو كافراً، فالكافر طاهر طهارة نسبية، والمسلم طاهر البدن طهارة كاملة، ولهذا ثبت في الصحيحين ص/22 المجمع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 2- بدن الإنسان (1) : يتردد البحث في بدن الإنسان، قولاً، وتخريجاً على بعض القواعد الأصولية، والقواعد الفقهية الكلية ـ بعبارات كلها بمعنى. فيقال: بدن الإنسان مملوك له أو لا؟ ويقال: بدن الإنسان مملوك له أم هو أمين ووصي عليه؟ ويقال: بدن الإنسان حق لله، أو حق للعبد، أو حق مشترك، وأي الحقين أغلب؟ ثم إذا قيل بملكية الآدمي لبدنه، وأحقيته له، فهل هي مثل تملكه للمال والمتاع، تدخل عليه مطلق التصرفات من بيع، وهبة، وتبرع، وإسقاط، ونحو ذلك مما يدور في محيط المصلحة، وتحقيقها كالشأن في التصرف في الأموال لا يكون إلا بدائرة المصالح، فلو كان مبذراً سفيهاً، حجر عليه، ومنع من التصرف في ماله، وأقيم عليه وصي لإدارة شؤونه على ضوء المصلحة. وإذا قيل بأنه حق لله تعالى، فهل حق الله سبحانه وتعالى: هو الاستعباد، وحق العبد: الاستعمال والاستمتاع، والانتفاع؟ فكما أن له في حال الجناية عليه: حق الإسقاط وأخذ العوض، والمجازاة في العمد عليه، فله حق التصرف ابتداء في عضو ونحوه تبرعاً، كما أن له بنص الشرع: الخوض في معارك الجهاد الشرعي، وإلقاء نفسه حال المسابقة والمبارزة ومقاتلة المشرك لينال سلبه. كل هذا محل تجاذب ونظر، ولم ينفصل عنه راقموه بكبير شأن، وإن كان أظهرها اجتماع الحقين: حق الله، وحق عبده، وتغلب أي منهما يختلف باختلاف الأحوال والتصرفات، ومعلوم أن ما اجتمع فيه الحقان، فإن إسقاط العبد لحقه مشروط بعدم إسقاط حق الله تعالى، وحق الله تعالى هو الغاية من خلق الآدميين {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذرايات: 56 فليس له حق التصرف في بدنه بما يضر في الغاية من خلقه ولا بما يخدشها، والله أعلم.   (1) بحوث دار الإفتاء بالرياض 1/25 ـ26، 2 / 18ـ 19، 3/2ـ4، 24 مجلة البعث الإسلامي، ج/432/2 ص/45 ـ 55، تعريف أهل الإسلام: 4، 13، 19. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 3- قاعدة الشريعة في حفظ " الضروريات الخمس " والمعروفة أيضاً: مقاصد الإسلام الخمسة وهي: حفظ الدين. فحفظ النفس. فحفظ العقل. فحفظ النسل " والعرض ". فحفظ المال. ومسائلها في الشرع معلومة. والقصد هنا ما يتعلق بثانيها رتبة " حفظ النفس " وعليه: فاعلم أن " حفظ النفس " بما أنه من مقاصد الشرع الكلية ومقاصده الضرورية، فقد أحاطته الشريعة بكل ما يمنع النيل من هذه الصيانة، والحفظ في إطارات كلية وجزئية منها ما يلي: أ - أن حرمة دم المسلم أو أي عضو منه، وعصمته ذلك مما علم من الدين بالضرورة، والنصوص بهذا متظاهرة فلا يجوز الاعتداء عليه بقتل، أو خدش فأكثر، ولا قتل نفسه ولا العبث ببدنه، والتصرف فيه بما يضره، ولا ينفعه كالخصاء، والوسم، والوشم، ونحوه، سوى ما كان لموجب شرعي من حد أو قود في نفس أو طرف، أو بتر عضو مريض لمرضه حتى لا يسري إلى بدنه. ب - أن الشرع رتب التدابير الجزائية الرادعة عن الاعتداء عليه من قصاص، ودية وكفارة، وإثم. ج- أنه لا يباح شيء من بدنه بالإباحة، فكما حرم على الإنسان: قتل نفسه، أو قطع عضو منه، فيحرم عليه إباحة شيء من ذلك للغير. قال القرافي في " الفروق ": " وحرم الله القتل والجرح، صوناً لمهجته، وأعضائه، ومنافعها عليه، ولو رضي العبد بإسقاط حقه من ذلك، لم يعتبر رضاه، ولم ينفذ إسقاطه". ونحوه في الموافقات للشاطبي، في " كشف القناع" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 د- وإلى أبعد من هذا ذهب بعض أهل العلم إلى وجوب القصاص على من جرح ميتاً أو كسر عظمه، لعموم آيات القصاص. وممن قال بذلك ابن حزم رحمه الله تعالى (1) . هـ - حماية الشرع له قبل ولادته، فأوجبت الدية في الجناية على الجنين، مع الإثم (2) . و تحريم الإجهاض، فلو أجهضت أمه لوجبت عقوبتها بديته لورثته (3) . ز- النهي عن تمني الموت لضر نزل به، والأحاديث في هذا الصحاح من حديث أنس، وأبي هريرة وغيرهما كحديث خباب رضي الله عنه " لا تتمنوا الموت " رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما. ح- حث المسلم على انقاذ الأنفس من الهلكة، وإن ذلك من أعظم القربات، وأجل الطاعات، قال الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} . المائدة: 32 ومن أسباب الهلاك " المرض "، فبذل السبب من المسلم لأخيه في إنقاذه من مرضه، إنقاذ له من الهلاك بأي سبب من علاج، أو تغذيته بدم مضطر إليه ... ط- تحريم التمثيل به تشفياً وانتقاماً، وإهانة وإيذاء، وإهداراً لحرمته وكرامته، وتغييراً لخلق الله، كالتمثيل في الحروب والمعارك وكتغيير خلق الله مثل: خصاء الآدمي، والوسم، والوشم، والتنمص، والتفلج، ووصل شعر الرأس من آدمي بآخر .... والنصوص في هذه متظاهرة من الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} . [النساء: 119] .   (1) المحلى. 11 / 39. المجموع 5/283. 303 (2) المغني 7/ 799. زاد المعاد 3/ 200 (3) المغني 7/ 816. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 فهذه الآية: تشمل ما ذكر، وتشمل نقل عضو من عين ونحوها، حتى ولو كان لا يضر المنقول منه مطلقاً مثل نقل شعر من آدمي لوصله في رأس آخر. وقد كان نزول هذه الآية في " فقء عين الأنعام، وشق آذانها" والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، ويشهد لهذا العموم، حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله تعالى)) مالي لا ألعن ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله تعالى". وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن لي ابنة عروساً أصابتها حصبة، فتمزق شعرها أفأصله؟ فقال ((لعن الله الواصلة، والمستوصلة)) فهذا دل على أمرين: 1- أن العلاج بنقل عضو لا يجوز للوعيد المذكور، فهو مثلة. 2- أن من أصيب بداء من ذلك لا يجوز التعالج بتعويضه من بدن إنسان آخر. وهذا تغيير لخلق الله. ولهذا قال النووي رحمه الله تعالى في وجه الدلالة من هذه الأحاديث (1) : " إن وصلت شعرها بشعر آدمي فهو حرام بلا خلاف، سواء كان شعر رجل أو امرأة، وسواء شعر المحرم والزوج، وغيرهما بلا خلاف، لعموم الأحاديث، ولأنه يحرم الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه، لكرامته، بل يدفن (2) شعره، وظفره، وسائر أجزائه". اهـ. وفي تفسير هذه الآية تكلم القرطبي على حرمة خصاء الآدمي ونقل عن ابن عبد البر قوله: " لا يختلف فقهاء الحجازيين، وفقهاء الكوفة، أن خصاء بني آدم لا يحل، ولا يجوز لأنه مثلة، وتغيير لخلق الله تعالى وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود". اهـ.   (1) المجموع للنووي: 2، ص 23 (2) انظر في دفن ما تساقط من بدن الآدمي تفسير القرطبي 2/102، المحلى: 1/1118 مغني المحتاج: 10/ 348 بحاشية الشربيني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 وقال النووي رحمه الله تعالى أيضا: " ولا يجوز أن يقطع ـ أي الآدمي ـ لنفسه من معصوم غيره بلا خلاف، وليس للغير أن يقطع من أعضائه شيئاً ليدفعه إلى المضطر بلا خلاف ". اهـ. لكن هذا الوجه من الاستدلال في حرمة التمثيل على حرمة النقل والتعويض والتشريح فيه نظر لما يلي: وهو أن الأمور بمقاصدها، فالتمثيل المحرم هو المبني على التشفي والحقد والانتقام والإيذاء، لهذا جاز القصاص في النفس وما دونها " العين بالعين، والسن بالسن، والبادي أظلم " ولم يعد مثلة محرمة فتلحق بالتمثيل المحرم، بل هذا عين العدل، لأنه مبني على العقوبة بالمثل. وهكذا يمكن أن يقال في التشريح لجثة الميت لكشف الجريمة مثلاً لمصلحته، ومصلحة وارثه، ومصلحة أمن الجماعة. وهكذا في النقل والتعويض الإنساني، فهذا والله أعلم يعد من باب الإحسان والإيثار. فالصورة في قلع العين كما ترى واحدة، والنتيجة الحكمية مختلفة، فقلع العين كفصل القرنيتين مثلة محرمة وقلع القرنية من العين لمصلحة حي لا يحتسب مثلة بل يحتسب إحساناً، وقلع العين قصاصاً يعتبر عدلاً، والله أعلم. ي- رعاية حرمة المسلم ميتاً كرعاية حرمته حياً. وقد جاءت النصوص بتحريم كسر عظم الميت والنهي عن إيذائه، والنهي عن وطء قبره.. عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كسر عظم الميت ككسر عظم الحي)) رواه أبو داود وابن ماجة، والدارقطني ولفظه: ((كسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم)) . ورواه ابن أبي شيبة بلفظ: ((أذى المؤمن في موته كأذاه في حياته)) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر)) . رواه مسلم والأربعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 وجه الاستدلال: إذا كانت حرمة المسلم ميتاً مساوية لحرمته حياً، فكيف تكون الجرأة بهتك حرمته، من تمزيق بدنه بتشريحه، وانتزاع عضو بل أعضاء منه. قال الحافظ ابن حجر: (ويستفاد منه أن حرمة المؤمن بعد الموت باقية كما كانت في حياته) . اهـ. ك- الحجر والمنع لمتطبب الجاهل رعاية للنوع البشري من العبث وتضمينه (1) ، ((من للمتطيب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)) رواه أبو داود، والنسائي وابن ماجه، والحاكم. 4- الموازنة بين المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار: ثم هذه القاعدة العظيمة التي تعني الحفظ العام والرعاية الشاملة لهذه المقاصد الخمسة بجزئياتها، تدور مفرادتها في قاعدة الشريعة الأخرى وهي: " الموازنة ... إلخ. فإن تغالبتا فالحكم للغالبة منهما، وإن تساوتا قدم الحظر درءا للمفسدة. 5- اعتبار المصالح: ثم إن " المصلحة في الشرع " وهي مفسرة بما يعني: جلب المنفعة، ورفع المضرة تحقيقاً لأي من المقاصد الخمسة المذكورة ـ هي بالاعتبار لا تخلو من واحدة من ثلاث: 1- مصلحة شهد الشرع باعتبارها كالحدود. 2- مصلحة لم يشهد الشرع لها بالاعتبار، بل هي منحطة عن مصالحه المعتبرة، وهي ما شهد النص بإلغائها، كقول من قال من العلماء: يوجب كفارة الصيام دون الإعتاق على من جامع من الملوك في نهار رمضان، وهو صائم. 3- وثالثة لم يشهد لها الشرع نصاً بأي من هذين الاعتبارين، وهذه تسمى " المصلحة المرسلة " وسميت مرسلة لعدم النص وروداً بها.   (1) المغني: 6/120، حاشية ابن عابدين 8/183، الطب النبوي 109، بداية المجتهد 2/346 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 6- مراتب المصالح: ثم هذه المصالح المرسلة تدور بين رتب ثلاث: 1- مرتبة الضرورة. 2- مرتبة الحاجة. 3- مرتبة التحسين. فما يتطلبه بدن الآدمي الحي من بدن إنسان لا يخلو أن يكون أمراً تحسينياً تجميلياً فهل تنتهك حرمة بدن الميت مثلاً لغرض تحسيني؟. ومثله في غير الآدمي: يسير الذهب في الإناء كالضبة. وإما أن يكون حاجياًَ بمعنى أن يكون مكملاً لعمل كفائي في بدن الإنسان، دون منزلة الضرورة، فهل تنتهك حرمة محرمة الانتهاك لغرض حاجي؟ ومثل الحاجة في غير الآدمي: يسير الفضة التابع كما في حديث أنس رضي الله عنه: " إن قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انكسر شعب بالفضة " وإما أن يكون ضرورياً بمعنى توقف حياته عليه. فهذا انتهاك حرمة بدن ميت بجانب العمل على حياة لآدمي معصوم فما الحكم؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 7- قواعد دفع الضرر ورفع المشقة: 1) الضرر يزال 2) والضرورات تبيح المحظورات. 3) ويرتكب أخف الضررين لدفع أعظمهما. 4) ويتحمل الضرر الخاص لدفع العام. 5) والضرورة تقدر بقدرها، 6) والمشقة تجلب التيسير. 7) والأمر إذا ضاق اتسع. ثم الضرورات إذا حصلت، فإن الضرر يزال، والضرورة تبيح المحظور، والمشقة تجلب التيسير. وتأسيساً على هذه القواعد المترابطة الآخذ بعضها بحجز بعض، جالت أنظار العلماء المتقدمين في عدد من الفروع الفقهية في غذاء الآدمي عند الاضطرار أو دوائه وأشياء أخرى كلها واردة على مقصد الشرع في ضرورة " حفظ النفس " بين الجواز والمنع، والقبول والكراهة، أسوق رؤوساً لمسائل فيها دون التعرض لذكر الخلاف فضلاً عن تحرير، لأن هذا مما يطول، ولا يعنينا هنا تحرير الحكم البات في كل مسألة بعينها، أكثر مما يعنينا ذكرها وإن أنظار العلماء جالت فيها، وإن كان الأكثر على جواز أكثرها وكل كتاب من كتب المذاهب المعتبرة إلا ويذكرها أو بعضها لعموم البلوى، وقد ذكر أكثرها: العز بن عبد السلام في " قواعد الأحكام 1/86 ـ 98" في مبحث: " ما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساد بعضه". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 وابن قدامة في " المغني 9/ 417 ـ 419، 11/ 78 ـ 80" وأتى على عامة النقول من المذاهب الأربعة: اليعقوبي في" شفاء التباريح والأدواء ص/45 ـ 74" والى رؤوس المسائل فيها: 1- شق بطن المرأة الميتة التي في بطنها حمل متحرك يضطرب. وفي هذا إنقاذ لحياة معصوم، وهي مصلحة أعظم من مفسدة انتهاك حرمة الميت (1) . لكن هذا الشق يطابق وظيفة الأم الطبيعية، وقد توصل الطب الحديث إلى عمله في المرأة الحية، إذا تعسرت ولادتها، فهو عملية مجردة في محل واحد، هو: " الميت متصل به حي أو حي متصل به ميت أو حي، ولا سبيل إلى الإنقاذ للحي إلا بهتك حرمة وعائه " الحي المتلبس به " بخلاف المفارق كأخذ عضو من ميت إلى حي آخر فلا مماسة، فافترقا فبطل إذا: التنظير والقياس للاستدلال بها في النقل من ميت إلى حي. والله أعلم. 2- رمي من تترس به الكفار من أسارى المسلمين في الحرب (2) . 3- رمي الكفار بالمنجنيق إذا تترسوا بالحصون، وإن كان فيهم النساء والأطفال (3) . 4- أكل المضطر لحم آدمي إذا لم يجد غيره مما يؤكل لسد رمقه (4) . قال الحنابلة: لا يجوز، وقال الشافعية والحنفية: يجوز، لأن حركة الحي أعظم. 5- بقر بطن الميت إذا ابتلع دنانير للغير (5) . لكن هذا جاز شق بطنه لأنه هتك حرمة نفسه بتعديه على مال الغير كالسارق إذا سرق قطعت يده. والله أعلم. 6- استهام ركاب السفينة لإلقاء بعضهم في حال مشاهدة العطب تلافياً للغرق (6) . 7- وصل عظم الرجل بعظم أنثى وعكسه. قال عبد الحميد الشرواني في حاشيته على: تحفة المحتاج شرح المنهاج (7) : " يجوز للذكر الوصل بعظم الأنثى وعكسه، ثم قال: وينبغي أن لا ينقض وضوءه، ووضوء غيره به، وإن كان طاهراً، ولم تحله الحياة لأن العضو المبان لا ينقض الوضوء بمسه إلا إذا كان من الفرج وأطلق عليه اسمه " اهـ.   (1) حاشية ابن عابدين: 1/602، 628، الفتاوى الهندية: 5/360 عيون المسائل للسمرقندي 384. الأشباه والنظائر لابن نجيم: 88، شرح المواق على خليل: 2/274. المدونة 1/ 190، 191، فتاوى عليش 1/319، 320، شرح الدردير على خليل: 1/ 192، حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 1/192، الروضة للنووي: 2/ 140، المجموع: 5/ 301، مغني المحتاج 1/207 الإنصاف للمرداوي 2/ 556، الإقناع 1/ 235 ـ 236 الفروع وتصحيحه: 1/961. المغني: 2/413 - 415. المحلى: 5/166، 167. قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 1/79، 86 ـ 98. شفاء التباريح 45 ـ 74 (2) الأم: 4/287، المغني 4/276 ـ 277. الإنصاف 4/129. (3) الأم: 4/287، المغني: 4/276 ـ 277. الإنصاف: 4/129 (4) شرح المواق على خليل: 2 /ص 71، كتاب الجنائز، شرح الدردير على خليل: 1/301، فتاوى عليش: 1/596، وبداية المجتهد/ الروضة للنووي: 2/ 284 ـ 285 المغني: 11/ 79. الإنصاف للمرداوي: 10/ 276، والشرح الكبير: 11/ 106، والمحلى: 5/426، المجموع: 9/33، 36 القواعد للعز بن عبد السلام: 1/ 89. مغني المحتاج:1/ 359، 4/ 282 - 284. حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم 2/302 فتح الوهاب شرح منهج الطلاب: 2/193. (5) قواعد الأحكام: 1/97. المغني: 2/414 ـ 415، المحلى: 5/166 ـ 167، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 88، 1/113، 2/ 360، الفتاوى الهندية، ومجلة البعث الإسلامي: عدد/ 2 مجلد/22 لعام 1407 هـ ص: 49. المجموع 5/ 300. نهاية المحتاج للرملي: 3/ 39. مغني المحتاج للشربيني 1/207. (6) قواعد الأحكام لابن عبد السلام: 1/ 89 (7) انظر: منهاج الطالبين للنووي، وشرحه مغني المحتاج: 1/190 ـ 192. المجموع 3/138، تحفة المحتاج: 2/125 ـ 128. الفتاوى الهندية: 5/ 254 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 8- قال بعض أصحاب الشافعي: للمضطر إذا لم يجد شيئاً أن يأكل بعض أعضائه؛ لأن له أن يحفظ الجملة بقطع عضو كما لو وقعت فيه الآكلة (1) . 9- إذا لم يجد المضطر إلا آدمياً، فإن كان معصوماً محقوق الدم فليس له قتله ليسد منه رمقه إجماعاً ولا إتلاف عضو منه مسلماً كان أو كافراً. وإن كان مباح الدم كالحربي والمرتد فذكر القاضي أن له ذلك، وبه قال أصحاب الشافعي (2) . 10- نبش القبر لمصلحة، وله وقائع متعددة (3) . 11- قطع اليد المتآكلة حتى لا تسري إلى البدن (4) . 12- شرب لبن الميتة للمضطر، وانتشار المحرمية به (5) .13- إجراء العمليات الجراحية إن غلب على الظن نجاحها (6) . مثل بسط القرحة بالكي، وقطع الإصبع الزائدة، وشق المثانة إذا كانت فيها حصاة. 14- تنبيه: في المغني وغيره ما نصه (7) : " قال أبو بكر بن داود: أباح الشافعي أكل لحوم الأنبياء.." اهـ. وقال الباجوري (8) " وللمضطر أكل ميتة الآدمي إذا لم يجد ميتة غيره لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، إلا إن كان الميت نبياً فلا يجوز الأكل منه جزماً لشرفه على غيره بالنبوة " اهـ. وقال التاج بن السبكي في ترجمة المزني (9) : بعد جزمه بأن الصحيح في المذهب أن المضطر يأكل لحم الآدمي الميت قال التاج: " قال إبراهيم المروروذي: إلا أن يكون الميت نبياً " اهـ.   (1) الإقناع 4/313. وغاية المنتهي 3/369. المغني 9/417. مغني المحتاج 4/285، فتح الوهاب شرح منهج الطلاب للشيخ زكريا الأنصاري 2/193 ـ 194. (2) المغني 9/417، 11/78 ـ80 البدائع للكاساني 7/177، وغاية المنتهي 3/369. الأشباه والنظائر لابن نجيم ص/124، رد المحتار 5/215، طبعة الهند. عمدة الكباري 8/296. (3) القواعد لابن عبد السلام 1/96. تحفة المحتاج 3/205 ـ 206. حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم 1/268. المجموع 5/301. الإقناع 1/235. مغني المحتاج للشربيني 1/367. نهاية المحتاج للرملي 3/ 40 (4) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1/87، المغني 11/ 78، 79، الفتاوى الهندية 5/360. (5) المغني 9/198 ـ 199. شفاء التباريح ص/71 نقول من الشافعية والحنفية (6) شفاء التباريح ص/72 عن: الدار المختار 5/479. الفتاوى الهندية 5/360 (7) المغني 9/417 (8) حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم: 2/ 302 (9) طبقات الشافعية: 2/ 105 ط الحلبي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 وقال النووي (1) : " قال الشيخ إبراهيم المروروذي: إلا إذا كان الميت نبياً فلا يجوز الأكل منه بلا خلاف؛ لكمال حرمته، ومزيته على غير الأنبياء " اهـ. وقال القرطبي (2) : ولا يأكل ـ أي المضطر ـ ابن آدم ولو مات قاله علماؤنا، وبه قال أحمد وداود، احتج أحمد بقوله عليه السلام: ((كسر عظم الميت ككسره حيا)) ، وقال الشافعي: يأكل لحم ابن آدم، ولا يجوز أن يقتل ذمياً لأنه محترم الدم، ولا مسلماً، ولا أسيراً لأنه مال الغير، فإن كان حربياً، أو زانياً محصناً: جاز قتله والأكل منه " اهـ. وهذا كله يدل على أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لم يقل بإباحة أكل لحوم الأنبياء، إضافة إلى أنه لا سند لذلك إليه، وعلى فرض أنه قال ذلك، وحاشاه من أن يقوله يكون ذلك من قبيل ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في 1/219 الاستقامة عن ابن المبارك أنه قال: " رب رجل في الإسلام له قدم حسن وآثار صالحة كانت منه الهفوة والزلة لا يقتدى به في هفوته وزلته " اهـ. 15 - وقد بلغ الحال إلى اتخاذ أعضاء مصطنعة من الذهب والخشب، ونحوهما. وحصل بالتتبع عدد من الواقعات من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى القرن السادس. ومنه اتخاذ: عرفجة رضي الله عنه أنفا من فضة لما أصيبت أنفه يوم كلاب. و ((النبي صلى الله عليه وسلم رد عين قتادة بن النعمان لما أصيبت عينه يوم بدر.)) و ((رد صلى الله عليه وسلم عين أبي سفيان لما أصيبت يوم حنين.)) وهكذا في وقائع على تعاقب العصور. ومنها: اتخاذ الزمخشري سنة 538 هـ رجلا من خشب، والله أعلم.   (1) المجموع: 9/36 (2) الجامع: 2/211 ـ 212 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 المبحث السادس تخريج وتنزيل الممارسات الطبية المعاصرة على المدارك الشرعية وبعد هذا التطواف المبين لمدارك ومآخذ الأحكام التي فيها ممارسات على بدن الإنسان وتنزيل الفروع الفقهية المعاصرة لمتقدمي الفقهاء عليها. وبعد أن أحاط الناظر خبراً بأنواع الممارسات الطبية الفاعلة على بدن الإنسان في أوعيتها الثلاثة العامة وهي: 1- إجراء العمليات. 2- التشريح. 3- النقل والتعويض الإنساني وعلم أقسام كل على سبيل التتبع والاستقراء، مما به يعلم " التصور الطبي للنازلة الطبية " حتى يمكن معرفة تقبل القواعد الشرعية لها جوازاً أو منعاً. بعد هذا كله نأخذ بها واحدة إثر الأخرى في أوعيتها العامة على ما يلي: أولاً إجراء العمليات طرداً لمشروعية التداوي في الشرع، فإن إجراء الممارسة الطبية الفاعلة على بدن الإنسان في عملية شق البطن لرتق فتق، أو قطع زائدة دودية ونحو ذلك، مما فيه دفع مرض، والعادة جارية بنجاحه في عرف الطب الذي يعايشه الإنسان ... فهذا مما لا خلاف في جوازه إلحاقاً له بحكم الأصل. نعم الخلاف في بعض متعلقات العملية من التخدير بالبنج، والمشارطة على البرء .... وهذه ونحوها محررة أحكامها في المدونات الفقهية، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 ثانياً: التشريح علم التشريح مرتكز أساسي لحذق الطبيب، وطريق اكتسابه إما عملياً أو نظرياً، ولا غنى للطبيب عن ممارسته عملياً. والتشريح أيضاً هو الأساس في تشخيص الأمراض. والتشريح مفيد إلى حد ما في تحديد سبب الوفاة هل هو باعتداء أم بدون اعتداء، وفي كشف الجريمة هل هي بمثقل أو محدد، وهل الوفاة بسبب الجناية أو ليست بسببها، والتشريح أساس للطب في إطار " النقل والتعويض الإنساني ". والتشريح يفيد تأييد الحكم الفقهي في مسائل شرعية يقررها الفقهاء منها: 1- أن بعض أهل العلم قرروا في: عين الأعور الدية كاملة، والعلة أن العين العوراء يرجع نورها للصحيحة. والتشريح يكشف عن تحديد هذا حتى يصحح القول بوجوب الدية كاملة، أو نصف الدية كالشأن فيمن له عينان سليمتان فجني على إحداهما ففيها نصف الدية (1) . 2- ومنه البحث في طهارة المني ونجاسته (2) . فقد علل القائلون بنجاسته وهم: المالكية، والحنفية، بأنه من مجرى البول. والشافعية قالوا بأن لكل منهما مجرى فهو طاهر، قال القاضي أبو الطيب: " وقد شق ذكر رجل فوجد كذلك ". فالحكم في قيام هذا التعليل أو إلغائه للتشريح. وبعد: فيرد السؤال المعاصر هل يخرج التشريح في صوره الثلاث أو في إحداها على الجواز أم المنع؟   (1) الفروق 3/191 (2) المجموع: 2/ 573 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 فيقال: 1- أما تشريح الميت لكشف الجريمة، فإنه متى استدعى الحال لخفاء في الجريمة، وسبب الوفاة باعتداء، وهل هذه الآلة المعتدى به قاتلة منها، فمات بسببها أو لا؟ فإنه يتخرج القول بالجواز، صيانة للحكم عن الخطأ، وصيانة لحق الميت الآيل إلى وارثه، وصيانة لحق الجماعة من داء الاعتداء والاغتيال، وحقناً لدم المتهم من وجه، فتحقيق هذه المصالح غالبت ما يحيط بالتشريح من هتك لحرمة الميت، وقاعدة الشريعة ارتكاب أخف الضررين، والضرورات تبيح المحظورات، والله أعلم. وهذا الجواز عند من قال به في ضوء الشروط الآتية: 1- أن يكون في الجناية متهم. 2- أن يكون علم التشريح لكشف الجريمة بلغ إلى درجة تفيد نتيجة الدليل، كالشأن في اكتشاف تزوير التوقيعات والخطوط. 3- قيام الضرورة للتشريح بأن تكون أدلة الجناية ضعيفة لا تقوى على الحكم بتقدير القاضي. 4- أن يكون حق الوارث قائماً لم يسقطه. 5- أن يكون التشريح بواسطة طبيب ماهر. 6- إذن القاضي الشرعي. 7- التأكد من موت من يراد تشريحه لكشف الجريمة: الموت المعتبر شرعاً. إما التشريح لكشف المرض. وإما التشريح للتعلم والتعليم. فحيث إن جثث الموتى من الوثنيين وغيرهم من الكفار ميسورة الشراء لهذين الغرضين بأرخص الأسعار، وأموال المسلمين نهاباً يبذل قسط منها في غير مصارفه الشرعية فهي غير منتظمة المصارف على رسم الشرع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 ثالثاً النقل والتعويض الإنساني في أقسامه الأربعة يقصد بالنقل والتعويض الإنساني: نقل قطعة من جلد إلى مكان آخر من بدنه، أو نقل عضو، أو دم، من بدن إنسان متبرع به غالباً إلى بدن إنسان آخر، ليقوم مقام ما هو تالف فيه أو مقام ما لا يقوم بكفايته، ولا يؤدي وظيفته بكفاءة. وقد اشتهر بلقب: زراعة الأعضاء الإنسانية. غرس الأعضاء. انتفاع الإنسان بأعضاء الإنسان. ترقيع الأعضاء. والدم بخصوصه اشتهر بلقب. " نقل الدم " و " التلقيح بالدم ". لكن هنا من النقولات ما لم يشمله هذان اللقبان وهو: النقل لغير دم أو عضو كنقل قطعة من جلد، إذ لا يطلق عليها " عضو " وأن يكون النقل إليه أو إلى إنسان آخر. ويمكن تقسيمه باعتبارين: أولاً: أقسامه باعتبار المنقول وهي ثلاثة: 1- نقل الدم. 2- نقل عضو. 3- نقل ما دون العضو كقطعة جلد، أو بعض شريان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 ثانياً: أقسامه باعتبار طرفي النقل. 1- النقل الذاتي أي من بدن الإنسان إليه ذاته من مكان إلى آخر مثل ترقيع الشفة بقطعة من الفخذ، وترقيع الجفن بقطعة من الشفة. 2- النقل من حي إلى حي. 3- النقل من ميت إلى حي. وللترابط بين هذين التقسيمين بهذين الاعتبارين في ترتيب الحكم، فإنه يمكن لنا حصر النقولات في أقسامها الأربعة الآتية: القسم الأول: نقل الدم من إنسان حي إلى آخر ويقال: التبرع بالدم. وهذا أوسعها انتشاراً. القسم الثاني: النقل الذاتي، من الإنسان إليه ذاته. وهذا يليه في الانتشار، خاصة في عمليات التجميل. القسم الثالث: النقل لعضو ونحوه من حي إلى حي، للعلاج. القسم الرابع: النقل لعضو ونحوه من إنسان ميت إلى حي للعلاج. وقد وصل الطب إلى عدد من مفردات النقل منها: 1- نقل القرنية: وقد أقيم لها مراكز عالمية. والقرنية، الجزء الأمامي من جدار المقلة، وهي قرص صلب شفاف يغطي سواد العين وتمتاز عن معظم أنسجة العين، وأنسجة الجسم كلها بأنها شفافة للضوء. 2- نقل الكلى وزرعها. وقد أقيم مراكز عالمية لها. 3- العظام. 4- نقل شريان من الساق مثلاً للقلب. 5- توصيل الأمعاء المستأصلة. استئصال الأمعاء وتوصيلها. 6- المفاصل. 7- البنكرياس، وخلاياه. 8- نقل القلب وزرعه. 9- الكبد. 10- الرئتان. 11- العضو التناسلي، والغدد التناسلية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 النقل والتعويض بين رتب المصالح الضرورة والحاجة والتحسين يمكن تصنيف دواعي النقل والتعويض إلى ثلاث مراتب: 1- ما يقع في مرتبة الضرورة، والضرورة فيما يتوقف حياة الإنسان عليه. 2- ما يقع في مرتبة الحاجة، كالقرنية. 3- ما يقع في مرتبة التحسينات، كسن وتسوية شفة ونحوها. تقسيمها باختلاف الدين والنقل والتعويض ينقسم باعتبار اختلاف الملة إلى قسمين: النقل من مسلم إلى كافر وعكسه، لاسيما إذا كان بين ولد مسلم ووالدته الكتابية. وللأطباء تقسيمات أخر باعتبار (1) : الذاتية: أي كونها من الجسم ذاته وإليه من منطقة إلى أخرى. والتماثل: كالنقل بين التوأمين. والتباين: كالنقل بين آدميين. والدخيلة: كالنقل من حيوان، أو مصنعة إلى آدمي. لكن هذه التقسيمات الطبية لا يترتب عليها اختلاف في الحكم الشرعي، سوى في " الدخيلة " وستعلم ما فيها بعد، إن شاء الله تعالى. وباعتبار عملية التعويض يقسمها الأطباء إلى تقسيم آخر إلى قسمين (2) : 1- الموضع السوي: بمعنى غرس أو زرع العضو في مكان التالف ذاتاً أو منفعة. وهذا في: القلب والرئتين أو الكبد أو القرنية. 2- الموضع المختلف: بمعنى زرع العضو في غير محل التالف، مثاله: زرع الكلى في: الحفرة الحرقفية بدلاً من موضعها في الخاصرة.   (1) بحث الطبيب البار:6 (2) البار: 7 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 النقل من ميت لحي يتصور من حيث الإذن وعدمه إلى الصور الآتية: 1- ميت أذن قبل وفاته. 2- ميت لم يعقب وارثاً. 3- ميت عقب وارثاً ولم يأذن الوارث. 4- ميت عقب ورثة فأذن بعضهم. 5- ميت عقب ورثة فأذنوا جميعهم. التخريج الشرعي للنقولات أولاً: التخريج للتغذية بالدم في أعقاب الإنجاز الطبي الحديث بنقل الدم من إنسان إلى آخر تعويضاً له عن نقص في مادة أو عن نزيف حصل له كالحال في بعض الحوادث، وحالات الولادة ولقاء إجراء العمليات وهكذا ـ حصل تغليب العلماء لها وتخريجها على ما يمكن تخريجها عليه، والتنظير لها بفروع من بابها، وكيف الاعتذار في نظر المبيح عن حديث النهي عن التداوي بالحرمات، وكتبت في هذا أبحاث، ورسائل، وبعد تطواف كبير استقرت كلمة أهل العلم على الجواز في محيط الشروط والضوابط الآتية وهي: 1- قيام الضرورة وتحققها. 2- عدم وجود بديل له مباح. 3- غلبة الظن على نفع التغذية به. 4- تحقيق عدم الخطر على المأخوذ منه. 5- توفر رضا المأخوذ منه وطواعيته. 6- أن يكون النقل والتعويض يجريه طبيب ماهر. 7- أن تكون التغذية به بقدر ما ينقذه فالضرورة تقدر بقدرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 والمدرك الفقهي لهذه المسألة، الذي ينفي الاضطراب ويقطع القيل والقال هو أن نقل الدم من إنسان إلى آخر في إطار الشروط المذكورة ومن أهمها " الاضطراب " هو: " من باب الغذاء لا الدواء " فكمية الدم نقصت مادتها فيحتاج إلى تغذيتها (1) . ولهذا فهو داخل في حكم المنصوص عليه بإباحة تناول المضطر في مخمصة من المحرمات لإنقاذ نفسه من الهلكة، كما في آيات الاضطرار ومنها قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إلى قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} المائدة: 3 ولو قيل: هو من باب الدواء فيقال (2) : "إذا اضطررنا إليه فلم يحرم علينا حينئذ، بل هو حلال فهو لنا حينئذ شفاء ". هذا وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مواضع: أن الدم الآدمي طاهر ما دام في جسده، فإذا ظهر وبرز كان نجساً، ورد على من قال بنجاسته ما دام في جسد الآدمي بوجوه متعددة من أهمها (3) : عدم الدليل على تنجيسها والأصل الطهارة، وإن خاصية النجس وجوب مجانبته في الصلاة، وهذا مفقود فيها في البدن من الدماء وغيرها ومنها: " إن الدماء المستخبثة في الأبدان وغيرها هي أحد أركان الحيوان التي لا تقوم حياته إلا بها حتى سميت نفساً، فالحكم بأن الله يجعل أحد أركان عباده من الناس والدواب نوعاً نجساً في غاية البعد".   (1) انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 10/ 92 ـ 93 (2) المحلى: 1/ 234. (3) الفتاوى: 21/558 ـ 601 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 لكن بقي هنا أبحاث: الأول: أن الأصل هو التبرع به، وبيعه فيه إهدار لكرامة الدم الإنساني وقيمته. وفي هذا بحث سيأتي إن شاء الله تعالى في آخر أبحاث هذه النازلة. الثاني: النقل والتعويض للدم بين مختلفي الديانة كمسلم وكافر، كحال من كانت أمه كتابية ووالده مسلم. الثالث: جمع الدم في " بنوك الدم " تحسباً لوجود المضطر، ومفاجأة أحوال الاضطرار وتكاثرها، تقتضي ذلك. فهو تبرع من مالكه بشرطه من عدم التأثير على صحته ... لمضطر يحتاج إليه. وقد نص بعض أهل العلم على ما هو أقل من هذا في تزود المضطر مما أبيح له أكله ضرورة. قال البهوتي في " كشاف القناع ": " وللمضطر أن يتزود من المحرم إن خاف الحاجة إن لم يتزود " اهـ. ثانياً التخريج الشرعي للنقل الذاتي النقل الذاتي من مكان من بدن الإنسان إلى مكان آخر منه ذاته هو في الحكم كإجراء عملية له كالفتق، والزائدة الدودية، وقطع العضو المتآكل، وهكذا طرداً لقاعدة التداوي: " الجواز " في إطار شروط التداوي العامة. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 ثالثاً النقل من حي إلى حي النقل من حي إلى حي، لا يخلو من حيث التأثير على حياة المنقول منه وصحته من واحد من الأحوال الآتية: 1- لا تأثير له بأي ضرر مطلقاً كنقل قطعة من جلد ونحوه مما لا تتوقف حياته ولا صحته عليه. وهذا أمر افتراضي ولم نعلم في أبحاث الطب نقلاً من هذا النوع. 2- نقل يؤدي إلى ضرر جزئي محتمل لا خطر معه على صحته ولا حياته، مثل: نقل سن، أو نقل دم. فهذا افتراض لا نعلمه في أبحاث الطب سوى نقل الدم للتغذية به، وقد تقدم بيانه. 3- نقل يؤدي إلى ضرر بالغ بتفويت أصل الانتفاع أو جله كقطع كلية، أو يد، أو رجل ... والذي يظهر والله أعلم تحريمه وعدم جوازه، لأنه تهديد لحياة متيقنة بعملية ظنية موهومة من إمداد بمصلحة مفوتة لمثلها، بل أعظم منها. ولأن حق الله تعالى متعلق ببدن الإنسان قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فمن يفتقد عضواً عاملاً في بدنه يرتفع عنه بمقدار عجزه عدد من تكاليف الشريعة {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] . فكيف يفعل الإنسان هذا بنفسه وإرادته ويفوت تكاليف مما خلق ليوفرها لغيره بسبيل مظنون، فالضرر لا يزال بمثله، فهذه المصلحة المظنونة بتفويت المتيقنة مما يشهد الشرع بإلغائها وعدم اعتبارها. 4- نقل يؤدي إلى: الخطر على الحياة أو الصحة، أو يؤدي إلى الموت، كنزع القلب والرئة ... فهذا قتل للنفس، وانتحار بطيء والله تعالى يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وهو من أشد المحرمات في الشرع والفطرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 الرابع: النقل من ميت إلى حي اعلم أن المراد بالميت هنا هو من فارقت روحه بدنه بانقطاعها عن بدنه انقطاعاً تاماً من توقف دقات قلبه المنزلة طبيعياً أو صناعياً واستكمال أماراته، فهذه هي الوفاة التي تترتب عليها أحكام مفارقة الإنسان للدنيا من انقطاع أحكام التكليف، وخروج زوجته من عهدته، وماله لوارثه، وتغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه ... أما نصب " موت الدماغ " أو " جذع الدماغ " تحقيقاً لموته مع نبض قلبه ولو آلياً فهذا في الحقيقة ليس موتاً لكنه نذير وسير إلى الموت، فما زال له حكم الأحياء حتى يتم انفصال الروح عن البدن. ولذا: لابد لنا من تصور الأحوال حتى يكون بإذن الله تعالى تنزيل الحقيقة الشرعية على الحقيقة الواقعية الطبيعية لكل مسألة بخصوصها، وهنا طرفان: ميت، وحي. أما الميت المأخوذ منه: فنتصور الحال من حيث الإذن وعدمه إلى ما يلي: 1- ميت أذن قبل وفاته بانتزاع عضو منه لمعين أو غير معين. 2- ميت لم يعقب وارثاً. 3- ميت عقب وارثاً ولم يأذن الوارث. 4- ميت عقب ورثة فأذن البعض. 5- ميت عقب ورثة فإذن جميعهم. أما الحي فلا تخلو مصلحته من مراتب المصالح الثلاث: 1- إما أن تكون ضرورية تتوقف حياته إلى ذلك العضو. 2- وإما أن تكون حاجية لا تتوقف حياته عليها كالحاجة إلى قرنية ونحوها. 3- وإما أن تكون تحسينية كترقيع شفة ونحوها. وعليه: فإذا كانت المصلحة تحسينية فلا ينبغي الخلاف بعدم الجواز، سواء أذن الميت قبل وفاته أو لا؟ لأن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فلا يجوز انتهاك حرمته المحرمة لتوفير مصلحة تحسينية تجميلية، وفي هذا تعريض لجثة الميت للامتهان، وتسويغ العبث بها. وأما إن كانت مصلحة الحي حاجية، فإن حرمة الميت واجبة كحرمة الحي، وهتكها وقوع في محرم، فلا ينبغي خرق الحرمة والوقوع في الحرام لمصلحة مكملة للانتفاع. وأما إن كانت ضرورية، والضرورية هنا مفسرة بما تتوقف حياته عليه كالقلب والكلى، والرئتين ونحوها من أصول الانتفاع الضرورية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 فيها يتخرج الجواز عند من قال به، لأمور. 1- بالموازنة بين المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار، فإن مصلحة الحي برعاية إنقاذ حياته أعظم من مصلحة الميت بانتهاك حرمة بدنه وقد فارقته الروح، وأذن به، ولهذا نظائر في الفروع المتقدمة عند عدد من أهل العلم من التناول في حال الاضطرار من: لبن المرأة الميتة، ولحم الآدمي، وشق بطن المرأة الميتة الحامل إذا كان حملها يضطرب وقد علمت ما فيه، ونبش القبر لمصلحة حي، وبقر بطن ميت ابتلع مال حي وقد علمت ما فيه أيضاً ... إلخ. إلى آخر ما تقدم من فروع على قواعد الضرر من أنه يزال، وإن الضرورات تبيح المحظورات. والله أعلم. 2- وشرط إذنه وإذن ورثته، لأن رعاية كرامته حق مقرر له في الشرع فلا ينتهك إلا بإذنه، فهو محق موروث كالحال في المطالبة من الوارث في حد قاذفه ـ ولذا فإن الإذن هو إيثار منه أو من مالكه الوارث ـ لرعاية حرمة الحي على رعاية حرمته بعد موته في حدود ما أذن به. ولذا صح ولزم شرط الإذن منه قبل موته، أو من ورثته جميعهم. أما إن فات هذا الشرط ولم يتحقق بإذنه، أو إذن جميع ورثته بأن أذن بعض دون بعض فلا يجوز انتزاع عضو منه بل المراغمة في هذا: هتك تعسفي للحق وحرمة الرعاية له. أما من لا وارث له إذا مات ببلد إسلام تحت ولاية سلطان مسلم بحكم الشرع ويقيم الحدود وينفذ أحكام الإسلام فالسلطان ولي من لا ولي له فهو يقوم مقام الوارث له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 المبحث السابع في الشروط العامة اعلم أن من قال بالجواز في أي من مسائل " النقل والتعويض الإنساني " لم يقل بذلك بفتيا مطلقة، بل أحاطها بشروط شرعية يجب توفرها، فمتى فقدت شرطاً فقدت الصفة الشرعية. وهذه الشروط منها شروط عامة لا بد من توافرها على صفة الثبات والدوام في أي مسألة قبل جوازها، وشروط خاصة في بعض منها. وهذه الشروط العامة منها ما يرجع إلى المنقول منه ومنها ما يرجع إلى المنقول إليه، ومنها ما يرجع إلى الواسطة، وهي على ما يلي: الشرط الأول: تحقق قيام الضرورة بطريق اليقين، بأي دلالة يقوم بها اليقين كإخبار طبيب حاذق، ولا يشترط كونه مسلماً، وهو ما ورد من شرط إسلامه عند البعض فهو قيد اتفاقي. الشرط الثاني: تحقق انحصار التداوي به، لعدم وجود بديل له يقوم مقامه، ويؤدي وظيفته بكفاءة. الشرط الثالث: أن تكون العملية بواسطة طبيب ماهر لا متعلم. الشرط الرابع: تحقق أمن الخطر على المنقول منه في حال النقل من حي. الشرط الخامس: غلبة الظن على نجاحها في المنقول إليه. الشرط السادس: عدم تجاوز القدر المضطر إليه. الشرط السابع: تحقق الموازنة بتقدير ظهور مصلحة المضطر المنقول إليه على المفسدة اللاحقة بالمنقول منه. الشرط الثامن: تحقق توفر شرط الرضا والطواعية الأهلية من المنقول منه. الشرط التاسع: توفر الشرط الثامن في المنقول إليه أو إذن وليه إن كان قاصر الأهلية. الشرط العاشر: توفر متطلبات العملية التي بلغها الطب، وإلا كان الطبيب مفرطاً يحمل تفريطه، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 المبحث الثامن في حكم بيع الآدمي لدم أو عضو منه إذا علمت أن الأصل هو الحظر على الغير استعمال جزء من الإنسان أو دمه، حفظاً للنوع الإنساني، وصيانة لقيمته وكرامته، وسداً للطرق الموصلة إلى إهدارها، وإذا كان انتزاع دم من حي، أو عضو من ميت عند من قال به جائزاً عند الإضرار، والضرورة المقدرة - تخوف هلاك حي أو عضو فيه تتوقف عليه حياته ـ مقدرة بقدرها لا يجوز تجاوزها، وهذا القدر المضطر إليه لا يعد إخلالا بآدمية المنزوع منه، فاعلم أن الأصل لذلك البذل أيضاً يكون بطريق التبرع والهبة لمنفعة حي بسد ضرورته، لوجوب تلاحم النوع الإنساني على جسر من التعاون والإخاء، وشد بعضهم ببعض استيفاء لنوعهم، ورعاية لحرمتهم وحرمة مصالحهم. لكن يبقى هنا تساؤل عن حكم المعارضة المالية عليها، وهل المعارضة تتنافى مع هذا القصد والتأسيس الإنساني، وأن هذا استرقاق جزئي لآدميته في دم أو عضو، وامتهان لحرمته ليعود كالسلعة والبهيمة محلاً للتجارة في دم أو عضو أو تشريح لكامل جسده، ويزاد ـ على الخلاف المتقدم ـ أن الدم نجس، وما قطع من حي فهو كميتته نجس، والنجس لا يجوز بيعه، وأنه وإن جوز الانتفاع به تبرعاً لمضطر فلا يجوز بيعه لقاعدة: إن جواز الانتفاع لا يستلزم جواز البيع، وعليه: فبيعها محرم لا يجوز، لكن إن لم يحصل عليه مضطر لا بثمن فيجوز من باذل لدفع الضرر لا في حق آخذ. هذا ما يمكن أن يقال في وجهة مانع المعاوضة. أم أن المعاوضة تجوز في وجهة المجيز من أن ذلك لا يناقض آدميته، بل يسيران في ركاب واحد فلا ينفض على الآدمي آدميته وكرامته، كالشأن فيمن قتل قتيلاً فإن له سلبه بشرط الشرع، والشأن فيمن حج عن الغير بمال إذا أخذ ليحج، والشأن في الاحتفاظ بحقوق التأليف مع بيعها ونفع المسلمين بها، فهذه الأمور المتزامنة متضامنة غير متضاربة فلا تفسد كرامة قائمة ولا نية صالحة. وهل كما يجوز هذا البيع من الحي لدمه، والميت لعضو منه قبل موته يجوز لوارثه؟ كل هذه أمور وأحوال لا بد من تحرير الحكم فيها للترابط بينها وهي بحاجة إلى نظر من حاز قصب السبق في الفقه والتفقه وجميع ما ذكرته في هذه الرسالة من مواطن الخلاف أسوقه بحثاً ولم أجرؤ على الانفصال عنه برأي. منح الله الجميع الفقه في الدين. وصلى الله وسلم على نبينا ورسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. د. بكر بن عبد الله أبو زيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً إعداد فضيلة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي أستاذ في قسم الفقه الإسلامي بجامعة دمشق بسم الله الرحمن الرحيم مخطط البحث الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد، فإن هذا البحث يسير وفق المخطط التالي: أولاًـ طبيعة البحث الفقهي في هذه المسألة، والمستندات الشرعية في دراستها. ثانياً: جذور هذه المسألة في التراث الفقهي القديم. والتطور الذي انتهى إليه الطب فيها. ثالثاً ـ صورة المسألة اليوم، والتقسيمات المحتملة لها: 1- عندما يكون المستفاد منه حياً، وله حالتان: أ - أن يتعلق بحياته حق للغير كالحد والقصاص. ب - أن لا يتعلق بحياته حق للغير وله هنا حالتان: - إما أن يكون كامل الأهلية مستقلاً بأمر نفسه. - وإما أن يكون ناقص الأهلية غير مستقل بأمر نفسه. 2- عندما يكون المستفاد منه ميتاً. وتتعلق به النقاط التالية: أ - الموت الذي نعنيه (بيان الفرق بين الموت الشرعي وموت الدماغ) . ب - حكم الاستفادة من أعضاء الميت للحي. ج- حكم تشريح الميت لسبب ما. د- هل يجب الرجوع في ذلك إلى أولياء الميت، والتأصيل الفقهي لذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 مقدمة طبيعة البحث الفقهي في هذه المسألة والمستندات الشرعية لدراستها إن النظر في حكم انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر، حياً أو ميتاً، في الشريعة الإسلامية إنما يدخل في المسائل الاجتهادية الفقهية الحديثة، ولعله من أهمها ومن أحوجها إلى الدراسة الشاملة ابتغاء الوصول إلى حكمها، أو أحكامها، في شرع الله عز وجل، بحيث تستند إلى أدلة يقتنع بها أولو الملكة الفقهية السليمة، ويطمئن إليها أولو البصيرة الإسلامية المخلصة. ومما لا ريب فيه أن هذا البحث يتصل اتصالاً مباشراً ووثيقاً بجملة من القواعد الفقهية الكلية من شأنها أن تنير السبيل بوضوح أمام تلمس حكم الشريعة الإسلامية، أو أحكامها، في هذا الموضوع الهام. ولعل من المناسب أن نبدأ فنتعرف على هذه القواعد أولاً، ثم نتخذ منها الدليل الهادي على طريق دراسة هذا البحث الذي سنجد أنه يتصل ببعض المسائل الجزئية مما قد تناوله الفقهاء وفرغوا من دراسته وبيان حكمه، بل أبرمت السنة المطهرة بشأن بعض منها. أوسع هذه القواعد شمولاً، وأرسخها في البنيان الفقهي، قاعدة المقاصد الخمسة والترتيب الذي صنفت ـ من حيث الأهمية ـ على وفقه. وهي كما نعلم: مقاصد الدين فالحياة، فالعقل، فالنسل، فالمال. ومما يجدر بلفت النظر إليه أن كثيراً من العلماء يعبرون بالعرض بدلاً من النسل، وكثير منهم يضيفون إلى هذه المقاصد الخمسة العرض، وذلك لإدخال حق الكرامة، بل القدسية الإنسانية، في مجموعة المقاصد التي تدور عليها أحكام الشريعة الإسلامية (1) . وسواء علينا أن استعملنا عبارة " النسل " أو " العرض " أو استعملناهما معاً، فإن تنويه الإسلام بقدسية الإنسان وكرامته، ورعاية الشريعة الإسلامية لذلك في سائر الأحكام، حقيقة ثابتة لا يرتاب فيها باحث أو فقيه، ومن ثم فإن رعاية الكرامة الإنسانية داخلة دخولاً أولياً في المقاصد أو المصالح التي هي محور الشرع الإسلامي الحنيف. القاعدة الثانية: انقسام جملة الحقوق الشرعية إلى قسمين: حق لله، وحق للعباد وإنما يجوز التصرف بما هو حق للعباد أو غلب عليه حق العباد. ثم إنه يكون حقاً أصيلاً ومباشراً بالنسبة لمن أعطي هذا الحق أصالة، سواء كان على وجه التمليك أو التمتيع، ويكون حقاً فرعياً ومقيداً بالنسبة للولي أو الوكيل.   (1) انظر شرح المحلى على جمع الجوامع، وحاشية البناني عليه: 2/179 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 القاعدة الثالثة: تنهض مشروعية الإيثار على سائر الحقوق البدنية والدنيوية الداخلة في حقوق العباد، دون ما سواها من حقوق الله عز وجل، ومن الثابت أن المحافظة على أصل الحياة ومقوماتها من حقوق الله عز وجل. القاعدة الرابعة: الحقوق المعنوية الداخلة في حقوق العباد تورث بالموت كما تورث الحقوق العينية، دون خلاف في ذلك، وإنما ينعكس الخلاف إلى مسائل بعض هذه الحقوق، من الخلاف بين الفقهاء في: هل هي داخلة في حقوق الله، أم في حقوق العباد، كالقذف وحق المعاقبة عليه (1) ؟ فهذه القواعد الأربع، تشكل جسراً ممتداً بين ينبوع الشريعة الإسلامية، إلى هذا العصر والعصور التالية، من شأنه أن يكشف لنا عن موقف الشريعة الإسلامية المطهرة من مسألة زرع الأعضاء الاصطناعية في جسم الإنسان، وهو ما عالجه الفقهاء وأوضحوا حكمه قديماً، ومن مسألة زرع عضو من إنسان في جسم إنسان آخر، وهو ما يمارسه الأطباء، اليوم، وما يطرح نفسه لبيان حكمه الشرعي. وقد أدلى الفقهاء السابقون ـ كما قلنا ـ باجتهاداتهم في أصل هذه المسألة، وهو اتخاذ الإنسان عضواً اصطناعياً مكان العضو الطبيعي الذي افتقده. ومن الجدير أن نستعرضها إجمالاً، نظراً إلى أنها تشكل مستنداً فرعياً، بعد الاستناد إلى تلك القواعد التي ألمحنا إليها، لدراسة تطوراتها الحديثة اليوم، ونظراً إلى أن ذلك يبرز جذور هذه المسألة في تراثنا الفقهي العظيم. جذور هذه المسألة   (1) سيأتي تفصيل الخلاف فيه في غضون هذا البحث إن شاء الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 في التراث الفقهي القديم والتطور الذي انتهى إليه الطب فيها لجذور هذه المسألة مستند أصيل من السنة النبوية الشريفة، بالإضافة إلى القواعد الفقهية التي تشكل الأساس الاجتهادي فيها، وهو حديث عرفجة الذي رواه الترمذي وصححه ابن حبان، ((أنه قطعت أنفه فاتخذ أنفاً من فضة، فأنتن عليه، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذه من ذهب.)) فقد قرر الفقهاء بالاتفاق جواز اتخاذ سن أو أنملة أو أنف من ذهب، إن اقتضت الضرورة أن يكون ذهباً، وعلى خلاف فيما بينهم في جواز اتخاذه من الذهب إن قامت الفضة أو نحوها مقامه، فأجاز الشافعية والمالكية الذهب مطلقاً، ومنعه الحنفية عند عدم الضرورة (1) . أما الأطراف، كاليد والرجل، وكالإصبع الكاملة منهما، فقد ذهب الحنفية والشافعية، في المعتمد عندهم، إلى عدم جواز اتخاذها من ذهب أو فضة، نظراً إلى أنها لن تكون أعضاء عاملة، بل لمجرد الزينة فلا ضرورة في تركيبها إذن، أي فلا ضرورة في ارتكاب المحظور (2) ومعنى ذلك أن اتخاذ طرف اصطناعي من غير الذهب والفضة جائز بالاتفاق. كما اتفقوا على أن وصل الجسد بعظم من حيوان طاهر، للتداوي به، أو للاستعاضة به عن عضو أو عظم فقده صاحبه، جائز، وإن وصل بعظم نجس مع وجود الطاهر، أو بدون ضرورة تدعو إلى ذلك، فهو غير جائز، ويجب نزعه عند الجمهور في هذه الحالة، إلا إن خيف من هلاك أو عطب، أما إن تعين العظم النجس، فلا مانع من الاستفادة منه عند الضرورة (3) .   (1) انظر مغني المحتاج للشربيني: 1/ 391، والهداية للمرغيناني: 4/ 61، وجواهر الإكليل: 1/10 وما بعد. (2) انظر مغني المحتاج للشربيني: 1/ 391، والهداية للمرغيناني: 4/ 61، وجواهر الإكليل: 1/10 وما بعد. (3) انظر الفتاوى الهندية: 5/ 354، وروضة الطالبين للنووي: 1/ 275، والشرح الصغير للدردير: 1/58. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 ولكن هل أجاز الفقهاء الاستفادة، في هذه الحال، من عظم إنسان آخر؟ قال في الفتاوى الهندية: لا يجوز الانتفاع بأجزاء الآدمي، قيل: للنجاسة، وقيل: لكرامة الإنسان، وهو الصحيح (1) .وأطلق الشربيني في مغني المحتاج القول بحرمة ذلك فقال:" والآدمي يحرم الانتفاع به وبسائر أجزائه، لكرامته " (2) . أقول: ينبغي أن يكون هذا الاجتهاد خاصاً بالحالات التي لا يتعين فيها الآدمي دون غيره، أما عندما يتعين الآدمي ولا يقوم مقامه جزء آخر من غيره، وكان في ذلك إنقاذ لحياته أو تمتيع بعضو أصيل في جسمه، فلا نشك في أن ضرورة إنقاذ حياة الإنسان أو إعادتها إلى النهج القديم، أرجح في سلم المصالح المعتبرة من مراعاة كرامة الإنسان بعد موته. هذه خلاصة لما انتهى إليه الفقهاء في هذه المسألة، في العهود الغابرة. ومن الواضح أنها تبرز مدى مسايرة الفقه الإسلامي لحركة الطب وتقدمه آنذاك، ومدى تناسق الفقه معه في السعي إلى خدمة الإنسان وتحقيق مصالحه. غير أن الطب، بلغ اليوم شأواً بعيداً، بالنسبة إلى ما كان عليه بالأمس، فقد تجاوز مرحلة تثبيت أنف أو أنملة أو سن اصطناعي، أو وصل الجسم بعظم إنسان أو حيوان آخر، تجاوزه إلى زرع كلية مكان أخرى، وتركيب قلب مكان قلب آخر، وإلى استبدال عين سليمة بأخرى تالفة. وهو بهذا التقدم الذي بلغه اليوم، إنما يعيد الأمل إلى الإنسان الذي استيأس من حياته، ويضع الإنسان في الوقت ذاته أمام أسمى امتحانات التعاون والإيثار. ثم إن هذا التقدم العلمي في نطاق الطب، يصور لنا بعضاً من الفروق بين عمل الطب في هذا المضمار بالأمس وعمله في اليوم. وأبرز هذه الفروق، أن تلك الإنجازات الطبية القديمة، لم تكن تعدو عملاً تزيينيا أو سداً شكلياً لنقص في البدن، وليس له من فائدة إلا ضمن حدود الشكل والمظهر. فكان أثره المصلحي محصوراً في نطاق مرتبة التحسينات لمصلحة الحياة. أما هذا الذي وصل إليه الطب اليوم، فهو يرقى إلى درجة استعادة مقومات الحياة بعد فقدها أو بعد الإشراف على فقدها، فهو يدخل بذلك في إنجاز أبرز المقومات الضرورية لمصلحة الحياة. ومما لا ريب فيه أن هذا الفرق في مضمار العمل الطبي في هذا المجال، ما بين الأمس واليوم، له تأثيره ودوره الكبير في إبراز كثير من وجوه الاختلاف في الأحكام الفقهية لهذه المسألة ما بين الأمس واليوم، وهذا ما سنشرع في بيانه وتفصيل القول فيه بعون الله وتوفيقه.   (1) الفتاوى الهندية: 5/ 354 (2) مغني المحتاج: 1/ 191 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 صورة هذه المسألة اليوم والحالات الخاضعة لها تدور وقائع هذه المسألة في عصرنا هذا على ركنين أساسيين: مستفيد، ومستفاد منه. ويتبعه ركن تنفيذي هو العمل الجراحي الذي يقوم به الطبيب. ولا شأن لنا في بحثنا هذا بالمستفيد، ولا بالعمل الجراحي الذي هو أمر فني بحت، وإنما يدور حديثنا كله حول الركن الثاني وهو الشخص المستفاد منه. وهذا الشخص إما أن يكون حياً أو ميتاً. وفي الحالة الأولى إما أن يتعلق بحياته حق للغير، سواء كان حقاً للمجتمع، وهو الذي يسمى في المصطلح الفقهي حق الله عز وجل، أو حقاً للفرد، وإما أن لا يتعلق بحياته حق لأحد. وهو في هذه الحالة إما أن يكون كامل الأهلية مستقلاً بأمر نفسه ورعاية شأنه، وإما أن يكون ناقص الأهلية غير مستقل برعاية نفسه. وفي الحالة الثانية: أي عندما يكون ميتاً، إما أن يكون موته موتاً دماغياً، وهو الموت الذي اصطلح عليه الأطباء أو موتاً قلبياً تاماً، وهو الذي تعتمد عليه أحكام الشريعة الإسلامية. وعلى كلا الاحتمالين، فإما أن يكون له ورثة من أقاربه وذوي رحمه، أو لا يكون له من قريب أو ذي رحم، وإنما يتولى أمره ولي المسلمين. فهذه هي صورة المسألة بمختلف الاحتمالات التي يمكن أن تدور عليها. وسنعالج بيان حكم، بل أحكام هذه المسألة، من خلال النظر في كل من هذه الاحتمالات على حدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 أولاً عندما يكون المستفاد منه حياً وقد قلنا إن هذه الحالة يتفرع عنها احتمالان اثنان: الاحتمال الأول أن يتعلق بحياته حق للغير، والاحتمال الثاني أن لا يتعلق بحياته حق لأحد، ولنبدأ بدراسة الاحتمال الأول منهما. عندما يتعلق بحياة المستفاد منه حق للغير: ونعني بذلك أن يرتكب الإنسان جرماً، قد أدين به طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، وترتبت عليه بسببه عقوبة الإعدام، كزنا المحصن، وقتل النفس عمداً بغير حق، والارتداد عن الإسلام مع الإصرار عليه. ومن المتفق عليه أن هذا الإنسان يصبح مهدر الدم بعد إدانته أمام القضاء، بمثل هذا الجرم، فهل يجوز أخذ شيء من أعضائه ليزرع في جسم إنسان محترم محصن الدم، قد أشرف على الهلاك، وتعين لإنقاذ حياته زرع عضو من غيره في جسده، ككلية وقلب وعين أو نحو ذلك، بقطع النظر عما قد يستلزمه استلاب ذلك العضو من صاحبه، من موت أو تشويه؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال، يستحسن أن نمهد له ببيان رأي الفقهاء في حكم أكل المضطر من جسم إنسان مهدر الدم قد وجب قتله بحكم القضاء الإسلامي. أما الشافعية، فقد ذهبوا إلى جواز ذلك، نظراً إلى أن مهدر الدم لا حرمة له، ولا قيمة لحياته فهو في حكم الميت، قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: (لو وجد المضطر من يحل قتله، كالحربي والزاني المحصن وقاطع الطريق الذي تحتم قتله، واللائط والمصر على ترك الصلاة، جاز له ذبحهم وأكلهم، إذ لا حرمة لحياتهم، لأنها مستحقة الإزالة فكانت المفسدة في زوالها أقل من المفسدة في فوات حياة المعصوم) (1) . وأما الحنابلة، فقد اختلف الرأي في ذلك عندهم، غير أن ما ذكره ابن قدامة في المغني يتضمن ترجيح القول بجواز ذلك، موافقة لما ذهب إليه الشافعي وأصحابه (2) . وأما المالكية، فالمذهب عندهم منع ذلك مطلقاً، قال الدردير في الشرح الصغير: (إلا الآدمي فلا يجوز أكله للضرورة، لأن ميتته سم، فلا تزيل الضرورة) (3) . وقال الصاوي تعليقا: (أي فلا يجوز تناوله سواء كان حياً أو ميتاً، ولو مات المضطر، وهذا هو المنصوص لأهل المذهب) . وهذا الذي ذهب إليه المالكية هو الراجح عند الحنفية، على ما ذكره ابن عابدين في حاشيته) (4) . ويتحصل من هذا أن الشافعية والحنابلة وبعضاً من الحنفية، يجيزون أكل لحم المهدر دمه عند الضرورة. أما المالكية والراجح عند الحنفية ـ فيما يراه ابن عابدين ـ فعلى حرمة ذلك.   (1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/81 (2) المغني لابن قدامة: 9/419 (3) الشرح الصغير للدردير، مع حاشية الصاوي عليه: 2/ 184 (4) انظر حاشية ابن عابدين: 5/ 296 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 ولعل المذهب الأول هو المتفق مع القواعد الفقهية المتعلقة بهذه المسألة، كقولهم: يتحمل الضرر الأخف لدرء الضرر الأشد، وكقولهم: إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً، بارتكاب أخفهما. وهما من القواعد المتفق عليها لدى المذاهب الفقهية. وهما متفرعتان عن قاعدة (الضرر يزال) (1) . أما الاستدلال بالكرامة الإنسانية، فمن المعلوم أن هذه الكرامة تصبح مهدرة بتحقق موجب القتل. وإلا لما أوجبت الشريعة الإسلامية قتله، وقد تبين من صريح قول الله عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 4، 5، 6] أن الكرامة التي ميز الله الإنسان بها، ليست نابعة من جوهر بشريته، حتى تكون ملازمة له في كل الحالات: وإنما هي وصف يلازمه ما كان متجاوباً مع فطرة عبوديته لله عز وجل، مستقيماً على الانصياع لأمره وسلطانه، ولو في الجملة. إذا علمنا هذا، فلنعد إلى أصل المسألة التي طرحنا السؤال عن حكمها، وهو: استفادة الحي المشرف على الهلاك من عضو إنسان تعلق بحياته حق للغير واستوجب القتل. فنقول: لا بد من تخريج هذه المسألة على تلك التي نقلنا أقوال الفقهاء فيها. فإن رجحنا ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة وبعض الحنفية، من جواز الإقدام على أكل من قد استوجب القتل شرعاً، عند الضرورة، فلأن يجوز هنا اقتطاع عضو منه ليزرع في جسم إنسان معصوم الدم مشرف على الهلاك، من باب أولى، ولا فرق في هذه الحال بين أن يسري اقتطاع هذا العضو من المستفاد منه إلى الموت أو لا. إذ إن مناط القول بصحة ذلك إنما هو زوال حرمة حياته واستحقاقه للقتل، والحالتان عندئذ سواء. نعم، ينبغي اشتراط الضرورة بالنسبة لحال المستفيد. بحيث يقرر الطبيب العادل المختص أن لا بد لاستنقاذ حياته من زرع هذا العضو في جسده، ولا يقوم مقامه عضو اصطناعي أو عضو من حيوان غير نجس. وسبب اشتراط الضرورة بهذا الشكل، يعود إلى ما هو مقرر من حرمة التمثيل في القتل عند إقامة حد أو استيفاء قصاص (2) . ولا ريب أن اقتصاص جزء من الحي يدخل في معنى المثلة وحكمها. فينبغي أن يتوقف جواز ذلك على الاضطرار، كما ينبغي أن يكون التنفيذ محدداً بقدر الضرورة ذاتها، وأن نتخذ الوسائل الحديثة الممكنة التي تبعد العملية عن معنى المثلة وعن السبب الذي حرم من أجله، وهو التعذيب. ولكن ينبغي ـ حسب القواعد التي اعتمدنا عليها في ترجيح هذا الرأي ـ أن لا يكون ثمة فرق في هذا الحكم بين أن تكون ضرورة المستفيد في نطاق استنقاذ الحياة، أو في نطاق الاستفادة من عضو أو طرف هام بعد تلفه أو إشرافه على ذلك، كالاستفادة من عين سليمة بدل عينه التالفة، إذ مهما كان قدر الفائدة العائدة إلى المستفيد المعصوم دمه، فإن رعايتها أرجح في ميزان المصالح الشرعية، من رعاية إنسان في حياته أو شيء من أعضائه أهدر دمه بحكم قضائي شرعي صحيح.   (1) انظر الأشباه والنظائر لابن نجيم من 98 و 99، والأشباه والنظائر للسيوطي: ص 79 (2) انظر مغني المحتاج للشربيني: 4/44 وبداية المجتهد لابن رشد: 2/ 397، والقوانين الفقهية لابن جزي: ص 261. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 عندما لا يتعلق بحياة المستفاد منه حق للغير: وهو الذي يسمى في الاصطلاح الفقهي: الإنسان المحترم أو المعصوم دمه. هذا الإنسان إما أن يكون كامل الأهلية رشيداً مستقلاً بأمر نفسه، أو لا. فهما إذن صنفان من الناس. ونبدأ بالحديث عن الصنف الأول منهما، فنقول: هل لهذا الإنسان أن يتنازل عن عضو أو جزء من جسمه ليستفيد منه إنسان آخر، توقفت استمرارية حياته على ذلك؟ والجواب أن اقتطاع هذا العضو منه إن غلب على الظن تسببه للموت ـ أو بتعبير أصح: إن لم تتحقق الطمأنينة التامة بأن ذلك لن يؤثر على استقرار حياته وسلامتها ـ لم يجز منه الإقدام على ذلك، كما لا يجوز لأحد أن يكرهه على هذا التنازل، ولا يجوز للطبيب الجراحي أن يقبل على تنفيذه. وعلة الحرمة واضحة، وهي أن الإنسان لا يملك الإيثار في نطاق حقوق الله عز وجل، وأصل الحياة حق الله سبحانه وتعالى، فليس للإنسان الذي يتمتع بها أن يهبها أو يؤثر بها أحداً غيره، وهذا هو الأساس في تحريم الانتحار. ونظراً إلى أن الأمر هنا متعلق بجوهر الحياة، وجوهر الحياة بين المستفيد والمستفاد منه، في هذه الصورة، واحدة دون أي تفاوت أو اختلاف، فليس ثمة من مصلحة تترجح بها حياة الأول على الثاني أو العكس. فالسبيل إذن أن يترك الأمر بعد جهد الطبابة والعلاج لقضاء الله عز وجل. وهذا الحكم يوازنه في الطرف الآخر نقيضه الذي يذكره علماء الأصول في باب الإكراه. وهو حرمة إقدام (المكره) على قتل شخص ما لا يتعلق حق ما بحياته، وإن أيقن (المكره) أنه سيقتل إن لم ينفذ ذلك. فالعلة نفسها ترد هنا. وهي أن جوهر الحياة التي هي حق الله عز وجل واحد في شخص كل منهما، فلا تمتاز بأي مرجح إذ تكون في جسم أحدهما دون الآخر، ما دام كل منهما معصوم الدم. أما مظاهر التفاوت العارضة بين الناس في خدمة المجتمع أو السبق في الصلاح والتقوى، فلا دخل لشيء منها في تصنيف درجات أصل الحياة، وإن كان لهذا التفاوت أثره الذي لا ينكر في تفاوت الاهتمام والإكرام والتوقير في نطاق التعامل ضمن دائرة جنس الحياة الواحدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 أما إن جزم طبيبان عادلان مختصان (1) بأن حياة المستفاد منه من دون ذلك العضو ستظل مستمرة ومستقرة على نهج سوي، وذلك اعتماداً على قواعد الطب وتجاربه، كإمكان استمرار حياة الإنسان بكلية واحدة، دون وجود ما يتهددها ـ فإن استظهار حكم ذلك منوط بالرجوع إلى قاعدتين من القواعد التي ذكرناها في مقدمة هذا البحث، وقلنا: إن مداره عليها. وهاتان القاعدتان هما: 1- كل ما كان من حق الإنسان أو تغلب حق الإنسان فيه على حق الله عز وجل، جاز التصرف به، سواء كان مصدراً ثبوت هذا الحق تمليكاً أو تمتيعاً. 2- كل ما ثبت للإنسان حق التصرف فيه، كان له حق الإيثار به. ولنقف عند كل من هاتين القاعدتين بشيء من البيان والضبط، كي لا يقع في تطبيقهما أي خطأ أو لبس فنقول في بيان القاعدة الأولى: من الثابت أن الإنسان بكل ما له من حقوق ملك لله عز وجل، فمآل الحقوق كلها إذن، على تنوعها واختلافها أن تكون لله وحده. وهذا معنى كلام الشاطبي: (إن كل حكم شرعي ليس بخال عن حق الله تعالى) وقوله: (كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد فلا تفريع فيه، وكل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد، فلا بد فيه من اعتبار التعبد) (2) . ولكن الله مكن عباده من التصرف بطائفة من هذه الحقوق، فسميت من هذا الجانب حق العباد. ولم يمكنهم من التصرف بطائفة أخرى منها، فبقيت على أساسها الأصلي: حقوق الله.   (1) الصحيح أن يكتفى بشهادة طبيب واحد، في المسائل التي لا تتعلق بها حقوق للآخرين. أما في المسائل التي تتعلق بها حقوق لهم ـ وهذه منها ـ فلا بد فيها من شهادة طبيبين (انظر الأشباه والنظائر للسيوطي: 296) (2) الموافقات: 2/310 و 317 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 ولقد علمنا فيما سبق أن الله لم يأذن لأحد من عباده بالتصرف في أصل الحياة، بأن يتسبب في إنهائها عندما يشاء، وإنما أمره وعزم عليه أن يرعاها في كيانه ويحافظ عليها ضد كل ما يتهددها من الأخطار k ولذا فهي من أبرز حقوق الله عز وجل. أما أعضاؤه ودمه وعظامه وجلده، وسائر أجزاء جسده، فإن التصرف فيها من شأنه أن يؤول إلى أحد قسمين: القسم الأول: تصرف يسري بصاحبه إلى الموت يقيناً أو ظناً ولو ظنا غير راجح، فهذا القسم من التصرفات متعلق بحقوق الله عز وجل بالتبعية واللزوم. ومن ثم فلا يجوز للإنسان أن يقدم على هذا النوع من التصرف بأعضائه مهما كانت الأسباب (1) . القسم الثاني: تصرف ليس من شأنه أن يسري بصاحبه إلى الموت، لا يقيناً ولا ظناً، بل الشأن فيه أن لا يعقب أي ضرر بأصل الحياة، بل تبقى سالمة مستقرة، فهذا التصرف، ضمن هذا القيد، من حق العبد، أو بتعبير أدق حق العبد متغلب فيه على حق الله. وبمقتضى هذا الحق، يسوغ للإنسان أن يذهب في استخدام عينيه لقراءة، أو يديه في صناعة أو قدميه في قطع مفاوز، مذهباً قد يلحق به عطباً كلياً أو جزئياً بهذه الأعضاء أو بعض منها، دون أن يكون ذلك منه عدواناً على حق الله أو تجاوزاً لحدود الشرع، ما دام أنه كان يتوخى في استخدامه لتلك الأطراف مصلحة مشروعة، ولم يكن يهدف إلى مجرد الإضرار بنفسه.   (1) لا يعترض على هذا بمشروعية الجهاد، إذ حتى في ساحة الجهاد، لا يجوز أن يقصد المجاهد إزهاق روحه، بل يجب أن يتجه القصد منه إلى تحصين الدين وحمايته من العدو المتربص به، مضحياً في سبيل ذلك بروحه إن اقتضت الضرورة. وذلك طبقاً لما يقتضيه أولوية مصلحة الدين على مصلحة الحياة في سلم المصالح الخمس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 وقد يقول أحدنا: ولكن ما لا ريب فيه أن الإنسان لا يملك أن يتلف شيئاً من أطرافه أو أن يعطب شيئاً من جسمه، قل العطب أو كثر، أفليس ذلك دليلاً على أن لا حق للإنسان في شيء من أطرافه وأعضائه، وأنه ـ كحق الحياة ـ عائد إلى الله عز وجل؟ والجواب أن سائر حقوق العباد مقيدة بنظام الشرع، نظراً إلى أن جذور هذه الحقوق كلها، إنما هي ملك لله وحده. فالمالك هو الله، والعبد مخول بالتصرف في كل ما جعله الله حقاً له، لا بشكل كيفي، وعلى النحو الذي يشاء، بل طبق النظم والضوابط التي شرعها الله له ... وهذه الضوابط والنظم لا تعدو في جملتها أن تكون توجيهاً للعبد إلى الطريق الأمثل لرعاية المصالح الإنسانية، المتمثلة في المقاصد الكلية التي سبق بيانها، وتحذيراً من الانزلاق في مهاوي الضرر والفساد بين العباد (1) . ومن هنا، حرم الله تبذير الأموال وإتلافها وإن صدر ذلك من مالكها الذي هو صاحب الحق في التصرف بها. وبهذا المعنى ذاته يحرم على الإنسان أن يعرض شيئاً من جسده للضرر والفساد، رغبة في الضرر ذاته، أي دون أن يحمله على اقتحام ذلك تحقيق مصلحة مشروعة ضمن سلم الأولويات المقررة. فإذا تبين لنا معنى هذه القاعدة، وظهر لنا انطباقها على علاقة الإنسان بأطرافه ودمه وأجزاء جسده، لا من حيث المحافظة بها على حياته، بل من حيث تصرفه بها ضمن حدود الوقاية التامة لها ـ فإن القاعدة الثانية تترتب عليها لزوماً. وهي: (كل ما ثبت للإنسان حق التصرف فيه، كان له حق الإيثار به) . ومن مقتضى ذلك أن يملك الإنسان إيثار غيره بشيء من دمه أو بأي من أجزاء جسده، ما لم يستلزم ذلك ـ ولو على وجه الاحتمال البعيد ـ هلاكه. وواضح أن معنى الإيثار قائم على إسقاط المؤثر حظ نفسه، وتقبل المضرة اللاحقة به، رعاية لمصلحة أخيه. فهو وإن كان في الظاهر سعياً إلى مفسدة ليس من شأن الشريعة الإسلامية أن تأذن بالاتجاه إليها، إلا أنها أساس وسبب لمصلحة ضرورة تتحقق للغير، بالإضافة إلى ما يتوج هذا العمل به، من الخلق النبيل المتمثل في ترك المؤثر حظ نفسه رعاية لحظ غيره، اعتماداً على يقينه بالله وأملا في مرضاته والعوض الذي سيكرمه الله به. فهو، وإن كان في الظاهر مضرة وفساداً، إلا أنه منطو على مصلحة هامة في طريق بناء الأمة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، ولا ريب أنها أجل بكثير من حجم المفسدة التي قد تنجم عنه.   (1) انظر ما ذكره الشاطبي في المسألة التاسعة ص 377 من الجزء الثاني من الموافقات. فقد جاء بالكلام جامع في هذا الموضوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 يقول الإمام الشاطبي، بعد أن أصل قاعدة الإيثار هذه في الفقه الإسلامي، موضحاً المصلحة التي تترجح على مفسدة إسقاط المؤثر حظ نفسه: (والإيثار على النفس: وهو أعرق في إسقاط الحظوظ. وذلك أن يترك حظه لحظ غيره اعتماداً على صحة اليقين، وإصابة لعين التوكل، وتحملاً للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله. وهو من محامد الأخلاق وزكيات الأعمال. وهو ثابت من فعل رسول الله وعمله المرضي) وبعد أن استشهد بطائفة من الأحاديث الواردة في الإيثار والمبينة لحدوده قال: (وتحصل أن الإيثار هنا مبني على إسقاط الحظوظ العاجلة. فتحمل المضرة اللاحقة بسبب ذلك لا عتب فيه إذا لم يخل بمقصد شرعي. فإن أخل بمقصد شرعي فلا يعد ذلك إسقاطاً للحظ ولا هو محمود شرعاً) (1) . وقد ذكر السيوطي في الأشباه والنظائر قاعدة الإيثار هذه، مفرقاً بين حقوق الله وحقوق العباد ثم قال: (ولو أراد المضطر إيثار غيره بالطعام لاستبقاء مهجته، كان له ذلك وإن خاف فوات مهجته) (2) . وذكر ابن نجيم نحو ذلك أيضاً (3) . يترتب على هذا الذي أوضحناه، أن للإنسان أن يتنازل عن أي من أجزاء جسده أو دمه لإنسان آخر ذي حياة محترمة مشرف على الهلاك، قرر طبيبان عدلان أن زرع ذلك العضو أو الجزء في جسده ينقذه من الهلاك ويمتعه بحياة سليمة، وأن اقتطاعه من جسم الأول لا يسبب هلالكه، بل يظل متمتعاً بحياة مستقرة سليمة.   (1) الموافقات. 2/355 و 356 (2) الأشباه والنظائر للسيوطي: 104، 105 (3) الأشباه والنظائر لابن نجيم: 182 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 ولكن ما الحكم إن كانت الضرورة ليست إنقاذاًَ لحياة المستفيد، وإنما هي استبدال طرف أو عضو سليم عامل، بعضو تالف من جسده؟ وذلك كأن يؤثر الرجل صاحبه بعينه، فتؤخذ منه وتزرع في مكان العين التالفة من وجه صاحبه؟ مقتضى القواعد والأدلة التي اعتمدنا عليها في الحكم بجواز الحالة الأولى، أن تجوز هذه الحالة الثانية أيضاً، ولقد أمعنت النظر والتفكير، فلم أجد في هذه الحالة الثانية أي فارق عن الأولى يستدعي الحكم بالحظر. والله أعلم. ومها يكن، فإن جواز الإقدام على هذا الأمر منوط بالضرورة، سواء كانت ضرورة إنقاذ حياة، أو ضرورة إحياء عضو تالف. ولكي نزيد بيان هذه الضرورة ضبطاً، نذكر بالمحترزات التالية: أ - لا يجوز التنازل، إن ثبت أن عضواً اصطناعياً يمكن أن يقوم مقام العضو الطبيعي في إنقاذ حياة المريض، أو كان احتياجه إلى ذلك العضو غير ضروري، أو كانت استفادته منه شكلية. ب - لا يجوز التنازل، إن كان على وجه الإهدار والإتلاف، كأن يمكن غيره من إتلاف أحد من أعضائه أو من إلحاق أي ضرر بجسمه، دون أي ضرورة تستلزم ذلك. ج- لا يجوز التنازل، إن كان لمصلحة ذي حياة غير محترمة، كمرتد أصر على الردة واستوجب القتل، أو زان محصن قضى القاضي في حقه بالرجم. وسبب حرمة الإيثار في هذه الحالات الثلاث أن تحمل المؤثر للمضرة مخل في كل منها بالمقصود الشرعي. فلا يعد التنازل فيها إسقاطاً للحظ الشخصي في سبيل الغير، على نحو ما تم تأصيله للمعنى الفقهي في الإيثار. وبملاحظة هذه المحترزات يزول وهم التناقض الذي قد يتصوره القارئ لكلام الشاطبي، إذ عاد بعد أن أصل قاعدة الإيثار وأيدها بالأدلة المختلفة، فأوضح أن حق العبد وإن كان ثابتاً له في حياته وكمال جسمه وبقاء ماله في يده، فإنه لا يجوز له أن يسلط يد الغير عليه بالإتلاف أو الإضرار (1) . ذلك لأن عدم جواز التسليط هنا، إنما هو بسبب افتقاره إلى الشروط التي لا بد من توافرها لتحقق معنى الإيثار، فكلامه في المرة الأولى والثانية منسجم مترابط. ويلاحظ أن الشاطبي هنا ساوى في الحرمة بين تسليط الرجل يد الغير على جسمه وعلى ماله، ليعلم أن شروط الإيثار إن لم تتوافر، فالتسليط عندئذ يصبح محرماً لا على الجسم فقط، بل على المال أيضاً، وليعلم أن شروطه إن تمت كان تمكين الغير إيثاراً مبرراً مثاباً عليه بالنسبة لكل من الجسم والمال معاً.   (1) الموافقات: 2/376 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 الصنف الثاني: وهو الإنسان الذي لا يتمتع بأهلية كاملة يستقل بها بإرادة شؤون نفسه، كالطفل وكالمجنون. فمن الثابت أن هذا الصنف من الناس لا يملك أن يستقل بالتصرف في هذا الأمر، الذي هو من أخطر شؤونه الشخصية، ومن ثم فإن القيام بالإيثار الشرعي لا يتأتى منه. ولكن هل يملك أن يقوم عنه بهذا الأمر وليه كأبيه وعمه مثلا؟ والجواب أن وليه أيا كان ـ سواء كان يتمتع بالولاية الخاصة أو العامة ـ لا يملك مثل هذا التصرف بشيء من أجزاء جسد موليه، ولا حتى بماله أو أي من حقوقه الأخرى. أي أن الإيثار لا يتأتى إلا من الأصيل صاحب الحق ذاته. وبيان ذلك أن تصرف الولي إنما هو بمقتضى حكم الولاية. لا بمقتضى عقد الوكالة. إذ لا تتأتى الوكالة هنا، ذلك لأن من شروط صحة عقد الوكالة، أن يملك الأصيل التصرف الذي يطالب به الوكيل. ومن المعلوم أن الأصيل لا يملك مثل هذا التصرف بنفسه، فأحرى أن لا يملك تنفيذه بواسطة غيره. فإذا ثبت أن تسلط الأب أو من يقوم مقامه على حقوق الطفل ونحوه، إنما هو بحكم الولاية عليه لا النيابة عنه، فإن من القواعد الثابتة التي لا نعرف فيها خلافاً أن تصرف الولي منوط بما هو الخير والمصلحة لموليه. ومن ثم فلا ينفذ من تصرفاته بحقوقه، إلا ما كان على وجه الغبطة والمصلحة له. وعلى هذا، فليس لولي الطفل أو المجنون، سواء كان ذا ولاية خاصة أو عامة، أن يتبرع عنه بكلية أو أي من أجزاء جسده، لمضطر من الناس، أيا كان شأنه ومهما بلغت ضرورته. لما في ذلك من إلحاق الضرر البين بموليه، نعم إن ثبت بشهادة طبيبين عدلين أن أخذ شيء من دمه لمريض محتاج إلى الدم، ينشطه ويحقق له فائدة صحية، كأن يكون دمه أكثر من القدر الذي ينبغي، فالمسألة تختلف عندئذ، إذ تصبح خاضعة حينئذ لقاعدة: تصرف الولي منوط بالمصلحة للمولي. أما في سائر الصور الأخرى للمسألة، فلا يجوز مثل هذا التصرف قط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 ثانياً : عندما يكون المستفاد منه ميتاً ما هو الموت؟ الموت الذي نتحدث عنه في هذا الصدد، هو الموت ذاته الذي تترتب عليه جملة الأحكام الشرعية من ميراث وانفصام لعرى الزوجية وعدة وفاة وانقطاع عهد التكليف، ووجوب التجهيز والدفن، وغير ذلك. إذ ليس لدينا في الاصطلاح الشرعي أو اللغوي أو الطبي أكثر من حقيقة واحدة للموت. فما هو الموت الذي تعارف الناس جميعاً على معناه، والذي هو مناط لأحكام شرعية كثيرة؟ هو: مفارقة الروح للبدن مفارقة تامة. وإن شئت فقل: رعاية لمن لا يفهمون الروح ولا يتعاملون مع هذه الكلمة. هو انقطاع الحياة عن البدن انقطاعاً تاماً. ولا نحسب أن ثمة أي خلاف بين فئات الناس في أن هذا هو معنى الموت. غير أن خلافاً قد يقع اليوم في الدليل الذي يمكن أن يعتمد على تحققه ووقوعه. فالدليل المعتمد لذلك شرعاً هو سكون النبض ووقوف حركة القلب وقوفاً تاماً. إلا أنه يجب الاحتياط والتحري بتلمس أدلة أخرى، كلما حامت الشبه وظهرت موجبات الشك والريبة، لاسيما من جراء الأسباب التي أدت إلى الموت. قال النووي نقلاً عن الشافعي في الأم: ( ... فإن مات فجأة، لم يبادر بتجهيزه، لئلا تكون به سكتة، ولم يمت. بل يترك حتى يتحقق موته) . ثم قال: (وذكر الشافعي والأصحاب للموت علامات، وهي أن تسترخي قدماه وينفصل زنداه ويميل أنفه وتمتد جلدة وجهه) . زاد الأصحاب: (وأن ينخسف صدغاه) (1) . أقول: ولعل من الضروري في كل الأحوال الاستعانة بالطبيب للوصول إلى اليقين، لاسيما في حالات خاصة كالموت صعقاً أو غرقاً أو احتراقاً أو تردياً في جبل، أو على أثر عملية انتحار كتناول أقراص مميتة بنوعها أو كميتها.   (1) المجموع: 5/124 و 125 وانظر المغني لابن قدامه: 2/457 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 أما الأطباء، فهم يعتمدون اليوم، بالإضافة إلى الأدلة الشرعية التي هي محل اتفاق، على ما يسمونه بموت الدماغ! ... وهي حالة دماغية تبعث على اليقين عند الأطباء بانحدار حالة المريض إلى الموت. بمعنى انقطاع أمل الحياة عنه انقطاعاً تاماً في يقينهم العلمي، مع احتمال استمرار لدقات القلب وحرارة أو حركة في النبض. بيد أن موت الدماغ هذا، لا يعد، وحده، في ميزان الشريعة الإسلامية، دليلاً قاطعاً على حلول الموت فعلاً، بل هو في أكثر الأحيان نذير موت محقق حسب المقاييس الطبية المجمع عليها. إلا أنه ليس نذيراً قطعياً بالموت في حكم الشريعة، بل العقيدة الإسلامية، ذلك لأن هذه الحالة، وإن كان من شأنها أن تورث الطبيب يقيناً تاماً بأنها حالة موت، وبأن المسألة عندئذ لا تعدو أن تكون مسألة وقت يتمثل في بضع دقائق ويسكن القلب بعدها بيقين ـ إلا أن هذا اليقين بحد ذاته ليس يقيناً علمياً لدى التأمل والتحقيق، وإنما هو طمأنينة نفسية منبعثة من كثرة التجارب المتكررة التي لا لم تشذ، وهي التي يسميها كثير من العلماء، ومنهم الغزالي (اليقين التدريبي) (1) . وسبب عدم الاعتبار بهذا الدليل الطبي، من قبل الشريعة الإسلامية سببان اثنان: أولهما: أن أحكام الموت، أيا كانت، إنما تترتب على وقوعه الفعلي التام، لا على توقعاته مهما كانت يقينية جازمة. ثانيهما: أن هذه الدلالات أو التوقعات، مهما استندت إلى اليقين العلمي، فإن انتعاش المريض وتوجهه مرة أخرى إلى الحياة ليس مستحيلاً عقلياً، ومن ثم فليس مستحيلاَ شرعياً ... ذلك لأن الموت الحقيقي التام لم ينزل به بعد، ومقدمات الموت وأسبابه التي لم تشذ قط، ليست أسباباً موجبة بطبعها، وإنما بجعل الله إياها علامات على قربه. ولله أن يبطل دلالتها ويلغي سببيتها للموت عندما يشاء. ومن ثم فإن قرار الموت بناء على مجرد هذا الذي يسمونه الموت الدماغي لا يرقى إلى يقين علمي جازم بأن الروح قد فارقت أو ستفارق البدن، كما هو الشأن في الموت الحقيقي التام المصطلح عليه لغة وشرعاً، هذا بالإضافة إلى أنه مستند قاعدة (استصحاب الأصل) في الحكم باستمرار الحياة، أقوى من مستند الدلالة الطبية على الموت أو قرب حلوله، في الحكم بطروء الموت.   (1) انظر تهافت الفلاسفة: 243 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 ويتساءل كثير من الأطباء، عن قيمة دقات القلب أو قيمة الأنفاس الصاعدة، في ميزان الشريعة الإسلامية: عندما تكون هذه الأنفاس أو الدقات، منبعثة بفعل أجهزة متصلة بالمريض، بحيث لو فصلت عنه لتوقف القلب للتو، ولهمد كل شيء، وحل الموت الذي لا ريب فيه؟ وإلى متى يجب أن تكون هذه الأجهزة موصولة به تصطنع له صورة الحياة وتمتعه بكثير من دلائلها؟ والجواب: أن حركة القلب ما دامت مستمرة، فقرار الموت غيب لا يجوز الحكم به، سواء كانت هذه الحركة طبيعية أم اصطناعية، بواسطة بعض الأجهزة، وهذه الأجهزة فيما تقدمه من معونة، ليست أكثر في هذه الحال من غطاء مسدل على المريض يمنع من معرفة واقع حاله أميت هو أم حي. ومن ثم فإن فصل هذه الأجهزة عنه لا يعد قتلاً له ولا تسبباً بموته، مهما ظهر أن هذا الفصل قد ينهي حركة القلب ويعجل بالموت، ذلك لأن الحياة الحقيقة ليست تلك التي تنبعث من أجهزة، فتمد القلب بالوجيب وتجعل صاحبه وكأنه يمارس الشهيق والزفير. وإنما الحياة ذلك السر المنبعث من داخل الكيان، بل من كل أجزاء الجسد، ومن ثم فإن للطبيب أو لذوي المريض فصل هذه الأجهزة وإنهاء عملها في الوقت الذي يشاؤون. لذا، فإن السبيل الوحيد لمعرفة حال المريض وما آل إليه أمره، عندما يكون محجوباً بفعل هذه الأجهزة، أن تفصل عنه، ثم ينظر في أمره آنذاك، فإن تحققت الدلائل الشرعية للموت، حكم بموته وترتبت عليه أحكامه. وإلا فإنه لا يزال في الأحياء، وتظل أحكام الحياة هي السارية في حقه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 حكم الاستفادة من جسد الميت: بعد أن حررنا المعنى المقصود شرعاً بالموت، نعود إلى أصل المسألة، فنتساءل: هل يجوز اقتطاع جزء من الميت ليستفيد منه حي محترم معصوم الدم، في إنقاذ حياته المهددة بالموت، أو في استعاضة عضو سليم بعضو تالف منه؟ نعيد إلى الذاكرة، القاعدة الرابعة من جملة القواعد التي ألمحنا إليها في مقدمة هذا البحث، وهي: كل ما كان حقاً للعبد يورث بالموت عينياً كان أو معنوياً، ولا شك أن الكرامة، بل القداسة التي متع الله بها الإنسان حق من حقوقه، فهو مخول بالدفاع عنها والمخاصمة في سبيلها أو التنازل عنها بالتجاوز والعفو، أي ضمن حدود معنى الإيثار. فإذا مات الإنسان، آل حق كرامته الشخصية هذا إلى ورثته فهم المخولون في رعايتها والمحافظة عليها أو التنازل عنها بالإيثار ضمن حدوده الشرعية التي سبق بيانها. ولعل من أبرز الأمثلة المندرجة في هذا الحق، موت المقذوف قبل مطالبته بحقه في إقامة الحد على القاذف، فإن الحق ينتقل إلى ورثته، فإن شاؤوا أقاموا الدعوى، وطلبوا إقامة الحد على القاذف، وإن شاؤوا عفوا (1) . نعم خالف الحنفية في ذلك، فذهبوا إلى أن حق المقذوف يسقط بموته ولا يورث. غير أن مخالفتهم ليست في العمل بهذه القاعدة والأخذ بها، بل هي محل اتفاق من الجميع. وإنما سبب مخالفة الحنفية هنا للجمهور، ما يرونه من أن إقامة الحد على القاذف حق لله عز وجل. أو المتغلب فيها هو حق الله عز وجل. ولذا فهو لا يورث، تطبيقاً منهم للقاعدة ذاتها (2) . وبناء على هذا، ولما كان اقتطاع جزء من الميت مخلاً بكرامته من حيث هو إنسان مكرم، بحيث لو كان حياً لكان له حق المنع، رعاية لكرامته، وحق الإذن إيثاراً وإسقاطاً لحظه ـ فإن النظر في هذا الحق يؤول، بسبب موته، إلى ورثته، فإن شاؤوا منعوا، ولا سلطان عليهم من أحد، وإن شاؤوا تجاوزوا حقهم وسمحوا باقتطاع عضو أو جزء مورثهم لإسعاف من اقتضت الضرورة إسعافه.   (1) انظر بداية المجتهد: 2/ 433 وحاشية الدسوقي: 4/ 331 والفروق للقرافي: 1/ 141 (2) انظر بدائع الصنائع: 7/ 56 وحاشية ابن عابدين: 4/ 189 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 ولعل انطباق هذه القاعدة على موضوعنا في هذه الحال، يعد دليلاً آخر على ضعف ومرجوحية قول الفقهاء الذين أطلقوا القول بحرمة الاستفادة من جسم الميت، وهم الحنفية والشافعية، مستدلين بالكرامة الإنسانية التي ميز الله بها الإنسان (وقد مرت النصوص التي نقلناها عنهم في ذلك ص: 192. ذلك لأنه قد ثبت ثبوتاً جلياً بأن رعاية هذه الكرامة حق للإنسان فهو المدافع عنها والمتصرف بها في حياته، ومن ثم فإن له حق الإيثار بها، كما مر بيانه مدعوماً بالأدلة والنقول. وإذا تقرر أنها حق للعبد، فلا مناص من القول بأنها تورث بعد موته، وإن حق التصرف بها يؤول إلى ورثته بحكم أن هذا الحق قد آل إليهم، فلهم عندئذ أن يسمحوا أو أن لا يسمحوا بالاستفادة من جسم ميتهم لإنقاذ الغير. ويبعد أن يكون أولئك الفقهاء غافلين عن هذا المستند الجلي الذي لا نعلم خلافاً فيه، ولذا فالرجح أنهم أرادوا بما أطلقوه من المنع الاستفادة التي لا تلجئ إليها ضرورة، كأن تكون في حدود التجميل الشكلي للمستفيد، ويؤكد هذا أن الطب في عصورهم لم يكن يملك زرع عضو في جسم الإنسان لأكثر من الزينة وإزالة مظهر التشوه فيه. ونعود إلى مسألتنا فنقول: هذا إن لم يتعلق حق عام بجسد الميت خصوصاً، أو على سبيل الفرض الكفائي الشامل له ولغيره عموماً. فإن الأمر في هذه الحالة لا يتوقف على إجازة الولي وموافقته. مثال الحالة الأولى، وهي تعلق حق عام بجسد ميت بخصوصه، أن يموت الشخص في ظروف غامضة أو يرى مقتولاً، وتيقن القاضي أو غلب على ظنه أن تشريح الجثة من قبل الطبيب الشرعي من شأنه أن يكشف عن الجريمة التي ربما تكون هي التي أودت بحياته، ومن ثم فإن ظهور الجريمة سيكون موصلاً إلى معرفة القاتل: فلقد تعلق حق عام ـ هو حق العدالة ـ بجسد هذا الميت بخصوصه، وإنما تأخذ العدالة هنا مجراها وحقها بإخضاع الجثة للتشريح. ومثال الحالة الثانية توقف الدراية الصحيحة بالطب أو الطب الجراحي في البلدة، على تشريح بعض الجثث لإجراء تجارب وتطبيقات عملية عليها، ابتغاء الحصول على الخبرة الكافية التي تخول الأطباء حق إجراء العمليات الجراحية للمرضى مع افتراض أن استخدام أي من الحيوانات غير الإنسان لا يحقق الغاية المطلوبة. فالحق هنا متعلق بالقدر الكافي من الجثث لا على التعيين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 فلنوضح حكم كل من هاتين الحالتين على حدة: الحالة الأولى: مما لا ريب فيه أن مصلحة الحق العام هي الراجحة، بل لا ريب أن مصلحة رعاية كرامة الميت منطوية في مصلحة الحق العام، بمعنى أن كرامة الميت آيلة إلى التمزق والهدر، إن لم تراع مصلحة الحق العام في حفظ العدالة وتحقيق مقتضياتها. ولهذا الذي نقول مستند قوي في تراثنا الفقهي المتمثل في أحكام أخذ بها الجمهور، تدعم هذا المبدأ الذي نقرره في هذه المسألة، وهو اتفاق جمهور الفقهاء على أن الرجل إن اغتصب جوهرة ثمينة من صاحبها، فابتلعها ثم مات، وغلب على الظن إمكان الحصول عليها بشق بطنه، وجب شق بطنه لاستخراج الجوهرة منه، إن حرص صاحبها على المطالبة بحقه. ومثل ذلك اتفاقهم أيضاً على وجوب شق بطن الحامل، إن ماتت وقرر الأطباء أن جنينها حي، وأن استخراجه من رحمها حياً ممكن يقيناً أو ظناً (1) . ومن المعلوم أن الحق الذي يتعلق بجثة الميت لاستخراج الجنين أو لاستخراج الجوهرة الثمينة، إنما هو حق خاص عائد إلى شخص بعينه. فإذا كانت رعاية الحق الخاص تستدعي ـ فيما أجمع عليه جمهور الفقهاء ـ إخضاع جسم الميت للتبضيع والتمزيق، فلأن تستدعي رعاية الحق العام ذلك، من باب أولى.   (1) أما مسألة ابتلاع قدر كبير من المال أو جوهرة ثمينة اغتصاباً، فالحكم فيها محل اتفاق ولا نعلم فيها خلافاً، إلا أن يسقط المالك حقه، وأما مسألة الجنين الحي عندما تموت أمه، فقد خالف فيها ـ من حيث الظاهر ـ الحنابلة، نظراً منهم إلى أن حياة الجنين غير مؤكدة، واستنقاذه حيا غير معلوم، (انظر المغني لابن قدامة: 2/ 458) ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار تقدم الطب في هذا العصر، وإمكان الحصول على اليقين العلمي بأن الجنين حي أم لا، وبأن استخراجه حياً ممكن يقيناً، فإن العلة التي من أجلها خالفت الحنابلة الجمهور تزول، ويعود مظهر الخلاف إلى الوفاق. هذا وقد كتب العلامة الشيخ يوسف الدجوي مقالاً مفصلاً في مسألة تشريح الجثة في مجلة نور الإسلام مجلد ... عدد ... فليرجع إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 الحالة الثانية: وهي تدخل في جملة الأمثلة الكثيرة للفروض الكفائية، وبيان ذلك أن توفير القدر الضروري من الأطباء في المجتمع الإسلامي فرض على مجموع المسلمين بالاتفاق، بحيث لو أنهم أعرضوا عن النهوض بهذا الواجب أثموا جميعاً. ومن المعلوم أن كل ما يتوقف عليه تحقيق الواجب يندرج معه في حكم الوجوب، فيصبح هو الآخر واجباً، تطبيقاً لقاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وعلى هذان فإن توقف تحصيل القدر الكافي من الخبرة الطبية الواجب تحصيلها على إجراء تجارب عملية على بعض الجثث في نطاق الجراحة الطبية، كان تيسير السبيل إلى ذلك واجباً على مجموع المسلمين، شأنه كشأن سائر الفروض الكفائية المختلفة. ولكن كيف، وعلى أي أساس، يتم اختيار الجثث التي تجرى عليها هذه التجارب العلمية؟ والجواب أنه يجب قبل كل شيء التقييد في السعي إلى تحقيق هذه الاستفادة بأدنى حدود الضرورة، دون أن توسع عن هذا الحد. ذلك لأن الضرورات يجب أن تقدر بقدرها لاسيما في مثل هذه المسألة، ولعل الواقع الذي يجري اليوم في كثير من البلاد العربية لا يخضع من قريب أو بعيد لهذا الضابط. وفي نطاق الالتزام بحدود الضرورة هذه نقول: لا بد أن يتم قبل كل شيء الإعلان عن الحاجة الماسة إلى العدد المطلوب من الجثث لهذا الأمر، فإن تقدم من أولياء الموتى من يكفي لتغطية الحاجة، بالسماح للاستفادة من موتاهم، فذاك وإلا فإن السبيل ينحصر ـ والحالة هذه ـ في إحدى طريقتين: الطريقة الأولى: الاستفادة من جثث أولئك الذين يؤول أمر تجهيزهم ودفنهم إلى الولي العام مما لا يوجد لهم ورثة من الأقارب أو ذوي الأرحام. ذلك لأن حق النظر في هذه الجثث إنما يؤول بالإرث وإلى الولي العام كما قد بيناه من قبل. ومن ثم فهو يملك أن يقرر ما يشاء ضمن حدود المصلحة الضرورية التي لا تتجاوزها، ولا ترد هنا قاعدة: تصرف الولي منوط بالمصلحة لوليه، لأن المسألة هنا ليست ترديداً بين مصلحتين متساويتين للميت وللمجتمع وإنما هي ترديد بين مصلحة تحسينية للميت ومصلحة ضرورية لعموم المجتمع، فالمسألة إذن بمعزل عن هذه القاعدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 الطريقة الثانية: ويتم اللجوء إليها عند عدم إمكان اللجوء إلى الطريقة الأولى: الاعتماد على إجراء قرعة تجريها الدولة للوصول إلى تحقيق الواجب الكفائي. وتعتمد في ذلك على السبل الإجرائية التي ترى أنها الأليق والأكثر اتفاقاً مع المصلحة العامة. وثمرة القرعة في هذه الحال، سقوط حق أولياء الميت الذي خرجت عليه القرعة، في النظر في هذا الأمر، وثبوت حق الدولة في تشريح جثته للمصلحة الضرورية العامة، مع وجوب الالتزام الدقيق بما ذكرناه من ضوابط الضرورة القصوى، وعدم تجاوزها بحال من الأحوال. وبعد، فلعلنا استوفينا من خلال هذا الموجز بيان أحكام هذه المسألة بجوانبها وصورها المختلفة، ولقد حرصنا أن يكون معتمدنا أولا: الأصول والقواعد الشرعية التي هي الأساس المتبع للبحث والاجتهاد الفقهي، ثانياً الاعتماد على ما قرره أئمتنا الفقهاء الأعلام في نظائر هذه المسألة أو ما يجري مجراها، ويدخل في مناطاتها، من الأحكام الجزئية المختلفة. فإذا جاء الاجتهاد منضبطاً بهذين الأساسين، فإنا لنرجو ونسأل الله أن يكون مكللاً بالتوفيق وإصابة الحق في علم الله عز وجل وحكمه. غير أن ثمة أساساً ثالثاً لا بد للاعتماد عليه في طريق الحرص والسعي إلى موافقة اجتهاداتنا حكم الشريعة الإسلامية، إلا أنه ليس من اختصاص الباحث ولا هو في مقدوره. وإنما المعتمد في رعايته هو المجتمع الذي ينهض بدور التنفيذ والتطبيق. هذا الأساس هو مراقبة الله عز وجل في تنفيذ هذه الأحكام، والحرص على ممارستها وتطبيقها على الوجه الذي يتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية والحكمة التي يتوخاها الشارع مما شرع لعباده. فإن لم يتحقق هذا الأساس التنفيذي، فإن جهود الباحثين والمجتهدين تظل على الغالب نظرية، هذا إن لم نقل: إنها قد تصبح مطايا تحت سلطان الكثيرين لتحقيق المآرب الدنيوية والوصول إلى كثير من المبتغيات غير المشروعة. والله المستعان أن يوفقنا، باحثين ومنفذين، لرعاية هذه الأسس الثلاثة على خير وجه، إنه نعم المستعان ونعم النصير. د. محمد سعيد رمضان البوطي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً في الفقه الإسلامي إعداد فضيلة الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي أستاذ وعميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة تقوم العقيدة الإسلامية على كلمة جامعة هي (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم) . أ: تبين الكلمة الأولى منها أن المعبود بحق ـ في عقيدة الإسلام ـ واحد لا يشاركه أحد، فهو واحد في ذاته، وصفاته وأفعاله، لا يماثله أحد، ولا يستحق العبودية أحد سواه، لأنها تضمنت نفياً وإثباتاً، أو قصراً وتخصيصاً، حيث تضمنت نفي الألوهية عن غيره، وتضمنت بالاستثناء بعد النفي إثبات الألوهية له، والألوهية هي استحقاقه العبادة وحده. فعقيدة الإسلام تقوم على توحيد، أي إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته ذاتاً وصفات وأفعالاً، فلا تقبل ذاته الانقسام بوجه من الوجوه، ولا تشبه ذاته الذوات، ولا صفاته الصفات، ولا يدخل أفعاله الاشتراك، أي أن كل ما في الكون كله ـ من إنسان أو حيوان أو طير أو نبات أو جماد أو غيرها ـ من خلق الله جل شأنه، ولا فضل لغيره فيه. ب: والكلمة الثانية (وأشهد أن محمداً رسول الله) هي تعبير عن الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي بنوعيه: الوحي المتلو وهو القرآن الكريم، والوحي غير المتلو، وهو السنة النبوية المطهرة وما احتوت عليه من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته. والإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يؤدي إلى إيجاب العمل بشريعته واتباع هديه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} . (59/4) وقال جل شأنه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (80/ 4) . وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ} [الآية 21 الأحزاب] أي قدوة حسنة يتبع فيها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 وينبثق عن هذه العقيدة قواعد مسلمة، وأسس ثابتة منها على ضوء ما تقرر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أ - أنه جل شأنه الخالق لكل ما في الكون دون سواه، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الآية 59 من سورة الفرقان 25] وقال تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الآية 64 من سورة النمل 27] . ب - وأنه جل شأنه المالك لكل ما في الكون وحده دون سواه، لا شريك له فيه، وهو المتصرف فيه، بكل أنواع التصرف، إيجاداً وإعداماً، إحياء وإماتة، تغيراً وتبديلا، استقراراً وحركة، تحليلاً وتحريماً، منحا ومنعاً، تخسيراً وحجباً ... ت - يقول الله تعالى في أول سورة الملك: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} . [الآية 1، 2 من سورة الملك] . ويقول جل شأنه: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الآية 11 من سورة الإسراء] . وإذا كانت عقيدة الإسلام تقرر أن المالك لكل ما في الكون كله ـ عاقلة وغير عاقلة، متحركة وثابتة، سائلة وجامدة ـ هو الله جل شأنه، فقد اقتضت حكمته جل شأنه أن يوجد من بين الكائنات خلقاً يميزه عن غيره من كافة الخلق، ويخصه بنعم لا تحصى ويحمله الأمانة، وينيط به تعمير الكون ويجعله خليفة في الأرض ... ألا وهو الإنسان. فقد كرم الله جل شأنه الإنسان، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الآية 70 من سورة الإسراء] وصانه وحفظ له ـ بما شرعه من أحكام ـ دينه ونفسه وعقله وعرضه وماله وكل مقومات حياته. وحمله الأمانة، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الآية 72 من سورة الأحزاب] والأمانة تعم جميع وظائف الدين، وهي الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد، يقول ابن عباس رضي الله عنه: الأمانة الفرائض، عرضها الله على السماوات والأرض والجبال. إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله عز وجل ألا يقوموا به، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 وجعل الله الإنسان خليفة في الأرض، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . [الآيتان 30/ 31 من سورة البقرة] (1) . وأناط الخالق جل شأنه بالإنسان تعمير الأرض: قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} ... (الآية 61 من سورة هود) (2) . وسخر الخالق جل شأنه للإنسان ما في الكون ليعترف بفضل الله تعالى: عبادة وينعم به انتاجاً وتعميراً وأمناً وسلاماً في حدود مقننة، وفي إطار مرسوم، مؤدياً فرائض الدين وملتزماً به أمراً ونهياً وسلوكاً وإرشاداً. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} . [الآية 20 من سورة لقمان) (3) . وقد أفاضت الآيات الكريمة في بيان ما سخره الله للإنسان ومنحه إياه وخصه به ومكنه من الانتفاع به في حدود الشرع، وفي إطاره المحكم.   (1) وتراجع الآيات: 26 من سورة ص، 14 من سورة يونس، 165 من سورة الأنعام. (2) وتراجع الآيات الآية 9 من سورة الروم، والآية 74 من سورة الأعراف. (3) وتراجع الآيات: الآية 2 من سورة الرعد، 32، 33 من سورة إبراهيم، 12، 14، 79 من سورة النحل 65 من سورة الحج، 61 من سورة العنكبوت، 29 من سورة لقمان، 13 من سورة فاطر، 5 من سورة الزمر، 13 من سورة الزخرف، 12، 13 من سورة الجاثية، 36، 37 من سورة الحج، 164 من سورة البقرة، 54 من سورة الأعراف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 وهذا التسخير الذي منحه الخالق جل شأنه للإنسان لكل ما في الأرض وما في السماء هو حق انتفاع أو حق منفعه، وليس حق ملك، حق منحه الخالق جل شأنه للإنسان، لكي يتمكن من تحقيق ما أناطه به من أغراض، وما حمله إياه من أهداف، وحق الانتفاع هذا هو اكتساب للمنافع فقط، وتمكن من استيفائها دون أن يكون للإنسان حقيقة الملك لهذه الأعيان، إذ المالك الحقيقي هو الله جل شأنه، ولا مالك سواه لكل ما في الكون من إنسان أو غيره ـ كما سبق أن وضحنا. وهذا ما نطق به فقهاء المسلمين في كل موضع تحدثوا فيه عن ذلك: يقول ابن عرفة: (الملك الحقيقي إنما هو لمالك الملوك، الخالق للذوات والصفات فلا مالك حقيقة إلا الله تعالى) (1) . هذه الحقيقة انبثقت مما تقرر في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما نطقت به العقول السليمة التي تجد نفسها وهي في محيط هذا التنظيم الكوني البديع الصنع، المنظم المسيرة الدقيق، مقرة معترفة بأن خالقه ومسيره ومنظمة ومدبر شؤونه واحد، ولا شريك له في كل ذلك، له الملك وهو على كل شيء قدير ـ جل شأنه وتعالى ذكره، فحق الانتفاع يخول للإنسان أن ينال هذا الحق ويباشره ويحصله بنفسه، وليس له أن يملكه لغيره، لا بعوض ولا بغير عوض، فإذا استوفى هذا الحق نعم به، وإن لم يستوفه ضاع عليه.   (1) يقول الشاطبي: ج3 ص 110 (إن العلماء قالوا: إن الرقاب ـ وبالجملة الذوات لا يملكها إلا الله تعالى ـ وإنما المقصود في التملك شرعاً منافع الرقاب، لأن المنافع هي التي تعود على العباد بالمصالح، لا أنفس الذوات. وفي أنواء الفروق: ص 194 عند شرح الفرق 30 ج 1: ولأن القاعدة أن الأصل بقاء الأملاك على ملك أربابها، والنقل والانتقال على خلاف الأصل، فمتى شككنا في رتب الانتقال حملناه على أدنى المراتب استصحاباً للأصل في الملك السابق) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 وإذا كان للإنسان حق الانتفاع بما منحه الله إياه، فإن هذا الانتفاع الممنوح قد وضع له مانحه (جل شأنه) الإطار الذي يحقق الانتفاع به على الوجه الأكمل، في إطار أمن الجماعة ومصلحة كل فرد من أفرادها. وهذا الإطار حدده وبين معالمه رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، رسولاً بعد رسول إلى أن ختم الله هذه الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه، قال تعالى مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الآية 48 من سورة المائدة] وقد جاءت هذه الرسالة كاملة تامة، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [الآية 3 من سورة المائدة) . ففرقت شريعة الإسلامي بين الحق والباطل، وأعطت كل ذي حق حقه، ومن أجل مصالح الناس حرمت أشياء وأباحت أشياء، كما نوعت حق الانتفاع بتنوع الشيء الممنوح والمسخر، فمن المنتفع به ما يكون الانتفاع به باستهلاكه.. ومنه ما يكون باستعماله.. ومنه ... ونظمت الحقوق في كل ذلك في حال الاختيار ... وكذا في حال الضرورة ... في تنسيق تام وتنظيم محكم يحقق الخير للبشرية جمعاء، ويضمن لها السعادة في الدارين. وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد وضعت الضوابط لحدود الانتفاع بما خلق الله تعالى ومعرفة ما يحل ويحرم من التصرفات في كل ما منحنا الله جل شأنه إياه، فإن أول الأشياء الممنوحة لنا، والمسخرة لمصلحتنا، هذا الجسم الإنساني الذي يعايشنا ويصاحبنا منذ بدء وجودنا ـ لحظة لحظة ـ حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ولقد أحاط المشرع الحكيم هذا الكائن المكرم بكل ما يحفظه من كل سوء، ويدرأ عنه كل الشرور، حتى يحقق الأهداف المنوطة به، ويحقق الحكمة من إيجاده وخلقه. فشرع له ما يحفظ له دينه، ونفسه، وعقله، وعرضه، وماله، أي ما يحفظ عليه كل مقومات الحياة، وكل مقومات العطاء والتقدم، وكل مقومات المسيرة المؤمنة الآمنة المطمئنة حتى يرى نتيجة عمله {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الآية 7، 8 من سورة الزلزلة] . والذي يعنينا إبرازه في هذا المبحث هو أن نذكر بعضاً من الآيات والأحاديث التي تضبط علاقتنا بالجسم الإنساني، سواء أكان جسم الإنسان نفسه، أو جسم غيره، ثم نبين بعد ذلك ما يصلح وما يحرم من الانتفاع به، وبالله التوفيق. أستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 المبحث الأول حرمة دم الإنسان بسم الله الرحمن الرحيم قررت الشريعة الإسلامية عصمة دم الإنسان، وحرمته، ومنعت الاعتداء عليه بأي نوع من أنواع الاعتداء سواء كان هذا الإنسان مسلماً أو غير مسلم، كانت نفس الإنسان أو نفس غيره، بذلك نطق الكتاب الكريم والسنة النبوية، وآية ذلك: أولاً ـ في حرمة قتل الغير: من القرآن الكريم: قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الآية 32 من سورة الإسراء] . وقال جل شأنه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [الآية 93 من سورة النساء] وقال جل شأنه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [الآية 92 من سورة النساء] . وقال علا ذكره: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [الآية 32 من سورة المائدة] . من السنة النبوية الشريفة: - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وأن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ـ كان مسترضعاً في بني سعد فقتله هذيل)) . - جزء من حديث طويل ـ في صحيح مسلم ـ في حجة النبي صلى الله عليه وسلم. - وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قيل: يا رسول الله، وما هي؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 - وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) رواه البخاري والحاكم. - وروي عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)) رواه ابن ماجة بإسناد حسن ورواه البيهقي (1) . - كما ورد النهي عن قتل الذميين والمعاهدين: - فبجانب دلالة الآيات القرآنية التي أوردناها آنفاً على قتل النفس، مطلقاً، مؤمنة أو غير مؤمنة، فقد صرحت السنة النبوية بحرمة قتل الذميين والمعاهدين: - فقد روي عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً)) رواه البخاري وأحمد والنسائي وابن ماجة (2) . - ومن هذا يتبين لنا روعة الشريعة الإسلامية وسمو تعاليمها، ورحابة آفاقها وتقديرها لذات الإنسان الذي نزلت الرسالات لهدايته وإرشاده إلى ما يصلح حاله ويدفع الأذى عنه، وأخذها بيده إلى سفينة النجاة، مع الحفاظ عليه وعدم المساس بدمه أو ماله أو عرضه إلا بالحق، حتى تتفتح براعمه في المجتمع إلى أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. صلى الله عليه وسلم. - قصر القتل في الحروب على المحاربين ... كما أرست السنة النبوية القواعد التي يجب تطبيقها في الحروب ... سواء من حيث بيان من يجوز قتالهم ومن لا يجوز ... وحدود القتال وضوابطه، وكيفيته، وبدايته ونهايته ... ومن بين ما قررته في هذا السبيل: - النهي عن قتل النساء والصبيان والشيوخ في الحروب: فقد روي عن ابن عمر أنه قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم و ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان)) . وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة ... )) رواه أبو داود - النهي عن قتل الأجراء: كما روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عندما وجد امرأة مقتولة في غزوة: ((ما كانت هذه لتقاتل)) فقال لأحدهم: ((الحق خالداً فقل له: لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً)) رواه أحمد وأبو داود (والعسيف هو الأجير) .   (1) والأحاديث كثيرة في هذا الشأن ـ أوردتها في كتابي (الجنايات في الفقه الإسلامي) : 46 ـ 52 (2) ولقد وردت عدة أحاديث بهذا المعنى ويمكن الرجوع إليها في الترغيب والترهيب للمنذري: ج3 ص 298 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 - النهي عن قتل الرهبان: - كما روي عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: ((اخرجوا باسم الله تعالى تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع)) رواه أحمد.. والنهي عن قتل كل أولئك هو احترام للنفس الإنسانية التي لا تقدم على الإضرار بغيرها أو التي لا يتأتى منها الإضرار، النفس الإنسانية التي تمشت مع الفطرة السليمة والطبيعة المستقيمة فلم تحارب الله ورسوله، ولم تؤازر المحاربين لله ولرسوله واكتفت بمسيرة حياتها في أمن ... وهذا ما ينشده المشرع الكريم ويحرص عليه ويهيئ كل الظروف لإنمائه حتى يحس الناس بالأمن، وتزكو في عقولهم ومداركهم الرغبة في معرفة الحق جل شأنه، فيؤمنون به عن قناعة تامة ورؤية واضحة جلية ... فيعم الخير رحابهم، وتزكو وتتفتح براعمه في كل مكان. ومن الطبيعي، أن يعاقب الخارج على هذه الفطرة، والمقلق للمجتمع والمهدد للأمن والمحارب لله ولرسوله، والمعرض لمسيرة الشريعة التي أنزلها الله تعالى على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتمة للرسالات السماوية، ومصدقة لما بين يديها من الشرائع السابقة. وعقاب هذا الناد المشارك في الحرب، أو المؤازر، أو المخطط لها هو من جنس ما أقدم عليه، فقد أقدم يبغي قتلاً للمؤمنين وصد الدعوة لله فارتدت نيته إليه، وتحقق قصده في نفسه هو، سواء كان رجلاً أو امرأة أو شيخاً أو أجيراً أو كاهناً ... لأنه بخروجه محارباً أباح دمه وأهدر حرمته. وتظهر عالمية الشريعة الإسلامية، وسماحتها، وسعة أفقها في هذا المجال وفي غيره بصورة واضحة حينما تراجع نصوص ما جاء عن الحضارات الأخرى ـ كاليونانية والرومانية، بل وحتى في كتب بعض الديانات ... التي تجعل دم غير المؤمنين بها في كل الأحوال وفي كل الأزمان (1) هدراً، وتجعل أموالهم مباحة، وتجعل شريعتهم دائماً تؤول إلى ما يحقق له مصلحة ولو على حساب أرواح وأموال غير المنتمين إلى شريعتهم. فالنفس الإنسانية مكرمة، والنفس الإنسانية معصومة، ومحقونة الدم، ولا تنال إلا بحق، والنفس الإنسانية يحرم الاعتداء عليها، أو الإضرار بها، إلا إذا أخلت بما وجب عليها، وخرجت عن إطار الشرع، وعاقت مسيرة الحياة.   (1) راجع كتاب العلاقات الدولية في الإسلام للأستاذ الدكتور/ حسن الشاذلي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 ثانياً: حرمة قتل الإنسان أو الإضرار بها: - جناية الإنسان على نفسه من أدق أنواع الجنايات وأعقدها تركيباً، وأعمقها دوافع، وأكثرها تعبيراً عن الظروف الاجتماعية التي تحيط بالجاني، وتضطره إلى أن يقدم على الجناية على أعز الكائنات عليه وأحب المخلوقات إليه، وأولاها ظفراً بحرصه ورعايته، وامتداداً لآماله ... وقد كانت هذه الجناية وستظل مقياساً لما عليه المجتمع من دأب في رعاية أفراده، وحدب على حل مشكلاتهم، وتفاعل مع تطورات الأزمنة وتعاقب التطورات ... ، وتعبيراً عن الآفاق الصحيحة السليمة التي تظلل الدولة من جميع نواحي اختصاصاتها وأنشطتها، ثقافية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية ... إذ سلامة كل ذلك يعمل بدافعية وجدية على سلامة المستوى الفكري للفرد، وإذا سلم هذا المستوى وصح كان الفرد راضياً عن نفسه وعن مجتمعه ... وإذا رضي عن ذلك حرص على البقاء حرصاً لا يعادله حرص، ودأب على حماية نفسه دأباً لا يعادله دأب، وصمد للتيارات صموداً لا يعرف الشك ولا التردد ولا اليأس ... والشريعة الإسلامية جاءت بالقواعد الأساسية، والمبادئ المستقرة الثابتة التي تدعم مسيرة الحياة جميعها، وتوطد أركانها، وترسي بين جوانبها معاني المحبة والعدالة والتسامح والرضا، وتعمل على حماية الإنسان وحماية حقوقه في إطار تكافل اجتماعي سليم، وتكافل اقتصادي هادف وحماية للمقدسات والحقوق ورعاية للمصالح جميعاً، ضرورية كانت أو حاجية أو تحسينية، كانت تخص الفرد أو الأسرة أو الجماعة أو الدولة، كانت تخص العقلاء أو ما خلق الله من أجل العقلاء من كائنات حية، أو جمادات أو نباتات ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 والمتتبع للنصوص الواردة في الكتاب والسنة يتضح له منها هذه الرعاية، ويتبين له أن صلة الإنسان بجسمه ليست صلة مالك يتصرف في ملكه كيفما يشاء وبما يشاء، ولا تسلط يخضع المسلط عليه لرغباته دون حساب ودون رقيب..، ولكنها صلة كصلة المودع بالوديعة التي وضعت تحت يده، فهو أمين عليها، ومطالب بأن يحوطها بكل مقومات الحفظ والصيانة، وبكل ما يدرأ عنها الأضرار حتى ترد إلى صاحبها، وصلة كصلة المنتفع بما وهب له الانتفاع به، فيجب أن يباشر انتفاعه به على الوجه الذي رسمه له مالكه، وعلى المنهج الذي ارتضاه له، وفي الحدود التي ارتضاها وشرعها، فإذا جاوز الحد حق عليه الجزاء. وقد سبق أن بينا أن المالك لكل ما في الكون من إنسان وغيره هو الله سبحانه وتعالى. وعلى ضوء هذا حرم الله تعالى تعريض الإنسان نفسه للهلاك، وعاقب عليه أشد العقاب، وفي تقرير ذلك يقول الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) ويقول جل شأنه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} . (2) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الإنسان بنيان الله، ملعون من هدم بنيانه)) . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلدا فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)) رواه البخاري ومسلم. وروي عن جندب البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كان ممن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكيناً، فجز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة)) أخرجه البخاري ومسلم.   (1) الآية 195 من سورة البقرة (2) الآية: 29 من سورة النساء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 ولم تكتف الشريعة الإسلامية بتقرير هذا المبدأ العام مع وضوحه ودلالته بل زادت ذلك بالنص على منع كل ما يضر الإنسان، ومن ذلك: 1- النهي عن أن يرهق الإنسان نفسه بالأعمال ولو كانت عبادة. وحسبنا في تقرير هذا المبدأ ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أني أسرد الصوم، وأصلي الليل، فإما أرسل إليَّ، وإما لقيته، فقال: ((ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر، وتصلي الليل؟ فلا تفعل، فإن لعينك حظًّا، ولنفسك حظا ولأهلك حظا، فصم وأفطر، وصل ونم، وصم من كل عشرة أيام يوماً، ولك أجر تسعة)) قال: إني أجدني أقوى من ذلك يا نبي الله. فقال: ((فصم صيام داود عليه السلام)) قال: وكيف كان داود يصوم يا نبي الله؟ قال: ((كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى)) قال: من لي بهذه يا نبي الله؟ قال عطاء: فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد)) رواه مسلم (1) . وما روي عن أنس أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: لا أتزوج. وقال بعضهم: أصلي ولا أنام. وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) . متفق عليه. 2- النهي عن التقتير والبخل: وأشد أنواعه أن يقتر الإنسان على نفسه ويبخل عليها بما أنعم الله عليه … ومن يفعل ذلك يستحق أشد العقاب. يقول الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (2) ويقول جل شأنه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية (3)   (1) صحيح مسلم (2) الآيات: 8، 9، 10 الليل. (3) الآية 180 من سورة آل عمران، واقرأ الآيتين 34، 35 من سورة التوبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 وينظم الرسول صلى الله عليه وسلم أوجه إنفاق الإنسان من ماله (فيما رواه جابر بن عبد الله) فيقول: ((ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا)) . يقول: ((فبين يديك وعن يمينك وعن شمائلك)) . رواه مسلم. 3- النهي عن أن يحجب الإنسان عقله ويعطل فكره عن العمل بشرب المسكرات، فحرم عليه المسكرات، فقال صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر خمر وكل خمر حرام)) . وعاقب من يسكر اعتداء فقال عليه الصلاة والسلام: ((من شرب الخمر فاجلدوه)) فإذا كان هذا هو موقف الشريعة ممن يعطل جزءاً عن العمل، وهو تعطيل مؤقت فإن موقفها ممن يفعل مثل ذلك، أو أكثر من ذلك، يقاس عليه، في التحريك، وفي العقاب، مع شدة فيه حين يكون الجرم أكبر. (1)   (1) ورعاية الشريعة الإسلامية لجسم الإنسان ـ بجانب رعاية روحه ـ رعاية وردت تفصيلاً في الكتاب والسنة، فقد بينت الشريعة ما يحل وما يحرم من الأكل والشرب والزينة، راجع الآيتين 31، 32 من سورة الأعراف، والآيات 3، 4، 5 من سورة المائدة، وراجع في كتب الفقه باب الأطعمة والأشربة واللباس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 المبحث الثاني حكم التداوي حكم التداوي بالمحرمات حكم التداوي بالجراحات حكم التداوي في الفقه الإسلامي التداوي من الأمراض أمر مطلوب شرعاً، كما نص عليه المحققون من علماء الشريعة استنباطاً من نصوص الكتاب والسنة، ولما كان التداوي تارة يكون بتناول شيء مباح، وتارة يكون بتناول شيء قد حرم الله تناوله ... وتارة يكون بالجراحة، وتارة يكون بالكي ... فإن الفقهاء قد بينوا حكم الشرع في كل ذلك، ونعرض فيما يلي ما يكشف لنا عن هذا الحكم، متوخين عرض نصوص الكتاب فالسنة، ثم آراء العلماء ثم الترجيع في مواطن الاختلاف. أ: النصوص من الكتاب الكريم: أرست بعض الآيات الكريمة القواعد التي تحفظ على النفس البشرية حياتها، والتي تنهى عن تعريضها لأي هلاك، والتي توجب على الإنسان الأخذ بكل الأسباب التي تحقق للنفس البشرية صحتها. ومن ذلك: قال تعالى في النهي عن قتل النفس: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] وقال تعالى في النهي عن تعريضها للهلاك: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] . وفي اتخاذ الأسباب للوصول إلى حال القوة والصحة نورد قصتين: ففي قصة أيوب عليه السلام لما أصابه السقم وأعياه المرض فنادى ربه: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} فأمره الله تعالى بما كان سبباً في شفائه، وهو القادر على أن يشفيه دون سبب. قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ} (1) {وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} [الآيتان 41، 42 من سورة ص] . فقد أمره جل شأنه بالركض ـ وهو الدفع بالرجل ـ فركض فنبعت عين ماء فاغتسل به، فذهب الداء من ظاهره، ثم شرب منه فذهب الداء من باطنه، وعاد أيوب عليه السلام سليماً معافى من كل داء.   (1) النصب: الشر والبلاء، وقد قيل في معنى {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} أي ما يلحقه من وسوسته لا غير، والله أعلم، ذكره النحاس. وقيل: النصب ما أصابه في بدنه، والعذاب ما أصابه في ماله، وفيه بعد. القرطبي: 15/ 208. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 ومما ذكر في كتاب الله تعالى نأخذ أن اتخاذ الأسباب للوصول إلى النتائج المرجوة أمر قرره الشرع، ومنهج مشروع ارتضاه لنا الخالق جل شأنه ... فقد تحققت النتيجة المرجوة هنا ـ وهي شفاء أيوب عليه السلام ـ إثر أمر الله تعالى له بأن يركض برجله، فما خرج نتيجة الركض من الماء فعليه أن يغتسل منه، وعليه أن يشرب، فكان الشفاء ظاهراً وباطناً إثر ذلك، تلك إشارة كريمة من المشرع الكريم لربط الأسباب بالمسببات، وترتب المسببات على أسبابها بإذنه تعالى، وهو القادر جل شأنه أن يقول: (كن فيكون) دون ركض أو شرب، ولكنها حكمة عالية، وإشارة حكيمة من قادر حكيم لخلقه، كي يبحثوا ويتخذوا من الأسباب ما يوصل إلى النتائج بإذنه تعالى وتوفيقه. وفي قصة يونس عليه السلام: فقد قال تعالى في شأن يونس عليه السلام حينما التقمه الحوت، وهو مليم، ثم نبذه بالعراء وهو سقيم: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الآيتان 145، 146 من سورة الصافات] . وورد فيما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه (1) قال: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} قال: كهيئة الفرخ الممعوط ليس عليه ريش، قال: وأنبت عليه شجرة من يقطين، فنبتت، فكان يستظل بها ويصيب منها .... وقد روي عن أبي هريرة أن اليقطينة هي (شجرة الدباء) وقيل: هي (شجرة التين) وقيل: شجرة الموز تغطى بأوراقها، واستظل بأغصانها، وأفطر على ثمارها، والأكثر على أنها شجرة اليقطين، واليقطين ما لا ساق له كشجر القرع والبطيخ والحنظل والدباء .... وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب القرع ويقول: ((إنها شجرة أخي يونس)) (2) .   (1) القرطبي: 15/ 130 (2) القرطبي: 15/ 130 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 ومن هذه أيضاً نأخذ أن الله سبحانه وتعالى أراد أن ينقل يونس عليه السلام من حالة الضعف إلى حالة القوة بأسباب عقلية طبيعية، ولم يشأ جل شأنه أن يقول له: (كن قوياً فيكون) إشارة لنا وبياناً لما يجب علينا من اتخاذ الأسباب وانتظار النتائج من الخالق جل شأنه. ب: النصوص من السنة النبوية المطهرة: في إباحة التداوي. روي عن أسامة بن شريك أنه قال: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله، أنتداوى؟ قال: ((نعم، فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله)) رواه أحمد. وفي لفظ آخر: قالت الأعراب: يا رسول الله، ألا نتداوى؟ قال: ((نعم، عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء، إلا داء واحداً)) قالوا: يا رسول الله، وما هو؟ قال: ((الهرم.)) رواه ابن ماجة وأبو داود والترمذي وصححه ـ وفي لفظ: ((إلا السام وهو الموت)) . وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله تعالى)) رواه أحمد ومسلم. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من عمله، وجهله من جهله)) رواه أحمد. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)) رواه أحمد والبخاري وابن ماجة. وعن أبي خزامة قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: ((هي من قدر الله)) رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن ولا يعرف لأبي خزامة غير هذا الحديث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 ويعلق الشوكاني في نيل الأوطار على هذه الأحاديث بقوله: (وفي أحاديث الباب كلها إثبات الأسباب، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله لمن اعتقد أنها بإذن الله، وبتقديره، وأنها لا تنجح بذواتها، بل بما قدره الله فيها، وأن الدواء قد ينقلب داء إذا قدر الله ذلك، وإليه الإشارة في حديث جابر، حيث قال: ((بإذن الله تعالى)) فمدار ذلك كله على تقدير الله وإرادته، والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بالعافية ودفع المضار وغير ذلك. وفي قوله: ((جهله من جهله)) ـ في حديث أسامة المتقدم ـ فيه دليل على أنه لا بأس بالتداوي لمن كان به داء قد اعترف الأطباء بأنه لا دواء له، وأقروا بالعجز عنه (1) . وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((هي من قدر الله)) ـ في حديث أبي خزامة المتقدم ـ أي لا مخالفة بينهما، لأن الله هو الذي خلق تلك الأسباب وجعل لها خاصية في الشفاء) . ويقول الشوكاني في الرد على من قال بالتوكل على الله في دفع الداء وعدم التداوي، قال بعد أن أورد آراء العلماء في فهم الحديث الذي روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون)) .. قال: (والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعاً لسنته، وسنة رسوله، فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم بين درعين، وليس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوته، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك، وقال للذي سأله: أيعقل ناقته أو يتوكل: ((اعقلها وتوكل)) . فأشار إلى أن الاحتراز لا يمنع التوكل) .   (1) نيل الأوطار: 8/ 201 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 حكم التداوي بالمحرمات ولما كانت دماء الناس وأموالهم وأعراضهم حراماً عليهم بنص الحديث الشريف ((:إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)) . وقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)) . فإن التداوي بنقل عضو من إنسان حي أو ميت إلى آخر هو تداو بمحرم ... لذلك نورد فيما يلي ما جاء من الأحاديث في حكم التداوي بالمحرمات. فقد روي عن وائل بن حجر الحضرمي أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء، قال: ((إنه ليس بدواء، ولكنه داء)) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه. وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام)) رواه أبو داود (1) . وقال ابن مسعود في المسكر: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيها حرام عليكم) ذكره البخاري. وعن أبي هريرة قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث ـ يعني السم)) رواه أحمد ومسلم وابن ماجة والترمذي. وقال الزهري في أبوال الإبل: (قد كان المسلمون يتداوون بها فلا يرون بها بأساً) رواه البخاري.   (1) حديث أبي الدرداء في إسناده إسماعيل بن عياش، قال المنذري: وفيه مقال، ومن المعلوم أنه إذا حدث عن الشاميين فهو ثقة، وهو هنا يحدث عن ثعلبة بن مسلم الخثعمي وهو شامي ـ ذكره ابن حبان في الثقات عن أبي عمران الأنصاري مولى أبي الدرداء وقائدها وهو أيضاً شامي (نيل الأوطار: 8/ 204) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 ثم أورد الشوكاني آراء العلماء في جواز التداوي بالمحرمات فقال: قوله صلى الله عليه وسلم عن الخمر: ((إنه ليس بدواء، ولكنه داء)) فيه التصريح بأن الخمر ليست بدواء، فيحرم التداوي بها كما يحرم شربها، وكذلك سائر الأمور النجسة أو المحرمة، وإليه ذهب الجمهور (جمهور الفقهاء) . وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تتداووا بحرام)) أي: لا يجوز التداوي بما حرمه الله من النجاسات وغيرها مما حرمه الله، ولو لم يكن نجساً. قال ابن رسلان في شرح السنن: والصحيح من مذهبنا ـ يعني الشافعية ـ جواز التداوي بجميع النجاسات، سوى المسكر، لحديث العرنيين في الصحيحين، حيث ((أمرهم صلى الله عليه وسلم بالشرب من أبوال الإبل للتداوي)) . ثم قال: وحديث الباب محمول على عدم الحاجة بأن يكون هناك دواء غيره يغني عنه، ويقوم مقامه من الطاهرات. قال البيهقي: هذان الحديثان (حديث وائل، وحديث أبي الدرداء) إن صحا محمولان على النهي عن التداوي بالمسكر والتداوي بالحرام من غير ضرورة ليجمع بينهما وبين حديث العرنيين) . انتهى. ثم يقول الشوكاني معلقاً: (ولا يخفى ما في هذا الجمع من التعسف، فإن أبوال الإبل الخصم يمنع اتصافها بكونها حراماً أو نجساً، وعلى فرض التسليم فالواجب الجمع بين العام، وهو تحريم التداوي بالحرام، وبين الخاص، وهو الإذن بالتداوي بأبوال الإبل: بأن يقال: يحرم التداوي بكل حرام إلا الإبل، هذا هو القانون الأصولي) الترجيح ولكننا يمكن أن نرد على الشوكاني قائلين: إما أن يقاس على الخمر ـ الوارد بشأنها التحريم ـ كل المحرمات والنجاسات فيكون بالتداوي بها حراماً أو أن تخص الخمر بالحرمة ـ لمخاطرها، وأولها الخطر من إدمانها بعكس غيرها من المحرمات ـ ويبقى التداوي بغيرها حلالا. وأيضاً حديث أبوال الإبل: إما أن يقاس على أبوال الإبل كل المحرمات، فيكون التداوي بها حلالا، أو أن تخص أبوال الإبل بهذا الحكم ويبقى التداوي بغيرها حراماً بناء على الحديثين الواردين بشأن الخمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 وإزاء ذلك وإعمالاً للأحاديث جميعاً، وعلى ضوء سبر علة التحريم في كل هذه المحرمات، وانطلاقاً من مبدأ انفراد الخمر بخواص تخالف غيرها من المحرمات أرى أن رأي الشافعية هو الرأي الراجح، وهو جواز التداوي بجمع النجاسات ـ سوى المسكر ـ وذلك عند عدم وجود دواء غيره يغني عنه، ويقوم مقامه من الطاهرات، فإذا لم يوجد غير المسكر دواء جاز التداوي به للضرورة، إنقاذاً للنفس البشرية من الهلاك ... (1) {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [الآية 173 من البقرة] . وتطبيقاً لذلك يجوز تداوي النفس البشرية بما أحل الله تناوله والتداوي به، وكما يجوز تداويها بالمحرم إذا تعين علاجاً لها على يد طبيب مسلم حاذق. جاء في العناية للبابرتي هامش تكملة فتح القدير ج8 ص 134 قوله: (ولا بأس بالحقنة يريد به التداوي إلا أنه لا ينبغي أن يستعمل المحرم كالخمر ونحوها؛ لأن الاستشفاء بالمحرم حرام، قيل: إذا لم يعلم أن فيه شفاء، فإن علم أن فيه شفاء وليس له دواء آخر غيره يجوز له الاستشفاء به، ومعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم) يحتمل أن عبد الله قال ذلك في داء عرف له دواء غير محرم؛ لأنه يستغنى بالحلال عن الحرام، ويجوز أن يقال: تنكشف الحرمة عند الحاجة، فلا يكون الشفاء بالحرام، وإنما يكون بالحلال) . ومثله في (رد المحتار لابن عابدين ج4 ص224 في مطلب في التداوي بالمحرم فقال: (إن صاحب الخانبة والنهابة اختارا جواز بيع الحيات إن انتفع بها في الأدوية، إن علم أن فيه شفاء ولم يجد دواء غيره. قال في النهاية وفي التهذيب يجوز للعليل شرب البول والدم والميتة للتداوي إذا أخبره طبيب مسلم أن فيه شفاء ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه، وإن قال الطبيب: يتعجل شفاؤك به فيه وجهان، كذا ذكره الإمام التمرتاشي، وكذا في الذخيرة، وما قيل: إن الاستشفاء بالحرام حرام غير مجرى على إطلاقه، وأن الاستشفاء بالحرام إنما لا يجوز إذا لم يعلم أن فيه شفاء، أما إذا علم وليس له دواء غيره يجوز. ومعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه: لم يجعل شفاءكم فيما حرام عليكم (يحتمل أن يكون قال ذلك في داء عرف له دواء غير محرم، لأنه حينئذ يستغنى بالحلال عن الحرام، ويجوز أن يقال: تنكشف الحرمة عند الحاجة فلا يكون الشفاء بالحرام وإنما يكون بالحلال) (2)   (1) ويراجع سبل السالم: 4/ 52 في تحريم التداوي بالخمر لما يتولد عن شربها من أدواء كثيرة (2) ويراجع رد المحتار: 5/ 283 في (فصل في البيع) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 ويؤكد دور الطبيب المسلم في وصف الشيء المحرم دواء ما جاء في رد المحتار جـ 5 ص 383 (وفي التهذيب يجوز للعليل شرب البول والدم والميتة للتداوي إذا أخبره طبيب مسلم أن شفاءه فيه، ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه، وإن قال الطبيب: يتعجل شفاؤك به، فيه وجهان، وهل يجوز شرب القليل من الخمر للتداوي فيه وجهان، كذا ذكره التمرتاشي. قال في الدر المنتقى بعد نقله ما في النهاية (من أنه لا يجوز التداوي إلا بطاهر) وأقره في المنح وغيرها، وقدمنا في الطهارة والرضاع أن المذهب خلافه. أي أنه يجوز للعليل (عند الحنفية) التداوي بالطاهر، وكذا بالنجس إذا أخبره طبيب مسلم أن شفاءه فيه، ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه كما ذكرنا آنفاً. حكم التداوي بالجرح أو الكي ولما كان نقل الأعضاء يحتاج إلى جراحة فمن المناسب أن نعرض لبيان حكم الشرع فيما كان التداوي فيه بطريق الجراحة. فقد وردت في ذلك عدة أحاديث منها: ما روي عن جابر قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بن كعب طبيباً، فقطع منه عرقاً، ثم كواه)) رواه أحمد ومسلم. وعن جابر أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ((كوى سعد بن معاذ في أكحله (1) مرتين)) رواه ابن ماجه ومسلم بمعناه. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ((كوى سعد بن زرارة من الشوكة)) (2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي)) رواه أحمد والبخاري وابن ماجه (3) .   (1) الأكحل عرق في اليد، يفصد. مختار الصحاح (2) الشوكة: مرض معروف قال في النهاية: هي حمرة تعلو الوجه والجسد (3) وفي نيل الأوطار أحاديث أخرى 8/ 205 في هذا المعنى. وعن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه. وعن عمران بن حصين أن رسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الكي فاكتوينا فما أفلحنا، ولا نجحنا رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي وقال: فما أفلحنا ولا أنجحنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 أما التداوي بالجراحة. فقد أورد الشوكاني آراء العلماء في هذا الموضوع عند شرحه للحديث الأول فقال: (استدل بذلك الحديث) (فقطع منه عرقاً) على أن الطبيب يداوي بما ترجح عنده، قال ابن رسلان: وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالأخف لا ينتقل إلى ما فوقه فمتى أمكن التداوي بالغذاء لا ينتقل إلى الدواء، ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل إلى المركب، ومتى أمكن بالدواء لا يعدل إلى الحجامة، ومتى أمكن بالحجامة لا يعدل إلى قطع العرق. وقد روى ابن عدي في الكامل من حديث عبد الله بن جواد ((قطع العروق مسقمة)) كما في الترمذي وابن ماجة ((ترك العشاء مهرمة)) . وإنما كواه بعد القطع لينقطع الدم الخارج من العرق المقطوع (1) ومن ذلك يتبين لنا أن العلاج بالجراحة هو آخر أنواع العلاج، وهو جائز شرعاً أخذاً من هذه الأحاديث.   (1) نيل الأوطار: 8/ 205 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 وأما التداوي بالكي (1) . فقد ((ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ)) ، وورد النهي عن الكي ـ كما ورد في الأحاديث المتقدمة، ولذلك قال العلماء: إنه قد جاء النهي عن الكي ـ فحرم الكي ـ وجاء الرخصة فيه بحديث سعد بن معاذ ـ فحرمته عزيمة، وجوازه رخصة، وذلك حيث لا يقدر الإنسان أن يداوي العلة بدواء آخر. يقول الشوكاني: (وقد جاء النهي عن الكي، وجاءت الرخصة فيه، والرخصة لسعد لبيان جوازه حيث لا يقدر الرجل أن يداوي العلة بدواء آخر، وإنما ورد النهي حيث يقدر الرجل على أن يداوي العلة بدواء آخر، لأن الكي فيه تعذيب بالنار، ولا يجوز أن يعذب بالنار إلا رب النار، وهو الله تعالى، ولأن الكي يبقى منه أثر فاحش.. (2) وهذا ما نرجحه. إلا أن هذا النوع من العلاج لا يتصل بموضوعنا، ولذلك نؤثر أن ننتقل إلى ما يتصل بموضوع نقل الأعضاء من إنسان لآخر، بعد أن انتهينا إلى قاعدة شرعية. (وهو جواز التداوي عن طريق الجراحة إذا دعت الضرورة أو الحاجة إلى ذلك) .   (1) وهو أن يحمى حديد ويوضع على عضو معلوم ليحرق ويحبس دمه ولا يخرج أو لينقطع العرق الذي خرج منه الدم. (2) نيل الأوطار: 8/ 204 وما بعدها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 • المبحث الثالث • الضرورات تبيح المحظورات • حقيقة الضرورة وآثارها • أنواع المحرمات • حكم الانتفاع بمال الغير بغير إذنه. • حكم الانتفاع بالميتة. الضرورات تبيح المحظورات هذه قاعدة شرعية أخذت من قوله تعالى عقب ذكر المحرمات في سورة المائدة الآية 3: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ومن قوله تعالى أيضاً من سورة البقرة الآية 193: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . ومن قوله تعالى جل شأنه أيضا في سورة الأنعام الآية 145: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . ومن قوله أيضاً جل شأنه في النحل: 115 {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . فالمضطر أبيح له في حال الضرورات أن ينال من المحرم بقدر ما يدفع عنه الضرورة غير باغ في أكله (أو استعماله) فوق حاجته، ولا عاد بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها (أو يستعملها) قاله قتادة والحسن والربيع وابن زيد وعكرمة. وقال السدي: غير باغ في أكلها شهوة وتلذذاً، ولا عاد باستيفاء الأكل إلى حد الشبع. (ويرى الجمهور من الفقهاء والعلماء أن معنى قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} هو من صيره الدم والغرث ـ وهو الجوع ـ إلى ذلك (1) أي إلى النيل من هذه المحرمات ... (وقيل: معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات) قال مجاهد: يعني أكره عليه كالرجل يأخذه العدو فيكرهونه على لحم الخنزير وغيره من معصية الله تعالى. وعقب القرطبي على هذا الرأي بقوله: (إلا أن الإكراه يبيح ذلك له إلى آخر (حالة) الإكراه. أي أنه يريد أن يقول: إن الاضطرار غير الإكراه، فالإكراه له حكم، والاضطرار له حكم، فلا يفسر أحدهما بالآخر. فالمكره يباح له الأكل من المحرم الذي أكره عليه إلى أن تزول حالة الإكراه، أما المضطر فإنه يجب عليه أن يأكل من هذه المحرمات لدفع الهلاك عن نفسه، ولكن غير باغ ولا عاد، غير متجاوز حد الضرورة.   (1) القرطبي ج2 ص 225 ـ في مختار الصحاح: (الغرثان) بوزن العطشان، الجائع، والمرأة غرثى، وبابه طرب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 تعريف الضرورة: عرف بعض العلماء الضرورة (بأن يبلغ الإنسان حداً إن لم يتناول الممنوع هلك، أو قارب الهلاك (1)) وعرفها الحنفية بأنها: (خوف الضرر أو الهلاك على النفس أو بعض الأعضاء بترك الأكل) (2) . وعرفها المالكية بأنها: (الخوف على النفس من الهلاك علماً أو ظناً) (3) . وعرفها الحنابلة بأنها (خوف الإنسان التلف إن لم يأكل المحرم غير السم) (4) . فالضرورة أن يتعرض الإنسان لظروف تصيره إلى حد يعلم ـ أو يظن ـ أو يخاف أنه إن لم يتناول المحرم ـ غير السم ـ هلك، أو قارب الهلاك ـ هلك جميعه، أو هلك بعضه ... أو قارب الهلاك أي منهما. والمعيار في تقدير الوقوع في الضرورة هو معيار شخصي، كما هو واضح من تعبير الفقهاء بـ (العلم) أو (الظن) وكذا تعبيرهم (بالخوف) إذ خوفه على نفسه في هذه الحالة إنما يكون إثر علمه بأنه إن لم يتناول هذا المحرم هلك كلا أو بعضاً أو إثر ظنه هذه النتيجة، بأن كان احتمال الهلاك راجحاً عن احتمال النجاة عنده. فمن بدأ التعريف بالخوف.. بدأه بأثر العلم أو الظن بوقوع الهلاك، والخوف حالة نفسية تعتري الإنسان إثر علمه بذلك فتحدث له آثاراً عضوية من اصفرار وجه وارتعاش أعضاء، وأرق وما إلى ذلك وهي تختلف من شخص إلى شخص طبقاً لما يحيط به من ظروف، وما يدركه من أبعاد للآثار الناجمة عن ابتعاده عن تناول المحرم وما يتميز به من معارف لآثار هذا الابتعاد وهذا الامتناع ... وإذا توافر ذلك للإنسان كان الإنسان في هذه الحالة مضطراً، وآثار وقوعه في هذه الحالة نبينها فيما يلي: أثر الضرورة: لا خلاف بين أهل العلم في أن الضرورة ... تبيح تناول المحرم لأن ذلك ثابت بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين. قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [الآية 173 من سورة البقرة وتقدمت] إلا أن المحرمات معدودة ومتنوعة، ومنها ما هو مال، ومنها ما ليس بمال.. ولذلك يحسن أن نبين موقف المضطر من هذه الأنواع.   (1) الأشباه للسيوطي ص 85 والحاجة: كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكله لم يهلك، غير أنه يكون في جهد ومشقة، وهذا لا يبيح الحرام ويبيح الفطر في الصوم، والمنشور من القواعد للزركشي الشافعي ج2 ص 219 (2) أحكام القرآن للجصاص: ج1 ص 159 (3) الشرح الكبير: ج2 ص 103 (4) الروض المربع: ج2 ص 356 ـ 357 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 أنواع المحرمات: والمحرمات أنواع: النوع الأول: تناول مال الغير دون إذنه، فمال الغير محرم إلا بإذنه. قال صلى الله عليه وسلم: ((كل مسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه)) رواه مسلم في صحيحه (1776 مختصر) وقد قسم الفقهاء هذا المال إلى نوعين: - (نوع لا يجب في أخذه حد السرقة وهو القطع) . - ونوع يجب فيه. فأما الأول: فكالتمر المعلق على الشجر، وحريسة الجبل (1) (وهي الشاة التي ليست في حرز، وإنما يحرسها الجبل) ونحو ذلك مما لا قطع فيه، فإن المضطر يلزمه أن يتناول من هذه الأموال أولاً إذا وجدت ووجد معها النوع الثاني (وهو ما فيه قطع) وهذا مما لا اختلاف فيه بين العلماء لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ رأينا إبلا مصرورة (2) بعضاة الشجر فثبنا إليها، فنادانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعنا إليه، فقال: ((إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم ويمنهم (3) بعد الله، أيسركم لو رجعتم إلى مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب به، أترون ذلك عدلاً؟)) قالوا: لا، فقال: ((إن هذه كذلك)) قلنا: أفرأيت إن احتجنا إلى الطعام والشراب؟ فقال: ((كل ولا تحمل، واشرب ولا تحمل)) أخرجه ابن ماجة رحمه الله، وقال: هذا الأصل عندي. وذكره ابن المنذر قال: قلنا: يا رسول الله، ما يحل لأحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه؟ قال: ((يأكل ولا يحمل، ويشرب ولا يحمل)) . قال ابن المنذر: وكل مختلف فيه بعد ذلك فمردود إلى تحريم الله الأموال.   (1) الحريسة: الشاة تسرق ليلاً، وفي الحديث: لا قطع في حريسة الجبل أي ليس فيما يحرس بالجبل قطع؛ لأنه ليس بحرز (2) مصرورة: مربوطة الضروع (3) ويمنهم ـ كذا في سنن ابن ماجة ـ أي بركتهم وخيرهم، وفي الأصول: (قيمهم) القرطبي ج2 ص 225. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 وأما الثاني: وهو المال الذي يجب في أخذه عقوبة القطع فقد نقل القرطبي عن أبي عمر بأنه يجب أن يرد رمقه، وتنقذ حياته (أي المضطر) فقال: قال أبو عمر: (وجملة القول في ذلك أن المسلم إذا تعين عليه رد رمق مهجة المسلم وتوجه الفرض في ذلك، بأن لا يكون هناك غيره قضى عليه بترميق تلك المهجة الآدمية، وكان للممنوع منه ماله من ذلك محاربة من منعه ومقاتلته، وإن أتى ذلك على نفسه، وذلك عند أهل العلم إذا لم يكن هناك إلا واحد لا غير، فحينئذ يتعين عليه الفرض. فإن كانوا كثيراً أو جماعة وعدداً كان ذلك عليهم فرضاً على الكفاية، والماء في ذلك وغيره مما يرد نفس المسلم ويمسكها سواء إلا أنهم اختلفوا في وجوب رد قيمة ذلك الشيء على الذي ردت به مهجته، ورمق به نفسه، فأوجبها موجبون، وأباها آخرون، وفي مذهبنا (المالكية) القولان جميعاً. (ولا خلاف بين أهل العلم متأخريهم ومتقدميهم في وجوب رد مهجة المسلم عند خوف الذهاب والتلف بالشيء اليسير الذي لا مضرة فيه على صاحبه، وفي البلغة) (1) . ومن هذا النص يتبين لنا أن المضطر إلى الأكل من مال الغير عليه أن يرد رمقه، وينفذ نفسه بالأكل من مال الغير، وعلى الغير أن يقدم ذلك له. وأن المضطر يجوز له أن يقاتل من لديه مال زائد عن حاجته يمتنع عن تقديمه له حتى ينقذ نفسه، إلا أنه لا يقاتله بسلاح لمكان حق الملكية الثابتة له على ماله. - كما يقول الحنفية ... وإن حق صاحب المال ينتقل بعد ذلك إلى قيمة ما أكله المضطر من ماله فيلزمه فيمته عند جمهور الفقهاء احتراماً لحق الملكية ...   (1) القرطبي ج2 ص 225 - 226 والبلغة ـ بضم وسكون اللام ـ ما يتبلغ به من العيش، وتبلغ بكذا أي اكتفى به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 وجاء في رد المحتار ج5 ص 331 (الأكل) للغذاء، والشرب للعطش ولو من حرام أو ميتة أو مال غيره، وإن ضمنه (فرض) يثاب عليه بحكم الحديث (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليؤجر في كل شيء حتى اللقمة يرفعها العبد إلى فيه)) ولكن مقدار ما يدفع الإنسان الهلاك عن نفسه، فإن ترك الأكل والشرب حتى هلك فقد عصى، لأن فيه إلقاء النفس إلى التهلكة وأنه منهي عنه في محكم التنزيل بخلاف من امتنع عن التداوي حتى مات إذ لا يتيقن بأنه يشفيه كما في الملتقى وشرحه) وجاء في الاختيار ج3 ص 129: (ومن اشتد جوعه حتى عجز عن طلب القوت ففرض على كل من علم به أن يطعمه أو يدل عليه من يطعمه؛ صوناً له عن الهلاك، فإن امتنعوا من ذلك حتى مات اشتركوا في الإثم، قال عليه الصلاة والسلام: (ما آمن بالله من بات شبعان، وجاره إلى جنبه طاو) . وقال عليه الصلاة والسلام: ((أيما رجل مات ضياعاً بين أقوام أغنياء فقد برئت منهم ذمة الله، وذمة رسوله)) . وإن أطعمه واحد سقط عن الباقين. وكذا إذا رأى لقيطاً أشرف على الهلاك، أو أعمى كاد أن يتردى في البئر، وصار هذا كإنجاء الغريق) . النوع الثاني: تناول الميتة والانتفاع بها: لقد نص القرآن الكريم على إباحة تناول الميتة وغيرها من المحرمات عند الضرورة، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . [الآية 3 من سورة المائدة] (1) .   (1) وتراجع الآية 173 من سورة البقرة، والآية 145 من سورة الأنعام، والآية 115 من سورة النحل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 حكم أكلة الميتة للمضطر - وقد اتفق الفقهاء على أن المضطر إلى أكل الميتة يحل له الأكل منها، ولكن لا يأكل منها إلا مقدار ما يسد الرمق (1) ـ كما هو رأي الحنفية ورواية عن مالك، والشافعية، والهادوية ـ أو يتناول منها إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت ـ وهو رواية عن مالك، وقول للشافعي ثان (2) . - وقيل: يجوز أكل المعتاد للمضطر في أيام عدم الاضطرار ـ قال الحافظ: وهو الراجح عندي (3) .وقد نقل ابن رشد عن مالك أنه قال: (حد ذلك الشبع والتزود منها حتى يجد غيرها) (4) . - وفي ترجيح الرأي الأول يقول الشوكاني: (والآية الكريمة قد دلت على تحريم الميتة، واستثني ما وقع الاضطرار إليه، فإذا اندفعت الضرورة لم يحل الأكل كحالة الابتداء، ولا شك أن سد الرمق يدفع الضرورة) ومن ثم أخذت القاعدة الشرعية (الضرورة تقدر بقدرها) . وإذا كان هذا هو حكم الأكل من الميتة في حالة الاضطرار، فإننا نتساءل عن حكم التداوي بالميتة، ومن المعلوم أن التداوي لإزالة علة أو مرض أمر مطلوب شرعاً كما سبق أن بيناه، ونوضح حكم التداوي بالميتة في الفقه الإسلامي فيما يلي:   (1) القرطبي ج2 ص 229، والأشباه للسيوطي 3ص 84، ولابن نجيم ص 85، 86 والروض المربع ج2 ص 357 (2) نيل الأوطار: ج8 ص 151، ويراجع الأحاديث الواردة في هذا الشأن. (3) بداية المجتهد ج1 ص 461 (4) بداية المجتهد ج1 ص 461 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 - المبحث الرابع - التداوي بالميتة - حكم التداوي بها قبل تغيرها - حكم التداوي بها بعد تغيرها - حكم الانتفاع بميتة الإنسان حكم التداوي بالميتة التداوي بالميتة: يحتاج إلى تفصيل: وذلك أن التداوي بها إما أن يكون باستعمالها قائمة العين لم تمسها يد التغيير والتحويل، أو أن تمسها يد التغيير والتحويل. فأما الحالة الأولى: وهي ما إذا كانت الميتة قائمة بعينها فقد اختلف في حكمها، فيرى البعض جواز التداوي بها، وقد احتجوا بإباحة النبي صلى الله عليه وسلم الحرير لعبد الرحمن بن عوف لمكان حكة به، فقد روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف، والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما، رواه الجماعة (1) . فإذا أبيح لبس الحرير لعبد الرحمن بن عوف من أجل ما ألم به من مرض ـ والحرير حرام على الرجال لبسه ـ فإنه يقاس عليه التداوي بالميتة طلباً للبرء والشفاء مما ألم بالإنسان من أمراض. - ويرى البعض الآخر منع التداوي بالميتة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها)) والميتة محرمة بكتاب الله تعالى. فلا يجوز التداوي بها. - الترجيح: قد سبق أن بينا آراء العلماء في حكم التداوي بالمحرمات تفصيلاً ورجحنا رأي الشافعية في أنه يجوز التداوي بها إلا التداوي بالخمر فإنه لا يجوز إلا عند الضرورة. ومن بين المحرمات (الميتة) ورجحنا رأي الحنفية أنه يجوز التداوي بالمحرم إذا تعين علاجاً لها على يد طبيب مسلم حاذق.   (1) إلا أن لفظ التمرمذي (أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم القمل، فرخص لهما في قمص الحرير في غزاة لهما) نيل الأوطار: ج2 ص 88 ـ 89 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 وأما الحالة الثانية: وهي استعمال الميتة بعد تغييرها وتحويلها إلى مادة أخرى، هذه الحالة قد أشار إليها القرطبي فقال: (فإن تغيرت (الميتة) بالإحراق فقال ابن حبيب يجوز التداوي بها والصلاة، وخففه الماجشون بناء على أن الحرق تطهير لتغير الصفات، وفي العتبية من رواية مالك في المرتك (ضرب من الأدوية) يصنع من عظام الميتة إذا وضعه في جرحه لا يصلي به حتى يغسله. الترجيح: والظاهر أن الرأي الأول هو الراجح، لأنها تحولت إلى مواد آخرى، ولم تبق فيها خواصها، بل أصبحت رماداً، أو مواد أخرى لها خواصها، ومن ثم لا يظهر تعلق الحرمة بها، فيجوز التداوي بها. الخلاصة: ومن هذا المبحث نأخذ أنه يجوز التداوي بالميتة سواء كانت قائمة العين ولم تمسها يد التغيير والتبديل، أو غير قائمة العين بأن مستها يد التغيير والتبديل فحولتها من حالة إلى حالة أخرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 حكم الانتفاع بميتة الإنسان لما كانت الميتة تارة تكون ميتة حيوان يحل أكله أو لا يحل أكله، وتارة تكون ميتة إنسان، فإنه من المتفق عليه أنه إذا توافرت هذه الأنواع من الميتة جميعها فإنه يبدأ بالانتفاع بميتة الحيوان الذي يحل أكله، ويأتي بعد الحيوان الذي لا يحل أكله وأخيراً ميتة الإنسان. ونبسط الحديث عن النوع الأخير مبينين آراء الفقهاء في الانتفاع بميتة الإنسان في حالة الاضطرار. ثم نتبع بما نرى ترجيح الأخذ به: 1- آراء الفقهاء في الانتفاع بميتة الإنسان عند الاضطرار. الحنفية: جاء في الأشباه لابن نجيم ص 87: (ولا يأكل المضطر طعام مضطر آخر ولا شيئاً من بدنه) (وجاء في رد المحتار على الدر المختار ج5 ص (331) : (الأكل للغذاء والشرب للعطس ولو من حرام أو ميتة أو مال غيره وإن ضمنه فرض يثاب عليه بحكم الحديث (1) . ولكن مقدار ما يدفع الهلاك عن نفسه، ومأجور عليه، وهو مقدار ما يتمكن به من الصلاة قائماً، ومن صومه .... ثم علق عليه ابن عابدين على قوله: (ولو من حرام) بقوله: (ولو خاف الهلاك عطشاً وعنده خمر له شربه قدر ما يدفع العطش إن علم أنه يدفعه (بزازية) ويقدم الخمر على البول (تاترخانية) ثم علق على قوله: (وإن ضمنه (بقوله: لأن الإباحة للاضطرار لا تنافي الضمان، وفي البزازية خاف الموت جوعاً، ومع رفيقه طعام أخذ بالقيمة منه قدر ما يسد جوعه، وكذا يأخذ قدر ما يدفع العطش، فإن امتنع قاتله بلا سلاح، فإن خالف الرفيق والموت جوعاً أو عطشاً ترك له البعض، وإن قال له آخر: اقطع يدي وكلها، لا يحل، لأن جسم الإنسان لا يباح في الاضطرار لكرامته..) . وجاء في البدائع ج5 ص 132: (ولو سقط سنه يكره أن يأخذ سن ميت فيشدها مكان الأولى بالإجماع، وكذا يكره أن يعيد تلك السن الساقطة مكانها عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، ولكن يأخذ سن شاة ذكية فيشدها مكانها. وقال أبو يوسف رحمه الله: لا بأس بسنه، ويكره سن غيره، قال، ولا يشبه سنه سن ميت. استحسن ذلك، وبينهما عندي فصل، ولكن لم يحضرني (ووجه) الفصل من وجهين أحدهما أن سن نفسه جزء منفصل للحال عنه لكنه يحتمل أن يصير متصلاً في الثاني، بأن يلئتم فليتئم بنفسه فيعود إلى حالته الأولى، وإعادة جزء منفصل إلى مكانه ليلتئم جائز، كما إذا قطع شيء من عضو فأعاده إلى مكانه، فأما نفس غيره فلا يحتمل ذلك. والثاني أن استعمال جزء منفصل عن غيره من بني آدم إهانة بذلك الغير، والآدمي بجميع أجزائه يكرم ولا إهانة في استعمال جزء نفسه في الإعادة إلى مكانه. (وجه) قولهما: إن السن من الآدمي جزء منه إذا انفصل استحق الدفن ككله، والإعادة صرف له عن جهة الاستحقاق فلا تجوز وهذا لا يوجب الفصل بين سنه وسن غيره.   (1) قال صلى الله عليه وسلم: إن الله ليؤجر في كل شيء حتى اللقمة يرفعها العبد إلى فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 المالكية: وجاء في الشرح الكبير للدسوقي ج2 ص 103: وأما الآدمي فلا يجوز تناوله ... ) . أي سواء كان حياً أو ميتاً، ولو مات المضطر، هذا هو المنصوص لأهل المذهب، وتقدم آخر الجنائز أن بعضهم صحح أكله للمضطر إذا كان ميتاً، ولا فرق بين المسلم والكافر فيما ذكر. وقد بين أن الذي صحح أكله هو ابن عبد السلام فقال (ج1 ص 345) : (والنص المعول عليه (عدم جواز أكله) أي أكل الآدمي الميت، ولو كان كافراً (لمضطر) ولو مسلماً لم يجد غيره، إذ لا تنتهك حرمة آدمي لآخر ... (وصحح أكله) أي صحح ابن عبد السلام القول بجواز أكله للمضطر. وعلق على قوله: (لم يجد غيره) بقوله: هذا محل الخلاف أما لو وجد غيره فلا يجوز أكله قولاً واحداً. الشافعية: جاء في مغني المحتاج ج4 ص 307: (وله أي للمضطر أكل آدمي ميت) إذا لم يجد ميتة غيره.. لأنه حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، ويستثنى من ذلك ما إذا كان الميت نبيا فإنه لا يجوز الأكل منه جزماً ـ كما قاله إبراهيم المروزي وأقره، وما إذا كان الميت مسلماً والمضطر كافراً، فإنه لا يجوز الأكل منه لشرف الإسلام، بل لنا وجه أنه لا يجوز أكل الميت المسلم. ولو كان المضطر مسلماً) . الحنابلة: جاء في المغني مع الشرح الكبير ج11 ص 79: (وإن وجده ـ أي مباح الدم كالحربي والمرتد ـ ميتاً أبيح أكله، لأن أكله مباح بعد قتله، فكذلك بعد موته معللاً ذلك بأنه لا حرمة، فهو بمنزلة السباع) . وإن وجد معصوماً ميتاً لم يبح أكله في قول أصحابنا (أي الحنابلة) . وقال الشافعي وبعض الحنفية: يباح، وهو أولى، لأن حرمة الحي أعظم، وقال أبو بكر بن داود: أباح الشافعي أكل لحوم الأنبياء. واحتج أصحابنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كسر عظم الميت ككسر عظم الحي)) . واختار أبو الخطاب أن له أكله، وقال: لا حجة في الحديث ههنا، لأن الأكل من اللحم لا من العظم، والمراد بالحديث التشبيه في أصل الحرمة لا في مقدارها بدليل اختلافهما في الضمان والقصاص ووجوب صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت) فالراجح في مذهب الحنابلة هو جواز أكل المضطر من لحم الميت المعصوم، ويجوز بالاتفاق الأكل من غير المعصوم عندهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 الزيدية: جاء في التاج المذهب ج3 ص 473: (والمباح من أكل الميتة عند الضرورة لمن خشي التلف حالاً أو مآلا، إنما هو سد الرمق منها ... ويقدم وجوباً الأخف فالأخف عند الاضطرار، ولا يعدل إلى الأغلظ تحريماً مع وجود الأخف، فمن أبيح له الميتة قدم ميتة المأكول، ثم ميتة غيره، ثم ميتة الكلب، ثم ميتة الخنزير، ثم ميتة الدب، ثم الحربي حياً المكلف الذكر بعد الذبح بضرب العنق الشرعي، أو ميتاً، ثم ميتة الذمي، ثم ميتة المسلم، ثم مال الغير بنية الضمان ثم دابة حية له غير المأكولة بعد ذبحها، ثم دابة لغيره بنية الضمان. إلى بضعة منه ـ أي من نفسه حيث لا يخاف من قطعها ما يخاف من الجوع) . وجاء في القرطبي ج2 ص 229 عن تفسير قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [الآية 173 من سورة البقرة] ... ثم إذا وجد المضطر ميتة وخنزيراً ولحم ابن آدم أكل الميتة لأنها حلال في حال، والخنزير وابن آدم لا يحل بحال، والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل، كما لو أكره أن يطأ أخته أو أجنبية، وطئ الأجنبية لأنها تحل له بحال، وهذا هو الضابط لهذه الأحكام. ولا يأكل ابن آدم ولو مات، قاله علماؤنا، وبه قال أحمد وداود. واحتج أحمد بقوله عليه السلام: (كسر عظم الميت ككسره حياً) . وقال الشافعي: (يأكل لحم ابن آدم، ولا يجوز له أن يقتل ذمياً؛ لأنه محترم الدم، ولا مسلماً ولا أسيراً؛ لأنه مال الغير. فإن كان حربياًَ أو زانياً محصناً جاز قتله والأكل منه. وشنع داود على المزني بأن قال: (قد أبحت أكل لحوم الأنبياء) فغلب عليه ابن شريح بأن قال: (فأنت قد تعرضت لقتل الأنبياء إذ منعتهم من أكل الكافر) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 قال ابن العربي: (الصحيح عندي ألا يأكل الآدمي. إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه، والله أعلم. المقارنة والترجيح: ومن هذه النصوص الفقهية يتضح لنا ما يأتي: أولاً: يجب التفرقة بين الانتفاع بأجزاء الآدمي الحي، وأجزاء الآدمي الميت. ونخص البحث في هذه الفقرة بأجزاء الآدمي الميت. ثانياً: أن الانتفاع بأجزاء الآدمي الميت في حالة الاضطرار قد اختلف الفقهاء في إباحته إلى رأيين: الرأي الأول: يرى الحنفية والمالكية (خلافاً لابن عبد السلام) والظاهرية، عدم جواز الانتفاع بأجزاء الإنسان الميت، منعاً من انتهاك حرمة الآدمي. ولقوله عليه الصلاة والسلام: ((كسر عظم الميت ككسر عظم الحي)) . الرأي الثاني: يرى جمهور الفقهاء (بعض الحنفية، وبعض المالكية، والشافعية والحنابلة والزيدية) جواز الانتفاع بأجزاء ميتة الآدمي، وقد عللوا ذلك بأن حرمة الآدمي الحي أعظم من حرمة الميت. وقد رد أبو الخطاب من علماء الحنابلة على الحديث المتقدم (كسر عظم الميت ... ) بأن المراد بالحديث التشبيه في أصل الحرمة، لا في مقدارها، بدليل اختلافهما في الضمان، والقصاص، ووجوب صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 الترجيح: والذي أرجحه هو جواز الانتفاع بأجزاء الآدمي الميت عند الضرورة، سواء كان معصوماً أو غير معصوم، إحياء للنفس الآدمية ومداً لأسباب البقاء لها ... وبخاصة أن النفس الميتة إن لم ينتفع بها تحللت وصارت تراباً ... فإنقاذ نفس حية بشيء من نفس ميتة حفاظ على النفس، وإحياء لها، هو هدف مشروع ومصلحة مقررة شرعاً ومعتد بها فضلاً عن أن رعاية مصلحة الحي في امتداد حياته، أولى من رعاية مصلحة الميت في عدم المساس بجسمه، إذ جسمه إلى تحلل وإلى فناء. ثالثا: أنه على القول بإباحة الانتفاع بالآدمي الميت عند الاضطرار فإنه قد وضعت شروط هذا الانتفاع وهي: 1- ألا توجد ميتة أخرى غير ميتة الآدمي، فإذا وجدت ميتة أخرى لا يحل الانتفاع بميتة الآدمي. 2- أن يكون المضطر معصوم الدم، وذلك لأنه لو كان مستحق القتل شرعاً، كان دمه غير معصوم، وحياته إلى زوال بتنفيذ حكم الشرع فيه، ومن ثم فلا يجوز شرعاً العمل على مد أسباب حياته في الوقت الذي فيه يرى الشرع إنهاء حياته حقاً لله تعالى فكان ذلك معارضة للشرع، ومضادة لأحكامه، وهو ما لا يجوز ولا يحل ... 3- أنه يجب أن يكون المنتفع مضطراً إلى هذا الانتفاع، وقد سبق أن أوضحنا المقصود بالاضطرار وبينا أنه لم يتناول المحرم هلك كله أو بعضه. ويلزم هنا أن نتعرض لبيان ما إذا كانت الحاجة تبيح للإنسان أن يتناول أو ينتفع بالمحرمات..، قياساً على حالة الضرورة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 وللإجابة عن ذلك نقول: إن القرآن الكريم قد عبر عن ذلك بأوضح تعبير وبينه أوفى بيان، إذ أنه بعد ذكر المحرمات: قال {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} فالمستثنى من الوقوع في المحرم هو من وقع في حالة الاضطرار لا في أي حالة غيرها، حاجية أو تحسينية. ومن ثم فلا يجوز هذا الانتفاع إلا في حالة الضرورة، وإلا لضاعت الحكمة من تحريم هذه المحرمات باتساع دائرة الإباحة عند الحاجة مما يفقد التحريم حكمته والغاية منه. 4- كذلك يجب أن يكون هناك إذن بالانتفاع بأجزاء الميت وهذا الإذن، يمكن أن يكون صادراً من الميت قبل موته، باعتبار أن له ولاية على نفسه، ويمكن أن يكون صادراً من ورثته بعد موته، وهم من لهم الحق في ميراث تركته شرعاً، ولهم المطالبة بالقصاص في حالة الجناية عليه عمداً، فإذا اتفقا على التبرع بجزء منه فلا إشكال، وكذا إذا اتفقنا على المنع فلا يؤخذ شيء منه، أما إذا اختلفت وصية الميت عن رأي الورثة، فإن كان الميت قد أوصى بالانتفاع ببعض أجزائه، وهم لم يوافقوا فإنني أرى أن نعتد بوصيته؛ لأن ولايته على نفسه مقدمة على ولايتهم، ولذلك شبيه في الفروع الفقهية، وذلك فيما إذا عفا المجني عليه قبل موته من الجاني، فإن فقهاء الحنفية اعتبروا عفوه وأخذوا به وجعلوه مقدماً على رأي الأولياء فيما إذا طالبوا بالقصاص، وأسقطوا القصاص أخذاً بعفوه ... وأما إذا رفض هو التبرع بأجزاء منه بعد وفاته، ثم وافق الورثة على هذا الانتفاع، فإنني أرى ترجيح جانب الورثة هنا تحقيقاً لمصلحة راجحة، وهي بقاء نفس إنسانية حية، ودرء المفسدة محققة، وهي دفع الهلاك عن هذا الإنسان الذي يراد نقل العضو الميت إليه، وفي الوقت نفسه ليس هناك ضرر على الإطلاق بالنفس المراد أخذ العضو منها لأنها هي وأعضاؤها لا تلبث أن تفنى وتصير تراباً، ولا شك أن الانتفاع بها قبل تحويلها إلى هذا المصير أولى بالاعتداد وأرجح في الاعتبار ومن ثم كان العمل بإرادة الولي هنا أرجح من العمل بإرادته هو، وهذا يتمشى مع رأي الظاهرية الذين يجعلون الرأي للولي أخذاً من قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} الإسراء: 33. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 المبحث الخامس حكم الانتفاع ببعض أجزاء الإنسان الحي لمنفعة نفسه في حال الضرورة حكم الانتفاع ببعض أجزاء الإنسان الحي لمنفعة نفسه في حال الضرورة في هذه الفترة من البحث يلزمنا أن نفصل حالات هذا الانتفاع سواء من ناحية الشخص المنتفع، أو من ناحية حال الشخص المنتفع منه، ومن ناحية الجزء المنتفع به وآثاره على الشخص المأخوذ منه، ومن ناحية المنهج والأسلوب الذي يمكن به أخذ هذا العضو، سواء كان من نفسه إلى نفسه أو من نفسه إلى غيره. المبحث الأول انتفاع الشخص بجزء من نفسه لنفسه في حالة الضرورة وهنا يلزمنا أن نوضح أن ما يحتاج الإنسان إليه من أجزاء بدنه تارة يكون للتصحيح والتعويض، وتارة يكون لإنقاذ حياته ونوضح حكم كلا النوعين فيما يلي: النوع الأول: أن يكون ما يحتاج إليه من نفسه للتصحيح والتعويض كأن يكون به عيب ظاهر فيحتاج إلى إصلاح هذا العيب الظاهر ـ كما يحدث عقب الحروق والحوادث التي قد تبتر عضواً أو تحدث به منظراً غير مألوف ـ كالأذن أو الأنف ـ أو قد يولد الإنسان بهذه الكيفية ويمكن عن طريق الجراحة إصلاح هذا العيب. فهذا النوع من الجراحات التصحيحية يمكن القول بجوازه قياساً على جواز أخذ شيء من بدنه ليأكله إذا كان مضطراً ـ كما هو رأي الشافعية والزيدية - وسيأتي إيضاحه. ولا يعتبر ذلك تغييرا للخلقة بل هو إعادة لها إلى حالتها الطبيعية، إعادة لها إلى حالتها المألوفة ونسقها وهيئتها المعتادة، وإبعاد لما قد يصاحب بقاءها من منظر متغير، أو شكل غريب ملفت للنظر وهيئتها المعتادة، وكل ذلك غرض وهدف لا يأباه الشرع الحكيم. أما الجراحات التجميلية والتي يقصد بها الغلو في مقاييس الجمال، كترقيق الأنف أو تفليج الإنسان أو نحو ذلك فهذا النوع من الجراحات يدخل في دائرة المنهي عنه في الحديث الشريف، وهو ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الحديث الشريف، قال: ((لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)) قال: (فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، يقال لها: أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته، فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات والمتلفجات للحسن المغيرات خلق الله؟ فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته. فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدته؛ قال الله عز وجل: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ... صحيح مسلم. النوع الثاني: أن يكون ما يحتاج إليه الإنسان من نفسه تتوقف عليه حياته، وقد صور الفقهاء ذلك في صورة أن يشتد به الجوع ولا يجد ما يأكله، فيلجأ إلى قطع جزء من نفسه ليأكله فتمتد به حياته بعض الوقت إلى أن يجد مخرجاً من حالة الاضطرار أو المخمصة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 ونعرض فيما يلي بعضاً من النصوص الفقهية: الحنفية: يرى الحنفية أنه لا يجوز أن يقطع الإنسان جزءاً من بدنه في حالة اضطراره. جاء في الأشباه لابن نجيم ص 87 عند شرح قاعدة الضرر لا يزال بالضرر (أنه لا يأكل المضطر طعام مضطر آخر، ولا شيئاً من بدنه) . فهذا يدل على أن الحنفية لا يجيزون للإنسان في حالة الضرورة أن يتناول شيئاً من بدنه؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر. وقال محمد بن الحسن: (ولا بأس بالتداوي بالعظم إذا كان عظم شاة أو بقرة أو بعير أو فرس، أو غيره من الدواب، إلا عظم الخنزير والآدمي، فإنه لا يمكن التداوي بهما، ولا فرق بين أن يكون ذكياً أو ميتاً أو رطباً أو يابساً) (1) . الشافعية: أجاز الشافعية انتفاع المضطر بجزء من بدنه ـ على الأصح ـ بشرط عدم وجود غير هذا السبيل، وأن يكون الخوف في قطع هذا الجزء أقل من الخوف في ترك الأكل، فإن كان مثله أو أكثر حَرُمَا جزماً. جاء في مغنى المحتاج ج4 ص 310: (والأصح) حيث لم يجد المضطر شيئاً يأكله (تحريم قطع بعضه) كجزء من فخذه (لأكله) لأنه قد يتولد منه الهلاك. قلت: أخذاً من الرافعي في الشرح (الأصح جوازه) لأنه إتلاف بعضه لاستبقاء كله، فأشبه قطع اليد بسبب الأكلة. وشرطه ـ أي الجواز ـ أمران: أحدهما: فقد الميتة ونحوها مما مر. والأمر الثاني: أن يكون الخوف في قطعه أقل من الخوف في ترك الأكل، فإن كان مثله أو أكثر حَرُمَ جزماً. فإن قيل: قد تقدم في قطع السلعة (2) الجواز عند تساوي الخطرين فلا كان هذا كذلك؟ أجيب بأن السلعة لحم زائد على البدن، وفي قطعها إزالة الشين، وتوقع الشفاء، ودوام البقاء، فهو من باب المداواة، بخلاف هذا، فإن فيه إفساداً وتغييراً لبنيته، وليس من باب المداوة. ولهذا قيد البلقيني محل القطع هذا بما إذا لم يكن ذلك المقطوع يجوز قطعه في غير الأضرار، فإن كان كالسلعة واليد المتآكلة حيث جاز قطعها، فيجوز ذلك في حال الاضطرار ـ قطعاً. الحنابلة: جاء في المغني مع الشرح الكبير ج11 ص 79: فإن لم يجد المضطر شيئاً لم يسمح له أكل بعض أعضائه. وقال بعض أصحاب الشافعي له ذلك، لأن له أن يحفظ الجملة بقطع عضو، كما لو وقعت فيه الأكلة. ولنا (الحنابلة) أن أكله من نفسه ربما قتله، فيكون قاتلا نفسه، ولا يتيقن حصول البقاء بأكله، أما قطع الأكلة فإنه يخاف الهلاك بذلك العضو، فأبيح له إبعاده ودفع ضرره المتوجه منه بتركه، كما أبيح قتل الصائل عليه ولم يكن له قتله ليأكله.   (1) الفتاوى الهندية: ج5 ص 354 (2) السلعة: المتاع، وهي أيضاً زيادة في البدن كالغدة تتحرك إذا حركت وقد تكون من حمصة إلى بطيخة ـ مختار الصحاح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 الزيدية: جاء في شرح الأزهار ج4 ص 97: ويقدم الأخف فالأخف عند الاضطرار، ولا يعدل إلى الأغلظ تحريماً مع وجود الأخف، فمن أبيح له الميتة، قدم ميتة المأكول، ثم ميتة غيره، ثم ميتة الكلب، ثم ميتة الخنزير، ثم الحربي حيا (1) . أو ميتاً ثم ميتة الذمي، ثم ميتة المسلم، ثم مال الغير، ثم دابة حية له، ثم لغيره بعد ذبحها، إلى بضعة منه أي من نفسه، حيث لا يخاف من قطعها ما يخاف من الجوع؛ كقطع المتآكلة حذراً من السراية) . المقارنة والترجيح: يتضح لنا مما تقدم أن الفقهاء قد اختلفوا فيما لو اضطر الإنسان إلى الانتفاع بجزء منه لإنقاذ حياته إلى رأيين: الرأي الأول: يرى الحنفية وبعض الشافعية والحنابلة أنه لا يجوز للإنسان أن يقطع شيئاً من بدنه لينتفع به في إنقاذ حياته، وقد عللوا ذلك بأمرين: أولاً: أن ما أبين من الحي فهو ميت، وإن الميت يجب مواراته التراب، فالانتفاع به تغيير لما وجب بشأنه، ويستفاد هذا من كلام الحنفية. ثانياً: أنه قد يتولد الهلاك من قطع جزء من بدنه، والضرر لا يزال بالضرر؛ إذ ربما قطع هذا الجزء أدى إلى قتله فيكون قاتلاً نفسه، وقاتل النفس عمداً خالد مخلد في نار جهنم أبداً. الرأي الثاني: يرى الشافعية على الأصح والزيدية جواز أن يقطع إنسان شيئاً من بدنه إنقاذاً لحياته، وقد عللوا لهذا الرأي بأمرين: الأول: أن قطع هذا الجزء لإنقاذ حياة يشبه قطع (السلعة) أو اليد المتآكلة إنقاذاً لنفسه، فكما أنه جاز في الثانية يجوز في الأولى بجامع إنقاذ الحياة في كل. الثاني: أن جواز ذلك يدخل في باب إتلاف البعض لإنقاذ الكل، أو التضحية بالبعض لإنقاذ الكل، وجواز ذلك مقرر بالإجماع. والذي أرجحه هو الرأي الثاني؛ وذلك لما أبرزته من أدلة له، ولما يأتي: أولاً: أن ما قطع منه ليعود إليه يجوز قياساً على من قطع منه عضو ثم أعيد إليه، فإنه في هذه الحالة يجوز؛ لأنه إعادة جزء نفسه إلى نفسه، وهذا إكمال للنفس وإعادة لها إلى حالتها الطبيعية، فما بالك بما نحن فيه حيث يخشى أن تهلك النفس جميعها إذا لم تنقذ بمثل هذا الجزء، كما إذا احتاج مريض القلب إلى نقل بعض الشرايين من مكان آخر من جسمه ترقيعاً لما تلف في القلب. ثانياً: أنه إذا كان النقل من مكان إلى مكان من باب المداواة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالتداوي ـ وقد سبق أن نقلنا النصوص من السنة المطهرة في ذلك ، فحينئذ إذا قرر الطبيب المسلم الحاذق ذلك، جاز أن يؤخذ من الجسم ويرد إليه إنقاذاً لحياته ودفعاً للضرر عنه. ثالثاً: أنه إذا كان خطر القطع أعلى من خطر البقاء على ما هو عليه، فحينئذ لا تجوز هذه الجراحة؛ لأنها مغامرة وإهلاك للنفس غالباً، وذلك لا يجوز شرعاً، فلا بد من أن تكون نسبة النجاح أعلى، وكفة السلامة أرجح في حال إجراء هذه الجراحة. أما عند تساوي الأمرين فأرجح ما ذهب إليه الشافعية من أنه يحرم إجراء هذه الجراحة.   (1) المكلف الذكر بعد الذبح بضرب العنق الشرعي، وفيما يقتل من الحربيين كالصبي والمجنون والمرأة والشيخ الفاني وجهان: أحدهما جواز قتله لأن ندفع به ضرر المسلمين، قلت: وظاهر المذهب عدم جواز قتلهم؛ لأن الشارع حجر قتلهم بصفهم، كما حجر قتل الذمي لصفته التي هي الذمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 المبحث السادس حكم انتفاع الإنسان بجزء من إنسان آخر حي في حال الضرورة حكم انتفاع الإنسان بجزء من إنسان آخر بينا آنفاً الضوابط عند انتفاع الإنسان بجزء من ميتة الإنسان، ولكن هذا الضوابط تزداد هنا وتتعقد؛ نظراً لمكانة الروح في جسم الإنسان ولمكانة عصمة دمه، ومنع النيل منه، كلا أو بعضاً، ووضع العقوبات الرادعة لمن يعتدي عليه أو على جزء منه. وإذا أردنا أن نبرز هذه الضوابط فإننا نذكر في هذا المقام أيضاً أننا نتحدث هنا عن حالة الضرورة فقط {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1) فالمضطر فقط هو الذي أبيح له التناول من المحرم؛ دفعاً للهلاك عن نفسه، أما ذو الحاجة، وهو من وقع في جهد ومشقة فقط، كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكله لم يهلك، فإنه لا يباح له تناول المحرم أو الانتفاع به؛ سداً لحاجته ودفعاً للمشقة عنه، وإن كان يباح له الفطر في الصوم وفي السفر {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (2) . فالضرورة غير الحاجة، والفارق بينهما أنه إن لم يتناول الممنوع هلك كلا أو بعضاً في حالة الضرورة، وأصابه جهد ومشقة في حالة الحاجة، ونظراً لأن المشرع الحكيم يهدف إلى استمرار حياة النفس البشرية وإبعادها عن الهلاك، أباح لها ما يحقق ذلك، ولو أدى هذا إلى تناول ما حرمه عليها في حال الاختيار، فالانتقال من الحرمة إلى الإباحة يشترط فيها أعلى الرتب ـ كما يقول القرافي ـ أما الانتقال من الإباحة إلى الحرمة فيكفي فيها أيسر الأسباب (3) . وأعلى الرتب في ترتيب المصالح هي الضرورة، وأدناها التحسين، وأوسطها الحاجة، فالضرورة وحدها هي التي تبيح تناول المحرم حسبما ذكرنا.   (1) البقرة الآية: 173 (2) الآية: 184 من سورة البقرة (3) القرافي: الفرق الحادي والثلاثون والمائة ج3 ص73 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 الإنسان الحي المراد الانتفاع بجزء منه في حالة الضرورة. يفرق الفقه الإسلامي بين الإنسان المعصوم الدم، وهو الذي لا يباح قتله، وبين الإنسان المهدر دمه، أو المباح قتله. والأسباب المبيحة لقتله كردة وقتل عمد أو زنا إحصان أو حربي. ونرى أن نعرض آراء الفقهاء في كل منهما، ثم نتبعه بالترجيح في مواطن ـ الاختلاف. حكم الانتفاع بجزء من إنسان معصوم الدم: أجمع الفقهاء على أنه لا يجوز قطع شيء من جسم إنسان حي معصوم الدم لينتفع به إنسان مضطر. وإليك بعض ما نص عليه الفقهاء: الحنفية: يرون أنه لا يصح انتفاع الإنسان المضطر بجزء من إنسان آخر محقون الدم. جاء في الأشباه ابن نجيم ص 87 عند شرح قاعدة (الضرر لا يزال بالضرر) أمثلة تطبيقية لها منها قوله: (ولا يأكل المضطر طعام مضطر آخر، ولا شيئاً من بدنه) . المالكية: جاء في الشرح الكبير ج2 ص 103: (والمباح ... للضرورة ... غير آدمي وغير خمر من الأشربة. وأما الآدمي فلا يجوز تناوله، وكذا الخمر إلا لغصة، فيجوز إزالتها به عند عدم ما يسيغها به من غيره) . ثم يقول تعليقاً على قوله: (وأما الآدمي فلا يجوز تناوله) بقوله: أي سواء كان حياً أو ميتاً، ولو مات المضطر، هذا هو المنصوص في المذهب) . وسبق أن بينا أن ابن عبد السلام صحح القول بجواز أكله للمضطر، إذا كان ميتاً. أما الحي فلا، باتفاق علماء المذهب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 الشافعية: جاء في مغني المحتاج ج4 ص 310: (ويجزم) جزماً على شخص (قطعه) أي بعض نفسه (لغيره) من المضطرين، لأن قطعه لغيره ليس فيه قطع البعض لاستبقاء الكل. تنبيه: هذا إذا لم يكن ذلك الغير نبيا، وإلا لم يحرم بل يجب ... ويحرم على مضطر أيضاً أن يقطع لنفسه قطعة من حيوان معصوم ـ والله أعلم ـ لما مر. وجاء في ج1 ص 191 حين بيان حكم وصل شعر الآدمي بشعر آدمي وأنه حرام للحديث (لعن الله الواصلة والمستوصلة..) لأنه مستعمل لشعر آدمي يحرم الانتفاع به وبسائر أجزائه لكرامته) . الحنابلة: جاء في المغني مع الشرح الكبير ج11 ص 79: (إن لم يجد (المضطر) إلا آدمياً محقون الدم لم يسمح له قتله إجماعاً ولا إتلاف عضو منه؛ مسلماً كان أو كافراً؛ لأنه مثله، فلا يجوز أن يبقي نفسه بإتلافه، وهذا لا خلاف فيه) . الظاهرية: يرى الظاهرية تحريم لحوم الناس وتحريم الانتفاع بها، جاء في المحلى لابن حزم ج4 ص 468: (ولا يحل أكل العذرة ولا الرضيع، ولا شيء من أبوال الخيول ولا القيء، ولا لحوم الناس ولو ذبحوا، ولا أكل شيء يؤخذ من الإنسان إلا اللبن وحده ... ) . وبعد أن ذكر وجه التحريم في الأمور الأربعة الأولى بدأ بذكر وجه التحريم في لحوم الناس فقال: (وأما لحوم الناس فإن الله تعالى قال: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} (1) ولأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قد ذكرناه في كتاب الجنائز، بأن يوارى كل ميت من مؤمن أو كافر، فمن أكله فلم يواره، ومن لم يواره فقد عصى الله تعالى، ولقول الله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (2) فحرم تعالى آكل الميتة وأكل ما لم يذك، والإنسان قسمان: قسم حرام قتله، وقسم مباح قتله، فالحرام قتله إن مات أو قتل فلم يذك فهو حرام، وأما الحلال قتله فلا يحل قتله إلا لأحد ثلاثة أوجه: إما لكفره ما لم يسلم، وإما قوداً، وإما لحد أوجب قتله، وأي هذه الوجوه كان فليس مذكى؛ لأنه لم يحل قتله إلا بوجه مخصوص، فلا يحل قتله بغير ذلك الوجه، والتذكية غير تلك الوجوه بلا شك، فالقصد إليها معصية، والمعصية ليست ذكاة، فهو غير مذكى فحرام أكله بكل وجه، وإذ هو كله حرام، فأكل بعضه حرام؛ لأن بعض الحرام حرام بالضرورة، ويدخل في هذا المخاط والنخاعة والدمع والعرق والمذي والمني والظفر والجلد والشعر والقيح والسن إلا اللبن المباح بالقرآن والسنة والإجماع، وقد أباح عليه السلام لسالم ـ وهو رجل ـ الرضاع من لبن سهلة بنت سهيل، والريق لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حنك الصبيان بتمر مضغه، فريقه في ذلك الممضوغ، فالريق حلال بالنص فقط، وبالله تعالى التوفيق) .   (1) الآية: 12 من سورة الحجرات. (2) الآية: 3 من سورة المائدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 الزيدية: جاء في شرح الأزهار ج4 ص 407: (والإباحة لا تسقط القود (القصاص) عن القاتل، فإذا قال لغيره: اقتلني، واقتل ابني، أو اقطع يدي، ففعل، لزمه القصاص، ولا حكم لهذا الإذن) . حكم الانتفاع بجزء من إنسان غير معصوم الدم: بينا آنفاً أن غير معصوم الدم هو من ارتكب جرماً استحق من أجله القتل، من هؤلاء الحربي: وهو من رفع راية الحرب ضد المسلمين. القاتل للنفس عمداً، ولم يعف عنه ولي الدم. الزاني المحصن ... المرتد عن دين الإسلام. المحارب. فهؤلاء قد استحقوا القتل بسبب ما ارتكبوا من جرائم، وعقوبة هذه الجريمة هي القتل، فإذا صدر ضد شخص حكم بقتله، إما لكونه حربياً، أو قاتلاً عمداً دون عفو ولي الدم، أو زانياً محصناً، أو مرتداً، أو محارباً ... ومن ثم فإن الفقهاء قد اختلفوا في جواز الانتفاع بشيء من أجسامهم لمصلحة المضطر من الأحياء المعصومين. فيرى جمهور الفقهاء عدم جواز الانتفاع بشيء من أجسامهم. وهم فقهاء الحنفية والمالكية والظاهرية. الحنفية: وقد نقلنا آنفاً رأي الحنفية في الانتفاع بجزء من الإنسان الميت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 المالكية: قال الدسوقي في شرحه: (وأما الآدمي فلا يجوز تناوله؛ أي: سواء كان حياً أو ميتاً، ولو مات المضطر، هذا هو المنصوص لأهل المذهب) . (والنص المعول عليه عدم جواز أكله ـ أي أكل الآدمي الميت، ولو كافراً، لمضطر ولو مسلماً لم يجد غيره، إذا لا تنتهك حرمة آدمي آخر) . وقد سبق نقل هذا النص، ومنه يتبين أن المالكية لا يجيزون الانتفاع بأي جزء من أجزاء الإنسان لإنسان آخر مضطر، ولو كان المضطر مسلماً، ولو مات هذا المضطر من عدم الأكل. الظاهرية: وقد نقلنا آنفاً ما نص عليه هذا المذهب من حرمة الانتفاع بأي جزء من أجزاء الآدمي مسلماً كان أو كافراً إلا اللبن والريق. ويرى الشافعية والحنابلة جواز الانتفاع بجزء من نفس الشخص المستحق للقتل. وإليك بعض النصوص الفقهية الدالة على ذلك: الشافعية: جاء في مغنى المحتاج ج4 ص 307: (وله قتل مرتد وأكله، وقتل حربي بالغ وأكله؛ لأنهما غير معصومين، وله قتل الزاني المحصن، والمحارب، وتارك الصلاة، ومن عليه قصاص، وإن لم يأذن الإمام في القتل؛ لأن قتلهم مستحق، وإنما اعتبر إذنه في غير حال الضرورة تأدباً معه، وحال الضرورة ليس فيها رعاية أدب، لا قتل ذمي ومستأمن ومعاهد، وصبي حربي وحربية لحرمة قتلهم. قلت: الأصح حل قتل الصبي والمرأة الحربيين للأكل ـ والله أعلم ـ أنهما ليسا معصومين، ومنع قتلهما في غير الضرورة لا لحرمتها بل لحق الغانمين، ولهذا لا يتعلق بقتلها الكفارة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 (تنبيه: حكم مجانين أهل الحرب وأرقائهم وخناثاهم كصبيانهم، قال البلقيني: ومحل الإباحة إذا لم نستول على الصبي والمرأة ونحوهما، وإلا صاروا أرقاء معصومين لا يجوز قتلهم قطعاً لحق الغانمين) . والحنابلة: جاء في المغني مع الشرح الكبير ج11 ص 79: (وإن كان مباح الدم كالحربي والمرتد فذكر القاضي أن له قتله وأكله؛ لأن قتله مباح، وهكذا قال أصحاب الشافعي؛ لأنه لا حرمة له، فهو بمنزلة السباع، وإن وجده ميتاً أبيح أكله ... ) . الترجيح: وأرى ترجيح رأي الشافعية والحنابلة من حيث إنه إذا كان إنسان قد استحق القتل بسبب جرم ارتكبه، وكان هذا الحكم باتا، واجب التنفيذ، ولا طريق إلى إنقاذه من هذه العقوبة، لا بتوبة ولا بغيرها، فإنه يمكن عقب تنفيذ الحكم الانتفاع بأجزاء من هذا الإنسان ونقلها إلى إنسان آخر يوشك على الهلاك ـ كلًّا أو بعضاً ـ بشرط ألا تؤخذ هذه الأجزاء أثناء حياته ـ لأنها مُثلة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وإنما تؤخذ عقب تنفيذ الحكم فيه مباشرة. ولا مانع من إجراء الفحوص اللازمة قبل تنفيذ الحكم لمعرفة ملاءمة هذا الانتفاع لإنسان ما، أو لغيره، أو عدم ملاءمته. ويجب أن يكون هذا الأخذ في حال الاضطرار إلى إنقاذ نفس توشك على الهلاك كما سبق القول ـ وليس في حال الاختيار. ويجب أن يكون كل ذلك تحت رقابة السلطة التنفيذية وتحت رقابة نخبة من الأطباء المسلمين الحاذقين. وإجازة ذلك في حال الضرورة يحقق هدفاً كبيراً، وهو إحياء نفس توشك على الهلاك ببعض أجزاء نفس هالكة لا محالة. وأن يوضع لذلك قانون ينظم كل ذلك ويعلن للناس جميعاً. وقد يكون النص فيه على أن ولي الأمر يعتبر إذنه في أخذ هذا الجزء بمثابة الإذن من ولي الدم أكثر تحقيقاً للهدف حتى لا تضيع فرصة الانتفاع بهذا الجزء، ونظراً لتحلل بعض أجزاء الإنسان عقب موته بسرعة كبيرة. وفي هذه الحالة إن لم يكن هناك إذن بذلك تضيع فرصة الانتفاع بهذا الجزء، وتضيع فرصة إنقاذ نفس من الهلاك. وأيضاً فإن القول بجواز ذلك عند الضرورة لا يجعل للإذن دوراً كبيراً من الناحية الفقهية، فالضرورات تبيح المحظورات، ويتغاضى عن الإذن في هذه الحالة ـ كما إذا لم يجد سوى مال غيره لينقذ به حياته، فإن عليه أن يأكل منه أو يشرب ولو دون إذن ثم عليه الضمان على الخلاف في هذا الضمان وقد سبق التعرض لذلك. وبترجيحنا هذا فإن الاختلاف بين الانتفاع بجزء الميت، وهذا الانتفاع بجزء من المستحق بجزء منه وملاءمته وعدم ملاءمته للحالات الاضطرارية الموجودة، أما في الحالة الأولى فلا يتيسر فيها ذلك؛ إذ قد تحدث فجأة، أو لا يرضى صاحبها بمثل هذه الفحوص، فضلاً عن أنها غير معروفة الأشخاص غالباً، أما الأخيرة فهم معروفون ويمكن تحديد زمن معين لتنفيذ الحكم فيهم بشرط ألا يضاروا من هذا الإرجاء، وألا يتخذوا مخازن للأعضاء الحية يلجؤون إليها متى شاؤوا ... بل هم لهم كل الحق في أن يكون تنفيذ الحكم فيهم في وقت لا يضر بهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 المبحث السابع: حكم بيع الآدمي في الفقه الإسلامي حكم بيع الآدمي في الفقه الإسلامي لقد تناول الفقه الإسلامي بيان حكم التصرف في الإنسان، أو التصرف في جزء من أجزائه، سواء أكان الجزء متجدداً، أم غير متجدد. ونعرض فيما يلي حكم كل حالة من هذه الحالات الثلاث من مباحث متتالية: الأول: حكم بيع الآدمي. نعرض فيما يلي جانباً من الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة، ثم نتبعها بآراء الفقهاء في هذا الحكم. أولاً: الكتاب الكريم: قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (1) . لقد تناول المفسرون تفسير هذا التكريم قائلين: إن الله تعالى قد كرمهم بالنطق والتمييز، وباعتدال القامة وامتدادها، وبحسن الصورة، وبتسليطهم على سائر الخلق وتسخير سائر الخلق لهم، وبالكلام والخط وبالعقل الذي هو عمدة التكليف، وبه يعرف الله ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله ... وبتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس، وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم؛ لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان، ويلبسون الثياب، ويأكلون المركبات من الأطعمة، وغاية كل حيوان يأكل لحما نيئاً أو طعاماً غير مركب. ثم قال جل شأنه: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} قال المفسرون: فضلناهم على البهائم والدواب، والوحوش والطير بالغلبة والاستيلاء، والثواب والجزاء، والحفظ والتمييز، وإصابة الفراسة. فالإنسان مكرم لكل ذلك؛ لأنه متحمل الأمانة، وخليفة الله في أرضه، والمطالب بالتعمير والإصلاح، والتطور والتقدم في ظل شرع الله تعالى. ومن أجل ذلك سخر الله جل شأنه له سائر الخلق في السماء وفي الأرض، وجعله مسلطاً على غيره من المخلوقات، ينتفع بها ويحيا عليها ... وميزه عنها بأنه جعل له حق تملكها والانتفاع بها، وجعلها موضع ملكه ومنتفعاً بها ... ، والملك قدرة والانتفاع حق، جعلهما في يده فأصبح مالكاً منتفعاً، وأصبح غيره مملوكاً منتفعاً به، ومن هنا لم يخضع الإنسان شرعاً لما يخضع له الحيوان من جواز بيعه والتصرف فيه؛ لأن فعل ذلك في الإنسان إذلال، وقلب للحقيقة الشرعية والحكمة الإلهية التي حبته بكل هذه الصفات.   (1) الآية: 70 من سورة الإسراء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 ثانياً: السنة النبوية المطهرة: ورد في الحديث القدسي أن الله تعالى يخاصم من يخضع الإنسان لما يخضع له الحيوان من بيعه والتصرف فيه. روى البخاري بإسناده (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خاصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره)) (2) . وزاد ابن خزيمة وابن حبان والإسماعيلي في هذا الحديث: ((ومن كنت خصمه فقد خصمته)) قال ابن التين: هو سبحانه وتعالى خصم لجميع الظالمين إلا أنه أراد التشديد على هؤلاء (الثلاثة) بالتصريح . وقال العسقلاني في ((باع حراً فأكل ثمنه)) : خص الأكل بالذكر لأنه أعظم مقصود، والمراد به كما هو واضح النهي عن إخضاع الإنسان الحر للتصرفات التي تخضع لها سائر الحيوانات والكائنات المسخرة لخدمة الإنسان، والتي أبيح له تملكها والتصرف فيها بالبيع وغيره من التصرفات الناقلة للملكية أو للانتفاع. قال ابن الجوزي: الحر عبد الله فمن جنى عليه فخصمه سيده) . ونقل ابن حجر (الإجماع على منع بيع الحر (3) كما سنوضح ذلك في الفقرة التالية، وقد وردت أحاديث تبين حرمة دم الإنسان على أخيه. روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن دماءكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام)) ... ورواه أحمد. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناًً)) . ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا)) ويشير إلى صدره ثلاث مرات ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) .   (1) سنده في البخاري: حدثني يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن أمية، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم (الحديث) تحت باب (إثم من باع حرا) (2) وفي رواية أبي داود من حديث عبد الله بن عمر: (ثلاثة لا تقبل لهم صلاة. فذكر فيهم: ورجل اعتبد محرراً) . (3) فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج4 ص 346، 347 طبعة أولى سنة 1300 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 ثالثاً: الفقه الإسلامي: يحرم بيع الإنسان الحر باتفاق العلماء، وكل عقد يرد عليه يكون باطلاً، ومجري هذا العقد يكون آثماً، وإليك النصوص الفقهية الدالة على ذلك: (أ) الحنفية ينصون على أن: (الآدمي مكرم شرعاً، وإن كان كافراً فإيراد العقد عليه، وابتذاله به، وإلحاقه بالجمادات إذلال له. أي وهو غير جائز ... ) (1) . أي لأن الله تعالى قد كرمه وفضله كما نص عليه في الكتاب، ولابن نجيم في القاعدة السابعة: (إن الحر لا يدخل تحت يد أحد فلا يضمن بالغصب ولا صبياً) ص 119. (ب) المالكية: يرون أن لحم ابن آدم محرم، والمحرم لا يجوز بيعه ولا التصرف فيه (2) . (ج) : الشافعية: ينصون على أن بيع الحر حرام (3) . للحديث: ((ثلاثة أنا خصمهم)) وقال النووي: (بيع الحر باطل بالإجماع) . (د) الحنابلة: ينصون على أنه: (لا يصح بيع الحر؛ لقوله عليه السلام: ((ثلاثة أنها خصمهم يوم القيامة)) وذكر منهم ((رجلاً باع حراً وأكل ثمنه)) وقد تقدم نص الحديث (4) . والظاهرية: يقررون أن (كل ما حرم أكل لحمه فحرام بيعه..) (5) .   (1) ابن عابدين: ج4 ث 110 وفتح القدير: ج5 ص 202 (2) بداية المجتهد: ج2 ص 177 (3) مغني المحتاج: ج2 ص 40، المجموع: ج9 ص 262 (4) كشف القناع: ج3 ص11، والشرح الكبير: ج4 ص14 (5) المحلى: ج4 ص 481. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 والزيدية: ينصون على أنه (لا يجوز مطلقاً بيع الحر (ولو شعراً بعد انفصاله) باع نفسه أو باع غيره، فيؤدب العالم ـ بنظر الحاكم ـ لحريته، من البائع أو المشتري، أو هما جميعاً، إذا علما. والبيع باطل ولو جهلا، والثمن كالغصب لا في جميع وجوهه إلا في أربعة (1) سواء كان المشتري عالماً أو جاهلاً له (قرز) . ويرد القابض للثمن ما قبضه إلى المشتري إن كان الثمن باقياً بعينه، كبيراً كان القابض أو صغيراً، إلا الصبي إذا باع نفسه، أو باع حراً غيره ثم قبض الثمن وأتلفه فلا يرد ما قد أتلف ... ) (2) . والإمامية: ينصون على أنه: (لو باع ما لا يملكه مالك كالحر وفضلات الإنسان ... لم ينعقد) . ومن هذا تبين لنا أن الفقهاء قد اتفقوا على أن الحر لا يباع ولا يشترى، وإذا لم يصح هذا التصرف فيه مع أنه بمقابل، وهو الثمن، فمن باب أولى لا يصح هبته أو التبرع به؛ لأن الشرع الحكيم أبطل التصرف فيه بمقابل فمن باب أولى يبطله إذا لم يكن هناك مقابل، ولأن المشرع الحكيم لم يجعله ملكاً لأحد سواه، فلا يحق لأي كائن أن يتصرف فيه؛ لأن التصرف ـ معاوضة أو تبرعاً ـ إنما يكون فيما يملكه الإنسان، والإنسان غير مملوك للإنسان وإنما هو مملوك لخالقه وموجده جل شأنه. ويجب أن ننوه هنا إلى أن (الرقيق) وقد انتهى أمره بعد أن اتفقت الدول والمجتمعات الإنسانية إلى منع الرق بجميع أنواعه، وهو ما يهدف إليه المشرع الحكيم، وما يشير إليه في حكم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أن انتهاء الرق في هذا العصر لا يثير أي تساؤل بشأن الأحكام التي كانت تطبق عليه وقت وجوده.. وحتى في أثناء وجوده لا سلطان لأحد على جسمه وأجزاء جسمه إلا بحق. قال صلى الله عليه وسلم: ((من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه)) رواه أحمد. وفي رواية أبي داود والنسائي بزيادة: ((ومن خصى عبده خصيناه)) . فأهلية الرقيق موجودة، وعصمة دمه قائمة، وصيانة أعضائه مقررة، وإنما الرق أثر على أهليته للتملك، وعلى جعله سلعة يباع ويشترى ـ كلا أو جزءاً ـ قائماً لا مقطعاً ... والآن ـ والحمد لله ـ قد تحقق هدف الشرع، وهو منع الرق بكل أنواعه من جميع العالم.. ومن ثم لا يثور أي تساؤل بشأنه في موضعنا هذا، ولا يصح أن يجعل ركيزة لشيء في موضوع بحثنا هذا (3) .   (1) شرح الأزهار: ج3 ص 30، والتاج المذهب: ج2 ص 340 (2) يراجع هذه الفروق في التاج المذهب: ج2 ص 455 (3) راجع كتاب الجنايات في الفقه الإسلامي: ج 1 ص200 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 المبحث الثامن حكم بيع جزء من أجزاء الآدمي المتجددة - حكم بيع لبن الآدمي - حكم بيع شعر الآدمي حكم بيع جزء من أجزاء الآدمي لما كانت أجزاء النفس الإنسانية منها ما يتجدد شياً فشيئاً، أو ينمو إذا أخذ منه شيء ـ كاللبن والشعر والدم. ومنه ما لا يتجدد إذا أخذ، كاليد والرجل والأذن والأنف، والعين، من الأجزاء الظاهرة، والقلب والرئة، والكلى، والطحال ... من الأجزاء الباطنة. ونعرض فيما يلي آراء الفقهاء في كلا النوعين: النوع الأول: حكم بيع الأجزاء المتجددة من الإنسان: - حكم بيع لبن الآدمي لقد تعرض الفقهاء لحكم بيع هذه الأجزاء، وكان من أبرز هذه الأشياء المتجددة بيع لبن المرأة الحرة ـ إذا حلب ـ ونعرض فيما يلي بعض النصوص الفقهية ثم نتبعها بالرأي: الحنفية: ففي فتح القدير: (ولا يجوز بيع لبن امرأة في قدح) وقال الشافعي رحمه الله: يجوز بيعه لأنه مشروب طاهر. ولنا (أي الحنفية) أنه جزء الآدمي، وهو بجميع أجزائه مكرم مصون عن الابتذال بالبيع ... وعلق الكمال على ذلك بقوله: إن قوله: (في قدح) هذا القيد لبيان منع بيعه بعد انفصاله عن محله، فإنه لا يكون في قدح إلا بعد انفصاله، أما عين القدحية فليس قيداً، بل سائر الأواني سواء، وإنما هو قيد باعتبار لازمه، وهو انفصاله عن مقره، كي لا يظن أن امتناع بيعه ما دام في الضرع، كغيره، بل على سائر أحواله لا يجوز بيعه ولا يضمن متلفه، وهو مذهب مالك وأحمد. ثم علق على قول الشافعي: وأنه (مشروب طاهر) فيجوز بيعه بقوله: (ونحن نمنع أنه مشروب مطلقاً، بل للضرورة، حتى إذا استغنى عن الرضاع لا يجوز شربه، والانتفاع به يحرم، حتى منع بعضهم صبه في العين الرمداء، وبعضهم أجازه إذا عرف أنه دواء عند البرء. ونقول: هو جزء من الآدمي مكرم ومصون عن الابتذال بالبيع ... ثم يقول: (وجواز البيع يتبع المالية ولا مالية للإنسان إلا ما كان محلاً للرق ... فإن قيل: أجزاء الآدمي مضمونة فيجب كون اللبن كذلك يضمن بالإتلاف ... أجيب بمنع ضمان أجزائه مطلقاً. بل المضمون ما انتقص من الأصل ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 ولابن عابدين أيضاً: (ولا يجوز بيع لبن امرأة ولو في وعاء، ولو أمة على الأظهر، لأنه جزء آدمي، والرق يختص بالحي، ولا حياة في اللبن فلا يحله الرق. قوله: (على الأظهر) أي ظاهر الرواية. وعن أبي يوسف جواز بيع لبن الأمة لجواز إيراد البيع على نفسها، فكذا على جزئها، قلنا: الرق حل نفسها، فأما اللبن فلا رق فيه؛ لأنه يختص بمحل تتحقق فيه القوة التي هي ضده، وهو الحي، ولا حياة في اللبن. فلا يكون محلاً للعتق ولا للرق فكذا البيع، وأشار إلى أنه لا يضمن متلفه لكونه ليس بمال، وإلى أنه لا يحل التداوي في العين الرمداء، وفيه قولان، قيل بالمنع وقيل بالجواز، إذا علم فيه الشفاء ـ كما في الفتح هنا ـ وقال في موضع آخر: إن أهل الطب يثبتون نفعاً للبن البنت للعين، وهي من أفراد مسألة الانتفاع بالمحرم للتداوي كالخمر، واختار في النهاية والخانية الجواز إذا علم فيه الشفاء ولم يجد دواء غيره (بحر) (1) . المالكية: جاء في الفروق للقرافي في الفرق الخامس والثمانين والمائة بين قاعدة ما يجوز بيعه وقاعدة ما لا يجوز بيعه. فقاعدة ما يجوز بيعه: ما اجتمع فيه شروط خمسة، وقاعدة ما لا يجوز بيعه: ما فقد منه أحد هذه الشروط الخمسة، فالشروط الخمسة هي الفرق بينهما وهي: الشرط الأول: بقوله عليه السلام في الصحيحين: ((إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) فقيل له: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويستصبح بها، فقال: ((لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها)) . الشرط الثاني: أن يكون منتفعاً به ليصح مقابلة الثمن له. الشرط الثالث: أن يكون مقدوراً على تسليمه حذراً من الطير في الهواء، والسمك في الماء، ونحوهما، لنهيه عليه السلام عن بيع الغرر. الشرط الرابع: أن يكون معلوماً للمتعاقدين، لنهيه عليه السلام عن أكل المال بالباطل. الشرط الخامس: أن يكون الثمن والمبيع مملوكين للعاقد والمعقود له، أو من أقيما مقامه. فهذه شروط في جواز البيع دون الصحة؛ لأن بيع الفضولي وشراءه محرم.   (1) ابن عابدين: جـ4 ص 118 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 وفي الشروط مسألتان: المسألة الأولى: في الشرط الثاني قال صاحب الجواهر: يكفي أصل المنفعة وإن قَلَّت، وقلت قيمتها، فيصح بيع التراب والماء ولبن الآدميات، وقاله الشافعي وابن حنبل قياساً على لبن الغنم. وقال أبو حنيفة رضي الله عنهم أجمعين: لا يجوز بيعه ولا أكله؛ لأنه جزء حيوان منفصل عنه في حياته فيحرم أكله فيمتنع بيعه. وجوابه القياس المتقدم، وفرق هو بشرف الآدمي، وإباحة لبنه هو أنه استثنى منه الرضاع للضرورة، وبقي ما عداه على الأصل بخلاف الأنعام، بدليل تحريم لحمه تشريفاً له. ويندفع الفرق بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أرضعت كبيراً فحرم عليها، فلو كان حراماً لما فعلت ذلك. ولم ينكر عليها أحد من الصحابة، فكان ذلك إجماعاً على إلغاء هذا الفرق. وعلق على ذلك صاحب إدرار الشروق بقوله: (قلت ما قاله من أن فرق الحنفية يندفع بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أرضعت كبيراً فحرم عليها، لقائل أن يقول: لا يندفع بذلك، لجعل رضاع الكبير لقصد ثبوت التحريم، داخلاً فيما استثني للضرورة..) . الشافعية: جاء في المجموع جـ9 ص 276: (فرع) بيع لبن الآدميات جائز عندنا لا كراهة فيه، هذا هو المذهب، وقطع به الأصحاب إلا الماوردي والشاشي والروياني، فحكوا وجهاً شاذا عن ابن القاسم الأنماطي من أصحابنا أنه نجس لا يجوز بيعه، وإنما يربى به الصغير للحاجة، وهذا الوجه غلط من قائله، وقد سبق بيانه في باب إزالة النجاسة، فالصواب جواز بيعه، قال الشيخ أبو حامد: هكذا قاله الأصحاب، قال: ولا نص للشافعي في المسألة، هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز بيعه. وعن أحمد روايتان كالمذهبين. واحتج المانعون بأنه لا يباع في العادة، وبأنه فضلة آدمي فلم يجز بيعه، كالدمع والعرق والمخاط، وبأن ما لا يجوز بيعه متصلاً لا يجوز بيعه منفصلاً، كشعر الآدمي، ولأنه لا يؤكل لحمها فلا يجوز بيع لبنها كالأتان. واحتج أصحابنا بأنه لبن طاهر منتفع به، فجاز بيعه كلبن الشاة، ولأنه غذاء للآدمي فجاز بيعه كالخبز (فإن قيل) : هذا منتقض بدم الحيض فإنه غذاء للجنين ولا يجوز بيعه. قال القاضي أبو الطيب في تعليقه: (فالجواب) أن هذا ليس بصحيح ولا يتغذى الجنين بدم الحيض، بل يولد وفمه مسدود لا طريق فيه لجريان الدم، وعلى وجهه المشيمة، ولهذا أجنة البهائم تعيش في البطون ولا حيض لها، ولأنه مائع يحل شربه فجاز بيعه كلبن الشاة. قال الشيخ أبو حامد: (فإن قيل) : ينتقض بالعرق (قلنا) : لا نسلم بل يحل شربه، (وأما) الجواب عن قولهم: لا يباع في العادة، فإنه لا يلزم من عدم بيعه في العادة أن لا يصح بيعه، ولهذا يجوز بيع بيض العصافير، وبيع الطحال، ونحو ذلك مما لا يباع في العادة، والجواب عن القياس على الدمع والعرق والمخاط أنه لا منفعة فيه بخلاف اللبن، وعن البيض بأنه لا يجوز الانتفاع به بخلاف اللبن، وعن لبن الأتان بأنه نجس بخلاف لبن الآدمية، والله تعالى أعلم) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 الحنابلة: جاء في كشف القناع ج2 ص 8: (ويصح بيع لبن آدمية ولو كانت حرة، أي: المنفصل منها، لأنه طاهر منتفع به كلبن الشاة، ولأنه لا يجوز أخذ العوض عنه في إجازة الظئر فيضمنه متلفه. ويكره للمرأة بيع لبنها نص عليه. ولا يصح بيع لبن رجل، فلا يضمن بإتلاف) . وجاء في الشرح الكبير ج4 ص 12: (فأما بيع لبن الآدميات فرويت الكراهة فيه عن أحمد، واختلف أصحابنا في جوازه، وهو قول أبي حامد ومذهب الشافعي. وذهب جماعة من أصحابنا إلى تحريم بيعه، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، ولأنه مائع خارج من آدمية، فلم يجز بيعه كالعرق ولأنه جزء من آدمي فلم يجز بيعه أشبه سائر أجزائه. ثم تابع ابن قدامة تحليلاً مرجحا بأحد الرأيين فقال: والأول أصح؛ لأنه ظاهر منتفع به، فجاز بيعه كلبن الشاة، ولأنه يجوز أخذ العوض عنه في إجارة الظئر، فأشبه المنافع، ويفارق العرق فإنه لا نفع فيه ولذلك لا يباع عرق الشاة ويباع لبنها، وسائر أجزاء الآدمي يجوز بيعها فإنه يجوز بيع العبد والأمة، وإنما حرم بيع الحر لأنه غير مملوك، وحرم بيع العضو المقطوع منه لأنه لا نفع فيه) . الظاهرية: جاء في المحلى لابن حزم جـ4 ص 481: (وكل ما حرم أكل لحمه فحرام بيعه ولبنه؛ لأنه بعضه ومنسوب إليه وبالله تعالى التوفيق، إلا ألبان النساء فهي حلال كما ذكرنا قبل وبالله تعالى التوفيق) . وجاء في بداية المجتهد جـ2 ص 127: (ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب اختلافهم في جواز بيع لبن الآدميات إذا حلب؛ فمالك والشافعي يجوزانه، وأبو حنيفة لا يجوزه) . وعمدة من أجاز بيعه أنه لبن أبيح شربه، فأبيح بيعه قياساً على سائر الأنعام. وأبو حنيفة يرى أن تحليله إنما هو لمكان ضرورة الطفل إليه، وأنه في الأصل محرم، إذ لحم ابن آدم محرم، والأصل عندهم أن الألبان تابعة للحوم، فقالوا في قياسهم: هكذا الإنسان حيوان لا يؤكل لحمه، فلم يجز بيع لبنه، أصله لبن الخنزير والأتان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 المقارنة والترجيح: المقارنة: اختلف الفقهاء في حكم بيع لبن الآدمية الحرة إذا حلب إلى رأيين: الرأي الأول: يرى الحنفية والمالكية (1) وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة، والزيدية أنه لا يجوز بيعه، وقد استندوا في ذلك إلى الأدلة التالية: 1- أن الآدمي مكرم شرعاً (2) لا مبتذل، فلا يجوز أن يكون شيء من أجزائه مهاناً مبتذلاً ـ وبيعه، أو بيع جزء من أجزائه إهانة وابتذال له ـ وهذا لا يجوز شرعاً ـ أو نقول: هو جزء من الآدمي مكرم مصون عن الابتذال بالبيع. 2- أن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيحين: ((لعن الواصلة والمستوصلة)) والواصلة هي التي تصل الشعر بشعر النساء، والمستوصلة المعمول بإذنها ورضاها. وهذا اللعن إنما كان بسبب الانتفاع بما لا يحل الانتفاع به شرعاً، ألا ترى أنه رخص في اتخاذ القراميل، وهي ما يتخذ من الوبر ليزيد في قرون النساء للتكثير، فظهر أن اللعن ليس للتكثير مع عدم الكثرة، وإلا لمنع القراميل، ولا شك أن الزينة حلال، قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32 ـ ولولا لزوم الإهانة بالاستعمال لحل وصلها بشعور النساء أيضاً. 3- أن جواز البيع يتبع المالية ـ أي أن يكون الشيء مالا ـ ولا مالية للإنسان الحر. 4- أنه مائع خارج من آدمية، فلم يجز بيعه كالعرق. 5- أنه جزء حيوان منفصل عنه في حياته، فيحرم أكله، فيمتنع بيعه. - وفي هذا الاستدلال إشارة إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه قوله: ((ما أبين من الحي فهو ميت)) و ((ما قطع من حي فهو ميتة)) رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين، وإذا كان ميتاً فإنه لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به ـ على الوجه والرأي الذي يجري على الميتة.   (1) سبق نقل النص (2) سبق ذكر الآيات والأحاديث الدالة على ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 الرأي الثاني: يرى مالك (1) والشافعية في رأي آخر وبعض الحنابلة (2) والظاهرية جواز بيع لبن الآدمية الحرة إذا حلب، وقد استدلوا على ذلك بما يأتي: 1- أن هذا اللبن هو لبن أبيح شربه، فأبيح بيعه قياساً على لبن سائر الأنعام. 2- أو هو مشروب طاهر ننتفع به، وما كان كذلك يجوز بيعه قياساً على المشروبات الطاهرة المنتفع بها. 3- أن في اللبن منفعة، فهو شيء منتفع به، وأنه يكفي في جواز بيع الشيء وجود أصل المنفعة وإن قلَّت وقلَّت قيمتها، فيصح بيع التراب والماء ولبن الآدميات قياسا على لبن الغنم. الترجيح: والناظر في الأدلة التي استند إليها كل من الرأيين يجد رجحان الرأي الأول الذي يرى عدم جواز بيع لبن الآدمية الحرة وذلك للاعتبارات التالية: أولاً: لا ينكر أحد من العلماء ـ سواء من منع أو من أجاز ـ أن الآدمي مكرم شرعاً وأنه غير مبتذل، وأن البيع وما شابهه من التصرفات إهانة وابتذال للشيء المبيع وإخضاع له لإرادة بائعه والمتصرف فيه ... ) وأن الإهانة والابتذال للإنسان لا تجوز شرعاً بالاتفاق. ثانياً: أن الآدمي الحر ليس مالاً يباع ويشترى، ويوهب ويتصدق به. ويؤكل ... وهذا بالاتفاق أيضاً ـ ومن ثم لا يجري عليه ما يجري على الأموال ، وإذا نظرت في تعريف الفقهاء للمال عرفت حقاً أن الإنسان ليس مالاً عند جميع الفقهاء. فالمال عرفه بعض الحنفية بأنه (ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره للانتفاع به وقت الحاجة) ، وعرفه بعضهم بأنه: (اسم لغير الآدمي خلق لصالح الآدمي، وأمكن إحرازه والتصرف فيه على وجه الاختيار) وعرفه آخرون بأنه: (ما يميل إليه الطبع ويجري فيه البذل والمنع، فخرج التراب ونحوه) .   (1) نقل الحنفية والشافعية والحنابلة أن مالكاً لا يجوز بيعه، ونقل ابن رشد أن مالكاً يجوز بيعه، ومثله ما أورده القرافي في فرقه 185. وإن كان قد اقتصر على رأي القائلين بعدم جواز بيعه، وقد سبق نقل النص. (2) ورد في كشف القناع: جـ2 ص8 (ويصح بيع لبن آدمية ولو كانت حرة.. ويكره للمرأة بيع لبنها نص عليه، ولا يصح بيع لبن رجل فلا يضمن بإتلاف ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 وعرفه الزركشي (1) الشافعي بتعريف يحصر دائرة المال في: (المال ما كان منتفعاً به، أي مستعداً لأن ينتفع به، وهو إما أعيان أو منافع) أي منافع الأعيان. والأعيان قسمان: جماد وحيوان. فالجماد مال في كل أحواله. والحيوان ينقسم إلى قسمين: ما ليس له بنية صالحة للانتفاع، فلا يكون مالاً كالذباب والبعوض والخنافس والحشرات. وإلى ما له بنية صالحة (للانتفاع به) ، وهذا ينقسم إلى ما جبلت طبيعته على الشر والإيذاء كالأسد والذئب، وليست مالا، وإلى ما جبلت طبيعته على الاستسلام والانقياد كالبهائم والمواشي، فهي أموال. والسر فيه أن استعمال الجمادات ممكن على سبيل القهر، إذ ليس لها قدرة وإرادة يتصور منها الامتناع. وأما الحيوان فهو مختار في الفعل، فلا يتصور استعمالها إلا بمساعدة منها، فإذا كانت مجبولة على طبيعة الاستسلام أمكن استعمالها واستسخارها في المقاصد، بخلاف ما طبيعته الشر والإيذاء، فإنها تمتنع وتستعصي، وتنتهي إلى ضد غرض المستعمل، ولهذا إذا صالت تلك الحيوانات التحقت بالمؤذيات طبعاً في الإهدار) . كما بين أيضاً اختلافهم في كون المنفعة مالا، ثم بين أن الشافعية اتفقوا على أن المنافع لا تندرج تحت مطلق اسم المال، لكن قالوا: يطلق عليها أنها مال، أما على طريق الحقيقة فلا يطلق عليها أنها مال. وعرف الحنابلة المال شرعاً بأنه ما فيه منفعة مباحة لغير حاجة أو ضرورة، أو بأنه ما يباح بيعه مطلقاً ـ أي في كل الأحوال ـ أو يباح اقتناؤه بلا حاجة، فخرج ما لا نفع فيه كالحشرات ـ وما فيه نفع محرم كخمر، وما لا يباح إلا عند الاضطرار كالميتة، وما لا يباح اقتناؤه إلا لحاجة كالكلب.   (1) الزركشي: جـ3 ص 222 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 ومن هذه التعريفات للأموال يتضح لنا أن الإنسان ليس من الأعيان التي يقال عنها: إنها مال، أو أنه يجري عليها الملك، أو أنه يجوز التصرف فيها كما يتصرف في الأموال. ثالثاً: أن قول المجيزين لبيع لبن الآدمية الحرة: إن اللبن مشروب طاهر منتفع به فيحل بيعه قياساً على حل بيع المشروبات الطاهرة المنتفع بها ... يمكن أن يراد عليهم بما يرد عليهم به الحنفية حيث قالوا: (نحن نمنع أنه مشروب مطلقاً، بل للضرورة، حتى إذا استغنى الطفل عن الرضاع لا يجوز شربه، والانتفاع به يحرم) . ثم بين المذهب أن خلافاً جرى في كونه يصح الانتفاع به في التداوي فقالوا: (إن بعض العلماء منع صبه في العين الرمداء، وبعضهم أجازه إذا علم فيه الشفاء، وقد نقل ابن عابدين عن فتح القدير أن أهل الطب يثبتون نفعاً للبن البنت للعين، وهي من أفراد مسألة الانتفاع بالمحرم للتداوي كالخمر، واختار في النهاية والخانية الجواز إذا علم فيه الشفاء، ولم يجد دواء غيره. فالقول في الاستدلال بأنه مشروب طاهر إلى آخره، منعه بعض الفقهاء ولم يجعلوه مشروباً طاهراً جائزاً بيعه، بل قالوا: إنه ليس مشروباً وإنه أبيح استثناء رضاعه للطفل حفاظاً على حياته ... وفيما عدا ذلك يحرم، فهذا الدليل غير مسلم عند كل الفقهاء فهو استدلال بمختلف فيه، ومثله لا يصلح للاستدلال، وتبقى الأدلة الأخرى سالمة عن المعارضة. رابعاً: أن القول بأنه منتفع به، وإن ما كان منتفعاً به وإن قلت منفعته يجوز بيعه، غير مسلم على إطلاقه؛ إذ كل المحرمات لا تعدم نوعاً من النفع، وحسبنا قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 فالمشرع قد أهدر المنفعة هنا حين حرم تناول الخمر ولعب الميسر ... ، ومثل ذلك يجري في كل المحرمات. فلا بد لإباحة التصرف في الشيء أن يكون أصل الشيء حلالاً في ذاته، مباحاً في ذاته له، فإذا وجد فيه منفعة وإن قلت أبيح بيعه والتصرف فيه لمن ملكه، فمن ملك شيئاً ولو قل نفعه، أبيح له بيعه أو بيع جزء منه. فهل ملك الإنسان نفسه، أو ملك أحد إنساناً حراً حتى نقول بجواز أن يبيعه أو يبيع جزءاً منه، الإجابة على ذلك: لا؛ لأن الحر غير مملوك، وأنه يحرم المساس به كلا أو بعضاً إلا بحق ... ومن هان يفترقان. وحسبنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة أنا خصمهم.. منهم رجل باع حراً وأكل ثمنه)) . خامساً: أن قياس لبن الآدميات في جواز بيعه على لبن الغنم قياس مع الفارق وذلك لما يأتي: 1- أن الإنسان مالك للغنم والغنم مملوكة له، وشتان بين الأمرين. 2- أن لحم الإنسان محرم، ولحم الغنم حلال. 3- أن الإنسان مكرم غير مبتذل، والغنم مسخرة للإنسان ومبتذلة له. وشتان بين الأمرين. 4- أن لبن الآدميين تتعلق به أحكام دقيقة وخطيرة، حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)) . ولا تتعلق بلبن الغنم أحكام، ومثل ذلك يجعل القياس مع الفارق ويوجب علينا عدم التوسع في أحكام هذا النوع من اللبن، بحيث يحلب ويباع ويشترى. سادساً: أن قولهم بأن أجزاء الآدمي مضمونة ـ يعني عند التعدي عليه ـ سواء بالقصاص أو الدية أو حكومة العدل، فيجب أن يكون اللبن مضموناً بالإتلاف. أجاب عنه الحنفية بمنع ضمان أجزاء الإنسان مطلقاً، بل المضمون ما انتقص من الأصل حتى لو نبتت السن التي قلعت لا ضمان، إلا ما يستوفى بالوطء فإنه مضمون وإن لم ينتقص شيئاً، تغليظاً لأمر البضع، فجعل ما يستوفى بالوطء في حكم النفس، بخلاف من جز صوف شاة، فإنه يضمن وإن نبت غيره، وبإتلاف اللبن لا ينتقص شيء من الأصل، ولأن حرمة المصاهرة تثبت بشربه، ففي إشاعته ببيعه فتح لباب فساد الأنكحة، فإنه لا يقدر على ضبط المشترين والبائعين فيشيع فساد الأنكحة بين المسلمين. ثم قال الكمال بن الهمام: وإن كان هذا يندفع إذا كانت حرمة شربه شائعة بالدار (دار الإسلام) فيعلم أن شراءه ليس إلا لمنفعة أخرى ـ كشراء الأمة المجوسية بعد اشتهار حرمة وطئها شرعاً، لكنهم يجيزون شربه للكبير. هذا ولقد روي عن محمد بن الحسن أنه قال: (جواز إجارة الظئر دليل على فساد بيع لبنها؛ لأنه لما جازت الإجارة ثبت أن سبيله سبيل المنافع، وليس سبيله سبيل الأموال؛ لأنه لو كان مالاً لم تجز الإجارة، ألا ترى أن رجلاً لو استأجر بقرة على أن يشرب لبنها لم تجز الإجارة، فلما جاز إجازة الظئر ثبت أن لبنها ليس مالاً. لكل هذه الاعتبارات أرى عدم جواز بيع لبن الآدمية الحرة ولا الآدمي، كما لا يجوز بيعهما ولا بيع شيء من أجزائهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 حكم بيع شعر الآدمي ولقد أبرز بعض الفقهاء حكم بيع شعر الإنسان، ونصوا عليه مبينين ما استندوا إليه من أدلة، وأغفل ذكره البعض معتمدين على أنه جزء الإنسان فيسري عليه ما يسري، على بقية أجزائه من حرمة بيعها، وكان من أبرز الموضحين لحكمه فقهاء الحنفية، والظاهرية، والزيدية إذ نصوا عليه صراحة: ونورد فيما يلي بعضاً من النصوص الفقهية في هذا الموضوع. أولا: الحنفية. جاء في البداية: (ولا يجوز بيع شعور الإنسان ولا الانتفاع بها؛ لأن الآدمي مكرم لا مبتذل، فلا يجوز أن يكون شيء من أجزائه مهاناً ومبتذلاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله الواصلة والمستوصلة)) الحديث. وإنما يرخص فيما يتخذ من الوبر فيزيد في قرون النساء وذوائبهن. وقال الكمال تعليقاً على ذلك: (لا يجوز بيع شعور الإنسان مع قولنا بطهارته، ولا الانتفاع بها ... وفي بيعه إهانة له، وكذا في امتهانه بالانتفاع، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيحين: ((لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة)) فالواصلة هي التي تصل الشعر بشعر النساء، والمستوصلة المعمول بها بإذنها ورضاها، وهذا اللعن للانتفاع بما لا يحل الانتفاع به، ألا ترى أنه رخص في اتخاذ القراميل، وهي ما يتخذ من الوبر ليزيد في قرون النساء للتكثير، فظهر أن اللعن ليس للتكثير مع عدم الكثرة، وإلا لمنع القراميل، ولا شك أن الزينة حلال قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} (1) فلولا لزوم الإهانة بالاستعمال لحل وصلها بشعور النساء أيضاً) .   (1) الآية: 32. من سورة الأعراف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 وجاء في العناية: (بيع شعور الآدميين والانتفاع بها لا يجوز، وعن محمد أنه يجوز الانتفاع بها، استدلالا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين حلق رأسه قسم شعره بين أصحابه، فكانوا يتبركون به، ولو كان نجساً لما فعله، إذ النجس لا يتبرك به. وجه ظاهر الرواية أن الآدمي مكرم شرعاً غير مبتذل، وما هو كذلك لا يجوز أن يكون شيء من أجزائه مبتذلاً مهاناً، وفي البيع والانتفاع كذلك، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الواصلة والمستوصلة)) والواصلة من تصل الشعر والمستوصلة من يفعل بها ذلك ... ) (1) .   (1) فتح القدير: جـ5 ص302، وقد أورد البابرتي اعتراضاً هادفاً، وقام بالرد عليه، ونورده في ما يلي نظراً لما يؤكده من النظرة التكريمية للآدمي حيث يقول: (فإن قيل جعل المصنف (المرغيناني) رحمه الله بيع شعر الخنزير إعزازاً له فيما تقدم وجعل بيع شعر الآدمي إهانة له، والبيع حقيقة واحدة، فكيف يجوز أن يكون موجباً لأمرين متنافيين؟؟ وأجيب بأن البيع مبادلة (مال بمال) فلا بد فيه من المبيع، فإن كان مما حقره الشرع فبيعه ومبادلته بما لم يحقره إعزاز له، فلا يجوز لإفضائه إلى إعزاز ما حقره الشرع، وإن كان ما كرمه وعظمه فبيعه ومبادلته بما ليس كذلك إهانة له، فلا يجوز لإفضائه إلى تحقير ما علمه الشرع، فليس ذلك من البيع في شيء، وإنما هو من وصف المحل شرعاً. ثم إن عدم جوازهما ليس للنجاسة على الصحيح؛ لأن شعر غير الإنسان لا ينجس بالمزابلة، فشعره وهو طاهر أولى، ولأن في تناثر الشعر ضرورة، وهي تنافى النجاسة. وقال الشافعي: نجس لحرمة الانتفاع به، وهو محجوج للضرورة. ولا بأس باتخاذ القراميل، وهي ما يتخذ من الوبر ليزيد في قرون النساء، أي في أصول شعرهن بالتكثير، وفي ذوائبهن بالتطويل. وقد علق قاضي زاده على قول البابرتي: (واجيب بأن البيع مبادلة فلا بد فيه من البيع ... إلخ) بقوله: (أقول: فيه بحث؛ إذ لو تم ما ذكره لكان البيع بما يماثله في التحقير والتعظيم جائزاً، وليس كذلك، إلا أن يقال: لا نظير لذلك في الشرع وفيه تأمل. أو يقال ما ذكرته كلام على السند، ولعل الأولى أن يقال في جواب أصل السؤال: إن بعض الأشياء خلق مالكاً فجعله مملوكاً إهانة له، لكونه حطاً عن درجته، وبعض الأشياء أخرجه الله تعالى عن دائرة الانتفاع والمملوكية، فجعله مملوكاً رفع له عن درجته، ولا بعد في إيجاب الشيء الواحد أمرين متنافيين في محلين مختلفين، ألا يرى أن الشمس تبيض الثوب، وتسود وجه القصار، وتعقد الملح وتذيب الشمع، فليتأمل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 وجاء في ابن عابدين: (مطلب الآدمي مكرم شرعاً ولو كافراً. ويبطل بيع شعر الإنسان لكرامة الآدمي، ولو كافراً، ذكره المصنف وغيره) حيث قال: والآدمي مكرم شرعا، وإن كان كافرا، فإيراد العقد عليه، وابتذاله به، وإلحاقه بالجمادات إذلال له. اهـ. أي وهو غير جائز وبعضه (أي بعض الإنسان) في حكمه، وصرح في فتح القدير ببطلانه ط. قلت: وعليه أنه يجوز استرقاق الحربي وبيعه وشراؤه وإن أسلم بعد الاسترقاق؟ إلا أنه يجاب بأن المراد تكريم صورته وخلقته، ولذا لم يجز كسر عظام ميت كافر، وليس ذلك محل الاسترقاق، والبيع والشراء، بل محله النفس الحيوانية، فلذا لا يملك بيع لبن أمته في ظاهر الرواية كما سيأتي) (1) . الظاهرية: لقد أوردنا آنفاً قول الظاهرية: (وكل ما حرم أكل لحمه فحرام بيعه ولبنه؛ لأنه بعضه ومنسوب إليه - وبالله تعالى التوفيق - إلا ألبان النساء فهي حلال كما ذكرنا قبل وبالله تعالى التوفيق) . وهو دل دلالة واضحة على أن بيع شعر الإنسان، أو أي عضو منه حرام إلا ألبان النساء عندهم فقط. الزيدية: وما نقلناه عن الزيدية فيما سبق يدل على تحريم بيع شعور الآدميين حيث قالوا: (لا يجوز مطلقاً بيع الحر ولو شعراً بعد انفصاله، باع نفسه أو باعه غيره ... ) . ومن هذه النصوص يتضح لنا عدم جواز بيع شعر الآدمي؛ لأنه بعض الإنسان، وبعضه منسوب إليه، وقد كرم الله الإنسان وحرم بيعه، فيكون بيع شعره حراماً كحرمته هو.   (1) ابن عابدين: ج4 ص 110 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 المبحث التاسع حكم بيع جزء من أجزاء الآدمي غير المتجددة حكم بيع جزء من أجزاء الآدمي غير المتجددة لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان فأبدع خلقه، وسواه فأحسن تسويته، قال تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (1) . وقال: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (2) وقال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (3) فالإنسان هو أمارة القدرة الإلهية، ودليل الإبداع الإلهي، فكل ما فيه خلق لحكمة، وكل ما فيه خلق لغاية، ولم يوجد شيء فيه خلق عبثاً، أو دون حكمة أو هدف؛ إذ كل ما يصدر عنه جل شأنه كمال، وكل ما يخلقه هو قمة الإبداع. ومن ثم كانت أجزاء الإنسان الظاهرة والباطنة هي مكوناته، وهي حقيقته، وهي المؤلفة لوحدة هذا الجسم وتناسقه وحمايته على المدى القريب والبعيد، وهي المؤدية لغاياته، والمناط بها استمرار حياته إلى نهاية الأجل الذي كتبه الله جل شأنه له ... هذه حقيقة أولى. أما الحقيقة الثانية فهي أن كل جزء من أجزاء الإنسان خلق ليؤدي وظيفة معينة في الجسم الآدمي، ويقوم بمهام محددة ضمن الإطار العام ... ولم يخلق أي جزء فيه عبثاً، أو دون هدف، أو زائداً عن الحاجة. وأما الحقيقة الثالثة فهي أن الشريعة الإسلامية حرمت بيع الإنسان أو التصرف فيه، كما سبق أن أوضحناه. ومن ثم انبثق عن هذه الحقيقة حرمة بيع أي جزء من أجزائه غير المتجددة ظاهراً كان العضو أو باطناً، كان مكرراً كالكلى أو الخصية أو الرئة، أو غير مكرر، كالقلب أو الطحال أو الكبد.   (1) الآية: 14 من سورة المؤمنون (2) الآيتان7، 8 من سورة الانفطار (3) الآية: 4 من سورة التين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 إذ هذه الأجزاء جميعها هي مكونات الآدمي من لحم وعظم، وإن أخذ كل عضو من أعضائه اسماً معيناً إلا أنها أجزاء الحقيقة، فما تأخذه الحقيقة الكلية من حكم يأخذه كل جزء من أجزائها؛ لأنها نفس واحدة، وروح واحدة، فإذا حرم التصرف في الآدمي حرم التصرف في كل جزء من أجزائه. (ومن ثم رأينا الحنفية لا يجوزون بيع شعر الإنسان ولا الانتفاع به ... ، ولا بيع لبن امرأة إذا حلب ... كما سبق أن ذكرنا ـ وعللوا ذلك بأن الآدمي مكرم شرعاً وإن كان كافراً، فإيراد العقد عليه، وابتذاله به، وإلحاقه بالجمادات إذلال له، وإذلاله غير جائز، وبعض الإنسان في حكمه، وصرح في فتح القدير ببطلان بيعه. فسائر أجزاء الآدمي لا يجوز بيعها سواء كانت متجددة أو غير متجددة عندهم. المالكية: ولقد بين القرافي في النص المنقول آنفاً أن الأصل حرمة أجزاء الآدمي، وأن إباحة اللبن هو أنه استثنى منه الرضاع للضرورة، وقيس ما عداه على الأصل، بخلاف الأنعام بدليل تحريم لحمه تشريفاً له ... الشافعية: وقد نطق فقه الشافعية بذلك أيضاً. فقد نص الشافعية على قاعدة عامة في التصرف في الحر وهي: (الحر لا يدخل تحت اليد والاستيلاء) (1) . ومؤاده أنه لا يملك، وإذا كان الحر لا يملك، فإنه لا يجري عليه بيع ولا هبة ولا أي تصرف من التصرفات التي تجري على الشيء المملوك. كما ينصون على أنه: (يحرم جزماً على شخص قطعه (أي بعض نفسه) لغيره من المضطرين، لأن قطعه لغيره ليس فيه قطع البعض لاستيفاء الكل ... ) وقد سبق النص. ثم ينصون على قاعدة شرعية تمنع التصرف فيما لا يحل للإنسان، ولا يدخل في ملكه وهي: (من لا يملك التصرف لا يملك الإذن فيه) (2) .   (1) المنشور من القواعد للزركشي الشافعي: جـ2 ص 43 (2) المنشور من القواعد للزركشي الشافعي: ج3 ص 211 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 وفي قاعدة أخرى: (ما حرم أخذه حرم إعطاؤه) (1) . ومن ثم كان محرماً على أي شخص أن يقلع جزءاً من نفسه لغيره، وإذا كان ذلك حراماً فلا يصح حينئذ أخذ عوض عنه، أو التبرع به، لأن ما لا يجوز بيعه لا يجوز هبته، وما جاز بيعه جاز هبته كما هي القاعدة الشرعية أيضاً التي نصوا عليها. وإذا كان هناك رأي للشافعية في صحة بيع لبن الآدمي إذا حلب، فإنه خاص بهذا فقط، دون غيره من أجزاء الإنسان؛ إذ يحرم عندهم التصرف فيها كلا أو بعضا. والحنابلة: يرون حرمة بيع أجزاء الإنسان، ولقد وضحوا رأيهم هذا صراحة عند عرضهم اختلاف الفقهاء في حرمة بيع لبن الآدمي إذا حلب، فالإمام أحمد روي عنه كراهته وجماعة من الحنابلة يحرمون بيعه، كالحنفية والمالكية ويعللون ذلك (بأنه جزء من آدمي فلم يجز بيعه ... ) أشبه سائر أجزائه. وأما الرأي المخالف لذلك من بينهم والذين رأوا تصحيحه وهو جواز بيع لبن الآدمي لأنه طاهر منتفع به ... قالوا: (وإنما حرم بيع الحر، لأنه غير مملوك، وحرم بيع العضو المقطوع منه، لأنه لا نفع فيه) . والظاهرية: يرون ـ كما سبق أن نقلناـ: (أن كل ما حرم أكل لحمه فحرام بيعه ولبنه؛ لأنه بعضه ومنسوب إليه - وبالله تعالى التوفيق - إلا ألبان النساء فهي حلال ... ) . ومنه يتبين حرمة بيع أجزاء الآدمي غير اللبن عندهم. والزيدية: يقولون بأبلغ تعبير: (لا يجوز مطلقاً بيع الحر ولو شعراً بعد انفصاله، باع نفسه أو باعه غيره (2) .ثم أوجبوا تأديب من يفعل ذلك أو تعزيزه بما يراه الحاكم. والإمامية: أيضاً لا يجوزون بيع ما لا يملك كالإنسان الحر، ومقتضاه أنهم لا يجوزون بيعه كلا أو بعضاً؛ لأن ما لا يدخل تحت ملك الإنسان لا يجوز له التصرف فيه.   (1) الأشباه للسيوطي: ص 150 (2) سبق ذكر النص جميعه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 والإنسان وأجزاؤه لا يدخل تحت ملك الإنسان فلا يملك نفسه، ولا يملكه غيره، وقد فهم بعض الباحثين من قول صاحب المغني: (وحرم بيع العضو المقطوع منه لأنه لا نفع فيه) تقدم النص آنفاً: أنه يريد مطلق النفع، وقال: إن الفقهاء لو رأوا نفع نقل الأعضاء كما في العصر الحديث لوافقوا على بيعها، وجعل ذلك أساساً لقوله بجواز بيع الأعضاء الآدمية. وهذا الفهم مجاف للصواب؛ لأن المحرم مهدر النفع شرعاً، ولا يعتمد بنفعه، وإلا فكل ما في الكون من المحرمات فيها نفع، وفيها ضرر، ولكن الشرع أهدر ما فيها من نفع ولم يعتد به رغم وجوده عقلاً وحسا. انظر إلى الخمر والميسر، يقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (1) ومع ذلك حرم الشرع شرب الخمر وبيعها والانتفاع بها، (وحرم الميسر ما قد يكون فيه من منافع) ويقول الشاطبي في موافقاته: جـ3 ص 120. (ومن الفوائد في ذلك أن كل ما لا منفعة فيه من المعقود عليه في المعاوضات لا يصح العقد عليه، وما فيه منفعة أو منافع لا تخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون جميعها حراماً أن ينتفع بها، فلا إشكال في أنه جار مجرى ما لا منفعة فيه البتة) . والثاني: أن يكون جميعها حلالا، فلا إشكال في صحة العقد به وعليه ... والثالث: أن يكون بعض المنافع حلالا، وبعضها حراماً، فههنا معظم نظر المسألة، ثم يقول ص 122: (وما سوى ذلك مما يقصد بالبيع ولا يقصد في نفسه عادة إلا بالتبعية لا حكم له (وقد ورد تحريم الميتة وأخواتها، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم في شحم الميتة: إنه تطلى به السفن ويستصبح به الناس، فأورد ما دل على منع البيع، ولم يعذرهم بحاجتهم إليه في بعض الأوقات؛ لأن المقصود وهو الأكل محرم، وقال: ((لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها)) وقال في الخمر: ((إن الذي حرم شربها حرم بيعها، وإن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه)) . (ولا شك أن الإنسان حرام دمه، بنصوص شرعية، وحرام بيعه بنصوص شرعية أيضاً، كما سبق أن ذكرنا ـ فلا عبرة بما في جميع أعضائه من نفع إطلاقاً؛ لأن ما حرم كله حرم بعضه؛ إذ لا عبرة بأي نفع قد أهدره الشرع؛ لأن الله تعالى وضع لنا من الضوابط لما يحل ويحرم ما يحقق مصالح الناس في عاجلهم وآجلهم، ومنافعهم الحقيقة لا منافعهم الوهمية أو الظنية. فمنافع الإنسان منها ما أجاز الشرع الحكيم وورد العقد عليه، كعقد اجارة الأشخاص، وحينئذ وضع الضوابط اللازمة لصحة هذا العقد. ومنها ما لم يجز الشرع وورد العقد عليه، ولا التصرف فيه، كبيع الآدمي الحر، أو بيع جزء منه ... ، وحينئذ يكون العقد عليه باطلاً، لا ينتج آثاراً، فضلاً عن الإثم الواقع على من يتصرف فيما لم يبح الشرع التصرف فيه.   (1) الآية: 219 من سورة البقرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 المبحث العاشر حكم تبرع الإنسان بجزء من أجزائه لمنفعة شخص آخر حكم تبرع الإنسان بجزء من أجزائه لمنفعة شخص آخر بينا آنفاً حرمة بيع إنسان لعضو من أعضائه لينتفع به شخص آخر، ونوضح هنا رأي الفقه الإسلامي في حكم التبرع بأي عضو من أعضائه، على النحو التالي: بينا فيما سبق أن قواعد الفقه الإسلامي تقرر ما يلي: القاعدة الأولى: (ما جاز بيعه جازت هبته، وما لا فلا) (1) . وأصل هذه القاعدة واضح أن البيع هو مبادلة مال بمال، وأن الذي يجوز بيعه هو ما يدخل تحت ملك الإنسان، أي ما يكون مملوكاً له، وما يكون مالا، أي ما يدخل تحت سلطته. والإنسان ليس مالاً وليس مملوكاً للإنسان، بل لله تعالى، فليس لأحد سواه حق التصرف فيه ببيع أو غيره. والهبة: تمليك مال بلا عوض، فمحل الهبة هو المال، ومالك هذا المال كما يملك بيعه، يملك هبته. فإذا لم يكن الشيء مالاً فلا يجري عليه بيع ولا هبة ولا غيرهما من التصرفات الناقلة للملكية.. القاعدة الثانية: (من لا يملك التصرف لا يملك الإذن فيه) (2) . وهذا واضح لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن ليست له ولاية على الشيء لا يملك التصرف فيه، وإذا لم يملك التصرف فيه فكذلك لا يملك الإذن لغيره في التصرف فيه، فالعدم لا ينتج إلا العدم، وانعدام الأصل يترتب عليه انعدام فروعه ومنتجاته وما يترتب عليه ... فالإنسان لا يملك التصرف في الإنسان ـ لا نفسه، ولا غيره ـ وإذا لم يملك ذلك لا يملك أن يأذن لغيره في اقتطاع جزء منه لا على سبيل الهبة، ولا على سبيل البيع.   (1) القواعد للزركشي جـ3 ص 138 (2) المنثور من القواعد للزركشي جـ3 ص 211 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 الحياة حق لله تعالى وليس للإنسان خيار في هذا الحق - الحق هو كل ما استحقه الإنسان شرعاً طبقاً لما قررته الشريعة وما أرسته من أحكام وما جاءت به من نظام، فالحق مصدره الشرع، وموضوعه ومحله هو ما قرره الله للإنسان وما أثبته له، في صورة فردية أو في صورة جماعية. إذ الحقوق منها ما يتعلق به النفع العام للناس جميعها، وتسمى (حقوق الله تعالى) وقد سميت بذلك تشريفاً لها وتعظيماً حتى لا يجرؤ على انتهاكها أو المساس بها، وتدور هذه الحقوق حول العبادات بأنواعها، وموارد الدولة المالية والعقوبات؛ حفظاً للدين والنفس والعرض والمال والعقل. ومنها ما يتعلق به مصلحة خاصة بالعبد، فالأصل في هذا النوع من الحق أن منفعته الغالبة تعود إلى الشخص فقط، كما فيما ملكه من أموال ـ عيناً أو منفعة ـ ويسمى هذا النوع من الحق (حق العبد) . ولكل حق من هذين الحقين آثاره وخصائصه المستقاة من نصوص الشريعة (من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) ومنها: (أن حق الله تعالى لا يجري فيه عفو ولا صلح ولا إبراء، ولا يورث ويستوفيه الإمام، وأن حق العبد يجري فيه العفو والصلح والإبراء، ويورث ويستوفيه صاحبه ... ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 إذا عرفنا الفرق بين هذين الحقين فإننا نتساءل: هل جسم الإنسان وحياته هي حق من حقوق الله تعالى؟ أو هي حق من حقوق العبد؟ فإذا حددنا من أي نوع هي، ثبت لنا خصائص هذا الحق وما تميز به عن غيره. للإجابة على ذلك نقول: إن حياة الإنسان وجسمه، وكافة ما يتصل بهذا الجهاز الآدمي هي حق من حقوق الله تعالى، وليست حقاً من حقوق العبد، فليس للإنسان أن يتنازل عن حياته، أو عن جزء من أجزائه، وليس له أن يتصرف فيه بأي تصرف ناقل للملكية، ومعاوضة أو تبرعاً ... والدليل على ذلك ما يأتي: أولاً: سبق أن بينا أن المالك لكل ما في الكون ـ ومنه الإنسان ـ هو الله تعالى، فليس للإنسان ولاية على هذا الجسم إلا في حدود ما رسمه الشرع وما أباحه وأجازه له، أو عليه ... ثانياً: أن هذا الإنسان قد أوجب الله تعالى حفظ حياته، وحفظ كل جزء من أجزائه، وقرر عقوبة رادعة لكل من اعتدى على هذا الجسم كلا أو بعضاً، كما سبق بيانه. ثالثاً: أن الشرع الحكيم قد أوجب عقوبة رادعة لكل من يعتدي على نفسه ـ كلا أو بعضاً ـ كما سبق بيانه. رابعاً: أن الشرع الحكيم قد أوجب على كل من عطل جزءاً من جسمه عن العمل ولو في وقت محدود ـ وهو العقل ـ عقوبة، فشارب الخمر معاقب بعقوبة (حد شارب الخمر) . خامساً: أن إرادة الإنسان ليس لها عمل في إضاعة الحياة أو تعطيل جزء من أجزاء النفس البشرية، أياً كان هذا الجزء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 يقول القرافي: وكذلك تحريمه تعالى المسكرات صوناً لمصلحة عقل العبد عليه، وحرم السرقة صوناً لماله، والزنا صوناً لنسبه، والقذف صوناً لعرضه، والجرح صوناً لمهجته وأعضائه ومنافعها عليه، ولو رضي العبد بإسقاط حقه من ذلك لم يعتبر رضا، ولم ينفذ إسقاطه، فهذه كلها وما يلحق بها من نظائرها، مما هو مشتمل على مصالح العباد حق الله تعالى؛ لأنها لا تسقط بالإسقاط، وهي مشتملة على حقوق العباد، لما فيها مصالحهم، ودرء مفاسدهم،.. (1) ولقد قرر الشاطبي في موافقاته (2) هذا المعنى بصورة باتة فقال: (كل ما كان من حقوق الله فلا خيرة فيه للمكلف على حال، وأما ما كان من حق العبد في نفسه فله فيه الخيرة. أما حقوق الله تعالى فالدلائل على أنها ساقطة ولا ترجع لاختيار المكلف كثيرة، وأعلاها الاستقراء التام في موارد الشريعة ومصادرها، كالطهارة على أنواعها والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أعلاه الجهاد، وما يتعلق بذلك من الكفارات والمعاملات والأكل والشرب واللباس، وغير ذلك من العبادات والعادات التي ثبت فيها حق الله تعالى أو حق الغير من العباد، وكذلك الجنايات كلها على هذا الوزن جميعاً لا يصح إسقاط حق الله فيها البتة، فلو طمع أحد في أن يسقط طهارة للصلاة أي طهارة كانت، أو صلاة من الصلوات المفروضات، أو زكاة أو صوماً أو حجا، أو غير ذلك، لم يكن له ذلك، وبقي مطلوباً بها أبداً حتى يتفصَّى عنه عهدتها، وكذلك لو حاول استحلال مأكول حي مثلاً من غير ذكاة، أو إباحة ما حرم الشارع من ذلك، أو استحلال نكاح بغير ولي أو صداق أو الربا أو سائر البيوع الفاسدة، أو إسقاط حد الزنا أو الخمر أو الحرابة أو الأخذ بالغرم والاعتداء على الغير بمجرد الدعوى عليه وأشباه ذلك، لم يصح شيء منه، وهو ظاهر جداً في مجموع الشريعة. حتى إذا كان الحكم دائراً بين حق الله وحق العبد لم يصح للعبد إسقاط حقه إذا أدى إلى إسقاط حق الله، فلأجل ذلك لا يعترض هذا بأن يقال مثلاً: إن حق العبد ثابت له في حياته وكمال جسمه وعقله وبقاء ماله في يده، فإذا أسقط ذلك بأن سلط يد الغير عليه، فإما أن يقال بجواز ذلك له أو لا، فإن قلت: لا، وهو الفقه، كان نقضاً لما أصلت؛ لأنه حقه، فإذا أسقطه اقتضى ما تقدم أنه مخير في إسقاطه، والفقه يقتضي أن ليس له ذلك، وإن قلت: نعم خالفت الشرع؛ إذ ليس لأحد أن يقتل نفسه ولا أن يفوت عضواً من أعضائه ولا مالا من ماله، فقد قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (3) ثم توعد عليه وقال: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (4)   (1) الفروق: جـ1 ص 140 الفرق الثاني والعشرون، وص 157 (2) الموافقات للشاطبي: جـ4 ص 277 (3) النساء: 29 (4) البقرة: 188 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 وقد جاء الوعيد الشديد فيمن قتل نفسه، وحرم شرب الخمر لما فيه تفويت مصلحة العقل برهة، فما ظنك بتفويته جملة، وحجر على مبذر المال، ونهى عليه الصلاة والسلام عن إضاعة المال، فهذا كله دليل على أن ما هو حق للعبد لا يلزم أن تكون له فيه الخيرة. لأنا نجيب بأن إحياء النفوس وكمال العقول والأجسام من حق الله تعالى في العباد، لا من حقوق العباد، وكون ذلك لم يجعل إلى اختيارهم هو الدليل على ذلك، فإذا أكمل الله تعالى على عبد حياته وجسمه وعقله الذي به يحصل له ما طلب به من القيام بما كلف به فلا يصح للعبد إسقاطه، اللهم إلا أن يبتلى المكلف بشيء من ذلك من غير كسبه ولا تسببه، وفات بسبب ذلك نفسه أو عقله أو عضو من أعضائه، فهنالك يتمحض حق العبد، إذ ما وقع مما لا يمكن رفعه، فله الخيرة فيمن تعدى عليه؛ لأنه قد صار حقاً مستوفى في الغير كدين من الديون، فإن شاء استوفاه وإن شاء تركه، وتركه هو الأولى إبقاء على الكلي، قال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وذلك أن القصاص والدية إنما هي جبر لما فات المجني عليه من مصالح نفسه أو جسده، فإن حق الله قد فات ولا جبر له، وكذلك ما وقع مما يمكن رفعه كالأمراض إذا كان التطبب غير واجب ودفع الظالم عنك غير واجب على تفصيل في ذلك مذكور في الفقهيات، وأما المال فجار على ذلك الأسلوب، فإنه إذا تعين الحق للعبد فله إسقاطه، وقد قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} بخلاف ما إذا كان في يده فأراد التصرف فيه وإتلافه في غير مقصد شرعي يبيحه الشارع فلا، وكذلك سائر ما كان من هذا الباب. وأما تحريم الحلال وتحليل الحرام وما أشبهه فمن حق الله تعالى؛ لأنه تشريع مبتدأ وإنشاء كلية شرعية ألزمها العباد، فليس لهم فيها تحكم؛ إذ ليس للعقول تحسين ولا تقبيح، تحلل به أو تحرم، فهو مجرد تعد فيما ليس لغير الله فيه نصيب، فلذلك لم يكن لأحد فيه خيرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 فإن قيل: فقد تقدم أيضاً أن كل حق للعبد لا بد فيه من تعلق حق الله به، فلا شيء من حقوق العباد إلا وفيه لله حق، فيقتضي أن ليس للعبد إسقاطه، فلا يبقى بعد هذا التقرير حق واحد يكون العبد فيه مخيراً، فقسم العبد إذا ذاهب، ولم يبق إلا قسم واحد. فالجواب: أن هذا القسم الواحد هو المنقسم؛ لأن ما هو حق للعبد إما يثبت كونه حقاً له بإثبات الشرع ذلك له، لا بكونه مستحقاً لذلك بحكم الأصل، وقد تقدم هذا المعنى مبسوطاً في هذا الكتاب، وإذا كان كذلك فمن هنا ثبت للعبد حق ولله حق، فأما ما هو لله صرفاً فلا مقال فيه للعبد، وأما ما هو للعبد فللعبد فيه الاختيار من حيث جعل الله له ذلك، لا من جهة أنه مستقل بالاختيار. وقد ظهر بما تقدم آنفاً تخيير العبد فيما هو حقه على الجملة، ويكفيك من ذلك اختياره في أنواع المتناولات من المأكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها مما هو حلال له، وفي أنواع البيوع والمعاملات والمطالبات بالحقوق، فله إسقاطها، وله الاعتياض منها، والتصرف فيما بيده من غير حجر عليه إذا كان تصرفه على ما ألف من محاسن العادات، وإنما الشأن كله في فهم الفرق بين ما هو حق الله وما هو حق للعباد، وقد تقدمت الإشارة إليه في آخر النوع الثالث من هذا الكتاب، والحمد لله) . ومن هنا يتبين لنا أن حياة الإنسان، وأن أجزاء النفس الآدمية هي جميعها من حقوق الله تعالى، وأن ما كان حقاً لله تعالى فلا يملك فيه الإنسان تصرفاً، بيعاً أو شراء أو تبرعاً، أو بعبارة أخرى لا يجري فيه عفو ولا صلح ولا إبراء ولا بيع ولا شراء ولا تبرع..) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 المبحث الحادي عشر حكم أخذ الطبيب أجرة على قطع عضو صحيح من أعضاء الإنسان لا تدعو الحاجة إلى قطعه حكم أخذ الطبيب أجرة على قطع عضو صحيح من أعضاء الإنسان لا تدعو الحاجة إلى قطعه لقد تناول الفقه الإسلامي بدقة بيان الحكم إذا استؤجر الطبيب على قطع عضو صحيح من أعضاء الإنسان دون حاجة إلى قطعه، أو دون ضرر من بقائه على صاحبه، ونعرض فيما يلي آراء الفقهاء في هذا الموطن ثم نتبعها بالمقارنة والترجيح: أولاً: النصوص الفقهية: (1) الحنفية: جاء في رد المحتار جـ5 ص 76: (تفسخ الإجارة بعقد لزوم ضرر لم يستحق بالعقد، إن بقي العقد، كما في سكون ضرس استؤجر لقلعه ... ) ثم علق ابن عابدين على: (بعذر) بقوله: (فلا تفسخ الإجارة بدون العذر) وعلى قوله: (كما في سكون ضرس..) التقييد بسكون الضرس ... يفهم منه أنه بدونه لا يكون له الفسخ، قال الحموي: وفي المبسوط إذا استأجره ليقطع يده للأكلة ... ثم بدا له في ذلك كان عذراً؛ إذ في إبقاء العقد إتلاف شيء من بدنه أو ماله، وهذا صريح في أنه لو لم يسكن الوجع يكون له الفسخ اهـ. أقول: وفي جامع الفصولين: كل فعل هو سبب نقص المال أو تلفه فهو عذر لفسخه، كما لو استأجره ليخيط له ثوبه، أو ليقصر، أو ليقطع، أو يبني بناء، ثم ندم، له فسخه اهـ. (زاد في غاية البيان عن الكرخي: أو ليفصد، أو ليحجم، أو يقلع ضرساً له، ثم يبدو ألا يفعل فله في ذلك كله الفسخ؛ لأن فيه استهلاك مال، أو غرماً، أو ضرراً اهـ.) . ويتضح من هذا أن الإجارة تفسخ إذا سكن ألم الضرس، لزوال سبب قلعه، فإذا لم يكن هناك ألم إطلاقاً فلا يصح قلعه، بل إن المؤجر له أن يفسخ عقد الإجارة ولو لم يسكن الألم؛ لأن في بقاء العقد إتلاف شيء من بدنه أو ماله، وإتلاف شيء من بدنه أو ماله لا يجوز) . (ب) المالكية: جاء في حاشية الدسوقي جـ5 ص 30: (وفسخت الإجارة على سن لقلع فسكنت، أي فسكن ألمها قبل القلع، ووافقه الآخر على ذلك، وإلا لم يصدق إلا لقرينة، وفائدة عدم التصديق لزوم الأجرة، لا أنه يجبر على القلع، وما ذكرناه من عدم تصديق ربها إذا نازعه الحجام، وقال له: إنه سكن ألمها، هو قول ابن عرفة، واستظهر بعض المشايخ عج خلاف ما قاله ابن عرفة فقال: إنه يصدق في سكون الألم إلا لقرينة تدل على كذبه، لأنه أمر لا يعرف إلا منه..) . ويتضح من كلام المالكية أن الإجارة تفسخ إذا سكن الألم الذي من أجله اتفق مع الطبيب على قطع العضو موضع الألم، فإذا لم يكن هناك ألم أو مرض يوجب قطعه فلا تصح الإجارة، وهذا ما صرح به الشافعية فيما يلي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 (ج) نص الشافعية: (الرملي جـ5 ص 270، وقليوبي جـ3 ص 70، 78) على ذلك فقالوا: (لا يجوز الاستئجار على خلع سن صحيحة، بخلاف الوجيعة التي يقرر أهل الخبرة زوال ألمها بالقطع. وشرط الطبيب عند الشافعية أن يكون ماهراً، بمعنى أن يكون خطوه نادراً، وإن لم يكن ماهراً في العلم فيما يظهر، فإن لم يكن كذلك لم يصح العقد، ورجع عليه بما أخذه من أجرة أو غيرها..) . (د) كما نص الحنابلة: على ذلك، فقد جاء في كشف القناع: جـ3 ص 565: (ولا تصح إجارة لقلع سن سليمة، أو قطع يد سليمة، وكذا سائر الأعضاء) . كما جاء أيضاً في نفس المرجع في مبحث الإجارة جـ4 ص 300 ـ 302: (وتصح الإجارة على قطع شيء من الجسد للحاجة للقطع؛ لأن ذلك منفعة مباحة، ولا يكره أكل أجرته. (ويحرم قلع شيء من الجسد عند عدم الحاجة للقطع، ولا يصح الاستئجار له) . وجاء في المغني مع الشرح الكبير جـ6 ص 126: (ويجوز أن يستأجر من يقلع ضرسه؛ لأنها منفعة مباحة مقصورة، فجاز الاستئجار على فعلها كالختان، فإن أخطأ فقلع غير ما أمر بقلعه ضمنه؛ لأنه من جنايته، وإن برأ الضرس قبل قلعه انفسخت الإجارة؛ لأن قلعه لا يجوز، وإن لم يبرأ، لكن امتنع المستأجر من قلعه لم يجبر عليه؛ لأن إتلاف جزء من الآدمي محرم في الأصل، وإنما أبيح إذا صار بقاؤه ضرراً، وذلك مفوض إلى كل إنسان في نفسه إذا كان أهلاً لذلك، وصاحب الضرس أعلم بمضرته ومنفعته وقدر المدة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 (هـ) الزيدية: وأيد هذا الزيدية: جاء في التاج المذهب جـ3 ص 118: أن الإجارة الصحيحة يثبت فيها الفسخ بـ (العذر الزائل معه الغرض بعقدها من المستأجر، أو العين المستأجرة، نحو أن يستأجر من يقلع له سناً، أو يقطع عضواً حصلت به علة، ثم شفي، فإنها تبطل الإجارة) . وجاء في شرح الأزهار: جـ3 من 250 عند بيان شروط المنفعة التي يصح عقد الإجارة عليها (أن يكون في منفعة مقدورة للأجير ... ، وإلا لم يصح، كالطير في الهواء والحوت في البحر، ومنه ما يتعذر لمانع شرعي كالحائض لكنس المسجد، أو لقلع السن الصحيح ... ) . (ومن هذا يتبين أن العضو لا يصح إجراء عقد على قطعه؛ إذ يوجد مانع شرعي يمنع من صحة هذا العقد؛ لأن الشرع صان الأجزاء الصحيحة من الإنسان، كما صان الإنسان كله. (و) الإمامية: جاء في المختصر النافع ص 176: أن من شروط صحتها: (أن تكون المنفعة مباحة) . (ولا شك أن قطع عضو صحيح من الإنسان لا يكون مباحاً إلا إذا وجد دليل شرعي من قرآن وسنة يوجب قطعه، كما في القصاص فيما دون النفس، أو في حد السرقة أو الحرابة، فإذا لم يوجد دليل يوجب ذلك فحرمة النفس قائمة وأجزاؤها مصونة، ولا تنال إلا بحق. الترجيح: يتضح لنا مما تقدم اتفاق الفقهاء على بطلان عقد الإجارة إذا كان محل هذا العقد قطع عضو صحيح من الإنسان، دون علة أو مرض؛ صيانة لنفس الإنسان وحفاظاً عليه، ومنعاً للأيدي أن تمتد إليه، بل أوجب المشرع الحكيم عقوبة لمن ينال من هذه النفس كلاً أو بعضاً كما سيأتي بيانه.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 المبحث الثاني عشر أثر رضا المقطوع عضوه على درء العقوبة عن القاطع أثر رضا المقطوع عضوه على درء العقوبة عن القاطع - إذا رضي الشخص بأن يقطع منه عضو من أعضائه، أو تزهق روحه، فهل هذا الرضا يؤثر في درء عقوبة القصاص على من باشر قطع هذا العضو أو أزهق هذه الروح؟ لقد اختلف الفقهاء في موجب هذا العمل إلى رأيين: الرأي الأول: يرى الحنفية (غير الإمام زفر) والشافعية أنه لا قصاص على الجاني في هذه الحالة؛ لأنه لما أذن له في قتله أو قطع عضو من أعضائه فقد تمكنت في عصمة دمه شبهة الإباحة، والشبهة في باب القصاص لها حكم الحقيقة. وإذا قيل بسقوط القصاص فالأظهر عند الشافعية أنه لا تجب الدية، وهو رواية عن أبي حنيفة وقول لأبي يوسف ومحمد لوجود الإذن بقتله، (أو قطعه) ويرى أبو حنيفة في رواية صححها عند فقهاء المذهب أنه تجب الدية في القتل، ولا تجب في القطع، وفي رواية عند الشافعية: تجب الدية في القتل والقطع؛ وذلك لأن القصاص قد سقط لوجود الشبهة، والشبهة تمنعه، ولكنها لا تمنع وجوب المال، فتجب الدية عمن باشر القتل أو القطع. الرأي الثاني: يرى المالكية، والإمام زفر من الحنفية، والزيدية والظاهرية وجوب القصاص على الجاني ولا عبرة برضا المجني عليه؛ لأن الحق بعد الموت انتقل إلى ورثة المجني عليه ... ولأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فقد روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((على المرء السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة)) وعن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الطاعة في المعروف)) فإذا أمره بقتله أو قطع عضو من أعضائه لا يحل له أن يفعل، وإن فعل اقتص منه في النفس عندهم جميعاً، وإن كانت الجناية على ما دون النفس، أي: على عضو من أعضائه، اقتص منه عند الزيدية والظاهرية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 وإيجاب القصاص في الجميع هو الذي نراه راجحاً شرعاً؛ لأن أمره لا يحل ما حرم الله تعالى للحديث: ((المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) وإذا كان الله تعالى قد شدد عقوبة قاتل نفسه، وهو حين يقتل إنما يقتل نفسه، فكيف نعتد بأمره للغير بالنيل من نفسه أو عضو من أعضائه، وهو لا يملك من نفسه شيئاً، ولذلك عوقب بجنايته. جاء في المحلى لابن حزم: فيمن أمر آخر بقطع يده أو يقتل ولده أو عبده أو بقتله نفسه: حدثنا عبد الله بن ربيع، نا عبد الله بن محمد بن عثمان، نا أحمد بن خالد، نا علي بن عبد العزيز، نا الحجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار قال: (إن رجلاً قال لعبده: اقطع أذني وأنت شريكي في الدية. ففعل، فاختصموا إلى ابن الزبير، فقامت البينة على قوله، فأبطل ديته. قال علي: قد أوجب الله تعالى في النفس الدية إن أرادها ولي المقتول على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وأوجب الله تعالى أيضاً كذلك دية الأصابع على ما ذكرنا قبل، وحرم الله طاعة أحد من الناس في معصية الله تعالى. وقد ذكرنا كل ذلك بإسناده فيما سلف من ديواننا: حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا قتيبة، نا ليث - هو ابن سعد - عن عبد الله - هو ابن عمر - عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) وبه إلى مسلم: نا محمد بن المثنى، نا محمد بن جعفر غندر، نا شعبة، عن زبيد، عن سعيد بن عبيد، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الطاعة في المعروف)) . قال أبو محمد: فحرام على كل من أُمر بمعصية أن يأتمر لها، فإن فعل فهو فاسق عاص لله تعالى، وليس له بذلك عذر، وكذلك الآمر في نفسه بما لم يبح الله تعالى له فهو عاص لله تعالى فاسق، ولا عذر للمأمور في طاعته، بل الأمر والذي يؤمر سواء في ذلك، فالواجب أن يجب للآمر إنساناً بقطع يد الآمر نفسه بغير حق، أو بقتل عبده أو بقتل ابنه، ما يجب له لو لم يأمر بذلك من القود أو الدية؛ لأن وجود أمره بذلك باطل لا حكم له في الإباحة أصلاً، وكذلك من أباح لآخر أن يقتله ففعل، فلأولياء المقتول القود أو الدية، وقد قال مالك: من أمر آخر بقتل عبده فقتله فلا شيء على المأمور. وقال الشافعي: من أمر آخر بقطع يد الآمر فلا شيء على القاطع. قال علي: وهذان القولان في غاية الفساد لما ذكرناه، والعجب أنهم أصحاب قياس بزعمهم، وهم لا يختلفون فيمن أمر إنساناً بأن يزني بأمته نفسه ففعل، أن الحد عليه، فإن قالوا: إن له بعد قطع يده وقتل أبيه، أن يعفو وليس له بعد الزنا بأمته، قبل وقت العفو لم يأت بعد، فليس له أن يعفو، وهم لا يختلفون فيمن قال: من قتل ابن عمي فلان بن فلان فقد عفوت عنه فقتله قاتل، فإن له القود، فبطل نظيرهم. وبالله تعالى التوفيق) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 المبحث الثالث عشر الإيثار - تفسير الآية التي ورد فيها الإيثار. - حقيقة الإيثار. - المفسرون ومعنى الآية. - الإيثار بالقرب. - الإيثار بالمال. - الإيثار بالنفس. الإيثار قد يحتج بعض الناس عند الاستدلال لقولهم بجواز نقل عضو من إنسان حي إلى آخر إنقاذاً لحياته بأنه من باب (الإيثار) ، والإيثار خلق محمود وصفة مشروعة مدح الله تعالى بها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى بشأن الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) . فهذه الآية تحدثت عن الأنصار ووصفتهم بأربع صفات: 1- أنهم الذين اعتقدوا الإيمان وأخلصوه من قبل كثير من المهاجرين. 2- وأن الأنصار من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم. 3- وأن الأنصار لا يجدون في أنفسهم حسداً للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف والتقديم في الذكر والرتبة، وما خصوا به من أموالهم الفيء وغيرها. قال الحسن البصري: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} يعني الحسد {مِمَّا أُوتُوا} قال قتادة: فيما أعطي إخوانهم من المهاجرين مما أفاء الله عليهم وقسمه الرسول صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير. 4- وأنهم {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي يؤثرون على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، لا عن غنى، بل مع احتياجهم إليها.   (1) الآية: 9 من سورة الحشر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 ونورد فيما يلي بعضاً من الأحاديث الواردة في سبب النزول: في الترمذي عن أبي هريرة: أن رجلاً بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك. فنزلت هذه الآية: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} قال: هذا حديث حسن صحيح. خرجه مسلم أيضاً. وخرج عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود. فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال: ((من يضيف هذا الليلة رحمه الله؟)) فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم (1) بشيء، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه. قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((قد عجب الله عز وجل من صنيعكما بضيفكما الليلة)) (2) وفي رواية عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفه فلم يكن عنده ما يضيفه. فقال: ((ألا رجل يضيف هذا رحمه الله)) ؟ فقام رجل من الأنصار يقال له: أبو طلحة. فانطلق به إلى رحله ... وساق الحديث بنحو الذي قبله، وذكر فيه نزول الآية (3) . وذكر المهدوي عن أبي هريرة أن هذا نزل في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار، نزل به ثابت، يقال له: أبو المتوكل، فلم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: أطفئي السراج ونومي الصبية. وقدم ما كان عنده إلى ضيفه.. ذكر النحاس قال: قال أبو هريرة: نزل برجل من الأنصار، يقال له: أبو المتوكل، ثابت بن قيس ضيفاً، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: أطفئي السراج ونومي الصبية. فنزلت {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقيل: (إن فاعل ذلك أبو طلحة. وذكر القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم: وقال ابن عمر أهدى لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا. فبعثه إليهم، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} ذكره الثعلبي عن أنس قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة وكان مجهوداً، فوجه به إلى جار له، فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول، فنزلت: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية. وقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم بني النضير: ((إن شئتم قسمت للمهاجرين من دياركم وأموالكم وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم نقسم لكم من الغنيمة شيئا)) . فقالت الأنصار: بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة. فنزلت: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} . الآية. والأول أصح. وإذا عرفنا سبب النزول فإنه يلزمنا الآن أن نبين حقيقة الإيثار ومتى يكون أو بأي شيء يكون؟ ثم حكمه ...   (1) علله بكذا، شغله ولهاه به (2) أي: عظم ذلك عنده وكبر عليه، وإطلاق العجب على الله مجاز؛ لأنه لا يخفى عليه أسباب الأشياء (3) وهناك روايات أخرى، تراجع كتب التفسير ومنها القرطبي: ج18 ص 24 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 حقيقة الإيثار لغة واصطلاحاً: الإيثار لغة: مأخوذ من آثر، يقال: آثرته به، أي: خصصته به وفضلته (1) . الإيثار اصطلاحاً: عرف بتعريفات منها: (أ) هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية؛ رغبة في الحظوظ الدينية ... (2) (ب) الإيثار: هو أن يجود بالمال مع الحاجة إليه (3) . والإيثار أرفع درجة في السخا؛، إذ السخاء هو بذل ما يحتاج إليه لمحتاج أو لغير محتاج، والبذل مع الحاجة أشد، وليس بعد الإيثار درجة في السخاء، وقد أثنى الله تعالى على الصحابة رضي الله عنهم فقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . منشأ الإيثار: ينشأ الإيثار عن (قوة اليقين بالله، وغاية المودة، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة) ، وذلك يختلف باختلاف أحوال المؤثرين، كما روي في الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر ماله، ومن عمر نصف ماله، ورد أبا لبابة وكعب بن مالك إلى الثلث، لقصورهما عن درجتي أبي بكر وعمر؛ إذ لا خير له في أن يتصدق ثم يندم فيُحْبِط أجرَه ندمُه. - هذا هو المنشأ الحقيقي للإيثار في نظر الإسلام. أما الإيثار من أجل الحصول على المال، أو الجاه، أو الذكر الحسن وما إلى ذلك من أسباب النفع الدنيوي، فإنه لا يكون إيثاراً، ولكنه يكون بيعاً وتجارة، وهو بيع وتجارة فيما حرم الله بيعه أو التجارة فيه، فيكون حراماً.   (1) في المعجم الكبير ج1 ص 292 (أثره إيثار) : اختاره وقدمه وآثر فلاناً على فلان: فضله عليه وقدمه، ومنه قوله تعالى على لسان إخوة يوسف: {تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} . وفي مختار القاموس ص 13: ( ... آثره أكرامه، وآثر اختار، واستأثر بالشيء استبد به. (2) القرطبي: ج18 ص 26، وابن العربي: ج2 ص 246، وحاشية الصاوي على الجلالين. (3) إحياء علوم الدين ج3 ص 222. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 رأي المفسرين في معنى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . 1- القرطبي: (أي يؤثرون على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، لا عن غنى، بل مع احتياجهم إليها) (1) . 2- ابن كثير: (أي يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك) وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أفضل الصدقة جهد المقل)) . وهذا المقام أعلى من حال من وصف الله تعالى بقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (2) وقوله: {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} (3) فإن هؤلاء تصدقوا وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه، ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم إلى ما أنفقوه) (4) . 3- الطبري: (يعطون المهاجرين أموالهم إيثاراً لهم بها على أنفسهم) {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يقول: (ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم) 4- الألوسي: ( {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} . (أي يقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل شيء من الطيبات، حتى إن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحداً منهم {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي حاجة) (5) . 5- الخطيب الشربيني: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (فيبذلون لغيرهم كائناً من كان ما في أيديهم، فإن الإيثار تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الأخروية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة والصبر على المشقة، وذكر النفس دليل على أنهم في غاية النزاهة عن الرذائل؛ فإن النفس إذا طهرت كان القلب أطهر {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي فقر وحاجة إلى ما يؤثرون به) .   (1) تفسير القرطبي: ج18 ص 26 (2) الآية 8 من سورة الإنسان. (3) تفسير ابن كثير: ج4 ص 338. (4) الآية 177 من سورة البقرة. (5) تفسير الألوسي: ج28 ص 27 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . القرطبي: (الشح والبخل سواء، وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل، وفي الصحاح: الشح البخل مع حرص. ثم ساق تفسير بعض الصحابة وبعض التابعين لمعنى الشح، بعد أن ذكر أن من يؤثر على نفسه مع حاجته فقد وقي شح نفسه وأفلح فلاحاً لا خسارة بعده ... والمراد بالآية: الشح بالزكاة وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة، وما شاكل ذلك، فليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه. ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرناه من الزكوات والطاعات فلم يوق شح نفسه، وروى الأسود عن ابن مسعود أن رجلاً أتاه فقال له: إني أخاف أن أكون قد هلكت؟ قال: وما ذاك؟ قال سمعت الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئاً. فقال ابن مسعود: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن، إنما الشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً، ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل. ففرق رضي الله عنه بين الشح والبخل، وقال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح بما في أيدي الناس يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام، لا يقنع. ابن جبير: الشح منع الزكاة وادخار الحرام. ابن عيينة: الشح الظلم. الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم. ابن عباس: من اتبع هواه ولم يقبل الإيمان فذلك الشحيح. ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً (لشيء) نهاه الله عنه ولم يدعه الشح (على أن يمنع شيئاً من شيء) أمره الله به، فقد وقاه الله شح نفسه. وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((برئ من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة)) . وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: ((اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها ووساوسها)) . وقال أبو الهياج الأسدي: رأيت رجلاً في الطواف يدعو: اللهم قني شح نفسي. لا يزيد على ذلك شيئاً، فقلت له فقال: إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل. فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف. قلت: يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)) . وقد بيناه في آخر (آل عمران) (1) . وقال كسرى لأصحابه: أي شيء أضر بابن آدم؟ قالوا: الفقر. فقال كسرى: الشح أضر من الفقر؛ لأن الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبداً.   (1) راجع: ج4 ص 293 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 ما يكون فيه الإيثار على ضوء ما أورده العلماء فيما يؤثر الإنسان به غيره، نجدنا في حاجة إلى أن نقسم هذا البحث إلى ثلاث فترات: الأولى حكم الإيثار بالقرب أي ما يتقرب به إلى الله. الثانية الإيثار بالمال، والثالثة الإيثار بالنفس. الإيثار بالقرب: تناول هذه الموضوعات الإمام السيوطي فقال: (الإيثار في القرب مكروه، وفي غيرها محبوب، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . قال الشيخ عز الدين: لا إيثار في القربات، فلا إيثار بماء الطهارة، ولا بستر العورة ولا بالصف الأول؛ لأن الغرض بالعبادات التعظيم والإجلال، فمن آثر به فقد ترك إجلال الله وتعظيمه. وقال الإمام: لو دخل الوقت، ومعه ماء يتوضأ به، فوهبه لغيره ليتوضأ به، لم يجز. لا أعرف فيه خلافاً؛ لأن الإيثار إنما يكون فيما يتعلق بالنفوس، لا فيما يتعلق بالقرب والعبادات. وبعد أنقل آراء فقهاء الشافعية في الإيثار بالقرب هل هو مكروه، أو خلاف الأولى، أو حرام، قال: (قلت: ليس كذلك، بل الإيثار إن أدى إلى ترك واجب فهو حرام، كالماء، وستر العورة ... وأشباه ذلك، وإن أدى إلى ترك سنة، أو ارتكاب مكروه فمكروه، أو لارتكاب خلاف الأولى ما ليس فيه نهي مخصوص فخلاف الأولى، وبهذا يرتفع الخلاف. الإيثار بالمال: اتفق العلماء على أن الإيثار بالمال فضيلة من الفضائل، وكمال مروءة، وقوة في الإيمان والاعتقاد، واحتراز عن حظ النفس ولذائذها وهو منق لها، ورافع درجاتها إلى أعلى درجات السخاء. ولقد رأينا فيما مضى من البحث في تفسير الآية الكريمة: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} أن المفسرين جعلوا هذا الإيثار في حظ الدنيا، من مأكل أو ما شابهه، وآية ذلك سبب نزول الآية؛ فإن سبب نزولها وإن تعددت الروايات بشأنه إلا أنها جميعها تدور حول الإيثار بالمال مع الحاجة إليه. كما رأينا أن العلماء حينما عرفوا الإيثار جعلوه (تقديم الغير على النفس في حظوظ الدنيا أو الجود بالمال مع الحاجة إليه) ، وبذلك اعتبروه أعلى درجات السخاء والجود؛ إذ السخاء هو بذل مال إلى إنسان آخر، محتاج أو غير محتاج، لكن الإيثار هو بذل ما يحتاج إليه لمحتاج آخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 حكم الإيثار بالمال: - الإيثار بالمال تارة يكون مستحباً، وتارة يكون مكروهاً ... يفصل ذلك ويقرر الأحوال التي يكون فيها الإيثار مرغوبا، والأحوال التي يكون فيها مكروهاً. الجصاص يقول: قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الخصاصة: الحاجة، فأثنى الله على الأنصار بإيثارهم المهاجرين على أنفسهم فيما ينفقونه عليهم، وإن كانوا هم محتاجين إليه. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال له: معي دينار. فقال: ((أنفقه على نفسك)) فقال: معي دينار آخر. فقال: ((أنفقه على عيالك)) فقال: معي دينار آخر. قال: ((تصدق به)) . (وروي أن رجلاً جاء ببيضة من ذهب فقال: يا رسول الله، أتصدق بهذه، فإني ما أملك غيرها. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه من الشق الآخر، فأعرض عنه، إلى أن أعاد القول، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورماه بها، فلو أصابته لعقرته، ثم قال: ((يأتيني أحدكم بجميع ما يملك، فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى)) . (وروي أن رجلا دخل المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، والرجل بحال بذاذة، فحث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فطرح قوم ثياباً ودراهم، فأعطاه ثوبين ثم حثهم على الصدقة، فطرح الرجل أحد ثوبيه، فأنكره النبي صلى الله عليه وسلم) . ففي هذه الأخبار كراهة الإيثار على النفس والأمر بالإنفاق على النفس، ثم الصدقة بالفضل. قيل له: إنما كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنه لم يثق منه بالصبر على الفقر، وخشي أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، ألا ترى أنه قال: يأتيني أحدهم بجميع ما يملك فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس، فإنما كره الإيثار لمن كانت هذه حاله، فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على النفس فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} فكان الإيثار منهم أفضل من الإمساك. والإمساك ممن لا يصبر، ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 ويقول السيوطي: الإيثار في القرب مكروه، وفي غيرها محبوب، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ومعنى هذا أن الإيثار بالمال محبوب، ومرغوب فيه، أي (مستحب) . ويقول الشيخ أبو محمد في الفروق: من دخل عليه وقت الصلاة، ومعه ما يكفيه لطهارته، وهناك من يحتاجه للطهارة لم يجز له الإيثار، ولو أراد المضطر إيثار غيره بالطعام لاستبقاء مهجته، كان له ذلك، وإن خاف فوات مهجته. والفرق أن الحق في الطهارة لله، فلا يسوغ فيه الإيثار، والحق في حال المخمصة لنفسه. وقد علم أن المهجتين على شرف التلف، إلا واحدة تستدرك بذلك الطعام فحسن إيثار غيره على نفسه. ويقوي هذا الفرق مسألة المدافعة، وهي أن الرجل إذا قصد قتله ظلماً وهو قادر على الدفع، غير أنه يعلم أن الدفع ربما يقتل القاصد فله الاستسلام (1) . وهذا رأي الشافعية في مسألة المدافعة خالفهم فيه جمهور الفقهاء الذين يرون أن الدفاع عن النفس واجب، وليس جائزاً وحينئذ ما رأى السيوطي أنه يقوي قول الشافعية في جواز أن يقدم الإنسان الطعام الذي ينقذ حياته لغيره إنقاذاً لحياة ذلك الغير، ليس على إطلاقه، بل هناك رأي في المذهب في مسألة المدافعة يتفق مع جمهور الفقهاء في ضرورة أن يحافظ الإنسان على حياته، قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} وقال صلى الله عليه وسلم: ((ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا)) .. رواه مسلم   (1) وهذا الذي يقرره السيوطي في مسألة المدافعة مبني على أن المذهب الشافعي وكذا الحنابلة في رأي لهم يرى أن الدفاع عن النفس جائز، وليس واجباً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة: اجلس في بيتك، فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فغط وجهك. وفي لفظ: فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. وعلى ذلك اعتمد عثمان بن عفان رضي الله عنه على أحد الأقوال في ترك القتال عندما هوجم في داره مع إمكان قتال المعتدين وردهم) ... ويرى جهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والشافعية في رأي ثان لهم، والحنابلة والزيدية والإمامية) وجوب دفعه ورده، ولو أدى ذلك إلى قتله؛ لقوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ} [الآية: 9 من سورة الحجرات) . فأمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية، ولا بغي أشد من قصد إنسان بالقتل بغير استحقاق، فاقتضت الآية قتل من قصد قتل غيره بغير حق ... وأدلة أخرى كثيرة تدل على رجحان هذا الرأي بسطتها في كتابي الجنايات في الفقه الإسلامي ص 261 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 وقد أورد ابن نجيم الحنفي، ما يشهد لهذا الرأي الراجح، ويؤيد ما قيده الجصاص فيقول: (رأيت في الهبة من منية المفتي: فقير محتاج معه دراهم، فأراد أن يؤثر على نفسه، إن علم أنه يصبر على الشدة فالإيثار أفضل وإلا فالإنفاق على نفسه أفضل، انتهى) (1) . الترجيح: من كل هذا يتبين لنا ما يأتي: أن الإيثار بالمال، والمال الأصل فيه البذل والعطاء، والتسامح والتساهل، قال صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله رجلاً سهلاً إذا باع وإذا اشترى وإذا قضى وإذا اقتضى)) وإذا كان الأصل في المال هو هذا، فإن الإيثار بالمال يكون مرغوباً فيه ومحبوباً، إذا كان الإنسان يستطيع الصبر على الفقر ويأمن ألا يسأل الناس أعطوه أو منعوه، بأن كان له من أسباب الكسب ما يجعله مطمئناً إلى غده. أما إذا كان لا يستطيع الصبر على الفقر، ويخشى أن يتعرض للمسألة وأن يتكفف الناس فيكره له أن يتصدق. وقد رأينا في الأحاديث المتقدمة كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم رد صدقة من تصدق بجميع ماله، ثم قال: ((يأتيني أحدهم بجميع ما يملك، فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى)) ، وأنكر صلى الله عليه وسلم صدقة من تصدق بأحد ثوبين، ففي هذه الأخبار كراهة الإيثار على النفس، والأمر بالإنفاق على النفس، ثم الصدقة بالفضل. فإمساك المال ممن لا يصبر على الفقر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار، ويمكن أن نقول في هذه الحالة: إنه مكروه، والكراهة نوع من الحرمة، وما ذلك إلا لأنه عرض نفسه لما يذلها ويحوجها، وهي النفس التي كرمها الله تعالى، وأوجب تكريمها حية أو ميتة. كما يتبين لنا أن هذا الحكم، وهو كون الإيثار تارة يكون مرغوباً وتارة يكون مكروهاً محوره المال، وحظوظ النفس الدنيوية بالجود ببعض أو كل ما يملك الإنسان من متاع الدنيا وزينتها، وليس المال إلا مطية للإنسان، وأمراً عارضاً يغدو ويروح، يكثر ويقل، والإنسان نفسه باق ما شاء الله له البقاء يحصل من المال ما وفقه الله إلى تحصيله وجمعه، وكان الإنفاق والتصدق والعطاء منه وبه أمراً مطلوباً شرعاً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} فالأصل في المال البذل والعطاء كما سبق أن ذكرنا، وذلك بخلاف النفس؛ إذ الأصل فيها الحرمة، لا تنال كلا أو بعضاً إلا بحق، قال تعالى: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} ومن هنا يفترقان.   (1) وجاء في القرطبي ج18 ص 27، أثناء شرح آية الإيثار: فإن قيل: وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء، قيل له: إنما كره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ} وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك، والإمساك لمن لا يعتبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار. وروي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة من الذهب، فقال: هذه صدقة. فرماه بها وقال: يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 الإيثار بالنفس: تعرض بعض العلماء للإيثار بالنفس، ونورد فيما يلي بعضاً من ذلك ثم نورد تحليلاً لما ورد بشأنه: يقول ابن العربي ومثله القرطبي (1) : (الإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس، ومن الأمثال السائرة: والجود بالنفس أقصى غاية الجود (2) ومن عبارات الصوفية في حد المحبة: أنها الإيثار، ألا ترى أن امرأة العزيز لما تناهت في حبها ليوسف عليه السلام آثرته على نفسها بالتبرئة، فقالت: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} ثم قال: وأفضل الجود بالنفس الجود على حماية الرسول صلى الله عليه وسلم ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ((وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم، فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله، لا يصيبونك، نحري دون نحرك. ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فَشَلَّتْ)) . وكلام هذين العالمين الجليلين في هذا المقام هل يعني أن الإنسان يحل له أن يؤثر غيره على نفسه بحياته، أو بعضو من أعضائه؟؟ وأقول للإجابة على ذلك: أولاً: إن الآية الكريمة كانت في الإيثار بالمال، أي: بحظوظ الدنيا ولذائذها ـ كما قال المفسرون، وكما عرفوا به الإيثار ـ طلباً ورغبة في النعيم الأخروي، ولم تكن في تقديم عضو من أعضاء الإنسان لغيره.   (1) أحكام القرآن للقرطبي: ج 18، ص 28، ولابن العربي: جزء 2 ص 246، والجصاص: ج3 ص 434. (2) هو بيت من الشعر لمسلم بن الوليد صدره (تجود بالنفس إذ أنت الضنين بها) . يقول: تجود بالنفس في الحرب إذ أنت الضنين بها في الدم، ويروى أن صدره: (يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها) وهذا البيت من الشعر لا يصلح دليلاً على حكم شرعي فإيراده هنا لا محل له حين الاستدلال على الأحكام الشرعية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 ثانياً: إن ما ورد في الحديث الشريف من أن أبا طلحة ترس للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، هذا موضوع آخر، فالجهاد في سبيل الله يكون بالمال، ويكون بالنفس، وكونه بالنفس معناه تقديمها حماية لحرمات الإسلام والذود عنه، ورد الأعداء مهزومين، ويكون ذلك بأمور، منها الهجوم على الأعداء، ومنها حماية القادة والوقوف سدا منيعاً أمام النيل منهم، وإبعاداً للأعداء عنهم، حتى يتم التخطيط السليم للمعركة وإدارتها الإدارة المحكمة. وقد كان ما فعله أبو طلحة من هذا النوع رضي الله عنه. ثالثاً: أن حفظ الحياة هدف عظيم، ومصلحة من المصالح الضرورية، كما سبق أن ذكرنا، فالحياة لا يعرضها الإنسان للتهلكة، قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} . وأما في أثناء الجهاد، فيجب أن يتقدم الإنسان نحو الأعداء، ويقتحم جمعهم اقتحاماً لا يعرف التردد، ويقدم روحه فداء لدينه ووطنه، فإن لم يفعل كان من العصاة الآثمين المرتكبين لكبيرة من الكبائر، وهي: " التولي يوم الزحف "، فإذا تراجع إلى الخلف، لغير خدعة أو مكيدة حل قتله؛ لأنه آثر حياته على حياة دينه ووطنه، وفي ذلك شر عظيم، فالأرواح في الجهاد مبذولة، وفي السلم والأمن مصانة، وشتان بين الحالتين. ولذلك أرى أن دائرة الإيثار ليست مطلقة في كل شيء، فهي في الحظوظ الدنيوية. ولذلك وجدنا الإمام السيوطي يقول في الإيثار في القرب وفي العبادات: (بل الإيثار إن أدى إلى ترك واجب فهو حرام، كالماء وساتر العورة والمكان في جماعة لا يمكن أن يصلي فيه أكثر من واحد، ولا تنتهي النوبة لآخرهم إلا بعد الوقت وأشباه ذلك. وإن أدى إلى ترك سنة أو ارتكاب مكروه فمكروه، أو لارتكاب خلاف الأولى، مما ليس فيه نهي مخصوص فخلاف الأولى. إذن لا بد من البحث في حكم الشيء المأثور به الغير، هل يؤدي الإيثار به إلى ترك واجب، فإن أدى إلى ذلك كان حراماً. ونعلم جميعاً أن حفظ النفس أمر واجب، وإبعاد الضرر عنها أمر واجب، وهذا بالإجماع، وتعريضها للخطر أو للتهلكة أمر منهي عنه، فهو حرام. ومن ثم يكون الإيثار بالنفس ذاتها وبجسم الإنسان أو أعضائه حراماً ولا يجوز الإقدام عليه ما عدا ما ذكرناه في أمر الجهاد في سبيل الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 أقسام الضرر يقول العز بن عبد السلام ج2 ص 85: (وأسباب الضرر أقسام: أحدها: ما لا يتخلف سببه عنه ـ إلا أن يقع معجزة لنبي أو كرامة لولي ـ كالإلقاء في النار وشرب السموم المذففة، والأسباب الموجبة، فهذا ما لا يجوز الإقدام عليه في حال اختيار ولا في حال إكراه؛ إذ لا يجوز للإنسان قتل نفسه بالإكراه، ولو أصابه مرض لا يطيقه لفرط ألمه لم يجز قتل نفسه .... والقسم الثاني: ما يغلب ترتب مسببه عليه، وقد ينفك عنه نادراً فهذا أيضاً لا يجوز أيضاً الإقدام عليه؛ لأن الشرع أقام الظن مقام العلم في أكبر الأحوال. القسم الثالث: ما لا يترتب مسببه إلا نادراً، فهذا لا يحرم الإقدام عليه لغلبة السلامة من أذيته، كالماء المشمس في الأواني المعدنية في البلاد الحارة، فإنه يكره استعماله مع وجدان غيره خوفاً من وقوع نادر ضرره، فإن لم يجد غيره تعين استعماله لغلبة السلامة من شره؛ إذ لا يجوز تعطيل المصالح الغالبة بوقوع المفاسد النادرة. كذلك فإن بقاء الحياة مع الإيثار أمر لا بد من أن يكون مراعى، فإذا أقدم إنسان في مخمصة على إعطاء ما ينقذ حياته إلى غيره، لينقذه من مخمصة كان آثماً؛ لأنه ألقى نفسه في التهكلة، وذلك منهي عنه بنص الآية الكريمة. فالإيثار يكون فيما يمكن للإنسان الصبر عليه مع بقاء حياته، لا بما ينقذ حياته. والأحاديث الشريفة السابقة تدل على ذلك، وهو بصيغة الأمر: (ابدأ بنفسك) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 ويؤيد هذا ويدعمه ما ورد في تفسيره الآيتين التاليتين: الآية الأولى هي قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} الآية. النساء: 29. يقول القرطبي: (أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضاً، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال، بأن يحمل نفسه على الضرر المؤدي إلى التلف. ويحتمل أن يقال: ولا تقتلوا أنفسكم في حال ضجر أو غضب، فهذا كله يتناوله النهي، وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات السلاسل خوفاً على نفسه منه، فقرر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه، وضحك عنده ولم يقل شيئاً. أخرجه أبو داود وغيره (1) .   (1) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال (لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام (ذات السلاسل) قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قال: قلت: يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرودة، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فذكرت قول الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} . فتيممت ثم صليت. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً) رواه أحمد وأبو داود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 وأورد ابن مردويه عند هذه الآية الكريمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)) . وفي الصحيحين: ((من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة)) . وفي الصحيحين أيضاً عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان رجل ممن كان قبلكم، وكان به جرح فأخذ سكيناً فجر بها بيده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله عز وجل:عبدي بادرني بنفسه، حرمت عليه الجنة)) (1) . ومن هذه التفاسير للآية الكريمة نأخذ ما يلي: أولاً: أن الإنسان يجب عليه أن يحافظ على حياته، ويجب عليه ألا يقدم نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال. (فإذا قصد ذلك كان فعله حراماً، وكان آثما وكان قاتلاً لنفسه، وإننا نرى الآن أن تقديم الأعضاء للآخرين احتوى غالباً على نظر دنيوي عماده ما يقدمه الآخذ للمعطي من مال أو ما يحرزه من وراء ذلك من كسب. ثانياً: أن حمل النفس على الغرر المؤدي إلى الهلاك ممنوع شرعاً أخذاً من هذه الآية الكريمة. والغرر في اصطلاح العلماء، هو ما تردد بين السلامة والعطب) (2) . وهل استئصال عضو من إنسان لينتفع به شخص لا يجعل المتبرع في مرحلة التردد بين السلامة والعطب؟ نعم المتبرع، مهما تقدم الطب، هو في أثناء استئصال عضوه، هو في مرحلة الغرر المؤدي للهلاك، أي مرحلة التردد بين السلامة والعطب، فيكون هذا العمل ممنوعاً أيضاً ومحرماً، وفاعله يكون آثماً، وإنه إن مات بسبب ذلك في الحال أو في المآل كان قاتلاً لنفسه، أو ملقياً لنفسه في التهلكة، وبعد استئصاله أيضاً يكون معرضاً لفشل العضو الباقي.   (1) ابن كثير ج1 ص 379، القرطبي ج5 ص 156، والجصاص: جـ2 ص 221 والنسفي: ج1 ص 172 (2) يراجع نظرية الشرط أ. د/ حسن الشاذلي في الشرط المؤدي إلى الغرر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 ثالثاً: إن قتل الإنسان نفسه محرم بنص الآية، سواء كان الإنسان في حال ضجر أو غضب، كما ذكر آنفاً، وكذلك يقاس عليه إذا كان في حال حب أو مودة بالغة، فإن كل ما يعتور النفس من عواطف وما يصاحبها من انفعالات كل هذا لا يؤثر في حرمة نيل الإنسان من نفسه أو الإضرار بها؛ لأنها ملك لخالقها، وليس لك عليها إلا حق الانتفاع بها فقط، طبقاً لما حدده الشرع لك، وما أباحه لك عليها، فهي نفسك، ولكنها غيرك، نفسك تنتفع بها حسب شرع الله تعالى، وغيرك، حين تضر بها أو تنتفع بها في غير ما شرع الله تعالى، فتكون عقوبتك حينئذ أشد من عقوبة المعتدي على غيره. رابعاً: إن تعريض النفس للهلاك محرم شرعاً، وذلك أخذاً من هذه الآية، فقد رأينا عمرو بن العاص رضي الله عنه يمتنع عن الاغتسال بالماء البارد، حين أصبح جنباً؛ خوفاً على نفسه من برودة الماء، مستدلاً بهذه الآية، وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على هذا التفسير، بل وسره صلى الله عليه وسلم ذلك، ولم يقل له شيئاًَ. فهذا يدل على أن هذه الآية يدخل في مدلولها والمراد بها عدم تعريض النفس للهلاك، ولو كان ذلك من أثر استعمال الماء البارد، الذي يخشى الإنسان من أنه لو استعمله لأدى إلى هلاكه، فيكون ذلك ممنوعاً ومحرماً أيضاً. خامساً: إن هذه الآية: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} جاء بعدها قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} الآية 30 من سورة النساء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 يقول القرطبي أيضاً: (ذلك) إشارة إلى القتل؛ لأنه أقرب مذكور، قاله عطاء، وأضيف إلى ذلك أن كل ما أخذناه من الآية من معان، وما أفادته من أحكام، كل من يفعله عدواناً وظلماً أي قصداً وعمداً، لا سهواً وخطأ يحق عليه أن يصلى النار. يقول ابن كثير: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا} أي ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه معتدياً فيه، ظالماً في تعاطيه، أي عالماً بتحريمه متجاسراً على انتهاكه فسوف نصليه ناراً، وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، فليحذر منه كل عاقل لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد) . الآية الثانية: قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1) . قال البخاري: حدثنا إسحاق أخبرنا النضر، أخبرنا شعبة عن سليمان سمعت أبا وائل عن حذيفة {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: نزلت في النفقة ... وروي عن ابن عباس ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك. وقال الليث بن سعد: عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحبباً فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونصره، حتى فشا الإسلام، وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما، فنزل فينا {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد) (2) . إلا أنه من المعلوم أن سبب النزول لا يخصص عموم النص، وإنما النص يشمل سبب النزول، كما يشمل غيره.. ومن هنا وجدنا عدة تفسيرات لهذه الآية. ونبرزها فيما يلي:   (1) يراجع القرطبي جـ2 ص 363 والطبري: جـ2 ص 112 وابن كثير جـ1 ص 228 والجصاص ج1 / ص 326، وابن العربي: جـ1 ص 49 (2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وعبد بن حميد في تفسيره، وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه، والحافظ أبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب به، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، وقال الحاكم: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، يراجع ابن كثير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 ثانياً: معنى قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . (أ) يقول الماوردي: (في الباء قولان: أحدهما أنها زائدة وتقديره: ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة، ونظيره قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (1) . وقال المبرد: {بِأَيْدِيكُمْ} أي: بأنفسكم، فعبر بالبعض عن الكل، كقوله تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} . وقيل: هذا ضرب مثل، تقول: فلان ألقى بيده في أمر كذا إذا استسلم؛ لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيده، فكذلك كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبد المطلب: (والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت لعجز) . والقول الثاني: إن الباء غير زائدة، أي: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، كما تقول: لا تفسد حالك برأيك. (ب) والتهلكة (بضم اللام) مصدر من هلك يهلك هلاكاً وهلكاً وتهلكة، أي: لا تأخذوا فيها يهلككم، قاله الزجاج وغيره. (جـ) ما ورد من تفسير للآية: الآية فيها ستة تأويلات: أحدها: إن لم تنفقوا في سبيل الله تعالى عصيتم الله تعالى فهلكتم بالإثم، أي: لا تتركوا النفقة في سبيل الله؛ فإن الله يعوضكم منها أجرا ويرزقكم عاجلاً، وهذا قول ابن عباس وحذيفة، وسبيل الله طريقه الذي أمر أن يسلك فيه إلى عدوه من المشركين بجهادهم وحربهم، فقد روي عن ابن عباس قال في هذه الآية: قال ليس ذلك في القتال، إنما هو في النفقة، أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله، ولا تلق بيدك إلى التهلكة. وقال الضحاك بن أبي جبير: كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم، فأصابتهم سنة، فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله فنزلت: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2) . وعن ابن عباس فإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص أنفقه. التأويل الثاني: أي لا تخرجوا بغير زاد فتهلكوا بالضعف، يشهد له قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . وهو قول زيد بن أسلم، قال: (لا تسافروا في الجهاد بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق، أو يكون عالة على الناس) .   (1) الآية: 14 من سورة العلق. (2) ابن كثير: ج1 ص 229، والماوردي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 التأويل الثالث: أي لا تيأسوا من المغفرة عند ارتكاب المعاصي، فلا تتوبوا، وهذا قول البراء بن عازب، وقال محمد بن سيرين وعبيدة السلماني: الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله تعالى. قال أبو قلابة: هو الرجل يصيب الذنب فيقول: قد هلكت، ليس لي توبة. فييأس من رحمة الله وينهمك في المعاصي فنهاهم الله تعالى عن ذلك، كما قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (1) . التأويل الرابع: أي لا تتركوا الجهاد في سبيل الله فتهلكوا، وهذا قول أبي أيوب الأنصاري، وقد تقدم ما روي بشأنه. التأويل الخامس: إنها التقحم في القتال من غير نكاية في العدو، وهو الذي تأوله القوم الذين أنكر عليهم (2) . أبو أيوب الأنصاري، وأخبر فيه بالسبب، وهذا قول أبي القاسم البلخي (3) . وبين ابن العربي أن معنى الآية على هذا الرأي: (لا تدخلوا على العساكر التي لا طاقة لكم بها) . وقد اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده إلى آراء: الأول: وهو رأي القاسم بن مخيمرة، والقاسم بن محمد وعبد الملك من علماء المالكية، قالوا: لا بأس بأن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فإن لم يكن فيه قوة فذلك من التهلكة. الرأي الثاني: قيل إنه طلب الشهادة وخلصت نيته فليحمل على العدو؛ لأن مقصوده واحد منهم، وذلك بين في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} . الرأي الثالث: يقول ابن خويز منداد: فإما أن يحمل الرجل على مائة، أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج، فلذلك حالتان: الأولى: إن علم وغلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل، ولكن سينكي نكاية أو سيبلي، أو يؤثر أثراً ينتفع به المسلمون فجائز أيضاً (4) .   (1) الآية: 87 من سورة يوسف. (2) أحكام القرآن للجصاص: جـ1 ص 327 (3) تفسير الماوردي: جـ1 ص 212 (4) ج1 ص 128 ولم ينص القرطبي على الحالة الثانية ولكنها واضحة، وهي أنه في غير هاتين الصورتين الجائزتين لا يجوز إلقاء النفس في الهلكة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 وقد علق القرطبي على هذا الرأي بقوله: (قلت: ومن هذا ما روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً؟ قال: ((فلك الجنة)) . فانغمس في العدو حتى قتل. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: ((من يردهم عنا وله الجنة؟)) أو ((هو رفيقي في الجنة؟)) فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أنصفنا أصحابنا)) هكذا الرواية ((أنصفنا)) بسكون الفاء ((أصحابنا)) بفتح الباء، أي لم ندلهم للقتال حتى قتلوا) ، وروي بفتح الفاء ورفع الباء، ووجهها أنها ترجع لمن فر عنه من أصحابه والله أعلم) . الرأي الرابع: قال محمد بن الحسن في السير الكبير: إن رجلاً لو حمل على ألف رجل وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية فإني أكره له ذلك؛ لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين، وإنما ينبغي للرجل أن يفعل ذلك إذا كان يطمع في نجاة أو منفعة للمسلمين، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ولكنه يجرئ المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل، فيقتلون وينكون في العدوِّ فلا بأس بذلك إن شاء الله؛ لأنه لو كان على طمع من النكاية في العدو، ولا يطمع في النجاة، لم أرَ بأساً أن يحمل عليهم، فكذلك إذا طمع أن ينكي غيره فيهم بحملته عليهم فلا بأس بذلك، وأرجو أن يكون فيه مأجوراً. وإنما يكره له ذلك إذا كان لا منفعة فيه على وجه من الوجوه، وإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية، ولكنه مما يرهب العدو فلا بأس بذلك؛ لأن هذا أفضل النكاية، وفيه منفعة للمسلمين) . وقد علق الجصاص على قول محمد بن الحسن هذا قائلاً: (والذي قال محمد من هذه الوجوه صحيح لا يجوز غيره، وعلى هذه المعاني يحمل تأويل من تأول في حديث أبي أيوب أنه ألقى بيده إلى التهلكة بحمله على العدو، إذ لم يكن عندهم في ذلك منفعة، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن يتلف نفسه من غير منفعة عائدة على الدين، ولا على المسلمين، فأما إذا كان في تلف نفسه منفعة عائدة على الدين فهذا مقام شريف مدح الله به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} (1) . وقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (2) . وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} (3) في نظائر ذلك من الآي التي مدح الله فيها من بَذَلَ نفسه لله.   (1) الآية 111 من سورة التوبة (2) الآية: 169 من سورة آل عمران (3) الآية 207 من سورة البقرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 خلاصة هذه الدراسة: هذه الآراء جميعها تدور حول محور واحد، وهو أنه إذا كان اقتحام الواحد في الجيش العظيم يحقق مصلحة للدين ومنفعة للمسلمين فإنه يجوز، وإلا فلا يجوز. (أ) وإذا تتبعنا حالات جواز أن يلقي الواحد بنفسه في التهلكة كانت على حسب الآراء هي: (1) إذا كان في المقتحم قوة، وكان لله بنية خالصة. (2) إذا طلب الشهادة، وكان لله بنية خالصة وحكي بقيل. (3) إذا علم أو غلب على ظنه نجاته، وأنه سيقتل من حمل عليه. (4) إذا علم أو غلب على ظنه نجاته، وأنه سينكي العدو، ويؤثر تأثيراً ينتفع به المسلمون. (5) إذا كان يطمع في نجاة، أو نكاية في العدو، أو يجرئ المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل. (ب) وإذا تتبعنا الحالات التي لا يجوز فيها إلقاء النفس في التهلكة كانت على حسب الآراء السابقة هي: (1) إذا لم يكن في المقتحم قوة، ولم يكن لله بنية خالصة. (2) إذا لم يطلب الشهادة، ولم يكن لله بنية خالصة. (3) إذا علم أو غلب على ظنه أنه لن ينجو، وأنه لن يقتل من حمل عليه. (4) إذا علم أو غلب على ظنه أنه لن ينجو، وأنه لن ينكي العدو، ولن يؤثر تأثيراً ينتفع به المسلمون. (5) إذا كان لا يطمع في نجاة، ولا نكاية في العدو، ولا يجرئ المسلمين بذلك. وكل حالات عدم الجواز يجمعها ضابط واحد كما قال الجصاص: (إنه لا ينبغي أن يتلف الإنسان نفسه من غير منفعة عائدة على الدين، ولا على المسلمين، فإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله، وتوهين الكفر، فهذا المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} . الآيةَ. أما في غير هذا فيكون إلقاء للنفس في التهلكة، وهو منهي عنه بنص الآية الكريمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 التأويل السادس: وهو سادس التأويلات في الآية الكريمة، وآخرها، وهو رأي ابن جرير الطبري، حيث يقول بعد أن ذكر الآراء جميعها ممَّا يراه صواباً. (والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر بالإنفاق في سبيله بقوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وسبيله طريقه الذي شرعه للعباد وأوضحه لهم، ومعنى ذلك: وأنفقوا في إعزاز ديني الذي شرعته لكم بجهاد عدوكم الناصبين لكم الحرب على الكفر، ونهاهم أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، فقال: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وذلك مثل، والعرب تقول للمستسلم للأمر: أعطي فلان بيديه، وكذلك يقال للممكن من نفسه مما أريد به: أعطي بيديه، فمعنى قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} : ولا تستسلموا للهلكة فتعطوها أزمته فتهلكوا. والتارك النفقة في سبيل الله عند وجوب ذلك عليه مستسلم للهلكة بتركه أداة فرض الله عليه في ماله، وذلك أن الله جل ثناؤه جعل أحد سهام الصدقات المفروضات الثمانية في سبيله فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} إلى قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} فمن ترك إنفاق ما لزمه من ذلك في سبيل الله على ما لزمه كان للهلكة مستسلماً، وبيديه للهلكة ملقياً، وكذلك الآيس من رحمة الله لذنب سلف ملق بيديه إلى التهلكة؛ لأن الله قد نهى عن ذلك فقال: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} ، وكذلك التارك غزو المشركين وجهادَهم في حال وجوب ذلك عليه في حال حاجة المسلمين إليه مضيع فرضاً ملق بيديه إلى التهلكة، فإذا كانت هذه المعاني كلها محتملها قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ولم يكن الله عز وجل خص منها شيئاً دون شيء فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة، وهي العذاب بترك ما لزمنا من فرائضه غير جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا، مما يستوجب بدخلونا فيه عذابه، غير أن الأمر وإن كان كذلك فإن الأغلب من تأويل الآية: وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله، ولا تتركوا النفقة فيها فتهلكوا باستحقاقكم بترككم ذلك عذابي، كما حدثني المثنى قال حدثنا أبو صالح قال لنا معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: التهلكة عذاب الله، قال أبو جعفر: فيكون ذلك إعلاماً منه لهم بعد أمره إياهم بالنفقة ما لمن ترك النفقة المفروضة عليه في سبيله من العقوبة في المعاد، قال قائل: فما وجه إدخال الباء في قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} وقد علمنا أن المعروف من كلام العرب: ألقيت إلى فلان درهماً دون ألقيت إلى فلان بدرهم؟ قيل: قد قيل: إنها زيدت نحو زيادة القائل الباء في قوله: جذبت بالثوب وجذبت الثوب، وتعلقت به وتعلقته، وتنبت بالدهن وإنما هو تنبت الدهن. وقال آخرون: الباء في قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} أصل للكلمة؛ لأن كل فعل واقع كني عنه فهو مضطر إليها؛ كنحو قولك في رجل: كلمته، فأردت الكناية عن فعله فإذا أردت ذلك قلت: فعلت به، قالوا: فلما كان الباء هي الأصل جاز إدخال الباء وإخراجها في كل فعل سبيله سبيل كلمته، وأما التهلكة فإنها التفعلة من الهلاك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} يعني جل ثناؤه بقوله: {وَأَحْسِنُوا} أحسنوا أيها المؤمنون في أداء ما ألزمتكم من فرائضي وتجنبوا ما أمرتكم بتجنبه من معاص، ومن الإنفاق في سبيلي، وعود القوي منكم على الضعيف في الخلة؛ فإني أحب المحسنين في ذلك، كما حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا زيد بن الحباب قال: أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق، عن رجل من الصحابة في قوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: أداء الفرائض. وقال بعضهم: معناه أحسنوا الظن بالله. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: أحسنوا الظن بالله ببركم، وقال آخرون: أحسنوا بالعود على المحتاج. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (عودوا على من ليس في يده شيء) . النتيجة العامَّة لهذا البحث: (كل هذا يدلنا على أنه تفسير الآيتين الكريمتين يَمْنَعُ أن يقتل الإنسان نفسه، ويمنع أن يُعَرِّض الإنسان نفسه للهلاك في كل الأحوال، وفي جميع الحالات سوى في حالة واحدة، بضوابط محددة، وهي حالة اقتحام الواحد على الجيش العظيم، عالِماً أن اقتحامه يُحقق مصلحة الدين ومنفعة جميع المسلمين، وفي غير ذلك يكون ممنوعاً إلقاء النفس في التهلكة، حتى ولو كان إيثاراً؛ لأن الإيثار إنما يكون بالمباحات، ولا يكون بالمحرمات، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 المبحث الرابع عشر سد الذرائع سد الذرائع إن القول بجواز نقل الأعضاء بين إنسان حي إلى إنسان آخر يؤدي إلى فتح باب شر عظيم، حيث يفتح باب التجارة في الأعضاء الآدمية، فمَن لديه المقدرة المادية اشترى ممن ليس لديهم هذه المقدرة، ويصبح الآدميُّ كُلًّا أو بعضاً سلعة من السلع تباع وتُشترى، تغلو وترخص في ميدان العرض والطلب، ويصبح للغني ما يريد، وللفقير الهلاك والضياع، وتتحول هذه المعاني التي ينثرونها وروداً في ميدان نقل الأعضاء مضار جسيمة الآدمية جمعاء، ويتحول سوقها إلى سوق خزي وعار للإنسانية ... إن تدفق الشر من فتح هذا الباب يجعلنا نقول: إنه ممنوع شرعاً سدا للذرائع. وهو دليل آخر يضاف إلى الأدلة التي أفضنا في بيانها. ولنتتبع معاً ما طفا وظهر من الأخبار العالمية حول التجارة في الإنسان، والتجارة في أعضائِه، وما خفِي كان أعظم، فإن العلم بها يعطينا فكرة واضحة حول ما يجري داخل أسواق بيع الكُلى في العالم أجمع. جاء في الأهرام بتاريخ 4/11/ 1987 م تحت باب أخبار قصيرة ما يلي: أ - الأطفال ... قطع غيار: تيجو سيجاليا ـ كشف مسؤول بارز في هندوراس أن بعض الأجانب يشترون أطفالا من هندوراس للحصول على أعضاء حيوية من أجسامهم لاستخدامها في عمليات زراعة الأعضاء، وقال المسؤول في حديث صحفي: إن معظم الأطفال الذين يتم شراؤهم من المعوقين جسدياً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 ب - كما جاء في الأخبار بتاريخ 20/ 11/ 1987 م تحت باب حكايات عربية بقلم وجيه أبو ذكري ما يلي: الخطر القادم بدأ في الخرطوم: شاهد مسؤول في مطار الخرطوم سيدة شقراء جميلة ومعها طفل أسمر في الرابعة من عمره، ولما سألها عنه أخرجت له جواز سفرها، وقالت: إنه ابنها، واسمه مُدَوَّن على جواز السفر، ولكن مسؤول المطار شك في الأمر، إذ كيف الطفل الأسود ابن السيدة الشقراء. فحاولت أن تقضي على الشك فأخبرته بأنها جاءت به سِفاحاً من أب سوداني. وعندما لم يقتنع بذلك حاولت أن تقدم له رشوة نظير أن يتركها تأخذ ابنها وتصعد إلى الطائرة المتجهة إلى أثينا.، ورفض الرشوة وقادها إلى الشرطة. وفي شرطة مطار الخرطوم ضاق الخناق عليها، وبعد ساعات من الأسئلة المتواصلة اعترفت السيدة اليونانية بأبشع قصة إنسانية. فالسيدة عضو في عصابة دولية، لها مراكز في الكثير من دول العالم (المتقدم) ، ومهمة هذه العصابة سرقة أطفال الدول (المتخلفة) من آسيا وأفريقيا وكانت مهمتها سرقة أطفال سوادنيين وخاصة من الجنوب ... ويعيش الأطفال بعد ذلك في مراكز معدة لذلك، وتحت رعاية طبيبة جيدة.. ورعاية غذائية جيدة. والعصابة على اتصال مستمر بكافة المستشفيات الكبرى في كل عواصم العالم (المتحضر) ، وهذه المستشفيات تحتاج إلى أعضاء بديلة للمرضى الأثرياء، وعندما يطلب من العصابة عضو بشري بديل، يأتون بطفل من ذلك المركز السري، ويتم خنقه بغاز ثاني أكسيد الكربون ثم يتم تشريحه، وتباع بعض أجزائه لتلك المستشفيات بمبالغ طائلة. وقالت الشقراء اليونانية لشرطة مطار الخرطوم: لقد بدأت هذه العصابة عملها ذلك مند عام 1979، وهي تفكر في شراء طائرات خاصة بها، وربما تصبح هذه العصابات أخطر وأهم من عصابات بيع السلاح والاتجار في المخدرات. كدت لا أصدق ما أسمع، لولا أن محدثي هو الشاعر السوداني الكبير مصطفى سند. وسألته: هل نشرت الصحف هذا النبأ الخطير؟ وقال: لقد نشرتْه عن استيحاء. لماذا؟ لقد حدث ذلك أيام الحكم الشمولي، وكانت الرقابة على الصحف السودانية صارمة أيام حكم (نميري) إلا أن الخرطوم كلها كانت تتحدث عن هذه الحادثة البشعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 وماذا تم في الطفل والشقراء؟ الطفل أعادوه إلى أسرته، والشقراء رحلت دون محاكمة. هذه الحادثة، وأعتقد أنها صحيحة، بل وأجزم أن الخطر القادم على البشرية قبل المخدرات والإيدز والسلاح هو التجارة في أعضاء جسد الإنسان الحي، وهي تجارة أقسى من تجارة الرقيق الأبيض، وهو يؤكد أننا نعيش في زمن ردئ اغتيل فيه الضمير الإنساني. ولقد جرت في القاهرة شائعة ـ لا أساس لها من الصحة ـ قريبة من هذه الواقعة. ومعنى ذلك أن هناك خطراً قادم وأن خير وسيلة للعلاج من أي خطر هي الوقاية منه، ولكي ندفع عن مجتمعاتنا هذا الخطر القادم لا محالة، فأتصور أن تَصدر تشريعات تجرم هذا. بل وتنظم نقل الأعضاء من الإنسان لآخر، فحتى في مصر ظهرت إعلانات خلال السنوات الماضية عن طلب شراء كُلى مع الاستعداد لدفع الثمن وبالآلاف. بل وليس سراً أن هناك مستشفيات في مصر يرقد فيها أثرياء المرضى انتظاراً لشراء كلى. فأنقذوا مصر من خطر قادم. نعم فالخطر قادم لا محالة. وظهرت جرائمه في دولة عربية شقيقة هي السودان. عقدت كلية الطب بجامعة عين شمس بالقاهرة ندوة حول رأي الدين في التبرع بالأعضاء، وأرى أن أنقل ما نشرته الأهرام عن وقائع هذه الندوة وما صرح به الأطباء مما رأوه من مآس حتى نتيقن أن خطراً جسيماً يطل برأسه على الإنسانية جمعاء. نشر في الأهرام بتاريخ 26/8/ 1987م ... تحقيق تحت عنوان (سوق الكلى في مصر ... من يبيع.. ومن يشتري؟) . ما الذي يجري الآن داخل سوق الكلى في مصر؟ فقد تحولت بالفعل إلى تجارة ووساطات وربح وسمسرة، بل إنها وصلت إلى حد الاختطاف وإجراء عملية نزع كلية في الظلام لتركيبها لإنسان مريض، طال انتظاره لها؟ لسنا على أي حال نتهم أحداً.. ولا نوجه اللوم لمجرد اللوم إلى أحد ... ولكن وقد فاض الكيل بنا قبل من يريد الكلية ولا يجد بائعاً لها إلا بشق الأنفس.. لا بد لنا من مواجهة هذه الظاهرة الجديدة، والتي أطلق عليها الأطباء والمرضى (سوق الكلى في مصر) . من يشتري ومن يبيع؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 إن تحقيقات الأهرام، وهي تفتح ملف مرضى الكلى في مصر يهمها في المقام الأول أن نعثر على حل حاسم للقضية.. وأن يساعدنا الأطباء ورجال الدين في حلها، خصوصاً مشكلة أحلال أم حرام التبرع بكلية إلى إنسان آخر؟ المنصة تزدحم بباقة من أطباء مصر طرحوا مشكلة على جانب كبير من الأهمية، هي (رأي الدين في التبرع بالأعضاء) ، ضمت المنصة عميد طب عين شمس د. علي عبد الفتاح، ومفتي الجمهورية د. سيد طنطاوي، والأساتذة الدكاترة عبد المنعم حسب الله، ووحيد السعيد، إبراهيم راجي، وسالم نجم، حلمي مراد، نعمت نور الدين. في البداية عرض الأطباء.. صور تكريم الإنسان في القرآن الكريم ... وقد جاء ذكر آدم وبني آدم في القرآن الكريم في خمس وعشرين آية كريمة ... كما جاء تكريم الإنسان في الكتب السماوية بأجمعها ... وكانت هذه المقدمة من د. علي عبد الفتاح، الذي دعا لعقد ندوة، مريحة للنفس البشرية، ومطمئنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 أتبرع ... بكلية زوجتي! وقد سبق هذا العرض.. حوادث مؤلمة عن (سوق بيع الكلى البشرية) ، وقد عكست (السوق) مظاهر غير إنسانية وقواعد لا آدمية ... وظهر فوق السطح (معاملات) غريبة، ومساومات أغرب تشير إلى أن سوق بيع الأعضاء البشرية سوف تتعرض بالضرورة إلى دروب اللاأخلاقيات، وكان لا بد من وقفة أسرعت إليها كلية الطب. تحكي د. نعمت نور الدين واقعة عاشتها بحكم عضويتها لجمعية أصدقاء المرضى بالفشل الكلوي في مستشفى كوبري القبة، وهي أستاذة بكلية الزراعة.. وهي تعيش المشكلة بكل وجدانها ... وتقول: عشت تجربة تجارية.. جرت فيها مساومات لا إنسانية في سوق بيع قطع الغيار البشرية وعرضت المشكلة أمام كل الحاضرين، في أسلوب درامي حزين مؤسف.. وقالت: عندما طلبت شراء كلية لمريض أصيب بفشل في الكليتين جاءتني أعداد كبيرة من المتطوعين. جاءوا وكلهم رغبة في التبرع بإحدى الكليتين، وقد حمل كل متطوع شروطه ومبرراته. قالت: جاءني أحد المتطوعين.. وقال: إن الكلية جاهزة.. وهو يود أن ندفع له مبلغ 30 ألف جنيه عداً ونقداً، ولا ينقص هذا المبلغ مليماً واحداً، وهو جاهز ومستعد للبدء في إجراءات الاختبارات الخاصة بالدم والأنسجة، وعندما يتأكد تطابق أنسجته مع أنسجة المريض سوف أكون جاهزاً لدخول حجرة العمليات لنزع كليتي وزرعها في كلية مريضكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 وتستمر د. نعمت في روايتها وتقول: فرحنا بهذا العرض، وحاولنا أن نخفض هذا المبلغ لأنه ضخم، وقد لا يكون متوفراً، كما أنه مبالغ فيه ولا سيما وإن هناك عروضاً أقل من هذا الرقم لمتبرعين بكليتهم. ولكن المتبرع أجاب: إن هذا المبلغ لم يضعه اعتباطاً ولكنه موضوع تحت شروط، أن هذا المبلغ لن يضعه في جيبه.. إن هذا المبلغ مطلوب ... وإلا دخل السجن؟ وقال: إنني أعمل سائقاً لسيارة أجرة أرتزق منها، وأكسب منها قوتي وقوت أولادي وزوجتي، وبينما كنت أقود سيارتي الأجرة فوجئت أمامي بأحد المارة يعبر الطريق. صدمته بسيارتي صدمة قوية.. وتم نقله إلى المستشفى وهناك لفظ أنفاسه ... ودخلت السجن. ورفعت ضدي قضية، وكسب أهل المتوفى القضية التي حكمت بدفع تعويض قدره 30 ألف جنيه، وكان أمامي حلان لا ثالث لهما. إما أن أدفع التعويض أو السجن ... وأنا عائل أسرتي الوحيد، وقد قفز أمامي الحل ... بأن أبيع الكلية لأي مريض مقابل هذا المبلغ.. وإلى هنا. وقد تركت القصة أثراً مؤلماً وكان المبرر واضحاً. ورضخت الأسرة للثمن من منطق واحد، وهو أن هذا مبلغ يحل مشكلتين ويضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، إننا بهذا المبلغ ننقذ أسرة من التشرد. وننقذ إنساناً من السجن، وننقذ مريضاً من حالة الموت. وتم الاتفاق هكذا وقبل أن نبدأ أول خطوة لتناسق الأنسجة والاختبارات بين المريض وواهب الكلية، فوجئت بالسائق وقد جاءني في الموعد المحدد، وقد جر خلفه زوجته وقال: نسيت أقول لكم: إن الذي سوف يتبرع بالكلية هو زوجتي وليس أنا ... لأني ضعيف. وتعلو المفاجأة وجوه الحاضرين ... وتستمر الدكتورة نعمت قائلة: وللأسف فإن زوجته كانت نحيلة الجسم ضعيفة البنيان، وكان هو مكتمل الصحة والعافية ذا بنيان ضخم لا يتجاوز الـ 28 ربيعاً ... ورفضنا طبعاً لأن كل العناصر الإنسانية هنا فقدت قيمتها، وعادت د. نعمت إلى دراستها مرة أخرى.. في البحث عن متطوع في (سوق بيع الأعضاء البشرية) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 وجاءنا عرض آخر من متطوع آخر، قال: إنه مستعد للتبرع بكليته. وكان شاباً في عز شبابه، وبدأنا الحوار الحزين والمبادلة.. والمساومة.. قلنا له: وكم تساوي؟ ويدور الفصال، ولكن هذا الشاب كان مجاملاً ... لطيفاً، أبدى استعداداً طيباً للتبرع ولم يفاصل في ثمن بيع كليته.. وقد عطفنا عليه جدا.. وكانت له مطالب تبدو ساذجة جداً، أنه يود أن يأكل جيداً؛ لأن صحته معتلة وضعيفة، وأنه في حاجة إلى أكل جيد وأنه يشتهي أطباق الكباب والكفتة، وفعلاً تعاطفنا حول طلبه وقدمنا له كل مطالبه، وقام مع الأيام باستنزافنا وطلب منا نقوداً للسفر إلى أهله، بطول مصر وعرضها لتوديع أهله.. وتبين لنا أنه ينتمي إلى أسرة عريضة النسب، وبلغ الأمر أنه طلب تليفزيوناً ملوناً لأسرته لأنها محرومة من التليفزيون. وجاء وقت الجد ... وطلبناه لبدء التحاليل، وتحليل الأنسجة، ومهمة المعامل، وعند الانتهاء من كل هذا.. فوجئنا بأن كل التحاليل سليمة والأنسجة مطابقة والحمد لله. وعندما بدأنا إجراء الأشعة.. فوجئنا بأن إحدى كليتيه في حالة ضمور ... والكلية الأخرى سليمة ... وإنسانياً..فإنه لا ينبغي أن يتبرع هذا المريض بكليته لأنه فعلاً يعيش على كلية واحدة. واعتذرنا له.. ونحن آسفون بعد رحلة طويلة من التحاليل المكلفة.. وعطفنا عليه؛ لأنه فوجئ بمشكلته المرضية هذه، وطلبنا من الطبيب عدم إخباره بهذه المأساة التي ظهرت في حياته، وتبين لنا في النهاية أن هذا الإنسان يعلم بكل شيء وأنه نصاب وأنه يتخذها تجارة له في ابتزاز الناس المحتاجين إلى من يتبرع بكليته ... ولكنه يظل يبتز الناس لمدة 6 شهور كاملة ... إلى أن يجيء موعد إجراء الأشعة باعتباره آخر إجراء يتم قبل الجراحة، وهنا يكون قد حصل على ما يريده من أموال وهدايا ثم يدعي أنه جاهز لولا مشكلته ... وأصبح هذا الشاب من أشهر النصابين في (سوق بيع قطع الإنسان البشرية) ... في أحد مستشفيات مصر الجديدة.. والحكاية لا تنتهي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 لقد جاءني أحد الأطباء - هكذا يقول د. رشاد برسوم - وكان مصاباً بفشل كلوي، وقد سحب خلفه أحد المتطوعين المزمع بيع كليته، وقال لي: إن هذا المتبرع سوف يحصل على نصيبه وأرجو أن تسرع بالموافقة، ولكني رفضت (الكلام ما زال للدكتور رشاد) وقلت له: إنني أرفض إجراء جراحة تتم على أساس بيع الكلية، هل لك أشقاء؟ ... أجاب: نعم. قلت: إن المفروض أن الأشقاء يتبرعون بكلاويهم لأشقائهم بدون مقابل. (إننا نعيش في مستنقع ... ساعدونا للخروج منه) .. دوت هذه الجملة في قاعة المؤتمرات الكبرى، في مستشفى جامعة عين شمس التخصصي، وسط جمع من الأطباء، يمثلون الصفوة في تخصصات أمراض الكلى، وجراحات الكلى وزراعة الأعضاء، والمعامل، وتحليل الأنسجة من أساتذة الجامعات. شدت هذه الجملة، التي بدأ بها د. عبد المنعم حسب الله أستاذ الأمراض الباطنية والكلى بطب القاهرة حديثه في جمع الأطباء، واستمر في كلمته يقول: إننا أيها السادة أمام مشكلة إنسانية اجتماعية معقدة جوانبها الإنسانية دامية، إننا نعيش كل يوم دراما عنيفة.. وحواراً لم يسمعه بشر، ما بين مريض فقد كليتيه، وفشلتا في أداء مهمتيهما ومعرض للموت، وبين إنسان يملك كليتين سليمتين وفي كامل صحته ومستعد لبيع واحدة منهما، إن الحوار غريب ومؤلم وحزين، إن المريض يقول: إنه لا يملك سوى 20 ألف جنيه سوف يقدمها هبة، وصاحب الكلية السليمة يقول للمريض: إن هذا المبلغ لا يكفي، ويتطور الحوار حتى يصل إلى.. وهنا انفجر الطبيب صائحاً هائجاً تأثراً ... لماذا تحكم علي بالإعدام ببطء؟ لماذا تجعلني أندم عمري كله، وأعيش مذلولاً لشقيقي ولزوجته وأولاده؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 إن الحواديت لا تنتهي.. وكم من متبرعين ابتزوا المرضى، وعندما يحين موعد إجراء الجراحة يذهبون إلى العنوان فلا يجدون أي أثر لأي اسم في هذا العنوان! والمآسي كثيرة ... وبعد أن يكون المريض وأهله قد تكرموا وأكرموا وبالغوا في الكرم، والعطف على التبرع الذي رحمهم كلهم من هذه المشكلة ... وبعد ذلك يختفي المتبرع! وواحدة من هذه المآسي عندما أصيب أخ بفشل كلوي، وكان له أربعة أشقاء وشقيقة واحدة، وتطوع كل الأشقاء بأن يهبوه كلياتهم، وكانوا كلهم صالحين ولكن الطبيب الجراح اختار الشقيقة الوحيدة لعدة اعتبارات، وجاءت الشقيقة الوحيدة للتبرع بكليتها لشقيقها، وفجأة وجدت نفسها على سرير المرضى ويتم تجهيزها لجراحة الغد ... وتأملت هذه الفتاة حياتها عندما تشرع في الزواج ... وعندما تجد ابنها في حاجة إلى كلية وهي لا تملك أن تعطيه شيئاً لأنها تبرعت لشقيقها ... وظلت تفكر ... وهداها تفكيرها إلى حل، لقد طلبت من الأشقاء قبل منتصف ليلة إجراء الجراحة.. بأن يتبرعوا لها بنصف ما تملكه الأسرة ... وهو عبارة عن منزل يضم عشر شقق.. واحتارت الأسرة في هذا القرار. وأصرت الفتاة على قرارها وإلا الرفض؛ لأنها شعرت في لحظة أنها افتدت كل الأشقاء بتضحيتها، فلا أقل أن يفدي الأشقاء ويضحوا، ولم تجد الأسرة أي قرار سوى أنهم ذهبوا وحملوا والدهم الكهل إلى المستشفى ليوقع على ملكية الشقيقة لنصف المنزل وحدها!. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 ماذا قال (مؤتمر التطور الإسلامي) وقضية نقل وزراعة الأعضاء البشرية، الذي تنظمه كلية طب عين شمس؟ وقال د. علي عبد الفتاح عميد الكلية ... إن الجراح قد يضطر إلى استئصال عضو مريض من جسم الإنسان.. ولكن هل يسمح له باستئصال عضو سليم تحقيقاً لمصلحة علاجية لإنسان مريض؟ إذا كان هذا يترتب عليه إنقاذ مريض من الموت ... فإنه في تقديري يعتبر عملاً مميزاً للتضامن الإنساني.. إلا إذا استهدف غاية مادية!! د. عبد المنعم حسب الله: لا يمكن الخروج من هذا المستنقع إلا إذا كان هناك بديل واضح ... وهو أن تكون الكلية مجاناً. إذا وفرناها لن يجد أحد فرصة للاتجار بها. وتوفيرها يكون من الموتى حديثاً والمصابين في الحوادث والتبرع بعد الوفاة. د. رشاد برسوم: إن بيع الكلية أصبح أسهل طريق للحصول على عدة آلاف من الجنيهات بدون عرق، إن 90 % من زراعة الكلى في العالم من متوفين حديثاً أو من حوادث الطرق!. د. وحيد السعيد: إن تجارة الأعضاء البشرية عمل لا أخلاقي.. واستنزاف مادي، إنها سوق للابتزاز والنصب والاتجار غير المشروع. د. إبراهيم راجي: نجد صعوبة جمة عندما يحين موعد إجراء الجراحة وننتظر طويلاً إلى أن نجد متبرعاً، وأي وسيط في هذه المشكلة يصيبه التلوث؛ لأن الماديات تلعب دوراً علنياً أو من تحت لتحت. د. حلمي مراد: هي مشكلة اجتماعية بالدرجة الأولى ... والتشريع لا يسمح بنزع عضو من جسم المتوفى. د. سالم نجم: إن التوافق مطلوب بين العلم والإسلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 ومآس أخرى كثيرة ... ! قصص إنسانية طلعت علينا من مشكلة (سوق بيع قطع غيار البشرية) مريض وافق على استضافة المتبرع في حجرته الوحيدة مع أسرته يأكل ويشرب ويتنزه على حساب المريض ويشاركه النوم في الحجرة، وعندما يحين موعد الجراحة يهرب. وهذه الإقامة قد تطول لعدة شهور ... وهي إقامة باهظة، ولكنها تجارة النصب! بينما قصص أخرى تقول: إن رجلاً تبرع ببيع الكلية لأن والدته مريضة ويود علاجها، ومصاريف العلاج باهظة. وشاب باع كليته لأنه يود أن يتزوج. وقد طالت فترة الخطوبة، وحصل على 20 ألف جنية وتزوج. وزوجة فقدت عائلها وليس لها أي مورد، وأمامها أطفالها جياع، فباعت كليتها واشترت بها قطعة أرض ترتزق منها.. ومريض تطوع لبيع شقة بالمجان لأحد المتطوعين في المنزل الذي يمتلكه ... وصاحب مصنع مريض قبل أن يدخل المتطوع بالكلية شريكاً له في المصنع. وقصة أخرى لإنسان محتاج جداً وفقير جداً، رفض بتاتاًَ التكلم في موضوع ثمن الكلية وقال: لن أقدم يدي لاستلام النقود إلا بعد أن أطمئن على سلامة المريض. هذا بعض ما تناقلته أجهزة الإعلام، وما ردده الأطباء والعلماء وهو أمر خطير، وينذر البشرية بشر مستطير، يكون حصاده نفوساً بريئة، وقواده ورواده ذئاب من البشر تتاجر تحت ستار الرحمة بالإنسان وبأجزائه، وتتصيد تحت ظلال كثيفة، وظلام دامس، ما تستطيع اصطياده من البلاد الفقيرة من أنفس، إما شراء وإما خطفاً وقرصنة، وإما تدليساً، بأن توهم الضحية برحلة هانئة، وبصحة وارفة، وفي موطن ووكر المؤامرة تسرق بعض أعضائه، وتعطي لمن يدفع أكثر، وهو لا يدري حين يفيق ما حدث له، وما سلب منه، وإن درى ماذا يفيد، وماذا يجدي؟! إنني أرى حرمة نقل أي عضو من أعضاء إنسان حي معصوم الدم إلى إنسان آخر يحتاج إلى هذا العضو. للأدلة التي بسطتها فيما تقدم، وأيضاً لأن الضرر لا يزال بالضرر كما قضت بذلك القاعدة الشرعية، وإليك نبذة موجزة عنها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 (الضرر لا يزال بالضرر) إن القاعدة الشرعية (الضرر يزال) المأخوذة من قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) لا ضرر أي لا ضرر ابتداء، فلا يحل أن يبدأ الإنسان غيره بإيقاع ضرر عليه، (ولا ضرار) أي لا يحل لإنسان أن يرد الضرر بضرر مثله، أي لا يضر الرجل أخاه ابتداء ولا جزاء. وهذه القاعدة (الضرر يزال) يتعلق بها قواعد منها (الضرر لا يزال بالضرر) قال ابن السبكي في معناها: وهو كعائد يعود على قولهم: (الضرر يزال ولكن لا بضرر) فشأنهما - أي شأن القاعدتين - شأن الأخص، وهو هذه القاعدة، مع الأعم. ولكن السيوطي وابن نجيم ذكرا أن هاتين القاعدتين سواء، وليس بينهما عموم وخصوص؛ لأنه لو أزيل الضرر بالضرر لما صدق (الضرر يزال) . وقد ذكروا لهذه القاعدة فروعاً نورد منها قولهم: (ولا يأكل المضطر طعام مضطر آخر، إلا أن يكون نبيا؛ فإنه يجوز له أخذه ويجب على من معه بذله. ولا يجوز له قطع فلذة من فخذه، ولا قتل ولده، أو عبده، ولا قطع فلذة من نفسه إن كان الخوف من القطع، كالخوف من ترك الأكل أو أكثر، وكذا قطع السلعة المخوفة) نص عليه السيوطي وقال ابن نجيم: من فروعها (أنه لا يأكل المضطر طعام مضطر آخر ولا شيئاً من بدنه) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 المبحث الخامس عشر عقوبة من يعتدي على نفسه عقوبة الجناية على النفس أو على ما دونها إذا جنى الإنسان على نفسه جناية أدت إلى إزهاق روحه، أو إلى بتر جزء من جسده فإن الفقه الإسلامي يبين لنا عقوبة هذه الجناية في كلتا الحالتين، أن العقوبة في شريعة الله تعالى نوعان: عقوبة أخروية، وعقوبة دنيوية، ونوضح فيما يلي هاتين العقوبتين بإيجاز: العقوبة الأخروية في الجناية على النفس أو ما دونها: العقوبة دائماً تكون حيث تكون الجناية عمداً، فإن وقعت الجناية خطأ، فالخطأ مرفوع إثمه، وآية ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عفوت عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) . أما إن كانت جناية الإنسان على نفسه عمداً، فإن أدت إلى زهوق روحه ـ حالاً أو مالاً ـ كانت عقوبتها: الخلود في النار أبداً، وآية ذلك ما روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً أبداً)) (1) وقيد التأبيد هذا لم يرد في العقوبة الأخروية لقاتل غيره التي نص عليها قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (2) وأما إن كانت الجناية على جزء من نفسه عمداً، فإنه يكون آثماً معذباً في الآخرة، ولكن مدة عذابه فيها وكيفيته موكولة إلى ربه جل شأنه. أما أنه آثم، فلأنه فعل أمراً نهاه المشرع الحكيم عن فعله فقال: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وأما أنه معذب في الآخرة، فلأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} . يقول ابن كثير: (ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه معتدياً فيه ظالماً في تعاطيه، أي عالماً بتحريمه متجاسراً على انتهاكه، فسوف نصليه ناراً.   (1) رواه البخاري ومسلم، وقد بيناه في كتابنا (الجنايات في الفقه الإسلامي، ص 137 (2) الآية 93 من سورة النساء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 العقوبة الدنيوية في الجرائم على النفس أو ما دونها: تختلف العقوبة الدنيوية في هذا النوع من الجرائم باختلاف نوع الجريمة إذ هي إما جريمة عمدية أو جريمة شبه عمدية. أو جريمة خطأ، فإذا قصد الفعل والنتيجة كانت عمداً، وإذا لم يقصدهما كانت خطأ، وإذا قصد الفعل ولم يقصد النتيجة كانت شبه عمد. ونوضح فيما يلي بإيجاز بالغ حكم كل نوع فيها إذا وقعت الجناية من الإنسان على نفسه. عقوبة الجناية عمداً على النفس أو على ما دونها. العقوبة في هذا النوع من الجناية تدور بين القصاص أو الدية والكفارة، والحرمان من الميراث، والتعزير في بعض الحالات، فأما القصاص: فإنه لا يتأتى توقيعه على قاتل نفسه؛ لأن محل القصاص قد فات بموته، وكذلك في جنايته على جزء نفسه، مثل قطع كليته أو غيرها؛ لأن محل الاستيفاء قد فات أيضاً، لأن الذي يجب فيه القصاص هو العضو المماثل للعضو المقطوع، فاليد اليمنى باليمنى، واليسرى باليسرى، وكذا العين، وأيضاً فإن الجرائم التي تقع على أجزاء الإنسان الداخلية ليس فيها القصاص (1) ؛ لأن الجائفة ليس فيها القصاص، كما نعلم، لكن عقوبة التعزيز هنا تظهر، وهي عقوبة، وكل تقديرها للإمام أو من ينوب عنه من القضاة، فحيث ينتفي القصاص يمكن أن نوجب عقوبة تعزيرية منعاً من إضرار الإنسان بنفسه من الميراث، وهذا واضح، وكذلك لا تتأتى عقوبة حرمان القاتل. وأما الدية: وهي اسم للضمان المالي الذي يجب بالجناية على الآدمي، أو على جزء منه. فإن الفقهاء قد اختلفوا في إيجابها في جناية الإنسان على نفسه عمداً، وبخاصة أنه لا يمكن أن تطبق عقوبة القصاص هنا، وإذا قلنا بوجوبها فهل تجب على الجاني وعلى العاقلة؟   (1) يراجع كتاب الجنايات في الفقه الإسلامي للمؤلف: ص 461 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 أما إيجابها على الجاني، فيقرر الفقهاء أنها لا تجب على الجاني، وإذا أردنا أن نعلل لهذا الرأي أمكننا أن نقول: إن إيجابها عليه بعد موته يستدعي بقاء ذمته لتتعلق بها الدية، وقد فاتت هذه الذمة، وفواتها يفوت ما يتعلق بها وهو الدية. وإذا قلنا: إن ذمته لا تنعدم بموته بل تضعف، ويقوبها ما يتركه من مال.. (1) . فيمكن إيجابها في ماله، فإن الرد على ذلك ميسور، وهو أن الإنسان لا يستحق لنفسه حقاً على نفسه، وأيضاً فإن الوارث للدية هم ورثة المال، فلا فائدة عملية في إيجابها في ماله أولاً، ثم ردها إلى ورثته المستحقين لأمواله بعد ذلك، ويضاف إلى ذلك أن معنى الردع والزجر ـ وهو المقصود من العقوبة ـ لا يتحقق هنا، وإذا فات المعنى الذي شرعت من أجله العقوبة لم تجب هذه العقوبة (2) .   (1) وإذا قلنا بذلك بالنسبة لسداد ديون الغير، فهذا القول له وجهه، وهو أن ينتفع الميت بوفاء ديونه من أمواله بدلاً من أن يأخذها الورثة لتعلق حق الدائنين بها، وهذا الوفاء يفيده، أما ما معنا هنا فليس فيه فائدة ملحوظة، والعاري عن الفائدة لا يشرع (2) كما في إسقاط العقوبة عن الجاني إذا كان صبياً أو مجنوناً لفوات المقصود من توقيع العقوبة عليهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 - وأما إيجابها على العاقلة ففيه رأيان: الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء أنها لا تجب على العاقلة أيضاً، وذلك لما روي عن عمر أنه قال: (العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة) رواه الدارقطني، وحكى أحمد عن ابن عباس مثله. وقال الزهري: (مضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئاً من دية العمد أن يشاؤوا) رواه عنه مالك في الموطأ. وهذه الآثار تدل بعمومها على أن العاقلة لا تحمل شيئاً من دية الجناية عمداً، فيندرج تحت مدلولها جناية الإنسان على نفسه عمداً، أو على غيره ... ولأنه لا عذر للقاتل في القتل العمد، وإذا لم يكن له عذر فإنه لا يستحق التخفيف، والعاقلة إنما تحمل عن الجانبي ما يستدعي التخفيف عنه؛ لأنها تتحمل عنه مواساة ومعاونة وتآزراً معه فيما وقع منه خطأ ودون قصد، أما ما كان عمداً فإنه لا يتلاءم مع المعنى الذي يهدف إليه المشرع من وراء معنى العاقلة وما تتحمله. الرأي الثاني: يرى الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق (كما نقله الشوكاني) (1) أن جناية العمد على نفس الجاني مضمونه على عاقلته. وهذا الرأي لا يوافق الآثار المروية آنفاً، كما لا يساير أيضاً الحكمة التي شرع من أجلها إيجاب الدية على العاقلة، وهي أنها لمساعدة الإنسان الذي ارتكب جناية خطأ في حق العباد، إذ إيجاب كل الدية عليه فيه عدم اعتداد بعذره، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) كما يعارض الأصل القاضي بألا يتحمل الإنسان جرم غيره، قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (2) . وقال جل شأنه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (3) . هذا هو الأصل، والاستثناء من هذا الأصل لا يكون إلا بدليل، والدليل وجد بشأن القتل الخطأ دون العمد. وهذا يرجح عدم إيجاب هذا النوع من الدية على العاقلة. كما لا يجب على الجاني، أي في ماله، كما ذكرنا آنفاً. وأما الكفارة (4) فقد اختلف الفقهاء في إيجابها على من قتل نفسه عمداً، فيرى جمهور الفقهاء أنها لا تجب، وبخاصة من يرون عدم إيجاب الكفارة في قتل الغير عمداً، وهم (الحنفية والحنابلة والزيدية، والثوري، وأبو ثور) للأدلة التي سبق النص عليها، ويرى الشافعية إيجاب الكفارة في القتل العمد أو شبهه أو الخطأ، سواء قتل نفسه أو غيره، فقد جاء في مغني المحتاج: (وتجب الكفارة بقتل المسلم ولو بدار الحرب، وذمي وجنين، وعبد نفسه، وبقتل نفسه؛ لأنه قتل نفساً معصومة، فتجب فيه كفارة لحق الله تعالى، فتخرج من تركته، أما إذا لم تكن نفسه معصومة بأن كانت مهدرة، فينبغي كما قال الزركشي، ألا تجب، وفي قتل نفسه وجه: أنه لا يجب لها الكفارة كما لا يجب ضمانها بالمال) .   (1) نيل الأوطار: جـ7 ص85 (2) الآية 164 من سورة الأنعام، 15 من سورة الإسراء، 28 من سورة فاطر، 7 من سورة الزمر، 38 من سورة النجم. (3) الآية 38 من سورة المدثر. (4) الكفارة هي: ما أوجب الشرع فعله بسبب حنث في يمين أو قتل أو ظهار..، وهي عقوبة فيها معنى العبادة شرعت تكفيراًَ للذنب، ومحواً للجرم، وتقرباً إلى الله تعالى، وشرعت في جريمة القتل ... لا في ما دون القتل، وهي عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فإطعام ستين مسكيناً بالآية 92 من سورة النساء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 عقوبة الجناية شبه العمد على النفس أو ما دونها: إذا جنى الإنسان على نفسه جناية شبه عمد، فإنه يلزمنا أن نذكر بعض الأمثلة التي أوردها الفقهاء لمثل هذا القتل، ثم نتبعها ببيان ما يجب فيه من دية أو كفارة، أما الأولى فمن صوره: (إمساك الحية مع الظن أنها لا تقتل، أو أن يأكل كثيراً حتى يبشم، أو المشي على الحبال في الهواء، والجري في المواضع البعيدة كما يفعله أرباب البطالة والشطارة (كل ذلك يعتبر قتلاً شبه عمد إذا لم يقصد بشيء من ذلك قتل نفسه) ؛ لأن هذه الأفعال تقتل غالباً، ويمكن أن يقاس على ذلك كل ما يغلب على الظن الهلاك منه. وأما ما يجب في هذه الجناية من عقوبة، فإنها تدور بين الدية والكفارة، فأما الدية، فقد اختلف الفقهاء في إيجابها. فيرى البعض إيجابها على العاقلة (في أي الشافعية (غير المشهور) ورأي للحنابلة) معتبرين أن هذه الجناية تساوي جناية الإنسان على غيره خطأ أو شبه عمد، فكما وجبت على العاقلة دية قاتل غيره خطأ أو شبه عمد فكذلك تجب هنا في الحالتين. ويرى جمهور الفقهاء أنه لا تجب الدية في هذه الجناية؛ لأن لا عذر له في اقترافه الفعل الموجب لها، وإذا لم يكن معذوراً، فإنه يشبه العمد المحض، والعمد المحض لا تجب فيه الدية فكذلك هنا. وهو رأي الحنفية والمالكية والشافعية (المشهور) والحنابلة. والناظر إلى هذين الرأيين على ضوء التطور الصناعي في هذا العصر يجد أن كثيراً من الناس يباشرون بعض الأعمال التي تكتنفها بعض المخاطر: كعمال المناجم، ومصانع الحديد والصلب، وما شاكل ذلك من الصناعات والأعمال، طلباً لرزقهم وسداً لحاجتهم، وتنمية لاقتصاد دولتهم. وقد يترتب على مباشرتهم لهذه الأعمال ذهاب أرواحهم أو أعضائهم أو حدوث أضرار جسمانية فما الموقف من هؤلاء في ظل الفقه الإسلامي؟ إنني أرى أن هذا العمل الذي يقوم به العامل والذي يحتاج إليه الفرد والدولة لا بد من أن يكون محاطاً ببعض الضمانات الكفيلة بسد الثغرات التي تنتج عن استمرار العمل والإنتاج، وهذه الضمانات هي إيجاب الدية لمن قتل منهم أثناء تأديته عمله، وتكون هذه الدية على العاقلة؛ لأن قتل شبه عمد، إذ العمل قد يؤدي إلى القتل، والقتل غير مقصود، وفي شبه العمد الدية على العاقلة فكذلك هنا. فإن لم تكن له عاقلة كانت ديته من بيت المال، ولا يمكن قياس هذا القتل على القتل العمد، حتى لا تجب الدية على العاقلة؛ لأن العمد أن يقصد الفعل ... ويقصد به القتل، ويمكن التوسع في مدلول العاقلة في الفقه الإسلامي، من العصبة إلى المحلة، إلى اعتبار كل العاملين في مصنع من المصانع عاقلة، كل منهم يعقل عن الآخر إذا ما توافرت شروط العاقلة فيهم وفي كل فرد منهم. وأما إيجاب الكفارة فيرى بعض الفقهاء (الحنابلة) إيجابها في ماله. وقد يستدل لهذا الرأي بأن القتل هنا قد وقع خطأ؛ لأنه لم يرد قتل نفسه، والله تعالى يقول: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وهو قد وقع قتله لنفسه خطأ، بينما يرى جمهور الفقهاء عدم إيجابها عليه؛ وذلك لانعدام خطابه بها بسبب موته، وإذا انعدم خطاب الشرع له بها، بسبب الموت، لم تجب عليه كسائر الأحكام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 عقوبة الجناية خطأ على النفس وما دونها: وأما إن قتل إنسان نفسه خطأ أو قطع عضواً من أعضائه، فقد اختلف في إيجاب الدية والكفارة أيضاً: فأما إيجاب الدية على العاقلة، كما هو الشأن في الجناية خطأ على الغير، فيرى بعض الحنابلة (القاضي) أن على عاقلته ديته لورثته إن قتل نفسه، أو أرش جرحه إذا كان أكثر من الثلث، وهو قول الأوزاعي وإسحاق، وذلك لما روي أن رجلاً ساق حماراً فضربه بعصى كانت معه، فطارت شظية ففقأت عينه، فجعل عمر ديته على عاقلته وقال: (هي يد من أيدي المسلمين لم يصبها اعتداء على أحد) ولم نعرف لعمر مخالفاً في عصره، ولأنها جناية خطأ، فكان عقلها على عاقلته كما لو قتل غيره، فعلى هذا الرأي إن كانت العاقلة الورثة لم يجب شيء؛ لأنه لا يجب للإنسان شيء على نفسه، وإن كان بعضهم وارثاً سقط عنه ما يقابل نصيبه، وعليه ما زاد على نصيبه، وله ما بقي إن كان نصيبه من الدية أكثر من الواجب عليه. ويرى أكثر أهل العلم (الحنفية والمالكية والشافعية وقول للحنابلة، وربيعة والثوري) أن جنايته هدر؛ وذلك لأن عامر بن الأكوع بارز مرحباً يوم خيبر فرجع سيفه على نفسه فمات ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بدية، ولا غيرها، ولو وجبت لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه جنى على نفسه فلم يضمنه غيره كالعمد، ولأن وجوب الدية على العاقلة إنما كان مواساة للجاني وتخفيفاً عنه، وليس على الجاني ههنا شيء يحتاج إلى الإعانة والمواساة فيه، فلا وجه لإيجابه، ويفارق هذا ما إذا كانت الجناية على غيره؛ فإنه لو لم تحمل العاقلة موجب الجنابة خطأ على الغير لأجحف به وجوب الدية لكثرتها. وهذا الرأي هو الذي أرى رجحانه لرجحان أدلته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 وأما الكفارة فيرى الحنفية والمالكية ووجه عند الشافعية: أنه لا يجب هنا في النفس كفارة، كما لا يجب ضمانها بالمال (الدية) . ويرى الشافعية والحنابلة: أن من قتل نفسه خطأ وجبت الكفارة في ماله؛ لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا} الآية، ولأنه آدمي مؤمن مقتول خطأ، فوجبت الكفارة على قاتله، كما لو قتله غيره. الترجيح: رجح ابن قدامة المقدسي (الحنبلي) الرأي الأول قائلاً: (إنه الأقرب إلى الصواب إن شاء الله؛ فإن عامر بن الأكوع قتل نفسه خطأ) ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه بكفارة، وقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} إنما أريد بها إذا قتل غيره بدليل قوله: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ، وقاتل نفسه لا تجب فيه دية بدليل قتل عامر بن الأكوع. ولكن ما ذكره من الأثر يمكن الرد عليه، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة، ولم يقض بالكفارة، وقد قال الفقهاء: إن الغرة ثابتة بالحديث، والكفارة ثابتة بالقرآن، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي وضحت الديات لم تذكر الكفارة اعتماداً على هذا، ومن هنا يمكن أن نقول: إنه قتل إنسان نفسه تجب في ماله الكفارة. إلا أن المعاني التي شرعت من أجلها الكفارة، إن كانت عبادة وتقرباً، فلا بد من وجود الشخص؛ لأنه لا عبادة بدون النية، وإن كانت زجراً وتنبيهاً إلى التحرز عن الوقوع في الخطأ، فإن كان هذا بالنسبة للشخص نفسه، فقد فات المحل الذي يمكن أن يستجيب لذلك، وإن كان هذا بالنسبة للغير، فإن المحل موجود، ويمكن أن يتحقق بالنسبة له هذا الغرض، فيعلم الإنسان القاتل لنفسه أن عليه حين يرتكب هذه الجناية خطأ كفارة تؤخذ من ماله كما تؤخذ بقية الحقوق. ولعل النظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((الأدمي بنيان الرب، ملعون من هدم بنياته)) يجعلنا ننظر إلى نفس الإنسان المعتدى عليه، على أنه غير، سواء كان المعتدى عليه هو نفس هذا الإنسان المعتدي أم غير نفسه، ويؤيد هذا أنه معاقب على اقتراف هذا الجرم في الآخرة على كلا الحالين، بل بعقوبة أشد في الحالة الأولى كما سبق أن أوضحنا. ومن هنا نرى ترجيح الرأي الثاني، خاصة وأن حق الأرقاء في الحرية حتى يتشوف الشرع إلى تحقيقه، وهو حق للغير، يلزم الوفاء به كسائر الحقوق، وكذلك حق المحتاجين في الإطعام إن لم يجد رقبة يعتقها، كما هو الحال الآن بعد أن اتفق العالم على منع الرق، وهو ما يهدف إليه المشرع الحكيم. ومن هذا العرض الموجز لنظرة الفقه الإسلامي لجناية الإنسان على نفسه عمداً أو شبه عمد أو خطأ، نخرج بنتيجة هامة، وهي أن من يعتدي على نفسه - كُلًّا أو بعضاً - تناولته العقوبات المقررة في الفقه الإسلامي لمن يعتدي على غيره على الوجه الذي يتلاءم مع توقيع هذه العقوبات على هؤلاء الجناة، سواء في الآخرة أو في الدنيا. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 الخاتمة: نتائج هذه الدراسة: - يمكننا على ضوء هذه الدراسة أن نستخلص القواعد التالية: من البحث الأول: تأخذ القواعد التالية: 1- أن الإنسان، روحاً وجسماً، كلا أو بعضاً، مملوك لله تعالى، وحده دون سواه، وليس للإنسان من نفسه إلا ما أجازه الشرع له من حق انتفاع يحصله ويستوفيه على المنهج والأسلوب الذي ارتضاه له خالقه. 2- أن دم الإنسان معصوم بحكم إنسانيته، ولا يحل دمه ولا يحل شيء منه إلا بحق، وقد حددت الشريعة ذلك تحديداً قاطعاً. 3- يحرم على الإنسان الاعتداء على نفسه أو الإضرار بها، أو تعريضها للهلاك. ومن المبحث الثاني: نأخذ القواعد التالية: 1- التداوي من الأمراض أمر مطلوب شرعاً، ويجب على الإنسان أن يتخذ الأسباب المشروعة التي قد توصله إلى حال القوة والصحة. 2- يجوز تداوي النفس البشرية بما أحل الله تناوله والتداوي به، وكذا يجوز تداويها بالمحرم إذا تعين المحرم علاجاً لها دون غيره من المباحات على يد طبيب مسلم حاذق. 3- يجوز أن يكون التداوي والعلاج عن طريق الجراحة، أو الكي إذا دعت الضرورة أو الحاجة إلى ذلك، وهو آخر أنواع العلاج. ومن المبحث الثالث: نأخذ القواعد التالية: 1- الضرورات تبيح المحظورات. 2- يباح للمضطر تناول مال الغير بغير إذنه، ولو باستعمال القوة دون سلاح، إذا كان هذا المال زائداً عن حاجته. 3- يباح للمضطر تناول الميتة والانتفاع بها، بمقدار ما يسد رمقه؛ إذ الضرورة تقدر بقدرها. 4- يجوز للمضطر التداوي بالميتة، سواء كانت قائمة العين لم تمسها يد التغيير والتبديل، أو غير قائمة العين بأن مستها يد التغيير والتبديل فحولتها من حالة إلى حالة أخرى. 5- يجوز الانتفاع بأجزاء الآدمي الميت، سواء كان معصوماً أو غير معصوم، إحياء للنفس الآدمية ومدا لأسباب البقاء لها ـ إذا توافرت الشروط التالية: أ - ألا توجد ميتة أخرى غير ميتة الآدمي، فإذا وجدت لا يحل الانتفاع بميتة الآدمي. ب - أن يكون المضطر معصوم الدم. جـ- أن يكون الانتفاع بها حالة الاضطرار، أما في حالة الحاجة، أو التتمة فلا يجوز. د- أن يكون هناك إذن بالانتفاع به من الميت قبل موته، أو من ورثته بعد موته، فإذا اختلف الإذنان: أحدهما أجاز والآخر منع، يؤخذ برأي المجيز؛ إنقاذاً للنفس البشرية من الهلاك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 المبحث الخامس: يؤخذ منه القواعد التالية: يجوز للإنسان أن ينتفع ببعض أجزاء نفسه في حالة الضرورة، أو في حالة تصحيح أو تعويض ما نقص أو تشوه من أعضائه؛ رجوعاً به إلى حالته المعتادة، وذلك بشرط ألا يكون خطر القطع أعلى من خطر البقاء على ما هو عليه (أو مساوياً) منعاً من تعريض النفس للتهلكة. المبحث السادس: تؤخذ منه القاعدتان التاليتان: 1- يحرم قطع جزء من جسم إنسان حي معصوم الدم لينتفع به إنسان آخر مضطر إلى هذا الجزء، وذلك باتفاق الفقهاء. 2- يجوز للمضطر المعصوم الانتفاع بجزء من إنسان غير معصوم الدم استحق القتل بسبب جرم ارتكبه عقب تنفيذ حكم القتل عليه مباشرة؛ وذلك لإنقاذ هذه النفس البشرية من الهلاك، تحت رقابة السلطة التنفيذية، وتحت رعاية نخبة من الأطباء المسلمين الحاذقين، وبناء على قانون ينظم ذلك الانتفاع من جميع جوانبه. المبحث السابع: تؤخذ منه القاعدة التالية: يحرم بيع الآدمي الحر مطلقاً، وقد أجمع الفقهاء على ذلك. المبحث الثامن: تؤخذ منه القاعدة التالية: يحرم بيع جزء من أجزاء الآدمي المتجددة. المبحث التاسع: تؤخذ منه القاعدة التالية: يحرم بيع جزء من أجزاء الآدمي غير المتجدد. المبحث العاشر: تؤخذ منه القاعدة التالية: لا يصح أن يتبرع الإنسان بجزء من أجزائه لغيره. المبحث الحادي عشر: يؤخذ منه القاعدة التالية: يبطل عقد الإجارة إذا كان محله قطع عضو صحيح من جسم الإنسان، لا تدعو صحة الإنسان إلى قطعه، وكل أجر يأخذه الطبيب إزاء ذلك يكون باطلاً. المبحث الثاني عشر: تؤخذ منه القاعدة التالية: لا أثر لرضا المقطوع عضوه الصحيح في درء العقوبة المستحقة على من تولى قطعه. المبحث الثالث عشر: تؤخذ منه القاعدة التالية: الإيثار إنما يكون في المال، أما الإيثار بالقربات، أو بالأنفس أو الأعراض فممنوع شرعاً. المبحث الرابع عشر: يؤخذ منه ما يأتي: أن ما يترتب على القول بجواز نقل الأعضاء من إنسان إلى آخر يؤدي إلى مخاطر كثيرة، فيحرم سدا للذرائع. المبحث الخامس عشر: يؤخذ منه ما يأتي: 1- جناية الإنسان على نفسه، عمدا كان أو شبه عمد، أو خطأ، معاقب عليها شرعاً في الدنيا وفي الآخرة. هذا ما أردت إبرازه في هذا الموضوع الشائك الدقيق، وأرجو الله تعالى أن يلهمنا الصواب ويجنبنا الخطأ. { {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أو أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .} تحريرا في: 25 من ربيع الثاني 1408 هـ. 17 من ديسمبر 1987 م. الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً إعداد الشيخ خليل محيي الدين الميس مدير أزهر لبنان ومفتي زحلة والبقاع الغربي وعضو مجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم حكم العلاج بزراعة الأعضاء: العلاج بزراعة الأعضاء والأنسجة الحية أو المعادن في جسم الإنسان من المسائل المستجدة في الحقل الطبي، كما يصف الاصطلاح الفقهي (النوازل) بالمسائل المستجدة بعد استقرار المذاهب الإسلامية حيث لا نص فيها من كتاب أو سنة أو قول أحد الأئمة المجتهدين. ولما كان الطب ميدان التجرِبة، ولذلك كان من منجزات الطب الحديث ما أحرز من تقدم ملحوظ في هذا المجال، سواء في زرع القلب أو القرنية أو الكلية أو استئصال الأمعاء المصابة واستبدالها بأخرى سليمة ... وكل ذلك إنما يتم باستخدام عضو منتزع من إنسان أو حيوان ... وبالتالي فالسؤال مطروح وبإلحاح: ما هو الحكم الشرعي في كل ما جرى أو يجري ... ومن المعلوم أن عملية الزرع تمر في مرحلتين: الأولى: من إنسان أو حيوان. الثانية: زراعة العضو المفصول في جسم إنسان آخر يفتقر إليه.. والحاجة هذه يمكن تصنيفها إلى فئتين: 1) توقف حياة إنسان مريض أو مهدد بالموت على زرع ذلك العضو في جسده كالقلب.. والكلية. 2) توقف عمل العضو المصاب فقط مع بقاء الحياة على زرع ذلك العضو كالقرنية في العين مثلاً. هذا وفصل العضو المطلوب ومن ثم زرعه في جسم المريض إما أن يتم بناء على تبرع إنسان كامل الأهلية، ويفصل منه ذلك العضو حال الحياة (كالكُلية) ، أو بناء على وصية بأن ينتزع من جسده بعيد وفاته، كما يحصل بالنسبة إلى العيون مثلاً ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 وللإجابة على هذه التساؤلات المطروحة وأضرابها لا بد من مقدمة تمهيدية نعرض من خلالها للآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي تشكل إطاراً للبحث باعتبارها ترسم المرتكزات الفقهية علاجاً وانتزاعاً في الزراعة، وما يستتبع هذه الصور العلاجية. أما قضية العلاج من حيث المبدأ فقد صرحت الأحاديث الشريفة بمشروعيتها، من ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)) . وما رواه أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام)) . وفي الصحيحين عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)) . وجاء في مسند الإمام أحمد رضي الله عنه من حديث زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك قال: ((كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال: نعم، عباد الله، تداووا؛ فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا ووضع له شفاء، غير داء واحد. فقالوا: ما هو؟ قال: الهرم)) وفي لفظ: ((إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه، وجهله من جهله)) . وهكذا فإن هذه الأحاديث الشريفة صرحت بحقائق منها: أولاً: الأمر بالتداوي، وأدنى موجب الأمر هو الإباحة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 ثانياً: إن إقراره عليه الصلاة والسلام بأن لكل داء دواء، علمه من علمه وجهله من جهله، يفتح باب العلاج على مصراعيه، ويمهد السبيل أمام الباحثين لاستكشاف الأدواء، وما لم يعلم بالأمس ربما يعلم اليوم أو غداً، هذا ومع أن الإسلام جاء لعلاج الأرواح والنفوس من مرض الكفر والفسق والفجور وغيرها، وإنقاذ العباد من شرور الوثنية والإلحاد، وهي أمراض عقدية أخطر من أمراض الأجساد، لا شك أنها تفضي إلى مهالك في الآجل والعاجل، فإنه أيضاً لم يهمل علاج أمراض الأجساد. ونحيل طالب المزيد من المعلومات في هذا الباب إلى كتاب (الطب النبوي) لابن قيم الجوزية، والآثار الواردة في كتب الحديث الشريف في أبواب الطب. ومع أن الأحاديث الشريفة صرحت بمشروعية العلاج لكنها نهت عن التداوي بالحرام؛ حيث ورد النهي بقوله عليه الصلاة والسلام: ((ولا تداووا بحرام)) وهذا ما يصلنا إلى الاستدلال بعمومات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وبعد ذلك القواعد الفقهية والمبادئ العامة التي استنبطها الفقهاء المسلمون من تلك العمومات والإطلاقات لنفرع عليها من الأحكام ما يتصل بموضوعنا: قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، وقال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] والعموم الوارد في الآيتين وإن كان متوجهاً إلى بيان الأحكام الشرعية التكليفية أولاً، لكنها لا تتقاصر دون موضوعنا هذا؛ لأنه يدخل ضمن إطار تلك الأحكام من الإباحة والتحريم باعتبار أن هذا العلاج على هذا الوجه هل هو حلال فيتابع أو حرام فيجتنب. ويأتي قوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال تعالى إثر بيان مشروعية الوضوء والغسل والتيمم: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] . وهكذا نجد توجه الشريعة الإسلامية نحو التيسير على العباد وتحقيق مصالحهم الدينية والدنيوية في ذلك يقول تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 وتأتي الأحاديث النبوية على هذا النسق أيضاً لتؤكد المعنى الوارد في الآيات القرآنية، فيقول صلى الله عليه وسلم: ((بعثت بالحنيفية السمحة)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)) . ومن مجمل هذه الآيات والأحاديث استنبط الفقهاء قواعد فقهية وضوابط أصولية تعتبر بمثابة الأصول لمسائل تفرعت عليها الأحكام، ومن ذلك قولهم: المشقة تجلب التيسير، وهي القاعدة الرابعة من قواعد الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي، وقال: وفي الحديث: ((أحب الدين إلى الله تعالى الحنيفية السمحة)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله. ومن حديث أبي أمامة، ويخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته، وعد منها المرض ثم قال .... الثاني المرض ورخصه كثيرة، ومنها التداوي بالنجاسات وبالخمر على أحد القولين، وتخرج على هذه القاعدة قولهم: الأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق. هذا وإن إحياء النفوس مطلب شرعي صرحت به الآية الكريمة، قال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] . ولا بد من مقدمة أصولية تمهد لهذا الموضوع وهي ما تعرف بتقسيم الحقوق، جاء في كتب الأصول ما نصه: الحقوق أربعة: 1) حقوق الله تعالى خالصة كالعبادات والحدود والكفارات. 2) حقوق العباد خالصة، وهي أكثر من أن تحصى، نحو ضمان الدين وبدل المتلفات والمغصوب وملك المبيع. 3) ما اجتمع فيه الحقان وحق الله أغلب. وهو حد القذف. 4) ما اجتمع فيه الحقان وحق العبد غالب وهو القصاص، (كشف الأسرار جـ2/ 162) ، وما نحن بصدده يندرج تحت القسم الرابع؛ لأن بدن الإنسان فيه حق الله من حيث التخلق، وفيه حق العبد من حيث الانتفاع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 وحق الله ما يتعلق به النفع العام، فلا يختص به واحد وإنما ينسب إلى الله تعالى؛ تعظيماً، وهو سبحانه تعالى عن أن ينتفع بشيء، أو لئلا يختص به أحد الجبابرة. ملكية الإنسان لجسمه وأعضائه ومدى حرية التصرف فيها: من خصائص الملكية التامة حرية الاستعمال والاستغلال والتصرف على ما هو معروف فقها وقانوناً، والحرية هذه إنما يمارسها الإنسان على المنقولات والعقارات، وهو ما يعرف بأموال التجارة، فللمالك مطلق الحق في بيعها ورهنها وهبتها واستغلالها والإيصاء بها وإتلافها، كما أنها تورث عنه وتضمن بالاعتداء عليها، وهذه الأعيان معصومة في ذاتها ومملوكة له. فهل جسم الإنسان من هذا القبيل أم لا بد من التمييز بين الملك والعصمة؟ فالعصمة تقوم بالمملوك، والملك يقوم بالإنسان، والعصمة تكون للدم كما تكون للمال، وبذلك ورد الحديث الشريف ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)) البخاري: باب الإيمان 179. وبدن الإنسان مملوك له على وجه الانتفاع، وهو ما عبر عنه الفقهاء بقولهم: إن الله تعالى ملك الإنسان منفعة أعضائه، فالعين للإبصار، والرئة للتنفس، واليد للعمل وتناول الطعام، والرجل للسعي، وما إلى ذلك من وظائف الأعضاء. ويبقى السؤال مطروحاً: هل ملكية الإنسان لأعضائه من صنو ملكيته للأشياء، فيكون له حق التصرف فيها كالأشياء المملوكة؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 تناول الفقهاء المجتهدون موضوع النفس والأطراف والتعويض عنها حال الاعتداء عليها، ونصت الآيات والأحاديث على مشروعية الدية والقصاص وإرش الجراحات حال العدوان. ومما قاله الفقهاء في هذا المجال: ضمان النفس والأطراف بالمال في حالة الخطأ فإنه ثبت بالنص من غير أن يعقل فيه المعنى؛ لأن الآدمي مالك مبتذل لما سواه، والمال مملوك مبتذل فلا يتماثلان. وإن ضمان النفس والأطراف بالمال غير مدرك بالعقل؛ إذ لا مماثلة بين الآدمي المالك المبتذل وبين المال والمملوك المبتذل، وإنما شرع الله تعالى الدية لئلا تهدر النفس المحترمة مجاناً (النسفي/ كشف الأسرار: جـ 1 / 84) وكان موجب الجناية عمداً على النفس والأطراف هو القصاص. قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179] ، ويمكن العفو عن ذلك كله {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] وقال سبحانه: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] ، وأما جناية الخطأ فموجبها الدية وهي تعويض مالي لتفويت منفعة الجسم أو العضو، وهو محض حق الإنسان ولذلك تدخل تحت الولاية عفوا وإسقاطاً. هذا بخلاف جريمة الزنا فإن العقوبة عليها محض حق الله تعالى ... لذلك لا تقبل بعد ثبوتها الإسقاط ولا العفو ولا الصلح على مال، وكذلك الشأن في السرقة وسائر الحدود. ولما كان التعويض المالي عن القتل الخطأ يقرر ابتداء ... وفي القتل العمد مقرر صلحاً قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] . وقال عليه الصلاة والسلام: ((في النفس مائة من الإبل)) وروي أنه عليه الصلاة والسلام ((قضى في قتيل بعشرة آلاف درهم)) الاختيار: ج4/ 45. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 هذا ودية النفس أو العضو ليست ثمناً بحال من الأحوال؛ لأنها إنما شرعت للنفس عن الهدر، لا ثمناً لها ولذلك قدرها الشرع ولم يترك تقديرها ابتداء للعباد، ومجمل القول: إن لله تعالى في النفس حق الاستعباد، كما أن للعبد حق الاستمتاع، وحق العبد غالب، لذلك يجري فيه الإرث، ويصح الاعتياض عنه بالمال بطريق الصلح. (كشف الاسرار: ج2/ 161) وقال السرخسي في المبسوط: لما أوجب الله تعالى حق العبد في النفس والأطراف، لذلك عمل فيه إسقاطه، ويورث عنه ويسقط بإذنه (جـ26/ 61) . وقال السمرقندي في التحفة: لو عفا المجروح عن الجراحة ثما مات منه صح عفوه استحساناً (هـ جـ2/ 128) ، وهذه أمارة أن التعويض المقدر هو حق العبد، فكان له ولاية المطالبة كما كان له ولاية الإسقاط والصلح. وبسط الكاساني القول في المسألة وزادها إيضاحاً، بل وكاد يلامس القضية بالذات من خلال تعريفه الأحكام في عبارته التي جاء فيها: ولو قال: اقطع يدي فقطع لا شيء عليه بالإجماع، ووجه هذا الحكم بقوله: لأن الأطراف يسلك فيها مسلك الأموال!! وعصمة الأموال تثبت حقاً له (للإنسان) . فكانت محتملة للسقوط بالإباحة والإذن كما لو قال له: أتلف مالي، فأتلفه. قلت: ولا يخلو فعلهما حال القطع من الإثم لكل من الآمر والقاطع؛ لأنهما اشتركا في تنفيذ فعل محظور شرعا (البدائع: ج7/ 236) ، وجاء في مشروعية القصاص ما نصه: هذه العقوبة جزاء الفعل في الأصل، وأجزية الأفعال تجب في حق الله تعالى، ولكن لما كان وجوبها بطريقة المماثلة عرفنا أن معنى الحق راجح فيها، وأن وجوبها للجبران بحسب الإمكان، كما وقعت الإشارة إليه في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] . ولهذا جرى فيه الإرث، وصح العفو، والاعتياض بطريقة الصلح بالمال، كما في حقوق العباد المحضة كبدل المتلفات (أصول السرخسي جـ2/ 297) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 وهكذا تبين أن للإنسان ولاية إسقاط العقوبة عن الجاني حال الاعتداء على عضو من أعضائه، حتى على حياته بالكلية، كمن جرح إنساناً فعفا المجروح عن الجاني، وكذلك شأن الورثة لهم حق العفو عن القاتل كما أسلفنا ... ولكن هل الإنسان حق التبرع بعضو من أعضائه أو الإيصاء بها، فتنزع منه بعد وفاته..؟ ولنعد بالمسألة إلى أصول لها ثابتة ومسائل تقربنا من تقرير الحكم المناسب للمسألة. أولاً: الرضاع، معلوم أن اللبن هو جزء الأم ترضعه أولادها وغيرهم، وذلك مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، والمسألة واضحة ... ولكن الفقهاء ذكروا أنه لا يجوز بيع لبن المرأة تكريماً لبني آدم.. وعليه الإجماع، قال ابن حزم: (ولا يصح بيع شيء أخذ من حي كلبن المرأة وشعور بني آدم) : اهـ. مراتب الإجماع 1/84. مسألة أخرى: وهي التبرع بالدم، ولم ينقل خلاف بين العلماء على جوازه، ولئن كان اللبن تفرزه غدة معينة في الجسم وانفصاله لا يؤثر في البدن ... لكن الدم بخلافه؛ حيث إن فقده بالكلية يفضي إلى الهلاك ... ومع ذلك فلم يقل أحد من العلماء بتحريم التبرع بالدم بحال من الأحوال، وتعويضه في الجسم يستوجب بعض الوقت. وهكذا يصل بنا الحديث إلى معالجة هذا الموضوع على ضوء القواعد الفقهية كما ذكرنا في مطلع البحث. وهذه القاعدة تعرف (بجلب المصالح ودرء المفاسد) . ولا يخلو أي تصرف يقوم به الإنسان لتحقيق مصلحة ما إلا بمفسدة.. وذلك أن شرب الماء مصلحة لحياة البدن، وفي ذلك استهلاك للماء ... وكذلك الشأن في الطعام واللباس وذبح الحيوان ... بل ومشروعية الجهاد في سبيل الله ... وكذلك مشروعية القصاص، والذي من شأنه قتل الجاني أو بتر عضو من أعضائه؛ كقطع يد أو رجل، وعلى الرغم من ذلك وصف تعالى هذا التصرف بالحياة. قال تعالى سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179] وفقهاء المسلمين قالوا في هذا المجال: (جلب المصالح مقدم على درء المفاسد) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 قال الشاطبي: لما كانت المصالح الدنيوية لا يتخلص كونها مصالح محضة، وإنما تنمو على مقتضى ما غلب، فإن كانت المصلحة هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتبار فهي مقصودة شرعاً، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد. (اهـ الموافقات: 1/ 27) وقريب من ذلك ما ذكره العز بن عبد السلام في قواعده؛ حيث قال: وما يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساد بعضه كقطع اليد المتآكلة حفظاً للروح إذا كان الغالب السلامة فإنه يجوز قطعها (قواعد الأحكام: جـ1/ 92) وهكذا كان الحكم صراحة في جواز قطع عضو إنسان لضمان استمرار سلامة سائر البدن، ونظيره شق جوف المرأة عن الجنين المرجو حياته؛ لأن حفظ حياة الجنين أعظم مصلحة من مفسدة انتهاك حرمة أمه. (القواعد: 1/102) . فالمصلحة ما دامت هي المقصودة من التصرف لا تمنع بمجرد وقوع المفسدة ما دام أن المصلحة هي الراجحة، وهذا ما لا يخفى على عاقل. ويقول العز بن عبد السلام: (وربما كانت أسباب المصالح مفاسد، فيؤمر بها ... لا لكونها مفاسد، بل لكونها مؤدية إلى المصالح الحقيقة) (القواعد ج1/14) . والشريعة الإسلامية إنما تهدف بالجملة إلى تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وحيثما تكون المصلحة راجحة فثمة شرع الله، هذا والنفس البشرية معصومة ومحترمة، لذلك تعلق بها حق الله تعالى حتى لا يبلغ بها أصحابها في وقت من الأوقات أو في بلد من البلدان إلى مرتبة السلعة تباع وتشترى ولا يخفى ما في ذلك من إهدار لآدمية الإنسان وهدم لبنيان الرب كما جاء في الأثر: (الجسم بنيان الرب ملعون من هدمه) أي: ظلماً وعدواناً من غير وجه حق ... ومما تقدم نخلص إلى القول بأن الإيصاء بعضو من الأعضاء في حال الحياة على أن يفصل من الموصي بعد الوفاة لينتفع به آخر تتوقف حياته على ... أو يحول دون فقدان حاسة من حواسه كالعين أو سواها لا نرى أن قواعد الشريعة تحول دون مشروعيته والله أعلم. على أن يكون المتبرع كامل الأهلية، وإن كان في هذا التصرف انتهاك لحرمة الجسم بعد الموت، ولا يخفى ما في ذلك من مفسدة ظاهرة، لكن المصلحة المترتبة عليه من زرع ذلك العضو في جسم إنسان آخر واستمرار أدائه وظيفته التي خلق من أجلها مصلحة راجحة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 وإن مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في مكة المكرمة أصدر قراره بهذا الشأن في جلسته المنعقدة بتاريخ 7 جمادى الأولى سنة 1405 هـ28 كانون الثاني 1985 ونصه ما يلي أولاً: إن أخذ عضو من جسم إنسان حي، وزرعه في جسم إنسان آخر مضطر إليه لإنقاذ حياته، أو لاستعادة وظيفة من وظائف أعضائه الأساسية هو عمل لا يتنافى مع الكرامة الإنسانية بالنسبة للمأخوذ منه، كما أن فيه مصلحة كبيرة وإعانة خيرة للمزروع فيه، وهو عمل مشروع وحميد إذا توافرت فيه الشرائط التالية: 1) أن لا يضر أخذ العضو من المتبرع به ضرراً يخل بحياته العادية؛ لأن القاعدة الشرعية أن الضرر لا يزال بضرر مثله ولا بأشد منه ولأن التبرع حينئذ يكون من قبيل الإلقاء بالنفس إلى التهلكة وهو أمر غير جائز شرعاً. 2) أن يكون إعطاء العضو طوعاً من المتبرع دون إكراه. 3) أن يكون زرع العضو هو الوسيلة الطبية الوحيدة الممكنة لمعالجة المريض المضطر. 4) أن يكون نجاح كل من عمليتي النزع والزرع محققاً في العادة غالباً. ثانياً: تعتبر جائزة شرعاً بطريق الأولوية الحالات التالية: 1) أخذ العضو من إنسان ميت لإنقاذ إنسان آخر مضطر إليه. بشرط أن يكون المأخوذ منه مكلفاً وقد أذن بذلك حالة حياته. 2) أن يؤخذ العضو من حيوان مأكول ومذكى مطلقاً، أو غيره عند الضرورة لزرعه في إنسان مضطر إليه. 3) أخذ جزء من جسم الإنسان لزرعه أو الترقيع به في جسمه نفسه، كآخذ قطعة من جلده أو عظمه لترقيع ناحية أخرى من جسمه بها عند الحاجة إلى ذلك. 4) وضع قطعة صناعية من معادن أو مواد أخرى في جسم الإنسان لعلاج حالة مرضية فيه؛ كالمفاصل وصمام القلب وغيرهما، فكل هذه الحالات الأربع يرى المجلس جوازها شرعاً بالشروط السابقة. بيروت في 29 رجب 1407 الموافق 19 آذار 1987 الشيخ خليل محيي الدين الميس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً إعداد الدكتور عبد السلام داود العبّادي ممثل المملكة الأردنية الهاشمية في المجْمَع، ونائب رئيس المجْمَع بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك ربي وأصلي وأسلم على رسولك الكريم، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه والتزم بشرعه إلى يوم الدين ـ وبعد: فإن قضية انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً من القضايا المستحدثة بصفة عامة، وإن كان لها بعض النظائر الفقهية السابقة. وقد اهتم ببيان حكم الشريعة الإسلامية فيها عدد من الفقهاء المحدثين، وقد أصدرت عدد من اللجان والمجالس وجهات الإفتاء في العالم الإسلامي فتاوى فيها.. والواقع أن هذه القضية من الأهمية بمكان بعد أن أبرز التقدم الطبي الحاجة الماسة إليها، وضرورة بلورة النظر الفقهي فيها، بل متابعة ما يستجد فيها من صور جزئية وملابسات وتفصيلات دقيقة.. فقد كان الأمر في إطار محدود يتعلق بالاستفادة من بعض الأعضاء وبعد وفاة الإنسان العادية، مثل الاستفادة من قرنيات العيون أو الاستفادة من بعض الأعضاء في الإنسان الحي له نفسه أو لغيره؛ كالاستفادة من الدم والجلد، ثم تتابع االتقدم الطبي يثير قضايا الاستفادة من أعضاء أساسية كثيرة في الإنسان كالقلب والكلى ويثير قضايا موت الدماغ والتفريق بينه وبين الموت العادي، بل دخلت على هذا الموضوع اعتبارات جديدة غير ذلك تتعلق بنقل الخصية والمبيض وما يترتب عليه من اختلاط في الأنساب وتداخل في النسل. كل ذلك دفع العلماء لاستمرار النظر في هذا الموضوع ومتابعته بالبحث والدراسة. وإن في تصدي مجمع الفقه الإسلامي لدراسة هذا الموضوع وبيان حكم الشريعة الإسلامية فيه محاولة جادة في هذا المجال لها وزنها العلمي؛ نظراً لما يتمتع به المجمع من مكانة وصفات على مستوى العالم الإسلامي تجعله يقدم صورة من أفضل صور الاجتهاد الجماعي المعاصر أمام القضايا الحادثة.. نسأل الله سبحانه وتعالى له العون والتوفيق. وقد كان قرار المجمع في دورته الثالثة في عمان بخصوص موت الدماغ مما يكمل االبحث في هذا الموضوع ويرتبط به ارتباطاً وثيقاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 1- والواقع أن معالجة هذه القضية تحتاج إلى نظر فقهي يقوم على ملاحظة جملة من المبادئ والقواعد والأصول الشرعية التي يمكن إيجازها فيما يلي: أ - كرامة الإنسان واحترام شخصه وعدم جواز انتهاك حرمته حياً أو ميتاً في الشريعة الإسلامية.. قال تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم ... } (1) وقال سبحانه: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} (2) . وقال صلى الله عليه وسلم: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) (3) وقال صلى الله عليه وسلم: ((كسر عظم الميت ككسر عظم الحي)) (4) ونهى صلى الله عليه وسلم عن المثلة.. ومما يرتبط بهذا المبدأ عدم جواز المتاجرة بأعضاء الإنسان، والبعد به عن كل ما يؤدي إلى التشويه والمثلة. ب - المحافظة على حياة الإنسان والتنديد بكل ما يضره ويؤذيه، وترتيب الأجزية الرادعة على كل عدوان عليه بقتله أو إتلاف عضو من أعضائه مما هو معروف في أحكام القصاص والديات. وإن مما ينسجم مع هذا المبدأ جواز الانتفاع بعضو الإنسان الآخر إذا كان ذلك يحفظ حياة المنتفع دون أن يضر بالمنتفع منه، وإن ذلك لا يجوز في حالة الإضرار بالمنتفع منه أو تسبيب هلاكه.. لأن حق الحياة في الناس في نظر الشريعة واحد، والضرر لا يزال بمثله، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ج- حث الشريعة الإسلامية على التداوي ودعوتها إليه، وبيانها أن الكل داء دواء، وما على الإنسان إلا أن يبحث وينقب ليكتشف المرض والعلاج. والأحاديث النبوية في ذلك معروفة.   (1) الإسراء: 70 (2) التين: 4 (3) أخرجة البخاري ومسلم. (4) أخرجه أبوداود والنسائي وغيرهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 د- أن من أهداف الشريعة ومقاصدها الأساسية في المجتمع الإنساني رعاية المصالح وتحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. وإن هذه الرعاية للمصالح تقوم على نظر متكامل يقدم الضروريات على الحاجيات على التحسينيات، بل إنه في إطار الضروريات يقيم نسقاً دقيقاً للمفاضلة بين المصالح عندما تتعارض.. فالضرورات تبيح المحظورات والضرورة تقدر بقدرها والحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة إلى غير ذلك مما يعرف بالرجوع إلى مظانه. هـ - احترام إرادة الإنسان في نفسه وذاته وفي إطار أسرته وأقربائه.. فلابد من موافقة الإنسان أو أولياء أمره على التبرع بعضو من أعضائه، إن كان في حياته أو بعد مماته.. ومما يرتبط بهذا تحديد من هم الأقرباء الذين لهم الموافقة، وما الحكم في حالة مجهولي الهوية والذين لا أهل لهم.. وقد ذهب بعض العلماء أن الإذن معتبر في حالة الحي دون الميت، من منطلق أن مصلحة الأحياء مقدمة على المحافظة على جثث الموتى، وهو نظر يعارض ويناقش من أكثر من زاوية، ومما يرتبط بهذا أيضاً موضوع حكم الاستفادة من أعضاء المحكوم عليهم بالإعدام؛ فقد نص بعض العلماء على جواز الانتفاع بأعضائهم، ولو بدون موافقتهم، ويتعلق بذلك حكم تبرع الولي بأعضاء من هو تحت ولايته، فهو لا يجوز لأن هذا الإذن لم يلاق محله ولم يتوافر فيه شرطه، فتصرف الولي على من تحت ولايته في الأمور النافعة أو الدائرة بين النفع والضرر، أما ما هو ضار به فلا يجوز، وعلى هذا يجوز التبرع بالدم إذا ثبت أنه لا يضره، أما التبرع بإحدى كليتي ابنه فلا يجوز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 3- ومن المسائل التي بحثها الفقهاء السابقون في هذا المجال مما يتعلق بهذه القضية: أ - حكم التناول من جثة الآدمي إذا لم يجد المضطر غيرها، فقد ذهب العديد من العلماء إلى جواز ذلك لسد الرمق وعللوه بأن حرمة االحي أعظم من حرمة الميت. ب - ونص بعض فقهاء الشافعية وغيرهم على جواز جبر العظم المنكسر بعظم الآدمي إذا لم يجد ما يصلح لذلك ولو كان من حيوان نجس نجاسة مغلظة. ج- ومما يذكره بعض الباحثين في هذا المجال ما نقلته كتب السيرة من ((أن قتادة بن النعمان رضي الله عنه أصيبت عينه يوم بدر، وفي رواية يوم أحد فندرت حدقته، فأخذها في راحته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم، وأعادها إلى موضعها فكانت أحسن عينيه وأحدّها بصراً.)) فهم يذكرون أن هذا وإن كان من معجزاته عليه السلام إلا أن فيه زرعاً للعين أو إعادة زرع لها. وواضح أن هذا ليس مما نحن فيه من حيث بيان الحكم الشرعي للانتفاع بأعضاء جسم الإنسان. وقد كانت لجنة الإفتاء في المملكة الأردنية الهاشمية قد عالجت موضوع انتفاع إنسان بأعضاء إنسان آخر حياً أو ميتاً في فتوى أقرتها بتاريخ 20 جمادى الأولى سنة 1397 هـ الموافق 18/5/1977م.. وقد كانت اللجنة تتكون في تلك الفترة من كل من الشيخ محمد عبده هاشم، والشيخ محمد أبو سردانه، والدكتور عبد السلام العبادي، والدكتور إبراهيم زيد الكيلاني، والدكتور ياسين درادكة، والشيخ عز الدين الخطيب، والشيخ أسعد بيوض التميمي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 وفيما يلي نص الفتوى: السؤال / ما رأي الدين في تشريح الميت، وفي نقل عضو من أعضاء حي أو ميت، إلى إنسان حي، لحفظ حياته أو سلامة أعضائه، ونقل الدم من إنسان حي إلى آخر. الجواب / هذه المسائل من الحوادث المستجدة التي لم تكن معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعده من سلفنا الصالح، ولذا لم ينقل عنهم لها ولا لأمثالها حكم خاص بها، فليس هناك نص خاص من كتاب أو سنة يجيز نقل أعضاء الميت إلى شخص آخر حي لينتفع بذلك أو يمنع منه، وإنما يؤخذ حكمها من عموميات القواعد والأدلة الشرعية. والذي تراه لجنة الفتوى في المملكة الأردنية الهاشمية، أن التشريح ونقل الأعضاء ونقل الدم بالشكل الوارد في السؤال من الأمور الجائزة شرعاً، ويستدل على هذا: أولا: إن حفظ الكليات الخمس واجب شرعاً عند العلماء، ومن ذلك حفظ النفس بإنقاذ حياة مسلم أو سلامة عضو من أعضائه بنقله من حي أو ميت. ثانيا: ويستدل بروح الشريعة وقواعدها العامة التي تقول: (الضرورات تبيح المحظورات) (والضرورة تقدر بقدرها) ، (وللضرورة أحكام) ، (وإذا ضاق الأمر اتسع) ، (والمشقة توجب التيسير) ، (ولا ينكر ارتكاب أخف الضررين) . ثالثاً: ويستدل كذلك بما كتبه الفقهاء المتقدمون والمتأخرون في إجازتهم تشريح الميت للكشف عن جريمة قتل أو لمعرفة أسباب مرض ما؛ ليتمكن الأطباء من معالجة ذلك المرض في الأحياء أو ما إلى ذلك من الصور والأمثلة التي يتحقق فيها الصالح العام أو الخاص للمسلمين، فقد أفتى فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة بإجازة تشريح امرأة ميتة لإخراج مولودها الحي من بطنها أو لإخراج مال ابتلعه الميت ... إلى غير ذلك من المسائل التي ذكروها في كتبهم المعتمدة، فإذا أجاز العلماء التشريح لإخراج مال ابتلعه الميت، وقدر هذا المال بمقدار نصاب قطع يد السارق، وهو ربع دينار أي ثلاثة دراهم، فمن باب أولى أن يجاز التشريح هنا لصيانة نفس أو لإنقاذ حياة أو لسلامة عضو أو كشف لجريمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 وفيما يلي نصوص الفقهاء في ذلك: أ- جاء في كتاب رد المحتار على الدر المختار، وهو من كتب الحنفية المعتمدة: (حامل ماتت وولدها حي يضارب- أي في بطنها- يشق بطنها من الأيسر ويخرج ولدها. ولو بالعكس، وخيف على الأم (أي من الهلاك) قطع- أي الجنين ـوأخرج لو ميتاً. ولو بلغ مال غيره ومات هل يشق أم لا؟ قولان: الأول: نعم ـ رد المحتار على الدر المختار: جـ (1) ص (602) . ب- وجاء في متن خليل من كتب المالكية في كتاب الجنائز قوله: (وبقر عن مال كثر، ولو ثبت بالبينة أو بشاهد ويمين) وقال الخرشي في شرحه والحطاب: جـ2 آخر كتاب الجنائز (البقر عبارة عن شق جوف الميت) يعني أن من ابتلع مالا له أو لغيره ثم مات، فإنه يشق جوفه فيخرج منه إن كان له قدر وبال بأن يكون نصاباً، أي كنصاب الزكاة، وقيل: كنصاب السرقة أي ربع دينار، وهو ما يساوي ثلاثة دراهم. ثم أورد مسألة شق بطن الحامل في هذه الحال وبقية أئمة المالكية قد أجازوا ذلك. جـ- وجاء في المهذب في كتاب الجنائز: جـ1 ص 138 وهو من كتب الشافعية المعتمدة قوله: (وان ابتلع الميت جوهرة لغيره وطالب بها صاحبها شق جوفه وردت الجوهرة) . وقوله: وإن ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي شق جوفها؛ لأنه استبقاء حي بإتلاف جزء من الميت فأشبه إذا اضطر لأكل جزء من الميت) . د- وقال صاحب المغني موفق الدين بن قدامة الحنبلي: (وإن بلع الميت مالا فإن كان يسيراً ترك، وإن كثرت قيمته شق بطنه وأخرج؛ لأن فيه حفظ المال من الضياع ونفع الورثة الذين تعلق حقهم بماله بمرضه) أي بمرض موته ـ انتهى المغني: جـ2 صفحة 459. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 ولا يقال: إن هناك أدلة تعارض جواز تشريح جثة الميت أو نقل عضو من أعضائه لحي ينتفع، بحجة أن الشريعة الإسلامية كرمت الآدمي وحثت على إكرامه وأمرت بعدم إيذائه؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} إلى آخر الآية 70 من سورة الإسراء، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود على شرط مسلم والنسائي عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بسند صحيح: ((كسر عظم الميت ككسر عظم الحي)) ، يعني في الحرمة، وقوله أيضاً فيما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: ((أذى المؤمن في موته كأذاه في حياته)) ؛ إذ إن المقصود من الآية والحديثين هو تكريم الميت وعدم إهانته أو التمثيل به. كما يدل على ذلك سبب ورود حديث النهي عن كسر عظم الميت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى حفاراً يكسر عظماً لميت بلا سبب مشروع فقال له: ((كسر عظم الميت ككسر عظم الحي)) . أما ما نحن بصدده فلا يقصد به الإهانة، وإنما يقصد به إنقاذ حياة إنسان أو سلامة عضوه، وهذا المقصود يحمل معنى تكريم الإنسان، لا إهانته، وبهذا الفهم الواعي أجاز العلماء السابقون تشريح جثة الميت لغرض مشروع؛ كإخراج مال ابتلعه الميت أو إخراج مولود حي من جوف امرأة ماتت. هذا وإن لجنة الفتوى تنبه إلى أن جواز النقل أو التشريح يجب أن يكون مقيداً بالشروط الآتية، وذلك لحفظ كرامة الميت ولئلا يتخذ للعبث والإهانة: 1- أن تكون هناك موافقة خطية من المتبرع في حياته ثم موافقة أحد أبويه أو وليه بعد وفاته، أو موافقة ولي الأمر المسلم إذا كان المتوفى مجهول الهوية. 2- أن يكون المتبرع له محتاجاً أو مضطراً إلى العضو المتبرع به، وأن تتوقف حياة المنقول له على ذلك العضو، أو تتوقف سلامة أحد أجهزة الجسم عليه، وذلك بتقرير من لجنة طبية موثوقة في دينها وعلمها وخبرتها. 3- إن كان المنقول منه العضو أو الدم حيّا فيشترط ألا يقع النقل على عضو أساسي للحياة، إذا كان هذا النقل قد يؤدي لوفاة المتبرع، ولو كان ذلك بموافقته. 4- ألا يحدث النقل تشويها في جثة المتبرع. 5- لا يجوز أن يتم التبرع مقابل بدل مادي أو بقصد الربح. هذا وإن اللجنة تذكر بأنه لابد من الاحتياط والحذر في ذلك (أي في التشريح أو نقل الأعضاء من حي إلى حي، أو من ميت إلى حي، أو نقل الدم من حي إلى آخر) حتى لا يتوسع فيه الناس بلا مبالاة، وليقتصر فيه على قدر الضرورة؛ إذ هي علة الحكم الذي يدور معها وجوداً وعدماً وليتّق الله الأطباء الذين يتولون ذلك وليعلموا أن الناقد بصير والمهيمن قدير والله يتولى هداية الجميع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 لجنة الإفتاء وعلى ضوء هذه الفتوى وبالتنسيق مع لجنة الإفتاء صدر في الأردن قانون الانتفاع بأعضاء جسم الإنسان رقم 23 لسنة 1977م ... ثم صدر قانون معدل له سنة 1980، وفيما يلي النص الكامل لهذين القانونين اللذين جاءا ملتزمين بنص الفتوى وبحيث يقدمان صورة متكاملة من المعالجة التشريعية الدقيقة لهذا الموضوع وفق أحكام الشريعة الإسلامية. عن الحسين الأول ملك المملكة الأردنية الهاشمية بمقتضى الفقرة (1) للمادة (94) من الدستور وبناء على ما قرره مجلس الوزراء بتاريخ 24/4/1977 نصادق بمقتضى المادة (31) من الدستور على القانون المؤقت الآتي ونأمر بإصداره ووضعه موضع التنفيذ المؤقت وإضافته إلى قوانين الدولة على أساس عرضه على مجلس الأمة في أول اجتماع يعقده: قانون مؤقت رقم (23) لسنة 1977 قانون الانتفاع بأعضاء جسم الإنسان المادة 1 يسمى هذا القانون (قانون الانتفاع بأعضاء جسم الإنسان لسنة 1977) ويعمل به من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية. المادة 2 تكون للألفاظ والعبارات الواردة في هذا القانون المعاني المحددة أدناه إلا إذا دلت القرينة على غير ذلك: الطبيب الاختصاصي: هو الطبيب المعترف به اختصاصياً بمقتضى القوانين والأنظمة المعمول بها. المستشفى: أي مستشفى مرخص في المملكة الأردنية الهاشمية. العضو: أي عضو من أعضاء جسم الإنسان أو جزء منه. نقل العضو: نزعه أو إزالته من جسم إنسان حي أو ميت حسب مقتضى الحال وتثبيته أو غرسه في جسم إنسان حي آخر. المادة 3: لا يجوز إجراء عمليات على الأعضاء إلا في مستشفى يوافق عليه وزير الصحة. المادة 4: أ- للأطباء الاختصاصيين في المستشفيات نقل العضو من إنسان حي إلى آخر بحاجة إليه وفقا للشروط التالية: 1- أن لا يقع النقل على عضو أساسي للحياة إذا كان هذا النقل قد يؤدي لوفاة المتبرع ولو كان ذلك بموافقته. 2- أن تقوم لجنة مؤلفة من ثلاث أطباء اختصاصيين بفحص المتبرع وتقرير أن نقل العضو من جسمه لا يشكل خطراً على حياته. 3- أن يوافق المتبرع خطيا وهو بكامل إرادته وأهليته على نقل العضو من جسمه، وذلك قبل إجراء عملية النقل. ب- لا يجوز أن يتم التبرع بالعضو مقابل بدل مادي أو بقصد الربح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 المادة 5: للأطباء الاختصاصيين في المستشفيات التي يوافق عليها وزير الصحة نقل العضو من جسم إنسان ميت إلى جسم إنسان آخر حي يكون بحاجة لذلك العضو في أي من الحالات التالية: أ - إذا كان المتوفى قد أوصى قبل وفاته بالنقل بإقرار خطي ثابت التوقيع والتاريخ بصورة قانونية. ب - إذا وافق أحد أبوي المتوفى في حالة وجودهما على النقل أو وافق عليه الولي الشرعي في حالة عدم وجود الأبوين. جـ- إذا كان المتوفى مجهول الهوية ولم يطالب أحد بجثته خلال (24) ساعة بعد الوفاة على أن يتم النقل في هذه الحالة بموافقة المدعي العام. المادة 6: للأطباء الاختصاصيين في المستشفيات التي يوافق عليها وزير الصحة فتح جثة المتوفى ونزع أي من أعضائها إذا تبين أن هناك ضرورة علمية لذلك على أن يكون المتوفى قد وافق على ذلك خطيا بصورة قانونية صحيحة قبل وفاته، أو بموافقة وليه الشرعي بعد الوفاة. المادة 7: لا يجوز أن يؤدي نقل العضو في أية حالة من الحالات إلى إحداث تشويه ظاهر في جثة المتوفى. المادة8: لا يجوز فتح الجثة لأي غرض من الأغراض المنصوص عليها في هذا القانون إلا بعد التأكد من الوفاة بتقرير طبي، ويشترط في ذلك أن يكون الطبيب الذي يقرر الوفاة هو غير الطبيب الاختصاصي الذي يقوم بعملية النقل. المادة 9: تلغى أحكام أي قانون أو تشريع آخر إلى المدى الذي تتعارض فيه مع أحكام هذا القانون. المادة 10: لمجلس الوزراء إصدار الأنظمة اللازمة لتنفيذ أحكام هذا القانون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 المادة 11: رئيس الوزراء والوزراء المختصون مكلفون بتنفيذ أحكام هذا القانون. الحسين بن طلال في 24/4/1977 وزير العمل: عصام العجلوني. رئيس الوزراء ووزير الخارجية والدفاع: مضر بدران. وزير المواصلات ووزير الصحة بالوكالة عبد الرؤوف الروابدة. وزير المالية: محمد الدباس. وزير الإنشاء والتعمير ووزير دولة للشؤون الخارجية: حسن إبراهيم. وزير النقل: علي سحيمات. وزير السياحة والآثار: غالب بركات. وزير الداخلية: سليمان عرار. وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية: كامل الشريف. وزير الصناعة والتجارة: نجم الدين الدجاني. وزير العدل: أحمد عبد الكريم الطراونه. وزير الشؤون البلدية والقروية: إبراهيم أيوب. وزير التموين ووزير الزراعة بالوكالة: مروان القاسم. وزير الأشغال العامة: سعيد بينو. وزير التربية والتعليم ووزير دولة لشؤون رئاسة الوزراء: د. عبد السلام المجالي. وزير الثقافة والشباب ووزير الإعلام بالوكالة: الشريف فواز شرف. نحن الحسين الأول ملك المملكة الأردنية الهاشمية بمقتضى الفقرة (1) للمادة (94) من الدستور وبناء على ما قرره مجلس الوزراء بتاريخ 20/7/1980 نصادق بمقتضى المادة (31) من الدستور على القانون المؤقت الآتي ونأمر بإصداره ووضعه موضع التنفيذ المؤقت، وإضافته إلى قوانين الدولة على أساس عرضه على مجلس الأمة في أول اجتماع يعقده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 قانون مؤقت رقم (17) لسنة 1980 قانون معدل لقانون الانتفاع بأعضاء جسم الإنسان المادة 1- يسمى هذا القانون (قانون معدل لقانون الانتفاع بأعضاء جسم الإنسان لسنة 1980) ويقرأ مع القانون رقم (23) لسنة 1977 المشار إليه فيما يلي بالقانون الأصلي كقانون واحد، ويعمل به من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية: المادة 2- يلغى نص المادة (4) من القانون الأصلي ويستعاض عنه بالنص التالي: أ- للأطباء الاختصاصيين في المستشفيات المعتمدة من الوزير نقل العضو من إنسان حي إلى آخر بحاجة إليه وفقاً للشروط التالية:- 1- أن لا يقع النقل على عضو أساسي للحياة إذا كان هذا النقل قد يؤدي لوفاة المتبرع ولو كان ذلك بموافقته. 2- أن تقوم لجنة مؤلفة من ثلاثة أطباء اختصاصيين بفحص المتبرع للتأكد من أن نقل العضو من جسمه لا يشكل خطراً على حياته. وتقديم تقرير بذلك. 3- أن يوافق المتبرع خطياً.. وهو بكامل إرادته وأهليته على نقل العضو من جسمه وذلك قبل إجراء عملية النقل. ب- إذا قرر الطبيب الشرعي تشريح جثة المتوفى لأغراض قانونية لمعرفة سبب الوفاة أو لاكتشاف جريمة فإنه يسمح له بنزع القرنية منها. وذلك وفقاً للشروط التالية: 1- أن لا يؤثر نزعها على معرفة سبب الوفاة، ولو بعد حين. 2- أن تؤخذ موافقة ولي أمر المتوفى خطياً ودون إكراه. جـ- لا يجوز أن يتم التبرع بالعضو مقابل بدل مادي أو بقصد الربح. المادة 3: يلغى نص المادة (7) من القانون الأصلي ويستعاض عنه بالنص التالي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 المادة 7: لا يجوز أن يؤدي نقل العضو في أية حالة من الحالات إلى إحداث تشويه ظاهر في الجثة يكون فيها امتهان لحرمة المتوفى. 20/7/1980 الحسين بن طلال وزير العمل ووزير الإنشاء والتعمير ووزير التنمية الاجتماعية بالوكالة: عمر النابلسي. رئيس الوزراء ووزير الدفاع: د. قاسم الريماوي. وزير المواصلات: د. محمد عضوب الزبن. وزير السياحة والآثار: موفق الفواز. وزير الصناعة والتجارة: المهندس علي النسور. رئاسة الوزراء: سليمان عرار. وزير العدل: نجيب إرشيدات. وزير الصحة: د. زهير ملحس. وزير التربية والتعليم: محمد نوري شفيق. وزير التموين: د. جواد العناني. وزير الخارجية: مروان القاسم. وزير الأشغال العامة: معن أبو نوار. وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية: كامل الشريف. وزير المالية: سالم مساعده. وزير دولة: حسن إبراهيم. وزير الإعلام ووزير الثقافة والشباب بالوكالة: د. سعيد التل. وزير دولة لشؤون رئاسة الوزراء ووزير العمل: المهندس علي السحيمات. وزير الشؤون البلدية والقروية والبناء: د. جمال الشاعر. وفي سنة 1984 أصدرت لجنة الإفتاء في المملكة الأردنية الهاشمية فتوى حول حكم الشريعة الإسلامية في التبرع بقرنية العين فيما يلي نص الفتوى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 حكم الشريعة في التبرع بقرنية العين ورد إلى دائرة الإفتاء سؤال موجه من سمو الأمير رعد بن زيد رئيس جمعية أصدقاء بنك العيون الأردني والوقاية من فقدان البصر لإبداء الرأي عن حكم تبرع المواطنين بقرنيات عيونهم بعد الوفاة لزرعها عند بعض المواطنين الكفيفي البصر. الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وبعد: فإن قواعد الشريعة الإسلامية تبيح الاستفادة من قرنيات عيون الموتى لزرعها في عيون كفيفي البصر أو المهددين بالعمى، وذلك ضمن الشروط التالية:- 1- التحقق من وفاة المتبرع. 2- أن يكون هناك ظن غالب لدى الأطباء بنجاح عملية الزرع. 3- أن يكون الميت قد تبرع قبل موته بقرنية أو رضي الورثة بذلك. ومن الأدلة الشرعية المؤيدة لجواز الأمر: أولا: إن نقل الأعضاء من الأموات إلى الأحياء فيه حفظ للنفوس التي جاءت الشريعة الإسلامية بوجوب المحافظة عليها. ثانياً: لاشك أن العمى أو فقد البصر ضرر يلحق بالإنسان ودفع هذا البصر ضرورة شرعية تبيح نقل قرنيات عيون الأموات إلى عيون الأحياء، وهذا يندرج تحت القواعد المتفق عليها مثل: (الضرورات تبيح المحظورات) و (الضرورة تقدر بقدرها) (لا ينكر ارتكاب أخف الضررين) ثالثاًً: إن أخذ قرنية الميت لزرعها في عين إنسان حي لاستعادة بصره لا يعد من قبيل المثلة لأن المثلة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، هي التي يقصد بها الاستخفاف بشأنه وانتهاك حرمته. أما في هذه الحالة فهي تكريم للإنسان المتبرع حيث يفتح له باب الأجر والثواب. وتكريم الإنسان الحي الذي استعاد بصره وأعانه على التمتع بنعمة الله عليه بالبصر وشكرها. ولهذا ذهب الفقهاء إلى جواز شق بطن الأنثى الحامل التي ماتت وذلك لإخراج الجنين الذي ترجى حياته، وكذلك جواز شق جوف الميت الذي ابتلع مالا لغيره وقد علل الفقهاء ذلك بقولهم: (إن حرمة الحي وحفظ نفسه أولى من حفظ الميت عن المثلة) . قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} . فاطر: 22. رابعاً: دعت الشريعة الإسلامية إلى التداوي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، تداووا، ولا تتداووا بحرام)) . ونقل قرنيات العيون من الأموات إلى الأحياء هو من قبيل التداوي والمعالجة. خامساً: يدخل التبرع بقرنيات العيون إلى الآخرين المصابين بفقد البصر في مفهوم الصدقة التي حثت الشريعة الإسلامية على بذلها للآخرين من دون الحاجات، وحاجة الأعمى إلى البصر أشد من حاجة الفقير إلى المال، وأشد من حاجته إلى الطعام والشراب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ومن نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه)) . والله أعلم. التاريخ 11/7/1404 هـ الموافق 11/4/1984م لجنة الإفتاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً إعداد فضيلة الشيخ آدم عبد الله علي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. لقد أكرم الله الإنسان حياً وميتاً، حمله في حياته في البر والبحر ورزقه من الطيبات، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} الإسراء: 70. وإذا شكر الإنسان لله على إكرامه وإحسانه وآمن به وبرسله عصمه في نفسه وماله وعرضه، كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) ... إلخ. وشرع الله له ما يصون حياته، وحرم عليه الاعتداء، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} البقرة: 179. وإذا ألجأته ضرورة إلى تناول شيء مما حرمه الله عليه رفع الله عنه التحريم وأباح له بقدر الضرورة، قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . البقرة: 173. لذلك يجوز للمضطر الأكل من الميتة ونحوها صونا لحياته، فالضروريات تبيح المحظورات وتقدر الضرورة بقدرها كما هو المعروف لدى العلماء، والمحرمات إما لذاتها وإما لسد الذريعة وإذا كان التحريم لذاته لا يباح إلا للضرورة، وما حرم لسد الذريعة قد يباح للحاجة والمصلحة كرؤية الطبيب لعورة المريض رجلا كان أو امرآة لأجل التداوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 وفي كتاب مغنى المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج في جزئه الرابع ما يأتي: وللمضطر أكل آدمي إن لم يجد ميتة غيره؛ لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، ويستثنى من ذلك ما إذا كان الميت نبيًا، فإنه لا يجوز الأكل منه جزما كما قاله إبراهيم المروزي وأقره، وأما إذا كان الميت مسلماً والمضطر كافراً، فإنه لا يجوز الأكل منه لشرف الإسلام، وهذا في المذهب الشافعي، ويحرم أكل الآدمي عند مالك وأحمد وأصحاب الظاهر. وحيث جوزنا أكل ميتة الآدمي المحترم فإنه لا يجوز طبخها ولا شيها؛ لما فيه من هتك حرمته، ويتخير في غيره من أكله نيئاً ومطبوخاً ومشويا، وجوز الإمام النووي قطع الإنسان بعضه لأكله؛ لأنه إتلاف بعض لاستبقاء كله، وقال أبو إسحاق: لأنه إحياء نفس بعضو كما يجوز أن يقطع عضواً إذا وقعت فيه الأكلة لإحياء نفسه، واشترطوا في ذلك فقد الميتة ونحوها، وأن يكون الخوف في قطع بعضه أقل من الخوق في ترك الأكل، ثم يقول النووي: ويحرم قطعه لغيره، أي يحرم قطع بعض نفسه لغيره من المضطرين؛ لأن قطعه لغيره ليس فيه قطع البعض لاستبقاء الكل، وفي نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي عبارة أوضح يقول في جزئه الثامن ص 145: ويحرم قطعه البعض من نفسه لغيره، ولو مضطرا، ما لم يكن ذلك الغير نبيا فيجب له ذلك، فعلى هذا فليس للإنسان الوصية بقطع بعض أعضائه لغيره المضطر وهو في حياته، فكيف يجوز له أن يوصي بقطع بعض أعضائه بعد موته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 وفي المجموع شرح المهذب للنووي في المجلد التاسع منه: لو أراد المضطر أن يقطع قطعة من نفسه من فخذه أو غيرها ليأكلها فإن كان الخوف منه كالخوف في ترك الأكل أو أشد حرم القطع بلا خلاف، وصرح به إمام الحرمين وغيره، وإلا ففيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما. ثم قال: ولا يجوز أن يقطع من أعضائه شيئاً ليدفعه إلى المضطر بلا خلاف. صرح به إمام الحرمين والأصحاب ـ يعني أصحاب الشافعي. إن الله سبحانه أكرم الإنسان ميتاً كما أكرمه حياً، قال تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} عبس: 17-21. فجعله سبحانه بعد موته مقبوراً، فالواجبُ على المسلمينَ دفن الميت منهم كله لا بعضه، فانتهاكُ حرمة الميت المسلم كانتهاك حرمته حيا، فقد رُوي عن عائشة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن كسر عظم الميت ككسره حيا)) رواه مالك وأبو داود وابن ماجة. وقد جوز الفقهاء شق بطن الحامل الميتة لإخراج جنينها الذي يرجى حياته، كما جوزوا بقر بطن الميت إذ كان في بطنه مال ابتلعه في حياته لإخراج المال منه إذا بلغ المال نصاب السرقة أو نصاب الزكاة على خلافهم في قدر المال الذي من أجله يشق بطن الميت، وقال بعض العلماء على ذلك جواز تشريح المجني عليه الذي مات قبل إثبات الجريمة لأجل إثبات الجريمة المتنازع عليها، ورأي الفقه في ذلك ظاهر؛ لأنه تعلق حق الغير، أو إثبات حق الغير بذات شخص معين وكان ميتا فانتهك حرمته لأجل هذا، وأما انتهاك حرمته بقطع بعض أعضائه لجعلها قطع غيار لغيره فليس من قبيل ذلك، فلا أجد في نظري القاصر وجهاً لإباحة ذلك مطلقاً، لا بوصيته حال حياته، ولا بإذن أقاربه بعد موته، وقياس الاضطرار بالمرض على الاضطرار بالجوع غير صحيح لوجود الفرق بينهما. والله أعلم. الشيخ آدم عبد الله علي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيّاً أو ميّتاً إعداد فضيلة الشيخ محمد عبد الرحمن مفتي جمهورية القمر الاتحادية الإسلامية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: لقد كرم الله تعالى ابن آدم وفضله على كثير من خلقه ومنحه الخلافة في أرضه وجعل من جنسه الأنبياء والمرسلين والعلماء العاملين وسخر له ما في السموات وما في الأرض وأنزل عليه لباساً يواري سوأتيه في الحياة كما أوجب مواراة جثمانه بعد مماته إلى غير هذه من الفضائل التي ميز الله بها بني الإنسان على من سواهم من مخلوقاته. قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} الإسراء: 70 وقال جل شأنه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الجاثية: 13. ومقتضى هذا التكريم الذي نوه الله به في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أن تكون أعضاء هذه الشخصية الممتازة محترمة لا تمس بانتهاك حيّاً وميتاً إلا أن للضرورة أحكاما أعظمها أنها تبيح المحظورات. قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} البقرة: 173. أباح الله سبحانه وتعالى وهو الرؤوف الرحيم للمضطر تناول هذه المحرمات عند فقدان الطعام إبقاء لحياته، ومن جراء ذلك أجاز بعض الفقهاء تناول ميتة آدمي إذا لم يجد المضطر غيرها من المحرمات، قال ابن قدامة في الجزء الثامن من (المغني صحيفة 602) : وإن وجد معصوماً ميتاً لم يبح أكله في قول أصحابنا، وقال الشافعي: وبعض الحنفية يباح، وهو أولى؛ لأن حرمة الحي أعظم. وقال الإمام النووي في المجلد التاسع من المجموع صحيفة: 33 وإن اضطر ووجد آدمياً ميتاً جاز له أكله لأن حرمة الحي أكبر من حرمة الميت، وفي صحيفة 36 من نفس المجلد قال: قال الماوردي: فإن جوزنا الأكل من الآدمي فلا يجوز أن نأكل منه إلا ما يسد الرمق بلا خلاف. إلى أن قال: ولو وجد ميتة ولحم آدمي أكل الميتة ولم يجز أكل الآدمي سواء كان الميتة خنزيراً أو غيره اهـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 وهذا يدل على أنه لا يجوز الانتفاع بجزء من أعضاء الآدمي إلا إذا لم يقم غيره مقامه، ولو نجاسة مغلظة. وغير خاف أن ما ذكرته خاص بالمضطر إلى تناول لحم الآدمي بالمخمصة، وأما المضطر إلى الانتفاع بأعضاء الآدمي للعلاج فقد قرر بعض من الشافعية جواز جبر العظم المنكسر بعظم الآدمي إذا لم يجد ما يصلح لذلك، ولو نجساً مغلظاً، وقرروا أيضاً أنه لا فرق بين كون العظم من ذكر وأنثى، فقد قال الشيخ عبد الحميد الشرواني في حاشيته على تحفة المحتاج شرح المنهاج: فيجوز للذكر الوصل بعظم الأنثى وعكسه. ثم قال: وينبغي أن لا ينقض وضوءه ووضوء غيره بمسه وإن كان طاهرا ولم تحله الحياة؛ لأن العضو المبان لا ينقض الوضوء بمسه إلا إذا كان من الفرج، وأطلق عليه اسمه اهـ. وبمثل هذا أفتى فضيلة العلامة الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق بجواز نقل عيون الموتى لمعالجة الأحياء، وقيد الفتوى بقيود يلزم اعتبارها. هذا ولم أقف على جواز الانتفاع بأعضاء الآدمي الحي، بل الذي وقفت عليه في كتب الشافعية عدم جواز ذلك إذا كان اللآدمي معصوماً، قال النووي في المجلد التاسع من المجموع صحيفة: 37: ولا يجوز أن يقطع لنفسه من معصوم غيره بلا خلاف، وليس للغير أن يقطع من أعضائه شيئاً ليدفعه إلى المضطر بلا خلاف. وهذا في رأيي هو الصحيح إن شاء الله لأن في إباحة الانتفاع بجزء من أعضاء الإنسان الميت دفع الضرر عن الإنسان الحي، وحرمة الحي أعظم من حرمة الميت كما تقدم ذكره، وهو - أي الانتفاع بأعضاء الميت - وإن كان فيه هتك لحرمته ليس فيه إيلام ولا إلحاق الضرر به، وأما الانتفاع بأعضاء جسم الحي وإن كان لدفع الضرر عن حي مضطر ففيه انتهاك حرمة صاحب العضو وإلحاق الضرر به، والضرر لا يدفع بالضرر، ولا يقاس ذلك أي الانتفاع بأعضاء الحي على الانتفاع بالدماء التي يتبرع بها الناس اليوم للمرضى فإن الدم سائل من البدن يرجع إليه مثله بلا مشقة ولا يلحق المتبرع به ضرر، ولا شين في البدن غالباً. هذا وبالله التوفيق. الشيخ محمد عبد الرحمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 المناقشة بسم الله الرحمن الرحيم الرئيس: الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد. في هذه الجلسة الثالثة دراسة موضوع انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً كان أو ميتاً. هو كما ترون فقد أعد فيه سبعة أبحاث جمعت بين التصور الطبي والتصور الشرعي. ولهذا فإن العرض سيكون من سعادة الطبيب الأستاذ محمد علي البار، ثم من فضيلة الشيخ خليل محيس الدين الميس. وليتفضل الأستاذ محمد علي البار للعرض عن هذا الموضوع. والمقرر هو فضيلة الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي. الدكتور محمد علي البار: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله ومن والاه، أما بعد، فإن موضوع غرس الأعضاء موضوع حساس لأنه يتصل بالأحياء والأموات. وأدى التقدم الطبي المذهل في العشرين عاماً الماضية إلى فتح آفاق جديدة لم تكن متوقعة من قبل، ومع هذا فقد بحث الفقهاء الأجلاء هذا الموضوع بشكل من الأشكال منذ عهود بعيدة عندما قام الأطباء الأقدمون بتوصيل العظام المكسورة بعظام الأموات من بني البشر أو بعظام الحيوانات. وقد أباح الفقهاء الأقدمون استخدامها بشروط، أهمها: أن يكون ذلك شرطاً لحصول الشفاء والبرء، أو تعجيله. وأن يكون ذلك بحسب قدرة الطبيب الثقة العدل. ويقصد من غرس الأعضاء نقل عضو سليم أو مجموعة من الأنسجة من متبرع حي أو ميت إلى شخص مستقبل ليقوم مقام العضو أو النسيج التالف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 وتقسم أنواع الغرائس إلى غرائس ذاتية، وهي التي تؤخذ من ذات الشخص وتعاد إليه. وأهم أمثلتها: نقل الجلد من مكان إلى آخر من المصاب، ونقل الغضاريف أو بعض العظام من ذات الشخص إلى مكان آخر، والاحتفاظ بدم الشخص وأخذه في حال الصحة، واستخدامه عند الحاجة كعملية جراحية مثلا. النوع الثاني: غرائس متماثلة. ومثالها أن ينقل العضو أو النسيج من أخ لأخيه التوأم المتماثل. والتوائم المتماثلة هي التي نتجت عن بويضة واحدة ملقحة ثم انقسمت بعد ذلك إلى قسمين، أنتج كل منهما جنيناً. وكلا هذين النوعين لا يحتاج إلى عقاقير مضادة للمناعة. الغرائس المتباينة: وهي الغرائس التي تؤخذ من أشخاص مختلفين من جنس واحد، ومثالها من إنسان لإنسان أو حيوان لحيوان آخر من نفس الفصيلة. وهذا النوع هو الأكثر انتشارا. وقد يكون المتبرع حياً أو ميتاً. وكلاهما يتعرض لرفض الجسم المستقبل للغريسة. ولذا لابد من إعطاء عقاقير خفض المناعة وتثبيطها. الغرائس الدخيلة: وهي الغرائس المنقولة بين جنسين مختلفين، كأن يعطى إنسان قلب قرد أو كلب أو خنزير أو غير ذلك، وهذا يتعرض في الغالب للرفض الشديد. ولم يستخدم هذا النوع من الغرائس بنجاح إلا في غرس العظام؛ لأن رفض الجسم لها بطيء. ويعمل العظم الميت كسقالة يبنى عليها عظم جديد. الأعضاء والأنسجة التي تزرع وتغرس: هناك العديد من الأنسجة والأعضاء التي تغرس أو تنقل من شخص إلى آخر. وبعض أنواع هذا النقل بدأ منذ بضعة قرون، ولكنه لم يأخذ شكله المعروف إلا في القرن العشرين. وأولها: نقل الدم، ويعتبر اليوم هذا إجراء روتينياً، ويستخدم في كافة أنحاء العالم. ولا شك أن الدم عضو، وينقل من شخص إلى آخر. وقد أمكن بواسطة نقل الدم إنقاذ ملايين البشر على مدى نصف القرن الذي انتشر فيه هذا الإجراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 وقد أباح الفقهاء المسلمون حسب علمي هذا الإجراء، ولم يعترض عليه أحد لما فيه من منافع جمة. غرس الجلد: وهو إجراء أيضاً واسع الانتشار، وعادة ما يكون غرساً ذاتياً. ولا يسبب أي مشاكل، وحتى في الحالات التي يؤخذ فيها الجلد من متبرع حي أو من ميت، فإن الشخص المستقبل يستفيد من ذلك الجلد قبل أن يلفظه جهاز المناعة. غرس الكلى: وهو إجراء انتشر مؤخراً في كثير من بلدان العالم. وقد تم نقل ما يقارب من 500 كلية في المملكة العربية السعودية وخارجها لمواطنين ومقيمين فيها. ويتعرض المصاب بالفشل الكلوي لخطر فقد حياته. وهناك إجراءان لإنقاذه: الأول:- عملية الديلزة (الغسيل الكلوي) : وهي عملية مرهقة للمريض. ولكنه يمكن أن يستمر في استخدامها سنين طويلة قد تبلغ عشرات السنين، ويتمكن خلالها من حياة معقولة على ما فيها من منغصات كثيرة. الثاني:- عملية نقل الكلية: وهذه العملية مريحة للمريض إذا نجحت، وتبلغ نسبة النجاح في معظم المراكز 85 بالمائة في السنة الأولى، ثم تفشل 5 بالمائة من الحالات سنوياً. ويحتاج الشخص المستقبل إلى استخدام عقاقير خفض المناعة، وهذه العقاقير بالغة التكلفة في الوقت الراهن، ولها مضاعفات عديدة، مثل حدوث أنواع من السرطان، وحدوث إنتانات بسبب ضعف المناعة. ولكن هذه المساوئ على أهميتها وخطورتها نادرة نسبياً، وتحتمل في سبيل المصلحة الراجحة من استخدامها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 إن قياس كلفة عمل زرع الكلى حوالي 30.000 دولاراً، وتكاليف العلاج السنوي قد تزيد عن تكاليف عملية الديلزة. ولكن نوع الحياة التي يعيشها شخص زرعت له الكلى أفضل بدون شك من شخص يقوم بعملية الديلزة مرتين أو ثلاثاً كل أسبوع. وإذا علمنا من إحصائيات عام 1986 أنه قد تم إجراء 113863 عملية ديلزة في المملكة العربية السعودية خلال ذلك العام، أدركنا مدى الحاجة إلى توفير عدد كبير من الكلى لأولئك الأشخاص الذين يحتاجونها. فمريض الفشل الكلوي يحتاج إلى إجراء 150 عملية ديلزة كل عام تقريباً. وهو أمر مكلف للدولة، ومرهق للمريض في نفس الوقت. ويمكن أن يتم غرس الكلى من متبرع حي أو ميت. ويرفض الأطباء في الوقت الراهن أخذ الكلى من المتبرعين الأحياء ما لم يكونوا من أقارب الشخص المصاب لأسباب عدة، وذلك في المملكة العربية السعودية. أما في خارج المملكة للأسف فهي تؤخذ من المتبرعين. وهناك حالات كثيرة في مصر وفي الهند وغيرها من البلاد بدأت فيها عملية تجارة بيع الأعضاء ذكرناها في صلب البحث. أما في المملكة فإنهم لا يقبلون متبرعين أحياء قفلا لهذا الباب، ما لم يكن المتبرع الحي من الأقرباء. والأفضل أخذ ذلك من الموتى. غرس العظام والمفاصل: قد تؤخذ بعض الغضاريف أو العظام من نفس المصاب. وهذه عملية لا تسبب رفضاً من الجسم. كما يتم أيضا زرع العظام من الموتى. وفي الآونة الأخيرة بدأت محاولات زرع المفاصل. وقد تم في السابق، كما أشرنا استخدام عظام الموتى وعظام الحيوانات، ورغم أن الجسم المستقبل يرفض الغريسة إلا أن العظام الميتة تعمل كسقالة يبني عليها الجسم عظماً جديداً، ثم يمتصها بالتدريج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 نقل نقي العظام (نخاع العظام) : وتشبه في شكلها النهائي عملية نقل الدم. ولاتجرى في الغالب إلا بين التوائم المتشابهة أو الأقرباء. ولم يستخدم حتى الآن نقل نقي العظام من الموتى. وهذه العملية رغم أنها من جهة تشبه نقل الدم إلا أنها أشد صعوبة منه بكثير؛ لما يعتورها من رفض الجسم، ومن المضاعفات التي تحدث. وتبلغ تكلفة العملية قرابة 60.000 دولار. نقل القرنية: وهذه لابد أن تؤخذ من ميت. وتوجد مراكز لنقل القرنية في مختلف بلاد العالم بما في ذلك بعض البلاد الإسلامية مثل القاهرة والرياض. وإن كان عدد العمليات محدوداً سنوياً. نقل القلب: انتشرت عمليات نقل القلب منذ أن قام الدكتور برنارد بإجراء أول عملية غرس قلب لإنسان سنة 1967. وتجرى حالياً ما يزيد على مائتي عملية نقل قلب سنوياً في الولايات المتحدة. كما أن العمليات أصبحت أكثر تعقيداً بحيث أمكن نقل القلب مع الرئتين أو مع الكبد في آن واحد. وقد أجرى الدكتور مجدي يعقوب المصري الأصل أكثر من 500 عملية زرع قلب أو القلب والرئتين معاً. كما تم نقل قلب قرد إلى طفلة وماتت بعدها بسرعة. وكذلك تم زرع قلب صناعي في حالتين ماتت كلاهما بعد بضعة أشهر من العملية. ولابد لكي تتم عملية زرع القلب من أخذها من ميت. وقد تم إجراء هذه العمليات بنجاح نسبي في الأردن (4 حالات) ، وفي المملكة العربية السعودية (حالتان) . وتكلف العملية ما بين مائة ومائتي ألف دولار. كما أن كلفة متابعة المريض سنويا تبلغ قرابة مائة ألف دولار، وتبلغ نسبة النجاح لعمليات الزرع في السنة الأولى 80 بالمائة أو أكثر، و50 بالمائة لمدة خمس سنوات. وتعتبر عمليات زرع القلوب الإنسانية أو الحيوانية أو الميكانيكية مثيرة للرأي العام وتشكل تقدماً مذهلا. ولكن كلفتها عالية جداً حتى إن الولايات المتحدة بدأت تئن تحت وطأة هذه التكلفة؛ إذ إن هناك ما يقرب من 50.000 شخص يمكن أن تنقذهم (إلى وقت محدود) هذه العملية. وبالتالي فإن التكلفة كما نقلتها مجلة التايم الأميركية قد تصل إلى أربعين بليون دولار سنوياً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 وإذا نظرنا إلى دول العالم الثالث وجدنا أن الدول الإسلامية عربية أو أعجمية تقع ضمن دوله. وهي دول فقيرة يموت فيها كل عام عشرة ملايين طفل بسبب الإسهال وعدم الرضاعة. كما يموت من المسغبة والمجاعة أعداد كبيرة كل عام، ويموت بسبب الملاريا والتيفوئيد، والسل، والتهاب الكبد، وغيرها من الأمراض المعدية عشرات الملايين كل عام. كما أن عدد الذين يموتون بسبب تدخين التبغ يبلغون مليون شخص في كل عام. وإذا قامت هذه الدول الفقيرة بوضع برامج صحية لإيصال الماء النظيف إلى القرى وإيجاد نظام شبكة مجارٍ، وتعليم الأمهات واجبهن في إرضاع أطفالهن وتعليمهن مبادئ النظافة، وتوعية الجمهور بأخطار التدخين والخمور والأمراض الجنسية والمخدرات، إذا صرفت هذه المبالغ الشحيحة لدى الدول الفقيرة على برامج زرع القلب أو زرع الأعضاء فإن ذلك لن يترك مالا للبرامج الصحية المهمة لمكافحة البلهارسيا والملاريا والكوليرا وغيرها من الأمراض. إن برنامج تطعيم أو تمنيع الأطفال تؤدي إلى وقاية ملايين الأطفال من الأمراض الخطيرة والتي قد تودي بحياتهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 أما برامج غرس الأعضاء فإنها تلتهم الأموال دون أن تقدم أي فائدة إلا لعدد محدود جداً من البشر، وتجعلهم يعيشون حياة مليئة بالتعاسة. إن أصواتاً كثيرة حتى في الغرب حيث الثروات والإمكانيات الهائلة تعارض هذه البرامج، وتطالب بصرف هذه المبالغ في التوعية الصحية والحد من مخاطر الأمراض الناتجة عن التدخين، والأمراض الجنسية والخمور والمخدرات. أما بالنسبة للعالم الثالث فإنه يعاني بالإضافة إلى ذلك فقدان المقومات الأساسية البسيطة التي تكفل الصحة للمواطنين، وخاصة في المناطق الريفية حيث لا يوجد ماء نظيف ولا نظام مجاري ولا تطعيم للأطفال ولا توعية صحية ولا محاربة للمستنقعات وما ينتج عنها من أمراض. وأي مبلغ يصرف خارج هذا النطاق هو في رأي الكثيرين جريمة في حق الملايين الذين يعانون من المسغبة، ومن فقدان مبادئ الرعاية الصحية الأولية. زرع الرئتين والكبد والبنكرياس: وجميعها لا تزال حكراً على بعض المراكز المتقدمة في الولايات المتحدة وأوربا واستراليا وجنوب أفريقيا. ولا تزال نسبة النجاح محدودة وكلفتها باهظة. ورغم تحسن نسبة النجاح في السنوات الخمس الأخيرة، وبلوغها في بعض المراكز نسبة 70 إلى 80 بالمائة، إلا أن التقنية المطلوبة والتكلفة العالية لا تزال غير متوفرة إلا في بعض المراكز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 زرع الأعضاء التناسلية: مثل زرع المبيض أو الرحم. ويمكن أن يتم ذلك من متبرعة حية أو من ميتة، وزرع الخصيتين والقضيب ويمكن أن يتم ذلك من ميت. زرع الأجنة: إن عمليات أطفال الأنابيب تعني نقل اللقيحة (الجنين) إلى رحم الأم أو امرأة أخرى. وهذا نوع من زرع الأعضاء. وقد ناقشت المجامع الفقهية هذا الموضوع واتفقت على أن دخول طرف ثالث يجعل الموضوع لاغياً وباطلا ومحرماً من الناحية الشرعية. والمقصود بالطرف الثالث: متبرع بمائه، متبرعة بنطفتها، متبرعة بالحمل في رحمها. وأن تجميد الأجنة مرفوض. ونقلها بعد وفاة الزوج أيضا مرفوض. وهناك محاذير كثيرة حتى على الحالة الوحيدة التي سمح الفقهاء بها، وهي أن يكون ذلك بين الزوجين حال قيام الزوجية؛ لعدم وجود رقابة في الواقع الفعلي. وقد طالبنا بقيام هذه الرقابة على مشاريع أطفال الأنابيب ولكن ذلك لم يتحقق بعد. ولا يبدو أنه سيتحقق في المستقبل القريب. الزرع من الأجنة: تستخدم الأجنة الفائضة من مشاريع أطفال الأنابيب ومن حالات الإجهاض المتعمد أو غير المتعمد (هناك 50 مليون حالة إجهاض متعمد في العالم سنوياً) تستخدم هذه الأجنة لمشاريع مستقبلية في موضوع زرع الأعضاء. وتتميز الأنسجة والأعضاء من الأجنة بأنها لا تسبب رفض المستقبل لها. وقد بدأ الأطباء في نقل خلايا من الغدة الكظرية ومن الجهاز العصبي لمعالجة مرض باركنسون. كما تم نقل خلايا البنكرياس إلى مصابين بالبول السكري وحقق ذلك نجاحاً أيضاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 الزرع من الموتى: إن كثيراً من الفقهاء الذين تحدثوا عن جواز زرع الأعضاء من الموتى لم يلتفتوا إلى نقطة مهمة جداً. وهي أن نقل الأعضاء لابد أن يتم في أغلب الحالات والقلب لا يزال يضخ الدم والدورة الدموية لا تزال تعمل. وذلك يرجع إلى سبب بسيط جداً هو أن توقف القلب والدورة الدموية من هذه الأعضاء يؤدي إلى موتها وإلى عدم صلاحيتها للعمل. فلابد أن تنقل هذه الأعضاء وهي حية. وتسمى الفترة التي يمكن أن يبقى فيها العضو قبل أن يتلف تلفاً لا رجعة فيه فترة نقص التروية الدافئة وهي كالتالي: الدماغ مدة أقصاها 4 دقائق - القلب: مدة أقصاها بضع دقائق - الكلى: مدة أقصاها 45 دقيقة - الكبد: مدة أقصاها 8 دقائق - البنكرياس مدة أقصاها 20 دقيقة. وهكذا. ثم إذا أخذت هذه الأعضاء والدورة لا تزال مستمرة والقلب لايزال ينبض فإنه يمكن تبريدها والاحتفاظ بها لمدة تختلف من عضو لآخر. فالقلب يمكن الاحتفاظ به مبرداً لمدة ساعتين، والكبد 8 ساعات، والكلى 72 ساعة. ولقد قام مجمع الفقه الإسلامي - مجمعكم الموقر - بدراسة موضوع موت الدماغ دراسة مفصلة في دورته الثانية في جدة 1406هـ والثالثة في عمان 1704هـ. وأصدر قراره التاريخي باعتبار موت الدماغ مساوياً لموت القلب، وهذا يتيح الاستفادة من أعضاء الأشخاص الذين يتوفون بصورة خاصة نتيجة موت الدماغ. وللأسف يأتي العدد الأكبر من هؤلاء الشباب بسبب الرعونة في سياقة السيارات. وفي المملكة العربية السعودية يبلغ عدد هؤلاء الضحايا ثلاثة آلاف وخمسمائة شخص سنوياً. ويمكن الاستفادة من حوالي ألف شخص على الأقل منهم. القضايا التي أقترح مناقشتها - اسمحوا لى بذلك وإن كنتم ترون قضايا كثيرة - الغرس من المتبرع الحي: أجمع الفقهاء الأجلاء الذين كتبوا في هذا الموضوع على جواز التبرع بالأعضاء حسب علمي بشرط ألا يؤدي ذلك إلى ضرر بالغ بالمتبرع. واعتبر بعضهم ذلك من الإيثار الذي حث عليه الإسلام. وقد جاءت فتاوى كثيرة في ذلك. ويعتبر نقل الدم من الأمور التي تحدث يومياً ولا ضرر فيها على المتبرع ما لم يكن يعاني من فقر دم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 ويتحاشى الأطباء نقل العين والأسنان واليدين والرجلين، بل إنهم يمتنعون عن قبول المتبرعين بالكلى ما لم يكن المتبرع قريباً للمريض لأسباب عديدة أثبتناها في صلب البحث، وهذا مهم. في الحقيقة الإجراء الذي تتخذه المملكة إجراء سليم في رأيي، وهو أن موضوع التبرع كله مقصور على المستشفيات الحكومية، ولا يقبل أيضا التبرع من أشخاص ليس لهم قرابة بالشخص المريض؛ لأن ذلك يؤدي إلى مشاكل كما علمنا في كثير من البلدان. ويسأل بعض الأطباء عن النقاط التالية: يحدث كثيراً أن يتبرع طفل سليم لأخيه المريض بنقي العظام أو الكلى. فكيف أمكن ذلك؟ وهل يعتبر إذن الطفل أو إذن وليه كافياً في هذا الصدد أم أنه لابد أن تكون للمتبرع الأهلية الكاملة؟ وما هو السن الذي يملك فيه الأهلية؟.. البلوغ أم 18 عاما. وقد حدد القانون الكويتي إتمام 18 عاماً ميلادياً لذلك. يتبرع الشخص بمائه أو بالبويضة، أو قد يتبرع الزوجان باللقيحة إلى آخر ذلك. ولم يبحث الفقهاء هذا الموضوع ضمن إطار زرع الأعضاء، لكنهم بحثوه في أثناء بحث طفل الأنابيب والتلقيح الاصطناعي، وحصول موت الدماغ بشروطه الطبية المعروفة وقد بحثها الفقهاء. وقد تكون هناك وصية من الشخص قبل وفاته، يعلن فيها تبرعه. لابد من حصول هذه الأشياء قبل حصول موت الدماغ. وتصدر مراكز الكلى بطاقات خاصة يعلن الشخص تبرعه بكليته حال الوفاة. وهناك دراسة لإضافة هذه الفقرة لرخص قيادة السيارة والبطاقات الشخصية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 في حالة عدم وجود وصية: تشترط معظم البلدان موافقة الورثة أو الأولياء، وقد أفتى كثير من الفقهاء الأجلاء بجواز أخذ الأعضاء من الأشخاص الذين لا أهل لهم أو مجهولي الهوية باعتبار أن الولي في ذلك هو الحاكم أو السلطان. وإذا أصدر الحاكم أمراً عاماً يبيح ذلك جاز للأطباء استخدام هذه الأعضاء بعد انتزاعها من الميت. والسؤال: من مِن الأولياء يحق له التبرع؟ وهل يشترط موافقة جميع الورثة أم يكفي واحد منهم. وماذا لو اعترض واحد أو اكثر من الورثة على التبرع؟ وهل يحق لولي الأمر أن يأمر بانتزاع الأعضاء من الموتى (حسب مفهوم موت الدماغ) بدون إذن الورثة؟ وقد قالت بذلك لجنة الفتوى في الكويت. ولكن البرلمان الكويتي رفض الأخذ بهذا الرأي. واشترط موافقة الورثة والأولياء. وفي بعض البلاد الغربية مثل فرنسا لا يعتبر رضا الأولياء ضرورياً في حالات الوفاة بموت الدماغ، وإذا كان الشخص يعالج في مستشفيات الدولة، بشرط ألا يكون الشخص قد أوصى أثناء حياته بعدم أخذ أعضائه في حالة وفاته. هناك شروط طبية أخرى على حسب العضو المراد استقطاعه. وأهمها أن لا يكون المتبرع مصاباً بأمراض معدية ولا أمراض خبيثة، ولا يكون قد تجاوز الخامسة والخمسين. وأن لا يكون مصاباً بالسكر وتصلب الشرايين إلى غير ذلك من الأسباب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 الغرس أو النزع من الموتى: يعتبر زرع الأعضاء من الموتى هو الإجراء الأكثر شيوعاً وذلك للأسباب التالية: 1) ظهور مفهوم موت الدماغ. 2) كثرة حوادث المرور في العالم وازديادها زيادة مرعبة. وللأسف تكون أغلب الضحايا ممن هم في مقتبل العمر. وتكون وفاة نسبة كبيرة منهم بسبب موت الدماغ. وبالتالي يمكن أن يستفاد من أعضائهم للتبرع بها لمن يحتاجها. وكمثال: عدد ضحايا المرور في الولايات المتحدة 60.000 سنوياً، وفرنسا 11.000 سنوياً، وبريطانيا 10.000 والمملكة العربية السعودية 3.500 سنوياً. وينبغي التركيز على منع الحوادث لا على مبدأ الاستفادة منها في زرع الأعضاء بحيث لا تكون مصائب قوم عند قوم فوائد. وحوادث المرور للأسف في منطقة الخليج هي أعلى بكثير بالنسبة لعدد السكان من مثيلاتها في مناطق العالم المختلفة. 3) الغرس من الموتى ليست له مخاطر من الناحية الطبية إلا في حالة عدم إتمام شروط موت الدماغ. وتنشر الصحف في بعض الأحيان أنباء مثيرة وفي الغالب غير صحيحة، ومن ذلك ما نشرته الصحف قبل فترة وجيزة، خبر مفاده أن طفلاً مشوهاً ولد، وأن أبويه قد تبرعا نيابة عنه بكليتيه، وأنه قد تم أخذهما من الطفل وهو لا يزال على قيد الحياة، وقد تبين لي بعد الاتصال بذوي الشأن أن هذا الأمر غير صحيح، وأن الطفل قد توفي حسب مفهوم موت الدماغ قبل أخذ كليتيه. وإن الكلى لم تكن ذات جدوى للزرع بسبب تلفهما. 4) الزرع من الميت يوفر أعضاء يستحيل توفيرها من الحي مثل القلب والكبد والرئتين والبنكرياس. ما هي الشروط التي ينبغي توافرها لنقل الأعضاء من الموتي حسب مفهوم موت الدماغ؟ نرى توافر جملة من الشروط قبل السماح بنقل الأعضاء من الموتى. وهذه الشروط مذكورة في أصل البحث هناك، ثم تأتي الأسئلة: ما هو الموقف من التبرع بالأعضاء التناسلية حال الحياة أو الوفاة؟ ما هو الموقف حيال زرع الأعضاء؟ ما هو الموقف حيال الاستفادة من الأجنة المجهضة أو التي تم تنميتها في المختبرات والاستفادة من أعضائها وأنسجتها لنقل الأعضاء؟ وما هو الموقف بالنسبة لإعادة الزرع بالنسبة للمحكوم عليهم حدا بقطع اليد في السرقة أو القصاص مثلا؟ هل يجوز إعادة الجزء المستقطع أو أن ذلك لا يجوز؟ فمواقف الفقهاء الذين كتبوا في هذا الموضوع متباينة؛ فمنهم من أباحه ومنهم من منعه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 الشيخ خليل محي الدين الميس: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله. السيد الرئيس، الإخوة الأعضاء. سلام من الله عليكم ورحمته وبركاته، أما بعد فحكم العلاج بزراعة الأعضاء موضوع موزع بين يديكم سأقرأ منه ما ينبغي قراءته وأترك الباقي لمراجعاتكم. العلاج بزراعة الأعضاء والأنسجة الحية أو المعادن في جسم الإنسان من المسائل المستجدة في الحقل الطبي، وتعرف في الاصطلاح الفقهي بالنوازل، أي المسائل المستجدة بعد استقرار المذاهب الإسلامية، حيث لا نص فيها من كتاب أو سنة أو قول أحد الأئمة المجتهدين وتلاميذهم. ولما كان الطب ميدانه التجربة، ولذلك كان من منجزات الطب الحديث ما أحرز من تقدم ملحوظ في هذا المجال، سواء في زرع القلب أو القرنية أو الكلية أو استئصال الأمعاء المصابة واستبدالها بأخرى سليمة. وكل ذلك إنما يتم باستخدام عضو منتزع من إنسان أو حيوان. وبالتالي فالسؤال مطروح وبإلحاح: ما هو الحكم الشرعي في كل ما جرى أو يجري؟ ومن المعلوم أن عملية الزرع تمر في مرحلتين: الأولى: الانتزاع من إنسان أو حيوان. الثانية: زراعة العضو المفصول في جسم إنسان آخر يفتقر إليه. والحاجة هذه يمكن تصنيفها إلى فئتين: أولاً: توقف حياة إنسان مريض أو مهدد بالموت على زرع ذلك العضو في جسده كالقلب أو الكلية. ثانياً: توقف عمل العضو المصاب فقط مع بقاء الحياة على زرع ذلك العضو كالقرنية في العين مثلا. هذا وفصل العضو المطلوب، ومن ثم زرعه في جسم المريض، إما أن يتم بناء على تبرع إنسان كامل الأهلية ويفصل منه ذلك العضو حال الحياة كالكلية، أو بناءً على وصية بأن ينتزع من جسده بُعَيْدَ وفاته كما يحصل بالنسبة إلى العيون مثلا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 وللإجابة على هذه التساؤلات المطروحة ونظائرها كان لابد من مقدمة تمهيدية نتعرض من خلالها للآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي تشكل أنظاراً للبحث باعتبارها ترسم المرتكزات الفقهية علاجاً وانتزاعاً وزراعة، وما يستتبع هذه الصور العلاجية. أما قضية العلاج فمن حيث المبدأ فقد صرحت الأحاديث الشريفة بمشروعيتها. ومن ذلك مثلا ما رواه أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام)) . وفي الصحيحين عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)) . وهكذا فإن الأحاديث الشريفة صرحت بحقائق منها: أولاً: الأمر بالتداوي وأدنى موجب الأمر هو الإباحة. ثانياً: إن إقراره عليه الصلاة والسلام بأن لكل داء دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله، يفتح باب العلاج على مصراعيه، ويمهد السبيل أمام الباحثين لاستكشاف الأدواء. وما لم يعلم بالأمس ربما يعلم اليوم أو غدا. هذا مع أن الإسلام جاء لعلاج الأرواح والنفوس من مرض الكفر والفسق والفجور وغيرها، وإنقاذ العباد من شرور الوثنية والإلحاد ومن أمراض عقدية هي أخطر من أمراض الأجساد لا شك أنها تفضي إلى مهالك في الآجل والعاجل، فإنه أيضاً (أي الإسلام) لم يهمل علاج أمراض الأجساد. ونحيل طالب المزيد من المعلومات في هذا الباب إلى كتاب الطب النبوي لابن قيم الجوزية، والآثار الواردة في كتب الحديث الشريف في أبواب الطب. مع أن الأحاديث الشريفة صرحت بمشروعية العلاج، لكنها في نفس الوقت أيضا نهت عن التداوي بالحرام حيث ورد النهي بقوله عليه الصلاة والسلام: ((ولا تداووا بحرام)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 وهذا ما يصلنا إلى الاستدلال بعمومات الآيات القرآنية والأحاديث، وبعد ذلك بالقواعد الفقهية والمبادئ العامة التي استنبطها الفقهاء المسلمون. ومن تلك العمومات والإطلاقات لنفرع عليها من الأحكام ما يتصل بموضوعنا. قال الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: 38) ، وقال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} النحل: 89. هذا والعموم الوارد في الآيتين وإن كان متوجهاً في البدء إلى بيان الأحكام الشرعية التكليفية أولاً لكنها لا تتقاصر دون موضوعنا هذا؛ لأنه يدخل ضمن إطار تلك الأحكام من الإباحة والتحريم باعتبار أن هذا العلاج على هذا الوجه هل هو حلال فيتابع أو حرام فيجتنب؟ ويأتي قوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج: 78. وقال تعالى إثر بيان مشروعية الوضوء والغسل والتيمم: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} المائدة 6. وهكذا نجد توجه الشريعة الإسلامية نحو التيسير على العباد وتحقيق مصالحهم الدينية والدنيوية، في ذلك يقول تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة: 85، ومن ثم تأتي الأحاديث النبوية على هذا النسق أيضاً لتؤكد المعنى الوارد في الآيات القرآنية. ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((بعثت بالحنيفية السمحة)) وقوله عليه الصلاة والسلام: ((يسروا ولا تعسر وبشروا ولا تنفروا)) . ومن مجمل هذه الآيات والأحاديث استنبط الفقهاء قواعد فقهية وضوابط أصولية تعتبر بمثابة الأصول لمسائل تفرعت عليها الأحكام. ومن ذلك قولهم مثلا: المشقة تجلب التيسير، وهي القاعدة الرابعة من قواعد الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي، وقال أي ابن نجيم: وفي الحديث: ((أحب الدين إلى الله تعالى الحنيفية السمحة)) : أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله ومن حديث أبي أمامة، ويخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته، وعد منها رأي المصنف المذكور المرض، ثم قال: الثاني المرض ورخصه كثيرة، ومنها التداوي بالنجاسات وبالخمر على أحد القولين، أي اعتبر المرض سببًا موجبا لالتزام أو لالتماس الرخص، وتخرج على هذه القاعدة، قولهم: الأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 هذا وإن إحياء النفوس مطلب شرعي صرحت به الآية الكريمة: قال سبحانه: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} المائدة: 32 ولا بد من مقدمة أصولية تمهد لهذا الموضوع، وهي ما تعرف بتقسيم الحقوق على ما جاء في كتب الأصول ونصه: الحقوق أربعة: أولاً: حقوق الله تعالى خالصة كالعبادات والحدود والكفارات. ثانياً: حقوق العباد خالصة. وهى أكثر من أن تحصى نحو ضمان الدين وبدل المتلفات والغصوب وملك المبيع. ثالثاً: ما اجتمع فيه الحقان وحق الله أغلب. وهو حد القذف. رابعاً: ما اجتمع فيه الحقان وحق العبد غالب وهو القصاص. وما نحن بصدده يندرج تحت القسم الرابع؛ لأن بدن الإنسان فيه حق الله تعالى من حيث التخلق، وفيه حق العبد من حيث الانتفاع، وحق الله على ما هو معلوم ما يتعلق به النفع العام، فلا يختص به واحد وإنما ينسب إلى الله تعالى تعظيماً. ثم ملكية الإنسان لجسمه وأعضائه ومدى حرية التصرف فيها: من خصائص الملكية التامة حرية الاستعمال والاستغلال والتصرف على ما هو معروف فقهاً وقانونا، والحرية هذه إنما يمارسها الإنسان على المنقولات والعقارات. وهو ما يعرف بأموال التجارة. فللمالك مطلق الحق في بيعها ورهنها وهبتها واستغلالها والإيصاء بها وإتلافها كما أنها تُورث عنه وتضمن بالاعتداء عليها. وهذه الأعيان معصومة في ذاتها ومملوكة له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 فيا ترى، هل جسم الإنسان من هذا القبيل أم لا بد من التمييز بين الملك والعصمة؟ فالعصمة تقوم بالمملوك. والملك يقوم بالإنسان، والعصمة تكون للدم كما تكون للمال. بذلك ورد الحديث الشريف: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى)) . هذا وبدن الإنسان مملوك له على وجه الانتفاع. وهو ما عبر عنه الفقهاء بقولهم: (إن الله تعالى ملك الإنسان منفعة أعضائه، فالعين للإبصار، والرئة للتنفس، واليد للعمل وتناول الطعام، والرجل للسعي، وما إلى ذلك من وظائف الأعضاء) . ويبقى السؤال مطروحاً: هل ملكية الإنسان لأعضائه من صنو ملكيته للأشياء فيكون له حق التصرف فيها كالأشياء المملوكة. وهذا ما يعرف عند رجال القانون بالتشييء، أي: هل جسم الإنسان وأعضاؤه أشياء أم لا؟ تناول الفقهاء المجتهدون موضوع النفس والأطراف والتعويض عنها حال الاعتداء عليها، ونصت الآيات والأحاديث على مشروعية الدية والقصاص وأرش الجراحات حال العدوان. وما قاله الفقهاء في هذا المجال: ضمان النفس والأطراف بالمال في حالة الخطأ فإنه ثبت بالنص من غير أن يعقل فيه المعنى؛ لأن الآدمي مالك مبتذل لما سواه. والمال مملوك مبتذل فلا يتماثلان. وإن ضمان النفس والأطراف بالمال غير مدرك بالعقل؛ إذ لا مماثلة بين الآدمي المالك المبتذل وبين المال المملوك المبتذل، وإنما شرع الله تعالى الدية لئلا تهدر النفس المحترمة مجاناً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 وكان موجب الجناية عمداً على النفس والأطراف هو القصاص. قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} البقرة: 179. ويمكن العفو كما هو معروف عن ذلك كله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} البقرة: 37. وقال سبحانه: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} الإسراء: 33. وأما جناية الخطأ فموجبها الدية. وهي تعويض مالي لتفويت منفعة الجسم أو العضو. وهو محض حق الإنسان ولذلك تدخل تحت الولاية عفواً وإسقاطاً. وهذا بخلاف جريمة الزنا فإن العقوبة عليها محض حق الله تعالى؛ لذلك لا يقبل بعد ثبوتها الإسقاط ولا العفو ولا الصلح على مال. وكذلك الشأن في السرقة وسائر الحدود. ولما كان التعويض المالي عن القتل الخطأ مقررا ابتداء وفي القتل العمد مقررا صلحا، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} النساء 92. وقال عليه الصلاة والسلام: ((في النفس مائة من الإبل)) . وروي أنه عليه الصلاة والسلام (قضى في قتيل بعشرة آلاف درهم) . هذا ودية النفس أو العضو ليست ثمنا بحال من الأحوال؛ لأنها إنما شرعت صيانة للنفس عن الهدر، لا ثمنا لها. ولذلك قدرها الشرع ولم يترك تقديرها ابتداء للعباد. ومجمل القول: إن لله تعالى في النفس حق الاستعباد، كما أن للعبد حق الاستمتاع، وحق العبد غالب؛ لذلك يجري فيه الإرث، ويصح الاعتياض عنه بالمال بطريق الصلح. وقال السرخسي في مبسوطه: لما أوجب الله تعالى حق العبد في النفس والأطراف. لذلك عمل فيه إسقاطه، ويورث عنه ويسقط الإذن. وقال السمرقندي في التحفة: لو عفا المجروح عن الجراحة ثم مات منه صح عفوه استحساناً. وهذا كله أمارة أن التعويض المقدر هو حق العبد، فكان له ولاية المطالبة كما كان له ولاية الإسقاط والصلح. وبسط الكاساني القول في المسألة وزادها إيضاحاً بل، وكاد يلامس القضية بالذات من خلال تعريفه الأحكام في عبارته التي جاء بها فيها: ولو قال: أقطع يدي فقطع، لا شيء عليه بالإجماع. ووجه الحكم فيه لأن الأطراف يسلك فيها مسلك الأموال. وعصمة الأموال تثبت حقا له أي: الإنسان. فكانت محتملة للسقوط بالإباحة والإذن، كما لو قال له: أتلف مالي، فأتلفه، قلت - أي هو المصنف -: ولا يخلو فعلهما حال القطع من الإثم لكل من الآمر والقاطع؛ لأنهما اشتركا في تنفيذ فعل محظور شرعاً. هذا وجاء في مشروعية القصاص ما نصه: هذه العقوبة جزاء الفعل في الأصل. وأجزية الأفعال تجب في حق الله تعالى. ولكن لما كان وجوبها بطريقة المماثلة عرفنا أن معنى الحق راجح فيها، وأن وجوبها للجبران بحسب الإمكان كما وقعت إليه في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة: 179. ولهذا جرى فيه الإرث. وصح العفو والاعتياض بطريقة الصلح بالمال، كما في حقوق العباد المحضة كبدل المتلفات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 وهكذا يتبين أن للإنسان ولاية إسقاط العقوبة عن الجاني حال الاعتداء على عضو من أعضائه، حتى على حياته بالكلية كمن جرح إنساناً فعفا المجروح عن الجاني، وكذلك شأن الورثة لهم حق العفو عن القاتل كما أسلفنا. ولكن هل للإنسان حق التبرع بعضو من أعضائه أو الإيصاء بها فتنزع منه بعد وفاته؟ لنعد بالمسألة إلى أصول لها ثابتة وإلى مسائل تقربنا من تقرير الحكم المناسب لهذه المسألة. إن شاء الله. أولاً: الرضاع. معلوم أن اللبن هو جزء الأم ترضعه أولادها وغيرهم، وذلك مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، والمسألة واضحة. ولكن الفقهاء ذكروا أنه لا يجوز بيع لبن المرأة تكريماً لبني آدم، وعليه الإجماع. قال ابن حزم: لا يصح بيع شيء أخذ من حي كلبن المرأة أو شعور بني آدم. وهناك مسألة أخرى هي التبرع بالدم، وكما ذكر المحاضر قبلنا ـ حفظه الله ـ لم يعرف اعتراض من أحد العلماء على جواز التبرع بالدم في حال من الأحوال، علماً بأن هذا الدم يعوض في الجسم، ولكن يحتاج لبعض الوقت. وهذا ما يصلنا للحديث إلى معالجة هذا الموضوع على ضوء القواعد الفقهية كما ذكرنا في مطلع البحث، وهذه القاعدة تعرف بجلب المصالح ودرء المفاسد. فنقول: لا يخلو أي تصرف يقوم به الإنسان لتحقيق مصلحة ما إلا بمفسدة، وذلك أن شرب الماء مصلحة لحياة البدن وفي ذلك إستهلاك للماء. وكذلك الشأن في الطعام واللباس وذبح الحيوان. بل ومشروعية الجهاد في سبيل الله، كذلك مشروعية القصاص والذي من شأنه قتل الجاني أو بتر عضو من أعضائه؛ كقطع يد أو رجل، على الرغم من ذلك وصف تعالى كل هذه التصرفات بالحياة، قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة:179. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 وفقهاء المسلمين قالوا في هذا المجال: (جلب المصالح مقدم على درء المفاسد) . قال الشاطبي: لما كانت المصالح الدنيوية لا يتخلص كونه مصالح محضة، وإنما تكون على مقتضى ما غلب، فإن كانت المصلحة هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد فهي مقصودة شرعاً، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد. وقريب من ذلك ما ذكره العز بن عبد السلام في قواعده حيث قال: وما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساد بعضه كقطع اليد المتآكلة حفظاً للروح إذا كان الغالب السلامة فإنه يجوز قطعها. وهكذا كان الحكم صراحة في جواز قطع عضو إنسان لضمان استمرار سلامة سائر البدن ونظيره. وشق جوف المرأة عن الجنين المرجو حياته؛ لأن حفظ حياة الجنين أعظم مصلحة من مفسدة انتهاك حرمة أمه. القواعد. فالمصلحة ما دامت هي المقصودة من التصرف لا تمنع بمجرد وقوع المفسده ما دام أن المصلحة هي الراجحة، وهذا ما لا يخفى على عاقل. يقول العز بن عبد السلام: وربما كانت أسباب المصالح مفاسد، فيؤمر بها لا لكونها مفاسد، بل لكونها مؤدية إلى المصالح الحقيقية. والشريعة الإسلامية إنما تهدف بالجملة إلى تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وحيثما تكون المصلحة راجحة فثمة شرع الله تعالى. هذا والنفس البشرية معصومة ومحترمة. لذلك تعلق بها حق الله تعالى حتى لا يبلغ بها أصحابها في وقت من الأوقات أو في البلد من البلدان إلى مرتبة السلعة تباع وتشترى. ولا يخفى ما في ذلك من إهدار لآدمية الإنسان وهدم لبنيان الرب كما جاء في الأثر: الجسم بنيان الرب، ملعون من هدمه، أي ظلماً وعدواناً من غير وجه حق. ومما تقدم نخلص إلى القول بأن الإيصاء بعضو من الأعضاء في حال الحياة على أن يفصل من الموصي بعد الوفاة لينتفع به آخر تتوقف حياته عليه، أو يحاول دون فقدان حاسة من حواسه؛ كالعين أو سواها، لا نرى أن قواعد الشريعة تحول دون مشروعيته والله أعلم. على أن يكون المتبرع كامل الأهلية، وإن كان في هذا التصرف انتهاك لحرمة الجسم بعد الموت، ولا يخفى ما في ذلك من مفسدة ظاهرة، لكن المصلحة المترتبة عليه من زرع ذلك العضو في جسم إنسان آخر واستمرار أداء وظيفته التي خلق من أجلها مصلحة راجحة. وقد ختمنا البحث بما توصل إليه مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في مكة المكرمة من قرار مدون لديكم. هذا وبالله التوفيق وشكراً لاستماعكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الرئيس: شكراً. بعد هذا العرض. الموضوع مطروح للمداولة، ويمكن لأصحاب الفضيلة الأعضاء الذين شاركوا لو طلبوا الكلمة من قبلهم بصفتهم قد كتبوا فيه وسمعوا العرض الذي مر على أسماعكم قد يكون هذا أولى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 الدكتور حسن علي الشاذلي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، لي ملاحظة على العرض الذي عرض وهو أنه قد احتوى على أن جميع من كتبوا قالوا بجواز التبرع بالأعضاء. والواقع أن هناك بحثاً قدمته إلى أمانة المؤتمر أرى فيه أن التبرع بالأعضاء مازال لم يستطع أن نحكم بجوازه حتى هذه اللحظة رغم ما كتب في ذلك من بحوث، وذلك كما بينته في هذا البحث يقوم على نقطتين: أما النقطة الأولى فخاصة بالتبرع بالأعضاء ممن كانوا على قيد الحياة، ثم توفاهم الله وأوصوا بذلك أو ما إلى ذلك. أو الذين حكم عليهم بعقوبة مستحقة أو تستحق عقوبة الإعدام. وبينت في البحث أن هؤلاء لا داعي لأن نقول بالنسبة لهم أكثر من أنه يجوز إحياء للنفس الآدمية. وهو بحث وضعت فيه الأدلة التي أرتكز فيها على ذلك. أما بالنسبة للنقل بين الأحياء فذلك ما أتوقف فيه لأمرين: أما الأمر الأول فهو أننا إذا بحثنا بالنسبة للمتبرع لابد أن يتبرع بما يملك، وجسم الإنسان لا يملكه سوى الله سبحانه وتعالى، ومن ثم فالمتبرع إنما يتبرع بشيء لا يملكه، فلا يصح هذا التبرع، هذا من ناحية. من ناحية ثانية هناك أيضا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبه للخمر حينما يقول: ((إن الذي حرم شربها حرم بيعها، وإن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه)) . وأيضا وجدنا من بعض الأحاديث أنه قد أهدي للرسول صلى الله عليه وسلم خمر بعد أن حرمت فرفضها؛ لأنها حرمت، فلما عرض عليه ذلك الذي قدمها أن يكارم بها اليهود وأن يعطيها لهم هدية قال: ((إن الذي حرمها حرم أن يكارم بها اليهود)) ، قال: فكيف أصنع بها؟ قال: ((أرقها على البطحاء)) . أي: ألقها. من هذا يتبين لنا أن الشيء المحرم في ذاته لا نملك إطلاقاً أن نتبرع به، فضلا عن أن نبيعه أو أن نتصرف فيه. ومن ثم فإن هذا الباب أصبح بابا يقلق المجتمع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 إن الأحداث التي تجري الآن حول نقل الأعضاء توجب علينا أن نتوقف وألا نصدر فتوى في ذلك تبيح التبرع. وأصبحت هناك بنوك في العالم يؤخذ إليها الفقراء، أطفال الفقراء، ومن يغرر بهم، وهناك أيضا ضائقات مالية يتبرع بعض الناس فيها بالأعضاء، وما إلى ذلك مما جرنا الآن إلى التفكير كثيراً في هذا الميدان. هذا من ناحية. الناحية الثانية إن ما نقوله عن الإيثار، الإيثار إنما يكون في المباحات، لا في المحرمات، فالأجسام والأعراض التي لا يجري فيها الإيثار. الإيثار إنما يكون في الأمور المباحة وفى الأمور المالية التي يجري فيها البذل والعطاء. أما الإيثار بالمحرم فحرام، والإيثار بالمكروه مكروه، وهكذا. كذلك أيضا بعض المتحدثين الأخ الدكتور عبد السلام العبادي ذكر فيما لو قال شخص لآخر: اقطع يدي، فقطعها، لا شيء عليه بالإجماع. أقول كلمة بالإجماع هنا ليست خاصة بجميع الفقهاء. فقهاء الحنفية فقط غير زفر، هم الذين قالوا: ليس عليه شيء بمعنى القصاص. ثم بعد ذلك الدية اختلفوا فيها هل تجب الدية أو لا تجب؟ هذا موضوع آخر. ولكن فقهاء المالكية وفقهاء الظاهرية والزيدية كلهم لم يجعلوا لرضى المجني عليه حينما يقول لآخر: اقطع يدي، لم يجعلوا لهذا الرضى وزناً في قيام القصاص. ومن ثم فالمسألة خلافية، والذي يدرأ حتى على رأي الحنفية فيما لو قلنا: إنه يدرأ القصاص؛ لأن هناك شبهة. ثم ننتقل إلى الدية، والدية لو قلنا حتى بإسقاطها فهناك أيضا عقوبة التعزير المانعة من ذلك. لكل ذلك أقول: إنه حتى مع ما ذكرناه من أن ما ذكره الأخ الدكتور العبادي من أنه عرض بيع لبن المرأة أو شعر بني آدم، وبين أن الفقهاء منعوا ذلك؛ لأنه جزء لآدمي، إذا كان ذلك بالنسبة للعضو المتجدد؛ لأننا إذا اعتبرنا ذلك أشياء متجددة وتوقف فيها الفقهاء، فما بالكم بالأعضاء التي لا تتجدد في جسم الإنسان. فقطع الكلية معناه انتهاء لها. وإذا كان هناك منع لهذه الأشياء فما بالنا بعضو لا يتجدد، وإنما إذا أخذ من إنسان عرض الاثنين، الشخص المضطر ربما لا يستفيد. وهذا احتمال وارد كما ورد في الأبحاث الطبية، والشخص المأخوذ منه عرض نفسه للهلاك. قد يحدث ذلك وقد لا يحدث، إلا أن الضرر لا يزال بضرر. وهناك نقول كثيرة في المبحث أوضحتها أمام حضراتكم لأبين أن الفقهاء توقفوا، وبدل كلمة توقفوا منعوا أن يكون هناك تصرف في أجزاء الإنسان، سواء كان ذلك عن طريق المعاوضة أو عن طريق التبرع. هذا ما أردت أن أنوه إليه، وشكراً. الرئيس: شكراً. ولعل فضيلة الشيخ حسن يريد الشيخ خليل الميس وليس الشيخ عبد السلام العبادي. الأستاذ أحمد رجائي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 الدكتور أحمد رجائي الجندي: بسم الله الرحمن الرحيم.. فضيلة الأخ الرئيس، فضيله الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي، أصحاب الفضيلة العلماء. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أولاً: يسعدني أن أشارك في الدورة الرابعة لأعمال مجمع الفقه الإسلامي ممثلاً للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بدعوة كريمة من فضيلة الأستاذ محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام للمجمع، شاكراً لسيادته هذا التفضل، آملا أن يستمر هذا التعاون الدائم من منظمتنا في مجمعكم. كما يسرني أن أنقل تحيات سعادة الدكتور عبد الرحمن عبد الله العوضي رئيس المنظمة، والذي كان حريصا على أن يشارك بالحضور شخصياً لولا ارتباطاته المسبقة في نفس الميعاد، متمنياً لحضراتكم التوفيق والسداد لما أوكل لحضراتكم من مهام كبيرة في المعنى والهدف. المعنى هو تحديد الهوية الإسلامية. والهدف هو ربط الإسلام بالتقدم المعاصر في جميع مجالات الحياة، ولعل أبرزها الطب. وتوضيح الحلال والحرام لكافة أو عامة المسلمين. ومن هذا المنطلق كان الشغل الشاغل لمنظمتنا منذ قيامها هو تبني الفقه الطبي، والذى شارك في ندواته كثير من الإخوة الأفاضل المشاركين في أعمال هذه الدورة. أما بالنسبة لموضوع زرع الأعضاء فقد تحدث زميلي الدكتور محمد علي البار عن نقاط كثيرة هامة. ولعل النقطة التي أثار فيها قضية الأولوية في عدالة التوزيع من أهم هذه النقاط، والتي ستعقد المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية مؤتمراً عنها بالقاهرة في الفترة من 21 إلى 23 نوفمبر لبحث الجوانب المختلفة لهذه القضية، واخترنا لها عنواناً (الاخيتار الصعب بين عدالة التوزيع والمصادر المالية المحدودة) ، وندعو الله أن نخرج منها بما يخدم الأمة الإسلامية، إلا أنني رغم أهمية هذه النقطة أرجو أن يؤخذ بعين الاعتبار النقاط الآتية: أولاً: أن قضية زرع الأعضاء تمثل تحدياً بين الإنسان والمرض. ورغم أن هذا التقدم أنجز في ديار غير المسلمين، إلا أنه يطرق أبواب المسلمين بشدة، فهناك مجتمعات إسلامية أفاء الله عليها بالخير، ويمكن أن تدخل هذا النوع من العلاج. فيجب توضيح الرأي الفقهي بالحلال والحرام فيها. أيضا هناك من بين المسلمين من أفاء الله عليهم بخيراته، ويمكن أن يتحمل نفقاته، فيجب ألا نغلق عليهم باب رحمته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 ثانياً: إن الجاليات الإسلامية التي تعيش في ديار غير المسلمين، ومنهم من يعمل في هذا المجال عالماً، ومنهم من يستطيع أن يتحمل التكاليف. وتريد هذه الجاليات أن تعرف الرأي الشرعي في هذه الأمور. ونحن ندين لها بهذا الدين في ديارنا، ويجب أن نوافيهم حقهم في هذا الموضوع. ثالثاً: إنني وبحكم عملي واشتراكي بالمنظمات العالمية فإن الأديان المختلفة والعقائد المختلفة تدلي كل بدلوها من وجهات نظرها، والإسلام ليس بأقل منها، ولو بإبداء رأيه في هذه المجالات. ومن أجل ذلك أيضاً تبنت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالاتفاق مع منظمة الصحة العالمية بعقد ندوة في نوفمبر تحت عنوان (الأخلاقيات والقيم الإنسانية والصحة من الوجهات الإسلامية) وهذه لأول مرة توافق منظمة الصحة العالمية على عقد ندوة لتتعرف على الرأي الإسلامي. هذا وقد ناقشت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية موضوع زرع وبيع الأعضاء الآدمية في ندوتين. وقد توصلت الندوة الأخيرة التي عقدت بالكويت في أبريل 1987 في موضوع بيع الأعضاء، وهذه هي التوصية: في ضوء ما استقر عليه الرأي الشرعي من المجامع الفقهية وهيئات الإفتاء في العالم الإسلامي من جواز نقل الأعضاء إلى المرضى في الظروف والشروط المقررة شرعاً، ناقشت الندوة موضوع بيع الأعضاء وانتهت إلى ما يلي: أولا: ما يتم به الحصول على الأعضاء أن يكون ثمرة التراحم بين الناس بالتبرع من جثث الموتى بالوصية أو موافقة الورثة. كذلك من أعضاء المتوفى مجهول الهوية. ثانياً: ورأي الأكثرية أنه يجوز الحصول على الأعضاء أيضا بتبرع الحي للحي بالشروط والضوابط المعتبرة، ومنها عدم الإضرار بالشخص المتبرع أو قصره على الإعطاء. ثالثاً: لا يجوز بيع الأعضاء. إذا لم يمكن الحصول على الأعضاء بالتبرع، ولم يمكن الحصول عليها إلا ببذل مال، فهذا جائز فيما انتهى إليه أكثرية المشاركين. وهو من المحظور الذي يباح في حال الضرورة. ويرى البعض عدم جواز ذلك. رابعاً: في جميع الأحوال يجب أن لا يترك الحصول على الأعضاء، ولا سيما في حال الإضرار لمنافسة المريض الغني للمريض الفقير، بل تنشئ له الدولة هيئة تحمكه وتتقي محاذيره وتديره وفق قانون مفصَّلٍ يوضع لذلك. كذلك أثار الدكتور البار أن ناقش بعض النقاط، ومن بينها أن يتبرع الشخص بمائه أو ببويضة أو قد يتبرع الزوجان باللقيحة. وهذا بحثته أيضاً المنظمة وحرمته تحريماً واضحاً؛ تفادياً لخلط الأنساب. خامساً: أن تتبرع المرأة برحمها. وهنا يجب أن يثار نقطتان. الواقع وعلى ما يعتقد فأولا أن الرحم، كلمة الرحم جاءت تعقيباً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 الرئيس: يا أستاذ أحمد، موضوع الرحم وما يتعلق به ولو تركتموه أولى؛ لأنه سبق وأن بت فيه المجمع. فنحن بحاجة إلى الوقت. الدكتور أحمد رجائي الجندي: نعم. أيضا أثار موضوع البويضات الملقحة. هل أثير هذا الموضوع؟ الرئيس: لو ترك ما يتعلق بهذا الموضوع يكون أولى. الدكتور أحمد رجائي الجندي: إذا شكراً لاستماعكم. الرئيس: عطفاً على التنبيه الذي تفضل به الدكتور الشاذلي كذلك ما ذكره الأستاذ رجائي من أنه استقرت الفتوى. لا أظن أن الفتوى استقرت على هذا، وإن الخلاف ما زال قائماً بين أهل العلم في هذه المسائل، سواء من حيث المبدأ أو من حيث بعض تفاصيله، أو من حيث شروطه. شكراً. الشيخ رمضان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي: بسم الله الرحمن الرحيم. الأستاذ حسن الشاذلي عقب لا على الدكتور البار فقط، بل لعله عقب على كل من تقدموا ببحث في هذا الموضوع. وفهم أن الجميع اتفقوا على جواز نقل عضو من حي إلى حي. وكما سمعنا الآن من الأستاذ رئيس مجلس المجمع أظن أن هذا الاتفاق بإطلاقه لم يتم بعد. ولكني أحب أن ألفت النظر إلى قاعدة فقهية وأصولية في آن واحد، الأستاذ المعقب يقول: إن الإنسان لا يملك جسمه. ومن ثم فإنه لا يملك أن يؤثر به غيره. صحيح أن الإنسان لا يملك جسمه بالمعنى الشرعي، ولكن القاعدة الفقهية تقول يا سيدي: كل ما جاز التصرف فيه جاز الإيثار فيه. فجواز الإيثار لا يشترط فيه الملكية بالمعنى الذي تتصورونه، وإنما يشترط فيه جواز التصرف. الإنسان يملك أن يتصرف بعينيه فينفقها سهراً على علم، وإن علم أن ذلك يضعفها. والإنسان يملك أن يتصرف بقدميه فيسعى بهما حاجا إلى بيت الله الحرام، وإن علم أن ذلك يوهنهما. وبناء على هذا فإنه يملك أو يؤثر أخاً له ببعض من أعضائه بشرط واحد، وهو أن يتحقق من هذا الإيثار منفعة للطرف الآخر. ولعلنا قرأنا كلمة السيوطي ناقلا ما يشبه الإجماع في هذا الصدد: ولو أراد المضطر إيثار غيره بالطعام لاستبقاء مهجته كان له ذلك، وإن خاف فوات مهجته ذلك؛ لأنه لا يهدف من هذا الإيثار إلى فوات مهجته، وإنما يهدف إلى إقامة بنيان مهجة أخ له. وهذا من الخلق الكريم الذي أشاد بذكره الإمام الشاطبي في موافقاته. ولذلك ليس هنالك ارتباط فيما أتصور فقهي بين موضوع عدم ملكية الإنسان لجسده وبين حرمة هذا الموضوع التي تحتاج إلى بحث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 النقطة الأخرى التي أريد أن أنوه بها باختصار شديد. الدكتور محمد علي البار في محاضرته المكتوبة وفي كلامه الذي أصغينا إليه الآن، يصور لنا ما يشبه الإجماع بين علماء الشريعة الإسلامية والقضاء على اعتبار الموت الدماغي موتاً حقيقياً. وهكذا قرأت له وهكذا فهمت. وأنا لا أتصور أن مثل هذا الإجماع أو قريباً منه قد تم، بل إن هذا الموضوع ما زال مطروحاً للبحث. وأحب أن أقول كلمة موجزة جدا في هذا الصدد، ولي بحث بين أيديكم في هذا الموضوع مفصل. أنا لا أناقش علماء الطب في أن الموت الدماغي موت حقيقي أم لا، بل ربما كانوا هم المرجع فيما يقولون هو موت حقيقي، ولكني ألفت النظر إلى أن الشريعة الإسلامية في أحكامها أقامت أحكامها على الموت الذي يراه الناس جميعاً موتاً بمقاييس عامة، لا بمقاييس علمية عميقة النظر، ومرد ذلك إلى مبدأ أخلاقي وعلاقة اجتماعية. وأضرب المثل لو أن الأمر جرى على ما يقوله أو يراه ويحلم به الأطباء لو أن إخوة لمريض ينتظرون شفاء مريضهم، ورأوا أن نبضات قلبه تتوالى، ولكن الطبيب في يقينه العلمي يرى أنه ميت وأن هذه النبضات لا قيمة لها. واستل كبداً منه أو استل قلباً منه لتصور هؤلاء الإخوة ولا يزالون يتصورون مدى الحياة أن هذا الطبيب أودى بحياة مريضهم، وتشيع الأحقاد والضغائن بين القلوب والنفوس، وربما تركت مضاعفاتها في المجتمع، ومن ثم فإن حكمة الشارع عميقة جدا في هذا الموضوع. الموت الذي يعقب أحكام الدفن والأحكام الأخرى والتشريح، فيما إذا أجزنا ذلك، هو الموت الذي يقرر بإجماع أنه الموت، وبناء على مواصفات لا تغيب عن العامي ولا تغيب عن العالم، حتى لا يتكون من تصرف من هذا القبيل حقد أو ضغينة أو تصور أن طبيباً قد أودى بحياة مريض. هذه هي النقطة الثانية التي أحببت أن أشير إليها. والنقطة الأخيرة الوصية. سمعت كثيراً هذه الكلمة تتكرر إذا أوصى الحي بجسمه، إذا أوصى، الوصية هذه هي التي تحتاج إلى بحث كما قال الدكتور الشاذلي هل الإنسان يملك جسمه حتى يوصي به؟ هو لا يملكه، إذن فالوصية أيضا أتصور أنها تحتاج إلى بحث على أقل ترتيب وتعديل. ولعل البعض يقول: إذا كان الميت لا يملك أن يوصي بطرف من أطرافه إذن الورثة من باب أولى أيضا لا يملكون أن يجيزوا أو أن لا يجيزوا. الورثة يملكون نظراً إلى أن لهم حق الكرامة الموصولة ما بينهم وبين هذا الميت. فمن حق كرامتهم أن يكون ميتهم محفوظاً مكلوءاً لا يمثل به. هذه الكرامة صلة متصلة قائمة بين الميت وأقاربه وورثته، ومن ثم توقف الأمر على إجازة الورثة ذلك، لا من حيث إن ملكاً تحول إليهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم وشكراً لكم. الرئيس: شكراً. ترفع الجلسة لأداء صلاة المغرب، ثم نعود بعد الصلاة مباشرة لاستئنافها بإذن الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 الرئيس: نواصل المناقشات والمداولات بين أصحاب الفضيلة. الشيخ وهبة. الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. الحقيقة ما دار في موضوع زرع أعضاء إنسان من جسم إلى جسم آخر، تحقيق هذا الموضوع يحتاج إلى مزيد من الدقة والإمعان وعدم التورط في إطلاقات القول، سواء في حال الإجازة أو في حال المنع. فلست مع الذين يجيزون هذا الموضوع بإطلاق، ولا مع الذين يمنعونه بإطلاق. والحق أننا أمام مبدأين أساسيين في شريعتنا، وهما مبدآن في صلب القرآن الكريم. المبدأ الأول: مبدأ التعاون على البر والتقوى. والمبدأ الثاني الضرورة الشرعية. فهذا الموضوع ينبغي أن ينظر إليه من خلال هذين المبدأين. وإن النقل ينبغي ألا يكون إلا في حالات ضرورية جداً تتوفر فيها ضوابط الضرورة الشرعية أو الحاجة العامة أو الخاصة التي تنطبق عليها قواعد الشريعة. والأمر الآخر ينبغي في مقابل اللجوء إلى الأخذ بعامل الضرورة أو السماح بالتعاون والإيثار ألا يترتب على هذا الفعل إلحاق ضرر بالمتبرع. فصحيح كما قرر جمهور الفقهاء أن الإنسان لا يملك نفسه ولا أعضاءه ولا أجزاءه، حتى إن الحنفية الذين سمعنا مقالتهم إذا قال كما ذكر الإمام السرخسي: اقطع يدي. الحقيقة لا يصح أن نقيس هذا الموضوع على هذه الجزئية؛ لأن هذا عبث. فلذلك ينبغي ألا نجيزه، لكن موضوع النقل يترتب عليه إنقاذ حياة من العدم. وإنقاذ النفس واجب شرعي. وفي مقابل ذلك إذا يئسنا من حياة الشخص الذي ينقل منه عضوه، فحينئذ إذ نكون قد قارنا بين مصلحة ومفسدة، بالمقارنة بين المفسدتين ودفع أهون الشرين. وإذا كان هناك مصلحة عامة ومصلحة خاصة، وأكد الأطباء أن حياة الذي تنقل منه هذه الأعضاء ميئوس منها بشكل نهائي ووثقنا بكلامهم عندئذ نستطيع أن نلجأ إلى الأخذ بهذه الحالات من النقل، دون أن نتورط بما عليه حال الغرب المادي المعروف. نحن مقيدون بشرعنا الإلهي فلا يصح أن ننقل كما تفضل عميد كلية الشريعة بالأزهر هذا الوضع المادي المبتور الصلة عن الأخلاق والقيم والمبادئ الإلهية إلى مجتمع يدين بوحي من الله وبقرآن لا يزال معمولا به وسيعمل به إلى يوم القيامة. نحن في الحقيقة أمام هذا لا يصح أن ننقل كل معطيات الغرب المادية وإنما يجب أن نكون حذرين كل الحذر من هذا، وأن نأخذ ما يتفق مع شرعنا. وفي هذا، وفي ضوء هذا الاتجاه لا شك أننا نمنع المعاوضة بأجزاء الإنسان؛ لأن أجزاء الإنسان والإنسان نفسه مكرم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} الإسراء: 70. ولا يصح بإجماع الفقهاء كما هو معروف أن يكون الإنسان أو أحد أجزائه مثل الأموات والأمتعة المادية التي هي محل للعقود، فهذا لا يصح بحال من الأحوال. وهو في إجماع فعلي من جميع الفقهاء لا يصح أن نجعل الإنسان وأجزاءه مثل الأمتعة؛ لأن الإنسان مكرم، وأسمى من هذه الأمتعة التي نخضعها للمبادلات المالية. فالمعاوضة في رأيي حرام ولا تجوز. ولكن التبرع سواء أكان تبرعاً في حال الحياة، أو وصية لما بعد الوفاة، فالوصية لا تخرج أن تكون تبرعاً، حتى بعد الوفاة لا بد من أخذ إذن أولياء هذا الشخص. كما هو بالنسبة للعفو عن القصاص لا نطبق هذه النظرية، قضية العفو كذلك، نظرية الأخذ بالعفو هذه إعطاء وسلباً، فما دام يعفى عن الدم، إذن يمكنهم أن يسمحوا في ضمن ضوابط شرعية محدودة وقليلة جداً عندئذ نسمح لهم بهذا الإذن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 التبرع قائم، والفقهاء يفتون. لايصح، أو لا يستطيع أحد أن يزعم في هذه القضية إجماعاً في عصرنا، لا إجماع. ولكن اتجاه الأغلبية هو المعمول به. كلنا الآن - لا سمح الله - لو عندنا قريب في مستشفى أو واحد منا - لا سمح الله - حدث له حادث سيارة، كلنا نتبرع له بشيء من دمنا، هل هذا حرام؟ إذا مثل الدم. والدم هو الأساس الذي تتكون به بنية الإنسان، وأعضاء الإنسان ما هي إلا أقل خطراً بكثير من قضية الدم. نتبرع بالدماء ولا شيء فيها، نتبرع بالكلية، نتبرع بالأشياء التي لا تلحق ضرراً بنا. فإذا توافرت هذه الضوابط، وتم ذلك على أساس التبرع، وكان ذلك ضمن قيود مشددة عندئذ لا أرى مانعاً من هذا. أما ما أثاره الأخ الدكتور البار في قضية موت الدماغ وغيره، ومما ذكر في مجمع الفقه في الدورة السابقة. الحقيقة بحث هذا الموضوع من خلال رفع أجهزة الإنعاش. هل نرفعها أو لا نرفعها؟ فلا يصح أن نبتر الأساس الظاهر الذي عليه الفقهاء، وهو أن الموت في الظاهر وقوف دقات القلب. فالحقيقة استشهاد الدكتور بهذه القضية يجب ألا يعمم، فقرارنا السابق كان بهذه المناسبة. ولا يصح أن نأخذ حكماً لوحظ فيه قضية جزئية ونعمم هذا الحكم على جميع الجزئيات التي معنا؛ حتى لا نقع في التوسعة في أكثر من حدود الضرورة وقيود الضرورة وحوائج الإنسان. فلسنا حتى متحجرين أمام هذه الأمور ونحن أرحم الناس بعباد الله إن كانوا يزعمون أنهم أنصار الإنسانية ويحب الواحد منهم الآخر. نحن أولى الناس بهذه الرحمة، ولا تنزع الرحمة إلا من شقي، فلا يمكننا نحن أن نقفل الباب أمام هذا الموضوع، كذلك لا يصح أن نتورط في إطلاق الجواز. والله الموفق، وشكراً لكم. الرئيس: شكراً. في الواقع قرار المجمع الفقهي الذي صدر بالأغلبية حول أجهزة الإنعاش عطفاً على ما ذكره الشيخ وهبة. قال: وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص، إن كان بعض الأعضاء كالقلب مثلا لا يزال يعمل آليا بفعل الأجهزة المركبة وشكراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 الشيخ أحمد محمد جمال: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وسيدنا محمد، وعلى آله وصحبه. وبعد، لي تعليقات بسيطة على المتحدثين السابقين. الملاحظة الأولى هي أن قضية نقل الأعضاء البشرية من جسم إلى جسم أصبحت قضية مفروضة على المجتمعات الإسلامية، وإن كانت في أساسها وافدة من الغرب. هذه القضية أصبح مفروغاً منها وأفتت فيها المجامع الفقهية وهيئات كبار العلماء في عدة دول عربية وإسلامية، وأفتى فيها أيضا علماء وشيوخ، فأعتقد أنها قضية أصبح مفروغا منها، وإنما البحث أو مداومة الدراسة في هذه القضية يتعلق بجزء منها، وهو: هل يجوز بيع العضو أم لا؟ لأن بعض الذين أفتوا أجازوا التبرع ولم يجيزوا البيع، في حين أن المستند واحد في كلتا القضيتين، وهو الملكية. الإنسان لا يبيع شيئاً لا يملكه، كما أنه لا يتبرع بشيء لا يملكه، فإما أن يملك الإنسان أعضاءه أو لا يملكها. أما أن كونه لا يملكها ويتبرع بها ولا يملكها ولا يبيعها على أي حال. سأفصل موضوع البيع في تعقيب آخر، وأختصر الآن الملاحظات. الملاحظة الثانية: نقل ماجاء في بحث الدكتور محمد علي البار حول نقل الخصى والأرحام، كان تعليق الدكتور على هذه القضية أن نقل الخصية من شخص إلى شخص كأنما ينقل نطفته معه ونقل الرحم ينقل رحمها معه، والحقيقة أن الرحم عندما تنقل من امرأة إلى امرأة، أو الخصية عندما تنقل من رجل إلى رجل إنما تتغذى بدماء المنقول إليه أو إليها، فليست النطفة بعد ذلك من الرجل السابق، وليس الرحم من المرأة السابقة. فينبغي أن نلاحظ ذلك، أصبحت تتغذى من المنقول إليها أو المنقول إليه من الشخص الأخير. أحببت أن أبدي هذه الملاحظات. ولي تعقيب في موضوع البيع والتبرع إن شاء الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. سيدي الرئيس، حضرات الأعضاء، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كان الموضوع الأول في لقائنا هذا هو في نظري من أخطر المواضيع؛ لأنه يتصل بأمرين: الإنسان ذاته، والحكم الإلهي، وهذا الموضوع الذي خرج من دائرة النظر إلى دائرة التطبيق، وصفقت له أجهزة الإعلام متحدية بذلك العالم الإسلامي كله باعتبار أن مستواه العلمي لم يصل إلى المستويات التي وصل إليها الغرب والشرق أي العالم الأول والثاني. ولعل هذه التحديات تؤثر ولا بد لها من أن تؤثر في نفس الناظر، وهو ما يجعل هذا الموضوع يقتضي أن ننظر فيه بكامل الحذر والموضوعية؛ لأنه موضوع خطير كما قلت جدا. وأعود إلى أصل الموضوع فأجد أن العنوان الذي عنون به فيه نوع من الغموض أو القصور. أولاً: كان الموضوع هو نقل عضو، ونقل العضو قاصر عن المشكلة المطروحة على بساط البحث؛ لأن هناك نقل أعضاء. وهناك نقل أنسجة، وهناك نقل إفرازات، وهناك نقل ما يتجدد ويمكن تعويضه، وما لا يتجدد ولا يمكن تعويضه. كما أنه في الشطر الثاني من الموضوع هناك أيضا بحث لا بد من تدقيقه، هو أن النقل قد يكون من شخص إلى شخص آخر، وقد يكون من شخص إلى ذاته، فيُنقل نسيج من الجلد من مكان إلى مكان، وهي عملية جراحية لا بد من بيان حكم الله فيها. نأخذ القسم الأول، وهو النقل من شخص إلى شخص آخر، وهذا على نوعين؛ من شخص محترم الحياة، ومن شخص غير محترم الحياة. فإذا كان غير المحترم الحياة فقد بحث فيه الفقهاء قديماً في الأكل، في جواز أكل المضطر من لحم الحي ومن لحم الآدمي. وأما إذا كان محترم الحياة فهل يجوز للإنسان أن يتبرع بعضو من أعضائه لينقل لشخص آخر تلف منه ذلك العضو، والنقل تتوقف عليه الحياة؟ القضية مرتبطة بقاعدة أصلية، وهي قاعدة الملكية. أو قاعدة الحق. والحقوق كما تفضل من سبقني هي منقسمة إلى أقسام. وإذا أردت أن أضع هذا، أي: نقل الأعضاء فهو ما اجتمع فيه حقان: حق الله، وحق العبد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 وكان حق الله أغلب من حق العبد. وإذا كان حق الله أغلب من حق العبد، فليس للإنسان أن يسقط هذا الحق. قد يقال: إن الإنسان يتصرف في أعضائه، وهو دليل للملكية والتصرف كما نعلم هو يقع بإذن الله، وهو إذن الشرع على ثلاثة أنحاء. عندنا إذن في التصرف من المنفعة، وهو مالك المنفعة. وعندنا تصرف في الانتفاع. وعندنا تصرف في الذات والمنفعة. فهذه الثلاثة التفصيل بينها أمر ضروري، حتى لا تختلط القضية في هذه النقطة الهامة. فالإنسان يملك من أعضائه أنه ينتفع بها، أي: أنه يتصرف فيها فيما يساعده على حياته، يملك الثاني الانتفاع ولا يملك المنفعة. له أن يملك الانتفاع بذاته، ولا يملك تلك المنفعة ليحيلها إلى غيره. وعندها الإنسان في بدنه يملك الانتفاع والمنفعة، فله أن ينتفع بالأعضاء التي خلقها الله له. وله أن يؤاجر نفسه لغيره، فيأخذ عوضاً عن منافعه، ولكن لا يملك أبداً، ولا يوجد أي نص يعطي للإنسان حقا في عضو من أعضائه. وما ورد عن الحنفية من أن الشخص إذ قال له: اقطع يدي، إنما تحدث الحنفية في هذا عن أمر خاص، وهو أن هذا حد يرفع بالشبهة، أما الإقدام عليه فحرام من الطرفين؛ وما كان حراماً من الطرفين إلا لأن هذا لا يملك والآخر لا يملك التعدي، ولو مع الإذن. ولذا فإن العضو في الإنسان ما دام محترم الحياة هو ملك لله، وللعبد حق فيه، وملك الله أغلب. الأمر الثاني: هو أن الإنسان بعد موته بعد أن يتوفاه الله ما علمت من أين نبتت هذه النابتة التي ما أظنها إلا أنها وردت من التأثير الغربي علينا من أن للورثة حقا في الميت، الورثة ليس لهم الحق في الميت إلا حق الميراث. وأما حق الكرامة الإنسانية فهي واجبة، لا على الورثة ولا على الأهل والأقرباء. ولكنه حق كفائي، واجب على أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلها أن تقوم بإكرام هذا الميت وبدفنه، وبعدم التمثيل به، ولا يقال: حق لشخص إلا إذا كان يملك إسقاطه. فليس لشخص أن يسلب حق كرامة الميت، ولبقية المسلمين أن يقوموا عليه بتحديده. أما الإيثار فإن الشاطبي قد نص على أن الإيثار لا يكون بالحياة ولا بجزء من أجزاء الإنسان. يقول الشاطبي: وأيضا ففي العادات حق الله تعالى من جهة الكسب، وواجب الدفاع؛ لأن حق الغير محاطة عليه شرعاً أيضا، ولا خيرة فيه للعقل، فهو لله تعالى صرفا في حق الغير على عضو من أعضاء الإنسان، فهو حق للغير حتى يسقط حقه باختياره في بعض الجزئيات خلاف الأمر كله. ونفس المكلف أيضا داخلة في هذا الحق؛ إذ ليس له التسليط على نفسه ولا على عضو من أعضائه. ولهذا فالذي أطمئن إليه لحد الآن هو أنه لا نستطيع أن نفرق بين باب التبرع، وبين باب التصرف بالبيع، وكلاهما سواء. فإما أن يملك الشخص الشيء فله أن يتصرف فيه بمقابل وبدون مقابل. وإما أن يكون معزولا عن التصرف فيه بذاته، هنا البابان سواء، وهو ما يجعلني لا أطمئن إلى جواز نقل الأعضاء في حال كون الشخص حيا محترم الذات، لا بهذا ولا بهذا. وشكراً لكم، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 الشيخ محمد إبراهيم شقرة: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. أما بعد، فبمناسبة طرح هذا الموضوع الذي ما زلنا ندير نقاط الحديث حوله، فإنني أقترح وقد رأينا وجهات النظر متباعدة متخالفة، وليس هناك قرب من بين الإخوان إلا في بعض الجزئيات من هذا البحث، وإن كان هناك اختلاف واسع في بعض الجزئيات الأخرى. لذا فإنني أقترح على فضيلة رئيس المجلس وأمينه أن تكون هناك لجنة مصغرة تكون من ثلاثة أشخاص أو أربعة أو الذين استكتبوا في هذا البحث لينسقوا هذا البحث تنسيقاً دقيقاً، وليستوفوا الأشياء التي ربما تكون قد غابت عن بعضهم في هذا البحث، أو في ذاك، وأقترح أن يكون أخونا الشيخ المختار واحداً من هذه اللجنة، فقد سمعنا منه كلاماً علمياً رصينا يذكرنا بالعلماء السابقين الذين كانوا لا يخطئون ولا يلحنون. بمناسبة طرح موضوع زراعة الأعضاء فإنني أرى لإخواني الذين يجيزون هذا الأمر أن يذكروا أن هناك مئات بل ألوفا بل عشرات من الألوف، بل مئات من الألوف، يقتلون أو قتلوا فعلا على جبهة العراق التي يدور رحى حرب ضروس فيها، وبين دولة أخرى عزمت على أن يظل قوسها منصوباً وسهمها مصوباً إلى صدر شعب أو جزء من أجزاء هذه الأمة التي تدين بالإسلام الحق، ولا تسجد إلا لله، ولا تعرف لغيره حقا عليها. أقترح على هؤلاء الإخوة الذين أجازوا زرع الأعضاء أن يلفتوا أنظارنا إلى أن نفيد من هذه الأعضاء التي تذهب هدراً وتصير تراباً مع التراب، وأن ذلك أمراً يكون مستحيلا، فبودي إذن أن يكون هناك ـ وهذه قضية في ظني وفي تقديري وفي تقدير كل مسلم يسجد لله ويركع له ويقرأ كتابه ويعرف أحكام الشريعة التي أقامت سعادة البشر عليها للدنيا والآخرة. فإنني أقترح أن يطرح هذا الموضوع المهم وهو في ظني أهم بكثير من موضوع زرع الأعضاء. أن يطرح موضوع الحرب العراقية الإيرانية على مجمعنا الكريم هذا. وبخاصة ونحن على مرمى البصر إن كان التعبير جائزاً من أيام الحج المباركة التي تذكرنا ولا شك بالدماء التي أسيلت وبالأرواح التي أزهقت وبالفتنة التي أثيرت. فماذا نحن قائلون يا ترى في هذه الحرب التي دفعت بجندها إلى ساحات الحرم الشريف ليثيروا هذه الفتنة العاصفة حتى ينزعوا وليسوا بقادرين وبحول الله وبقوته ثم بولاية هذه الأسرة الكريمة أسرة آل سعود على هذه الأرض التي حفظتها من سنين، فزرعت فيها الأمن والخير ليست بقادرة إن شاء الله تعالى على أن تمس أمن هذه الديار، ولا أن تخيف المسلمين، ولا أن تفزعهم، ولكن الشيء الذي يؤذي والضر الذي يقع لابد أن يقال فيه الكلام، ولابد أن يصدر حكم، إن كنا قد سمعنا أصواتاً كفرت ونددت ونادت وأثمت، صدرت من مصر والأردن ومن العراق ومن المملكه العربية السعودية، لكنها أصوات فردية، نريد من هذا المجمع أن يكون له صوت واحد يدوي في أصوات الدنيا، يصدر حكمه بلا خوف ولا تردد ولا وجل حول هذه الحرب الضروس التي أكلت اليابس قبل الأخضر، وأتت على أموال هذه الأمة، وأذهبت رونق جمالها، وجعلت الإسلام في نظر أعدائه أسود قاتماً لا يبصر منه الناس في هذا الزمان في بلاد الغرب التي تعادينا، لا تبصر منه إلا شؤما وإلا قرفاً وإلا سبة عار في جبيننا عياذا بالله تعالى. فماذا أنتم قائلون؟ وبارك الله فيكم والسلام عليكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 الرئيس: شكراً. أما موضوع إرسال البحوث يا شيخ محمد فإن البحوث أرسلت إلى الأعضاء قبل ثلاثة شهور، وقبل أربعة شهور، وقبل شهرين، وأما جعل خلاصة في آخر كل بحث، فهذه اللائحة التنفيذية للمجمع ذكرت الشيء هذا، إلا أنه لم يحصل الالتزام بها، لكن هي مراعاة في نظام المجمع في اللائحة التنفيذية، وقبل أن أعطي الكلمه للشيخ رجب، شكراً لكم على كلمتكم، وأرجو من الإخوة ألا نخرج من موضوع زراعة الأعضاء، وهكذا في بقية المواضيع التي تكون مطروحة في هذا المجمع. الشيخ رجب مع مراعاة الاختصار للوقت. الشيخ رجب بيوض التميمي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. إن الموضوع الذي أمامنا هو موضوع خطير يجب ألا نتسرع في الحكم فيه، والحكم فيه واضح وظاهر وبين. فقد خلق الله الإنسان للعبادة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات: 56، والله سبحانه وتعالى خلق لإنسان في أحسن تقويم، وقد خلقه ومَنَّ عليه بما خلقه من أعضاء: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} البلد: 9.8، وأعضاء الإنسان شرعاً قول مبتوت فيه لا يملكها الإنسان. إنما خلقها الله فيه لينتفع بها، وليحيا حياة طيبه بها؛ ليعبد الله حق العبادة. فهو لا يملك هذه الأعضاء حتى يتبرع بها أو يبيعها أو يتصرف بها ورثته؛ لأن الإنسان لا يورث منه إلا ماله، وكذلك لا يجوز له أن يتبرع بما لا يملك، ولا أن يأخذ عوضاً عن أعضاء خلقها الله فيه لينتفع بها وليعبد الله بها. ولذلك فإن هذا البحث أستهجنه؛ لأنه بحث جاءنا من الغرب المادي الذي لا يفكر إلا في المادة وحدها، أما النواحي الروحية المعنوية والكرامة لبني الإنسان ولبني آدم لا يضع وزنا لها. ولذلك فإنني أقول: إن الإنسان لا يملك أي عضو فيه، ولو كان ظفر أصبع؛ فإنه يعبد الله. ألا ترى أن الإنسان يتشهد برفع أصبعه، فكيف يجوز له أن يتصرف فيه، وإنما لو تركنا الأمر للإنسان ليتصرف برضاه بأعضائه لحصل من ذلك فوضى وسوء تصرف، وخروج عن الطاعة والوقوع في المعاصي بدعوى الرضا. دعوى أن كل إنسان حر في نفسه. لا، الحرية في الإنسان مقيدة بأوامر الله، والله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وخلق له أعضاء، وخلق كل شيء فيه له خاصة، أما أن نتوجع على شخص مريض لنأخذ له عضواً من شخص صحيح، فهذا أمر لا يجوز لنا البحث فيه، صحيح أن هناك بعض الأشياء التي ذكرها بعض الإخوان تؤخذ من الإنسان كالدم، الدم يؤخذ لينتفع به آخر إذا كان لا ضرر فيه على المأخوذ منه، أو بعبارة أخرى أنه يعوض ما أخذ منه من دم أو كما يقول الأطباء: لا يتضرر من أخذ دم منه كالفصاد. الإنسان قد يكون فيه دم زائد، وهذا يمكن أن ينتفع به؛ لأنه لا يتضرر من أخذ هذا الدم. أما قطع عضو أو أخذ شيء محسوس منه فيجب منعه. أقول: يجب أن يفتى وأن يؤخذ بأنه حرام مطلقاً. وما ذكره السرخسي من أن إنسانا لو قال لإنسان آخر: اقطع يدي قطعه، لا شك أن هذا حرام وممنوع. ومن قطع العضو يجب أن يعزر إن لم يقم عليه الحد للشبهة؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، لكن هذا الإنسان الذي اعتدى يجب أن يعزر وأن يعاقب؛ لأن الإنسان إن قال له: اقطع يدي فلا يجوز له أبدا أن يقطع، وإلا تقع حرمات كثيرة، وتقع مصائب كثيرة إن قلنا للإنسان: أنت حر فيما تفعل بأعضائك، فقد يفعل المنكر إن لم نقفل هذا الباب. ونقول له: أعضاؤك ليست ملكك، وإنما هي لك للانتفاع بها فقط، لا لغيرك، فلا يجوز أن تتبرع أو أن تأخذ عوضا، ولا يجوز لورثتك أن يتصرفوا بك بعد موتك؛ لأن الورثه فقط لهم مال الإنسان. هذا ما أردت أن أوضحه حسب اجتهادي بما علمت وبما درست وبما فهمت. والله الموفق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 الدكتور عبد السلام العبادي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. لا أريد أن أكرر ما قاله الإخوان أو ما أشير إليه في البحوث، إنما أحب أن أعلق جملة من التعليقات، وكان بعضها نقطة نظام. والذى أرجوه أن يلاحظ هذا في الجلسة القادمة أن العارض ليس المقصود أن يعرض بحثه أو أن يقرأ بحثه، لابد في الواقع أن تقدم خلاصة عن جملة البحوث التي وردت في المسأله لتوضيح الصورة متكاملة أمام المجمع وبالتالى يبدأ النقاش على هذا الأساس. فى ظني أن هذه القضية واضحة، لا يجوز فيها الإطلاق لا بالمنع ولا بالإباحة، وحتى الذين قالوا في هذه الجلسة بالمنع بالإطلاق إذا دخلت معهم في نقاش تفصيلي تجدهم يقرون المبدأ، فمن حيث المبدأ الأمر مقر عند الجميع، ولا أحتاج للتدليل على هذا، يكفي أن نذكر قضية نقل الدم، فقضية نقل الدم قضية مجمع عليها، عندما تسألهم: لماذا يقولون بالجواز في هذه القضية؟ يقول لك: إنه لا ضرر فيها، والدم يتجدد، إذا ما الذي يمنع أن يسهل الحكم. إذا فلا بد في الواقع أن تحرر المسألة بدقة، ثم بعد ذلك ينظر إلى ما تنسحب عليه بعد تحريرها بدقة بمختلف مواصفاتها وشروطها. في ظني أن لبسا كبيرا وقع في هذه المسألة من استخدام كلمة المتبرع وكلمة الإذن، وحدث نتيجة هذا اللبس أن غفل عن أصل المسألة، وأنها في دائرة الضرورات وأنها من منطلق رعاية مصلحة الإنسان وغيره، الواقع يجب أن نخرج من هذا الموضوع قضية الملكية؛ لأننا لسنا في مجال ما يمتلك وما لا يمتلك في التعامل مع الإنسان نفسه. الأصل في هذه المسألة، ومنطلق البحث فيها، إذا كان هنالك صيانة لحياة إنسان قطعا، وكانت هذه الصيانة تتطلب الاستفادة من عضو الإنسان، سواء أكان حياً أو ميتاً، دون الإضرار به، هل هذا يجوز؟ وما شروط ذلك؟ وضعوا قضية الملكية جانباً؛ لأن شرط الإذن في هذه المسألة واستخدام كلمة التبرع ليس باعتبار الملك أو عدمه؛ لأننا كما قال أستاذنا السلامي سنضطر إذا قلنا: إن القضية تبرع بما يملك، إذن الذي يتبرع يملك أن يبيع، ونحن نتحفظ على عملية البيع ونمنعها، إذن الموضوع ليس هذا مدخله. الموضوع مدخله من هذه الزاوية، زاوية الضرورة. وقضية الإذن نشترطها منعا للبس الذي أشار إليه أستاذنا البوطي عندما قال: إن السماح بمثل هذا قد يوقع مشكلات وقضايا. إذن نحن نشترط الإذن حتى لا يترتب على عمليه استخدام أعضاء الجسم الإنساني حيا كان أو ميتاً مشكلات وقضايا وخلافات، وهذا أيضا الذي أدخل قضية الأولياء، أدخل قضية الأولياء لهذا الاعتبار. اشتراط إذنهم وموافقتهم في إذا لم يكن هنالك إذن من الإنسان نفسه. هذه قضية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 قضية أخرى يجب أن يتنبه إليها في هذا المجال، إن هنالك أموراً كما قلنا: إنها جائزة، ونحن مجمعون عليها، حتى عند الذين يتحفظون على أصل المسأله، هنالك قضايا يجب أن نقول بمنعها أيضا قولا واحداً؛ لما يترتب عليها من مشكلات وأمور تخل بمبادئ وقواعد شرعية أساسية كما في قضية التبرع بالخصية وقضية التبرع بالمبيض وغير ذلك. وأنا أقول لأستاذنا أحمد محمد جمال في هذا الموضوع: إنه ثبت في النحو الطبي، وهذا أتركه للأطباء، أن التبرع بالخصية المواصفات الخاصه بالحيوانات المنوية لا تعود للمتبرع إليه، إنما تعود مواصفاتها للمتبرع، مما يعني أن هناك اختلاطا في الأنساب. كذلك قضية الولي عمن هو تحت ولايته لا يملك هذا. إذن هذه القضية نمنعها. قضية التبرع بما يسبب إشكالات أخرى؛ كاختلاط الأنساب، نمنعها. قضية اللقائح المرشحة، وهذا تحفظ كنت أشرت أنا إليه في بحث أطفال الأنابيب وغفل عنه. كنت نبهت إليه في الدورة الثانية هنا ولكننا غفلنا عنه في دورة عمان، الواقع لا بد من إضافة قيد من أن لا يكون هنالك ترشيح لعدد كبير من اللقائح؛ لأنه حتى لو لم نستخدم منها في زرع الأعضاء فإننا ندخل في دائرة القتل فيما إذا سمحنا للأطباء بعد ذلك أن يتلفوها أو لا بد أن تكون اللقائح المرشحه بالقدر الذي يفى بعملية أطفال الأنابيب؛ حتى لا تتولد عنها لقائح فيها الحياة، ثم بعد ذلك نقتلها أو نتيح للأطباء أن يفكروا في عملية الاستفادة منها في زرع الأعضاء. ثم أشير هنا إلى أمر آخر في موضوع ما استقر في كثير من الدول، نحن لا نريد في هذا المجمع أن نأتي الأمور من نهايتها ونعود بالمصادر على كل ما أنجزناه. هذا الموضوع كما تفضل بعض الإخوان قد استقر في كثير من الدول وبحثه علماء أجلاء ووضعوا فيه قواعد وشروطاً. وأذكر في هذا المجال المملكة الأردنية الهاشمية، أن هناك قانونا يتعلق بالانتفاع بقرنية العين صدر سنة 1956 بشروط شرعية معتبرة قبل 32 عاما، ولدينا في هذا الموضوع قانون عمم قضية الانتفاع بأعضاء الجسم ضمن شروط شرعية معتبرة، أقرتها لجنة الفتوى صدر سنة 1977. الواقع مما يجب أن نحرص عليه في هذا المجال أن إطلاق الفتاوى دون أن توضع التشريعات الضابطة لتطبيقها في الدول التي تتبناها قد يوقع مشكلات كبيرة وسوء استخدام لهذه الفتاوى؛ لذلك كانت لجنة الإفتاء في المملكه الأردنية على ملاحظة لهذه النقطة فما أصدرت فتواها إلا وأرفقتها بتنسيق مع الدولة بتشريع يضبط هذه القيود التي نضعها؛ لأنه يبدو أننا نضع قيوداً في كثير من الأحوال في فتاوانا ولا ينتبه إليها، ويؤخذ المبدأ كمبدأ مجاز، ثم ينطلق في تطبيقه دون ملاحظة للشروط التي قررت، ولذا فيما إذا توجه مجلس المجمع للجواز في هذا، ووضع قيوداً وشروطاً، وهو كما أظن الاتجاه الأسلم في هذا المجال لابد أن يرفق بضرورة صدور تشريعات ضابطة لهذا الأمر ومراعية لتطبيقه أسلم تطبيق. وشكراً والسلام عليكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 الرئيس: شكراً. قبل أن أعطي الكلمه للأستاذ محمد أيمن في الواقع أن الموضوع الذي طرح أمامنا الآن ليس موضوعاً محدداً في صورة من صور النقل والتعويض. وإنني بالاستقراء ظهر لي ما يقرب من ثلاثين صورة لعدة اعتبارات، سواء كان من حي إلى حي أو من ميت إلى حي، وباعتبار الإسلام والكفر، وباعتبار الأهلية، ونقص الأهلية إلى غير ذلك ما يقرب من ثلاثين صورة، فهل نجري بحثنا والمداولات فيه على أساس هذه المجموعة الكبيرة من الصور الشائكة، ولا أظن أن مثل هذه الجلسات، وأمامنا جدول مضغوط بعدد من البحوث، أنه يستوعب أن نناقش هذه الصور واحدة واحدة، بحيث تصدر فيها آراء فقهية بحسب ما يصل إليه الأكثرية في هذا المجمع، ولهذا فإنني أخشى إذا سرنا في هذا المسار بأن نبحث الموضوع على صفة العموم، هكذا أن ننتهي إلى غير غاية، ولهذا أقترح عليكم أن يحدد الموضوع الذي يبحث، هل نبحث الموضوع بكليته؟ فالذي يظهر فيه تعذر البت فيه أم نبحثه بجزئية أو جزئيتين أو ثلاث، فهذا هو الذي ينبغي أن يحدد، وأن يؤخذ بالأهم فالأهم من هذه الصور. والمسأله كما أشار إليها الأستاذ حسن الشاذلي والشيخ المختار وعدد من الإخوان هي مهمة وحساسة. ونحن لا نريد أن يصدر فتوى فيها شيء من الإطلاق تمتطيها جهات أخرى فيستغلونها على ذمة هذا المجمع. هذا ما يتعذر إصداره من هذا المجمع. ولهذا فإنني أرى أن يقصر البحث في الموضوع على صورة أو صور معينة. أما أن يبحث الموضوع زرع الأعضاء؛ ولهذا فإننا إلى الآن من خلال هذه المداولات بأجمعها لم يتضح لنا رأي نعرف اتجاه المجمع إليه بالجواز المقيد أو بالمنع أو بالتفصيل. هذا ما أحببت الإشارة إليه. والكلمة الآن إلى الأستاذ محمد أيمن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 الدكتور محمد أيمن صافي: بسم الله الرحمن الرحيم. وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أصحاب الفضيلة، أصحاب السماحة، أصحاب السعادة. يتضح لي كما اتضح للكل أن الموضوع شائك. إنه بعدما يتحدث المتحدث تنشأ الكثير من التساؤلات، وإني أؤيد فضيلة الرئيس بأن تحدد النقاط. ولا تظنوا أننا خرجنا بغير فائدة، فالفائدة موجودة، وحسبنا أننا سنحدد النقاط، وسيكون هذا الاجتماع منطلقاً لدراسات وأبحاث وتشاورات ما بين المختصين وما بين السادة الفقهاء؛ لنصل في اجتماعات أخرى إلى ما يرضي الله أو إلى ما نسأل الله أن تكون فيه الفائدة. نخرج بقرارات فقهية بعد دراسات وبعد مباحثات مع بعض. قلت: إنه بعدما يتحدث المتحدث تنشأ الكثير من التساؤلات. فقد بدأ زميلي الدكتور محمد علي البار، وفي نهاية حديثه طرح موضوع زرع الأعضاء التناسلية. الخصية والمبيض، ثم وجدت أن الشيخ عبد السلام العبادي إذا صح تخميني قد دعا إلى تحريم زرع الخصية والمبيض. إن هذا الجواب القاطع أعتقد ليس مقبولا، فلنعرف أن غرس الخصية لا يتم من أجل الحيوانات المنوية أو الخلايا التناسلية. وإنما من أجل علاج الصفات الجنسية الثانوية بغض النظر عن الخلايا التناسلية، فلو افترضنا كما يظنه البعض أن غرس الخصية سيؤدي إلى نقل الخلايا التناسلية، فنكون بهذا قد أوجدنا حلا جيداً لقضية عويصة يقف أمامها الأطباء المختصون، وهي قضية العقم، إذن ما أريد قوله في هذه النقطة أن الدراسة المتأنية والبحث المتأني سيغير موزون القضية، فنجد بالنسبة لهذه القضية عندما ننظر إلى غرس الخصية بأنها علاج العقم. فطبعا سيتبادر أنه حرام، لكن عندما نجد علاج الصفات الجنسية فإننا بذلك نميل من التحريم إلى التحليل حسب اعتقادي. قضية أخرى أن موضوع غرس الأعضاء كما تعرض إليه الإخوة أصحاب الفضيلة حدده بأنه غرس أعضاء من شخص حي إلى شخص حي آخر، أو من ميت إلى حي. إن النقطة الأولى والتي هي غرس العضو أو نقل العضو من حي إلى إنسان حي آخر تتضمن أيضاً العديد من النقاط، فلا يجوز أن نطلق الحكم بالتحريم أو التحليل؛ لأن غرس العضو من حي إلى حي يتضمن أيضا غرس العضو ضمن نفس الجسم، وهو ما يسمى بالغرس الذاتي، فهذا يختلف، وأيضا هنالك حالة، فمثلا غرس قرنية العين في هذه النقطة لو رأينا أنه من الممكن الحصول على قرنية العين من إنسان حي عندما يضطر هذا الإنسان إلى التخلي عن عينه في بعض الأحوال يضطر الطبيب إلى استئصال العين لوجود مرض يستدعيه للاستئصال، ففي هذه الحالة نحن أمام غرس عضو، والذى هو قرنية العين، وهو جزء من العين مأخوذ من جسم حي، لكن من عضو يجب استئصاله، إذن فالموضوع شائك. وكما بدأت فإنه من المفيد أن نبدأ من الآن، وكما قال أصحاب الفضيلة من قبل، بدراسة هذا الموضوع بشكل جزئي نأخذ النقاط كلا على حدة ويتم بها البحث والتداول والتشاور، ومن الممكن أن نأتي في الاجتماع القادم بمعلومات أفضل وبقرارات أفضل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 الشيخ محمد سيد طنطاوي: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد، فمما لا شك فيه أن هذه الاجتماعات لها من النفع ما لها؛ لأن العقول مثلها كمثل الشموع، كلما تقاربت كلما سطع ضوءها، وفي هذا الاجتماع الذي نناقش فيه تلك المسأله أقول: إنه لا توجد مسائل صعبة متى خلصت النيات، ومتى صحت العزائم، وتعجبني كلمة لعلماء الأصول، وهي تحرير محل النزاع. إذا ما تحررت المسألة واتضحت سهل العسير وقرب البعيد. وهذا الموضوع ليس جديداً، وإنما هو موضوع تكلم فيه العلماء كثيراً، سواء كان كلامهم على جهة الانفراد أم على جهة المجامع الفقهية. فتوجد فتاوى متعددة ومن جهات رسمية حول هذا الموضوع. والذي أحب أن نصل إليه ألا يكون هناك تضارب أو تناقض في الأفكار. وإنما الذي نريد أن نصل إليه هو التقارب، وألا تصدر فتوى هنا تتناقض مع فتوى هناك، وإنما نحاول أن نعود إلى القرارات التي اتخذت في هذا الموضوع من المجامع الفقهية المختلفة، ومن دور الإفتاء، وأن نضيف إليها ما نراه نافعاً وما نراه صالحاً؛ فإن الأحداث تتجدد، وإن المسأله التي لا يسأل عنها اليوم قد يسأل عنها في الغد. وأنا أمامي الآن في ختام البحث الذي قدمه الأخ الشيخ خليل محي الدين الميس في الصفحة السابعة القرار الذي اتخذه مجمع الفقه الإسلامي المنعقد بمكة منذ ثلاث سنوات، ونصه إذا أذن لي فضيلة الرئيس، وهو قرار لن يأخذ سوى دقيقتين، لكنه قرار نافع من وجهة نظري، وأنا شخصيا أرتاح إليه ارتياحا تاماً: أولاً: أن أخذ عضو من جسم إنسان حي وزرعه في جسم إنسان آخر مضطر إليه لإنقاذ حياته، أو لاستعادة وظيفة من وظائف أعضائه الأساسية هو عمل لا يتنافى مع الكرامة الإنسانية بالنسبة للمأخوذ منه، كما أن فيه مصلحة كبيرة وإعانة خيرة للمزروع فيه. وهو عمل مشروع وحميد إذا توافرت فيه الشرائط التالية: أولاً: ألا يضر أخذ العضو من المتبرع به ضرراً يخل بحياته العادية؛ لأن القاعدة الشرعية أن الضرر لا يزال بضرر مثله، ولا بأشد منه، ولأن التبرع حينئذ يكون من قبيل الإلقاء بالنفس إلى التهلكة. وهو أمر غير جائز شرعاً. ثانياً: أن يكون إعطاء العضو طوعاً من المتبرع دون إكراه. ثالثاً: أن يكون زرع العضو هو الوسيلة الطبية الوحيدة الممكنة لمعالجة المريض المضطر. رابعاً: أن يكون نجاح كل من عمليتي النزع والزرع محققاً في العادة أو غالباً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 ثانياً: تعتبر جائزة شرعاً بطريق الأولوية الحالات الآتية: أولاً: أخذ العضو من إنسان ميت لإنقاذ إنسان آخر مضطر إليه بشرط أن يكون المأخوذ منه مكلفاً، وقد أذن بذلك في حالة حياته. ثانياً: أن يؤخذ العضو من حيوان مأكول ومذكى مطلقاً، أو من غيره عند الضرورة لزرعه في إنسان مضطر إليه. ثالثاً: أخذ جزء من جسم الإنسان لزرعه أو الترقية به في جسمه كأخذ قطعة من جلده أو عظمه لترقيع ناحية أخرى من جسمه بها عند الحاجة إلى ذلك. رابعاً: وضع قطعة صناعية من معادن أو من مواد أخرى في جسم الإنسان لعلاج حالة مرضية فيه كالمفاصل وصمام القلب. فكل هذه الحالات يرى المجلس جوازها شرعاً بالشروط السابقة. أرى أن هذا كلاما جيداً وكلاما نفيسا، ينبغي أن نعود إليه وإلى غيره، وعندما نصدر قرارا في هذا الموضوع المطروح أمامنا أن نرجع إلى تلك الفتاوى وأن نضيف إليها ما نريد أن نضيفه، بشرط أن لا يكون هناك تناقض أو تضارب. ولفتت نظري كلمة من الإخوة المتحدثين، أنه ليس هناك من فارق بين مسألة التبرع ومسألة البيع. وأنا من وجهة نظري الشخصية أرى أن هناك فارقاً ولو كان هذا الفارق ضئيلا. ولكن لا بد أن يكون هناك من فارق. المتاجرة بالأعضاء عن طريق البيع وعن طريق التعامل ممنوعة وحرام قطعاً؛ لأن جسم الإنسان لا يصلح أن يكون محلا للمتاجرة. لكن في الحقيقة التبرع شيء لا يلجأ إليه الإنسان إلا عند الضرورة القصوى، أنا لا أتبرع لمن لا أعرفه، ولا أتبرع لإنسان أحبه حباً عادياً، وإنما أتبرع لأحب الناس إلى ولألصق الناس إلى قلبي. فهناك في تصوري فرق واضح بين حالة التبرع وبين حالة البيع. نقطة ثالثه أيضا لفتت نظري خلال إلقاء البحث الذي ألقاه الأخ الشيخ خليل، وهو أنه أتى بعبارة يقول فيها: جلب المصالح مقدم على درء المفاسد، والذي أحفظه أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وتلك هي القاعده العامة، قد تكون العبارة الأولى قاعدة ولكنها ليست عامة أو ليست غالبة، ولكن القاعدة الغالبة والشائعة والتي حفظناها أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وهذا وبالله التوفيق وشكراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 الشيخ آدم عبد الله علي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. إنني أريد أن أنقل بعض الفقرات عن بعض الأئمة الشافعية. يقول الإمام النووي: يجوز قطع الإنسان بعضه لأكله؛ لأنه إتلاف بعض لاستبقاء كل. وقال أبو إسحاق المروزي: لأنه إحياء نفس بعضو، كما يجوز أن يقطع عضوا إذا وقعت فيه الأكلة لإحياء نفسه. واشترطوا في ذلك شروطا، وفي نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي عبارة أوضح من ذلك، يقول في جزئه الثاني صفحة 145: ويحرم قطعه البعض من نفسه لغيره، ولو مضطرا، ما لم يكن ذلك الغير نبيا. وفي المجموع شرح المهذب للنووي في المجلد التاسع يقول: لو أراد المضطر أن يقطع قطعة من نفسه من فخذه أو غيرها ليأكلها، فإن كان الخوف منه كالخوف في ترك الأكل أو أشد حرم القطع بلا خلاف. وصرح به إمام الحرمين وغيره، ثم يقول: ولا يجوز أن يقطع من أعضائه شيئا ليدفعه إلى المضطر الآخر بلا خلاف. وصرح به إمام الحرمين والأصحاب. يعني أصحاب الشافعي. لا شك أن الله سبحانه وتعالى أكرم الإنسان ميتا كما أكرمه حيا؛ قال تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} عبس 17 – 21 فجعله سبحانه بعد موته مقبورا، فالواجب على المسلمين إذا مات واحد منهم الدفن كله لا بعضه، فانتهاك حرمة الميت المسلم كانتهاك حرمته حيا؛ فقد روي عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن كسر عظم الميت ككسره حيا)) رواه مالك وأبو داود وابن ماجه. وقد جوز الفقهاء أو بعضهم شق بطن الحامل الميتة لإخراج جنينها الذي يرجى حياته، كما جوزوا بقر بطن الميت إذا كان في بطنه مال ابتلعه في حياته لإخراج المال منه إذا بلغ المال نصاب السرقة أو الزكاة، على خلافهم في قدر المال الذي من أجله يشق بطن الميت، وقاس بعض العلماء على تلك المسائل جواز تشريح المجني عليه الذي مات قبل إثبات الجريمة. ورأي الفقهاء في ذلك ظاهر؛ لأن في تلك المسائل تعلق حق الغير، أو إثبات حق الغير في ذات شخص معين، وإن كان ميتا، فانتهك حرمته لأجل ذلك، وأما انتهاك حرمة الميت بقطع بعض أعضائه لجعلها قطع غيار لغيره، فليس من قبيل ذلك في نظري، فلا أجد في نظري القاصر وجها لإباحة ذلك مطلقا، لا بوصية حال حياته، ولا بإذن أقاربه بعد موته. وقياس الاضطرار بالمرض على الاضطرار بالجوع غير صحيح؛ لوجود الفرق بينهما، فالله سبحانه وتعالى قيد الاضطرار الذي أبيح لأجله للمضطر أكل الميتة بالكيف، وهو المخمصة، قال سبحانه: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} المائدة: 3، وأما الاضطرار بالمرض فليس هذا بالاضطرار. وشكرا، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 الشيخ أحمد بازيغ الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، اللهم صل على عبدك ونبيك محمد وعلى آله الطيبين وأصحابه الكرام الغر الميامين، وعلى من اتبعه بإحسان إلى يوم الدين وبعد. أود أن أبين هنا بأني لا أستطيع أن أخفي إعجابي وتقديري بكلمة فضيلة الشيخ بكر عبد الله أبو زيد رئيس المجمع، التي أعتبرها فتحا ـ فتح الله عليه ـ صباح اليوم كلمة قيمة؛ لما تحمل من معان علمية وفقهية لو عممت على أجهزة الإعلام في العالم الإسلامي لأتت بفائدة كبيرة، فإذا بالإمكان تعميمها أو بالإمكان أن تكتب في الحقيقة؛ لأن الشيخ ألقاها ارتجالا، فيا حبذا أنها لو تكتب وتعمم على أجهزة الإعلام في العالم الإسلامي حتى ينتفع المسلمون بها، فجزاه الله كل خير ووفقه الله. النقطة الثانية: إني أشكر جميع علمائنا الأفاضل على ما أبدوه من آراء في بحوث تقدمت بخصوص غرس الأعضاء. والحقيقة الموضوع سبق أن بحث في كثير من الهيئات الفقهية، وخرجت بآراء مبنية على دليل واجتهادات مشكورة، وأنا في الحقيقة أتفق مع رأي الدكتور إبراهيم شقرة بأن يكون المجمع لجنة مختصة من أهل الاختصاص ليرجحوا بين الآراء وليأخذوا بالرأي القوي الدليل، الذي دليله من الكتاب والسنة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} الأنعام: 38، وليس هناك شيء في الحقيقة لم يذكره الكتاب، إنما علينا أن نتدبر ونتفكر، وأن نبحث وأن نستنبط وأن نقيس. والمجمع له أن يرجح أقرب الآراء وأصوبها إلى الدليل. ثم هناك نقطة في الحقيقة أود أن أسأل عنها فقهاءنا، تعلمون أن الرضاعة لها أحكامها، وأحكام الرضاعة تتأثر في الحقيقة، فعندما يرضع الطفل تنشأ أحكام فقهية تسمى أحكام الرضاعة، فهل عندما يغرس عضو في إنسان من إنسان آخر تنشأ عنه أحكام فقهية؟ الحقيقة أنني لم أسمع رأي الفقهاء في هذا. بالنسبة لما قاله الدكتور محمد إبراهيم شقرة بأن يقول المجمع كلمته فيمن يريد إبادة أمة الإسلام وينحرف بعقيدتها عن الصواب قبل أن يقول كلمته في ترميم الأعضاء، أعتقد أن هذا شيء مهم، يعني أنا لا أستطيع أن أصبغ غرفة أو أرمم غرفة أو أعمل فيها ديكورا وهناك من يريد أن يهدم بيتي علي، فأقل ما يمكن أن أوقف هذا الإنسان الذي يريد هدم بيتي، ثم بعد ذلك آتي بالأمور الأخرى. أثني على ما قاله بهذا الخصوص وأعتبره ليس خروجا عن الموضوع وشكر الله لكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 الرئيس: في الواقع أكرر رجائي على أن المداولات تكون في الموضوع فقط، ولا تخرج عنه، مع المعذرة من أصحاب الفضيله المشائخ؛ لأن أمامنا قضية فقهية مهمة تحتاج إلى تفرغ ذهني، وألا ندخلها في غيرها ولا يدخل غيرها معها، ولم تجر العادة على أن المسائل الفقهية تشرك معها أمور أخرى، هذه لها جلسة في آخر جلسة، أو في أول جلسة من الجلسات القادمة، يتفق على البحث في أي موضوع يستجد مع الأمانة حسب نظام المجمع، وحسب لوائحه التنفيذية، أما لو أخذنا بأن كل من كان عنده إحساس نحو مسألة بعينها تثار، لذهب الجدول وسقطت الموضوعات فيه، وأتينا بأمور أخرى، ولا شك أنها أمور تنشأ من اهتماماتكم ومن إحساسكم في الواجب الإسلامي على الجميع، لكن ما بين أيدينا هو واجب إسلامي، وهي أمور شرعية بحاجة إلى البت. تفضل. الشيخ محمد شريف أحمد: نحن مجمعون، وأعتقد أن هذه المسألة موضوع البحث من المسائل التي سكت عنها الشارع، ولا أعتقد أن احداً من الباحثين استدل على رأيه بآية كريمة أو بحديث نبوي شريف. نعم قد ذكروا بعض الآيات الكريمة وبعض الأحاديث النبوية التي تدل على كرامة الإنسان وكرامة بني آدم، فالمسألة من المسائل المستجدة، وليست المستجدة كل الجدة، ولكنها مستجدة نوعاً ما، فرأينا أن كثيرا من الباحثين عمقوا كثيراً في نصوص عبارات الفقهاء. ونحن نجل عبارات الفقهاء، إلا أنها دون شك لا ترتقي إلى مستوى الأصول، تبقى هذه النصوص نصوصاً نستأنس بها، وقد نستهدي بها في فهمنا أو في استنباطنا لهذه المسألة. ويؤسفني أن بعضهم قد عمقوا وأطالوا في الاستشهاد بعبارات الفقهاء الأجلاء، تلك العبارات أو تلك الآراء التي نتجت عن الفقه التقديري التصوري. وأن الفقه التقديري قد لا يصلح عرضه في كل مكان، وفي كل زمان، لايصلح لنا في هذا الزمان أن نستشهد بعبارات للفقهاء مع تقديرهم، تشير إلى أكل الإنسان لحم الإنسان، باعتبار حرمة الحي وعدم حرمة الإنسان الميت، أو الأهم فالمهم، حتى تجاوزوا إلى أكل الأنبياء، لحوم الأنبياء. وكلنا يعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء فلا نبي بعده. فأقصد من ذلك القول إلى أننا في معالجتنا هذه المشكلات لا يجب علينا أن نعمقها ونخضعها لقواعد فقهية قد لا تنطبق عليها بمعنى صحيح، في الأصول يتحمل الضرر الأخف لزوال الضرر الأهم، ولكن هذه القاعدة العامة والقواعد العامة الأخرى تختلف طبيعتها عندما ننزلها إلى الواقع. كيف نثبت أن هذا هو الضرر الأخف وذلك هو الضرر الأهم، خاصة في هذه المسألة الحيوية الخطيرة جداً، وأن أي قرار فيه سيخشى من نتائجه. علينا أولا وقبل كل شيء أن نعود إلى خبرة الأطباء، إلى ما يقوله الأطباء في كل هذه المسائل. وما علينا إلا أن نقول لهم: إن الإسلام منع هذا وأجاز ذلك، ونعطى لهم مساحات واسعة للأطباء، ولأهل الخبرة الأطباء المسلمين مجالات واسعة للتحرك وللعمل وفق هذه الحدود. وشكراً. والسلام عليكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 الشيخ عمر جاه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. فضيلة الرئيس، نشكرك على الطريق التي استطعت بها أن تدير هذه المداولات، ونثني على ما قدمت من الاقتراح بتحديد مسائل معينة يمكن التركيز عليها وإبداء الرأي الشرعي فيها، لكن المسألة التي نناقشها اليوم مسألة شائكة وخطيرة إذا نظرنا إليها من جميع النواحي، وأنا أريد أن أستشهد بكلمة قالها الأخ محمد علي البار، فأرجو أن ننتبه إلى هذه الكلمة؛ لأنها من خبير عالم متخصص في هذه المسألة، يقول: إن برنامج زرع الأعضاء يلتهم الأموال دون أن تقدم أي فائده إلا لعدد محدود جداً من البشر، إذا نجحت تجعلهم يعيشون حياة مليئة بالتعاسة. فنحن هنا نناقش موضوعاً في منتهى الخطورة؛ ذلك لأنها قائمة بيننا فعلاً، لكنها مسألة مستجدة وتأتينا من بعيد، وأنا أتساءل: ما هي الأولويات التي نبني عليها حينما نتناول موضوعاً علمياً ينبغي إبداء رأي شرعي فيه؟ ولذلك أولا ينبغي أن نؤكد مسألة الضرورة الشرعية التي تتيح لنا المحظورات، ونسأل أنفسنا أولا وقبل كل شيء عن الدوافع الأساسية في نقل الأعضاء من شخص لشخص، وأنا لا أريد أن أخوض في مسألة التبرع، البيع، التجارة، لكن أتكلم عن مسألة التبرع، والأخطر من هذا هي منظور تجاري في هذه المسألة. وينبغي أن نبتعد عن التقليد الأعمى. هو صحيح أن هناك مجامع فقهية تجتهد في هذا، ونحن نقدر اجتهادها، ونعتقد أن ما وصلوا إليه رأي شرعي جيد، لكن المسألة أخطر وأكثر من هذا. هذا المجمع يمثل العالم الإسلامي بأجمعه، قبل أن نخرج برأي شرعي وفتوى شرعية نلتزم بها، ينبغي أن نعيد النظر في هذه المسألة وندرسها دراسة متأنية، ولذلك أؤيد عدم البت في هذه المسألة، وتحديد أجزاء منها نستطيع أن نعالجها، ومما لا شك فيه أننا لا نختلف أن جزءا بسيطا من هذه المسألة يمكن تبنيه، وهو نقل الدم، وأقول: إن نقل الدم مسألة بسيطة وضرورة، ونرى أنه تساعد على إبقاء الحياة ومعالجة الأمراض، لكن كما يقول الدكتور البار: إذا كانت المسألة هذه تكلف كثيراً من الأموال، والذين يتلقون هذا العلاج يعيشون في تعاسة، فلماذا نضيع الوقت فيها؟ هذا رأي عالم متخصص في هذه المسألة ينبغي أن نضعه في الاعتبار. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الشيخ محمد سالم بن عبد الودود: شكراً. لا أراني قد كفيت، المهم أن المعروف أصلا أن الإنسان لا يتصرف في بدنه؛ لأنه لا يملكه لا بالتبرع ولا بالمعاوضة، وأن الفقهاء القدامى نصوا على منع أكل لحم الإنسان للمضطر، وإن كان بعضهم جوز إزالة الضرورة المفضية إلى الموت بأكل لحم الإنسان. هذا الشيخ خليل بن إسحاق المالكي يقول في مختصره: والنص عدم جواز أكله لمضطر، وصحح أكله أيضا. ويقول الشراح: إن هذا التصحيح ضعيف معول عليه هو الأول. المهم أن نعود إلى ما أسفرت عنه المجامع ودور الإفتاء ونضعه بين أيدينا وننتقده إذا رأينا فيه منتقداً، ونعتمده إن رأينا معتمداً، ونخرج من هذه الدوامة الطويله في الأخذ والرد وشكراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 الشيخ طه جابر العلواني: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد، إن الواقعة موضوع البحث واحدة من هذه الوقائع الكثيرة التي تقذفنا بمئات منها يومياً الحضارة الغربية المعاصرة. هذه الواقعة لها أصولها الفكرية وجذورها الثقافية، وغايتها وأهدافها الاجتماعية. والمجتمع الغربي الذي حدثت فيه هذه الوقائع وصدرت إلينا، لا يتقيد بأقوال الفقهاء ولا قواعد الأصوليين، ولا ينتظر فتاوى المجامع، وإنما يسير في تجاربه وأعماله وفقاً لمعطيات علمه التجريبي ونظرته إلى الإنسان. هذه النظرة التي تجعل من الإنسان مجرد مجموعة من المواد الكيماوية يمكن أن تشترى مجمعة من أي صيدلية بما يساوي عشرة ريالات أو خمسة عشر ريالا. حين انطلقوا في بحث هذه الأمور، انطلقوا في بحثها دون ضوابط، وقد كانت لهذه الأمور مؤثرات خطيرة جداً نفسية وإجتماعية، مؤثرات أثرت في نفوس من أخذت منهم الأعضاء، ومن زرعت فيهم الأعضاء. وقد أشار الأخ الأستاذ عمر جاه إلى تلك التعاسة التي يعيشها من أخذ العضو منه، ومن زرع العضو الغريب فيه. لم ألاحظ في الأبحاث المقدمة بين أيدينا أية دراسة نفسية أو اجتماعية تشرح لنا طبيعة هذه القضايا وآثارها النفسية وآثارها على البنية الاجتماعية بعد ذلك. وأقوال الفقيه وفتاواه لا ينبغي أن تكون خالية من النظر إلى الآثار والنتائج التي تترتب على ما يفتي به. إننا لو تابعنا هذه الحضارة في معطياتها كلها، وحاولنا أن نجيب عن كل تساؤل تطرحه، لربما طلبنا من هذا المجمع ومن مجامع أخرى مثله أو أكثر منه أن تظل في حالة انعقاد العام كله، وقد تستجيب لبعض هذه التساؤلات أو الحاجات، وقد لا تستجيب لذلك، ولذلك فإن من المفيد جدا أن ننظر فيما سبق، وفي هذا أثني على اقتراح فضيلة الأستاذ مفتي جمهورية مصر العربية الشيخ سيد طنطاوي في اقتراحه بالنظر في قرار مجمع الفقه بمكة ومحاولة الاستفادة منه. كما أثني على ما ذكره الدكتور عبد السلام العبادي في النظر في الصور التي تناولتها دار الإفتاء الأردنية وصدرت فيها قوانين. وأظن أن الصور التي يهمنا النظر فيها والخروج فيها بشيء، لعلنى أقترح حصرها في الصور الثلاث التي وردت في أحد الأبحاث المقدمة في هذا الموضوع، وهي صورة النقل من حي إلى حي، صورة النقل من ميت إلى حي. الأمر الثالث: ما هي الشروط التي علينا أن نضعها والضوابط التي علينا أن نأخذ بها لنتلافى أية أضرار أو أمور جانبية لهذه الفتاوى التي تصدر، ولما يمكن أن تكون ذرائع له من مفاسد كثيرة ظهرت للإنسان الغربي، وستظهر في وقت غير بعيد للإنسان المسلم أيضا. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 الرئيس: شكراً. أحب أن ألفت نظر الشيخ طه إلى أن مجمع الفقه بمكة صدر عنه ثلاثة قرارات، والذي بين أيدينا هو قرار واحد، وهذه القرارت الثلاثة في عدد من الصور التي تتعلق بالنقل والتعويض الإنساني، وكذلك هيئة كبار العلماء بالمملكة صدرت منها ثلاثة قرارات في ثلاث صور، كل قرار في صورة مستقلة. فالصورة غير متكاملة فيما صدر من قرارت مجمعية، ومن هيئات كبار العلماء، ومن لجان الفتيا إلى غير ذلك، فهذا ما أحب أن أوضحه بأن مجمع الفقه بمكة ليس هذا هو القرار الوحيد له، وإنما له ثلاثة قرارات في هذا الموضوع. الشيخ طه جابر العلواني: ولكن ماذا عن حصر البحث في الصور التي ذكرنا، النقل من حي إلى حي، والنقل من ميت إلى حي مع الشروط والضوابط المطلوبة. الرئيس: على كل حال هذا هو محل البحث … الشيخ رمضان. الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي: فقط أريد أن أقول شيئا واحدا تصحيحاً لبعض ما قد سمعنا من بعض الأمور الفقهية. سمعنا في هذه الأمسية من قال: إن الإنسان لا يرث من قريبه إلا المال، وتكرر هذا. ونحن لا نعلم أن هذا شيء قاله الفقهاء. الرجل الذي يقذف آخر فيموت المقذوف، ألا يملك ورثة المقذوف أن يرفعوا دعوى على القاذف؟ لم يخالف في ذلك فيما أعلم إلا السادة الحنفية، على خلاف بينهم في ذلك، إذن الكرامة انتقلت عن طريق الإرث، حق الكرامة كان للمقذوف، فلما مات انتقل هذا الحق إلى أقاربه. إذا مات الرجل حق خيار البيع، حق إنقاذ الحقوق المعلقة حقوق كثيرة معنوية كلها تورث. وهذا ما عليه جماهير الفقهاء. فقط أحببت أن أوضح هذه النقطة لأنها تُعِين في بلورة الموضوع الذي نحن بصدده. وشكراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 الشيخ حسن علي الشاذلي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. في الواقع كنت أود لو سمحت لي رئاسة الجلسة أن أضع أمامكم نتائج الدراسة التي قدمتها بين أيديكم؛ نظراً لأن كثيراً من الأمور قد نص عليها في هذا البحث. فإذا سمح لى سيادة الرئيس أن أتلو نتائج البحث ثم أعلق على ما ذكره حضرات السادة الإخوة، باختصار أنا تناولت في المبحث الأول من هذا البحث المقدم إليكم النتيجة الأولى: إن الإنسان روحاً وجسماً كلا أو بعضاً مملوك لله تعالى وحده دون سواه. الثانية: أن دم الإنسان معصوم بحكم إنسانيته. ثالثاً: يحرم على الإنسان الاعتداء على نفسه أو الإضرار بها أو تعريضها للهلاك. ثم البحث الثانى بينت أن التداوي من الأمراض أمر مطلوب شرعاً، وأنه يجوز تداوي النفس البشرية بما أحل الله تناوله والتداوي به. وكذا يجوز تداويها بالمحرم إذا تعين المحرم علاجاً له دون غيره من المباحات على يد طبيب مسلم حاذق. رابعا: يجوز أن يكون التداوي والعلاج عن طريق الجراحة إذا دعت الضرورة أو الحاجة إلى ذلك. ثم انتقلت بعد ذلك إلى الضرورة، القاعدة الفقهية الضرورات تبيح المحظورات، فأخذ منها: أولا: يباح للمضطر تناول مال الغير بغير إذنه، ولو باستعمال القوة، إذا كان هذا المال زائداً عن حاجته. ثانيا: يباح للمضطر تناول الميتة والانتفاع بها بمقدار ما يسد رمقه؛ إذ الضرورة تقدر بقدرها. ثالثا: يجوز للمضطر التداوي بالميتة، سواء أكانت قائمة العين لم تمسها يد التغيير والتبديل أم غير قائمة العين بأن مستها يد التغيير والتبديل، فحولتها من حالة إلى أخرى. كل هذا عليه أدلة في داخل البحث. رابعا: يجوز الانتفاع بأجزاء الآدمي الميت، سواء أكان معصوما أم غير معصوم؛ إحياء للنفس الآدمية، ومدا لأسباب البقاء لها إذا توافرت بالشروط الآتية: أولا: ألا توجد ميتة أخرى غير ميتة الآدمي. فإذا وجدت لا يحل الانتفاع بميتة الآدمي. ثانيا: أن يكون المضطر معصوم الدم. ثالثا: أن يكون الانتفاع بها حالة الضرورة، أما في حالة الحاجة أو التتمة فلا يجوز. رابعا: أن يكون هناك إذن بالانتفاع به من الميت قبل موته، أو من ورثته بعد موته. فإذا اختلف الاثنان أحدهما أجاز، والآخر منع، يمكن أن يؤخذ برأي المجيز؛ إنقاذا للنفس البشرية من الهلاك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 وفي المبحث الخامس انتهيت إلى ما يلي: يجوز للإنسان أن ينتفع ببعض أجزاء نفسه في حالة الضرورة، أو في حالة التصحيح أو تعويض ما نقص أو تشوه من أعضائه، رجوعا به إلى حالته المعتادة، وذلك بشرط ألا يكون خطر القطع أعلى من خطر البقاء، على ما هو عليه، أو مساويا؛ منعاً من تعريض النفس للتهلكة. في المبحث السادس خرجنا بالقاعدتين: أولا: يحرم قطع جزء من جسم إنسان حي معصوم الدم لينتفع به إنسان آخر مضطر إلى هذا الجزء، وذلك باتفاق الفقهاء، وسأتلو فيما بعض عبارات الفقهاء. ثانيا: يجوز للمضطر المعصوم الانتفاع بجزء من إنسان غير معصوم الدم، استحق القتل بسبب جرم ارتكبه عقب تنفيذ حكم القتل عليه مباشرة؛ وذلك لإنقاذ هذه النفس البشرية من الهلاك، تحت رقابة السلطة التنفيذية، وتحت رعاية نخبة من الأطباء المسلمين الحاذقين، وبناء على قانون ينظم ذلك الانتفاع من جميع جوانبه، ولا يضر بحالة المجرم النفسية أثناء فترة الانتظار. المبحث السابع: انتهيت إلى ما يأتي: يحرم بيع الآدمي الحر مطلقا، وقد أجمع الفقهاء على ذلك. وموجود الأدلة. المبحث الثامن: يؤخذ منه: يحرم بيع جزء من أجزاء الآدمي المتجددة. المبحث التاسع: يحرم بيع جزء من أجزاء الآدمي غير المتجددة. المبحث العاشر: لا يصح أن يتبرع الإنسان بجزء من أجزائه لغيره. المبحث الحادي عشر: يبطل عقد الإجارة إذا كان محله قطع عضو صحيح من جسم الإنسان لا تدعو صحة الإنسان إلى قطعه. وكل أجر يأخذه الطبيب إزاء ذلك يكون باطلا. المبحث الثاني عشر: لا أثر لرضى المقطوع عضوه الصحيح في درء العقوبة المستحقة على من تولى قطعه طبيبا أو غيره. المبحث الثالث عشر: الإيثار إنما يكون في المال، أما الإيثار بالقربات أو بالأنفس أو الأعراض فممنوع شرعا. المبحث الرابع عشر: إن ما يترتب على القول بجواز نقل الأعضاء من إنسان آخر يؤدي إلى مخاطر كثيرة فيحرم سدا للذرائع. ثم في المبحث الخامس عشر: بينت عقوبة من يعتدي على نفسه بالنسبة، سواء إن كانت عمدا أو شبه عمد أو خطأ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 أنا أردت أن أبين ما في البحث حتى يمكن أن يرد على بعض الأمور، لي تعليق صغير. أولا: لا شك أن المجمع بتقديره الحكيم رأى أن طرح الموضوع هنا للبحث وما إلى ذلك إلا لأنه يحتاج إلى مزيد من البحث، حتى وإن صدرت قبل ذلك آراء أخرى. ثانيا: قول بعض الإخوان: إنك إذا ناقشت المانعين لا يستطيعون الجواب؛ لأن هذا من باب الضرورة، أقول: لا. فقط نحن نصر على هذا الرأي لأن له أدلته، لماذا؟ لأن أولا الضرورة تتمثل في جانب المريض، لكن من أنت تذهب إليه لتقطع عضوه، أي ضرورة تأخذ بها عضوه؟ فالضرورة ليست هذه هي الضرورة والبحث فيها غير ذلك، والفقهاء جميعا متفقون في ما قلته. وأنقل إليكم عبارات الفقهاء لنرى هل الفقهاء تعرضوا للضرورة، وقالوا: إنه إذا كان هناك إنسان مضطر يمكن أن يأخذ من غيره. أولا: الحنفية يرون أنه لا يصح انتفاع الإنسان المضطر بجزء إنسان آخر معصوم الدم. فجاء ابن نجيم في الأشباه والنظائر تحت قاعدة الضرر لا يزال بالضرر: ولا يأكل المضطر طعام مضطر آخر، ولا شيئا من بدنه. وفي الشرح الكبير للدسوقي المالكي: والمباح للضرورة غير آدمي وغير خمر من الأشربة، وأما الآدمي فلا يجوز تناوله، وكذا الخمر، إلا لغصة، فيجوز إزالتها به عند عدم ما يسيغها به من غيره. ثم يقول تعقيبا على قوله: وأما الآدمي فلا يجوز تناوله بقوله: أي سواء إن كان حيا أو ميتا، ولو مات المضطر. هذا هو المنصوص في المذهب، وسبق أن بينا أن ابن عبد السلام صحح القول بجواز أكله للمضطر إذا كان ميتا، أما الحي فلا باتفاق علماء المذهب. الشافعية: ويحرم جزماً على شخص قطعه؛ أي: بعض نفسه لغيره من المضطرين؛ لأن قطعه لغيره ليس فيه قطع البعض لاستبقاء الكل. ونظرا لأن الأخ الأستاذ شرح هذا أو ذكره، فأكتفي أنه في النهاية يقول: والآدمي يحرم الانتفاع به وبسائر أجزائه لكرامته. الحنابلة: جاء في المغني مع الشرح الكبير: وإن لم يجد المضطر إلا آدميا محقون الدم، لم يصح له قتله إجماعا، ولا إتلاف عضو منه، مسلما كان أو كافرا؛ لأنه مثلة، فلا يجوز أن يبقي نفسه بإتلافه، وهذا لا خلاف فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 الرئيس: النصوص هذه موجودة في بحثكم وفي بحوث الإخوان. الشيخ حسن علي الشاذلي: خلاص، وهو كذلك. إذن انتهينا إلى هذه النقطة، نقطة أخيرة، القول بالنسبة لأقوال الفقهاء. أقوال الفقهاء هذه إننا نتمسك بها لسببين: أما الأول: فهو أنهم نقلة ما فهموه، أو ما فهم من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عبر الزمن، ودونوه، وكان لهم الفضل في نقله إلينا حتى هذه اللحظة، ولهم أدلتهم، وهي موجودة من الكتاب والسنة، حتى وإن كان فقها افتراضيا فبنوه على قواعد مسلمة في ذلك. أما القول الأخير: وهو أن هذا الموضوع فيه خير لها تختلف الأنظار فيه. إن الشر قد اندلع من وراء هذا الكلام من نقل الأعضاء، وقد نقلت في البحث جزءا عن الحوادث التي حدثت في العالم، والتي نشرتها صحف العالم حول ما ترتب على نقل الأعضاء وأصبح تجارة كما قلت في بداية كلمتي. ثالثا، أو أخيرا، بالنسبة لما يورث هو الحديث الشريف: ((من ترك مالا أو حقا فلورثته، ومن ترك كلا أو عيالا فإليه)) . وأشكر لكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 الأمين العام: بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أستميح حضراتكم عذرا في تقدمي باقتراح أبديه على ما لاحظت وما لاحظتم أنتم أنفسكم من اختلاف الآراء وتعارضها في هذه القضية، وفي هذا الموضوع الشائك والواسع الدقيق، وهذا لمسناه من الأحاديث أو التدخلات التي استمعنا إليها، كما وقفنا عليه في الدراسات والبحوث التي وقع التقدم بها إلى هذه المجمع. ثانيا: بجانب الآراء المختلفة والمتعارضة، وبجانب الدراسات التي استمعنا إليها، وقفنا على قرارات مجمعية متعددة، قد يكمل بعضها بعضا، وقد يتناقض بعضها مع البعض، وقد تكون الفتاوى متعارضة مع هذه القرارات، أو تكون فتاوى فردية قد لا يعتد بها، أو هي جديرة بأن يعاد النظر فيها؛ لذلك استمعت إلى بعض الإخوان الذين يرغبون في جمع حصيلة هذه القرارات والآراء والفتاوى لدراستها والإفادة منها، ثم إضافة ما ينبغي إضافته إليها من الشروط ونحو ذلك. فأمام اتساع الموضوع والاحتياج إلى ضبط جوانبه وتحديد نقاطه، أرى من الأفضل كما وقعت الإشارة إلى ذلك أن تتكون لجنة تتولى تحديد النقاط والجوانب الكثيرة؛ ليقع النظر فيها تفصيلياً وبدقة وتكون نتائج هذا البحث مقدمة بعد ذلك في المؤتمر القادم بإذن الله. وهذا ليس أمراً جديداً بالنسبة للمجمع؛ فإن كثيراً من القضايا ذات الأهمية التي احتاجت منا إلى دراسة مطولة قد استمرت سنة وسنتين، وهذا كأطفال الأنابيب، وكاستفتاءات البنك الإسلامي للتنمية وما إليها. كلما احتجنا إلى إعادة نظر واستكماله في قضية ما أرجأناها إلى الدورة القادمة، حتى يتم الإلمام بأطراف الموضوع ونستكمل الجوانب الدراسية التي لم يتقدم بها بالنسبة لنقاط وقع إغفالها. وأقترح أن تكون هذه اللجنة مؤلفة من أصحاب الفضيلة المشايخ: محمد المختار السلامي، ووهبة الزحيلي، وحسن الشاذلي، وعبد السلام العبادي، ومحمد علي البار، الدكتور محمد أيمن صافي، والشيخ رمضان البوطي. والمقرر في اللجنة من غير شك لا نحتاج إلى إضافته، فهو موجود في اللجنة وعضو فيها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 الشيخ عبد السلام داود العبادي: في الواقع إذا كان القصد من هذا الاقتراح هو إنجاز بعض العمل في هذه الدورة فهو مقبول. أما أن يؤجل الموضوع برمته على وضوح بعض قضاياه فهو في الواقع ما درج عليه هذا المجمع. أرجو إن كان هنالك أمور واضحة ويمكن أن يبت فيها لماذا نؤجل هذا الموضوع ويقال: إن مجمعنا أجل هذه القضية التي كثير من أمورها واضح وضوح الشمس. الأمين العام: هذا تقرره اللجنة، إذا انتهت إلى اتخاذ موقف إزاء بعض القضايا فلها ذلك. الشيخ عبد السلام داود العبادي: أقترح من عندي: تعرض اللجنة ما تصل إليه من مداولات على المجمع، فإن أقر المجمع التأجيل فليؤجل. أما إذا كان هنالك بعض القضايا قد بت فيها لماذا لا يؤخذ فيها قرار.؟ أريد أن أكمل في الواقع. عندما طلبت الحديث أريد أن أقول كلمة صغيرة بالنسبة لهذا الموضوع المهم، أن تحصر قضاياه، ويمكن أن تقوم اللجنة بحصر قضايا هذا الموضوع. وما يمكن البت فيه على ضوء ما انتهت إليه المجامع ولجان الفتوى وغيرها يعرض على المجمع، فإن وافقه أصدر به قراراً. فإذا سمح لي سيدي الرئيس أريد أن أكمل الحديث في القضية التي طلبت الكلام من الأصل فيها. بالنسبة للقضية التي عقب علي فيها الدكتور محمد أيمن، استغربت تعقيبه في زرع الخصية والحديث السريع بتخطئة ما قلت. أنا أذكر ما قاله هو في بحثه: فإن كان الهدف من غرس الخصية هو المعالجة الهرمونية فقط دون إنتاج النطاف فالأمر يختلف عن كونه علاجاً للعقم. وما ذكره الدكتور محمد البار في صفحة 18 حيث قال: إن الحيوانات المنوية والبويضات ستعود إلى المتبرع لا إلى المتلقي. كما هو معلوم من الناحية الفقهية، لا ينظر إلى القصد والهدف، ينظر إلى مآل الفعل، إذا كان مآل الفعل ينتهي إلى اختلاط الأنساب لا بد من التحريم، وهذا أمر سألت فيه طبيباً زار مركزاً متخصصاً في كندا لعمليات زرع الخصية فقط. وقال: إنه في جميع الأحوال التي تزرع فيها الخصية فإن الإنتاج للحيوانات المنوية يكون للمتبرع وليس للمتلقي. على أية حال هذا نقوله بناء عل ما يصلنا من الأطباء، فإذا كان الأطباء مختلفين في هذه القضية لا بد أن يحسموا هم الموقف بينهم كما قلنا بالنسبة لقضية موت الدماغ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 نرجو من أطبائنا قبل أن يعرض أمر على هذا المجمع أو غيره من المجامع أن يبتوا في الأمور من الناحية الطبية، ثم يبلوروها بشكل محدد، ثم تأتي مبلورة إلى هذه المجامع حتى ينظر في الأمر على بينة. وأما ما انتقدت فيه ولو بطريق غير مباشر بالنسبة لقضية الضرورة أنا أقول: من الخطأ، أو ليس من المناسب حشر قضية الملكية في هذا الموضوع، القضية مربوطة بالضرورة، ليس معنى ذلك أنني أجيز جميع الأحوال بحجة الضرورة، وإنما أقول: يجب أن يكون مناط النظر في هذه القضية، هكذا العبارة من الناحية الفقهية. قاعدة الضرورة والقطع بتعين ذلك لصيانة الحياة دون إضرار بغيره. وهذا كلام أستاذنا الشاذلي، ولي أكثر من ذلك، وشكرًا. الرئيس: شكرًا. تعلمون أننا أمضينا نحوًا من أربع ساعات في هذا الموضوع، وفي الواقع إذا أردنا أن نضع أيدينا على رأي اتجه إليه المجمع في مسألة أو في صورة بخصوصها، فإننا لا نستطيع أن نخرج إلى رأي بات للمجمع في أي صورة من الصور التي حصل البحث فيها، أو التي ذكرت في الأبحاث التي أعدت. وأمامي الآن ما يقرب من خمسة عشر اسمًا من أصحاب الفضيلة المشايخ لطلب الكلمة، ولعلكم ترون أن ما تفضل به فضيلة الأمين من تكوين هذه اللجنة ليأخذوا هذه الأبحاث ومعهم طبيبان، الطبيب البار والطبيب محمد أيمن، ويأخذوا الصور المهمة والتي ينبغي أن يعد فيها بحوث مبنية على التصورات الطبية، ثم تنزيل الأحكام الشرعية عليها، ويؤجل إلى الدورة القادمة. فهذا لعلكم ترونه مناسبًا، وإذا رأيتم أنه مناسب فأرجو التكرم برفع الأيدي. إذن الأكثرية على هذا، وبه تنتهي الجلسة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والجلسة الصباحية إن شاء الله تعالى في الساعة التاسعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 مناقشة مشروع القرار الذي وضعته اللجنة الرئيس: الحمد لله.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. لعله وصلتكم نسخة من مشاريع القرارات التي أعدت فيما أنهيتموه من موضوعات طرحت على جدول أعمال هذه الدورة، وأولها القرار رقم واحد بشأن انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيًا أو ميتًا. الشيخ عبد الستار. الشيخ عبد الستار أبو غدة: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين. القرار رقم 1 للدورة الرابعة 1408 / 1988م بشأن انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر، حيًا أو ميتًا. نقرأ الديباجة للمرة الأولى فقط ثم نختصرها. إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988م. بعد اطلاعه على الأبحاث الفقهية والطبية الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع "انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيًا أو ميتًا". وفي ضوء المناقشات التي وجهت الأنظار إلى أن هذا الموضوع أمر واقع فرضه التقدم العلمي والطبي، وظهرت نتائجه الإيجابية المفيدة والمشوبة في كثير من الأحيان بالأضرار النفسية والاجتماعية الناجمة عن ممارسته دون الضوابط والقيود الشرعية التي تصان بها كرامة الإنسان، مع إعمال مقاصد الشريعة الإسلامية الكفيلة بتحقيق كل ما هو خير ومصلحة غالبة للفرد والجماعة، والداعية إلى التعاون والتراحم والإيثار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 وبعد حصر هذا الموضوع في النقاط التي يتحرر فيها محل البحث وتنضبط تقسيماته وصوره وحالاته التي يختلف الحكم تبعًا لها. قرر ما يلي: من حيث التعريف والتقسيم: أولاً: يقصد هنا بالعضو: أي جزء من الإنسان، من أنسجة وخلايا ودماء ونحوها، كقرنية العين، سواء أكان متصلاً به، أم انفصل عنه. ثانيًا: الانتفاع الذي هو محل البحث، هو استفادة دعت إليها ضرورة المستفيد لاستبقاء أصل الحياة، أو المحافظة على وظيفة أساسية من وظائف الجسم؛ كالبصر ونحوه. على أن يكون المستفيد يتمتع بحياة محترمة شرعًا. ثالثًا: تنقسم صور الانتفاع هذه إلى الأقسام التالية: 1 - نقل العضو من حي. 2 - نقل العضو من ميت. 3 - النقل من الأجنة. الصورة الأولى: وهي نقل العضو من حي، تشمل الحالات التالية: أ - نقل العضو من مكان من الجسد إلى مكان آخر من الجسد نفسه، كنقل الجلد والغضاريف والعظام والأوردة والدم ونحوها. ب - نقل العضو من جسم إنسان حي إلى جسم إنسان آخر. وينقسم العضو في هذه الحالة إلى ما تتوقف عليه الحياة وما لا تتوقف عليه. أما ما تتوقف عليه الحياة، فقد يكون فرديا، وقد يكون غير فردي، فالأول كالقلب والكبد، والثاني كالكلية والرئتين. وأما ما لا تتوقف عليه الحياة، فمنه ما يقوم بوظيفة أساسية في الجسم، ومنه ما لا يقوم بها. ومنه ما يتجدد تلقائيًا كالدم، ومنه ما لا يتجدد، ومنه ما له تأثير على الأنساب والموروثات، والشخصية العامة، كالخصية والمبيض وخلايا الجهاز العصبي، ومنه ما لا تأثير له على شيء من ذلك. الصورة الثانية: وهي نقل العضو من ميت: ويلاحظ أن الموت يشمل حالتين: الحالة الأولى: موت الدماغ بتعطل جميع وظائفه تعطلاً نهائيا لا رجعة فيه طبيا. الحالة الثانية: توقف القلب والتنفس توقفًا تامًا لا رجعة فيه طبيًا. فقد روعي في كلتا الحالتين قرار المجمع في دورته الثالثة. الصورة الثالثة: وهي النقل من الأجنة، وتتم الاستفادة منها في ثلاث حالات: حالة الأجنة التي تسقط تلقائيًا. حالة الأجنة التي تسقط لعامل طبي أو جنائي. حالة "اللقائح المستنبتة خارج الرحم". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 الرئيس: يا مشايخ ما تقدم هو في إعطاء التصور وتقسيم الموضوع وبيان وحداته من حيث الأحكام الشرعية، نحن سنتوقف عند كل فقرة ولا نقبل الرجوع بعد ذلك. الشيخ عبد الستار أبو غدة: من حيث الأحكام الشرعية: أولاً: يجوز نقل العضو من مكان من جسم الإنسان إلى مكان آخر منه ذاته، مع مراعاة التأكد من أن النفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها، وبشرط أن يكون ذلك لإيجاد عضو مفقود أو لإعادة شكله أو وظيفته المعهودة له، أو لإصلاح عيب أو إزالة دمامة تسبب للشخص أذى نفسيًا أو عضويًا. الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: شكرًا أيها السيد الرئيس، بسم الله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. في هذه المسألة بالذات كنت استوضحت والدي وشيخي الشيخ أبو اليسر عابدين، وهو طبيب رحمه الله في دمشق كان عالمًا وطبيبًا استوضحته قبل وفاته، فكان رأيهما على أنه سدا لباب الذريعة الفاسدة، وكي لا يصبح الإنسان في نهاية الأمر مصدر إكسسوار وتنهدر كرامته فيما بعد، ويتهاون الناس في هذا الأمر. الرئيس: يا شيخ عبد اللطيف. الفقرة أولاً: من جسم الإنسان إليه ذاته في نفس الإنسان الواحد، نفس البدن الواحد، نفس الشخص الواحد، يؤخذ رقعة من فخذه لخده. الشيخ محمد سالم بن عبد الودود: كلمة عربية وأخرى فقهية. العربية آخر منه ذاته، بدل "ذاته" نقول: "نفسه"؛ لأن ذاته ليس من ألفاظ التوكيد. الرئيس: يجوز نقل العضو من مكان من جسم الإنسان إلى مكان آخر منه. الشيخ محمد سالم بن عبد الودود. نفسه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 الرئيس: أرجو من أصحاب الفضيلة الذين ليسوا أعضاء عاملين في هذا المجمع أن ينتظروا حتى الجلسة الختامية المعلنة؛ لأن هذه الجلسة تقتصر على الأعضاء العاملين فقط. إذن يقال: إلى مكان آخر من جسمه. الشيخ محمد سالم بن عبد الودود: والمسألة الفقهية هي إزالة دمامة تسبب له أذى نفسيًا. نعرف الدمامة إذا لم يكن فيها أذى عضوي هل تجيز هذه العملية التي ربما تدخل في تغيير خلق الله تعالى. هو ما دام الوشر والتبلج للحسن محرمًا ملعونة من تتعاطاه. الرئيس: الذي يظهر شيء واحد، وهو امتداد لما لوحظ في الدورة الثالثة في قضية أخذ الشعر الزائد من الحاجب، لا نتف الحاجبين، لكن الزائد الذي صار فيه تشويه. فمثل قضية الأصبع الزائد أو قضية لحمة تنبت كالثآليل في الوجه، هذا لعله من المرض ولعلاج المرض؛ لأنه قيل أو لعلاج عيب أو إزالة دمامة تسبب للشخص أذى نفسيًا أو عضويًا. حتى لو قيل: تسبب للشخص أذى. ألا ترون هذا أنسب. الشيخ محمد المختار السلامي: أرجو عندما نناقش نعود إلى الفقرة من أولها. فالكلام في نقل عضو من جسم الإنسان إلى جسم الإنسان فهذا هو الوضع، لا مدخل للوجه ولا لغيره، وأعتقد أن الفقرة بتمامها صالحة وجيدة ولا ينقص فيها شيء؛ لأن الأذى النفسي هو لا يقل تأثيرًا على سلوك الإنسان وعلى مستقبله من الأذى البدني. وشكرًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 الشيخ محمد يوسف جيري: بسم الله الرحمن الرحيم. شكرًا سيدي الرئيس. في الحقيقة إنني طلبت الكلام لنقطة نظام، وكدت أستشف من التدخل الكريم الذي أراده أخونا وأستاذنا الفاضل الشيخ محمد الفرفور، كدت أستشف أننا سنرجع إلى مناقشة لمضمون أو للأفكار الفقهية إزاء هذه الأشياء مرة ثانية. وكما ترون سادتي أن أمامنا الآن مشاريع قرارات خلاصة لما توصلنا إليه من مواد فقهية بعد مداولة أسبوع كامل، فإذا كنا بإزاء هذه المشاريع المطلوب منا الإدلاء بآرائنا في إطار ضبط التحرير فقط. كيف نحررها بصورة مضبوطة. أما إذا كنا أمام هذه الأفكار نبدأ مرة ثانية نطرح أفكارًا جديدة أو نحاول أن نستذكر أشياء كنا قد قلناها سابقًا وما شابهه فإنني أخشى أولاً أن لا تكون مناقشة المشاريع دورة جديدة، وفي هذه الحالة لن ننتهي منها، ولهذا أرجوكم سادتي وأساتذتي أن ننظر إلى هذا الأمر بمنظار واقعي، وهو أننا كونا لجانا وكلفنا هذه اللجان بالعمل على أسس مضبوطة بعد مداولات مستفيضة، فيكون دورنا هنا الآن أن نقوم بضبط التحرير فقط، هذا يناسب هذا المكان، وهذا لا يناسب هذا المكان. أما أن نبدأ نشرح فإذا دخلنا في هذا أخشى أن لا ننتهي. وشكرًا. الشيخ عبد الستار أبو غدة: ثانيًا: يجوز نقل العضو من جسم إلى جسم إنسان آخر، إن كان هذا العضو يتجدد تلقائيًا، كالدم والجلد، ويراعى في ذلك اشتراط كون الباذل كامل الأهلية، وتحقق الشروط الشرعية المعتبرة. الرئيس: أنا عندي ملاحظة بسيطة، أولاً كلمة (المعتبرة) تحذف في نظري؛ لأن ليس هناك شروطًا شرعية غير معتبرة. الشيخ محمد المختار السلامي: المعتبرة صفة كاشفة. الرئيس: وصف كاشف ماشي ما فيه مانع عندي. لكن أريد ما هو أهم من هذا. لماذا لا توضح الشروط الشرعية. الشيخ عبد الستار أبو غدة: ثالثًا: يجوز الاستفادة من جزء من العضو الذي استؤصل من الجسم لعلة مرضية لشخص آخر، كأخذ قرنية العين لإنسان ما عند استئصال العين لعلة مرضية. رابعًا: يحرم نقل عضو من حي تتوقف عليه الحياة إلى إنسان آخر كالقلب ـ فيه تقديم وتأخير ـ يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة من إنسان حي إلى إنسان آخر. الرئيس: من إنسان حي إلى إنسان آخر كالقلب. الشيخ عبد الستار أبو غدة: كالقلب نجعلها تابعة لتتوقف عليها الحياة. يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة كالقلب من إنسان حي إلى إنسان آخر. الرئيس: ماشي هذه. تفضل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 الشيخ عبد الستار أبو غدة: خامسًا: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته؛ كنقل قرنية العينين كلتيهما، وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها، على الوظيفة الأساسية. الرئيس: في الواقع هذا فيه عندي وقفة؛ لأن الإنسان الصحيح السليم إذا أخذت منه قرنية واحدة يعني تؤخذ من إنسان صحيح البدن وتجعل في إنسان آخر. أنا عندي في هذا تحفظ عليها. الشيخ محمد المختار السلامي: لماذا التحفظ؟ الرئيس: يا شيخ مختار، لأنه قال كنقل قرنية العينين كلتيهما. الشيخ عبد الستار أبو غدة: هذا يحرم.. كلنا متحفظون على هذا. الشيخ عبد السلام داود العبادي: هذه قطعنا بحرمتها، أما نقل قرنية واحدة فقلنا: محل بحث. الرئيس: يحرم نقل عضو من حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته كنقل قرنية العينين كلتيهما. هذا ماشي يعني هذه الفقرة لا تبيح نقل قرنية واحدة. الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: معلوم لدينا جميعًا أن مفاهيم كتب أصحابنا حجة، يعني مفاهيم النصوص الفقهية حجة، فأخشى أن يفهم من هذه العبارة جواز نقل قرنية واحدة. الرئيس: أنا هذا الذي تبادر لي في الأول. الشيخ عبد السلام داود العبادي: لا مانع من الإضافة للتوضيح. الرئيس: أعطونا إياها.. أعطني يا شيخ عبد السلام. الشيخ عبد السلام داود العبادي: أما نقل قرنية واحدة فهو محل بحث ونظر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 الرئيس: يا شيخ عبد السلام، لماذا لا نترك التمثيل وتمشي القاعدة، يحرم نقل عضو من حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته، وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها. ونحذف التمثيل. الشيخ عبد الستار أبو غدة: لكن نبقي "وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها" ونحذف قرنية العينين كلتيهما، والباقي يبقى. الشيخ محمد سالم عبد الودود: لماذا لا نقيد الحي "من إنسان حي"؟ الرئيس: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته. الشيخ عبد الستار أبو غدة: وإن لم تتوقف أصل الحياة عليها. أي: على تلك الوظيفة. الرئيس: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله. يعني لا شك، أنا لا أزال أنه إذا قلنا: يعطل زواله وظيفة أساسية. للقرنيتين إذا أخذت واحدة لا تعطل الوظيفة الأساسية، وإنما تعطل بعض الوظيفة الأساسية، هذه هي الحقيقة لأنها تشمل أخذ كلية من الكليتين. الشيخ عبد السلام داود العبادي: الذي يحل الإشكال هو ما ورد في ثامنًا خاصة، وأننا قد أوضحنا التصور والتقسيم، قلنا: كل ما عدا الحالات والصور المذكورة مما يدخل في أصل الموضوع فهو محل بحث ونظر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 الرئيس: لكن يا شيخ عبد السلام هذه الآن في نظري أنها لا تقيدها ثامنًا؛ لأن ثامنًا قال: كل ما عدا الحالات والصور المذكورة مما يدخل في أصل الموضوع هو محل بحث ونظر. الشيخ عبد السلام داود العبادي: يعني ما عدا القضايا السابعة. الرئيس: لكن في خامسًا يقول: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته، وإن لم تتوقف سلامة أصل حياته عليها. فأنا في هذا آخذ إحدى القرنيتين أو آخذ إحدى الكليتين أو إحدى الرئتين تغطي الفقرة الخامسة الجواز ولا تنفي الجواز الفقرة الثامنة. الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. الفقرة الخامسة ضبطت ضبطًا كاملاً بالتمثيل، وإذا كان غير هذه الصورة المضبوطة، وهي نقل قرنية العينين كلتيهما، نقل قرنية عين واحدة تأتي الفقرة الثامنة لتبين أن هذه الصورة هي محل بحث ونظر. هو ما نتصوره وما لا نتصوره الآن، وما يأتي إلى أذهاننا وما لا يأتي مما لا يقع النص عليه صراحة فهو محل بحث ونظر. ولذلك أقترح بقاء الفقرة كما هي حتى تكون واضحة، وحتى يكون ما عداها لا نحكم عليه لا بالتحليل وبالتحريم ولكنه محل نظر. الرئيس: إذن لماذا لا نضيف إلى الفقرة الخامسة مع مراعاة ما جاء في الفقرة الثامنة. وبه ينتهي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 الشيخ محمد المختار السلامي: تبقى كنقل قرنية العينين كلتيهما حتى يكون غيرها واضحة. الرئيس: إذن تبقى الفقرة كما هي، وإلا فيدخل في مقتضى نقطة الفقرة الثامنة. الشيخ عبد السلام داود العبادي: أنا أقترح أن تكون القضية واضحة؛ لأن هذا اللبس الواقع حدث في لجنة الصياغة، وها هو يحدث في المجمع. فإذا كان بالمجمع حادثًا فكيف أمام الناس؟ فلذلك يجب وإن كان تعطيل لجزء كذا كذا هو محل نظر كما ورد في الفقرة الثامنة. الرئيس: نحن نقول: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته، وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها، فإن كان يعطل بعض الوظيفة. الشيخ عبد السلام داود العبادي: فإن كان النقل يعطل جزءًا من هذه الوظيفة فهو محل نظر كما ورد في الفقرة الثامنة. الشيخ محمد المختار السلامي: أنا أذكر الأخ بأنه في لجنة الصياغة لما تحدثنا كانت هذه الفقرة مبهمة للتساؤلات، فراعينا إبطال كل التساؤلات والإجابة عنها في الفقرة الثامنة، وما زيدت الفقرة الثامنة إلا للإجابة عن التساؤلات التي حدثت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 الشيخ عبد السلام داود العبادي: يا سيدي، ممكن يأخذون جزءًا من قرارنا ويعتبر بعدين قرارا. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: صياغة فقط. كوظيفة أساسية في حياته وإن لم تتوقف أصل الحياة عليها كنقل قرنية العينين كلتيهما. المثال يأتي آخرًا كما قلنا في المادة رابعًا. الرئيس: تكون المادة هكذا: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته، وإن لم تتوقف أصل الحياة عليها؛ كنقل قرنية العينين كلتيهما. اقرأ يا شيخ. الشيخ عبد الستار أبو غدة: أما إن كان النقل يعطل جزءًا من وظيفة أساسية، فهو محل بحث ونظر، كما يأتي في الفقرة الثامنة. الرئيس: ماشي يا شيخ تقي؟ سادسًا. الشيخ عبد الستار أبو غدة: سادسًا: يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو، أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك. بشرط أن يأذن الميت أو ورثته بعد موته، أو بشرط موافقة ولي المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية أو لا ورثة له. الرئيس: أما هذا فأنا كما تعلمون في الدورة الماضية في موضوع أجهزة الإنعاش حصل عندي توقف في قضية قد يكون أنه ما توقف إلا اثنان أو ثلاثة من أصحاب الفضيلة أعضاء المجمع في قضية أجهزة الإنعاش، واعتبار أن موت الدماغ حالة من حالات الموت، وإن كان القلب يضخ ضخًا صناعيًا، ولهذا فإنني أتحفظ عليها طردًا لما تحفظت عليه سابقًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 الشيخ محمد المختار السلامي: أستاذنا، التحفظ ما فهمناه، وتوضح التحفظ. الرئيس: يا شيخ مختار، في صدر هذا القرار جعلتم من تأسيساته ما صدر من مجمع الفقه في دورته الثالثة في حقيقة الوفاة. والحديث في سادسًا هو فرع لما صدر عن مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثالثة في شأن أجهزة الإنعاش. وأنا كنت متوقفًا في ذلك الموضوع، فهذا الفرع فيما يخصني أنا ويخص ذمتي أنا، وأما أنتم فهو ماشي على قراركم. الشيخ أحمد بن حمد الخليلي: أنا أضم صوتي إلى صوت معالي الرئيس، وأثني على ما قال؛ فإني أتحفظ أيضًا بالنسبة إلى هذه الفقرة. الرئيس: الشيخ يوسف. ورجائي أن تكون الكلمات برقيات. الشيخ محمد يوسف جيري: أنا أعتقد أن ما جاء في القرار السابق لا علاقة بينه وبين الموجود هنا، حيث تقول هذه المادة: يجوز نقل عضو من ميت، فمهما كان تفسيرنا للميت سواء إذا كنتم تفسرون الميت بأسلوبكم أو نفسرها بأسلوبنا الكل موت. الرئيس: لا نفسرها بأسلوب الأطباء، الأطباء ما لم يكن القلب في حالات الضخ الصناعي ما ينقلون، ولا أحب أن أعيده حتى لا أضخم القضية أكثر. على كل الموضوع أمامكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 الشيخ محمد تقي العثماني: الذي أراه الذي قرره المجمع في الدورة السابقة لا يمس بموضوعنا هذا؛ لأنه كان يتعلق برفع أجهزة الإنعاش فقط، أما لأخذ أعضاء فهذا موضوع آخر. الرئيس: لا، هو سلمك الله في صدر القرار، قال: فإن المجمع يقرر أن الشخص يعتبر ميتًا تترتب عليه جميع أحكام الوفاة في إحدى الحالتين. جميع أحكام الوفاة في إحدى الحالتين الآتيتين: الأولى موت الدماغ وذكروها. والثانية توقف القلب توقفًا نهائيًا وذكروها. ثم قالوا: ويجوز في هذه الحالة رفع أجهزة الإنعاش. الشيخ عبد الستار أبو غدة: هذا نص القرار: يعتبر شرعًا أن الشخص قد مات وتترتب جميع الأحكام المقررة شرعًا للوفاة بعد ذلك إذا تبين فيه إحدى العلامتين التاليتين. الذين جاءوا الآن معطوف عليهم. الرئيس: سادسًا: يمشي على ما ترون. إذن سابعًا. الشيخ آدم شيخ عبد الله علي: الحقيقة حتى إذا كان الإنسان ميتًا موتة حقيقية، فأنا أتحفظ أخذ عضو من أعضائه إن لم تتعلق بذاته الشخصية حق من الحقوق، حياة الجنين المرجو حياته أو مال ابتلعه أو ما شابه ذلك. أنا أتحفظ حتى لو كانت موتة حقيقية غير موتة الدماغ موتة تامة أن أتحفظ على هذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 الشيخ عبد الستار أبو غدة: سابعًا: وينبغي ملاحظة أن الاتفاق على جواز نقل العضو في الحالات التي تم بيانها، مشروط بأن لا يتم ذلك بواسطة بيع العضو؛ إذ لا يجوز إخضاع أعضاء الإنسان للبيع بحال ما. أما بذل المال من المستفيد، ابتغاء الحصول على العضو المطلوب عند الضرورة أو مكافأة وتكريمًا، فمحل اجتهاد ونظر. الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: عفوًا سيدي الرئيس، هنا ربما سهو فيه خطأ لغوي: بوساطة، ما فيه واسطة. الشيخ عبد الستار أبو غدة: ثامنًا: كل ما عدا الحالات والصور المذكورة، مما يدخل في أصل الموضوع، فهو محل بحث ونظر، ويجب طرحه للدراسة والبحث في دورة قادمة، على ضوء المعطيات الطبية والأحكام الشرعية. الرئيس: ماشي إن شاء الله؟ الشيخ عبد اللطيف. الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: سماحة الرئيس، أرجو أن يكتب تحفظي على كل هذه القرارات، فأنا أسد هذا الباب سدا محكمًا وسدا للذريعة؛ حتى لا يتجرأ الأطباء في المستقبل إلى ترك هذه الضوابط التي اجتهدتم مأجورين. الرئيس: حتى نقل الدم يا شيخ، وحتى قطع الأصبع الزائدة وحتى النقل من جسم إلى الجسم نفسه؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: ما عدا نقل الدم وهذه الحالات جائزة. الرئيس: لا، هذا ما يصلح يا شيخ، أنا لا أستثني على ذمتك، أنت الذي تستثني على ذمتك أنت. القضية أن الإنسان يتحفظ عليه جميعه وفيه ما نقطع بإباحته، وإنه غير محرم هذا في الحقيقة فيه شيء.. على كل جزيت خيرًا. الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: أرجو أن تعرفوا ما أتحفظ عليه، ما عدا نقل الدم والنقل من نفسه إلى ذاته. الرئيس: على كل يا شيخ نكتبه في ورقة وترسله للمقرر. الشيخ محمد علي التسخيري: أعتذر سيادة الرئيس، أعتقد أني متحفظ على المادة السابعة فقط، ولا أمانع من أن يبيع إنسان كليته إذ أجزنا ذلك أو يبيع عضوًا منه، والقول: إنها لا تقبل الملكية لا أراه صحيحًا طبعًا تحفظ وأرجو أن يسجل. الرئيس: أرجو من أصحاب الفضيلة شيئًا واحدًا. أن القرار أو الفقرة إذا كانت انتهت بالأكثرية ولأحد تحفظ أن يتفضل بكتابة تحفظه ويبعثه لفضيلة المقرر، وبذلك تبرأ ذمة الجميع وينتهي الأمر على وضعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 القرار الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (1) د 4 / 08 / 88 بشأن انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيًا أو ميتًا. إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988م. بعد hطلاعه على الأبحاث الفقهية والطبية الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع "انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيًا أو ميتًا". وفي ضوء المناقشات التي وجهت الأنظار إلى أن هذا الموضوع أمر واقع فرضه التقدم العلمي والطبي، وظهرت نتائجه الإيجابية المفيدة والمشوبة في كثير من الأحيان بالأضرار النفسية والاجتماعية الناجمة عن ممارسته دون الضوابط والقيود الشرعية التي تصان بها كرامة الإنسان، مع إعمال مراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية الكفيلة بتحقيق كل ما هو خير ومصلحة غالبة للفرد والجماعة، والداعية إلى التعاون والتراحم والإيثار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 وبعد حصر هذا الموضوع في النقاط التي يتحرر فيها محل البحث وتنضبط تقسيماته وصوره وحالاته التي يختلف الحكم تبعًا لها. قرر ما يلي: من حيث التعريف والتقسيم: أولاً: يقصد هنا بالعضو: أي جزء من الإنسان، من أنسجة وخلايا ودماء ونحوها، كقرنية العين، سواء أكان متصلاً به، أم انفصل عنه. ثانيًا: الانتفاع الذي هو محل البحث، هو استفادة دعت إليها ضرورة المستفيد لاستبقاء أصل الحياة، أو المحافظة على وظيفة أساسية من وظائف الجسم كالبصر ونحوه. على أن يكون المستفيد يتمتع بحياة محترمة شرعًا. ثالثًا: تنقسم صور الانتفاع هذه إلى الأقسام التالية: 1 - نقل العضو من حي. 2 - نقل العضو من ميت. 3 - النقل من الأجنة. الصورة الأولى: وهي نقل العضو من حي، تشمل الحالات التالية: أ - نقل العضو من مكان من الجسد إلى مكان آخر من الجسد نفسه، كنقل الجلد والغضاريف والعظام والأوردة والدم ونحوها. ب - نقل العضو من جسم إنسان حي إلى جسم إنسان آخر. وينقسم العضو في هذه الحالة إلى ما تتوقف عليه الحياة وما لا تتوقف عليه. أما ما تتوقف عليه الحياة، فقد يكون فرديًا، وقد يكون غير فردي، فالأول كالقلب والكبد، والثاني كالكلية والرئتين. وأما ما لا تتوقف عليه الحياة، فمنه ما يقوم بوظيفة أساسية في الجسم ومنه ما لا يقوم بها. ومنه ما يتجدد تلقائيًا كالدم، ومنه ما لا يتجدد، ومنه ما له تأثير على الأنساب والموروثات، والشخصية العامة، كالخصية والمبيض وخلايا الجهاز العصبي، ومنه ما لا تأثير له على شيء من ذلك. الصورة الثانية: وهي نقل العضو من ميت: ويلاحظ أن الموت يشمل حالتين: الحالة الأولى: موت الدماغ بتعطل جميع وظائفه تعطلاً نهائيًا لا رجعة فيه طبيًا. الحالة الثانية: توقف القلب والتنفس توقفًا تامًا لا رجعة فيه طبيًا. فقد روعي في كلتا الحالتين قرار المجمع في دورته الثالثة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 الصورة الثالثة: وهي النقل من الأجنة، وتتم الاستفادة منها في ثلاث حالات: حالة الأجنة التي تسقط تلقائيًا. حالة الأجنة التي تسقط لعامل طبي أو جنائي. حالة "اللقائح المستنبتة خارج الرحم". من حيث الأحكام الشرعية: أولاً: يجوز نقل العضو من مكان من جسم الإنسان إلى مكان آخر من جسمه، مع مراعاة التأكد من أن النفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها، وبشرط أن يكون ذلك لإيجاد عضو مفقود أو لإعادة شكله أو وظيفته المعهودة له، أو لإصلاح عيب أو إزالة دمامة تسبب للشخص أذى نفسيًا أو عضويًا. ثانيًا: يجوز نقل العضو من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر، إن كان هذا العضو يتجدد تلقائيًا، كالدم والجلد، ويراعى في ذلك اشتراط كون الباذل كامل الأهلية، وتحقق الشروط الشرعية المعتبرة. ثالثًا: تجوز الاستفادة من جزء من العضو الذي استؤصل من الجسم لعلة مرضية لشخص آخر، كأخذ قرنية العين لإنسان ما، عند استئصال العين لعلة مرضية. رابعًا: يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة كالقلب من إنسان حي إلى إنسان آخر. خامسا: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته، وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها، كنقل قرنية العينين كلتيهما، أما إن كان النقل يعطل جزءًا من وظيفة أساسية فهو محل بحث ونظر كما يأتي في الفقرة الثامنة. سادسًا: يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو، أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك. بشرط أن يأذن الميت أو ورثته بعد موته، أو بشرط موافقة ولي المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية أو لا ورثة له. سابعًا: وينبغي ملاحظة أن الاتفاق على جواز نقل العضو في الحالات التي تم بيانها، مشروط بأن لا يتم ذلك بوساطة بيع العضو؛ إذ لا يجوز إخضاع أعضاء الإنسان للبيع بحال ما. أما بذل المال من المستفيد؛ ابتغاء الحصول على العضو المطلوب عند الضرورة أو مكافأة وتكريمًا، فمحل اجتهاد ونظر. ثامنًا: كل ما عدا الحالات والصور المذكورة، مما يدخل في أصل الموضوع، فهو محل بحث ونظر، ويجب طرحه للدراسة والبحث في دورة قادمة، على ضوء المعطيات الطبية والأحكام الشرعية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي إعداد سعادة سيدي محمد يوسف جيري عضو المجمع بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله عليه توكلت وإليه أنبت وصلى الله وسلم على من سيبقى فعله وقوله وإقراره مناراً على مدى الدهر لكل باحث عن الصراط المستقيم. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبع سنته واهتدى بهديه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وبعد،،، فهذه محاولة متواضعة ومركزة، لا نطمع بها في التمكن الفوري من استجلاء الكلمة الفصل بخصوص قضية إجزاء دفع الزكاة المفروضة إلى صندوق التضامن الإسلامي، بل همنا الأساسي هو تقديم دراسة مقارنة بين الزكاة وبين صندوق التضامن الإسلامي من حيث الأهداف وأساليب العمل؛ حتى تكون المسائل المبدئية والفقهية والتنفيذية التي تتضمنها هذه القضية واضحة وظاهرة بصورة أكثر حدة. وبطبيعة الحال، فإن هذه المقارنة تجر إلى طرح بعض الاستنتاجات والاقتراحات العملية على بساط البحث. فينبغي ألا تقيم تلك الاستنتاجات والاقتراحات بمقدار ما سيتوفر إزاءها من قبول أو رفض من طرف السادة الأعضاء، بل تكون هذه الاقتراحات قد كملت مهمتها وآتت أكلها إذا تمكنت من إثارة نقاش علمي صريح وبناء بيد ذوي الاختصاص حتى يتوصلوا في النهاية إلى حل يرضي الله تعالى، حل يكون في الحقيقة انتصاراً للاجتهاد الجماعي على الرأي الفردي. ومن هذا المنطلق فإن هيكل البحث يكون كالآتي:- المحتوى الباب الأول - تعريف الزكاة - أهداف الزكاة الباب الثاني - تعريف صندوق التضامن الإسلامي - أهداف الصندوق الباب الثالث - دراسة مقارنة بين الزكاة وصندوق التضامن الباب الرابع - استنتاجات واقتراحات عملية - قائمة بأهم المصادر والمراجع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 بسم الله الرحمن الرحيم الباب الأول تعريف الزكاة والتذكير بأهدافها وأبعادها تعريف الزكاة: الزكاة بالمعنى الشرعي: صدقة مكتوبة وعبادة تتم بأخذ قيمة مخصوصة من مال مخصوص، حسب أوصاف مخصوصة، تصرف إلى فئات مخصوصة من الناس بنية الامتثال لأمر الله. وهي الركن الثالث من أركان الإسلام. وفرضيتها ثابتة في الكتاب والسنة والإجماع. إن للزكاة بعدين يكتسب كل منهما في نظر الخلق أهمية خاصة تكاد تكون مطلقة، فهي من ناحية عبادة ونسك وقربة إلى الله عز وجل. وهي من ناحية أخرى معالجة عملية لظاهرة اجتماعية واقتصادية بالغة الخطورة: حق المحرومين والفقراء في أموال الأغنياء. فمن حيث كونها عبادة مفروضة، وركناً أساسياً في الإسلام، يرى المسلم أنه لزام عليه أن يقيد نفسه في إيتائها وفي التصرف في تأويلها وتفسيرها وتطبيقها بالحدود التي وضعها الشارع. ففي الحديث فيما رواه أبو داود عن زياد بن الحارث الصدائي وفيه: ((إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقة، حتى حكم هو فيها، فجزأها ثمانية أجزاء..)) ومن الفقهاء الذين غلبوا هذه النظرة التعبدية للزكاة على غيرها من الاعتبارات الإمام الشافعي وأحمد في "المشهور"، وبعض المالكية وكذلك الظاهرية. ومن حيث كونها معالجة عملية لظاهرة اجتماعية يرى المسلم نفسه أمام تطورات اجتماعية تستجد يوماً بعد يوم، مما يجعل لزاماً عليه أن يأخذ بعين الاعتبار تلك المتغيرات عند أدائه للزكاة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 ومن الفقهاء الذين غلبوا هذه الناحية الاجتماعية أبو حنيفة وآخرون من الأئمة، فهم يرون أن الزكاة حق مالي قصد به سد خلة الفقراء. والحقيقة أن الاجتهاد الأصيل في زمننا هذا يقودنا إلى موقف جامع لحكمة هذين الاتجاهين. فالزكاة كعبادة وقربة ليس لنا الحق أن ننظر إليها كنظرتنا إلى ميادين الأمر العام بالمعروف والنهي عن المنكر، بحيث نكيفها كما نشاء، ولا نخشى وزراً ما دمنا لم نخرج عن إطار الأمر العام، بل يجب أن تكون استنباطاتنا بخصوص كيفية تطبيقها استنباطات موثقة محاطة بكل الضوابط التي تضمن لنا أمان البقاء الدائم في حدود العبادة والنسك. لكن يجب علينا ونحن نتقيد بالناحية التعبدية ألا ننظر إلى قربة الزكاة من حيث الشكل الخارجي كنظرتنا إلى الصلاة أو الصوم أو الحج من حيث الشكل الخارجي في أدائها. فشكل هذه العبادات لا يتغير مهما اختلفت العصور وتعاقبت الدهور، أما الزكاة فلأنها ترتكز في تطبيقها على متغير بالطبيعة وهو المجتمع فإن فريضة الاجتهاد تبدو لا مناص منها في كل حين ومكان؛ لكي نقوم بهذه العبادة على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى. لكن يجب أن يكون الاجتهاد اجتهاداً أصيلاً بعيداً عن الانسياق الأعمى وراء كل جديد؛ حيث الواجب على المسلم أن يطبق الشريعة على المستجدات لا أن يفرض المستجدات على الشريعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 أهداف الزكاة: إن للزكاة أهدافاً وفوائد كثيرة روحية وأخلاقية واجتماعية واقتصادية وسياسية، بعضها فردية وبعضها جماعية. فمن هذه الأهداف ما يتعلق بالمعطي ومنها يتعلق بالمعطى له، ومنها ما يتعلق بالكيان الاجتماعي العام الذي تصرف فيه الزكاة. وبحكم طبيعة بحثنا وهو دراسة مدى إجزاء دفع الزكاة إلى صندوق التضامن الإسلامي، وحيث إن أهداف صندوق التضامن الإسلامي أهداف اجتماعية وسياسية في أساسها، فإننا مع إحساسنا العميق بالجانب الفردي والروحي والتعبدي والأخلاقي في عملية الزكاة، فإننا سنركز جل اهتمامنا على الرسالة الاجتماعية والسياسية لهذا الركن الأساسي من أركان الإسلام. مصارف الزكاة في محكم التنزيل، حددت بصورة مفصلة {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة: 60. ونظرة فاحصة في هذه الآية الكريمة تظهر ثلاثة أبعاد وأهداف متكاملة للزكاة على مستوى المجتمع ككل. أولاً: هدف تكافلي: يغطي هذا الجانب بجميع مظاهره قوله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إذا تتبعنا في تراثنا الفقهي الكبير هذه الأصناف الخمسة فإنه يمكن القول بأنها تغطي جميع الحالات الفردية التي تحتاج إلى مؤازرة اجتماعية مباشرة: فالفقراء هم العجزة والأرامل واليتامى والمصابون في أثناء العمل والمرضى والزمنى والمكفوفون والمسنون وذوو العاهات البدنية أو العقلية، شريطة عدم غناهم بمال موروث. والمساكين هو ذوو الدخل القاصر عن كفايتهم؛ لقلة الأجر أو كثرة العيال أو ارتفاع الأسعار. والغارمون هم ضحايا الديون أو الغارمون لإصلاح ذات البين. وفي الرقاب: شراء الرقاب وعتقها أو فك الأسير المسلم الذي يتحكم فيه الكفار (مع الخلاف في ذلك) . وابن السبيل: المهاجرون والمهجرون في سبيل الله والمشردون بفعل الكوارث الطبيعية، أو اللاجئون السياسيون الذين فروا من أجل دينهم من ديار الكفر والطغيان، وطلبة العلم في ديار الغربة الذين لا يجدون كفايتهم في إطار صندوق دولة أو جمعية، ولم يكن عندهم دخل خاص. إن دور الزكاة أقرب إلى مؤسسات الضمان الاجتماعي في عصرنا، فعلى الهيئات المختصة استناداً إلى الآية الكريمة اختيار أفضل الطرق لمعرفة المستحقين وحصرهم والتأكد من استحقاقهم وقدر حاجاتهم ومبلغ ما يكفيهم ووضع الأسس السليمة لتحقيق غاية التكافل الاجتماعي وفقاً للعدد والظروف. فمد يد المساعدة إلى هذه الأصناف الخمسة له انعكاساته الخيرة على كل فرد معني وعلى المجتمع ككيان متكامل. وفي هذا ضمان شامل لجميع أصناف المحتاجين ولحاجاتهم المختلفة من بدنية وعقلية ونفسية. والحق أن الزكاة من هذا المنظار الشامل تعد أول تشريع منظم في سبيل تحقيق ضمان اجتماعي، لا يعتمد على الصدقات الفردية التطوعية فقط، بل يقوم على التدخل اليقظ من طرف الدولة الإسلامية لكل الأفراد (راجع فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي) ، فلا نجد في المجتمعات سلفاً وخلفاً هذا النوع من الإلزام بالتكافل الاجتماعي يفرضه الدين وتنظمه الدولة، وتحارب من أجله لاستخلاص حقوق الفقراء مما جعل الله الأغنياء مستخلفين فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 ثانيا: هدف ديني سياسي: يغطي هذا الجانب قوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} . مع هذين المصرفين من مصارف الزكاة يتضح البعد الديني السياسي للزكاة، فالإسلام دين ودولة، وشاءت عناية الله أن يخصص جزء من هذا الحق المعلوم للجهاد في سبيل الله والدفاع عن العقيدة وامتداد سلطانها حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة أعداء الله السفلى، والمرابطة لتحرير أرض الإسلام من حكم الكفار حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وكذلك استمالة المؤلفة قلوبهم وشدهم إلى رحاب الدين الحنيف عن طريق الاهتمام بهم. ثالثاً: هدف تنظيمي إداري: يغطي هذا الجانب قوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} ، إن تخصيص جزء من الزكاة لهذا الصنف وجعل ترتيبه بعد الفقراء والمساكين وهم في طليعة مستحقي الزكاة لدليل أكيد على أن الزكاة ليست فقط عبادة فردية، وإنما هي وظيفة من وظائف الدولة الإسلامية، تعين لها جهازاً إدارياً ومالياً كفؤا يقوم بتنظيم عملية الجباية والتوزيع، ويصرف للذين يعملون فيه رواتب عادلة من مال الزكاة. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث السعاة لجباية الزكاة، فقد بعث عليه الصلاة والسلام عمر بن الخطاب وأبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وغيرهم لأخذ الزكاة ودفعها إلى مستحقيها. إن الجانب الروحي في دفع الزكاة والذي يجعل المسلم يدفعها عن طيب خاطر سائلاً الله عز وجل أن يتقبل منه لا يغني عن الجانب الإداري والتنظيمي الذي يفرض على أولي الحل والعقد في الدولة الإسلامية أن يقيموا إدارة لتحصيل الزكاة وتوزيعها وفق ما أمر به المولى عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} التوبة: 103. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 الباب الثاني تعريف صندوق التضامن الإسلامي وحصر أهدافه ورسالته بعد أن تبين لنا هذه الأهداف الثلاثة الرئيسية للزكاة عن طريق تصنيف مصارفها الثمانية، يجدر بنا أن نعرف بصندوق التضامن الإسلامي والأهداف التي رسمتها له منظمة المؤتمر الإسلامي لنرى إذا كان بالإمكان أن تندرج رسالة الصندوق في إطار رسالة الزكاة. 1- صندوق التضامن الإسلامي: صندوق دائم منبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي له شخصيته الاعتبارية المستقلة. أقر مؤتمر القمة الإسلامي الثاني بمدينة لاهور عام 1974م إنشاء هذا الصندوق بهدف الوفاء باحتياجات ومتطلبات القضايا الإسلامية وللنهوض بالثقافة والقيم والجامعات الإسلامية، على أن تدفع الدول الأعضاء مساهماتها في الصندوق بما يتفق واستطاعة كل منها. وأقر نظامه الأساسي المؤتمر الإسلامي الخامس لوزراء الخارجية بكوالالمبور بماليزيا عام 1974م. 2- أهداف الصندوق: بالرجوع إلى المادة الثانية من النظام الأساسي لصندوق التضامن الإسلامي يتضح أن أهدافه هي العمل على تحقيق كل ما من شأنه رفع مستوى المسلمين في العالم، والمحافظة على عقيدتهم، ودعم تضامنهم وجهادهم في جميع المجالات، وخاصة في المجالات الآتية: "أ- التخفيف من أثر نتائج الأزمات والمحن والكوارث الطبيعية والظروف الاجتماعية التي تتعرض لها البلاد والمجتمعات الإسلامية، وتوجيه المساعدات اللازمة لذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 ب- تنظيم منح المساعدات والمعونات المادية للبلاد والأقليات والجاليات الإسلامية بغية رفع مستواها الديني والثقافي والاجتماعي، والمساهمة في بناء المساجد والمستشفيات والمدارس التي تحتاج إليها. ج- تنظيم نشر الدعوة الإسلامية ورسالتها وتعاليم الإسلام ومثله العليا ودعم المراكز الإسلامية داخل الدول الإسلامية وخارجها؛ لأجل خير المجتمعات الإسلامية ونشر الفكر الإسلامي. د- تشجيع البحث العلمي والتقني وإنشاء وتمويل الجامعات الإسلامية؛ استجابة لاحتياجات العالم الحديث، حيثما كان ذلك مطلوباً، ودعم الجامعات القائمة فعلاً. هـ- دعم وتنظيم نشاط الشباب المسلم في العالم روحيا واجتماعياً ورياضياً. و تنظيم الحلقات الدراسية التي تضم نخبة من الخبراء والمختصين في قضايا التشريع والتقنية والإدارة والاقتصاد والثقافة والعلوم التي يحتاج العالم الإسلامي إلى بلورة الفكر الإسلامي بشأنها. ز- تنفيذ جميع المشروعات التي يقرها المؤتمر الإسلامي ويعتبر تنفيذها من اختصاص صندوق التضامن الإسلامي". أما موارد الصندوق فتنص عليها المادة السادسة كما يلي: "أ- تتكون موارد الصندوق من تبرعات الدول الأعضاء ومن الهبات والمنح التي تقدمها الهيئات العامة والخاصة والأفراد، ومن عائدات وقفية الصندوق بعد إتمام إجراءات إنشائها. ب- وللدول الأعضاء والهيئات العامة أو الخاصة والأفراد أن يدعموا صندوق التضامن الإسلامي بالخبرات أو المساعدات العينية أو الجهود البشرية". ويقدم النظام الأساسي للصندوق في المواد الأخرى (2، 4، 5، 7، 8، 9، 10، 11، 12، 13) المتطلبات التنظيمية والعملية المتعلقة بإدارة الصندوق وتسيير أعماله وتحديد علاقاته مع الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي ومع الهيئات والمؤسسات الأخرى. أما وقفية صندوق التضامن الإسلامي فهو جاء كامتداد طبيعي للصندوق حيث تنشأ الوقفية عن صندوق التضامن وتخصص العائدات لصندوق التضامن دعماً لمركزه المالي بإمداده "بريع سنوي يعزز مكانته ويكفل له الاستمرار في رسالته" مع الالتزام في استثمار أموال الوقفية بجميع أنواعها بمراعاة أحكام الشريعة الإسلامية والبعد عن الربا. وتحدد المادة (4) من النظام الأساسي لوقفية صندوق التضامن الإسلامي موارد الوقفية على الشكل التالي: "أ- الأموال السائلة التي توقفها حكومات الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي وكذلك الأشخاص الطبيعيون أو الاعتباريون من العالم الإسلامي. ب- العقارات وسائر الأموال المنقولة التي توقفها الحكومات والأشخاص الطبيعيون والاعتباريون من العالم الإسلامي". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 الباب الثالث دراسة مقارنة بين الزكاة وصندوق التضامن إن الدراسة المتمعنة للزكاة ولصندوق التضامن بقصد المقارنة تقودنا إلى الحقائق التالية: 1- نظراً للظروف الراهنة التي تمر بها المجتمعات الإسلامية في يومنا هذا، حيث مواطن الفقر والجهل والمرض تكاد تتطابق مع مواطن الإسلام على وجه الكرة الأرضية مع ملاحظة تفوق الأراضي الإسلامية في نفس الوقت على الأراضي الأخرى في ميدان الثروات الطبيعية والاستراتيجية والسيولات المالية، فإن صندوق التضامن الإسلامي يفرض نفسه على الأمة الإسلامية كإحدى الحلول الأساسية لمآسي الأمة ولمساعدتها على تبوء مكانتها كخير أمة أخرجت للناس. وهذا يعني أنه يجب على مجمع الفقه الإسلامي أن يدرس على ضوء الكتاب والسنة والتراث الإسلامي كل ما من شأنه أن يضفي اعتبارات دينية خاصة لكل مجهود يقوم به الأفراد والمجتمعات لدعم هذا الصندوق، وفي هذا الإطار فإن دور مجمع الفقه الإسلامي لا يقتصر على مجرد حث الدول والأفراد على التبرع السخي لصالح صندوق التضامن الإسلامي كوجه من أوجه البر والصدقة الطوعية، بل يجب على المجمع كذلك أن يدرس بجدية إمكانية إجزاء دفع الزكاة المكتوبة إلى هذا الصندوق، كما يجب على المجمع كذلك أن يقترح على الصندوق أي تعديل في الهيكل أو النظام أو الأهداف يرمي إلى فتح الطريق أمام الصندوق لكي يتقدم إلى الوزراء، ومن ثم إلى القمة، بمشروع نظام معدل يطرح للإقرار ويكون الصندوق بموجبه وعاء صالحاً لتلقي الصدقات الفرضية من الأفراد والمجتمعات جنباً إلى جنب مع التبرعات الطوعية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 فهذا النوع من الاجتهاد باتجاهاته المختلفة يفرضه على المجمع نظامه الأساسي؛ حيث نصت المادة (4 ب) على شد الأمة الإسلامية لعقيدتها ودراسة مشكلات الحياة المعاصرة والاجتهاد فيها اجتهاداً أصيلاً لتقديم الحلول النابعة من الشريعة الإسلامية. 2- إن التضامن والتآخي كفكرة مبدأ أساسي في الإسلام: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الحجرات: 10. ((المسلم أخو المسلم)) ، ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) . وهذه الفكرة هي من صميم أهداف الزكاة وهي كذلك من صميم أهداف صندوق التضامن الإسلامي. لكن وجود فكرة التضامن في صميم كل من الصندوق والزكاة يجب ألا يقودنا إلى استنتاجات سريعة. إذ إن صندوق التضامن الإسلامي بصفته جهازاً تنفيذياً واجتهاداً جماعياً معاصراً يرمي إلى تطبيق فكرة التضامن الإسلامي في زمننا على مستوى العالم الإسلامي ككل، وبصفته هيئة لها شخصيتها الاعتبارية وأسلوب عملها ومصادر إيراداتها ونظام توزيع واستثمار مواردها ... الصندوق من هذا المنظار ظاهرة جديدة فرضتها متطلبات العصر على الأمة. وهنا نعيد ما قلناه آنفاً من أنه يجب على العلماء الاستعانة بالكتاب والسنة والقياس والاستنباط والاستقراء والاستئناس كذلك بتجارب السلف وجميع وسائل الأمر بالمعروف لحث الأمة على مساندة هذا الصندوق ودعمه مادياً ومعنوياً. أما جعل الزكاة أو بعض الزكاة مصدراً من مصادر إيرادات الصندوق فتلك قضية أخرى يجب النظر فيها على ضوء الضوابط التي رسمها الشارع للزكاة. 3- إن مؤسسي صندوق التضامن الإسلامي قادة دول كانوا أو وزراء لحكمة هداهم الله إليها، لم يشؤوا أن يقحموا الزكاة المكتوبة بصورة علنية في إطار هذا الصندوق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 فموارد الصندوق التي أشير إليها في المادة (6) من القانون الأساسي تنص على: التبرعات، الهبات، المنح، عائدات وقفية الصندوق، الخبرات أو المساعدات العينية، والجهود البشرية، وكلها مصطلحات عصرية لها مدلولاتها المحددة وترتكز أساساً على الناحية التطوعية، ولم يستعمل النظام الأساسي للصندوق ولو مرة واحدة كلمة "الزكاة" أو الكلمات القرآنية الأخرى التي استعملت شرعاً لأداء معنى الزكاة؛ ككلمة "الصدقة" الصدقات، الإنفاق، والحق المعلوم، وغيرها. ويلاحظ كذلك أن المصطلحات القرآنية في تحديد مصارف الزكاة ثمانية: "الفقراء، المساكين، العاملين عليها، المؤلفة قلوبهم، في الرقاب، الغارمين، في سبيل الله، ابن السبيل ... " هذه المصطلحات لم ترد ولو مرة واحدة بصيغتها القرآنية في أي عبارة من عبارات النظام الأساسي للصندوق، ولربما كانت الحكمة التي هدى الله إليها قادة الدول الإسلامية ووزراء الخارجية هو، على الرغم من أهمية الصندوق وإسلاميته، أن يترك الباب مفتوحاً لتحديد هذه النقطة الخطيرة أمام جهاز مختص هو مجمع الفقه الإسلامي حيث كانت فكرة تأسيس هذا المجمع موجودة منذ فجر منظمة المؤتمر الإسلامي لكنها لم تر النور بصورة قانونية إلا عند إقرار نظامه الأساسي من طرف المؤتمر الثالث عشر لوزراء الخارجية عام 1982م في نيامي بجمهورية النيجر، ثم انعقاد المؤتمر التأسيسي لمجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة عام 1983م تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 4- مما لا يقبل الجدال أن بعض الأهداف المشار إليها في النظام الأساسي لصندوق التضامن الإسلامي، والتي تدعمها محصلة النتائج لمختلف نشاطات الصندوق ومساهماته منذ تأسيسه إلى يومنا هذا يمكن الموافقة بينها وبين بعض المعاني أو المدلولات الشرعية لمصارف الزكاة، مثل باب الأزمات والمحن والكوارث الطبيعية والظروف الاجتماعية التي تتعرض لها بعض الدول والمجتمعات الإسلامية، مما يبرز في تلك المجتمعات جماعة من الفقراء والمساكين والغارمين وابن السبيل. ويتوقف ضيق أو سعة دائرة الموافقة بين مصارف الزكاة وبين الأجهزة والهيئات التي أسسها المسلمون لتجسيد فكرة التضامن والتآخي في الإسلام على مدى استعداد المذاهب الفقهية والمجتهدين من الفقهاء لتأويل أو تفسير مصارف الزكاة. فبعضهم يرون الحكمة في الوقوف عند تفسير السلف وعدم تعديه، مثال ذلك: ما رجحته هيئة كِبار العلماء في المملكة العربية السعودية بخصوص تفسير {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} انظر قرار الهيئة رقم 24 بتاريخ 21/8/1394 هـ حيث رأى أكثرية أعضاء المجلس "الأخذ بقول جمهور العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء" من أن المراد بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} الغزاة المتطوعين بغزوهم وما يلزم لهم من استعداد، وإذا لم يوجدوا صرفت الزكاة كلها للأصناف الأخرى، وليس صرفها في شيء من المرافق العامة إلا إذا لم يوجد لها مستحق من الفقراء والمساكين وبقية الأصناف المنصوص عليهم في الآية الكريمة. ويلاحظ نفس الاتجاه في تفسير كلمات الفقراء والمساكين، والمؤلفة قلوبهم، والغارمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 ولا نرى أية فائدة في الاسترسال في ذكر الشواهد المشتقة من تراث الفقه الإسلامي الواسع إزاء تفسير هذه العبارات، فذلك معروف لدى السادة أعضاء المجمع الكرام، ولا يتسع صدر هذه المقالة التي نريدها مركزة بقدر المستطاع. (ولمن يريد أن يقف على المصادر والمراجع التي يعتمد عليها هؤلاء وأولئك أن يراجع علماء المذاهب كالسرخسي من الحنفية وابن العربي من المالكية والنووي من الشافعية وابن قدامة من الحنابلة وابن حزم من الظاهرية وغيرهم) . وفي المقابل، كان وما زال هناك فريق من العلماء والمجتهدين يسترسلون في تفسير معاني مصارف الزكاة، وهم على درجات، فمنهم من يقتصد فيه ويتقيد بما أثر عن مذهب معين أو مجتهد معين من السلف، ومنهم من يجاري العصر بدون تحفظ كبير إلى درجة أنه يوسع مفهوم الفقراء والمساكين أو ابن السبيل أو الغارم أو المؤلفة قلوبهم وبصفة خاصة مفهوم {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} مستعيناً بالمدلولات اللغوية والتاريخية ليشمل في النهاية أشياء كثيرة. وأكبر مثال على ذلك عبارة {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} فحيث رأينا الفريق الأول يحصرها في الغزاة المتطوعين، نرى هنا علماء يعتقدون بصور متفاوتة أنه يشمل كل مجاهدة لنصرة دين الله ومحاربة أعدائه وإعلاء كلمته في الأرض حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كله لله، فهم يرون أن الغزو قد يكون عسكرياً وقد يكون فكرياً أو سياسياً أو تربوياً، وأن الجهاد قد يكون بالقلم واللسان وقد يكون بالسيف والسنان، وقد تكون المرابطة اقتصادية أو اجتماعية أو إعلامية، فإذا كان المسلم في أي خندق من هذه الخنادق فهو في رأيهم غاز ومرابط ومجاهد في سبيل الله يجب أن يعان بقسط من مال الزكاة يقل أو يكثر حسب حصيلة الزكاة من ناحية، وحسب حاجة الجهاد من ناحية ثانية، وحسب حاجة المصارف الأخرى حدة وضعفاً من ناحية ثالثة، شريطة أن يرتبط هذا الجهاد وهذا النوع من الغزو بأهداف إسلامية معلنة صريحة لا يشوهها اعتبارات قومية أو عرقية أو طبقية أو إيدولوجية أخرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 وقد أبدع الدكتور يوسف القرضاوي في استقصاء أدلة كل فريق من هذه الفرق والاتجاهات. ولمن يريد مزيداً من الشرح الرجوع إلى مؤلفه القيم "فقه الزكاة" وما ألحقه بكتابه من فهرس وافٍ للمصادر والمراجع ص 1190-1204 ج2. 5- في الوقت الذي نلاحظ إمكانية التطابق بين بعض أهداف الصندوق وبين مصارف الزكاة فإنه يجب أن نقر بأن هنالك أهدافاً أخرى من بين أهداف الصندوق يصعب إدراجها تحت مفهوم أحد مصارف الزكاة الثمانية إلا إذا حذونا حذو من يساير متطلبات العصر مسايرة مطلقة، ويجند كل المدلولات اللغوية والفقهية والتاريخية لكل كلمة بغية الوصول إلى حل توفيقي بين هدف معين وبين مصرف من مصارف الزكاة، وفي هذا الاتجاه ما فيه من خطورة حيث سبق أن أشرنا إلى أن الزكاة ليست براً أو معروفاً فحسب، وإنما هي ركن أساسي من أركان الدين وعبادة حدد الشارع كيفيتها. فمثلاً الهدف (5) من أهداف الصندوق ينص على: "دعم وتنظيم الشباب المسلم في العالم روحياً واجتماعياً ورياضياً" ومن الواضح أنه لكي يندرج هذا الهدف في دائرة مصارف الزكاة يجب علينا أن نتوسع بشكل مفرط في تفسير هذا المصرف أو ذلك، وليس ذلك من الحكمة في شيء لما سبق أن ذكرنا من أن واجب المسلم في هذا العصر وفي كل عصر هو تطبيق الشريعة على المستجدات وليس فرض المستجدات على الشريعة. 6- حتى في الحالات التي تتضح إمكانية التوفيق بين هدف معين من أهداف الصندوق ومصرف محدد من مصارف الزكاة فإن مسألة تثبيت نفس المسلم على أن زكاته بلغت مصرفها تبقى قضية معلقة؛ حيث إنه بالإضافة إلى مشكلة الهدف توجد مشاكل فقهية كثيرة يجب تذليلها. أهمها: مسألة نقل الزكاة من مكان إلى آخر، ومسألة التمليك، ومسألة تعجيل الزكاة أو تأخيرها، ومسألة دفع القيمة عن العين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 أ- مسألة نقل الزكاة من مكان إلى آخر مع وجود من يستحقها من الفقراء والمساكين في مكان الزكاة (ونعيد إلى الذاكرة ما قلناه آنفاً من التطابق بين معاقل الفقر والمرض والجهل في العالم وبين مواطن الإسلام، مما يتعذر معه الجزم بأن الزكاة المنقولة إلى صندوق التضامن الإسلامي لصرفها في إحدى مصارف الزكاة لم يكن في بلد المزكي من كان في حاجة ملحة إليها) . فهناك أدلة كثيرة تظهر أن الصحابة والتابعين والأئمة من بعدهم قد فهموا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)) على أنه تفريق المال في مكانه أي حيث جمع، فكان السعاة في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين يرجعون من مهمتهم إلى المدينة لا يحملون غير أحلاسهم أو عصيهم. والحكمة في ذلك: أن المقصود من الزكاة إغناء الفقراء بها، كما وضح ذلك ابن قدامة في المغني، ومراعاة حرمة الجوار وقرب دار الفقير من دار الغني والاكتفاء الذاتي والابتعاد عن المركزية المفرطة، وذلك بعلاج المشاكل حيث وجدت، فإذا أبحنا نقلها إلى مكان آخر بصورة مخالفة أفضى ذلك إلى إبقاء فقراء ذلك البلد محتاجين وإلى زعزعة عرى الجوار. وعلى هذا المعنى يقول فرقد السبخي: "حملت زكاة مالي لأقسمها بمكة فلقيت سعيد بن جبير فقال: ردها فاقسمها في بلدك". وقد رد عمر بن عبد العزيز زكاة الري إلى الري بعد أن كان أهلها أحضروها إلى الكوفة. وإذا تتبعنا ما أثر عن السلف في هذا الباب فإننا لا نراهم يجوزون النقل من مكان إلى مكان آخر إلا عند استغناء أهل المكان الأول. وأكبر دليل على ذلك تلك المراجعات المتكررة بين معاذ بن جبل وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما عندما أرسل إليه معاذ ثلث الزكاة فنصفها من اليمن فأنكره عمر عليه، لكن عندما علم أن ذلك جاء بعد تغطية الحاجة عند أهل اليمن أقره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 أما عند وجود الحاجة فالخلاف بين من يقولون بعدم الإجزاء ومن يقولون بالإجزاء بإثم وعلى كراهية، ولم يستثن من ذلك إلا الحنفية الذين يقولون بجواز النقل بدون إثم ليس فقط لصلة الرحم أو لتلبيية حاجة أشد من بلد المزكي، بل أيضاً إذا كان نقلها إلى من هو أصلح وأنفع للمسلمين أو كانت الزكاة معجلة قبل تمام الحول. وأما الأحاديث الكثيرة التي تروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستدعي الصدقات من الأعراب إلى المدينة ويصرفها في فقراء المدينة الأنصار، وما في معناها من حديث قبيصة بن المخارق حيث قدم من نجد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم: ((أقم حتى تأتينا الصدقة)) إما أن نعينك عليها (أي على حاجتك) وإما أن نحطها عنك، فإننا نذهب إلى ما ذهب إليه أبو عبيد من إنه ليس لهذه الروايات محمل إلا أن يكون فضلاً عن حاجتهم وبعد استغنائهم عنها، وعلى كل حال فإن المنقول عند الحاجة الملحة لا يمكن أن يكون إلا جزءاًَ من الزكاة لا كلها، ونقل الكل لا يجوز إلا عند الاستغناء المطلق وهذا ما أثبتنا استحالته في المجتمعات الإسلامية في يومنا هذا، فحتى لو اعتمدنا على آراء من يجيزون نقل الزكاة من مكان إلى آخر مع وجود الحاجة في المكان الأول بإثم أو بدون إثم حسب اختلاف الحالات، فإن القضية النفسية المطروحة وهي قضية تثبيت نفس المسلم ستبقى بدون حل إلا إذا كان هناك إجماع أو شبه إجماع، وهذا ما يتعذر مع وجود أغلبية من المسلمين سلفاً وخلفاً يتحاشون نقل الزكاة مع وجود من يستحقها في بلد المزكي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 ب- مشكلة التمليك: إن أغلب الأهداف التي يرمي إليها صندوق التضامن أهداف اجتماعية لا مجال فيها للتمليك الفردي، وهي بناء المدارس والمساجد والجامعات والمراكز والمخيمات وحلقات الدراسة كما هو مبين في قانونه الأساسي وفي جدول المساعدات التي قدمها المجلس الدائم لصندوق التضامن الإسلامي كمحصلة ثابتة لنشاطاته منذ ميلاده وحتى عام 1986م حتى تطبيق باب الأزمات والكوارث فإنه يأتي حسب عرف العصر الذي نعيشه في صورة جماعية لا مجال فيها إلا في القليل النادر للتمليك الفردي. ومع أننا لا نذهب إلى القول بركنية التمليك في الزكاة فإننا نشير إلى أن جمهور المسلمين سلفاً وخلفاً فضلوا دائماً بخصوص الزكاة الحالات التي يتحقق فيها التمليك الفردي عند وجودها على المصالح العامة التي لا ملك فيها لأحد، فعلى الرغم من وجود فقهاء أجلاء أجازوا صرف الزكاة في أوجه الخير كما نسب ابن قدامة هذا المعنى بخصوص {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى أنس بن مالك والحسن البصري، وكما هو شائع في كتب الزيدية وآراء المحدثين مثل جمال الدين القاسمي، وكذلك عند بعض المعاصرين أمثال الشيخ محمد شلتوت فإنه يلاحظ أن المسلمين من أقدم العصور إلى يومنا هذا فهموا الزكاة على أنها في المقام الأول إتاحة تمليك فردي، فصارت من كثرة زيوع هذا المفهوم كأنه ركن فيها. فإذا كان الأحناف تفردوا بالجزم بركنية التمليك، فالملاحظ أن أصحاب المذاهب الأخرى الذين لم يصلوا إلى درجة التصريح العلني بذلك قد طبقوه عملياً في كثير من الأحيان؛ حيث إنهم أعطوا غالباً الأولوية لمجالات التمليك الفردي كما قلنا بذلك آنفاً. فالزكاة في المفهوم المتوارث منذ عهد الصحابة إما أن تؤتى للفقير والمسكين وباقي مستحقي الزكاة مناولة، أو تصل إليهم عن طريق جهاز متخصص في إحصاء الفقراء والمحتاجين، ومعروف لدى المستحقين ويستطيعون الاتصال به بدون أية مقدمات (بيروقراطية) وفي جميع الأوقات. وهذا ما سمي بإدارة الزكاة أو صندوق الزكاة وهو جزء من بيت المال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 والحكمة في هذا الاتجاه أنه قد استقر في الوجدان الجماعي للأمة الإسلامية في كل عصر أن إقحام المصالح العامة الكثيرة على ميدان الزكاة سيقود حتماً إلى إهدار حقوق عامة الفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم من الذين لا يملكون أمام هيئات المصالح العامة المنظمة والمجهزة بالوسائل الفنية لفرض أنفسها على الرأي العام ... لا يملكون أي وسيلة للإشعار بوجودهم وبحاجتهم، وبما أن الإسلام دين يعطي لكل من الفرد والجماعة حقهما كاملاً ولا يسمح لأحدهما أن يطغى على الآخر كما هو الشأن في المذاهب المادية الشيوعية منها والرأسمالية، فإن الوجدان الجماعي في العالم الإسلامي خصص الزكاة في المقام الأول للأفراد الثمانية المنصوص عليهم في آية مصارف الزكاة، علماً بأن في المال حقاً آخر غير الزكاة، وهذا الحق الآخر كان على مر الأزمان مجالاً للعمل الإسلامي الخيري في مجال المصالح والمرافق العامة. وأن التمسك بهذا النهج المتوارث بين المسلمين سلفهم وخلفهم لضمان أكيد لسد ذريعة إخضاع الفرد لهيمنة المجتمع عندما يفتح باب الزكاة للمصالح العامة. ج- ومن تلك المسائل الفقهية التي يجب البت فيها: مسألة فورية تفريق الزكاة أو تأخيرها. فصندوق التضامن الإسلامي يعتمد على الاجتماعات الدورية كما جاء في المادة (3) من النظام الأساسي لتوزيع ما يجمع لديه من إيرادات في أهدافه المختلفة إلا في حالات الكوارث والمحن حيث تجتمع لجنة الطوارئ كلما دعت الحاجة إلى ذلك، أي الأزمات والكوارث الطبيعية في إحدى الدول الإسلامية لتقرير ما يمكن أن يقوم به الصندوق. فدورية التوزيع قد لا تتفق تماماً مع مبدأ الفورية الذي سار عليه جمهور العلماء في تعجيل الزكاة، فكما هي الحال عند مالك والشافعي وأحمد وبعض الأحناف كالكرخي وابن همام. إذ إنه في مؤسسات الزكاة الشرعية أو أقسام بيت المال المكلفة بالزكاة يوجد تواكب وتنسيق مستمران بين جباية الزكاة وبين توزيعها بدون انتظار مفرط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 وهذا الاتجاه في تعجيل دفع الزكاة إلى مستحقيها ما جعل النووي رحمه الله يرى أن عملية إحصاء المستحقين وتحديد مقدار حاجاتهم يجب أن يجري في نفس وقت جباية الزكاة بحيث "يقع الفراغ من جمع الصدقات بعد معرفتهم مباشرة أو معها ليصل إليهم حقوقهم في أقرب وقت ممكن" حيث الأمر بصرف الزكاة على الرغم من إطلاقه أمر معه قرينة الفورية الضمنية؛ لأن الزكاة لم توجد إلا لحاجة مستحقيها الثمانية، وهذه الحاجات في مجملها أو على الأقل في معظمها حاجات لا تقبل التأجيل، والتسويف. ولا يجوز التأخير فيها إلا لضرورة شرعية أو حاجة داعية، وهذا يعني أن طبيعة تحديد أوقات الصرف لأموال الصندوق لا تنسجم مع الزكاة إلا في حالتين: - حالة الأزمات والطوارئ التي توجب اجتماع اللجنة المكلفة بذلك في أي وقت وحين. - حالة التفسير الموسع لبعض مصارف الزكاة مثل: (سبيل الله) بحيث يشمل بعض المرافق والمصالح العامة التي لا تلتزم كثيراً بعنصر الوقت، وقد سبق أن أشرنا إلى عدم حكمة إقحام هذه المصالح العامة على الزكاة في يومنا هذا، إلا في حالة الاستغناء، أي عدم وجود من يستحق الزكاة من المصارف الأخرى وذلك لأسباب ذكرناها آنفاً. د- ومن المسائل الفقهية التي تعترض كذلك سبيلنا عند الموازنة بين طبيعة الزكاة وطبيعة صندوق التضامن الإسلامي مسألة: دفع القيمة عن العين حيث إن تكوين الصندوق لا يحتوي على استعداد لتلقي الذات العينية لأموال الزكاة. فقد اختلف العلماء بخصوص دفع القيمة عن العين فمنهم من يمنع ذلك ومنهم من يجيزه بلا كراهة ومنهم يجيزه مع الكراهة ومنهم من يجيزه في بعض الحالات دون بعض. وإننا نعتقد أن هذه المسألة يمكن حلها باتخاذ موقف وسط أشبه بما نقل عن معاذ بن جبل بخصوص الزكاة وقيل: بخصوص الجزية هو أنه قال لأهل اليمن: (اوتوني بخميس أو لبيس أيسر عليكم وخير لمن في المدينة من المهاجرين والأنصار..) . وقد ذهب إلى نفس الحل الوسط شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال ما معناه: إن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة ممنوع. وأما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل فلا بأس به. وموقفنا أنه إذا تبين إجزاء تقديم الزكاة إلى صندوق التضامن الإسلامي في حالة معينة (كما قلنا إن ذلك ممكن في باب الكوارث الطبيعية) فإن تحويل عين الزكاة إلى قيمتها أدعى للمصلحة وأيسر في العمل حيث إن صندوق التضامن الإسلامي لم يملك بعد استعدادات تنظيمية لتلقي عروض التجارة أو الذات العينية الأخرى شريطة أن يكون تقييم العين أو العروض على أسس عادلة ودقيقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 الباب الرابع استنتاجات واقتراحات عملية 1- في حالة مراعاتنا للحكمة التي هدى الله إليها الأمة سلفاً وخلفاً من إعطاء الأولية في الزكاة لأصحاب الحاجات الفردية الملحة من فقراء ومساكين وفي الرقاب وغارمين وأبناء السبيل، إما مباشرة أو عن طريق هيئات مختصة في شؤون الزكاة (وقد أفضنا في ذكر ما أثر في ذلك آنفاً ... ) ونظراً لما يتسم به العالم الإسلامي في يومنا من تفشي جميع مظاهر هذه السلبيات الفردية وحيث إن أهداف صندوق التضامن أهداف اجتماعية لا مجال فيها للتمليك الفردي فإن نطاق التطابق بين الزكاة وبين أهداف صندوق التضامن الإسلامي يكون ضيقاً للغاية. من هذا المنظار فإن باب الأزمات والكوارث الطبيعية والظروف الاجتماعية في البلاد والمجتمعات الإسلامية يكاد يكون الباب الوحيد الذي يمكن إدخاله في دائرة المستحقين للزكاة بالأولوية. وعلى هذا، فإننا لا نرى هناك مانعاً شرعياً بل نحبذ ونشجع في حالة وجود تلك الكوارث والأزمات إعطاء جزء من الزكاة إلى صندوق التضامن لإيصالها لمستحقي الزكاة من المسلمين ضحايا هذه الكوارث، ويكون ذلك في صورة توكيل شرعي تحدد فيه شروط التوكيل ويتعهد الصندوق بالتقيد بها. ويمكن أن تضاف إلى باب الكوارث الحالات الخاصة التي لم تحط بها المرافق العامة في بلد أو مجتمع إسلامي لسبب من الأسباب، والتي يعزم صندوق التضامن الإسلامي على مد يد المساعدة فيها إلى أفراد أو جماعات من المسلمين داخل المجتمع الإسلامي أو خارجه بغية تخليصهم من براثن الفقر والجوع والمرض والدين والجهل. مثاله: قيام الصندوق بدعم ما وجد في هذه الحالات من دور الأيتام ومراكز العجزة والمعوقين والفقراء في مخيمات المهاجرين والمهجرين لأسباب دينية، وتقديم المنح الدراسية إلى أبناء المعوزين من المسلمين، فهذه الحالات إما حالات فقر أو مسكنة أو ضرب في الأرض وذلك في جميع المدلولات الفقهية القديمة والمعاصرة لهذه الكلمات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 وفي حالة عزم الصندوق على القيام بعمل محدد من هذه الأعمال سواء كوظيفة إضافية على وظائفها الأساسية أو كتفسير عملي لبعض أجزاء أهدافه السبعة المذكورة في نظامه الأساسي، فإننا لا نرى كذلك مانعاً شرعياً، بل نشجع في تلك الحالة إعطاء جزء من الزكاة إلى صندوق التضامن الإسلامي لصرفه في هذه الحالات المحددة على أساس التوكيل الشرعي الذي أشرنا إليه آنفاً. 2- في حالة توسعنا في تأويل بعض مصارف الزكاة كالفقير والمسكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمين وابن السبيل وفي سبيل الله فإنه يمكن بطريقة أو بأخرى أن ندخل جميع أهداف الصندوق أو أغلبها تحت مظلة الزكاة بهذا المفهوم. إلا أننا في هذه الحالة نرى ألا يصرف شيء من أموال الزكاة في هذه الأهداف العامة للصندوق إلا بعد التأكد من أن ذوي الحاجة من أصحاب الحالات الأولى قد حصلوا على حقوقهم من الزكاة في المنطقة العينية. ويكون ذلك بإحدى الطريقتين: أ- أن تكون البنية الاجتماعية في المنطقة المعينة شفافة إلى درجة تسمح للمزكي أن يحصل على القناعة التلقائية بأنه لا يوجد في مكان إقامته من يستحق الزكاة من الفقراء والمساكين وخاصة ذوي القربى منهم والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل. وفي هذه الحالة نرى أنه لا حرج شرعاً أن تدفع الزكاة أو ما فاض منها إلى صندوق التضامن بشرط أو بدون شرط حيث ترتقي الأهداف العامة في هذه الحالة للصندوق إلى مصاف مستحقي الزكاة بالأولوية بالنسبة لهذا الشخص. ب- في حالة هذه الرؤية الواضحة، وفي حالة رغبة المزكي أن يعطي جزءاً من زكاته للصندوق فإن الأقرب للتقوى في رأينا أن يقوم به عن طريق هيئة متخصصة في حصر الزكاة وإحصاء مستحقيها في المنطقة التي يقيم فيها (مثل إدارة الزكاة أو صندوق الزكاة أو قسم بيت المال المتخصص في الزكاة أو أي جهاز مشابه في بلد إسلامي يتولى شؤون الزكاة) وتقوم هذه الهيئة بعد تقييم الأمر بتخصيص نسبة معينة لصندوق التضامن تقل أو تكثر حسب ما تمليه معرفة الهيئة بواقع الحال في هذه المنطقة ويفرضه الحرص على إعطاء الأولوية للفقراء والمساكين ومن في حكمهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 إننا في هذا الصدد نذكر بالحكمة التي جعلت المسلمين على مر التاريخ يؤثرون في الزكاة أصحاب الحاجات الملحة على المصالح والمرافق العامة، حيث إن هنالك حقا آخر في المال غير الزكاة يمكن توجيهه إلى المصالح العامة. 3- في الحالة التي يمكن لصندوق التضامن الإسلامي (على الرغم من كونه جهازاً دوليا يهتم بالأمور الجماعية لا الفردية) أن يولي الحالات الخاصة بعضاً من اهتماماته الثابتة، فإني أقترح تكوين لجنة تضم خبراء من الصندوق وفقهاء من المجمع تقوم بدراسة إمكانية وضع مشروع قانون أساسي معدل يعرض على الأمانة العامة ومن ثم على الوزراء فالقمة، يأخذ هذا القانون المعدل بعين الاعتبار متطلبات الزكاة الفقهية، ويعيد صياغة بعض أجزاء النظام الأساسي للصندوق أو يقترح إضافات عليه لكي يصبح بعد ذلك وعاء شرعياً مطلق الصلاحية لتلقي الزكاة وتوزيعها جنباً على جنب مع أهدافه الأخرى الإسلامية. لكن هذا الحل التعديلي لا يمكن التفكير فيه إلا بطلب من الصندوق أو الأمانة العامة بصفتهما الجهتين اللتين تلمان بحدود صلاحيات صندوق التضامن الإسلامي. 4- نظراً للأهداف التي يرمي إليها صندوق التضامن الإسلامي والتي أنجزت الكثير منها منذ ميلاد هذا الجهاز الإسلامي الهام، وانطلاقاً من الهدف الأساسي للمجمع وهو: دراسة الحياة المعاصرة والاجتهاد فيها اجتهاداً أصيلاً لتقديم الحلول النابعة عن الشريعة الإسلامية، فإني أرى أن يصدر المجمع فتوى بتأهيل صندوق التضامن الإسلامي ليكون وعاءً لتلقي صدقات طوعية وحقوق شرعية أخرى في المال غير الزكاة بصفته جهازاً مكملاً لهيئات الزكاة في العمل لتحقيق الكفالة الاجتماعية في هذا العصر، ويحث المسلمين جماعات وأفراداً ودولاً على المسارعة والمنافسة في تقديم هذه الصدقات الطوعية أو وقف عقارات استثمارات شرعية أخرى لصالح هذا الصندوق ودعم وقفيته وذلك لتحقيق أهدافه الإسلامية النبيلة. وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم. سيدي محمد يوسف جيري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 قائمة بأهم المصادر والمراجع أولا – القرآن الكريم وتفاسيره: - المصحف الشريف - أحكام القرآن لابن العربي المالكي - أحكام القرآن للجصاص - التفسير الكبير للإمام فخر الدين الرازي - الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي - تفسير القرآن العظيم لابن كثير - تفسير القرآن الكريم للشيخ محمود شلتوت - محاسن التأويل للعلامة جمال الدين القاسمي ثانيا – الحديث وشروحه: - الصحيحان والسنن وشروحها - كتب أحاديث الأحكام وخاصة: نيل الأوطار للإمام الشوكاني الفقه: من كتب الحنفية: - بدائع الصنائع للكاساني - البحر الرائق للعلامة ابن نجيم - الخراج للإمام أبي يوسف - رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين - شرح فتح القدير لابن الهمام من كتب المالكية: - المدونة الكبرى لإمام المذهب مالك بن أنس، رواية الإمام سحنون - بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد - شروح مختصر خليل كالخرشي، والشرح الكبير - بلغة السالك لأقرب المسالك للشيخ أحمد بن الصاوي - المنتقى شرح الموطأ للقاضي أبي الوليد الباجي. من كتب الشافعية: - الأم للإمام محمد بن إدريس الشافعي إمام المذهب - المهذب للشيرازي - المجموع شرح المهذب للإمام النووي - المنهاج للإمام النووي - نهاية المحتاج للرملي - مغني المحتاج لمحمد الشربيني - الوجيز لحجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي من كتب الحنابلة: - المغني للعلامة ابن قدامة المقدسي - الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - الإنصاف في معرفة الراجح لأبي الحسن المرداوي. من كتب الظاهرية: - المحلى للإمام محمد بن علي بن حزم الأندلسي. وراجع كذلك: - فتاوى الشيخ مخلوف - شرائع الإسلام في فقه الإمامية للشيخ جعفر بن الحسن الحلي المعروف بالمحقق الحلي. - فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي. - مصارف الزكاة في الشريعة الإسلامية لعبد بن الجار الله - الطرق الحكمية للإمام ابن القيم - فتاوى الإمام محمد رشيد رضا - الروضة الندية للسيد صديق حسن خان وراجع كذلك أيضاً: مذكرة تفسيرية بشأن صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته مقدمة إلى الدورة الثالثة لمجمع الفقه الإسلامي. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي إعداد فضيلة الشيخ تيجاني صابون محمد مدير التعليم العربي بجمهورية تشاد وعضو مجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. لقد بين الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز مصارف الزكاة حيث قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} التوبة: 60. وفي تعريف كل واحد من هؤلاء الأصناف وما يتعلق بذلك من الأحكام تفصيل في المذاهب. 1) الحنفية:- قالوا: "الفقير" هو الذي يملك أقل من النصاب، أو يملك نصاباً غير تام يستغرق حاجته، أو يملك نصباً كثيرة غير تامة تستغرق الحاجة، فإن ملكها لا يخرجه عن كونه فقيراً، يجوز صرف الزكاة له، وصرفها للفقير العالم أفضل. والمسكين هو الذي لا يملك شيئاً أصلاً فيحتاج إلى المسألة لقوته أو لتحصيل ما يواري به بدنه، ويحل له أن يسأل لذلك، بخلاف الفقير فإنه لا يحل له المسألة ما دام يملك قوت يومه بعد سترة بدنه. "العامل" هو الذي نصبه الإمام لأخذ الصدقات والعشور، فيأخذ بقدر ما عمل. و"والرقاب" هم الأرقاء المكاتبون. "والغارم" هو الذي عليه دين ولا يملك نصاباً كاملاً بعد دينه، والدافع إليه لسداد دينه أفضل من الدافع للفقير. وفي سبيل الله هم الفقراء المنقطعون للغزو في سبيل الله على الأصح. "وابن السبيل" وهو الغريب المنقطع عن ماله، فيجوز صرف الزكاة له، بقدر الحاجة فقط، والأفضل له أن يستدين. وأما المؤلفة قلوبهم، فإنهم منعوا من الزكاة في خلافة الصديق – ويشترط لصحة أداء الزكاة النية المقارنة لإخراجها، أو لعذر ما وجب إخراجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 هذا وللمالك أن يصرف الزكاة لجميع الأصناف المذكورة في الآية الكريمة. أو لبعضهم، ولو واحد من أي صنف كان، والأفضل أن يقتصر على واحد إذا كان المدفوع أقل من نصاب، فإن دفع نصاباً كاملاً فأكثر، أجزأه مع الكراهة. إلا إذا استحق الزكاة مديناً، فإنه يجوز للمالك أن يسدد له دينه بالزكاة ولو كانت أكثر من نصاب، وكذا لو كان ذا عيال، فإنه يجوز أن يصرف له من الزكاة أكثر من نصاب. لكن بحيث لو وزع على عياله يصيب كل واحد منهم أقل من نصاب. ولا يجوز أن يصرف الزكاة في بناء مسجد أو مدرسة أو في حج أو جهاد أو في إصلاح طرق، أو قنطرة أو نحو ذلك من تكفين ميت، وكل ما ليس فيه تمليك لمستحق الزكاة، وقد تقدم أن التمليك ركن للزكاة ويجوز صرف الزكاة لمن يملك أقل من النصاب وإن كان صحيحاً ذا كسب. أما من يملك نصاباً من أي مال كان، فاضلاً عن حاجته الأصلية وهي مسكنه وأثاثه وثيابه وخادمه ومركبه وسلاحه، فلا يجوز صرف الزكاة لهم، ويجوز دفع الزكاة إلى ولد الغني الكبير إذا كان فقيراً، أما ولده الصغير، فلا يجوز دفع الزكاة له، وكذا يجوز دفعها إلى امرأة الغني وهي فقيرة، وإلى الأب المعسر إن كان ابنه موسراً، ويكره نقل الزكاة من بلد إلا أن ينقلها إلى قرابته، أو إلى قوم هم أحوج إليها من أهل بلده، ولو نقل إلى غيرهم أجزأه مع الكراهة. وإنما يكره النقل إذا أخرجها في حينها، أما إذا أعجلها قبل حينها، فلا بأس بالنقل. والمعتبر في الزكاة مكان المال حتى لو كان المالك في بلد آخر. تفرق الزكاة في مكان المال وإذا نوى الزكاة بما يعطيه لصبيان أقاربه، أو لمن يأتيه ببشارة ونحوها أجزأه. وكذا ما يدفعه للفقراء من الرجال والنساء في المواسم والأعياد. ويجوز التصدق على الذمي بغير مال الزكاة، ولا تحل لبني هاشم، بخلاف صدقات التطوع والوقت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 2) الحنابلة:- قالوا: "الفقير" هو من لم يجد شيئاً أو لم يجد نصف كفايته، "والمسكين" هو من يجد نصفها أو أكثر فيعطى كل واحد منهما من الزكاة تمام كفايته مع عائلته سنة، "والعامل عليها" هو كل ما يحتاج إليه في تحصيل الزكاة فيعطى منها بقدر أجرته، ولو غنيا، "المؤلف" هو السيد المطاع في عشيرته ممن يرجى إسلامه أو يخشى شره، أو يرجى قوة إيمانه أو إسلام نظيره من الكفار أو يحتاج إليه في جبايتها ممن لا يعطيها، فيعطى منها ما يحصل التأليف، "والرقاب" هو المكاتب ولو قبل حلول شيء من دين الكتابة، ويعطى ما يقضي به دين الكتابة، "والغارم" قسمان أحدهما: من استدان للإصلاح ببين الناس. ثانيهما: من استدان لإصلاح نفسه في أمر مباح أو محرم وتاب، ويعطى ما يفي به دينه. "وفي سبيل الله" هو الغازي إن لم يكن هناك ديوان ينفق منه عليه، ويعطى ما يحتاج إليه من سلاح أو فرس أو طعام أو شراب وما يفي بعودته، "وابن السبيل" وهو الغريب الذي فرغت منه النفقة في غير بلده في سفر مباح، أو محرم وتاب ويعطى ما يبلغه لبلده، ولو وجد مقرضاً، سواء كان غنياً أو فقيراً، ويكفي الدفع لواحد من هذه الأصناف الثمانية، ويجوز أن يدفع الجماعة زكاتهم لواحد كما يجوز للواحد أن يدفع زكاته لجماعة، ولا يجوز إخراج الزكاة بقيمة الواجب، إنما الواجب إخراج عين ما وجب، ولا يجوز دفع الزكاة للكافر ولا لرقيق ولا لغني بمال أو كسب، ولا لمن تلزمه نفقته ما لم يكن عاملاً أو غازياً أو مكاتباً، أو ابن السبيل أو غارماً لإصلاح ذات بين، ولا يجوز أيضاً أن تدفع الزوجة زكاتها لزوجها، وكذلك العكس، ولا يجوز دفعها لهاشمي، فإن دفعها لغير مستحقها جهلا ثم علم عدم استحقاقه لم تجزئ ويستردها ممن أخذها، وإن دفعها لمن يظنه فقيراً أجزأه، كما يجزئه تفرقتها للأقارب إن لم تلزمه نفقتهم، والأفضل تفرقتها لفقراء بلده. ويجوز نقلها لأقل من مسافة القصر من البلد الذي فيه المال، ويحرم نقلها إلى مسافة القصر وتجزيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 3) الشافعية:- قالوا: "الفقير" هو من لا مال له أصلاً، ولا كسب من حلال، أو له مال، أو كسب من حلال يكفيه، بأن كان أقل من النصف الكافي، ولم يكن له منفق يعطيه ما يكفيه بالنسبة للزوجة، والكفاية تعتبر بالنسبة لعمره الغالب، وهو اثنان وستون سنة، إلا إذا كان له مال يتجر فيه فيعتبر ربحه في كل يوم على حدة، فإن كان ربحه في كل يوم أقل من نصف الكفاية في ذلك اليوم، فهو فقير، وكذا إذا جاوز العمر الغالب، فالعبرة بكل يوم على حدة، فإن كان عنده من المال أو الكسب ما لا يكفيه في نصف اليوم، فهو فقير. "والمسكين" من قدر على مال أو كسب حلال، يساوي نصف ما يكفيه في العمر الغالب المتقدم، أو أكثر من النصف، فلا يمنع من الفقر والمسكنة وجود مسكن لائق به أو وجود ثياب كذلك، ولو كانت للتجميل، وكذا لا يمنع من وصف المرأة بالفقر والمسكنة وجود حلي لها تحتاج للتزين بها عادة، وكذا وجود كتب العلم الذي يحتاج لها للمذاكرة، أو المراجعة، كما أنه إذا كان له كسب من حرام أو مال غائب عنه بمرحلتين أو أكثر أو دين له مؤجل، فإن ذلك كله لا يمنعه من الأخذ من الزكاة بوصف الفقر أو المسكنة. "والعامل على الزكاة" هو من له دخل في جمع الزكاة: كالساعي، والحافظ، والكاتب، وإنما يأخذ العامل منها إذا فرقها الإمام، ولم يكن له أجرة مقدرة من قبله فيعطى بقدر أجر مثله. "والمؤلفة قلوبهم" هم أربعة أنواع: الأول ضعيف الإيمان الذي أسلم حديثاً فيعطى منها ليقوى إسلامه، الثاني: من أسلم وله شرف في قومه، ويتوقع بإعطائه من الزكاة إسلام غيره من الكفار، الثالث: مسلم قوي الإيمان يتوقع بإعطائه أن يكفينا شر من وراءه من الكفار، الرابع: من يكفينا شر مانع الزكاة. "والرقاب" هو المكاتب يعطى من الزكاة ما يستعين به على أداء نجوم الكتابة، ليخلص من الرق، وإنما يعطى بشروط: أن تكون كتابته صحيحة وأن يكون مسلماً، وأن لا يكون عنده وفاء بما عليه من دين الكتابة، وأن لا يكون مكاتباً لنفس المزكي. "الغارم" هو المدين وأقسامه ثلاثة: الأول: مدين للإصلاح بين المتخاصمين، فيعطى منها ولو غنياً، والثاني: من استدان في مصلحة نفسه ليصرف في مباح، أو غير مباح، بشرط أن يتوب، الثالث: من عليه دين بسبب ضمان لغيره، وكان معسراً هو والمضمون إذا كان الضمان بإذنه، فإن تبرع هو بالضمان بدون إذن المضمون يعطى متى أعسر هو، ولو أيسر المضمون، ويعطى الغارم في القسمين الآخرين ما عجز عنه من الدين، بخلاف القسم الأول فيعطى منها ولو غنيا. "وفي سبيل الله" هو المجاهد المتطوع للغزو، وليس له نصيب من المخصصات للغزاة في الديون، ويعطى منها ما يحتاج إليه ذهاباً وإياباً وإقامة، ولو غنياً، كما تعطى له نفقة من مؤونة وكسوة، وقيمة سلاح وفرس، ويهيأ له ما يحمل متاعه وزاده إن لم يعتد حملها. "ابن السبيل" هو المسافر من بلد الزكاة أو المار بها، فيعطى منها ما يوصله لمقصده، أو لماله إن كان له مال بشرط أن يكون محتاجاً حين السفر أو المرور، وأن لا يكون عاصياً بسفره، وأن يكون سفره لغرض صحيح شرعاً، ويشترط في أخذ الزكاة من هذه الأصناف الثمانية زيادة على الشروط الخاصة لكل صنف شروط خمسة: الأول: الإسلام، الثاني: كمال الحرية، إلا إذا كان مكاتباً، الثالث: أن لا يكون من بني هاشم، ولا بني المطلب، ولا عتيقاً لواحد منهم، ولو منع حقه من بيت المال ويستثنى من ذلك الحمال والكيال، والحافظ للزكاة، فيأخذون منها ولو كفاراً، أو من آل البيت؛ لأن ذلك أجره على العمل، الرابع: أن لا تكون نفقته واجبة على المزكي، الخامس: أن يكون القابض للزكاة، وهو البالغ العاقل حسن التصرف. ويجب في الزكاة تعميم الأصناف الثمانية إن وجدوا، سواء فرقها الإمام أو المالك. إلا أن المالك لا يجب عليه التعميم. إلا إذا كانت الأصناف محصورة بالبلد ووفى بهم المال، والأوجب إعطاء ثلاثة أشخاص من كل صنف، وإن فقد بعض الأصناف أعطيت للموجود، واختار جماعة جواز دفع الزكاة ولو كانت زكاة مال لواحد، وتشترط نية الزكاة عند دفعها للإمام أو المستحقين أو عند عزلها، ولا يجوز للمالك نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر، ولو كان قريباً، متى وجد مستحق لها في بلدها، أما الإمام فيجوز له نقلها، وبلد الزكاة هو المحل الذي تم الحول والمال موجود فيه. وهذا فيما يشترط فيه الحول: كالذهب، وأما غيره كالزروع فبلد زكاته المحل الذي تعلقت الزكاة به وهو موجود فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 4) المالكية قالوا: "الفقير" هو من يملك من المال أقل من كفاية العام فيعطى منها. ولو ملك نصاباً، وتجب عليه زكاة هذا النصاب. وليس من الفقير من وجبت عليه نفقته على غيره متى كان ذلك الغير غنياً قادراً على دفع نفقته، فلا يجوز أن يعطي الزكاة لوالده الفقير، ولو لم ينفق عليه بالفعل؛ لأنه قادر على أخذ نفقته منه برفع الأمر للحاكم، وأما إذا كان شخص ينفق على فقير تطوعاً بدون أن تجب عليه نفقته فإنه يجوز له أن يصرف الزكاة له، ومتى كانت له حرفة يتحصل منها على ما يكفيه أو له مرتب كذلك، فلا يجوز إعطاؤه من الزكاة، فإن كان المرتب لا يكفيه أعطي من الزكاة بقدر كفايته. "والمسكين" من لا يملك شيئاً أصلاً، فهو أحوج من الفقير، ويشترط في الفقير والمسكين ثلاثة شروط:- الحرية، والإسلام، وأن لا يكون كل منهما من نسل هاشم بن عبد مناف، إذا أعطوا ما يكفيهم من بيت المال، والأصح إعطاؤهم، حتى لا يضر بهم الفقر، وأما بنو المطلب أخي هاشم فليسوا من آل النبي صلى الله عليه وسلم، فتحل لهم الزكاة، وأما صدقة التطوع، فتحل لبني هاشم وغيرهم. "والمؤلفة قلوبهم" هم كفار، يعطون منها ترغيباً في الإسلام، ولو كانوا من بني هاشم، وقيل: هم مسلمون حديثو عهد بالإسلام، فيعطون من الزكاة ليتمكن الإيمان من قلوبهم، وعلى القول الثاني فحكمهم باقٍ لم ينسخ، فيعطون من الزكاة الآن، وأنا على التفسير الأول. ففي بقاء حكمهم وعدمه خلاف، التحقيق أنه إذا دعت حاجة الإسلام إلى استئلاف الكفار أعطوا من الزكاة وإلا فلا. "والعامل على الزكاة" كالساعي والكاتب، والمفرق والذي يجمع أرباب المواشي لتحصيل الزكاة منهم، ويعطى العامل منها ولو غنياً؛ لأنه يستحقها بوصف العمل، لا لفقر، فإن كان فقيراً استحق بالوصفين، ويشترط في أخذه منها أن يكون حراً مسلماً غير هاشمي، ويشترط في صحة توليته عليها أن يكون عدلاً عارفاً بأحكامها، فلا يولى كافر، ولا فاسق، ولا جاهل بأحكامها، وإذا ولى السلطان عاملاً عبداً، أو هاشمياً، نفذت توليته ويعطى الأجرة من بيت المال لا من الزكاة. "وفي الرقاب" الرقبة رقيق مسلم يشترى من الزكاة ويعتق ويكون ولاؤه للمسلمين، فإذا مات ولا وارث له، وله مال فهو في بيت مال المسلمين. "والغارم" هو المدين الذي لا يملك ما يوفي بد دينه من الزكاة، ولو بعد وفاته، وشرطه الحرية والإسلام، وكونه غير هاشمي، وأن يكون تداينه لغير فساد كشرب خمر، وإلا فلا يعطى منها إلا أن يتوب، ويشترط أن يكون الدين لآدمي فإن كان لله: كدين الكفارات، فلا يعطى من الزكاة لسداده، والمجاهد يعطى من الزكاة إن كان حراً مسلماً غير هاشمي، ولو غنياً، ويلحق به الجاسوس، ولو كافراً، فإن كان مسلماً، فشرطه أن يكون حراً غير هاشمي، وإن كافراً فشرطه الحرية فقط. ويصح أن يشترى من الزكاة سلاح وخيل للجهاد، ولتكن نفقة الخيل من بيت المال. "ابن السبيل" هو الغريب المحتاج لمن يوصله لوطنه فيعطى من الزكاة إن كان حراً مسلماً غير هاشمي، ولا عاصياً بسفره، كقاطع الطريق، ومتى استوفى الشروط أخذ، ولو غنياً ببلده، إن لم يجد من يسلفه ما يوصله إليها , وإلا فلا يعطى. كمن فقد أحد الشروط، ويجب في الزكاة أن ينوي مخرجها أن هذا القدر المعطى زكاة، وتكون النية عند توزيعها أو ينوي عند العزل، فإن نوى عند عزل مقدار الزكاة أنه زكاة، كفاه ذلك، فإن تركت النية أصلاً، فلا يعتد بما أخرجه من الزكاة، ولا يلزم إعلان الأخذ بأن ما أخذه هو من الزكاة , بل يكره لما فيه من كسر قلب الفقير، ويتعين تفرقة الزكاة بموضع الوجوب أو قربه، ولا يجوز نقله إلى مسافة قصر فأكثر، إلا أن يكون أهل ذلك الموضع أشد حاجة من أهل محل الوجوب، فيجب نقل الأكثر لهم، وتفرقة الأقل على أهله , وأجرة نقلها من بيت مال المسلمين، فإن لم يوجد بيت مال بيعت واشتري مثلها بالمحل الذي يراد النقل إليه، أو فرق ثمنها بذلك المحل على حسب المصلحة، وموضع الوجوب هو مكان الزروع والثمار، ولو لم تكن في بلد المالك ومحل المالك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 هذا في العين، وأما الماشية فموضع وجوبها محل وجودها إن كان هناك ساعٍ وإلا فمحل المالك، ولا يجب تعميم الأصناف الثمانية في الإعطاء، بل يجوز دفعها ولو لواحد من صنف واحد، إلا العامل فلا يجوز دفعها كلها إليه إذا كانت زائدة على أجرة عمله. فهذه هي الأصناف الثمانية التي أمرنا الله أن نوجه الزكاة إليها دون غيرها. إذاً فهل يمكننا صرف مبلغ من أموال الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال يجدر بنا أن نتعرف على هذا الجهاز الإسلامي الهام ونقف على الأنشطة التي قام بها فعند ذلك يتضح لنا الأمر ويكون الرد في متناولنا إن شاء الله. تاريخ إنشاء الصندوق: أنشئ صندوق التضامن الإسلامي بموجب قرار صادر عن مؤتمر القمة الإسلامي الثاني المنعقد بمدينة لاهور في جمهورية باكستان الإسلامية عام 1394هـ، الموافق 1974م. وقد صادق المؤتمر الإسلامي الخامس، المنعقد بمدينة كوالالمبور عاصمة ماليزيا في شهر جمادى الآخرة 1394، الموافق يوليو 1974م على النظام الأساسي للصندوق. أهداف الصندوق: يضطلع الصندوق بالعمل على كل ما من شأنه رفع مستوى المسلمين في العالم في جميع المجالات، فبجانب ما يقدمه الصندوق من دعم للشعب الفلسطيني بالتأييد المادي والمعنوي، والوقوف معه ضد المؤامرات الصهيونية الرامية إلى تهويد القدس الشريف والأماكن الأخرى في فلسطين، فإن أهم أهداف الصندوق هي: 1- تشجيع البحث العلمي والتقني، وإنشاء وتمويل الجامعات الإسلامية استجابة لاحتياجات العالم الحديث، حيثما كان ذلك مطلوبا، ودعم الجامعات القائمة فعلاً. 2- التحقق من آثار نتائج الأزمات والمحن والكوارث الطبيعية والظروف الاجتماعية التي تتعرض لها البلاد والمجتمعات الإسلامية وتوجيه المساعدات المادية الممكنة لذلك. 3- تنظيم منح المساعدات والمعونات المادية للبلاد والأقليات والجاليات الإسلامية بغية رفع مستواها الديني والثقافي والاجتماعي والمساهمة في بناء المساجد والمستشفيات والمدارس التي يحتاج إليها المسلمون. 4- تنظيم نشر الدعوة الإسلامية ورسالتها وتعاليم الإسلام ومثله العليا ودعم المراكز الإسلامية داخل الدولة الإسلامية وخارجها لخير المجتمعات الإسلامية ونشر الفكر الإسلامي. 5- دعم وتنظيم نشاط الشباب المسلم في العالم روحياً واجتماعياً ورياضياً. 6- تنظيم الحلقات الدراسية التي تضم نخبة من الخبراء والمتخصصين في قضايا التشريع والإدارة والاقتصاد والثقافة والعلوم التي يحتاج العالم الإسلامي إلى بلورة الفكر الإسلامي بشأنها. 7- تنفيذ جميع المشروعات التي يقرها المؤتمر الإسلامي، ويعتبر تنفيذها من اختصاص صندوق التضامن الإسلامي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 أهم إنجازات الصندوق إن صندوق التضامن الإسلامي وهو يعمل على تأكيد وإبراز التضامن الإسلامي بين الدول والشعوب الإسلامية، فقد اختار بصفة خاصة تبني المشروعات الكبيرة ذات الأثر الملموس على البنية الحضارية في المجتمعات التي تقام فيها تلك المشروعات. وبإلقاء نظرة سريعة على محصلة النتائج لمختلف نشاطات صندوق التضامن الإسلامي نلمس مدى فاعلية هذا الجهاز الإسلامي الجدير بالاهتمام على كافة مستويات الأمة الإسلامية دولاً وأفراداً، وشعوباً وجماعات. 1- دعم صمود ونضال الشعب الفلسطيني: إن دعم صمود ونضال الشعب الفلسطيني يمثل الهدف الرئيسي من إنجازات منظمة المؤتمر الإسلامي، لذا نجد أن الصندوق قد أفرد باباً مستقلاً من أبواب ميزانيته السنوية للإنفاق على هذا الجانب. هذا بخلاف ما يقدمه الصندوق من مساعدات للشعب الفلسطيني في إطار الأبواب الأخرى من الميزانية، ويتم ذلك كله بالتنسيق الكامل مع الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي ولجنة صندوق القدس. 2- إنشاء ودعم الجامعات الإسلامية: لقد قطع الصندوق شوطاً طويلاً، وجهداً ملموساً في سبيل إنشاء الجامعات الإسلامية مثل الجامعة الإسلامية بالنيجر، والجامعة الإسلامية في أوغندا والكلية الأمريكية الإسلامية بشيكاغو، والمركز الإسلامي في غينيا بيساو وتحويل مركز تمبكتو بمالي إلى معهد للبحوث. وقدم الصندوق لهذه المشاريع الجليلة الجزء الأكبر من موارده منذ إنشائه حتى الآن، هذا بخلاف دعم ومساعدة الجامعات القائمة فعلاً والتي تعمل في مجال الخدمة الإسلامية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 3- تقديم العون في حالات الأزمات والمحن والكوارث الطبيعية: يقدم الصندوق مساعدات عينية ومالية لبعض الدول والمجموعات الإسلامية التي تحل بها الكوارث الطبيعية وذلك للتخفيف من آثارها. 4- دعم وإنشاء المساجد والمدارس والمستشفيات والمراكز الإسلامية المنتشرة في جميع أنحاء العالم. 5- نشر الدعوة الإسلامية: يقوم الصندوق بالعمل في مختلف السبل التي تؤدي إلى نشر الدعوة الإسلامية مثل إرسال الدعاة وتدريب المختصين في شؤون الدعوة في مختلف أركان العالم وأيضاً طبع وترجمة معاني القرآن والأحاديث النبوية الشريفة، وإنتاج وتوزيع الأفلام الدينية. 6- أنشطة الشباب المسلم: يقوم الصندوق بدعم أنشطة الشباب المسلم روحياً واجتماعياً ورياضياً، وغرس روح البذل والتضحية والعطاء والمبادرة بين الشباب المسلم في شتى أرجاء العالم. 7- الحلقات الدراسية: لقد تعاون الصندوق في التنظيم والمشاركة لعدة ندوات تخدم قضايا إسلامية حساسة ومعاصرة وذلك مع مختلف الحكومات والهيئات الإسلامية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 8- الاحتفال بمطلع القرن الخامس عشر الهجري: لقد مول الصندوق البرامج الوطنية والعالمية التي أعدتها منظمة المؤتمر الإسلامي بمناسبة الاحتفال بالقرن الخامس عشر الهجري، وهذه المناسبة تدعو جميع المسلمين إلى أن يجددوا على أنفسهم العهد على التمسك بمعتقداتهم الأساسية ومبادئهم ومفاهيمهم الإسلامية، وعلى السعي الحثيث لبعث "أمة واحدة" ذات حضارة حية فعالة ومؤثرة هدفها تحقيق المساواة الصحيحة والعدل والسلم العالمي والتقدم والسعادة لجميع البشر. وسع بعض العلماء في معنى (سبيل الله) وهو المصرف السابع من مصارف الزكاة فقالوا بأن معنى (سبيل الله) على الجهاد وما يتعلق به وإنما يشمل سائر المصالح والقربات وأعمال الخير والبر. من ذلك ما نبه عليه الإمام الرازي في تفسيره حيث ذكر: إن ظاهر اللفظ في قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} لا يوجب القصر على الغزاة. ثم قال: فلهذا المعنى نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، وبناء الحصون، وعمارة المساجد؛ لأن قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} عام في الكل. ولم يبين من هم هؤلاء الفقهاء ولكن المحققين من العلماء لا يطلقون وصف الفقيه إلا على المجتهد، كما أن الرازي لم يعقب على نقل القفال بشيء مما يوحي بميله إليه. ونسب ابن قدامة في (المغني) هذا الرأي إلى أنس بن مالك والحسن البصري فقد قالا: "ما أعطيت الجسور والطرق فهي صدقة ماضية" فدلت هذه العبارة على جواز صرف الزكاة في إنشاء الجسور والطرق وإصلاحها، فهي صدقة ماضية أي جائزة ومقبولة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 وفي الروضة الندية لسيد صديق حسن خان، وهو على مذهب أهل الحديث المستقلين: قال: أما سبيل الله، فالمراد هنا: الطريق إليه عز وجل والجهاد وإن كان أعظم الطرق إلى الله عز وجل لكن لا دليل على اختصاص هذا السهم به بل يصح صرف ذلك في كل ما كان طريقاً إلى الله عز وجل. هذا معنى الآية لغة، والواجب الوقوف على المعاني اللغوية حيث لم يصح النقل هنا شرعاً. ثم قال: ومن جملة سبيل الله الصرف في العلماء الذين يقومون بمصالح المسلمين الدينية فإن لهم في مال الله نصيباً، سواء كانوا أغنياء أم فقراء، بل الصرف في هذه الجهة من أهم الأمور؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء وحملة الدين، وبهم تحفظ بيضة الإسلام، وشريعة سيد الأنام. آراء المحدثين: القاسمي: ذكر الشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله في تفسيره ما ذكره الرازي من أن ظاهر اللفظ لا يوجب القصر على الغزاة، وما نقله القفال عن بعض الفقهاء في ذلك، ثم ذكر قول صاحب (التاج) : كل سبيل أريد به الله عز وجل وهو بر داخل في سبيل الله. وسكت عن هذه النقول، ولم يعقب عليها، وهو يوحي بموافقة ضمنية أو بعدم الاعتراض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 أما السيد رشيد رضا – صاحب المنار - رحمه الله فقد قال في تفسير آية المصارف ما نصه: "التحقيق أن سبيل الله هنا: مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد، وأن حج الأفراد ليس منها؛ لأنه واجب على المستطيع دون غيره، وهو من الفرائض العينية بشرطه كالصلاة والصيام، لا من المصالح الدينية الدولية ... ولكن شعيرة الحج وإقامة الأمة لها منها فيجوز الصرف من هذا السهم على تأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج إن لم يوجد لذلك مصرف آخر. وذكر صاحب المنار بعد ذلك بقليل أن سبيل الله يشمل سائر المصالح الشرعية العامة التي هي ملاذ أمر الدين والدولة وأولها (وأولاها بالتقديم الاستعداد للحرب لشراء السلاح وأغذية الجند وأدوات النقل وتجهيز الغزاة، وهذه بالنسبة للحرب الإسلامية والجيوش الإسلامية التي تقاتل لإعلاء كلمة الله فحسب) . وتقدم مثله عن محمد بن عبد الحكم، ولكن الذي يجهز به الغازي يعود بعد الحرب إلى بيت المال إن كان مما يبقى كالسلاح والخيل وغير ذلك؛ لأنه لا يملكه دائماً بصفة الغزو التي قامت به، بل يستعمله في سبيل الله، ويبقى بعد زوال تلك الصفة عنه في سبيل الله، ويدخل في عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية وكذا الخيرية العامة: وإشراع الطرق وتعبيدها، ومد الخطوط الحديدية العسكرية، لا التجارية، ومنها بناء البوارج المدرعة والمطارات الحربية والحصون والخنادق، ومن أهم ما ينفق في سبيل الله في زماننا هذا إعداد الدعاة إلى الإسلام وإرسالهم إلى بلاد الكفار من قبل جمعيات منظمة، تمدهم بالمال الكافي، كما يفعله الكفار في تبشير دينهم، وقد ورد تفصيل هذه المصلحة العظيمة في تفسير قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} آل عمران: 104. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 وكذا فسر الشيخ محمود شلتوت رحمه الله (سبيل الله) بأنه (المصالح العامة التي لا ملك فيها لأحد والتي لا يختص بالانتفاع بها أحد، فملكها لله، ومنفعتها لخلق الله، وأولاها وأحقها: التكوين الحربي الذي ترد به الأمة البغي وتحفظ الكرامة، ويشمل العدد والعدة على أحدث المخترعات البشرية، ويشمل المستشفيات عسكرية ومدنية، ويشمل تعبيد الطرق ومد الخطوط الحديدية وغير ذلك مما يعرفه أهل الحرب والميدان، ويشمل الإعداد القوي الناضج لدعاة إسلاميين، يظهرون جمال الإسلام وسماحته، ويفسرون حكمته، ويبلغون أحكامه، ويتعقبون مهاجمة الخصوم لمبادئه بما يرد كيدهم إلى نحورهم. (وكذلك يشمل العمل على دوام الوسائل التي يستمر بها حفظة القرآن الذين تواتر – ويتواتر- بهم نقله كما أنزل –من عهد وحيه إلى اليوم، وإلى يوم الدين إن شاء الله) . وهو تأييد لما ذهب إليه صاحب المنار رحمه الله. وعلى هذا الأساس أفتى من سأله عن جواز صرف الزكاة في بناء المساجد فكان جوابه: (إن المسجد الذي يراد إنشاؤه أو تعميره إذا كان هو المسجد الوحيد في القرية، أو كان بها غيره ولكن يضيق بأهلها ويحتاجون إلى مسجد آخر، صح شرعاً صرف الزكاة لبناء هذا المسجد أو إصلاحه والصرف على المسجد في تلك الحالة يكون من المصرف الذي ذكر آية المصارف الواردة في سورة التوبة باسم {سَبِيلِ اللَّهِ} . وهذا مبني على اختيار أن المقصود بكلمة {سَبِيلِ اللَّهِ} المصالح العامة التي ينتفع بها المسلمون كافة، ولا تخص واحداً بعينه، فتشمل المساجد والمستشفيات ودور التعليم ومصانع الحديد والذخيرة، وما إليها مما يعود نفعه على الجماعة. وأحب أن أقرر هنا أن المسألة محل خلاف بين العلماء (ثم ذكر الشيخ ما نقله الرازي في تفسيره عن القفال من صرف الصدقات في جميع وجوه الخير ... ) إلى أن قال: وهذا ما أختاره وأطمئن إليه وأفتي به، ولكن مع القيد الذي ذكرناه بالنسبة للمساجد، وهو أن يكون المسجد لا يغني عنه غيره، وإلا كان الصرف إلى غير المسجد أولى وأحق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 وسئل الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق عن جواز الدفع لبعض الجمعيات الخيرية الإسلامية من الزكاة فأفتى بالجواز مستنداً إلى ما نقله الرازي عن القفال وغيره في معنى {سَبِيلِ اللَّهِ} . أورد الشيخ القرضاوي في الصفة 657 من الجزء الثاني من كتاب فقه الزكاة الحديث التالي: أوثر عدم التوسع في مدلول {سَبِيلِ اللَّهِ} بحيث يشمل كل المصالح والقربات. كما أرجح عدم التضييق فيه بحيث لا يقصر على الجهاد بمعناه العسكري المحض. إن الجهاد قد يكون بالقلم واللسان كما يكون بالسيف والسنان. قد يكون الجهاد فكرياً أو تربوياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً كما يكون عسكرياً، وكل هذه الأنواع من الجهاد تحتاج إلى الإمداد والتمويل. المهم أن يتحقق الشرط الأساسي لذلك كله وهو أن يكون (في سبيل الله) أي في نصرة الإسلام وإعلاء كلمته في الأرض، فكل جهاد أريد به أن تكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، أياً كان نوع هذا الجهاد وسلاحه. يقول الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} : (يعني وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقته وشريعته التي شرعها لعباده، بقتال أعدائه وذلك هو غزو الكفار) . والجزء الأول من كلام شيخ المفسرين واضح ومقبول، وهو يشمل كل نفقة في نصرة الإسلام وتأييد شريعته، أما قتال أعداء الله وغزو الكفار فليس إلا وجهاً واحداً من أوجه النصرة لهذا الدين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 فالنصرة لدين الله وطريقته وشريعته تتحقق بالغزو والقتال في بعض الأحوال، بل قد يتعين هذا الطريق في بعض الأزمنة والأمكنة لنصرة دين الله. ولكن قد يأتي عصر –كعصرنا - يكون فيه الغزو الفكري والنفسي أهم وأبعد خطراً وأعمق أثراً، من الغزو المادي العسكري. فإذا كان جمهور الفقهاء في المذاهب الأربعة قديما، قد حصروا هذا السهم في تجهيز الغزاة والمرابطين على الثغور، وإمدادهم بما يحتاجون إليه من خيل وكراع وسلاح فنحن نضيف إليهم في عصرنا غزاة ومرابطين من نوع آخر، أولئك الذين يعملون على غزو العقول والقلوب بتعاليم الإسلام، والدعوة إلى الإسلام، أولئك هم المرابطون بجهودهم وألسنتهم وأقلامهم للدفاع عن عقائد وشرائع الإسلام. ودليلنا على هذا التوسع في معنى الجهاد: أولاً: أن الجهاد في الإسلام لا ينحصر في الغزو الحربي والقتال بالسيف؛ فقد صح عن النبي (ص) أنه سئل: أي الجهاد أفضل؟ فقال: ((كلمة حق عند سلطان جائر)) . كما روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود أن رسول الله (ص) قال: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)) . ثانياً: إن ما ذكرناه من ألوان الجهاد والنشاط الإسلامي لو لم يكن داخلاً في معنى الجهاد بالنص، لوجب إلحاقه به بالقياس، فكلاهما عمل يقصد به نصرة الإسلام والدفاع عنه، ومقاومة أعدائه، وإعلاء كلمته في الأرض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 وقد رأينا من فقهاء المسلمين من ألحق بالعاملين على الزكاة كل من يعمل في مصلحة عامة للمسلمين: قال ابن رشد: والذين أجازوها للعامل، وإن كان غنياً أجازوها للقضاة، ومن في معناهم، ممن المنفعة بهم عامة للمسلمين. كما رأينا من فقهاء الحنفية من ألحق بابن السبيل كل من هو غائب عن ماله، غير قادر عليه، وإن كان في بلده؛ لأن المعتبر هو الحاجة وقد وجدت. فلا عجب أن نلحق بالجهاد –بمعنى القتال- كما يؤدي غرضه، ويقوم بمهمته من قول أو فعل؛ لأن العلة واحدة، وهي نصرة الإسلام. ومن قبل رأينا للقياس مدخلاً في كثير من أبواب الزكاة، ولم نجد مذهبا إلا قال به في صورة من الصور. وبذلك يكون ما اخترناه هنا في معنى سبيل الله هو رأي الجمهور مع بعض التوسعة في مدلوله. وأود أن أنبه هنا على أن بعض الأعمال والمشروعات قد تكون في بلد ما وزمن ما وحالة ما جهاداً في سبيل الله، ولا تكون كذلك في بلد آخر أو وقت آخر أو حال آخر. فإنشاء مدرسة في الظروف العادية عمل صالح وجهد مشكور يحبذه الإسلام، ولكنه لا يعد جهاداً، فإذا كان بلد ما قد أصبح فيه التعليم وأصبحت المؤسسات التعليمية في يد المبشرين أو الشيوعيين أو اللادينيين العلمانيين، فإن من أعظم الجهاد إنشاء مدرسة إسلامية خالصة، تعلم أبناء المسلمين وتحصنهم من معاول التخريب الفكري والخلقي، وتحميهم من السموم المبثوثة في المناهج والكتب، وفي عقول المعلمين، وفي الروح العامة التي توجه المدارس والتعليم كله. ومثل ذلك يقال في إنشاء مكتبة للمطالعة، وتكون هذه المكتبة إسلامية في مواجهة المكتبات الهدامة، وكذلك إنشاء مستشفى إسلامي لعلاج المسلمين وإنقاذهم من استغلال الإرساليات التبشيرية البشعة، وإن كانت المؤسسات الفكرية والثقافية تظل أشد خطراً، وأبعد أثراً. ولا شك أن من أهم ما ينطبق عليه معنى الجهاد في عصرنا هو: العمل لتحرير الأرض الإسلامية من حكم الكفار الذي استولوا عليها، وأقاموا فيها حكمهم بدل حكم الله، سواء أكان هؤلاء الكفار يهوداً أم نصارى أم وثنيين أم ملحدين، لا يدينون بدين، فالكفر كله ملة واحدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 فالرأسمالي والشيوعي والغربي والشرقي والكتابي واللاديني، كلهم سواء في وجوب محاربتهم إذا احتلوا جزءاً من ديار الإسلام، يقوم بذلك أدنى البلاد إلى هذا الجزء، يعاونهم الأقرب فالأقرب، حسب الحاجة، إلى أن يشمل الوجوب المسلمين جميعاً، إن لم تقم الكفاية إلا بالجميع. ولم يبتل المسلمون في عصر كما ابتلوا اليوم، بوقوع كثير من ديارهم في قبضة الكفرة المستعمرين، وفي مقدمة هذه الديار فلسطين التي سلط عليها شذاذ الآفاق من اليهود، ومثل ذاك كشمير التي تسلط عليها الهندوس المشركون وأريتريا والحبشة وتشاد والصومال الغربي وقبرص، التي تسلطت عليها الصليبية الحاقدة الماكرة، ومثل ذلك سمرقند وبخارى وطشقند وأزبكستان وألبانيا وغيرها من البلاد الإسلامية العريقة التي تسلطت عليها الشيوعية الملحدة الطاغية. واسترداد هذه البلاد كلها، وتخليصها من براثن الكفر، وأحكام الكفار واجب على كافة المسلمين بالتضامن، وإعلان الحرب المقدسة لإنقاذها فريضة إسلامية. فإذا قامت حرب في أي جزء من هذه الأجزاء بهذا القصد ولهذه الغاية: فإن تخليص البلد من أحكام الكفر وطغيان الكفرة فهي – بلا نزاع - جهاد في سبيل الله يجب أن يمول ويعاون، وأن يدفع له قسط من مال الزكاة، يقل ويكثر حسب حصيلة الزكاة من جهة، وحسب حاجة الجهاد من جهة ثانية، وحسب حاجة سائر المصارف الأخرى شدة وضعفاً من جهة ثالثة، وكل هذا موكول لأهل الحل والعقد، وذوي الرأي والشورى من المسلمين إن وجدوا". يتضح لنا من خلال هذا الحديث الهام ومما سبق ذكره بأن الأنشطة التي يقوم بها صندوق التضامن الإسلامي تدخل ولا شك في المعنى الموسع لكلمة {سَبِيلِ اللَّهِ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 فإنشاء مسجد في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا أو في أي دولة مسيحية في العالم؛ ليقف هذا المسجد إزاء كنيسة أو معبد، فهو جهاد في سبيل الله؛ لأن في ذلك إعلاء لكلمة الله. وكذلك إنشاء مسجد في دولة إسلامية فقيرة لتوفير أحسن الظروف للمصلين، فهو إعلاء لكلمة الله وجهاد في سبيله. وأن إنشاء مكتبات إسلامية ومراكز إسلامية وتزويدها بالكتب الإسلامية لتتصدى للأفكار المسيحية واليهودية والإلحادية، والتي تتمثل في المكتبات الغربية التي أنشأنها الجمعيات الكنسية والهيئات الإلحادية والمجمعات اليهودية، وزودتها بالكتب المسمومة لمحاربة الإسلام وثقافته، فإن إنشاء مكتبات ومراكز إسلامية إزاءها لجهاد في سبيل الله. وإذا كانت الدول الصليبية واليهودية مثل أفريقيا الجنوبية وإسرائيل تبحث عن أرقى التكنولوجيا لتصنيع القنبلة الذرية لمجابهة الدول الإسلامية فإنه يحق على الدول الإسلامية أن تقيم مراكز للأبحاث وتصنيع قنبلة مماثلة لما تصنعه هذه الدول، ويكون ذلك جهاداً في سبيل الله؛ لأن الدفاع عن الدول الإسلامية دفاع عن الإسلام. وأن مؤازرة ومساندة كل أمة مسلمة اغتصبت أرضها، وتوفير الإمكانيات اللازمة لتحرير هذه الأرض، فهو جهاد في سبيل الله، وأن إغاثة المسلمين المنكوبين من الجفاف والجوع والمرض وغيرها من الكوارث الطبيعية يعتبر ذلك من أعمال الخير والبر، وبالتالي فهو إنفاق على الفقراء والمساكين. وعليه، فإن كانت الأنشطة التي يقوم بها صندوق التضامن الإسلامي هي هذه، فإنه لأحوج في صرف جزء من أموال الصدقة لصالحه. والله أعلم. تيجاني صابون محمد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي إعداد فضيلة الشيخ مولاي مصطفى العلوي رئيس المجلس العلمي الإقليمي بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الحمد لله أما بعد.. فهذه إجابة مختصرة في موضوع الزكاة وصرفها لفائدة صندوق التضامن الاجتماعي.. أتشرف بعرضها على مجلس "مجمع الفقه الإسلامي" الموقر ... راجيا من الله التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} صدق الله العظيم. والكلام في هذا الموضوع طويل وعميق وعريض وسأختصره جهد المستطاع بحول الله. ينحصر القول فيه في ست مسائل: * المسألة الأولى: تعريف الزكاة لغة وشرعا * المسألة الثانية: موضوعها وتاريخ تشريعها * المسألة الثالثة: دليل وجوبها من الكتاب والسنة * المسألة الرابعة: المسؤول عن إخراجها وحكم مانعها * المسألة الخامسة: مصارف الزكاة * المسألة السادسة: نقلها وحكمه شرعا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 1- تعريف الزكاة لغة وشرعا الزكاة في اللغة النمو، والزكاء النماء، قال ابن منظور في لسان العرب: الزكاء ممدودا النماء والريع: زكا يزكو زكاء وزكوا: نما.. وفي حديث علي كرم الله وجهه: المال تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق.. والزكاة الصلاح، وزكاه، وزكى نفسه مدحها. والزكاة في الشريعة الجزء الذي فرضه الله في المال يؤخذ من الأغنياء ويرد على الفقراء، وهو قول الأئمة مالك والشافعي وأحمد، فهي جزء من كل ما فرضت فيه الزكاة، ولا تقبل بدله القيمة، وقال أبو حنيفة: إنها جزء من المال مقدر.. أي أن قيمة هذا الجزء تقبل عند الأداء. والذي ترجحه الأدلة هو الأول، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فقال: ((خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر)) رواه أبو داود وابن ماجه. وهكذا يبدو أن هذا الجزء المأخوذ من أموال الأغنياء لفائدة الفقراء سمي زكاة؛ أخذا من قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} التوبة: 103. فقد وصفها الحق تعالى بأنها تزكى، في حين أنها في العد والحساب تنقص اثنين ونصفا في المائة في زكاة المال، وعشرة في المائة من نتاج المزروعات. ذلك لأن أداءها من الأغنياء للفقراء يحدث تعاطفا وتراحما بين الفريقين، وتضامنا وتكافلا بين أعضاء المجتمع، فلا يوجد سبب للصراعات المحدثة في هذا العصر، والتي هي مظهر من مظاهر الطبقية المقيتة، والتي يتغنى بها من يصفون أنفسهم بالكادحين تارة، والمسحوقين تارة أخرى، مما أوقد ويوقد نار الفتنة والحقد والحسد والبغضاء بين الناس عندما ابتعدوا عن تعاليم الإسلام وهديه. فالحق سبحانه وتعالى عندما أمر نبيه عليه السلام بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} التوبة: 103. وصف هذا العمل بأنه يطهر ويزكي.. فهو يطهر النفوس من الحقد والحسد، ويطهر المال من كل الشوائب ويزكيه وينميه بتوفيقه لمالكه والمتصرف فيه باستعماله استعمالات تدر عليه أرباحا كثيرة، وبذلك ينمو ويزداد كلما أخذت منه الزكاة، واندفع صاحبه للعمل به في وجوه البر والخير والإحسان. وبتتبع تعاليم الإسلام عاشت الأمة الإسلامية عصورا زاهرة لم يعرف فيها هذا المظهر الطبقي المشين. فالزكاة كانت تؤدى لمستحقيها فتثير في النفوس كوامن الحب والتعاطف، وكان المجتمع الإسلامي بفضل ذلك كالجسد الواحد، لا فرق بين غني وفقير، وصدق الله العظيم: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} التوبة: 103. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 2- موضوع الزكاة وتاريخ فرضها فرضت الزكاة في السنة الثانية للهجرة النبوية، وذلك بنزول الآية الكريمة على الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم تأمره أن يأخذ الزكاة من المؤمنين به.. قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . وموضوعها المال، الذهب والفضة، وما في معناهما مما يقوم مقامهما من أوراق وسندات، وكذلك عروض التجارة والممتلكات المعدة لاستثمار المال عن طريقها. والمزروعات مما تنتجه الأرض والأنعام، والإبل والبقر والغنم. زكاة الذهب والفضة وما يقوم مقامهما: تجب إذا بلغ ما يملكه الإنسان منها النصاب وتم عليه الحول، والنصاب في الذهب عشرون دينارا، وفيه نصف دينار، وفي الفضة مائتا درهم وفيها خمسة دراهم؛ أي: ربع العشر، ودليل ذلك ما ثبت في السنة عن سيدنا علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون دينارا وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، وما زاد فبحسابه)) . رواه أبو داود. ولا يضم صنف لآخر من الذهب والفضة، فمن عنده مائة وتسعون درهما وتسعة عشر دينارا فلا زكاة عليه. عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قد عفوت لكم عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل 40 درهما درهما، وليس في 190 درهم شيء، فإذا بلغت 200 ففيها خمسة)) . رواه أصحاب السنن. أما عروض التجارة فتقوم ويؤدى ثمنها عينا فضة أو ذهبا أو ما يقوم مقامهما من الأوراق البنكية التي يتم بها التبادل في أرجاء العالم الإسلامي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 زكاة المزروعات وما تنتجه الأرض: يجب في زكاة ما تنتجه الأرض العشر فيما يسقى بالمطر والأنهار والعيون، ونصف العشر فيما يسقى بالآلات؛ أخذا من حديث سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فيما سقت السماء والعيون أو كان عشريا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر)) . وفي رواية أبي داود: أو كان بعلا العشر، ((وفيما سقي بالسواني نصف العشر)) والأنواع التي تزكى من المزروعات فقد اختلف العلماء في أمرها. فعن أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما: ((لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة؛ الشعير والحنطة والزبيب والتمر)) . رواه الطبراني والحاكم. وعن معاذ رضي الله عنه قال: "أما القثاء والرمان والقصب فقد عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال مالك في موطئه: الحبوب التي فيها الزكاة الحنطة والشعير والسلت والذرة والدخن والأرز والجلبان واللوبيا والجلجلان وما أشبه ذلك من الحبوب التي تصير طعاما. وروى ابن حزم في المحلى أن الإمام مالكا قال: الزكاة واجبة في القمح والشعير والسلت وكلها صنف واحد، وفي العدس والسلت وفي الدخن والسمسم والأرز والذرة، وفي الفول والحمص واللوبيا والعدس والجلبان والبسيل والترمس وسائر القطنيات، ورأى الزكاة في حب العصفر وزيت الفجل. والزكاة في الزبيب وفي زيت الزيتون، ولم يرها في شيء من الثمار، كالتين والقسطل والرمان والجوز واللوز وما أشبهه هـ. وقال أبو حنيفة: الزكاة في كل ما أنبتت الأرض من حبوب أو ثمار أو نوار، حتى الورد والسوسن والنرجس وغير ذلك ما عدا الحطب والقصب والحشيش، مستدلا بعموم قوله تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} الأنعام: 114. وكذلك ذهب الإمام أحمد إلى وجوب الزكاة في كل ما أخرجه الله من الأرض من الحبوب والثمار، مما ييبس ويبقى ويكال ويستنبته الآدميون في أراضيهم، سواء كان قوتا كالحنطة، أو من القطنيات أو من الأباريز: كالكزبرة والكروياء، أو من البذور كبذر الكتان والقرطم والسمسم، وتجب عنده أيضا فيما جمع وصفي للاقتيات والادخار؛ كالتمر والزبيب والمشمش والتين واللوز والبندق والفستق. وإذا كان سبب الخلاف بين قصر الزكاة على بعض الأصناف المذكورة في الأحاديث السابقة، وبين من رأى وجوبها في غيرها هو علة الاقتيات والادخار، فإن كثيرا من النباتات والثمار أصبح مدخرا وذا قيمة في الاقتيات والإنتاج، خصوصا وأن عموم اللفظ في قوله تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} بعد قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} أي يوم نضجه وجنيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 وكذلك قول الرسول عليه السلام: ((فيما سقت السماء العشر)) و " ما " من صيغ العموم كما هو معلوم. إذا كان الأمر كذلك فينبغي شمولها لكل ما يحقق انتفاع المزارعين مما تنبته الأرض، خصوصا وأن كثيرا من المزروعات كانت لا تدخر في الماضي ولا تستعمل إلا في الاقتيات الوقتي، وقد أصبحت اليوم تدخر بفضل التصنيع الحديث، وأصبحت لها أهمية كبرى في التغذية، كبعض البذور التي تنتج الزيوت، كبذور الكتان ونوار الشمس، وغيرها كثير. ولا يعقل أن تجب الزكاة في زيت الزيتون، ولا تجب في الزيوت الأخرى التي تستعمل في التغذية على نطاق واسع. وكذلك بعض الأنواع من الثمار مما أصبح يدخر ويغذي، وله أهمية قصوى في الاقتصاد الزراعي. والنصاب في كل نوع مما يدخر ويقتات به خمسة أوسق، وليس فيما دون ذلك زكاة؛ أخذا من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس في ما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة)) . وإذا كانت نفقات تحويل بعض الخضروات الموقوتة إلى مدخرات مقتاتة، فإن ما ذهب إليه ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم من إسقاط النفقة الزائدة في الزراعة وإخراج الزكاة عن الباقي إذا بلغ النصاب. أو تقاس على ما فيه نصف العشر فتزكى كلها دون نقص، إن في ذلك ما يؤذن بإخراج الزكاة فيها، مع مراعاة ما ينفق عليها حتى تؤول إلى الادخار والاقتيات، وإذا كان القصد من فرضية الزكاة هو سد خلة الفقراء والمساكين، والأصناف المذكورين في الآية، فمن السداد أن تفرض الزكاة في كثير من المنتجات الزراعية، خصوصا وقد أصبحت أهميتها في الميدان الفلاحي تتزايد، والإقبال على إنتاجها كبير، مثل اللفت السكري وقصبه والقطن والبطاطس والطماطم، وكذا الفواكه كالبرتقال والتفاح والإجاص وما شابهها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 وإذا كانت هذه الأشياء لا تكال فإن زكاتها تتعلق بالقيمة، فيقاس ما لا يكال على ما يكال، وينظر في أمره بلوغ النصاب لاعتبار الأقل كالشعير والحنطة مثلا. وهناك بعض المنتوجات تستعمل قبل يبسها وثبتت أمر وجوب الزكاة فيها مثل التمر والعنب، فعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فلما جاء وادي القرى إذا بامرأة في حديقة لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اخرصوا لها. وخرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق فقال: لها: عشرة أوسق. فقال لها: أحصي ما يخرج منها)) . رواه البخاري فهذا يدل على ثبوت الزكاة في هذا قبل تمام نضجه وجنيه وكيله، فسلك به صلى الله عليه وسلم طريق الخرص، وهو تقدير إنتاجه من لدن الخبراء. وهناك زكاة العسل، وقد اختلف فيها العلماء. فقال بعضهم: فيها زكاة، وقال آخرون: لا زكاة فيها، واستدل القائلون بزكاة العسل بحديث عبد الرحمن المتعي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إن لي نحلا. فقال صلى الله عليه وسلم: ((أد العشور)) . قال: قلت: يا رسول الله، احمها لي. قال: فحماها لي. وفي رواية: احم لي جبلها. فحمى لي جبلها. ومعلوم أن تربية النحل اليوم أصبحت عملا مثمرا، يهتم به الفلاحون، ويستثمرون منه أموالا كثيرة، ومن المصلحة أن يؤدي أصحابها العشور، مصداقا لهذا الحديث الذي أخذ به الأحناف والحنابلة وأيدوا صحته بعدة آثار يقوي بعضها بعضا. أما النصاب فيه، فعندما يبلغ عشرة أفراق، والفرق ستة عشر رطلا عراقيا، أي مائة وستون رطلا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 زكاة الأنعام: الأنعام هي الإبل والبقر والغنم: الضأن والمعز، ويشترط لوجوب الزكاة فيها أن تبلغ النصاب وأن يحول عليها الحول، وأن تكون سائمة، والسائمة هي التي ترعى من الكلأ المباح في أكثر الأيام، وهو قول أبي حنيفة وأحمد، وقال الشافعي: إن علفت قدرا تعيش بدونه وجبت فيها الزكاة، وإن كان قوتها علفا فلا زكاة فيها. وقال مالك والليث: فيها الزكاة مطلقا سائمة أو معلوفة. والنصاب يختلف من نوع لآخر. وتعد فيه الحملان والعجول والفصلان. وهو في الإبل خمسة. وفيها شاة. فإذا بلغت عشرا ففيها شاتان إلى خمسة عشر، ففيها ثلاث، وفي عشرين أربع شياه، أما إذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض أو ابن لبون، فإذا بلغت ستا وثلاثين ففيها ابنة لبون، وفي ستة وأربعين حقة، وفي واحد وستين جذعة. وفي 76 بنت لبون، وفي واحد وتسعين حقتان إلى مائة وعشرين، فإن زادت ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، والحقة هي التي أتمت ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، والجذعة هي التي أتمت أربع سنوات ودخلت في الخامسة. والنصاب في البقر ثلاثون ليس دونها شيء، ومن بلغت أبقاره ثلاثين ففيها تبيع، وهو ما له سنة، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة، وهي التي لها سنتان، ولا شيء في الوقص، وهو ما بين العددين، فإذا كثرت فذاك نصابها، في كل ثلاثين تبيع، وكل أربعين حقة. والنصاب في الغنم بنوعيه الضأن والمعز فليس فيها زكاة حتى تبلغ أربعين، وفيها شاة إلى مائة وعشرين، فإذا بلغت واحدا وعشرين ومائة ففيها شاتان، إلى مائتين، فإذا بلغت مائتين وواحدة ففيها ثلاث شياه، إلى ثلاثمائة، فإن زادت على ذلك ففي كل مائة شاة. والمقبول في الضأن الجذع، وفي المعز الثني، ويؤخذ الوسط، فلا يلزم الخيار، ولا تقبل العجفاء، ولا شيء في الوقص، وهو ما بين العددين مما سلف ذكره في أنصبة الأنعام، ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار، ولا تيس، ولا مريضة؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يسألكم خيار أموالكم ولم يأمركم بشرارها)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 3- فرضية الزكاة ودليلها أوجب الله على الأغنياء صدقة لفائدة الفقراء هي الزكاة. تؤخذ من أموال الأثرياء وتدفع للمحتاجين؛ تحقيقا للتضامن الذي أوجبه الله على المسلمين ليتم بذلك تلاحم المجتمع الإسلامي وترابطه. ويتحقق التكافل والتعاطف حتى يكون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، أو كالبنيان يشد بعضه بعضا. ودليل وجوب الزكاة قول الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة التوبة: 103، وقد ورد الأمر بها مقرونا بالصلاة في اثنتين وثمانين آية من كتاب الله تعالى، من ذلك قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} البقرة: 43 {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} سورة الحج 78، {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} سورة الأحزاب: 33. أما دليلها من السنة فقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة نقتصر على بعضها اختصاراَ. ففي صحيح الإمام البخاري أول كتاب الزكاة حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن فقال له: ((ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)) . وحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون، لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا بها فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا، لا يحل لآل محمد منها شيء)) . رواه أحمد والنسائي وأبو داود. وحديث أبي أيوب الأنصاري أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني بعمل يدخلني الجنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم)) وقد أجمع أئمة الإسلام على وجوب الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام المهمة؛ لأنها تطهر النفوس من الشح وتطهر المال مما يمكن أن يلتصق به من شوائب، قد لا يعلمها صاحب المال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 4- المسؤول عن إخراج الزكاة وحكم مانعها الزكاة ركن من أركان الإسلام الواردة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا)) . وإذن فمالك المال المأمور بتحقيق هذه الأركان هو المسؤول عن تنفيذ الزكاة، والذي يثاب إذا فعلها على وجهها المشروع، أو يعاقب إذا أخل بأدائها أو امتنع عنها، ومن ثم فرب المال هو المسؤول الأول عن أداء ما عليه من صدقة يعدها ويضعها في مكانها الذي شرعت له، وعلى الصفة التي أقرها التشريع الإسلامي. فإن لم يفعل أثم وألزم بأدائها من لدن الإمام. فإذا وضعها في يد من شرعت لهم برئت ذمته، وإذا أخذها الإمام منه برئت ذمته.. لحديث أنس رضي الله عنه أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله؟ قال: نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها إلى الله ورسوله، فلك أجرها، وإثمها على من بدلها)) رواه الإمام أحمد.. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها. قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم)) . متفق عليه. وعن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يسأله فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا، ويسألون حقهم؟ فقال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم)) . رواه مسلم والترمذي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 وقال النووي في المجموع: إن لم يبعث الإمام الساعي وجب على رب المال أن يفرق الزكاة بنفسه على المنصوص؛ لأنه حق الفقراء والإمام نائب عنهم، فإذا ترك النائب ذلك لم يتركه من عليه أداؤه. وبذلك تعين الأداء أولا على من عليه الحق، فإذا تم ذلك للإمام برئت ذمته. وإذا تم لأهله من الفقراء ومن ذكر معهم في الآية كلا أو بعضا برئت ذمته. وأما حكم مانعها فقد وردت فيه آيات وأحاديث كثيرة، نذكر منها ما يلي: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} التوبة: 24. وقوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} سورة آل عمران: 180. وحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: ((انتهيت إليه يعني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والذي نفسي بيده - أو قال: والذي لا إله غيره - ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها، إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه، تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها، كلما جازت أخراها، ردت عليه أولاها حتى يقضي الله بين الناس".)) أخرجه البخاري في الزكاة، ومسلم في باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان.. يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك.. ثم تلا: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} )) آل عمران: 180. وأخرج الدارمي في سننه حديثا مطولا بمعنى حديثي أبي ذر وأبي هريرة.. تحت رقم: 1625. ومن امتنع من أداء الزكاة وهو مقر بها فإنه آثم ولا يحكم بردته، وعلى الإمام أن يأخذها منه قسرا، وكذلك إذا امتنع قوم من أدائها فإن على الإمام أن يأخذها ولو أدى ذلك إلى قتالهم؛ عملا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 مصارف الزكاة: مصارف الزكاة هي الأصناف الثمانية التي ذكرها الله في الآية الكريمة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فالحق سبحانه وتعالى اقتضت حكمته تفضيل بعض الناس على بعض في شؤون الحياة والمال، فقال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} النحل: 71. فجعلهم سبحانه سواء في الانتفاع به، ولكنهم في الملك والتصرف متفاوتون اختبارا لهم جميعا وامتحانا، كما قال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} الأنبياء: 35. وحتى لا يؤدي هذا التفاوت إلى خلل وفتنة بين الناس وإلى وجود ما عرف في اصطلاح العصر بالطبقية المتصارعة.. طبقة المترفين المتخمين المسرفين، وطبقة المحرومين والمسحوقين، وحتى لا يظل النزاع والصراع بين الطرفين على أشده، فرض الإسلام الصدقة على الأغنياء لترد على الفقراء، وبذلك يخف مفعول الفوارق المادية بين أعضاء المجتمع الإسلامي، فتنمو العواطف والشفقة والرحمة المتجلية في العطاء والبذل من جانب إلى آخر، ويسري الحب بينهما بدل الحقد والحسد الذي يؤججه الحرمان في بعض النفوس، وبذلك يقوى التضامن والتكافل بين جميع أصناف البشر. ولم يكتف الإسلام بهذا القدر المفروض فحث على البذل والإنفاق، وفرض أنواعا أخرى من الأداءات غير الزكاة، وفي مناسبات شتى مما وصف بعضه بأنه كفارة أي أنها تكفر الذنوب وتمحوها، مثل كفارة الإفطار في رمضان عمدا وكفارة اليمين الغموس، والقتل الخطأ وغير ذلك مما يحدث للناس في سلوكهم ومعاملاتهم وعبادتهم. ويجب التعريف بكل صنف من الأصناف الواردة في الآية الكريمة بعد البحث عما تفيده أداة الحصر التي افتتحت بها الآية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} . وهذا معناه أن ما جاء بعدها ينحصر في الأفراد المذكورين وهم الثمانية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 واختلف العلماء في لام {لِلْفُقَرَاءِ} هل هي للملك أو للمحل؟ فعلى أنها للملك فيجب إعطاء كل صنف حظه من الصدقة، ولا يجوز إعطاؤها لصنف دون آخر، وعلى أنها للمحل؛ أي: أن الأصناف الثمانية محل توضع فيه الصدقة، ففي أي صنف منها وضعت الصدقة أجزأت، قال بالأول الشافعي، ويسانده ما ذهب إليه حديث زياد بن الحارث الصدائي قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الصدقات فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يرض في الصدقات بحكم نبي ولا غيره حتى جزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من أهل تلك الأجزاء أعطيتك)) . رواه أبو داود والدارقطني. وذهب الإمام مالك وغيره إلى أنها للمحل؛ أي: أن الأصناف المذكورة في الآية محل توضع فيه الزكاة وتصرف له، وفي أيها وضعت أجزأت مستدلين بقول الله سبحانه: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} البقرة: 271. وبحديث: ((أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم.)) وقد اختلف العلماء في توزيع الزكاة على الأصناف الثمانية الذين خصصتهم الآية الكريمة بها: الفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، والأرقاء، والغارمين، وسبيل الله، وابن السبيل، فالإمام مالك يرى أن للمنفذ للصدقة أن يجتهد ويتحرى موضع الحاجة من الأصناف المذكورة، ويقدم الأولى من أهل الخلة والفاقة، وله أن ينظر في ذلك كل عام، ويضعها فيمن يراه أشد احتياجا من غيره، وهو قول عمر وعلي وحذيفة وابن عباس رضي الله عنهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 وقال الإمام الشافعي: يجب صرفها إلى الأصناف جميعهم إن وجدوا، فإذا كان المالك هو الموزع سقط نصيب العاملين عليها، وبقي السبعة الآخرون، وهكذا يسقط نصيب كل صنف لم يوجد، ولا يجوز ترك صنف منهم مع وجوده، وقال أبو حنيفة: هو مخير يضعها في أي صنف شاء. وقال بعض العلماء: إذا كان المال كثيرا يحتمل القسمة قسمه على جميع الأصناف، وإن كان قليلا جاز أن يعطي للبعض دون البعض، وسبب الخلاف يرجع إلى اللفظ ومعارضته للمقصود الذي هو سد الخلة لدى المحتاجين، فمن نظر إلى اللفظ وقال بأن اللام تفيد الملك، قال بتعميم الأصناف الثمانية أو من وجد منهم على الأقل، ومن نظر إلى الهدف من التشريع ورأى أن اللام للمحل وليست للملك، قال: يجوز وضعها في صنف أو أصناف دون تعميمها على الأصناف الثمانية. ولعل مستند القائلين باجتهاد الموزع لها بتحريه الأحوج فالأحوج أن الله تعالى جعل الصدقة مختصة بالأصناف الثمانية غير جائزة لغيرهم، وهذا الاختصاص لا يستلزم قسمتها عليهم بالسوية، فمن وجبت عليه زكاة ووضعها في أي صنف من هؤلاء المستحقين فإنه يكون بذلك قد قام بما وجب عليه وبرئت ذمته، وكذلك إذا أعطاها للساعي المعين من طرف الإمام والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 الفقراء والمساكين اختلف العلماء ... لغويون وفقهاء ... في الفرق بين الفقير والمسكين، فذهب بعضهم إلى أن الفقير أحسن حالا من المسكين، فالفقير هو الذي له بعض ما يكفيه، والمسكين الذي لا شيء له، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، والقاضي عبد الوهاب، وقال آخرون: إن المسكين أحسن حالا من الفقير، مستدلين بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ من الفقر، بينما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني مع المساكين.)) وهو استدلال معقول ومقبول، لو كان المسكين أشد فقرا من الفقير، لما استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من هذا وطلب أن يعيش في الحالة الأخرى مسكينا ويموت مسكينا، ولا شك أن دعاءه مستجاب، وقد قبض صلى الله عليه وسلم وله مال مما أفاء الله عليه، واحتجوا أيضا بقول الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} الحشر: 8. ولا شك أن الذي أخرج من دياره وماله لم يبق منه شيء، ولذلك سماهم الله فقراء.. فصح أن الفقير الذي لا يملك شيئا أصلا. وقيل: إن الكلمتين بمعنى واحد، وإنما جاءت كلمة المساكين تأكيدا، فالمساكين هم الفقراء الذين يتعففون عن السؤال، ولا يفطن لهم لتحملهم وصبرهم وظهورهم بمظهر القناعة وعدم الاحتياج، ويؤيد هذه النظرية حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان.. إنما المسكين الذي يتعفف واقرؤوا إن شئتم: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} )) البقرة: 273. وفي لفظ آخر: ((ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان.. ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس)) . رواه البخاري ومسلم. وإلى هذا ذهب أصحاب مالك وهو قول الشافعية أيضا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 الحد الأدنى للفقر والمسكنة اختلف العلماء في الحد الأدنى للفقر والمسكنة الذي يجوز معه أخذ الصدقة، فقال مالك: من له دار سكنى وخادم لا يستغني عنهما يعطى من الزكاة. وقال أبو حنيفة: من معه عشرون دينارا أو مائتا درهم فلا يأخذ من الصدقة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم)) .. فاعتبر من يملك نصابا غنيا لا يجوز له أن يأخذ الصدقة، وقال الشافعي وأبو ثور: من كان قويا على الكسب والاحتراف مع قوة البدن وحسن التصرف حتى يغنيه ذلك عن الناس فالصدقة عليه حرام. محتجا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تحل الصدقة لغني ولا ذي مرة سوي.)) رواه أبو داود والترمذي والدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما. روى جابر رضي الله عنه قال: جاءت لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة.. فركبه الناس فقال: ((إنها لا تصلح لغني صحيح ولا لعامل.)) رواه الطبراني. وعن عبد الله بن عدي بن الخيار قال: "أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة، فسألاه فرفع بصره وخفضه فرآنا جلدين فقال: ((إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب)) رواه أبو داود. وقال أبو عيسى الترمذي في جامعه: إذا كان الرجل قويا محتاجا، ولم يكن عنده شيء فتصدق عليه أجزأه عن المتصدق. وحمل الحديث السابق على المسألة أي أن القوي لا يجوز له أن يسأل، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 الذين لا يجوز أن تعطى لهم الصدقة لا يجوز إعطاء الصدقة لبني هاشم؛ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الصدقة لا تحل لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس)) ، وحديث أبي هريرة قال: أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( ... كخ.. كخ ليطرحها)) وقال: ((أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة؟)) متفق عليه. ولا يجوز إعطاء الصدقة للكافر؛ أخذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم.)) ، ويستثنى من ذلك المؤلفة قلوبهم؛ إذ يجوز أن يمنحوا من الصدقة؛ فقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بذمي طاعن في السن عاجز عن العمل، وهو يستجدي، فسأله عن حاله.. ولما علم أنه محتاج وأنه من أهل الذمة أمر له بما يسد عوزه، ولا يجوز إعطاء الصدقة لمن تلزم نفقتهم للمصدق كالزوجة والأبوين والأبناء. العاملون عليها (أي على جمع الزكاة) عندما يتولى الإمام جمع الزكاة يكلف ذلك رجالا من عماله، وهؤلاء يجوز أن يأخذوا أجورهم من الزكاة ولو كانوا أغنياء، إذا لم يأخذوا أجورهم من ميزانية الدولة، شريطة أن يكونوا مسلمين؛ لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل عليها، ورجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه منها، فأهدى منها لغني.)) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم ... ومن أصاب شيئا زائدا على أجره من العاملين فهو غلول منهي عنه {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . آل عمران: 161. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 المؤلفة قلوبهم كل من رأى فيه الإمام نفعا للإسلام والمسلمين إذا أعطاه من مال الصدقة يستميله بذلك للدخول في الإسلام، إن كان ما زال على كفره، أو ليطمئن إلى إسلامه إن كان حديث عهد بالإسلام، أو رجل له نفوذ في قومه يستميله وقومه للدخول في دين الله.. وذلك أخذ من عمل الرسول عليه السلام حيث أعطى صفوان بن أمية عطاء كبيرا بعد غزوة حنين وقال صفوان: هذا عطاء من لا يخشى الفقر، والله لقد أعطاني النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لأبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي. وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسأل شيئا عن الإسلام إلا أعطاه.. فأتاه رجل فسأله فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا؛ فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.)) ومذهب أبي حنيفة أن حظ المؤلفة قد سقط بانتشار الإسلام وغلبته. أما المالكية والحنابلة والشافعية فيقولون بتأليف القلوب على الإسلام في كل زمان، وذلك عند الحاجة إليه، ولعله في هذا الوقت بالذات يفيد.. خصوصا في البلاد ذات الأقلية المسلمة والتي توجد تلك الأقليات المسلمة في حالة تهاجم فيها من لدن طوائف المنصرين وغيرهم من أصحاب المذاهب المنحرفة عن الإسلام؛ كالقاديانية والبهائية وغيرها، ولا شك أن استعمال أموال الزكاة في هذا الميدان له تأثير عظيم في تثبيت الكثيرين من البسطاء على دينهم، وعلى المسؤولين من المسلمين أن يجتهدوا في الأسلوب الذي يجب العمل به، والمقدار الذي يعطى من مال الصدقات لتثبيت الإيمان في قلوب هؤلاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 وفي الرقاب وهو يشمل المكاتبين والأرقاء وافتكاك الأسرى من أيدي الكفار؛ وذلك أخذا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أتاه رجل فقال: يا رسول الله، دلني على عمل يقربني من الجنة ويبعدني من النار. قال: ((أعتق النسمة، وفك الرقبة)) .فقال: يا رسول الله، أوليس واحدا؟ قال: ((لا، عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين بثمنها)) . رواه أحمد والدارقطني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة كلهم حق على الله عونه.. الغازي في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح المتعفف.)) رواه أحمد وأصحاب السنن. واختلف العلماء في المراد من قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} فقال الشافعي وأبو حنيفة: إن المراد به المكاتبون يعطون من مال الصدقة ما يحقق حريتهم التي كاتبوا عليها. وقال مالك وأحمد وأبو ثور: المراد بذلك شراء رقاب وعتقها؛ لأن المكاتب قد يعان ولا يتم عتقه إلا عندما لا يبقى في ذمته درهم، ولأن المكاتب داخل في الغارمين.. والظاهر أن اللفظ يشمل الأمرين: شراء الرقبة وعتقها، ومساعدة المكاتب على فك رقبته، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 الغارمون الغارمون هم الذين استدانوا لأغراض مشروعة؛ كالإنفاق على من تجب نفقته على المستدين أو من ضمن دينا فلزمه الوفاء به أو تحمل حمالة لإصلاح ذات البين، وما أشبه ذلك، فهؤلاء يأخذون من الصدقة ما يوفي ديونهم، وذلك أخذا من حديث رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تصدقوا عليه. فتصدق الناس عليه، فلم يبلغوا بذلك وفاء دينه.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لغرمائه: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذاك.)) وحديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تحل المسألة إلا لثلاث: لذي فقر مدقع.. أو لذي غرم مفظع.. أو لذي دم موجع.. .)) وهو الذي تحمل دية عن قريبه أو صديقه. وحديث قبيصة بن مخارق قال: تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: ((أقم حتى تأتينا الصدقة فآمر لك بها.. ثم قال: يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، أو قال: سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، أو قال: سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا.)) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 وفي سبيل الله سبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته سبحانه وتعالى والقصد به هنا كل عمل من شأنه أن يكسب صاحبه رضى الله سبحانه. وجمهور العلماء على أن المراد به في الآية الغزو في سبيل الله، والجهاد لنصرة الإسلام والدفاع عن المسلمين.. فسهم سبيل الله من الزكاة يصرف في مصالح الجهاد بإعداد العدة وتجهيز الجيوش بالسلاح المناسب، وشراء الآلات وصناعتها. وتهييئ كل ما يناسب المقام زمانا ومكانا، حتى يضمن النصر للحق والعدل، ولتكون كلمة الله هي العليا. ويرى بعض العلماء أن سبيل الله يدخل فيه كل عمل يحقق جانبا من جوانب المصالح الإسلامية، ويعود على المجتمع الإسلامي بالخير ويدفع عنه كل سوء.. سواء في ذلك الميدان الاجتماعي كالتربية والتعليم والثقافة، أو الميدان الصحي، كصناعة الأدوية وبناء المستشفيات، وتكوين الأطباء والأساتذة، ومساعدة الدعاة الذين يجابهون الغزو الفكري، ودعاة التنصير والإلحاد، وغير ذلك من الميادين؛ لأن سبيل الله شامل لكل ما يجلب الخير ويدفع الشر عن المسلمين. وابن السبيل هو المسافر المنقطع عن موطن سكناه وأهله وماله، فهذا يعطى من الصدقة ما يحقق مقصده، ما دام لم يجد من يعينه بقرض إلى أن يعود إلى بلده.. وذلك إذا كان سفره مباحا. وهو مذهب الشافعية، أما مذهب المالكية والحنابلة فابن السبيل المستحق للزكاة.. هو المسافر الذي انقطعت به السبل، ولم يجد من يقرضه حتى يعود إلى بلده، أو ليس له مال في بلده يؤدي منه ما استلفه في سفره.. فإن كان له مال في بلده ووجد من يقرضه فلا يعطى من الزكاة، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 نقل الزكاة وحكمه شرعا اختلف العلماء في جواز نقل الزكاة من مكان وجوبها إلى بلد آخر، فقال علماء الشافعية وبعض المالكية: لا يجوز نقل الصدقة ويجب صرفها في البلد الذي يوجد فيه المال المزكى، إلا إذا فقد من يستحقها في المكان الذي وجبت فيه.. واستدلوا لمذهبهم بحديث عمرو بن شعيب "أن معاذ بن جبل لم يزل بالجند (اسم بلد) حيث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قدم على عمر فرده على ما كان عليه، فبعث إليه معاذ بثلث صدقة الناس، فأنكر ذلك عمر.. وقال: لم أبعثك جابيا ولا آخذا جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فترد على فقرائهم. فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحدا يأخذه مني. فلما كان العام الثاني بعث إليه بشطر الصدقة فتراجعا بمثل ذلك، فلما كان العام الثالث بعث إليه بها كلها، فراجعه عمر بمثل ما راجعه، فقال ماعذ: ما وجدت أحدا يأخذ مني شيئا". رواه أبو عبيد فدل ذلك على أن عمر لا يجيز نقلها إلا عندما لا يوجد من يستحقها في نفس المكان الذي فرضت فيه. وفي حديث معاذ.. ((أخبرهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم..)) وحديث أبي جحيفة قال: قدم علينا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا، فكنت غلاما يتيما فأعطاني قلوصا.. رواه الترمذي.. وعن عمران بن حصين أنه استعمل على الصدقة، فلما رجع قيل له: أين المال؟ فقال: وللمال أرسلتني؟ أخذناه من حيث كنا نأخذه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناه حيث كنا نضعه. رواه أبو داود وابن ماجه. وعن طاوس قال: كان في كتاب معاذ: من خرج من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته. رواه الأثرم في سننه، وبهذه الأدلة ثبت أن الصدقة تستعمل في المكان الذي يوجد فيه المال المزكى، إلا إذا استغنى أهل البلد فيجوز نقلها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 أما الحنفية فقالوا بكراهة نقلها، إلا إذا كان هناك سبب معقول.. كأن ينقلها المصدق لذي قرابة محتاج؛ لأن في ذلك معنى آخر زائدا وهو –صلة الرحم- أو يكون أهل البلد المنقولة إليه أشد حاجة إليها من أهل البلد الذي وجبت فيه، وكذلك نقلها من دار الكفر إلى دار الإسلام أو نقلها إلى طلبة علم وما شابه ذلك، ففي هذه الأحوال لا يكره نقلها. أما مذهب الحنابلة فهو عدم جواز نقل الصدقة من بلدها إلى مسافة القصر، ولا بأس بنقلها فيما دون ذلك. وإذا كان الرجل في بلد وماله في بلد آخر فالمعتبر البلد الذي فيه المال، وإذا كان المال بعضه في بلد وبعضه في بلد آخر أدى صدقة كل مال في البلد الذي يوجد فيه ذلك المال، بخلاف صدقة الفطر فإنها تؤدى في البلد الذي يوجد فيه من وجبت عليه؛ لأن الوجوب يتعلق بالشخص في هذه وبالمال في تلك. وهكذا يتبين أن الصدقة يجب صرفها في المكان الذي وجبت فيه إلا إذا كان هناك سبب يجيز نقلها إلى مكان آخر، وهو أمر معقول. ومالك يرى أن نقلها عندما يوجد سبب النقل يكون بأمر الإمام على سبيل النظر والاجتهاد؛ لأن النظر والاجتهاد لا يتم على الوجه المقبول إلا من المسؤول وليس من رب المال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 ومن أخرج صدقته ووضعها في غير مستحقها فهل تجزئه أم يجب عليه أداؤها لمن يستحقها مرة أخرى.. فقال أبو حنيفة: يجزئه ما دفعه ولا يطالب بزكاة أخرى. مستدلا بحديث معن بن يزيد الذي قال: إن أباه أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها في يد رجل في المسجد. قال معن: فجئت فأخذتها وأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت. فخاصمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن)) . رواه أحمد والبخاري. كما يؤيده حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة.. فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق الليلة. فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون.. تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن بصدقة.. فخرج بصدقة فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون.. تصدق الليلة على غني.. فقال: اللهم لك الحمد على زانية وعلى سارق وعلى غني. فأتي فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعفف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعفف به عن زناها.. وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما آتاه الله عز وجل)) . رواه البخاري ومسلم وأحمد. وذهب مالك والشافعي وأحمد والثوري إلى أنه لا يجزئه دفع الزكاة إلى من لا يستحقها، فإذا تبين خطؤه وجب عليه إخراجها مرة أخرى ودفعها إلى مستحقيها. واتفقوا على أنه إذا تبين له أنه أعطاها لعبد أو كافر أو هاشمي أو ذي قرابة تجب نفقته على المزكي، فإنها لا تجزئه أيضا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 المتصرف في الصدقة في عهد النبوة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث العاملين على جمع الصدقة، ويصرفها في مستحقيها؛ طبقا لما أمره الله به: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} . التوبة: 103. ومعلوم مما سبق أن بيان مستحقيها لم يتركه الله سبحانه لاجتهاد أحد ابتداء من الرسول عليه السلام، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داوود عن الصدائي أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه من الصدقة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يرض أن يحكم نبي ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك)) . فالله تعالى تولى بيان المستحقين الذين تعطى لهم الزكاة في آية التوبة السابق ذكرها {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} التوبة:60. وجاء بعده خلفاؤه الراشدون فبعثوا عمالهم على الصدقات، وكانوا يجمعونها ويضعونها في أهلها، ويأتون الخليفة ببعضها، كما تشير إليه الأحاديث والآثار السابقة في هذا البحث المتواضع. وعليه، فالأصناف الثمانية لم تكن الصدقة توزع عليهم بالتساوي، لا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد خلفائه، فالثابت بالنصوص المذكورة سابقا تدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطى من الصدقة لبعض الفقراء والمساكين ولبعض المؤلفة قلوبهم، وكان الفرق عظيما بين ما أعطى لهؤلاء ولهؤلاء، وحتى لصنف واحد لم يكن يعطيهم بالتساوي، وليس في الآية التي نصت على الأصناف الثمانية ما يفيد أنه يجب القسمة بينهم بالتساوي، ولا بين أفراد كل صنف منهم ... وكذلك أمر صلى الله عليه وسلم معاذا عندما أرسله إلى اليمن فأمر أن يأخذ صدقاتهم ويردها في فقرائهم، ولم يوصه بقسمتها بالتساوي بين الأصناف، ولا بين أفراد الصنف الواحد، مما يدل على أن للموزع أن يجتهد ويعطي كل فرد وكل صنف ما يدفع عنه غائلة الفقر والمسكنة أو ما يفيد أي إنسان من الأصناف الأخرى.. لأن الغرض هو سد الخلة عند الفقراء والمساكين وما يحقق القصد من وضعها في أي صنف من الأصناف الأخرى من المؤلفة قلوبهم والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل، وكذا العاملين عليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 هذا إذا تولى الإمام أو عامله جمع الصدقة وتوزيعها كما كان عليه الأمر في العصر النبوي وعصر الخلفاء الراشدين وصدر الإسلام الزاهر. أما إذا كان الموزع هو صاحب المال المزكى، فعليه أن يجتهد ويتحمل مسؤولياته لكي تبرأ ذمته، وقد سبق التنصيص على أنه إن وضعها في غير مستحقها فإن كان خطأ فقيل: إنه أتى بالواجب عليه، وبرئت ذمته لحديث أبي هريرة السابق.. أما إذا تعمد فتبقى ذمته مليئة بما وجب عليه؛ لأنه لم يضعها في مستحقها. أما إذا دفعها للإمام أو نائبه فقد برئت ذمته؛ لأنه أدى الواجب على النحو الذي أمر به وسلك مسلك المسلمين على عهد الرسول عليه السلام وخلفائه الراشدين. وذلك أخذا من حديث أنس قال: أتى رجل من بني تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: حسبي يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها، فلك أجرها، وإثمها على من بدلها.)) رواه الإمام أحمد. وحديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنها ستكون بعدي أثرة، وأمور تنكرونها. قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا قال: تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم)) رواه البخاري ومسلم. إذن فللمسلم أن يعطي الزكاة لمن يستحقها بنفسه، وفي البلد الذي وجبت فيه، وله أن ينقلها إلى مكان آخر قريب لأسباب معقولة إذا استغنى فقراء البلد عنها، وله أن يدفعها للخليفة إذا كان يعمل على جمعها وإعطائها لمستحقها، فإن أخل بالعدل في توزيعه فعليه إثمه، أما صاحب المال فقد برئت ذمته. ومن هنا يمكن القول بدفع الصدقة لصندوق التضامن الإسلامي إذا كان ينوب عن الإمام في الجمع والتوزيع.. فما هو هذا الصندوق ومن هم القائمون عليه؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 صندوق التضامن الإسلامي يجب معرفة هذه المؤسسة الإسلامية الهامة في حياة الأمة الإسلامية.. خصوصا في الظروف التي تعيشها، والتي يعمل كل مؤمن مخلص في عقيدته عارف بمسؤولياته.. قادة وعلماء على إنقاذ الشعوب الإسلامية من الحالة المتردية التي تعيشها شعوب العالم الإسلامي؛ من تمزق واختلاف وتفرق وابتعاد عن تعاليم الإسلام ونهجها القويم، مما أوقع الأمة الإسلامية بين أيدي خصومها وأعداء دينها فريسة تتعاورها أيدي الثالوث الرهيب: الصليبية والشيوعية ... وربيبتها الصهيونية المدللة، وهذا لا يحتاج إلى شرح وتوضيح؛ لأن العالم أصبح ميدانا لتصرفات هذا الثالوث، وقد يختلفون فيما بينهم، ولكنهم إزاء أمة الإسلام تجدهم أقانيم ثلاثة، هدفهم واحد هو الوقوف في وجه الأمة الإسلامية؛ عربيها وعجميها ... شرقيها وغربيها. وعلى المسلمين وعلمائهم وقادتهم، أن يراجعوا حسابهم مع أنفسهم، ويزيلوا كل أسباب الفرقة والخلاف، ولا يمكن ذلك إلا بالرجوع إلى المنهج الإسلامي المتكامل.. والذي لا تنجح خطة لإنقاذ ما بقي من ذماء روحي في مجتمعنا الإسلامي إلا به. ولعل في هذه الاجتماعات والمؤتمرات الرئاسية التي يدعو إليها رؤساء وملوك المسلمين فترة بعد فترة، ما يعمل على رأب الصدع وجمع الكلمة والعمل على إيقاظ الهمم وإحياء روح الأخوة، والتعاضد والتعاون؛ عملا بأمر الله العلي القدير: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} آل عمران: 103، وقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} المائدة: 2. ولا شك أنه من نتائج هذه المؤتمرات الرئاسية التي تعقد من حين لآخر تأسيس هذه المؤسسة التي يدل اسمها على عملها، فالأمة الإسلامية مدعوة من كتاب ربها وعلى لسان نبيها صلى الله عليه وسلم لأن تكون خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، ولا تكون كذلك إلا إذا عملت بمبدأ التضامن والتكافل في سائر مجالات الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية؛ لتصبح كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 وبالرجوع إلى تاريخ تأسيس منظمة التضامن الإسلامي يظهر حسن القصد من هؤلاء الرؤساء الذين كونوا هذه المؤسسة الطيبة، غير أن الملاحظ أن الفكرة تبدو وهي ضرورية لحياة الأمة الإسلامية، ولكنها مع الأسف تسير ببطء.. فقد أسس صندوق التضامن الإسلامي بقرار من المؤتمر الثاني للقمة الذي انعقد عام 1394هـ، الموافق لسنة 1974م في الجمهورية الإسلامية بباكستان. ووافق المؤتمر الإسلامي الخامس بعاصمة ماليزيا على النظام الأساسي لهذه المؤسسة بعد ذلك.. وجعل من أهم أهدافه رفع مستوى المسلمين في العالم في كل المجالات ... سياسية واقتصادية واجتماعية.. ومن أهم ذلك الوقوف مع الشعب المسلم المشرد من أرضه – فلسطين - أمام سمع وبصر.. كل دول العالم. ولم يكتف الأعداء بطرد الشعب من بلاده وأرضه بل أرادوا محو أهم مظهر له في الحياة ... قبلة المسلمين الأولى، ومسرى رسولهم صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى.. وهذا المسجد والمدينة التي تضمه والقطر الذي توجد فيه في ذمة كل المسلمين.. عملا بعهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي فتحه.. لأن ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فكيف بهذه وقد سعى بها خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر. ويمكن إلقاء نظرة خاطفة على أهداف هذه المؤسسة التي أحدثها مؤتمر القمة الثاني وصادق على نظامها وأهدافها المؤتمر الخامس، يرى الإنسان أهمية المؤسسة واستحقاقها لكل عون ومساعدة.. خصوصا وأن جل تلك الأهداف تدخل في نطاق مصارف الزكاة. فالمادة التي تنص على مساعدة المتضررين من الأزمات والمحن والكوارث الطبيعية التي تتعرض لها البلاد الإسلامية. والمادة التي تشير إلى تشجيع البحث العلمي والتقني وإنشاء الجامعات في البلاد المفتقرة إليها. ومنح المساعدات المادية والمعنوية للأقليات المسلمة في أنحاء العالم. والعمل على نشر الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة بتمويل البعثات العلمية لنشر الإسلام والدفاع عن عقيدته وتعاليمه، ودعم المراكز الإسلامية داخل الدول غير المسلمة.. والعمل على تنظيم الشباب المسلم بما يحفظ عليه عقيدته وسلوكه وتكوينه فكريا وعلميا وجسميا، بتنظيم الحلقات الدراسية التي تكون الشباب من لدن العلماء المفكرين والمتخصصين في كل القضايا التي تجعل من الشباب رجال المستقبل الذين يتحملون الأعباء عن قوة وجدارة. ولا شك أن تنفيذ هذه الأهداف يحتاج إلى بذل مادي واسع، والمعتقد أنها كلها أو جلها داخلة في نطاق ما تهدف إليه الآية الكريمة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} التوبة: 60. خصوصا البند السابع {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . ولا شك أن المسؤولين عن هذه المؤسسة – الموظفين- يدخلون في البند الثالث؛ لأنهم يعملون على جمع الصدقات وصرفها في مستحقيها، وهم مسلمون رشداء، لا يشك في صلاحيتهم وقدرتهم على المأمورية المنوطة بهم ومسؤولياتهم أمام الذين أسندوا إليهم هذه المهام، وأمام الله تعالى. نعم ... لا بد من توزيع الصدقات على فقراء البلد حتى يكتفوا، ولا بأس بما يفضل عنهم كما كان على عهد الرسول والخلفاء الراشدين. والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل. كتبه وحرره عبد ربه الراجي عفوه ومغفرته مولاي مصطفى العلوي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 مراجع البحث كتب التفسير: 1- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي الجزء 8 2- أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي الجزء 2 3- الكشاف للزمخشري الجزء 3 4- تفسير ابن كثير لابن كثير الجزء 3 5- التحرير والتنوير الطاهر ابن عاشور الجزء 10 6- تفسير المنار رشيد رضا الجزء 10 7- الكريم الرحمن الجزء 3 8- في ظلال القرآن سيد قطب الجزء 10 كتب الحديث: 9- فتح الباري على صحيح البخاري الجزء 3 10- النووي على صحيح مسلم الجزء 7 11- كتاب التاج للشيخ منصور الجزء 2 12- اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان الجزء 1 13- الزرقاني على موطأ الإمام مالك الجزء 2 14- نيل الأوطار للشوكاني الجزء 4 15- شرح الجامع الصحيح للربيع بن حبيب الزاهيدي الجزء 2 16- سنن الدارمي لعبد الله بن عبد الرحمن الجزء 1 17- عون المعبود على سنن أبي داود لأبي الطيب الجزء 4 18- سبل السلام على بلوغ المرام لمحمد بن إسماعيل الجزء 2 19- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري الجزء 3 20- حاشية الرهوني على بلوغ المرام الجزء 1 21- شرح السنة للإمام البغوي الجزء 5 22- تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير الجزء 2 23- الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني الجزء 9 24- المصنف ابن أبي شيبة الجزء 3 25- لمصنف لعبد الرزاق الجزء 4 26- مجموع فتاوى ابن تيمية الأجزاء: 17-25-28-33-35 27- التمهيد لأبي عمر يوسف بن عبد البر الأجزاء: 2-4-10-18 كتب الفقه: 28- الكافي لأبي يوسف بن عبد البر القرطبي الجزء 1 29- الشرح الصغير على أقرب المسالك لأحمد الدردير الجزء 1 30- الروضة الندية شرح الدرر البهية الجزء 1 31- المحلى لابن حزم الجزء 5 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي إعداد سعادة الدكتور عبد الله إبراهيم بسم الله الرحمن الرحيم هذا البحث سيتناول بإيجاز مدى إمكان إنشاء إدارة عالمية للزكاة تهتم جميعها على المستوى العالمي لصالح صندوق التضامن الإسلامي. ومعني هذا أنه إذا أمكن ذلك فستكون هناك إدارة عالمية للزكاة مهمتها القيام بجمع الزكاة وما إليها من موارد أخرى واستئجارها. ((صندوق التضامن الإسلامي)) يقوم بالتحقق من مصارفها الشرعية على مستوى الدول الإسلامية ومجتمعاتها في الشرق والغرب، وفي القارات والمحيطات، فينفق عليها مما جمعته الإدارة المذكورة، وبالتالي فلا تبرز هناك مسألة صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي. فإن الصندوق ليس حتما من مصارف الزكاة حتى ينفق من الزكاة لصالحه، بل يكون الصندوق أداة إيصال الزكاة إلى مصارفها الشرعية، وعليه فسنتعرض في هذا البحث إلى ما يأتي: أ) إمكانات تكوين الإدارة العالمية للزكاة. ب) مصادر تمويلها. ج) مصارفها. أولا: إمكانات تكوين الإدارة العالمية للزكاة: ((لصالح صندوق التضامن الإسلامي)) لعل كل واحد منا لا يحتاج إلى بذل جهد كثير للوقوف على هذه الإمكانات؛ حيث إن الأخبار من الصحف والمجلات والإذاعات الإسلامية والأجنبية قد كشفت لنا جميعا الشيء الكثير عن هذه الإمكانات، بل إننا لنجد إلى جانبها رغبة جماعية أكيدة ودواع كثيرة لقيام مثل هذه الإدارة التي تتولى مسؤولية تطبيق الزكاة على المستوى العالمي، والتي تخدم أهدافا عامة مشتركة بين المسلمين جميعا في كل مكان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 ويمكن أن نلخص ذلك كله فيما يلي: (1) وجود عدة دول إسلامية غنية، بحيث لا يحتاج رعاياها إلى الزكاة؛ نظرا لغناهم بأموالهم من ناحية، ولقيام هذه الدول بواجب الكفالة الاجتماعية (الضمان والتأمين الاجتماعيين) لرعاياها المحتاجين من ناحية أخرى، وهم ليسوا بكثير في هذه الدول، كالسعودية والكويت وبقية دول الخليج العربي (بما فيها العراق وإيران) وليبيا. ففي السعودية مثلا نجد ميزانية مؤسسة الضمان الاجتماعي (في هذه السنة 97/1398هـ - 77/1978م) تبلغ " 1046 مليونا " من الريالات: (1) فالضمان الاجتماعي في المملكة العربية السعودية تقوم به الحكومة دون أن يترتب على الأفراد دفع أي قسط أو اشتراك أو ضريبة. وإن أي حادث من الحوادث الكونية المدمرة كالحريق أو انهيار المنازل أو نحو ذلك فإن الحكومة تتكفل بتقديم التعويض المناسب من غير حاجة إلى دفع اشتراك للتأمين على الحوادث مقدما. فرعايا هذه الدول الغنية إذن لا يحتاجون إلى زكوات أغنيائها؛ لقيام هذه الحكومات بما تهدف إليه الزكاة، إلا أن الزكاة – كما سبق أن قررنا- لن تسقط أبدا عن أغنياء هذه الدول. كما لا يجوز لهذه الحكومات أن تهمل شؤونها أو تعفي أغنياءها من أدائها. وعلى ذلك فزكوات أغنياء هذه الدول من الممكن أن تخصص لتكون أحد مصادر تمويل هذه الإدارة العالمية للزكاة. (2) وجود فوائض مالية كثيرة لهذه الدول الغنية، لا تحتاج إليها، بل ذكرت الأخبار في الصحف والمجلات أنها لا تعرف ماذا تفعل بهذه الفوائض؟ فراحت تبعثرها في البنوك والمؤسسات المالية والاقتصادية الأجنبية في أوروبا وأمريكا وغيرهما ليستفيد بها الأصدقاء والأعداء على حد سواء.   (1) من صحيفة أخبار العالم الإسلامي إصدار رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة يوم الاثنين 4 رجب 1397هـ - الموافق 20 يونيو 1977م) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 (3) وإلى جانب هذه الفوائض فإن هناك الودائع المودعة في البنوك الأجنبية كذلك، وهذه الفوائد تركت لهذه البنوك فتعيد استثمارها لتأتي بالأرباح المضاعفة، ولا يأخذها أصحابها باعتبار أنها ربا محرم، فيستفيد بها الأصدقاء والأعداء على حد سواء أيضا. فقد تناول بالكلام على هذه الفوائض وهذه الفوائد كثير من الخبراء الاقتصاديين في الصحف والمجلات وفي أبحاثهم ومحاضراتهم في المؤتمرات والندوات والاجتماعات، وطالبوا جميعا بالاستفادة بهذه الفوائض بما يعود بالنفع على العالم الإسلامي والدول الفقيرة والنامية في العالم الثالث (دول عدم الانحياز) ونخص بالذكر هنا أحد الاقتصاديين البارزين العاملين في خدمة العالم الإسلامي وهو الدكتور غريب الجمال؛ فقد تناول سيادته هذه المسألة في كتابه (المصارف والأعمال المصرفية في الشريعة الإسلامية والقانون) وكان مما قاله: "إن كثيرا من المسلمين يودعون أموالهم في مصارف أجنبية، مع كل ما هو معروف عن نظام العمل في تلك المصارف؛ من حيث قيامها بإعطاء فوائد قد تصل في حالات متعددة إلى مبالغ كبيرة يضطر أصحابها إلى التخلي عنها ويتنازلون عنها للمصرف؛ خوفا من أن تدخل تحت وطأه الربا المحرم. ونتيجة لذلك تضيع على المسلمين أموال طائلة إن لم تكن مستحقة لصاحب المال نفسه (المودع) فهي في الواقع مستحقة إلى بيت مال المسلمين لدعمه ولصرفها على المسلمين في نفعهم العام والخاص، وفي الجهاد إذا لزم الأمر، كما أن تركها في حد ذاته من أكبر دعامات اقتصاد أعداء المسلمين الذين يستخدمونها ضد الأمة الإسلامية، وكثير من هؤلاء قد ناصبنا العداء فعلا ويحاربنا عقائديا وفعليا ". وذكر سيادته أن في ترك هذه الفوائد لتلك المصارف مضرة أعظم من أخذها، فلهذا رأى وجوب أخذها وحرمة تركها لهم. وبعد أن أفاض في الاستدلال على ذلك لخص موقفه بقوله: " ونخلص من كل ذلك إلى الفوائد المشار إليها: 1- ترد من قوم ليسوا بمسلمين. 2- أنها حينما تترك تستخدم ضد المسلمين في نواح عديدة، سواء كان ذلك بالتبشير ضد الإسلام، أو بالتبرع بها لأعداء المسلمين على أي وضع كانوا. وبذلك فإنه من الواجب – الذي يأثم المسلم إذا خالفه – أن يأخذ المسلمون هذه الفوائد ليستخدموها في مصلحة المسلمين. (1)   (1) والدكتور غريب الجمال أحد الاقتصاديين المعروفين في العالم الإسلامي، وهو مصري، وكان أحد الأساتذة بالمعهد العالي للدراسات الإسلامية بالقاهرة، ويعمل حاليا مديرا لصندوق التضامن الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة. ومن مؤلفاته كتابه: " التضامن الإسلامي في المجال الاقتصادي " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 وعلى ذلك فكل من هذه الفوائض وهذه الفوائد مما يمكن أن يخصص كمورد لتمويل هذه الإدارة العالمية للزكاة سنويا لاستخدامها في مصالح عامة للمسلمين ومشتركة بينهم جميعا. وعلى أصحابها أن يتعاونوا مع هذه الإدارة – في حالة قيامها – لتوريد هذه الفوائض والفوائد إليها لخدمة المصالح المشتركة للمسلمين. 3- وجود رغبة جماعية أكيدة بين المسلمين في قيام مثل هذه الإدارة، وتكشف عنها مواقف عديدة للمسلمين في كتاباتهم وأبحاثهم وفي مؤتمراتهم وندواتهم واجتماعاتهم. من ذلك: تأسيسهم لصندوق الزكاة في البنك الإسلامي للتنمية، وبهدف القيام بجمع الزكاة من المسلمين في البلدان التي لا يقوم أولو الأمر فيها بجباية الزكاة منهم. ويمثل هذا الصندوق أحد الأركان الهامة في تنظيم البنوك الإسلامية. (1) ومعلوم أن هذا البنك تساهم في إنشائه حوالي ثلاثين دولة إسلامية، وكان من النتائج الهامة لعدة مؤتمرات القمة لملوك ورؤساء الدول الإسلامية ومؤتمرات وزراء الخارجية والمالية والاقتصاد لهذه الدول، وهي المؤتمرات التي تنظمها منظمة المؤتمر الإسلامي التي مقرها الحالي – بصفة مؤقتة – مدينة جدة. وعليه، فقد تأسست إذن في العالم الإسلامي اليوم إدارة عالمية للزكاة. كما كان مما يؤكد للرغبة المذكورة أيضا تأسيسهم صندوق التضامن الإسلامي ووكالة الغوث والإنعاش الإسلامية. ويهدف صندوق التضامن الإسلامي تحقيق كل ما من شأنه رفع مستوى المسلمين في العالم، والمحافظة على عقيدتهم ودعم تضامنهم وجهادهم في جميع المجالات. وكان هذا الصندوق من نتائج مؤتمر القمة الإسلامي الثاني المنعقد بلاهور (باكستان) فيما بين 29 محرم – أول صفر 1394 هـ (22 – 24 فبراير 1974م) ، وقد نص في قراره: إنشاء صندوق التضامن الإسلامي للإنفاق على شؤون الوحدة والقضايا الإسلامية والنهوض بالثقافة والقيم والجامعات الإسلامية. بينما تهدف وكالة الغوث والإنعاش الإسلامية توفير الإنعاش والمساعدات الموجهة للأقليات المسلمة التي تعاني من سلطات الحكم في بلادها، كالمسلمين في جنوب الفلبين، وتمول من صندوق التضامن الإسلامي ومن تبرعات الدول الإسلامية، وتخضع لرقابة المجلس الدائم للصندوق. وإلى جانب ذلك فقد تكونت هناك عدة مؤسسات مالية أخرى تحمل هدف تقديم مساعدات مالية للمسلمين وحركاتهم في كل مكان. تكونت هذه الصناديق في كل من السعودية والكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر وليبيا وغيرها من الدول الإسلامية الغنية.   (1) كتاب منهج الصحوة الإسلامية د. أحمد النجار ص 56، 309 وكتاب المصارف والأعمال المصرفية د. غريب الجمال ص 392. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 4- هذا كله بالإضافة إلى أن هناك دواع كثيرة لإقامة هذه الإدارة العالمية للزكاة،منها: أ) وجود أغنياء مسلمين كثيرين منتشرين في البلاد الأوروبية والأمريكية وغيرها من البلدان غير الإسلامية – بل والإسلامية أيضا – ولا إدارة زكاة واحدة تجمعها منهم للإنفاق منها على مستحقيها المنتشرين أيضا في هذه البلاد واستخدامها في مصالح إسلامية عامة مشتركة. وإذا وجد في بعض البلاد غير الإسلامية بعض (1) الأجهزة التي تقوم بجمع الزكاة، فهو في حكم النادر، والنادر لا حكم له. ب) انتشار الفقر بين المسلمين في كل مكان وخصوصا في البلدان الفقيرة التي يحكمها المسلمون، أو يحكمها غيرهم من الحكام غير المسلمين، أو الحكام الأجانب المستعمرين. ج) حاجة المجاهدين المناضلين المالية لتحرير بلادهم ورقابهم من الاستعمار، أو من حكم الكفرة، أو الحكام الطغاة، كإخواننا الفلسطينيين ومسلمي جنوب الفلبين وقطاني (جنوب تايلاند) وإريتريا وغرب الصومال وغيرهم. د) حاجة اللاجئين المسلمين المهاجرين بدينهم بعد سقوط بلادهم لحكم الشيوعيين؛ كالمسلمين المهاجرين من كل من فيتنام وكمبوديا وكذلك المهاجرين من حكم الكفرة المتعصبة كالمسلمين البورماويين وغيرهم. هـ) وهناك منظمات واتحادات ومراكز إسلامية كثيرة تعمل لخدمة الإسلام والدعوة إليه في مختلف بقاع الأرض، وكلها في حاجة شديدة إلى الدعم المالي لممارسة أنشطتها الإسلامية، خصوصا تلك الإسلامية القائمة في أوروبا وأمريكا وأستراليا ونيوزلنده، وغيرها من الدول غير الإسلامية – بل والإسلامية أيضا- والجزر المنتشرة في البحر الهندي والمحيط الهادي والأطلسي.   (1) ذكر الدكتور محمود أبو السعود أن المسلمين في ولاية إنديانا بأمريكا قد أنشؤوا بنكا إسلاميا بلا فوائد، ومن بين أعماله جمع الزكاة من أصحاب المال المتعامل معه (المودع والمساهم) بعد موافقته على أداء زكاته إلى هذا البنك لصرفها على مستحقيها. عن جريدة الأهرام القاهرية، الجمعة 2/4/1976م الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 ويجدر أن نذكر هنا بعض الأمثلة للأنشطة التي تقوم بها هذه المنظمات والمراكز الإسلامية، وتحتاج إلى الدعم المالي. وذلك كالأنشطة التي ينظمها المجلس الإسلامي الأوروبي (مقره لندن) . فقد رأى المجلس أن هناك ميادين رئيسية تتطلب اهتماما فوريا، من بينها: أ) إنشاء مساجد ومراكز ثقافية إسلامية في كل مدينة فيها عدد كبير من السكان المسلمين. ب) إنشاء نزل على أسس إسلامية للطلبة المسلمين في مختلف المراكز التعليمية الكبرى في أوروبا؛ لأن هذا يمثل الطريق الأفضل للحفاظ على الشخصية الإسلامية للشباب المسلم. ج) إنشاء مدراس للبنين والبنات على أسس إسلامية، حيث إن هناك العشرات من المدارس المسيحية واليهودية التي تحافظ على مستويات تعليمية عالية، فكانت هناك حاجة كبرى إلى مدارس مشابهة للطلبة المسلمين، كما أن هناك حاجة ملحة لإنتاج مواد تعليمية للأطفال والشباب المسلمين في أوروبا. وكل هذه الأعمال تحتاج إلى الدعم المالي. د) ومن بين الأنشطة الضرورية نشر المطبوعات الإسلامية باللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الأوروبية. هـ) تنظيم المؤتمرات والندوات؛ فقد كان المهرجان الإسلامي الدولي بلندن في شهر أبريل 1976م أقيم بتنظيم من هذا المجلس. وقد كان هذا المؤتمر أكبر تجمع حتى الآن للمسلمين في أوروبا، ونجح في إعطاء المسلمين في أوروبا إحساسا بالفخر، ونقل إلى الغرب الرسالة الإسلامية. ونظرا لشدة احتياج هذه المنظمة الإسلامية إلى الدعم المالي، ولكي تتمكن من ممارسة أنشطتها المرسومة، فقد طلبت تخصيص جزء من صندوق التضامن الإسلامي لأوروبا؛ كما طلبت أن تقوم الحكومات الإسلامية بتوفير اعتمادات مالية للاستثمار في قطاع العقارات؛ وذلك حتى يتثنى تمويل أنشطة المجلس الإسلامي الأوروبي والمنح التي يخصصها للدول والمنظمات الأخرى من حصيلة هذا الاستثمار؛ فإن هذا من شأنه أن يحقق الاستقرار للعمل الإسلامي في أوروبا، كما أنه من شأنه أن يمكن المجلس الإسلامي الأوروبي من اللجوء إلى الوسائل السليمة لوضع ميزانيته ووضع خططه على المدى المتوسط، وعلى المدى الطويل. (1) هذا وإذا وجدت هناك عدة مؤسسات مالية – كما تقدم ذكرها – تقوم بتقديم المساعدات المالية إلى الدول والمنظمات والمراكز والاتحادات الإسلامية فهذا ما يشكر عليه كل مسلم، بل إننا لنرجو قيام المزيد من مثل هذه المؤسسات، وخصوصا أنها قد أفادت إفادة عظيمة للعالم الإسلامي والحركات والمنظمات الإسلامية في كل مكان. وإن هذا كله لا يتنافى مع إنشاء الإدارة العالمية للزكاة؛ لأن هذه المؤسسات القائمة تعتمد في مواردها المالية على الأموال المخصصة من الدول الإسلامية الغنية وتبرعاتها، بينما الإدارة العالمية للزكاة التي نحن بصددها الآن ستعتمد على المورد الأساسي من زكوات الأغنياء في الدول الغنية خاصة، وفي الدول التي لا توجد فيها إدارة مسؤولة عن جبايتها الزكاة منهم، بالإضافة إلى الموارد الأخرى كما يأتي ذكرها بعد قليل. وهذه هي بعض الإمكانيات لتكوين الإدارة العالمية للزكاة، والأدلة على الرغبة الجماعية الأكيدة في قيامها ودواعي قيامها.   (1) كتاب التضامن الإسلامي د. غريب الجمال ص 202-205 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 مصادر تمويل الإدارة العالمية للزكاة: مما سبق نستطيع أن نلمح بعض مصادر تمويل هذه الإدارة العالمية للزكاة في حالة تكوينها ومباشرتها للأعمال الموكولة إليها، وهي كما يلي: 1) زكوات أغنياء المسلمين في الدول الإسلامية الغنية (كالسعودية والكويت واتحاد الإمارات العربية وبقية دول الخليج الغنية والعراق وإيران وليبيا) 2) زكوات الأغنياء المسلمين المنتشرين في الدول غير الإسلامية، بل والإسلامية أيضا إذا لم يقم أولو الأمر فيها بجباية الزكاة منهم، حيث إن هذا هو الهدف من إنشاء صندوق الزكاة بالبنك الإسلامي (الدولي) للتنمية، كما تقدم. 3) الزكوات التي يقوم بجمعها صندوق الزكاة بالبنك الإسلامي للتنمية وفروعه في كل مكان. 4) الفوائض التي لا تحتاج إليها الدول الغنية للإنفاق على مشاريعها الداخلية والخارجية، فتوضع كلها أو معظمها كلها في صندوق الإدارة العالمية للزكاة لاستثمارها، على أن يكون لها أرباحها، بينما هذه الفوائض تبقي مملوكة لأصحابها، إلا إذا تبرعوا بها أو بجزء منها إلى هذه الإدارة لاستخدامها في مصالح المسلمين وخدمه قضاياهم المشتركة. 5) فوائد الودائع التي لا يود أصحابها (المودعون) قبولها من البنوك الأجنبية في أوروبا وأمريكا وغيرها باعتبار أنها من الربا المحرم، فيحولونها إلى صندوق هذه الإدارة لاستخدامها في مصالح المسمين، ولا يتركونها لتلك البنوك؛ منعا لاستخدامها لصالح أعداء المسلمين. 6) نسبة معينة من حصيلة الزكوات في الدول والمجتمعات الإسلامية التي يقوم أولو الأمر فيها بجباية الزكاة من أغنيائها، وذلك كمساهمة من هؤلاء الأغنياء لتمويل الإدارة العالمية للزكاة لخدمة المصالح العامة المشتركة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 7) هدايا وأضاحي الحجاج (المهمل معظمها في سفوح جبال منى كل عام فيما سبق) وهي التي سبق أن اخترنا جعلها كأحد مصادر تمويل الإدارة المركزية للزكاة بمكة المكرمة. ولما اتضح لنا أن فقراء السعودية لا يحتاجون إلى زكوات أغنيائها ولا إلى مثلها، نظرا لقيام الدولة السعودية بواجبها كاملا تجاههم كما سبق بيانه، فحصيلة الزكوات وغيرها بمكة المكرمة يصح أن تكون أحد مصادر تمويل الإدارة العالمية للزكاة، بل وجميع إدارات الزكاة بالسعودية يمكن اعتبارها فروعا للإدارة العالمية للزكاة للسبب السابق. 8) تبرعات الدول الغنية وتبرعات المسلمين وأوقافهم وكفاراتهم ونذورهم في حالة اختيار أصحابها تسليمها إلى هذه الإدارة العالمية للصرف على مستحقيها بواسطة هذه الإدارة. 9) أرباح استثمار الأموال المتجمعة في هذه الإدارة وفروعها في كل مكان، سواء كانت من حصيلة الزكوات أو غيرها. فهذه هي مصادر تمويل الإدارة العالمية للزكاة على ما يتراءى لي. ولاشك أن خبراء المال والاقتصاد يستطيعون أن يوجدوا مصادر أخرى لهذه الإدارة العالمية للزكاة في حالة قيامها ومباشرتها لأعمالها. ولننتقل الآن إلى مصارفها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 ج) مصارف الإدارة العالمية للزكاة: فبالنسبة لمصارف هذه الإدارة يمكن أن نسترشد بأهداف إنشاء صندوق الزكاة بالبنك الإسلامي للتنمية، وهو اتفاقها في مصارفها الشرعية في البلاد التي لا يقوم أولو الأمر فيها بهذا العمل (1) وطبقا لهذا يمكن أن نشير هنا إلى بعض مصارفها الهامة وهي كما يلي: 1) فقراء المسلمين في الدول غير الإسلامية، وكذلك الدول والمجتمعات الإسلامية التي لا يقوم أولو الأمر فيها بجباية الزكاة من أغنيائها، وقامت هذه الإدارة بجبايتها منهم. 2) مساعدة المسلمين المجاهدين للتحرر من الصهيونية والاستعمار (الغربي أو الشرقي) ، وتخليصهم من الاضطهاد والظلم والاستبداد من قبل الحكام غير المسلمين، أو الحكام المسلمين الطغاة في أي مكان على وجه هذه البسيطة. 3) مساعدة المنظمات والاتحادات والمراكز الإسلامية العاملة على رفع شأن المسلمين والدعوة إلى الإسلام. وإذا كانت المؤسسات المالية المتقدم ذكرها قد قامت بتقديم الدعم والمساعدات التي تحتاج إليها هذه المنظمات والحركات الإسلامية بهذه المساعدات خصصت لها من الأموال العامة للدول الغنية التي أنشأت هذه المؤسسات وليست من حصيلة زكوات أغنيائها، ثم إن المنظمات والحركات الإسلامية برغم تلك المساعدات الكبيرة لا تزال محتاجة إلى مزيد من الدعم والمساعدات لكي تمضي في طريقها لأداء واجباتها نحو الإسلام والمسلمين. وكذلك الفقراء المسلمون المنتشرون في بقاع الأرض لا يزالون يعانون مختلف المشاكل وخصوصا اللاجئين منهم الذين هاجروا بدينهم من أوطانهم بعد سقوطها فريسة للشيوعية، أو الذين اضطروا لترك بلادهم نتيجة لاضطهادهم في بلادهم من الحكام الظالمين المستبدين غير المسلمين.   (1) كتاب منهج الصحوة الإسلامية. د. أحمد النجار ص 56 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 فبواسطة هذه الإدارة العالمية للزكاة التي سوف يتسنى لنا معاشر المسلمين من تقديم الدعم والمساعدات لتلك الجهات جميعا من حاصلة الزكوات التي اجتمعت لديها وغيرها من المصادر السابق الكلام عنها.. وذلك زيادة على الدعم والمساعدات التي تكرمت بتقديمها المؤسسات سابق ذكرها، والتي يرجو كل مسلم أن تستمر في تقديمها كالمعتاد وزيادة، وقيام المزيد من أمثالها. وإننا بهذا سوف نستفيد من الأموال التي أهملت دون الاستفادة بها في الأوجه التي تعود بالخير العميم لنا جميعا وعلى الوجه المطلوب في ديننا. فإن الذبائح والدماء والهدايا التي قدمها الحجاج كل سنة ما شرعت إلا لتكون منافع لنا، كما نص علينا القرآن الكريم: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] ولمصلحة الفقراء منا. ولكن أين هذه المنافع وأين هذه المصلحة ما دامت هذه الذبائح أهملت هكذا كل عام في سفوح جبال القريان بمنى، مع أن هناك محتاجين كثيرين يرغبون في الاستفادة بهذه الذبائح، ولكن لا حول لهم ولا قوة. فقد حان الآوان بالاستفادة من هذه الذبائح بعد التقدم التكنولوجي والآلات الإلكترونية الحديثة التي يمكن الاستعانة بها في تجميع هذه الذبائح وتنظيفها وحفظها وتوزيعها بالوجه المحقق للغاية من تشريعها. فإذا لم تكن هناك جهة خاصة تتحمل مسئولية ذلك كله فلتقم بها إدارة الزكاة العالمية مباشرة، أو بواسطة إدارة الزكاة بمكة المكرمة التي يمكن أن تعتبر كإدارة فرعية لهذه الإدارة العالمية، كما تقدمت الإشارة إليها. ومثل هذا نعمل في الفوائض التي لا تحتاج إليها الدول الإسلامية الغنية، وفوائد الودائع التي يتركها أصحابها للبنوك الأجنبية في أوروبا وأمريكا. وبهذا نخلص إلى أن تكون الإدارة العالمية للزكاة قد تهيأت لها الوسائل ووجدت هناك رغبة عامة ودواع كثيرة، إلا أن تنفيذ هذا كله – مع ذلك – لن يتم إلا بناء على موافقة الدول الإسلامية والمسلمين وتعاونهم جميعا، ولا شك أنهم جميعا سيتعاونون في تكوينها وإبرازها إلى حيز التنفيذ، وإفساح المجال لها لكي تمارس نشاطها على خير وجه وأتمه. فإذا تم إنشاء هذه الإدارة العالمية للزكاة فجميع مواردها وما ينتج من استثمارها بواسطة البنك الإسلامي للتنمية، يخص صندوق التضامن الإسلامي؛ لكي يقوم بإنفاقها على مصارفها الشرعية على مستوى الدول والمجتمعات الإسلامية طبقا لأهداف هذه الإدارة وهذا الصندوق. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. الدكتور عبد الله إبراهيم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 الوثائق مذكرة تفسيرية بشأن صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته مقدمة إلى الدورة الثالثة لمجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم صندوق التضامن الإسلامي فرع من فروع بيت مال الأمة الإسلامية، أسسه أهل الحل والعقد من قادة المسلمين في مؤتمر القمة الإسلامي الثاني الذي انعقد بمدينة لاهور بجمهورية باكستان الإسلامية سنة 1394هـ (1974م) . وقد نص قرار القمة الإسلامية على إنشاء صندوق التضامن الإسلامي بهدف الوفاء باحتياجات وبمتطلبات القضايا الإسلامية، وللنهوض بالثقافة والقيم والجامعات الإسلامية، على أن تدفع الدول الأعضاء مساهماتها في الصندوق بما يتفق واستطاعة كل منها، وقد تمت المصادقة على النظام الأساسي لصندوق التضامن الإسلامي خلال انعقاد المؤتمر الإسلامي الخامس للسادة وزراء خارجية الدول الأعضاء بمنظمة المؤتمر الإسلامي الذي انعقد بمدينة كولالمبور (ماليزيا) سنة1394هـ (1974م) . وبذلك أصبح للصندوق شخصيته الاعتبارية والمستقلة، ويوجد مركزه الرئيسي بالأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة (المملكة العربية السعودية) أهداف الصندوق: بمقتضي الخطوط العريضة لقرار القمة الإسلامية، يستهدف الصندوق العمل على الإسهام في تحقيق ورعاية مصالح المسلمين، وفي دفع المضار عنهم، والمحافظة على عقيدتهم وتضامنهم وجهودهم في شتى المجالات. وفيما يلي الأهداف العامة التي يلتزم المجلس الدائم للصندوق بالعمل على تحقيقها: أولا: التخفيف من آثار الأزمات والمحن والكوارث التي تتعرض لها بعض الدول والشعوب أو الجماعات والأقليات الإسلامية، وذلك بتقديم مساعدات عينية ومالية لها. ثانيا: نشر الدعوة الإسلامية وتبليغ تعاليمها السمحة، ودعم المراكز والهيئات والجمعيات الإسلامية المختصة في هذا المجال. ثالثا: دعم الجهاد الفلسطيني في سبيل تحرير القدس الشريف، والحفاظ على المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. رابعا: تقديم المعونة إلى المحتاجين والمستضعفين من الأقليات المسلمة التي أحصرت في ديار الكفر؛ لمساعدتها على الحفاظ على دينها ونفوسها وأعراضها. ويتمثل هذا الدعم في المشاركة في تمويل بناء المساجد والمستوصفات ومراكز التوعية الدينية. خامسا: الإسهام في تربية الشباب وتوجيهه توجيها سليما صحيحا ملتزما بالمبادئ الإسلامية ومكارم الأخلاق، وذلك عن طريق تقديم مساعدات للمدارس والمراكز والجمعيات التي تلتزم بمناهج التعليم الإسلامي، وخاصة منها المؤسسات التي توجد بالمناطق أو الأقاليم الخاضعة إلى الدول غير إسلامية. كما تتم المساهمة في إنشاء أو تمويل الجامعات الإسلامية أو دعم القائمة منها فعلا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 هياكل صندوق التضامن الإسلامي: أولا: 1- المجلس الدائم للصندوق: يتألف المجلس الدائم من الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي وثلاثة عشر عضوا من ممثلي الدول الأعضاء، ينتخبهم ممثلو الأمة الإسلامية خلال الدورات التي يعقدها مؤتمر وزراء خارجية الدول الأعضاء لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والمجلس الدائم هو الجهة المسؤولة عن الصندوق ونشاطاته أمام المؤتمرات الإسلامية الدورية لوزارة الخارجية، ومهمته العمل على تحقيق أهداف الصندوق وتخطيط وإعداد البرامج والإشراف على تنفيذها من خلال الجهاز التنفيذي للصندوق. 2- الجهاز التنفيذي للصندوق: هو الجهاز الإداري الذي يعهد إليه بمهمة تنفيذ القرارات التي يتخذها المجلس الدائم للصندوق أو القرارات الصادرة عن مؤتمرات القمة الإسلامية أو مؤتمرات وزراء الخارجية. ويقوم الجهاز التنفيذي بأعمال أمانة الصندوق وحاسباته وكافة الأعمال الفنية للصندوق وشئونه المالية. وتحضير أوراق عمل دورات المجلس، والترتيبات اللازمة لإيصال المساعدات إلى مستحقيها. 3- لجنة الطوارئ: وهي لجنة ثلاثية مكونة من رئيس المجلس الدائم أو نائبه. والأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي أو ممثله، وممثل دول المقر (المملكة العربية السعودية) ، وتجتمع لجنة الطوارئ في حالة وقوع الأزمات والكوارث الطبيعية في إحدى الدول الإسلامية لتقرير ما يمكن أن يسهم به الصندوق للتخفيف من حدة تلك الأزمات والكوارث 4- لجنة المتابعة: وتتكون من الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي أو ممثله، ورئيس المجلس الدائم أو نائبه، وثلاثة أعضاء يختارهم المجلس لضمان حسن تنفيذ قراراته. 5- اللجان الفرعية: وهي أربع لجان مختصة يعهد إليها بدراسة وفحص طلبات المساعدة التي ترد إلى المجلس الدائم، وهي كما يلي: أ - لجنة أفريقيا والمجموعة العربية: ب - لجنة الشرق (آسيا وأستراليا) ج- لجنة الغرب (أوروبا والأمريكتين) د- لجنة الجامعات والمعاهد العليا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 ثانيا: وقفية صندوق التضامن الإسلامي: يعتمد الصندوق بصفة أساسية في تمويل ميزانيته السنوية علي التبرعات الطوعية التي تقدمها حكومات الدول الأعضاء، وعلى الهبات والمنح التي تقدمها الهيئات العامة والخاصة والأفراد المحسنين من الدول الإسلامية. ولذا كان الصندوق ولازال يفتقر إلى وجود مصدر ثابت لموارده، ولاسيما على المدى البعيد. وأصبح خلال السنوات الثلاثة الماضية يعاني من نقص خطير في موارده، الأمر الذي أصبح معه الصندوق عاجزا عن الوفاء بالتزاماته والقيام بمهماته تجاه الشعوب الإسلامية، وخاصة المستضعفين منهم من الأقليات والجماعات الإسلامية. لذا كان لزاما على المجلس الدائم أن يقترح على المؤتمرات الإسلامية الدورية الأخيرة للسادة وزراء خارجية الدول الأعضاء، فكرة إنشاء وقفية للصندوق تدر ريعا ثابتا، يضمن لميزانيته قدرا معقولا من الثبات والاستقرار، وقد تم إقرار إنشاء وقفية للصندوق برأسمال قدره مائة مليون دولار منذ المؤتمر الإسلامي الثامن للسادة وزراء الخارجية، كما تمت المصادقة على النظام الأساسي للوقفية خلال انعقاد المؤتمر الإسلامي الحادي عشر لوزراء الخارجية. وقد نص النظام الأساسي على أن أموال الوقفية مصونة باعتبارها وقفا شرعيا للغرض الذي أنشئ من أجله، وأن المجلس الدائم للصندوق هو الجهة المسئولة عن إدارة وتسيير شئون الوقفية ويتكون رأسمال الوقفية من المصادر التالية: أ- الأموال السائلة التي توقفها حكومات الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، وكذلك الأشخاص الطبيعيون والاعتباريون في العالم الإسلامي. ب- العقارات والأموال غير المنقولة التي توقفها الحكومات والأشخاص الطبيعيون والاعتباريون في العالم الإسلامي. وقد تطوعت بعض الدول الإسلامية مشكورة. كما أسهم من المحسنين في الدول الإسلامية في تمويل رأسمال الوقفية (انظر ملحق رقم1) أهم إنجازات الصندوق: إن صندوق التضامن الإسلامي، وهو يعمل على تأكيد وإبراز التضامن الإسلامي بين الدول والشعوب الإسلامية، تبنى بصفة خاصة المشروعات الإسلامية الهامة ذات الأثر الملموس على البنية الحضارية، ونشر الثقافة الإسلامية في المجتمعات التي تقام فيها تلك المشروعات. وبإلقاء نظرة سريعة على محصلة النتائج لمختلف نشاطات صندوق التضامن الإسلامي، نلمس مدى فاعلية هذا الجهاز الإسلامي الجدير بالاهتمام على كافة مستويات الأمة الإسلامية، دولا وأفرادا، شعوبا وجماعات. ومرفق طيه جدول بالمساعدات التي قدمها المجلس الدائم لصندوق التضامن الإسلامي منذ بداية نشاطه وحتي الآن (انظر ملحق رقم 2) . ومن خلال نظرة فاحصه ومخلصة أيضا لهذا الجدول أيضا لهذا الجدول يتضح أن صندوق التضامن الإسلامي تبوأ مكانة مرموقة على صعيد العالم الإسلامي، وأصبح محط آمال العديد من الدول الإسلامية، والمئات من الهيئات والمنظمات والجاليات والأقليات الإسلامية في جميع أنحاء العالم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 الوضع المالي للصندوق مصادر التمويل – وسائل الدعم أولا: مصادر تمويل الصندوق: وفقا للمادة السادسة من النظام الأساسي للصندوق، فإن مصادر التمويل هي: أ- تبرعات الدول الأعضاء والهبات التي تقدمها الهيئات العامة والخاصة والأفراد ومن عائدات وقفية الصندوق. ب- الخبرات والمساعدات الفنية والجهود البشرية التي تقدم من الدول الأعضاء والهيئات العامة والخاصة والأفراد. وبالرغم مما يلاحظ من تنوع مصادر التمويل، فإن الصندوق قد اعتمد منذ انشائه- بصفة أساسية - على تبرعات الدول الأعضاء، وأما ما سوى ذلك فإنه لا يمثل قيمة مؤثرة على إيرادات الصندوق حتى الآن. وقد أثبتت الممارسة العملية خلال السنوات الثلاثة الأخيرة خطورة هذ الأمر نظرا لحجم تلك التبرعات التي تقدمها الدول الأعضاء واتصافها بعدم الاستمرارية والاستقرار، فبعد أن اكتسب الصندوق دورا طليعيا وهاما لدى المسلمين في جميع أنحاء العالم من خلال قيامه بتمويل وتنفيذ المشروعات لصالح الدول والمجتمعات الإسلامية، نجد أن هذا الدور قد أخذ في التراجع خلال السنوات الثلاث الماضية، وأصبح مهددا بالتوقف كلية إزاء تدني التبرعات إلى أدنى درجة، ويمكننا أن نتبين خطورة الوضع المالي للصندوق من خلال المقارنة بين مجموع المبالغ التي كان يعلن عن التبرع بها من طرف الدول الأعضاء، مع تلك المبالغ التي تصل فعلا للصندوق، والتي تمثل موارد الصندوق الفعلية لميزانياته خلال الأعوام الماضية: السنة التبرعات المعلنة في الجلسة التبرعات التي وصلت 79 / 1980 00 / 000 / 137 / 17 58 / 719 / 021 / 14 80 / 1981 00 / 000 / 416 / 12 00 / 000 / 070 / 12 81 / 1982 00 / 000 / 101 / 14 00 / 500 / 643 / 17 82 / 1983 00 / 720 / 263 / 10 46 / 367 / 220 / 10 83 / 1984 00 / 000 / 145 / 00 00 / 314 / 390 / 00 84 / 1985 00 / 000 / 197 / 00 00 / 684 / 151 / 00 ويلاحظ من الجدول السابق الذي يعكس في الواقع المورد الحقيقي لميزانية الصندوق، والذي أصبح في السنتين الماضيتين محدودا للغاية أن صندوق التضامن الإسلامي أصبح – مع الأسف الشديد – يواجه حاليا الكثير من العقبات والصعوبات التي تحد من اضطلاعه بمهامه، بل وتهدد مسيرته الخيرة في قيامه بمختلف نواحي أنشطته لصالح الأمة الإسلامية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 ثانيا: وسائل دعم صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته: إن أهم العقبات التي تواجه صندوق التضامن الإسلامي هي عملية التمويل الثابت والمستمر لميزانيته السنوية، فقد اعتمد الصندوق منذ نشأته وحتى الآن على مصدر أساسي واحد في توفير الموارد لميزانيته، ألا وهو التبرعات التي تجود بها بعض الدول، وقد ثبتت خطورة اعتماد الصندوق على مصدر واحد للتمويل فور عدم انتظام تلك الدول تقديم تبرعاتها الطوعية للصندوق؛ إذ تدنت موارده للسنة المالية 84 / 1985 إلى 151684 دولارا، مما جعل المجلس الدائم للصندوق يقرر إلغاء بعض بنود ميزانياته للسنوات الثلاث الأخيرة، وهي ظاهرة خطيرة تنال من سمعة صندوق التضامن الإسلامي الشيء الكثير. وأصبح الصندوق، الذي تنظر إليه الدول والشعوب والجماعات الإسلامية نظرة إكبار وإجلال، بصفته المعبر بصدق عن تطلعاتها في الوحدة والتضامن، أصبح هذا الجهاز عاجزا في الآونة الأخيرة عن تحقيق الأهداف السامية التي أنشئ من أجلها. إن الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والمجلس الدائم لصندوق التضامن الإسلامي قاما باتخاذ الخطوات الإجرائية لإنشاء الوقفية الخاصة بالصندوق. وهي فعلا قائمة من الناحية القانونية والإدارية، بعد أن تمت المصادقة على نظامها الأساسي، كما تم تنفيذ الكثير من بنوده الإجرائية، مثل تشكيل هيئة نظار الوقفية، وتكوين نواة للجهاز التنفيذي للاضطلاع بالمهام العاجلة التي تتطلبها المرحلة الحالية لمسيرة الوقفية. وقد حرص المجلس الدائم كذلك على استثمار القدر اليسير من رأسمال الوقفية لدى البنك الإسلامي للتنمية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 المقترحات المقدمة إلى مجلس المجمع الفقهي الموقر: لقد عكفت الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والجهاز التنفيذي للصندوق على دراسة كل الوسائل والسبل المؤدية إلى دعم وتمويل رأسمال الوقفية. وفي هذا الصدد اتخذ المجلس الدائم للصندوق في دورته السادسة والعشرين قرارا يرجو فيه من مجمع الفقه الإسلامي الموقر إصدار فتوى بجواز تخصيص جزء من زكاة المسلمين لصالح صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته، بوصفهما مؤسسة إسلامية تعمل في مجال خدمة المسلمين وتستحق الاستفادة من الأموال التي تصرف للزكاة. كما اتخذ المجلس الدائم في دورته السابعة والعشرين قرارا آخر يرجو فيه من مجمع الفقه الإسلامي إصدار فتوى ثانية حول إمكانية الاستفادة من الأموال التي يخصصها البنك الإسلامي للتنمية لصندوق المعونة التابع له. وتود الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي والجهاز التنفيذي لصندوق التضامن الإسلامي أن تلقي بعض الضوء، أو عرض بعض الأفكار الأولية والمبدئية حول الموضوعين المشار إليهما أعلاه: أولا: الاستفادة من الأموال المخصصة للزكاة: إن الأمانة العامة والمجلس الدائم للصندوق يدركان ويلتزمان في الوقت نفسه بتحقيق أحد الأغراض الهامة من أداء المسلمين للزكاة، ألا وهو تثبيت نفس المسلم الذي يؤديها، أنها بلغت مصرفها، لكونها ستنفق في أحد الأصناف الثمانية: إما إلى فقراء المسلمين أو مساكينهم الذين لا يستطيعون ضربا في الأرض، أو على بعض العاملين على مصالح المسلمين الذين يحلون محل السعاة والكتبة والمسئولين عن رعاية هذه المصالح. وإذا كان سهم المؤلفة قلوبهم لم تعد الحاجة إليه كما كانت، فإنه قد يكون من سياسة المسلمين تآلف من هم حديثو عهد بكفر في البلاد غير الإسلامية، ومساعدة الذين من بينهم يسهمون في نشر الدعوة، مع أن العلماء يرى أن نصف سهمهم يعطى لعمار المساجد. والمعتقد أن مساعدة جمعيات أقليات المسلمين المغلوبة على أمرها، والتي تخضع لنوع من الاستعباد الفكري والاقتصادي ليست بعيدة عن فك الرقاب وتخليص الغارمين. ومن أهم هذه المصارف هو المرابطة في سبيل الله، وهو عمل متسع لكل ما يعين على رفع شأن المسلمين وجعل كلمة الله هي العليا. ولقد توسع علماء الأمة في هذا المجال، فأدخل بعضهم الحجاج والعمار في هذا الصنف. وأوردت الآية الكريمة أبناء السبيل الذين انقطعت بهم الطرق وأضحوا عرضة لمصاعب ظرفية، فصارت مساعدتهم من وجوه البر، وهذا من الأبواب التي تدعوا أولي الأمر يقدرون أن الكوارث الطارئة تستوجب في بعض الأحيان الإنفاق من مال الصدقة في مثل ما فعل النبي (صلي الله عليه وسلم) في نازلة سهل بن أبي حثمة بدفعه مائة من إبل الصدقة دية الأنصاري المقتول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 والمرجو من أصحاب الفضيلة أعضاء المجلس الموقر إصدار فتوى في المسائل التالية: - إجزاء تقديم الزكاة لوقفية صندوق التضامن الإسلامي، مع التزام المجلس المشرف على الصندوق بصرف مال الزكاة في أوجهه المنصوصة والمتفق عليها. - جواز نقلها من محل المال إلى أكثر الأصناف احتياجا. - بيان مدى التطابق بين أهداف صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته، ومواضع إنفاقهما مع الأصناف المستحقة للزكاة. ثانيا: الاستفادة من صندوق المعونة الخاص بالبنك الإسلامي للتنمية: يتلقى البنك الإسلامي للتنمية أموالا من فوائد ودائعه لدى البنوك الأجنبية، وبما أن هذه الفوائد ليست شرعية، وحيث إن مصلحة الأمة تقتضي ألا تترك تلك الأموال لغير المسلمين، وأن صرفها في أوجه الصدقة يعتبر بمثابة حسن التخلص منها، فقد استصدر البنك في شأنها فتوى أقر على أثرها أن تجعل الأموال في صندوق خاص يسمى بـ " صندوق المعونة " للصرف منه على مصالح الجماعات الإسلامية في الدول التي ليست أعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي. لذا يرجى من أصحاب الفضيلة أعضاء المجلس الموقر إصدار فتوى في الأخذ باستفادة وقفية صندوق التضامن الإسلامي من بعض تلك الأموال المودعة في صندوق المعونة الخاص بالبنك الإسلامي للتنمية؛ نظرا للضرورة الملحة التي تلزم الصندوق ووقفيته بالقيام ببعض الواجب نحو تحقيق أهدافه، التي من أهمها الحفاظ على ملة الإسلام وعلى عزة المسلمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 (ملحق رقم 1) المساهمات المعلنة أو المسددة لصالح رأسمال وقفية صندوق التضامن الإسلامي اسم الجهة المتبرعة المعلن بالدولار الأمريكي المسدد بالدولار الأمريكي أولاً: حكومات الدول الأعضاء: 1- حكومة دولة الكويت 2000000 2000000 2- حكومة الجمهورية التركية 0025000 0025000 3- حكومة المملكة العربية السعودية 20000000 --- 4- حكومة الجمهورية العراقية 2000000 - 5- حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة 2000000 --- 6- حكومة جمهورية باكستان الإسلامية (250 ألف روبية) 0015450 --- 7- حكومة الجمهورية التونسية 0070000 070000 8- حكومة المملكة الأردنية الهاشمية قطعة أرض --- ثانياً: شخصيات إسلامية: 1- الشيخ صالح عبد الله كامل (رجل أعمال سعودي) 1000000 2- الشيخ حسين محسن الحارثي (رجل أعمال سعودي) 1000000 مجموع المبالغ المعلنة أو المسددة 26110450 4095000 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 (ملحق رقم 2 / أ) المساعدات التي قدمها المجلس الدائم لصندوق التضامن الإسلامي منذ بداية نشاطاته وحتى 30 / 6 / 1986م الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 جدول ملحق رقم (2 / ب) تصنيف المساعدات حسب القطاعات المناطق المساجد المستشفيات المدارس الجامعات المراكز المخيمات الحلقات 1- إفريقيا 34 5 47 14 153 6 3 2- الشرق الأوسط 9 1 15 7 35 2 4 3- الشرق 25 7 61 23 184 8 4 4- الغرب 18 1 14 12 126 4 2 الإجمالي 86 14 137 56 498 20 13 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 ملحق رقم (3) النظام الأساسي لصندوق التضامن الإسلامي (1) المادة الأولي: بموجب قرار مؤتمر القمة الإسلامي الثاني بلاهور، ينشأ صندوق دائم له شخصيته الاعتبارية المستقلة ويسمى "صندوق التضامن الإسلامي" يكون مركزه الرئيسي في مقر الأمانة العامة للمؤتمر الإسلامي في جدة. المادة الثانية: بمقتضى الخطوط العريضة لقرار مؤتمر القمة الثاني بلاهور، فإن أهداف "صندوق التضامن الإسلامي "هي العمل على تحقيق كل ما من شأنه رفع مستوى المسلمين في العالم والمحافظة على عقيدتهم ودعم تضامنهم وجهادهم في جميع المجالات، وخاصة المجالات الآتية: 1- التخفيف من أثر نتائج الأزمات والمحن والكوارث الطبيعية والظروف الاجتماعية التي تتعرض لها البلاد والمجتمعات الإسلامية وتوجيه المساعدات المادية اللازمة لذلك 2- تنظيم منح المساعدات والمعونات المادية للبلاد والأقليات والجاليات الإسلامية، بغية رفع مستواها الديني والثقافي والاجتماعي، والمساهمة في بناء المساجد والمستشفيات والمدارس التي تحتاج إليها. 3- تنظيم نشر الدعوة الإسلامية ورسالتها وتعاليم الإسلام ومثله العليا، ودعم المراكز الإسلامية داخل الدول الإسلامية وخارجها؛ لأجل خير المجتمعات الإسلامية ونشر الفكر الإسلامي. 4- تشجيع البحث العلمي والتقني وإنشاء وتمويل الجامعات الإسلامية؛ استجابة لاحتياجات العالم الحديث، حيثما كان ذلك مطلوبا، ودعم الجماعات القائمة فعلا. 5- دعم وتنظيم نشاط الشباب المسلم في العالم روحيا واجتماعيا ورياضيا. 6- تنظيم الحلقات الدراسية التي تضم نخبة من الخبراء والمتخصصين في قضايا التشريع والتقنين والإدارة والاقتصاد والثقافة والعلوم التي يحتاج العالم الإسلامي إلى بلورة الفكر الإسلامي بشأنها. 7- تنفيذ جميع المشروعات التي يقرها المؤتمر الإسلامي، ويعتبر تنفيذها من اختصاص صندوق التضامن الإسلامي.   (1) أقر المؤتمر الإسلامي الخامس لوزراء الخارجية الذي عقد في كولالمبور بماليزيا في يونيو 1974م النظام الأساسي لصندوق التضامن الإسلامي. كما أقر المؤتمر الإسلامي العاشر لوزراء الخارجية الذي عقد في مدينة فاس بالمغرب في مايو 1979م النظام الأساسي المعدل لصندوق التضامن الإسلامي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 المادة الثالثة: أقر المؤتمر الإسلامي الثاني عشر لوزراء الخارجية الذي عقد في بغداد في يوينو1981م، تعديل المادة الثالثة للنظام الأساسي للصندوق. يشكل مجلس دائم للصندوق من الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي وثلاثة عشر عضوا من ممثلي الدول الأعضاء يختارون من قبل مؤتمر وزراء الخارجية الإسلامي وينتخب المجلس من بين أعضائه رئيسا ونائبا للرئيس، ويكون انتخاب الرئيس لمدة سنتين قابلة للتجديد لمدة واحدة مماثلة، ويجوز إعادة انتخابه بعد مضي سنتين من انتهاء فترة رئاسته السابقة. ويجتمع المجلس دوريا، وكلما دعت الحاجة لذلك، بناء على دعوة الأمين العام أو الرئيس أو ثلث أعضائه. المادة الرابعة: المجلس الدائم هو الجهة المسؤولة عن الصندوق ونشاطاته أمام مؤتمر وزراء الخارجية، ومهمته العمل على تحقيق أهداف الصندوق وتخطيط وإعداد البرامج التنفيذية لذلك، والسهر على تنفيذها بعد إقرارها من قبل مؤتمر وزراء الخارجية. عن طريق الجهاز التنفيذي الخاص به. والذي تنشئه وتديره الأمانة العامة للمنظمة لهذا الغرض. وللمجلس أن يعهد ببعض أعماله التنفيذية إلى المؤسسات والشخصيات الإسلامية المناسبة. أو يتخذ غير ذلك من الوسائل التنفيذية التي يراها مناسبة تحت توجيهه وإشرافه. المادة الخامسة: يتكون الجهاز التنفيذي للصندوق من مدير تنفيذي ونائب للمدير وعدد مناسب من الموظفين الأكفاء، وفقا لميزانية معتمدة من المجلس الدائم، مع مراعاة قواعد التوظيف في منظمة المؤتمر الإسلامي. ويقوم هذا الجهاز بأعمال الصندوق وحساباته وكافة أعماله التنفيذية وشؤونه المالية، ملتزما في ذلك بمقررات المجلس والقواعد المالية المتبعة في منظمة المؤتمر الإسلامي، وذلك تحت إشراف لجنة متابعة من رئيس المجلس أو نائبه والأمين العام أو ممثله وثلاثة يختارهم المجلس لمدة صلاحيته لضمان حسن تنفيذ قرارات المجس وتوجيهاته. المادة السادسة: 1- تتكون موارد الصندوق من تبرعات الدول الأعضاء ومن الهبات والمنح التي تقدمها الهيئات العامة والخاصة والأفراد، ومن عائدات وقفية الصندوق بعد إتمام إجراءات إنشائها. 2- وللدول الأعضاء والهيئات العامة أو الخاصة والأفراد أن يدعموا صندوق التضامن الإسلامي بالخبرات أو المساعدات العينية أو الجهود البشرية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 المادة السابعة: في سبيل تحقيق أغراض صندوق التضامن الإسلامي يتعاون المجلس الدائم مع الهيئات والمؤسسات الإسلامية وغيرها من التي تسعى إلى تحقيق الأغراض التي أنشئ من أجلها الصندوق. المادة الثامنة: يقدم الرئيس تقريرا سنويا عن نشاطات الصندوق إلى مؤتمر وزراء الخارجية الإسلامي، كما قد يقدم هذا التقرير إلى مؤتمرات القمة الإسلامية عند اجتماعها وعندما تستوجب الظروف تقديم ذلك التقرير، ويضاف هذا التقرير إلى تقرير الأمين العام لعرضه على مؤتمر وزراء الخارجية. المادة التاسعة: تبدأ السنة المالية للصندوق من أول يوليو من كل عام وتنتهي في 30 يونيو من السنة التالية، باستثناء السنة المالية الأولى تبدأ من تاريخ إنشاء الصندوق إلى تاريخ انتهاء السنة الميلادية للإنشاء. المادة العاشرة: يقدم الرئيس بمعاونة المجلس الدائم للصندوق والجهاز التنفيذي له الميزانية السنوية والحساب الختامي للصندوق ومشروع الميزانية التقديرية للسنة المالية التالية لمؤتمر وزراء الخارجية الإسلامي في دور انعقاده العادي. المادة الحادية عشرة: تسري على حسابات الصندوق ما يسري على الأمانة العامة للمنظمة من قواعد الصرف والمراجعة والتدقيق. المادة الثانية عشرة: مع عدم الإخلال بأحكام هذا النظام، يضع المجلس الدائم اللوائح الداخلية التفصيلية المنظمة لأعماله. المادة الثالثة عشرة: تعفى أموال الصندوق وموارده من جميع الضرائب والرسوم، ويطلب من الدول الأعضاء اتخاذ الخطوات اللازمة لتقرير ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 ملحق رقم (4) النظام الأساسي لوقفية صندوق التضامن الإسلامي (1) المادة (1) : تنشأ عن صندوق التضامن ولصالح وقفية تسمى وقفية صندوق التضامن الإسلامي، تتمتع بنفس الشخصية النفسية الاعتبارية التي للصندوق. المادة (2) : المركز الرئيسي للوقفية في مقر الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي في جدة، ولها أن تفتح فروعا لها حيثما يلزم. المادة (3) : الهدف من إنشاء هذه الوقفية هو دعم المركز المالي للصندوق وإمداده بريع سنوي يعزز ميزانيته ويكفل له الاستمرار في أداء رسالته. المادة (4) : رأسمال الوقفية هو مائة مليون دولار، مكونة مما يلي: 1- الأموال السائلة التي توقفها حكومات الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، وكذلك الأشخاص الطبيعيون أو الاعتباريون من العالم الإسلامي. 2- العقارات وسائر الأموال غير المنقولة التي قد توقفها الحكومات والأشخاص الطبيعيون والاعتباريون من العالم الإسلامي. المادة (5) : أصول أموال الوقفية مصونة باعتبارها وقفا شرعيا للغرض الذي أنشئت من أجله. وإذا احتيج إلى التصرف في هيئة هذه الأصول فيتم ذلك وفقا لما تجيزه الشريعة الإسلامية. وتؤكد الدول الأعضاء في المنظمة الحصانة الكاملة لأموال الوقفية ضد كل أنواع الحجز أو المصادرة أو التأميم أو ما يشبهها. المادة (6) : يلتزم في استثمار أموال الوقفية بجميع أنواعها بمراعاة أحكام الشريعة الإسلامية والبعد عن الربا، وتخصص عائدات الوقفية لصندوق التضامن الإسلامي. المادة (7) : المجلس الدائم لصندوق التضامن الإسلامي هو الجهة المسئولة عن الوقفية أمام مؤتمر وزراء الخارجية الإسلامي، ولدى الجهات الرسمية والقضائية وسائر المؤسسات المعنية. ويقدم رئيس المجلس الدائم تقريرا سنويا عن الوقفية إلى المؤتمر المذكور، ويضاف إلى التقرير السنوي للأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي.   (1) أقر المؤتمر الإسلامي الحادي عشر لوزراء الخارجية الذي عقد في إسلام أباد بالباكستان في مايو 1980م النظام الأساسي لوقفية صندوق التضامن الإسلامي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 المادة (8) : تدير الوقفية، بإشراف المجلس الدائم للصندوق وتوجيهه هيئة للنظار، ومكتب تنفيذي. المادة (9) : يرسم المجلس الدائم للصندوق السياسية العامة للوقفية، ويراقب نشاطاتها ويعتمد اللوائح الداخلية اللازمة لها، ويصادق على الحسابات الختامية والميزانية السنوية، كما يعتمد برامج العمل التي تقترحها هيئة النظار، ويوجهها، إلى ما يحقق أهداف الوقفية. المادة (10) : تتكون هيئة النظار من رئيس المجلس الدائم أو نائبه، والأمين العام أو مساعده، وثلاثة أعضاء ينتخبهم المجلس من أعضائه، وثلاثة من خبراء العالم الإسلامي في شئون الاستثمار وإدارة الاستثمار وإدارة الأوقاف، يسميهم المجلس الدائم بناء على ترشيح الأمين العام. ويمنح عضوية مجلس نظار الوقفية بصفة دائمة للدول الأعضاء المساهمة بأكثر من مليوني دولار في رأس مال الوقفية (1) وتقوم هيئة النظار بالمهام الآتية: 1- تحديد وجوه استثمار الأموال السائلة للوقفية، مع تنويع ما أمكن لزيادة الضمان، وإيثار أسواق الدول الإسلامية، ومؤسسات الاستثمار والمصارف الإسلامية فيها، ومراعاة اعتبارات الربح والسيولة والضمان وسائر قواعد الاستثمار السليمة. 2- تحديد كيفية رعاية العقارات والأموال غير المنقولة واستثمارها وفقا لنفس الاعتبارات المذكورة. 3- وضع اللوائح الداخلية وبرامج العمل واعتمادها من قبل المجلس الدائم. 4- مراجعة الحساب الختامي والميزانية السنوية اللذين يعدهما المكتب التنفيذي قبل اعتمادهما من قبل المجلس الدائم. 5- متابعة أعمال المكتب التنفيذي. المادة (11) : المكتب التنفيذي هو الجهاز المسئول عن تنفيذ سياسة الوقفية، وبرامجها الموضوعة من قبل المجلس الدائم وهيئة النظار. تنشئ هذا المكتب وتديره الأمانة العامة للمنظمة وفقا لقواعد التوظيف واللوائح الإدارية والمالية المتبعة فيها. ويتكون المكتب من مدير وعدد مناسب من المساعدين والموظفين، تحدد أعدادهم ومستوياتهم وفقا لاتساع العمل من قبل الأمين العام للمنظمة. المادة (12) : للأمين العام للمنظمة حق تحديد المكافآت المالية المستحقة للخبراء في هيئة النظار، ولسائر من تحتاج أعمال الوقفية تكليفهم بأية مهام شورية أو فنية أو تنفيذية. المادة (13) : يتمتع موظفو الوقفية بنفس الامتيازات والحصانات التي يتمتع بها موظفو الأمانة العامة. المادة (14) : تبدأ السنة المالية للوقفية ببداية السنة المالية للصندوق في أول يوليو من كل عام، وتنتهي بانتهائها في نهاية يونيو من العام التالي. المادة (15) : تسري على حسابات الوقفية ما يسري على الأمانة العامة للمنظمة من قواعد القبض والصرف والمراجعة والتدقيق، وللمكتب التنفيذي أن يستعين بخبرات المراجعين والمدققين القانونيين كلما لزم. المادة (16) : تطالب الدولة الأعضاء في المنظمة باتخاذ الخطوات اللازمة بإعفاء أموال الوقفية ومواردها من جميع الضرائب والرسوم كما تتمتع أوراق وسجلات الوقفية بالحصانة الكاملة. المادة (17) : لا تحل الوقفية إلا بقرار من مؤتمر وزراء الخارجية الإسلامي وهو الذي يحدد حينئذ كيفية الحل والجهات التي تؤول إليها أموال الوقفية، مع مراعاة حقوق الموظفين.   (1) أقر المؤتمر الإسلامي الثالث عشر المنعقد بنيامي عاصمة النيجر في أغسطس 1982م تعديل المادة العاشرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 المناقشة بسم الله الرحمن الرحيم الرئيس: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد، في هذه الجلسة الخامسة بمعونة الله تعالى نناقش صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي، فقد سبق وقد بعث إليكم بثلاثة أبحاث في هذا الموضوع، ومن بين ومن الباحثين الشيخ محمد يوسف جيري نرجو أن يتفضل بإعطاء عرض عن بحثه. وشكرا. الشيخ محمد يوسف جيري: شكرا.. سيدي الرئيس.. بسم الله الرحمن الرحيم.. وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه الأخيار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد. كما تفضل سماحة الرئيس. الموضوع المطروح للمناقشة هو صرف الزكة لصالح صندوق التضامن الإسلامي، وقد كتب في هذا الموضوع ثلاثة من الإخوة وهم الشيخ: مولاي مصطفى العلوي، والشيخ تيجاني صابون محمد، ومحمد يوسف جيري. وأنه من حيث أسلوب العرض فإننا نلاحظ نوعا من التشابه بين البحوث الثلاثة؛ حيث كل بحث يحاول بأسلوب أو بآخر أن يقوم بمقارنة بين أهداف الزكاة كما رسمها الشارع، وبين أهداف صندوق التضامن الإسلامي ليصل في النهاية إلى استنتاجات وبعض النتائج، لكن إذا كان أسلوب العرض بين البحوث الثلاثة يفيد بنوع من التشابه، فإن النتائج أو الاستنتاجات التي توصل إليها الإخوة الثلاثة فيها نوع من التباين، لكن قبل أن أصل إلى هذه النتائج أو إلى هذه الاستنتاجات أرى أنه من المفيد بمكان أن نعطي للإخوة فكرة ولو موجزة عن المطلوب منا إزاء هذا الموضوع. وفي هذا الصدد أفضل أن أرجع إلى ما تفضل به الإخوة المسئولون عن صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته في المذكرة التفسيرية التي أرسلوها إلينا. ففي صفحة 7 من هذه المذكرة: الاستفادة من الأموال المخصصة للزكاة. إن الأمانة العامة والمجلس الدائم للصندوق يدركان ويلتزمان في نفس الوقت بتحقيق أحد الأغراض الهامة من أداء المسلمين للزكاة، ألا وهو تثبيت نفس المؤمن المسلم الذي يؤديها أنها بلغت مصرفها، لكونها ستنفق في أحد الأصناف الثمانية، إما إلى فقراء المسلمين أو مساكينهم الذين لا يستطيعون ضربا في الأرض، أو على بعض العاملين على مصالح المسلمين الذين يحلون محل السعاة والكتبة والمسئولين عن رعاية هذه المصالح، وإذا كان سهم المؤلفة قلوبهم لم تعد الحاجة إليه كما كانت، فإنه قد يكون في سياسة المسلمين تألف من هم حديثو عهد بالإسلام في البلاد غير الإسلامية، ومساعدة الذين يسهمون في نشر الدعوة، مع أن بعض العلماء يرى أن نصف سهمهم يعطى لعمال المساجد، والمعتقد أن مساعدات جمعيات أقليات المسلمين المغلوبة على أمرها، والتي تخضع لنوع من الاستعباد الفكري والاقتصادي ليست بعيدة عن فك الرقاب وتخليص الغارمين، ومن أهم هذه المصارف المرابطة في سبيل الله، وهو عمل متسع لكل ما يعين على رفع شأن المسلمين وجعل كلمة الله هي العليا. ولقد توسع علماء الأمة في هذا المجال فأدخل بعضهم الحجاج والعمار في هذا الصنف إلى آخر ما هنالك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 والمرجو من أصحاب الفضيلة أعضاء المجلس الموقر إصدار فتوى في المسائل التالية: أولا: إجزاء تقديم الزكاة لوقفية صندوق التضامن الإسلامي مع التزام المجلس المشرف على الصندوق بصرف مال الزكاة في أوجهه المنصوصة والمتفق عليها. ثانيا: جواز نقلها في محل المال إلى أكثر الأصناف احتياجا. ثالثا: بيان مدى التطابق بين أهداف صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته ومواضع اتفاقهما مع الأصناف المستحقة للزكاة. هذا ما نقرأه في المذكرة التفسيرية المتعلقة بصندوق التضامن الإسلامي. ولا أريد أن أسترسل في النواحي الفقهية الكثيرة التي تطرق إليها المشايخ بالبحث والتحليل بغية الوصول إلى استنتاجات؛ حيث إن هذه المذكرات وهذه الدراسات قد وضعت في متناول يد الإخوة واستطاعوا أن يقرؤوها في وقت آخر، فلم يبق الآن إلا أن أشير بصورة سريعة على النتائج التي توصل إليها الإخوة: أبدأ بما وصل إليه الأخ تيجاني صابون محمد في بحثه، فهو يقول: يتضح لنا من خلال هذا الحديث الهام، ومما سبق ذكره، بأن الأنشطة التي يقوم بها صندوق التضامن الإسلامي تدخل ولا شك في المعنى الموسع لكلمة: سبيل الله. فإنشاء مسجد في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا أو في أي دولة مسيحية في العالم ليقف هذا المسجد إزاء كنيسة أو معبد هو جهاد في سبيل الله؛ لأن في ذلك إعلاء لكلمة الله، وكذلك إنشاء مسجد في دولة إسلامية فقيرة لتوفير أحسن الظروف للمصلين، فهو إعلاء لكلمة الله، وجهاد في سبيله، وإن إنشاء مكتبات إسلامية ومرا كز إسلامية وتزويدها بالكتب الإسلامية لتتصدى للأفكار المسيحية واليهودية والإلحادية، والتي تتمثل في المكتبات الغربية التي أنشأتها جمعيات الكنيسة والهيئات الإلحادية والمجمعات اليهودية وزودتها بالكتب المسمومة لمحاربة الإسلام وثقافته، فإن إنشاء مكتبات ومراكز إسلامية إزاءها لجهاد في سبيل الله. وإذا كانت الدول الصليبية واليهودية مثل: أفريقيا الجنوبية وإسرائيل تبحث عن أرقى التكنولوجيا لتصنيع القنبلة الذرية لمحاربة الدول الإسلامية، فإنه يحق للدول الإسلامية أن تقيم مراكز للأبحاث وتصنيع قنبلة مماثلة لما تصنعها هذه الدول، ويكون هذا جهادا في سبيل الله. وإن مؤازرة ومساندة كل أمة مسلمة اغتصبت أرضها وتوفير الإمكانيات اللازمة في لتحرير هذه الأرض جهاد في سبيل الله، وإن إغاثة المسلمين المنكوبين من الجفاف والجوع والمرض وغيرها من الكوارث الطبيعية يعتبر ذلك من أعمال الخير والبر، وبالتالي فهو إنفاق على الفقراء والمساكين. وعليه فإن كانت الأنشطة التي يقوم بها صندوق التضامن الإسلامي هي هذه فإنه لا حرج من صرف جزء من أموال الصدقة لصالحه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 نستخلص من هذا العرض أن النتيجة التي توصل إليها الشيخ تيجاني صابون محمد حفظه الله، هو التوسع في تفسير سبيل الله ليشمل في النهاية المواضع أو الميادين التي يكون عمل صندوق التضامن الإسلامي في إطارها. إذن نستطيع أن نقول في خصوص بحثه: إنه توصل إلى نوع من الإجازة المطلقة بخصوص صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي، والله أعلم. والأخ إذا كان موجودا ربما يصحح مفهومي إن كنت أخطأت في هذه الاستنتاجات. ثم إن الأخ الشيخ مولاي مصطفى العلوي هو أيضا بعد أن عرض المواضيع الفقهية الهامة من تعريف الزكاة وتاريخ فرضها، وزكاة الذهب والفضة وغيرها، توصل إلى النتيجة الآتية ص (592) فيقول: ويمكن إلقاء نظرة خاطفة على أهداف هذه المؤسسة التي أحدثها مؤتمر القمة الثاني، وصادق على نظامها وأهدافها المؤتمر الخامس ليرى الإنسان أهمية المؤسسة واستحقاقها لكل عون ومساعدة، خصوصا وأن جل تلك الأحداث تدخل في نطاق مصارف الزكاة. فالمادة التي تنص على مساعدة المتضررين من الأزمات والمحن والكوارث الطبيعية التي تتعرض لها البلاد الإسلامية، والمادة التي تشير إلى تشجيع البحث العلمي والتقني، وإنشاء الجامعات في البلاد المفتقرة إليها، ومنح المساعدات المادية والمعنوية للأقليات المسلمة في أنحاء العالم، والعمل على نشر الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة بتمويل البعثات العلمية لنشر الإسلام والدفاع عن عقيدته وتعاليمه، ودعم المراكز الإسلامية داخل البلاد غير المسلمة، والعمل على تنظيم الشباب المسلم بما يحفظ عليه عقيدته وسلوكه وتكوينه فكريا وعلميا وجسميا، بتنظيم الحلقات الدراسية التي تكون الشباب من لدن العلماء المفكرين والمتخصصين في كل القضايا التي تجعل من الشباب رجال المستقبل الذين يتحملون الأعباء عن قوة وجدارة. لا شك أن تنفيذ هذه الأهداف يحتاج إلى بذل مادي واسع، والمعتقد أن كلها أو جلها داخلة في نطاق ما تهدف إليه الآية الكريمة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} التوبة: 60. خصوصا البند السابق و {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، ولا شك أن المسئولين عن هذه المؤسسة الموظفين يدخلون في البند الثالث؛ لأنهم يعملون على جمع الصدقات وصرفها على مستحقيها، وهم مسلمون رشداء، لا يشك أحد في صلاحيتهم، ولا نشك نحن أيضا في صلاحيتهم وقدرتهم على المأمورية المنوطة بهم ومسئولياتهم أمام الذين اسندوا إليهم هذه المهام وأمام الله تعالى. لا بد من توزيع الصدقات على فقراء البلد حتى يكتفوا، ولا بأس بما يفضل عنهم كما كان على عهد الرسول والخلفاء الراشدين. والله من وراء القصد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 فنفهم من النتائج التي توصل إليها الشيخ العلوي أنه يجوز صرف بعض الزكاة، ويعني بالبعض ما فاض عن الأولويات المذكورة في الكتاب: أسهم الفقراء والمساكين وغيرها، يبدأ بهم، فما فاض منهم يمكن صرفه على صندوق التضامن الإسلامي. وكما قلت بالنسبة للأخ الأول فالشيخ مصطفى العلوي يمكن أن يصحح مفهومي بخصوص ما قرأته عن بحثه ويعطي الصورة الصحيحة. وأما البحث الذي قدمته أنا، ففيه نوع من التباين بينه وبين هذه البحوث الأولى؛ حيث إن موقفي، وأعتقد أنه الموقف الذي توصلت إليه، يتميز بنوع من الشدة في النظر إلى هذه القضية، فبالنسبة لي أن الدراسة المتعمقة للزكاة ولصندوق التضامن الإسلامي بقصد المقارنة تقودنا إلى الحقائق التالية: أولا: نظرا للظروف الراهنة التي تمر بها المجتمعات الإسلامية في يومنا، حيث مواطن الفقر والجهل والمرض تكاد تتطابق مع مواطن الإسلام على وجه الكرة الأرضية، مع ملاحظة تفوق الأراضي الإسلامية في نفس الوقت على الأراضي الأخرى في ميدان الثروات الطبيعية، والثروات الاستراتيجية، والسيولة المالية، فإن صندوق التضامن الإسلامي يفرض نفسه على الأمة الإسلامية كأحد الحلول الأساسية لمآسي الأمة ولمساعدتها على تبوء مكانتها كخير أمة أخرجت للناس. وهذا يعني أنه يجب على مجمع الفقه الإسلامي أن يدرس على ضوء الكتاب والسنة والتراث الإسلامي كل ما من شأنه أن يضفي اعتبارات دينية خاصة لكل مجهود يقوم به الأفراد والمجتمعات لدعم هذا الصندوق، وفي هذا الإطار فإن دور مجمع الفقه الإسلامي لا يقتصر على مجرد حث الدول والأفراد على التبرع السخي لصالح صندوق التضامن الإسلامي كوجه من أوجه البر والصدقة الطوعية، بل يجب على المجمع كذلك أن يدرس بجدية إمكانيات إجزاء دفع الزكاة المكتوية إلى هذا الصندوق، كما يجب على المجمع كذلك أن يقترح على الصندوق أي تعديل في الهيكل أو النظام أو الأهداف التي يرمي من ورائها فتح الطريق أمام الصندوق لكي يتقدم إلى الوزراء، ومن ثم إلى القمة الإسلامية بمشروع نظام معدل يطرح للإقرار، ويكون الصندوق بموجبه وعاء صالحا لتلقي الصدقات الفردية من الأفراد والمجتمعات، جنبا إلى جنب مع التبرعات الطوعية. فهذا النوع من الاجتهاد باتجاهاته المختلفة يفرضها على المجمع نظامه الأساسي؛ حيث نصت المادة (4-ب) على شد الأمة الإسلامية لعقيدتها ودراسة مشاكل الحياة المعاصرة والاجتهاد فيها اجتهادا أصيلا؛ لتقديم الحلول النابعة من الشريعة الإسلامية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 ثانيا: إن التضامن والتآخي كفكرة مبدأ أساسي في الإسلام، وهذه الفكرة هي أيضا من صميم أهداف الزكاة، وكذلك من صميم أهداف صندوق التضامن الإسلامي، لكن وهذه هي نقطة الخلاف بيني وبين المشايخ الذين قدموا بحثا في هذا الموضوع في هذا الباب، وجود فكرة التضامن في صميم كل من الصندوق والزكاة يجب أن لا يقودنا إلى استنتاجات سريعة. إن صندوق التضامن الإسلامي بصفته جهازا تنفيذيا واجتماعيا جماعيا معاصرا يرمي إلى تطبيق فكرة التضامن الإسلامي في زمننا على مستوى العالم الإسلامي ككل، وبصفته هيئة لها شخصيتها الاعتبارية وأسلوب عملها، ومصادر إيراداتها، ونظام وتوزيع واستثمار مواردها، الصندوق من هذا المنظار ظاهرة جديدة فرضتها متطلبات العصر على الأمة، وهنا نعيد ما قلناه آنفا من أنه يجب على العلماء الاستعانة بالكتاب والسنة والقياس والاستنباط والاستقراء والاستئناس كذلك، وكذلك بتجارب السلف وجميع وسائل الأمر بالمعروف لحث الأمة على مساندة حاجة الصندوق ودعمه ماديا ومعنويا، أما جعل الزكاة أو بعض الزكاة مصدرا من مصادر إيرادات الصندوق فتلك قضية أخرى يجب النظر فيها على ضوء الضوابط التي رسمها الشارع للزكاة. ثالثا: إن مؤسسي صندوق التضامن الإسلامي قادة دول كانوا أو وزراء هداهم الله إليها، لم يشاءوا أن يقحموا الزكاة المكتوبة بصورة علنية في إطار هذا الصندوق، فموارد هذا الصندوق والتي أشير إليها في المادة (6) من القانون الأساسي تنص على: التبرعات والهبات والمنح وعائدات وقفية للصندوق والخبرات، أو الخبرات أو المساعدات العينية، والجهود البشرية، وكلها مصطلحات عصرية لها مدلولاتها المحددة، وترتكز أساسا على الناحية التطوعية، ولم يستعمل النظام الأساسي للصندوق ولو مرة واحدة كلمة ((الزكاة)) أو الكلمات القرآنية التي استعملت شرعا لأداء معنى الزكاة: فكلمة الصدقة أو الصدقات أو الإنفاق أو الحق المعلوم أو غيرها، ولو مرة واحدة لم تستعمل في النظام الأساسي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 ويلاحظ كذلك أن المصطلحات القرآنية في تحديد مصارف الزكاة الثمانية: الفقراء، المساكين، العاملين عليها، المؤلفة قلوبهم، في الرقاب، الغارمين، في سبيل الله، وابن السبيل، هذه المصطلحات لم ترد ولو مرة واحدة بصيغتها القرآنية، أو بعباراتها الفقهية في عبارات النظام الأساسي للصندوق، ولربما كانت الحكمة التي هدى الله إليها قادة الدول الإسلامية ووزراء الخارجية هو أنه على الرغم من أهمية الصندوق وإسلاميته أن يترك الباب مفتوحا لتحديد هذه النقطة الخطيرة لجهاز مختص لمجمع الفقه الإسلامي؛ حيث كانت فكرة تأسيس هذا المجمع موجودة منذ تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي، لكنها لم تر النور بصورة قانونية إلا عند قرار نظامه الأساسي من طرف المؤتمر الثالث عشر لوزراء الخارجية. رابعا: مما لا يقبل الجدال أن بعض الأهداف المشار إليها في النظام الأساسي لصندوق التضامن الإسلامي، والذي تدعمها محصلة النتائج لمختلف نشاطات الصندوق ومساهماته منذ تأسيسه إلى يومنا هذا يمكن الموافقة بين بعضها وبين المعاني أو المدلولات الشرعية لمصارف الزكاة، مثل باب الأزمات والمحن، والكوارث الطبيعية، والظروف الاجتماعية التي تتعرض لها بعض الدول والمجتمعات الإسلامية، مما يبرز في تلك المجموعات جماعات من الفقراء والمساكين والغارمين وابن السبيل. ويتوقف ضيق أو سعة دائرة الموافقة بين مصارف الزكاة وبين الأجهزة والهيئات التي أسسها المسلمون – لتجسيد فكرة التضامن والتآخي في الإسلام – على مدى استعداد المذاهب الفقهية والمجتهدين من الفقهاء لتأويل أو تفسير مصارف الزكاة؛ فبعضهم يرون الحكمة في الوقوف عند تفسير السلف وعدم تعديه، مثال ذلك: ما رجحته هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بخصوص تفسير {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) حيث رأى أكثرية أعضاء المجلس الأخذ بقول جمهور العلماء من مفسرين ومحدثين وغيرهم، من أن المراد بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} الغزاة المتطوعون بغزوهم، وما يلزم لهم من استعداد وإذا لم يوجودوا صرفت الزكاة كلها للأصناف الأخرى، وليس صرفها في شيء من المرافق العامة، إلا إذا لم يوجد لها مستحق من الفقراء والمساكين وبقية الأصناف المنصوص عليها في الآية الكريمة. ويلاحظ نفس الاتجاه في تفسير كلمة الفقراء والمساكين والمؤلفة قلوبهم والغارمين.   (1) انظر قرار الهيئة رقم 24 بتاريخ 21 /8 / 1394 هـ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 ولا نرى أية فائدة في الاسترسال في ذكر الشواهد المشتقة من تراث الفقه الإسلامي الواسع إزاء تفسير هذه العبارات. وفي المقابل كان وما زال هنالك فريق من العلماء والمجتهدين يسترسلون في تفسير معاني مصارف الزكاة، وهم على درجات، فمنهم من يقتصد فيه ويتقيد بما أثر عن مذهب معين أو مجتهد معين من السلف، ومنهم من يجاري العصر بدون تحفظ كبير إلى درجة أنه يوسع مفهوم الفقراء والمساكين أو ابن السبيل أو الغارم أو المؤلفة قلوبهم – وبصفة خاصة مفهوم وفي سبيل الله - مستعينا بالمدلولات اللغوية والتاريخية؛ ليشمل في النهاية أشياء كثيرة. وهناك أدلة كثيرة على ذلك أعتقد أننا لا نحتاج إلى ذكرها، لكن الشيء الملاحظ أنه حتى في الحالات التي تتضح فيها إمكانية التوفيق بين هدف معين من أهداف الصندوق ومصرف محدد من مصارف الزكاة، فإن مسألة نفس المسلم على أن زكاته بلغت مصرفها تبقى قضية معلقة، حيث إنه بالإضافة إلى مشكلة الهدف توجد مشاكل فقهية كثيرة يجب تذليلها، أهمها: مشكلة نقل الزكاة من مكان إلى آخر، ومنها أيضا مسألة التمليك، ومنها أيضا مسألة تعجيل أو تأجيل الزكاة، ومنها أيضا مسألة دفع القيمة عن العين، وقلت بخصوص هذه النقاط ما أعتقد أنه يجب أن تكون النظرة الفقهية الملائمة لعصرنا، واستنتجت من هذه بعض الاستنتاجات والاقتراحات العلمية. وأرجو منكم أن تسمحوا لي بقراءة ملخص لها: في حالة مراعاتنا للحكمة التي هدى الله إليها الأمة سلفا وخلفا من إعطاء الأولية قي الزكاة لأصحاب الحاجات الفردية الملحة، من فقراء ومساكين وفي الرقاب والغارمين وأبناء السبيل، إما مباشرة أو عن طريق هيئات مختصة في شئون الزكاة، ونظرا لما يتسم به العالم الإسلامي في يومنا من تفشي جميع مظاهر هذه السلبيات الفردية، وحيث إن أهداف صندوق التضامن أهداف اجتماعية لا مجال فيها للتمليك الفردي، فإن نطاق التطابق بين الزكاة وبين أهداف صندوق التضامن الإسلامي يكون ضيقا وضئيلا للغاية، بعكس ما ذهب إليه الإخوة الآخرون، أنا أرى، حتى في ميدان الهدف أن التطابق ضئيل جدا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 من هذا المنظار فإن باب الأزمات والكوارث الطبيعية والظروف الاجتماعية في البلاد والمجتمعات الإسلامية يكاد يكون الباب الوحيد الذي يمكن إدخاله في دائرة المستحقين للزكاة بالأولوية. وعلى هذا فإننا لا نرى هناك مانعا شرعيا، بل نحبذ ونشجع في حالة وجود تلك الكوارث والأزمات إعطاء جزء من الزكاة إلى صندوق التضامن لإيصالها لمستحقي الزكاة من المسلمين ضحايا هذه الكوارث، إذا كان هنالك فائض، ويكون ذلك في صورة توكيل شرعي تحدد فيه شروط الوكالة، ويتعهد الصندوق بالتقيد بها. ويمكن أن تضاف إلى باب الكوارث الحالات الخاصة التي لم تحط بها المرافق العامة إلى آخرها، لكن في حالة توسعنا في تأويل بعض مصارف الزكاة كالفقير والمسكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمين وابن السبيل وفي سبيل الله، فإنه يمكن بطريقة أو بأخرى أن ندخل جميع أهداف الصندوق أغلبها تحت مظلة الزكاة، إلا أننا في هذه الحالة نرى ألا يصرف شيء من أموال الزكاة في هذه الأهداف العامة للصندوق إلا بعد التأكد من أن ذوي الحاجة من أصحاب الحالات الأولى قد حصلوا على حقوقهم من الزكاة في المنطقة المعنية. ونعرف أنه بطبيعة الحال هذا شيء متعذر، وهذا يعني أن صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي فيما عدا باب الكوارث والأزمات وفيما عدا التقيد بشروط الوكالة يكون من المتعذر في نظرنا نحن إلى هذه النقطة. ولا أريد أن أسترسل فيما قلته بعد ذلك من الأمور التي يجب النظر فيها من الناحية الفقهية، والناحية التنفيذية وغيرها، فالإخوة السادة المشايخ قد قرؤوا البحث، ولكل رأيه فيه، وكل ما يهمنا نحن من أقدموا على الكتابة في هذا الموضوع، أن يعرف الإخوة أننا حاولنا أن نظهر جوانب المسألة المختلفة ونقاط الخلاف فيها، لكي تكون الصورة جلية واضحة للعيان، ولكل من يساهم في هذا المجمع؛ لكي نتوصل في النهاية إلى اجتهاد جماعي حصيلة احتكاك الأفكار وتبادل الآراء، وما قصدنا من كل هذا إلا أن نفيد ونستفيد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 الشيخ طه جابر العلواني: بسم الله الرحمن الرحيم.. من الواضح أن الجهد الذي بذله الشيخ يوسف بارك الله فيه جهد جيد، وكذلك الأخوان الباحثان الآخران، ولكن لي بعض الملاحظات العامة وبعضها خاص. فمنذ فترة قصيرة والأصوات تتعالى حول صرف الزكاة لهذا المصرف، أو ذاك من المصارف العامة، والفتاوى بقبول ذلك أو المنع منه كثرت وتنوعت بشكل كبير دون نظر مستفيض شامل في دوافع هذه النداءات وغاياتها. ومن المعروف أنه في الفترات الحالكة من تاريخنا الإسلامي وهي فترات كثيرة أن أهم الوسائل التي حفظت للمسلمين علاقاتهم، وحفظت لهم مجتمعهم، وحفظت لهم حضارتهم بعد أن انهارت سائر المؤسسات الرسمية، كان جهاز الوقف، وجهاز الزكاة والصدقات، فالوقف كان يساهم في حماية المؤسسات الإسلامية من المساجد والمدارس ونحوها، الزكاة كانت هي التي تحفظ الصلة بين أغنياء المسلمين وفقرائهم، وتديم الترابط فيه، ونظام الصدقات بين أبناء المجتمع الإسلامي. وأود أن أفترض أن كثيرا من هذه النداءات مخلص، ولكن بعض هذه النداءات فيه نظر، وربما يكون مصدر النظر فيه أن هذه الزكاة هي نسبة ضئيلة جدا من المال، وهذه النسبة الضئيلة قد حدد الله سبحانه وتعالى مصارفها، وبين هذه المصارف بشكل ليس فيه إجمال أو غموض، فما لنا نحاول بين الفترة والأخرى أن نهجم على هذه النسبة بعد أن هجم على كثير من الأموال. إن صندوق التضامن الإسلامي أو أية مؤسسة من مؤسسات الحكومات الإسلامية أو الدول الإسلامية، يمكن إغناؤها بأي مورد من موارد هذه الدول، يمكن إغناؤها بأية فضلة زائدة، ولكن دائما يكون توجه البحث والنظر نحو ما بيد الأفراد. لم لا نطالب هذه الحكومات وهذه الدول بأن تضغط بعض مصروفاتها، بأن تحول أن تحول شيئا من مواردها في هذا الاتجاه، وبالتالي تستطيع أن تغني هذا الصندوق الذي نقدر أهدافه ونحترمها حق الاحترام وحق التقدير، ولكن لهم في موارد كثيرة أخرى من موارد الحكومات والدول لهم فيها غنى وكفاء عن هذه الزكاة التي حدد الله مصارفها، وحدد الوجوه التي ينبغي أن تستخدم فيها، وبقيت هي الوسيلة الوحيدة التي تربط بين أغنياء المسلمين وفقرائهم، فلماذا نحاول بين الفترة والأخرى إثارة قضيتها، ومحاولة مصادرتها وتحويلها إلى الجهة الرسمية، ومحاولة القضاء على أية صلة بين أغنياء المسلمين وفقرائهم!؟ هذه ملاحظتي فيما يتعلق بهذا الأمر، فأعتقد أن البحث ينبغي أن يحول إلى مطالبة الدول الأعضاء بصرف ما يمكن أن تصرفه من أي باب من أبواب مواردها لهذا الصندوق وإغنائه للقيام بواجباته وتحقيق أهدافه الخيرة. وأما مسألة الزكاة بما في ذلك ما يحتمله قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} فينبغي أن ننأى بها في هذا الوقت بالذات عن أن تكون موضع بحث في هذا المجال، ونحن نعلم أن الكثيرين، أو كثيرا من الأنظمة تتطلع للاستيلاء عليها وحجبها عن الفقراء والتصرف فيها بطريقتها الخاصة بهذه الحجة أو تلك. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 الشيخ محمد تقي العثماني: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله أصحابة أجمعين وبعد، فأريد في فاتحة كلامي أن أشكر سيادة أخينا الأستاذ يوسف جيري على عرضه المستفيض للموضوع المطروح في هذه الجلسة، فإنه طرح أمامنا جميع النواحي الأساسية التي لا بد من النظر فيها قبل البت في هذه المسألة، وإنه ولكل باحث حقه في إيضاح وجهة نظره التي أبداها في بحثه، أما بالنسبة للموضوع، وهو صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي، فالمسألة عندي كما تقدم به أخونا الأستاذ طه جابر حفظه الله ليست مسألة صرف الزكاة لصالح صندوق واحد أو آخر. وإنما المهم هل يصرف هذا الصندوق أموال الزكاة، في مصارفها المنصوصة أم لا؟ وأن النداءات التي تحدث عنها أخونا الأستاذ طه جابر، نرى في كل بلد أنه كلما حدثت حاجة مالية لمادة من المواد، حدثت نداءات لصرف هذه النسبة الضئيلة من أموال الزكاة لتلبية تلك الحاجة، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في المال حقا سوى الزكاة)) ، فما لنا نجتهد بأن نصرف الزكاة في كل ما نحتاج إليه، وإن هذه النسبة الضئيلة قد خصصها الله سبحانه وتعالى للفقراء والمساكين والمصارف المنصوصة، وقد اتفق الفقهاء والأئمة الأربعة فيما أعتقد على أن الزكاة لا بد فيها من تمليك فردي، فلو صرفنا أموال الزكاة هذه إلى صندوق جماعي، وليس فيها اهتمام بالتمليك الفردي، فلا يجوز لنا أن نصرف أموال الزكاة إلى ذلك الصندوق. نعم لا بد للبلاد الإسلامية من مساندة مثل هذه الصناديق من مواردها الأخرى، التي حث إليها الله سبحانه وتعالى بالإنفاق في كتابه {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} آل عمران 92. وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في المال حقا سوى الزكاة)) ، فإذا نظرنا من هذه الناحية، إذا كان في صندوق التضامن الإسلامي ضمان لصرف أموال الزكاة عن طريق التمليك الفردي أو التوكيل، كما اقترحه الأستاذ يوسف جيري، فإنه يجوز عند ذلك صرف بعض أموال الزكاة إلى ذلك الصندوق، وأما في الظروف الموجودة التي لا ترى في مادة من مواد نظام هذا الصندوق ما يفترض صرف أموال الزكاة بطريق التمليك أو بالتوكيل، فلا أرى جواز ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم، وشكرا والسلام عليكم ورحمة الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 الشيخ عجيل جاسم النشمي: بسم الله الرحمن الرحيم.. والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين. لي ملاحظتان فيما أبداه الشيخ يوسف جيري من عرضه للمواضيع، وابتداء أثني على ما ذكره الزميل الدكتور طه جابر، وأرجو أن يؤخذ في الاعتبار ما ذكره في أصل الموضوع، وهو صرف الزكاة للصندوق ذاته. أضيف إلى كلام الزميل الدكتور طه إشارة إلى موضوع العاملين، وقد ذكر الشيخ العلوي – حسب ما نقله الأستاذ يوسف جيري – أشار إلى جواز الصرف؛ صرف الزكاة إلى العاملين في صندوق التنمية، وهذه قضية ينبغي أن لا يتوسع فيها، قضية العاملين ينبغي ألا يتوسع فيها، خصوصا بالنسبة للمؤسسات التي الأصل فيها أن تكون خيرية، فيتوسع حينئذ من حيث التطبيق، كما هو مشاهد في بعض الأقطار يتوسع في أعداد العاملين، وفي تنويع مستوياتهم، مما يؤدي إلى امتصاص قدر كبير من سيولة الزكاة. القضية الثانية التي أود أن أشير إليها أيضا مما ذكره الأستاذ يوسف جيري من ملاحظته أن النظام الأساسي لصندوق التضامن لم ترد فيه أية عبارة اصطلاحية من المصطلحات الشرعية المعروفة في باب الزكاة، ولعل هذا يشير إلى أن الصياغة لم تراع الروح الإسلامية، فإذا فقدت الصياغة في نظامها الأساسي الروح الإسلامية، فأعتقد أن هنا علامة استفهام ينبغي الوقوف تجاهها. اقتراحي في هذا الصدد هو أن تبنى الفتوى والرأي على نظر واقعي عملي، كأن تقوم الأمانة بتشكيل وفد ليعاين واقع الصندوق ويطلع على سير العمل، ثم يوافي المجمع بتصور نظري وعملي. أقول قولي هذا وأستغفر الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 الدكتور علي أحمد السالوس: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. وشكر الله لكم جميعا والإخوة الذين تحدثوا من قبل. نظرت في المذكرة التفسيرية الخاصة بشأن صندوق التضامن الإسلامي، فأذكر منها أنها أنفقت ثمانية ملايين دولار في الاحتفال بمطلع القرن الخامس عشر الهجري، وأن النفقات الإدارية كانت بمعدل مليون تقريبا في العام؛ لأن الموظفين يراعى في أجورهم العمل تبعا لمنظمة المؤتمر الإسلامي أجورا مرتفعة، ثم هناك تنظيم الحلقات الدراسية، وهناك الوقف والمساجد، والمستشفيات والجامعات إلخ. من هذا أضم صوتي إلى صوت الإخوة السابقين، وأقول: إن هذا يؤيد القول بأن الزكاة لا تصرف في هذه المصارف، فلا تكون تبعا للوقف، ولا تكون في المساجد، كما قال الإمام مالك: ((سبيل الله معروف، ولا أعلم أحدا قال بأن سبيل الله يعني شيئا غير الجهاد)) . كلام الإمام مالك، فالتوسع في سبيل الله نتيجة ما ذكره الفخر الرازي نقلا عن غيره وقال: " إن بعض الفقهاء توسعوا حتى يشمل الحجاج والعمار، ويشمل كذا ويشمل كذا، هذا يحتاج إلى دليل لا يكفي أن يذكر مفسر مثل هذا لنتوسع في سبيل الله؛ لأنه لو توسعنا هذا التوسع فإعطاء الفقراء في سبيل الله وإعطاء المساكين في سبيل الله، وكل هؤلاء في سبيل الله، إنما لا بد أن يكون معنى في سبيل الله له معنى محدود مفهوم. إذن العاملون عليها الموظفون لا يأخذون من الزكاة ليس المراد بـ (العاملين عليها) في الآية الكريمة لا ينطبق على هؤلاء الموظفين في هذه المؤسسة؛ لأن المؤسسة هذه لها وظائف مختلفة، ليست أساسا لجمع الزكاة وإنفاق الزكاة حتى نقول: إنهم من (العاملين عليها) لهذا أرى عدم جواز صرف الزكاة، وهو الجزء الضئيل كما أشار إليه الإخوة في هذه المصارف، وإن كان لابد يبقى تبعا لاقتراح الأخ الدكتور عجيل أن اللجنة التي تشكل تنظر فى المصارف التي يمكن فعلا أن تدخل ضمن المصارف الثمانية؛ لأن الله عز وجل حددها في كتابه ولم يتركها حتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نستطيع أن نخرج عن هذه المصارف الثمانية، ولا نستطيع أن نتوسع في معنى في سبيل الله حتى يشمل كل شيء، وإلا تكون الزكاة في سبيل الله، ونلغي المصارف السبعة الأخرى لأن معناه في سبيل الله يشمل إذن هذه المصارف السبعة. هذا ما أردت أن أقوله وشكرا. والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 الشيخ عبد الحليم محمود الجندي: بسم الله الرحمن الرحيم. أشكركم يا سيادة الرئيس، وأشكر إخواننا الذين تفضلوا فسبقوني بالكلام؛ لأن هذا الموضوع من بوادره قد قتل بحثا، ولا أريد أن أكرر ما قالوه ولا أن أعلق عليه، وإنما أريد أن أبين بعض المحظورات. فنحن بإزاء عبادة، وهي الزكاة، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام، فنحن إذن نتقيد فيها بالنص، وتمنعنا أصول الإسلام بعضه أصول الدين نفسه، تمنعنا أن ننقل فردا محل آخر، وتمنعنا من أن نهدر من حق جماعة بعضه لننقله إلى آخرين، وتمنعنا أصول الفقه كذلك عند ورود النص صريحا من أن نجتهد مع ورود النص صريحا في الموضوع. والنص الخاص بالزكاة أصرح ما يكون. وهي بذاتها جهاز أنشأه الله تعالى لإيجاد التضامن بين الجماعة، وليجبر بعض بعضاً آخر، هذا واضح، فكل اجتهاد فيه، هو اجتهاد مع ورود النص، وهذا ممنوع بأصول الفقه. هذه واحدة لا نستطيع أن نضع التضامن الإسلامي ولا صندوق التضامن بين المستحقين، وإنما هذا جهاز جديد مستحدث لتمكين المسلمين من أن يتعاونوا، فلينشأ بهذا الجهاز الجديد ما يطوعه أو ما يطوع الأشياء له، لكننا لا نستطيع أن نجعله هو القائم على الزكاة، وأن نجعله هو الذي يصب فيه مصارف هذه الزكاة، ولا نجعله يستطيع أن يحل محلها. والزكاة تبدأ ونحن يجب أن نبدأ بما يبدأ به الله سبحانه وتعالى، فالله قد بدأ بالفقراء وانتهى إلى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} ولا نستطيع أن نجعل في سبيل الله يحل محل الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم إلخ. الزكاة مراعى فيها الجانب الشخصي. هذه مسألة أساسية لا تستطيع أيضا مؤتمرات المسلمين، ولا النظم السياسية في المسلمين أن تستبعد هذا الجانب الشخصي من دفع الزكاة إلى مستحقيها، حتى اللجنة التي تفضل إخواننا فاقترحوها بتخفيف وضع النظرية المعروضة الآن، هذه اللجنة أيضا لا تستطيع أن تتكلم عن الأولويات، ونقل الجانب الشخصي إلى جوانب نظامية، أو جوانب دولية، أو جوانب يقوم بها صندوق التضامن مقام الأشخاص المستحقين في المقام الأول، رضي الله عن سيدنا عثمان أنه عندما ترك للناس أن يدفعوا الزكاة ولم يحصلها تركها للناس تحت مسئولياتهم الشخصية، ولم يرد هو أن يجبي الزكاة بمشاكلها ليتولى التوزيع، فحتى هذا الذي ورد في أصل التطبيق، أو في تطبيق السلف الأول أو في تطبيق الخليفة الراشد عثمان، هذا أيضا يمنعنا من أن نحل محل الأفراد والأشخاص في القيام بهذه الفريضة. لذلك أرجو ألا نجتهد سياسيا، وألا نجعل لمجمع الفقه دخلا في أن يحل محل الأشخاص الذين وكل الله إليهم، كما طبق أمير المؤمنين عثمان، أن يدفعوا الزكاة لمستحقيها الذين يرونهم، أرجو ألا نكون نحن قد حللنا أو نريد أن نحل محل الأشخاص في هذا التوزيع. كل ما أرجوه أننا إذ نحل صندوق التضامن محل الفقراء والمساكين، يجب أن نذكر أين موقعه هو من هذه المصارف الثمانية، موقعه لا شك واضح. من أجل هذا أرجو أن نترك الزكاة للتقدير الذي جرى عليه التطبيق والمسلمون من قديم الزمان، ومهما كانت منحهم لا يترخصون في الزكاة كما يظن البعض، وإنما الجانب السري في التوزيع هو الذي جعلها لا تظهر قوية لبعضنا أيضا. ولهذا أشكر وأزكي البحث الذي قدمه صديقنا الأستاذ يوسف جيري وإخواننا الذين سبقونا بالكلام وأشكركم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. يبدو لي من البحوث التي قرأتها لبعض الإخوة في هذا الموضوع أن الهدف هو ربط سائر المصالح والاحتياجات الإنسانية بمعين واحد شرعه الله ألا وهو الزكاة، وذلك طبعا يعني أن يؤدي إلى إعفاء بيت مال المسلمين المتمثل في أموال الدول الإسلامية من كل مسؤولية؛ ذلك لأن سائر المنشآت الإنسانية: المساجد، المستشفيات، المصالح العامة المختلفة المتمثلة في أنواع شتى إذا أنيطت مسؤولياتها بالزكاة، فقد أرحنا بيت مال المسلمين من كل شيء. وما أظن أن هذا تصور يتفق مع حقائق وكليات ومبادئ الشريعة الإسلامية، فيما قرأناه من بحوث الشريعة الإسلامية في هذا الصدد، رأينا أن الحاجات التي يلفت الإسلام إليها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: المحتاجون الذين يمكن أن يوجدوا في مختلف البقاع والبلاد الإسلامية وضرورة إغنائهم. القسم الثاني: المصالح العامة الإنسانية التي تتمثل في إنشاء مرافق وبناء مساجد، ومؤسسات ومستشفيات ونحو ذلك. وقد شرع الله سبحانه وتعالى لسد الثغرة الأولى الزكاة، ونص على هذا المعنى بأداة الحصر فقال جل جلاله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} إلى آخر الآية (التوبة 60) ، ولكأن الكلام الإلهي يحذر من هذا التصور الذي جاء به الزمن فيما بعد، ففتح دائرة منافذ الزكاة لتمتص كل المصالح والحاجات، ولكن أداة الحصر جاءت سدا وردا بهذا التصور إنما الصدقات للفقراء. وهنالك متكأ لبعض الإخوة أو لبعض الناس أمام كلمة: وفي سبيل الله، ألا وهو النقل الذي نقله ولم يتبنه بعض المفسرين لكلمة {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} فتصوروا أنها قد تعني كل الحاجات الإنسانية التي يقرها الإسلام، هذا التصور مردود أيها الإخوة بدليلين اثنين: أولهما لو كانت كلمة (في سبيل الله) تعني غير المجاهدين في سبيل الله من هذا المعنى المتسع جدا، إذن لكان من العبث النص على الأصناف السبعة الأخرى؛ ذلك لأن الفقراء، المساكين، العاملين عليها، الغارمين، كل هؤلاء يندرجون تحت اسم في سبيل الله، ومعاذ الله أن نصف القرآن بالعبث، أو أن نصف كلمة فيه بالتزيد، هذا لا يمكن، إذن فكلمة (في سبيل الله) قسيم للأنواع السبعة الأخرى، والقسيم يختلف عن قسيمه. الشيء الثاني: تعالوا ننظر إلى الإجماع الفعلي خلال العصور التي خلت، عصر رسول الله (ص) ، الذي يليه، الذي يليه، إلى يومنا هذا، هل رأينا على صعيد الواقع من صرف شيئا من مال الزكاة إلى غير فقير ينتسب إلى نوع من هذه الأنواع الثمانية، لم نجد ذلك على صعيد الواقع أبدا، إذن نحن أمام إجماع فعلي عملي، وهو لا يقل كما قال جمهور الفقهاء عن الإجماع القولي. أما ما يتعلق بالمشكلات التي أثارها الأستاذ يوسف في بحثه القيم أنا أقبل ما قاله كلفت نظر، مثلا نقل الزكاة من بلد إلى بلد، تعجيل الزكاة، متى يجوز استبدال العين بالقيمة والعكس. هذه بحوث يلفت نظرنا إليها ونعم ما فعل، ولكنها محلولة لا مشكلة. فهنالك من أجاز نقل الزكاة وإن كان الشافعية لا يجيزون ذلك، وهنالك من أجاز استبدال القيمة بالمقوم، وإن كان ثمة من لم يجز ذلك، وهذه الأقوال أقوال صحيحة لا ضعف فيها، لكن ينبغي أن نتبصر بها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 نتيجة هذا أيها الإخوة فيما أتصور أن صندوق التضامن، نعود إلى إيجاد شيء من التنسيق بين حقيقة الزكاة وما شرعه الله في أمرها، وبين نظام هذا الصندوق، فإن رأينا أن نظام هذا الصندوق يتسق ويتفق مع مصارف الزكاة كليا وجزيئا فلا مانع، ولا أظن أن هذا متحقق، وإن لا ينبغي أن نتحفظ في الأمر، وينبغي أن نتذكر كما قال بعض الإخوة أن الدول الإسلامية متمثلة في صناديقها متمثلة في أموالها هي المسؤولة أولا وبالذات عن إقامة مصالح المسلمين، أما الزكاة فما هي إلا دعم وما هي إلا نسيج محبة حققه الله، أو حقق الله بواسطته التآلف بين القلوب. أقول قولي هذا وشكرا لكم. الشيخ محمد الحاج ناصر: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حديث الزكاة وصرفها إلى من يتولى إبلاغها لمستحقيها حديث ذو شعب ينبغي أن نتدبرها كلها؛ لأن الركن الثالث من أركان الإسلام ليس ركنا أساسيا فحسب، وإنما هو الدعامة الأولى لتكوين الرابطة المادية بين أفراد المجتمع الإسلامي وطوائفه، والذي تفضل به بعض الإخوة من قبل أشار إلى نواح لطيفة، ونلاحظ أنه لا ينبغي أن تغيب عنا، ونحن نحاول أن نجد توفيقا بين ما يطلب من توكيل مؤسسة معينة عن الأفراد وبين ما هو مشروع من شريعة الله سبحانه وتعالى، ولطيف جدا أن يلتفت أحد الإخوة إلى هذا الملحظ الأول ملحظ الوكالة؛ ذلكم بأنه لا يمكن اعتبار صندوق التضامن كبيت مال المسلمين، ولا يمكن اعتبار القيمين عليه كما كان الخلفاء وولاتهم وعمالهم، البيعة التي تعطى للخليفة لم تعط للسيد المدير، ولم تعط لأنه ليس من نظام الصندوق أن يكون مديره خليفة للمسلمين، ولم يعرف الفقهاء المسلمون من قبل مبدأ التوكيل في أداء الزكاة، أو في صرف الزكاة وتبليغها إلى مستحقيها إلا في حالات قليلة، عرض لها البعض، حتى لا تكاد من ندرتها أن تخفى على المتأمل المسرع في التأمل، فنحن إذن أمام طلب يريد من المسلمين توكيل صندوق التضامن الإسلامي ليقوم مقامهم بتصريف جزء أو كل ما عليهم من زكاة. وهذا الذي على المسلمين من زكاة على نوعين: ما منه على الأفراد وما منه على المؤسسات، والذي منه على الأفراد قد يمكن عند توفر روابط معينة أن يوكل صندوق التضامن في دفع جزء منه، وتصريفه إلى مستحقيه، مما سأشير إليه بعد، وما منه على المؤسسات. قبل أن يتعين على الأفراد التفكير فيه علينا أولا أن نتخذ موقفا، نحث فيه الدول الإسلامية على إدخال ضريبة الزكاة ضمن الضرائب التي تفرضها على الشركات، وخاصة تلك التي تعمل فيما هو في باطن الأرض، وعندما تفرض هذه الضريبة سنتساءل يومئذ: هل ستتولى الدول نفسها صرفها إلى مستحقيها، أم ستحيل ذلك إلى صندوق التضامن الإسلامي بتوكيل منها؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 وأمثال هذه الضريبة هي التي ستغني صندوق التضامن، أما ما بأيدي الأفراد فالله سبحانه وتعالى حين ذكر الأصناف الثمانية رتبها طبقا لأولويات الاستحقاق، ولئن كانت الواو عند أغلب النحاة لا تفيد الترتيب، فإن النسق القرآني يرتفع على اعتبار النحاة واللغويين، فالله سبحانه وتعالى حين يقدم شيئا بالذكر لا يقدمه اعتباطا، وإنما يقدمه لمعنى في ذاته، والله سبحانه وتعالى حصر الصدقات في الأصناف الثمانية، ليس ليخرج ما قد يبلغ إليه الاجتهاد من اعتباره داخلا في تلك الأصناف، وإنما ليخرج الأغنياء. هنالك الحصر فعلا، لكنه حصر يؤوله ما قبله، الذين يلمزون المطوعين من المسلمين في الصدقات {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ ... } . التوبة: 58، 59. فالحصر هنا له وجهة معينة هي إخراج الأغنياء، أما قضية في سبيل الله فشيء آخر، قال الإمام مالك رحمه الله قولته تلك، وهو ككل الأئمة موقر ما يقول أكبر توقير، ولكنه ليس بالمقدس، فهو نفسه يقول: ما من عالم إلا وفي علمه مأخوذ ومتروك، إلا صاحب هذا القبر. يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين قيل له عن خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه: إنه امتنع من أداء الصدقة، قال له ما معناه: إنه أوقف كل ما يملك، إنه أوقف عتاده في سبيل الله، وفي سبيل الله لا يعني المجاهدين، كما يظن البعض، وإنما يعني كل ما يؤدي إلى الجهاد أو يهيئ له، ومن ذلك إنشاء العتاد، ومن ذلك تقوية اقتصاد الأمة لئلا تقع تحت نفوذ اقتصاد الأمم الأخرى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} . من قوة بالتنكير، وللتنكير دلالته في القرآن؛ فمن ذلك كل ما من شأنه حماية قوة المسلمين وإنماؤها وإقرار هيبتهم وردع المتربصين بهم، يمكن أن يعتبر في سبيل الله، لكن لا يصار إلى إنفاق الزكاة في هذه المجالات إنفاق الزكاة كلها، إلا بعد أن ينفق على الجهات التي سبق ذكرها على (في سبيل الله) ، وهنا يأتي دور قوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} . ثم قال: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} . البقرة: 177. فهنالك إذن ما أشار إليه أحد الإخوة من قبل من حديث فاطمة بنت قيس الذي كان يفتي به عامر الشعبي، من أن في المال حقا سوى الزكاة، وحتى نفي ابن عمر لأن يكون في المال حق سوى الزكاة لم يكن نفيا لوجود الحق في ذاته، وإنما كان نفيا لأن يكون هناك حق ثابت يتعين على الإنسان بطريقة دورية إلا الزكاة. أما أن في المال حقا سوى الزكاة عندما يتعين على المسلمين أن يتفقوا، فذلك ما لسنا بحاجة إلى البحث فيه إلى اجتهاد وإجماع، فهو نص قرآني صريح بصريح هذه الآية وبصريح: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} التوبة 103. وليست تزكيهم بمعنى الزكاة، وليس صدقة بمعنى الزكاة كما وهم بعض المفسرين. وقد أوضحت ذلك كله في البحث الذي أعددته لموضوع انتزاع الملك للمصلحة العامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 فنحن إذن إن نرد أن ندعم صندوق التضامن الإسلامي يجب أن يتسع اتجاهنا إلى أن يشمل ما وراء الزكاة. يجب أن ننظر في طريقة نحمل بها المسئولين على تطبيق قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن في المال حقا سوى الزكاة)) ، ويجب أن نبحث عن طريقة نحمل بها المسئولين على تطبيق ما فرض الله سبحانه وتعالى على الثروات في باطن الأرض. ثم لا ينبغي أن نقف حجر عثرة في وجه إعانة صندوق التضامن الإسلامي بما قد يفيضه على حاجة أهل البلد من الفقراء والمساكين إن وجد ما يفيض، لينفقه الصندوق مما في الغارمين في التسديد على بعض الغارمين، وإما في بعض جوانب في سبيل الله، وإما في الرقاب. وهنا أحب أن ألفت إلى شيء لم نعد الآن في عصر وجدت فيه الرقاب بالمعنى الذي كان معروفا، ولكن لدينا أسارى، لدينا أساري تضطهدهم ألعن فئة وجدت في البشرية منذ كانت، وفك هذا الرقاب من أوكد الواجبات على المسلمين، فإن لم تصرف الزكاة في مثل هذا ففيم تصرف؟ والمؤلفة قلوبهم لم يقل القرآن: من المسلمين، فلو استطعنا أن ننفق جزءا من الزكاة في تأليف بعض الجهات التي تحاربنا سواء من أجهزة الإعلام أو من أرباب النفوذ في الدول الأخرى؛ لنصرف مكرهم وشرهم عنا، ولندفع به على غيرنا، أفلا يكون هؤلاء من المؤلفة قلوبهم؟ لقد قالها عمر رضي الله عنه، كان ذلك لما كان الإسلام جذعا، أما الآن فقد بزل ذلك في عهده رضي الله عنه وهو يدوخ العالم كله بقوته الإيمانية وبجيش المسلمين، أما نحن الآن فالإسلام أقل من جذع، ينبغي أن نفكر واقعيين، وألا نجعل الإسلام منغلقا على نفسه، وأن نيسر أسباب الجهاد، وأن ندرك أننا لو وقفنا عند من كان يحصرون الزكاة في سبيل الله يعني في الجهاد والمجاهدين، لوجب أن نقف عند السيف والرمح، وماذا يفعل السيف والرمح في عهد الذرة ومشتقاتها، وفي عصر الصواريخ وعصر الفضاء؟ أيها السادة، إن مسؤوليتنا هنا مسؤولية أناس ينبغي أن يدركوا أنهم مسئولون أمام الله في تقديم الإسلام كحل بديل لكل هذه المعوقات، ولكل هذه الضلالات التي تعرض علينا من يمين ويسار. فلنقدم الإسلام عمليا ولنرجع به إلى النصوص الأولى من الكتاب والسنة، كما كان يفعل أحمد بن حنبل رضي الله عنه ومالك والشافعي، ولنبتعد عن الأقيسة، ولنلجأ إلى الاستنباط وابتغاء مناط التشريع، ففي مناط التشريع خير كثير. والسلام عليكم ورحمة الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 الشيخ مصطفى الفيلالي: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.. شكرا سيدي الرئيس. استسمحكم في أن أتوجه بالشكر في بداية هذه الكلمة إلى الشيخ يوسف جيري على المجهود القيم الذي بذله في تقديم الدراسات المقدمة إلينا بهذه القضية، وفي تلخيص ما ارتآه من ملاحظات، أؤيد بعضا منها فيما يتعلق بالمصاعب التي أشار إليها من صرف الزكاة لصالح الصندوق، وكان ينبغي فيما أظن سيدي الرئيس أن نقول: صرف الزكاة عن طريق صندوق التضامن، لا لصالح الصندوق؛ لأن الصندوق سوف لا ينتفع في مجرى اختصاصاته فيما يتجمع من أموال الزكاة. قلت: إني أرى في تحقيق هذا المطمح مصاعب متعددة، قد أشار الشيخ يوسف جيري عنها، وأشار بعض الإخوة إليها وأود أن أجمل القول في بعضها: الصعوبة الأولى تتعلق بالأصل؛ أي: بالمقاصد الأساسية التي أرادها المولى سبحانه وتعالى من فرض الزكاة. وأرى أن لفرض الزكاة غرضين اثنين: غرض إحكام أواصر المرحمة والتضامن بين فئات المسلمين، وخاصة بين الفئات الضعيفة والفئات الأقل ضعفا. والغرض الثاني: هو غرض شخصي يرمي إلى تزكية النفس، نفس المؤمن المؤدي لفريضة الزكاة، هذا الجانب النفسي في علاقة المؤمن بفريضة الزكاة هو جانب أساسي، وقد أشار إليه بعض من الإخوة الأجلاء الذين تفضلوا بالتدخل في هذا النقاش. هذا الجانب التعبدي يكتسي طابعا شخصيا، وأخاف سيدي الرئيس ويا حضرات الزملاء الأفاضل أن يضعف هذا الجانب النفسي في ذات المؤمن المؤدي للزكاة إذا استقر في نفسه نوع من التنظير والتطابق بين الزكاة وبين الجباية الوضعية. ونحن نعلم ما للجباية من ثقل موضوعي في بلادنا، ومن استنكاف الأنفس واستثقال شخصي لأدائها، فإذا نحن جعلنا صلة ما بين الزكاة كتعبد شخصي يتقرب به الإنسان إلى المولى سبحانه وتعالى، ويزكي نفسه، وبين الجباية التي يؤديها للحكومة، مع ما نعلم من وهن العلاقات في كثير من الأمصار بين المواطنين وبين حكوماتهم، فإن ذلك سيكون على حساب الجانب التعبدي، وربما يستنكف الإنسان المؤمن من أداء هذا الواجب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 الصعوبة الثانية تتعلق بصندوق التضامن، فقد أشار الأستاذ الشيخ يوسف جيري بأن هذا الصندوق ليس في قانونه الأساسي ما يفيد أن الزكاة هي من بين الموارد الاعتيادية التي يعول عليها الصندوق، وأنا أتساءل سيدي الرئيس: هل يملك مجمع الفقه الإسلامي أن يأخذ المبادرة في إدخال تغيير هو من اختصاصات المراجع الأولى والهيئات الأساسية لمنظمة المؤتمر الإسلامي؟ لا بد من تغيير القانون الأساسي حتى يصبح لصندوق التضامن، بل حتى تصبح الزكاة من الموارد الأساسية، أو في عداد الموارد الأساسية التي يعتمد عليها الصندوق. والصعوبة الثالثة تتعلق بجمع الزكاة في كل واحد من بلاد الإسلام، وبنقلها إلى صندوق التضامن، وهنا تكمن المصاعب الكبرى: من ستولى تجميع هذه الأموال في كل واحد من أوطاننا؟ هل ننشئ في كل بلد تنظيما خاصا بذلك وهيئة إدارية تتولى هذا العمل؟ ونحن نعلم في كل واحد من أوطاننا من جهاز ثقيل متعدد يأكل الأموال الكثيرة لجباية الأموال، وكيف يجوز ذلك مع وجود كثرة الاحترازات القانونية على عملية جمع المال؟ فنحن نعلم مثلا في شمال إفريقيا، وفي تونس بصفة خاصة أن الهيئات التي تشرف على بناء المساجد ينبغي أن تسترخص أولا عند إنشائها لبناء المسجد لجمع الأموال لبناء المسجد، وتسترخص بصورة دورية، كذلك لجمع الأموال؛ لأن جمع الأموال على الطريق العام هو امر محظور قانونيا، وينبغي أن يسترخص فيه مع بيان أغراضه ومواقيته والمبالغ التي يراد جمعها. الصعوبة الكبرى الأخرى تتعلق بتحويل هذه الأموال إذا نحن توقفنا إلى جمعها، فنحن يجب أن نعلم جميعا ما لكل واحدة من الحكومات الإسلامية من تشاريع قانونية تتعلق بالمال، وتضرب على رواج المال ترسانة من القيود والحصر، وتدخل في هذه القيود قضية التحويل بالعملة المتداولة، إن كان الدولار مع ما ينتاب هذه العملة أو تلك من تأرجح في القيمة، وفي التفاوت الدوري في القيمة كل شهر، أو كل أسبوع، بل كل يوم، وقد عشنا ذلك في الأشهر القريبة الماضية. ومعلوم أن ما انتاب الدولار من هذا التأرجح قد أودى بنصف قيمة الودائع، واستدعى ذلك تدخل الحكومات المسؤولة، وكان ذلك وفقا للقوانين الجاري بها العمل؛ حيث إن هذا المال سوف يكون في مأمن من انهيار قيمته، أو تغير قيمته بكذا في المائة، على مدى، لأن العملية هي عملية مسلسلة ودورية على مدى المدة التي يقع فيها مباشرة هذا العمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 هذه بعض الملاحظات وبعض المصاعب التي ارتأيتها، وفي أثناء هذه الجلسة وردت علينا ورقة أخرى من الدكتور عبد الله إبراهيم، وتتعلق بإمكانات تكوين إدارة مالية للزكاة في الأوطان الإسلامية فقط، ولم أطلع عليها بطبيعة الحال، قد يكون في ذلك منحى للتدبر والتفكير. على كل فإن صرف أموال الزكاة عن طريق صندوق التضامن يثير عديدا من المصاعب، لا بد من أن نعيد فيها النظر، ولابد أن نتروى فيها، ولا بد خاصة من أن يقوم فيها التشاور بين مجمع الفقه وبين منظمة المؤتمر الإسلامي؛ لأن القانون الأساسي لمجلس إدارة صندوق التضامن الإسلامي هو من اختصاص هيئات غير هيئة مجمع الفقه الإسلامي، أشكرك سيدي الرئيس وأشكركم ايها الإخوة، والسلام عليكم ورحمة الله. الرئيس: شكرا. من حيث الصعوبة التي ذكرتموها من أن الزكاة لم يشر إليها في النظام الأساسي لصندوق التضامن الإسلامي. فالذي يظهر أنه في ذلك الوقت لم يكن هناك تفكير في ضم الزكاة لأن تكون أحد موارد صندوق التضامن الإسلامي، وهذا واضح من اللائحة التنفيذية التفسيرية لنظام الصندوق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 الشيخ محمد سيد طنطاوي: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن ولاه. يبدو أنني سأعود إلى الكلمة التي قد قلتها بالأمس، وهي تحرير محل النزاع كما يقول علماء الأصول؛ لأن الذي أعرفه أننا جميعا كعلماء وكمسلمين، لا خلاف بيننا في أن مصارف الزكاة قد حددها الله سبحانه وتعالى تحديدا محكما في كتابه الكريم. الأمر الثاني: أنه لا خلاف بيننا في أن الزكاة يؤديها كل مسلم بنفسه في الأعم الأغلب، ربما لا أتجاوز الحقيقة إذا قلت: إن 90 % من المسلمين يؤدون زكاة أموالهم بالطريقة التي يرونها مناسبة، وبالطريقة التي يرونها طريقة شرعية يرجون من الله سبحانه وتعالى أن يتقبلها، هذا هو الأعم الأغلب، أو كما عبر استأذنا الأستاذ عبد الحليم الجندي بأن الجانب الشخصي فيما يتعلق بفريضة الزكاة هو الغالب، وهذا أمر أعتقد أنه أيضا مسلم، لكن إذا كان هناك إنسان يملك المال الكثير، وهذا الإنسان يعيش في البلاد العربية والإسلامية، أو يعيش في بلاد أخرى في أوروبا أو في أمريكا، أو في غيرهما، ثم هو في الوقت نفسه يملك المال وعنده العقيدة السليمة، وحريص على أن يؤدي فريضة الله التي أمره الله سبحانه وتعالى بها، وحريص على كل ذلك، ولكنه لا يعرف المستحقين للزكاة، هل نقول لهذا الشخص: لا تدفع زكاة مالك لجهة معينة، وتقوم هي بإنفاقها في الوجوه المشروعة؟ هل نسد في وجهه هذا الباب؟ المسألة كما أفهمها أن صندوق التضامن الإسلامي هذا عمل جليل، بل أرى أنا شخصيا أن يوجد صندوق في كل دولة إسلامية، وهذا الصندوق يتلقى الزكاة عن طريق الاختيار، هو لا يجبر أحدا، وإنما يقول لمن يريد أن يدفع زكاة ماله ولا يعرف لأسباب متعددة لا يعرف الطريق السليم، لا يعرف فقراء، لا يعرف كذا، لا يعرف هذه المصارف. نحن نيسر له هذه الأمور. وأنا أعلم أن بعض البنوك الإسلامية كبنك فيصل مثلا في مصر يرسل خطابا بين الحين والحين إلى المتعاملين معه يقول لهم: إن أموالكم قد وصلت إلى مبلغ كذا وعليها مبلغ كذا من الزكاة، فهل تودون أن نصرف لكم هذه الزكاة في وجوهها المشروعة إن كنتم لا تعرفونها، أم نضيف هذه الأموال إلى رأس مالكم، وأنتم تتولون إنفاقها أو صرفها في وجوهها المشروعة. إذا قال بنك فيصل أو غيره هذا الكلام لمن عليه زكاة، أو لمن يملك النصاب أيكون كلام بنك فيصل في هذه الحالة كلاما يخالف تعاليم الشريعة الإسلامية؟ في هذه ما يقوله صندوق التضامن هو بعينه ما يقوله بنك فيصل. صندوق التضامن الإسلامي يقول للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها: يا من لا تعرفون مصارف الزكاة، وكلونا عنكم وأبرئوا ذمتكم، ونحن لا نقول ذلك على سبيل الجبر، وإنما على سبيل الاختيار، وقدموا لنا زكاة أموالكم ونحن مسئولون أمام الله عن إنفاقها في الوجوه المشروعة. وهذا لا شيء فيه إطلاقا. يجب أن يحسن بعضنا الظن ببعض، وفي الوقت نفسه كل ما نريده أن يكون هذا الصندوق ينفق تلك الزكاة في الوجوه التي شرعها الله، وأضع ألف خط تحت كلمة في الوجوه التي شرعها الله؛ لأني لا أتصور أن تتحول أموال الزكاة أو جزء كبير منها، كما أقرأ في بعض البحوث للعاملين، إذا كان العاملون في هذا الصندوق يأخذون المرتبات الكافية لا يصح إطلاقا أن يأخذوا شيئا من أموال تلك الزكاة ما داموا يأخذون مرتبات كافية ومجزية. فالذي أراه أنه ليس هنالك اختلاف حقيقي، أو خلاف حقيقي أو جوهري في هذه المسألة، صندوق التضامن الإسلامي عمل مشكور، ويجب أن يعمم في كل بلد إسلامي، ويجب أن يعلن على الناس المسلمين في مشارق الأرض وفي مغاربها أن هذا الصندوق يقبل ممن يريد أن يقدم زكاة ماله عن طواعية واختيار، يقبل هذه الزكاة وهو مسئول أمام الله عن إنفاقها في الوجوه المشروعة. وأعتقد أن هذه المسألة واضحة، ولا تحتاج إلى خلاف كثير. ونسأل الله التوفيق والسداد فيما نقول وفيما نعمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 الرئيس: شكرا.. في الواقع يا فضيلة الشيخ في موضوع الزكاة في بنك فيصل الإسلامي، بنك فيصل الإسلامي هو وعاء لعين المال الذي تجب فيه الزكاة. أما صندوق التضامن أو غيره من الصناديق أو الدور فهو صندوق لتفرغ فيه الزكاة. فلا أظن أن التنظير مماثل. الشيخ محمد سيد طنطاوي: أنا أتكلم عن نقطة محددة، وهي أنه يجوز لي أن أوكل غيري في أن أعطيه زكاة مالي لكي ينفقها في الوجوه المشروعة أم لا؟ هذه هي المسألة التي أريد أن أركز عليها. أيجوز لي وأنا أملك مالا كثيرا ولا أعرف مصارف الزكاة، أو لا أعرف الأشخاص الذين أريد أن أعطيهم الزكاة لسبب من الأسباب، وهذا ليس شيئا عجيبا، فالذين يعيشون في أمريكا أو في أوروبا، وهم كثيرون، ومن المسلمين لا يجدون ما يعطونه الزكاة في تلك البلاد من المسلمين. فسؤالي محدد يا فضيلة الدكتور بكر، وهو: أيجوز لي أنا كصاحب مال، وعلي زكاة في هذا المال، أن أوكل غيري في دفع هذه الزكاة أو لا؟ هذا هو السؤال فقط. فكلامي في جانب وكلام فضيلتكم في جانب آخر. أظن واضح كلامي يا فضيلة الدكتور بكر. أنا أقول: أيجوز لي وأنا إنسان مسلم أملك مالا كثيرا، ولا أعرف المستحقين للزكاة معرفة تامة؛ لأني أعيش في أمريكا أو في أوروبا أو في جدة ولا أعرف فقراء، أيجوز لي أن أوكل جهة معينة قوية مأمونة ثقة في أن أعطيها زكاة مالي لكي تنفقها في الوجوه الشرعية أو لا يجوز؟ هذا هو السؤال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 الشيخ محيي الدين الميس: بسم الله الرحمن الرحيم.. سنبدأ حيث انتهي فضيلة المتكلم قبلي، وهي أن الزكاة تقبل النيابة، هذا مبدأ مسلم فيه. يمكن أن يسلم المزكي غيره زكاة ماله ليصرفها، وأن بيت مال المسلمين معروف في ذلك. إذن لا مانع أن تصرف هذه الزكاة إلى صندوق، على أن ينص المزكي أن تصرف في جهة معينة. يعني زكاة مشروطة لا ضير في ذلك، وخاصة أننا في زمان تواصلت فيه الدول وأمامنا المجاعات في أفريقيا، هل يمكن أن نتقاصر على علاجها؟ نعم، إن المسلمين موزعون في أرض الله، ولا ضير في أن تنفق الزكاة لإغاثة هؤلاء المنكوبين مثلا، ويكون صندوق التضامن هو الوسيط في هذا الأمر. أمر آخر لا بد من التذكير بأن التمليك هو ركن في صرف الزكاة خاصة في مذهب أبي حنيفة هو تمليك جزء معين من فقير مسلم غير هاشمي ولا مولى بشرط قطع المنفعة عن المملك من كل وجه لله تعالى. إذن لا بد أن تكون الجهة المصروف إليها قابلة للملك، وهذا شرط معروف. أمر آخر نود لفت الانتباه إليه، وهو الخطأ في مصارف الزكاة. ربما يقع جزء غير قليل من هذا المال في غير المصرف الذي وجهت إليه. ولا أذيع سرا بأن لحوم الأضاحي مثلا التي أعين بها لبنان هذا العام (طبعا بعضها وقع في محله وكان له الوقع المستحب، والبعض الآخر لأسباب ما وقع في غير محله) ، وهذا مما ينبغي لفت الانتباه إليه. إذن الخطأ في صرف الزكاة أو في مصارف الزكاة هذا ينبغي التنبه إليه. وعليه أود بالنيابة إن صح التعبير عن الرئاسة ويعرض على مجلسنا، على مجمعنا الكريم قضية دولية ألا نصغرها بحجم القرية أو البلدة. فإن المؤسسات الأخرى عند أصحاب الملل الأخرى تقوم بما تتقاصر عنه الدول، وأنتم تعرفونها جيدا. إذن لماذا لا تكون جهودنا منصبة بأن يكون مثل هذه المؤسسة هي البديل عن بيت مال المسلمين في ظروف لا تخفى علينا جميعا؛ فإن الإسلام واحد وإن تعددت الدول، وإن المسلمين أمة وإن اختلفت ألوانهم وأشكالهم. إذن فلنتوجه لدعم مثل هذه المؤسسة، في الوقت نفسه فلندعمها بالفتاوى التي ترشد عملها، لا أن نبدو أمام كل جديد نقول: لا، بالمطلق. لا نقول: لا، بالمطلق، ولا نقول: نعم، بالمطلق. وفقنا الله وإياكم والسلام عليكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 الشيخ عبد الله محمد عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم.. فيما يتعلق بهذا الموضوع، أود أن أبين أن المذكرة التفسيرية لصندوق التضامن نصت في الصفحة الثالثة: " أن الصندوق يعتمد بصفة أساسية في تمويل ميزانيته السنوية على التبرعات الطوعية التي تقدمها حكومات الدول الأعضاء. وهنا أود أن أبين أن هناك خلافات فقهية، أو آراء لفقهاء المسلمين بشأن وجوب الزكاة في أموال بيت المال، وفي الاحتياطي العام للدولة، فإن الدول التي تمد هذا الصندوق قد تمده لو أدركنا أن من الفقهاء من ذهب إلى أن الاحتياطي العام، أو الميزانية العامة للدولة تجب فيها الزكاة، وكذلك أموال الوقف وغيره. فالمسألة لا توجه فقط لأخذ الزكاة من الأفراد ومن الدول؛ فإن الدول التي تمد هذا الصندوق تمده لو نظمت مسألة الزكاة، وإن الدولة في الأصل هي المسئولة عن أخذ الزكاة وجمعها وصرفها كما كان الشأن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته أبي بكر وعمر. ثم لما كثر المال في عهد سيدنا عثمان رضي الله عنه فوض الناس في صرف زكاة الأموال الباطنة، ولكن ظل كما كان العهد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته يجمعون الأموال الظاهرة، وهي أموال التجارة والزرع وغيره والأنعام ونحوه. فهنا نستطيع أن ننظم أيضا أن الدول التي أنشأت هذه الصناديق أو هذا الصندوق هي التي تستطيع أيضا أن تنظم جمع الزكوات في أقطارها، ثم تمد هذا الصندوق بما تمده به من مجموع الأموال، سواء إن كانت هذه الأموال التي تمدها زكاة من الأموال الاحتياطي أو أموال الخزانة، أو الأموال التي تجمعها من الأفراد، وبذلك نجمع بين الآراء المتعارضة، فنترك لأرباب الأموال الباطنة صرف زكواتهم إلى الفقراء والمساكين الذين يعرفونهم، والدولة تشرف على جمع الأموال الظاهرة، وتمد هذا الصندوق في ضمن الأموال التي تمده من ميزانيتها، كما أشير في المذكرة التفسيرية. كما أشير أيضا وأثني على كلمة فضيلة المفتي محمد سيد طنطاوي بأن اليوم بلاد المسلمين، في بلاد المسلمين ثراء وأثرياء وأموال طائلة كثيرة يعجز الفرد منهم أن يستوعب توزيعها على مستحقيها، لا ننظر إلى البلاد الفقيرة، ننظر إلى بلادنا الغنية؛ كبلادنا هنا في الخليج، وفي المملكة يوجد أغنياء وأثرياء وعندهم أموال طائلة يعجزون عن توزيعها بأنفسهم، فهؤلاء أيضا من الخير لهم وهناك مستحقون وهناك فقراء وهناك مشروعات عظيمة؛ كإنشاء المدارس، وكإنشاء المساجد، وكإنشاء المستشفيات، وكإعانة الفقراء على الزراعة وعلى الصناعة؛ فإنها تحتاج إلى جهات منظمة وقادرة على إيصال هذه الأموال الفائضة إلى المستحقين لها في الأقطار المتنائية. وشكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه. فيما يبدو أنه لا فائدة في الاسترسال؛ فإن الأمر قد اتضح والوسط أم الكتاب وهو الجادة، فإذا كان الأصل في قبض الزكاة وصرفها هو بيت المال ثم ترك بعد ذلك في زمن الخليفة الراشد سيدنا عثمان إلى الأفراد حصرا، ولم يوجد في التاريخ الإسلامي سابقا ولا لاحقا من ألزم الناس بدفع زكاتهم أو أباح لهم إلى صناديق، فإما أن نرجع إلى الأصل وهو بيت المال إذا كان منتظما كما قرر الفقهاء، وإما أن نعود إلى السنة الراشدة التي قام بها سيدنا عثمان، وهو ترك الأمر إلى الأفراد، أما أن نأتي بأمر جديد مستحدث ونخرجه على الأصل دون رجوع إلى دليل، ودون ما رجوع إلى هذا الصندوق بالذات، ومعرفة ما فيه، فهذا فيما أرى فيه تزيد عن الحقيقة وما قاله الإخوة الأفاضل في سبيل الله. فالذي يظهر لي أن في سبيل الله الأصل فيها المجاهدون، ولكن توسع بعض الفقهاء ومنهم الحنفية فقالوا: إنه يشمل أيضا طلاب العلم الفقراء. فما قاله الفقهاء الأقدمون فيه غنية، ولا يجوز أن نسحب الموضوع، لاسيما في هذه الظروف التي يمر بها العالم الإسلامي على كل شيء فنسميه في سبيل الله. فالأصل في الزكاة كما قالوا: التمليك، فمن يملك ومن يتملك، مع هذا لا أمنع من هذا الأمر منعا مطلقا، بل أرى أن تكون لجنة بإشراف الأمانة العامة والرئاسة الرشيدة لفهم موضوع هذا الصندوق على ما هو عليه في الحقيقة. ما هو هذا الصندوق؟ أنا لا أفهم منه إلا أنه صندوق منظم تنظيما حديثا، عليه موظفون يجمعون هذه الأموال من هنا وهناك، ومن أي مورد استطاعوا ليصرفوها في مصارف أخرى. فلا نحن على يقين من الموارد، ولا على يقين من المصارف. ولا ندري أيضا من المستفيد من هذا كله. فالزكاة تمليك كما هو معلوم لديكم كل ما جاء به القرآن الكريم بلفظ (آتوا) تمليك، والتمليك يجب أن يكون في يد الفقير أو وكيل الفقير، فمن هو وكيل الفقير؟ هل نحن أوصلنا هذا المال إلى الفقير أو إلى وكيله حتى نملك، حتى إن الإباحة ليست بتمليك كما هو معروف إلا عند بعض المذاهب الأخرى الشاذة. على كل، هذا الصندوق في حالته الراهنة لا يحتاج في نظري إلى أموال الزكاة التي يجب فيها التحوط؛ لأن التحوط في باب العبادات الأولى. لذلك قدم قول الإمام أبي حنيفة على قول أصحابه في العبادات، ما لم ينص على الفتيا في قول أصحابه، أما إذا أطلقوا ولم يقولوا: يفتي به فالقول المقدم هو قول الإمام؛ لأنه أورع من أصحابه؛ أي: أشد ورعا مع اشتراكهم في الورع، وهو دائما يتحوط رضي الله تعالى عنه وعن جميع الفقهاء الأئمة المجتهدين. لدينا بديل عن قضية الزكاة. أيها الإخوة قرر الفقهاء الحنفية في بحث السياسة الشرعية كما هو معلوم لديكم أيها الإخوة العلماء أنه لولي الأمر إذا رأى حاجة على مصلحة عامة، ولم يكن هنالك مورد آخر مشروع أن يفرض في أموال الأغنياء شيئا يقوم بهذه المصلحة العامة بالمعروف. فإذا رأى أن البلد تحتاج إلى جسور أو تحتاج إلى طائرات أو تحتاج إلى جيوش أو تحتاج إلى مصلحة عامة، فيفرض في أموال الأغنياء أموالا خاصة بهذا الموضوع تقوم به ضمن حدود الشريعة وبالمعروف وباستشارة العلماء والفقهاء. فلماذا نحن نأتي إلى هذا الركن التعبدي، وهو الزكاة، الذي يجب التحوط فيه؛ لأنه عبادة يجب على المسلم أن يتحوط بها حتى تصل إلى مصرفها الصحيح بحسب اجتهاده وتحريه، لا أن نجازف في الموضوع ونفتي بآراء تدفعنا إليها غيرتنا على الإسلام، فالغيرة على الإسلام شيء معظم ومقدس ومعتبر، ولكن الرأي والفقه والاجتهاد يجب أن يكون مناطه دائما العلة، لا الحكمة، المظنة لا المئنة. والله تعالى أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 الشيخ محمد إبراهيم شقرة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته ومن والاه، أما بعد، فلقد فهمت أولا من خلال المناقشات التي عرض لها الإخوة وأدلى كل منهم بدلوه الكريم، أن هذا البحث أو هذا الموضوع بالذات لا زال في أخذ ورد، ويغلب على الموضوعات كلها التي تطرح في مجمعكم الكريم الموقر هذه الصفة. وهذا لا يعني أن هذا الأسلوب لا يؤدي إلى اتفاق، بل العكس هو الصحيح، هذا الأسلوب هو الذي يؤدي إلى الوفاق؛ ذلك أن تلاحق الآراء وتلاقي الأفكار يؤدي في النهاية إن شاء الله إلى نتيجة صالحة. ولكن هناك أمور لا بد من تذكير الإخوة بها: أولا: أن هذا المجمع الكريم فيما أفهم، ولأول مرة أشارك في جلساته أن الرأي الفقهي أو الفتيا التي تصدر عنه – أسأل أنا ولا أريد أن أقطع – هل هي فتوى ملزمة لهذه الدول التي يمثلها أولئك الأعضاء الكرام أم ليست ملزمة؟ فإن لم تكن ملزمة فإذا لا بد أن نبحث في الأصل كيف يمكن أن تلتقي أو يكون لهذه الفتيا تأثير في واقع مجتمعات المسلمين. فنحن نعرف أن كثيرا من القضايا التي يعيشها العالم الإسلامي يختلف فيها البلد الواحد. في بعض البلاد الإسلامية: الأمة في جانب والحكومة في جانب آخر. فإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن يكون هناك وفاق في تأسيس هذا الرأي وإقامته على الحجة والدليل والمنطق الذي يفرضه علينا شرع ربنا سبحانه وتعالى، ثم بعد ذلك ننقله إذا كان هناك تقبل لهذا الرأي أو لهذه الفتيا، ننقله إلى واقع البلاد الإسلامية إذا كان هناك رأي يقبل عندها. ونحن نعرف بأن من هذه الأمور موضوع الزكاة. ولا شك أن الزكاة فريضة وركن من أركان الإسلام، ولكن لغياب الظلة التي يأوي إليها المسلمون، وهي الحكم بكتاب الله عز وجل في غالبية بلاد المسلمين، لا نستثني إلا بعضا يسيرا من بلاد المسلمين يمكن أن نقول بأنه يطبق الإسلام. فإذن هذه الفوضى التي يعيشها المسلمون في تأدية الزكاة في ظني أنه لا يحلها أن يصدر فتوى عن مثل هذا المجمع الكريم، ولكن هناك البديل الذي يقوم الآن، وبخاصة في البلاد التي لا تحكم بالشريعة الإسلامية، تأسست فيها صناديق أو صندوق سمي صندوق الزكاة، ولقد نجحت هذه التجربة في كثير من بلاد المسلمين؛ كدولة الكويت مثلا، ودولتنا نحن المملكة الأردنية الهاشمية. ولا أدري إن كان هناك أيضا في مصر نجحت بعض هذه الصناديق في جمع أموال الزكاة، وما زالت تتردد بين الاختيار والإلزام، ولكنها الآن تجمع التبرعات أو تجمع الزكوات بطريق الاختيار، لا بطريق الإلزام، وإن كنا بصدد تحويل هذا الصندوق أو النظام في بلدنا نحن في الأردن بصدد تحويله إلى أن يكون ملزما. ولقد علمت من الأخ الدكتور محمد الشريف أن العراق أيضا أنشأ هذا الصندوق ووضع له نظاما وهو يسير في طريقه الأمثل إن شاء الله. لذلك الذي أريد أن أقوله: إذا كانت الأمانة العامة أو إذا كان المجمع الفقهي يلزم الدول، فلا بأس من أن يكون هذا الأمر، وأن يستمر حتى النهاية. أما إذا لم يكن هناك إلزام فلا بأس أن يفوض كل بلد بأن يرى الطريقة المناسبة له في جمع الزكاة. وفيما قاله الإخوة في ظني غنية عن أن أذهب أبعد مما قلت، ولكن هناك أيضا شيء آخر أريد أن ألفت، إن سمح الإخوان لي بلفت النظر إليه، وهو أن الأصل في موضوع الزكاة وفي غيرها أن يكون الأصل في الحكم، أو في إصدار الفتيا كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. ثم بعد ذلك أن يعمل الإنسان عقله في استنباط الأحكام التي يمكن استنباطها. بقيت مسألة أخرى أحب أن أضيفها إلى ما تفضل به الأخ الدكتور البوطي، وكان الحقيقة لفت النظر إلى مسألة علمية دقيقة في موضوعه من تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} سورة التوبة: 60، لكن أحب أن أضيف إلى ما قال من أن الإجماع التطبيقي أو العمل التطبيقي كان على عدم تجاوز هذه الأصول، أو هذه الأنواع الثمانية التي ذكرتها الآية. لكن أحب أن أضيف شيئا آخر، وهو أن الأدلة الوثيقة في هذه الآية على عدم جواز صرف الزكاة إلا في هذه الوجوه، وهو أن {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} جاءت رقم 7 في الأنواع، وأنه جاء بعدها ابن السبيل، ولا شك أن الواو هنا كما نعلم هي واو العطف، فلو كان ابن السبيل يتناول هذه الأوجه جميعها، أو القسيمات كلها، لكانت وتكون في الموطن السابع أو في رقم 7، وإنما كان يجب أن تكون في نهاية هذه المذكورات الثمانية، فتكون من باب عطف العام على الخاص. ونحن نعلم أنه إذا كان هناك العام الذي تناول ما قبله لا بد أن يكون في نهاية المذكورات التي تأتي في آية أو في حديث. والله أعلم، وغفر الله لي ولكم والسلام عليكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 الشيخ إبراهيم فاضل الدبو: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد. أشكر الأساتذة الأفاضل الذين سبقوني بالكلام عن هذا الموضوع، وأثني على ما قاله الأستاذ الطنطاوي والأستاذ الشقرة، حفظهما الله تعالى. في الواقع أني لست من الداعين إلى التحرر من النصوص الشرعية الفقهية؛ فإنه مما ينبغي الوقوف عند النصوص الفقهية التي تعتبر بحق ثروة ضخمة من تراثنا العلمي. ولكني أقول: إن في هذه النصوص مجالا لأن تساير متطلبات العصر. ونحن نقول أكثر من مرة وعلى أكثر من منبر بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان. فهذه المسألة التي تكلمنا عنها الكثير، أرى من الممكن إذا سمح الأساتذة الأفاضل لي بذلك أن أقول: إن ملخصها ينحصر فيما يلي: هناك بيوت للزكاة أنشئت في بعض البلدان الإسلامية أخذت على عاتقها جمع الصدقات، سواء كانت بطريقة اختيارية أو بطريقة إلزامية. ومن هذه البلدان قطرنا العزيز المجاهد العراق؛ فقد أنشأت الجمهورية العراقية صندوقا للزكاة، ويأخذ الآن دوره للتنفيذ في جمع الصدقات بصورة اختيارية. فالذي أراه هو وجوب دعم هذه المؤسسات في البلدان الإسلامية؛ لأن هذه المؤسسات هي أعلم، وهي أدرى بحالة المحتاجين وفقراء البلد. وإذا ما زادت أو فاضت الحاجة كما يقول الفقهاء، رحمهم الله تعالى، عن المحتاجين في تلك البلاد، فلا أرى من مانع أن تعطى الفضلة الزائدة عن بيوت الزكاة في تلك البلدان إلى صندوق التضامن الإسلامي، وإننا على ثقة إن شاء الله بأن القائمين على هذا الصندوق أو الهيئة القائمة على هذا الصندوق سوف تؤدي حق الله تعالى في هذا الشأن. ولا نبقى متشككين بعضنا من بعض، فالعالم يسير أيها الإخوة ونحن نبقى نتردد في الأمور التي فيها مجال الاجتهاد، ويشكك بعضنا بنوايا البعض الآخر. هناك المسلمون في كل مكان ينتظرون منا ما يصدره هذا المجمع الموقر من فتاوى تهم المسلمين، ونحن نصرف جهدا كبيرا في مسألة لا أقول بالسهلة لهذا القدر، ولكن أقول: كان بالإمكان حلها دون الإطالة فيها إلى هذا الحد. وشكرا لسيادة الرئيس والإخوة المستمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 الرئيس: شكرا.. ترفع الجلسة خمس عشرة دقيقة للاستراحة ثم نعود إن شاء الله تعالى ونستكمل بقية الكلمات. وشكرا. الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الكلمة الآن للشيخ عمر. الشيخ عمر جاه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. شكرا فضيلة الرئيس. تعليقي في هذا البحث سوف يكون إن شاء الله في شقين: الشق الأول: أريد بادئ ذي بدء أن أثني على هذا البحث القيم الذي قام به أخونا وصديقنا السفير محمد يوسف جيري.. وأرجو أن ننظر إلى توصياته في آخر البحث كوسيلة لدعم صندوق التضامن الإسلامي. هذا الصندوق الذي نعرفه جميعا ونعرف أنه أنشئ لتحقيق التضامن بين الشعوب الإسلامية فيما يخص الدعم والإغاثة. بعد هذا أريد أن أعلق على مسألة أعتقد أنها مسألة مهمة جدا ينبغي أن ننتبه إليها. ولا شك أنه ليس هناك، أنا لا أتصور أن يكون هنا من الفقهاء والمفكرين والعلماء من يختلف في وجوه صرف الزكاة، فالآية القرآنية واضحة في هذا، وإن الأولويات ووجوه الصرف كما وضعها القرآن الكريم على لسان رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم هو المبدأ الأساسي الذي ينبغي أن نتبعه في إخراج الزكاة وصرفها، وإنني أريد أن أرجع بكم إلى الوراء قليلا لكي نحاول أن نتفهم مسألة الفقراء والمساكين. ولا شك أن النقطة الأولى في وجوه الصرف هي الفقراء والمساكين. من هو الفقير في وقتنا الحاضر؟ وهل الشخص الذي وجد نفسه في ظروف تعرض بمشاكل لا دخل له في خلقها وفقد كل شيء. إنسان غني يعمل في بلد آمن وإذا بمشكلة حرب أهلية، كارثة، حرب إقليمي، فقد كل شيء فأصبح لا يملك بيتا يسكن فيه ولا مالا ينفقه على أهله. هل ننكر على هذا الشخص أحقيته في الزكاة؟ هل نقول: إن هذا الشخص لا يعتبر فقيرا ولا مسكينا؟ وهناك آلاف إن لم يكن ملايين من إخواننا من أقاليم معينة في العالم اليوم يعانون كثيرا من الجوع والفقر؛ نتيجة القحط والتصحر ويموتون، وهناك قرى وهناك أقاليم نجد أن الرعاة فقدوا كل شيء كانوا يملكونه ويعتمدون عليه، أليس هؤلاء يعتبرون فقراء ومساكين؟ وأنا أريد أن لا نغفل أن الهدف الرئيسي في إخراج الزكاة وصرفها هو تخفيف حدة الفقر والجوع والمسكنة لجزء من إخواننا المسلمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 فيما يتعلق بالجهة التي نوكلها أو نصرف عن طريقها هذه الزكوات، أريد أن أثني على ما ذهب إليه فضيلة الشيخ مفتي الديار المصرية الشيخ طنطاوي فيما ذهب إليه، وكذلك ما ذهب إليه الأخ الفيلالي في ملاحظته الدقيقة عندما لفت نظرنا إلى أن عنوان البحث خطأ، فنحن ينبغي ألا نصرف هذه الزكاة لصالح الصندوق، ولكن نصرفها عن طريق الصندوق، وينبغي ألا نبعد هذا الصندوق عن مسئولية مساعدة المسلمين في صرف هذه الزكوات للأسباب التالية: هذا الصندوق مؤسسة متخصصة خيرية، يعنى بمصالح المسلمين، وهو لما له من الوسائل والخبرة يعرف أين الفقراء والمساكين وأين المستحقون لهذه الزكاة. نحن عندما نقترح تعاونا مع الصندوق فقط في أنه مؤسسة متخصصة تستطيع أن تتعرف على الفقراء والمساكين ويساعدنا على صرف الزكوات إليهم. لا نقول: إن هذا الصندوق يستفيد من هذه الزكوات أبدا؛ لأن الصندوق له مصادر أخرى، بالإضافة إلى هذا إذا ذهبنا إلى قائلة المذكرة التفسيرية لصندوق التضامن الإسلامي، لوجدنا أن المجلس التأسيسي للصندوق تقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي برجاء في الصفحة السابعة، نجد أن فيه الإشارة إلى أن المجلس التأسيسي لصندوق التضامن الإسلامي هو صاحب هذا الاقتراح. ونحن نعرف أن الذين يشتركون في إدارة الصندوق هم مسلمون يهتمون بالشئون الإسلامية، ويعرفون الزكاة وشروطها، ويتلون النص القرآني، ولا يختلفون معنا فيه. أرجو أن لا نترك هذا الموضوع جانبا ونحرم أو نصدر فتوى هنا نمنع من التعامل مع الصندوق فيما يخص الزكوات. فبهذا أثني على ما ذهب إليه مندوب الكويت باقتراحه في إنشاء لجنة تنظر في هذا الموضوع، وتخرج بتوصيات نستطيع بواسطتها أن نحدد من يستحق الزكاة، وخصوصا فيما يختص بالكوارث والحروب الأهلية والمشاكل التي تحل بالمسلمين، التي تحيل جزءا كبيرا من الأغنياء إلى الفقراء. بهذا نستطيع أن ندعم صندوق التضامن الإسلامي بشروط محددة، على أن يكون ما يصل من الزكوات يصرف في الوجوه المذكورة في القرآن الكريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 الشيخ محيي الدين قادي: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. سماحة الشيخ الرئيس، سماحة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي، حضرات أصحاب السماحة والفضيلة، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. بالنسبة إلى عرض فضيلة الشيخ جيري، راقني فيه حسن العرض، وراقني فيه المنهج السليم، وراقني فيه الإلمام بمسائل الفقه، لكن عندما قسم المتحدثين في هذا الموضوع إلى من وسع ومن ضيق بدت لي فكرة وأردت أن أتعرف على أين نقف نحن المجتمعون هنا، وفي أي طبقة من الاجتهاد نوجد؟ هل نحن مجتهدون اجتهادا مطلقا، وما تؤديه كثيرا من العبارات، أو نحن مجتهدون اجتهاد مذهب، أو نحن مجتهدون اجتهاد تخريج، وهو أن نقيس الأشباه بالنظائر، ونخرج بما يعطيه القياس الفقهي الدقيق. هذه نقطة أولى. النقطة الثانية في القضية التي تتعلق بمصارف الزكاة. ومصارف الزكاة التي حددت في الآية، وما كنت أزمع قوله هو أنها حددت بأسلوب القصر، وحددت باللام التي هي للملك للاستحقاق للفقراء والمساكين والعاملين عليها. وبعد ذلك جاء الحديث النبوي الشريف الذي يروى في سنن أبي داود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يرض بحكم نبي في الزكاة – بما معناه في صرف الزكاة – ولكنه قسمها إلى ثمانية أجزاء، فإن كنت من أحد هذه الأجزاء فسأعطيك)) للرجل الذي سأله أن يعطيه من الزكاة. هذا الحديث النبوي الشريف هو حجة للإمام الشافعي، وهي قوية، قطعت فيما يبدو بها جهينة قول كل خطيب في هذا الموضوع، لكن لا نغلق الباب في وجه صندوق التضامن الإسلامي ولا غيره من المؤسسات، فصندوق التضامن الإسلامي يعتبر قسما من بيت المال إذا فوض له أمراء البلاد الإسلامية ورؤساؤها ذلك للتوكيل عن صرف الزكاة جائز للأفراد وللمؤسسات من باب أولى جائز. وقد تحدث فقهاء المالكية عن ذلك فيه عند حديثهم عن النية، هل تجزئ الزكاة بدون نية من طرف وكيل، أو لا تجزئ؟ فأثاروا قضية الوكالة في الزكاة؛ ولهذا يكون هذا الصندوق بمثابة وكيل، ومهمة هذا المجمع الموقر والذي هو المرجع للعالم الإسلامي، هو أن ينسق مع هذا الصندوق فيما يمكن أن يصرف إليه من أموال الزكاة التي تعطى إليه وما لا يمكن أن تصرف. وقد سئل من قبل سنين في هذا الموضوع الشيخ يوسف الدجوي من هيئة كبار علماء الأزهر الشريف، يعني سئل عن أن أموال الزكاة لا تعطى لمستشفى يعالج الفقراء، قال: أما صرفها في بناء المستشفى ولتأثيث الأقسام وبكذا فله جانب آخر من بيت المال، وأما صرفها على المرضى والفقراء فذلك مصرف من مصارف الزكاة. فنحن مثلا نهتدي بمثل هذه الفتاوى الدقيقة، ونقول: إنه نصرف الأموال للصندوق، يعني أموال الزكاة، على أن يكون وكيلا فيها ويدفعها في مصارفها. المؤلفة قلوبهم مثلا مما جاء في المذكرة أنها تعطى للذين دخلوا في الإسلام جددا. هذه قضية المؤلفة قلوبهم يجري فيها خلاف بمذهب إمام دار الهجرة رضي الله عنه، أنه لا يرى بقاء للمؤلفة قلوبهم، ولكن مذهب الإمام الشافعي يرى بقاء حق المؤلفة قلوبهم إلى اليوم على يوم القيامة، ولا ناسخ له. فنحن نعمل بمذهب الشافعي في هذه القضية ونعطي الزكاة للصندوق، هذا على أن يصرفها الذين دخلوا في الإسلام جددا، أو الذين يريدون أن يؤلف قلوبهم ليدخلوا في الإسلام، وبخاصة من العلماء الأفذاذ في العلم والتكنولوجيا وحاجة المسلمين إليهم الآن في عصرنا الحاضر كحاجة المسلمين إلى تكثير العدد أو أكثر أو أهم في العصر النبوي الشريف، وفي عصر الخلافة الراشدة. هذا ما أردت أن ألاحظه، لكن لي ملحوظة كأن المتحدثين في هذا الموضوع نظروا إلى قضية الزكاة ورأوا أن المورد المالي للمشروعات الخيرية فقط. بينما سواء عملنا بحديث المواساة بنظام أصول النظام الاجتماعي باب مجاله رحب ومراده مستفيض، وجوانب المواساة في الشريعة الإسلامية وظروفها لا تعد ولا تحصر. فالوقف وصدقة النفل وظروف الصدقات الموجودة كلها، لاسيما أن هنالك مصارف أخرى في بيت المال تمول منها المشروعات الأخرى، هذا ما أردت أن ألقيه، وهو أمر بسيط بالنسبة إلى ما تكلم فيه غيري. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 الشيخ عبد الله إبراهيم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. شكرا لفضيلة الرئيس على إتاحته الفرصة لي للمشاركة في مناقشة الموضوع المطروح أمامنا، وإني لأشكر أصحاب الفضيلة الذين تقدموا بإبداء آرائهم وكان من الآراء التي قد أبديت قد اتفقتم معه إلا أن الموضوع المطروح أمامنا كما ظهر لي وفي تصوري أنه ليس عن صرف الزكاة لصندوق التضامن الإسلامي، فإن الصندوق كما عرفنا أو كما يتبادر إلى ذهننا أنه ليس حتما من مصارف الزكاة حتى ينفق عليه من الزكاة. فالتصور عندي عن الموضوع إنما هو عن تجميع بعض زكوات المسلمين وصرفها على مصارفها الشرعية، على مستوى الدول والمجتمعات الإسلامية، ولهذا اتفقت مع تصحيح بعض الأفاضل ليكون الموضوع هو صرف الزكاة عن طريق صندوق التضامن الإسلامي، ليس لصالح صندوق التضامن الإسلامي، وعلى هذا التصور قمت بإعداد بحثي عن الموضوع، وقد وزع على حضراتكم في هذه الجلسة، وفي إمكانكم أن تطلعوا عليه بسرعة لإيجازه وتركيزي على تصوري المركز على الهدف الذي من أجله طرح هذا الموضوع، على ما أعتقد، وهو جعل الصندوق أداة لإيصال الزكاة، أو بعض زكوات المسلمين إلى مصارفها الشرعية، على مستوى الدول والمجتمعات الإسلامية، ليس غيرها، ومع هذا كله أتفق مع الباحثين الذين قاموا بعرض بحوثهم على فضيلتكم، فضيلة الشيخ السفير سيدي محمد يوسف جيري، وأتفق معهم في النتيجة التي وصلوا إليها، وإن كنت أختلف معهم من حيث العرض، فإنني في بحثي قدمت الموضوع، وقسمت الموضوع إلى ثلاثة مباحث، وهي إمكانات تكوين الإدارة العالمية للزكاة، مصادر تمويلها ومصارفها، ففي تصوري أن هناك إمكانات عديدة لتكوين هذه الإدارة العالمية للزكاة؛ حيث تجمع فيها زكوات المسلمين أو بعض زكوات المسلمين من جميع الدول الإسلامية والمجتمعات الإسلامية، وإلى جانب هذه الزكاة تجمع أيضا موارد أخرى من مختلف الموارد كما ذكرت في بحثي، الفوائض التي لا تحتاج إليها الدول الغنية، ومعروف لنا جميعا أن هناك فوائض في بعض الدول الغنية، فإنها لا تحتاج إليها وتتركها، وكذلك من موارد هذه الإدارة فوائد الودائع، إلى جانب الفائض هناك فوائد الودائع التي لا يريد أصحابها قبولها من البنوك الأجنبية، في أوروبا، وأمريكا، وغيرها، باعتبار أنها من الربا المحرم، فهذه الفوائد تجمع إلى الزكوات في هذه الإدارة العالمية للزكاة. وهناك أيضا موارد أخرى، وبالنسبة للمصارف طبعا كما تناولها العلماء الذين تكلموا قبلي، فإنهم تكلموا عن المصارف، إلا أنني اقتصرت بالمصارف هنا على أهداف صندوق التضامن الإسلامي، فإن هذه الأهداف فيما أعتقد لا تخرج عن مصارف الزكاة، من حيث إنها يمكن أن نضع من حيث المصرف في سبيل الله، كما بحثه المناقشون من قبل. فلهذا أنا أقترح هنا أن تكون الإدارة العالمية للزكاة، ثم تجمع تلك الموارد إلى هذه الإدارة، وتوضع هذه الموارد لصالح الصندوق، ويقوم الصندوق بالتحقق من المصارف الشرعية للزكاة، وتنفق عليها على مستوى الدول والمجتمعات الإسلامية. وشكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 الشيخ معروف الدواليبي: بسم الله الرحمن الرحيم، سيادة الرئيس، إخواني المحترمين، إنني أعتقد وأرجو أن يسمح لي لا أقول بالإطالة، وإنما أن أركز على موضوع صندوق التضامن الإسلامي؛ لأنني شاهدته وعملت فيه منذ يوم تأسست هذه المنظمة، وأعرف كنه الصعوبات، ويتوقف اليوم حياة المنظمة فيما أعتقد كلها على فكرة التضامن الإسلامي، كيف نحققه؟ وعندما كنا في مؤتمر مقديشيو في سنة 1964 برئاسة المرحوم الحاج أمين الحسيني، وكان الرئيس الأول للصومال آدم عثمان، وبدعوته أقيم ذلك المؤتمر، فحضر ممثلو العالم الإسلامي على مستوى الشعوب، فهذا كان يشكو التنصير، هذا يشكو الفقر، هذا يشكو الجهل، هذا يشكو الاستعمار، فوقفت وقلت: إننا أمام جدار مكة، وماذا نصنع نحن معشر الشعوب؟ يجب على الدول الإسلامية أن يسمعوا ما نسمع، ولكنني أعرف أن الدول الإسلامية لن تجتمع تحت اسم الإسلام، ولكن علينا أن نجد طريقة حكيمة لجمعها. فقلت: لا بد من دعوة رؤساء الدول الإسلامية وإقامة صندوق للتنمية، وإقامة وكالة أنباء عالمية تقف إلى جانب وكالة يونايتدبريس، والأسوشيتدبريس، وأجنس فرانس بريس إلى آخره؛ لأن كل شيء إسلامي يشوه أو يخون. فهذه العناصر الثلاثة يجب تحقيقها. فقدمت اقتراحا بذلك وتبنته الصومال عندئذ آدم عثمان، ولكنها كانت حديثة العهد، وقال: نحن دولة فقيرة وحديثة العهد، أنا أتبناه باسم الدولة. ولكنه وقد نودي بالملك فيصل رحمه الله ملكا، فدعوني أن أذاكره إذا كان هو يتحمل. فقبلنا الفكرة بمنتهى الفرح، وتقبلها فيصل، ودعي مؤتمر الرابطة في دورته الثانية، عرضت عليه الأمر، فأنشأ المؤتمر أو أخذ يدعو الحقيقة للمؤتمر، ولكن قامت صعوبات، فكان هنالك من يقول: هذا مؤتمر استسلامي، وليس مؤتمرا إسلاميا؛ لأنه حدث حريق المسجد الأقصى والعالم كله تأثر، وثار على فكرة الحريق قادة حركة اليونسكو باعتبارها آثارا، والعالم كله كان يذكر هذا الحريق بالويل والثبور على من أحرقه، فاجتمع العالم الإسلامي عندئذ على حياء في مراكش في الرباط، واجتمعت 18 دولة، وإذا بهذا الاجتماع يخرج عن بيان، وأرادوا أن ينصرفوا فوقف ذلك العملاق فيصل، وقال: إلى أين تنصرفون؟ قالوا: المؤتمر وضعنا بيانه. فقال: لا بد من إيجاد منظمة. قالوا: لن نجتمع، ارفعوا لفظ الإسلام، وعندئذ نعمل منظمة. اسمحوا لي أن أشرح بعض النقاط، وكيف يمكن التغلب عليها فيما أرى. فقال: لا بد من كلمة الإسلام، فمن شاء فليبق، ومن شاء فليخرج. وتقرر وضع دستور لهذه المنظمة. بعد شهرين اجتمعنا في جدة 18، نقص منهم 6، فاجتمعنا 12 دولة، عادت الفكرة من جديد، تخلف 6 رفضوا الاجتماع، لا يقبلون، اجتمعنا 12 وقف أربعة منهم يقولون أيضا وضع بعد الدستور: ارفعوا لفظ الإسلام، وكان هنالك من يقول: أنا علماني، وهذا يقول: اشتراكي، إلى آخره، فوقف أيضا فيصل وأعطى الأوامر لوفده، قال: المنظمة يجب أن تشتمل على لفظة إسلامي، شاؤوا أو كرهوا، ولو بقينا وحدنا. فانسحب أيضا يا إخوان من 12 أربعة، فبقيت ثماني دول، ولكن الاقتراح اقتضى أن نضع بنك التنمية، وكانت الخيرات ابتدأت على الدولة العربية من البترول، فلما وضع بعد سنتين الدستور، ونشأ بنك التنمية، واشترطنا في نظامه ألا يستفيد منه إلا من يدخل في المنظمة السياسية، وإذا بهذه الدول ترتفع من ثمانية اليوم إلى 44 دولة، لما وضع الدستور كانت المشكلة كيف نمول المنظمة، الواقع قلت: سيكون تمويل المنظمة لبقائها تعرضه نفس المشكلات التي تعرض الأمم المتحدة، هذه تغضب إذا لم ينفذ مطالبها، وتوقف مخصصاتها. وهكذا أخذ يتعثر مورد المنظمة بنفسه، فقدمت أيضا اقتراحا على أساس إيجاد ما يمكن من الوحدة النقدية، فلنطلق عليها مثلا الآن الدولار الإسلامي، ولكن فلنمول هذه المنظمة أولا عن طريق الشعوب؛ فإن اليهود من عشرة ملايين يجمعون من كل يهودي في العالم مائتي دولار وسطيا، ومعنى ذلك الوكالة اليهودية تجمع كما اطلعت على بعض الوثائق ملياري دولار من اليهود في العالم بوسطية أن كل واحد لازم يدفع 200، طبعا فيه منهم من لا يدفع، فيه منهم من يدفع أكثر، ولكن يجمعون 200 مليون دولار، ويخصصون منها 75 % للجباة، للمنظمات المحلية، ويصلهم نصف مليون دولار، فهم أقاموا نصف مليون دولار إسرائيلي، ولا تزال مع وجود إسرائيل الدولة القائمة. فقلت: نحن عددنا مليار، فلماذا لا نقوم بفكرة الدولار الإسلامي، كوحدة نقدية نسميها ما شئنا، ولكن نقول لكل مسلم في العالم: عليه أن يدفع دولارا في السنة، ولو صام في النهار، وإذا المنظمة قامت هي بإيجاد هذه الصناديق في كل بلد إسلامي مستقل، هذا الصندوق غير أنه تحت إشراف الحكومة فإنني أعتقد أن هذا المال سيبلغ مليار دولار، وليس 3 ملايين دولار. في ذلك الوقت ابتدأت المنظمة بثلاثة ملايين، وهنالك من يدفع، وهنالك من لا يدفع حتى الآن، بطبيعة الحال، الحاجة اقتضت أن يكون هنالك صندوق، هنالك أن يكون مركز للدراسات والبحوث، هنالك مركز للتكنولوجيا، وأذكر أنني دعيت من قبل المنظمة لإقامة ندوة في مالي حول حقوق الإنسان، فوقف أحد المجتمعين، وكانت الندوة برئاسة الحكومة، وقام أحد إخواننا من أفريقيا، أظنه ليس من مالي، قد يكون من جهة أخرى، وقال: نحن ماذا نستفيد من الدول الإسلامية؟ فنحن إسرائيل هي تطبع لنا المصاحف وتعطيها لنا. فقلت له: أنت أشك في لونك. وكان أسمر. انظروا في لوني. قلت له: انظر ماذا تصنع إسرائيل في جنوب أفريقيا؟ فلا تريد أن يكون لكم حكم، ولكن قال: نحن في حاجة، فإسرائيل بالفعل زورت المصاحف، وطبعت كميات كبيرة للسنغال، فحذفت كل ما هنالك من آيات تتعلق ببني إسرائيل، حتى انتبه إليها الملك فيصل، رحمه الله، فأمر بطباعة القرآن وتوزيعه للصومال وغيرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 فالآن نحن يا إخوان، هذا المجمع كنا أيضا نفكر فيه في سوريا كشباب، وصاحب الفكرة فيه العلامة الكبير أخونا مصطفى الزرقاء، ولما جاءت بي الظروف التي أحمد الله عليها هذه المملكة بدعوة من الملك فيصل، نقلنا الفكرة، فحققت فحققه عن طريق الرابطة، ولما وجدت المنظمة وجدنا أن يكون المجمع له صفة دولية، على مستوى الدول، فتحقق مجمعكم. فالآن التضامن كما قلت، لكن يقف هذا الأخ الأفريقي ويقول: ماذا نستفيد نحن؟ فهم في حاجة إلى جامعات، في حاجة إلى مؤسسات ومساع، وأعمال ومساعدات مختلفة، فإذا لم نستطع، وأنا لي تجربة في قضية الجباية الشعبية، لما جاءني المرحوم الشيخ محمد الإبراهيمي وعلال الفاسي في سنة 64 وكنا راجعين نتيجة انقلاب زال ورجعنا إلى الحكم، فقلت: لا بد من إحداث ثورة في شمال أفريقيا، على أن تنتظم بين الجزائر وتونس ومراكش، وأنا جئت وقمت بأسبوع الجزائر، ولسنا في ذلك الوقت نملك ما نستطيع أن نؤديه لإخواننا الجزائريين، ولا مائة ألف ليرة سورية، فقلت: أسبوع الجزائر، فلنجمع من شعب سوريا، وكل فرد يدفع ليرة سورية في ذلك الأسبوع، فوضعنا المشروع تحت رئاسة المرحوم شكري القوتلي، وكنت وزير الدفاع، وعملنا نشرات عن طريق الجيش، وإذا بالشعب كان يتحمس، أنا أذكر كانت تأتي النساء فتنزع حليها وتدفعها إلى الصندوق، فكانت هي النواة للثورة الجزائرية، ومن هنا بعد ذلك ابتدأت أسبوع الجزائر في أمكنة أخرى. فيا إخواننا مجمعكم هذ االذي يضم على مستوى الدول ممثليها وإخوانكم، من العاملين معكم، من خبراء وإلى آخره، أعتقد أننا لو أخذنا قرارا بصفتكم كمجمع علمي، بدعوتكم لكل مسلم أن يساهم في التضامن الإسلامي، وأن نبدأ بأقرب الدول إلينا، كمثل هنا المجمع يبدأ بالمملكة، نفتح هذا الصندوق تحت إشراف الدولة، ولكن هنالك كل مواطن نطلب منه أن يدفع ريالا، فأنا متأكد على عشرة ملايين، سوف يأتيكم فوق العشرة ملايين إلى صندوقكم، فنبدأ شيئا فشيئا، وكلما أمكنا إيجاد مندوب عندئذ يمكن أن يتحقق هذا المبلغ، ولا نلبث حتى نجمع المليار دولار، فنترك 25 % للجمعيات المحلية لتستفيد منها، جمعنا عشرة ملايين، نقول: خذوا مليونين ونصف، أنفقوها على حاجاتكم، ولكن البقية تأتي إلى المجمع الفقهي، والمجمع الفقهي عندئذ هو الذي يشرف عليه كهيئة علمية ويدفعه إلى صندوق التضامن، ليستطيع صندوق التضامن عندئذ أن يقوم فيمول المنظمة نفسها. تعلمون أن المنظمة حتى الآن ليس لها دار، فلولا أن المملكة قامت ببناء دار لها وبأرضها لما كان لها. ونحن نجتمع الآن كما تفضل سيادة الأمين العام بالمعونات التي تفضلت بها المملكة، فلو أوجدنا رأسمال إسلامي لقضايانا. ولا بأس أن نقلد خصومنا وأعداءنا، فبالملياري دولار الذي يجمعونها من اليهود حتى الآن هذان الملياران تجمع. فنحن نستطيع أن نجمع هذين المليارين من العالم الإسلامي بشكل أسهل. ولذلك أرجو أن تبحثوا عن قضية. قضية الزكاة أن لا نمسها، ولكن التضامن الإسلامي في حاجة من العالم الإسلامي أن يشحن بالإعلام من قبل إخواننا العلماء هنا، فيصدر بيان قوي وعزمكم على تأسيس هذا الصندوق وجربوا. فأسسوه أولا في المملكة وفي بعض البلاد الحاضرة الآن التي تحب أن تشارك مثلا الأردن أو مصر. وإنني متأكد أنكم ستجمعون المبالغ التي يمكن أن تسعف صندوق التضامن. حضرت صندوق التضامن، فعندما ينادي أن هنالك حاجة إلى جامع فهنا تبدأ التبرعات، ولكن بعد التنفيذ لا يبقى إلا القليل الذي يدفع سيأتي وتتغير الظروف. فلنمول إذن صندوق التضامن في رأيي عن طريق الشعوب الإسلامية، وذلك بشكل منظم، ونبدأ به بأقرب الدول إلينا. وشكرا لكم على إطالتي الكلمة؛ لأننا إذا لم نوجد هذا الصندوق وهو بعيد فابدأوا بصندوق الزكاة لأهله، ولكن علينا أن نشعر كل مسلم في العالم ولو فقيرا، فليصم نهاره وليدفع دولارا، فدعوة من علماء المسلمين بوجوب أن يتحسس كل مسلم بما يتوجب عليه من نشاط وعمل إسلامي، فالمصيبة والكارثة واليهودية العالمية التي الآن تثير المشاكل والإعلام ضدنا في كل مكان وتموله بطرق مختلفة مما تستطيع أن تموله ونحن نستطيع أن نمول إعلاما حقيقيا للإنسانية، لا ضد أحد من الناس. وشكرا لكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 الشيخ عبد الله بن منيع: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وبعد، فأشكر سماحة الرئيس على إتاحته لي هذه الفرصة المباركة، كما أشكر معالي الدكتور معروف الدواليبي على ما أعطانا من فكرة عن نشأة التضامن الإسلامي، وما تفرغ عنه من شعب، ومنها صندوق التضامن الإسلامي. في الواقع لقد استمعت إلى ملخص البحوث الثلاثة التي قدمها الإخوة جزاهم الله خيرا، كما استمعت إلى التعليقات ممن علق من الزملاء على مسألة صرف الزكاة إلى صندوق التضامن الإسلامي، كما اطلعت على اللائحة التفسيرية لصندوق التضامن الإسلامي، وعلى نظامه، وعلى البيانات المرفقة، بما يشعر بنشاطه وموقف الدول من هذا الصندوق. في الواقع لقد استبشرت وفرحت فرحا كبيرا بالروح الإسلامية التي دعت على إيجاد هذا الصندوق من دول منظمة المؤتمر الإسلامي، وهو في الواقع يجسد التضامن الإسلامي، لكني في الواقع صدمت حينما رأيت المواقف السلبية، أو شبه السلبية من دول المنظمة. فأولا إذا نظرنا إلى موقف هذه الدول من تبرعهم نجد أن الدول التي قامت بالتبرع لا تتجاوز عشر دول، وقد نجد من بين هذه الدول من تبرع بتبرع هو في الواقع قد يخجل منه رجل أعمال متوسط الحال. فهذا في الواقع موقف لا يبشر بالخير. ونأمل أن تعيد الدول موقفها من هذا التضامن الإسلامي أو من هذه الصندوق. الصندوق الذي له أثره في سبيل رأب كل حادثة من الحوادث، أو كل نازلة من النوازل، أو كل كارثة من الكوارث التي تحل بالعالم الإسلامي. هذا في الواقع ناحية. ناحية ثانية وهو ما يتعلق بموضوع الزكاة، وهو موضوع البحث، لا شك أن الزكاة، الله سبحانه وتعالى تولى بيان مصارفها، وذكر أن من مصارفها سبيل الله، وسبيل الله قد اختلف العلماء رحمهم الله في مدلوله وفي مفهومه، فاتجه غالبهم وجمهورهم إلى حصره في الجهاد وفي مشتقات الجهاد، على خلاف بينهم فيمن يستحق الصرف من المشتغلين بالجهاد في سبيل الله، واستدلوا على هذا بدليلين: الدليل الأول: هو أن المستقرئ لكتاب الله يجد أن سبيل الله دائما يعبر عنه بما يتعلق بالجهاد، ولا يوجد أو في الغالب لا يوجد أي تعبير يخرج عن الجهاد في سبيل الله؛ لأن السياق يدل على ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 الدليل الثاني: الناحية التطبيقية العملية، فالناحية التطبيقية العملية في الصدر الأول من الإسلام لا يعرف أن هناك نوعا من الزكاة صرفت في مصارف أخرى غير من عينهم الله سبحانه وتعالى، وهي المصارف الثمانية، ومن ذلك سبيل الله. وسبيل الله خاص بالجهاد في سبيل الله، هناك مجموعة من أهل العلم، وإن كانوا في الواقع بالنسبة إلى القائلين بالقول الأول هم قلة، إلا أنهم اتجهوا أو قالوا بصرف الزكاة، أو بالتوسع لمدلول مفهوم قوله سبحانه وتعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} فقالوا: إن سبيل الله أكثر من أن يحصر في أمر معين، واستدلوا على ذلك بمجموعة أمور: الأمر الأول: أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستأذنه في الحج، وطلب منه المعونة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه إلى الحج، فاعتذر بأنه ليس له ظهر إلا جملا أنفقه في سبيل الله، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الحج من سبيل الله)) . ثم هناك حديث أو أثر جاء في صحيح البخاري فيما أعلم ورواه ابن عباس موقوفا، ولكن له حكم الرفع. ثم كذلك كلمة في سبيل الله الواردة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أن الحج من سبيل الله، وفي الأثر الموقوف على ابن عباس رضي الله عنه بأن العتق في سبيل الله يقضي أن (من) تبعيضية. هذه في الواقع هي نفس الأدلة التي استدل بها القانون بأن سبيل الله أعظم أو أوسع من أن يحصر في موضوع معين. الواقع أن المسألة ممكن أن نقول بأنه نظرا لأن العبادة ينبغي أن يحتاط لها الاحتياط الكامل، وألا يتصرف فيها إلا التصرف الذي فيه البراءة الكاملة، ونظرا إلى أن الأخذ بالحصر أو بتضييق في الجهاد في سبيل الله فيه شيء من الاحتياط للعبادة، وفيه شيء من الخروج من خلاف من لم يدفع الزكاة إلى غير من عينه الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك سبيل الله الذي اتجه جمهور أهل العلم على حصره في الجهاد في سبيل الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 ثم هناك أمر ثالث، وهو أنه يخشى من التوسع في صرف أموال هذا الصندوق حينما نصرف الزكاة فيه يخشى أن يتوسع في صرفه إلى أمور ليست من الزكاة في شيء، كما رأينا في المذكرة التفصيلية بأنه صرف على الاحتفال بالقرن الخامس عشر الهجري، صرف عليه أكثر من ثمانية ملايين، وهو في الواقع من صندوق التضامن الإسلامي. هذا في الواقع يقضي بأننا نحتاط الاحتياط التام لهذه العبادة، ولا شك أن التضامن الإسلامي وصندوق التضامن الإسلامي له أثره وله قيمته وله اعتباره، ولا يمكن التقليل منه. ويمكن أن نأخذ بما تفضل به معالي الدكتور معروف الدواليبي من أن نوجد مشروع دينار إسلامي على كل مسلم. وهذا فيه خير كثير، وسيعطي عطاء جزلا، وسيغني عن دفع الزكاة في هذا الصندوق. كما أنني أقترح أن يصدر من المجمع توصية للدول الإسلامية في أن تعنى بهذا الصندوق العناية التامة، وأن تفي بالتزاماتها، وأن تفي بما أقدمت على إقراره واعتباره، بأن تعطي عطاء جزلا، فنحن يا إخواني لو نظرنا إلى ما تنفقه الدول الإسلامية على ما يتعلق بالرياضة وتشجيع الرياضة لوجدنا أنها تنفق الأموال الكثيرة التي يمكن أن تغني المسلمين وتغنيهم عن مشكلهم، ومع هذا يوجد البخل على هذا المشروع الذي فيه الخير. نحن لو نظرنا إلى الأموال التي صرفت من صندوق التضامن الإسلامي في المذكرة التفصيلية لوجدنا أنه صرف على المساجد أكثر من مائة وخمسين مسجدا، وعلى أكثر من مائة وخمسين مدرسة، وعلى جمعيات خيرية، والحاصل أنه صرف في سبيل الشيء الكثير، فينبغي لنا أن نجمع بين العناية بصنوق التضامن الإسلامي وألا نفرط في عبادة من العبادات التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بها، والتي هي أحد أركان الإسلام. هذا وأشكركم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487 الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدي رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد. بعد شكري للباحثين على بحوثهم القيمة النافعة. الحقيقة أكتفي بما قاله الأستاذ الذي سبقني بأن نترك أمر الزكاة لصناديق الزكاة المتخصصة لذلك في الدول الإسلامية المتفرقة، ونوصي الدول الإسلامية بإعانة صندوق التضامن من الدول الإسلامية القادرة على ذلك؛ حتى نمكن هذا الصندوق من القيام بمهامه. أما الزكاة فهي أمر تعبدي، ولا يستطيع الإنسان في الحقيقة أن يفرط في هذا الأمر. فيجب أن يترك أمر الزكاة للمزكي نفسه، ثم إن الوكالة حقيقة جائزة، ولكن ليس من شئوننا أن نزكي الوكيل، الوكيل يزكية القاضي وليس نحن. ثم بالنسبة إلى لكوارث والطوارئ الحقيقة على صندوق التضامن أن يعلن لعموم المسلمين الأمة الإسلامية عندما تحصل كارثة، أو يحصل عمل في الحقيقة يشحذ همتهم فيتبرعوا ويترك للمسلمين السبيل إلى إيصال هذا التبرع. ليس بالضرورة أن يوصل التبرع إلا عن طريق هذا الصندوق. نحن في الكويت عندنا بيت الزكاة، وعندنا أيضا المشروع الذي أشار إليه الأخ الدكتور معروف الدواليبي، وسميناها الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، وقلنا: كل مسلم يدفع دينارا أو دولارا. الحقيقة جمعنا ما لا يقل عن ثمان ملايين أو 9 ملايين دولار، يعني جمعنا تقريبا 18 مليون دولارا، أنفق 9 ملايين منها في آسيا وفي أفريقيا على البلاد الإسلامية. ولا مانع في الحقيقة من أن نوصي بأن يساعد المسلمون حكاما ومحكومين صندوق التضامن، ولكن ليس من الزكاة. ثم لي ملاحظة في الحقيقة أخشى أن الزكاة أيضا يفهم منها أن تجمع في صندوق وتتأخر أكثر من سنة، فالزكاة عندما تجمع يجب أن تنفق في خلال السنة وألا تتأخر أكثر من ذلك. وشكر الله لكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 488 الشيخ عبد السلام داوي العبادي: بسم الله الرحمن الرحيم.. أرجو أن يسمح لي سيادة الرئيس أن أتكلم قليلا فيما يتعلق بمنهج المناقشة حول هذا الموضوع وغيره. أقر مجلس المجمع في جلسته أمس جدول الأعمال، وقد عدت إليه الآن ووجدت أن موضع صرف الزكاة عن طريق وليس لصالح، كما رجح الإخوة الكرام، صندوق التضامن الإسلامي كان مكانه الجلسة الخامسة أمس، فهو قد جار على الجلسة الصباحية لهذا اليوم. لو ظللنا في هذا النقاش لجار أيضا على الجلسة المسائية. فالأصل في تنظيم هذا العمل لتنتهي هذه الدورة بعون الله وتوفيقه بإنجازات علمية ينتظرها المسلمون، أن تضبط الجلسات في إطار جدول الأعمال الذي أقر، وأي تعديل على جدول الأعمال يجب أن يكون بقرار من المجلس، وهذه نقطة نظام يجب أن تراعى وإلا فإننا سندخل على موضوعاتنا بطريقة غير سليمة. النقطة الثانية: وهي تتعلق بنظام إدارة الجلسات. ما ركز عليه بعض الإخوة الكرام من تحديد محل النزاع، تحديد نقطة البحث؛ لأن تحديد نقطة البحث يوفر وقتا وجهدا للسادة الباحثين والمناقشين. وعلى رئاسة الجلسة عند ذلك أن تنبه لأي خروج عن نقطة البحث التي حددت. وقد لاحظنا في هذا الذي جرى اليوم أن كثيرا من النقاش كان خارج محل النزاع ولا علاقة له بالموضوع؛ لأن المطروح في أصل المسألة كما فهمناها في دورة عمان لأن هذه قضية مؤجلة من دورة عمان، وهو هل يجوز أن يصدر عن هذا المجلس فتوى بجواز صرف الزكاة لصندوق التضامن. لم يكن هنالك أي نقاش أن يتولى صندوق التضامن عملية جمع الزكاة في العالم الإسلامي كله. هذا أمر مستحيل وغير وارد، ولم يطرح أصلا على البحث. لم يقصد بهذا الموضوع بحث قضية أن صندوق التضامن سيقوم بإلزام المسلمين على جمع الزكاة. يعني هنالك قضايا كثيرة أطيل في نقاشها لم تكن مطروحة أصلا. أنا أقول في هذه القضية إذا سمحتم لي: أمام أيضا ما جرى في دورة عمان من توصية لهذا المجمع الكريم، أمام ما تم بيانه من معاناة المسلمين في كثير من بلادهم من مشكلات الجوع والفقر والكوارث وغير ذلك، أوصي هذا المجمع بتشكيل هيئة إغاثة إسلامية أو التفكير بصيغة لتحقيق معنى هذه الإغاثة. فإذا جاء إلينا صندوق تمثل فيه جميع الدول الإسلامية، وقال: إن من برامجه إغاثة المسلمين والعمل على مساعدتهم في كوارثهم. نحن أمام هذه المسألة هل يجوز أن تدفع الزكاة لهذا الصندوق؟ ينظر إذا كان في أعماله ما هو خارج قضية الزكاة، لا بد أن ننص بكل وضوح على أن الدفع يجب أن يكون فقط في إطار المصارف المقررة شرعا لهذا. والقضية لا تحتاج إلى أكثر من هذا. ويمكن أن ننصح لعملية الضبط، وحتى لا تتداخل. نقول للصندوق: حتى نصدر هذه الفتوى يجب عليك أن تصدر تعليمات إدارية تقول بفتح حساب مالي مستقل لديك، حساب للزكاة، توضع فيه حصيلة ما يرد من زكوات، ويجري الإنفاق من هذه الزكوات على ما هو من مصارف الزكاة، ولا أدخل في قضية (في سبيل الله) . وأطيل في هذه القضية، حتى لو ضيقت وأخذت بأقل الآراء الفقهية في هذا المجال توسعا؛ فإن في مصارف الصندوق ما هو داخل في إطار المضيقين، إنما كل ما في الأمر أضبط هذه القضية بأن ذلك يجب أن يكون في إطار الزكاة، ولا مانع أن أفعل مثل ما فعلت بعض البنوك الإسلامية أو معظمها من أن أقول في فتواي: إنه لا بد من تشكيل لجنة فقهية مستشارة لصندوق التضامن للتأكد من أن أي مشروع يريد أن يتبناه الصندوق للإنفاق يدخل ضمن مصارف الصندوق. بقيت قضية أخرى: بعض الدول الإسلامية أصدرت قوانين بجمع الزكاة. بالنسبة لهذه الدول الدخول على الخط بأن نقول لمواطنيها: يجوز أن تدفعوا الزكاة لصندوق التضامن يتعارض مع قوانينها. إذن لا بد أن تكون فتوانا محتاطة؛ لأنه كما تعلمون من الناحية الفقهية، نعم صحيح عثمان بن عفان وكل مالكي الأموال الباطنة مع من وكلهم في الدفع، لكن كلهم أجمعوا على أن للإمام أن يجمع الزكاة وينظمها، بل يجب عليه إذا تأكد أن هناك من لا يقوم بدفع الزكاة أن يتدخل لجمعها وإنفاقها في مصارفها المقررة شرعا، فلذلك نقول في فتوانا: إنه في الدول التي لم تنظم أمر الزكاة، أو التي أوكلت لمواطنيها دفع الزكاة، كما هو في بعض البلاد، للمسلمين في تلك الدول أن يقوموا بدفع جزء من زكواتهم وفق ما يرونه في مصارف صندوق التضامن التي تندرج تحت مصارف الزكاة، وما الضير في ذلك؟ نعم، لا مانع من أن نشير بهذه المناسبة إلى ضرورة دعم الصندوق وأن تقدم له التبرعات، وأن يقوى التضامن الإسلامي. لكن المسألة المعروضة علينا هي هذه القضية المحددة، فليس الموضوع موضوع تبرع، إنما الموضوع موضوع زكاة. أعود في نهاية كلمتي إلى التأكيد على قضية نقطة النظام لنستطيع أن نوجز. وأقترح لتسهيل البحث أنه عندما تتم بلورة الخطوط العريضة في النقاش يحال الأمر إلى لجنة لإعداد توصية، ويختار من الأشخاص الذين كانوا هم لهم وجهات نظر في هذا الموضوع اقترحوها ليكون التداول أكثر تحديدا؛ لأن هذا الحفل الواسع لا يمكن في الواقع أن نطلق فيه العنان للملاحظات والمناقشات، إذن سيظل لقاؤنا لا نسميه مجلس مجمع فقه، نسميه مناقشات ومداولات حول قضايا فكرية مطروحة، وعند ذلك لا نحقق شيئا غير أننا تحاورنا، وهذا ليس هو المطلوب، المطلوب أن نبلور قضايا محددة فيما نحن متفقون عليه، وإذا كنا مختلفين نتناقش حتى نبلور هذه القضايا. وشكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 489 الرئيس: شكرا. في الواقع أن ما تفضل به فضيلة الشيخ عبد السلام العبادي هو عين الذي يتعين الالتزام به. وقد سبق في الجلسة المسائية في يوم السبت أن قدمت رجاء ولم أقدمه نظاما لعدد من الإخوة المتكلمين ألا يخرجوا عن موضوع البحث. وطالما أن الشيخ عبد السلام فتح الباب فأنا أحب أن أشير إضافة إلى ذلك إلى مسألة أخرى، وهو أن بعض أصحاب الفضيلة المشايخ الذين يأخذون الكلمة في المداولة يمضي نصف كلمة في الثناء على بحث قبله أو في الثناء على كلمة لشخص آخر إلى آخره. وهذا لا يحرر محل النزاع، ولا يبين مدرك الحكم الشرعي. وكلنا نتفق على الثناء وعلى التثنية على هذه الأشياء، لكن نحن نريد أن نستغل الوقت ونغتنم هذه اللحظات في تحرير هذه المسألة المطروحة أمامنا. أما موضوع زحف بعض الموضوعات على موضوع آخر، بحيث إنه يخشى سقوط هذا الموضوع، فأظن أن هذا ليس في الوسع دائما أن نتحكم فيه، وفي جميع الدورات الثلاث التي مضت في هذا المجمع يكون مقررا لبعض البحوث جلسة فتستغرق جلسة قادمة، أو نصف جلسة قادمة؛ لأنه ليس في وسع المجمع أن يبت إلا بعد أن تتحرر وجهات النظر أو تتحرر القناعة في هذا. لكن مع هذا ينبغي الملاحظة ألا يسقط شيء، وألا يكون الزحف يتجاوزه دوره حتى لا تسقط هذه الموضوعات ولا ينقضي الوقت ونحن لم ننه شيئا من موضوعاتنا هذه. بقي عندي من أصحاب الفضيلة الذين طلبوا الكلمة ستة من المشايخ، أرجو أن يوجزوا في القول. أو هل ترون نؤدي الزكاة ونعود؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 490 مناقش: فيه اقتراح ممكن. . المفروض الآن اختيار لجنة لحل المعضلة. المفروض الآن اختيار لجنة إذا تكرمتم بالإذن لي. الرئيس: إذن أرجو من أصحاب الفضيلة الذين بقي لهم كلمات أن يتنازلوا عنها؛ نظرا لضيق الوقت وحسما للموضوع. اتفضل يا شيخ. الشيخ إبراهيم بشير الغويل: هذه الملاحظة تتعلق بالنظام، إن كانت إدارة الجلسة ستسير بأن تترك لبعض أن يتحدث كما يشاء ويطيل، ثم تحجب الكلمة عن الآخرين، فذلك هو الظلم بعينه. أما أن يحدد من الأول الوقت وعدد المتكلمين ودقائق الكلمات، هناك كذا دقيقة للكلام، وهناك كذا متحدث، وسنوزع الكلام لمدة كذا دقيقة. إن لم يتم ذلك فلا يجوز حجب الكلمات عن أي من أعضاء المجلس وشكرا. الرئيس: على كل، نحن لا نريد أن ندخل موضوعا ينشأ عن موضوع آخر أجنبي عنه. فهل ترون نبت في هذا الموضوع، وأعلن ما اتجه إليه المجلس؟ الذين يتجهون إلى هذا أرجو رفع الأيدي.. بسم الله الرحمن الرحيم وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. من خلال هذه المداولات من أصحاب الفضيلة أعضاء هذا المجمع حول صرف الزكاة إلى صندوق التضامن الإسلامي، يبدو لنا أن المستخلص من وجهات النظر وجهتان، مع ما يحف بهما من توصيات هي محل اتفاق من الجميع فيما يظهر. أما الوجهة الأولى: فتعلمون أن محل النزاع متحرر. وهو بحث مسألة صرف الزكاة إلى صندوق التضامن الإسلامي. والنزاع هو في مدرك الحكم وفي متعلق الحكم ومنزعه. هل في قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، يكون قصره على الغزاة أم يكون شاملا للمصارف الأخرى التي تفضل بها أصحاب الفضيلة الأعضاء في مناقشاتهم. والذي أحب أن أشير إليه هنا أنه قد حكى الإجماع غير واحد على قصر (وفي سبيل الله) على الغزاة، وأنه لا يشمل غيرهم، وأن الخلاف الذي حصل إنما هو خلاف بعد صدور الإجماع، أو بعد الإجماع، وأنه لا يعرف في هذا خلاف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولا بعد التابعين رحم الله الجميع. والمسألة الثانية ولهذا فإن أصحاب الفضيلة ربما يمثلون العدد الأكثر اتجهوا إلى أن يبقى قصر الآية على ما حكي عليه الإجماع أو ذهب إليه الأكثر تنزلا. الاتجاه الثاني، وهو تأليف لجنة لتربط بين هذه المداولات التي أجراها المجمع وبين واقعية صندوق التضامن الإسلامي، وبين تعديل نظامه ولائحته فيما يتفق مع صرف الزكاة إليه، ولهذا فإنكم قد ترون مناسبا أن تتألف لجنة من كل المشايخ: تقي العثماني، طه العلواني، يوسف الجيري، عمر جاه، مصطفى الفيلالي. لأن هؤلاء يمثلون وجهات المداولة التي دارت في هذه الجلسة، وعلى ضوء التصور الذي ينتهون إليه يعرض عليكم في الجلسة الختامية، وتنتهون إلى إقرار ما ترونه مناسبا حسب المقتضى الشرعي، أو حسب ما تقتضيه الأناة والتثبت في هذا الموضوع، مع إضافة ما أشار إليه بعض أصحاب الفضيلة الأعضاء، وهو أن يصدر من المجمع توصية بالشد على صندوق التضامن الإسلامي، ومناشدة الدول بالوفاء بالتزاماتها معه، وعلى فكرة الدينار الإسلامي، والدعوة إليها وتجسيدها في نفوس المسلمين، ومن القليل يجتمع الكثير. وبهذا ننتهي، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 491 الأمين العام: هذا الاقتراح جيد، لكن أريد أن ألاحظ أن الأستاذ الدكتور عبد السلام عبادي موجود في لجان أخرى، ربما تتكاثر الأوقات وتتزاحم فلا يستطيع المشاركة. الرئيس: نرجو من فضيلة الشيخ سيد طنطاوي أن يتفضل بالاشتراك مع هذه اللجنة، على أن يكون الشيخ طه هو مقرر هذه اللجنة. مناقشة مشروع القرار الذي وضعته اللجنة الشيخ عبد الستار أبو غدة: القرار رقم (2) بعد الديباجة: بعد اطلاع المجمع على المذكرة التفسيرية بشأن صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته المقدمة إلى الدورة الثالثة للمجمع، وعلى الأبحاث الواردة إلى المجمع في دورته الحالية بخصوص موضوع صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي. يوصي: عملا على تمكين صندوق التضامن الإسلامي من تحقيق أهدافه الخيرة المبينة في نظامه الأساسي، والتي أنشئ من أجلها، والتزاما بقرار القمة الإسلامي الثاني الذي نص على إنشاء هذا الصندوق وتمويله من مساهمات الدول الأعضاء، ونظرا لعدم انتظام بعض الدول في تقديم مساعداتها له، يناشد المجمع الدول والحكومات والهيئات والموسرين المسلمين القيام بواجبهم في دعم موارد الصندوق بما يمكنه من تحقيق مقاصده النبيلة في خدمة الأمة الإسلامية. ويقرر: أولا: لا يجوز صرف أموال الزكاة لدعم وقفية صندوق التضامن الإسلامي؛ لأن في ذلك حبسا للزكاة عن مصارفها الشرعية المحددة في الكتاب الكريم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 492 الرئيس: لو سمحت يا شيخ لأن الإخوة خرجوا، فليس من العدل أن يبقى بعضهم ويخرج بعضهم من هذا موضوع مفروغ منه. الشيخ محمد يوسف جيري: أتذكر أننا بخصوص الديباجة صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي، أتذكر أن الإخوة رأوا أن نغير العبارة بدلا من صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي. الرئيس: فعلا، صرف الزكاة عن طريق. الشيخ محمد تقي العثماني: الموضوع المطروح هو لصالح صندوق التضامن الإسلامي. الرئيس: فعلا هذا الموضوع الذي طرح بهذا العنوان. الشيخ محمد سالم عبد الودود: طبعا هو طرح بهذا العنوان الجزء الأول من القرار: لا يجوز صرف أموال الزكاة لدعم الصندوق، هذا يجعلنا نبقي على العنوان. الرئيس: بقاء العنوان أكثر دعما أولا. نعم ثانيا. الشيخ عبد الستار أبو غدة: هو كان في تصحيح يعني بدلا من " لأن في ذلك حبسا ": " لأن في وقف الزكاة حبسا لها عن مصارفها ". الرئيس: هو كله واحد. ماشي يا شيخ. الشيخ عبد الستار أبو غدة: حتى لا يتعارض مع قرار توظيف الزكاة في مشاريع؛ لأنه قرار توظيف الزكاة في مشاريع تبقى المشاريع على ما هي عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 الرئيس: لا يا شيخ خليه يمشي على وضعه. الفقرة تمشي على ما هي عليه. الشيخ محمد علي التسخيري: أنا أرجح أن نحذف التعليل؛ لأنه يمكن أن يدعى هنا أنه صرف في سبيل الله، وإذا لم نحصر سبيل الله في مسألة الحج والجهاد، وعممنا الأمر، فإننا سنقع في إشكال. الرئيس: التعليل مع تقديري، التعليل يعطي الصيغة الشرعية فبقاؤه وارد. الشيخ محمد علي التسخيري: لكي نحصل الإجماع نعطي الفتوى بلا تعليل. الرئيس: لا، مجمعين إن شاء الله يا شيخ. الأمر سهل وبسيط، ثانيا. الشيخ عبد الستار أبو غدة: ثانيا: لصندوق التضامن الإسلامي أن يكون وكيلا عن الأشخاص والهيئات في صرف الزكاة في وجوهها الشرعية بالشروط التالية: أ - أن تتوافر شروط الوكالة الشرعية بالنسبة للموكل والوكيل. ب - أن يدخل الصندوق على نظامه الأساسي وأهدافه، التعديلات المناسبة التي تمكنه من القيام بهذا النوع من التصرفات. ج- أن يخصص صندوق التضامن حسابا خاصا بالأموال الواردة من الزكاة بحيث لا تختلط بالموارد الأخرى التي تنفق في غير مصارف الزكاة الشرعية، كالمرافق العامة ونحوها. د- لا يحق للصندوق صرف شيء من هذه الأموال الواردة للزكاة في النفقات الإدارية ومرتبات الموظفين وغيرها من النفقات التي لا تندرج تحت مصارف الزكاة الشرعية. هـ- لدافع الزكاة أن يشترط على الصندوق دفع زكاته فيما يحدده من مصارف الزكاة الثمانية، وعلى الصندوق في هذه الحالة أن يتقيد بذلك. و يلتزم الصندوق بصرف هذه الأموال إلى مستحقيها في أقرب وقت ممكن حتى يتيسر لمستحقيها الانتفاع بها، وفي مدة أقصاها سنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 الشيخ محمد على التسخيري: اعتقد أننا لا دخل لنا في" ب ". ما لنا ونظامه الأساسي؟ نعطيه الفتوى وهو يفعل ما يشاء حسب نظامه الأساسي. الشيء الآخر كلمة " و " ومدة أقصاها سنة، المقترح أن تحذف ما دمنا قلنا: في أقرب وقت ممكن، وقيدنا هذا المعنى، فما الداعي لتحديد سنة؟ الرئيس: أما الفقرة " ب " ففيها مزيد بيان. هو الشيء إذا كان فيه ترتب حكم شرعي لا نقبله، هذا نحذفه. أما إذا كان زيادة بيان زيادة توضيح. أنا أراه شرطا ما لم يجعل في النظام ما يبين دخول الزكاة دخولا وخروجا وبقاء لا يمكن أن نقبل ولا يمكن دخول الزكاة فيه. الشيخ محمد تقي العثماني: لا يجوز أن نوكل رجلا بأداء الزكاة حتى يلتزم بالأحكام الشرعية. الشيخ عبد السلام داود العبادي: فيه نقطتان. الواقع كان في لجنة الصياغة قد اتفق عليهما ولم يدرجا في هذه التوصيات، اتفق على حذف " في مدة أقصاها سنة "، واتفق على أن يوضح في بند " د " حتى لا يفهم أن المجمع لا يعلم بسهم " والعاملين عليها". سهم والعاملين عليه نحن قلنا: إن هذا يمنع تحوطا أو احتياطا، وإلا فالأصل العاملون عليها مقررة في مصارف الزكاة إذا تعين موظف خاص في الصندوق لصرف هذه الزكاة والتوجه بها إلى البلاد المحتاجة إليها، ما المانع من الناحية الشرعية أن يعطى راتبه؟ لكن نحن نقول احتياطا: منع ذلك حتى لا تستغل الزكاة. فيجب أن تصاغ العبارة بأسلوب لا يشعر القارئ لها أننا لا ندرك سهم العاملين عليها. الشيخ طه جابر العلواني: بالنسبة لهذه الفقرة " د " طبعا لوحظ موضوع العاملين عليها، ولكن اللجنة التي توافرت على دراسة هذا الموضوع رأت أنها لو فتحت هذا الباب فمن المحتمل أن تصرف كل الزكاة رواتب للموظفين، ويصبح كل الصندوق من العاملين عليها. ولكن أعتقد أنه إذا خصص موظف لهذا الأمر بحيث يشرف على موضوع الزكاة وحده، سيمكن أن نصوغ العبارة بطريقة تحتمل هذا الموضوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 495 الرئيس: أما أنا فالذي يظهر لي أن الفقرة والمادة تبقى كما هي؛ لأنه إذا فتح الباب، الآن صندوق التضامن الإسلامي هل تعلمون حجم الموظفين فيه؟ هل هم ثلاثة، أربعة، خمسة، أو بالعشرات؟ فإذا كان هذا الجهاز العظيم الذي قد يصل خمسين، ستين موظفا، وبعضهم برواتب كبيرة، وخذوا في الاعتبار قضية تباعد أقطار العالم الإسلامي، وهناك شيء أكثر من قضية أنه يذهب بها، أجور الطائرات وأجور النقل إلى آخره، فأخشى أننا نفتح هذا الباب فتستلهم الزكاة داخل الصندوق. الشيخ عبد السلام داود العبادي: نحن معك في هذا، كل ما في الأمر يجب النص على أنه يجب ألا يصرف، معك في هذا، لكن يجب أن تصاغ العبارة بطريقة تشعر بأننا نفعل ذلك احتياطا. الشيخ محمد المختار السلامي: الحقيقة عندي أمران: الأمر الأول هو أن ما ذكر أن الفقرة " ب " من الخير أن تحذف، أعتقد أنه من الخير أن تحذف؛ لأنها أخذا من الاحتياطات، هي تؤدي إلى هذا، ولكن لياقة لا ينبغي أن نتوجه إلى صندوق التضامن الإسلامي، فنقول له: أدخل على أنظمتك وأجهزتك وأهدافك التعديلات المناسبة. أنا الذي يهمني هو أن تتوافر شروط الوكالة الشرعية، أن يخصص صندوق التضامن حسابا خاصا، أن لا يحق للصندوق صرف شيء من هذه الأموال. هذه الشروط التي تهمني، أما أن أتدخل مباشرة وبهذه الطريقة، هي طريقة غير مناسبة في مواجهة منظمة المؤتمر الإسلامي التي نحن عضو منها. الأمر الثاني: هو أنه لا يحق للصندوق صرف أي شيء من هذه الأموال الواردة للزكاة في النفقات الإدراية ومرتبات الموظفين، وغيرها من النفقات التي لا تندرج تحت مصارف الزكاة الشرعية، وهي متكاملة بقوله: التي لا تندرج تحت مصارف الزكاة الشرعية. تدخل فيها العاملون. ولكن قضية أن يدخل الصندوق على نظامه الأساسي لابد من حذفها؛ لأنه فيه عدم لياقة مع المنظمة التي ننتسب إليها. الشيخ عمر جاه: هو في الواقع عندي نقطتان: في فقرة " د " كما تفضل السيد السلامي الفقرة واضحة: التي لا تندرج تحت مصارف الزكاة الشرعية. تعطينا كل الحلول وما فيه داع للتغيير هذا. وثانيا في فقرة " و " أعتقد أن مدة أقصاها سنة لا داعي لها. ممكن في أقرب وقت ممكن حتى يتيسر لمستحقيها الانتفاع بها يكفي. ما فيه داع على ربطها بسنة كاملة. وشكرا. الشيخ محمد مختار السلامي: ما فهمت القرار، الآن ما تم؟ الرئيس: تم على ما هو عليه بالأكثرية. هل أنتم موافقون على الأكثرية؟ الشيخ محمد مختار السلامي: من فضلك فقرة " ب " أرجوك أن يقع البحث فيها والتصويت عليها؛ لأني قلت أن لا تزيد شيئا، وتكون مشاكل سياسية، حساسيات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 496 الرئيس: والله أنا أرى أن هذه ما فيها محاذير شرعية. الأمين العام: أريد أن أذكر إخواني حضرات الأساتذة بأن الذي قاد إلى ذكر المادة "ب" هو أننا عند التداول في هذا الموضوع وفي نظام الصندوق لاحظنا أن الأموال تأتي إليه من التبرعات ومن أشياء كثيرة لم يذكر فيها الزكاة إطلاقا، فنحن إذ ذاك عند التداول في هذا الموضوع قلنا: إذا كان سينفق الزكاة لا بد أن تأتيه زكاة؛ ولذلك فإن هذا يتماشى مع أصل الموضوع في الفتوى، هو لا يزكي من مال التبرعات التي تأتيه، ولا يزكي من الأموال التي تنجز إليه من الوقفيات، وإنما يزكي من مال الزكاة الذي يأتيه. ولذلك قلنا: يعدل النظام الأساسي حتى يصبح قادرا على تلقي الزكوات وصرفها بعد ذلك. ليس هناك تضارب أبدا. الشيخ محمد عطا السيد: سيدي الرئيس في الفقرة " أ " قالت: تتوافر شروط الوكالة الشرعية بالنسبة للموكل والوكيل. المراد الوكيل هنا الصندوق؟ الأمين العام: الوكيل هو الصندوق، أي نعم. الشيخ محمد عطا السيد: إذا كان المراد بها الوكيل هو الصندوق، نحن ذكرنا في الفقرة التي قبلها: لصندوق التضامن الإسلامي أن يكون وكيلا. فنحن قررنا أن يكون وكيلا، فما معنى هنا أن نقول أن تتوافر شروط الوكالة بالنسبة للموكل والوكيل. فأرى أننا قد قررنا في الجزء السابق المسألة التي اشترطناها في الفقرة " أ " هنا أن تتوافر شروط الوكالة الشرعية بالنسبة للموكل. الرئيس: هذا زيادة تأكيد، وهو واضح ليس فيه إشكال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: أنا ما عندي اعتراض على كل الأشياء التي قيلت ما عادا " و "، وكما قال الدكتور العبادي التي هي في مدة أقصاها سنة، هذه وأنا كنت في لجنة الصياغة، واتفقنا على حذفها، هل حذفت أم باقية؟ الرئيس: عموما هي لها مستند من كلام الحنفية، أنه لا ترد الزكاة في العام القادم وزكاة العام الماضي موجودة. وهذه قيل في مدة سنة كأن فيها حجرا على ألا تستثمر أو تتأخر أو شيء من هذا القبيل. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: الخوف أن يأخذوها ذريعة لتأخيرها لسنة، فلا داعي إليها حتى ولو كانت من الناحية الشرعية؛ لأنها محل الخلاف، وحذفها أولى من إبقائها. الرئيس: إذا رأيتم أن تحذف تحذف. ولكن هي من حيث التحوط جيدة في الواقع؛ لأنها تعطي عدم امتداد الأمد ببقاء الزكوات وتراكمها أو استغلالها في مشاريع. فإذا رأيتم بقاءها فلا ضرر فيها شرعا. إذن تبقى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 498 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه. قرار رقم (2) د 4/08/88 بشأن صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408 هـ, الموافق 6-11 فبراير1988م. بعد اطلاعه على المذكرة التفسيرية بشأن "صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته المقدمة إلى الدورة الثالثة للمجمع، وعلى الأبحاث الواردة إلى المجمع في دورته الحالية بخصوص موضوع صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي " يوصي: - عملا على تمكين صندوق التضامن الإسلامي من تحقيق أهدافه الخيرة (المبينة في نظامه الأساسي) والتي أنشئ من أجلها، والتزاما بقرار القمة الإسلامي الثاني الذي نص على إنشاء هذا الصندوق وتمويله من مساهمات الدول الأعضاء، ونظرا لعدم انتظام بعض الدول في تقديم مساعداتها الطوعية له - يناشد المجمع الدول والحكومات والهيئات والموسرين المسلمين القيام بواجبهم في دعم موارد الصندوق بما يمكنه من تحقيق مقاصده النبيلة في خدمة الأمة الإسلامية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 499 ويقرر أولا: لا يجوز صرف أموال الزكاة لدعم وقفية صندوق التضامن الإسلامي؛ لأن في ذلك حبسا للزكاة عن مصارفها الشرعية المحددة في الكتاب الكريم. ثانيا: لصندوق التضامن الإسلامي أن يكون وكيلا عن الأشخاص والهيئات في صرف الزكاة في وجوهها الشرعية بالشروط التالية: أ - أن تتوافر شروط الوكالة الشرعية بالنسبة للموكل والوكيل. ب - أن يدخل الصندوق على نظامه الأساسي وأهدافه التعديلات المناسبة التي تمكنه من القيام بهذا النوع من التصرفات. جـ- أن يخصص صندوق التضامن حسابا خاصا بالأموال الواردة من الزكاة، بحيث لا تختلط بالموارد الأخرى التي تنفق في غير مصارف الزكاة الشرعية، كالمرافق العامة ونحوها. د- لا يحق للصندوق صرف شيء من هذه الأموال الواردة للزكاة في النفقات الإدارية ومرتبات الموظفين وغيرها من النفقات التي لا تندرج تحت مصارف الزكاة الشرعية. هـ- لدافع الزكاة أن يشترط على الصندوق دفع زكاته فيما يحدده من مصارف الزكاة الثمانية، وعلى الصندوق – في هذه الحالة – أن يتقيد بذلك. و يلتزم الصندوق بصرف هذه الأموال إلى مستحقيها في أقرب وقت ممكن حتى يتيسر لمستحقيها الانتفاع بها وفي مدة أقصاها سنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 500 زكاة الأسهم في الشركات إعداد فضيلة الشيخ عبد الله البسام بسم الله الرحمن الرحيم الزكاة الزكاة: لغة مصدر زكا الشيء إذا زاد ونما. قال في اللسان: وأصل الزكاة الطهارة والنماء. والزكاة شرعا: حصة مقدرة من المال مخصوصة لجهات مخصوصة، وسميت الحصة المخرجة زكاة؛ لأنها تزيد في المال الذي أخرجت منه. والزكاة من حيث الأهمية هي أحد أركان الإسلام، وهي قرينة، فلا تذكر الصلاة في الذكر الحكيم إلا ذكرت الزكاة معها، ولا يذكر المصلون إلا ذكر معهم المزكون والمنفقون. وهي ركن مالي اجتماعي يقوم به التكافل بين المسلمين. الزكاة: تطهر نفوس الأفراد من أرجاس البخل والدناءة والقسوة والأثرة والطمع وغير ذلك من الرذائل الاجتماعية التي هي مثار الحسد والتعادي والعدوان والفتن والحروب. فالفقر يحمل الواقعين تحت سلطانه على إتيان جميع ضروب الشرور للحصول على أخص حاجات الحياة، وهو القوت. فالبطون إذا جاعت دفعت أصحابها لاستساغة جميع صنوف الجرائم، وعدت ذلك عملا مشروعا. وفي البيئات التي يشيع فيها الفقر تروج جميع المذاهب المتطرفة، وتستحل جميع الأعمال الوحشية للوصول إلى أغراضها. ولن تجد في جميع الحروب الأهلية التي قامت لإنصاف الطبقة الفقيرة في أوروبا إلا وهم الطبقة الفقيرة نفسها حاربوا تحت تأثير الحاجة. والإسلام ما جعل فريضة الزكاة ترجع لهوى الشخص، إن شاء أعطى وإن شاء منع، بل جعلها إجبارية؛ لأنها حق الفقير في مال الله الذي أعطاه الغني وقال: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} . النور:33 وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} . الحديد:7. ومن هذا يتبين لنا أن الزكاة ليست إحسانا فرديا، فإن اعتبارها كذلك خروج بها عن معانيها، بل هي حقوق إجبارية تأخذها الحكومة الإسلامية لتصرفها على الطبقة الفقيرة؛ لأن الأصل أن الإمام هو الذي يأخذ ويعطي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 501 وبالجملة فالزكاة ليست مجرد عمل طيب وخلة حسنة من خلال الخير، بل هي ركن أساسي من أركان الإسلام، وشعيرة من شعائره الكبرى، وهي في نظر الإسلام حق الفقراء في أموال الأغنياء، لم يوكل إلى ضمائر الأفراد وحدها، وإنما تحملت الدولة المسلمة مسؤولية جبايتها بالعدل وتوزيعها بالحق. وإن الفرد المسلم مطالب بأداء هذه الفريضة وإقامة هذا الركن الأساسي في الإسلام، وإن فرطت الدولة في المطالبة بها، أو تقاعس المجتمع عن رعايتها، فإنها عبادة يتقرب بها المسلم إلى ربه، ويزكي بها نفسه وماله، وإن لم يطالب بها السلطان طالبه بها الإيمان والقرآن. والزكاة لم تكن مجرد معونة وقتية لسد حاجة عاجلة للفقير وتخفيف شيء من بؤسه ثم تركه بعد ذلك لأنياب الفقر والفاقة، بل هدفها القضاء على الفقر وإغناء الفقير إغناء دائما يستأصل شأفة الفقر والعوز من حياته؛ لأنها فريضة منظمة دورية دائمة الموارد. وبهذا يتضح أن الزكاة نظام متميز يغاير الأنظمة الوقتية التي تحاول مواساة المعوزين. الزكاة مواساة: الزكاة مواساة بين الفقراء والأغنياء، ولذا فإنها لا تجب إلا في الأموال النامية بالفعل والأموال القابلة للنماء. ومعنى النماء في الأموال أن يكون من شأنه أن يدر على صاحبه ربحا. ولذا فإن الزكاة لا تجب إلا في أموال مخصوصة هي التي تنمي وتفيد دخلا وغلة. أما الأموال المجمدة لحاجة الإنسان واستعمالاته وقنيته فهذه لا تجب فيها الزكاة. وهذا كله مبني على هذا المبدأ السامي في الزكاة، وهي المواساة بين الفقير والغني، ومن هذا يتعين علينا توضيح وضع الشركات وأسهمها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 502 الشركات: الشركة عند فقهائنا المتقدمين هي نوعان: أحدهما: اجتماع في استحقاق. الثاني: شركة العقود. والنوع الأخير هو محل بحثهم، وهو الذي عقدوا له الأبواب في كتاب المعاملات من كتب الفقه. ويقسمون شركة العقود إلى خمسة أنواع: الأول: شركة عنان، وشركة العنان هي أن يشترك اثنان فأكثر بمالهما المعلوم ليعملا فيه ببدنيهما، ويكون الربح بينهما مشاعا حسبما شرطاه بينهما، وتكون الخسارة على قدر المال. الثاني: شركة المضاربة، من الضرب في الأرض، وهو السفر للتجارة، وهي أن يكون المال من واحد والعمل من الآخر، ويكون رأس المال لصاحبه، وللعامل جزء من الربح مشاع ومعلوم على حسب ما شرطاه. الثالث: شركة الرجوة، وهي أن يشتركا على أن يشتريا في ذمتيهما بجاهيهما، فما ربحا فهو بينهما على ما شرطاه. الرابع: شركة الأبدان، وهي أن يشتركا فيما يكتسبانه بأبدانهما، فما رزق الله تعالى من كسب فهو بينهما. الخامس: شركة المفاوضة: وهي أن يفوض كل من الشريكين إلى صاحبه بكل تصرف مالي وبدني مما يدخل في أعمال الشركة. فهذه هي أنواع الشركات عند فقهائنا الأقدمين على حسب ما تتبعوه من معانيها في النصوص الشرعية، وبحسب ما استقرأوه من أنواعها. أما الشركات المعاصرة فلم تكن آنذاك موجودة، ولهذا لم يأت لها ذكر في كتب فقهائنا السابقين. وإنما حدثت أنواعها مع حدوث الاقتصاد المعاصر وطرق مكاسبه وأنواع مصارفه، وذلك بتطوير النظام التجاري، وسنأتي بكلمات معدودات على توضيح بعض أنواع الشركات؛ لعلاقتها بموضوعنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 503 الشركات المعاصرة: النظام التجاري له أهمية كبرى، بحيث إنه لا ينتظر نجاح مشروع دون وضع قواعد لبيان هيكله وتوضيح معالمه، وتحديد مسؤولياته من الناحية التخطيطية أو من الناحية الإدارية التنفيذية، كما يجب أن تعطى للعاملين بالمشروع التجاري الضمانات الكافية، سواء كانوا موظفين أو مساهمين، وإلا انعدمت الثقة بالمشروع. والضمانات تتوقف في تحديدها إلى حد كيبر على الشكل النظامي للمشروع، والشكل النظامي يتخذ أحد الأشكال الآتية: 1- الملكية الفردية، وهذه أبسط مظاهر المشروعات النظامية؛ لأن صاحبه والمسؤول عنه فرد واحد، والثقة فيه تقوم على حسب إدارة صاحبه. 2- شركة التضامن: وهي تضامن الشركاء في إدارتها والوفاء بالتزاماتها، ويتوقف نجاح هذه الشركة على تضامن الشركاء في العمل وإخلاصهم في المشروع، وهي غالبا لا تنجح في الأعمال التي تحتاج إلى رؤوس أموال ضخمة، وإنما نجاحها في الأعمال السريعة والنقليات الدائمة المستمرة. 3- شركة التوصية البسيطة: وهي ما جمعت نوعين من الشركاء: أحدهما: ضامن متضامن لالتزامات الشركة. الثاني: شريك برأس مال ومسئول بقدر حصته فقط. وغالبا ما تكون هذه الشركة لمتوسطي أصحاب رؤوس الأموال، وهي من أنواع – شركة التضامن- وفيها ميزاتها من المحاسن والمساوئ. 4- شركة التوصية بالأسهم: وهي تكون رؤوس أموال كبيرة، إلا أنها أقل من المبالغ التي تكون للشركة المساهمة الآتية؛ ذلك أن عدد المساهمين في التوصية يكون محدودا؛ لأن أسهمها لا تطرح للاكتتاب العام وإنما هي أسهم محدودة. ومسئوليات وحقوق المساهمين من متضامنين وموصين تشبه مسؤوليات وحقوق المساهمين في التوصية البسيطة، ونظرا لسهولة تكوين هذه الشركات من الناحية القانونية فالإقبال على إنشائها يكون أكثر؛ لبعدها عن المسؤوليات القانونية والمراقبة وفرض الأنظمة التجارية عليها وعلى مؤسسيها مما يفرض على الشركات المساهمة لحماية حق المساهم. 5- الشركة المساهمة: الشركة المساهمة هي النوع الوحيد الذي يصلح لتكوين المشروعات العظيمة ذات العمل الواسع، وهي التي تتطلب أموالا جسيمة لا يمكن جمعها إلا من عدد كبير من الجمهور، فشركات الكهرباء والإسمنت وشركة الملاحة وشركات النقل والعقارات والفنادق وغيرها من الصناعات الكبرى والأعمال الواسعة لا يمكن لفرد واحد ولعدد قليل من الأفراد تمويلها، فالأمر يحتاج إلى أمرين: 1- صغر قيمة السهم لكسب عدد كبير من المساهمين. 2- إمكان تحويله أو بيعه والحصول على الثمن في أي وقت لترغيب جميع المساهمين على اختلاف رغباتهم في المساهمة. فمن مزايا الشركات المساهمة عملها على تحقيق رغبة المستثمرين المتباينة، فمنهم الساعي وراء الربح، ومنهم المحافظ القانع بالفائدة المعلومة، ومنهم المتوسط بين الأمرين، ومنهم من يريد مجرد المحافظة على رأس ماله من الضياع والمجازفات، فيختار الضمان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 504 أسهم الشركات السهم: صك يمثل حصة في رأس مال شركة مساهمة. وتكون الأسهم نقدية إذا مثلت حصصا نقدية في رأس مال الشركة، وعينية إذا مثلت حصصا عينية في رأس مال الشركة، وليس للشريك في الحالين سوى حق شخصي في أموال الشركة عند تصفيتها، فهي حقوق ملكية جزئية لرأس مال كبير للشركات المساهمة، وكل سهم جزء من أجزاء متساوية لرأس المال. والسهم ينتج جزءا من ربح الشركة، يزيد أو ينقص تبعا لنجاح الشركة وزيادة ربحها أو نقصه من الخسارة؛ لأنه مالك لجزء من الشركة بقدر سهمه. قيمة السهم: وللسهم قيمتان: إحداهما: قيمة اسمية، وهي القيمة المقدرة عند إصداره. الثانية: قيمة سوقية تحدد في سوق الأوراق المالية. والأسهم قابلة للتعامل والتداول بين الأفراد كسائر السلع، مما يجعل بعض الناس يتخذ منها وسيلة للاتجار بالبيع والشراء ابتغاء الربح من ورائها. وهذا التعامل مشروع لأنه مبني على أسس سليمة من شروط البيع وأحكامه، فمما يؤثر جواز التبادل التجاري في الأسهم ما ورد أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما توفي كان ذا مال، فراضى ورثته إحدى زوجاته، وهي تماضر الأشجعية، على أن تأخذ مقابل سهمها في الميراث مبلغ ثمانين ألف دينار، وكانت التركة تشمل نقودا وعقارا ورقيقا وحيوانا، وكان هذا الإجراء بعد أن استشار الخليفة عثمان الصحابة، فكان ذلك إجماعا، ولم تكن الدقة في معرفة التركة وتعدد أنواعها وكونها غير مصفاة مانعا من ذلك. وهذا هو عين بيع الأسهم من الشركات سواء سميناه بيعا أو صلحا أو معاوضة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 505 وموقف الشركة أخذ من قضية الإرث؛ ذلك أن مركز الشركة المالي يعرض كل عام في صورة ميزانية تنشر على أوسع نطاق، بحيث يتوفر الأخصائيون على دراستها وتحديد أصول الشركة وخصومها وتقييمها، وبالتالي تحديد مجموع رأس المال الموزع على الأسهم الصادرة عن الشركة والمتداولة بين أيدي المساهمين. قال مفتي البلاد السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى: ورد إلينا استفتاء عن هذه الشركات المساهمة – كشركة الكهرباء والإسمنت والغاز ونحوها مما يشترك فيه المساهمون ثم يرغب بعضهم بيع شيء من سهامهم بمثل قيمتها، أو أقل أو أكثر، حسب نجاح تلك الشركة وضره، وذكر المستفتي أن الشركة عبارة عن رؤوس أموال بعضها نقد وبعضها ديون لها وعليها، وبعضها قيم ممتلكات وأدوات مما لا يمكن ضبطه بالرؤية ولا بالوصف، واستشكل السائل القول بجواز بيع تلك السهام؛ لأن المنصوص عليه اشتراط معرفة المتبايعين للبيع، كما أنه لا يجوز بيع الدين في الذمم، وذكر هذا مما عمت به البلوى. والجواب: الحمد لله لا يخفى أن الشريعة الإسلامية كفيلة ببيان كل ما يحتاج الناس إليه في معاشهم ومعادهم؛ قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . النحل:89. والكلام على هذا مبني على معرفة حكم هذه الشركة ومساهمة الناس فيها، ولا ريب بجواز ذلك، ولا نعلم أصلا من أصول الشرع يمنعه وينافيه، ولا أحدا من العلماء نازع فيه. إذا عرف هذا فإنه إذا كان للإنسان أسهم في أية شركة، وأراد بيع أسهمه منها، فلا مانع من بيعها بشرط معرفة الثمن، وأن يكون أصل ما فيه الاشتراك معلوما، وأن تكون أسهمه منها معلومة أيضا. فإن قيل: إن منها جهالة لعدم معرفة أعيان ممتلكات الشركة وصفاتها. فيقال: إن العلم في كل شيء بحسبه، فلابد أن يطلع المشتري على ما يمكن الاطلاع عليه بلا حرج ولا مشقة، ولابد أن يكون هناك معرفة عن حالة الشركة ونجاحها وأرباحها، وهذا مما لا يتعذر علمه في الغالب؛ لأن الشركة تصدر في كل سنة نشرات توضح فيها بيان أرباحها وخسارتها، كما تبين ممتلكاتها من عقار ومكائن وأرصدة، كما هو معلوم من الواقع، فالمعرفة الكلية ممكنة ولابد. وتتبع الجزئيات في مثل هذا فيه حرج ومشقة، ومن القواعد المقررة: أن المشقة تجلب التيسير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 506 فإن قيل: إن في هذه الشركات نقودا أو بيع النقد بنقد، ولا يصح إلا بشرطه. كما أن للشركة ديونا في ذمم الغير، أو إن على تلك السهام المبيعة قسطا من الديون التي قد تكون على أصل الشركة، وبيع الدين في الذمم لا يجوز إلا لمن هو عليه بشرطه. فيقال: إن هذه من الأشياء التابعة التي لا تستغل بحكم، بل هي تابعة لغيرها، والقاعدة: أنه يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا. ويدل على ذلك حديث ابن عمر مرفوعا: ((من باع عبدا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع)) رواه مسلم. فعموم الحديث يتناول مال العبد الموجود، والذي له في ذمم الناس، وهذه الشركات ليس المقصود منها موجوداتها الحالية، وإنما المقصود منها ما وراء ذلك، وهو نجاحها ومستقبلها وقوة الأصل في إنتاجها والحصول على أرباحها المستمرة. والله أعلم. اهـ. كلامه رحمه الله. وبعد: فمعرفة الحكم الشرعي في حكم تأسيس الشركات وفي حكم المساهمة بها وحكم التعامل بها بيعا وشراء وغير ذلك أمر يهمنا في هذا الباب؛ فإن الكلام في حكم زكاتها فرع عن معرفة هذه الأحكام، وهنا يحكي لنا سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله الإجماع على جواز بيع سهامها، ويسند الدليل إلى عموميات الشريعة الإسلامية وتكفلها بتلبية البيان الشافي في أحوال الدنيا والآخرة. ومن أصول الشريعة الإسلامية القاعدة الآتية: الأصل في المعاملات والعادات الإباحة والجواز، ما لم يأت دليل يدل على حرمتها. وبعد أن تصورنا الشركات وعرفنا أحكامها الشرعية من حيث التأسيس والإنشاء، ومن حيث التداول والتصرف بأسهمها بالبيع والشراء وسائر التصرفات، أمكننا أن نعطي الحكم عليها من حيث وجوب الزكاة من عدمه، ومن حيث قدر الزكاة فيها ومكان الوجوب من رأس مالها أو ربحها أو منها جميعا. ذلك فإن ما سبق من المقدمات واجب أمام البحث والحكم الشرعي. فإن في الزكاة عنصرين هامين في تحقيق وجود الزكاة في المال: العنصر الأول: حله وطهارته؛ فإن الأموال المحرمة المكتسبة من طرق محرمة وبأسباب غير مشروعة يجب التخلص منها كلها نهائيا، ولا تطهرها الزكاة والصدقات؛ فإن الله طيب لا يقبل من الأعمال إلا طيبا. فالأموال المحرمة إن اكتسبت بطريق الظلم والغصب والاستيلاء بغير حق وجب ردها إلى أصحابها، وإن اكتسبت من خدمات محرمة ومعاملات فاسدة كالمنافع المحرمة والربا والغش فهذه يجب إعطاؤها الفقراء أو جعلها في المشاريع الخيرية ونحو ذلك. العنصر الثاني: إن الزكاة مواساة بين الأغنياء والفقراء وبين أصحاب الأموال والمعدمين. ومن هذا المنطلق فإن الزكاة لا تجب إلا في الأموال النامية من تجارة أو زراعة أو أنعام سائمة. وأما الأموال التي لا تنمو ولم تعد للنماء، فلا زكاة فيها، وذلك كأموال القنية من المساكن والمراكب والفرش والأواني والملابس ونحو ذلك، فهذه لا زكاة فيها، وسيأتي تفصيل في أنواع الشركات وما هو منها تجاري وما هو صناعي، ثم بيان طريق زكاتها ، هل الزكاة في أصل الأسهم والأرباح أو في الأرباح فقط؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 507 تقدم أن بعض المساهمين يتخذ الأسهم للاتجار والتعامل بقصد الربح، وأن بعضهم يتخذها للاقتناء والكسب من غلاتها، لا للاتجار فيها. فأما القسم الأول: فهذا تعتبر الأسهم عنده عروض تجارة وتعامل في البورصة بالبيع والشراء، فيكون حكمها حكم عروض التجارة، فتؤخذ الزكاة منها بقدر قيمتها في نهاية العام الذي ملكت فيه، وذلك كل عام حينما يدور حولها. وأما القسم الثاني: فإن الزكاة تؤخذ من أرباحها، وأما الأسهم نفسها فتعتبر كالعقار المعد للإيجار تكون الزكاة في إجارة دون رقبة العقار؛ لأن هذه الأسهم قد جعلت في الدرجة الأولى للاستثمار وتوظيف المال. ما قدر زكاة الأسهم؟ عدد زكاة أسهم الشركات هو ربع العشر أي 2.5 %، سواء قصد مالكها باقتنائها الاستثمار والاستغلال، أو قصد في الدرجة الأولى التعامل بها في الأسواق المالية بالبيع والشراء واتخذها عروض تجارة؛ لأنها في القسم الأول تشابه العقار المعد للتأجير، وزكاة غلة العقار هي ربع عشر غلتها. وتمثل في القسم الثاني عروض التجارة وزكاتها أيضا ربع العشر فيها كلها، وهذا كله على القول الراجح من أقوال العلماء، وهو قول الجمهور، والعمل عليه عند المسلمين، فكان أشبه شيء بالإجماع العملي. أما الخلافات الأخرى في هذه المسألة فإنها لا تتجاوز بطون الكتب، فلم يجر فيها عمل، قال ابن مسعود رضي الله عنه: " الحسن ما عده المسلمون حسنا " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 508 كيف تزكي أسهم الشركات تكوُّنُ هذه الشركات بهذه الأنظمة الجديدة لم تكن معروفة لدى فقهائنا القدامى، فإن الذي بحثها هم بعض علماء العصر، وصار لهم في زكاة أسهمها اتجاهان: الأول: (1) اعتبارها عروض تجارة سواء كانت الشركة التي تملك الأسهم جزءا منها تجارية أو صناعية أو مزيجا منهما، وقد أصدر المشائخ: محمد أبو زهرة، وعبد الرحمن حسن، وعبد الوهاب خلاف تقريرا قدموه إلى (حلقة الدراسات الاجتماعية التي عقدتها الجامعة العربية في ديسمبر عام 1952م) عن وسائل التكافل الاجتماعي في الدول العربية، والذي ورد فيه أن الزكاة تتحقق الآن في أموال لم تكن معروفة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد الصحابة، ولا في أيام الاستنباط الفقهي. واقترحوا أن الزكاة تؤخذ منها. ووافقت على ذلك الحلقة. وأوصت به في مؤتمرها، هذه الأموال هي: 1- الآلات الصناعية. 2- الأوراق المالية. 3- كسب العمل والمهن الحرة. 4- الدُّور والأماكن المستغلة. وقالوا في إسناد رأيهم: وقد اتفق الفقهاء على النصوص الواردة في الزكاة من حيث أموالها معللة، وليست أمورا تعبدية، ولم يقم دليل على أنها تعبدية. ثم عرج التقرير على تقسيم الفقهاء للأموال من حيث نماؤها، من أن الأموال: 1- قسم منها يقتنى لإشباع الحاجات الشخصية؛ كالدور المخصصة لسكنى أصحابها، فهذه لا زكاة فيها. 2- وقسم ثان يقتنى للنماء والاستغلال، فهذا تجب زكاته. 3- وقسم ثالث يتردد بين إشباع الحاجات الشخصية والنماء؛ كالحلي. واختلف العلماء في زكاته. فمن رأى أن فيه نماء أوجب فيه الزكاة، ومن رأى لا نماء فيه أعفاه. وهذا التقسيم ينتهي بنا لا محالة إلى أن ندخل في أموال الزكاة أموالا في عصرنا مغلة نامية بالفعل لم تكن معروفة بالنماء والاستغلال في عصر الاستنباط الفقهي. وهي وسيلة استغلالية لصاحبها، مثل صاحب مصنع كبير يستأجر العمال لإدارته، فإن رأس ماله للاستغلال هو تلك الأدوات الصناعية، فهي بهذا الاعتبار تعد مالا ناميا؛ إذ الغلة التي تجيء إليه من هذه الآلات، فلا تعد كأدوات الحداد أو أدوات النجار الذي يعمل بيده، ولهذا نرى أن الزكاة تجب في هذه الأدوات باعتبارها مالا ناميا، وليس من الحاجات التي تعد لإشباع الحاجات الشخصية بذاتها، وإذا كان الفقهاء لم يفرضوا زكاة في أدوات الصناعة في عصورهم، فلأنها كانت أدوات أولية، فلم تعتبر مالا ناميا منتجا بذاتها، إنما الإنتاج فيها للعامل، أما الآن فإن المصانع تعد أدوات الصناعة نفسها مالا. اهـ.   (1) يلاحظ أني عكست الاتجاهين، فالأول عند القرضاوى وغيره ممن اطلعت على كتبهم ونقلت منها هو الثاني عندي. ذلك أن الأول عندهم هو الذي أناقشه وأقرر فيه ما أعتقد صحته وسلامته من الاعتراضات، لذا أخرته فجعلته الثاني اهـ. عبد الله البسام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 509 قال الشيخ القرضاوى: فيرى الأساتذة: أبو زهرة، وعبد الرحمن حسن وخلاف: أن الأسهم أموال قد اتخذت للاتجار، فإن صاحبها يتجر فيها بالبيع والشراء، ويكسب منها كما يكسب كل تاجر من سلعته، فهي بهذا الاعتبار من عروض التجارة، ويلاحظ فيها ما يلاحظ في عروض التجارة. ومعنى هذا: أن يؤخذ منها في آخر كل حول ربع العشر أي 2.5 في المائة من قيمة الأسهم، حسب تقديرها في الأسواق، مضافا إليها الربح، بشرط أن يبلغ الأصل والربح نصابا، أو يكملا مع ما عنده نصابا، كما أنه يجب أن يعفى مقدار الحاجات الأصلية، ويعتبر الحد الأدنى للمعيشة بالنظر لصاحب الأسهم الذي ليس له مورد رزق غيرها، ويزكي باقي الربح مع رأس المال. ولعل هذا الاتجاه والإفتاء بمقتضاه أوفق بالنظر إلى الأفراد، بخلاف الاتجاة الآتي وما فيه من تفرقة بين أسهم شركة وأسهم شركة أخرى، فبعضها تؤخذ الزكاة في إيرادها، وبعضها تؤخذ زكاته حسب قيمتها مضافا إليها الربح. هذا أحد الاتجاهين لزكاة أسهم الشركات. أما الاتجاه الثاني: فقد قال الشيخ يوسف القرضاوى مايلي: ينظر إلي هذه الأسهم تبعا لنوع الشركة التي أصدرتها: أهي صناعية أم تجارية أم مزيج منهما، فلا يعطى السهم حكما إلا بعد معرف الشركة التي يمثل جزءا من رأس مالها؟ وبناء عليه يحكم بتزكيته أو بعدمها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 510 قال الشيخ عبد الرحمن عيسى: قد لا يعرف كثير ممن يملكون أسهم الشركات حكم زكاة هذه الأسهم، وقد يعتقد بعضهم أنها لا تجب زكاتها، وهذا خطأ، وقد يعتقد البعض وجوب الزكاة في أسهم الشركات مطلقا، وهذا خطأ أيضا. وإنما الواجب النظر في هذه الأسهم تبعا لنوع الشركة التي أصدرتها، فإن كانت الشركة المساهمة شركة صناعية محضة، فلا تمارس عملا تجاريا كشركات الصباغة وشركات الفنادق وشركات النقل، فلا تجب الزكاة في أسهمها؛ لأن قيمة هذه الأسهم موضوعة في الآلات والأدوات والمباني، وما يلزم الأعمال التي تمارسها، وإنما الذي يزكي ما ينتج ربحا لهذه الأسهم إذا بلغ نصابا، وحال عليه الحول بعد نتاجه. وإن كانت الشركة تجارية محضة تشتري البضائع وتبيعها بدون إجراء عمليات تحويلية على هذه البضائع؛ كشركة الاستيراد وشركة التجارة الخارجية، أو كانت الشركة المساهمة شركة صناعية تجارية، وهي الشركات التي تستخرج المواد الخام أو تشتريها ثم تجرى عليها عمليات تحويلية ثم تتجر فيها، مثل: شركات البترول، وشركات الغزل والنسيج للقطن والحرير، وشركة الحديد والصلب، والشركات الكيماوية، فهذان النوعان من الشركات تجب الزكاة في أسهمها. فمدار وجوب الزكاة في أسهم الشركات أن تكون الشركة تمارس عملا تجاريا، سواء معه صناعة أم لا! وحينئذ فتخصم قيمة المباني والآلات والأدوات المملوكة لهذه الشركات وتجب الزكاة في الباقي. ويمكن معرفة صافي قيمة المباني والآلات والأدوات بالرجوع إلى ميزانية الشركة التي تحصى كل عام. وهذا الاتجاه مبني على أن المصانع والعمائر الاستغلالية كالفنادق والسيارات ونحوها ليس فيها زكاة كلها، لا في رأس المال والربح معا، ولا في الغلة والإيراد، إلا إذا بقي منها شيء وحال عليه الحول. وعلى هذا فرق بين الشركات الصناعية وبين غيرها من الشركات، فأعفى أسهم الأولى من الزكاة، وأوجب في الأخرى. فإذا كان هناك شخصان يملك كل منهما ألف دينار، فاشترى أحدهما بألفه مئتي سهم من شركة للاستيراد والتصدير مثلا. واشترى الثاني بألفه مئتي سهم في شركة الطباعة والكتب أو الصحف، فإن على الأول أن يخرج الزكاة عن أسهمه المئتين، وما جلبت إليه من ربح أيضا في رأس كل حول، مطروحا من ذلك قيمة الأثاث ونحوه، كما هو الشأن في مال التجارة. وأما الثاني فليس عليه زكاة عن أسهمه المئتين؛ لأنها موضوعة في أجهزة وآلات ومبان ونحوها، ولا زكاة فيما يأتي من ربح إلا إذا بقي إلى رأس الحول وبلغ نصابا بنفسه أو بغيره، فإذا أنفقه قبل الحول فلا شيء عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 511 ثم إن الشيخ القرضاوي لمن يعجبه هذا الرأي فعقب عليه بقوله: وبهذا يمكن أن تمضي أعوام على مثل هذا الشخص دون أن تجب عليه زكاة، لا في أسهمه ولا في أرباحه، بخلاف الشخص الأول فالزكاة واجبة عليه لزوما في كل عام عن أسهمه وعن أرباحها معا. وهي نتيجة يأباها عدل الشريعة التي لا تفرق بين متماثلين، إن التفريق بين الشركات الصناعية أو شبه الصناعية وبين الشركات التجارية بحيث تعفى الأولى من الزكاة وتجب في الأخرى تفرقة ليس لها أساس ثابت من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، ولا وجه لأخذ الزكاة عن الأسهم إذا كانت تجارية وإسقاطها عنها إذا كانت في شركة صناعية، والأسهم هنا وهناك رأس مال نام يدر ربحا سنويا متجددا، وقد يكون ربح الثانية أعظم وأوفر. هذا ما قرره الشيخ يوسف القرضاوي واختاره، وأريد هنا أن أعقب على هذا الرأي الذي استهجنه الأستاذ القرضاوي ورأى أن الشريعة تأباه وأنه لا يوجد له سند من مصادر التشريع والكتاب والسنة والإجماع والقياس. وسأناقشه مناقشة أقصد منها الحق إن شاء الله تعالى، وأعطي هذا الموضوع الجديد حقه في التوضيح والبيان، فأقول: يوجد في مشروعية الزكاة ثلاثة أصول قد اتفق عليها الفقهاء وبنوا عليها أحكام الزكاة، من حيث وجوبها في المال أو عدمه، ومن هؤلاء العلماء الشيخ يوسف القرضاوي الذي هو الآخر يقررها ويبني عليها ما ذكره في كتابه (فقه الزكاة) ، ويحتج بهذه الأصول على ساحة المسائل التي تبنى عليها. وهذه الأصول الثلاثة هي: الأول: أن الزكاة لا تجب في أدوات القنية، ولا تجب في أدوات صاحب البضاعة والحرفة التي يستعملها في صناعته. الثاني: أن الزكاة لا تجب في مال حتى يحول عليه الحول، وحول كل شيء بحسبه، وإذا لم يحل الحول على المال فلا تجب فيه الزكاة. الثالث: أن الزكاة مبنية على المساواة بين الفقير والغني، فتجب مراعاة كل منهما بحسب ما يفهم من أحكام الشريعة وحكمة تشريعها. فهذه ثلاثة أصول هي أسس تبنى عليها أحكام الزكاة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 512 وتوضيح الأصل الأول بخصوص مباني الشركات ومعداتها الثقيلة والخفيفة، فهذه الأدوات قد أعفاها فقهاؤنا السابقون من الحداد والنجار والبناء ونحوهم، وتضخمها وزيادة حجمها وكثرة إنتاجها لا يغير من حكمها شيئا، فهي باقية على أصلها، وأحكام الشريعة تبقى على أصولها الأولى ما دامت هي هي، فقطع المسافات البعيدة بالسيارات والطائرات لا يغير شيئا من أحكام رخص السفر، وتنوع النفقات وتبدل أشكالها من المطاعم والملابس والمساكن لا يغير شيئا من حكم النفقة. وهكذا فإن تغيير أدوات صاحب الصناعة وصاحب العمل لا يغير شيئا مما يجب عليه أو لم يجب، بل الأمور باقية على أصولها. ثم إن هذه المباني المستعملة إما لمكاتب الشركات إما لحفظ أدواتها، وهذه المعدات الثقيلة والخفيفة وأجهزة الغيار وتلك الأدوات المرصودة لاستهلاكات أعمال الشركات ما هي إلا أشياء قائمة على خدمة الشركات وإمدادها بما تحتاجه مما يستهلك ويذهب أو ينقص ثم يتلف شيئا فشيئا، وإما عمائر معطلة النفع والفائدة لحساب أعمال الشركة والقائمين عليها والعاملين فيها. وبهذا فإن ربح الشركة الصناعية ما هي إلا ثمرة تلك الأدوات من تالف مستهلك، ومن قائم معطل لأعمال الشركة ومشغول لصالحها ومتناقص ذاتا وقيمة فيما يعود عليها. فالأرباح والمكاسب هي نتائج هذه الأدوات، فكيف تقوم مع الأرباح في إخراج الزكاة. وبهذا يظهر لنا أن أدوات الشركات الصناعية قد أدت خدمتها في تنمية الشركة، وأن ما حصل من ربح هو نتيجة وجودها واستعمالها. وإن وجوب الزكاة في ربح الشركة الصناعية فقط دون معداتها وأدواتها هو الذي يتفق والقياس الصحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 513 أما الأصل الثاني: وهو أن الزكاة لا تجب في مال حتى يحول عليه الحول. وحول ما يستجد من النقود هو تمام اثني عشر شهرا هلالية عليها. وقد تقرر لدينا أن الزكاة في ربح الشركة الصناعية فقط دون أدواتها ومعداتها. فإن الربح يحسب ابتداء حوله من حصوله وقبضه. وقبل ذلك في عداد المعدوم، فإذا حصل بيد مالكه ابتدأ به الحول، فإذا حال عليه الحول زكاه وقبل ذلك لا تجب فيه الزكاة، وقد اختلف الفقهاء في إخراج زكاة العمائر المعدة للإيجار، هل هو من حين قبض الأجرة إذا دار عليها الحول أو من تاريخ عقد الإيجار ممن اعتبر الأجرة واجبة من حين العقد أو وجب فيها الزكاة من حين مرور العام من عقد الإجارة، ومن لم ير استقرار الأجور في الذمة إلا بعد فراغ مدة الإجارة جعل حول الزكاة من فراغ المدة وقبض الأجرة. والذي عليه الجمهور أن حولها يبتدئ أوله من قبضها وفراغ مدة الإجازة؛ لأنه قبل ذلك غير مستقر وقابل للسقوط، فثبوت ملكه مراعى. وبهذا فإن ابتداء الحول في ربح أسهم الشركة الصناعية يكون ابتداؤه من قبضه هو المتمشي مع أصول الزكاة وقواعدها، وهو الذي ينطبق عليه كلام فقهائنا حين تدوين الفقه وتحرير مسائله. لا ما ظنه الأستاذ القرضاوي من جمعه بين الشركة الصناعية والشركة التجارية في حكم واحد في تحديد مواعيد الزكاة، مع ما بين الشركتين من بون شاسع في القصد والعمل والاتجاه في التثمير. والتفريق بينهما في الأحكام تابع للفروق التي بينهما في القصد والاتجاه والعمل والشريعة الإسلامية، كما إنها لا تفرق بين متماثلين، كذلك لا تجمع بين الضدين، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. أما الأصل الثالث: وهو بناء الزكاة على المساواة بين الفقراء وإخوانهم الأغنياء، فهذا أصل عظيم، وهو روح الزكاة ولب أحكامها. وبناء عليه فإن المساهم في الشركة الصناعية أحد رجلين إما صاحب رأس مال كبير، وصاحب أسهم وفيرة، فهذا سيقبض أرباح أسهمه وسيأتي عليها الحول وهي عنده ثم يزكيها بعد أن حال عليها الحول بعد قبضها وتم الحول عليها، وتمام الحول أحد الشروط الأساسية في وجوب الزكاة. فهذا سيزكي ربح أسهمه كل عام، وليس كما توهمه الأستاذ القرضاوي من أن سيمضي عليه أعوام دون أن تجب عليه الزكاة، لا في أسهمه ولا في أرباحها، فصاحب رأس المال الكبير سيأتي العام وعنده ماله ثم يخرج زكاته منه في موعده المحدد شرعا، وهو تمام الحول عليه، أما قبل تمام الحول فلا يجب عليه إخراجه إلا إذا أراد أن يتطوع بتعجيل زكاته، فذلك أمر راجع إلى اختياره، وإلى وجود المصلحة من عدمها في التعجيل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 514 أما الرجل الآخر، وهو صاحب الدخل المحدود، والذي أرباح أسهمه بقدر نفقته ونفقة أولاده، فهذا إذا قبضه وأنفقه على نفسه وعلى من يمون فليس ممن تجب عليه الزكاة؛ لأن مورده من الرزق بقدر ما وجب عليه من النفقات، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وإن نصوص الشريعة جاءت بمثل هذا؛ فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) : ((دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك)) وجاء في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا أجرت عليها، حتى ما تجعله في في امرأتك)) . وجاء في الصحيحين أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا انفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي له صدقة)) . وبناء عليه فصاحب الأسهم القليلة إذا قبض ربح أسهمه ثم أنفقها على نفسه وعلى أهله، ثم لم يحل عليها الحول حتى أكلتها النفقة، فلا حرج عليه؛ لأنه ليس من أصحاب الثراء الذين قصروا في أداء الواجب الزكاة، وإنما زكاته ونفقاته فيمن يعول وهو مثاب أن كفى المسلمون مؤونة نفسه وأهله. وليس في عدم وجوب الزكاة على مثل هذا خطر كبير يهدد بمنع الزكاة، فهذا قد اتقى الله ما استطاع فأنفق ما وجد من الربح على من عنده من المحتاجين. والأستاذ القرضاوي نفسه قال في كتابه (فقه الزكاة) جزء (1) ص 151: ومن الفقهاء من أضاف إلى شرط النماء في المال أن يكون النصاب فاضلا عن الحاجة الأصلية لمالكه. ومن الفقهاء من اعتبر شرط النماء مغنيا عن هذا الشرط. والحق أن شرط النماء لا يغني عن هذا الشرط. والمعتبر هنا: أن الحاجات الأصلية للتكلف بالزكاة من يعوله من الزوجة والأولاد مهما بلغ عددهم والوالدين والأقارب الذين تلزمه نفقتهم؛ فإن حاجتهم من حاجته، وبهذا الشرط سبق الفقه الإسلامي أحدث ما وصل إليه الفكر الغربي الحديث الذي نادى بإعفاء الحد الأدنى للمعيشة من الضريبة. اهـ كلام الشيخ القرضاوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 515 ونحن نؤيده فيما قال هنا. ولكن لماذا كبر عليه أن صاحب الأسهم القليلة الذي لا يحول الحول إلا وقد أنفق ربحها على نفسه وعلى من يمونه من زوجة وأقارب. إن ربح الأسهم القليلة هي الحد الأدنى لمعيشته، وأداء شعيرة الزكاة ليست واجبة عليه ولا على أمثاله من ذوي الدخل المحدود. أما أصحاب المساهمات الكبيرة فليطمئن الشيخ القرضاوي أن أرباح أسهمهم ستبقى، وقد تنمى أيضا حتى يحول عليها الحول وتزكى ويزكى معها نماؤها. وهذا كله في أسهم الشركات الصناعية، أما الشركات التجارية فلا خلاف في كيفية تزكيتها؛ لأن مبناها على التجارة، فهي عروض تجارة. وبعد: فالذي أراه هو ما قاله الجمهور من الفرق بين الشركات التجارية والشركات الصناعية، فالأولى وجوب الزكاة في عمومها؛ أي: في رأس مالها وأرباحها إذا حال عليها الحول وابتداء حولها من ملك المساهم فيها نصاب الزكاة. وأما الشركات الصناعية فتكون الزكاة في أرباحها إذا حال عليها الحول بعد قبضها، ويشترط بلوغ نصاب الزكاة لكل مساهم، فمن لم تبلغ أسهمه نصاب الزكاة، فإنها لا تجب عليه ذلك، أن الخلطة في الأموال لا تؤثر إلا في زكاة بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، وأما ما عداها من أموال الزكاة فلا تؤثر فيها الخلطة، فكل مال معلق بصاحبه فقط، فلو فرضنا أن كل أسهم مساهم لا تبلغ نصاب الزكاة في كل أموال الشركة فإن الزكاة لا تجب فيها. وهي فروض بعيدة إذا علمنا أن نصاب الزكاة هو 56 ريالا سعوديا، أو ما يعادله من أية عملة أو عرض تجارة. ما الذي يقدر من قيمتي السهم؟ إذا كانت الأسهم معدة للتجارة والتقليب في البيع والشراء فهذه أسهم تعتبر عروض تجارة، فتزكى زكاة العروض، ولدينا - غالبا - قيمتان للسهم: إحداهما: قيمة الإصدار الرسمية. الثانية: قيمة السوق للأوراق المالية. فالزكاة تكون لقيمة السهم في سوق الأوراق المالية، سواء كانت زائدة عن قيمة الإصدار، أو ناقصة، أو مساوية. فهذه القيمة السوقية هي التي تقدر بها قيمة السهم لإخراج زكاته، وتزيد وتنقص حسب العرض والطلب؛ لأننا اعتبرنا هذه الأسهم عروض تجارة. وهذا هو الحكم في عروض التجارة عند تقدير قيمها في إخراج زكاتها. هذا ما تيسر بحثه، ونسأل الله تعالى أن يلهمنا السداد والصواب، وأن يجنبنا الخطأ والزلل. والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. 21/2/1406هـ. عبد الله بن عبد الرحمن البسام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 516 زكاة الأسهم في الشركات إعداد فضيلة أ. دكتور وهبه مصطفى الزحيلي، أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله بجامعة دمشق، والمعار حاليا إلى جامعة الإمارات ـ كلية الشريعة والقانون بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فهذا بحث في زكاة الأسهم في الشركات. سبب وجود التعامل بالأسهم والسندات: إن الإنسان حريص دائما على تحقيق الأرباح وابتغاء فضل الله من خلال التجارة الفردية أو الخاصة، والجماعية أو العامة، وذلك عملا بترغيب الشريعة واستجابة لحب النفس الفطري في تنمية المال واستثماره؛ كيلا تأكله الصدقة، وتستأصل الزكاة أصل رأس المال مع مرور السنوات والأعوام. وقد لا يتمكن رأس المال الخاص في الغالب من تمويل المشروعات الصناعية والزراعية والتجارية الكبرى، التي تحتاج إلى رؤوس أموال ضخمة، كالشركات المساهمة التي تتطلب أموالا كثيرة لوجودها، فظهر في العصر الحديث طريقة تجزئة رأس المال الكبير بواسطة ما يسمى بالأسهم التي تطرح في الحياة الاقتصادية، وتسدد قيمتها من مئات أو آلاف الناس. وقد تحتاج الشركة القائمة إلى الاقتراض من الأفراد، فتلجأ إلى ما يسمى بالسندات في مقابل دفع فائدة مقطوعة معينة. وكل من الأسهم والسندات تسمى في العرف الاقتصادي الحديث بالأوراق المالية، التي يتداولها الناس عامة فيما بينهم، إما بواسطة الإعلان في الجرائد أو الصحف اليومية، وإما في أسواق خاصة تسمى بورصات الأوراق المالية. وقد تساءل الناس منذ ظهور الشركات المساهمة من أكثر من أربعين عاما عن حكم التعامل بالأسهم والسندات حلا وحرمة، وعن حكم الزكاة الواجبة فيها، ومن تجب عليه الزكاة؟ وأفتى علماء العصر بفتاوى متشابهة في مشروعية التعامل بالأسهم وحرمة التعامل بالسندات، لما تشتمل عليه من الربا بسبب دفع فائدة مقطوعة على مبالغ الديون المدونة فيها. واختلفوا في نسبة الواجب في الزكاة أهي ربع العشر أم العشر؟ كما اختلفوا فيمن تجب عليه زكاة الأسهم، أهو مالك السهم أم الشركة؟ ولكنهم اتفقوا على وجوب الزكاة على كل من الأسهم والسندات إذا بلغت قيمتها النصاب الشرعي، وإن اختلطت السندات بالحرام وصاحبها الربا وخبث الكسب؛ لأن الحرمة المصاحبة لجزء من المال لا تمنع من فرض الزكاة، بل إنه على العكس لا سبيل إلى التخلص من المال الحرام إلا بالصدقة به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 517 تعريف الأسهم والسندات: الأسهم: عبارة عن صكوك متساوية القيمة، غير قابلة للتجزئة، وقابلة للتداول بالطرق التجارية، وتمثل حقوق المساهمين في الشركات التي أسهموا في رأس مالها. فالسهم يمثل جزءا من رأس مال الشركة، وصاحبه مساهم، والأسهم تتصف بالخصائص التالية: (1) أـ أنها متساوية القيمة الاسمية: فلا يجوز إصدار أسهم بقيمة مختلفة، والقيمة المتساوية هي القيمة الاسمية التي يصدر بها السهم، والتي يحددها القانون بنسبة تتراوح في بعض البلاد، كالإمارات، بين درهم ومائة درهم. والقيمة الاسمية للسهم تختلف عن كل من قيمته التجارية والحقيقية، فالقيمة الاسمية هي القيمة المبينة في الصك والتي تدون عليه، ويحسب على أساسها مجموع رأس مال الشركة. أما القيمة التجارية: فهي قيمة السهم في السوق أو البورصة، وهي قيمة متغيرة حسب العرض والطلب وأحوال السوق وسمعة الشركة وسلامة مركزها المالي. وأما القيمة الحقيقية للسهم فهي القيمة المالية التي يمثلها السهم فيما لو تمت تصفية الشركة وتقسيم موجوداتها على عدد الأسهم. ب ـ أنها غير قابلة للتجزئة: أي لا يمكن أن تتمثل في صورة كسور حين يتعدد مالكو السهم في مواجهة الشركة. ج ـ أنها قابلة للتداول بالطرق التجارية: أي يمكن انتقال ملكية الأسهم من شخص إلى آخر بالطرق التجارية المعروفة، ودون ما حوالة مدنية من قبل الشركة. وإن كان السهم إذنيا (أي يصدر لإذن أو أمر المساهم) فإن تداوله يتم بطريق التظهير. وإن كان السهم لحامله (أي يصدر من دون ذكر صاحبه) فإن تداوله يتم بمجرد التسليم؛ أي: المناولة اليدوية. ومعظم القوانين تستلزم أن تصدر الأسهم اسمية وبعضها يجيز إصدار الأسهم لحاملها بشروط.   (1) انظر الشركات التجارية للدكتور حسين غنايم: ص 189 وما بعدها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 518 والخلاصة: أن الأسهم تمثل حصصا في شركة أموال. أما السندات فهي جمع سند، والسند صك مالي قابل للتداول، يمنح للمكتتب لقاء المبالغ التي أقرضها، ويخوله استعادة مبلغ القرض، علاوة على الفوائد المستحقة، وذلك بحلول أجله. وبعبارة أخرى: السند: تعهد مكتوب بمبلغ من الدين (القرض) لحامله في تاريخ معين، نظير فائدة مقدرة. والسند يشبه السهم من حيث وجود قيمة اسمية لكل منهما، ومن حيث قابليتها للتداول بالطرق التجارية، وعدم قابليتها للتجزئة. والفارق الأساسي بين السهم والسند: أن السهم يمثل حصة في الشركة، بمعنى أن صاحبه شريك، في حين أن السند يمثل دينا على الشركة، أو يمثل جزءا من قرض على شركة أو دولة، بمعنى أن صاحبه مقرض أو دائن. وبناء عليه، يحصل صاحب السهم على أرباح حين تحقق الشركة أرباحا فقط، أما صاحب السند فيتلقى فائدة سنويا، سواء ربحت الشركة أم لا. وتكون الأسهم في الغالب اسمية، ضمانا لرقابة الدولة على حاملي الأسهم، أما السندات فتكون إما اسمية أو لحاملها. التعامل بالأوراق المالية التجارية: التعامل بالأسهم جائز شرعا؛ لأن أصحاب الأسهم شركاء في الشركة بنسبة ما يملكون من أسهم عشرة أو عشرين أو مائه مثلا، أما التعامل بالسندات فحرام شرعا؛ لاشتمالها على الفائدة الربوية المقطوعة، بغض النظر عن الربح والخسارة، فهي قروض بفائدة، وقد جاء في المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي بالكويت عام 1403هـ/1983م أن ما يسمى بالفائدة في اصطلاح الاقتصاديين الغربيين ومن تابعهم هو عين الربا المحرم شرعا، وجاء في الاجتماع الأول للفتوى والرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية بالقاهرة عام 1403هـ/1983م أنه بإجماع الآراء لا يصح للبنك الإسلامي استثمار جزء من أمواله في شراء أسهم الشركات التي لا يكون هدفها التعامل بالربا، لكن موارد تلك الشركات ونفقاتها تشتمل على فوائد مدفوعة وفوائد مقبوضة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 519 زكاة السندات: أشير فقط إلى حكم زكاة السندات؛ لأنه ليس من موضوع بحثي، فأقول: بالرغم من تحريم السندات فإنه تجب زكاتها؛ لأنها تمثل دينا لصاحبها، وتؤدى زكاتها عن كل عام؛ عملا برأي جمهور الفقهاء غير المالكية؛ لأن الدين المرجو (وهو ما كان على مقر موسر) تجب زكاته في كل عام. وشهادات الاستثمار أو سندات الاستثمار هي في الحقيقة سندات، وتجب فيها الزكاة، وإن كان عائدها خبيثا وكسبها حراما، وتزكى السندات كزكاة النقود أو عروض التجارة أي بنسبة 2.5 % من قيمتها ؛ وذلك لأن تحريم التعامل بالسندات لا يمنع من وجود التملك التام، فتجب فيها الزكاة، أما المال الحرام كالمغصوب والمسروق ومال الرشوة والتزوير والاحتكار والغش والربا ونحوها، فلا زكاة فيه؛ لأنه غير مملوك لحائزه، ويجب رده لصاحبه الحقيقي؛ منعا من أكل الأموال بالباطل، فإن بقي في حوزة حائزه وحال عليه الحول، ولم يرد لصاحبه، فتجب فيه زكاته؛ رعاية لمصالح الفقراء. زكاة أسهم الشركات: يتناول هذا الموضوع بحث أمور ثلاثة: هي وجوب الزكاة في الأسهم والنسبة أو المقدار الواجب إخراجه ومن تجب عليه الزكاة أهو صاحب السهم أم الشركة؟ أراء العلماء المعاصرين في زكاة الأسهم: من الطبيعي أنه ليس للعلماء القدامى رأي في زكاة الأسهم؛ لأنه موضوع معاصر حديث، وإنما تكلم فيه العلماء المعاصرون ولم أجد كلام واحد منهم صوابا شاملا فيما اجتهد فيه، وإنما وجد جانبا من الصواب، والحق في كل اجتهاد، فلكل عالم بحث هذا الموضوع إصابة في جهة وخطأ في جهة أخرى، وسأعرض هذه الآراء وأبين مدى الإصابة والخطأ فيها، ثم أذكر رأيي نهائيا في الموضوع: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 520 1ـ رأي الشيخ عبد الرحمن عيسى: يقسم الشيخ عبد الرحمن عيسى في كتابه " المعاملات الحديثة وأحكامها" الأسهم إلى نوعين بحسب موضوع استثمارها: (1) أـ أسهم الشركات الصناعية ب ـ أسهم الشركات التجارية أما أسهم الشركات الصناعية المحضة التي لا تمارس عملا تجاريا كشركات الصباغة وشركات التبريد، وشركات الفنادق، وشركات الإعلانات، وشركات السيارات، والترام، وشركات النقل البري والبحري، وشركات الطيران، فلا تجب الزكاة فيها، إلا فيما تنتجه هذه الأسهم من ربح يضم إلى مال المساهم ويزكيه معها زكاة المال بعد مضي الحول عليه وبلوغه النصاب الشرعي؛ لأن قيمة هذه الأسهم موضوعة في الآلات والإدارات والمباني ونحوها. وأما أسهم الشركات التجارية وهي التي تشترى البضائع وتبيعها كشركات التجارة الخارجية، وشركات الاستيراد والتصدير، وشركات بيع المصنوعات الوطنية، أو التي تقوم بتصنيع بعض المواد الخام أو تشتريها مثل شركات البترول وشركات الغزل والنسيج، وشركات الحديد والصلب، والشركات الكيماوية، فتجب الزكاة فيها؛ لأنها تمارس عملا تجاريا، سواء معه صناعة أو لا، وتقدر الأسهم بقيمتها الحالية بعد حسم قيمة المباني والآلات والأدوات المملوكة لهذه الشركات، وتقدر هذه القيمة للأصول الثابتة إما بالربع أو أكثر أو أقل. وهذا يعني أن الشركات التجارية المحضة تجب زكاة أسهمها بحسب قيمتها التجارية في الأسواق، مع أرباحها المقررة لها في نهاية العام، كزكاة العروض التجارية بنسبة 2.5 % إذا كان أصل رأس المال والربح نصابا شرعيا، والزكاة على المحل التجاري من حيث البناء والتجهيزات التي فيه.   (1) وقد ذكر الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي ذلك في كتابه "فقه الزكاة": 1/23 وما بعدها، وكذلك الدكتور خليفة بابكر الحسن في كتابه "بحوث ودراسات إسلامية" ص:101 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 521 أما الشركات الصناعية- التجارية كشركات السكر والنفط والمطابع وصناعة السفن والطائرات والسيارات، فتقدر الأسهم بقيمتها التجارية الحالية، مع حسم قيمة المباني والآلات وأدوات الإنتاج. وهذا الرأي متفق مع المقرر في المذاهب الأربعة، وهو أن المصانع والعمارات الاستغلالية لا زكاة فيها، وإنما الزكاة على أرباحها السنوية إذا بلغت النصاب الشرعي وحال الحول عليها (أي: مضى عام عليها في يد صاحبها) ، وهو الرأي الذي أخذ به مجمع الفقه الأسلامي في جدة في دورته الثانية لعام 1406هـ /1985، وقرر فقهاء المذاهب أنه لا زكاة على سلاح الاستعمال وكتب العالم وآلات المحترفين؛ لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية، ولسيت بنامية أصلا، وسبب الزكاة ملك النصاب النامي ولو تقديرا بالقدرة على الاستنماء.وجاء في المعيار المعرب 1/402 لأبي العباس الونشريسي: وسئل عن الصناع يمر عليهم الحول، وبأيديهم من مصنوعاتهم ما إذا قوموها وأضافوها إلى مالهم من النقد اجتمع فيه نصاب، هل يجب عليهم التقويم؟ ويزكون ما حضر بأيديهم أم لا؟ فأجاب بأن قال: الحكم في ذلك أن الصناع يزكون ما حال الحول على أصله من النقد الذي بأيديهم إذا كان نصابا، ولا يقومون صناعاتهم ويستقبلون بأثمانها الحول؛ لأنها فوائد كسبهم استفادوها وقت بيعهم، إلا أن ما وضع فيه الصانع صناعته، من جلد أو خشب أو حديد أو نحو ذلك، يقومه المدير بعيدا من الصناعة إذا كان اشتراه للتجارة. وهي فتوى في غاية الدقة والتيسير على الصناع، كصناعة الأحذية والمفروشات والخزائن الحديدية ونحوها. وإني لمؤيد رأي الشيخ عبد الرحمن عيسى المذكور آنفا، مع ملاحظة إيجاب الزكاة على الشركات الصناعية، إذا كانت منتوجاتها تجارية، معدة للبيع أو التصدير، بعد استقطاع قيمة الآلة والبناء، فالمطابع مثلا تزكي كل ما تنتجه في آخر العام من أوراق وكتب مملوكة لها؛ كما تزكي أرباحها المستفادة من أجور طبع ما تطبعه لحساب المتعاملين معها، وتحسم قيمة آلة الطباعة وآلة التجليد ونحوهما من مجموع رأس المال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 522 لكن الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي لم يرتض هذا الرأي وأوجب الزكاة في أسهم الشركات جميعها، صناعية وتجارية، وقال عن تفرقة الشيخ عبد الرحمن عيسى بين نوعي الأسهم: هي نتيجة يأباها عدل الشريعة التي لا تفرق بين متماثلين. ثم استصوب الرأي الثاني للأستاذ الشيخ محمد أبي زهرة ومن وافقه الذي لا يفرق بين نوعي الأسهم تبعا لنوع شركاتها، ورأى أنه أوفق بالنظر إلى الأفراد، وأيسر في الحساب، ثم قال: بخلاف ما إذا قامت دولة مسلمة وأرادت جمع الزكاة من الشركات، فقد أرى الاتجاه الأول (رأي الشيخ عيسي) أولى وأرجح، والله أعلم. (1) 2- رأي الأساتذة عبد الوهاب خلاف ومحمد أبي زهرة (2) : يرى هؤلاء الأساتذة أن الأسهم والسندات- الأوراق المالية- إذا كانت قد اتخذت للتجارة، فإنها تكون عروضا تجارية، يجب فيها ما يجب في عروض التجارة من زكاة أي 2.5 %، وتكون الزكاة ربع العشر من الأصل والنماء، على حسب ما قرره جمهور الفقهاء. ورجح الدكتور القرضاوي هذا الاتجاه قائلا: ولعل هذا الاتجاه والإفتاء أوفق بالنظر إلى الأفراد من الاتجاه الأول، فكل مساهم يعرف مقدار أسهمه ويعرف كل عام أرباحها، فيستطيع أن يزكيها بسهولة، بخلاف الاتجاه الأول وما فيه من تفرقة بين أسهم في شركة، وأسهم في أخرى، فبعضها تؤخذ الزكاة من إيرادها، وبعضها تؤخذ زكاته من الأسهم نفسها حسب قيمتها، مضافا إليها الربح، وفي هذا شيء من التعقيد بالنظر إلى الفرد العادي. ولكني أرى أن الاتجاه الأول هو المقرر فقها، وهو الذي جرى عليه العمل منذ ظهور الشركات المساهمة وبدأ انتشارها في الأربعينات، ولا تعقيد في الأمر، فالمسلم يعرف أن الآلات الصناعية لا زكاه فيها، فإذا وظف ماله بطريق الأسهم في شركات صناعية، يحسم ما يقابل تلك الآلات، وإذا وظف ماله في أسهم شركات تجارية، زكاها كزكاة الأموال التجارية. (3) وللأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة رأي قديم فيه تفصيل، ورد في تقرير حلقة الدراسات الاجتماعية لجامعة الدول العربية المنعقدة بدمشق سنة 1952، وهو الرأي الذي أعلنه أيضا في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1965، ومفاده: أن الأسهم والسندات إذا اتخذت للتجارة أو بغرض المضاربة وإعادة بيعها في أسواق الأوراق المالية، والكسب من تجارتها، تعتبر من عروض التجارة، ويؤخذ منها الزكاة بتقدير قيمتها في أول العام وقيمتها في آخره، بنسبة 2.5 % ربع العشر من الأصل والنماء متي بلغت نصابا.   (1) فقة الزكاة: 1/525، 528 (2) حلقة الدراسات الاجتماعية الثالثة: ص242، بحث الأستاذ الشيخ محمد أبي زهرة، في مجمع البحوث الإسلامية – المؤتمر الثاني في القاهرة، في أيار مايو 1965 م. (3) انظر ص 137، وأشار إليه الدكتور شوقي إسماعيل شحاتة في كتابه "التطبيق المعاصر للزكاة " ص 118، واعتمده في بحثه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 523 أما إذا كانت بغرض الاستثمار وتوظيف الأموال، لا المضاربة والكسب من البيع والشراء، وإنما تقتنى للكسب من عائدها، وما تدره عليه من ربح سنوي، فإن الزكاة الواجبة على الشركة تكفي عن الزكاة على حملة الأسهم. وهذا الرأي ينظر إلى الأسهم من جهة الشخص الذي يمتلكها، وعلى وفق نيته فيها: هل يقصد الاتجار أم الاستثمار؟ وهو رأي ينسجم مع الوقت الذي لم تكن الشركات فيه تزكي أموالها أو تسأل عن كيفيه الزكاة. ولا أرى حاجة لهذا التفصيل؛ لأن الهدف من شراء الأسهم واحد، وهو الاتجار والاسترباح، وأن هذه الأسهم تزكى مثل زكاة عروض التجارة. 3- فتوى هيئة الرقابة الشرعية ببنك فيصل الإسلامي السوداني: جاء في الفتوى رقم 17 حول أسس إخراج زكاة أسهم بنك فيصل الإسلامي السوداني لهيئة الرقابة الشرعية من غير أن تستفتى، ما يلي: رأت الهيئة بأغلبية الأعضاء (1) أن يخرج البنك زكاة أسهمه على الأسس التالية: 1- يخرج البنك زكاة الأسهم عند مضي الحول بمقدار ربع العشر 2.5 % من النقود، الموجودة من المدفوع من قيمة الأسهم، زائدا قيمة عروض التجارة الخاصة بالأسهم، ولا زكاة في عروض القنية (الأصول الثابتة) زائدا ربح الأسهم. 2- العقارات التي يشتريها البنك بمال الأسهم إن كان اشتراها للتجارة فيها بالبيع والشراء، وزكاها زكاة عروض التجارة؛ أي: يضيف قيمتها إلى النقود الموجودة من الأسهم، وإن كان اشتراها لمؤجرها، فإنه يزكيها زكاة الأصول الثابتة؛ بإخراج العشر 10 % من أجرتها عندما يتسلمها. 3- إذا كان البنك أعطى بعض مال الأسهم لمن يعمل فيه مضاربة – التمويل، زكى رأس المال الذي وكل به المضارب ونصيبه الربح. 4- إذا كان على البنك ديون تجارية حالة من مال الأسهم، وله ديون على غيره تزيد على الديون التي عليه، فإنه يطرح الديون التي عليه من الديون الموجودة التي له، ويزكي الباقي، وإدا كانت الديون التي على البنك تزيد عن الديون التي له، طرح الزائد من النقود التي عنده وزكى الباقي، وإدا كانت ديون التجارة التي للبنك مؤجلة ومرجوة، فإنها تُقَوَّم بعرض، ثم يقوم العرض بنقد حال، وتزكى هذه القيمة. 5- إذا كان للبنك ديون (قرض) زكاها زكاة النقود الموجودة مادام سدادها مرجوا. 6- يستفسر من أصحاب الأسهم الصغيرة التي لا تبلغ النصاب، هل يجب عليهم فيها زكاة إذا ضمت إلى غيرها؟ فإن قالوا: لا تجب فيها الزكاة؛ لأنهم لا يملكون ما يكملها نصابا، استبعدت قيمتها من جملة الأسهم.   (1) أربعة أعضاء من خمسة، ويرى العضو الخامس الدكتور خليفة بابكر الأخذ بالرأي الذي يعامل الأسهم معاملة الأموال الثابتة ويزكى ربحها فقط بمقدار العشر؛ أي: 10 % من الأرباح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 524 هذه الأسس تتفق في جملتها مع الرأي القائل: إن الأسهم تزكى عروض التجارة، ولكنها تختلف عنها في بعض التفصيلات؛ حيث إنه في هذه الأسهم اعتبرت قيمة الأسهم الحقيقية - أي: الاسمية - لا القيمة السوقية كما يرى القائلون باعتبارها عروض تجارة؛ وذلك لأن قيمة السوقية تقديرية، والقيمة الحقيقية تمثل الواقع، ولا يصح اللجوء إلى التقدير ما دامت معرفة الحقيقة ممكنة، كما أخرجت العقارات المتخذة للاستغلال وجعلت الزكاة من أجرتها، لا من قيمتها؛ لأنها ليست عروض تجارة في الواقع، واضح أن المدفوع من القسط الأول من الأسهم حتى قد حال عليه الحول ووجبت زكاته على البنك أن يستخرجها على الأسس المتقدمة، وإذا كان تطبيق هذه الأسس متعذرا في الوقت الحاضر، فإنه يجوز أن يخرج البنك بالنسبة للقسط الأول 2.5 % من المبالغ المدفوعة عنه، بعد طرح قيمة الأثاثات الثابتة، والأسهم التي لا تبلغ النصاب حتى ترد إفادة أصحابها.. على أن يفكر في الطريقة التي تمكن من تطبيق هذه الأسس كاملة مستقبلا. وهذا الحل المؤقت لا يختلف عن الرأي القائل باعتبار الأسهم عروض تجارة تؤخذ الزكاة من قيمتها في السوق، مضافا إليها الربح بعد طرح قيمة الأثاثات الثابتة إلا في ناحيتين: الأولى: اعتبار القيمة الاسمية للسهم. الثانية: عدم إضافة الربح؛ لأنه غير معروف، وعدم طرح المنصرفات وإن كانت معروفة؛ لأن المفروض أن تغطى المنصرفات من الربح، لا من رأس المال، وما دام الربح لم يؤخذ في الاعتبار، فمن العدل ألا تؤخذ المنصرفات أيضا في الاعتبار، والله أعلم. ومع تأييدي لهذه الفتوى في الجملة، فإني أعارضها في الأمور التالية: أولا: العقارات المستغلة تزكى من أرباحها بنسبة 2.5 %، وليس العشر من أجرتها عندما يتسلمها، وذلك بعد مضي الحول عليها وهي قائمة في يد أصحابها أو لدى البنك. ثانيا: تزكى الأسهم في الشركات زكاة الخليطين، ولو كانت أسهم المساهم لا تبلغ نصابا شرعيا وحدها بالنسبة إليه، كما سيأتي. ثالثا: تقدر الأسهم بالقيمة التجارية الموجودة في الأسواق (بورصات الأوراق المالية) فإنها أصبحت معروفة، وقد تتجاوز القيمة الاسمية عشرات أو مئات المرات، كما حدث فعلا في بعض الأسواق. فإذا لم تعرف حاليا تجب زكاتها بمجرد معرفتها. رابعا: تضاف الأرباح عند معرفتها إلى أصل قيمة الأسهم؛ إذ ما من شركة إلا وتضع ميزانية شاملة في آخر كل عام، تبين فيها الأصول والخصوم بالتعبير التجاري، أو رأس المال والأرباح والديون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 525 المقدار الواجب إخراجه في زكاة الأسهم: تزكى الأسهم – كما عرفنا – زكاة عروض التجارة، فيكون مقدار الواجب فيها هو ربع العشر 2.5 % من الأصل والنماء أو الربح. وإذا كنا قد استبعدنا التفصيل المذكور في الرأي القديم للأستاذ الشيخ محمد أبي زهرة، واعتمدنا رأي الشيخ عيسى، مع ضرورة التمييز بين ما هو تجاري وما هو صناعي، فإن ما قرره أبو زهرة من زكاة الأسهم التجارية بنسبة 2.5 %، وزكاة الأسهم المتخذة للاستثمار؛ كزكاة الأصول الثابتة 10 % غير مناسب، ومخالف لما قرره فقهاؤنا في رأيهم المشهور من أن نسبة الزكاة في عروض التجارة هي 2.5 %. فيكون جعله نسبة زكاة أسهم الاستثمار 10 % غير متفق مع المذاهب الفقهية، ولا داعي للتفرقة بين أسهم التجارة وأسهم الاستثمار، وبخاصة فإنه في رأيه الأخير لم يذكر هذا التفصيل، واكتفى بالقول بوجوب الزكاة على الأسهم، مثل زكاة عروض التجارة. والخلاصة: تجب زكاة الأسهم والسندات بنسبة ربع العشر 2.5 % من قيمتها التجارية مع ربحها في نهاية كل عام، ولا تزكى الأصول الثابتة من صافي الأرباح 10 %. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 526 مَن تجب عليه زكاة الأسهم: يرى الأساتذة أبو زهرة ومن معه أن ما يؤخذ من الأسهم والسندات لمن يتجر فيها غير ما يؤخذ من الشركات نفسها؛ لأن الشركات التي تؤخذ منها الزكاة تكون باعتبار أن أموال الشركة نامية بالصناعة ونحوها، أما الأسهم للمتجر فيها، فهي أموال نامية باعتبار عروض التجارة. وقد انتقد الدكتور القرضاوي بحق هذا الازدواج لإيجاب الزكاة على الأسهم ذاتها مرتين باعتبار صاحب الأسهم مرة بوصفه تاجرا، فأخذنا من أسهمه وربحها جميعا ربع العشر، ثم مرة أخرى بوصفه منتجا، فأخذنا من ربع أسهمه أو من إيراد الشركة العشر، والراجح أن نكتفي بإحدى الزكاتين؛ إما الزكاة عن قيمة الأسهم مع ربحها بمقدار ربع العشر، وإما الزكاة عن غلة الشركة وإيرادها بمقدار العشر من الصافي؛ منعا للثني أو الازدواج. وأرى أن زكاة الأسهم هي فقط ربع العشر 2.5 % من الأصل، مع الربح السنوي، وتُقَوَّم الأسهم كما تقوم عروض التجارة في آخر كل عام بحسب سعرها في السوق وقت إخراج الزكاة، لا بحسب سعر شرائها، وتضم الأسهم التجارية إلى بعضها عند التقويم، ولو اختلفت أجناسها في التجارة والصناعة بعد حسم قيمة الآلات الصناعية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 527 وتزكي الشركات جميع الأسهم؛ لأن للشركة ربحا من الأسهم، فهي شريك للمساهم، ولأن الشركة المساهمة لها شخصية اعتبارية مستقلة (1) وبما أن الزكاة تكليف متعلق بالمال نفسه، فإنها تجب على الشخص الاعتباري، حيث لا يشترط فيها التكليف الذي أساسه البلوغ مع العقل، وقياسا على زكاة الماشية في مذهب الشافعية الجديد القائلين بتأثير الخلطة في المواشي وغيرها، وهو مذهب المالكية والحنابلة أيضا في المواشي (2) عملا بعموم الحديث النبوي الثابت في الزكاة: ((لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)) ، ولأن السهم يعبر عن قيمة مالية أو مبلغ من مال، فهو مال تجب فيه الزكاة، فأثرت الخلطة في زكاتها كالماشية، ولأن المالين كالمال الواحد في المؤن (التكليف) من مخزن وناطور وغيرهما، فهي - أي: غير المواشي - من النقود والحبوب والثمار وعروض التجارة كالمواشي، فتخف المؤونة إذا كان المخزن والميزان والبائع واحدا. وحينئذ لا يعفى من زكاة الأسهم في الشركات المساهمة أحد من المساهمين، ولو كانت حصته سهما واحدا، وتؤدى الزكاة من صافي مال الشركة المساهمة النامي ونمائه، بنسبة 2.5 % ربع العشر، فلا تحتسب قيمة الأموال والأصول الثابتة ـ عروض القنية ـ كالأراضي والمباني والآلات وغيرها؛ لأن السهم يمثل حصة في صافي الشركة المساهمة من أموال وأصول ثابتة وأموال وأصول متداولة (نقود وعروض تجارة) . أما القول بزكاة الأسهم كزكاة الأصول الثابتة بنسبة 10 % من الأرباح فهو رأي ضعيف لا تقره آراء فقهائنا القدامى. ثم إن في إلزام الشركة المساهمة بإخراج زكاة الأسهم جميعها نفعا محققا للفقراء، ويؤيد هذا الرأي أن الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة رأى في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1965 كما تقدم أنه إذا كانت الأسهم تتخذ للاستثمار، وهي ممثلة في رأس مال شركة مساهمة، فإن دفع الشركة للزكاة يغني عن دفع حامل السهم، إلا أن مجمع البحوث الإسلامية أوصى بأنه في الشركات المساهمة التي يساهم فيها عدد من الأفراد لا ينظر في تطبيق هذه الأحكام إلى مجموع أرباح الشركات، وإنما ينظر إلى ما يخص كل شريك على حدة. لكني أخالف هذا الاتجاه للأسباب السابقة، أما في حال تفرقة الزكاة وتوزيعها فلا مانع من إعطاء صاحب الأسهم زكاته؛ ليتولى تفرقتها بالنيابة عن الشركة وأصالة عن نفسه.   (1) وهذا رأي الدكتور شوقي إسماعيل شحاتة في التطبيق المعاصر للزكاة ص 119 (2) كتاب الفقه الإسلامي وأدلته 1/844 – 850 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 528 وقد قررت الجمعية العمومية لحاملي أسهم دار المال الإسلامي في المملكة العربية السعودية إعطاء الحق لمن يريد من المساهمين سحب الزكاة المستحقة على حصته من الأسهم لتوزيعها بمعرفته الشخصية. وكان القرار ينص على استمرار الدار في مباشرة خصم (حسم) مبالغها (الزكاة) والمستحقة شرعا. وعلى كل مساهم يرغب في القيام بصرف ما يخصه من مبالغ طلب ذلك قبل ثلاثة أشهر من نهاية السنة المالية؛ وذلك حتى تقوم الدار بتسلميها له وفق الإجراءات التي تقرها هيئة الرقابة الشرعية للدار. والخلاصة: أرى أن تكون زكاة الأسهم في الشركات بحسب قيمتها التجارية المعلن عنها في الأسواق، لا بقيمتها الاسمية فقط، وأن تزكى زكاة عروض التجارة بنسبة 2.5 % إذا كانت الشركة تجارية، فإن كانت الشركة صناعية محضة لا تتاجر ولا تنتج سلعا تجارية، فلا تزكى الأسهم، أما إن أنتجت سلعا تجارية، كشركة إنتاج الثلاجات، فتزكى الأسهم بعد استقطاع ما يقابل قيمة الآلات الصناعية والمباني، وتقوم الشركة نفسها بتقدير زكاة الأسهم جميعها، وتزكيها وتعلم أصحاب الأسهم، ويمكنها أثناء توزيع الزكاة إعطاء صاحب الأسهم زكاتها ليقوم هو بإعطائها للفقراء، والله أعلم. أ. دكتور وهبه مصطفى الزحيلي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 529 زكاة الأسهم في الشركات إعداد فضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف آل سعد عضو مجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الهداة المهتدين، وعلى من دعا بدعوته بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فإن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وفريضة من فرائضه، وهي واجبة على الغني فيما يفضل عن حاجته وحاجة من ينفق عليهم، وتؤخذ من النقد وعروض التجارة ومن المواشي وثمار الزروع بنسب معروفة عند المسلمين، لا ترهق دافعي الزكاة، وتسد حاجة الفقير والمسكين، وتفي بإقامة المصالح العامة، وهي عبادة مالية، يكفر جاحدها، ويقاتل مانعها، يتجلى ذلك في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله تعالى عنه حينما بعثه واليا على اليمن: ((إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) . وفي قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} التوبة: 103 وأسهم الشركات هي مجموعة الأسهم التي يشتريها الناس، وتكون قيمتها مجتمعة هي رأس مال الشركة، موزعا على جميع المساهين فيها، وهي أموال قابلة للتعامل والتداول بين الأفراد والجماعات، وقد أصبحت وسيلة للاتجار فيها بالبيع والشراء؛ ابتغاء الربح، وهي حلال ما لم يكن عمل الشركة الذي تكون من مجموع الأسهم مشتملا على محظور شرعي، وهي بهذا الاعتبار تكون من عروض التجارة، وتجب فيها الزكاة؛ لأن صاحبها يتجر فيها بالبيع والشراء، ويكسب منها كما يكسب كل تاجر من سلعته، وقيمتها الحقيقية التي تقدر في الأسواق تختلف في البيع والشراء عن قيمتها الاسمية، فكان من الحق أن تكون وعاء للزكاة ككل أموال التجارة، ويلاحظ فيها ما يلاحظ في عروض التجارة، ويعتبر الحول فيها من تاريخ شراء الأسهم. والأسهم: إما أن تكون أسهما تجارية أو صناعية أو عقارية، فإن كانت أسهما تجارية (بضائع) ، فالزكاة فيها تكون على رأس المال والعائد. أما إذا كانت الأسهم في شركات صناعية، فالزكاة فيها على العائد فقط؛ لأن السهم يمثل جزءا شائعا من المصنع، وأدوات المصانع لا زكاة عليها. أما الأسهم العقارية، فإن كانت تمثل شراء أرض لبنائها واستغلال ما عليها من مبان، فالزكاة فيها على العائد فقط. أما إذا كانت العقارات من أرض ومبان قد اشتريت بقصد المتاجرة، فالزكاة فيها على الأصل والعائد. ومعنى هذا أن تؤخذ الزكاة على الأسهم في آخر كل حول بمقدار 2.5 % في المائة من قيمة الأسهم، حسب تقديرها في الأسواق، مضافا إليها الربح إن وجد، بشرط أن يبلغ الأصل والربح نصابا، أو يكملا مع مال عنده نصابا، فكل مساهم يعرف مقدار ما يملك من أسهم، ويعرف مقدار أرباحها في كل عام، فيستطيع أن يزكيها بسهولة، هذا ما ذهب إليه كثير من العلماء المحققين المعتد بفتاواهم، والله أعلم وأحكم. 8 من شعبان 1406 هـ 17 إبريل 1986 م محمد عبد اللطيف آل سعد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 530 زكاة الأسهم في الشركات إعداد فضيلة الدكتور أبو بكر دوكوري. بسم الله الرحمن الرحيم قبل التعرض لحكم الأسهم، نعطي فكرة موجزة عنه؛ لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره. يراد بالأسهم الحقوق الملكية الجزئية لرأس مال شركة من الشركات المساهمة، فكل سهم يعتبر جزءا من أجزاء متساوية لرأس المال. والأسهم في الشركات من المعاملات المالية المعاصرة؛ لذلك لا نكاد نجد لها ذكرا في كتب الفقه القديمة، وحتى في كتب المعاصرين لم يعط هذا المبحث العناية اللائقة به؛ إذ قليل من كتب فيه، لذلك نجد في العالم الإسلامي كثيرا من الناس لا يعرفون الأحكام المتعلقة بالأسهم، وخاصة فيما يتعلق بالزكاة. والعلماء الذين بحثوا في هذا الموضوع ذهبوا إلى مذهبين: المذهب الأول: أن ينظر إلى نوع الشركة التي أصدرت الأسهم: هل هي شركة صناعية محضة، أم هي تجارية محضة، أم هي مزدوجة؟ فإن كانت صناعية محضة، بحيث لا تمارس عملا تجاريا؛ كشركات الصباغة والتبريد مثلا، فلا تجب الزكاة في أسهمها؛ لأن قيمة هذه الأسهم قد صرفت في الآلات والإدارات والمباني، فما يحصل منها من ربح فإنه يضم إلى أموال المساهمين ويزكى معها زكاة المال، بشرط بقائه إلى الحول وبلوغه النصاب. وإن كانت ـ أي الشركة المساهمة ـ تجارية محضة، تشتري البضائع وتبيعها، أو كانت مزدوجة صناعية تجارية معا، كشركات البترول مثلا، فإن الزكاة تجب في أسهمها بعد خصم قيمة المباني والآلات والأدوات المملوكة لهذه الشركة، وهذا المذهب قد ذهب إليه الشيخ عبد الرحمن عيسى في كتابه " المعاملات الحديثة وأحكامها "، بناء على الرأي المشهور في عدم وجوب الزكاة في المصانع والعمائر الاستغلالية ورؤوس الأموال المغلة على وجه العموم؛ كالفنادق والسيارات والطائرات ونحوها، وإنما تجب الزكاة في غلتها إذا بقي منها شيء وحال عليه الحول. وقد ناقش الدكتور يوسف القرضاوي في كتابة "فقه الزكاة" هذا المذهب، واعترض عليه بشدة؛ لكونه يقوم على تفريق بين متماثلين، وهو غير معهود في شريعتنا الغراء؛ إذ لا وجه لأخذ الزكاة عن الأسهم إذا كانت في شركة تجارية وإسقاطها عنها إذا كانت في شركة صناعية؛ لأن الأسهم هنا وهناك هي رأس مال نام، يدر ربحا سنويا متجددا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 531 المذهب الثاني: عدم النظر إلى نوعية الشركة المساهمة للتفريق بين أسهم شركة وأخرى، كما تقدم، وإنما ينظر إلى الأسهم نظرة واحدة بغض النظر عن الشركة التي أصدرتها، وتعطى حكما واحدا لاعتبارها من عروض التجارة حيث اتخذت للاتجار، تباع وتشترى، ويكسب فيها كما يكسب كل تاجر من سلعته، فتزكى زكاة عروض التجارة. وذلك بأن يؤخذ من قيمة الأسهم مع الربح ربع العشر؛ أي: 2.5 % إذا بلغا نصابا. وقد رجح بعض العلماء هذا الاتجاه الثاني بالنسبة إلى الأفراد نظرا إلى سهولته؛ لأن كل مساهم يعرف أسهمه ويعرف أرباحها في كل عام بخلاف الاتجاه الأول القائم على التفريق بين أسهم الشركات وأخذ الزكاة في إيراد بعضها، بينما في بعضها الآخر تؤخذ الزكاة من الأسهم نفسها حسب قيمتها، مضافا إليها الربح، وفي هذا صعوبة بالغة بالنسبة إلى الفرد العادي. وإذا أوجبنا الزكاة على أسهم الشركات المساهمة، وأخذناها من المساهمين، فهل توجب الزكاة مرة أخرى على إيراد هذه الشركات نفسها أو لا؟ خلاف بين الباحثين. وقد رأى الدكتور يوسف القرضاوي الاكتفاء إما بالزكاة عن قيمة الأسهم مع ربحها بمقدار ربع العشر، وإما الزكاة عن غلة الشركة وإيرادها بمقدار العشر، وذلك حتى لا نزكي مالا واحدا مرتين، وهو ممنوع شرعا، وأنا أيضا أميل إلى هذا الرأي وأرجحه، والله أعلم. دكتور أبو بكر دوكوري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 532 زكاة الأسهم في الشركات إعداد فضيلة الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ مفتي جمهورية القمر الاتحادية الإسلامية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: إن مما لا خلاف فيه بين فقهاء المسلمين وجوب الزكاة على كل مسلم ملك نصاب مال زكوي إذا حال عليه حول وهو في ملكه، سواء كان ذلك المال في يده أو في يد أمين له كوديع وشريك ووكيل ومدير شركة، أو كان ذلك المال في يد غير أمين له؛ كغاصب ومدين له مليء مقر أو جاحد، وله عليه بينة، وسواء كان معزولاً في صندوق خصيصاً بمال الغير؛ كأسهم الشركات وما استودع في مخازن البنوك وصناديق التوفير. وإنما الخلاف في المال المشترك والخليط بمال الغير إذا لم يبلغ سهم كل واحد نصاباً، وكان المال الخليط غير مواش سائمة، فعند الإمام الشافعي تجب الزكاة في المال المشترك والخليط بمال الغير إذا بلغ مجموع الأسهم نصابا، وإن لم يبلغ سهم كل فرد نصابا، سواء في ذلك المواشي وغيرها، كالنقدين ومال التجارة. راجع كفاية الأخبار ص: 113. وعند الأئمة الثلاثة وأكثر أهل العلم تجب الزكاة في المال المشترك والخليط بمال الغير، شريطة أن يبلغ سهم كل واحد من المشتركين والخلطاء نصاباً. راجع بداية المجتهد جـ1 ص271. والمغني لابن قدامة جـ2 صـ218. ولسنا في حاجة إلى الإطالة في ذكر أقوالهم وأدلتها ما دامت أسهم الشركات تبلغ نصابا في الغالب، وهو محل اختلافهم في وجوب زكاتها كما سبق القول بذلك. وبما ذكرت أقول، ومن الله أستمد العون والتوفيق: تجب الزكاة في أسهم الشركات وفي الربح المستفاد منها إن كانت الشركة تجارية، وينعقد حول زكاتها من ابتداء عمل التجارة، وتجب أيضا في الربح المستفاد من الأسهم فقط، إن كانت الشركة غير تجارية كمعمل ودور وسيارات ومعدات للإيجار مثلا، وينعقد حول زكاته من حين قسمة الشركاء ودخول حصة كل شريك في ملكه، وإن بقيت في يد مدير الشركة كأمانة، هذا ويجوز لكل من أصحاب الأسهم توكيل مدير الشركة بإخراج القدر الواجب عليه من حصته إن بقيت في يده بعد القسمة، كما يجوز له إخراجه بمال آخر في جيبه. والله تعالى أعلم، وهو ولي التوفيق. الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 533 زكاة الأسهم في الشركات إعداد فضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية القانون الخرطوم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد، فهذا بحث عن (زكاة الأسهم في الشركات) في الفقه الإسلامي، أكتبه استجابة لرغبة مجمع الفقه الإسلامي، راجياً أن يجد فيه المؤتمرون ما يساعد على الوصول إلى رأي جماعي في هذا الموضوع. التعريف بالسهم: السهم في القانون التجاري هو الحصة التي يقدمها الشريك في شركات المساهمة، وهو يمثل جزءاً معيناً من رأس مال الشركة، ويتمثل السهم في صك يعطى للمساهم، ويكون وسيلته في إثبات حقوقه في الشركة، ويطلق السهم أيضاً على هذا الصك، فكلمة سهم تعني حق الشريك في الشركة، كما تعني الصك المثبت لهذا الحق. ويقسم رأس مال شركة المساهمة إلى أسهم متساوية القيمة الاسمية، وهذا يقتضي المساواة في الحقوق التي يمنحها السهم، ولكن بعض القوانين يجيز للشركة أن تصدر أسهماً ممتازة تختص بمزايا لا تتمتع بها الأسهم العادية (1) . والسهم قد يمثل حصة نقدية في رأس مال الشركة إذا كان ما قدمه الشريك نقداً، ويسمى هذا سهماً نقدياً، وقد يمثل حصة عينية إذا قدم الشريك للشركة عيناً، منقولاً أو عقاراً، ويسمى سهماً عينياً، والسهم سواء أكان نقدياً أم عينياً يعتبر مالاً منقولاً في قانون الشركات، ولو كانت الشركة تعمل في العقارات، ولو كانت الحصة التي قدمها الشريك عقاراً (2) . وقد يكون السهم باسم شخص معين تثبت ملكيته للسهم، يقيد اسمه في سجل الشركة ويسمى "السهم الاسمي"، وقد لا يحمل السهم اسم المساهم، وإنما يذكر فيه أنه لحامله، ويعتبر حامل السهم هو المالك في نظر الشركة والغير، ويسمى "السهم لحامله" وتمنع بعض القوانين إصدار أسهم لحاملها.   (1) لا أرى جواز إصدار هذه الأسهم الممتازة (2) اعتبار السهم منقولا في جميع الأحوال غير مقبول عندي، وهو مخالف للواقع، فكيف يكون السهم في الشركة التي كل عملها في العقارات منقولاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 534 وما دامت الشركة قائمة فليس للمساهم حق عيني في أعيانها، ولا المطالبة بقيمة سهمه، وإنما له الحق في الاستيلاء على نصيب في الأرباح؛ لأن الحصة التي يقدمها الشريك للشركة تخرج عن ملكه وتصبح مملوكة للشركة كشخص معنوي، فإذا انحلت الشركة كان لكل مساهم حصة في موجودات الشركة. وإذا أراد المساهم الخروج من الشركة، فليس أمامه إلا أن يتنازل عن سهمه لغيره بقابل أو بغير مقابل، وحق التنازل عن السهم من الحقوق الأساسية للمساهم، ومن الأصول التي يقوم عليها نظام شركات المساهمة، وهو السر في ازدهار هذا النوع من الشركات؛ إذ يُقْدِم الناس على الاكتتاب في أسهمها وهم مطمئنون إلى أنهم يستطيعون الخروج منها كلما أحوجتهم ظروفهم إلى ذلك، ولا يترتب على خروجهم ضرر للشركة أو لدائنيها؛ لأن الشريك الذي خرج من الشركة يحل محله شريك آخر. وتضع بعض قوانين الشركات ونظمها قيوداً على حرية تناول الأسهم لمنع التلاعب في قيمة السهم (1) .   (1) الوجيز في القانون التجاري. الدكتور مصطفى كمال طه 193 و300 وما بعدها. والقانون التجاري –الشركات التجارية- الدكتور علي حسن يونس 113 و161 و175. وشرح القانون التجاري المصري لمحمد صالح بك 176 و294. وقانون الشركات السوداني لسنة 1925 المواد 24 و39 و40. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 535 هل في الأسهم زكاة؟: قلنا في تعريف السهم: إنه الحصة التي قدمها الشريك في شركة المساهمة، وإن هذه الحصة قد تكون نقداً، وهذا هو الغالب، وقد تكون عيناً، منقولاً أو عقاراً، والنقود التي يقدمها الشريك يتحول جزء منها إلى منقول أو عقار، وكذلك المنقولات والعقارات قد يتحول جزء منها إلى نقود، تبعاً للعمل الذي تباشره الشركة، فالتكييف الحقيقي والواقعي للسهم هو أنه جزء من موجودات الشركة أياً كان نوعها، وهذه الموجودات أموال مملوكة يجب على مالكها زكاتها، إذا توافرت شروط الوجوب، لا فرق بينها وبين أي مال مملوك لأي شخص. بعض الآراء في وجوب الزكاة في الأسهم: رأي الأستاذ أبو زهرة: يقول الأستاذ أبو زهرة: "وكان حقاً علينا أن نجعل الزكاة في الأسهم؛ لأننا لو أعفينا ملاك هذه الأسهم من الزكاة لكان في ذلك ظلم كبير على غيرهم من الملاك، وكان ظلماً للفقراء، وفوق ذلك يتهرب الناس بأموالهم التي تجب فيها الزكاة، فيشترون الأسهم حيث لا زكاة فيها، وإن نظرة عاجلة إلى ينابيع الثروة في مصر ترينا أن أكثرها إنتاجا وغلة هي هذه الشركات، فهل يسوغ عقلاً أن يعفى ملاك الأسهم من الزكاة، وتؤخذ من صغار الفلاحين ذوي المورد المحدد؟ " (1) . فالأستاذ أبو زهرة يرى وجوب الزكاة في أسهم جميع الشركات المساهمة، وهو رأي أكثر من اطلعت على رأيهم ممن كتبوا في هذا الموضوع (2) ولكن الأستاذ أبو زهرة يبني الوجوب على أساس غير الأساس الذي بنيته عليه.   (1) عن "التطبيق المعاصر للزكاة": 117 (2) منهم الدكتور يوسف القرضاوي في "فقه الزكاة": 1/52. والدكتور شوقي إسماعيل شحاتة في "التطبيق المعاصر للزكاة": 117. والدكتور غريب الجمال في "النشاط الاقتصادي في ضوء الشريعة الإسلامية": 230. والشيخ أبو الأعلى المودودي في "فتاوى الزكاة": 18 و75. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 536 رأي الشيخ عبد الرحمن عيسى: كتب الشيخ عبد الرحمن عيسى عن زكاة أسهم الشركات ما يلي: "قد لا يعرف كثير ممن يملكون أسهم الشركات حكم زكاة هذه الأسهم، وقد يعتقد بعضهم أنها لا تجب زكاتها، وهذا خطأ، وقد يعتقد البعض وجوب الزكاة في أسهم الشركات مطلقاً، وهذا خطأ أيضاً، وإنما الواجب النظر في هذه الأسهم تبعاً لنوع الشركة التي أصدرتها. فإن كانت الشركة المساهمة شركة صناعية محضة؛ أي: لا تمارس عملاً تجارياً، كشركات الصباغة وشركات التبريد وشركات الفنادق، وشركات الإعلانات، وشركات الأوتوبيس، وشركات النقل البحري والبري، وشركات الترام، وشركات الطيران، فلا تجب الزكاة في أسهمها؛ لأن قيمة هذه الأسهم موضوعة في الآلات والأدوات والمباني، وما يلزم الأعمال التي تمارسها، ولكن ما ينتج ربحاً لهذه الأسهم يضم إلى أموال المساهمين ويزكى معها زكاة المال. وإن كانت الشركة المساهمة شركة تجارية محضة تشتري البضائع وتبيعها بدون إجراء عمليات تحويلية على هذه البضائع؛ كشركة بيع المصنوعات المصرية، وشركة التجارة الخارجية، وشركات الاستيراد، وشركة شوكريل، وشركة شملا، أو كانت شركة صناعية تجارية، وهي الشركات التي تستخرج المواد الخام أو تشتريها ثم تجري عليها عمليات تحويلية، ثم تتجر فيها، مثل شركات البترول وشركات الغزل والنسيج للقطن والحرير، وشركة الحديد والصلب، والشركات الكيماوية كشركة كيما وشركة الملح والصودا، وشركة راكنا لصناعة الورق، فتجب الزكاة في أسهم هذه الشركات، فمدار وجوب الزكاة في أسهم الشركات أن تكون الشركة تمارس عملاً تجارياً، سواء معه صناعة أم لا. (1) . وقد علق الدكتور القرضاوي على هذا الرأي بأنه مبني على الرأي المشهور أن المصانع والعمائر الاستغلالية ورؤوس الأموال المغلة غير التجارية على وجه العموم، كالفنادق والسيارات والترامات والطائرات ونحوها، ليس فيها كلها زكاة، لا في رأس المال والربح معا كمال التجارة، ولا في الغلة والإيراد كالخارج من الأرض الزراعية، إلا إذا بقي منها شيء وحال عليه الحول. (2) .   (1) المعاملات الحديثة وأحكامها: 73 و74. (2) فقه الزكاة: 1/524 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 537 ويرى الدكتور القرضاوي أنه لا وجه لأخذ الزكاة عن الأسهم إذا كانت في شركة تجارية وإسقاطها عنها إذا كانت في شركة صناعية، والأسهم هنا وهناك رأس مالٍ نامٍ يدر ربحاً سنوياً متجدداً (1) . والواقع أن هذا الاختلاف ليس خاصاً بالأسهم والشركات؛ لأنه يمكن أن يقال في كل مال مستثمر، والنتيجة على الرأيين هي أن الأسهم أموال تجب فيها الزكاة إذا توافرت شروط وجوبها، والاختلاف بين رأي الشيخ عيسى ورأي الدكتور القرضاوي هو في تحقق شروط الوجوب. هل تجب الزكاة على الشركة أم على المساهم؟ (2) بعدما قررنا أن السهم يمثل مالاً مملوكاً تجب الزكاة على مالكه إذا توافرت فيه شروط وجوبها، يبقى النظر فيمن تجب عليه زكاة السهم، هل هو الشركة أم المساهم؟ الزكاة تجب في المال على مالكه، فمَن المالك لأموال الشركة؟ يقول الدكتور مصطفى كمال: للشركة ذمة مالية مستقلة بأصولها وخصومها عن ذمم الشركاء ... فأموال الشركة لا تعتبر ملكاً شائعاً بين الشركاء، بل تعتبر هذه الأموال ملكاً للشركة، ... والحصة التي يقدمها الشريك للشركة تخرج عن ملكه، وتصبح مملوكة للشركة كشخص معنوي، ولا يكون للشريك بعد ذلك إلا مجرد نصيب في الأرباح، أو في الأموال التي تبقى بعد تصفية الشركة ... " (3) . إذا كان هذا الذي يقرره علماء القانون التجاري بشأن أموال الشركة مقبولاً فقهاً، فإن النتيجة المنطقية له هي أن زكاة أموال الشركة لا يطالب بها المساهمون، وإنما تطالب بها الشركة، وهذا هو رأي بعض من تعرض لهذه المسألة. منهم الدكتور شوقي إسماعيل شحاتة حيث يقول (4) : "لما كانت الشركة المساهمة لها شخصية اعتبارية مستقلة، وبناء على أن الزكاة تكليف متعلق بالمال نفسه، (5) فإنها تجب على الشخص الاعتباري حيث لا يشترط التكليف الديني، وأساسه البلوغ والعقل، (6) وقياساً على زكاة الماشية، وإن الخلطة فيها قد خصت بخصوصية تراجع الخلطاء فيما بينهم بالسوية على التفصيل الذي سبقت الإشارة إليه، (7) وإن الشركة في الماشية هي شركة أموال بالمفهوم المعاصر، وليست شركة أشخاص، وإن الشركة في الماشية تكون على وجه المخالطة –لا الملك- ومؤداها أن الزكاة تجب في مال الشركة المجتمع ككل، وليس في مال كل شريك على حدة ... ".   (1) فقه الزكاة: 1/525 (2) استعمال هذه الكلمة أصبح اصطلاحاً عاماً مع ما فيه من مخالفة لغوية (3) الوجيز في القانون التجاري: 192 و193 (4) "التطبيق المعاصر للزكاة: 119 (5) انظر تفصيله لهذه المسألة في صفحة: 91-93 من " التطبيق المعاصر للزكاة " (6) انظر تفصيله لهذه المسألة في صفحة: 66-68 من " التطبيق المعاصر للزكاة " (7) انظر ص: 86-90 من "التطبيق المعاصر للزكاة"، وفي هذا القياس نظر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 538 ويرى الشيخ أبو الأعلى المودودي أن زكاة الأسهم تفرض على الشركة إذا كانت الدولة تقوم بتحصيل الزكاة (1) . ويفهم مما نقلته عن الشيخ عبد الرحمن عيسى أن زكاة الأسهم يخرجها المساهم. وأرى أن زكاة الأسهم تجب على المساهم؛ لأنه هو المالك الحقيقي للأسهم، والشركة تتصرف في أسهمه نيابة عنه، حسب الشروط المبينة في قانون الشركة ونظامها الأساسي، فإذا نص في النظام الأساسي على أن الشركة تخرج زكاة الأسهم وجب عليها إخراجها، ولا يطالب بها المساهمون، أما إذا لم يوجد هذا النص فلا تخرج الشركة الزكاة إلا بقرار من الجمعية العمومية، أو بقانون في الدولة يلزم الشركات بإخراج زكاة الأسهم، (2) وأما القول بوجوب زكاة الأسهم على الشركة أصالة، باعتبار أن الشركة لها شخصية اعتبارية مستقلة عن شخصية المساهمين، فإنه لا يكون مقبولاً إلا في دولة تطبق أحكام الشريعة الإسلامية، وتوجب نظمها أخذ الزكاة من أموال الشركات، وإن الفتوى به في أوضاعنا الحاضرة قد يؤدي إلى عدم إخراج زكاة الأسهم.   (1) فتاوى الزكاة: 18 و75 و81 وانظر أيضاً "فقه الزكاة" للدكتور القرضاوي: 1/528 (2) هذا الرأي قريب مما أفتت به اللجنة العلمية بالمؤتمر الأول للزكاة بالكويت في رجب 1404-إبريل 1984 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 539 كيفية إخراج زكاة أسهم الشركات؟: تخرج الشركة زكاة أسهمها الممثلة في الأموال الموجودة عندها كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال الشركة كأنها أموال شخص واحد، وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي. فإذا كانت شركة تجارية تعامل معاملة التاجر، وإذا كانت شركة زراعية تعامل معاملة المزارع، وإذا كانت شركة عقارية تعامل معاملة الشخص الذي يستثمر أمواله في العقارات وهكذا. وقد تستثمر الشركة أموالها في مجالات متنوعة من التجارة والزراعة وغيرها، كما يفعل بعض أرباب المال بأموالهم. فإنها تعامل معاملتهم، وتخرج زكاة كل مال بحسب نوعه. لا تطرح الأسهم التي لا تبلغ النصاب: ينظر في بلوغ النصاب إلى أموال الشركة مجتمعة، لا إلى مقدار ما يملكه كل مساهم، فلا تطرح الأسهم التي لا تبلغ النصاب خلافاً لما ذهب إليه بعضهم من وجوب طرحها (1) . وكل من الرأيين له سند من الفقه، يقول ابن رشد: "عند مالك وأبي حنيفة أن الشريكين لا يجب على أحدهما الزكاة حتى يكون لكل واحد منهما نصاب، وعند الشافعي أن المال المشترك حكمه حكم مال رجل واحد، وسبب اختلافهم الإجمال الذي في قوله عليه الصلاة والسلام: ((ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة)) ؛ فإن هذا القدر يمكن أن يفهم منه أنه إنما يخصه هذا الحكم كان لمالك واحد أو أكثر من مالك واحد ... والشافعي كأنه شبه الشركة بالخلطة ... " (2) . والذي في كتب الشافعية أن الشافعي له قولان في هذه المسألة: قول في القديم بعدم تأثير الخلطة في زكاة غير المواشي، وقول في الجديد بتأثيرها، وهو الأظهر.   (1) انظر فتاوى الزكاة للشيخ أبو الأعلى المودودي: 18. كانت هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي السوداني أفتت بمثل ما أفتى به المودودي ولكنها رجعت عنها (2) "بداية المجتهد": 1/258 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 540 يقول الشيرازي: "فأما الخلطة في غير المواشي وهي الأثمان والحبوب والثمار ففيها قولان: قال في القديم: لا تأثير للخلطة في زكاتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والخليطان ما اجتمعا على الحوض والفحل والرعي)) . ولأن الخلطة إنما تصح في المواشي؛ لأن فيها منفعة بإزاء الضرر. وفي غيرها لا يتصور غير الضرر؛ لأنه لا وقص فيها بعد النصاب (1) . وقال في الجديد: تؤثر الخلطة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع)) ، ولأنه مال تجب فيه الزكاة فأثرت الخلطة في زكاتها كالماشية، ولأن المالين كالمال الواحد في المؤن فهي كالمواشي" (2) . ويقول النووي: "ولو اشترك أهل زكاة في ماشية زكيا كرجل، وإلا ظهر تأثير خلطة الثمر والزرع والنقد وعرض التجارة" (3) . ومما يرجح الأخذ بمذهب الشافعي الجديد أن طرح الأسهم التي لا تبلغ النصاب يجب ألا يتم إلا بعد التحقق من أن أصحابها لا يملكون ما يكمل النصاب، وفي هذا مشقة على الشركة، والمشقة تجلب التيسير. طرح أسهم غير المسلمين: هذا وينبغي التنبيه إلى أنه إذا كان في المساهمين غير مسلمين تطرح أسهمهم؛ لأنهم ليسوا من أهل الزكاة. لا تأثير لما يباع من الأسهم في أثناء الحول: إذا باع أحد المساهمين أسهمه في أثناء العام فإن هذا لا يؤثر في إخراج الزكاة؛ لأن السهم باق، وإنما تغير مالكه، ولا يضر كون المالك الجديد لم يمض حول على ملكه، ما دام السهم قد حال عليه الحول بالنسبة للشركة، ولو تنقل بين عدد من الأشخاص (4) .   (1) المنفعة مقصورة من وجه آخر هو زيادة ربح الأسهم الصغيرة بضمها واستثمارها مع غيرها (2) "المهذب": 1/153 (3) "المنهاج مع نهاية المحتاج": 3/58 (4) أفتى الشيخ المودودي بأن أسهم الشركات القابلة للبيع لا زكاة فيها، لا على البالغ ولا على المشتري، إذا بيعت قبل حولان الحول على دخولها في ملك أحدهما. فتاوى الزكاة: 22. هذه الفتوى قد تكون مقبولة إذا كان المساهم هو الذي يخرج زكاة أسهمه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 541 الأسهم المضافة في أثناء العام: الأسهم التي تدفع قيمتها، أو تعرضها الشركة للاكتتاب في أثناء العام لا يستقبل بها عام جديد، وإنما تضم إلى موجودات الشركة، ويكون حولها حول المال الذي ضمت إليه إذا كان نصابا؛ عملا بمذهب الحنفية في أن الفوائد كلها تزكى بحول الأصل إذا كان الأصل نصابا. زكاة الأسهم في الشركات التي لا تخرج الزكاة: إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة، لو زكت الشركة أموالها على النحو الذي شرحناه، زكى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنه الأصل في كيفية زكاة أسهم الشركات. وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي (1) لا بقصد بيعها عندما ترتفع قيمتها، فإنه يزكيها زكاة المستغلات، وتمشياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما "تجب في الريع، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم القبض مع اعتبار توفر (2) شروط الزكاة وانتفاء الموانع" (3) . وهذا الرأي متفق مع رأي الأكثرية في مؤتمر الزكاة الأول بالكويت المنعقد في 1 شعبان 1404هـ -2 مايو 1984 من حيث وجوب الزكاة في الريع دون الأصل، لكنه يختلف عنه من حيث الحول، فقرار مجمع الفقه الإسلامي يقضي بأن يبدأ حول الريع من يوم قبضه، ورأي الأكثرية في مؤتمر الزكاة يقضي بأن يضم الريع إلى سائر أموال مالك الأسهم من حيث الحول والنصاب، وهو الأولى عندي. ومؤدى الرأيين أن الأسهم المتخذة للاستثمار لا زكاة فيها. ورأت الأقلية في مؤتمر الزكاة أن يخرج مالك السهم العشر 10 % من الريع فور قبضه، قياساً على غلة الأرض الزراعية، كما هو الشأن في زكاة المستغلات.   (1) هنا هو الأصل في الغرض من اقتناء الأسهم (2) هكذا في الأصل ولعلها "توافر" (3) انظر القرار رقم (2) من قرارات الفتوى الصادرة عن الدورة الثانية لمجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406 22-28 ديسمبر 1985 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 542 وإذا قبلنا مبدأ قياس زكاة الأسهم التي يتخذها صاحبها للاستفادة من ريعها على زكاة المستغلات، فينبغي أن نضيف إلى هذين الرأيين رأيين آخرين: أحدهما: أن تزكى الأسهم زكاة عروض التجارة. والثاني: أن يزكى الريع عند قبضه بمقدار ربع العشر 2.5 %، ولا ينتظر به الحول. وكل من هذين الرأيين قال به بعض الفقهاء المتقدمين بالنسبة لزكاة الدور التي تتخذ للكراء، ونحوها من الأشياء التي تتخذ للانتفاع بغلتها، وقد بين الدكتور يوسف القرضاوي هذه الآراء بياناً شافياً في البحث الذي قدمه لمجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية عن زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية (1) . وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد بيعها (2) عندما ترتفع قيمتها زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه زكى قيمتها الحقيقية، إذا استطاع معرفتها من الشركة، وإن لم يستطع زكى القيمة السوقية، وإذا لم يكن لها سوق زكى القيمة الاسمية بإخراج ربع العشر 2.5 % من القيمة، ومن ربح الأسهم إذا كان لها ربح. وإذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكاها معه عندما يجيء حول زكاته، أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها بحسب قصده ونيته، فإن اشتراها لاستغلالها زكاها زكاة المستغلات على النحو الذي ذكرته، وإن اشتراها ليبيعها (3) زكاها زكاة عروض التجارة. والله أعلم.   (1) البحث مأخوذ من كتابه "فقه الزكاة": 1/458-486 (2) بيع الأسهم بالنسبة للمساهم الأول لا شبهة في جوازه إذا تم بعد ما يتحول رأس مال الشركة كله أو أكثره إلى غير النقود (3) أكثر الفقهاء الذين اطلعت على آرائهم يجوزون شراء الأسهم وبيعها والمتاجرة فيها من غير قيد، وفي نفسي شيء من هذا الحكم؛ لأن اتخاذ الأسهم سلعة تشترى وتباع بقصد الربح لا يخلو من شبهة بيع النقود بأكثر منها، ما دام مشتري السهم لا غرض له في المشاركة في موجودات الشركة، وإنما غرضه بيع السهم بأكثر مما اشتراه به. وأرى أن هذا الموضوع يحتاج إلى بحث، وأقترح أن يكون ضمن موضوعات المجمع في الدورة القادمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 543 خلاصة بحث "زكاة الأسهم في الشركات" تجب زكاة الأسهم على أصحابها، وتخرجها الشركة نيابة عنهم إذا نص في نظامها الأساسي على ذلك، أو صدر به قرار من الجمعية العمومية، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة. وتخرج الشركة زكاة الأموال الخاصة بالمساهمين كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين أموال شخص واحد. وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي. وتطرح أسهم غير المسلمين إذا كان في المساهمين غير مسلمين. ولا تأثير لما يباع من الأسهم في أثناء الحول. وتضم الأسهم المضافة في أثناء العام إلى موجودات الشركة، ولا يستقبل بها عام جديد. وإذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو الذي شرحته زكى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم. وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك، فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، فإنه يزكيها زكاة المستغلات، وتمشياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع، وهو ربع العشر، بعد دوران الحول من يوم القبض مع اعتبار توفر شروط الزكاة وانتفاء الموانع. وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد بيعها عندما ترتفع قيمتها زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه زكى قيمتها الحقيقية إذا استطاع معرفتها من الشركة، وإن لم يستطع زكى القيمة السوقية، وإذا لم يكن لها سوق زكى القيمة الاسمية بإخراج ربع العشر 2.5 % من القيمة ومن الربح إذا كان للأسهم ربح. وإذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكاه معه عندما يجيء حول زكاته، أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها بحسب قصده، فإن اشتراها لاستغلالها زكاها زكاة المستغلات على النحو الذي ذكرته، وإن اشتراها لبيعها زكاها زكاة عروض التجارة. والله أعلم د. الصديق محمد الأمين الضرير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 544 زكاة الأسهم في الشركات إعداد فضيلة الشيخ هارون خليف جيلي عضو مجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين.. أمر بإيتاء الزكاة وأخذها من أموال المسلمين ليطهرهم ويزكيهم، إنه هو العزيز الحكيم، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذا بحث متواضع حول موضوع من الموضوعات المطروحة أمام أعضاء "مجمع الفقه الإسلامي" الموقر، للفتوى فيه، في دورته الثالثة القادمة. كما اقترحته لجنة التخطيط، وهو (زكاة أسهم الشركات) . فالزكاة معروفة: لغة، وشرعاً، وحكماً، لدى عامة المسلمين، وكذلك الأسهم والشركات، لاسيما إذا أضيف بعض هذه الكلمات إلى بعض. ولعل أن الأمر الذي جعلها غريبة، حتى احتيج إلى إفتاء شرعي في حكم زكاة أسهمها، هو ما طرأ في الشركات المعاصرة من تنوع وتكاثر، وما تضمنته من قيود لا تمت إلى قواعد الشريعة، وما حدث في أسهمها وألقابها المتداولة، حتى اشتبه لدى بعض من العلماء الكبار أسهم الشركات المالية بوثيقتها الكتابية، فأفتى مرة بعدم وجوب الزكاة فيها، ومرة بوجوبها. فلكي نفهم بوضوح، ونقرر فتواها الشرعية بثقة، فلا بد لنا من استعراض الموضوع من جوانبه الثلاثة مع مقاصد الشريعة من تشريع الزكاة، حتى يتضح لنا الحكم الشرعي في زكاة مال الشركات الإسلامية وأسهمها. وبطبيعة الحال لا أتكلم عن الشركات غير الإسلامية وأسهمها، لعدم تعلق الزكاة بها، ولأنها تحتاج إلى دراسة واسعة ... كما لا أتكلم عن الشركات الدولية التي لا يمتلكها أشخاص معينون؛ لأن الزكاة لا تجب فيها. فليكن بحثنا إذاًَ محصوراً في الشركات الإسلامية التي يملكها أفراد معينون وأسهمها، وحكم الزكاة فيها ... وسيكون كلامي في هذا الموضوع منقسماً إلى ثلاثة مراحل: مبحثين، وخلاصة، مع حفظ الإيجاز في كل. إن شاء الله. المبحث الأول: حول كل من: الشركة، والسهم، والزكاة: لغة، واصطلاحاً، وحكماً وحكمة. المبحث الثاني: في أنواع الشركات. الخلاصة: في تقرير المسألة مما سبق في المبحثين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 545 المبحث الأول فصل: في الشركات: لغة، وشرعاً، وحكمها في الأصل، وحكمة تشريعها. الشركات في اللغة العربية: جمع شركة (بكسر الشين وسكون الراء) ، وقد تفتح الشين وتكسر الراء، والأول أفصح، ومعناها خلط أحد المالين بالآخر، بحيث لا يمكن التمييز بينهما. ويقال: شركته في الأمر، أشركه شركة وشركة إذا صرت له شريكاً. ويقال أيضاً: شاركه في شركة، أي صار شريكه فيها، كما يقال: اشتركا في كذا وتشاركا في كذا، في البيع، والشراء، وفي الإرث، وما إلى ذلك من العقود والامتلاك. والشركة في اصطلاح الفقهاء: ثبوت الحق شائعاً في شيء واحد، أو عقد يقتضي ذلك، وهي أيضاً عبارة عن عقد بين شخصين فأكثر على الاشتراك في رأس المال وربحه، أو في الربح وحده إذا لم يكن رأس مال، أو كان المال من طرف والعمل من طرف آخر. ولكنها تختلف باختلاف أنواعها؛ لأنها تتنوع إلى عدة أنواع، كما سنذكره إن شاء الله. وحكم الشركة مبدئياً: الإباحة، فقد أباحتها الشريعة بمصادرها الأساسية: الكتاب، والسنة، والإجماع. ففي الكتاب قوله تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} النساء: 13: قد بينت الآية أن إخوة الميت الذي ليس له ولد ولا والد يشتركون في ثلث المال الموروث. وفي الحديث القدسي: قوله تعالى: ((أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما)) رواه أبو داود، والحاكم، والبيهقي. وفي الحديث النبوي: قوله صلى الله عليه وسلم: ((يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا)) ، رواه الدارقطني، فالشركة محمودة ومبرورة إذا حفظ كل شريك حق شريكه الآخر فيها. وقد وقع التشارك في الأموال وتنميتها بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض من أصحابه، كما حصل بينه وبين سلمان الفارسي رضي الله عنه. وأبرمت الشركات بين كثير من الصحابة من بعضهم البعض، كما ثبت في الأخبار والآثار. والإجماع منعقد على إباحة أصل الشركة، إلا ما قام الدليل على حرمتها، أو أصبح ذريعة لأكل أموال الناس بالباطل، كما نقل الشوكاني في "نيل الأوطار" عن ابن بطال، وكما نقل محقق كتاب "خبايا الزوايا" للزركشي عن ابن حزم في "مراتب الإجماع " وكما في "بداية المجتهد" لابن رشد. وحكمة مشروعية الشركة في نظر الإسلام: التعاون بين أفراد المجتمع بالمحافظة والتنمية والتوفير. وفتح مجال العمل والاستثمار أمام المجتمع، كما في شركة المضاربة بصورة ظاهرة، فقد يكون لدى أحد الأشخاص مال، ولكن لا يستطيع استثماره، كما قد يكون لدى أحد الأفراد خبرة واستعداد في التجارة ولكنه خالٍ عن رأس مال. ومن هنا أجاز الإسلام عقود الشركات كالمضاربة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 546 فصل في الأسهم، لغة، واصطلاحاً اعلم أن الأسهم في اللغة: جمع سهم، وهو الرمح، والنصيب، والحظ، ويجمع على سهام، وسهمان، وأسهم، وسهمة. والسهم هو الرمح في باب الرمي والصيد، وهو: النصيب والحظ في المال في باب الشركة، والغنيمة والإرث. وهو النصيب والحظ في الشيء المشترك، وهذا الأخير هو المراد في: "باب الشركة" عند الفقهاء. وبهذا كله نعلم أن السهم في اصطلاح الفقهاء في باب الشركة الذي نحن فيه، هو نصيب الشريك في مال الشركة، أياً كانت الشركة، أي مقدار ما يمتلكه فيها من رأس مال وربح، إذا كان هناك رأس مال، أو من ربح فقط إن لم يكن هناك رأس مال. والله أعلم. فصل في الزكاة، لغة، وشرعاً وحكماً وحكمة الزكاة في اللغة: التطهير، والنماء، والزيادة، والإصلاح، وأصلها من زيادة الخير، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} الشمس: 9. ويقال: زكاة الزرع إذا نما، وزكا يزكو زكاة، وكل شيء إذا زاد فقد زكا. وأما الزكاة شرعاً: فهي اسم لأخذ شيء مخصوص، من مال مخصوص، على أوصاف مخصوصة، لطائفة مخصوصة؛ قاله في المجموع. ويقال: هي تمليك مال مخصوص لمستحقه، بشرائط مخصوصة، قاله الجزائري في "الفقه على المذاهب الأربعة". وهي: عبادة مالية مفروضة على كل مسلم يملك النصاب، قاله ابن قدامة في "المغني". وهي: "حق يجب في المال"، كما هي: إعطاء جزء من النصاب إلى فقير ونحوه، غير متصف بمانع شرعي يمنع من التصرف فيه، ذكره الشوكاني في "نيل الأوطار"، والمودودي في "فتاوى الزكاة" له. والزكاة: هي الركن الخامس من أركان الإسلام عند جميع الأمة، فيكفر جاحدها، ويفسق من لو يؤدها. قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} البقرة: 43. وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} التوبة: 103. وفي الحديث الصحيح: ((بني الإسلام على خمس..)) وقال فيه: (( ... وإيتاء الزكاة..)) رواه: البخاري ومسلم في الصحيحين. وفي حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول: ((اتقوا الله، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة مالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم)) ، رواه: الترمذي وحسنه وصححه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، كما نقله الحافظ الزيلعي في نصب الراية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 547 فصل في مقاصد الزكاة، والأموال التي وجبت فيها للزكاة مقاصد كثيرة وحكم عالية؛ إذ هي قبل كل شيء غرس لمشاعر الحنان، وتوطيد لعلاقات التعاون بين الناس، وهي مظهر التعاون، وعلامة الأخوة بين المسلمين، ووسيلة التكافل بين طبقات المجتمع وأفراده. ومبعث حكمها ومدار مقاصدها: أنها تقوم على تضامن الأفراد؛ لأن نزول الأغنياء من مبلغ معلوم زائد عن حاجتهم الأساسية لمن يستحقه من الفقراء فيه تحقيق معنى التضامن الذي أوجبه الله بين المسلمين، قياماً بحق الفقراء، وسد حاجاتهم، وحفظ كرامتهم عن ذل السؤال، فيطهر قلوبهم من الحقد والحسد للأغنياء، ففي الآية الكريمة إشارة إلى ذلك: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} التوبة: 103 أي: تطهر نفوسهم وتزكي أعمالهم، كما فسرها بعض المجتهدين كالماوردي في "الأحكام السلطانية" وابن تيمية في فتاويه، والقرطبي في تفسيره. ويقول الزمخشري عقب تفسير قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} الحديد: 7: (إن هذه الأموال التي بين أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، وإنما مولكم إياها وخولكم الاستمتاع بها، وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها، فليست هي أموالكم في الحقيقة، وما أنتم إلا بمنزلة الوكلاء، والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله، وليهن عليكم الإنفاق منها، كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أذن له) الكشاف 3/200. ويقول القاضي ابن العربي: إن الله خص بعض الناس بالأموال دون بعض، نعمة منه عليهم، وجعل شكر ذلك منهم: أن يتضح في صورة إخراج سهم يردونه إلى من لا مال له. نيابة عنه سبحانه، فيما ضمنه بفضله في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} هود: 6، كما في أحكام القرآن. ويقول الإمام الرازي في التفسير الكبير: "إن الفقراء عيال الله، والأغنياء خزان الله؛ لأن الأموال التي في أيديهم أموال الله، فليس بمستبعد أن يقول المالك لخازنه: اصرف مبلغاً مما في تلك الخزانة إلى المحتاجين من عيالي" 16/103. وإنها تطهر النفس من وباء الشح ومرض البخل، فيستحقون الفوز والفلاح، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الحشر: 9. وإن الأموال التي تجب فيها الزكاة فهي معروفة مبينة في كتب الفقه وهي: الأموال النامية بطبيعتها، أو المعدة للنماء. كالأنعام السائمة التي قصد منها التناسل، وكالزروع المزروعة للاقتيات وغيره وكالنقود وعروض التجارة. فالزكاة تجب في هذه الأموال النامية، سواء كانت أموالاً مشتركة أو خاصة بشروطها المعروفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 548 وإليك شيء يسير من أدلة وجوب زكاة تلك الأنواع: فما يستدل لوجوب زكاة الأنعام: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البر صدقته)) رواه الحاكم بإسنادين صحيحين عن أبي ذر، كما في سبل السلام، والمغني، ونصب الراية. وتوضيح مقادير هذه الصدقة مروية في كتب السنة والصحاح: مثل حديث أنس رضي الله تعالى عنه، وهو المعروف "بكتاب أبي بكر"، وهو في البخاري، وسنن أبي داود والحاكم والطحاوي. وفي كتاب عمر رضي الله تعالى عنه مثله، عن أبي داود والترمذي، وابن ماجه، والبيهقي، وابن أبي شيبة، وأحمد، والحاكم. وكتاب عمرو بن حزم رضي الله تعالى عنه مثل ذلك، كما أخرجه: النسائي، وأبو داود والطبراني، وابن حبان، وعبد الرزاق. ومن أدلة زكاة النقود: قوله صلى الله عليه وسلم: ((هاتوا ربع العشر، من كل أربعين درهماً درهم، وليس عليكم شيء حتى تتم مائتي درهم، فإن كانت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم، فما زاد فعلى حساب ذلك)) . رواه: الدارقطني، وأبو داود والبيهقي. والإجماع منعقد على ذلك كما نقله ابن حزم في مراتب الإجماع، وابن رشد في بداية المجتهد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 549 ومن أدلة زكاة الزروع قوله: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} الأنعام: 141. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فيما سقت السماء والسيل والبعل العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر)) رواه: البيهقي والحاكم وصححه. والاجتماع منعقد عليه كما نقله ابن حزم في مراتب الإجماع، وابن رشد في بداية المجتهد. ومن أدلة زكاة التجارة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} البقرة: 267 فقد قال مجاهد: إنها نزلت في التجارة. وحديث سمرة بن جندب رضي الله عنه: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع)) رواه أبو داود، والدارقطني، والبزار. وقد اختلف العلماء في زكاة التجارة إلى مذهبين: فالمذهب الأول: تجب الزكاة إذا حال الحول، وهو قول جماهير العلماء من السلف والخلف، وقال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة، وهو مذهب: الثوري والأوزاعي، والشافعي، وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وأبي عبيدة. ومالك يوافقهم في نوع، وفي نوع يقول فيه: زكاة عام واحد. والمذهب الثاني: لا تجب الزكاة في التجارة، وهو مذهب: داود وغيره من أهل الظاهر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 550 وأما زكاة الشركات التي نحن بصددها: فإن الزكاة فيها بغير خلاف معتبر. وأدلتها هي نفس الأدلة السابقة عموماً. والأحاديث التي وردت بلفظ الخلطة بصفة خاصة، مثل خبر أنس رضي الله تعالى عنه وفيه: (( ... لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)) رواه البخاري وغيره. وفي الخبر المشهور بكتاب عمر رضي الله تعالى عنه: "ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع مخافة الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية" رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه، والبيهقي، ومثله ما في كتاب عمرو بن حزم، عند أبي داود والنسائي، وغيرهما. هذا وتجب الزكاة في العملات المعدنية والورقية للقوة الشرائية التي منحت لها بحكم القانون، فقامت بذلك مقام الذهب والفضة، وهو قول جمهور الفقهاء، فقد أجمع الفقهاء الثلاثة من الأئمة على وجوب الزكاة فيها، وخالفت الحنابلة فقط. ولوجوب زكاة الأموال –سواء كانت أموالاً مشتركة أو خاصة- شروط الزكاة المعروفة، ونذكر منها: - أن يبلغ المال المملوك "نصاباً"، وهذا المقدار هو الذي يعتبره الإسلام مظهر الغنى، مع من يعولهم من الأهل. قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} البقرة: 219 والعفو: ما زاد من الضرورات اللازمة. وفي الحديث: ((إنما الصدقة عن ظهر غنى)) رواه أحمد والبخاري، وهذا هو حد الكفاية عند حسابات الزكاة، وهو المسمى (بالنصاب) ، قاله حجة الله الدهلوي. - وأن يحول عليه الحول، وهذا شرط لوجوب زكاة جميع الأموال، ما عدا الزرع والركاز والمعدن، والربح والنتاج. ففي حديث علي رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا زكاة في مال حتى يحول الحول)) رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وابن عدي ومالك في الموطأ والشافعي في مسنده وابن ماجه والبيهقي وأبو عبيد في كتاب الأموال، نقله الحافظ الزيلعي في نصب الراية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 551 وفي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من استفاد مالاً فلا زكاة فيه حتى يحول الحول)) رواه الترمذي والدارقطني والبيهقي وابن أبي شيبة، كلهم موقوفاً إلا الترمذي فمرفوعاً. ومن هذا كله نعلم أن الزكاة تجب في أموال الشركة إذا بلغت نصاباً، ولو لم تبلغ كل حصة من حصص المشتركين فيها النصاب وحدها كما يقول الشافعي، ويؤيده أحاديث الخلطة السابقة، فللخلطة والشركة عند الشافعي ومالك وآخرين من الفقهاء تأثير في وجوب الزكاة ومقدارها، في المواشي والزراعة والنقود وعروض التجارة كما ذكره صاحب "كفاية الأخبار" وبداية المجتهد، نقل ذلك المودودي في "فتاوى الزكاة" له مع تعليق صاحب التعليق. والأحسن أن تقوم الشركة بعد طرح نفقاتها من أجر ومرتب العمال غير المشتركين مع طرح الأسهم التي لم تبلغ الحول منذ دخولها في الشركة، بأداء زكاة سائر الأسهم بإذن أصحابها على الأصح؛ لأن لها تسهيلات إدارية وليس هناك أي أصل من أصول الشريعة ينافي ذلك، قاله المودودي في فتاوى الزكاة، مع توسع بسيط. هذا ما ذهب إليه الشافعي ومالك من الفقهاء، فقد اتفقوا: أن الشركاء يزكون عن شركتهم زكاة المال الواحد، باعتبار المقدار الواجب. وتنظر العروض التجارية إذا حال الحول –من تاريخ البدء- إلى ما بقي لدى معارضها ومخازنها من رصيدها، فتقومها وتجمع القيمة إلى ما عندها من نقود، ثم تؤدي زكاة المجموع، وتنظر –أيضاً- إلى النصاب في أول الحول وآخره، ولا تنظر ما طرأ خلال الحول من زيادة أو نقصان، قاله المودودي. وتقع مسؤولية ما إذا قل سهم من أسهم الشركة عن النصاب –وقلنا طرح مثل ذلك السهم- على مالكه، فإن كان لديه ما يكمله من شركة أخرى، أو رأس مال آخر، فعليه زكاة ذلك المطروح مع ما لديه، وإلا فلا. قاله المودودي. ومن ساهم في الشركة بعمله فقط، فإن لم يأخذ حصته من الربح ولم يقسم له حتى حال الحول الثاني –مثلاً- فإن في سهمه الزكاة. كما قاله المودودي في "فتاوى الزكاة". وأعتبر أنه أصاب الحكم الحق في هذه المسألة. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 552 المبحث الثاني أنواع الشركات تنقسم الشركة إلى قسمين: "شركة أملاك"، و"شركة عقود": 1- شركة أملاك: وهي أن يمتلك أكثر من واحد مالاً من غير عقد، سواء كان التملك تملكاً إجبارياً، كالتملك بالإرث ونحوه، أو تملكاً اختيارياً، كاشتراك اثنين فصاعداً عيناً معاًَ بالشراء مثلاً. وهذا النوع من الشركة جائز عند الجميع، وبه وردت الآية الكريمة السابقة: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} . النساء: 12. فإن بقي مثل ذلك المال مشتركاً حتى يحول الحول ولم ينقص عن النصاب، مع كونه مالاً زكوياً –كالماشية، والنقود، وعقود التجارة- فإن الزكاة تجب على المشتركين في هذا المال، على مقدار الأسهم. ففي الماشية بلا خلاف، وفي غيرها على الأصح. 2- وشركة عقود: وهي عبارة عن العقد الواقع بين شخصين فأكثر للاشتراك في مال وربحه. وهي تنقسم إلى أقسام، هي: " شركة العنان "، و" شركة المفاوضة "، و" شركة الأعمال "، و" شركة الوجوه "، و" شركة المضاربة "، ولهذه الشركات أركان وشروط. 1- شركة العنان: ويقال: الشركة بالأموال: هي أن يتعاقد اثنان فأكثر على الخلط للاشتراك بمبلغ معين من مالهما للتجارة فيه على أن يكون الربح بينهما، واشترطا على أن لا يتصرف أحدهما إلا بإذن صاحبه. وبعبارة أخرى هي: أن يشترك أكثر من واحد في رأس مال بأسلوب عقد مشترك، على أن يكون الربح الناتج منه مشتركاً بينهما بقدر رأس مال كل منهما، إذا كان العمل على السواء، وإلا اعتبر لصاحب العمل في الربح عمله ورأس ماله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 553 وهذا النوع من الشركة جائز عند الجميع أيضاً. ولشركة العنان أركان وشروط: فأركانها: المتعاقدان، ورأس المال المشترك، والصيغة، عند أكثر العلماء، واقتصر بعضهم، وهم الحنفية ومن تبعهم على ركن واحد وهو الإيجاب والقبول كما نقل. وأما الشروط: فيشترط لكل من المتعاقدين: الحرية، والرشد، والبلوغ. والصيغة: أن تشتمل على ما يفيد الشركة عرفاً، والإذن بالتصرف لمن يتصرف منهما بالبيع والشراء ونحوهما. ولرأس المال: اختلاط المالين من غير تمييز، واتحادهما في الجودة، ولو تفاضلاً في القدر، وكونهما معلومين لدى المتعاقدين. ويشترط أيضاً أن يكون الربح والخسارة بحسب نسبة المالين، قلة وكثرة. وأن يكون الجزء المستحق لكل واحد من المشتركين من الربح جزءاً معلوماً مشاعاً. وتلك الشروط مما اتفق فيه عند الأكثر. وهذه الشركة جائزة عند الجميع كما سبق، وكما نقل الخطيب الشربيني في المغني على المنهاج. وعمل الصحابة والتابعين جار. وهذه الشركة: تجوز في جميع أنواع الأموال، فمن ادعى الاختصاص بنوع فعليه الدليل. وفي الحديث: عن أبي المنهال: ((أن زيد بن أرقم والبراء بن عازب كانا شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهما: أن ما كان بنقد فأجيزوه، وما كان بنسيئة فردوه)) . رواه أحمد والبخاري، ودل هذا الحديث جواز الشركة في الدراهم والدنانير، وهو إجماع كما قاله ابن بطال ونقله الشوكاني في نيل الأوطار. 2- وشركة الأبدان: وهي شركة الأعمال: أن يشترك محترفان فأكثر بعقد من غير مال، على أن يعملا معاً بأبدانهما، ويقتسما أجرة عملهما، وعلى أن يتقبلا الأعمال، ويكون الكسب بينهما، فيصير كل واحد منهما وكيلاً عن الآخر في تقبل الأعمال والعمل، فتكون الأضرار الناجمة عن الأعمال عليهما معاً، وإن لم يعمل بعض منهم. وهذه الشركة – أي شركة الأعمال - قد أجازها كل من: الحنفية والمالكية والحنابلة وغيرهم، ومنعتها الشافعية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 554 وقد استدل الجمهور لجوازهما بأحاديث مثل حديث أبي عبيدة: عن عبد الله قال: "اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر، قال: فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء"، رواه أبو داود، والنسائي وابن ماجه. وأجابت الشافعية عن مثل هذا الحديث: بأن غنائم بدر كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يدفعها لمن يشاء، وأظن أن الحق في هذه المسألة مع الجمهور، والله أعلم. 3- وأما شركة الوجوه: فهي: أن يشترك أكثر من شخص ليس لهما مال، ولكن لهما وجاهة عند الناس، على أن يشتريا تجارة بثمن مؤجل، ويكون الربح بينهما. أو: أن يتفق ذو جاه مع خامل، على أن يبيع الوجيه تجارة الخامل، على أن يكون له جزء من الربح بدل الأجرة. أو: أن يشتركا –أي المفلسان- في شراء تجارة بثمن في ذمتهما اعتماداً على وجاهتهما، ثم يبيعانه، والربح بينهما على ما اتفقا به. وقد أجاز هذا النوع من الشركة: كل من الحنفية والحنابلة ومن تبعهم، ومنعها كل من الشافعية والمالكية ومن تبعهم. ولعل الأصل يؤيد المجوزين، فقد قال الشوكاني في "نيل الأوطار": إن "الأصل جواز جميع أنواع الشركة المفصلة في كتب الفقه، فلا تقبل دعوى الاختصاص بالبعض إلا بدليل" الجزء الخامس صفحة (392) نشر وتوزيع رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 555 4- وأما شركة المفاوضة: فإنها هي أن يتعاقد اثنان فصاعداً على الاشتراك بأموالهما من غير خلط المالين ببعضهما البعض قبل العقد. أو أنها: الاشتراك في استثمار المال مع تفويض كل واحد لصاحبه في الشراء والبيع والمضاربة والتوكيل، والبيع بالدين، والارتهان، والضمان، ما عدا الكسب النادر. أو: اشتراك أكثر من واحد في الاتجار بماليهما على أن يكون لكل منهما نصيب في الربح بقدر رأس ماله، بدون تفاوت، مع التصرف المطلق لكل منهما، في البيع والشراء والغيبة والحضور. أو: أن يتعاقد اثنان فأكثر على أن يشتركا في ربح ماليهما، وما سيكون عليهما من ضمان من غير اختلاط المالين. وهذا النوع من الشركة قد جوزه كل من الحنفية والمالكية ومن معهما، ومنعته الشافعية والحنابلة، وقد نقل عن الإمام الشافعي: أنه عد هذه الشركة من أشد العقود بطلاناً كما نقل عنه الخطيب الشربيني في المغني على المنهاج: قال: "قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فلا باطل أعرفه في الدنيا"، نقله في الجزء الثالث صفحة (212) ط: مطبعة الاستقامة بالقاهرة 1374هـ - 1955م، وأشار إلى ما فيها من غرر. ودليل المجيزين: عموم أحاديث الشركة السابقة، مع ما نقلناه عن الشوكاني في "نيل الأوطار" قريباً. 5- وشركة المضاربة: وهي: القراض: فإن الحنفية لم تعدها من أقسام الشركة، وقد عدها الآخرون منها. وهي: عقد بين طرفين: صاحب مال، وعامل، على أن يشتركا في الربح –لاعتبار هذا، سمي العقد شركة - ورأس المال من طرف، والعمل من طرف آخر، ولاعتبار هذا لم تسم بشركة. وهي مطلقة ومقيدة، وكلاهما جائز عند الفقهاء، كما قاله ابن حزم في مراتب الإجماع، حين قال: "لكل أبواب الفقه أصل من الكتاب والسنة حاشا القراض فما وجدنا له أصلاً البتة، ولكنه إجماع مجرد". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 556 وكان القراض معمولاً به في الجاهلية: ((قارض النبي صلى الله عليه وسلم في مال خديجة رضي الله تعالى عنها قبيل زواجه بها)) ، وأقره الإسلام، ومما يستدل لذلك آثار عديدة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم. منها: ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه: "أنه أعطى مال يتيم مضاربة" "رواه الشافعي والبيهقي وابن أبي شيبة ". ومنها: ما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه "أنه أعطى مالاً مضاربة" رواه البيهقي. ومنها: ما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه أعطى زيد بن جليدة مالا مضاربة. رواه الشافعي والبيهقي. ومنها ما روي أنه جرى بين عبد الله وعبيد الله ابني عمر رضي الله عنهما مع أبيهما في المال الذي أمرهما أبو موسى الأشعري من العراق ليتجرا به مضاربة إلى المدينة ويبلغاه إلى عمر رضي الله تعالى عنه، وقد فعلا ذلك وربحا منه، وتشاجرا مع عمر رضي الله تعالى عنه، فأخيراً قيل: إنها مضاربة. رواها مالك في الموطأ والشافعي والدارقطني. انظر المغني لابن قدامة والهداية ونصب الراية. وإذا تتبعنا تلك الشركات ولا حظنا قواعدها وشروطها وقسنا عليها الشركات المعاصرة: نلاحظ أن الألقاب قد تغيرت والأساليب قد تعددت. فإذا اعتبرنا أن هذه الشركات الإسلامية شركات مالية ذات ثروة طائلة، فإن الزكاة تجب فيها جملة واحدة، فإن أخرج من مجموعها فلا بد أنها ستكون على قدر الأسهم. لأن الزكاة واجبة على مشتركيها في أموالها على مقدار الأسهم – رأس مال وربحاً. فإن كانت الشركة كـ " شركة عنان " أو طابقت شروطها ومقاصدها، فالزكاة تجب على أصحاب الشركة إذا حال الحول ولم ينقص المال أي قيمته عن النصاب. والأحسن –كما أشرت سابقاً- إن كان للشركة مركز إداري أو مدير عام أن يؤدي الزكاة من مركزها بعد سداد نفقاتها رأس مال وربحاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 557 وكذلك نقول في أنواع الشركات الأخرى، إلا أنها تختلف بعض الشيء؛ لأن في شركة المضاربة مثلاً رأس المال لصاحب المال، فزكاته عليه، والربح مشترك على ما اتفقا فيه –من تساوٍ وتكاثر، فزكاته عليهما وزكاة سهم صاحب المال حولها حول رأس ماله- وزكاة سهم المضارب حولها من ظهور الربح. ولأن شركة الأبدان ليس فيها رأس مال كما هو واضح، وقس على ذلك البقية. وهناك شركات غير إسلامية، فلا نطيل الكلام فيها كما قلت سابقاً، ولكن لا بأس بالإشارة إلى بعض منها. فمن هذه الشركات "شركة التأمين" بأنواعها الثلاثة، فليست من الشركات الإسلامية؛ لما فيها من التغرير والقمار بأموال الناس. لأن العقد الصحيح لا يقع إلا على "العين المعوضة" المأذون فيها، كالبيع أو "العين بلا عوض" كالهبة، أو "المنفعة المعوضة" كالإجارة، أو المنفعة بلا عوض كالعارية، وعقد قد خلا من هذه المظاهر الأربعة؛ لأنه وقع على نوع من الضمان ولم يكن هذا النوع عيناً ولا منفعة، انظر: " فقه السنة " 2/126 -198 -232- 388. ط: 1968م دمشق. والمدخل الفقهي لمصطفى الزرقا: 1/539 -541-549. ومنها شركات البنوك الربوية. ومنها شركة المساهمة بصورها المختلفة الحديثة: المدنية، التجارية، شركات الأموال، الشركات العامة. فلا نتكلم عن زكاة هذه الشركات، ولا أسهمها؛ لأنها لا تتفق مع قواعد الشريعة في الشركات، فقد افتقدت العنصر الأول في الشبه لدى الشريعة الإسلامية، وهو: الجهد البشري، كما لا يخفى. وافتقدت أيضاً شروطاً كثيرة من شروط الاشتراك، مثل: بقاء أهلية الشركاء؛ فإن تلك الشركات لا تتوقف لموت أحد من شركائها، فلهذا أو غيره نعلم أنها غير إسلامية، فلا نتكلم عن الزكاة فيها؛ لأن الزكاة عن مثل هذه الأموال لا تطهرها ولا تزكي أصحابها.. انظر " المجتمع الإسلامي وفلسفته المالية والاقتصادية" للدكتور محمد الصادق العفيفي. انتهى والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 558 الخلاصة لقد تقرر فيما سبق في المبحثين حول الموضوع ما يلي: 1- أن الشركة: هي ثبوت الحق شائعاً في شيء واحد، كثبوت حقوق الورثة في المال الموروث. وثبوت الحق شائعاً في شيء يعقد بين أكثر من واحد كثبوت أسهم الشركاء في المال المشترك بعقد، كما في " شركة العنان ". أو كثبوت أسهم الشركاء في الربح المشترك بعقد كما في " شركة المضاربة " مطلقاً، و" المفاوضة " عند عدم الاختلاط، و"الوجوه" عند عدم رأس المال. أو كثبوت أسهم الشركاء في الربح أو الأجر للمشتركين بعقد، كما في "شركة العمال". والله أعلم. 2- وأن أصل الشركة جائز شرعاً إلا ما قام الدليل على منعه، أو أصبح ذريعة لأكل أموال الناس بالباطل. والله أعلم. 3- وأن من الشركات الجائزة شرعاً بالإجماع: الشركة بالامتلاك في الأشياء المباحة، كالمعادن المحفورة، والبئر.. و"شركة العنان" و"المضاربة" وما تفرع منهما مما لم يخرج عن قواعد الشريعة في حدود الشركات.. والله أعلم. 4- وأن السهم في باب الشركة: هو نصيب الشريك في مال الشركة من رأس مال وربح، كما في "شركة العنان" مثلاً، أو في الربح كما في سائر شركات العقود من مضاربة وغيرها ... والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 559 5- وأن السهم: هو من عين المال المشترك –أياً كانت نوعية المال- وليس هو الورقة المكتوبة لكل شريك، وأن هذه الورقة لا تعدو وثيقة الشركة وبيان مقدار الأسهم الحقيقية لكل المشتركين ... والله أعلم. 6- وأن الشركة مالها مال متحد، ولو تعدد ملاكه، أو تباعدت أماكنه، فإن كان هذا المال مالاً نامياً أو معداً للنماء، وأصبح مجموعه مبلغاً يظهر منه مظاهر الغنى لملاكه، ومظهر المطامع للمحتاجين، فلا بد أن فيه حقاً معلوماً مفروضاً؛ لأن حكمة وجوب الزكاة ومقاصدها متحققة ومجتمعة فيه، ومعظمها ما تشير إليه الآية الكريمة المنزلة في الزكاة المفروضة، قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} التوبة: 103. والله أعلم. 7- وأن وجوب تلك الزكاة في تلك الشركات على المشتركين على مقدار الحصص، وهي الأسهم، فإن سلم أحد الشركاء مبلغ زكاة الشركة، فسيرجع على الآخرين بمقادير أسهمهم: إذا كانوا من أهل الزكاة ... والله أعلم. 8- وأن الأولى والأحسن، والأسهل، لأصحاب الشركة وعاملي الزكاة، إذا كان للشركة مركز عام، أو مدير عام، أن يؤدي هذا المركز أو ذلك المدير العام زكاة مال الشركة كلها، كوكيل عن الآخرين إن كان من أصحاب الأسهم، أو عن المالكين إن لم يكن منهم بإذنهم مقسومة على قدر الحصص بعد طرح المصروفات اللازمة، من أجرة العمال والكراوات ... والله أعلم. 9- وأن الشركات المعاصرة التي لا تتفق مع قواعد الشريعة الإسلامية؛ لأنها تتوفر لها شروط، منها الجهد البشري وحمل رؤوس الأموال وعرضها على الربح والخسارة، وعدم التعامل بالربا والمقامرة، فلا نتكلم عن زكاتها؛ لأن الزكاة لا تطهر مثل هذه الأموال ولا تزكيها، ولا تنفع أصحاب تلك المعاملات صدقة يخرجونها منها، لا دنيا ولا آخرة. إلا إذا تابوا منها وأصلحوا أعمالهم فلهم رؤوس أموالهم.. والله الموفق، وهو يهدي إلى سواء السبيل. والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم. 15/7/1406-24/4/1986 الشيخ هارون خليف جيلي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 560 أهم المراجع 1- القران الكريم. 2- تفسير ابن كثير. 3- التفسير الكبير للرازي. من 16/103 4- الكشاف للزمخشري. من 3/200 5- مغني المحتاج للخطيب الشربيني: من 1/367 إلى 634 ومن: 2/211 إلى 216. 6- الفقه على المذاهب الأربعة الجزائري. من 1/590 إلى 615 7- مراتب الإجماع لابن حزم من: 40-37-105. 8- نيل الأوطار للشوكاني. من: 4/129- 5/390 9- خبايا الزوايا للزركشي. من 24-25-133-136-137-142-283 10- نصب الراية للحافظ الزيلعي. من: 2/327- إلى 376. 11- سنن أبي داود: من: 1/393 – إلى 395، ومن 2/251 – 252 12- سبل السلام من: 1/598 إلى 616 13- فتاوى الزكاة للمودودي من: 12-18-77-81-82-87-78-88 14- جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد. للشيخ محمد سليمان المغربي من 1/214-215-218-387-389. 15- الأموال وطرق استثماره للدكتور شوقي من: 212 16- المجتمع الإسلامي وفلسفته المالية والاقتصادية للدكتور محمد الصادق العفيفي من 310 17- بداية المجتهد لابن رشد من: 1/197 ومن 2/251 18- كتاب الأم للشافعي. من 2/20-24-38 19- فقه السنة للسيد سابق. من: 2/295 20- الموطأ للإمام مالك. من 1/246 21- فتح الباري. من: 3/189 22- المصباح المنير: 254 23- مختار الصحاح: 273 24- منجد اللغة والأعلام 25- المحلى لابن حزم من: 5/234 -199 ومن: 6/69 26- الأحكام السلطانية للماوردي: 119 27- كتاب الأموال لأبي عبيد من: 235-439-688-409-413. 28- أحكام القرآن من: 945 29- المغني لابن قدامة من 1/625 ومن 2/433 30- حجة الله الدهلوي من 2/506 31- فتاوى ابن تيمية 32- المجموع من: 5/324-325-434 ومن: 6/47-48. 33- صحيح البخاري: 110-6: الإيمان والزكاة في: 189 34- صحيح مسلم. 30-32 باب الصلاة وأركان الإسلام وفي: 315 35- سنن الترمذي من 78 وفضل الصلاة 36- سنن النسائي: من: 336 37- سنن البيهقي من 104 38- سنن ابن ماجه من: 2/66-129 39- صحيح ابن حبان 40- نهاية المحتاج من: 5/3 41- بدائع الصنائع للكاساني من: 6/56 42- النقود العربية للكرماني من: 9/18 43- الاختيار لتعليل المختار للموصلي من: 2/27 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 561 زكاة الأسهم في الشركات إعداد فضيلة الشيخ رجب بيوضي التميمي عضو مجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الأسهم في الشركات من الأوراق المالية التي تقوم عليها المعاملات التجارية في أسواق تسمى " سوق الأوراق المالية " وهي سوق منظمة لتداول الأسهم. والأسهم تمثل في الواقع أموالاً مادية موظفة في الإنتاج، ويطلق على هذه الأسهم "القيم المنقولة" في اصطلاح علماء الاقتصاد. وهذه الأسهم حقوق ملكية جزئية لرأس مال كبير للشركات المساهمة، وكل سهم هو جزء من أجزاء متساوية لرأس المال، والسهم ينتج جزءاً من ربح الشركة المساهمة يزيد أو ينقص تبعاً لزيادة ربح الشركة أو نقصه، ويتحمل قسطاً من الخسارة إن تعرضت الشركة المساهمة للخسارة. وللسهم قيمة اسمية وهي قيمته المقدرة عند إصداره، وله قيمة في سوق الأوراق المالية تزيد وتنقص تبعاً لزيادة العرض والطلب وهو كسائر السلع وسيلة للاتجار بالبيع والشراء ابتغاء الربح، وتتأثر قيمة السهم تبعاً لنجاح الشركة ومقدار الربح. ويتبين من هذا أن الأسهم وملكيتها وبيعها وشراءها والتعامل بها حلال شرعاً ما لم يكن عمل الشركة التي تكونت من مجموع الأسهم مشتملاً على محرم كصناعة الخمور وبيعها والاتجار بها، أو كانت من الشركات التي تتعامل بالفوائد الربوية إقراضاً أو استقراضاً أو نحو ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 562 زكاة الأسهم: ولما كانت الأسهم تمثل في الواقع أموالاً مخصصة للاستثمار، ويستطيع مالكها الاتجار بها بالبيع والشراء، ويربح صاحبها بالاتجار كما يربح أي تاجر من بيع سلعته وقيمتها الحقيقية التي تقدر في الأسواق المالية تختلف في البيع والشراء عن قيمتها الاسمية، فهي من عروض التجارة وهي كأموال التجارة ولأن مالك الأسهم يستطيع في أي وقت أن يعيد رأس ماله في الأسهم إلى قالب نقدي له أن يستخدمه في أي وجه يريد، لذلك تجب فيها الزكاة (1) ويؤخذ من مالكها في آخر كل حول ربع العشر من قيمة الأسهم حسب تقديرها في الأسواق، مضافاً إليها الربح بشرط أن يكون الأصل والربح نصاباً أو مكملا مع مال عنده نصاباً. فمالك الأسهم يعرف مقدار أسهمه ويعرف كل عام أرباحها ويستطيع أن يزكيها بسهولة، وهذا الحكم عام في جميع الأسهم سواء أكانت الشركات المساهمة شركات صناعية محضة أم شبه صناعية - أي: أنها لا تمارس عملاً تجارياً - أم كانت شركات تجارية. وإذا أخرج مالك الأسهم زكاة أسهمه وأرباحها عنها فلا يؤخذ من الشركات المساهمة الزكاة حتى لا تؤخذ الزكاة مرتين؛ لأن الأموال التي هي رأس مال الشركة هي عبارة عن الأسهم المملوكة للأفراد والتي زكاها أصحابها. والله أعلم وهو ولي التوفيق. 4 شوال 1406 / 10 / 6 / 1986 الشيخ رجب بيوضي التميمي   (1) كعروض التجارة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 563 زكاة الأسهم في الشركات إعداد فضيلة الشيخ محمد عبده عمر عضو مجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم المبحث الأول: زكاة الأسهم في الشركات المقدمة اطلعت على بعض البحوث التي وصلت إلينا من المجمع تمهيداً لمناقشتها في الدورة القادمة، وكنت أتوقع أن تكون البحوث مقصورة على موضوعية البحث دون الخوض في موضوع الزكاة بوجه عام واستعراض أدلة وجوبها من الكتاب والسنة؛ لكون أدلة وجوبها معلومة من الدين بالضرورة، وركنا من أركان الإسلام الخمسة، فضلا عن جزئيات فقهية لا علاقة لها بصلب الموضوع، وإذا كان لا بد من السماح للقلم بأن يعرج على شيء، فإن الأولى بذلك التعريج على مسائل لها علاقة مفيدة في طلب البحث المطروح، وكنت أود لو أن البحوث المشار إليها تعرضت لها. وهي ما يلي: 1- إيضاح ما علق في أذهان جماهير الأمة الإسلامية في عصور الجهل والانحطاط إلى حد أصبح فيه مفهوم الزكاة يساوي فكرة الإحسان والتفضل. 2- هل في أموال الأغنياء للفقراء حق سوى الزكاة؟ 3- ما هي حدود حق الفقراء في أموال الأغنياء عند تقريره؟ ولكي لا يطول بنا البحث أو يتشعب فقد قسمت الموضوع إلى ثلاثة مباحث: الأغنياء المسلمين، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة: 60 وهي ضريبة إسلامية شرعها الإسلام، تأخذها الدولة من الأموال الظاهرة وغير الظاهرة؛ كالذهب والفضة وسائر النقود، وهي في نظر الإسلام ضريبة إجبارية وفريضة إسلامية محكمة وركن من أركان الإسلام الخمسة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 564 وحارب الخليفة الأول للمسلمين الذين امتنعوا من أدائها معتبراً ذلك خروجاً منهم على الإسلام. والزكاة لا تؤخذ إلا بعد أن يتجاوز ما يمتلكه الإنسان عن حاجته ويرتفع عن مستوى المعيشة المناسب قليلاً. فإذا امتلك المسلم البالغ العاقل من الزروع والثمار والماشية أو عروض التجارة أو الذهب والفضة واستمر في حوزته كل ذلك أو بعضه حولا كاملاً، اعتبر في نظر الإسلام غنياً، ووجب عليه إخراج الزكاة بالمقادير التي حددها الشرع، وهي على وجه العموم عبارة عن 10 % من محصول الزرع والثمار المسقي بماء السماء دون جهد أو عناء، ونصف هذا المقدار إذا أسقي الزرع أو الثمر بعناء ومشقة وبالآلات، و2.5 % من قيمة الذهب أو الفضة أو السلع التجارية أو النسبة المتصاعدة العينية من الماشية حسبما حددته الشريعة الإسلامية. مما تقدم يتضح بكل جلاء بأن مفهوم الزكاة في الإسلام قد تجاوز مرحلة الإحسان إلى فكرة الضريبة الإجبارية، وإلا لما كان هناك معنى لأن يكون الزكاة ركناً من الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام. وهذا هو ما أجمع عليه الصحابة وعلماء الأمة الإسلامية سلفاً وخلفاً وفي كافة العصور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 565 ومن هذا الفهم الإسلامي الصحيح ظهرت فكرة الحق الشرعي في أموال الأغنياء للفقراء، ومما لا شك فيه بأن الأمم والشعوب قد تأثرت بهذا المفهوم للإسلام عبر عصور الإسلام المختلفة، مما جعلها تتحدث في العصر الحديث عن فكرة الحق في أموال الأغنياء للفقراء، بعد أن سبقها الإسلام إلى هذا قبل أربعة عشر قرناً ونيف من الزمن، وبعد أن كان هذا الحق في الضمير الإسلامي جزءاً لا يتجزأ من عقيدته كركن من أركان الإسلام الخمسة التي لا يقوم الإسلام بدونها، وأن الغني الموسر لا يمكن أن يكون خالي الذمة من أي واجب إزاء الفقير المعدم، وإذا كان من السهل أن يتجاهل الغني واجبه أمام هذا الحق الشرعي المفروض فليس من السهل إذا صار هذا الحق واجباً شرعياً للفقير أن تقف السلطة الشرعية مكتوفة الأيدي، ليس فقط لأخذ ذلك الحق الشرعي من الغني وإعطائه للفقير، ولكن الحق الشرعي هنا للسلطة، أخذ ذلك الحق ونصف مال الغني كعقوبة شرعية لذلك الغني الذي أراد أن يتهرب من أداء ذلك الحق، فإذا لم تقم السلطة الشرعية بواجبها فإن الفقراء لن يعجزوا في الوصول إلى حقوقهم بقوة الحق المشروع لهم في الإسلام. فلم تكن فريضة الزكاة فكرة إحسان؛ لأن الإحسان يمثل واجباً لاحقاً، ومن هنا ساد الفهم الخاطئ في عصور الجهل والانحطاط من أن فكرة الزكاة تساوي فكرة الإحسان، الأمر الذي جعل الأغنياء ظالمين، واستطاعوا أن يلبسوا مفاهيم هذا الحق الشرعي بمفاهيم الإحسان حتى تضعف قوة المطالبة به من ناحية الفقراء، طالما هو إحسان وتفضل وليس حقا واجبا فرضه الإسلام وجعله ركناً من أركانه الخمسة. كما أن تحويل فكرة هذا الحق الشرعي إلى فكرة إحسان جعل الدولة لا تدخل إلى جانب الفقير؛ لأن درجة الإلزام هنا قد ضيعت بضياع فكرة الحق الواجب ولم يبق إلا فكرة الإحسان. الأمر الذي جعل الناس لا يشعرون بإزاء فكرة الإحسان أنها تتمتع بدرجة عالية من الإلزام للناس. وقد عرفوا طوال عصور الجهل والانحطاط وفي عصور غياب الوعي الإسلامي الصحيح لهذا الركن الإسلامي بأن الخلق لا يمكن أن يرقى إلى سلم الإلزام للحق الواجب الشرعي. إضافة إلى أن فكرة الإحسان خالية من الشروط الضرورية لتدخل الدولة، ولا يمكن أن نجبي من الإحسان ضريبة محددة المقادير مبينة الشروط. فالإحسان ليس هناك تحديد لمقاديره، ولا بيان واضح دقيق لمن يجبي الإحسان، ومن يجبي الإحسان إذا تجرد من فكرة الحق الواجب شرعاً. وواضح الأمر موكول بجملته إلى الأغنياء، متروك لمدى شعورهم بواجبهم إزاء الفقراء والمعوزين، وهو شعور يغالبه الحب الطبيعي للمال والنفور من بذله وإنفاقه، فكانت النتيجة أو المحصلة أن انصرف الناس عن الإحسان تدريجيا وسقط الفقراء في هوة سحيقة من البؤس والعوز دون أن يجدوا من نظام المجتمع عوناً أو كافلاً. لا شك أن في المال حقاً سوى الزكاة، وأن الزكاة ليست هي كل الواجب، وهذا ما قرره كثير من علماء السلف والخلف. وأن الواجب الإسلامي لا يتم إلا بتحقيق وسائل الحياة الكريمة للطبقة الفقيرة، وبذل ما يحتاج إليه هذا الهدف الإسلامي الجليل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 566 وقد أشار ابن حزم في الجزء السابع من كتابه المحلى إلى أن تحقيق مستوى الحياة الكريمة للطبقة الفقيرة حق شرعي وواجب اجتماعي يجب على الدولة أن تضطلع به، ولا يجوز أن تتركه لجهود الأفراد، وأن للحاكم أن يأخذ من أموال الأغنياء ما يحقق به هذا الغرض إذا لم تف الزكاة به. والمغزى الاجتماعي لهذه الفكرة واضح، وهي تجعل المجتهد لا يفكر في تمديد واجب الأغنياء نحو الفقراء، ولكنه يفكر في ضرورة تحقيق مستوى خاص من الحياة لكل فرد من أفراد الطبقة الفقيرة. ومعلوم بأن الحكم الشرعي يؤخذ من نصوص الكتاب والسنة ومن القياس والإجماع. والفقيه عندما يقوم بمهمته الاجتهادية إنما يتجه إلى نصوص الكتاب والسنة ليستخلص منها الحكم الشرعي طبقاً للقواعد المقررة في أصول الفقه الإسلامي. ونحن هنا لا نحب أن ندخل في تفصيلات طرق استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها، فهذا لا يعنينا هنا، وإنما الذي يعنينا بصورة خاصة هو طبيعة هذا المنهج من ناحيته الإيجابية والسلبية، فهو من الناحية الإيجابية ينحصر في النصوص، ويجتهد في استخلاص الأدلة وصولاً إلى الحكم الذي يدل عليه النص، أو يشهد له القياس أو الإجماع ثم الاستنباط، وانتهت المهمة. وواضح أن هذا المنهج الاجتهادي لا بد من توافره كشرط ضروري للاجتهاد، إلا أن هذا المنهج يجب أن لا يغفل تطور الحياة الإنسانية، بل عليه أن ينظر إلى مصادر الأحكام الاجتهادية من واقع الإنسانية التي جاءت هذه الأحكام لتنظيمها. خاصة إذا علمنا بأن واقع التراث الاجتهادي الفقهي يعلمنا بأن المصادر الشرعية الاجتهادية عندما تؤخذ بعيداً عن واقع الحياة البشرية تظهر تلك الأحكام الفقهية التي تشق على الناس، علماً بأن الشريعة ليس فيها حرج أو مشقة، وهذا أمر مفروغ منه أصولياً، ولكن مرد ذلك إلى النظرة الفقهية الاجتهادية بمعزل عن الظروف التي استجدت في المجتمع من عصر إلى آخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 567 وإذا كان لمجمعنا من خصائص يمتاز بها على بقية المجامع الفقهية، فإنه إلى جانب أنه أول مجمع عالمي يضم في إطاره الأمة الإسلامية، فإن تفكير العقلية الاجتهادية لمجمعنا يجب أن لا تكون محصورة في دائرة النصوص، أو على استخلاص دلالتها. 1- لأننا نعتقد بأن باب الاجتهاد مطلق، وما مجمعنا الموقر إلا إثبات لهذه الحقيقة التي تنسجم مع عقيدة المسلمين بخلود الدين الإسلامي إلى قيام الساعة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان قادراً على استيعاب واقع الحياة البشرية المتطور في كافة مراحلها. ومن هنا فإن النظرة الاجتهادية لا بد وأن تستوعب البيئة المحيطة به، وما يعتمل فيها من فقر وبؤس من ناحية، وانغماس الأغنياء في الترف والنعيم وعدم اكتراثهم بمن حولهم من شقاء وبؤس العيش من ناحية أخرى، ومن هنا لا بد للمجتهد من نظرة واسعة يقتضيها تطور المجتمع وانعكاساته على أوضاع الناس، بحيث ينظر ليس فقط بعقلية من يريد أن يجمع النصوص ومصادر الاجتهاد كي يستخرج منها دلالتها على الأحكام الشرعية، بل لا بد وأن يضيف إلى ذلك روح من يعتقد بأن الشريعة الإسلامية إنما جاءت لتحقيق السعادة الإنسانية ومحو مظاهر البؤس والفاقة من المجتمع، وأن مهمته الكبرى هي النظرة الفقهية إلى استخلاص العلاج الإسلامي الكامل من تلك المصادر والنصوص الشرعية، إلى جانب النظرة الموضوعية إلى واقع الحياة البشرية التي تطلب علاج أمراضها من شريعة الإسلام، خاصة إذا ما علمنا بأن هذه النظرة الفقهية إلى النصوص الشرعية قد سبقنا إليها أئمة من السلف كانت لهم الإمامة الفقهية في عصورهم، منهم الإمام الكبير والفقيه الحجة ابن حزم الظاهري الذي شعر في عصره بمشكلة الفقر في المجتمع، وتجرد في نظرته الفقهية إلى النصوص بروح النظرة الموضوعية للمصلح الاجتماعي والعقل المفكر الحر للبحث عن علاج حاسم لها في دائرة الإسلام. ولم يكن ابن حزم مجرد فقيه عادي، كل همه دراسة النصوص ودلالتها دون التفكير في الإنسان وشقاء الإنسان واختلاف الزمن وتطور المجتمع. وقبل الإمام ابن حزم علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال: "إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي الفقراء، فإن جاعوا أو عروا فبمنع الأغنياء، وحق على الله أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه". وعلى هذا فإن المفروض إذاً هو ما يكفي الفقراء، وليس الزكاة وحدها، والذي يكفي الفقراء يتناول ما يسد حاجة الجموع، ويوفر لهم الغذاء والكساء، هذا الحق في مال الأغنياء غير الزكاة قرره علي بن أبي طالب وكبار علماء السلف والتابعين، وليس ابن حزم إلا معبراً عن هذا الاتجاه الإسلامي العظيم للسلف الصالح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 568 وهذا مبدأ عام في الشريعة الإسلامية يشترك في فهمه جميع علماء الأمة الإسلامية. 2- أما حق الفقراء في أموال الأغنياء إذا لم تف الزكاة بحياة كريمة لهم فقد تقرر من مبادئ الإسلام ونصوص الشريعة كما فهمه السلف وطبقه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، ونخلص من هذه النقطة إلى تقرير حق شرعي في أموال الأغنياء للفقراء إذا لم تف الزكاة بذلك، وإن مبادئ الإسلام العامة قد أعطت الحاكم أو السلطة أخذ هذا الحق بما يحقق المستوى الاجتماعي للفقراء. 3- أما حدود هذا الحق فقد أشار الإمام ابن حزم بقوله: (يقام للفقراء بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه ومن اللباس للصيف والشتاء بمثل ذلك ومسكن من المطر والشمس) . وهنا نجد أن هذا الفكر الإسلامي في مستوى سام على هذا النحو الرحب الذي يتضمن الغذاء والكساء والمسكن، وجعله حقاً للطبقة الفقيرة، يعبر عن روح الإسلام وجوهره الحقيقي. ومن هنا فإن واجب علماء الإسلام المجتهدين لا يقف عند الحديث عن الزكاة وأنواعها ومقاديرها، وأن لا يكون همه أيضاً فقط موجها إلى استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها فقط، وإنما أيضا إلى ذلك كله النظرة الفقهية الرشيدة والحكيمة إلى المجتمع وحاجاته؛ لأننا قد علمنا بأن في أموال الأغنياء حقاً سوى الزكاة. وأن الله قد فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، ولهذا فإن الحاكم أو السلطة لها أن تأخذ من أموال الأغنياء ما لا بد منه لتحقيق المستوى المناسب من الحياة للفقراء وتمكينهم من الاستمتاع بها، وإن تجاوزت في ذلك حدود الزكاة. إذن نخلص من هذه الفقرة في نهاية المبحث الأول إلى أن هذا الحق ليس محدداً، ولن تقف حدوده الشرعية إلا عند مستوى الحياة الكريمة للطبقة الفقيرة. وواضح بأن ذلك كله يتجاوز حدود الزكاة، وبالتالي يجب أن يكون مرناً قابلاً للزيادة والنقص؛ حتى تستطيع الدولة مواجهة كافة الظروف، وتكفل للفقراء حياتهم الكريمة، ولا تعجز عن الوفاء بها إذا زاد عدد الفقراء في المجتمع، وبحيث يفي هذا الحق الذي تجاوز حدود الزكاة منضماً إلى ضريبة الزكاة، تحقيق الهدف الإسلامي العظيم، وهو محو الفقر والبؤس من المجتمع الإسلامي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 569 المبحث الثاني أنواع الشركات أنواع الشركات المعروفة في فقه الشريعة الإسلامية. 1- عرف في فقه الشريعة الإسلامية على سبيل الإجمال نوعان من أنواع الشركات هما: 1- شركة أملاك، 2- شركة عقود، أما شركة الأملاك فهي أن يمتلك شخص فأكثر مالاً مشتركاً ومختلطاً بينهم من غير عقد، سواء أكان تملك تلك الأموال المختلطة بينهم تملكاً إجبارياً، مثل الأموال الموروثة ونحوها، أم كان تملك تلك الأموال تملكاً اختيارياً، مثل اشتراك شخصين فأكثر مالا مختلطاً ومشتركاً بينهم، أم ليس تملكاً إجبارياً ولا اختيارياً، بل تملك بعقد شراء، وهو جائز ومشروع بنص الكتاب والسنة. ومنه قوله تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} النساء: 12، وحكم مال هذه الشركة إذا بلغ النصاب ما لمجموعهم وحال عليه الحول، فإن الزكاة واجبة فيه، ولو لم يبلغ نصيب كل واحد من الشركاء الثلث على حدة. فالزكاة واجبة شرعاً على الشركاء في هذا المال المشترك على قدر نسبة كل واحد منهم من تلك الأسهم. 2- أما شركة العقود، وهي تملك المال المشترك بين الشركاء بعقد شراء، فإنها تنقسم عند فقهاء الشريعة الإسلامية إلى الأنواع التالية: 1- شركة العنان ويقال لها: شركة الأموال. وتعريفها الفقهي: هي أن يتعاقد شخصان فأكثر على أن يشتركوا فيما بينهم بمبلغ من المال معين الجنس والصفة والعدد، ويعملون فيه، ويكون الربح بينهم على حسب شروطهم، ولا يجوز لأي واحد منهم أن يتصرف إلا بإذن الآخر أو الشركاء الآخرين معه؛ لأن العقد مشترك بينهم والربح أيضاً مشترك بينهم بقدر رأس مال كل واحد منهم، والعمل أيضاً مشترك بينهم على قدر نصيب كل واحد منهم من رأس مال الشركة ومن الربح، فإذا لم يكن العمل بينهم على قدر ما لكل واحد من الشركاء في الربح ورأس المال المشترك أعطى لصاحب العمل ما يستحقه عمله في الربح، مضافاً إلى ما يستحقه من ربح رأس ماله. ونص الفقهاء على وجوب توفر الأركان والشروط لهذا النوع من الشركات، فأركانها المتعاقدان أو المتعاقدون ورأس المال المشترك والصيغة التي هي الإيجاب والقبول وأما شروطها فهي الحرية، والرشد والبلوغ. وأن تشتمل الصيغة بين الشركاء بما تفيد معنى الشركة عرفاً والإذن بالتصرف لمن يتصرف من الشركاء بكل أنواع التصرف من بيع وشراء وهبة ونذر ووصية ونحو ذلك، أو بالإذن بالتصرف بالبيع والشراء فقط. كما اشترط الفقهاء اختلاط رأس مال الشركة من غير تمييز، ولا بد أن يكون رأس مال الشركة معلوماً لدى الشركاء المتعاقدين، وأن يكون الربح والخسارة بحسب نسبة رأس مال الشركة بين الشركاء، وأن يكون الجزء المستحق لكل واحد من المشتركين من الربح جزءاً معلوماً مشاعاً، وهذه الأركان والشروط عند الفقهاء مأخوذة من مفهوم الحقيقة اللغوية الشرعية للشركة. والتي هي ثبوت الحق شائعاً في شيء واحد مشاع، كثبوت حقوق الورثة في المال الموروث، وثبوت الحق شائعا في شيء بعقدين اثنين فأكثر، كثبوت أسهم الشركاء في المال المشترك بعقد شرعي، كما في شركة العنان المذكورة. أو كثبوت أسهم الشركاء في الربح المشترك بعقد شرعي كما في شركة المضاربة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 570 2 - شركة المضاربة: وهي مشتقة من الضرب في الأرض، الذي هو السفر لتنمية المال بالتجارة. وقد عرفها الفقهاء بأنها هي التي يكون رأسمالها من أحد الشريكين دون الآخر، ويكون العمل لتنمية هذا المال من الشريك الآخر دون صاحب رأسمال الشركة، بحيث يكون رأسمال الشركة لصاحبه، أما الشريك الآخر، وهو العامل، فإنما يستحق جزاء من ربح ذلك المال على حسب اتفاقه مع صاحب رأسمال الشركة، وهي أيضاً ثابتة بالسنة، ولها أركانها وشروطها في كتب الفروع الفقهية. 3 - شركة الوجوه: وتعريفها في كتب الفقه: هي أن يتفق اثنان فأكثر على الاشتراك في شراء شيء ديناً في الذمة، ثم يتاجرون في ذلك المال، فما تحقق لهم من ربح فهو بينهم على حسب شروطهم، وهذا النوع جائز في الإسلام وله أركانه وشروطه في كتب الفروع. 4 - شركة الأبدان: وعرفها الفقهاء: بأنه اتفاق اثنين فأكثر بالاشتراك بأبدانهم، وتسمى أيضاً بشركة الأعمال. فما ربحوا نتيجة لذلك العمل فهو بينهم على حسب شروطهم المسبقة، وهذا النوع جائز وله أركانه وشروطه في كتب الفقه. 5- شركة المفاوضة: وعرفها الفقهاء بقولهم: هي أن يفوض كل واحد من الشركاء شريكه في كافة الأعمال والتصرفات المالية والبدنية، وكل عمل أو تصرف يدخل في أعمال تلك الشركة. وهي أيضاً جائزة ولها أركانها وشروطها في كتب الفروع أيضاً. هذه هي أنواع الشركات المعرفة في فقه الشريعة الإسلامية. 2- أما النظرة الفقهية لهذا النوع من الشركات الإسلامية، فقد عنيت النظرة الفقهية لفقهاء الإسلام رضي الله عنهم عناية لا يدانيهم فيها تشريع، ولا غرابة في ذلك؛ فالإسلام هو خاتمة الرسالات السماوية التي جمعت بين العقيدة والشريعة في إطار واحد، واستكملت التفاعل بينهما حتى صارت مقتضيات كل منهما تؤثر في الأخرى وتتأثر بها. لقد عالج فقهاؤنا الأموال من حيث أنواع التملك وأسبابه، ومن حيث العقود التي ترد على الأموال – عقد البيع وعقد الإجارة وعقد الوكالة وعقد الرهن وعقد الكفالة وعقد الحوالة وعقد القسمة وعقد العارية وعقد القرض وعقد الوديعة وعقد الهبة وعقد الوصية وعقد الشركات المتقدم ذكرها، وفصلوا أحكامها تفصيلاً ليس وراءه زيادة لمستزيد، إلا أن جانباً من جوانب استثمار المال على ضوء ما يصح استنباطه من الكتاب والسنة لم يفصلوا فيه بقدر ما وصل إليه على المحدود تفصيلاً واضحاً وتشريعاً متكاملاً، مثل الشركات المعاصرة والتي نحن بصدد دراستها والاجتهاد في أحكامها الشرعية على سنة سلف الأمة المجتهدين على اختلاف عصورهم. ولعل مرجع ذلك إلى أن ظروف عصرهم ومقتضيات مجتمعهم لم تكن تتطلب منهم اجتهاداً تفصيليا ولا افتراضا تخريجياً لأحكام شركات مستجدة في مستقبل حياة الأمة الإسلامية، وهذا هو الموضوع المطروح أمام مجمعنا الموقر في دورته الرابعة، وهو الذي سوف نعالجه في هذا البحث الذي نعرضه على صفوة علماء المسلمين لتمحيصه وإبداء الرأي فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 571 وأود أن أشير إلى أن النظرة الفقهية للشركات المستجدة والمعاصرة يجب أن لا تكون محصورة في دائرة النصوص الشرعية، ولا في المسائل الفقهية للفروع المذهبية، بل يجب أن تأخذ بالاعتبار إضافة إلى ذلك المبادئ العامة للشريعة، والتي تعتبر المنطلقات الشمولية للاجتهاد، وتعطي للشريعة الإسلامية تكاملها الجمالي في حدود ضوابط الاجتهاد الأصولي وشروطه عند علماء الاجتهاد. وفي هذا أورد إشارة إجمالية إلى ما يلي: 1- لا يشك مجتهد من علماء الأمة الإسلامية بأن مبادئ الإسلام العامة والكلية تفرض على المالك أعمال استثمار ماله إذا قضت بذلك ظروف العصر وضرورات المجتمع الإسلامي. 2- وجوب اتباع أرشد السبل في استثمار هذا المال. 3- وجوب توجيه استثمار المال في المجتمع الإسلامي إلى جميع المسالك التي تتطلبها ضرورات المجتمع. ومن هذه المبادئ العامة والمنطلقات الشمولية أجمع الفقهاء إلى أن أول تكليف شرعي يقع على مالك المال هو شكر الله وتوظيفه لمصلحة المجتمع لينتفع به، وذلك بإيداعه في المصارف والمشاريع العامة ليستفيد منه المجتمع الإسلامي. ولا يكون كذلك إلا إذا وجه نشاطه ومواهبه إلى استثمار هذا المال في نطاق الوجوه المشروعة للاستثمار والتنمية على نحو يفي بحاجاته وحاجات من يعيلهم، وبغير عدوان على مصلحة الجماعة أو المصلحة العامة؛ ذلك لأن الإسلام يبغض الفقر ويكافحه ويدعو المجتمع الإسلامي إلى الجد والاجتهاد في تنمية أمواله المادية أخذاً بنصيبه من الدنيا. وبهذه النظرة الفقهية الشمولية تفهم العبادات التي فرضها الإسلام على المسلمين بأن أداءها والقيام بها لا يجوز أن يكون مدعاة للتراخي في نشاط المسلم المادي وابتغاء فضل الله بكسب المال الحلال واستثماره في نطاق الوسائل المشروعة لكسب المال واستثماره، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} الجمعة: 10. والنصوص الشرعية في هذا المجال معروفة لأصحاب الفضيلة أعضاء المجمع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 572 المبحث الثالث لقد جدت في مجتمعنا المعاصر شركات أخذت أسماء ومصطلحات جديدة وأطراً قانونية تبعاً لتطور الحياة واختلاف معاملات الناس والسبل الجديدة لاستثمار الأموال، مما استدعت الحاجة إلى بيان الحكم الشرعي باعتبار بيان الحكم الشرعي واجباً كفائياً مناطاً بعلماء الأمة المجتهدين لكافة القضايا والنوازل المستجدة في كل عصر، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ تحقيقاً لعقيدة المسلمين بخلود الإسلام، وأن الله تبارك وتعالى له في كل فعل من أفعال العباد حكم يدور على الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة. من هذه الشركات: 1- شركة التضامن، 2- شركة الكهرباء، 3- شركة التوصية البسيطة، 4- شركة الكباري، 5- شركة النقل البري أو الجوي أو البحري إلخ، هذه الأسماء التي قد لا تقف عند حد من التسميات ونحن هنا لا تهمنا الأسماء ولا المصطلحات ولا الهياكل الشكلية لتلك الشركات المستجدة لكي نصل في بحثنا إلى معرفة زكاة الأسهم في تلك الشركات. ومعلوم بأن الشركات الدولية التي تخضع قانونياً للملكية العامة لكافة أفراد الشعب غير داخلة في بحثنا هذا لكونها لا تجب فيها الزكاة شرعاً؛ لأن حكم أموالها وأرباحها حكم بيت مال المسلمين أو الخزينة العامة للدولة. وإنما كلامنا على زكاة أسهم الشركات التي تخضع ملكيتها كليا أو جزئياً للجماعات أو الأفراد؛ لأن الحكم الشرعي في الزكاة مناط بأموالهم عند توفر شروط ذلك الحكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 573 2- موقف النظرة الفقهية من الشركات المعاصرة: إن جمهور علماء الأمة الإسلامية سلفاً وخلفاً ينظرون إلى فريضة الزكاة من خلال النصوص الشرعية، على أن العلة في فرضية الزكاة التي يناط الحكم بوجوبها. هو النصاب النامي بالفعل أو بالقوة: أي القدرة على تنميته وإن لم يعمل على تنميته بالفعل، وأن العلة تؤخذ من النظرة الفقهية عند الفقهاء ومن تعليلاتهم في مواضع مختلفة ومن تتبع الأموال التي تجب فيها الزكاة، فهي في النقود لأنها نامية بالقوة وتجب في الزروع والثمار لإنماء الأرض والشجر وتجب في السائمة لأنها تنمو بمضي الزمن، ولا تجب في الأموال التي تكون لسد الحاجة الأصلية أو للاقتناء المباح شرعاً، ولذلك لم تجب في المسكن المعد لسكن رب المال، ولا أدوات الصناعة التي يعمل بها الصانع. وهذا هو رأي الأحناف، واختاره الشيخ المرحوم محمد أبو زهرة في بحثه الخاص في الزكاة، والذي قدمه إلى مجمع البحوث في الأزهر. إذ يقول: "وقد وفرض النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة في النقود وطبقها الصحابة من بعده". عروض التجارة: فرضها عليه الصلاة والسلام في الزروع والثمار وفي النعمة، واستنبط الفقهاء علة الزكاة في هذه الأنواع على أنها مال نامٍ. ثم يتساءل الشيخ أبو زهرة فيقول: "فهل إذا جد في هذه العصور أموال نامية بعضها لم يكن نامياً في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عصر الصحابة، ولا الأئمة المجتهدين، فهل يسوغ لنا أن نفرض فيها الزكاة تطبيقاً للعلة التي استنبطها الفقهاء لحكم وجوب الزكاة؟ وإذا فعلنا ذلك لا نكون قد أتينا بمحظور في الأحكام الشرعية. وأجاب على هذا التساؤل بقوله: "إن الجواب على هذا السؤال سائغ لنا، ونحن فيه لا ننشئ اجتهاداً ولكن نطبق علة القياس كما لو رأينا مواد مسكرة غير ما كان معروفاً في عصر الاجتهاد الفقهي من مشروبات فهل نبيحها ونقول: إنه لم يرد نص فقهي بتحريمها". ونقول: إن تحريمها لا يجوز؟ إنه يجب تطبيق العلة. ثم يستطرد ويقول: "إن فرض زكاة في الأموال التي ظهرت في هذا العصر أو في الأموال التي تغير وصفها عن الماضي إذا كانت في الماضي تتخذ للحاجات وصارت الآن أموالاً نامية كالمصانع الكبيرة والعمائر الشاهقة التي تتخذ للاستغلال، والحيوانات التي تتخذ للنماء"، ثم يقول: إن فرض الزكاة في هذه الأموال ليس خروجاً على أقوال الفقهاء السابقين، بل هو تطبيق لأقوالهم. بأن نعمم حكم العلة في كل ما تتحقق فيه. هذا ما يسمى بتحقيق المناط، وتحقيق المناط لا يصح أن يخلو منه عصر من العصور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 574 ثم استطرد الشيخ أبو زهرة رحمه الله بالنقل من الجزء الرابع من الموافقات للإمام الشاطبي ص 89-95 ما نصه: "الاجتهاد على ضربين –أحدهما: لا يمكن أن ينقطع حتى لا ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة. والثاني يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا. فأما الأول، فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، ولكن يبقى في تعيين محله: أي تطبيقه على الجزئيات والحوادث الخارجية. ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعداداً لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره، ولو في نفس التعيين، وأنه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفتٍ ولو فرض ارتفاع هذا النوع من الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الدين". ثم يعقب أبو زهرة بقوله: وعليه فإن الأحكام الخاصة بالزكاة تعمم في كل ما يتحقق فيه العلة ويؤدي إلى أمر حق ويمنع أمراً ظالماً؛ لأنه يؤدي إلى المساواة العادلة بين الناس فلا يجب الزكاة في زرع من يملك فدادين ويعفى منها من يملك عمارة فخمة تدر عليه ربحاً فائضاً كبيراً، والأمر الظالم الباطل الذي يمنع فرض الزكوات على الأموال التي تدر مالاً كثيراً، ولم تكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. هو أن يفر الناس مما تجب فيه الزكاة إلى ما لا تجب، فتكون الكثرة الكاثرة في جانب من أبواب الكسب، والقلة في باب آخر. وربما كانت حاجة الأمة إليه أمس وأشد على ضوء هذه الحقائق المقررة. نقول: إن كل مال يتحقق فيه النماء والشروط التي ذكرها الفقهاء تجب فيه الزكاة، ولو لم يكن جاء به النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن القياس ثابت في الفقه الإسلامي، وتطبيق موجب القياس ثابت في كل العصور والأزمان وهو نوع من الاجتهاد ولا يصح أن يخلو منه عصر من العصور ليمكن تحقيق علة النصوص تحقيقاً علمياً سليماً، وقد وجدت أموال في هذا العصر يجب أن نبين حكم الله فيها: مثل الأسهم والسندات ونحوها مما هو موضع للاتجار، أو يدل على حصص شائعة في شركات صناعية أو تجارية. ويستطرد أبو زهرة فيقول: إننا عند بيان حكم هذه الأموال وأخذ الزكاة منها نتجه أيضاً إلى تحقيق المناط، ونطبق المنهاج الذي نهجه السلف الصالح في تفسير الأموال التي فرضت فيها الزكاة والتي لم تفرض فيها. ثم يقول: إن الأسهم والسندات إذا اتخذت للتجارة فإنها تكون عروضاً تجارية يجب فيها ما يجب في عروض التجارة من زكاة يقدر مقدار نصابها على حسب قيمتها ذهباً، والزكاة تؤخذ من الأصل والنماء. على حسب ما قرره جمهور الفقهاء. وإذا كانت تتخذ للاستغلال فإن الشركات التي تكون الأسهم ممثلة لجزء شائع فيها فإن دفع الشركة يغني عن دفع حامل السهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 575 أما السندات فإن الزكاة تدفع من الفائدة التي تؤول إلى حاملها، ولو كانت للاتجار أخذت عنها زكاة عروض التجارة، فكأنه يؤخذ عنها زكاتان، زكاة نمائها من الفائدة وزكاة من الاتجار. ثم يقول أبو زهرة: إننا لو أعفيناها من الزكاة لأدى ذلك إلى أن يقتنيها الناس بدل الأسهم وبذلك تنادي بالناس إلى أن يتركوا الحلال إلى الحرام. وإن زكاة الأسهم والسندات إذا كانت على أساس التجارة تكون ربع العشر كزكاة النقدين لأنها عروض تجارة، وقد بينا بأن نصابها وزكاتها كزكاة النقدين. ثم يقول: وهذا ما نراه تطبيقا للسبب الذي استنبطه الفقهاء بالنسبة للأموال المنقولة، أما الأموال الثابتة، وتدخل فيها المصانع والشركات المساهمة وشركات التوصية بالأسهم، فإننا نرى أنه ينطبق عليها ما اتبعه السلف بالنسبة للزروع والثمار وجوب أخذ الزكاة من الغلات على أساس أنه يؤخذ عشر صافي الغلات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض العشر في الزروع والثمار إذا سقيت بغير آلة، وفرض نصف العشر إذا سقي بآلة، وأنه تحسب النفقات التي أنفقت على الزرع كما قرره الفقهاء، ونطبق على غلات المصانع وما يشبهها، فنقول: إن الصافي يشبه إنتاج الزرع والثمر إذا سقي بغير آلة؛ لأنه خالص كالزرع الذي يروى بماء السماء أو من الأنهار، بل إن صافي الغلات يكون خالياً من كل نفقة الذي سقي بغير آلة، وهذا القدر من الزكاة يؤخذ من ذات الشركة التي تقيم المصنع أو من صاحب المصنع إذا لم يكن المصنع منشأ بشركة بل أنشئ بعمل الآحاد، وبذلك لا يكون على المساهمين زكاة لأنها احتسبت مما يؤول إليهم، فالغلة تجيء إليهم صافية، ولا زكاة في الأسهم حينئذ إلا إذا اتخذت كعروض للتجارة. أما السندات فإن الزكاة تدفع عنها لأنها دين على الشركة وتجيئه الفائدة ولم تحسب في الزكاة؛ لأن ما يأخذه قدر معلوم لا يزيد ولا ينقص، وهو يؤخذ على كل ما كسبت الشركة أو خسرت". انتهى كلام أبي زهرة. لقد أطلنا نفس القلم في إيضاح النظرة الفقهية الأصولية كضرورة اجتهادية لا بد منها لخلفية الموضوع المطروح. وعلى ضوء هذه النظرة الفقهية الأصولية نقول: إن كل مال يتحقق فيه النماء وتتوفر فيه الشروط تجب فيه الزكاة وجوباً شرعياً، ولو لم نجد نصاً على ذلك من الكتاب أو السنة؛ لأن القياس الشرعي مصدر من مصادر الأحكام الشرعية عند عدم النص، ومما لا شك فيه بأن الشركات المساهمة أموالها مغلة بالفعل، وأنها من الأموال التي لم تكن معروفة النماء والاستغلال في عهد سلفنا الصالح رضي الله عنهم، ولأنها معللة وليست تعبدية. ولهذا فإن القياس فيها معتبر كما أشار أبو زهرة رحمه الله. وقد خلصت من اطلاعي على المذاهب الفقهية في الموضوع إلى رأيين: الرأي الأول منهما يميل إلى جعل أسهم الشركة المساهمة عروض تجارة وأنها تعامل في البورصة بالبيع والشراء وبالتالي يكون حكمها حكم عروض التجارة، تؤخذ الزكاة منها بقدر قيمتها في نهاية الحول الذي ملكت فيه وذلك كل عام حينما يحول عليها الحول. وأنا لست مع هذا الاتجاه الفقهي لأنه لا يستند إلى قواعد الشريعة ولا إلى قياس صحيح. بل استند إلى كون أدوات إنتاج الشركة مالاً نامياً، وأنها ليست من الحاجات التي تعد لإشباع الحاجات الشخصية بذاتها وأن الفقهاء إذا لم يفرضوا زكاة في أدوات الصناعة في عصورهم فلأنها كانت أدوات أولية، وبالتالي لم تعتبر مالاً نامياً بذاتها؛ لأن الإنتاج فيها للعامل. إن هذا الاتجاه في نظري هو الاستحسان الذي ذمه الإمام الشافعي رضي الله عنه عندما قال "من استحسن فقد شرع". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 576 وأما الرأي الثاني فإنه يوجب الزكاة في أرباح أسهم تلك الشركات، الأسهم نفسها؛ فإنها تعتبر كالعقار المعد للإيجار، تكون الزكاة في إيجاره دون رقبته؛ لأن هذه الأسهم قد جعلت في الأصل للاستثمار وتوظيف المال. وأنا أميل إلى هذا الرأي ما لم تكن تلك الأسهم تستغل في الأسواق المالية والتداول بها بين الأفراد، فإنها في هذه الحالة يكون حكمها حكم سائر السلع التي يقصد منها الاتجار والبيع والشراء ابتغاء الربح من ورائها، وبالتالي فإن حكم تلك الأسهم حكم السلع التجارية، وتضم قيمتها مع أرباحها، وتزكى تلك الأرباح مع قيمة الأصول، ومن المتعارف عليه بأن للسهم قيمتين؛ قيمة اسمية وهي المقدرة عند الإصدار، وقيمة سوقية تحدد في سوق الأوراق المالية. وقيمتها الحقيقية التي تقدر في الأسواق المالية تختلف في البيع والشراء عن قيمتها الاسمية، فهي إذاً من عروض التجارة، وهي كأموال التجارة، ولأن مالك السهم يستطيع في أي وقت أن يعيد رأس ماله في الأسهم إلى قالب نقدي له يستخدمه في أي حاجة يريدها، لذلك وعليه فإن المعتبر بأن زكاة تلك الأسهم التي قصد منها الاتجار بها وليس المقصود ابتداء استغلالها للربح هو قيمتها في الأسواق، يضاف إليها الربح، وليس قيمتها الأصلية أو الاسمية المسجلة لدى الشركة، بشرط أن تبلغ قيمة الأسهم في الأسواق المالية الربح نصاباً أو تكملا ما عنده من مال نصاباً. وأما مقدار زكاة الأسهم سواء حسب الرأي الأول أو الثاني فلا خلاف فيه، ربع العشر أي 2.5 %. وهذا في نظري ينطبق على كافة الأسهم في الشركات، سواء أكانت الشركات المساهمة شركات صناعية محضة، أم شبه صناعية؛ أي: أنها لا تمارس عملاً تجارياً، أم كانت شركات تجارية. هذا وبالله التوفيق الشيخ محمد عبده عمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 577 أهم المراجع 1- القرآن الكريم 2- تفسير ابن كثير 3-4 3- الأم للإمام الشافعي ج2 4- المحلى لابن حزم ج7 5- سبل السلام ج1 6- منجد اللغة والأعلام ج1 7- موطأ الإمام مالك ج1 8- فتح الباري على صحيح البخاري ج6 9- المغني لابن قدامة ج1 10- نيل الأوطار ج1 11- الفقه على المذاهب الأربعة ج1 12- بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد ج1 13- سنن أبي داود ج1 14- بحث الزكاة لأبي زهرة 15- فتاوى ابن تيمية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 578 زكاة الأسهم في الشركات إعداد فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور عضو مجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم رسالة الأدلة والبيانات على زكاة الأسهم والسندات في الشركات إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد صاحب الشريعة الغراء والمحجة البيضاء، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد، فلقد طلب إلي مجمعنا العتيد مجمع الفقه الإسلامي بجدة، أن أوافيه ببحث وافٍ عن زكاة أسهم الشركات، ولقد بحث هذا الموضوع المهم في الدورة الثالثة في عمان ولم يصل فيه المجمع إلى نتيجة مرضية آنذاك، فأدليت بدلوي بين الدلاء، واستخرت الله عز وجل وكتبت هذه الرسالة في عدة صفحات، عرضت فيها ما كتب فقهاؤنا المعاصرون في هذا المضمار، ثم أثبت ما وفقني الله تعالى إليه من القول الراجح فيما ظهر لي، والله تعالى أعلم. وإني لا أزعم أن ما وصلت إليه هو مراد الله عز وجل، وحكم الله في هذه الحادثة، لا، بل هو محض اجتهاد يقبل الخطأ والصواب، وما من أحد إلا رد ورد عليه، إلا صاحب هذا القبر صلوات الله عليه. إني أردت الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 579 (1) خلاصة لما ذهب إليه أعضاء مجمعنا الموقرون من التيارات الفقهية الأصل في وجوب الزكاة على مالك الأسهم، النظر إلى قصده من تملكها: أ- فإن كان لغرض المتاجرة فيها، فتجب فيها زكاة عروض التجارة، وذلك على أساس قيمتها في السوق. ب- وإن كان غرضه من تملكها الحصول على الأرباح منها دون المتاجرة بها، فتجب الزكاة في ربحها مع استقبال الحول، إلا إذا كان في الشركة نقد سائل وعروض معدة للبيع أو التصنيع، ولم تكن الشركة قد قامت بزكاة هذه الأموال، فيخرج المساهم ما يقابل أسهمه من زكاة هذه الأموال. وكذلك إذا كانت الشركة زراعية ولم تقم الشركة بدفع زكاة الحبوب والثمار، فيدفع المزكي الواجب عليه منها. (يرجع إلى المشروع التحضيري لقرارات المجمع في الدورة الثالثة في عمان) (2) خلاصة ما ذهب إليه الأستاذ المودودي في كتابه (فتاوى الزكاة) ذهب العلامة الأستاذ أبو الأعلى المودودي في رسالته القيمة (فتاوى في الزكاة) إلى وجوب الزكاة قطعاً في أسهم الشركات التجارية، ولم يتعرض للشركات الزراعية فيما أحسب، لكنه بعد ذلك خير الشركة والمساهم في إخراج هذه الزكاة، فإن أحبت الشركة بالاتفاق مع المساهم أن تخرج هي الزكاة عن سهمه لها ذلك، باعتبارها وكيلة عنه وشخصية اعتبارية، وإن أحب الشريك المساهم أن يخرج هو عن سهمه بالاتفاق مع الشركة على ذلك فله ولا حرج؛ لأنه هو الأصل المالك للسهم في نظر الأستاذ المودودي رحمه الله. ولا يجب إخراج الزكاة مرتين، مرة من الشريك المساهم ومرة من الشركة المساهمة؛ لأنه خلاف الأصل المعمول به شرعاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 580 (3) نص مقولة الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه "الفقه الإسلامي وأدلته" السندات جمع سند: والسند: تعهد مكتوب بمبلغ من الدين (القرض) لحامله في تاريخ معين، نظير فائدة مقدرة. فالسهم يمثل جزءاً من رأس مال الشركة، وصاحبه مساهم، والسند يمثل جزءاً من قرض على شركة أو دولة، وحامله مقرض أو دائن. والتعامل بالأسهم جائز شرعاً، أما التعامل بالسندات فحرام؛ لاشتمالها على الفائدة الربوية. وبالرغم من تحريم التعامل بالسندات، فإن ذلك لا يمنع شرعاً من التملك التام، فتجب فيها الزكاة (1) ، فتجب زكاتها بحسب قيمتها الحقيقية في البيع والشراء كزكاة العروض التجارية، أي: تؤدي زكاتها على رأس المال مع أرباحها في نهاية العام القمري بنسبة (2.5 %) إذا كان الأصل والربح نصاباً أو يكمل مع مال مالكها نصاباً، ويعفى الحد الأدنى للمعيشة إذا لم يكن لصاحب السهم مورد رزق سواها؛ كأرملة ويتيم ونحوهما، هذا في الشركات التجارية. أما في الشركات الصناعية فتقدر الأسهم بقيمتها الحالية، مع حسم قيمة المباني والآلات وأدوات الإنتاج. وجملة القول: أن تجب زكاة الأسهم والسندات بمقدار ربع العشر؛ أي: (2.5 %) من قيمتها مع ربحها في نهاية كل عام هجري، على مالكها الذي حال عليه الحول بعد تملكها، أو تؤدى الزكاة جملة "واحدة" عن غلة الشركة وإيرادها بمقدار العشر من صافي الأرباح قياساً على نصاب الزروع والثمار، باعتبار أن أموال الشركة نامية بالصناعة ونحوها. ففي الحالة الأولى (الشركات التجارية) نعد صاحب الأسهم له وصف التاجر، وفي الحالة الثانية (الشركات الصناعية) نعد الشركة لها وصف المنتج (2) .   (1) أما المال الحرام بعينه كالمغصوب والمسروق ومال الرشوة والتزوير والاحتكار والغش والربا ونحوها فلا زكاة فيه؛ لأنه غير مملوك لحائزه، ويجب رده لصاحبه الحقيقي منعاً من أكل الأموال بالباطل (2) انظر كتاب (الفقه الإسلامي وأدلته) للدكتور وهبة الزحيلي ج: 2 ص77 وما بعدها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 581 (4) القول الراجح الذي نصير إليه وفي نظري - والله تعالى أعلم - أرى: أنه بعد أن ذابت هذه الأسهم والسندات في شخصية اعتبارية واحدة هي الشركة، لا داعي للقول: إن المالك يستطيع أن يخرج الزكاة عن سهمه أو سنده الذائب في أموال الشركة، بل يجب على هذه الشركة باعتبارها شخصية اعتبارية أن تخرج هي الزكاة عن كل الأسهم والسندات المتوفرة لديها الداخلة في ملكيتها في نهاية الحول القمري بنسبة 2.5 % فقط، دون أن يعطى هذا الحق للشريك المالك للسهم ما دام هذا السهم ذائباً في الشركة، فلا سلطان هو عليه في حق الزكاة إلا إذا استرجعه لملكيته الخاصة وأخرجه عن مال الشركة فإنه يرجع حينئذ من الأموال الخاصة ويجري عليه حكم الأموال الخاصة بملاكها. ولا أوافق الأستاذ المودودي ولا الدكتور الزحيلي حفظهما الله تعالى وجزاهما عن الإسلام والعلم كل خير، لا أوافقهما فيما ذهبا إليه من التخيير في دفع الزكاة بين المالك والشركة. صحيح أن الشركة ليست مخاطبة شرعاً بالزكاة لعدم تكليفها شرعاً، ولكنها بالوكالة أو بالنيابة الإلزامية عن المالك، وأكبر دليل على ذلك أن المالك لا يستطيع أخذ سهمه المملوك له شرعاً وسحبه من الشركة التي تنوب عن المالك بالمتاجرة به قبل وقت محدد ومتفق عليه؛ كعشر سنوات مثلاًَ، وكذلك هنا لا يحق للمالك أن يدفع هو الزكاة عن سهمه ما دام هذا المال ذائباً في مال الشركة، فإن هذا الأمر يتعسر على الشركة ويربك حساباتها، وربما أدى إلى أن ترفض الشركة ذلك ويشح المالك فتضيع الزكاة على الفقراء. أما جوهر دفع الزكاة في الأسهم والسندات مع تحريم التعامل بالسندات الربوية، وحل التعامل بالأسهم فهذا أمر مسلم لا غبار عليه، ولم يحصل فيه اختلاف بين الفقهاء القدامى ولا المعاصرين. وأما ما ذهب إليه بعض أعضاء مجمعنا الموقرين من قضية النية، فلا أرى له وجهاً؛ لأن الشركة التي نتكلم عنها تجارية وليست استثمارية، فلا وجه لذلك شرعاً فيما أرى، والله تعالى أعلم. دمشق 3/9/1987م الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 582 المناقشة بسم الله الرحمن الرحيم الرئيس: أمامنا أصحاب الفضيلة المشايخ موضوع زكاة الأسهم في الشركات، ونرجو من فضيلة الشيخ محمد الصديق الضرير أن يعطينا عرضاً عن الوجهة الفقهية في زكاة الأسهم في الشركات. الدكتور الصديق الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. وبعد، الموضوع هو زكاة الأسهم في الشركات، وأود أولاً أن أوضح أن المقصود هو زكاة الأسهم في الشركات المساهمة بمفهومها الحالي، بمفهومها المعروف في القوانين التجارية، والأسهم أيضاً سنتحدث عنها بهذا المفهوم. ولهذا فقد بدأت بالحديث عن حقيقة الأسهم التي نريد أن نبحث في زكاتها، ثم بعد ذلك سننظر في هل هذه الأسهم بهذا المفهوم تجب فيها زكاة أو لا تجب، وإذا كانت تجب فيها زكاة، فعلى من تجب؟ على الشركة أم على صاحب السهم؟ وعلى التقديرين كيف تزكى هذه الأسهم؟ هذه هي رؤوس الموضوعات الأساسية في هذا الموضوع. فالسهم كما يعرفه رجال القانون هو الحصة التي يقدمها الشريك في شركات المساهمة، وهذا السهم يمثل جزءاً معيناً من رأس مال الشركة، وهو عبارة عن صك يعطى للمساهم، وهو وسيلته في إثبات حقوقه في الشركة. والعادة أن رأس مال الشركة يقسم إلى أسهم متساوية، غير أن بعض الشركات تصدر أسهماً تسميها أسهماً ممتازة، وتكون لها ميزة عن الأسهم العادية. وفي رأيي أن هذا غير مقبول فقهاً. هذا السهم قد يمثل حصة نقدية في رأس مال الشركة وهنا هو الغالب، وقد يمثل حصة عينية يسمون الشريك عيناً منقولاً أو عقاراً، ولكن علماء القانون يقولون: إن هذا السهم حتى ولو كان قدم في شكل عقار هو منقول، وفي رأيي أيضاً أن هذا تكييف غير مقبول من رجال القانون من وجهة النظر الفقهية؛ لأن إذا كان السهم عقاراً وفي شركة عقارية، فكيف يكون منقولاً، يرى رجال القانون أيضاً أن الشركة ما دامت قائمة فليس للمساهم حق عيني في أعيانها، وهذا مقبول لا مانع منه فقهاً، ولا المطالبة بقيمة سهمه، وإنما له الحق في الاستيلاء على نصيب في الأرباح. ويعللون ذلك بأن الحصة التي يقدمها الشريك للشركة تخرج عن ملكه وتصبح مملوكة للشركة كشخص معنوي. فإذا انحلت الشركة كان لكل مساهم حصة في موجودات الشركة. هذه نقطة سأتحدث عنها فيما بعد، من المالك للسهم. من المعروف أيضاً أن هذا المساهم إذا أراد أن يخرج من الشركة فليس أمامه إلا أن يتنازل عن سهمه لغيره؛ إما بمقابل أو بدون مقابل، وهذا أمر ضروري ولازم في الشركات؛ لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تلزم الناس إلى الدخول في هذه الشركات إذا أراد أن يتخلص من السهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 583 نأتي إلى النقطة الفقهية، وهي: هل الأسهم بهذا التكييف فيها زكاة؟ ما دام السهم هو حصة في موجودات الشركة، هذه الحصة قد تكون نقوداً وقد تكون عيناً منقولاً أو عقاراً، والنقود التي يقدمها الشريك قد تتحول إلى عقار أو منقول، وكذلك الحصة العينية المنقول أو العقار قد يتحول إلى نقود، فالتكييف الحقيقي والواقعي في نظري للسهم هو أنه جزء من موجودات الشركة، أياً كان نوعها، هذه الموجودات أموال، ما في هذا من شك، مملوكة، تجب على مالكها زكاتها إذا توافرت طبعاً شروط الوجوب، وهذا الحكم - وهو وجوب الزكاة في الأسهم - لم أر من خالف فيه. وقد نقلت في المذكرة رأياً لما كتبه الأستاذ أبو زهرة في هذا الموضوع، ونقلت أيضاً رأي الشيخ عبد الرحمن عيسى الذي قد يفهم منه أنه يرى أن بعض الأسهم لا زكاة فيها، وهي الأسهم التي تكون في الشركات الصناعية، بل هو قد صرح بهذا وعارضه في هذا الدكتور القرضاوي. والأستاذ الشيخ عبد الرحمن عيسى يفرق بين الأسهم في الشركات التجارية والأسهم في الشركات الصناعية، فيوجب الزكاة على أصحاب الأسهم في الشركات التجارية دون الشركات الصناعية. عارضه في هذا بعض الفقهاء، منهم كما قلت الدكتور القرضاوي. والواقع أن هذا الاختلاف ليس خاصاً بالأسهم والشركات؛ لأنه يمكن أن يقال في كل مال مستثمر، فالأستاذ عبد الرحمن عيسى يرى أن الأسهم في الشركات الصناعية لا زكاة فيها؛ لأنها لم تتوافر فيها الشروط، والموضوع هذا بحث في المجمع على أساس أن المستغلات لا زكاة فيها، وإنما الزكاة في ريعها. فالنتيجة على الرأيين هي أن الأسهم أموال تجب فيها الزكاة إذا توافرت شروط وجوبها. والاختلاف إنما هو في تحقق شروط الوجوب، لا في أصل الوجوب، ولهذا أقول: إن وجوب الزكاة في الأسهم يكاد يكون إجماعاً. بعد ذلك ننظر في: هل الزكاة تجب على الشركة أم على المساهم؟ الزكاة تجب في المال على مالكه، فمال المالك لأموال الشركة، هنا أيضاً رجعت إلى كتب القانون. يقول الدكتور مصطفى كمال: "للشركة ذمة مالية مستقلة بأصولها وخصومها من ذمم الشركاء"، فأموال الشركة لا تعتبر ملكاً شائعاً بين الشركاء، بل تعتبر هذه الأموال ملكاً للشركة، والحصة التي يقدمها الشريك للشركة تخرج عن ملكه وتصبح مملوكة للشركة كشخص معنوي، ولا يكون للشريك بعد ذلك إلا مجرد نصيب في الأرباح أو في الأموال التي تبقى بعد تصفية الشركة، وهذا هو رأي القانونيين، إذا كان هذا الرأي مقبولاً فقهاً، فإن النتيجة المنطقية له هي أن زكاة أموال الشركة لا يطالب بها المساهمون، وإنما تطالب بها الشركة. وإلى هذا الرأي ذهب بعض من تعرض لهذه المسألة، وقد أطال الحديث في هذا الموضوع الدكتور شوقي إسماعيل شحاته في كتابه "التطبيق المعاصر في الزكاة"، والدكتور وهبة الزحيلي، ووافقه على رأيه في بحثه المقدم للمجمع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 584 يقول الدكتور شوقي إسماعيل: "لما كانت الشركة المساهمة لها شخصية اعتبارية مستقلة، وبناء على أن الزكاة تكليف متعلق بالمال نفسه، فإنها تجب على الشخص الاعتباري، حيث لا يشترط التكليف الديني، وأساسه البلوغ والعقل وقياساً على زكاة الماشية، وأن الخلطة فيها خصت بخصوصية تراجع الخلطاء فيما بينهم بالسوية على التفصيل الذي سبقت الإشارة إليه، وتحدث في هذا طويلاً". ويقول أيضاً: "إن الشركة في الماشية هي شركة أموال بالمفهوم المعاصر، وليست شركة أشخاص، وأن الشركة في الماشية تكون على وجه المخالطة، لا الملك، ومؤداها أن الزكاة تجب في مال الشركة المجتمع ككل، وليس في مال كل شريك على حدة". هذا هو رأي الدكتور شوقي. الشيخ أبو الأعلى المودودي ذكر في كتابه "فتاوى الزكاة" أن زكاة الأسهم تفرض على الشركة إذا كانت الدولة تقوم بتحصيل الزكاة، ويفهم مما نقلته عن الشيخ عبد الرحمن عيسى أن زكاة الأسهم يخرجها المساهم؛ لأنه يتكلم عن المساهم، ورأيي في أن زكاة الأسهم تجب على المساهم، لا على الشركة؛ لأنه هو المالك الحقيقي للأسهم، والقول بأن الشركة هي المالك، وإن كان هذا رأي القانونيين، إلا أنني لا أوافق عليه؛ بدليل أنهم أعطوا لصاحب هذا السهم حق التصرف كما يتصرف المالك، كل ما هنالك أنه ليس له حق في أن يطالب بالمال الذي دفعه، وعندما تنحل الشركة يأخذ نصيبه. فهو المالك الحقيقي، ولذلك فالوجوب ينبغي أن يوجه إليه هو، لا إلى الشركة، أما الشركة فتتصرف في أسهمه نيابة عنه حسب الشروط المبينة في قانون الشركة ونظامها الأساسي. فإذا نص في النظام الأساسي على أن الشركة تخرج زكاة الأسهم وجب عليها إخراجها، لا تجب عليها الزكاة هي إنما يجب عليها إخراج الزكاة نيابة عن أصحاب الأسهم لهذا الشخص، ولا يطالب بها المساهمون في هذه الحالة، أما إذا لم يوجد هذا النص فلا تخرج الشركة الزكاة، إلا إذا صدر قرار من الجمعية العمومية؛ لأن هذا يعتبر تفويضاً منهم، أو إذا كان فيه قانون في الدولة يلزم الشركات بإخراج زكاة الأسهم. أما القول بوجوب زكاة الأسهم على الشركات أصالة باعتبار أن الشركة لها شخصية اعتبارية مستقلة عن شخصية المساهمين، فإنه لا يكون مقبولاً إلا في دولة تطبق أحكام الشريعة الإسلامية، وتوجب نظمها أخذ الزكاة من أموال الشركات. وفي رأيي أن الفتوى في أوضاعنا الحاضرة قد تؤدي إلى عدم إخراج زكاة الأسهم إذا أوجبناها على الشركة، ونحن نعلم أن كثيراً من الشركات أو أكثر الشركات لا تخرج الزكاة، ومعنى ذلك إنما سقطت عن المساهم؛ لأنه ليس مالكاً، فهذا غير مقبول في نظري على الأقل في أوضاعنا الحاضرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 585 كيف تخرج زكاة الأسهم؟ أولاً سأتحدث عن كيفية إخراجها، إذا كانت الشركة هي التي ستخرجها نيابة عن المساهمين، أما لأنه في النظام الأساسي أن الشركة تخرج كما هو الحال في كثير من البنوك الإسلامية فيها نص صريح بأن الشركة تخرج الزكاة. فرأيي أن الشركة تخرج زكاة الأسهم بالنسبة للأموال، أموال المساهمين كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال الشركة كأنها أموال شخص واحد، وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث النوع، نوع المال، ومن حيث النصاب، المال بلغ النصاب أو لم يبلغ، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، إلى غير ذلك مما تجب مراعاته في الزكاة بالنسبة للشخص الطبيعي. فعلى هذا إذا كانت الشركة شركة تجارية تعامل معاملة التاجر، وإذا كانت شركة زراعية تعامل معاملة المزارع، إذا كانت شركة عقارية تعامل معاملة الشخص الذي يستثمر أمواله في العقارات، قد تكون تجارة، وقد تكون للاستغلال، وقد تستثمر الشركة أموالها في مجالات متنوعة كما هو الحاصل الآن بالنسبة للبنوك الإسلامية، قد تتاجر وقد تشتري عقارات وقد تزارع إلخ. أيضاً هنا لا فرق بين الشركة وبين الشخص الاعتيادي، تعامل معاملة أرباب المال في أموالهم. وبناء على هذا فإن الأسهم في الشركات، الأسهم التي لا تبلغ النصاب بمفردها لا تعفى من الزكاة؛ لأن النظر في بلوغ النصاب إلى أموال الشركة مجتمعة، لا إلى مقدار ما يملكه كل مساهم. فلا تطرح الأسهم التي تبلغ النصاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 586 ولابن رشد عبارة في هذا مختصرة وجامعة، يقول: "عند مالك وأبي حنيفة أن الشريكين ليس يجب على أحدهما زكاة حتى يكون لكل واحد منهما نصاب". وعند الشافعي أن المال المشترك حكمه حكم مال رجل واحد، وسبب اختلافهم الإجمال الذي في قوله عليه الصلاة والسلام: ((ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة)) ، فإن هذا القدر يمكن أن يفهم منه أنه إنما يخصه هذا الحكم إذا كان لمالك واحد فقط، ويمكن أن يفهم منه أنه يخصه هذا الحكم كان لمالك واحد أو أكثر من مالك واحد والشافعي كأنه شبه الشركة بالخلطة. كتب الشافعي فيها تفصيل في هذا الموضوع في الخلطة نقلته في المذكرة. ومما رجح الأخذ بمذهب الشافعي مذهبه الجديد أن البنوك تجد صعوبة في طرح الأسهم التي لا تبلغ النصاب، تحتاج إلى أن تتصل بكل شخص تسأله، لا يكفي أن يكون المال الذي عند الشركة لا يبلغ نصاباً؛ لأنه قد يكون عنده هو ما يكمله نصاباً، هو فيه صعوبات عملية، لذلك أخذنا بالأيسر وهو مذهب الشافعي مع أن فيه عدالة؛ لأنه حتى لو فرضنا أن هذا الشخص المساهم سهمه لا يبلغ النصاب، لكنه استفاد من ضمه إلى هذه الأموال الكثيرة، فربح ربحاً ما كان سيربحه لو كان بمفرده، وهذا هو المعنى الذي لاحظه الشافعي في موضوع الخلطة. وقد أشرت هنا إلى أنه لا بد من طرح أسهم غير المسلمين إذا كانت الشركة لغير مسلمين؛ لأنه غير المسلم ليس من أهل الزكاة. أيضاً فيه مسائل صغيرة تأتي، منها أن الإنسان قد يبيع أسهمه في أثناء الحول، فما حكم هذا إذا باع أحد المسلمين أسهمه في أثناء العام؟ هذا لا يؤثر في إخراج الزكاة بالنسبة للشركة؛ لأن السهم باقٍ، تغير المالك ولا يضر كون المالك الجديد لم يمض حول على ملكه ما دام السهم قد حال عليه الحول بالنسبة للشركة، حتى ولو تنقل هذا السهم في أثناء العام بين أيدٍ كثيرة. كذلك الأسهم المضافة أثناء العام الشخص دفع قيمة السهم في أثناء العام لم يدفعه من أول العام، أو قد تعرض الشركة أسهما للاكتتاب في أثناء العام، هذه لا يستقبل لها عام جديد، تضاف إلى موجودات الشركة، ويكون حولها حول المال الذي ضمت إليه ما دام نصاباً، وهو مذهب الحنفية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 587 هذا ما يتعلق بكيفية إخراج الزكاة إذا كانت الشركة هي التي ستخرجها. أما إذا لم تخرج الشركة الزكاة لا يسقط الوجوب عن المالك صاحب السهم، وعليه هو أن يخرج زكاة أسهمه. كيف يخرجها؟ أولاً إذا استطاع هذا المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو الذي شرحته زكى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنه اعتبر هذا هو الأصل، لكن هذا قد يكون فيه صعوبة أو معتذراً في بعض الأحيان، فإذا لم يستطع معرفة ذلك فإذا كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ربح الأسهم السنوي لا بقصد بيعها عندما ترتفع قيمتها يزكيها زكاة المستغلات، ونحن نفرق بين حالتين، وهذا يرجع إلى قصد المساهم إذا كان قصده استغلال هذه الأسهم، وهذا هو الغالب في الذين يشترون الأسهم يستفيدون من الربح هذا السنوي. يزكيها زكاة المستغلات، وزكاة المستغلات حصل فيها بحث في هذا المجمع، ودونته هنا وقلت تمشياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة، وهذه تجمعها زكاة المستغلات، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب في الريع، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم القبض، مع اعتبار توفر شروط الزكاة وانتفاء الموانع. هذا هو قرار المجمع، فنقلته هنا تمشياً مع قراركم السابق، هذا الرأي متفق مع رأي الأكثرية في مؤتمر الزكاة الأول في الكويت، متفق معه من حيث وجوب الزكاة في الريع دون الأصل في الربح يعتبر ما فيه زكاة فيها، وإن كان في رأي الأقلية خالفت هذا، ولكنه يختلف عنه من حيث الحول. قرار مجمع الفقه الإسلامي يقضي بأن يبدأ حول الريع من يوم القبض، ورأي الأكثرية في مؤتمر الزكاة يقضي بأن يضم الريع إلى سائر أموال مالك الأسهم من حيث الحول والنصاب، وهذا أولى عندي مما قرره مجمعكم الموقر، ولكن مؤدى الرأيين أن الأسهم المتخذة للاستثمار لا زكاة في أصلها، وهذا أيضاً موضع خلاف ومعروف، الذي هو رأي الأقلية في مؤتمر الزكاة أن يخرج مالك السهم العشر من الربح فور قبضه، ولا ينتظر به الحول، قياساً على غلة الأرض الزراعية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 588 فهذان هما الرأيان، وإذا قبلنا مبدأ قياس زكاة الأسهم التي يتخذها صاحبها للاستفادة من ريعها على زكاة المستغلات، فسنجد هناك رأيين آخرين في هذه المسألة، أحدهما أن تزكى الأسهم زكاة عروض التجارة، والآخر أن يزكى الريع عند قبضه بمقدار ربع العشر بدل العشر. وكل من هذين الرأيين قال به بعض الفقهاء المتقدمين بالنسبة لزكاة الدور، لم يتحدثوا عن المستغلات بهذا التعبير، وإنما تحدثوا عن زكاة الدور التي تتخذ للكراء، وهذا هو معنى المستغلات، والموضوع هذا بينه الدكتور يوسف القرضاوي في بحثه الذي قدمه إلى المجمع في دورته السابقة، وهو مدون في كتابه. هذا إذا كان المساهم اتخذ السهم لاستغلاله، أما إذا كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد بيعها عندما ترتفع قيمتها، أن يتاجر فيها، في هذه الحالة يزكيها زكاة عروض التجارة. فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه زكى قيمتها الحقيقية، وأقول قيمتها الحقيقية خلافاً لما ذهب إليه الأستاذ وهبة في بحثه إذا استطاع معرفتها من الشركة وإن لم يستطع زكى القيمة السوقية، وإن لم يكن لها سوق زكى القيمة الاسمية بإخراج ربع العشر من القيمة ومن ربح الأسهم. طبعاً القيم الثلاثة هذه هي المعروفة عند علماء قانون الشركات، فيه قيمة اسمية التي تصدر في أول الأمر، وفيه قيمة حقيقية التي تمثل موجودات الشركة من حيث قيمتها، وهذا تقدره الشركة، وقيمة سوقية وهذه ما يباع به في السوق أو ما هو في البورصة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 589 والقيمة السوقية هذه تتأثر بعوامل متعددة، بعضها قد لا يكون مقبولاً، ولهذا نحن أخذنا في بنك فيصل الإسلامي في السودان بأن التقدير لا بد أن يكون بالقيمة الحقيقية، ولأنه ما دامت الحقيقة معروفة فلا نلجأ إلى الناحية التقديرية، القيمة السوقية هي قيمة تقديرية، وهذه قيمة حقيقية إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول يضم ثمنها إلى ماله ويزكيه، هذا لا إشكال فيه عندما يجيء الحول، أما المشتري هو الذي سيأتي فيه الكلام؛ لأنه امتلك سهماً، فيزكي الأسهم التي امتلكها بحسب قصده أيضاً، فإن كان اشتراها لاستغلالها زكاها زكاة المستغلات على النحو الذي ذكرته، وإن اشتراها ليبيعها زكاها زكاة عروض التجارة. وأنا هنا تكلمت وفي هامش المذكرة أشرت إلى موضوع، وهو جدير بالبحث؛ لأني وجدت جميع الذين كتبوا في هذا الموضوع تقريباً يجوزون التجارة في بيع الأسهم من غير تفصيل ولا تقييد. والتجارة فيها وفي رأيي أو في نفسي شيء من هذا الحكم، الموضوع يحتاج إلى بحث لم أتعرض له هنا، لكن هذا ما توصلت إليه فيما يتعلق بزكاة الأسهم. وأود أن أشير إلى نقطة دفعني إلى الإشارة إليها بحث أخينا الدكتور وهبة؛ لأنه أشار إلى فتوى صدرت عن هيئة الرقابة الشرعية في بنك فيصل الإسلامي السوداني، وتعرض لبعض نواحيها، هذه الفتوى صدرت قبل سنوات عدة وحصل فيها بعض التعديلات، والذي عليه العمل الآن فيما يتعلق بإخراج الزكاة في البنوك الإسلامية عندنا في السودان هو أن الزكاة تخرج على أساس رأس المال ينظر في آخر العام إلى رأس مال البنك زائداً الأرباح زائداً الاحتياطيات ناقصاً قيمة الأصول الثابتة، والباقي يؤخذ منه 2.5 %، وهذه فتوى أيضاً صدرت بعد الفتوى الأولى تسهيلاً على البنك؛ لأننا وجدنا صعوبة في تطبيق ما ضمن في الفتوى الأولى. فأخذت الهيئة بهذه النظرة، وهي سهلة وليس فيها تعقيد ومقبولة، ولها سند من الفقه؛ لأننا هنا لا نعتبر القيمة، وإن كانت البنوك هي بنوك تجارية فلا تقوم الموجودات، وإنما نعتبر رأس المال كأنما نعتبر الشراء للموجودات لأنه الأصل. شيء طبيعي أن البنك يرى النقود السائلة التي عنده وينظر أيضاً إلى الموجودات التي عنده البضاعة ويقومها، وهذه عمليات فيها صعوبة، فصدرت فتوى بأن يزكى رأس المال. والله أعلم بالصواب. وشكراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 590 الرئيس: شكراً فضيلة الشيخ، بناء على ما قررتم من أنه تجب الزكاة على المساهم وتخرجها الشركة بناء على ما قررتم من أنه تجب الزكاة على المساهم، الوجوب على المساهم، والشركة تتولى إخراجها نيابة عنه، وأن الشركة تنزل منزلة الشخص الطبيعي. نأتي إلى الفرع الأخير وهو أن المساهم إذا باع في أثناء الحول فإن بيعه لا يسقط الزكاة. كيف يتخرج هذا؟ الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: إذا باع في أثناء الحول فالزكاة باقية ما دامت الشركة هي التي ستخرجها، غير المساهم لا يؤثر. الرئيس: لكن الوجوب على من؟ الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: يبيعها شخص آخر. الرئيس: لا، وجوب الزكاة على من؟ على صاحب السهم وبشرط حولان الحول؟ على صاحب السهم الذي هو باسمه؟ الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: انتقل الوجوب. الشخص المالك الأول باع سهمه، كان الوجوب عليه هو فعندما باعه لشخص آخر انتقل الوجوب إلى هذا الشخص الآخر، والسهم باقٍ. الشخص الذي اشترى السهم أصبح واجباً عليه، وهو اشتراه في أثناء الحول. وأنا قلت: إن هذا لا يضر. مال مستفاد للشركة لأن الشركة هي التي ستخرج، فكأن شخصاً جديداً جاء وساهم في هذه الشركة. وهذا ينطبق أيضاً على حالة ما إذا طرحت الشركة أسهماً في أثناء الحول وجاء المساهمون واكتتبوا في هذه الأسهم. لا نستقبل بها حولاً جديداً، هي واجب عليهم وعلى هؤلاء الذين اكتتبوا كما هي واجبة على المشتري الذي دخل في أثناء الحول. فلا أظن أن هذا يتعارض مع قولي: إن الوجوب أصالة عن المساهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 591 الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. سيدي الرئيس، حضرات الأعضاء المحترمين. بتتبعي للبحث القيم الذي تفضل به الدكتور الضرير، وجدت إشكالات كثيرة في نفسي، أعرضها على سيادته طلباً للإجابة. فإن الذي أعرف هو أن المنظومة الفقهية لا بد أن تكون منظومة متناسقة، وأنه إذا قبلنا بمبدأ أصلي فإنه يجب أن ينطبق هذا المبدأ على جميع الفروع. ولما عرض سيادته على من تجب الزكاة فرض فرضين: إما أن نقول: إن الزكاة تجب على الشركة وإما أن نقول: إن الزكاة تجب على المسلم في الشركة. أما القول الأول: إن الزكاة تجب على الشركة باعتبارها ذاتاً معنوية، فالإشكال الذي حصل في نفسي هو أننا بصدد بيان الأحكام الشرعية، أعني حكماً من الأحكام الخمسة، وكل حكم من الأحكام الخمسة له حقيقته. فإذا قلنا: الواجب فمعناه ما يثاب على فعله وما يعاقب على تركه وهو غير الواجب العقلي أو معنى الإلزام. فالإلزام هنا من الله يترتب على الإلزام ثواب للمطيع وعقاب للعاصي. وإذا قلنا الشركة ذات معنوية فلا أفهم كيف تكون ذاتاً معنوية وهي تثاب وتعاقب. وبهذا استشكل هذا الرأي كيف يمكن تخريجه. الأمر الثاني أو الفرض الثاني: وهو أن الزكاة تجب على المسلم ذاته على صاحب السهم وإذا كانت الزكاة تجب على المسلم ذاته فإن هذا السهم في حقيقة التعامل خرج إلى صورة هي صورة قيمة متمولة فكل سهم له قيمة مالية وأنه لا يفترق السهم سواء أكان النشاط نشاطاً زراعياً أم نشاطاً صناعياً أم نشاطاً تجارياً. فهو قيمة مالية تباع في الأسواق، ترخص وترتفع أثمانها حسب تغير السوق. وإذا كان الشخص المسهم هو المطالب وكانت القيمة للسهم هي قيمة مالية فإنه يجب الزكاة على هذا المسهم متى تحققت شروط وجوب الزكاة. ولا بد أن نطبق هذه الشروط جميعها. فإذا كان المسلم لا يملك مالاً ولا يملك نصاباً فلا أرى أن يلزم بإخراج الزكاة نظراً إلى أن الحديث واضح: ((تؤخذ من أغنيائه فترد على فقرائهم)) . وحد الفقر والغنى هو ملك نصاب. فغير مالك النصاب لا يعتبر غنياً، بل هو صالح لأن يتقبل الزكاة، وهو مصرف من مصارف الزكاة. فكيف نوجب عليه من ناحية أن يخرج الزكاة على سهمه، ونبيح له من ناحية ثانية أن يقبل الزكاة لأنه فقير لا يملك نصاباً؟. من الإشكالات أنه إذا كان المسهم.. أن أسهم الشركات إذا بيعت قبل حولان الحول، وهو ما جاء في صفحة تسعة، فإن هذا لا يؤثر في إخراج الزكاة؛ لأن السهم باقٍ وإنما تغير مالكه. فالمنظومة إذا تقتضي أنه إذا كان الواجب إنما هو على ذات الشخص المالك للسهم فيجب أن نسير مع هذا إلى النهاية، ولا يمكن أن تكون. أولاً نذهب إلى أن السهم هو الذي تجب عليه الزكاة، ثم نعود عندما تطبق فنقول: إن تعلقت بالأسهم لا بذات الشخص، وأنه إذا تغير المالك ولو تغير إلى عشرة فإنه يجب على جميعهم إخراج الزكاة قبل دوران الحول. فهذا إشكال آخر بقي في نفسي أرجو الجواب عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 592 أيضاً جاءت قضية أنه إذا كان المسهم قد اشترى هذه الأسهم قصد بيعها عندما ترتفع قيمتها زكاها بالشروط المعتبرة وإذا باع أسهمه في أثناء الحول انتظر الحول. هذا أيضاً، إذا كان المسهم قد اشترى هذه الأسهم قصد بيعها عندما ترتفع قيمتها زكاها بالشروط المعتبرة. أنا أسأل فضيلة الشيخ: هل يعتبر هذا محتكراً أو يعتبر مديراً؟ وهل يطبق عليه زكاة المحتكر أم زكاة المدير؟ أو لم يعتمد مذهب مالك واعتمد مذهب غيره؟ أما إذا ساهم المشارك في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي زكيت زكاة المستغلات ثم ألزم مجمع الفقه الإسلامي بما رآه في المستغلات. أولاًَ أن هذا القرار الذي وصل إليه من أنه إذا أسهم المشارك في شركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي زكيت زكاة المستغلات. هذا ولم أفهم تعليله ولا الأصل الذي اعتمد عليه. ولذلك فأنا أتحفظ على هذا، وأرجو منه أيضاً أن يبين لي معتمده في ذلك. هذه بعض آراء أولية. وشكراً لكم والله أعلم. الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. كلمة موجزة جداً، وهي تكرار للتساؤل الذي طرحه السيد رئيس مجلس المجمع الفقهي. إذا كان الأستاذ المحاضر في بحثه القيم يقرر أن ملكية الأسهم للمساهم وليست للشركة، وإنما الشركة هي التي تدفع الزكاة نيابة عن المالك، فكيف نوفق بين هذا الكلام وبين ما قاله فيما بعد من أنه إذا باع سهمه أو أسهمه أثناء العام يستمر الحول ويتواصل ولا ينقطع الحول ليبتدئ حول جديد من المشتري الجديد؟ هذا الكلام أظن أنه وقر في ذهن الأستاذ الجليل صاحب البحث نتيجة لما يتصوره رجال القانون من أن الشركة هي المالك. إذا انطلقنا من هذا وتصورنا أن الشركة هي المالكة فعندئذ هذا الكلام متفق ومتسق مع هذا التصور. ولكن الشريعة لا تتفق مع هذا قط، ولا توجد جذور امتلاك لشخص معنوي. والحق ما قاله الأستاذ المحاضر صاحب البحث من أن المالك هو المساهم. ولكن ما دمنا قررنا ذلك فإن الحول ينتهي وينفسخ بتحول الملكية منه إلى مالك جديد، الشأن فيه كالشأن في أي مال من الأموال مهما اختلفت أنواعها ما دمنا نشترط حولان الحول. وشكراً لكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 593 الدكتور سامي حسن حمود: بسم الله الرحمن الرحيم.. هذه النقطة دقيقة، وقد واجهتنا بالفعل كمسألة عملية عند تأسيس البنك الإسلامي الأردني قبل عشر سنوات، فتنبهت الأذهان إلى أن هذا البنك وهو شركة مساهمة أردنية يجب أن يزكي، وأن ينص في قانونه على تأدية الزكاة، وهذا شأن العواطف عندما تتجه إلى العمل الإسلامي تريد أن تحيطه من كل جانب بصورة الكمال، فبدأت أتفهم المسألة التي حوصرت فيها، ونظرت في آيات الله فوجدت أن الخطاب: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} فالخطاب تكليف لمن يؤدي العبادة صلاة يكملها عبادة مالية بالزكاة بأن يؤديها وهو مؤتجر، ويطلب الأجر من الله، فهي بعد الإسلام. فكان هذا الحديث البسيط مع لجنة الفتوى الأردنية التي ناقشت معها مشروع القانون كان للإقناع، ثم عندما تأسس بنك إسلامي لاحق وجدت الزكاة نص عليها في القانون، فسألت: كيف تدفع الشركة المساهمة وهي غير أو ليست مكلفة بالخطاب الشرعي، ولا تحاسب ولا تدخل الجنة أو النار بأن تدفع الزكاة؟ قالوا: هي تظاهرة إسلامية، فعجبت في نفسي. والذي أعرفه أن العواطف والتظاهرات لا تقرر حكماً شرعياً، وإنما المسلم مأمور بأن يكون هواه تبعاً للشرع، وليس العكس. فبدأت أدقق في المسألة، وهنا سر الإشكالات التي تثار، وقد تشجعت في الإشكالات التي في نفسي عندما رأيت عالماً جليلاً كالأستاذ المختار السلامي، وأيده في ذلك الأستاذ البوطي، يثيرون هذه الإشكالات لأن الخروج عن المقاصد تؤدي إلى هذه النتائج. فالزكاة محلها المال، والمكلف بها ليس كل شخص، إنما المسلم، والمال ليس كل مال، وإنما المال المخصوص الذي له شروط محددة في الشرع. فهي تكليف في مال معرف مملوك لمكلف. فإذا خرجنا عن هذا الحد نجد إذا فرضت بشكل عام الزكاة في الشركة المساهمة على الأسهم بذاتها، وهي حصة مالية مملوكة لمسلمين وغير مسلمين. وهذا واقع بحيث إن في البنك الإسلامي الأردني هناك مساهمون غير مسلمين، وقد ساهموا في هذا البنك، ويعطيهم القانون هذا الحق، فكيف تؤخذ الزكاة من شخص غير مكلف أصلاً بأدائها؟ هناك وزارة الأوقاف الأردنية ومال الوقف ليس مكلفاً بالزكاة، وهي مساهمة في هذا البنك، كيف تؤخذ الزكاة من مال الوقف؟ هناك إنسان يملك موجودات من الأسهم حقيقة، ولكن عليه في ميزانيته الشخصية ديون تفوق موجوداته، وليس عنده نصاب، وإن كان يملك المائة ألف سهم؛ لأن عليه ديوناً مئتا ألف، كيف يمكن أن يطالب بالزكاة؟ هذه الخروجات جميعاً نتيجة تطبيق أن الزكاة تؤديها الشركة. مرد هذا إذا قيل: إن الشركة هي التي تملك، وهذه النقطة التي أشار إليها فضيلة الدكتور البوطي. الشركة لا تملك نفسها، وإنما هي مملوكة لمساهم، وإن العجز عند القانونيين في تصوير حقيقة هذه الملكية المنفصلة شركة لا ينطلق ولا ينصرف إلى الفهم الواضح عند الفكر الإسلامي. فهذا الملك يرى الذي يملكه المساهم في الشركة هو يملك حق رقبة المال، ولكن التصرف في هذا المال قد فوض أمره إلى إدارة الشركة، وهناك فهم واضح للتفرقة في الملك بين ملكية الرقبة وملكية التصرف، بدليل أن هذا المساهم وإن صغر سهمه إلى سهم واحد من مليون سهم تمثلها الشركة له صوت ينتخب فيه مجلس الإدارة، ومن حقه أن ينتخب. فهو ممثل وفوض هذا المجلس بالإدارة بالنيابة عنه، فهو المالك حقيقة، ويبقى ملكه قائماً إلى النهاية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 594 النقطة المتعلقة في أنواع الشركات. الواقع أن الشركات بأنواعها المختلفة هي شركات مفهومها ومردها التداول بقصد الربح، سواء أكانت تجارية تتعامل بالسلع أم قابضة مباشرة أم شركات صناعية تتعامل في المواد الخام، وتحولها لتزيد القيمة فتبيعها وتحقق ربحاً، أم كانت شركات خدمات كالخدمات الفندقية والسياحية، فهي تحقق ربحاً من التداول في المال. فكل عمل فيه تداول وتقليب للمال فيه صورة من صور التجارة. فالذي أراه باجتهادي على قدر علمي كطالب علم أن هذه جميعاً يطبق عليها قواعد عروض التجارة. مشكلة بسيطة أعرضها في الشركات التي تختص بالزراعة وتبيع الإنتاج الزراعي. هنا جاء النص القرآني بأن الحق في الزراعة {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} الأنعام: 141. فإذا أخرجت الشركة الزكاة يوم الحصاد من الإنتاج وليس من رأس المال عندئذ ومنعا للازدواجية لا يزكى المال مرتين طالما المال سلط لأن يكون في أرض زراعية ولها إنتاج زراعي وزكي هذا الإنتاج عند الحصاد. النقطة الأخيرة التي تخص القياس في الشركة على مسألة الخلط بين الخلطاء والشريك هي أولاً كما يستدل من آراء المستدلين ليست مسألة متفقا عليها بدليل أن الإمام الشافعي نفسه له فيها قولان، ثم إن الإمام الشافعي والإمام مالك رحمهما الله كانا يتحدثان عن مجتمع مسلم، والشركاء الذين يتحدثون عنهم شركاء مسلمون، ولم يدر في بالهما أو لم ينطل في المثال هنا شريك مسلم وشريك غير مسلم، فهل إذا اجتمعت الملكية في خمسة من الإبل أو سبعة من الإبل بين مسلم يملك أربعاً وغير مسلم يملك ثلاثا والمجموع سبعة فوق حد النصاب هل يصبح المال خاضعاً للزكاة لأن شريكاً غير مسلم وغير مكلف ضم إلي أم ينفصل الملك القابل للتزكية والمطالب للتزكية فتصبح الإبل الأربعة أو الأربع نياق التي يملكها المسلم دون النصاب الذي حدده الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكون بذلك مكلفاً بالزكاة. فهذه نقطة جديرة بالبحث. نقطة أخيرة على هامش ما أثاره فضيلة الدكتور الضرير في تجارة الأسهم، إنه يرى أنها ليست محلاً للتجارة، وهذه نقطة أستغرب بأن الأسهم لها قيمة مالية والتداول يقوم عليها، إذا حدثت نكسات في سوق الأموال فلا يعني ذلك أن النكسة دليل على المنع، فقد يحدث في أحد المناجم انفجار فلا يتوقف التعدين عن المعادن إنما نعالج سبب الانفجار وسبب التلف والتعطيل. وهكذا تعالج الأمور. وشكراً لكم. والسلام عليكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 595 الدكتور حسن عبد الله الأمين: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. الحقيقة من العرض الذي سرده علينا فضيلة الدكتور الضرير نشأ عندي سؤلان في موضعين من عرضه وفيما كتب. الأول أنه في الصفحة الخامسة من بحثه وكما عرضه قرر أن الخلاف بين الفقهاء المعاصرين فيما يتعلق بوجوب الزكاة في أسهم الشركات المتعلقة بشركات الصناعة وشركات التجارة على الرغم مما اختلف فيه الفقهاء، واتخذت فيه وجهتان مختلفتان، أن هذا الأمر أمر واحد في النتيجة. وهذه القضية لم يوضحها، غير أنه ذكر أنها في النتيجة واحدة. ويبدو لي أن الخلاف قائم وليس هناك في النتيجة خلاف. رأي من آراء الفقهاء يذهب إلى أن شركات الصناعة لا تجب الزكاة في أصولها، وإنما تجب في ريعها، وشركات التجارة تجب الزكاة في أصلها وفي ريعها. وآخر يعمم فيقول: إن الزكاة تجب في الأمرين في الأصل وفي الريع، أصل الأسهم وريعها. الدكتور لم يوضح كيف التقى هذا الأمر في النتيجة، وإنما ذكر أن الجميع اتفقوا على أن الأسهم تجب فيها الزكاة، وهذا أمر كافٍ في تحديد أو في إيجاد الاتفاق بينهم، والأمر ليس كذلك فيما أرى. إن الخلاف قائم كما هو ذلك أن الرأي الذي يذهب إلى أن أسهم شركات الصناعة تجب الزكاة في ريعها، لا في أصلها لا يقرر الزكاة بطبيعة الحال في أصل الأسهم، وإنما يقرها في الريع باعتباره مالاً، فسواء كان هذا المال ناتجاً عن هذه الأسهم، أم جاء من أي طريق آخر، ما دام استوفى الشروط، فتجب فيه الزكاة، أما الأصل فيستبعد أصل أسهم الصناعة. شركات الصناعة لا تجب فيها الزكاة في رأيه، فلم يقل هذا الرأي بوجوب الزكاة ابتداءً من أسهم شركات الصناعة، وإنما قال: تجب الزكاة في ريعها وعوائدها. فهذا أمر مفهوم بصرف النظر عن أنه حتى ولو جاء من طريق آخر غير ريع الزكاة فإنه تجب فيه الزكاة باعتباره مالاً. أما الرأي الآخر الذي يقول بوجوب الزكاة في شركات التجارة وفي ريعها فهو أمر مختلف، حيث يقرر الزكاة في الأصل، أصل الأسهم وفي ريعها. فالخلاف قائم وليس هناك نقطة التقاء بين هذين الرأيين فيما أرى. النقطة الأخرى التي ذكرها الأستاذ في عرضه، وأثبتها في الصفحة التاسعة من بحثه، أنه إذا لم تقم بإخراج الزكاة فما الذي يعمل صاحب السهم؟ قال: إذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو الذي شرحناه، زكى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنه الأصل في كيفية زكاة أسهم الشركات. وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك. هنا تفريع، فذهب إلى أنه إن كانت الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم، وإن لم يكن القصد منها الريع وإنما القصد فيها الاتجار وهذا له حكم، وذاك له حكم، وفي رأيي أن هذه النقطة الأخرى لا تحتاج إلى الصيرورة إليها؛ ذلك أن الحساب الختامي الذي يعرض فيه التقارير السنوية للشركات أياً كان نوعها واضح فيه كل شيء، واضح فيه حساباتها وقيم الأسهم وريعها، ومن هذه الأشياء الواضحة يستطيع أن يقرر ملكيته للنصاب بطبيعة الحال، ولما يضاف عليه من ريع، وعلى ضوء ذلك يخرج الزكاة من غير أن يحتاج إلى الصيرورة للتفريعات الأخرى التي ذكرها في عرضه فيما بعد. وشكراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 596 الشيخ إبراهيم بشير الغويل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. شكراً سيدي الرئيس.. الحقيقة قد يكون ما أريد أن أقوله هو ما أشار إليه الشيخ الضرير تاركاً لصاحبه أن يجليه. هناك أحد البحوث أشار - وهو بحث الشيخ هارون خليف - إلى أن موضوع الشركات وشركات الأسهم نفسها تحتاج إلى دراسة موسعة، وبناء على هذا لم يدل برأي فيما يتعلق بزكاة الأسهم في هذه الشركات. فهو في الصفحة الأولى من دراسته أوضح أنه لا يتكلم عن الشركات المستجدة؛ لأنه لا يرى أن فقهاءنا الأسبقين قد تعرضوا لها، واضح أن موضوع الشركات نفسها يحتاج إلى دراسة موسعة، ووددت أن أذكر هذا الرأي لأقول: إن هذه الشركات التي استجدت وفقاً لنظام معين أراد أن يتوسع في مفهوم رأس المال وحق رأس المال في أن يزداد زيادة غير عادية عن طريق مساهماته المتعددة في كل مكان، بحيث يتحقق لصاحب رأس المال دخل من كل مال يدفع به في مكان. هذا النظام هو الذي أوجد في آخر تطوراته شركات المساهمة، هذه الشركات التي جاءت من هذا النظام تحتاج بالأصل إلى وقفة من هذا المجمع. النظام نفسه الذي أوجد هذا التطور وكما سبق لي أن قلت في موضوع النقود: إن هذا النظام أعطى لقضية النقود مفهوماً كما أعطى لقضية الائتمان وقضية توالد رأس المال وزيادته مفهوماً ترتبت عليه أشكال، هذه الأشكال في أعلى صورها، هي شركات المساهمة التي أصبحت تأخذ شركات مساهمة متعددة الجنسية. هل لهذا المجمع أن يعالج نظاماً بديلاً يقوم على أسس إسلامية، أم أنه يتابع النظام القائم ويبرر له تصرفاته؟ في ذهني هذه الملاحظة البسيطة التي أبداها صاحب هذا البحث جديرة بأن توضح أن البحث الآن إنما هو بحث كما أود أن أقوله بشكل آسف له، كما نبحث هل دخل إنسان من فوائده على رأس ماله خاضع للزكاة أم لا؟ الأساس أن نبحث موضوع الفوائد، الأساس أن نبحث موضوع الريع، الأساس أن نبحث موضوع الشركات. الشركات المساهمة وكيف ولدت؟ وهل هي جزء من تصور إسلامي أو جزء من تصور مغاير للتصور الإسلامي؟ هذا الجانب له أهمية كبرى؛ لأن هذه الشركات أصبحت تتوسع وتتضخم وتستوطن حتى أصبحت متعددة الجنسية، وأصبحت هي المسؤولة عن كثير من مشكلات العالم الإسلامي وديونه، وددت أن أذكر الإخوة بها وشكراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 597 الشيخ إبراهيم فاضل الدبو: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد، بودي أن أسأل السادة الباحثين: هل هذه الأسهم أموال أم ليست بأموال؟ الجواب بالطبع أنها مال ولا خلاف في ذلك. لذا ينبغي أن نراعي في مثل هذه الحالة ما يلي: الزكاة في مثل هذه الشركات لا تختلف عن الزكاة في غيرها من الشركات المعروفة في الفقه الإسلامي، وأرى أن نعتبر الشركات التي تناولها فقهاؤنا المسلمون أساساً نعتمده في مثل هذه الحالة. ومن المعروف لدى أساتذتي الأفاضل أن المالك هو المسؤول عن دفع الزكاة وبإمكانه أن ينيب عنه الشركة في ذلك، فعلى هذا يشترط تحقق كافة شروط الزكاة التي شرطها الإسلام أو فقهاؤنا المسلمون في هذه الأموال. أما بالنسبة لبيع هذه الأسهم خلال هذا الحول، فإني أتساءل كما تساءل السيد رئيس المجمع، أنه كيف تجب زكاة مال قبل حولان الحول عليه؟ فينبغي أن تتوافر فيه شرط حولان الحول. والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وشكراً. الشيخ محمد سالم عبد الودود: لا أريد أن أكرر ما ذكره الإخوة، ولكن أريد أن أصحح بعض ما نسب إلى المذهب المالكي أمانة للأئمة رحمهم الله تعالى. أولاً المذهب المالكي يرى أن أسهم المؤلفة قلوبهم باق على متن خليل يقول: هو مؤلف كافر ليسلم وحكمه باق. ثانياً يرى أن الاستنابة في الزكاة مندوبة وقد تجب، ومتن السيد خليل يقول: والاستنابة وقد تجب. ثالثاً: يرى أن الخلطة لا تأثير لها إلا في الأنعام، ويرى أن الخلطة بين المسلم والكافر لا تأثير لها، وبين المسلم والمحرر من الرقيق لا تأثير لها. ولذلك يقول خليل في متنه الذي هو المعتمد على الأهم الأغلب في الفتوى في المذهب المالكي يقول: وخلطاء الماشية بخلاف الزرع والعين كمالك فيما وجب من قدر وسمن وصنف. إلى قوله: وكل حر مسلم ملك نصاباً يحول. بمعنى أن الأئمة الأوائل تصوروا بل شاهدوا الخلطة والاشتراك بين المسلم والكافر وطرحوا لذلك أحكاماً. فلا يمكن أن نقول اليوم: إنهم لم يكن يدور في أذهانهم وجود شركة يساهم فيها كافر إلى جانب مسلم. فالرسول صلى الله عليه وسلم قد شارك غير المسلم، وكان نعم الشريك، لا يماريه إلى آخره. المهم الآن أمام شركات بالنسبة للمذهب المالكي لا تأثير للخلطة في غير زكاة الماشية، ولا تأثير للخلطة مع من لا تجب عليه الزكاة من عبد وكافر. ولا تأثير لخلطة بالنسبة لمن لم تبلغ حصته نصاباً. إما أن نوجب الزكاة على من لم تبلغ حصته نصاباً وعلى من لم يحل عليه الحول، فهذا خلاف صريح للأحاديث الصريحة التي تشترط حولان الحول في زكاة الأموال، وتشترط أن لا ينقص المال عن النصاب المعروف. ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، ليس فيما دون خمس من الإبل صدقة، إلى آخره في التحديد بالمثل. فإذا قلنا: إن سهم المساهم في الشركة أقل من النصاب، وأوجبنا عليه الزكاة نظراً لمساهمته في الشركة، فقد خالفنا الحديث الصريح. وإن قلنا: إن مشتري السهم تجب عليه الزكاة قبل مرور الحول، فقد خالفنا الحديث الصريح. وإن قلنا: إن الذي يساهم في الشركة في أثناء العام يجب عليه أن يزكي قبل أن يمر عليه الحول فقد خالفنا. وإذا قلنا: إن الشركة هي التي تؤدي الزكاة بالنيابة عن المساهمين، فهذا صحيح إذا اعتبرنا شروط وجوب الزكاة في حق كل مساهم. أما الشركة نفسها فهي شخص معنوي، والأشخاص المعنويون ليسوا من أشخاص يوم القيامة، وليست مكلفة بالأحكام الخمسة كما قال الإخوة، ولا تبعث ولا تثاب ولا تعاقب. وشكراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 598 الدكتور معروف الدواليبي: بسم الله الرحمن الرحيم، سيدي الرئيس، إخواني الكرام، استمعت بكل انتباه إلى ملاحظات الإخوة الأفاضل، وهي ملاحظات دقيقة، ولكن يبدو ليس بالنسبة لفهمي أننا إذا أخذنا بعين الاعتبار الناحية التي تفضل فيها زميلنا الدكتور سامي حمود فيما يتعلق بالإنتاج الزراعي مثلاً حقه يوم الحصاد، فما قولكم مالك هذا الزرع لو ضمنه قبل حصاده لرجل، فالذي قبض المال يزكيه والذي بقي عليه الزرع يزكيه يوم الحصاد. إذن فكرة أن المال قد دفع عنه الزكاة مرتين غير واردة بعد أن تغير المال. فنحن إذا أخضعنا الشركات بمختلف أنواعها إلى مفهوم الحول لأن لكل مالك نوعا من الأجل في الأموال وفي عروض التجارة لكل رجل التاريخ الذي يبدأ منه. أما في قضايا الزراعة والإنتاج الحيواني ونحو ذلك، فهي حلول موسمية، ويصدق عليها قضية الضمان. تضمين الأرض بمزروعاتها وبإنتاجها الزراعي، قد يضمنها ويبيعها قبل أن يحصدها. فالذي ملك الحصاد وقد مضى عليه خمسة أيام يتوجب عليه أن يدفع، والذي قبض الثمن فيدخله عندئذ في عروض أمواله، بذلك تنتهي المشكلة وأرى أنه لا مشكلة في الموضوع. وشكراً. الدكتور علي أحمد السالوس: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. نريد أن ننظر هنا للمسألة الواقعية. الشركات القائمة الآن التي نجد في عقود تأسيسها نصاً على أنها ملزمة بإخراج الزكاة. هل هذا التصرف يعتبر تصرفاً شرعياً أم لا؟ والذين اشتركوا في هذه الشركة واشتروا الأسهم هل يعتبر هؤلاء قد وكلوا الإدارة لأن ذات الشركة لا تملك إنما الشركة مملوكة، فهل نعتبر أن هؤلاء وكلوا الإدارة في إخراج الزكاة، أم نقول: إن هذا تصرف غير شرعي، ونقول للشركات: يجب إلغاء هذا من عقد التأسيس؟. هذه نقطة. نقطة أخرى، بعض الإخوة ذكر السندات والسندات هذه ليست محل بحثها، ثم قالوا: إن السندات بفوائدها تزكى وهذا مخالف لنص الآية {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} البقرة: 279. والذي يزكى هو رأس المال وليس الفوائد، فإقحام السندات هنا ثم الإفتاء بهذه الفتوى فأرجو أن تلاحظ. كذلك بعض الإخوة في أبحاثهم تحدثوا عن الأسهم على أنها حلال بصفة مطلقة بدون أية قيود، باستثناء أستاذنا الدكتور الضرير الأسهم الممتازة ونضيف إلى هذا الاستثناء كذلك الأسهم التي هي لشركات تتعامل بحرام. فلا بد أن نشير إلى أن الزكاة التي نتحدث عنها إنما هي لأسهم حلال لشركات تلتزم وتتعامل بالحلال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 599 نقطة أخرى، وهي أن بعض الإخوة الباحثين ذكروا الزكاة في الأرباح فقط، وبعضهم اشترط ألا تكون في رأس المال والربح إلا إذا كانت في الأسواق العالمية. ونقول هنا: السهم حصة شائعة في شركة، فإذا نظرنا على سبيل المثال نحن في مصرف قطر الإسلامي عندما جئنا لتقدير الزكاة العقد التأسيسي لا ينص على إخراج الزكاة فقلنا: نقدر، فنظرنا إلى الأصول الثابتة ثم هذه لم نحسبها ونظرنا إلى الأصول المتداولة الموجودة والنقود وكل هذا جمعناه ثم في النهاية قلنا: كل سهم زكاته مقدارها كذا. إذن هنا مسألة الربح فقط، ورأس المال إذا كان من الأموال الزكوية كيف لا يزكى؟ هذا لو أن الأسهم لشركة كل رأس المال تحول إلى أموال غير زكوية، مصنع، مزرعة. لو أنه تحول إلى هذا. وكما تفضل أستاذنا الأستاذ الضرير بأن هذا بعيد؛ لأنه هناك لا بد من أموال سائلة موجودة. إذن هنا الإخوة الباحثون الذين ذكروا بأن الزكاة على الربح فقط أرجو أن نراجع هذه النقطة وأن ننظر هنا إلى الربح وإلى رأس المال المدفوع له، وإنما إلى الموجود من الأموال الزكوية الأصول الثابتة هي التي لا تحسب. بالنسبة للأسهم أيضاً نريد أن نفرق بين أمرين: من يتملك الأسهم للتجارة؟ ومن يتملك الأسهم بقصد الغلة وليس للتجارة ونفرق هنا يعني لو فرضنا مثلاً أن عمائر موجودة للإيجار فالزكاة في الإيجار، لو أن تاجر عقارات اشترى هذه ليبيعها ويشتري ويبيع فالزكاة في ذات العين. لو أن هذه قسمت إلى أسهم الزكاة أيضاً تختلف. فالأسهم لعمارات بقصد التجارة. فإذن هنا التسوية بين الأسهم التي تتخذ للتجارة والأسهم التي يقصد الغلة، هذا التساوي هنا غير دقيق. لذلك يجب أن نفرق بين هذين النوعين. وأكتفي بهذا وشكراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 600 الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. أشير إلى النقطة الأخيرة التي أثارها الدكتور السالوس عرضاً، وهو أن ما ذكر في بعض البحوث من قضية زكاة السندات، في الحقيقة ذكر لإتمام الفائدة، وإن لم يكن في صلب البحث. فهذه السندات وإن كانت حراماً وعائدها حرام وخبيث وكسب حرام، لكن لا يعني ذلك من الإعفاء من واجب فريضة الزكاة، فبعض المسلمين يتعاملون بالحرام وعندهم أموال حلال وحرام هل نعفي أموالهم المحرمة من الزكاة؟ لم يقل أحد من الفقهاء. أما الموضوع الأصلي وهو قضية زكاة الأسهم في الشركات: منشأ الخلط في هذا الموضوع هو ما طرحته علينا القوانين الوضعية الحديثة، لو لم نكن في عالم تسيطر عليه هذه القوانين لكانت المشكلة في غاية السهولة ولا مشكلة. القوانين الحديثة افترضت أن للشركات شخصية معنوية، ويعني ذلك أن لها شخصية مقابل الشخص الطبيعي، وهذا يعني أن لها اسماً وموطناً وأهلية وقابلية للتملك والتمليك والالتزام بالواجبات وأداء الحقوق. هذا ما أرادته القوانين الحديثة في افتراض الشخصية المعنوية أو الاعتبارية أو الحكمية لهذه الشركات لكي تستطيع الوفاء بديونها والتزاماتها، خصوصاً في فترة التصفية، أو لتستطيع أيضاً التعامل في أثناء وجودها وعيشها من استيفاء ما لها من حقوق، وأداء ما عليها من واجبات. ولم تتصور هذه الشركات لا من قريب ولا من بعيد، حتى ولا البنوك التي نشأت أخيراً باسم البنوك الإسلامية لم يتعرضوا لموضوع الزكاة. الزكاة كما هو معلوم لدى الجميع عبادة شرعية تتطلب النية والمطالب والمكلف بها هو الإنسان، هو المسلم، وأما غير المسلم فليس مكلفاً. وقد كفاني الشيخ عبد الودود من أنه إذا وجدت شركة بين مسلم وغير مسلم الحقيقة لا نطبق أحكام شركة الخلطة عليهما؛ لأنه لا زكاة على الطرف الآخر، فلا زكاة على المسلم إذا لم يبلغ ماله النصاب الشرعي. هذه محلولة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 601 القضية الأساسية هي ما دام التكاليف منصباً على الشخص المسلم وهو المساهم وهو المخاطب أصالة كما قال زميلنا الأستاذ الدكتور الشيخ الضرير الحقيقة أن هذه الأصالة يجب أن لا نتخلى عنها، ولكن يجب أن نراعي مسألة الحول ولا نكلف المسلم ولا الشركة التي تنوب عن المساهمين بأن تدفع زكاة المساهمين، إلا إذا استمر الحول الزكوي طوال العام، وهذا ما تصوره الفقهاء في قضية زكاة الخليطين. وأما ما أثير مما سمعته واستغربت سماعه، كأن بعض الإخوة لم يسمعوا بشيء اسمه الحكم الوضعي. الحكم التكليفي صحيح هو أساس الثواب والعقاب، والشركة شركة اعتيادية لا تدخل الجنة ولا النار. هذا كلام صحيح، لكن هذا الموضوع لا ينطبق على الحكم التكليفي. لا ينطبق عليه الحكم التكليفي، وإنما ينطبق عليه الحكم الوضعي وهو ربط الحكم بالسبب أو الشرط أو المانع أو الصحيح أو الفاسد، كما هو معلوم لدى الجميع. فالشركة عندما نكلفها ويكلفها المساهمون بأن تزكي عنهم، فهي أولاً إما من قبيل أنها وكيلة ومدير الشركة وكيل ونائب عن الشركة، وإما أنه لا يشترط التكليف أصالة في موضوع الزكاة. فزكاة مال الصبي تجب وإن لم يكن مكلفاً، وقالوا هذا من قبيل الحكم الوضعي وليس من قبيل الحكم التكليفي عند جمهور الفقهاء. طبعاً أما إذا كل شيء أردنا أن نخضع كل قراراتنا للخلافات لن نخرج إلى نتيجة ولكن يجب أن نراعي الأولويات. أولاً الزكاة يجب كما نص فقهاؤنا أن نراعي فيها مصلحة الفقير ويجب علينا أن نختار من هذه الخلافات وهذه الآراء – وألا نكون دائماً مقيدين بها أن نختار- ما يحقق المصلحة العامة للمسلمين. فلا يشترط التكليف في الشركة حتى نطبق الحكم التكليفي، وإنما يجب أن نراعي مصلحة الفقراء ونقيس هذه الموضوعات. الآن الاتجاه العالمي إلى تجميع رؤوس الأموال الصغيرة من طريق الشركات المساهمة ومئات الملايين تقوم على أساس شركات. هل من المعقول أو هل يتصور مسلم أن نعفي هذه الشركات من أداء فريضة الزكاة؟ وحينئذ نقتل الفقراء، وخصوصاً إن كثيراً من المسلمين لا يزكون مع الأسف. الحقيقة من الممكن ونأخذ الأصلح لا تعصباً وإنما دائماً نفتي في الزكاة بما هو الأصلح للفقراء. فالشافعية نصوا في مذهبهم الجديد على أن الخلطة تؤثر في المواشي وغيرها، وهو مذهب المالكية والحنابلة أيضاً في المواشي عملاً بالحديث النبوي: ((لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)) ، ولأن السهم يعبر عن قيمة مالية أو مبلغ من المال فهو مال تجب فيه الزكاة فأثرت الخلطة في زكاة هذه الأسهم كالماشية، أو لأن المالين كالمال الواحد في المؤن (التكاليف) من مخزن وناطور وغيرهما، فهي أي غير المواشي من النقود والحبوب والثمار وعروض التجارة، كالمواشي فتخف المؤونة إذا كان المخزن والميزان والبائع واحداً. فحينئذ حتى زكاة الخلطة فيها تيسير على الناس وليس فيها تشدد. فالواجب أن نراعي ونأخذ بهذا الاتجاه مراعاة لمصلحة الفقراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 602 أما قضية أن يكون المساهم مديناً من المعلوم لدى الجميع أن هذا رأي الحنفية، تخصم الديون من المكلف، لكن رأي الجمهور الدين لا يمنع إيجاب الزكاة على المسلم، وألا الدائن لا يزكي والمدين يزكي. أين ذهب حق الفقراء؟ الحقيقة مذهب الشافعية في هذا يوجبون الزكاة على صاحب المال وإن كان ماله قد أعطي ديناً لأناس آخرين. فالقضية إذا أردنا أن نحسم ديون الناس. اليوم أغلب العالم وأغلب الناس عليهم ديون، ولهم حقوق وعليهم واجبات، فإذا أيضاً أردنا أن نعفيهم من هذه التكاليف أسقطنا أموالاً كثيرة من الزكوات. فالحقيقة نحن قد أطلنا هذا الموضوع، أجل من الجلسة السابقة، ورجائي ألا نطيل الكلام فيه، وأن نختار لجنة لصياغة موضوعاته؛ لأنه أرجئ فقط للصياغة. أما إذا أعيد بحثه كما أعيد في العام الماضي ثم في الجلسة الختامية عندما أريد التصويت على الاقتراحات أثير بحث بعض الأمور لأن لجنة الصياغة لم توفق في صياغة الموضوع. فالقضية قضية صياغة فقط وليس الموضوع مما يحتاج إلى عناء كبير في البحث. فلنقرر المبدأ والتفاصيل الحقيقة أغلب ما ذكره الأستاذ الصديق الضرير أنا أوافقه عليه، وبحثي أيضاً متفق مع بحثه. والقضية نبدأ من الأمور المبسطة حتى نصل إلى الحكم الشرعي الواجب وألا نضيع الوقت في هذا الموضوع مرة أخرى، وربما إذا سرنا في متاهات الخلافات لن نصل إلى نتيجة، لا في هذا الموضوع ولا في موضوع آخر. وشكر الله الجميع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 603 الرئيس: شكراً.. في الواقع إن جوانب هذا البحث سبق أن أعطيت حقها من المناقشة بصفة وافية في الدورة الثالثة المنعقدة في عمان، والأمر كما تفضل الشيخ وهبة. والمتخلص الآن أنه لا خلاف في قضية وجوب الزكاة وأن الزكاة هي على المساهم المسلم، ولهذا فإنه قد ترون مناسباً في ما بقي لدي في طلب المناقشة أن يكون التركيز في كيفية الإخراج. فإن الدورة الثالثة في القرار الذي أجل لأجل إعادة الصياغة هو تكييفه على أساس النية في التفريق بين فيما إذا أريد المتاجرة أو أريد مطلق التمليك للحصول على الأرباح. فإذا رأيتم أن يكون التركيز فيما بقي من المداولات على التكييف الفقهي لكيفية الإخراج. هل الأمر يتكيف مع اختلاف النية أم أنه ينزل منزلة الشخص الطبيعي مطلقاً في جميع صورها؟ ثم هل الزكاة تكون على قيمة السهم الاسمية أو السوقية أو الحقيقية؟ فلعلكم ترون هذا مناسباً فيما بقي من كلام. وليتفضل الأستاذ رفيق. الدكتور رفيق يونس المصري: بسم الله الرحمن الرحيم.. أنا في الحقيقة لا أستطيع أن أبت في المسائل التي عرضها السيد الرئيس مؤخراً، ولكنني أحاول أن أساعد بقدر الإمكان في طريق هذا البت إن شاء الله فلست مفتياً وإنما أنا باحث وأحاول أن أطلع على ما يكتب وأسمع ما يقال في هذا الباب والأبواب المشابهة. أولاً أريد أن أبين بأن زكاة الأسهم عندما تطرح بهذه الصورة، بهذه العبارة زكاة الأسهم لا يفهم منها أنها زكاة على صنف زكوي يسمى الأسهم، فليست الأسهم هنا كما تردد على مسامعي أكثر من مرة مالاً، إنما السهم صك بحصة مالية، فسواء قام المساهم بالزكاة أم قامت الشركة بهذه الزكاة فهذه الزكاة عندي لا تخرج عن كونها زكاة عروض تجارية. وإذا أردتم تسميتها بزكاة الأسهم فليس هذا إلا من باب المجاز. هذه نقطة. النقطة الثانية: ولعلها مهمة في الصياغة التي هي موضع الإشكال المؤجل. سمعت بعض الإخوة الذين ميزوا بين أسهم تتخذ للتجارة وبين أسهم تتخذ للاستغلال كما فهمت. أما الأسهم التي هي عبارة عن حصة مالية في شركة فهذا لا خلاف فيه، ولكن إذا اتخذت الأسهم عروضاً تجارية للمتاجرة بها فأرجو على الأقل عند الصياغة أن يراعى ما فهمنا. الموقف الشرعي من جواز ذلك قبل مسألة الزكاة. هل يجوز أن تتخذ الأسهم عروضاً تجارية يتاجر بها. بعد ذلك إذا فرضتم الزكاة عليها من باب أنها زكاة على حرام أو على حلال فهذه مسألة أخرى، ولكني أتفق مع الدكتور الصديق في أن هذا الموضوع ليس مسلماً به عندي على الأقل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 604 النقطة الأخرى. مما يساعد في نظري والله أعلم على الاجتهاد في المسائل المستحدثة في باب الزكاة ألا ننظر فقط إلى المال وطبيعته وتصنيفه بين الأصناف الزكوية، بل أن ننظر أيضاً إلى أمور أخرى، منها مثلاً على سبيل المثال المعدل. فمعدلات الزكاة المأثورة هي كما تعلمون ربع العشر 2.5 % ونصف العشر 5 %، و10 % و20 % هذه هي المعدلات الأربعة التي أوثرت لنا في الفقه الإسلامي، وعندما يقال مثلا: زكاة على أرباح، على أرباح الشركة أرجو أن لا يفهم من ذلك أن هذه الزكاة يعني لا يمكن أن يقال هذا بغض النظر عن المعدل. فالزكاة مثلاً عندما تفرض على الأرباح لا تفرض بمعدل 2.5 % قولاً واحداً، وإنما تفرض بمعدل 10 % مثلاً إذا كان على الربح الصافي و5 % مثلاً إذا كانت على الربح المجمل. فلذلك حتى لو أخذت الزكاة من الأرباح فإنها لا تعتبر في نظري من كل الوجوه زكاة على الربح، وإنما تعتبر زكاة على الأصل أيضاً، ولكنها لا تؤخذ إلا إذا وجد الربح. هذه نقطة. نقطة أخرى. ذكر على سبيل العرض السريع نصف دقيقة الدكتور السالوس حول الكلام عن سندات الفائدة. أعتقد أن هذه النقطة غطاها فضيلة الدكتور وهبة فلا أعود إليها. حول موضوع الشخصية المعنوية أريد أن أقول كلمة موجزة. من خلال ما قرأت عن الشخصية المعنوية بقلم الكتاب المسلمين أساتذتنا الأفاضل لم أستطع أن أتبين بوضوح: هل هناك فرق يا ترى بين الشخصية المعنوية التي ابتكرها رجال القانون الغربيون وبين أن يقال: إن هذا المال في مجموعه ملك لمجموع الشركاء، لا أكاد أرى الفرق بينهما. هل هناك فرق بين أن نقول لهذه الشركة شخصية معنوية أو أن مجموع أموال الشركة تعود إلى مجموع أموال الشركاء؟ لا أكاد أرى الفرق ولاسيما في هذا الباب، وهذه مسألة مهمة فيما نحن بصدده ومهمة في موضوعات أخرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 605 النقطة الأخرى التي أريد أن أتعرض لها قد عرج عليها أستاذنا الدكتور الزحيلي حول موضوع الديون والمصاريف –أنا أضيف إليها المصاريف- الذي ألفناه من مألوفات الفقه الإسلامي أن المصاريف والديون أمور باطنة، وأنا الذي أعرفه في حدود علمي القاصر أن هذه الأمور الباطنة قد تركها الشارع لكي تعالج مع الأموال الباطنة لا مع الأموال الظاهرة، دليلي على ذلك باختصار ما يلي: فعند الكلام مثلاً عن زكاة النقود التي وكلت إلى ضمائر الأفراد كما في عهد عثمان بن عفان كما هو معلوم، وفيما بعد ذلك، وأنا أوافق على هذا الرأي، يستطيع الإنسان المزكي أن ينزل ما عليه من الديون ويخرج الزكاة من الباقي، لكن في أموال ظاهرة كأموال السائمة والزروع والثمار لم أعهد الشارع رعاية لموضوع المصاريف والديون. كل الذي نعرفه أن هناك نصاباً إذا توافر هذا النصاب أخذت الزكاة. فإذن موضوع المصاريف وموضوع الديون لا قيمة له في نظري في الأموال الظاهرة، وهذا موضوع عملي في التطبيق العملي من باب التيسير. زكاة الأسهم موضوع النقطة الأخيرة التي أعرج عليها، وهي النقطة التي طلب سيادة الرئيس الكلام عنها. زكاة الأسهم إذا زكيت فأنا أرى أنه لا خلاف عندي في أن زكاتها تجب بالقيمة الفعلية بالقيمة السوقية. وأريد أن أقول إن هذه القيمة السوقية يجب أن لا تتدخل فيها المضاربات "المقامرات"، وإنما القيمة السوقية المستندة إلى التقويم التقريبي التقديري على الأقل لميزانية الشركة. أقول هذا وأستغفر الله. وشكراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 606 الدكتور محمد عمر الزبير: بسم الله الرحمن الرحيم.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. هناك حقيقة اقتصادية أود أن أعرضها لتنير لنا التكييف الشرعي لقضية الأسهم. الواقع وجود الأسواق المالية وتداول هذه الأسهم حولها إلى جنس جديد يختلف عن طبيعة جنس الشركات أو أجناس الشركات، سواء كانت شركات إنتاجية أو شركات زراعية أو شركات صناعية. فسيولة الأسهم الآن في الأسواق يتداولها الناس وتباع للاتجار. فعندي في الواقع أن حقيقة هذه الأسهم هي من عروض التجارة، لا ترجع إلى أصلها، فقد تحولت من جنسها باعتبار جنس إلى جنس آخر جديد، حتى ولو كان أصلها زراعية أو صناعية أو إنتاجية؛ وذلك لسهولة تداول هذه الأسهم. وهناك سوق مالية في الواقع النمط السلوكي لكثير من المساهمين والمشتركين في هذه الأسهم لا يتلكونها للقنية ولا الاحتفاظ بها فترة طويلة، وإنما لتداولها في هذه الأسواق، وإن كانت هذه الظاهرة غائبة عنا في بعض مجتمعاتنا، وبعض الأفراد يقتنون مثل هذه الأسهم لأجل القنية وليس لأجل التجارة فهذه ظاهرة مع الزمن تتغير وتتحول إلى الظاهرة الأخرى التي تسود الأسواق العالمية. فهذه النقطة أود أن أعرضها على الفقهاء في التمييز بين التملك للقنية والتملك لأجل الاتجار، فتخضع أغلب –أقول: أغلب- الأسهم إلى جنس عروض التجارة. وشكراً. الرئيس: شكراً.. نحن أمامنا في هذه الليلة "انتزاع الملك للمصلحة العامة" فهل ترون أن نكتفي بما حصل من مداولات وإلا فإن بقي لدي سبعة أسماء من أصحاب الفضيلة، فهل ترون أن نكتفي وننهي الموضوع ثم نشرع في نزع الملك للمصلحة العامة، إذن الشيخ عبد السلام مع الاختصار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 607 الشيخ عبد السلام داود العبادي: بسم الله.. أختصر وفقط أقول كلمة بالنسبة للشخصية الاعتبارية. في الواقع الشخصية الاعتبارية هنا تملك الشركة تملك وهي مملوكة، لا نستطيع أن نقلل من قضية الشخصية الاعتبارية هنا باعتبارها تملك، وهذا تخريج عرفه فقهاؤنا ووثقه الفهم القانوني الحديث. لكن هذا موضوع آخر غير موضوع الزكاة لأن حديثنا في موضوع الأسهم وكما وضح الآن هو موضوع الحصص، فباعتبار الزكاة ننظر إلى موضوع الأسهم، يعني الذين يملكون هذه الأسهم، الذين يملكون هذه الحصص هم الذين نبحث معهم قضية الزكاة. ولا يعني أن وجود الملكية لجهة أنه لا بد من الحديث عن الزكاة. فالوقف جهة الوقف تملك بيت المال يملك ولا نثير قضية الزكاة في الأعم الأغلب من أقوال فقهائنا. فباعتبار الزكاة ننظر إلى جهة الحصص، فهي زكاة الأسهم وليست زكاة الشركات المساهمة باعتبارها مالكة لأموالها؛ لأن الملكية كما نعلم أساسها التصرف. ما دمت أتصرف إذن أملك. في ظني أنه يجب الإبقاء على مفهوم النية والقصد إذا كانت هذه الحصص تملك للقنية لا بد من ملاحظة أنواع الأموال ولا بد من ملاحظة ربط الزكاة بالدخل. وإذا كانت للمتاجرة وهذا هو موضوع السيولة لأنه نعم السيولة سيلت هذا المال لكن ليس شخص يقصد تسييل هذا المال ينالها للقنية، ويسجلها بأسماء أبنائه للمستقبل، فعند ذلك تعامل معاملة عروض التجارة ويكون أساس التقويم هو السعر الحقيقي وليس السعر الرسمي. وشكراً. الشيخ رجب بيوض التميمي: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أريد أن أوجز، ما أريد أن أقوله: إن الأسهم في الشركات المتنوعة إن كانت تجارية أم زراعية أم صناعية هي أموال قصد أصحابها تنميتها والاستفادة من أرباحها ولا وجه للتفرقة بين الشركات لأنها جميعها تعمل للتنمية والربح، وإذا أردنا أن نعفي بعض الشركات كالشركات الصناعية أو نعتبر الشركات الزراعية كالأرض الزراعية تؤتي أكلها يوم حصادها. فإننا نعفي كثيراً من الأموال الطائلة من الزكاة، هذه الأموال التي في الشركات الصناعية، وهذا الزمن هذا الوقت العالمي الأموال كلها أو أكثرها تجمع في شركات تجارية أو زراعية أو صناعية، ولقد أثبت الواقع أن ربح هذه الشركات يفوق ربح الأشخاص الذين يتاجرون بأموالهم منفردين. فإذا أردنا أن نعفي بعض هذه الشركات وهي تنتج وتربح كثيراً فإننا نسهل السبيل على بعض أصحاب الأموال لوضع أموالهم في مثل هذه الشركات للتخلص من الزكاة ولذلك وباختصار فإني أقول: إن جميع الشركات سواء كانت تجارية أم صناعية أم زراعية أم شركات أخرى كخدمات أو غيرها هي شركات تعمل للتنمية والربح والمال والزكاة على مالكي الأسهم الذين يخرجونها بنيتهم؛ لأنها عبادة، ولا وجه لإعفاء أي شركة لأي سبب كان، وإلا قضينا على قسم كبير من الأموال لتخرج الزكاة. أقول قولي هذا لأوضح وقد بينت هذا في بحثي وأود أن أقول: إن الفتوى كرأي أن تكون شاملة لكل شركة ولكل مال بلغ نصاباً وحال عليه الحول بلا تفريق. وشكراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 608 الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. اضطررت لأخذ الكلمة لتعليق بسيط وهو أنه لا يمكن أن يقع بين العلماء وهم يتحدثون ومن ينتسبون إلى العلم إلا مع الاتفاق على المصطلحات واستعمال المصطلح في مكانه. فإذا وجوب فهو خطاب تكليف وإذا قلنا سبب أو شرط أو مانع أو تقادير شرعية من إعطاء المعدوم حكم الموجود أو إعطاء الموجود حكم المعدوم أو رخصة أو عزيمة فذلك من خطاب الوضع. وشكراً. الشيخ عمر سليمان الأشقر: الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. المشكلة عندما تقوم دولة إسلامية تريد أن تطبق حكم الزكاة على المجتمع المسلم، فهل يستطيع علماؤنا الأفاضل أن يستثنوا الشركات المساهمة من أن تؤخذ منها الزكاة، وهي تمثل التجمعات المالية الضخمة في المجتمعات المعاصرة. أنا لا أريد أن أخوض في مشروعية الشركات المساهمة. فكما نعلم جميعاً المعاملات على الإباحة ما لم يأت نص يحرمه. أما العبادات فإنها على التوقيت والمنع، إلا إذا جاء النص المشرع. لا شك أن هذا نمط جديد من الشركات لم يكن له وجود في المجتمع المسلم قديماً، والشريعة الإسلامية لا تمنع أن توجد الأنماط في المعاملات إذا لم تكن هناك نصوص مانعة. لا نستطيع أن نقول للدولة الإسلامية: دعي الأموال ثم خذي منها الزكاة وهي التي تحرص على أنه إذا ما اجتمع بعض الإبل أو بعض الغنم أن تأخذ منها الزكاة؛ حرصاً على أن نأخذ حق الفقراء بأيسر السبل وأسهلها. فإذا ما تجمع ملايين ومئات الملايين ثم بعد ذلك نسمح أن تتوزع هذه الأموال لنأخذ عليها الزكاة بعد توزيعها. النمط الجديد من المعاملات هو الذي يجتمع له الناس لا ليطبقوا عليه القواعد الجزئية والأحكام الجزئية، إنما المشكلات الجديدة تحتاج إلى نظرة فقهية واسعة. أنا لا أتكلم كما ذكر بعض إخواننا بالعاطفة، ولكن هذه طبيعة المشكلات التي تجد وتظهر لا نتعامل معها بالنظرات الجزئية وإنما ننظر إليها نظرة كلية، هذه مشكلات تواجه المجتمع المسلم، وسيزداد أمرها عندما تقوم دولة إسلامية شاملة تريد أن تأخذ الزكاة من الجميع وتجد أمامها تجمعات مالية تبلغ ملايين ومئات الملايين ومليارات لا نستطيع أن نعفيها من أن تأخذ الزكاة. أكتفي بهذا المقدار وشكراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 609 الشيخ خليل محيي الدين الميس: بسم الله الرحمن الرحيم.. تعقيب بسيط على كلام الأخ الدكتور وهبة عندما حيرنا بين الدائن والمدين، وهو يعلم أنه من لم يوجب الزكاة على الدائن أوجبها على المدين، ومن لم يوجبها على المدين أوجبها على الدائن. أمر آخر خطر في البال الشخصية المعنوية في الشركة. فالشركة من حيث إنها تملك لذلك أقتصر حكم الإفلاس على المال الذي هو بنية الشركة أي رأس المال ولا يتجاوز حكم الإفلاس على مال المالكين خارج الشركة. إذن من حيث إنها تملك اقتصر حكم الإفلاس على المال رأس مال الشركة ولا يتجاوز إلى الأشخاص الآخرين. ومن حيث إنها مملوكة لذلك يخاطب المالكون بالزكاة. فإذن هي مالكة وهي مملوكة. والله أعلم والسلام عليكم. الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد أود أن أبين ما هو السهم؟ يعني تعريف السهم حسب فهمي أنه يمثل حصة عينية مشاعة في شركة مساهمة يتداول أسهمها في السوق بيعاً وشراء، والشركات أنواع منها تجارية ومنها عقارية وزراعية، حتى الزراعية الآن تشمل الأبقار والدواجن، وصناعية، ومنها عامة فيها نقود وفيها تجارة وفيها عقار وفيها زراعة وفيها صناعة. وهناك نوعان من المستثمرين: مستثمرون يقتنون للريع السنوي، ومستثمرون متداولون للسهم كتجارة. فبيت التمويل الكويتي ذكر الإخوة عن البنوك الإسلامية فلا بد أن أبين ما ذهب إليه بيت التمويل الكويتي في الزكاة. بيت التمويل الكويتي لا يزكي البيت عن الناس، إنما المساهمون هم يزكون أسهمهم حسب معرفتهم، إلا من يوكل البيت في ذلك فالبيت يقوم بالنيابة عنه بالزكاة عنه. إذا هناك شركة مساهمة لا يتداول أسهمها في السوق بيعاً وشراءً، إنما ملاك الأسهم لا يتغيرون إلا بالتصفية. أنا أميل إلى رأي الدكتور الصديق الضرير لأن هذه ما فيها إشكال الحق ولا فيها تغيير للمالك، وهذه نادرة الوجود. أميل في الحقيقة إلى أن نرد الشيء إلى أصله في كيفية إخراج الزكاة. إذا كانت شركة تجارية نزكيها كعروض التجارة، إذا كانت عقارية، وإن كان نوى للتجارة وهي عقار أو صناعة ربما لا يمكنه السوق من التداول في بيع عقاره أو بيع ما يملك من مصانع فكيف في الحقيقة أنا في نفسي منها شيء. كيف نزكي على النية ونترك حقيقة العين. أنا أرى أن نرجع كل شيء إلى حقيقته إلا إذا هناك في الفقه الإسلامي من حكم يتغير بتغير الظرف إذا كانت نيتي اقتناء السهم للتجارة. السهم الصناعي والعقاري وما إلى ذلك ونويت فيها للتجارة، ثم لم أمكن من ذلك وبقي عقاري وبقي مصنعي عشر سنوات بدون تداول، هل هناك في الفقه الإسلامي ما يمكنني بما أني لم أتمكن من تحقيق نيتي بأن يتغير حكم الزكاة في ذلك، إذا كان في الفقه الإسلامي شيء من هذا نريد الجواب عليه. وشكراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 610 الشيخ محمد سيد طنطاوي: بسم الله الرحمن الرحيم.. تعجبني الكلمة التي حفظناها خلال عهد طلبنا للعلم وما زلنا طلاباً للعلم، تلك الكلمة التي يقول أصحابها: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، والموضوعات التي بين أيدينا منها موضوعات فقهية خالصة ومنها موضوعات بجانب أنها فقهية تحتاج في جانب منها أيضاً تارة إلى أن يكون مع رجل الفقه رجل الاقتصاد أو رجل الطب؛ لأن العلم رحم بين أهله كما يقولون، والفتاوى أقرب ما تكون إلى الصواب عندما يكون مع الفقيه في المسألة التي تحتاج إلى دراسة متنوعة يكون إلى جانبه الرجل المتخصص، وأنا شخصياً أميل في أمثال هذه البحوث إلى أن يكون معنا من الرجال العاملين في البنوك الذين نثق بعلمهم ونثق بدينهم، أن يكون معنا واحد أو اثنان أو ثلاثة على حسب ما يرى فضيلة الدكتور رئيس المجلس لكي يوضح الصورة أكثر وأكثر وأكثر؛ لأن الشركات في أيامنا هذه شركات متنوعة ومتعددة، وأيضاً يا حبذا لو كان بين أيدينا بعض اللوائح والقوانين التي تتعلق بهذه الشركات تكون الصورة أكثر وضوحاً. ولا أقول ذلك بالنسبة لجميع مشايخنا الذين يجلسون معنا وجميع زملائنا، وإنما أنا أقول ذلك بالنسبة لنفسي. الأمور في مثل هذه الموضوعات الشائكة تحتاج إلى أن يكون إلى جانب رجل الفقه رجل القانون ورجل الاقتصاد، وقد أشار إلى ذلك الأخ الدكتور الأستاذ رفيق المصري والأخ الدكتور الزبير، وفي الحقيقة أنا أميل إلى هذا الرأي، ولهذا أرى إذا ما تشكلت لجنة للبت في هذا الموضوع أرى من المناسب أن يكون مع هذه اللجنة الفقهية بعض من نثق بعلمهم وفضلهم من الرجال المتخصصين في الناحية الاقتصادية أو القانونية أو غيرها؛ حتى تكون الفتوى إن شاء الله أقرب إلى الصواب وأقرب إلى الحق بإذن الله. والله الموفق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 611 الرئيس: شكرا، وأحب أن أحيط فضيلتكم بأنه يوجد متخصصون وهم الفاضلان بجانبك الاثنان الجاران لك. وأما المستشارون في البنوك فيوجد عندنا، وعلى رأسهم الشيخ الضرير. الشيخ الضرير. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم.. في الواقع أنا طلبت الكلمة لأعلق على بعض التساؤلات أو الاعتراضات، وأبدأ بالمتحدث الأول، فقد ذكر قاعدة أوافقه عليها، وهي أن المنظومة لا بد أن تكون متناسقة، والمبدأ يجب أن ينطبق على جميع الفروع، هذا كلام جيد. والمبادئ التي بنيت عليها كلامي أو بحثي هي ثلاثة مبادئ: المبدأ الأول: أن الزكاة واجبة على المساهمين، وليست واجبة على الشركة. المبدأ الثاني: وهذا المبدأ أظنه أصبح محل اتفاق، كما قرره السيد الرئيس: وجوب زكاة الأسهم على المساهمين. المبدأ الثالث: الأخذ بمبدأ الخلطة في الأموال، وهذا لم أبتدعه أنا ولم أخالف فيه النصوص كما أشار بعض الإخوة الكرام، وإنما هذا هو رأي الشافعي. وقد نقلت كلام ابن رشد في هذا الذي بين فيه بوضوح منشأ الاختلاف بين الشافعي وغيره، وكلام هؤلاء الأئمة الأجلاء، وقفوا على الحديث واختلفوا في تفسيره. فالاختلاف راجع إلى فهم الحديث، فلا نستطيع أن نقول: إن من يقول بأخذ بمبدأ الخلطة في النقود قد خالف النص، وإلا حكمنا على الشافعي بأنه خالف النص مع علمه به. المبدأ الثالث: مبدأ المال المستفاد أنه يتبع أصله ولا يشترط فيه حولان الحول، وهذا هو رأي الحنفية وبعض غيرهم، وهو معروف ومدون. وسرت على هذه المبادئ الثلاثة لم أخرج عنها في أي جزئية من الجزئيات. ولعل أهم جزئية أثيرت هي ما بدأ به السيد رئيس المجلس، وهي كيف نوجب الزكاة على المشتري الجديد الذي دخل في هذه الشركة. هذا يخضع لهذين المبدأين: مبدأ الخلطة، ومبدأ المال المستفاد. فبعدما قررنا أن الشركة واجبة على المساهمين، وهذه الشركة قد اشترك فيها ... مساهم ثم جاء أحدهم خرج من الشركة ودخل شخص آخر، فهذا مال مستفاد بالنسبة لهؤلاء الشركاء المساهمين، الذين تجب عليهم الزكاة، والذين اعتبرنا الأموال كلها كمال شخص واحد بمقتضى مبدأ الخلطة، تجب فيها الزكاة، وفي هذا الإجابة على اعتراض آخر كيف تجب الزكاة في مال لم يبلغ النصاب. أنا لم أقل هذا. لم أقل: إن الزكاة تجب في مال لم يبلغ النصاب هذه مسألة مسلم بها. إنما قلنا: إن إعمالنا لمبدأ الخلطة إذا كان أموال الخلطاء، ويجب أن يكونوا مسلمين، وقد غناني بعض الإخوة الإجابة عن هذا بين مسلم وغير مسلم، وهذا غير متصور إذا كان مجموع المال الذي يملكه من تجب عليهم الزكاة، وكانوا عشرة، وكل واحد منهم عشر النصاب، هؤلاء العشرة تجب عليهم الزكاة. فليس هناك قول بأن المال الذي لا يبلغ النصاب تجب فيه الزكاة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 612 المتحدث الأول استشكل موضوع: كيف تجب الزكاة على الشركة، وهذا في الواقع ليس إشكالاً، وأنا قد قررت فيه رأيي. موضوع مذهب الإمام مالك في موضوع المحتكر والمدير، هذا رأي تفرد به الإمام مالك، وأنا لم آخذ به، وكما قلت لكم: نحن مشينا في رأينا بالنسبة للزكاة على التيسير، ومذهب الإمام مالك هذا معروف في التفرقة بين هذا لم آخذ به، ولا إلزام في الأخذ به. فيما يتعلق بفكرة المستغلات، أنا كل ما فعلته أني نقلت هذا الرأي. وأنتقل من هنا للرد على جزئية ذكرها بعض الإخوة، وهي ما ورد في الصفحة الخامسة. قلت في الصفحة الخامسة: والواقع أن هذا الاختلاف ليس خاصاً بالأسهم. أنا لم أقل ليس هناك اختلاف، وإنما قلت: إن الاختلاف بين الشيخ عبد الرحمن عيسى في أنه لا يوجب الزكاة في الشركات الصناعية وبين الشيخ القرضاوي ومن وافق كلا منهما. قلت: إن هذا الاختلاف ليس خاصاً بالأسهم والشركات؛ لأنه يمكن أن يقال في كل مستثمر على الرأيين هي أن الأسهم أموال تجب فيها الزكاة، ولم أقف عند هذا كما ذكر الأخ الكريم، وإنما قلت: تجب فيها الزكاة إذا توافرت شروط وجوبها. والاختلاف بين رأي الشيخ عيسى والدكتور القرضاوي هو في تحقق شروط الوجوب فليس هناك خلاف خاص بأسهم، الخلاف في جزئية كبيرة يدخل فيها الأسهم. بعض الإخوة اعترضوا على أن نقيس على الخلطة، ولا أدري لم هذا الاعتراض؟ نحن لم نقس وإنما أخذنا رأي الشافعية بعينه، ليس هناك قياس، فأنا أخذت برأي الشافعية في أن الخلطة تؤثر في الأموال. أما ما يتعلق بالتجارة في الأسهم فأنا قلت: إن في نفسي من هذا شيئاً، وأرجو أن يكون محل بحث، ولست أنا الذي تفردت بهذا القول، وهناك كثير أو بعض الفقهاء المعاصرين لم يجوزوا، حتى صراحة منعوا بيع الأسهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 613 نقطة أخرى في التفرقة بين المساهم إذا عرف من حسابات الشركة أو لم يعرف. الأخ المعترض يقول: إن المساهم يستطيع أن يعرف دائما هذا فليكن لا إشكال في هذا، أنا كلامي فيما إذا لم يعرف. أما الشركات التي نتحدث عنها وأنا ذكرت البنوك، والبنوك شركات تلتزم بالأحكام الشرعية. طبعاً نحن لا نتكلم عن شركات لا تلتزم بالأحكام الشرعية، أو تتعامل بالربا، هذه طبعاً لا يجوز الدخول في أسهمها من أول الأمر، هذه مفروغ منها، وليست محلا للبحث. نقطة أخيرة من كلام الشيخ الزبير في حقيقة السهم، وهو يرى أن الأسهم لا تتخذ لأجل القنية، وإنما تتخذ لأجل التجارة. لا أدري كيف نوفق بين هذا وبين الواقع. الذي أعرفه أن عدداً لا يستهان به يقتنون هذه الأسهم لأجل القنية، ولأجل الاستفادة من ربحها، أما أن يقتنيها لأجل التجارة فهذا فهم جديد إذا كان هذا هو رأي الاقتصاديين، وأن الأسهم الغرض الأساسي منها أن تقتنى للتجارة، هذا يقتضي منا نظرة أخرى إلى الموضوع. وأكتفي بهذا وشكراً. الشيخ عبد الله بن بيه: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. فضيلة الرئيس، الحقيقة كما قال الشاعر: " هل غادر الشعراء من متردم" أعتقد أن الخطباء لم يتركوا مقالاً لقائل ولا مجالاً لجار. ولأجل ذلك اقتصاراً للوقت أرى أنه بإمكانكم أن تطلبوا من المؤتمرين: هل يوافقون على تقليد الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة الخلطة؟ وهل يوافقون على تقليد أبي حنيفة رحمه الله تعالى في المسألة المتعلقة بالموضوع؟ نكون بهذا قد قطعنا خطوة في اتجاه الحل. لا يبقى بعد ذلك إلا تكييف المسألة أو ما يسمى بتحقيق المناط في عرف الأصوليين. هذا التكييف يتعلق بالأسهم، وقد تقوم به لجنة من الاقتصاديين؛ لأن المبادئ قد ووفق عليها وانتهى. الذي دفعني إلى هذا التعليق حقيقة هو كلمة قالها أحد الإخوة المحترمين، وهو أن المال الحرام تجب فيه الزكاة، وقال: إنه لا يعلم أحد من الأئمة قال بعدم وجوب الزكاة فيه، وأنا أسأله: هل عرف أحداً؟ وهل يمكن أن يقول: إن عالماً واحداً أوجب الزكاة في المال الحرام؟ المال الحرام غير مملوك لصاحبه، والزكاة من شرطها تمام الملكية. لا بد من تمام الحول وتمام الملكية. إذن كيف يسمح لنفسه أن يقول: إن المال الحرام تجب فيه الزكاة؟ وإنه لا يعلم أحد من المسلمين يقول بعدم وجوب الزكاة فيه. أرجو التنبيه إلى هذا. وشكراً سيدي الرئيس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 614 الدكتور سامي حسن حمود: شكراً سيدي الرئيس، أتكلم في نقطتين وبدقيقتين. النقطة الأولى دفعاً للبس الذي قد يظن أن القول بالشركات المساهمة لا تزكى أنه منع الزكاة كلياً. الحقيقة هي تحوير الدفة أن الزكاة على المساهم يزكيها بحساباته ووفق حوله ونظامه. النقطة الثانية: هي سمعت من بعض الإخوة أنه إذا عملنا كذا وقلنا في الزراعة كذا، فقد يخشى تحول المستثمرين إلى الزراعة ليتهربوا من الزكاة. الواقع أن الشريعة الإسلامية شريعة كاملة، ولا ينطبق عليها ما قد ينطبق على القوانين الحديثة من حيث براعة المحامين في الدوران من خلف النصوص القانونية، وقد يكون هناك توجيه اقتصادي دقيق في المعايير التي وضعها الشرع في نصاب الزكاة. وأضرب مثلاً حسابياً سريعاً: شخص يملك ألف دينار، أبقاها كما هي، زكاتها مع حلول الحول 25 ديناراً. آخر تاجر في ماله ومع تقليب التجارة عدة مرات خلال العام أصبح عروض التجارة في موجوداتها 1400، وزكاتها 35 دينار. شخص اشترى بالألف دينار أرضاً تسقيها السماء فأعطت إنتاجاً قدره 300 دينار، فيه العشر، فعليه زكاة 30 دينارا، شخص آخر رواها بالآلة، وأعطته إنتاجا زائداً قدره 400 دينار، فزكاته 20 ديناراً. هذه التوجهات وكأنها تشير إلى أن مالك المال إذا أراد أن يتهرب وأن يقلل من زكاته، فأعطى المردود في الزراعة المروية 20 ديناراً هو أقل مقدار ممكن أن يؤديه، لكن لينظر المفكرون الاقتصاديون المسلمون في الأثر الناتج عن زراعة الأرض بالآلة، انتفع مصنع الآلة وانتفع العامل على الآلة، وانتفعت الأرض بالإحياء، كل هذه نتائج اقتصادية مرتبطة بهذه المعايير الشرعية. فليست قضايا النصاب وقضايا التوزيع من القضايا التهريبة أو التي يتم بها التحايل على الشريعة، ولكن الشريعة تبرز جمال التطبيق في المجتمع المتكامل، بحيث إن هذا المال الذي استعمل في أشد الأمور معاناة عبؤه في الزكاة خفيف، ولكن أثره في المجتمع قوي وكبير. هذه هي النقطة التي تتحكم في توزيع الأنصبة والمقادير. وشكراً لكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 615 الدكتور رفيق يونس المصري: بسم الله الرحمن الرحيم، النقطة الأولى التي أحب الكلام عنها هي مسألة السهم إذا بيع خلال الحول. في الحقيقة أن شركة المساهمة النقطة المفيدة فيها إذا كانت هناك من فوائد، ولا أتكلم عن الشركات المثلى في الشريعة الإسلامية، أن رأس مال الشركة يعتبر ثابتاً وإن تغيرت أشخاص المساهمين، فالسهم إذا بيع خلال الحول فإن الشركة طبعاً طالما أنها هي التي تقوم بإخراج الزكاة في نهاية الحول، هذه الزكاة لا شك أنها ستنزل من الأرباح القابلة للتوزيع على المساهمين. معنى ذلك أن الشخص الذي يشتري السهم خلال الحول لا في بدايته ولا في نهايته، فإنه يتوقع أن يكون الربح الذي يخص سهمه أو أسهمه أقل، ومعنى ذلك أن هذه المسألة يمكن استدراكها من خلال ثمن السهم الذي يباع، وإن وقعت الزكاة على شخص المساهم الأخير، شخص المساهم التي تمت الزكاة في وقته. أما الشخص الأول فإنه يخسر المقدار المتوقع من الزكاة من خلال الثمن الذي يباع به السهم. ما أشار إليه الدكتور الزبير حول موضوع سهم للقنية وسهم للتجارة، أنا لا أرى أن هذا التمييز وارد في هذا المجال بين قنية وتجارة، فهذا قد ذكره الفقهاء في باب العروض فقالوا: إن هناك عروض قنية وعروض تجارة من أجل الوصول إلى عروض القنية لا تزكى. لا أدري هل يريد الدكتور الزبير أن الأسهم إذا كانت للقنية لا تزكى كعروض القنية. والله أعلم. أنا أشكر أستاذنا الشيخ ابن بيه على هذه النقطة التي أطلقها وهي أن المال الحرام غير مملوك لصاحبه، وأنا في الحقيقة لا أتصور كيف أن شخصاً يأكل الحرام ويخرج الزكاة. وشكراً لكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 616 الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد. فيتضح من المناقشات التي جرت في موضوع زكاة الأسهم في الشركات أنه لا نزاع في وجوب الزكاة، وأن الزكاة في أصل وجوبها إنما تجب على المساهم المسلم، ثم يأتي البحث في تكييفها، ولعل الاتجاه العام من خلال هذه المداولات يفيد تنزيل التكييف لها منزلة الشخص الطبيعي، فيما لو كان مالكاً لكل الشركة، أو لكل رأس المال، سواء كان من حيث النصاب أو من حيث المقدار الذي يخرج زكاة في عين المال، مع مراعاة المشروع الذي سبق أن أعد في الدورة الثالثة في عمان ثم حصل إيقافه لاختلاف حول صياغته، ورغبة في أن يخرج الموضوع بصفة دقيقة وأن يحوي الأصول التي تجرى عليها الأحكام في زكاة الأسهم، فقد ترون مناسباً تأليف لجنة من العارض والمقرر وبعض الأعضاء وهو المشايخ: الصديق الضرير، السالوس، الشيخ محمد عبد اللطيف، طه العلواني، أحد البازيع. والشيخ طه إذا كان منشغلاً بلجنة أخرى ممكن نضيف إليهم الشيخ عمر الأشقر، فإن حضر الشيخ طه فجزاه الله خيراً وإن لم يحضر فالشيخ عمر الأشقر فيه البركة مع المشايخ. هل ترون هذا مناسباً؟ شكراً، وبهذا ترفع الجلسة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 617 مناقشة مشروع القرار الذي وضعته اللجنة الشيخ عبد الستار أبو غدة: زكاة الأسهم في الشركات بعد الديباجة. قرر المجمع ما يلي: أولاً: تجب زكاة الأسهم على أصحابها، وتخرجها إدارة الشركة نيابة عنهم إذا نص في نظامها الأساسي على ذلك، أو صدر به قرار من الجمعية العمومية، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة، أو حصل تفويض من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه. ثانياً: تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين أموال شخص واحد، وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب. الرئيس: ما ترون أن يقال: تعتبر جميع أموال المساهمين كأنها مال شخص واحد، بمثابة شخص واحد. الشيخ عبد الستار أبو غدة: بمثابة أموال شخص واحد. الشيخ عمر جاه: بسم الله الرحمن الرحيم، هي المشكلة أنه نفترض أن المساهمين كلهم مسلمون على فرض الشركة فيها مساهمون مسلمون وغير مسلمين. الشيخ علي المغربي: قد يكون شخص مساهم قلنا وأن الشركة تؤدي زكاة أموال المساهمين، وقد يكون هناك شخص مساهم لم تصل إليه في أسهمه لم يجب عليه الزكاة؛ لأنه دخل متأخراً ولم يحل عليه الحول. قد يكون شخص دخل في وسط السنة أو في آخر السنة، وكان للشركة مرور حول، غير أن أموال مساهم لم تصل إلى الحول فهل نوجب عليه الزكاة في هذه الحالة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 618 الرئيس: سيأتي يا شيخ. سيأتي في القرار. الشيخ عبد الستار أبو غدة: وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي، وذلك أخذاً بمبدأ الخلطة عند من عمم من الفقهاء في جميع الأموال. ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة، ومنها أسهم الخزانة العامة، وأسهم الوقف الخيري، وأسهم الجهات الخيرية، وكذلك أسهم غير المسلمين. ثالثاً: إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه، زكى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم. وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك: فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، فإنه يزكيها زكاة المستغلات، وتمشياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع، مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع. وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه، زكى قيمتها السوقية، وإذا لم يكن لها سوق، زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة، فيخرج ربع العشر 2.5 % من تلك القيمة ومن الربح إذا كان للأسهم ربح. رابعاً: إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكاه معه عندما يجيء حول زكاته. أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها على النحو السابق. الشيخ محمد تقي العثماني: الحقيقة في الفقرة الأخيرة من ثالثاً حينما نقول: إن لم يستطع المساهم معرفة ذلك فإنه يزكي ريع الأسهم السنوي فقط. فكأننا تركنا بعض ماله غير مزكى لأن بعض ماله مصروف في النقود وفي البضائع التجارية باليقين ولكن قدره غير معلوم. فحينئذ يصير ذلك المال غير مزكى، وأرى أن في هذه الصورة يجب أن تزكى القيمة السوقية من السهم لا الريع فقط؛ لأن من المعلوم أن بعض ماله مصروف في النقود والبضائع التي تجب فيها الزكاة. فكيف نتركها غير مزكاة؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 619 الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. إن هذا الترديد: وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك. إلى قوله: وانتفاء الموانع. أنا أتحفظ عليه لأني أعتقد أن أسهم الشركات هو مال يجب أن يدفع منه زكاته في نهاية السنة. الرئيس: أين هذه يا شيخ؟ الشيخ محمد المختار السلامي: وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي فإنه يزكيها زكاة المستغلات، وتمشياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم وإنما تجب الزكاة في الريع، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع. هذا أتحفظ عليه تحفظا كاملاً، ولا أعتبر أن أسهم الزكاة هو كعقار. فجعل قياس السهم في الشركة كالعقار هذا ما أتحفظ عليه ولا أراه صحيحاً ولا أدين به. وشكراً. الشيخ عبد الستار أبو غدة: كلمة انتفاء الموانع المقصود منها إذا كان هذا المساهم الذي يزكي الآن فردياً ليس زكاة أسهم الشركات ككل شركة، وإنما مساهم لديه سهم يستغله وينتظر ريعه. فإذا كان عليه دين يسقط هذا الدين من قيمة السهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 620 الرئيس: لأنه من الموانع. الشيخ محمد المختار السلامي: إن الزكاة تجب في الريع فقط. هذه هي القضية. إن السهم كله بريعه يجب إخراج الزكاة فيه.. الشيخ عبد الستار أبو غدة: الأصل والريع.. ليس الاعتراض على كلمة الموانع. الشيخ محمد المختار السلامي: لا أنا قلت الترديد كله وإن لم يستطع المساهم. إن هذا الذي أعترض عليه. الشيخ عبد الله إبراهيم: بالنسبة لأسهم غير المسلمين أرى أن يؤخذ أيضاً مثل الزكاة لا كزكاة، لكن مثل الزكاة؛ ليكون هناك توازن في الأداء المالي للأغراض الاجتماعية. فالجزء المأخوذ من غير المسلمين لا يضم إلى الزكاة من المسلمين، ولكن نوردها إلى بيت المال لينفق في الجهات العامة ولخير الجميع. الرئيس: أرى قراءة ثالثا يا شيخ. الشيخ عبد الستار أبو غدة: ثالثاً: إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه, زكى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم. الرئيس: هذا ماشي. الشيخ عبد الستار أبو غدة: وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك، فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي فإنه يزكيها زكاة المستغلات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 621 الشيخ محمد المختار السلامي: هنا الاعتراض والإشكال. الشيخ عبد الستار أبو غدة: هذا السبب فيه الحقيقة افتقاد النية، نية التجارة غير موجودة. هو اشترى السهم للريع فقط وليس للتجارة. وأنتم تعلمون أن زكاة عروض التجارة لا بد فيها من النية، ونية الشركة لا تغني عن نية الفرد؛ لأن الشركة تجارية بطبيعتها وأموالها، والنية موجودة في تأسيسها ونظامها وعملها لكن هذا المساهم اشترى السهم بقصد الاستغلال. الشيخ محمد تقي العثماني: السهم عبارة عن حصة في الأموال بالبضائع والنقود، وهذه الأموال بالبضائع والنقود ما دامت نقوداً وبضائع ففيها زكاة. الشيخ عبد الستار أبو غدة: اشترى هذه الحصة بدون نية التجارة للاستغلال. الشيخ محمد تقي العثماني: ولكن أنا إذا كنت شريكاً في الشركة؟ الشيخ عبد الستار أبو غدة: لو فرضنا أن الشركة تتاجر في السيارات، فجاء إنسان واشترى سيارة من هذه السيارات ليستغلها، هل نقول له: زك زكاة التجارة؟ نية التجارة غير موجودة. النية موجودة لدى الشركة لكن لدى المساهم غير موجودة. الشيخ محمد المختار السلامي: لا يمكن أن يكون الكل هو تجارة والفرد ليس تجارة!! الشيخ طه جابر العلواني: في الحقيقة أنا أضم صوتي إلى صوت الأستاذ السلامي في تحفظه على هذا حيث إن طبيعة الأسهم في الشركات المساهمة بصفة عامة هي الاتجار. فجميع الشركات المساهمة السهم مطروح باستمرار في أي لحظة بسعر المساهم أن له ربحاً في بيع السهم يبيعه. فليست هناك أسهم للاستغلال وأسهم للبيع. الأسهم دائماً للبيع. الشيخ محمد المختار السلامي: أكثر من هذا إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب فإذا زكته أصبح يخرج من ماله مقدار الزكاة، فإذا لم تزك الشركة هو عليه أن يتحوط ويعرف القيمة. فإذا لم يعرف القيمة سقطت زكاته. الرئيس: أما هذه الفقرة يا مشايخ فهي تلتقي مع قراركم في زكاة المستغلات؛ لأنها تدور على النية فإذا كان لا ينوي التجارة وإنما ينوي الاستغلال في هذه الأسهم، وهذه كثيرة الوقوع وكثيرة التصور والحدوث، فإن الزكاة هي في الغلة لا في الأصل. فإذا كنتم ترون إبقاء المادة على هذا فالذي يراها يتفضل برفع يده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 622 الشيخ إبراهيم بشير الغويل: لا يصبح مشتري السهم تاجراً إلا إذا اعتاد ذلك واحترفه، فإن لم يحترف وإنما الشركة باستمرار تجارية فوضع الفرد في كل الأحوال إن كانت مساهمته ليست بقصد الاتجار يخرج عن هذا الموضوع. الشيخ عبد الستار أبو غدة: أنا قصدت التفرقة بين الشركات؛ لأن هناك شركات تجارية وشركات غير تجارية، هذه تفرقة قانونية وأما في الفقه فكل الشركات فيها تجارة، لكن الفرد الذي اشترى السهم ولم ينو للتجارة بالسهم؟ الشيخ إبراهيم بشير الغويل: هذا ليس تاجراً. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: افتراض أن الشخص اشترى السهم ليتاجر فيه، هذا في رأيي غير وارد وليس هذا هو الأصل إلا في الذين يتاجرون في الأسهم وهذه جهات معروفة وليست المكتتب في الشركة من أول الأمر، انظروا إلى شركة ستنشأ جديداً كما حصل مثلاً في بنك فيصل، طرح أسهماً واشتركوا فيها، وأنا أكثر المشتركين، ولم تكن نيتي أن أبيع هذا السهم أو أتاجر فيه بتاتاً، وإنما نيتي أن أستفيد من ريعه وأن يقوم هذا البنك فاشتريت عدداً من الأسهم بهذه النية، وأن أقول لكم: إن الغالبية التي اشترت هذه الأسهم قصدها أن تستفيد من ريعها، وليس بقصد الاتجار فيها، وإلى الآن لم أعرف أحداً تاجر في هذه الأسهم وليس عندنا سوق أسهم يتاجر فيه. فكيف نقول لمثل هذا الشخص: زك زكاة عروض التجارة؟ الشيخ محمد المختار السلامي: وهذه الأسهم من يزكيها؟ الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: يزكيها البنك، فهذه محلولة. الشيخ محمد المختار السلامي: فإذا لم يزكها البنك؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 623 الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: يزكيها البنك، ولكن لو كان البنك لو يزك لزكيتها كما اقترحت هنا وانتهينا. نحن افترضنا هذه الصورة لا تأتي إلا إذا كانت الشركة لم تزك. إذا الشركة هي التي زكت فلا إشكال وليس على المساهم زكاة. لكن هذا الكلام إذا لم تزك الشركة ولم يستطع صاحب السهم هذا أن يعرف ما يجب عليه من الزكاة لو زكت الشركة. لو انتفى كل هذا ماذا نفعل؟ الشيخ عبد الستار أبو غدة: أو بالعكس بقصد الاستفادة من ريع الأسهم وليس بقصد التجارة. نضع القصد الذي قصده وننفي ما لم يحصل. الرئيس: المهم وجود القيد هذا ينهي الموضوع. الشيخ محمد المختار السلامي: لا، ما ينهي الموضوع. الرئيس: هذا تحفظك يا شيخ تحفظه أنت. الشيخ محمد المختار السلامي: أعرض القضية على الكل. الرئيس: هي الآن معروضة يا شيخ، القيد هذا يؤكد المراد من المادة. ما فيه داع أننا نطيل الجدل وأن كون إنسان اتخذ رأياً أنه يؤخذ به. الشيخ محمد المختار السلامي: ما يؤخذ به، أعرض القضية على التصويت فقط هذا ما أحب. القضية التي نختلف فيها تعرض على التصويت. الأمين العام: فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي وليس بقصد التجارة. الرئيس: هو فيه وضوح تماماً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 624 الشيخ محمد تقي العثماني: لأن الموضوع موضوع زكاة أموال، الحقيقة أننا لو أسسنا هذه المسألة على أساس أنه لا تجب الزكاة إلا على الريع فليكن ذلك أيضاً، إلا إذا عرف المساهم الحسابات أيضاً ولكننا قلنا في البداية: إنه إذا عرف الإنسان ما يدفع، يزكي السهم بكامله. الرئيس: ذاك قلنا ينزل منزلة الشخص الطبيعي. فمنزلة الشخص الطبيعي يأتي من جميع نواحيه، ومن جميع فروعه نروح نأتي مئات الفروع. نحن نذكر أبرزها التي هي تمثل الجزء الأكبر في التعامل في الأسهم. فهل ترون بعد التعديل مناسباً. الذي يرى هذا الشيء يرفع يده والذي لا يرى هذه الفقرة يرفع يده. تقرأ مرة ثانية. الشيخ عبد الستار أبو غدة: وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك، فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، وليس بقصد التجارة، فإنه يزكيها زكاة المستغلات تمشياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع، مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع. الشيخ طه جابر العلواني: سيدي الرئيس، كلمة توضيحية بسيطة جداً. إن قياس قضايا الأسهم على قضايا العقارات والمستغلات قياس مع فارق كبير من شأن الأسهم وشركات الأسهم الاتجار بها فتحويلها من فكرة المؤسسة إلى نية الفرد وربط الحكم الفقهي بنية الفرد وفكه عن تنظيم المؤسسة، هذا هو الذي نتحفظ عليه. شركات الأسهم بطبيعتها هي مؤسسة للاتجار، لكن الفرد مثل الشيخ الضرير أو يتيم لا يعرف الاتجار ممكن يأخذ السهم ويحاول أن يتمسك به لكن طبيعة الأسهم دائماً إنما هي للاتجار. الرئيس: استكمل المادة: فإذا كان المساهم. صفحة سبعة. الشيخ عبد الستار أبو غدة: وإن كان المساهم اقتنى الأسهم بقصد التجارة زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه زكى قيمتها السوقية، وإذا لم يكن لها سوق زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة فيخرج ربع العشر من تلك القيمة من الربح إذا كان للأسهم ربح. الرئيس: المعارضون يرفعون أيديهم على المادة جميعها. من هنا ثلاثة، أربعة ومن هنا ثلاثة. الأكثرية الآن على بقائها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 625 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه قرار رقم (3) د 4/08/88 بشأن زكاة الأسهم في الشركات إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408هـ. الموافق 6-11 فبراير 1988م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع "زكاة أسهم الشركات" قرر ما يلي: أولاً: تجب زكاة الأسهم على أصحابها، وتخرجها إدارة الشركة نيابة عنهم إذا نص في نظامها الأساسي على ذلك، أو صدر به قرار من الجمعية العمومية، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة، أو حصل تفويض من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه. ثانياً: تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد، وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي، وذلك أخذاً بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء في جميع الأموال. ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة، ومنها أسهم الخزانة العامة، وأسهم الوقف الخيري، وأسهم الجهات الخيرية، وكذلك أسهم غير المسلمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 626 ثالثاً: إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه، زكى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم. وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك: فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، وليس بقصد التجارة؛ لأنه يزكيها زكاة المستغلات، وتمشياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع. وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه، زكى قيمتها السوقية، وإذا لم يكن لها سوق، زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة، فيخرج ربع العشر 2.5 % من تلك القيمة ومن الربح إذا كان للأسهم ربح. رابعاً: إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكاه معه عندما يجيء حول زكاته. أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها على النحو السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 627 المثامنة في العقار للمصلحة العامة إعداد الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد. . . فإن العقود الجبرية منتشرة في كتب المحدثين وتفريعات الفقهاء؛ كبيع مال المحتكر، والتسعير، والشفعة، وقسمة الإجبار، وبيع مال المفلس ... ونحو ذلك، ومنه المثامنة في العقار للمصلحة العامة، المعروف بلسان العصر باسم (نزع ملكية العقار للمصلحة العامة) . وقد تكلم الفقهاء عليه قديمًا وحديثًا، وهذه أبحاث مختصرة تلم شتات ما تناثر في هذه المسألة لما لها من أهمية في العصر الراهن , بل صارت تمثل ظاهرة حضارية في المدن والقرى والأمصار، كتوسعة المساجد وإنشائها، والطرق ومدها، ونحو ذلك في أعقاب تلبية متطلبات الحضارة ومعايشتها، ولأهميتها، أدخلت في مشروع (وثيقة حقوق الإنسان في الإسلام) من أن الناس مسلطون على أملاكهم، ويجوز لولي الأمر نزع الملك من مالكه لمصلحة عامَّة لقاء تعويض فوري عادل. وقد أدرت البحث فيها على ما يلي: أولا: التعريف بمفردات العنوان. ثانيًا: تمهيد عن الملكية. ثالثًا: القيود الواردة عليها. رابعًا: المثامنة في العقار للمصلحة العامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 628 وفيه ستة فروع: ا - وقائعها على مدى العصور الإسلامية. 2- كلام الفقهاء فيها. 3 - أدلتها. 4 - شروطها. 5 - موقف المالك منها. 6 - حكم نزع العقار من مالكه ليتملكه آخرون. فإلى بيانها: أولًا: التعريف بمفردات العنوان. هذا العنوان (نزع ملكية العقار للمصلحة العامة) اصطلاح حادث في العصر الحاضر، وهو لدى الفقهاء ينطوي تحت ما يطلقون عليه (1) : ا - العقود القهرية. 2 - الإكراه بحق. 3 - الإكراه الجائز. 4 - الجبر الحلال. 5 - الجبر الشرعي.   (1) انظر: نزع ملكية العقار للمصلحة العامة للشيخ عبد العزيز بن عبد المنعم ص437. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 629 ومن مفرداته: الشفعة، التسعير، بيع مال المحتكر، بيع مال المفلس، جبر غير المسلم على بيع عبده المسلم، قسمة الإجبار، إجبار مالك رقيق أو حيوان ببيعه إذا لم ينفق عليه. . . وهكذا في عدة فروع منتشرة في عدد من أبواب الفقه. فيتبقى التعريف بأمرين: 1– الملك 2- المصلحة العامة. أما الملك فهو في اصطلاح الفقهاء: اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقًا لتصرفه فيه، وحاجزا عن تصرف غيره فيه (1) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (2) : (الملك: هو القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة) . ومدار الملك في تعريفاتهم على الشرعية في أسبابه، فحيث يكون ملكًا شرعيا تترتب عليه آثاره (حقوق التملك) الشرعية. والله أعلم. المصلحة العامة: أصبح نزع ملكية العقار لعموم المصلحة في أي بلد يشكل ظاهرة حضارية في العصر الراهن , وذلك لتحقيق مصالح الخلق الضرورية في أعقاب تغير وجوه التعايش، وظهور المخترعات من السيارات والقطارات ونحوها، لتسهيل سبل التعايش وتوفير الأمن ونحو ذلك من المصالح.   (1) تهذيب الفروق، 4/ 234. (2) الفتاوى الكبرى 3/ 114، 347 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 630 ومنه: بناء المساجد، وتوسعتها، وإيجاد الميادين، ومد الطرقات. . . والمصلحة على مراتب: ا - المصلحة في الضروريات: بتوفير ما يحفظ للناس ضروريات حياتهم الخمس المشهورة: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. 2 - المصلحة في الحاجيات: وهي ما يحتاجه الناس للتوسعة، ورفع الضيق والحرج. 3 - المصلحة في التحسينات: وهي الأخذ بما يليق في محاسن العادات، ومكارم الأخلاق. المصلحة العامة: تمتاز المصلحة العامة عن المصلحة الخاصة بالشمول وعموم النفع، فلذا كانت أولى بالتقديم وعموم النفع، سواء كان عمومها لأهل بلد أو حي , أو إقليم أو مملكة من الممالك، وهكذا كلما كان اتساع نفعها كان تحقيقها ورعاية تحصيلها ألزم وأولى. والله أعلم. ثانيًا: تمهيد عن الملكية: بما أن الملكية الفردية للأشياء وحيازتها والاختصاص بها غريزة طبيعية لبني آدم، فقد واكبته منذ عهد ابني آدم عليه السلام، كما قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] . وقد ذكر المفسرون: ابن كثير، والقرطبي، وغيرهما أن: هابيل كان صاحب غنم، وقابيل كان صاحب زرع، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 631 وقال تعالى ممتنا على خلقه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71] وبتطور النوع الإنساني وتكاثره تولدت الملكية الجماعية، لتشابك مصالحها وتبادلها , ونشأت أيضًا الملكية العامة التي يرتفق بها الجميع دون استثناء , مثل: الطرقات، وما على الأرض من كلأ وما في البحار من صيد، وهكذا. وما زال بنو آدم على هذا المنوال تجري عليه حياتهم الفردية، والجماعية والعامة. وفي خصوص العرب كانت هذه جارية لديهم في جزيرتهم يتعاملون بها , ويأخذون بأسباب التملكات الفردية مثلًا من: البيع، والشراء، والحرث، والتوارث، وهكذا. فلما جاء الله بالإسلام علم منه بالضرورة (التملك) في حدود: قواعد، وضوابط، ومعالم، يتوارث العلم والعمل بها عامة المسلمين من ميدان التشريع والتطبيق في المباحثات كافة من منقول وغير منقول بأسباب نصبها الله تعالى، موجبة للتملك: من الإحياء، والتحويط، والإرث، والوصية، والهبة، والبيوعات، ونحوها من (أسباب التملك) في إطار الشرع المطهر , فلا يجوز الأخذ بسبب التملك من المحرمات وشوائبها؛ كالربا والغش، والاغتصاب، ونحو ذلك. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 632 وصانه عن اعتداء الغير عليه , فقال سبحانه: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] . كما فصل سبحانه آثاره (حقوق التملك) من التوارث، والزكوات، والصدقات، والحقوق، والارتفاق، والانتفاع. وهلم جرا، مما يحتسب حماية وصيانة لهذا التشريع في التملك، وتصرف مالكه به، وإباحة استعماله بوجوه (حقوق التملك) من: الاستعمال، والاستغلال، والتصرف، مشمولة بصفتي الإطلاق والدوام في إطار التشريع المطهر، فلا يجوز استعمال (حق التملك) في محرم مثلًا. وقد تواردت نصوص الشرع المطهر من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، وأقضيتهم على هذه الأصول العظيمة التي تجعل النوع الإنساني يعيش في ظل حياة رغيدة على صراط مستقيم مصونًا من المكاسب المحرمة التي فصلها الله سبحانه , فقال لعباده: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] . وزجر عنها وعن كل إثم , فقال تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} [النساء: 111] . محفوفًا بوجوه البذل الإلزامية التي لا تجحف بالمالك وملكه والطوعية التي تنبئ عن شرف نفسه وتساعد على بقاء جنسه، ولهذا كانت النفقات الشرعية زكاة وطهرة ونماء، فسبحان من شرع فأحكم بما نهى عنه، وأمر وألزم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 633 ولهذا بسط العلماء أحكام التملك وآثاره في مؤلفاتهم الحديثية والفقهية وغيرها. فإلى بيان ما يتعلق منها بنزع الملكية للمصلحة العامة: ثالثًا: القيود الواردة على الملك في (أسبابه وحقوقه) : دل الاستقراء لنصوص الشرع على أن هذه الملكية بقدر ما فيها من إطلاق وثبات ودوام لأسباب تملكها وحيازتها والاختصاص بها في قالب الشرع، فإن هذا المالك له حق الاستعمال والاستغلال والتصرف ببيع ونحوه في حدود الشرع، برعاية حقوق الله وحقوق عباده على كلا الحالين. والشرع قد دل في مصادره وموارده على صيانة المالك وحمايته في حقه وأسبابه , باعتباره مالكًا مسالمًا يعايش إخوانه المسلمين، ويعيش لبنة بناء لرعاية مصالحهم وتوفيرها في محيط جواره وأقاربه وأهل حيه وأهل بلده وعامة المسلمين , وهذا ما يندرج تحت قاعدتي الشريعة من (تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام) و (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف) ونحوهما من قواعد دفع الضرر والترجيح بين المصالح. ولهذا دل الاستقراء على ورود قيود على (أسباب التملك) و (حقوقه) من جهات ثلاث: 1- قيود لمصلحة المالك نفسه. 2- قيود لمصلحة فرد آخر أو أفراد. 3- قيود لمصلحة المسلمين عامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 634 وإيضاحها كما يلي على وجود تداخل وتلازم في بعضها: الأولى: قيود لمصلحة المالك نفسه، فلا يجوز كسبها من محرم كالخمر , ولا صرفها فيه. الثانية: قيود لمصلحة الغير من الأفراد، فلا يجوز كسبها باغتصاب مال الغير، ولا استغلالها بما يضر الغير كالجوار. الثالثة: قيود لمصلحة المسلمين عامة، وهي التي لا تختص بواحد معين، أو جماعة معينين , فلا يجوز أن يتملك مرافق المسلمين العامة؛ كالطرق، والرحاب، والمعادن، والمراعي، وسوح الديار. ولذا صار لثبوت التملك شرعًا بالإحياء شروطه المعتبرة شرعًا عند الفقهاء، كالنهي عن تلقي الجلب، وبيع حاضر لباد. وهكذا. وعند التزاحم للمصالح العامة والخاصة يرجح بينها , فتغلب المصلحة الراجحة على المرجوحة , والعامة على الخاصة، سواء كانت عن طريق التحقيق والإيجاب بإيجادها , مثل حاجة البلد إلى نزع عقار من ملك مالكه لبناء مسجد للكافة , أو قنطرة ونحو ذلك. أو عن طريق الدفع للأذى والضرر عن المسلمين؛ كمنع المالك من استعمال عقاره المملوك له في وسط بلدة أو حي بآلات ذات أصوات مزعجة، أو فيها مخاطر، أو مصنع للأسمنت أو لمواد ذات روائح كريهة، وهكذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 635 رابعًا: المثامنة في العقار للمصلحة العامة: وفيه الأبحاث الآتية: ا - وقائعها على مدى العصور الإسلامية. 2 - كلام الفقهاء فيها. 3 - أدلتها. 4 - شروطها. 5 - موقف المالك منها. 6 - حكم نزع الملك ليتملكه آخرون. وهذا بيانها: الفرع الأول: تاريخ نزع ملكية العقار وجملة من وقائعها على توالي العصور. التاريخ التشريعي لنزع ملكية العقار لمصلحة المسلمين العامة هو من أول يوم هبطت فيه قدما النبي صلى الله عليه وسلم؛ مهاجرة (المدينة النبوية المنورة) . ا - ففي صحيح البخاري وغيره (1) ،: (قصة مهاجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الصديق أبو بكر رضي الله عنه إلى المدينة , وفيه بروك راحلة النبي صلى الله عليه وسلم في موضع المسجد اليوم   (1) صحيح البخاري: 5/ 61، جامع الترمذي. 2/ 121، أسد الغابة: 1/ 86، الإصابة، طبقات ابن سعد 2/ 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 636 وهو مربد ممر: لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: ((هذا إن شاء الله المنزل، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين، فساومهما بالمربد، ليتخذه مسجدًا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة , حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدًا)) اهـ. 2 - مثامنة النبي صلى الله عليه وسلم لبني النجار في حائطهم لبناء مسجده صلى الله عليه وسلم. (عن أنس رضي الله عنه قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد , فقال: ((يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا قالوا: لا والله , لا نطلب ثمنه إلا إلى الله.)) . رواه البخاري (1) 3، 4 - توسعته صلى الله عليه وسلم لمسجده الشريف. وشراء بئر رومة لسقيا المسلمين عامة.   (1) فتح الباري: 1/ 525، باب 48، الصلاة ومواضع أخرى في البيوع وغيرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 637 عن ثمامة بن حزن القشيري قال: " شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان رضي الله عنه , فقال: ائتوني بصاحبيكم اللذين ألباكم علي، قال: فجيء بهما كأنهما جملان، أو كأنها حماران، قال: فأشرف عليهم عثمان , فقال: أنشدكم بالله والإسلام، هل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟ فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها حتى أشرب من ماء البحر، قالوا: اللهم نعم. فقال: أنشدكم بالله والإسلام , هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة , فاشتريتها من صلب مالي.)) رواه الترمذي (1) . 5 - مع بني ساعدة في مكان مقابرهم سوقًا للمسلمين (2) :   (1) جامع الترمذي، رقم 3787. وقصة بئر رومة أصلها في صحيح البخاري، وسنن النسائي وغيرهما. انظر فتح الباري 5 /406 - 409. (2) وفاء الوفاء 2/ 748. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 638 فقد خرج السنهوري، عن تاريخ ابن زبالة بسنده عن عباس بن سهل , عن أبيه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بني ساعدة، فقال: إني جئتكم في حاجة، تعطوني مكان مقابركم، فأجعلها سوقًا , وكانت مقابرهم ما حاذت دار ابن أبي ذئب إلى دار زيد بن ثابت، فأعطاه بعض القوم، ومنعه بعضهم، وقالوا: مقابرنا، ومخرج نسائنا. ثم تلاوموا، فلحقوه وأعطوه إياه , فجعله سوقًا.)) اهـ. في عصر الخلفاء الراشدين: وقد حفظت كتب الحديث والسير، وتاريخ الحرمين الشريفين، وغيرهما من كتب التاريخ العامة وقائع متعددة في توسعة الحرمين لما ضاقا بالمصلين ونزع ملكيات الدور المحيطة لذلك في عصر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم , فمن أصحاب الدور من تصدق بها ولم يقبل العوض، ومنهم من ثامنوه فقبله، ومنهم من بيعت عليه جبرًا لتوسعة المسجد. الوقائع في هذا في عصر الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم يطول البحث بسياقها , لكني أذكر رؤوس المسائل لها مع الدلالة على مصادرها , ليقف الراغب عليها في مظانها , والله الموفق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 639 1- توسعة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه للمسجد النبوي الشريف , أخرجها ابن سعد في الطبقات: 4 /13، 14، السنن الكبرى للبيهقي: 6/ 168. وانظر وفاء الوفاء: 2 /482، 483، 488. 2 - توسعته رضي الله عنه للمسجد الحرام: انظر فيها: أخبار مكة للأزرقي: 2/ 54 - 55 , الذهب المسبوك للمقريزي 14 وفيه: (وفي سنة سبع عشرة اعتمر عمر رضي الله عنه، وبنى المسجد الحرام، ووسع فيه، وأقام بمكة عشرين ليلة، وهدم على قوم أبوا أن يبيعوا دورهم، وعوضهم أثمانها من بيت المال) اهـ. وفي مجموع هذه الوقائع عن عمر رضي الله عنه , أن نزع الدور إما بالبيع لقاء تعويض عادل , أو هبة المالك لداره , أو تصدقه بها لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم , أو البيع على صاحبها جبرًا وهدم الدار عند امتناعه. والله أعلم. 3 - سجن عارم في مكة. وشراء دار له في خلافة عمر رضي الله عنه , كما في: مصنف عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والبيهقي، والبخاري معلقًا. انظر: فتح الباري: 5/ 75. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 640 4 - توسعة الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه للمسجد النبوي الشريف. كما في فتح الباري:5 /408، وفاء الوفاء: 2 /502. 5 - توسعة ابن الزبير رضي الله عنه للمسجد الحرام. كما في تاريخ مكة للأزرقي 2/ 55 6 - توسعة المسجد النبوي الشريف في عهد إمارة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بأمر عبد الملك بن مروان. كما في الذهب المسبوك للمقريزي: ص 30. وفي الخبر: (فقوم عمر بن عبد العزيز الأملاك قيمة عدل، وأعطى الناس أثمانها) اهـ. والخبر بطوله مفصل في تاريخ ابن النجار ص 81 - 84. 7 - توسعة الوليد بن عبد الملك للمسجد النبوي الشريف. كما في السير للذهبي 2 /218. وابن كثير: 5 /273، 9 /77 وفاء الوفاء: 2 /513. 8 - توسعة المسجد الحرام في عهد أبي جعفر المنصور م. سنة 158 هـ , كما في أخبار مكة للأزرقي:2 /57. وتاريخ ابن كثير: 10/ 74، 149 – 14 /42. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 641 9 - توسعة المسجد الحرام في زمن المهدي م , سنة 169 هـ. كما في السير للذهبي 7 /402. تاريخ ابن كثير: 10 /132 10- توسعة جامع قرطبة في ولاية عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان م. سنة 172 هـ رحمه الله تعالى. كما في سير أعلام النبلاء:8/ 220 – 221. 11 - توسعة المسجد النبوي في عهد بيبرس عام 668 هـ. كما في: تاريخ ابن كثير 13 /256. وهكذا في وقائع يطول ذكرها وسياقها، ولينظر على سبيل المثال: سير أعلام النبلاء: 2 /218، 3 / 379، 8/ 221. المنتظم: 10 /212. تاريخ ابن كثير. ذيل الروضتين: ص87. الإصابة: 3 /204. معالم الإيمان: 2/ 37 - 38. الفرع الثاني: كلام الفقهاء في هذه المسألة (1) :   (1) انظر في نزع الملكية للمصلحة العامة عند العلماء. فتاوى قاضيخان: 4/ 293، شرح علي حيدر على المجلة:3 /245، وفاء الوفاء: 2/ 482، 500، 501. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 642 لم يحصل الوقوف على خلاف يؤثر في جواز نزع ولي الأمر أو نائبه أي ملك فردي أو مشترك لتحقيق مصلحة عامة تعود على المسلمين بالنفع لتوسعة الطرق والمساجد ونحوها. بل تكاد تتفق كلمتهم على ذلك، وأن هذا من الإكراه بحق , وأكتفي بنص واحد من كل مذهب من المذاهب الأربعة (1) : ا - في حاشية الشلبي على شرح الكنز للزيلعي: (ولو ضاق المسجد على الناس وبجنبه أرض لرجل، تؤخذ أرضه بالقيمة كرهًا، ولو كان بجنب المسجد أرض وقف على المسجد , فأراد أن يزيدوا شيئًا في المسجد من الأرض , جاز ذلك بأمر القاضي) اهـ. 2 - وقال الحطاب: (من الجبر الشرعي: جبر من له ريع يلاصق المسجد، وافتقر لتوسيع المسجد به على بيعه لتوسيع المسجد ... ) اهـ. ويأتي كلام الشاطبي المالكي في: مبحث الشروط. 3- في الأحكام السلطانية للماوردي ذكر فعل عمر رضي الله عنه في توسعة الحرمين الشريفين.   (1) انظرها مجموعة محررة في نزع ملكية العقار للمصلحة العامة: ص437 – 450 للشيخ ابن عبد المنعم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 643 4- وللحنابلة في منصوص الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ويأتي كلام ابن القيم رحمه الله تعالى. الفرع الثالث: في أدلتها: والأدلة فيها: ا - عمل النبي صلى الله عليه وسلم وعمل خليفتيه الراشدين، عمر وعثمان رضي الله عنهما، وعمل ابن الزبير رضي الله عنه. وتوارث العمل بذلك إلى عصرنا من غير نكير , وعليه تواردت كلمة الفقهاء رحمهم الله تعالى. 2 - دخولها تحت قواعد الشريعة العامة في نفي الضرر: أ- تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام. ب - الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف. ج - الشريعة جاءت بتحصيل المقاصد وتكميلها , وتعطيل المفاسد وتقليلها. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 644 الفرع الرابع: شروطها: في ضوء ما تقدم يمكن تصنيف شروط نزع ملكية العقار للمصلحة العامة على ما يلي: 1- أن يكون نازع العقار ولي الأمر أو نائبه فيه. 2- أن يكون نزعه لمصلحة عامة. وهي كما تقدم التي يستفيد منها عموم الخلق؛ كالمساجد والطرقات، والميادين ونحوها، وكلما اتسعت دائرة الانتفاع , كانت الضرورة إليها أشد , فتوسعة المسجد الحرام، أو المسجد النبوي الشريف ليست كتوسعة مسجد حي من أحياء المسلمين. وهكذا. قال الشاطبي رحمه الله تعالى (1) : (المصالح العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، وقد زادوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره مما رضي أهله، وما لا. وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص , ولكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة) اهـ. 3 - أن يكون نزعه مقابل بذل عوض عادل.   (1) الموافقات: 2/ 275. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 645 وبذله على مرتبتين: الأولى: مساومة المالك ومثامنته كما تقدم في حديث أنس رضي الله عنه. الثانية: التقويم العادل في حال امتناع المالك. 4 - أن يكون العوض فوريا. والله أعلم. الفرع الخامس: موقف الملاك منها: من المسلمات في الشرع المطهر أن الملاك مسلطون على أملاكهم , فلا ينتقل الملك من مالكه إلا عن رضا واختيار، قال الله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)) . قال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (الناس مسلطون على أموالهم، ليس لأحد أن يأخذها أو شيئًا منها بغير طيب أنفسهم، إلا في المواضع التي تلزمهم الأخذ فيها) اهـ. ومن المواضع اللازمة التي ترد على هذا التصرف المطلق: نزع الملك للمصلحة العامة من باب ترجيح المصالح العامة على الخاصة.   (1) الطرق الحكمية: ص 256. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 646 قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (يجوز إخراج الشيء من ملك صاحبه قهرًا بثمنه للمصلحة الراجحة) اهـ. والمصلحة الراجحة ما كانت للعامة كما يعلم مما تقدم من وقائع المثامنة على الملكية، وكلام الفقهاء. وعليه: فإن المالك الذي يقع ملكه في دائرة ما يراد نزعه لتحقيق مصلحة عامة , ينبغي أن يبيع ذلك الملك عن رضا واختيار؛ تحقيقًا للمصلحة العامة، كتوسعة مسجد أو سابلة ونحوها، متى كان ذلك المبيع لقاء عوض عادل فوري لا وكس ولا شطط. وهذا ما قررته (وثيقة حقوق الإنسان في الإسلام) . وإنه إذا لم يرض وامتنع فيكون تمنعه غير مشروع , فيجبره ولي الأمر أو نائبه بذلك , وينزع منه ملكه (للمصلحة العامة) لقاء تعويض فوري عادل، لتحقيق مصلحة عموم الخلق. فهذا من الإكراه بحق، وقد تقدم في وقائع نزع الملكية على مدى العصور أمثلة لهذا. وله نظائر لدى الفقهاء في (العقود الجبرية) كما تقدم. والله أعلم. الفرع السادس: في حكم نزع الملكية الفردية أو الموقوفة ليتملكها ويستثمرها آخرون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 647 قد علم من الشرع بالضرورة حرمة مال المسلم , وأنه لا سلطان لغير مالكه عليه، وأن نزع العقار جبرًا على مالكه مقيد بشروط وضوابط يلزم توفرها ليصح المشروط، وإلا فيكون باطلًا وجبرًا بغير حق، ومن هذه الشروط، بل هو أساسها الأشد: أن يكون العقار (للمصلحة العامة) , والعقار الذي ينزع من يد مالكه أو واقفه ليتملكه آخرون يفتقد الشرط المذكور (المصلحة العامة) , فيكون هذا من باب الظلم لفرد له الصفة الكاملة المطلقة في ملكه استعمالا واستغلالا وتصرفًا , ثم تنزع ليد أجنبي عنها ليستغلها , مثلًا فهذا تصرف ينابذ مشروعية التملك وحقوقه، وهو من التظالم والغصوب التي نهى الله عنها ورسوله، ولا يقرها أهل العلم والإيمان و ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)) . والحاصل أن هذا النوع من التصرف تنسحب عليه أحكام (الغصب) وأن إقراره بوابة الولوج في التيار المادي المعاصر من أن الملكية الفردية شر، تشل فعاليته ويحصر في أضيق الحدود. اللهم فاحفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا. وصلى الله وسلم على نبينا ورسولنا محمد وآله وصحبه. الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 648 انتزاع الملكية للمصلحة العامة إعداد الدكتور عبد الله محمد عبد الله المستشار بمحكمة الاستئناف العليا بدولة الكويت بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، حمدًا لا ينقطع عدده، ولا يفنى مدده، وأصلي وأسلم على مصدر الفضائل، الذي ظل ماضيًا في الدعوة إلى الله حتى أضاء الطريق للضال، وهدى الله به القلوب النافرة , وأقام به موضحات الأعلام سيدنا محمد بن عبد الله خاتم أنبيائه، وصفوة أوليائه، وأكرم خلقه عليه، وأعلاهم منزلة عنده , صلى الله عليه وعلى صحابته الأخيار وآله الأبرار. وبعد فإن الإسلام دين ودنيا , هدى الله به الإنسانية من الضلالة , وبين في كتابه المجيد الأحكام التي بها سعادتهم في الدنيا والآخرة أفرادًا وجماعات , وتناول جميع الارتباطات التي تربط الإنسان بكل من سواه , واشتملت شريعته الغراء على النظام القانوني الذي قامت على عمده وقضاياه مبادئ الدين ونظام الدنيا. وفي مبحث (نزع الملكية للمنفعة العامة) يتجلى سمو الشريعة الإسلامية ونزعتها الإصلاحية وحمايتها لحقوق الفرد والجماعة على أساس من الحق والعدل. وسأبدأ بمقدمة كتمهيد أتناول فيها العمل في الإسلام وملك الإنسان لثمرة عمله وكفاحه، ثم أبين معنى المال والملك والمقصود من المنفعة العامة، ثم أستعرض المواطن التي يسوغ فيها تدخل ولي الأمر. وقد أجملت هذه المسوغات في ست حالات , وتكلمت على كل حالة بإيجاز , ثم أستعرض آراء الأئمة في نزع الملك الخاص لأجل المنفعة العامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 649 مقدمة أجمعت الشرائع السماوية على حرية التملك واقتناء الأموال، وحثت الشريعة الخاتمة على العمل والسعي، ونظمت البحث عن المال وطريقة تحصيله , وجعلت العمل أساسًا وسببًا لملكية الإنسان نتائج كده وكفاحه، وقد سخر الله سبحانه هذا الكون الفسيح , وجعله ميدانًا لنشاط الإنسان بما يحويه من مصادر للرزق وموارد للثروة , وينبوعًا لا ينفذ ولا يقصر عن حاجته , وركب المولى عز سلطانه في فطرة الإنسان غريزة التملك وحب الاقتناء , فأقبل بفطرته يستنبت سطح الأرض مختلف الزرع والثمار من الغابات والصحارى على كل ما يريد من الأخشاب والحيوان , ثم أخذ يتجه إلى الماء , فاصطاد أسماكه وشاركها السباحة فيه والغوص في أعماقه بحثًا عن اللآلئ الثمينة والتقاطًا للأحجار الكريمة واستخراجًا للثروات المختلفة , ثم مخر عبابه بالفلك، فقرب القاصي، وأدنى البعيد من الجهات , ثم اتجه إلى السماء , فاقتنص طيورها , ولم يرض حتى شاطرها الطيران في أجواء الفضاء طاويًا بذلك ما بقي بين سائر جهات الأرض من مسافات، ولم يقف في شيء مما حصل عليه من الثروات عند صورتها الأولى , وإنما عالجها وغير من أشكالها وتركيباتها وفق حاجاته واستعمالاته وتطلعاته باذلًا في سبيل ذلك غاية الجهد؛ كي يفيد منها أقصى فائدة , ويحوز منها أكثر ما يقدر عليه استجابة لميله وما فطر عليه من حب التملك والاقتناء. وقد استجاب الإسلام - وهو دين الفطرة - لميول الإنسان هذه دون أن يترك لها العنان حتى لا ينقلب إلى أداة فساد وطغيان , ولم يقف عقبة إزاء تلك الفطرة الداعية إلى حب التملك والاقتناء؛ لأن حب التملك غريزة فطر عليها الإنسان , وهي في قوتها واندفاعها تفوق غيرها من الغرائز , إلا غريزة حب البقاء. والإنسان مطبوع على الاستجابة لغرائزه وإشباعها بالعمل والحصول على ما يرغب فيه , ولذلك يرى كادحًا ساعيًا إلى جمع المال والاستكثار فيه , يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان لابن آدم واديان من المال لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)) (1)   (1) مسلم، ج/7، ص 139، من كتاب الزكاة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 650 يقول: ((يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان: الحرص على المال , والحرص على العمر)) (1) ومن أجل هذا جعل الإسلام للعمل قيمة , وجعله سببًا لملكية العامل ثمار عمله , ورتب على ذلك: أولا: اعتبار العمل عنصرًا أساسيا من عناصر توزيع الثروة بين أفراد المجتمع. ثانيًا: سمح للفرد حق التملك على أساس من العمل. ثالثًا: حدد نطاق هذه الملكية الخاصة بالثروات التي يكون للعمل دخل في إيجارها أو تشكيلها. رابعًا: إبقاء الثروات التي لم يتدخل فيها العمل بالإيجاد أو التشكيل على الملكية العامة لجميع أفراد المجتمع تتولى الدولة تنظيم استثمارها واستغلالها والإفادة منها على النحو الذي يتفق ومصلحة الجماعة. وإتمامًا للفائدة أستعرض معاني كل من هذه الكلمات: المال، والملك، والمنفعة العامة وبيان المقصود منها. المقصود من المال: وردت هذه الكلمة في آيات كثيرة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة , وجاء الحث على اقتناء المال والسعي في كسبه والحض على إنفاقه وبذله , وأسندت ملكيته إلى الله عز وجل في بعض الآيات , وأسندت إلى الناس في آيات أخرى , كل ذلك يقتضينا أن ندرك حقيقته ثم نتعرف على بعض الجوانب لتلك الإطلاقات. يقول ابن الأثير: المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة , ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم. وفي تفسير القرطبي جملة أقوال فيما يعد مالا وما لا يعد كذلك , ونقل عن أبي عمرو أن المعروف من كلام العرب أن كل ما تمول وتملك فهو مال (2)   (1) مسلم، ج/7، ص 139، من كتاب الزكاة. (2) تفسير القرطبي، ج/8، ص 245. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 651 وأما في لسان الفقهاء فإن من تتبع أقوالهم في تعريفه يستخلص منها أن المال هو كل ما له قيمة بين الناس , وينتفع به انتفاعًا مشروعًا , ومع هذا نجد فريقًا منهم وهم الأحناف يستبعدون المنافع من حيز المالية , أما جمهور الفقهاء فإنهم يلحقون المنافع ضمن المال , وهذا المعنى يمكن ملاحظته من تعريفاتهم , فقد عرفه الأحناف بأنه ما يمكن حيازته وإحرازه والانتفاع به انتفاعًا معتادًا , وعلى هذا عرفت المادة 126 من مجلة الأحكام العدلية بأنه ما يميل إليه طبع الإنسان , ويمكن إدخاله إلى وقت الحاجة منقولًا أو غير منقول , فالمنافع لما كانت معدومة قبل كسبها وبعد كسبها , لا يمكن إحرازها , فإنها ليست بمال , ولكن إن لم تعتبر مالا , فإنها تعتبر ملكًا؛ لأن الملك لا يقتضي الوجود كالمالية , إذ هو القدرة على التصرفات الشرعية (1) المال في اصطلاح جمهور الفقهاء: جاء في كتب المالكية أن المال هو ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه. ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها وما يؤدي إليها من جميع المتمولات (2) . وعرفه النفراوي المالكي في (الفواكه الدواني) : بأنه كل ما ملك شرعًا ولو قل (3) وهو عند الشافعية ما كان متمولًا محترمًا (4) ويشمل المنفعة (5) وينقل السيوطي عن الشافعي بأن اسم المال لا يقع إلا على ما له قيمة يباع بها وتلزم متلفه وإن قلت , وما لا يطرحه الناس؛ مثل الفلس وما أشبه ذلك (6) .   (1) الملكية ونظرية العقد - أبو زهرة ص 47،54 , الملكية في الشريعة الإسلامية للعبادي، ج/1، ص 172،175. (2) الموافقات 2 - 17. (3) الفواكه الدواني على رسالة القيرواني 2 - 372، وانظر في هذا المعنى الشرح الصغير 4 - 742 (4) حاشية القليوبي على منهاج الطالبين 3 - 28. (5) حاشية القليوبي على منهاج الطالبين 2 - 314. (6) الأشباه والنظائر: 327. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 652 وجاء في متن الإقناع للخرقي الحنبلي: أن المال ما فيه منفعة مباحة لغير حاجة أو ضرورة , ثم تعقب هذا التعريف شارحه , فقال: ظاهر كلامه هنا كغيره , أن النفع لا يصح بيعه , مع أنه ذكر في حد البيع صحته , فكان ينبغي أن يقال هنا: كون المبيع مالا أو نفعًا مباحًا مطلقًا أو يعرف المال بما يعم الأعيان والمنافع (1) ولا يختلف علماؤنا المحدثون عن سلفهم في تلك التعريفات وإن اختلفت عباراتهم , وذلك منشؤه تبسيط عبارات المتقدمين بقصد التوضيح والإفهام. وقد عرفه الإمام ابن عاشور: بأنه كل ما به غنى صاحبه في تحصيل ما ينفع لإقامة شؤون الحياة (2) . ويزيده توضيحًا , فيقول: يطلق اسم المال على كل ما يحصل به هذا المقصد , سواء أحصل بأعيان الأشياء؛ مثل القمح والزيت والصوف , أم بالاستبدال وتعويض أعيان بأعيان بطريق المبادلة بين جانبين لاستغناء أحد الجانبين عما يبذله واحتياجه لما يأخذه أو بذل أثمان اصطلاحية من النقود والأوراق المالية أو كفاية عمل مثل عمل الأجراء بجهودهم العقلية أو اليدوية كالمعلمين وأهل المعرفة والحراثين والحمالين، وقد يخص اسم المال بالنقدين والأوراق , ويخص ما عداها باسم المتمول , وهو أعم من المال (3) . أنواع المال وما يصح تملكه منها وما لا يصح , وأسباب الملك: أما بالنسبة لقابلية المال للتملك وعدمه , فهو على أنواع ثلاثة: 1- نوع لا يقبل التمليك ولا التملك بحال من الأحوال؛ كالطرق العامة والجسور والأنهار العظيمة والحدائق العامة. 2 - ونوع لا يقبل التملك إلا بمسوغ شرعي كأموال بيت المال الخاصة , فهذه لا يجوز بيعها ولا تملكها إلا بمسوغ؛ كاحتياج بيت المال إلى ثمنه أو رأي ولي الأمر المصلحة في ذلك لما له من الولاية العامة. 3 - ونوع يصح تملكه وتمليكه وهو ما عدا هذين النوعين.   (1) كشاف القناع. 1 - 7. (2) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 198. (3) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 198. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 653 وقد فصل الإمام السيوطي في كتابه الحاوي للفتاوى ج 1 /198- 230، أحكام النوعين السابقين نظما ونثرًا , واستوفى النقل عن أئمة المذاهب الأربعة في جواز التملك. وأما أحكام النوع الأخير , فقد بسطت كتب الفقه مسائله وأحكامه , وأما أسبابه المفضية إليه فهي: 1 - الاستيلاء على المباح. 2 - العقود الناقلة للملكية كالبيع والهبة ونحوهما. 3 - الخلافة عن الميت عن طريق " الميراث " والوصية. وهو إما أعيان عقار ومنقول , وإما منافع , وهي الفائدة المقصودة من الأعيان؛ كسكنى الدار وزراعة الأرض وركوب الدابة ولبس الثوب , وإما حقوق، سواء كانت حقوقًا متعلقة بمال؛ كحق الشرب والمرور والتعلي , أم لا , كحق حضانة الصغير. أما لفظ الملكية: فالملكية مصدر صناعي نسبة إلى الملك , ومعناه في اللغة كما جاء في اللسان والقاموس: عبارة عن احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به والتصرف فيه بانفراد. وبهذا المعنى أيضًا يرد الاستعمال الاصطلاحي للفقهاء , فقد عرفه القابسي الحنفي: بأنه عبارة عن الاختصاص الحاجز. وعرفه القرافي المالكي: بأنه حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة , يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك والعوض عنه من حيث هو كذلك. وعرفه ابن تيمية: بأنه القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة (1) . والملكية في الإسلام حق تحميه الشريعة لصاحبه وتمكنه من الانتفاع بملكه والتصرف فيه طول حياته وبعد مماته ويحميه من كل اعتداء عليه , ولكن مع هذا يحمل المالك بعض التكاليف والالتزامات لمصلحة الجماعة , وهذا يؤكده القرآن الكريم بإسناد المال لله تعالى , وأن جميع ما في الكون ملك له سبحانه , قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (2) ويقول سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (3) والمنطق يقتضي أن يكون خالق الشيء هو مالكه، وقد جاءت آيات تقطع وتؤكد هذه الحقيقة {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} (4) ويقرر في آيات أخرى بأنه أنشأ الخلق من الأرض , واستعمرهم فيها , وجعلهم خلائف , وسخر لهم ما خلق في السماوات والأرض , وسلطهم عليه بقدر ما يستطيعون من استغلاله واستثماره {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (5) ويقول سبحانه: {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (6) .   (1) الملكية في الشريعة الإسلامية:1 - 128، 133. (2) [البقرة:29] . (3) [الأنعام:103] . (4) المائدة: 17. (5) لقمان:20. (6) الحديد:7 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 654 فالمال الذي في أيدي الناس هو مال الله , وهم فيه خلفاء، ولهذا يقول سبحانه: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} (1) . فالملك كله لله , وإن الحقوق كلها سنها العليم الخبير , فقد منح الفرد حقه كما منح الجماعة ما تستحقه من عناية واهتمام. يقول الإمام المرحوم الشيخ محمود شلتوت في هذا المعنى: " وإذا كان المال مال الله , وكان الناس جميعًا عباد الله , وكانت الحياة التي يعملون فيها ويعمرونها بمال الله , هي لله , كان من الضروري أن يكون المال وإن ربط باسم شخص معين لجميع عباد الله , يحافظ عليه الجميع , وينتفع به الجميع. وقد أرشد إلى ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (2) . ومن هنا أضاف الأموال إلى الجماعة , وجعلها قوامًا لمعيشهم {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} , (3) {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (4) الإنسان مستخلف من الله في المال , ومأمور بأن يؤدي دور الخلافة عن الله في عمارة الأرض. وقد بين سبحانه لخليفته طرق تحصيله وإنفاقه على نحو يتفق والغاية من استخلافه في الأرض لعمارتها، وبهذا الاعتبار فإن الإنسان ممنوع من أن يلحق ضررًا بنفسه أو بغيره، وإن ثمة قيود مفروضة عليه لمصلحة الآخرين أفرادًا وجماعات , ويظهر أثر هذه القيود في منعه من استغلال غيره بسبب المال أو إهدار كرامته أو حبس المال عن التداول واكتنازه وعدم استخدام الفائض عن حاجته فيما يحقق مصلحة الجماعة. واستخلاف الله الإنسان في المال له صورتان:   (1) النور:33 (2) البقرة: 29. (3) البقرة: 188 (4) النساء: 5 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 655 إحداهما: استخلاف فردي يتولاه الفرد في صورة ملكية فردية. ويظهر ذلك جليا من الآيات التي تثبت ملكية المال إلى آحاد الناس مثل قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (1) وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (2) وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (3) . والثانية: استخلاف جماعي تتولاه الأمة ممثلة بولي الأمر , ويقول الإمام محمد الطاهر بن عاشور: والمال بهذا النظر ينقسم إلى مال خاص بآحاد وجماعات معينة , وإلى مال مرصود لإقامة مصالح طوائف من الأمة غير معينين , فالأول من هذا النظر هو الأموال الخاصة المضافة إلى أصحابها. والثاني هو المسمى في اصطلاح الشريعة بمال المسلمين أو مال بيت المال بمختلف موارده ومصارفه , وقد كان أصله موجودًا في زمن النبوة؛ مثل أموال الزكاة , ومثل أدوار الإبل المعدودة لحمل المجاهدين. واللازمة المرصودة للمجاهدين , وفي الحديث ((: إن خالدًا قد احتبس أدرعه وأعتدته في سبيل الله.)) . إلى أن يقول: إن مال الأمة هو ثروتها , والثروة هي ما ينتفع به الناس آحادًا أو جماعات في جلب نافع , أو دفع ضار في مختلف الأحوال والأزمان والدواعي , ويبين الصفات التي تجعل من المال ثروة حقيقية للفرد وسلامه , وهو ما اجتمع فيه خمسة أمور: 1- أن يكون ممكنًا ادخاره. 2 - أن يكون مرغوبًا في تحصيله. 3 - أن يكون قابلًا للتداول. 4 - أن يكون محدود المقدار. 5 - أن يكون مكتسبًا.   (1) آل عمران: 186. (2) سورة المعارج الآيتان: 24،25 (3) التوبة: 111 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 656 ويذكر رحمه الله مقاصد الشرع في الأموال , وأنها تدور على خمسة أمور: رواجها، ووضوحها، وحفظها، وثباتها، والعدول فيها (1) . ويذكر وسائل توفيرها ويكون بالتدبير والعمل والمادة (2) نزع الملكية للمنفعة العامة تتردد لفظة المنفعة العامة , ويقصد منها ما ينتفع به جمهور كبير من الناس بدون تخصيص؛ كالطرق العامة , وسكك الحديد , والترع , والمدارس , ودور القضاء , ومباني الوزارات والمستشفيات , والساحات العامة , والأسواق , والقلاع , والحصون والمعسكرات , ونحوها. ولقد كانت المساجد في الإسلام في بادئ الأمر تقوم بمعظم المصالح التي أفرد لها مبنى خاص. يقول الإمام ابن تيمية: (وكانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسس مسجده المبارك على التقوى؛ ففيه الصلاة والقراءة , والذكر وتعليم العلم والخطب , وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات وتأمير الأمراء وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون عنده لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم. وكذلك عماله في مثل مكة والطائف وبلاد اليمن وغير ذلك من الأمصار والقرى , وكذلك عماله في البوادي , فإن لهم مجمعًا , فيه يصلون , وفيه يسألون. وكان الخلفاء والأمراء يسكنون في بيوتهم كما يسكن سائر المسلمين في بيوتهم، لكن يجلس الإمام في الجامع، الجامع هو المسجد الجامع. . . إلى أن قال: أحدثت الملوك والأمراء القلاع والحصون , وإنما كانت تبنى الحصون والمعاقل قديمًا في الثغور , خشية أن يدهمها العدو , وليس عندهم من يدفعه عنها , وكانوا يسمون الثغور الشامية العواصم , وهي قنسرين، وحلب. وأحدثت المدارس لأهل العلم , وأحدثت الربط والخوانق لأهل التعبد , وأول ما بنيت المدارس والرباطات للمساكين , ووقفت عليها وقوف تجرى على أهلها) (3) ولهذا كان من أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة الاعتناء (4) بالمرافق العامة , فأنشأ مسجده الشريف الذي كان يطلع بالمهمات التي سلف بيانها.   (1) مقاصد الشريعة الإسلامية: 171، 175 – أصول الاجتماع الإسلامي:190، 191. (2) أصول الاجتماع الإسلامي: ص 199. (3) مجموع فتاوى ابن تيمية:35، 39، 41. (4) فتح الباري:8 / 267. 268 - شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام: 2/ 331 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 657 كما أنشأ سوقًا تزاول فيه أعمال التجارة، أزال ما كان فيها من قبور , وحمى المراعي التي كانت مباحة للجميع على خلاف ما كان عليه الأمر قبل الإسلام من الحيازة القائمة على القوة والغلبة , وإنما جعل الحمى لمنفعة عامة المسلمين , روى الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((: لا حمى إلا لله ورسوله)) والمعنى الظاهر لهذا الحديث أن الحمى إنما هو لمنفعة عامة , لا تخص أحدًا , وإلى هذا المعنى ذهب أبو عبيد في كتاب الأموال , إذ قال: للإمام أن يحمي ما كان لله؛ مثل حمى النبي صلى الله عليه وسلم وحمى عمر , فهذا كله داخل في الحمى لله , وقد روى نافع , قال: عن ابن عمر ((, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين. والنقيع: موضع معروف بقرب المدينة.)) (1) , وحمى عمر رضي الله عنه الربذة والشرف لهذا الغرض , وهما موضعان بين مكة والمدينة , وقال: لولا النعم التي يحمل عليها في سبيل الله ما حميت على الناس شيئا من بلادهم أبدًا. قال أسلم: فسمعت رجلًا من بني ثعلبة يقول له: يا أمير المؤمنين، حميت بلادنا , قاتلنا عليها في الجاهلية، وأسلمنا عليها في الإسلام. يرددها عليه مرارًا، وعمر واضع رأسه , ثم إنه رفع رأسه , فقال: البلاد بلاد الله وتحمى , النعم مال الله، يحمل عليها وفي وسبيل الله (2) ومن ثم فإن لولي الأمر وهو ينوب عن الأمة في رعاية مصالحها ويدبر شؤونها قد يقتضي الأمر إلى أن يتدخل , وإن أدى ذلك إلى تقييد حرية الفرد تغليبًا لمصلحة الجماعة , فله عند ذلك أن يباشر من الإجراءات ما تتحقق بها تلك المصالح , وقد تتعدد صور هذا التدخل ومسوغاته في أوقات معينة وظروف معينة , ويمكن إرجاع هذه المسوغات إلى الصور التالية: أولًا: فرض الأموال على القادرين لسد حاجة المحتاجين وأهل الخصاصات منهم إذا لم تف الأموال المرصودة لهذا الغرض.   (1) كتاب الأموال، ص 417. (2) كتاب الأموال، ص 418،419. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 658 ثانيًا: فرض الأموال التي يحتاج إليها لأجل الدفاع والذود عن البلاد الإسلامية إذا خلا بيت المال منه , أو كان المال الموجود لا يكفي لدرء الأخطار. ثالثًا: توجيه وإلزام من تحتاج الأمة إلى أعمالهم للقيام بهذه الأعمال. رابعًا: منع الاحتكار , وإلزام المحتكرين ببيع السلع التي يحتاجها الناس , ويكون في احتكارها ضرر بهم , وتسعيرها عليهم عند الحاجة، ومنع الغش , ومصادرة المواد المغشوشة , أو بيعها على أصحابها , أو التصدق بها على الفقراء. خامسًا: البيع جبرًا لمصلحة الدائنين. سادسًا: نزع الملكية لأغراض يعود نفعها على الكافة، هذا عدا ما تأتي الإشارة إليه أثناء البحث. وسنفرد الكلام على كل واحدة منها باختصار شديد إتمامًا للفائدة: المسوغ الأول: فرض الأموال على القادرين لسد حاجة المحتاجين وأهل الخصاصة من الضعفاء والمساكين , وذلك إذا ضاق المال عنهم , ولم يكف الموجود في بيت المال لسد حاجتهم , يقول إمام الحرمين أبو المعالي الجويني: وأما سد الحاجات والخصاصات فمن أهم المهمات ... إلى أن يقول: فإن اتفق مع بذل المجهود في ذلك فقراء محتاجون , لم تف الزكوات بحاجاتهم , فحق على الإمام أن يجعل الاعتناء بهم من أهم أمر في باله، فالدنيا بحذافيرها لا تعدل تضرر فقير من فقراء المسلمين في ضر، فإن انتهى نظر الإمام إليهم رم ما استرم من أحوالهم. . . فإن لم يبلغهم نظر الإمام , وجب على ذوي اليسار والاقتدار البدار إلى رفع الضرار عنهم، وإن ضاع فقير بين ظهراني موسرين خرجوا من عند آخرهم، وباءوا بأعظم المآثم , وكان الله طليبهم وحسيبهم (1) .   (1) غياث الأمم في التيات الظلم: ص 172، 173. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 659 ويبين في موضع آخر عندما تحدق الكوارث بالمسلمين وتنزل الشدائد بهم , فيقول: " فإذا تقرر ما ذكرناه , فالوجه عندي إذا ظهر الضر وتفاقم الأمر وأنشبت المنية أظفارها وأشقى المضرون , استشعر الموسرون أن يستظهر كل موص بقوت سنة , ويصرف الباقي إلى ذوي الضرورات وأصحاب الخصاصات (1) , وهو إنما جعل قوت السنة في حق الأغنياء فطنة عقلية لانجلاء الكارثة؛ ولأن في انقضاء السنة مدة الغلات وأمد الثمرات , وفيها تحول الأموال وتزول , وتعتقب الفصول , وقد جعل الشارع السنة ضابطًا ينتهى إليه فيما يبذله الموسر، وتأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يضع لنسائه في أوقات الإمكان قوت سنة (2) . ويعقد الإمام ابن حزم في كتابه المحلى في آخر كتاب الزكاة فصلًا يختم به كتاب الزكاة , قال فيه: وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم ولا في سائر أموال المسلمين , فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة (3) ويستظهر مراجعه من نصوص الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ويستنبط من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((:المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)) . إن من ترك أخاه المسلم يجوع ويعرى وهو قادر على إطعامه وكسوته , فقد أسلمه. ويستدل بالحديث الذي رواه مسلم , عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((: من كان معه فضل ظهر , فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد , فليعد به على من لا زاد له)) . قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر , حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل. ثم عقب على ذلك بقوله: وهذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم , يخبر بذلك أبو سعيد , وبكل ما في هذا الخبر نقول. ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت , لأخذت فضول أموال الأغنياء , فقسمتها على فقراء المهاجرين ".   (1) غياث الأمم في التيات الظلم، ص 175، 176. (2) غياث الأمم في التيات الظلم 175، 176 (3) المحلى ج3، ص 452،453. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 660 وقال: صح عن أبي عبيدة بن الجراح وثلثمائة من الصحابة رضي الله عنهم أن زادهم فني , فأمرهم أبو عبيدة , فجمعوا أزوادهم في مزودين , وجعل يقوتهم إياها على السواء. ثم عقب على ذلك بقوله: فهذا إجماع مقطوع من الصحابة رضي الله عنهم , لا مخالف له منهم، ونقل عن الشعبي ومجاهد وطاوس وغيرهم , كلهم يقول: في المال حق سوى الزكاة (1) ثانيًا: فرض الأموال (الضرائب) على القادرين إذا تعرض كيان الأمة للخطر من قبل الأعداء. وسند هذا التدخل أن الشارع الحكيم قد حث على الإنفاق في سبيل الله، وسبيل الله كلمة جامعة تتسع لكل ما تتطلبه مصلحة الأمة. وأنذر سبحانه وتعالى الأمة إن هي قبضت يدها وأحجمت عن الإنفاق الوقوع في التهلكة، ولما كان الإنفاق في صدر الإسلام كان يجري سماحة وتطوعًا , وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتسابقون في هذا الميدان , حتى إن أحدهم كان يعد جيشا كاملًا بماله , ومنهم من كان يأتي بشطر ماله , لا يضيق صدره , ولا يشعرون في أنفسهم حرجًا , وإنما ينطلق أحدهم عن سماحة نفس وصدق يقين , فإذا ما أحجم الناس عن الإنفاق وضاق بيت المال عما يكفي لسد النازلة , فإن ولي الأمر يكون في سعة من أن يتدخل ويفرض على الأفراد ضريبة يقتطع بها جيرانهم شطر أموالهم. وحكى الإمام القرطبي الإجماع على وجوب فك الأسرى , وأنه إذا خلا بيت المال , فهو فرض على كافة المسلمين (2) ويذكر الشاطبي في الاعتصام في الباب الذي عقده للفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان: أن الإمام إذا كان مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك المتسع الأخطار , وخلا بيت المال , وارتفعت حاجة الجند إلى ما لا يكفيهم , فللإمام أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال , إلى أن يظهر مال بيت المال (3)   (1) المحلى ج3، ص 455. (2) تفسير القرطبي 2 – 22،23. (3) الاعتصام، ج/ 2، ص 121. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 661 وذكر الغزالي في مبحث الاستصلاح: أن توظيف الخراج من المصالح فإذا خلت الأيدي من الأموال , ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر , ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب؛ لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام , أو خيف ثوران الفتنة , فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند. . . لأنا نعلم أنه إذا تعارض شران أو ضرران , قصد الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرين. وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور ويقطع مادة الشرور , وكان هذا لا عن شهادة أصول معينة (1) ولإمام الحرمين كلام نفيس لا يتسع له المقام , فهو يبسط القول ويقلبه على مختلف الوجوه وشتى الاحتمالات , ويعد لكل حالة فصلًا مطولًا , ويستطرد في ذكر الفروض والأمثلة , نقتصر منه على موضع الاستشهاد , فيقول: فأما الفصل الثالث منها , وهو أهمها , فالغرض ذكر ما تقتضيه الإيالة الشرعية والسياسة الدينية فيه , فإذا اصفرت يد راعي الرعية عن الأموال والحاجات ماسة , فليت شعري كيف الحكم , وما وجه القضية , فإن ارتقب الإمام حصول أموال في الاستقبال , ضاع رجال القتال , وجر ضياعهم أسوأ الأحوال , وإن استرسل في مد اليد إلى ما يصادفه من مال من غير ضبط الشرع في الأقوال والأفعال , وقد قدمنا حيثما سبق ألا نحدث لتربية الممالك في معرض الاستصواب مسالك لا نرى لها من شرعة المصطفى مدارك، فإن بلي الإمام بذلك , فليتئد , وليمعن النظر هناك , فقد دفع إلى خطتين عظيمتين: إحداهما: تعريض الخطة للضياع. والثانية: أخذ مال في غير استناد استحقاقه إلى مستند معروف مألوف , فإذا خلا بيت المال , انقسمت الأحوال ونحن نرتبها على ثلاثة أقسام , ونأتي في كل قسم منها بما هو مأخذ للأحكام , ونمزج القضايا السياسية بالموجبات الشرعية , فلا تخلو الحال , وقد اصفر بيت المال من ثلاثة أنحاء:   (1) المستصفى: 2 - 303،305. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 662 أحدها: أن يطأ الكفار - والعياذ بالله - ديار الإسلام. والثاني: لا يطؤوها , ولكنا نستشعر من جنود الإسلام اختلالا، ونتوقع انحلالا وانفلاتا، لو لم نصادف مالا، ثم يترتب على ذلك استجراء الكفار في الأقطار، وتشوفهم إلى وطء أطراف الديار. والثالث: أن يكون جنود الإسلام في الثغور والمراصد على أهب وعتاد وشوكة واستعداد، لو وقفوا ولو ندبوا للغزو والجهاد , لاحتاجوا إلى ازدياد في الاستعداد، وفضل استمداد، ولو لم يمدوا , لانقطعوا عن الجهاد (1) وينتهي إلى القول في الاحتمالات الثلاثة إلى أنه يتسبب في اقتراض الأموال من الموسرين (2) ولا يتفق مع من يقول: إن الإمام يقترض على بيت المال , ويقول في هذا: والمرتضى عندي , فإن للإمام أن يأخذ من الجهات التي ذكرناها ما يراه سادا للحاجة , ولا يلزمه الاستقراض , سواء فرض أخذه من معينين أو من الموسرين أجمعين (3) ومن الفتاوى في هذا الشأن ما أفتى به القاضي أبو عمر بن منظور في جواز فرض الخراج على الرعية , بأن الأصل أن لا يطالب المسلمون بمغارم غير واجبة بالشرع. . . فإذا عجز بيت المال عن أرزاق الجند وما يحتاج إليه من آلة حرب وعدة فيوزع على الناس ما يحتاج إليه من ذلك بشروط: أن تتعين الحاجة , وأن يتصرف فيه بالعدل , وأن يصرف مصرفه بحسب المصلحة , وأن يكون على القادر من غير ضرر ولا إجحاف , وأن يتفقد في كل وقت , فربما جاء وقت لا يفتقر فيه لزيادة على ما في بيت المال (4) ثالثًا: من مسوغات تدخل ولي الأمر إذا اقتضت الظروف ذلك وإلزام من يتعين عليهم القيام بأمر يحتاجه المجتمع ولا يتم إلا عن طريق إلزامهم القيام به , ويضرب الإمام ابن تيمية لذلك أمثلة كثيرة , منها: إذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم , صار هذا العمل واجبًا , يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل، وكما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم , ألزم من صناعته الفلاحة بأن يضيفها لهم (5)   (1) غياث الأمم: ص 189، 190. (2) غياث الأمم 191 - 200. (3) غياث الأمم: ص 202. (4) المعيار: 11 - 128. (5) الحسبة في الإسلام. ص 28. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 663 وكذلك إذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد من سلاح وجسر للحروب وغير ذلك , فيستعمل بأجرة المثل , ويستطرد الإمام ابن تيمية في ذلك ويخصص لهذا المبحث صفحات يركز فيها على هذا الجانب مما يحتاجه المجتمع، ولا أرى مانعًا من متابعة الإمام وذكر بعض الأمثلة التي تبين مدى سعة أفق الأئمة والفقهاء وأخذ مصالح الناس بعين الاعتبار وإعطاء الاهتمام اللائق به , فيقول: فإذا كان الناس محتاجين إلى من يطحن لهم ومن يخبز لهم لعجزهم عن الطحن والخبز في البيوت , كما كان أهل المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فإن لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء ولا حتى يبيع طحينًا ولا خبزًا , فإن ولي الأمر يتدخل هنا لإلزامهم بالعمل من ناحية , ولتحديد أجورهم أو السعر الذي ينبغي أن يلتزموا بمقتضاه (1) وهذه قاعدة تطرد في مسألة الواجب الكفائي وأنه قد ينقلب إلى فرض عين إذا تعين للمطالبة بالكفائي فرد أو أفراد معينون , وأنهم إذا لم يقوموا به طواعية , أجبروا عليه وألزموا به. رابعًا: من المسوغات التي تعطي لولي الأمر الحق في التدخل , وذلك عند حلول الأزمات الاقتصادية التي يتضرر بها الناس , فلولي الأمر أن يمنع المحتكرين ويضرب على أيديهم ويلزمهم بالبيع وبالسعر المعقول الذي لا يدخل على الناس ضررًا (2) كذلك مع الغش في الأسواق وجواز مصادرة المواد المغشوشة والتصدق بها على الفقراء جبرًا عنهم , وهو موضوع تكفلت كتب الحسبة ببيانه (3)   (1) الحسبة في الإسلام، ص 33، 35، 37. (2) الحسبة في الإسلام، ص 37، 44. (3) تحفة الناظر وغنية الذاكر لأبي العقباني التلمساني، 118، 121. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 664 خامسًا: من المسوغات أيضًا التي تعطي لولي الأمر حق التدخل حالة المدين المماطل , فيبيع ماله جبرًا عليه لمصلحة دائنيه. وهذا في قول جماهير العلماء , ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة رضي الله عنهم , وذلك رفعًا للظلم الذي ركب الناس من جراء هذه المماطلة؛ لأن المطل ظلم , والظلم يجب رفعه , فإذا امتنع عن أداء الحق مختارًا , قام ولي الأمر أو من ينوب عنه في رد الحقوق إلى ذويها (1) أما أبو حنيفة فإنه قصر جواز البيع على الدراهم والدنانير , ومنع في العروض والعقار. سادسًا: نزع الملكية للمنفعة العامة وهو عمدة الموضوع , وما سبق إنما هو بمثابة التوطئة له , ولم تستوعب جميع الحالات التي تبرر تدخل ولي الأمر , فذلك بحث قد يطول , والمقصود هنا الإجمال , ويقاس ما ترك على ما ذكر، وقد جمع المغفور له الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في سطور قليلة أمهات تلك المسائل , فقال رحمه الله: " فحق على ولاة أمور الأمة ومتصرفي مصالحها العامة النظر في حفظ الأموال العامة , سواء تبادلها مع الأمم الأخرى أو بقاؤها بيد الأمة الإسلامية فمن الأول: سن أساليب تجارة الأمة الإسلامية مع الأمم الأخرى ودخول السلع وأموال الفريقين إلى بلاد الأخرى , كما في أحكام التجارة إلى أرض الحرب وأحكام ما يؤخذ من تجار أهل الذمة والحربيين على ما يدخلونه إلى بلاد الإسلام , وأحكام الجزية والخراج. ومن الثاني: نظام الأسواق والاحتكار وضبط مصارف الزكاة والمغانم ونظام الأوقاف العامة (2) فكل هذه الأمور مما ينبغي ألا تغيب عن نظر ولي الأمر , ولا يمنع من أن يبسط يده فيها حسب مقتضيات الأحوال , وهذا مما لا يختلف فيه نظر فقيه , وإلا وقعوا في حرج شديد , والله سبحانه يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج:78. أما نزع الملكية بالمعنى المقصود , فهو نزع الملك الخاص جبرًا عن صاحبه لتحقيق نفع عام لقاء تعويض عادل , ويعبر عنه بالاستملاك.   (1) النتف في الفتاوى 2 - 752، المحلى 5 - 196، البهجة شرح التحفة 2 - 330، 331، فتح العزيز شرح الوجيز مع المجموع 10 - 216، الملكية لأبي زهرة 149. (2) مقاصد الشريعة الإسلامية:181. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 665 وقد نص الفقهاء على جواز ذلك تطبيقًا لقاعدة تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة إذا تعارضت المصلحتان , ولم يمكن التوفيق بينهما، وقاعدة إذا اجتمع ضرران أسقط الأكبر الأصغر وعلى هذا نص الفقهاء على استملاك الأملاك الخاصة المجاورة للمسجد جبرًا عن صاحبها إذا ضاق بالناس، واستملاك العقار الخاص المجاور للطرق العامة جبرًا عن أصحابها إذا احتاج الناس إليها (1) ونقل الأتاسي في شرحه على المجلة أن للسلطان أن يجعل ملك الرجل طريقًا عند الحاجة (2) . ويخرج عن التعريف الذي ذكرناه نوعان من الاستملاك , فلا تطبق في شأنهما ذات القواعد التي تطبق على نزع الملك الخاص من حيث الاستحقاق للتعويض أو البدل , ولا يرد فيهما الإكراه والإجبار , وهما: أحدهما: الأراضي التي يقطعها الإمام آحاد الناس , وهي الصوافي، وهي كل أرض كان لها ساكن في آباد الدهر , فانقرضوا , فلم يبق منهم أنيس، وكذلك كل أرض موات لم يحيها أحد , ولم يملكها مسلم ولا معاهد (3) . وقد أصفى عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أرض السواد أصنافًا منها: كل أرض قتل صاحبها في الحرب أو هرب، وكل أرض لكسرى، وكل أرض كانت لأحد من أهله، وكل مغيض ماء , وكل دير بريد (4) .   (1) البهجة شرح التحفة: ج/2، ص 76. (2) شرح مجلة الأحكام العدلية للأتاسي: ج/ 4، ص 158 (3) كتاب الأموال: 392، 393. (4) الرتاج المرصد على خزانة كتاب الخراج. 1- 396، 397. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 666 فإن هذه الصوافي مردها إلى رأي الإمام يقطع فيها لمن أراد إقطاعه , ويطلق عليها صوافي الأسفار أو صوافي الأشبار , وعلى الإطلاق الأول معناه: الأراضي المستخلصة في الأسفار , وعلى الثاني: الأراضي المستخلصة للإعطاء (1) فإن لولي الأمر أن يجيز من هذه الأراضي ويعطي من كان له غناء في الإسلام , ويضع ذلك مواضعه , ولا يحابي به , فإن هذه الإقطاعات إنما يقطعها الإمام لأجل العمل بها واستثمارها قال أبو يوسف في كتاب الخراج: "والأرض عندي بمنزلة المال , فللإمام أن يجيز من بيت المال من كان له غناء في الإسلام ومن يقوى به على العدو , ويعمل في ذلك بالذي يرى أنه خير للمسلمين وأصلح لأمرهم، وكذلك الأرضون يقطع الإمام منها من أحب من الأصناف التي سميت , ولا أرى أن يترك أرضًا لا ملك لأحد فيها ولا عمارة حتى يقطعها الإمام , فإن ذلك أعمر للبلاد وأكثر للخراج (2) فإن كل أرض أقطعها الإمام فأهملها ولم يستثمرها حتى مضى على ذلك ثلاث سنين , فإن للإمام أن يأخذها منه أو يقطعها غيره بدون تعويض (3) وكذلك إذا عجز عن استغلالها واستثمارها لكبر مساحتها، فإن للإمام أن يسترد ما زاد على مقدرته ويقطعها غيره. وقد أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث المزني ما بين البحر والصخر , فلما كان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه , قال له: إنك لا تستطيع أن تعمل هذا , فطيب له أن يقطعها للناس ما خلا المعادن , فإنه استثناها (4)   (1) الرتاج المرصد على خزانة كتاب الخراج: 1 / ص 395. (2) الرتاج 1 -418. (3) الرتاج 1- 418. (4) الرتاج، 425، وانظر أيضًا في هذا المعنى مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها لعلال الفاسي، ص 259. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 667 الثاني: الأخذ مما هو مخصص للمنفعة العامة وتحويله إلى شيء آخر يعود أيضًا نفعه إلى العام , كالأخذ من الشارع للمسجد أو العكس , ومما جاء في هذا ما ذكره الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية: "النوع الثاني أن يبنى في الطريق الواسع ما لا يضر بالمارة لمصلحة المسلمين؛ مثل بناء مسجد يحتاج إليه الناس أو توسيع مسجد ضيق بإدخال بعض الطريق الواسع فيه , أو أخذ بعض الطريق لمصلحة المسجد , مثل حانوت ينتفع به المسجد , فهذا النوع يجوز في مذهب أحمد المعروف , وكذلك ذكره أصحاب أبي حنيفة , ولكن يفتقر إلى إذن ولي الأمر على روايتين عن أحمد , ومن أصحاب أحمد من لم يحك نزاعًا في جواز هذا النوع , ورواية ثالثة بالمنع مطلقًا. وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد عن طريق واسع وللمسلمين منه غنى , وبهم إلى أن يكون مسجدًا حاجة , هل يجوز أن يبنى هناك مسجد؟ قال: لا بأس , إذا لم يضر بالطريق. إلى أن قال: فإذا جاز , جعل البقعة المحترمة المشتركة بين المسلمين بقعة غير محترمة للمصلحة , فلأن يجوز جعل المشتركة التي ليست محترمة كالطريق الواسع بقعة محترمة , وتابعة للبقعة المحترمة بطريق الأولى والأحرى، فإنه لا ريب أن حرمة المساجد أعظم من حرمة الطرقات , وكلاهما منفعة مشتركة (1) . ومن ذلك ما جاء بالفتوى الصادرة عن لجنة الفتوى بالأزهر الشريف ردا على السؤال الموجه لها من مدير بلدية الكويت (2) , وما جاء بهذه الفتوى: " أما بعد , فقد اطلعت اللجنة على هذا السؤال , وتفيد بأنه قد جاء في الجزء الثالث من حاشية ابن عابدين على الدر المختار من كتب الحنفية , أنه إذا كان الطريق ضيقًا والمسجد واسعًا لا يحتاج إلى بعضه , جازت الزيادة في الطريق من المسجد؛ لأن كلا منهما للمصلحة العامة , وهذا هو المعتمد عليه متون المذهب.   (1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 30، 402، 406. (2) مجلة الأزهر عدد جمادى الآخرة سنة 1372 هـ، ص 715، 716. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 668 وجاء في كتب المالكية أن ما كان لله , فلا بأس فيه أن يستعان ببعضه في بعض. ومعنى هذا: أنه يجوز توسيع الطريق من المسجد والمقبرة كما يجوز توسيع المسجد من الطريق والمقبرة وتوسيع المقبرة من الطريق والمسجد، تراجع حاشية العدوي على الخرشي على متن خليل في باب الوقف. إلى أن قال: "ومن هذه النصوص يتبين أنه متى كانت الحاجة ماسة إلى أخذ جزء من المسجد لتوسعة الطريق واستقامته تيسيرًا على المارة والسيارات , فإنه يجوز أن يؤخذ ذلك الجزء من المسجد للطريق العام ". " هذا وكما يجوز ذلك في المسجد أخذًا من هذه النصوص , يجوز أن يؤخذ من المقابر ما يوسع به الطريق , ولكنه بعد أن ينقل رفات الموتى إلى المكان الذي يجعل مقبرة , كما نص على ذلك الفقهاء ". التقنيات التي صدرت لتنظيم نزع الملكية: أصدرت الدولة العثمانية عدة قوانين وقرارات لتنظيم عملية الاستملاك , من ذلك قرار الاستملاك الصادر في رجب سنة 1272 هـ. وقانون الاستملاك الصادر في 21 جمادى الأولى سنة 1296 هـ , وقانون الاستملاك الجديد الصادر في 7 ربيع الأول سنة 1332 هـ. ونصت المادة 1216 من مجلة الأحكام العدلية على حكم ذلك , ونصها: لدى الحاجة يؤخذ ملك كائن من كان بالقيمة بأمر السلطان , ويلحق بالطريق , لكن لا يؤخذ من يده ما لم يؤد له الثمن (راجع مادتي 251، 262) . وقال شارح المجلة محمد سعيد المحاسني عند شرحه لهذه المادة: "ويشترط في الاستملاك على الإطلاق وجود المنفعة العامة والضرورة , وهذا الفرع معروف بين الفقهاء في الأخذ من المسجد , بقيد (إذا ضاق) . وشرح المرحوم علي حيدر هذه المادة , فقال: (يستملك ملك أي أحد بقيمته الحقيقية للمنافع العمومية , كالطريق والمسجد وسيل الماء , ولو لم يرض صاحبه ببيعه. فلذلك يؤخذ لدى الحاجة؛ أي: إذا كان الطريق ضيقًا ومست الحاجة إلى توسيعه ملك؛ أي: أخذ بقيمته بأمر السلطان , ولو لم يرض صاحبه , ويلحق بالطريق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 669 فلذلك لو كان مسجد ضيق وغير كاف لاستيعاب المصلين , وكان لأحد ملك متصل بذلك المسجد , ووجدت حاجة لإلحاق قسم من تلك الدار للجامع، وتعنت صاحب الدار عن بيع ذلك المقدار من ملكه , فلا ينظر لرضائه , ويؤخذ المقدار اللازم للجامع وحريم الجامع بقيمته جبرًا وكرهًا , ويوسع الجامع. وقد وسع عمر والصحابة رضوان الله عليهم المسجد النبوي على هذا الوجه (جامع الإجارتين والتنقيح والخانية) . وكذلك يؤخذ محل مرور المياه بقيمته ولو لم يرض صاحبه , انظر مادة (26) (فتاوى أبي السعود) , ولكن لا يؤخذ الملك من يده ما لم يؤد له الثمن معجلًا , هذا إذا كان سيؤخذ الملك بدون رضاء صاحبه أو أخذ الملك برضاء صاحبه بالبيع المطلق بثمن معجل. انظر المواد (251، 262، 278) , أما إذا أخذ الملك برضاء صاحبه بالبيع المطلق بثمن مؤجل , فتجري المعاملة وفقًا للمادة (283) . إن المقصود في هذه المادة هو المال الذي يؤخذ الملك به بدون رضاء صاحبه , كما وضح ذلك أثناء الشرح , ولكن لا يجوز أخذ ملك أحد بدون رضائه ما لم يثبت لزومه للمنافع العامة. ومن هذا العرض لنص المجلة وشروحها يتبين أن الاستيلاء على الملك الخاص للمنفعة العامة لا بد فيه من تحقق الأمور التالية: أولًا: تسري عليها الأحكام المتعلقة بالبيوع كأصل عام. ثانيًا: الأصل أن يتم الانتفاع بالملك الخاص للمنفعة العامة باتفاق بين السلطة والأفراد الذين تحتاج إلى أملاكهم الخاصة طبقًا لأحكام عقد البيع وبذات الشروط التي ينبغي تحقيقها في العقود التي تجري بين الأفراد وسلامة الرضاء , وهو ما يعبر عنه فريق من الفقهاء بالطوع؛ أي: بالاختيار وعدم الإكراه. ثالثًا: في حالة امتناع الأفراد من البيع طواعية لا بد من تحقق الشروط التالية للاستيلاء على الملك الخاص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 670 أولًا: أن تشتد الحاجة إلى الملك الخاص. ثانيًا: أن يكون الغرض من الاستيلاء على الملك الخاص لأمر يعود نفعه على العام , كتوسيع الطرق , وتنظيم المدن وسكك الحديد , وتوسعة المساجد وإنشائها ونحوها. ثالثًا: أن يصدر قرار من السلطة المختصة في الدولة بالاستملاك طبقًا للقوانين والقرارات التي تسنها الدولة في هذا الشأن. رابعًا: أن يدفع له قيمة المال المنزوع للمنفعة العامة. خامسًا: أن لا يستولي على العقار الذي تقرر نزعه للمنفعة العامة إلا بعد سداد الثمن كاملًا لصاحبه في حالة ما إذا لم يتم اتفاق بين الطرفين. أما إذا تم اتفاق على طريقة دفع الثمن , فيكون هو الذي يتعين المصير إليه. وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية القول على ضرورة بذل ما يحتاج إليه وجواز تدخل ولي الأمر في أكثر من موضع من مجموع فتاويه ومصنفاته , من ذلك ما جاء في معرض كلامه على الولايات والتدخل لمنع الاحتكار وغلاء الأسعار , قال: وهذا واجب في مواضع كثيرة من الشريعة، فإنه كما أن الإكراه على البيع لا يجوز إلا بحق , يجوز الإكراه على البيع بحق في مواضع , مثل بيع المال لقضاء الدين الواجب والنفقة الواجبة والإكراه على أن لا يبيع إلا بثمن المثل لا يجوز إلا بحق , ويجوز في مواضع مثل المضطر إلى طعام الغير , ومثل الغراس والبناء الذي في ملك الغير , فإن لرب الأرض أن يأخذ بقيمة المثل , لا بأكثر , ونظائر كثيرة (1) ويبسط القول أكثر في موضع آخر من مجموع فتاويه (2) ، نقتصر من ذلك على فقرات من كلامه رحمه الله , قال: " ففي الجملة ما يجب إيتاؤه من المال أو منفعته أو منفعة البدن بلا عوض , له تفصيل في موضع آخر , ولو كان كثير من المتفقهة مقصرين في عامه بحيث ينفون وجوب ما صرحت الشريعة بوجوبه , ويعتقد الغالط منهم: " أن لا حق في المال سوى الزكاة " , إن هذا عام , ولم يعلم أن الحديث المروي في الترمذي عن فاطمة ((: إن في المال حقا سوى الزكاة)) .   (1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 28/ 77، 78 (2) ج/29، ص 185، 196. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 671 من قال بالأول , أراد الحق المالي الذي يجب بسبب المال , فيكون راتبًا , وإلا فنحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله قد أوجب إيتاء المال في غير الزكاة المفروضة في مواضع , مثل الجهاد بالمال عند الحاجة، والحج بالمال، ونفقة الزوجة والأقارب والممالك من الآدميين والبهائم , ومثل ما يجب من الكفارات من عتق وصدقة. . . إلخ. وإنما الغرض هنا ما يجب من المعاوضات , مثل المبايعة والمؤاجرة وما يشبه ذلك، ومثل المشاركات كالمساقات والمزارعة ونحو ذلك , فإن هذا كثيرًا ما يغلط فيه الغالطون , لما استقر في الشريعة أن الظلم حرام , وأن الأصل في هذه العقود لا تجوز إلا بالتراضي , إلا مواضع استثناها الشارع , وهو الإكراه عليها بحق , صار يغلط فريقان: قوم يجعلون الإكراه على بعضها بحق، وهو إكراه بباطل. وقوم يجعلونه إكراهًا بباطل , وهو بحق، وفيها ما يكون إكراهًا بتأويل حق , فيدخل في قسم المجتهدات، أما الاجتهادات المحضة أو المشوبة بهوى وكذلك المعاوضات. ونحن نعلم قطعًا أنه إذا كان إيتاء المال أو المنفعة بلا عوض واجبًا بالشريعة في مواضع كثيرة جدا لأسباب اقتضت الإيجاب الشرعي، وليس ذلك من الظلم الذي هو أخذ لحق الغير بغير حق , فلأن يكون إيتاء المال والمنفعة بعوض واجبًا في مواضع أولى وأحرى , بل إيجاب المعاوضات أكثر من إيجاب التبرعات وأكبر , فهو أوسع منه قدرًا أو صفة. ولعل من استقرأ الشريعة تبين له أن المعاوضة إذا احتاج المسلمون إليها بلا ضرر يزيد على حاجة المسلمين , وجبت، فأما عند عدم الحاجة ومع حاجة رب المال المكانية لحاجة المعتاض , فرب المال أولى. فإن الضرر لا يزال بالضرر، والرجل أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين ((وابدأ بنفسك ثم بمن تعول)) وهذه قاعدة حسنة مناسبة , ولها شواهد كثيرة في الشريعة , وجماع المعاوضات أربعة أنواع: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 672 معاوضة مال بمال كالبيع، وبذل مال بنفع كالجعالة، وبذل منفعة بمال كالإجارة، وبذل نفع بنفع كالمشاركات من المضاربة ونحوها , فإن هذا بذل نفع بدنه، وهذا بذل نفع ماله، وكالتعاون والتناصر ونحو ذلك. وبالجملة فوجوب المعاوضات من ضرورة الدنيا والدين , إذ الإنسان لا ينفرد بمصلحة نفسه , بل لا بد له من الاستعانة ببني جنسه , فلو لم يجب على بني آدم أن يبذل هذا لهذا ما يحتاج إليه , وهذا لهذا ما يحتاج إليه , لفسد الناس , وفسد أمر دنياهم ودينهم , فلا تتم مصالحهم إلا بالمعاوضة. ولا ريب أن النفوس مجبولة على بذل المعاوضة لحاجتها إليها , فالشارع إذا بذل ما يحتاج إليه بلا إكراه , لم يشرع الإكراه , ورد الأمر إلى التراخي في أصل المعاوضة وفي مقدار العوض، وأما إذا لم يبذل , فقد يوجب المعاوضة تارة , وقد يوجب عوضًا مقدرًا تارة , وقد يوجبهما جميعًا. مثال الأول: من عليه دين فطولب به , وليس له إلا عرض , فعليه أن يبيعه ليوفيه الدين، فإن وفاء الدين واجب , ولا يتم إلا بالبيع , وما لا يتم الواجب إلا به , فهو واجب , وللحاكم أن يكرهه على بيع العرض في وفاء دينه , وله أن يبيع عليه إذا امتنع؛ لأنه وجب عليه , فقبل النيابة , فقام ذو السلطان فيهم مقامه , كما يقوم في توفية الدين وتزويج الأيم من كفئها إذا طلبته وغير ذلك. إلى أن يقول: وهكذا بيع أحد الشريكين من الآخر في ما لا ينقسم , فإن الشريك محتاج إلى البيع ليأخذ نصيبه , ولا ضرر على الآخر فيه، وكذلك تقويمه ملك الشريك إذا أعتق الشريك نصيبه , فإن العتق يحتاج إلى تكميل , لما في تبعيض العتق من الضرر على البائع في بيع نصيبه , وهكذا فيمن تعلق حق الغير بماله , كمن له في ذلك الغير عرض محترم من غراس أو بناء أو بئر , كالمشتري إذا أخذ الشقص بالشفعة , والبائع إذا رد عليه المبيع بعيب , وكان الثمن عقارًا، وكالمستعير والمستأجر إذا انقضت المدة , فإن لرب الأرض أن يبتاع ذلك بقيمته إذا لم يقلعه صاحبه أو يبقيه بأجرة المثل , وكلاهما معاوضة , إما على العين , أو على منفعة أرضه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 673 كما نستشهد بآراء جماعة من الفقهاء المعاصرين ممن ذهبوا إلى جواز نزع الملكية للمنفعة العامة , وممن قال بذلك: أولًا: أحمد إبراهيم (1) قال رحمه الله: الأصل عدم انتزاع الإنسان مال غيره إلا برضاه , ولكن استثنى من ذلك نزع الملك في ثلاث حالات: الأولى: الأخذ بالشفعة. الثانية: نزع الملك لقضاء الدين. الثالثة: نزع الملك للمنافع العمومية؛ كتوسيع الطرق وإنشاء ترع أو سكك ينتفع بها الناس انتفاعًا عاما , ولكن لا يؤخذ الملك من يد المالك إلا إذا أدي إليه ثمنه مقدرًا بمعرفة من يوثق بعدالته من أهل الخبرة؛ وذلك لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة ولا ينبغي أن يظلم المالك. وقد نقل في حاشية أبي السعود على ملا مسكين عن الزيلعي: أنه إذا ضاق المسجد على الناس وبجنبه أرض الرجل , تؤخذ بالقيمة كرهًا؛ لأنه لما ضاق المسجد الحرام أخذ الصحابة بعض ما حوله من الأراضي بكره , وأدخلوها في المسجد. وهذا من الإكراه الجائز. ثانيًا: الشيخ الإمام محمد أبو زهرة رحمه الله قال: (2) "ذكرنا فيما مضى أن أسباب انتقال الملكية هي العقود الناقلة للملكية , والعنصر الفعال في هذه العقود هو الرضا , كما يستثنى. فالرضا هو القاعدة العامة لنقل الأموال في الشريعة الإسلامية؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) , بيد أنه قد ينتزع الملك من صاحبه بغير رضاه في سبيل النفع العام أو لدفع الأذى عن غيره , بحيث تكون المنفعة التي ينالها المالك من بقاء العين في ملكه أقل من الضرر الذي ينال غيره بهذا البقاء.   (1) المعاملات الشرعية المالية ص 72، 73. (2) الملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية: 148، 149. (3) النساء: 29 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 674 والأحوال التي ينتزع فيها الملك من غير رضا صاحبه ترجع إلى ثلاث: نزع الملك لمنافع الكافة , كنزع الملك للطرق العامة , أو شق الترع، وقد اعتبر بعض الفقهاء من المنافع العامة توسيع المساجد , حتى لا تضيق بالناس. ثم نقل ما سبق عن حاشية أبي السعود على ملا مسكين عن الزيلعي , وأحال إلى كتاب الشيخ أحمد إبراهيم , ثم قال: والأصل في هذا ترجيح منفعة الكافة على منفعة الآحاد , ولأنه لا يترتب على الأخذ من المالك كبير ضرر به؛ لأنه يعوض بالقيمة , والقيمة تقدر بمعرفة أهل الخبرة العدول. ثالثًا: وممن قال بذلك أيضًا الشيخ علي الخفيف في بحث له منشور في مجلة الأزهر الشريف (1) والشيخ محمد عرفة عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر (2) ومما قاله الشيخ الخفيف في بحثه المنشور في مجلة الأزهر عدد صفر سنة 1384 هـ: "ويجب أن يلاحظ مع هذا أن عدوان إحدى الملكيتين على الأخرى محظور , فلا يجوز أن يتملك الفرد ما كان ملكًا للجماعة مخصصا للمنافع العامة , إلا إذا خرج عن ذلك بالاستغناء عنه , فعند ذلك يجوز تملكه بعوضه , على أن يقوم بهذه المبادلة ولي الأمر متحريا ألا يكون فيه غبن , كما لا يجوز لولي الأمر أن يعتدي على ملك فرد من الأفراد , فليس له أن يجعله في منفعة عامة مملوكًا لجماعة المسلمين , إلا إذا تطلبت مصلحة المسلمين ذلك , فيأخذه الإمام عن رضا أو عن قهر ببدله دون غنى على صاحبه؛ وذلك لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة. وذلك ما حدث في توسعة المسجد الحرام حين ضاق على الناس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه , فقد كانت دور الناس محدقة به من كل جانب , عدا فتحات يدخل منها الناس إليه , فاشترى عمر دورًا منها , وأبى عليه أصحاب الدور الأخرى , فأخذها منهم قسرًا , ووضع قيمتها بخزانة الكعبة , وأدخل الجميع المسجد.   (1) مجلة الأزهر عدد صفر 1384 هـ. (2) مجلة الأزهر عدد صفر سنة 1372 هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 675 وظلت القيمة بالخزانة إلى أن أخذها أصحابها , ثم كثر الناس في عهد عثمان وضاق عليهم المسجد مرة أخرى , فأراد توسعته , فاشترى من قوم , وأبى عليه آخرون , فأخذ دورهم جبرًا , وعزرهم؛ لأنه ليس للمالك أن يأبى حين يدعوه إلى بيع ملكه داعي المصلحة العامة , فإذا أبى , كان إباؤه ظلما , فيدفع. وليس يجوز أن يؤخذ ملك إنسان بلا عوض لمصلحة عامة , بل يجب تعويضه من بيت مال المسلمين , فإن لم يكن فيه ما يقوم بذلك , كان لولي الأمر أن يفرض على القادرين من الوظائف المالية ما يقوم بحاجة الدولة , ويدفع ما أنزل بها بالقسطاس المستقيم , فيعم بذلك جميع القادرين كلا بقسطه , ولا يقصره على بعضهم , وبذلك يشترك كل قادر في دفع ما ألم بالأمة مما يجب دفعه". وذكر الأزرقي وغيره من المؤرخين للمسجد الحرام وما كان عليه المسجد وعمارته وتوسعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه له , وأنه لما ضاق على الناس , اشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنه دورًا , فهدمها وهدم على من قرب من المسجد , وأبى بعضهم أن يأخذ الثمن , وتمنع من البيع , فوضعت أثمانها في خزانة الكعبة حتى أخذوها بعد، ثم أحاط عليه جدارًا قصيرًا , وقال لهم عمر: إنما نزلتم على الكعبة فهو فناؤها , ولم تنزل الكعبة عليكم. ثم كثر الناس في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه , فوسع المسجد , واشترى من قوم , وأبى آخرون أن يبيعوا , فهدم عليهم , فصيحوا به , فدعاهم فقال: إنما جرأكم علي حلمي عنكم , فقد فعل بكم عمر هذا , فلم يصح به أحد , فاحتذيت على قباله , فصيحتم بي , ثم أمر بهم إلى الحبس , حتى كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد , فتركهم. (1)   (1) تاريخ مكة للأزرقي، ج2/ 68، 69. القرى في قاصد أم القرى ص 657 تاريخ الطبري 4 - 68. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 676 ومن صور العقود التي تمت والاتفاق على بدل العقار الذي احتيج إليه للمنفعة العامة ما ذكره الحافظ أبو الطيب تقي الدين محمد بن أحمد بن علي الفاسي المكي المالكي في (شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام) عن توسعة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة الوليد بن عبد الملك. وذلك أنه لما استعمل عمر بن عبد العزيز على المدينة , أمره بالزيادة في المسجد وبنيانه , فاشترى ما حوله من المشرق والمغرب والشام من أبي سبرة الذي كان أبى أن يبيع عليه , ووضع الثمن له , فلما صار إلى القبلة , قال له عبد الله بن عمر: لسنا نبيع هذا , هو من حق حفصة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكنها , فقال له عمر: ما أنا بتارككم، أنا أدخلها المسجد. فلما كثر الكلام بينهما , قال له عمر: أجعل لكم في المسجد بابًا تدخلون منه , وأعطيكم دار الرقيق مكان هذا الطريق , وما بقي من الدار فهو لكم. ففعلوا , فأخرج بابهم في المسجد , وهي الخوخة التي في المسجد تخرج في دار حفصة , وأعطاهم دار الرقيق (1) وهذا يدل على أنه لا يتعين النقد بدل العين المنزوع ملكيتها للمنفعة العامة , بل يجوز أن يكون شيئًا آخر كالتعويض العيني وهو ما يعرف في البيوع بالمقايضة , أو بهما معًا , ونظير ذلك ما جاء في معجم البلدان في مادة (بصرة) : وكان جانب الجامع الشمالي - أي: جامع البصرة - منزويًا؛ لأنه كان دارًا لنافع بن الحارث أخي زياد , فأبى أن يبيعها , فلم يزل على تلك الحال حتى ولى معاوية عبيد بن زياد على البصرة , فقال عبيد الله بن زياد: إذا شخص عبد الله بن نافع إلى أقصى ضيعة , فأعلمني، فشخص إلى قصر الأبيض، فبعث فهدم الدار , وأخذ في بناء الحائط الذي يستوي به تربيع المسجد، وقدم عبد الله بن نافع فضج. فقال له: إني أثمن لك , وأعطيك مكان ذراع خمسة أذرع , وأدع لك خوخة في حائطك إلى المسجد , وأخرى في غرفتك، فرضي , فلم تزل الخوختان في حائطه حتى زاد المهدي فيه ما زاد , فدخلت الدار كلها في المسجد (2)   (1) شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام: ج/2، ص 372. (2) معجم البلدان: ج1/ 434 مادة بصرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 677 ويستدل من كل ذلك على جواز نزع الملك الخاص إذا اقتضت المصلحة والضرورة ذلك ببدل يعطى لصاحبه , ولا ضير إذا كان هذا البدل قد بولغ فيه وأعطي أكثر من قيمته الحقيقية تطييبًا لخاطره وترضية لما عسى أن يكون قد لحقه من جراء حرمانه من ملكه الخاص من ضيق , كما فعل السلف الصالح. وبعد: فإن هذا ما انتهى إليه النظر في هذا الموضوع , وهو رأي تتبعت فيه آثار السلف وأقوال الأئمة رضوان الله عليهم أجمعين , الذين هم لنا الأسوة والقدوة. أرجو أن أكون قد أصبت فيه الحق أو قاربته. الكويت في 17 شعبان سنة 1407هـ الدكتور عبد الله محمد عبد الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 678 انتزاع الملكية للمنفعة العامة إعداد أ. د. يوسف محمود قاسم أستاذ ورئيس قسم الشريعة الإسلامية كلية الحقوق - جامعة القاهرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، مالك الملك، بيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي الأمي، الذي بلغ شريعة ربه وبينها لأمته بيانًا شافيًا , وعلى آله وأصحابه الذين حملوا هذه الشريعة للدنيا كلها، فكانت النور المبين الذي شمل العباد والبلاد على مدى القرون والأجيال. فإن موضوع انتزاع الملكية للمنفعة العامة هو في غاية الأهمية , وهو أيضا في غاية الخطورة. أهمية الموضوع: تبدو أهمية هذا الموضوع في التوفيق بين حقوق الله تعالى، وحقوق العباد، ومراعاة التوازن بين هذين النوعين من الحقوق. وهذا التوفيق مهمة صعبة للغاية، لكن في الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يذلل كل صعوبة ويرفع كل عقبة، ففيهما الجواب الكافي والدواء الشافي لكل ما يعن للبشرية من معضلات. وفيما يتعلق بالملكية العامة التي لها أهميتها، والملكية الخاصة التي يجب احترامها إلى أبعد الحدود، يقول الله جل شأنه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (1) . ولقد ظهر لي فهم في هذا النص الكريم , أرجو أن يكون صوابًا , فقوله عز وجل: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} نهي صريح عن تضييع الأموال ووجوب حفظها وتدبيرها والقيام عليها قيامًا حسنًا حيث جعلها الله قوام المجتمع , فهي السبب في إصلاح المعاش وانتظام الأمور (2) ولذلك وصفها الله تعالى بقوله: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} . أي: التي تقوم بمعاشكم، وصلاح أولادكم (3) فقوام المجتمع ثروته , وقوة الأمة بقوة اقتصادها.   (1) سورة النساء. الآيتان: 5، 6. (2) فضيلة المرحوم الشيخ محمد السايس: تفسير آيات الأحكام ج 2، ص 29 طبعة صبيح. (3) تفسير الجلالين مع المصحف الشريف، ص 103 (دار مروان: بيروت) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 679 وأما قوله تعالى: {أَمْوَالَكُمُ} , فإن معناها: أموالهم - أي: أموال السفهاء - التي في أيديكم (1) , وهذا يدل بلا شك - في اعتقادنا - أن المال وإن كان مملوكا لليتيم ومن في حكمه من السفهاء، فإنه عندما يصير معرضًا للضياع يعتبره القرآن مالا للجماعة , به قوامها، وعليه المدار في منعتها وقوتها , فيتعين على الأمة في مجموعها أن تحافظ عليه؛ لأنه وإن كان ملكًا خاصا , إلا أن حق الجماعة فيه ظاهر , لا ينكر. أما عندما تزول هذه الظروف التي تعرض المال فيها للضياع , ويعود السفيه إلى رشده، ويصبح الصغير بالغًا عاقلًا رشيدًا , يعود ماله الخاص إليه. حيث يصير المال عندئذ في يد عاقلة رشيدة تنفقه في وجوهه المشروعة التي من شأنها تحقيق مصالح الفرد، وهذا بدوره يعود على المجتمع بالخير والرفاهية: {فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} . فيا لروعة القرآن: حينما عبر عن المال المعرض للضياع بكلمة {أَمْوَالَكُمُ} ، أموال الجماعة التي يجب أن تحافظ على هذا المال؛ لأن الله تعالى جعله قوامها وعمودها الفقري الذي إن فرطت فيه ضاعت هيبتها , وكانت النتيجة وبالًا على المجتمع بأسره. بيد أنه عند إيناس الرشد، يعدل القرآن إلى التعبير المناسب لمقتضى الحال؛ لأن كامل الرشد يتصرف في هذا المال، فكان في قوله سبحانه: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} أعظم دلالة في المحافظة على الملكية الخاصة، وصيانة حقوق العباد صيانة كاملة غير منقوصة (2)   (1) تفسير الجلالين مع المصحف الشريف، ص 102. ولهذا نظائر عديدة في أسلوب القرآن العظيم. مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} . وقوله سبحانه: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} . (2) مبادئ الفقه الإسلامي للدكتور يوسف قاسم ص 342 - 344 طبعة سنة 1403 هـ. دار النهضة العربية بالقاهرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 680 خطورة البحث في هذا الموضوع: وأما خطورة البحث في هذا الموضوع، فتتجلى في بعض الأنظمة الأرضية الإلحادية، التي نرى بعض أفرادها {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) فقد حاول بعضهم أن يبرر مسلك بعض الظلمة من ذوي السلطات في تأميم بعض الملكيات الخاصة عن طريق أن المال مال الله. وهي كلمة حق أريد بها باطل في هذا الخصوص. ذلك أنه مما لا شك فيه أن الملك الحقيقي في كل شيء إنما هو لله رب العالمين , فهو سبحانه مالك الملك بما فيه ومن فيه. ولكنه جل شأنه هو الذي أعطى لعباده حق الملكية , وأثبته لهم , فلا يحق - إذن - لأي سلطة مهما كانت أن تمس هذا الحق (2) الذي أثبته الله لعباده بحجة أن المال مال الله. بل إن الله سبحانه هو الذي تشدد في حقوق عباده تشددًا كبيرًا على الرغم من أنه تعالى هو الذي تسامح في بعض حقوقه لدرجة أن التوبة تمحو كل ذنب يتعلق بحقوق الله، أما بالنسبة لحقوق العباد فالتوبة وحدها قد لا تكفي، إذ لا بد من رد المظالم حتى يمكن القول بأنها توبة صادقة (3) ومن هنا كانت خطورة البحث في هذا الموضوع، فلا يصح التعلل بأن المال مال الله للافتئات على حقوق العباد وتأميم أموالهم التي يملكونها بحكم الشرع.   (1) آل عمران: 78. (2) إلا في الحدود المشروعة. (3) على خلاف في الرأي بين العلماء: هل رد المظالم شرط في التوبة أو أنه مظهر للتوبة الصادقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 681 فالتأميم بمعناه الاصطلاحي المعاصر محرم شرعًا , لا شك في ذلك (1) لكن موضوع البحث الهام والخطير هو: مدى سلطة ولي الأمر في انتزاع الملكية الخاصة تحقيقًا لمنفعة عامة. هذا هو محل البحث الذي نرجو من الله تعالى أن يوفقنا إلى الحكم الشرعي وهو سبحانه المستعان. خطة البحث: ودراسة هذا الموضوع تحتاج إلى تحديد القواعد العامة التي تحكم الملكية الثابتة شرعًا للأفراد. ثم بيان الحدود الضيقة التي يمكن لولي الأمر في إطارها تحقيق المصلحة العامة، حتى ولو ترتب على ذلك المساس بحقوق الأفراد وضوابط هذا المساس. نبحث ذلك في الفصلين الآتيين: الفصل الأول: القواعد العامة التي تحكم حق الملكية. الفصل الثاني: ضوابط انتزاع الملكية للمنفعة العامة.   (1) وفي حالة تأكد ولي الأمر من أن هذا المال المملوك قد أخذه مالكه ظلما , فإنه يجوز شرعًا لولي الأمر التدخل , لا على أساس التأميم , بل على أساس رد المظالم لأهلها؛ لأن وظيفة ولي الأمر رفع الظلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 682 الفصل الأول القواعد التي تحكم حق الملكية القواعد التي تحكم حق الملكية، هي قواعد كثيرة، لا تحتمل هذه السطور دراستها التفصيلية , ولذلك فإني أرى الاكتفاء بدراسة بعض القواعد التي ترتبط ارتباطًا مباشرًا بموضوع البحث , ألا وهو: انتزاع الملكية للمنفعة العامة. وهذه القواعد تتلخص فيما يأتي: 1) المال مال الله. 2) الله سبحانه هو الذي أثبت لعباده حقهم فيما يملكون. 3) تحمل أخف الضررين تجنبًا لأشدهما. المال مال الله: مما لا شك فيه أن المالك الحقيقي لكل شيء هو الله رب العالمين الذي بيده ملكوت كل شيء. قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} (1) . وقال سبحانه: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) وهذه الآيات المباركات التي تؤكد ملكية الله تعالى لكل شيء وهو الغني عن كل شيء - وما أكثرها في القرآن العظيم - إنما تسوق البراهين العقلية على إثبات هذه الملكية لله رب العالمين (3)   (1) سورة الملك: صدر هذه السورة المباركة. (2) سورة المائدة: الآية رقم "120". (3) أما ملكية الأفراد فما هي إلا استخلاف لهم في ملك الله تعالى. يراجع في هذا: " كتاب التعامل التجاري في ميزان الشريعة للدكتور يوسف قاسم، طبعة سنة 1406 هـ. دار النهضة العربية بالقاهرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 683 لأن الذي خلق الموت والحياة هو خالق للمال ولكل شيء، وكما قال سبحانه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (1) فهي إذن براهين عقلية يسوقها رب العالمين لقوم يعقلون. الله منح عباده حق الملكية لأجل مسمى: وقد خلق الله تعالى كل شيء لعباده. سخره لهم، ووهبه إياهم. قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (2) وقال جل شأنه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (3) وقد حرم الله تعالى المساس بهذه الملكية الثابتة شرعًا للأفراد تحريمًا مؤبدًا حتى تقوم الساعة. وذلك بنص الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (4) وقوله جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (5) والخطاب في الآيتين يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق (6) فيدخل في هذا القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق وما لا تطيب به نفس مالكه أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفسه (7)   (1) سورة يونس الآية رقم "31". (2) سورة الجاثية: رقم "12". (3) سورة يس الآية رقم " 71 ". (4) سورة البقرة من الآية رقم " 188". وقد نزلت هذه الآية في عبد الله بن الأشوح الحضرمي، أدى مالا على امرئ القيس الكندي، واختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكر امرؤ القيس، وأراد أن يحلف , فنزلت , فكف عن اليمين (تفسير القرطبي ص 713 طبعة الشعب) . (5) سورة النساء: الآية رقم " 29 ". (6) أحكام القرآن لابن العربي جـ1 ص 97 طبعة دار المعرفة بيروت. ومعنى في قوله تعالى: {بالباطل} أي: بما لا يحل شرعا , ولا يفيد مقصودًا. (7) القرطبي، ص 713، وابن العربي، جـ1، ص 97. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 684 وأما السنة. فقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا شافيًا، في الحديث الصحيح الذي بلغ حد التواتر وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم)) . وقد أجمعت الأمة في كل عصورها على هذا الحكم الشرعي. تحمل أخف الضررين تجنبًا لأشدهما: أما قاعدة: تحمل أخف الضررين تجنبًا لأشدهما، فهي قاعدة شرعية مجمع عليها , إذ لا ريب أنه إذا اجتمع ضرران أحدهما أخف من الآخر، وكان لا بد من تحمل أحدهما , فإنه يجب تحمل الضرر الأخف دفعًا للضرر الأشد , وهو مما لا يخفى على عاقل، حتى قبل ورود الشرع، بل إن ذلك مركوز في طبائع العباد (1) بحكم الفطرة. ولذلك يقول علماء القواعد: إذا اجتمعت المفاسد المحضة، فإن أمكن درؤها , درأنا. وإن تعذر درء الجميع , درأنا الأفسد فالأفسد، والأرذل فالأرذل (2) ولهذه القاعدة تطبيقات كثيرة جدا تكلم عنها الفقهاء في كتب الفروع بالتفصيل الوافي.   (1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للإمام عز الدين بن عبد السلام، جـ1، ص 7 طبعة سنة 1388 هـ وأول عبارته في هذا الموضع: "واعلم أن تقديم الصالح فالأصلح ودرء الفاسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد، نظرًا لهم من رب الأرباب. فلو خيرت الصبي الصغير بين اللذيذ والألذ لاختار الألذ , ولو خير بين الحسن والأحسن , لاختار الأحسن. ولو خير بين فلس ودرهم , لاختار الدرهم، ولو خير بين درهم ودينار , لاختار الدينار. ولا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح، أو متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت ". (2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للإمام عز الدين بن عبد السلام، جـ1، ص 93. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 685 من ذلك: بالنسبة للمال المملوك للغير، وهو محرم شرعا - كما أكدنا - لكنه في حالة الضرورة (1) يباح للمضطر أن يتناول من مال غيره القدر الذي ينقذ نفسه من الهلاك؛ لأن حرمة مال الغير أخف من حرمة النفس. انتزاع الملكية للمنفعة العامة لا يباح إلا في هذه الحدود ومن هذا القبيل انتزاع الملكية للمنفعة العامة. حيث لا يجوز مثل هذا الإجراء شرعًا إلا في هذه الحدود، أي: الحدود الضرورية اللازمة لتحقيق النفع العام، الذي لا يمكن تحقيقه إلا عن هذا الطريق. فلو أمكن الوصول إلى هذه المنفعة العامة دون المساس بحقوق الأفراد , فلا يجوز ذلك مطلقًا؛ لأن الشريعة تحرم المساس بحقوق العباد تحريمًا قاطعًا مؤبدًا. وكما جاء في الحديث الصحيح ((إلى أن تلقوا ربكم)) لكن ماذا نقول إن تعطلت مصالح العباد، وأصبح من المستحيل تحقيق هذه المصلحة أو المصالح إلا عن طريق التضحية بملكية بعض الأفراد تحملًا للضرر الأخف في سبيل تجنب الضرر الأشد المتمثل في تفويت المصلحة العامة للمجتمع في حين أن حق الفرد في ملكيته مضمون بالتعويض المناسب كما سيأتي تفصيله. وأيضًا فإن المبدأ الأول الذي سبق شرحه يأتي دوره هنا. فما دام المال مال الله، فلا يصح أن تعطل المصالح العامة لعباد الله مع مراعاة تعويض الأفراد عما يلحقهم من ضرر. وبهذا يتم التوفيق بين النوعين من الحقوق؛ حقوق الله وحقوق العباد. هذا ما أردت بيانه في هذا الفصل: تأكيد حق الملكية الثابت شرعا للأفراد , وبيان الصلة بين هذه الملكية وبين المبدأ الثابت شرعًا وعقلًا , وهو أن المال مال الله، وبيان الحدود الضيقة التي يمكن فيها المساس بحق الملكية عملًا بقاعدة تحمل أخف الضررين، ومن هنا كانت إباحة انتزاع الملكية للمنفعة العامة. لكن ما هو المصدر الشرعي لهذا الحكم , أو ما هي ضوابط انتزاع الملكية للمنفعة العامة؟ هذا هو موضوع الفصل الثاني , وبالله تعالى التوفيق.   (1) للتوسع في هذا الموضوع، يراجع: نظرية الضرورة في الفقه الجنائي الإسلامي والقانون الجنائي الوضعي للدكتور يوسف قاسم. طبعة سنة 1401/ 1981 دار النهضة العربية بالقاهرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 686 الفصل الثاني ضوابط انتزاع الملكية للمنفعة العامة البحث في ضوابط انتزاع الملكية للمنفعة العامة يتطلب أن نبحث أولا عن المصدر الشرعي لهذا الحكم , ثم عن تفصيل الضوابط التنفيذية لهذا الإجراء من الناحية العملية , حتى يكون في دائرة المشروعية. نتناول ذلك في مبحثين متواليين: المبحث الأول: المصدر الشرعي لإباحة انتزاع الملكية للمنفعة العامة. المبحث الثاني: الضوابط التنفيذية لهذا الإجراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 687 المبحث الأول المصدر الشرعي لانتزاع الملكية للمنفعة العامة الأصل في إباحة انتزاع الملكية للمنفعة العامة بضوابطها الشرعية هو عمل الصحابة رضوان الله عليهم. وبيان ذلك أنه: " لما استخلف عمر رضي الله عنه , وكثر الناس , وسع المسجد، واشترى دورًا هدمها وزادها فيه , وهدم على قوم من جيران المسجد أبوا أن يبيعوا، ووضع لهم الأثمان حتى أخذوها بعد ذلك , واتخذ للمسجد جدارًا قصيرًا دون القامة , وكانت المصابيح توضع عليه , فلما استخلف عثمان رضي الله عنه , ابتاع منازل , فوسع بها المسجد , وأخذ منازل أقوام , ووضع لهم أثمانها , فضجوا منه عند البيت , فقال: إنما جرأكم علي حلمي عنكم , فقد فعل بكم عمر رضي الله عنه هذا , فأقررتم ورضيتم. وبنى للمسجد الأروقة حين وسعه " (1) وقد استشهد فقهاء الشريعة على هذا الحكم السابق بعمل، الصحابة رضوان الله عليهم. والاستدلال بعمل الصحابة إنما هو استدلال بالسنة والإجماع اللذين أوجب الله العمل بهما بنص كتابه العزيز. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)) . وهذا الحكم قام به خليفتان جليلان؛ عمر وعثمان رضي الله عنهما، وهذا العمل من كل منهما على فترات متباعدة بمرأى ومسمع من الصحابة الكرام , هو إجماع منهم رضوان الله عليهم واجب الاتباع دون شك.   (1) الأحكام السلطانية للماوردي، ص 162 طبعة دار الكتب العلمية ببيروت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 688 وفيما يلي أسوق عبارة ابن عابدين الفقيه الحنفي في هذا الموضوع , حيث يقول: "ولو ضاق المسجد وبجنبه أرض وقف أو حانوت جاز أن يؤخذ ويدخل فيه. زاد في البحر عن الخانية: بأمر القاضي (1) بالقيمة كرها لما روي عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنه لما ضاق المسجد الحرام أخذوا أرضين بكره من أصحابها بالقيمة وزادوا في المسجد الحرام. ولعل الأخذ كرهًا ليس في كل مسجد ضاق، بل الظاهر أن يختص إذا لم يكن في البلد مسجد آخر، إذ لو كان فيه مسجد آخر يمكن دفع الضرورة بالذهاب إليه. نعم فيه حرج , لكن الأخذ كرها أشد حرجًا منه. ويؤيد ذكرنا فعل الصحابة , إذ لا مسجد في مكة سوى المسجد الحرام (2) وبنفس الحكم قال المالكية (3) والشافعية (4) والحنابلة (5) .   (1) وإني لأسجد لله تعالى شاكرًا. حيث وجدت هذه الجملة القصيرة التي أراحت ضميري , فقد سبق لي أن تعرضت بإيجاز لهذا الموضوع في كتابي (مبادئ الفقه الإسلامي) . وظهر لي حينذاك ضرورة اشتراط عرض الأمر على القضاء لما رأيته من الافتئات على بعض حقوق العباد من غير ضمان , فرأيت أن هذا الشرط يحد من التجاوزات , فلما قرأت هذه العبارة , حمدت الله على واسع فضله. (2) حاشية ابن عابدين المسماة رد المحتار على الدر المختار جـ4، ص 379 طبعة سنة 1386 هـ. (3) فقد جاء في مواهب الجليل شرح مختصر خليل للعلامة الحطاب رحمه الله: "يجبر ذو أرض طريقا هدمها نهر، لا ممر للناس إلا فيها، على بيع طريق لهم فيها بثمن يدفعه الإمام من بيت المال " (جـ4، ص 253 طبعة سنة 1329 هـ مطبعة السعادة) . (4) مختصر المزني هامش كتاب الأم للإمام الشافعي، جـ2، ص 209 طبعة سنة 1386 هـ، حيث جاء في هذا الموضع: "إن الناس مسلطون على أموالهم , ليس لأحد أن يأخذها أو شيئًا منها بغير طيب أنفسهم , إلا في المواضع التي تلزمهم ". (5) فقد أورد العلامة ابن القيم رحمه الله عبارة مفادها أن الناس مسلطون على أموالهم , ليس لأحد أن يأخذها أو شيئًا منها بغير طيب من أنفسهم , إلا في المواضع التي تلزمهم، الطرق الحكمية، ص 238 - 243. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 689 المبحث الثاني الضوابط التنفيذية لانتزاع الملكية للمنفعة العامة نقصد بالضوابط التنفيذية الضوابط أو الشروط التي يجب مراعاتها عند اتخاذ هذا الإجراء ضمانًا لحق المالك. وبناء على القواعد السابقة التي تكلمنا عنها في الفصل السابق , يمكن القول كما أشرنا بأنه يباح شرعًا انتزاع الملكية للمنفعة العامة إذا كانت هذه المنفعة أمرًا ضروريا محتما لا بد منه، وليس هنالك مجال لتحقيقها إلا بالمساس بحق ثابت للأفراد؛ لأن إطلاق مثل هذا الحكم يفتح بابًا كبيرًا من أبواب الشر (1) أمام سلطات الفساد والظلم. ولذلك فإن هذه الإباحة ليست على إطلاقها , وإنما لها ضوابطها وشروطها التي تجعلها في دائرة المشروعية، بحيث تحقق المصلحة العامة للناس، وتحقق في نفس الوقت المصلحة الخاصة أيضًا للفرد الذي انتزعت ملكيته. وليس هذا جمعًا بين النقيضين , وإنما هو العمل بحكم الشرع الذي أوجب تحقيق المصالح العامة والخاصة، وحتى عند التعارض لا بد من مراعاة هذا الجمع بقدر الإمكان. وهذا يتمثل - على ما نفهمه من نصوص الشريعة والله أعلم - في الضوابط التالية: الضابط الأول: التأكد فعلًا من أن هذا المال المملوك للغير لازم بالضرورة لتحقيق مصالح العباد، وهو الوحيد المتعين لذلك.   (1) نسأل الله السلامة والعافية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 690 وهذا الضابط أو هذا الشرط جوهري إلى أبعد الحدود، فانتزاع الملكية رغما عن إرادة المالك غير جائز أبدًا , اللهم إلا في حالة واحدة. وهي ما إذا تأكد ولي الأمر من ضرورة تحقيق النفع العام عن طريق المساس بملك أحد الأشخاص. وإذن فلابد من توفر هذا الشرط حتى لا تنطلق يد السلطة في أموال العباد بحجة المنفعة العامة , بحيث تنعدم كل الوسائل الأخرى لتحقيق النفع العام إلا عن هذا الطريق. فإذا كانت هنالك وسيلة أخرى تحقق مصلحة المجتمع بدون المساس بحقوق العباد , فهنا لا يصح أبدًا التعرض لما يملك الناس، حيث يكون هذا التعرض خروجًا على أحكام الله تعالى ومخالفة وعصيانًا لبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بين لنا أن الأموال محرمة إلى أن تقوم الساعة (1) الضابط الثاني: التعويض العادل: إذا توفر الضابط الأول وبات من المؤكد أن مصلحة المجتمع لا يمكن أن توجد إلا عن طريق المساس بملك أحد الأفراد , فهنا يتعين على الدولة أن تدفع للمالك قيمة ملكه كاملًا بالتقدير المرضي لصاحب الشأن. الذي ينبغي عليه أن يقبل هذا التعويض نظير التنازل عن ملكه بنفس راضية تحقيقًا لمصلحة المجتمع؛ لأن المال في المبدأ والانتهاء هو مال الله تعالى، وينبغي أن يسخر لخدمة عباد الله. ولذلك فلا يصح لصاحب المال أن يرفض التعويض (2) المعروض عليه من الدولة ما دام كافيًا ومرضيا إذ الرفض في هذه الحالة يعتبر تعنتًا يبيح لولي الأمر انتزاع الملكية رغم إرادة المالك في إطار التعويض الوافي كما قلنا.   (1) مبادئ الفقه الإسلامي: للدكتور يوسف قاسم، ص 299. (2) والمقصود هنا: الرفض لعدم كفاية التعويض. أما لو تبرع بأرضه لله تعالى دون مقابل ورفض أخذ التعويض ابتغاء وجه الله تعالى , فهذا لا كلام فيه هو الذي ينبغي أن يكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 691 أما إن عرضت الدولة تعويضًا أقل من القيمة الأصلية للشيء المملوك، ورفض المالك التنازل عن ملكه بأن رفضه , هنا يكون مبررًا على أساس ما قد يلحقه من ضرر أو ظلم في تقدير ملكه , فإن انتزعت الدولة الملكية على هذه الصورة يكون عملها ظلما حرمه الله على نفسه , وجعله بين عباده محرمًا. وكفى بالظلم إثما مبينًا يستوجب العذاب في الدنيا والآخرة. وأبسط صور عذاب الدنيا نزع البركة من المشروع الذي يقوم على الظلم وأكل أموال الناس بالباطل (1) على أن رحمة الله قريب من المحسنين حيث يرتفع الإثم برفع التعويض إلى حدود القيمة الحقيقية التي ترضي صاحب الشأن (2) وقد سبق أن تكلمنا في المبحث السابق عن المصدر الشرعي لهذا الحكم وهو عمل الصحابة رضوان الله عليهم بل وإجماعهم على توسعة المسجد الحرام مرتين، الأولى في عهد عمر، والثانية في عهد عثمان رضي الله عنهما. ملحوظة هامة: وهنا ينبغي التنبيه إلى بعض العبارات التي وردت على إطلاقها في عبارات الفقهاء , حيث قالوا: مثل المسجد والمقبرة. وهنا نقول: إن الإطلاق غير مقصود أبدًا، فليس المراد كل مسجد أو كل مقبرة ونحوهما، بل المسجد الذي لا يمكن أن يوجد له بديل أو مكان في منطقة مماثلة. إذ لا نتصور أن تنشأ في قرية أو مدينة عادية ضرورة ملحة في ضم أرض مجاورة إلى مسجد، حيث يمكن إنشاء مسجد آخر في مكان آخر من البلدة دون اعتداء على حقوق العباد. وما هكذا المسجد الحرام في مكة المكرمة ولا المسجد النبوي في المدينة المنورة.   (1) مبادئ الفقه، ص 300. (2) والخاضعة لتقدير القضاء كما سيأتي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 692 ولهذا فقد كان التعليق من بعض الفقهاء تعليقًا في غاية التوفيق حين قال رحمه الله: "ولعل الأخذ كرهًا ليس في كل مسجد ضاق، بل الظاهر أن يختص بما إذا لم يكن في البلد مسجد آخر، إذ لو كان فيه مسجد آخر لأمكن دفع الضرورة بالذهاب إليه. نعم فيه حرج , لكن الأخذ كرهًا أشد حرجًا منه , ويؤيد ما ذكرنا فعل الصحابة , إذ لا مسجد في مكة سوى المسجد الحرام (1) والحكم واحد في نظري، والله أعلم، فيما لو تمكن إنشاء مسجد آخر في مكان آخر من البلدة أو القرية وهو يدفع ضرورة التوسع دون حاجة إلى ظلم بعض الأفراد , فالله غني عن العالمين، ولا يتصور أن تتقرب السلطة إلى الله رب العالمين بتوسعة مسجد عادي على حساب عباد الله. نعم يمكننا أن نضرب مثلًا بالكلية التي تضيق بطلابها فتحتاج إلى مدرج أو إلى معمل آخر بجانب المعمل الأصلي نزولًا على ضرورات التقدم العلمي وليس هنالك مجال إلا إلى الأرض المجاورة المملوكة لأحد الأفراد، حيث لا يمكن نقل الكلية، كما لا يتصور أن تكون الكلية في طرف المدينة وأحد مدرجاتها أو معاملها في الطرف الآخر، في مثل هذه الظروف تكون الإدارة مضطرة إلى توسعة الكلية ولو على حساب مالك الأرض المجاورة الذي له حقه الكامل في التعويض العادل، الذي ينبغي أن يتولى القضاء تقديره على نحو ما نبينه في الفقرة التالية:   (1) من عبارة ابن عابدين المشار إليها في هامش (1) ص 11 من هذا البحث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 693 الضابط الثالث: عرض الأمر على القضاء ذكرنا تحت الضابط الأول أنه لا بد من التأكد من أن هذا المال المملوك للغير لازم بالضرورة لتحقيق مصالح العباد , وأنه الوحيد المتعين لذلك. كما ذكرنا الضابط الثاني وهو لزوم التعويض العادل لصاحب الحق وتقدير هذين الأمرين ينبغي أن تقوم به سلطة محايدة حتى تتحقق العدالة الكاملة من هذين الوجهين. والسلطة المحايدة هي من غير شك السلطة القضائية. لكل ما تقدم أرى - والله أعلم - أنه يجب على ولي الأمر قبل أن يقدم على هذا الإجراء - انتزاع الملكية للمنفعة العامة - أن يعرض الأمر على القضاء لينظر في الأمر من جميع جوانبه وعلى الأخص من الجوانب الثلاثة الآتية. الأول: مدى أهمية المنفعة العامة المراد تحقيقها للمجتمع. فإذا ثبت أمام القضاء أنها غير ضرورية , فلا يصح التضحية بملك الأفراد، أو انتهاك حقوق العباد من أجل منفعة غير ضرورية. وقد تكون المنفعة ضرورية , وتثبت أهميتها القصوى , ويثبت لزومها للعباد , ويتأكد القضاء من ذلك. غير أنه لا بد من التأكد من جانب آخر وهو الجانب الثاني. الجانب الثاني: مدى لزوم ملك الغير لتحقيق المنفعة العامة. لا يجوز اتخاذ مثل هذا الإجراء حتى عندما يتأكد القضاء من لزوم هذه المنفعة وضرورتها للعباد، إذ قد يثبت ذلك فعلا. ولكن قد تكون هنالك وسائل أخرى لتحقيق هذه المنفعة العامة بدون المساس بحقوق العباد، وهنا يكون انتزاع الملكية محرمًا؛ لأنه غير لازم حيث وجد البديل الذي لا مساس فيه بحق الغير , فيكون هذا الانتزاع ظلما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 694 ولذلك كانت أهمية عرض الأمر على القضاء للتأكد من انتفاء كل البدائل أو كل الوسائل الأخرى، وصار من المتعين تحقيق هذه المنفعة عن طريق هذا المال المملوك لفرد من الأفراد. فإذا ما ثبت لزوم المنفعة ولزوم ملك الغير لتحقيقها - وهذا كله لا يكون إلا أمام السلطة القضائية - وعند ذلك يجب النظر القضائي في الجانب الثالث. الجانب الثالث: مدى عدالة التعويض: ولا شك أن هذا الجانب هو المرحلة النهائية لإحقاق الحق والبعد عن الظلم. وليس هنالك أقدر من السلطة القضائية على تحقيق هذا الجانب الهام؛ لأن ولي الأمر من أعضاء السلطة التنفيذية مهما كان تدينهم وورعهم , إلا أنهم في الحقيقة إنما يحكمون أو يقدرون التعويض على أنفسهم لغيرهم. وهذا مما قد يتنافى مع الحياد الكامل، فكان من الواجب أن تقوم السلطة القضائية بتقدير هذا التعويض من حيث عدالته وجبر كل الأضرار التي قد تمس صاحب الحق من اتخاذ هذا الإجراء , وهو انتزاع الملكية للمنفعة العامة. وقد سعدت كثيرًا عندما قرأت عبارة ابن عابدين رحمه الله: "زاد في البحر عن الخانية: بأمر القاضي، (1) وبناء عليه فلم يكن إذن اقتراح أن يعرض الأمر على القضاء مجرد فكر معاصر يخشى من ظلم بعض الجهات واستبدادها بحقوق العباد , وإنما لهذا الشرط أصل فقهي ثبت عن علماء الشريعة رحمهم الله تعالى. مما يدعو إلى زيادة الاطمئنان. والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أ. د: يوسف محمود قاسم   (1) حاشية ابن عابدين،ج4، ص 379. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 695 نزع الملكية الخاصة للمنفعة العامة إعداد الدكتور عبد السلام العبادي ممثل المملكة الأردنية الهاشمية في المجمع ونائب رئيس المجمع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلامًا عل رسوله الكريم وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين , وبعد: 1- فهذه دراسة مكثفة حول موقف الشريعة الإسلامية من موضوع "نزع الملكية الخاصة للمنفعة العامة (1) أعتمد فيها بصفة أساسية على الدراسة التفصيلية التي كنت قدمتها عن هذا الموضوع وغيره في رسالتي للحصول على الدكتوراة سنة 1392 هـ الموافق سنة 1972م والتي طبعت في ثلاثة أجزاء بعنوان: (الملكية في الشريعة الإسلامية طبيعتها ووظيفتها وقيودها ودراسة مقارنة بالقوانين والنظم الدينية) . 2 - والواقع أن هذا الموضوع على جانب كبير من الأهمية لأسباب عديدة منها: أ- أنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقضية الملكية والموقف منها وهي أمر اختلفت فيه النظم والقوانين اختلافًا واسعًا. ب - يتداخل هذا الموضوع في الدراسات المعاصرة مع موضوع التأميم , وهو من التأميم , وهو من القضايا الاقتصادية التي كانت محل اختلاف واسع. ج - باتت الحاجة ملحة في هذه الأيام للجوء إلى نزع الملكية للمنفعة العامة أمام توسع العناية بالمرافق العامة وضرورة تنظيم المدن ونمو وسائل المواصلات وغيرها. ونعرض في هذه الدراسة الموجزة لموضوع نزع الملكية للمنفعة العامة من جوانب: الأول: حرص الشريعة الإسلامية على حماية الملكية الخاصة. الثاني: التملك القهري ومدى معرفة الشريعة الإسلامية له (حالات نزع الملكية الخاصة في الشريعة) .   (1) نشر مكتبة الأقصى , عمان – الأردن سنة 1394 هـ الموافق 1974 م الجزء: 4 ¦ الصفحة: 696 الثالث: حكم نزع الملكية للمنفعة العامة والضوابط التي قررها الفقهاء لذلك. أولا: حرص الشريعة الإسلامية على حماية الملكية الخاصة: أ. اهتمت الشريعة الإسلامية بالملكية الخاصة ووضعت القواعد الكفيلة بحمايتها ومنع الاعتداء عليها لتؤدي دورها الفاعل في المجتمع الإنساني. والأدلة على مشروعية الملكية الخاصة في الشريعة الإسلامية من الكتاب والسنة النبوية الشريفة كثيرة ومتعددة بما يدل على معارضة الإسلام التامة لإلغاء الملكية (1) قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وقال سبحانه: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} (3) وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عدد من الصحابة بألفاظ متقاربة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا في شهركم هذا. .)) . وأخرج مسلم وأحمد وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((:كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) .   (1) انظر في استعراض هذه الأدلة الملكية في الشريعة الإسلامية د. عبد السلام العبادي ج 1 ص 396 – 403 (2) الأنعام: 152. (3) النساء:7. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 697 وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة وغيره بألفاظ متقاربة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قالها , فقد عصم مني ماله ودمه ونفسه، إلا بحقه وحسابه على الله)) . وإن في تحريم الإسلام للسرقة والغصب، وإيجاب رد المال لصاحبه، ومعاقبة السارق بالحد، والغاصب بالتعزير، ما يدل على حماية الإسلام التامة للملكية الخاصة وتحريمها لأي اعتداء عليها. يقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) ويقول صلى الله عليه وسلم، فيما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ متقاربة عن عائشة وأبي هريرة وغيرهما: ((من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين)) . ويقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأصحاب السنن والحاكم وغيرهم عن سمرة بن جندب: ((: على اليد ما أخذت حتى تؤديه)) . ويقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم ومالك والنسائي وابن ماجه وغيرهم بألفاظ متقاربة , عن عبد الله بن مسعود وأبي أمامة الحارثي: ((: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه , فقد أوجب الله له النار , وحرم عليه الجنة. فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك)) . قالها ثلاث مرات. وعند البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود بلفظ: ((: من حلف يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)) .   (1) المائدة: 38. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 698 ويقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو داود وابن حبان والترمذي عن عبد الله بن السائب بن يزيد , عن أبيه , عن جده: ((: لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعبا ولا جادا , ومن أخذ عصا أخيه , فليردها)) . بل قد قرر الإسلام من قتل وهو يدافع عن ماله فهو شهيد , فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمجاهد فيما أخرجه البخاري وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن حبان وابن ماجه وغيرهم: ((: من قتل دون ماله فهو شهيد)) . وبعد ذكر هذا العدد من الأدلة، نستطيع القول بأن إقرار الإسلام للملكية الخاصة أمر ليس فيه أدنى شبهة أو ريبة، فهو مما يصح أن يقال فيه: إنه مما يعلم من الدين بالضرورة (1) وقد وضعت الشريعة مبدأ ضمان الأموال المتلفة لأصحابها، ومبدأ تحريم أكل الأموال بالباطل، كما تعددت النصوص التي تقرر أن الأساس في انتقال ملك الإنسان إنما هو رضاه: إما على سبيل التجارة وتبادل الأموال , وإما على سبيل الهبة والإعطاء , ففي كل الأحوال لا بد من الرضا وطيب النفس والاختيار. يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} استثناء منقطع، والمعنى: ولكن إذا كانت تجارة عن تراض منكم، فإنها لا تدخل في النهي السابق. ويقول سبحانه: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (3) فالأساس هو طيب النفس والإعطاء عن طواعية واختيار.   (1) انظر تخريج الأحاديث، المرجع السابق في المواضيع السابقة. (2) النساء: 29. (3) النساء: 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 699 وأخرج البيهقي وابن ماجه وابن حبان عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما البيع عن تراض)) . وفي زوائد ابن ماجه للبوصيري (إسناده صحيح ورجاله موثقون، ورواه ابن حبان في صحيحه) وهو عند البيهقي بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ألفين الله عز وجل من قبل أن أعطي أحدا من مال أحد شيئا بغير طيب نفسه، إنما البيع عن تراض)) (1) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي والدارقطني والبزار وابن حبان بألفاظ متقاربة , عن أبي حميد الساعدي وابن عباس وابن عمر وأبي حرة الرقاشي وغيرهم: ((: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)) . (2) وقد نص الفقهاء على أن التملك القهري خلاف مقتضى الملك. . (3) ، ويقول صديق حسن خان في كتابه إكليل الكرامة: (وقد ثبت بالقطع الذي لا يخالف فيه مسلم أن أصل أموال العباد التحريم، وأن المالك للشيء مسلط عليه يحكم فيه، ليس لغيره فيه إقدام ولا إحجام إلا بدليل يدل على ذلك كالحقوق الواجبة في الأموال. . فمن ادعى أنه يحل له أخذ مال أحد من عباد الله ليضعه في طريق من طرق الخير وفي سبيل من سبل الرشد , لم يقبل منه إلا بدليل يدل على ذلك بخصوصه ولا يفيده أنه يريد وضعه في موضع حسن، وصرفه في مصرف صالح، فإن ذلك ليس إليه بعد أن صار المال ملكًا لمالكه، وهذا لا يخفى على أحد ممن له أدنى علم بهذه الشريعة المطهرة، وبما ورد في الكتاب والسنة) (4) .   (1) سنن البيهقي جـ 6 ص 17، الفتح الكبير: جـ 1 ص 435، سنن ابن ماجة: جـ 2 ص 737. (2) سنن البيهقي: جـ6 ص 97 - 10، جـ9 ص 358، مجمع الزوائد: ج4 ص 171، الزواجر لابن حجر: جـ1 ص 212، سبل السلام - الطبعة المنيرية: جـ3 ص 82، الفتح الكبير: جـ3 ص 359 سنن الدارقطنى: جـ1 ص 26. (3) طريقة الخلاف القاضي حسين: و200 ب. (4) إكليل الكرامة: ص 198. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 700 وقال الشافعي: (لا يزول ملك المالك إلا أن يشاء، ولا يملك رجل شيئًا إلا أن يشاء إلا في الميراث. . قال الله عز وجل: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) فلم أعلم أحدًا من المسلمين خالف في أنه لا يكون عل أحد أن يملك شيئًا إلا أن يشاء أن يملكه إلا الميراث، فإن الله عز وجل نقل ملك الأحياء إذا ماتوا إلى من ورثهم إياه شاؤوا أو أبوا ألا ترى أن الرجل لو أوصي له، أو وهب له أو تصدق عليه، أو ملك شيئًا لم يكن عليه أن يملكه إلا أن يشاء. (ولم أعلم أحدًا من المسلمين اختلفوا في أن لا يخرج ملك المالك المسلم من يديه إلا بإخراجه إياه هو نفسه، ببيع أو هبة أو غير ذلك، أو عتق أو دين في ذمة , فيباع في ماله، وكل هذا فعله , لا فعل غيره) (3) ويقول صاحب إكليل الكرامة: "وسأضرب لك ههنا مثلًا يزيدك فائدة ويوضح لك ما ذكرناه، وهو أن رجلًا لو كان له مال كثير، وقد أخرج زكاته الواجبة عليه، وفعل ما يجب عليه، فقال من له سلطان: لا عذر لهذا الرجل الغني الكثير المال من إخراج بعض ماله يصرف في فقراء المسلمين، وفي محاويج العباد. . مستدلا على ذلك بما تقدم من الآيات التي ذكر فيها الأمر بالإنفاق، والترغيب فيه، قائلًا: هذا الإنفاق من جملة ما يدخل تحت هذه الآيات، وتصدق عليه (4) ثم تسأل: هل هذا الذي فعله وأمر به صواب أم خطأ وظلم وتصرف في مال غيره بما لم يأذن الله به؟ ثم قرر إجابة على هذا السؤال أن تصويب فعله مخالفة لإجماع المسلمين وتجويز لما لم يجوزه أحد من سلف هذه الأمة وخلفها. وواضح أن في هذا الكلام ردا على ما أخذنا نسمعه في هذه الأيام من تبرير لنزع أموال الناس بدون حق أنها ستنفق في مصالح الأمة، مع أنه ليس في هذا التصرف إلا الإضرار بالناس، وضياع أموالهم وحقوقهم وفساد أحوالهم العامة والخاصة.   (1) النساء: 29. (2) البقرة: 275 (3) الأم: جـ3 ص 218 - 219. (4) إكليل الكرامة: ص 118. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 701 هذا وقد أنيط بقضاء المظالم مراقبة الولاة والعمال لمنعهم من أن يجوروا على الناس ويغصبوا أموالهم ويعتدوا على حقوقهم , وقد أوضح الفقهاء ذلك عند حديثهم عن قضاء المظالم وما يناط به من وظائف خاصة ما يتعلق بإعادة الأموال المغصوبة عن هذا الطريق لأصحابها، فالماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) يبين الأمور التي يختص بالنظر فيها والي المظالم، ويذكر منها: 1 - جور العمال فيما يجبونه من الأموال وأساس معرفة ذلك كما يقرر الماوردي القوانين العادلة في دواوين الأئمة فيحمل والي المظالم الناس عليها , ويأخذ العمال بها , وينظر فيما استزادوه عما هو مطلوب من الناس، فإن رفعوه إلى بيت المال , أمر برده , وإن أخذوه لأنفسهم استرجعه لأربابه (1) وذكر الماوردي أن هذا الأمر من جملة ما يختص به والي المظالم ولو لم يتظلم منه أحد. 2 - رد الغصوب، وقد بين أنها ضربان: الضرب الأول: غصوب سلطانية قد تغلب عليها ولاة الجور، كالأملاك المقبوضة عن أربابها، إما لرغبة فيها , وإما لتعد على أهلها، فهذا إن علم به والي المظالم عند تصفح الأمور , أمر برده قبل التظلم، وإن لم يعلم به , فهو موقوف على تظلم أربابه. الضرب الثاني: ما تغلب عليها ذوو الأيدي القوية، وتصرفوا فيه تصرف الملاك بالقهر والغلبة , فهذا موقوف على تظلم أربابه، ولا ينزع من يد غاصبه إلا بأحد أمور أربعة: الأول: اعتراف الغاصب وإقراره. الثاني: علم والي المظالم , فيجوز له أن يحكم على الغاصب بعلمه. الثالث: بينة تشهد على الغاصب بغصبه , أو تشهد على المغصوب منه بملكه. الرابع: تظاهر الأخبار الذي ينفي عنها التواطؤ (2)   (1) الأحكام السلطانية للماوردي، ص 80. (2) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 81 - 82 وانظر الأحكام السلطانية - أبو يعلى/ ص 76 - 78. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 702 ويظهر من كلام الماوردي وغيره من الفقهاء في هذا المجال أن قضاء المظالم يملك سلطات واسعة في مراقبة سلوك الحكام وأصحاب الجاه والنفوذ في تعاملهم مع الرعية، وذلك من أجل حمايتهم من كل أنواع الظلم وصنوف العدوان. هذا وقد بين الدكتور عبد الحميد الرفاعي في محاضراته في الحقوق الإدارية أن قضاء المظالم قد سبق بأشواط ما عليه القضاء الإداري اليوم في مراقبة تصرفات الدولة وذوي الجاه والسلطان: إن في تنظيماته، أو اختصاصاته أو أقضيته (1) وقد تعرض الغزالي في كتابه (شفاء الغليل) إلى أنه لا يجوز للإمام مصادرة أموال المسرفين، ووضعها في بيت المال، وأوضح أن هذه المسألة لا يمكن أن تقاس على مسألة جواز توظيف ضرائب جديدة على أموال الناس إذا توافرت شروط جوازه، فقال: (فإن قال قائل:إذا رأى الإمام جمعا من الأغنياء يسرفون في الأموال ويبذرون ويصرفونها إلى وجوه من الترفه والتنعم وضروب من الفساد، فلو رأى المصلحة في معاقبتهم بأخذ شيء من أموالهم، ورده إلى بيت المال , وصرفه إلى وجوه المصالح، فهل له ذلك؟ (قلنا: لا وجه له، فإن ذلك عقوبة بتنقيص الملك وأخذ المال، والشرع لم يشرع المصادرة في الأموال عقوبة على جناية، مع كثرة الجنايات والعقوبات، وهذا إبداع أمر غريب لا عهد به، وليست المصلحة فيه متعينة، فإن العقوبات والتعزيرات مشروعة بإزاء الجنايات , وفيها تمام الزجر , فأما المعاقبة بالمصادرة , فليس من الشرع، وليس هذا كالمثال السابق - يقصد جواز توظيف ضرائب جديدة على أصحاب الأموال، فإن الأموال مأخوذة بطريق إيجاب الإنفاق منهم على جند الإسلام، لحماية مصلحة الدين والدنيا , لا بطريق العقاب ... ومسالك الإنفاق والإرفاق مقيدة من الشرع، أما المعاقبة بالمصادرة , فليس مشروعًا , والزجر حاصل بالطرق المشروعة , فلا يعدل عنها مع مكان الوقوف عليها. ثم قال: فإنه قيل: روي أن عمر رضي الله عنه شاطر خالد بن الوليد على ماله حتى أخذ رسوله فردة نعله، وشطر عمامته.   (1) انظر محاضرات في الحقوق الإدارية - د. عبد الحميد الرفاعي: ص 34 - 35. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 703 (قلنا: والمظنون بعمر رضي الله عنه أنه لم يبدع العقاب بأخذ المال على خلاف المألوف من الشرع، وإنما ذلك لعلمه باختلاط ماله بالأموال المستفادة من الولاية , فلعله خمن الأمر فرأى شطر ماله من فوائد الولاية وثمراتها، فيكون ذلك كالاسترجاع للحق بالرد إلى نصابه , فأما أخذ المال المستخلص للرجل عقابًا على جناية , شرع الشرع فيها عقوبات سوى أخذ المال , فهو مصلحة غريبة لا تلائم قواعد الشرع , وقد ذهب إلى تجويز ذلك ذاهبون، ولا وجه له) (1) ثم إن العلماء قد بينوا أن مصادرة الأموال، وتقييد حرية الناس في الاكتساب والتحصيل يقتل روح العمل، ويؤدي إلى تكاسل الناس، وعدم انطلاقهم إلى الإبداع والإنتاج، ومن ثم تأخر المجتمع، واختلال أحواله، وفساد أوضاعه , وقد عقد ابن خلدون في مقدمته فصلًا في أن الظلم مؤذن بخراب العمران، أوضح فيه خطورة التعدي على أموال الناس، وآثاره على الأفراد والجماعات، بتحليل رائع وبيان مشرق , فليراجع هناك. ثانيًا: أجازت الشريعة الإسلامية نزع الملكية الفردية من صاحبها في صور متعددة عندما تدعو الضرورة إليه، وذاك إما مراعاة لمصلحة فردية أخرى أولى بالاعتبار من مصلحة المالك، وإما مراعاة لمصلحة عامة (2) أولًا: الصور التي أجازت الشريعة فيها نزع الملكية مراعاة لمصلحة فردية أخرى أولى بالاعتبار من مصلحة المالك   (1) انظر شفاء الغليل: ص 343 - 345 وانظر مباحث التعليل - الكبيسي: ص 133. (2) أحكام المعاملات الشرعية - الشيخ علي الخفيف: ص 106 - 109، المعاملات الشرعية المالية، أحمد إبراهيم: ص 72 - 73، الملكية ونظرية العقد - أبو زهرة، ص 143 - 145 الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي، د. النبهان ص 187 - 189. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 704 قد تتعارض المصالح الخاصة ببعضها مع بعض , فتقدم الشريعة أولى المصلحتين بالاعتبار , وانطلاقًا من هذا المبدأ , أجازت الشريعة نزع الملكية الفردية مراعاة لمصلحة فردية جديرة بالعناية والاعتبار، وذلك في صور متعددة منها: أ- الشفعة الشفعة صورة من صور نزع الملكية جبرًا على صاحبها، رعاية لمصلحة فردية أخرى أولى من مصلحة المالك. وقد اختلفت تعريفات الفقهاء للشفعة نتيجة اختلاف مذاهبهم فيها: فعرفها المالكية بأنها: استحقاق شريك أخذ مبيع شريكه بثمنه، أو هي طلب الشريك بحق أخذ مبيع شريكه بثمنه (1) وعرفها الحنفية بأنها: تملك البقعة جبرًا بما قام على المشتري بالشركة والجوار (2) وعرفها الشافعية بأنها: تملك قهري يثبت للشريك القديم على الشريك الحادث فيما ملك بعوض (3) وعرفها الحنابلة بأنها: استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه من يد من انتقلت إليه إن كان مثله أو دونه بعوض مالي بثمنه الذي استقر عليه العقد (4) ويلاحظ هنا أن تعاريف المالكية والشافعية والحنبلية تعاريف متقاربة، لاتفاق مذاهبهم في سبب الشفعة , أما تعريف الحنفية فيختلف؛ لأنهم يخالفون في سبب الشفعة كما يظهر في الفقرة التالية:   (1) شرح حدود ابن عرفة: ص356. (2) التعريفات – الجرجاني، ص 112 وانظر عقود الجواهر المنيفة: جـ2 ص88 (3) حاشية الباجوري: جـ2 ص15 حاشية قليوبي: جـ3 ص 42. (4) كشاف القناع: جـ2 ص375 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 705 وقد تعددت مذاهب الفقهاء في الشفعة واختلفوا فيها على عدة أمور أهمها: أولًا: مدى الأخذ بالشفعة: أ- فذهب أبو بكر الأصم وابن علية إلى عدم ثبوت الشفعة بحال. ونقل هذا عن جابر بن زيد من التابعين. ب - وذهب جمهور الفقهاء (الشافعية والمالكية والحنبلية والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور (إلى ثبوت الشفعة للشريك في الملك فقط. وذلك فيما يقبل القسمة. ج - وذهب الحنفية والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة إلى ثبوتها للشريك في الملك ثم للشريك في حقوقه ثم للجار الملاصق. د - وذهب فقهاء البصرة وعبد الله العنبري إلى ثبوتها بالشركة في الملك، ثم بالشركة في حقوقه , والواقع أن سبب ثبوت الشفعة هو الاتصال بين العقار المبيع وعقار الشفيع. والفقهاء متفقون على ذلك، ولكنهم مختلفون في شموله لكل صور الاتصال، أم أنه قاصر على بعضها. . وصور الاتصال ثلاث: 1- اتصال شركة على الشيوع بين العقارين. 2 - اتصال شركة في حقوق الارتفاق. 3 - اتصال مجاورة. وقد رجح ابن القيم ثبوتها بالجوار , بالإضافة إلى ثبوتها بشركة الملك، وذلك إذا كان بين الجارين حق مشترك من حقوق الأملاك، من طريق أو ماء أو نحو ذلك، وإذا لم يكن بينهما حق مشترك البتة، فلا شفعة (1) .   (1) إعلام الموقعين: جـ2 ص 130 - 131. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 706 وقال: (والقياس الصحيح يقتضي هذا القول، فإن الاشتراك في حقوق الملك شقيق الاشتراك في الملك، والضرر الحاصل بالشركة فيها كالضرر الحاصل بالشركة في الملك أو أقرب إليه , ورفعه مصلحة للشريك من غير مضرة على البائع ولا على المشترى) (1) ثانيًا: فيما تثبت فيه الشفعة من الأشياء: أ- ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الشفعة تثبت في العقار، ولا تثبت في غيره. ب - وذهب الظاهرية، وفي رواية عن الإمام أحمد. . إلى ثبوتها في كل شيء، سواء كان عقارًا أم منقولًا , وقد رجح هذا المذهب ابن القيم (2) والشيخ إبراهيم الدسوقي الشهاوي (3) ثالثًا: نوعية الضرر المراد دفعه بها: اتفق الفقهاء على أن الشفعة قد شرعت لدفع الضرر عن الشفيع، واختلفوا في نوعية هذا الضرر: أ- فذهب جمهور الفقهاء إلى أن الضرر المراد دفعه هو ضرر مؤنة القسمة، من الكلفة ودفع أجرة القسام، والضيق في المنزل، واستحداث المرافق في حصته بعد القسمة. ب - وذهب الحنفية إلى أن الضرر الذي قصد الشارع دفعه هو ضرر سوء الجوار، والشركة في العقار والأرض، فالجار قد يسيء الجوار، ويؤذي جاره بأنواع مختلفة من الأذى، لذلك رتب الشارع حقوقا كثيرة بين الجيران , فهي قد وجبت لدفع الضرر وسوء العشرة الدائم الذي قد يلحق الشفيع من المشتري (4)   (1) إعلام الموقعين: جـ2 ص 131 - 132. (2) إعلام الموقعين:ج2 ص 121، 123 - 124. (3) المذاهب الفقهية في الرهن والشفعة: ص 63. (4) انظر في مذاهب العلماء في الشفعة وأدلتهم: المراجع والمصادر المشار إليها في الملكية في الشريعة الإسلامية جزء (2) ص 171. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 707 وقد استدل الذين خالفوا في مشروعية الشفعة بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) وبقوله صلى الله عليه وسلم ((: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)) (2) . ورد هذا الاستدلال بأن الشفعة قد ثبتت بعدد كبير من الأحاديث النبوية، فلا مجال للاجتهاد والقول بالرأي أمام النصوص الثابتة. وقد رفض السرخسي في المبسوط مجرد القول بأن الشفعة ثابتة على خلاف القياس، فقال: (وزعم بعض أصحابنا رحمهم الله أن القياس يأبى ثبوت حق الشفعة؛ لأنه يتملك على المشتري ملكا صحيحًا له بغير رضاه، وذلك لا يجوز، فإنه نوع من الأكل بالباطل، وتأيد هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)) . ولأنه بالأخذ يدفع الضرر عن نفسه على وجه يلحق الضرر بالمشتري في إبطال ملكه عليه، وليس لأحد أن يدفع الضرر عن نفسه بالإضرار بغيره , ولكننا نقول: تركنا هذا القياس بالأخبار المشهورة في الباب. (والأصح أن نقول: إن الشفعة أصل في الشرع، فلا يجوز أن يقال: إنه مستحسن من القياس، بل هو ثابت، وقد دلت على ثبوته الأحاديث المشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضوان الله عليهم (3) . وبين ابن القيم في (إعلام الموقعين) أن مشروعية الشفعة أصل من الأصول المقررة في الشريعة، فقال: (من محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد ورودها بالشفعة، ولا يليق بها غير ذلك، فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن، فإن لم يكن رفعه إلا بضرر أعظم منه بقاه على حاله، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به , ولما كانت الشركة تنشئ الضرر في الغالب، فإن الخلطاء يكثر فيهم بغي بعضهم على بعض، شرع الله سبحانه وتعالى رفع هذا بالقسمة تارة، وانفراد كل من الشريكين بنصيبه. وبالشفعة تارة، وانفراد أحد الشريكين بالجملة، فإذا لم يكن على الآخر ضرر في ذلك، فإذا أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه , كان شريكه أحق بدفع العوض من الأجنبي.   (1) النساء: 29. (2) في تخريجه: انظر القسم الثاني من الملكية: ص 167. (3) المبسوط: جـ 14 ص 90 وقارن الملكية ونظرية العقد لأبي زهرة: ص 145، حيث بين أن الفقهاء قد قرروا أن الشفعة تثبت على خلاف الأصل والقياس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 708 ويزول عنه ضرر الشركة، ولا يتضرر البائع، لأنه يصل إلى حقه من الثمن، وكان هذا أعظم العدل، وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد. ومن هنا يعلم أن التحيل لإسقاط الشفعة مناقض لهذا المعنى الذي قصده الشارع ومضاد له) (1) قال في مكان آخر: (قال المنبثق للشفعة: إنما كان الأصل عدم انتزاع ملك الإنسان منه إلا برضاه , لما فيه من الظلم له والإضرار به. فأما ما لا يتضمن ظلما ولا إضرارًا، بل مصلحة له بإعطائه الثمن، فلشريكه دفع ضرر الشركة عنه. . فليس الأصل عدمه، بل هو مقتضى أصول الشريعة، فإن أصول الشريعة توجب المعاوضة للحاجة والمصلحة الراجحة، وإن لم يرض صاحب المال. وترك معاوضته هنا لشريكه مع كونه قاصدا للبيع ظلم منه وإضرار بشريكه، فلا يمكنه الشارع منه , بل من تأمل مصادر الشريعة ومواردها تبين له أن الشارع لا يمكن هذا الشريك من نقل نصيبه إلى غير شريكه، وأن يلحق به الضرر مثل ما كان عليه، أو أزيد منه، مع أنه لا مصلحه له في ذلك (2) ويقول الأستاذ الشيخ إبراهيم الشهاوي: (فحرية الحصول على الأموال والتعاقد عليه ليست مطلقة، بل هي مقيدة بقيود تمنع الضرر بالغير، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) . على أنه لا ضرر في الأخذ بالشفعة على الأجنبي؛ لأنه سيحصل على ما دفعه ثمنًا لما اشتراه , وكل ما في الأمر أن الصفقة أخذت منه، فحاله بعد أخذ الصفقة هوحاله قبل أخذها. (ولو سلمنا أن في أخذها منه ضررًا، فإن ضرر الشفيع أعظم بالتضييق عليه والظهور على عوراته , ورفع أعظم الضررين واجب، ولذلك جاءت الأحاديث متضافرة على ثبوت الشفعة، وأنها حق للشريك أو الجار إذا طلبها , فكانت مخصصة للعموم في حديث: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه)) (3) وهكذا يظهر أن الشفعة قيد يحد من حرية المالك في نقل أمواله عنه قررته الشريعة , لما يترتب عليه من مصالح معتبرة، وفي ذلك توضيح؛ لأن أصول الشريعة توجب المعاوضة للحاجة أو المصلحة الراجحة، وإن لم يرض صاحب المال. كما ذكر ابن القيم في قوله السابق. ب - الحجر على المدين وبيع أمواله جبرًا عنه وفاء لديونه:   (1) إعلام الموقعين: جـ2 ص 120. (2) إعلام الموقعين: ج1 ص 123. (3) المذاهب الفقهية والشفعة: في الرهن ص 11. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 709 قد تستغرق الديون أموال المدين وتحيط به، ويصبح الدائنون مهددين بضياع ديونهم إذا قام المدين بالتصرف في أمواله تصرفًا يضر بهم , فهل يجب على الحاكم الحجر عليه ومنعه من التصرف إذا طلب الدائنون ذلك حفظًا لديونهم؟ وهل له أن يبيع أمواله إذا امتنع عن بيعها ليسدد ديونه ويقسمها بين غرمائه بالحصص؟ اختلف الفقهاء في ذلك (1) 1- فذهب جمهور الفقهاء (المالكية، والشافعية، والحنبلية، وأبو يوسف ومحمد من الحنفية) إلى وجوب ذلك على الحاكم إذا كانت الديون مستغرقة لأموال المدين، وطلب غرماؤه الحجر عليه. وأما بيع أموال المدين الممتنع عن السداد، فللحاكم ذلك، سواء أكانت الديون مستغرقة لأموال المدين، أم لم تكن مستغرقة لها. 2 - وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يحجر على المدين بحال، كما أنه لا يجوز أن يبيع الحاكم أمواله عليه لوفاء ديونه، بل يحبسه حتى يقضي ديونه , فلا يجوز عنده بيع المال على حر رشيد. ولست هنا بصدد الحديث عن تفصيلات الحجر على المدين، إنما يهمني الإشارة إلى نقطتين: الأولى: أن الشريعة أجازت الحجر على المدين لمنعه من التصرف في أمواله حفظًا لحق دائنيه , وعلى خلاف بين الفقهاء. الثانية: أن الشريعة أجازت نزع مال المدين، وبيعه عليه لسداد ديونه على خلاف بين الفقهاء (2) هذا وقد استدل أبو حنيفة لما ذهب إليه بعدد من الأدلة منها:   (1) انظر في مراجع ذلك ومصادره الملكية في الشريعة الإسلامية جـ2 ص 173. (2) المذاهب الفقهية والقوانين الوضعية متفقة على وجوب ترك قدر معين من المال للمدين لتستمر به حياته على خلاف بينها في مقداره، انظر المقارنات والمقابلات: ص 81 - 84. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 710 ا - أن المالك حر في أمواله لا يجوز التعرض له فيها بحال، يدل على هذا المعنى آيات وأحاديث متعددة منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1) فالآية الكريمة تقرر أن أساس البيوع هو التراضي، وهو لا يوجد قطعًا عند بيع الحاكم مال المدين جبرًا عنه، فلا يكون ذلك لا أكلًا للأموال بالباطل كما هو نص الآية. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)) (2) 2 - ثم إن المدين مطالب بالوفاء، ولا يتعين البيع سبيلًا للوفاء , فقد يرزق مالا آخر يسدد به دينه. نعم للحاكم إجباره على الوفاء بحبسه والتضييق عليه، والحبس هو الثابت المتفق عليه، فلا يصح تجاوزه إلى غيره. فأبو حنيفة يتمسك بالحرية التامة للمالك، ويرفض أية قيود عليها، ولو كانت لمصلحة المالك نفسه؛ لأن المالك أدرى بمصلحته , ثم الضرر الذي يصاب به عنده بإهدار أمواله، وعدم اعتبار تصرفاته أكبر بكثير من الضرر الذي يصيبه إذا خسر ماله، أو بعض ماله. وقياس هذا الكلام يتطلب القول بأن الحاكم لا يجوز له أن يحبس المدين أيضًا لجبره على الوفاء بديونه؛ لأن الحبس فيه إضرار بشخص المدين وكرامته , فلا يستقيم كلام أبي حنيفة حجة لمنع الحجر على المدين، ومنع بيع أمواله، ما دام أن أبا حنيفة قد قال بالحبس (3) والواقع أن للجمهور أدلتهم القوية على ما ذهبوا إليه , منها: 1- ما أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وغيرهم بألفاظ متقاربة عن أبي سعيد الخدري وغيره قال: ((أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا عليه. فتصدق الناس عليه , فلم يبلغ ذلك وفاء دينه , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: خذوا ما وجدتم , وليس لكم إلا ذلك ")) (4)   (1) النساء: 29. (2) في تخريجه: انظر القسم الثاني من الملكية ص 167. (3) انظر أبو حنيفة لأبي زهرة: ص 408 - 409. (4) الذخيرة: جـ7 ص193 - 194. وانظر تخريج الحديث الملكية ص 175 - 176. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 711 ولم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلع ماله لهم، ولم يحبسه 2 - وكان رجل من جهينة زمن عمر بن الخطاب يشتري الرواحل , فيغلي بها. ثم يسرع السير , فيسبق الحجاج , فأفلس. فخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه , فقال: (يا أيها الناس، إياكم والدين، فإن أوله هم , وآخره حزن، وإن أسيفع جهينة (1) قد رضي من دينه وأمانته أن يقال: سبق الحاج. فأدان معرضًا , فأصبح وقد دين به , ألا إني بائع عليه ماله , فقاسم ثمنه بين غرمائه بالحصص , فمن كان عليه دين فليفد) . ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فكان هذا اتفاقًا منهم على أنه يباع مال المديون عليه (2) 3 - ثم إن مصلحة الناس تتحقق بالحجر عليه، لأنه لو نفذت تصرفاته وإقراراته لكان في ذلك إضاعة لحقوق الدائنين، لأنه قد يلجأ إلى تهريب أمواله بالبيع الصوري، ويهبها لأقربائه , فيجب الاحتياط لحفظ الأموال، خاصة وهو ظالم بالامتناع عن تسديد ديونه.   (1) وأسيفع: اسم رجل، وهو تصغير الأسفع، وجهينة: قبيلة. المبسوط للسرخسي: 24، 164 غلب بالدين طلبة الطلبة: ص 142 - 143. انظر الحاوي للماوردي: جـ7 و13 الذخيرة جـ7 ص 163 - 194، الإشراف على مسائل الخلاف: ب2 ص11 , وانظر هذا الأثر بألفاظ مقاربة في الموطأ لشرح الزرقاني: جـ4 ص 75 - 76، جواهر العقود للسيوطي جـ1ص 162. (2) اللؤلؤ والمرجان: جـ2 ص 147، صحيح مسلم بشرح النووي: جـ 0 1 ص 227 - 228، سبل السلام جـ2 ص 83. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 712 كما أن في إعطاء هذا الحق للقاضي تشجيعًا للناس على التعامل دون خوف من ضياع حقوقهم وأموالهم، إذا استغرقت الديون أموال المدينين , ثم والامتناع عن سداد الديون ظلم يجب رفعه، وللحاكم ولاية ذلك ببيع ماله عليه. . فعن أبي هريرة رضي الله عنه، فيما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء , فليتبع)) (1) وعن عمرو بن الرشيد عن أبيه فيما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)) ونشير هنا إلى أن القوانين الوضعية قد نصت على أنه إذا أفلس التاجر وجب إعلان إفلاسه والحجر عليه، وبيع ماله في ديونه (2) ويلاحظ على قواعد إعلان الإفلاس في هذه القوانين أن فيها تشهيرا بالمدين المفلس بصرف النظر عن أسباب إفلاسه , بدل مساعدته والأخذ بيده. ومن المعلوم أن الشريعة الإسلامية قد قررت رصد جزء من ميزانية الزكاة لمساعدة الغارمين، وهم المدينون في غير معصية، كما رغبت في إنظار المعسر حتى يوسر. قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (3) جـ - صور أخرى: وهنالك صور أخرى نص فيها الفقهاء على نزع الملكية، مراعاة لمصلحة خاصة جديرة بالاعتبار (4) ومنها:   (1) وهذا الحديث علقه البخاري. البخاري بشرحه - فتح الباري طبعة الحلبي جـ6 ص 459 سنن ابن ماجه جـ2 ص 811 المستدرك: جـ4 ص 102، حيث صححه الحاكم , ووافقه الذهبى، سنن البيهقي جـ6 ص 51، تلخيص الحبير: جـ3 ص 29. (2) انظر المقارنات والمقابلات جـ3 ص 81. (3) البقرة: 279. (4) بل نص الفقهاء على أنه إذا امتنع من الإنفاق على بهائمه , فإنه يجبر على الإنفاق أو البيع، كذا أطلق كثير من الحنابلة. وقال ابن الزاغوني: إن أبى باع الحاكم عليه. انظر قواعد ابن رجب ص 22. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 713 1) إذا امتنع الراهن من بيع الرهن، فإن الحاكم يجبره عليه ويحبسه , فإذا هو أصر باع عليه، وبعض الحنابلة يقولون: الحاكم مخير: إن شاء أجبره على البيع، وإن شاء باع عليه , وهو المجزوم به في المغني (1) 2) وذكر ابن رجب في قواعده التالية: (من اتصل ملكه بملك غيره متميزًا عنه، وهو تابع له ولم يمكن فصله منه بدون ضرر يلحقه، وفي إبقائه على الشركة ضرر، ولم يفصله مالكه، فلمالك الأصل أن يتملكه بالقيمة من مالكه، ويجبر المالك على القبول , وإن كان يمكن فصله بدون ضرر يلحق مالك الأصل، فالمشهورأنه ليس له تملكه قهرًا: لزوال ضرره الفصل) ثم ذكر عددًا من المسائل التي تتخرج على هذه القاعدة (2) 3) وجاء في تبصرة الحكام: (الأشياء التي تنقسم أو في قسمتها ضرر , يجوز أن يجبر على البيع من أباه إذا طلب البيع أحدهما. وإنما جبر على البيع من أباه، دفعًا للضرر اللاحق بالطالب؛ لأنه إذا باع نصيبه مفردا نقص ثمنه (3) وواضح من هذا النص أنه يقرر مبدأ البيع الجبري لإزالة الشيوع في الأموال غير القابلة للقسمة أو التي في قسمتها ضرر، إذا طلب أحد الشركاء ذلك (4) 4) وجاء في الأحكام لابن حزم (يؤخذ الملك من مالكه كرهًا فيما لزمه من نفقة زوجه التي هي لعلها أغنى منه وأقدر على المال، وفي أشياء كثيرة من أروض ما أتلف، بخطأ , وبغير قصد، وبقصد (5) . وسيأتي في مبحث الوظيفة العائلية للملكية أن نفقة القريب المعسر تؤخذ كرها إذا امتنع القريب الموسر عن دفعها. ثانيًا: الصور التي أجازت الشريعة فيها نزع الملكية مراعاة لمصلحة عامة: قررت الشريعة مبدأ تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، فيما إذا تعارضت المصلحتان ولم يمكن التوفيق بينهما. . لذلك أجازت الشريعة نزع الملكية الخاصة مراعاة لمصلحة عامة في صور كثيرة منها:   (1) قواعد ابن رجب: ص 32. (2) قواعد ابن رجب: ص 174 -150. (3) تبصرة الحكام: جـ2 ص 216. (4) قارن المدخل الفقهي العام - الطبعة الثامنة -: ص 283 - 285. (5) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: ج1 ص 48. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 714 أ- بيع الطعام المحتكر جبرًا عن صاحبه عند الحاجة إليه. وقد سبق ذكر نصوص الفقهاء في ذلك (1) ب - استملاك الأراضي المجاورة للمسجد جبرًا عن صاحبها، إذا ضاق المسجد بالناس (2) جـ- استملاك الأراضي المجاورة للطرق العامة جبرًا عن أصحابها إذا احتاج الناس إليها (3) هذا وقد نصت المادة (1216) من مجلة الأحكام العدلية على ما يلي: لدى الحاجة يؤخذ ملك كائن من كان بالقيمة بأمر السلطان ويلحق بالطريق، ولكن لا يؤخذ من يده ما لم يؤد له الثمن (4) وقال في شرح المنهج المنتخب: (إذا اجتمع ضرران أسقط الأكبر الأصغر، ومن ثم يجبر المحتكر على البيع، وجار المسجد إذا ضاق، وجار الطريق والساقية إذا أفسدهما السيل (5) د - ويظهر عند الحديث عن الوظيفة الاجتماعية للملكية أن الحقوق التي تجب في المال كالزكاة، للحاكم أخذها من المالك إذا امتنع عن دفعها رغما عنه.   (1) انظر القسم الثاني من الملكية: ص 148 - 149 (2) البهجة شرح التحفة: ج 2 ص 76، شرح المجلة - الأتاسي: ج 4 ص 158، المدخل الفقهي الزرقاء م1 ص 227، الذخيرة:ج6 ص 33، الدين الخالص: جـ3 ص 250- 251 (3) البهجة شرح التحفة: جـ2 ص 76 وجاء في المقارنات التشريعية جـ1 ص386: يؤخذ ملك الفرد، وإن كان حرمًا محرمًا لمنفعة الجماعة، ولا يجيز أحد على (إخراج ملكه ببيع أو هبة) أو أي تصرف إلا لسعة مسجد أو مقبرة أو طريق أو شق مجرى ماء أو نحو ذلك من المصالح العامة مع وجوب دفع التعويض عن ملكه من بيت المال. (4) انظر في نصوص الحنفية بهذا الصدد شرح المجلة - الأتاسي: جـ4 ص 158. (5) شرح المنهج: و188 ب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 715 هذا وقد نظمت القوانين الوضعية أحكام نزع الملكية للمنفعة العامة، وبينت أن ذلك لا بد أن يكون مقابل تعويض عادل معقول، ووضعت القواعد التي تكفل حقوق الأفراد بهذا الصدد (1) هذا وقد نص دستور جمهورية مصر العربية الصادر سنة 1971 في المادة 34 منه على ما يلي: (الملكية الخاصة مصونة، ولا يجوز فرض الحراسة عليها إلا في الأحوال المبينة في القانون، وبحكم قضائي، ولا تنزع الملكية إلا للمنفعة العامة، ومقابل تعويض وفقا للقانون وحق الإرث فيها مكفول) . وتنص المادة (11) من الدستور الأردني على ما يلي: لا يستملك ملك أحد إلا للمنفعة العامة، وفي مقابل تعويض عادل، حسبما يعين في القانون) . وتنص المادة (12) منه على ما يلي: لا تفرض قروض جبرية، ولا تصادر أموال منقولة أو غير منقولة إلا بمقتضى القانون (ويلاحظ هنا أن قانون استملاك الأراضي للمشاريع العامة الأردني الصادر سنة 1953 تنص المادة 21 منه في فقرتها الأولى على أنه إذا كان القسم المستملك من الأرض لا تزيد مساحته على ربع مجموع مساحتها، فإنه لا يدفع تعويض عنه إلا إذا ثبت أنه سيحصل لصاحبها ضرر كبير إذا لم يدفع التعويض، وأوجبت الفقرة الثالثة من هذه المادة التعويض عن الأبنية والأشياء المقامة في الأرض، ولو كان المستملك لا يزيد على ربع مساحة الأرض. ونصت الفقرة الرابعة على أنه إذا زادت المساحة عن الربع , فإنه يدفع تعويض عما زاد عن الربع , انظر مجموعة القوانين الأردنية جـ2 ص 242 - 250 الجريدة الرسمية لسنة 1961 ص 36 (2)   (1) انظر بالتفصيل نزع الملكية للمنفعة العامة فقها وقضاء - حسن البغال، طبعة ثانية سنة 1966 (2) مجموعة القوانين الأردنية: جـ1 ص 6. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 716 ويقول الدكتور سليمان الطماوي بعد عرض من النصوص التي تقرر صيانة حق الملكية الخاصة في دستور مصر الصادر عام 1964: (ومقتضى هذه النصوص أن إجراءات نزع الملكية هي إجراءات استثنائية. لخروجها على حق أساسي مقرر في صلب الدستور، ولهذا يجب أن تفسر تفسيرًا ضيقًا. كما أن عدم اتباع الإدارة للإجراءات التي نص عليها قانون نزع الملكية، باستيلائها على أموال الأفراد تعنتًا يعد غصبًا يرفع عن قراراتها صفتها العامة، ويجعلها أعمالًا مادية يختص بها القضاء العادي، فنحكم بعدم تعرض الإدارة للأفراد، وبالتعويضات إذا نابهم ضرر من جراء تصرف الإدارة المعيب) . وذهب أغلب الشراح في القانون الوضعي إلى أن اغتصاب الإدارة مالا مملوكًا للأفراد وتخصيصه للنفع العام لا يمكن أن يحول المال الخاص إلى مال عام، إذ على الإدارة أن تكتسب المال بإحدى الطرق المشروعة قانونًا ثم تخصيصه بعد ذلك للمنفعة العامة. ثالثًا: حكم نزع الملكية للمنفعة العامة والضوابط التي قررها الفقهاء لذلك: يحتاج البحث في موضوع نزع الملكية للمنفعة العامة بيان جملة من الأمور هي: 1- المقصود بنزع الملكية للمنفعة العامة وعلاقته بمفهوم التأميم. 2 - الأسس والقواعد التي تضبط عملية تدخل الدولة في الملكيات الخاصة عن طريق نزع الملكية أو غيره. 3 - بيان الحكم في كل الصور التي يمكن أن تندرج تحت عنوان التأميم. 4 - حكم التعويض عن نزع الملكية للمنفعة العامة. وفيما يلي بيان لكل أمر من هذه الأمور: الأمر الأول: المقصود بنزع الملكية للمنفعة العامة وعلاقته بمفهوم التأميم: التأميم هو أشد صور تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية فعالية وأثرًا، إذ فيه تنقل الدولة ملكية أموال معينة من دائرة الملكية الخاصة لتصبح ملكًا لمجموع الأمة، وتقوم الدولة بإدارتها واستغلالها والإشراف عليها نيابة عنهم، بطريقة تستبعد فيها مشاركة الرأسماليين في الربح والإدارة (1) . فهو إحلال للإدارة العامة محل الاستغلال الرأسمالي (2) في ملكية أموال معينة.   (1) محاضرات في القانون الإداري - الأستاذ عبد الحميد الرفاعي: ص30 (2) المشروعات المؤممة - برنار شينو: ص 16. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 717 يقول الدكتور الطماوي: (المدلول الأصيل للتأميم ينحصر في تحويل مشروع خاص على قدر من الأهمية إلى مشروع عام يدار بطريقة المؤسسة العامة، أو في شكل شركة تملك الدولة كل أسهمها) (1) . فهو يقوم على نزع ملكية المشروعات الخاصة ذات النفع الحيوي للأمة، وتحويلها إلى ملكية الدولة (2) والتأميم في الدولة الرأسمالية وكثير من الدول الاشتراكية كان مقابل تعويض، وإن اختلفت مسالك الدول في تقديره وكيفية دفعه. والأفكار الماركسية وحدها هي التي نادت بتأميم جميع وسائل الإنتاج بدون تعويض، واعتبرت هذا التأميم نزعًا للملكية من غاصبي الملكية (3) فلا يستحقون عليه أي تعويض، بل يجب أن تسارع الدولة إلى القيام به بكل حزم وصرامة. ونشير هنا إلى أن هناك فرقًا بين التأميم وكل من المصادرة ونزع الملكية للمنفعة العامة في الاصطلاح القانوني، فالمصادرة عبارة عن عقوبة بأخذ المال، فلا مجال فيها للقول بالتعويض. ونزع الملكية للمنفعة العامة غالبًا ما ينصب على ملكية عقارية يتطلب النفع العام نزع ملكيتها، أما التأميم فهو يتناول مختلف أنواع المشروعات الاقتصادية من أجل أهداف اقتصادية واجتماعية متعددة (4) والواقع أننا نبحث في نزع الملكية للمنفعة العامة في ما هو أوسع من الملكية العقارية كما يظهر من هذا البحث.   (1) مبادئ القانون الإداري. د. الطماوي ص9 (2) مبادئ القانون الإداري: ص 510 وما بعدها. (3) المشروعات المؤممة: ص 37 - 38. وقال س. أكروسلاند: ولكن حدث أخيرًا أن أدرك أن المصادرة الكاملة للملكية الخاصة عن طريق التأميم لا تنم عن عدل أو كياسة وأن لا بد من دفع تعويض معقول) . التخطيط الاشتراكي والمساواة الاجتماعية - له ص 169. (4) هناك فروق أخرى بين هذه الأنواع , لسنا بصدد استيعابها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 718 الأمر الثاني: الأسس والقواعد التي تضبط عملية تدخل الدولة في الملكيات الخاصة عن طريق نزع الملكية أو غيره. تتعدد الأسس والقواعد التي يقوم عليها تدخل الحاكم المسلم في أمور الناس تنظيما وتقييدًا، وذلك بما يكفل تحقيق المصلحة العامة، وإقامة العدل، ومنع الضرر، ورفع الحرج. وإن تلك الأسس والقواعد لتعتبر الأساس لجميع وجوه التدخل التي يقوم بها الحاكم المسلم في الملكية الفردية. ونذكر فيما يلي أهم تلك الأسس والقواعد: 1- الأحكام الشرعية مشروعة لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة. 2 - مسؤولية الحاكم عن أحوال الرعية. 3 - سلطة ولي الأمر في تقييد المباح، واتخاذ الإجراءات الاستثنائية. 4 - الأخوة بين أفراد المجتمع المسلم. 5 - المصالح المرسلة. 6 - لا ضرر ولا ضرار، ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، ودرء المفاسد مقدم على جلب المنافع. 7 - الضرورات تبيح المحظورات، والحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة. ولست بصدد دراسة تفصيلية لهذه الأسس والقواعد ويمكن العودة لدراسة تفصيلية عنها. (1) .   (1) انظر كتاب الملكية في الشريعة الإسلامية جـ 2 ص 255 - 278. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 719 ويهمنا أن نشير هنا إلى المعيار الذي يضبط تدخل الحاكم المسلم في حريات الناس وملكياتهم , فقد بين بعض الباحثين أن مقياس تدخل ولي الأمر ما دام مسؤولا عن تنفيذ التكاليف الشرعية ينقبض وينبسط تبعًا لمستوى السلوك الخلقي السائد في الأمة، فإذا التزم الأفراد بتعاليم الإسلام الخلقية عن طواعية واختيار خفت مؤنة الدولة، وقلت حاجة ولي الأمر، إلى التدخل لإلزامهم بها، واذا هبط مدى تمسكهم بها كبر دور ولي الأمر في التدخل لحمل الأفراد على تنفيذها، هذا بالإضافة إلى الظروف الاستثنائية التي قد يتعرض لها المجتمع وتهدد كيانه. وبالتالي فإنه لا توجد قاعدة جامدة يتقيد بها ولي الأمر، تحدد مدى تدخله لتنفيذ تعاليم الإسلام الخلقية في تنظيم المجتمع، بما في ذلك ملكية المال , فهو له الحق في التدخل بكل ما يكفل تنفيذ التكاليف الشرعية، وأما كيف يكون التنفيذ فأمر تعالجه السياسة الشرعية في كل بلد إسلامي على ضوء ظروف هذا البلد وواقعه (1) والواقع أن الأمر ليس إلا اجتهادًا في معرفة الحكم الشرعي في وضع حادث أو قضية مستجدة. والشريعة نظمت عملية الاجتهاد، وحددت وسائله، ووضعت القواعد التي بها يستنبط الحكم الشرعي للحوادث المستجدة، مما لست هنا بصدد تفصيله , وهو يرتبط بأدلة الأحكام الشرعية المختلفة، من كتاب وسنة وإجماع وقياس واستحسان ومصالح مرسلة وغيرها، ويعتمد على ما قررته الشريعة من قواعد لضبط عملية استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. وواضح أن الحوادث والقضايا المستجدة تختلف الأحكام فيها من حادثة إلى حادثة، ومن قضية إلى قضية، لاختلاف الظروف والأوضاع من حال إلى أخرى. وعليه فإن الشريعة قد وضعت القواعد الكفيلة بمعالجة كل ما يتعرض له المجتمع من قضايا ومشكلات , ومنهج الشريعة يقوم على معالجة المشكلة بعد وقوعها، وليس قبل وقوعها وفق نظر أساسه أن الإسلام نظام متكامل جاء لمعالجة مشكلات البشرية كلها بأنظمة متناسقة تتعاون جميعها في حل هذه المشكلات , ولكل حكم جزئي مكانه من البناء الإسلامي الكامل.   (1) الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد المعاصر د. محمد عبد الله العربي، المؤتمر الثالث، ص 229 - 231. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 720 ومما يذكر هنا أن الناظر في نصوص العلماء بخصوص فرض ضرائب جديدة على أموال الناس يتضح له أن علماء الشريعة يجيزون للحاكم المسلم فرض ضرائب جديدة على أموال الناس إذا توافرت الشروط التالية: 1 - أن يكون الحاكم بحيث تجب طاعته، أي: تتوافر فيه الشروط التي اشترطتها الشريعة في الحاكم. 2 - أن تقوم حاجات حقيقية للمال من أجل الدفاع عن البلاد، وسد نفقات الدولة وغير ذلك من فروض الكفاية. 3 - أن لا يكون هنالك مال في بيت المال يمكن أن يقوم بهذه الحاجات. 4 - أن تكون هذه الضرائب بالقدر الذي يكفي لسد هذه الحاجات. وقد بين علماء الشريعة أن للحاكم أن يختار في سبيل ذلك ما يراه مناسبًا وصالحًا من الطرق والوسائل. والواقع أن سلطة الحاكم المسلم مقيدة دائما بقواعد الشريعة وأحكامها. فليس له حرية التدخل في أموال الناس وملكياتهم، دون قيد أو ضابط، وإذا كان مبدأ المصالح المرسلة يعطيه سلطات واسعة لتحقيق مصالح المجتمع الإسلامي، فإن لهذا المبدأ قواعد مقررة، وشروطًا محددة، ولا بد أن تراعى عند تطبيقه والأخذ به , فلم تترك الشريعة أمر تقدير المصالح لأهواء الحكام والمجتهدين، فقد بين فقهاء الشريعة الشروط التي يجب توافرها في المصلحة التي يرد بها نص في كتاب أو سنة، حتى تتخذ أساسًا في استنباط الحكم الشرعي) . . وأهم هذه الشروط: أ- أن تكون مصلحة قطعية غير موهومة، فلا يجوز أن تعارض مصلحة أهم منها، أومثلها. ب - أن تكون مصلحة عامة تهم مجموع الناس، فلا وزن للمصالح النادرة التي تتعلق بآحاد الناس أو بعضهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 721 جـ- أن تكون مصلحة ضرورية، بالأخذ بها رفع حرج لازم عن مجموع الأمة. د - أن تكون من جنس المصالح التي جاءت الشريعة لتحقيقها، وإن لم يشهد لها دليل خاص بالاعتبار فلا تصادم أدلة الشريعة وأحكامها المقررة، إنما تتفق معها وتلائمها. (1) والتحقق من وجود هذه الشروط في كل مصلحة على حدة من وظيفة المجتهدين الذين تتوافر فيهم أهلية الاجتهاد وشروطه، والذين يتبعون ما قررت الشريعة من قواعد لضبط عملية استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها. الأمر الثالث: بيان الحكم في كل الصور التي يمكن أن تندرج تحت حكم التأميم. ويمكن إيجاز القول في حكم التأميم على ضوء ما يقصد بهذا الاصطلاح في كلام الدارسين والباحثين والمهتمين فيما يلي: إذا كان التأميم يعني مصادرة الأموال التي حيزت عن طريق محرم وإعادتها لأصحابها إذا كانوا معروفين، أو لبيت المال لصرفها في مصالح المسلمين، أو للتصدق بها على فقرائهم إذا لم يكونوا معروفين، كما بينت عند الحديث عن حكم الأموال التي تحاز عن طريق محرم في فضل قيود أسباب الملك (2) فإن هذا جائز، بل واجب على الحاكم ملزم بالقيام به , فالملكية لا تقوم على الأموال التي تحاز عن طريق محرم، وبالتالي يجب أن لا تحترم ولا تصان حيازة هذه الأموال. وواضح أنه في هذه الحال تتم مصادرة هذه الأموال واستعادتها دون أي تعويض، بل للحاكم أن يعزر المصادر بالعقوبة المناسبة جزاء على ما ارتكب من حرام، وردعًا لغيره أن يفعل مثل ما فعل. وقد أرسى هذا المبدأ من الناحية التطبيقية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعله مع ابن اللتبية عندما استعمله على الصدقات، وكذلك عمر بن الخطاب عندما كان يحاسب ولاته بدقة، فإذا ثبت له أنهم حازوا مالا عن طريق غير مشروع صادره.   (1) انظر القسم الثاني من كتابه الملكية: ص271 -273. (2) الملكية جـ2 ص 54 -64. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 722 وقد يقال بهذا الصدد: إن هناك ملكيات كبيرة قائمة في المجتمع تستأثر بمعظم الثروة العامة، وتتحكم فيها كما تشاء، وتستغل وتظلم كما تريد، وإن كثيرًا منها كان سبب قيامه عن طريق غير مشروع، ولكن التحقيق في أصلها جمعيًا لاكتشاف ما حيز منها عن طريق مشروع وما لم يحز، أمر مستحيل بسبب قدم العهد وتفرق الأموال بالإرث والشراء وغيرهما ... وهذا يشبه ما واجهه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عندما أراد أن يسترد الأراضي التي كانت لبيت المال، والتي سمح خلفاء بنى أمية ببيعها رغم ذلك ولكنه وجدها قد حيزت في المواريث، وعن طريق البيع لأيدٍ كثيرة، فعدل عن استردادها ومنع بيعها مستقبلا. (1) ولكن الأمر في هذه الأيام ليس بهذه الصعوبة، فنحن جميعًا نريد أن نزيل انحرافًا ورثناه في كثير من بلادنا عن عهود طويلة من الاستعمار المستغل الذي لعب في مقدراتنا , وشجع كل ما يدعم استعماره ويديمه، وعاث فسادًا في قوانيننا وأنظمتنا، وأقام بيننا فئات رضعت لبنه، ونفذت أفكاره , وعملت لمصالحه، وأطلق لها العنان لتمص دماء الأمة وتستحوذ على أموالها، فسلكت كل السبل لتعيش بترف، تجتر الشهوات وتغرق في المتع الحرام، وجماهير الأمة تعيش في فقر ومرض وجهل , لذا يجب ألا نصغي لقول من يقول: إن الأموال التي في يد هؤلاء المستغلين هي أموال ملكوها , ولا نعرف السبب الذي ملكوها عن طريقه، فملكيتهم عليها محترمة، لأن الشريعة تحترم الملكية وتحميها , ولكن يجب ألا ينقلب الأمر إلى الأخذ بالتهمة، دون روية وبحث، إنما تشكل لذلك اللجان المتخصصة والمخلصة والواعية والتي تخاف الله في سرها وعلنها. ب- وإذا كان التأميم يعني استرجاع أموال الأمة من أيدي الشركات الأجنبية فهو واجب، ذلك أنه لا يجوز في الشريعة أن يسمح للحربيين بالتحكم في المسلمين والسيطرة على مقدراتهم. يقول الشيخ علي الخفيف: (وأما ما ذهبت إليه بعض البلاد العربية من منع الأجانب أن يمتلكوا من أراضيها الزراعية شيئًا، فذلك ما يتسق مع ما للحربي والمستأمن من عدم إقرارهما على البقاء في ديارنا، إلا أن يتحولا ذميين، فيكون لهما ما للمسلمين , وعليهما ما على المسلمين , وإذا لم يكن للأجنبي أن يقيم في ديار المسلمين إلا بعهد موقت , لم يكن من المعقول أن يملك عقارًا يستمر تملكه له؛ لأنه إن خرج حربيا كان ماله فيئًا للمسلمين , وكان منعهم من التملك متسقا مع أحكامه.   (1) انظر القسم الأول من الملكية: ص 323. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 723 وعلى هذا فليس ما يمنع شرعًا من حظر تملك الأراضي الزراعية في البلاد الإسلامية على الأجانب , بل ربما كان ذلك هو الأقرب لتحقيق ما تهدف إليه الشريعة الإسلامية قصدًا إلى المحافظة على سلامة الدولة، واستئثار أهلها بثروتها القومية) (1) ومما يذكر هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة عمل جاهدًا على تخليص سوق المدينة من سيطرة اليهود. وقد نص الفقهاء الحنفية على جواز أن يجبر الحاكم أهل الذمة على بيع ما امتلكوه من دور في أمصار المسلمين إذا رأى في ذلك مصلحة للمسلمين. (2) جـ- وإذا كان التأميم يعني إعادة الأموال التي يجب أن تكون لمجموع الأمة، والتي لا يصح أن تقع تحت التملك الفردي إلى وضعها هذا بعد أن تكون قد دخلت تحت التملك الفردي، فهذا أيضًا واجب , لا غبار عليه (3) . . والتعويض في هذه الحال والتي قبلها لا يكون إلا في مقابل ما أقيم من منشآت لاستغلال هذه الأموال، ولا يكون مقابل هذه الأموال نفسها، لأن الملكية القائمة عليها ليست مشروعة , أما المنشآت وما يلحق بها , فهي من جملة الممتلكات التي يجب أن يعوض عنها أصحابها إذا صحت ملكيتهم لها , ولم يمنع من تعويضهم مانع شرعي.   (1) الملكية في الشريعة الإسلامية: جـ1 ص96. (2) مشتمل الأحكام: و 26 أ، الأحكام المرعية في الأراضي المصرية: ص 22. (3) بينت كيف استرد رسول الله ملح مأرب عندما تبين له أنه كالماء العذب. انظر القسم الأول من هذه الرسالة ص -356. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 724 د - واذا كان المراد بالتأميم نزع ملكية أحد الأفراد في ظروف استثنائية، أو عند قيام حاجة عامة مقابل تعويض عادل لمصلحة يراها الحاكم المسلم بعد مشورة أهل الرأي والخبرة والتقوى , فهذا أيضا لا غبار عليه، تطبيقًا لمبدأ الضرورة، ومبدأ الحاجة العامة التي تنزل منزلة الضرورة. ويستدل على ذلك ما أخرجه أبو داود والبيهقي، عن سمرة بن جندب ((أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار. قال: ومع الرجل أهله. قال: فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به، ويشق عليه، فطلب إليه أن يبيعه , فأبى , فطلب إليه أن يناقله , فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم , فذكر ذلك، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه , فأبى، فطلب إليه أن يناقله , فأبى، قال: فهبه له، ولك كذا وكذا. أمر رغبة فيه , فأبى , فقال: أنت مضار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري: اذهب فاقلع نخله)) (1) وقال المجيزون بعد ذكر هذا الحديث: (فهذا انتزاع للملك جبرًا عن صاحبه حين أدت ملكيته إلى ضرر جاره. فكيف إذا أدت إلى ضرر المجتمع؟!) (2) ورد المانعون هذا الاستدلال بأن الأرض في هذا الحديث ملك للأنصاري وليس لسمرة بن جندب إلا النخل , وهو الذي سبب بقاؤه في أرض الأنصاري ضررًا له , وقد تعين دفع هذا الضرر بالقلع، بعد أن امتنع سمرة من قبول ما عرض عليه، إذ لا ضرر ولا ضرار. وواضح أن المجيزين لا يخالفون في هذا، ولا يقولون بأن الأرض كانت لسمرة بن جندب، إنما مدار استدلالهم على نزع ملكية سمرة لنخله، وقد كان يملكه ملكًا خاصا.   (1) انظر في تخريج هذا الحديث القسم الثاني من الملكية: ص 13. (2) اشتراكية الإسلام: ص 162. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 725 ثم قال المانعون: إن بعض العلماء - الخطابي - قد بينوا أنه ليس في هذا الحديث إلا الأمر بإزالة الضرر، فليس فيه أنه قلع نخله، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك ليردعه به عن الإضرار. فالحديث لا يدل على أن هنالك قلعا محققا، وإنما الأمر ردع وزجر عن الإضرار (1) والحقيقة أن هذا الحديث يقرر جواز المساس بالملكية الفردية إذا اقتضت ذلك ضرورة رفع الضرر الغالب عن غير صاحبها، وضمن هذا الإطار فقط، سواء قلنا: إن القلع قد تم أم لا , فالمهم أن رسول الله قد قرر بقوله: ((أنت مضار)) وقوله ((اذهب فاقلع نخله)) هذا المبدأ. وقد قال ابن القيم في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على سمرة بن جندب: (وإن كان عليه في ذلك ضرر يسير، فضرر صاحب الأرض ببقائها في بستانه أعظم , فإن الشارع الحكيم يدفع أعظم الضررين بأيسرهما. فهذا هو الفقه والقياس والمصلحة وإن أباه من أباه، والمقصود أن هذا دليل على وجوب البيع لحاجة المشترى، وأين حاجة هذا من حاجة عموم الناس إلى طعام وغيره (2) هذا بالإضافة إلى ما نقل من نزع للملكية بخصوص توسعة المسجد النبوي في المدينة المنورة في أوقات متعددة زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم. هـ - وإذا كان المراد بالتأميم أن يكون وسيلة لتحقيق المساواة المادية بين الناس، أو إيجاد وضع - بالتدريج - تكون فيه أدوات الإنتاج ووسائله مملوكة ملكية عامة، أو مطاردة الملكيات الكبيرة بصرف النظر عن ظروف قيامها وطريقة تنميتها وزيادتها، فإن الشريعة لا تجيزه؛ وذلك لأنها لا تسعى إلى تحقيق المساواة الفعلية بين الناس , وتقيم نظامها الاقتصادي على أساس الاعتراف بالملكية الفردية، بل وتشجعها ما دامت ملتزمة بقواعد الشريعة، ولم تخرج من دائرة الملكية الفردية إلا أنواعًا من الأموال سبق بيانها عند الحديث عن الملكية العامة في القسم الأول من الملكية (3) وعند مناقشة أدلة المجيزين للتأميم (4)   (1) نظرات في كتاب اشتراكية الإسلام ص 58 - 60 وعبارة الخطابي في معالم السنن: (وفيه من العلم أنه أمر بإزالة الضرر عنه، وليس في هذا الخبر أنه قلع نخله، ويشبه أن يكون أنه إنما قال ذلك ليردعه عن الإضرار) معالم السنن: جـ5 ص 240. (2) الطرق الحكمية: ص 310. وانظر الحسبة لابن تيمية ص 44. (3) انظر القسم الأول من الملكية: ص 33، 344 -353. (4) انظرالقسم الثاني من الملكية: ص 368 - 370. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 726 وهذا الكلام لا يعني أن لا تكون للدولة أملاكها التي تستطيع زيادتها بكل الطرق المشروعة والتي تعمل عن طريقها على تحقيق أهداف النظام الاقتصادي الإسلامي، في مثل مبدأ أدلة الثروة ومبدأ كفاية المحتاجين والفقراء. وقد كان من قرارات المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية (وأن أموال المظالم، وسائر الأموال الخبيثة، والأموال التي تمكنت فيها الشبهة، على من هي في أيديهم أن يردوها إلى أهلها أو يدفعوها إلى الدولة، فإن لم يفعلوا صادرها أولياء الأمر ليجعلوها في مواضعها , وإن لأولياء الأمر أن يفرضوا من الضرائب على الأموال الخاصة ما يفي بتحقيق المصالح العامة وأن المال الطيب الذي أدي ما عليه من الحقوق المشروعة إذا احتاجت المصلحة العامة لشيء منه أخذ من صاحبه نظير قيمته يوم أخذه، وأن تقدير المصلحة وما تقتضيه هو من حق أولياء الأمر وعلى المسلمين أن يسدوا إليهم النصيحة إن رأوا في تقديرهم غير ما يرون) (1) الأمر الرابع حكم التعويض عن نزع الملكية للمنفعة العامة ومناقشة من يقولون بعدم وجوب التعويض بين الشيخ علي الخفيف في بحثه المقدم إلى المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية أنه عندما يحدد ولي الأمر للملكية حدا معينا , فإنه يجب عليه أن يأخذ منها ما زاد على هذا الحد، ويعيده إلى ملك الأمة دون مقابل أو تعويض، شأنه شأن ما يجبى من الأموال العامة؛ لأن في ترك هذه الزيادة في أيدي أصحابها إبقاء على ثروتهم، وفيه إهمال وترك لهذا الواجب، ونقص لمقتضى الحد منها وعدم ثبوت ملكية صاحب الزيادة في يديه من زيادة، وعلى ذلك يجب أخذ هذه الزيادة، وانتقاص ملكية صاحبها بأخذها.   (1) انظر بحوث المؤتمر الأول: ص 394 - 395. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 727 (ولا يتم هذا الانتقاص إلا إذا أخذت بلا بدل، ذلك أن في أخذها بالبدل إبقاء على مقدار ثروة صاحبها، وليس فيه إلا تغيير عناصرها. . وليس يعد هذا اعتداء على ملك محترم، لأنه لا ملك بعد الحد منها، ووجوب نفاذ ذلك شرعًا) (1) . وقد استدل على أن الزيادة تؤخذ بلا بدل بجملة من الأدلة منها: أ- أنها تشبه المال الذي يؤخذ في تجهيز الجيوش والدفاع عن البلاد، فما يؤخذ في هذه الحالة يؤخذ بلا عوض، والأخذ في الحالين سواء، لأن كلا منهما تقضي به الضرورة. ب- إن هذا الأخذ أخذ بحق، فلا يعتبر اعتداء على الملكية، تمامًا كأخذ الجائع المشرف على الهلاك من مال غيره ما يقيم حياته. جـ- ثم إن في أخذ هذه الزيادة منعًا للمالك من الإضرار بغيره عن طريق الملكية، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما خلع نخل سمرة بن جندب من بستان غيره. د- ويدل على ذلك أيضًا مشاطرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لولاته أموالهم عندما رأى في ذلك مصلحة عامة، وهي البعد بالولاية عن الشبهات، وعن اتخاذها مغنما، ووسيلة للاستكثار من الأموال. وبعدما قرر هذه الأدلة قال: (وعلى ذلك يرى أن أخذ هذه الزيادة إذا ما دعت مصلحة عامة إلى أخذها بغرض انتقاص ملكية صاحبها، إنما يكون بلا بدل يعطى , وعندئذ تكون هذه الزيادة ملكًا لكافة المسلمين، يوجهها ولي الأمر الوجهة التي من أجلها أخذت، لا لوجهة أخرى، وإلا كان أخذها اعتداء لا يستند إلى حق. ذلك ما انتهى إليه النظر في هذا الموضوع، وهو رأي رأيته، فإن كان صوابًا , فمن الله، وإن كان خطأ فلا عصمة إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يشرع للناس (2) .   (1) انظر بحثه في المؤتمر الأول: ص 130. (2) بحثه في المؤتمر الأول: ص 131. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 728 ولست مع الشيخ علي الخفيف في أن الزيادة عن المقدار المحدد تؤخذ بدون تعويض لما يلي: 1- أن القول بأن الزيادة عن الحد المقرر تؤخذ بلا بدل يستقيم حاله ما إذ اكان الهدف من تحديد الملكية هو منع قيام التملك الكبير في المجتمع، وهذا واضح في قول الشيخ الخفيف: "ذلك أن في أخذها بالبدل إبقاء على مقدار ثروة صاحبها، وليس فيه إلا تغيير عناصرها ". والواقع أن الشريعة لا تطارد الملكيات الكبيرة، إنما تطارد الملكيات الظالمة المستغلة، سواء أكانت كبيرة أم صغيرة. والضرورة هنا تقدر بقدرها، والاضطرار لا يبطل حق غير المضطر في التعويض والضمان (1) . هذا يدل على أنه لا وجه في الشريعة الإسلامية لتقرير أن الزيادة تؤخذ في هذه الحال دون تعويض أو بدل. ثم إن تحديد الملكية الفردية لا يقوم حتى عند القائلين به إلا في أنواع معينة من الأموال؛ كالأراضي فيما سمي بقوانين الإصلاح الزراعي , عندما تكون حيازة كميات كبيرة منها مسببة للضرر بمجموع الأمة، فهم لا يقولون بتحديد عام في جميع الأموال، فهدفهم هو منع الملكيات الكبيرة في نوع معين من الأموال، وليس منع مجاوزة التملك لأي مال عن حد معين، لذلك رأينا أن تحديد الملكية في معظم الدول التي أخذت به كان مقابل تعويض. 2- قرر الفقهاء مبدأ التعويض في التملك القهري، ونصوا عليه بكل وضوح. جاء في حاشية الجمل: (ولا يحل تملك مال المسلم والذي بغير بدل قهرا (2) وبينوا الأساس في الإلزام بالتعويض. فقد قال ابن رجب: ( ... لأن التسليط على انتزاع الأموال قهرًا إن لم يقترن به دفع العوض، وإلا حصل به ضرورة فساد ... وأصل الانتزاع القهري إنما شرع لدفع الضرر، والضرر لا يزال بالضرر (3) .   (1) انظر القسم الثاني من الملكية: ص 274. (2) حاشية الجمل: جـ 2 ص 263. (3) قواعد ابن رجب: ص 73. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 729 وقال القرافي في الذخيرة: (إذا ثبت الملك في عين , فالأصل استصحابه بحسب الإمكان، فإذا اقتضى سبب نقل ملك، أو إسقاطه، وأمكن قصر ذلك على أدنى الرتب، فعلنا. ولهذه القاعدة قلنا: إن الاضطرار يوجب نقل الملك إلى المضطر إليه، ولكن يمكن قصر ذلك على المرتبة الدنيا , بأن يكون بالثمن، ولا حاجة إلى المرتبة العليا، وهي النقل بغير ثمن (1) وقال في الفروق: " إن الملك إذا دار بين المرتبة الدنيا والمرتبة العليا حمل على الدنيا، استصحابًا للملك بحسب الإمكان، وانتقال الملك بعوض هو أدنى رتب الانتقال، وهو أقرب لموافقة الأصول من الانتقال بغير عوض (2) وقال القاضي أبو عبد الله المقري: (إذا دار الملك بين أن يبطل بالجملة أو من وجه، فالثاني أولى، لأنه أقرب إلى الأصل) . وقد تعرض ابن رجب في قواعده إلى مسألة: (هل يتوقف الملك في العقود القهرية على دفع الثمن، أو يقع بدونه مضمونا في الذمة؟ (3) فبين أن هذا على ضربين: أحدهما: التملك الاضطراري، كمن اضطر إلى إطعام غيره، ومنعه منه، وقدر على أخذه، فإنه يأخذه مضمونًا، سواء أكان معه ثمن يدفعه في الحال أم لا، لأن ضرره لا يندفع إلا بذلك. والثاني: التمليكات المشروعة لإزالة الضرر كالأخذ بالشفعة وأخذ الغراس والبناء من المستعير والمستأجر، فقد اختلف الفقهاء فيها على مذهبين: الأول: لا تملك إلا بعد دفع الثمن، وهو محكي عن ابن عقيل من فقهاء الحنبلية. الثاني: تملك بدون دفع الثمن، ولكنه يقع مضمونا في الذمة، واختار هذا المذهب ابن تيمية (4) 3 - وأما ما استدل به الشيخ علي الخفيف على أن الزيادة تؤخذ بلا عوض: أ- فالبنسبة إلى دليله الأول فإن قياسه أخذ الزيادة في تحديد الملكية على أخذ الأموال لتجهيز الجيوش والدفاع عن البلاد، والذي يكون بدون عوض، بجامع أن كلا منهما تقضي به الضرورة، قياس مع الفارق؛ لأن الضرورة في حالة أخذ الأموال لتجهيز الجيوش تقضي باستهلاك هذه الأموال فيما أخذت له , أما الضرورة في حال الزيادة في تحديد الملكية فهي تقضي بأخذ الزيادة، لا لتنفق، إنما لتعطى لغير المأخوذ منه، والهدف من ذلك هو منع قيام ملكية كبيرة في نوع معين من الأموال، وليس أخذ هذا المال لينفق في مصلحة عامة للأمة.   (1) الذخيرة. جـ 5 ص 30. (2) الفروق جـ 1 ص 195-196 جـ4 ص9، وانظر شرح المنهج المنتخب: و 157 أ. (3) القاعدة 50 من قواعد ابن رجب. (4) قواعد ابن رجب: ص 72 - 73. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 730 ب - وبالنسبة إلى دليله الثاني , فليس الأخذ بحق، يعني أن يكون بلا تعويض , فقد قضت الضرورة بالأخذ دون رضا صاحب المال، والضرورة تقدر بقدرها فيكون الأخذ مقابل تعويض عادل , وهذا ما نص عليه الفقهاء في صور التملك القهري. جـ – وبالنسبة إلى دليله الثالث , فإن الأمر في حديث سمرة يختلف عما نحن فيه، فقد تعين دفع الضرر الذي كان يسببه سمرة للأنصاري بالقلع بعد أن امتنع عن قبول ما عرض عليه من الأنصاري، ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد عرض الأنصاري عليه البيع أو المناقلة، وعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع أو المناقلة أو الهبة، ولكنه أبى , مما يدل على أن الأصل هو دفع المقابل، وإلا لما كان هناك أي وجه لما عرض عليه، والأمر بالقلع إنما كان لبيان أنه لابد من إزالة الضرر، أما وجوب التعويض في حالات نزع الملكية الفردية , فالحديث يشير إليه هذه الإشارة، بالإضافة إلى ما تقرره الأدلة الأخرى , وقد اعتبر ابن القيم هذا الحديث دليلًا على وجوب البيع والمعاوضة لحاجة المشتري بثمن المثل (1) وعلى أية حال , فإذا فهم من هذا الحديث إيجاب القلع دون تعويض , فإن الأمر يكون عقوبة على الإصرار على إيصال الضرر إلى الآخرين. هذا، وقد بين بعض العلماء أنه ليس في هذا الحديث إلا الأمر بإزالة الضرر، فليس فيه أنه خلع نخله، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك ليردعه عن الإضرار، فالحديث لا يدل على أن هناك قلعا محققا، وإنما الأمر أمر ردع وزجر عن الإضرار (2) وعلى أية حال فكل ما يقرره حديث سمرة هو جواز المساس بالملكية الفردية إذا اقتضت ذلك ضرورة رفع الضرر الغالب عن غير صاحبها، سواء أقلنا: إن القلع قد تم أم لا. وبالنسبة إلى دليله الرابع فإن مشاطرة عمر لولاته كانت مصادرة للمال الذي اعتبره عمر بن الخطاب مجازًا بطريق غيرمشروع، فلا حق لهم فيه , لذلك كان أخذه بلا تعويض. وهكذا يظهر أن نزع الملكية الفردية دون تعويض لا يجوز، إلا إذا كان النزع من قبيل استعادة الحق، أو استيفاء القدر الواجب في المال الخاص، قيامًا بحاجة عامة أو خاصة.   (1) انظر القسم الثاني من الملكية: ص 313، 314. (2) انظر القسم الثاني من الملكية: ص 378. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 731 انتزاع الملك للمصلحة العامة إعداد الدكتور محمود شمام بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه وسلم {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} العنوان يشتمل على أربعة عناصر: انتزاع - ملك - مصلحة - عامة. وسوف نتحدث عن كل عنصر منها بانفراد حتى إذا جمعنا شملها وأكملنا شرحها , وصلنا إلى غايتنا وأدركنا بحول الله هدفنا. الانتزاع: الانتزاع لغة: استلب واقتلع وأخذ. جاء في لسان العرب لابن منظور: "فرق سيبويه بين نزع وانتزع , فقال: انتزع: استلب، ونزع حول الشيء عن موضعه. والانتزاع فقهًا وقانونًا هو: أخذ الشيء من يد صاحبه والاستيلاء عليه وتوظيفه لفائدة المجموعة , وبذلك يصبح ملكا لها دون صاحبه الفرد المالك الأصلي وهو بهذه الصفة: نزع ملكية خاصة لتحقيق نفع عام لقاء تعويض شرعي وعادل ". والاستيلاء والانتزاع والأخذ أشياء , الأصل فيها الحرمة المطلقة؛ لأن الشرع يحمي المصالح والحقوق سواء منها العامة أو الفردية الواسعة بمفهومها الكامل العام أو بمعناها الفردي الضيق. وكل اعتداء على حق الغير وعلى ملكه هو محرم شرعًا، والشرع يقف في وجه الغاصب , ويرد عمله ويبطله حتى في البسيط من الأمر , كماء الطهارة , وثياب الصلاة , ومكان أداء العبادة , وحتى في نفقة الحج والمصاريف التي يصرفها لأدائه. ومن هنا يمكن القول: إن حكم العنصر الأول من هذه العناصر الأربعة - أي: الانتزاع - هو الحرمة والمنع. عدا ما استثني بصورة ضيقة تعتمد المبدأ العادل الذي لمحنا إليه عرضًا , وهو أخذ الشيء واغتصابه وانتزاعه من يد صاحبه لتحقيق مصلحة عامة , شريطة التعويض العادل النزيه. ووجب علينا لذلك بيان حقيقة الملك وشرح عناصره كبيان المصلحة العامة وتدقيق حدودها حتى نبلغ الحكم المذكور. الملك: هو لغة: ما يملك ويتصرف فيه، يذكر ويؤنث. قال الله سبحانه وتعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . الشورى: 49. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 732 والملك هو: ما يملكه الإنسان ويتصرف فيه ويحوزه، وجمعه أملاك. يقال: هذا ملك يميني , أي: أملكه وأتصرف فيه بتثليث الميم: ملكه يملكه ملكًا وملكًا وملكًا. وملكه الشيء تمليكًا جعله ملكًا له يملكه (1) ومن ملك شيئًا كان له حق استعماله وحق استغلاله وحق التصرف فيه. أما في الاصطلاح: فالملك هو: اختصاص بالشيء يمنع الغير منه ويمكن صاحبه من التصرف فيه ابتداء إلا لمانع شرعي. قال القرافي في الفرق الثمانين بعد المائة: إن الملك إباحة شرعية في عين أو منفعة تقتضي تمكين صاحبها من الانتفاع بذلك العين أو المنفعة أو أخذ العوض عنها من حيث هي كذلك. والملك ينقسم إلى قسمين: تام مطلق، أي: ملك الرقبة والمنافع. وللمالك وحده هنا في حدود القانون حق التصرف في ملكه واستعماله واستغلاله دون قيود أو شروط. وناقص وهو ملك الرقبة دون المنافع , أو ملك المنافع دون الرقبة؛ كحقوق الارتفاق من مرور وكشف وغيرها. والملك التام الذي نقصد في بحثنا هذا له مصادر عامة جاءت بها شريعتنا السمحة. أولا: المباح: أي المال الذي لم يكن على ملك أحد ولا ينسب لأي شخص معين بذاته ولا يوجد أي مانع شرعي في الاستيلاء عليه والاستبداد به كالماء في منبعه والكلأ والحطب والشجر في الفلاة من البر، وكإحياء الموات. فالرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم يقول فيما يرويه جابر بن عبد الله: ((من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر وما أكلت العافية فهو له صدقة)) .   (1) لسان العرب لابن منظور 12 /382. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 733 وهو حديث صحيح أخرجه أبو عبيد في الأموال، وأخرجه الإمام أحمد وابن حبان من حديث حماد بن سلمة عن أبي الزبير , عن جابر. وأخرجه أحمد وابن حبان من طرق عن هشام بن عروة , وإسناده جيد صحيح. (شرح السنة للإمام البغوي ج6 صفحة 150) . ثانيًا: الملك الحاصل بعقد , سواء كان العقد عقد عوض كالبيع أو بدونه كالهبة، والوصية، وسواء أكان العقد عن طريق التقاء الإرادتين أم طريق الجبر به بإرادة فردية شرعية قانونية كالشفعة. أو ما يسمى الاستملاك للصالح العام لتوسيع مسجد أو طريق أو إحداث معلم من معالم الدولة للمصلحة العامة بشروط وقيود سوف نأتي عليها إن شاء الله. ثالثًا: التملك عن طريق الشرع والقانون كالتملك عن طريق الإرث هذا التملك الذي سنه الشرع وأباحه ونظم طرقه وحدد سبله ولم يهمل أمره وأبان حليته وكان ذلك عن طريق النص , ومن المعلوم أن الاجتهاد لا يجوز فيما ورد فيه نص قطعي الثبوت، قطعي الدلالة. حرية الفرد في الملك ما هي هذه الحرية؟ وما هو نطاقها ومداها؟ وما هي حدودها؟ تنطلق صيحة الحرية الفردية عندما يستهل مولودنا صارخًا: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ فإذا هذا المولود الذي استهل بتلكم الصيحة واستقبلته الحياة وهي تستقبل الآلاف من أمثاله كل يوم بفرحة القدوم وبسمة اللقاء يتدرج في نفس تلكم الحياة في طريق وعرة ملتوية تخيم عليها السحب وتغطي أرضيتها الأشواك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 734 وإذا المجتمع وإذ الطبيعة وإذ القانون يأخذ بيده ويرعاه ويحضنه ويرشده , وإذا هذه الحرية يحد من أطرافها ويتقلص ظلها في صالح ذلكم القادم نفسه وفي صالح مجتمعه وأمته وقومه وشعبه , بل وفي صالح العالم البشري بأجمعه. فالحرية التي يتغنى بها الكل والتي يتعشقها الجميع والتي هي حرية بذلك , يختلف الناس في أمرها , وتتباين النظريات في شأنها. فهل إن الفرد لا يكون حرا طليقًا متمتعًا بلذائذ هذه الحرية إلا متى أرخى له المجتمع العنان في تصرفاته وأعماله حتى ولو كان في أفكاره وآرائه ما يهدم بعض قواعد مجتمعه ويحطم أركان دولته حتى ولو أدى به الأمر إلى أن يكون فوضويا في مجتمع تعمه الفوضى وتسوسه وتغشاه. أم أن الحرية الحق هي التي تصان معها كرامة الفرد وكرامة أسرته ومجتمعه وقومه ودولته بصرف النظر عن مدى اتساعها وترامي أطرافها، ضرورة أن الحرية المطلقة لا وجود لها , إذ أنها تشبه الفوضى إن لم تكن هي الفوضى عينها؟ لقد حار ذلكم الفرد من قبل التاريخ في أمره وتخبط في دياجير ظلامه وطافت به الأحداث كل مطاف واشتدت به الأعاصير وضغطت عليه الأيام , فإذا هو يفتش عن مذهب يحميه وقانون يقيه وملجأ يأويه يرجو العثور على الضوء الذي ينير له السبيل ويقيم له الدليل على حقيقة تلكم الحرية واتساع أرجائها وامتداد بساطها وشرعية ما يوضع لها من حدود تحد من امتدادها وترامي أطرافها. وإذا المذاهب يشع بريقها ويتوهج لمعانها تسعى لفتح الطريق وتعبيد السبل وإقامة الدعائم المتينة لمبادئ الحرية والانعتاق وقواعد التحرر والانطلاق لكن في حدود حددتها ومناطق رسمتها وخطتها وحصنتها , فلم تدع الفرد وشأنه ولم تنس أن تجعل القانون هو السيد الذي يركع لأوامره ونواهيه الفرد وتخضع لسيادته الجماعات. أما الإسلام ديننا الحنيف فقد جاء من أول وهلة واحتضن شجرة الحرية وتبناها وبارك زرعها وسقاها وتعهد أصولها وفروعها وغذاها فأينعت في أيامه وفاخرت بجليل أحكامه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 735 جاء الدين الإسلامي الحنيف يشع منه نور التسوية في الحقوق والواجبات ويشرع المساواة الشاملة الخالدة ويقي الحريات ويوسع نطاقها ومدلولها ومفاهيمها. ولقد صدق من قال وهو شاهد من أهلها (1) : ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدن على شفا جرف هار من الفوضى لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت ولم يكن ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة مشرفة على التفكك والانحلال وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية , إذ القبائل تتحارب وتتناحر , لا قانون ولا نظام. وكانت المدنية كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب. وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد محمد الرجل الذي حرر العالم ووحده. وفعلًا فقد اتخذ الإسلام الحرية دعامة لكل ما سنه من أحكام وخطه من نظم وحرص الحرص كله على تطبيق تلكم الحرية في مختلف أمور الحياة , فجاء بالحرية السياسية والحرية الفكرية والحرية الدينية والحرية المدنية بمفهومها الواسع , خاصة حرية الأفراد في أموالهم وممتلكاتهم. فالإسلام يعبد طريق الحرية في ميادين الحياة المدنية , ويحمي الأنفس والأموال , وقواعده ظاهرة جلية في هذه النواحي. فالفرد حر في تصرفه المدني ومعاملاته وعقوده، والتشريع يحميه ويرد عنه المعتدي , ولم يحدث قط أن أحل الإسلام مال غني وأعطاه لفقير مهما اشتدت حاجته.   (1) هو العالم ج - هـ - دينسو مؤلف كتاب: العواطف كأساس للحضارة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 736 والإسلام يسن العقاب الصارم الحازم لكل من يحاول الاعتداء على الأنفس والذوات والأموال والأعراض. وهكذا نشاهد أن الإسلام قد قرر وحقق المبادئ الخاصة بحقوق الإنسان الفرد وحريته في تصرفه على أكمل صورة وأوسع نطاق , خاصة فيما يتعلق بأملاكه ومكاسبه , لكن نشاهده مع ذلك لم يترك الحبل على الغارب , ولم يهمل شأن المصالح العامة تلقاء المصالح الفردية. فتراه للمصلحة العامة الاجتماعية ولمنفعة جماعة المسلمين يحد من بعض الحرية الفردية , ويضحي بالبسيط من الأمر لفائدة الهام والمهم. والأديان التي هي في أصلها وواقعها جهاد متصل مسترسل لتحرير العقل البشري وإثبات حريته وكرامته وإزاحة كل حجر عليه. ألم تكن هذه الأديان نفسها قيودا لحرية المرء وانطلاقه بما جاء فيها من أمر ونهي وتحليل وتحريم وإباحة ومنع؟ فالإسلام يحرص الحرص كله على تقرير المساواة بين الناس في الشؤون الاقتصادية , وذلك بالعمل على تحقيق تكافئ الفرص بينهم في شؤون الحياة المدنية وعلى تقليل الفوارق بين الطبقات وتقريبها من بعضها وتحقيق المساواة في أحسن وأجمل صورها. يقول الأستاذ سيد قطب في كتابه العدالة الاجتماعية (صفحة 60) : " لا تستقيم حياة يذهب فيها كل فرد إلى الاستمتاع بحريته المطلقة إلى غير حد ولا مدى , يغذيها شعوره بالتحرر الوجداني المطلق من كل ضغط وبالمساواة المطلقة التي لا يحدها قيد ولا شرط , فإن الشعور على هذا النحو كفيل بأن يحطم المجتمع كما يحطم الفرد ذاته، فللمجتمع مصلحة عليا لا بد أن تنتهي عندها حرية الأفراد , وللفرد ذاته مصلحة خاصة في أن يقف عند حدود معينة في استمتاعه بحريته لكي لا يذهب مع غرائزه وشهواته ولذائذه إلى الحد المردي ثم لكي لا تصطدم حريته بحرية الآخرين , فتقوم المنازعات التي لا تنتهي وتستحيل الحرية جحيما ونكالا ويقف نمو الحياة وكمالها عند المصالح الفردية القريبة الآماد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 737 والإسلام يمنح الحرية الفردية في أجمل صورها والمساواة الإنسانية في أدق معانيها , ولكن لا يتركهما فوضى , فللمجتمع حسابه , وللإنسانية اعتبارها , وللأهداف العليا للدين قيمتها , لذلك يقرر مبدأ التبعة الفردية في مقابل الحرية الفردية , ويقرر إلى جانبها التبعة الجماعية التي تشمل الفرد والجماعة بتكاليفها وهذا ما ندعوه بالتكافل الاجتماعي. انتهى. ويقول الغزالي في الإحياء: إنه لا يجوز أن يستعمل الإنسان حقه في غير الغاية الاجتماعية التي منح من أجلها الحق. ويقول أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات (ص 348 وما بعدها) : "إن من يثبت حقه الشرعي في أي أمر فإنه يمنع من استعماله إذا لم يقصد من ذلك إلا الإضرار بالغير". ويقول القاضي الأستاذ زهدي يكن في محاضرة له عن المسؤولية المدنية، نشرية القضاء والتشريع التونسية ملحق عدد جانفي 1961: "إن فكرة المصالح المرسلة دليل على المرونة المباحة في دائرة الشريعة نفسها , ويمكن أن نفهمها فهمًا عصريا بأنها اتخاذ ما يقتضيه الصالح العام , ويمكن أن نجعل أساسًا لها جميع القيود التي أوجبتها القوانين والأنظمة تقييدًا لحرية الأفراد في ملكيتهم من أجل الصالح العام , فحق الملكية حق فردي مقدس , إلا أنه يضحى به في سبيل المصلحة العامة عن طريق الاستملاك , وقد زيد في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام , واشتري الزائد من أصحابه في غير ضرار حينما كانت المصلحة العامة تقتضي ذلك , ويحسن أن ننوه بما صرح به الزرقاني في شرحه على الموطأ من أنه من الممكن اتخاذ أحكام جديدة في الظروف التي تطرأ عليها حوادث جديدة ولا غرو في تبعية الأحكام للأحوال. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 738 هذا وقد أباح الإسلام للإمام رئيس الدولة أن يتصرف في توزيع الأموال على وجه يحقق التوازن الاقتصادي بين الطبقات ولو أدى ذلك إلى أن يخص ببعض المال طبقة دون أخرى. وقد سن هذه السنة الحكيمة وأنفذها عمليا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من الله عز وجل فقد منح الرسول جميع أموال الفيئ من بني النضير للمهاجرين خاصة , ولرجلين فقيرين من الأنصار , ليقرب بذلك بين ثروات المهاجرين وثروات الأنصار , أي: مقدرة هؤلاء ومقدرة هؤلاء الحياتية ليحقق شيئًا من التوازن في ملكية الأموال بين هذين الفريقين اللذين كان يتألف منهما أول مجتمع إسلامي. وفي هذا يقول الله سبحانه في كتابه العزيز: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (1) . فالملكية الفردية معترف بها , لكنها محددة بهذه القاعدة , قاعدة ألا يكون المال دولة بين الأغنياء ممنوعًا بين الفقراء. ومن ثم فالنظام الإسلامي يبيح الملكية الفردية وهي نظام فريد متوازن الجوانب متعادل الحقوق والواجبات (في ظلال القرآن: 6/ 3524) . وقد حرم الإسلام تحريمًا قاطعًا كل الطرق التي تؤدي إلى تضخم رؤوس الأموال بأكل أموال الناس بالباطل أو الغش أو التحكم في المعاش بانتهاز الفرص في الأوقات الاستثنائية وبذلك منع الاحتكار وسد الباب في وجوه مستغلي أسواقه.   (1) (الحشر:7 -8) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 739 قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1) وقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) وقال عليه الصلاة والسلام: ((من احتكر طعاما أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه)) ويقول عليه الصلاة والسلام: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم. وهو عليه الصلاة والسلام يحمي أملاك الناس وأموالهم فيقول: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه)) ويقول: ((من ظلم شبرا من الأرض طوقه الله من سبع أرضين)) وقد أقامت الشريعة الإسلامية في باب الميراث حدودًا ضيقة منسقة جعلتها سدا منيعًا في سبيل تضخم الثروات , وتجمعها بيد واحدة , وكان النظام الإسلامي في هذا الباب نظامًا محكما , من شأنه أن يكفل توزيع الأموال بين الناس توزيعًا عادلًا لا تتفتت معه رؤوس الأموال وتقسم دائرة الانتفاع بها بين عدة عائلات , الأمر الذي من شأنه تقليل الفروق بين الطبقات. وقد وقفت تلك الحدود التي حرم الله تجاوزها في وجه بعض التصرفات الشاذة التي من شأنها العبث بالأموال وجمعها بيد واحدة أو الانحراف بها عن مصرفها الشرعي. فقد حرم الإسلام الوصية للوارث , وأباحها لغيره في حدود الثلث فقط , فحد بذلك حرية تصرف الفرد في تركته بعد مماته إلا طبق الحدود الشرعية.   (1) (البقرة: 188) (2) (النساء: 29) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 740 ((عن سعد بن أبي وقاص قال: مرضت عام الفتح مرضا , أشفيت منه على الموت، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني , فقلت: يا رسول الله , إن لي مالا كثيرا , ولا يرثني إلا ابنتي , أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا. قلت: فثلثي مالي؟ قال: لا. قلت: فالشطر. قال: لا. قلت: فالثلث؟ قال: الثلث , والثلث كثير , إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس , وإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت فيها , حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك)) . رواه مسلم وأبو داود والنسائي. يقول الإمام ابن تيمية في الفتاوى: قال الله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} النساء: 12. فالله سبحانه وتعالى إنما يقدم على الميراث وصية من لم يضار الورثة بها , فإذا أوصى ضرارًا كان ذلك حرامًا , وكان للورثة إبطاله , وحرم على الموصى له أخذه بدون رضاهم , فلو اعترف الموصي أنه أوصى ضرارًا , لم تجز إعانته على تنفيذ هذه الوصية , ووجب ردها. قيود في طريق الملكية الفردية: قد رأينا أن الإسلام لا يمنع الملكية الفردية , ولا يقف في وجه حرية الأفراد وتصرفاتهم المالية , وهو بالعكس جاء حاميًا صائنًا لهذه الملكية مدافعًا عنها رادا الأيدي المعتدية عليها. وبصرف النظر عن هذه الاعتبارات اللفظية التي جاء بها العصر الحاضر من أن الملكية الفردية هي وظيفة اجتماعية , هدفها وغايتها إرضاء متطلبات كافة أفراد المجتمع , والفرد موظف في خدمته , والقانون يحميه , فإن تشريعنا الإسلامي كما أنه يحمي المالك الفرد , يقي المجموعة البشرية الإسلامية من سوء تصرفات هذا الفرد ومن إفراطه في استعمال حقه وتجاوز حدوده فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 741 فالتشريع الإسلامي يرفض الطرق الملتوية للملكية الفردية , ويأبى الاعتراف بالملكية غير المشروعة التي من أسبابها الغش والاختلاس والاعتداء وظلم الناس. والتشريع الإسلامي يمهد الطريق لإقرار السلم الاجتماعي بين المتساكنين والأجوار في حقوق الارتفاق مثلًا بما سنه من حدود لها تنظم شأنها. وهو يمنع إلحاق الضرر بالآخرين ويقف بالفرد عند حد إذا تطاول إلى الأموال ذات النفع العام مما يهم المجموعة كاملة. والتشريع الإسلامي يخطط ويبين الأوامر التي فزع الناس إليها في عصورهم المتأخرة آخذين مبادئها عن المبادئ الإسلامية السامية. وتراه بذلك يحمي الفرد والمجتمع من اعتداء أحدهما على الآخر , ولا نقصد بالاعتداء الاعتداء على أملاك الناس وحرماتهم وأعراضهم , فهذه أمور أساسية تنبع من مقاصد الشريعة السمحة. وإنما المراد حماية الأفراد والمجتمع من الإفراط في استعمال الحق والبعد بهذا الاستعمال والتعرف على الخطوط الكبرى التي يرسمها التشريع للمجتمع الإسلامي. وقد اعتمد فقهاء الإسلام على حديث ((لا ضرر ولا ضرار)) كأصل ثابت لهذا الموضوع , وهو حديث صحيح أخرجه الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة رضي الله عنه في الموطأ. وقد اقتضى هذا النص حرمة صدور الضرر من كافة الأشخاص على غيرهم , سواء في البدن أو الأموال , وذلك عند التصرف المباح فيما هو من حقوق الفرد فضلًا عن تصرفه اعتداء على ما هو راجع لغيره. واعتمد فقهاؤنا من المالكية بناء على قاعدة المصالح المرسلة أن ذلك يقوم على ثلاثة أركان: أ) عدم جوز استعمال الحق إذا كان هذا الاستعمال لا تتولد عنه أية منفعة , بل ينشأ عنه ضرر للغير. ب) عدم جواز ممارسة الحق إلا في الحدود التي منح من أجلها هذا الحق. ج) ينقطع استعمال الحق المشروع في الوقت الذي ينشأ عنه ضرر فاحش للغير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 742 قال عليه الصلاة والسلام في الحديث ذي السند الصحيح: ((خذ حقك في عفاف واف أو غير واف)) . وفي رواية أخرى: ((خذ حقك في كفاف وعفاف واف أو غير واف يحاسبك الله حسابا يسيرا)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تستعل على جارك بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه)) . والنظم العصرية تنظر إلى سوء استعمال الحق من زاوية الضرر. أما الشريعة الإسلامية فهي لا تقتصر على تقييد استعمال الحق بضرورة عدم وجود نية الإيذاء وانتفاء الإهمال أو المصلحة لصاحب الحق والوقوف عند ما يسمح به القانون وتحدده التراتيب , بل إنها ترمي إلى تقييد ممارسة الحق بالأغراض الاجتماعية والمناهج الاقتصادية التي وجد الحق وتكون من أجلها , وهي حينئذ تقوم على مبادئ سامية ومقاصد عالية اعتمدتها وقررتها هي نفسها , وهي: أ) إذا تعارضت المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة , قدمت هذه. ب) جواز تحمل الضرر الخاص في سبيل دفع الضرر العام. ج) إن درء المفاسد أولى من جلب المصالح. وهذه النظرية مبسوطة في كتب الفقه معروفة منذ قرون عديدة تسبق التشاريع العصرية بآماد طويلة بعيدة , وقد طبقها علماء الإسلام تطبيقًا نظريا وعلميا منذ أزمان غابرة قبل أن يتناولها فقهاء القانون بالغرب وقبل أن ينقلوها عنا وقبل تدوينها في نظمهم العصرية متباهين متفاخرين بها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 743 فإبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي المالكي المتوفى سنة790 هـ/1388 م. (صاحب الموافقات والاعتصام والمجالس والإفادات) قد حلل في كتبه مقاصد الشريعة والمصالح التي بنيت عليها أحكامها , فأوجب في الأحكام الشرعية أن تطبق وفاقًا للمقاصد التي وضعت لها , وعلى هذا توصل إلى منع استعمال الفعل المأذون فيه شرعًا إذا لم يقصد منه فاعله إلا الإضرار بالغير وفي ذلك حرمة وحماية لأموال وأملاك الناس ووقاية لمبادئ عالية أساسها الأخلاق والحق. وهذا هو عين نظرية التعسف في استعمال الحق التي لم يعرف عنها الغرب شيئًا إلا منذ زمن قريب. وهذا ابن تيمية في الفتاوى ج 3 ص 39 يقول: إن المقاصد - أي النوايا - معتبرة في التصرفات والعادات كما هي معتبرة في التقربات والعبادات , فقد قال الله سبحانه: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [لنساء: 12] , فهو سبحانه يقدم على الميراث وصية من لم يضار الورثة بها , فإذا أوصى ضرارًا كان ذلك حرامًا وكان للورثة إبطاله , وحرم على الموصى له أخذه بدون حصول رضا الورثة. فلو اعترف الموصي أنه أوصى ضرارًا أو ثبت ذلك من الخارج لم تجز إعانته على تنفيذ هذه الوصية لما فيها من اعتداء على الحقوق يتجاوز ما أحل لصاحب الملك والمال. وهويقول ج 3 ص 212: إن قصد بالعقد غير ما شرع له العقد , فيجب أن لا يصح؛ وذلك لأنه سبحانه وتعالى شرع العقود أسبابًا إلى حصول أحكام مقصودة , وأن القصود والنيات معتبرة في العقود كاعتبارها في العبادات , فإنما الأعمال بالنيات. اهـ. واتباعًا لنظرية ابن تيمية في كون المقاصد والنوايا معتبرة في التصرفات والعادات كما هي معتبرة في التقربات يمكن القول: إن الإنسان المسلم المؤمن بمبادئ دينه الحنيف والعامل بأحكامه يجب عليه أن لا يمارس حقه بصورة تمس بحقوق الآخرين حتى ولو كان القانون في جانبه والقضاء لفائدته والظواهر لصالحه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 744 فالإنسان المسلم يقيم من ضميره ووجدانه حارسًا رقيبًا يتعقب أعماله وتصرفاته يأمره وينهاه ويصده عن البغي والاعتداء ويجعله مثالا في الإنصاف والعدل ينصف الناس من نفسه حتى ولو كان التشريع والقانون ظاهريًا في جانبه ولفائدته. ويقول عليه الصلاة والسلام: ((كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد)) . أي: أن صاحبه مسؤول عنه ومردود عليه , ويناله العقاب من أجله. والتشريع الإسلامي يقرر أن المسلم مطالب باحترام حقوق الآخرين وأن القاضي بشر يخطئ ويصيب , وعلى المحكوم لفائدته أن يرد نفسه عن غيها وينهاها عن فجورها , فإذا كان القضاء لفائدته وهو يعلم أنه مخالف للحقيقة , فالواجب يقتضيه أن لا يستفيد من ذلكم الحكم , وأن يعترف بالحقيقة , وأن ينصف الناس من نفسه. يقول عليه الصلاة والسلام: ((إنما أنا بشر , وإنكم لتختصمون إلي , ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض , فأقضي له على نحو ما أسمع منه , فمن قضيت له بشيء من حق أخيه , فلا يأخذنه , فإنما أقطع له قطعة من نار)) وعن أبي أمامة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة , وأوجب له النار. قالوا: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك. قالها ثلاث مرات)) . كما يمكن أن نلاحظ أن الدين الإسلامي الحنيف في احترامه للحقوق جاء ناهيًا عن تجاوز الحق والإفراط فيه حتى ولو كان ضد المعتدي , فلا يمكن أن يجازى الإنسان عما اقترف من إثم بعقاب يتجاوز حدود ما صنعه واقترفه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 745 يقول الشاطبي في الموافقات: "الممنوعات في الشرع إذا وقعت , فلا يكون إيقاعها من المكلف سببًا في الحيف عليه بزائد عما شرع له من الزواجر وغيرها كالغصب إذا وقع فإن المغصوب منه لا بد أن يوفى حقه , لكن على وجه لا يؤدي إلى الإضرار بالغاصب فوق ما يليق به من العدل والإنصاف , فإذا طولب الغاصب بأداء ما غصب أو قيمته أو مثله , وكان ذلك من غير زيادة صح؛ لأن العدل هو المطلوب مع عدم الزيادة. ومن الملاحظ أيضًا أن فقهاء الإسلام تقصوا مظاهر التعسف في استعمال الحق احترامًا للملكية الفردية وصونًا لحقوق الأفراد ونصوا على ذلك في الفقه التقديري. فقد ذكر الإمام ابن تيمية أنه إذا سلطت مظلمة على جماعة من الناس بأداء مال معين ظلما , فليس من حق أحدهم أن يتهرب من أداء منابه وقسطه من هذه المظلمة , فيحمل على باقيهم ويضاعف بذلك مظلمتهم , بل إنه مدعو لدفع قسطه وإن لم يفعل يكون آثما. ويمكن أن نذكر أمثلة مختصرة تبرز بوضوح آراء الفقهاء المسلمين في احترام الملكية الفردية واحترام حقوق الأفراد والنهي عن المس بهذه الحقوق حتى ولو كان الإنسان بصدد استعمال حق مباح له. فقد منع سحنون (1) رضي الله عنه صعود الصومعة إذا كان في ذلك كشف على المحلات والدور المجاورة لها. وجاء في التبصرة لابن فرحون (2) : إنه من حق المالك أن يفتح في داره نافذة لدخول النور والهواء بشرط عدم تجاوز حقه , بأن تكون هذه النافذة كاشفة على جاره يستطيع بواسطتها الاطلاع على أحواله.   (1) هوعبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي الملقب بسحنون ففيه مالكي ولد سنة 160 هـ/777 م بالقيروان. عالم جليل تولى القضاء وأحسن إدارته وله مواقف مشهورة , توفي بالقيروان سنة 240 هـ/ 854 م. (2) ابن فرحون هو أبو الوفاء برهان الدين إبراهيم ابن الإمام شمس الدين محمد بن فرحون اليعمري المغربي المالكي. ولد ونشأ ومات بالمدينة سنة 799 هـ/1397 م , وتولى القضاء بها. فقيه مالكي محقق جليل , له كتب مطبوعة , منها تبصرة الحكام في أصول الأقضية والأحكام , وكتاب الديباج المذهب في تراجم أهل المذهب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 746 وتعرض الفقهاء إلى أن ما يغرسه الجار في حديقة له يجب أن لا يتأذى منه جاره , ورتبوا على ذلك أن الفروع الممتدة إلى أرض الجار يجب أن تقطع. جاء في كتاب الأحكام السلطانية للماوردي (450 هـ) بسط ضاف في هذا الموضوع أثناء الحديث عن الحسبة والمحتسب. والتشريع الإسلامي يصل به إلى التشدد في هذا المضمار إلى إزالة آثار الاعتداء ولو كانت نافعة. فعن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن هشام بن عروة عن أبيه يرفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((من أحيا أرضا ميتة فهى له , وليس لعرق ظالم حق. قال: الجمحى: قال هشام: العرق الظالم أن يجيء الرجل إلى أرض قد أحياها رجل قبله , فيغرس فيها أو يحدث فيها شيئا)) . قال أبو عبيد: فهذا التفسير للحديث يحققه حديث آخر: سمعت عبادة بن عوام يحدثه , عن محمد بن إسحاق , عن يحبى بن عروة , عن أبيه يرفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام مثل هذا الحديث. قال عروة: ولقد أخبرني الذي حدثني بهذا الحديث ((أن رجلًا غرس في أرض رجل من الأنصار نخلًا , فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقضى للأنصاري بأرضه , وقضى على الآخر أن ينزع نخله. قال: فلقد رأيتها يضرب في أصولها بالفؤوس وأنها لنخل عم)) أي تامة في طولها والتفافها , والمفرد: عميهة , شرح السنة للإمام البغوي ج 8/ ص 230. والتشريع كذلك يحترم حق الجماعة على حساب الأفراد , وينظر من زاوية المصلحة العامة إلى مصلحة الجماعة , فيدفع عنهم المضرة ويجنبهم التصرفات الشاذة ببعض الأفراد ويحد من حق هؤلاء لفائدة المجموعة العامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 747 من ذلك وضع القيود في كيفية تداول بعض السلع الغذائية التي هي ضرورية لفائدة الناس في يومهم القريب وتحريم احتكارها ومنع تداولها , فالفرد وإن كان من حقه الاتجار والاقتناء والربح , فإنه ليس من حقه أن يتحكم بسبب ثرائه وقوته المالية في الحياة الاقتصادية بإلحاق الأذى والمضرة بالضعفاء والمساكين. قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يحتكر إلا خاطئ)) . جاء في شرح الزرقاني على مختصر خليل في باب البيع:5/4: للشخص أن يشتري وقت السعة قوت سنة أو أكثر، لا بوقت الضيق , فإنما يشتري ما لا يضيق على غيره كقوت شهر أو أيام , فإن اشترى ما يضيق أو اشترى كثيرًا وقت السعة , ثم حصل للناس ضرر , وجب عليه بيع ما زاد على قوته وقوت من تلزمه نفقته إن خيف بحبسه إتلاف المهج. باتفاق الباجي والقرطبي وابن رشد , فإن مست الحاجة ولم يكن الخوف المذكور , بل دونه , وجب عند ابن رشد. وقال الباجي: لا. واتفق على جواز احتكار غير الطعام كصوف وكتان , حيث لا ضرر على الناس في احتكاره , وفي الطعام حيث لا ضرر خلاف. وعلق البناني في حاشيته على الزرقاني بقوله: من اشترى ما يضيق على الناس فإنه يؤخذ منه بالسعر الذي اشتراه به , وأما من اشتراه وقت السعة , فإنه يؤخذ منه بسعر وقته. وقول الزرقاني: وفي الطعام حيث لا ضرر خلاف ما قال المازري: قال ابن القاسم وابن وهب: سئل مالك عن التربص بالطعام وغيره رجاء الغلاء , قال: ما سمعنا فيه بنهي , ولا أرى بأسًا أن يحبس إذا شاء , ويبيع إذا شاء , ويخرجه إلى بلد آخر. وقال ابن العربي: إذا كثر الجالبون للطعام وكانوا إن لم يشتر منهم ردوه , كانت الحكرة مستحبة. وعلى كل فإن القاعدة هي وقوف التشريع في وجه المضر بالناس المتجاوز لحقه في اتجاره , وهذا ما يفيده النقل السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 748 ومن ذلك أيضًا تحريم الربا بأنواعه وتحريم عقود الغرر والمخاطرة والإثراء على حساب الآخرين وحتى الاعتداء بالرائحة الكريهة في المجتمعات والأندية وخاصة المساجد. قال عليه الصلاة والسلام: ((من أكل من هذه الشجرة فلا يقرب مسجدنا يؤذينا بريح الثوم)) . ومن هذا أيضًا حق الحجر على السفهاء الذين لا يحسنون التصرف في أموالهم وإنفاقه في أوجهه الصالحة. فهم وإن كان من حقهم التصرف في خالص ما يملكون , فإنه من حق الجماعة أيضًا ومن حق الأمة أن تراقب تصرف أفرادها وطرق صرف أموالهم حتى لا يحيدوا بها عن طريق الصلاح والمنفعة والخير لفائدتهم ولفائدة مجتمعهم , كل ذلك اعتمادًا على قوله سبحانه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} النساء: 4 وقوله سبحانه وتعالى في آية الدين: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} (1) وقد عارض الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في عموم هذه القاعدة اعتمادًا على حرية التصرف في الأموال والاستقلال الذاتي , إلا أنه لا يخالف في عدة فروع يتجسم فيها الضرر بالمجموعة , فيحجر على الرشيد تصرفه فيها. والإمام أبو حنيفة يبسط رأيه هذا , ويقدم بين يديه أدلته وأسانيده التي اعتمدها وأخذ بها , وذلك منذ ثلاثة عشر قرنًا (80 – 150) بينما نرى فقهاء القانون العصري عند تعرضهم لهذه النظرية ينسبونها إلى فقيه فرنسي معاصر هو الفقيه بلانيول الذي يقول: إن التعسف في استعمال الحق هو خروج عن الحق وهذا ينتهي حيث يبدأ التعسف , وأن العمل الواحد لا يصح أن يكون في وقت واحد متفقًا مع القانون ومخالفًا له. وهذا عين ما ذهب إليه فقيهنا المسلم منذ قرون.   (1) البقرة: 282 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 749 تطور النظم العصرية أما في النظم العصرية الحديثة فلقد تطور القانون المدني والقانون التجاري والقوانين الاجتماعية وسائر القوانين الأخرى من الفردية إلى الجماعية , وانفصلت عنها عدة فروع , وأخذت شكلًا جماعيًا يبتعد شيئًا فشيئًا عن الفردية المحضة؛ ذلك لأن الركنين الأساسيين في القانون الاعتيادي الكلاسيكي، وهما الملكية والالتزام , قد أخذا هما في التطور وقد تغير مظهرهما وكثير من أجزائهما الطبيعية. لقد كانت فكرة الالتزام حجر الزاوية الذي تقوم عليه وترتكز علاقات الأفراد ضرورة أن الالتزام هو القانون الضاغط على الفرد للوفاء بالتزاماته وعقوده نحو معاقديه الأفراد الآخرين. وهذا النظام هو الذي يكون ويحدث الخلاف والنزاع والشجار بين الأفراد أنفسهم ويخلق ويوجد التصادم الضروري بين مصالح هؤلاء الأشخاص. والمقنن العصري اتباعًا لسنة التطور واتباعًا لاتجاهات الناس وتغييرات أحوالهم ونزول نوازلهم أخذ يتدرج بهذا الحق نحو الزوال. فقد كانت الحياة تقوم على أساس هذه المصانع البسيطة المتواضعة يملكها فرد واحد ويتعامل مع أجراء يبادلونه الحب والمودة والعاطفة ويكونون جميعًا أسرة واحدة ليس بين أفرادها خصومات أو شحناء , بل إن كل واحد يشعر بحاجته إلى صاحبه , وأن ربحه متوقف على دوام الصلة القائمة على الود والمحبة. ثم جاءت الآلة وتضخم بها الإنتاج وسهل أمره كما وكيفًا وتكون المصنع العملاق يملكه جماعة من أصحاب رؤوس الأموال وقوم من الأثرياء يستخدمون فيه آلافًا مؤلفة من العملة الفقراء المحتاجين الذين لا يملكون قوت يومهم ولا يجدون ما يرضي متطلبات الحياة , وقد أصبحت معقدة لا يعرف الضروري فيها من غيره، وظهرت الجفوة ودب الخلاف وتحكمت المادة في العلاقة بين الجانبين , ودب الخلاف بين الأجير والعرف , ونبت الحقد وظهرت الكراهية , وأطلت الفتن بنارها الوقادة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 750 وجمع العمال شتاتهم وتكتلوا في هذه المنظمات والهيئات التي توحد صفوفهم وتلم شملهم , تشد أزرهم وتخذل من يخذلهم , جاعلة منهم قوة تواجه قوة أصحاب وأرباب المعامل والمصانع والمؤسسات. أخذت الفردية تضمحل في الميادين القانونية لتحل محلها النظم الجماعية القائمة على ذلكم البساط وتنازل الفرد الواحد عن حقوقه الضيقة لفائدة الجماعة الذي هو لبنة في هيكلها وانخرط معها في عقد جديد هذبه القانون إن لم نقل: صنعه وحماه , وشد ساعده ورعاه بغية إقامة علاقات ينقطع بها التزاحم والصراع بين أفراد هاتيكم المجموعات لتحل محلها روابط التعاون لإدراك الأهداف وتحقيق المصالح وحمايتها والإبقاء عليها عند تكونها ووجودها. ومن هذا الوقت صار هذا المجتمع يمثل بصفة قانونية أفراده المتكون منهم الذين تخلوا طوعًا منهم واختيارا أو كرهًا وجبرًا عن حقوقهم أي عن التمتع بها بصفة فردية لها صبغة الحرية المطلقة وما لها من طعم خاص وصار التعاون الجماعي إن لم يكن اختياريا فهو مفروض فرضًا اقتضته الظروف وأملته المصالح وتغيرت بذلك فكرة الالتزام بمعناها التقليدي المتعارف بين الناس قديمًا. وتجلى عن هذه الحقيقة أن الحياة الجماعية لم تعد أمرًا ماديا محضًا وجد بين أفراد أرادوا ذلك وسعوا إليه وعملوا على وضعه وإقامة حدوده , بل أصبحت نظامًا مقررًا ودستورًا مصادقًا عليه يقتضي التزام الفرد باحترام المبدأ للجماعة الذي هو أساسها , ذلكم المبدأ المتولد عن تكتلها واجتماعها وإقامة العلائق بينها على أساس المصلحة المشتركة لحماية الكل والذود عن حقوق كافة الأفراد , فلا تنقطع الشاة عن القطيع ولا يأكلها الذئب. وهكذا أصبحت العلاقة الفردية مركزة بصورة قانونية شرعية على مبادئ وقوانين هاتيكم الجماعات. ولنضرب لذلك بعض الأمثلة التي توضح هذه الحقيقة وتتجلى معها تلكم الفكرة بصورة واضحة ضرورة أن التطور الجديد أحدث تغييرًا في الأهلية وفي الالتزام وفي التمتع بالحقوق وحتى في تعاطيها. فالشريك مثلًا في الشركات التجارية عندما يتم العقد يكتسي حقه صبغة جديدة لا علاقة لها بالحق الذي كان له سابقًا فهو غير حر في تصرفه وتمتعه إلا حسب بنود عقد الشركة واتفاق الأفراد المشاركين له، والأقلية في الشركات تكون خاضعة لرأي الأغلبية حتى في مالها الخاص الذي هو نتيجة أرباح لمال قدمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 751 والمحكمة عليها أن تقضي بذلك وأن تعمل به حادة من إرادة وحرية بعض الأفراد لصالح الأغلبية من بقية الجماعة. انظروا مثلًا ما جاءت به الفصول 122 حتى 134 من القانون التجاري التونسي. ونشاهد أن النقابات تستطيع التحدث باسم جميع أفرادها وتدافع عن حقوقهم وتعلن الإضراب باسمهم , وبعبارة عامة تستطيع تعاطي كل الحقوق النقابية باسم سائر المنخرطين , ولا يستطيع المنخرط الواحد أن يصنع ذلك بالرغم عن كونه عضوًا في تلكم الجماعة وهاتيكم المنظمة. وفي النقابات الصناعية والخاصة كأصحاب العمارات مثلا رعاية الدائنين المجردة ديونهم عن الامتياز , فإن الحق المشترك يقع تعاطيه بصفة جماعية لا بصفة فردية ولو أن الغاية لا تتغير. وقد نرى تغييرًا تاما في الالتزام بالقيام بالشيء أو عدم القيام به فيما يتعلق بمخالفات الاحتكار وتحجير البيع بالثمن المختار وتحديد الأسعار. وفي الحجرات التجارية والفلاحية والشركات الصناعية أو بين أصحاب المهن كالمحامين والأطباء , فهذه تنظم تعاطي التجارة والصناعة أو المهنة , وترخص أو لا ترخص فيها تحت قيود وبنود يجب أن يخضع لها الفرد. ونذكر هنا أيضًا المدينين المتضامنين فإن سلوك الواحد منهم يتوقف على سلوك الآخر. والدعوى المنحرفة قيام الدائن لإبطال عقود مدينة فإنها مسموح بها لبعض الدائنين الذين كان دينهم متقدمًا عن الأعمال التي كانت سببًا في نقص المكاسب وترهلها وفقدان الضمان الكافي بسببها. وفي حقوق العائلة نرى القانون يضغط على الحق الفردي لفائدة العائلة نفسها ومنفعتها وإبعاد الأذى عنها كإهمال العيال، فالأب يعاقب عقابًا عسيرًا؛ لأنه أهمل عياله وأبناءه ماديا وحتى أدبيا. ونذكر أيضًا الأضرار الحربية ومشاركة الجميع فيما ضحاه أحدهم لفائدة ومصلحة المجموعة. وقوانين الأكرية التي هي قوانين استثنائية تولدت ووجدت بموجب أزمة السكن في العصور الأخيرة بسبب الحرب وما نشأ عنها من وجود احتكار من طرف المالكين وانتهاز الفرصة لاستغلال حاجة المتسوغين فاقدي المسكن والمأوى , فاخترع المشرع هذه القوانين لحماية هؤلاء عادا بذلك لحقوق المالكين , وذلك لإحداث توازن عادل بين شرائح المجموعة وللوقوف في وجه الاحتكار والمحتكرين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 752 وكذلك كافة القوانين الاجتماعية بصفة عامة المكونة هي أيضًا لتوازن بين الأجير ومؤجره والعامل وعرفه. ونذكر عقود الانخراط وقوة فاعليتها وتأثيرها على المرتبطين بها الذين أمضوها وارتضوها. وأخيرًا فقد تطور حق الملكية تطورًا كبيرًا محسوسًا وفقد طبيعته المطلقة ووقع السير به نحو المصلحة الاجتماعية وزالت عنه فكرة الملكية الفردية الحرة في التصرف المطلق واصطبغ بلون آخر يهدف إلى اعتبار أن الحق منح لخدمة الأفراد تحقيقًا لغرض اجتماعي , وبذلك أصبح وظيفة يقوم بها المالك تحت شروط وقيود تهم النظام العام وصالح الجماعة , وبذلك فإن أساء صاحب الحق استعماله , يكون قد أخل بالقيام بوظيفته , وكان ذلك داعيًا لتدخل الهيئة الاجتماعية وموجبًا للجزاء والعقاب والمؤاخذة والمسؤولية. وهكذ نشاهد اندفاعًا قانونيا نحو الجهة المعاكسة يرمي إلى الوقوف في وجه الفرد ومنعه من تحطيم غيره والإضرار به وتمكين الجماعة من السير بأفرادها في الطريق السوي والاتجاه الحسن النافع ولفائدة الكل والقانون هنا لا يعتبر الفرد بل يعتبر الجماعة التي ينتمي إليها ذلكم الفرد. وهذا الاتجاه الجديد الذي جاء بعد الانطلاقة الفردية يصور لنا أن القانون لا يترك الأمور تتغلب لجهة دون الأخرى , فمتى شاهد اندفاعًا نحو إحدى الجهتين عدل بين الكفتين , فهو يمسك بيده الميزان الحقيقي ميزان العدالة وهو وحده الذي يستطيع أن يجري التوازن بين هذه الحرية الفردية المطلقة المتحررة وبين اندفاع الجماعات لتضييق هذه الحرية والحد منها بل وحتى القضاء عليها أحيانًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 753 فالحرية المطلقة الكاملة المتحررة من كل القيود والموانع التي هي فوضى لا وجود لها ولم يكن لها وجود شرعي في الغابر منذ بدأت الخليقة ومنذ بدأت معركة الحرية سواء حرية العقل والفكر أو حرية التملك واكتساب الأموال والتصرف فيها , وليس لها وجود في الحاضر ولا يمكن أن يكون لها وجود في المستقبل , إذ إن الفرد الذي يعيش في مجتمع لا بد أن يتنازل عن بعض حريته لهذا المجتمع وبمقدار اعتزازه بحريته واستقلاله في تفكيره وآرائه يكون تأثير المجتمع فيه وفي حريته وحرية تصرفه وكل ما ينقص من هذه الحرية يضاف إلى سلطان المجتمع هذا المجتمع الذي يجب أن يؤمن بمفهوم هذه الحرية على حقيقتها الواقعية ويشيع هذا الإيمان وذلكم الفهم في كل أفراده على حد سواء بتصرفه الحاذق العادل النزيه. ومع أن كل الدساتير تحترم حرية الأفراد وحرية المعتقد وتزجر كل من يحاول النيل منها. ومع أن كل الشعوب تنادي بحرية القول والرأي والتملك والتعلم إلا أن كل ذلك لا يسمح للفرد الذي يعيش في أمة تريد أن تنهض وتريد أن تبلغ غايتها وتدرك أهدافها لا يسمح له أن يشل هذه النهضة وأن يوقف سير تطورها وتقدمها وذلك بالخروج بالحرية عن إطارها الطبيعي القانوني وتشويه صورتها والعبث بما فيها , وهذا أمر لا يحده ولا يرده إلا القانون في ظل المبادئ الدينية الأخلاقية , وهو الذي يرعى الحرية ويحتضنها , فيسير بها في هذه الطرق الملتوية والمنعرجات الخطرة يجنبها العثرات ويقيها مغبة الهفوات وينطلق بها انطلاقًا كاملًا في إطار من النظام والعدالة الاجتماعية الشاملة النافذة التي تخدم الصالح العام تحقيقًا لصالح الأفراد. والفرد مهما ترنم وتغنى بحريته المطلقة في التصرف المالي والتملك العقاري وفي استعمال الحق وفي اختيار الطرق لهذا الاستعمال وانتخاب السبل التي يراها صالحة للوصول إلى تحقيق مخططاته وأدرك أغراضه والانتهاء إلى غاياته وتدعيم خططه ومناهجه لا يمكن له أن يستغني قط عن رعاية حاضنته العطوف الحنون الدولة التي هو أحد أفرادها , وهو ركن من أركانها , والتي تسعى إلى إسعاده وحفظ حقوقه وتوجيهه إلى السبيل القويم وحتى ولو كان في ذلك مظهر من مظاهر الحد من حريته وانطلاقه وتمتعه تمتعًا كاملًا بماله وأملاكه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 754 وهو لا يكون عضوا صالحًا فيها ومواطنًا شريفًا قائما بواجبه إلا إذا سلك السبيل المؤدية إلى مصلحة الجميع وإلى خير الكل , وإلا كان بنقيض ذلك فوضويا أنانيا يسعى عن غير قصد إلى تخريب أعماد الجماعة والفت في ساعد الأمة. والفرد مهما اعتز بهذه الحرية حرية التصرف والتملك وتنادى بالمحافظة عليها والذود عن حياضها , فهو كمعاقد لأمته يلتزم بأن لا يقوم إلا بكل نافع ومفيد وهذا العقد وهذا الالتزام يقتضيانه التنازل طبعًا عن بعض حريته ومصالحه لفائدة المجتمع ولصالح الأمة. والدولة التي لا تسعى إلى تحقيق هذا الصالح العام وإقراره ولو بالحد من بعض الحريات - بقيود وشروط طبعًا - تكون خانت الأمانة التي ألقاها نفس ذلكم الفرد على عاتقها وطوق بها عنقها. فالحرية المقيدة يزداد حسنها ويلمع بريقها ويصان جمالها بما يسن لها من أحكام. إن من سن للمليحة قيدًا إنما صان حسنها حين سنا المصلحة أما وقد ربطنا الانتزاع بالملك , وسار التيار في هذا السلك , وعلمنا أن النزع والاستيلاء قد يصيب الملك من طرق مباحة شرعًا وعرفًا وعادة وقانونًا. فلا بد أن ندرس بعد ذلك المعنى الثالث من عناصر الموضوع التي حواها عنوانه حتى يصيب التيار المفتاح , وتنقدح الشرارة وتنير المصباح. وقد علمنا أن قداسة حق التملك مصانة محترمة إلا في صور استثنائية خاصة تدعو إليها وتلح في شأنها المصلحة. فما هي هذه المصلحة المنظور إليها عند استنباط القواعد وترتيب الأحكام عليها وإباحة النافع وما فيه فائدة ومنع الضار المضر بالمسلمين وجلب المنفعة لهم ودفع المفسدة عنهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 755 هي المصلحة التي يمتطيها القرار توصلا إلى الملك دون النظر إلى الجوانب الأخرى والزوايا المتعددة لهذه المصلحة. ما حقيقة المصلحة حينئذ , وما هي حدودها وظروفها وملابساتها حتى تكون المفتاح الذي ينير المصباح ويمهد الطريق لفعل مباح لحالة يعبر عنها بالاستصلاح , ويتوصل بها المصلح إلى الانتزاع في سبيل الإصلاح؟ المصلحة لغة: هي مفعلة تدل على المكان , كمأسدة ومسبعة: مكان تكثر به الأسود والسباع. وهي كل ما يبعث على الصلاح والمنفعة. قال المعري: ظلموا الرعية واستجازوا كيدها فعدوا مصالحها وهم أجراؤها والمصلحة مصدر ميمي أريد منه الحدث دون الزمان والمكان ومعناه: الصلاح والحسن الموجود في الفعل. جاء في لسان العرب 3/348: "المصلحة: الصلاح جمع مصالح , والاستصلاح نقيض الاستفساد". ويطلق رجال العصر المصلحة على قسم من الإدارة يهتم بفرع من فروعها وشأن من شؤونها , له رئيس يسمى رئيس المصلحة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 756 المصلحة عرفًا وفقهًا: عرفها رجال التشريع الإسلامي بعدة تعاريف تصب كلها في مصب واحد وتنبع من منبع متحد. عرفها الأصوليون بأنها تشريع الحكم في واقعة لا نص فيها ولا إجماع بناء على مراعاة مصلحة مرسلة أي: مطلقة أو ساذجة لم يرد عن الشارع دليل باعتبارها ولا بإلغائها. وقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريف المصلحة وتعيين المقصود منها على أقوال: عرفها أبو حامد الغزالي (في المستصفى 1/286) بأنها عبارة عن جلب منفعة أو دفع مضرة ويعني بها المحافظة على مقصود الشرع وهو المحافظة على الدين والنفس والمال والعقل والنسل , وهذه الأمور الخمسة هي معيار المصلحة , فما يفوقها فهو مفسدة , وما يؤكدها فهو مصلحة. وهو يقصد أن المصلحة المعتبرة هي ما قام الدليل الشرعي على اعتبارها , وليس كل ما اعتبره الناس أن فيه جلب منفعة أو دفع مضرة. ويعرفها عز الدين بن عبد السلام وينوعها إلى أربعة أقسام: اللذات وأسبابها , والأفراح وأسبابها , والمفسدة: الآلام وأسبابها , والهموم وأسبابها (1) وهو يمثل للمصالح المجازية التي هي في الأصل مفاسد , وأمر بها الشارع لما فيها من مصلحة كالقطع في حد السرقة والقتل في جرائم القتل والرجم في الزنا. فهذه مفاسد أوجبها الشارع وسنها؛ لأنه تترتب عنها مصالح , فهي مصالح مجازًا من باب تسمية السبب باسم المسبب (2) والشيخ ابن عاشور في كتابه (مقاصد الشريعة) يقول: المصلحة وصف للفعل يحصل به الصلاح؛ أي: النفع منه دائما أو غالبًا للجمهور أو للأفراد , وتحقيق الحد الذي نعتبر به الوصف مصلحة أو مفسدة أمر دقيق في العبارة , ولكنه ليس عسيرًا في الاعتبار والملاحظة (3) جلب المصالح ودرء المفاسد:   (1) ابن عبد السلام: قواعد الأحكام 1/10 وما بعدها. (2) ابن عبد السلام: قواعد الأحكام 1/10 وما بعدها. (3) ابن عاشور: مقاصد الشريعة: 66. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 757 لقد جاءت الشريعة الإسلامية بانية أحكامها على جلب المصالح ودرء المفاسد , ذلك أنها تسعى إلى مصالح الناس ومنافعهم وفاء بمطالب الحياة البشرية الإنسانية. والناس متفقون على أن التشريع الإسلامي قائم على حكم ومقاصد لرعاية مصلحة الخلق واللطف بهم وتحسين أحوالهم والرفع من مستواهم في حياتهم هذه ثم ما يثيبهم ويجلب لهم الأجر في حياتهم الأخرى. فكل حكم من الأحكام الشرعية التي سنتها الشريعة السمحة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بحكمة ومصلحة ومنفعة دعت إلى تقرير ذلكم الحكم وتشريعه. والفقهاء لا يختلفون في كون استنباط القواعد الشرعية وترتيب الأحكام عليها يستند في كثير من مصادره إلى البحث عن هذه الحكمة التي قصد إليها الشارع وراعاها وجعل بعض الأوامر والنواهي علاقة عليها ووسيلة للوصول إليها. وهذا الحكم هو ما يعبر عنه بالمصلحة والبحث عن هذه المصالح واستقصائها هو ما يسمى أحيانًا بالاستصلاح؛ لأنه إذا كانت هذه المصلحة مطلقة في أحكام الشريعة فمن الخير استكشافها والبحث عنها للاستدلال بها على الحكم الشرعي وهذا ما يرمي إليه الإمام مالك رضي الله عنه في تسميته هذا الاستصلاح بالمصلحة المرسلة. وعلماء الأصول متفقون على اعتبار المصلحة إذا ورد دليل شرعي على اعتبارها , كما أنه لا خلاف في عدم اعتبارها إذا قام الدليل على إلغائها. وشيخنا الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور يعتني بوصف هذا الموضوع ويصف واجب علماء المسلمين في تتبع مقاصد الشريعة والإلمام بما ترمي إليه والاستعداد لما يحدث من قضايا لا نص فيها لما أحدثه الناس من أمور فيقول: " فمن حق العالم بالتشريع أن يخبر أفانين هذه المصالح في ذاتها وفي عوارضها وأن يسبر الحدود والغايات التي لاحظتها الشريعة في أمثالها وفي أحوالها اعتمادًا ورفضًا لتكون له دستورًا يقتدى وإمامًا يحتذى , إذ ليس له مطمع عند عروض النوازل والنوائب العارضة أن يظفر لها بأصل مماثل في الشريعة المنصوصة ليقيس عليه بلا نص مقنع يفيئ إليه , فإذا عنت للأمة حاجة وهرع الناس إليه يطلبون قوله الفصل فيما يقدمون , وجدوه ذكي القلب صارم القول غير كسلان ولا متبلد (1)   (1) ابن عاشور: مقاصد الشريعة: 80. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 758 أقسام المصلحة القسم الأول: المصلحة التي قام دليل على اعتبارها واعتبرها الشارع وهي في نفسها ثلاثة أقسام: أ) مصالح ضرورية وهي التي يتوقف عليها قيام مصالح الناس في حياتهم الدينية والدنيوية وإذا اختلت لم يستقم أمر هذه الحياة , وحفظ هذه المصالح يكون بالمحافظة على الأمور الخمسة: الدين , والنفس , والعقل , والمال , والنسل. وهذه مصالح تتولد عنها الأحكام كالحكم بتحريم كل ما يفسد العقل، مما لم يكن له وجود في عصر النبي عليه الصلاة والسلام. ب) مصالح حاجية وهي التي يحتاجها الناس لرفع الحرج عنهم , فلو فاتت هذه المصالح لم ينخرم ولم يضطرب حبل النظام في الحياة , ولكن يحصل العنف والحرج , والدين يسر لا عسر. ج) ومصالح تحسينية وهي التي تكون من قبيل محاسن العادات وسمو الأخلاق كالتجمل بلبس الثياب الجديدة في الأعياد والمحافل والاجتماعات وكنبذ أكل ما فيه رائحة كريهة عند غشيان المجتمعات. وهذه المصالح التحسينية لا اعتبار بها في الاستنباط. القسم الثاني: مصالح لم يعتبرها الشارع وألغاها , إذ أقام الدليل على الغائها؛ لأنه وضع أحكامًا تدل على إهدارها ضرورة أن الشرع الإسلامي لا ينظر إلى مجرد مصلحة الفرد , بل ينظر إليها من زاوية مصالح الآخرين , أي: مصالح المجتمع بصفة عامة , فهو لا يترك الحبل على الغارب في تصرفات الأفراد ولا يهمل شأن المصالح العامة تلقاء المصالح الذاتية الفردية , وتراه من أجل المصلحة الاجتماعية ولمنفعة جماعة المسلمين يحد من بعض تصرفات الأفراد , ويضحي بالبسيط من الأمر لفائدة الهام والمهم. وهذا ما يرشد إليه قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا ضرر ولا ضرار)) فهذا الحديث لفظه خبر , والمراد منه النهي عن الإضرار بالناس ابتداء , وعن رد الفعل بمضارتهم بسبب ما وقع منهم من ضرر , فلا يجازي المسلم أخاه لإدخال الضرر عليه , وهذه قاعدة مهمة جدا , بنيت عليها كثير من الأحكام الشرعية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 759 ومن أمثلة هذه المصالح الملغاة إبرازًا لما نحن بصدده وإيضاحًا له نذكر: 1) حقوق الجواروالكشف , فقد تعرض الفقهاء إلى أنه ليس للجار أن يستعمل حقه بحيث يترتب على هذا الاستعمال ضرر لجاره. وقد منع سحنون رضي الله عنه صعود الصومعة إذا كان في ذلك كشف على المحلات والدور المجاورة. وقد جاء في الحديث المتفق على صحته الذي رواه مالك في الموطأ، ورواه الإمامان البخاري ومسلم: عن أبي هريرة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبته في جداره)) . ثم يقول أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين , والله لأرمين بها بين أكتافكم. يقول الإمام البغوي (1) هذا حديث متفق على صحته , أخرجه محمد بن عبد الله بن مسلمة , وأخرجه مسلم عن يحيى , كلاهما عن مالك. والعمل على هذا عند بعض أهل العلم. قالوا: إذا بنى الرجل بناء , فاحتاج فيه إلى أن يضع رأس الخشب على جدار الجار , فليس للجار منعه , وإليه ذهب الشافعي في القديم , وهو قول أحمد. وذهب الأكثرون إلى أنه لا يجبر الجار عليه , والخبر محمول على الندب والاستحباب وحسن الجوار وهو قول مالك وأصحاب الرأي وعامة أهل العلم وقول الشافعي في الجديد. اهـ. وعلى هذا الرأي الأخير العمل لدى القوانين الوضعية، ومنها القانون التونسي. ومن مظاهر ذلك حرمة الطريق وعدم الاعتداء عليه وعدم حيازته وفي قضاء فقهاء المسلمين ما يوضح ذلك:   (1) البغوي: فقه السنة 8/ 246. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 760 اختلف رجلان جاران في أمر , وهو أن أحدهما أحدث "دكانة" بالطريق لصق باب داره ليجلس عليها مع أصحابه يتحدثون ويتسامرون , فتعرض له جاره , وطلب منه إزالتها , إذ لا حق له في إشغال الطريق بهذه الدكانة , ولما احتد الخلاف بينهما , اتفقا على رفع أمرهما إلى قاضي القيروان حماس بن مروان الهمذاني (1) قاضي الجماعة في عهد الأمير زيادة الله الأغلبي , وقصداه وعثرا عليه في الطريق حاملًا لجرة ماء , فاستوقفاه وأشعراه بأنهما يريدانه لأمر بينهما , وطلبا منه أن يسمع منهما , فرحب بذلك , وأمرهما ببسط ما يتشاجران فيه , ثم وضع جرة الماء على ركبته , وتهيأ للسماع , فطلبا منه أن يستريح وأن يضع الجرة على الأرض , فقال: إن الطريق جعل للمارة , ومن حقي أن أمر منه , وليس من حقي أن أشغله بجرتي , وإن فعلت أكن قد تجاوزت حقي , وألحقت الضرر بالناس , وهذا لا يجوز. فوليا عنه شاكرين قائلين: إنك قضيت بيننا , ولو أنك لم تسمع مقالتنا. وذهبا لحالهما , وأزال صاحب الدكانة دكانته , ورجع إلى الحق , وعدل عن تجاوزه. 3) ويندرج تحت هذا حرمة المساكن؛ لأنها ملك للغير , لا يجوز للناس حتى دخولها بدون موافقة أربابها. 4) الحجر على فاقدي الأهلية والسفهاء. 5) حق الشفعة. 6) الانتحار فهو ممنوع مطلقًا وقد تكون فيه مصلحة ومنفعة , كأن يكون مريضًا يعاني من الآلام من جراء مرض ميؤوس من شفائه , وهذا يحدث الآن في غير بلاد الإسلام , وقد يقتل المريض شفقة عليه. 7) مصلحة الجبان في عدم خوض المعركة والهروب من الميدان أو الاستسلام للعدو وذلك محافظة على نفسه وهذه ألغاها الشارع طالبًا بذل النفس في سبيل عزة كلمة الله.   (1) القاضي حماس بن مروان ولي القضاء في رمضان سنة290 هـ/902 م بالقيروان من طرف زياد الله الأغلبي. قال الشيخ الجودي عنه في كتابه تاريخ قضاة القيروان: وكان لولايته فرح شديد , إذ كان من أفضل القضاة وأعلمهم , حسن الفطنة والنظر , وكانت أيامه أيام حق وعدل , وقص القصة أعلاه. توفي سنة 304 هـ/ 916 م ودفن بالقيروان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 761 8) لا يمكن الحكم بقطع أصبع شاهد الزور , وإن كانت المصلحة ظاهرة , منعًا له من التمادي في الباطل وزجرًا أو ردعًا لغيره , لكن الشارع ألغى هذه المصلحة وردها؛ لأن التشريع الإسلامي قرر حفظ النفوس والأبدان إلا بحدود جاءت بها أحكام هذا التشريع. 9) جاء في رسائل الإصلاح للعلامة المرحرم الشيخ محمد الخضر حسين أن الشارع لا يلغي مصلحة إلا إذا عارضتها مصلحة أرجح منها. ومن هنا نلاحظ العناية الفائقة باحترام النصوص وبحسن تطبيقها وعدم مسايرة المصالح العارضة لإهمال هذا التطبيق الحازم وظاهر أن حسن تطبيق النص أفضل من جهة المصلحة وأعمق أثرًا وأكثر خيرًا من احترام بعض الاستثناءات العارضة وخرق النص من أجلها. وهذا ما يحدث الآن لبعض رجالات القضاء عند تطبيق النصوص الجامدة الجافة التي لم تترك فرصة للقاضي بأن يفسرها أو يؤولها لفائدة بعض المصالح الظاهرة الواضحة التي قد تهدر عند تطبيق النص واحترام حرفيته. فالخصم الذي يطرق باب الاستئناف مثلًا بعد مضى الأجل يوجب النص على القاضي رفض مطلبه شكلًا ومنعه من الدخول في تفاصيل القضية وسبر أغوارها؛ لأن باب الاستئناف لم يفتح في وجهه بسبب شكلي. جاء القانون الحازم قاضيًا باحترامه وعدم إلغائه. فإذا اطلع القاضي رغم ذلك على ما يحويه الملف واتضح له حصول غلط في القضاء الابتدائي , فهل يسوغ له لمصلحة إصلاح هذا الغلط وإنصاف هذا الخصم المتظلم الذي تهاون في طلب الاستئناف في أجله أن يفتح الباب وأن يقبل عنه الاستئناف رغم النص الحازم الشديد القاضي بالرفض تقديمًا للمصلحة على المفسدة. الجواب بالنفي طبعًا؛ لأنه من الخير للناس أن تحترم النصوص وأن تطبق تطبيقًا سليما من أن تتلاعب بها الأهواء , وقد يكون هذا القاضى المحاول للإصلاح والتدارك هو المخطئ في نظرته , والأول هو المصيب. ومن هنا جاء تمسك الفقهاء من المسلمين بحرمة النص ورعايته وعدم اللجوء إلى الاجتهاد مطلقًا في فهمه وتأويله متى كان قطعي الثبوت قطعي الدلالة واضح المقصود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 762 من ذلك مثلًا ما أفتى به بعضهم لبعض السائلين الأثرياء من أن كفارة جماع الزوجة في رمضان هي الصيام دون غيره. ولما قيل له في ذلك , قال: إن مثل هذا الثري يمكنه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة , ولكن الواجب حمله على أصعب الأمور. قال الشاطبي: هذا مخالف للإجماع (1) وهو قبل ذلك مخالف للنص. والفتوى لا تجوز بما لم يأت به نص. 10) المثال العاشر إلغاء الشارع مصلحة صاحب المال في إنماء ثروته بالربا. 11) حرمان بعض الأزواج من إرجاع مطلقاتهم في بعض الصور. والأمثلة كثيرة لا تدخل تحت حصر , وما قدمناه منها يوضح ما قصدنا إليه. القسم الثالث: مصلحة لم يقم دليل على اعتبارها ولا على إلغائها , وأرسلها الشارع فلم يقيدها , من أرسل الشيء؛ إذا أطلقه , وهذا المسلك في التشريع وابتناء الأحكام عليه هو من محاسن الشريعة الإسلامية السمحة. اختلاف الفقهاء في تعريف هذه المصلحة: يعرفها بعضهم بأنها هي التي لم يقم دليل من الشارع على اعتبارها ولا على إلغائها وإنما سميت مرسلة؛ لأن الشارع أرسلها فلم يقيدها باعتبار ولا إلغاء. وذهب الإمام مالك رضي الله عنه إلى اعتبار هذه المصلحة كنظائرها عند تحققها. ويلاحظ آخر بأن المراد أن أمر تقدير المصلحة موكول للاجتهاد والرأي دون اعتبار الشارع لها أو عدم اعتباره. ويلاحظ ثالث أن المراد ألا يتقيد المجتهد في حكمه على ما يحدث من القضايا ويستجد من الأحداث المختلفة بالقياس على أصل منصوص عليه وأن تقيد بالمصالح والمقاصد والأهداف التي يرمي الشارع إليها. والاختلاف في الأخذ بها: كل المذاهب تأخذ بالمصلحة وكلها تستند إليها بقلة أو كثرة , وللمالكية القدح المعلى.   (1) الشاطبي: الاعتصام 2/ 98. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 763 يقول شيخنا المنعم محمد العربى الماجري رحمه الله في دراسة له قيمة نشرها بمجلة جوهر الإسلام عدد1- 2 سنة أولى 1388 /1986. : قد رأينا أن العمل بالمصلحة قد ترجح بكثرة دلائله , فعمل بها في سائر المذاهب مع الاختلاف في القدر , فيكون القول بالنعم غير بين , لهذا تصدى شهاب الدين القرافي لبيان هذا السر , وإليك زبدته: إن السر في ذلك الإعراض عن تقرير هذا الأصل تقريرًا صريحًا واضحًا في ابتناء الأحكام عليه مع اعتبارهم له في الواقع , هو الخوف من استناد أئمة الجور عليه , وجعله حجة يصلون بها إلى تحقيق أهوائهم وإرضاء شهواتهم في دماء المسلمين وأموالهم. لذا أرجعوا جميع الأحكام إلى النصوص ولو بأقيسة خفية وبناء على هذا يكون عدم نسبته للقائل به الخوف من طلب الإفتاء منه على وفقه عندما تدعو الحاجة إلى ذلك. يقول الشيخ الماجري: ورأيي أن هذا التوجيه بعيد , إذ تواطأ جمهرة العلماء على إهدار هذا الأصل وعدم العمل به لتوهم ذلك الاستغلال مع ما في هذا الأصل من التبسط في ابتناء الأحكام عليه بطريق ميسور , وكيف يصح ما قالوا , والغزالي من رجال الطبقة الثانية في التأليف في الصناعة الأصولية بعد الإمام الشافعي وقد بسطه مع وضوح وسلامة في التعبير يعسر الظفر بمثيل له , فالظاهر أن السر هو تمسك السلف بالاعتماد على الكتاب والسنة والإجماع والقياس والبعد عن الاعتماد على الرأي , ألا ترى ابن حزم لهذا السبب أعرض حتى عن القياس , وقد توسم في كتابه الإحكام في إبطاله بما يساوي جزءًا خاصا. وقال في الإحكام ما مجمله: إن الاستصلاح والاستحسان والرأي لا يجوز الاستناد عليها. انتهى كلام الشيخ الماجري. يقول شيخنا الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية ص 47: وبعضهم نفى الاعتماد على القياس وعلى المصلحة (الظاهرية) وهم يقعون بذلك في ورطة التوقف عن إثبات الأحكام فيما لم يرو فيه عن الشارع حكم وهو موقف خطير يخشى على المتردد فيه أن يكون نافيًا عن شريعة الإسلام صلاحها لجميع العصور والأقطار. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 764 والعلماء فيما يظهر ينقسمون في شأن هذه المصالح التي يمتطونها للوصول إلى أهدافهم , ومنها الانتزاع , الموضوع الضيق لدراستنا , ينقسمون إلى عدة شعب: أ) نفي الاستصلاح والاقتصار على اتباع كل معنى له أصل. ب) جواز اتباع وجوه الاستصلاح إذا لم يكن هناك نص من كتاب أو سنة أو إجماع يصادمه. ج) التمسك بالمعنى وإن لم يكن فيه نص على شرط قربه من معاني الأصول الثابتة. د) نظرية الطوفي التي تعتمد أن المصلحة هي مقصود الشارع ومن ثم فهي أقوى أدلته وأخصها وإذا عارض النص أو الإجماع المصلحة , فإنها تقدم , هذا في المعاملات , لا في العبادات. ومن المعلوم المتفق عليه أن المجتهد الذي تعرض له قضية ينظر عند البحث عن حل لها وجواب مقنع للسائل عنها من الكتاب والسنة , فإن لم يجد فيها , فزع إلى إعمال الرأي , وأقوى دعائمه القياس. وهذا ما أشار إليه الحديث المشهور حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي رواه أبو داود والترمذي والإمام أحمد وهو ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعثه قاضيًا على اليمن قال له: كيف تقضى إذا عرض لك قضاء؟ فقال: أقضي بكتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدر معاذ , وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)) (1) والمراد بقول معاذ رضي الله عنه: أجتهد رأيي. القياس طبعًا؛ لأن معنى أجتهد: أبذل الجهد في معرفة الحكم بالقياس على النصوص الواردة بالكتاب العزيز أو بالسنة الكريمة , وليس المراد به الرأي الذي يلوح به من قبل نفسه أو يخطر بباله ولا يستند إلى أصل منها , إذ لا بد أن يكون اجتهاد الرأي مرده إلى أصل من الدين وإلا كان رأيًا مرسلًا. لا مستند له , والرأي المرسل لا عبرة ولا اعتداد به في الأحكام الشرعية.   (1) مال إلى صحة هذا الحديث غير واحد من المحققين , منهم أبو بكر الرازي وأبو بكر بن العربي والخطيب البغدادي وابن قيم الجوزية. وهذا حديث جامع لعدة مبادئ في طريقة أخذ النصوص وفهمها وتأويلها وإعمال الرأي والاجتهاد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 765 ونلاحظ أن في هذا الحديث ما يرشد إلى تشريع الامتحان بل المناظرة لانتخاب القاضي من بين المترشحين حفظًا لهذه الخطة وصونًا لها ورعاية لمصالح الناس وحقوقهم من أن يسند النظر فيها إلى غير الأكفاء. ونلاحظ أن وجود القياس واعتباره كمصدر من مصادر التشريع عند غالب المذاهب وإن خالف فيه بعضهم كابن مسعود وبعض أهل الظاهر , فهو من أبرز الأدلة على سمو التشريع الإسلامي وسماحته ويسره وملاءمته لكل العصور , ذلك أن أحكام المعاملات تتغير بتغير الأحوال , فلزم الالتجاء إلى القياس , ومن ثم مراعاة مصالح الناس. قال سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور. والشريعة الإسلامية في مجموع أحكامها وعامة عناصرها وكافة أسسها إنما هي معقولة المعنى واضحة الغاية جلية الإدراك وهي تشرح أسباب الأحكام وتعلل التحريم والإباحة والندب والترغيب ثم هي تعتمد قواعد جامعة , لها أصل من الكتاب والسنة وتعتمد لكل باب من أبواب الفقه أصولًا عامة يمكن إرجاعها إليها. وهذا ما اعتمده الفقهاء وقرروا إخضاع المسائل المعروضة عليهم إلى تلك الأصول وقياسها عليها ولو لم يكن فيها نص سابق نظرًا لاتحاد علة الحكم وتشابه أوجه الأمر وفي ذلك يسر لا يضارعه أي يسر. فإذا اهتدى الفقهاء إلى وصف مناسب في فعل منصوص على حكمه أمكن لهم القياس فيما يجد ويحدث من الأحداث وهي تنزل كل يوم بل كل ساعة , والمشاكل تطرح نفسها , وأصحابها يطالبون بالحلول. فإذا حدث فعل ولم يوجد له نظير نص عليه ويمكن القياس عليه أي بالتعبير العصري إذا طرحت مشكلة لم يسبق فقه قضائي نظري أو حكمي فيها , فما هو العمل؟ فهل نحكم هنا باعتبار ما يترتب من جلب منفعة أو دفع ورد مضرة , أي برعاية المصلحة المطلقة المرسلة التي لا تتقيد رعايتها فيما جد من الأعمال بنظير سابق منصوص عليه وعلى حكمه أو بوجود وصف في الفعل المحكوم عليه سبق أن شهد الشارع باعتباره؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 766 هذا هو مناط البحث بين الفقهاء , فالعمل بالمصلحة المرسلة يفيد تعليل الأحكام في الأفعال التي لم ينص على حكمها بالمصالح المشروعة المترتب عليها أو بضوابط ومعايير اجتهادية , هي أوصاف مناسبة مرسلة في الأفعال المحكوم عليها لم يشهد الشارع بإلغائها كما أنه لم يشهد باعتبارها بأي وجه من الوجوه. يقول شيخنا الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة: (1) "لا شبهة في صحة الإسناد إلى المصالح المرسلة لأنا إذا كنا نقول بحجية القياس الذي هو إلحاق جزئي حادث لا يعرف له حكم في الشرع مجزئ ثابت حكمه في الشريعة والمماثلة بينهما في المصلحة المستنبطة وهي مصلحة جزئية ظنية غالبًا لقلة صور العلة المنصوصة. فلأن نقول بقياس مصلحة كلية حادثة في الأمة لا يعلم لها حكم في الأثر على كلية ثابت اعتبارها في الشريعة استقراء أدلة الشريعة الذي هو قطعي أو ظني قريب من القطعي أولى بنا وأجدر بالقياس وأدخل في الاحتجاج الشرعي. أمثلة: ولنذكر أمثلة عامة باختصار للأخذ بقاعدة هذه المصالح تمهيدًا لما نحن بصدد دراسته وبحثه وتحقيقه بصفة عامة شاملة. 1) لا شك ولا خلاف أن الشارع متشوف لإثبات الأنساب وللمحافظة عليها , ولذا جاءت شهادة الشهود في عقود الأنكحة وأخذت بذلك التراتيب الإدارية الوضعية , فقانون الحالة المدنية يشترط شهادة شاهدين يحضران العقد ويصرحان بخلو الزوجين من الموانع الشرعية. ومما لا شك فيه ولا ريب أن شهادة الزور انتشرت وتفشى عدم التحري والجري وراء العواطف السطحية على حساب الأخلاق والأنساب مما تكفي الإشارة إليه بلا إطناب.   (1) ابن عاشور: مقاصد الشريعة: 86. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 767 وحينئذ فالواجب يقتضي تسجيل عقود النكاح وإثباتها إثباتًا منظما محافظة على الأسرة والأنساب , والمصلحة تدعو إلى هذا , وهي مصلحة مطلقة مرسلة راعاها الشارع من جهة حثه على المحافظة والعناية بالإنسان والنسل , ولا يمكن بحال أن نترك الحبل على الغارب , فلا نأمر بتسجيل عقود الأنكحة , ولا ننهى عن العقود العرفية بعلة أنه ليس هناك نص , وأنه ليس هناك فعل مماثل منصوص عليه وعلى حكمه نقيس عليه , خاصة إذا كنا أمام الواقع وأمام قوانين الحالة المدنية العصرية التي توجب تسجيل عقود الزواج ولا تعترف بغيرها من العقود المدعى وقوعها على العرف والعادة فالتشريع الإسلامي والفقه المنبثق عنه سباق للأخذ بما فيه مصلحة وخير ومنفعة , لا أن يقف في سبيل ذلك. 2) وهذا أيضًا يقال في عقود البيع وخاصة عقود بيع العقار. فالشارع يدعو إلى المحافظة على المال وينهى عن أكل أموال الناس بالباطل ويحرض الناس على الإصداع بالحق وعدم كتم الشهادة ويحرضهم على الإشهاد في تعاملهم المدني في آية التداين اجتنابًا لكل الخصومات وبعدًا عن الخلافات والمشاجرات والنزاعات. وهذه الآية الكريمة التي هي دستور وسائل الإثبات ومصدر التشريع في موضوعها جاءت آمرة بالإثبات. فحمل الناس حينئذ على تسجيل عقودهم حفظًا على مصلحة شرعية من غير قياس على فعل مماثل أو إلزامهم بذلك لوجود وصف مناسب يترتب على ربط الإلزام به تحقيق مصلحة شرعية هو من باب مصالح الخلق ورعاية منافعهم واتباع مقاصد الشريعة , وفي كل ذلك عمل بالمصلحة وأخذ بها. 3) وهناك مثال آخر فرضته الظروف وجاءت القضايا النازلة والحوادث الواقعة ثم التراتيب المعاصرة المعمول بها في كافة البلدان وهو موضوع تسجيل العقار باسم صاحبه حفظًا له وصونًا من كل نوائب الدهر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 768 هذا الموضوع الذي كنا أشرنا إليه إشارة عابرة هو من أجل وأعظم المنافع التي تهم الأملاك العقارية , فالقوانين الآن تفرض تسجيل العقار وترسيمه بالسجل العقاري وتجعل حقوق المالكين غير معتبرة بالنسبة لغير المتعاقدين. فإذا باع أحدهم عقارًا لشخص , وهذا أهمل ترسيمه بالسجل العقاري , وحدث أن باعه صاحبه مرة أخرى , فالمشتري الجديد إذا رسم شراءه , كان هو المالك , وضاع حق المشتري الأول ولم يبق له إلا الرجوع على صاحبه البائع له , أما العقار فهو لمن سجله ورسمه. وطبيعي أن يعتبر هذ الإجراء السليم المطهر للعقار خاضعًا للمصلحة مطبقًا لمقصد الشريعة السمحة (1) .   (1) جاء في كتب التاريخ عن سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: شكا رجل من بنى مخزوم أبا سفيان لعمر بن الخطاب بدعوى أن أبا سفيان ظلمه في حد مشترك بينهما ولزم إجراء توجه عيني من القاضي يحضره الخصمان والشهود وتجري فيه المعاينات وتحدد الحدود. وتوجه عمر رضي الله عنه مع المتداعيين إلى المكان الذي تنازعاه , وأجرى أبحاثه وأدرك بفراسته واستنتج مما سمعه صدق الشكوى , فأمر أبا سفيان بأن ينقل الحجر دلالة الحد وأن يرده إلى مكانه الصحيح , فأخذه ووضعه في مكانه الأصلي. ومن هنا نفهم أن تحديد العقارات وجعل علامات حجرية دالة على الحدود هو أمر عرفه المسلمون في صدر الإسلام ومارسوه ماديا وهم يسبقون بعدة قرون ما وضعه (تورانس) الاسترالي منظم تسجيل العقار في العصر الحديث. وفعلًا فإن عمر رضي الله عنه كان أنشأ ديوان الأموال الذي تحصى وتسجل فيه الأراضي والعقارات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 769 اختلاف المذاهب في الأخذ بهذه المصلحة العلماء والأئمة والفقهاء متفقون على أن أمور العبادة لا يعتد فيها إلا بالنص. يقول الشاطبي (1) إن الشارع لم يكل شيئًا من التعبدات إلى آراء العباد , فلم يبق إلا الوقوف عند حده , والزيادة عليه بدعة , كما أن النقصان منه بدعة. اهـ وسبق أن قلنا: إن التشريع الإسلامي كان ثابتًا في ميدان العقيدة وأمور العبادة وأصول الأخلاق وما إلى ذلك , وحصل شبه الاتفاق على الاقتصار على النص في هذه المسائل. وهو متطور في ميادين المعاملات المدنية والاجتماعية والتجارية بالأخص في كل ما يمس حياة التعامل بين الناس في معاشهم وحياتهم اليومية. وفي المعاملات اختلف العلماء في اعتبار المصلحة , أخذ بها قوم , وذهب آخرون إلى عدم الاعتداد بها , ونشأ بسبب هذا الاختلاف أو الخلاف تأثير على الفروع الفقهية بين المذاهب. الرأي الأول: الذي يذهب إلى جواز العمل بالمصالح المرسلة وهو رأي مالك بن أنس رضي الله عنه يقول أبو الحسن علي الآمدي: قد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك بالمصلحة المرسلة , وهي الحق , إلا ما نقل عن مالك أنه يقول بها مع إنكار أصحابه ذلك عليه , ولعل النقل إن صح عنه , فالأشبه أنه لم يقل بذلك في كل مصلحة , بل فيما كان من المصالح الضرورية الكلية القطعية , ومثل لذلك , كما إذا تترس الكفار في الحرب بأسرى المسلمين. وقد رد على الآمدي شيخنا المنعم محمد العربي الماجري في دراسة له منشورة بمجلة جوهر الإسلام التونسية لصاحبها المغفور له العلامة الحبيب المستاوي قائلًا: ادعاء الآمدي أنه لم يقل بالمصلحة المرسلة فقهاء الشافعية والحنفية وغيرهم فهو ينفيها عما عدا مالك , والواقع خلافه , إذ ما من مذهب إلا وفيه من يقول بها , وهو يدعي أن الفقهاء المالكية ردوا على إمامهم , ولم يذكر لنا ولو واحدًا منهم , وهو الواقع. والواقع أن عدة شبه نسبت لمالك وهو منها بريء. ققالوا: إنه قال: يقتل الثلث لإصلاح الثلثين. وهذا لا أصل له. أنكر ذلك الشهاب القرافى والتاودي وغيرهم , ونسبوا إليه قطع العضو في التعزير , ولا أصل له في المذهب , ونسبوا إليه: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور , وهو غلط , فالنص نقله مالك نقلًا , ونسبه الزقاق والتاودي في شرحه للزقاقية لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. .   (1) الشاطبي: الاعتصام: 2/ 316. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 770 يشترط لذلك ثلاثة شروط: أ) أن تكون متفقة مع مقاصد الشرع ولا تنافي أصلًا من أصوله ولا دليلًا من أدلته. ب) أن تكون معقولة في ذاتها تتلقاها العقول بالقبول متى عرضت عليها. ج) أن يكون في الأخذ بها حفظ أمر ضروري أو رفع حرج لازم في الدين لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج: 78] . ثم إن مالكًا رضي الله عنه يستدل على هذا الجواز بأكثر من دليل: 1) إن التشريع الإسلامي عودنا بأنه بني وأسس على المصالح مع إيضاحها أحيانًا وتبيانها وتسهيل فهمها على الناس. قال الله سبحانه وتعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الآية 6 من سورة المائدة] . فالقرآن يعلل سبب الدعوة والأمر بالوضوء بوجود مصلحة عامة هي التطهر. وهو يدعو الناس لإقامة الصلاة والمحافظة عليها؛ لأن في ذلك مصلحة عامة وكبيرة بينها وشرحها في قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} . [العنكبوت الآية 45] . 2) إن في الأخذ بالمصالح دليلا على اتباع منهاج التشريع الإسلامي وهو المرونة واليسر والسهولة والاحتياط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 771 فالناس تختلف مصالحهم الدنيوية ومعاملاتهم المدنية وتتغير بتغير الزمان ولا يمكن حصرها ولا سبيل إلى تقصيها وفرض وضبط أحكام جامعة لها، ولا يمكن حينئذ الوقوف عند الحوادث التي حدثت في عهد التنزيل وفي صدر الإسلام , إذ من شأن هذا تضييق المحيط التشريعي والحيلولة بين الناس والتفكير في تيسير سبل معاشهم والتماس أفضل الوسائل توصلًا إلى الأغراض الشريفة والمصالح النافعة في حياتهم الدنيوية هذه. ومن شأن هذا التضييق إلحاق المضرة بالناس وبمصالحهم وبسير دواليب المجتمع بصفة عامة , والدين يسر لا عسر. فكان من الواجب ومن اللازم التوسع في استنباط الأحكام وابتنائها اعتمادًا على مقاصد الشريعة الإسلامية وشواهدها الجامعة المرشدة والدالة على الطريق بما وضعته من منارات توضح السير ويجب عدم الوقوف عند الجزئيات الفردية الحوادث الخاصة والشواهد المفردة. وهذا بدون شك ولا ريب ضرب من محاسن هذه الشريعة السمحة ومن أسباب مرونتها وتطورها وصلاحيتها لكل زمان ومكان ولكافة شرائح المجتمع أي مجتمع. 3) إن علماء الأصول يجعلون الركن المهم في القياس هو العلة وما بني عليه الحكم في الأصل وتحقق في الفرع. فالفقيه يعلل الأحكام بأوصاف في الأفعال المحكوم عليها مناسبة تلك الأحكام. والمجتهد إذا وجد العلة التي بني عليها الحكم في الأصل متحققة أمر لم يرد فيه نص لزم بطريق القياس أن يكون الحكم في هذا الفرع مماثلًا للأصل الوارد فيه نص , ومن هنا جاء ما يعرف بتوليد الأحكام بطريق القياس. فالخمر نص على حكمه بالحرمة لعلة الإسكار، ونبيذ الشعير أو التمر المسكر فرع لم ينص على حكمه , فإذا وجدت العلة التي بني عليها الحكم في الأصل متحققة في الفرع , لزم بطريق القياس أن يكون الحكم في الفرع مثله كالأصل. فقد ورد في الحديث المتفق على صحته الذي أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه , فإن ذلك يحزنه)) وعلة ذلك لئلا يقع في نفسه الشك بأنهما يتناجيان ضده أو يبديان رأيا فيه أو لا يثقان في أمانته وحفظه للسر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 772 فهذا أصل يقاس عليه حرمة الكلام ومنعه بين اثنين بلغة لا يفهمها ثالثهما متى كانا يحسنانها طبعًا. فالصلة قد وجدت وتحققت في فرع لم ينص عليه , فيحكم فيه بمثل حكم الأصل. وقد صح عن عائشة رضي الله عنها: ((إنا كنا أزواج النبي عليه الصلاة والسلام عنده , فأقبلت فاطمة رضي الله عنها , فلما رآها رحب بها ثم سارها)) . أخرجه البخاري. يقول البغوي: ففيه دليل على أن المسارة في الجمع حيث لا ريبة ولا شك جائزة، والله أعلم. ج 3 ص 91. ومن المعلوم أن القياس أصل هام من أصول التشريع يقول بعض علماء الأصول: نظير الحق حق , ونظير الباطل باطل , وهو معمول به من طرف الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين بصفة عامة. وقد أنكره إبراهيم النظام المعتزلي (221هـ) وداود الظاهري (270 هـ) وحاربه ابن حزم (456 هـ) وبالغ في إنكاره , وألف رسالة سماها" إبطال القياس". وتبعا للقياس يلاحظ أن الشارع أثر عنه تعليل الأحكام بالمصالح المترتبة عنها. وإذا صح القياس بناء على تعليل الأحكام من طرف الشارع بالأوصاف المناسبة كما شرحنا سابقًا وجب تبعًا لذلك أن يصح اعتبار المصلحة المطلقة والمرسلة؛ لأن الشارع علل كثيرًا من الأحكام بالمصالح الناجمة عنها. وهذه أمثلة لما ذكرنا: أ) علل وجوب الوضوء بالطهارة , وعلل وجوب الصلاة بما يترتب على حسن أدائها من البعد عن الشرور والآثام. ب) وعلل النهي عن شرب الخمر ولعب الميسر باتقاء المضار المترتبة عليها. قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 773 ج) وعلل قسمة الفيء على ذوي الحاجة وعدم قسمته كما تقسم الغنائم بحسن توزيع الثروات وعدم تجمعها في يد واحدة وعدم تكون الطبقات بعيدة المستوى. قال جل من قائل: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (1) ومن أمثلة ذلك في السنة قوله عليه الصلاة والسلام للمغيرة بن شعبة وقد خطب امرأة لم يشاهدها ((انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) . فعلة النظر واضحة جلية يمكن القياس عليها متى وجدت هذه العلة ولم يؤثر النص. 4) ونجد الشارع يدعو دومًا إلى المحافظة على النفس والمال والنسب والعقل , والمجتهدون يقيسون بناء على ذلك عدة أمور وجدت فيها الأوصاف التي علل بها الشارع بأوصاف مشابهة. ومثال ذلك تحريم المخدرات بناء وقياسًا على تحريم الخمر لجامع فقد العقل وعدم المحافظة عليه. وحينئذ فالمجتهد عندما يراعي المصلحة في حادثة ما لا يعدو في الواقع أن يكون قد قاس على الأعمال التي أقرها وارتضاها الشارع لتحقيق هذه المصالح بناء على تعليل الأحكام بالمصلحة المترتبة عليها حين تعذر تعليلها بأوصاف مناسبة في أفعال منصوص على حكمها. ونرتب على ذلك أن الشارع قرر أحكامًا وعللها بالمحافظة على النسل والمال , فنقول: إن المصلحة تدعو إلى تسجيل عقود الزواج , وفي ذلك حفظ للأنساب والنسل , لا شك فيه , وخاصة في زمن أصبح فيه ضمير الشاهد يشترى بالمال , والمصلحة كذلك , تدعو لتسجيل عقود بيع العقارات؛ لأن في ذلك حفظًا للمال وإقرارًا للنظام في هذا المجتمع المتقلب. 5) والدليل الخامس الذي يستند إليه القائلون بجواز الأخذ بالمصالح المرسلة هو جريان العمل.   (1) [الحشر:7] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 774 فالصحابة رضوان الله عليهم راعوا المصالح ورتبوا عليها أحكامًا من غير قياس على حوادث خاصة حدثت زمن التنزيل: أ) فهذا أبو بكر رضي الله عنه جمع صحف القرآن المتفرقة , ولم يجمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم , وذلك فيما روى الإمام البخاري عن عبيد بن السياق أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إلي أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عنده , فقال: إن القتل قد اسحعر يوم اليمامة بقراء القرآن , وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن , وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت الذي رأى عمر , قال زيد: قال لي أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك , وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم , فتتبع القرآن فاجمعه. (1) وأبو بكر - رضي الله عنه - يحارب مانعي الزكاة ولم يحارب أحد من قبل جماعة من المسلمين؛ وذلك لأن المصلحة مصلحة الجماعة دعت لهذه الحرب وهو نفسه - رضي الله عنه - يشرح العلة وسبب الحكم. ب) وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يراعي المصلحة في أحكامه فقد أسقط سهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات لزوال العلة ولوجود المصلحة , كما أسقط لنفس الغرض حد السرقة في عام المجاعة كما منع بيع الإماء أمهات الأولاد. روي عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد , والنبي صلى الله عليه وسلم حي لا يرى في ذلك بأسًا , وكذلك في زمن أبي بكر , فلما كان عمر , نهانا فانتهينا.   (1) ابن حجر: فتح الباري 10 /384. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 775 وعن بريدة أنه قال: كنت جالسًا عند عمر إذ سمع صائحة , فنادى غلامه , وقال له: انظر ما هذا الصوت. فنظر ثم جاء , فقال: جارية من قريش تباع أمها. فقال عمر: ادع لي المهاجرين والأنصار. فلم يمكث ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة , فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد , فهل كان في ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم القطيعة؟ قالوا: لا. قال: فإنها أصبحت فيكم فاشية. ثم قرأ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (1) ثم قال: وأي قطيعة أفظع من أن تباع أم امرئ منكم وقد أوسع الله لكم؟ قالوا: فاصنع ما بدا لك. فكتب إلى الآفاق: ألا تباع أم حر , فإنها قطيعة , وأنه لا يحل. فهو رضي الله عنه يجتهد ويتتبع مسالك العلة ويراعي المصلحة , ويستشير أصحابه , ويبدي رأيه معللًا إياه بما اقتضته المصلحة العامة , ثم يأتي بالتنفيذ. فقد كان - رضي الله عنه - يفهم الإسلام ومقاصده , ويطبق أحكامه بنظرة واعية وبصيرة نافذة وسعي لخير الأمة وتحقيق مصالحها العامة. ونقل أن سيدنا عليا كرم الله وجهه هم بالإذن ببيع أمهات الأولاد , وقال: إن عمل عمر كان رأيًا وافقناه عليه , فقال له قاضيه عبيدة السلماني: يا أمير المؤمنين , رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك. فقال علي: اقضوا كما كنتم تقضون , فإني أكره الخلاف. وسيدنا عمر - رضي الله عنه - يراعي المصلحة العامة ويقدمها على مصالح الأفراد ويتخذ الحكم المناسب.   (1) محمد: 22. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 776 روي أنه كان يمارس تفقد أحوال المسلمين ويحرسهم حتى في الليل , فمر ذات ليلة في المدينة وسمع امرأة تغني: هل من سبيل إلى الخمر فأشربها أو من سبيل إلى نصر بن حجاج فسأل عن نصر هذا , فإذا هو أصبح الناس وجهًا وأحسنهم شعرًا , فأمر بقص شعره , فلم يفقد حسنه , فأمره بأن يعتم , فازداد حسنًا , فقال عمر: والله لا يقيم بأرض أنا فيها , ونفاه إلى البصرة بعد أن سلمه ما ينفعه في سفره. وما روته كتب السيرة يفيد أن عمر بن الخطاب قسى في حكمه هذا على هذا الشاب الذي جادله وقال له: لقد سمتني قتل نفسي. فقال عمر: كيف ذلك قال: إن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} (1) فقرن قتل النفس بالنفي والخروج من الديار. فقال عمر: ما أبعدت ولكن أقول ما قال شعيب عليه السلام: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (2) ثم قال له: ولقد أضعفت عطاءك ليكون ذلك عوضًا لك. وقد حاول بعضهم تفسير موقف عمر هذا طبق مقاصد الشريعة وأحكامها في حرمة الناس وحرمة حرياتهم في أبدانهم وأموالهم خاصة إذا لم يقترفوا جريمة تعاقب عليها. يقول العقاد في كتابه عبقرية عمر: " وفي القضية جور على نصر بن حجاج لا جدال فيه , ولكن في سبيل مصلحة أكبر وأبقى , أي في مصلحة عامة يرعاها الحكم العسكري في أزمنة كأزمنة عمر ويقضي فيها بما هو أعجب من إقصاء نصر بن حجاج يرعاها أحيانًا بمنع الإقامة بمكان ومنع المرور من طريق وتحريم تجارة لا حرام فيها ومراقبة إنسان يخشى أن يقترف جريمة وتقييد السهر بعد وقت معين من الليل. ويقول عميد كلية عين شمس الأستاذ سليمان الطماوي في كتابه عمر بن الخطاب: إن عهد عمر كان عهد تعبئة عامة لجميع الرجال القادرين على القتال , ونصر بن حجاج شاب فيه فتوة , وليس فيه ما يمنعه من الذهاب إلى ميادين القتال , ولكنه بدلًا من ذلك بقي في المدينة يصفف شعره ويجالس النساء. حقيقة إن الجهاد في الإسلام يقوم على التطوع الاختياري , ولكن أليس الخليفة ملزمًا بأن يحافظ على أعراض جنوده المجاهدين في سبيل الله.   (1) النساء: 66. (2) هود: 88. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 777 وكيف يستقيم ذلك وكثيرات من نساء المدينة قد تغيب أزواجهن , ومثل نصر بن حجاج يسرح بينهن , إذن فليذهب إلى مدينة عسكرية كالبصرة تعج بالرجال الأشداء , فلعله يراجع نفسه ويجاهد في سبيل الله؟ وأضيف إلى كلام السابقين خروجًا من التمحلات أن عمر - رضي الله عنه - راعى المصلحة , ولما جادله الرجل رجع عن قراره كحاكم وأمير تنفذ قراراته وجوبًا إلى استرضاء الرجل ومنحه ما يكفيه وزيادة حتى يرحل عن البلاد ويكف الأذية عن أهلها , وبذلك فلا نفي ولا إخراج , ولا جبر ولا إخراج , وكثيرًا ما رجع عمر - رضي الله عنه - إلى رأي غيره وسار مع الرأي المعارض , وهنا يكون قد صرف من بيت مال المسلمين مالا لمصلحة عامة , دعت إليها الضرورة الاجتماعية , وأقام بفعله دليلًا آخر على ما نحن بصدد شرحه. والنفي والتغريب عن البلاد من الأمور المتعارفة الآن , وللقوانين الوضعية تفاصيل في شأنها , أهمها عدم النفي إلى خارج تراب الجمهورية. وفي قضاء عمر أيضًا اعتمادًا على الأصل العام , وهو إباحة النافع وما فيه مصلحة , ومنع الضار المضر بالمسلمين ولو لم يكن ذلك بالقياس على حكم معين في قضية سابقة. ما رواه الإمام مالك في الموطأ عن عمر بن يحيى المازني , عن أبيه , أن الضحاك بن خليفة ساق خليجًا له من العريض , فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة , فأبى محمد , فقال له الضحاك (1) .   (1) الضحاك بن خليفة بن ثعلبة الأنصاري الأشهلي شهد غزوة بنى النضير قيل: هو الذي قال صلى الله عليه وسلم: " يطلع عليكم رجل من أهل الجنة ذو مسحة من جمال زنته يوم القيامة زنة أحد ". فطلع الضحاك بن خليفة. والخليج: شبه ساقية قال ابن منظور في لسان العرب 3/ 81: الخليج: شعبة تتشعب من الوادي تنقل بعض مائه إلى مكان آخر , والجمع خلج وخلجان. والخليج: نهر في شق من النهر الأعظم , وهو يقتطع من النهر الأعظم إلى موضع ينتفع به فيه. وفي الحديث: أن الضحاك ساق خليجًا ... وساق الأثر. والعريض: واد بالمدينة المنورة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 778 : لم تمنعني وهو لك منفعة تشرب به أولا وآخرا , ولا يضرك. فأبى , فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب , فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة , فأمره أن يخلي سبيله , فقال محمد: لا. فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه , وهو لك نافع , فتسقي به أولًا وآخرًا , وهو لا يضرك؟ فقال محمد: لا والله. فقال عمر عندئذٍ: والله ليمرن به ولو على بطنك. فأمر عمر , فمر به الضحاك. وسيدنا عمر- رضي الله عنه - في قضاء آخر له يعتمد ذلك. فقد جاء في الموطأ عن عمر بن يحيى المازني , عن أبيه , أنه قال: كان في حائط جده (وهو أبو الحسن تميم الأنصاري الصحابي) ، ربيع - أي: جدول صغير – لعبد الرحمن بن عوف فأراد عبد الرحمن أن يحوله إلى ناحية من الحائط هي أقرب إلى أرضه , فمنعه صاحب الحائط , فكلم عبد الرحمن بن عوف عمر بن الخطاب في ذلك , فقضى لعبد الرحمن بتحويله (1) وهذا اجتهاد من الخليفة الثاني - رضي الله عنه - يقرر المبدأ والقاعدة بصرف النظر عن الأخذ بذلك في هذا الفرع من عدمه. فقد علق الزرقاني بقوله: قضاء سيدنا عمر لأنه حمل حديث: ((لا يمنع أحدكم جاره خشبة يغرزها في جداره)) . على ظاهره , وعداه إلى كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه. روى ابن القاسم عن مالك: ليس العمل على حديث عمر هذا , ولم يأخذ به , وقال الشافعي في (كتاب الرد) لم يرد مالك عن الصحابة خلاف عمر في ذلك , ولم يأخذ به , ولا بشيء مما في هذا الباب , بل رد ذلك برأيه.   (1) شرح الزرقاني على الموطأ 4/ 34 - 35. - ط. دار الفكر 1401. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 779 قال ابن عبد البر: وليس كما زعم؛ لأن محمد بن مسلمة والأنصاري صاحب عبد الرحمن كان رأيهما خلاف رأي عمر وعبد الرحمن , وإذا اختلف الصحابة , رجع إلى النظر , وهو يدل على أن دماء المسلمين وأموالهم من بعضهم على بعض حرام , إلا بطيب نفس في المال. ومذهب مالك أن لا يقضي بشيء مما في هذا الباب؛ لحديث: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)) . وهو قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - وهو أيضًا قول الشافعي - رضي الله عنه - في القديم , ومشهور قوله في الجديد. انتهى. وهذا هو الذي اقتبسته النظم الحديثة فيما وضعته من قوانين , ومنها القانون التونسي في شأن حقوق الارتفاق. الفصل 165 من مجلة الحقوق العينية. ولقد اهتم الخليفة الثالث سيدنا عثمان بن عفان - رضي الله عنه وأرضاه - بموضوع جمع القرآن لما خاف الفتنة في اختلاف الرواة , فجمع القرآن في مصحف واحد , وأمر بإحراق ما عداه , وما ذلك إلا مراعاة منه للمصلحة العامة. فقد روى البخاري , عن أنس بن مالك , أن حذيفة بن اليمان كان يغازي أهل الشام وأهل العراق حتى فتح أرمينية وأذربيجان فأفزعه اختلافهم في القرآن , فقال لعثمان رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين , أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة (1)   (1) حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ولدت سنة 18 / 604 قبل الهجرة. من أمهات المؤمنين. صحابية جليلة صالحة. ولدت بمكة وتزوجت خنيس بن حذافة السهمي , فكانت عنده إلى أن ظهر الإسلام. فأسلما وهاجرت معه إلى المدينة , فمات عنها , فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيها , فزوجه إياها سنة 2 هـ أو سنة 3 هـ , واستمرت في المدينة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أن توفيت بها سنة 45 هـ/ 665 م روى لها الشيخان ستين حديثًا. (الأعلام 2/ 292) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 780 : أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان , فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش , فإنما نزل بلسانهم. ففعلوا , حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف , رد عثمان الصحف إلى حفصة , وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا , وأمر بسواه في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق (1) وحدثت في عهد سيدنا علي - كرم الله وجهه - قضية , صورتها أن رجلًا كان يلاحق آخر لقتله , وكاد الهارب أن يتملص ويفر وينجو بنفسه , إلا أن مارا بالطريق أعان الملاحق وساعده , وذلك بمسكه للفار المراد قتله , حتى تمكن منه خصمه وقتله , وكان هناك رجل آخر بالطريق ينظر ولم يساعد القتيل , ولم ينجده ولم يسع لإبعاد الموت عنه. فقضى سيدنا علي كرم الله وجهه بأن يقتل القاتل , وبأن يسجن المساعد حتى الموت , وأن تفقأ عين الذي كان يرى ويشاهد , ولا يساعد ولا ينجد. وهذا من باب قاعدة المصلحة واعتمادًا على قاعدة التعزير إذ لا نص فيه. وعقاب الممسك عن النجدة أخذ منه مبدأ المشاركة المعبر عنها بالامتناع المحظور , وهي جريمة جاءت بها القوانين الحديثة , ونص عليها في قانون العقوبات التونسي بالأمر المؤرخ في رجب 9 جويلية 1361 /1942 والأمر المؤرخ في جمادى الآخرة سنة 1373 فيفري 1954 , والقانون عدد 48 المؤرخ في صفر 1386 الموافق 3 جوان 1966 المنشور بالرائد الرسمي عدد 24 المؤرخ في صفر جوان 1386 /1966. وقد نص الفصل الثاني من هذا القانون على مبدأ إغاثة الغير ونص على عقاب من أمسك وامتنع عن هذه الإغاثة.   (1) ابن حجر: فتح الباري 10/ 391 وما بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 781 وهذه العقوبة تصل إلى خمسة أعوام سجنًا وعشرة آلاف من الدنانير خطية. وحينئذ فإن أصل هذه المخالفة الزجرية التعزيرية مأخوذ عن التشريع الإسلامي وعن فقه قضائه الذي اعتمد المصلحة في إقراره. الفقه القضائي والفتاوى وهناك فقه قضائي وفتاوى لكبار الفقهاء وبالرغم من عدم الأخذ بنظرية المصالح من طرف كثير من أئمة الفقه الإسلامي إلا أنه تطبيقيًا نشاهد آثار ذلك متعددة تفيد أن غالب هؤلاء يوافقون المالكية ويبنون اجتهاداتهم وأحكامهم واستنتاجاتهم على المصالح للنظر في استنباط الأحكام وابتنائها عليها. الحنفية: فالإمام أبو حنيفة النعمان - رضي الله عنه- لم يتعرض في الأصول التي بنى عليها أحكامه إلى المصلحة المرسلة , ولم يتخذها مصدرًا مستقلا من مصادر التشريع الإسلامي , ولكنه مع ذلك أخذ بالاستصلاح , وابتنى كثيرًا من اجتهاداته عليه , وهو زعيم أصحاب الرأي وأسبقهم في مضماره. ولئن لم يدون في أصوله ما يدل على أخذه بذلك , فإن فيما نقل عنه أصحابه كأبي يوسف مما كتبه في خلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى لدليلًا يوضح أهمية المصلحة في فقه أبي حنيفة وعموم اجتهاده (1) وخط المصلحة في فقه أبي حنيفة يكمن في دليلين من أهم الأدلة التي امتاز بها فقهه - رضي الله عنه - وهما الاستحسان والعرف. فقد كان الاستصلاح أو المصلحة المرسلة معتمدة عنده , ولكنه كان داخلًا في اعتباره ضمن ما يسميه بالاستحسان أو اعتماد العرف , وكما يقال: لا مشاحة في الاصطلاح. وأكثر الناس استعمالا للعرف واستنادًا إليه هم الأحناف , فقد اعتبروه وخرجوا عليه كثيرًا من الأحكام الشرعية ويأتي بعدهم المالكية والحنابلة ثم الشافعية.   (1) د. الخن، ص 535. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 782 قال العلامة ابن عابدين في رسائله (ج1 ص 44) : والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار وذكر ابن نجيم في الأشباه والنظائر قاعدة العادة محكمة. والاستحسان عند الإمام النعمان هو ما عرفه أبو الحسن الكرخي بقوله: " أن يعدل المجتهد عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول". وعرفه بعضهم: (بأنه العدول عن موجب القياس إلى قياس أقوى منه) . فالاستحسان عند أبي حنيفة النعمان - رضي الله عنه - أساسه أن يأتي الحكم مخالفًا لقاعدة مطردة لأمر يجعل الخروج عن القاعدة أقرب إلى الشرع من التمسك بالقاعدة. والاستحسان كيفما كانت صوره وأقسامه , فإنه يكون في مسألة جزئية ولو نسبيا في مقابل قاعدة كلية يلجأ إليه الفقيه في تلك الجزئية حتى لا يؤدي الإغراق في القاعدة إلى الابتعاد عن الشرع في روحه ومعناه ومقاصده وغاياته العامة. وهو عند المالكية الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي عرفه ابن رشد بقوله: الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعم من القياس هو أن يكون طرحًا لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه , فعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم مختص به ذلك الموضع (1)   (1) ومن هنا نفهم البون بين ما نحن بصدده والعرف. فالعرف يعتبر أصلًا من أصول التشريع عند المالكية فيما لا يكون فيه نص قطعي. وقد تختلف الفتوى أو الحكم تبعًا لتغير العرف , وكثير من الفقهاء عدلوا من فتاواهم عن المشهور من المذهب وبينوها على العرف. قال القرافي: إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك , لا تجره على عرف بلدك والمقرر في كتبك , فهذا هو الجهل الواضح. الفرق 28 من فروقه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 783 وشرح هذا أن الاستحسان لا يقيد الفقيه المجتهد عند بحث الجزئيات بتطبيق ما يؤدي إليه اطراد القياس , بل يترك لتقديره الفقهي ما يراه صالحًا أي مصلحة أو أمرًا حسنًا في هذه الحادثة الطارئة ما دام ذلك يخالف نصا من كتاب أو سنة (1) وبعض فقهاء المالكية يعبرون عن الاستحسان تعبيرًا جميلًا فيقول: "إنه دليل ينقدح في نفس المجتهد , لا تساعده العبارة عنه , ولا يقدر على إظهاره ". أي أن الاستحسان هو ما يعرف اليوم بالاتجاه إلى روح القانون , والاعتماد في ذلك كمال فقه المجتهد وإلمامه التام بالشريعة ومقاصدها , وليس معنى أن العبارة لا تساعده أنه لا يمكنه إقامة الدليل على وجه المصلحة فيه , فهذا حتمي الوجوب والثبوت , بل معناه أنه لا يمكن إظهار الأصل الفقهي الذي يعتمد عليه ويسند أمره إليه. والفرق بين المصالح المرسلة والاستحسان عند المالكية أن الأولى هي الأخذ بمصلحة لا يشهد لها دليل خاص بالنفي والإثبات في موضع لا دليل فيه غير كونها مصلحة. والاستحسان الأخذ بمصلحة في مسألة جزئية ينطبق عليها دليل كلي , وترك ذلك الدليل العام الكلي وعدم الأخذ به في هذه الجزئية. فلو اشترى بضاعة بالخيار ثم مات , فاختلف الورثة إمضاء وردا. فالقياس الدليل الكلي - الفسخ. قال أشهب المالكي: ومع ذلك نستحسن إذا قبل البعض الممضي نصيب الراد إذا امتنع البائع وهو صاحب إيجاب معروض منه ومطروح على معاقده , لا يمكنه التداخل في خلاف الورثة الذين انجر لهم الحق بوجه عام إذا رضي بعضهم ورفض البعض الآخر؛ لأنهم يمثلون مورثهم , وانتقلت حقوقه إليهم جملة , وخلافهم لا يهم معاقده البائع. والعرف عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - أصل فقهي للاستنباط وابتناء الأحكام , وذلك لحديث: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح "   (1) انظر كتاب أبو حنيفة لأبي زهرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 784 ولأن مخالفة العرف والعادة لا تخلو من حرج وضيق والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) يقول بعض الحنفية: كلام أبي حنيفة أخذ بالثقة , وفرار من القبح , والنظر في المعاملات بين الناس وما استقاموا عليه وصلحت به أمورهم , فيمضي الأمور على القياس , فإذا قبح القياس , يمضيها على الاستحسان ما دام يمضي له , فإذا لم يمضي له رجع إلى ما يتعامل به المسلمون. ومعنى هذا أنه يأخذ بالقياس والاستحسان عند فقد النص , فإذا لم يكن عنده قياس دائما عند فقد النص , فإنه يدرس تعامل الناس والعرف الجاري عندهم ثم يقرر الحكم. وأحسن مثال نقدمه هنا على الأخذ بالعرف والعادة لما فيهما من مصلحة ما قصه ابن عابدين في رسائله (ج3 ص143) في موضوع العشر الواجب في الأراضي الزراعية المستأجرة , هل هو على المستأجر أم على المؤجر؟ فالإمام أبو حنيفة يحمله على المالك؛ لأن الزكاة مؤونة الملك وثمرته , وملك الأرض للمؤجر , لا للمستأجر. وقال الصاحبان أبو يوسف ومحمد بن الحسن: إن العشر على المستأجر؛ لأن الزكاة تؤخذ من الزرع , فتتبع مالك الزرع وهو المستأجر. قال ابن عابدين: إن تطبيق رأي الإمام الذي يرجحه الأقدمون يؤدي إلى ظلم أراضي الأوقاف , ولذا أفتي برأي الصاحبين تماشيًا مع العرف. يقول الكاساني في بدائعه (ج 2، ص 56) : (ملك الأرض ليس بشرط لوجوب العشر , وإنما الشرط ملك الخارج , فيجب في الأراضي التي لا مالك لها وهي الأراضي الموقوفة؛ لعموم قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (2) وقوله عز وجل: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (3)   (1) الحج: آية 78 (2) البقرة 267. (3) الأنعام: 141 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 785 وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما سقته السماء ففيه العشر)) (1) وذلك لأن العشر يجب في الخارج لا في الأرض , ولو آجر أرضه , فعشر الخارج على المؤجر عنده , وعندهما على المستأجر. المذهب الشافعي: الشافعي رحمه الله لا يعتمد إلا الكتاب والسنة والإجماع والقياس دون غيرها. يقول في الرسالة: لا تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها. وفي كتاب المصلحة في التشريع الإسلامي يشير مؤلفه الأستاذ مصطفى زيد إلى أن الشافعية قد أفتوا في بعض الصور تطبيقًا لقاعدة المصلحة المرسلة. المذهب الحنبلي: هذا المذهب يعتمد اعتمادًا واضحًا على المصالح العامة المرسلة. يقول ابن القيم في كتابه "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: " إن ابن عقيل الحنبلي حاج شافعيا في موضع العمل بالمصلحة المرسلة. فقال الشافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع. قال ابن عقيل: السياسة ما كان الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد , وإن لم يضعه الرسول , ولا نزل به وحي. فإن أردت بقولك: " إلا ما وافق الشرع " أي: لم يخالف ما نطق به الشرع , فصحيح , وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع , فغلط , وتغليط للصحابة , فقد جرى منهم من ذلك ما لا يجحده عالم بالسنن.   (1) في البخاري ومسلم: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عشريا العشر , وما سقي بالنضح نصف العشر ". قال البغوي: حديث صحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 786 الطوفي: ولا يجمل بنا أن نهمل الحديث عن رأي هذا الفقيه الحنبلي الذي يبالغ في الأخذ بالمصلحة , وأول من ألقى الأضواء على نظرية هذا الفقيه هو علامة الشام السلفي الشيخ جمال الدين القاسمي , إذ نشر رسالة للطوفي في شرح حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) . وعلق على ذلك. ثم تبعه الشيخ رشيد رضا , ثم وضع عنه الأستاذ مصطفى زيد رسالة للحصول على الأستاذية , ثم كتب عنه الأستاذ د. عبد الوهاب خلاف وغيرهم كثير. من هو الطوفي (1) : هو أبو الربيع نجم الدين سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي الصرصري فقيه حنبلي ولد بقرية طوف من صرصر بالعراق. دخل بغداد سنة 691 هـ 1291م ورحل عنها سنة 704/ 1304م وزار مصر والحرمين حيث أقام هناك وتوفي سنة 716 /1316م ببلدة الخليل. ألف عدة كتب وهي: 1) بغية السائل في أمهات المسائل. 2) الإكسير في قواعد التفسير. 3) الرياض النواخر في الأشباه والنظائر. 4) معراج الوصول في أصول الفقه. 5) الذريعة إلى معرفة أسرار الشريعة. 6) تحفة أهل الأدب في معرفة لسان العرب. 7) الإشارات الإلهية في المباحث الأصولية.   (1) راجع ترجمة الطوفي في الدرر الكامنة لابن حجر 2/ 154 وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 366 زيادة على ما ذكرناه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 787 8) العذاب الواصب على أرواح النواصب - حبس من أجله وطيف به في القاهرة. 9) تعاليق على الأناجيل. 10) شرح مقامات الحريري. 11) شرح مختصر الجامع الصغير للترمذي. وقد شرح الأربعين حديثًا للإمام النووي وحينما وصل في شرحه إلى حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) . أطنب في شرحه وإجلاء مقاصد الشارع منه حتى انتهى به القول إلى اعتبار المصلحة اعتبارًا أساسيا وتقديمها على جميع الأدلة. وقد طبع الشيخ جمال الدين القاسمي هذا الشرح لحديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) وعلق عليه في رسالة خاصة. ويتلخص رأي الطوفي فيما يلي: 1) إن المصلحة هي مقصود الشارع , ومن ثم فهي أقوى الأدلة وأخصها. 2) إنه ليس ضروريا أن تكون حيث القاطع أو الإجماع فقد يعارض النص أو الإجماع وجود المصلحة , فتقدم عليها. 3) هذا في العادات والمعاملات لا العبادات. وهو يعتمد على حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) . الذي يكون أصلًا عظيما يبني عليه اعتبار المصلحة حيث دارت؛ لأن المصلحة لا تكون إلا حيث لا يكون هناك ضرر ولا ضرار. ويشرح الطوفي مذهبه ورأيه في هذه القضية فيقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 788 واعلم أن هذه الطريقة التي ذكرناها معتمدين فيها على الحديث المذكور ليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك , بل هي أبلغ من ذلك , وهو التعويل على النصوص والإجماع في العبادات وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام. ورأيه هذا لا يظهر أن أحدًا من الفقهاء شايعه فيه , بل لم يسلم من النقد والرد. وأفضل من ناقشه من المتأخرين هو شيخنا العلامة المبرور الأستاذ محمد العربي الماجري الأستاذ بجامع الزيتونة إذ يقول باختصار (1) : إن الطوفي تعرض في شرحه للأربعين النووية عند قوله صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) للمصلحة المرسلة , ورأيه يرجع إلى: أ) أن كل مصلحة راجحة يعمل بمقتضاها ولو عارضها نص أو إجماع , وذلك في غير العبادات. ب) استدلاله على تقديمها على الإجماع. ج) استدلاله على تقديمها على نص الكتاب والسنة. إن المصلحة المرادة للطوفي هي المصلحة التي اعتبرها الشرع. والمصلحة المرسلة إذا ترجحت بمرجح من المرجحات في نظر المجتهد , فهذا النوع من المصلحة كلما ظفر به الطوفي يقدمه على الكتاب والسنة والإجماع. هذه الدعوة التي تعلق بها الطوفي ما سبقه إليها أحد لمخالفتها للقواعد , إذ من الأصول المقررة أنه كلما وجد نص من الكتاب أو السنة أو وجد إجماع تعين بذلك العمل , إذ لا اجتهاد مع وجود النص. وبهذا ظهر أن أصل الدعوى ساقط عن الاعتبار , ويقول الطوفي في استدلاله على تقديمها على الإجماع: إن منكري الإجماع قالوا برعاية المصلحة , فهي إذن متفق عليها والإجماع مختلف فيه , والتمسك بالمتفق عليه أولى من التمسك بالمختلف فيه.   (1) دراسة نشرت بمجلة جوهر الإسلام التونسية عدد1- 2 السنة الأولى في ربيع الآخر سنة 1388، جويلية 1968. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 789 هذا الاستدلال سفسطائي ضعيف فاسد , لا يلزم من انضمام من أنكر الإجماع إلى القائلين بالمصلحة أن تكون مجمعًا عليها , إذ من يقول بالإجماع لا يقول بالمصلحة , فبطل ما ادعاه. ويبطله أيضًا ما نقلته في الشروط أن لا يخالفها نص. ويقول في استدلاله على تقديمها على نص الكتاب والسنة: إن النصوص مختلفة متعارضة , ومن ذلك نشأ الاختلاف في الأحكام المذموم شرعًا , والمصلحة أمر حقيقي في نفسه لا شائبة للخلاف فيه , فهي سبب الاتفاق المطلوب شرعًا , فكان اتباعها أولى. وهذا أيضًا كسابقه يبطله الشرط السابق , وأيضًا استدلاله الأحمق بأن النصوص متعارضة نشأ عنها خلاف , وهو مذموم شرعًا , وهذا باطل؛ لأن سبب الاختلاف في المعاني المستفادة من الألفاظ أمر ضروري , وذلك من جمال العربية وحسنها , وهو راجع إلى سببين: طريق الدلالة على المعنى والأسلوب الذي يقتضيه المقام. فطريق الدلالة على المعنى المنطوق آونة والمفهوم أخرى , والمنطوق منه النص , ومنه الظاهر , ومنه المجمل , فكيف تتحد الدلالة , ولكل واحد منها مقامه عند التركيب , والناس في إدراك معنى المفاهيم ليسوا سواسية , نظرًا للشرائط. وأما الأسلوب فهو البلاغة كلها , فالبليغ يجعل لكل كلمة مع صاحبتها مقامًا خاصا بها , فيسلك البليغ: الإيجاز - الإطناب - الحقيقة - المجاز - الاستعارة - الكناية - التشبيه وغير ذلك , ولكل ضروبه الخاصة. فكيف تتفق العقول في إدراكها , وأعجب منه جعله معنى المصلحة أمرًا حقيقيا مع أنها من الأمور النسبية , إذ لو كانت حقيقة كما ادعى , لم يختلف العقلاء فيها , ولله في خلقه شؤون. انتهى. وعلى كل فالطوفي يذهب بعيدًا جدا في اعتماد مصالح الناس لتقرير الأحكام وفض المشاكل. ويظهر أنه لو أوكل الناس أمر تقدير المصالح إلى اجتهاد المجتهدين لما حصل الاتفاق قط على مقياس معين محدد يقول أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الحفيد صاحب كتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) في كتابه فصل المقال: إذا كانت هذه الشريعة حقا وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق , فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع , فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له , وإذا كان هذا هكذا , فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما في المعرفة بموجود ما , فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه الشرع أو عرف به , فإذا كان قد سكت عنه فلا تعارض هنالك , وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام , فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي , وإن كانت الشريعة نطقت به , فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقًا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفًا , فإن كان موافقًا , فلا قول هنالك , وإن كان مخالفًا طلب تأويله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 790 العنصر الرابع العموم سوف لا نطيل الكلام هنا , فلا يتطلب هذا العنصر إيضاحًا وشرحًا مستفيضًا. فالأمة أوكلت لقادتها وأئمتها أمر تسيير شؤونها , وهؤلاء يعنون برعاية المصالح العامة التي تتناول الأفراد وتتجاوزهم إلى مصالح المجموعة الكاملة , أي: بما يعم الكافة بالخير , كأمن وحماية كل فرد في ذاته ودينه وماله وعرضه وكإقامة السدود وإنشاء الطرق وإصلاحها وإقامة المساجد ورعايتها والسعي إلى إقامة وحفظ كل معالم الدولة ولو على حساب بعض الأفراد في بعض الأحيان. فالمصالح التي يرعاها الشارع ويساندها والتي يراعيها عند سن أحكامه وينظر إليها المجتهد عند تخريج قضاياه هي التي تتصف بالعموم والتي يعود نفعها على المجتمع بصفة عامة تعم كافة أفراده. والانتزاع لا يكون إلا لوجود مصلحة عامة بإشراف الدولة ممثلة في فروعها الإدارية. وبذلك يخرج عن موضوعنا الأخذ لمصلحة فردية خاصة مثل الشفعة , فهذا استثناء تحت قيود مضيقة جاءت بها الأحكام الخاصة بالشفعة , وهي لا تكون بمجرد أمر أو قرار , بل لا بد من رفع القضية إلى المحاكم وصدور حكم فيها. ومثل هذا يقال في بعض الصور الأخرى , مثل البناء بأرض الغير , أو الحيازة المكتسبة , فهي صور فردية , لا تدخل تحت المصلحة العامة , ولا تتأثر بحق الانتزاع المخول للدولة فقط. مظاهرالتطبيق بعد هذه البسطة التحليلية لكافة شرائح وعناصر هذا الموضوع , هذه البسطة التي كان من الواجب علينا وضعها وتقديمها حتى تتضح الحقائق وتتجلى الصورة بكيفية مدققة تدعو إليها طبيعة هذا البحث الجامع التحليلي المعمق والذي يكون في دائرة نوره سبيلًا يوصل إلى جميع الكلمات المعنون بها ومنطلقًا لإبداء ما يعن في شأنها على أسس ثابتة من حقائق شرعية لا لبس فيها ولا غموض , وخير الحوار ما كان عن علم سابق بكافة عناصر وجزئيات الموضوع , وخير نقاش ما دار في دائرة الوضوح والبيان على أرض ثابتة من الحقائق المسلم بها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 791 وعلى قدر علو همة وسعة اطلاع المخاطب واتساع صدره وبالغ أهمية الموضوع ووجوب الحرص على تحقيقه , يكون العذر لنا في بعض هذا الطول الذي نرجو أن لا يكون مملا بل نرجو أن يكون مفيدًا ونافعًا ضرورة أنه يجمع الحقائق حول عناصر الموضوع يمكن الانتهاء تلقائيا إلى الإصداع بالحكم ومعرفة النتائج المطلوبة دون عناء أو زيادة بحث ودرس. والآن نرجو أن ننتقل إلى الجزء الثاني من هذه الدراسة الذي نقسمه هو نفسه إلى قسمين اثنين: أ) صور تطبيقية من تاريخنا التشريعي الإسلامي وحوادث جدت به تظهر تطبيع ما سبق من قواعد وجاء من مبادئ تخص الملك واحترامه وصونه , ثم أخذه للمصلحة العامة عند اللزوم. ب) وصور أخرى لبعض النظم العصرية وبيان أسانيدها وشروطها وأحكامها إجراءا للمقارنة وتعريفًا بما هو واقع الآن عمليا. السنة: يمكن التحقيق بأن السند الأول لتطبيق أحكام انتزاع الملك الخاص لفائدة المصلحة العامة هو السنة. فالرسول عليه الصلاة والسلام قام بأفعال وإنجاز بعد هجرته إلى المدينة المنورة في سبيل إنشاء هياكل المرافق العامة وإحداث ما يحتاجه بناء هذه القواعد الأساسية الاجتماعية للأمة الإسلامية. فقد دخل الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام المدينة المنورة مهاجرًا من مكة المكرمة على ناقته فتزاحم الأنصار لدعوته واستضافته وأمسكوا بزمام الناقة , فقال: دعوها فإنها مأمورة حتى جاءت موضع المسجد فبركت فيه , فقال: هذا منزلنا. وكان مربدًا يباع فيه التمر ويجفف وحديقة فيها عوسج ونخل ومسيل لمياه الأمطار وقبور للمشركين , وكان المربد ليتيمين تحت الوصاية , فاشتراه من وصيهما , وأمر بإزالة آثار القبور , ودفن المسيل , وقطع العوسج , وتسوية الأرض وبناء المسجد (1)   (1) كتاب وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى 1 /229 - 242. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 792 أقوال وأعمال الصحابة: كان ذلك في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد لزم توسيع المسجد بإدخال أملاك للغير مجاورة إليه إلى رحابه باعتبار أن تحقيق النفع العام مسوغ شرعي لنزع الملكية الخاصة. ووقع إحصاء هذه الدور والعقارات ودعا أصحابها وعرض عليهم الخليفة الأمر وقرار الدولة بضم هذه العقارات إلى المسجد توسعة له لضيقه وشدة الحاجة إلى هذه التوسعة التي تدعو إليها المصلحة العامة. فقد أخرج ابن سعد عن سالم أبي النضر رضي الله عنه قال: لما كثر المسلمون في عهد عمر رضي الله عنه ضاق بهم المسجد , فاشترى عمر ما حول المسجد من الدور إلا دار العباس بن عبد المطلب وحجر أمهات المؤمنين , فقال عمر للعباس: يا أبا الفضل , إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم وقد ابتعت ما حوله من المنازل نوسع بها على المسلمين في مسجدهم , إلا دارك وحجر أمهات المؤمنين. أما حجر أمهات المؤمنين فلا سبيل إليها , وأما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين أوسع بها في مسجدهم , فقال العباس رضي الله عنه: ما كنت لأفعل. فقال عمر: اختر مني إحدى ثلاث: إما أن تبيعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين , وإما أن أحطك حيث شئت من المدينة وابنها من بيت مال المسلمين، وإما تصدق بها على المسلمين , فيوسع بها في مسجدهم. قال: لا , ولا واحدة منها. فقال عمر رضي الله عنه: اجعل بيني وبينك من شئت. فقال: أبي بن كعب رضي الله عنه. فانطلقا إلى أبي , فقصا عليه القصة , فقال: إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقالا: حدثنا. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله أوحى إلى داود: ابن لي بيتا أذكر فيه. فخط هذه الخطة , خطة بيت المقدس , فإذا بربعها زاوية بيت من بنى إسرائيل , فسأل داود أن يبيعه إياه , فأبى , فحدث داود نفسه أن يأخذه منه , فأوحى الله إليه: أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتا أذكر فيه , فأردت أن تدخل في بيتي الغضب , وليس من شأني الغضب , وإن عقوبتك أن لا تبنيه , قال: يارب , فمن ولدي. قال: من ولدك)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 793 قال: فأخذ عمر رضي الله عنه بمجامع ثياب أبي بن كعب رضي الله عنه , وقال: جئتك بشيء فجئت بما هو أشد منه لتخرجني مما قلت. فجاء يقوده حتى أدخله المسجد , فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو ذر رضي الله عنه , فقال أبي: إني نشدت الله رجلًا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر حديث بيت المقدس حيث أمر الله تعالى داود أن يبنيه إلا ذكره. فقال أبو ذر: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال آخر: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأرسل أبيا , فأقبل أبي على عمر رضي الله عنهما , فقال: يا عمر , تتهمني على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: يا أبا المنذر , لا والله ما اتهمتك عليه , ولكني كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا , ثم قال للعباس: اذهب فلا أعرض لك في ذلك. فقال العباس رضي الله عنه: أما إذا فعلت هذا فإني قد تصدقت بها على المسلمين أوسع بها عليهم في مسجدهم , فأما وأنت تخاصمني فلا. فخط عمر رضي الله عنه داره التي هي له اليوم وبناها من بيت مال المسلمين (1) ، (السيوطي في الدر المنثور: 4/ 153) .   (1) يتجلى من هذا الأثر عدة أمور منها: 1- أنه عند حدوث خلاف فالإمام أصبح خصما وعليه الالتجاء إلى القضاء. 2- على المتقاضي وإن كان صاحب السلطة والحكم والنفوذ العام أن يسعى إلى القاضي وأن يأتيه إلى مكان حكمه وقضائه وأنه ليس على القاضي أن يتحول وينتقل لمباشرة القضاء وفصل النزاعات إلى مجلس أحد الخصوم مهما كانت منزلته. 3- على الحاكم أن يعتمد على النصوص التشريعية وأن يطبقها بنهاية الإنصاف حتى ولو كان أحد الأطراف من ذوي النفوذ في الدولة. 4- على صاحب الحق أن يجهر بحقه وأن يرفع أمره إلى القضاء وعلى المحكوم عليه أن يرضخ لما تصدر به الأحكام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 794 وهذا الأثر يدل بوضوح على أن الخليفة العظيم عمر الفاروق رضي الله عنه كان يرى تقديم المصلحة العامة على الخاصة المتعلقة بالأفراد وهو يحاول إرضاء المخالفين بمختلف الطرق حتى يتحصل على رضاهم وموافقتهم خاصة من كان في منزلة عم الرسول صلى الله عليه وسلم. والظاهر أن نهاية الخلاف بين صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن دالة على الحرمة والمنع , وإنما تدل على الأمر بالصلح , وما جرى عليه العمل عند الفقهاء. والمؤرخون أصحاب السير يحققون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أول من سعى في توسعة المسجد وقام بانتزاع الأملاك الخاصة لفائدة المصلحة العامة لقاء تعويضات عادلة ومحقة غير مجحفة. ونرى أنه في عهد حفيده الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما كان واليًا على المدينة للوليد بن عبد الملك تلقى الإذن بتوسعة المسجد النبوي وبعث إليه الخليفة بالمال وكتب يقول له: " من باعك فأعطه الثمن , ومن أبى فاهدم عليه , وسلم له المال , فإن أبى أخذه , فاصرفه للفقراء ". ولم يتحرج عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه من إتمام إجراءات الانتزاع بالرغم من وجود بعض المعارضين وهو من عرفنا تخلقا بأخلاق الشرع ووقوفًا عن حدوده. وهكذا فعل بعده أبو جعفر المنصور بعد أن استفتى العلماء لتوسعة المسجد الحرام بمكة المكرمة. وفعل ذلك المهدي الخليفة العباسي لما أراد توسعة المسجد الحرام بمكة ووجد من يفتيه من العلماء بحلية الانتزاع لما فيه من مصلحة عامة. الفقه والاجتهاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 795 كان الرأي الفقهي على حلية وجواز الانتزاع انتزاع الملك للمصلحة العامة , إذا تحققت هذه المصلحة وثبت جدواها كما رأينا في الانتزاع لفائدة توسيع المساجد. ومن هنا جاء الرأي الفقهي مقررًا انتهاك حرمة الأوقاف بأخذ أعيانها لفائدة المرافق الاجتماعية العامة خارقًا بذلك القاعدة القائلة بحرمة بيع أعيان الموقوفات وبطلان عقود بيعها. قال سيدي خليل في شأن بيع الموقوف: "لا عقار وإن خرب , ولا نقض ولو بغير خرب , إلا أن يباع لتوسيع كمسجد ولو جبرًا. وقال شارحه سيدي عبد الباقي الزرقاني: كمسجد وطريق ومقبرة , فيجوز بيع حبس غير هذه الثلاثة لتوسيع الثلاثة أو واحد منها , فيجبر صاحب ملك على بيعه لتوسيع ما ذكر. وقال شارحه البناني: " الظاهر حسب النقل أن ما وسع به المسجد من الرباع لا يحب أن يعوض منه إلا ما كان ملكًا أو حبسًا على معين وأما ما كان غير معين فلا يلزم تعويضه سواء في أحباس المسجد المعين أو غيره , أو على الفقراء ونحوهم على ما يفيده جواب أبي سعيد بن لب أثناء نوازل الأحباس من المعيار. ووجهه أن ما كان على غير معين لم يتعلق به حق لمعين وما يحصل من الأجر لواقفه إذا دخل في المسجد أعظم مما يقصد تحبيسه لأجله أولًا (1) كما استثنى ما كان في الحبس الذي أدخل في المسجد لمعين وهو الخلو , فلا حق لأربابها؛ لأنها محض كراء على التبقية , والكراء ينفسخ بتلف ما تستوفى منه المنفعة ولا شركة لأصحابها في الأصل.   (1) شرح سيدي عبد الباقي بن يوسف الزرقاني على مختصر سيدي خليل بحاشية محمد بن الحسن البناني 7 /111 المطبعة الكبرى بمصر 1293 هـ/1095 م. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 796 قال العلامة أحمد الدردير: (1) قول خليل: لتوسيع كمسجد ولو جبرًا أدخلت الكاف الطريق والمقبرة , فيجوز بيع حبس غير هذه الثلاثة لتوسيع الثلاثة حتى ولو أبى المستحق أو ناظر الحبس وإذا أجبر على ذلك في الوقف فالملك أحرى , فلا يقال: إنه من باب الغصب كما وقع لبعض الطلبة حين وسع جامع الأزهر بالقاهرة. وعلق على ذلك الشيخ الدسوقي في حاشيته بقوله: يجوز البيع وظاهره كان الحبس على معين أو على غير معين وهو خلاف ما نقله الزرقاني كما رأينا. ويقول في باب البيع عند قول خليل: " إلا أن أجبر عليه جبرًا حرامًا ". قوله: جبرًا حرامًا , أي: وأما لو أجبر على البيع جبرًا حلالًا كان البيع لازمًا كجبره على بيع الدار لتوسعة المسجد أو الطريق أو المقبرة أو على بيع سلعة لوفاء دين أو لنفقة زوجة أو ولد أو الأبوين , ومن الجبر الحلال الجبر على البيع لأداء ما عليه من الخراج الحق , كما قاله شيخنا العدوي (2) وذكر البناني أن المسألة لها عدة نظائر تصل إلى عشرة تدل كلها على جواز الأخذ للمصلحة العامة. والعلامة الزرقاني يذكر: أن الانتزاع يمكن أن يكون لمساحات من الأرض للمصلحة الحربية , فهو يقول في باب البيع: يجوز انتزاع الفدان في رأس جبل يحتاج الناس إليه في الحراسة من العدو (3) ومنها نفهم أن الأراضي المدنية في المناطق الحربية يمكن انتزاعها للمصلحة العامة لفائدة المجموعة.   (1) أحمد الدردير 4/ 91 - المطبعة الأزهرية. (2) العدوي 3/ 6. (3) ج5/ ص 10. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 797 قال الونشريسي في المعيار لما تكلم على ما إذا ضاق الجامع بأهله: والحكم في ذلك وجوب الزيادة في الجامع حتى يحمل أهله , فإن كان ما حواليه من الربع والعقار مملوكًا , أجبر أربابه على بيعه بالقيمة , رشيدًا كان المالك أو سفيهًا , كما يجبر على بيع الماء لمن به عطش , وهذا هو المعروف؛ لأن أصل الشريعة المعظمة القضاء للعامة على الخاصة كما في هذه المسائل , والقاعدة في اجتماع الضررين وتقابلهما , أن يسقط الأصغر للأكبر , ولا أكبر من ضرر الذي لا بدل له , والمال عنه بدل , وهي القيمة , وقد أنزلها الشرع منزلة المقوم , فلا حيف على أرباب الدور ولا شطط في كل ما جاء من هذا النمط وإن كان ما حوالي المسجد الجامع حبسًا فإنه يؤخذ جميعه أيضًا لتوسعة المسجد. ونقل ابن رشد أن مالكًا وجميع أصحابه المتقدمين والمتأخرين لم يختلفوا فيه. وقال مطرف: وإذا كان النهر بجنب طريق عظيم من طرق المسلمين التي يسلك عليها العامة فحفرها حتى قطعها فإن السلطان يجبر أهل تلك الأرض التي حولها على بيع ما يوسع به الطريق أحبوا أم كرهوا. قال ابن الماجشون في مقبرة ضاقت عن الدفن وبجانبها مسجد ضاق بأهله: لا بأس أن يوسع المسجد ببعضها؛ لأن المقبرة والمسجد حبس للمسلمين. وفي نوازل سحنون: لم يجز أصحابنا بيع الحبس بحال إلا دارًا بجوار مسجد احتيج أن تضاف إليه ليوسع بها , فأجازوا ذلك. وقال ابن جزي في قوانينه: والعقار لا يجوز بيعه إلا المسجد تحوط به دور محبسة , فلا بأس أن يشترى منها ليوسع به , والطريق كالمسجد في ذلك. والبرزلي في نوازله ينقل الفتوى عن شيخه ابن عرفة بجواز بيع الحبس إذا لم يصبح ذا نفع وعدد مسائل حدثت بتونس أفتى فيها ابن عرفة بالبيع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 798 فالمذهب المالكي حصل به الاتفاق تقريبًا على عدم جواز بيع الحبس حتى وإن خرب , والإمام سحنون يقول: "لم يجز أصحابنا بيع الحبس بحال. ومعلوم أن ذلك لحرمة الوقف وصونه واحترام إرادة الواقفين ومع ذلك فقد حصل الاتفاق الكامل على جواز هذا البيع إذا كان ذلك لمرفق عام يهم مصالح جماعة المسلمين كتوسعة المسجد والطريق وإنشاء مراكز حربية دفاعية عن حرمة المسلمين وما شابه ذلك من المرافق العامة التي ينتفع بها المسلمون بصفة عامة شاملة والتي يمكن القياس عليها عند حدوث الأقضية ونزول المشاكل والدوافع ومن باب أحرى إذا كانت الحاجة والمصلحة داعية لنزع الأملاك غير المحبسة من أربابها لفائدة المرافق العامة. وهذا هو أيضًا رأي الحنفية في الموضوع. يقول العلامة الزيلعي شارح الكنز عند الحديث عن الوقف: "إذا ضاق المسجد على الناس وبجنبه أرض لرجل تؤخذ أرضه بالقيمة كرهًا , لما روي عن الصحابة في هذا الشأن " (1) وما استعرضناه سابقًا من آراء الفقهاء مع اختلاف مذاهبهم يتلاءم في قواعده العامة ومبادئه الواسعة الشاملة مع ما شرحنا آنفًا في شأن الملك والمصلحة وترابطهما برباط متين. تراتيب النظم الحديثة الوضعية للانتزاع جاء الفصل 57 من القانون العقاري القانون العقاري وضعته لجنة من علماء وفقهاء الزيتونة وصدر به أمر 19 رمضان 1302 الملاقي 12 جوان 1885. وهو يتكون من ثلاثمائة وواحد وثماثين فصلًا تتعلق بالعقار وحقوقه وكل ما يتصل به. وقد دام العمل بهذا القانون حتى عوضته وحلت محله مجلة الحقوق العينية المعمول بها الآن الصادرة في 11 شوال 1384 الملاقي 12 فيفري 1965. والانتزاع أفرد بقوانين خاصة حسبما نراه فيما بعد. وقانون الحالة المدنية التونسي القديم المؤرخ في 27 رمضان 1303 الملاقي ماي 1886 المشتمل على أربعين فصلًا تخص الولادة والزواج والوفاة والذي نص على ابتداء العمل به في أكتوبر 1886 (3محرم 1304) جاء ناصا بفصليه 11و12 على موضوع الانتزاع. التونسي الموضوع 1302 /1885 قائلًا:   (1) شرح كنز الدقائق 3 /332. ط. بولاق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 799 "لا يجبر أحد على التنازل عن ملكه إلا لمصلحة عامة , ولا يقع إكراهه على ذلك إلا بحسب القوانين الموضوعة لأخذ الملكية جبرًا". ولما كانت القاعدة العامة السائدة تنادي باحترام حق الملكية والسماح للمالك بالانتفاع بملكه وبالتصرف فيه بالطرق التي يختارها وبسائر أوجهها , فقد جاء الدستور التونسي ضامنًا حق الملكية صائنًا إياه من العبث والاعتداء رادعًا كل من يحاول فعل ذلك. الدستور التونسي الذي صدر به القانون عدد 57 في 25 ذي الحجة الحرام 1378 الملاقي غرة جوان 1957 جاء فصله السابع قائلًا: "يتمتع كل مواطن بحقوقه كاملة بالطرق والشروط المبينة بالقانون , ولا يحد من هذه الحقوق إلا بقانون يتخذ لاحترام حقوق الغير ولصالح الأمن العام والدفاع الوطني والازدهار الاقتصادي وللنهوض الاجتماعي. وجاء الفصل 14 منه قائلًا: "حق الملكية مضمون , ويمارس في حدود القانون". والدولة المنبثقة عن الشعب بموجب هذا الدستور تسعى إلى رفع شأن المواطن من كافة النواحي والجهات من خلال تحسين وتحقيق صلاح ظروفه الصعبة والمحافظة على أمنه وصيانته وتعليمه وتيسير سبل ذلكم التعليم وتسيهله على كافة الناس حتى يكون في متناول الغني والفقير، الثري والمحتاج , لا فرق بين مواطن وآخر , ثم بناء سياسة عامة لإقامة السكن وترقيته وتسهيل أموره على كل المواطنين بجعل سياسة سكنية تسعى إلى إقراره وإسعاده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 800 وهي كذلك تسعى إلى التنمية الشاملة في كل المرافق خاصة ما يتعلق بالنقل برا وبحرًا وجوا وبعث المشاريع الصناعية والفلاحية والتنموية حتى تجد كل يد عاملة شغلًا ترتزق منه وتستمد منه متطلبات الحياة خاصة القوت. والدولة والمقنن إزاء هذه التطلعات الاقتصادية والاجتماعية لحياة الشعب الذي تخدمه وتحكمه مضطرة لوضع بعض القيود في طريق الانتفاع المطلق بحق الملكية الفردية. والطريقة المثلى التي كان من الممكن الالتجاء اليها لتحقيق الوصول إلى الهدف بين الإدارة الممثلة للقانون والدولة وبين الفرد والمواطن الذي لزم تقييد حريته وسلب إرادته في شأن من شؤون حق تملكه المطلق هي المبادرة لطريقة العرض والطلب والمفاهمة لحصول الرضا على هذا القيد والحد والسلب والاتفاق على العقد وتوابعه وشرائطه وتنفيذه طبق أحكام القوانين المدنية وبحرها الواسع الشامل العميق الذي وإن تلاطمت أمواجه فهو الملاذ المنيع لكل متظلم. لكن النظرة قد تختلف والرغبة قد تشط وعقلية بعض الناس قد تنسيهم الصالح العام فلا يفكرون إلا في مصالحهم الخاصة الضيقة , والمال عزيز وقطعة من الكبد , وقد يرفض أحدهم أن يبيع داره أو حقله أو أرضه عن طوع واختيار لفائدة مرفق عام يراد تأسيسه أو توسعته أو إصلاحه ويتعذر ذلك دون ضم ملك هذا الأحد , ويكون الرفض لا لأن الثمن بخس وزهيد , ولكن قد يكون لأسباب تافهة خيالية ينظر إليها الرافض من زاوية لا يقدرها الناس ولا يعتبرونها؛ لأنها خيالية، لا تهم إلا خيال صاحبها كوجود بعض الآثار والذكريات العائلية التي لا قيمة لها تقدر وتوضع في الميزان إلا في خيال صاحبها ورقة عاطفته وجموحها إلى حب الذات فقط. والبيع الحر طبق القوانين المدنية قد تقف في وجهه وتحول دونه تصرفات فردية جامحة وعواطف شخصية طائشة وإرضاء الناس أمر لا يدرك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 801 فاضطرت الدولة واضطر التشريع القانوني لإحداث الانتزاع بجميع كلماته الأربع حتى تتمكن الإدارة من تنفيذ سياستها الإصلاحية الاجتماعية والاقتصادية، وحتى الحربية دون عرقلة في السير أو صعوبة في التنفيذ , أما وقد أصبح الأمر بيدها , فلا بد من حفظ حقوق الأفراد بقوة القانون وحمايته وصونه ومراقبته. ومن هنا وفي ظل المبادئ الشرعية الإسلامية كان للنظام التونسي شرف السبق في تخطيط مخطط حافظ لكافة الحقوق وصائن للملك وحقوقه من أن تداس أو يعبث بها عند إرادة الانتزاع والأخذ للمصلحة العامة دون حصول الموافقة المسبقة من صاحب الشأن. ولحفظ هذه الحقوق وصونها وتحقيق المصلحة العامة كانت الدعائم التي اعتمدها المقنن لهذا النظام تعتمد على المبادئ التالية: 1) أن يكون الانتزاع الصادر من الإدارة بناء على أمر رئاسي أي: في أعلى مستوى تنظيمي. 2) أن يشرح به الغرض الأساسي والمصلحة العامة من الانتزاع مع بيان المشروع المزمع إنجازه وتحقيقه في العقار المنتزع. 3) أن يعوض صاحبه تعويضًا عادلًا لا غبن فيه. 4) أن يتصل صاحبه بحقه في العوض مسبقًا. وهذه المبادئ العادلة بنفسها يجب لتحقيقها سلوك إجراءات وتطبيق معطيات رسمتها قوانين نشرحها فيما يلي: قانون الانتزاع التونسي هو قانون عدد 85 المؤرخ في 2 شعبان 1396 الملاقي 11 أوت 1976 والمنشور بالرائد الرسمي عدد 51 , وقد جاء معوضًا للأمر القديم السابق عنه المؤرخ في 2 صفر 1358 الملاقي 9 مارس 1939. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 802 1) وقد نص الفصل الأول من قانون الانتزاع على: يتم الانتزاع للمصلحة العمومية بأمر يعين به المشروع المزمع إنجازه في العقار المنتزع. إذن فالانتزاع لا يكون إلا بأمر ولا يكون إلا للمصلحة العامة مع وجوب بيانها وإيضاحها في نفس الأمر حتى تحمى مصالح الناس أولًا ثم لفرض رقابة قضائية تمكن القضاء من التحري في وجود المصلحة العامة في هذا المشروع المزمع إنجازه والذي بينه أمر الانتزاع نفسه. والقضاء يقوم بناء على ذلك برقابة الإدارة في كيفية ممارسة نشاطها. وقرارات الانتزاع هي من قبيل القرارات الفردية أو الجماعية التي لا تكتسي صبغة ترتيبية , ومن ثم فإنه يصبح من الجائز الطعن فيها بالإلغاء. ونلاحظ هنا للمقارنة أن مجلة الأحكام العدلية نصت بمادتها 1216: "يؤخذ عند الحاجة ملك كائن من كان بالقيمة بأمر السلطان , ويلحق بالطريق العام , ولكن لا يؤخذ ملكه من يده ما لم يؤد إليه الثمن". وجاء في شرح هذه المادة للمرحوم علي حيدر: "يستملك ملك أي أحد بقيمته للمنافع العمومية كالمسجد والطريق ومسيل الماء ولو لم يرض صاحبه ببيعه". ثم أصدرت الدولة العثمانية التركية بعد المجلة نظما أخرى في الموضوع ترمي كلها إلى وضع قواعد للانتزاع. ومن ذلك مثلًا القرار المؤرخ في 8 رجب 1272/ 1856 والقانون المؤرخ في 21 جمادى الأولى 1296/ 1879 والقانون المؤرخ 7 ربيع الأنور 1332/ 1914. وقد جاءت المادة 805 من القانون المدني المصري قائلة: "لا يجوز أن يحرم أحد ملكه إلا في الأحوال التي يقررها القانون وبالطريقة التي يرسمها ويكون ذلك في مقابل تعويض عادل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 803 والقانون الكويتي الخاص بنزع الملكية رقم 33 سنة 1384 / 1964 جاء فصله الأول قائلًا: "نزع ملكية العقارات والأراضي والاستيلاء عليها مؤقتًا لا يكون إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل". وقد جاءت بهذا المبدأ - الانتزاع للمصلحة مقابل التعويض العادل - التقنيات العربية الأخرى مثل المادة 722 من القانون السوري , والمادة 814 من القانون الليبي , والمادة 1050 من القانون العراقي. (وكلهم من التشريع الإسلامي ملتمسون) . 2) جاء القانون التونسي صونًا لحقوق الأفراد الذين انتزع ملكهم بفصله الثاني بوجوب التأمين المسبق قبل الحوز. "لا يمكن للمنتزع أن يحوز العقارات المنتزعة إلا بعد دفع غرامة عادلة أو تأمين مقدارها مسبقًا ". وقد استقر فقه القضاء الإداري على أنه حتى في صورة التأكد لا يمكن أن تحوز الإدارة العقار بمجرد صدور أمر الانتزاع , بل لا بد من اتصال صاحب العقار بالغرامة أو تأمين مقدار الغرامة الوقتية عند رفض صاحب الملك للغرامة المعروضة عليه. ذلك أن حوز العقار من طرف الإدارة يتنافى مع القاعدة الأساسية للانتزاع التي أشرنا إليها سابقًا. والمالك الذي انتزع عقاره لا يمكن أن يتضرر من الانتزاع , وهو وإن نقل الملكية بموجب أمر الانتزاع طبق الفصل الثاني إلا أنه يمكنه حبس العقار حتى يخلص في الغرامة خاصة , وأن الفصل 16 من قانون الانتزاع المتحدث عنه يقول صراحة: "يتوقف حوز المنتزع على دفع غرامة الانتزاع إلى المستحقين أو تأمينها". 3) وقانون الانتزاع سمح للإدارة بحوز العقار المنتزع حالًا لكن تحت قيود وشروط تحمي حقوق المالك المنتزع عقاره. فقد نص الفصل 16 وما بعده من هذا القانون على أنه يمكن للإدارة طلب الحوز والقاضي المستعجل يعين لها المبلغ الذي يجب عليها تأمينه بعد إجراء اختبارات إذا تراءى له ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 804 وهذه النصوص جاءت - تشريعًا - حامية لحقوق الأفراد , لكن مع الأسف قد لا يرى التطبيق إلا مسايرة الإدارة في مطالبها باعتبار أن الأمر يتعلق بأمر وقتي لا نهائي. ومن المؤسف أن يحل الخبير محل القاضي في التقدير والاجتهاد , وقد تضيع بذلك الحقوق وتتلاشى , والأولى أن يعنى القضاء الاستعجالي بالأمر تماشيًا مع روح النص والمبادئ السامية المستوحاة من التشريع الاسلامي وقد جاءت حامية لحقوق الأفراد وساعية لتطييب خاطرهم وجبر جرحهم , فمنحتهم الضمانات الموصلة والحافظة. ومن المؤسف أن تقدير بعض الأراضي المنتزعة مثلا والمهيأة للبناء والسكن يقع على اعتبار أنها أراض فلاحية فتتغير القيمة تغيرًا جذريا كاملًا وتحصل المأساة بالنسبة للمالك. فالأجدر بالقاضي أن يتولى الأمر بنفسه , والقانون منحه ذلك وهو خبير عالم فقيه ثقة نزيه يصون الحقوق ويسعى لحفظها ولا تأخذه في الحق لومة لائم مستعينًا في عمله بذوي الخبرة والمعرفة للإرشاد لا للاعتماد , وبذلك يضع الأمور من أول وهلة في نصابها حتى يتصل كل ذي حق بحقه وعلى شفتيه ابتسامة الرضا تنسيه ألم الأخذ والانتزاع وحتى يقع تطبيق القانون تطبيقًا عادلًا من طرف قضاة عدول. 4) والإدارة لا حق لها في منع المالك الذي انتزع عقاره من سحب الغرامة الوقتية أو سحب بعضها عن إذن المحكمة طبعًا وهذه لها حق الاجتهاد في الموضوع. وقد قضت المحكمة الإدارة في القضية الاستئنافية عدد 80 في 13 مارس 1980 بذلك تقول في أسانيد حكمها: "حيث إنه سبق لهذه المحكمة أن أقرت بأن التشريع المتعلق بالانتزاع من أجل المصلحة العامة لا يوجب تأخير تسديد الغرامة الوقتية من قبل المنتزع إلى فصل النزاع بصورة باتة. وحيث إن عمل هذه المحكمة جرى على تمكين المنتزع منهم باستخلاص جزء من الغرامة الوقتية في حدود العروض المبذولة من قبل الجهة المنتزعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 805 وحيث إن العروض إذا كانت بعيدة عن الواقع وغير جدية أو كانت مفقودة , فإنه يستحسن للمحكمة تحديد المبلغ الواجب تسديده مؤقتًا للمنتزع منه بمحض اجتهاد المحكمة. والمادة 2 - 3 من القانون الكويتي تحرم المالك الذي رفع أمره للقضاء من المال المعروض , تحرمه من سحب جزء من الغرامة المؤمنة لحين الفصل النهائي. ويتعرض السنهوري إلى أن القانون المتعلق بالانتزاع المصري لا يمنع من السحب وحصول ذي الشأن على المبالغ المقدرة من طرف الإدارة لكن إذا تعذر الدفع فإنها تشعر المالك بذلك. ويظهر أن فقه القضاء التونسي كان أفضل من جهة الإنصاف والعدل. 5) وسيرًا على المبادئ العامة الحافظة لكافة الحقوق التي رسمها لنفسه قانون الانتزاع , فإنه جاء بفصله التاسع قائلًا: فإذا لم تستعمل العقارات المنتزعة في أشغال ذات مصلحة عمومية المنصوص عليها بأمر الانتزاع خلال أجل قدره خمسة أعوام من تاريخ أمر الانتزاع جاز للمالكين السابقين أو لمن أنجزت لهم منهم حقوق أن يطلبوا استرجاعها ما لم يقع الاتفاق على خلافه وذلك بشرط أن يقدموا مطلبًا كتابيا للمنتزع في بحر السنتين المواليتين لانقراض الأجل المشار إليه في هذا الفصل وإلا سقط حقهم ويجب عليهم عندئذ إرجاع كامل مبلغ الغرامة التي قبضوها. وفي صورة امتناع المنتزع أو سكوته فللمنتفعين أن يرفعوا القضية للمحاكم المختصة ". أي إلى المحكمة الابتدائية في الطور الابتدائي وأمام المحكمة الإدارية استئنافيا غير أنه لا يجوز مقاضاة الإدارة بحق الإلغاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 806 وهكذا نرى أن تأسيس الأخذ للمصلحة العامة مقابل التعويض العادل كان يعتمد في القانون التونسي المبادئ الفقهية التي شرحناها سابقًا وكذلك الإجراءات العدلية السابقة عنه والمبادئ العامة التي جاءت بها مجلة الأحكام العدلية أول من سعى لوضع المدونات القانونية هو الخليفة السلطان سليمان القانوني المولود سنة 900 /1494 والمتوفى سنة 974 /1566 فقد كلف شيخ الإسلام أبا السعود الآمدي فجمع عدة قوانين في مجموعة عرفت باسم قانون نامه , وكلف كذلك الشيخ إبراهيم الحلبي بأن يجمع أحكام الفقه في كتاب مختصر موحد , فلخص الشيخ الحلبي المسائل الواردة في كتب الحنفية في كتاب سماه (ملتقى الأبحر) , ولهذا الكتاب شرح اسمه الدر المنتقى شرح الملتقى. وفي عهد السلطان عبد العزيز خان وضعت مجلة الأحكام العدلية (أول مجلة) سنة 1286 /1869. ولهذه المجلة عدة شروح , أهمها شرح علي حيدر بالتركية ترجمة الأستاذ فهمي الحسيني إلى العربية. وهناك شرح لسليم باز اللبناني في جزأين طبع سنة 1306/ 1888 ببيروت بالمطبعة الأدبية , وهناك شرح آخر لها في جزأين بعنوان "مرآة المجلة " ليوسف آصاف , طبع بالمطبعة العمومية بمصر سنة 1312 /1894. وابن النجيم صاحب الأشباه والنظائر هو زين العابدين بن إبراهيم بن محمد بن نجيم ولد سنة 926 /1519 وتوفي سنة 970 /1563. فقيه حنفي مصري له كتاب الأشباه والنظائر وله كتاب (البحر الرائق في شرح كنز الدقائق) مطبوع في 8 أجزاء , وله كتاب (الفتاوى الزينية) مطبوع أيضًا وهو صنو الفقيه الحنفي سراج الدين عمر المتوفى سنة 1005 /1596 , له شرح على الكنز سماه النهر الفائق. ولزين العابدين كتاب آخر هو رسائل ابن نجيم مطبوع أيضًا. وأما ابن السبكي فهو تاج الدين عبد الرهاب بن علي بن عبد الكافي المصري السبكي قاض فقيه مؤرخ باحث سكن مع والده العالم الفقيه دمشق وتوفي بها سنة 771/ 1370 له عدة مؤلفات مطبوعة منها طبقات الشافعية الكبرى وكتاب (جمع الجوامع ومنع الموانع) وكتاب الأشباه والنظائر وكتاب التاج. والسيوطي هو عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضري السيوطي له مؤلفات بلغت فيما قيل 600 مصنفًا , منها كتاب الأشباه والنظائر في العربية والنحو , وكتاب الأشباه والنظائر في الفقه الشافعي مطبوعان , ومنها بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة , توفي سنة 911 /1505 , أما المجلة المدنية التونسية فقد وضعت سنة 1314 /1896 من طرف لجنة مؤلفة من شيوخ الزيتونة , وكان رئاستها لفضيلة المنعم المبرور شيخ الإسلام محمود بن الخوجة المتوفى سنة 1329 /1911 وهي معمول بها حتى الآن. في مبادئها العامة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 807 مثل: "هي مبادئ عامة مأخوذة من كتب الفقه خاصة الأشباه والنظائر في أصول الفقه لابن نجيم , وكذلك الأشباه والنظائر لابن السبكي في أصول الفقه أيضًا , وكذلك الأشباه والنظائر لجلال الدين السيوطي. وهذه المبادئ أخذت بها المدونة التونسية , وبنت عليها أحكامها. وخلاصة القول وفي ختامه فإن الانتزاع لا يكون حلالًا مباحًا إلا تحققت المصلحة العامة منه وخلص من كل شوائب المصالح الذاتية الفردية ونال صاحب الملك المنتزع تعويضًا عادلًا ومنصفًا عن حقوقه ومكاسبه المأخوذة والمنتزعة كل ذلك بالاتفاق والمراضاة أو بإشراف قضاء عادل يعتمد كافة المعطيات وصولًا إلى الحق. وفقنا الله لما فيه الصواب، وألهمنا لمزيد من شكره والثناء عليه بما هو أهله اعترافًا بنعمه التي لا تحصى ولا تعد. الدكتور محمود شمام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 808 الإسلام وانتزاع الملك للمصلحة العامة إعداد فضيلة الشيخ محمد الحاج ناصر بيانات لا بد منها: ا) لم نضع مسردًا لمصادر المراجع لضيق الوقت ونأمل أن نضعه عند تقديم البحث "كتابًا للنشر". 2) أحلنا كل كلمة نقلناها عن غيرنا إلى مصدرها في تعليق جعلنا ترقيمه مسلسلًا. 3) كذلك أحلنا كل حديث وكل أثر إلى مصادره. 4) حرصنا على تخريج الأحاديث والآثار التي اعتمدناها مباشرة في هذا البحث تخريجًا يكاد يكون استقرائيا، أما تلك التي اعتمدها غيرنا ممن نقلنا كلامهم من صدور الأئمة والباحثين فقد اكتفينا بتخريجها من مصدر أو أكثر من المصادر المعتمدة حسب أهمية الحديث أو الأثر للبحث في رأينا، وأحلنا أحيانًا على "المزي" وكتابه تحفة الأشراف بيان مصادرها الأخرى وإن كنا غير مستريحين إلى الاقتصار على إحالات المزي؛ لأنه حصر مجاله في السنن الست مضافًا إليها السنن الكبرى للبيهقي، وقد نعود إلى الاعتماد على أنفسنا في تخريج تلك الأحاديث والآثار قبل تقديم الكتاب إلى النشر. هـ) لم نذكر الطبعات التي اعتمدناها موطنًا أو تاريخًا وتركنا ذلك إلى "المسرد" الذي سنضعه للمصادر والمراجع وهي على أية حال في أغلبها الطبعات المصورة المتداولة بين الناس وأكثرها من بيروت. 6) لم نتخذ من كتب الفقهاء مصادر إلا ما كان من المحلى لابن حزم والتمهيد لابن عبد البر وما شاكلهما من المؤلفات التي تعتمد السنة ولا تخوض مع الخائضين في جدل الفقهاء وتصوراتهم الموغلة كثيرًا في الخيال لأننا لا نرى جدوى لمن يستنبط حكما شرعيًا من أن يوغل مع الفقهاء في معتسفاتهم. ونعتقد أن استنباط الحكم الشرعي لا يجوز أن يصدر إلا من الكتاب والسنة فإن تجاوزهما في حالات اضطرارية خاصة فإلى آثار الصحابة وفي أحيان قليلة إلى آثار كبار التابعين وليس معنى ذلك أننا لم نحاول الاستئناس بآراء الفقهاء وتطورها إنما معناه أننا لم نعتمدها إلا مرة أو مرتين استظهارًا لرأينا أو لموقفنا بقول رأيناه شريفًا جديرًا بالتقدير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 809 7) بالرغم من أننا رجعنا إلى عدد من كتب المعاصرين وبحوثهم المتصلة ببحثنا هذا , فإننا لم نر أية جدوى من الإحالة عليها أو على البعض منها إلا ما كان من تفسير التحرير والتنوير لأستاذنا العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور - رحمه الله - ومن تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا نقلا عن الشيخ محمد عبده , فكلا الكتابين مما لا يصنف مع كتب المعاصرين , وإنما يصنف مع كتب الأئمة الأول , لا سيما كتاب الشيخ ابن عاشور , فهو علم حتى بين كتب الأئمة الأول. على أنا نقلنا مرة أو مرتين من كتاب للشيخ محمد أبو زهرة وهو متميز عن غيره من المعاصرين كما نقلنا مرة كلامًا للدكتور فاروق النبهان إذ وجدناه جديرًا بالتميز عن غيره من كلام المعاصرين. 8) والمنهج الذي التزمناه في هذا البحث وهو منهجنا في كل بحث شرعي لنا هو حصر الاعتماد في الاستدلال والاستنباط على الكتاب والسنة وآثار الصحابة وقليل من آثار كتاب التابعين وتوثيق كل كلمة اعتمدنا عليها ونقلناها ونقل ما ننقله من كلام غيرنا كاملًا بلفظه غير مبتور من أوله أو آخره؛ لأن نقل الجملة أو الفقرة منتزعة من سياقها يفقدها غالبًا دلالتها الكاملة , ثم إن بتر كلام الغير وإحالة القارئ إلى مصدره قد يحمل القارئ رهقًا من أمره , فمن المحتمل أن لا يكون المصدر متيسرًا له أو عند متناول يده وهو يقرأ وفي هذه الحال إما أن يعتمد النص المبتور , فيستعسر عليه اجتلاء الدلالة , وإما أن لا يعتمده فيستعسر عليه مسايرة النص الذي يقرؤه , وفي كلتا الحالتين إساءة إلى القارئ والمنقول عنه والنص المستدل به والموضوع المستدل له , لذلك اضطررنا إلى نقل صفحات كاملة من الوسيط للسنهوري الذي اعتمدناه وحده كمصدر قانوني إلى نقل قريب منها من بعض مصادر التفسير وحتى من بعض الأئمة الأول من الفقهاء؛ لأن نقلنا منها على طوله كان في تقديرنا ضروريًا للإحاطة بالمعاني التي نقلناه من أجلها. هذه بيانات ارتأينا من الضروري وضعها أمام القارئ بين يدي البحث لنجلو له ما يمكن أن يراه البعض نشازًا أو مأخذًا يأخذنا به ولكل واحد من قبل ومن بعد رأيه وتقديره , والله الموفق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 810 بسم الله الرحمن الرحيم علاقة الإنسان بالأرض الحمد لله، أحمده وأشكره , وأستعينه وأستغفره , وأستهديه وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أتخذ من هديها نبراسًا أسترشد به، ومن نورها سببًا استمد به التوفيق من الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، شهادة من أشرب قلبه بحبه، ووقف عقله عند هديه , لا تنصرف به الأوجه والآراء إلى مصارفها، ولا تنحرف به النحل والأهواء إلى مساربها. اللهم صل وسلم على من ختمت برسالته أسباب الاتصال المباشر بين الأرض والسماء، وجعلت شريعتك المنزلة إليه صفوة الشرائع المهيأة لتكون حكمك الباقي في الأرض إلى أن ترثها ومن عليها، وأنزلت عليه تعريفا بها وتمييزًا لها {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (1) وعلى آله وأصحابه الذين استجابوا لدعوة الحق , فكانوا جندك في نصرة الحق، وقادت البشرية كافة إلى سبل الحق، وعلى التابعين وتابعيهم وكل من سلك منهاجهم واتبع هديهم بإيمان وصدق، صلاة وسلامًا أتوسل بهما إليك، في دنياي، أن تجنبني مواقع الزلل، وتعصمني من أسباب الخطأ والخطل، وتجنبني الانحراف والتحريف، وتعصمني من نوازع الضلال والزيف. وفي أخراي أن تكون سببًا لي إلى عفوك وغفرانك، ووشيجة بيني وبين المصطفى الحبيب تميلني شفاعته وتبلغني تحت لوائه ما يطمع فيه كل مسلم قانت من رحمتك ورضوانك. وبعد: فهذه محاولة معجلة لاجتناء جوانب من موقف الإسلام من الملك، أستجيب بها إلى دعوة كريمة من مجمع الفقه الإسلامي الموقر، شاكرًا أجزل الشكر وأصدقه وأعمقه، أخي رفيق العمر الأستاذ العميد الدكتور الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة أن أحسن بي الظن، فوجهها إلي غير مشفق من قصوري وما قد يجلبه عليه من تبعات.   (1) الآية رقم: (48) من سورة المائدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 811 وكنت حريًا أن أعتذر عن المشاركة في دورة "المجمع الموقر" هذه , تقديرًا لخطر التبعة وضعف الاستعداد، لولا أني أحببت أن أتخذ إسهامي وسيلة إلى أن أستزيد من العلم بالبحث في الموضوع الذي اخترته من موضوعات هذه الدورة، وبالاستماع إلى من سيتاح لي خلالها أن أجلس منهم مجلس التلميذ، يرى مجرد الجلوس إليهم شرفًا عظيمًا، فكيف بما سيفضونه علي من أقباس علومهم، ونوافح عقولهم، ونوافل نقولهم من فيوض عسى الله أن ينفعني بها فيما بقي من عمري وفيما أستقبل من آخرتي. ولقد آثرت موضوع "انتزاع الملك" على خطره وتشابكه تقديرًا لإلحاحه على حياة المسلمين منذ ما يقرب من نصف قرن وإلى أمد أحسبه سيطول إلى أن يتجلى لأولي الأمر في الأقطار الإسلامية منهاج الاقتصاد الإسلامي الحق، وينجلي عنهم الانبهار بما يتجاذبهم من الفتن الواردة من يمين ويسار، فيما يتحررون من أغلال التحجر والجمود على أوضاع وأعراف ومفاهيم، يزخر بها الفقه الإسلامي القديم، انعكاسًا لأطوار من الحضارة وأنماط من الحياة تجاوزتها البشرية اليوم في أطوار متلاحقة حتى لتكاد تنغمر معالم التواصل بين هذه وتلك من مراحل الحضارة والحياة، وتنطمس الأسباب ويوشك أن يتخذ الوضع الحضاري البشري والنمط الحياتي صبغة تنكر مظاهرها وظواهرها كل علاقة بالمراحل السالفة لحياة الإنسان , ذلك بأن ما يشهده المسلمون اليوم من حوافز إلى الانبعاث أخذ يتجاوز بسرعة تشاكل أو تكاد سرعة التطور الحضاري البشري نطاق مجرد الشعور الملتهب بضرورة الانبعاث وتجديد الحيوية إلى نطاق البحث عن الأسباب الواقعة والوسائل العملية الكفيلة بتحقيق التجدد والانبعاث، وما كانت الحياة البشرية منذ كانت منعزلة عن التأثير المادي في تكييفها وضبط مسيرتها وتحديد مسارها وتعيين مقاصدها، ولا يمكن أن تكون , فليس البشر ملائكة، ولا يمكن لحياتهم أن تكون إلا متأثرة متكيفة بالمؤثرات المادية والمقومات الروحية. والإنسان الذي خلق من الأرض وإليها يعود، حددت مهمته بأنها خلافة الله في الأرض، وحددت مسؤوليته بأنها عمارة الأرض. يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (1) ويقول: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} (2) . ويقول: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (3)   (1) الآية رقم: (30) من سورة البقرة. (2) الآية رقم: (165) من سورة الأنعام (3) الآية رقم: (14) من سورة يونس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 812 كما بينت معالم السداد لسلوكه في الأرض، واطلاعه بما وكل إليه من مهام ومسؤوليات بيانًا دقيقًا صريحًا ضابطًا في قوله سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) وما أحسب أحدًا يماري في أن المسلمين سيظلون يضطربون في شبه متاهة من سراب الأحلام وتهويمات العقول العشواء، والبصائر المضببة، ما لم ينصرفوا عن الانحباس في قمقم اجتهادات الفقهاء الأقدمين الذين تقطعت بيننا وبينهم أو أوشكت أن تتقطع أسباب التشابه بين أنماط الحياة وأطوار الحضارة، أو يتطلعون في لهث الملهاف إلى ما يتجاذبهم من يمين ويسار، من ألوان النحل والشرائع الوضعية، بعضها وضع لغيرهم ممن يختلف عنهم اختلافًا جذريًا، في البيئة المادية والروحية، وبعضها يبهرج ويزخرف ضلة بهم وانصرافًا عن هويتهم الحضارية وكيانهم العقلي والروحي، أملًا ممن يضعه في تخليد عبوديتهم وتأبيد تسخيرهم، إمابإبقائهم على ضلالة لا يكادون يهتدون لا إلى أسباب اللحاق به، ولا إلى سبل الاحتفاظ بهويتهم واستلهامها والاهتداء بها، وإما بالقضاء عليهم حين تتجاوزهم التطورات الحضارية تجاوزًا يقضي فيهم على كل عنصر من العناصر الأهلية للبقاء، ويقضي عليهم بشريعة البقاء للأصلح. وما أحسب أحدًا يماري أيضًا في أن قاعدة انصراف المسلمين عن هذه وتلك، من المثبطات أساسها أن يتأهلوا لاستئناف مهمتهم في خلافة الله في الأرض واستعادة الاطلاع بمسؤوليتهم في عمارتها عمارة تنهض على أساس من الأخذ بآخر ما انتهى إليه الفكر البشري من الألوان التقنية المختلفة، وعلى ضبط مسار تلك الألوان وتكييف مسيرتها وتحديد مقصدها، بالتصرف بها وفيها، طبقًا لمقتضيات (العمل الصالح) الجامع بين صلاح الدنيا وصلاح الآخرة، والذي هدى إليه الله سبحانه وتعالى ووشج به وعده حين حدد شروط استخلافهم في الأرض في الآية الكريمة التي استلهمناها آنفًا، وفي قوله جل ثناؤه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2)   (1) الآية رقم: (55) من سورة النور. (2) الآيات رقم: (105) و (106) و (107) من سورة الأنبياء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 813 2 - الإنسان خليفة الله في الأرض. ذلك بأن الانبعاث الإسلامي حضاريا ودعوة، ما كان ليخرج أو يشذ عن السنن الإلهي لنشأة الإنسان كافة وتطوره، وهو أنه خُلِقَ من الأرض واستخلف في الأرض وعهد إليه بعمارة الأرض، وإنما ميزة المسلم عن غيره أنه ينهض بتبعة الخلافة عن الله، ومسؤولية العمارة لأرض الله مهتديًا بما أنزل على أصفيائه منه، من ضوابط السلوك وأحكام التصرف وشرائع التصريف، وفي ما عدا ذلك لا يختلف عن غيره من بني الإنسان، وهذا يعني أن المواءمة بين مقتضيات المواكبة الحضارية مع أبناء البشر كافة، وتصحيح المسار الحضاري وتكييفه طبقًا لمقتضيات الهدي الإلهي وتكليفه هي الفيصل بين ما هو من عمل الإنسان المسلم، لا يريد من أهله النشاز عن المسار العام للتطور البشري، إن يريد إلا أن يتولى ضبط المسيرة، وتحديد المسار وتكييف السير بضوابط العدالة وحدود الإنصاف وصيغة التوازن بين تعاليم السماء وسنن التطور في الأرض. ولعل مما يرشد إلى ذلك إيحاء أن الأرض مجردة ومضافة ورد ذكرها في القرآن حوالى (461) مرة (1) أغلبها كانت في معرض الاستدلال على عظمة الله وسعة ملكه وتعدد نعمه وتنوعها، وقليل منها كان منسوبًا إلى البشر إلى نسبة تكليف من الله أو نسبة ادعاء يكون في معظمه نمطًا من كفر النعمة وتحدي الرسالات الإلهية، فلم ترد الأرض مضافة إلى البشر إلا في نحو سبعة مواضع (2) على حين وردت مع النهي عن الفساد أو البغي فيها والتنديد بالمفسدين والبغاة حوالي ست عشرة مرة (3) ووردت في تحديد مهمة الإنسان باعتباره خليفة في الأرض وإبراز تبعة هذه الخلافة على عاتقه من حيث جسامتها ومعقباتها في نحو عشرة مواضع (4) منها ما جاء فيه ذكر الأرض صريحًا , وما جاء في ذكرها فيه بمقتضى السياق.   (1) انظر محمد فؤاد عبد الباقي أو غيره "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم". (2) الآية رقم: (110) من سورة الأعراف. الآية رقم: (13) من سورة إبراهيم. الآية رقم: (57) و (63) من سورة طه. الآية رقم: (35) من سورة الشعراء. الآية رقم: (57) من سورة القصص. الآية رقم: (27) من سورة الأحزاب. (3) الآية رقم: (60) من سورة البقرة. الآية رقم: (205) من سورة البقرة. الآية رقم: (32) و (64) من سورة المائدة. الآيات رقم: (56) و (74) و (85) من سورة الأعراف. الآيتان رقم: (85) و (116) من سورة هود. الآيتان رقم: (77) و (83) من سورة القصص. الآية رقم: (36) من سورة العنكبوت. الآية رقم: (28) من سورة ص. الآية رقم: (42) من سورة الشورى. الآية رقم: (20) من سورة الأحقاف. الآية رقم: (22) من سورة محمد. (4) الآية رقم: (30) من سورة البقرة. الآيتان رقم: (133) و (165) من سورة الأنعام. الآيتان رقم: (129) و (169) من سورة الأعراف. الآية رقم: (14) من سورة يونس. الآية رقم: (55) من سورة النور. الآية رقم: (57) من سورة هود. الآية رقم: (59) من سورة مريم. الآية رقم: (26) من سورة ص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 814 ولم يرد ذكر الأرض في القرآن الكريم متصلًا بكلمة "ملك" أو غيرها مما يدل على الملكية منسوبة إلى البشر إلا ما كان من ادعاء الكفار وهو ادعاء تدحضه بقية الآيات المتضمنة له (1) وجاء القرآن الكريم صريحًا في تحديد مهمة الإنسان في الأرض بأوضح وأدق من أنها خلافة الله فيه. فقال الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه صالح عليه السلام مخاطبًا ثمود {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (2) وهذا التحديد الواضح إلى جانب مهمة "الاستخلاف" الذي ورد بصيغ مختلفة في القرآن الكريم يميز - في تقديرنا - طبيعة علاقة الإنسان بالأرض كما يريد أن تكون، ويبرز أن كل علاقة لا تنضبط بضابط " الخلافة " و"الإعمار" ليست هي العلاقة التي أراد الله أن تكون بين الأرض والإنسان. وقد يكون مما يبرز هذا المعنى أن نتدبر أن كلمة "ملك" وما تصرف منها – باستثناء ما له علاقة بالملائكة - وردت في القرآن الكريم (117) مرة، أغلبها يتصل بتأكيد ملكية الكون لله سبحانه وتعالى وحده في صيغ مختلفة , وعشرون منها مما له علاقة بالإنسان تتصل بملك اليمين من العبيد والإماء , وستة فحسب لها علاقة بالمال غير الأرض، وما من واحدة منها تنص على علاقة ملكية للإنسان بالأرض، ونحسب أن هذه الحقيقة جديرة بالتدبر والاعتبار وإن كانت لا تنهض نصًا على استنباط أي حكم حاسم فيما يتصل بتحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان والأرض، وجلي أن تحديد مهمة الإنسان بأنها خلافة الله في الأرض في عشر مواضع من القرآن الكريم كما ذكرنا آنفًا وإنعدام وصف علاقة الإنسان بالأرض بالملك أو الملكية أو بتعبير من هذا القبيل من القرآن الكريم، وتحديد مسؤولية الإنسان في خلافة الله في الأرض بأنها إعمارها، وليس امتلاكها , له دلالته التي لا ينبغي إغفالها عند تدبر التشريعات الواردة في الكتاب والسنة لضبط تصرفات الإنسان في الأرض طبقًا لمهمته ومسؤولياته.   (1) انظر التعليق رقم: (8) . (2) الآية رقم: (61) من سورة هود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 815 3 - ملك، خلف، عمر، مال. لغة وشرعًا ولكي نتبين الفروق المتحتم استحضارها ونحن نتدبر ونستبين طبيعة علاقة الإنسان بالأرض وطبيعة التشريعات والأحكام التي تضبطها وتحدد مسارها وتعين مقصدها، يجب أن نميز بين دلالات كل من كلمة "ملك" و"خلف" وكلمة "عمر"، وكلمة "مال". - أ - ملك: قال ابن منظور وابن الأثير (1) وفي حديث أبي سفيان: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر يروى بضم الميم وسكون اللام وبفتحها وكسر اللام. ويقال: طالت مملكته وساءت مملكته وحسنت مملكته وعظم ملكه، وكثر ملكه. ابن سيده: الملك والملك والملك احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به، ملكه يملكه ملكا وملكا وملكا وتملكا، الأخيرة عن اللحياني لم يحكها غيره. وما له ملك وملك وملك وملك أي شيء يملكه، كل ذلك عن اللحياني. وهذا ملك يميني وملكها وملكها أي: ما أملكه. قال الجوهري: والفتح أفصح. وفي الحديث: كان آخر كلامه الصلاة والزكاة وما ملكت أيمانهم، يريد الإحسان إلى الرقيق، والتخفيف عنهم، وقيل: أراد حقوق الزكاة وإخراجها من الأموال التي تملكها الأيدي كأنه علم بما يكون من أهل الردة، وإنكارهم وجوب الزكاة وامتناعهم من أدائها إلى القائم بعده , فقطع حجتهم بأن جعل آخر كلامه الوصية بالصلاة والزكاة، فعقل أبو بكر - رضي الله عنه - حين قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. ابن السكيت: الملك وما ملك. يقال: هذا ملك يدي وملك يدي وما لأحد في هذا ملك غيري وملك، وقولهم: ما في ملكه شيء، أي: لا يملك شيئًا.   (1) لسان العرب: ج:10. ص: 491 وما بعدها. وابن الأثير: ج: 4. ص: 359. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 816 وملك الولي المرأة وملكه وملكه: حظره إياها وملكه لها. وقال فيروز أبادي (1) ملكه يملكه مثلثة، وملكه محركة ومملكة بضم اللام أو يثلث، احتواه قادرًا على الاستبداد به وما له ملك مثلثة ويحرك وبضمتين شيء يملكه. ولي في الوادي ملك مثلثا ويحرك مرعى ومشرب ومال , أو هي البئر يحفرها وينفرد بها وقال الراغب الأصبهاني (2) الملك هو المتصرف في الأمر والنهى في الجمهور، وذلك يختص بسياسة الناطقين، وبهذا يقال: ملك الناس ولا يقال: ملك الأشياء، وقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (3) تقديره الملك في يوم الدين، وذلك لقوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (4) والملك ضربان: ملك هو التملك والتولي، وملك هو القوة على ذلك تولى أو لم يتول. فمن الأول قوله تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} (5) ومن الثاني قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} (6) فجعل النبوة مخصوصة والملك عامًا، فإن معنى الملك ههنا هو القوة التي يترشح بها للسياسة لأنه جعلهم كلهم متولين للأمر، فذلك مناف للحكمة كما قيل: لا خير في كثرة الرؤساء. قال بعضهم: الملك اسم لكل من يملك السياسة، إما في نفسه , وذلك بالتمكين من زمام قواه وصرفها عن هواها، وإما في غيره , سواء تولى ذلك أو لم يتول، على ما تقدم. قال تعالى: {فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} (7) والملك الحق الدائم لله , فلذلك قال: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} (8)   (1) القاموس المحيط، ج: 3. ص: 320 وما بعدها. (2) غريب مفردات القرآن ص: 717 وما بعدها. (3) الآية رقم: (4) - سورة الفاتحة. (4) الآية رقم: (16) من سورة غافر. (5) الآية رقم: (34) من سورة النمل. (6) الآية رقم: (20) من سورة المائدة. (7) الآية رقم: (54) من سورة النساء. (8) الآية رقم: (1) من سورة التغابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 817 وقال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} (1) فالملك ضبط الشيء، التصرف فيه بحكم، والملك بكسر الميم كالجنس للملك بضم الميم، فكل ملك بالضم ملك بالكسر، وليس كل ملك ملكا. قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} (2) وقال تعالى: {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (3) وقال: {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} (4) وقال: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} (5) وفي غيرها من الآيات. والملكوت مختص بملك الله تعالى وهو مصدر ملك , أدخلت فيه التاء نحو: رحموت ورهبوت، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (6) وقال: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (7) والمملكة سلطان الملك وبقاعه التي يملكها، والمملوك يختص في التعارف بالرقيق من الأملاك، قال تعالى: {عَبْدًا مَمْلُوكًا} (8) وقد يقال: فلان جواد بمملوكه أي بما يتملكه. والملكة بكسر الميم تختص بملك العبيد، ويقال: فلان حسن الملكة أي الصنع إلى مماليكه.   (1) (1) و (2) الآية رقم: (26) من سورة آل عمران. (2) الآية رقم: (26) من سورة آل عمران. (3) الآية رقم: (31) من سورة الفرقان. (4) الآية رقم: (31) من سورة يونس. (5) الآية رقم: (188) من سورة الأعراف والآية رقم: (49) من سورة يونس. (6) الآية رقم: (75) من سورة الأنعام. (7) الآية رقم: (185) من سورة الأعراف. (8) الآية رقم: (75) من سورة النحل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 818 وخص ملك العبيد في القرآن باليمين. وقال تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) قال تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (2) {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} (3) ومملوك مقر بالموكلة والملكة والملك. وملاك الأمر: ما يعتمد عليه منه. وقيل: القلب ملاك العبد. والملاك التزويج. وأملكوه: زوجوه، شبه الزوج بملك عليها في سياستها. وبهذا النظر قيل: كاد العروس أن يكون ملكًا. وملك الإبل والشاء: ما يتقدم ويتبعه سائره تشبيهًا بالملك. ويقال: ما لأحد في هذا ملك وملك غيري. قال تعالى: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} (4) وقرئ بكسر الميم. - ب - خلف: وقال ابن منظور (5) استخلف فلان من فلان: جعله مكانه. وخلف فلان فلانا إذا كان خليفته، يقال: خلفه في قومه خلافة، وفي التنزيل العزيز: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} (6) ويقال: خلفت فلانا أخلفه تخليفًا، واستخلفته أنا جعلته خليفتي، واستخلفه جعله خليفة. والخليفة الذي يستخلف من قبله، والجمع خلائف. وقال ابن الأثير (7) وفي حديث أبي بكر: "جاء أعرابي , فقال له: أنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. قال: فما أنت؟ قال: أنا الخالفة بعده) . الخليفة من يقوم مقام الذاهب ويسد مسده، والهاء فيه للمبالغة، وجمعه الخلفاء على معنى التذكير , لا على اللفظ، مثل ظريف وظرفاء , ويجمع على اللفظ خلائف، كظريفة وظرائف.   (1) الآية رقم: (58) من سورة النور. (2) الآية رقم: (36) من سورة النساء. (3) الآية رقم: (31) من سورة النور. (4) الآية رقم: (87) من سورة طه. (5) لسان العرب: ج: 9. ص: 82 بتصرف يسير. (6) الآية رقم: (142) من سورة الأعراف. (7) النهاية: ج: 2. ص: 69 بتصرف يسير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 819 وقال الراغب الأصبهاني (1) خلف فلان فلانًا قام بالأمر عنه , إما معه , وإما بعده. قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} (2) والخلافة النيابة عن الغير، إما لغيبة المنوب عنه , وإما لموته , وإما لعجزه , وإما لتشريف المستخلف، وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} (3) وقال: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} (4) وخلفاء جمع خليف. قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} (5) {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ} (6) - ج - عمر: وقال فيروز أبادي (7) .... وعمر الله منزلك عمارة وأعمره جعله آهلًا والرجل ماله وبيته عمارة وعمورًا ألزمه، وعمر المال نفسه كنصر وكرم وسمع عمارة صار عامرًا، وأعمره المكان واستعمره فيه جعله يعمره , والعمر كسكن المنزل الكثير الماء والكلأ، وأعمر الأرض وجدها عامرة، وعليه أغناه، والعمارة ما يعمر به المكان، وبالضم أجرها , وبالفتح كل شيء على الرأس من عمامة وقلنسوة وتاج وغيره كالعمرة. وقال الراغب الأصبهاني (8) عمر: العمارة نقيض الخراب، يقال: عمر أرضه يعمرها عمارة. قال تعالى: {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (9) وقالوا: عمرته فعمر فهو معمور. قال تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} (10) وقال: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} (11) وأعمرته الأرض واستعمرته إذا فوضت إليه العمارة. قال تعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (12)   (1) مفردات القرآن. ص: 223 بتصرف يسير. (2) الآية رقم: (60) من سورة الزخرف. (3) الآية رقم: (165) الأخيرة من سورة الأنعام. (4) الآية رقم: (57) في سورة هود. (5) الآية رقم: (26) من سورة ص. (6) الآية رقم: (73) من سورة يونس. (7) القاموس المحيط. ج: 2. ص: 95. (8) المفردات في غريب القرآن ص:518. (9) الآية رقم: 19) من سورة التوبة. (10) الآية رقم: (9) من سورة الروم. (11) الآية رقم: (4) من سورة الطور. (12) الآية رقم: (61) من سورة هود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 820 وقال اليزيدي (1) {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (2) جعلكم عمارها. يقال: أعمرته الدار أي: جعلتها له أبدا. وقال أبو عبيدة (3) استعمركم مجازه: جعلكم عمار الأرض، يقال: أعمرته الدار، أي: جعلتها له أبدًا وهي العمرى، وأرقبته: أسكنته إياها إلى موته. - د - مال: قال ابن منظور وابن الأثير (4) قال ابن الأثير: المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل لأنها كانت أكثر أموالهم. ويقال: تمول فلان مالا إذا اتخذ قينة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فليأكل منه غير متمول مالا وغير متأثل مالا)) والمعنيان متقاربان. قال ابن الأثير: وقد تكرر ذكر المال على اختلاف مسمياته في الحديث ويفرق فيها بالقرائن. ومال أهل البادية النعم. وقال فيررز أبادي (5) المال: ما ملكته من كل شيء، جمع أموال.   (1) غريب القرآن. ص: 175. (2) الآية رقم: (61) من سورة هود. (3) مجاز القرآن: 1. ص: 291. (4) لسان العرب. ج: 11. ص: 635 والنهاية ج: 4. ص: 172. (5) القاموس - المحيط. ج: 4. ص:52. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 821 وقال عياض (1) قوله: فلم تغنم ذهبًا ولا فضة إلا الأموال، المتاع والثياب كذا رواية يحيى بن يحيى وكافة رواة الموطأ. وفي رواية ابن القاسم: إلا الأموال والمتاع. بواو العطف، وعند القعنبي نحوه , قيل: دليل أن العين لا يسمى مالا , وهي لغة دوس , وإنما المال عندهم ما عدا العين، وغيرهم يجعل المال العين، قال ابن الأنباري: ما قصر عن الزكاة من العين والماشية فليس بمال. وقال غيره: كل ما تمول فهو مال. وهو مشهور كلام العرب وليس في قوله: إلا الأموال. دليل لغة دوس لأنه قد استثنى الأموال من الذهب والفضة , فدل أنها منها , إلا أن يجعله استثناء منقطعًا , فتكون "إلا" هنا بمعنى "لكن"، كما قال تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (2) وقوله: فلك في الأموال، يريد الحوائط. وقوله: إضاعة المال , قيل: يريد الممالك من الرقيق وسائر ما يملك من الحيوان , ونهى عن تضييعهم كما مر في غير هذا الحديث بالرفق بهم، وقال: وما ملكت أيمانكم. وقيل: إضاعة المال ترك الإصلاح به والقيام عليه، وقيل: وإنفاقه في غير حقه من الباطل والسرف , وقال مالك وسعيد بن جبير: هو إنفاقه فيما حرم الله، وقيل: إضاعته إبطال فائدته والانتفاع به. قوله: غير متمول مالا. أي: غير مكتسب منه مالا وغير مستكثر منه , كما قال: غير متأثل في الرواية الأخرى. 4 - التطور القانوني والتاريخي لمفهوم الملكية وعلى ضوء هذه التعريفات اللغوية والشرعية للكلمات الأربع التي عرضنا لها في الفقرة السابقة، نتدرج إلى بيان علاقة الإنسان بالأشياء التي ملكها الشارع له , أو استخلفه عليها أو استعمره فيها أو جعلها مالا له. وهذه العلاقة هي ما أطلق عليه الفقهاء والقانونيون كلمة "الحق".   (1) مشارق الأنوار. ج:1 ص: 390. (2) الآيتان رقم: (25) و (26) من سورة الواقعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 822 والحق: كما عرفه السنهوري (1) : "مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون". ولو بهذا التعريف يخرج منه فيما يتعلق بتحديد علاقة الحق بالشخص الذاتي أو المعنوي من حيث إنها متمثلة في "الملكية" أو "الملك" بمختلف دلالاتها ما يتصل بالحقوق العامة والحقوق المتعلقة بالأحوال الشخصية , لأنها وإن كانت حقوقًا، ليست بذات قيمة مالية " (2) وقبل أن ننتقل إلى تقسيم الحق إلى شخصي وعيني، نشير إلى الفرق بين الحق والرخصة، فالحق هو ما عرفناه , أما الرخصة: فهي مكنة واقعية باستعمال حرية من الحريات العامة أو هي إباحة يسمح بها القانون - أو الشرع أو كلاهما - في شأن حرية من الحريات العامة. ذلك أن الشخص في حدود القانون - أو الشرع أو كليهما - له حرية العمل والتنقل والتعاقد والتملك وغير ذلك من الحريات العامة. فإذا وقفنا عند واحدة من هذه الحريات , حرية التملك مثلًا، أمكن أن نقول في سبيل المقابلة بين الحق والرخصة: إن حرية التملك رخصة , أما الملكية فحق. وما بين الرخصة والحق توجد منزلة وسطى، هي أعلى من الرخصة وأدنى من الحق. ونستبقي مثلنا السابق، وهو حرية التملك. فحق التملك وحق الملك، الأول رخصة , والثاني حق، وما بينهما منزلة وسطى , هي حق الشخص في أن يتملك. فلو أن شخصًا رأى دارًا أعجبته ورغب في شرائها، فهو قبل أن يصدر له إيجاب البائع بالبيع، كان له حق التملك عامة في الدار وفي غيرها، فهذه رخصة. وبعد أن يصدر منه قبول بشراء الدار صارت له ملكية الدار، وهذا حق. ولكنه قبل القبول وبعد الإيجاب في منزلة وسطى بين الرخصة والحق بالنسبة إلى الدار، فهو من جهة ليس له فحسب مجرد الرخصة في تملك الدار كغيرها من الأعيان التي لا يملكها، وهو من جهة أخرى لم يبلغ أن يصبح صاحب الملك في الدار، بل هو بين بين , له أكثر من رخصة التملك , وأقل من حق الملك , له الحق في أن يتملك، إذ يستطيع بقبوله البيع، أي: بإرادته وحده أن يصبح مالكًا للدار (3) وليس يعنينا في هذا البحث موضوع الحق الشخصي إلا في حالات ثانوية سنلم بها في مواضعها.   (1) مصادر الحق ج: 1. ص: 1 بتصرف يسير. (2) مصادر الحقوق. ص: 30/ 34 بتصرف يسير. (3) مصادر الحق بتصرف يسير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 823 الحقوق العينية الأصلية على رأس هذه الحقوق حق الملك وجميع الحقوق الأصلية الأخرى متفرعة. فحق الملك هو الحق العيني الكامل، وقد تتجزأ عناصره، فتتفرع عنه حقوق عينية تعتبر بالنسبة إلى حق الملك بمثابة الجزء من الكل. فالملك التام هو ملك الرقبة ومنفعتها معا. ويتفرع عنه ملك المنفعة وحدها وملك الرقبة وحدها، وحقوق الارتفاق. حق الملك التام الملك التام من شأنه أن يتصرف به المالك تصرفا مطلقا فيما يملكه عينا ومنفعة واستغلالا، فينتفع بالعين المملوكة وبغلتها وثمارها ونتاجها، ويتصرف في عينها بجميع التصرفات الجائزة. ونرى من ذلك أن عناصر حق الملك في الفقه الإسلامي كما هي في الفقه الغربي ثلاثة: 1) الانتفاع بالعين المملوكة 2) الانتفاع بالغلة والثمار والنتاج، وهذا هو الاستغلال. 3) التصرف في العين. وليس حق الملك مطلقا كما توهم العبارة المذكورة آنفا، بل هو حق مقيد بوجوب عدم الإضرار بالجار. للمالك أن يتصرف كيف شاء في خالص ملكه الذي ليس للغير حق فيه فيعلي حائطه، ويبني ما يريده ما لم يكن تصرفه مضرا بالجار ضررا فاحشا. وعرف الضرر الفاحش بأنه ما يكون سببا لوهن البناء أو هدمه أو يمنع الحوائج الأصلية , أي المنافع المقصودة من البناء، وإما ما يمنع المنافع التي ليست من الحوائج الأصلية , فليست بضرر فاحش. ويزال الضرر الفاحش سواء كان قديمًا أو حديثًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 824 إذا كان العين مشتركا بين اثنين أو أكثر، فلكل واحد من الشركاء حق الانتفاع بحصته والتصرف فيها تصرفا لا يضر الشريك، وله استغلالها وبيعها مشاعة حيث كانت معلومة القدر بغير إذن الشريك. حق المنفعة الانتفاع الجائز هو حق المنتفع في استعمال العين واستغلالها ما دامت قائمة على حالها وإذا لم تكن رقبتها مملوكة، فحق المنفعة يختص بعنصرين من عناصر الملكية الثلاثة، الاستعمال والاستغلال، وقد يقتصر على الاستعمال فتسمى المنفعة بحق الاستعمال , وقد يقتصر الاستعمال على السكن , فيسمى ذلك بحق السكنى، ومن ثم يقترن عادة حق المنفعة بحق الاستعمال وحق السكني. وأسباب ملك المنفعة ثلاثة: العقد والوصية والوقف. حق الرقبة ويوجد هذا الحق حيث ينتزع حق المنفعة من الملك التام، فتبقى الرقبة على ملك صاحبها الأصلي، ويملك المنفعة شخص آخر غير مالك الرقبة. ومالك الرقبة لا يجوز له أن ينتفع بالعين ولا أن يتصرف في منفعتها، إذ المنفعة في ملك غيره كما تقدم. وكذلك لا يجوز له أن يتصرف في الرقبة ذاتها إلا بإذن صاحب المنفعة , فإن مالك الرقبة يعود له الملك التام على العين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 825 حق الارتفاق وتسمى بالحقوق المجردة , وقد عرف بأنه حق مقرر على عقار لمنفعة عقار شخص آخر. ومن حقوق الارتفاق الشرب والمجرى والمسيل والمرور والتعلي والجوار. فالشرب هو نوبة الانتفاع بالماء سقيًا للأرض أو الشجر أو الزرع. وحق المجرى هو حق مرور مسقى في أرض الجار لتصل إلى أرضه. وحق المسيل هو حق مرور مصرف في أرض الجار لصرف الماء الزائد عن الحاجة أو غير الصالح. وحق المرور هو حق مرور الإنسان إلى ملكه من طريق خاص في ملك غيره , وحق التعلي هو أن يكون الإنسان محقًا في أن يعلو بناؤه بناء غيره. ويتحقق ذلك في دار لها سفل لمالك الدار وعلو لمالك آخر. وحق الجوار هو أن لا يضر الجار بجاره ضررًا فاحشًا. وحقوق الارتفاق محصورة عند الحنفية في الحقوق المتقدمة الذكر. وعند المالكية هي غير محصورة: فيجوز إنشاء حقوق ارتفاق اتفاقية بالعقد، ويمكن على هذا النحو الاتفاق على ارتفاق بعدم العلو بالبناء إلى أكثر من بعد معين أو على ارتفاق بالبناء في رقعة محدودة. وقال في الوسيط (1) الأساس الذي يقوم عليه حق الملكية ومشروعية هذا الحق: حق الملكية من أوسع الحقوق العينية نطاقًا، بل هو جماع الحقوق العينية، ومنه تتفرع جميعًا، فمن له حق الملكية على شيء كان له حق استعماله وحق استغلاله وحق التصرف فيه، ولذلك يستجمع كل السلطات التي يعطيها القانون للشخص على الشيء، فإذا اقتصر حق الشخص على استعمال الشيء واستغلاله كان هذا حق انتفاع متفرعًا عن حق الملكية، وإذا اقتصر حقه على استعمال الشيء لحاجته الشخصية وحدها، أو اقتصر حقه على السكنى دون أي وجه آخر من وجوه الاستعمال.   (1) الوسيط. ج: 8. ص: 481 الفقرة: 291 بتصرف يسير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 826 كان هذا حق استعمال أو حق سكنى وكلا الحقين متفرع من حق الملكية. وإذا اقتصر حقه على استعمال الشيء على وجه معين أو الحصول منه على منافع معينة كان هذا حق ارتفاق، هو أيضًا متفرع من حق الملكية. وإذا اقتصر حق الشخص على التصرف في الشيء جبرًا على المالك لاستيفاء حقه متقدمًا على غيره من الدائنين كان هذا حق رهن أو حق اختصاص أو حق امتياز، وكلها حقوق تبعية إذ هي تكفل الدين فهي تابعة له، وهي أيضًا متفرعة من حق الملكية. فالمالك إذن يستطيع أن يفعل في ملكه ما يشاء , إلا ما ينهى عنه القانون، أما صاحب أي حق عيني آخر , فلا يستطيع أن يفعل في الشيء إلا ما نص عليه القانون، ولا يستطيع أن يفعل أي شيء آخر. وقد استتبع اتساع نطاق حق الملكية إلى هذا المدى البحث عن مشروعيته والأساس الذي يقوم عليه، فاختلفت المذاهب والأنظار في ذلك. فبعض يذهب إلى أن الملكية الفردية تقوم على القانون الطبيعي، ولكن لو كانت الملكية الفردية تقوم على القانون الطبيعي , لوجدت في كل الأزمان والعصور، وسنرى أنها إنما كانت ثمرة تطور طويل , ولم تكن موجودة من قبل. وبعض يذهب إلى أنها تقوم على الاستيلاء، فمن وضع يده على مال ملكه , وبقي مالكًا له , وانتقل منه إلى ورثته، ولكن الاستيلاء كسبب من أسباب كسب الملكية الفردية يفترض أن ضرورة الملكية الفردية كانت موجودة قبله، حتى يصح أن يكون الاسيتلاء سببًا في كسبها، وهناك من يذهب إلى أن الملكية الفردية تقوم على النفع الاجتماعي لتفوقها على جميع نظم الملكية الأخرى، إذ المجتمع الذي يمارس الملكية الفردية أرقى بكثير من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية من المجتمع الذي لا يمارسها. ولكن ذلك يفترض أن المجتمع كان بالخيار بين الملكية الفردية والملكية غير الفردية , فاختار الملكية الفردية لنفعها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 827 والصحيح أن الملكية الفردية لم تكن نتيجة مقارنة واختيار، بل كانت ثمرة تطور طويل ظل أحقابًا عديدة حتى انتهى إليها. وسنرى فيما يلي كيف تطورت الملكية. وإذا أريد للملكية الفردية أن تقوم على أساس مشروع، فخير أساس لها هو العمل. فالعامل يكسب أجر عمله، وهذا الكسب الحلال هو بذرة الملكية الفردية. ومتى سلمنا بأن الفرد له حق مشروع في كسب عمله، فقد سلمنا بمشروعية الملكية الفردية. هذا الكسب الذي جناه الفرد ثمرة لعمله هو ملك له , وينبغي أن يستأثر به دون غيره، فقد كسبه بعرق جبينه وبكده، ولا يوجد كسب حلال لكسب العمل، ولا حافز على العمل أفضل من الكسب الحلال. وإذا قلنا: من حق الفرد أن يستأثر بكسب عمله , فقد أثبتنا له حق ملكية فردية على هذا الكسب، ومن حقه إذن أن يستمتع بجميع عناصر حقه , فينتفع به استعمالا واستغلالا. ويتصرف فيه , وهو لا يزال حيا، وينتقل منه إلى ورثته بعد موته، هذه هي عناصر الملكية الفردية، لا مناص من التسليم بها متى ما سلمنا بمبدأ الملكية الفردية في ذاته. وإذا كان الملك ينتقل في بعض الأحيان إلى ورثة لا يستحقونه ولم يكسبوه بعملهم هم. فهذه ضرورة لا معدى منها، ويعوض عنها ما تؤيده الملكية الفردية من حافز على العمل. على أن المالك إذا انتقل إلى ورثة لا يستحقونه ايلبث أن ينتقل من أيديهم وينتقل إلى أيد أصلح. فالعمل إذن هو الأساس المشروع الذي تقوم عليه الملكية الفردية، وما الملك إلا الأجر واستحقه الأجير، وينبغي أن يعطى إياه قبل أن يجف عرقه. وقد نقلنا هذا البحث الدقيق كله لما اشتمل عليه من عناصر وأحكام سنعود إليها أثناء هذا البحث استنادًا أو تحليلًا. واستقراء للعناصر الضرورية لتعريف حق الملكية في الوقت الراهن، لا مناص من تتبع نشأته ومسايرة تطوره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 828 فنبقى مع السنهوري إذ يقول (1) : "ذهب كثيرون من الباحثين إلى أن الملكية بدأت أولًا ملكية جماعية، يشترك فيها جميع أفراد القبيلة , ولا يستأثر بها أحد منهم، فكانت الأرض والأسلحة والعدد بوجه خاص مملوكة ملكية جماعية للقبيلة في الحضارة البدوية. ولما استقرت الجماعات في الأرض، وتطورت الحضارة من حضارة بدوية تقوم على رعي المواشي إلى حضارة زراعية تقوم على زراعة الأرض، تطورت الملكية مع تطور الحضارة , فأصبحت ملكية عائلية. وانتهت الملكية بعد تطور طويل إلى أن تكون ملكية فردية، ولكن مع بقاء بعض آثار الملكية العائلية كالميراث والنصاب الذي يجب أن يستبقى للورثة دون أن تجوز الوصية فيه. وإذا تابعنا التطور التاريخي لحق الملكية في غرب أوروبا منذ عهد الرومان إلى نشوب الثورة الفرنسية وصدور التقنين المدني الفرنسي، وجدنا أن هذا الحق لم يبق على وتيرة واحدة، بل إنه تطور تطورًا غير مطرد. فتبسطت الملكية ثم تعقدت، ثم عادت إلى التبسط، لتعود بعد ذلك إلى التعقيد، وتنتهي أخيرًا إلى التبسط. ففي العهود الرومانية القديمة كانت الملكية جماعية وعائلية، وكانت فردية في بعض الأشياء الاستثنائية المحددة كالمنقولات والعبيد، وكان معنى الملكية يختلط بالمعنى الديني وبمعنى سيادة الدولة. ولما قوي سلطان الدولة قامت الملكية العامة وبدأ معنى الملكية الفردية يظهر على الأراضي التي كانت الدولة تقطعها للأفراد في صور مختلفة. وانتهى الأمر في العهد الكلاسيكي إلى ظهور الملكية الفردية ظهورًا كاملًا مع دعمها على أسس قوية. وإلى جانب هذه الملكية الفردية المبسطة ظهرت في الأقاليم ملكية أخرى معقدة وهي الملكية البريطورية أو الملكية غير الرومانية، حيث تقوم ملكية الدولة فوق ملكية الفرد في الأرض الواحدة، وأخذت هذه الملكية الجديدة تتبسط شيئًا فشيئًا، وتختفي فيها ملكية الدولة ويغلب حق الفرد، حتى أصبحت في عهد جيستنيان ملكية فردية تامة على غرار الملكية الرومانية.   (1) مصادر الحق. ص: 481/ 485 الفقرة: 292/293 بتصرف يسير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 829 ولكن ما لبثت العصور الوسطى والعادات الجرمانية أن عقدت الملكية الفردية من جديد، وكانت الملكية في العادات الجرمانية ملكية فردية في المنقولات وفي منزل السكنى جماعة في الأراضي الزراعية. وفي عهود الإقطاع بعد أن هدأت الحروب وتوطدت السلطات المركزية، سادت الملكية الإقطاعية في الأرض، وقامت الملكية الفعلية إلى جانب الملكية الأصلية. وتجردت الملكية الأصلية شيئًا فشيئًا عن معاني الملكية، وأصبحت الملكية الحقيقية في يد صاحب الملكية الفعلية، وتمثلت الملكية الأصلية في بعض مزايا وخدمات وأعطيات يؤديها التابع أو الحائز وهو صاحب الملكية الفعلية إلى السيد , وهو صاحب الملكية الأصلية. ولم تعد الملكية في الواقع من الأمر إلا ملكية فردية واحدة، هي ملكية التابع أو الحائز أي الملكية الفعلية، وآلت الملكية الأصلية إلى أن تكون مجرد تكاليف تثقل الأرض , وأقرب إلى أن تكون حقا من حقوق الارتفاق. ثم نشبت الثورة الفرنسية، واكتسح الفلاحون في الأقاليم قصور النبلاء، وحرقوا السجلات التي تتضمن ما لهؤلاء النبلاء من حقوق وتكاليف على الأرض، بل وحرقوا معها في بعض الأحيان القصور ذاتها وقتلوا النبلاء أصحاب هذه القصور، ونادوا بتحرير الأرض من كل التكاليف والحقوق الإقطاعية. وفي ليلة 4 أغسطس سنة 1789، بعد هدم الباستيل بأقل من شهر، أقرت الجمعية الوطنية قانونًا يقضي بإلغاء الإقطاع إلغاء تاما، وتخلصت ملكية الأرض من جميع أثقالها الإقطاعية وأصبحت ملكية خالصة لصاحبها، بل "أصبحت" حقا مقدسًا لا يجوز انتهاك حرمته، لا يجوز حرمان صاحبه منه، إلا إذا قضت بذلك في وضوح ضرورة من مصلحة عامة ثبتت قانونًا، وبشرط تعويض عادل يدفع مقدمًا (م: 17 من إعلان حقوق الإنسان) . وفي دستور سنة 1791، في المادة 87 منه، وصف حق الملكية بأنه حق مقدس لا يجوز انتهاك حرمته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 830 وسرت روح الثورة فيما يتعلق بحق الملكية إلى التقنين المدني الفرنسي، فعرفته المادة: 544 من هذا التقنين بما يأتي: "الملكية هي الحق في الانتفاع بالشيء وفي التصرف فيه على نحو أشد ما يكون إطلاقًا، بشرط ألا يستعمل الشيء على وجه يحرمه القانون أو اللوائح". وقال بورتاليس في صدد هذه المادة: "لقد اعتبر دائما مبدأ من المبادئ الحرة أن الملكية الفردية في التقنين المدني تدخل ضمن النظم الطبيعية، بل النظم الإلهية، وأن حقوق الملاك على أملاكهم هي حقوق مقدسة يجب أن تحترمها الدولة نفسها". التطور التاريخي لحق الملكية في البلاد الإسلامية وفي مصر واستمرارا لقوله ما جاء في هذه الفقرة: "حق الملكية في المنقول اعترف به اعترافًا كاملًا في جميع البلاد الإسلامية وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية. أما الأراضي فكانت قسمين: 1) أرضًا عشورية، وهي مملوكة ملكية تامة لأصحابها، وتدفع العشر عينًا مما تغله للإمام (أي الدولة) , وتشمل جميع الأراضي الواقعة في الجزيرة العربية إذ لا يقبل فيها إلا الإسلام، والأراضي التي أسلم أهلها طوعًا , فتبقى لهم ويدفعون عنها العشر، والأراضي التي فتحت عنوة وقهرًا وقسمت بين الغانمين المسلمين , فهؤلاء يملكون الأرض بقسمتها بينهم ويدفعون عنها العشر. 2) أرضا خراجية وهذه تدفع الخراج للإمام ويتراوح بين الخمس والنصف بحسب تقدير الإمام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 831 وتشمل الأرض الخراجية الأراضي التي فتحت عنوة وقهرًا (في غير الجزيرة العربية) وتركها الإمام في يد أصحابها وضرب عليها الخراج بحسب تقديره، والأراضي التي لم تفتح عنوة وقهرًا , بل سلم أهلها صلحًا، يضرب عليها الخراج بحسب عهد الصلح. والأرض الخراجية في الأرض المفتوحة صلحًا تكون ملكيتها بحسب الوارد في عهد الصلح، فقد يرد في هذا العهد أن تترك الملكية لأصحابها , فتكون لهم عليها ملكية تامة ولا يلتزمون إلا بدفع الخراج للإمام، وقد يرد في عهد الصلح أن الأرض تكون وقفًا , ولا يكون لأصحابها عليها إلا حق الانتفاع بها في نظير دفع الخراج. أما في البلاد المفتوحة عنوة وقهرًا، فللإمام الخيار بين جعل الأرض وقفًا وترك حق الانتفاع بها لأصحابها في نظير دفع الخراج وبين ترك ملكية الأرض لأصحابها يملكونها تامة ولا يلتزمون إلا بدفع الخراج. ولما فتح العرب مصر، أقروا المصريين على أراضيهم , ولم تنزع منهم، وأصبحت أراضي خراجية يلتزم أهلها بدفع خراجها. ولما كان المصريون لا يملكون رقبة الأرض منذ حكم الرومان ومن قبلهم من الفاتحين، بل منذ عهود الفراعنة، فإن العرب اعتبروا أن رقبة الأرض قد انتقلت إلى الدولة الجديدة , وقد حلت في ذلك محل الدولة البيزنطية، وبقي لأصحاب الأراضي حق الانتفاع بها في نظير دفع الخراج. ثم عاد فعرف حق الملكية في الوسيط بقوله (1) " ... إن حق ملكية الشيء هو حق الاستئثار لاستعماله واستغلاله والتصرف فيه على وجه دائم، وكل ذلك في حدود القانون ". ثم قال (2) "لمالك الشيء، ما دام ملتزمًا حدود القانون أن يستعمله وأن ينتفع به، وأن يتصرف فيه دون أي تدخل من جانب الغير بشرط أن يكون ذلك متفقًا مع ما لحق الملكية من وظيفة اجتماعية". ثم قال (3)   (1) مصادر الحق. ص: 492/ 494 الفقرة:297 بتصرف يسير. (2) مصادر الحق بتصرف يسير. (3) مصادر الحق بتصرف يسير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 832 " ... الصفة الاجتماعية لحق الملكية هي المتغلبة في التقنيات الجديدة، وهي التي تمثل النزعة الحديثة في تطور حق الملكية , فليس هذا الحق مطلقًا لا حد له، بل هو وظيفة اجتماعية يطلب إلى المالك القيام بها، ويحميه القانون ما دام يفعل. أما إذا خرج على هذه الحدود، فلا يعتبره القانون مستحقا لحمايته. ويترتب على ذلك نتيجتان: (1) حيث يتعارض حق الملكية مع مصلحة عامة , فالمصلحة العامة هي التي تقدم. (2) حيث يتعارض حق الملكية مع مصلحة خاصة هي أولى بالرعاية من حق الملكية , فإن هذه المصلحة هي التي تقدم بعد أن يعوض المالك تعويضًا عادلا". ونواصل مع السنهوري ملاحقته القيمة لما صار إليه حق الملكية من تمايز بين ما هو من خصائصه وما هو من وظيفته , فننقل من "الوسيط" قوله (1) "الملكية حق ذاتي في عناصره وخصائصه: الملكية حق ذاتي كسائر الحقوق، بل هي أكثر الحقوق عناصر، وأشملها خصائص. فالملكية حق ذاتي في عناصره. وقد قدمنا أن المالك له سلطة ذاتية على الشيء الذي يملكه، وسلطته على الشيء هي أوسع السلطات، فله أن يستعمل الشيء في شؤونه الخاصة، ويستعمله على الوجه الذي يقدر أنه نافع له. وله أن يستغل الشيء إرضاء لمصالحه الشخصية، ووفاء بحاجاته الذاتية. وله أن يتصرف في الشيء بجميع أنواع التصرفات، فله أن ينقل ملكيته إلى غيره بمقابل أو بغير مقابل، وله أن يرتب حقوقًا متنوعة على الشيء، من حق انتفاع إلى حق ارتفاق إلى حق رهن إلى غير ذلك من الحقوق. وله أن يغير من معالم الشيء، وأن يزيد عليه، وأن ينتقص منه، بل له أن يستهلكه وأن يتلفه وأن يعدمه، كل ذلك سعيًا وراء مصالحه الشخصية، ووفاء بحاجاته الخاصة، فالملكية إذن كسائر الحقوق، حق ذاتي من حيث عناصره، بل هو أكثر الحقوق الذاتية عناصر كما سبق القول. والملكية حق ذاتي في خصائصه. وقد قدمنا أن الملكية حق جامع، فيجمع المالك في يده جميع السلطات على الشيء، على النحو الذي رأيناه. ومن المالك تستمد كل سلطة على الشيء، وما لم يثبت أجنبي أنه استمد سلطة معينة بموجب إرادة المالك أو بموجب حكم القانون، فهذه السلطة للمالك , لا لأحد غيره. وقدمنا أن الملكية حق مانع، فيستأثر المالك بالشيء وحده , وليس لأحد أن يشاركه فيه.   (1) مصادر الحق. ص: 550/562 الفقرة: 333/343 بتصرف يسير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 833 وهذه الذاتية في حق الملكية تعتبر من مقوماته، وخصائصه البارزة. فإذا كان الشيء المملوك أرضًا فضاء، كان للمالك أن يسورها وأن يمنع دخول الغير فيها، حتى لو لم يصبه من دخول الغير ضرر. ولا يجوز لأحد أن يشارك المالك بغير إذنه في استعمال الشيء، أو في استغلاله، أو في التصرف فيه , والملكية أخيرًا حق دائم. وتتميز الملكية بالدوام عن أي حق ذاتي آخر , فكل حق - عينيا كان أو شخصيا - هو حق مؤقت , أو يمكن أن يكون مؤقتًا، وذلك فيما عدا حق الملكية , فإنه يدوم ما دام الشيء المملوك. وهذا وحده كاف لنطبع الملكية بطابع ذاتي، إذ يستطيع المالك، ومن بعده خلفاؤه، أن يستأثروا بالشيء المملوك. ويبقون مستأثرين به، إلى أن يهلك الشيء أو يتلف. ومن ثم كانت دعوى الاستحقاق غير قابلة للسقوط بالتقادم، وكذلك لا يجوز أن تقترن الملكية بأجل. الملكية حق ذاتي ونطاق الملكية يتسع، حتى ليشمل سطح الأرض وما فوقها وما تحتها. وإذا كانت الملكية كما قدمنا أكثر الحقوق الذاتية عناصر وأشملها خصائص، فهي إذن أوسعها نطاقًا. ولا تقتصر على هذا القدر من العلو والعمق، بل هي أيضًا تتناول مع الشيء المملوك كل ما ينتجه هذا الشيء من ثمار ومنتجات. بل إن مالك الأرض يملك بالالتصاق كل ما اتصل بها من مبان وغراس، ويستأثر إلى أوسع مدى بحقه الذاتي في ملكه. وهكذا يمتد حق المالك، فيتناول الأرض في سطحها طولًا وعرضًا، وفي حيزها علوا وعمقًا، ويشمل كل ما يتصل بالأرض من ملحقات، وما تخرجه من ثمار ومنتجات. وهذا أقصى ما يصل إليه الحق في اتساع نطاقه. الملكية حق ذاتي في حمايته ويحمي القانون المالك حماية شاملة، فيمنع الغير من الاعتداء على ملكه، ويضع في يده سلاحًا قويا في دعوى الاستحقاق يسترد بموجبها ملكه من تحت يد أي حائز لها، غاصبًا كان أو غير غاصب. ولا يجوز نزع الملكية جبرًا على صاحبها إلا بشروط , أهمها أن يقوم مبرر قانوني لذلك، وأن يعوض المالك مقدمًا عن ملكه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 834 الملكية الذاتية ثمرة العمل وجزاؤه الحق وإذا كان المالك يستأثر بما يملكه ويحوزه لمصلحته الخاصة وللوفاء بحاجاته الشخصية، فما ذلك إلا لأنه في الأصل قد بذل جهودًا في العمل، وكانت الملكية هي ثمرة هذه الجهود، والأجر على هذا العمل. ومتى ثبتت لصاحبها، وجب أن تثبت له بجميع عناصرها من استعمال واستغلال وتصرف، وبجميع خصائصها فتكون جامعة مانعة دائمة. فللمالك أن يتصرف في الشيء حال حياته، وينتقل الشيء إلى ورثته بعد وفاته. وإذا كان يبدو أن الوارث لم يبذل جهدًا في تملكه للشيء الموروث، فإن الميراث ينظر إليه لا على أنه جزاء للوارث، بل جزاء للموروث ذلك أن الموروث إذا كان لم يتصرف في الشيء وهو حي وهذا حقه، فإنه أراد بذلك أن ينتقل الشيء إلى وارثه بعد وفاته , وهذا حقه أيضًا، بل هذا هو جزاؤه على عمله. ولا ضير من أن ينتقل الشيء إلى وارث قد لا يستحقه، فإن هذا الوارث إذا كان حسن التدبير , فما ورثه يكون عونًا له , فلا يكون عالة على المجتمع، وإذا كان سيئ التدبير , فإنه لا يلبث أن يضيع ما ورثه. وفي بعض الحالات يكون الورثة، وبخاصة الزوجة والأولاد، قد ساهموا في الجهود التي بذلها المورث في الحصول على ملكه. فالملكية الذاتية إذن هي ثمرة العمل، وهي جزاؤه الحق. الملكية الذاتية أقوى حافز على العمل وخير ضمان للاستقلال الشخصي ولا يجوز الاقتصار في النظر إلى الملكية الذاتية على أنها جزاء، فهي قبل أن تكون جزاء على العمل، أقوى حافز عليه. ذلك أن الإنسان بطبعه قد ركب فيه من حب الذات وما يجعله أقوى ما يكون نشاطًا وإقبالا على العمل عندما يعلم أن لعمله جزاء يستأثر به لنفسه، ولا يشاركه فيه غيره. وليس الأمر هنا أمر سلوك يمدح أو يذم، بل هو أمر الواقع المشاهد، وليس لنا بد من استخلاص نتائجه. فالنشاط الفردي وهو من الأسس القوية التي يقوم عليها المجتمع، لا بد له من حافز، وأقوى حافز له هي المصلحة المادية، وأبرز صور المصلحة المادية هي الملكية الذاتية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 835 ثم إن الملكية الذاتية لا تقتصر على أن تكون أقوى حافزا على العمل، بل هي أيضًا خير ضمان للاستقلال الشخصي. فمن لا يملك شيئًا يفقد استقلاله، ويكون عبدًا لمن ملك. ومهمة الدولة ليست في أن تلغي الملكية الذاتية وتكون هي المالكة لكل شيء , فيصبح الناس جميعًا عبيدًا لها، بل مهمتها على العكس من ذلك هي أن تجعل الملكية الذاتية في متناول كل من يعمل. فتكون الملكية الذاتية أفضل جزاء على العمل، وأقوى حافزا عليه وخير ضمان للاستقلال والحرية. الأساس الذي تقوم عليه الوظيفة الاجتماعية للملكية وإذا كان حق الملكية حقا ذاتيا على النحو الذي بسطناه فإن لهذا الحق وظيفة اجتماعية يجب أن يقوم بها. وقد وقف التقنين المدني الفرنسي في سنة 1804 عند ذاتية حق الملكية، وأغفل كثيرًا من مظاهر الوظيفة الاجتماعية التي لهذا الحق. ولكن المذاهب الاشتراكية التي بدأت تنتشر طوال القرن التاسع عشر، وأخذت تنفذ إلى صميم النظم الاجتماعية والاقتصادية والقانونية، ووصلت إلى الأوج من انتشارها في القرن العشرين، ما لبثت أن أبرزت جانب الوظيفة الاجتماعية لحق الملكية، وكان ذلك بطبيعة الحال على حساب جانب الذاتية في هذا الحق. ولا شك في أن الملكية حق ذاتي وحق اجتماعي في وقت واحد. أما أنها حق ذاتي، فقد تقدم القول في ذلك، وأما أنها حق اجتماعي فينهض أساسًا لذلك أمران: ا) مبدأ التضامن الاجتماعي، فإن هذا المبدأ يقضي بوجوب التعاون في المجتمع. والملكية من أهم الدعائم التي يقوم عليها هذا التعاون، فالمالك يجب أن يعتبر نفسه , كما هو الواقع، عضوًا في المجتمع الذي يعيش فيه، يأخذ منه ويعطيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 836 2) على أن المالك إذا كان قد كسب ملكه بعمله كما سبق القول، مدين أيضًا للمجتمع بما كسب. فليس عمله وحده هو الذي أكسبه الملك، بل إن المجتمع ساهم مساهمة ملحوظة في جهود المالك حتى يحصل هذا على ما أصبح مالكًا له. ومساهمة المجتمع في جهود المالك هي على نفس مستوى مساهمة الأسرة أو لعلها تزيد , فإذا كانت مساهمة الأسرة هي أحد مبررات الميراث , فلا شك في أن مساهمة المجتمع تبرر هي الأخرى أن تكون للملكية وظيفة اجتماعية. ومقتضى أن تكون للملكية وظيفة اجتماعية هو أن يقيد حق الملكية لا للمصلحة العامة فحسب، بل أيضًا للمصلحة الخاصة. تقييد حق الملكية للمصلحة العامة "حيث يتعارض حق الملكية مع مصلحة عامة، فالمصلحة العامة هي التي تقدم، فما ينبغي أن تقف الملكية حجر عثرة في سبيل تحقيق المصلحة العامة، ولا يدخل هذا في وظيفتها الاجتماعية" وقد رأينا أن نطاق الملكية يتسع حتى يشمل سطح الأرض وما فوقها وما تحتها. وليس معنى ذلك أن مالك الأرض يسوغ له أن يمنع أي عمل يقام به للمصلحة العامة فوق سطح الأرض أو تحتها، كمرور الأسلاك المعدة للمواصلات التلغرافية أو التلفونية أو المعدة للإضاءة أو لنقل القوى الكهربائية ومواسير المياه والغاز. وبوجه عام ليس للمالك أن يعارض فيما يقام من عمل على مسافة من العلو أو العمق لا تضر بصاحب الأرض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 837 وقد تصل المصلحة العامة في التعارض مع حق المالك إلى حد أن تلغي هذا الحق. وقد أجاز القانون فعلًا نزع الملكية للمنفعة العامة بشروط وقيود. كذلك تقتصي المصلحة العامة تأميم الملك ونقله إلى الدولة كما وقع ذلك - حتى في بعض الدول الغربية - في شأن البنوك وشركات التأمين والشركات الصناعية، فلا يجوز أن يقف حق الملكية حائلًا دون ذلك. ثم إن هناك كثيرًا من القيود ترد على حق الملكية، قررتها القوانين واللوائح لمصلحة عامة اقتضتها، ومن أهم هذه القيود حقوق الارتفاق الإدارية، كحقوق التطرق المتعلقة بالشوارع هي الارتفاقات التي يتحمل بها الملاك الذين توجد أملاكهم على جانبي الطريق العام كتقرير خط التنظيم وعدم البناء من غير رخصة أو هدم الأبنية المختلفة أو الآيلة للسقوط، والحقوق المتعلقة بمجاري المياه كحق الحكومة في قلع الأشجار المغروسة في الجسور وميول الترع العامة إذا كانت هذه الأشجار تعوق سير المياه في الترع أو تعطل الملاحة فيها أو تمنع السير على جسورها. ومن هذه القيود أيضًا ما تقرر لمصلحة الأمن العام أو الصحة العامة , كالقيود التي تجب مراعاتها في إنشاء العزب أو الزرائب، أو المحال العامة أو المحال المقلقة للراحة والضارة بالصحة والخطرة، أو إقامة الآلات الرافعة أو تركيب الآلات البخارية، أو إحداث الحفر أو البرك. ومن هذه القيود ما تقرر لمصلحة الزراعة كالقيود الخاصة بوقاية القطن والمحاصيل الأخرى، ومنع زراعة القطن في أكثر من مساحة معينة. ومنها ما تقرر للمصلحة الحربية كإنشاء مناطق خطر حول القلاع. ومنها ما وضع لحفظ الثروة القومية وإنمائها كالقيود الخاصة بالمناجم وحماية الآثار التاريخية. تقييد حق الملكية لمصلحة الخاصة " ... حيث يتعارض حق الملكية، فإن هذه المصلحة الخاصة هي التي تقدم، بعد أن يعوض المالك تعويضًا عادلًا. وهنا نجد القيد الذي يرد على حق الملكية قد تقرر، لا للمصلحة العامة، بل للمصلحة الخاصة" وهذا المظهر من تقييد حق للمصلحة الخاصة وهو أبلغ مظهر لمبدأ التضامن الاجتماعي ولكون الملكية لها وظيفة اجتماعية يجب عليها أن تؤديها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 838 فالمبدأ الأساسي إذن هو أنه حيث تتعارض مصلحة المالك مع مصلحة خاصة لأجنبي، فليس من الضروري أن تقدم مصلحة المالك وإن كان من الضروري تقديمها , لو أن الملكية حق ذاتي فحسب. ولكن الملكية لها وظيفة اجتماعية، وهذه الوظيفة تقضي بأنه تجب الموازنة بين مصلحة المالك ومصلحة الأجنبي، فإن كانت مصلحة الأجنبي أولى بالرعاية من مصلحة المالك، وجب تقديم مصلحة الأجنبي مع تعويض المالك التعويض العادل. وبذلك تكون الملكية قد أدت وظيفتها الاجتماعية على خير وجه يقضي به التضامن الاجتماعي. وإذا رجحت مصلحة الأجنبي على مصلحة المالك، فأقل ما يطلب من المالك أعمال سلبية يمتنع بها عن الإضرار بالجار , وقد يجاوز الأمر الأعمال السلبية من المالك إلى أعمال إيجابية من الجار , بل قد يصل الأمر إلى حد يقتضي من المالك نفسه أن يقوم بأعمال إيجابية , وهذه هي أبلغ مظاهر الوظيفة الاجتماعية لحل الملكية , وبها يكون التضامن الاجتماعي قد بلغ الذروة في التقييد من سلطان المالك. أعمال سلبية من المالك الأمثلة كثيرة على الأعمال السلبية التي تقتضي من المالك حتى يقوم بما للملكية من وظيفة اجتماعية، ونجتزئ هنا بإيراد بعض الأمثلة: "ا) - يجب على المالك أن يمتنع عن استعمال ملكه بحيث يضر بالجار ضررًا فاحشًا. وإذا جاز للمالك أن يطلب من جاره أن يتحمل مضار الجوار المألوفة، فليس له أن يحمله المضار غير المألوفة للجوار. 2) - وليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي يمكن تجنبها، وإنما له أن يطلب إزالة هذه المضار إذا تجاوزت الحد المألوف على أن يراعى في ذلك العرف، وطبيعة القارات، وموقع كل منها بالنسبة إلى الآخر، والغرض الذي خصصت له. ولا يحول الترخيص الصادر من الجهات المختصة دون استعمال هذا الحق". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 839 3) - لمالك الحائط أن يتصرف في حائطه كما يشاء، فله أن يرممه إذا احتاج إلى الترميم، وله أن يعدل في طريقة بنائه، وله أن يهدمه ويعيد بناءه، بل له أن يهدمه ثم لا يعيد بناءه. ولا يجبر على النزول عن جزء من حائطه لجاره الملاصق إلا في حالة خاصة، ومع ذلك إذا كان الجار يستتر بالحائط، امتنع على صاحب الحائط هدمه دون عذر قوي إن كان الهدم يضر بالجار. 4) - في ملكية الطبقات حيث يوجد علو وسفل، يجوز لكل من مالك العلو والسفل أن يتصرف في ملكه كما يشاء، فيعدل من بنائه، ويزيد فيه أو ينتقص منه، ويعليه إذا كان يحتمل الإعلاء. ومع ذلك يجب على صاحب العلو أن يمتنع عن إعلاء علوه، إذا كان هذا الإعلاء يحمل السفل ثقلًا جسيما بحيث يضر به. أعمال إيجابية من الغير وقد تقتضي الوظيفة الاجتماعية لحق الملكية أن يتدخل الغير تدخلًا إيجابيا في انتفاع المالك بملكه، ليتوقى ضررًا أشد بكثير من الضرر الذي يصيب المالك من التدخل، على أن يعوض المالك التعويض العادل. وقد طبق هذا المبدأ تطبيقات بعيدة المدى، نذكر منها ما يأتي: 1- لمالك المسقاة أو المصرف أن ينتفع بمسقاته أو مصرفه، وأن يستقل بهذا الانتفاع فلا يشاركه فيه أحد. ومع ذلك يجوز للجار أن يأخذ ماء من المسقاة (حق الشرب) لري أرضه، أو يصرف ماءه في المصرف (حق الصرف) بعد أن يكون المالك قد استوفى حاجته من مسقاته أو مصرفه. 2 - مالك الأرض حر في التصرف في ملكه كما يشاء، وله أن يمنع غيره من الانتفاع بالأرض، ومع ذلك يجوز للجار أن يجبر المالك على أن تمر بأرضه المياه الكافية لري أرض الجار البعيدة عن مورد المياه (حق المجرى) ، أو أن تمر بأرضه مياه الصرف الآتية من أرض الجار لتصب في أقرب مصرف عام (حق المسيل) بشرط تعويض المالك تعويضًا عادلًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 840 3 - لمالك الأرض أن يمنع جاره من المرور بأرضه. ومع ذلك إذا كانت أرض الجار محبوسة عن الطريق العام، فإن للجار حق المرور في أرض جاره بالقدر اللازم لاستغلال أرضه واستعمالها على الوجه المألوف، وذلك في نظير تعويض عادل. وهذا ما يسمى بحق المرور. أعمال إيجابية من المالك وهنا تصل الوظيفة الاجتماعية لحق الملكية إلى أبعد غاياتها فيجبر المالك على أن يقوم بأعمال إيجابية لمصلحة الغير. ونذكر على سبيل المثال ما يأتي: 1 - في ملكية الطبقات، يجبر صاحب السفل على أن يقوم بالأعمال والترميمات اللازمة لمنع سقوط العلو. 2 - في الملكية على الشيوع، تجبر أقلية الشركاء على الموافقة على ما تقرره الأغلبية في شأن إدارة المال الشائع. وليس الأمر مقصورًا على أعمال الإدارة المعتادة، بل يجاوز ذلك إلى ما يخرج عن حدود الإدارة المعتادة، فتجبر أقلية الشركاء على الموافقة تحت رقابة المحكمة، على ما تقرره الأغلبية من تغييرات أساسية وتعديل في الغرض الذي أعد له المال الشائع. بل إن الأمر يجاوز حدود الإدارة المعتادة، ويصل إلى حد للتصرف في المال الشائع. فتجبر أقلية الشركاء على الموافقة تحت رقابة المحكمة على ما تقرره الأغلبية من التصرف في المال الشائع، إذا استندت هذه الأغلبية في قرارها إلى أسباب قوية. 3 - وقد جعلت التشريعات الاستثنائية الخاصة بالإيجار نظرًا لأزمة المساكن، للمستأجر حقوقًا واسعة إزاء المالك، بحيث يكاد المستأجر يصبح شريكًا للمالك في ملكه. وأجبرت المالك على قبول أنواع شتى من تدخل المستأجر، وبخاصة في تعيين حد أقصى للأجرة، وفي ترك المستأجر يبقى بالعين المؤجرة حتى بعد انقضاء مدة الإيجار، المدة التي يراها. ويستوي في ذلك إيجار الأماكن وإيجار الأراضي الزراعية. وقد دعا ذلك الفقهاء في فرنسا، ويشتمل القانون الفرنسي على تشريعات مماثلة، أن يروا أن المالك قد أصبح اليوم إزاء المستأجر غير خالص الملكية، بل هو لا يملك على داره أو أرضه إلا ما كان يسمى في العصور الوسطى بالملكية المشرفة، يتقاضى بموجبها أجرًا زهيدًا، أما الملكية الحقيقية أو الملكية النافعة فهي للمستأجر ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 841 والتزامًا بالمنهج الذي رسمناه لهذا البحث ومن مقتضياته محاولة الاستنارة بكل ما يتيسر لنا الاطلاع عليه من الآراء الجادة فيما يتصل بكل عنصر من عناصره وإشراك القارئ معنا إشراكًا كاملًا في تمحيص الآراء التي نستنير بها وتقدير مدى جديتها وسدادها ننقل - إلى جانب ما اقتبسنا من آراء السنهوري آنفًا - بعض ما قاله جواد علي في "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" (1) حول تاريخ الملكية عند العرب. فبالإضافة إلى أن جواد علي من الباحثين الجادين الملتزمين بمقتضيات المنهج العلمي غالبًا، وإن تكن له بعض الأخطاء العجيبة الناتجة عن محاولته إيثار ما يعتبره تجردًا علميا على ما يقتضيه الإيمان الصادق لدى المسلم الحق من اعتبار النصوص الإسلامية الثابتة وخاصة النصوص القرآنية والسنية المتواترة غير قابلة للخضوع لأي تقييم علمي , إذ هي في ذاتها توجب علما قطعيا. فإن من المهم الوقوف مليا عند تطور مفهوم الملكية، وخاصة ملكية الأرض عند العرب بالذات، إذ بلغتهم وفي بيئتهم نزل القرآن , وهم المكلفون الأول بنقله وتبيانه وتبيان السنة المكملة له إلى الأمم الأخرى. ويتراءى لنا من استقراء تشريعات المعاملات الواردة في القرآن أو السنة، أو ما كان منها من عمل الصحابة مما يبلغ درجة الإجماع، أو يقف عند مستوى الاستفاضة والشهرة أن العادات والتقاليد العربية كانت مرعية - أو على الأقل ملحوظة - فيها , ومرد ذلك فيما يتراءى لنا أن موطن العرب كان وسطًا، فهو ليس موغلًا في المشرق ولا موغلًا في المغرب، والأمم الضاربة إلى المشرق كثيرًا ما يغلب عليها الانصياع والهيمنة الروحية، وما تقتضيه من الإيغال في السلبيات وعدم التعامل مع الشؤون المادية بتقدير ووعي.   (1) ج: 7. ص: 130 بتصرف يسير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 842 وآية ذلك أن نزعات التصرف المسرفة وما شاكلها من الفلسفات المثالية تسلل أغلبها إلى الأمة الإسلامية، من الأمم الضاربة إلى الشرق بعد الفتح الإسلامي، وبعد أن أصبحت مؤثرة في الشعوب الإسلامية الأخرى بما نقل إلى العربية من ثقافاتها وفلسفاتها كما أن مواطن العرب ليست ضاربة إلى المغرب، وأعني بالمغرب أوروبا وما وراءها جنوب المحيط الأطلسي، حيث تستوطن أمم خاضعة خضوعًا يكاد يكون تاما للمؤثرات المادية، عازفة عزوفًا يكاد يكون مطلقًا عن المواجد والاعتبارات الروحية، لذلك كانت ثقافاتها وفلسفاتها في أغلبها أشد تجانسًا مع الظواهر الملموسة ومظاهر الأشياء، وأشد نزوعًا إلى إيثار مقتضياتها عن أية مقتضيات أخرى. ولعل مما يؤيد هذا الذي تراءى لنا من وسطية العرب واعتبار الشرع لها، لا سيما في ضبط قواعد المعاملات وجانب من ضوابط الشؤون الاجتماعية أن الثقافات الوافدة - إن لم نقل: المتسللة - إلى الأمة الإسلامية من أعماق المشرق وأعماق المغرب لم تستطع أي منها أن تستحوذ على الجمهرة الغالبة من المدارك والمواجد العربية، وأن الفكر الإسلامي كان أقرب إلى التجاوب مع فلسفة المشائين منه مع فلسفة الإشراق. وما نريد أن نمضي في هذا الاستطراد , إن نريد به إلا تبيان الحافز الذي حفزنا على نقل ما ننقله عن جواد علي مما يتصل بتاريخ الملكية عند العرب , فهو يقول (1) : "الأرض هي مصدر الثراء والغنى للإنسان، وعلى مقدار ما يملكه الإنسان من أرض، تكون ثروته ويكون غناه، وعلى قدر ما يبذله صاحب الأرض من جهد في استغلالها وفي تطويرها وفي استنباط ما في باطنها من خيرات يتوقف دخله منها. وغلته التي تأتيه من أرضه هذه. ولا تعرف ملكية الأرض والماء إلا بين الحضر. أما الأعراب فإن هذه الملكية تكون عندها للقبيلة ولسادتها، حيث يحمون بعض الأرضين، أو يستنبطون الماء من أرض موات لا ماء فيها، فتحول الأرض بذلك إلى أرض نافعة ذات ماء، يبسط حافرها حمايته عليه ويجعلها ملكًا له، وقد يزرع عليها فتصير الأرض التي يزرعها ملكًا له، وبهذه الطريقة، تكونت الملكية بين القبائل، ولا يستطيع أن ينال من هذه الملكية بالطبع إلا المتمكن من أبناء القبيلة ومن سادتها، ممن يتمكن بما لديه من مال وإمكانيات من استنباط الماء ومن إحياء الأرض واستغلالها بما عنده من موال وعبيد ويكتسب هذا التملك صفة شرعية، إذ يعتبر ملكًا صرفًا لصاحبه.   (1) "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج: 7. ص: 130 بتصرف يسير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 843 ليس لأحد حق منازعته عليه، ولمالكه أن يتصرف به كيف يشاء. له أن يبيعه، وله أن يهبه، وإن مات انتقلت ملكيته إلى ورثته. فالأمر في معظم جزيرة العرب حق عام مشاع , لا تعود ملكيته لأحد. إلى أن صار الرعي، وأخذت تنتقل من مكان إلى مكان، ففرض سادتها حق الحمى وهو نوع من التملك المتولد من حق الاستيلاء بسبب الزعامة والقوة والاغتصاب، فصار الحمى ملكًا لسادات القبائل، وصارت الأرض المتبقية التي دخلت في حوزة القبيلة بسبب بسطها سلطانها عليها ملكًا لها، ملكًا مشاعًا بين جميع أبناء القبيلة ليس لأحد صد أحد من أبناء قبيلته من ارتياض أرضها، إلا بقانون القوة والعزة والتجبر، أو يفرض سلطانه على الأرض باستنباط مائها. وهو حق لا يعمل به إلا القوي المتمكن. ومن هذا الإحياء للأرض الموات، تكونت بعض المستوطنات في الوادي، جلب ظهور الماء فيها الناس إليها، فسكنوا حولها وجاؤوا من أطرافها للاستقاء من مائها، وشجع العثور عليه في هذا الموضع التمكين للآخرين على الحفر أيضًا، فكان إذا اظهر ماء عذب، جذب الناس إليه، وسحرهم بسحره، وأناخهم حوله، فوسعت بذلك تلك المستوطنات، وتعددت، وظهرت فيها الملكية الفردية، والحياة الحضرية القائمة على الحيازة والتملك الفردي بصورة أوسع مما نجدها عند البدوي الاعتيادي لا يملك إلا بيته، وهو خيمته وأهله، وما قد يكون معه من الإبل" (1) وقد فصل القول في هذه الأطوار وذكر أنماطًا من الوثائق والعقود ترسم معالم جلية لكل طور منها، كما توضح التمايز بين أقطار الجزيرة العربية (الجنوب والشمال) فيما يتصل بالملكية وتطورها، ورغم أهمية هذه التفاصيل، رأينا الاكتفاء بالإشارة إليها وإحالة من يريد استيفاءها والاستفادة منها في استجلاء طبيعة الاستمرار التطوري لتاريخ الملكية في الإسلام التي لا تختلف في جوهرها عن الأوضاع المتتالية لتعامل العرب خلال أحقابهم المتوالية مع الأرض بل ومع العقارات أيضًا.   (1) "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج1 ص: 36/31. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 844 5 - الانعكاسات التشريعية والحضارية للملكية الفردية على أن ما نطمئن إليه من أصالة التجاوب بين التشريع الإسلامي وطبيعة الحضارة العربية السابقة له، لا يعني أننا نحصر اعتبار التشريع بينه وبين الحضارة العربية وحدها , وإنما يعنى أننا نرى التجاوب أقوى بينهما، على حين لا سبيل إلى إنكار أن التشريع الإسلامي نظر أيضًا إلى حضارات أخرى غير الحضارة العربية، وعمل على تقويم المنحرف منها، وتنظيم الصالح وتحديد مسار تطوره كما كان شأنه مع الحضارة العربية. لذلك نحاول في هذه الفقرة أن نتتبع معالم نشأة وتطور الملكية لدى بعض الشعوب والأمم المحيطة بشبه الجزيرة العربية، والتي كان لها معها علاقات تجارية وغير تجارية مما ينشأ عنه بالطبع تفاعل حضاري يتفاوت بين قطر وآخر، بتفاوت علاقات أبنائه مع العرب. ونبدأ بما قاله ول ديورانت في قصة الحضارة، وهو يصور تصويرًا بديعًا نشأة الملكية عند الإنسان كافة ملاحقًا لها في قارات مختلفة، قال (1) "كانت التجارة أعظم مثر للعالم البدائي، لأنه لم يكن هناك ملك، وبالتالي لم يكن هناك من نظم الحكم إلا قليل، قبل أن تدخل في حياة الناس وتجر وراءها ذيولها من أموال وأرباح، ففي المراحل الأولى من التطور الاقتصادي كانت الملكية محصورة - في الأعم الأغلب - في حدود الأشياء التي يستخدمها المالك لشخصه، وكان معنى الملكية هذا من القوة بحيث لازمت الأشياء المملوكة مالكها، فغالبًا ما دفنت معه في قبره (وانطبق هذا على الزوجة نفسها) ، وأما الأشياء التي لا تتعلق بشخص المالك فلم تكن الملكية مفهومة بالنسبة إليها مثل هذا الفهم القوي , فلا يكفي أن تقول: إن فكرة الملكية ليست فطرية في الإنسان، إنما يجب أن تضيف إلى ذلك أنها في مثل هذه الأشياء البعيدة عن شخصية المالك، كانت من الضعف في أذهان الناس بحيث تحتاج إلى تقوية مستمرة وتلقين مستمر.   (1) "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج 2، 27. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 845 فتكاد تجد الأرض في كل الشعوب البدائية ملكًا للمجتمع بأسره، فالهنود في أمريكا الشمالية، وأهل بيرو، وقبائل الهنود التي على تل تشيتاجونج، وأهل بورنيو، وسكان الجزر في البحر الجنوبي، مثل هؤلاء - فيما نرجح - كانوا يملكون الأرض جماعة ويحرثونها جماعة ويقتسمون الثمار جماعة، وفي ذلك قال هنود أوماها: "إن الأرض كالماء والهواء لا يمكن أن تباع"، وكذلك لم يكن بيع الأرض معروفًا في ساموا قبل قدوم الرجل الأبيض، ولقد وجد الأستاذ رفرز شيوعية الأرض لا تزال قائمة في مالينزيا وبولينزيا ويمكنك أن تلحظها اليوم قائمة في داخل ليبريا. وأما شيوعية القوت فقد كانت أقل من ذلك انتشارًا، فمن المألوف عند "الهمج" أن من يملك طعامًا يقتسمه مع من لا يملك منه شيئًا، كما كان من المألوف كذلك للمسافرين إذا ما أرادوا طعامًا أن يقفوا عند أي دار يشاؤون في طريقهم، بل كان من المألوف أن تستعين الجماعات التي ينزل بها القحط بجيرانها، وكان إذا ما جلس إنسان في الغابة ليأكل وجبته، توقع منه الناس أن يصيح لمن أراد أن يشاطره الطعام قبل أن يبدأ هو في تناوله، وبغير ذلك لا يكون الصواب في جانبه، فلما قص "تيرنر" على رجل من "ساموا"، قصة فقير في لندن، سأله "الهمجي" في دهشة: "وكيف هذا؟ أليس هناك طعام؟ أليس له أصدقاء؟ أليس في المكان بيت للسكنى؟ أين إذن نشأ هذا الفقير؟ أليس لأصدقائه منازل؟ ". والجائع من الهنود ما عليه إلا أن يسأل فيجاب سؤاله بالعطاء، فمهما يكن مورد الطعام ضئيلًا عند المعطي، فإنه لا بد أن يعطي منه هذا السائل ما دام محتاجًا، "فيستحيل أن تجد إنسانًا يعوزه القوت ما دامت الغلال موجودة في مكان بالمدينة ". وكانت العادة عند الهوتنتوت أن يقتسم من يملك أكثر من سواه هذه الزيادة حتى يتساوى الجميع , وقد لاحظ الرحالة البيض أثناء رحلاتهم في أفريقيا قبل أن تدخلها المدنية، لاحظوا أن "الرجل الأسود" إذا ما قدمت له هدية من طعام أو غيره من الأشياء ذوات القيمة، فإنه يقسمها بين ذويه فورًا، وإذا ما أعطى المسافر بدلة لأحد هؤلاء السود، فسرعان ما يرى الموهوب يلبس من الهبة جزءًا كالقبعة مثلًا، ثم يرى صديقًا له يلبس السراويل وصديقًا آخر يرتدي السترة، وكذلك الأسكيمو لا يرون للصائد حقا شخصيا في امتلاك صيده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 846 بل يلزم توزيعه على أهل القرية جميعًا، وكانت الآلات والمخزون من الطعام ملكًا مشاعًا بين الجميع وقد وصف (كابتن كارفر) هنود أمريكا الشمالية فقال: "إنهم لا يعرفون من فوارق الملكية شيئًا سوى الأدوات المنزلية ... وهم أسخياء بعضهم لبعض غاية السخاء، وإذا ما فاض عند أحدهم فيض , ونقص عند الآخر ما يحتاج إليه، فلا بد أن يسد الأول بفيضه نقص زميله"، وكذلك كتب مبشر ديني يقول: "إن ما يثير الدهشة العميقة أن تراهم يعاملون بعضهم بعضًا برقة ومجاملة قل أن تراهما عند أكثر الأمم تحضرًا، وذلك بغير شك يرجع إلى أن لفظتي "ملكي" و"ملكك" اللتين قال عنهما القديس كريسوستم: إنهما تخدمان في قلوبنا شعلة الإحسان وتشعلان نار الجشع، لا يعرفهما هؤلاء الهمج". ويقول شاهد آخر: "لقد رأيتهم يقتسمون الصيد إذا كان لديهم ما يقتسم، لكني لا أذكر مثلًا واحدًا لتنازعهم أو لتوجيههم النقد لطريقة التقسيم , كأن يقولوا: إنه غير عادل أو غير ذلك من أوجه الاعتراض، إن الواحد منهم ليؤثر أن يرقد على معدته الخاوية، على أن يتهم بأنه أبى أن يعين المحتاج ... إنهم يعدون أنفسهم أبناء أسرة واحدة كبيرة". لماذا اختفت الشيوعية البدائية حين نهض الإنسان إلى ما نطلق عليه في شيء من التحيز اسم المدنية؟ يعتقد "سمنر" أنها دلت على أنها ليست بيولوجية في اتجاهها لأنها عقبة في سبيل تنازع البقاء، وأنها لم تحفز الناس بما يكفي لتشجيعهم على الاختراع والنشاط والاقتصاد، وأن عدم مكافأتها للأقدر وعقابها لمن هو أقل قدرة سوى بين الكفايات تسوية تعاند النمو وتعارض التنافس الناجح مع سائر الجماعات، وكتب "لوسكيل"، عن بعض القبائل الهندية في الشمال الشرقي يقول: "إنهم من الكسل بحيث لا يزرعون شيئًا بأنفسهم، بل يعتمدون كل الاعتماد على احتمال أن غيرهم لن يرفض أن يقاسموه في إنتاجه، ولما كان النشيط لا يتمتع من ثمار الأرض بأكثر مما يتمتع الخامل، فإن إنتاجهم يقل عامًا بعد عام" , ومن رأي دارون أن المساواة التامة بين الفويجيين تقضي على كل أمل في تحضرهم أو ربما قال الفويجيون في ذلك: إن المدنية إذا ما أتتهم فإنها ستقضي على المساواة القائمة بينهم، نعم إن الشيوعية طمأنت هؤلاء الذين خلصوا بحياتهم من حوادث الفقر والجهل وما يترتب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 847 عليهما من مرض في المجتمع البدائي، لكنها لم تنتشلهم من ذلك الفقر انتشالا، وأما الفردية فقد جاءت بالثراء، لكنها كذلك جرت معها القلق والرق، نعم إن الفردية حركت في الممتازين من الرجال قواهم الكامنة، لكنها كذلك نفخت نار التنافس في الحياة فأشعلتها، وجعلت الناس يحسون الفقر إحساسًا مريرًا، مع أن هذا الفقر لم يكن ليؤذي أحدًا حين استوى فيه الجميع. تستطيع الشيوعية أن تعيش في سهولة أكثر في مجتمعات دائمة الانتقال، لا يزول عنها الخطر والعوز، فالصائدون والرعاة ليس بهم حاجة إلى ملك يحتفظون به، لكن لما أصبحت الزراعة صورة الحياة المستقرة، لم يلبث الناس أن تبينوا أن العناية بالأرض تبلغ أقصاها من حيث غزارة الثمر إذا ما عاد جزاء تلك العناية إلى الأسرة التي قامت بها، فنتج عن ذلك بحكم الانتخاب الطبيعي الكائن بين النظم الاجتماعية والأفكار، كما هو كائن بين الأفراد والجماعات ينتج عن الانتقال من الصيد إلى الزراعة استتبع تحولًا من الملكية القبلية إلى ملكية الأسرة، وبذلك أصبحت أكثر الوحدات الاجتماعية اقتصادًا في نفقات الإنتاج، هي كذلك وحدة الملكية، فما أن أخذت الأسرة شيئًا فشيئًا تتخذ الصورة الأبوية التي تركز السلطة كلها في أكبر الذكور سنا، أخذت الملكية كذلك يزداد تركزها شيئًا فشيئًا في أيدي أفراد، ثم نشأ التوريث لشخص معين عن شخص معين، ولما كان كثيرًا ما يحدث لفرد مغامر أن يغادر مرفأ الأسرة الآمن، ليضرب بمغامراته خارج الحدود التي وقف عندها ذووه، ثم ينتهي به العمل المتصل الشاق أن يستولي على قطعة أرض من الغابة أو الحرج أو المستنقع، فإنه يحرص عليها حرصًا شديدًا لا يسمح لغيره بانتزاعها لأنها ملكه الخاص، حتى لتضطر الجماعة في النهاية أن تعترف بحقه فيها، وبهذا نشأ ضرب آخر من ضروب الملكية الفردية، ومثل هذا الاستيلاء على الأراضي أخذ يزداد اتساعًا حين ازداد السكان واستنفدت قوة الأرض القديمة، حتى وصل الأمر في المجتمعات الأكثر تعقدًا من سواها إلى أن باتت الملكية الفردية هي النظام السائد، ثم جاء اختراع المال فساعد هذه العوامل بتيسيره لجمع الثروة ونقلها وتحويلها، واتخذت حقوق القبيلة القديمة وتقاليدها صورة الملكية بمعناها الدقيق، وأما المالك عندئذ فهو أهل القرية جماعة أو الملك، ثم خضعت الملكية لإعادة التوزيع حينًا بعد حين، ومضى هنا العصر الذي جعل أمر الملكية يتذبذب فيه على هذا النحو من طرف إلى طرف، بين النظام القديم والنظام الجديد، وبعدئذ استقرت الملكية الفردية الخاصة استقرارًا لا شبهة فيه، وأصبحت هي النظام الاقتصادي الأساسي الذي أخذت به المجتمعات في العصور التي دون أخبارها التاريخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 848 ونواصل رحلتنا خلال العصور والأقطار المجاورة لشبه الجزيرة العربية مع ديورانت فنقف عند السومريين الذين يقول عنهم (1) : وكان نظام الإقطاع وسيلة حفظ النظام الاجتماعي في الإمبراطورية السومرية، فقد كان عقب كل حرب يقطع - أي الملك - للزعماء البواسل مساحات واسعة من الأرض ويعفيها من الضرائب , وكان من واجب هؤلاء الزعماء أن يحافظوا على النظام في إقطاعاتهم ويقدموا للملك حاجته من الجند والعتاد. وكانت موارد الحكومة تتكون من الضرائب التي تجبى عينًا وتختزن في المخازن الملكية وتؤدى منها مرتبات موظفي الدولة وعمالها. ثم يقول وهو يلخص مياسم الحضارة السومرية: نجد أول ما أسسه الإنسان من دول وإمبراطوريات وأول نظم الري ... إلخ. فإذا انتقل إلى مصر تحدث في أولى خطاه إليها عن العلاقة الحضارية بينها وبين السومريين، فذكر من بينها ما يتصل بالزراعة , فقال: ولقد لفت "شوينفرث" أنظار العلماء إلى تلك الحقيقة الطريفة العظيمة الخطر، وهي أن الشعير والذرة الرفيعة والقمح وتأنيس الماشية والمعز والضأن وإن ظهرت كلها في مصر وبلاد فيما بين النهرين من أقدم العهود المدونة، لا توجد في حالتها البرية الطبيعية في مصر بل في بلاد آسيا الغربية وبخاصة في بلاد اليمن وبلاد العرب القديمة، وهو يستدل من هذا على أن الحضارة، وهي هنا زراعة الحبوب واستخدام الحيوانات المتأنسة، قد ظهرت في العهود القديمة غير المدونة في بلاد العرب، ثم انتشر منها في صورة "مثلث ثقافي" إلى ما بين النهرين (سومر وبابل وأشور) وإلى مصر. ولكن ما وصل إلى علمنا من تاريخ العرب القديم حتى الآن ليبلغ من القلة حدا لا تستطيع معه إلا أن تقول: إن هذا مجرد فرض جائز الوقوع (2)   (1) "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج: 2. ص: 43. (2) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 82 و83. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 849 ولقد سقنا هذه الفقرة استئناسًا إلى ما ذهبنا إليه من التفاعل الحضاري بين العرب ومن يجاورهم تفاعلًا كان في اعتبار التشريع الإسلامي الذي استهدف تنظيم الحياة البشرية تنظيما قائما على العدل بين الناس وتقويم عاداتهم وتقاليدهم وعدم الالتجاء إلى تغييرها جذريا ما أمكن التوفيق بينها وبين إقرار العدالة والسلم. ويقول ديورانت في وصف حضارة مصر: كان من وراء هؤلاء الملوك والمملكات بيادق مجهولون، ومن وراء تلك الهياكل والقصور والأهرام عمال المدن وزراع الحقول ويصفهم "هيرودوت" كما وجدهم حوالى عام 455 ق. م. وصفًا تسوده روح التفاؤل فيقول: "إنهم يجنون ثمار الأرض بجهد أقل مما يبذله غيرهم من الشعوب، لأنهم يضطرون إلى تحطيم أخاديد الأرض بالمحراث أو إلى عزقها (1) أو القيام بعمل كالذي يضطر غيرهم من الناس إلى القيام به لكي يجنوا من ورائه محصولًا من الحب، ذلك أن النهر إذا فاض من نفسه وأروى حقولهم، ثم انحسر ماؤه عنها بعد إروائها، زرع كل رجل أرضه وأطلق عليها خنازيره، فإذا ما دفنت هذه الخنازير الحب في الأرض بأرجلها انتظر حتى يحين موعد الحصاد، ثم جمع المحصول.   (1) قال ابن منظور في لسان العرب ج:10. ص: 250: ... وعزق الأرض يعزقها عزقًا، شقها وكربها , ولا يقال ذلك في غير الأرض , والمعزقة والمعزق المر من حديد ونحوه يحفر به، وجمعه المعازق , وأرض ممعزقة إذا شققتها بفأس أو غيره ويقال لتلك الآلة التي تشق بها الأرض: معزقة ومعزق وهي كالقدوم وأكبر منها، قال ابن بري: المعزقة ما تعزق به الأرض فأسًا كانت أو مسحاة أو سكة. وقال ابن الأثير في - النهاية. ج: 3. ص: 230 -: في حديث سعيد: "وسأله رجل فقال: تكاريت من فلان أرضًا فعزقتها " أي: أخرجت الماء منها. يقال: أعزقت الأرض أعزقها عزقا إذا شققتها، وتلك الأداة التي يشق بها معزقة ومعزق , وهي كالقدوم والفأس. قيل: ولا يقال ذلك لغير الأرض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 850 وكما كانت الخنازير تدوس الحب بأرجلها كذلك أنست القردة ودربت على قطف الثمار من الأشجار، وكان النيل الذي يروي الأرض يحمل لها في أثناء فيضانه مقادير كبيرة من السمك يتركها في المناقع الضحلة: وكانت الشبكة التي يصطاد بها السمك هي بعينها التي يحيط بها رأسه أثناء الليل ليتقي بها شر لذع البعوض. على أنه لم يكن هو الذي يفيد من سخاء النهر، ذلك بأن كل فدان من الأرض كان ملكًا لفرعون لا يستطيع غيره من الناس أن ينتفعوا به إلا بإذن منه. وكان على كل زارع أن يؤدي له ضريبة سنوية عينية تتراوح ما بين عشر المحصول وخمسه. وكان أمراء الإقطاع وغيرهم من الأثرياء يملكون مساحات واسعة من الأرض , وفي وسعنا أن نتصور ما كانت عليه أملاكهم من الاتساع إذا علمنا أن واحدًا منهم كان يملك ألفًا وخمسة مائة بقرة، وكانت الحبوب والسمك واللحوم أهم الأطعمة. وقد عثر على بقية من نقش يحدد ما يسمح للتلميذ أن يأكله ويشربه وقد ذكر فيه ثلاثة وثلاثون نوعًا من لحم الحيوان والطير، وثمانية وأربعون صنفًا من الشواء، وأربعة وعشرون من الشراب. وكان الأغنياء يبلعون طعامهم بالنبيذ والفقراء بشراب الشعير المخمر. وكانت معيشة الفلاحين معيشة ضنكًا. فأما من كان منهم مزارعًا "حرا" فلم يخضع إلا للوسيط والجابي، وكان هذان الرجلان يعاملانه على أساس المبادئ الاقتصادية التي ثبتت تقاليدها على مدى الأيام، فكانوا يأخذون من محصول الأرض كل ما تحمله وسائل النقل. قلت: من هذه النصوص التي نقلها ديورانت والتي قد تبدو متناقضة، إذ تنص على أن ملكية الأرض كلها كانت لفرعون فيما تنص على وجود الإقطاع ووجود المزارع الحر، تبين عند تأملها أن ملكية الأرض كانت عند المصريين في ذلك العهد قد تمايزت بين ملكية "الرقبة " وملكية "المنفعة" فلفرعون وحده ملكية "الرقبة"، ولغيره سواء كانوا إقطاعيين أو مزارعين أحرارا ملكية "المنفعة". وبهذا الفهم وحده ينزاح ما يبدو على النص من ظلال التناقض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 851 وحين يتحدث ديورانت عن الدولة البابلية وهي دولة تجارية أساسًا، مركز الزراعة في اقتصادها مركز ثانوي، يذكر أن قانونها "يعد الملكية الفردية للعقار والمنقولات أمرًا مسلما به ولا جدال فيهًا" (1) فإذا انتقل ديورانت إلى الدولة الأشورية قال (2) لم تكن الحياة الاقتصادية عند الأشوريين تختلف كثيرًا عنها عند البابليين، لأن هؤلاء وأولئك لم يكونوا في كثير من الأحوال إلا أبناء الشمال وأبناء الجنوب من حضارة واحدة. وأهم ما كان من البلدين من فروق أن المملكة الجنوبية كانت أكثر اشتغالا بالتجارة، على حين أن الشمالية كانت أكثر اشتغالا بالزراعة، فكان أثرياء البابليين تجارًا في الغالب، أما أثرياء الأشوريين فكانوا عادة من كبار الملاك، يشرفون بأنفسهم على ضياعهم الواسعة، ويزدرون ازدراء الرومان من بعدهم أولئك الذين كانوا يكسبون المال بشراء البضائع رخيصة وبيعها غالية , بيد أن النهرين نفسيهما كانا يفيضان على أرض المملكتين ويغذيانها ونظام الجسور والقنوات بعينه كان يسيطر فيهما على ما زاد من مياه النهرين والشواديف (3) ذاتها كانت ترفع المياه من المجاري المنخفضة لتروي الحقول التي تزرع نفس القمح والشعير والذرة الرفيعة والسمسم. ويقول ديورانت عن فارس والأرض (4) وكان الرجل العادي - يعني الفارسي - أميا راضيًا عن أميته، يبذل جهده كله في فلاحة الأرض.   (1) ديورانت ص: 209. (2) ديورانت. ص: 278. (3) "الشدوف" كما جاء في - المعجم الوسيط الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة. ج:1. ص: 479 -: أداة مائية لري الأرض وهي كلمة مصرية قديمة ويقولون: شدف: سقى بها. قلت: يظهر من استعمال المترجم كلمة "الشواديف" إذا كان قد التزم الدقة في الترجمة، أن المصريين استعملوا نفس الآلة التي استعملها الآشوريون لضخ الماء من المجاري المنخفضة لري الحقول والمزارع وهذا مما يثبت تلاقح الحضارتين، وقد يستدل منه مع قرائن أخرى على أن الحضارة البابلية الآشورية أقدم من الحضارة المصرية. (4) ديورانت. ص: 412. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 852 ثم يقول: وكانت بعض الأراضي يزرعها ملاكها المزارعون. وكان هؤلاء الملاك في بعض الأحيان يؤلفون جماعات زراعية تعاونية مكونة من عدة أسر لتزرع مجتمعة مساحات واسعة من الأرض، والبعض يمتلكه الأشراف الإقطاعيون ويزرعه مستأجروه نظير جزء من غلته، وبعضها الآخر يزرعه الأرقاء الأجانب (ولم يكونوا قط فرسا) وكانوا يستخدمون محاريث من الخشب ذات أطراف من الحديد تجرها الثيران، وكانوا يجرون الماء من الجبال إلى الحقول بطرق الري الصناعية. وكان الشعير والقمح أهم محاصيل الأرض وأهم مواد الغذاء، ولكنهم كانوا يأكلون كثيرًا من اللحم ويتجرعون كثيرًا من الخمر. ثم قال: وكان يربط معظم أفراد الطبقة الموسرة بالعرش أن الملك هو الذي يهبهم ضياعهم، وكان في مقابل هذا يمدونه بالرجال والعتاد إذا نفر إلى القتال. وكان لهؤلاء الأشراف في إقطاعاتهم سلطان لا يكاد يحده شيء، فكانوا يجبون الضرائب ويسنون القوانين، وينفذون أحكام القضاء، ويحتفظون بقواهم المسلحة. وحين يعرض ديورانت لليونان والأرض ينقل عن بعض المؤرخين قولهم: "إن "ليقورغ" (1) أعاد تقسيم أراضي "لكونيا" ثلاثين ألف قسم متساوية ووزعها على المواطنين" في حين ينقل عن مؤرخ آخر قوله: "إن تقسيما من هذا النوع لم يحدث قط". ثم يحاول أن يجمع بين الروايتين فيقول: "ولعل الذي حدث فعلًا أن الأملاك القديمة لم تمس , وإنما وزعت الأرض التي استولوا عليها حديثا توزيعًا متساويًا (2)   (1) الزعيم اليوناني الذي يعتقد اليونانيون أنه واضع شرائع "اسبارطة ". (2) ديورانت. ج: 6. ص: 149. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 853 فإذا انتهى به المطاف إلى أثينا في عهدها الألجركي قال وهو يصف مجتمعها عندئذ: "وكان السكان ينقسمون من الوجهة الاقتصادية ثلاثة أقسام , كذلك فكان على رأسهم الأشراف الكريمو المحتد الذين كانوا يعيشون عيشة مترفة بالنسبة إلى غيرهم من الجماعات ويقيمون في المدن، بينما يقوم العبيد والعمال المأجورون بزراعة أملاكهم في الريف". ثم يقول: "وكان أفقر الأهلين عمال الأرض وهم الزراع الصغار الذين ينتزعون القوت من التربة الضنينة ومن شره المرابين والأشراف، وليس لهم من عزاء إلا التباهي من أنهم يملكون قطعة من الأرض. وكان بعض هؤلاء الزراع يملكون في أيامهم الخالية أراضي واسعة، ولكن زوجاتهم كن أكثر خصوبة من أرضهم، فتقسمت هذه الأراضي , ثم تقسمت بين أبنائهم وأحفادهم على مر الأجيال. وكان امتلاك العشائر أو الأسر الأبوية يزول زوالا سريعًا، كما كانت الأسوار والخنادق والحواجز تشير إلى الأملاك الفردية وما يصحبها من غيرة وتحاسد، ولما صغرت مساحة الأرض التي يملكها الأفراد وأضحت الحياة الريفية مزعزعة غير مأمونة باع كثيرون من الفلاحين أرضهم رغم ما كان يوقع على الذين يبيعونها من عقاب وما يحرمون بسببه من حقوق , ونزحوا إلى أثينا أو غيرها من المدن الصغرى ليشتغلوا فيها تجارًا أو صناعًا أو فعلة. وأصبح غيرهم ممن عجزوا عن تحمل التزامات الملكية، مستأجرين لضياع الأشراف أو عاملين فيها لقاء نصيب من غلتها. وظل غيرهم في أرضهم يكافحون، يقترضون المال بربا فاحش ويرهنون أرضهم ضمانًا لما اقترضوه، ولكنهم عجزوا عن الوفاء بديونهم وألفوا أنفسهم لاصقين بالأرض يلزمهم بذلك دائنوهم، ويعملون فيها عمل الرقيق الإقطاعيين. وكان الدائن المرهونة إليه الأرض يعد مالك الأرض الحقيقي حتى يسترد ماله من دين، وكان يضع عليها لوحًا من الحجر يعلن فيه هذه الملكية. وتضاءلت الملكية الصغيرة على توالي الأيام، وقل عدد الملاك واتسعت الأملاك الكبيرة. ويقول "أرسطاطاليس " في هذا: وأصبحت كل الأراضي ملكا لعدد من الناس، وتعرض الزراع هم وأزواجهم وأبناؤهم لأن يباعوا بيع الرقيق لا داخل البلاد فحسب بل خارجها أيضًا، إذا عجزوا عن أداء إيجار الأرض، أو الوفاء بما عليهم من ديون. وألحقت التجارة الخارجية واستبدال النقود بالمقايضة ضررًا آخر بالأهلين، لأن منافسة مواد الطعام المستوردة من خارج البلاد أبقت أثمان محصولاتهم منخفضة، على حين أن ما كان عليهم أن يؤدوه ثمنًا للسلع المصنوعة التي كانوا مضطرين إلى شرائها كانت تحدده عوامل لا سلطان لهم عليها، وظلت هذه الأثمان تزداد على توالي السنين. وإذا ما أجدبت البلاد عامًا حل الخراب بكثير من الزراع وهلك بعضهم جوعًا. وبلغ الضنك في "أتكا " درجة رحب معها الأهلون بالحرب وعدوها نعمة وبركة، فقد تؤدي إلى كسب أرض جديدة، وستؤدي حتما إلى قلة الأفواه التي تتطلب الطعام) (1)   (1) ديورانت. ص: 207/205. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 854 فإذا انتهى إلى ثورة "صولون" ونتائجها ذكر من بين أعماله الأولى أعمالا بسيطة ولكنها كانت من قبيل الإصلاحات الاقتصادية الشاملة، وقد خيب آمال المتطرفين بإحجامه عن إعادة تقسيم الأرض. ولو أنه فعل هذا لأدى ذلك إلى الحرب الأهلية وإلى الفوضى التي تدوم جيلًا كاملًا، وإلى عودة الفوارق مسرعة , ولكن "صولون" استطاع بفضل قانونه الشهير قانون "السيسكثيا" أو رفع الأعباء، أن يلغي كما يقول "أرسطاطاليس" جميع الديون القائمة , سواء أكانت للأفراد أم للدولة". وهكذا حرر أراضي (أتكا) من جميع الرهون بجرة قلم، هذا إلى أنه أطلق سراح جميع من استرقوا أو التصقوا بالأرض وكل من بيعوا رقيقًا خارج البلاد وطلب إليهم أن يعودوا إلى مواطنهم، وحرم مثل هذا الاسترقاق في المستقبل. وخليق بنا أن نذكر من خصائص الخلق في هذا المقال أن بعض أصدقاء "صولون" قد عرفوا ما يعتزمه من إلغاء الديون فاشتروا أراضي واسعة مرتهنة ثم احتفظوا بها فيما بعد من غير أن يؤدوا ما عليها من رهون، ويحدثنا "أرسطاطاليس" بأسلوب تهكمي بأن هذا كان منشأ ثروات طائلة كثيرة العدد "ظن الناس" فيما بعد، أنها ترجع إلى أزمنة لا يذكرها الناس لعدم عهدها. وقال بعض الناس إن "صولون" قد تقاضى ثمن هذا العمل , وأنه استفاد منه، حتى تبين بعدئذ أنه وهو الدائن الكبير قد خسر بقانونه الشيء الكثير" (1) ويتطور التشريع في أثينا مع تطورها السياسي والحضاري ولكن حق الملكية يظل ثابتًا بل تزيد القوانين والدساتير ولعل من أسباب ذلك أن التشريع نشأ في أثينا من تجميع العادات التي كانت مقدسة عند الأثينيين لأن الآلهة ارتضتها، ثم تنظيمها وصياغتها في شكل قوانين. وفيما يتصل بالملكية منها يقول ديورانت: "وقانون الملكية صارم لا هوادة فيه , فالتعاقد واجب التنفيذ، وكان يطلب إلى القضاة أن يقسموا بأنهم "لن يطلبوا إلغاء الديون الخاصة، أو توزيع الأراضي أو المساكن التي يملكها الأثينيون" وكان كبير الأركونين - أي الحكام - حين يتولى منصبه في كل عام يكلف مناديًا بأن يؤذن في الناس أن "كل مالك سيبقى له ما يملك وسيظل صاحبه المطلق التصرف فيه". وكان حق الوصية لا يزال مقيدًا بقيود شديدة، فإن كان للمالك أبناء ذكور، فإن الفكرة الدينية القديمة عن الملك، والتي تربطها بتسلسل الأسرة وبالعناية بأرواح السلف تتطلب أن ينتقل هذا الملك من تلقاء نفسه إلى الأبناء الذكور، ذلك أن الوالد إنما كان يحتفظ بالملك وديعة لديه للأموات من الأسرة والأحياء منها ولمن يولدون من أبنائها.   (1) ديورانت. ص: 211. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 855 وكان الملك في أثينا يقسم بين الورثة الذكور كما هي الحال في فرنسا إلى حد كبير، وكان أكبرهم سنًا ينال نصيبًا أكبر بعض الشيء من سائر الورثة , ولم يكن الأثينيون كالإسبارطيين القدماء والإنجليز في هذه الأيام يبقون الملك من غير تقسيم ويعطونه أكبر الأبناء الذكور. وترى الزارع من عهد "هزيود " يحدد عدد أبنائه كما يفعل الفرنسيون في هذه الأيام حتى لا تنقسم أملاكه بين أبنائه انقسامًا يقضي عليها آخر الأمر، ولم تكن للأرملة أن ترث ملك زوجها، بل كان كل ما تناله من هذا الملك أن تسترد بائنتها , وكانت الوصايا معقدة في أيام "بركليز" تعقدها في أيامنا هذه، وكانت تصاغ في لغة شبيهة إلى حد كبير بلغة هذه الأيام والتشريع اليوناني في هذا كما هو في غيره من المسائل أساس التشريع الروماني الذي أصبح فيما بعد الأساس القانوني في المجتمع الغربي" (1) وعند حديثه عن العمل والثروة في أثينا الديمقراطية يقول: "وعماد المجتمع هو الفلاح أفقر الناس فيه وألزمهم له. وقد كان الفلاح في "أتكا " يستمتع على الأقل بحقوقه السياسية ذلك أن المواطنين وحدهم هم الذين كان يحق لهم أن يمتلكوا الأرض، وكان الفلاحون جميعهم تقريبًا يملكون الأرض التي يفلحونها وكان نظام امتلاك العشيرة كلها للأرض قد اختفى، واستقر نظام الملكية الفردية وتوطدت أركانه. وكانت هذه الطبقة من صغار الملاك في "أتكا"، كما هي الآن في فرنسا وأمريكا، قوة محافظة تعمل على الاستقرار في الديمقراطية، على حين أن سكان المدن الذين لا ملك لهم كانوا يدفعون الدولة على الدوام نحو الإصلاح والتغيير (2) على أن هذا التقديس للملكية الفردية لا يلبث أن يتداعى أمام الدعوات الأفلاطونية الملحة في ضرورة نمط من الاشتراكية يشبه أن يكون شيوعية هذه الأيام , إذ وجدت هذه الدعوات تطبيقها في مصر على يد "البطالمة" أي: استطاع "البطالمة" إجراء تجربة واسعة في الاشتراكية الدولية.   (1) ديورانت. ج:7. ص: 29و30. (2) ديورانت. ص: 44و45. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 856 ويقول ديورانت في هذا الشأن: "لقد كانت ملكية الأرض من زمن بعيد عادة مقدسة في مصر، وكان لفرعون بوصفه ملكا وإلها حق كامل على الأرض وعلى ما تنتجه. ولم يكن الفلاح عبدًا، ولكنه لم يستطع أن يترك مكانه إلا بإذن من الحكومة، وكان يطلب إليه أن يورد الجزء الأكبر من محصوله إلى الدولة. وأبقى البطالمة على هذا النظام ووسعوا نطاقه باستيلائهم على الأراضي الواسعة التي كانت في عهد الأسرة الحاكمة السابقة ملكًا للأعيان المصريين أو الكهنة، وكانت هيئة بيروقراطية كبيرة من الموظفين المحكومين يؤديها الحراس المسلحون، تدير شؤون أرض مصر كلها كأنها مزرعة حكومية ضخمة. وكان هؤلاء الموظفون يعينون لكل زارع تقريبًا قطعة من الأرض التي ينبغي أن يزرعها والمحصولات التي يجب أن ينتجها (1) وكان في وسع الدولة أن تجنده ودوابه للعمل في المناجم وإقامة المباني العامة، والصيد، وشق قنوات الري، وإنشاء الطرق، وكانت محصولاته تكال بمكايل حكومية، ويدون الكتبة مقدارها وتدرس في أجران الملك، ويحملها الفلاحون أنفسهم إلى خزائن الملك. وكان يستثنى من هذا النظام بعض الحالات. فقد كان البطالمة يجيزون للفلاح أن يمتلك بيته وحديقته، ويجيزون الملكية الخاصة في الحواضر، ويؤجرون قطعًا من الأرض للجنود يكافئونهم بها على ما قدموا للدولة من خدمات. ولكن هذه الأرض المستأجرة كانت مقصورة في العادة على المساحات التي يوافق صاحبها على أن يخصصها للكروم، أو البساتين أو أشجار الزيتون، ولم يكن يسمح له أن يورثها أبناءه أو أن يوصي بها لمن يشاء، وكان للملك أن يلغي حق الإيجار متى أراد. ولما تحسنت حال هذه الأرض التي يشترك في ملكيتها الفرد والدولة بفضل جهود اليونان ومهارتهم بدأ أصحابها يطالبون بأن يكون لهم حق توريثها أبناءهم وكان العرف لا القانون يجيز هذا التوريث في القرن الثاني، ثم اعترف به القانون في القرن الأول قبل الميلاد، وتم بذلك التطور المألوف من الملكية العامة إلى الملكية الخاصة. وما من شك في أن تطور هذا النظام الاشتراكي الحكومي قد حدث؛ لأن أحوال الزراعة في مصر كانت تتطلب من التعاون ووحدة العمل في الزمان والمكان أكثر مما تستطيع أن تهيئه الملكية الفردية، وأن مقدار ما يزرع من الغلات ونوعها يقفان على مقدار الفيضان السنوي، وكفاية نظام الري والقرف، وهذه كلها مسائل تتطلب أن تشرف عليها هيئة مركزية" (2)   (1) قارن بين هذا وبين ما جرى عليه التشريع والعمل في مصر بأمر من جمال عبد الناصر واستمر من بعده وإن بشكل أخف ... والتاريخ يعيد نفسه. (2) ديورانت ج: 8. ص: 65 و66. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 857 وعرف الرومان الذين اقتبسوا أصول تشريعهم الأولى من اليونان، فضلًا عن مرورهم مثل غيرهم من الشعوب والأمم بالمراحل البدائية الأولى في تطورهم الحضاري، نظام الملكية الفردية. يقول ديورانت (1) "ونجد الملكية الفردية قائمة في روما منذ أقدم العصور المعروفة على أن بعض الأراضي تعد من الأملاك العامة التي تستولي عليها الدولة من طريق الفتح وتحتفظ لنفسها بملكيتها. وكانت أسرة الزراع في عهد الجمهورية الباكر تمتلك فدانين أو ثلاثة أفدنة (2) , يشتغل عليها جميع أفرادها وعبيدها إن كان لها عبيد، وتعيش عيشة متقشفة على ما تنتجه من الغلات. ومع تطور التشريع الروماني طبقًا لتطورهم الحضاري تدعمت الملكية وتنوعت وتفرعت مقتضياتها وحاجاتها إلى الضبط والتقنين". يقول ديورانت (3) : "وكان أكبر قسم في القانون الروماني هو الخاص بالملكية والالتزامات، والتبادل والتعاقد، والديون، ذلك أن الممتلكات العينية كانت هي حياة روما، وكان ازدياد الثروة واتساع التجارة يتطلبان طائفة من القوانين أكثر تعقيدًا إلى أبعد حد من قوانين العشرة الساذجة (4) وكانت الملكية تجيء عن طريق الوراثة أو وضع اليد. وإذا كان الوالد يملك بوصفه وكيلًا عن الأسرة أو وليا عليها، فقد كان الأبناء والأحفاد ملاكًا بالإمكانية أو "ورثة أنفسهم"، حسب النص الفذ الوارد في القانون، فإذا مات الوالد من غير أن يترك وصية، ورث أبناؤه أملاك الأسرة من تلقاء أنفسهم، وورث الآباء من هؤلاء الأبناء حق الولاية على الأسرة. وبعد أن يورد تفاصيل تتصل بالوصية والإرث في القانون الروماني يقول:   (1) ديورانت. ج:9. ص:158. (2) الفدان مقدار من الأرض الزراعية، مساحته: 333 قصبة مربعة و4200 متر مربع بتقريب الكسر. انظر مجمع اللغة العربية - المعجم الوسيط. ج: 2. ص: 684 (3) ديورانت. ج: 10. ص: 374 و375. (4) اللجنة التي اقتبست القوانين الرومانية الأولى من التشريعات اليونانية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 858 " ... يضاف إلى هذا أن الهبة كانت سبيلًا آخر إلى الفرار من قانون الوصية، غير أن الهبات التي كانت توهب قرب الوفاة كانت عرضة لأن تبحث بحثًا قانونيًا دقيقًا، وأضحت في عهد "جيستنيان" خاصة لنفس القيود التي كانت مفروضة على الوصايا (1) وكان الاستحواذ يجيء عن طريق الأيلولة أو الانتقال المترتب على قضية حكمت فيها المحاكم، فأما الأيلولة أو التسليم باليد فكانت الوسيلة إليها هي الهبة القانونية أو البيع أمام شهود ووجود كفتي ميزان يوضع فيهما سبيكة نحاسية رمزًا لمبدأ البيع. فإذا لم تسحبها هذه المراسيم القديمة، فإن القانون لا يقر أي انتقال للملك. وكانت هنالك ملكية وسطى أو إمكانية يعترف بها القانون وتسمى حق وضع اليد على الملك أو استخدامه: فكان الذين يفلحون أرض الدولة مثلا من هذا الصنف "الجالسين" لا المالكين، فإذا ما ظلوا عامين يشغلون هذه الأرض ولا ينازعهم فيها منازع أصبحوا ملاكًا لها لا شك في ملكيتهم، وكانت لهم بحق الانتفاع أو وضع اليد في لغة هذه الأيام (2) , ولعل الحصول على الملك بعد شغله بهذه الوسيلة السهلة اللينة يرجع في أصله إلى عمل الأشراف الذين حصلوا به على الأراضي العامة، وبهذه الطريقة طريقة الملك بالانتفاع أو وضع اليد كانت المرأة التي تعاشر رجلًا عامًا كاملًا لا تغيب عنه فيه ثلاث ليال تصبح ملكا له. على أن تدعيم الملكية الفردية بدون قيد في القانون الروماني وفي الحياة الرومانية نتج عنه ما لا بد أن ينتج عن كل تشريع لا يفكر واضعوه تفكيرا محيطًا في جميع معقباته. ذلك بأن الزراعة كانت من أهم أسباب الثورة التي اكتسحت روما وكانت لها معقبات خطيرة حتى قال عنها ديورانت (3)   (1) ينبغي أن يلاحظ التشابه بين هذه الفقرة والبحوث الواردة في الفقه الإسلامي في حالات مماثلة. (2) قارن بين هذا وبين التشريع الإسلامي في كل من "إحياء الموات" و"الحيازة". (3) ديورانت. ج: 9. ص: 232 و233. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 859 "ولم تنشب قط قبل الحرب أو بعدها إلى أيامنا هذه حرب كان لأهدافها من الخطر مثل ما كان لتلك الحرب ولم تمثل على المسرح العالمي في يوم من الأيام مأساة ما تمثيلا أقوى مما مثلت به مأساة تلك الأيام (1) وكان أول أسباب هذه الثورة تدفق الحبوب الناتجة من عمل الرقيق في صقلية وسردانية وأسبانيا وأفريقيا، وما أحدثه تدفقها من خراب حل بالزراع الإيطاليين، إذ خفض ثمن الحبوب التي تنتجها أراضيهم إلى أقل من تكاليف إنتاجها وكان سببها الثاني تدفق الرقيق الذين حلوا محل الزراع في الريف والعمال الأحرار في المدن، وكان ثالث هذه الأسباب زيادة عدد الضياع الواسعة، وكانت الدولة قد أصدرت في عام 220 ق. م. قانونًا يحرم على أعضاء مجلس الشيوخ أن يتعاقدوا على الأعمال العامة أو يستثمروا أموالهم في التجارة، فما إن زاد ثراؤهم من غرائم الحرب اشتروا بهذه الأموال مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، وكانت الأرض في البلاد المفتوحة تقسم في بعض الأحيان قطعا صغيرة وتباع للرومان المستعمرين، وقلت بذلك حدة الفتن والنزاع القائمين في المدن، وأعطي جزء كبير من هذه الأراضي للممولين وفاء ببعض ما أقرضوه للدولة من أموال في أثناء الحرب، أما الجزء الأكبر فقد ابتلعه أعضاء مجلس الشيوخ ورجال الأعمال أو استأجروه بشروط حددها مجلس الشيوخ نفسه، وكان من أثر انتشار هذه الضياع الواسعة أن اضطر المالك الصغير إلى اقتراض المال بأرباح فاحشة يستحيل عليه الوفاء بها، فلم يلبث أن وقع في هاوية الفقر أو الإفلاس أو فقد أرضه ونزح إلى المدن ليسكن في أحيائها القذرة الحقيرة الوبيئة ... إلخ". 6 - بعض المؤثرات في الفقه العقاري الإسلامي وإنما قطعنا كل هذه الأشواط في مواكبة تطور أنظمة الملكية عرفًا وتشريعًا لدى أهل الجزيرة العربية والشعوب المتصلة بها، لنستبين ويستبين معنا القارئ الكريم المؤثرات المتوالية والمتناسخة أحيانًا فيما انتهى إليه أمر التشريع العقاري في الفقه الإسلامي. ولقد ألمعنا فيما سلف إلى أن الشريعة الإسلامية لم تأت لتكون بدعا في الشرائع التي عرفها الإنسان ليس لها أصول من أوضاعه، وإنما جاءت تكييفًا وتنظيما لأوضاعه تلك لتقييمها على أساس من العدل والمساواة بين جميع أفراده وأممه.   (1) أحسبه غفل عما حدث في روسيا غداة الحرب العالمية الثانية من ثورة البولشفيك ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 860 كما ألمعنا إلى رأينا في أن التشريع الإسلامي أعار الأوضاع العربية خاصة وأوضاع الشعوب المتصلة بالجزيرة العربية اعتبارًا خاصا لما يمتاز به العرب من وسطية حفظت لهم التوازن بين مقتضيات الحياة المادية الصرفة ومستلزمات الحياة الروحية الخالصة، وهذه الوسطية في رأينا من بين ما وصف به القرآن الكريم الأمة الإسلامية في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (1) وهي في رأينا أيضًا من مدلولات قوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ، (2) وقوله عز من قائل: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) والله أعلم. ومضيا مع هذا الفهم الذي يمثل واحدًا من أسس منهجنا في استشراف تطور التشريع الإسلامي فيما يتصل بالملكية. ألمعنا بالتشريعات البابلية والآشورية والمصرية والرومانية باعتبارها في رأينا مؤثرات في التشريعات العربية قبل الإسلام، ثم في اجتهادات بعض فقهاء المسلمين منذ العصر الأول. واستكمالا لهذه الأشواط، نقف مليا عند التشريعات العربية السابقة للبعثة النبوية، لكن ليس في تفاصيلها بل في مصادرها، إذ إن تفاصيلها لا تختلف في جوهرها عن مثيلاتها في مصادرها. ونقتبس من جواد علي قوله: "وإذا أردنا أن نتحدث بلغة هذا العصر عن أصول التشريع الجاهلي، أي عن المنابع التي أمدت فقه الجاهلية بالأحكام فإنا نرى أنها استمدت من العرف ومن الدين، ومن أوامر أولي الأمر، ومن أحكام ذوي الرأي " (4) وجلي أن العرب قبل الإسلام لم يكونوا جميعًا وثنيين فقد كان منهم بقايا الحنفاء الذين احتفظوا بأثارات من ملة إبراهيم عليه السلام (5) وكان منهم يهود (6) وكان منهم نصارى (7) بل تعددت فيهم المذاهب النصرانية (8) وكان فيهم مجوس (9) وإن كانوا قلة ينحصرون في الجنوب، في اليمن وما جاورها من المناطق التي احتلها الفرس حينًا.   (1) الآية رقم: (143) من سورة البقرة. (2) الآية رقم (135) من سورة البقرة (3) الآية رقم: (161) من سورة الأنعام. (4) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج: 5. ص: 478. (5) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج: 6 ص: 347/ 449. (6) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 551. (7) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 582. (8) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 623. (9) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 691. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 861 بيد أن المجوسية لم يكن لها من التأثير في الحياة العربية العامة، وخاصة في حياتها للشمال ما كان لليهودية والنصرانية فضلًا عن الحنفية والحنفاء. ذلك بأن علاقات العرب بفارس وحتى بالعراق العربية الخاضعة للهيمنة الفارسية في العهد الجاهلي أيام اللخميين ملوك الحيرة، لم تكن على نفس المستوى من الوثوق والسعة الذي كانت عليه العلاقات العربية مع الروم البيزنطيين، وعرب الشام (الغساسنة) الخاضعين لهيمنتهم مع الحبشة ومع الروم. تلك العلاقات التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة قريش , إذ وصفها بما نتج عنها من (رحلة الشتاء والصيف) ومردها تاريخيا على الأرجح إلى عهد قصي بن كلاب الجد الرابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ذكر أنه هو الذي وضع أول اتفاق تجاري مع الببزنطيين يكفل بمقتضاه لأهل مكة إباحة الاتجار في الأصقاع الخاضعة لبيزنطة، وحماية قوافلهم في القبائل البدوية الخاضعة أو المتحالفة معها، والضاربة في الطريق بين مكة والشام. وقد نقل جواد علي (1) عن ابن قتيبة "خبرا مفاده أن (قيصر) أعان (قصيا) على (خزاعة) " وإذا صح الخبر فإن إجلاء خزاعة من مكة واستخلاص الكعبة وسدانتها لقريش، تم بإعانة من حاكم الشام. ولعل هذه الإعانة كانت مساعدة مالية أو إيعازًا منه "إلى الأعراب المحالفين للروم بمساعدته للتغلب على خزاعة " (2) بل إن العلاقات بين مكة والشام البيزنطية بلغت من العمق حدا جعلت الطامعين في انتزاع حكم مكة من قصي يحاولون الاستعانة بحاكم الشام البيزنطي، أو ممثل بيزنطية لدى ملوك الشام - وهو في الغالب من يطلق عليه العرب كلمة "قيصر" - على تحقيق أطماعهم. فيقال: إن (عثمان بن الحويرث) سعى لدى البيزنطيين ملتمسًا مساعدته لتنصيب نفسه ملكًا على مكة وهو من (بني أسد بن عبد العزة) .   (1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج: 4. ص: 38. (2) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 862 "ويظهر أنه أدرك المرارة التي أصيب بها البيزنطيون من خروج الحبش من اليمن ومن دخول الفرس إليها، وسيطرتهم بذلك على باب المندب، مفتاح البحر الأحمر. فتقرب إلى الروم وتوسل إليهم لمساعدته بكل ما عنده من وسائل لتنصيب نفسه ملكًا على مكة , علما منه أن هذا الطلب سيجد قبولًا لديهم , وأن في إمكانهم في حالة عدم رغبتهم بمساعدته مساعدة عسكرية أو مالية، الضغط على سادات مكة ضغطًا اقتصاديًا بعرقلة تجارتهم مع بلاد الشام أو بمنع الاتجار مع مكة، أو برفع مقدار الضرائب التي تؤخذ عن تجارتهم، وبذلك يوافقون على الاعتراف به ملكًا عليهم على نحو ما كان عليه الملوك الغساسنة" (1) وواضح أنه لم يلق استجابة من البيزنطيين لتحقيق مطامعه، إذ واجه معارضة صامدة من أشراف مكة وأثريائها؛ لأنهم كانوا تجارًا يتاجرون مع الفرس والروم، وانحيازهم إلى الروم معناه خروج مكة عن سياسة الحياد التي اتبعوها اتجاه المعسكرين. وذلك من شأنه الإضرار بتجارتهم ووضعهم تحت رحمة الروم واحتكارهم وحدهم , فضلًا عن أن "بين أهل مكة رجال لهم شأن ومكانة في قومهم وكانوا أرفع منزلة من (عثمان بن الحويرث) ، لذلك لم يكن من الممكن بالنسبة لهم الانصياع له حتى وإن أرسل الروم جيشًا قويا منظما على مكة" (2) وقد وقفنا هونا عند محاولة (عثمان) هذه لأنها تصور مدى ما وقر في أنفس الحجازيين من عمق العلاقة والتأثر والتأثير بين عرب شمال الجزيرة ومراكز الحكم في الشام، سواء كانت بيزنطية أم عربية خاضعة للبيزنطيين. وآية ذلك أن (عثمان) لم يحاول الاستعانة بالفرس وقد غلبوا على اليمن بعد أن أخفق في تحقيق مطامعه لدى البيزنطيين، إذ كان يدرك أن محاولة مثل هذه ستجلب له عداء أشد وعنادًا أصلب من أشراف مكة وأثريائها. وما نريد أن نتابع تطور العلاقات التجارية بين الحجازيين والروم، أو بينهم والحبشة، فذلك ليس من شأننا في هذا المجال , بحسبنا أن نؤكد مدى التفاعل الحضاري المنعكس على العادات والتقاليد والأعراف والتشريعات بين الفريقين تفاعلًا كان له أبلغ الأثر في تكييف مفاهيم الفقهاء للتشريع الإسلامي.   (1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 39. (2) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 40 بتصرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 863 ولم يكن هذا شأن أهل مكة وحدهم، وإنما كان شأن أهل (يثرب) - المدينة المنورة - الذين كانوا "تجارًا يخرجون إلى أسواق الشام فيتجرون بها". كذلك "كان يهود (يثرب) بما يحتاجون إليه من تجارات"، وكما كانت الساقطة تنزل المدينة في الجاهلية والإسلام يقدمون بالبر والشعير والزيت والتين والقماش وما يكون في الشام" (1) ويلاحظ من تتبع التاريخ التجاري لعرب شمال الجزيرة وخاصة الحجازيين، بل ولعرب اليمن أيضًا أن التجارة العربية مع الروم والحبشة كانت أوفر نشاطًا وأدق تنظيما وكانت موسمية على حين أن تجارتهم مع الفرس والعراق الخاضع لهيمنتهم كانت محدودة، ولعلها كانت فردية نتيجة لفرص وظروف لا يضبطها نظام زمني ولا تنظيم جماعي. يقول جواد علي (2) "ولم يشر أهل الأخبار إلى رحلة على شكل رحلتي الشتاء والصيف إلى العراق، وإنما أشاروا إلى تجار كانوا يتاجرون مع الحيرة. ومعنى هذا ذهبوا قوافل صغيرة إلى العراق، لم تكن بحجم قوافل قريش إلى بلاد الشام أو اليمن، ولم يشر القرآن الكريم أيضًا إلى رحلة جماعية إلى العراق أو إلى موضع آخر. أو مما يدل على أن قريشًا كانت ترحل رحلتين جماعيتين كبيرتين في السنة إلى بلاد الشام في الصيف وإلى بلاد اليمن في الشتاء. أما رحلاتهم الأخرى فلم تكن ضخمة وجماعية، بل كانت قوافل دون القافلتين في الحجم، وكانت خاصة أصحابها أغنياء، لهم رؤوس أموالهم، يبعثون بقوافلهم على حسابهم، في كل وقت شاؤوا، وتكون أرباحهم لا يشاركهم فيها مشارك، وقد يرأسون بأنفسهم قوافلهم , فيذهبون بها إلى العراق، ولهم فيه تجار وأصحاب، فإذا باعوا عادوا ببضاعة جديدة وبما كسبوه إلى مكة.   (1) ليس واضحًا ما تعنيه كلمة "الساقطة" التي نقلها جواد علي - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج: 4. ص: 141 - عن الواقدي في الفتوح فقد "تكون السواقط وهم الذين يمتارون التمر من اليمامة أو من ساقطة الأخبار كما تدل عليه الفقرة التي بعد هذه ونصها "وكانوا يتسقطون الأخبار وينقلونها إلى الروم عند ظهور الإسلام. فقدم بعض الساقطة المدينة وأبو بكر ينفذ الجيوش، وسمع أبو بكر لعمرو بن العاص وهو يقول: عليك بفلسطين وإيليا، فساروا بالخبر إلى الملك هرقل، وتهيأ لملاقاة المسلمين) نفس المرجع نقلًا عن الواقدي أيضًا". (2) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج: 7. ص: 294. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 864 ويظهر أن قريشًا ومن على شاكلتها من تجار عرب الشمال لم يكونوا يتجهون وراء العراق فيتصلون بفارس مباشرة، وإنما كانت صلتهم بالفرس بواسطة عرب الحيرة وذلك خلافًا لما كانت عليه صلاتهم مع الروم والحبشة. فبالإضافة إلى انتظام التحرك الجاري بين الحجاز وكل من الروم والحبشة. كانت لأهل مكة أجهزة في الشام وفي الحبشة تشبه أن تكون نمطًا مختلطًا من التمثيل السياسي والتجاري". يقول جواد علي (1) "وقد أقام تجارهم وكالات ومتاجر في مواضع متعددة تتولى أمر البيع والشراء. ولعلهم كانوا يمثلون مصالح مكة السياسية في الحبش كذلك , كأن يتولى هؤلاء التفاوض في عقد عهود سياسية واقتصادية وما شابه ذلك. وقد كان اتصال أهل مكة بالحبشة وثيقًا ودائما. ويظهر أنهم كسبوا منافع مهمة من أعمالهم وانتقالهم إلى تلك البلاد. وقد عهدت قريش إلى أناس آخرين من رجالها. بقيادة قوافلها إلى بلاد الشام أو إلى اليمن. كما قام رجال منها بتجهيز قوافل لهم لتتاجر بأموالهم". ومع أن عرب يثرب لم يكونوا على مثل شهرة قريش بالتجارة , لأن أغلبهم كانوا منصرفين إلى الزراعة وخاصة النخيل، فإن منهم "من كان يتاجر مع بلاد الشام واليمن وله أموال شغلها في التجارة" كما يقول جواد علي (2) وقد نستطيع أن نستشف "مياسم" من التشابه بين ما تواضع عليه العرب الجاهليون من قوانين أغلبها كان مجرد أعراف تقادم احترامها والالتزام بها وبين القوانين الرومانية. على أننا لا نريد في هذا المجال المحدود أن نتتبع هذه "المياسم" في شتى مجالات التشريع، إن نريد إلا أن نحاول استشفافها في نطاق مجالنا هذا، مجال "الملكية " و"المال" وما يتصل به.   (1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 297. (2) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 311 و312. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 865 يقول جواد علي (1) : "الملكية حق محترم عند الجاهليين ولصاحب الملكية حق المحافظة على ما يملك والدفاع عنه. ويدخل في ملكية الإنسان كل ما ملكه أو استولى عليه ولم ينتزعه منه أحد مثل الغنائم والسلب والأسر وما شابه ذلك. وعلى المالك الدفاع عن حقه في ملكه وإثباته. ومن أنواع الملكية: تملك العقار وبقية الأشياء الثابتة والأموال المنقولة". ثم يقول: "والملكية نوعان: ملكية ثابتة وملكية متنقلة، ومن النوع الأول العقار، مثل الدور والأرض. ومن النوع الثاني المال وهو الإبل عند الجاهليين بصورة خاصة، والمواشي بالنسبة للمزارعين والرعاة وأهل المدن، وأثاث البيت، سواء كان البيت مستقرًا مثل بيوت أهل المدر أو متنقلًا مثل بيوت أهل الوبر. وأغلب ملك الأعراب هو ملك مستقل. وذلك لأن الحياة التي يحيونها هي حياة تنقل، أما الملك الثابت، أي الأرض , فإنه ملك لهم ما داموا فيه , فإذا ارتحلوا عنه، انتقلت ملكيتهم إلى الأرض الجديدة التي ينزلون بها فيملكونها طوعًا، أي من غير مقاومة أو بحق السيف. ويدخل في باب الملك كل شيء وضع ليستفاد منه أو ليدل على حماية ملك، أو يفهم من وضعه أنه ذو فائدة وأن له صاحبًا، كجدران الأملاك وحيطان البساتين أو سور القرى أو الرجمات وهي أحجار القبور. وقد عثر المنقبون على رجام في مواضع مختلفة من جزيرة العرب، كتب عليها: أن لعنة الآلهة على من يرفع هذا الحجر عن موضعه وعلى من يغيره أو يأخذه أو يتصرف به. كما سألوا الآلهة بأن تنزل الأمراض ومنها العمى والبرص وأنواع الأذى والشر بكل من يتطاول على هذه الرجام، أو على معالم القبور أو القبور، وذلك لأنها ملك. ولا يجوز لأحد التصرف بملك غيره بأي وجه من الوجوه. وقد أخذ الجاهليون بحق الشفعة في شراء الملك كالدور والأرض" , كما عرفوا " الرق " وما يتصل به من العتق والمكاتبة والتدبير. كذلك عرفوا الأموال الثابتة , وفي ضمنها البيوت، وهي تباع وتشترى وتؤجر وترهن بحسب رغبة صاحبها. ولأجل إثبات حق تملك الأفراد للبيوت، كانوا يثبتون أحجارًا مكتوبة على واجهة البيت في بعض الأحيان يدون عليها اسم مالك البيت والعمار الذي بنى البيت والزمن الذي بني فيه، أو الزمان الذي أجريت فيه ترميمات عليه. والحجر عندهم في مقام سند التملك في أيامنا هذه.   (1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج: 5. ص: 569. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 866 وتوضع على حدود الملك، ولا سيما حدود الحقول والبساتين، علامات. ولا نكاد نجد في الفقه الإسلامي تشريعًا يتصل بشؤون الأموال أو بالجنايات أو بالأحوال الشخصية ليس له مثيل في التشريع العربي الجاهلي وإن اختلفا في كثير من الجزئيات نتيجة الاختلاف بين ما هو من وضع البشر الناتج عن الأعراف وما هو من وضع الله القائم على الحق الهادف إلى إقرار العدل. وما من أحد يستطيع أن يماري في التفاعل بين الفقه الإسلامي والقانون الروماني، كما أنه ما من أحد يستطيع أن يماري في أوجه الشبه العديدة بين الشرائع المعمول بها عند الجاهليين وخاصة عرب الشمال، والتي كانت أعرافًا فتطورت إلى شرائع، وبين الشرائع الرومانية والبابلية ما كان منها قبل التدوين وما كان بعده. ولقد ألححنا في تأكيد هذا الشبه لأننا سنلمسه في مسارنا ونحن نستتبع ونستقرئ خطوات التشريع الإسلامي نصوصًا واجتهادات فيما يتعلق بالملكية والأموال. 7 - تطور مدلول الملكية في الفقه الإسلامي: لم نقف على تعريف دقيق لـ"الملك " أو "الملكية"، عند الفقهاء المسلمين الأول، ومرد ذلك عندنا إلى أنهم لم يكونوا قد تأثروا بالمنطق الصوري "الأرسطي" الذي تأثر به المتأخرون فصرف جانبًا من جهدهم الفكري إلى صياغة "التعريفات" و"الحدود، وإنما كان همهم تمييز الأحكام وتبيين مصادرها وأدلتها تمييزًا وتبيينًا يستمدان من النصوص القرآنية والسنية ومن التطبيقات المأثورة عن العصر الأول، عصر الصحابة وكبار التابعين. وكان الجانب التطبيقي هو المستحوذ على جهودهم الفكرية تتناوله بالتمييز والتمحيص والتحليل والتعليل. وكانوا على قناعة كاملة بأن مهمة الفقيه هي مواجهة كل حدث وكل واقعة في ظروفها وشكلها بالحكم الذي يوائمها طبقًا لظروفها وشكلها وأسباب وقوعها والعواقب المحققة أو المرجحة لوقوعها. فلما هيمن التقليد على الفقهاء والمتفقهين، واستحوذ المنطق الصوري على جهدهم الفكري بعد عصر التدوين وعصر أئمة الاجتهاد الأول وعصر تمحيص الآثار المدونة بالأحكام والآراء الاجتهادية , وجدوا "مشغلة" لهم في وضع الحدود والتعريفات ومناقشة ألفاظها ونقدها وتعديلها بالزيادة أو النقص أو إعادة الصياغة مما يرتؤونه ضروريا، إما للمزيد من الضبط أو للمزيد من البيان. وقد واكب هذا الاتجاه في جهود الفقهاء والمتفقهين اتجاه آخر فيها أيضًا هو العناية بوضع "المختصرات"، ثم شرحها ثم تهميش وتذييل كل من المختصرات والشروح بالحواشي والتعاليق والتقارير. وعماد هذه المختصرات والشروح والذيول "اجتهاد" ثري - ثراء يثير الإعجاب بما صرف فيه من جهد مضن بقدر ما يثير الأسى لقلة جدواه، وأحيانًا لعدم جدواه إطلاقًا - في تمييز الألفاظ وتمحيصها ومناقشتها ووضع الحدود والتعريفات لها، حتى لا يكاد القارئ يتساءل في كثير من الأحيان ما جدوى هذا التدقيق المسرف في توجيه وتحليل ألفاظ وضعها البشر، في حين أن المسلم ينحصر تكليفه بالفهم فهما صحيحًا للنصوص المؤصلة للشريعة من قرآنية وسنية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 867 ونكاد نجزم بأن هذا الاتجاه من مقلدي الفقهاء والمتفقهين جاء نتيجة اتصال مباشر من بعضهم، وغير مباشر من آخرين بالتشريع الروماني الذي كان قائما على "صياغات" وضعية، وكان من الطبيعي أن يخضع استنباط الحكم منها فضلًا عن تطبيق أحكامها للدقة القصوى في فهم ألفاظها وتمييزها وتمحيصها وتعليلها وتحليلها للتأكد من أن تطبيق أحكامها أو استنباط حكم جديد منها، لا يخرج عن مقاصد ومدارك واضعيها الأولين , إذ إن تلك التشريعات بلغت لدى الملتزمين بها من متدينين وغير متدينين - باعتبار المسيحية دينًا تعبديا - وقبل أن يفتحوا لأنفسهم مجال الاجتهاد ويتحرروا من قيودها جزئيا أو كليا، أقصى ما يمكن أن تتصوره مداركهم ومواجدهم من الاحترام والتقديس. على أن هذا الذي نرتئيه من تأثر فقهاء ومتفقهي ما بعد عصور الاجتهاد بكل من المنطق الصوري والتشريع الروماني وما تفرع عنه من حواشي وشروح وتعاليق، لا يصرفنا عن الوقوف عند تعريفاتهم وحدودهم التي وضعوها لـ "الملك" و"الملكية" استكمالا لعناصر وأطوار التصور البشري لكل منهما واستئناسًا بها في محاولتنا استشراف الحكم الشرعي الصحيح الدقيق فيما يتداوله الناس من أموال، وفيما يترتب عليهم أو لهم من تداوله من حقوق وواجبات، ذلك بأن اجتهادات فقهية متأخرة اعتمدت بعض تلك التعريفات والحدود، أو استأنست بها نشأت عنها تصورات وأحكام لا سبيل إلى إعقابها، بل ولا إلى عدم اعتمادها في محاولتنا هذه وما على شاكلتها من جهود لتوضيح معالم التشريع الاقتصادي الإسلامي في شكل يتماثل مع صيغ التشريعات الاقتصادية المعاصرة تماثلا يهيئ له قابلية الموازنة والمقارنة والمفاصلة والتنظير. ويتراءى لنا أن أدق التعريفات والحدود التي اطلعنا عليها في هذا المجال، تعريف شهاب الدين القرافي (1) الذي نورده مع تحليله وتعديله له على طوله , لما يتضمنه من إشارة إلى أحكام قد نلفت إليها فيما نستقبل من هذا البحث. يقول - رحمه الله - في " الفرق الثمانون والمائة بين قاعدة الملك وقاعدة التصرف ":   (1) الفروق. ج: 3. ص: 208 وما بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 868 "يعلم أن الملك أشكل ضبطه على كثير من الفقهاء فإنه عام يترتب على أسباب مختلفة: البيع، والهبة، والصدقة والإرث وغير ذلك، فهو غيرها ولا يمكن أن يقال: هو التصرف؛ لأن المحجور عليه يملك ولا يتصرف، فهو حينئذ غير التصرف , فالتصرف والملك كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه، فقد يوجد التصرف بدون الملك، كالوصي والوكيل والحاكم وغيرهم يتصرفون ولا ملك لهم، ويوجد الملك بدون التصرف كالصبيان والمجانين وغيرهم يملكون ولا يتصرفون، ويجمع الملك والتصرف في حق البالغين الراشدين النافذي الكلمة الكاملي الأوصاف. وهذا هو حقيقة الأعم من وجه والأخص من وجه، أن يجتمعا في صورة وينفرد كل واحد منهما بنفسه في صورة كالحيوان والأبيض. والعبارة الكاشفة عن حقيقة الملك أنه حكم شرعي مقدم في العين أو المنفعة، يقتضي تمكن من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك والعوض عنه من حيث هو كذلك (1) أما قولنا: حكم شرعي، فبالإجماع لأنه يتبع الأسباب الشرعية. وأما أنه مقدر، فلأنه يرجع إلى تعلق إذن الشرع , والتعلق عدمي ليس وصفًا حقيقيًا، بل يقدر في العين أو المنفعة عند تحقق الأسباب المفيدة للملك (2) وقولنا: في العين أو المنفعة تملك كالبيع، والمنافع كالإجارات.   (1) سيأتي فيما ننقل عن ابن الشاط ما يمكن اعتباره "تحريرا" لحقيقة الملكية أو الملك في الشرع الإسلامي بما نقل عن المازري - رحمه الله - من اعتبار حق الإنسان في التصرف والتصريف فيما لديه وفيما صار أو يصير إليه من الثابت والمنقول إنما هو حق المنفعة والانتفاع وليس ملكًا بمعنى السيادة على الرقبة , إنما الملك لله وحده بهذا المعنى , وسنعرض لهذا الأمر بمزيد من التحرير عند ذكر ما يترتب عليه من الأحكام. (2) لا ندري كيف يقدر في العين إذا اتخذنا اعتبار الملك المجرد أو ملك الرقبة لله الواحد القهار قاعدة، لأن تقديره في العين يعني إقرار ملك الرقبة , وهذا لا يتأتي عند التحقيق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 869 وقولنا يقتضي انتفاعه بالمملوك ليخرج التصرف للوصية والوكالة، وتصرف القضاة في أموال الدائنين والمجانين، فإن هذه الطوائف لهم التصرف بغير الملك. وقولنا: أو العوض عنه , ليخرج عنه الإباحات في الضيافات , فإن الضيافة مأذون فيها , وليست مملوكة على الصحيح , ويخرج أيضًا الاختصاصات بالمساجد والربط والخوانق (1) ومواضع المطاف والسكك ومقاعد الأسواق، فإن هذه الأمور لا ملك فيها مع المكنة الشرعية من التصرف في هذه الأمور. وقولنا: من حيث هو كذلك , إشارة إلى أنه يقتضي ذلك من حيث هو، وقد يختلف عنه ذلك لمانع يعرض كالمحجور عليهم , لهم الملك , وليس لهم المكنة من التصرف في تلك الأعيان المملوكة. لكن تلك الأملاك في تلك الصور لوجود النظر فيها اقتضت مكنة التصرف، وإنما جاء المنع من أمور خارجة، ولا تنافي بين القبول الذاتي والاستحالة لأمر خارجي، ولذلك نقول: أن جميع أجزاء العالم لها القبول للوجود والعدم بالنظر إلى ذواتها، وهي إما واجبة لغيرها إن علم الله تعالى وجودها , أو مستحيلة لغيرها إن علم الله تعالى عدمها. وكذلك ههنا بالنظر إلى الملك، يجوز التصرف المذكور، وبالنظر لما عرض من الأسباب الخارجة يقتضي المنع من التصرف لسنا ندري لماذا لم ينتبه القرافي - رحمه الله - إلى ما في عمق كلامه من تناقض , فإقراره مبدأ امتناع التصرف عن بعض الطوائف التي ينسب إليها "الملك" كالصبيان والمحجورين كان ينبغي أن يلفته إلى حقيقة جوهرية هي مدار الحكم ومدركه في هذا الشأن وهي أن علاقة الإنسان بما لديه من المال الثابت والمنقول علاقة خاضعة لضوابط، فإن اختل ضابط أو أكثر من تلك الضوابط تقلص مجال العلاقة أو زالت زوالا تاما ومعنى هذا أنه ليس للإنسان الحق المطلق أو "السيادة" أو "ملكية الرقبة" فيما لديه أو فيما صار أو يصير إليه من المال الثابت أو المتنقل وإنما الذي له هو حق الاستعمال إذا أحسن الاستعمال؛ لأن ما أشار إليه القرافي من الامتناع الطارئ الذي يقلص ما سماه بالملك ويخول التصرف فيه إلى الغير هو نفسه ما نعتمد عليه من اعتبار العلاقة بين الإنسان وبين المال أو ما يسميه القرافي الملك هي في الحقيقة "وظيفة" تزول عنه أو ينحصر مداها تبعًا لمدى صلاحه وقابليته للاطلاع بمقتضياتها وهذا المعنى العميق هو ما لم ينتبه إليه القرافي فمضى ينقض نفسه بما اعتبره تقريرًا أو توضيحًا لرأيه. فتأمل.   (1) الخوانق: الأزقة والشعاب الضيقة. انظر - ابن منظور لسان العرب. ج: 10. ص: 92. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 870 وكذلك إذا قلنا: الأوقاف على ملك الواقفين، مع أنه لا يجوز لهم البيع وملك العوض عنها بسبب ما عرض من المانع من البيع كالحجر المانع من البيع، فقد انطبق هذا الحد على الملك. فإن قلت: قد قالت الشافعية: إن الضيافة تملك، وهل بالمضغ أو البلع أو غير ذلك على خلاف عندهم، فهذا ملك مع أن الضيف لا يتمكن من أخذ العوض على ما قدم له، ولا يتمكن من إطعامه لغيره، ولذلك قال المالكية: إن الإنسان قد يملك أن يملك، وهل يعد مالكًا أو لا , قولان: فمن ملك أن يملك لا يتمكن من التصرف ولا أخذ العوض من ذلك الشيء الذي ملك أن يملكه مع أنهم قد صرحوا بحقيقة الملك من حيث الجملة. وكذلك قال المالكية وغيرهم: إن الإنسان قد يملك المنفعة، وقد يملك الانتفاع فقط، كبيوت المدارس والأوقاف والربط ونحوها. مع أنه في هذه الصور، لا يملك أخذ العوض عن تلك المنافع. قلت: أما السؤال الأول فإن الصحيح في الضيافات أنها إباحات , لا تمليك هذا نمط من اختلاف الفقهاء الذي لا طائل وراءه , لأنه عند التحقيق والتحرير لا يتصور عمليا أن ينتج عنه حكم له أثره في المعاملة بين الناس. فالضيافة نمط من الهبة لكنها هبة منضبطة بظرف زمني وبيئوي لا تتجاوزه , ومجالها إعطاء المضيف ضيوفه حق التصرف بالانتفاع والنفع بما قدمه إليهم من طعام أو شراب أو فيما يسر لهم من سكن خلال فترة الضيافة ونقول: حق الانتفاع والنفع لرفع كل التباس مما يثيره المتفقهة ولا طائل وراءه فيما يحدث عالق بين الضيوف من إيثار بعضهم بعضًا بشيء مما قدم إليهم من مأكل أو مشرب أو سكن إيثارًا مصدره رغبتهم في إكرام بعضهم بعضًا تعبيرًا عن الود أو التوقير وهو أمر جرت العادة بين الناس على التعامل به ولم يحدث عمليا أن تحرج أحد منه بدعوى أن المضيف خول له أو لمن أكرمه حق الانتفاع شخصيا بما أكرمه به ولم يخوله حق النفع. أما موضوع سكنى المدارس فهو مختلف بعض الشيء عن موضوع الضيافة، فالطلبة الذين يسكنون المدارس يسكنونها بالحق الذي خوله لهم الوقف أثناء ممارستهم للدراسة وهم بذلك لا يملكون "المنفعة" وإنما يملكونا "الانتفاع" و"النفع" إذا لم يحظره قانون المدرسة أو نص الوقف. ومعنى "النفع" الذي يملكونه ما لم يحظره قانون أو نص هو أن للطالب أن يسكن معه رفيقًا له طيلة فترة سكناه أو أمدا منها , لكن بدون أجر؛ لأن إسكانه بأجر إنما تخوله ملكة "المنفعة" وهي غير متاحة له. فتأمل. كما أباح الله السمك في الماء والطير في الهواء والحشيش والصيد في الفلاة لمن أراد تناوله. ولم يقل: إن هذه الأمور مملوكة للناس (1) فكذلك الضيف جعل له أن يأكل إن أراد أو يترك.   (1) هذا المثل يؤكد ما ذهبنا إليه سابقًا من أن قوله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وما شاكل هذه الآية من الآيات البينات لا يعنى التمليك إنما يعنى الاختصاص. فارجع إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 871 والقول بأنه يملك مشكل، فإن الملك لا بد فيه من سلطان التصرف من حيث الجملة، وبعد أن بلع الطعام، كيف يبقى سلطان بعد ذلك على الانتفاع بتلك الأعيان لأنها فسدت عادة، ولم تبق مقصودة للتصرف البتة، فالحق أنها إباحات لا تمليكات (1) وأما السؤال الثاني، فنقول للمالكية: إن من ملك أن يملك هل يعد مالكًا أو لا؟ قولان، وقد تقدم أن هذه العبارة رديئة جدا أنها لا حقيقة لها، فلا يصح إيراد النقض بها على الحد لأنا نمنع الحكم فيها. وأما السؤال الثالث وهو ملك الانتفاع دون المنفعة فهو يرجع للإذن والإباحة كما في الضيافة، فتلك المساكن مأذون فيها لمن قام بشرط الواقف (2) لا أنها فيها ملك لغير الواقف (3) بخلاف ما يطلق من الجامكيات فإن الملك فيها يحصل لمن حصل له شرط الواقف , فلا جرم صح أخذ العوض بها أو عنها لم نعثر في مصادر اللغة على كلمة "الجامكيات" ولعل فيها تحريفًا أو أنها من العامية المستعملة في موطن القرافي ويظهر أنه يقصد بها ما يمكن استغلاله أو الانتفاع به من الغلال والخضروات. وإذا فتحرير الأمر في هذه المسألة هو أن حق الانتفاع أو النفع ينضبط بشروط الواقف , فإذا أباح الواقف الأكل فحسب , لم يجز للمنتفع البيع أو الهبة إلا في حالة الضرورة مثل أن يكون مضطرا إلى ما يقيه البرد أو الحر أو يستر عورته ولا يجد وسيلة لاقتنائه إلا ببيع شيء مما أبيح له استغلاله عن طريق الوقف وهذه حالة خاصة داخلة في نطاق "الضرورات تبيح المحظورات" أما في الأحوال العادية فشرط الواقف - مادام في نطاق الشرعية غير متجانف لإثم – هو الذي يضبط مدى حق الانتفاع بالوقف لمن توفرت فيه الشروط المؤهلة له أن ينتفع به. فإن قلت: إذا أتضح حد الملك فهل هو من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف الذي هو من الأحكام الخمسة. قلت: الذي يظهر لي أنه من أحد الأحكام الخمسة. وهو إباحة خاصة في تصرفات خاصة، وأخذ العوض عن ذلك المملوك على وجه خاص كما قررت قواعد المعاوضات في الشريعة وشروطها وأركانها وخصوصيات هذه الإباحة هي الموجبة للفرق بين المالك وغيره من جميع الحقائق. لذلك قلنا: إنه معنى شرعي مقدر، نريد أنه متعلق الإباحة , والتعلق عدمي من باب النسب والإضافات التي لا وجود لها في الأعيان بل في الأذهان، فهو أمر يفرضه العقل كسائر النسب والإضافات كالأبوة والبنوة والتقدم والتأخر وغير ذلك.   (1) انظر التعليق السابق (2) هذا المثل يؤكد ما ذهبنا إليه سابقًا من أن قوله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وما شاكل هذه الآية من الآيات البينات لا يعنى التمليك إنما يعنى الاختصاص. فارجع إليه. (3) هذه عبارة غامضة قد تكون بحاجة إلى تحرير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 872 ولأجل ذلك لنا أن نغير عبارة الحد فنقول: إن الملك إباحة شرعية في عين أو منفعة تقتضي تمكن صاحبها من الانتفاع بذلك العين أو المنفعة أو أخذ العوض عنها من حيث هي كذلك. ويستقيم الحد بهذا اللفظ أيضًا ويكون الملك من خطاب التكليف لأن الاصطلاح أن خطاب التكليف هو الأحكام الخمسة المشهورة، وخطاب الوضع هو نسب الأسباب والشروط والموانع والمقادير الشرعية، وليس هذا منها بل هو إباحة خاصة ومنهم من قال: إنه من خطاب الوضع وهو بعيد (1) فإن قلت: إن الملك سبب الانتفاع، فيكون سببًا، فيكون من باب خطاب الوضع، قلت: وكذلك كل حكم شرعي سبب لمسببات تترتب عليه من عقوبات وتعزيزات ومؤاخذات وكفارات وغيرها (2) وليس المراد بخطاب الوضع مطلق الترتب، بل نقول: الزوال سبب لوجوب الظهر , ووجوب الظهر سبب لأن يكون فعله سبب الثواب وتركه سبب العقاب، ووجوبه سبب لتقديمه على غيره من المندوبات، وغير ذلك مما يترتب على الوجوب، مع أنه لا يسمى سببًا، ولا يقال: إنه من خطاب الوضع، بل الضابط للبابين أن الخطاب متى كان متعلقًا على وجه الاقتضاء أو التخيير , فهو من خطاب التكليف. ومتى لم يكن كذلك , وهو من أحد الأمور المتقدمة , فهو خطاب الوضع، وقد يجتمع خطاب الوضع وخطاب التكليف , وقد تقدم بسط ذلك فيما تقدم من الفروق.   (1) الذي نرجحه أنه من خطاب التكليف انطلاقًا من القاعدة التي سبق أن أشرنا إليها في التعليق: من أن حق الإنسان في التصرف فيما لديه أو فيما صار أو يصير إليه إنما هو وظيفة، والوظيفة تكليف وسنوضح ذلك في الفصول الآتية. (2) ليس في هذا الاختلاف أو الاعتراض طائل قد يجدي فيما نحن فيه من تحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان وبين ما لديه من المال الثابت والمنقول وإنما هو - في أغلب شأنه - من تفريعات الأصوليين الناتجة عن ولوعهم بالمقارنات والمعارضات اللفظية المنعدمة أو القليلة الأثر في تقرير الأحكام أو تكييفها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 873 فإن قلت: الملك حيث وجد هل يتصور في الجواهر والأجسام أم لا يتصور إلا في المنافع الخاصة؟ قلت: قال المازري - رحمه الله - في شرح التلقين قول الفقهاء: الملك في البيع كما يحصل في الأعيان وفي الإجارات يحصل في المنافع ليس على ظاهره , بل الأعيان لا يملكها إلا الله تعالى؛ لأن الملك هو التصرف، ولا يتصرف في الأعيان إلا الله تعالى بالإيجاد والإعدام والإماتة والإحياء ونحو ذلك، وتصرف الخلق إنما هو في المنافع فقط بأفعالهم من الأكل والشرب والمحاولات والحركات والسكنات. قال: وتحقيق الملك أنه إن ورد على المنافع مع رد العين , فهو الإجارة وفروعها من المساقاة والمجاعلة والقراض ونحو ذلك , وإن ورد على المنافع مع أنه لا يرد العين , بل يبدلها لغيره بعوض أو بغير عوض، فهو البيع والهبة , والعقد في الجميع إنما يتناول المنفعة , فقد ظهر بهذه المباحث وهذه الأسئلة حقيقة الملك والفرق بينه وبين التصرفات وما يتوهم التباسها. قال ابن الشاط في حاشيته على الفروق: (هذا الحد فاسد من وجوه، أحدها: أن الملك من أوصاف المالك لا المملوك، لكنه وصف متعلق والمملوك هو متعلقه. وثانيها: أنه ليس مقتضيًا للتمكين من الانتفاع، بل المقتضي لذلك كلام الشارع. ثالثها: أنه لا يقتضي الانتفاع بالمملوك والعوض بل بأحدهما. رابعها: أن المملوك مشتق من الملك فلا يعرف إلا بعد معرفته فيلزم الدور) (1) ما قاله أنه حكم شرعي، إن أراد أنه أحد الأحكام الخمسة ففيه نظر، وإن أراد أنه أمر شرعي على الجملة فذلك صحيح.   (1) وما دمنا نقرر أن الملك بالمعنى الذي يقرره ابن الشاط وغيره من عامة المتفقهة لا وجود له إلا مجازًا , فلا نرى جدوى من هذا البحث اللفظي القائم على منطق أرسطوطاليس والذي لا نجد له وجودًا في تقرير الأحكام وتحريرها وإنما هو لغو من لغو المناطقة الأرسطيين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 874 قال: (وأما أنه مقدر فلأنه يرجع إلى تعلق إذن الشرع) إلى قوله: (عند تحقق الأسباب المفيدة للملك) . قوله: إنه عدمي , بناء على أن النسب أمور عددية وفيه نظر (1) (كلامه هذا يشعر بأن التصرف هو موجب الملك وليس الأمر كذلك , بل موجبه الانتفاع، ثم الانتفاع يكون بوجهين: انتفاع يتولاه المالك بنفسه، وانتفاع يتولاه نائب عنه. ثم النائب قد يكون باستنابة المالك وقد يكون بغير استنابته، فغير المحجور عليه يتوصل إلى الانتفاع بملكه بنفسه ونيابته، والمحجور عليه لا يتوصل إلى الانتفاع بملكه إلا بنيابته , ونائبه لا يكون إلا باستنابته) (2) (ما قاله غير صحيح، بل الصحيح أنها تمليك للانتفاع بالأكل خاصة سواء أوقع البناء على الحد الذي ارتضيته أو على الحد الذي ارتضاه هو، أما على الحد الذي ارتضيته فلأن مقدم الضيافة مكنه من الانتفاع بأكملها. وأما على الحد الذي ارتضاه هو فإنه قال: "حكم مقدر في العين أو المنفعة يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك وبالعوض عنها. وقد بينا أنه لا يقتضي الانتفاع بهما فيبقى الانتفاع مطلقا) هذا نمط من اختلاف الفقهاء الذي لا طائل وراءه , لأنه عند التحقيق والتحرير لا يتصور عمليا أن ينتج عنه حكم له أثره في المعاملة بين الناس. فالضيافة نمط من الهبة لكنها هبة منضبطة بظرف زمني وبيئوي لا تتجاوزه , ومجالها إعطاء المضيف ضيوفه حق التصرف بالانتفاع والنفع بما قدمه إليهم من طعام أو شراب أو فيما يسر لهم من سكن خلال فترة الضيافة ونقول: حق الانتفاع والنفع لرفع كل التباس مما يثيره المتفقهة ولا طائل وراءه فيما يحدث عالق بين الضيوف من إيثار بعضهم بعضًا بشيء مما قدم إليهم من مأكل أو مشرب أو سكن إيثارًا مصدره رغبتهم في إكرام بعضهم بعضًا تعبيرًا عن الود أو التوقير وهو أمر جرت العادة بين الناس على التعامل به ولم يحدث عمليا أن تحرج أحد منه بدعوى أن المضيف خول له أو لمن أكرمه حق الانتفاع شخصيا بما أكرمه به ولم يخوله حق النفع. أما موضوع سكنى المدارس فهو مختلف بعض الشيء عن موضوع الضيافة، فالطلبة الذين يسكنون المدارس يسكنونها بالحق الذي خوله لهم الوقف أثناء ممارستهم للدراسة وهم بذلك لا يملكون "المنفعة" وإنما يملكونا "الانتفاع" و"النفع" إذا لم يحظره قانون المدرسة أو نص الوقف. ومعنى "النفع" الذي يملكونه ما لم يحظره قانون أو نص هو أن للطالب أن يسكن معه رفيقًا له طيلة فترة سكناه أو أمدا منها , لكن بدون أجر؛ لأن إسكانه بأجر إنما تخوله ملكة "المنفعة" وهي غير متاحة له. فتأمل. (هذه مملوكة بعد التناول وإباحة التناول سبب ملكها) (3)   (1) هذا أيضًا من لغو المناطقة الذي أشرنا إليه في التعليق أعلاه. (2) هذا يقرر القاعدة التي ننطلق منها في تحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان وما لديه من الثابت والمنقول وفي أن الملكية كما يعتبرها عامة المتفقهين موجودة , وإنما هي الانتفاع والمنفعة. أما التصرف بالإنابة أو الاستنابة فلا ينفي حق الإنسان المتصرف نيابة عنه في التصرف , وإنما ينفي أهليته في التصرف أو ينقل الأهلية إلى الغير باختيار من صاحبها , وكلا الحالين لا تتنافيان مع ثبوت حق التصرف أساسًا لمن لديه الشيء المتصرف فيه بالنيابة أو الاستنابة. (3) ليست الإباحة تمليكًا , وإنما هي تخويل لأن التمليك يستلزم تحديد الملك أما التخويل فيقتضي إباحة الانتفاع أو التخصيص بالانتفاع إذا اعتبرنا تخويل الانتفاع من المضيف للضيف بما قدم له تخويلًا للمنفعة أيضًا ويشبه على هذا الاعتبار عقد الكراء الذي يترتب عنه تخويل المنفعة والانتفاع عند القول بأنه يجوز للكاري أن يكري لغيره بأجر أعلى أو بأجر ومنفعة وهو ما نميل إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 875 (ما قاله من أن الملك مشكل لا إشكال فيه , تعليله بأن الملك لا بد فيه من سلطان التصرف , ليس كما قال، بل لا بد فيه من سلطان الانتفاع لا التصرف، والسلطان هو التمكن بعينه , وقد بين هو قبل هذا أن المحجور عليهم لا يتصرفون مع أنهم يملكون. فكيف يقول: لا بد في الملك من سلطان التصرف؟ هذا غير صحيح. وما قاله من أنه إذا بلع الطعام كيف يبقى سلطان بعد ذلك، إنما هو استبعاد لقول من يقول: يملك بالبلع وهو بعيد كما قال. بل الصحيح أنه يملك الطعام بالتناول حتى إذا تناول لقمة لا يجوز لغيره انتزاعها من يده , فإن ابتلعها فقد كان سبق ملكه لها قبل البلع، وإن لم يبتلعها ونبذها من يده فقد عادت إلى ملك صاحبها وجاز لغيره تناولها؛ لأن صاحبها لم يمكنه منها إلا ليأكلها , فإذا لم يأكلها بقيت على ملك صاحبها، أو إن كان تناولها عادت إلى ملك صاحبها هذا هو الصحيح، والله تعالى أعلم. وما قال من أنها إباحات لا تمليكات ليس بصحيح، بل الإباحات هي التمليكات أو أسباب التمليكات) (1) (وإذا كانت مأذونًا فيها فمن أذن له فتمكن من الانتفاع فهو مالك الانتفاع) (2) (أما الانتفاع ففيه الملك لغير الواقف، وهو من توفرت فيه شروط الوقف، وأما عين الوقوف فالصحيح أنه لا ملك عليه، لا للواقف ولا لغيره لأنه لا يتمكن أحد من الانتفاع بملك العين ولا من التصرف فيها ولا من أخذ العوض عنها. وإذا لم يكن شيء من ذلك، فلا ملك , إذ لا معنى للملك إلا التمكن من الانتفاع ومن أخذ العوض أو من الانتفاع خاصة) (3)   (1) بل الصحيح أن الإباحات تخويلات منضبطة بأسبابها وظروفها وما جرت عليه العادات من كيفيتها مثال ذلك أن تخويل المضيف لضيفه الانتفاع وحده أو المنفعة أيضًا بما قدم إليه أو يسره له لا يعني تخويلًا مطلقًا وإنما تخويل حق محدود في ظرف محدود طبقًا لعادات معينة وهذا الضبط بحدود وأوضاع خاصة يتعارض مع دعوى "التمليك" حتى وإن انحصر في رأينا من أنه الحق في التصرف للانتفاع والمنفعة إذ هنالك فرقًا دقيقًا بين الحق المطلق والحق المقيد بظرف وكيفية وعادة. فتأمل. (2) ولكنه حين أذن تخلى عن حق الانتفاع الذي لديه في ظرف معين وطبقًا لكيفية معينة وعادة معينة لمن أذن له. فتأمل. (3) وهكذا يتبين حتى من أقوال المتفقهة أن ضابط "الملك" هو حق الانتفاع والمنفعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 876 (إنما كان ذلك لأن مقتضى الوقف إن كان سكنى الموضع الموقوف، فلا يتعدى الموقوف عليه السكنى لأنه لم يسوغ له غيره وإن كان الاستغلال فالغلة مسوغة بعينها فيصح أخذ العوض عنها) . (ما قاله من أنه إباحة ليس عندي بصحيح، فإن الإباحة في حكم الله تعالى، والحكم عند أهل الأصول خطاب الله تعالى وخطابه كلامه، فكيف يكون الملك الذي هو صفة المالك على ما ارتضيته أو صفة المملوك على ما ارتضاه هو كلام الله تعالى؟ هذا ما لا يصح بوجه أصلًا. فالصحيح أن سبب الإباحة هو التمكن , والإباحة هي التمكين) (1) (لما فسر الملك بالإباحة سلم أنه سبب الانتفاع وليس الأمر كذلك، بل الملك سبب الإباحة وهو التمكين من الانتفاع، والانتفاع متعلق الملك، ولا يقال في المتعلق: إنه سبب المتعلق إلا على وجه التوسع في العبارات لا على المتقرر في الاصطلاح) (2) ولكن ابن الشاط - رحمه الله - في حاشيته على الفروق بعد أن انتقد تعريف القرافي وأشمل، فقال: وتعقبهما الشيخ محمد علي بن حسين في تهذيبه للفروق بأن نقل تعريفًا لأحد الفقهاء فقال (3)   (1) ولكن كلام ابن الشاط وما يدعيه من أن الاباحة هي خطاب الله تعالى. فعند التمحيص يتبين أن المباح هو ما لم يرد؛ بشأنه خطاب وما ذهب إليه بعض الأصوليين من أن ما لم يرد بشأنه خطاب يبقى على الوقوف وأن الإباحة إنما تتأتى نتيجة لخطاب من الله تعالى غير واقعي , فليس كل مباح وارد في شأنه خطاب من الله تعالى. وهو أيضًا يتناقض مع صرف معنى اللام إلى الاختصاص في قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} وما شاكله من الآيات , ولا سبيل إلى الدعوى من أنه هو الخطاب المبيح لأنهم لو اعتمدوا هذا الخطاب في جميع الإباحات لأراحوا واستراحوا ولما جاءت حكاية الوقوف فيما لم يرد فيه خطاب. فتأمل. (2) ليس هذا أكثر من نقاش لفظي لا طائل من ورائه. (3) على هامش الفروق. ج: 3. ص: 234 و235. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 877 "والسيد الجرجاني قدس الله سره جعل الملك صفة مشتركة بين المالك والمملوك فقال في تعريفاته: والملك في اصطلاح الفقهاء اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقًا لتصرفه فيه وحاجزًا عن تصرف غيره فيه". ولكن هذا الحد لا يكون جامعًا إلا بأمرين: الأول التعميم في قوله: "لتصرفه فيه" بأن يقال: "بالانتفاع إما مع أخذ العوض أو بدونه , وإما مع رد العين أو بدونه بنفسه أو بنائبه" والثاني التقييد في قوله: "عن تصرف غيره فيه " بأن يقال: "بدون استنابته" فتأمل. وقال عقب الحد المذكور: "فالشيء يكون مملوكًا ولا يكون مرفوقًا، ولكن لا يكون مرفوقًا وإلا ويكون مملوكًا , يريد بأن المملوك أعم مطلقًا من المرفوق، وقال قبل ذلك الحد: "والملك في اصطلاح المتكلمين حالة تعرض للشيء بسبب ما يحيط به وينتقل بانتقاله كالتعميم والتقمص، فإن كلا منهما حالة لشيء بسبب إحاطة العمامة برأسه والقميص ببدنه) والله أعلم. ولعل أقرب التعريفات إلى البساطة التشريعية في الإسلام وإلى الإدراك الفطري السليم البعيد عن التمحل والإيغال في التصورات والاحتمالات والفروض، تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (1) إذ قال: (الملك هو القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة بمنزلة القدرة الحسية) ، فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعًا كما يثبت ذلك حسيًا، ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعًا، كما أن القدرة تتنوع أنواعًا. فالملك التام يملك فيه التصرف في الرقبة بالبيع والهبة ويورث عنه. ويملك التصرف في منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك. ثم قد يملك الأمة المجوسية أو المحرمة عليه بالرضاع، فلا يملك منهن الاستمتاع. ويملك المعاوضة عليه بالتزويج بأن يزوج المجوسية مثلًا، وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ولا تورث عنه عند جماهير المسلمين. ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم. وكذلك يملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة عند أكثرهم، كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد. ويملك المرهون وتجب عليه مؤونته، ولا يملك فيه من التصرف ما يزيل حق المرتهن، لا بيع ولا هبة، وفي العتق خلاف مشهور".   (1) مجموع الفتاوى. ج: 29. ص: 178. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 878 ثم قال: فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره من الملك في البيع والهبة. وكذلك ملك الموهوب له، حيث يجوز للواهب الرجوع كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث، كالشافعي وأحمد: نوع مخالف لغيره، حيث سلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده. ونظيره سائر الأملاك في عقد يجوز للمتعاقدين فسخه، كالبيع بشرط عند من يقول: انتقل إلى المشتري. كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما. وكالبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز. وكالبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة، عند جميع المسلمين، فهنا في المعاوضة والتبرع يملك العاقد انتزاعه، وملك الأب لا يملك انتزاعه وجنس الملك يجمعهما، وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذين اتبعوا فيه معنى الكتاب وصريح السنة. وطوائف من السلف يقولون: هو مباح للأب مملوك للابن بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء. وملك الابن كانت عليه، بحيث يتصرف فيه تصرفًا مطلقًا. فإذا كان الملك يتنوع أنواعًا وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته وما لم أصفه , لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضًا إلى الإنسان يثبت منه ما رأى فيه مصلحة له، ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة له فيه. والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض. فإذا لم يكن فيه فساد أو كان فساده مغمورًا بالمصلحة لم يحظره أبدًا. قلت: وقد نقلنا ما أعقب به شيخ الإسلام - رحمه الله - تعريفه للملك من هذه التفاصيل كلها لأننا نعتبرها متممة وموضحة بالضرورة لتعريفه. ونقل الشيخ علي الخفيف - رحمه الله - في بحث له بعنوان "الملكية الفردية وتحديدها في الإسلام" قدمه إلى "المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية المنعقد في شوال سنة 1384 هـ. 1964 م". عن الحاوي للقدسي قوله - في تعريف الملك -: "بأنه الاختصاص الحاجز". وعقب عليه بقوله: أي الذي يخول صاحبه منع غيره مجلة مجمع البحوث الإسلامية. عدد: ا. ص: 99 و. 100 الحاوي القدسي: محمد محيي الدين الحاوي فقيه أديب أفتى بصيدا , هكذا ترجم له رضا كحالة في معجم المؤلفين. ج: 12. ص: 8 , ويظهر أن الشيخ محمد أبو زهرة - رحمه الله - وهم في اسمه - على غير عادته - أو التبس عليه اسم مؤلفه , فقال في كتابه الملكية ونظرية العقد. ص: 65 -: "وعرف القدسي في الحاوي الملك" ... إلخ , والعبارة السليمة هي: وعرف الحاوي القدسي في "ألحان الحاوي بين المراجع والمبادئ". هذا إذا كان التعريف قد نقل من هذا الكتاب ونحن لم نطلع عليه والعهدة على كل من الشيخين علي الخفيف وأبي زهرة رحمهما الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 879 ونقل أيضًا في نفس البحث تعريفًا للكمال بن الهمام في أول كتاب البيع من كتابه "فتح القدير" من أنه - أي الملك – "القدرة على التصرف ابتداء إلا لمانع". وعقب عنه بقوله: يريد أنه قدرة مبتدأة لا مستمدة من شخص آخر. ثم نقل شرحًا لصدر الشريعة لشرح الوقاية عرف فيه الملك بأنه: "اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقًا تصرفه فيه وحاجزًا عن تصرف الغير". ثم قال: "وقد تضمنت هذه التعريفات - وقد أورد أيضًا تعريف القرافي - جميعها معنى الاختصاص والاستئثار , فهو مصرح به في بعضها ولازم لما يدل عليه بعضها الآخر". ونقل الدكتور فاروق النبهان (1) عن الدكتور محمد موسى أنه عرف الملك في كتابه الفقه الإسلامي - ص: 254 - بأنه "حيازة الشيء متى كان الحائز وحده قادرًا على التصرف فيه والانتفاع به عند عدم المانع الشرعي". ونقل عن الشيخ علي الخفيف (2) أنه عرفه في كتابه مختصر معاملات الأحكام الشرعية -: ص 9 - بأنه "اختصاص يمكن صاحبه من أن يستبد بالتصرف والانتفاع عند عدم المانع الشرعي". ووضع له الشيخ أبو زهرة رحمه الله (3) تعريفًا حاول أن يجمع فيه بين تعريف ابن الهمام وتعريف القدسي بعد أن أبدى ملاحظات على كلا التعريفين. وانتهى إلى أنهما يكمل الواحد منهما الأخر وقال: "فالتعريف الذي نكونه من الاثنين يكون هكذا: الملك هو الاختصاص بالأشياء الحاجز للغير عنها شرعًا، الذي به تكون القدرة على التصرف في الأشياء ابتداء إلا لمانع يتعلق بأهلية الشخص".   (1) الاتجاه الجماعي في التشريع الإسلامي ص: 178. (2) الاتجاه الجماعي في التشريع الإسلامي ص: 178. (3) الملكية ونظرية العقد. ص: 64 و65. الفقرات: 15 و16 و17. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 880 ثم عرض لتعريف المازري الذي سبق أن نقلناه ضمن تعريف الفروق والحاشية عليه وملاحظات كل من القرافي وابن الشاط فقال: "وقد وجدنا تعريفًا للملك في كتب المالكية نذكره تتميما للمقام، وتوضيحًا للمراد، فقد جاء في كتاب الفروق للقرافي وحاشيته ومهذبه، أن الملك هو تمكن الإنسان شرعًا بنفسه أو بنيابة عنه من الانتفاع بالعين، ومن أخذ العوض، أو تمكنه من الانتفاع خاصة. وهذا تعريف واضح، فهو يبين أن الملك هو التمكن من الانتفاع، ولكن ذلك التمكن لا يكون إلا بسلطان من الشارع، فالشارع في الحقيقة هو الذي أعطى الإنسان الملك بترتيبه على السبب الشرعي، ولذا جاء في بعض التعريفات أن الملك حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة بمقتضى تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالشيء وأخذ العوض عنه. وهذا المعنى، وهو أن الملكية لا تثبت إلا بإثبات الشارع لها وتقريره لأسبابها، فالحق ليس ناشئًا عن طبائع الأشياء ولكنه ناشئ عن إذن الشارع، وجعله السبب منتجًا لمسببه شرعًا. وهذه التعريفات مهما تختلف عباراتها كلها ترمي إلى معنى واحد، هو أن الملك أو الملكية هو العلاقة التي أقرها الشارع بين الإنسان والمالك وجعله مختصًا به بحيث - يتمكن من الانتفاع به بكل الطرق السائغة له شرعًا وفق الحدود التي بينها الشارع الحكيم". قلت: قد يكون هذا التعريف الأخير الذي وضعه الشيخ أبو زهرة - رحمه الله - أدق التعريفات المعاصرة للملكية والملك وأجمعها بالضوابط والحدود والأحكام التي يجب أن تجتمع في التعريف. ثم قال: "ولا نريد أن نترك هذا المقام من غير أن نتصدى لنقطة أثارها بعض فقهاء المالكية في فلسفة الملك. هي: أيرد الملك على الأعيان أم على المنافع فقط؟ ويعنون بذلك: أمن ملك عينًا يملك ماهيتها ذاتها ومنفعتها أم يملك منفعتها فقط؟ أما الذات فليست تحت سلطان الإنسان ولا تقع في مكنته. الظاهر الذي يرى بادئ الرأي أن الملك يقع على الأعيان إذا كانت الأسباب الشرعية تقتضي امتلاك العين. ويقع على المنافع إذا كانت الاسباب الشرعية تقصره عليها. ولكن فقهاء المالكية اختلفوا في ذلك، ففريق منهم قالوا: إن الملك ومعناه: القدرة على التصرف , لا يتجاوز المنافع ويعدوها إلى جواهر الأشياء وذواتها، لأن التصرف لا يقع على الذوات ولكن يقع على المنافع وعلى أغراض الذات وأحوالها , فلا يمس جوهرها وماهيتها، لأن التصرف على ماهيتها يكون بالإحياء والإفناء وذلك ليس في قدرة الإنسان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 881 إنما التصرف الذي في قدرة الإنسان هو ما حصر في ذات المنافع، وانتقال العين من يد إلى يد، وتلك لا تمس الذات في شيء من المساس. ويفرقون بين الأسباب التي تتيح الانتفاع فقط، والأسباب التي تعطي القدرة على التصرفات كلها، بأن هذه، كالبيع والهبة ونحوها تعطي القدرة على منافع العين إلى غير زمن محدود لا تلزم برد العين، وأما الأخرى كالإجارة والإعارة والوصية بالمنافع فإنها تعطي ملك المنافع إلى زمن محدود طال أو قصر، وبعدها ترد الأعيان إلى مالكي المنفعة ملكًا مطلقًا، وكأن المرمى في هذا أن أسباب الملك، إما أن تعطي ملك المنافع مطلقًا غير مقيد، فتكون بيعًا أو هبة أو ميراثًا، وإما أن تعطيه مقيدًا بزمن وترد العين بعده , ويسمى التصرف إجارة أو إعادة أو وصية بالمنافع. والحنفية (كما تدل على ذلك ظواهر عبارات الكتب والفقهاء) على أن الملك يقع على العين في الملكيات المطلقة ويقع على المنفعة في العقود التي تفيد ملكية المنفعة فقط وليست ثمة حاجة إلى الفلسفة التي أثارها المازري من فقهاء المالكية، لأن ذلك كله أمور فرضية اعتبارية ولا جداء في هذا الخلاف". وعرفه الدكتور محمد الشرباصي (1) بقوله: "الملك - بكسر فسكون - اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقًا لتصرفه فيه، وحاجزا عن تصرف غيره فيه". وعرفه الدكتور مصطفى الزرقاء - حفظه الله - (2) بقوله: "الملك هو اختصاص حاجز شرعًا يسوغ صاحبه التصرف إلا لمانع". ووصف تعريفه هذا بقوله: "وهذا أوجز وأجمع تعريف استخلصناه مركبًا من عدة تعاريف ذكرها الفقهاء , مشيرًا إلى تلك التعريفات التي نقلها الشيخ أبو زهرة - رحمه الله - ونقلناها عنه آنفًا , في كل منها مزية ونقص، فجاء جامعًا لمزاياها ومستدركًا لنواقصها". قلت: من الصعب اعتبار هذا التعريف أجمع وأدق من تعريف الشيخ أبي زهره الذي أدرجناه وعقبنا عليه منذ قليل.   (1) المعجم الاقتصادي الإسلامي. ص: 441. (2) المدخل الفقهي العام. ج: 1. ص: 256. الفقرة: 101. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 882 ثم قال موضحًا: "والمراد بكونه حاجزًا أنه يحجز غير المالك عن الانتفاع والتصرف دون إذن المالك. وأما المانع الذي يمنع المالك نفسه عن التصرف فيشمل حالتين: نقص الأهلية، كما في الصغير إذ يتصرف عنه وليه، وحق الغير، كما في المال المشترك والمال المرهون، إذ تتقيد فيهما تصرفات الشركاء والراهن رغم ملكيتهم. فوجود هذا المانع لا ينافي الملك بأنه عارض". قلت: هذا غير واضح لأن الشركة تعني شيوع الملك وهو وضع لا يعين في الشيء المملوك حصة المالك أو قسطه تعيينًا دقيقًا يمكن معه التصرف في نطاقه، فضلًا عن أن الشركة تعني ارتباط وتشابك جميع متعلقات الشيء أو الأشياء المشترك فيها ارتباطًا وتشابكًا محددين بمدة الشركة، بحيث إن المساس الفردي بشيء أو أكثر من متعلقات الشركة من شأنه إحداث اختلال أو اعتلال بمجموع المنافع الثابتة أو المرجوة من تكوين الشركة ذاتها. أما فيما يتصل بالشيء المرهون فإن ملكيته أصبحت مشكوكًا فيها وغير مقطوع بها لأن الرهن يعني تعليق كل الحقوق المملوكة قبله للراهن في الشيء المرهون ضمانًا للقدر أو الشيء المرهون فيه والذي هو ملك للمرتهن لديه، وهذا يعنى أن ملكية الشيء المرهون لم تعد خالصة للراهن في حقيقتها بل أصبحت على نوع من الشيوع أو المشاركة بينه وبين المرتهن لديه إلى أن ينتهي سبب الرهن. ثم قال: "وهذا التعريف يتناول جميع أنواع الملكية الآتي بيانها من ملكية الأعيان أو المنافع أو الديون. ومن هذا التعريف يتضح أن الملك هو عبارة عن علاقة الإنسان بالمال وما في حكمه من المنافع، فهو التصوير الشرعي لهذه العلاقة وثمرتها وحدودها. وبذلك يتبين أن الملكية ليست شيئًا ماديا , وإنما هي حق من الحقوق، والحق نوع من الاعتبار الشرعي، فحيثما أقر الشرع هذه العلاقة الاختصاصية بين الإنسان والمال ثبت الملك، وحيثما نفى الشرع هذه العلاقة انتفى الملك. وذلك بخلاف المال فإنه ذو مفهوم مادي يقع على الموجودات ذات المنافع حتى إن المال في الاجتهاد الحنفي يختص بالأعيان المادية فلا يشمل المنافع في نظر الحنفية". قلت: هذا كلام شريف، والتعريف الأخير الذي أورده الأستاذ الدكتور مصطفى الزرقاء - حفظه الله - أدق من التعبير الأول وأبرأ من الغموض أو اللبس الذي تراءى لنافيه. وقال فاروق النبهان فيما يشبه أن يكون تعريفًا منه للملكية بعد أن ذكر تعريفات لغيره من السلف والمعاصرين سبق أن نقلناها (1) : "والملك اعتبار شرعي يقر به الشرع العلاقة الاختصاصية بين الإنسان والمال".   (1) الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي. ص: 178. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 883 وتعقبه بقوله موضحًا: "فإذا نفى الشرع هذه العلاقة انتفى الملك بخلاف المال، فهو ذو مفهوم مادي يقع على الموجودات ذات المنافع". وعلى هامش هذا التوضيح نقل تعريفًا آخر لا ندري لماذا لم يدرجه في الأصل مع غيره من التعريفات، فقال: "وعرفه الشيخ أحمد إبراهيم بأنه ارتباط شرعي بين الإنسان والشيء المملوك يجعله قادرًا على التصرف فيه بوجه الاختصاص". ومع أن موقع الإحالة على التعليق الذي أورد فيه المؤلف هذا التعريف يوحي بأنه تعريف للمال لا للملك. فنحن نشعر بأنه تعريف للملك لأن "الشيء المملوك الذي يقع بينه وبين الإنسان ارتباط شرعي يجعل الإنسان قادرًا على التصرف فيه بوجه الاختصاص هو "المال" لا "الملك " , أما "الارتباط الشرعي" فهو الملك" أو "الملكية ". ثم عاد فاروق النبهان في بحث له قدمه لمؤتمر الفقه الإسلامي المنعقد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سنة 1396 هـ أي بعد نحو تسعة أعوام من الفراغ من إعداد كتابه المذكور آنفًا وتقديمه للمناقشة، أطروحة لنيل الدكتوراة (1) فعرف الملكية بأنها: "يراد بها حق الفرد في احتواء شيء ما وتمكينه من الانتفاع بكل الطرق الجائزة شرعًا بحيث لا يجوز للغير الانتفاع بهذا الشيء إلا بموافقة المالك الأصلي، وفقًا لصورة من صور التعامل الجائز". ثم عاد في نفس البحث (2) فعرف الملكية بأنها: "العلاقة التي أقرها الشارع بين الإنسان والمال وجعله مختصًا بحيث يتمكن من الانتفاع به بكل الطرق السائغة له شرعًا وفي الحدود التي بينها الشرع الحكيم". وعقب على هذا التعريف موضحًا بقوله: "وهذا التعريف يؤكد لنا أن - المال إذا قامت بينه وبين الإنسان علاقة ما فإن هذه العلاقة تنشئ بين كل من المال والإنسان وصفًا جديدًا لم يكن قائما قبل أن يصبح الإنسان مالكًا ويصبح المال مملوكًا وتصبح علاقة المال بالإنسان علاقة ملك ... ". قلت: والتعريفات الثلاثة التي نقلناها للدكتور فاروق النبهان تعريفات جليلة قد تكون أدق وأوضح ما وقفنا عليه من تعريفات المعاصرين وقد يكون آخرها أجلها وضوحا وشمولًا.   (1) أثر تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي في المجتمع. ص: 297. (2) أثر تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي في المجتمع. ص: 300 و301. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 884 وقبل أن نفرغ من هذه الفقرة، فقرة التعريفات المختلفة للملك والملكية , نورد كلاما جليلا لابن نجيم في هذا المجال جاء فيه: (1) "وقال في الفتح القدير: الملك قدرة يثبتها الشارع ابتداء على التصرف، فخرج نحو الوكيل (انتهى) . وينبغي أن يقال: إلا لمانع , كالمحجور عليه، فإنه مالك ولا قدرة له على التصرف، والمبيع المنقول مملوك للمشتري ولا قدرة له على بيعه قبل قبضه". ثم أورد تعريف القدسي في "الحاوي" ويظهر أن المعاصرين - وخاصة الشيخ علي الخفيف - نقلوا عنه، لكن العبارة التي نقلها ابن نجيم إن كانت كلها للقدسي أوضح وأشمل لذلك نعود فننقلها عنه، قال: وعرفه في "الحاوي القدسي" - وهي نفس العبارة الملتبسة التي سبق أن نقلناها عن الشيخ علي الخفيف وعقبنا عليها في التعليق رقم1 ص 1181. ويظهر أن فيها خطأ كما قلنا في ذلك التعليق - بأنه الاختصاص الحاجز وأنه حكم الاستيلاء، لأنه به يثبت لا غير، إذ المملوك لا يملك، كالمكسور لا ينكسر، لأن اجتماع الملكين في محل واحد محال، فلا بد وأن يكون المحل الذي ثبت الملك فيه خاليًا من الملك، والخالي من الملك هو المباح، والمثبت للملك في المال المباح الاستيلاء لا غير ... إلخ. ومن أسف لم نطلع على كتاب القدسي هذا، إذ يظهر أن فيه مزيدًا من التوضيح لم ينقله ابن نجيم ولعله مصدر "مسائل" فصلها ابن نجيم بعد ذلك وبلغ بها ثلاث عشرة مسألة. ولقد حرصنا على أن نورد كل هذه التعريفات التي وقفنا عليها بنصوصها، بل وبتعقيبات على بعض منها لنتيح للقارئ عناصر موثقة لتصور كامل لمختلف أطوار نظرية الملك في الفقه الإسلامي سواء ما كان من تلك العناصر من وضع الفقهاء المقلدين المعنيين بوضع الصيغ للتعريفات والحدود وما كان منها من وضع بعض الأساتذة الجامعيين الذين لا نستطيع اعتبارهم "فقهاء متخصصين" في الفقه الإسلامي، وإنما هم في اعتبارنا "منهجيون متخصصون" في دراسة النصوص وتحليلها وإعادة صياغتها بالأسلوب المعاصر.   (1) الأشباه النظائر. ص: 346. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 885 وشتان بين الفقيه المتخصص والأستاذ المنهجي الجامعي، ويتجلى ذلك عند التمييز بين "المتأهل" للاستنباط - ولا أقول للإجهاد فتلك مرتبة أسمى - وبين المنشغل بإعادة الصياغة وتحكيم المنهج اعتمادًا على ما يتيسر له الإطلاع عليه والنقل منه من "مراجع" المتأخرين دون الاعتماد على "المصادر" الأولى للفقه الإسلامي من اجتهادات فقهاء الصحابة إلا ما تيسر لهم - دون قصد إليه مباشرة وبذل الجهد بحثًا عنه في مظانه - من نقل مؤلفي "المراجع" التي "يقنعون" بها من المتأخرين. ولم نقف عند هذا التمييز استطرادًا إلى نوع من النقد والتقييم إنما قصدنا به لذاته. فنحن لم نورد هذه التعريفات كلها اعتمادًا لها وعليها وحدها وإنما أوردناها - كما ذكرنا آنفًا - لاستكمال عناصر التصور لمدلول الملكية وتطوره، ونحن فيما نستقبل من صميم مقصدنا ونتائج محاولتنا هذه نعتمد أساسًا على المصادر الأولى للفقه الإسلامي ما كان منها نصا تشريعيا من الكتاب والسنة والإجماع، وعمل الصحابة المعتمد، وما كان اجتهادًا ينبغي الاستئناس به من التابعين ومن تبعهم من أئمة الاجتهاد الأول وذلك ما سيتضح في الفقرات المقبلة. 8 - تحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان والمال: ويبلغ بنا المسار إلى تحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان والمال كما أرادها الإسلام أن تكون ورسم لها الحدود والمقاصد والغايات. ويقتضينا المنهج أن نقف هونًا عند ثلاث كلمات وردت في القرآن الكريم، تتصل بالعلاقة بين الإنسان والمال، وتصفها بالملك - بصرف النظر عن فتح الميم أو ضمها أو كسرها، فدلالتها في الأحوال الثلاثة واحدة. قال الله تعالى في سورة النساء: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} (1) وقال عز من قائل في سورة طه: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} (2) وقال جل جلاله في سورة يس: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (3)   (1) الآية رقم: (53) . (2) الآية رقم: (87) . (3) الآية رقم: (71) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 886 ولا جدال في أن هذه الآيات الكريمة تطلق على علاقة الإنسان بالمال كلمة "ملك"، بيد أنه لا سبيل إلى دعوى أن المال المقصود في كل من الآيات الكريمات أو في إحداها "يعني" أو "يشمل" الأرض. وإنما هو في الآية الثانية والثالثة يتصل اتصالا صريحًا بالمنقول على حين أنه إن لم يكن في الآية الأولى على مثل المستوى من "الصراحة" فهو بقرينته لا يخرج عن المنقول بدليل قوله سبحانه وتعالى في خاتمتها: {فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} وهي أن النقير لا يمكن أن يكون قطعة من الأرض إلا أن يكون "قبصة" (1) من التراب، وبدهي أن هذا النوع من المعنى ليس مما يمكن أن يكون من مقتضى الآية الكريمة. نقول هذا تأكيدًا لما نلح في تقريره من أن العلاقة التي خولها الله للإنسان بالأرض ليست "الملكية" بمعناها عند أغلب الفقهاء وعامة رجال القانون غير الاشتراكيين وإنما هي الخلافة، وفرق واضح بين أن تكون "مالكًا " لشيء وبين أن تكون خليفة فيه أو عليه , فالله سبحانه وتعالى جعل الإنسان "خليفة " في الأرض ليقوم بمهمة "الإعمار" وليس بمهمة السيطرة والهيمنة. وبهذا الموقف الذي نقرره نتفق اتفاقًا تاما مع "المازري" - رحمه الله - في موقفه الذي ذكره القرافي وابن الشاط - رحمهما الله - ونقلناه عنهما آنفًا , ولسنا وحدنا في تقرير هذه الحقيقة التي لا ينبغي أن يقر في فهم الفقيه المسلم الواعي غيرها، بل سبقنا إلى تقريرها أئمة الاجتهاد الأول وإن لم يعبروا عنها تعبيرًا محددًا بصيغة من صيغ "التعريفات" و" الحدود " كما عرفها فقه المتأخرين , وإنما عبروا عنها بتصرفاتهم وأحكامهم التي سنورد بعضها في فقرات مختلفة من هذا البحث.   (1) القبصة بالصاد المهملة ما ينقبض بين أصبعين من تراب ونحوه حين تتصلان به، ثم تنضم إحداهما إلى الأخرى، ومنه قراءة في قوله سبحانه وتعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} على قراءة من قرأها بالصاد المهملة. الآية رقم: (96) من سورة طه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 887 كذلك قررها بعض المعاصرين من الأساتذة والفقهاء وفيما يلي نقول عنهم: يقول الدكتور أحمد حسين فراج (1) "تقوم عقيدة المسلمين على أن الملك الحقيقي لهذا الكون بكل ما فيه من جماد وحيوان وإنسان، هو لله تعالى، فهو الذي خلقه وصوره وأبدعه، وهو الحاكم فيه بما يشاء لا معقب لحكمه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (2) " وقد دل على ذلك كثير من آيات القرآن الكريم، ومن هذه الآيات قوله تعالى: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} (3) و {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في الدلالة على أن لله وحده جميع الكائنات خلقًا وتملكًا وتصرفا. وقد شاءت حكمته سبحانه وتعالى أن يستخلف الناس في الأرض ويسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض بنعمهما المختلفة , ويقول عز من قائل: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (5) أي: خلقكم من الأرض وجعلكم عمارها وسكانها. ويقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (6) وفي شأن المال يقرر القرآن الكريم ذلك الاستخلاف الآلهي صراحة فيقول: {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (7)   (1) الملكية ونظرية العقد. ص: 27. (2) الآية رقم: (23) من سورة الأنبياء. (3) الآية رقم: (85) من سورة الزخرف. (4) الآية رقم: (120) من سورة المائدة. (5) الآية رقم: (61) من سورة هود. (6) الآية رقم: (165) آخر آية من سورة الأنعام. (7) الآية رقم: (7) من سورة الحديد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 888 فقد أفادت هذه الآية الكريمة أن أصل الملك لله سبحانه , وأن الإنسان ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضي الله، وأن ما بيده من المال لا يتجاوز أن يكون وديعة أو عارية من الله تبارك وتعالى، وهذا يدل على أن الأموال التي هي بأيدي الناس ليست بأموالهم على الحقيقة، وما هم إلا بمنزلة النواب والوكلاء عن الله تعالى، فالعاقل من الناس من يغتنم الفرصة منها بإقامة الحق قبل أن تزول عنه إلى غيره. واستخلاف الناس ليس مطلقًا وملكيتهم ليست أصيلة يتصرفون فيها على مقتضى أهوائهم وأغراضهم الشخصية بل إن هذا الاستخلاف وتلك الملكية مقيدة بقيود تحدد مداها وكيفياتها، وتوضح طريقة الانتفاع والتمتع بها، فإذا تصرف المستخلف عليها تصرفًا مخالفًا لشروط المالك، وقع هذا التصرف باطلًا، وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا، أما في الآخرة فهو محاسب على باطله , ومخالفته لشرط المالك صاحب الملك الأصيل. التكييف الشرعي لاختصاص الإنسان بالشيء: رأينا فيما عرضناه من الآيات الكريمة أن المالك الحقيقي لكل ما في الكون من أشياء، إنما هو الله تعالى وأنه بكرمه وفضله قد استخلف الإنسان في الأرض، ويسر له كل ما ينفعه ليقيم حياته، ومن ثم قرر كثير من الفقهاء أن ليس للإنسان إلا الانتفاع بما يكون في حوزته من الأشياء على الوجه الذي أدانت به شريعة الله. وإضافة الملك للإنسان من باب التوسع والتجوز , وقد وردت آيات تنسب الملك إلى الإنسان صراحة كالآيات التي سبقت الإشارة إليها. وكما في قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (1) {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (2) ونسبة الملك للإنسان في النصوص القرآنية إنما كان على سبيل المجاز والتوسع وعلى معنى الاستخلاف، لا على سبيل الحقيقة والتنزل وكان القصد منه. أولًا - توجيه المالك إلى الانتفاع بما يملك من مال في الحدود التي رسمها الله تعالى، فهذه الإضافة لم يقصد بها إلا تمليك الانتفاع بكل ما يقتضيه هذا الانتفاع من حق التصرف وحق الاستهلاك وحق الاستثمار".   (1) الآية رقم: (279) من سورة البقرة. (2) الآية رقم: (71) من صورة يس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 889 قلت: كان ينبغي أن يضيف إلى هذا على سبيل الاحتراس القول: " في حدود ما رسمه الشرع بأحكامه المختلفة "، فبذلك وحده يستكمل التحديد معالمه. ثم قال: "وقصد بها ثانيًا المسؤولية والمحاسبة؛ لأن الإسلام لا يقبل أن تكون مسؤولية البشر عن المال الذي سخره الله لهم وأودعه بين أيديهم مسؤوليته شائعة غير محدودة فكان أن أقر الملكية الفردية ليسأل كل فرد في الجزء الذي بين يديه من مال الجماعة عن حق الجماعة فيه، ثم جعل ولي الأمر مسؤولًا عن حق الجماعة فيما خص الأفراد من هذا المال (1) وقصد بها. ثالثًا - إشباع الفطرة التي فطر الله الناس عليها ومنها غريزة حب التملك". ويقول الدكتور فاروق النبهان بعد أن عرض لاختلاف رجال القانون في تعيين مصادر الملكية طبقًا لاختلاف نحلهم: "ونجد في التصور الإسلامي المنطلق من الحقائق القرآنية تفسيرًا لهذا اللبس الذي وقع فيه رجال القانون وينطلق هذا التصور من فكرة (2) الإيمان بالله وأن الإنسان مخلوق ليكون خليفة الله في أرضه. وأن الله قد سخر له كل شيء ليكفل له الاستفادة مما سخره الله له، وأن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي سخر الله له المخلوقات الأخرى ولم يسخره لخدمة تلك المخلوقات، لأنه يمتاز على غيره بالتكليف، والتكليف يرتبط بالعقل. ولما كانت الملكية ضرورية للإنسان فقد استخلفه الله على ملكية ما في الأرض، وأوجب عليه أن يتذكر معنى الاستخلاف ومدلوله، وأن يتقيد في تصرفه في ملكيته بإرادة الله التي يعبر التشريع الإسلامي عنها سواء من حيث أسباب التمليك أو من حيث طرائق الاستفادة من هذه الملكيات.   (1) قد تكون سقطت كلمة "به" من الطابع إذ قوام العبارة أن يقال: "فيما خص به الأفراد من هذا المال ". (2) الإيمان بالله ليس فكرة وكل ما في التشريع الإسلامي ليس فكرًا أو نظريات وإنما هو قواعد ومبادئ وشعائر وشرائع، ووصفها بأنها فكر أو نظريات وإن على سبيل التجوز وهو ما جرت عليه أو جرت به أقلام من يكتبون في الشؤون الإسلامية من المعاصرين أقل ما يوصف به أنه إسراف في الانحراف بكلمتي "النظرية" "الفكرة" عن دلالاتها فضلًا عن أنه إساءة للأدب مع الله ومع شريعته وإن تكن إساءة غير مقصودة بل جاءت نتيجة ممارسة غير متحررة للمألوف من عوائد التعبير. يغفر الله له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 890 ولا يعترف الإسلام بأي ملكية لا تنشأ وفقًا لسبب من الأسباب الشرعية المعترف بها ولا يحترم الإسلام أية ملكية لا تنمو وفق الطريق الشرعي الذي حددته الشريعة من حيث عدم الإضرار بالمجتمع، وفضلًا عن هذا فإن المالك مكلف بأن يرعى حق الجماعة في ملكيته، وإلا فإن الإسلام لا يعترف بأية ملكية لا تخضع لهذه الضوابط التشريعية". على أن هذا الموقف الذي يمثله النموذجان السابقان ليس إجماعيا من المعاصرين، وإنما هو موقف الجمهرة من الأساتذة والاقتصاديين ذوي الثقافة المزدوجة أو الذين تفتحت عقولهم ومداركهم لتفهم التشريع الإسلامي من أصول مباشرة دون التقيد بمرحلة من مراحل الفقه فيه كما هو الشأن عند معاصرين آخرين. ولعل أحسن من يمثل هؤلاء وإن امتاز عن كثير منهم بسعة الاطلاع والاستقلال النسبي في الفهم والاتساع النسبي في الإدراك الشيخ محمد أبو زهرة - رحمه الله - وفي هذا المجال ننقل قوله من كتابه "الملكية ونظرية العقد" (1) "ذكرنا أن المال لا يعتبر مالا إلا بتمول الناس له، لذلك كانت علاقة الإنسان هي التي تعطيه خواصه المالية والشرعية ولقد قرر الشرع (2) الإسلامي تلك العلاقة , ورتب عليها ثمراتها ونتائجها، وتلك العلاقة المقررة في الإسلام ككل الشرائع هي الملك، وهو معنى نسبي يفرض بتعيين النسبة بين المال والإنسان كالأبوة والبنوة والتقدم والتأخر، فكل هذه أمور نسبية لتعيين النسب بين الأشياء والأشخاص، فالأبوة والبنوة لتعيين النسبة والإنسان ومن نشأ منه، كذلك الملك هو معين للنسبة بين الإنسان والمال، الإنسان مالك والمال مملوك". ولا نريد أن نتقصى "مقولات" ذاك الفريق أو ذاك , حسبنا ما عرضناه من نماذج لأرائهما إنما نريد أن نقدم صورة لآراء المعاصرين على اختلاف تأثرهم بالنحل والقوانين الحديثة وبالمواقف والآراء الفقهية التي حددها وفرع عنها واستنبط منها ثروة من الأحكام والتصورات والافتراضات الفقه الإسلامي. وذلك قبل أن نمضي في مسارنا الذي رسمناه لأنفسنا في هذا البحث وفي غيره من أبحاثنا المتصلة بالشريعة الإسلامية من اعتبار النصوص التشريعية القطعية والظنية، (من قرآنية أو سنية متواترة ومن سنية آحادية أو آثار لكبار الصحابة ومن اجتهادات لكبار التابعين والأئمة الأول) هي المصدر الوحيد الواجب اعتماده دون غيره لكل فقه يحاول الاهتداء إلى حكم الله في ما يستجد للمسلمين أو للإنسانية كافة من أوضاع وأحداث حضارية فردية كانت أم جماعية أم اجتماعية.   (1) ص: 64. فقرة: 15. (2) لعل في العبارة خطأ صوابه "الشرع". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 891 لذلك ننتقل مباشرة إلى النصوص القرآنية المتعلقة لعلاقة الإنسان بالمال وخاصة الأرض وآراء أئمة التفسير في تأويلها ثم إلى النصوص السنية وتحقيقها وتخريجها وأراء أئمة السنة وشرحها في فقهها ثم إلى آثار الصحابة وكبار التابعين والأئمة الأول للاجتهاد، فهذه المصادر هي معتمدنا فيما نستقبل في مسارنا إلى نهايته لا نضيف إليها مرجعًا إلا لمجرد "الاستئناس " عند الاقتضاء. 9 - التكييف القرآني لعلاقة الإنسان بالأرض: التبس على البعض ما ورد في القرآن الكريم من أن الله خلق الأرض وسخرها لبني آدم فحسبوا ذلك يعني أنه سبحانه وتعالى ملكها لهم، وبنوا على هذا "اللبس" قواعد أصولية وفقهية من بينها الاستدلال بأن القرآن ينص على ملكية الإنسان لما يحوزه من الأرض. وهذا "اللبس" الساذج تكشفه الآثار والنصوص التي نوردها فيما يلي تبيانًا للمعنى الذي فهمه السلف من الصحابة والتابعين وأئمة التفسير والتأويل لتلك الآيات الكريمة الملتبس تأويلها على بعض المتفقهة المقلدة الذين لا يتحرجون من محاولة تسخير النصوص القرآنية والسنية لمساندة ودعم آرائهم وآراء أئمتهم وشيوخهم الذين بلغ بهم تقليدهم أنهم يحكمون آراء في النصوص القرآنية السنية فإن استعسر عليهم تسخيرها تمحلوا أسبابًا لادعاء نسخها، وهو ادعاء قد نقف عنده بعد حين. قال الله تعالى في سورة البقرة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) ويقول الطبري - رحمه الله - في تفسيره (2) "فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع - تأمل جيدًا كلمة "منافع" - أما في الدين فدليل على وحدانية ربهم، وأما في الدنيا فمعاش وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه". ثم قال: "وبنحو الذي قلنا في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} كان قتادة (3) يقول: "حدثنا بكر بن معاذ , قال: حدثنا مرثد بن سعيد , عن قتادة قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} أنعم , والله سخر لكم ما في الأرض". وقد أخرج هذا الأثر السيوطي في الدر (4) بأوضح وأسلم تعبير , فقال: " ... أخرج عبد بن حميد وابن جرير - يعني الطبري - عن قتادة في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} قال: سخر لكم ما في الأرض جميعًا كرامة من الله ونعمة لابن آدم متاعًا وبلغة ومنفعة إلى أجل".   (1) الآية رقم: (29) . (2) ج:1. ص: 149. (3) يعنى ابن دعامة. (4) ج: ا. ص: 42. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 892 وقال الزمخشري في الكشاف (1) ". (لكم) لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم، أما الانتفاع الدنيوي فظاهر , وأما الانتفاع الديني فالنظر فيه وما فيه من عجائب الصنع الدالة على الصانع القدير الحكيم، وما فيه من التذكير بالآخرة وثوابها وعقابها لاشتماله على أسباب الأنس واللذة من فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمواكب والمناظر الحسنة البهية، وعلى أسباب الوحشة والمشقة من أنواع المكاره كالنيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم والمخاوف. وقد استدل بقوله: (خلق لكم) على أن الأشياء التي يصح أن ينتفع بها ولم تجر مجرى المحظورات في العقل خلقت في الأصل مباحة مطلقة لكل أحد أن يتناولها وينتفع بها) . وقال الرازي - رحمه الله - في تفسيره (2) "وأما قوله: (لكم) فهو يدل على أن المذكور بعد قوله: (خلق) لأجل انتفاعنا في الدين والدنيا. أما في الدنيا فليصلح أبداننا ولنتقوى به على الطاعات، وأما في الدين فللاستدلال بهذه الأشياء وللاعتبار بها. وجمع بقوله: (ما في الأرض جميعا) جميع المنافع، فمنها ما يتصل بالحيوان والنبات والمعادن والجبال، ومنها ما يتصل بضروب الحرف والأمور التي استنبطها العقلاء، وبين تعالى أن كل ذلك إنما خلقها كي ينتفع بها. كما قال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (3) وكأنه سبحانه وتعالى قال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} وكيف تكفرون بالله وقد خلق لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا، أو يقال: كيف تكفرون بالله على الإعادة وقد أحياكم بعد موتكم ولأنه خلق لكم ما في الأرض جميعًا، فكيف يعجز عن إعادتكم. ثم إنه تعالى ذكر تفاصيل هذه المنافع في سور مختلفة كما قال: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} (4) وقال في أول سورة النحل {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا} (5) ثم أورد - على عادته - مسائل تتعلق بتأويل الآية وما قد يستنبط منها من معاني وأحكام ومنها قوله: "المسألة الثانية" احتج أهل الإباحة بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} على أنه تعالى خلق الكل للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلًا لأنه تعالى قابل الكل بالكل، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد، والتعيين يستفاد من دليل منفصل، والفقهاء - رحمهم الله - استدلوا به على أن الأصل في المنافع الإباحة". وقال ابن عطية في "المحرر الوجيز" (6)   (1) ج:1. ص: 270. (2) المجلد الأول. ج: 2. ص: 168. (3) الآية رقم: (13) من سورة الجاثية. (4) الآية رقم: (25) من سورة عبس. (5) الآية رقم: (5) . (6) ج: ا. ص:159. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 893 "و (لكم) معناه الاعتبار، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء، والإماتة، والخلق، والاستواء إلى السماء وتسويتها. وقال قوم: بل معنى (لكم) إباحة الأشياء وتمليكها، وهذا قول من يقول: إن الأشياء قبل ورود السمع على الإباحة بينته هذه الآية. وخالفهم في هذا التأويل القائلون بالحظر، والقائلون بالوقف، وأكثر القائلين بالحظر استثنوا أشياء اقتضت حالها مع وجود الإنسان الإباحة، كالتنفس والحركة. ويرد على القائلين بالحظر كل حظر في القرآن وعلى القائلين بالإباحة كل تحليل في القرآن. ويترجح في الوقف. إذا قدرنا نازلة لا يوجد فيها سمع ولا تتعلق به. ومعنى الوقف أنه استنفاد جهد الناظر فيما يحزب من النوازل. وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال: "لم يخل العقل قط من السمع ولا نازلة إلا وفيها سمع أو لها به تعلق أو لها مال تستصحبه". قال: "فينبغي أن يعتمد على هذا، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف". وقال القرطبي في "الجامع لأحكام?القرآن" (1) وهو يستخرج مسائل من هذه الآية الكريمة: "الثانية - استدل من قال: إن أصل الأشياء التي ينتفع منها الإباحة بهذه الآية وما كان مثلها، كقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (2) حتى يقوم الدليل على الحظر. وعضدوا هذا بأن قالوا: إن المآكل الشهية خلقت مع إمكان أن لا تخلق فلم تخلق عبثًا فلا بد لها من منفعة، وتلك المنفعة لا يصح رجوعها إلى الله لاستغنائه بذاته، فهي راجعة إلينا. ومنفعتنا إما في نيل لذاتها، أو في اجتنابها لنختبر بذلك، أو في اعتبارنا بها. ولا يحصل شيء من تلك الأمور إلا بذوقها، فلزم أن تكون مباحة. وهذا فاسد، لأنا لا نسلم لزوم العبث من خلقها إلا لمنفعة، بل خلقها كذلك لأنه لا يجب عليه أصل المنفعة بل هو الموجب. ولا نسلم حصر المنفعة فيما ذكروه ولا حصول بعض تلك المنافع إلا بذوق، بل قد يستدل على الطعوم بأمور أخر كما هو معروف عند الطبائعيين ثم هو معارض بما يخاف أن تكون سمومًا مهلكة ومعارضون بشبهات أهل الحظر. وتوقف آخرون، وقالوا: ما من فعل لا ندرك منه حسنًا ولا قبحًا إلا ويمكن أن يكون حسنًا في نفسه، ولا معين قبل ورود الشرع، فتعين الوقف إلى ورود الشرع. وهذه الأقاويل الثلاثة للمعتزلة. وقد أطلق الشيخ أبو الحسن وأصحابه وأكثر المالكية والصيرفي في هذه المسألة القول بالوقف. ومعناه عندهم أن لا حكم فيها في تلك الحال، وأن للشرع إذا جاء أن يحكم بما شاء وأن العقل لا يحكم بوجوب ولا غيره، وإنما حظه تعرف الأمور على ما هي عليه".   (1) ج:1. ص:251 و252. (2) (2) الجاثية: 13. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 894 ثم قال: "الثالثة - الصحيح في معنى قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} الاعتبار يدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء، والإماتة، والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتها، أي الذي قدر على إحيائكم وخلقكم وخلق السماوات والأرض لا تبعد منه القدرة على الإعادة. فإن قيل: إن معنى (لكم) الانتفاع، أي: لتنتفعوا بجميع ذلك، قلنا: المراد بالانتفاع الاعتبار كما ذكرنا. فإن قيل: وأي اعتبار في العقارب والحيات؟ قلنا: قد يتذكر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعد الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سببًا للإيمان وترك المعاصي. وذلك أعظم الاعتبار. قال ابن العربي: وليس في الإخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظرًا ولا إباحة ولا وقفًا، وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه ليستدل به على وحدانيته. وقال أرباب المعاني في قوله: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} لتتقووا به على طاعته لا لتصرفوه في وجوه معصيته. وقال أبو عثمان: وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده وتسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك، فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد". وقال ابن حيان الأندلسى في "البحر المحيط" (1) بعد أن أورد الآية: "مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وهو أنه لما ذكر أن من كان منشئا لكم بعد العدم ومفنيًا لكم بعد الوجود وموجدًا لكم ثانية، إما في جنة وإما إلى نار، كان جديرًا أن يعبد ولا يجحد ويشكر ولا يكفر. ثم أخذ يذكرهم عظيم إحسانه وجزيل امتنانه، من خلق جميع ما في الأرض لهم، وعظيم قدرته وتصرفه في العالم العلوي وإن العالم العلوي والعالم السفلي بالنسبة إلى قدرته على السواء وأنه عليم بكل شيء". ثم قال: "و (لكم) متعلق بـ (خلق) واللام فيه للسبب، أي: لأجلكم ولانتفاعكم. وقدر بعضهم لاعتباركم، وقيل: للتمليك والإباحة، فيكون التمليك خاصا، وهو تمليك ما ينتفع الخلق به، وتدعو الضرورة إليه. وقيل: الاختصاص هو أعم من التمليك.   (1) ج: 1. ص: 132 و133. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 895 والأحسن حملها على السبب , فيكون مفعولًا من أجله، لأنه بما في الأرض يحصل الانتفاع الديني والدنيوي. فالديني النظر فيه وفيما فيه من عجائب الصنع ولطائف الخلق الدالة على قدرة الصانع وحكمته، ومن التذكير بالآخرة والجزاء. وأما الدنيوي فظاهر , وهو ما فيه من المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب والمناظر البهية وغير ذلك. وقد استدل بقوله: (خلق لكم) من ذهب إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة , فلكل أحد أن ينتفع بها وإن احتمل أن يكون اللام لغير التمليك والإباحة لم يكن في ذلك دليل على ما ذهبوا إليه. وقد ذهب قوم إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر فلا يقدم على شيء إلا بإذن. وذهب قوم إلى أن الوقف لما تعارض عندهم دليل القائلين بالإباحة ودليل القائلين بالحظر قالوا بالوقف" (1) ثم قال: "وإذا جعلنا اللام للسبب، فليس المعنى أن الله فعل شيئًا للسبب، لكنه لما فعل ما لو فعله غيره لفعله لسبب، أطلق عليه لفظ السبب. واندرج تحت قوله: {مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ما كانت الأرض مستقرا له من الحيوان والنبات والمعدن والجبال، وجميع ما كان بواسطة من الحرف والأمور. المستنبطة". وقال محمد الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (2) " ... والمقصود من الكلام فيما أراه موافقًا للبلاغة. التذكير بأن الله هو خالق الأرض وما عليها وما في داخلها، وأن ذلك كله خلقه بقدر انتفاعنا بها بما فيها في مختلف الأزمان والأحوال فأوجز الكلام إيجازًا بديعًا بإقحام قوله: (لكم) ، فأغنى عن جملة كاملة، فالكلام مسوق مساق إظهار عظيم القدرة وإظهار عظيم المنة على البشر وإظهار عظيم منزلة الإنسان عند الله تعالى. وكل أولئك يقتضي اقتلاع الكفر من نفوسهم. وفي هذه الآية فائدتان" الأولى: أن لام التعليل دلت على أن خلق ما في الأرض كان لأجل الناس، وفي هذا تعليل للخلق، وبيان لثمرته وفائدته".   (1) هذه الجملة غير واضحة. (2) ج: 1. ص: 379 و380 و382. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 896 وبعد أن أورد مقولات المتكلمين حول تعليل أفعال الله تعالى وناقشها مناقشة بديعة نأسف أن ليس هذا مجالها قال - رحمه الله -: "هذا وقد نقل أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات عن جمهور الفقهاء والمتكلمين أن أحكام الله تعالى معللة بالمصالح ودرء المفاسد. وقد جمع الأقوال الشيخ ابن عرفة في تفسيره فقال: هذا هو تعليل أفعال الله تعالى وفيه خلاف، وأما أحكامه فمعللة. الفائدة الثانية: أخذوا من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} أن أصل استعمال الأشياء فيما يراد له من أنواع الاستعمال هو الإباحة حتى يدل دليل على عدمها، لأنه جعل ما في الأرض مخلوقًا لأجلنا، وامتن بذلك علينا. وبذلك قال الإمام الرازي والبيضاوي وصاحب الكشاف ونسب إلى المعتزلة وجماعة من الشافعية والحنفية منهم الكرخي ونسب إلى الشافعي. وذهب المالكية وجمهور الحنفية والمعتزلة - في نقل ابن عرفة - إلى أن الأصل في الأشياء الوقف ولم يروا الآية دليلًا. قال ابن العربي في أحكامه: إنما ذكر الله تعالى هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه على طريق العلم والقدرة وعلى تصريف المخلوقات بمقتفى التقدير والإتقان بالعمل ... إلخ. والحق أن الآية مجملة، قصد منها التنبيه على قدرة الخالق بخلق ما في الأرض أنه خلق لأجلنا، إلا أن خلقه لأجلنا لا يستلزم إباحة استعماله في كل ما يقصد منه، بل خلق لنا فيه الجملة. على أن الامتنان يصدق إذا كان لكل من الناس بعض مما في العالم، بمعنى أن الآية ذكرت أن المجموع للمجموع , لا كل واحد لكل واحد، كما أشار إليه البيضاوي، لا سيما وقد خاطب الله بها قومًا كافرين منكرًا عليهم كفرهم، فكيف يعلمون إباحة أو منعا؟ وإنما محل الموعظة هو ما خلقه الله من الأشياء التي لم يزل الناس ينتفعون بها من وجوه متعددة. وذهب جماعة إلى أن أصل الأشياء الحظر، ونقل عن بعض أهل الحديث وبعض المعتزلة، فللمعتزلة الأقوال الثلاثة كما قال القرطبي. قال الحموي في شرح كتاب الأشباه لابن نجيم نقلًا عن الإمام الرازي - رحمه الله -: وإنما تظهر ثمرة المسألة في حكم الأشياء أيام الفترة قبل النبوة، أي فيما ارتكبه الناس من تناول الشهوات ونحوها. ولذلك كان الأصح أن الأمر موقوف وأنه لا وصف للأشياء يترتب من أجله عليها الثواب والعقاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 897 وعندي: أن هذا لا يحتاج العلماء إلى فرضه، لأن أهل الفترة لا شرع لهم، وليس لأفعالهم أحكام إلا في وجوب التوحيد عند قوم. وأما بعد ورود الشرع، فقد أغنى الشرع عن ذلك. فإن وجد فعل لم يدل عليه دليل من نص أو قياس أو استدلال صحيح، فالصحيح أن أصل المضار التحريم والمنافع الحل، وهذا الذي اختاره الإمام في المحصول، فتصير للمسألة ثمرة باعتبار هذا النوع من الحوادث في الإسلام". وجلي من هذه النقول - وهي الخلاصة الشاملة لآراء أئمة التفسير والتأويل من قدماء ومحدثين - أن الجمهرة تذهب إلى القول بأن اللام في قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} للاختصاص وليست لأي معنى غيره إلا ما ذهب إليه القلة من اعتبارها سببية أو للتمليك أو للاستحقاق. وقد يكون من تمام الفائدة أن ننقل رأي النحاة أو ما يشبه أن يكون رأيًا لهم في الفرق بين لام الاختصاص ولام الاستحقاق ولام التمليك ولام شبه التمليك ولام التعليل. يقول ابن هشام - رحمه الله - في "المغني" (1) "واللام الجارة اثنان وعشرون معنى: أحدها الاستحقاق، وهي الواقعة بين معنى وذات، نحو "الحمد لله" و"العزة لله" و"الملك لله" و"الأمر لله" و"نحو {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} (2) و {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} (3) و"منه للكافرين النار" أي: عذابها. والثاني: الاختصاص نحو الجنة للمؤمنين، وهذا الحصير للمسجد، والمنبر للخطيب، والسرج للدابة، والقميص للعبد، ونحو {إِنَّ لَهُ أَبًا} (4) {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} (5) وقولك: هذا الشعر لحبيب، وقولك: أدوم لك ما تدوم لي. والثالث. الملك، نحو: {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (6) ووردت في غيرها أيضًا.   (1) ص: 275. (2) الآية رقم: (1) من سورة المطففين. (3) الآية رقم: (41) من سورة المائدة. (4) الآية رقم: (78) من سورة يوسف. (5) الآية رقم: (11) من سورة النساء. (6) الآية رقم: (255) من سورة البقرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 898 وبعضهم يستغني بذكر الاختصاص عن ذكر المعنيين الآخرين ويمثل بالأمثلة المذكورة ونحوها، ويرجحه أن فيه تقليلًا للاشتراك، وأنه إذا قيل "هذا المال لزيد والمسجد" لزم القول بأنها الاختصاص مع كون زيد قابلًا للملك، لئلا يلزم استعمال المشترك في معنييه دفعة، وأكثرهم يمنعه. الرابع: التمليك، نحو "وهبت لزيد دينارًا ". الخامس: شبه التمليك، نحو {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} (1) السادس: التعليل، كقوله: "ويوم عقرت للعذارى مطيتي" (2) ثم مضى يورد شواهد أخرى لهذا المعنى، ثم يتابع المعاني الأخرى للام الجارة، وهو مما ليس من شأننا في هذا المجال. ومن هذا الذي ساقه ابن هشام من الفروق بين معاني ودلالات اللام الجارة، يترجح لدينا القول بأن اللام للاختصاص في الآية الكريمة التي نحن بسبيل استجلاء الحكم منها، وحتى لو كانت للملك - وما من أحد قال: إنها للتمليك فيما نعلم - فإن الملك الذي تعنيه جماعيا وليس فرديا , ذلك بأنهم أجمعوا أو كادوا يجمعون على أن "الاختصاص" أو "التمليك" الذي تعنيه في الآية لا يتجه بالأساس إلى الفرد وإن وجهه بعضهم , ومال الرازي - رحمه الله - إليه بالتبعية. ونعيد هنا فقرة سبق أن نقلناها عنه للتذكير واستجلاء المعنى. قال رحمه الله: "المسألة الثانية: احتج أهل الإباحة بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} على أنه تعالى خلق الكل للكل , فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلًا وهو ضعيف لأنه تعالى قابل الكل بالكل، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد والتعيين يستفاد من دليل منفصل، والفقهاء - رحمهم الله - استدلوا به على أنه الأصل في المنافع الإباحة".   (1) الآية رقم: (1) من سورة الشورى. (2) البيت لامرئ القيس من معلقته المشهورة وتمامه: "فيا عجبا عن رحلها المتحمل". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 899 وقد سبق أن لفتنا في معرض نقلناه عن الطبري - رحمه الله - ما شرح به الآية الكريمة إلى قوله: "فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع. تأمل جيدًا كلمة "منافع". وقلنا تعقيبًا على هذا: تأمل جيدًا كلمة "منافع" , إذ هي صريحة من عبارته كما أن ما يشاكلها من عبارات غيره ممن اعتمدناهم ونقلنا عنهم من أئمة التفسير آراءهم ورواياتهم في تأويل هذه الآية الكريمة صريح في أن علاقة الإنسان بالأرض طبقا لما تعينه الآية الكريمة وتحدده تتكيف بكونها "تسويغ الانتفاع" أو "تسويغ المنفعة"، وهذا ما سنبينه ونبين الفرق فيه بين "تسويغ الانتفاع" وبين "تسويغ المنفعة" في محله من هذا البحث. لكننا الآن نود أن نقف هونا عند رأي الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور - رحمه الله - إذ إنه يختلف بعض الاختلاف عن رأينا في تحديد معنى "اللام " من (لكم) فهو يراها للتعليل، ولكن ما يبدو بين الموقفين من تغاير لا يعدو أن يكون لفظيا أو بلاغيا صرفًا لا يترتب عنه حكم إلا بانتحال متكلف غير صائغ. وآية ذلك أنه - رحمه الله - يخلص إلى القول بأن من علة خلق الأرض جعلها لمنفعة الإنسان في مجموعه وأفراده فهو يقول: "والحق أن الآية مجملة قصد منها التنبيه على الخالق بخلق ما في الأرض أنه خلق لأجلنا، إلا أن خلقه لأجلنا لا يستلزم إباحة استعماله في كل ما يقصد منه، بل خلق لنا في الجملة على أن الامتنان يصدق إذا كان لكل من الناس بعض مما في العالم لمعنى أن الآية ذكرت أن المجموع للمجموع، لا كل واحد لكل واحد، كما أشار إليه البيضاوي، لا سيما وقد خاطب الله بها قوما كافرين منكرًا عليهم كفرهم، فكيف يعلمون إباحة أو منعا؟ ومع أنه يستنبط من الآية "تسويغ الانتفاع" أو تسويغ المنفعة للأفراد، كما هو للمجموع على مستوى متماثل حسب ما هو ظاهر عبارته - وإن كنا ننكر أشد الإنكار التوقف عند تحليل عبارات البشر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجتهدي الصحابة لولا أننا بصدد تحديد مذاهب من يعتمد اجتهاده من المفسرين - وذلك ما قد لا نختلف معه في ما يؤدي إليه من نتائج وإن لم نوافقه في التسوية بين دلالة الآية على حقوق المجموع ودلالتها على حقوق الأفراد. فإننا نجده غير مختلف مع جمهرة أئمة التأويل في أن المنفعة أو الانتفاع هو ما تعنيه - أو بعض ما تعنيه - الآية الكريمة وتدل عليه اللام في (لكم) سواء كانت "للاختصاص" أو "للتعليل" أو حتى "للملك" أو "للتمليك" كما قد يقول بعض النحاة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 900 والذي نستخلصه مما نقلناه عن أئمة التأويل، ونشعر أنه الحق أن الآية الكريمة نص صريح على أن علاقة الإنسان بالأرض تنحصر فيما يتصل بما خول الله له من انتفاع أو منفعة، مما فيها ولا تتجاوزه طبقًا لما تتضمنه الآية الكريمة من دلالات إلى ملكية "الرقبة " وعلى من يدعي ملكية الإنسان مجموعة أو أفرادًا للأرض ملكية رقبة أن يستظهر بدليل أو أدلة غير هذه الآية، وسنقف عند ما قد يستظهرون به حين يعرض لنا شيء منه خلال مسارنا هذا. لكن قبل ذلك نقف مع ابن تيمية (1) في رأي له لا يتصل في جوهره بعلاقة الإنسان بالأرض وبالأشياء من حيث تكييفها الشرعي، وإنما يتصل بها من حيث الممارسة والملابسة وهذا الجانب منها ليس من شأننا في هذا المجال، بيد أن ابن تيمية - رحمه الله - ألمح عرضًا إلى ما نحن بسبيله. ذلك بأنه خلال ما ساق من الأدلة لتأكيد قاعدته التي بنى عليها حكمه في طهارة أو نجاسة "مني الإنسان وغيره من الدواب الطاهرة وفي أرواث البهائم المباحة " وقد ساق في ذلك عشرة أدلة قال: "الصنف الأول الكتاب، وهو عدة آيات، الآية الأولى قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} والخطاب لجميع الناس لافتتاح الكلام بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} ووجه الدلالة أنه خلق جميع ما في الأرض للناس مضافًا إليه باللام، واللام حرف الإضافة، وهي توجب اختصاص المضاف بالمضاف إليه، واستحقاقه إياه على الوجه الذي يصلح له. وهذا المعنى يعم موارد استعمالها. لقولهم: المال لزيد، والسرج للدابة، وما أشبه ذلك. فيجب إذن أن يكون الناس مملكين ممكنين لجميع ما في الأرض، فضلًا من الله ونعمة. وخص من ذلك بعض الأشياء وهي الخبائث، لما فيها من الإفساد لهم في معاشهم، أو معادهم، فيبقى الباقي مباحًا بموجب الآية".   (1) مجموع الفتاوى ج:21. ص: 535 و536. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 901 وجلي من كلام ابن تيمية أنه مع القائلين أن في الأصل الإباحة ما لم يقم دليل على غيرها، بيد أنه يعتبر إباحتها للمجموع بدليل استدلاله بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} . ثم قوله في ثنايا كلامه: "فيجب أن يكون الناس مملكين ممكنين لجميع ما في الأرض". إذ إن تعبيره بكلمة "الناس" بعد استدلاله بالآية الكريمة المذكورة آنفًا والنداء فيها موجه إلى (الناس) لا يمكن صرفه إلى "الجميع" بمعنى إلى الأفراد منفصلين إلا بقرينة. وبدونها لا ينصرف إلا إلى "المجموع" باعتباره كيانًا له وجود معنوي متميز. على أن ابن تيمية جمع بين معنيي الاختصاص والاستحقاق للام في (لكم) ، وهو ما قد يلبس على بعض الناس مراده، لا سيما وقد جاء في كلامه بعد ذلك لفظ "مملكين" فيحسبه صرفًا لمدلول الاختصاص عن عمومه إلى خصوص الدلالة على الملكية وهذا رأي ابن تيمية، ولكنه ليس صريحًا من عبارته هذه. فإن يكن هو رأيه فليس في عبارته ما يصرف "الملكية" التي يعنيها إلى الفرد وإنما هي مصروفة بالأصالة إلى "المجموع " ما لم تقم قرينة على غير ذلك. وقبل أن نفارق ابن تيمية ننتقل معه إلى دليل آخر استدل به البعض على دعوى ملكية الإنسان للأرض ملكية رقبة. قال وهو يواصل الاستدلال لموضوعه المذكور آنفًا: "الآية الثالثة قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} (1) وإذا كان ما في الأرض مسخرًا لنا جاز استمتاعنا به". تأمل جيدًا قوله: "جاز استمتاعنا به , إذ اقتصر على كلمة "الاستمتاع" بدل كلمة "الملك" أو "الملكية" أو ما يدل عليهما مثل "الاستئثار" أو "الاستحواذ".   (1) الجاثية 13. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 902 وقد يقال: إن "الملك" وما في معناه من مشتقاته يدخل في مدلول "الاستمتاع" وهذا صحيح، بيد أن "الاستمتاع" لا ينصرف إلى بعض مدلولاته دون بعض إلا بقرينة، وإذا لم توجد القرينة يظل "عاما" في انتظار ما يخصصه و"مطلقًا" في انتظار ما يقيده إذا أريد له "التخصيص" أو "التقييد". وجميع القرائن تدل على أنه غير مخصص ولا مقيد إلا بما جاء الشرع بإيجابه أو الندب إليه أو تحريمه أو كراهته. وسنتبين أثناء مسارنا هذا ما إذا كان الشرع قد جاء بحكم من هذه الأحكام فيما يتصل بالملك. ونواصل وقفتنا عند قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13] . وأجمع ما وقفنا عليه وأدقه في تفسير هذه الآية عند أئمة التأويل ما قاله محمد الطاهر ابن عاشور (1) من أن: " {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} عام مخصوص بما تحصل للناس فائدة من وجوده: كالشمس للضياء، والمطر للشراب، أو من بعض أحواله: الكواكب للاهتداء بها في ظلمات البر والبحر، والشجر للاستظلال، والأنعام للركوب والحرث ونحو ذلك. وأما ما في السماوات والأرض مما لا يفيد الناس فغير مراد، مثل الملائكة في السماء والأهوية المنحبسة في باطن الأرض التي يأتي منها الزلزال" (2) قلت: وهذه الآية دليل حاسم داحض لكل دعوى مخالفة على أن اللام للاختصاص في قوله: (لكم) ، ذلك بأن الآية السابقة لها (3) وبدونها لا يستقيم معنى الآيتين جاء فيها {اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . وما من أحد يستطيع أن يزعم بأن لام (لكم) في هذه الآية تعني الملك أو ما يشتق منه. لأن هذا الزعم يقتضي بالضرورة أن الإنسان يملك البحر وأنه أيضًا يملك السماء وما فيها أو {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} على الأقل. وما من أحد يستطيع أن يدعي ملكية الإنسان للبحر أو للملائكة ولا حتى للطير وهي تطير في طبقات من الهواء تعتبر جغرافيا من طبقات الكوكب الأرضي لأنها خاضعة لجاذبيته، بل إن الخلاف حاد شهير في جواز بيع السمك في البحر قبل أن يكون واقعا في شبكة الصائد بالرغم من أن بيعًا من هذا القبيل إنما يعني في حقيقته "التزام" من البائع للمشتري بتقديم نوع معين من السمك في وقت محدد وهو التزام يقوم على أغلب شروط العقد الصحيح كما يعينها الشرع والقانون، ومدار هذا الاختلاف، هو أن اعتبار ما في البحر ليس ملكًا للإنسان وأن الالتزام الذي يقوم عليه بيع السمك قبل اصطياده يعتمد على تصرف الملتزم في شيء لم يكن قد دخل في ملكه فأصبح قادرًا فعلًا على التصرف فيه.   (1) التحرير والتنوير. ج: 25. ص: 337. (2) وانظر أيضًا تفسير الطبري. المجلد: 9. ج: 25. ص: 87. وتفسير الرازي. المجلد: 14. ج: 27. ص: 263. وتفسير ابن كثير. ج: 4. ص:148. والدر المنثور. (3) الجاثية: 12. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 903 وإذا كان هذا موقفهم مما يسر الله للإنسان استخراجه من البحر وهو الموقف الذي يرتضيه العقل ويطمئن إليه العدل، فكيف يكون الموقف من دعوى ملكية الأرض ملكية رقبة في حين أن الأرض ليست في حجمها وفي محتواها شيئًا يمكن للإنسان فردًا أو مجموعًا أن يحوزه حيازة كاملة وأن ينتفع به كله وبكل ما فيه انتفاعًا كاملا؟ وما قيل في هذه الآية عن دلالة اللام في (لكم) يقال في غيرها مثل قوله سبحانه وتعالى في سورة إبراهيم: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (1) وما من أحد يستطيع أن يدعي أن الإنسان يملك الأنهار أو يملك الليل والنهار وإن ملكية "انتفاع" أو "منفعة " , وقصارى ما يمكن استجلاؤه من هاتين الآيتين الكريمتين ومن آيتي سورة الجاثية السابقتين إباحة الانتفاع للإنسان بما يستطيع الانتفاع به من هذه المخلوقات إباحة امتنان من الله سبحانه وتعالى على عباده ودلالته على عظيم قدرته وجليل نعمته. وقد تكون هذه الآيات الأربع صالحة للاستدلال على أن الأصل في الأشياء الإباحة إذا أخذت على ظاهرها، بيد أننا نرى أنها صالحة للاستدلال على أن الله أباح الانتفاع بما في الأرض والبحر والسماوات والأنهار وما شاكلها مما يستطيع الإنسان الانتفاع به من مخلوقاته انتفاعًا لا يخرج عن دائرة الشرع، ودلالة هذه الآيات على الإباحة تقتضي أن المخلوقات قبل إباحة الانتفاع بها للإنسان كانت غير منضبط التصرف فيها بحكم شرعي فهي على الوقوف حتى جاء الشرع الكريم فبين إباحة ما أبيح وعين ما خرج من نطاق الإباحة إلى حكم آخر من أحكامه من الانتفاع بتلك المخلوقات. 10 - التكييف السني لعلاقة الإنسان بالأرض وإذا انتقلنا إلى السنة النبوية ابتغاء ما ورد فيها قولًا وفعلًا من بيان للتكييف الشرعي للعلاقة بين الإنسان والأرض، ثم للعلاقة بينه وبين ما يحصل ويكتسبه من منافع مما في الأرض كان أبرز ما يجب الوقوف عنده واستلهامه من النصوص السنية حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض عامة وفي المزارعة والمساقاة خاصة، وفي هذا الشأن وردت نصوص قولية وفعلية اضطرب في تأويل بعضها فقهاء الحديث قبل فقهاء الرأي وخاصة أتباع المذاهب من مجتهدين ومقلدين، لذلك نؤثر أن نقف عند كل حديث من الأحاديث الواردة في الاستدلال في هذا المجال , فنستقصي روايته ونتقصى رواته ونجتلي ظروفه وظروف رواته ورواياته لنستبين إن كان فيه اضطراب أو بين نصوصه تعارض، كما يذهب جمهور فقهاء الحديث وفقهاء الرأي، ونستعين في استجلاء ذلك بما ورد من آثار كبار الصحابة وفقهائهم من اجتهادات وتصرفات مما يتصل بموضوع هذه الأحاديث مباشرة أو بالاستنباط.   (1) الآيتان رقم: (32) و (33) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 904 وأول حديث نقف عنده حديث رافع بن خديج: روى مالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، وابن حبان، بألفاظ متقاربة وأسانيد مختلفة وبعضهم بأكثر من سند واحد عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن حنظلة بن قيس الزرقي حديث رافع بن خديج. ونورد رواياتهم متوالية فيما يلى: روى مالك (1) "عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس الزرقي عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع. قال حنظلة: فسألت رافع بن خديج: بالذهب والورق؟ قال: أما الذهب والورق فلا بأس". وقال الشافعي (2) "أخبرنا مالك , عن ربيعة بن عبد الرحمن - خطأ صوابه بن أبي عبد الرحمن - , عن حنظلة بن قيس , أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض فقال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض , فقال: أبالذهب والورق؟ فقال: أما بالذهب والورق , فلا بأس به)) .   (1) الموطأ. ص:602. (2) ترتيب مسند الشافعي. ج: 2. ص: 136. ج: 448. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 905 وقال أحمد في مسنده (1) "حدثنا يحيى بن سعيد , عن مالك بن أنس , قال: حدثني ربيعة , عن حنظلة بن قيس , عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع. قال: قلت: بالذهب والفضة؟ قال: لا , إنما نهى عنه ببعض ما يخرج منها , أما بالذهب والفضة فلا بأس به)) . وحدثنا أحمد أيضا ورواه ابن حبان في صحيحه (2) "حدثنا قتيبة بن سعيد , قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد , عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن حنظلة الزرقي , عن رافع بن خديج ((أن الناس كانوا يكرون المزارع في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماذيانات (3) وما سقى الربيع (4) وشيء من التبن فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كراء المزارع بهذا ونهى عنها)) وقال رافع: ولا بأس بكراء بالدراهم والدنانير.   (1) الفتح الرباني. ج:15. ص:119. ج: 381 و384. (2) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 315. ح: 5173 و5174. (3) قال النووي (شرح صحيح مسلم. ج:10. ص:192) : أما الماذيانات فبذال معجمة مكسورة ثم ياء مثناة تحت , ثم ألف , ثم نون , ثم ألف , ثم مثناة فوق. هذا هو المشهور وحكم القاضي عن بعض الرواة فتح الذال في غير صحيح مسلم وهي مساييل المياه وقيل على ما ينبت على حافتي مسيل الماء , وقيل: ما ينبت حول السواقي وهي لفظة معربة ليست عربية. (4) وقال النووي (شرح صحيح مسلم. ج:10. ص: 192) : وأما الربيع فهو الساقية الصغيرة وجمعه أربعاء كنبي وأنبياء وربعان كصبي وصبيان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 906 وحدثنا يونس قال: حدثنا ليث , عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن حنظلة بن قيس , عن رافع بن خديج أنه قال: حدثني عمي اتخذ بعضهم من اختلاف الروايات عن رافع وهو يتحدث عن عمه أو عن عميه سببًا لدعوى الاضطراب في حديث رافع والغمز في الاحتجاج به وهي دعوى غير سليمة ولا وجيهة ذلك بأن رافعًا لم يحدث بهذا الحديث مرة ولم يروه عنه راو واحد وإنما حدث به حديثًا أكثر من مرة وصدع به فتوى ويظهر أنه اتخذ منه قضية تولى الدعوة إليها وسيأتي بيان ذلك. ونتيجة لهذا الوضع كان رافع يحدث أحيانًا عن عمه ظهير وأحيانًا عن عميه , وظاهر أنه ظهير ومظهر (انظر ترجمتها في التعليق رقم: 1ص 1234 والراجح عندنا، بل الذي نكاد نجزم به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه كرر النهي لآل خديج , فتارة كان يشهد ظهير وحده، وتارة كان يشهد ظهير ومعه أخوه مظهر وربما غيره من ذويه , فقد جاء ذكر خال رافع في بعض الروايات عنه وأن تكرار نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم آل خديج عن كراء الأرض كان لأنهم اتخذوا منه وسيلة من وسائل الكسب الذي يستغلون فيه جهود الآخرين وكان ذلك شائعًا بينهم فتكرر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم نهيا زاجرا ملحا تتبع التصرفات الفردية والجماعية , يشهد هذا الذي تذهب إليه اختلاف الروايات عن رافع عمن نقل إليه النهي ثم ما حدث لرافع نفسه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هو مبين بالأسانيد في الأحاديث المتوالية التي سقناها مدونات السنة وبمختلف أسانيدها في ثنايا هذا الفصل. ((أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء (1) وشيء من الزرع يستثنيه صاحب الزرع، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقلت لرافع: كيف كراؤها؟ بالدينار والدرهم؟ فقال رافع: ليس بها بأس، بالدينار والدرهم)) . قال البخاري في صحيحه (2) "حدثنا عمرو بن خالد وحدثنا الليث عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس عن رافع بن خديج قال: حدثني عماي: ((أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء (3) أو بشيء يستثنيه صاحب الأرض، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقلت لرافع: فكيف هي بالدينار والدرهم؟ فقال رافع: ليس بها بأس بالدينار والدرهم)) .   (1) راجع هامش (1) أعلاه. (2) ج: 3. ص: 73. (3) راجع هامش ص (116) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 907 وقال مسلم في صحيحه (1) "حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس قال: إنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض فقال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض , قال: فقلت: أبالذهب والورق؟ فقال: أما بالذهب والورق فلا بأس به)) . حدثنا إسحاق. أخبرنا عيسى بن يونس. حدثنا الأوزاعي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن. حدثني حنظلة بن قيس الأنصاري قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق. فقال: ((لا بأس إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الماذيانات وأقبال الجداول (2) وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به)) . قال أبو داود في سننه (3) "حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي. أخبرنا عيسى. حدثنا الأوزاعي. وحدثنا قتيبة بن سعيد. حدثنا ليث. كلاهما عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن واللفظ للأوزاعي. حدثنا حنظلة بن قيس الأنصاري قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق. فقال: لا بأس بها ((إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع , فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا. ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء مضمون معلوم فلا بأس به.))   (1) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 205. (2) قال النووي (شرح صحيح مسلم. ج:10. ص: 192) : وأما قوله: أقبال بفتح الهمزة أي: أوائلها ورؤوسها , والجداول جمع جدول هو النهر الصغير. (3) ج: 3. ص: 258. ح: 3392 و3393) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 908 وتعقبه أبو داود بقوله: وحديث إبراهيم أتم. وقال قتيبة عن حنظلة عن رافع: قال أبو داود: ورواية يحيى بن سعيد عن حنظلة نحوه. وحدثنا قتيبة بن سعيد , عن مالك , عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن حنظلة بن قيس , أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض , فقال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض , فقلت: بالذهب والورق؟ فقال: أما بالذهب والورق فلا بأس به)) . وقال النسائي في سننه (1) "أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك , قال: حدثنا حجين بن المثنى , قال: حدثنا الليث , عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن حنظلة بن قيس , عن رافع بن خديج , قال: حدثني عمي ((أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء وشيء من الزرع يستثني صاحب الأرض، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقلت لرافع: فكيف كراؤها، بالدينار والدرهم؟ فقال رافع: ليس بها بأس بالدينار والدرهم)) . أخبرني المغيرة بن عبد الرحمن , قال: حدثنا عمى - هو ابن يونس - قال: حدثنا الأوزاعي , عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن حنظلة بن قيس , قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالدينار والورق، فقال: ((لا بأس بذلك، إنما كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول، فيسلم هذا ويهلك هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به.)) وأخبرنا عمرو بن علي , قال: حدثنا يحيى , قال: حدثنا مالك , عن ربيعة , عن حنظلة بن قيس , قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض، فقال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض، فقلت: بالذهب والورق؟ قال: لا، إنما نهى عنها بما يخرج منها، فأما الذهب والفضة فلا بأس)) . وقال الدارقطني في سننه (2) "حدثنا الحسين بن إسماعيل. حدثنا أحمد بن إسماعيل المدني. حدثنا مالك , عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن حنظلة بن قيس الزرقي , أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض , فقال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض، فقال له: أبالذهب والورق؟ قال: أما الذهب والورق فلا بأس به)) .   (1) ج: 7. ص: 42. (2) ج: 3. ص: 36. ح: 146. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 909 وقال ابن حبان (1) "أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم , قال: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم , قال: حدثنا الوليد , قال: حدثنا الأوزاعي , عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن حنظلة بن قيس الزرقي , عن رافع بن خديج قال: ((كنا نكري الأرض فيستثني صاحب الأرض ما على الماذيانات وأقبال الجداول، فيهلك هذا , ويسلم هذا، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال رافع: أما بشيء مضمون معلوم فلا بأس به.)) وأخبرنا محمد بن الحسن بن خليل , قال: حدثنا هشام بن عمار , قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد , قال: حدثنا ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن حنظلة بن قيس , عن رافع بن خديج قال: ((كانت الأرض تنكري بالماذيانات وشيء من التبن يستثنى به، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض. فقال رافع: فأما الذهب والورق فلا بأس به.)) وروى عبد الرازق، والحميدي، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، والطحاوي حديث رافع عن طريق يحيى بن سعيد , عن حنظلة بن قيس الزرقي بألفاظ وأسانيد نوردها كما يلي: قال عبد الرزاق في مصنفه (2) "أخبرنا ابن عيينة , عن يحيى بن سعيد , عن حنظلة بن قيس الزرقي , قال: سمعت رافع بن خديج يقول: كنا أكثر الأنصار حقلًا   (1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 315. ح: 5173 و5174. (2) ج: 8. ص: 93. ح: 1453. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 910 قال ابن الأثير (النهاية ج: 1. ص: 416) : المحاقلة مختلف فيها , قيل: هي اكتراء الأرض بالحنطة , هكذا جاء مفسرًا في الحديث , وهو الذي يسميه الزراعون المحارثة , وقيل: هي المزارعة على نصيب معلوم كالثلث والربع ونحوهما , وقيل: هي بيع الطعام في سنبله بالبر , وقيل: بيع الزرع قبل إدراكه. ثم قال: وفيه النسيئة , والمحاقلة مفاعلة من الحقل , وهي الزرع إذا تشعب قبل أن يغلظ سوقه , وقيل: هي من الحقل , وهي الأرض التي تزرع ويسميه أهل العراق القراح. ومنه حديث: كانت فيا امرأة تحقل على أربعاء لها سلقا. هكذا رواه بعض المتأخرين وصوابه: أي تزرع. والرواية: تزرع وتجعل. وقال ابن منظور (لسان العرب. ج:10. ص: 160) : الحقل قراح طيب , وقيل: قراح طيب يزرع فيه , وحكى بعضهم الحقلة، أبو عمرو: الحقل الموضع الجادس وهو الموضع البكر الذي لم يزرع فيه قط. وقال أبو عبيد: الحقل القراح من الأرض ومن أمثالهم: لا ينبت البقلة إلا الحقلة , وليست الحقلة بمعروفة. ثم قال: وهو يضرب مثلًا للكلمة الخسيسة تخرج من الرجل الخسيس. والحقل: الزرع إذا استجمع خروج نباته , وقيل: هو إذا ظهر ورقه واخضر , وقيل: إذا كثر ورقه وقيل: هو الزرع ما دام أخضر , وقد أحقل الزرع , وقيل: الحقل الزرع إذا تشعب ورقه من قبل أن تغلظ سوقه , ويقال منها كلها: أحقل الزرع وأحقلت الأرض. ثم قال: وفي الحديث: ما تصنعون بمحاقلكم. أي: مزارعكم؟ واحدتها محقلة من الحقل الزرع , كالمبقلة من البقل. ثم نقل حديث ابن الأثير المذكور آنفًا , ولكن قال فيه: "والرواية تزرع وتحقل" بدل "وتجعل". ثم قال: المحاقلة بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه , وقيل: بيع الزرع في سنبله بالحنطة , وقيل: المزارعة على نصيب معلوم بالثلث والربع أو أقل من ذلك أو أكثر وهو مثل المخابرة , وقيل: المحاقلة اكتراء الأرض بالحنطة , وهو الذي يسميه الزراعرن: المجاربة. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة وهو بيع الزرع في سنبله بالبر , مأخوذ من الحقل القراح. وروي عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما المحاقلة؟ قال: المحاقلة بيع الزرع بالقمح , قال الأزهري: فإن كان مأخوذًا من إحقال الزرع إذا تشعب , فهو بيع الزرع قبل صلاحه , وهو غرر , وإن كان مأخوذًا من الحقل وهو القراح وباع زرعًا في سنبله نابتًا في قراح بالبر , فهو بيع بر مجهول ببر معلوم , ويدخله الربى؛ لأنه لا يؤمن التفاضل , ويدخله الغرر لأنه مغيب في أكمامه , ويروي أبو العباس عن ابن الأعرابي قال: الحقل بالحقل أن يبيع زرعًا في قراح بزرع في قراح. فكنا نكري الأرض، فربما أخرجت يرة (1) ولم تخرج مرة فنهينا عن ذلك، وأما بالورق فلم ننه عنه".   (1) يرة: وردت الكلمة في نسخة مطبوعة بالياء المثناة قبل الراء ولم نجد لها تأويلًا , والظاهر أنها مصحفة صوابها: "برة" بالباء الموحدة قبل الراء , قال ابن الأثير في (النهاية ج: 1. ص: 117) : وفيه أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم , فقال: إن ناضح آل فلان قد أبر عليهم أي: استصعب وغلبهم من قوله: أبر فلان على أصحابه أي علاهم. وفي حديث زمزم أتاه آت , وقال: احفر برة، سماها برة لكثرة منافعها وسعة مائها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 911 قال الحميدي في مسنده (1) "حدثنا سفيان قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: أخبرني حنظلة بن قيس الزرقي , أنه سمع رافع بن خديج يقول: كنا أكثر الأنصار حقلًا وكنا نقول للذي نخابره قال ابن الأثير (النهاية: ج: 2. ص: 17) : وفيه أنه نهى عن المخابرة قيل: هي المزارعة على نصيب معين كالثلث والربع وغيرهما. والخبرة: النصيب , وقيل: هي من الخبار الأرض اللينة , وقيل: أصل المخابرة من خيبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها في أيدي أهلها على النصف من محصولها , فقيل: خابرهم أي: عاملهم في خيبر. وفيه فدفعنا في خبار من الأرض أي سهلة لينة. وفي حديث طهفة: واستخلب الخبير. الخبير: النبات والعشب شبه بخبير الإبل وهو وبرها واستخلابه: احتشاشه بالمخلب , وهو المنجل. والخبير يقع عل الوبر والزرع والأكار. وقال ابن منظور في (لسان العرب. ج: 4. ص: 228) : والخبر من مواقع الماء ما خبر المسيل في الرؤوس فتخوض فيه. وفي الحديث: فدفعنا في خبار من الأرض أي سهلة لينة، والخبار من الأرض ما لان أو استرخى وكانت فيه جحرة , والخبار الجراثيم وجحرة الجردان واحدته خبارة. وفي المثل: من تجنب الخبار أمن العثار، والخبار أرض رخوة تتعتع فيه الدواب. ثم قال: ابن الأعرابي: والخبار ما استرخى من الأرض وتحدر , وقال غيره: وهو ما تهور وساخت فيه القوائم , وخبرت الأرض خبرًا كثر خبارها , والخبر أن تزرع على النصف أو الثلث من هذا , وهي المخابرة واشتقت من خيبر؛ لأنها أول ما اقتطعت كذلك، والمخابرة: المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض وهي الخبر أيضًا بالكسر. وفي الحديث: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا حتى أخبر رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وفي الحديث: أنه نهى عن المخابرة , قيل: هي المزارعة على نصيب معين كالثلث والربع وغيرهما , وقيل: هو من الخبار الأرض اللينة. ثم قال: وقال اللحياني: هي المزارعة تعم بها , والمخابز أيضًا المؤاكرة , والخبير الأكار قال: تجز رؤوس الأوس من كل جانب كجز عقاقير الكروم خبيرها. رفع خبيرها على تكرير الفعل أراد: جزه خبيرها , أي: أكارها , والخبر الزرع. قلت: لا أرى أن المخابرة مشتقة من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر , إذ لا حاجة إلى ذلك مع وجود علاقة بين وجود علاقة بين أوصاف للأرض وأوصاف لنباتها وللعمل فيها ولأحوال لها مأخوذة من كلمة خبر ومشتقاتها. فتأمل.   (1) ج:1. ص: 198 ح: 406. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 912 لك هذه القطعة ولنا هذه القطعة يزرعها لنا، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما بورق فلم ينهنا، فقيل لسفيان: فإن مالك يرويه , عن ربيعة , عن حنظلة وما كان يرجو أنه إذا كان عند يحيى، ويحيى أحفظهما , لكنا حفظناه عن يحيى". قلت: في اللفظ التباس , لعل صوابه: "ما كان يرجو أنه كان عند يحيى , ويحيى أحفظهما , فقال سفيان: ولكنا حفظناه من يحيى". وقد لاحظ المعلق على مسند الحميدي أن كلمة "يرجوانه" كانت في الأصلين اللذين نقل عنهما من غير نقط. وقال البخاري في صحيحه (1) "حدثنا محمد بن مقاتل. أخبرنا عبد الله. أخبرنا يحيى بن سعيد , عن حنظلة بن قيس الأنصاري , سمع رافع بن خديج قال: ((كنا أكثر أهل المدينة مزدرعًا كنا نكري الأرض بالناحية منها مسمى لسيد الأرض. وقال: فمما يصاب ذلك وتسلم الأرض , ومما يصاب الأرض ويسلم ذلك , فنهينا، وأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ)) . حدثنا صدقة بن المغفل. أخبرنا ابن عيينة , عن يحيى , سمع حنظلة الزرقي , عن رافع رضي الله عنه قال: ((كنا أكثر أهل المدينة حقلًا , وكان أحدنا يكري أرضه , فيقال: هذه القطعة لي , وهذه لك , فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم)) . قال مسلم في صحيحه (2) "حدثنا عمرو الناقد. حدثنا سفيان بن عيينة , عن يحيى بن سعيد , عن حنظلة الزرقي , أنه سمع رافع بن خديج يقول: ((كنا أكثر الأنصار حقلًا، قال: كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه , فنهانا عن ذلك , وأما الورق فلم ينهنا)) .   (1) ج: 3. ص: 68 و69. (2) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 205. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 913 حدثنا أبو الربيع , حدثنا حماد. وحدثنا ابن المثنى. حدثنا يزيد بن هارون. جميعًا عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد نحوه". قال النسائي في سننه (1) "روى يحيى بن سعيد عن حنظلة بن قيس ورفعه، كما رواه مالك عن ربيعة. أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي في حديثه , عن حماد بن زيد , عن يحيى بن سعيد , عن حنظلة , عن رافع بن خديج قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء أرضنا , ولم يكن يومئذ ذهب ولا فضة. فكان الرجل يكري أرضه بما على الربيع والأقبال وأشياء معلومة ... وساقه)) . رواه سالم بن عمر عن رافع بن خديج. (سنسوقه مع رواية سالم عن ابن عمر ". قال ابن ماجه في سننه (2) "حدثنا محمد بن الصباح. حدثنا سفيان بن عيينة , عن يحيى بن سعيد , عن حنظلة بن قيس قال: سألت رافع بن خديج قال: ((كنا نكري الأرض على أن لك ما أخرجت هذه , ولي ما أخرجت هذه , فنهينا أن نكريها بما أخرجت , ولم ننه أن نكري الأرض بالورق)) . قال الطحاوي (3) "حدثنا روح بن الفرج , قال: حدثنا حماد بن يحيى , قال: حدثنا سفيان , قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري , قال: حدثنا حنظلة بن قيس الزرقي , أنه سمع رافع بن خديج يقول: ((كنا أكثر أهل المدينة حقلا , وكنا نقول للذي نخابره: لك هذه القطعة , ولنا هذه القطعة تزرعها لنا , فربما أخرجت هذه القطعة , ولم تخرج هذه شيئًا، وربما أخرجت هذه , ولم تخرج هذه شيئا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأما بالورق فلم ينهنا)) .   (1) ج: 7. ص: 42. (2) ج: 2. ص: 281. ح: 2458. (3) معاني الآثار. ج: 4. ص: 109. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 914 وروى أحمد والنسائي والطحاوي عن طريق مجاهد حديث رافع بأسانيد مختلفة وألفاظ متقاربة كالآتي: قال أحمد في مسنده (1) "حدثنا وكيع , قال: حدثنا شريك , عن أبي حصين , عن مجاهد , عن رافع بن خديج قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تستأجر الأرض بالدراهم المنقودة أو بالثلث والربع. حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة , عن الحكم , عن مجاهد , عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله في عن الحقل. قال الحكم: والحقل الثلث والربع)) . حدثنا عفان , قال: حدثنا شعبة، قال الحكم: أخبرني مجاهد - أي أن شعبة قال: أخبرني الحكم عن مجاهد - عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحقل , قلت: وما الحقل؟ قال: الثلث والربع، فلما سمع ذلك إبراهيم , كره الثلث والربع , ولم ير بأسًا بالأرض البيضاء يأخذها بالدراهم)) . حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة , عن عبد الملك بن ميسرة , عن طاوس وعطاء ومجاهد , عن رافع بن خديج قال: ((خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنهانا عن أمر كان لنا نافعًا , وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لنا مما نهانا عنه , قال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليذرها أو ليمنحها)) قال: فذكرت ذلك لطاوس , وكان يرى أن ابن عباس من أعلمهم , قال: قال ابن عباس: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض أن يمنحها خير له)) . قال شعبة: وكان عبد الملك يجمع هؤلاء طاوسًا وعطاء ومجاهدًا , وكان الذي يحدث عنه مجاهد، قال شعبة: كأنه صاحب الحديث". وقال النسائي في سننه (2) "أخبرنا علي بن حجر , قال: أنبأنا عبيد الله - يعني ابن عمرو - عن عبد الكريم , عن مجاهد قال: أخذت بيد طاوس حتى أدخلته على ابن رافع بن خديج , فحدثه عن أبيه , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أنه نهى عن كراء الأرض)) ، فأبى طاوس , فقال: سمعت ابن عباس لا يرى بذلك بأسًا.   (1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 115 إلى 121. ح: 369 إلى 388. (2) ج: 7. ص: 34. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 915 أخبرنا قتيبة , قال: حدثنا أبو عوانة , عن أبي حصين , عن مجاهد قال: قال رافع بن خديج: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا , وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرأس والعين، نهانا أن نتقبل الأرض ببعض خراجها)) .. أخبرنا أحمد بن سليمان , عن عبد الله قال: حدثنا إسرائيل , عن إبراهيم بن مهاجر , عن مجاهد , عن رافع بن خديج قال: ((مر النبي صلى الله عليه وسلم على أرض رجل من الأنصار قد عرف أنه محتاج , فقال: لمن هذه الأرض؟ قال: لفلان أعطانيها بالأجر , فأتى رافع الأنصار , فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان لكم نافعًا , وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع لكم)) . أخبرنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار , قالا: حدثنا محمد , قال: حدثنا شعبة , عن الحكم , عن مجاهد , عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحقل)) . أخبرنا عمرو بن علي , عن خالد - وهو ابن الحارث - قال: حدثنا شعبة , عن عبد الملك , عن مجاهد قال: حدث رافع بن خديج قال: ((خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنهانا عن أمر كان لنا نافعًا , فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها أو يذرها)) . وأخبرنا عبد الرحمن بن خالد , قال: حدثنا حجاج , قال: حدثني شعبة , عن عبد الملك , عن عطاء وطاوس ومجاهد , عن رافع بن خديج قال: ((خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنهانا عن أمر كان لنا نافعًا , وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لنا , قال: من كان له أرض فليزرعها أو ليذرها أو ليمنحها)) . وقال الطحاوي (1) "حدثنا إبراهيم بن مرزوق , قال: حدثنا أبو عامر , قال: حدثنا شعبة , عن الحكم , عن مجاهد , عن رافع بن خديج ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحقل)) قال شعبة: فقلت للحكم: وما الحقل؟ قال: أن تكري الأرض.   (1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 105 و110. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 916 قال أبو جعفر: أراه إنما قال: بالثلث والربع. حدثنا أبو بكرة , قال: حدثنا يحيى بن حماد , قال: حدثنا أبو عوانة , عن سليمان عن مجاهد , عن رافع بن خديج قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا , وأمر نبي الله أنفع لنا , قال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها)) . حدثنا يونس بن عبد الأعلى , قال: حدثنا علي بن معبد , قال: حدثنا عبد الله بن عمر , عن عبد الكريم الجزري , عن مجاهد قال: أخذت بيد طاوس حتى أدخلته على رافع بن خديج , فحدثه عن أبيه ((عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كري الأرض)) فأبى طاوس , وقال: سمعت ابن عباس أنه لا يرى به بأسًا. وحدثنا إبراهيم بن مرزوق , قال: حدثنا وهب , قال: حدثنا شعبة , عن عبد الملك بن مرزوق , قال: حدثنا وهب , قال: حدثنا شعبة , عن عبد الملك بن ميسرة , قال: سمعت مجاهدًا , عن رافع بن خديج قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا , وأمرنا بخير منه , فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها)) . قال: فذكرت ذلك لطاوس , فقال: قال ابن عباس: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يمنحها أخاه خير له , أو يمنحها خيرا)) . وروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والطحاوي وابن حبان والطبراني حديث رافع عن طريق مجاهد , عن ابن رافع عن طريق ابنه أو ابن أخيه بألفاظ وأسانيد مختلفة نوردها فيما يلي: قال ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف (1) "حدثنا وكيع , قال: حدثنا عمرو بن ذر , عن مجاهد , عن ابن رافع بن خديج , عن أبيه قال: جاءنا أبو رافع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان يرفق بنا، وطاعة الله وطاعة رسوله أرفق بنا، أن يزرع أحدنا إلا أرضا يملك رقبتها أو منحة يمنحها من رجل)) .   (1) ج: 6. ص: 347 ح: 1303. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 917 وروى عبد الرزاق في مصنفه (1) "عن الثوري , عن منصور , عن مجاهد , عن أسيد بن ظهير يظهر أن آل خديج - إذا صح التعبير - تداول فيه اسم أسيد إما بالضم وإما بالفتح لبعض وبالضم لغيره فقد اضطرب أصحاب تراجم الرجال وبعض رواة الحديث في ضبط اسم أسيد بالفتح أو بالضم لأوله وفي ضبط نسبته لذلك ارتأينا أن ننقل كلام المعتمدين منهم ممن تيسرت لنا مؤلفاتهم. قال البخاري في (التاريخ الكبير المجلد: 2. ص: 11 في باب أسيد بفتح الألف الترجمة: 1528) : أسيد بن رافع الأنصاري المديني روى عنه بكير بن الأشج أن أخا رافع أتى عشيرته – قاله لي أحمد بن عيسى عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث , قلت: يشير إلى حديث المزارعة. وقال في (ص: 47 نفس المرجع في باب أسيد بضم الألف الترجمة 1641) : أسيد بن ظهير الحارثي الأنصاري مدني له صحبة، ثم أورد حديثًا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال: (الترجمة: 1642) : أسيد بن أخي رافع بن خديج الأنصاري. قال لنا موسى عن عبد الرحمن الزبيدي , عن مجاهد , عن أسيد بن رافع بن خديج ... الزرع. وقال منصور: عن مجاهد , عن أسيد بن ظهير , عن رافع. وقال خصيف - لم نعثر على تعريف بهذا ولعل فيه خطأ مطبعيا - عن مجاهد , عن ابن رافع , عن أبيه وقال أبو حصين: عن مجاهد , قال رافع بن خديج: وقال لنا عبد الله: حدثني الليث حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز , سمع أسيد - بفتح الألف - أو أسيد - بضم الألف - بن رافع بن خديج الأنصاري أنهم منعوا المحاقلة. وقال لي أحمد: حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو. سمع بكير أن أسيد بن رافع حدثه , أن أخا رافع أتى عشيرته , فقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحقل. وقال لي قيس بن حفص: حدثنا خالد بن الحارث، سمع عبد الحميد بن جعفر. سمع أباه عن رافع بن أسيد بن ظهير , عن أبيه: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم. وقال لي محمد: أخبرنا عبد الله , سمع سعيد بن يزيد , سمع عيسى بن سهل بن رافع , سمع رافعًا جده ... نحوه. وقال الرازي في (الجرح والتعديل. ج: 2. ص: 310 - في باب تسمية من روي عنه ممن اسمه أسيد - الترجمة: 1164) : أسيد بن ظهير الحارثي الأنصاري له صحبة مدني روى عنه أبو الأبرد مولى بني خطمة سمعت أبي يقول ذلك.   (1) ج: 8. ص: 95. ح: 14463. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 918 ثم قال (الترجمة: 1165) : أسيد بن أخي رافع بن خديج الأنصاري روى عنه مجاهد , واختلفوا عن مجاهد , فروى ابن الطباع عن أبي عوانة عن أبي حصين عن مجاهد عن ابن رافع بن خديج عن أبيه , سمعت أبي يقول ذلك. وقال ابن حبان في (الثقات. ج: 3. ص: 7) : أسيد بن ظهير بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم مدني حارثة بن الحارث بن الخزرج الأنصاري عم رافع بن خديج كنيته أبو ثابت , قلت: الظاهر أن في العبارة خطأ من الطابع أو الناسخ صوابه: "ابن عم رافع بن خديج، إلا أن يكون ابن حبان استعمل كلمة: "عم رافع بن خديج" على أنها عطف بيان أو بدل من "ظهير". وآية ذلك أنه قال: عن ظهير في (نفس المرجع. ج: 4. ص: 206) عندما ترجم له "عم رافع بن خديج ". ثم قال (نفس المرجع: ج: 4. ص: 42) : أسيد بن أخي رافع بن خديج يروي عن عمه رافع بن خديج روى عنه مجاهد. وقال المزي في (تهذيب الكمال. ج: 3. ص: 254. الترجمة: 518) : أسيد بن رافع بن خديج الأنصاري أن أخا رافع قال لقومه: لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء كان لهم رافقًا. الحديث. روى عنه بكير بن عبد الله بن الأشج ولم ينسبه إلى جده وعبد الرحمن بن هرمز. قال الدارقطني: أخرجه البخاري في باب أسيد - بفتح الألف - وفي باب أسيد - بضم الألف - في الموضعين جميعًا , والصواب أسيد - يعني بالضم - والله أعلم. وروى له النسائي هذا الحديث الواحد. ثم قال (نفس المرجع. ص: 255 الترجمة: 519) : أسيد بن ظهير بن رافع الأنصاري الأوسي أخو عباد بن بشر لأمه وابن عم رافع بن خديج , وقيل: ابن أخيه , له ولأبيه صحبة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عن رافع بن خديج , وروى عنه ابنه رافع بن أسيد بن ظهير , وزياد أبو الأبرد مولى بني خطمة وعكرمة بن خالد ومجاهد بن جبر , واستصغر يوم أحد , وشهد الخندق , ومات في خلافة مروان بن الحكم , روى عنه الأربعة. وقال ابن حجر في (تهذيب التهذيب: ج:1. ص: 348 و349 ترجمة: 634) : أسيد بن رافع بن خديج أن أخا رافع قال لقومه: نهى النبي صلى الله عليه وسلم القوم عن شيء كان لهم رافقًا. الحديث. وعنه الأعرج وبكير بن الأشج. قال الدارقطني: الصواب فيه: أسيد بالضم وقد ذكره البخاري في الوجهين. قلت - القائل ابن حجر -: وقد ذكر فيه البخاري في التاريخ اختلافًا كثيرًا في حديثه وبكير بن الأشج لم ينسبه إلى جده من طريق مجاهد عن أسيد بن أخي رافع بن خديج , واختلف على مجاهد فيه أيضًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 919 والحديث واحد، وذكر ابن حبان في الثقات في التابعين تبعًا للبخاري: أسيد بن أخي رافع بن خديج وفي أتباع التابعين أسيد بن رافع عن الحجازيين وعنه بكير بن الأشج , ثم قال (الترجمة: 635) : أسيد بن ظهير بن رافع الأنصاري الأوسي أخو عباد بن بشر لأمه , قيل: إنه ابن أخي رافع بن خديج وقيل: ابن عمه ولأبيه ظهير صحبة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن رافع بن خديج وعنه ابنه رافع وزياد أبو الأبرد وعكرمة بن خالد ومجاهد، استصغر يوم أحد وشهد الخندق ومات في خلافة مروان بن الحكم. قلت - القائل هو ابن حجر -: وقال ابن عبد البر: توفي في خلافة عبد الملك بن مروان , وفرق ابن حبان والحاكم بين أسيد بن ظهير الصحابي وبين أسيد بن أخي رافع بن خديج الذي يروي عنه أبو الأبرد , فقال الحاكم: لا يصح صحبته , لأن في إسناده أبا الأبرد , وهو مجهول , وقال ابن حبان: قيل: له صحبة , ولا يصح عندي؛ لأن إسناد خبره فيه اضطراب , وهكذا قال في ثقات التابعين وذكر قبل ذلك أسيد بن ظهير في الصحابة ولم يتردد والذي روى عنه أبو الأبرد , فقد صحح الترمذي أنه أسيد بن ظهير صاحب الترجمة وصحح حديثه. وقال ابن حجر في (الإصابة. ج:1. ص: 49 الترجمة: 188) : أسيد بن ظهير بن رافع بن عدي بن زيد بن عمرو بن زيد بن جشم بن حارثة الأنصاري الحارثي بن عم رافع بن خديج , يكنى أبا ثابت , له ولأبيه صحبة، قال البخاري: مدني يماني له صحبة وأخرج له أصحاب السن. قال الترمذي بعد أن أخرج له حديثًا في الصلاة في مسجد قباء: لا يصح لأسيد بن ظهير غيره. قلت - القائل هو الحافظ ابن حجر-: وقد أخرج له ابن شاهين حديثًا آخر لكن فيه اختلاف على رواته , قال ابن عبد البر: مات في خلافة عبد الملك بن مروان. وقال المقدسي في (الاستبصار. ص: 239) : أسيد بن ظهير بن رافع يكنى أبا ثابت , وهو أخو عباد بن بشر لأمه , استصغره رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فرده وشهد الخندق وما بعدها. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أتى مسجد قباء وصلى فيه كان كعمرة. توفي في خلافة عبد الملك بن مروان. بن أخي رافع بن خديج قال: كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث والربع والنصف ويشترط ثلاث جداول والقصارة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 920 قال ابن الأثير (النهاية: ج: 4. ص: 70) : وفي حديث المزارعة: إن أحدهم كان يشترط ثلاثة جداول والقصارة، والقصارة بالضم ما يبقى من الحب في السنبل مما لا يتخلص بعدما يداس , وأهل الشام يسمونه القصري بوزن قبطي , وقد تكرر في الحديث. وقال ابن منظور (لسان العرب. ج:5. ص: 100 و101) : والقُصَارة والقِصْرِي والقَصَرَة والقِصْرَى والقَصَر، الأخيرة عن اللحياني ما يبقى في المنخل بعد الانتخال، وقيل: هو ما يخرج من الفت , وما يبقى في السنبل من الحب بعد الدراسة الأولى , وقيل: القشرتان اللتان على الحبة , سفلاهما الحشرة , وعلياهما القصرة. الليث: والقصر كعابير الزرع الذي يخلص من البر وفيه بقية من الحب , يقال: في القِصْرى على فعلى. الأزهري: وروى أبو عبيد حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم في المزارعة أن أحدهم كان يشترط ثلاثة جداول والقصارة والقصارة بالضم ما سقى الربيع , فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال أبو عبيد: والقصارة ما بقي في السنبل من الحب مما لا يتخلص بعد ما يداس. فقال: وأهل الشام يسمونه القصري بوزن القبطي. قال الأزهري: هكذا أقرأنيه ابن هاجك عن ابن جبلة عن أبي عبيد بكسر القاف وسكون الصاد وكسر الراء وتشديد الياء قال: وقال عثمان بن سعيد: سمعت أحمد بن صالح يقول: هي القصرى إذا يبس الزرع فغربل فالسنابيل الغليظة هي القصرى على فعلى وما سقى الربيع وكان العيش , إذ ذاك شديدًا وكنا نعمل فيها بالحديد وما شاء الله , ونصيب منها منفعة، فأتى رافع بن خديج فقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان نافعًا , وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع لكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن الحقل ويقول: من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع وينهى عن المزابنة)) (1) والمزابنة أن يكون الرجل له المال العظيم من النخيل فيأتيه الرجل ويقول: قد أخذته بكذا وكذا وسقا من ثمر"   (1) قال ابن الأثير (النهاية ج: 2. ص: 294 و295) : تكرر ذكر المزابنة في الحديث وهي بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر وأصله من الزبن وهو الدفع , كأن كل واحد من المتابيعين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه , وإنما نهى عنه لما يقع فيه من الغبن والجهالة , وفي حديث علي رضي الله عنه: كالناب الضروس تزبن برجلها أي: تدفع , وفي حديث معاوية ربما زبنت فكسرت أنف حالبها. يقال للناقة إذا كان من عادتها أن تدفع حالبها عن حلبها: زبون. ومنه حديث: لا يقبل الله صلاة الزِّبِّين وهو الذي يدفع الأخبثين وهو بوزن السِّجِّيل هكذا رواه بعضهم والمشهور بالنون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 921 وقال أحمد في مسنده (1) "حدثنا عبد الرزاق , قال: أخبرنا سفيان , عن منصور , عن مجاهد , عن أسيد بن ظهير - ابن أخي رافع بن خديج - قال: كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطى بالثلث والربع والنصف , ويشترط ثلاث جداول والقصارة وما سقى الربيع , وكان العيش إذ ذاك شديدًا وكان يعمل فيها بالحديد وما شاء الله , ويصيب منها منفعة، فأتانا رافع ابن خديج , فقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن أمر كان لكم نافعًا وطاعة الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع لكم , إن النبي صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن الحقل , ويقول: من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع , وينهاكم عن المزابنة)) ، والمزابنة: أن يكون الرجل له المال العظيم من النخل , فيأتيه الرجل , فيقول: قد أخذته بكذا وكذا وسقا من ثمر. وحدثنا وكيع. حدثنا عمرو بن ذر , عن مجاهد , عن ابن رافع بن خديج , عن أبيه قال: جاءنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان يرفق بنا، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أرفق، نهانا أن نزرع أرضًا يملك أحدنا رقبتها أو منحة رجل)) . وقال أبو داود في سننه (2) "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة , حدثنا وكيع. حدثنا عمرو بن ذر , عن مجاهد , عن ابن رافع بن خديج , عن أبيه قال: جاءنا أبو رافع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان يرفق بنا , وطاعة الله وطاعة رسوله أرفق بنا، نهانا أن يزرع أحدنا إلا أرضًا يملك رقبتها أو منيحة يمنحها رجل)) .   (1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 116و117 ح: 372 و373. (2) ج: 3. ص:260. ح: 3397 و3398. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 922 وحدثنا محمد بن كثير. أخبرنا سفيان , عن منصور , عن مجاهد , أن أسيد بن ظهير , قال: جاءنا رافع بن خديج وقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن أمر كان لكم نافعا , وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع لكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن الحقل , وقال: من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع)) . قال أبو داود: وهكذا رواه شعبة ومفضل بن مهلهل , عن منصور قال شعبة: أسيد بن أخي رافع بن خديج". قال النسائي في سننه (1) "أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك , قال: حدثنا يحيى - وهو ابن آدم - قال: حدثنا مفضل - وهو ابن مهلهل - عن منصور , عن مجاهد , عن أسيد بن ظهير قال: جاءنا رافع ابن خديج فقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن الحقل , والحقل: الثلث والربع، وعن المزابنة , والمزابنة: شراء ما في رؤوس النخل بكذا وكذا وسقا من ثمر)) . وأخبرنا محمد بن إبراهيم , قال: أخبرنا خالد - هو ابن الحرث - قال: قرأت على عبد الحميد بن جعفر. أخبرني أبي , عن رافع بن أسيد بن ظهير , عن أبيه أسيد بن ظهير , أنه خرج إلى قومه إلى بني حارثة , فقال: يا بني حارثة قد دخلت عليكم مصيبة , قالوا: ما هي؟ قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض. قلنا: يا رسول الله، إنا نكريها بشيء من الحب. قال: لا. وكنا نكريها بالتبن. قال: لا. وكنا نكريها بما على الربيع الساقي. قال: لا , ازرعها أو امنحها أخاك)) . وأخبرنا محمد بن المثنى , قال: حدثنا محمد , قال: حدثنا شعبة , عن منصور , سمعت مجاهدًا يحدث , عن أسيد بن ظهير قال: أتانا رافع بن خديج , فقال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لكم، نهاكم عن الحقل , وقال: من كانت له أرض فليمنحها أو ليدعها , ونهى عن المزابنة، والمزابنة: الرجل يكون له المال العظيم من النخل، فيجيء الرجل , فيأخذها بكذا وكذا وسقا من ثمر))   (1) ج: 7. ص 33 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 923 أخبرني محمد بن قدامة , قال: حدثنا جرير , عن منصور , عن مجاهد , عن أسيد بن ظهير , قال: أتى علينا رافع بن خديج , فقال: ولم أفهم، فقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان ينفعكم , وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لكم مما ينفعكم، نهاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحقل , والحقل: المزارعة بالثلث والربع، فمن كانت له أرض فاستغنى عنها , فليمنحها أخاه أو ليدع، ونهاكم عن المزابنة، والمزابنة: الرجل يجيء إلى النخل الكبير بالمال العظيم , فيقول: خذه بكذا وكذا وسقا من ثمر ذلك العام)) . وأخبرني إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق , قال: حدثنا عبد الواحد , قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن عن مجاهد قال: حدثني أسيد بن رافع بن خديج , قال: قال رافع بن خديج: ((نَهَاكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا وَطَاعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَعُ لَنَا , قَالَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا , فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا فَلْيُزْرِعْهَا أَخَاهُ)) . قال ابن ماجه في سننه (1) "حدثنا محمد بن يحيى , أنبأنا عبد الرزاق. أنبأنا الثوري , عن منصور , عن مجاهد , عن أسيد بن ظهير بن أخي رافع بن خديج , عن رافع بن خديج قال: كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث والربع والنصف , واشترط ثلاث جداول والقصارة , وما يسقي الربيع , وكان العيش إذ ذاك شديدا , وكان يعمل فيها بالحديد وبما شاء الله , ويصيب منها منفعة، فأتانا رافع بن خديج فقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان لكم نافعًا , وطاعة الله وطاعة رسوله أنفع لكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن الحقل ويقول: من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع)) . ثلاث جداول؛ أي: ثلاث حصص من جداول. والجدول: النهر الصغير أي: ما يخرج عن أطرافه، والقصارة بالضم ما بقي من الحب في السنبل بعدما يداس وما يسقي الربيع هو النهر الصغير". قال الطحاوي (2)   (1) ج: 2. ص: 822. ح: 2460. (2) معاني الآثار. ج: 4. ص: 105. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 924 "حدثنا ابن أبي داود , قال: حدثنا يحيى بن إبراهيم , قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد , قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي , قال: سمعت مجاهدًا يقول: حدثنى أسيد بن أخي رافع بن خديج , قال: قال رافع بن خديج ... فذكر مثله , غير أنه قال: ((فليزرعها , فإن عجز عنها فليزرعها أخاه)) . قال ابن حبان (1) "أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى , قال: حدثنا أبو خيثمة , قال: حدثنا جرير , عن منصور , عن مجاهد , عن أسيد بن ظهير قال: كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه وافتقر إليها غيره زارعها بالثلث والربع والنصف وكان يشترط ثلاث جداول وما سقى الربيع , وكنا نعالجها علاجًا شديدًا بالبقر والحديد وبأشياء , وكنا نصيب منها , فأتانا رافع بن خديج فقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان ينفعكم , عن الحقل , والحقل: الثلث والربع , فمن كانت له أرض فاستغنى عنها , فليمنحها أخاه أو ليدع , ونهاكم عن المزابنة)) . قال الطبراني (2) "حدثنا حفص بن عمر بن الصباح الرقي. حدثنا قبيصة بن عقبة. حدثنا سفيان , عن منصور , عن مجاهد , عن أسيد بن ظهير قال: جاءنا رافع بن خديج ((فذكر أن رسول الله في نهى عن المحاقلة , وقال: من كان له أرض فاستغنى عنها فليمنحها أخاه , ونهى عن المزابنة)) . وروى الطبراني حديث رافع عن طريق مجاهد عن ابن عمر فقال: قال الطبراني في معجمه الكبير أيضًا: "حدثنا معاذ بن المثنى , حدثنا مسدد , حدثنا حماد بن زيد , عن أيوب , عن أبي الخليل , عن مجاهد قال: قال ابن عمر: لقد منعنا رافع بن خديج نفع أرضنا".   (1) الإحسان بترتيب صحيح بن حبان. ج: 7. ص: 315. ح: 5175. (2) المعجم الكبير. ج: 4. ص: 241 و242. ح: 4253 و4256. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 925 وروى حديث رافع عن طريق سليمان بن يسار كل من أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والطحاوي، وفيما يلي رواياتهم بأسانيدها وألفاظها المختلفة: قال أحمد في مسنده (1) "حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب , عن يعلى بن حكيم , عن سليمان بن يسار , عن رافع بن خديج قال: ((كنا نحاقل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى، فجاء ذات يوم رجل من عمومتي فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا , وطاعة الله ورسوله أنفع لنا , نهانا أن نحاقل فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى , وأمر رب الأرض أن يزرعها أو يزرعها , وكره كراءها وما سوى ذلك)) . وقال أبو داود في سننه (2) "حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة. حدثنا خالد بن الحارث. حدثنا سعيد , عن يعلى بن حكيم , عن سليمان بن يسار , أن رافع بن خديج قال: ((كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فذكر أن بعض عمومته أتاه فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا , وطواعية الله ورسوله أنفع. قال: قلنا وما ذاك؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو فليزرعها أخاه , ولا يكاريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى)) . وحدثنا محمد بن عبيد. حدثنا حماد بن زيد , عن أيوب قال: كتب إلى يعلى بن حكيم , أني سمعت سليمان بن يسار بمعنى إسناد عبيد الله وحديثه". وقال النسائي في سننه (3)   (1) الفتح الرباني ج: 15 ص: 118. ح: 378. (2) ج: 3. ص: 259. ح: 3395 و3396. (3) ج:7. ص:41. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 926 "أخبرنا زياد بن أيوب , قال: حدثنا ابن علية , قال: أنبأنا أيوب , عن يعلى بن حكيم , عن سليمان بن يسار , عن رافع بن خديج قال: ((كنا نحاقل بالأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى، فجاء ذات يوم رجل من عمومتي , فقال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا , وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، نهانا أن نحاقل بالأرض ونكريها بالثلث والربع والطعام المسمى , وأمر رب الأرض أن يزرعها أو يزرعها , وكره كراءها وما سوى ذلك)) . أخبرني زكرياء بن يحيى , قال: حدثنا محمد بن عبيد , قال: حدثنا حماد , عن أيوب قال: كتب إلي يعلى بن حكيم أني سمعت سليمان بن يسار يحدث عن رافع بن خديج قال: كنا نحاقل الأرض نكريها بالثلث وبالربع وبالطعام المسمى. وأخبرنا إسماعيل بن مسعود قال: حدثنا خالد بن الحارث , عن سعيد , عن يعلى بن حكيم , عن سليمان بن يسار , أن رافع بن خديج قال: ((كنا نحاقل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فزعم أن بعض عمومته أتاه , فقال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا , وطواعية الله ورسوله أنفع لنا. قلنا: وما ذاك؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه , ولا يكاريها بثلث ولا ربع ولا طعام مسمى)) . وقال ابن ماجه في سننه (1) "حدثنا حميد بن مسعدة. حدثنا خالد بن الحارث , حدثنا سعيد بن أبي عروبة , عن يعلى بن حكيم , عن سليمان بن يسار , عن رافع بن خديج قال: ((كنا نحاقل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فزعم أن بعض قومه أتاهم , فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فلا يكريها بطعام مسمى)) . وقال الطحاوي (2) "حدثنا يونس , قال: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني جرير بن حازم , عن يعلى بن حكيم , عن سليمان بن يسار , عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها بالثلث ولا بالربع ولا بطعام مسمى)) .   (1) ج: 2. ص: 823. ح: 2465. (2) معاني الآثار. ج: 4. ص: 106 و109. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 927 وحدثنا ابن أبي داود , قال: حدثنا محمد بن المنهال , قال: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا ابن أبي عروبة , عن يعلى بن حكيم , عن سليمان بن يسار , عن رافع بن خديج قال: ((كنا نحاقل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمحاقلة أن يكري الرجل أرضه بالثلث أو الربع أو طعام مسمى , فبينا أنا ذات يوم , إذ أتاني بعض عمومتى , فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا , فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع , قال: من كانت له أرض فليمنحها أخاه , ولا يكريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى)) . وروى حديث رافع عن طريق أبي النجاشي مولاه كل من أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه وابن حبان والطحاوي. قال أحمد في مسنده (1) "حدثنا هاشم بن القاسم , قال: حدثنا عكرمة , عن أبي النجاشي مولى رافع بن خديج , قال: سألت رافعًا في كراء الأرض، فقلت: إن لي أرضًا أكريها، فقال رافع: لا تكريها بشيء , فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كانت له أرض فليزرعها , فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه , فإن لم يفعل فليدعها)) . فقلت له: أرأيت إن تركته وأرضي فإن زرعها ثم بعث إلي من التبن , قال: لا تأخذ منها شيئًا ولا تبنًا. قلت: إني لم أشارطه , إنما أهدى إلي شيئًا , قال: لا تأخذ منه شيئًا". قال البخاري في صحيحه (2)   (1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 116. ح: 370. (2) ج:3. ص:71. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 928 "حدثنا محمد بن مقاتل. أخبرنا عبد الله. أخبرنا الأوزاعي , عن أبي النجاشي (تابعي ثقة اسمه عطاء بن مصيب) مولى رافع بن خديج. سمعت رافع بن خديج بن رافع , عن عمه ظهير بن رافع قال: قال ظهير ذكره ابن حبان في (الثقات. ج: 3. ص: 206) فقال: ظهير بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم الأنصاري من بني حارثة بن الحارث بن الخزرج عم رافع بن خديج , له صحبة. ثم أورد حديثه في المزارعة عن طريق أبي النجاشي وقد نقلناه هنالك. وقال المقدسي في (الاستبصار. ص: 239) : مظهر وظهير ابنا رافع بن عدي بن زيد بن جشم عما رافع بن خديج بن رافع , شهدا أحدًا , وشهد ظهير العقبة الثانية , ولم يشهد بدرا , وشهد أحدًا مع أخيه مظهر بن رافع , وقتل مظهر بن رافع بخيبر , وقتله غلمان له في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأجلى أهل خيبر من أجل ذلك؛ لأنه كان يأمرهم. وقال ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج:5. ص: 37. الترجمة: 64) : ظهير بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي المدني شهد العقبة الثانية , واختلف في شهوده بدرًا , وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في المخابرة , وعنه ابن أخيه رافع بن خديج وفي الحديث اختلاف. والله أعلم. وذكره في (الإصابة. ج: 2. ص: 741. الترجمة: 4328) فقال: ظهير - بالتصغير - بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة الأنصاري الأوسي الحارثي شهد بدرًا , وذكره موسى بن عقبة وابن إسحاق فيمن شهد العقبة. وذكر ابن عبد البر في (الاستيعاب - نفس المرجع - على الهامش) فقال: ظهير بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحرث بن الخزرج بن عمرو , وهو النبيت بن مالك بن الأوس شهد العقبة الثانية وبايع النبي صلى الله عليه وسلم بها , ولم يشهد بدرًا , وشهد أحدًا وما بعدها من المشاهد هو وأخوه مظهر بن رافع فيما قال ابن إسحاق وغيره , وهو عم رافع بن خديج , ووالد أسيد بن ظهير , روى عنه رافع بن خديج. وقال ابن حجر في (الإصابة ج: 3. ص: 426. الترجمة: 8035) : مظهر بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة الأنصاري الحارثي عم رافع بن خديج ضبطه ابن ماكولا - بضم الميم وفتح الظاء وتشديد الهاء المكسورة - قال: له ولأخيه ظهير بالتصغير صحبة ورواية , روى عنهما ابن أخيهما رافع. قلت - القائل هو ابن حجر -: ورواية رافع عن عميه في الصحيح بالإيهام وسمي ظهيرًا في رواية , ويقال: اسم آخر مهير بالميم مصغرا أيضًا ومظهر. وذكره الواقدي فيمن شهد أحدًا وعاش في خلافة عمر , فقتله أعلاج من عبيده بخيبر , وكان أقامهم يعملون له في أرضه , فحملهم اليهود على ذلك. وقال ابن عبد البر في (الاستيعاب على هامش المرجع السابق. ص: 6519) : مظهر بن رافع أخو ظهير بن رافع لأبيه وأمه وهما عما رافع بن خديج لهما جميعًا صحبة , روى عنهما ابن أخيهما رافع بن خديج , شهد مظهر أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأدرك خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال الواقدي: حدثني محمود بن يحيى بن أبي حثمة , عن أبيه قال: أقبل مظهر بن الحارث بأعلاج من الشام ليعملوا له في أرضه , فلما نزل خيبر أقام بها ثلاثًا , فحرضت يهود الأعلاج على قتل مظهر ودسوا بسكينين أو ثلاث فلما خرجوا من خيبر وثبوا عليه فبعجوا بطنه , فقتلوه ثم انصرفوا إلى خيبر فزودهم يهود قوتهم حتى لحقوا بالشام , وجاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الخبر بذلك , فقال: إني خارج إلى خيبر وقاسم ما كان لها من الأموال وحاد لها حدودها ومجلي اليهود عنها , فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: أقركم ما أقركم الله , وقد أذن الله في إجلائهم , ففعل ذلك بهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 929 ((لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا رافقًا. قلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق. قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلت: نؤاجرها على الربع وعلى الأوسق من الثمر والشعير , قال: لا تفعلوا ازرعها أو أزرعوها أو أمسكوها)) . قال رافع: قلت: سمعًا وطاعة". وقال مسلم في صحيحه (1) "حدثني إسحاق بن منصور. أخبرنا أبو مسهر. حدثني يحيى بن حمزة أبو عمرو الأوزاعي , عن أبي النجاشي مولى رافع بن خديج , عن رافع , أن ظهير بن رافع وهو عمه قال: أتاني ظهير , فقال: ((لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقًا , فقلت: وما ذاك؟ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق. قال: سألني كيف تصنعون بمحاقلكم؟ قلت: نؤاجرها يا رسول الله على الربيع أو الأوسق من الثمر أو الشعير , قال: فلا تفعلوا، ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوها)) . وحدثنا محمد بن حاتم. حدثنا عبد الرحمن بن مهدي , عن عكرمة , عن عمار , عن أبي النجاشي , عن رافع , عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا , ولم يذكر عن عمه ظهير. ورواه - يعني حديث ابن عمر - أبو النجاشي عطاء بن صهيب , واختلف فيه.   (1) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 205. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 930 أخبرنا أبو بكر بن إسماعيل الطبراني , قال: حدثنا عبد الرحمن بن يحيى , قال: حدثنا مبارك بن سعيد , قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير , قال: حدثني أبو النجاشي , قال: حدثني رافع بن خديج , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرافع: أتؤاجرون محاقلكم على الربع وعلى الأوساق من الشعير؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تفعلوا ازرعوها أو أعيروها أو أمسكوها)) . خالفه الأوزاعي فقال: عن رافع , عن ظهير بن رافع. أخبرنا هشام بن عمار , قال: حدثنا يحيى بن حمزة , قال: حدثني الأوزاعي , عن أبي النجاشي , عن رافع قال: أتانا ظهير بن رافع , فقال: ((نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا رافقًا , قلت: وما ذاك؟ قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حق، سألني: كيف تصنعون في محاقلكم؟ قلت: نؤاجرها على الربع والأوساق من الثمر أو الشعير، فقال: لا تفعلوا ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوها)) رواه بكير بن عبد الله بن الأشج عن أسيد بن رافع". وقال النسائي في سننه (1) "أخبرنا أبو بكر محمد بن إسماعيل الطبراني , قال: حدثنا عبد الرحمن بن يحيى , قال: حدثنا مبارك بن سعيد , قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير , قال: حدثني أبو النجاشي , قال: حدثني رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرافع: أتؤاجرون محاقلكم؟ قلت: نعم يا رسول الله، نؤاجرها على الربع وعلى الأوساق من الشعير. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا , ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوها)) . خالفه الأوزاعي , فقال: عن رافع عن ظهير بن رافع. وأخبرنا هشام بن عمار , قال: حدثنا يحيى بن حمزة , قال: حدثني الأوزاعي , عن أبي النجاشي , عن رافع قال: أتانا ظهير بن رافع , فقال: ((نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا رافقًا , قلت: وما ذاك؟ قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حق، سألني: كيف تصنعون في محاقلكم؟ قلت: نؤاجرها على الربع والأوساق من الثمر أو الشعير , قال: فلا تفعلوا , ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوها)) . رواه بكير بن عبد الله بن الأشج , عن أسيد بن رافع , فجعل الرواية لأخي رافع.   (1) ج: 7. ص: 49. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 931 وقال ابن ماجه في سننه (1) "حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي. حدثنا الوليد بن مسلم. حدثنا الأوزاعي. حدثنا أبو النجاشي , أنه سمع رافع بن خديج يحدث , عن عمه ظهير قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا رافقًا، فقلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق , فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلنا: نؤاجرها على الثلث والربع والأوسق من البر والشعير وقال: لا تفعلوا , ازرعوها أو أزرعوها)) . وقال ابن حبان (2) "أخبرنا ابن مسلم , قال: حدثنا عبد الرحمن. حدثنا الوليد , قال: حدثنا الأوزاعي , قال: حدثنا أبو النجاشي , أنه سمع رافع بن خديج يحدث , عن عمه ظهير بن رافع قال: ((نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا موافقًا، فقلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق. فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلنا: نؤاجرها على الثلث والربع والأوسق من البر والشعير , قال: فلا تفعلوا , ازرعوها أو أزرعوها)) . وقال أيضًا في "كتاب الثقات" عند ترجمته لظهير: حدثنا عمرو بن محمد الهمذاني , قال: حدثنا عمرو بن عثمان , قال: حدثنا الوليد بن مسلم , عن الأوزاعي قال: حدثنا أبو النجاشي , قال: سمعت رافع بن خديج يحدث , عن عمه ظهير بن رافع قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقًا , قلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلنا: نؤاجرها على الربع أو على الأوسق من التين - لعل فيه خطأ مطبعيًا صوابه: "من التبن " بالموحدة لا بالمثناة، كما ورد في الروايات الأخرى - والشعير , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تفعلوا , ازرعوها أو أزرعوها)) . وقال الطحاوي (3)   (1) ج: 2. ص: 821. ح: 2459. (2) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 313. ح: 5168 الثقات. ج: 3. ص:206. (3) معاني الآثار ج: 4. ص: 106. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 932 "حدثنا أبو بكرة , قال: حدثنا عمر بن يونس , قال: حدثنا عكرمة بن عمار , قال: حدثني أبو النجاشي مولى رافع بن خديج , قال: قلت لرافع: إن لي أرضًا أكريها , فنهاني رافع , وأراه قال لي: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض , قال: إذا كانت لأحدكم أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه , فإن لم يفعل فليدعها ولا يكريها بشيء. فقلت: أرأيت إن تركتها فلم أزرعها ولم أكرها بشيء فزرعها قوم فوهبوا لي من نباتها شيئًا آخذه؟ قال: لا)) . وروى أبو داود حديث رافع عن طريق عمران بن سهل فقال (1) "قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني قلت له: حدثك ابن المبارك , عن سعيد بن أبي شجاع , حدثني عثمان بن سهل بن رافع بن خديج , قال: ((إني يتيم في حجر رافع بن خديج وحججت معه , فجاءه أخي عمران بن سهل , فقال: أكرينا أرضنا فلانًا بمائتي درهم , فقال: دعه فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) . وروى النسائي حديث رافع عن طريق أسيد بن رافع , فقال (2) "أخبرنا محمد بن حاتم , قال: حدثنا حبان , قال: حدثنا عبد الله بن المبارك , عن الليث , قال: حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج , عن أسيد بن رافع بن خديج , أن أخا لرافع بن خديج قال لقومه: ((قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم عن شيء كان لكم رافقًا وأمره طاعة وخير نهى عن الحقل)) . وروى عبد الرزاق حديث رافع عن طريق أيوب عن الزرقي فقال (3)   (1) سنن أبي داود ج: 3. ص: 261. (2) سنن النسائي ج: 7. ص: 49. (3) المصنف. ج:8. ص: 96. ح: 14464. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 933 "أخبرنا معمر , عن أيوب , عن الزرقي , عن رافع بن خديج قال: ((دخل علي خالي يومًا , فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم عن أمر كان لكم نافعًا , وطواعية الله ورسوله أنفع لنا وأنفع لكم , ومر على زرع , فقال: لمن هذا؟ فقالوا: لفلان. فقال: لمن الأرض؟ فقالوا: لفلان. قال: فما شأن هذا؟ قالوا: أعطاه إياه على كذا وكذا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خراجًا معلومًا. ونهى عن الثلث والربع وكراء الأرض. قال أيوب: فقيل لطاوس: إن ههنا ابنا لرافع بن خديج يحدث بهذا الحديث , فدخل ثم خرج , فقال: قد حدثني من هو أعلم من هذا , إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على زرع فأعجبه , فقال: لمن هذا؟ قالوا: لفلان , قال: لمن الأرض؟ قالوا: لفلان , قال: وكيف؟ قالوا: أعطاه إياها على كذا وكذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأن يمنح أحدكم أخاه خير له. ولم ينه عنه)) . وروى النسائي حديث رافع عن طريق أبي سلمة والقاسم فقال: (1) "أخبرنا زكريا بن يحيى , قال: حدثنا محمد بن يزيد بن إبراهيم , قال: حدثنا عبيد الله بن حمران , قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر , عن الأسود بن العلاء , عن أبي سلمة , عن رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة)) . رواه القاسم بن محمد عن رافع بن خديج. وأخبرنا عمرو بن علي , قال: حدثنا أبو عاصم , قال: حدثنا عثمان بن مرة , قال: سألت القاسم عن المزارعة , وحدث عن رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزارعة)) . قال أبو عبد الرحمن مرة أخرى:   (1) سنن النسائي. ج: 7. ص: 39. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 934 أخبرنا عمرو بن علي , قال: قال أبو عاصم , عن عثمان بن مرة قال: سألت القاسم عن كراء الأرض , فقال: قال رافع بن خديج ((: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) . وروى النسائي حديث رافع عن ابن شهاب وسعيد بن المسيب مرسلًا , فقال (1) "أخبرنا أحمد بن سليمان , قال: حدثنا عبد الله بن موسى , قال: أنبأنا إسرائيل , عن طارق , عن سعيد قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة)) قال سعيد: فذكر نحوه. وروى الزهري الكلام الأول عن سعيد فأرسله. قال الحارث بن مسكين - قراءة عليه وأنا أسمع - عن ابن القاسم , قال: حدثنا مالك , عن ابن شهاب , عن سعيد بن المسيب ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة)) . رواه محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة , عن سعيد بن المسيب , فقال: عن سعد بن أبي وقاص. وأخبرنا محمد بن خالد بن خلي , قال: حدثنا بشر بن شعيب , عن أبيه , عن الزهري , قال: بلغنا أن رافع بن خديج كان يحدث أن عميه - وكان يزعم شهدا بدرًا - ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) . رواه عثمان بن سعيد عن شعيب , ولم يذكر عميه. وقال الحارث بن مسكين - قراءة عليه وأنا اسمع - عن ابن وهب , قال: أخبرني أبو خزيمة عبد الله بن طريف , عن عبد الكريم بن الحارث عن ابن شهاب , أن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض)) ، قال ابن شهاب: فسئل رافع بعد ذلك: كيف كانوا يكرون الأرض؟ قال: بشيء من الطعام مسمى ويشترط أن لنا ما تبنت ماذيانات وأقبال الجداول.   (1) سنن النسائي. ج: 7. ص: 40 و44 و 45. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 935 رواه نافع عن رافع بن خديج، اختلف عليه فيه". ورواه عن طريق سعيد بن المسيب كل من ابن أبي شيبة وأبي داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والطحاوي وابن عدي بألفاظ وأسانيد مختلفة نوردها فيما يلي: قال ابن أبي شيبة (1) حدثنا أبو الأحوص , عن طارق طارق بن عبد الرحمن البجلي أحمسي كوفي هكذا نسبه ابن عدي في - الكامل. ج: 4. ص: 1434 - وقال عنه - بعد أن أورد بسنده قولين ليحيى فيه. وأورد حديثه له عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج - وطارق بن عبد الرحمن له أحاديث وليس بالكثير , وأرجو أنه لا بأس به. وقال عنه ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج:5. ص:5) "ورمز له بأنه روى عنه الجماعة" بعد أن ذكر نسبه ومن روى عنهم ومن رووا عنه. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس بذاك , هو دون مخارق. وقال علي بن مديني عن يحيى عن سعيد: طارق بن عبد الرحمن ليس عندي بأقوى من أبي حرملة , وطارق وإبراهيم بن مهاجر يجريان مجرى واحدًا. وقال ابن معين العجلي: ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به , يكتب حديثه , يشبه حديثه حديث مخارق. وقال النسائي: ليس به بأس (انظر الضعفاء. ص: 43. الترجمة: 133) وقال ابن عدي: لا بأس به , وذكره ابن حبان في كتاب الثقات، ثم أورد له حديثًا عند الترمذي , ثم قال: قلت: وقال النسائي في الضعفاء: طارق بن عبد الرحمن ليس بالقوي , فلا أدري عنى هذا أو الذي قبله. وذكره ابن البرقي في باب من احتمل حديثه , فقال فيه: وأهالي الحديث يخالفون يحيى في سعيه فيه ويلقونه , وحكى الساجي عن أحمد: في حديثه بعض الضعف , وقال الدارقطني ويعقوب بن سفيان: ثقة , ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير. وقلت: ذكره العقيلي في (كتاب الضعفاء الكبير. ج: 2. ص:227. الترجمة: 774) حدثنا عبد الله قال: سمعت أبي قال: موسى الجهني أحب إلي من طارق - يعني ابن عبد الرحمن - وطارق في حديثه بعض الضعف. حدثنا عبد الله قال: سمعت أبي يقول: طارق بن عبد الرحمن ليس حديثه بذاك.   (1) الكتاب المصنف. ج: 7. ص: 85. ح: 2473 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 936 لكن قال الذهبي في (الميزان. ج: 2. ص: 332. الترجمة: 3965) : طارق بن عبد الرحمن (ع) - أي: روى عنه الجماعة - البجلي , عن سعيد بن المسيب ثقة مشهور، ثم أورد قول أحمد ويحيى , ثم أورد حديث أبي الأحوص عن طارق في المزارعة. ثم قال: قلت: قد روى عنه شعبة وأبو عوانة ووكيع ووثقه ابن معين والعجلي , وقال أبو حاتم: لا بأس به يكتب حديثه، ثم ذكر قول ابن عدي. وترجم له الرازي في (الجرح والتعديل. ج: 4. ص: 485. الترجمة: 2130) وورد في شأنه الأقوال السابقة كما ترجم له البخاري في (التاريخ الكبير. ج:4. ص: 353. الترجمة: 3115) ولم يعقب في شأنه بشيء , ثم أورد في الصفحة: 354. الترجمة: 3121) ذكرًا لطارق بن أبي الحسناء , ورجح المعلق أنه هو طارق بن عبد الرحمن وكما أن ابن حبان قال في (الثقات. ج: 6. ص: 490) ما نصه: طارق بن أبي الحسناء يروي عن الحسن، روى عنه الأعمش , أحسب أن اسم أبيه عبد الرحمن , بأن الأعمش روى عن طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير أحرفًا يسيرة. وقال العجلي في (معرفة الثقات. ج: 1. ص: 476. الترجمة: 788) : طارق بن عبد الرحمن كوفي ثقة. قلت: تمييز البخاري بين طارق بن عبد الرحمن البجلي وطارق بن أبي الحسناء بترجمتين منفصلتين يمكن أن يفهم منه أن البخاري يراهما شخصين مختلفين وأن اعتبار ابن حبان لهما شخصًا واحدًا يدعو إلى التأمل. عن سعيد بن المسيب , عن رافع بن خديج , عن النبي صلى الله عليه وسلم ((إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها , ورجل منح أرضًا فهو يزرع ما منح , ورجل استكرى أيضًا بذهب أو فضة)) قال أبو داود في سننه (1) "حدثنا مسدد. حدثنا أبو الأحوص. حدثنا طارق بن عبد الرحمن , عن سعيد بن المسيب , عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة , وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها، ورجل منح أرضًا فهو يزرع ما منح , ورجل استكرى أرضًا بذهب أو فضة)) . قال النسائي في سننه (2) "أخبرنا قتيبة , قال: حدثنا أبو الأحوص , عن طارق , عن سعيد بن المسيب , عن رافع ابن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة , وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها , أو رجل منح أرضًا فهو يزرع ما منح , ورجل استكرى أرضًا بذهب أو فضة)) .   (1) ج: 3. ص:260. ح: 3400. (2) ج:7. ص:40 و45. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 937 ميزه إسرائيل عن طارق فأرسل الكلام الأول , وجعل الأخير من كلام سعيد. وأخبرنا أحمد بن محمد بن المغيرة , قال: حدثنا أحمد بن سعيد , عن شعيب , قال الزهري: كان ابن المسيب يقول: ليس باستكراء الأرض بالذهب والورق بأس , وكان رافع بن خديج يحدث ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك)) . وقال ابن ماجه في سننه (1) "حدثنا معاذ بن السري. حدثنا أبو الأحوص , عن طارق بن عبد الرحمن , عن عبد الرحمن , عن سعيد بن المسيب , عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة , وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها , ورجل منح أرض فهو يزرع ما منح , ورجل استكرى أرضًا بذهب أو فضة)) . وقال الدارقطني في سننه (2) "حدثنا أبو القاسم بن منيع. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة , أخبرنا أبو الأحوص , عن طارق , عن سعيد بن المسيب , عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة , وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل كانت له أرض فهو يزرعها , أو رجل منح أرضًا فهو يزرعها , أو رجل اكترى أرضًا بذهب أو فضة)) .   (1) ج: 2. ص: 762 و819. ح: 2267 و2449. (2) ج: 3. ص: 36. ح: 145. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 938 --------------------------- مجلة مجمع الفقه الإسلامي --------------------------- معذرة، لا يمكن نسخ اكثر من 10 صفحات فى اليوم --------------------------- موافق --------------------------- الجزء: 4 ¦ الصفحة: 939 قال الطحاوي (1) "حدثنا صالح بن عبد الرحمن , قال: حدثنا سعيد بن منصور , قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الأحوص , عن طارق بن عبد الرحمن , عن سعيد بن المسيب , عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة , وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها , ورجل منح أخاه أرضًا فهو يزرع ما منح منها , ورجل اكترى بذهب أو فضة)) . حدثنا أبو أمية , قال: حدثنا أبو نعيم والمعلى بن منصور , قالا: حدثنا أبو الأحوص ثم ذكر بإسناده". وقال ابن عدي في الكامل (2) "حدثنا ابن ذريح. حدثنا هناد. حدثنا أبو الأحوص , عن طارق بن عبد الرحمن , عن سعيد بن المسيب , عن رافع بن خديج قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة , وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها , ورجل منح أرضًا فهو يزرع ما منح , ورجل استكرى أرضًا بذهب أو فضة)) . وروى حديث رافع عن طريق سعيد بن المسيب عن ابن عمر كل من أبي داود والنسائي. قال أبو داود في سننه (3) "حدثنا محمد بن بشار. حدثنا يحيى. حدثنا أبو جعفر الخطمي , قال: بعثني عمي أنا وغلامًا له إلى سعيد بن المسيب , قال: فقلنا له: شيء بلغنا عنك في المزارعة قال: كان ابن عمر لا يرى بها بأسًا حتى بلغه عن رافع بن خديج حديث فأتاه , فأخبره رافع ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حارثة , فرأى زرعًا في أرض ظهير , فقال: ما أحسن زرع ظهير!! قالوا: ليس لظهير. قال: أليس أرض ظهير؟ قالوا: بلى، ولكنه زرع فلان. قال: فخذوا زرعكم وردوا عليه النفقة)) . قال رافع: فأخذنا زرعنا ورددنا إليه النفقة.   (1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 106. (2) ج: 4. ص: 1434. (3) ج: 3. ص:260. ح: 3399. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 940 قال سعيد: أفْقِر أخاك - أي: أعره أرضك للزراعة - أو أكر بالدراهم". وقال النسائي في سننه (1) "أخبرنا محمد بن المثنى , قال: حدثنا يحيى , عن أبي جعفر الخطمي - اسمه عمير بن يزيد - قال: أرسلني عمي وغلامًا له إلى سعيد بن المسيب أسأله عن المزارعة , فقال: كان ابن عمر لا يرى بها بأسًا حتى بلغه عن رافع بن خديج حديث , فلقيه فقال رافع: ((أتى النبي صلى الله عليه وسلم بني حارثة , فرأى زرعا , فقال: ما أحسن زرع ظهير. فقالوا: ليس لظهير , فقال: أليس أرض ظهير؟ قالوا: بلى، ولكنه أزرعها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا زرعكم وردوا إليه نفقته، فأخذنا زرعنا ورددنا إليه نفقته)) . ورواه طارق بن عبد الرحمن عن سعيد , واختلف عليه فيه". وروى حديث رافع عن طريق عمرو بن دينار عن ابن عمر كل من الشافعي وأحمد والحميدي والنسائي وابن ماجه والطيالسي والطحاوي والطبراني. وفيما يلي رواياتهم بأسانيدها وألفاظها المتقاربة. قال الشافعي في مسنده (2) "أخبرنا سفيان , عن عمرو , عن ابن عمر قال: كنا نخابر , فلا نرى بذلك بأسا حتى زعم رافع ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها , فتركناها من أجل ذلك)) . وقال أحمد في مسنده (3) "حدثنا سفيان , قال: سمع عمرو ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا حتى زعم رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه فتركناه)) .   (1) ج:7. ص:40. (2) ترتيب مسند الشافعي. ج: 2. ص: 136. ح: 447. (3) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 119. ح: 380 و386. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 941 وحدثنا وكيع. حدثنا سفيان , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: كنا نخابر , ولا نرى بذلك بأسًا حتى زعم رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه)) قال عمرو: فذكرته لطاوس فقال طاوس: قال ابن عباس: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يمنح أحدكم أخاه الأرض خير له من أن يأخذ لها خراجًا معلوما)) . وقال الحميدي في مسنده (1) "حدثنا سفيان , قال: حدثنا عمرو بن دينار , قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: ((كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا , حتى زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه , فتركنا ذلك من أجل قوله)) . وقال النسائي في سننه (2) "أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك , قال: أنبأنا وكيع , قال: حدثنا سفيان , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: ((كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا , حتى زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة)) . وأخبرنا عبد الرحمن بن خالد , قال: حدثنا حجاج , قال: قال ابن خديج: سمعت عمرو بن دينار يقول: أشهد لسمعت ابن عمر وهو يسأل عن الخبر , فيقول: ((ما كنا نرى بذلك بأسًا حتى أخبرنا عام الأول ابن خديج أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخبر)) . وأخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي , عن حماد بن زيد , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: ((كنا لا نرى بالخبر بأسًا , حتى كان عام الأول , فزعم رافع أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه)) . خالفه عارم , فقال: عن حماد , عن عمرو بن دينار , عن جابر ".   (1) ج: 1. ص: 198 ح: 405. (2) ج: 7. ص: 48. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 942 وقال ابن ماجه في سننه (1) "حدثنا هشام بن عمار ومحمد بن الصباح , قالا: حدثنا سفيان بن عيينة , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا حتى سمعنا رافع ابن خديج يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه)) فتركناه لقوله". وقال أبو داود الطيالسي في مسنده (2) "حدثنا حماد بن زيد , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: كنا لا نرى بالخبر بأسًا , حتى زعم ابن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحقل)) قال شعبة: قلت للحكم: ما الحقل؟ قال: الثلث والربع، قال شعبة: قال الحكم: لما سمع إبراهيم هذا الحديث كره الثلث والربع , ولم ير بأسًا لكراء الأرض بالذهب والفضة". وقال الطحاوي (3) "حدثنا علي بن شيبة وفهد بن سليمان قالا: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين , قال: حدثنا سفيان , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: سمعت رافع بن خديج يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزارعة)) . وحدثنا أبو بكرة بكار بن قتيبة , قال: حدثنا إبراهيم بن بشار , قال: حدثنا سفيان , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى زعم رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة فتركناها.)) وحدثنا روح بن الفرج , قال: حدثنا حامد , قال: حدثنا سفيان قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: سمعت ابن عمر يقول: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا حتى زعم رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فتركناها من أجل قوله)) .   (1) ج: 2. ص: 819. ج: 2450. (2) ص: 130. ح: 365. (3) معاني الآثار. ج: 4. ص: 105 و111. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 943 وقال الطبراني (1) "حدثنا علي بن عبد العزيز. حدثنا أبو نعيم. حدثنا سفيان , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: ما كنا نكري المزارعة حتى سمعت رافع بن خديج يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزارعة)) . وحدثنا عبيد بن غنام. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. وحدثنا أبو يزيد القراطيسي. حدثنا حجاج بن إبراهيم الأزرق قال: حدثنا سفيان بن عيينة , عن عمرو بن دينار , قال: كنا نخابر ولا نرى بأسًا , حتى زعم رافع بن خديج ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه)) وتركناه من أجل قوله. وحدثنا يوسف بن يعقوب القاضي. حدثنا سليمان بن حرب. وحدثنا معاذ بن المثنى. حدثنا مسدد قالا: حدثنا حماد بن زيد , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: كنا لا نرى بالخبر بأسًا حتى كان عام أول , فزعم رافع ابن خديج ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه. وتركناه من أجل قوله: نهى عنه)) . حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي. وحدثنا معاذ بن المثنى. حدثنا مسدد قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم. حدثنا أيوب , عن عمرو بن دينار , قال: ((سمعت ابن عمر يقول: ما كنا نرى بالخبر بأسًا حتى زعم رافع بن خديج عام أول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وتركناه.)) وحدثنا محمد بن أحمد بن أبي خيثمة. حدثنا عمر بن يحيى الأبلي. حدثنا عبد الوارث. حدثنا أيوب , عن عمرو بن دينار , عن ابن عمر قال: كنا لا نرى بالخبر بأسًا , فقال رافع بن خديج: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم)) . وروى: الطبراني حديث ابن عمر عن طريق عبد الله بن دينار فقال (2) "حدثنا عبد الله بن ناجية. حدثنا أحمد بن منصور , حدثنا أبو عاصم. حدثنا سفيان , عن عبد الله بن دينار , عن ابن عمر , عن رافع بن خديج ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) . وروى حديث رافع عن طريق ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر كل من أحمد وأبو داود والنسائي والطحاوي وفيما يلي رواياتهم بأسانيدها المختلفة وألفاظها المتقاربة: قال أحمد في مسنده (3)   (1) المعجم الكبير. ج: 4. ص: 240 ح: 4248. (2) المعجم الكبير. ج: 4. ص: 241. ح: 4254. (3) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 118. ح: 377. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 944 "حدثنا حجاج. حدثنا ليث بن سعد , عن عقيل , عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني سالم بن عبد الله , أن عبد الله بن عمر قال: يابن خديج، ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض؟ قال رافع: سمعت عمي - وكان قد شهدا بدرًا - يحدثان أهل الدار ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) . وقال أبو داود في سننه (1) "حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث. حدثني أبي , عن جدي الليث. حدثني عقيل , عن ابن شهاب. أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر , ((أن ابن عمر كان يكري الأرض , حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كراء الأرض. فلقيه عبد الله , فقال: يابن خديج , ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض؟ قال رافع لعبد الله ابن عمر: سمعت عمي - وكانا قد شهدا بدرًا - يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) . قال عبد الله: والله لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , أن الأرض تكرى , ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله أحدث في ذلك شيئا لم يكن علمه , فترك كراء الأرض. قال أبو داود: رواه أيوب وعبيد الله وكثير بن فرقد , وذلك عن نافع , عن رافع , عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الأوزاعي , عن حفص بن عنان , عن نافع , عن رافع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك رواه زيد بن أبي أنيسة , عن الحكم , عن نافع , عن ابن عمر , أنه أتى رافعًا , فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم. وكذا قال عكرمة بن عمار , عن أبي النجاشي , عن رافع بن خديج , قال: سمعت النبي عليه السلام. ورواه الأوزاعي , عن أبي النجاشي , عن رافع بن خديج , عن عمه ظهير بن رافع , عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال النسائي في سننه (2) "أخبرنا محمد بن يحيى بن عبد الله، قال: حدثنا عبد الله بن حمد بن أسماء, عن جويرية, عن مالك, عن الزهري, أن سالم بن عبد الله, وذكره نحوه - يعني نحو حديث حماد بن يزيد, ويحيى بن سعيد, عن حنظلة بن قيس -.   (1) ج: 3. ص: 259. ح: 3394. (2) ج: 7. ص: 44. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 945 أخبرنا عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد, قال: حدث أبي, عن جدي, قال: أخبرني عقيل بن خالد , عن ابن شهاب , قال: أخبرني سالم بن عبد الله, أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه , وبلغه أن رافع بن خديج كان ينهى عن كراء الأرض، فلقيه عبد الله فقال: يا ابن خديج , ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض؟ فقال رافع لعبد الله: سمعت عمّي - وكانا قد شهدا بدرًا - يحدثان أهل الدار ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) . قال عبد الله: فلقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تكرى. ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئًا لم يكن يعلمه , فترك كراء الأرض". وقال الطحاوي (1) "حدثنا نصر بن مرزوق , وابن أبي داود , قالا: حدثنا أبو صالح قال: حدثنا الليث قال: حدثني عقيل , عن ابن شهاب , قال: أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر , أن أباه - يعني عبد الله بن عمر - كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج كان ينهى عن كراء الأرض فلقيه وقال: يا ابن خديج , ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض؟ فقال: سمعت عمي - وكان قد شهد بدرًا - يحدث أهل الدار ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) . قال عبد الله: لقد كنت أعلم أن الأرض كانت تكرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئًا لم يكن علمه فترك كراء الأرض". وروى حديث رافع , عن طريق أيوب , عن نافع , عن ابن عمر كل من أحمد , والبخاري , والنسائي , وابن ماجه , وابن حبان , والطحاوي , وابن عدي، وفيما يلي رواياتهم على اختلاف أسانيدها بألفاظها المتقاربة:   (1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 105. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 946 قال أحمد في مسنده (1) "حدثنا إسماعيل , أنبأنا أيوب , عن نافع , عن ابن عمر , قال: ((قد علمت أن الأرض كانت تكرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء وشيء من التبن , لا أدري كم هو , وأن ابن عمر كان يكري أرضه في عهد أبي بكر وعهد عثمان وصدر إمارة معاوية , حتى إذا كان في آخرها بلغه أن رافعًا يحدث في ذلك بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأتاه وأنا معه , فسأله فقال: نعم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع)) فتركها ابن عمر فكان لا يكريها، فكان إذا سُئل يقول: زعم ابن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نهى عن كراء المزارع)) . وقال البخاري في صحيحه (2) "حدثنا سليمان بن حرب , حدثنا حماد , عن أيوب , عن نافع , أن ابن عمر - رضي الله عنه - كان يكري مزارعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم , وأبي بكر , وعمر , وعثمان , وصدرًا من إمارة معاوية , ثم حدث عن رافع بن خديج ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع)) فذهب ابن عمر إلى رافع , فذهبت معه فسأله فقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع، فقال ابن عمر: قد علمت أنَّا كنا نكري مزارعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء وشيء من التبن". وقال النسائي في سننه (3) "أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع , قال: حدثنا فضيل , قال: حدثنا موسى بن عقبة , قال: أخبرني نافع , أن رافع بن خديج أخبر عبد الله بن عمر أن عمومته جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم رجعوا فأخبروا ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع)) , فقال عبد الله: قد علمنا أنه كان صاحب مزرعة يكريها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن له ما على الربيع الساقي الذي يتفجر منه الماء وطائفة من التبن لا أدري كم هي.   (1) (1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 118. ح: 376. (2) (2) ج: 3. ص: 72. (3) (3) ج:7. ص: 45. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 947 أخبرني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم , قال: حدثنا يزيد , قال: أنبأنا ابن عون , عن نافع , قال: كان ابن عمر يأخذ كراء الأرض , فبلغه عن رافع بن خديج شيء، فأخذ بيدي فمشى إلى رافع وأنا معه , فحدثه رافع عن بعض عمومته ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) فترك عبد الله بعد. أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك , قال: حدثنا إسحاق الأزرق , قال: حدثنا ابن عون , عن نافع , عن ابن عمر , أنه كان يأخذ كراء الأرض حتى حدثه رافع عن بعض عمومته ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض فترك بعد)) . وأخبر محمد بن عبد الله بن بزيع , قال: حدثنا يزيد , وهو ابن زريع , قال: حدثنا أيوب , عن نافع , ((أن ابن عمر كان يكري مزارعه , حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يُخبر فيه بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأتاه وأنا معه فسأله فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع، تركها ابن عمر بعد، فكان إذا سُئل عنها قال: زعم رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها)) . وأخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين , قال: حدثنا شعيب بن الليث , عن أبيه , عن كثير بن فرقد , عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يكري المزارع، فحدث أن رافع بن خديج ((يأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك. قال نافع: فخرج إليه على البلاط (1) وأنا معه فسأله فقال: نعم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع، فترك عبد الله كراءها)) . وأخبرنا إسماعيل بن مسعود , قال: حدثنا خالد - وهو ابن الحارث - قال: حدثنا عبيد الله بن عمر , عن نافع , ((أن رجلًا أخبر ابن عمر أن رافع بن خديج يأثر في كراء الأرض حديثًا, فانطلقت معه أنا والرجل الذي أخبره , حتى أتى رافعًا فأخبره رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض فترك عبد الله كراء الأرض)) .   (1) البلاط: بفتح الباء، وقيل: بكسرها، اسم موضع بالمدينة بين المسجد والسوق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 948 وأخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا أبي , قال: حدثنا جويرية , عن نافع , ((أن رافع بن خديج حدث عبد الله ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع)) . أخبرنا هشام بن عمار قال: حدثنا يحيى بن حمزة , قال: حدثنا الأوزاعي , قال: حدثني حفص بن غياث , عن نافع , أنه حدثه , قال: كان ابن عمر يكري أرضه ببعض ما يخرج منها , فبلغه أن رافع بن خديج يزجر عن ذلك , وقال: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: كنا نكري الأرض قبل أن نعرف رافعًا , ثم وجد في نفسه , فوضع يده على منكبي حتى دفعنا إلى رافع , فقال له عبد الله: أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض؟ فقال رافع: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تكروا الأرض بشيء)) . أخبرنا حميد بن مسعدة , عن عبد الوهاب , قال: حدثنا هشام , عن محمد ونافع أخبراه عن رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) . رواه ابن عمر , عن رافع بن خديج , واختلف على عمرو بن دينار". وقال ابن ماجه في سننه (1) "حدثنا أبو كريب, حدثنا عبدة بن سليمان , وأبو أسامة , ومحمد بن عبيد , عن عبيد الله - أو قال: عبد الله بن عمر - عن نافع , عن ابن عمر , أنه كان يكري أرضًا له مزارعًا , فأتاه إنسان فأخبره عن رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع, فذهب ابن عمر وذهبت معه حتى أتاه بالبلاط , فسأله عن ذلك , فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع , فترك عبد الله كراءها)) . وقال ابن حبان في الإحسان (2) "أورده ابن حبان تحت ترجمة (ذكر الخبر المصجد قول من زعم أن نافعًا لم يسمع هذا الخبر عن رافع بن خديج) .   (1) ج: 2. ص: 820. ح: 2453. (2) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 314. ح: 5171. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 949 أخبرنا الفضل بن الحباب , قال: حدثنا مسدد , عن مسرهد , عن يزيد بن زريع , قال: حدثنا أيوب , عن نافع , قال: ((انطلق ابن عمر وانطلقنا معه حتى دخلنا على رافع بن خديج , وقال له ابن عمر: إني نبئت أنك تحدث عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كراء المزارع, قال: نعم، فكان ابن عمر إذا سُئل بعد ذلك يقول: حدثنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع)) . وقال الطحاوي (1) "حدثنا ربيع الجيزي , قال: حدثنا حسان بن غالب , قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن , عن نافع , أن رافع بن خديج أخبر ((أن عبد الله بن عمر وهو متكئ على بدني , أن عمومته جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع , فقال ابن عمر: قد علمنا أنه كان صاحب مزرعة يكريها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , على أن له ما في الربيع الساقي الذي تفجر منه الماء وطائفة من التبن لا أدري ما التبن ما هو؟)) ". وقال ابن عدي (2) "حدثنا يحيى بن عيسى بن محمد الجيلاني بحمص , حدثنا سعيد بن عمرو الكوفي وعطية بن بقية , قالا: حدثنا بقية , عن لوذان بن سليمان وقدم لهذا الحديث بقوله: لوذان بن سليمان، حدث عنه بقية , وهو مجهول , وما رواه مناكير لا يتابع عليه , وبعد أن روى حديثين آخرين عنه , قال: وهذه ثلاثة أحاديث عن هشام بن عروة , عن نافع , لا يرويها عن هشام غير لوذان هذا , وهو مجهول، وعن لوذان بقية , ولا أعلم غير هذه الأحاديث , وهشام بن عروة , عن نافع عزيز جدًا , وهذه الثلاثة أحاديث يرويها لوذان بن سليمان. وقال ابن حبان في (الثقات. ج: 7. ص: 462) : لوذان بن سليمان يروي عن هشام بن عروة , ويروي عنه بقية بن الوليد , وقال محقق الثقات: زاد في "ظ" - إحدى نسخ الكتاب المخطوطة التي قابل بينها - رضي الله عنهم أجمعين -. وقال الذهبي في (الميزان. ج: 3. ص: 319. الترجمة:6991) : لوذان بن سليمان شيخ لبقية. قال ابن عدي: مجهول , وما رواه لا يتابع عليه , وأسند له ثلاثة أحاديث.   (1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 111. (2) الكامل. ج: 6. ص: 2109. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 950 وبقية الذي يروي عن لوذان هو بقية بن الوليد , روى عنه البخاري في التاريخ , ومسلم , وأبو داود , والترمذي , والنسائي , وابن ماجه , بذلك رمز ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج:1. ص:473) , وساق اختلافًا بينهم فيه ما بين موثق بعامة وموثق في بعض مروياته ومتردد في توثيقه وغامز فيه. ولم أجد للوذان بن سليمان ذكرًا عند غير عدي وابن حبان، إلا ما كان من رواية ساقها الطبري في (تاريخه. ج: 5. ص:399) وابن كثير في (البداية والنهاية. ج: 8. ص: 171) عن أبي مخنف حول خروج الحسين , عليه السلام , إلى العراق , ورحبه مع جيش يزيد , واستشهاده وكلاهما قال: "قال أبو مخنف" وعند الطبري: (فحدثني لوذان - أحد بنى عكرمة - أن أحد عمومته سأل الحسين عليه السلام: أين تريد" إلى آخر الخبر. وعند ابن كثير: "حدثني - بدون فاء - لوذان قال: حدثنى عكرمة - بدلًا من "أحد بنى عكرمة " عند الطبري - أنه أحد عمومته , سأل الحسين: أين تريد" إلى آخر الخبر. وبقية عبارتهما تشبه أن يكون ابن كثير نقل عن الطبري، ويتراءى لي أن عبارة ابن كثير هي الصحيحة , وأن ما جاء في الطبري أو منسوبًا إليه من وصف لوذان من أنه من "أحد بني عكرمة" خطًا من الناسخ أو الطابع , فلم أقف في (المظان) على جماعة أو عشيرة أو قبيلة ممن عرفوا في ذلك العصر تدعى "بني عكرمة" , ولم يذكر كلاهما اسم والد لوذان , وأميل إلى أنه هو لوذان بن سليمان , وأنه كان شيعيًا , ولعله أسهم في الدعوة إلى نحلته أو - على الأقل - في رواية أخبار الشيعة الأول. ذلك بأن أبا مخنف لوط بن يحيى وصفوه بالضعف , وقال عنه ابن عدي في (الكامل. ج: 6. ص: 2610) : حدثنا محمد بن أحمد بن حماد , حدثنا عباس , عن يحيى , قال: أبو مخنف ليس بشيء , وهذا الذي قاله ابن معين يوافقه عليه الأئمة , فإن لوط بن يحيى معروف بكنيته وباسمه , حدث بأخبار مَن تقدم مِن الصالحين , ولا يبعد منه أن يتناولهم وهو شيعي محترق , صاحب أخبارهم , وإنما وصفته لأستغني عن ذكر حديثه , فإني لا أعلم له من الأحاديث المسندة ما أذكره , وإنما له من الأخبار المكروه الذي لا أستحب ذكره. قلت: يغفر الله لابن عدي , فإن من أخبار أبي مخنف ما ينبغي لا أن يذكره فحسب، بل أن يستذكره المسلم المحب لآل البيت , مثل ما يتصل بالحسين , عليه السلام , وما من مسلم صادق إلا وهو محب لآل البيت. وقال الذهبي في (الميزان. ج: 3. ص: 419. الترجمة: 6992) : لوط بن يحيى أبو مخنف , إخباري تالف لا يوثق به، تركه أبو حاتم وغيره. وقال الدارقطني: ضعيف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 951 وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال مرة: ليس بشيء. وقال ابن عدي: شيعي محترق صاحب أخبارهم. قلت - القائل الذهبي -: روى عن الصعق بن زهير , وجابر الجعفي , ومجالد , روى عنه المدائني وعبد الرحمن بن المغراء , مات قبل السبعين ومائة. وقال ابن معين في (تاريخه. ج: 2. ص: 500. الترجمة: 1358) : أبو مخنف ليس بشيء، أبو مخنف ليس بثقة، أبو مخنف وأبو مريم وعمرو بن شمر ليسوا هم بشيء، قلت ليحيى: هم مثل عمرو بن شمر؟ قال: هم شر من عمرو بن شمر. وقال الدارقطني في كتاب الضعفاء والمتروكين. ص: 146. الترجمة: 449: لوط بن يحيى الكوفي أبو مخنف , إخباري ضعيف. ونقل العقيلي في كتاب الضعفاء والمتروكين. ج: 4. ص: 18 الترجمة: 1572: كلام يحيى بن معين , ولم يعقب عليه بشيء , لكن محقق الكتاب قال في التعليق عن الترجمة بعد أن نقل كلام الذهبي في الميزان: ولكن المستشرقين اهتموا به واحتضنوا مؤلفاته , فحققوها , ونشروها؛ ليجدوا ثغرة لإفراغ جهدهم في اتهام تراثنا التاريخي اتفاقًا إلى هز الثقة فيما نقل إلينا من نصوص السنة , وهي المصدر الثاني للتشريع وأغلب هذه المؤلفات نشرت في ألمانيا وهولندا. ولم يرد له ذكر في كتب البخاري والنسائي وابن حبان عن الضعفاء. وذكر الذهبي في (المغني. ج: 2. ص: 535. الترجمتان: 5120 و5121) : كلا من لوذان ولوط , ونقل كلام ابن عدي في لوذان , ووصف لوطًا بأنه "ساقط , تركه أبو حاتم , وقال الدارقطني: ضعيف". ونعود إلى قول ابن عدي في ترجمة لوذان "وما رواه مناكير " ... إلخ. فنشير إلى أن الظاهر من كلامه هو أنه يعتبر المنكر والشاذ والمنفرد واحدًا. وإلى ذلك ذهب بعض علماء الحديث، لكن الحافظ ابن حجر يقول في (النكت على كتاب ابن الصلاح. ج: 2. ص: 675) بعد أن ذكر أقوالاً مختلفة في تحديد معنى "المنكر" من الحديث وأقسامه، وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه ما نصه: وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت رواية للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى خالفت روايته روايتهم , لم تكد توافقها , فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك , كان مهجور الحديث غير مقبولة ولا مستعملة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 952 قلت - القائل هو ابن حجر -: فالرواة الموصفون بهذا هم المتروكون، فعلى هذا رواية المتروك عند مسلم تسمى منكرة , وهذا هو المختار. والله أعلم. وانظر في هذا الشأن مقدمة صحيح مسلم , وتعليق النووي (شرح النووي لصحيح مسلم. ج: 1. ص: 56 وما بعدها) . وحول وصف لوذان بأنه "مجهول نسوق ما ذكره الخطيب - رحمه الله - في (كتاب الكفاية في علم الرواية. ص: 142) إذ قال: المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه , ولا عرفه العلماء به , ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد. قلت: يبدو لي مما تيسر من استقراء أمر لوذان ولوط بن يحيى أن المحدثين انصرفوا عنهما لتشيعهما , وقد يكونان من دعاة الشيعة اعتمادًا على مبدأ عدم قبول حديث أهل الأهواء الذي أخذ به كثير من المحدثين لكن رفضه غيرهم , وليس هذا مجال تفصيل أقوالهم , بيد أننا ننقل عن الخطيب - رحمه الله - ما قاله في (المرجع السابق. ص: 201) من أن الذي يعتمد عليه في تجويز الاحتجاج بأخبارهم اشتهر من قبول الصحابة أخبار الخوارج وشهادتهم ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل , ثم استمرار عمل التابعين والخالفين بعدهم على ذلك , لما رأوا من تحريهم الصدق , وتعظيمهم الكذب , وحفظهم أنفسهم عن المحظورات من الأعمال , وإنكارهم على الريب والطرائق المذمومة روايتهم الأحاديث التي تخالف آراءهم , ويتعلق بها مخالفوهم في الاحتجاج عليهم , فاحتجوا برواية عمر بن حطان , وهو من الخوارج , وعمرو بن دينار , وكان ممن يذهب إلى القدر والتشيع , وكان عكرمة إباضيا , وابن أبي نجيح وكان معتزليًا , وعبد الوارث بن سعيد , وشبل بن عباد , وسيف بن سليمان , وهشام الدستوائي , وسعيد بن أبي عروبة , وسلام بن مسكين , وكانوا قدرية. وعلقمة بن مرثد , وعمرو بن مرة , ومسعر بن كدام , وكانوا مرجئة , وعبيد الله بن موسى , وخالد بن مخلد , وعبد الرزاق بن همام , وكانوا يذهبون إلى التشيع , في خلق كثير يتسع ذكرهم، دون أهل العلم - قديمًا وحديثًا - رواياتهم واحتجوا بأخبارهم , فصار ذلك كالإجماع منهم , وهو أكبر الحجج في هذا الباب , وبه يقوى الظن في مقاربة الصواب. قلت: وما الذي يميز لوذان عمن ذكر الخطيب ممن يذهب مذهب التشيع , ولئن نقل بعض أخبار الشيعة فهو لم يشتهر في الدعوة لهم، ولئن اشتهر في الدعوة لهم فما الذي يمنع من قبول حديثه في غير ما له صلة بالتشيع؟ لقد آن الأوان لأن نعيد النظر في بعض قواعد الجرح والتعديل ذات العلاقة بالاعتبارات السياسية والجدلية والبعيدة عن التمحيص العلمي المجرد، فقد مضى بعيدًا ذلك الزمن الذي لم يستطع فيه نقاد الحديث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 953 وضباط الأسانيد أن يتخلصوا من مؤثرات ما كانوا يعايشونه من أحداث من أن الحاجة إلى تجميع مواجد المسلمين توجب مراجعة ما من شأنه تعويض ذلك مما لا علاقة له بتحري الدقة في تحقيق نصوص الشريعة , بل إن تخريج كثير من الأحكام الشرعية واستنباط الأحكام لما يستجد من الأحداث يقتضيان التعامل مع كل نص , لا تحوم حوله شبهة إذا استبعدت الاعتبارات السياسية والجدلية. على أن حديث لوذان الذي أورده ابن عدي وعقب عليه ذلك التعقيب العجيب ليس غريبًا , بل رواه بنفس اللفظ وبما يشاكله أو يقاربه عدد كبير من الرواة الموفقين أثبتنا رواياتهم بما يشبه الاستقراء في هذا البحث، ومن شأن هذا أن ينفي أية شبهة عن رواية لوذان , وهذا شأن الحديثين الآخرين اللذين ساقهما ابن عدي عند الاستقراء والتمحيص. والله الموفق. عن هشام بن عروة , عن نافع , أنه أخبرهم أن رافع بن خديج أخبر عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع)) . والحديث الثاني الذي نقف عنده حديث جابر بن عبد الله الذي روي عنه من طرق متعددة مثل حديث رافع بن خديج. فمنها ما رواه كل من أحمد , والحميدي , والبخاري , ومسلم , والنسائي , وابن ماجه , والدارقطني , وابن حبان , والطحاوي , وابن عدي , عن طريق عطاء بن أبي رباح، وفيما يلي رواياتهم بأسانيدها المختلفة وعباراتها التي تكاد تكون متفقة. قال أحمد في مسنده (1) "حدثنا إسحاق بن يوسف, أنبأنا عبد الملك , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت له أرض فليزرعها، وإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها)) . وحدثنا أبو المغيرة , ومحمد بن مصعب , قالا: حدثنا الأوزاعي , حدثني عطاء , وقال ابن مصعب: عن عطاء بن أبي رباح , عن جابر بن عبد الله , قال: ((كانت لرجال فضول أرضين , فكانوا يؤجرونها على الثلث والربع والنصف , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه , فإن أبى فليمسك أرضه .... )) .   (1) الفتح الرباني. ج: 15 ص:117. ح: 375. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 954 وقال الحميدي في مسنده (1) "وحدثنا سفيان , قال: حدثنا ابن جريج , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة والمخابرة , وأن لا يباع الثمر حتى يبدو صلاحه , وأن لا يباع إلا بالدينار والدرهم , إلا أنه رخص في العرايا والمخابرة وكري الأرض على الثلث والربع , والمحاقلة: بيع السنبل بالحنطة , والمزابنة: بيع الثمر بالتمر)) . وقال البخاري في صحيحه (2) "حدثنا عبيد الله بن موسى , أخبرنا الأوزاعي , عن عطاء , عن جابر - رضي الله عنه - قال: ((كانوا يزرعون بالثلث والربع والنصف , وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن لم يفعل فليمسك أرضه)) . وقال مسلم في صحيحه (3) "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة , ومحمد بن عبد الله بن نمير , وزهير بن حرب , قالوا جميعًا: حدثنا سفيان بن عيينة , عن ابن جريج , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة , والمزابنة , والمخابرة , وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه , ولا يباع إلا بالدينار والدرهم إلا العرايا)) . وحدثنا عبد بن حميد، أخبرنا أبو عاصم , أخبرنا ابن جريج , عن عطاء , وأبي الزبير , أنهما سمعا جابر بن عبد الله يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكر مثله. وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي , أخبرني مخلد بن يزيد الجزري , حدثنا ابن جريج , أخبرنا عطاء , عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة , والمحاقلة , والمزابنة , وعن بيع الثمرة حتى تطعم , ولا تباع إلا بالدراهم والدنانير إلا العرايا)) .   (1) ج: 2. ص: 540. ح: 1292. (2) ج: 3. ص: 72. (3) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 192 وما بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 955 قال عطاء: فسر لنا جابر قال: أما المخابرة فالأرض البيضاء يدفعها الرجل إلى الرجل لينفق فيها , ثم يأخذ من الثمر , وزعم أن المزابنة بيع الرطب في النخل بالثمر كيلًا , والمحاقلة في الزرع على نحو ذلك بيع الزرع القائم بالحب كيلًا. وحدثنا إسحاق بن إبراهيم , ومحمد بن أحمد بن أبي خلف, كلاهما عن زكرياء, قال ابن أبي خلف: حدثنا زكرياء بن عدي , أخبرنا ابن عبيد الله , عن زيد بن أبي أنيسة , حدثنا أبو الوليد المكي , وهو جالس عند عطاء بن أبي رباح , عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة , والمزابنة , والمخابرة , وأن تشترى النخل حتى تشقه , والإشقاه أن يحمر أو يصفر أو يأكل منه شيء)) والمحاقلة: أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم , والمزابنة: أن يباع النخل بأوساق من التمر , والمخابرة: الثلث والربع وأشباه ذلك. قال زيد: قلت لعطاء بن أبي رباح: أسمعت جابر بن عبد الله يذكر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. وحدثني إسحاق بن منصور , حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد , حدثنا رباح بن أبي معروف , قال: سمعت عطاء , عن جابر بن عبد الله , قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض , وعن بيعها السنين , وعن بيع الثمر حتى يطيب)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 956 وحدثني أبو كامل الجحدري , حدثنا حماد، يعني ابن زيد، عن مطر الوراق قال ابن حبان في (كتاب الثقات. ج:5. ص: 435) : مطر بن طهمان الوراق , مولى علياء السلمي , كنيته أبو رجاء , أصله من خراسان , سكن البصرة , يروي عن أنس بن مالك , وربما أخطأ، روى عنه حماد بن زيد , وهشام الدستوائي , مات قبل الطاعون سنة خمس وعشرين ومائة , وأوصى إلى فرقد السبخي , وكان قتادة قد أوصى إلى مطر , ويقال: إنه مات سنة تسع وعشرين ومائة , وكان معجبًا بروايته , وقد حدثنا محمد بن أحمد , قال: حدثنا محمد بن نصر الفراء , قال: حدثنا أحمد بن حنبل , قال: حدثنا حجاج , قال: سمعت شعبة يقول: مطر الوراق هؤلاء لا يحسنون يحدثون. وذكر الرازي (الجرح والتعديل. ج: 8. ص: 287 و288. الترجمة: 1319) : أن أبا زرعة قال: روايته من أنس مرسل لم يسمع مطر عن أنس شيئًا , ونقل روايات عن أحمد , أن يحيى بن القطان يضعف حديثه عن عطاء , ويشبهه بابن أبي ليلى في سوء الحفظ , وكان ذلك أيضًا رأي أحمد فيه حسب ما يروي عنه ابنه. وروى ابنه أيضًا عن يحيى بن معين أنه قال: إنه ضعيف فى حديث عطاء , لكن روى الرازي عن أبيه , عن إسحاق بن منصور , عن يحيى بن معين , أنه قال: مطر الوراق صالح الحديث. قلت: لم أجد في تاريخ يحيى بن معين ما نقل عنه الرازي , عن أبيه , أو عن أحمد , والترجمة الواردة له فيه (تاريخ ابن معين. ج: 2. ص: 568) : مطر بن طهمان السلمي أبو رجاء. مطر بن طهمان أبو رجاء. مطر الوراق هو مطر بن طهمان. ثم نقل عنه أثرًا فقال: حدثنا العباس , قال: حدثنا أبو إسحاق الطالقاني , قال: حدثنا ضمرة , عن ابن شوذب , عن مطر , قال: مثل الذي يروي عن عالم واحد مثل رجل له امرأة واحدة إذا حاضت بقي. وذكره العجلي (معرفة الثقات. ج: 2. ص: 181. الترجمة: 1736) فقال: مطر الوراق بصري صدوق , وقال مرة: لا بأس به. وترجم البخاري في (التاريخ الكبير. ج: 7. ص:400. الترجمة: 1752) فقال: مات قبل الطاعون. وترجم له ابن القيسراني (الجمع بين كتابي أبي نصر الكلاباذي وأبي بكر الأصبهاني. ج:2. ص:526. ترجمة:2050) ونقل عن عمرو بن علي قوله: مات سنة تسع عشرة ومائة. وترجم له ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج:10. ص: 167. ترجمة: 316) فذكر أن البخاري روى عنه في الصحيح مرتين تعليقًا , وأورد روايات في تاريخ وفاته، ثم قال في آخر الترجمة: "وقرأت في تذكرة ابن حمدون أن المنصور قتله". فعلى هذا يكون تأخرت وفاته إلى قرب الأربعين ومائة. لكن الذهبي (سير أعلام النبلاء. ج:5. ص:452. ترجمة:202) وصفه في صدر ترجمته له بقوله: "الإمام الزاهد الصادق , أبو رجاء بن طهمان الخراساني , نزيل البصرة , مولى علياء بن أحمد اليشكري، كان من العلماء العاملين , وكان يكتب المصاحف ويتقن ذلك. وروى عن أنس بن مالك , والحسن , وابن بريدة , وعكرمة , وشهر بن حوشب , وبكر بن عبد الله , وطائفة. حدث عنه شعبة , والحسين بن واقد , وإبراهيم بن طهمان , وحماد بن زيد , وعبد العزيز بن عد الصمد العمي , وآخرون، وغيره أتقن للرواية منه , لا ينحط حديثه عن رتبة الحسن , وقد احتج به مسلم. وبعد أن أورد أقاويل الناس فيه ما بين مضعف وموثق , قال: يقال: توفي مطر الوراق سنة تسع وعشرين ومائة. قلت: يتضح من قوله: "الإمام الصادق" وقوله: "لا ينحط حديثه عن رتبة الحسن" وقد احتج به مسلم أنه يوثقه وليس بعد قول الذهبي قول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 957 عن عطاء , عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) . وحدثنا عبد بن حميد , حدثنا محمد بن الفضل، لقبه عارم , وهو أبو النعمان السدوسي , حدثنا مهدي بن ميمون , حدثنا مطر الوراق , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها , فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه)) . حدثنا الحكم بن موسى , حدثنا هقل، يعني ابن زياد، عن الأوزاعي , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , قال: ((كان لرجل فضول أرضين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له فضل أرض فليزرعها , أو ليمنحها أخاه , فإن أبى فليمسك أرضه)) . وحدثني محمد بن حاتم , حدثنا معلى بن منصور الرازي , حدثنا خالد , أخبرنا الشيباني , عن بكير بن الأخنس , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ للأرض أجر)) . حدثنا ابن نمير , حدثنا ابن أًُبي , حدثنا عبد الملك , عن عطاء , عن جابر , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها , فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم , ولا يؤاجرها إياه)) . وحدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا همام , قال: سأل سليمان بن موسى عطاء , فقال: ((أحدثك جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها؟ قال: نعم)) . وقال النسائي في سننه (1) "حدثنا إسماعيل بن مسعود , قال: حدثنا خالد بن الحارث قال: حدثنا عبد الملك , عن عطاء , عن جابر , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان له أرض فليزرعها , فإن عجز أن يزرعها فليمنحها أخاه المسلم ولا يزرعها إياه)) . أخبرنا عمرو بن علي , قال: حدثنا يحيى , حدثنا عبد الملك , عن عطاء , عن جابر , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه ولا يكريها)) . وأخبرنا هشام بن عمار , عن يحيى بن حمزة , قال: حدثنا الأوزاعي , عن عطاء , عن جابر , قال: ((كان لأناس فضول أرضين يكرونها بالنصف والثلث والربع. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أو يمسكها)) .   (1) ج: 7. ص: 36. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 958 أخبرنا عيسى بن محمد , وهو أبو عمير بن نحاس , وعيسى بن يونس , هو الفاخوري , قال: حدثنا ضمرة بن شوذب , عن مطر , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , قال: ((خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها ولا يؤاجرها)) . وافقه عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج على النهى عن كراء الأرض. أخبرنا قتيبة قال: حدثنا المفضل , عن ابن جريج , عن عطاء , وأبي الزبير , عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة , والمزابنة , والمحاقلة , وبيع الثمر حتى يطعم إلا العرايا)) . أخبرني زياد بن أيوب , قال: حدثنا عباد بن العوام , قال: حدثنا سفيان بن حسين , قال: حدثنا يونس بن عبيد , عن عطاء , عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة , والمزابنة , والمخابرة , وعن الثنيا إلا أن تعلم)) . وفي رواية همام بن يحيى كالدليل على أن عطاء لم يسمع من جابر ترجم له يحيى بن معين (التاريخ. ج:2. ص: 402) . فقال: كان عطاء بن أبي رباح معلم كتاب. اسم أبي رباح: أسلم، كان عطاء أسود. حدثنا يحيى بن سعيد القطان , قال: لم يسمع عطاء عن ابن عمر , رآه رؤية. وقال الرازي (الجرح والتعديل. ج: 6. ص:330. الترجمة: 1839) : اسم أبي رباح أسلم , مولى أبي خثيم القرشي الفهري , أبو محمد المكي , رأى عقيل بن أبي طالب , وروى عن أبي هريرة , وابن عباس , وجابر بن عبد الله , ورافع بن خديج , وجابر بن عمير , وعائشة , ومعاوية بن أبي سفيان. ونقل الرازي عن أبي زرعة سماع عطاء عن عائشة. كما نقل عنه ما يشبه إثبات سماعه عن ابن عمر , وترجم له ابن حبان (الثقات. ج: 5. ص: 198) فقال: مولده بالجند من اليمن بمكة , وكان أسود أعور أشل أعرج , ثم عُمي في آخر عمره , وكان من سادات التابعين فقهًا وعلمًا وورعًا وفضلاً، لم يكن له فراش، إلا المسجد الحرام , إلى أن مات سنة أربع عشرة ومائة , وقد قيل: إنه مات سنة خمس عشرة ومائة، كان مولده سنة سبع وعشرين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 959 وقال عنه العجلي (معرفة الثقات. ج: 2. ص: 135 الترجمة: 236) : مكي تابعي ثقة , وكان مفتى أهل مكة في زمنه. ونقل ابن سعد في (الطبقات الكبرى. ج:5. ص: 467 وما بعدها) وصفه أنه أعلم الناس بالمناسك والبيوع , وأنه كان لا يفتر عن ذكر الله والناس يخوضون , فإن تكلم أو سُئل عن شيء أحسن الجواب , وحدث في مجلسه رجل بحديث , فاعترضه رجل آخر , فغضب عطاء , فقال: ما هذه الأخلاق؟! ما هذه الطباع؟! والله إن الرجل ليحدث بالحديث لأنا أعلم به منه , ولعسى أن يكون سمعه مني , فأنصت إليه وأريه كأني لم أسمعه قبل ذلك. قال: وقال سفيان بن عيينة , والفضل بن دكين , ومحمد بن عمر: مات عطاء بمكة سنة خمس عشرة ومائة. وقال محمد بن عمر: وكان له يوم مات ثمان وثمانون سنة , ثم قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي , قال: حدثنا أبو المليح , قال: مات عطاء سنة أربع عشر ومائة. وذكره خليفة (الطبقات. ص: 280) لكنه قال: إن أباه مولى لبني جمح , ويقال: لبني فهر، مات سنة سبع عشرة. وترجم له البخاري (التاريخ الكبير. ج: 6. ص: 463. الترجمة: 2969) فقال: أبو محمد مولى آل أبي خثيم القرشي الفهري الملكي. ثم قال: قال حيوة بن شريح , عن عباس بن الفضل , عن حماد بن سلمة: قدمت مكة سنة مات عطاء سنة أربع عشرة ومائة. وقال أبو نعيم: مات سنة خمس عشرة ومائة , سمع أبا هريرة , وابن عباس , وأبا سعيد , وجابرًا وابن عمر، رضي الله عنهم. وقال الذهبي (سير أعلام النبلاء. ج:5. ص: 78 وما بعدها. ترجمة: 29) : يقال: ولاؤه لبني جمح , كان من مولدي الجند , ونشأ في مكة , ولد في خلافة عثمان، حدث عن عائشة , وأم سلمة , وأم هانئ , وابن عباس , وحكيم بن حزام , ورافع بن خديج , وزيد بن أرقم , وزيد بن خالد الجهني , وصفوان بن أمية , وأبي الزبير , وعبد الله بن عمرو , وابن عمر , وجابر , ومعاوية , وأبي سعيد , وعدة من الصحابة , وأرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم , وأبي بكر , وعتاب بن أسيد , وعثمان بن عفان , والفضل بن عباس , وطائفة. ثم قال بعد أن ذكر لطائفة من مشايخه التابعين وتلاميذه، قال أبو داود: أبو نوبي , وكان يعمل المكاتل , وكان عطاء أعور أشل أفطس أعرج أسود , قال: وقطعت يده مع ابن الزبير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 960 ثم قال: وقال أبو عاصم الثقفي: سمعت أبا جعفر الباقر يقول للناس وقد اجتمعوا: عليكم بعطاء , هو والله خير مني. وعن أبي جعفر قال: خذوا من عطاء ما استطعتم. وبعد أن ذكر طرفًا مما روي عن شدة إيمانه وغزارة علمه , قال: قال الأصمعي: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك وهو جالس على السرير وحوله الأشراف , وذلك في وقت حجه في خلافته , فلما بصر به عبد الملك قام إليه فسلم عليه وأجلسه معه على السرير , وقعد بين يديه , وقال: يا أبا محمد , حاجتك؟ قال: أمير المؤمنين , اتق الله في حرم الله وحرم رسوله , فتعاهده بالعمارة , واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار , فإنك بهم جلست هذا المجلس , واتق الله في أهل الثغور , فإنهم حصن المسلمين , وتفقد أمور المسلمين , فإنك وحدك المسؤول عنهم , واتق الله فيمن على بابك , فلا تغفل عنهم ولا تغلق دونهم بابك , فقال له: أفعل. ثم نهض وقال: فقبض عليه عبد الملك وقال: يا أبا محمد , إنما سألتنا حوائج غيرك وقد قضيناها , فما حاجتك؟ قال: ما لي إلى مخلوق حاجة، ثم خرج فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف، هذا وأبيك السؤدد. في آثار وأخبار غريبة وكثيرة عنه. وترجم له في (تذكرة الحفاظ. ج:1. ص: 91. الترجمة:90) وفي (ميزان الاعتدال. ج:3. ص:70. الترجمة: 5640) وفيه نقل عن يحيى القطان قوله: مرسلات مجاهد أحب إلينا من مرسلات عطاء , يأخذ كل من ضرب. وقال أحمد: ليس في المرسل أخف من مرسل الحسن وعطاء , كانا يأخذان من كل أحد. وأسند إلى علي بن المديني القول بأن ابن جريج وقيس بن سعد تخليا عن عطاء لآخرة. قلت: رحم الله القطان وأحمد , ليس بعد مقالهما مقال لقائل، لكن في النفس شيء من حديثهما عن عطاء والحسن , فإن يكن أبو محمد والحسن لا يتخيران من يأخذان عنه , فما من شك في أنهما كانا يتخيران ما يأخذان ينخلانه ويمحصانه , ومثلهما في علمهما وتقواهما من ينتهي إليه في التوثيق , فإن لم يكن في توثيق الرجال , ففي توثيق نقله , أما نحن فنتقرب إلى الله - ونرجو أن يتقبل - بالأخذ بكل ما رواه عطاء والحسن , إلا أن يثبت لدينا ما يخالف روايتهما , ولا نحسب إلا أنه لم يبلغهما رحمهما الله رحمة واسعة. وانظر ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 7. ص: 199. الترجمة: 384) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 961 حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان له أرض فليزرعها". أخبرني أحمد بن يحيى , قال: حدثنا أبو نعيم , قال: حدثنا همام بن يحيى , قال: سأل عطاء سليمان بن موسى , قال: حدث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها أخاه)) . وقال ابن ماجه في سننه (1) "حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي , حدثنا الوليد بن مسلم , حدثنا الأوزاعي , حدثني عطاء قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ((كان لرجال منا فضول أرضين يؤاجرونها على الثلث والربع , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت له فضول أرضين فليزرعها أو ليزرعها أخاه , فإن أبى فليمسك أرضه)) . وحدثنا عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي , حدثنا ضمرة بن ربيعة , عن ابن شوذب , عن مطرف , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , قال: ((خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها ولا يؤاجرها)) . وقال الدارقطني في سننه (2) "حدثنا ابن صاعد , ومحمد بن هارون الحضرمي , وأحمد بن علي بن العلاء , والقاضي الحسين بن إسماعيل , وأحمد بن الحسين بن الجنيد , قالوا: أخبرنا زياد بن أيوب , أخبرنا عباد بن العوام، أخبرني سفيان بن حسين , عن يونس بن عبيد , عن جابر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة , والمزابنة , والمخابرة , وعن الثنيا , إلا أن يعلم)) . وقال ابن حبان (3) "أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم , قال: حدثنا محمد بن إبراهيم , قال: حدثنا الوليد , قال: حدثنا الأوزاعي , قال: حدثني عطاء , قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ((كانت لرجال منا فضول أرضين يؤاجرونها على الثلث والربع والنصف وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له فضول أرضين فليزرعها أو ليزرعها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه)) . قال أبو حاتم - رضي الله عنه -: قوله: ((ليزرعها أخاه)) يريد به: فليمنحها أخاه , ولو كان ذلك للزراعة نفسها لم يكن لقوله: ((أو ليزرعها)) معنى؛ لأنهم كانوا يزارعون على الثلث والربع والنصف على ما في الخبر. وأخبرنا الحسن بن سفيان , قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء , قال: حدثني مهدي بن ميمون , قال: حدثنا مطر الوراق , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت له أرض فليزرعها , فإن عجز عنها فليمنحها أخاه)) .   (1) ج: 2. ص: 819 و 820. ح: 2451 و2454. (2) ج: 3. ص: 48. ح: 200. (3) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 312 و313. ح: 5166 و5167. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 962 وقال الطحاوي (1) "حدثنا ربيع المؤذن , قال: حدثنا بشر بن بكير , قال: حدثني عطاء بن أبي رباح , عن جابر بن عبد الله , قال: ((كان لرجال منا فضول أرضين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكانوا يؤاجرونها على النصف والثلث والربع , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنح أخاه , فإن أبي فليمسك)) . وحدثنا ابن مرزوق , قال: حدثنا أبو عاصم , عن ابن جريج , قال: حدثنا عطاء , عن جابر ... مثله. وحدثنا سليمان بن شعيب , قال: حدثنا الخصيب , قال: حدثنا همام , قال: قيل لعطاء: هل حدثك جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يؤاجرها؟)) قال عطاء: نعم. وحدثنا محمد بن خزيمة , قال: حدثنا عبد الله بن رجاء , قال: قال: حدثنا همام , قال: سأل سليمان بن موسى عطاء وأنا شاهد، ثم ذكر بإسناده مثله. وحدثنا إبراهيم بن أبي داود , قال: حدثنا خطاب بن عثمان الفوزي , قال: حدثنا ضمرة , عن ابن شوذب , عن مطر , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وذكر مثله. وحدثنا ربيع المؤذن , قال: حدثنا سعيد بن عفير , قال: حدثنا يحيى بن أيوب , عن ابن جريج , عن عطاء , وأبي الزبير , عن جابر , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... مثله.   (1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 107. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 963 وقال ابن عدي (1) "أخبرنا ابن أبي سويد، حدثنا عبد الله بن رجاء، أنبأنا همام , أن عطاء سأله سليمان بن موسى سليمان بن موسى: في أحاديث شتى أوردها بعد أن ترجم له أعقبها في نهاية الترجمة بقوله: ولسليمان بن موسى أورد له ابن عدي أحاديث شتى منها هذا الحديث، ثم أعقبها بقوله كذا: غير ما ذكرته من الحديث , وهو فقيه راوٍ, حدث عنه الثقات من الناس , وهو أحد علماء الشام , وقد روى أحاديث ينفرد بها لا يرويها غيره , وهو عندي ثبت صدوق. وذكر ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج: 4. ص: 226. ترجمة: 377) ، فأشار إلى أنه أخرج له البيهقي والأربعة , وأورد توثيقه , ووصفه بالعلم عن جماعة , وعن ابن معين أنه وصف حديثه عن مالك بن مخامر وعن جابر بأنه مرسل , وأورد عن آخرين وصفه بالإرسال , وبأنه لم يدرك بعض من أسند إليهم , ونقل عن ابن حاتم: محله الصدق , وفي حديثه بعض الاضطراب , ولا أعلم أحدًا من أصحاب مكحول أفقه ولا أثبت منه. قلت: قال البخاري (في الضعفاء الصغير. ص: 109. ترجمة: 146) سليمان بن موسى الدمشقي، ويقال: كنيته أبو أيوب , سمع عطاء , وعمرو بن شعيب. ثم أشار إلى حديث له عن الزهري: "لا نكاح إلا بولي" ثم نقل عن ابن جريج قوله: سألت الزهري فلم يعرفه. قال ابن جريج: وكان سليمان بن موسى يثني عليه. ثم قال البخاري: عنده مناكير. وقال النسائي في (كتاب الضعفاء والمتروكين. ص: 122 الترجمة: 867) : سليمان بن موسى الدمشقي أحد الفقهاء ليس بالقوي في الحديث. وذكره الذهبي في (الميزان. ج: 2. ص: 225 و226. الترجمة: 318) وبعد أن أورد أقوالهم فيه وأحاديث ممن انتقدوه بشأنها , قال: قلت: سليمان فقيه أهل الشام في وقته قبل الأوزاعي , وهذه الغرائب التي تستنكر له يجوز أن يكون حفظها. وأنا شاهد , حدثك جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها؟)) قال عطاء: نعم. وحدثك جابر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ينبذ البسر والثمر جميعًا والزبيب والثمر جميعا)) ؟ قال: نعم.". وعن طريق سعيد بن ميناء روى حديث جابر كل من أحمد , ومسلم , وابن حبان , والطحاوي , وابن الجارود.   (1) الكامل. ج: 3. ص: 118. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 964 قال أحمد (1) "حدثنا عفان , حدثنا سليم بن حيان , حدثنا سعيد بن ميناء , عن جابر بن عبد الله قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان له فضل أرض أو ماء فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا تبيعوها، فسألت سعيدًا: ما (لا تبيعوها؟) الكراء؟ قال: نعم)) . وقال مسلم في صحيحه (2) "حدثنا عبد الله بن هاشم , حدثنا بهز , حدثنا سليم بن حيان، حدثنا سعيد بن ميناء , عن جابر بن عبد الله: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة , والمحاقلة , والمخابرة , وعن بيع الثمرة حتى تشقح)) قال: قلت لسعيد: ما تشقح؟ قال: تحمار وتصفار ويؤكل منها. وحدثنا عبيد الله القواريري , ومحمد بن عبيد الغبري , واللفظ لعبيد الله , قالا: حدثنا حماد بن زيد , حدثنا أيوب , عن أبي الزبير , وسعيد بن ميناء , عن جابر بن عبد الله قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة , والمزابنة , والمعاومة , والمخابرة - قال أحدهما: بيع السنين هي المعاومة - وعن الثنيا ورخص في العرايا)) . وحدثني حجاج بن الشاعر , حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد , حدثنا سليم بن حيان , حدثنا سعيد بن ميناء , قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان له فضل أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا تبيعوها)) . فقلت لسعيد: ما قوله: لا تبيعوها؟ يعني الكراء؟ قال: نعم. وقال ابن حبان (3) "أخبرنا الحسين بن عبد الله القطان بالرقة , قال: حدثنا حكيم بن سيف الرقي قال: حدثنا عبيد الله بن عمرو , عن زيد بن أبي أنيسة , عن أبي الوليد المكي , عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة , والمزابنة , والمخابرة , وأن يباع النخل حتى يشقح , والإقشاح أن تحمر أو تصفر , ويطعم منه شيء. قال زيد: فقلت لعطاء: أسمعت هذا من جابر بن عبد الله ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم)) . قال أبو حاتم: أبو الوليد اسمه سعيد بن ميناء المكي".   (1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 117. ح: 375. (2) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 192 وما بعدها. (3) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 313. ح: 5169. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 965 وقال الطحاوي (1) "وحدثنا إبراهيم بن مرزوق , قال: حدثنا أبو داود , عن سليم بن حيان , عن سعيد بن ميناء , عن جابر بن عبد الله , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان له فضل ماء أو فضل أرض فليزرعها أو يزرعها ولا تبيعوها)) قال سليم: فقلت لهم: يعني الكراء؟ قال: نعم. وقال ابن الجارود (2) "حدثنا محمد بن يحيى , قال: حدثنا أبو النعمان ومسدد , قالا: حدثنا حماد بن زيد , عن أيوب , عن أبي الزبير , وسعيد بن ميناء , عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة , والمزابنة , والمخابرة , والمعاومة - وقال: الآخر بيع السنين - وعن الثنيا ورخص في العرايا)) . وروى حديث جابر عن طريق عمرو بن دينار كل من مسلم , والحميدي , والنسائي , والطحاوي. قال مسلم في صحيحه (3) " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سفيان , عن عمرو , عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة)) . وقال الحميدي في مسنده (4) "وحدثنا سفيان , قال: حدثنا عمرو بن دينار , قال: قال جابر بن عبد الله: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة)) قال سفيان: وكل شيء سمعته من عمرو بن دينار قال لنا فيه: سمعت جابرًا، إلا هذين الحديثين، يعني: لحوم الخيل، والمخابرة، فلا أدري بينه وبين جابر فيهما أحد أم لا".   (1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 107. (2) المنتقى. ص: 205. ح: 598. (3) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 192 وما بعدها. (4) ج:2. ص: 529. ح: 1255. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 966 وقال النسائي في سننه (1) "حدثنا حرمي بن يونس، قال: حدثنا عارم , قال: حدثنا حماد بن زيد , عن عمرو بن دينار , عن جابر بن عبد الله ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) . أخبرني محمد بن عامر , قال: حدثنا شريح , قال: حدثنا محمد بن مسلم , عن عمرو بن دينار , عن جابر , قال: ((نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة , والمحاقلة , والمزابنة)) . جمع سفيان بن عيينة حديثين فقال عن ابن عمر وجابر: أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن , قال: حدثنا ابن المسور , قال: حدثنا سفيان بن عيينة , عن عمرو بن دينار , عن ابن عمر وجابر: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر حتى يبدو صلاحه , ونهى عن المخابرة كراء الأرض بالثلث أو الربع)) . رواه أبو النجاشي واخلتف عليه فيه" وقال الطحاوي (2) "حدثنا فهد , قال: حدثنا ابن أبي مريم , قال: أخبرنا ابن مسلم الطائفي , قال: أخبرني إبراهيم بن ميسرة , قال: أخبرني عمرو بن دينار , عن جابر بن عبد الله قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة , والمحاقلة، والمخابرة على الثلث والربع والنصف من بياض الأرض، والمزابنة: بيع الرطب في رؤوس النخل بالثمر، وبيع العنب في الشجر بالزبيب , والمحاقلة: بيع الزرع قائمًا هو على أصوله بالطعام)) . وروى حديث جابر عن طريق أبي الزبير المكي كل من أحمد , وأبو حنيفة , ومسلم , والترمذي , وابن ماجه , وابن حبان , والرامهرمزي , والطحاوي. قال أحمد في مسنده (3) "حدثنا حسن , حدثنا زهير , عن أبي الزبير , عن جابر , قال: ((كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنصيب من القصري , ومن كذا , فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه وإلا فليدعها)) .   (1) ج: 7. ص: 48. (2) معاني الآثار. ج: 4. ص: 111 (3) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 116. ح: 371. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 967 وقال أبو حنيفة في إسناده عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي (1) عن جابر , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ((نهى عن المزابنة والمحاقلة)) . وقال مسلم في صحيحه (2) "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة , وعلي بن حجر , قالا: حدثنا إسماعيل - وهو ابن علية - عن أيوب , عن أبي الزبير , عن جابر , عن النبي صلى الله عليه وسلم ... بمثله، غير أنه لا يذكر بيع السنين هي المعاومة. وحدثنا أحمد بن يونس , حدثنا زهير , حدثنا أبو الزبير , عن جابر قال: ((كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنصيب من القصري ومن كذا , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو فليحرثها أخاه وإلا فليدعها)) . وحدثني أبو الطاهر , وأحمد بن عيسى , جميعًا عن ابن وهب، قال ابن عيسى: حدثني عبد الله بن وهب , حدثني هشام بن سعد , أن أبا الزبير المكي حدثه , قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ الأرض بالثلث والربع بالماذيانات , فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: ((من كانت له أرض فليزرعها , فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها)) . وقال أبو عيسى (3) "حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب الثقفي , حدثنا أيوب , عن أبي الزبير , عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة, ورخص في العرايا)) . وتعقبه بقوله: حديث حسن صحيح". وقال ابن ماجه في سننه (4) "حدثنا أزهر بن مروان , حدثنا حماد بن زيد , عن أيوب , عن أبي الزبير , وسعيد بن ميناء , عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة)) .   (1) مسند أبي حنيفة. ص: 171. (2) على هامش شرح النووي. ج: 10 ص: 192 وما بعدها. (3) الجامع الصحيح. ج: 3. ص: 605. ح: 1313. (4) ج: 2. ص: 762. ح: 2265. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 968 وقال ابن حبان (1) "أخبرنا أبو يعلى , قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم المروزي , قال: أخبرنا يحيى بن سليم , عن ابن خثيم , عن أبي الزبير , عن جابر , قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لم يذر المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله)) . هو إسحاق بن أبي إسرائيل". وقال الرامهرمزي (2) "حدثني أبي , حدثنا أبو داود , حدثنا يحيى بن معين , حدثنا عبد الله بن رجاء، قال: ابن خثيم حدثنا، عن أبي الزبير , عن جابر , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله)) . وقال الطحاوي (3) "حدثنا ابن أبي داود , قال: حدثنا يحيى بن معين , قال: حدثنا عبد الله بن رجاء , قال: ابن خثيم حدثني، عن أبي الزبير , عن جابر , قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله عز وجل)) . حدثنا فهد , قال: حدثنا محمد بن السعيد , قال: أخبرنا يحيى بن سليم الطائفي , عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، فذكر بإسناده مثله، وزاد: ((من الله ورسوله)) . وحدثنا يونس , قال: أخبرنا ابن وهب , قال: أخبرني هشام بن سعد , أن أبا الزبير المكي حدثه قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ((كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ الأرض بالثلث والربع وبالماذيانات , فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك)) .   (1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 317. ح: 5177. (2) المحدث الفاضل. ص: 486. ح: 594. (3) معاني الآثار. ج: 4. ص: 107 و108. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 969 وحدثنا يونس , قال: حدثنا عبد الله بن نافع المدني , عن هشام بن سعد , عن أبي الزبير المكي , عن جابر بن عبد الله , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن رجالاً يكرون مزارعهم بنصف ما يخرج منها وبثلثه وبالماذيانات، فقال في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه فإن لم يفعل فليمسكها)) . وحدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني هشام بن سعد , أن أبا الزبير المكي حدثه , قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ((كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ الأرض أو الربع "بالماذيانات" فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك)) . وحدثنا سليمان بن شعيب , قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد , قال: حدثنا زهير بن معاوية , عن أبي الزبير , عن جابر قال: ((كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنصيب كذا وكذا , فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه وإلا فليزرعها)) . وروى الطحاوي حديث جابر عن طريق واسع بن حبان فقال (1) "حدثنا ابن أبي داود , قال: حدثنا الوهبي , قال: حدثنا ابن إسحاق , عن محمد بن يحيى بن حبان , عن عمه واسع بن حبان (2) عن جابر بن عبد الله قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)) .   (1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 112. (2) واسع بن حبان المازني المدني روى عن رافع بن خديج وعبد الله بن عمر وأبي سعيد وجابر وآخرين روى عنهم ابن حبان وابن أخيه محمد بن يحيى. قال عنه أبو زرعة: مدني ثقة. (الجرح والتعديل. ج: 9. ص: 48. الترجمة:204) . قال ابن حبان (الثقات. ج: 5. ص: 498 و499) : أمه هند بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وقال ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج: 11. ص: 102. ترجمة: 125) : بعد أن أورد كلام أبي زرعة وابن حبان ذكره البغوي في الصحابة وقال: في صحبته مقال. وقال العجلي: مدني ثقة. انظر العجلي (معرفة الثقات. ج: 2. ص: 338. الترجمة: 1925) وزعم العبدوي أنه شهد بيعة الرضوان - زاد في (الإصابة ج: 3. ص: 627 الترجمة: 9093) نقلًا عن العبدوي - والمشاهد بعدها , وقتل يوم الحرة. وتعقبه بقوله: قلت: وهذا غير الراوي فيما أظن لأنه مشهور في التابعين وحديثه في صحيح مسلم. وقد فرق بينهما ابن قنصون في ذيل الاستيعاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 970 وروى النسائي حديث جابر عن طريق أبي سلمة , فقال (1) "أخبرنا الثقة , قال: حدثنا حماد بن مسعدة , عن هشام بن عبد الله , عن يحيى بن أبي كثير , عن أبي سلمة , عن جابر بن عبد الله ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمخاضرة (2) -والمخاضرة: بيع الثمر قبل أن يزهو - والمخابرة وبيع الكرم بكذا وكذا صاع.)) خالفه عمرو بن أبي سلمة , فقال: عن أبي هريرة ". وروى الدارقطني حديث جابر عن طريق ابن المنكدر , فقال (3) "حدثنا محمد بن نوح. أخبرنا جعفر بن محمد بن حبيب , أخبرنا عبد الله بن رشيد. أخبرنا عبيد الله بن عبيد الله , عن ذر , عن محمد بن المنكدر , عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض إلا بذهب أو فضة)) . وروى مسلم حديث جابر عن طريق أبو سفيان , فقال (4)   (1) ج: 7. ص: 36. (2) قال ابن الأثير (النهاية. ج: 2. ص: 41) : وفيه أنه نهى عن المخاضرة وهي بيع الثمار خضرًا لم يبد صلاحها. والكلمة مدارها الطراوة التي يتسم بها النبات في عنفوان خروجه ويتسم بها الزهر عند انبثاق الأكمام عنه ثم استعملت في وصف الطري من كل شيء (3) سنن الدارقطني. ج: 3. ص: 36. ح: 147. (4) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 192 وما بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 971 "حدثنا أحمد بن المثنى. حدثنا يحيى بن حماد. حدثنا أبو عوانة , عن سليمان، حدثنا أبو سفيان , عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كانت له أرض فليهبها أو ليعرها)) .وروى حديث جابر عن طريق ابن أبي عياش كل من مسلم وابن حبان. قال مسلم في صحيحه (1) "حدثني هارون بن سعيد الأبلي. حدثنا وهب. أخبرني عمرو - وهو ابن الحارث - أن بكيرًا حدثه , أن عبد الله بن أبي سلمة حدثه , عن النعمان بن أبي عياش , عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) . وحدثنيه حجاج بن الشاعر. حدثنا أبو الجواب. حدثنا عمار بن زريق , عن الأعمش بهذا الإسناد , غير أنه قال: ((فليزرعها أو فليزرعها رجلا)) . وقال ابن حبان (2) "أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم , قال: حدثنا حرملة بن يحيى , قال: حدثنا ابن وهب , قال: أخبرني عمرو بن الحارث , أن بكيرًا حدثهم , أن عبد الله بن أبي سلمة حدثه , عن النعمان بن أبي عياش , عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) . قال بكير: وحدثني نافع , أنه سمع ابن عمر يقول: ((كنا نكرى أرضنا , ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)) . وروى النسائي حديث جابر عن طريق يزيد بن نعيم (3) ومطر , فقال (4) : "وقد روى النهي عن المحاقلة يزيد بن نعيم عن جابر بن عبد الله.   (1) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 192 وما بعدها. (2) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 314. ح: 5170. (3) يزيد بن نعيم بن هزال الأسلمي حجازي , كذا قال ابن حجر (تهذيب التهذيب ج: 11. ص:365. الترجمة: 708) روى عن أبيه وجده. يقال: مرسل - يعنى أنه يرسل عن جده ولم يسمع منه - وجابر , ويقال: لم يسمع منه , وسعيد بن المسيب وعنه زيد بن أسلم , وهو من أقرانه , وأبو سلمة بن عبد الرحمن , وهو أكبر منه , ويحيى بن سعيد الأنصاري , ويحيى بن عبد الرحمن , وهو أكبر منه , ويحيى بن سعيد الأنصاري , ويحيى بن كثير , وهشام بن سعد , وعكرمة بن عمار , ذكره ابن حبان في الثقات. قلت - القائل ابن حجر -: حديثه عن جابر متصل , ووقع التصريح به عند مسلم. وقال البخاري: سمع جابر. (4) ج: 7. ص: 36. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 972 أخبرنا محمد بن إدريس , قال: حدثنا أبو توبة , قال: حدثنا معاوية بن سلام , عن يحيى بن أبي كثير , عن يزيد بن نعيم , عن جابر بن عبد الله ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحقل وهي المزابنة)) . أخبرني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم , عن يونس , قال: حدثنا حماد , عن مطر , عن جابر رفعه ((نهى عن كراء الأرض)) . أما الحديث الثالث الذي نقف عنده فهو حديث سعد بن أبي وقاص الذي رواه كل من أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والطحاوي، وقد رأينا أن نثبته هنا ونقدمه على غيره اعتبارًا لمقام سعد - رضي الله عنه – فهو أحد العشرة وآخرهم لحاقًا بالرفيق الأعلى , وأحد السبعة الذين عهد لهم الفاروق - رضي الله عنه - بأمر الخلافة من بعده , وإن كنا نشك في صحة هذا الحديث , إذ مداره عبد الرحمن بن لبيبة , أو ابن أبي لبيبة عبد الرحمن بن عطاء القرشي مولاهم أبو محمد ابن بنت أبي لبيبة ويقال أحيانًا: ابن لبيبة المدني , روى عن عبد الملك بن جابر بن عتيك ومحمد بن جابر بن عبد الله وسليمان بن يسار وسعيد بن المسيب وأبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر , وعنه ابن أبي ذئب وسليمان بن بلال والدراوردي وهشام بن سعد وحاتم بن إسماعيل وغيرهم , نقل ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: ص: 230. الترجمة: 467) عن أبي حاتم قوله: شيخ يحول من كتاب الضعفاء , ولفظ أبي حاتم الرازي. (الجرح والتعديل. ج: 5 ص: 299. الترجمة:1269) رواه ابنه , فقال: وسألته عنه , فقال: شيخ. قلت: أدخله البخاري في كتاب الضعفاء , قال: يحول من هناك. ولفظ البخاري (التاريخ الكبير. ج:5. ص: 336.الترجمة: 1070. والضعفاء الصغير ص: 142. الترجمة: 206) "فيه نظر". ونقل ابن حجر , عن النسائي أنه قال: ثقة. قال: وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن سعد: توفي سنة ثلاث وأربع ومائة , وكان ثقة , قليل الحديث. ثم قال: قلت: وقال ابن حبان: بصري , أصله من أهل المدينة , يعتبر حديثه إذا روى عن غير عبد الكريم أبي أمية. وقال الأزدي: لا يصح حديثه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 973 وقال ابن وضاح: كان رفيقًا لمالك في الطلب. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. وقال ابن عبد البر: ليس عندهم بذاك، وترك مالك الرواية عنه هو وجاره. قلت: لم أقف على ترجمة له في النسخة المطبوعة التي بين يدي من كتاب الثقات لابن حبان , ولعله ذكره في معرض ترجمة أخرى , ولعل ابن حبان مثل عدد غيره من نقدة الحديث , ومنهم يحيى بن معين ممن يضعف حديث عبد الكريم أبي أمية؛ لأنهم يتهمونه بالقول بالإرجاء , ولذلك ضعفوا ابن أبي لبيبة , وحصر ابن حبان تضعيفه فيما نقل عنه ابن حجر في روايته عن عبد الكريم , وانظر ترجمة عبد الكريم وأقوالهم فيه في (تهذيب التهذيب. ج: 6. ص: 376. الترجمة:716) . ونقل الذهبي في (الميزان. ج:2. ص: 579. ترجمة: 4919) تلخيصًا لما نقله ابن حجر، ثم قال: قيل: مات سنة ثلاث وأربع ومائة. وفيه كلام. كما أن الحديث نفسه يختلف في الحكم الذي يشرعه عن حديثي رافع بن خديج وجابر بن عبد الله اللذين سبق أن أدرجناهما بأسانيدهما المختلفة وغالبيتها صحيحة لا مجال للكلام فيها. وعن أحاديث كل من أبي سعيد الخدري , وأبي هريرة , وأنس بن مالك , وثابت بن الضحاك , التي سندرجها على التوالي عقب هذا الحديث المنسوب إلى سعد بن أبي وقاص , وهي كما سيتضح من أسانيدها أقوى من حديث ابن لبيبة أو ابن لبيبة عن سعد , فمعظم أسانيدها لا مجال للتقول فيها. قال أحمد في مسنده (1) "حدثنا يعقوب , قال: سمعت أبي يحدث , عن محمد بن عكرمة , عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة , عن سعيد بن المسيب , عن سعد بن أبي وقاص ((أن أصحاب المزارع في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي بالزرع , وما سعد بالماء مما حول النبت، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم , فاختصموا في بعض ذلك , فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكروا بذلك , وقال: أكروا بالذهب والفضة)) .   (1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 120. ح: 385. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 974 وقال أبو داود في سننه (1) "حدثنا عثمان بن أبي شيبة , حدثنا يزيد بن هارون , أخبرنا إبراهيم بن سعد , عن محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام , عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة (2) عن سعيد بن المسيب عن سعد قال: ((كنا نكري الأرض بما على السواقي من الزرع وما سعد بالماء منها , فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك , وأمرنا أن نكريها بذهب أو فضة)) . وقال النسائي في سننه (3) "أخبرنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم , قال: حدثني عمي , قال: حدثنا أبي , عن محمد بن عكرمة , عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة , عن سعيد بن المسيب , عن سعد بن أبي وقاص , قال: ((كان أصحاب المزارع يكرون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم مزارعهم بما يكون علي المساقي من الزرع , فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم , فاختصموا في بعض ذلك , فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكروا بذلك , وقال: أكروا بالذهب والفضة)) . وقال ابن حبان (4) : "أخبرنا عبد الله بن محمد , قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم , قال: أخبرنا يزيد بن هارون , قال: أخبرنا إبراهيم بن سعد , عن محمد بن عكرمة , عن عبد الرحمن بن الحارث , عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة , عن بن المسيب , عن سعد بن أبي وقاص , قال: ((كنا نكري الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على السواقي من الزرع , وبما سقي بالماء منها , فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك , ورخص لنا أن نكريها بالذهب والورق)) .   (1) ج: 3. ص 258. ج: 3391. (2) ج: 3. ص 258. ج: 3391. (3) ج:7. ص:41. (4) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص:317 و318. ح: 5178. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 975 وقال الطحاوي (1) "حدثنا أحمد بن داود , قال: أخبرنا إبراهيم بن سعد , قال: حدثني محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن لبيبة - في السند وهم أكبر الظن أنه من الطابع، فمحمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي , وجده عبد الرحمن ليس هو عبد الرحمن بن لبيبة، وهذا الأخير له ابن يسمى محمد بن عبد الرحمن أيضًا، وقد روى عنه ابن عكرمة كما روى هو نفسه مباشرة - عن سعيد بن المسيب , عن سعد بن أبي وقاص , قال: ((كان الناس يكرون المزارع بما يكون على السواقي وما يسقى بالماء مما حول البير , فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك , وقال: أكروها بالذهب والورق)) . وأما الحديث الرابع الذي نقف عنده , فهو حديث أبي سعيد الخدري , الذي رواه كل من أحمد , ومالك , والنسائي , وابن ماجه. قال أحمد في مسنده (2) "حدثنا محمد بن إدريس، يعني الشافعي , قال: أنبأنا مالك , عن داود بن الحصين , عن أبي سفيان مولى أبي أحمد , عن أبي سعيد الخدري ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمحاقلة)) . والمزابنة: اشتراء الثمر بالتمر في رؤوس النخل , والمحاقلة: استكراء الأرض بالحنطة. وفي لفظ: والمزابنة: اشتراء الثمرة في رؤوس النخل كيلاً". وقال مالك (3) "عن داود بن الحصين , عن أبي سفيان مولى ابن أحمد , عن أبي سعيد الخدري ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة , والمحاقلة)) ، والمزابنة: اشتراء الثمر بالثمر في روض النخل، والمحاقلة: كراء الأرض بالحنطة ".   (1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 111. (2) الفتح الرباني ج: 5. ص: 36. ح: 113. (3) الموطأ. ص:521. ح:21. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 976 وقال النسائي في سننه (1) "أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك , قال: حدثنا يحيى , هو ابن آدم , قال: حدثنا عبد الرحيم , عن محمد بن عمر , عن أبي سلمة , عن أبي سعيد الخدري قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)) . خالفهم الأسود بن العلاء فقال: عن أبي سلمة , عن رافع بن خديج ". وقال ابن ماجه في سننه (2) "حدثنًا محمد بن يحيى , حدثنا مطرف بن عبد الله , حدثنا مالك , عن داود بن الحصين , عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد , أنه أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة)) . والمحاقلة استكراء الأرض. أما الحديث الخامس الذي نقف عنده , فهو حديث أبي هريرة الذي رواه كل من البخاري , وابن ماجه , والطحاوي. قال البخاري في صحيحه (3) "وقال الربيع بن نافع أبو توبة: حدثنا معاوية بن يحيى , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه , فإن أبى فليمسك أرضه)) .   (1) (3) ج: 7. ص: 39. (2) ج: 2. ص: 820. ح: 2455. (3) ج: 3. ص: 72. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 977 وقال ابن ماجه في سننه (1) "حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري , حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع بن معاوية بن سلام , عن يحيى بن أبي كثير , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه)) . وقال الطحاوي: "حدثنا أبو بكرة , حدثنا حسين بن حفص الأصبهاني , حدثنا سفيان , قال: حدثني سعد بن إبراهيم , قال: حدثني عمرو بن أبي سلمة , عن أبي سلمة بن عبد الرحمن , عن أبي هريرة , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله - يعني مثل حديث واسع بن حيان عن جابر وقد تقدم –". على أن حديث أبي هريرة هذا قد روي من طرق ثلاث فيها كلام، وبلفظ يختلف عن الروايات السابقة اختلافًا يدعو إلى التأمل!؟. فروى أحمد في مسنده (2) "حدثنا أسود , حدثنا شريك , عن سهيل سهيل بن أبي صالح , واسمه ذكوان السمان بن يزيد المدني , روى عن أبيه , وسعيد بن المسيب , والحارث بن مخلد الأنصاري , وآخرين , وفيهم أقرانه , وروى عنه الأربعة , والأعمش , ويحيى بن سعيد , ومالك , وشعبة , وإسحاق الفزاري , وابن جريج , والسفيانان , وخلق غيرهم. قال ابن عيينة: كنا نعد سهيلًا ثبتًا في الحديث. وقال حرب عن أحمد: ما أصلح حديثه. وقال أبو طالب عن أحمد: قال يحيى بن سعيد: محمد - يعني ابن عمرو - أحب إلينا , وما صنع شيئًا سهيل أثبت عندهم. وقال الدوري , عن يحيى بن معين (انظر تاريخ ابن معين ج:2. ص:243) : سهيل بن أبي صالح والعلاء بن عبد الرحمن حديثهما قريب من السواء , وليس حديثهما بحجة.   (1) ج: 2. ص: 820. ح: 2452. (2) الفتح الرباني ج: 15. ص: 36 ح: 112. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 978 وقال ابن أبي حاتم (انظر الرازي الجرح والتعديل. ج: 4. ص: 246. ترجمة:1063) عن أبي زرعة: سهيل أشبه وأشهر , يعني من العلاء، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به , وهو أحب إليَّ من العلاء، وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي (انظر الكامل. ج:3. ص: 1285) - بعد أن أسند إليه عدة أحاديث - ولسهيل أحاديث كثيرة غير ما ذكرت وله نسخ، روى عنه الأئمة مثل النووي , وشعبة , ومالك , وغيرهم من الأئمة , وحدث سهيل عن جماعة عن أبيه , وهذا يدل على ثقة الرجل. حدث سهيل عن سمي , عن أبي صالح. وحدث سهيل , عن الأعمش , عن أبي صالح. وحدث سهيل , عن عبد الله بن مقسم , عن أبي صالح , وهذا يدلك على تمييز الرجل وتمييز بين ما سَمع من أبيه ليس بينه وبين أبيه أحد , وبين ما سمع من سمي الأعمش وغيرهما من الأئمة , وسهيل عندي مقبول الأخبار ثبت لا بأس به , وقد نقل عنه الذهبي (الميزان. ج: 2. ص 243. ترجمة: 3604) هذا القول مع بعض التغيير لعل سببه التلخيص وأحسب ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج: 4. ص: 263. ترجمة: 453) نقل ما أثبته عن الذهبي وكلاهما فيما نقله تقديم وتأخير. وترجم له البخاري في (التاريخ الكبير ج: 4. ص: 104، 105. ترجمة: 2120) ولم ينقل فيه تجريحا , بل أسند إليه حديثًا , وكأنه يريد بذلك الإشارة إلى أنه غير ملتفت إلى تجريحه. عن أبيه عن أبي هريرة قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة: وهو اشتراء الزرع وهو في سنبله بالحنطة , وعن المزابنة: وهو شراء الثمار بالثمر)) . وقال الترمذي (1) "حدثنا قتيبة. حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن الإسكندراني , عن سهيل بن أبي صالح , عن أبيه , عن أبي هريرة قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)) . وتعقبه بقبوله: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. وشرحه بقوله: والمحاقلة: بيع الزرع بالحنطة , والمزابنة: بيع الثمر على رؤوس النخل بالثمر". وقال النسائي في سننه (2)   (1) الجامع الصحيح ج: 3 ص: 527. ج: 1224. (2) ج: 7. ص: 37. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 979 "أخبرنا عمرو بن علي , قال: حدثنا ابن عبد الرحمن , قال: حدثنا سفيان , عن سعيد بن إبراهيم , عن عمرو بن أبي سلمة عمرو بن أبي مسلمة التنيمي - بمثناة فنون ثقيلة بعدها تحتانية ثم مهملة - أبو حفص الدمشقي مولى بني هاشم روى عن الأوزاعي وصدقة بن عبد الله وحفص بن ميسرة ومالك والليث وطائفة وعنه ابنه سعيد والشافعي وآخرون وصفه أحمد بن صالح المصري بأنه حسن المذهب وأوضح ذلك بقوله: وكان عنده شيء سمعه من الأوزاعي وشيء أجازه له , فكان يقول فيما سمع: حدثنا الأوزاعي , ويقول في الباقي: عن الأوزاعي. ويظهر أنه يحدث إجازة أكثر مما يحدث سماعًا , فقد روى ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 8. ص: 43. ترجمة: 70) - وعنه ننقل هذه الترجمة بشيء من الإيجاز - عن حامد بن زنجويه , قوله: لما رجعنا من مصر قال لنا أحمد: مررتم بأبي حفص , قلنا: وأي شيء عنده , إنما عنده خمسون حديثًا , والباقي المناولة. قال: المناولة كنتم تأخذون منها وتنظرون فيها ومع أنه روى عنه الجماعة , فقد روي عن ابن معين تضعيفه , وعن أبي حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به , ووصفه العقيلي بأن في حديثه وهما , ووثقه ابن حبان , واختلفوا في وفاته ما بين سنة اثنتي عشرة وسنة أربع عشرة , وذكروا أنه أخطأ في إسناد بعض الأحاديث عن أبيه عن أبي هريرة قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)) . خالفهما محمد بن عمرو , فقال: عن أبي سلمة , عن أبي سعيد. أما الحديث السادس الذي نقف عنده , فهو حديث أنس بن مالك الذي رواه كل من الحاكم والدارقطني والطحاوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 980 قال الحاكم في مستدركه (1) "حدثنا أبو الوليد الفقيه. حدثنا أبو نعيم الجرجاني , حدثنا حماد بن الحسن بن عبسة. حدثنا عمر بن يونس بن القاسم. حدثنا أبي , عن إسحاق بن عبد الله بن طلحة , عن أنس رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والمنابذة)) قال ابن الأثير (النهاية. ج:5. ص: 6) : فيه أنه نهى عن المنابذة في البيع , هو أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلي الثوب أو أنبذه إليك ليجب البيع، وقيل: هو أن يقول: إذا نبذت إليك الحصاة فقد يجب البيع , فيكون البيع معطاة من غير عقد , ولا يصح. يقال: نبذت الشيء أنبذه نبذًا فهو منبوذ , إذا رميته وأبعدته , ومنه حديث: فنبذ خاتمه , فنبذ الناس خواتمهم؛ أي: ألقاه من يده. وفي حديث علي بن حاتم أمر له لما أتاه بمنبذة أو وسادة , سميت بها؛ لأنها تنبذ؛ أي: تطرح , ومنه الحديث: فأمر بالستر أن يقطع ويجعل له منه وسادتان منبوذتان , وفيه: أنه مر بقبر منتبذ عن القبور؛ أي: منفرد بعيد عنها. وقال ابن منظور (لسان العرب. ج: 3. ص: 512) : والنبذ يكون بالفعل والقول في الأجسام والمعاني , ومنه نبذ العهد ونقضه وألقاه إلى من كان بينه وبينه , والمنابذة في التجر أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلي الثوب أو غيره من المتاع , أو أنبذه إليك فقد وجب البيع بكذا وكذا. وقال اللحياني: المنابذة أن ترمي إليه بالثوب , ويرمي إليك بمثله , والمنابذة أيضًا أن يرمي إليك بحصاة عنه أيضًا , وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المنابذة في البيع والملامسة , قال أبو عبيد: المنابذة أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلي الثوب أو غيره من المتاع , أو أنبذه إليك , وقد وجب البيع بكذا وكذا. قال: ويقال: إنما هي أن تقول: إذا نبذت الحصى إليك فقد وجب البيع. ومما يحققه الحديث الآخر أنه نهى عن بيع الحصاة , فيكون البيع معاطاة من غير عقد ولا يصح , ونذر بقية الحديث. وتعقبه بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد , وقد تفرد بإخراجه البخاري وأقره الذهبي ". وقال الدارقطني في سننه (2) "حدثنا أبو طالب علي بن محمد بن أحمد بن الجهم الكاتب. أخبرنا حماد بن الحسن. أخبر عمر بن يونس. أخبرنا أبي , عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة , عن أنس بن مالك قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة والمنابذة والمزابنة)) . قال عمر: فسره أبي: المخاضرة: لا يشتري شيئًا من الحرث والنخل حتى يونع يحمر أو يصفر، وأما المنابذة: فيرمي بالثوب ويرمى إليكم بمثله , فيقول: هذا لك بهذا. والملامسة: يشتري المبيع فيلمسه لا ينظر إليه. والمحاقلة: كراء الأرض ".   (1) ج:2. ص:57. (2) ج: 3. ص: 75. ح: 285 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 981 وقال الطحاوي (1) "حدثنا إبراهيم بن مرزوق. حدثنا عمر بن يونس بن القاسم , قال: حدثنا أبي , عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة , عن أنس بن مالك مثله، يعني حديث واسع بن حيان عن جابر ". أما الحديث السابع والأخير , فهو حديث ثابت بن الضحاك الذي رواه كل من ابن حبان والطحاوي. قال ابن حبان (2) أخبرنا بكر بن محمد بن عبد الوهاب أبو عمر القزاز بالبصرة، قال: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب , قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد , قال: حدثنا سليمان الشيباني , قال: حدثنا عبد الله بن السائب , قال: سألت عبد الله بن مغفل عن المزارعة , فقال: أخبرني ثابت بن الضحاك ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة)) . وقال الطحاوي (3) حدثنا إبراهيم بن مرزوق , قال: حدثنا حبان بن هلال. وحدثنا محمد بن داود , قال: حدثنا هارون بن مسلم , قالا: وحدثنا عبد الواحد بن زياد , قال: حدثنا سليمان الشيباني , قال: حدثني عبد الله بن السائب , قال: سألت عبد الله بن مغفل عن المزارعة , فقال: أخبرني ثابت بن الضحاك ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة)) . حدثنا فهد , قال: حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني , قال: حدثنا علي بن مهر , عن الشيباني , قال: أخبرنا عبد الله بن السائب ... فذكر بإسناده مثله. ويظهر أن نفرًا من الصحابة وخاصة من شبابهم , لم تبلغهم بادئ الأمر الأحاديث التي سقناها آنفًا وما شاكلها، أو بلغهم بعض منها بالمعنى وعلى صور غير محددة , أو اختلفت عليهم أسباب ورودها، فكانت لهم فتاوى ناتجة عن اجتهادات شخصية في موضوع التصرف بالكراء وفي تأويل ما بلغهم عن تلك الأحاديث بشأنه , وبتتبع نصوص فتاويهم واجتهاداتهم التي بين أيدينا , يتضح أن حديث جابر بن عبد الله وحديث أبي هريرة وحديث سعد بن أبي وقاص وحديث أبي سعيد الخدري وحديث ثابت بن الضحاك، كل ذلك لم يبلغهم، إنما بلغهم حديث رافع بن خديج , وهو منقول عنه في نصوص بعضها ينقص من بعض , لما سنذكره بعد حين، ويظهر أنهم بعد أن أعلنوا اجتهاداتهم في تأويل حديث رافع وفتاواهم في شأن التصرف في الأرض بالكراء , بلغهم من حديث رافع أو غيره ما حملهم على تعديل مواقفهم.   (1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 12. (2) الإحسان بترتب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 312. ح: 5165. (3) معاني الآثار. ج: 4. ص: 106. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 982 ومن أبرز هؤلاء النفر من الصحابة الذين كانت لهم فتاوى يمكن أن تصفها من أنها متناسخة في هذا الشأن كل من ابن عباس وزيد بن ثابت، وفيما يلي ما نقل عنهما على الترتيب الذي التزمناه في نقل الأحاديث النبوية السالفة: أما ما أُثِر عن ابن عباس، فقد رواه كل من أحمد وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والحميدي والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والطحاوي. قال أحمد في مسنده (1) حدثنا عبد الرزاق. أنبأنا معمر , عن ابن طاوس , عن أبيه , عن ابن عباس قال: لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها كذا وكذا لشيء معلوم. قال ابن عباس: وهو الحقل , بلسان الأنصار: المحاقلة. وقال عبد الرزاق في مصنفه (2) أخبرنا معمر , عن عبد الكريم الجزري , قال: قلت لسعيد بن جبير: إن عكرمة يزعم أن كراء الأرض لا يصلح فقال: كذب عكرمة , سمعت ابن عباس يقول: إن خير ما أنتم صانعون في الأرض أن تكروا الأرض البيضاء بالذهب والفضة. وعن الثوري , عن عبد الكريم الجزري , عن سعيد , أن ابن عباس قال: إن أمثل ما أنتم صانعون أن تستأجروا الأرض البيضاء. وأخبرنا ابن عيينة , عن عمرو بن دينار , قال: قلت لطاوس: ((لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها. فقال: أي عمرو , أخبرني أعلمهم - يعني ابن عباس – أنه لم ينهه عنها)) . أخبرنا معمر وابن جريج , عن ابن طاوس , عن أبيه , عن ابن عباس قال: لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها كذا وكذا - لشيء معلوم - قال: وقال ابن عباس: هو الحقل وهو بلسان الأنصار المحاقلة.   (1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 119. ح: 383. (2) ج: 8. ص: 91 و97. ح: 4447 و4466 و4467) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 983 وقال الحميدي في مسنده (1) حدثنا سفيان , قال: حدثنا عمرو , قال: قلت لطاوس: يا أبا عبد الرحمن , ((لو تركت المخابرة , فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها , فقال: أي عمرو، أخبرني أعلمهم بذلك - يعني ابن عباس - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها , ولكن قال: لأن يمح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليه خراجًا معلومًا)) . وأن معاذًا حين قدم اليمن أقرهم عليها , وأني - أي عمر - أعينهم وأعطيهم , فإن ربحوا , فلي ولهم , وإن نقصوا فعلي وعليهم , وأن (الحيقلة) في الأنصار , فسل عنها. فسألت علي بن رفاعة , فقال: هي المخابرة. قلت: قال المعلق في الأصل؛ أي الذي نقل عنه: (وإن ألحقت) , وفي (ع) : (وإن الحيقلة) , والصواب عندي: (الحقلة) , والحقيلة: قراح طيب يزرع فيه وفي (ظ) : (الحقلة) . وقال البخاري في صحيحه (2) حدثنا علي بن عبد الله. حدثنا سفيان , قال عمرو: قلت لطاوس: ((لو تركت المخابرة , فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم نهى عنها، قال: أي عمرو، إني أعطيهم وأغنيهم , وإن أعلمهم أخبرني - يعني ابن عباس رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه , ولكن قال: لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خراجًا معلومًا.)) وحدثنا قبيصة. حدثنا سفيان , عن عمرو قال: ذكرته لطاوس , فقال: يزرع، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه , ولكن قال: ((لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ شيئًا معلومًا)) . وتعليقًا تحت ترجمة (باب كراء الأرض بالذهب والفضة) . وقال ابن عباس: إن أمثل ما أنتم صانعون أن تستأجروا الأرض البيضاء من السنة إلى السنة. وقال مسلم في صحيحه (3) حدثنا يحيى بن يحيى. أخبرنا حماد بن زيد , عن عمرو , أن مجاهدًا قال لطاوس: انطلق بنا إلى رافع بن خديج فاسمع منه الحديث , عن أبيه , عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال: فانتهره , قال: والله لو أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ما فعلته , ولكن حدثني من هو أعلم به منهم - يعني ابن عباس - أن رسول الله قال: ((لأن يمنح الرجل أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها خراجًا معلومًا)) .   (1) ج: ا. ص: 236. ح 509. (2) ج: 3. ص: 69، 72، 73. (3) على هامش شرح النووي ج: 10. ص: 207. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 984 وحدثنا ابن أبي عمر. حدثنا سفيان , عن عمرو وابن طاوس , عن طاوس أنه كان يخابر , قال عمرو: فقلت له: ((يا أبا عبد الرحمن , لو تركت هذه المخابرة، فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة. فقال: أي عمرو، أخبرني أعلمهم في ذلك، أي ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها , إنما قال: لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خراجًا معلومًا)) . حدثنا ابن أبي عمر. حدثنا الثقفي عن أيوب. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم. جميعًا , عن وكيع , عن سفيان. وحدثنا محمد بن رمح. أخبرنا الليث , عن ابن جريج. وحدثني علي بن حجر. حدثنا الفضل بن موسى عن شريك عن شعبة. كلهم عن عمرو بن دينار , عن طاوس , عن ابن عباس , عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديثهم. وحدثني عبد بن حميد ومحمد بن رافع - قال عبد: أخبرنا , وقال ابن رافع: حدثنا عبد الرزاق - أخبرنا معمر , عن ابن طاوس , عن أبيه , عن ابن عباس , أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها كذا وكذا)) لشيء معلوم , قال: وقال ابن عباس: هو الحقل , وهو بلسان الأنصار المحاقلة. وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي. أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي. حدثنا عبد الله بن عمر , عن زيد بن أبي أنيسة , عن عبد الملك بن زيد , عن طاوس , عن ابن عباس , أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت له أرض فإنه أن يمنحها أخاه خير)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 985 وقال الترمذي في صحيحه (1) حدثنا محمود بن غيلان , أخبرنا الفضل بن موسى الشيباني. أخبرنا شريك , عن شعبة , عن عمرو بن دينار , عن طاوس , عن ابن عباس , ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم المزارعة , ولكن أمر أن يوفق بعضهم ببعض)) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقال أبو داود في سننه (2) حدثنا محمد بن كثير. أخبرنا سفيان , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: ما كنا نرى بالمزارعة بأسًا , حتى سمعت رافع بن خديج يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها , فذكرته لطاوس , فقال: قال لي ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها , ولكن قال: ((لأن يمنح أحدكم أرضه خير له من أن يأخذ عليها خراجًا معلومًا)) . وقال ابن ماجه في سننه (3) حدثنا محمد بن رمح. أنبأنا الليث بن سعد , عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج , عن عمرو بن دينار , عن طاوس , عن ابن عباس أنه لما سمع إكثار الناس في كراء الأرض , قال: سبحان الله , إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا منحها أحدكم أخاه)) ولم ينه عن كرائها. حدثنا العباس بن عبد العظيم العنبري. حدثنا عبد الرزاق , أنبأنا معمر , عن ابن طاوس , عن أبيه , عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها كذا وكذا)) لشيء معلوم. قال ابن عباس: هو الحقل , وهو بلسان الأنصار المحاقلة. حدثنا محمد بن الصباح , أنبأنا سفيان بن عيينة , عن عمرو بن دينار , قال: قلت لطاوس: يا أبا عبد الرحمن، لو تركت هذه المخابرة , فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فقال: أي عمرو، إني أعينهم وأعطيهم , وأن معاذ بن جبل أخذ الناس عليها عندنا , وإن أعلمهم - يعني ابن عباس - أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها , ولكن قال: ((لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها أجرًا معلومًا)) .   (1) ج: 3. ص: 668. ح: 1385. (2) ج: 3. ص: 257. ح: 3389. (3) ج: 2. ص: 821 و823. ح: 2456 و2457 و2462 و2464. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 986 وحدثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي ومحمد بن إسماعيل قالا: حدثنا وكيع , عن سفيان , عن عمرو بن دينار , عن طاوس قال: قال ابن عباس: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يمنح أحدكم الأرض خير له من أن يأخذ خراجًا معلومًا)) . وقال ابن حبان (1) أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل بـ (بست) . حدثنا علي ابن حجر السعدي. حدثنا الفضل بن موسى , عن شريك , عن شعبة , عن عمرو بن دينار , عن طاوس , عن ابن عباس قال: ((لم يحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المزارعة ولكن أمر الناس أن يرفق بعضهم بعضًا)) . وقال الطحاوي (2) حدثنا ربيع المؤذن , قال: حدثنا أسد , قال: حدثنا سفيان وحماد بن سلمة وحماد بن زيد , عن عمرو بن دينار , عن طاوس قال: قلت له: يا أبا عبد الرحمن , لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها. فقال: أخبرني أعلمهم - يعني ابن عباس - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها , ولكنه قال: ((لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها خراجًا معلومًا)) .   (1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 314. ح: 5172. (2) معاني الآثار. ج: 4. ص: 110. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 987 حدثنا أبو بكرة. حدثنا إبراهيم بن بشار , قال: حدثنا سفيان , عن عمرو ... فذكر بإسناده مثله. لكن روي عن ابن عباس ما يختلف عن الأقوال المنسوبة إليه , والتي أوردناها آنفًا , ويظهر أنه بعد أن أنكر على رافع ما أنكر , تأكد لديه خلاف ما كان ينسب إليه قول رافع، وأن ما رواه رافع ليس نقلًا غير دقيق لحادثة الرجلين اللذين اختصما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حول المزارعة - ويأتي لفظه قريبًا في حديث زيد بن ثابت - فحكم بينهما بما كان بلغ ابن عباس، ولا توجيهًا خلقيًا، كما نقل عنه بعض الرواة، وإنما هو حكم صريح صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم لآل رافع وفي ظرف مختلف عن ظرف الرجلين صاحبي الخصومة التي كان ابن عباس قد اعتمدها في فتواه، وهذا هو التعليل الوجيه للأثرين اللذين سنوردهما فيما يلي منسوبين إلى ابن عباس , وهما يختلفان جوهريًا عن فتواه التي اعتمدها طاوس ورواها عنه غيره أيضًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 988 وروى ابن أبي شيبة حديث ابن عباس عن طريق حبيب بن أبي ثابت , فقال (1) حدثنا أبو بكر , قال: حدثنا علي بن مسهر , عن الشيباني , عن حبيب بن أبي ثابت , قال: كنت جالسًا مع ابن عباس في المسجد الحرام , إذ أتاه رجل , فقال: إنا نأخذ الأرض من الدهاقين، فأعتملها ببذري وبقري، فآخذ حقي وأعطيه حقه، فقال له: خذ رأس مالك , ولا تردد عليه عينا، فأعادها عليه ثلاث مرات، كل ذلك يقول له هذا. وروى أحمد حديث ابن عباس عن طريق عكرمة , فقال (2) حدثنا أبو معاوية. حدثنا الشيباني , عن ابن عباس قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)) وكان عكرمة يكره بيع الفصيل. قال ابن منظور (لسان العرب. ج: 11. ص: 558) : والقصيل ما قصل من الزرع أخضر , والجمع قصلان , ويظهر أن القصيل بالقاف هو الرواية الصحيحة؛ لأن الفصيل بالفاء لم يستعمل في النبات , وإنما استعمل في الحيوان. قال ابن منظور (لسان العرب. ج: 11. ص: 558) : والفصال: الفطام قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} . المعنى: ومدى حمل المرأة إلى منتهى الوقت الذي يفصل فيه الولد من رضاعها ثلاثون شهرًا , وفصلت المرأة ولدها أي: فطمته , وفصل المولود عن الرضاع يفصله فصلًا وفصالًا , وأفصله: قطعه والاسم الفصال. وقال اللحياني: فصلته أمه , ولم يخص نوعًا. وفي الحديث: لا رضاع بعد فصال. قال ابن الأثير: أي بعد أن يفصل الولد من أمه وبه سمي الفصيل من أولاد الإبل , فعيل بمعنى مفعول , وأكثر ما يطلق في الإبل , قال: وقد يقال في البقر , ومنه حديث أصحاب الغار فاشتريت به فصيلًا من البقر وفي رواية: فصيلة , وهو ما فصل عن اللبن من أولاد البقر، والفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أمه والجمع فصلان وفصال. وروى الهيثمي حديث ابن عباس قال (3) عن ابن عباس قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)) وكان عكرمة يكره بيع الفصيل , وتعقبه بقوله: رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح) .   (1) الكتاب المصنف. ج: 6. ص: 346. ح: 1297. (2) الفتح الرباني. ج:15، 36. ح: 114. (3) مجمع الزوائد. ج: 4. ص: 103. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 989 يشهد بهذا التوجيه ما سبق أن نقلناه عن عبد الرزاق من طريق معمر , عن عبد الكريم الجزري (أن عكرمة يزعم أن كراء الأرض لا يصلح) . وعكرمة كان من ألزم الناس لابن عباس وأكثرهم رواية عنه , وقد اعتمده جمهور المحدثين، وإن غمز فيه بعض أقرانه من التابعين , ومعلوم أن تقولات الأقران في بعضهم بعضًا لا تعتمد في تجريح الراوي. وقد نقل ابن حزم في المحلى (1) عن عبد الرزاق أثر عكرمة هذا , ولكن بلفظ مختلف قليلًا عن ذلك الذي نقلناه من مصنف عبد الرزاق , قال ابن حزم: (وعن طريق عبد الرزاق , عن معمر , عن عبد الكريم الجزري , أن عكرمة مولى ابن عباس قال: لا يصلح كراء الأرض) . أما أثر زيد بن ثابت , فرواه كل من أحمد وعبد الرزاق وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وفيما يلي رواياتهم بألفاظها التي توشك أن تكون واحدة وبأسانيدها.   (1) ج:8. ص:313. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 990 قال أحمد في مسنده (1) حدثنا إسماعيل. حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق , عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار , عن الوليد بن أبي الوليد , عن عروة بن الزبير قال: قال زيد بن ثابت: يغفر الله لرافع، أنا والله أعلم بالحديث منه , إنما أتى رجلان قد اقتتلا , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع)) ، قال: فسمع رافع قوله: ((فلا تكروا المزارع)) . وقال عبد الرزاق في مصنفه (2) قال الثوري عن نصر بن جزي , عن عبد الرحمن بن إسحاق , عن الوليد , عن عروة بن الزبير , عن زيد بن ثابت أنه قال: ((يغفر الله لرافع بن خديج، والله ما كان هذا الحديث هكذا، إنما كان ذلك لرجل أكرى لرجل أرضًا فاقتتلا واستبا بأمر تداريا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن كان هذا شأنكم فلا تكروا الأرض)) )) . فسمع رافع آخر الحديث ولم يسمع أوله. قال أبو داود في سننه (3) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا ابن علية.   (1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 121. ح: 389. (2) ج: 8. ص: 97. ح: 14465. (3) ج: 3. ص: 275. ح: 3390. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 991 وحدثنا مسدد. حدثنا بشر العمي , عن عبد الرحمن بن إسحاق , عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن الوليد بن أبي الوليد , عن عروة بن الزبير , قال: قال زيد بن ثابت: يغفر الله لرافع بن خديج، أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما أتاه رجلان - قال مسدد: من الأنصار ثم اتفقا - قد اقتتلا , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع)) . زاد مسدد فسمع قوله: ((لا تكروا المزارع)) . قال النسائي في سننه (1) أخبرنا الحسين بن محمد قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق , عن أبي عبيدة بن محمد , عن الوليد بن أبي الوليد , عن عروة بن الزبير قال: قال زيد بن ثابت: يغفر الله لرافع بن خديج , أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما كان رجلان اقتتلا , فقال رسول الله: ((إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع)) ، فسمع قوله: ((لا تكروا المزارع)) . قال ابن ماجه في سننه (2) حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي. حدثنا إسماعيل بن علية. حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق. حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر , عن الوليد بن أبي الوليد , عن عروة بن الزبير قال: قال زيد بن ثابت: يغفر الله لرافع بن خديج أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما أتى رجلان النبي صلى الله عليه وسلم وقد اقتتلا فقال: ((إن هذا شأنكم فلا تكروا المزارع)) ، فسمع رافع بن خديج قوله: ((فلا تكروا المزارع)) .   (1) ج:7. ص: 50. (2) ج: 2. ص: 822. ح: 2461. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 992 قلت: مدار طرق هذا الحديث جميعها أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، وقد اختلفوا إن كان هو سلمة بن محمد بن عمار أو أخًا له. ونقل ابن حجر في تهذيب التهذيب (1) عن ابن أبي حاتم عن أبيه أنه منكر الحديث , ولا يسمى. قال ابن حجر: وقال في موضع آخر: صحيح الحديث. ومن قبل ذلك نقل عن ابن معين أنه ثقة، ونقل عن الحاكم أبو أحمد أنه ذكر أبا عبيدة هذا فيمن لا يعرف اسمه. ومع توثيق ابن معين وغيره له فانفراده بهذا الحديث عن زيد بن ثابت يدعو إلى التساؤل وخاصة ما رواه من أن زيدًا أقسم بالله أن رافعًا روى الحديث على غير وجهه , وإن كان زيد قد أقسم فعلًا فهذا أمر مستغرب لأن زيدًا ليس بمن يخفى عنه مورد حديث آل خديج، وقد استفاض استفاضة تبلغ حد التواتر كما سننقل عن ابن حزم وحتى لو اشتبه عليه أمر حديث رافع , فما نحسبه يخفى عليه حديث كل من جابر وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وأبي سعيد الخدري وثابت بن الضحاك وإنما الذي نرجحه هو أن يكون لزيد اجتهاد في تأويل هذه الأحاديث ولكن نقل عنه بصيغة فيها بعض المبالغة، غفر الله للراوي.   (1) ج: 12. ص: 160. ترجمة: 765. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 993 ثم إن أبا عبيدة روى هذا الأثر عن الوليد بن أبي الوليد عثمان القرشي الذي اختلفوا في ولائه كما اختلفوا في اسم أبيه , ولبعضهم فيه كلام (1) وكما هو الشأن في ابن عباس وما نقل عنه، تغايرت الرواية عن زيد بن ثابت فقد روى ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود عن طريق جعفر بن برقان , عن ثابت بن الحجاج , عن زيد بن ثابت ما يخالف ما سبق أن نسب إليه. قال ابن أبي شيبة (2) حدثنا عمر بن أيوب , عن جعفر بن برقان , عن ثابت بن الحجاج , عن زيد بن ثابت قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، قلت: وما المخابرة؟ قال: أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع)) وقال أحمد في مسنده (3) حدثنا كثير (4) بن جعفر، حدثنا ثابت بن الحجاج قال: قال زيد بن ثابت: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة)) . قلت: وما المخابرة؟ قال: يؤجر الأرض بنصف أو بثلث أو بربع (زاد في رواية) وبأشباه هذا.   (1) ج: 11. ص: 157. ترجمة: 262. (2) الكتاب المصنف. ج: 6. ص: 346 الآثر: 2296. (3) الفتح الرباني ج: 15. ص: 119. ح: 379. (4) صوابه , عن كثير , عن جعفر , وكثير هذا هو ابن هشام الكلابي أبو سهلة الرقي , وهو ممن روى عن جعفر بن برقان الكلابي , والحديث كما أوردناه رواه كل من ابن أبي شيبة , وعنه أبو داود , عن جعفر بن برقان , وانظر في ترجمة كثير وجعفر , ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 2. ص:84. الترجمة: 131. وج: 8. ص: 429. الترجمة: 709) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 994 وقال أبو داود في سننه (1) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا عمر بن أيوب , عن جعفر بن برقان , عن ثابت بن الحجاج , عن زيد بن ثابت قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة)) . قلت: وما المخابرة؟ قال: أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع. على أنه قد روي عن رافع بن خديج واقعة تثبت عمليا صحة ما فهمه من نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض , وذلك بطرق يقوي بعضها بعضًا , وإن يكن مدارها بُكير بن عامر وفيه كلام. وفي بعض أسانيدها إليه أيضًا من ينبغي التحري في أمره. قال أبو داود في سننه (2) حدثنا هارون بن عبد الله. حدثنا الفضل بن دكين , حدثنا بكير (3) - يعني ابن عامر - عن ابن أبي نعم. حدثني رافع بن خديج أنه زرع أرضًا , فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسقيها، فسأله: ((لمن الزرع ولمن الأرض؟)) فقال: زرعي ببذري وعملي , لي الشطر ولبني فلان الشطر , فقال: ((أربيتما فرد الأرض على أهلها وخذ نفقتك)) .   (1) ج3. ص: 261. ح: 3402. (2) ساقطة من الأصل. (3) بكير بن عامر البجلي بن إسماعيل الكوفي , تكلموا فيه فوثقه بعضهم , وضعفه آخرون , حتى قال فيه يحيى بن سعيد - سُئل عنه -: حفص بن غياث تركه , وحسبه إذا تركه حفص كان حفص يروي عن كل أحد , وقال عنه يحيى بن معين: ليس بشيء , ويظهر أن أحدًا من الستة لم يرو عنه غير أبي داود، انظر ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 1. ص: 491 الترجمة: 907. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 995 وقال الدارقطني في سننه (1) حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز. أخبرنا محمد بن حميد. أخبرنا عبد الرحمن بن مغراء , عن عبيدة الضبي (2) عن عبد الحميد بن عبد الرحمن , عن سالم بن عبد الله بن عمر عن عبد الله عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في مسير له , فإذا هو بزرع تهتز فقال: ((لمن هذا الزرع؟)) قالوا: لرافع بن خديج، فأرسل إليه، وكان أخذ الأرض بالنصف وبالثلث فقال: ((انظر نفقتك في هذه الأرض فخذها من صاحب الأرض وادفع إليه زرعه وأرضه)) .   (1) ج: 3. ص: 37. ح: 148. (2) عبيدة بن متعب الضبي - بميم مضمومة وعين مفتوحة ومثناة فوق مكسورة مشددة فباء موحدة - تكلموا فيه كثيرًا , وإن روى عنه بعض الكبار مثل شعبة , والثوري , ووكيع , وهشيم , وغيرهم , وقد اجتنبه نقاد كبار مثل يحيى بن معين , وعبد الرحمن بن مهدي , وكان يحيى بن سعيد ينهى عن كتابة حديثه , ووصفوه أنه سييء الحفظ , ضرير متروك الحديث , وممن تركه عبد الله بن المبارك , وأحمد. بل وصفه بعضهم بما يشبه نسبة الآثار إلى غير أهلها من التابعين , فزعموا أنهم ينسبوا إلى إبراهيم النخعي ما لم يقله قياسًا على ما قاله، وقد ذكره البخاري في التاريخ , وروى عنه الترمذي , وابن ماجه. انظر ابن حجر (تهذيب التهذيب: ج: 7. ص: 86. الترجمة: 189) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 996 وقال الطحاوي (1) حدثنا فهد قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا بكير بن عامر , عن ابن أبي نعم قال: حدثني رافع بن خديج أنه زرع أرضًا , فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسقيها فسأله: ((لمن الزرع ولمن الأرض؟)) فقال: زرعي ببذري وعملي , لي الشطر ولبني فلان الشطر فقال: ((أربيت فرد الأرض إلى أهلها وخذ نفقتك)) . ويظهر أن هذه الواقعة تكررت في بني حارثة فكما حدثت لرافع حدثت لظهير عمه. فقد روى الطحاوي (2) وحدثنا محمد بن سليمان الباغندي (3) وفهد قالا: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا بكير بن عامر , عن ابن أبي نعم قال: حدثني رافع بن خديج أنه زرع أرضًا فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسقيها، فسأله: ((لمن الزرع ولمن الأرض؟)) فقال: زرعي ببذري وعملي , لي الشطر ولبني فلان الشطر , فقال: ((أربيت، فرد الأرض على أهلها وخذ نفقتك)) .   (1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 106. (2) مشكل الآثار. ج: 3. ص: 282. (3) لم نقف على ترجمة إلا ما نقله محقق معاني الآثار محمد زهري النجار في مقدمة معاني الآثار من كتاب الأماني ونصه (مقدمة معاني الآثار. ج: 1. ص: 15) : محمد بن سليمان بن الحارث الأزدي الباغندي أبو بكر الواسطي , سكن بغداد , ولا بأس به. روايته مستقيمة , توفي سنة 283. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 997 وقال الطحاوي أيضًا (1) حدثنا إبراهيم بن أبي داود (2) قال: حدثنا يحيى - يعني القطان - قال: حدثنا أبو جعفر الخطمي قال: أتيت سعيد بن المسيب فقلت: بلغنا عنك شيء في المزارعة فقال: كان ابن عمر لا يرى بها بأسًا حتى ذكر رافع بن خديج حديثًا فأعطى رافعًا، فأخبره رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حارثة رأى زرعًا في أرض ظهير قال: ((ما أحسن زرع ظهير)) فقالوا: ليس لظهير، فقال: ((أليست أرض ظهير؟)) فقالوا: بلى , ولكنه أزرع فلانًا , قال: ((فردوا عليه نفقته وخذوا زرعكم)) فقال رافع: فرددنا عليه نفقته وأخذنا زرعنا، قال سعيد: أفقر أخاك أو أكرها بالدراهم. وحدثنا أحمد بن شعيب قال: أخبرنا أحمد بن المثنى قال: أخبرنا يحيى , عن أبي جعفر الخطمي ... ثم ذكر بإسناده مثله. وقد تغايرت فتاوى بعض الصحابة في هذا الشأن , وكنا قد أوردنا بعضًا منها كما تعارضت فتاوى كبار التابعين، وليس من شأننا هنا أن نمضي في استقصاء كل ما ورد في هذا المجال , إنما شأننا أن نتقصى طبيعة ملكية العقار في الإسلام على ضوء النصوص القرآنية والسنية مع الاستئناس باجتهادات أهل الفتيا من الصحابة وكبار التابعين لنخلص إلى ما نحن بسبيله من بيان ما يترتب عن طبيعة الملكية في الإسلام من دلالات على حكم الله في انتزاع الملك للمصلحة العامة.   (1) مشكل الآثار. ج: 3. ص: 281. (2) إبراهيم بن أبي داود: لم أجد من ترجم له ممن يعتمد في الجرح والتعديل، وذكره محقق معاني الآثار في مقدمته (ج: 1. ص: 12. ترجمة: 11) فقال عنه نقلًا عن الأماني: حافظ ثقة من الحفاظ المكثرين. توفي بمصر سنة: 272. قلت: وهذا يعنى أن عمره حين توفي يحيى بن سعيد القطان كان ستة عشر عامًا , على أساس أن يكون عمّر تسعين عامًا , لكن إبراهيم بن أبي داود توفي بمصر. أما يحيى فلحق بالرفيق الأعلى في العراق , فهل رحل إبراهيم بن داود إلى العراق في طلب الحديث وهو دون السادسة عشرة من عمره؟! نظن أن في هذا الإسناد ما ينبغي تحريره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 998 ويلوح لنا أن ابن حزم رحمه الله، قد أحسن - كدأبه غالبًا - استقصاء ما يمكن اعتماده من روايات الصحابة واجتهاداتهم واجتهادات التابعين , وهو يبحث حكم كراء الأرض في المحلى (1) وقد لا نتفق معه في ما يراه من أنه لا يجوز كراء الأرض بشيء أصلًا، لا بدنانير ولا بدراهم ولا بعرض ولا بطعام مسمى ولا بشيء أصلًا، ولا يحل زرع الأرض إلا لأحد ثلاثة أوجه، إما أن يزرعها المرء بآلته وأعوانه وبذره وحيوانه، وإما أن يبيح لغيره زرعها ولا يأخذ منه شيئًا، فإن اشتركا في الآلة والحيوان والبذر والأعوان دون أن يأخذ منه للأرض كراء فحسن، وأما أن يعطي أرضه لمن يزرعها ببذره وحيوانه وأعوانه وآلته بجزء ويكون لصاحب الأرض مما يخرج الله تعالى منها مسمى، إما نصف أو ثلث أو ربع أو نحو ذلك، أكثر أو أقل، ولا يشترط على صاحب الأرض البتة شيء من ذلك , ويكون الباقي للزارع , قلّ ما أصاب أو كثر، فإن لم يصب شيئًا فلا شيء له ولا شيء عليه، فهذه الوجوه جائزة فمن أبى فليمسك أرضه. وإنما أوردناه لئلا نعود إليه حين نورد صفايا آراء أئمة الفقه الملتزمين بالمذاهب. غير أننا نطمئن إلى الاقتصار على نقل ما انتهى إليه من استقصائه لروايات كبار الصحابة واجتهاداتهم واجتهادات كبار التابعين. فبعد أن أورد ما أسنده أو اطمأن إلى صحة سنده من طرق حديث رافع بن خديج وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري أسند إلى ابن عمر حديثًا تحسبه مرويًا بالمعنى ومختصرًا لحديث أطول رواه غيره من طرق مختلفة , ولكنا ننقله عنه , إذ قد يكون ثبت لديه بهذا المتن والسند بأنه بنى عليه حكمًا حاسمًا. قال: ومن طريق حماد بن سلمة حدثنا عمرو بن دينار قال: سمعت عبد الله بن عمر بن الخطاب يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض)) .   (1) ج: 8. ص: 221 المسألة: 1300 وما بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 999 ولم نقف عند غير ابن حزم على هذا المتن ولا على لفظ يدل دلالته مسندًا إلى ابن عمر غير مروي من طريقه عن رافع بن خديج فإن ثبت فمعناه أن ابن عمر اطمأن آخر الأمر إلى حديث رافع , أو ثبت لديه حديث جابر وأبي سعيد الخدري أو سعد بن أبي وقاص أو أبي هريرة أو ثابت بن الضحاك فجزم بالنهي عن كراء الأرض بعد أن كان مترددًا في شأنه. ونميل إلى ترجيح هذا الاحتمال لما سنفصله بعد حين. ثم عقب ابن حزم على حديث ابن عمر وما سبقه من حديث رافع وجابر وأبي سعيد وأبي هريرة بقوله: فهؤلاء شيخان بدريان رافع بن خديج وجابر قال ابن حجر في (الإصابة. ج: 2. ص: 213. ترجمة: 1026) عند ترجمته لجابر بن عبد الله: وفي الصحيح عنه أنه كان مع من شهد العقبة وروى البخاري في تاريخه (ج: 2. ص: 207. ترجمة: 2208) بإسناد صحيح عن أبي سفيان عن جابر قال: كنت أمنع أصحابي الماء يوم بدر. قلت: وإذا صح هذا الأثر فمعناه أن جابرًا شهد بدرًا، لكن ابن حجر يروي في الإصابة من طريق حجاج بن الصواف. حدثني أبو الزبير أن جابرًا حدثهم قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين غزوة بنفسه شهدت منها تسع عشرة غزوة. ونقل ابن حجر عن الواقدي أنه أنكر رواية أبي سفيان عن جابر التي أوردها البخاري في تاريخه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1000 قلت: لكن البخاري أسندها ولفظه: قال لنا مسدد عن أبي عوانة عن الأعمش عن أبي سفيان. الحديث. ورجاله موثقون , وليس من عادة البخاري أن يسند إلا عن الثقات ومن عجب أن ينكر الواقدي هذا الأثر. قال ابن حجر: وروى مسلم عن طريق زكريا بن إسحاق. حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابرًا يقول: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة قال جابر: لم أشهد بدرًا ولا أُحُدًا منعني أبي، فلما قتل لم أتخلف. قلت: الجامع بين حديث أبي سفيان الذي رواه البخاري وحديث أبي الزبير الذي رواه مسلم هو أن جابرًا لم يشهد، أي لم يسهم فيها كمحارب , وهذا لا يمنع من أن يكون نفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يخدم المحاربين بأن يسقيهم أو يحضر لهم الماء من بعيد ويظهر أن جابرًا لم يعتبرهذا كافيًا لأن يسلكه فيمن شهد بدرًا. وقال ابن عبد البر في الاستيعاب على هامش الإصابة (ج: ا. ص: 221) : شهد العقبة الثانية مع أبيه وهو صغير ولم يشهد الأولى ذكره بعضهم في البدريين ولا يصح لأنه قد روي عنه أنه قال: لم أشهد بدرًا ولا أُحُدًا؛ منعني أبي. وذكر الخاري أنه شهد بدرًا وكان ينقل لأصحابه الماء يومئذ. ثم شهد بعدها مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمان عشرة غزوة. ذكر ذلك الحاكم أبو أحمد. وقال ابن الكلبي: شهد أُحُدًا وشهد صفين مع علي. ثم ساق حديث أبي الزبير عنه. وقال ابن حجر في (الإصابة. ج496. ترجمة: 2526) في ترجمة رافع بن خديج: عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فاستصغره وأجازه يوم أحد فخرج وشهد ما بعدها، وقد لحق كل من رافع وجابر - في أرجح الروايات - بالرفيق الأعلى سنة أربعين للهجرة وكان جابر قد أضر في آخر عمره أما رافع فاستشهد من إصابته يوم أحد إذ أصيب بسهم وقال له رسول الله: ((إن شئت نزعت السهم وتركت القطيفة وشهدت يوم القيامة أنك شهيد)) . وفي تاريخ وفاة رافع أقوال أخرى وهو ليس بدريًا بالإجماع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1001 وأبو سعيد وأبو هريرة وابن عمر كلهم يروي عن النبي عليه السلام النهي عن كراء الأرض جملة , وأنه ليس إلا أن يزرعها صاحبها أو يمنحها غيره , أو يمسك أرضه فقط، فهو نقل تواتر موجب للعلم المتيقن فأخذ بهذا طائفة من السلف. ثم ذكرهم مسندًا إليهم ما نقل من آرائهم. ثم قال: فهؤلاء عطاء ومجاهد ومسروق والشعبي وطاوس والحسن وابن سيرين والقاسم بن محمد كلهم لا يرى كراء الأرض أصلًا لا بدنانير ولا بدراهم ولا بغير ذلك، فصح النهي عن كراء الأرض جملة. ثم عرض لحديث معاملة أهل خيبر بشرط ما يخرج من أرضها من زرع أو ثمر , وهو ما سنعرض له بعد حين. فخلص من ذلك - إن اعتبره من قبيل المزارعة أو كراء الأرض - إلى قوله: ففي هذا أن آخر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مات كان إعطاء الأرض بنصف ما يخرج منها من الزرع ومن الثمر ومن الشجر، وعلى هذا مضى أبو بكر , وعمر , وجميع الصحابة - رضي الله عنهم - معهما، فوجب استثناء الأرض ببعض ما يخرج من جملة ما صح النهي عنه من أن تكرى الأرض أو يؤخذ لها أجر أو حظ , وكان هذا العمل المتأخر ناسخًا للنهى المتقدم عن إعطاء الأرض ببعض ما يخرج منها، لأن النهي عن ذلك قد صح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1002 فلولا أنه قد صح لقلنا ليس نسخًا ولكنه استثناء من جملة النهي، ولولا أنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات على هذا العمل لما قطعنا بالنسخ، لكنه ثبت آخر عمله عليه السلام فصح أنه نسخ صحيح متيقن لا شك فيه وبقي النهي عن الإجارة جملة بحسبه , إذ لم يأت شيء ينسخه ولا يخصه الستة. ثم مضى يناقش فقهاء المذاهب ويستظهر لمذهبه لما تيسر له من الحجج مما ليس هذا مجاله , على أننا سنعرض بإيجاز لآراء أئمة المذاهب في كراء الأرض بعد قليل. بيد أننا نريد أن نقف مع ابن حزم عند وهم وقع فيه , إذ زعم أن رافعًا وجابرًا بدريان وليسا بدريين , وإن حضر جابر العقبة مع بعض ذويه، إذ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استصغر رافعًا حين عرض عليه وهو يتجهز لغزوة بدر. أما جابر فقد منعه أبوه عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - من شهود بدر وأُحد فلما استشهد يوم أحد تحرر جابر من منع أبيه فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع غزواته بعد ذلك، كما أن رافعًا شهد أُحدًا وكاد يحرم منها في قصة طويلة , ولسنا ندري كيف وهم ابن حزم - رحمه الله - وهو المطلع الثبت فزعم أن رافعًا وجابرًا بدريان، والظاهر أنه علق في ذهنه قول رافع في بعض ما روي عنه عن عميه أنهما بدريان، ولعل في عبارة ابن حزم سبق القلم , فلسنا نتصور أن يغيب عن ابن حزم أن جابرًا ورافعًا لم يحضرا بدرًا، على أن ذلك لا يغمز في حديثهما ولا في فتياهما فقد تصدرا للإفتاء منذ عهد عثمان - رضي الله عنه - وكانا من مراجع الفتيا وخاصة في عهد معاوية إلى أن لحقا بالرفيق الأعلى - رضى الله عنهما -. أما ما وهم فيه ابن حزم أيضًا من دعوى أن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر ناسخة لنهيه عن كراء الأرض ففيها تناقض إلا أن يكون النسخ عنده تخصيصًا. وقد نفى ذلك وبقي ما ارتضاه من أنه استثناء لنوع من المعاملة من مجموع النهى. والواقع أننا لم نستطع أن ندرك بوضوح الخط الفاصل بين التخصيص والاستثناء في تصور ابن حزم، بيد أننا لن نمضي في مناقشته في هذه الدعوى لأن موضوع معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر في جوهره نختلف فيه مع ابن حزم وغيره ممن اعتبره من المزارعة اختلافًا جوهريًا نوضحه فيما يأتي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1003 حديث معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر قال عنه ابن حجر في التلخيص (1) حديث ابن عمر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع)) . متفق عليه بألفاظ متعددة منها: لما فتحت خيبر سألت يهود النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرهم فيها على أن يعملوا على نصف ما يخرج منها ... الحديث. حديث أنه عامل أهل خيبر بالشطر مما يخرج من النخل والشجر، الدارقطني من حديث ابن عمر , وحكى عن شيخه ابن صاعد أنه صاحب وهم في ذكر الشجر ولم يقله غيره. ثم أشار إلى حديث أنه صلى الله عليه وسلم خرص على أهل خيبر وأحال عليه في كتاب الزكاة وقد أورده فيه (2) فقال: حديث عائشة: ((كان صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة غارسًا أول ما تطيب الثمرة)) . أبو داود من حديث حجاج عن ابن جريج أخبر عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت وهي تذكر شأن خيبر: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه)) وهذا فيه جهالة الواسطة. وقد رواه عبد الرزاق والدارقطني من طريقه عن الزهري ولم يذكر واسطة وهو مدلس. وذكر الدارقطني الاختلاف فيه فقال: رواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة وأرسله معمر ومالك وعقيل، لم يذكروا أبا هريرة. وأخرج أبو داود عن طريق ابن جريج. أخبرني أبو الزبير أنه سمع ابن جريج يقول: خرص أربعين وسقا. وقال عبد الرزاق في مصنفه (3) أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب قال: ((دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر إلى يهود يعملونها ولهم شطرها، فمضى على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وسنتين من خلافة عمر حتى أجلاهم عمر عنها)) .   (1) تلخيص الحبير. ج: 3. ص: 59. ح: 1279 و1280. (2) تلخيص الحبير ج: 2. ص:71. ح: 848. (3) ج: 8. ص:98. ح: 14468 و14469 و14485 وص: 102. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1004 أخبرنا معمر عن عبيد الله بن عمر عن نافع أن خيبر شركها رسول الله صلى الله عليه وسلم , كان فيها زرع ونخل , فكان يقسم لنسائه كل سنة منها مائة وسق، ثمانين وسقًا ثمرًا وعشرون وسقًا شعيرًا لامرأة. وأخبرنا ابن جريج قال: أخبرني عامر بن عبد الله بن نسطاس لم نقف على من عرف به، لكن وقفنا على ترجمة راو واسمه عبد الله بن نسطاس في بعض مصادر تراجم الرواة، وننقل ما قال عنه ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج:6. ص: 55. ترجمة: 104) . رمز إلى أنه روى عنه أبو داود والنسائي وابن ماجه ثم قال: عبد الله بن نسطاس – بكسر النون ومهملة ساكنة – المدني مولى كندة روى عن جابر بن عبد الله حديث الحلف على المنبر وعنه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص. قلت – القائل ابن حجر -: قال أبو عمر الصدفي: حدثنا محمد بن القاسم هو ابن يسار. سمعت النسائي يقول: عبد الله بن نسطاس ثقة. وقال مسلم: هو مولى آل كثير بن الصلت. وقال: هو أخو عبد الله بن بسطام شيخ الزهري. وقال ابن الحذاء: كان نسطاس جاهليًا وهو مولى أُبي بن خلف كذا قال في رجال الموطأ والذي يظهر أن نسطاسًا والد عبد الله غير مولى أُبي بن خلف كما في أول الترجمة. قلت: لم يذكروا له ولدًا ولكن لا يبعد أن يكون عامر هذا ولده من خيبر قال: فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت جمعًا له حرثها ونخلها قال: فلم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رقيق، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود على أنكم تكفون العمل ولكم شطر الثمر على أن أقركم ما بدى لله ورسوله، فذلك حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم ابن رواحة يخرص بينهم، فلما خيرهم أخذت اليهود الثمر، فلم تزل خيبر بأرض اليهود على صلح النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان عمر فأخرجهم فقالت اليهود: أليس قد صالحنا النبي صلى الله عليه وسلم على كذا وكذا؟ فقال: بلى، على أنه يقركم فيها ما بدا لله ورسوله، فهذا حين بدا لي أن أخرجكم، فأخرجهم ثم قسمها بين المسلمين الذين افتتحوها مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعط منها أحدًا لم يحضر افتتاحها وأهلها الآن مسلمون ليس فيها اليهود. قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن عبيد بن عمير , عن مقاضاة النبي صلى الله عليه وسلم يهود أهل خيبر على أن لنا نصف الثمر ولكم نصفه وتكفون العمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1005 وقال ابن أبي شيبة (1) حدثنا شريك عن جابر عن أبي جعفر قال الذهبي (سير أعلام النبلاء. ج:4. ص401 وما بعدها. ترجمة: (158) ما موجزه: هو السيد الإمام أبو جعفر محمد بن علي الحسين بن علي العلوي الفاطمي المدني وَلَدُ زين العابدين , ولد سنة ست وخمسين في حياة عائشة وأبي هريرة. أرخ ذلك أحمد بن برقي روى عن جديه – النبي صلى الله عليه وسلم وعلي – رضي الله عنه – مرسلًا وعن جديه – الحسن والحسين – عليهما السلام – مرسلًا أيضًا وعن ابن عباس وأم سلمة وعائشة مرسلًا وعن ابن عمر وجابر وأبي سعيد وعبد الله بن جعفر وسعيد بن المسيب وأبيه زين العابدين ومحمد بن الحنفية - عم أبيه - وطائفة. وعن أبي هريرة وسمرة بن جندب مرسلًا أيضًا. وليس هو بالمكثر، هو في الرواية كأبيه - زين العابدين - وابنه جعفر ثلاثتهم لا يبلغ حديث كل منهم جزءًا ضخمًا ولكن لهم مسائل وفتاوى حدث عنه ابنه , وعطاء بن أبي رباح , والأعرج , مع تقدمهما , وعمرو بن دينار , وأبو إسحاق السبيعي , والزهري , ويحيى بن أبي كثير , وربيعة الرأي وليث بن أبي سليم , وابن جريج , وقرة بن خالد , وحجاج بن أرطاة والأعمش ومخول بن راشد وحرب بن سريج والقاسم بن الفضل الحداني والأوزاعي وآخرون وكان أحد من جمع بين العلم والعمل والسؤدد والشرف والثقة والرزانة، وكان أهلًا للخلافة وهو أحد الأئمة الاثني عشر الذين تبجلهم الشيعة الإمامية وتقوم بعصمتهم ومعرفتهم بجميع الدين فلا عصمة إلا للملائكة والنبيين وكل أحد يصيب ويخطئ ويؤخذ منه قوله ويترك سوى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه معصوم مؤيد بالوحي. قلت: هكذا قال الذهبي وهو الحق. لكن أرجو أن لا يخزي نبيه في أسباطه الأقربين الذين يجب حبهم على مسلم وأحسبهم قد توارثوا منه صلى الله عليه وسلم ميزة الاصطفاء وإن على درجات ولست أقول بعصمتهم لكن أزعم - ولا أزكي على الله أحدًا - أن الله يكرمهم - إكرامًا لجدهم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم _ من أن يقعوا في مثل ما يقع فيه غيرهم من الخطأ الفاحش فإن وهم أحد منهم أو لم يصب صميم الحق فما أحسبه سيبلغ بوهمه درك الانحراف وحاشاهم جميعًا عليهم السلام أن يظن فيهم درك التحريف. ثم قال الذهبي: وشهر أبو جعفر بالباقر من بقر العلم أي شقه فعرى فصله وخفيه , ولقد كان أبو جعفر إمامًا مجتهدًا تاليًا لكتاب الله , كبير الشأن , ولكن لا يبلغ في القرآن درجة ابن كثير ونحوه ولا في الفقه درجة أبي الزناد وربيعة ولا في الحفظ ومعرفة السنن درجة   (1) الكتاب المصنف. ج: 6. ص:337 و338. ح:1268 و1272. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1006 قتادة وابن شهاب فلا نحابيه ولا نحيف عليه ونحبه في الله لما يجمع فيه من صفات الكمال. قلت: وبعض من ذكرهم الذهبي أنه لا يبلغهم لن يبلغوه ورعًا وزهدًا وتقوى وحتى في الخصائص التي ذكرها لهم لم يبرأوا من القول فيهم قولًا بعضه وجيه لما يدعمه من وقائع لا سبيل إلى نكرانها وإن كنا نجلهم جميعًا ونرجو لهم من الله الرحمة والرضوان فهل برئ من الخطأ غير الأنبياء؟ ثم قال الذهبي: قال ابن فضيل عن سالم بن أبي حفصة سألت أبا جعفر وابنه جعفرًا عن أبي بكر وعمر , فقالا لي: يا سالم , تولهما وابرأ من عدوهما , فإنهما كانا إمامي هدى، كان سالم فيه تشيع ظاهر فيبث هذا القول الحق وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل وكذلك ناقلها أبو فضيل شيعي ثقة فعثر الله شيعة زماننا ما أغرقهم في الجهل والكذب , فينالون من الشيخين وزيري المصطفى صلى الله عليه وسلم , ويحملون هذا القول من الباقر والصادق على التقية. وروى إسحاق الأزرق عن بسام الصيرفي قال: سألت أبا جعفر عن أبي بكر وعمر فقال: إني والله لأتولاهما وأستغفر لهما , وما أدركت أحدًا من أهل بيتي إلا ويتولاهما. ثم قال: وبلغنا أن أبا جعفر كان يصلي في اليوم والليلة مائة وخمسين ركعة وقد عده النسائي وغيره في فقهاء التابعين بالمدينة واتفق الحفاظ على الاحتجاج بأبي جعفر. ثم قال: قال الزبير بن بكار: كان يقال لمحمد علي باقر العلم وأمه هي أم عبد الله بنت الحسن بن علي. ثم قال ابن عقدة: حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي نجيح. حدثنا علي بن حسان القرشي عن عمه عبد الرحمن بن كثير عن جعفر بن محمد قال: قال أبي: أجلسني جدي الحسن في حجره وقال لي: رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤك السلام. عن أبان بن تغلب عن محمد بن علي قال: أتاني جابر بن عبد الله وأنا في الكتاب فقال لي: اكشف عن بطنك، فكشفت فألصق بطنه ببطني ثم قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرئك السلام ثم قال: قال المطلب بن زياد: حدثنا ليث بن أبي سليم قال: دخلت على أبي جعفر محمد بن علي وهو يذكر ذنوبه وما يقول الناس فيه فبكى. وعن أبي جعفر قال: من دخل قلبه ما في خالص دين الله شغله عما سواه ما الدنيا؟ وما عسى أن تكون؟! هل هو إلا مركب ركبته وثوب لبسته أو امرأة أصبتها؟! ثم قال: محمد بن طلحة بن مصرف عن خلف بن حوشب عن سالم بن أبي حفصة وكان يترفض , قال: دخلت على أبي جعفر وهو مريض فقال - وأظن قال ذلك من أجلي -: اللهم إني أتولى وأحب أبا بكر وعمر , اللهم إن كان في نفسي غير هذا فلا نالتني شفاعة محمد يوم القيامة. ثم قال شبابة: أنبأنا بسام سمعت أبا جعفر يقول: كان الحسن والحسين يصليان خلف مروان يبتدران الصف , وكان الحسين يسب مروان وهو على المنبر حتى ينزل أفتقية هذه؟! ثم قال: سفيان الثوري: اشتكى بعض أولاد محمد بن علي , فجزع عليه , ثم أخبر عن موته , فسري عنه , فقيل له في ذلك، فقال: فندعو الله فيما نحب , فإذا وقع ما نكره لا نخالف الله فيما أحب. وروى الذهبي عن ابن عيينة: حدثنا جعفر بن محمد , سمعت أبي يقول لعمته فاطمة بنت الحسين: هذي توفي لي ثمانيًا وخمسين سنة , فمات فيها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1007 ونقل ابن حجر في (تهذيب التهذيب: 9. ص: 350. ترجمة: 580) هذه الرواية وتعقبها بقوله: وهذا السند في غاية الصحة ومقتضاها أن يكون ولد سنة ستين , وهذا هو الذي يتجه؛ لأن أباه علي بن الحسين شهد مع أبيه يوم كربلاء وهو ابن عشرين سنة , وكان يوم كربلاء في المحرم سنة إحدى وستين , ومقتضاه أن مولد علي كان سنة إحدى وأربعين , فمن يولد سنة أربعين أو سنة إحدى وأربعين كيف يولد له سنة خمس وأربعين؟ والأصح أنه مات سنة أربع عشرة لأن البخاري قال: حدثنا عبد الله بن محمد , عن ابن عيينة , عن جعفر بن محمد قال: مات أبي سنة أربع عشرة , فيكون مولده على هذا سنة ست وخمسين وهو يتجه أيضًا. قلت: ولعل ما نقلناه عن الذهبي فيه بعض الغناء لترجمة سريعة لهذا الإمام عليه السلام , ولمن شاء الاستزادة , أن يرجع إلى كتب الجرح والتعديل وتراجم الرجال , وخاصة طبقات ابن سعد (ج: 5. ص: 320) , وطبقات خليفة (ص: 255) , وتاريخ البخاري (ج: 1. ص: 183. ترجمة: 564) . والجرح والتعديل (ج: 8. ص: 26. ترجمة: 147) , وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص: 64) , وطبقات المفسرين (ج: 2. ص: 200. ترجمة: 537) , وتذكرة الحفاظ (ج: ا، ص: 124. ترجمة: 119) , ووفيات الأعيان (ج: 4. ص: 174. ترجمة: 560) . وصفة الصفوة (ج: 2. ص: 108. الترجمة: 171) . قال: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أرضه بخيبر يعنى بنصف. ثم قال: حدثنا ابن أبي زائدة , عن حجاج , عن أبي جعفر قال: ((عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على الشطر)) . وقال البخاري في صحيحه (1) في باب: المزارعة بالشطر ونحوه. حدثنا إبراهيم ابن المنذر. حدثنا أنس بن عياض , عن عبيد الله بن نافع , أن عبد الله ابن عمر - رضي الله عنهما - أخبره , عن النبي صلى الله عليه وسلم ((عامل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع , وكان يعطي أزواجه مائة وسق، ثمانون وسقا ثمرا , وعشرون وسقا شعيرا، فقسم عمر خيبر , فخير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن من الماء والأرض أو يمضي لهن)) .   (1) ج: 3. ص: 67 و68 و71. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1008 فمنهن من اختار الأرض , ومنهن من اختار الوسق، وكانت عائشة اختارت الأرض. ثم قال: في باب: إذا لم يشترط السنين في المزارعة. حدثنا مسدد. حدثنا يحيى بن سعيد , عن عبيد الله. حدثنا نافع , عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: ((عامل النبي صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع)) . ثم قال في باب المزارعة مع اليهود: حدثنا ابن مقاتل. أخبرنا عبد الله. أخبرنا عبيد الله , عن نافع , عن ابن عمر - رضي الله عنهما – ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر اليهود على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرخ منها)) . ثم قال في باب: إذا قال رب الأرض: أقركما أقرك الله , ولم يذكر أجلًا معلومًا , فهما على تراضيهما: حدثنا أحمد بن مقدام. حدثنا فضيل بن سليمان. حدثنا موسى. أخبرنا نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج , قال: حدثني موسى بن عقبة , عن نافع , عن ابن عمر , أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أجلى اليهود والنصارى عن أرض الحجاز وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها , وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين , وأراد إخراج اليهود منها، فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرهم بها أن يكفوا عملها , ولهم نصف الثمر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نقركم بها على ذلك ما شئنا)) ، فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء قال ياقوت الحموي (معجم البلدان ج: ا. ص: 165) : أريحاء: بالفتح ثم الكسر وياء ساكنة والحاء مهملة والقصر , وقد رواه بعضهم بالخاء المعجمة لغة عبرانية وهي مدينة الجبارين في الغور من أرض الأردن بالشام , بينها وبين بيت المقدس يوم للفارس في جبال صعبة المسلك , سميت فيما قيل بأريحاء بن مالك أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1009 قلت: لا تزال هذه المدينة معروفة باسمها حتى الآن وهي من أشهر مدن الضفة الغربية لنهر الأردن , وكانت إلى أن حدثت مأساة الاحتلال الصهيوني لفلسطين جزءًا من ولاية فلسطين. وقال ياقوت (معجم البلدان ج: 2. ص: 67) : تيماء بالفتح والمد بليد في أطراف الشام، بين الشام ووادي القرى على طريق حاج الشام ودمشق. والأبلق الفرد حصن السموأل بن عادياء اليهودي مشرف عليها , فلذلك كان يقال لها: تيماء اليهودي. قلت: عرفها اليهود قبل السموأل , وكانت مهجرًا لهم حين طردهم الجبارون من القدس بأن الآشوريين أسكنوهم فيها , وكانت من أول ما استعمره الأشوريون عندما غزوا أرض العرب , وفيها يقول أحد الشعراء وقد نقله ياقوت نفسه: إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني بتيماء تيماء اليهودي غريب وأني بتهباب الرياح موكل طروب إذا هبت علي جنوب وإن هب علوي الرياح وجدتني كأني لعلوّ الرياح نسيب. وفي تيماء يقول المجنون: ونبأتماني أن تيماء منزل لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا وهذه شهور الصيف عنا قد انقضت فما للنوى ترمي ليلى المراميا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1010 وقال مسلم في صحيحه (1) حدثنا أحمد بن حنبل وزهير بن حرب واللفظ لزهير , قالا: حدثنا يحيى - وهو القطان - عن عبيد الله. أخبرني نافع , عن ابن عمر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع)) . وحدثنا علي بن حجر السعدي. حدثنا علي - وهو ابن مسهر - أخبرنا عبيد الله , , عن نافع , عن ابن عمر قال: ((أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع , فكان يعطي أزواجه كل سنة مائة وسق، ثمانين وسقًا من ثمر , وعشرين وسقًا من شعير، فلما ولي عمر قسم , وخير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن الأرض والماء , أو يضمن لهن كل عام، فاختلفن , فمنهن من اختار الأرض , ومنهن من اختار الأوساق كل عام، فكانت عائشة وحفصة ممن اختار الأرض والماء)) . وحدثنا ابن نمير، حدثنا عبيد الله. حدثني نافع , عن عبد الله بن عمر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر)) ، واقتص الحديث بنحو حديث علي بن مسهر , ولم يذكر: فكانت عائشة وحفصة ممن اختارتا الأرض والماء. وقال: خير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن الأرض ولم يذكر الماء. وحدثنى أبو الطاهر. حدثنا عبد الله بن وهب. أخبرني أسامة بن زيد الليثي , عن نافع , عن عبد الله بن عمر قال: لما افتتحت خيبر سألت يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم فيها على أن يعملوا على نصف ما خرج منها من الثمر والزرع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقركم فيها على ذلك ما شئنا)) . ثم ساق الحديث بنحو حديث ابن نمير وابن مسهر عن عبيد الله , وزاد فيه: وكان الثمر يقسم على السهمين من نصف خيبر , فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس.   (1) على هامش شرح النووي. ج: 10. ص: 208. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1011 وحدثنا ابن رمح , أخبرنا الليث , عن محمد بن عبد الرحمن , عن نافع , عن عبد الله بن عمر , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوا من أموالهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها. وحدثني محمد بن رافع , وإسحاق بن منصور - واللفظ لابن رافع - قالا: حدثنا عبد الرزاق. أخبرنا ابن جريج. حدثني موسى بن عقبة عن نافع , عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى عن أرض الحجاز , وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إجلاء اليهود , وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين، فأراد إخراج اليهود منها، فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يقرهم بها على أن يكفوا عملها , ولهم نصف الثمر. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نقركم على ذلك ما شئنا)) ، فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء. وروى أبو يوسف (1) حدثنا محمد بن السائب الكلبي , عن أبي صالح , عن عبد الله بن العباس قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر , قالوا: يا محمد , إنا أرباب الأموال , ونحن أعلم بها منكم , فعاملونا بها. فعاملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف , على أنا إذ شئنا أن نخرجكم أخرجناكم. فلما فعل ذلك أهل خيبر , سمع بذلك أهل فدك , فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم محيصة بن مسعود، فنزلوا على ما نزل عليه أهل خيبر على أن يصونهم ويحقن دماءهم، فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل معاملة أهل خيبر , فكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب. وحدثني محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم بن عتيبة , عن مقسم , عن عبد الله بن العباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر , فقال له أهلها: نحن أعلم بعملها منكم. فأعطاهم إياها بالنصف، ثم بعث عبد الله بن رواحة يقسم بينه وبينهم , فأهدوا إليه , فرد هديتهم , فقال: لم يبعثني النبي صلى الله عليه وسلم لآكل أموالكم , وإنما بعثني لأقسم بينكم وبينه، ثم قال: إن شئتم عاملت وعالجت , وكلت لكم النصف , وإن شئتم عاملتم وعالجتم , وكلتم النصف. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.   (1) كتاب الخراج. ص: 50. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1012 وقال يحيى بن آدم (1) أخبرنا إسماعيل , قال: حدثنا الحسن , قال: حدثنا يحيى , قال: حدثنا زياد بن عبد الله بن الطفيل , عن محمد بن إسحاق قال: سألت ابن شهاب عن خيبر , فأخبرني أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال , وكانت خيبر مما أفاء الله على رسوله، فخمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقسمها بين المسلمين , ونزل من نزل من أهل خيبر على الجلاء، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاملة الأرض. وقال أبو عبيدة (2) , فأما الحكم في الأرض العنوة , فإن عبد الله بن صالح قال: حدثنا الليث عن سعد , عن يونس بن يزيد الأيلي , عن ابن شهاب , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال وكانت مما أفاء الله على رسوله، فخمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمها بين المسلمين، ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال على أن تعملوها , ويكون ثمرها بيننا وبينكم , وأقركم ما أقركم الله)) قال: فقبلوا الأموال على ذلك.   (1) كتاب الخراج. ص: 20. فقرة: 18. (2) الأموال. ص: 78 و79. فقرة: 141 و142. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1013 وحدثنا يزيد بن هارون , حدثنا يحيى بن سعيد , أن بشير بن يسار أخبره , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه خيبر , قسمها على ستة وثلاثين سهمًا , جمع كل سهم منها مائة سهم، وعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به , وقسم النصف الباقي بين المسلمين , وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قسم، الشق والنطاة وما حيز معهما , وكان فيهما وقف الكتيبة والوطيحة وسلالم. فلما صارت الأموال في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له من العمال ما يكفون عمل الأرض , فدفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود يعملونها على نصف ما خرج منها. فلم تزل على ذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة أبي بكر حتى كان عمر , فكثر العمال في أيدي المسلمين , وقووا على عمل الأرض، فأجلى عمر اليهود إلى الشام , وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم. وقال ابن زنجويه (1) فإن عبد الله بن صالح أنبأنا , عن ليث , عن يونس بن زيد , عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال، وكانت مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم , وقسمها بين المسلمين , ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال , فدعاهم رسول الله , فقال: ((إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال على أن تعملوها , ويكون ثمرها بيننا وبينكم , وأقركم ما أقركم الله)) قال: فقبلوا الأموال على ذلك. وأنبأنا يزيد بن هارون , عن يحيى بن سعيد , أن بشير بن يسار أخبره , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه بخيبر , قسمها على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم، وعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به، وقسم النصف الباقي بين المسلمين وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومما قسم الشق ونطاة وما حِيز معهما، وكان فيما وقف الكتيبة والوطيحة وسلالم.   (1) الأموال. ج: 1. ص: 188. فقرة: 218 و219. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1014 فلما صارت الأموال في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن له من العمال ما يكفون عمل الأرض، فدفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود يعملونها على نصف ما خرج منها , فلم يزل على ذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة أبي بكر حتى كان عمر , فكثر العمال في أيدي المسلمين , وقووا على عمل الأرض، فأجلى عمر اليهود إلى الشام , وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم. ثم قال (1) أنبأنا محمد بن يوسف. أنبأنا عمر بن ذر , قال: جلسنا إلى أبي جعفر محمد بن علي , فسأله رجل من القوم عن قبالة الأرضين والنخل , فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل خيبر من أهلها بالنصف، فيقومون على النخل , فيسقونه ويحفظونه ويلقحونه، حتى إذا أينع ودنا صرامه , بعث عبد الله بن رواحة , فخرص ما في النخل , فيتولونه ويردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصته النصف. فأتوه في بعض تلك الأعوام , فقالوا: إن عبد الله بن رواحة قد جار علينا في الخرص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فنحن نأخذ بخرص عبد الله بن رواحة ونرد عليكم الثمن بحصتكم النصف)) فقالوا: هكذا بأيديهم وعقدوا ثلاثين، هذا الحق وبهذا قامت السماوات والأرض. بل نأخذ النخل , فقوموا النخل وردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم الثمن بحصته النصف. ثم قال (2) أخبرنا محمد بن يوسف. أخبرنا عمر بن ذر , قال: جلسنا إلى أبي جعفر محمد بن علي , فسأله رجل من القوم عن قبالة الأرضين والنخل، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل خيبر من أهلها بالنصف، فيقومون على النخل، فيسقونه ويحفظونه ويلقحونه , فإذا أينع ودنا صرامه , بعث عبد الله بن رواحة , فخرص ما في النخل , فيتولونه , ويردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصته النصف. فأتوه في بعض تلك الأعوام , فقالوا: إن عبد الله بن رواحة قد جار علينا في الخرص. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فنحن نأخذ بخرص عبد الله بن رواحة ونرد عليكم الشيء بحصتكم النصف)) . فقالوا: هكذا بأيديهم وعقد ثلاثين، هذا الحق وبهذا قامت السماوات والأرض، بل نأخذ النخل , فقوم النخل , وردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم الثمن بحصته النصف.   (1) الأموال. ص: 288. فقرة: 299. (2) الأموال. ج: 3. ص: 1067. فقرة: 1979. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1015 وقال ابن سعد (1) أخبرنا يزيد بن هارون. أخبرنا يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم , وجعل نصفها لنوائبه وما ينزل به، وعزل النصف الآخر , وقسمه بين المسلمين , وسهم النبي صلى الله عليه وسلم فيما قسم بين المسلمين الشق ونطاة وما حيز معهما، وكان فيما وقف الوطيحة والكتيبة وسلالم وما حيز معهما، وكان فيما وقف الوطيحة والكتيبة وسلالم وما حيز معهن، فلما صارت الأموال في يد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكن لهم من العمال ما يكفون عمل الأرض , فدفعها النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليهود يعملونها على نصف ما يخرج منها، فلم يزالوا على ذلك حتى كان عمر بن الخطاب وكثر في يدي المسلمين العمال وقووا على عمل الأرض، فأجلى عمر اليهود إلى الشام وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم. وقال أحمد في مسنده (2) حدثنا محمد بن فضيل , قال: حدثنا يحيى بن سعيد , عن بشير بن يسار - بضم أوله وفتح الشين - عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أدركهم يذكرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ظهر على خيبر وصارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ضعف عن عملها , فدفعوها إلى اليهود , ويقومون عليها , وينفقون عليها , على أن لهم ما يخرج منها. فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم مائة سهم، فجعل نصف ذلك كله للمسلمين، وكان في ذلك النصف سهام المسلمين وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معها، وجعل النصف الآخر لمن ينزل عليه من الوفود والأمور ونوائب الناس. عن سفيان بن وهب الخولاني , قال: لما افتتحنا مصر بغير عهد , قام الزيبر بن العوام - رضي الله عنه , فقال: يا عمرو بن العاص اقسمها. فقال عمرو: لا أقسمها , فقال الزبير: والله لتقسمنها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، قال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إلى عمر - رضي الله عنه - فكتب إليه عمر , أن أقرها حتى يغزو منها حبل الحبلة.   (1) الطبقات الكبرى. ج: 2. ص: 113. (2) الساعاتي الفتح الرباني. ج: 14. ص: 114. ح: 316. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1016 وقال ابن حبان في صحيحه (1) أخبرنا خالد بن النضر بن عمر القرشي أبو يزيد المعدل بالبصرة قال: حدثنا عبد الواحد بن غياث , قال: حدثنا حماد بن سلمة , قال: أخبرنا عبيد الله بن عمر - فيما يحسب أبو سلمة - عن نافع , عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلب على الأرض والزرع والنخل , فصالحوه على أن يخلوا منها , ولهم ما حملت ركابهم , ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء , ويخرجون منها، فاشترط عليهم ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئًا , فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عصمة. فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب , كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي: ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟ فقال: أذهبته النفقات والحروب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العهد قريب والمال أكثر من ذلك)) ، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير بن العوام فمسه بعذاب، وقد كان حيي قبل ذلك قد دخل خربة , فقال: قد رأيت حييا يطوف في خربة ههنا , فذهبوا فطافوا , فوجدوا المسك في خربة , فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي حقيق , وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب , وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم , وقسم أموالهم للنكث الذي نكثوا , وأراد أن يجليهم منها , فقالوا: يا محمد , دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها , وكانوا لا يتفرعون (2) أن يقوموا فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم كل عام يخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر، قال: فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة خرصه , وأرادوا أن يرشوه، فقال: يا أعداء الله , أتطعموني السحت، والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليَّ , ولأنتم أبغض إليَّ من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.   (1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 316. ح: 5176. (2) لعل صوابه: لا يتفرغون أو لا يفرغون بالغين المعجمة كما في رواية البيهقي في سننه وابن كثير نقلًا عنه في البداية والنهاية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1017 وقال أبو داود في سننه (1) حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء. حدثنا أبي. حدثنا حماد بن سلمة , عن عبيد الله بن عمر قال- أحسبه عن نافع , عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر , فغلب على النخل والأرض، وألجأهم إلى قصرهم، فصالحوه على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة , ولهم ما حملت ركابهم، على أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئًا , فإن فعلوا فلا ذمة ولا عهد، فغيبوا مسكا لحيي بن أخطب , وقد كان قتل قبل خيبر , كان قد احتمله معه يوم بني النضير حين أجليت النضير , فيه حليهم، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعية: ((أين مسك حيي بن أخطب؟)) قال: أذهبته الحروب والنفقات فوجدوا المسك، فقتل ابن الحقيق , وسبى نساءهم وذراريهم , وأراد أن يجليهم , فقالوا: يا محمد , دعنا نعمل في هذه الأرض , ولنا الشطر ما بدا لك , ولكم الشطر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقا من ثمر , وعشرين وسقا من شعير. وحدثنا الربيع بن سليمان المؤذن , حدثنا أسد بن موسى , حدثنا يحيى بن زكرياء. حدثني سفيان، عن يحيى بن سعيد , عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة قال ((: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين، نصفا لنوائبه وحاجته , ونصفا بين المسلمين , قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما)) . وحدثنا حسين بن علي بن الأسود , أن يحيى بن آدم حدثهم , عن أبي شهاب , عن يحيى بن سعيد , عن بشير بن يسار , أنه سمع نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا ... فذكر هذا الحديث , قال: فكان النصف سهام المسلمين , وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزل النصف للمسلمين لما ينوبه من الأمور والنوائب. حدثنا حسين بن علي. حدثنا محمد بن فضيل , عن يحيى بن سعيد , عن بشير بن يسار مولى الأنصار، عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر , قسمها على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم مائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك، وعزل النصف الباقي لمن نزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس)) .   (1) ج: 3. ص: 157 و159. ح: 3006 و3010 و3011 و3012 و3013 و3014. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1018 وحدثنا عبد الله بن سعيد الكندي. حدثنا أبو خالد - يعني سليمان - عن يحيى بن سعيد , عن بشير بن يسار قال: لما أفاء الله على نبيه صلى الله عليه وسلم خيبر , قسمها على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم مائة سهم، فعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به الوطيحة والكتيبة وما أحيز معهما، وكان سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أحيز معهما. وحدثنا محمد بن مسكين اليمامي. حدثنا يحيى بن حسان. حدثنا سليمان - يعني ابن بلال - عن يحيى بن سعيد , عن بشير بن يسار ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه خيبر , قسمها على ستة وثلاثين سهمًا جمع، فعزل للمسلمين الشطر ثمانية عشر سهما , يجمع كل سهم مائة، النبي صلى الله عليه وسلم معهم، له سهم كسهم أحدهم , وعزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهما , وهو الشطر لنوائبه وما ينزل به من أمر المسلمين، فكان ذلك الوطيح والكتيبة والسلالم وتوابعها. فلما صارت الأموال بيد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين , لم يكن لهم عمال يكفونهم عملها , فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود فعاملهم)) . وقال الطبري في تاريخه (1) في آخر حديث طويل من غزوة خيبر إسناده إلى ابن إسحاق: فلما نزل أهل خيبر على ذلك - أي على الجلاء - سألوا رسول الله أن يعاملهم بالأموال على النصف , وقالوا: نحن أعلم بها منكم , وأعمر لها، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم , وصالحه أهل فدك على مثل ذلك، فكانت خيبر فيئًا للمسلمين , وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.   (1) ج: 3. ص: 15. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1019 وقال البيهقي (1) أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقري. أنبأ الحسن بن محمد بن إسحاق. حدثنا يعقوب بن يوسف القاضي، حدثنا عبد الواحد بن غياث. حدثنا حماد بن سلمة. أنبأنا عبيد الله بن عمر - فيما يحسب أبو سلمة - عن نافع , عن ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم , فغلب على الأرض والزرع والنخل , فقالوا: يا محمد , دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها , ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها , فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم , وكان عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - يأتيهم كل عام فيخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام شدة خرصه , وأرادوا أن يرشوه فقال: يا أعداء الله تطعموني السحت وقد جئتكم من عند أحب الناس , ولأنتم أبغض إليَّ من عدتكم من القردة والخنازير , ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن أعدل عليكم , فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض)) .   (1) السنن الكبرى. ج: 6. ص: 114 و115. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1020 وأخبرنا الحسين بن الفضل القطان ببغداد. أنبأنا أبو سهل بن زياد القطان. حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا محمد بن المثنى. حدثنا سعيد بن سفيان. أنبأنا صالح - وهو ابن أبي الأخضر - عن الزهري , عن سعيد بن المسيب , عن أبي هريرة قال: ((لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر دعا يهود , فقال: عليكم نصف الثمر على أن تعملوا ما أقركم الله عز وجل)) قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله يخرصها ثم يُخيِّرُهم أن يأخذوها أو يتركوها، وأن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض ذلك , فشكوا إليه , فدعا عبد الله بن رواحة , فذكر له ما ذكروا , وقال عبد الله: يا رسول الله وهم بالخيار، إن شاؤوا أخذوها وإن تركوها أخذناها، فرضيت اليهود , وقالت: بهذا قامت السماوات والأرض، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه: ((لا يجتمع في جزيرة دينان)) . قال: فلما انتهى ذلك إلى عمر - رضي الله عنه - أرسل إلى يهود خيبر , فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملكم على هذه الأموال وشرط لكم أن يقركم , يعني ما أقركم الله ورسوله , وقد أذن الله عز وجل في الجلاء لكم حين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عهد، فأجلاهم عمر - رضي الله عنه - كل يهودي ونصراني في أرض الحجاز ثم قسمها بين أهل الحديبية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1021 وذكر ابن هشام قصة صلح خيبر نقلًا عن ابن إسحاق كعادته , وما كنا لنعرض له , لولا نكتة هامة وردت أثناء عرضه , إذ قال: وكان فيمن مشى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني يهود فدك الذين جاؤوا يطلبون صلحًا كصلح خيبر - في ذلك محيصة بن مسعود أخو بني حارثة. قلت: ومحيصة هذا حارثي أنصاري أوسي من رهط رافع بن خديج له بلاء في الإسلام وذكر , امتاز به في واقعة مع اليهود , حفظها له التاريخ. ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد قتل كعب بن الأشرف: ((من ظفرتم به من يهود فاقتلوه)) . فوثب محيصة على تاجر يهودي فقتله , فجعل أخوه حويصة يضربه , وكان أسن منه , وذلك قبل أن يسلم حويصة (1) ولهذه النكتة أثر بعيد عميق في تكييف العلاقة بين قصة صلح خيبر وبين حديث رافع بن خديج والأحاديث المشاكلة له ولجابر بن عبد الله وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وأبي سعيد الخدري وثابت بن الضحاك وغيرهم. ذلك بأن مجموع النصوص المروية لهذه الأحاديث التي وردت فيها كلمة (المخابرة) أو ما يشبهها من مشتقات (خبر) بلغ أربعين نصًا (2)   (1) ابن حجر الإصابة. ج: 1. ص: 363. ترجمة حويصة: 1881. وج: 3. ص: 388. ترجمة محيصة: 7825. (2) انظر فيما سبق حديث كل من حنظلة بن قيس، سليمان بن يسار، أبي النجاشي، سعيد بن المسيب، سعد بن أبي وقاص، عبد الله بن دينار، عطاء ومجاهد بن شهاب، طاوس، عبد الله بن دينار، ابن عمر، نافع، أسيد بن ظهير، كلهم عن رافع بن خديج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1022 وكون محيصة الحارثي أحد البارزين من رهط رافع من الذين سعوا بين فدك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يكون ليهود فدك ما ليهود خيبر من الصلح، وكان لهم ذلك فعلًا، لا ينبغي عدم اعتباره في محاولة تقدير الزمن الذي وقع فيه صلح خيبر , وذلك الذي وقع فيه نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم بني حارثة بالذات عن كراء الأرض. ونعود إلى موضوع النسخ الذي ادعاه بعضهم , فاعتمدوا عليه - صراحة أو ضمنًا - في إبطال النهي عن المزارعة أو كراء الأرض. ونبدأ بما قاله ابن حزم الذي سبق أن نقلنا عنه القول بتواتر النهي عن كراء الأرض معنويًا إن لم يكن لفظيًا. قال في الأحكام (1) والنسخ تخصيص بعض (2) الأزمان بحكم الوارد دون سائر الأزمان , وهم يجيزون بالسنة تخصيص بعض الأعيان مثل قوله عليه السلام: ((لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدًا)) أو ما أشبه ذلك. فما الفرق بين جواز تخصيص بعض الأعيان بالسنة وبين تخصيص بعض الأزمان بها؟ وما الذي أوجب أن يكون هذا ممنوعا وذلك موجودًا؟ فإن قالوا: ليس التخصيص كالنسخ؛ لأن التخصيص لا يرفع النص كله، قيل لهم: إذا جاز رفع بعض النص بالسنة - وبعض النص نص - فلا فرق بين رفع بعض نص آخر بها. وكل ذلك سواء , ولا فرق في شيء منها. وقال الآمدي (3) أما المتفق عليه - أي من شروط النسخ - بأن يكون الحكم المنسوخ شرعيا , وأن يكون الدليل الدال على ارتفاع الحكم شرعيا متراخيًا عن الخطاب المنسوخ حكمه , وأن لا يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيدًا بوقت معين.   (1) المجلد: ا. ص: 482. (2) في النسخة المطبوعة بعد وهي خطأ بدليل ما بعدها. (3) الإحكام في أصول الأحكام. ج: 3. ص: 164. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1023 ثم قال (1) النصان إذا تعارضا وتنافيا , إما أن يتعارضا من كل وجه , أو من وجه دون وجه، فإن تنافيا من كل وجه، فإما أن يكونا معلومين أو مظنونين , أو أحدهما معلومًا , والآخر مظنونًا. فإن كانا معلومين أو مظنونين، فإما أن يعلم تأخر أحدهما عن الآخر , أو اقترانهما , أو لا يُعلم شيء من ذلك، فإن عُلِمَ تأخر أحدهما عن الآخر , فهو ناسخ , والمتقدم منسوخ، وذلك يُعرف إما بلفظ النسخ والمنسوخ , كما لو قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا ناسخ وهذا منسوخ , أو أجمعت الأمة على ذلك. وإما بالتاريخ , وذلك قد يعلم إما بأن يكون في اللفظ ما يدل على التقدم والتأخر لقوله صلى الله عليه وسلم: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)) . وإما بإسناد الراوي أحدهما إلى شيء متقدم , كقوله: كان هذا في السنة الفلانية، وإحداهما معلومة التقدم على الأخرى , هذا كله إذا كان سند الناسخ والمنسوخ مستويًا. ثم قال: وإما إن علم اقترانهما مع تعذر الجمع بينهما , فعندي أن ذلك غير متصور الوقوع , وإن جوزه قوم وبتقدير وقوعه، فالواجب إما الوقف عن العمل بأحدهما أو التخيير بينهما إن أمكن، وكذلك الحكم فيما إذا لم يُعلم شيء من ذلك، وأما إن كان أحدهما معلومًا والآخر مظنونًا , فالعمل بالمعلوم واجب , سواء تقدم أو تأخر , أو جهل الحال في ذلك، لكنه إن كان متأخرًا عن المظنون , كان ناسخًا , وإلا كان مع وجوب العمل به غير ناسخ. هذ كله إذا تنافيا من وجه دون وجه , بأن يكون كل واحد منهما أعم من وجه دون وجه , كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)) . فإنه خاص بالمبدل , وعام في النساء والرجال، وقوله: ((نهيت عن قتل النسوان)) . فإنه خاص بالنساء , وعام بالنسبة إلى المبدل، فالحكم فيهما كما لو تنافيا من كل وجه. وقال الشيرازي (2) فصل: وكذلك يجوز نسخ السنة بالسنة , كما يجوز نسخ الكتاب بالكتاب، الآحاد بالآحاد , والمتواتر بالمتواتر , والآحاد بالمتواتر , فأما المتواتر بالآحاد , فلا يجوز، لأن التواتر يوجب العلم , فلا يجوز نسخه بما يوجب الظن.   (1) الإحكام في أصول الأحكام. ص: 258 إلى 261. (2) اللمع في أصول الفقه. ص: 173. فقرة: 113. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1024 ثم قال (1) : واعلم أن النسخ قد يعلم بصريح النطق , كقوله عز وجل: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} (2) وقد يعلم بالإجماع , وهو أن تجمع الأمة على خلاف ما ورد من الخبر , فيستدل بذلك على أنه منسوخ؛ لأن الأمة لا تجتمع على الخطأ , وقد يعلم بتأخير أحد اللفظين عن الآخر مع التعارض، وذلك مثل ما روي أنه قال: الثيب بالثيب جلد مائة والرجم. ثم روي أنه رجم ماعزًا ولم يجلده، فدل على أن الجلد منسوخ. ثم قال (3) ويعلم المتأخر في الأخبار بالنطق , كقوله صلى الله عليه وسلم: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)) . ويعلم بأخبار الصحابة أن هذا نزل بعد هذا وورد بعد هذا، كما روي أنه كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار. وذكر ابن قدامة (4) من بين ما يعرف به النسخ أن يذكر الراوي تاريخ سماعه , فيقول: سمعت عام الفتح. ويكون المنسوخ معلومًا بقدمه. وقال الرازي (5) قد يعلم ذلك - أي كون الناسخ ناسخًا - باللفظ تارة وبغيره أخرى. أما اللفظ فهو أن يوجد لفظ النسخ، إما بأن يكون هذا منسوخًا, أو يقول: ذلك ينسخ هذا، وإما غير اللفظ , فهو أن يأتي بنقيض الحكم الأول أو بضده مع العلم بالتاريخ. ثم قال: وأما التاريخ , فقد يعلم باللفظ أو بغيره. أما اللفظ فكما إذا قال أحد الخبرين قبل الآخر، وأما بغير اللفظ فعلى وجوه , أحدها: أن يقول: هذا الخبر ورد سنة كذا , وهذا في سنة كذا، وثانيهما: أن يعلق أحدهما على زمان معلوم التقدم والآخر بالعكس , كما لو قال: كان هذا في غزاة بدر والآخر في غزاة أحد، وهذه الآية نزلت قبل الهجرة والأخرى بعدها.   (1) اللمع في أصول الفقه ص: 176 و178. (2) الآية رقم (66) من سورة الأنفال. (3) الفقرة: 121 من اللمع في أصول الفقهه. (4) روضة الناظر. ص: 81. (5) المحصول. القسم: 3. ص: 561 و562. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1025 وثالثها: أن يروي أحدهما رجل متقدم الصحبة لرسول صلى الله عليه وسلم , ويروي الآخر رجل متأخر الصحبة , وانقطعت صحبة الأول للرسول عليه السلام عند ابتداء الآخرين بصحبته لهذا يقتضي أن يكون خبر الأول متقدمًا. أما لو دامت صحبة المتقدم مع الرسول عليه السلام لم يصح هذا الاحتمال. وقال الشاطبي (1) بعد أن بين أن النسخ لا يكون إلا في الكليات: ويدل على أن ذلك الاستقراء التام , وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينات، وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء، بل إنما أتى بالمدينة (ص1335) ما يقويها ويحكمها ويحسنها. ثم قال: ووجه آخر، وهو أن الأحكام ثبتت على المكلف، فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق؛ لأن ثبوتها على المكلف أولًا محقق , فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق. ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن , ولا الخبر المتواتر؛ لأنه رفع لمقطوع به بالمظنون , فاقتضى هذا أن ما كان من الأحكام الكلية يدعى نسخه لا ينبغي قبول تلك الدعوة فيه إلا مع قاطع بالنسخ , بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين بدعوى للأحكام فيهما. وعقب عليه محقق الكتاب الشيخ عبد الله دراز بقوله: نعم، هو قول الأكثرين - يعني أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبر المتواتر - وحجتهم واضحة. وإنما قبلوا تخصيص المتواتر بالآحاد ولم يقبلوا نسخه به؛ لأن الأول بيان وجمع بين الدليلين بخلاف النسخ فإنه إبطال. وقال ابن حزم الهمذاني (2) في معرض ذكره لشروط النسخ: ومنها أن يكون الخطاب الناسخ متراخيًا عن المنسوخ، فعلى هذا يعتبر الحكم الثاني، فإنه لا يعدو أحد القسمين إما أن يكون متصلًا بالأول لا يسمى نسخًا , إذ من شرط النسخ التراخي وقد فقد هاهنا لأن قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تلبسوا القمص ولا السراويلات ولا الخفاف إلا أن يكون رجل ليس له نعلان فليلبس الخفين)) . وإن كان صدر الحديث يدل على منع لبس الخفاف , وعجزه يدل على جوازه , وهما حكمان متنافيان , غير أنه لا يسمى نسخًا لانعدام التراخي فيه، ولكن هذا النوع لا يسمى بيانًا.   (1) الموافقات. ج: 3. ص: 105. (2) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار. ص: من 9 إلى 21. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1026 وإن كان منفصلًا نظرت هل يمكن الجمع بينهما أم لا، فإن أمكن الجَمع جُمع , إذ لا عبرة بالانفصال الزماني مع قطع النظر عن التنافي , ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجه يكون أعم للفائدة كان أولى صونًا لكلامه - بأبي هو وأمي - من سمات النقص، ولأن في ادعاء النسخ إخراج الحديث عن المعنى المفيد وهو على خلاف الأصل , ألا ترى أن قوله عليه السلام: ((شر الشهود من شهد قبل أن يستشهد)) . وفي حديث آخر: ((خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد)) ، وهما حديثان قد تعارضا على ما ترى، وقد يشكل على غير الفقيه أن يجمع بينهما لما يتوهم فيه من ظاهر المنافاة مع حصول الانفصال فيهما، وربما يراه بعض من له معرفة بالإسناد فيرى إسناد الحديث الأول أمثل , فيحكم بنسخ الثاني , وليس الأمر على ما يتوهمه؛ لفقدان شرائط النسخ، لكن طريق الجمع بين هذين الحديثين أن يحمل الأول على ما إذا شهد قبل أن يستشهد من غير مسيس الحاجة إليه. وهذا التفسير ظاهر في حديث عمران بن الحصين , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم , ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم ينشأ قوم يشهدون ولا يستشهدون)) . ويحمل الحديث الثاني على ما إذا شهد عنه مسيس الحاجة , فهو خير الشهود، وعلى هذا ينبغي أن يحتال في طريق الجمع رفعًا للتضاد عن الأخبار. وإن لم يكن الجمع وهما حكمان منفصلان، نظرت هل يمكن التمييز بين السابق والتالي، فإن تميزا وجب السير إلى الآخر منهما. ويعرف ذلك بأمارات عدة، منها أن يكون لفظ النبي صلى الله عليه وسلم مصرحًا به , نحو قوله عليه الصلاة والسلام: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها)) . أو يكون لفظ الصحابي ناطقًا به نحو حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس)) . ومنها أن يكون التاريخ معلومًا نحو ما رواه أُبي بن كعب، رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله , إذا جامع أحدنا فأكسل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يغسل ما مس المرأة منه وليتوضأ ثم يصل)) . هذا حديث يدل على أن لا غسل مع الإكسال , وأن لا موجب الغسل الإنزال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1027 ثم لما استقرينا طرق هذا الحديث , أفادنا بعض الطرق أن شرعية هذا كان في مبدأ الإسلام , واستمر ذلك إلى ما بعد الهجرة بزمان، ثم وجدنا الزهري قد سأل عروة عن ذلك , فأجابه عروة أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ولا يغتسل وذلك قبل فتح مكة، ثم اغتسل بعد ذلك وأمر الناس بالغسل)) . ثم قال: وإن لم يكن التمييز بينهما بأن أبهم التاريخ وليس في اللفظ ما يدل عليه تعذر الجمع بينهما، فحينئذ يتعين المسير إلى الترجيح , ووجوه الترجيحات كثيرة إنما أذكر معظهما، فمما يرجح به أحد الحديثين على الآخر: الوجه الأول: كثرة العدد في أحد الجانبين , وهي مؤثرة في باب الرواية؛ لأنها تقرب مما يوجب العلم وهو التواتر. ثم قال: وقال بعض الكوفيين: كثرة الرواة لا تأثير لها في الترجيحات لأن طريق كل واحد منهما غلبة الظن , فصار كشهادة الشاهدين مع شهادة الأربعة. يقال على هذا: إن إلحاق الرواية بالشهادة غير ممكن , وإن شاركت الشهادة في بعض الوجوه فقد فارقتها في أكثر الوجوه , ألا ترى أنه لو شهد خمسون امرأة لرجل بمال لا تقبل شهادتهن , ولو شهد به رجلان قبلت شهادتهما، ومعلوم أن شهادة الخمسين أقوى في النفس من شهادة رجلين، لأن غلبة الظن إنما هي معتبرة في باب الرواية دون الشهادة. وكذا سوى الشارع بين شهادة إمامين عالمين وشهادة رجلين لم يكونا في منزلتهما. وأما في باب الرواية فرجح رواية الأعلم الأدين علمه غيره (ص1338) من غير خلاف يعرف في ذلك فَلاحَ الفرق بينهما. ثم مضى يذكر أوجها في هذا الباب. ثم قال: الوجه السابع: أن يكون أحد الراويين مباشرًا لما رواه الثاني حاكيًا، فالمباشر أعرف بالحال، مثاله حديث ميمونة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نكحها وهو حلال)) ، وبعضهم رواه: ((نكحها وهو حرام)) ، فمن رواه: نكحها وهو حلال أبو رافع، ومن رواه: نكحها وهو حرام ابن عباس وحديث أبي رافع أولاه بالتقديم؛ لأن أبا رافع كان سفيرًا بينهما , وكان مباشرًا للحال، وابن عباس كان حاكيًا، ولذلك أحالت عائشة - رضي الله عنها – إلى علي - رضي الله عنه - لما سألوها عن المسح على الخفين وقالت: سلوا عليًّا فإنه كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1028 والوجه الثامن: أن يكون أحد الراويين صاحب القصة , فيرجح حديثه ؛ لأن صاحب القصة أعرف بحاله من غيره وأكثر اهتمامًا , ولذلك رجع نفر من الصحابة ممن كان يرى الماء من الماء إلى حديث عائشة - رضي الله عنها - في التقاء الختانين. الوجه التاسع: أن يكون أحد الراويين أحسن سياقًا لحديثه من الآخر وأبلغ استقصاء فيه؛ لأنه قد يحتمل أن يكون الراوي الآخر سمع بعض القصة فاعتقد أن ما سمعه مستقل بالإفادة، ويكون الحديث مرتبطًا بحديث آخر لا يكون هذا قد تنبه له. ولهذا من ذهب إلى الإفراد قدم حديث جابر، لأنه وصف خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة مرحلة مرحلة ودخوله مكة، وحكى مناسكه على ترتيبه وانصرافه إلى المدينة وغيره لم يضبط ما ضبطه. ثم قال: الوجه السابع والثلاثون: أن يكون أحد الحديثين قولًا والآخر فعلًا، فالقول أبلغ في البيان ولأن الناس لم يختلفوا في كون قوله حجة , واختلفوا في اتباع فعله، ولأن الفعل لا يدل بنفسه على شيء بخلاف القول فإنه أقوى. الوجه الثامن والثلاثون: أن يكون أحد الحديثين مخصصًا والثاني لم يدخله التخصيص أولى؛ لأن التخصيص يضعف اللفظ ويمنعه من جريانه على مقتضاه ويصير مجازًا عند جماعة من الأئمة , بخلاف ما لم يدخله التخصيص فيكون أقوى. ثم قال: الوجه الأربعون: أن يكون أحد الحديثين مطلقًا والآخر واردًا على سبب، فيقدم المطلق لظهور أمارات التخصيص على الوارد على سبب , فيكون أولى بإلحاق التخصيص به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1029 ثم ذكر التمييز بين التخصيص والنسخ وجوهًا خمسة فقال: أحدها: أن الناسخ لا يكون إلا متأخرًا عن المنسوخ والتخصيص يصح اتصاله به. والثاني: أن الدليل في النسخ لا يكون إلا خطابًا والتخصيص قد يقع بقول وفعل وقياس وغير ذلك. والثالث: أن نسخ الشيء لا يجوز إلا بما هو مثله في القوة أو بما هو أقوى منه في الرتبة , والتخصيص جائز بما هو دون المخصوص منه في الرتبة. والرابع: أن التخصيص لا يدخل في الأمر بمأمور واحد، والنسخ جائز في مثله سيما على أصل من يرى نسخ الشيء قبل وقته. والخامس: أن التخصيص يخرج من الخطاب ما لم يرد به , والنسخ رافع ما أريد إثبات حكمه. ولعل أجود تلخيص وأشمله لأقوال السلف الأول من التابعين وأئمة المذاهب في موضوع كراء الأرض , وتأويل الأحاديث الواردة بشأنه , والتي تراءى للبعض تعارض بينهما ما قاله ابن حازم الهمذاني ونصه (1) وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فذهب بعضهم إلى أن من استأجر أرضًا على جزء معين مما يخرج منها كالنصف والثلث والربع , أن ذلك جائز والعقد صحيح. روي ذلك عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وابن شهاب الزهري. ومن أهل الرأي: أبو يوسف القاضي ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة وقال ابن حنبل: يجوز ذلك إذا كان البذر من رب الأرض، وتمسكوا في ذلك بظاهر حديث ابن عمر - يعني ما روي عن طريق نافع ابنه من قوله: قد علمت أن الأرض كانت تكرى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث، وقد تقدم - قالوا: ويؤكده حديث ابن عباس - وقد تقدم - لأن قوله عليه السلام: لأن يمنحها أخاه خير. ليس فيه دلالة على اللزوم , وإنما اللفظ صدر مصدر التخيير ومنهم من تمسك بما روى ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل خيبر على الشطر مما يخرج من ثمر)) - وقد تقدم من طرق مختلفة، وخالفهم في ذلك آخرون، وقالوا: العقد فاسد.   (1) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار. ص: 171 وما بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1030 وروي ذلك عن عبد الله بن عمر وابن عباس وعبد الله بن خديج وأسيد بن حضير وأبي هريرة ونافع وإليه ذهب مالك والشافعي. ومن الكوفيين أبو حنيفة، وتمسكوا في ذلك بأحاديث. ثم أورد بعضًا من طرق حديث رافع بن خديج - وقد تقدمت - ثم قال: قرئ على أبي المحاسن محمد بن عبد الخالق الجوهري. أخبرك عبد الواحد بن إسماعيل الإمام في كتابه. أخبرنا أحمد بن محمد البلخي. حدثنا أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي قال: خبر رافع بن خديج من هذا الطريق - يعني الخبر الذي رواه مسلم عن طريق نافع أن ابن عمر كان يكري مزارعه.. الحديث - وقد تقدم خبر مجمل تفسره الأخبار التي رويت عن رافع بن خديج وعن غيره من طرق أخر، وقد عقل ابن عباس المعنى من الخبر وأنه ليس المراد به تحريم المزارعة بشطر ما تخرجه الأرض، وإنما أريد بذلك أن يتمانحوا أرضهم وأن يرفق بعضهم بعضًا. وقد ذكر رافع بن خديج في رواية أخرى عنه النوع الذي حرم منها , والعلة التي من أجلها نهى عنها. ثم بين الرواية الأخرى التي أشار إليها الخطابي بأن أورد ما رواه مسلم من حديث ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس وقد تقدم. قلت: وأحسب الخطاب واهمًا فيما نسبه إلى ابن عباس , فإنما عمدة ابن عباس الخصومة التي رفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين زارع أحدهما الآخر ثم اختصما، وقد سبق أن أوردناها في حديث ابن عباس في هذا الباب. ثم قال: قلت: وإنما صدر هذا الكلام عن الخطابي ظنًا منه أن المنهى عنه في خبر رافع إنما هو القدر المجهول. قلت: ولم يقع الخطابي وحده في هذا الظن، فقد وقع فيه جمهور من الفقهاء وخاصة المقلدة من المتأخرين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1031 ثم قال: ولو استقرأ طرق هذ االحديث لبان له أن النهي تناول المجهول والمعلوم وذلك بين في رواية سليمان بن يسار. ثم ساقها بسنده إلى مسلم في روايته عن طريق يعلى بن حكيم، كما ساق حديث جابر عن طريق الأوزاعي عن عطاء من رواية مسلم. ثم أورد حديث زيد بن ثابت وجميعها قد تقدمت، وتعقبه بقوله: وهذا يدل على أن الذي صدر من النبي صلى الله عليه وسلم كان على وجه المشورة والإرشاد دون الإلزام والإيجاب. والجواب أن هذا غير قادح فيما ذكرناه من دلالة النهي، فإن الاعتبار بلفظ النهي وعمومه دون السبب. قلت: هذا بناء على القاعدة الأصولية المعروفة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب , فضلًا عن أن حديث زيد بن ثابت يعتمد أيضًا على توهيم رافع بن خديج في فهم حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية الخصومة المشار إليها آنفًا وهو أساس غير سليم، وقد ألمعنا إلى ضعفه فيما عقبنا به عن حديث زيد بن ثابت. ثم قال: فإن قيل قول ابن عمر: إن الأرض كانت تكرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه دلالة على أن هذا الحكم كان مأذونًا فيه من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا من قبيل الأمور الدنيوية، فليس من شرطه إحاطة النبي صلى الله عليه وسلم وما لم تثبتوا ذلك. لا يستقيم لكم ادعاء النسخ؛ لأن المنسوخ لابد وأن يكون حكمًا شرعيًا. يقال: على هذا الكلام إن أكثر المحققين ذهبوا إلى أن قول الصحابي: كنا نفعل كذا , أو كانوا يفعلون كذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ظاهر في الدلالة على جواز الفعل، وأن ذكر الصحابي نحو ذلك في معرض الحجة يدل على أنه أراد ما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم , وسكت عنه دون ما لم يبلغه , وذلك يدل على الجواز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1032 ثم في حديث ابن عمر ما يدل عليه، حيث قال: قد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض ... قال: ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئًا , ولو لم يعلم أن ما كان يذهب إليه من الجواز كان مستندًا إلى إذن النبي صلى الله عليه وسلم , لما كان يتوقف في ذلك. ثم أورد مستدلًا على أن النهي جاء بعد الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا عن رافع ابن خديج , فقال: أخبرنا الفضل بن القاسم. أخبرنا الحسن بن محمد. أخبرنا أحمد بن عبد الله. أخبرنا أبو إسحاق المزكي. حدثنا مكي بن عبد الله. حدثنا مسلم بن الحجاج. حدثنا قتيبة بن سعيد وإسحاق. قال قتيبة: حدثنا جرير , عن عبد العزيز - هو ابن رافع - عن رفاعة بن رافع بن خديج , أن رجلًا كانت له أرض , فعجز عنها أن يزرعها , فجاءه رجل , فقال له: هل لك أن أزرع أرضك، فما خرج منها من شيء كان بيني وبينك؟ فقال: نعم، حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فلم يرجع إليه شيئًا، قال: فأتيت أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - فقلت لهما، فقالا: ارجع إليه، فرجعت إليه الثانية , فسألته , فلم يرد علي شيئًا , فرجعت إليهما , فقالا: انطلق فازرعها، فإنه لو كان حرامًا نهاك عنه. قال: فزرعها الرجل حتى إذا اهتز زرعه واخضر , وكانت الأرض على طريق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر بها يومًا , فأبصر الزرع فقال: ((لمن هذه الأرض؟)) فقالوا: لفلان زارع بها فلانا، فقال: ((ادعوهما لي جميعًا)) قال: فأتياه , فقال لصاحب الأرض: ((ما أنفق هذا في أرضك , فرده إليه , ولك ما أخرجت أرضك)) . قلت: ويشبه هذا ويقوي ما رواه كل من أبي داود والدارقطني والطحاوي من حديث رافع بن خديج الذي أوردناه آنفًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1033 مهما يكن، فإن ملاك الأمر في تقديرنا ليس هو النسخ أو تأويل النهي بمجرد الإرشاد والتوجيه، وإنما هو أمر أعمق من ذلك وأجدر بأن يكون الفيصل ذلك , بأن بني حارثة رهط رافع كانوا أهل زرع ومزارعة قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وربما بأجيال، ويصرح رافع في بعض طرق حديثه ما يفيد أنهم كانوا يمارسون نمطًا من الاستحواذ على الأرض الزراعية واستغلالها بما لهم من خبرة في الزراعة، وربما من طاقة مالية أيضًا. وحين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من قبله ومن بعده مهاجرون من مكة وغيرها , ولم يكونوا يملكون شيئًا , كان أول حل اقتصادي واجتماعي لمشكلة المهاجرين شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤاخاة بينهم وبين الأنصار , وبلغ من كرم الأنصار في الفترة الأولى من الهجرة أنهم لم يكتفوا بمقاسمة إخوانهم المهاجرين - إلا من استغنى منهم بخبرته وآثر أن يعتمد عليها في إقامة وضع اقتصادي له مثل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ما يملكون من عقار وأموال، بل عرض بعض الأنصار على إخوته المهاجرين أن يختاروا من شاؤوا من زوجات أولئك الأنصار ممن كانت له أكثر من واحدة ليطلقها، فإذا استكملت عدتها تزوجها المهاجر. ثم ذهب بعضهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأحسب هذا في فترة لاحقة وقد تكاثر المهاجرون وارتفع حكم المؤاخاة - يسألونه أن يقسم بينهم وبين إخوانهم المهاجرين ما يملكون من نخل، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك، فاتفق الأنصار والمهاجرون على أن يعملوا في نخيلهم , ويكون لهم الشطر من نتاجها كل عام. لكن الهجرة استمرت ثماني سنوات، كما اتسعت الأرض التي أصبحت ملكًا للمسلمين بعد إجلاء يهود القرى المحيطة بالمدينة مثل بني النضير وبني قريظة، فنشأ وضع اقتصادي أدنى إلى الاستقرار واتساع النماء تطورت معه مواجد الناس ورغباتهم كما وجدت طبقة المهاجرين لم يشملها شرع المؤاخاة الذي انتهى العمل به بانتهاء ظرفه، ولم تصب من مغانم الحرب ما يلحقها بالطبقة المستقرة اقتصاديا، فقد كانت الهجرة في تلك السنوات الثمانية أوسع نطاقًا بأوفر عدد يمكن أن يوازيه التطور الاقتصادي الناشئ عن مغانم الحرب، إذ لم يكن آنئذ عامل تطور اقتصادي غيرها , فهي قد استأثرت بجهود المسلمين واهتمامهم لما تثيره قريش وحلفاؤها والأعراب من نواحي الجزيرة ويهود من حول المدينة من ألوان الاستفزازات والمحالفات والغدر وما إلى ذلك مما ليس من شأنه أن يهيئ فرصة استقرار ينتج عنه تطور اقتصادي سلمي، إلا ما كان من استمرار الظروف المستقرة السابقة للإسلام لدى بعض قبائل الأنصار مثل بني حارثة الذي كانت الزراعة وامتلاك الأرض أساسًا لوضع استقراري مكين يتمتعون به ويركنون إليه، فكان لا مناص من تشريع خليق بأن يحدث نمطًا من تكافؤ الفرص، ينشأ عنه الوضع الضروري للحفاظ على التكافل الاجتماعي في المدينة القائم على أساس من ضمان العيش الكريم بجميع أفراد المجتمع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1034 وبما أن الأساس الطبيعي للنمو الاقتصادي في المدينة المنورة هو استغلال الأرض سواء بالزراعة أو بالتشجير، ومنه غراسة النخل واستثمارها، فقد كان من الطبيعي أن يتجه التشريع إلى تلبية مقتضيات هذا الظرف الجديد لاجتناب استغلال ملاك الأرض لحاجة المهاجرين الذين لم تشملهم فوائد المآخاة المشروعة خاصة في الفترة الأولى من الهجرة، على أن لا يصطدم اصطدامًا حادا مع غريزة التملك التي فطر عليها الإنسان، وغالبًا ما تتحكم في مواجد وتصرفات أرباب الأملاك تحكما يطغى أحيانًا حتى على مقتضيات العقيدة نفسها. ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كما وصفه القرآن: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) يشفق من أن ينصف أحدًا على حساب الآخر ما استطاع إلى ذلك سبيلا , ويحرص على أن يقيم الإنصاف على قاعدة من التجاوب الأخوي بين المشاعر والمواجد. فكان التشريع الذي ارتآه صلى الله عليه وسلم اجتهادًا أو هدي إليه وحيا هو منع أرباب الأراضي من استغلال ما يفيض على طاقتهم الاستثمارية مما يملكون من الأرض بجهود المحرومين من ملكية الأرض، وذلك ما يفيده , ولا يمكن أن يفيد غيره حديث رافع بن خديج بطرقه المختلفة، فهو حديث متكامل وليس بمضطرب كما بدا للترمذي وأحمد. ذلك بأننا إذا اقتصرنا منه على الطرق التي أوردته كاملًا أو أوردت أغلب فقراته وجاءت بأسانيد ثلاثية أو رباعية لم يدخلها أناس ممن تكلموا فيهم كلامًا لا مناص من اعتباره نجده متسقًا يكمل بعضه بعضًا ليس فيه التباس ولا اضطراب، والذين وصفوه بالاضطراب إنما انصب وصفهم على أسانيده , وليس على متنه. وبيان ذلك أن رافعًا - رضي الله عنه - لم يكن في حديثه راويًا فحسب , وإنما كان - وبالأساس - مفتيًا داعيًا، وآية ذلك أنه لم يشع حديثه إلا في عهد معاوية وربما في أواخر ذلك العهد , ويومئذ كانت الفتوحات قد كثرت واتسع ما تداولته أيدي المسلمين من الأراضي , فتجاوز الجزيرة العربية إلى الشام وإلى ما بين النهرين , وإلى ما وراءهما نتيجة لامتداد الفتوح امتدادًا كاد يكون بلا نهاية.   (1) الآية رقم: (128) من سورة التوبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1035 على حين أن ضعف وازع العقيدة في النفوس وخاصة في مسلمة الفتح ومن بعدهم. وهيمن عامل التهافت على الدنيا والاستكثار منها، بل ضعفت هيمنة الحكم الإسلامي الحازم على تصرفات أولي الأمر، وأخذت تحل محله عوامل السياسة غير الدينية , وهي عوامل لا تلتزم بضوابط الشريعة الإسلامية بقدر ما تتوخى حاجات السياسة الداخلية من استمالة ضعاف النفويس وشراء الذمم واستعباد الضمائر. وكان عمل عمر - رضي الله عنه - في الامتناع من توزيع أراضي السواد والاحتفاظ بملكيتها بيت مال المسلمين تحسبًا لحاجات سلائل المسلمين المتعاقبة قد أوقف منذ أواسط عهد عثمان - رضي الله عنه- حتى إذا كان عهد معاوية وهو من هو لولا صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتمكنت الاعتبارات الدنيوية من الهيمنة على تصريف الأمور على تصورات النفوس ومواجدها. ومن ذلك كله نشأ ظرف اضطر رافع بن خديج وهو أحد مراجع الفتوى في ذلك العهد إلى أن يجهر ويلح في الجهد بما ظل يجمعه في نفسه سنين طوالا من شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الأرض واستغلالها. وكان جهره بذلك على أنماط وأساليب كان يجيب به فتوى لمن يسأله , فيقتصر على ذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الإفاضة في شرح ظروف ذلك النهي وأسبابه , وكان يرويه حديثًا مختصرًا لبعض طلبة الحديث الذين لا يرى جدوى في أن يذكر لهم جميع تفاصيل الواقعة أو الوقائع التي لابست النهي أو أعقبته , وكان يرويه كاملًا بجميع تفاصيله وملابساته حين يكون حديثه إلى رفيق له من الصحابة أو من كبار التابعين الذين يرى أن من واجبه أن يحيطهم بجميع ما لديه من العلم في هذا الأمر. واشتد الجدل بين الناس، فلم يكن جميع الصحابة الذين لم يزالوا أحياء محيطين بأمر النهي كما علمه من أهمه بالأساس بنو حارثة , ومن أهمه منهم بالأصالة رافع بن خديج وأعمامه وأخواله وأخوته وبنوه، فأغلب الصحابة كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفين إلى الحرب نصرة للإسلام أو إلى التلقي عنه حفظًا للشريعة وحملًا للرسالة، وقليل منهم كان مصروفًا إلى شؤون الفلاحة وامتلاك الأرض ومنهم جابر بن عبد الله الذي كان هو أيضًا من رهط يقوم كيانهم الاقتصادي على غراسة الأرض واستثمار النخيل، فكان طبيعيًا أن يلم بما يتصل بعمله وعمل ذويه من أحكام، وهو الراوي المكثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله فيما يتصل بحرفته وحرفة ذويه أحاديث وأخبار، كما كان منهم أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وسعد بن أبي وقاص وأنس بن مالك المنصرفون إلى التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرافًا متفاوتًا تبعًا لظروف كل واحد منهم , وكان حريصًا أشد ما يكون الحرص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1036 وكانت حروب الردة ثم الفتوح لعهد أبي بكر وعمر ولصدر من عهد عثمان قد أتت على عدد كبير من كبار الصحابة، فلما كان عهد معاوية تصدر للفتوى الحفظة والفقهاء من صغارهم ومنهم رافع بن خديج. وكان الملتزمون بالسنة في ذلك العهد وفي طليعتهم فقهاء الصحابة وصدور الإفتاء منهم، يجهرون بإنكار ما يشهدونه من تغير وتبدل في تصرفات أولي الأمر والعامة، وكانوا على أولي الأمر منهم أشد على العامة، فهم يدركون أن صلاح العامة بصلاح أولياء الأمر منهم، بل إن الإنكار على معاوية ابتداء من عهد عمر - رضي الله عنه - ومع أن عمر كان يكله إلى ربه في بعض ما ينكر من مظاهره ويعتذر عنه معاوية بأعذار تتصل بالسياسة، فإن مآخذ بعض الصحابة عنه كانت من يومئذ تستعلن , بيد أنها اشتدت وبلغت حد المجابهة في عهد عثمان - رضي الله عنه - ثم ارتفعت إلى أن أصبحت نمطًا من التحدي لما صار إليه الأمر. وكان لرافع بن خديج موقف من عثمان نفسه بادئ الأمر، ويظهر أنهما بلغا إلى تفاهم بعد ذلك، أو أن رافعًا فضل أن يسالمه اجتنابًا إلى مصير أبي ذر , ولأن ما ينكر عليه لم يكن في تقديره مما ينبغي أن يدفعه إلى مناهضته. ويظهر أن رافعا كان في عهد عثمان قد اعتزل الزراعة فالطبري يقول (1) إن عثمان فرض له ولأبي ذر عظما لكل واحد منهما كل يوم وما كان عثمان ليقبل هذا الفرض لو أنه لبث مواصلًا لعمله الفلاحي.   (1) ج: 4. ص: 285. لم أقف في المصادر المعتمدة لتاريخ فترة الخلفاء الراشدين على بيان لما كان بين رافع وعثمان إلا ما كان من تلميحات أبرزها ما نقلناه عن الطبري. ثم ما كان من موقفه من رفع لواء الدعوة إلى مقاومة ما شاع منذ أواخر عهد عثمان , واستشرى لعهد معاوية من كراء الأرض , ونحسب أن رافعًا كان في نفسه شيء من بعض تصرفات عثمان , بيد أنه أشفق من أن يصدع به إجلالًا لذي النورين وحفظًا لوحدة الخلافة واجتنابًا لما أخذ يتململ بين الدهماء منذ أواخر عهد عثمان مما استفحل أمره حتى أسفر عن الفتنة الكبرى التي كانت شرارتها الأولى استشهاد الخليفة الثالث - رضي الله عنه - ثم أعقبت ما قدر الله على الأمة الإسلامية من معقباتها , ولله الأمر من قبل ومن بعد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1037 ومهما يكن فقد رفع لواء المعارضة ليس لمعاوية فحسب , ولكن لعامة المنصرفين إلى الاستكثار من المال , سواء كانوا من الصحابة أو من غيرهم , يتجلى ذلك في الحملة الصاخبة التي قادها على ملاك الأرض ومع أنه لم يكن وحده فيها، فقد ظاهره عدد من الصحابة من أترابه مثل جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وثابت بن الضحاك , فإن رافعًا كاد يكون ميسم تلك الحملة على ملاك الأرض. وواضح أن لدى رافع ما يجعله أعمق وعيًا بالقضية التي قادها من غيره، فهو يعلم جميع الملابسات التي ميزت نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض، إذ كان هو وعمومته هم الذين وجه إليهم النهي بالأصالة وإلى غيرهم ممن كانوا على مثل وضعهم. وبتتبع حديث رافع على اختلاف ألفاظه وتباين صيغه , يتبين أن النهي كان في أواخر العهد النبوي، ذلك بأن رافعًا كان يوم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى في حوالى الخامسة والعشرين من عمره , وقد يزيد قليلًا. وبتأمل مجموع أحاديث رافع يمكن القول بأن النهي كان على مرحلتين: المرحلة الأولى: ما ورد من طريق بكير بن عامر , ومن طريق عبيدة الضبي , من رواية رافع عن مزارعته غيره، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يأخذ نفقته , ويدع الزرع لصاحب الأرض , ومع أن كلا من بكير بن عامر وعبيدة الضبي تكلموا فيهما، فإن الحديث الذي رواه ابن حزم الهمذاني عن طريق مسلم , لا يختلف في جوهره عن حديثهما , وإن اختلف في بعض تفاصيله، فهو لم يذكر أن المزارع رافع , ولكن راوي الحديث رفاعة بن رافع، وقد يكون معقولًا أن لا يذكر الراوي أن أباه هو صاحب القصة , وذلك ما يؤكده حديث عائشة الذي نقلناه عن طريق عبيدة الضبي، والحديثان معًا لم يذكرا أن علة النهي هي الإرباء , كما جاء في حديث بكير بن عامر: (أربيتما) وأخذ منه بعض الفقهاء اعتبار علة النهي أن المزارعة نوع من الربا. ونحسب أن الحديث إذا ثبت بهذا اللفظ يمكن تأويله بأن وصف الإرباء ليس تعليلًا للنهي , وإنما هو وصف للزرع. فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه قد اخضر واهتز , وصفه بالنماء. والزيادة والنماء هما أصل معنى كلمة: (ربا) يربو. يقول ابن منظور (1) ربا الشيء يربو ربوا ورباية: زاد ونمى، وأربيته: نميته. وفي التنزيل العزيز: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (2)   (1) ج:4. ص:304 (2) الآية رقم: (276) من سورة البقرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1038 وقال ابن الأثير (1) الأصل فيه - أي: في (الربا) – الزيادة. وربا المال يربو ربوا: زاد وارتفع. ثم قال: ومنه الحديث: من أجبى فقد أربى. ومنه حديث الصدقة: فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل. ثم قال: وفي حديث الأنصار يوم أحد: لئن أصبنا يومًا منهم مثل هذا , لنربين عليهم في التمثيل - أي: لنزيدن ولنضاعفن. ويدل على أن (الربا) ليس هو علة النهي ما كان من المرحلة الثانية له من نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض عامة، وقد ورد ذكر الكراء وما اشتق منه وما شاكله مثل الإيجار والمؤاجرة في أحاديث رافع وجابر وأبي هريرة وسعد وأبي سعيد وثابت بن الضحاك، وجلها نقلناه فيما سبق تسعًا وعشرين ومائة , فثبت بالقطع أن الكراء وما في معناه هو لذاته علة النهي. وبصرف النظر عن تأويلات الفقهاء الذين أباحوا الكراء بالذهب والفضة والذين أباحوا حتى بالجزء من نتاج الأرض وتقولاتهم في بعض هذه الأحاديث , وليس من شأننا في هذا المجال أن نناقشها , ولو قد اتسع لمناقشتهم لكان لنا موقف ولدينا ما نقول، فإن وقوع النهي لا سبيل إلى إنكاره , وهو في حد ذاته ينتج أمرًا , هو ما نحاول استجلاءه في هذا البحث. ثم إن تتبع أحاديث رافع وغيره، يفضي إلى حقيقة أن النهي كان في تقدير ابن عمر - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة وكبار التابعين بعد قصة خيبر، فقد استظهر في محاولة تأويله بما تردد في بعض طرقه من إيراد كلمة المخابرة وبعض مشتقاتها بدلًا من كلمة الكراء وما شاكلها، أو كلمة المحاقلة ومشتقاتها. وقد سبق أن ذكرنا أنها وردت في هذه الأحاديث نحو أربعين مرة، ومع أننا لا نسلم بأنها مشتقة من خيبر بالضرورة , فإن الذي يعنينا هو أن من الصحابة ومن كبار التابعين من اعتبرها مشتقة من خيبر , وهذا كاف في تقرير أنهم اعتبروا أحاديث النهي كانت بعد قصة خيبر.   (1) النهاية ج: 2. ص: 191 و192. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1039 ومع ذلك فقد حاول بعضهم أن يزعم أن هذه الأحاديث نسختها قصة خيبر، ولسنا ندري كيف يستقيم هذا الزعم إذا كانت كلمة المخابرة مشتقة من خيبر , إلا أن تكون في الأربعين موضعًا التي وردت فيها إنما رويت بالمعنى. ونجد حرجًا عميقًا في تقبل مثل هذا الاحتمال، ويعضد تحرجنا هذا , أن غزوة خيبر كانت في السنة السابعة أي: بعد أربع سنوات من الإذن لرافع بالاشتراك في غزوة أحد وهو يومئذ لم يؤذن له إلا بعد أن أثبت كفاءته في الرمي , وكاد أن يُرَدَّ أيضًا، وهذا يعني أن رافعًا كان يوم خيبر في حوالى التاسعة عشرة من عمره أو يزيد قليلًا، وفي هذه السن ومع ثراء قومه وانشغالهم بالزراعة يبعد الاحتمال أن يكون قد استقل بنفسه , ولم يكتف بنصيبه من أرض قومه , فراح يلتمس أرضًا عند غيره ليزرعها , وإن كانت المزارعة وما يشبهها نوعًا من الاستحواذ على استغلال الأرض سمة اتسم بها قومه بنو حارثة على كثرة ما لديهم من الأرض كثرة جعلتهم يزارعون غيرهم بأرضهم , وكانت من أسباب نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض منعًا لاستحواذ أولي الخبرة والمال على استثمار الأرض مستعينين بطاقة الآخرين وحاجتهم , وهو التعليل الذي لا نجد غيره متسقًا مع الوقائع التي ذكرها رافع لظروفها في أوضاع مختلفة وذكرها غيره دون بيان لظروفها أو ببيان ينقصه اجتلاء المعالم. والذي يمكن أن تسكن إليه النفس من تدبر النهي ومراحله وظروفه ومختلف النصوص الواردة في شأنه والاستئناس بالحد الذي يمكن أن يكون قد بلغه عُمُر رافع العنصر الأول البارز في قصة النهي هو ما سبق أن أشرنا إليه من أن الفتوحات الآخذة في الاتساع حوالي المدينة المنورة عقب إجلاء اليهود من القرى المحيطة بها , ثم إلى ما وراءها من الأرض التي أسلم أهلها أو أصبحت آمنة بعد إسلام الأعراب المختلفين إليها انتجاعًا للكلأ , قد أخذ ينشئ طبقة من المنصرفين إلى استثمار الأرض وابتغاء الثراء من نتاجها مستعينين على تحقيق مطامحهم بالاستفادة من جهود المعوزين الذين يلتمسون العمل لكفاية أنفسهم وذويهم. ونحسب أغلب هؤلاء من المهاجرين من غير قريش، فلم تكن الهجرة بعد خيبر قد انقطعت حتى كان فتح مكة وبعد فتحها لم تنقطع الهجرة باعتبارها وسيلة من الاقتراب من مركز الدولة وموطن الرسول عليه الصلاة والسلام , وإنما انقطعت باعتبارها واجبًا دينيًا ولتيسير الفرص المتكافئة للجميع ولتعميق مبدأ التعاون القائم على الأخوة والإسماح ولقطع السبيل على استغلال القادر للضعيف , نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم نهيًا قاطعًا عن كراء الأرض , واتجه نهيه اتجاهًا تطبيقيًا إلى من كانت سمتهم استئمار أموالهم وخبرتهم في الأرض ليس بطاقتهم فحسب، ولكن أيضًا بطاقات الآخرين من الضعفاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1040 وبهذا الاعتبار يستقيم تعليل الدعوة الملحة وربما الصاخبة التي جهر بها وتصدرها رافع في أواخر عهد معاوية إلى الإقلاع عن كراء الأرض مع سكوته طيلة عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وصدرًا من خلافة معاوية. ذلك بأن الفتوحات كانت في عهد الخلفاء الراشدين الأربعة قد استغرقت معظم جهود المسلمين، وكان إقبالهم على ابتغاء المال واستثماره محدودًا وكان عمر - رضي الله عنه - يكبح من جماح الطامحين إلى التمول بالزراعة حتى قيل: إنه أحرق زرع بعض من اشتغلوا بالزراعة من المسلمين بالشام بعد فتحها، وإن يكن لبعضهم كلام في صحة هذه القصة أشفق بعض المتفقهين والنقلة والنقدة من أن يكون عمر قد أحرق زراعة بعض الجند الذين كانوا في جيش أبي عبيدة عامر بن الجراح ومن قبله في جيش خالد الذي تولى غزو الروم وفتح الشام , فقالوا ما مفاده: إن عمر لا يقدم على إحراق ما للغير من المسلمين وحرمانهم منه , واعتمد البعض على مثل هذه المقولات وعلى غمز قيل في بعض رواة هذه القصة في إنكاره صحتها: ولسنا بسبيل تحقيق النصوص الواردة في تصرفات عمر والمسجلة لسيرته , وإنما نحن بسبيل النظر في جوانب مما يتصل بهذا البحث منها , لذلك لا ندخل مع هؤلاء وأولئك في جدل حول صحة القصة أو عدم صحتها سنده ما تواضعوا عليه من قواعد الجرح والتعديل , حسبنا أن نبرز حقيقة لا مناص لأي باحث من اعتبارها , وهي أن عمر - رضي الله عنه - كان يراجح بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة في جميع تصرفاته وأحكامه وإلى عماله وقواده، وما من أحد يماري في أن المصلحة العامة يومئذ كانت تقتضي أن يصرف الجند همهم وجهدهم لما هم بسبيله من الفتوح ونشر الأسلام وحماية ثغوره وملاحقة أعدائه أو الترصد لهم على الأقل، وبدهي أن الجند إذا صرفوا بعض جهدهم وهمهم إلى الزراعة وما شاكلها من الكسب , توزعت هممهم وبلبلت فكرهم بين واجبهم الحربي كجند ودواعيهم الدنيوية كمحترفين للفلاحة أو التجارة أو غيرهما وذلك من شأنه أن يحدث على الأقل عدم تركيز للقوى المادية والفكرية إلى الوجهة التي من أجلها نفروا أو استنفروا , فطبيعي إذن أن يحذر الخليفة هذه العاقبة وما ينتج عنها وأن يدرأها بما يحسمها ويمنع من أن تتكرر منعًا لا يقبل التأويل أو الاعتذار. فتأمل. فلما تقدم العهد بخلافة معاوية وتغيرت السياسات وسيطرت الاعتبارات الدنيوية عليها وكثر المسلمون، فلم تعد تستغرقهم الفتوحات، بل إن الفتوحات نفسها هدأ نشاطها نسبيا، واتجه الناس إلى استثمار الأرض بجهودهم وأموالهم , ولعل فيهم من لم تكن لديه خبرة في الفلاحة، فهو لا يشتري بماله جهود الآخرين فحسب , وإنما يشتري خبرتهم أيضًا , ولعل فيهم الخبير الذي أكسته النعمة , فأمسك عن العمل بنفسه , واعتمد على خبرة الآخرين وجهودهم العضلية، وبذلك أخذت تنشأ طبقة المترفين وطبقة العمال مما أفزع رافعًا، فقام بدعوته منكرًا لهذا الوضع الذي رآه قد أنشأ ظروفًا أين منها تلك الظروف التي أفرزت نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1041 ومن استكناه دلالات التوقيت الذي اختاره رافع ليعلن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض أو بالأحرى ليذكر الناس به , يتجلى بما لا مجال معه للمراء أن رافعا كان يرى للظروف تحكمًا في تعيين موجب تطبيق التشريع الخاص بالمعاملات أو المتصل بها اتصالًا وثيقًا. ومع أننا لا نجد في حديث جابر ولا غيره من الصحابة الذين رووا النهي أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على الظرفية، فإن الملابسات التي أحاطت بإشاعة حديث رافع ومناقشته والجدل حوله تحمل على الاطمئنان إلى أن جابرًا وغيره من الصحابة أسهموا في تلك المناقشات وفي ذلك الجدل مظاهرين لرافع بما أعلنوه مما وعوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأحسبهم كانوا على مثل إنكار رافع لما صار إليه الأمر في أواخر عهد معاوية من تهافت علاقات الأخوة بين المسلمين واندفاع المحظوظين منهم إلى الاستزادة لنصيبهم من الدنيا والاستفادة من حرمان المحرومين باستغلال جهودهم وربما خبراتهم , وذلك أمر لا مناص من أن يحدث تركيبات طبقية لا سبيل إلى أن تتعايش - بل لا سبيل إلا إلى أن تتنافى - مع طبيعة الوحدة التي تنهض على التكافل الأخوي بين طوائف المسلمين كافة أيا كانت أنصبتهم من الرزق ومراكزهم الاقتصادية ومواقعهم الاجتماعية. وقد لا يحسن أن ننصرف إلى تبيان الطبيعة الفقهية والأصولية للعلاقة بين الظرف وبين التشريع قبل أن نقف هنا عند قصة خيبر , ثم عند ما كان من حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عمر - رضي الله عنه - لمساحات من الأرض استجابة لحاجة المسلمين الناشئة عن تطور أوضاعهم الاقتصادية نتيجة لعاملي استقرار هيكل الدولة وأخذ كيانها في الامتداد والاتساع بعامل انتشار الإسلام بدخول الناس فيه أفواجًا واتساع آماد سيادته بتعاظم هيبته واشتداد قوة المسلمين. اختلفت آراء الفقهاء في تأويل قصة خيبر , فرآها بعضهم نمطًا من المزارعة , واستدل بها على أنها ناسخة للنهي الوارد في حديث رافع وغيره عنها , إذ إن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر استمرت إلى عهد عمر وحين أبطلها عمر لم يبطلها لذاتها , وإنما أبطلها لتصرفات صدرت عن يهود خيبر أو اعتمادًا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم حين عاملهم: ((نقركم ما أقركم الله)) أو ((ما شئنا)) . ومن هذا الاعتبار حمل البعض من هؤلاء كلمة المخابرة على أنها مشتقة من معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، ومع ذلك اعتبروا النهي عن المخابرة منسوخًا بقصة خيبر اعتبارًا لاستمرارها، إلى عهد عمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1042 ولم يفكروا في الجمع بين هذين المتناقضين أن يكون النهي صدر بعد قصة خيبر , واستعملت فيه كلمة مخابرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من بعض رواة الحديث، إذ رووه بالمعنى على أساس أن المخابرة مشتقة من خيبر، وأن تكون قصة خيبر - مع ذلك - ناسخة لهذا النهي الذي صدر بعدها واشتق منها بعض ألفاظه لمجرد أن قصة خيبر استمرت إلى ما بعد لحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، فهي إذا ناسخة باستمرارها لحكم صدر بعد وقوعها، ومن عجب أنهم لم يفكروا في أن يكون الحكم مخصصًا لها , أو أن يكون استمرارها مخصصًا له , فضلًا عن أن يفكروا في أن يكون هنالك اختلاف بين أساس الحكم أو مناطه في كل من القضيتين؛ النهي عن المزارعة وقصة خيبر. وآخرون يظهر أنهم انتبهوا إلى التغاير بين القضيتين , فاعتبروا قصة خيبر أساسًا لحكم يتصل بالمساقاة ويختص بالأرض المغروسة نخلًا , أو نخلًا وكرومًا , أو نخلًا وشجرًا على اختلاف بينهم، وقد يباح في ظله ما يكون من المزارعة لما بين الأشجار أو النخيل من أرض , الاعتبارات ذهبوا في تعيينها وتحديدها والاختلاف حولها ما شاءت لهم التصورات من مذاهب وآراء , وليس من شأننا أن نناقشها؛ لأنها قائمة على أساس لا نقره , ولأن شأننا في هذا البحث ليس هو بيان ما هو حلال وما هو حرام من التعامل على الأرض , إنما هو شيء غير ذلك. بحسبنا أن نقف مع هؤلاء وأولئك عند حقيقة لم تتضح لهم الاتضاح الكافي , وإن كانت قد استبانت لهم معالمها بعض الشيء وأبصرهم لها شمس الدين السرخسي (1) إذ قال بعد أن أشار إلى حديث معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على الشطر: وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل الجواز , وتأويل ذلك عند أبي حنيفة - رحمه الله - من وجهين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر استرقهم وتملك أراضيهم ونخيلهم وجعلها في أيديهم يعملون فيها للمسلمين بمنزلة العبيد في نخيل مواليهم , وكان في ذلك منفعة للمسلمين ليتفرغوا للجهاد بأنفسهم , ولأنهم كانوا أبصر بذلك العمل من المسلمين، وما جعل لهم من الشرط بطريق النفقة لهم , فإنهم مماليك للمسلمين , يعملون لهم في نخيلهم , فيستوجبون النفقة عليهم، فجعل نفقتهم فيما يحصل بعملهم , وجعل عليهم نصف ما يحصل بعملهم ليكون ذلك ضريبة عليهم بمنزلة المولى يشارط عبده الضريبة إذا كان مكتسبًا، وقد نقل بعض هذا عن الحسين بن علي رضي الله عنهما.   (1) المبسوط. ج: 23. ص: 201. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1043 والثاني: أنه مَنَّ عليهم برقابهم وأراضيهم ونخيلهم وجعل شطر الخارج عليهم بمنزلة خراج المقاسمة , وللإمام رأي في الأرض الممنون بها على أهلها , إن شاء جعل عليها خراج الوظيفة، وإن شاء جعل عليها خراج المقاسمة، وهذا أصح التأويلين؛ لأنه لم ينقل عن أحد من الولاة أنه تصرف في رقابهم أو رقاب أولادهم كالتصرف في المماليك، وكذلك عمر - رضي الله عنه - أجلاهم , ولو كانوا عبيدًا للمسلمين , لما أجلاهم , فالمسلم إذا كان له مملوك في أرض العرب تمكن من إمساكه واستدامة الملك فيه , فعرفنا أن الثاني أصح , ثم بين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ما فعله من المن عليهم بنخيلهم وأراضيهم , ليس غير مؤيد بقوله عليه الصلاة والسلام: ((أقركم ما أقركم الله)) . وهذا منه شبه الاستثناء , وإشارة إلى أنه ليس لهم حق المقام في نخيلهم على التأبيد؛ لأنه علم من طريق الوحي أنه يؤمر بإجلائهم , فتحرز بهذه الكلمة عن نقض العهد؛ لأنه كان أبعد الناس عن نقض العهد والغدر , وفيه دليل على أن المن المؤقت صحيح سواء كان لمدة معلومة أو مجهولة. قلت: كان الأولى أن أغفل الوجه الأول , لكن نسبة جانب من دلالاته إلى سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيد الشهداء بعد حمزة الحسين بن علي - رضي الله عنهم جميعًا - يجعل لذلك الوجه وزنًا، فليس لرأي - مهما تعضده الحجج والبراهين العقلية أو النقلية – أن يقف إلا منحنيًا إجلالًا أمام رأي يصدر عن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونحسب أن السرخسي في الوجه الثاني الذي صححه لتأويل أو توجيه معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر ونظاهره في تصحيحه كان ينظر إلى قول أبي عبيد (1) وهو يسوق اختلاف الآثار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء من بعده في حكم الأراضي المفتتحة عنوة.   (1) الأموال. ص: 77. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1044 وقال بعضهم: بل حكمها والنظر فيها إلى الإمام إن رأى يجعلها غنيمة فيخمسها ويقسمها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فذلك له , وإن رأى أن يجعلها فيئا , فلا يخمسها ولا يقسمها، ولكن تكون موقوفة على المسلمين عامة ما بقوا، كما فعل عمر بالسواد ذلك. ثم قال بعد أن ذكر القائلين بهذه الأحكام وأدلة كل فريق: وكلا الحكمين - يعني القسمة والوقف - فيه قدوة ومتبع من الغنيمة والفيئ، إلا أن الذي اختاره من ذلك يكون النظر فيه إلى الإمام كما قال سفيان - يعني قول سفيان الثوري: الخيار في أرض العنوة إلى الإمام , إن شاء جعلها غنيمة , فخمس وقسم , وإن شاء جعلها عامة على المسلمين , ولم يخمس ولم يقسم - وذلك أن الوجهين جميعًا داخلان فيه , وليس فعل النبي صلى الله عليه وسلم بِرَادٍّ لفعل عمر - يعني من عدم قسمته أرض السواد وجعله إياها وقفًا على المسلمين عامة كما سيأتي مفصلًا - ولكنه صلى الله عليه وسلم اتبع آية من كتاب الله تعالى , فعمل بها , واتبع عمر آية أخرى , فعمل بها , وهما آيتان محكمتان فيما ينال المسلمون من أموال المشركين , فيصير غنيمة أو فيئًا. وسنورد الآيتين عندما نعرض لفعل عمر. ونقل ابن زنجويه (1) كلام أبي عبيد كلام من يأخذ به , وما أحسب السرخسي إلا قد اطلع على ما نقلناه أو على ما نقله أحدهما. ومع أن موضوع الاختلاف حول اعتبار الأرض المفتتحة عنوة غنيمة أو فيئًا ليست له علاقة مباشرة بالموضوع الذي نحن بصدده من تحديد طبيعة العلاقة مشاكلة أو مغايرة - بين المزارعة ومعاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، فإن كلا من الموضوعين يشبه الآخر في إقرار حقيقة أن تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر معاملة وقسمة كان متأثرًا بالظرفية التي لابست فتح خيبر. فالمسلمون يومئذ , وخاصة المهاجرين , لم يكونوا على سعة من الرزق يقوم معها الحذر من أن تخويلهم المزيد من الأرض قد ينقلهم من حالة الكفاف إلى حالة الترف على حساب أجيال مقبلة. والفتوحات ما فتئت في أول عهدها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم بالوحي والمكاشفة كيف ستتسع وستتمادى، لذلك أخذ بقسمة الأرض ولم يأخذ بمبدأ وقفها اعتبارًا للظرف الذي كان يحيط بالمسلمين آنئذ، وهو الذي تكيفه الحاجة إلى مزيد من موارد المال ومصادر الكسب لتحقيق الكفاف وللحصول على موارد ضرورية للاستعداد لما يستقبلون من فتوحات تستوجب المزيد من السلاح والعتاد.   (1) الأموال. ج: ا. ص: 187. فقرة: 217. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1045 على حين أنهم لم يكونوا يملكون الخبرة الكافية في رعاية حقول النخل والمزيد من غراستها والعمل من أجل توفير ثمارها ولم يكونوا يملكون أيضًا وفرة من اليد العاملة حتى ولو كان منهم من يملك الخبرة لذلك , وذلك ما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيد الأرض إلى أهل خيبر بعد أن أجلاهم عنها بطلب منهم أو بدعوة منهم على اختلاف الروايات ويقرهم فيها على حين على الشرط الذي اشترطه، وهو أن قرارهم فيها ليس مؤبدًا بل هو معلق بمشيئة المسلمين في بعض الروايات أو بمشيئة الله في روايات أخرى، ولا تنافي بين هذه وتلك، وقد سبق أن أوردنا مختلف هذه الروايات فيما نقلنا من الأحاديث والروايات المختلفة والمتصلة بمعاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر , وننقل هنا جزءًا من أثر طويل رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري تذكرة بمجمل ما ورد في الآثار التي نقلناها سابقًا، وترجيحًا منا لهذا الذي رواه الزهري عن غيره من تلك الآثار قال (1) ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمال يعملون خيبر ولا يزرعونها , قال الزهري: فأخبرني سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعى يهود خيبر , وكانوا خرجوا على أن يسيروا منها , فدفع إليهم خيبر على أن يعملوها على النصف , فيؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه. وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقركم على ذلك ما أقركم الله)) ... إلخ. وإنما رجحنا هذا الأثر وما شاكله؛ لأن الحادثة كما نتصورها أن يهود خيبر عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد أن نزلوا على حكمه بالجلاء - أن يبقيهم في خيبر يعملونها بخبرتهم وأيديهم المتفرغة للعمل فيها وغير المنشغلة بشيء آخر انشغال المسلمين بالفتوح , وأن ينفقوا في عملها وصيانتها من أموالهم. فأظهر الإباء عليهم حتى إذا استكمل إخضاعهم بأن اتخذوا طريقهم منفذين للجلاء صاغرين أذلة، دعاهم ليعيدهم إلى الأرض التي أجلاهم عنها على شرطه ومنة منه ليظهر لهم أنه لم يكن بحاجة إلى عملهم ولا إلى خبرتهم ولا إلى أموالهم وإنما هو المن عليهم والرحمة بهم إبرازًا لما أراد أن يقر في أنفسهم من صورة المعاملة الإسلامية المتسمة بالرحمة والإكرام والإسماح. مهما يكن، فإن خيبر الغنية قصتها بألوان من التشريع كانت من أبرز مصادر الاعتبار الشرعي لتأثير مقتضيات الظروف والملابسات في تكييف أحكامه تعليلًا وتطبيقًا ومناطًا.   (1) المصنف. ج: 5. ص: 372 و373. ح: 9738. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1046 وقد حاول البعض من الفقهاء والمتفقهة أن يجد في قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جانبًا من أرض خيبر مصدرًا للحديث عن ملكية المحارب لقسطه من الغنيمة متى تتحقق؟ أو بتعبيرأدق: متى يستحق المحارب قسطه من الغنيمة؟ ومضى هؤلاء وأولئك في جدل ملأوا به الصفحات حول تحديد وقت هذا الاستحقاق، أهو يتعين عند الحصول على الغنائم أم لا يتعين إلا عند قسمتها؟ وطبيعي أن هذا الجدل ليس من شأننا الآن، بيد أننا نعرض له؛ لأنه قائم على قاعدة لا نسلمها لهم , وهي أن الإمام أو ولي الأمر مجرد منفذ في شؤون الغنائم , ليس له إلا تطبيق نصوص أمامه تطبيقًا حرفيًا لا تتحكم فيه ظروف ولا أوضاع ولا اعتبارات غير ما ينطبق به النص الحرفي الواجب تطبيقه عليه، في حين أن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل عمر رضي الله عنه الذي سنعرض له من بعد في الأراضي المفتوحة ينهض- ولا أقول ينهضان , لأنهما في تقديري عمل واحد اختلفت مظاهره - على قاعدة أغفلوها أو غفلوا عنها في جدلهم هذا، وهي أن أمر الأراضي المفتوحة مرجعه إلى الإمام أو ولي الأمر أيا كان الاعتبار النظري للوقت الذي تتعين فيه ملكية المحارب لقسمه من الغنائم، فحتى لو ذهبنا مع القائلين بأن ملكية المحارب تتعين عند الحصول على الغنيمة فإن هذا لا يعني أن الإمام أو ولي الأمر لا يملك أن يتصرف في هذه الملكية إذا أبان له اجتهاده أسبابًا وملابسات يترجح اعتبارها على اعتبار الحق الفردي للمحارب في قسطه من الغنيمة، وهذه الأسباب على تنوعها تشكل ما نسميه بالظرفية التي لا سبيل إلى إغفالها؛ لأن إغفالها يحصر مهمة الإمام أو ولي الأمر مسؤوليته في مجرد التنفيذ التلقائي بدلًا من أن يدع له الاجتهاد بحثًا عن ما من شأنه أن يتجاوز المصلحة الفردية أو ما يظنه غير المسؤول مصلحة فردية إلى ما تقتضيه , وقد تضطر إليه المصلحة العامة لجماعة من المسلمين أو لجميع المسلمين، ومثل هذا التقييد لتصرف الإمام أو ولي الأمر من شأنه أن يجعل اعتبار المصلحة الفردية متحكما في سياسة الجماعة الإسلامية , وهو ما يتنافى مع أبسط مقتضيات النصوص التشريعية من قرآنية وسنية , كما سيتضح لنا بعد حين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1047 11 - أطوار حماية الحمى ودلالاتها قال عبد الرزاق (1) أخبرنا معمر , عن الزهري , عن عبيد الله بن عباس , عن الصعب بن جثامة قال ابن حجر (تهذيب التهذيب: ج: 2. ص: 184. ترجمة: 4065) : الصعب بن جثامة بن قيس بن ربيعة بن عبد الله بن يعمر الليثي حليف قريش أمه أخت أبي سفيان بن حرب , واسمها فاختة , وقيل: زينب , ويقال: هو أخو محلم بن جثامة , وكان السعد ينزل ودان - بالفتح كأنه فعلان من الود كالمحبة - كما قال ياقوت في (معجم البلدان. ج: 5. ص: 365) : قرية بين مكة والمدينة بينهما وبين هرشى وبينها وبين الأبواء نحو ثمانية أميال قريبة من الجحفة ويقال: ما بينها وبين الجحفة مرحلة , وبينها وبين الأبواء على طريق الحاج في غربيتها ستة أميال. وينسب إليها الصعب هذا قبل أن يهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم - ويقال: مات في خلافة أبي بكر ويقال: في آخر خلافة عمر , قاله ابن حبان , ويقال: مات في خلافة عثمان , وشهد فتح اصطخر , فقد روى ابن السكن عن طريق صفوان بن عمر. حدثني راشد بن سعد , قال: لما فتحت اصطخر نادى مناد: ألا إن الدجال قد خرج , فليقيهم الصعب بن جثامة فقال: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يخرج دجال حتى يذهل الناس عن ذكره. الحديث. قال ابن السكن: إسناده صالح. قلت - القائل ابن حجر -: فيه إرسال , وهو يرد على من قال: إنه مات في خلافة أبي بكر. وقال ابن منده: كان الصعب ممن شهد فتح فارس. وقال يعقوب بن سفيان: أخطأ من قال: الصعب بن جثامة مات في خلافة أبي بكر. خطأ بينًا , فقد روى ابن إسحاق عن عمر بن عبد الله , أنه حدثه عن عروة قال: لما ركب أهل العراق في الوليد بن عقبة , كانوا خمسة , منهم الصعب بن جثامة , وللصعب أحاديث في الصحيح من رواية ابن عباس عنه , وذكر ابن الكلبي في الجمهرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يوم حنين: لولا الصعب بن جثامة لفضحت الخيل. وأخرج أبو بكر بن لال في كتاب المصابين من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عوف بن مالك والصعب بن جثامة , فقال كل منهما للآخر: إن مت قبلي فتراءى لي , فمات الصعب قبل عوف فتراءى , فذكر قصة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) ، قال الزهري: وقد كان لعمر بن الخطاب حمى , بلغني أنه كان يحميه لإبل الصدقة.   (1) المصنف. ج: 11. ص: 8. ح: 19750 و19751. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1048 عن معمر , عن الزهري , عن عمر قال لهانئ بن هني (1) مولى له كان يبعثه على الحمى: أدخل صاحب الغنيمة (2) والصريمة (3) وإياي , ونعم بن عوف ونعم بن عفان فإنهما إن تهلك نعمهما يرجعان إلى أهل ومال، وأن تهلك نعم هؤلاء يقولون: يا أمير المؤمنين، الماء والكلأ أيسر علي من الدينار والدرهم.   (1) لعل في هذه الرواية وهما , صوابه: (قال لهني) , فالمعروف أن عمر استعمل مولى له اسمه هني على الحمى , قال ابن حجر (تهذيب التهذيب: ج: 11. ص: 73. ترجمة: 114) : هني مولى عمر , وعامله على الحمى , روى عن أبي بكر وعمر ومعاوية وعمرو بن العاص , وعنه ابنه عمير وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين. قلت: سيأتي هذا الحديث مسندًا بأسانيد أخرى إلى (هني) , لا إلى (هانئ بن هني) , وذلك ما يثبت تصويبنا لهذا الإسناد. (2) قال ابن الأثير: (النهاية. ج: 3. ص: 27) : الصريمة تصغير الصرمة وهي القطيع من الإبل والغنم , قيل: من العشرين إلى الثلاثين والأربعين , كأنها إذا بلعت هذا القدر تستقل بنفسها , فيقطعها صاحبها من معظم إبله وغنمه , والمراد بها في الحديث من مائة وإحدى وعشرين شاة إلى المائتين , إذا اجتمعت ففيهما شاتان , وإن كانت لرجلين وفرق بينهما , فعلى كل واحد منهما شاة. قلت: يريد بالحديث ما ذكره قبل هذا من كتاب عمر إلى عمرو ابن مرة: في الغنيمة والصريمة شاتان إن اجتمعتا , وإن تفرقتا فشاة شاة. ثم قال ابن الأثير: وفي حديث عمر قال لمولاه: أدخل رب الصريمة والغنيمة في الحمى والمرعى , يريد صاحب الإبل القليلة والغنم القليلة. (3) قال ابن الأثير: (النهاية. ج: 3. ص: 27) : الصريمة تصغير الصرمة وهي القطيع من الإبل والغنم , قيل: من العشرين إلى الثلاثين والأربعين , كأنها إذا بلعت هذا القدر تستقل بنفسها , فيقطعها صاحبها من معظم إبله وغنمه , والمراد بها في الحديث من مائة وإحدى وعشرين شاة إلى المائتين , إذا اجتمعت ففيهما شاتان , وإن كانت لرجلين وفرق بينهما , فعلى كل واحد منهما شاة. قلت: يريد بالحديث ما ذكره قبل هذا من كتاب عمر إلى عمرو ابن مرة: في الغنيمة والصريمة شاتان إن اجتمعتا , وإن تفرقتا فشاة شاة. ثم قال ابن الأثير: وفي حديث عمر قال لمولاه: أدخل رب الصريمة والغنيمة في الحمى والمرعى , يريد صاحب الإبل القليلة والغنم القليلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1049 وقال البخاري (1) حدثنا يحيى بن بكير. حدثنا الليث الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي , قال عنه ابن حجر (تهذيب التهذيب: ج: 8. ص: 459 ترجمة: 132) : أبو الحارث الإمام البصرى يقال: إنه مولى قريش , ولكن أسرته انقرضت في فهم , فنسب إليهم. وأسرته تنسب إلى الفرس وأصبهان , ولكن أنكر عليهما البعض هذا الانتساب، ولد بقرشندة على نحو أربعة فراسخ من فسطاط , وروى عن الكثير من شيوخه وأقرانه ومن هم أصغر منه , ومن أبرزهم نافع وابن أبي مليكة ويحيى بن سعيد والزهري وهشام بن عروة وعطاء بن أبي رباح وبكير الأشج وسعيد المقبري وأبو الزناد وقتادة وأبو الزبير المكي وعبد الله بن أبي جعفر وعبد العزيز الماجشون , وروى عنه خلق منهم شيوخ له مثل محمد بن عجلان وهشام بن سعد. وأقران مثل ابن لهيعة وهشام بن بشير وقيس بن الربيع وعطاف بن خالد , وكانت بينه وبين مالك بن أنس الإمام مودة ومراسلات , بل إن الشافعي كان فيما روي عنه يراه أفقه من مالك وأجمعوا على توثيقه , وإن تكلم بعضهم في رواياته عن بعض شيوخه , فقالوا: إنها مناولة وليست سماعًا ونفى ذلك آخرون والروايات متوافرة عن أحمد في توثيقه والثناء عليه , وكذلك عن يحيى بن معين وإن كان أقل إشادة به من أحمد , وكان غنيًا سخيا كريمًا على أقرانه وتلامذته وضيوفه , ويقال: إن دخله كان كل سنة ثمانين ألف دينار , ومع ذلك لم تجب عليه الزكاة قط. ويروى عن عبد الله بن صالح أنه قال: صحبت الليث عشرين سنة لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس، روي عنه أنه كان يقول: أنا أكبر من ابن لهيعة بثلاث سنين ومع ذلك عاش بعده نحوًا من ثلاث سنين وكانت وفاة ابن لهيعة سنة أربع وسبعين ومائة. وروي أن الليث ولد سنة أربع وتسعين ومات يوم الجمعة نصف شعبان سنة سبع وخمسين ومائة، رحمه الله رحمة واسعة. , عن يونس , عن ابن شهاب , عن عبيد الله بن عبد الله بن عنبسة , عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الصعب بن جثامة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حمى إلا لله ولرسوله))   (1) صحيح البخاري. ج: 3. ص: 78. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1050 وقال - يعني الزهري -: بلغنا ((أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع)) قال ياقوت (معجم البلدان. ج: 5. ص: 310) : في (نقيع) بعد أن ذكر اشتقاقه , وهو نقيع الخضمات , موضع حماه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لخيل المسلمين , وهو من أودية الحجاز , يدفع سيله إلى المدينة , يسلكه العرب إلى مكة منه , وحمى نقيع على عشرين فرسخًا أو نحو ذلك من المدينة , وفي كتاب: نصر النقيع: موضع قرب المدينة , كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حماه لخيله , وله هنالك مسجد , يقال له: مقمل , وهو من ديار مزينة , وبين النقيع والمدينة عشرون فرسخًا , وهو غير نقيع الخضمات , وكلاهما بالنون والباء فيهما خطأ. وعن الخطابي وغيره , قال القاضي عياض: النقيع الذي حماه النبي صلى الله عليه وسلم ثم عمر , هو الذي يضاف إليه في الحديث: غرز النقيع , وفي حديث آخر: يقدح لهن من النقيع. وحمى النقيع على عشرين فرسخًا , كذا في كتاب عياض , ومساحته ميل في بريد , وفيه شجر يستجم حتى يغيب الراكب فيه. واختلف الرواة في ضبطه , فمنهم من قيده بالنون , منهم النسفي وأبو ذر القابسي , وكذا قيد في مسلم عن الصدفي وغيره , وكذلك لابن ماهان , وكذا ذكره الهاوي الخطابي. قال الخطابي: وقد صحفه بعض أصحاب الحديث بالباء , وأما الذي بالباء مدفن أهل المدينة , قال: ووقع في كتاب الأصيلي بالقاف مع النون , وهو تصحيف , وإنما هو بالنون والقاف , وقال أبو عبيد البكري: هو بالباء والقاف , مثل بقيع الغرقد , قال المؤلف ياقوت - يعنى نفسه -: وحكى السهيلي , عن أبي عبيد البكري خلاف ما حكاه عنه عياض. قال السهيلي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه حمى غرز النقيع)) . قال الخطابي: النقيع: القاع، والغرز: نبت شبه التمام , وفي رواية أبي إسحاق مرفوعًا إلى أبي أمامة , أن أول جماعة جمعت بالمدينة في هزم بني بياضة في بقيع يقال له: بقيع الخضمات. قال المؤلف: هكذا المشهور في جميع الروايات , وقد ذكر ابن هشام: هزم بني التبيت , وسأذكره في هزم إن شاء الله مستوفى، قال السهيلي: وجدته في نسخة أبي بحر بالباء , وكذلك وجدته في رواية يونس عن أبي إسحاق , وذكر أبو عبيد البكري في كتاب معجم ما استعجم من أسماء البقيع أنه نقيع بالنون , وذكر ذلك بالنون والقاف , وأما النفيع بالفاء , فهو أقرب إلى المدينة منه بكثير , وقد ذكرته أنا في موضعه. هكذا نقل هذان الإمامان عن أبي عبيد البكري , إلا أن يكون أبو عبيد جعل الموضع الذي حماه النبي صلى الله عليه وسلم وهو حمى غرز البقيع بالباء فقط والله أعلم به , على أن القاضي عياضًا والسهيلي لم أرهما فرقا بينهما ولا جعلاهما موضعين , وهما موضعان لا شك فيهما إن شاء الله. وروي عن أبي مراوح: ((نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالنقيع على مقمل , فصلى فصليت , وقال: حمى النقيع نعم مرتع الأفراس , يُحمى لهن , ويجاهد بهن في سبيل الله)) . ثم استشهد بأبيات وكلام لبعض العرب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1051 وأن عمر حمى السرف قال ياقوت (معجم البلدان. ج: 4. ص: 212 وما بعدها) : بعد أن ذكر اشتقاق كلمة سرف , وهو موضع على ستة أميال من مكة وقيل: سبعة وتسعة واثني عشر , تزوج به رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث , وهناك بنى بها , وهناك توفيت. ثم قال القاضي عياض: وأما الذي حمى فيه عمر - رضي الله عنه - فجاء فيه أنه حمى السرف والربذة كما عند البخاري بالسين المهملة , وفي موطأ ابن وهب: الشرف , بالشين المعجمة وفتح الراء , وكذا رواه بعض رواة البخاري , وأصلحه , وهذا الصواب. وأما سرف , فلا يدخله الألف واللام. ثم قال (معجم البلدان. ص: 336) : في كلمة (شرف) بالتحريك , هو المكان العالي. قال الأصمعي: الشرف كبد نجد , وكانت منازل بنى آكل المرار من كندة الملوك , وفيها اليوم حمى ضربة , وفي الشرف الربذة , وهي الحمى الأيمن , والشريف إلى جنبها , يفصل بينهما التسرير , فما كان شرقًا فهو الشريف , وما كان غربا فهو الشرف. ثم قال: وقال غيره: الشرف الحمى الذي حماه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والربذة (1) وقال (2) حدثنا إسماعيل , قال: حدثني مالك , عن زيد بن أسلم , عن أبيه , أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استعمل مولى له يدعى هنيًّا على الحمى , فقال: يا هني، اضمم جناحك عن المسلمين , واتق دعوة المظلوم , فإن دعوة المظلوم مستجابة , وأدخل رب الصريمة، ورب الغنيمة، وإياي ونعم بن عوف ونعم بن عفان، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه , فيقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين , أفتاركم أنا لا أبا لك؟ فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق , وأيم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، إنها لبلادهم , فقاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده , لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله , ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا.   (1) وقال ياقوت (معجم البلدان. ص: 23) : الربذة بفتح الراء وثالثه ذال معجمة مفتوحة أيضًا. قال أبو عمر: وسألت ثعلبًا عن الربذة اسم القرية , قال ثعلب: سألت عنها ابن الأعرابي , فقال: الربذة الشدة , يقال: كنا في ربذة , فانجلت عنا. ثم قال: والربذة من قرى المدينة على ثلاثة أيام , قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز إذا رحلت من فيد تريد مكة , وبهذا الموضع قبر أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - ثم قال: وكانت من أحسن منزل في طريق مكة. وقال الأصمعي يذكر نجدا: والشرف كبد نجد , وفي الشرف الربذة , وهي الحمى الأيمن , وفي كتاب نصر: الربذة من منازل الحاج بين السليلة والعمق. (2) البخارى. ج: 4. ص: 33. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1052 وقال أبو عبيد (1) حدثنا عبد الله بن صالح عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم , قال عنه الذهبي في (سيرأعلام النبلاء. ج: 10. ص: 405 وما بعدها. ترجمة: 115) : الإمام المحدث شيخ المصريين أبو صالح الجهني مولاهم المصري كاتب الليث ابن سعد , قد شرحت حاله في ميزان الاعتدال (ج: 2. ص: 440) وما بعدها. ترجمة: 4383) , وليناه , وبكل حال فكان صدوقًا في نفسه من أوعية العلم , أصابه داء شيخه ابن لهيعة , وتهاون بنفسه حتى ضعف حديثه , ولم يترك بحمد الله. والأحاديث التي نقموها عليه معدودة في سعة ما روى. ثم أفاض في سرد شيوخه وتلامذته , وذكر أن مولده سنة سبع وثلاثين ومائة , وكانت وفاته كما ذكر هو وغيره سنة اثنتين وعشرين ومائتين , فيكون قد عُمِّر خمسا وثمانين سنة. قلت: وقد وثقه عدد من النقدة , منهم يحيى بن معين على شدته على الرجال , بل إنه طلب إلى سعيد بن منصور وكان شديدًا عليه أن يمسك عنه , فأبى , وضعفه أحمد وطائفة غيره من النقدة , لكن روى عنه البخاري حديثًا في صحيحه , وعلق له في أكثر من موضع , وروى عنه أبو داود والترمذي وابن ماجه , ودافع ابن حجر (مقدمة فتح الباري. ص: 411 وما بعدها) عن رواية البخاري عنه , وساق جل ما أنكروا من حديثه , وترجم له البخاري في (التاريخ الكبير. ج: 5. ص: 121. ترجمة: 357) , ولم يقل فيه شيئًا مما قاله غيره من النقدة , كما ترجم له الرازي في الجرح والتعديل (ج: 5. ص: 121. ترجمة: 357) , ولم يقل فيه شيئا مما قاله غيره من النقدة , كما ترجم له الرازي في الجرح والتعديل (ج: 5. ص: 85 وما بعدها. ترجمة: 397) , وساق طائفة من أقوالهم فيه , ولكنه كان أميل إلى توثيقه , ومن عجب أن الذهبي ذكره بعبارة تكاد تكون واحدة في كل من الكاشف (ص: 84. ترجمة: 2811) , وهو خاص بمن يوثقهم , والمغني (ج: ا. ص: 342. ترجمة: 3213) , وترجم له الخطيب في تاريخ بغداد. (ج: 9. ص: 478. ترجمة: 5110) , وساق طائفة تكاد تكون وافية مما قال فيه النقدة ونقلوا عنه وفقدوا من حديثه. وذكره ابن حبان في المجروحين (ج: 2. ص: 40) , وكان شديدًا عليه جدا , إذ قال بصفة الجزم: منكر الحديث جدا , يروي عن الأثبات ما لا يشبه حديث الثقات , وعنده المناكير الكثيرة عن أقوام مشاهير أئمة. ثم عاد فخفف من لهجته , فقال: (وكان في نفسه صدوقًا يكتب لليث بن سعد الحساب , وكان كاتبه على الفلات , وإنما وقعت المناكير في حديثه من قبل جار له رجل سوء. سمعت ابن خزيمة يقول: كان له جار بينه وبينه عداوة , فكان يضع الحديث على شيخ عبد الله بن صالح , ويكتب في قرطاس بخط يشبه خط عبد الله بن صالح , ويطرح في داره في وسط كتبه , فيجده عبد الله , فيحدث به , فيتوهم أنه خطه وسمعه. فمن ناحيته وقعت المناكير في أخباره.   (1) الأموال ص: 413. ج: 727. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1053 ثم ساق ما ساقه غيره مما أنكروا عنه أو نقدوه من حديثه , وأشده نكرًا عندهم حديث رواه عن الليث بن سعد , عن خالد بن يزيد , عن سعيد بن أبي هلال , عن ربيعة بن سيف قال: كنا عند شقتي الأصبحي , فقال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يكون خلفي اثنا عشر خليفة)) الحديث. وترجم له ابن عدي في الكامل (ج: 4. ص: 1522) وبعد أن ساق ما ساقه غيره من كلام النقدة فيه ومناكيرهم عنه , قال: ولعبد الله بن صالح روايات كثيرة عن صاحبه الليث بن سعد , وعنده عن معاوية بن صالح نسخة كبيرة. ويروى عن يحيى بن أيوب صدرًا صالحًا , ويروى عن ابن لهيعة أخبارًا كثيرة , ومن نزول رجاله عبد الله بن وهب , وهو عندي مستقيم الحديث , إلا أنه يقع في حديثه في أسانيده ومتونه غلط , ولا يتعمد الكذب , وقد روى عنه يحيى بن معين , كما ذكرت , وذكره في الضعفاء كل من النسائي (ص:149. ترجمة: 351) والعقيلي (ج: 2. ص: 267. ترجمة: 826) وترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب (ج: 5. ص: 256. الترجمة: 448) وساق ما تحدث به عنه وأنكروه. عن الليث بن سعد , عن يونس بن يزيد , عن ابن شهاب , عن عبيد الله بن عبد الله بن عنبسة , عن ابن عباس , عن الصعب بن جثامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) . ثم قال (1) حدثنا ابن أبي مريم , عن عبد الله بن عمر العمري عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عبد الرحمن العمري , روى عن عدد من صدور الحديث , منهم نافع وزيد بن أسلم وسعيد المقبري وسهيل بن أبي صالح وحامد الطويل , وروى عنه عدد منهم , وفيهم عبد الرحمن بن مهدي والليث بن سعد بن وهب وعبد الرزاق وأبو قتيبة وآخرون , وثقه بعضهم , منهم يحيى بن معين , واختلفت الرواية فيه عن أحمد , واتفقت بتضعيفه عن يحيى بن سعيد , وأجمعوا على فضله , وأحسب أن ممن تكلم فيه من تحرج منه , لأنه خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن فحبسه المنصور , ثم خلاه , ولعلهم رأوا فيه لوثة شيعية على أن هذا مجرد ظن مني. توفي - رحمه الله - ما بين سنة إحدى وسبعين وثلاث وسبعين ومائة على اختلافهم في ذلك , وقد روى عنه مسلم والأربعة انظر ترجمته (ابن حجر، تهذيب التهذيب. ج: 5. ص: 326. ترجمة: 564) وسائر مصادر الجرح والتعديل. عن نافع , عن ابن عمر قال: ((حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقيع وهو موضع معروف بالمدينة لخيل المسلمين)) .   (1) البخاري ص: 417 إلى 420 وما بعدها. ح: 739 إلى 744. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1054 وحدثنا عبد الله بن صالح , عن الليث , عن هشام بن سعد , عن زيد بن أسلم , عن أبيه أنه قال: سمعت عمر وهو يقول لهني حين استعمل على حمى الربذة: يا هني , اضمم جناحك عن الناس , واتق دعوة المظلوم , فإنها مجابة , وأدخل رب الصريمة والغنيمة , ودعني من نعم بن عفان ونعم بن عوف , فإنهما إن هلكت ماشيتهما رجعا إلى نخل وزرع , وإن هذا المسكين إن هلكت ماشيته جاء يصرخ: يا أمير المؤمنين، أفالكلاء أهون علي أم غرم الذهب والورق؟ وإنها لأرضهم , قاتلوا عليها في الجاهلية , وأسلموا عليها في الإسلام، إنهم ليرون أنا نظلمهم , ولولا النعم التي يحمل عليها في سبيل الله ما حميت على الناس شيئًا من بلادهم أبدًا. قال أسلم: فسمعت رجلًا من بني ثعلبة يقول له: يا أمير المؤمنين , حميت بلادنا , قاتلنا عليها في الجاهلية , وأسلمنا عليها في الإسلام. يرددها عليه مرارًا , وعمر واضع رأسه إليه , ثم إنه رفع رأسه إليه , ثم قال: البلاد بلاد الله , ويحمي النعم مال الله , يحمل عليها في سبيل الله. حدثنا إسحاق بن عيسى , عن مالك بن أنس , عن زياد بن أسلم , عن عامر بن عبد الله بن الزبير - قال أبو عبيد: أحسبه عن أبيه – قال: أتى أعرابي عمر فقال: يا أمير المؤمنين، بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية , وأسلمنا عليها في الإسلام على ما تحميها، قال: فأطرق عمر , وجعل ينفخ ويفتل شاربه - وكان إذا كربه أمر فتل شاربه ونفخ - فلما رأى الأعرابي ما به , جعل يردد ذلك عليه , فقال عمر: المال مال الله , والعباد عباد الله , والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبرًا في شبر. قال مالك: بلغني أنه كان يحمل في كل عام على أربعين ألفًا من الظهر. وكان مالك بن أنس يأخذ بالحديث المرفوع الذي في النقيع قال: السنة أن يحمى النقيع لخيل المسلمين إذا احتاجوا إلى ذلك , ولا يحمى إلى غيرها. قيل له: فلإبل الصدقة؟ قال: لا، ولو جاز ذلك لحجرت الأحماء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1055 وأما سفيان بن سعيد فيروى عنه أنه قال: قد أبيحت الأحماء. وقال ابن زنجويه (1) : أخبرنا عبد الله بن صالح , حدثني الليث , حدثني يونس , عن ابن شهاب قال: ((بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع , وأن عمر حمى الشرف والربذة)) . أخبر ابن أبي أويس إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أبي أويس الأصبحي بن أبي أويس ابن أخت مالك ونسيبه , كما يقول ابن حجر (تهذيب التهذيب ج: 1. ص: 310. ترجمة: 562) , روى عن عدد , منهم خاله مالك , وأكثر عنه , ومنهم سلمة بن وردان وابن أبي الزناد وعبد العزيز الماجشون وسليمان بن بلال , وأخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه , وتكلم فيه النسائي فاشتد عليه , وزعم البعض أنه قرأ من كتابه اعترافًا له بأنه ربما وضع الحديث لبعض أهل المدينة فيما اختلفوا فيه , لكن ذكرت بعض الروايات عن أحمد أنه قال: لا بأس به. وكذلك عن ابن معين , ووصفه بعضهم بأنه مغفل ضعيف العقل , وزعم آخرون أنه ارتشى من تاجر عشرين دينارًا حتى باع على الأمير ثوبًا يساوي خمسين بمائة , وإن صح هذا , فلعله تأوله جعلا , وليس ارتشاء , وقد أبدوا وأعادوا بالقول فيه , بيد أن روايتي الشيخين والترمذي وأبي داود وابن ماجه عنه وتوثيق أبي حاتم له وبعض ما روى عن أحمد وابن معين فيه , كل ذلك يدعو إلى الارتياب في أقاويلهم وما أكثر ما تقول بعضهم في بعض , يغفر الله لهم. حدثني مالك , عن عمه أبي سهل بن مالك (2) عن أبيه , (3)   (1) سقط الهامش من الأصل (المجلة) (2) نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو سهل التميمي المدني حليف بني تميم , كما يقول ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج:10. ص: 409. ترجمة: 737) روى عن أبيه وابن عمر وسهل بن سعد وأنس وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وغيرهم , روى عنه الزهري , وهو من أقرانه , وابن أخيه مالك بن أنس وغيرهما , وأخرج له الجماعة ووثقوه , وذكر الواقدي أنه كان يأخذ عنه القراءة بالمدينة توفي -رحمه الله - في إمارة بني العباس. (3) مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو أنس , ويقال: أبو محمد , جد مالك بن أنس الفقيه , هكذا ترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب (ج: 10. ص. 19. ترجمة: 25) , روى عن عمر وطلحة وعقيل بن أبي طالب وأبي هريرة وعائشة وربيعة بن محرز كاتب عمر وكعب الأحبار , وروى عنه أنس والربعي ونافع , وكذلك سليمان بن يسار وسالم بن أبي النضر ومحمد بن إبراهيم التيمي , أخرج له الجماعة , ولم يتكلم فيه أحد , وتوفي حين اجتمع الناس على عبد الملك سنة أربع وسبعين , واضطربوا في تحديد تاريخ مولده , لكن ابن حجر يقول: قد صح سماعه عن عمر , فإنه قال: شهدت عمر عند الجمرة. قلت: وهذا يعني أنه على الأرجح ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم , رحمه الله رحمة واسعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1056 أن عمر بن الخطاب قال ليرفأ (1) كم تعلفون هذا الفرس؟ قال: ثلاثة أمداد أو صاعًا، شك أيُّ ذلك أو يقول، فقال له عمر: إن هذا لكاف أهل بيت من العرب , فقال يرفأ: يا أمير المؤمنين , أما ترد عليه إبل الصدقة؟ فقال عمر: أنت تقول ذلك , والذي نفسي بيده لتعالجن من ذا النقيع. أخبرنا ابن أبي أويس , حدثني مالك , عن زيد بن أسلم , عن أبيه , أن عمر استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى , فقال له: يا هني , اضمم جناحك عن المسلمين , واتق دعوة المظلوم , فإن دعوة المظلوم مستجابة , وأدخل رب الصريمة والغنيمة، وإياي ونعم بن عفان ونعم بن عوف , فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى زرع ونخل , وأن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتني ببنيه , فيقول: يا أمير المؤمنين , فتاركهم أنا لا أبا لك؟ فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب , وأيم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم , إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية , وأسلموا عليها في الإسلام , والذي نفسي بيده , لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا. أخبرنا عبد الله بن صالح , عن الليث بن سعد , عن زيد بن أسلم , عن أبيه قال: سمعت عمر وهو يقول لهني حين استعمله على حمى الربذة ... فذكر نحوه , وزاد فيه قال: قال أسلم: فسمعت رجلًا من بني ثعلبة يقول له: يا أمير المؤمنين , حميت بلادنا، قاتلنا عليها في الجاهلية , وأسلمنا عليها في الإسلام. يرددها عليه مرارًا , وعمر رافع رأسه , ثم إنه رفع إليه رأسه , فقال: البلاد لله , ونحمي النعم مال الله يحمل عليه في سبيل الله. قال أبو داود (2) حدثنا بن سرح. أخبرنا وهب. أخبرني يونس , عن ابن شهاب , عن عبيد الله بن عبد الله , عن ابن عباس , عن الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) . قال ابن شهاب: ((وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع.)) .   (1) ترجم له ابن حجر في الإصابة (ج: 3. ص: 672. ترجمة: 9387) فيمن ترجم لهم في القسم الثالث , فقال: حاجب عمر , أدرك الجاهلية وحج مع عمر في خلافة أبي بكر. (2) ساقطة من الأصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1057 حدثنا سعيد بن منصور. حدثنا عبد العزيز بن محمد وعبد الرحمن بن الحرث , عن ابن شهاب , عن عبيد الله بن عبد الله , عن عبد الله بن عباس , عن الصعب بن جثامة , أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع , وقال: ((لا حمى إلا لله عز وجل)) . وقال ابن حبان (1) : أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى , قال: حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي , قال: حدثنا عبد الله بن نافع , قال: حدثنا عاصم بن عمر , عن عبد الله بن دينار , عن ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين)) . أخبرنا حامد بن محمد بن شعيب , قال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم , قال: حدثنا يحيى بن حمزة , عن الزبيدي , عن الزهري , عن عبيد الله بن عبد الله , عن ابن عباس , عن الصعب بن جثامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) . أخبرنا الحسن بن عبد الجبار. حدثنا يحيى بن معين , حدثنا علي بن عياش. حدثنا شعيب بن أبي حمزة , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حمى إلا لله عز وجل)) . وقال البيهقي (2) أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان. أنبأ أحمد بن عبيد الصفار. حدثنا ابن ملحان وعبيد بن شريك , قالا: حدثنا يحيى , حدثنا الليث , عن يونس , عن ابن شهاب , عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة , عن ابن عباس , عن الصعب بن جثامة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) . قال: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع , وأن عمر بن الخطاب حمى الشرف والربذة. أخبرنا أبو الحسن بن بشران العدل ببغداد. أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار. أنبأ أحمد بن منصور الرمادي. حدثنا عبد الرزاق. أنبأ معمر , عن الزهري , عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة , عن ابن عباس , أن الصعب بن جثامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) . قال الزهري رحمه الله: فكان لعمر بن الخطاب حمى , بلغني أنه كان يحميه لإبل الصدقة.   (1) ساقطة من الأصل. (2) ساقطة من الأصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1058 أخبرنا أبو عبد الله الحافظ. حدثنا أبو عوانة محمد بن أحمد بن مهان الحراني بمكة. حدثنا محمد بن علي بن زيد. حدثنا سعيد بن منصور. حدثنا عبد العزيز بن محمد. حدثنا عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة , عن الزهري , عن عبيد الله بن عبد الله , عن ابن عباس , عن الصعب بن جثامة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع , وقال: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) . أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو. أنبأ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار. حدثنا محمد البرتي. حدثنا القعنبي , حدثنا عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب , عن نافع , عن ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين ترعى فيه)) . أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن محمد بن الحسن العدل. أنبأ أبو بكر محمد بن جعفر المزكي. حدثنا محمد بن إبراهيم العبدي , حدثنا ابن بكير , حدثنا مالك , عن زيد بن أسلم , عن أبيه , أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى , وقال له: يا هني , اضمم جناحك عن المسلمين , واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإيإي ونعم بن عفان ونعم بن عوف , فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع , وإن رب الصريمة والغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتني ببنيه , فيقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبا لك؟ فالماء والكلأ أيسر عليك (1) من الذهب والورق، وايم الله، إنهم ليروني أني قد ظلمتهم أنها لبلادهم , قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده , لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله , ما حميت على الناس في بلادهم شبرًا.   (1) لعل فيه تصحيفًا صوابه: (أيسر علي) كما في الحديث الذي نقلناه آنفًا عن البخاري بسنده من طريق إسماعيل بن أسلم إلى عمر بن الخطاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1059 أخبرنا أبو عبد الله الحافظ. حدثنا علي بن عيسى الحيري. حدثنا محمد بن عمرو الحرشي. حدثنا يحيى بن يحيى , أنبأ المعتمر بن سليمان التيمي. حدثنا أبي. حدثنا أبو نضرة , عن أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري , قال: سمع عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن وفد أهل مصر قد أقبلوا , فاستقبلهم , , فلما سمعوا به , أقبلوا نحوه , قال: وكره أن يقدموا عليه المدينة , فأتوه , فقالوا له: ادع بالمصحف , وافتح السابعة , وكانوا يسمون سورة يونس السابعة , فقرأها , حتى أتى على هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (1) قالوا له: قف , أرأيت ما حميت من الحمى , الله أذن لك أم على الله تفتري؟ فقال: امضه , نزلت في كذا وكذا , فأما الحمى فإن عمر حمى الحمى قبلي لإبل الصدقة , فلما رأيت زادت إبل الصدقة , فزدت في الحمى لما زاد في الصدقة. أخبرنا أبو الحسين بن بشران. أنبأ أبو محمد الدعلج بن أحمد بن دعلج. حدثنا محمد بن علي بن زياد. حدثنا سعيد بن منصور. حدثنا يونس بن أبي يعفور , عن أبيه قال: قال عبد الله بن عمر: اشتريت إبلًا , وأنجعتها إلى الحمى , فلما سمنت , قدمت بها، قال: فدخل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - السوق , فرأى إبلًا سمانًا , فقال: لمن هذه الإبل؟ قيل: لعبد الله بن عمر، قال: فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر بخ بخ ابن أمير المؤمنين، قال: فجئته أسعى , فقلت: مالك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما هذه الإبل؟ قال: قلت: إبل إنضاء اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى , أبتغي ما يبتغي المسلمون. قال: فقال: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر اغد على رأس مالك , واجعل باقيه في بيت مال المسلمين.   (1) الآية رقم: (59) من سورة يونس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1060 وقال الحاكم (1) حدثنا علي بن عيسى. حدثنا محمد بن عمرو الحرشي. حدثنا يحيى بن يحيى. أنبأنا المعتمر بن سليمان التيمي. حدثنا أبي. حدثنا أبو نضرة , عن أبي سعد مولى أبي أسيد الأنصاري , قال: سمع عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن وفد أهل مصر قد أقبلوا نحوه , قال: وكره أن يقدموا عليه المدينة , قال: فأتوه , فقالوا له: ادع بالمصحف , وافتتح السابعة، وكانوا يسمون سورة يونس السابعة , فقرأها , حتى أتى على هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} فقالوا له: قف أرأيت ما حميت من الحمى , الله أذن لك أم على الله تفتري؟ فقال: امضه , نزلت في كذا وكذا، فأما الحمى فإن عمر قد حمى الحمى قبلي لإبل الصدقة، فلما وليت وزادت إبل الصدقة , فزدت في الحمى لما زاد في الصدقة. وقال الطبري (2) في مساق الحديث عن المتحزبين على عثمان - رضي الله عنه - وقد اجتمع منهم نفر وأحاطوا بالمنبر , وأحاط بهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكان عثمان على المنبر يناظرهم، فكان مما جرى بين الفريقين: قالوا: وحميت الحمى , وإني والله ما حميت، حُمي قبلي , والله ما حموا شيئًا لأحد , ما حموا إلا غلب عليه أهل المدينة , ثم لم يمنعوا من رعيه أحدًا، واقتصروا لصدقات المسلمين يحمونها , لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، ثم ما منعوا ولا نحو منها أحدًا إلا من ساق درهمًا وما لي من بعير غير راحلتين , وما لي ثاغية ولا راغية , وإني قد وليت، وإني أكثر العرب بعيرًا وشاء , فما لي اليوم شاة ولا بعير غير بعيرين لحجي، أكذلك؟ قالوا: اللهم نعم. ثم قال (3) في رواية أخرى وكلتاهما عن سيف سيف بن عمر التيمي البرجمي - بضم الباء والجيم نسبة إلى البراجم قبيلة من تميم - ويقال: السعدي , ويقال: الضبعي , ويقال: الأسدي , هكذا قال ابن حجر في تهذيب التهذيب (ج: 4. ص: 295. ترجمة: 5:6) , وقال غيره: الأسيدي الكوفي صاحب كتاب الردة والفتوح , روى عن عبد الله بن عبد الله العمري وأبي الزبير وابن جريج وإسماعيل بن أبي خالد وهشام بن عروة ويحيى بن سعيد ومحمد بن إسحاق والكلبي وآخرين , وعنه النضر بن حماد العتكي ويعقوب بن إبراهيم , ويظهر أنه هو أيضًا روى عن يعقوب كما في هذه الرواية المنقولة عن الطبري , وسعد أخيه - ويظهر أنه هو وشعيب الذي ورد في النسخة المطبوعة بدار المعارف من تاريخ الطبري خطأ - والمحاربي وجماعة.   (1) المستدرك. ج: 2. ص: 339. تاريخ الرسل والملوك. ج: 4. ص: 347. (2) تاريخ الرسل والملوك ج 4 ص 347. (3) تاريخ الرسل والملوك. ص: 354. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1061 قال ابن معين (التاريخ. ج: 2. ص: 245. ترجمة: 2262) : سيف بن عمر يحدث عنه المحاربي , وهو ضعيف. ونقل عنه ابن حجر – ولم نجد في التاريخ – قوله: فليس خير منه. وقال الرازي في (الجرح والتعديل. ج: 4. ص: 278. ترجمة: 1198) : سئل أبي عن سيف بن عمر الضبي , فقال: متروك الحديث لشبه حديثه حديث الواقدي , ونقل ابن حجر عن أبي داود قوله: ليس بشيء , وعن النسائي والدارقطنى ضعيف متروك. قلت: الذي في الضعفاء للنسائي كلمة ضعيف وحدها , كما أنها ليست عند الدارقطنى , والذي في كتابه (الضعفاء والمتركين. ص: 104. ترجمة: 283) سيف بن عمر الأسيدي كوفي عن العالم الكوفيين والبصريين والحجازيين، ومع غموض العبارة لا نجد فيها كلمة الترك وإن كان اسم الكتاب الضعفاء والمتروكين. ونقل ابن عدي في (الكامل. جـ 3. ص: 1271) عن يحيى بن معين ما نقله ابن حجر - ولعله نقله عنه - قوله في سيف: فليس خير منه. وأسند إليه حديثًا عن المعلمين , وتعقبه بقوله: هذا حديث منكر الموضوع , وقد اتفق في هذا البحث ثلاثة من الضعفاء , فرووه: عبيد بن إسحاق الكوفي العطار , يلقب عطار المطلقات , ضعيف , وسيف بن عمر الضبي كوفي - لاحظ جيدا قوله: كوفي - وسعد الإسكاف كوفي ضعيف , وهو أضعف الجماعة , فأرى والله أعلم أن البلاء من جهته , ثم أسند إليه أربع أحاديث , ثم قال: ولسيف بن عمر أحاديث غيرها ذكرت , وبعض أحاديثه مشهورة , وعامتها منكرة , لم يتابع عليها , وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق. قلت: مما أنكر عليه ابن عدي أو ضعفه حديث يبرئه من تهمة التشيع - فقد قال ابن عدي: حدثنا صدقة , حدثنا عبد الله. حدثنا عمي. حدثنا سيف بن عمر , عن عطية بن الحارث , عن أبي أيوب. وعن علي وعن الضحاك , عن ابن عباس. وعمرو بن محمد , عن الشعبي وسعيد بن جبير , عن أبي عباس قالوا: والله إن إمارة أبي بكر وعمر لفي الكتاب: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} - الآية رقم: (3) من سورة التحريم – وقال أبو نعيم الأصبهاني في كتابه (الضعفاء. ص: 91. ترجمة: 95) : سيف بن عمر الضبي - الكوفي متهم في دينه مرمي بالزندقة ساقط الحديث , لا شيء. قلت: يظهر أنه تأثر بابن حبان الذي قال في كتابه (المجروحين. ج: 1. ص: 245 و246) : من أهل البصرة - لاحظ قوله من أهل البصرة واتفاق غيره على أنه كوفي - واتهم بالزندقة , يروي عن عبد الله بن عمر - يعني العمري - روى عنه المحاربي والبصريون , كان أصله من الكوفة يروي الموضوعات عن الأثبات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1062 حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد السلام ببيروت. سمعت الجعفر بن أبان , يقول: سمعت ابن نمير , يقول: سيف الضبي تميمي , كان جمع يقول: حدثني رجل من بني تميم , وكان سيف يضع الحديث , وكان قد اتهم بالزندقة. ونقل ابن حجر عن الحاكم قوله: اتهم بالزندقة , وهو في الرواية ساقط , وذكره الذهبي في (الكشاف. ج: 1. ص: 333. ترجمة: 2245) , ضعفه ابن معين وغيره , ولكنه قال في المغني (ج: 1. ص: 292. ترجمة: 276) : متروك باتفاق , ونقل عن ابن حبان اتهامه بالزندقة وبرواية الموضوعات , ثم قال: أدرك التابعين , وقد اتهم. قلت: لا أدري من أين جاءه زعم الاتفاق على تركه، فإن صح الاتفاق فعلى ضعفه , وليس على تركه , وقد ذكروا جميعًا أن الترمذي روى عنه. وقال في الميزان (ج: 2. ص: 255. ترجمة: 3637) : هو كالواقدي يروي عن هشام بن عروة وعبيد الله بن عمر وجابر الجعفي وخلق كثير من المجهولين , كان إخباريًا عارفًا , روى عنه جبارة بن المغلس وأبو معمر القطيعي والنضر بن حماد العتكي وجماعة. ثم ساق روايات من ضعفوه أو اتهموه أو تركوه , ونقل أحاديث مما أسند إليه ابن عدي , ثم قال: مات زمن الرشيد. قلت: هذه محصلة كلامهم عنه , وما نعرف من اشتد عليه مثل أبي حاتم وابن حبان , وهذا أشد , لكن روى عنه الترمذي , وإن أنكر حديثًا من مروياته وأسند إليه الطبري في تاريخه نحوا من 269 مرة ومثل الطبري في علمه وتقواه وتحريه وبصره بالحديث وتوقيره له وتثبته فيه , لا يعقل أن يسند مثل هذا العدد من الروايات المتصلة بتاريخ الإسلام وجانب منها متصل بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين إلى راو ممن يصح أن يقال فيه: متروك، أو يتهم بالزندقة أو الوضع. ويتراءى لنا أنه أصيب به الواقدي وابن الكلبي وغيرهما من الإخباريين , فبالاستقراء نكاد نجزم أن نقدة الحديث كان رأيهم سيئا في الإخباريين غالبًا , وقد تكون نزعة الجمع والحشد تهيمن على الإخباريين , فتمنعهم من شدة التحري والتثبت فيما ينقلون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , بيد أننا نشعر بالحرج الشديد من التهم التي يلصقونها بهم لمجرد أنهم إخباريون , وإذا اتهمنا سيفًا بالوضع أو وصفنا حديثه بالترك , فإن نتيجة ذلك ستجعلنا نشك في جانب كبير , ولعله الأكبر من روايات الطبري في تاريخه , وإذن فستضطرب معارفنا من تاريخ الإسلام في عهوده الأول , وهي عهود التشريع وقد تنهار , والذي يتراءى لنا أن سيفًا كانت له نزعة سياسية , ولعله كان عباسي النزعة , ولعله أسهم في الدعوة العباسية , فكان خصوم نزعته يحاربونه - كما هو الشأن في الصراعات السياسية - غالبًا – بمختلف وسائل الحرب وأيسرها وأفعلها الاتهام في الدين والأمانة , لذلك فنحن نستقبل كلامهم في سيف أمثاله من الإخباريين بكثير من التحفظ والتحرج. قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم , قال: حدثنا معتمر بن سليمان التيمي , قال: حدثنا أبي , قال: حدثنا أبو نضرة , عن أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري قال: سمع عثمان , أن وفد أهل مصر قد أقبلوا , قال: فاستقبلهم , وكان في قرية له خارجة عن المدينة - أو كما قال - فلما سمعوا به , أقبلوا نحوه إلى المكان الذي هو فيه , قال: وكره أن يقدموا عليه بالمدينة أو نحو من ذلك , قال: فأتوه , فقالوا له: ادع بالمصحف , قال: فدعى بالمصحف , فقالوا له: افتح التاسعة (1) قال: وكانوا يسمون سورة يونس التاسعة - قال: فقرأها حتى أتى على هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} قال: قالوا له: قف , فقالوا له: أرأيت ما حميت من الحمى , الله أذن لك أم على الله تفتري؟ قال: فقال: امضه , نزلت في كذا وكذا , قال: وأما الحمى فإن عمر حمى الحمى قبلي لإبل الصدقة , فلما وليت زادت إبل الصدقة , فزدت في الحمى لما زاد في إبل الصدقة، إلى آخر القصة. وذكر ابن كثير (2) ما يشبه هذه القصة، لكن نسب القول إلى علي لا إلى عثمان، فكان مما جاء في سياق قوله: فانطلق علي بن أبي طالب إليهم – يعني إلى المتحزبين من الأنصار على عثمان - وهم بالجحفة , وكانوا يعظمونه ويبالغون في أمره، فردهم وأنبهم وشتمهم , فرجعوا على أنفسهم بالملامة , وقالوا: هذا الذي تحاربون الأمر بسببه - ويظهر أن أصحاب هذه المقولة من المصريين إذ كان هوى المصريين مع علي أيام الفتنة على عثمان - وتحتجون عليه به، ويقال: إنه ناظرهم على عثمان , وسألهم ماذا ينقمون عليه، فذكروا أشياء منها أنه حمى الحمى. إلى آخر ما نقل من مقولاتهم. ثم قال: فأجاب علي عن ذلك، أما الحمى فإنما حماه لإبل الصدقة لتسمن , ولم يحمه لإبله ولا لنفسه , وقد حماه عمر من قبله. إلى آخر القصة.   (1) التاسعة هذه الرواية أدق عدد من روايتي البيهقي والحاكم الآنفتين , فسورة يونس هي التاسعة إذا اعتبرنا سورة الأنفال والتوبة سورة واحدة , كما كان البعض يعتبرونها في ذلك العهد , وليست السابعة، على أي اعتبار , لأنهم اعتمدوا في ترقيمها على ترتيب المصحف العثماني , فقالوا له: افتح التاسعة , ويظهر أن الوهم كان من أحد الرواة الذين اشترك في الإسناد إليهم الحاكم والبيهقي فليتأمل. (2) البداية والنهاية. ج: 7 ح: 171. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1063 وأشار ابن أعثم الكوفي (1) وهو مؤرخ الفتوح إلى هذه القصة , ولكن بشكل مختلف , ولعلها تعددت عندئذ لتعدد محاولات عثمان إقناع خصومه , فقال: ثم دخل - أي عثمان - منزله وأغلق بابه وصعد إليهم وكلمهم من السطح قائلًا: أيها الناس , ماذا تريدون مني؟ وأي عمل من أعمالي لا توافقون عليه حتى أبدله؟ وما هدفكم حتى أحققه لكم وأحصل على رضاكم؟ فأجابوا: لقد حجزت عنا ماء المطر ومنعت مواشينا من ورود ذلك الماء، فقال عثمان: لقد حجزت الماء من إبل الصدقة، والآن إذا كان هذا لا يرضيكم , فهو لكم , فافعلوا به ما تشاؤون , فقالوا: لقد حجزت ذلك الماء أكثر مما حجزه عمر - رضي الله عنه - وقال: لقد كثرت إبل الصدقة في هذه الأيام , فلذلك اشتدت الحاجة إلى الماء، ولهذا كنت قد حجزت الماء. إلى آخر القصة. وانفراد مؤرخ الشيعة لتخصيص الماء بالحماية أو بأنه علة الحماية , يحمل على التساؤل عن الحافز إلى هذا التخصيص , إلا أن يكون أطلق الماء على الكلأ باعتباره سببًا لنياته. ثم لماذا اجتنب كلمة الحمى أو أية كلمة مشتقة منها؟ لعله ممن ينكر الحماية أصلًا , وهو شذوذ. وقال مالك (2) عن زيد بن أسلم عن أبيه , أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى , فقال: يا هني , اضمم جناحك على الناس , واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مستجابة , وأدخل رب الصريمة والغنيمة , وإياي ونعم بن عفان وابن عوف , فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى المدينة إلى زرع ونخل، وإن رب الصريمة والغنيمة إن تهلك ماشيته فيأتي ببنيه , ويقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين , أفتاركهم أنا لا أبا لك؟ فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق , وايم الله أنهم ليرون أن قد ظلمتهم , إنها لبلادهم ومياههم , قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام , والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حبست عليهم من بلادهم شبرًا. وقال الشافعي (3) أخبرنا سفيان ابن عيينة , عن الزهري , عن عبد الله بن عبد الله , عن ابن عباس , عن الصعب بن جثامة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) .   (1) الفتوح. المجلد: 1. ص: 450 وما بعدها. (2) الموطأ. ص: 849 , الأثر: 221. (3) تهذيب مسند الشافعي. ج: 2. ص: 131 و132. ح: 433، 434. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1064 أخبرنا عبد العزيز بن محمد , عن زيد بن أسلم , عن أبيه , أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له , يقال له: هني , على الحمى , فقال له: يا هني , ضم جناحيك للناس , واتق دعوة المظلوم , فإن دعوة المظلوم مجابة , وأدخل رب الصريمة، والغنيمة، وإياك ونعم بن عفان ونعم بن عوف، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع , وإن رب الغنيمة والصريمة يأتي بعياله , فيقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين , أفتاركهم أنا لا أبا لك؟ فالماء أهون علي من الدراهم والدنانير , وايم الله لعلى ذلك أنهم ليروني أني ظلمتهم , إنها لبلادهم , قاتلوا عليها في الجاهلية , وأسلموا عليها في الإسلام , ولولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على المسلمين من بلادهم شبرًا. وقال أحمد (1) حدثنا قراد قراد بضم القاف , عرف به عبد الرحمن بن غزوان الخزاعي , ويقال: الضبي أبو نوح. قال ابن حجر (تهذيب التهذيب ج: 6. ص: 247. ترجمة: 495) : سكن بغداد , وروى عن جرير بن حازم وشعبة وعكرمة بن عمار والليث بن سعد ومالك وآخرين , وعنه ابناه محمد وغزوان وأبو معاوية ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وخلق غيرهم , ونقل عن عبد الله بن أحمد عن أبيه قوله: كان عاقلًا من الرجال. وعن ابن معين قوله: صالح ليس به بأس. وعن أبي حاتم: صالح. وعن المدينى بن نمير ويعقوب بن شيبة وابن سعد: ثقة. قال: وذكره ابن حبان في الثقات , وقال - يعني ابن حبان -: كان يخطئ , يتخالج في القلب منه لروايته , عن الليث , عن مالك , عن الزهري , عن عروة , عن عائشة قصة المماليك. وهذه القصة هي ما روي عن مالك , عن عائشة , أن رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلس بين يديه , فقال: يا رسول الله، إن لي مملوكين يكذبوننى ويخونونني ويعصونني , وأضربهم وأسبهم , فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم. ونقل ابن حجر عن الدارقطني قوله: قال لنا أبو بكر - يعنى النيسابوري -: ليس هذا من حديث مالك , وأخطأ فيه قراد. ثم ذكر له سند آخر. قال أحمد: هذا باطل مما وضع الناس , وليس كل الناس يضبط هذه الأشياء، وقال أحمد عن عبد الرحمن هذا: لم يكن يعرف حديث الليث , وإن كان له فضل وعلم , على أن الدارقطني وثق قرادا في الجرح والتعديل , كما يقول ابن حجر: وروى الرازي عن أبيه أنه صدوق , وقد أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. أنبأنا عبد الله بن عمر , عن نافع , عن ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيله)) .   (1) المسند. ج:2. ص:91. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1065 حدثنا حماد بن خالد , عن عبد الله , عن نافع , عن ابن عمر , أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع للخيل قال حماد: فقلت له: (وفي لفظ: فقلت له: يا أبا عبد الرحمن) - يعني العمري - لخيله؟ قال: لا , لخيل المسلمين. حدثنا مصعب , هو الزبيري , قال: حدثني عبد العزيز بن محمد , عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش المخزومي , عن ابن شهاب , عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود , عن عبد الله بن عباس , عن الصعب بن جثامة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع وقال: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) . ومن مجموع هذه الأحاديث والآثار يتجلى: أ - أن الحمى لم يحدث في الإسلام إلا حوالي السنة الثامنة من الهجرة أو بعدها بقليل، ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول مسلم اقتنى فرسًا حتى قيل: إن الفرسين الوحيدين اللذين كانا مع المسلمين في غزوة أحد كانا ملكًا له، وقيل غير ذلك (1) وغيرهما من كتب السيرة ومدونات الحديث. وواضح أن حماية النقيع ومساحته ميل في بريد , وهو مكان كثيف الأشجار وافر المياه , لا يتصور أن يحدث لمجرد اتخاذ مرعى خاص لخيل المسلمين، ولكن لأن الحاجة اشتدت إلى تخصيص ذلك المرعى بعد أن تكاثرت النعم والخيل في أيدي المسلمين , فكان لزامًا أن تخص الحيوانات العمومية - إن صح هذا التعبير بمرعى لا تزاحم فيه ولا يضيق عليها , ولا تكون عرضة فيها لأن تستهلك ما بها من ماء وكلأ دواب الخاصة من المسلمين، وهذا يعني أنه لم تكن قد تكاثرت الدواب التابعة للملك العام فحسب , وإنما كانت قد تكاثرت أيضًا وبشكل مواز - اعتبارًا كما يقتضيه مدلول تكاثر الملك العام من الدواب والحاجة إلى تخصيص مرعى له - الدواب الخاضعة لملكية الأفراد ونتيجة لما أسفرت عنه الغزوات والسرايا من غنائم تزداد وفرتها مع تكاثرها، ونتيجة أيضًا لليسر الذي أصبح عليه المسلمون من الاستقرار الاقتصادي الأخذ في النماء والرسوخ للمدينة المنورة والمناطق الخاضعة لنفوذها ثم للحجاز كافة بعد فتح مكة مما أتاح للمسلمين الأموال اللازمة لاقتناء الخيل استجابة لضرورات الحرب ولترغيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الخيل ووصفه الخيل بأن في نواصيها الخير. في أحاديث مشهورة.   (1) انظر ابن سيد الناس عيون الأثر. ج: 2. ص: 5 وما بعدها وحماد بن إسحاق (تركة النبي) . ص: 90 وما بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1066 ب - فلما كان عهد عمر نشأت حاجة أخرى ليس للاحتفاظ بحمى النقيع فحسب، بل بحماية مناطق أخرى، ذلك بأن إبل الصدقة تكاثرت على حين اتسع نطاق الغزو , وترامت ثغوره , وتعددت مواقع الفتوحات , وكثر المسلمون , وكانت الرغبة لديهم في الجهاد شديدة ملحة، وكان على عمر أن يستجيب لمقتضيات كل هذه العوامل، وأول ما تقتضيه الاستجابة أن يجد أماكن خاصة لرعي ما يخضع للملك العام من الدواب , وخاصة الإبل التي كانت تجلب من الصدقة , ولم يكن من الحكمة توزيعها كلها , ولا كان ذلك من المشروع أيضًا , ففي المسلمين عامة كفاية لمعاشهم بما قدر لهم جميعًا من أعطيات , وبما يقسم على الفقراء والمساكين وغير هؤلاء من المستحقين في الصدقات من أنصبتهم تبعًا لاستحقاقهم، ثم إن للصدقات مصارف أخرى , من بينها ما هو {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) وكل ذلك اضطر عمر إلى أن يحمي مناطق تتوفر فيها الحاجات الضرورية لصيانة دواب المسلمين وإنمائها , ومنها الربذة وما حولها. ج - وقد يقال: إن النقيع لم يكن ملكًا لأحد , وأن القبائل التي كانت ترتاده أو يعرف بها لم تكن علاقتها به إلا الانتجاع , وهو قول لا يمكن التسليم به، بيد أننا لا نريد أن نناقشه في هذا المجال، لكن ماذا يمكن أن يقال في الربذة وما حولها؟ فهي بنص حديث عمر على اختلاف رواياته ملك لمن حاجوه في شأنها , قاتلوا عليها في الجاهلية , وأسلموا عليها في الإسلام , وهذا يعني أنها كانت مستقرًا لهم , لا يريمون عنه أو كانت خاصة بهم، يختلفون إليها لا تعتدي عليهم فيها قبيلة أخرى , فإن اعتدت قاتلوها فأجلوها. وهذا ما لم ينكره عمر , بل اعترف به , حسب ما تنقل عليه جميع الروايات , ولكنه علل تصرفه بأنه اضطراري لتلبية حاجة إبل الصدقة التي يحمل عليها في سبيل الله، فعمله يمكن أن نطلق عليه التجنيد المالي أو الاستنفار المالي، وأنه في - بعض الروايات - اعتبر أن حاجة ما هو من مال الله تعلو على اعتبار حقوق الأفراد فيما يملكون، فإبل الصدقة التي حمى من أجلها هي من مال الله، والأرض التي حماها أرض الله , والعباد الذين حمى منهم والآخرون الذين حمى لهم عباد الله، وهذا يعني أنه كان يعتبر أن كل حق يزول إذا تعين حق الله , وأن حق الله مقدم على حق العبد إذا كان حق الله متصلًا بالمصلحة العامة أو بما نسميه اليوم بالحق العام , وحق العبد منحصرًا فيما هو من حقوق الأفراد أو الملكية الخاصة، وعلى هذا الاعتبار وطبقًا لهذه الروايات فإن عمر - رضي الله عنه - قد يكون في الإسلام أول من رسم معالم تشريع نزع الملكية الخاصة للمصلحة العامة، وسيتعزز هذا الاعتبار بما سنراه من تصرفه في بعض الأموال المنقولة تصرفًا يتسق معه كل الاتساق.   (1) الآية رقم: (60) من سورة التوبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1067 د - ولم ينقل أحد من الرواة مهما يكن موثقًا أو متروكًا أو بينهما مجرد ملاحظة استفهامية , فضلًا عن أن يكون إنكارًا لتصرف عمر في حمية الربذة وما حولها من أي كان من الصحابة غير من حاجه من أهلها في شأنها إن كان فيهم من يعد من الصحابة، وحتى هؤلاء لم ينقل عنهم لجاج في الحِجَاج لما شرح لهم عمر مسوغات تصرفه. ولسنا ندري كيف يكون إجماع الصحابة إن لم يكن هذا من إجماعهم، أنه ليس سكوتيا فحسب , وإنما هو إقرار، وآية ذلك أن عثمان اقتدى به حين وسع المناطق المحمية وحمى غيرها , واحتج به على من ناوؤه واتخذوا حماية الأرض والماء لنعم بيت المال وخيله من مسوغات مناوأتهم له، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة أنه على حق فيما فعل. فإن زعم زاعم أن الصحابة لم يستطيعوا أن يجابهوا عمر بالإنكار وهو المعروف بقوته وصلابته , فهل يستطيع أن يزعم أن من أدرك منهم فتنة الدار لم يستطيعوا أن يجبهوا عثمان , وهو الضعيف بطبيعته، وكان عندئذ في حالة ضعف سياسي جلبت عليه الناقمين المتوعدين من مصر والعراق فضلًا عن الحجاز وبينهم بعض صغار الصحابة. وكان من شهود ذلك اليوم الذي حاج فيه عثمان مناوئيه ممن لم يحتشد عليه وإن كان مناوئًا له , أمثال عمار بن ياسر وربما رافع بن خديج , ومع ذلك لم ينبس أحد منهم بكلمة منكرًا عليه ما صنع وأخذه عليه الغوغاء من حماية بعض المناطق للملك العام. أفليس هذا إجماع إقرار , وليس مجرد إجماع سكوت؟ مهما يكن فإنا نرى الأطوار الثلاثة لحماية الحمى أدلة تثبت من بين ما تثبت من قواعد التشريع قاعدة الظرفية وقاعدة تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة وقاعدة تكييف ملكية الأفراد للأرض باعتبارها ليست ملكية رقبة، وإنما هي ملكية منفعة , وما دامت ملكية الرقبة ليست لهم، فإن ملكية المنفعة تزول تلقائيًا عندما تتعين الحاجة إلى تحقيق أمر يتصل بصاحب ملكية الرقبة , وهو الله فيما يتعلق بالأرض , وذلك ما سنعود إليه في مكانه من هذا البحث بمزيد من التفصيل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1068 12 - الإسلام والمال وردت كلمة (مال) مفردة معرفة ومنكرة ومضافة وجمعًا مضافًا إلى مخاطب أو إلى غائب ثلاثًا وثمانين مرة , أغلبها تثبت مسؤولية أو تقرر تبعة , أو تذكر بواجب أو تندب إلى معروف , أو تنعي تقصيرًا أو تفريطًا , أو أشرًا وبطرًا , أو تنهى عن تصرف منكر , أو تصف موقفًا سياسيًا , أو تصرفًا جشعًا، وفي جميع هذه المواضيع تضاف الأموال إلى البشر جماعة أو أفرادًا إضافة لفظية أو معنوية تقديرية إن صح هذا التعبير، ذلك بأن الجانب التوجيهي والتهذيبي من القرآن الكريم أكد على إبراز محاسن التصرفات البشرية فيما خولهم الله من مال والحث عليه وإبراز مساوئ تلك التصرفات والتنديد بها وبيان معقباتها الدنيوية والأخروية. فالتشريع القرآني ليس نصوصًا تكليفية مجردة , وإنما هو توجيه تربوي وتكييف أخلاقي أساسًا. والتكليف فيه مجرد تبيان لدرجة ذلك التوجيه والتكييف من الإلزام وما إذا كان فيه مجال للتخيير وطبيعة ذلك المجال إن وجد من ندب وإباحة وكراهة وتحديد مناط هذا المجال صراحة أحيانًا وإيحاء أحيانًا أخرى. ومرد ذلك إلى أن التشريع الإلهي مقصده تربية الفرد والمجتمع المسلم تربية قوامها تحديد المسؤولية وتبيين التبعة وتوضيح العاقبة ورسم معالم السلوك. وفي هذا الإطار التربوي نفسه وردت كلمة (مال) مضافة إلى الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} (1) وردت معرفة بـ: (أل) أربع مرات، أولاها في تحديد مصارف الحقوق على المتمول لأصناف من المحرومين وممن تتعين عليه وما بينهم أو تجب على المجامع كافة مساعدتهم. فقال جل جلاله في سياق تحديد معنى البر: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (2) الآية. والثانية في معرض ذكر موقف سياسي لبني إسرائيل , ولكن يلاحظ فيه أن المال لم يأت ذكره باعتباره ملكًا لفرد أو جماعة , وإنما جاء باعتباره - بصورة ضمنية - ملكًا لله، فقال جل جلاله: {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} الآية (3) والثالثة جاءت في معرض وصف الحياة الدنيا وما تزدان به وتختلف عن الآخرة وما يؤدي إليها، قال جل جلاله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية (4) والرابعة وردت في سياق تبيان بعض الأسباب لما ينزل على الإنسان من بلاء في الدنيا أو يناله من عقاب في الآخرة.   (1) الآية رقم (33) سورة النور. (2) الآية رقم (177) سورة البقرة. (3) الآية رقم: (247) من سورة البقرة. (4) الآية رقم: (46) من سورة الكهف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1069 قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} الآية (1) ووردت ست مرات بصيغة الجمع المضاف , وكلها تحدد طبيعة علاقة المال بالناس أو علاقة الناس بالمال من حيث إنها مجرد وظيفة اجتماعية تترتب معقبات وتبعات على ممارستها , أولاها وثانيها قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآية (2) ففي هذه الآية الكريمة أضيفت الأموال مرة إلى ضمير المخاطبين , ومرة إلى الظاهر غير الموجه إليه الخطاب مباشرة , وإن كان موجهًا إليه ضمنًا. الثالثة وردت كلمة (أموال) مضافة إلى ظاهر الغائب غير المخاطب مباشرة لكن في معرض التنديد بتصرفاتهم المخالفة لشريعة الله والتي استوجبوا بها العقاب , وذلك في قوله سبحانه وتعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (3) وكذلك الشأن في الرابعة حيث وردت مضافة إلى ظاهر الغائب المخاطب مباشرة , وذلك في معرض التنديد بتصرفات الرهبان التي لا تختلف عن تصرفات اليهود الوارد التنديد بها في الآية السابقة. قال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (4) وواضح أن من هذه الآيات أن القرآن الكريم يبين بما لا مجال فيه لافتعال أي تأويل أن علاقة الإنسان بالمال منقولًا كان أو ثابتًا، إنما هي وظيفة اجتماعية تترتب على حسن أدائها أو سوئه نتائج دنيوية وأخروية، وقبل أن نمضي في استجلاء ما يتصل من هذا التبيان القرآني بهذا البحث نقف عند ما أثر عن أئمة التفسير من سلف ومعاصرين في معنى هذه الآيات.   (1) الآية رقم: (20) من سورة الفجر. (2) الآية رقم: (188) من سورة البقرة. (3) الآية رقم: (160 و161) من سورة النساء. (4) الآيتان رقم: (34 و35) من سورة التوبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1070 ففي قوله تعالى: {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} الآية (1) يقول ابن جرير الطبري (2) حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم , قالا: حدثنا هشيم , قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم , عن الشعبي , سمعته سأل: هل على الرجل حق في ماله سوى الزكاة؟ قال: نعم، وتلا هذه الآية: {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ} . حدثنا أبو كريب , قال: حدثنا سويد بن عمرو الكلبي , قال: حدثنا حماد بن سلمة , قال: أخبرنا أبو حمزة , قال: قلت للشعبي: إذا زكى الرجل ماله أيطيب له ماله؟ فقرأ هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} إلى {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} إلى آخرها. ثم قال: حدثتني فاطمة بنت قيس أنها قالت: يا رسول الله , إن لي سبعين مثقالًا من ذهب. فقال: ((اجعليها في قرابتك)) . حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يحيى بن آدم , عن شريك قال: حدثنا أبو حمزة فيما أعلم , عن عامر , عن فاطمة بنت قيس , أنها سمعته يقول: ((إن في المال لحقًا سوى الزكاة)) . حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال: حدثنا ابن علية , عن أبي حيان , قال: حدثني مزاحم بن زفر , قال: كنت جالسًا عند عطاء , فأتاه أعرابي , فقال: إن لي إبلًا , فهل علي فيها حق بعد الصدقة؟ قال: نعم. قال: ماذا؟ قال: عارية الذلول وطروق الفحل والحلب. ثم قال: وذكر أيضًا عن السدي أن هذا شيء واجب في المال، حق على صاحب المال أن يفعله سوى الذي عليه من الزكاة.   (1) الآية رقم: (177) سورة البقرة. (2) جامع البيان. ج: 2. ص: 56 و57. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1071 حدثنا الربيع بن سليمان , قال: حدثنا أسد , قال: حدثنا سويد بن عبد الله , عن أبي حمزة , عن عامر , عن فاطمة بنت قيس , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((في المال حق سوى الزكاة , وتلا هذه الآية {لَيْسَ الْبِرَّ} إلى آخر الآية)) . وقال السيوطي (1) وأخرج الترمذي (2) وابن ماجه (3) وابن جرير (4) وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي (5) والدارقطني (6) وابن مردويه عن فاطمة بنت قيس , قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في المال حق سوى الزكاة)) ، ثم قرأ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الآية.   (1) الدر المنثور. ص: 171 و172. (2) رواه التزمذي (ج: 3. ص: 48. ح: 659 و660) من طريقين , فقال: حدثنا محمد بن أحمد بن مدويه. حدثنا الأسود بن عامر , عن شريك , عن أبي حمزة , عن الشعبي , عن فاطمة بنت قيس قالت: سألت أو سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة , فقال: إن في المال لحقا سوى الزكاة , ثم تلا هذه الآية التي في البقرة {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الآية. (3) الذي في ابن ماجه (السنن. ج: ا. ص: 570. ح: 1789) : حدثنا علي بن محمد. حدثنا يحيى بن آدم , عن شريك , عن أبي حمزة , عن الشعبي , عن فاطمة بنت قيس , أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليس في المال حق سوى الزكاة. ووهم محققه محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله في تحقيقه للجزء الثالث من الجامع الصحيح للترمذي حين علق على الحديث ورقم: (659) انظر التعليق رقم: (489) , إذ قال: أخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب: ما أدى زكاته فليس بكنز , ورقم الحديث: بـ 1799 وهو خطأ، فالحديث المرقوم بهذا الرقم يتصل بصدقة الإبل , وحديث فاطمة بنت قيس في ابن ماجه يختلف عن حديثها في الترمذي وغيره. فتأمل. (4) جامع البيان. ص: 57. (5) لم يخرج ابن عدي في الكامل حديث فاطمة بنت قيس من طريق أبي حمزة على أنه تكلم في أبي حمزة ونقل كلام الآخرين وأسند إليه بعض الأحاديث , ثم قال: (ولميمون الأعور غير ما ذكرت , وأحاديثه التي يرويها خاصة عن إبراهيم مما لا يتابع عليها, وقلت: وهذا يعني أن غير أحاديثه عن إبراهيم قد يتابع عليها ولست أدري من أين كان للسيوطي أن ينسب إلى ابن عدي رواية حديث فاطمة بنت قيس عن طريق أبي حمزة إلا أن يكون وجده في كتاب غير الكامل (6) لم نقف عليه في مظانه , ولعل هذا من أوهام السيوطي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1072 وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: ((في المال حق بعد الزكاة؟ قال: نعم يحمل على النجيبة)) . وأخرج عبد بن حميد , عن الشعبي , أنه سئل: هل على الرجل في ماله حق سوى الزكاة؟ قال: نعم، وتلا هذه الآية: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} إلى آخر الآية. وأخرج عبد بن حميد , عن ربيعة بن كلثوم , قال: حدثني أبي , قال لمسلم بن يسار: إن الصلاة صلاتان , وإن الزكاة زكاتان , والله إنه لفي كتاب الله , أقرأ عليك به قرآنًا. قلت له: اقرأ , قال: فإن الله يقول في كتابه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} , فهذا وما دونه تطوع كله , وأقام الصلاة على الفريضة , وآتى الزكاة , فهاتان فريضتان. ونقل ابن كثير (1) , عن ابن أبي حاتم أنه قال: حدثنا أبي. حدثنا يحيى بن عبد الحميد. حدثنا شريك , عن أبي حمزة , عن الشعبي. حدثتني فاطمة بنت قيس ((أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفللمال حق سوى الزكاة؟ فقالت: وتلا: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} )) . قال ابن كثير: ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن إلياس ويحيى بن عبد الحميد , كلاهما عن شريك , عن أبي حمزة , عن الشعبي , عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في المال حق سوى الزكاة، ثم قرأ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} إلى قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} )) . وأخرجه ابن ماجه والترمذي وضعف أبا حمزة ميمون الأعور (2) وقد رواه السيار وإسماعيل بن سالم عن الشعبي.   (1) تفسير القرآن العظيم. ج: 1. ص: 208. (2) ميمون الأعور تأتي ترجمته في الأصل. انظر ص 1402. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1073 وقال ابن العربي (1) عند استنباطه الأحكام من الآية الكريمة {وَآتَى الْمَالَ} : وقد كان الشعبي فيما يؤثر عنه يقول: في المال حق سوى الزكاة، ويحتج بحديث يروى عن فاطمة بنت قيس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((في المال حق سوى الزكاة)) ، وهذا ضعيف لا يثبت عن الشعبي , ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في المال حق سوى الزكاة، وإذا وقع أداء الزكاة ونزلت بعد ذلك حاجة , فإنه يجب صرف المال إليه باتفاق العلماء، وقد قال مالك: يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم , وإن استغرق ذلك أموالهم , وكذا إذا منع الوالي الزكاة , فهل يجب على الأغنياء إغناء الفقراء؟ مسألة فيها نظر , أصحها عندي وجوب ذلك عليهم. قلت: وهذا من عجائب ابن العربي , فهو من ناحية يزعم أنه ليس في المال حق سوى الزكاة، ويحكم بضعف ما أثر عن الشعبي , ويضعف حديث فاطمة بنت قيس الذي يحتج به الشعبي، ويزعم أن هذا لا يثبت عن الشعبي , ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم - وسنناقش أسانيد أثر الشعبي وحديث فاطمة بعد حين , وهو من ناحية أخرى يقرر أنه إذا عرضت حاجة بعد أداء الزكاة يجب صرف المال إليها باتفاق من العلماء، ويصحح - عنده - أنه يجب على الأغنياء إغناء الفقراء. وكان من قبل في استنباطه الأحكام من قوله سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (2) قد أورد بين الأقوال المأثورة في تفسيرها أنه وفاء الحقوق الواجبة العارضة في المال باختلاف الأحوال ما عدا الزكاة (3) اللهم إن لم يكن هذا تناقضًا , فوفقني إلى فهم التناقض. وقد أشار ابن العربي أيضًا إلى موقفه من هذا الحديث في العارضة , إذ رواه الترمذي (4) فقال: مشيرًا إلى تضعيف الترمذي لرواية أبي حمزة.   (1) أحكام القرآن. ج: 1. ص: 59. (2) الآية رقم: (3) . (3) أحكام القرآن. ج: 1. ص: 1. (4) عارضة الآحوذي. ج: 3. ص: 162 و163. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1074 وإذا كان الحديث ضعيفًا , فلا يشتغل به وتفسير الآية في الأحكام - يعني كتابه أحكام القرآن الذي نقلنا منه آنفًا - فلتنظر هنالك فيها وفي غيره - لعل الصواب: فيه وفي غيره - وقد تكرر وتقرر ووقع الشفاء منه بأبدع بيان. ولكي يتبين تعنت ابن العربي في موقفه هذا , ولا نجد كلمة ألطف من كلمة التعنت في وصفه، ننقل كل ما أخرجه الترمذي في هذا الشأن. قال (1) باب ما جاء أن في المال حقا سوى الزكاة. حدثنا محمد بن أحمد بن مدويه. حدثنا الأسود بن عامر , عن شريك , عن أبي حمزة , عن الشعبي , عن فاطمة بنت قيس قالت: سألت أو سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة , فقال: ((إن في المال لحقًا سوى الزكاة)) ، ثم تلا هذه الآية التي في سورة البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الآية. حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن. أخبرنا محمد بن الطفيل , عن شريك , عن أبي حمزة , عن عامر الشعبي , عن فاطمة بنت قيس , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في المال لحقًا سوى الزكاة)) . قال أبو عيسى: هذا حديث إسناده ليس بذاك , وأبو حمزة وميمون الأعور يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث , قوله (2) وهو أصح. قلت: ومن عجائب ابن العربي أنه لم يعرض لروايتي إسماعيل بن سالم وبيان اللتين أشار إليهما الترمذي ولم يوردهما وصححهما , وكان عليه أن يعرض لهما وإن لم يخرجهما الترمذي , إما لتفنيدهما وبيان العلة فيهما , وإما لاعتمادهما والتخلي عن رأيه الذي حاول بعدم التعرض لهما الاستمرار في التعنت في الدفاع عنه وتأكيده , ونحسب أنه لم يستطع أن يجد مغمزًا في إسماعيل بن سالم الأسدي الذي روى عنه البخاري في الأدب المفرد , ومسلم وأبو داود والنسائي، وقال عنه ابن سعد: ثقة ثبت، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه فراس قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 8. ص: 259. ترجمة: 482) : فراس بن يحيى الهمذاني الخارفي أبو يحيى الكوفي , روى عن الشعبي وعطية العوفي وأبي صالح السمان وفديك ابن عمارة , روى عنه منصور بن المعتمر , وهو من أقرانه , وزكرياء بن أبي زائدة وشعبة وشيبان وسفيان الثوري والحسن بن عمارة وأبو عوانة وشريك وغيرهم وثقه أحمد وابن معين والنسائي. وقال أبو حاتم: شيخ ما , بحديثه بأس. وقال ابن المدني عن يحيى بن سعيد: ما بلغني عنه شيء وما أنكرت من حديثه إلا حديث الاستبراء , وذكره ابن حبان في الثقات , وقال: مات سنة تسع وعشرين ومائة , وكان متقنا. قلت - القائل ابن حجر -: وقال العجلي: كوفي ثقة من أصحاب الشعبي في عداد الشيوخ , ليس بكثير الحديث. وقال ابن شاهين في الثقات: قال ابن عمار: ثقة. وقال عثمان - يعني ابن أبي شيبة -: صدوق. قيل له: ثبت؟ قال: لا.   (1) عارضة الآحوذي. ج: 3. ص: 162 و163. (2) يظهر أن كلمة (قوله) منصوبة على البدلية من (هذا البحث) ومع ذلك فلا نفهم له معنى مفيدًا، فليتأمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1075 أقدم موتًا من إسماعيل، وإسماعيل أوثق منه , وفراس فيه شيء من ضعف , وإسماعيل أحسن منه استقامة , وأقدم سماعًا، سمع عن سعيد بن جبير , وكذا قال مسلم عن أحمد , وقال عبد الله , عن أبيه أيضًا: ثقة ثقة، وقال المروزي عن أحمد: ليس به بأس , وهو أكبر من مطرف (1) ثم إنه قال: قد كانت عنده أحاديث الشيعة , وقد نظر له شعبة في كتبه. وقال أبو داود: سألت أحمد عنه , فقال: بخ، قال: وسمعته يقول: صالح الحديث. قلت - القائل ابن حجر (2) -: قد حكي عن ابن عوانة عن إسماعيل بن سالم أنه سمع زيدًا لا نعرف شيئًا عن هذه القصة , ونظن أن زيدًا هذا هو زيد بن أسلم؛ لأن عدم ذكر نسبه أو كنيته يدل على شهرته عندهم , وما نعلم في ذلك العهد من اسمه زيد يضاهي في شهرته شهرة زيد بن أسلم. رمز ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج: 3. ص: 395. ترجمة: 728) له بأنه روى عنه الجماعة. قلت: أو مالك أو غيره. قال ابن حجر: زيد بن أسلم العدوي أبو أسامة , ويقال: أبو عبد الله المدني الفقيه مولى عمر   (1) الظاهر أن مطرف هذا هو ابن طريف الحارثي ويقال: الجارفي , كما ذكر ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج: 10. ص: 172 ترجمة: 323) أبو بكر , ويقال: أبو عبد الرحمن الكوفي , روى عن الشعبي والسبيعي وابن أبي ليلى وعدة غيرهم , وعنه أبو عوانة وهشيم وأبو جعفر الرازي والسفيانان ومحمد بن فضيل وشعبة وآخرون. وثقه أحمد وأبو حاتم وأبو داود وسفيان بن عيينة وابن علية وابن حبان توفي سنة ثلاث وثلاثين أو إحدى أو اثنتين أو ثلاث وأربعين ومائة. (2) تهذيب التهذيب. ج: 1. ص: 301 و302. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1076 روى عن أبيه وابن عمر وأبى هريرة وعائشة وجابر وآخرين من الصحابة وكبار التابعين , وعنه أولاده الثلاثة , وعبد الله وعبد الرحمن ومالك وابن عجلان وابن جريج وكثير غيرهم من الصدور. قال مالك عن ابن عجلان: ما هبت أحدًا قط هيبة زيد بن أسلم , وقال العطاف عن خالد: حدث زيد بن أسلم بحديث , فقال له رجل: يا أبا أسامة عمن هذا؟ فقال: يابن أخي ما كنا نجالس السفهاء. قلت: هذا جواب صاعق دامغ لمن يتعلقون بحكاية التدليس والإرسال إذا كان السند من أمثال زيد. وقد أخذ عليه بعضهم أنه يفسر برأيه القرآن ويكثر منه , وهو مأخذ من الأفضل أن يعود على أصحابه، فلو وقفنا في تفسير القرآن على المأثور وحده لتعطل الجانب الأكبر من فهم الإسلام وإدراك الشريعة. توفي قبل خروج محمد بن عبد الله بن الحسن، وهكذا قال ابن حجر. يقول: فذكر قصة من معاوية فقال أحمد: ومن سمع هذا من أبي عوانة. وقال ابن أبي خيثمة , عن ابن معين: ثقة أوثق من أساطين مسجد الجامع سمع من هشيم. وقال ابن أبي مريم وغيره: ثقة، زاد ابن أبي مريم: حجة. وقال الدوري عنه: سمع إسماعيل بن أبي صالح ذكوان وقد سمع من أبي صالح باذام، وقال أبو زرعة وأبو حاتم وابن خراش والدارقطني: ثقة، وقال أبو حاتم أيضًا: مستقيم الحديث، وقال ابن عدي: له أحاديث يحدث عنه قوم ثقات , وأرجو أنه لا بأس به. ثم قال ابن حجر: وقرأت بخط الذهبي في الميزان: لم أسق ذكره إلا تبعًا لابن عدي , ولم يقل فيه إلا: أرجو أنه لا بأس به. ثم قال ابن حجر: ولعله أراد أن ينقل ما تقدم أنه قيل لأحمد عنه مما يشير به إلى التشيع, لكنه لم يفصح به. وقال يعقوب الفسوي: لا بأس به , كوفي ثقة. وقال أبو علي الحافظ: ثقة عسر في الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات (1)   (1) انظر ترجمته في (التهذيب. ج: 3. ص: 98. ترجمة: 447. والتاريخ الكببر للبخارى. ج: 1. ص: 356. ترجمة: 1125. وتاريخ بغداد للخطيب ج: 6. ص: 212 وما بعدها. ترجمة: 3271. والمعرفة والتاريخ الفسوي. ج: 3. ص: 96. والجرح والتعديل للرازي: (ج: 2. ص: 172. ترجمة: 580) . وتاريخ العلماء الثقات لابن شاهين، ص: 54. ترجمة: 20. والثقات لابن حبان: ج: 6. ص: 29. والتاريخ لابن معين. ج: 2 ص:25. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1077 جميع هؤلاء وثقوه لذلك كان عجبًا أن يذكره ابن عدي في الكامل (1) ويقول - بعد أن يروي حديثًا بسنده إليه -: ولإسماعيل بن سالم أحاديث يحدث عنه قوم ثقات وأرجو أنه لا بأس به. وينقل عنه الذهبي هذا الموقف في الميزان (2) وكأنه شعر بالحرج من ذلك، فهو يقول: وثقه جماعة ولم أسق ذكره إلا تبعًا لابن عدي) ... إلخ. ومعلوم أن كلا من الذهبي في الميزان وابن عدي في الكامل إنما يترجمان للضعفاء، لكن الذهبي يعود فيذكره في الكاشف (3) ويرمز إلى أن كلا من مسلم وأبي داود والنسائي رووا عنه ويقول عنه: ثقة. والكاشف هو كتابه الخاص بالثقات وقد ترجم له غيرهؤلاء من نقدة الرجال ولا نعرف من أراب فيه غير ابن عدي والذهبي في الميزان تبعًا له ويظهر أن كليهما - أو بالأحرى ابن عدي خاصة - اعتمدا على تلميح أحمد إلى تشيعه لمجرد أنه روى عن زيد، وهب أنه ذو نزعة شيعية , ولم يكن من الدعاة إلى نزعته , فلماذا يُراب؟! غفر الله لأحمد ومن تبعه في التشكيك في هذا المحدث الذي لم يكن مكثرًا , بل هو مقل، فقد اختلفوا في تعداد أحاديثه , منهم من قال: عشرة , ومنهم من أبلغها إلى عشرين. وقد نقلنا آنفًا من تفسير الطبري حديث إسماعيل بن سالم هذا , وقد رواه من طريق كل من أبي كريب ويعقوب بن إبراهيم، وأبو كريب روى عنه الجماعة وما من أحد يمكن أن يغمز فيه , وقد ترجم له ابن سعد والبخاري والرازي والذهبي وابن حجر (4) وغيرهم من أرباب التراجم ونقدة الرجال الموثقين. ويعقوب بن إبراهيم الذي أسند إليه الطبري هذا الحديث أيضًا هو الدورقي , روى عنه الجماعة (5)   (1) ج: 1. ص: 282. (2) ج: 1. ص: 228. ترجمة: 887. (3) ج: 1. ص: 73. ترجمة: 380. (4) الطبقات. ج: 6. ص: 289. والتاريخ الكبير. ج: 1. ص: 205. والجرح والتعديل. ج: 8. ص: 52. وتذكرة الحفاظ ج: 2. ص: 497 و498. سير أعلام النبلاء. ج: 11. ص: 394 وما بعدها. وتهذيب التهذيب. ج: 9. ص: 385 و386. (5) انظر ابن سعد في الطبقات. ج: 7. ص: 360 والرازي الجرح والتعديل. ج: 9. ص: 202 والخطيب تاريخ بغداد. ج: 14. ص: 277 و280 والذهبي سير أعلام النبلاء. ج: 12. ص: 141 وابن حجر تهذيب التهذيب. ج: 11. ص: 381 وغيرهم من نقدة الرجال المعتمدين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1078 وهشيم الذي روى عنه البخاري ما نظن أحدًا يستطيع أن يغمز فيه ولا في الروايتين عنه، ترجم له البخاري والطبري والرازي والخطيب والذهبي وابن حجر وغيرهم من أئمة الجرح والتعديل (1) وقد روي حديث إسماعيل بن سالم هذا عن هشيم أبو عبيد القاسم بن سلام (2) قال بعد أن أورد حديث حماد بن سلمة عن أبي حمزة الذي سنعود إليه بعد قليل: حدثنا هشيم , قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم , عن الشعبي بمثل ذلك. ورواه ابن عبد البر (3) بعد أن ذكر حديث بيان , فقال نقلًا عن إسماعيل القاضي: وحدثنا أبو بكر وعلي , قالا: حدثنا ابن فضيل , عن بيان , عن عامر قال: في المال حق سوى الزكاة. وزاد فيه إسماعيل بن سالم , عن الشعبي قال: تصل القرابة وتعطي المساكين. وروى ابن زنجويه (4) هذا الحديث بإسناد آخر , فقال: حدثنا محمد بن يوسف - يعني الفريابي أحد شيوخ البخاري - أخبرنا يونس بن أبي إسحاق - يعني السبيعي , روى عنه مسلم والأربعة - قال: سمعت عامرًا الشعبي وأبا إسحاق يقولان: على صاحب المال حق في الزكاة. وبيان هو ابن بشر البجلي , روى عنه الجماعة , وهو غير مكثر , ولم يغمز فيه أحد (5)   (1) التاريخ الكبير. ج: 8. ص: 242 وتاريخ الأمم والملوك ج: ا. ص: 186 و187 وج: 3. ص: 216 والجرح والتعديل. ج: 9. ص: 115 وتاريخ بغداد ج: 14. ص: 85 وتذكرة الحفاظ. ج: ا. ص: 148 و149 وسير أعلام النبلاء ج: 8. ص: 287 وما بعدها وتهذيب التهذيب. ج: 11. ص: 59 وما بعدها. (2) الأموال. ص: 499. ح: 929. (3) التمهيد. ج: 4. ص: 212. (4) الأموال ج: 2. ص: 792. ح: 1370. (5) انظر في ترجمته مثلًا: ابن حجر تهذبب التهذيب. ج: 1. ص: 506. ترجمة: 941. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1079 أما حديث أبي حمزة الذي نناقشه ومن أجله عرضنا إلى حديث إسماعيل بن سالم الأسدي وبيان البجلي - فقد رواه غير الترمذي وابن كثير - أبو عبيد عن طريق حماد بن سلمة (1) , فقال: حدثنا حجاج , عن حماد بن سلمة , عن أبي حمزة قال: قلت للشعبي: إذا أديت زكاة مالي , أيطيب لي مال؟ قال: فقرأ علي هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . ورواه ابن زنجويه (2) بنفس السند واللفظ. ورواه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف (3) فقال: حدثنا ابن فضيل , عن بيان بن عامر قال: في المال حق سوى الزكاة. قد يقول ابن العربي أو من يظاهره: إن ما روي عن بيان وإسماعيل بن سالم ليس حديثًا مرفوعًا ولا موقوفًا ولا مرسلًا , وإنما هو أثر لعامر الشعبي , أو رأي لتابعي مهما يبلغ وقارًا وجلالة , فهو ليس أكبر من تابعي، ورأي التابعي وتأويله ليس مما يلزم , إنما هو اجتهاد رجل كغيره من الرجال، ألم يختلفوا في رأي الصحابي وتأويله , فما ظنك بالتابعي؟ وهذا اعتراض وجيه , لولا أنه مدفوع بما رواه أبو حمزة عن الشعبي مرفوعًا، فشهادة بيان وإسماعيل بن سالم أو خبرهما على الأقل دليل على أن حديث أبي حمزة لا مغمز فيه، قد يكون لهم رأي في أبي حمزة , ولكنا لا نعرف لهم رأيًا يعتد به في عامر الشعبي، ثم إن أبا حمزة لم يغمزوا فيه بشيء ذي بال , ولم يصفوه بقاسمة، فهو ليس من ذوي الأهواء الدعاة , ولا هو ممن عرف بالكذب والوضع، وأغلبهم تكلموا فيه , لم يزيدوا على أن ضعفوه إلا ما كان من ابن حبان في كتاب المجروحين (4) , إذ قال: ميمون التمار أبو حمزة القصاب الأعور من أهل الكوفة يروي عن إبراهيم النخعي والحسن , وروى عنه منصور بن المعتمر والثوري وحماد بن سلمة , كان فاحش الخطأ , كثير الوهم , يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الإثبات، تركه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين , سمعت الحنبلي يقول: سمعت أحمد بن زهير يقول: سألته عن أبي حمزة الذي روى عن إبراهيم , فقال: كوفي لا يكتب حديثه. لكن البخاري اقتصر في (التاريخ الكبير) (5) وفي (الضعفاء الصغير) (6) على القول: ميمون أبو حمزة القصاب الأعور التمار الكوفي، عن إبراهيم والحسن , روى عنه الثوري , ليس بذاك. واقتصر النسائي في كتاب الضعفاء والمتروكين (7) على القول: (ليس بثقة) . وذكره ابن عدي في (الكامل) (8) , فأسند عن عبد الله , عن أحمد القول: أبو حمزة صاحب إبراهيم متروك الحديث. كما أسند إلى يحيى بن معين قوله: (أبو حمزة القصاب الأعور ميمون صاحب إبراهيم وأبو حمزة ثابت، وحين سأله عباس عن الذين قال عنهم هذا القول: أيهما أحب إليك؟ قال: لا ذا , ولا ذاك. وأسند إلى البخاري قولًا يختلف شيئًا عما ورد في التاريخ الكبير، والضعفاء الصغير، فنقل عن الجنيدي أن البخاري قال: ميمون أبو حمزة القصاب الأعور -ويقال: التمار الكوفي - عن إبراهيم والحسن , روى عن الثوري , ليس بالقوي عندهم. قلت: هكذا ورد في النسخة المطبوعة التي بين أيدينا والصواب: روى عنه الثوري كما تقدم، ونلاحظ أن البخاري في هذه الرواية عبر بكلمة (ليس بالقوي عندهم) , وهي عبارة تؤذن بأنه لم يرد أن يتحمل تبعة تضعيفه. ثم أسند ابن عدي إلى حمزة أحاديث كعادته في تراجمه , ثم قال: ولميمون الأعور غير ما ذكرت , وأحاديثه التي يرويها بخاصة عن إبراهيم مما لا يتابع عليها، ونلاحظ أن ابن عدي حصر الاشتباه في مرويات أبي حمزة فيما يرويه عن النخعي.   (1) الأموال. ص: 594. ح: 928. (2) الأموال. ج: 2. ص: 790. ح: 1368. (3) ج: 3. ص: 191. (4) ج:3. ص: 5. (5) ج: 7. ص: 243. ترجمة: 1477. (6) ص: 244. ترجمة: 352. (7) ص: 231. ترجمة: 609. (8) ج: 6. ص: 2407. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1080 وذكره الدارقطني في الضعفاء والمتروكين (1) واقتصر على القول: كوفي عن النخعي والحسن , ولم يزد على ذلك شيئا. وقال العقيلي في كتاب الضعفاء الكبير (2) حدثنا محمد بن زكريا , قال: حدثنا محمد بن المثنى , قال: ما سمعت يحيى ولا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي - حدثا عن سفيان , عن أبي حمزة الأعور شيئًا قط. قلت: هذا يعني أن غيرهما من المحدثين عن سفيان لم يكونوا يمسكون عن التحديث بما يسنده إلى أبي حمزة. ثم قال العقيلي: حدثنا عبد الله بن أحمد , قال: سمعت أبي يقول: أبو حمزة ميمون صاحب إبراهيم متروك الحديث. وقال في موضع آخر: أبو حمزة ميمون الأعور روى عن إبراهيم , وهو ضعيف الحديث. قلت: كان أحمد رحمه الله - وهو الذي ينكر القول بالرأي - يستند بتضعيف أبي حمزة بتركه على أنه يروي عن إبراهيم، وإبراهيم بحق هو واضع المعالم الأولى لمنهج الرأي الذي اتسم به الفقه الحنفي، لكنا لو مضينا مع أحمد في نهجه في تجريح الرجال لاشتبهنا في عدد من الثقات ممن أمسك أحمد عن الرواية عنهم، أو أراب في الرواية عنهم , لأنهم ضعفوا في محنة خلق القرآن , ولم يضعف أحمد، بيد أننا نسأل أحمد نفسه كم في المسلمين مثل أحمد؟ ولو مضينا معه في هذا النهج لأسقطنا أغلب الرواة والمحدثين , وحجبنا عنهم التوثيق على أن أحمد مع ذلك روى عن عدد ممن تكلم فيهم غيره، وفي مسنده الكثير مما فيه مقال , وإن حاول ابن حجر رفع الشبه عمن تكلموا فيهم ممن أسند إليهم. ثم قال العقيلي: حدثنا محمد بن عفان , قال: سمعت يحيى وسئل عن أبي حمزة صاحب إبراهيم , فقال: كان اسمه ميمونا وليس بشيء. حدثنا محمد بن عيسى , قال: حدثنا عباس , قال: سمعت يحيى يقول: أبو حمزة صاحب إبراهيم اسمه ميمون، وأبو حمزة التمالي ثابت، قلت: أيهما أحب إليك؟ قال: لا ذا , ولا ذا. ثم أورد كلام البخاري في تاريخه , ولكن مسندًا سماعًا. ثم أسند إليه حديثًا، ثم قال: حدثنا هارون بن علي , قال: حدثنا علي بن مسلم الطوسي , قال: حدثنا أبو داود , عن أبي عوانة , قال: قلت للمغيرة - يعني ابن مقسم ويروي عنه الجماعة -: تروي عن أبي حمزة؟ قال: لم يكن يجترئ علي أن يحدثني إلا بحق.   (1) ص: 164. ترجمة: 129. (2) ج: 4. ص: 187. ترجمة: 1764. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1081 قلت: وهذا الذي روي عن المغيرة بن مقسم يشير إلى التشكيك في أن علة تضعيف أبي حمزة هي الوهم والخطأ، ويومئ إلى أنها الاتهام بالقول بالرأي وتدعيمه , فهو من تلامذة إبراهيم. وقال الرازي في الجرح والتعديل (1) : ميمون أبو حمزة القصاب الكوفي وهو الراعي الأعور , روى عن إبراهيم النخعي والشعبي , وروى عنه مسعر والثوري والحسن بن صالح وزهير بن معاوية وشريك وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وعبد الوارث ونصير بن أبي الأشعث القرادي وحسان بن إبراهيم وحاتم بن وردان. ثم أسند ما ذكره محمد بن المثنى عن يحيى. وروي عن عبد الله بن أحمد مكاتبة قول أحمد: ميمون صاحب إبراهيم ضعيف الحديث. قلت: تأمل جيدًا جملة: صاحب إبراهيم. ثم أسند إلى يحيى قوله في أبي حمزة: كوفي ليس بشيء , وهو الذي حدث عن إبراهيم وسعيد بن المسيب , لا يكتب حديثه. ثم قال: سألت أبي عن ميمون أبي حمزة القصاب , فقال: ليس بقوي يكتب حديثه. قلت: هذا يعني أن أبا حاتم لا يبالغ في تضعيفه , وأحسبه أدرك حوافز تضعيفه عند من سبقوه من النقدة , فتحرج من مسايرتهم. ونقل الذهبي في المغني (2) قول أبي حاتم هذا , واستهل به , ثم أتبعه بقول أحمد: متروك الحديث. وروي في الميزان (3) كلام أحمد ثم كلام الدارقطني ثم كلام أبي حاتم ثم كلام البخاري ثم كلام النسائي، ثم أسند إليه أحاديث على عادته فيمن ترجم لهم.   (1) ج: 8. ص: 235. ترجمة: 1061. (2) ج: 2. ص: 690. ترجمة: 6562. (3) ج: 4. ص: 234. ترجمة: 8969. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1082 وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب (1) - بعد أن ذكر ما قاله النقدة الأولون ونقلناه سابقًا -: قال الترمذي: قد تكلم فيه قبل حفظه. وقال في موضع آخر: ضعفه بعض أهل العلم. قلت: تأمل جيدا قوله: ضعفه بعض أهل العلم. ثم نقل عن الحاكم أبي أحمد قوله: حديثه ليس بالقائم , وعن الخطيب قوله: لا تقوم به حجة. قلت: هذا غير مستغرب من الخطيب - رحمه الله - فموقفه من أهل الرأي معروف. ثم قال: وقال يعقوب بن سفيان: ليس بمتروك الحديث , ولا هو حجة , وقال الساجي: ليس بذاك. هذه جملة صالحة , وأعتقد أنها شاملة لما قالوه عن أبي حمزة , وليس في أشدها ما يمكن أن يعتبر إيماء بتكذيبه. وأوضحها يفهم منه انقباضهم عنه لعلاقته بإبراهيم وانقباض بعضهم لما وصفوه به من الوهم والخطأ. لكن ما رواه بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي وإن لم يرق عن مستوى الأثر لتابعي جليل , يدل اتفاقه في الحكم واللفظ مع حديث أبي حمزة عن طريق الشعبي عن فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنهما من نبع واحد، وقد لا تنطبق عليه شروط المتابعة كما أرادها المحدثون , لكن تصحيح الترمذي له واستظهار ابن عبد البر به مساندة أو استشهادًا لحديث أبي حمزة المرفوع , يوحي بأن الإمامين الجليلين يعتبران ما رواه إسماعيل بن سالم وبيان بن بشر البجلي يرقى إلى مستوى حديثٍ , وليس مجرد أثر، وبذلك يصبح مع حديث أبي حمزة المرفوع صراحة حجة يعتمد عليها , ويرتكن إليها في الحكم بأن في المال حقًا غير الزكاة. على أن هذا الذي نقل عن الشعبي لم يكن مذهبًا للشعبي وحده , وإنما كان مذهبًا لعدد من معاصريه. قال ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف (2) حدثنا حفص , عن الأعمش , عن إبراهيم قال: كانوا يرون في أموالهم حقًا سوى الزكاة. حدثنا وكيع , عن سفيان , عن منصور وابن أبي نجيح , عن مجاهد {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (3) قال: سوى الزكاة.   (1) ج: 10. ص: 396. ترجمة: 711. (2) ج: 3. ص: 190. (3) المعارج: الآية رقم 24. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1083 حدثنا معاذ قال: حدثنا حاتم بن أبي صغيرة أبو يونس , قال: حدثنا رباح , عن عبيدة , عن قزعة قال: قلت لابن عمر: إن لي مالًا فما تأمرني؟ إلى من أدفع زكاته؟ قال: ادفعها إلى ولي القوم - يعني الأمراء - ولكن في مالك حق سوى ذاك يا قزعة. حدثنا ابن علية , عن ابن أبي حيان قال: حدثني مزاحم بن زفر , قال: كنت جالسًا عند عطاء , فأتاه أعرابي , فسأله: إن لي إبلًا , فهل عليَّ فيها حق بعد الصدقة؟ قال: نعم. ثم قال: حدثنا عبد الأعلى , عن هشام , عن الحسن قال: في المال حق سوى الزكاة. ونقل ابن عبد البر في التمهيد (1) ثم قال: حدثنا خلف بن القاسم , قال: حدثنا الحسن بن رشيق , قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن زفر القاضي بمصر , قال: حدثنا محمد بن روح بن يزيد , قال: حدثنا عبد الملك قريب الأصمعي , قال: حدثنا المبارك بن فضالة , وقال: سمعت الحسن يحدث , عن قيس بن عاصم المنقري - وكان ممن عزل عن البصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني في وفد بني تميم سنة تسع فأسلم - قال: ((هذا سيد أهل الوبر)) , قال: قلت: يا رسول الله , ما خير المال؟ - يعني الإبل وكان ينصرف إليه المال عند العرب البدو - قال: ((نعم المال الأربعون , والأكثر الستون , وويل لأصحاب المئين , إلا من أدى حق الله في رسلها ونجدتها - يعني في الشدة والرخاء - وأفقر ظهرها , وأطرق فحلها , ومنح غزيرها , ونحر سمينها , فأطعم القانع والمعتر)) - وترك تمام الحديث. ثم قال ابن عبد البر: فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الماشية حقا سوى الزكاة , وهذا بيّن في حديث جابر أيضًا. حدثنا سعيد بن نصر. حدثنا قاسم بن أصبغ. حدثنا ابن وضاح. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة , قال: حدثنا يعلى بن عبيد , عن عبد الملك بن أبي سليمان , عن أبي الزبير , عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها , إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر - أي: بمستوى واسع أملس من الأرض - تطؤه ذات الظلف بظلفها , وتنطحه ذات القرن بقرنها , ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن. قالوا: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: إطراق فحلها , وإعارة دلوها , ومنحها وحلبها على الماء وحملٌ عليها في سبيل الله)) .   (1) ج: 4. ص: 212 وما بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1084 وقبل أن نستأنف متابعة آراء أئمة التفسير من السلف والمحدثين في تفسير قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} الآية. وبعض آيات على شاكلتها، ننقل عن ابن حزم (1) كلامًا شريفًا أوجز فيه - إيجازًا محيطًا - آراء ومواقف الصحابة والتابعين من الحقوق الواجبة في المال غير الزكاة ومحاجة أنكروها , قال رحمه الله: وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم , ويجبرهم السلطان على ذلك - تأمل جيدًا قوله: ويجبرهم السلطان على ذلك - إن لم تقم الزكوات بضم ولا في سائر أموال المسلمين بهم - هذه العبارة غير واضحة - فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك , وبه سكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة. برهان ذلك قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} (2) وقال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (3) فأوجب تعالى حق المساكين وابن السبيل وما ملكت اليمين مع حق ذي القربى، وافترض الإحسان إلى الأبوين وذي القربى والمساكين والجار وما ملكت اليمين , والإحسان يقتضي كل ما ذكرنا , ومنعه إساءة ولا شك. وقال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} (4) فقارن الله تعالى إطعام المسكين بوجوب الصلاة. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة في غاية الصحة أنه قال: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) قال عبد الرزاق (المصنف ج: 11. ص 298. ح: 20589) : أخبرنا معمر , عن الزهري قال: حدثني أبو سلمة , عن أبي هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قبل الحسن بن علي والأقرع بن حابس التميمي جالس , فقال الأقرع: يا رسول الله , إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم إنسانًا قط. قال: فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: ((إن من لا يرحم لا يرحم)) . وقال أحمد (ج: 2. ص: 228) : أخبرنا هشيم عن الزهري , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة قال: دخل عيينة بن حصن على رسول الله صلى الله عليه وسلم , فرآه يقبل حسنًا أو حسينًا , فقال له: لا تقبله يا رسول الله , لقد ولد لي عشرة ما قبلت أحدًا منهم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من لا يرحم لا يرحم)) .   (1) المحلى. ج: 6. ص: 156 وما بعدها المسألة: 527. (2) الآية رقم: (26) من سورة الإسراء، والآية رقم: (38) من سورة الروم (فآتي) . (3) الآية رقم: (36) من سورة النساء. (4) الآية رقم: (43) و (44) من سورة المدثر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1085 وقال (المصنف ج: 8 ص: 241) : حدثنا سفيان , عن الزهري , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة أبصر النبي صلى الله عليه وسلم الأقرع يقبل حسنًا , فقال: لي عشرة من الولد , ما قبلت أحدًا منهم. فقال له: ((من لا يرحم لا يرحم)) . وقال (المصنف. ص: 269) : حدثنا عبد الرزاق. أخبرنا معمر , عن الزهري. حدثني أبو سلمة , عن أبي هريرة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الحسين بن علي - رضي الله عنهما - والأقرع ابن حابس التميمي جالس , وقال الأقرع: يا رسول الله , إن لي عشرة من الولد ما قبلت إنسانًا منهم قط , قال: فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: ((إن من لا يرحم لا يرحم)) . وقال (المصنف ص: 514) : حدثنا محمد بن أبي حفصة , عن ابن شهاب , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل الحسن بن علي - رضي الله عنهما - فقال الأقرع ابن حابس: إن لي عشرة من الولد , ما قبلت أحدًا منهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم لا يرحم)) . وقال (المصنف. ج: 4. ص: 358) : حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة , عن سماك بن حرب , عن عبيد الله بن جرير قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقلت: أبايعك على الإسلام , فقبض يده , فقال: ((النصح لكل مسلم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) . وقال (المصنف. ص: 360) : حدثنا يزيد. حدثنا إسماعيل بن أبي خالد , عن قيس بن أبي حازم قال: قال جرير: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) . وقال (المصنف. ص: 361) : حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة قال: سمعت أبا إسحاق قال: كان جرير بن عبد لله في بعث بأرمينيا قال: فأصابتهم مخمصة ومجاعة , قال: فكتب جرير إلى معاوية: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لم يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) قال: فأرسل إليه فأتاه , فقال: أنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. فأقفلهم ومتعهم. قال أبو إسحاق: وكان أبي في ذلك الجيش , فجاء بقطيفة مما متعه معاوية. وقال (المصنف. ص: 362) : حدثنا أبو معاوية وهو الضرير. حدثنا الأعمش , عن زيد بن وهب , عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1086 وقال (المصنف 8 ص: 365) : حدثنا أبو أحمد , حدثنا إسرائيل , عن أبي إسحاق , عن أبيه جرير , قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) . وقال (المصنف ص 366) : حدثنا روح. حدثنا شعبة قال: سمعت سماك بن حرب قال: سمعت عبد الله بن عمير قال: وكان قائد الأعشى في الجاهلية يحدث , عن جرير قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم , فقلت: أبايعك على الإسلام , قال: فقبض يده , وقال: ((النصح لكل مسلم)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) . حدثنا يحيى بن آدم , حدثنا إسرائيل , عن أبي إسحاق , عن عبد الله بن جرير , عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) . وقال البخاري (الجامع الصحيح. ج: 7. ص: 78) : حدثنا عمرو بن حفص , حدثنا أبي. حدثنا الأعمش قال: حدثني زيد بن وهب , قال: سمعت جرير بن عبد الله , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لا يرحم لا يرحم)) . وقال (الجامع الصحيح. ج: 8 ص: 165) : حدثنا محمد. أخبرنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن زيد ابن وهب وأبي ظبيان , عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس)) . وقال مسلم (الصحيح على هامش شرح النووي. ج: 15. ص: 76 و77) : حدثني عمرو الناقد وابن أبي عمر جميعًا , عن سفيان , قال عمرو: حدثنا سفيان بن عيينة , عن الزهري , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة , أن الأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن , فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحدًا منهم , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنه من لا يرحم لا يرحم)) . حدثنا عبد بن حميد. أخبرنا عبد الرزاق , أخبرنا معمر , عن الزهري، حدثني أبو سلمة , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم ... مثله. وحدثنا زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم , كلاهما عن جرير. وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعلي بن خشرم , قالا: أخبرنا عيسى بن يونس. وحدثنا أبو كريب محمد بن العلاء. حدثنا أبو معاوية. وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص – يعني ابن غياث - كلهم عن زيد ابن وهب وأبي ظبيان , عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) . وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا وكيع وعبد الله بن نمير , عن إسماعيل , عن قيس , عن جرير , عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن أبي عمر وأحمد بن عبيدة , قالوا: حدثنا سفيان , عن عمرو , عن نافع بن جبير , عن جرير , عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الأعمش. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1087 وقال الترمذي (ج: 4. ص 318. ح: 1911) : حدثنا ابن أبي عمر وسعيد بن أبي عبد الرحمن , قالا: حدثنا سفيان , عن الزهري , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة قال: أبصر الأقرع بن حابس النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقبل الحسن , قال ابن أبي عمر: الحسين والحسن , فقال: إن لي من الولد عشرة ما قبلت أحدًا منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه لا يرحم من لا يرحم)) . وتعقبه بقوله: وفي الباب عن أنس وعائشة. ثم قال: وهذا حديث حسن صحيح. وقال الترمذي (ص: 323. ح: 1923) : حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد , عن إسماعيل بن أبي خالد , حدثنا قيس. حدثنا جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) . وتعقبه بقوله: هذا حديث حسن صحيح , وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف وأبى سعيد وابن عمير وأبي هريرة وعبد الله بن عمر. وقال أبو داود (السنن. ج. ص: 355. ح 5318) : حدثنا مسدد , حدثنا سفيان , عن الزهري , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة , أن الأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقبل حسينا , فقال: إن لي عشرة من الولد ما فعلت هذا بواحد منهم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم لا يرحم)) . وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 1. ص: 341 ح: 458) : أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي , قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم , قال: أنبأنا سفيان , عن الزهري , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة قال: أبصر حابس بن الأقرع التميمي النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن بن علي , فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحدًا منهم , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم لا يرحم)) . وقال (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 445. ح: 5567) : أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة , قال: حدثنا بن أبي السري , قال: حدثنا عبد الرزاق , قال: حدثنا معمر , عن أبي هريرة , وأورد الحديث الذي نقلنا آنفًا عن عبد الرزاق. وقال (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: ج: ا. ص: 343. ح: 464) : أخبرنا أبو عروبة , قال: أخبرنا أحمد ابن المقدم العجلي , قال: حدثنا خالد بن الحارث , قال: حدثنا شعبة , قال: حدثنا سليمان , قال: سمعت أبا ظبيان قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) . وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 8. ص: 161) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو , قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب. حدثنا أحمد بن عبد الجبار. حدثنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن أبي ظبيان وزيد بن وهب , عن جرير بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم فال: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) . ومن كان على فضلة ورأى المسلم أخاه جائعًا عريانًا ضائعًا فلم يغثه فما رحمه بلا شك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1088 وهذا خبر رواه نافع بن جبير بن مطعم وقيس بن أبي حازم وأبي ظبيان وزيد بن وهب نافع بن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل النوفلي أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله المدني، ذكر ابن حجر (تهذيب التهذيب ج: 10. ص: 404 ترجمة: 727) أنه روى , عن أبيه والعباس بن عبد المطلب والزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب ورافع بن خديج وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وعاثشة وأم سلمة وجملة غيرهم من الصحابة , وعنه عروة بن الزبير والزهري وحبيب بن أبي ثابت وأبو الزبير وعمرو بن دينار وآخرون. وثقه كل من العجلي وأبي زرعة وابن خراش وابن حبان , وقال: إنه كان من خيار الناس , وكان يحج ماشيا وناقته تقاد , وذكروه أصحاب زيد بن ثابت الذين كانوا يأخذون عنه ويفتون بفتواه. توفي رحمه الله قيل: في خلافة سليمان بن عبد الملك، وعن ابن أبي الزناد: سنة تسع وتسعين. قيس بن أبي حازم: قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 8. ص: 386 ترجمة: 689) واسمه - يعني أبا حازم - حصين بن عوف , ويقال: عوف بن عبد الحارث بن عوف البجلي الأخمس أبو عبد الله الكوفي , أدرك الجاهلية , ورحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه , فقبض وهو في الطريق , وأبوه له صحبة , ويقال: إن لقيس رؤية لم يثبت. وروى عن أبيه وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف. وقيل: لم يسمع منه , وأبي عبيدة وبلال مولى أبي بكر ومعاذ وخالد بن الوليد وابن مسعود وطائفة غيرهم من الصحابة , وأرسل عن ابن رواحة , روى عنه طائفة من التابعين , منهم الأعمش. قال ابن عيينة: ما كان بالكوفة أحد أروى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قيس. وقال الآجري عن أبي داود: أجود التابعين إسنادا قيس بن أبي حازم , روى عنه تسعة من العشرة , ولم يرو عن عبد الرحمن بن عوف، ويقال: إنه ليس أحد من التابعين جمع أن روى عن العشرة مثله إلا عبد الرحمن بن عوف , فإنا لا نعلمه روى عنه شيئًا. ثم قد روى بعد العشرة عن جماعة من الصحابة وكبرائهم , وهو متقن الرواية , ومع ذلك تكلم فيه بعضهم , فمنهم من اشتد عليه , وزعم أن له مناكير , ومنهم من كان أخف حدة , فوصف بعض أحاديثه بالغرائب , ويظهر أن مرد ذلك إلى نفر من الكوفين , فقد قالوا: إنه كان يحمل على علي , والمشهور أنه كان يقدم عثمان , ولذلك تجنب كثير من قدماء الكوفيين الرواية عنه , ولكن ابن خراش وهو كوفي جليل قال: ليس في التابعين أحد روى عن العشرة إلا قيس بن حازم وفضله ابن معين عن الزهري , ويقال: إنه عاش حتى تجاوز المائة بسنين كثيرة , ويقال: إنه اختلط بآخرة , واختلفوا في تاريخ وفاته ما بين سنتي أربع وثمانين وأربع وتسعين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1089 أبو ظبيان حصين بن جندب بن الحارث الجنبي (بفتح الميم وسكون النون ثم موحدة) الكوفي، قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 2. ص: 379 وما بعدها. ترجمة: 645) , روى عن عمر وعلي وابن مسعود وسلمان وأسامة بن زيد وعمار وحذيفة وأبي موسى وابن عباس وابن عمر وعائشة وغيرهم من الصحابة ومن التابعين عن علقمة وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ومحمد بن سعد بن أبي وقاص وغيرهم , وعنه ابنه قابوس وأبو إسحاق السبيعي وسلمة بن كهيل والأعثر وآخرون , وثقه كل من أبي معين والعجلي وأبي زرعة والنسائي والدارقطنى. توفي حوالى سنة تسع وثمانين أو تسعين. زيد بن وهب الجهني أبو سليمان الكوفي , قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 3. ص: 427. ترجمة: 781) : رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فقبض وهو في الطريق. وروى عن عمر وعثمان وعلي وأبي ذر وابن مسعود وحذيفة وأبي الدرداء وأبي موسى وغيرهم , وعنه أبو إسحاق السبيعي وإسماعيل بن أبي خالد والحكم بن عتيبة والأعمش ومنصور وجماعة آخرون. قال الأعمش لزهير: إذا حدثك زيد بن وهب عن أحد , فكأنك سمعته من الذي حدثك عنه، ووثقه ابن معين وابن خراش، وذكر ابن سعد أنه توفي بولاية الحجاج بعد الجماجم. وقال أبو بكر بن منجويه: سنة ست وتسعين , وكذلك ابن حبان في الثقات، رحمه الله رحمة واسعة. وجرير بن عبد الله بن جابر البجلي القسرى أبو عمرو، وقيل: أبو عبد الله اليماني , قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 2. ص: 73. ترجمة: 115) روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر ومعاوية , وعنه أولاده المنذر وعبيد الله وأيوب وإبراهيم وابن ابنه أبو زرعة بن عمرو , وأنس وأبو وائل وزيد بن وهب وابن علاقة والشعبي وأبو ظبيان وغيرهم، أسلم في السنة التي لحق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى , ونزل الكوفة، ثم انتقل منها إلى قرقيسيا فنزلها , وقال: لا أقيم ببلدة يشتم فيها عثمان. وقال جرير: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت , ولا رآني إلا تبسم. رواه الشيخان وغيرهم , وكان جميلًا. وقال له عمر بن الخطاب: نعم السيد كنت في الجاهلية , ونعم السيد أنت في الإسلام، وقيل: مات سنة إحدى وخمسين وقيل غير ذلك، رضي الله عنه وأرضاه. , عن جرير بن عبد الله , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1090 وروى أيضًا معناه الزهري عن أبي سلمة , عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد. حدثنا إبراهيم بن أحمد. حدثنا الفربري. حدثنا البخاري. حدثنا موسى بن إسماعيل - هو التبوذكي - حدثنا المعتمر - هو ابن سليمان - عن أبيه. حدثنا أبو عثمان النهدي , أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق حدثه ((أن أصحاب الصفة كانوا ناسًا فقراء , وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كان عنده طعام اثنين فيذهب بثالث , ومن عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس)) قال مالك (الموطأ. ص: 802. ح: 81) عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((طعام الاثنين كافي الثلاثة وطعام الثلاثة كافي الأربعة)) . وقال أحمد (ج: 2. ص: 244 و407) : حدثنا سفيان , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((طعام الاثنين كافي الثلاثة , وطعام الثلاثة يكفي الأربعة , إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارًا , فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش والدواب تتقحم فيها , فأنا آخذ بحجزكم , وأنتم تواقعون فيها , ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بنيانا , فأحسنه وأكمله وأجمله , فجعل الناس يطيفون به يقولون: ما رأينا بنيانًا أحسن من هذا , إلا هذه الثلمة فأنا تلك الثلمة)) . وقيل لسفيان: من يذكر هذا؟ فقال: أبو الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة. حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة , عن علي بن زيد , عمن سمع أبا هريرة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((طعام واحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة)) . وقال أحمد (ج: 3. ص: 301 و315 و382) : حدثنا سفيان وعبد الرحمن , عن سفيان , عن أبي الزبير , عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة , وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1091 وحدثنا أبو معاوية. حدثنا الأعمش , عن أبي سفيان , عن جابر قال: قال رسول الله: ((طعام الواحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة)) . وحدثنا روح , حدثنا ابن جريج. أخبرني أبو الزبير , أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((طعام الواحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة , وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) . وقال ابن حبان (الثقات. ج: 7. ص: 311 ح: 5214) : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن موسى , قال: حدثنا عمرو بن علي بن بحر , قال: حدثنا أبو عاصم , عن ابن جريج , قال: أخبرني أبو الزبير , قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ((طعام الواحد يكفى الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة , وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) . وقال البخاري (الجامع الصحيح. ج: 6. ص: 200) : حدثنا عبد الله بن يوسف. أخبرنا مالك. وحدثنا إسماعيل. حدثنى مالك , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الاثنين كافي الثلاثة , وطعام الثلاثة كافي الأربعة)) . وقال مسلم (على هامش شرحه للنووي. ج: 14. ص: 22 و23) : حدثنا يحيى بن يحيى , قال: قرأت على مالك , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الاثنين كافي الثلاثة , وطعام الثلاثة كافي الأربعة)) . حدثنا إسحاق بن إبراهيم. أخبرنا روح بن عبادة. وحدثني يحيى بن حبيب. حدثنا روح. حدثنا ابن جريج , أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((طعام الواحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة , وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) . وفي رواية إسحاق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يذكر سمعت. حدثنى ابن نمير. حدثنا أبي. حدثنا سفيان. وحدثنى محمد بن المثنى. حدثنا عبد الرحمن بن سفيان , عن جابر , عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن جريج. وحدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة أبو كريب , وإسحاق بن إبراهيم. قال أبو بكر وأبو كريب: حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن أبي سفيان , عن جابر قال: قال رسول الله: ((طعام الواحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة)) . حدثنا قتيبة بن سعيد وعثمان بن أبي شيبة , قالا: حدثنا جرير , عن الأعمش , عن أبي سفيان , عن جابر , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((طعام الرجل يكفي الرجلين , وطعام الرجلين يكفي أربعة , وطعام أربعة يكفي ثمانية)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1092 وقال الترمذي (الجامع الصحيح. ج: 4. ص: 267. ح: 1820) : حدثنا الأنصاري. حدثنا معن. حدثنا مالك. وحدثنا قتيبة , عن مالك , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: ((طعام الاثنين كافي الثلاثة , وطعام الثلاثة كافي الأربعة)) . وتعقبه بقوله: وفي الباب عن جابر وابن عمر. ثم قال: هذا حديث حسن صحيح , روى جابر وابن عمر , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((طعام الواحد يكفى الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة , وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) . وحدثنا محمد بن بشار. حدثنا محمد بن مهدي , عن سفيان , عن الأعمش , عن أبي سفيان , عن جابر , عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا. وقال ابن ماجه (السنن. ج: 2. ص: 1084. ح: 3254 و3255) : حدثنا محمد بن عبد الله الرقي. حدثنا يحيى بن زياد الأسدي. أنبأنا ابن جريج. أنبأنا أبو الزبير , عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: ((طعام الواحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة , وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) . حدثنا الحسن بن علي الخلال. حدثنا الحسن بن موسي , حدثنا سعيد بن زيد. حدثنا عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير , قال: سمعت سالم بن عبد الله بن عمر , عن أبيه , عن جده عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن طعام الواحد يكفي الاثنين , وإن طعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة , وإن طعام الأربعة يكفي الخمسة والستة)) . وقال الدارمي (السنن. ج: 2. ص: 100) : أخبرنا أبو عاصم , عن ابن جريج , عن أبي الزبير , عن جابر , عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة , وطعام الأربعة بكفي الثمانية)) . وقال الطبراني (المعجم الكبير ج: 7. ص: 229. ح: 6958 و6963) : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري. حدثنا إبراهيم بن الوليد , عن محمد الأبلي. حدثنا أبي , حدثنا مبارك بن فضالة , عن الحسن , عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة)) . حدثنا عبد الله بن أحمد. حدثنا أيوب بن محمد الوزان , حدثنا فهير يحيى بن زياد – نظن أنه سقطت بين كلمة (فهير) وكلمة (يحيى بن زياد) كلمة هي (حدثنا) أو (أخبرنا) أو ما شاكلها – حدثنا ابن جريج. حدثنا أبو بكر , عن الحسن , عن سمرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((طعام الاثنين كافي الأربعة , وطعام الأربعة كافي الثمانية)) . وقال (المعجم الكبير. ج: 10. ص 126. ح 10092) : حدثنا جعفر بن أحمد السامي الكوفي، حدثنا أبو كريب، حدثنا مختار بن غسان، عن قيس بن الربيع، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1093 وقال (المعجم الكبير. ج 12. ص:320. ح: 13236) : حدثنا الحسن بن علي الفسوي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا أبو الربيع السمان، عن عمرو بن دينار، عن سالم، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية، اجتمعوا ولا تتفرقوا عنه)) . قلت: لقد رأيت أن أتتبع هذا الحديث بما يشبه الاستقراء لأسانيده وألفاظه دون اعتبار لتضعيفهم بعض المسندين، إذ إن الأسانيد والألفاظ على اختلافها وتباين رتبها يشهد بعضها لعبض، فلا مجال لمتابعتهم في تضعيف من ضعفوه، أو للتوقف عند كلامهم فيمن تكلموا فيه، فالحديث ثابت، وأكاد أجزم بأنه متواتر، وبعض من ضعفوه من مسنديه قد لا نتابعهم على تضعيفهم ولكن ليس هذا مجال مناقشة ذلك. أو كما قال، فهذا هو نفس قولنا. ومن طريق الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن الزهري، أن سالم بن عبد الله بن عمر أخبره، أن عبد الله بن عمر أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)) قال البخاري (الجامع الصحيح. ج: 3. ص: 98) : حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أن سالمًا أخبره، أن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) . وقال (الجامع الصحيح ج: 8. ص: 59) : حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أن سالمًا أخبره، أن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)) . وقال مسلم (الصحيح على هامش شرحه للنووي. ج: 9 ص: 199) : حدثني أبو الطاهر، أخبرنا عبد الله بن وهب، عن الليث وغيره، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، أنه سمع عقبة بن عامر على المنبر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر)) . وقال مسلم (الصحيح على هامش شرحه للنووي. ج: 16. ص 120 و121) : حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، حدثنا داود – يعني ابن قيس – عن أبي سعيد مولى عامر بن كريز، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ههنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1094 وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، حدثنا ابن وهب، عن أسامة - وهو ابن زيد - أنه سمع أبا سعيد مولى عبد الله بن عامر ابن كريز يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديث داود. زاد ونقص، ومما زاد فيه: ((إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأشار بأصابعه إلى صدره)) . وقال الترمذي (الجامع الصحيح. ج: 4. ص: 34 و35. ح: 426) : حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن رسول الله قال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة.)) وتعقبه بقوله: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال أحمد (المسند. ج: 4. ص: 79) : حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا يزيد بن هارون، قال: أنبأنا إسرئيل بن يونس بن أبي إسحاق، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة، قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج الناس أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، فخلى عنه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: ((أنت كنت أبرهم وأصدقهم، صدقت المسلم أخو المسلم)) ، حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا الوليد بن القاسم وأسود بن عامر، قالا: حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره. وقال أبو داود (السنن. ج: 3. ص: 224. ح: 3256) : حدثنا عمرو بن محمد الناقد، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة، قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، فخلى سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، قال: ((صدقت المسلم أخو المسلم)) . وقال (السنن. ج: 4. ص: 273. ح: 4893) : حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه، فإن الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة)) . وقال ابن ماجه (السنن. ج:1. ص: 685. ح: 2119) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل. وحدثنا يحيى بن حكيم، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج الناس، أن يحلفوا، فحلفت أنا أنه أخي، فخلى سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا، وحلفت أنا أنه أخي، فقال: ((صدقت المسلم أخو المسلم)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1095 وقال (السنن. ج: 2. ص: 755. ح: 2246) : حدثنا محمد بن بشار، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي: سمعت يحيى بن أيوب يحدث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا فيه عيب إلا بيّنه له)) . وقال الطبراني (المعجم الكبير. ج: 7. ص: 89. ح: 6464 و6465) : حدثنا حفص بن عمر الرقي، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة، قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، وحلفت أنا أنه أخي، فقال: ((صدقت المسلم أخو المسلم)) ، حدثنا فضيل بن محمد الملطي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، فحلفت أنه أخي، فخلوا سبيله، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ((صدقت المسلم أخو المسلم)) . وقال (المعجم الكبير. ج: 17. ص: 316 و317. الأحاديث: 873 و876 و877) : حدثنا مطلب بن شعيب الأزدي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن أخو المؤمن، لا يحل لمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه حتى يذر، ولا يخطب على خطبته حتى يذر)) . حدثنا مطلب بن شعيب الأزدي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم)) . حدثنا أحمد بن زهير التستري، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا وهب بن جرير، حدثني أبي. عن يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم إن باع من أخيه شيئًا فيه عيب إلا يبينه له)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1096 وقال الشهاب القضاعي (مسند شهاب. ج: 1. ص: 132 و133. ح: 168 و169) : أخبرنا عبد الرحمن بن عمر النجيبي، حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد، حدثنا إبراهيم الحربي، حدثنا الوليد بن صالح، حدثنا الليث بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه)) ، أنبأنا أبو الحسن علي بن موسى السمسار بدمشق، حدثنا أبو زيد محمد بن أحمد المروزي، أنبأنا محمد بن يوسف الفربري، أنبأنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا يحيى بن بكير.، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أن سالمًا أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة)) . من تركه يجوع ويعرى - وهو قادر على إطعامه وكسوته - فقد أسلمه. حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا أحمد بن فتح، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى، حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا أحمد بن علي، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا أبو الأشهب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد، فليعد به على من لا زاد له. قال: فذكر من أصناف ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل)) قال مسلم (الصحيح على هامش شرح النووي. ج: 12. ص: 23) : حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا أبو الأشهب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له. قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1097 وقال أبو داود (السنن. ج: ص: 125 و126. ح: 1663) : حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي وموسى بن إسماعيل، قالا: حدثنا أبو الأشهب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، إذ جاء رجل على ناقة له، فجعل يصرفها يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان عنده فضل ظهر، فليعد به عل من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له. حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا في فضل)) . وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 392. ح: 5395) : أخبرنا أبو يعلى، حدثنا شيبان بن أبي شيبة، حدثنا أبو الأشهب، حدثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل على راحلته، قال: فجعل يضرب يمينًا وشمالًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد، فليعد به على من لا زاد. ذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أن لا حق لأحد منا في فضل)) . وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 4. ص: 182) : أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، أخبرني أبو النضر الفقيه، حدثنا أبو عبد الله محمد بن نصر الإمام وأحمد بن النضر بن عبد الوهاب أبو الفضل. قالا: حدثنا شيبان بن أبي شيبة الأيلي، حدثنا أبو الأشهب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يضرب يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان معه فضل من ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له. قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا في فضل)) . وهذا إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - يخبر بذلك أبو سعيد، وبكل ما في هذا الخبر نقول: ومن طريق أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أطعموا الجائع وفكوا العاني)) . والنصوص من القرآن والأحاديث الصحاح في هذا تكثر جدا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1098 وروينا عن طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن حبيب بن ثابت، عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين. قال ابن زنجويه (الأموال. ج: 2. ص: 789. الأثر: 1364) : حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، قال عمر بن الخطاب: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول الأغنياء، فقسمتها في فقراء المهاجرين. قلت: يقتضي المنهاج الذي التزمناه في هذه التعاليق أن نقف عند تخريج الأثر، بيد أننا نجد أنفسنا في موقف يضطرنا إلى أن نخرج قليلًا عن هذا المنهاج، ذلك بأن محقق كتاب الأموال لابن زنجويه (شاكر ذيب فياض) حاول - كدأبه في كثير من مرويات ابن زنجويه - أن يبرز نفسه من نقده الحديث والآثار، فقال بعد أن أورد كلام ابن حزم في المحلى الذي أثبتناه في الأصل: (لكن حبيب بن أبي ثابت مدلس، يروي بالعنعنة، وهو من مدلسي الرتبة الثالثة، كما في طبقة المدلسين 13، وهي مرتبة من لم يحتج الأئمة بحديثهم، إلا إذا صرحوا بالسماع) . انتهى كلامه. ويظهر أن الرجل يحب أن ينطلق من ظواهر بعض أبجديات قواعد النقدة إلى مقعد الحكم على الأئمة، وهو منطلق عسير (مرتقى صعب) ، كان حريا أن يتحرج منه على الأقل توقيرًا لأئمة مكنهم علمهم المحيط المستوعب الواعي بقواعد الجرح والتعديل وضوابطه وطرائق استعمال تلك القواعد وموجباته وبالرجال وطبقاتهم ومقاماتهم من أمثال الذهبي والمزي إلى أن كان يحسب نفسه في طبقتهم، وذلك احتساب نشفق عليه من عواقبه. قال الذهبي - رحمه الله - وهو يترجم لحبيب (سير أعلام النبلاء. ج: 5. ص: 288. ترجمة: 137) ماملخصه: الإمام الحافظ فقيه الكوفة أبو يحيى القرشي الأسدي مولاهم، حدث عن ابن عمر وابن عباس وأم سلمة، وقيل: لم يسمع منهما، وحكيم بن حزام، وقيل: لم يسمع منه، وأنس بن مالك وزيد بن أرقم وأبي وائل وزيد بن وهب وعاصم بن ضمرة وأبي الطفيل وأبي عبد الرحمن السلمي وإبراهيم بن سعد بن أبي وقاص وذر الهمداني وأبي صالح ذكوان والسائب بن فروخ وطاوس وأبي المنهال عبد الرحمن بن مطعم ونافع بن جبير وكريب وعروة في المستحاضة، وقيل: بل هو عروة المزني، وكان من أئمة العلم، روى عنه عطاء بن أبي رباح وحصين ومنصور والأعمش وأبو حصين وأبو الزبير وطائفة من الكبار وابن جريج وحاتم بن أبي صغيرة ومسعر وعبد العزيز بن سياه وشعبة والثوري والمسعودي وقيس بن الربيع وحمزة الزيات وخلق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1099 قال ابن المدينى: له نحو مائتي حديث، وقال أحمد بن يونس، عن أبي بكر بن عياش: كان بالكوفة ثلاثة، ليس لهم رابع: حبيب بن أبي ثابت، والحكم، وحماد، كانوا من أصحاب الفتيا، ولم يكن أحد بالكوفة إلا يذل لحبيب، وقال أحمد العجلي: كوفي تابعي ثقة، كان مفتي الكوفة قبل حماد بن أبي سليمان، وقال ابن المبارك، عن سفيان: حدثنا حبيب، عن أبي يحيى القتات، قال: قدمت الطائف مع حبيب بن أبي ثابت، فكأنما قدم عليهم نبي، وقال أحمد بن سعد بن أبي مريم، عن يحيى: ثقة حجة، فقيل ليحيى: حبيب ثبت؟ قال: نعم، إنما روى حديثين، ثم قال: أظن يحيى يريد منكرين، حديث ((تصلي المستحاضة وإن قطر الدم على الحصير)) وحديث ((القبلة للصائم)) . قلت: الحديث الأول أخرجه الدارقطنى والبيهقي والطحاوي وغيرهم. أما الحديث الثاني وصوابه: ((ترك الوضوء من القبلة)) - فقد رواه أبو داود والنسائي والترمذي والبيهقي والدارقطني. ثم قال الذهبي: وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، لم يسمع من أم سلمة. ثم ذكر كلامهم حول سماعه من بعض الصحابة. ثم نقل عن أبي بكر بن عياش ومحمد بن عبد الله بن نمير والبخاري أنه مات سنة تسع عشرة ومائة، وروى عن ابن سعد، عن الهيثم، عن يحيى بن سلمة، عن كهيل، مات سنة اثنتين وعشرين ومائة في ولاية يوسف بن عمر، ثم قال: كان من أبناء الثمانين، وهو ثقة بلا تردد، وقد تناكد الدولابي، فذكره في الضعفاء له، لمجرد قول ابن عون فيه: (كان أعور) ، وإنما هذا نعت لبصره، لا جرح له. ثم قال: قال زافر بن سليمان، عن أبي سنان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: من وضع جبينه لله، فقد برئ من الكبر. وقال أبو بكر بن عياش: رأيت حبيب بن أبي ثابت ساجدًا، فلو رأيته قلت: ميت. يعني من طول السجود، قلت: وإني لأستحيي أن أستشهد بهذا الحشد الكبير من أقوال المترجمين ورجال الطبقات ونقدة الرجال في إمام مثل حبيب بن أبي ثابت، بيد أني أنقل قول المزي رحمه الله (تهذب الكمال. ج: 5 ص: 358 وما بعدها. ترجمة: 1079) بعد أن ترجم له بما يشبه ترجمة الذهبي مؤكدًا ما رمز به في صدر الترجمة: روى له الجماعة. وقول ابن عدي رحمه الله (ج: 2 ص: 813 وما بعدها) بعد أن ترجم له، وأسند إليه أحاديث: (وحبيب بن أبي ثابت هو أشهر وأكثر حديثًا من أن أحتاج إلى أن أذكر من حديثه شيئًا، وإنما ذكرت هذا المقدار من رواية الثوري وشعبة عنه، وهو بشهرته مستغنى عن أن أذكر من أخباره أكثر من هذا، وقد حدث عنه الأئمة مثل الأعمش والثوري وشعبة وغيرهم، وهو ثقة حجة، كما قاله ابن معين، ولعل ليس في الكوفيين كبير أحد مثله لشهرته وصحة حديثه، وهو في أئمتهم يجمع حديثه) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1100 قلت: فهل بقي لمتحذلق أن يحاول التعريف بنفسه أو الظهور بظهور الناقد المجرح بالغمز فيما يرويه حبيب بعد مثل هذا القول من أئمة نقد الحديث والجرح والتعديل أمثال ابن عدي وابن معين والمزي والذهبي الذين أكدوا أنه حجة، ومعنى أنه حجة أنه مصدق فيما يرويه محتج بما يسنده، أيا كانت صيغة الإسناد، ومع ذلك يقول حضرة المعلق المحترم: (لكن حبيب بن أبي ثابت مدلس يروي بالعنعنة، وهو من مدلسي المرتبة الثالثة كما في طبقة المدلسين 13 وهي مرتبة من لم يحتج الأئمة بحديثهم إلا إذا صرحوا بالسماع) . ولو نشاء لوقفنا معه عند مقولاتهم في صيغة العنعنة وفي التدليس وطبقة المدلسين، نوضح له طبيعة تلك المقولات، وكيف ينبغي تطبيقها حتى ولو سلمت لهم. بيد أننا نشفق عليه من هذا الموقف، إلا أن يلهمه الله التوفيق، فيزداد من العلم الواعي المدرك لحقائق المقولات غير الواقف عند ظواهرها، ويومئذ إذا مد الله في العمر والتقينا على عمل، قد يكون لنا معه موقف. ولمن شاء الاستزادة من الاطلاع على ما ترجموا به لحبيب بن أبي ثابت أن يرجع إلى تعليق أخينا العلامة الدكتور بشار عواد معروف على ترجمته التي أشرنا إليها آنفًا في تهذيب المزي، فقد استقصى أو أوشك أن يستقصي مصادر ترجمته ومراجعها زاده الله توفيقًا. وهذا إسناد في غاية الصحة والجلالة. ومن طريق سعيد بن منصور، عن ابن شهاب، عن أبي عبد الله الثقفي، عن محمد بن علي بن الحسين، عن محمد بن علي بن أبي طالب، أنه سمع عليّ بن أبي طالب يقول: إن الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عروا أو جهدوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه. (1) وعن ابن عمر أنه قال: في مالك حق سوى الزكاة. اختلفت الروايات عن ابن عمر، وأشهرها أنه يرى أن المال الذي أديت زكاته ليس بكنز، لكن روي عنه ما يشبه في ظاهره أن يكون مغايرًا لهذا الرأي مثل أثر ابن حزم موضوع التعليق، والحديث الذي رواه ابن أبي شيبة، وهو يشبهه قال: (الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 191) : حدثنا معاذ، قال: حدثنا حاتم بن أبي صغيرة أبو يونس، قال: حدثنا رباح، عن عبيدة، عن قزعة قال: قلت لابن عمر: إن لي مالًا، فما تأمرني إلى من أدفع زكاته؟ قال: ادفعها إلى ولي القوم - يعني الأمراء - ولكن في مالك حق سوى الزكاة يا قزعة.   (1) لم أقف على من أخرجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1101 بيد أن التأمل في الروايتين عنه بوعي واستجلاء لمناطهما يهدي إلى أن ابن عمر - رضي الله عنه - يفرق بين اعتبار المال كنزًا وما أديت زكاته، ليس بكنز عنده، وبين القول بوجوب حقوق في المال ليست ثابتة في زمان أو محددة بمقدار، وإنما توجبها ظروف وأحداث وتعينها وتضع حدودها في نطاق اعتبار طاقة كل أحد من المسلمين، فالفارق بين الأمرين أن الزكاة تجب عند توفر نصاب معين وحلول وقت معين، كوقت الحصاد، أو دوران الحول. أما الحقوق الطارئة التي توجبها ظروف وتعين مقادرها مع اعتبار طاقة الفرد، فوجوبها لا يتوقف على توفر نصاب معين أو حلول وقت معين ثابت، ومقدارها لا يتحدد بحد معين ثابت، وإنما يتغير ويتفاوت طبقًا للظرف الموجب لها ولحال من وجبت عليه، وبهذا يتضح أنه فيما نسب إلى ابن عمر تغاير في جوهره، وإن تراءى كذلك في ظاهره. فتأمل. وعن عائشة أم المؤمنين والحسن بن علي وابن عمر أنهم قالوا كلهم لمن سألهم: إن كنت تسأل في دم موجع أو غرم مفظع أو فقر مدقع، فقد وجب حقك وقال ابن زنجويه (الأموال. ج: 3. ص: 1133. الأثر: 2104 و2105) : أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: جاء رجل إلى الحسن بن علي - عليه السلام - يسأله، فقال: إن كنت تسأل في فقر مدقع أو غرم موجع أو دم مفظع، فقد وجب حقك. قال: ما أسألك في شيء من هؤلاء. قال: فلا حق لك. فأتى ابن عمر فسأله، فقال له مثل ذلك. وحدثنا علي بن الحسن، عن ابن المبارك، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن حبال بن رفيدة التميمي، أن الحسن بن علي - عليه السلام - أتاه سائل، فقال: إن كنت تسأل عن غرم مفظع أو فقر مدقع أو دم موجع، فقد وجب حقك. قلت: تكلم بعضهم في أسانيد هذا الأثر، فغمزوا واحدًا منها بالانقطاع، وآخر بضعف بعض رواته، ولست أريد أن أقف عند مغامزهم، إن أريد إلا أن أوضح وهمًا وقع للذهبي - رحمه الله - في الميزان (ج: 1. ص: 448. ترجمة: 1680) في ترجمة حبال بن رفيدة، إذ قال: لا يعرف. قال البستي: فيه نظر. انتهى كلام الذهبي، رحمه الله. على حين أن حبال ترجم له ابن حبان في الثقات (ج: 4. ص: 193) ، فقال: حبال بن رفيدة التميمي يروي عن الحسن، هو الحبال بن أبي الحبال، روى عنه أبو إسحاق السبيعي، وترجم له الرازي في الجرح والتعديل (ج: 3. ص: 315. ترجمة: 1405) فقال: حبال بن رفيدة كوفي، روى عن الحسن بن علي ومسروق، روى عنه أبو إسحاق ويونس بن أبي إسحاق ويحيى بن عبد الله الجابر سمعت أبي يقول ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1102 ثم قال: ذكر أبي، عن أبي إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين أنه قال: حبال بن رفيدة ثقة. انتهى كلام الرازي. قلت: لكن لم أجد له ذكرًا في تاريخ ابن معين. فليحرر. وقال ابن زنجويه (الأموال. ج: 3. ص: 1133. الأثر: 2106) : أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا ابن ثوبان، حدثني من سمع الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس يسأله، فقال له ابن عباس: إن كنت تسأل في دم مفظع أو غرم مثقل أو فقر مجهد، حلت لك المسألة. ثم أتى ابن عمر فسأله، فقال له مثل ذلك. قلت: ولم نقف على ذكر لعائشة - رضي الله عنها - في مثل هذا الأثر، إلا ما جاء في كلام ابن حزم، وأحسبه وقف عليه، حيث لم أهتد إليه. وصح عن أبي عبيدة بن الجراح وثلاث مائة من الصحابة - رضي الله عنهم - أن زادهم فني، فأمرهم أبو عبيدة، فجمعوا أزوادهم في مزودين، وجعل يقوتهم أيامًا على السواء. وروى مالك في الموطأ (ص: 803) عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا قبل الساحل، فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلاثمائة، قال: وأنا فيهم، قال: فخرجنا، حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع ذلك كله، فكان مزودين من تمر، قال: فكان يقوتناه كل يوم قليلًا، حتى فني، ولم تصبنا منه إلا تمرة تمرة، فقلت: وما تفي تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حيث فنيت، قال: ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظرب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبتا، ثم أمر براحلة فرحلت، ثم مرت تحتهما، ولم تصبهما. وقد روى هذا الحديث كل من البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبي داود في مواضع مختلفة من كتبهم، لا نرى ما يدعو إلى نقل أسانيدهم كلها؛ لأن ذلك يطيل التعليق في غير طائل، حسبنا أن نشير إليها نقلًا عن المزي في (تحفة الأشراف. ج: 2. ص: 385) ، ففي ذلك إرشاد لمن يريد استقراءها، قال رحمه الله: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثًا قبل الساحل، وأمر عليهم أبا عبيدة، وهم ثلاثماثة ... الحديث. (خ) في الشركة (1: 1) ، عن عبد الله بن يوسف. وفي المغازي (66: 1) عن إسماعيل بن أويس، كلاهما عن مالك. وفي الجهاد (123) عن صدقة بن الفضل، عن عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، كلاهما عنه به. و (4: 5) عن محمد بن حاتم، عن ابن مهدي، عن مالك به. و (4: 6) عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير عنه به. في الزهد (99: 5) ، عن هناد بن السري، عن عبدة به. وقال: حسن صحيح. س في الصيد (35: 2) وفي السير (في الكبرى) ، عن محمد بن آدم، عن عبدة به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1103 و (في الكبرى) عن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك به. ق في الزهد (12: 5) ، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبدة به. وبعضهم يزيد على بعض الحديث. ووقع في بعض النسخ المتأخرة من ت: عن هشام بن عروة عن (أبيه) ، عن وهب بن كيسان. وهو وهم. وفي عدة من الأصول العتيقة: عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان، ليس فيه (عن أبيه) ، وهو الصواب، كما في رواية الباقين. وقد رواه أيضًا جميع مدوني السير، مثل ابن هشام، وأورده الذهبي مختصرًا في (سير أعلام النبلاء. ج: 1. ص: 20. ترجمة: 1) . وأحال المعلق على سيرة ابن هشام (ج: 2. ص: 632، 633) . فهذا إجماع مقطوع به من الصحابة - رضي الله عنهم - لا مخالف لهم منهم. وصح أن الشعبي ومجاهد وطاوس وغيرهم كلهم يقولون: في المال حق سوى الزكاة. وما نعلم من أحد منهم خلافا في هذا إلا عن الضحاك بن مزاحم، فإنه قال: نسخت الزكاة كل حق في المال. وما رواية الضحاك حجة قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 186) : حدثنا وكيع، عن سلمة، عن الضحاك قال: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن. وقال أبو عبيد (الأموال. ص: 499. الأثر: 930) : حدثنا مروان بن معاوية، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم قال: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن. وقال ابن زنجويه (الأموال. ج: 2. ص: 792) : أخبرنا أبو نعيم، أخبرنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك قال: نسخت الزكاة كل شيء في القرآن من الصدقة. أما قول ابن حزم يغفر الله له: (وما رواية الضحاك حجة فكيف رأيه؟) ، فإنما هو من بعض نزواته، وما أكثرها، يغفر الله له، ولئن كان بعضها مقبولًا، فإن منها ما كنا نود أن لو تحرج منه، فهو لا يتسق مع مثله من صدور العلماء والأئمة في التحقيق والاجتهاد، ولكن (جل من لعب فيه) ، ذلك بأن الضحاك بن مزاحم الهلالي - رحمه الله - أحد الصدور الأجلاء تكلموا في روايته، عن ابن عباس، واضطربت الرواية عنه في أنه رآه أو لم يره، وإنما يروي حديثه تدليسًا إذا أخذه عن سعيد بن جبير، ولكن ذلك لا يغمز في علمه وورعه، ولا ينزل به على أن يكون حجة. قال الذهبي - رحمه الله - (سير أعلام النبلاء. ج: 4. ص: 598. ترجمة: 238) : الضحاك بن مزاحم الهلالي أبو محمد، وقيل: أبو القاسم صاحب التفسير، كان من أوعية العلم، وليس بالمجود لحديثه، وهو صدوق في نفسه. ثم قال: حدث عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري وابن عمر وأنس بن مالك وعن الأسود وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس وطائفة، وبعضهم يقول: لم يلق ابن عباس، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1104 حدث عنه عمارة بن أبي حفصة وأبو سعد البقال وجويبر بن سعيد ومقاتل وعلي بن الحكم وأبو روق عطية وأبو جنب الكلبي يحيى بن أبي حية ونهشل بن سعيد وعمرو بن الرماح وعبد العزيز بن أبي الرواد وقرة بن خالد وآخرون. وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما، وحديثه في السنن، لا في الصحيحين. وقد ضعفه يحيى بن سعيد، وقيل: كان يدلس، وقيل: كان فقيه مكتب كبير إلى الغاية، فيه ثلاثة آلاف صبي، فكان يركب حمارًا، ويدور على الصبيان، وله باع كبير في التفسير والقصص. قال سفيان الثوري: كان الضحاك يعلم ولا يأخذ أجرًا. ثم ذكر الروايات المختلفة عنه حول رؤيته لابن عباس. ونقل قول القطان: الضحاك عندنا ضعيف. وذكر ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 4. ص: 453. ترجمة: 784) أن البخاري علق عنه في كتاب اللعان عند تفسير قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} . وفي تفسير سورة الرحمن. ونقل عن أبي نعيم قوله: مات سنة خمس ومائة، كما نقل توثيق العجلي والدارقطني له. قلت: ورجل من هذا الطراز من كبار التابعين لا ينبغي لامرئ أيا كان ومهما يبلغ من العلم والاجتهاد والرأي أن يتقول فيه إلا خيرًا، فما الذي يبقى لطالب العلم وطالب الحق من أسباب إلى ما يطلب إذا سمحنا لأنفسنا بالغمز في هؤلاء الأقطاب، ومرة أخرى يغفر الله لابن حزم. فكيف رأيه؟!. والعجب أن المحتج بهذا أول مخالف له، فيرى في المال حقوقًا سوى الزكاة، منها النفقات على الأبوين المحتاجين، وعلى الزوجة وعلى الرقيق، وعلى الحيوان والديون، فظهر تناقضهم. فإن قيل: فقد رويتم عن ابن أبي شيبة: حدثنا أبو الأحوص، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: من أدى زكاة ماله، فليس عليه جناح أن لا يتصدق (1)   (1) قال ابن شيبة (الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 191) : حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: من أدى زكاة ماله، فليس عليه جناح أن يتصدق. وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 4. ص: 133) : أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنبأنا أبو منصور النضروي، حدثنا أحمد بن نجدة، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: من أدى زكاة ماله، فلا جناح عليه أن لا يتصدق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1105 ومن طريق الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} نسختها العشر ونصف العشر قال ابن أبي شيبة: (الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 186) : حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} نسختها العشر ونصف العشر. وقال ابن زنجويه (الأموال. ج: 2. ص: 494 الأثر: 1375) : حدثنا يحيى، أخبرنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} - سورة الأنعام الآية رقم (141) - قال: العشر ونصف العشر. وقال أبو يوسف (الخراج. ص: 56) : حدثنا الحجاج بن أرطاة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن عبد الله بن عباس في قول الله عز وجل: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: العشر ونصف العشر. وقال يحيى بن آدم (الخراج. ص: 123. الأثر: 398) : حدثنا معاوية، عن حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: العشر ونصف العشر. وقال الطبري (جامع البيان. ج: 8. ص: 43) : حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: نسخها العشر ونصف العشر. وقال البيهقي (ج: 4. ص: 132) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر بن الحسن وأبو سعيد بن أبي عمرو، وقالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الحسن بن علي بن عفان، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: العشر ونصف العشر. كان ابن حزم يغفر الله له، له أن يتخير كلمة أدنى إلى اللياقة من كلمة (ساقطة) في وصف رواية مقسم، لأن مقسم روى عنه البخاري والأربعة، وإن تكلم فيه البعض على أن كلامهم لم يبلغ درجة (الإسقاط) ، وغاية أمره ما نقله ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 10. ص: 188 وما بعدها. ترجمة: 507) عن الساجي من قوله: (تكلم الناس في بعض رواياته، ومن ارتياب البعض أو إنكارهم في سماعه عن بعض الصحابة مثل أمهات المؤمنين أم سلمة وميمونة وعائشة، وقد ضعفه بعضهم؛ لأنه كان يقرأ من كتاب، أو على حد تعبيرهم في (مصحف) ، وكان ذلك يومئذ عندهم مغمزًا. وكان الأولى لابن حزم أن يقف عند سماع الحكم عن مقسم، فقد شككوا في معظم سماعه منه، حتى قال أحمد: لم يسمع الحكم من مقسم إلا أربعة أحاديث، وأما غير ذلك فأخذها من كتاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1106 وشكك شعبة أيضًا في بعض سماعات الحكم من مقسم. على أن الحكم روى عنه الجماعة، وكان من أوعية العلم، فلا ضير عليه أن يكون أخذ شيئًا من حديث مقسم من كتاب ثبت لديه أن ما ورد فيه عن مقسم صحيح، وقد يكون ناوله مقسم نفسه ذلك الكتاب، ويغفر الله لابن حزم، فلو ذهبنا مع تشكيكه وتشنجاته في بعض ما يروى وما ينقد، لفاتنا علم كثير. ثم إن مقسمًا لم ينفرد برواية هذا الأثر عن ابن عباس، بل رواه عنه أيضًا الحكم مباشرة من غير وساطة مقسم. قال يحيى بن آدم (الخراج. ص: 124. الأثر: 397) : حدثنا حفص بن غياث، عن الحجاج، عن الحكم، عن ابن عباس في قوله: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: نسختها العشر ونصف العشر. قلت لحفص في ما يختلف فيه المعنى، فسكت، قلت له: فسمعته يذكر فيه مقسم؟ قال: لا. ومع أننا لا نذهب في تأويل هذه الآية مذهب ابن عباس مما رواه الحكم مباشرة أو بواسطة مقسم، فإننا نتحرج أشد التحرج من أن نغمز في رواية الحكم أو مقسم لمجرد أن نعضد رأينا بالتشكيك فيما روى من غير رأينا، وإن كان ابن عباس، فابن عباس حبر الأمة ومن أكابر علماء الصحابة وعلى أقصى درجات الجلال والوقار، بيد أن رأيه مهما يبلغ إجلالنا وتوقيرنا له رأي بشر ما لم يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسبنا ذلك لنقول له: لك رأيك، بيد أننا لسنا ملزمين به، أما كان هذا الموقف أولى بابن حزم؟ يغفر الله لنا وله. فإن رواية مقسم ساقطة لضعفه وليس فيها - لو صحت - خلاف لقولنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1107 وأما رواية عكرمة، فإنما هي أن لا يتصدق تطوعًا، وهذا صحيح. وأما القيام بالمجهود، ففرض ودين، وليس صدقة تطوع. ويقولون: من عطش فخاف الموت، ففرض عليه أن يأخذ الماء حيث وجده، وأن يقاتل عليه. فأي فرق بين ما أباحوا له من القتال على ما يدفع به عن نفسه الموت من العطش وبين ما منعوه منه من القتال عن نفسه فيما يدفع به عنها الموت من الجوع أو العري؟! وهذا خلاف الإجماع والقرآن والسنن والقياس. ولا يحل لمسلم اضطر أن يأكل ميتة أو لحم خنزير وهو يجد طعامًا فيه فضل عن صاحبه أو لذمي، لأن فرضًا على صاحب الطعام إطعام الجائع، فإذا كان ذلك كذلك، فليس بمضطر إلى الميتة، ولا إلى لحم الخنزير، وبالله تعالى التوفيق. وله أن يقاتل على ذلك، فإن قتل، فعلى قاتله القود، وإن قتل المانع، فإلى لعنة الله؛ لأنه منع حقا، وهو طائفة باغية، قال تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ} (1) وما يمنع الحق باغ على أخيه الذي له الحق، وبهذا قاتل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - مانع الزكاة، وبالله تعالى التوفيق. قلت: لم أقف في هذا الشأن على تحقيق جامع شامل مثل هذا الذي دَبَّجه ابن حزم - رحمه الله - لذلك نقلته بكامله، وإن يكن على بعض الطول، وأحسبه يغني عن أي تحقيق آخر لأي فقيه غير ابن حزم، كذلك ننطلق منه إلى استئناف ما كنا بصدده من اقتباس آراء وروايات أئمة التفسير. وقال ابن عطية (2) وقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} الآية، هذه كلها حقوق في المال سوى الزكاة، وبها كمال البر، وقيل: هي الزكاة. ثم قال بعد أن ذكر قوله تعالى: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} . وذكر الزكاة هنا دليل على أن ما تقدم ليس الزكاة المفروضة. وقال القرطبي (3) قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} . استدل به من قال: إن في المال حقا سوى الزكاة، وبها كمال البر، وقيل: المراد الزكاة المفروضة، والأول أصح، لما أخرجه الدارقطني (4) عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في المال حقا غير الزكاة)) .   (1) الآية رقم: (9) من سورة الحجرات. (2) المحرر الوجيز. ج: 2. ص: 56 وما بعدها. (3) الجامع لأحكام القرآن. ج: 2. ص: 241 وما بعدها. (4) لم نقف عليه في مظانه ولعل هذا من أوهام السيوطي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1108 ثم تلا هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} إلى آخر الآية. وأخرجه ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه، وقال: هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله: وهو أصح. قلت - القائل القرطبي -: والحديث وإن كان فيه مقال، فقد دل على صحته معنى ما في هذه الآية نفسها من قوله تعالى: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} ، فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك كاد يكون تكرارًا، والله أعلم، واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها، قال مالك رحمه الله: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم (1) وهذا إجماع أيضًا، وهو يقوي ما اخترناه، والموفق الإله. وقال ابن حيان الأندلسي (2) بعد أن ذكر أقوال بعض المفسرين في تأويل هذه الآية وضعفها: وقيل: هو حق واجب غير الزكاة. قال الشعبي: (إن في المال حقا سوى الزكاة) وتلا هذه الآية، وقيل: رفع الحاجات الضرورية مثل إطعام الطعام للمضطر. فأما ما روي على أن الزكاة نسخت كل حق، فيحمل على الحقوق المقدرة، أما ما لا يكون مقدرًا، فغير منسوخ، فدليل وجوب التصدق عند الضروري ووجوب النفقة على الأقارب وعلى المملوك، وذلك كله غير مقدر. وقال الرازي (3) في معرض تفسير هذه الآية: (المسألة الثانية: اختلفوا في المراد من هذا الإيتاء، فقال قوم: إنها الزكاة. وهذا ضعيف؛ وذلك لأنه تعالى عطف الزكاة عليه بقوله: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} . ومن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يتغايرا، فثبت أن المراد به غير الزكاة، ثم إنه لا يخلو إما أن يكون من التطوعات أو من الواجبات، لا جائز أن يكون من التطوعات؛ لأنه تعالى قال في آخر الآية: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . وقف التقوى عليه، ولو كان ذلك ندبًا، لما وقف التقوى عليه.   (1) لم أقف على هذا الأثر عن مالك في مظانه من الموطأ (رواية يحيى بن يحيى) ولا من المدونة. (2) البحر المحيط. ج: 2. ص: 5. (3) التفسير الكبير. ج: 3. ص: 43 وما بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1109 فثبت أن هذا الإيتاء وإن كان غير الزكاة، إلا أنه من الواجبات، ثم فيه قولان: القول الأول: أنه عبارة عن دفع الحاجات الضرورية، مثل إطعام المضطر، ومما يدل على تحقق هذا الوجوب النص والمعقول. أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانا وجاره طاو إلى جنبه)) (1) وروي عن فاطمة بنت قيس: أن في المال حقًا سوى الزكاة، ثم تلت: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} . وحكي عن الشعبي أنه سئل عمن له مال فأدى زكاته، فهل عليه شيء سواه؟ فقال: نعم، يصل القرابة، ويعطي السائل، ثم تلا هذه الآية. وأما العقل فإنه لا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوه مقدار دفع الضرورة، ولم تكن الزكاة واجبة عليهم، ولو امتنعوا من الإعطاء جاز الأخذ منهم قهرًا، فهذا يدل على أن هذا الإيتاء واجب. واحتج من طعن في هذا القول بما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: إن الزكاة نسخت كل حق (2) والجواب من وجوه: الأول: أنه معارض بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((في المال حقوق سوى الزكاة)) (3) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من قول علي. والثاني: أجمعت على أنه إذا حضر المضطر، فإنه يجب أن يدفع إليه ما يدفع الضرر، وإن كان قد أدى الزكاة بالكمال. الثالث: المراد أن الزكاة نسخت الحقوق المقدرة، أما الذي لا يكون مقدرًا، فإنه غير منسوخ، بدليل أنه يلزم التصدق عن الضرورة، ويلزم النفقة على الأقارب وعلى المملوك، وذلك غير مقدر، فإن قيل: هب أنه صح هذا التأويل، ولكن ما الحكمة في هذا الترتيب؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها: أنه تعالى قدم الأولى فالأولى؛ لأن الفقير إذا كان قريبًا، فهو أولى بالصدقة من غيره، من حيث إنه يكون ذلك جامعًا بين الصلة والصدقة، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليه، وذلك يستحق به الإرث ويحجر بسببه على المالك في الوصية حتى لا يتمكن من الوصية إلا في الثلث، ولذلك كانت الوصية للأقارب من الواجبات على ما قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (4) الآية.   (1) لم نقف على تخريج لهذا الحديث في مدونات السنة المعتمدة ولا في غيرها. (2) لم أفف على هذا الأثر في مظانه. (3) انظر مثلًا حديث فاطمة بنت قيس الذي نقلناه آنفًا وما شاكله. (4) البقرة الآية رقم: (180) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1110 وإن كانت تلك الوصية قد صدرت منسوخة عند بعضهم، فلهذه الوجوه قدم ذا القربى، ثم أتبعه تعالى باليتامى؛ لأن الصغير الفقير الذي لا والد له ولا كاسب، فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه، ثم أتبعهم تعالى بذكر المساكين؛ لأن الحاجة قد تشتد بهم، ثم ذكر ابن السبيل، إذ قد تشتد حاجته عند اشتداد رغبته إلى أهله، ثم ذكر السائلين وفي الرقاب؛ لأن حاجتهما دون حاجة من تقدم ذكره. ثانيها: أن معرفة المرء بشدة حاجة هذه الفُرق تقوى وتضعف، فرتب تعالى ذكر هذه الفُرُق على هذا الوجه؛ لأن علمه بشدة حاجة من يقرب إليه أقرب، ثم بحاجة الأيتام، ثم بحاجة المساكين، ثم على هذا النسق. وثالثها: أن ذا القربى مسكين وله صفة زائدة تخصه؛ لأن شدة الحاجة فيه تغمه وتؤذي قلبه، ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير، فلذلك بدأ الله تعالى بذي القربى ثم باليتامى، وأخر المساكين؛ لأن الغمّ الحاصل بسبب عجز الصغار عن الطعام والشراب من الغم الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلها، فأما ابن السبيل فقد يكون غنيا وقد تشتد حاجته في الوقت، والسائل قد يكون غنيا ويظهر شدة الحاجة، وأخر المكاتب؛ لأن إزالة الرق ليست في محل الحاجة الشديدة. والقول الثاني: لأن المراد بإيتاء المال ما روي عنه عليه الصلاة والسلام عند ذكره الإبل، قال: ((إن فيها حقا هو إطراق فحلها وإعارة دلوها)) (1) وهذا بعيد؛ لأن الحاجة إلى إطراق الفحل أمر لا يختص به ابن السبيل والمكاتب. القول الثالث: أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجبًا، ثم إنه صار منسوخًا بالزكاة، وهذا أيضًا ضعيف؛ لأنه تعالى جمع في هذه الآية بين هذا الإيتاء وبين الزكاة. وقال ابن تيمية (2) في معرض بيان قاعدة (أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه، وأن جنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهي عنه، وأن مثوبة بني آدم على أداء الواجبات أعظم من مثوباتهم على ترك المحرمات، وأن عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوباتهم على فعل المحرمات) .   (1) تقدم آنفًا من إخراج ابن عبد البر. (2) مجموع الفتاوى. ج: 20. ص: 132 وما بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1111 وذكر لبيان ذلك وجوهًا، وعند شرح الوجه الحادي والعشرين منها قال: وقد قال الله تعالى في أكبر سورة في القرآن: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (1) إلى آخرها، فوصف المتقين بفعل المأمور به من الإيمإن والعمل الصالح من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وقال: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . وهذه الآية عظيمة وجليلة القدر من أعظم آي القرآن وأجمعه لأمر الدين، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن خصال الإيمان فنزلت. وفي الترمذي عن فاطمة بنت قيس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن في المال حقا سوى الزكاة)) وقرأ هذه الآية، وقد دلت على أمور: أحدها: أنه أخبر أن الفاعلين لهذه الأمور هم المتقون، وعامة فعل هذه الأمور مأمور به. الثاني: أنه أخبر أن هذه الأمور هي البر وأهله هم الصادقون، يعني في قوله: (آمنا) ، وعامتها أمور وجودية هي أفعال مأمور بها، فعلم أن المأمور به أدخلوا في البر والتقوى والإيمان من عدم المنهي عنه وبهذه الأسماء الثلاثة استحقت الجنة، كما قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (2) , وقال: {أم نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (3) {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} (4) وقال: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} (5) ، وهذه الخصال المذكورة في الآية قد دلت على وجوبها؛ لأنه أخبر بأن أهلها هم الذين سبقوا في قولهم وهم المتقون، والصدق واجب، والإيمان واجب بإيجاب حقوق سوى الزكاة، وقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (6)   (1) الآيتان رقم: (1) و (2) من سورة البقرة. (2) الآيتان رقم: (13) و (14) من سورة الانفطار. (3) الآية رقم: (28) من سورة ص. (4) الآيتان رقم: (54) من سورة القمر. (5) الآية رقم: (18) من سورة السجدة. (6) الآية رقم: (20) من سورة المزمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1112 وقوله لبني إسرائيل: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} . (1) وقوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (2) وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وقوله: {وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} (3) في (سبحان) و (الروم) ، فإتيان ذي القربى حقه: صلة الرحم، والمسكين: إطعام الجائع، وابن السبيل: قرى الضيف، وفي الرقاب: فكاك العاني، واليتيم نوع من إطعام الفقير. وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((عودوا المريض، وأطعمو االجائع، وفكوا العاني)) قال البخاري (ج: 6. ص: 143) : حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن سفيان، قال: حدثني منصور، عن أبي وائل، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فكوا العاني، وأجيبوا الداعي، وعودوا المريض. وقال: (ج: 6. ص: 195) : حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن منصور، عن أبي وائل، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني. وقال (ج:7. ص:3 و4) : حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو عوانة، عن منصور، عن أبي وائل، عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني. لكن البخاري لم ينفرد بهذا الحديث، فقد ذكره المزي في (تحفة الأشراف. ج: 6. ص: 418) أن الحديث رواه أيضًا أبو داود والنسائي، وهذا تخريجه بنصه: حديث: (فكوا العاني وأطعموا الجائع وعودوا المريض) . خ الأطعمة (1: 1) عن محمد بن كثير. وفي النكاح (72: 2) وفي الأحكام (23) عن مسدد، عن يحيى، كلاهما عن سفيان. وفي الجهاد (170: 2) عن قتيبة، عن جرير. وفي الطب (بل في المرضى 4: 1) عن قتيبة، عن أبي عوانة، ثلاثتهم عن منصورعنه به، ك. د في الجنائز (11: 2) عن محمد بن كثير به. س. في السير (الكبرى 63) وفي الطب ك (الكبرى 8: 1) عن قتيبة، عن أبي عوانة به. وفي الطب (8: 1) عن محمود بن غيلان بن وكيع وبشر بن السري جميعًا عن سفيان به. ك حديث في رواية ابن العبد وابن داسة، وحديث محمود بن غيلان ليس في الرواية ولم يذكرهما أبو القاسم. وفي الحديث الذي أفتى به أحمد: لو صدق السائل ما أفلح من رده (4) وقال محمد عبده (5) عند شرحه للآية: ومشروعية البدل لهذه الأصناف من غير مال الزكاة لا تتقيد بزمن ولا بامتلاك نصاب محدود، ولا يكون المبذول مقدارًا معينًا بالنسبة إلى ما يملك، ككونه عشرًا أو ربع العشر أو عشر العشر، وإنما هو أمر مطلق بالإحسان موكول إلى أريحية المعطي وحالة المعطى، ووقاية الإنسان المحترم من الهلاك والتلف واجبة على من قدر عليها، وما زاد على ذلك فلا تقدير له، وقد أغفل أكثر الناس هذه الحقوق العامة التي حث عليها الكتاب العزيز، لما فيها من الحياة الاشتراكية المعتدلة الشريفة، فلا يكادون يبذلون شيئًا لهؤلاء المحتاجين إلا القليل النادر لبعض السائلين وهم في هذا الزمان أقل الناس استحقاقًا؛ لأنهم اتخذوا السؤال حرفة، وأكثرهم واجدون، ولو أقاموها لكان حال المسلمين في معايشهم خيرًا من سائر الأمم، ولكان هذا من أسباب دخول الناس في الإسلام، وتفضيله على جميع ما يتصور الباحثون من مذاهب الاشتراكيين والماليين. وقال محمد الطاهر بن عاشور (6) بعد أن أفاض في إيضاح الجوانب اللغوية والنحوية والبيانية من نظم الآية الكريمة كعادته: الإيمان وإقام الصلاة هما منبع الفضائل الفردية؛ لأنهما ينبثق عنهما سائر التحليات المأمور بها، والزكاة وإيتاء المال أصل نظام الجماعة صغيرها وكبيرها، والمواساة تقوى (عنها) (7) الأخوة والاتحاد وتسدد مصالح للأمة كثيرة، وببذل المال في الرقاب يتعزز جانب الحرية المطلوبة للشارع حتى يصير الناس كلهم أحرارًا، والوفاء بالعهد فيه فضيلة فردية، وهي عنوان كمال النفس، وفضيلة اجتماعية، وهي ثقة الناس بعضهم ببعض، والصبر في جماع الفضائل وشجاعة الأمة، ولذلك قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فحصر فيهم الصدق والتقوى حصرًا ادعائيا للمبالغة (8)   (1) الآية رقم: (12) من سورة المائدة. (2) الآية رقم: (92) من سورة آل عمران. (3) الآية رقم: (26) من سورة الإسراء. (4) لم نقف على حديث بهذا اللفظ. في مظانه. (5) تفسير المنار. ج 2. ص: 117. (6) التحرير والتنوير. ج: 2. ص 132. (7) لعل في العبارة خطأ مطبعيًا صوابه: تقوى منها. (8) يغفر الله لأستاذنا، فلسنا نتفق معه في أن الحصر كان (ادعائيا للمبالغة) ، بل هو حصر تشريعي لبيان الحكم وضبط معالمه وشروطه التي لا يتأتى إلا بها، وهذا ما تدل عليه الآية الكريمة وآيات غيرها أورد بعضها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فيما نقلنا عنه آنفًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1113 ودلت على أن المسلمين قد تحقق فيهم معنى البر، وفيه تعريض بأن أهل الكتاب لم يتحقق فيهم؛ لأنهم لم يؤمنوا ببعض الملائكة وبعض النبيين، ولأنهم حرموا كثيرًا من الناس حقوقهم، ولم يفوا بالعهد، ولم يصبروا، وفيها أيضا تعريض بالمشركين، إذ لم يؤمنوا باليوم الآخر والنبيين والكتب، وسلبوا اليتامى أموالهم ولم يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. وفي قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) وقوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (2) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (3) تواضع جمهور المفسرين على تأويل هذه الآيات في إطار من المفهوم الفردي لدلالاتها وحتى أولئك الذين عرضوا لاحتمال أن يكون المقصود من المخاطبين الذين أضيفت الأموال إليهم جمعًا مجموع المسلمين أو الأمة الإسلامية كافة، كان تصورهم بهذا الاحتمال منطلقًا من اعتبار الجماعة أو الأمة الإسلامية مجرد مجموعة أفراد دون أن يلحظوا أن المجتمع الإسلامي كثيرًا ما يعتبره الشرع كيانًا متميزًا أو - حسب التعبير الحديث - شخصية معنوية ويوجه إليه الخطاب بناء على هذا الاعتبار، وإن كان من الممكن أن نلمح عند التأمل ظلالًا غير واضحة لهذا التصور عند بعضهم، وكلما تقدم الزمن وتطورت المؤثرات المعاشية والحضارية ازداد هذا التصور وضوحًا لدى من يعايشون أطوار ذلك التقدم ومراحله. وقد آثرنا أن ندرج صفايا أقوالهم وإن ابتعد معظمها عن وجهتنا وما نراه متسقًا مع ما نسميه (مناط التشريع الإسلامي في المجال المالي باعتباره مجالًا اجتماعيًا أولًا ثم فرديًا بالتبعية) صدقًا مع المنهج العلمي القاضي بعرض جميع جوانب الموضوع الذي يتناوله البحث وجميع الآراء والتصورات المحيطة به ليتسنى تقييم ما يصير إليه الباحث من نتائج على هدي من استكمال العناصر ووضوح المسار واجتلاء مرجحات الاختيار وتيسيرًا للقارئ أن يوازن ويصدر حكمه إن كان مؤهلًا للحكم دون الحاجة إلى مراجعة المصادر التي اعتمدناها إلا أن يريد التثبت أو يتوخى المزيد من الإحاطة لما قد يكون اقتصرنا في نقله على ما اعتبرناه - بتقدير علمي مجرد - الخلاصة والصفوة لرأي أو اتجاه، فاقتصرنا على نقله، وأحلنا إلى مصدره من يريد المزيد من الاستقراء.   (1) الآية رقم: (188) من سورة البقرة. (2) الآية رقم: (5) من سورة النساء. (3) الآية رقم: (29) من سورة النساء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1114 ففي آية سورة البقرة: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} الآية، يقول ابن عطية (1) الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض. فأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي، لما كان كل واحد منهيًا عنه، وكما قال: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} (2) وقال القرطبي (3) : الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض. ثم قال: وأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهما منهيًا ومنهيًا عنه، كما قال: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} . وقال ابن حيان (4) : وهذا الخطاب والنهي للمؤمنين وإضافة الأموال إلى المخاطبين، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض، كقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، فالضمير الذي للخطاب يصح لكل واحد ممن حقه أن يكون منهيًا ومنهيًا عنه وآكلًا ومأكولًا منه، فخلط الضمير بهذه الصلاحية، وكما يحرم بأن يأكل، يحرم بأن يؤكل غيره. فليست الإضافة إذ ذاك للمالكين حقيقة، بل هي من باب الإضافة بالملابسة، وأجاز قوم الإضافة للمالكين. وقال ابن العربي (5) معنى: لا يأكل بعضكم مال بعض، كما قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، وكقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (6)   (1) المحرر الوجيز. ج: 2. ص: 96. (2) الآية رقم: (85) . (3) الجامع لأحكام القرآن. ج: 2. ص: 397. (4) البحر المحيط. ج: 2. ص: 55. (5) أحكام القرآن. ج: 1. ص: 97. (6) الآية رقم: (61) من سورة النور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1115 المعنى: لا يقتل بعضكم بعضا، وليسلم بعضكم على بعض، ووجه هذا الامتزاج أن أخا المسلم كنفسه في الحرمة، والدليل عليه الأثر والنظر، أما الأثر فقوله عليه السلام: ((مثل المسلمين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو منه، تداعى سائره بالحمى والسهر)) الحديث رواه الشعبي عن النعمان بن بشير. وأخرجه كل من البخاري ومسلم. وقال المزي (تحفة الأشراف. ج: 9. ص: 24. ح: 11627) : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ... )) الحديث. خ في الأدب (27: 4) عن أبي نعيم، عن زكرياء، عن الشعبي به. م في (الأدب 17: 2) عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، عن زكرياء به. و (17: 5) عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي سعيد الأشج، كلاهما عن وكيع، و (17: 5) عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، كلاهما عن الأعمش. و (17: 3) عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن مطرف، كلاهما عن الشعبي، رواه الأعمش عن خيثمة أيضًا، عن النعمان بن بشير، وقد مضى (11618) . ورواه أحمد (المسند. ج: 4. ص: 270) : حدثنا يحيى بن سعيد، عن زكرياء قال: حدثنا عامر، قال: سمعت النعمان بن بشير يخطب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه شيء، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) . الحديث، حدثنا أبو نعيم، حدثنا زكرياء، قال: سمعت عامر يقول: سمعت النعمان بن بشير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمنين ... فذكر الحديث. وقال (المسند. ص: 274) : حدثنا يونس وسريج، قالا: حدثنا حماد، عن سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير، أن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال سريج في حديثه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((مثل المؤمنين كمثل الجسد إذا تألم بعضه تداعى سائره)) . وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 1. ص: 228. 233) : أخبرنا ابن قحطبة، حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا عبيدة بن حميد، عن الحسن بن عبيد الله النخعي، عن الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مثل المؤمنين كمثل الجسد، إذا اشتكى منه شيء، تداعى له سائر الجسد)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1116 وقال الشهاب القضاعي (مسند شهاب. ص: 283 و284. ح: 1366 و1367 و1368) : أخبرنا عبد الرحمن بن عمر البزار، أنبأنا أبو يوسف أحمد بن محمد بن الأعرابي، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا بنجاب، حدثنا أبو عامر الأسعدي، حدثنا موسى بن عبد الملك بن عمير، عن أبيه قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى بعضه، تداعى سائره بالسهر والحمى)) ، أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الأدفوي، أخبرنا أبو الطيب أحمد بن سليمان الجريري إجازة، حدثنا أبو جعفر الطبري، حدثنا ابن حميد وأبو وكيع، قالا: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد، إذا اشتكى منه شيء، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) . أخبرنا محمد بن الحسين النيسابوري، أخبرنا القاضي أبو طاهر، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا جعفر بن حميد، حدثنا الوليد بن أبي ثور، عن عبد الملك بن عمير، عن النعمان بن بشير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مثل المسلمين في تواصلهم وتراحمهم والذي جعل الله بينهم مثل الجسد إذا وجع بعضه وجع كله بالسهر والحمى)) . وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 3. ص: 353) : أخبرنا الحسن بن بشران العدل ببغداد، أنبأنا جعفر بن محمد بن عمرو الرزاز , حدثنا محمد بن عبيد الله، حدثنا إسحاق الأزرق، حدثنا زكرياء بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن المنهال، عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى)) . وقد رأينا نقل ألفاظ وأسانيد غير البخاري ومسلم لما في بعضها من التغاير عن بعض صيغة وزيادة ونقصًا. وأما النظر فإن رقية الجنسية تقتضيه وشفقة الآدمية تستدعيه. وقال محمد عبده (1) : الخطاب لعامة المكلفين، والمراد أن لا يأكل بعضكم مال بعض، واختار لفظ أموالكم، وهو يصدق بأكل الإنسان مال نفسه للإشعار بوحدة الأمة وتكافئها، وللتنبيه على أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لمالك؛ لأن استحلال التعدي وأخذ بغير حق يعرض كل مال للضياع والذهاب ففي هذه الإضافة اللطيفة تعليل للنهي وبيان لحكمة الحكم كأنه قال: لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل؛ لأن ذلك جناية على نفس الآكل من حيث هو جناية على الأمة التي هو أحد أعضائها، لا بد أن يصيبه معهم من كل جناية تقع عليهم، فهو باستحلاله مال غيره يجرئ غيره على استحلال أكل ماله عند الاستطاعة. وقال محمد الطاهر بن عاشور (2) : الضمائر في مثل: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} إلى آخر الآية، عامة بجميع المسلمين، وفعل (ولا تأكلوا) واقع في حيز النهي، فهو عام، فأفاد ذلك نهيًا لجميع المسلمين من كل أكل وفي جميع الأموال. قلنا: هنا جمعان، جمع الآكلين، وجمع الأموال المأكولة، واذا تقابل جمعان في كلام العرب احتمل أن يكون من مقابلة كل فرد من أفراد الجمع بكل فرد من أفراد الجمع الآخر على التوزيع نحو: ركب القوم دوابهم. وقوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} (3) {قُوا أَنْفُسَكُمْ} (4) واحتمل أن يكون كذلك، لكن على معنى أن كل فرد يقابل بفرد غيره لا بفرد نفسه نحو قوله: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} (5) قوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} ، واحتمل أن يكون من مقابلة كل فرد بجميع الأفراد نحو قوله: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} (6) ، والتعويل في ذلك على القرائن، وقد علم أن هذين الجمعين هنا من النوع الثاني، أي: لا يأكل بعضهم مال بعض آخر بالباطل بقرينة قوله: {بينكم} ، لأن (بين) تقتضي توسطًا خلال طرفين، فعلم أن الطرفين آكل ومأكول منه، والمال بينهما، فلزم أن يكون الآكل غير المأكول، وإلا لما كانت فائدة لقوله: {بينكم} . قلت: وماذا يقول أستاذنا - رحمه الله - في مثل قول القائل: (أجلسوا فلانًا بينكم) أو: (اقسموا هذا بينكم) ، فليس في المثالين ما يشبه آكل ومأكول منه، بل إن كلا منهما يخاطب طرفين في وضع متساو، وهذا هو المعنى الذي نرتئيه ونرتضيه في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، فبينكم ليست قرينة التغاير الذي يعني فاعلًا ومفعولًا، وإنما هي قرينة التغاير الذي يعني التمايز والتعدد، وشتان بين التغاير في الأمرين، فليتأمل. أما في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} ففي ذلك قال القرطبي (7) : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: حدثنا ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي مالك: أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا، التي هي قوامك بعد الله.   (1) الهامش ساقط من الأصل (المجلة) . (2) التحرير والتنوير. ج: 2. ص: 189. (3) الآية رقم: (102) من سورة النساء. (4) الآية: (6) سورة التحريم. (5) الآية: (11) سورة الحجرات. (6) الآية: 7 سورة المؤمنون. (7) جامع البيان: ج: 4. ص: 167. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1117 حدثنا أحمد بن الفضل، حدثنا أسباط، عن السدي: أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا، فإن المال هو قيام الناس وقوام معايشهم، يقول: كنت أنت قيم أهلك، فلا تعطي امرأتك مالك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك. حدثني المثني، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} ، يقول الله سبحانه: لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله للمعيشة فتعطيه امرأتك وبنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم وكسوتهم ورزقهم ومؤونتهم. قال: وقوله: قيامًا، يعني قوامك في معايشك. وعلى هذه الوتيرة مضى ابن جرير في نقله. وقال الزمخشري (1) : والخطاب للأولياء وأضاف الأموال إليهم؛ لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم، كما قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (2) {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (3) والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى وقوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} . وقال القرطبي (4) بعد أن أورد أقوالًا في تأويل الآية: ويقال: لا تدفع مالك مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة. وروي عن عمر أنه قال: من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا، فذلك قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} يعني الجهالة بالأحكام، ويقال: لا تدفع إلى الكفار، ولهذا كره العلماء أن يوكل المسلم ذميا بالشراء والبيع أو يدفع إليه مضاربة، وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: السفهاء هنا كل من يستحق الحجر. ثم قال: واختلفوا في وجه إضافة المال إلى المخاطبين على هذا، وهم السفهاء، فقيل: أضافها إليهم؛ لأنها بأيديهم، وهم الناظرون فيها، فنسبت إليهم اتساعًا، كقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (5) {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (6) وقيل: أضافها إليهم؛ لأنها من جنس أموالهم، فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد ومن ملك إلى ملك، أو هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أعراضكم وتصونكم وتعظم أقداركم وبها قوام أمركم.   (1) الكشاف. ج: 1. ص: 500. (2) الآية (29) سورة النساء. (3) الآية: (25) سورة النساء. (4) الجامع لأحكام القرآن. ج: 5. ص: 28 و29. (5) الآية (61) سورة النور. (6) الآية: (54) سورة البقرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1118 وقول ثان قاله أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة: إن المراد أموال المخاطبين حقيقة. قال ابن عباس: لا تدفع مالك الذي هو سبب معيشتك إلى امرأتك وابنك وتبقى فقيرًا تنظر إليهم وإلى ما في أيديهم، بل كن أنت الذي تنفق عليهم، فالسفهاء على هذا، هم النساء والصبيان، صغار ولد الرجل وامرأته، وهذا يخرج مع قول مجاهد وابن مالك في السفهاء. وقال الرازي (1) في الآية قولان: الأول: أنها خطاب الأولياء، فكأنه تعالى قال: يا أيها الأولياء لا تؤتوا الذين يكونون تحت ولايتكم وكانوا سفهاء أموالهم، والدليل على أنه خطاب الأولياء قوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} وأيضًا فعلى هذا القول يحسن تعلق الآية بما قبلها، كما قررناه، فإن قيل: فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقال: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم، فلِمَ قال: أموالكم؟ قلنا: في الجواب وجهان: الأول أنه تعالى أضاف المال إليهم، لا لأنهم ملكوه، ولكن من حيث ملكوا التصرف فيه، ويكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، وإنما حسنت هذه الإضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص، ونظيره قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} (2) وقوله {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وكذلك: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . وقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} . ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه، ولكن كان بعضهم يقتل بعضًا، وكان الكل من نوع واحد، فكذا ههنا المال شيء ينتفع به نوع الإنسان، ويحتاج إليه، فلأجل هذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم. قلت: هذا كلام أساسه صحيح، لكن النتيجة التي انتهى إليها الرازي لا سبيل إلى اعتبارها صحيحة، ولا سليمة، فاعتبار إضافة الأموال إلى المخاطبين جاءت على أساس أن المال شيء ينتفع به نوع الإنسان ويحتاج إليه. وأن من ملاحظ الإضافة أنها جاءت على أساس أنها أضيفت إليهم، لا لأنهم ملكوه، لكن من حيث ملكوا التصرف فيه، وإنما حسنت هذه الإضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص. هذا الاعتبار اعتبار صحيح لا سبيل إلى المماراة فيه، لكن الخلوص منها إلى أن هذه الاعتبارات حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم، وأن الخطاب في الآية خطاب الأولياء خلوص لا يستقيم مع المنطق السليم إلا على أساس اعتبار الجماعة الإسلامية مجرد مجموعة أفراد وليست مجتمعًا ذا كيان معنوي متميز صالح لأن يتجه إليه الخطاب، وواضح أن هذا الأساس يناقض مبدأ الوحدة النوعية التي قام عليها توجيه الرازي لذلك التأويل.   (1) التفسير الكبير. المجلد: 5. ج: 9. ص: 190 و191. (2) الآية: (128) سورة التوبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1119 أما الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى في الآية: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} فهو استدلال غير مستقيم، ذلك بأن الشراكة الاجتماعية في ملكية المال ملكية منفعة وانتفاع، وهي المناط من توجيه الخطاب إلى جمع المخاطبين، تترتب عنها تلقائيًا شراكة وظيفية، تحمل القادر تبعة التصرف طبقًا لما تقتضيه المصلحة العامة، وتخول غير القادر حق الاستفادة والانتفاع بحصته من المال الذي هو موضع الشراكة باعتباره عضوًا من المجتمع المشترك في ملكية المنفعة والانتفاع بذلك المال. ولا يتسع لنا المجال لمناقشة الرازي في استدلاله ببعض الآيات الكريمة تدعيمًا لتوجيهه ذاك، فشتان ما بين دلالة جمع المخاطبين في قوله سبحانه وتعالى في سورة التوبة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} مثلًا، وقوله في سورة البقرة: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ثم {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} . ذلك بأن أمر بني إسرائيل بأن يقتلوا أنفسهم توبة مما اقترفوه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} الآية. والتنديد بهم أنهم يقتلون أنفسهم بما يسفكون من دماء بعضهم بعضًا {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} (1) لا سبيل إلى مشاكلتهما أو تشبيههما بوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه من أنفس المسلمين - على القراءة - بضم الفاء وهي الأظهر؛ لأنه وصف قائم على اعتبار وحدة المسلمين في أنفسهم وحدة خلق - بضم اللام - وشعور وإدراك ومتجه وإبراز مدى الوحدة النوعية بين ما فطر عليه صلى الله عليه وسلم من خلق عظيم من خصائصه الحرص على المسلمين والإشفاق من أن يصيبهم عنت والرأفة والرحمة بهم باعتبارهم كيانًا جامعًا متميزًا، وباعتباره الخلاصة والصفوة لهم، منه يستمدون ما فطروا عليه وما تطبعوا به من الأخلاق والمواجد والمدارك وإبراز مدى أصالة هذه الوحدة بينه وبينهم، فهو ليس غريبًا عنهم، وهم ليسوا غرباء عنه. ولذلك جاء التعبير في الآية الكريمة بعد توجيه الخطاب إلى جمع المخاطبين بكلمة (المؤمنين) في قوله سبحانه وتعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} تمييزًا لهم عن غيرهم ممن لم تبلغ نفسه من السمو والصفاء مرتبة تؤهله للانتساب إلى المجتمع الذي يتميز بالوحدة النوعية نفسيا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.   (1) البقرة: 84، 85. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1120 فأين هذا من أمر الآثمين من بني إسرائيل بأن يقتلوا أنفسهم تكفيرًا عما اقترفوه والتنديد بالظالمين منهم بأنهم يقتلون أنفسهم بما يسفكون من دماء بعضهم بعضًا، فيقتل البريء ظلما، ويقتل أو يستحق القتل الجاني ثأرًا أو قصاصًا؟! أما الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى في سورة النساء فاستدلال عجب، وأعجب منه أن يصدر من الرازي ذي العلاقة الوثقى بالفلسفة والشغف، أي أوشك أن يكون مسرفًا بها وبما تنهض عليه في عهده من طرائق المنطق الأرسطي، ذلك بأن الآية الكريمة وردت في معرض إباحة الزواج بالإماء {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) وجلي أن أي زواج لا ينعقد بحرة أو أمة إلا أن يأذن به ولي أمرها، وولي أمر الأمة مالكها، ولا سبيل إلى تصور أن أي إنسان يستطيع أن يعقد لرجل على أمة وإن كان لا يملكها بناء على أن الخطاب موجه على أساس نوع الوحدة الإنسانية، ثم إن كلمة {مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وردت كثيرًا في القرآن الكريم في تشريع حقوق ملك اليمين وواجبات المالك لهم وكيف ينبغي أن يعاملوا فيما يتجاوز الواجب، ولا سبيل حتى إلى مجرد التصور أن هذا التشريع يتجه إلى المجتمع الإنساني باعتباره كيانًا متميزًا على أساس من الوحدة النوعية، ليس متجهًا إليه باعتباره مجموعة أفراد يتحمل كل فرد تبعة عمله ومسؤولية تصرفاته، إذ لو كان متجهًا إلى المجتمع ككيان متميز مأذون له بالصرف الجماعي، فكان لكل أحد مثلًا أن يعتق عبدًا أو أمة في ملك غيره نيابة عن المجتمع المأذون له بالتصرف الجماعي ككيان متميز. على حين أن توجيه الخطاب إلى المخاطبين جمعًا على أساس الوحدة النوعية للإنسان في مجتمع له كيان متميز في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} يتسق اتساقًا كاملًا مع اعتبار شراكة الإنسان عامة والمجتمع الإسلامي خاصة في ملكية المنفعة والانتفاع بالمال وفي تحمل جميع التبعات والمسؤوليات المترتبة على التصرف فيه، فكان طبيعيًا أن يتجه الخطاب إلى المخاطبين جمعًا، إيذانًا بأن أي اختلال في التصرف يحدث من فرد منهم لا يبرئ ساحة غيره من أفراد المجتمع إن كان تصرفًا غير سليم ما قدروا على منعه أو تقويمه. فالنهي موجه إلى المجتمع الإسلامي أفرادًا ومجتمعًا توجيهًا متساويًا لا سبيل إلى ترجيح الاعتبار الفردي على الاعتبار الاجتماعي، ولا إلى ترجيح الاعتبار الاجتماعي على الاعتبار الفردي، وهذا غاية ما يسمح به المجال في هذا الشأن.   (1) الآية (25) سورة النساء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1121 ثم قال الرازي غفر الله له: القول الثاني: أن هذه الآية خطاب الآباء، فنهاهم الله تعالى إذا كان أولادهم سفهاء لا يستقلون بحفظ المال وإصلاحه أن يدفعوا أموالهم أو بعضها إليهم، لما كان في ذلك من الإفساد، فعلى هذا الوجه يكون إضافة الأموال إليهم حقيقة، وعلى هذا القول يكون الغرض من الآية الحث على حفظ المال والسعي في أن لا يضيع ولا يهلك، وذلك يدل على أنه ليس له أن يأكل جميع أمواله ويهلكها، وإذا قرب أجله فإنه يجب عليه أن يوصي بماله إلى أمين يحفظ ذلك المال على ورثته. ثم مضى يفند هذا القول بوجوه من التفنيد، أحسبه كان في غنى عنها لو لم يلتفت إليه ولم يقم إليه وزنًا، ذلك بأنه لم يمض ذكر للآباء أو تلميح إليهم فيما سبق هذه الآية الكريمة من آيات سورة النساء، على حين أن الضمير يوجه إلى المخاطبين جمعًا من أول جملة منها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (1) وقد تواتر التوجيه إلى المخاطبين جمعًا في الأوامر والنواهي إلى هذه الآية موضوع النقاش وما بعدها إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} وهي الآية السادسة والثلاثون من سورة النساء واتسق الخطاب على هذا النسق اتساقًا بديعًا يدل على وحدة الاتجاه والمقصد، ولا يدع المجال للانحراف به إلى وجهات ليست منه وليس منها في شيء مهما حاول المتفقهة المتمحلون. وقال ابن كثير (2) : ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قيامًا، أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها. ومن هنا يؤخذ الحجر على السفهاء وهم أقسام، فتارة يكون الحجر للصغر، فإن الصغير مسلوب العبارة، وتارة يكون الحجر للجنون، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين، وتارة للفلس، وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه. ثم مضى يورد الأقوال المأثورة عن التابعين ومن بعدهم في تعيين السفهاء، ولا يخرج تعيينهم في مجموعة من هذه الأصناف التي ذكرها.   (1) الآية: (1) سورة النساء. (2) تفسير القرآن العظيم. ج: 1. ص: 452. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1122 وقال محمد الطاهر بن عاشور (1) : والخطاب في قوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ} كمثل الخطاب في {وَآَتُوا الْيَتَامَى} (2) {وَآَتُوا النِّسَاءَ} (3) هو لعموم الناس المخاطبين بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} . ثم قال: والمراد بالأموال أموال المحاجير المملوكة لهم، ألا ترى إلى قوله {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} وأضيفت الأموال إلى ضمير المخاطبين بـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} إشارة بديعة إلى أن المال الرائج بين الناس هو حق لمالكيه المختصين به في ظاهر الأمر، ولكنه عند التأمل تلوح فيه حقوق الأمة جمعًا، لأن في حصوله منفعة للأمة كلها، لأن ما في أيدي بعض أفرادها من الثروة يعود إلى الجميع بالمصلحة، فمن تلك الأموال ينفق أربابها ويستأجرون ويشترون ويتصدقون، ثم تورث عنهم إذا ماتوا، فينتقل المال بذلك من يد إلى غيرها، فينتفع العاجز والعامل والتاجر والفقير والكفاف، ومتى قلت الأموال من أيدي الناس تقاربوا في الحاجة والخصاصة، فأصبحوا في ضنك وبؤس واحتاجوا إلى قبيلة أو أمة أخرى، وذلك من ابتزاز عزهم وامتلاك بلادهم وتصيير منافعهم لخدمة غيرهم. فلأجل هاته الحكمة أضاف الله تعالى الأموال إلى جمع المخاطبين ليكون لهم الحق في إقامة الأحكام التي تحفظ الثروة العامة، وهذه إشارة، لا أحسب أن حكيما من حكماء الاقتصاد سبق القرآن إلى بيانها، وقد أبعد جماعة جعلوا الإضافة لأدنى ملابسة؛ لأن الأموال في يد الأولياء وجعلوا الخطاب للأولياء خاصة، وجماعة جعلوا الإضافة للمخاطبين؛ لأن الأموال وإن لم تكن أموالهم حقيقة، وإليه مال الزمخشري، وجماعة جعلوا الإضافة؛ لأن السفهاء من نوع المخاطبين، فكأن أموالهم أموالهم، وإليه مال فخر الدين، وقارب ابن العربي إذ قال: لأن الأموال مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد، وتخرج من ملك إلى ملك وما ذكرته من البيان كان لكلمته هذه شأن، وأجد فريق آخرون فجعلوا الإضافة حقيقة أي لا تؤتوا - بأصحاب الأموال - أموالكم لمن يضيعها من أولادكم ونسائكم وهذا أبعد الوجوه، ولا إخال الحامل على هذا التقدير إلا الحيرة في وجه الجمع بين كون الممنوعين من الأموال السفهاء وبين إضافة تلك الأموال إلى ضمير المخاطبين، وإنما وصفته بالبعد؛ لأن قائله جعله هو المقصود من الآية، ولو جعله وجهًا جائزًا يقوم من لفظ الآية لكان له وجه وجيه.   (1) التحرير والتنوير. ج: 4. ص: 234 و236. (2) النساء: الآية رقم 2. (3) النساء: الآية رقم 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1123 ثم قال: وأجرى على الأموال صفة تزيد إضافتها إلى المخاطبين وضوحًا، وهي قوله: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} ، فجاء في الصفة بموصول، إيماء إلى تعليل النهي وإيضاحًا لمعنى الإضافة. ثم قال: وقرأه الجمهور: قيامًا، والقيام ما به يقوم المعاش، وهو واوي أيضًا، وعلى القراءتين، فالإخبار بالأموال إخبار بالمصدر للمبالغة على قول الخنساء: فإنما هي إقبال وإدبار هذا عجز بيت من قصيدة طويلة للخنساء تماضر بنت عمرو بن الحرث بن الشريد، ترثي بها أخاها صخرا، ولتوضيح معنى البيت نورد أبياتًا قبلها وبعدها من القصيدة كما وردت في ديوانها ص: 42 وما بعدها، وكما وردت أبيات منها في العقد الفريد. ج: 3. ص: 267 و268. ولا نلتزم بإحدى الروايتين، وإنما نقيم الواحدة بالأخرى حسب ما يرشدنا الذوق السليم ومطلع القصيدة: قذى بعينيك أم بالعين عوار أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدار ومنها: وما عجول على بوٍّ تطيف به لها حنينان إعلان وإسرار ترعى إذا نسيت حتى إذا ذكرت فإنما هي إقبال وإدبار لا تسمن الدهر في أرض وإن ركعت فإنما هي تحنان وتسجار يوما بأوجد مني يوم فارقني صخر وللدهر إحلاء وإمرار وهي من أروع ما عرفه الشعر العربي القديم من صادق الرثاء. والمعنى أنها تقويم عظيم لأحوال الناس وقيل: قيمًا (1) جمع قيمة، أي: التي جعلها الله قيمًا، أي: أثمانًا للأشياء، وليس فيه إيذان بالمعنى الجليل المتقدم. قلت: من الغريب أن المعنى الذي قرره في تفسير هذه الآية من دلالاتها على الشراكة العامة في الأموال للناس باعتبار المجتمع الإسلامي كيانًا معنويًا متميزًا على أن الأموال بهذا المعنى تمثل ثروة قومية وما إلى ذلك مما فصله تفصيلًا جيدًا وإن لم يكن شاملًا لم يتسن له فيما نقلناه عنه آنفًا من تفسيره لقوله سبحانه وتعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، فشتان بتفسيره لهذه الآية وتفسيره لتلك، مع أن دلالتهما في الحقيقة واحدة، والمناط فيهما واحد، يتبينه كل من أحسن التأمل.   (1) على قراءة ورش بياء مشددة بدون ألف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1124 وقد قلت: إن تأويله هذا ليس بشامل؛ لأن تبيانه للاعتبارات التي تجعل الأموال وإن كانت تحت تصرف الأفراد من مجموع الثروة القومية، لم يشمل جميع الاعتبارات والعوامل التي كنا نود لو أحاط بها، وأهمها أن وحدة الكيان الاجتماعي للمجتمع الإسلامي باعتباره كيانًا معنويًا متميزًا تقتضي وحدة الملكية جوهريا، لما يملكه أفراده من حيث إن ما يملكونه أجزاء أو عناصر لكيان ملكي واحد، كما أن المالكين لها أجزاء أو وحدات لكيان واحد، فتعدد المتصرفين وتعدد الأنصبة التي يتصرفون فيها لا يعنيان تعددًا في حقيقة الأمر لأولئك الأفراد ولا لتلك الأنصبة، وإنما يعنيان فحسب توزيعًا لمسؤولية التصرف وتبعته في شيء واحد بين أفراد يكونون وحدة، ولذلك فإساءة التصرف من فرد من الأفراد في النصيب الذي وكل إليه التصرف فيه تترتب عنها عواقب سيئة على مجموع الأنصبة التي تتكون منها الثروة القومية أو المال العام، وبرهان ذلك الأمر بالتحجير على السفيه، وإن كان قد جاوز سن الرشد ونهي غير السفيه عن التبذير وتحديد وجوه الإنفاق بحيث لا تكون إلا في ما هو مصلحة ذات مآل عام، وإن كانت في ظاهرها مصلحة فردية وتحديد طرائق الكسب والإنفاق بحيث لا يكون منها ما يضر وإن عن غير قصد بالمصلحة العامة مباشرة أو بها عن طريق الإضرار بمصلحة فرد أو أكثر؛ لأن الإضرار بمصلحة فرد أو أفراد يترتب عنه تلقائيًا الإضرار بالمصلحة العامة، وقد يتضح ذلك في بعض ما سنعرض له أثناء هذا البحث. وبرهان آخر انتبهوا له بعض الانتباه، ولكن غفلوا عن دلالته في توجيه الآية، وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} إذ التعبير بـ: (في) يؤكد وحدة المرزوق فيه، ويبعد كل ادعاء بتفرقه أو تعدده، ويوضح أن الأموال التي أمروا بأن يرزقوا السفهاء فيها ويكسوهم لها كيان واحد، وإن يكن ضمنها أموال من حصة أولئك السفهاء ونصيبهم في التوزيع الوظيفي بين أفراد المجتمع الإسلامي مجموع أمواله. فالآية تؤذن بأن وظيفة السفهاء في نصيبهم من تلك الأموال قد نقص منها جانب التصرف، وبقي جانب الاستهلاك نتيجة للاستحقاق المشروع المتوقف عليه ضمان بقائهم وكرامتهم، وكان التعبير بـ: (في) بدلًا من (من) برهانًا على استحقاق السفهاء رزقهم في المال العام، سواء كانت لهم فيها حصة نتيجة إرث أو غيره مما يجعل لهم استحقاقًا وظيفيًا فيه أو لم تكن، فالمال العام حسب تعبير الآية الكريمة كله مصدر لرزق السفهاء، كما هو مصدر لرزق غيرهم، والفارق الوحيد هو أن وظيفة غيرهم تتكون من التصرف للإنماء والاستهلاك، أما وظيفة السفهاء فتنحصر في الاستهلاك لعجزهم بالسفه عن القيام بالإنماء، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1125 وقد نبه الحس اللغوي والبياني بعض المفسرين مثل الزمخشري والرازي إلى بعض هذا المعنى، ولكن سرعان ما قلصوا منه بتأويلاتهم القائمة على تبعيض المجتمع وتبعيض المال تبعًا له، وكان محمد الطاهر بن عاشور أقربهم إلى سداد الفهم، لولا أنه نسي في حديثه عن (في) موقعها من هذه الآية ما سبق أن قرره منذ قليل من معنى وحدة المجتمع ووحدة المال باعتباره ثروة قومية. ونقتصر على نقل كلامه، ففيه صفة ما قاله كل من الزمخشري والرازي. قال رحمه الله (1) : ومعنى قوله: {وارزقوهم فيها واكسوهم} واقع موقع الاحتراس، أي: لا تؤتوهم الأموال إيتاء تصرف مطلق ولكن آتاهم إياها بمقدار انتفاعهم من نفقة وكسوة، ولذلك قال فقهاؤنا: تسلم للمحجور نفقته وكسوته إذا أمن عليها بحسب حاله وماله، وعدل عن تعدية (ارزقوهم) و (اكسوهم) بـ: (من) إلى تعديتها بـ: (في) للدلالة على الظرفية المجازية على طريقة الاستعمال في أمثاله حين لا يقصد التبعيض الموهم للانتفاض من ذات الشيء بل يراد أن جملة الشيء ما يحصل به الفعل تارة من عينه وتارة من ثمنه وتارة من نتاجه وأن ذلك يحصل مكررًا مستمرًا. ثم قال: وهذا معنى بديع في الاستعمال لم يسبق إليه المفسرون هنا، فأهمل بعضهم التنبيه على وجه العدول إلى (في) ، واهتدى إليه صاحب الكشاف - قلت: والرازي بأوضح - بعض الاهتداء فقال: اجعلوها مكانًا لرزقكم بأن تتجروا فيها وتربحوا حتى تكون نفقتهم من الربح لا من صلب المال، فقوله: لا من صلب المال. مستدرك، ولو كان كما قال لاقتضى نهيًا عن الإنفاق من صلب المال.   (1) التحرير والتنوير. ص: 236. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1126 قلت: وقولهم بأن تتجروا ... إلخ مستدرك أيضًا، ولو كان كذلك لسقط الأمر بالرزق للسفهاء من دلالة هذه الآية إذا لم يكن لهم مال حصلوا عليه من إرث أو غيره، بل كان ذووهم من الفقراء، فلم يتركوا لهم شيئًا ولا وهبهم غيرهم شيئًا تطوعًا هبة تمليك أو وقف، وإذا لاحتيج إلى دليل آخر من غير هذه الآية على وجوب القيام بهم وإنقاذهم من الخصاصة والمسغبة، ونتيجة لذلك يصبح قوله تعالى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} خاصًا بمن لديهم من طريق الإرث أو الاكتساب أو غيرهما من الطرق المشروعة أنصبة من المال، ويبقى الأمر برزق السفهاء معطلًا يبحث عن علة له تنيط الإلزام بالمأمورين به، وهذا اختلال في التعبير يأباه البيان المعجز لكتاب الله العزيز. ونصير في مسارنا هذا إلى الآية الرابعة التي سبق أن ألمعنا إليها، وهي قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، ولا تختلف هذه الآية في ضميريها عن آية سورة البقرة {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} . ولعل ذلك هو الذي صرف جمهرة المفسرين عن الوقوف في توجيه الضمير في (أموالكم) إلى المخاطبين جمعًا اكتفاء بما سبق أن قالوه في آية سورة البقرة إلا ما كان من وقفة لمحمد الطاهر بن عاشور (1) الذي قال: والضمير المرفوع بـ: (تأكل) والضمير المضاف إليه (أموال) راجعان إلى (الذين آمنوا) وظاهر أن المرء لا يُنهى عن أكل مال نفسه ولا يسمى انتفاعه بماله أكلًا، فالمعنى لا يأكل بعضهم مال بعض) .... إلخ. قلت: سبحان الله، وكيف أن المرء لا يأكل مال نفسه، ولماذا كان الكسب والسعي وراءه إن لم يكن للأكل بمعناه العام الذي اتفقوا عليه وهو الإنفاق، ثم لعل أستاذنا - رحمه الله - نسي ما قاله في تفسير الآية الخامسة من هذه السورة نفسها ونقلناه عنه من وحدة مال الآمة تبعًا لوحدة مجتمعها باعتباره ثروة قومية بعد أن مضى به التفسير أشواطًا في أربع وعشرين آية فراح يقول: (فالمعنى لا يأكل بعضهم مال بعض) هو أحسبه نسي أيضًا أنه حتى على أساس تبعيض المال والغفلة عن وحدة مال الأمة أو تجاهلها لا يصح تأويله هذا لأن المرء منهي عن التبذير والإسراف في إنفاق ماله نهيًا صريحًا في آيات شتى من القرآن الكريم، بل إن النهي وجه إلى المسلمين بواسطة توجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبعد الناس على التبذير والإسراف لمجرد تأكيد النهي تأكيدًا لا مزيد عنه، إذ قال الله سبحانه وتعالى: {وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (2)   (1) التحرير والتنوير. ج: 5. ص: 23. (2) الآية: (26) سورة الإسراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1127 ولا مجال للقول إن النهي هنا كان عن التبذير في الإنفاق على الآخرين، لأن الموصوفين بأنهم إخوان الشياطين هم المبذرون كافة، سواء كان تبذيرهم على أنفسهم أو على غيرهم بدليل مدحه سبحانه وتعالى للمؤمنين بأنهم {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (1) وآيات غيرها. ومن عجب أن أستاذنا - رحمه الله - أتبع قوله الذي نقلناه آنفًا بأن شرح (الباطل) في قوله سبحانه وتعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} بأنه ضد الحق وهو ما لم يشرعه الله ولا كان من إذن ربه، والباء فيه للملابسة، أفلا يرى - رحمه الله - أن التبذير والإسراف من الباطل؟ أو ليس الإدلاء بالمال إلى الحكام لأكل فريق من أموال الناس بالإثم كما ورد في الآية من سورة البقرة من أكل الأموال بالباطل؟ وهو يدلي الإنسان بالمال إلى الحكام لغرض باطل إذا لم يكن له في نفع توهمه، وهذا النفع لا يكون إلا ماليًا أو ما هو في معنى المال؟ وحتى لو فعل ذلك من أجل غيره أفلا يكون له من ورائه أي نفع وإن كان مجرد مصارحة أو قريبة أو ليس ذلك كله داخلًا في النهي عن أكل المال بالباطل وإذا كان الباطل جنسًا لما يقترف من الظلم أو الجور أو الخداع أو التبذير أو غير ذلك مما لم يأذن به الله؟ أفلا يكون النهى عنه دليلًا على أن الأموال المنهي أن تأكل به واحدة وحدته أي أنها من جنس واحد لانصباب النهي عنه عليها انصبابًا يشمل عمومها لا يخص منها جانبًا دون آخر. لقد أفضنا شيئًا في هذا الشأن وظاهر ليس من صميم بحثنا لأن تحريره وتحقيقه يؤديان إلى إبراز حقيقة أن الإسلام يعتبر المال مهما تعدد المتصرفون فيه والمنتفعون به مالًا عامًا في حقيقته وجوهره يشمله حكم شرعي واحد في حقيقته وجوهره ومناطه كما يعتبر المسلمين على تعدد أفرادهم وألوانهم وشعوبهم مجتمعًا واحدًا يشملهم حكم شرعي واحد في حقيقته وجوهره ومناطه، وكل إخلال بوحدة المجتمع أو بوحدة المال العام يستوجب مواجهته بما يكفل إزالته وإعادة السلامة إلى الوحدة التي جاء الإسلام لإقامتها وتدعيمها وتأكيدها وصيانتها.   (1) الآية: (26) سورة الفرقان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1128 13 - المجتمع هو المالك الحق للمنفعة والانتفاع يتضح مما سبق أن المجتمع باعتباره وحدة من عناصر متكاملة متكافلة هو المالك الحق لما خول الله المسلمين والإنسان عامة من منفعة وانتفاع في هذا الكون ما كان منه طبيعيًا وما كان مكتسبًا. وتتضح من البندين التاسع والعاشر العلاقة التي أرادها الله للإنسان بما خوله الانتفاع به والاستفادة منه. ويصير بنا المسار إلى ضرورة تبيان المعالم التي حددها الشارع الحكيم الخبير لتصرف الإنسان فيما خوله من حقوق المنفعة ووسائل الانتفاع. وأول هذه المعالم تصريف المنافع المخولة له تصريفًا يفيده في خاصة نفسه وفيمن يعوله ويهتم بشأنه مباشرة، ويفيد المجتمع الذي هو جزء منه وعنصر من عناصره وأداة من أدواته. وقد أطلق الشارع على هذا التصريف كلمة (الإنفاق) فوردت في القرآن الكريم بمشتقاتها المختلفة وصيغها المتعددة من مضافة وغير مضافة ومن مضافة إلى فرد ومن مضافة إلى جماعة أربعًا وسبعين مرة منها في صيغة الأمر المضافة إلى الجمع ستة مواضع وهي صريحة في الأمر بالإنفاق وفي أن الأمر موجه إلى جماعة المسلمين. يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (3) {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (4) {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (5) {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (6)   (1) الآية: (195) سورة البقرة. (2) الآية: (254) سورة البقرة. (3) الآية: (267) سورة البقرة. (4) الحديد: الآية رقم (7) . (5) الآية: (10) سورة المنافقون. (6) الآية: (16) سورة التغابن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1129 ووردت في معرض وصف المؤمنين باعتبار الإنفاق جزءًا لا يتجزأ من خصال الإيمان في سبعة مواضع من القرآن الكريم. قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (1) {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2) {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (3) {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (4) {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (5) {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (6) {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (7) ووردت في بقية المواضع (61 مرة) إما ترغيبًا في الإنفاق في سبيل الله، وإما تنديدًا بالذين يمسكون ولا ينفقون، وإما زجرًا وتوعدًا لهم، وفي كل ذلك بيان للمعلم الأساسي الذي شرعه الله لتصرف الإنسان فيما خوله من حقوق المنفعة ووسائل الانتفاع بما يسر له من خيرات الأرض وغيرها مما تصل إليه يده من مختلف جوانب الكون وعناصره.   (1) الآية: (2) سورة البقرة. (2) الآية: (133) و (134) سورة آل عمران. (3) الآية: (2) و (3) و (4) سورة الأنفال. (4) الآية: (34) و (35) سورة الحج. (5) الآية: (53) سورة القصص. (6) الآية: (16) سورة السجدة. (7) الآية: (36) و (37) و (38) سورة الشورى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1130 وتصرف الإنسان وتصريفه فيما خول من حقوق المنفعة ووسائل الانتفاع طبقًا لهذا المعلم الواضح ينضبط في إطار لا يكاد يباح له تجاوزه من اعتبار المصلحة العامة للمجتمع الإسلامي حتى فيما يتصل بمصلحته الذاتية الخاصة أو بمصلحة من يعوله وترجع إليه حمايته ورعايته، فقد جاء في القرآن الكريم في وصف عباد الرحمن {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (1) في آيات غيرها أشرنا إلى بعضها في البند السابق، ويتضح من هذا أن من يخرج في تصرفه أو تصريفه عن هذا الإطار يفقد حقه فيما خول له من حقوق المنفعة ووسائل الانتفاع. أما المعلم الثاني الذي شرعه الله للإنسان وتصريفه، وقد يكون الوجه للمعلم الأول، فهو خلافة الله في عمارة الأرض، فالعمل الذي يتجه به الإنسان إلى الكسب والاستغلال والاستثمار يجب أن يتم في نطاق إعمار الأرض بأن يكون عملًا مستمر الجدوى موصلًا بعمل الآخرين تتكون منه ومن غيره الأسباب المحققة لاستمرار عمارة الأرض ونمائها. يقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه صالح عليه السلام مخاطبًا قومه ثمود: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (2) كما سبق أن أوضحنا في البند الثاني ومناط اعتبار إعمار الأرض مَعلَمًا لتصرف الإنسان وتصريفه كما أراده الله وشرعه هو حفظ أسباب الطمأنينة والانتفاع والحياة الكريمة العادلة للأجيال الإنسانية المتعاقبة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وهذا يعني أن وحدة المجتمع الإسلامي خاصة ووحدة الإنسان عامة، ووحدة المنفعة والانتفاع المخولين للإنسان لا سيما المسلم لا تتعددان بتعدد الأجيال بل تستمران ما كتب الله لهذه الدنيا أن تستمر وأن حقوق الأجيال المتتالية مرتبط بعضها ببعض، فليس لأي جيل أن يزحف بحقوق الجيل الذي بعده بأن يُصرّ في صيانة وإنماء الإرث الذي صار إليه من الجيل الذي قبله أو أن يعمد إلى الاستئثار بما ورث من منافع وخيرات مبذرًا مسرفًا أو متكاسلًا قانعًا بما أنتج الأولون غير مكترث بما عليه من تبعة لمن يأتي بعد من الأبناء والأحفاد.   (1) الفرقان: الآية رقم 67. (2) هود: الآية رقم 61. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1131 من أجل ذلك كان الإنفاق في سبيل الله شرعًا أساسيًا، وضابطًا حاسمًا وجوهريًا لتصرف الإنسان وتصريفه فيما يسرَّ الله له من مال، وكان كل من التبذير والاكتناز جريمتين يترتب عليهما عقاب الله بمن يقترفهما أو اقترف إحداهما من الناس أفرادًا أو جماعات، بيد أن الاكتناز أشد عقوبة؛ لأنه أشد جناية على المتعايشين من أبناء المجتمع، فهو لا يحرمهم فحسب من المال المكتنز وفوائده بأن يسلبهم حق الانتفاع به، وإنما يحرمهم أيضًا وسيلة تعينهم على المزيد من العمل الإعماري الذي تمتد جدواه إلى الأجيال المقبلة. يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (1) ولكي يتجلى المعنى الشرعي لكل من (الإنفاق) و (الاكتناز) نورد ما ورد بشأن كل منهما في مصادر اللغة ومصادر التفسير. فمادة نفق وهي ثلاثي (أنفق) مدارها (الرواج) ولا يكاد يخرج استعمال (النفاق) عما يتصل (بالرواج) كما أن (الإنفاق) ومشتقاته لا يكاد يخرج عن معنى (الترويج) وما يتصل به. يقول ابن منظور (2) ونفق البيع نفاقًا: راج، ونفقت السلعة تنفق نفاقًا، بالفتح: غلت ورغب فيها، وأنفقها هو ونفَّقها. وفي الحديث: ((المنفِّق سلعته بالحلف الكاذب)) ، المنفق بالتشديد: من النفاق وهو ضد الكساد، ومنه الحديث: ((اليمين الكاذبة منفقة للسلعة ممحقة للبركة)) ، أي هي مَظِنَّةٌ لنفاقها وموضع له. وفي الحديث عن ابن عباس: ((لا ينفق بعضكم بعضًا)) أي لا يقصد أن ينفق سلعته على جهة النجش، فإنه بزيادته فيها يرغب السامع فيكون قوله سببًا لابتياعها ومنفقًا لها. وقول ابن الأثير (3) وفيه - أي الحديث -: ((المنفق سلعته بالحلف الكاذب)) المنفق بالتشديد من النفاق، وهو ضد الكساد. ويقال: نفقت السلعة فهي نافقة، وأنفقتها ونفقتها، إذا جعلتها نافقة. وفي الحديث: ((اليمين الكاذبة منفقة للسلعة ممحقة للبركة)) ، أي هي مظنَّة لنفاقها وموضع له.   (1) التوبة: الآيتان 34، 35. (2) لسان العرب. ج: 10. ص: 257. (3) النهاية. ج: ص: 99. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1132 ويقول الراغب (1) نفق الشيء مضى ونفد. ينفق إما بالبيع نحو: نفق البيع نفاقًا، ومنه: نفق الأيم ونفق القوم إذا أنفق سوقهم، وإما بالموت نحو نفقت الدابة نفوقًا، وإما بالفناء نحو: نفقت الدراهم تنفق وأنفقتها، والإنفاق قد يكون في المال وفي غيره وقد يكون واجبًا وتطوعًا. قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) وقال: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (3) وقال: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (4) وقال {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} (5) وقال: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} (6) إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} (7) أي: الإقتار يقال: نفق فلان إذا نفق ماله فأقتر، والإنفاق هنا كالإملاق في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} (8) والنفقة اسم لما ينفق قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ} (9) وقال: {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً} (10) والنفق: الطريق النافذ والسرب في الأرض النافذ فيه قال تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ} (11) ، ومنه نافق اليربوع ونفق، ومنه النفاق: وهو الدخول إلى الشرع من باب والخروج من باب، وعلى ذلك نبه من قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (12) أي الخارجون من الشرع. ويخرج المفسرون عامة عن هذه المعاني التي تناقلها اللغويون وإن اختلفوا - منذ عهد الصحابة والتابعين - في تأويل آيات وردت فيها كلما (أنفق) أو إحدى مشتقاتها لذلك نقتصر على ما ارتأينا فيه تلخيصًا دقيقًا وشاملًا لأقوالهم تلك ومزيدًا من الإيضاح أو جديدًا من الفقه. يقول الرازي (13) في تفسيره قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (14) أصل الإنفاق إخراج المال من اليد، ومنه: نفق البيع نفاقًا إذا كثر المشترون له، ونفقت الدابة إذ ماتت أي: خرجت روحها، ونافقا الفأرة لأنها تخرج منها ومنه النفق في قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ} (15)   (1) المفردات في غريب القرآن. ص: 765 و766. (2) الآية (195) سورة االبقرة. (3) الآية: (10) سورة المنافقون. (4) الآية (92) سورة آل عمران. (5) الآية: (39) سورة سبأ. (6) الآية: (10) سورة الحديد. (7) الآية: (100) سورة الإسراء. (8) الآية: (31) سورة الإسراء. (9) الآية: (270) سورة البقرة. (10) الآية: (21) سورة التوبة. (11) الأنعام الآية رقم (35) . (12) الآية: (67) سورة التوبة. (13) التفسير الكبير. ج: 2. ص: 34 و35. (14) الآية: (3) سورة البقرة. (15) الأنعام الآية رقم (35) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1133 ثم قال في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (1) فوائد أحدها: أدخل (من) التبعيضية صيانة لهم وكفى - لعل فيه خطأ مطبعيا صوابه: وكف - عن الإسراف والتبذير المنهي عنه، وثانيها: قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أعلم كأنه قال: ويخصون بعض المال بالتصدق به، وثالثها: يدخل في الإنفاق المذكور في الآية الإنفاق الواجب والإنفاق المندوب. والإنفاق الواجب أقسام: أحدها: الزكاة , وهي قوله في آية الكنز {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) قلت: في هذا التأويل نظر وسيأتي بعد قليل مزيد من البيان في شأنه. ثم قال: وثانيها: الإنفاق على النفس وعلى من تجب عليه نفقته. وثالثها: الإنفاق في الجهاد. وأما الإنفاق المندوب فهو أيضًا إنفاق لقوله: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (3) قلت: لا يسلم له هذا التأويل، بل الأمر في هذه الآية للوجوب؛ لأنه جاء في مواجهة قول المنافقين الذي ذكره الله سبحانه وتعالى قبل هذه الآية: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} (4) ، والذين كانوا عند رسول الله يومئذ هم المهاجرون {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (5) والإنفاق عليهم كان يومئذ واجبًا متعينًا على كل من له فضل من وسائل العيش، ولم يكن مندوبًا إليه فحسب وقد نعرض لشيء من ذلك في مكانه من هذا البحث إن شاء الله. ثم قال: فكل هذه الإنفاقات داخلة تحت الآية؛ لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح. قلت: يغفر الله للرازي، فليس ما في الآية مجرد مدح، وإنما هي تبيان للشروط والأوصاف التي لا يكمل الإيمان، ولا يكون مدعيه مؤمنًا حقا إلا بها وذلك ما يدل عليه وليس فيه دلالة على غيره دلالة لفظية غير قابلة للتأويل سياق الآية بما قبلها وما بعدها، فليتأمل.   (1) البقرة: الآية 3. (2) التوبة: الآية 34. (3) المنافقون: الآية رقم 10. (4) المنافقون: الآية 7. (5) الحشر: الآية رقم 7. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1134 وأورد ابن العربي في أحكام القرآن (1) عندما عرض لهذه الآية خمسة أوجه لتأويل الإنفاق، أهمها الوجه الرابع أن الإنفاق: وفاء الحقوق الواجبة العارضة في المال باختلاف الأحوال ما عدا الزكاة. ونقول: أهمها لأن الأوجه الأخرى التي أوردها وإن نقل بعضها عن بعض الصحابة أو التابعين لا تثبت عند التأمل والتمحيص وليس نقلها عمن أوثرت عنهم كافيًا لجعلها وجيهة وقد ذكرها غيره من المفسرين ومنهم الرازي فيما سبق وأشار إليها محمد الطاهر بن عاشور في عرضه البديع لوجوه تأويل الآية (2) قال رحمه الله: مسألة ثالثة في وصف المتقين مما يحقق معنى التقوى وصدق الإيمان من بدل عزيز على النفس في مرضاة الله لأن الإيمان لما كان مقره القلب ومترجمه اللسان كان محتاجا إلى دلائل صدق صاحبه وهي عظائم الأعمال من ذلك التزام آثاره في الغيبية الدالة عليه {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (3) ومن ذلك ملازمة فعل الصلوات، لأنها دليل عن تذكر المؤمن من آمن به. ومن ذلك السخاء ببذل المال للفقراء امتثالًا لأمر الله بذلك. قلت: تأمل جيدًا قوله: امتثالًا لأمر الله بذلك. ثم قال: والإنفاق إعطاء الرزق فيما يعود بالمنفعة على النفس والأهل والعيال ومن يرغب في صلته أو التقرب لله بالنفع له من طعام أو لباس وأريد به هنا بثه في نفع الفقراء وأهل الحاجة وتسديد نوائب المسلمين بقرينة المدح واقترانه بالإيمان والصلاة، فلا شك أنه هنا خصلة من خصلة الإيمان الكامل، وما هو إلا الإنفاق في سبيل الخير والمصالح العامة، إذ لا يمدح أحد بإنفاقه على نفسه وعياله إذ ذلك مما تدعوا إليه الجبلة فلا يعتني الدين بالتحريض عليه، فمن الإنفاق ما هو واجب وهو حق على صاحب الرزق للقرابة والمحاويج من الأمة ونوائب الأمة كتجهيز الجيوش كالزكاة وبعضه محدد وبعضه تفوضه المصلحة الشرعية الضرورية أو الحاجية ... إلخ.   (1) ج: 1. ص: 10. (2) التحرير والتنوير. ج: 1. ص: 234 و235. (3) الآية رقم 3 البقرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1135 وقبل أن نمضي فيما نحن بسبيله من تبيان مدى شمول وتحكم معلم الإنفاق في المجال العام من مجموع المال العام أو الثروة القومية سواء ما خول الأفراد حق المنفعة والانتفاع فيه وما كان هذا الحق خاصا بالسلطة العامة نقف مليًا عند كلمة متصلة بالإنفاق اتصالًا وثيقًا؛ لأنها ضده أو عكسه، وهي كلمة (كنز) ومشتقاتها. وقد وردت في القرآن الكريم تسع مرات (1) والآية التي تعنينا في هذا المجال من الآيات التسع هي قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (2) ، لكن قبل أن نقف عندها والتزامًا بالسنن الذي رسمناه لهذا البحث نتبين حدود اللغويين وآثار المفسرين في معنى كلمة (كنز) . يقول ابن منظور (3) كنز: الكنز اسم للمال إذا أحرز في وعاء ولم يحرز فيه، وقيل: الكنز المال المدفون، وجمعه كنوز، كنزه يكنزه كنزًا واكتنزه، ويقال: كنزت البر في الجراب فاكتنز. قال - يعني شمر -: وتسمي العرب كل كثير مجموع يتنافس فيه كنزًا. وفي الحديث: ((ألا أعلمك كنزًا من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله)) ، وفي رواية: ((لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة)) أي: أجرها مدخر لقائلها والمتصف بها كما يدخر الكنز، وفي التنزيل العزيز: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (4) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يذهب كسرى فلا كسرى بعده، ويذهب قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده، لتنفقن كنوزهما في سبيل الله)) . الليث: يقال: كنز الإنسان مالا يكنزه، وكنزت السقاء إذا ملأته. ابن عباس في قوله تعالى في الكهف: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} (5)   (1) الآية: (34) سورة التوبة، والآية: (35) نفس السورة. الآية: (12) سورة هود. الآية: (82) سورة الكهف. الآية: (8) سورة الفرقان. الآية (58) سورة الشعراء. الآية: (76) سورة القصص. (2) التوبة: الآية رقم 34. (3) لسان العرب. ج: 5. ص: 401. (4) التوبة: الآية رقم 34. (5) الآية: (82) سورة الكهف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1136 وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: أربعة آلاف وما دونها نفقة، وما فوقها كنز (1) وفي الحديث: ((: كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز)) ، الكنز في الأصل المال المدفون تحت الأرض، فإذا أخرج منه الواجب عليه، لم يبق كنزًا وإن كان مكنوزًا، وهو حكم شرعي تجوز فيه عن الأصل. وفي حديث أبي ذر - رضي الله عنه -: ((بشر الكنازين برضف من جنهم)) (2) فهم جمع كناز، وهو المبالغ في كنز الذهب والفضة وادخارهما وترك إنفاقهما في أبواب البر. واكتنز الشيء: اجتمع وامتلأ. ويقول ابن الأثير (3) : الكنز في الأصل المال المدفون تحت الأرض فإذا خرج منه الواجب عليه، لم يبق كنزًا وإن كان مكنوزًا، وهو حكم شرعي تجوز فيه من الأصل، ومنه حديث أبي ذر: ((بشر الكنازين برضف من جنهم)) (4) وهم جمع كناز، وهم المبالغ في جمع الذهب والفضة وادخارهما وترك إنفاقهما في أبواب البر. الكناز: المجتمع اللحم القويه وكل مجتمع مكتنز. ويقول الراغب (5) الكنز جعل المال بعضه على بعض وحفظه وأصله من كنزت التمر في الوعاء وزمن الكناز وقت ما يكنز فيه التمر وناقة كناز مكتنزة اللحم، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} ، أي: يدخرونها، وقوله تعالى: {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} وقوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} (6) أي مال عظيم. وقوله: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} قيل: كان صحيفة علم.   (1) روى عبد الرزاق المصنف. ج: 4. ص: 109 أثر: 7150) عن الثوري، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي بن أبي طالب قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة وما فوقها كنز. (2) سيأتي تخريجه قريبًا ضمن أحاديث أبي ذر المختلفة. (3) النهاية. ج: 4. ص: 203. (4) سيأتي تخريجه قريبًا ضمن أحاديث أبي ذر المختلفة. (5) المفردات في غريب القرآن. ص: 664 و665. (6) هود الآية رقم 12. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1137 هذه صفوة ما قاله اللغويون ومن التزم نهجهم واقتصر عليه من المفسرين والفقهاء. أما أهل التأويل فإليك صفوة آرائهم. قال الطبري في تأويل الآية (1) يقول تعالى ذكره: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . يقول: بشر الكثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بعذاب أليم يوم القيامة موجع من الله، واختلف أهل العلم في معنى الكنز، فقال بعضهم: هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته، قالوا: وعنى بقول: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لا يؤدون زكاتها، ذكر من قال ذلك. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن ابن عمر قال: كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونًا، وكل ما لم تؤد زكاته فهو الكنز الذي ذكر في القرآن، يكوى به صاحبه وإن لم يكن مدفونًا. حدثنا الحسين بن جنيد، قال: حدثنا سعيد بن مسلمة، قال: حدثنا إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: كل ما أديت منه الزكاة فليس بكنز، وإن كان مدفونًا، وكل ما لم تؤد منه الزكاة وإن لم يكن مدفونًا، فهو كنز (2) حدثني أبو السائب، قال: حدثنا يحيى بن فضيل، عن يحيى بن سعيد عن نافع، عن ابن عمر قال: أيما مال أديت زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفونًا في الأرض وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه (3) حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي وجرير، عن الأعمش، عن عطية، عن ابن عمر قال: ما أديت زكاته فليس بكنز (4) قال: حدثنا أبي عن العمري عن نافع عن ابن عمر قال: ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين وما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرًا (5) قال: حدثنا جرير عن الشيباني عن عكرمة قال: ما أديت زكاته فليس بكنز.   (1) جامع البيان: 10. ص: 83 وما بعدها. (2) ستأتي له أسانيد أخرى. (3) ستأتي له أسانيد أخرى. (4) ستأتي له أسانيد أخرى. (5) ستأتي له أسانيد أخرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1138 حدثنا محمد بن حسين قال: حدثنا أحمد بن الفضل قال: حدثنا أسباط عن السدي قال: أما الذين يكنزون الذهب والفضة فهؤلاء أهل القبلة والكنز ما لم تؤد زكاته وإن كان على ظهر الأرض وإن قل وإن كان كثيرًا وأديت زكاته فليس بكنز. حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر قال: قلت لعامر: مال على رف بين السماء والأرض لا تؤدى زكاته أهو كنز؟ قال: يكوى به يوم القيامة. وقال آخرون: كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز أديت منه الزكاة أم لم تؤد. ذكر من قال ذلك. حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي الضحى عن جعدة بن هبيرة عن علي رحمة الله عليه قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة فما كان أكثر من ذلك فهو كنز. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي مثله. حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الشعبي قال: أخبرني أبو حصين عن جعدة بن هبيرة عن علي رحمة الله عليه في قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة وما فوقها كنز. وقال آخرون: الكنز كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه، ذكر من قال ذلك. حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الله بن معاذ قال: حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة عن أنس عن عبد الواحد أنه سمع أبا مجيب (1) قال: كان نعل سيف أبي هريرة من فضة، فنهاه عنها أبو ذر، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها)) (2)   (1) لم نقف على راو بهذا الاسم، والذي وقفنا عليه أبو مجيبة الباهلي أو الباهلية وفي ضبط اسمه أو اسمها خلاف، وقد روى عنه أو عنها النسائي كما روى ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 10. ص: 49. ترجمة 71) ولعل في الاسم خطأ مطبعيا. (2) لم نقف عليه عند غير الطبري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1139 حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا مؤمل قال: حدثنا سفيان عن منصور عن الأعمش وعمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد قال: لما نزلت {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تبًا للذهب والفضة)) ، يقولها ثلاثا. قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: فأي مال نتخذ؟ فقال عمر: أنا أعلم لكم ذلك فقال: يا رسول الله، أصحابك قد شق عليهم وقالوا: فأي مال نتخذ؟ فقال: ((لسانا ذاكرًا وقلبًا شاكرًا وزوجة تعين أحدكم على دينه)) (1) حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا مؤمل قال: حدثنا إسرائيل عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان بمثله. حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن عمرو بن مرة، عن منصور بن أبي الجعد قال: لما نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال المهاجرون: أي المال نتخذ؟ قال: اسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأدركته على بعير، فقلت: يا رسول الله، إن المهاجرين قالوا: أي المال نتخذ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لسانًا ذاكرًا وقلبًا شاكرًا وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه)) (2) حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أسامة قال: توفي رجل من أهل الصفة، فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كية)) ، ثم توفي آخر، فوجد في مئزره ديناران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيتان)) (3) حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن صدي بن عجلان أبي أمامة قال: مات رجل من أهل الصفة، فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كية)) ثم توفي آخر، فوجد في مئزره ديناران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيتان)) (4) حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم، عن ثوبان قال: كنا في سفر ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال المهاجرون: لو وددنا أن علمنا أي المال خير فنتخذه، إذ نزل في الذهب والفضة ما نزل، فقال عمر: إن شئتم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا: أجل، فانطلق فتبعته أوضع على بعيري، فقال: يا رسول الله، إن المهاجرين لما أنزل الله في الذهب والفضة ما أنزل قالوا: لو وددنا أنا علمنا أي المال خير فنتخذه، قال: ((نعم ليتخذ أحدكم لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وزوجة تعين أحدكم على إيمانه)) (5)   (1) ستأتي له أسانيد أخرى. (2) ستأتي له أسانيد أخرى. (3) ستأتي له أسانيد أخرى. (4) ستأتي له أسانيد أخرى. (5) ستأتي له أسانيد أخرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1140 قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة القول الذي ذكر عن ابن عمر، أن كل مال أديت زكاته فليس بكنز يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر، وأن كل مال لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب مستحق وعد الله، إلا أن يتفضل الله عليه بعفوه وإن قل إذا كان مما يجب فيه الزكاة، وذلك أن الله أوجب في خمس أواق من الورق على لسان رسوله ربع عشرها، وفي عشرين مثقالًا من الذهب مثل ذلك ربع عشرها، فإذا كان ذلك فرض الله في الذهب والفضة على لسان رسوله، فمعلوم أن الكثير من المال وإن بلغ في الكثرة ألوف الألوف لو كان وإن أديت زكاته من الكنوز التي أوعد الله عليها العقاب، لم يكن فيه الزكاة التي ذكرنا من ربع العشر؛ لأن ما كان فرضا إخراج جميعه من المال وحرام اتخاذه، فزكاته الخروج من جميعه إلى أهله لا ربع عشره، وذلك مثل المال المغصوب الذي هو حرام على الغاصب إمساكه، وفرض عليه إخراجه من يده إلى يده، فالتطهر منه رده إلى صاحبه، فلو كان ما زاد من المال على أربعة آلاف درهم أو ما فضل عن حاجة ربه التي لا بد منها مما يستحق صاحبه باقتنائه إذا أدى إلى أهل السهمان حقوقهم منها من الصدقة وعد الله لم يكن اللازم فيه ربع عشره، بل كان اللازم الخروج من جميعه إلى أهله وصرفه فيما يجب عليه صرفه كالذي ذكرنا من أن الواجب على غاصب مال رده إلى ربه. وبعد فإن فيما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، قال: قال معمر: أخبرني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل يوم القيامة صفائح من نار يكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس، ثم يرى سبيله بين الناس وإن كانت إبلا إلا بُطح لها بقاع قرقر، تطؤه بأخفافها، حسبته قال: وتعضه بأفواهها، يرد أولاها على أخراها حتى يقضى بين الناس، ثم يرى سبيله، وإن كانت غنمًا مثل ذلك، إلا أنها تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها (1) وفي نظائر ذلك من الأخبار التي كرهنا الإطالة بذكرها، فالدلالة الواضحة على أن الوعيد إنما هو من الله على الأموال التي لم تؤد الوظائف المفروضة فيها لأهلها من الصدقة، لا على اقتنائها واكتنازها، وفيما بينا من ذلك البيان الواضح على أن الآية لخاص، لما قال ابن عباس. وذلك ما حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} يقول: هم أهل الكتاب، وقال: هي خاصة وعامة (2)   (1) ستأتي له أسانيد أخرى. (2) ستأتي له أسانيد أخرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1141 يعني بقوله: خاصة وعامة، هي خاصة من المسلمين فيمن لم يؤد زكاة ماله منهم، وعامة في أهل الكتاب؛ لأنهم كفار، لا تقبل منهم نفقاتهم إن أنفقوا، يدل على صحة ما قلنا قول ابن عباس ما حدثني المثنى، قال: حدثني عبد الله قال: حدثني معاوية عن عبد الله ابن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} إلى قوله {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} قال: هم الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، قال: وكل مال لا تؤدى زكاته على ظهر الأرض أو في بطنها، فهو كنز، وكل مال تؤدى زكاته، فليس بكنز، كان على ظهر الأرض أو في بطنها (1) حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد: في قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} . قال: الكنز ما كنز عن طاعة الله وفريضته وذلك الكنز وقال: إنما فرضت الزكاة والصلاة جميعًا لم يفرق بينهما. ثم قال: وقد كان بعض الصحابة يقول: هي عامة في كل كنز غير أنها خاصة في أهل الكتاب وإياهم عنى الله بها ذكر من قال ذلك. حدثني أبو حصين، حدثنا عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا حصين، عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فلقيت أبا ذر، فقلت: يا أبا ذر، ما أنزلك هذه البلاد؟ قال: كنت بالشام، فقرأت بهذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية، فقال معاوية: ليست هذه الآية فينا، إنما هذه الآية في أهل الكتاب قال: قلت: إنها فينا وفيهم، قال: فارتفع في ذلك بيني وبينه القول، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ: أن أقبل إليَّ. قال: فأقبلت، فلما قدمت المدينة ركبني الناس، كأنهم لم يروني قبل يومئذ، فشكوت ذلك إلى عثمان، فقال لي: تنح قريبًا، قلت: والله لن أدع ما كنت أقول (2) حدثنا أبو كريب وأبو السائب وابن وكيع، قالوا: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا حصين، عن زيد بن وهب، قال: مررنا بالربذة ثم ذكر عن أبي ذر نحوه (3) حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن أشعث وهشام، عن أبي بشر قال: قال أبو ذر: خرجت إلى الشام فقرأت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فقال معاوية: إنها لأهل الكتاب، فقال: إنها لفينا وفيهم.   (1) ستأتي له أسانيد أخرى. (2) ستأتي له أسانيد أخرى. (3) ستأتي له أسانيد أخرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1142 حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن زيد بن وهب، قال: مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر قال: قلت له: ما أنزل منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال: فقال: فنزلت في أهل الكتاب فقلت: نزلت فينا وفيهم. ثم ذكر حديث هشيم عن حصين (1) وقال الشافعي (2) قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، فأبان أن في الفضة زكاة، وقول الله عز وجل {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني والله أعلم في سبيله التي فرض من الزكاة وغيرها، فأما دفن المال فضرب من إحرازه، وإذا حل إحرازه بشيء حل بالدفن وغيره. وقال الجصاص (3) بعد أن روى طرفًا مما رواه الطبري ونقلناه عنه من آثار الصحابة والتابعين في تأويل الآية: روي عنه صلى الله عليه وسلم: ((من سأل عن ظهر غنى، فإنما يستكثر من جمر جهنم)) فقلنا: وما غناه يا رسول الله؟ قال: أن يكون عند أهله ما يغذيهم ويعشيهم هذا الحديث متواتر روي من طرق متعددة عن عدد من الصحابة ولئن تكلموا في بعض مسنديه، فإن كلامهم لا ينزل بالحديث عن درجة المتواتر، بل إن من تكلموا فيهم وثقهم البعض وغمز فيهم آخرون غمزًا لا نرى الاعتداد به. وهذه طرقه وأسانيده متوالية حسب ترتيب مخرجيها عندنا. قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 180) : حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل وله ما يغنيه كان خدوشًا أو كدوحًا في وجهه)) قيل: يا رسول الله، وما غناؤه؟ قال: ((خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب)) .   (1) ستأتي له أسانيد أخرى. (2) أحكام القرآن. ج:1. ص: 101. (3) أحكام القرآن. ج: 3. ص: 13. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1143 وقال (الكتاب المصنف. ص: 208 و209) : حدثنا ابن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس تكثرًا، فإنما يسأل جمرة، فليستقل منه أو ليستكثر)) . حدثنا ابن نمير، عن مجالد، عن الشعبي، عن حبشي السلولي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سأل الناس ليثري به ماله، فإنه خموش في وجهه ورضف من جهنم، يأكله يوم القيامة)) وذلك في حجة الوداع. وقال أحمد (الساعاتي الفتح الرباني: ج 9. ص: 90 ح:131) حدثنا وكيع حدثنا سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة خدوشًا أو كدوشًا في وجهه. قالوا يا رسول الله، ما غناه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب)) . وقال (الفتح الرباني. ج 9. ص: 93. ح: 137) : حدثني محمد بن يحيى بن أبي سمينة، حدثنا عبد الصمد، حدثني أبي، حدثنا حسن بن ذكوان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عصام بن أبي ضمرة، عن علي – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل مسألة عن ظهر غنى استكثر بها من رضف جهنم. قالوا: ما ظهر غنى قال: عشاء ليلة)) . وقال (الفتح الرباني ج9 ص: 94 ح: 138) حدثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي بكير قالا: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأله من غير فقر، فكأنما يأكل الجمر)) . قال: (الفتح الرباني. ج 9. ص: 94. ح: 139) : حدثنا علي بن عبد الله، حدثني الوليد بن مسلم، حدثني عبد الله بن يزيد بن جابر، قال: حدثني ربيعة بن يزيد، حدثني أبو كبشة السلولي، أنه سمع سهل بن الحنظلية الأنصاري - رضي الله عنه – صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((أن عيينة والأقرع سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فأمر معاوية أن يكتب به لهما، ففعل، وختمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بدفعه إليهما، فأما عيينة فقال: ما فيه؟ قال: فيه الذي أمرت به. فقبله وعقده في عمامته، وكان أحكم الرجلين، وأما الأقرع فقال: أحمل صحيفة لا أدري ما فيها صحيفة المتلمس، فأخبر معاوية رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهما، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فمر ببعير مناخ في باب المسجد من أول النهار، ثم مر به آخر النهار وهو على حاله، فقال: أين هو صاحب هذا البعير؟ فابتغي، فلم يوجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله في هذه البهائم، ثم اركبوها صحاحًا واركبوها سمانًا - كالمتسخط آنفًا - إنه من سأل وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من نار جهنم. قالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: ما يغذيه أو يعشيه)) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1144 وقال (الفتح الرباني. ج 9.ص: 96. ح: 140) : حدثنا علي بن عبد الله بن جعفر، حدثنا عبد الله بن عبد الملك بن عثمان، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة بن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سأل مسألة وهو عنها غني، كانت شيئًا في وجهه يوم القيامة)) . وقال (الفتح الرباني. ح: 141 و143) : حدثنا وكيع، حدثنا أبو الأشهب، عن الحسن بن عمران، عن حصين – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مسألة الغني شين في وجهه يوم القيامة. حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا عمارة بن أبي زرعة، عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس أموالهم تكثرًا، فإنما يسأل جمرًا، فليستقل منه أو ليستكثر)) . وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج:5. ص:166. ح: 3382) : أخبرنا أبو عروبة، قال: حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن الحراني، قال: حدثنا يحيى بن السكن، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق قال: قال عمر بن الخطاب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس ليثري ماله، فإنما هو رضف من النار يتلهبه، من شاء فليقل، ومن شاء فليكثر)) . وقال (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج5.ص: 166 و167.ح: 3384 و3385) : أخبرنا أبو يعلى، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس من أموالهم، فإنما سأل جمرًا، فليستقل منه أو ليستكثر)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1145 أخبرنا محمد بن مكرم البرتي ببغداد، قال: حدثنا علي بن المديني، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد، عن جابر قال: حدثني ربيعة بن يزيد، قال: حدثني أبو كبشة السلولي، أنه سمع سهل بن الحنظلية صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((أن الأقرع وعيينة سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر معاوية أن يكتب به لهما، وختمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بدفعه إليهما، فأما عيينة فقال: ما فيه؟ فقال: فيه الذي أمرت به، فقبله وعقده في عمامته، وكان أحلم الرجلين، وأما الأقرع فقال: أحمل صحيفة لا أدري مافيها كصحيفة المتلمس، فأخبر معاوية رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجته، فمر ببعير مناخ على باب المسجد في أول النهار، ثم مر به في آخر النهار وهو في مكانه، فقال: أين صاحب هذا البعير؟ فابتغي فلم يوجد، فقال: اتقوا الله في هذه البهائم، اركبوها صحاحًا، أو كلوها سمانًا. كالمتسخط آنفًا إنه من سأل شيئًا وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من جمر جهنم، قالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: ما يغذيه أو يعشيه.)) وقال مسلم (الصحيح على هامش شرح النووي ج: 7.ص: 130) : حدثنا أبو كريب وواصل بن عبد الأعلى، قالا: حدثنا ابن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس أموالهم تكثرًا، فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر)) . وقال الترمذي (الجامع الصحيح. ج: 3.ص: 40 و41. ح: 650 و651) : حدثنا قتيبة وعلي بن حجر - قال قتيبة: حدثنا شريك، وقال علي: أخبرنا شريك، والمعنى واحد - عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس وله ما يغنيه، جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح. قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب)) . وتعقبه بقوله: وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، ثم قال: حديث ابن مسعود حديث حسن، وقد تكلم حميد في شعبة بن جبير من أجل هذا الحديث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1146 حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا سفيان، عن حكيم بن جبير بهذا الحديث، فقال له عبد الله بن عثمان صاحب شعبة: أو غير حكيم حدث بهذا الحديث؟ فقال له سفيان: وما لحكيم لا يحدث عن شعبة؟ قال: نعم، قال سفيان: سمعت زيدًا يحدث بهذا، عن محمد، عن عبد الرحمن بن يزيد. وقال أبو داود (السنن. ج: ص: 116. ح: 1636) : حدثنا الحسن بن علي، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة خدوش أو حموش أو كدوح في وجهه. فقيل: يا رسول الله، وما الغنى؟ قال: خمسون درهمًا وما قيمتها من الذهب)) . قال يحيى: فقال عبد الله بن عثمان لسفيان: حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير. فقال سفيان: فقد حدثناه زيد، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد. وقال أبو داود (السنن. ح: 1629 و1630) : حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، حدثنا مسكين، حدثنا محمد بن المهاجر، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي كبشة السلولي، حدثنا سهيل بن الحنظلية، قال: ((أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، فأمر لهما بما سألا، فأما الأقرع فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق، وأما عيينة فأخذ كتابه وأتى النبي صلى الله عليه وسلم مكانه، فقال: يا محمد، أتراني حاملًا إلى قومي كتابًا لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمس، فأخبر معاوية بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سأل وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من النار. وقال النفيلي في موضع آخر: " من جمر جهنم ". فقالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ وقال النفيلي في موضع آخر: وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: قدر ما يغذيه ويعشيه. وقال النفيلي في موضع آخر: " أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم ")) . وكان حدثنا به مختصرًا على هذه الألفاظ التي ذكرت، حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا عبد الله – يعني ابن عمر بن غانم – عن عبد الرحمن بن زياد، أنه سمع زياد بن نعيم الحضرمي، أنه سمع زياد بن الحرث الصدائي، قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعته ... فذكر حديثًا طويلًا، قال: فأتاه رجل، فقال: أعطني من الصدقة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك)) . وقال النسائي (السنن. ج: 5.ص: 97) : أخبرنا أحمد بن سليمان، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن حيكم بن جبير، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سأل وله ما يغنيه، جاءت خدوشًا أو كدوحًا في وجهه يوم القيامة. قيل: يا رسول الله، ماذا يغنيه، أو ماذا أغناه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب)) . قال سفيان: وسمعت زيدًا يحدث، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد. وقال ابن ماجه (السنن. ج: 1. ص589. ح: 1838) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس أموالهم تكثرًا، فإنما يسأل جمر جهنم، فليستقل أو ليكثر)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1147 وقال (السنن. ح: 1840) : حدثنا الحسن بن علي الخلال، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة خموشًا أو خدوشًا أو كدوحًا في وجهه، قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب)) . قال رجل لسفيان: إن شعبة لا يحدث عن حكيم بن جبير، فقال سفيان: قد حدثناه زيد، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد. وقال الدارمي (السنن. ج: 1.ص: 387) : أخبرنا محمد بن عبد الله الرقاشي، حدثنا يزيد - هو ابن زريع - حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سأل الناس مسألة وهو عنها غني، كانت شيئًا في وجهه)) . وقال الدراقطني (السنن: ج:2. ص: 121. ح: 1 و2 و4 و5 و6) : حدثنا القاسم بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور، حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثني الحسين بن عمرو بن خالد، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سأل مسألة عن ظهر غني استكثر بها من رضف جهنم. قالوا: يا رسول الله، وما ظهر الغني؟ قال: عشاء ليلة)) . وتعقبه بقوله: عمرو بن خالد متروك. حدثنا عثمان بن جعفر بن اللبان، حدثنا محمد بن إبراهيم النبيرة، حدثنا محمد بن إسماعيل الجعفري، حدثنا عبد الله بن سلمة بن أسلم عن عبد الرحمن المسور بن مخرمة، عن أبيه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سأل الناس عن ظهر غنى جاء يوم القيامة في وجهه خموش أو خدوش قيل: يا رسول الله، ما الغنى؟ قال: خمسون درهما أو قيمتها من الذهب)) . وتعقبه بقوله: ابن أسلم ضعيف. حدثنا أبو هريرة الأنطاكي، حدثنا أبو زيد أحمد بن عبد الرحيم بن بكر بن فضيل، حدثنا محمد بن مصعد، حدثنا حماد بن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: ((سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من سأل الناس وهو غني، جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح وخدوش. فقيل: يا رسول الله، ما غناه؟ قال: أربعون درهمًا أو قيمتها ذهبًا)) . حدثنا الحسن بن إسماعيل، حدثنا أبو هشام. وحدثنا محمد بن القاسم، حدثنا أبو كريب، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وقال: " خمسون درهمًا". وتعقبه بقوله: الأول وهم، قوله: عن أبي إسحاق. وإنما هو حكيم بن حبير، وهو ضعيف، تركه شعبة وغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1148 قرئ عن أبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز - وأنا أسمع - حدثكم إسحاق بن إسرائيل أبو يعقوب المروزي، حدثني شريك بن عبد الله بن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما سأل وله غنى، جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح أو خدوش أو خموش. قيل: وما غناه يا رسول الله؟ قال: خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب)) . وتعقبه بقوله: حكيم بن جبير متروك. وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار. ج: 2.ص: 49و20) : حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا مخول بن إبراهيم، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سأل من غير فقر، فإنه يأكل الجمر)) . حدثنا فهد، قال: حدثنا أبو غسان، قال: حدثنا إسرائيل فذكر مثله. ثم قال: حدثنا الحسين بن نصر، قال: حدثنا الفريابي. وحدثنا نصر بن مرزوق، قال: حدثنا أبو عاصم. قالا جميعًا: عن سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن زيد النخعي، عن أبيه، عن ابن مسعود – رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يسأل عبد مسألة وله ما يغنيه إلا جاءت شينا أو كدوحًا أو خدوشًا في وجهه يوم القيامة. قيل: يا رسول الله، وماذا غناه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب)) . حدثنا أحمد بن خالد البغدادي، قال: حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: حدثنا يحيى بن آدم. قال: حدثنا سفيان فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: (كدوحًا في جهه) ، ولم يشك، وزاد: (فقيل لسفيان: لو كان غير حكيم. قال: حدثناه زيد، عن محمد بن عبد الرحمن، عن يزيد مثله.) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1149 حدثنا أبو بشر الرقي، قال: حدثنا ابن سويد، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: حدثنا ربيعة بن يزيد، عن كبشة السلولي، قال: حدثنا أبو حنظلة السلولي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سأل الناس عن ظهر غنى، فإنما يستكثر من جمر جهنم. قلت: يا رسول الله، وما ظهر غنى؟ قال: أن يعلم أن عند أهله ما يغذيهم أو يعشيهم)) . حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا أبو عمرو الحوطي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن مردويه، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل وله ما يغنيه، جاءت شينا في وجهه يوم القيامة)) . ثم قال: حدثنا أحمد بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، قال: حدثنا محمد بن الفضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس تكثرًا، فإنما هو جمر، فليستقل أو ليستكثر)) . وقال الطبراني (المعجم الكبير. ج: 4. ص: 14 و15. ح: 3505) : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا أبي، حدثنا أبو حمزة، عن الشعبي، عن حبشي بن جنادة السلولي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سأل الناس في غير مصيبة حاجته، فكأنما يلتقم الرضفة)) . وقال (المعجم الكبير: ح: 3506 و3507 و3508) : حدثنا محمد بن النضر الأزدي، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سأل من غير فقر، فكأنما يأكل الجمرة)) ، حدثنا أبو مسلم الكشي، حدثنا عبد العزيز بن الخطاب. وحدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، حدثنا إبراهيم بن عمرو البجلي. وحدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا يحيى الحماني. قالوا: حدثنا قيس بن الربيع، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل من غير فقر، فإنما يأكل من جمرة)) . حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا موسى بن الحسين أبو الحسين السلولي، حدثنا غصن بن حماد، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل من غير فقر، فكأنما يأكل جمرًا)) . وقال (المعجم الكبير. ج: 10. ص: 159. ح: 10199) : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا نصر بن ناب، عن الحجاج، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل مسألة وهو عنها غني، جاءت يوم القيامة كدوحًا في وجهه، لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهمًا أو عرضها ذهبًا)) . وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 4. ص: 174) : أخبرني أبو الحسن بن بشران العدل ببغداد، أنبأ أبو الحسن أحمد بن إسحاق الطيبي، حدثنا أبو علي بشر بن موسى الأسدي المقري، حدثنا عبد الرحمن بن زياد، حدثني زياد بن نعيم الحضرمي قال: سمعت زياد بن الحارث الصدائي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكر الحديث، إلى أن قال: ثم أتاه آخر، فقال: يا نبي الله، أعطني. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس عن ظهر غنى، فصداع في الرأس، وداء في البطن. فقال السائل: أعطني من الصدقة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز جل لم يرض فيها بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم هو فيها، فجزأها ثمانية أجزاء، إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك، أو أعطيناك حقك)) . وكان ذلك في وقت شدة الحاجة ووجوب المواساة من بعضها (1) لبعض". ثم دافع عن القول بأن الآية لا تعني وجوب الخروج من كل ما يملكه المسلم من الذهب والفضة مستدلا بوجوب الزكاة فيهما. ثم قال: " إلا أن تحدث أمور توجب المواساة والإعطاء نحو الجائع المضطر، والعاري المضطر، أو ميت ليس له من يكفنه أو يواريه". واستدل على هذا بحديث فاطمة بنت قيس الذي نقلناه ووقفنا عنده منذ حين. ثم قال: " وقوله تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يحتمل أن يريد به ولا ينفقون منها فحذف " من " وهو يريدها، وقد بينها بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (2) فأمر بأخذ بعض المال لا جميعه، وليس في ذلك ما يوجب نسخ الأول (3) إذ جائز أن يكون مراده: لا ينفقون منها.   (1) لعل في العبارة خطأ صوابه: من بعضهم. (2) الآية رقم: (105) سورة التوبة. (3) لعل الصواب: نسخ الأولى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1150 قلت: يفند بهذا القول ما روي عن عمر بن عبد العزيز، أن آية الكنز منسوخة بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وكان من بين نقله من التأويلات. وقال ابن العربي (1) " وقد اختلف فيه - يعني في الكنز- على سبعة أقوال: الأول: أنه المجموع من المال على كل حال. الثاني: أنه المجموع من النقدين، يعني الذهب والفضة. الثالث: أنه المجموع منهما ما لم يكن حليًا. الرابع: أنه المجموع منهما دفينًا. الخامس: أنه المجموع منهما لم تؤد زكاته. السادس: أنه المجموع منهما لم تؤد منه الحقوق. السابع: أنه المجموع ما لم ينفق ويهلك في ذات الله ". ثم قال: " وقد قال بعض الناس: إن ما زاد على أربعة آلاف كنز، وعزوه إلى علي، وليس بشيء يذكر لبطلانه (2) ، أما أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال: هكذا وهكذا. وأشار بيده يفرقها)) (3) قال أبو ذر: الأكثرون أصحاب عشرة آلاف، يريد أن الأكثرين مالًا هم الأقلون يوم القيامة ثوابًا، إلا من فرقه في سبيل الله. قلت – ابن العربي هو القائل -: وهذا بيان لضمان الرتبة بقلة الصدقة، لا لوجوب التفرقة بجميع المال ما عدا الصدقة الواجبة". ثم استظهر بحديث ثوبان (4) الذي نقلناه آنفًا. ثم قال: " فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا جوابًا لمن علم رغبته في المال، فرده إلى منفعة المال لما فيه من الفراغ وعدم الاشتغال ".   (1) أحكام القرآن. ج: 2.ص: 298 و931. (2) تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر (3) تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر (4) تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1151 قلت: جرى ابن العربي في هذا على مذهبه الخاص به، من أنه ليس في المال حق سوى الزكاة، وأن كل نفقة أخرى لا تعدو أن تكون مندوبًا إليها، وله تأويله، بيد أن استدلاله من التهافت والضعف، بحيث نعجب منه أن ركن إليه، ذلك بأن حديث ثوبان فيه وعيد، وليس مجرد ترتيب لأصناف من يثابون أو تبيان لرتبهم، يظاهرنا في هذا الفهم ما سبق أن نقلناه وما سننقله بعد من أحاديث وآثار تثبت أن حديث ثوبان أبعد شيء من أن يكون دليلًا على عدم وجوب الإنفاق على من أدى زكاة ماله إذا تعين أمر أو ظرف يقتضي من القادر الإنفاق. وقال القرطبي (1) عند شرحه لهذه الآية: " واختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته، هل يسمى كنزا أم لا؟ فقال قوم: نعم، رواه أبو الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي – رضي الله عنه – قال علي: أربعة آلاف فما فوقها نفقة، وما كثر فهو كنز، وإن أديت زكاته. (2) ولا يصح. وقال قوم: ما أديت زكاته منه أو من غيره عنه، فليس بكنز، قال ابن عمر:ما أدي زكاته، فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم تؤد زكاته، فهو كنز، وإن كان فوق الأرض. (3) ومثله عن جابر وهو الصحيح، وروى البخاري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالًا فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع، له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه – يعني بشدقيه – ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} )) (4) وفيه أيضًا عن أبي ذر قال: انتهيت إليه- يعني النبي صلى الله عليه وسلم - قال: ((والذي نفسي بيده - أو الذي لا إله غيره، أو كما حلف - ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها، إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه، تطؤه بأخفافها، وتنطحه بقرونها، كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها، حتى يقضي الله بين الناس)) (5) فدل دليل خطاب هذين الحديثين على صحة ما ذكرنا ".   (1) الجامع لأحكام القرآن. ج: 8. ص: 125 وما بعدها (2) تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر (3) تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر. (4) الآية رقم: (180) سورة آل عمران. (5) تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1152 قلت: لا دليل فيهما؛ لأن الوعيد في آية الكنز يختلف عن الوعيد في الحديثين، أما استشهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} (1) فهو دليل على عمومها للزكاة وغيره، وليس دليلًا على معنى آية الكنز، ونوع العذاب الذي أوعد به الكانزون، وشتان بين الشجاع الأقرع وتطويقه وأخذه بهلزمتي مانع الزكاة وبين ما أوعد به الكانز {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} . ثم قال: " وقد بين ابن عمر في صحيح البخاري هذا لمعنى، قال له أعرابي: أخبرني عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} قال ابن عمر: من كنزها فلم يؤد زكاته، فويل له، فإنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما أنزلت جعلها الله طهرًا للأموال ". قلت: سنبين من بعد أن هذا وهم من ابن عمر إن صح عنه حين نحدد الزمن الذي نزلت فيه سورة التوبة والزمن الذي فرضت فيه الزكاة، وبَيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنصبتها. ثم قال: " وقيل: الكنز ما فضل عن الحاجة، روي عن أبي ذر، وهو ما نقل من مذهبه، وهو من شدائده وممن تفرد به رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون مجمل ما روي عن أبي ذر في هذا ما روي أن الآية نزلت في وقت شدة وضعف المهاجرين وقصر يد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كفايتهم، ولم يكن في بيت المال ما يسعهم، وكانت السنون الحوائج هاجمة عليهم، فنهوا عن إمساك شيء من المال إلا على قدر الحاجة، ولا يجوز إدخار الذهب والفضة في مثل هذا الوقت، فلما فتح الله على المسلمين ووسع عليهم، أوجب صلى الله عليه وسلم في مائتي درهم خمسة دراهم، وفي عشرين دينارًا نصف دينار، ولم يوجب الكل، واعتبر مدة الاستنماء، وكان ذلك منه بيانًا صلى الله عليه وسلم".   (1) الآية رقم: (180) سورة آل عمران. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1153 قلت: هذا يتجه لو لم تكن سورة التوبة نزلت سنة تسع، وكان جلها متصلًا بغزوة تبوك، وظروفها وبعضها ممهدًا لها، وسنة تسع كانت بعد فتح مكة بعام كامل، وفتح مكة تتويج للفتوحات الإسلامية في العهد النبوي ولم يكن المسلمون يومئذٍ – ومنهم المهاجرون – في مثل الخصاصة التي يحاول أن يدعيها صاحب هذا القول، إلا أن يكون قد التبس عليه التاريخ. ثم قال: " وقيل: الكنز ما لم تؤد منه الحقوق العارضة، كفك الأسير، وإطعام الجائع". وقال الرازي (1) بعد أن استعرض التأويلات المأثورة: " القول الأول، وانتهى إلى قول ابن عباس في قوله: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يريد الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، قال القاضي: تخصيص هذا المعنى بمنع الزكاة لا سبيل إليه، بل الواجب أن يقال: الكنز: هو المال الذي ما أخرج " عنه". (2) ما وجب إخراجه " عنه " (3) ، ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات وما يلزم من نفقة الحج أو الجمعة (4) وبين ما يجب إخراجه في الدين والحقوق والإنفاق على الأهل أو العيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات، فيجب في كل هذه الأقسام أن يكون داخلًا في الوعيد. القول الثاني: المال الكثير إذا جمع فهو المذموم، سواء أديت زكاته أو لم تؤد، ثم ذكر أن أصحاب هذا القول احتجوا أولًا بعموم هذا الآية، وقال: ولا شك أن ظاهرها دليل على المنع من جمع المال، فالمصير إلى أن الجمع مباح بعد إخراج الزكاة ترك لظاهر هذه الآية، فلا يصار إليه بدليل منفصل. والثاني: ما روى سالم بن الجعد أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تبًا للذهب والفضة. قالها ثلاثًا، فقالوا له: أي مال نتخذ؟ قال: لسانًا ذاكرًا وقلبًا خاشعًا وزوجة تعين أحدكم على دينه)) (5) وقال عليه السلام: ((من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها)) (6) . وتوفي رجل، فوجد في مئزره دينار، فقال عليه السلام: كية. وتوفي آخر، فوجد في مئزرة ديناران، فقال عليه الصلاة والسلام: كيتان. والثالث ما روي عن الصحابة في هذا الباب، فقال علي: كل ما زاد عن أربعة آلاف فهو كنز، أديت منه الزكاة أم لم تؤد (7) . وعن أبي هريرة: كل صفراء أو بيضاء أوكى عليها صاحبها فهي كنز.   (1) التفسير الكبير. المجلد: 8. ج: 16. ص: 45 وما بعدها. (2) لعل الصواب: " منه ". (3) لعل الصواب: " منه ". (4) لم يتضح لنا ما يقصد بالجمعة. (5) تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر. (6) لم نقف عليه عند غير الطبري. (7) راجع الهامش رقم (1) ص 1502. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1154 وعن أبي الدرداء أنه كان إذا رأى أن التعسير قال ابن منظور (لسان العرب ج: 4. ص: 565 و566) : والعسير: الناقة التي لن تحمل سنتها، والعسيرة: الناقة التي اعتاطت فلم تحمل عامها، وفي التهذيب بغيرها، وقال الليث: العسير: الناقة التي اعتاطت فلم تحمل سنتها، وقد أعسرت وعسرت. ثم قال: والعسير من الإبل عند العرب التي اعتسرت فلم تركب، ولم تكن ذللت قبل ذلك ولا رضت، وكذا فسره الأصمعي، وكذلك قال ابن السكيت: العسير: الناقة التي ركبت قبل تذليلها، وعسرت الناقة تعسر عسرًا وعسرانًا وهي عاسر وعسير رفعت ذنبها في عدوها. قلت: يظهر لي أن في عبارة الرازي تصحيفًا مطبعيا صوابه: " العير " إذ لا يوجد في السياق ما يرجح كلمة " العسير" وإن استعملت في بعض حالات الإبل والنوق. فتأمل. ولم نقف على تخريج لهذا الأثر، لكنه يشبه كلام أبي ذر، وقد تقدم، وكانا صديقين على سن متشابه في التفكير والسلوك، وإن كان أبو الدرداء أحصف عقلًا وأهدأ نفسًا وألطف معاملة رضي الله عنهما وأرضاهما. تقدم بالمال صعد على موضع مرتفع، ويقول: جاء القطار يحمل النار، وبشر الكنازين بكي في الجباه والجنوب والظهور والبطون والرابع: أنه تعالى إنما خلق الأموال ليتوسل بها إلى دفع الحاجات، فإذا حصل للإنسان قدر ما يدفع به حاجته ثم جمع الأموال الزائدة عليه، فهو لا ينتفع بها لكونها زائدة على قدر حاجته، ومنعها من الغير الذي يمكنه أن يدفع حاجته بها، فكان هذا الإنسان بهذا المنع مانعًا من ظهور حكمته ومانعًا من وصول إحسان الله إلى عباده. واعلم أن الطريق الحق أن يقال: الأولى لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير إلا أنه لم يمنع عنه في ظاهر الشرع، فالأول محمول على التقوى، والثاني على ظاهر التقوى، أما بيان أن الأولى الاحتراز من طلب المال الكثير فبوجوه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1155 الوجه الأول: أن الإنسان إذا أحب شيئًا فكلما كان وصوله إليه أكثر والتذاذه بوجدانه أكثر، كان حبه له أشد وميله أقوى، فالإنسان إذا كان فقيرًا، فكأنه لم يذق لذة الانتفاع بالمال، وكأنه غافل عن تلك اللذة، فإذا ملك القليل من المال وجد بقدره اللذة، فصار ميله أشد، فكلما صارت أمواله أزيد، كان التذاذه به أكثر، وكان حرصه في طلبه وميله إلى تحصيله أشد، فثبت أن تكثير المال سبب لتكثير الحرص في الطلب، فالحرص متعب للروح والنفس والقلب، وضرره شديد، فوجب على العاقل أن يحترز عن الإضرار بالنفس، وأيضًا قد بينا أنه كلما كان المال أكثر، كان الحرص أشد، فلو قدرنا أنه كان ينتهي طلب المال إلى حد ينقطع عنه الطلب ويزول الحرص. لقد كان الإنسان يسعى في الوصول إلى ذلك الحد، أما كما ثبت بالدليل أنه كلما كان تملك الأموال أكثر، كان الضرر الناشئ من الحرص أكبر، وأنه لا نهاية لهذا الضرر ولهذا الطلب، فوجب على الإنسان أن يتركه في أول الأمر كما قال: رأى الأمر يفضي إلى آخر فصير آخره أولًا والوجه الثاني: أن كسب المال شاق شديد، وحفظه بعد حصوله أشد وأشقى وأصعب، فيبقى الإنسان طيلة عمره تارة في طلب التحصيل، وأخرى في تعب الحفظ، ثم إنه لا ينتفع بها إلا بالقليل، وبالآخر يتركها مع الحسرات والزفرات، وذلك هو الخسران المبين. الوجه الثالث: أن كثرة المال والجاه تورث الطغيان كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى} (1) والطغيان يمنع من وصول العبد إلى مقام رضوان الرحمن ويوقعه في الخسران والخذلان. وقال محمد الطاهر بن عاشور (2) عند شرحه لهذه الآية: " فالموصول - يعني في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} الآية - مراد به قوم معهودون يعرفون أنهم المراد من الوعيد ويعرفهم المسلمون، ولذلك لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أنب قومًا بأعيانهم. ومعنى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} انتفاء الإنفاق الواجب وهو الصدقات الواجبة والنفقات الواجبة إما وجوبًا مستمرًا كالزكاة، وإما وجوبًا عارضًا كالنفقة في الحج الواجب والنفقة في نوائب المسلمين مما يدعو الناس إليه ولاة العدل. والضمير المؤنث في قوله: {يُنْفِقُونَهَا} عائد إلى الذهب والفضة، والوعيد منوط بالكنز وعدم الإنفاق، فليس الكنز وحده بمتوعد، وليست الآية في معرض أحكام ادخار المال وفي معرض إيجاب الإنفاق، ولا هي في تعيين سبيل البر المعروف التي يجب الإخراج لأجلها من المال، ولا داعي إلى تأويل الكنز بالمال الذي لم تؤد زكاته حين وجوبها، ولا إلى تأويل الإنفاق بأداء الزكاة الواجبة، ولا إلى تأويل سبيل الله بالصدقات الواجبة؛ لأنه ليس المراد باسم الموصول العموم، بل أريد به العهد، فلا حاجة إلى ادعاء أنها نسختها آية وجوب الزكاة، فإن وجوب الزكاة سابق على وقت نزول هذه الآية ".   (1) الآية رقم: (6) و (7) سورة العلق. (2) التحرير والتنوير. ج: 10. ص: 176 و177. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1156 ثم نقل من الموطأ قول ابن عمر: إن الكنز هو ما لم تؤد زكاته. وحديث أبي هريرة عن المال الذي لم تؤد زكاته وأخذه بلهزمتي صاحبه يوم القيامة، وهو يقول: أنا مالك أنا كنزك. وقد ذكرناهما آنفًا. ثم قال: " فتأويله أن ذلك بعض ماله وبعض كنزه، فهو بعض الكنز المذموم في الكتاب والسنة، وليس كل كنز مذمومًا، وشذ أبو ذر فحمل الآية على عموم الكانزين في جميع أحوال الكنز وعلى عموم الإنفاق، وحمل {سَبِيلِ اللَّهِ} على وجوه البر، فقال بتحريم كنز المال، وكأنه تأول {وَلَا يُنْفِقُونَهَا} على معنى ما يسمى عطف التفسير أي: على معنى العطف لمجرد القرن بين اللفظين، فكان أبو ذر بالشام ينهى الناس عن الكنز، ويقول: وبشر الكناز بمكاوٍ من النار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. فقال له معاوية وهو أمير الشام في خلافة عثمان: إنما نزلت الآية في أهل الكتاب، فقال أبو ذر: نزلت فيهم وفينا. واشتد قول أبي ذر على الناس ورأوه قولًا لم يقله أحد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فشكاه معاوية إلى عثمان، فاستجلبه من الشام وخشي أبو ذر الفتنة في المدينة، فاعتزلها وسكن الربذة، وثبت على قوله". قلت: أبدأ الناس وأعادوا وخبوا وأوضعوا حول أبي ذر- رحمه الله – وحديثه أو أحاديثه، وليس شأننا في هذا المجال استقراء ما روي عن أبي ذر في شأن الكنز، إنما شأننا استجلاء المقاصد من مجموع حديث أبي ذر مع معاوية وعثمان وروايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول ما ينبغي الوقوف عنده وهو أساسي في تقديرنا، هو أن أبا ذر - رضي الله عنه - كان ممن يفتي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أوعية العلم، فقد ذكره ابن سعد في طبقاته (فيمن ذكر من أهل العلم والفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1) ، وروى في شأنه أثرًا لعلي - رضي الله عنه - فضلًا عن أثرين آخرين.   (1) طبقات ابن سعد. ج: 2. ص: 350 و354. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1157 فقال: أخبرنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، أخبرني أبو حرب بن أبي الأسود، عن أبي الأسود قال: قال ابن جريج ورجل من زاذان، قالا: سئل علي - رضي الله عنه - عن أبي ذر فقال: وعى علما عجز فيه، وكان شحيحًا حريصًا، شحيحًا على دينه حريصًا على العلم، وكان يكثر السؤال، فيعطي ويمنع، أما إنه ملئ له في وعاء حتى امتلأ، فلم يدروا ما يريد بقوله: (وعى علما عجز فيه) أعَجَزَ عن كشف ما عنده من العلم، أم عن طلب ما طلب من العلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، أخبرنا الوليد بن مسلم، أخبرنا أبو عمرو - يعني الأوزاعي -، حدثني مرثد - أو ابن مرثد - عن أبيه قال: جلست إلى أبي ذر الغفاري، إذ وقف عليه رجل، فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا - يظهر أنه يقصد بأمير المؤمنين عثمان - فقال أبو ذر: والله لو وضعتم الصمصامة على هذه، وأشار إلى حلقه، على أن أترك كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنفذتها قبل أن يكون ذلك. وأخبرنا وكيع بن الجراح، عن فطر بن خليفة، عن منذر الثوري، عن أبي ذر قال: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحه في السماء إلا ذكرنا منه علمًا. ". وما نريد أن نستقرأ ما أثر عن علم أبي ذر وفضله، حسبنا هذا الذي رواه ابن سعد موصولًا بأسانيد ما فيها من يمكن الغمز فيه لنتبين المركز العلمي لأبي ذر، هذا الذي تناولته الألسن إجلالًا من بعض وتشهيرًا من آخر. وحديثه عن الكنز أو تأويله لآية الكنز تعبيرًا عن موقف تجاهله البعض وجهده، أو غفل عنه آخرون من وضع حدث في ظل معاوية، وأخذ يستشري ويستفحل منذ عهد عثمان، وما من أحد يزعم أو يستطيع أن يزعم أن أبا ذر كظم حديثه في صدره أو جمجمه ولم يبينه منذ عهد أبي بكر وطوال عهد عمر وصدرًا من عهد عثمان رضي الله عنهم أجمعين خوفًا من أحد أو مجاملة له، وكان ينبغي للذين تناولوه بالإجلال أو بالتشهير أن يتدبروا الظرف الذي أخذ فيه أبو ذر يجهر بدعوته ويشتد على معاوية، اضطر معاوية أن يشكوه إلى عثمان واضطر عثمان إلى أن يستجلبه إليه، ثم يأمره أو يأذن له على اختلاف الروايات بالخروج من المدينة وسكنى الربذة على أن يختلف إلى المدينة أحيانًا، لئلا يرجع أعرابيا، والإسلام ينهى من تحضر أن يرجع بدويًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1158 وقد سبق أن ذكرنا أثناء حديثنا عن رافع بن خديج، أن صلة ما كانت بين الصحابيين الجليلين رافع وأبي ذر على تفاوت بينهما في السن وتباين في المحتد والمنشأ، تمثلت في موقف كان لهما من عثمان لبث فيه أبو ذر شديدًا صامدًا صلبًا مجابهًا، وقمع فيه رافع بالجهر الهادئ المسالم بما يريانه معًا أو يقترب أحدهما من الآخر في شأنه رؤية ورأيًا، وكلاهما أحدث موقفه لحاجة وصخبًا بين معاصريه من أهل الفتيا وغيرهم، اقتصر رافع في موقفه على ما يتصل بالأرض وإيجارها، واختص أبو ذر في موقفه على ما يتصل بالأموال المنقولة مباشرة وكنزها في أغلب أحواله وإن تناول العقار أيضًا في بعضها، وكان منطلق رافع عما حدث به هو وجابر وأبو هريرة وغيرهم من نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيجار الأرض على حين كان منطلق أبي ذر آية الكنز، وكلا الرجلين كان يقاوم - كل على طريقته - ظاهرة برزت منذرة بشر مستطير منذ أواخر عهد عثمان والذي لفت منها رافعًا ومن على شاكلته هو استحواذ القادرين ماليا على الأرض واستغلالها استحواذًا لم يحرم الفقراء فحسب، وإنما استغل ما فيهم من طاقة وخبرة استغلالًا يبقي على ضعف الفقير وينهك جهده فيما يكدس في خزائن القادر ثمرة ذلك الجهد وما صحبه من خبرة ودربة تكديسًا قوامه عرق الفقير الضعيف. أما الذي لفت أبا ذر وخاصة حين ذهب إلى الشام، فهو ما أخذ يتكدس ويكتنز في أيدي المحظوظين عامة سواء منهم الفلاحون والتجار وأرباب الحرف وغيرهم ممن يستثمرون أموالهم، وطبيعي أن هؤلاء لم يكونوا جمهرة المسلمين، وإنما كانوا طائفة منهم، إن تكن وفيرة فليست الغالبة عددًا على كل حال. وكان قد صحب هذا التكدس والاكتناز بذخ وترف أخذا يتطوران إلى نوع من البطر تجلى في تداول آنية الذهب والفضة، وطبعًا كان تداولها للاستعمال وحتى وإن يكن للزينة فهو نمط من الأشر والبطر نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم نهيًا صريحًا حاسما لا مجال فيه لأي تأويل، وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد ناقش معاوية وبالأحرى جادله جدالًا لا يخلو من حدة في نمط من التعامل أباحه معاوية وأنكره عليه صفوة الصحابة، وهو البيع والشراء في آنية الذهب والفضة بالنقد، أي بالدينار والدرهم، وليس هذا مجال تفصيل القول في هذا الشأن، حسبنا أن نشير إليه كمظهر من المظاهر التي اضطرت أبي ذر رضي الله عنه أن يشتد في الإنكار على معاوية بالذات وهو يتأول الوعيد الذي نزل في الكانزين بأنه غير موجه إلى المسلمين، وإنما هو موجه إلى أهل الكتاب تأولًا على غرابته ليس بغريب عن المقولة العجب الأخرى التي تقولها البعض، يغفر الله لهم، من أن آية الكنز نسختها آية الزكاة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1159 وكان أبو ذر وهو الذي صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أغلب سنوات الهجرة إذ أسلم من قبلها، فأعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام خليقًا بأن ينكر أشد الإنكار على معاوية مواقفه المريبة تلك والتي نشأ عنها نمط من التكيف الطبقي في المجتمع الإسلامي عامة وفي الشام خاصة، إذ إن تصرف معاوية في الشام كان نمطًا أخذ يقتدي به بعض عمال عثمان من بني أمية وشيعتهم وذيولهم على أقطار أخرى مما شملته الفتوحات الإسلامية، ذلك بأن أبا ذر أخذ يدرك بعمق إيمانه وغزارة علمه وصلابته في دينه وشدة تمسكه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يتهدد المجتمع الإسلامي من التخلي عن قاعدة المؤاخاة التي شرعها القرآن أساسًا لبناء المجتمع الإسلامي، وطبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة، إذ آخى بين المهاجرين والأنصار، والتحول إلى سلوك لا يؤدي ولا يمكن أن يؤدي إلا إلى صراع طبقي يهدم الكيان الإسلامي من داخله ويهيئه للمتربصين به لقمة سائغة فضلًا عن أن طبيعة الترف والبزخ حين تهيمن على الناس تصرفهم صرفًا كاملًا حاسما عن الخلق الإسلامي الرضي المستلهم لطبيعة الأخوة الإسلامية والمساواة بين المسلمين والتضحية في سبيل المصلحة العامة لهم إلى خلق الجشع والأثرة واللهف وراء المال من طرق شرعية بادئ الأمر، ثم من غيرها بالتأويل المنحرف لنصوص الشريعة، ثم بالاستهتار وعدم المبالاة، ثم بالاستحلال، وهي مراحل من الانحراف لا محيص من أن تؤدي الواحدة منها إلى الأخرى، فكان أبو ذر بما جهر وإصراره على ما أصر ثم إيثاره العزلة نمطًا من النضال، بل من الجهاد، اختاره أبو ذر، ووقف له حياته حتى لحق بربه راضيًا مرضيًا، ولم يكن شذوذًا كما يطيب للبعض أن يقول، وإنما هو صمود على الحق وثبات في الدعوة إليه، وصيانة معالمه وقواعده. وآية ذلك أن النتيجة التي نتجت عن تأويلات المتأولين لآية الكنز ومنهم بعض التابعين - يغفر الله لهم - كانت استمرار المجتمع الإسلامي انطلاقًا من سنن معاوية في الابتعاد السريع المريع عن السنن الذي كان عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده وأراد علي - رحمه الله - أن يعيده إليه، فعاقه المنشقون، ثم عاجله قدر الله، وأراد عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أن يعيده إليه، فعاجله قدره أيضًا، ولا أحسبه بمستطيع لو طال عمره، فقد فات الأوان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1160 والذي يعنينا من كل هذا هو أن تأويل أبي ذر لآية الكنز كان هو التأويل الصحيح الوحيد الذي تشهد له ظروف سورة التوبة كلها، كما تشهد له الوقائع التي حفلت بها تلك الظروف. وقبل أن نعرض تلك الظروف نرى - تيسيرًا لاستكمال الصورة لدى القارئ - أن ندرج صفوة مما روي عن أبي ذر في تأويل آية الكنز ولم يورده الطبري أو أورده بسند مختلف، ذلك بأن أبا ذر لم يكن متأولًا بالمعنى اللغوي لكلمة التأويل، وإنما كان مفسرًا تفسيرًا يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيغ إن لم تكن جميعًا متصلة بالآية اتصال تفسير، فإنها متصلة بحكمها اتصال بيان، وما من أحد يماري في أن السنة مبينة للقرآن، وقد آثرنا إدراج ما اصطفيناه من حديث أبي ذر حول الكنز بمختلف أسانيده وألفاظه على تماثل بعضها وتشاكل معانيها ودلالاتها ودون أن نعرض لما عرض له نقدة الحديث من تجريح بعض النقلة لإتاحة الفرصة لمن قد يطلع على هذا البحث أن يحيط بمختلف ما أثر عن أبي ذر في هذا الشأن وأن يتدبر دلالات ألفاظه ويتبين أن اختلافها لا يعني تغايرًا بين معانيها ودلالاتها، وإنما يعني أحيانًا اختلافًا بين بعض الرواة بالمعنى واختلافًا بين ظروف تحدث أبي ذر بما يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، ذلك بأنه كان شغل أبي ذر في الشام وفي المدينة وفي مكة وفي الربذة وأينما حل وارتحل منذ نذر نفسه لمناهضة الكنازين في أواسط عهد عثمان عندما ارتحل إلى الشام ثم أعيد منه واعتزل اختيارًا أو طاعة لأمر عثمان في الربذة على ما ذكرته الروايات التي سندرجها بعد قليل. ولأن كلام النقدة في بعض النقلة لا نراه ذا أثر جدير بالاعتبار في تقييم الحديث نفسه، فما من سند تكلموا في بعض رجاله إلا وشهدت لحديثه أسانيد وأحاديث أخرى، لا سبيل إلى الغمز فيها، وهذا يجعل كلامه في بعض النقلة غير مؤثر في دلالة الحديث أو الحكم المستفاد منه، لا سيما أن من تكلموا فيهم لم يصمهم أحد بوصمة الوضع أو ما يشاكله، وإنما اقتصروا في نقدهم على التضعيف اعتمادًا على أن بعضهم اختلط بآخرة، وأن غيره سيئ الحفظ وأوصاف على هذه الشاكلة. وحول آية الكنز ووعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للكانزين والمدخرين، روى كل من أحمد وابن أبي شيبة وابن حبان وابن سعد والبخاري ومسلم والذهبي بأسانيد مختلفة ما ندرجه على التوالي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1161 قال أحمد في مسنده (1) : حدثنا عبد الرزاق، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، حدثنا عبد الله بن يزيد بن الأقنع الباهلي، حدثنا الأحنف بن قيس قال: كنت بالمدينة، فإذا أنا برجل يفر الناس منه حين يرونه، قال: قلت: من أنت؟ قال: أنا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قلت: لم يفر الناس؟ قال: إني أنهاهم عن الكنوز بالذي كان ينهاهم عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحدثنا عفان، حدثنا أبو الأشهب، حدثنا خليد العصري قال أبو جري: أين لقيت خليدا؟ قال: لا أدري، عن الأحنف بن قيس، قال: كنت قاعدًا مع أناس من قريش، إذ جاء أبو ذر حتى كان قريبًا منهم حتى قال: (ليبشر الكنازون بكي من قبل ظهورهم يخرج من قبل بطونهم، وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جباههم. قال: ثم تنحى فقعد، قال: قلت: من هذا؟ قال: أبو ذر. فقمت إليه، فقلت: ما شيء سمعتك تنادي به؟ قال: ما قلت لهم شيئًا إلا شيئا سمعوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم، قال: قلت له: ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه، فإن فيه اليوم معونة، فإذا كان ثمنًا لدينك فدعه. وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن عبد الله ابن يزيد بن خال الأقنع، عن الأحنف بن قيس قال: بينما أنا في حلقة، إذ جاء أبو ذر، فجعلوا يفرون منه، فقلت: لم يفر منك الناس؟ قال: إني أنهاهم عن الكنز الذي ينهاهم عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وقال ابن أبي شيبة (2) : حدثنا محمد بن بشر، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن عبد الله بن الأقنع الباهلي، عن الأحنف بن قيس قال: كنت جالسًا بمجلس في المدينة، فأقبل رجل لا ترى حلقة إلا فروا منه، حتى انتهى إلى الحلقة التي كنت فيها، فثبت وفروا، فقلت: من أنت؟ قال: أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلت: ما يفر الناس منك؟ قال: إني أنهاهم عن الكنوز. قال: قلت: إن أعطياتنا قد بلغت وارتفعت، فنخاف علينا منها. قال: أما اليوم فلا، ولكنها يوشك أن تكون أثمان دينكم، فدعوهم وإياها. وحدثنا ابن إدريس، عن حصين بن زيد بن وهب، قال: مررنا على أبي ذر بالربذة، فسألنا عن منزله، قال: كنت بالشام فقرأت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . فقال معاوية: إنها في أهل الكتاب. فقلنا: إنها لفينا وفيهم.   (1) ج: 5. ص:164 و167 و176. (2) الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 112 و213. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1162 وحدثنا زيد بن حباب، قال: حدثني موسى بن عبيدة، قال: حدثني عمران بن أبي أنس، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حبيبي يقول: ((في الإبل صدقتها، من جمع دينارًا أو درهمًا أو تبرًا أو فضة، ولا يعده لغريم، ولا ينفقه في سبيل الله، فهو كي يكوى به يوم القيامة)) . ". وقال ابن حبان (1) : "أخبرنا عمران بن محمد الهمداني، قال: حدثنا مؤمل بن هشام، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن الأحنف بن قيس، قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة وفيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه، فقام عليهم، فقال: بشر الكنازين برضف يحمى عليهم في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه. فوضعوا رؤوسهم، فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا، قال: وأدبر، فأتبعته حتى جلس إلى سارية، فقال: ما رأيت هؤلاء لا يعقلون، إن خليلي أبا القاسم دعاني، فقال: يا أبا ذر. أجبته، قال: أترى أحدا؟ قال: فنظرت ما علي من الشمس وأنا أظنه يبعثني لحاجة له، فقلت: أراه. فقال: ما يسرني أن لي مثله ذهبًا أنفقه كله غير ثلاثة دنانير. ثم هؤلاء يجمعون الدنيا لا يعقلون شيئًا، قال: قلت: مالك ولإخوانك قريش، قال: لا وربك لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم في ديني حتى ألحق بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ". وقال ابن سعد (2) : "أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن زيد بن وهب، قال: مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر، قال: فقلت: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، وقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، قال: وقلت: نزلت فينا وفيهم، قال: فكان بيني وبينه في ذلك كلام فكتب يشكوني إلى عثمان أن أقدم المدينة، فقدمت المدينة، وكثر الناس علي كأنهم لم يروني قبل ذلك، قال: فذكر ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت أنحيت فكنت قريبًا، فذلك أنزلني هذا المنزل، ولو أمر علي حبشي لسمعت وأطعت. وأخبرنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو كعب صاحب الجريري، قال: حدثنا أبو الأصفر، عن الأحنف بن قيس قال: أتيت المدينة، ثم أتيت الشام فجمعت، فإذا رجل لا ينتهي إلى سارية إلا فر أهلها يصلي ويخفف صلاته قال: فجلست إليه، فقلت له: يا أبا عبد الله من أنت؟ قال لي: أنا أبو ذر. فقلت: وأنت من أنت؟ فقال لي: أنا الأحنف بن قيس، قال: قم عني لا أعدك بشر. فقلت له: كيف تعدني بشر؟ قال: إن هذا - يعني معاوية - نادى مناديه ألا يجالسني أحد ". وقال البخاري (3) (حدثني إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الصمد، قال: حدثنا أبي، حدثنا الجريري، حدثنا أبو العلاء بن الشخير، أن الأحنف بن قيس حدثهم، قال: جلست إلى ملأ من قريش، فجلس رجل خشن الثياب والشعر والهيأة، حتى قام عليهم وسلم، فقال: بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع في حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمتي ثديه، يتزلزل، ثم ولى، فجلس إلى سارية، وتبعته وجلست إليه وأنا لا أدري من هو، فقلت له: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي. قلت: قال: إنهم لا يعقلون شيئًا، قال لي خليلي: قال: قلت: من خليلك؟ قال: النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر أتبصر أحدا؟)) قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار وأنا أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسلني في حاجة له، قال: قلت: نعم. قال: ((ما أحب أن لي مثل أحد ذهبًا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير وإن هؤلاء لا يعقلون، إنما يجمعون الدنيا، لا والله لا أسألهم ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله عز وجل)) .   (1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 5. ص: 107. ح: 3248. (2) ابن سعد الطبقات. ج: 4. ص: 226 و229. (3) صحيح البخاري. ج: 2. ص: 111 و112. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1163 وحدثنا علي، سمع هشيمًا، أخبرنا حصين، عن زيد بن وهب، قال: مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر - رضي الله عنه - فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفت أنا ومعاوية في: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك، وكتب إلى عثمان - رضي الله عنه - يشكوني، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحيت فكنت قريبًا. فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمَّروا علي حبشيًا لسمعت وأطعت. ". وقال مسلم في صحيحه: (1) حدثني زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه، فقال: بشر الكنازين برضف يحمى عليه في جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض - بضم النون وإسكان الغين المعجمة وبعده ضاد معجمة وهو العظم الرقيق الذي على طرف الكتف ويقال له: الناغض - كتفيه، ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل، قال: فوضع القوم رؤوسهم، فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا، قال: فأدبر وأتبعته، حتى جلس إلى سارية، فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم. قال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئًا، ((إن خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم دعاني فأجبته، فقال: أترى أحدا؟ فنظرت ما علي من الشمس وأنا أظن أنه يبعثني في حاجة له. فقلت: أراه. فقال: ما يسرني أن لي مثله ذهبًا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير)) . ثم هؤلاء يجمعون الدنيا لا يعقلون شيئًا، قال: قلت: مالك ولإخوتك من قريش لا تعتريهم ولا تصيب منهم، قال: لا وربكم، لا أسألهم عن دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألحق بالله ورسوله.   (1) صحيح مسلم ج: 7 ص: 77 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1164 وحدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا أبو الأشهب، قال: حدثنا خليد العصري، عن الأحنف بن قيس قال: كنت في نفر من قريش، فمر أبو ذر وهو يقول: بشر الكنازين بكي ظهورهم يخرج من جنوبهم، وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جباههم. قال: ثم تنحى فقعد، ثم قلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر. قال: فقمت إليه، فقلت: ما شيء سمعتك تقول قبيل؟ قال: ما قلت إلا شيئًا قد سمعته من نبيهم صلى الله عليه وسلم قال: قلت: ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه، فإن فيه اليوم معونة، فإذا كان ثمنًا لدينك فدعه". وقال الذهبي (1) : "موسى بن عبيدة، حدثنا عمران بن أبي أنس، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قدم أبو ذر من الشام، فدخل المسجد وأنا جالس، فسلم علينا، وأتى سارية، فصلى ركعتين تجوز فيهما، ثم قرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ، واجتمع الناس عليه، فقالوا: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البر صدقته، من جمع دينارًا أو تبرًا أو فضة لا يعده لغريم، ولا ينفقه في سبيل الله كوي به)) قلت: يا أبا ذر، انظر ما تخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الأموال قد فشت، قال: من أنت يا بن أخي؟ فانتسبت له، فقال: قد عرفت نسبك الأكبر، ما تقرأ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وتعقبه الذهبي بقوله: ضعف، وروى عنه الثقات." ولم يكن موقف أبي ذر من "الكنز " هذا الذي تصوره الأحاديث السالفة موقف متأول وإنما كان موقفًا يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في تفسير آية الكنز وحدها، ولكن في تشريع عام حاسم، عبر عنه أحيانًا بـ:"العهد " من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما توضحه الأحاديث التي ننقلها على التوالي عن كل من أحمد وابن سعد ومسلم والطبراني والذهبي. قال أحمد في مسنده (2) : (حدثنا شعبة، أخبرني عمرو بن مرة، عن سعيد بن الحرث، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يسرني أن لي أحدًا ذهبًا أموت يوم أموت وعندي منه دينار أو نصف دينار إلا أن أرصده لغريم)) .   (1) سير أعلام النبلاء. ج:3. ص: 66. (2) ج: 5. ص: 148و 149و152و156و 160و165و175و176. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1165 حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا سالم - يعني ابن أبي حفصة - عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي ذر. وأبي منصور، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر أي جبل هذا؟ قال: قلت: أحد يا رسول الله. قال: والذي نفسي بيده، ما يسرني أنه لي ذهبًا قطعًا أنفقه في سبيل الله، أدع منه قيراطًا. قال: قلت: قنطارًا يا رسول الله. قال: قيراطًا. قالها ثلاث مرات ثم قال: يا أبا ذر، إنما أقول الذي أقل، ولا أقول الذي هو أكثر)) . وحدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال: ((كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة ونحن ننظر إلى أحد، فقال: يا أبا ذر. قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ما أحب أن أحدًا ذاك عندي ذهبًا أمسي ثالثة وعندي منه دينار، إلا دينارًا أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا. وحثا عن يمينه وبين يديه وعن يساره، قال: ثم مشينا، فقال: يا أبا ذر، إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا. وحثا عن يمينه وبين يديه وعن يساره، قال. ثم مشينا، وقال: يا أبا ذر، كما أنت حتى آتيك، قال: فانطلق حتى توارى عني، قال: فسمعت لغطًا وصوتًا، قال: فقلت: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض له. قال: فهممت أن أتبعه ثم ذكرت قوله: لا تبرح حتى آتيك. فانتظرته حتى جاء، فذكرت له الذي سمعت، فقال: ذاك جبريل عليه السلام أتاني، فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة. قال: قلت: وإن زنى وإن سرق. قال: وإن زنى وإن سرق)) . وحدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن سعد بن أبي الحسن، عن عبد الله بن الصامت أنه كان مع أبي ذر، فخرج عطاؤه، ومعه جارية له، فجعلت تقضي حوائجه قال: ففضل معها سبع، قال: فأمرها أن تشتري به فلوسًا، قال: فقلت: لو ادخرته لحاجة تنوبك أو لضيف ينزل بك، قال: إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أوكي عليه، فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل. وحدثنا إسماعيل، عن الجريري، عن أبي العلاء بن الشخير، عن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل، فذكر الحديث، فاتبعته حتى جلس إلى سارية، فقال: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم. فقال: ((إن خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم دعاني، فقال: يا أبا ذر. فأجبته، فقال: هل ترى أحدا؟ فنظرت ما علا من الشمس، وأنا أظنه يبعثني في حاجة، فقلت: أراه. قال: ما يسرني أن لي مثله ذهبًا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير)) . حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت سويد بن الحرث قال: سمعت أبا ذر قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا - قال شعبة: أو قال: ما أحب أن لي أحدًا ذهبًا - أدع منه يوم أموت دينارًا أو نصف دينار إلا لغريم)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1166 حدثنا يزيد، أنبأنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن عبد الله بن الصامت، سمع أبا ذر قال: إن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إلي: ((أيما ذهب أو فضة أوكي عليه، فهو كي على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله إفراغًا)) . حدثنا يزيد، أنبأنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسين، عن عبد الله بن الصامت قال: كنت مع أبي ذر، وقد خرج عطاؤه ومعه جارية له، فجعلت تقضي حوائجه - وقال مرة: نقضيى - قال: ففضل معه فضل، قال: أحسبه سبع، قال: فأمرها أن تشتري بها فلوسًا، قلت: يا أبا ذر لو ادخرته للحاجة تنوبك وللضيف يأتيك. فقال: إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أوكي عليه، فهو جمر على صاحبه يوم القيامة حتى يفرغه إفراغًا في سبيل الله. حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت سويد بن الحرث قال: سمعت أبا ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحب أن لي مثل أحد ذهبًا - قال شعبة أو قال: ما أحب أن لي أحدًا ذهبًا - أدع منه يوم أموت دينارًا أو نصف دينار إلا لغريم.)) . وقال ابن سعد: (1) (أخبرنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا همام، قال: أخبرنا قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن عبد الله بن الصامت أنه كان مع أبي ذر، فخرج عطاؤه، ومعه جارية له قال: فجعلت تقضي حوائجه، قال: ففضل معها سبع، قال: فأمرها أن تشتري به فلوسًا، قال: لو ادخرته للحاجة تنوبك أو للضيف ينزل بك. قال: إن خليلي عهد إلي أن أي مال ذهب أو فضة أوكي عليه، فهو جمر على صاحبه حتى يفرقه في سبيل الله. أخبرنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، أن أبا ذر كان عطاؤه أربعة آلاف، فكان إذا أخذ عطاءه، دعا خادمه فسأله عما يكفيه لسنة فاشتراه له، ثم اشترى فلوسًا بما بقي، وقال: إنه ليس من وعاء ذهبًا أو فضة يوكى عليه، إلا وهو يتلظى على صاحبه. ".   (1) الطبقات ج: 4 ص: 229 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1167 وقال مسلم في صحيحه (1) : "حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وأبو كريب كلهم عن أبي معاوية، قال يحيى: أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء ونحن ننظر إلى أحد، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر. قال: قلت: لبيك يا رسول الله. قال: ما أحب أن أحدا ذاك ذهب أمسي ثالثة عندي منه دينار، إلا دينارا أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا. حثًا بين يديه، وهكذا عن يمينه، وهكذا عن شماله، ثم مشينا فقال: يا أبا ذر. قال: قلت: لبيك يا رسول الله. قال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا. مثل ما صنع في المرة الأولى، قال: ثم مشينا، قال: يا أبا ذر كما أنت حتى آتيك. قال: فانطلق حتى توارى عني، قال: سمعت لغطًا، وسمعت صوتًا، قال: فقلت: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ... قال: فهممت أن أتبعه، فقال: فذكرت قوله: لا تبرح حتى آتيك. قال: فانتظرته، فلما جاء ذكرت له الذي سمعت، قال: فقال: ذاك جبريل أتاني، فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئًا، دخل الجنة. قال: قلت: وإن زني وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن عبد العزيز - وهو ابن رفيع - عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال: ((خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ليس معه إنسان، قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد، قال: فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت، فرآني فقال: من هذا؟ فقلت: أبو ذر جعلني الله فداك. قال: يا أبا ذر، تَعَالَهْ. قال: فمشيت معه ساعة، فقال: إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرًا فنفع به يمينه وشماله وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيرًا. قال: فمشيت معه ساعة، فقال: اجلس ههنا. قال: فأجلسني في قاع حوله حجارة، فقال لي: اجلس ههنا حتى أرجع إليك. قال: فانطلق في الحرة حتى لا أراه، فلبث عني، فأطال اللبث، ثم إني سمعته وهو مقبل وهو يقول: وإن سرق وإن زنى. فلما جاء لم أصبر، فقلت: يا نبي الله، جعلني الله فداك، من تكلم في جانب الحرة، ما سمعت أحدًا يرجع إليك شيئًا. قال: ذلك جبريل عرض في جانب من الحرة قال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله دخل الجنة. فقلت: يا جبريل، وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم. قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم وإن شرب الخمر)) .   (1) على هامش شرح النووي. ج: 7. ص: 74 و75و 76. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1168 وقال الطبراني (1) : حدثنا عبد الله بن الحسن الحراني، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: ((إن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إلي أنه أيما ذهب أوكي عليه، فهو جمر على صاحبه حتى ينفقه في سبيل الله)) . حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثني أبي، قال: وجدت في كتاب أبي بخطه، حدثنا مستلم بن سعيد، عن منصور بن زاذان، عن الحسن، عن عبد الله بن الصامت، أن أبا ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أوكى على ذهب أو فضة ولم ينفقه في سبيل الله كان جمرًا يوم القيامة يكوى به)) . وقال الذهبي (2) : وروى همام، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: ((إن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إلي أيما ذهب أو فضة أوكي عليه فهو جمر على صاحبه حتى ينفقه في سبيل الله عز وجل)) . على أن في قصة أبي ذر - رضي الله عنه - جانبًا لم نقف على من أعاره الاهتمام الذي يستحقه، مع أن اعتباره أساسي في تحديد مدى دلالتها وتعيين دلالاتها، وما نحسب تفسير آية الكنز خاصة وتبيان موقف أبي ذر من الأغنياء عامة يستقيم نهج الاهتداء إليهما دون اعتباره. ذلك بأن رسول الله كان قد أنبأ أبا ذر بما سيحدث له، ورسم له النهج الذي عليه أن يسلكه عندما يحدث ما أنبأه به، ولو قد كان أبو ذر سيتخذ موقفًا غير مسلم يحدث له بسببه ما أنبأه به رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذره منه ونهاه عنه كما نهاه عن سبيل كان سيسلكها لولا أنه صارحه بها فحذره منها ورسم له غيرها وذلك ما توضحه الأحاديث التي رواها كل من أحمد وابن سعد وندرجها فيما يلي: قال أحمد في مسنده (3) :   (1) المعجم الكبير. ج: 2. ص: 151. ح: 1634 و1641. (2) تذكرة الحفاظ. ج: 1. ص: 18. (3) ج: 4. ص: 156. وج: 5. ص: 178 و444. وج: 7. ص: 497 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1169 "حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن الأسود الدؤلي، عن عمه، عن أبي ذر قال: أتاني نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم في مسجد المدينة، فضربني برجله، فقال: ألا أراك نائما فيه؟ قال: قلت: يا نبي الله غلبتني عيني. قال: كيف تصنع إذا أخرجت منه؟ قال: آتي الشام الأرض المقدسة المباركة. قال: كيف تصنع إذا أخرجت منه؟ قال: ما أصنع يا نبي الله، أضرب بسيفي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك على ما هو خير لك من ذلك وأقرب رشدًا تسمع وتطيع وتنساق لهم حيث ساقوك. حدثنا يزيد، حدثنا كهمس بن الحسن، حدثنا أبو السليل، عن أبي ذر قال: ((جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو علي هذه الآية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} حتى فرغ من الآية، ثم قال: يا أبا ذر، لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم. قال: فجعل يتلو بها ويرددها علي حتى نعست، ثم قال: يا أبا ذر، كيف تصنع إذا خرجت من المدينة؟ قال: قلت: إلى السعة والدعة أنطلق حتى أكون حمامة من حمام مكة. قال: كيف تصنع إن أخرجت من مكة؟ قال: قلت إلى السعة والدعة إلى الشام والأرض المقدسة. قال: وكيف تصنع إن أخرجت من الشام؟ قال: قلت: إذا والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي. قال: أو خير من ذلك. قال: أو خير من ذلك. قال: تسمع وتطيع وإن كان عبدًا حبشيا)) . قال عبد الله بن أحمد في زوائده: حدثنا الحكم بن نافع أبو اليمان، أخبرنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن أبي حصين، عن شهر بن حوشب قال الذهبي في ترجمته (سير أعلام النبلاء. ج: 4. ص: 372. وما بعدها ترجمة: 151) : - ورمز بأنه أخرج له الأربعة ومسلم مقرونًا - أبو سعيد الأشعري الشامي مولى الصحابية أسماء بنت يزيد الأنصارية كان من كبار علماء التابعين حدث عن مولاته أسماء وعن أبي هريرة وعائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو وأم سلمة وأبي سعيد الخدري وعدة، وقرأ القرآن على ابن عباس، ويرسل عن بلال وأبي ذر وسلمان وطائفة، حدث عنه قتادة ومعاوية بن قرة والحكم بن عتيبة وآخرون - ذكر بعضهم الذهبي -.وذكر أن مسلما والنسائي كنياه أبا سعيد، ونقل عن حنظلة أنه روى عن شهر قوله: عرضت القرآن على ابن عباس سبع مرات. وروي عن أحمد بن حنبل قوله: شهر ثقة ما أحسن حديثه. وقوله في رواية أخرى: ليس به بأس. وعن الترمذي قوله: قال محمد - يعني البخاري -: شهر حسن الحديث وقوي أمره، وقال: إنما تكلم فيه ابن عون، ثم إنه روى عن رجل عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1170 وعن العجلي ثقة، وعن يحيى بن معين ثبت، وعن أبي زرعة وغيره لا بأس به، وعن النسائي لا بأس به، وعن النسائي ليس بالقوي، وعن ابن عدي لا يحتج به، وعن ابن معين في رواية أخرى ثقة، وعن ابن عون قال: إن شهرًا تركوه. وعن صالح بن محمد جزرة قدم شهر على الحجاج، فحدث بالعراق، ولم يوقف منه على كذب، وكان رجلًا ينسك، وعن الفلاس كان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عن شهر، وكان عبد الرحمن يحدث عنه. ثم قال: وروى يحيى بن أبي بكير الكرماني، عن أبيه قال: كان شهر بن حوشب على بيت المال، فأخذ خريطة فيها دراهم فقيل له: لقد باع شهر دينه بخريطة فمن يأمن القراء بعدك يا أشهر أخذت بها شيئًا طفيفًا وبعته من ابن جرير إن هذا هو الغدر وتعقب الذهبي هذه الرواية بقوله: إسنادها منقطع، ولعلها وقعت وتاب منها، أو أخذها متأولًا أن له في بيت مال المسلمين حقا. نسأل الله الصفح. فأما رواية يحيى القطان عن عباد بن منصور، قال: حججت مع شهر بن حوشب فسرق عيبتي، فما أدري ما أقول. قلت: هذا كلام الذهبي. ثم ساق له أثرًا يتناقض مع هاتين التهمتين، فقال: ومن مليح قول شهر من ركب مشهورًا من الدواب وليس مشهورًا من الثياب، أعرض الله عنه وإن كان كريمًا. وروي عن أبي بشير الدولابي وأبي إسحاق السعدي قوله: شهر لا يشبه حديثه حديث الناس كأنه مولع بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أخبارًا عن شعبة على أنه تركه. وروى الذهبي آثارًا وأحاديث استنكروها عن شهر، فقال: فهذا ما استنكر عن شهر في ساعة روايته، وما ذلك بالمنكر جدا. قلت: إلا أثرًا مما رواه الذهبي لا نستطيع أن نتقبله إلا أن يكون قد رواه "حكاية وليس رواية يوثقها، وهو ما نقل الذهبي وغيره عن سيار بن حاتم من قوله: حدثنا جعفر بن سليمان، عن أبي بكر الهذلي، عن شهر بن حوشب قال: لما قتل ابن آدم أخاه، مكث آدم مائة سنة لا يضحك. قلت: إلى هنا لا غرابة. ثم أنشد يقول: تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي لون وطعم وقل بشاشة الوجه المليح قلت: ما من شك في أن هذا الشعر مفتعل منحول، وفيه إقواء، ولا مسوغ لما تمحلوه لتقويم إعرابه بحيث يبرأ من الإقواء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1171 ثم إن آدم وإن يكن يعرف الأسماء كلها، لم يكن يعرف هذه العربية عربية الحجازيين ومن على شاكلتهم، فلو كان يعرفها لتوارثها عنه أبناؤه والأجيال التي تعاقبت بعده، فبرأت لغتهم مما نجده في الحفريات من كلام يشبه الأعجمية، وما صلته بالعربية إلا من نطق الأحرف. فتأمل. وقد ترجم لشهر عدد من مدوني تاريخ العصر الأول والثاني للهجرة وتراجم الرجال ونقدة الحديث. رحمه الله رحمة واسعة. عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي ذر قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم آتي المسجد إذا أنا فرغت من عملي، فأضطجع فيه، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يومًا وأنا مضطجع، فغمزني برجله، فاستويت جالسًا، فقال لي: يا أبا ذر، كيف تصنع إذا أخرجت منها؟ فقلت: أرجع إلى مسجد رسول الله وإلى بيتي. قال: فكيف تصنع إذا أخرجت؟ فقلت: إذا آخذ بسيفي فأضرب به من يخرجني. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يده على منكبي، فقال: غفرًا يا أبا ذر - ثلاثًا - بل تنقاد معهم حين قادوك، وتنساق معهم حين ساقوك، ولو عبدًا أسود. قال أبو ذر: فلما نفيت إلى الربذة، أقيمت الصلاة، فتقدم رجل أسود كان فيها على نعم الصدقة، فلما رآني أخذ يرجع ليقدمني، فقلت: كما أنت بل أنقاد إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. حدثنا هاشم، قال: حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا شهر، قال: حدثتني أسماء بنت يزيد، ((أن أبا ذر الغفاري كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فرغ من خدمته آوى إلى المسجد، فكان هو بيته يضطجع فيه، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فوجد أبا ذر نائما منجدلًا في المسجد، فنكته النبي صلى الله عليه وسلم برجله حتى استوى جالسًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أراك نائما؟ قال أبو ذر: يا رسول الله، فأين أنام؟ هل لي من بيت غيره؟ فجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف أنت إذا أخرجوك منه؟ قال: إذن ألحق بالشام، فإن الشام أرض الهجرة وأرض المحشر وأرض الأنبياء، فأكون رجلًا من أهلها. قال له: كيف أنت إذا أخرجوك من الشام؟ قال: إذن أرجع إليه فيكون هو بيتي ومنزلي. قال له: كيف أنت إذا أخرجوك منه الثانية؟ قال: إذن آخذ سيفي، فأقاتل عني حتى أموت. قال: فكشر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثبته بيده، قال: أدلك على خير من ذلك؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنقاد لهم حيث قادوك، وتنساق لهم حيث ساقوك، حتى تلقاني وأنت على ذلك)) . قال ابن سعد (1) : أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: ((إذا بلغ البناء سلعًا فاخرج منها - ونحا بيده نحو الشام، ولا أرى أمراءك يدعونك - قال: يا رسول الله، أفلا أقاتل من يحول بيني وبين أمرك؟ قال: لا. قال: فما تأمرني؟ قال: اسمع وأطع ولو لعبد حبشي. قال: فلما كان ذلك، خرج إلى الشام فكتب معاوية إلى عثمان أن أبا ذر قد أفسد الناس بالشام، فبعث إليه عثمان، فقدم عليه، ثم بعثوا أهله من بعده، فوجدوا كيسًا أو شيئًا، فظنوا أنها دراهم، فقالوا: ما شاء الله، فإذا هي فلوس، فلما قدم المدينة قال له عثمان: كن تغدو عليك وتروح اللقاح. قال: لا حاجة لي في دنياكم، ثم قال: ائذن لي حتى أخرج إلى الربذة. فأذن له، فخرج إلى الربذة، وقد أقيمت الصلاة وعليها عبد لعثمان حبشي، فتأخر، فقال أبو ذر: تقدم فصل، فإني أمرت أن أسمع وأطيع ولو لعبد حبشي، فأنت عبد حبشي ")) . وقد التزم أبو ذر التزامًا دقيقًا بسلوك النهج الذي رسمه له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يريم أيا كانت الأطوار التي توالت عليه حتى لقي الله، كما تصوره تصويرًا بديعًا الأحاديث التي رواها كل من أحمد وابن سعد والطيالسي وابن زنجويه والذهبي وندرجها على التوالي: قال أحمد في مسنده (2) : حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا عبد الله بن لهيعة، حدثنا أبو قبيل، قال: سمعت عبد الله بن مالك الزيادي يحدث، عن أبي ذر أنه جاء يستأذن على عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فأذن له وبيده عصاه، فقال عثمان رضي الله عنه: يا كعب، إن عبد الرحمن بن عوف ترك مالًا، فما ترى فيه؟ فقال: إن كان يصل فيه حق الله، فلا بأس عليه.   (1) الطبقات. ج: 4. ص: 226 و227. (2) ج: 1. ص: 63. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1172 فرفع أبو ذر عصاه، فضرب كعبا، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما أحب لو أن لي هذا الجبل ذهبًا أنفقه ويتقبل مني أذر خلفي منه ست أواق، أنشدك الله يا عثمان أسمعته؟ ثلاث مرات قال: نعم. وقال ابن سعد (1) : أخبرنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا جعفر أبو البرقان، عن ثابت بن الحجاج، عن عبد الله بن سيدان السلمي، قال: تناجى أبو ذر وعثمان حتى ارتفعت أصواتهما، ثم انصرف أبو ذر مبتسما، فقال له الناس: ما لك ولأمير المؤمنين؟ قال: سامع مطيع ولو أمرني أن آتي صنعاء أو عدن ثم استطعت أن أفعل لفعلت. وأمره عثمان أن يخرج إلى الربذة. وأخبرنا عفان بن مسلم وعمرو بن عاصم الكيلابي، قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، قال: حدثنا عبد الله بن الصامت، قال: دخلت مع أبي ذر في رهط من غفار على عثمان بن عفان من الباب الذي لا يدخل عليه منه أحد، قال: وتخوفنا عثمان عليه، قال: فانتهى إليه، فسلم عليه، قال: ثم بدأه بشيء إلا قال: أحسبتني منهم يا أمير المؤمنين؟ والله ما أنا منهم ولا أدركتهم، لو أمرتني أن آخذ بعرقوتي قتب لأخذت بهما حتى أموت، قال: ثم استأذنه إلى الربذة، فقال: نعم، نأذن لك، ونأمر لك بنعم من نعم الصدقة، فتصيب من رسلها، فقال: فنادى أبو ذر دونكم معاشر قريش دنياكم فاعدموها، لا حاجة لنا فيها، قال: فما نراه بشيء، قال: فانطلق وانطلقت معه حتى قدمنا الربذة، قال: فصادفنا مولى لعثمان غلاما حبشيًا يؤمهم، فنودي بالصلاة، فقال: فلما رأى أبا ذر نكص، فأومأ إليه أبو ذر تقدم فصل، فصلى خلفه أبو ذر. وقال أبو داود الطيالسي في مسنده (2) حدثنا شعبة، قال: أخبرني أبو عمران، سمع عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: لما قدم أبو ذر على عثمان من الشام، قال: يا أمير المؤمنين، أتحسب أني من قوم - والله ما أنا منهم ولا أدركتهم - يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم إلى فوقه (3) سيماهم التحليق، والله لو أمرتني أن أقوم ما قعدت ما ملكتني رجلاي، ولو وثقتني بعرجون في قدمي ما حللته حتى تكون أنت الذي تحلني.   (1) الطبقات. ج: 4. ص: 227 و232. (2) مسند الطيالسي. ص:61. ح: 451. (3) يعني بسهم الخوارج والحديث مشهور في الخوارج من طرق عدة، وليس مما يعنينا هنا تخريجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1173 وقال ابن زنجويه (1) : "أخبرنا النضر بن شميل، أخبرنا شعبة، عن أبي عمران الجوني، قال: سمعت عبد الله بن الصامت قال: قدم أبو ذر على عثمان بن عفان من الشام، فقال: افتح الباب حتى يدخل الناس، أتحسبني من قوم، أحسبه قال: يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، لا يعودون حتى يعود السهم على فوقه هم شر الخلق والخليقة (2) ، والله لو أمرتني أن أقعد لما قمت أبدًا، ولو أمرتني أن أقوم لقمت ما ملكتني رجلاي، ولو ربطتني على البعير لم أطلق نفسي حتى تكون أنت الذي أطلقتني. قال: ثم استأذنه أن يأتي الربذة، فأتاها، فإذا عبد يؤمهم، فقالوا: أبو ذر أبو ذر. فنكص العبد، فقيل له: تقدم. فقال: إن خليلي أوصاني بثلاث: أن أسمع وأطيع ولو لعبد حبشي مجدع الأطراف، وإذا صنعت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر إلى أهل بيت من جيرتك فأصبهم منها بمعروف، وأن تصلي الصلاة لوقتها، فإن أدركت الإمام وقد صلى، كنت قد أحرزت صلاتك، وإن لا، فهي لك نافلة. وقال الذهبي (3) : "حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، قال: دخلت مع أبي ذر على عثمان، فلما دخل حسر على رأسه، وقال: والله ما أنا منهم يا أمير المؤمنين - يريد الخوارج، قال ابن شوذب: سيماهم الحلق - قال له عثمان: صدقت يا أبا ذر، إنما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة، قال: لا حاجة لي في ذلك، ائذن لي إلى الربذة، قال: نعم، ونأمر لك بنعم من نعم الصدقة تغدو عليك وتروح. قال: لا حاجة لي في ذلك، يكفي أبا ذر صريمته (4) فلما خرج، قال: دونكم معاشر قريش، دنياكم فاعلموها (5) قال: ودخل عليه وهو يقسم وعبد الرحمن بن عوف بين يديه وعنده كعب، فأقبل عثمان على كعب، فقال: يا أبا إسحاق، ما تقول فيمن جمع هذا المال فكان يتصدق منه ويصل الرحم؟ قال كعب: إني لأرجو له، فغضب ورفع عليه العصا، وقال: ما تدري يابن اليهودية، ليودن صاحب هذا المال لو كان عقارب في الدنيا تلسع السوداء من قلبه.   (1) الأموال. ج: 1. ص: 74 فقرة: 27. (2) الخلق والخليقة بمعنى واحد، ولعل عطف إحدى الكلمتين على الأخرى إنما هو من الرواة. (3) سير أعلام النبلاء. ج: 2. ص: من 67 إلى 70. (4) صريمته: القطيع الصغير من الغنم. (5) فاعلموها: خذوها - العلم - بسكون اللام العض والأكل بجفاء من باب ضرب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1174 السري بن يحيى، حدثنا غزوان أبو حاتم، قال: بينما أبو ذر عند باب عثمان ليؤذن له، إذ مر به رجل من قريش، فقال: يا أبا ذر، ما مجلسك ههنا؟ قال: يأبى هؤلاء أن يأذنوا لنا، فدخل الرجل، فقال: يا أمير المؤمنين، ما بال أبي ذر على الباب، فأذن له، فجاء حتى جلس ناحية، وميراث عبد الرحمن يقسم، فقال عبد الرحمن لكعب: أرأيت المال إذا أدي زكاته، هل يخشى على صاحبه فيه تبعة؟ قال: لا. فقام أبو ذر فضربه بعصا بين أذنيه، ثم قال: يابن اليهودية، تزعم أن ليس عليه حق في ماله إذا آتى زكاته، والله يقول: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (1) ويقول: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} (2) ، فجعل يذكر نحو هذا من القرآن، فقال عثمان للقرشي: إنما نكره أن نأذن لأبي ذر من أجل ما ترى. وروي عن ابن عباس قال: كان أبو ذر يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابية (3) فكان يحب الوحدة، فدخل على عثمان وعنده كعب. الحديث. وفيه: فشج كعبًا، فاستوهبه عثمان، فوهبه له، وقال: يا أبا ذر، اتق الله واكفف يدك ولسانك. موسى بن عبيدة رمز له ابن حجر في (تهذيب التهذيب: ج: 10. ص: 256. ترجمة: 636) بأنه أخرج له الترمذي وابن ماجه، وقال في ترجمته: ابن النشيط بن عمرو بن الحارث الربذي أبو عبد العزيز المدني، روى عن أخويه عبد الله ومحمد وعبد الله بن دينار وإياس بن سلمة بن الأكوع، وذكر آخرين غيرهم، وعنه ابن أخيه بكار بن عبد الله والثوري وعبد الله بن المبارك والدراوردي ووكيع وآخرون، ذكر بعضًا منهم، ونقل عن علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد، كنا نتقي حديث موسى بن عبيدة تلك الأيام، ثم كان بمكة، فلم نأته. وقال يحيى: أحدث عن شريك أحسن إلي منه، وقال عمرو بن علي: ذكرت ليحيى حديث موسى عن عمر بن الحكم سمع سعدًا في الصلاة في مسجد المدينة، فأنكر يحيى بأن يكون عمر سمع سعدًا، ولم يرض موسى بن عبيدة، وقال الجوزجاني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا تحل الرواية عندي عنه، قلت - القائل الجوزجاني -: فإن شعبة روى عنه، فقال: لو بان شعبة ما بان لغيره ما روى عنه، وقال محمد بن إسحاق الصائغ عن أحمد: لا تحل الرواية عنه، وقال أحمد بن الحسن الترمذي عن أحمد: لا يكتب حديث أربعة: موسى بن عبيدة وإسحاق بن أبي قرة وجويبر وعبد الرحمن بن زياد. وقال البخاري: قال أحمد: ليس حديثه عندي بشيء، وحمل عليه. ثم ساق ابن حجر روايات أخرى، عن أحمد في موسى على هذه الشاكلة، لكن يروي بعد ذلك عن الدروي قوله: قلت لأحمد: ما تقول في ابن إسحاق ومولى بن عبيدة؟ فقال: أما ابن إسحاق فهو رجل يكتب عنه هذه الأحاديث، كأنه يعني المغازي. وأما موسى فلم يكن به بأس، ولكنه حدث بأحاديث منكرة، وأما إذا جاء الحلال والحرام أردنا قومًا هكذا، وضم عباس علي يديه، وقال أحمد، عن ابن معين: موسى بن عبيدة ليس بالكذوب، ولكنه روى عن عبد الله بن دينار أحاديث مناكير. وروي عن ابن معين تضعيفه وعن أبي زرعة ليس بقوي الأحاديث، وعن أبي حاتم منكر الحديث، وعن البخاري قوله: لم أخرج عن موسى بن عبيدة ولا أحدث عنه، وعن أبي داود أحاديثه مستوية إلا عن عبد الله بن دينار، وعن الترمذي يضعف، وعن النسائي ضعيف وليس بثقة، وعن ابن سعد كان ثقة كثير الحديث وليس بحجة، وعن يعقوب بن شيبة صدوق ضعيف الحديث جدا ومن الناس من لا يكتب حديثه لدهائه وضعفه وكثرة اختلاطه، وكان من أهل الصدق، وقال ابن عدي: الضعف على رواياته بين، وعن زيد بن الحباب: شممنا من قبره رائحة المسك لما مات، ولم يكن بالربذة مسك ولا عنبر. قال زيد: وكان بيته ليس فيه إلا الخصاف، وفي البيت رمل وحصى. توفي سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين ومائة. وقال أبو بكر البزار: موسى بن عبيدة رجل مقيد وليس بالحافظ، وأحسب أن ما قصر به عن حفظ الحديث شغله بالعبادة، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم، وقال الساجي: منكر الحديث، وكان رجلًا صالحًا عندهم، وكان القطان لا يحدث عنه، وقد حدث عنه وكيع، وقال: ثقة، وقد حدث عن عبد الله بن دينار أحاديث لم يتابع عليها، قال: وقيل ليحيى بن معين: إن موسى يحدث عن الزهري أحاديث، قال: إنها مناولة، قيل: إنه يحدث عن أبي حازم عن أبي هريرة، ولم يسمع من أبي حازم هي من كتاب صار إليه، وضعفه ابن قانع وابن حبان. انتهى كلام الحافظ ملخصًا. قلت: من تمحيص كلامهم هذا يتضح أنهم أخذوا عنه سوء الحفظ والاعتماد على الكتابة والتحديث عن مناولة أو كتاب، ولعله لم يكن يصرح بذلك، والرواية عن عبد الله بن دينار، ولكن أحدا - على ما نعلم - لم يغمزه في دينه ولا في عقيدته، اتبعناهم في منهجهم هذا، فضعفنا الحديث، ولو كانت له شواهد لضاع علينا علم كثير، ونحسب أن هذا المنهج هو الذي هيأ للقياسيين المناخ للترويج لأقيستهم والعدول عن السنة إلى الرأي، يغفر الله لنا ولهم.:   (1) الآية رقم: (9) سورة الحشر. (2) الآية رقم: (8) سورة الدهر. (3) أي: يرجع بدويًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1175 أخبرنا ابن نفيع (1) , عن ابن عباس قال: استأذن أبو ذر على عثمان فتغافلوا عنه ساعة، فقلت: يا أمير المؤمنين هذا أبو ذر بالباب، قال: ائذن له إن شئت أن تؤذينا وتبرح بنا، فأذنت له، فجلس على سرير مرمول (2) فرجف به السرير وكان عظيما طويلًا، فقال عثمان: أما إنك لزاعم أنك خير من أبي بكر وعمر. قال: ما قلت؟ قال: إني أنزع عليك بالبينة، قال: والله ما أدري ما بينتك وما تأتي به؟! وقد علمت ما قلت قال: فكيف إذا ما قلت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أحبكم إلي وأقربكم مني الذي يلحق بي على العهد الذي عهدته عليه)) وكلكم أصاب من الدنيا، وأنا على ما عهدته عليه، وعلى الله تمام النعمة، وسأله عن أشياء، فأخبره بالذي يعلمه، فأمر أن يرتحل إلى الشام فيلحق بمعاوية، فكان يحدث بالشام، فاستهوى قلوب الرجال، فكان معاوية ينكر بعض شأن رعيته، وكان يقول: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم، ولا تبر ولا فضة، إلا شيء ينفقه في سبيل الله أو يعده لغريم، وأن معاوية بعث إليه بألف دينار في جنح الليل، فأنفقها، فلما صلى معاوية الصبح، دعا رسوله فقال: اذهب إلى أبي ذر، فقل له: أنقذ جسدي من عذاب معاوية، فإني أخطأت. قال: يا بني، قل له: يقول لك أبو ذر: والله ما أصبح عندنا منه دينار، ولكن أنظرنا ثلاثًا حتى نجمع لك دنانيرك، فلما رأى معاوية أن قوله صدق فعله، كتب إلى عثمان: أما بعد، فإن كان لك بالشام حاجة أو بأهله، فابعث إلى أبي ذر بأنه قد وغل صدور الناس، فكتب إليه عثمان: أقدم علي. فقدم. عاصم بن كليب، عن أبي الجويرية، عن زيد بن خالد الجهني قال: كنت عند عثمان، إذ جاء أبو ذر، فلما رآه عثمان قال: مرحبا وأهلا بأخي، فقال أبو ذر: أهلا ومرحبًا بأخي، لقد أغلظت علينا في العزيمة، والله إن عزمت علي لحبوت ما استطعت، إني خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو حائط بني فلان، فقال لي: ((ويحك بعدي. فبكيت، فقلت: يا رسول الله، وإني لباق بعدك؟ قال: نعم، فإذا رأيت البناء على سلع فالحق بالمغرب أرض قضاعة)) قال عثمان: أحببت أن أجعلك مع أصحابك وخفت عنك جهال الناس.   (1) لعله ابن نويفع محمد بن الوليد فلا نعلم ناقلًا اسمه ابن نفيع وابن نويفع يروي عن كريب، عن ابن عباس، ففي الحديث انقطاع. (2) أي منسوج بالسعف والحبال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1176 وكانت قناعة أبي ذر بأنه دقيق الالتزام بما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد تبلورت عنده، فأصبحت موقفًا سياسيا واجتماعيا ذا صبغة دينية، صمد عليه بقية حياته، ويتمثل هذا الموقف في التزامه بطاعة الأمير حتى وإن يكن مجرد إمام في الصلاة، فالإمارة عنده هي الاطلاع بمسؤولية جماعية أيا كانت هذه المسؤولية. كما يتمثل في تكييف علاقاته ومعاملاته مع رفاقه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يقيم ويحدد طبيعة علاقته بكل واحد منهم وتعامله معه بنوع العلاقة التي بين ذلك الواحد والقائمين على الحكم في ذلك العهد، ومع أنه كان يخاطب عثمان بأخيه كما مر آنفًا في حديث زيد بن خالد الجهني، ربما اعتبارًا لأن عثمان من المبشرين بالجنة، وأنه زوج اثنتين من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه خليفة بويع بيعة شرعية، فقد رفض أن يكون أخًا لأبي موسى الأشعري لمجرد أنه قبل ولاية لعثمان. فقد روى ابن سعد (1) : "أخبرنا عبد الله بن عمرو أبو معمر المنقري، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن الحسين المعلم، عن أبي بريدة قال: لما قدم أبو موسى الأشعري لقي أبا ذر، فجعل أبو موسى يلزمه، وكان الأشعري خفيف اللحم قصيرًا، وكان أبو ذر رجلًا أسود كث الشعر، فجعل الأشعري يلزمه، ويقول أبو ذر: إليك عني، ويقول الأشعري: مرحبا بأخي، ويدفعه أبو ذر، ويقول: لست بأخيك، إنما كنت أخاك قبل أن تستعمل، قال: ثم لقي أبا هريرة، فالتزمه وقال: مرحبا بأخي، فقال أبو ذر: إليك عني، هل كنت عملت لهؤلاء؟ قال: نعم. قال: هل تطاولت في البناء أو اتخذت زرعًا أو ماشية قال: لا. أنت أخي، أنت أخي. على حين أخذ على أبي الدرداء أنه بنى بيتًا، إذ رأى في مجرد بناء بيت إقبالًا على الدنيا لا ينبغي لمثل أبي الدرداء. قال الذهبي (2) : " قال ثابت البناني: بنى أبو الدرداء مسكنًا، فمر عليه أبو ذر، وقال: ما هذا، أتعمر دارًا أذن الله بخرابها؛ لأن تكون رأيتك تتمرغ في عذرة أحب إلي من أن أكون رأيتك فيما رأيتك فيه.   (1) الطبقات: ج: 4. ص: 230. (2) سير أعلام النبلاء. ج: 2. ص: 74. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1177 وما من أحد يستطيع أن يغمز في شيء مما نقل من مواقف أبي ذر، ولم يكن أحد يستطيع ذلك في عهده، ما أكثر من كانوا يترصدونه ويرتقبون أن يجدوا له مغمزًا، لولا أنه في عاصم من كل متربص ومرتقب بما شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدق الذي ليس بعده صدق شهادات تناقلها الصحابة ونقلها عنه معاصروه ثم من جاؤوا بعده من النقلة يثبتها إثباتًا لا سبيل إلى الغمز فيه، وإن تقول بعض النقدة في بعض الأسانيد لما يشهد لها من أسانيد أخرى لا سبيل إلى تجريحها ما وراه كل من أحمد وابن سعد وابن حبان والترمذي وابن ماجه والحاكم والذهبي. قال أحمد (1) : " حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الحميد بن بهرام، حدثنا شهر بن حوشب، حدثنا عبد الرحمن بن غنم، أنه زار أبا الدرداء بحمص، فمكث عنده ليالي، فأمر بحماره فأوكف، فقال أبو الدرداء: لا أراني إلا متعبك، فأمر بحماره فاسرج، فسارا على حماريهما، فلقيا رجلا شهد الجمعة بالأمس عند معاوية بالجابية، فعرفهما الرجل ولم يعرفاه، فأخبرهما خبر الناس، ثم إن الرجل قال: وخبر آخر كرهت أن أخبركماه أراكما تكرهانه، فقال أبو الدرداء: فلعل أبا ذر نفي. قال: نعم والله. فاسترجع أبو الدرداء وصاحبه قريبًا من عشر مرات، ثم قال أبو الدرداء {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} (2) - كما قيل لأصحاب الناقة - اللهم إن كذبوا أبا ذر فإني لا أكذبه، اللهم إن اتهموه فإني لا أتهمه، اللهم إن استغشوه فإني لا استغشه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتمنه حين لا يأتمن أحدًا، ويسر إليه حين لا يسر لأحد، أما والذي نفس أبي الدرداء بيده، لو أن أبا ذر قطع يميني ما أبغضته بعد الذي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)) . وقال ابن سعد (3) : "أخبرنا عبد الله بن نمير، قال: أخبرنا الأعمش، عن عثمان بن نمير، عن أبي حرب بن الأسود الدؤلي، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر)) .   (1) الفتح الرباني ج: 22. ص: 373. (2) الآية رقم: (27) من سورة القمر. (3) الطبقات. ج: 4. ص: 228 و229. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1178 أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا أبو أمية بن يعلى، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، من سره أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر)) أخبرنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا سلام بن مسكين، قال: حدثنا مالك بن دينار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليها؟ فقال أبو ذر: أنا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت. ثم قال: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، من سره أن ينظر إلى زهد عيسى بن مريم، فلينظر إلى أبي ذر)) . أخبرني سليمان بن حرب والحسن بن موسى، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)) . أخبرنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، قال: حدثنا أبو حرة، عن محمد بن سيرين قال: قال رسول الله: ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)) . أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد بن عمرو، قال: سمعت عراك بن مالك يقول: قال أبو ذر: إني أقربكم مجلسًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وذلك أني سمعته يقول صلى الله عليه وسلم: ((أقربكم مجلسًا يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيأة ما تركته فيها، وإنه والله ما منكم من أحد إلا وقد تشبث منها بشيء غيري)) . وقال ابن حبان (1) : "أخبرنا الحسين بن أحمد بن بسطام بالأبلة، حدثنا العباس بن عبد العظيم العنبري، حدثنا النضر بن محمد اليمامي، حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبي زميل، عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق منك يا أبا ذر)) .   (1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 9. ص: 132و135. ح: 7088و7091 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1179 وأخبرنا محمد بن نصر بن نوفل بمرو، حدثنا أبو داود السنجي سليمان بن معبد، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا أبو زميل عن مالك بن مرثد قال: قال أبو ذر: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تقل الغبراء ولا تظل الخضراء على ذي لهجة أصدق وأوفى من أبي ذر شبيه عيسى ابن مريم. على نبينا وعليه السلام، قال: فقام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: يا نبي الله أفتعرف ذلك له؟ قال: نعم، فاعرفوه له)) . وقال الترمذي (1) : "حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن عثمان بن نمير - هو أبو اليقظان - عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر)) . قال: وفي الباب عن أبي الدرداء وأبي ذر. قال: وهذا حديث حسن. وحدثنا العباس العنبري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة عن عمار، حدثنا أبو زميل - هو سماك بن الوليد الحنفي - عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبه عيسى ابن مريم عليه السلام، فقال عمر بن الخطاب كالحاسد: يا رسول الله، أفتعرف ذلك له؟ قال: نعم فاعرفوه له)) . قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقد روى بعضهم هذا الحديث، فقال: ((أبو ذر يمشي في الأرض بزهد عيسى ابن مريم عليه السلام)) . وقال ابن ماجه (2) :   (1) الجامع الصحيح. ج: 5. ص: 669. ح: 3801و3802. (2) السنن. ج: 1. ص: 55. ح:156. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1180 "حدثنا علي بن محمد، حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا الأعمش، عن عثمان بن نمير، عن أبي حرب بن الأسود الدؤلي، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر)) . وقال الحاكم (1) : أخبرنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم المزني، حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا العباس بن عبد العظيم العنبري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا أبو زميل، عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تقل الغبراء ولا تظل الخضراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبيه عيسى ابن مريم، فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله، فتعرف ذلك له؟ قال: نعم فاعرفوه له)) هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقد روي عن عبد الله بن عمرو وأبي الدرداء. أما حديث عبد الله بن عمرو فحدثناه أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا أبو يحيى الحماني، عن الأعمش، وأخبرني أبو بكر بن محمد الصيرفي، حدثنا أبو قلابة، حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن سليمان الأعمش، عن عثمان بن قيس البجلي، عن أبي حرب الدؤلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على رجل أصدق لهجة من أبي ذر)) . وأما حديث أبي الدرداء فحدثناه الشيخ أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)) . وقال الذهبي (2) : "الأعمش عن عثمان بن عمير، عن أبي حرب، عن أبي الأسود، سمعت عبد الله بن عمرو، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر)) . سلام بن مسكين، أخبرنا مالك بن دينار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليه؟ قال أبو ذر: أنا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، ومن سره أن ينظر إلى زهد عيسى فلينظر إلى أبي ذر)) .   (1) المستدرك. ج: 3. ص: 302. (2) سير أعلام النبلاء. ج: 2. ص: 59. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1181 ولم يكن أبو ذر مجرد سامع ينقل ما سمع، فيقال فيه: إنه قد لا يكون واعيًا بما ينقل أو فقيهًا لما قال أو بصيرًا بما سمع، وإنما كان عالمًا جليلًا أفتى في عهد أبي بكر وعمر وأصر على الفتيا في عهد عثمان وإن منعه عثمان أو بعض ولاته أو تقول على عثمان بعض أنصاره بمنعه، وذلك ما تشهد به الآثار التي رواها كل من ابن سعد والذهبي مما ندرجه فيما يلي: قال ابن سعد (1) : "أخبرنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو حرب بن الأسود، عن أبي الأسود، قال ابن جريج: ورجل من زاذان قالا: سئل علي عن أبي ذر وقال: وعى علما عجز فيه، وكان شحيحًا حريصًا، شحيحًا على دينه، حريصًا على العلم، وكان يكثر السؤال فيعطي ويمنع، أما إنه قد ملئ له في وعائه حتى امتلأ. فلم يدروا ما يريد بقوله: (وعى علما عجز فيه) . أعجز عن كشف ما عنده من العلم، أم عن طلب ما طلب من العلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الذهبي (2) : " البابلي، أخبرنا الأوزاعي، حدثني مرثد أبو كثير، عن أبيه، عن أبي ذر، أن رجلًا أتاه، فقال: إن مصدقي عثمان رضي الله عنه ازدادوا علينا أنغيب عليهم بقدر ما ازدادوا علينا؟ فقال: لا، وقف مالك، وقل: ما كان لكم من حق فخذوه، وما كان باطلًا فردوه، فما تعدوا عليك جعل في ميزانك يوم القيامة. قال: وعلى رأسي فتى من قريش، فقال: أما نهاك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ قال: أرقيب أنت علي، فوالذي نفسي بيده لو وضعتم الصمصامة في هذه - وأشار إلى قفاه، ثم ظننت أني منفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها. الأوزاعي، حدثني أبو كثير، عن أبيه قال: أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجل، فوقف عليه، فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فرفع رأسه، فقال: أرقيب أنت علي، لو وضعتم الصمصامة على هذه - وأشار بيده إلى قفاه - ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها.   (1) الطبقات. ج: 4. ص: 232. (2) تذكرة الحفاظ ج: 1. ص: 18. وسير أعلام النبلاء. ج: 4. ص: 64. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1182 عن ثعلبة بن الحكم، عن علي قال: لم يبق أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر ولا نفسي ثم ضرب بيده على صدره. وهذه المياسم التي لفتنا إليها باعتبارها العناصر المكونة لقصة أبي ذر موقفه، يكملها ما رواه ابن سعد (1) فقال: "أخبرنا مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي، قال: حدثنا مسعود بن سعد الجعفي، عن الحسن بن عبيد الله، عن رياح بن الحارث، عن ثعلبة بن الحكم، عن علي قال: لم يبق أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر ولا نفسي، ثم ضرب بيده إلى صدره. وما من شك في أن صلابة أبي ذر وصراحته وشدة التزامه بكل ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فهمه من كتاب الله عز وجل وبالنضال المستميت في سبيل صيانة التراث النبوي العملي والتشريعي من التحريف والانحراف يكون الركن الركين الذي يعصم تفسيره لآية "الكنز " وفهمه لما في المال حق سوى الزكاة من كل محاولة لتوهيمه أو اعتبار موقفه متطرفًا على حد التعبير الحديث، فليس في شريعة الله تطرف واعتدال، إنما هو الالتزام أو الانحراف، وقد تجيئ الرخصة، ولكن الظروف الخاصة هي التي تسوغها وتحيط بها، فإذا انتفت الظروف ارتفعت الرخصة وأبو ذر لم يكن يجهل ذلك، بدليل أنه لم يجهر بقوله ولم يبرز بنضاله طيلة أيام عمر وعلي، بل وحتى من أيام أبي بكر، وكانت الأموال قد أخذت تستكثر في أيدي المسلمين، ذلك بأن المسلمين يومئذ كانت الدنيا تقبل عليهم، وكانوا يتقبلونها، ولكن مقبلين على الآخرة يتعاملون بها ومعها في نطاق شرع الله وخلق القرآن، فلما صار الأمر إلى بني أمية وشيعتهم، استغلوا ضعف عثمان وإسماحه - رحمه الله - فجردوا العمل السياسي من الالتزام الديني، ونتج عن ذلك انحراف عامة الناس وأكثرهم من مسلمة الفتوح الذين لم يعايشوا أنوار النبوة عن الخلق الإسلامي الذي هو النبع الأصيل لمناط التشريع انحرافًا أخذ في بادئ أمره يعمد إلى التأويل يعتمده، وما أكثر ما كان التأويل تحريفًا للمعنى أو للمناط، ثم تطور أمره حتى أصبح نمطًا من عدم الاكتراث بالنص، قد يتقنع بأنماط من الترخيص، لا سيما حين أخذ يعم التقليد، ويفشو الوضع ويضؤل الاعتصام بالنص الثابت والأثر الصحيح والفهم الصريح، وتلك ظاهرة تصحب دائما طول الأمد بعهد النبوة ثم من بعده بعهود اليقظة والانبعاث وصيحات التلبية والتحذير.   (1) الطبقات. ج: 4. ص: 231 و232. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1183 على أن التزام أبي ذر بما وعاه عن رسول الله صلى الله عليه وسل في تأثل المال واكتنازه وما ينجر عنه من تبعات كان سلوكًا قبل أن يكون دعوة، ومن أروع صوره ما رواه ابن سعد والذهبي. قال ابن سعد (1) : "أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا سعيد بن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن أبي ذر، أنه رآه في نمرة مؤتزرًا بها قائما يصلي، فقلت: يا أبا ذر، أما لك ثوب غير هذه النمرة؟ قال: لو كان لي لرأيته علي. قلت: فقد رأيت عليك منذ أيام ثوبين. قال: يابن أخي أعطيتهما لمن هو أحوج مني. قلت: والله إنك لمحتاج إليهما. قال: اللهم غفرًا، إنك لمعظم للدنيا، أليس ترى علي هذه البردة ولي أخرى للمسجد ولي أعنز نحلبها، ولي أحمرة نحمل عليها ميرتنا، وعندنا من يخدمنا ويكفينا مهنة طعامنا، فأي نعمة أفضل مما نحن فيه؟ أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن عمار الذهبي، عن أبي شعبة قال: جاء رجل من قومنا أبا ذر يعرض عليه، فأبى أبو ذر أن يأخذ، وقال: لنا أحمرة نحتمل عليها، وأعنز نحلبها، ومحررة تخدمنا، وفضل عباءة من كسوتنا، وإني لأخاف أن أحاسب بالفضل. أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا علي بن يزيد الأسلمي، قال: حدثني عيسى بن عميلة الفزاري، قال: أخبرني من رأى أبا ذر يحلب غنيمة له، فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه، وقد رأيته ليلة حلب حتى ما بقي في ضروع غنمه شيء إلا مصره وقرب إليهم تمرًا وهو يسير، ثم تعذر إليهم، وقال: لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا لجئنا به. قال: وما رأيته ذاق تلك الليلة شيئًا. أخبرنا محمد بن عمر، عن موسى بن عبيدة، قال: حدثني عبد الله بن خراش الكعبي، قال: وجدت أبا ذر في مظلة شعر بالربذة تحته امرأة سحماء، فقلت: يا أبا ذر تتزوج سحماء؟ قال: أتزوج من تضعني، أحب إلي ممن ترفعني، ما زال لي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى ما ترك لي الحق صديقًا.   (1) الطبقات. ج: 4. ص: 235. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1184 أخبرنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا همام بن يحيى، قال: حدثنا قتادة، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، أنه دخل على أبي ذر وهو بالربذة وعنده امرأة سوداء مشنفة، ليس عليها أثر المجاسد ولا الخلق. قال: فقال: ألا ترون ما تأمرني هذه السويداء؟ تأمرني أن آتي العراق، فإذا أتيت العراق مالوا علي بدنياهم، ألا وإن خليلي عهد إلي أن دون جسر جهنم طريقًا ذا دحض ومزلة، وإنا إن نأت عليه وفي أحمالنا اقتدار أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن مواقير. أخبرنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا قرة بن خالد، حدثنا عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، قال: كسي أبو ذر بردين، فاتزر بأحدهما، وارتدى بشملة، وكسى أحدهما غلامه، ثم خرج على القوم، فقالوا: لو كنت لبستهما جميعًا كان أجمل. قال: أجل، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تكسون. وقال الذهبي (1) : "وعن أم طلق قالت: دخلت على أبي ذر، فرأيته شاعثًا شاحبًا، بيده صوف، قد جعل عودين وهو يغزل بهما، فلم أر في بيته شيئًا، فناولته شيئًا من دقيق وسويق، فقال لي: أما ثوابك، فعلى الله. وقد يقال: ما بال أبي ذر آثر النفي أو الاعتزال إلى الربذة عن الاستمرار في النضال من أجل دعوته ومواجهة ما قد يجره عليه نضاله من متاعب أو من تضحيات إن كان ملتزمًا فواثقًا بما يدعو إليه ويرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أوكد خصائص الالتزام والوثوق الاستهانة بالمتاعب والتضحيات في سبيل ما كان به الالتزام والوثوق. والجواب عن هذا من أبي ذر نفسه، فقد تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا لم يكن ليتجاوزه، ليس بأدنى وجوبا أو تأكدًا من الأمر الذي التزم به ووثق فيما يتصل بالمال، وهو يتصل هذه المرة بالسياسة أو بعلاقة الرعية بالراعي والمسلمين بمن يؤمر عليهم، فقد كان أبو ذر ينزع إلى أن يستل سيفه ويقاتل به كل من يقف في وجهه إلى أن ينتصر أو يستشهد، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بغير ذلك حين أفضى إليه بنزعته تلك، ولنستمع إليه فيما روى عنه كل من أحمد وابن سعد وابن ماجه.   (1) سير أعلام النبلاء. ج: 2. ص: 74. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1185 قال أحمد في مسنده (1) : (حدثنا محمد بن جعفر وحجاج، قالا: حدثنا شعبة، عن أبي عمران، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: ((أوصاني خليلي عليه السلام بثلاث: اسمع وأطع ولو لعبد مجدع الأطراف، وإذا صنعت مرقة فأكثر ماءها، ثم انظر أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منها بمعروف، وصل الصلاة لوقتها، وإذا وجدت الإمام قد صلى فقد أحرزت صلاتك، وإلا فهي نافلة)) . حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، حدثنا قتادة، حدثنا أبو عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، قال: لما قدم أبو ذر على عثمان من الشام، فقال: ((أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: اسمع وأطع وإن كان عبدًا مجدع الأطراف، وإذا صنعت مرقة فأكثر ماءها، ثم انظر أهل بيت من جيرتك فأصبهم منها بمعروف، وصل الصلاة لوقتها، فإن وجدت الإمام قد صلى فقد أحرزت صلاتك، وإلا فهي نافلة)) . وقال ابن سعد (2) : "أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا العوام بن حوشب، قال: حدثنا رجل من أصحاب الأجر، عن شيخين من بني ثعلبة - رجل وامرأته - قالا: نزلنا الربذة، فمر بنا شيخ أشعث أبيض الرأس واللحية، فقالوا: هذا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذناه أن نغسل رأسه، فأذن لنا، واستأنس بنا، فبينا نحن كذلك، إذ أتاه نفر من أهل العراق - حسبته قال: من أهل الكوفة - فقالوا: يا أبا ذر، فعزل بك هذا الرجل وفعل، فهل أنت ناصب لنا راية؟ فلنكمل برجال ما شئت. فقال: يا أهل الإسلام، لا تعرضوا علي ذاكم، ولا تذلوا السلطان، فإنه من أذل السلطان فلا توبة له، والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة أو أطول جبل لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت، ورأيت أن ذلك خير لي ولو سيرني ما بين الأفق إلى الأفق - أو قال: ما بين المشرق والمغرب - لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت، ورأيت أن ذلك خير لي، ولو ردني إلى منزلي لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت، ورأيت أن ذلك خير لي. ".   (1) ج: 5. ص: 161 و171. (2) الطبقات. ج: 4. ص: 227. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1186 وقال ابن ماجه في سننه (1) : "حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، أنه انتهى إلى الربذة وقد أقيمت الصلاة، فإذا عبد يؤمهم، فقيل: هذا أبو ذر، فذهب يتأخر، فقال أبو ذر: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدًا حبشيا مجدع الأطراف. وقد روي عن أبي ذر ما قد يوهم أنه يتعارض مع تفسيره للكنز لما جاء فيه من لفظ " الزكاة" الذي قد ينصرف إلى الزكاة المفروضة، وقد يكون تبيانًا أو تأويلًا للروايات الأخرى الناهية عن الكنز والاستكثار عامة، وتلك التي وردت فيها كلمة "حق" بدلًا من كلمة "الزكاة ". فقد روى كل من أحمد وابن زنجويه ومسلم والنسائي والبيهقي وجميعهم عن طريق المعرور بن سويد ما ننقله على التوالي: قال أحمد (2) : "حدثنا محمد بن عبيد وابن نمير المعني، قالا: حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل الكعبة، قال: هم الأخسرون ورب الكعبة، هم الأخسرون ورب الكعبة، هم الأخسرون، فأخذني غم، وجعلت أتنفس، قال: قلت: هذا شر حدث في. قال: قلت: من هم، فداك أبي وأمي؟ قال: الأكثرون إلا من قال في عباد الله هكذا وهكذا، وقليل ما هم، ما من رجل يموت ويترك غنما أو إبلًا أو بقرًا لم يؤد زكاته، إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمن حتى تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها حتى يقضى بين الناس، ثم تعود أولاها على أخراها)) وقال ابن نمير: كلما نفذت أخراها عادت إليه أولاها.   (1) ج: 2. ص: 955. ح: 2862. (2) المسند. ج: 5. ص: 148و 149و 169. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1187 حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني مقبلًا قال: هم الأخسرون ورب الكعبة. فقلت: ما لي، لعلي أنزل في شيء، من هم فداك أبي وأمي؟ قال: الأكثرون أموالًا، إلا من قال هكذا، فحثا بين يديه وعن يمينه وعن شماله، قال: ثم قال: والذي نفسي بيده، لا بموت أحد منكم فيدع إبلًا وبقرًا وغنما لم يؤد زكاتها، إلا جاءته يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تطؤه بأخفافها، وتنطحه بقرونها، كلما نفدت أخراها عليه، أعيدت أولاها حتى يقضى بين الناس. وقال ابن زنجويه (1) : "أخبرنا محمد بن عبيد، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل الكعبة، فلما رآني قد أقبلت، قال: هم الأخسرون ورب الكعبة. مرتين، وقال: فأخذني غم، وجعلت أتنفس، وقلت: هذا شيء حدث في. قلت: من هم فداك أبي وأمي؟ قال: الأكثرون، إلا من قال في عباد الله هكذا وهكذا - عن يمينه وعن يساره وعن خلفه - وقليل ما هم، ما من رجل يموت فيترك غنما أو إبلًا أو بقرًا لم يؤد زكاتها إلا جاءته يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمن حتى تطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها حتى يقضى بين الناس، ثم تعود أولاها على أخراها)) . وقال مسلم (2) : "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: ((أتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة. قال: فجئت حتى جلست، فلم أتقار أن قمت، فقلت: يا رسول الله فداك أبي وأمي، من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالًا إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا - من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله - وقليل ما هم، ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس)) . حدثني أبو كريب، حدثني محمد بن العلاء، حدثني أبو معاوية، عن الأعمش، عن المعرور، عن أبي ذر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة ... فذكر نحو حديث وكيع، غير أنه قال: والذي نفسي بيده، ما على الأرض رجل يموت فيدع إبلًا أو بقرًا أو غنما لن يؤدي زكاتها.   (1) الأموال ج: 2. ص: 783.ح: 1355. (2) على هامش شرح النووي. ج: 7. ص: 73 و74. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1188 قال النسائي (1) : " وأخبرنا هناد بن السري في حديثه، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: ((جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني مقبلًا قال: هم الأخسرون ورب الكعبة. قلت: ما لي، لعلي أنزل في شيء. قلت: من هم فداك أبي وأمي؟ قال: الأكثرون أموالًا، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا. حثا بين يديه وعن يمينه وعن شماله، ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يموت رجل فيدع أبلا أو بقرًا لم يؤد زكاتها، إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها، كلما نفدت أخراها أعيدت أولاها حتى يقضى بين الناس)) . وقال البيهقي (2) : أخبرنا أبو الحسين محمد بن الحسين بن الفضل القطان ببغداد، أنبأنا أبو عمرو عثمان بن أحمد السماك، حدثنا محمد بن عبيد الله بن يزيد المنادي، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي، حدثنا الأعمش. وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني، حدثنا أحمد بن حازم بن أبي عزرة، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: ((انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة. قال: فجئت حتى جلست، فلم أتقار أن قمت، فقلت: من هم فداك أبي وأمي؟ قال: هم الأكثرون، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا - أربع مرات - وقليل ما هم، ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرونها وتطؤه بأخفافها، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس)) . لفظ حديث وكيع رواه مسلم في الصحيح عن أبي بكر بن أيى شيبة، وأخرجه البخاري من وجه آخر عن الأعمش. ومثل هذا الذي روي عن أبي ذر مما يتراءى للنظرة الساذجة متناقضًا روي عن أبي هريرة، فقد جاء عنه الوعيد لمن لم يؤد حق الله في ماله والتنديد به، كما جاء عنه الوعيد لمن لم يؤد زكاة ماله والتنديد به، والكلمتان كلتاهما وردتا في أحاديث متشابهة الأسانيد متشابهة الألفاظ، والبعض منها لا يختلف الواحد عن الآخر إلا بورود كلمة (الزكاة) في أحدهم، وكلمة (الحق) أو (حق الله) في الآخر تمامًا، كما رأينا فيما روي عن أبي ذر مما قد يبدو متناقضًا، وقبل أن نأخذ في تجلية الحقيقة التي تزيح وهم التناقض بين هذه الأحاديث، ندرج ما روي عن أبي هريرة.   (1) السنن. ج: 5. ص:10. (2) السنن ج: 4. ص: 97. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1189 فالأحاديث التي ورد فيها ذكر الزكاة رواها كل من مالك وأحمد وأبي عبيد وابن زنجويه والبخاري والبيهقي وجميعها عن طريق أبي صالح السمان. قال مالك (1) : "عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة أنه كان يقول: من كان عنده مال لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان يطلبه حتى يمكنه، يقول له: أنا كنزك. وتعقبه ابن عبد البر (2) : هذا الحديث أيضًا موقوف في الموطأ غير مرفوع، وقد أسنده عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار أيضًا، عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. والإسناد الأول رواه عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عندي خطأ منه في الإسناد. والله أعلم. وقال أحمد (3) : حدثنا حصن، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالًا فلم يؤد زكاته، مثل له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع، له زبيبتان، يأخذ بلهزمتيه يوم القيامة، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إلى آخر الآية)) . حدثنا قتيبة، حدثنا بشر بن سعد، عن ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يكون كنز أحدهم يوم القيامة شجاعًا أقرع ذا زبيبتين، يتبع صاحبه وهو يتعوذ منه، ولا يزال يتبعه حتى يلقمه أصبعه)) .   (1) الموطأ. ص:207. (2) التمهيد. ج:17. ص:145. (3) الساعاتي الفتح الرباني. ج: 8. ص: 193 و200. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1190 حدثنا عفان، حدثنا وهيب، عن خالد البصري، قال: حدثنا سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته، إلا جيئ به يوم القيامة وبكنزه، فيحمى عليه صفائح في نار جهنم، فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها، إلا جيئ به يوم القيامة وبإبله كأوفر ما كانت عليه، فيبطح لها بقاع قرقر، كلما مضى أخراها، رد عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وأما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها، إلا جيئ به يوم القيامة كأوفر ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، كلما مضت أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار)) . الحديث. وقال أبو عبيد (1) : "وحدثنا سعيد بن أبي مريم، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير، قال: حدثني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته، إلا يؤتى به وبكنزه يوم القيامة أوفر ما كان، فيضرب صفائح، ثم يحمى عليها في نار جهنم، ثم يكوى بها جبينه وجنبه وظهره، كلما بردت صفيحة أحميت، حتى يقضي الله بين خلقه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله من الجنة أو من النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها، إلا يؤتى به وبإبله يوم القيامة أوفر ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، ثم تستن عليه وتخبطه بأخفافها وتعضه بأفواهها، كلما انقضى آخرها عطف عليه أولها، حتى يقضي الله تبارك وتعالى بين خلقه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله من الجنة أو النار)) . ثم ذكر في الغنم والبقر مثل ذلك. وقال ابن زنجويه (2) :   (1) الأموال. ص: 494. ح: 923. (2) الأموال ج: 2. ص: 780 و781. ح: 1353. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1191 " حدثني ابن أبي أويس، حدثني عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا أتي به وبماله، فأحمي عليه صفائح من نار جهنم، فيكوى بها جبينه، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون (1) ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، ولا عبد لا يؤدي صدقة إبله إلا أتي به يوم القيامة وبإبله على أوفر ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، فتستن عليه، كلما مضى عليه آخرها، رد عليه أولها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره ألف سنة، ولا عبد لا يؤدي صدقة غنمه إلا أتي به وبغنمه على أوفر ما كانت، فينبطح لها بقاع قرقر، فتستن عليه، كلما مر عليه آخرها رد عليه أولها، تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره مائة ألف سنة (2) مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى جنة، وإما إلى نار)) . وقال البخاري في صحيحه (3) : (حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالًا، فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع، له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزميه - يعني بشدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} )) . وحدثنا عبد الله بن منير، سمع أبا النضر، حدثنا عبد الرحمن - هو ابن عبد الله بن دينار - عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالًا، فلم يؤد زكاته، مثل له ماله شجاعًا أقرع، له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزميه - يعني بشدقيه - يقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إلى آخر الآية)) . وقال البيهقي (4) : "أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأ أبو عبد الله محمد بن موسى الرازي ببخارى، أنبأ محمد بن أيوب، أنبأ علي بن المديني، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: من آتاه الله مالًا، فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعنى شدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية)) . وتعقبه البيهقي بقوله: رواه البخاري في الصحيح عن علي بن المديني، ورواه مالك عن عبد الله بن دينار موقوفًا.   (1) لعل في العبارة خطأ، صوابه: خمسين ألف سنة كما ورد في الأسانيد الأخرى أو لعلها رواية اختص بها ابن زنجويه، وهذا الاحتمال بعيد، لكن يرجح هذا الاحتمال ورود جملة "مما تعدون" بعد جملة "ألف سنة"، والجملتان جزء من الآية: (4) سورة السجدة ونصه: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} ، ووردت جملة (خمسين ألف سنة) في سورة المعارج في قوله سبحانه وتعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كان مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} الآية: (4) . (2) هذا يؤكد ما أثبتناه في التعليق السابق من أن في الرواية خطأ، وربما كان من الناسخ. (3) ج: 2. ص: 110 و111. وج: 5. ص: 172. (4) السنن. ج:4. ص:81. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1192 أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأنا محمد بن يعقوب بن يوسف، حدثني أبي ويحيى بن منصور الهروي، قالا: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب الأموي، حدثنا عبد العزيز بن المختار، حدثنا سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته، إلا أحمي عليه في نار جهنم، فجعل صفائح، فيكوى بها جنباه وجبينه، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها، إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت، تسير عليه، كلما مضى أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها، إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت، فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله على عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار. قال سهيل: فلا أدري أذكر البقر أم لا. قالوا: فالخيل يا رسول الله؟ قال: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة. أو قال: الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة. قال سهيل: أنا أشك. الحديث)) . أما تلك التي وردت فيها كلمة "حق"، بدلًا من كلمة " الزكاة"، فقد رواها كل من أحمد وابن زنجويه والبخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي من طرق مختلفة، اثنتان عن السمان، وواحدة عن عطاء، وأخرى عن الأعرج، وأخرى عن زيد بن أسلم، وأخرى عن العلاء بن عبد الرحمن، وأربعة عن أبي عمرو (أو أبي عمر) الغداني، وأخرى عن كل من شعيب العقيلي ويحيى بن أبي كثير، وهي على التوالي: قال أحمد (1) :   (1) الساعاتي الفتح الرباني. ج: 8. ص: 196. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1193 "حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي عمر الغداني، قال: كنت عند أبي هريرة جالسًا، فمر رجل من بني عامر بن صعصعة، فقيل له: هذا أكثر عامري مالًا، فقال أبو هريرة: ردوه إلي. فردوه عليه، فقال: نبئت أنك ذو مال كثير. قال العامري: إي والله، إن لي مائة حمرًا ومائة أدمًا. حتى عد من ألوان الإبل وأفنان الرقيق ورباط الخيل. فقال أبو هريرة: إياك وأخفاف الإبل وأظلاف النعم. يردد ذلك عليه، حتى جعل لون العامري يتغير أو يتلون، فقال: ما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كانت له إبل لا يعطي حقها - فذكر مثل الحديث المتقدم - ثم قال: واذا كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكبره وأسمنه وأشره، ثم يبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه فيه كل ذات ظلف بظلفها، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، إذا جاوزته أخراها، أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس حتى يرى سبيله، وإذا كان له غنم - فذكر نحو الحديث المتقدم - ثم قال: قال العامري: وما حق الإبل يا أبا هريرة؟ قال: أن تعطي الكريمة، وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر، وتسقي اللبن، وتطرق الفحل. ثم أسند حديث أبي هريرة هذا بلفظ مختلف، فقال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا أبو داود، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه، إلا جعله الله يوم القيامة يحمى عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره، حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي حقها، إلا جاءت يوم القيامة أوفى ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، فتنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما مضت أخراها، ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه بأخفافها، كلما مضت أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار)) . وقال ابن زنجوبه (1) : أخبرنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها، إلا جعلت له يوم القيامة صفائح، ثم أحمي عليها في نار جهنم، ثم كوي بها جبهته وجبينه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس، فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي حقها، ومن حقها حلبها يوم ورودها، إلا أتي به يوم القيامة لا يفقد منها فصيلًا واحدًا، ثم بطح لها بقاع قرقر، ووطأته بأخفافها، وعضته بأفواهها، كلما مر عليه آخرها كر عليه أولها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس، فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة، ثم بطح لها بقاع قرقر، ليس فيها عضباء ولا عقصاء ولا جلحاء، تطؤه بأظلفها، وتنطحه بقرونها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، كلما مر عليه أولها كر عليه آخرها حتى يقضي الله بين الناس، فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار)) .   (1) الأموال. ج: 2. ص: 788. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1194 وقال البخاري في صحيحه (1) : "حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه، أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت إذا هو لم يعط فيها حقها، تطؤه بأخفافها، وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت إذا لم يعط فيها حقها، تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، قال: ومن حقها أن تحلب على الماء، قال: ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يعار، فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد بلغت، ولا يأتي ببعير يحمله على رقبته له رغاء، فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد بلغت)) . وقال أبو داود (2) : حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعله الله يوم القيامة يحمى عليه في نار جهنم، فيكوى بها جبهته وجبينه وظهره، حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، إما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت، فيبطح لها في قرقر، فتنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، كلما مضت أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي حقها، إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، تطؤه بأخفافها، كلما مضت عليه أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله تعالى بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار)) . وحدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا ابن أبي فديك، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. قال في قصة الإبل بعد قوله: لا يؤدي حقها، قال: ومن حقها حلبها يوم ورودها. حدثنا الحسن بن علي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا شعبة، عن قتادة، عن أبي عمر الغداني، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذه القصة، فقال له - يعني لأبي هريرة -: فما حق الإبل؟ قال: تعطي الكريمة، وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر، وتطرق الفحل، وتسقي اللبن.   (1) ج:2. ص:110. (2) السنن. ج: 2. ص: 124 و125. ح: 1658 إلى 1660. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1195 وقال النسائي (1) : "أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، قال: حدثنا قتادة، عن أبي عمرو الغداني، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أيما رجل كانت له إبل، لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، قالوا: يا رسول الله، ما نجدتها ورسلها؟ قال: في عسرها ويسرها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه وأشره، يبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه بأخفافها، إذا جاءت أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله، وأيما رجل كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة أغذ ما كانت وأسمنه وأشره، يبطح لها بقاع قرقر، فتنطحه كل ذات قرن بقرنها، وتطؤه كل ذات ظلف بظلفها، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله، وأيما رجل كانت له غنم لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وأشره، ثم يبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، ليس فيها عقصاء ولا عضباء، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله)) . قال ابن ماجه (2) : حدثنا أبو مروان محمد بن عثمان العثماني، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تأتي الإبل التي لم تعط الحق منها، فتطأ صاحبها بأخفافها، وتأتي البقر والغنم تطأ صاحبها بأظلافها وتنطحه بقرونها، ويأتي الكنز شجاعًا أقرع، فيلقى صاحبه يوم القيامة، فيفر منه صاحبه مرتين، ثم يستقبله، فيفر، فيقول: ما لي ولك. فيقول: أنا كنزك، أنا كنزك، فيتقيه بيده، فيلقمها)) .   (1) السنن. ج: 5. ص:12. (2) السنن. ج:1. ص: 569. ح: 1786. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1196 وقال الحاكم (1) : "حدثنا علي بن حماد العدل، حدثنا أبو المثنى العنبري، حدثنا علي بن عبد الله المديني، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن يحيى بن أبي كثير، حدثني عامر بن شعيب العقيلي (2) ، أن أباه أخبره، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة، وأول ثلاثة يدخلون النار، فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة: فالشهيد، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده، وعفيف متعفف ذو عيال، وأما أول ثلاثة يدخلون النار: فأمير مسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله في ماله، وفقير فجور)) . وتعقبه بقوله: عامر بن شعيب العقيلي شيخ من أهل المدينة مستقيم الحديث، وهذا أصل في هذا الباب، تفرد به يحيى بن أبي كثير، ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي في التلخيص. وقال البيهقي (3) : "أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، أنبأ عبد الله بن جعفر، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عامر العقيلي، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة، وأول ثلاثة يدخلون النار؛ فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة: فالشهيد، وعبد أدى حق الله ونصح لسيده، وفقير متعفف ذو عيال. وأما أول ثلاثة يدخلون النار: فسلطان متسلط، وذو ثروة من المال لم يعط حق ماله، وفقير فجور)) . ويشهد لكلمة "حق" فيما روي عن كل من أبي ذر وأبي هريرة ما رواه كل من أحمد وأبي عبيد والدارمي عن جابر من طريق كل من أبي الزبير وطاوس.   (1) المستدرك ج: 1. ص: 387. (2) قال الذهبي في (الميزان. ج: 2. ص: 359) : عامر بن شعيب، عن سفيان بن عيينة، قال أبو عبد الله الحاكم: له موضوعات. (3) السنن. ج: 4. ص: 82. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1197 قال أحمد (1) : "حدثنا محمد بن بكر وعبد الرزاق، قالا: حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها - ثم ذكر نحو حديث أبي هريرة في الابل والبقر والغنم - ثم قال: ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعًا أقرع يتبعه، فاغرًا فاه، فإذا رآه فر منه، فيناديه ربه: خذ كنزك الذي خبأته، فأنا عنه أغنى منك، فإذا رأى أنه لا بد له منه، سلك يده في فيه فقضمها قضم الفحل)) قال أبو الزبير: وسمعت عبيد بن عمير، قال: يارسول الله. قال عبد الرزاق في حديثه: قال رجل: يا رسول الله ما حق الإبل؟ قال: حلبها على الماء، وإعارة دلوها، وإعارة فحلها ومنيحتها، وحمل عليها في سبيل الله. قال عبد الرزاق فيها كلها: وقعد لها. وقال عبد الرزاق فيه: قال أبو الزبير: سمعت عبيد بن عمير يقول هذا القول. ثم سأل جابر الأنصاري عن ذلك، فقال مثل قول عبيد بن عمير. وقال أبو عبيد (2) : "حدثنا الحجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها، إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت قط، وقعد لها بقاع قرقر، تستن عليه بقوائمها وأخفافها، ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر، تنطحه بقرونها وتطؤه بقوائمها، ولا صاحب غنم لا يفعل فيها حقها، إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، ليس فيها جماء ولا منكسر جناحها، ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه، إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعًا أقرع، يتبعه فاتحًا فاه، فإذا أتاه فر منه، فيناديه ربه: خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه أغنى منك، فإذا رأى أنه لا بد منه، سلك يده في فيه، فيقضمه قضم الفحل)) . وحدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه أنه ذكر هذا الحديث أو نحوه، قال: فقيل له: ما حقها؟ قال: فذكر أربعًا، قال ابن طاوس: لا أعرف بأيهن بدأ، قال: تحلب على العطن، وتحمل على راحلتها، وتنحر سمينها، وتمنح لقوحها. وحدثنا عمر بن طارق، عن عبد الله بن لهيعة، عن خالد بن يزيد قال: سئل عطاء بن أبي رباح عن مثل ذلك، فحدث عن أبي هريرة أنه قال: نعم المال ثلاثون، تمنح منيحتها، وتنحر سمينها، ويحمل على نجيبتها. وقال الدارمي (3) : "أخبرنا سهل بن عبيد، حدثنا عبد الملك، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها، إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر، تطؤه ذات ظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن، قالوا: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنحتها وحلبها على الماء، ويحمل عليها في سبيل الله.))   (1) الساعاتي الفتح الرباني. ج: 8. ص: 198. (2) الأموال. ص: 493. ص: 922. (3) السنن. ج: 1. ص: 379 و380. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1198 حدثنا بشر بن الحكم، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها، إلا جاء يوم القيامة أكثر ما كانت قط، وأقعد لها بقاع قرقر، استنوا عليه بقوائمها وأخفافها، ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقها، إلا جاء يوم القيامة أكثر ما كانت، وأقعد لها بقاع قرقر، تنطحه بقرونها، وتطؤه بقوائمها، ولا صاحب غنم لا يفعل فيها حقها، إلا جاء يوم القيامة أكثر ما كانت، أقعد لها بقاع قرقر، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، ليس فيه جماء ولا مكسور قرنها، ولا صاحب كنز ولا يفعل فيه حقه، إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع، يتبعه فاتحًا فاه، فإذا أتاه فر منه، فيناديه: خذ كنزك الذي خبأته. قال: فأنا عنه غني، فإذا رأى أنه لا بد منه، سلك يده في فمه، فيقضمها قضم الفحل)) . قال: وقال أبو الزبير: سمعت عبيد بن عمير يقول هذا القول، ثم سألنا جابر بن عبد الله فقال مثل قول عبيد بن عمير، قال: قال رجل: يا رسول الله، ما حق الإبل؟ قال: حلبها على الماء، وإعارة دلوها، وإعارة فحلها ومنحتها، وحمل عليها في سبيل الله. وكذلك اختلفت روايتهم عن ابن مسعود. فروي النسائي (1) : "أخبرنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا ابن عيينة، عن جامع بن أبي راشد، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من رجل له مال، لا يؤدي حق ماله إلا جعل له طوقا في عنقه شجاع أقرع، وهو يفر منه، وهو يتبعه، ثم قرأ مصداقه من كتاب الله عز وجل {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} )) وقال ابن ماجه (2) : حدثنا محمد بن أبي عمر المدني، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن أعين وجامع بن أبي راشد، سمعنا شقيق بن سلمة يخبر، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله، إلا مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع حتى يطوق عنقه، ثم يقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله تعالى {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية ")) .   (1) السنن. ج: 5. ص: 11. (2) ج: 1. ص: 568 و569. ح: 1784 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1199 وقال البيهقي (1) : "أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن وأبو زكريا بن أبي إسحاق وغيرهما، قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعي، أنبأ سفيان بن عيينة، سمع جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين، سمعا أبا وائل يخبر، عن عبد الله بن مسعود يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله، إلا مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع، يفر منه، وهو يتبعه حتى يطوقه في عنقه، ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} )) (2) . كما يشهد لروايات (حق) بدلًا من (زكاة) - ولكن بالدلالة لا باللفظ - ما رواه كل من أحمد، عن بهز بن حكيم، وأبي عبيد، عن عطاء وأبي داود، عن واسع بن حبان، وعن عبيد بن عمير. قال أحمد (3) : "حدثنا يزيد، أخبرنا بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يأتي رجل مولاه، فيسأله من فضل هو عنده فيمنعه، إلا دعي له يوم القيامة شجاعًا يتلمظ فضله الذي منعه)) . وفي رواية: ((ما من مولى يأتي مولى له، فيسأله من فضل عنده فيمنعه، إلا جعله الله تعالى عليه شجاعًا ينهسه قبل القضاء)) . وقال أبو عبيد (4) : "حدثنا عمرو بن طارق، عن عبد الله بن لهيعة، عن خالد بن يزيد، قال: سئل عطاء بن أبي رباح عن مثل ذلك - أي: عن حق الله في الإبل - فحدث عن أبي هريرة أنه قال: نعم المال الثلاثون، تمنح منيحتها، وتنحر سمينتها، ويحمل على نجيبتها". وقال أبو داود (5) : "حدثنا يحيى بن خلف، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: قال أبو الزبير: سمعت عبيد بن عمير قال: قال رجل: يارسول الله، ما حق الابل؟ فذكر نحوه - أي: نحو ما ورد في حديث تقدم لأبي داود من طريق أبي صالح السمان - زاد: وإعارة دلوها.   (1) السنن. ج:4. ص: 81. (2) الآية رقم: (180) سورة آل عمران. (3) الساعاتي الفتح الرباني. ج: 8. ص: 201. (4) الأموال. ص: 495. (5) السنن. ج: 2. ص: 125. ح: 1661و 1662 و1663. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1200 وحدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني، حدثني محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل جاد عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين. وحدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي وموسى بن إسماعيل، قالا: حدثنا أبو الأشهب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: ((بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، إذ جاء رجل على ناقة له، فجعل يصرفها يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان له فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد، فليعد به على من لا زاد له. حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا في الفضل)) . قلت: من الصعب المراجحة بشكل يطمئن إليه القلب بين أسانيد هذه الأحاديث المختلفة، فحديث المعرور بن سويد أخرجه كل من مسلم وابن زنجويه وأحمد والنسائي والبيهقي عن طريق الأعمش عن أبي الزبير، وفيه كلمة (زكاة) بدل كلمة (حق) . ونظرا لتعدد الأسانيد، فلا نجد مدعاة لاعتباره ما تكلم به في بعض من الرواة عن الأعمش أو من بعدهم، كذلك حديث أبي هريرة الذي وردت فيه كلمة (زكاة) بدلًا من كلمة (حق) ، رواه مالك، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح السمان موقوفا، ووصله ابن عبد البر، كما وصله أحمد عن طريق عبد الرحمن ابنه، وفيه بعض الكلام قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 6. ص: 206 وما بعدها ترجمة: 419) بعد أن ترجم له وذكر بعضًا ممن روى عنهم وممن رووا عنه، قال الدوري عن ابن معين: في حديثه عندي ضعف، وقد حدث عنه يحيى القطان، وحسبه أن يحدث عنه يحيى، وقال عمرو بن علي: لم أسمع عبد الرحمن يحدث عنه بشيء قط، وقال أبو حاتم: فيه لين، يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال ابن عدي: وبعض ما يرويه منك لا يتابع عليه، وهو في جملة من يكتب حديثه من الضعفاء. ثم قال ابن حجر: وقال السلامي عن الدارقطني: خالف فيه البخاري الناس، وليس بمتروك. وقال الحاكم عن الدار قطنى: إنما حدث بأحاديث يسيرة. وقال أبو القاسم البغوي: هو صالح الحديث. وقال الحربى: غيره أوثق منه. وقال ابن خلفون: سئل عنه ابن المديني، فقال: صدوق. قلت: لكن رغم ذلك رمز له ابن حجر بأنه روى عنه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي، وطبعًا نقل ذلك ابن حجر عن أستاذه المزي، فإن يكن هؤلاء يروون جميعًا عن الضعفاء فإلى من نسند التوثيق؟! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1201 ورواه كل من أحمد وأبي عبيد وابن زنجويه والبيهقي عن أبي صالح من طريق ابنه سهيل، وفيه كلام قال ابن حجر (تهذيب التهذيب: ج: 4. ص: 263. ترجمة: 453) ورمز بأنه روى عنه الجماعة: سهيل بن أبي صالح، واسمه ذكوان السمان أبو يزيد المدني، روى عن أبيه وسعيد بن المسيب والحارث بن مخلد الأنصاري وأبي الحباب وسعيد بن يسار وعبد الله بن دينار وعطاء بن يزيد الليثي والنعمان بن عياش والأعمش وربيعة وآخرين ذكرهم عنه، وربيعة والأعمش ويحيى بن سعيد الأنصاري ومالك وشعبة والفزاري وابن جريج والسفيانين وجماعة ذكر منهم طائفة. ثم قال ابن عيينة: كنا نعد سهيلًا لينا في الحديث، وقال حرب عن أحمد: ما يصلح حديثه. وقال أبو طالب عن أحمد: قال يحيى بن سعيد ومحمد - يعنى ابن عمرو -: أحب إلينا، وما صنع شيئًا، سهيل أثبت عندهم. وقال الدوري عن ابن معين: سهيل ابن أبي صالح والعلاء بن عبد الرحمن حديثهما قريب من السواء، وليس حديثهما بحجة. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: سهيل أشبه وأشهر - يعني من العلاء - وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وهو أحب إلي من العلاء. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: لسهيل نسخ، وقد روى عنه الأئمة وحدث عن أبيه وعن جماعة عن أبيه، وهذا يدل عل تمييزه كونه ميز ما سمع من أبيه وما سمع من غير أبيه، وهو عندي ثبت لا بأس به مقبول الأخبار، وروى له البخاري مقرونًا بغيره. قال ابن حجر: وعاب ذلك عليه النسائي، فقال السلمي: سألت الدارقطنى: لم ترك البخاري حديث سهيل في كتاب الصحيح؟ فقال: لا أعرف له فيه عذر، فقد كان النسائي إذا مر بحديث سهيل قال: سهيل والله خير من أبي اليمان ويحيى بن بكير وغيرهما، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ، مات في ولاية أبي جعفر، وكذا أرخه ابن سعد، وقال: كان سهيل ثقة كثير الحديث، وأرخه ابن قانع سنة ثمان وثلاثين - أي: بعد المائة - وذكر البخاري في تاريخه، قال: كان لسهيل أخ، فمات، فوجد عليه، فنسي كثيرًا من الحديث، وذكر ابن أبي خيثمة في حديثه عن يحيى قال: لم يزل أهل الحديث يتقون حديثه، وذكر العقيلي عن يحيى أنه قال: هو صويلح، وفيه لين. وقال الحاكم في باب من عيب على مسلم إخراج حديثه: سهيل أحد أركان الحديث، وقد أكثر مسلم الرواية عنه في الأصول والشواهد، إلا أن غالبها في الشواهد، وقد روى عنه مالك، وهو الحكم في شيوخ أهل المدينة الناقد لهم، ثم قيل في حديثه بالعراق: إنه نسي الكثير منه، وساء حفظه في آخر عمره، فذهب بعض حديثه. انتهى مع بعض التلخيص. . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1202 أما حديث أبي هريرة الذي وردت فيه كلمة (زكاة) ، فقد رواه كل من أحمد وأبي داود عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه. على حين رواه كل من أحمد والنسائي عن طريق أبي عمر الغداني. ورواه أبو داود أيضًا عن طريق زيد بن أسلم، عن أبي صالح. ورواه البخاري عن طريق الأعرج. ورواه ابن ماجه عن طريق العلاء بن عبد الرحمن قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 8. ص: 186. ترجمة: 335) ورمز بأنه روى عنه مسلم والأربعة: العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي أبو شبل المدني مولى الحرقة - بضم المهملة وفتح الراء - من جهينة يروي عن أبيه وابن عمر وأنس وأبي السائب مولى بن هشام بن زهرة وآخرين، ذكر بعضًا منهم، وعنه ابن شبيل وابن جريج ومالك وشعبة والسفيانان وآخرون ذكر بعضًا منهم. ثم قال: قال أبو عبد الله، عن أحمد، عن أبيه: ثقة، لم أسمع أحدًا ذكره بسوء، وفضله عن سهيل وعن محمد بن عمرو، وقال الدوري عن ابن معين: وليس حديثه بحجة، وهو وسهيل قريب من السواء. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس بذاك، لم يزل الناس يتوقون حديثه، وقال أبو زرعة: ليس هو بالقوي، وقال أبو حاتم: صالح، روى عنه الثقات، ولكنه أنكر من حديثه أشياء. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: وللعلاء نسخ يرويها عنه الثقات، وما أرى به بأسًا. وذكره ابن حبان في الثقات، وتوفي في أول خلافة أبي جعفر، ونقل ابن حجر عن أبي داود قوله: سهيل أعلى عندنا من العلاء، أنكروا على العلاء صيام شعبان، يعنى حديث: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا. وقال عثمان الدارمي: سألت ابن معين عن العلاء وابنه كيف حديثهما؟ قال: ليس به بأس. قلت: هو أحب إليك أو سعيد المقبري؟ قال: سعيد أوثق، والعلاء ضعيف، يعني بالنسبة إليه. يعنى لما قال: أوثق. خشي أنه يظن أنه يشاركه في هذه الصفة، وقال: إنه ضعيف. وقال البخاري: قال علي: أراه مات سنة ثلاث وثلاثين، وقال ابن الأثير: مات سنة تسع وثلاثين، وقال الخليلي: مدني مختلف فيه؛ لأنه ينفرد بالحديث. وقال الترمذي: هو ثقة عند أهل الحديث. الرقي، ورواه الحاكم والبيهقي عن طريق عامر بن شعيب العقيلي، عن أبيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1203 وروى حديث جابر، ووردت فيه كلمة (حق) بدلًا من كلمة (زكاة) كل من أحمد وأبي عبيد وابن عبد البر عن طريق أبي الزبير، ورواه أبو عبيد أيضًا عن ابن طاوس عنه، وعن عبد الملك بن سليمان عنه، كذلك رواه الدارمي عنه من طريق عبد الملك. وروى النسائي حديث ابن مسعود وفيه كلمة (حق) بدلًا من كلمة (زكاة) عن طريق أبي وائل، على حين رواه كل من ابن ماجه والبيهقي عن طريق وائل أيضًا , ولكن جاءت فيه كلمة (زكاة) بدلًا من كلمة (حق) ، فالمعنى: هذا الاختلاف في رواياتهم، لاجتلاء ذلك نقرر أولًا حقيقة لا مناص من الانطلاق من تقريرها، وهي أن بعض هذه الروايات كانت بالمعنى، وبعضها باللفظ، ولا سبيل إلى الجزم أيها كانت باللفظ، إنما السبيل الوحيدة التي يمكن الاطمئنان إليها هي الجمع بين الروايتين باعتبار أننا لا نستطيع ترجيح الواحدة عن الأخرى، وإن يكن مجموع أسانيد الروايات بكلمة (حق) - لا سيما إذا أضيفت الروايات عن أبي ذر - ترجح تلك التي وردت فيها كلمة (زكاة) بدلًا من كلمة (حق) رجحانًا لا يمكن اعتماده علميًا لاعتبار أنها أصح، وأنها الأولى، بأن تكون الرواية اللفظية. والجمع بينهما إنما يتأتى من التأكد من المعنى المقصود من كلمة (زكاة) عند من وردت في روايته، ويظهر أن أغلب من أثر عنهم تفسير قوله تعالى: {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (1) وقوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (2) وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (3) اعتمدوا اعتبار كلمة " زكاة" مرادفة لكلمة " الزكاة، بـ (أل) التعريفية والتي استعملها الشارع للحق المعين زمانه ونصابه ومصادره والمطلق عليه. هذا اللفظ المعرف بأل والمقرون بالصلاة في معظم ما ورد ذكره في القرآن الكريم والذي هو الركن الثالث من أركان الاسلام الخمس. ولذلك جاء ما أثر عنهم من التأويل والتفسير والاستنباط متأرجحًا بين دعوى نسخ بعض هذه الآيات بآيات الزكاة، وبين القول بأنها جميعًا تؤكد آيات الزكاة وتنذر مانعي الزكاة بما أعد لهم يوم القيامة من نكال، وقل في المفسرين وشراح الحديث من فرق بين هذه الآيات وآيات الزكاة دون أن يعتبر هذه الآيات منسوخة بآيات الزكاة.   (1) الآية رقم (177) سورة البقرة. (2) الآية رقم (180) سورة آل عمران. (3) الآية رقم (34) سورة التوبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1204 ولم أقف على من فكر منهم في أن يفصل بين دلالة لفظ (زكاة) غير معرف بأل ودلالته معرفًا بها، على حين أن التفرقة بين الدلالتين هي مكمن السر والمناط، لذلك لم نجد مناصًا من العودة إلى أصل كلمة (زكا) . قال ابن الأثير (1) :"زكا " قد تكرر في الحديث ذكر الزكاة والتزكية، وأصل الزكاة في اللغة: الطهارة والنماء والبركة والمدح، وكل ذلك قد استعمل في القرآن والحديث، وزنها فعلة، كالصدقة، فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها، قلبت ألفًا وهي من الأسماء المشتركة بين المخرج والفعل، وتطلق على العين، وهي الطائفة من المال المزكى بها، وعلى المعنى وهو التزكية. ومن جانب هذا البيان أتى من ظلم نفسه بالطعن على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (2) ذاهبًا إلى العين، وإنما المراد المعنى الذي هو التزكية، فالزكاة طهرة للأموال، وزكاة الفطر طهرة للأبدان، وفي حديث زينب: "كان اسمها برة، فغيره وقال: تزكي نفسها ". زكى الرجل نفسه إذا وصفها وأثنى عليها، وفي حديث الباقر أنه قال: "زكاة الأرض يبسها ". يعني طهارتها من النجاسة، كالبول وأشباهه بأن يجف ويذهب أثره. وفي حديث معاوية أنه قدم المدينة بمال، فسأل عن الحسن بن علي، فقيل: إنه بمكة، فأزكى المال ومضى، فلحق الحسن، فقال: قدمت بمال، فلما بلغني شخوصك أزكيته، وها هو ذا، كأنه يريد أوعيته مما تقدم، هكذا فسره أبو موسى ". وقال ابن منظور (3) : " (زكا) الزكاء ممدود النماء والربح، زكا يزكو زكاة وزكوا. وفي حديث علي كرم الله وجهه قال: المال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، فاستعار له الزكاء، وإن لم يك ذا جرم، وقد زكاه الله وأزكاه والزكاء: ما أخرجه الله من الثمر، وأرض زكية: طيبة سمينة، حكاه أبو حنيفة - يعني الدينوري في زكا، والزرع يزكو زكاء ممدود؛ أي: نما، وأزكاه الله، وكل شيء يزداد وينمى فهو يزكو زكاء، وتقول: هذ الأمر لا يزكو بفلان زكاء، أي: لا يليق به وأنشد: والمال يزكو بك مستكثرًا يختال قد أشرق للناظر   (1) النهاية. ج: 2. ص: 307 وما بعدها. (2) الآية رقم: (4) سورة المؤمنون. (3) لسان العرب. ج: 14. ص: 358. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1205 ابن الأنباري: في قوله تعالى: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} (1) ومعناه: وفعلنا ذلك رحمة لأبويه وتزكية له، قال الأزهري: أقام الاسم مقام المصدر الحقيقي، والزكاة: الصلاح. ورجل نقي زكي؛ أي: زاك من قوم أتقياء أزكياء، وقد زكا زكاء وزكوا وزَكِي وتزكى، وزكاه الله، وزكى نفسه تزكية: مدحها. ثم قال: والزكاة زكاة المال معروفة، وهو تطهيره، والفعل زكى يزكي تزكية، إذا أذى عن ماله زكاته. غيره - أي: غير ابن الأنباري -: الزكاة ما أخرجته من مالك لتطهره به، وقد زكى المال، وقوله تعالى {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (2) قالوا: تطهرهم بها. قال أبو علي: الزكاة صفوة الشيء، وزكاه إذا أخذ زكاته، وتزكى، أي: تصدق. وفي التنزيل العزيز: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (3) قال بعضهم: الذين هم للزكاة مؤدون. وقال آخرون: الذين هم للعمل الصالح فاعلون. وقال تعالى: {خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} (4) أي: خيرًا منه عملًا صالحًا. وقال الفراء: زكاة صلاحا، وكذلك قوله عز وجل: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} (5) قال: صلاحا، أبو زيد النحوي في قوله عز وجل: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (6) . وقوله: {مَا زَكَا مِنْكُمْ} فمن قرأ ما زكا فمعناه: ما صلح منكم، ومن قرأ: ما زكى، فمعناه: ما أصلح، ولكن الله يزكي من يشاء، أي: يصلح، وقيل لما يخرج من المال للمساكين من حقوقهم: زكاة؛ لأنه تطهير للمال وتثمير وإصلاح ونماء كل ذلك قيل ". إذا وضح في الأذهان المعنى اللغوي لكلمة (زكاة) بل والمعنى الذي فهم من المعنى الحديثي لها في أكثر من مساق، يحسن أن نتدبر أن كلمة "الزكاة" وردت في القرآن الكريم معرفة بـ (أل) التعريف تسعًا وعشرين مرة، منها سبع مرات في آيات تعرض إما لبني إسرائيل، وإما لبعض الأنبياء، واثنتان وعشرون مرة خاصة بالمسلمين، وأغلبها مدنية، ويبلغ مجموع ما ورد في القرآن من كلمة (زكا) ومشتقاتها تسعًا وخمسين مرة، منها ثلاثون مرة لا تختص بالزكاة المفروضة (الركن الثالث من أركان الدين) وإن شملها بعضها مع غيرها، مما تدل عليه كلمة (زكا) بمعنى النماء أو الطهر أو البركة أو غيرها مما سبق أن نقلناه عن اللغويين.   (1) الآية رقم: (13) سورة مريم. (2) الآية رقم: (103) سورة التوبة. (3) الآية رقم (9) سورة المؤمنون. (4) الآية رقم: (81) سورة الكهف. (5) الآية رقم (13) سورة مريم. (6) الآية رقم: (21) سورة النور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1206 وينبغي أن يلاحظ أن كلمة (زكاة) بدون (أل) أي: نكرة، وردت في القرآن الكريم ثلاث مرات، مرة واحدة تتعلق بالمسلمين، وهي قوله تعالى: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (1) ومرتين تتصلان بغير المسلمين: إحداهما في قصة ذي القرنين، وهي قوله تعالى على لسانه: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} (2) . والثانية تتصل بنبي الله يحيى عليه السلام، وهي قوله سبحانه وتعالى في وصفه: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا} (3) ، وفي جميعها لا مجال لدعوى أن كلمة (زكاة) تشتمل دلالتها على (الزكاة) بمعنى الركن الثالث من أركان الدين. وإنما دلالتها تتراوح بين البركة والطهر والنماء، وهذا ينفي نفيًا حاسما أن تكون كلمة (زكاة) بدون أداة التعريف (أل) قد استعملها الشارع حقيقة شرعية في الركن الثالث من أركان الدين. أما إذا كانت معرفة بأل، فيمكن الدعوى بأن الشارع استعملها حقيقة شرعية فيه، وهذا يعني أنها إذا وردت غير معرفة بأل، سواء كانت (نكرة) أو (معرفة) عرفتها الإضافة، كما هو الشأن في الروايات التي ذكرت (زكاة ماله) بدلا من (حقه) ، أو ما شاكل ذلك في الأحاديث المروية عن أبي ذر وأبي هريرة وغيرهما، والتي سبق أن نقلناها، فلا سبيل إلى القول بأنها تعني الزكاة المفروضة إلا بدليل، وهذا الدليل الذي يعينها بأنها الزكاة المفروضة لا وجود له في تلك الروايات لفظا أو مفهوما أو سياقا، وعلى من زعم وجوده البرهان، بل إن كلمة الزكاة - معرفة بأل - نفسها، يرى بعض المفسرين أنها ليست "حقيقة شرعية " أطلقها الشارع الحكيم جل جلاله على الركن الثالث من أركان الدين، فقد وردت في القرآن الكريم في رأيهم معبرة عن غير هذا الركن أو بالأحرى معبرة عن أحد معانيها اللغوية التي تشرك في التعبير عنها، ومن مجموعها جاء إطلاقها على الركن الثالث من أركان الدين ومن هؤلاء المفسرين الراغب الأصبهاني، ويحسن أن ننقل مجموع ما قاله في كلمة (زكا) ومشتقاتها، فذلك أجلى لرأيه ومنطلقه في تأويله قال (4) : (زكا) أصل الزكاة النمو الحاصل من تزكية الله تعالى، ويعتبر ذلك بالأمور الدنيوية والأخروية. يقال: زكا الزرع يزكو إذا حصل منه نمو وبركة، وقوله تعالى: {أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} (5) إشارة إلى ما يكون حلالًا لا يستوخم عقباه، ومنه الزكاة لما يخرج الإنسان من حق الله تعالى إلى الفقراء وتسميته بذلك لما يكون فيها من رجاء البركة أو تزكية النفس، أي: تنميتها بالخيرات والبركات أو هما جميعًا، فإن الخيرين موجودان فيها. وقرن الله تعالى الزكاة بالصلاة في القرآن الكريم لقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} (6)   (1) الآية: (39) سورة الروم. (2) الآية: (81) سورة الكهف. (3) الآية رقم (13) سورة مريم. (4) المفردات في غريب القرآن. ص: 312 و313. (5) الآية: (19) سورة الكهف. (6) الآيات: (43) و (83) و (110) سورة البقرة والآية: (56) سورة النور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1207 وبزكاء النفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة، وهو أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره، وذلك ينسب تارة إلى العبد لكونه مكتسبًا لذلك نحو قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (1) ، وتارة ينسب إلى الله تعالى لكونه فاعلًا لذلك في الحقيقة نحو قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (2) ، وتارة إلى النبي لكونه واسطة في وصول ذلك إليهم، نحو قوله: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (3) ، وقوله: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ} (4) , وتارة إلى العبادات التي هي آلة في ذلك، نحو قوله: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} (5) , وقوله: {لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} (6) أي: مزكى بالخلقة، وذلك عن طريق ما ذكرنا من الاجتباء، وهو أن يجعل بعض عباده عالمًا وطاهر الخلق، لا بالتعلم والممارسة، بل بتوفيق إلهي كما يكون لجل الأنبياء والمرسلين، ويجوز أن يكون تسميته بالزكي لما يكون عليه في الاستقبال، لا في الحال، والمعنى: سيتزكى. {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (7) أي: يفعلون ما يفعلون من العبادة ليزكيهم الله، أو ليزكوا أنفسهم، والمعنيان واحد، وليس قوله: "للزكاة" مفعولًا لقوله: "فاعلون "، بل اللام فيه للعلة والقصد. وتزكية الإنسان نفسه ضربان؛ أحدهما بالفعل، وهو محمود، وإليه قصد بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (8) ، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (9) . والثاني بالقول: كتزكية العدل غيره، وذلك مذموم أن يفعل الإنسان بنفسه، وقد نهى الله تعالى عنه فقال: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (10) ، ونهيه عن ذلك تأديب لقبح مدح الإنسان نفسه عقلًا وشرعًا، ولهذا قيل لحكيم: ما الذي لا يحسن وإن كان حقًا؟ قال: مدح الرجل نفسه ".   (1) الآية: (9) سورة الشمس. (2) الآية: (49) سورة النساء. (3) الآية رقم. (103) سورة التوبة. (4) الآية: (151) سورة البقرة. (5) الآية رقم (13) سورة مريم. (6) الآية: (19) سورة مريم. (7) الآية رقم (9) سورة المؤمنون. (8) الآية رقم (9) سورة الشمس. (9) الآية: (17) سورة الأعلى (10) الآية: (32) سورة النجم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1208 ونحسب أن الراغب بقوله هذا، جمع فأوعى، وشرح فأغنى، إذ أوضح طبيعة العلاقة بين إطلاق الزكاة على الركن الثالث من أركان الدين واستعمال هذا اللفظ نفسه معرفًا أو غير معرف أو ما اشتق منه في غير ما يتصل مباشرة بذلك الركن، إذ أنه في جميع استعمالاته يدور حول معانيه المختلفة التي يدل عنها بطريق الاشتراك، وهي النماء والطهر المعنويان والحسيان، ثم المدح المذموم منه والمحمود، وما يتفرع عنها من التنمية والمباركة والتطهير، فوضح من كل ذلك ومما تقدم من كلام اللغويين أن استعمال عبارة: " زكاة ماله " في بعض الروايات و: " حقه " وما شاكل ذلك في روايات أخرى للأحاديث المتصلة بالمال وما يجب على العبد في التصرف فيه، ليس منحصر الدلالة على ما له علاقة بالركن الثالث من أركان الدين، بل يشمله ويتجاوزه إلى غيره من التصرفات المندوب إليها، مثل الإحسان إلى ذوي الأرحام والصدقة على الفقراء والمساكين والواجبة لطارئ ظرفي، مثل نفقات الجهاد ونفقات الاستعداد له وغير ذلك مما سنوضحه في موضعه من هذا البحث. ولعل ما أوضحناه ينهض برهانًا حاسمًا على بطلان دعوى نسخ بعض الآيات المتصلة بالكنز أو الصدقة بآيات الزكاة، وهو ما تعلق به بعض المفسرين كعادتهم، إذ يأرزون إلى دعوى النسخ، كلما تراءى لهم ما يحسبونه تعارضًا بين بعض الآيات أو بعض الأحاديث أو بين آيات وأحاديث. كما أنه برهان حاسم على أن كلمة (زكاة) معرفة وغير معرفة ومشتقاتها، لا تنصرف في مواردها من القرآن الكريم إلى الركن الثالث من أركان الدين إلا أن تصرفها قرينة من لفظ أوسياق، وهو ما يبطل ما ذهب بعضهم إلى زعمه من أن قوله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) يراد فيها بلكمة {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وبكلمة (صدقة) ما له علاقة بالزكاة الركن الثالث من أركان الدين، وهو تأويل عجب من قائله، وأعجب منه أنهم جمهرة، وفيهم صدور في التفسير، ذلك بأن الآية من آيات سورة التوبة، وهي كما يقول محمد الطاهر بن عاشور (2) : " آخر السور نزولًا عند الجميع نزلت بعد سورة الفتح في قول جابر بن زيد في السورة الرابعة عشرة بعد المائة في عداد نزول سور القرآن ". ثم قال: " والجمهور أنها نزلت دفعة واحدة، فتكون مثل سورة الأنعام من السور الطوال، وفسر كثير من المفسرين بعض آيات هذه السورة لما يقتضي أنها نزلت أوزاعًا في أوقات متباعدة ".   (1) الآية رقم (3) سورة التوبة (2) التحرير والتنوير، ج: 10، ص: 97 و101 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1209 ثم قال: " والذي يغلب على الظن أنه ثلاث عشرة آية من أولها إلى قوله تعالى: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) نزلت متتابعة ". ثم قال: " وهذا ما اتفقت عليه الروايات، وقد قيل: إن ثلاث آيات منها أولها إلى قوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (2) أذن بها يوم الموسم، وقيل: أربعين آية من أولها إلى قوله: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) أذن بها في الموسم ". ثم قال: " فالجمع بينهما يغلب الظن بأن أربعين آية نزلت متتابعة على نزول جميع السورة دفعة واحدة، ليس ببعيد عن الصحة ". قلت: وهذا ما نرجحه لما تدل عليه الآيات الأربعون من معان وأحكام مما يتعين إعلانه في ذلك الموسم، ومنها آية الكنز، وهي الرابعة والثلاثون، ولأن الآية الأخيرة من الأربعين تتصل بقصة الهجرة، وفيها أكبر إعجاز وتحد لمشركي مكة وتعجيز لكل أحد يمكن أنه ما يزال يفكر في مواصلة تحدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثته. ثم قال الشيخ ابن عاشور: " اتفقت الروايات على أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة تبوك في رمضان سنة تسع، عقد العزم على أن يحج في شهر ذي الحجة من عامه، ولكنه كره " عن اجتهاد أو بوحي من الله " مخالطة المشركين في الحج معه وسماع تلبيتهم التي تتضمن الاشتراك؛ أي: قولهم في التلبية: " لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك ". وطوافهم عراة، وكان بينه وبين المشركين عهد، لم يزل عاملًا لم ينقض. والمعنى أن مقام الرسالة يربأ من أن يسمع منكرًا من الكفر ولا يغيره بيده؛ لأن ذلك أقوى الإيمان، فأمسك عن الحج تلك السنة، وأمر أبا بكر على أن يحج بالمسلمين، وأمره أن يخبر المشركين بأن لا يحج بعد عامه ذلك مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.   (1) الآية: (13) سورة التوبة. (2) الآية (31) سورة التوبة. (3) الآية رقم (40) سورة التوبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1210 ثم قال: " فافتتحت السورة بتحديد مدة العهود التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وما يتبع ذلك من حالة حرب وأمن، وفي خلال مدة الحرب مدة تمكينهم من تلقي دعوة الدين وسماع القرآن، وأتبع بأحكام الوفاء والنكث وموالاتهم ومنع المشركين من دخول المسجد الحرام وحضور مناسك الحج وإبطال مناصب الجاهلية التي كانوا يعتزون بأنهم أهلها وإعلان حالة الحرب بين المسلمين وبينهم، وإعلان الحرب على أهل الكتاب من العرب حتى يعطوا الجزية، وأنهم ليسوا بعيدًا من أهل الشرك، وأن الجميع لا تنفعهم قوتهم ولا أموالهم وحرمة الأشهر الحرم وضبط السنة الشرعية وإبطال النسيئ الذي كان عند الجاهلية وتحريض المسلمين على المبادرة بالإجابة إلى النفير للقتال في سبيل الله ونصر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله ناصر نبيه وناصر الذين ينصرونه وتذكيرهم بنصر الله ورسوله يوم حنين وبنصره إذ أنجاه الله من كيد المشركين بما هيأ له من الهجرة إلى المدينة والإشارة بالتجهيز إلى غزوة تبوك وذم المنافقين والمعتذرين والمستأذنين في التخلف بلا عذر وصفات أهل النفاق من جبن وبخل وحرص على أخذ الصدقات مع أنهم ليسوا يستحقونها، وذكر أذاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول وأيمانهم الكاذبة وأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف وكذبهم في وعودهم وسخريتهم بضعفاء المؤمنين وأمرهم بضرب الجزية على أهل الكتاب ومذمة ما أدخله الأحبار والرهبان في دينهم من العقائد الباطلة ومن التكالب على الأموال، وأمر الله بجهاد الكفار والمنافقين، ونهى المؤمنين عن الاستعانة بهم في جهادهم والاستغفار لهم، ونهى نبيه صلى الله عليه وسلم من الصلاة على موتاهم، وضرب المثل بالأمم الماضية، وذكر الذين اتخذوا مسجد الضرار عن سوء نية وفضل مسجد قباء ومسجد الرسول بالمدينة، وانتقل إلى وصف حالة الأعراب من محسنهم ومسيئهم ومهاجرهم ومتخلفهم، وقوبلت صفات أهل الكفر والنفاق بأضدادها صفات المسلمين، وذكر ما أعد لهم من الخير، وذكر في خلال ذلك فضل أبي بكر وفضل المهاجرين والأنصال والتحريض على الصدقة والتوبة والعمل الصالح والجهاد، وأنهم فرض على الكفاية، والتذكير بنصر الله على المؤمنين يوم حنين على بأسهم والتنويه لغزوة تبوك وجيشها والذين تاب الله عليهم من المتخلفين عنها والامتنان على المسلمين بأن أرسل فيهم رسولًا منهم جعله على صفات فيها كل خير لهم، وشرع الزكاة ومصارفها والأمر بالتفقه في الدين ونشر دعوة الدين ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1211 وقد نقلنا هذا الكلام على طوله – وإن حذفنا منه جملًا – ارتأينا أنها لا تتصل بموضوعنا؛ لأنه يرسم صورة دقيقة للأفق النفسي والمجال التشريعي والمدى الظرفي لهذه السورة الجليلة التي زعم البعض يغفر الله لهم أن آية أو أكثر منها نسخت بآيات نزلت قبلها. فهل هنالك أعجب من هذا الزعم؟ ! ذلك بأن الزكاة شرعت في القرآن المكي وأكد شرعها في القرآن المدني، وغاية ما ورد في شأنها وليس خاصًا بها في رأينا كما سنبينه من بعد تعيين مصارفها وبيان المستحقين لها، فلا يعقل أن يكون تشريع الزكاة ناسخًا لما جاء في آخر سورة نزلت من القرآن قبيل لحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وتكاد أغراضها كلها تنحصر في تعيين وتبيان طبيعة العلاقة بين المسلمين بعضهم ببعض باعتبارهم كيانًا دوليًا ومجتمعًا متكاملًا متكافلًا وبينهم وبين غيرهم من الأمم على اختلاف مللها ونحلها ومواقعها بناء على ذلك الاعتبار. ومن هذا المنطلق كان الشيخ ابن عاشور – رحمه الله – أكثر توفيقًا من غيره وأعمق فهمًا وأوضح بيانًا وهو يشرح قوله تعالى في هذه السورة الجليلة {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (1) الآية، فقال: " لما كان من شرط التوبة – قلت: إذ نزلت في من وصفتهم آية قبلها بأنهم {مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} (2) - تدارك ما يمكن تداركه مما فات، وكان التخلف عن الغزو مشتملًا على أمرين، هما عدم المشاركة في الجهاد، وعدم إنفاق المال في الجهاد، جاء في هذه الآية إرشاد لطريق تداركهم ما يمكن تداركه مما فات، وهو نفع المسلمين بالمال والإنفاق العظيم على غزوة تبوك استنفد المال المعد لنوائب المسلمين، فإذا أخذ من المتخلفين شيء من المال انجبر به بعض الثلم الذي حل بمال المسلمين. والتاء في (تطهرهم) تحتمل أن تكون تاء الخطاب، نظرًا لقوله: (خذ) ، وأن تكون تاء الغائبة عائدة إلى الصدقة، وأيا ما كان فالآية دالة على أن الصدقة تطهر وتزكي، والتزكية جعل الشيء زكيًا، أي: كثير الخيرات، فقوله: (تطهرهم) إشارة إلى مقام التخلية من السيئات، وقوله: (وتزكيهم) إشارة إلى مقام التحلية بالفضائل والحسنات، ولا جرم أن التخلية مقدمة على التحلية، فالمعنى أن هذه الصدقة كفارة لذنوبهم ومجلبة للثواب العظيم.   (1) الآية رقم (103) سورة التوبة (2) الآية رقم (106) سورة التوبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1212 قلت: وأضيف إلى هذا أن الآية قاعدة تشريعية جليلة لأمر لست أدري كيف أغفله المفسرون والفقهاء أو غفلوا عنه؟! هي أمر ولي الأمر لمعاقبة من يقترف عملًا يترتب عنه ضرر يصيب المسلمين عامة أو بعضهم، لا سيما إذا كان متصلًا بالمال العام أو بمال لجماعة منهم بعقوبة مالية تعوض، إما تعويضًا كاملًا أو رمزيًا، ما يترتب من الضرر على الإثم الذي اقترفه، فليت شعري إن لم يكن مما تدل عليه الآية هذا التشريع، فما هو المناط منها إذن؟ قد يقال: إن الأمر بأخذ الصدقة من أموالهم لا يبلغ درجة الإيجاب، وإنما هو ندب، إذ جاء بعده {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (1) بيد أن مثل هذا القول على درجة من السذاجة كان يمكن أن تحفز إلى إغفاله، لولا أنه قد يوهم بعض المتفقهة، ذلك بأن (تعليل الأخذ من الأموال) بأنه سبب للتطهر والتزكية ينهض دليلًا على وجوبه لوجوب أن يتطهر المسلم ويتزكى، ولأن وجوب ذلك آكد لمن اقترف إثمًا تجاوز أثره، خاصة نفسه، وأصاب غيره من المؤمنين جماعة أو مجتمعًا ذا كيان. أما الصلاة التي أمر بها ولي الأمر أو هي خاصة بالرسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك المسلم التائب، فالغرض منها أن تحدث سكينة في قلبه، ولذلك جاء ذكر النتيجة المرجوة منها مسبوقًا بأن التأكيدية والفاصلة بينها وبين جملة الأمر بالصلاة، بخلاف بيان مناط الأمر بأخذ الأموال الذي جاء غير مفصول بينه وبين ذلك الأمر بأي فاصل، حتى لكأنه يشكل جملة واحدة، وإن لم يعتبره النحاة كذلك، تبيانًا لكون التطهير والتزكية هي كفاء ما يؤخذ من أموال التائب. على حين أن الصلاة هي شيء يشبه (الجائزة) فهي تنتج سكينة نفسية من شأنها أن تعيد الطمأنينة إلى قلب المؤمن، وهذه الصلاة – وهي مجرد دعاء – عمل معنوي بحت ونتيجته أيضًا معنوية بحتة على حين أن أخذ الأموال عمل مادي، وكفاؤه (الزكاة) ، شيء مشترك بين النماء والبكرة والطهارة والمدح، فهو أمشاج من ماديات ومعنويات. ومن عجب أن يزعم عدد من المفسرين والمتفقهة أن الصدقة المأمور بأخذها في هذه الآية هي الزكاة التي هي الركن الثالث من أركان الدين، ولسنا ندري ما شأن الزكاة في هذا المجال؟!.   (1) الآية رقم (103) سورة التوبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1213 فالذين جاء الأمر بأخذ الصدقة منهم أثموا بالتخلف عن غزوة تبوك وعدم الإنفاق عليها، ولم يأثموا بمنع الزكاة، فلماذا يكون قبول توبتهم متعلقًا بأمر لم يفعلوه ولم يأثموا فيه، ولو مضينا مع هؤلاء في قولهم، لوجب تلقائيًا أن نذهب إلى أن هؤلاء المتخلفين كأنهم أثموا أيضًا في صلاتهم، أو كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بأن يجعلهم أمامه، وأن يصلي عليهم صلاة لعلها تشبه صلاة الجنازة أو قريبًا منها، وهذا ما لم يقل به أحد، ولا يمكن أن يقول به عاقل، ولو قال به أحد لرد عليه بما ورد في الحديث الشريف من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول أحيانًا عندما يتلقى صدقة – وليس زكاة – من أحد من المسلمين: ((اللهم صل على فلان)) قال عبد الرزاق (المصنف. ج: 4. ص: 58. ح 6957) : عن عبد الله بن كثير، عن شعبة قال: أخبرني عمرو بن مرة، قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى، وكان من أصحاب الشجرة، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة، قال: اللهم صل عليهم. قال: فأتاه أبي بصدقة، فقال: اللهم صلى على أبي أوفى)) . وذكر المزي (تحفة الأشراف. ج: 4. ص 287) أن كلا من البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه أخرجوا حديثًا بهذا المعنى، فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم، قال: اللهم صلى على آل فلان ... الحديث. ومنهم من زاد فيه: وكان أبي من أصحاب الشجرة خ في الزكاة (64) ، عن حفص بن عمر. وفي المغازي (36: 18) عن آدم. وفي الدعوات (19: 2) عن مسلم بن إبراهيم. و (33: 1) سليمان بن حرب. فرقهما م في الزكاة (55: 1) عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم، أربعتهم عن وكيع. و (55: 1) عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه. و (50: 2) عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن عبد الله بن إدريس. د فيه (الزكاة 7) عن حفص بن عمرو وأبي الوليد. س فيه (الزكاة 13) عن عمر بن يزيد، عن بهز بن أسد. ق فيه (الزكاة 8: 1) عن علي بن محمد، عن وكيع، تسعتهم عن شعبة عنه. ومن أن بعض الرواية ذكر كلمة زكاة بدل كلمة صدقة، فإن ذلك لا يحملنا على الجزم بأن كلمة زكاة هي لفظ عبد الله بن أوفى، فاختلافهم في اللفظ برهان على أنهم أو بعضًا منهم رووه بالمعنى، وليس ما يرجح أن تكون إحدى الروايتين هي اللفظ، ثم إن كلمة زكاة ما لم تدخل عليها (أل) لا سبيل إلى الدعوى بأنها بالضرورة الزكاة المفروضة، كما أوضحنا ذلك في الأصل، وقد أخرجه هذا الحديث فضلًا عمن ذكرنا المفسرون بالمأثور مثل الطبري وأبي حاتم والسيوطي في تفسير الآية موضوع البحث فلتراجع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1214 على أن كلمة (الصدقة) لم يقل أحد: إنها تختص بـ: (الزكاة) الركن الثالث من أركان الدين، وقد تكرر ورودها في سورة التوبة، وهي كما ذكرنا آنفًا سورة تتضمن التشريع لما يتصل بالجهاد ممارسته والاستعداد له، وهذا برهان ما بعده من برهان على أن الصدقة في هذه الآية الكريمة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} ليست هي الزكاة. على أن المفسرين الذين وقفنا على آثارهم – ولا نستثني أحدًا – تواضعوا على اعتبار كلمة (الصدقة) و (الصدقات) أغلب ما يكون سريانها على الزكاة، لا سيما في سورة التوبة، وقد سبق أن أوضحنا ظروفها وملابساتها التي لا سبيل إلى تجاهلها عند تفسير آياتها واجتلاء ما تتضمنه من الأحكام، ومن العجب المذهل أنهم لم يعنوا بالالتفات إلى أمر نحسبه أساسيا في صرف كلمة (الصدقة) و (الصدقات) إلى المعنى المراد منها، ذلك أنها وردت في ثلاث آيات كريمة، منها سورة التوبة جمعًا، ووردت إفرادًا في غيرها في نفس السورة وفي سور أخرى، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} (1) ثم يقول: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (2) ويقول: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) والذي نجزم به ولا نحسبه قابلًا لأي جدل أو مراء أن استعمال صيغة الجمع لا يمكن أن يكون مرادفًا لاستعمال صيغة الإفراد، وأن كل حرف في القرآن بل وكل نقطة وشكلة له ولها حظ أساسي من تبيان وتكييف الحكم أو الدلالة على ما أريد من الكلمة أو الآية الدالة عليها. ولا سبيل إلى دعوى أن كلمة الصدقات جاءت جمعًا للدلالة على تنوع موارد الزكاة (الإبل والغنم والثمار والورق والذهب) وما إلى ذلك، إذ إن هذه الدعوى إن أمكن الالتفات إليها في تأويله تعالى لتعيين مصارف الزكاة {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (4) فما الذي يسوغ الالتفات إليها في تأويل قوله جل جلاله في التنديد على المنافقين وتبيان ألوان من تصرفاتهم الظاهرة والباطنة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} (5) إذ إن الجمع في هذا المقام لا معنى له، ضرورة أن اللمز كان في توزيع الصدقة أيا كان نوعها، ولم يكن مصروفًا إلى الصدقات باختلاف أنواعها في ذاتها ومهما اختلفوا في سبب نزول هذه الآية، وإن كان في ذي الخويصرة التميمي (حرقوص بن زهير أول إمام للخورج) أو في أبي الجواظ، وكلاهما من المنافقين (6) فإنهم لن يستطيعوا أن يجزموا بأن المال الذي كان يقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لمزوا في قسمته، ففضحهم الله سبحانه وتعالى في هذه الآية، كان مال الزكاة، وآية ذلك أنه ما من أحد منهم زعم أن الصدقات في قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} (7) هي أيضًا الزكاة، وأن اللمز الذي قارفه المفضوحون كان في الأنصبة التي أداها من وجبت عليهم الزكاة، ذلك أولًا: لأن بقية الآية تدمغ بالبطلان مثل هذا الزعم لو حدث، إذ كان وصفًا للمتطوعين الملموزين بأنهم (لا يجدون إلا جهدهم) ، وثانيًا: لأن سبب النزول الذي ذكره المفسرون لهذه الآية يدحض دحضًا حاسمًا كل ادعاء بأن الصدقات فيها يراد بها الزكاة.   (1) الآية: (58) سورة التوبة. (2) الآية: رقم (60) سورة التوبة. (3) الآية: (79) سورة التوبة. (4) الآية رقم (60) سورة التوبة. (5) الآية رقم (58) سورة التوبة (6) انظر مثلًا: الرازي التفسير الكبير المجلد: 8. ج: 16. ص: 99 وما بعدها. ومحمد الطاهر بن عاشور التحرير والتنوير ج: 10. ص: 231 وما بعدها. (7) الآية رقم (79) سورة التوبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1215 يقول الطبري (1) : " وذكر أن المعنى بقوله: {الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي الأنصاري وأن المعنى بقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} أبو عقيل الأراشي أخو بني أنيف. ذكر من قال ذلك حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من بذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء رجل من الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء. وقالوا: إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع. حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس يومًا، فنادى فيهم أن اجمعوا صدقاتكم، فجمع الناس صدقاتهم، ثم جاء رجل من أحوجهم بمن من تمر، فقال: يا رسول الله، هذا صاع من تمر، بت ليلتي أجر بالجرير الماء، حتى نلت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما، وأتيتك بالآخر، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات، فسخر منه رجال، وقالوا: والله إن الله ورسوله لغنيان عن هذا وما يصنعان بصاعك من شيء، ثم إن عبد الرحمن بن عوف رجل من قريش من بني زهرة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بقي من أحد من أهل هذه الصدقات؟ فقال: لا. فقال عبد الرحمن بن عوف: إن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات. فقال له عمر بن الخطاب: أمجنون أنت؟ فقال: ليس بي جنون. فقال: أتعلم ما قلت؟ قال: نعم مالي ثمانية آلاف، أما أربعة آلاف فأقرضها ربي، وأما أربعة آلاف فلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت. وكره المنافقون، فقالوا: والله ما أعطى عبد الرحمن بن عوف عطيته إلا رياء. وهم كاذبون، إنما كان به متطوعًا. فأنزل الله عذره وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بصاع من التمر فقال الله في كتابه: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية (2) .   (1) جامع البيان المجلد 6. ج: 10. ص: 134 إلى 137 (2) الآية رقم (79) سورة التوبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1216 حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن شبل بن أبي نجيح، عن مجاهد {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بصدقة ماله أربعة آلاف، فلمزه المنافقون، وقالوا: راءى {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} قال رجل من الأنصار: آجر نفسه بصاع من تمر، لم يكن له غيره، فجاء به، فلمزوه، وقالوا: كان الله غنيًا عن هذا. حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية (1) . قال: أقبل عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله، فتقرب به إلى الله، فلمزه المنافقون، فقالوا: ما أعطى ذلك إلا رياء وسمعة، فأقبل رجل من المسلمين يقال له: حبحاب أبو عقيل، فقال: يا نبي الله، بت أجر الجرير على صاعين من تمر، أما صاع فأمسكه لأهلي، وأما صاع فها هو ذا. فقال المنافقون: والله، إن الله ورسوله لغنيان عن هذا، فأنزل الله في ذلك القرآن {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} الآية. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله، وكان ماله ثمانية ألف دينار، فتصدق بأربعة آلاف دينار، فقال ناس من المنافقين: إن عبد الرحمن بن عوف لعظيم الرياء، فقال الله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} (2) ، وكان لرجل صاعان من تمر، فجاء بأحدهما، فقال ناس من المنافقين: إن كان الله عن صاع هذا لغنيا، فكان المنافقون يطعنون عليهم ويسخرون منهم، فقال الله: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) .   (1) الآية رقم (79) سورة التوبة. (2) الآية رقم (79) سورة التوبة (3) الآية رقم (79) سورة التوبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1217 حدثني المثنى، قال: حدثنى الحجاج بن المنهال الأنماطي، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي سلمة، عن أبيه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تصدقوا، فإني أريد أن أبعث بعثًا، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله، إن عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما إلى الله، وألفين لعيالي، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت، وبارك لك فيما أمسكت، فقال لرجل من الأنصار: وإن عندي صاعين من تمر؛ صاعًا لربي، وصاعًا لعيالي. قال: فلمز المنافقون، وقالوا: ما أعطى ابن عوف هذا إلا رياء. وقالوا: أو لم يكن الله غنيًا عن صاع هذا؟ فأنزل الله {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} )) الآية (1) حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} قال: أصاب الناس جهد شديد، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتصدقوا، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعمائة أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك له فيما أمسك. فقال المنافقون: ما فعل عبد الرحمن هذا إلا رياء وسمعة، قال: وجاء رجل بصاع من تمر، فقال: يا رسول الله، آجرت نفسي بصاعين، انطلقت بصاع منهما إلى أهلي، وجئت بصاع من تمر. فقال المنافقون: إن الله غني عن صاع هذا، فأنزل الله هذه الآية {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن إسحاق {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية (3) , وكان من المطوعين من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمن بن عوف، تصدق بأربعة آلاف دينار، وعاصم بن عدي أخو بني عجلان، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الصدقة، وحض عليها، فقام عبد الرحمن بن عوف، فتصدق بأربعة آلاف درهم (4) ، وقام عاصم بن عدي فتصدق بمائة وسق من تمر، فلمزوهما، وقالوا: ما هذا إلا رياء، وكان الذي تصدق بجهده أبو عقيل أخو أبي أنيف الأراشي حليف بني عمرو بن عوف، أتى بصاع من تمر، فأفرغه في الصدقة، فتضاحكوا به، وقالوا: إن الله لغني عن صاع أبي عقيل.   (1) الآية رقم (79) سورة التوبة (2) الآية رقم (79) سورة التوبة (3) الآية رقم (79) سورة التوبة (4) لعل في هذا خطأ صوابه: بأربعة آلاف دينار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1218 حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله، قال: حدثنا شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل، قال أبو النعمان: كنا نعمل، قال: فجاء رجل، فتصدق بشيء كثير، قال: وجاء رجل فتصدق بصاع تمر، فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا، فنزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} (1) . حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا زيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، قال: حدثنا خالد بن يسار، عن ابن أبي عقيل، عن أبيه قال: بت أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمر، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به، وجئت بالآخر أتقرب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: انثره في الصدقة، فسخر المنافقون منه، وقالوا: لقد كان الله غنيًا عن صدقة هذا المسكين، فأنزل الله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآيتين. (2) . حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا الجريري، عن أبي السليل، قال: وقف على الحي رجل، فقال: حدثني أبي أو عمي، قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من يتصدق اليوم بصدقة أشهد له بها عند الله يوم القيامة؟ قال: وعلي عمامة لي، قال: فنزعت لونًا أو لونين لأتصدق بهما، قال: ثم أدركني ما يدرك ابن آدم، فعصبت بها رأسي، قال: فجاء رجل لا أرى بالبقيع رجلًا أقصر قامة ولا أشد سوادًا ولا أذم لعيني منه، يقود ناقة، لا أرى بالبقيع أحسن منها ولا أجمل منها، قال: صدقة هي يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فدونكها، فألقى بخطامها أو بزمامها. قال: فلمزه رجل جالس، فقال: والله إنه ليتصدق بها ولهي خير منه، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بل هو خير منك ومنها. يقول ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم. حدثني يونس، قال: أخبرني ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، يقول: الذي تصدق بصاع التمر، فلمزه المنافقون أبو خيثمة الأنصاري   (1) الآية رقم (79) سورة التوبة (2) الآيتان (79، 80) سورة التوبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1219 حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن رجاء أبو سهل العباداني، قال: حدثني عامر بن يساف اليمامي، عن يحيى بن أبي كثير اليمامي، قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، مالي ثمانية آلاف، جئتك بأربعة آلاف، فاجعلها في سبيل الله، وأمسكت أربعة آلاف لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت. فقال ناس من المنافقين: والله ما أعطى عبد الرحمن إلا رياء وسمعة، ولقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع فلان، فأنزل الله {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} (1) يعني عبد الرحمن بن عوف {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} (2) يعني صاحب الصاع {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) . حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن مجاهد قال: قال ابن عباس: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يجمعوا صدقاتهم، وإذا عبد الرحمن قد جاء بأربعة آلاف، فقال: هذا مالي أقرضه الله، وقد بقي لي مثله. فقال له: بورك لك فيما أعطيت وفيما أمسكت. فقال المنافقون: ما أعطى إلا رياء، وما أعطى صاحب الصاع إلا رياء، إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا، وما يصنع الله بصاع من شيء. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . (4) قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتصدقوا، فقام عمر بن الخطاب فألقى مالًا وافرًا، فأخذ نصفه، قال: فجئت أحمل مالًا كثيرًا، فقال له رجل من المنافقين: ترائي يا عمر؟ فقال عمر: أرائي الله ورسوله، وأما غيرهما فلا. قال: ورجل من الأنصار لم يكن عنده شيء، فأجر نفسه ليجر الجرير على رقبته بصاعين ليلته، فترك صاعًا لعياله، وجاء بصاع يحمله، فقال له بعض المنافقين: إن الله ورسوله عن صاعك لغنيان، فذلك قول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} . هذا الأنصاري {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5)   (1) الآية رقم (79) سورة التوبة. (2) الآية رقم (79) سورة التوبة. (3) الآية رقم (79) سورة التوبة. (4) الآية رقم (79) سورة التوبة. (5) الآية رقم (79) سورة التوبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1220 وقال البخاري (1) : " حدثنا عبيد الله بن سعيد، حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله البصري، حدثنا شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود – رضي الله عنه – قال: لما نزلت آية الصدقة، كنا نحامل، فجاء رجل، فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مراء، وجاء رجل، فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا. فنزلت {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} (2) . وقال (3) : " حدثني بشر بن خالد أبو محمد، أخبرنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود قال: لما أمرنا بالصدقة، كنا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء. فنزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} الآية " (4) . وقال مسلم: " حدثني يحيى بن معين، حدثنا غندر، حدثنا شعبة. وحدثنيه بشر بن خالد واللفظ له، أخبرنا محمد - يعني ابن جعفر - عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود قال: أمرنا بالصدقة، قال: نحامل، قال: فتصدق أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بشيء أكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقته، وما فعل هذا الآخر إلا رياء. فنزلت {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} ، ولم يلفظ بشر بالمطوعين. وحدثنا محمد بن بشار، حدثني سعيد بن الربيع. وحدثنيه إسحاق بن منصور، أخبرنا أبو داود، كلاهما عن شعبة بهذا الإسناد. وفي حديث سعيد بن الربيع قال: كنا نحامل على ظهورنا ".   (1) ج: 2. ص: 114 (2) الآية رقم (79) سورة التوبة (3) ج: 5. ص: 205 (4) الآية رقم (79) سورة التوبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1221 قلت: ارتأيت أن أسوق كل هذه الأسانيد من مصادر مختلفة دون أن أتقصى جميع مواردها لغناء ما اكتفيت به منها إثارًا لاطلاع من قد ينظر في هذا البحث على مجموعة صالحة من ألفاظ هذا الحديث وأسانيده، قد نجعله يطمئن إلى ما انتهى إليه رأينا من تحديد دلالة لفظ " الصدقات " و" الصدقة " في مختلف مواقعه من القرآن الكريم، ذلك بأن هذه الروايات المتعددة والمختلفة الألفاظ والأسانيد اتفقت على شيء واحد على الأقل، هو أن " الصدقات " في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية (1) لا يمكن حصر دلالتها على الركن الثالث من أركان الدين، إذ إن الظرف الذي وقعت فيه حادثة المطوعين والذين لا يجدون إلا جهدهم ليس هو ظرف جباية الزكاة وإن اختلفوا في تعيينه. فقال البعض: إنه ظرف تجهيز لغزو، وقال الأكثرون: إنه ظرف جهد أصاب الناس، فأشفق منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أجهدهم، وحرض الناس على الصدقة، وأيا كان فهو ليس ظرف جباية الزكاة، وإن وهم بعض الرواة، فحسبه ظرف جباية الزكاة، وهو وهم ظاهر البطلان، فالمتطوع بأربعة آلاف درهم أو بمائة أوقية ذهبًا أيا كان، سواء كان عبد الرحمن بن عوف أو غيره أو كانوا أكثر من واحد تعدد منهم هذا النوع من التطوع، لا يمكن اعتبار ما جاء به متطوعًا زكاة ما يملك من ورق أو ذهب؛ لأنه لو كان كذلك، لكان مجموع ما يملك ستين ومائة ألف دينارًا أو درهمًا أو أربعة آلاف أوقية ذهبًا، وهذا ما لم يقل به أحد، ولا يمكن أن يتصور في ذلك العهد رأس مال يملكه فرد واحد، كذلك الصاع ونصف الصاع الذي جاء به أبو عقيل أو غيره من {لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} (2) ، لا يمكن أن يكون زكاة؛ لأن الروايات مجمعة على أن صاحب الصاع ونصف الصاع كان يحامل أو آجر نفسه؛ ليحصل على صاعين من تمر، ترك لأهله صاعًا يتبلغون به، وتصدق بالصاع، وإذا اعتبرنا أنه نصاب الزكاة في التمر خمسة أوسق، فإن مقدار ما يصرف منه زكاة، ويجب على صاحبه أن يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين صاعًا إن كان نخله لا يعتمد على السقي، أو خمسة عشر صاعًا إن كان يعتمد عليه، ومن هذا يتضح أن من زعم أن الحادث الذي نزلت بسببه الآية كانت له صلة بالزكاة كان واهمًا، أو كان من رووا عنه واهمين. نخلص من هذا كله إلى أن كلمة الصدقة مفردة أو جمعًا في مختلف مواقعها من سورة التوبة لا سبيل إلا حصر دلالتها في الزكاة، ومعنى ذلك أن رسول الله صل حين أمر بأن يأخذ الصدقة من {وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا} (3) وبأن يصلي عليهم، إنما كان ذلك الأمر تشريعًا مستقلًا عن تشريع الزكاة، أنه نمط من العقاب لمن أمسك عن الإنفاق في سبيل الله ساعة حاجة المسلمين إلى الإنفاق، أما عند الخروج للجهاد، وإما قبل ذلك، ولمجرد الاستعداد له يعاقبه ولي الأمر بأن يأخذ صدقة من ماله، ولم يُر في الآية الكريمة تحديد للمبلغ الذي يأخذه ولي الأمر، وإنما ترك لاجتهاده الذي تأثر بالوضع المالي للمعاقب وبمدى حاجة المسلمين في الظرف الذي أمسك فيه صاحب المال ذلك عن الإنفاق، وهذا تشريع يثبت أن في المال حقا غير الزكاة تمامًا، كما يثبت ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية (4) . وقوله جل جلاله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ} الآية (5) .   (1) الآية رقم (79) سورة التوبة. (2) الآية رقم (79) سورة التوبة. (3) الآية رقم (102) سورة التوبة (4) الآية رقم (34) سورة التوبة (5) الآية رقم (180) سورة آل عمران الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1222 ونتيجة أخرى نستخلصها من وقفتنا هذه عند كلمة " الصدقة " مفردة وجمعًا ومواقعها من سورة التوبة، وهي أن قوله سبحانه وتعالى في تعيين مصارف الصدقات الثمانية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية (1) . ليس خاصا بمصارف الزكاة الركن الثالث من أركان الدين، وإنما هو شامل لجميع الصدقات ومصارفها، مانع لصرفها في غير تلك المصارف الثمانية. ويتراءى لنا أن بعض المناط في قوله سبحانه وتعالى في آخر هذه الآية: {وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} (2) يشير إلى ذلك، فما كانت الزكاة وحدها مصدرًا يكفل حاجات الأصناف الثمانية، وخاصة ما هو من حاجات الجهاد استعدادًا له وإنفاقًا فيه، ثم إن قوله سبحانه وتعالى في آخر هذه الآية: {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} نص صريح – في رأينا – على أن في المال حقا غير الزكاة، بدليل أن هذه الجملة لا يمكن أن تكون إلا بيانا للحكم الشرعي الذي نزلت الآية الكريمة لإقراره وتبيانه، وكان استهلالها قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} الآية (3) . ولأمر ما جاءت كلمة " الصدقات" جمعًا لم تأت مفردة، وذلك ما ألمعنا إليه آنفًا من أن الحرف الواحد بل الشكلة والنقطة لا يمكن أن ترد في الكلمة القرآنية إلا لمزيد من المعنى أو لتكييف له أو تحديد، وما من أحد يستطيع أن يزعم ذلك. ونحسب أننا قد أتينا على الكفاية والغناء من الأدلة الحاسمة على أن الزكاة ليست هي كل حق الله في المال، ففيه حقوق غيرها، وعلى أن كلمة " الزكاة " وكلمة " الصدقة " معرفتين أو منكرتين أو جاءت إحداهما مفردة أو جمعًا، لا يمكن حصر دلالتها على الركن الثالث من أركان الدين إلا بقرينة لفظية أو حالية أو محلية أو غيرها من القرائن المعتمدة في الاستدلال، فإذا تقدمت القرينة كانت الكلمة شاملة للحقوق المختلفة في المال، ومنها الركن الثالث من أركان الدين. وقد نعرض إلى أدلة أخرى فيما يستقبلنا من بنود هذا البحث.   (1) الآية رقم (60) سورة التوبة (2) الآية رقم (60) سورة التوبة (3) الآية رقم (60) سورة التوبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1223 14- في المال حق سوى الزكاة نخلص إلى القول مما تقدم أن في المال حقًا سوى الزكاة، وأن هذا الحق يختلف عن الزكاة في أن مقداره غير محدد، وإنما تحدده ظروف وطاقات الناس وأوضاعهم المالية، وأن زمانه غير معين، وإنما تعينه الأحداث والتطورات وما قد يختلف على المجتمع الإسلامي أو جماعة محدودة من المسلمين مشتركة في أوضاعها الحياتية من ملابسات وتطورات وظروف تتصل بالتطور الحضاري أو بمقتضيات الأمن الداخلي أو الخارجي سياسيًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا، وأن أداء هذا الحق أو القيام به يعني " الإنفاق "، وسنتبين فيما بعد وجوه الإنفاق المطلوب وطرائقه، فليس هو بالضرورة وفي جميع الأوقات والظروف التخلي عن المال المنفق بصورة نهائية، إذ قد يكون شيئًا آخر غير ذلك وقد يعود على المنفق نفسه بالخير الآجل في دنياه فضلًا عن أخراه مما سيأتي بيانه في غير هذا الموضع. حسبنا الآن أن نتبين حقيقة أبرزتها الأدلة القرآنية والسنية التي سقناها فيما سبق على أن الإنفاق الواجب على المكلف ليس منحصرًا في الزكاة، وهذه الحقيقة – وقد سبق أن لفتنا إليها أكثر من مرة – أن ما خوله الله للإنسان من حق الانتفاع بالأرض وما يخرج منها وما يدب عليها من دابة وما يمكن أن تصل إليه يده من جوانب الكون الأخرى مما علت أو سفلت محكوم بالوظيفة التي خلقه الله للقيام بها، وهي خلافته في الأرض خلافة من وظائفها عمله في عمارة الأرض. وبدهي أن خلافة الله تعني التزام العدل في جميع التصرفات، وأن التزام العدل يعني اعتبار مصلحة الجميع قبل مصلحة الفرد إذا تغايرت المصلحتان وقبل أن تتغاير في حقيقة الأمر، إذ هما متكاملتان عند التقدير السليم والنظر العميق البعيد. كما أن عمارة الأرض تقتضى تضافر الجميع على إنجازها واستمرارها وتطويرها وصيانتها كل بحسب ما آتاه الله وفطره عليه من كفاية وفهم واستعداد وعلم، تضافرًا يلتزم باعتبار مصلحة الجميع. وليس مصلحة الجميع، وليس مصلحة الفرد منطلقًا وهدفًا في آن واحد، إذ إن اعتبارها منطلقًا يترتب عليه التوزيع العادل المتساوي لما تطلبه العمارة من الجهد وما تقتضيه من التعاون الصادق الخالص من شوائب الأنانية والمخاتلة والخداع والتغيير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1224 في حين أن اعتبارها هدفًا يترتب عنها تلقائيا تجانس المشاعر والتقديرات تجانسًا ينعكس على تكافل الجهود وتكاملها؛ لأن شعور العامل بأن عمله يشمله ويشمل غيره كما أنه مشمول بعدم غيره ينأى به عن كل ما من شأنه أن يحفزه إلى التقصير وإلى المداورة والتهرب، بل ومحاولة الموازنة بين عمله وعمل غيره، فالجميع مدرك مستيقن وهو يبذل ما يبذل من جهد، بأنه إنما يعمل لمصلحته باعتبارها جزءًا من مصلحة غيره. لذلك كان هدف الشارع من الشريعة تحقيق المصلحة العامة وكفالتها وصيانتها من كل ما قد يضر بها أو ينال منها، بل إن الفقهاء الموفقين - وأقول الموفقين عمدًا - أثبتوا بما لا مجال فيه للمراء، أن الشارع اعتبر المصلحة العامة حتى فيما يختص بالعبادات، وإن كانت غير معقولة المعنى، كما يقول جمهور. ولعل من أكثرهم توفيقًا في بيان موقع رعاية المصلحة العامة من الشرع الإسلامي أبا إسحاق الشاطبي - رحمه الله - لذلك نسوق فقرات من أقواله في هذا الشأن قبل أن نمضي فيما نحن بسبيله من تبيان طبيعة المصلحة العامة التي تتعلق بها حقوق في المال غير الزكاة. قال - رحمه الله - (1) : " ... إن وضع الشرائع، إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا. وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم الرازي أن أحكام الله ليست بعلة البتة، كما أن أفعاله كذلك، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين، وكما اضطر - أي: الرازي - في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية، أثبت على أن العلل بمعنى العلامات المعرفة للأحكام الخاصة". ثم قال: " والمعتمد إنما هو أنَّا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله تعالى يقول في بعثه الرسل وهو الأصل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (2)   (1) الموافقات ج: 2. ص: 6، 7 (2) الآية (95) سورة النساء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1225 وبعد أن ساق أمثلة أخرى من القرآن الكريم والحديث الشريف قال: "وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدًا للعلم، فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة، ومن هذه الجملة ثبت القياس والاجتهاد. ثم قال (1) : "تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ضرورية، والثاني: أن تكون حاجية، والثالث: أن تكون تحسينية. فأما الضرورية، فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت، لم تجر مصالح الدين على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والخسران المبين ". قلت: تأمل جيدًا قوله: " (إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت وحياة ". ثم قال (2) : ومجموع الضروريات خمسة وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل. وقد قالوا: إنها مراعاة في كل علية، وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع، دخل على المكلفين - على الجملة - الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة ". ثم قال (3) : وأما التحسينات فمعناها: الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تألفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق ". وسنعود إلى الشاطبي، لكنا قبل ذلك ننقل أقوالًا لغيره، منها ما يتسق مع أقواله، ومنها ما لا يتغاير معها، وإن لم يلتزم نفس منهجه في التفكير والاستنباط على أنه يقرر القاعدة نفسها التي قررها هو.   (1) الموافقات ج: 2 ص 8. (2) الموافقات ج2. ص: 10. (3) الموفقات ج2: ص: 11. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1226 قال ابن قيم الجوزية (1) : وقع بسبب الجهل غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها، ومن المصلحة إلى المفسدة، ومن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم، أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصورن وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه استقام على سواء السبيل، فهي قرة العيون وحياة القلوب ولذة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم، رفع إليه ما بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. وقال الآمدي (2) : "المقصود من شرع الحكم إما جلب مصلحة أو دفع مضرة أو مجموع الأمرين بالنسبة إلى العبد لتعالي الرب تعالى عن الضرر والانتفاع ". ثم قال: "وإذا عرف أن المقصود من شرع الحكم إنما هو تحصيل المصلحة أو دفع المضرة، فذلك إما أن يكون في الدنيا وإما أن يكون في الآخرة، فإن كان في الدنيا، فشرع الحكم إما أن يكون مفضيًا إلى تحصيل أصل المقصود ابتداء أو دوامًا أو تكميلًا.   (1) أعلام الموقعين. ج: 4. ص: 14. (2) الإحكام في أصول الأحكام. ج: 3. ص: 389 و390. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1227 وقال الآمدي (1) : "وهو بصدد إقامة الدلالة على أن المناسبة والاعتبار دليل كون الوصف علة". وذلك لأن الأحكام إنما شرعت لمقاصد العباد، أما أنها مشروعة لمقاصد وحكم فيدل عليه الإجماع والمعقول. أما الإجماع فهو أن أئمة الفقه مجمعة على أن أحكام الله تعالى لا تخلو من حكمة ومقصود، وإن اختلفوا في كون ذلك بطريق الوجود، كما قالت المعتزلة، أو بحكم الاتفاق والواقع من غير وجوب، كقول أصحابنا: وأما المعقول فهو أن الله تعالى حكيم في صنعه، فرعاية الغرض في صنعه إما أن يكون واجبًا أو لا يكون واجبًا. فإن كان واجبًا فلم يخل من المقصود، وإن لم يكن واجبًا ففعله للمقصود يكون أقرب إلى موافقة المعقول من فعله بغير مقصود، فكان المقصود لازمًا من فعله ظنا. فإذا كان المقصود لازمًا في صنعه، فالأحكام من صنعه، فكانت لغرض ومقصود. والغرض إما أن يكون عائدًا إلى الله تعالى أو إلى العباد، ولا سبيل إلى الأول لتعاليه عن الضرر والانتفاع، ولأنه على خلاف الإجماع، فلم يبق سوى الثاني. وأيضًا فإن الأحكام مما جاء به الرسول، فكانت رحمة للعالمين، لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2) فلو دخلت الأحكام من حكمة عائدة إلى العالمين ما كانت رحمة، بل نقمة، لكون التكليف بها محض تعب ونصب، وأيضًا قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (3) فلو كان شرع الأحكام في حق العباد لا لحكمة، لكانت نقمة لا رحمة، لما سبق، وأيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) (4) ، فلو كان التكليف بالأحكام لا حكمة عائدة إلى العباد، لكان شرعها ضررًا محضًا، وكان ذلك بسبب الإسلام وهو خلاف النص. وإذا أثبت أن الأحكام إنما شرعت لمصالح العباد، فإذا رأينا حكما مشروعًا مستلتزمًا لأمر مصلحي، فلا يخلو إما أن يكون ذلك هو الغرض من شرع الحكم أو ما لم يظهر لنا، لا يمكن أن يكون الغرض، ما لم يظهر لنا، وإلا كان شرع الحكم تعبدًا، وهو خلاف الأصل، لما سبق تقريره، فلم يبق إلا أن يكون مشروعًا لما ظهر، فإذا كان ذلك مظنونًا، فيجب العمل به؛ لأن الظن واجب الاتباع في الشرع ويدل على ذلك إجماع الصحابة على العمل بالظن ووجوب اتباعه في الأحكام الشرعية.   (1) الإحكام في أصول الأحكام. ج: 3. ص: 411 و413. (2) الآية: (107) سورة الأنبياء. (3) الآية: (156) سورة الأعراف. (4) انظر تخريجه في الفصل: (19) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1228 وقال الرازي (1) : في معرض شرحه (بيان علية الوصف بالمناسبة) : "الناس ذكروا في تعريف مناسب شيئين: الأول: أنه الذي يفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلًا وإبقاء، وقد يعبر عن "التحصيل بجلب المنفعة، وعن الإبقاء بدفع المضرة؛ لأن ما قصد إبقاؤه، فإزالته مضرة، وإبقاؤه دفع للمضرة. ثم هذا التحصيل والإبقاء قد يكون مطردًا، وقد يكون مظنونًا، وعلى التقديرين، فإما أن يكون دينيا أو دنيويا، والمنفعة عبارة عن اللذة أو ما يكون طريقًا إليه، والمضرة عبارة عن الألم أو ما يكون طريقًا إليه، واللذة قيل في حدها: إنها إدراك الملائم، والألم: إدراك المنافي، والصواب عندي أنه لا يجوز تحديدهما؛ لأنهما من أظهر ما يجده الحي من نفسه ويدرك بالضرورة التفرقة بين كل واحد منهما أو بينهما وبين غيرهما، وما كان كذلك يتعذر تعريفه بما هو أظهر منه. الثاني: أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات، فإنه يقال: هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة. أي: الجمع بينهما في سلك متلائم، وهذه الجبة تناسب هذه العمامة، أي: الجمع بينهما متلائم. والتعريف الأول قول من يعلل أحكام الله تعالى بالحكم والمصالح، والتعريف الثاني قول من يأباه. ثم قال (2) : كون المناسب مناسبًا إما أن يكون لمصلحة تتعلق بالدنيا أو لمصلحة تتعلق بالآخرة. أما القسم الأول فهو على ثلاثة أقسام؛ لأن رعاية تلك المصلحة إما أن تكون في محل الضرورة، أو في محل الحاجة، أما التي في محل الضرورة فهي التي تتضمن حفظ مقصود من المقاصد الحسنة، وهي حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل.   (1) المحصول. القسم: 2. ج: 2. ص: 217 و219. (2) المحصول. القسم: 2. ج: 2 ص: 220. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1229 ثم قال (1) : "المسألة الثالثة في أن المناسبة لا تبطل بالمعارضة، والدليل عليه أن كون الوصف مناسبًا، إنما يكون لكونه مشتملًا على جلب منفعة أو دفع مضرة، وذلك لا يبطل بالمعارضة. أما الأول فظاهر، وأما الثاني فيدل عليه وجوب الأول، أن المناسبتين المتعارضتين إما أن تكونا متساويتين، أو إحداهما أرجح من الأخرى، فإن كان الأول، لم يكن بطلان إحداهما بالأخرى أولى من العكس، فإما أن تبطل كل واحدة منهما بالأخرى، وهو محال؛ لأن المقتضي لعدم كل واحدة وجود الأخرى والعلة، ولا بد وأن تكون حاصلة مع المعلوم. فلو كان كل واحدة منهما مؤثرة في عدم الأخرى، لزم أن تكونا موجودتين حال كونهما معدومتين، وذلك محال. وإما أن لا تبطل إحداهما بالأخرى عند التعارض وذلك هو المطلوب، وأما إن كانت إحدى المناسبتين أقوى فههنا لا يلزم التفاسد أيضًا؛ لأنه لو لزم التفاسد لكان لما بينهما من المنافاة، لكنا تبينا في القسم الأول أنه لا منافاة بينهما؛ لأنهما اجتمعا وإذا زالت المنافاة لم يلزم من وجود أحدهما عدم الآخر. الثاني: أن المفسدة الراجحة إذا كانت معارضة بمصلحة مرجوحة، فإما أن ينتفي شيء من الراجح لأجل المرجوح، أو لا ينتفي، والأول باطل، والثاني أيضًا باطل؛ لأن القدر الذي يندفع من المفسدة بالمصلحة يكون مساويًا لتلك المصلحة، فيعود التقسيم الأول في ذينك التقديرين المتساويين في أنه ليس اندفاع أحدهما بالآخر أولى من العكس. فإما أن يندفع كل واحد منهما بالآخر، وهو محال، أو لا يندفع واحد منها بالآخر، وهو المطلوب. وأيضًا ليس اندفاع بعض أجزاء الطرف الراجح بالطرف المرجوح وبقاء بعضه أولى من اندفاع ما فرض باقيًا وبقاء ما فرض زائلًا؛ لأن تلك الأجزاء متساوية في الحقيقة ". ثم قال: (وعن ذلك نقول: المصلحة والمفسدة إما أن يتساويا، أو تكون إحداهما راجحة على الأخرى، فعلى تقدير التساوي يندفع كل واحد منهما بالآخر، فلا تبقى لا مصلحة ولا مفسدة، فوجب أن لا يترتب عليها لا مدح ولا ذم، وقد فرضنا ترتبهما عليها. هذا خلف.   (1) المحصول القسم: 2. ج: 2 ص: 232 و241. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1230 وإن كانت إحدى الجهتين راجحة كانت المرجوحة معدومة، فيكون الحاصل إما المدح وحده أو الذم وحده، وقد فرضنا حصولهما معًا. هذا خلف. ثم قال: "العقلاء يقولون في فعل معين الإتيان به في مصلحة في حقي لولا ما فيه من المفسدة الفلانية ولولا صحة اجتماع وجهي المفسدة والمصلحة وإلا لما صح هذا الكلام ". ثم قال "في إقامة الدلالة على أن المناسبة دالة على العلية: "المناسبة تفيد ظن العلية، والظن واجب العمل به، بيان الأول من وجهين: الأول: أن الله تعالى شرع الأحكام لمصلحة العباد، وهذه مصلحة، فيحصل ظن أن الله تعالى إنما شرعه لهذه المصلحة، فهذه مقدمات ثلاث لا بد من إثباتها بالدليل. أما المقدمة الأولى فالدليل عليها وجوه: أحدها: أن الله تعالى خصص الواقعة المعينة بالحكم المعين لمرجح أو لا لمرجح، والقسم الثاني باطل، وإلا لزم ترجيح أحد الطرفين على الآخر، لا لمرجح، فثبت القسم الأول، وذلك المرجح إما أن يكون عائدًا إلى الله تعالى، أو إلى العبد، والأول باطل بإجماع المسلمين، فتعين الثاني، وهو أنه تعالى إنما شرع الأحكام لأمر عائد إلى العبد. والعائد إلى العبد إما أن يكون مصلحة للعبد أو مفسدته، أو ما لا يكون لا مصلحته ولا مفسدته، والقسم الثاني والثالث باطل باتفاق العقلاء، فتعين الأول فتعين الأول، فثبت أنه تعالى إنما شرع الأحكام لمصالح العباد. وثانيها: أنه تعالى حكيم بإجماع المسلمين، والحكيم لا يفعل إلا لمصلحة، فإن من يفعل لا لمصلحة يكون عابثًا، والعبث على الله محال للنص والإجماع والمعقول. أما النص فقوله تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} (1) {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطلًا} (2) {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (3) وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على أنه تعالى ليس بعابث، وأما المعقول فهو أن العبث سفه، والسفه صفة نقص، والنقص على الله تعالى محال.   (1) الآية: (115) سورة المؤمنون. (2) الآية: (191) سورة آل عمران. (3) الآية: (39) سورة الدخان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1231 فثبت أنه لا بد من مصلحة، وتلك المصلحة يمتنع عودها إلى الله تعالى كما بينا، فلا بد من عودها إلى العبد، فثبت أنه تعالى شرع الأحكام لمصالح العباد. وثالثها: أن الله تعالى خلق الآدمي مشرفًا مكرمًا، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} (1) ومن كرم أحدًا ثم سعى في تحصيل مطلوبه كان ذلك السعي ملائمًا لأفعال العقلاء مستحسنًا فيما بينهم، فإذا ظن كون المكلف مكرمًا يقتضى أن الله تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له. ورابعها: أن الله تعالى خلق الآدميين للعبادة لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) والحكيم إذا أمر عبده بشيء، فلابد وأن يزيح عذره وعلته، ويسعى في تحصيل منافعه ودفع المضار عنه، فيصير فارغ البال، ليتمكن من الاشتغال بأداء ما أمره به، والاجتناب عما نهاه عنه، فكونه مكلفًا يقتضي ظن أن الله تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له. وخامسها: النصوص الدالة على أن مصالح الخلق ودفع المضار عنهم مطلوب الشرع. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (3) وقال: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (4) وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (5) وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (6) {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمُ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (7) ، وقال عليه السلام: ((بعثت بالحنيفية السهلة السمحة)) قال عبد الرزاق (المصنف. ج: 11. ص: 292. ح: 20574) أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عمر بن عبد العزيز، قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الدين أفضل؟ قال: ((الحنيفية السمحة)) . وقال أحمد (المسند. ج: 1. ص: 226) : حدثنى يزيد، قال: أنبأنا محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: ((الحنيفية السمحة)) .   (1) الآية: (70) سورة الإسراء. (2) الآية: (56) سورة الذاريات (3) الآية: (107) سورة الأنبياء. (4) الآية رقم (29) سورة البقرة. (5) الآية رقم (13) سورة الجاثية. (6) الآية: (185) سورة البقرة. (7) الآية: (178) من سورة الحج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1232 وقال (المسند. ج: 5. ص: 266) : حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان بن رفاعة، حدثني علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه، قال: فمر رجل بغار فيه شيء من ماء، قال: فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل، ويتخلى من الدنيا، ثم قال: وإني أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك، فإن أذن لي فعلت، وإلا لم أفعل، فأتاه فقال: يا نبي الله، مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل، فحدثتنى نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة، والذي نفس محمد بيده، لغدوة وروحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة)) . وقال (المسند. ج: 6. ص: 177 و233) : حدثنا سليمان بن داود , قال: حدثنا عبد الرحمن , عن أبيه قال: قال لي عروة: إن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: ((لتعلم يهود أن في ديننا فسحة إني أرسلت بحنيفية سمحة.)) وحدثنا سليمان بن داود، أنبأنا ابن أبي الزناد , عن أبي الزناد قال: قيل لي: إن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: ((لتعلم يهود أن في ديننا فسحة , إني أرسلت بحنيفية سمحة)) وأورده البخاري تعليقا في باب "الدين يسر " من (كتاب الإيمان. ج: 1. ص: 15) وقال ابن حجر: (في تعليق التعليق. ج: 2. ص: 40 وما بعدها) : أخبرنا عبد الله بن عمر الحلاوي , أنبأنا أحمد بن محمد حنفجلة , أنبأنا عبد اللطيف الحراني , أنبأنا أبو محمد بن صاعد , أنبأنا أبو القاسم الكاتب , أنبأنا الحسن بن علي المذهب , أنبأنا أبو بكر بن مالك , حدثنا عبد الله بن أحمد بن محمد , حدثني أبي , حدثنا يزيد بن هارون , أنبأنا محمد بن إسحاق , عن داود بن الحصين , عن عكرمة , عن ابن عباس قال: ((قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: الحنيفية السمحة)) . ورواه البخاري في كتابه الأدب المفرد عن صدقة بن الفضل , عن يزيد بن هارون. وهكذا رواه عبد الأعلى وعبد الرحمن بن مغراء وعلي بن مجاهد وغيرهم , عن محمد بن إسحاق , ولم أره من حديثه إلا معنعنا , وله شاهد من مرسل صحيح الإسناد , قال ابن سعد في الطبقات: أنبأ عارم بن الفضل , حدثنا حماد بن زيد , حدثنا معاوية بن عياش الجرمي , عن أبي قلابة. فذكره في قصة. وله شاهد آخر صحيح مرسل أيضا , رواه أبو اليمان في نسخته , عن شعيب , عن الزهري , عن عمر بن عبد العزيز , عن أبيه , ((عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الدين , أيه أفضل؟ فقال: الحنيفية السمحة)) . أنبئته عن غير واحد , منهم أبو الربيع بن قدامة , عن إبراهيم بن محمود الأزجي , أنبأنا عبد الحق بن عبد الخالق اليوسفي , أنبأنا هبة الله بن أحمد , أنبأنا أبو القاسم بن بشران , أنبأنا أبو سهل بن زياد القطان , حدثنا عبد الكريم بن الهيثم حدثنا أبو اليمان به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1233 ورواه البزار في مسنده من حديث عمر بن عبد العزيز , عن أبيه , عن جده , وفي إسناده عبد العزيز بن أبان , وهو متروك , ولم يخرج الحديث عن كونه مرسلا؛ لأن مروان جد عمر بن عبد العزيز لا يصح له صحبة ولا سماع , وله شاهد آخر مرسل , قال عبد الرزاق في مصنفه: أخبرنا ابن أبي رواد , عن محمد بن واسع , عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: إن ابن حجر لديه نسخة من مصنف عبد الرزاق تختلف عن التي بين أيدينا , فقد سبق أن نقلنا الحديث عن عبد الرزاق في هذا التعليق بسند مختلف. فتأمل. وكذلك سبق أن نقلنا عن أحمد الحديث الذي نقله ابن حجر بعد حديث عبد الرزاق ضمن ما نقلناه من مسند أحمد. ثم قال: وفي الباب عن أبي بن كعب وجابر وابن عمر وأبي إمامة وأبي هريرة وأحمد بن عبد الله الخزاعي وغيرهم. وقال الطبراني (المعجم الكبير. ج: 11 ص: 227. ح: 11571) : حدثنا أحمد بن داود المكي , حدثنا أحمد بن عمر الرازي , حدثنا عبد الرحمن بن مغراء , عن محمد بن إسحاق , عن داود بن الحصين , عن عكرمة , عن ابن عباس قال: ((قيل: يا رسول الله , أي الإسلام أفضل؟ قال: "حنيفية سمحة.)) وقال: ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) (1) . وسادسها: أنه وصف نفسه بكونه رؤوفًا رحيما بعباده , وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (2) , فلو شرع ما لا يكون للعبد فيه مصلحة , لم يكن ذلك رأفة ورحمة. وقال ابن قدامة المقدسي (3) "متى لزم من الوصف المتضمن للمصلحة مفسدة مساوية للمصلحة أو راجحة عليها , فقيل: إن المناسبة تنتفي، فإن تحصيل المصلحة على وجه يتضمن فوات مثلها أو أكبر منها , ليس من شأن العقلاء , لعدم الفائدة على تقدير التساوي وكثرة الضرر على تقدير الرجحان , فلا يكون مناسبًا , إذ المناسب إذا عرض على العقول السليمة تلقته بالقبول , فيعلم أن الشارع لم يرد بالحكم تحصيلًا للمصلحة في ضمن الوصف المعين , وهذا غير صحيح , فإن المناسب المتضمن للمصلحة , والمصلحة أمر حقيقي لا ينعدم بمعارض , إذ ينتظم من العاقل أن يقول: لي مصلحة في كذا , يصدني عنه ما فيه من الضرر من وجه آخر , وقد أخبر الله تعالى أن في الخمر والميسر منافع للناس , وأن إثمهما أكبر من نفعهما.   (1) انظر تخريجه في الفصل 19. (2) الآية: (56) سورة الأعراف. (3) روضة الناظر. ص 276، 278. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1234 فلم ينف منافعهما مع رجحان إثمهما , والمصلحة جلب المنفعة أو دفع المضرة , ولو أفردنا النظر إليها غلب على الظن ثبوت الحكم من أجلها , وإنما يختل ذلك الظن مع النظر إلى المفسدة اللازمة من اعتبار الوصف الآخر , فيكون هذا معارضًا , إذ هذا حال كل دليل له معارض , ثم ثبوت الحكم مع وجود المعارض لا يعد بعيدًا , ونظيره ما لو ظفر الملك بجاسوس لعدوه , فإنه يتعارض في النظر اقتضاءان؛ أحدهما: قتله دفعًا لضرره , والثاني: الاحسان إليه استمالة له لتكشيف حال عدوه , فسلوكه إحدى الطريقين لا يعد عبثًا , بل يعد جريًا على موجب العقل , ولذلك ورد الشرع بالأحكام المختلفة في الفعل الواحد نظرًا إلى الجهات المختلفة , كالصلاة في الدار المغصوبة , فإنها سبب للثواب من حيث إنها صلاة , وللعقاب من حيث إنها غصب , نظرًا إلى المصلحة والمفسدة , مع أنه لا يخلو إما أن يتساويا , أو يرجح أحدهما , فعلى تقدير التساوي لا تبقى المصلحة مصلحة , ولا المفسدة مفسدة , فيلزم انتفاء الصحة والحرمة , وعلى تقدير رجحان المصلحة يلزم انتفاء الحرمة , وعلى تقدير رجحان المفسدة يلزم انتفاء الصحة , فلا يجتمع الحكمان معًا , ومع ذلك اجتمعا , فدلا على بطلان ما ذكروا. ثم قدرنا توقف المناسبة على رجحان المصلحة , فدليل الرجحان أنا لم نجد في محل الوفاق مناسبًا سوى ما ذكرناه , فلو قدرنا الرجحان , يكون الحكم ثابتًا معقولًا , وعلى تقدير عدمه يكون تعبدًا , واحتمال التعبد أبعد وأندر , فيكون احتمال الرجحان أظهر. ومثال ذلك تعليلنا وجوب القصاص على المشتركين في القتل بحكمة الردع والزجر , كي لا يفضي إسقاطه إلى فتح باب الدماء , فيعارض الخصم بضرر إيجاب القتل الكامل على من لا يصدر منه ذلك , فيكون جوابه ما ذكرناه , والله أعلم ". وبعد هذا الكلام الشريف الذي أوضح به كل من الرازي وابن قدامة - على اختلاف طريقتيهما في التبيان والإيضاح - ما قد يعترض من شبهات يلتبس تمييز الحكم منها على أغلب المتفقهة - لا سيما المقلدة - حين يتراءى شكل من شبهة التعارض بين المصلحة والمفسدة وعسر المراجحة بينهما , وانتهيا معًا إلى تقرير مبدأ استفاض بين الأصوليين وإن لم يوفق أغلبهم إلى مثل ما وفقا إليه من تبيان وتحليل وتعليل , وهو أن جلب المصلحة مقدم على درء المفسدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1235 نعود إلى الشاطبي رحمه الله وهو يتميز عنهما - أو بالأحرى عن الرازي , فابن قدامة ليس ببعيد عنه في المنهاج - بأنه لا يوغل في منطقة الحجاج والبرهنة , وإنما يريدها ميسرة بينة , تتجاوب معها العقول والمدارك دون الحاجة إلى جهد يوغلها فيه افتعال المقدمات وابتغاء النتائج , أو بعبارة أدق وأوجز "فلسفة التعقيد التي كثيرًا ما تؤدي بأمثال الرازي يغفر الله له إلى مفازات من التعقيد إن لم تستعسر على العقول غير المهيأة , فلا أقل من أن تثقل عليها ونسوق كلام الشاطبي متتاليًا دون تعقيب , إذ سوف نقف عقب هذا الاستدلال بكلام السلف وقواعدهم موقفًا مستطيلًا لتبيان مدى علاقة تكييف تصرف الإنسان فيما خوله الله من مال بمقتضيات هذه القواعد التي بسطها أئمة أصول الفقه ومهدنا لها - قبل أن نسوق نصوصهم - بما سقناه من نصوص الكتاب والسنة , وفي وقفتنا تلك سنتوجها أيضًا بنصوص أخرى. قال الشاطبي رحمه الله (1) : في معرض بيان (أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها , فلا يصح اشتراطها عند ذلك) . "وكذلك الجهاد مع ولاة الجور , قال العلماء بجوازه، قال مالك: لو ترك ذلك لكان ضارا على المسلمين , فالجهاد ضروري , والوالي فيه ضروري , والعدالة فيه مكملة للضرورة , والمكمل إذا عاد للأصل بالإبطال لم يعتبر , لذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال عبد الرزاق (المصنف. ج: 5. ص: 278 إلى 280 ح: 9607 إلى 9619) : عن معمر , عن الزهري , عن محمود بن الربيع , أن أبا أيوب الأنصاري غزا مع يزيد بن معاوية الغزوة التي مات فيها. وعن معمر , عن أيوب عن ابن سيرين قال: كان أبو أيوب الأنصاري يغزو مع يزيد بن معاوية , فمرض وهو معه , فدخل عليه يزيد يعوده , فقال له: حاجتك؟ قال: إذا أنا مت فسر بي في أرض العدو ما استطعت , ثم ادفني. قال: فلما مات , سار به حتى أوغل في أرض الروم يوما أو بعض يوم , ثم نزل فدفنه.   (1) الموافقات. ج: 2. ص: 15. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1236 وعن معمر , عن أيوب , عن أبي حمزة الضبعي , قال: قلت لابن عباس: إنا نغزو مع هؤلاء الأمراء , فإنهم يقاتلون على طلب الدنيا , قال: فقاتل أنت على نصيبك من الآخرة. وعن الثوري , عن جابر قال: سألت الشعبي عن الغزو عن أصحاب الديوان أفضل أو التطوع؟ قال: بل أصحاب الديوان، المتطوع متى شاء رجع. وعن ابن التيمي , عن كهمس , قال: قلت للحسن: نغزو مع الأمراء فما يطلعون على أمرهم، غير أنا نسالم إذا سالموا , ونحارب إذا حاربوا. قال: قاتل مع المسلمين عدوهم. وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف. ج: 12. ص: 449 إلى 451 , الأثر: 15221 إلى 15231) : حدثنا حفص بن غياث , عن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله يغزون زمان الحجاج: عبد الرحمن بن يزيد , وأبو سنان وأبو جحيفة، حدثنا عبدة , عن الأعمش , قال: سمعتهم يذكرون أن عبد الرحمن بن يزيد كان يغزو الخوارج في زمان الحجاج يقاتلهم. حدثنا عبدة بن سليمان , عن الأعمش , عن إبراهيم , أنه غزا في زمان الحجاج، حدثنا وكيع , قال: حدثنا مثنى بن سعيد , عن أبي حمزة قال: سألت ابن عباس عن الغزو مع الأمراء وقد أحدثوا. فقال: تقاتل على نصيبك من الآخرة , ويقاتلون عل نصيبهم من الدنيا. حدثنا وكيع , قال: حدثنا حماد بن زيد , عن الجعد أبي عثمان , عن سليمان اليشكري , عن جابر قال: قلت له: أغزو أهل الضلالة مع السلطان؟ قال: اغز , فإنما عليك ما حملت , وعليهم ما حملوا. حدثنا غندر، عن الفزاري، عن هشام، عن الحسن وابن سيرين سُئلا عن الغزو مع أئمة السوء، فقالا: لك شرفه وأجره وفضله، وعليهم إثمهم. حدثنا وكيع، قال: حدثنا مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد النخعي، قال: قلت لأبي: يا أبة، في إمارة الحجاج أتغزو؟ قال: يا بنى، لقد أدركت أقوامًا أشد بُغضًا منكم للحجاج، وكانوا لا يدعون الجهاد على حال، ولو كان رأي الناس في الجهاد مثل رأيك ما أرى الإتاوة، يعنى الخراج. حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: ذكر له أن أقوامًا يقولون: لا جهاد، فقال: هذا شيء عرض به الشيطان. حدثنا وكيع، قال: حدثنا الربيع بن الصبيح، عن قيس بن سعد، عن مجاهد، قال: سألت ابن عمر عن الغزو مع أئمة الجور وقد أحدثوا، فقال: اغزوا. حدثنا أحمد بن عبد الله، عن زائدة، عن ليث، قال: كان مجاهد يغزو مع بني مروان، وكان عطاء لا يرى بأسًا. حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، قال: خرج على الناس بعث زمن الحجاج , فخرج فيه عبد الرحمن بن يزيد. وترجم البخاري في صحيحه (ج: 3. ص: 215) بحديث لم يسنده , فقال: باب الجهاد ماض مع البر والفاجر. وأسند بعض الترجمة حديث: الخيول معقود في نواصيها الخير. لكن روى الحديث أبو داود (السنن. ج: 3. ص: 18. ح: 2532) , فقال: حدثنا سعيد بن منصور , حدثنا أبو معاوية , حدثنا جعفر بن برقان , عن يزيد بن أبي نشبة , عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله , ولا تكفره بذنب , ولا تخرجه من الإسلام بعمل , والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل , والإيمان بالأقدار)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1237 وقال في نفس المعنى ولكن بعبارة أخرى (ح: 2533) : حدثنا أحمد بن صالح , حدثنا ابن وهب , حدثني معاوية بن صالح , عن العلاء بن الحرث , عن مكحول , عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجهاد واجب عليكم مع كل أمير , برا كان أو فاجرًا , والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم , برا كان أو فاجرًا , وإن عمل الكبائر)) . وقال ابن ماجه (السنن. ج: 2. ص: 488. ح: 1525) : حدثنا أحمد بن يوسف السلمي , حدثنا مسلم بن إبراهيم , حدثنا الحارث بن نبهان , حدثنا عتبة بن يقظان , عن أبي سعيد , عن مكحول , عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلوا على كل ميت , وجاهدوا مع كل أمير)) . وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 3. ص: 121) : أخبرنا أبو علي الروذباري، أنبأ أبو بكر بن داسة , حدثنا أبو داود، حدثنا أحمد بن صالح , حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية بن صالح , عن العلاء بن الحارث , عن مكحول , عن أبن هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجهاد واجب عليكم مع كل أمير , برا كان أو فاجرًا , والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم , برا كان أو فاجرًا , وإن عمل الكبائر , والصلاة واجبة على كل مسلم , برا كان أو فاجرًا , وإن عمل الكبائر)) . ثم قال (1) : " المقاصد الضرورية في الشريعة أصل للحاجية والتحسينية , فلو اختل الضروري بإطلاق , لاختل باختلاله بإطلاق , ولا يلزم من اختلالهما اختلال الضروري بإطلاق , نعم قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق اختلال الحاجي بوجه ما، وقد يلزم من اختلال الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما، فلذلك إذا حوفظ على الضروري , فينبغي المحافظة على الحاجي , وإذا حوفظ على الحاجي , فينبغي أن يحافظ على التحسيني , فثبت أن التحسيني يخدم الحاجي , وأن الحاجي يخدم الضروري , وأن الضروري هو المطلوب ". ثم قال: "وبيان الأول أن مصالح الدين والدنيا مبنية على الأمور الخمسة المذكورة فيما تقدم، فإذا اعتبر قيام هذا الوجود الدنيوي مبنيا عليها , بمعنى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود - أعني ما هو خاص بالمكلفين والتكليف - وكذلك الأمور الأخروية لا قيام لها إلا بذلك، فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى , ولو عدم المكلف لعدم من يتبين , ولو عدم العقل لارتفع التدين , ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء , ولو عدم المال لم يبق عيش - وأعني بالمال ما يقع عليه ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها وما يؤدي إليها من جميع المتمولات - فلو ارتفع في ذلك لم يكن بقاء , وهذا كله معلوم , ولا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدنيا وأنها زاد للآخرة. ثم قال (2) : "المصالح المبثوثة في هذه الدار ينظر فيها من جهتين؛ من جهة مواقع الوجود , ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها، فأما النظر الأول فإن المصالح الدنيوية - من حيث هي موجودة هنا - لا يتخلص كونها مصالح محضة". ثم قال: "كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود , إذ ما من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات، ويدلك على هذا ما هو الأصل , وذلك أن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين , فمن رام استخلاص جملة فيها , لم يقدر على ذلك". ثم قال: "فإذا كان كذلك , فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب , فإذا كان الغالب جهة المصلحة , فهي المصلحة المفهومة عرفًا , وإذا غلبت الجهة الأخرى , فهي المفسدة المفهومة عرفًا، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبًا إلى الجهة الراجحة، فإن رجحت المصلحة فمطلوب , ويقال فيه: إنه مصلحة , وإذا غلبت جهة المفسدة فمهروب منه , ويقال: إنه مفسدة على ما جرت به العادة في مثله".   (1) الموافقات. ص: 16 و17 (2) الموا فقات. ص: 25 و26 و27 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1238 ثم قال: "هذا وجه النظر في المصلحة الدنيوية والمفسدة الدنيوية من حيث مواقع الوجود في الأعمال العادية، وأما النظر الثاني فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعا , فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد , فهي المقصودة شرعًا , ولتحصيلها وقع الطلب على العباد ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل , وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود على مقتضى العادات الجارية في الدنيا، فإن تبعها مفسدة أو مشقة فليست مقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه , وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد , فرفعها هو المقصود شرعًا , ولأجله وقع النهي ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي في مثلها حسب ما يشهد له كل عقل سليم، فإن تبعتها مصلحة أو لذة , فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل , بل المقصود ما غلب في المحل , وما سوى ذلك ملغى في مقتضى النهي , كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر. فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعًا أو المفاسد المعتبرة شرعًا , هي خالصة غير منسوبة بشيء من المفاسد لا قليلًا ولا كثيرًا , وإن توهم أنها مشوبة , فليست في الحقيقة الشرعية كذلك؛ لأن المصلحة المغلوبة أو المفسدة المغلوبة إنما المراد بها ما يجري في الاعتياد الكسبي من غير خروج إلى زيادة تقتضي التفات الشارع إليها على الجملة , وهذا المقدار هو الذي قيل: إنه غير مقصود للشارع في شرعية الأحكام ". ثم قال (1) . "وأما إذا كانت المصلحة أو المفسدة خارجة عن حكم الاعتياد بحيث لو انفردت لكانت مقصودة لاعتبار الشارع , ففي ذلك نظر ". ثم قال: "فلا يخلو إما أن تتساوى الجهتان , أو تترجح إحداهما على الأخرى، فإن تساوتا فلا حكم من جهة المكلف بأحد الطرفين دون الآخر إذا ظهر التساوي بمقتضى الأدلة , ولعل هذا غير واقع في الشريعة ".   (1) الموافقات. ص: 30 و31 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1239 ثم قال: "وأما إن ترجحت إحدى الجهتين، على الأخرى فيمكن أن يقال: إن قصد الشارع "غير " (1) متعلق بالجهة الأخرى , إذ لو كان متعلقًا بالجهة الأخرى لما صح الترجيح ولا كان الحكم , كما إذا تساوت الجهتان فيجب الوقف , وذلك غير صحيح مع وجود الترجيح". وقال الشاطبي أيضًا (2) : "مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة لا تختص بباب دون باب , ولا بمحل دون محل , ولا بمحل وفاق دون محل خلاف , وبالجملة الأمر في المصالح مطرد مطلقًا في كليات الشريعة وجزئياتها". ومن الدليل على ذلك ما تقدم في الاستدلال على مطلق المصالح , وأن الأحكام مشروعة لمصالح العباد , ولو اختصت لم تكن موضوعة للمصالح على الإطلاق , لكن البرهان قام على ذلك , فدل على أن المصالح فيها غير مختصة ". ثم قال (3) : "جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونًا فيه على ضربين: أحدها: أن لا يلزم منه إضرار للغير , والثاني: أن يلزم منه ذلك، وهذا الثاني ضربان؛ أحدهما: أن يقصد الجالب أو الدافع ذلك الإضرار , كالمرخص في سلعته قصدًا لطلب معاشه وصَحِبه قصد الإضرار بالغير , والثاني: أن لا يقصد إضرارًا بأحد، وهو قسمان؛ أحدهما: أن يكون الأضرار عاما , كتلقي السلع وبيع الحاضر للبادي , والامتناع من بيع داره أو فدانه , وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع أو غيره. والثاني: أن يكون خاصا , وهو نوعان؛ أحدهما: أن يلحق الجالب أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر , فهو محتاج إلى فعله , كالدافع عن نفسه مظلمة , يعلم أنها تقع بغيره أو يسبق إلى شراء طعام أو ما يحتاج إليه أو إلى صيد أو إلى حطب أو ماء أو غيره عالمًا إذا جازه استضر غيره بعدمه , ولو أخذ من يده استضر. والثاني: أن لا يلحقه بذلك ضرر , وهو على ثلاثة أنواع: أحدها: ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا , أعني القطع العادي , كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه بلا بد، وشبه ذلك. والثاني: ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرًا كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبًا إلى وقوع أحد فيه , وأكل الأغذية التي غالبها أن لا تضر أحدًا , وما أشبه ذلك.   (1) بدون زيادة لا يستقيم التعبير. (2) الموافقات. ج: 2. ص: 54. (3) الموافقات. ص: 348. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1240 والثالث: ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لا نادرًا , وهو على وجهين؛ أحدهما: أن يكون غالبًا , كبيع السلاح من أهل الحرب , والعنب من الخمار , وما يغش به ممن شأنه الغش ونحو ذلك. والثاني: أن يكون كثيرًا لا غالبًا , كمسائل بيوع الآجال , فهذه ثمانية أقسام. فأما الأول فباق على أصله من الإذن , ولا إشكال فيه , ولا حاجة إلى الاستدلال عليه؛ لثبوت الدليل على الإذن ابتداء. وأما الثاني فلا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدليل على أن لا ضرر ولا إضرار في الإسلام , لكن يبقى النظر في هذا العمل الذي اجتمع فيه قصد نفع النفس وقصد إضرار الغير , هل يمنع منه فيصير غير مأذون به , أم يبقى على حكمه الأصلي من الإذن , ويكون عليه إثم ما أفسد؟ هذا مما يتصور فيه الخلاف على الجملة , وهو جار على مسألة الصلاة في الدار المغصوبة , ومع ذلك فيحتمل في الاجتهاد تفصيلًا , وهو أنه إما أن يكون إذا رفع ذلك العمل وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة أو درء تلك المفسدة , حصل له ما أراد أولا , فإن كان كذلك , فلا إشكال في منعه منه؛ لأنه لا يقصد ذلك الوجه لأجل الإضرار , فلينتقل عنه , ولا ضرر عليه , كما يمنع من ذلك الفعل إذا لم يقصد غير الإضرار , وإن لم يكن له محيص عن تلك الجهة التي ينظر منها الغير , فحق الجالب أو الدافع مقدم , وهو ممنوع من قصد الإضرار , ولا يقال: إن هذا تكليف بما لا يطاق , فإنه إنما كلف بنفي قصد الإضرار , وهو داخل تحت الكسب , لا بنفي الإضرار بعينه. وأما الثالث - ويعني به أن يكون الإضرار عامًا - فلا يخلو أن يلزم من منعه الإضرار به , بحيث لا ينجبر أولا، فإن لزم , قدم حقه على الإطلاق على تنازع يضعف مدركه من مسألة الترس التي فرضها الأصوليون , إذا تترس الكفار بمسلم , وعلم أن الترس إذا لم يقتل استوصل أهل الإسلام , وإن أمكن انجبار الإضرار ورفعه جملة , فاعتبار الضرر العام أولى , فيمنع الجالب أولًا الدافع مما هم به؛ لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة بدليل النهي عن تلقي السلع وعن بيع الحاضر للبادي واتفاق السلف على تضمين الصناع مع أن الأصل فيهم الأمانة , وقد زادوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره مما ومتى رضي أهله وما لا، وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص , ولكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1241 وقال الشاطبي (1) : "لما أثبتت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات والتحسينات , وكانت هذه الوجوه مثبوثة في أبواب الشريعة وأدلتها غير مختصة بمحل دون محل , ولا باب دون باب , ولا قاعدة دون قاعدة , كان النظر الشرعي فيها أيضًا عامًا لا يختص بجزئية دون أخرى , لأنها كليات تقضي على كل جزئي تحتها , وسواء علينا أكان جزئيًا إضافيا أم حقيقيا , إذ ليس فوق هذه الكليات كل تنتهي إليه , بل هي أصول الشريعة , وقد تمت , فلا يصح أن يفقد بعضها حتى يفتقر إلى قياسها بإثبات أو غيره , فهي الكافية في مصالح الخلق عمومًا وخصوصًا؛ لأن الله تعالى قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (2) وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (3) وفي الحديث: ((تركتكم على الجادة)) (4) وقوله: ((لا يهلك على الله إلا هالك)) قال أحمد في (المسند. ج:1. ص: 279) : حدثنا عفان، حدثنا جعفر بن سليمان , حدثنا الجعد أبو عثمان , عن أبي رجاء العطاردي , عن ابن عباس , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ربك تبارك وتعالى رحيم , من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة , فإن عملها كتبت له عشرة إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة , ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة , فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله تعالى , ولا يهلك على الله إلا هالك)) . وقال مسلم (على هاش شرح النووي. ج: 2. ص: 149 و150) : حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا عبد الوارث , عن الجعد أبي عثمان، حدثنا أبو رجاء العطاردي , عن ابن عباس , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات , ثم بين ذلك , فمن هم بحسنة فلم يعملها , كتبها الله عنده حسنة كاملة , وإن هم بها فعملها , كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة , وإن هم بسيئة فلم يعملها , كتبها الله عنده حسنة كاملة , وإن هم بها فعملها , كتبها الله سيئة واحدة)) .   (1) الموافقات ج: 3. ص: 5. (2) الآية: (3) سورة المائدة. (3) الآية: (28) سورة الأنعام. (4) لم أقف عليه , ولعله طرف من حديث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1242 وقال الدارمي (السنن. ج: 2. ص: 321) : حدثنا عفان , حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا الجعد أبو عثمان , قال: سمعت أبا رجاء العطاردي , قال: سمعت ابن عباس , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربكم رحيم , من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة , فإن عملها كتبت عشرًا إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة , ومن هم بسيئة فلم يعملها , كتبت له حسنة , فإن عملها كتبت واحدة أو يمحوها , ولا يهلك على الله إلا هالك)) . ونحو ذلك من الأدلة على تمام الأمر وإيضاح السبيل. وإذا كان كذلك , وكانت الجزئيات وهي أصول الشريعة فما تحتها مستمدة من تلك الأصول الكلية - شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات - فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس , إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كليتها، فمن أخذ بنص مثلًا في جزئي معرضًا على كليه , فقد أخطأ , وكما أن من أخذ بالجزئي معرضًا عن كليه , فهو مخطئ , كذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيه. وقد آثرنا أن نسوق كل هذه النصوص وفي بعضها طول , وبعضها يتضمن في ثناياه ما لا يتصل بموضوعنا مباشرة , لنضع بين يدي من قد يتفضل بالاطلاع على هذا البحث وتمحيصه ما نحسبه من النصوص يغنيه عن الاضطرار إلى مراجعة مصادر مما رجعنا إليه أو على شاكلتها استبانة أو تأكدًا من سلامة النقل أو استقامة الاحتجاج أو شمول الاعتبار لمختلف الاتجاهات والمدارس الأصولية والفقهية فيما نقلناه واعتمدناه , ونحن نتلمس في مسيرتنا ما يتراءى لنا صراطا مستقيما إلى استبانة الحق وتجليته من أهواء وأوهام تداولته بطرائق شتى , فجللته بألوان من الارتياء والتأويل والتوجيه نحسبها - إن لم نكن مخطئين - جنحت عن القصد , وأوغلت في الجنوح. ذلك بأن موضوع "انتزاع الملك للمصلحة العامة"على ضوء التشريع الإسلامي اضطربت فيه آراء من تناولوه بالدراسة والبحث , فأنكره البعض , ورأوه ضربًا من الاعتداء على حرمة أموال الناس التي ثبت في السنة والكتاب عظمتها من الاعتداء والتنديد على من تجاوز فيها حدود الله والوعيد له بأشد العقاب، ونحن والمسلمون كافة مع هؤلاء فيما حاولوا الاستناد إليه من النصوص والأحكام التي هي من بدهيات التشريع الإسلامي , ولكنا نختلف معهم , وننكر عليهم فيما خلصوا إليه من الرأي وركنوا إليه من الحكم واعتمدوا عليه من طرائق التشريع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1243 على حين أقره الآخرون على اختلاف بينهم في مدى وطرائق الإقرار , بيد أنهم - حسب ما انتهى إليه علمنا - اتففوا على اعتبار إقراره منطلقًا من قاعدة " المصلحة المرسلة " ومضى كل فريق يتسقط الحجج , ويلتقط النصوص تأكيدًا لما ذهب إليه من اعتبار "المصلحة المرسلة " هي القاعدة الوحيدة المحكمة في هذا الشأن. ونحن نتفق مع هؤلاء في أن (المصلحة) هي منطلق الحكم في هذا المجال , بيد أننا نختلف معهم في طبيعة هذه المصلحة , فهي عندنا ليست " المصلحة المرسلة " وإنما هي " المصلحة العامة " التي هي مناط التشريع الإسلامي ومن أبرز أنواع المناط في جميع مجالاته وخاصة المعاملات. وشتان بين اعتبار "المصلحة المرسلة " واعتبار "المصلحة العامة " قاعدة في الحكم , إذ إن اعتبار "المصلحة المرسلة" يعني أن الحكم مجرد اجتهاد , والحكم الاجتهادي هو عندنا أضعف الأحكام , حتى وإن اعتمد على القياس الصحيح السليم , فكيف إذا اعتمد على مجرد اعتبار "المصلحة المرسلة ". أما اعتبار المصلحة العامة هي القاعدة , بصفتها مناط التشريع , فمرده ليس إلى "الاجتهاد المجرد" , وإنما إلى الفهم القائم على الاستقراء والاستقصاء للنصوص والآثار , ثم اجتلائها وتقييمها في نطاق ظروفها وملابساتها ودون إغفال ما قد يتراءى للبعض بين بعض النصوص والآثار من تغاير أو تناقض أو اضطراب أو ضعف , ودون إغفال أيضًا لتمحيص هذا الذي يتراءى لهؤلاء تمحيصًا ينأى عن التقليد , ولا يعتمد إلا على اعتبار الدلالات الدقيقة والأسباب المجردة عند تقدير كل عنصر من تلك العناصر (التعارض , والتغاير , والتناقض , والاضطراب والضعف) . وواضح وضوحًا لا مجال للمراء فيه أن الحكم الذي يثبت بنص من الكتاب أو السنة - فكيف إذا كان بنص منهما معًا - باعتباره من مشمولات دلالته أو مناطه أو هما معًا , أقوى وأرسخ وألزم بمراحل بعيدة من ذلك الذي يثبت أو يراد إثباته بمجرد اجتهاد منطلق من تقدير شخصي مهما استفرغ فيه من جهد لقاعدة " المصالح المرسلة " ومدى التطابق بينها وبين الأمر الذي يراد الحكم فيه اعتمادًا عليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1244 15 - حق التصرف بمقتضى المصلحة العامة على أن المصير إلى تحرير الحكم الشرعي في "انتزاع الملك للمصلحة العامة " يستلزم تحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان وما تحت يده من ثابت ومتنقل. وقد ألمعنا إلى رأينا في هذا الشأن إلماما عارضًا حين وقفنا عند دلالة اللام في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (1) وأوضحنا اعتمادنا القول بأنها للاختصاص ليست للملك , كما رأى الجمهور , واستظهرنا هنالك بآثار بعض المفسرين , ونريد أن نعود إلى الوقوف عند معنى اللام؛ لأن تحديده بدقة هو المنطلق الأساسي - في تقديرنا - إلى تحديد الحكم الذي نحن بسبيل البحث فيه , ووقفتنا هذه ترتكز على ثلاث ركائز؛ الأولى: قوله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (2) , وقوله في سورة الأنبياء: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (3) والثانية: حديث زيد بن أسلم , عن أبيه , وقد سبق أن نقلناه عن أبي عبيدة وجاء فيه قول عمر رضي الله عنهم جميعًا , " قال أسلم: فسمعت رجلًا من بني ثعلبة يقول له: يا أمير المؤمنين , حميت بلادنا , قاتلنا عليها في الجاهلية , وأسلمنا عليها في الإسلام. يرددها عليه مرارًا , وعمر واضع رأسه إليه , ثم إنه رفع رأسه إليه , ثم قال: البلاد بلاد الله , ويحمي النعم مال الله , يحمل عليها في سبيل الله. والثالث: معنى ذكره الأصوليون للام الإضافة , وهو "التصرف" , وننقله عن أبي الوليد الباجي - رحمه الله - فقد أحسن التعبير عنه والتمثيل له قال (4) : "فأما لام الإضافة فلها خمسة مواضع: الملك , والسبب , والفعل , والاختصاص , واليد والتصرف". ثم قال: وأما اليد والتصرف فنحو قولك: المال للوصي , بمعنى أن له فيه اليد والتصرف. قال الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (5) فأضاف المال إلى الأوصياء لما كان لهم من القيام عليها والتصرف للأيتام فيها".   (1) الآية رقم (9) سورة البقرة. (2) الآية رقم (128) سورة الأعراف. (3) الآية رقم (105) سورة الأنبياء. (4) إحكام الفصول. ص: 180. فقرة: 25. (5) الآية: (5) سورة النساء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1245 قلت: ومن هذا القبيل دلالة اللام في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (1) فهي عندي لـ"اختصاص" التصرف تمامًا كما هي في الآية السالفة التي استدل بها الباجي لإبراز معنى التصرف فيها، يعضد ذلك جواب عمر لأخي بني ثعلبة حين حاجه بقوله: بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإسلام , إذ إن عمر لم يجبه بصيغة تحتفظ بإضافة البلاد والأرض إلى بني ثعلبة الذين قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام , إنما حاجهم بقوله: البلاد بلاد الله , ويحمي النعم مال الله. الحديث. وما من شك في أن عمر - رضي الله عنه - عدل عن إضافة الأرض إلى بني ثعلبة , فصرف إضافتها إلى الله عن عمد ولهدف قاصد , بل ولحكم ثابت عنده دل عليه قوله: البلاد بلاد الله , , ويحمي النعم مال الله. ولست أجد نصًا أوثق من هذا يفرق بين "الملكية" و" التصرف" , ذلك بأن المالك هو الأحق , بل صاحب الحق الوحيد فيما يملك إذا تعينت الحاجة إلى "تخصصه " أو "تخصص" ما يتصل به مباشرة بحق المنفعة و"الانتفاع" , وأن من قد يكون خول لها "التصرف" أو جعل له "الاختصاص " في ذلك الملك كله أو بعضه , إنما يكون ذلك الذي خول له أو جعل حين لا تتعين الحاجة إلى أن يستقل المالك أو غيره ممن هو أوثق منه صلة وأولى بالتخويل والتخصيص. فإذا تعينت كان تعينها ناسخًا لأي تخويل أو "تخصيص" أيا كان المخول له "المخصص" , ولسنا نرى لعدول عمر عن إضافة البلاد إلى بني ثعلبة وصرف إضافتها إلى الله وتعليل ذلك الصرف بأن النعم الذي يحمل عليه مال الله , دلالة غير الإصداع بهذا الحكم الحازم الحاسم الذي لا يقبل أي مراء أو تأويل. ولا سبيل إلى القول بأن هشام بن سعد المدني راوي هذا الأثر عن زيد بن أسلم وصفه البعض بأنه "قد يهم" , فأطراف من الحديث وردت بطرق أخرى , وهشام بن سعد روى عنه مسلم والأربعة , ولم يغمز في دينه , والحديث من الشهرة بحيث كان حريا بأن يثير جدلًا بين التابعين من طبقة هشام ومن دونها ومن فوقها لو كان فيه ما رآه المحدثون جديرًا بالجرح أو الريب.   (1) الآية رقم (29) سورة البقرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1246 ثم إن قول عمر هذا ليس بدعًا من عمر , وإنما هو تطبيق لاستمرار حكم كان من عهد موسى عليه السلام وحكاه القرآن الكريم عنه في قول الله جل جلاله على لسانه: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ} (1) , فهي ليست لأحد , وهو يورثها من يشاء من عباده , وهؤلاء الذين يشاء - أو اقتضت حكمته وجرى سننه - أن يورثها لهم من عباده , هم الذين أشار إليهم موسى عليه السلام نفسه في قوله في الآية التالية لهذه: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (2) , فهو يعدهم بالاستخلاف وينبههم إلى أن الاستخلاف ليس وضعًا مكتسبًا اكتسابًا أبديًا لهم , وإنما هو ابتلاء أو امتحان يظهر الله تعالى به صلاحهم أو عدم صلاحهم له إذ: {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} . ونظيره قوله سبحانه وتعالى في سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) , فهي إذن سنة الله في خلقه , يستخلف على الأرض من يشاء من عباده ما أحسنوا خلافته عليها , لا فرق بين مسلم وغير مسلم , وينتزعها منهم إذا أفسدوا , فلم يحسنوا خلافته عليها , لا فرق أيضًا بين مسلم وغير مسلم , وهو لا ينذرهم بانتزاعها فحسب , وإنما ينذرهم بالعقاب على الإفساد , ويبشرهم بالرحمة لمن أناب إليه , وتاب بعد أن أفسد، فالعلاقة بين الإنسان وما خول له من ثابت ومتنقل هي خلافة الله في تصريفه والتصرف فيه , وهي مستمرة ما أحسن القيام بواجبات الخلافة , فزائلة عمن أساء إلى غيره ممن لم يسئ , وقد يكون أصلح , وذلك عندي - ولا شيء غيره , وإن تجمهر المفسرون على غيره - تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (4) , ذلك بأن هذه الآية الكريمة وردت بعد مجموعة من أخبار الأولين أمم وأنبياء ورسل , امتحنوا بألوان من الابتلاء من سراء وضراء , وكان لهم تأثير في تطور الحياة في الأرض , وفيهم داود وسليمان اللذين كانا ملكين , وفيهم زكريا الذي كانت ضراعته إلى الله أن يهبه وريثًا , وبعد حكاية أخبار هذه الأمم وهؤلاء الأنبياء والرسل جاء قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (5)   (1) الآية رقم (128) سورة الأعراف. (2) الآية رقم (129) سورة الأعراف. (3) الآية رقم (165) سورة الأنعام. (4) الآية رقم (105) سورة الأنبياء. (5) الآيتان (94، 95) سورة الأنبياء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1247 وواضح أن قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} , يعني: التمييز بين الإيمان والعمل من الصالحات , وهو نفس التمييز الوارد في قوله سبحانه وتعالى في سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (1) ويعني أيضًا من هم "الصالحون " في قوله: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (2) , ومن عجب أن يذهب المفسرون في تأويل هذه الآية كل مذهب إلا التأويل الصحيح , فإنهم أهملوه أو غفلوا عنه، ذلك بأن كلمة "الصلاح" وما اشتق منها وقر في أذهانهم وأفهامهم أنها لا تعني في القرآن والحديث إلا الصلاح المؤدي إلى نعيم الآخرة حتى حين ترد في معرض ضبط وتنظيم شؤون الدنيا , وهذا الذي وقر في أذهانهم جعلهم يتكلفون التأويلات لما يكون تأويله ظاهرًا , بل ثابتًا من القرآن الكريم نفسه ومن نسبة الله في كونه، فليس الصلاح الذي معناه التقوى مؤهلًا لصاحبه وحده لأن يكون خليفة الله في الأرض يوكل إليه أمر أعمارها وتطويرها لصالح الناس كافة , إنما الصلاح المؤهل لهذه المهمة هو الكفاية للقيام بها بما تقتضيه مسؤولية خلافة الله ومهمتها , وقد لفت الله سبحانه وتعالى الانتباه إلى الحكمة من هذه السنة التي استنها للكون بتعقيبه على الآية الآنفة الذكر بقوله جل جلاله: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} (3) , فجاءت العبارة مسوقة على التذكير في المضاف إليه وصفته، فلم يقل جل جلاله: للقوم العابدين. بالتعريف , ومع ذلك اضطرب المفسرون في تأويل هذه الآية واحتاروا اضطرابهم واحتيارهم في تأويل سابقتها , وذهبوا في كل مذهب إلا المذهب الصحيح القويم , وهو أن الصالحين الذين كتب الله في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثونها , هم قوم عابدون , وعبد في هذه الآية ليس من العبادة في دلالتها الشرعية , وإنما هو من أصل دلالتها اللغوية , وهي الذلة والألم الذي يتشكل في بعض حالاته غضبًا , وقد عرفت العرب استعمال كلمة التعبيد بمعنى التذليل , كما عرفت استعمال كلمة عبد - بكسر الباء الموحدة - بمعنى غضب , وقد شاع في ألسنة الناس وصف الطريق السوية بأنها معبدة (4) .   (1) الآية رقم (55) سورة النور. (2) الآية: (105) سورة الأنبياء. (3) الآية: (106) سورة الأنبياء. (4) انظر ابن منظور لسان العرب. ج: 3. ص: 274 و275. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1248 ومن عجب أن المفسرين لم يلتفتوا إلى تجرد قوم عابدين من أداة التعريف , فلو أريد بهم القوم العابدون الذين هم الصالحون في رأيهم لما كان لتجريد قوم عابدين من أداة التعريف معنى واضح , ومعاذ الله أن يكون في القرآن تعبير ليس مقصودًا لذاته , وليست صيغته مرادة في دلالته , والمعنى - والله أعلم - أن البشارة بأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون وجهت بلاغًا لقوم يعانون من الذل معاناة تفعم نفوسهم ألمًا حتى لا يتحول الألم فيها إلى نمط من الغضب على الحياة لما يعانون من الذلة والهوان , فهي بشارة وجهت إليهم "بلاغًا " لتعيد إليهم الأمل وتدعوهم إلى الاستعداد بابتغاء المؤهلات التي تجعلهم صالحين لخلافة الله في الأرض بأعمارها مؤهلين لإرثها بصلاحهم له. ونعتقد أن مما يشهد لرأينا هذا , ما وصف به إبراهيم وبنوه من أنهم كانوا عابدين في قوله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} , فهم موصوفون في هذه الآية الكريمة بالتذلل والخضوع لله وبأنهم أوحي إليهم فعل الخيرات , أي: أنهم يفعلون الخيرات بإلهام من الله وتوفيق , وهذه الخيرات ليست هي العبادات غير المعقولة المعنى والتي تضبط العلاقة بين العبد وربه , وإنما هي شيء يتجاوز مجرد التعبد , كانوا يفعلونه بوحي من الله متقربين إلى الله بالاستذلال له , فهم له عابدون , على أن كلمة عابدين في هذه الآية ليست وصفًا لنكرة , وإنما هي وصف لمعرفة , فهي تختلف صيغة عن كلمة عابدين في الآية السابقة , ومع ذلك فلا تبعد عنها في جوهر معناها , وإن اختلفتا وجهة دلال باختلاف المساق , وهذه من روائع الإعجاز القرآني. وقد وردت كلمة (صلح) ومشتقاتها في القرآن الكريم دالة على غير العبادة والالتزام بها , وإن كان مدلولها داخلًا بالنية عند استحضارها في مضمون العبادة. قال الله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أو إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} (1) {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ} (2) {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} (3) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (4) {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (5) {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (6) {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (7) {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (8) {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (9) {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} (10) . {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (11)   (1) الآية رقم (182) سورة البقرة. (2) الآية: (39) سورة المائدة. (3) الآية: (16) سورة النساء. (4) الآية: (160) سورة البقرة. (5) الآية (51) و (52) سورة الشعراء. (6) الآية: (48) سورة النمل. (7) الآية: (42) سورة الأعراف. (8) الآية: (46) سورة هود. (9) الآية: (33) سورة النور. (10) الآية: (27) سورة القصص. (11) الآية: (17) سورة هود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1249 وما نحسب مفسرًا أو متأولًا مستقيم النظر في دلالة الآي مستحضرًا لمواقعها ومساقها ومناسباتها يسيغ لنفسه أن يزعم أن واحدة من هذه الآيات إنما تعني بكلمة " صلح " ومشتقاتها ما يتصل بالتعبد غير المعقول المعنى لله سبحانه وتعالى. فالموعودون بالمغفرة والرحمة ممن استزلهم الشيطان بالقذف إن هم تابوا وأصلحوا , ليس إصلاحهم بالضرورة شاملًا للقيام بجميع العبادات المأمور بها؛ لأن إفسادهم الذي استوجبوا من أجله العقاب في الدنيا والحرمان من قبول شهادتهم والوصف بالفسق , إنما هو رمي المحصنات , وبدهي أن الإصلاح المطلوب منهم ليتأهلوا للمغفرة والرحمة هو أن يكذبوا أنفسهم ويشيعوا تبرئة المحصنات مما قذفوهن به إشاعة تشمل مدى ما أشاعوه من قذف , واللذان أُمِر المسلمون بالإعراض عنهما والكف عن إيذائهما لما أتياه من الفاحشة إن تابا وأصلحا , يراد بإصلاحهما الإقلاع عن إتيان الفاحشة , إذ هي الفساد الذي من أجله أمر المسلمون بإيذائها. هذان مثلان من دلالة كلمة "صلح " ومشتقاتها في الآيات التي سقناها براهين على أن القرآن الكريم استعمل هذه الكلمة في مواضع شتى ليس بمعنى التقوى , كما توهم المفسرون في كثير من الآيات , ولكن بمعنى إزالة الفساد المتصل بإحداث الخلل في المجتمع , سواء كان الخلل في المال أو في الأنساب أو في غيرهما مما يتصل بالحياة الاجتماعية أو بمعنى الإسهام في عمارة الأرض وتطوير الحياة البشرية عليها أو ما نسميه اليوم بالإنماء الاقتصادي وتطوير الحضارة , وهذان الأمران؛ الإقلاع عن الفساد , والإسهام في التطوير الحضاري، هما الصلاح المؤهل لخلافة الله في الأرض وإرثها الذي هو إرث التصرف فيها وتصريف نتاجها. ولعلنا قد أوضحنا بما فيه الغناء كل الغناء ما نذهب إليه من أن علاقة الإنسان بما خول له في الأرض وفي الكون من " الثابت " و" المتنقل " هي الاختصاص في التصرف , وهي ما سماه الله سبحانه وتعالى بالخلافة حين جعل الإنسان خليفة له في الأرض , وأهلية الإنسان لهذه الخلافة هي التي لم يتبينها الملائكة حين توجسوا من استخلاف الله له , فقالوا إذ قال لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (1) {: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} } (2)   (1) الآية رقم (30) سورة البقرة. (2) الآية رقم (30) سورة البقرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1250 وهذا الاختصاص والتصرف أو هذه الكيفية لفهم علاقة الإنسان بالأرض وخلافته عليها هي التي عبر عنها عمر بقوله: البلاد بلاد الله. الحديث. ومع أن ما سقناه من الأدلة على ما ذهبنا إليه من معنى اللام المضافة في قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} (1) الآية , أنه لاختصاص التصرف ومن أن هذا الاختصاص والتصرف لا يناط بالإنسان المسلم وحده , وإن كان يؤثر عن غيره إذا تساوى مع غيره أو فضل عنه , وإنما يناط بكل من كان أصلح لممارسته , فإنا نرى للمزيد من التأكيد والإيضاح أن نسوق آيات أخرى من كتاب الله العزيز , لا سبيل أن يزعم أحد عند تأويلها أن اللام فيها للملك , ولا سبيل إلى اعتبار اللام فيها لغير الاختصاص والتصرف. قال الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (2) . وقد يتيسر للمفسرين الذين يحبون أن يحصروا دلالة اللام المضافة في الملك أن يزعموا أنها كذلك في إضافة الرزق والفلك , بل وقد يزعمون أنها كذلك أيضًا في الأنهار , ولكن هل يستطيعون أنها كذلك في الشمس والقمر وفي الليل والنهار حتى مع استحضار ما وصل إليه العلم التجريبي الحديث من قدرة الإنسان على استعمال أشعة الشمس كوسيلة من وسائل استنباط الطاقة المتجددة. وعلى هذه الوتيرة جاء قوله سبحانه وتعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (3) وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (4) وقوله جل جلاله {: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} } (5)   (1) الآية رقم (29) سورة البقرة. (2) الآية: (32) و (33) سورة إبراهيم. (3) الآية: (12) سورة النحل. (4) الآية: (20) سورة لقمان. (5) الآية: (12) و (13) سورة الجاثية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1251 وما نحسب أحدًا يستطيع أن يزعم للإنسان أي نوع من أنواع الملكية للشمس والقمر والنجوم والبحر وجميع ما في السماوات وما في الأرض وإن طاب لبعض أن يتبجحوا بالقول: "إن الإنسان سيد هذا الكون " , وأغلب هؤلاء إن لم يكونوا جميعًا من الملاحدة أو ممن في إيمانهم دخل. ولا جرم أن علاقة الإنسان بما تصل إليه يده من هذا الكون تنحصر في خلافة الله في التصرف والتصريف وتنضبط باعتبار المصلحة العامة حتى فيما يتراءى له كما لو كان منحصرًا في المصلحة الخاصة في جميع ممارساته , ذلك بأن الفرد لا يملك استقلالا كاملا بمعنى انفصالا مطلقا عن إخوانه كأفراد في المجتمع , ولا عن كيان المجتمع كهيكل متميز فيما قد يتراءى له أنه ذاتي صرف , إذ إن أدنى إغفال - فضلًا عن تجاوز متعمد - لاعتبار مقتضيات المصلحة العامة لا مناص من أن يحدث خللًا فيها بما ينطلق منه من الاعتماد على متطلبات الأنانية الصرفة , وهو خلل كثيرًا ما يتحول إلى فساد هادم , آية ذلك أن الغني حين يتجاهل حقوق الآخرين فيما بين يديه من مال فينفقه مبذرًا مسرفًا , لا محيص من أن ينعكس تصرفه المنحرف على مصالح غيره انعكاسًا ماديا واجتماعيًا وخلقيًا , وذلك بعض ما يمكن استلهامه من قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (1) . ومن التنديد المتكرر في آيات شتى من القرآن الكريم بالترف والمترفين , بل إن القرآن الكريم أوضح عاقبة التبذير بجلاء في نص لا يقبل التأويل , وهو قول الله الحكيم الخبير: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (2) وأخرى ما جاء به الشرع من وجوب الحجر على السفيه إذا صار إليه مال بإرث أو هبة من مثل قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (3) , بل إن الشرع الإسلامي جاء بحرمان المعتدي على حقوق غيره حرمانًا كاملًا مما كان مخولًا له اختصاص التصرف فيه , وذلك عقابًا له على الاعتداء ودرءًا لانتشار الطبيعة العدوانية والتصرفات التي لا تراعي حقوق الآخرين. ولعل أبرز مثل وأصرحه لهذا الإجراء ما وقع لسمرة بن جندب.   (1) الآية (27) سورة الإسراء. (2) الآية: (16) سورة الإسراء. (3) الآية رقم (5) سورة النساء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1252 قال أبو داود (1) : "حدثنا سليمان بن داود العتكي، حدثنا حماد، حدثنا واصل مولى أبي عيينة , قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي - يعني الباقر عليه السلام - يحدث , عن سمرة بن جندب رضي الله عنه ((أنه كانت له عضد (2) من نخل في حائط رجل من الأنصار , قال: ومع الرجل أهله , قال: فكان سمرة يدخل إلى نخله , فيتأذى به , ويشق عليه , فطلب إليه أن يبيعه , فأبى , فطلب إليه أن يناقله , فأبى , فأتى النبي صلى الله عليه وسلم , فذكر ذلك له , فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه , فأبى , فطلب إليه أن يناقله , فأبى , قال: فهبه له , ولك كذا وكذا. أمرًا رغبه فيه , فأبى , فقال: أنت مضار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري: اذهب فاقلع نخله)) . وقال البيهقي (3) : " أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقري، أنبأنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب، حدثنا أبو الربيع , حدثنا حماد بن زيد , عن واصل مولى ابن عيينة , قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي يحدث , عن سمرة بن جندب ((أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار , قال: ومع الرجل أهله , وكان سمرة بن جندب يدخل إلى نخله , فيتأذى به ويشق عليه , فطلب إليه أن يبيعه , فأبى , فطلب إليه أن يناقله , فأبى , فأتى النبي صلى الله عليه وسلم , فذكر ذلك , فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه , فأبى , فطلب إليه أن يناقله , فأبى , قال: قال: فهبه لي , ولك كذا وكذا. أمرا رغبه فيه , فأبى , فقال: أنت مضار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري: اذهب فاقلع نخله)) .   (1) سقط هذا الهامش من الأصل (المجلة) . (2) عضد قال محقق السنن محمد محيي الدين عبد الحميد رحمه الله: عضد من نخل , بفتح العين وضم الضاد , قال الخطابي: هو هكذا في رواية أبي داود , وصوابه: عضيد , يريد نخلا لم تسبق ولم تطل , قال الأصمعي: إذا صار للنخلة جذع يتناول منه المتناول , فتلك النخلة العضيدة , وجمعه عضيدات. (3) السنن الكبرى. ج: 6. ص: 157 و158. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1253 وتعقبه البيهقي بقوله: وقد روي في معارضته ما دل على أنه لا يجبر عليه. ثم قال: "أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنبأ أبو بكر محمد بن الحسين القطان، حدثنا إبراهيم بن الحارث، حدثنا يحيى بن أبي بكر، حدثنا زهير بن محمد , عن عبد الله بن محمد بن عقيل , عن جابر بن عبد الله ((أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم , فقال: إن لفلان في حائطي عذقًا , وقد آذاني وشق علي مكان عذقه. فأرسل إليه نبي الله صلى الله عليه وسلم , وقال: بعني عذقك الذي في حائط فلان. قال: لا. قال: فهبه لي. قال: لا. قال: فبعنيه بعذق في الجنة قال: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت أبخل منك إلا الذي يبخل بالسلام)) . قلت: ويظهر أن قضية هذا العذق ليست نفس قضية نخلة سمرة , يدل على ذلك ما أعقب به البيهقي روايته لقصة هذا العذق مما يعين صاحبه قال: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، حدثنا أبو محمد المزني، حدثنا علي بن محمد بن عيسى، حدثنا أبو اليمان، أخبرني شعيب , عن الزهري قال: حدثني سعيد بن المسيب ((أن أول شيء عاتب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي لبابة بن عبد المنذر أنه خاصم يتيما له في عذق نخلة , فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة بالعذق , فضج اليتيم واشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة: هب لي هذا العذف يا أبي لبابة لكي نرده إلى اليتميم. فأبى أبو لبابة أن يهبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا لبابة , أعطه هذا اليتيم ولك مثله في الجنة. فأبى أبو لبابة أن يعطيه , فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله , إن ابتعت هذا العذق فأعطيت اليتيم ألي مثله في الجنة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فانطلق الأنصاري وهو ابن الدحداحة حتى أتى أبا لبابة فقال: يا أبا لبابة , أبتاع منك هذا العذق بحديقتي , وكانت له حديقة نخل , فقال أبو لبابة: نعم. فابتاعه منه بحديقة , فلم يلبث ابن الدحداحة إلا يسيرًا حتى جاء كفار قريش يوم أحد , فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقاتلهم , فقتل شهيدًا , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رب عذق مذلل لابن الدحداحة في الجنة)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1254 قلت: ولا تنافي بين القصتين , فقد كان تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية سمرة تصرفًا بحق الإمامة , وسيأتي بعد قليل بيان بالظروف التي يكون فيها للإمام التصرف بحق الإمامة , وكان تصرفه صلى الله عليه وسلم في قضية أبي لبابة تصرفًا بمقتضى النبوة , فقد قضى بحق الإمامة لأبي لبابة بالعذق , فلما تأذى منه اليتيم , لم ير أن يقضي له بحق الإمامة ما يدفع عنه الأذى ليس إصرارًا على حكمه الأول , ولكن - حسب ما يدل مصير القضية ومن كان الحل على يديه - لوحي أو مكاشفة من الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بما سيصير إليه أمر القضية , أو لأنه صلى الله عليه وسلم ما زال يأمل في أبي لبابة أن يرجع عن إصراره , لذلك أمهله مليا , ولعله رآه في حالة نفسية متشنجة , فاستأنى به لعله يراجع أمره بعد أن يهدأ. ويشهد لهذا الاحتمال ما جاء في أول القصة في الرواية الثانية للبيهقي: من أن أبا لبابة خاصم يتيما له , ولعل اليتيم كان في حجره أو من قرابته , وأبو لبابة ليس من عامة الصحابة , بل من صفوتهم , فلا يبعد أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرج أو أشفق من أن يصدمه بما يكره , فاستأنى به على أمل أن يفيء إلى الخير , ومهما يكن فإن قصة "العذق " لا تعارض قصة "العضد " كما حاول البيهقي أن يوهم، وقد قالوا في قصة "العضد": إن أبا جعفر بن محمد عليه السلام لم يسمع من سمرة , وهذا قريب الاحتمال، فقد توفي سمرة - رضي الله عنه - وما يزال أبو جعفر طفلًا أو في بداية اليفاعة من سنيه , وقريب جدًا أن لا يكون سمع منه , فيكون الحديث مرسلًا , ولكن بأي مرسل إذا لم نعمل بمراسيل أبي جعفر وأمثاله من أئمة التابعين وأفاضلهم , لا سيما أهل البيت؟! وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحكام ما يشبه قضية سمرة أو يقرب منها , من ذلك ما رواه البخاري وغيره من قصة الزبير مع رجل من الأنصار , ولفظه من البخاري (1) :   (1) ج: 3. ص: 76 , وانظر أبو داود السنن. ج: 3. ص: 315. ح: 3637. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1255 "حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، حدثني ابن شهاب , عن عروة , عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - أنه حدثه , أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلى الله عليه وسلم في شراج (1) الحرة التي يسقون بها النخل , فقال الأنصاري: سرح الماء يمر. فأبى عليه , فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: اسق يا زبير , ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصاري , فقال: أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم , ثم قال: اسق يا زبير , ثم احبس الماء حتى ترجع إلى الجدر. فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (2) . وعلى هذا النسق - وربما استلهامًا لقصة الزبير أو استنادا إليها - جرى عمر رضي الله عنه في حكم مماثل , روى البيهقي وغيره واللفظ للبيهقي , قال (3) : "أخبرنا أبو زكرياء، حدثنا أبو العباس، أنبأ الربيع، أنبأ الشافعي، أنبأ مالك , عن عمرو بن يحيى المازني , عن أبيه , أن الضحاك بن خليفة ساق خليجا له من العريض (4) فأراد أن يمره في أرض لمحمد بن مسلمة محمد بن مسلمة رمز له ابن حجر في (تهذب التهذيب. ج: 9. ص: 454 و455. ترجمة: 737) بأنه روى عنه الجماعة , وترجم له بأنه محمد بن مسلمة بن سلمة بن حريش الخزرجي الأنصاري الحارثي أبو عبد الله , ويقال: أبو عبد الرحمن وأبو سعيد المدني , روى عن النبي صلى الله عليه وسلم , وعنه ابنه محمود والمسور بن مخرمة وسهل بن أبي سلمة وأبو بردة بن أبي موسى وقبيصة بن ذؤيب والأعرج وضبيعة بن حصين وعروة بن الزبير وغيرهم.   (1) الشراج بكسر الشين جمع شرجة , وهي مسيل الماء (2) الآية: (65) سورة النساء. (3) السنن الكبرى. ج: 6. ص: 157. (4) عريض بتصغير عرض بفتح العين أو ضمها واد بالمدينة , ذكر في المغازي: "خرج أبو سفيان من مكة حتى بلغ العريض , ثم انطلق هو وأصحابه هاربين إلى مكة , وقد ورد ذكره في الشعر الجاهلي أيضًا , انظر ياقوت: معجم البلدان: 4. ص: 114. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1256 ونقل عن ابن عبد البر قوله: كان من أفضل الصحابة وهو أحد الثلاثة الذين قتلوا كعب بن الأشرف , استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته على المدينة , ولم يشهد الجمل ولا صفين , ونقل عن ابن سعد قوله: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح , وعن البرقي قوله: توفي سنة اثنتين وأربعين , وعن المدائني وجماعة مات سنة ثلاث وهو ابن سبع وسبعين سنة , وقيل: سنة ست , وقيل: سنة سبع وأربعين. قال ابن حجر: وروى يعقوب بن سفيان في تاريخه أن شاميًا من أهل الأردن دخل عليه داره فقتله , وقال ابن شاهين عن ابن أبي داود: قتله أهل الشام , ولم يعين السنة , لكونه اعتزل عن معاوية في حروبه رضي الله عنه وأرضاه. فأبى محمد , فكلم فيه الضحاك (1) عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فدعا محمد بن مسلمة , فأمره أن يخلي سبيله , فقال محمد بن مسلمة: لا. فقال عمر رضي الله عنه: لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافعًا , تشرب به أولًا وآخرًا , ولا يضرك؟ فقال محمد: لا. فقال عمر رضي الله عنه: لم تمنع؟ والله ليمرن به ولو على بطنك. وتعقبه البيهقي بقوله: هذا حديث مرسل , وبمعناه رواه أيضًا يحيى بن سعيد الأنصاري , وهو أيضًا مرسل , وقد روي في معناه حديث مرفوع. قلت: لا يضيره الإرسال , فكل من يحيى بن عمارة بن أبي حسن الأنصاري المدني "من الثالثة "، وابنه عمرو من السادسة , ويحيى بن سعيد , سواء كان الأشدق "من الثالثة " أو القطان من كبار التاسعة , ثقات , روى عنهم الستة , فلا يغمز عندنا الإرسال فيما يرسل هؤلاء وأئمتهم الكبار. وسنسوق مزيدًا من الأمثلة المتسقة مع هذه حين نعرض لما خوله الله الإنسان من اختصاص التصرف في المتنقل من المال.   (1) رمز له ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج: 4. ص: 444. ترجمة: 773) : بأنه روى عنه الأربعة , وقال عنه: الضحاك بن سفيان الكلابي أبو سعيد له صحبة , كان ينزل نجدا , ويقال: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة بعثه على بني كلاب لجمع صدقاتهم , وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب إليه أن يورث أشيم الضبابي من دية زوجها , وروى عنه سعيد بن المسيب , وليس له في الكتب غيره , وروى الحسن البصري عنهم حديثا آخر. ثم قال ابن حجر: نسبه ابن السكن وغيره: الضحاك بن سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1257 ونعتقد أنه قد وضح بما يزيل كل اشتباه والتباس ما توخيناه من إثبات الطبيعة الحقيقية لعلاقة الإنسان بما خوله الله من اختصاص التصرف فيما صار إليه بالطرق المشروعة من المال الثابت والمتنقل وطبيعة العلاقة بين تخويله "اختصاص التصرف" وبين استخلافه بذلك التخويل في تصريف ما خول إليه تصريفًا يلتزم بأمرين؛ العمل على زيادة إعمار الأرض أو - بالتعبير الحديث - التطور الحضاري , ورعاية المصلحة العامة باعتبارها المهيمنة وحدها على كل تصرف وتصريف فيما استخلف فيه , وباعتبار المصالح الخاصة لاغية وباطلة إذا تعارضت مع المصلحة العامة؛ لأنها تستحيل عندئذ مفاسد لا ينحصر ضررها وفسادها في المجال العام وحده , وإنما يصيب أول ما يصيب من يتوهم أنها مصالح خاصة له بتأثير النظرة المحدودة واللبس الحاصل من تصورها بمنظور الأنانية الضيقة. ولا مراء في أن الشريعة الإسلامية اعترفت بالمصالح الفردية وشرعت لها ما يعصمها عند كل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي أو الإنساني من عدوان وتجاوز الآخرين , بيد أنها حددت هذه الشرعية وما يترتب عنها من عصمة وصيانة بأن لا تكون هي أيضًا أداة تجاوز وعدوان منه على غيره من أفراد المجتمع أو على كيان المجتمع نفسه , فإذا تجاوزت هذه الحدود انتفت الشرعية؛ لأن المصالح العامة هي معيار كل اعتبار , والمهيمنة على كل تصرف وتصريف وتشريع. إنها بذاتها قاعدة تشريع ومعيار تشريع؛ لأنها المناط الضابط والمتحكم لمقاصد وغايات كل تشريع. ونرى أن من أبرز ما يعكس تصرفات السلف طبقًا لهذه القاعدة ما فعله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين عمد إلى توسيع كل من المسجد الحرام والمسجد النبوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1258 قال الأزرقي (1) : أخبرني جدي - يعني أحمد بن محمد بن الوليد - قال: أخبرنا مسلم بن خالد , عن ابن جريج , قال: كان المسجد الحرام ليس عليه جدارات محاطة , إنما كانت الدور محدقة به من كل جانب , غير أن بين الدور أبوابًا , يدخل منها الناس من كل نواحيه , فضاق على الناس , فاشترى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - دورًا , فهدمها وهدم على من قرب من المسجد , وأبى بعضهم أن يأخذ الثمن , وتمنع من البيع , فوضعت أثمانها في خزانة الكعبة , حتى أخذوها بعد، ثم أحاط عليه جدارًا قصيرًا , وقال عمر: إنما نزلتم على الكعبة , فهو فناؤها , ولم تنزل الكعبة عليكم. ثم كثر الناس في زمن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فوسع المسجد , واشترى من قوم , وأبى آخرون أن يبيعوا , فهدم عليهم , فصيحوا به , فدعاهم , فقال: إنما جرأكم علي حلمي عنكم , فقد فعل بكم عمر هذا فلم يصح به أحد , فاحتديت على مثله فصيحتم بي , ثم أمر بهم إلى الحبس , كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فتركهم. وقال الطبري (2) : "وفي هذه السنة - أعنى سنة سبع عشرة - اعتمر عمر , وبنى المسجد الحرام فيما زعم الواقدي , ووسع فيه , وأقام بمكة عشرين ليلة , وهدم على أقوام أبوا أن يبيعوا , ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها ". وقال (3) : "وقال الواقدي: فيها زاد عثمان في المسجد ووسعه , وابتاع من قوم وأبى آخرون , فهدم عليهم , ووضع الأثمان في بيت المال , فصيحوا بعثمان , فأمر بهم بالحبس , وقال: أتدرون ما جرأكم علي , ما جرأكم علي إلا حلمي , قد فعل هذا بكم عمر , فلم تصيحوا به , ثم كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فأخرجوا ".   (1) أخبار مكة. ج: 2. ص: 65 و66. (2) تاريخ الطبري. ج: 4. ص: 68 و69. (3) تاريخ الطبري. ج: 4. ص: 251. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1259 وقال الحاكم (1) : "أخبرنا أبو جعفر بن محمد بن عبد الله البغدادي , حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن سليمان بن إبراهيم الإسكندراني بمصر، حدثنا أبو يحيى الضرير زيد بن الحسن البصري , حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم , عن أبيه , عن جده , عن عمر بن الخطاب أنه قال للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((زد في المسجد)) ودارك قريبة من المسجد , فأعطيناها , نزدها في المسجد , وأقطع لك أوسع منها , قال: لا أفعل. قال: إذن أغلبك عليها. قال: ليس ذاك لك , فاجعل بيني وبينك من يقضي بالحق. قال: ومن هو؟ قال: حذيفة بن اليمان. قال: فجاؤوا إلى حذيفة , فقصوا عليه , قال حذيفة: عندي في هذا خبر , قال: وما ذاك؟ قال: إن داود النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يزيد في بيت المقدس , وقد كان بيت قريب من المسجد ليتيم , فطلب إليه فأبى , فأراد داود أن يأخذها منه , فأوحى الله عز وجل إليه أن نزه البيوت عن الظلم لبيتي. قال: فتركه , فقال العباس: فبقي شيء؟ قال: لا. قال: فدخل المسجد , فإذا بميزاب للعباس شارع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسيل ماء المطر منه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال عمر بيده , فقلع الميزاب , فقال: هذا الميزاب لا يسيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال العباس: والذي بعث محمدًا بالحق , إنه هو الذي وضع الميزاب في هذا المكان , ونزعته أنت يا عمر؟ فقال عمر: ضع رجليك على عاتقي لترده إلى ما كان هذا. ففعل ذلك العباس , ثم قال العباس: قد أعطيتك الدار تزيدها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فزادها عمر في المسجد , ثم قطع العباس دارًا أوسع منها بالزوراء. وتعقبه بقوله: هذا حديث كتبناه عن أبي جعفر وأبي علي الحافظ عليه , ولم يكتبه إلا بهذا الإسناد , والشيخان - رضي الله عنهما - لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ". قلت: وأغفله الذهبي , فلم يدرجه في التلخيص.   (1) المستدرك. ج: 3. ص: 331. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1260 وقال ابن سعد (1) : "أخبرنا يزيد بن هارون , قال: أخبرنا أبو أمية بن يعلى , عن سالم أبي النضر , قال: لما كثر المسلمون في عهد عمر , ضاق بهم المسجد , فاشترى عمر ما حول المسجد من الدور , إلا دار العباس بن عبد المطلب وحجر أمهات المؤمنين , فقال عمر للعباس: يا أبا الفضل , إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم , وقد ابتعت ما حوله من المنازل توسع به على المسلمين في مسجدهم إلا دارك وحجر أمهات المؤمنين , أما حجر أمهات المؤمنين , فلا سبيل إليها , وأما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين أوسع بها في مسجدهم. فقال العباس: ما كنت لأفعل. فقال عمر: اختر إحدى ثلاث؛ إما أن تبيعها بما شئت من بيت مال المسلمين , وإما أن أخططك (2) حيث شئت من المدينة وأبنيها لك من بيت مال المسلمين , وإما أن تتصدق بها على المسلمين , فتوسع بها في مسجدهم. فقال: لا , ولا واحدة منها. فقال عمر: اجعل بيني وبينك من شئت فقال: أبي بن كعب. فانطلقا إلى أبي , فقصا عليه القصة , فقال أبي: إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقالا: حدثنا. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله أوحى إلى داود أن ابْنِ لي بيتًا أذكر فيه. فخط له هذه الخطة , خطة بيت المقدس , فإذا تربيعها بيت رجل من بني إسرائيل , فسأله داود أن يبيعه إياه , فأبي , فحدث داود بنفسه أن يأخذ منه , فأوحى الله إليه أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتًا أذكر فيه , فأردت أن تدخل في بيتي الغصب , وليس من شأني الغصب , وإن عقوبتك أن لا تبنيه. قال: يا رب , فمن ولدي. قال: من ولدك)) . قال: فأخذ عمر بمجامع ثياب أبي بن كعب , وقال: جئتك بشيء , فجئت بما هو أشد منه لتخرجن مما قلت فجاء يقوده حتى أدخله المسجد , فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فيهم أبو ذر , فقال: إني نشدت الله رجلا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر حديث بيت المقدس حيث أمر الله داود أن يبنيه إلا ذكره. فقال أبو ذر: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال آخر: أنا سمعته. وقال آخر: أنا سمعته - يعنى من رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: فأرسل عمر أبيا , قال: وأقبل أبي على عمر , فقال: يا عمر , أتتهمني على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: يا أبا المنذر , لا والله ما اتهمتك عليه , ولكني كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا. قال: وقال عمر للعباس: اذهب فلا أعرض لك في ذلك. فقال العباس: أما إن فعلت هذا , فإني قد تصدقت بها على المسلمين أوسع عليهم بها في مسجدهم , فأما وأنت تخاصمني , فلا. قال: فخط عمر لهم دارهم التي هي لهم اليوم , وبناها من بيت مال المسلمين.   (1) الطبقات ج:4 ص: 21 وما بعدها (2) لعل الصواب: أن أخطط لك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1261 قال: أخبرنا سليمان بن حرب وعارم بن الفضل , قالا: حدثنا حماد بن سلمة , عن علي بن زيد , عن يوسف بن مهران , عن ابن عباس قال: كانت للعباس بن عبد المطلب دار إلى جنب المسجد بالمدينة , فقال عمر: هبها لي أو بعنيها , حتى أدخلها في المسجد , فأبى. قال: فاجعل بينى وبينك رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم , فجعلا أبي بن كعب بينهما , قال: فقضى أبي على عمر. قال: فقال عمر: ما في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أجرأ علي من أبي , قال: أو أنصح لك يا أمير المؤمنين؟ أما علمت قصة المرأة , أن داود لما بنى بيت المقدس , أدخل فيه بيت امرأة بغير إذنها , فلما بلغ حجر الرجال منع بناءه , فقال: أي رب , إذ منعتني ففي عقبي من بعدي. فلما كان بعد , قال له العباس: أليس قد قضيت لي؟ قال: بلى. قال: فهي لك قد جعلتها لله. وقال السيوطي في الدر المنثور الدر المنثور. ج: 4. ص: 160. قال البخاري (الصحيح. ج: 2. ص: 15 و16) : حدثنا عمرو بن علي , قال: حدثنا أبو قتيبة , قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار , عن أبيه قال: سمعت ابن عمر يتمثل بشعر أبي طالب: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل وقال عمر بن حمزة: حدثنا سالم , عن أبيه , ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي , فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1262 وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل وهو قول أبي طالب. حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري , قال: حدثني أبي عبد الله بن المثنى , عن ثمامة بن عبد الله بن أنس , عن أنس , أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب , فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا , وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون. وقال (الصحيح. ج: 4. ص: 209) : حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثني أبي عبد الله بن المثنى , عن ثمامة بن عبد الله بن أنس , عن أنس رضي الله عنه , أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب , فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا , وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون. وقال ابن سعد (الطبقات. ج: 4. ص: 28 و29) : أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري , قال: حدثني أبي , عن ثمامة بن عبد الله , عن أنس بن مالك , أنهم كانوا إذا قحطوا على عهد عمر خرج بالعباس فاستسقى به , وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا عليه السلام إذا قحطنا , فتسقينا , وإنما نتوسل إليك بعم نبينا عليه السلام , فاسقنا. أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء , قال: حدثنا عمرو بن أبي المقدام , عن يحيى بن مقلة , عن أبيه , عن موسى بن عمر , قال: أصاب الناس قحط , فخرج عمر بن الخطاب يستسقي , فأخذ بيد العباس , فاستقبل به القبلة , فقال: هذا عم نبيك عليه السلام جئنا نتوسل به إليك , فاسقنا. قال: فما رجعوا حتى سقوا. أخبرنا محمد بن عمر , قال: حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن حاطب , عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب , عن أبيه قال: رأيت عمر آخذًا بيد العباس , فقام به , فقال: إنا نستشفع بعم رسولك صلى الله عليه وسلم إليك. .- بعد أن نقل عن ابن سعد الروايتين السابقتين لحديث عمر مع العباس -: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1263 وأخرج عبد الرزاق في المصنف , عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يأخذ دار العباس بن عبد المطلب , يزيد بها في المسجد , فأبى العباس رضي الله عنه أن يعطيها إياه , فقال عمر رضي الله عنه: لآخذنها. قال: اجعل بيني وبينك أبي بن كعب , قال: نعم , فأتيا أبيا , فذكرا له، فقال أبي رضي الله عنه: أوحى الله إلى سليمان بن داود عليه السلام أن يبني بيت المقدس , وكانت أرضًا لرجل , فاشترى منه الأرض , فلما أعطاه الثمن , قال: الذي أعطيتني خير أم الذي أخذت مني؟ قال: بل الذي أخذت منك , قال: فإني لا أجيز. ثم اشتراها منه بشيء أكثر من ذلك , فصنع الرجل مثل ذلك مرتين أو ثلاثًا , فاشترط عليه سليمان عليه السلام أني أبتاعها منك على حكمك , , ولا تسألني أيهما خير. قال: نعم. فاشتراها بحكمه , فاحتكم اثني عشر ألف قنطار ذهبًا , فتعاظم ذلك سليمان أن يعطيه , فأوحى الله إليه إن كنت تعطيه من شيء هو لك , فأنت أعلم , وإن كنت تعطيه من رزقنا فأعطه حتى يرضى. قال: ففعل. قال: وإني أرى أن عباسًا رضي الله عنه أحق بداره حتى يرضيه. قال العباس رضي الله عنه: فإن قضيت , فإني أجعلها صدقة على المسلمين. وأخرج عبد الرزاق , عن زيد بن أسلم , قال: كان للعباس بن عبد المطلب دار إلى جنب مسجد المدينة , فقال عمر رضي الله عنه: بعنيها , وأراد عمر أن يدخلها في المسجد , فأبى العباس أن يبيعها إياه , فقال عمر رضي الله عنه: فهبها لي. فأبى , فقال عمر: فوسعها أنت في المسجد. فأبى , فقال عمر: لا بد لك من إحداهن , فأبى عليه , قال: فخذ بيني وبينك رجلًا. فأخذا أبي بن كعب , واختصما إليه , فقال أبي لعمر: ما أرى أن تخرجه من داره حتى ترضيه. فقال عمر: أرأيت قضاءك هذا في كتاب الله أم سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبي: بل سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: وما ذاك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس , جعل كلما بنى حائطًا أصبح منهدما , فأوحى الله إليه أن في حق رجل حتى ترضيه. فتركه عمر رضي الله عنه , فوسعها العباس رضي الله عنه بعد ذلك في المسجد")) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1264 قلت: حاول البعض أن يستظهر بحديث عمر والعباس هذا , لما ذهب إليه من عدم جواز الملك للمصلحة العامة , وأنه ولا بد من استرضاء المالك , فإن لم يرض , فلا سبيل إلى أحد أيا كان إلى ما يملك , وإن تعينت المصلحة العامة واستحال إنجازها بغير الحصول على ملك ذلك المتعنت , وهو استدلال خاطئ من وجوه: أحدها: أن عمر قال للعباس في رواية الحاكم حين أبى أن يبيعها أو يتصدق بها أو يعارض عليها: إذن أغلبك عليها. وقال له في إحدى الروايات التي نقلها السيوطي عن عبد الرزاق: لآخذنها. قال: فاجعل بيني وبينك أبي بن كعب. الحديث. وفي رواية أخرى نقلها السيوطي عن عبد الرزاق لم ترد كلمة "لآخذنها"، أو "إذن أغلبك عليها"، أو ما في معناهما , وإنما وردت كلمة لا بد لك من إحداهن أي: البيع أو المعارضة أو الصدقة , ووردت على لسان العباس كلمة "خذ بيني وبينك رجلًا ". وفي هذه الرواية أن عمر هو الذي أخذ أبي بن كعب , وسنعود بعد قليل إلى هذا الاضطراب، أما الذي يعنينا الآن , فهو أن "التحكيم " جاء حسب ثلاث من هذه الروايات بعد إنذار أو ما يشبهه من عمر للعباس رضي الله عنهما بانتزاع ملكية الدار استجابة للمصلحة العامة التي تعينت بالضرورة لحاجة المسلمين , وقد كثروا إلى توسيع المسجد النبوي , وأن التحكيم كان نتيجة للتراضي بينهما , وهذا يعنى أن عمر لم يتزحزح عن مبدأ حق الإمام في انتزاع الملك للمصلحة العامة أو للضرورة , وإن رضي قبل تطبيقه بالتحكيم ما زال عند حكم الحكم احترامًا للحكم أو للعباس أو لهما معًا وللصحابة الذين شهدوا بصحة رواية أبي , أو على أمل أن يتراجع العباس عن تصلبه إذ أدرك عمر - من قبوله أو اقتراحه التحكيم أن تصلبه ذاك إنما كان مصدره إباء العباس من أن يفرض عليه أمر , وإصراره على أن لا يتأمر عليه أحد وعلى أن تكون له الكلمة العليا فيما يتصل بشؤونه الخاصة أو ما يراه متصلًا بشؤونه الخاصة، ولكي ندرك وجاهة هذا الاحتمال ينبغي أن نستحضر ما رواه أصحاب السنن من توسل عمر بالعباس في "الاستسقاء " (1) بعد لحاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى باعتباره عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيط به العباس من إجلال وتبجيل حتى لقد احتمل زكاته وجعلها في ذمته (2) عندما أخبروه بامتناع العباس من إخراجها مما هو مبسوط في كتب السنة والمناقب بطرق لا سبيل إلى الغمز فيها , وما كان مثل هذا التبجيل ليخفى على عمر , وما كان ليغفل عنه , وهو يواجه الخلاف بينه وبين العباس على إضافة دار العباس إلى المسجد النبوي، ثم إن العباس كان رجلًا مهيبًا (3) قوي الاعتداد بنفسه , لا يكاد يقبل أن ترد له كلمة , ولا يكاد أحد يجرؤ على أن يردها له , وذلك مستفيض في أبواب المناقب من مدونات السنن وفضلًا عن ذلك كله , فقد درج أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على ملاطفة بني هاشم ملاطفة استثنائية - والعباس عميدهم لسنه - راعيا لما هجس في خواطر بعضهم - ربما في خواطرهم جميعًا - من خروج الخلافة منهم , وكانوا يأملون فيها؛ لأنهم أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طالبوه به غفلة منهم عن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)) قال البخاري (ج: 4. ص: 209 و210) : حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب , عن الزهري قال: حدثني عروة بن الزبير , عن عاثشة رضي الله عنها , أن فاطمة عليها السلام أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم تطلب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم التي بالمدينة وفدك , وما بقي من خمس خيبر , فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا نورث ما تركنا فهو صدقة)) إنما يأكل آل محمد من هذا المال - يعنى مال الله - ليس لهم أن يزيدوا على المأكل , وإني والله لا أغير شيئًا من صدقات النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم , ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشهد علي , ثم قال: إنا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك , وذكر قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم , فتكلم فقال: والذي نفسي بيده , لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي. أخبرني عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا خالد , حدثنا شعبة , عن واقد قال: سمعت أبي يحدث , عن ابن عمر , عن أبي بكر رضي الله عنهم قال: ارقبوا محمدا في أهل بيته. ورواه من هذه الطريق , ومن أخرى غيره من أصحاب السنن والمؤرخين , والحديث أشهر من أن نفيض في تخريجه   (1) سيأتي بيانه بعد قليل. (2) سيأتي بيانه بعد قليل (3) قال الذهبي (سير أعلام النبلاء ج: 2. ص: 79. ترجمة: 11) : قال الكلبي: كان العباس شريفًا مهيبًا عاقلًا جميلًا أبيض بضًا , له ضفيرتان معتدل القامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1265 ثم إن عمر ما كان ليخفى عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقالة عثرات ذوي الهيئات قال أبو داود (السنن. ج: 4. ص: 133. ح: 4375) : حدثنا جعفر بن مسافر ومحمد بن سليمان الأنباري , قالا: أخبرنا ابن أبي فديك , عن عبد الملك بن زيد - نسبه جعفر إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - عن محمد بن أبي بكر , عن عمرة , عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم , إلا الحدود)) . وذكر المزي (تحفة الأشراف. ج: 12. ص: 413. ح: 17912) أن النسائي أخرجه في السنن الكبرى: حديث: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)) . زاد ابن أبي فديك: ((إلا الحدود)) . (في الحدود 3:4) عن جعفر بن مسافر والأنباري , كلاهما عن ابن أبي فديك , عن عبد الملك بن زيد - نسبه جعفر إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - عن محمد بن أبي بكر به. س في الرجم (الكبرى 22: 1) عن إبراهيم بن يعقوب , عن سعيد بن أبي مريم , عن عطاف بن خالد , قال: أخبرني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر , عن أبيه به. روي عن محمد بن أبي بكر , عن أبيه , عن عمرة. وسيأتي. وقال (تحفة الأشراف. ج: 12 ص: 431. ح: 17956) فقال على التوالي: حديث: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)) . س في الرجم (الكبرى 32: 5) عن إبراهيم بن يعقوب , عن عبد الله بن يوسف , عن عبد الرحمن بن أبي الرجال , عن ابن أبي ذئب , عن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب , عن ابن حزم به. عن عبد الملك بن زيد المدني , عن محمد بن أبي بكر بن حزم , عن أبيه , وزاد: ((إلا الحدود)) و (23: 6) عن يونس بن عبد الأعلى , عن معن بن عيسى , عن ابن أبي ذئب , عن عبد العزيز بن عبد الله , عن أبي بكر بن حزم به. ولم يذكر عائشة. و (32: 4) عن هلال بن العلاء , عن عبد الله بن قعنب , عن ابن أبي ذئب , عن عبد العزيز بن عبد الملك , عن محمد بن أبي بكر , عن أبيه به. مرسل. و (3:32) عن محمد بن حاتم , عن سويد بن نصر , عن عبد الله بن المبارك , عن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر , عن محمد بن أبي بكر , عن أبيه , عن عمرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((تجاوزوا عن زلة ذي الهيئة)) . وهو عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب , روى عن محمد بن أبي بكر بن حزم , عن عمرة , عن عائشة. وقد مضى - ح (17912) , ورواه أبو عروبة الحراني , عن إبراهيم بن أبي الوزير , عن أبي بكر بن نافع المدني , عن محمد بن عمارة , عن عمرة , عن عائشة , عن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1266 وأخرجه البيهقي (السنن. ج: 8. ص: 267) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو طاهر الفقيه وأبو العباس أحمد بن محمد الشاذياخي في آخرين , قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، أنبأنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، حدثني عبد الملك بن زيد , عن محمد بن أبي بكر بن حزم , عن أبيه , عن عمرة بنت عبد الرحمن , عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم , إلا حدا من حدود الله)) . وقال (السنن. ص: 334) على التوالي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن بالويه المزكي , قالا: حدثنا الإمام أبو الوليد حسان بن محمد القرشي , حدثنا جعفر بن محمد بن الحسين، حدثنا يحيى بن أبي يحيى , أنبأ أبو بكر بن نافع المديني , عن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم , قال: قالت عمرة: قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم)) . أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمد بن إبراهيم المهراني المزكي وأبو العباس أحمد بن محمد الشاذياخي وغيرهما , قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا محمد بن إسماعيل , عن ابن أبي فديك , حدثنا عبد الملك بن زيد , عن محمد بن أبي بكر بن حزم , عن أبيه , عن عمرة بنت عبد الرحمن , عن عاثشة أنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم , إلا حدًا من حدود الله)) وكذلك رواه دحيم وأبو الطاهر بن السرح , عن ابن أبي فديك. ورواه جماعة عن ابن أبي فديك دون ذكر أبيه فيه , فالله أعلم. والعباس في الصدارة من ذوي الهيئات بلا مراء. من أجل ذلك كله نرى أن عدول عمر عن المصادرة إلى التحكيم ثم قبوله بالحكم إنما ينهض دليلًا لنا وليس علينا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1267 فالمصادرة كانت هي الأساس لرأي عمر وموقفه والعدول عنها كان استثناء، ونعتقد أن العباس رضي الله عنه - إذا صحت الروايات التي نقلناها آنفًا - كان مدركًا لذلك , وكان عازمًا من أول الأمر على النتيجة التي انتهى إليها آخره , وهي أن يتصدق بداره على المسلمين، بيد أنه أراد أن يثبت لعمر أنه وإن يكن خليفة للمسلمين لا سبيل له إليه , وربما ولا إلى غيره من بنى هاشم ما دام حيًا , ثم إن عمر أثار في نفس العباس ما حمله على التصلب لما ذكر له أن حجر أمهات المؤمنين - وهي مثل دار العباس ملاصقة للمسجد - لا سبيل إليها , وما كان العباس في أنفته ومكانه المتميز عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرضى بأن يكون أدنى منزلة من أمهات المؤمنين في تقدير عمر ورعايته. الوجه الثاني: أن هذا الحديث مضطرب اضطرابًا شديدًا لفظًا وسندًا , فقد وصله الحاكم عن طريق زياد بن أسلم , لكن ما نقله السيوطي عن عبد الرزاق كان مرسلًا , سواء كان عن زيد بن أسلم نفسه , أو عن سعيد بن المسيب , وقد جهدت أن أعثر في مصنف عبد الرزاق على ما نقله عنه السيوطي , فلم أهتد إليه في مظانه من المصنف , وأخشى أن يكون السيوطي قد أغفل بعض رجال سند عبد الرزاق , وذلك اعتمادًا على بعض التصرف الذي يظهر أنه من السيوطي فيما نقله عن ابن سعد. ومهما يكن ففي الروايات المختلفة لهذا الأثر تغاير , يعسر تدارك بعضه , فبعضها ينص على أن عمر ترك إلى العباس أن يختار حكما , فاختار أبيا على حين ينص غيره على أن عمر اختار أبيا فقبله العباس , وتأتي رواية الحاكم الموصولة , فتذكر أن الحكم كان حذيفة بن اليمان , وليس أبيا , وإن احتفظت بما نقل على لسان أبي من حديث بناء بيت المقدس. ثم إن ما ذكرته هذه الروايات وغيرها مما نقل السيوطي عن الواسطي وابن مردويه بعد حديث عمر عن قصة بناء بيت المقدس شديد الاضطراب، فبعضها يتحدث عن بيت امرأة أراد داود أن يأخذها غصبًا , وبعضها الآخر يتحدث عن أرض أغلى صاحبها ثمنها , فأراد داود أن يأخذها غصبًا. وأخرى تتحدث عن أن سبب عدم بناء داود بيت المقدس وأرجائه إلى سليمان هو أن داود بنى لنفسه بيتًا قبل أن يأخذ في بناء بيت المقدس , فعاقبه الله بالحرمان من البناء، ثم إن بعضها يذكر أن داود أو سليمان شرع في البناء , وكلما بنى حائطًا وجده قد انهدم صباح اليوم الثاني؛ لأنه كان يبني في أرض يملكها مالك لم يستأمره في شأنها , فضلًا عن أن يتم الاتفاق معه على ثمنها. فليت شعري ما هو الاضطراب إن لم يكن هذا الذي أشرنا إلى بعض منه في هذا الحديث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1268 والثالث: أنه حتى لو لم يضطرب هذا الحديث على هذه الشاكلة , فإن في بعض من وصلوه عند الحاكم ينزل بسنده عن درجة الصحة على أيسر اعتبار , وفي روايتي ابن سعد وأستاذه الواقدي , وكفى به سببًا للنزول بالحديث عن مستوى درجة الصحة , فضلًا عن كلام في بعض رجاله أيضًا. وقد يقال: وإذن فما فائدة إيراده في هذا البحث , وجوابنا أن الفائدة من إيراده هي أولا تبيان عدم حجيته وخطأ الذين احتجوا به، وثانيًا: تبيان أنه حتى على فرض صحة الاحتجاج به يدل بفحواه على ما نذهب إليه من تحكيم المصلحة العامة فيما قد يتراءى مصلحة خاصة , وأن اعتبارها يعلو فوق كل اعتبار غيرها , وثالثًا: تبيان الجهة التي يكون لها الاختصاص بالأصالة في تقدير المصلحة العامة وتعيينها وتحديد ظروفها ومقتضياتها , وهي ما أطلق عليه الفقهاء والأصوليون (حق الإمامة) أو (حق الإمام) , وكان لهم فيه كلام طويل , وأحيانًا متغاير , بيد أنه لم يختلفوا في جوهره , وإنما انحصر اختلافهم في تطبيقه عامة , وفيما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يعتبره بعضهم تطبيقًا لهذا الحق , بينما يعتبره آخرون من الفتوى أو من التشريع , وليس هذا مجال مناقشتهم في اعتباراتهم التطبيقية هذه , إنما عرضنا لها لبيان أن (حق الإمامة) في جوهره ليس محل خلاف معتبر ولا التفاتة شذوذ بعض المتفقهة والأثر المروي عن قصة عمر مع العباس وتوسيع الحرم النبوي , نرجح أن له أساسًا , وأن ما ألمعنا إليه آنفًا من اضطراب أسانيده وبعض ألفاظه لا ينفي أن يكون له أساس , فلا مراء في أن عمر وسع المسجد النبوي , وأدخل فيه بيوتًا كانت حوله لما كثر المسلمون في المدينة كما فعل في الحرم المكي، ولا مراء في أن عثمان فعل ذلك في الحرمين معًا , وحاج بعض الناقمين عليه فيما آخذوه به من إجباره أرباب البيوت المجاورة للمسجدين على قبول التعويض عن بيوتهم وتركها بأنه لم يخرج عن سنة سنها عمر , وأنهم استضعفوه فنقموا عليه , وكانوا يرهبون عمر , فلم يستطيعوا أن ينقموا عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1269 وتصرف عمر مع العباس وعدوله عن إكراهه إلى التحكيم بينهما لا يختلف في جوهره حكما عن تصرفه مع غيره في مكة أو في المدينة مما اضطرهم اضطرارًا إلى التخلي عن بيوتهم لما تعينت المصلحة العامة في توسيع الحرمين الشريفين، ففي الموقفين تصرف بمقتضى (حق الإمامة) أو (حق الإمام) , ولا يوجد ما يلزم الإمام شرعًا بأن يكون تصرفه مع الناس على اختلاف مراتبهم ومواقعهم متماثلًا شكلًا. إنما الذي يلزم الإمام شرعًا أن يزن تصرفه معهم جميعًا متماثلًا في جوهره. أما أسلوب التصرف فموكول إلى اجتهاده ما من عاقل أو فقيه واع يستطيع أن يماري في ذلك. ونحسب أن تصرف عمر مع العباس تصرفًا قائما على اعتبار موقعه في المجتمع الإسلامي واحترامه لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس غريبًا عن حالة نفسية سابقة كانت بينه وبين العباس لا نعرف أول منشئها , ولكنا نعرف أنه كانت من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عهد إلى عمر بجباية الصدقة. قال أبو عبيد (1) : "حدثنا يزيد , عن حجاج بن أرطاة , عن الحكم بن عتبة , قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة , فأتى العباس يسأله صدقة ماله , فقال: قد عجلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة سنتين، فرفعه عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: صدق عمي , قد تعجلنا منه صدقة سنتين)) . قال أبو عبيد: كان هشيم يزيد في إسناد هذا الحديث عن منصور , عن الحكم , عن الحسن بن مسلم: حدثت بذلك عنه ولا أحفظه منه. وحدثونا عن إسماعيل بن زكريا , عن الحجاج بن دينار , عن الحكم بن حجية بن عدي , عن علي , عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك , أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقة سنتين. وقال ابن زنجويه (2) :   (1) الأموال. ص: 776 و777. ح: 1884 و1885. (2) الأموال. ج: 3. ص: 78. ج: 2207 و2208. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1270 حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا الحجاج , عن الحكم ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمر على الصدقة، فأتى العباس يسأله صدقة ماله , فقال: قد عجلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة سنتين. فتجهم له عمر , وأغلظ عليه , فرافعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: صدق يا عمر , قد تعجلنا منه صدقة سنتين)) . وأنبأ يحيى بن يحيى، أخبرنا هشيم , عن منصور , عن الحكم , عن الحسن بن مسلم قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة , فأتى على العباس يأخذ صدقة ماله، فتجهمه العباس , فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عمر، أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه؟ إنا تعجلنا صدقة العباس العام عام الأول)) . على أن هذا الحديث الذي رواه غيرهما أيضًا لم تخل أسانيده وألفاظه من كلام نؤثر - لتبيان رتبة الاحتجاج به وللمقارنة بينه وبين حديث آخر سندرجه بعد قليل - أن ننقل كلامًا جامعًا دقيقًا لابن حجر في تحقيقه قال (1) : "حديث علي: أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل , فرخص له. أحمد وأصحاب السنن والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث الحجاج بن دينار عن الحكم , عن حجية بن عدي , عن علي. ورواه الترمذي من رواية إسرائيل , عن الحكم , عن حجر العدوي , عن علي , وذكر الدارقطني الاختلاف فيه على الحكم , ورجح رواية منصور عن الحكم , عن الحسن بن مسلم بن يناق , عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا , وكذا رجحه أبو داود , قال الشافعي: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تسلف صدقة مال العباس قبل أن تحل , ولا أدري أثبت أم لا. قال البيهقي: وعنى بذلك هذا الحديث , ويعضده حديث أبي البختري , عن علي , أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنا كنا احتجنا فاستسلفنا العباس صدقة عامين)) رجاله ثقات , إلا أن فيه انقطاعًا , وفي بعض ألفاظه أن النبي قال لعمر: ((إنا كنا تعجلنا صدقة مال العباس عام أول)) رواه أبو داود الطيالسي.   (1) تلخيص الحبير. ج: 2. ص: 160. ح: 832 و833. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1271 ثم قال: "روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تسلف من العباس صدقة عامين، الطبراني والبزار من حديث ابن مسعود به , وزاد: في عام. وفي إسناده محمد بن ذكوان , وهو ضعيف , ورواه البزار وابن عدي والدارقطني من حديث الحسن بن عمارة , عن الحكم , عن موسى بن طلحة , عن أبيه نحوه. والحسن متروك , وقد خالف الناس عن الحكم فيه , كما تقدم في الحديث الماضي، ورواه الدارقطني أيضًا من حديث العرزمي ومندل بن علي , عن الحكم بن مقسم , عن ابن عباس في هذه القصة , وهما ضعيفان أيضًا , والصواب: عن الحكم , عن الحسن بن مسلم بن يناق مرسلًا , كما مضى. قلت: ورواه ابن أبي شيبة (1) وفيه انقطاع , قال: "حدثنا حفص بن غياث , عن حجاج , عن الحكم , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ساعيًا على الصدقة , فأتى العباس يتسلفه , فقال له العباس: إني أسلفت صدقة مالي سنتين. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم , فقال: صدق عمي. لكن ابن زنجويه في روايته السابقة وصله عن علي , ووصله الدارقطني في بعض رواياته عن ابن عباس , ولم نسق هذا الحديث لتحقيقه سندًا ومتنا , وكنا سنصرف عنه النظر لولا أنهم اعتمدوه في الاحتجاج على جواز تعجيل الزكاة قبل أوانها إذا وجد سبب وجودها , ولولا أنه لبس على البعض أمره مع حديث أهم منه , سندرجه بعد قليل. والذي يعنينا منه الجانب النفسي الذي عبرت عنه رواية ابن زنجويه عن حجاج عن الحكم إذ جاء فيها: "فتجهم له عمر , وأغلظ عليه. وروايته الأخرى من طريق منصور , عن الحكم , عن الحسن بن مسلم , وفيها: "فتجهمه العباس " وهذه تماثل أو تقرب من رواية للدارقطني (2) ولفظها:   (1) الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 148. (2) السنن. ج: 2. ص: 114. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1272 "حدثنا محمد بن أحمد بن عمرو بن عبد الخالق، حدثنا إبراهيم بن محمد بن نائلة الأصبهاني، حدثنا محمد بن المغيرة، حدثنا النعمان بن عبد السلام , عن محمد بن عبيد الله , عن الحكم , عن مقسم , عن ابن عباس قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر ساعيًا , قال: فأتى العباس يطلب صدقة ماله , قال: فأغلظ له العباس , فخرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره , قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العباس قد أسلفنا زكاة ماله العام والعام المقبل)) . حدثنا محمد بن مخلد ومحمد بن جعفر المطيري , قالا: أخبرنا أبو خراسان محمد بن أحمد بن السكن، حدثنا موسى بن داود، حدثنا مندل بن علي , عن عبيد الله , عن الحكم , وقال المطيري: عن عبيد الله بن عمر , عن الحكم , عن مقسم , عن ابن عباس , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمر على الصدقة , فرجع وهو يشكو العباس , فقال: إنه منعني صدقته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عمر أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه , إن العباس أسلفنا صدقة عامين في عام)) كذا قال: عن عبيد الله بن عمر , وإنما أراد: محمد بن عبيد الله. والله أعلم. حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا عبد الله بن محمد بن أبان، حدثنا أبو داود , عن شريك , عن إسماعيل , عن سليمان الأحول , عن أبي رافع , أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر ساعيًا , فكان بينه وبين العباس شيء , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه، إن العباس أسلفنا صدقة العام عام أول)) . فجميع هذه الروايات تثبت أن جوا من التوتر حدث بين عمر والعباس , وأغلبها تثبت أن التجهم والإغلاظ كان من العباس , وبعضها - وفيه تحريف فيما نرجح - يثبت أنه ما كان من عمر , والمهم أنهما كانا بين الرجلين , وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر العباس إن يكن هو المتجهم المغلظ , واعتذر لعمر أو عاتب عمر برفق إن يكن منه التجهم والإغلاظ , وبين له كيف ينبغي أن يعامل العباس , فهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم , والعم صنو الأب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1273 سيقول من يغلو في توقير الصحابة فيرفعهم نفسيا عن طبيعة البشر: إنه لا ينبغي اعتبار مثل هذه الحادثة مؤثرًا نفسيا. وجوابنا أن الصحابة رضوان الله عليهم صفوة البشر بعد الأنبياء , بيد أنهم من البشر على كل حال , ولا يبعد أن يعلق في أنفسهم بعض ما يعلق في أنفس عامة البشر من المواجد , وقد ألمعنا آنفًا إلى طبيعة العباس المتميزة بشدة الإباء والنخوة. وقد أثرنا من قبل إلى لبس وقع فيه بعض الفقهاء وشراح الحديث فيما يحققون هذه القصة ويستنبطون منها الحكم في تعجيل الصدقة , ومرده إلى ما نحسبه قصة أخرى - إذا ثبتت القصة الأولى - وهي أصح سندًا ومتنا , رواها كل من عبد الرزاق وأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والدارقطني والبيهقي , وهذه رواياتهم على التوالي: قال عبد الرزاق (1) : "عن ابن جريج , قال: حدثت حديثًا رفع إلى عبد الرحمن الأعرج , عن أبي هريرة , أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس في الصدقة , فأتي فقيل: يا رسول الله , هذا أبو جهم وخالد بن الوليد وعباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد منعوا الصدقة , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما ينقم منا أبو جهم إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ورسوله , وأما خالد بن الوليد , فقد حبس أدراعه وأعتده في سبيل الله , وأما عباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه ومثلها معها)) . وقال أحمد (2) : "حدثنا علي بن حفص، أخبرنا ورقاء , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة , فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما نقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله , وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا , فقد احتبس أدراعه في سبيل الله , وأما العباس فهو علي ومثلها. ثم قال: أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه)) .   (1) المصنف. ج: 4. ص: 44. ح: 6918. (2) الساعاتي الفتح الرباني. ج: 9. ص: 29. ح: 71. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1274 وقال البخاري (1) : "حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب , قال: حدثنا أبو الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة , فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ورسوله , وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله , وأما العباس بن عبد المطلب فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقة ومثلها معها)) تابعه ابن أبي الزناد عن أبيه , وقال ابن إسحاق , عن أبي الزناد: هي عليه ومثلها معها. وقال ابن جريج: حدثت عن الأعرج بمثله". وقال مسلم (2) : "حدثني زهير بن حرب، حدثنا علي بن حفص، حدثنا ورقاء , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة , فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله , وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا , قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله , وأما العباس فهي علي ومثلها معها. ثم قال: يا عمر , أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه)) . وقال أبو داود (3) : "حدثنا الحسن بن الصباح، حدثنا شبابة , عن ورقاء , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة قال: ((بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب على الصدقة , فمنع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله , وأما خالد بن الوليد فإنكم تظلمون خالدًا , فقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، وأما العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي علي ومثلها. ثم قال: أما شعرت أن عم الرجل صنو الأب أو صنو أبيه)) .   (1) الصحيح ج: 2. ص: 128. (2) على هامش شرح النووي. ج: 7 ص: 56. (3) السنن. ج: 2. ص: 115. ح: 1623 و1624. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1275 حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا إسماعيل بن زكريا , عن الحجاج بن دينار , عن الحكم , عن حجية , عن علي , أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل , فرخص له في ذلك. قال مرة: فأذن له في ذلك. قال أبو داود: روى هذا الحديث هشيم , عن منصور بن زاذان , عن الحكم , عن الحسن بن مسلم , عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث هشيم أصح. وقال النسائي (1) : "أخبرني عمران بن بكار , قال: حدثنا علي بن عياش , قال: حدثني شعيب , قال: حدثني أبو الزناد مما حدثه عبد الرحمن الأعرج مما ذكر أنه سمع أبا هريرة يحدث قال: وقال عمر: ((أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة , فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله , وأما خالد بن الوليد فإنكم تظلمون خالدًا , قد احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله , وأما العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقة , ومثلها معها)) . أخبرنا أحمد بن حفص , قال: حدثني أبي , قال: حدثني إبراهيم بن طهمان , عن موسى , قال: حدثنى أبو الزناد , عن عبد الرحمن , عن أبي هريرة قال: ((أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة ... )) مثله سواء. وقال الدارقطنى (2) : "حدثنا أحمد بن محمد بن زياد , قال: حدثنا عبد الكريم بن هيثم، حدثنا عبيد بن يعيش، حدثنا يوسف بن بكير , حدثنا ابن إسحاق , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة قال: ((أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة , فقيل له: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس بن عبد المطلب , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله , وأما خالد , فإنكم تظلمون خالدًا , وقد احتبس أدرعه وأعتده , وأما العباس فهي علي ومثلها معها هي له)) . وقال البيهقي (3) : "أخبرنا عبد الله الحافظ، حدثنا أحمد بن جعفر القطيعي , حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبي، حدثنا علي بن حفص، حدثنا ورقاء , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه على الصدقة , فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله , وأما خالد , فإنكم تظلمون خالدًا , قد احتبس أعتده وأدرعه في سبيل الله , وأما العباس فهي علي ومثلها معها. ثم قال: يا عمر , أما علمت أن عم الرجل صنو أبيها)) . ذلك بأن شراح الحديث وبعض الفقهاء اعتبروا القصتين قصة واحدة , ولهذا الاعتبار وجاهة، فبينهما تماثل في معظم الوقائع , وإن اختلفتا اختلافًا بينا في بعض وقائعهما , جعلنا نرجح أنهما قصتان إذا ثبتت القصة الأولى وبرئت من التحريف أو أنهما قصة واحدة وقع فيها تحريف عند بعض الرواة لاعتبارات سياسية , فبين رواة القصة الأولى من عرف بالتشيع وأغلبهم فيهم كلام.   (1) السنن. ج: 5. ص: 833. (2) السنن. ج: 2. ص: 123 (3) السنن الكبرى. ج: 4. ص: 111. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1276 وهذه القصة أو هذه الصيغة الثانية لقصة العباس مع عمر هي التي تعنينا بالأساس ليس لإثبات ما إذا كانت الواقعة تتصل بجباية , وهو الراجح عندنا , أو بجباية صدقة غير الزكاة , وهو ما يميل إليه البعض ممن ألمعنا إليهم آنفًا توقيرًا للصحابة , وخاصة من كان في مقام عمر والعباس وارتفاعًا بهم عن مستوى البشرية الصرفة وما يلابسها من مكامن وجدانية , وإنما لتبيان ما تدل عليه من تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى "حق الإمامة " أو "حق الإمام" تصرفًا دأب عمر على الاقتداء به في كثير من أحكامه وتعامله مع الأحداث دأبا حسبه بعض المتفقهة مجرد اجتهاد حتى زعم البعض أن عمر كان ربما عطل نصا قرآنيًا أو حديثًا باجتهاده , وهو زعم باطل , كان ينبغي أن يتنزه عنه من ينتسب إلى الدراسات الشرعية أو إلى دراسة آثار الخلفاء الراشدين ومن على شاكلتهم من أئمة الصحابة واستنباط الأحكام الشرعية منها استنباطًا مقصودًا لذاته أو مستهدفًا به نمط من التمييز لتطور الفكر التشريعي أو التوجيه الاجتماعي في العهد الأول من تاريخ الإسلام. وقبل أن نأخذ في تبيان قاعدة (حق الإمامة) أو (حق الإمام) انطلاقًا من هذه الواقعة ووقائع تشاكلها , نؤثر أن ننهي إيضاحنا لما في تصرف عمر من اعتبار المصلحة العامة بتأكيد أن قبوله التحكيم بينه وبين العباس واعتماده على حكمه هو باعتباره المرجع الأعلى للقضاء , إذ هو خليفة المسلمين في تصرفه مع غير العباس في قضايا مماثلة , كان كلاهما عملًا توخى فيه المصلحة العامة , بل حفزته إليه المصلحة العامة التي رآها تعلو على كل اعتبار وإن كان احترام حقوق وحرمة مال عم رسول الله صلى الله عليه وسلم , بل إن تصدق العباس بداره بعد التحكيم , فيه اعتراف ضمني باعتبار المصلحة العامة , وأنها تعلو عن كل اعتبار غيرها , فقد كان أيسر للعباس لما حكم الحكم - أبي أو حذيفة - لصالحه أن يحتفظ بجواره للمسجد النبوي , وأن لا يقبل عنه بديلًا , أما إذ رضي بأن ينتقل من منزل يجاور فيه ابن أخيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستطيع أن يسمع منه أذان المؤذن ثم يتوضأ ويلحق صلاة الجماعة إلى منزل يحرمه من هاتين المزيتين وغيرهما فما من شك في أن رضاه هذا كان استجابة لما أدركه من تعين المصلحة العامة , وأن امتناعه من قبل كان لمجرد إرضاء إبائه ونخوته وإقناع عمر بأن ليس له - خلقيا - سلطان على بني هاشم عامة وما فتئت في أنفسهم موجدة من خروج الخلافة من أيديهم , وعلى عم رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة , وإن يكن خليفة للمسلمين وخليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم , وله حق السمع والطاعة على الجميع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1277 16 - معالم قاعدة التصرف بحق الإمامة والتصرف بحق الإمامة قاعدة بعيدة الخطر بالغة الأثر متمادية التطور والتفرع مع تمادي الحضارة في التطور والتنوع وتباين المؤثرات الاجتماعية والسياسية في طبيعة مستجدات الأحداث مع كل طور من أطوارها وكل نوع من أنواعها , ومع ذلك فلم نقف فيما بين أيدينا من مصادر السلف ومراجع المتأخرين على بحث قائم بذاته يرسم بدقة وشمول معالم هذه القاعدة ومسارها والضوابط التي يجب أن تحكمها إلا ما كان من إلماعات وإلمامات عابرة عارضة في ثنايا أبحاث الأصوليين والفقهاء وروايات المحدثين وآثار النقلة مما لو جمع ونسق جمعًا وتنسيقًا منهجيين لأمكن أن يؤلف مرجعًا يصير إليه الباحث في اجتلاء ضوابط هذه القاعدة وما تفرع أو يمكن أن يتفرع عنها من أحكام. ولعل من أقرب ما قاله الأصوليون حول هذه القاعدة إلى تجلية بعض معالمها قول القرافي رحمه الله (1) : "اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم , فهو صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء، فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته , وهو أعظم من كل من تولى منصبًا منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة. فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة غير أن غالب تصرفه صلى الله عليه وسلم تبليغ؛ لأن وصف الرسالة غالب عليه. قلت: كان الأولى أن يقول: (غير أن كل تصرفه صلى الله عليه وسلم بالتبليغ) بدلًا من قوله: (غير أن غالب ... إلخ) ؛ لأن التصرفات الأخرى التي ذكرها غير التبليغ الصرف تتضمن معنى التبليغ على اعتبار أن التبليغ لا ينحصر معناه في الإلزام , وإنما يشمل كل جوانب بيان شرع الله , بما فيه الإباحة نفسها. فتأمل.   (1) الفروق ج: 1. ص: 205 وما بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1278 ثم قال: "ثم تقع تصرفاته صلى الله عليه وسلم منها ما يكون من التبليغ والفتوى إجماعًا , ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء , ومنها ما يجمع الناس على أنه بالإمامة , ومنها ما يختلف العلماء فيه لتردده بين رتبتين فصاعدًا , فمنهم من يغلب عليه رتبة , ومنهم من يغلب عليه أخرى، ثم تصرفاته صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة , فكل ما قاله أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكما عاما على الثقلين إلى يوم القيامة. فإن كان مأمورًا به أقدم عليه كل أحد بنفسه , وكذلك المباح وإن كان منهيًا عنه اجتنبه كل أحد بنفسه , وكل ما تصرف فيه عليه بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء به عليه السلام؛ ولأن سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك". قلت: أليس تصرفه بوصف الإمامة "تبليغًا " بوجوب أو إباحة ذلك التصرف وما شاكله مقيدًا بأن لا يصدر إلا من الإمام أو مخصصًا الحكم فيه للإمام , ولولا أنه تبليغ على هذه الصورة لكان من خصائصه صلى الله عليه وسلم وحده , ولا يجوز لأحد أن يقتدي به فيه وهو ما لم يقل به أحد , وما هو التبليغ إن لم يكن بيان شرع الله في تصرف ما , أو في أمر ما؟ بصرف النظر عما إذا كان عاما أو خاصًا أو مطلقًا أو مقيدًا أو مشروعًا لكل الظروف أو لظرف خاص. ثم قال: "وهذه هي الفروق بين القواعد الثلاث , ويتحقق ذلك بأربع مسائل: المسألة الأولى: بعث الجيوش لقتال الكفار والخوارج ومن تعين قتاله وصرف أموال بيت المال في جهاتها وجمعها من محالها وتولية القضاة والولاة العامة وقسمة الغنائم وعقد العهود للكفار ذمة وصلحًا، هذا هو شأن الخليفة والإمام الأعظم , فمتى فعل صلى الله عليه وسلم شيئًا من ذلك , علمنا أنه تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بطريق الإمامة دون غيرها , ومتى فصل صلى الله عليه وسلم بين اثنين في دعاوى الأموال أو أحكام الأبدان أو نحوها بالبينات أو الأيمان والنكولات ونحوها , فنعلم أنه صلى الله عليه وسلم إنما تصرف في ذلك بالقضاء دون الإمامة العامة وغيرها؛ لأن هذا شأن القضاء والقضاة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1279 قلت: وهل كان الإمام إلا قاضيا؟ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (1) ويقول الله سبحانه وتعالى مخاطبًا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إليك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (2) ، ويقول جل جلاله مخاطبًا له أيضًا ومبينًا الحد الفاصل بين المسلم وغيره في الموقف من أحكامه صلى الله عليه وسلم: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) ، ويقول جل من قائل: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) وهل كانت الإمامة في جوهرها بجميع مهامها إلا نمطًا من القضاء , وهل كان القضاء إلا مهمة تتعلق بالإمام نفسه , وله أن يكلها إلى غيره , ولكن ذمته لا تبرأ إن لم يستفرغ الجهد في اختيار من يكلها إليه , طبقًا لضوابط الأهلية للقضاء في الشريعة الإسلامية. ثم قال: "وكل ما تصرف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات بقوله أو بفعله أو أجاب به سؤال سائل عن أمر ديني , فأجابه فيه , فهذا تصرف بالفتوى والتبليغ , فهذه المواطن لا خفاء فيها , وأما مواضع الخفاء والتردد ففي بقية المسائل.   (1) الآية: (26) سورة ص. (2) الآية: (48) سورة المائدة. (3) الآية: (65) سورة النساء. (4) الآية: (51) سورة النور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1280 المسألة الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له)) الحديث بهذا اللفظ مرسل , رواه مالك في الموطأ , فقال (636. ح. 32) : حدثني يحيى , عن مالك , عن هشام بن عروة , عن أبيه , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له , وليس لعرق ظالم حق)) . قال مالك: والعرق الظالم كل ما احتفر أو أخذ أو غرس بغير حق. ورواه أبو عبيد بإسنادين , فقال (الأموال. ص: 403. ح: 701 و702) : حدثنى يحيى بن بكير , عن الليث بن سعد , عن عبيد الله بن أبي جعفر , عن أبي الأسود , عن عروة , عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحيا أرضًا ليست لأحد , فهو أحق بها)) قال: قال عروة: وقضى بذلك عمر بن الخطاب في خلافته. وحدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي وأبو معاوية , كلاهما عن هشام بن عروة , عن أبيه , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق)) . ورواه ابن زنجويه (الأموال. ج: 2. ص: 639. ح: 1053) : حدثنا محمد بن يوسف , أنبأنا سفيان , عن هشام بن عروة , عن عروة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق)) . وقال أبو داود (السنن. ج: 178. ح: 3073و 74 30) : حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب , عن هشام بن عروة , عن أبيه , عن سعيد بن زيد , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق)) . حدثنا ابن السري، حدثنا عبدة , عن محمد - يعنى ابن إسحاق - عن يحيى بن عروة , عن أبيه , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له)) . وذكر مثله قال: فقد خبرني الذي حدثني هذا الحديث , أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , غرس أحدهما نخلًا في أرض الآخر , فقضى لصاحب الأرض بأرضه , وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها. قال: فقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفؤوس , وإنها لنخل عم , حتى أخرجت منها. وقال الترمذي (الجامع الصحيح. ج: 3: 662 وما بعدها. ح: 1378) : حدثنا محمد بن بشار، أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، أخبرنا أيوب , عن هشام بن عروة , عن أبيه , عن سعيد بن زيد , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق)) . ثم قال: وفي الباب عن جابر وعمرو بن عوف المزني جد كثير وسمرة. ثم قال (الجامع الصحيح. ح: 1379) : حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب , عن هشام بن عروة , عن وهب بن كيسان , عن جابر بن عبد الله , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له)) ، وتعقبه بقوله: هذا حديث حسن صحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1281 وقال البيهقي (السنن. ج: 6. ص: 143) : أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، حدثنا أبو العباس الأصم، أنبأنا الحسن بن علي بن عفان , حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا محمد بن فضيل , عن ليث , عن طاوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عادي الأرض لله ولرسوله , ثم لكم من بعد، فمن أحيا شيئًا من موتان الأرض , فله رقبتها)) . وبه قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن إدريس , عن ليث , عن طاوس , عن ابن عباس قال: إن عادي الأرض لله ولرسوله ولكم من بعد , فمن أحيا شيئًا من موتان الأرض , فهو أحق به. وقد روي الحديث بألفاظ أخرى وطرق أخرى ولكنها جميعًا تدل على نفس الحكم. اختلف العلماء - رضي الله عنهم - في هذا القول: هل تصرف بالفتوى , فيجوز لأحد أن يحيي أذن الإمام في ذلك الإحياء أم لا , وهو مذهب مالك والشافعي رضي الله عنهما , وهو تصرف منه عليه السلام بالإمامة , فلا يجوز لأحد أن يحيي إلا بإذن الإمام , وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله , وأما تفرقة مالك بين ما قرب من العمارة , فلا يحيى إلا بإذن الإمام , وبين ما بعد فيجوز بغير إذنه , فليس من هذا الذي نحن فيه , بل هو من قاعدة أخرى , وهي أن ما قرب من العمران يؤدي إلى التشاجر والفتن وإدخال الضرر , فلا بد فيه من نظر الأئمة دفعًا لذلك المتوقع , كما تقدم , وما بعد من ذلك لا يتوقع فيه شيء من ذلك , فيجوز، ومذهب مالك والشافعي في الإحياء أرجح؛ لأن الغالب في تصرفه صلى الله عليه وسلم الفتيا والتبليغ , والقاعدة: أن الدائرة بين الغالب والنادر إضافته إلى الغالب أولى. قلت: وقد أظهر التطور الحضاري أن ليس ثمة خلاف بين مالك والشافعي من جانب وأبي حنيفة من جانب آخر في جوهر الأمر، ولكن في شكله , ذلك بأن إلغاء المسافة أو انتقاءها وهيمنة التخطيط والتحفظ وحاجة الدولة إلى ضبط جميع أعمال الإعمار والتمييز بين ما يخصص للبناء وما يخصص للفلاحة وما يترك للرعي وما ينتظر به إلى أن تصل إليه أعمال الإعمار , كل ذلك يوضح أن فتوى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بالأحرى حكمه كان بمقتضى الإمامة , وأن تفرقة مالك والشافعي بين ما قرب من العمارة وما بعد، كانت نمطًا من الإلهام الإلهي , فكأنما كشف الله لهما عما سيصير إليه أمر الإنسان وحضارته في المستقبل على حين أن حكم أبي حنيفة كان دليلًا على بعد نظره في تصور الآماد التي ينبغي اعتبارها فيما يتصل بفهم النصوص الشرعية المتعلقة بالمعاملات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1282 ثم قال: "المسألة الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح , لا يعطني وولدي ما يكفيني. فقال لها عليه السلام: خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف (1) اختلف العلماء في هذه المسألة وهذا التصرف منه صلى الله عليه وسلم , هل هو بطريق الفتوى , فيجوز لكل من ظفر بحقه أو بجنسه أن يأخذه بغير علم خصمه به , ومشهور مذهب مالك خلافه , بل هو مذهب الشافعي , أو هو تصرف بالقضاء , فلا يجوز لأحد أن يأخذ جنس حقه أو حقه إذا تعذر أخذه من الغريم إلا بقضاء قاض , حكى الخطابي القولين عن العلماء في هذا الحديث حجة من قال: إنه بالقضاء أنها دعوى في مال على معين , فلا يدخله إلا القضاء؛ لأن الفتاوى شأنها العموم وحجة القول بأنها فتوى ما روي أن أبا سفيان كان بالمدينة , والقضاء على الحاضرين من غير إعلام ولا سماع حجة , فتعين أنه فتوى , وهذا هو ظاهر الحديث. المسألة الرابعة: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل قتيلًا فله سلبه)) (2) اختلف العلماء في هذا الحديث هل تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بالإمامة , فلا يستحق أحد سلب المقتول إلا أن يقول الإمام ذلك , وهو مذهب مالك خلاف أصله فيما قاله في الإحياء , وهو أن غالب تصرفه صلى الله عليه وسلم بالفتوى , فينبغي أن يحمل على الفتيا عملا بالغالب , وسبب مخالفته لأصله أمور , منها: أن الغنيمة أصلها أن تكون للغانمين , لقوله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (3) وإخراج السلب من خلاف هذا الظاهر , ومنها أن ذلك ربما أفسد الإخلاص عند المجاهدين , فيقاتلون بهذا السلب دون نصر كلمة الإسلام. قلت: هذا تعليل عجيب , وإلا فلماذا شرعت المغانم إن لم يكن لإذكاء الوازع الشخصي الدنيوي إلى جانب الوازع الإيماني الأخروي , وهل السلب إلا نمطًا متميزًا من الغنيمة؟ ثم قال: ومن ذلك أنه يؤدي إلى أن يقبل على من له سلب دون غيره , فيقع التخاذل في الجيش , وربما كان قليل السلب أشد نكاية على المسلمين , فلأجل هذه الأسباب ترك هذا الأصل , وعلى هذا القانون وهذه الفروق يتخرج ما يرد عليك من هذا الباب من تصرفاته صلى الله عليه وسلم. فتأمل ذلك فهو من الأصول الشرعية.   (1) سيأتي تخريجهما بعد قليل. (2) سيأتي تخريجهما بعد قليل. (3) الآية: (41) سورة الأنفال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1283 وقال ابن الشاط في تعليقه على هذا الفرق: لم يجود التعريف بهذه المسائل ولا أوضحها كل الإيضاح , والقول الذي يوضحها هو أن التصرف في الحكم الشرعي إما أن يكون تصرفه فيه بتعريفه , وإما أن يكون بتنفيذه، فإن كان تصرفه فيه بتعريفه , فذلك هو الرسول إن كان هو المبلغ عن الله تعالى , وتصرفه هو الرسالة , وإلا فهو المفتي , وتصرفه هو الفتوى , وإن كان تصرفه فيه بتنفيذه , فإما أن يكون تنفيذه ذلك بفصل وقضاء وإبرام وإمضاء , وإما أن لا يكون كذلك , فإن لم يكن كذلك , فذلك هو الإمام , وتصرفه هو الإمامة , وإن كان كذلك , فذلك هو القاضي , وتصرفه هو القضاء. قلت: ولم يحسن ابن الشاط أيضًا التحديد الدقيق لما أراد تحديده ذلك بأن تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اعتبروه فتوى وفيما اعتبروه قضاء , لا فيما اعتبروه إمامة هو تبليغ أساسًا , والفرق هو إما أن يكون التصرف قوليا صرفًا أو فعليا يراد به مجرد بيان نص , وأغلب ما يكون هذا في العبادات , وهذا النوع من التصرف هو التبليغ المجرد , وإما أن يكون فصلًا بين متخاصمين , فهذا التصرف ذو صبغة قضائية , وإن يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم به وفيه مبلغًا وإمامًا ثم قاضيًا بصفته الرسول المبلغ الإمام , وإما أن يكون تصرفًا مما يقتضيه تنظيم أمر الناس في شأن مما يصل بالفرد أو الجماعة أو المجتمع تنظيما لا يتأتى إلا بهيبة السلطة أو قوتها , وهذا التصرف هو ما يطلق عليه التصرف بمقتضى الإمامة أو بحق الإمام , والرسول صلى الله عليه وسلم وهو يمارسه يتصرف بصفته الرسول الإمام , ذلك بأننا إذا جردنا تصرفًا من تصرفاته عليه الصلاة والسلام من اعتبار الرسالة مصدرًا ملحوظًا فيه , أمكن الالتباس في شأنه بالاختصاص كما ألمعنا آنفًا. فتأمل. على أن تصرفاته في العبادة نفسها إذا لم تكن تطبيقًا لنص قرآني محكم ليس بحاجةإلى بيان - وهذا النوع قليل - ليست مجرد تبليغ , وإن تكن بطبيعتها بيانًا لمجمل النص القرآني في عبادة ما أو تشريعا ابتدائيًا مستمدة عناصره من سنن التشريع القرآني كما هو الشأن في الصلوات النوافل والسنن المؤكدة وغيرها من العبادات المسنونة للتقرب مما لم ترد فيه نصوص قرآنية خاصة , وإنما هي تصرفات تتضمن أيضًا معنى الإمامة , إذ أنه صلى الله عليه وسلم حين يسن سنة أو يبين مجملًا أو يطبق نصًا قرآنيًا إنما يفعل ذلك بصفته الإمام الرسول الموكول إليه أمر التطبيق والبيان والاستنان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1284 ولا يختلف موقعه في هذا المجال عن موقعه فيما يفعله أو يقضي به في مجال المعاملات أو ما يسمى اليوم بالحقوق المدنية عامة أو في مجال الأحوال الشخصية , ولا نجد مدعاة إلى أن نسوق نماذج شتى من تصرفاته صلى الله عليه وسلم بمقتضى الإمامة , ونؤثر هذا التعبير على عبارة حق الإمامة " , أو "حق الإمام" , فقد مضى بعض منها خلال البندين السابقين , إذ نسوق الروايات المختلفة عن رافع بن خديج في المزارعة والمساقاة وخاصة أمره صلى الله عليه وسلم لرافع أو لغيره , إذ وجده يزارع غيره في أرضه , فأمره أن يأخذ بدوره ونفقته , وأن يزرع الزرع لصاحب الأرض , وإذ نسوق نماذج من القضية المأثورة الدالة على اعتماد المصلحة العامة وإن نتج عن اعتمادها بعض الإضرار بأحد الطرفين المتقاضيين اعتبارًا لأخف الضررين وتشريعًا لقاعدة حكمية وخلقية تتمادى آثارها فتشمل المصلحة العامة في الحال والمآل , وذلك حين عرضنا لقضية سمرة بن جندب وعضيده في حائط الأنصاري , وكيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقطع عضيد سمرة حين امتنع عن البيع والمعاوضة وابتغاء الثواب في الآخرة، ثم لقضية الزبير وصاحبه الذي خاصمه على الماء يمر بأرض للزبير قبل أن يصل إليه , وكيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يحبس الماء حتى يبلغ الجدر ثم يرسل ما فضل لخصمه بعد أن تجرأ خصمه فاتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاباة ابن عمته. وإذ عرضنا لحديث عمر مع العباس وخالد بن الوليد ولئن اختلفوا في أمر العباس إن كان امتناعه عن تسليم صدقته لعمر؛ لأنه أسلفها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لعامين بالتماس منه عليه الصلاة والسلام لحاجة ألمت بالمسلمين أو لأنه رفض أن يسلمها لعمر لسبب آخر , وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحملها عنه أو أخبر بأنه استلفها منه , وذلك ما سبق أن عرضنا له ببعض التفصيل , فإنهم في أمر خالد بن الوليد لم يجدوا مجالًا واسعًا للاختلاف , إذ لم تتغاير الروايات فيما يتصل به , فانحصر اختلافهم في تعليل موقفه وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه وفي تأويل بعض ألفاظه ابتغاء المطابقة بين قاعدة فقهية قعدوها وجمدوا عليها وبين قضية ثابتة من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد صحابته الأجلاء خلخلت لهم تلك القاعدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1285 فقد وقر عندهم واستقر أن الصدقة تجب في كل مال يملكه مسلم من الأموال المزكاة , إذ توفر فيه النصاب , وحال عليه الحول , إن يكن مما يشترط فيه الحول , وعز عليهم أن يضيفوا إلى هذه القاعدة استثناء يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى الإمامة واضح العلة واضح الصيغة واضح البيان، وهو أنه لما كانت الزكاة إنما شرعت لضمان مورد لبيت مال المسلمين يواجه به حاجات الأصناف الثمانية المذكورة في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (1) فإن المال الذي يكون في يد شخص خول له , فوقفه كله في سبيل الله وإن احتفظ بالتصرف فيه ولم يسلمه لبيت مال المسلمين لا يشمله شرع الزكاة , إذ إنه كله وليس جزء منه أصبح وقفًا في سبيل الله , {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} أحد الأصناف الثمانية التي عينتها الآية الكريمة مصارف للزكاة , وما أروع قوله صلى الله عليه وسلم في أمر خالد: ((إنكم تظلمون خالدًا)) . الحديث. فليت شعري لما لم يستوقف انتباه الفقهاء وهم يبدؤون ويعيدون في محاولة التوفيق بين قاعدتهم التي قعدوها فجمدوا عليها , وبين هذا التشريع النبوي الرائع الحكيم. ومع أن في هذه النماذج الغناء كل الغناء في التمثيل لتصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى الإمامة , فإنا نؤثر لمزيد من البيان أن نسوق تصرفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قضيتين مختلفتين وإن كان تصرفه فيهما يتوخى إقرار نفس السنة , سنة التصرف بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة؛ لأنهما يمثلان تشريعًا في مجال بعيد الخطر ومختلف عن مجالات التصرفات السابقة، فكلاهما يتصل بالمغانم وهي حق لجميع المجاهدين بصرف النظر عن اختلاف الفقهاء أيضًا في ما إذا كان استحقاقهم يتعين بمجرد أن يغنمها الجيش الإسلامي أو لا يتعين إلا حين يقسمها الإمام , فحث على القول بأن استحقاق المجاهد في الغنيمة لا يتعين إلا عند قسمتها، فلا جدال في أن مجرد غنمها يثبت فيها حقا جماعيا لجميع المجاهدين يمكن أن نسميه حقا مشتركًا أو مشاعًا ومع ذلك فقد أحدث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تشريعًا في قضيتين مختلفتين يثبت بما لا مجال فيه للجدل ما للإمام من حق التصرف في المغانم بمقتضى الإمامة حين تتعين المصلحة العامة في تصرف لا يلتزم إلزامًا دقيقًا بالحق المشترك أو المشاع في المغانم.   (1) التوبة آية رقم 106. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1286 القضية الأولى قضية سلب المقتول وحق القاتل فيه , وهي قضية تناقلها جميع أصحاب السنن ونقلة الأخبار ونعتمد فيها ما أخرجه البخاري في صحيحه. قال (1) : حدثنا مسدد، حدثنا يوسف بن الماجشون , عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف , عن أبيه , عن جده قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر , فنظرت عن يميني وشمالي , فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما , ما تمنيت أن أكون بين أضلع منهما , فغمزني أحدهما , فقال: يا عم , هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم , ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم , والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. فتعجبت لذلك , فغمزني الآخر , فقال لي مثلها , فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس , فقلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني. فابتدراه بسيفيهما , فضرباه حتى قتلاه , ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه , فقال: أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فنظر في السيفين، فقال: كلاكما قتله. سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح , وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح , قال محمد: سمع يوسف صالحًا وسمع إبراهيم أباه عبد الرحمن بن عوف. وقال (2) : حدثنا عبد الله بن مسلمة , عن مالك , عن يحيى , عن ابن أفلح , عن أبي محمد مولى أبي قتادة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين , فلما التقينا , كانت للمسلمين جولة , فرأيت رجلًا من المشركين علا رجلًا من المسلمين , فاستدبرت حتى أتيته من ورائه حتى ضربته بالسيف على حبل عاتقه , فأقبل علي , فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت.   (1) البخاري (الصحيح) . ج: 4. ص: 57. (2) البخاري (الصحيح) . ج: 4. ص: 57. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1287 ثم أدركه الموت , فأرسلني , فلحقت عمر بن الخطاب , فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله. ثم إن الناس رجعوا وجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه)) . فقمت , فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست. ثم قال: ((من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه)) . فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست , ثم قال الثالثة مثله , فقمت , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما لك يا أبا قتادة؟)) فاقتصصت عليه القصة , فقال رجل: صدق يا رسول الله , وسلبه عندي , فأرضه عني. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لا ها الله , إذن لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يعطيك سلبه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدق)) فأعطاه , فبعت الدرع , فابتعت به مخرفًا في بني سلمة , فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام. وقال (1) : حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك , عن يحيى بن سعيد , عن عمر بن كثير بن أفلح , عن أبي محمد مولى أبي قتادة رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام حنين، فلما التقينا , كان للمسلمين جولة , فرأيت رجلًا من المشركين قد علا رجلًا من المسلمين , فضربته من ورائه على حبل عاتقه بالسيف , فقطعت الدرع , وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت , ثم أدركه الموت , فأرسلني , فلحقت عمر , فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله عز وجل , ثم رجعوا , وجلس النبي صلى الله عليه وسلم , فقال: ((من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه)) فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثله)) قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم مثله , فقمت , فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست. قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم مثله , فقمت , فقال: ((مالك يا أبا قتادة؟)) فأخبرته , فقال رجل: صدق , وسلبه عندي , فأرضه عني. فقال أبو بكر: لاها الله إذا , لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيعطيك سلبه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدق، فأعطه)) فأعطانيه , فابتعت به مخرفًا في بني سلمة , فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام.   (1) البخاري (الصحيح) . ج: 5. ص: 100 و101 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1288 وقال (1) : قال الليث: حدثني يحيى بن سعيد , عن عمر بن كثير بن أفلح , عن أبي محمد مولى أبي قتادة , أن أبا قتادة قال: لما كان يوم حنين , نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلًا من المشركين , وآخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله , فأسرعت إلى الذي يختله , فرفع يده ليضربني , وأضرب يده فقطعتها , ثم أخذني فضمني ضمًا شديدًا حتى تخوفت , ثم برك فتحلل , ودفعته ثم قتلته , وانهزم المسلمون , وانهزمت معهم , فإذا بعمر بن الخطاب في الناس , فقلت له ما شأن الناس؟ قال: أمر الله. ثم تراجع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أقام بينة على قتيل قتله فله سلبه)) ، فقمت لألتمس بينة على قتيلي , فلم أر أحدًا يشهد لي , فجلست , ثم بدا لي , فذكرت أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال رجل من جلسائه: سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي , فأرضه منه. فقال أبو بكر: كلا , لا يعطيه أصيبغ من قريش ويدع أسدًا من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأداه إلي , فاشتريت منه خرافًا , فكان أول ما تأثلته في الإسلام. والقضية الثانية قضية إيثار بعض المقاتلة على بعض في قسمة الغنيمة وإعادة بعض الغنيمة إلى من غلبوا من الأعداء إذا هم أفاؤوا إلى الإسلام , وهي أيضًا قضية مشهورة لدى أصحاب السنن ونقلة الأخبار، لذلك نقتصر فيها على ما أخرجه البخاري. قال (2) : "حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا جرير بن حازم، حدثنا الحسن , قال: حدثني عمرو بن تغلب رضي الله عنه , قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا ومنع آخرين , فكأنهم عتبوا عليه , فقال: إني أعطي قومًا أخاف ظلعهم وجزعهم , وأكل أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغناء , منهم عمرو بن تغلب. فقال عمرو بن تغلب: ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم. زاد أبو عاصم عن جرير , قال: سمعت الحسن يقول: حدثنا عمرو بن تغلب , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بمال أو بسبي فقسمه بهذا.   (1) البخاري (الصحيح) . ج: 5. ص: 100 و101 (2) البخاري (الصحيح) . ج: 4. ص: 59 و60 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1289 وقال (1) : "حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة , عن قتادة , عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني أعطي قريشًا أتألفهم؛ لأنهم حديث عهد بجاهلية)) . وقال (2) : "حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا الزهري , قال: أخبرني أنس بن مالك , أن ناسًا من الأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال هوازن ما أفاء , فطفق يعطي رجالًا من قريش المائة من الإبل , فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم , يعطي قريشًا , ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. قال أنس: فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم , فأرسل إلى الأنصار , فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع أحدًا معهم غيرهم، فلما اجتمعوا , جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: ما كان حديث بلغني عنكم؟ قال له فقهاؤهم: أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئًا , وأما أناس منا حديثة أسنانهم , فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشًا ويترك الأنصار وسيوفنا تقطر من دمائهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعطي رجالًا حديث عهدهم بكفر , أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعوا إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم , فوالله ما تنقلبون به , قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا. فقال لهم: إنكم سترون بعدى أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على الحوض. قال أنس: فلم نصبر. وقال: (3) حدثنا سعيد بن عفير، حدثني ليث، حدثني عقيل , عن ابن شهاب , حدثني إسحاق، حدثنا يعقوب بن إبراهيم , قال: حدثنا ابن أخي ابن شهاب , وزعم عروة بن الزبير أن مروان والمسور بن مخرمة أخبراه , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين , فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم , فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه. فاختاروا إحدى الطائفتين , إما السبي , وإما المال.   (1) البخاري (الصحيح) . ج: 4. ص: 59 و60 (2) البخاري (الصحيح) . ج: 4. ص: 59 و60 (3) البخاري ج: 5. ص: 99. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1290 وقد كنت استأنيت بكم وكان أنظرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف , فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين , قالوا: فإنا نختار سبينا , فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين , فأثنى على الله بما هو أهله , ثم قال: أما بعد , فإن إخوانكم قد جاؤونا تائبين , وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم , فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل , ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل. فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن , فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم. فرجع الناس , فكلمهم عرفاؤهم , ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا. هذا الذي بلغني عن سبي هوازن. وجلي أن القضيتين تتفقان في إحداث حكم شرعي يكون استثناء لقاعدة حق المجاهدين أفرادًا أو بالاشتراك في المغانم عند غنمها , وهذا الحكم هو أن للإمام إذا تعينت عنده مصلحة عامة في إيثار فرد أو أكثر من المجاهدين أو من غيرهم من المسلمين بشيء من الغنائم , فله أن يفعل ذلك بمقتضى حق الإمامة ولا يعتبر جائرًا على ذوي الحق الأصليين في المغانم؛ لأنه تصرف اعتبارًا لمصلحة عامة تشملهم جميعًا , وتشمل معهم غيرهم , ويتمادى أثرها إلى المجتمع الإسلامي قاطبة أو إلى جانب كبير منه , وذلك ما يرجح بهذه المصلحة العامة عن بعض ما قد يتراءى "مفسدة" محدودة الأثر لما ينقص بعض النقص من حقوق الأفراد المستحقين أصلًا للمغانم. قد يجادل بعض المشغوفين بالجدل في أن قضية هوازن وإعادة السبي إليهم إنما تمت بتصرف ناتج عن "الإقناع " وليس ناتجا عن "التحكم" , فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله وفد هوازن أن يعيد إليهم ما أصاب من سبي وغنيمة في انتصاره عليهم وعلى ثقيف , لم يأمر المسلمين أمرًا صريحًا بأن يعيدوا إليهم ما أعادوا , وإنما جعل لهوازن أن يختاروا بين السبي والمال , فلما اختاروا السبي حث المسلمين على أن يعيدوا إليهم سبيهم , فاستجابوا له وأعادوا إليهم ما بين أيديهم , وهذا النوع من الجدل إنما يعتمد على فهم ساذج لتصرفات رسول الله يكتمو على تقصير في استحضار جميع الملابسات التشريعية السابقة أو المواكبة للتصرفات النبوية , ذلك بأن المسلمين كانوا يدركون من الخلق العظيم الذي أصفى به نبيه صلى الله عليه وسلم ومن منهاجه في معاملتهم وتكييف سلوكهم أفرادًا وجماعة تكييفًا خلقيا أنه دأب صلى الله عليه وسلم على اعتماد أسلوب "الإقناع" وإيثاره على أسلوب "التحكم " إلا أن يضطر اضطرارًا إلى الالتجاء إلى أسلوب "التحكم" مجابهة لعناد بعض من لا يفقهون وقلما فعل ذلك , وأنه صلى الله عليه وسلم إذ يحث على عمل من هذا القبيل له آماده السياسية المتجاوزة للاعتبارات الفردية والمتجاوبة مع اعتبارات المصلحة العامة إنما يأمر أمرًا صاغه بأسلوب الترغيب ليتيح للمسلمين الشعور بالمشاركة في اتخاذ القرار وبالإسراع إلى الاستجابة له والمبادرة لما يريد ابتغاء الأجر من الله سبحانه وتعالى بطاعة الله والرسول على حين أنهم يدركون أعمق الإدراك أنهم إن لم يستجيبوا لما رغبهم فيه وحثهم عليه قد يرتكبون إثما بمخالفته وعدم الاستجابة له فهم يحفظون - أو كثير منهم يحفظون - قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) وقوله جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (2) .   (1) الآية: (59) سورة النساء. (2) الآية: (24) سورة الأنفال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1291 وتدبر جيدًا قوله تعالى: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} . ولعل قصة سعيد بن المعلى حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فلم يستجب لدعوته حتى أتم صلاته فعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الحديث رواه البخاري في تفسير سورة الفاتحة (ج: 5. ص: 46) , فقال: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى , عن شعبة قال: حدثني خبيب بن عبد الرحمن , عن حفص بن عاصم , عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد , فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلم أجبه , فقلت: يا رسول الله , إني كنت أصلي. فقال: ألم يقل الله استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم؟ ثم قال لي: لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد , ثم أخذ بيمينى , فلما أراد أن يخرج , قلت: ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: {الحمد لله رب العالمين} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته. ورواه في تفسير سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا} الآي. فقال (البخاري. ص: 199) : حدثني إسحاق , قال: أخبرنا روح، حدثنا شعبة , عن خبيب، وذكر الحديث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1292 وقال ابن حجر (فتح الباري. ج: 8. ص: 119 و120) في شرحه للحديث الأول وبعد أن ذكر اختلافهم في اسم أبي سعيد: هنا (تنبيهان) ويتعلقان بإسناد هذا الحديث؛ أحدهما نسب إلى الغزالي والفخر الرازي وتبعه البيضاوي , هذه القصة لأبي سعيد الخدري , وهو وهم , وإنما هو أبو سعيد بن المعلى. ثانيهما: روى الواقدي هذا الحديث عن محمد بن معاذ , عن خبيب بن عبد الرحمن بهذا الإسناد , فزاد في إسناده: عن أبي سعيد بن المعلى , عن أبي بن كعب. والذي في الصحيح أصح , والواقدي شديد الضعف إذا انفرد , فكيف إذا خالف , وشيخه مجهول , وأظن الواقدي دخل عليه حديث في حديث , فإن مالكًا أخرج نحو الحديث المذكور من وجه آخر , فيه ذكر أبي بن كعب , فقال: عن العلاء بن عبد الرحمن , عن أبي سعيد مولى عامر , أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب. ومن الرواة عن مالك قال: عن أبي سعيد , عن أبي بن كعب , أن النبي صلى الله عليه وسلم ناداه. وكذا أخرجه الحاكم , ووهم ابن الأثير حيث ظن أن أبا سعيد شيخ العلاء هو أبو سعيد بن المعلى , فإن ابن المعلى صحابي أنصاري من أنفاسهم مدني , وذلك تابعي مكي من موالي قريش , وقد اختلف فيه على العلاء , أخرجه الترمذي عن طريق الدراوردي , والنسائي عن طريق روح بن القاسم , وأحمد عن طريق عبد الرحمن بن إبراهيم , وابن خزيمة عن طريق حفص بن ميسرة , كلهم عن العلاء , عن أبيه , عن أبي سعيد , عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب ... فذكر الحديث. وأخرجه الترمذي وابن خزيمة من طريق عبد الحميد بن جعفر , والحاكم من طريق شعبة , كلاهما عن العلاء مثله. لكنه قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه. ورجح الترمذي كونه من مسند أبي هريرة , وقد أخرجه الحاكم أيضًا عن طريق الأعرج , عن أبي هريرة , أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب. وهو مما يقوي ما رجحه الترمذي , وجمع البيهقي بأن القصة وقعت لأبي بن كعب ولأبي سعيد بن المعلى , ويتعين المصير إلى ذلك , لاختلاف مخرج الحديثين واختلاف سياقهما كما بينه. كانت وقعت قبل غزوة حنين وأنها تنوقلت بين المسلمين , فوعوها واتعظوا بها , مهما يكن فما من شك في أنهم لو لم يعيدوا فيما بين أيديهم من سبي طوعًا لاستعاده منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "بالتحكم"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وعد هوازن بأحد أمرين؛ إما السبي , وإما المال , وما كان ليخلف وعده , وهو حين وعدهم كان يتصرف بمقتضى الإمامة، وحين أصدر أمره إلى المسلمين في صيغة ترغيب كان يتصرف بمقتضى الإمامة أيضًا وإن تلطف في الصيغة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1293 وقد يجادل البعض بأن تصرفه صلى الله عليه وسلم في هذه القضية وفي قضية إيثار بعض المجاهدين على بعض عند توزيع الغنائم في غزوة حنين إنما كان تطبيقًا لمبدأ تأليف , {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} , وهذا فهم له وجاهته , ولكن حق {الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} إنما جاء به النص فيما يتعلق بالصدقات , لا فيما يتعلق بالغنائم , ثم إن الذين آثرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصص أوفر من الغنائم ليسوا جميعًا ممن تنطبق عليهم صفة {الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} , بل قد لا يكون من تنطبق عليهم هذه الصفة , عدا بعض الأفراد , ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ترضى الأنصار وقد ساء بعضهم أن يؤثر عليهم بعضهم في الغنائم لم يتعلل في استرضائهم بتأليف القلوب ممن آثرهم صراحة وإن أمكن فهم ذلك احتمالًا مما قاله في استرضائهم , وإنما تعلل في استرضائهم صراحة بالموازنة بين خلاقين؛ خلاق من يعود إلى رحله بالمغانم من الشاة والجمال , وخلاق من يعود برحله إلى رسول الله , وشتان بين الخلاقين. على أن هذه الشبهة وما شاكلها مما قد يثيره المجادلون لا مجال لها في قضية كل من أبي قتادة ومعاذ بن عمرو بن الجموح , فما من أحد يستطيع أن يزعم بأن هذين الصحابيين الجليلين يمكن الغمز فيهما بأنهما من {المؤلفة قلوبهم} , ولا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أعطى سلب أبي جهل لمعاذ بن عمرو بن الجموح وحين أعطى أبا قتادة سلب قتيله , كان يتألف أحدهما أو يتألفهما معًا , وإن يكن الاحتمال وجيهًا أنه صلى الله عليه وسلم كان بعمله ذاك يحفز أبطال المسلمين , لا سيما الشباب إلى المزيد من الاستبسال في مواجهة الأعداء , على أن لهاتين القضيتين دلالة بالغة الأثر , وهي أن قضية معاذ بن عمرو بن الجموح كانت في غزوة بدر أولى غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقضية أبي قتادة كانت في حنين أخرى غزواته عليه الصلاة والسلام , وفي كلتا القضيتين تصرف بمقتضى الإمامة، وهذا يعني أن قاعدة التصرف بمقتضى الإمامة قاعدة مكينة استمرت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة عهده النير الميمون , فليس لأحد أن يجادل فيها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1294 وتصرفه صلى الله عليه وسلم طبقًا لهذه القاعدة أو بالأحرى تشريعه لهذه القاعدة شمل قضايا فردية صرفة , وإن تكن ذات أثر في تكييف التشريع العام، كما شمل قضايا ظاهرة الصبغة الاجتماعية وإن كان تطبيقها متصلًا بأفراد , وقد سبق أن وقفنا مرتين عند قضية عضيد سمرة بن جندب وقضية الزبير وصاحبه الذي خاصمه على الماء , ونؤثر أن نورد قصتين أخريين تشبهان هاتين , ولكن لهما تأثيرهما في مجالين مختلفين: الأولى: ما رواه البخاري وغيره من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وهل ترك لنا عقيل من رباع)) . والثانية: ما رواه البخاري وغيره أيضًا من إذنه صلى الله عليه وسلم لهند زوجة أبي سفيان أن تأخذ من ماله كفايتها وكفاية ولدها. قال البخاري (1) : "حدثنا أصبغ , قال: أخبرني ابن وهب , عن يونس , عن ابن شهاب , عن علي بن الحسين , عن عمرو بن عثمان , عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله , أين تنزل بدارك بمكة؟ فقال: ((وهل ترك عقيل من رباع أو دور)) ؟ وكان عقيل ورث أبا طالب , هو وطالب , ولم يرث جعفر ولا علي رضي الله عنهما شيئًا؛ لأنهما كانا مسلمين , وكان عقيل وطالب كافرين , فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لا يرث المؤمن الكافر. قال ابن شهاب: وكانوا يتأولون قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (2) .   (1) البخاري ج: 2. ص: 57. (2) الآية: (72) سورة الأنفال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1295 وقال (1) : حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان , عن هشام , عن أبيه , عن عائشة , أن هندًا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح , وأحتاج أن آخذ من ماله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) . وسواء كان قوله صلى الله عليه وسلم: ((وهل ترك لنا عقيل من رباع)) عند فتح مكة أو في حجة الوداع أو فيهما معًا , فالقصة متعددة على اختلاف بين الرواة والنقلة , بسطه ابن حجر في الفتح , فإن الذي يعنينا هو أنه صلى الله عليه وسلم قعد شرعه , لولا تقعيده لها لكان موضوعها مجال خلاف واسع بين المسلمين , وهي أن الكافر حين يسلم، يسلم على ما في يده ما أصاب في حال الكفر , وإن كان من مال استحقه المسلمون، وبيان ذلك أن إرث رسول الله صلى الله عليه وسلم جده عبد المطلب وإرث علي وجعفر رضي الله عنهما من أبيهما أبي طالب استحوذ عليه عقيل أخوهما رضي الله عنه قبل أن يسلم , ولم يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم رده بعد أن أسلم , وإنما أقره عليه , واعتل بإقراره عليه أنه لم يعد يملك رباعا في مكة ينزل فيها , فقد استحوذ عقيل على رباعه , وجلي أنه لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حق في تركة جده عبد المطلب؛ لأن أباه توفي وعبد المطلب حي , وأن أعمامه الأحياء هم وحدهم لهم الحق في إرثه , وكان لعلي أو لجعفر حق في تركة أبيهما أبي طالب في إرثه لعبد المطلب يشمله حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحق عقيل فيما استحوذ عليه لنزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أنه صلى الله عليه وسلم حصر الاستحواذ على رباعه في عقيل والعباس وغيره من ورثة عبد المطلب قد أصابوا أنصبتهم من إرثه ما في ذلك شك , فوضح أن عقيلًا استحوذ هو وحده على رباع رسول الله صلى الله عليه وسلم , ومع أن شراح الحديث ورواته لم يذكروا شيئا عن طبيعة هذه الرباع , فإنا نشعر بأنها قد لا تكون مجرد حصته من إرث جده عبد المطلب , بل يمكن أن يكون منها إرثه من خديجة - رضي الله عنها - وأن عقيلًا لم يستحوذ استنادًا إلى حق الإرث فحسب , وإنما كان استحواذه جريًا على سنن المصادرة التي استنتها قريش في أموال المهاجرين من المسلمين , فكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وهل ترك لنا عقيل من رباع)) تشريعًا بمقتضى الإمامة لقاعدة أن الكافر إذا أسلم يظل له ما أسلم عليه من مال , وليس للمسلم الذي كان صاحب ذلك المال أن يطالبه به , ولذلك اعتبرنا هذا الحديث الشريف قاعدة تشريعية متميزة من القواعد الناتجة عن التصرف بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة , فلو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرعها لانفتح باب يعسر إغلاقه , وقد يكون مستحيلًا من الجدل والخصام بين المسلمين السابقين وبين أولئك اللاحقين قد يعوق عملية الإسماح للمسلمين اللاحقين في مجتمع المسلمين السابقين , وواضح أن هذه المصلحة تعلو على اعتبار المصلحة الفردية لأولئك الذين صودرت أموالهم نتيجة لهجرتهم. وهي فضلًا عن ذلك تشريع يمنع بمقتضاه من تخلى للمسلمين عن شيء من ماله في سبيل الله أن يستعيده وإن أمكنته استعادته , ومن هذا القبيل الكراهة للمصدق أن يشتري صدقته إن وجدها تباع , ولمن وهب عتادًا لمجاهد ليجاهد به في سبيل الله أن يشتريه إذا وجده في السوق يباع. أما قضية هند وأبي سفيان فلها مجال آخر من التشريع وإن تكن انطلقت من قاعدة التصرف بمقتضى الإمامة , فالإذن لزوجة البخيل المقتر على زوجه وولده أن تأخذ من ماله كفايتها وكفاية ولدها بالمعروف دون استئذان زوجها وحتى بالرغم من امتناعه يثبت أولًا: الحق في العيش الكفاف للزوجة والولد في مال القادر البخيل. وثانيًا: أولوية هذا الحق وأسبقيته لواجب المحافظة على مال الزوج باعتباره أمانة لا يحل للزوجة أن تتصرف فيه إلا بإذنه. وثالثًا: إثبات الحق لصاحب الحق المغتصب أو الممنوع منه أن يأخذه إذا وجده أو أمكنه الحصول عليه بأية وسيلة. ورابعًا: إقرار مبدأ دقيق خطير , هو أن ما خوله الله من تصرف فيما بين يديه من ما ليس مخولا له تخويلًا مطلقًا غير مقيد , وإنما هو مخول له تخويلًا محدودا بأن ينتفع به وينفع غيره , فإذا تجاوز هذا الحد بأن اختص به نفسه وحرم غيره أو حرم نفسه وحرم غيره بخلًا وأمكن لغيره الشريك فيه بحكم الشرع أن ينال منه نصيبه بمعروف , فله ذلك غير آثم , إنما الإثم على ذلك الذي حاول أن يمنعه حقه أنانية أو بخلًا.   (1) البخاري ج: 8. ص: 115 و116. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1296 هذه بعض الأحكام التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضية هند وأبي سفيان , وهي من الفيوض الكريمة للتصرف بمقتضى الإمامة اعتبارا للمصلحة العامة , وما أكثر ما أصاب المسلمون من فيوض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من خير عميم. وكان الصحابة رضوان الله عليهم - لا سما أهل الفتيا - وأولو الأمر منهم يدركون ذلك أعمق الإدراك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوعيهم لمناط ما يشرع قولًا وفعلًا , ولو قد مضينا في استقصاء مداركهم هذه بأسانيدها لملأنا مجلدات. حسبنا أن نقف عند نماذج منها مما انتهجه عمر خلال سني خلافته، فما نعلم في تاريخ التشريع الإسلامي في العهد الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عمر وعيًا بحقائق التشريع وتجلية لخباياه وسرائره على حرص شديد منه أن لا ينحرف عن صاحبيه قيد أنملة، ولسنا نغفل الصديق - رضي الله عنه - ونحسبه لو مد الله في عمره سيكون مثل عمر وإن بأسلوب مختلف في التطبيق والتنفيذ لاختلاف طبيعة الرجلين الجليلين في التعامل مع الناس والأشياء والأحداث , وآية ذلك موقفه - رضي الله عنه - من مانعي الزكاة والعمل على حفظ القرآن من التلاشي والاندثار بالأمر بجمعه بعد محنة القراء في اليمامة , وكلا الأمرين مشهوران , لسنا بحاجة فيهما إلى بيان أو إسناد. أما الفاروق - رضي الله عنه - فقد شاء الله أن تطول خلافته هونا , فاستطاع أن يكمل بيان التشريع الإسلامي وتجلية مناطه ومغازيه وإيضاح معالم النهج الذي يتعين سلوكه في تطبيقه حتى لا يعسر على الفقيه الواعي أن يجد حدثًا مما يستجد في حياة الناس على اختلاف أطوار حضارتهم وأنماط بيئاتهم ليس للحكم فيه أو لتكييف مواجهته أساس من عمل عمر أو قوله إن لم يكن له أساس من فعل رسول الله أو قوله , وليس في القرآن الكريم نص صريح يتصل به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1297 ونحسب أن حياة عمر العامة هي المرجع الغني الأصيل بعد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لالتماس حكم الشريعة الإسلامية فيما لم يأت فيه نص في القرآن الكريم. ولو مضينا في استقصاء النماذج - أقول: النماذج , وليس الكل - لما يصل بموضوعنا (الحكم بمقتضى الإمامة) من حياة عمر العملية والقولية العامة , لكان علينا أن نضع مجلدًا خاصا بنصوصها وأسانيدها ومقاصدها وما يستنبط منها , وكم نود أن يمد الله لنا في العمر ويمنحنا من الجهد ويهبنا من التوفيق ما يتيح لنا التفرغ لهذا العمل بعد أن نفرغ من عمل نرسم له الآن معالمه , وهو المنهاج النبوي في السياسة الداخلية والخارجية للدولة الإسلامية. لذلك نحاول أن ندرج كما اتفق وتيسر لنا - ولا نقول: أن نصطفي , فحياة عمر كلها صفوة الصفايا - بعض النماذج لتصرفاته التشريعية بمقتضى الإمامة رضي الله عنه وأرضاه. روى عبد الرزاق (1) : عن الثوري وابن جريج , عن يحيى بن سعيد , عن مسلم بن جندب. وروى ابن حزم (2) نقلًا عن عبد الرزاق حديث مسلم بن جندب هذا , وننقله عنه؛ لأن النسخة المطبوعة من مصنف عبد الرزاق سقطت منها كلمة أو كلمتان , بينما رواية ابن حزم وافية. قال مسلم بن جندب: قدم المدينة طعام , فخرج أهل السوق إليه , فابتاعوه , فقال لهم عمر: أفي سوقنا هذا تتجرون؟ أشركوا الناس , أو اخرجوا فاشتروا , ثم ائتوا فبيعوا. وقال مالك (3) : إنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: لا حكرة في سوقنا , لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا , فيحتكرون علينا , ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف , فذلك ضيف عمر , فليبع كيف شاء الله , وليمسك كيف شاء الله.   (1) المصنف. ج: 8. ص: 206. ح:14900 (2) المحلى. ج:9. ص:41. (3) الموطأ ص: 544. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1298 ووصله البيهقي فقال (1) : أخبرنا عبد الله الحافظ أبو سعيد بن أبي عمرو , قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الربيع بن سليمان , حدثنا عبد الله بن وهب , عن سليمان بن بلال , عن إسماعيل بن إبراهيم , عن عبد الرحمن بن أبي ربيعة , عن أبيه , أن عمر بن الخطاب خرج إلى السوق , فرأى ناسًا يحتكرون بفضل أذهابهم , فقال عمر: لا , ولا نعمة عين , يأتينا الله عز وجل بالرزق حتى إذا نزل بسوقنا قام أقوام , فاحتكروا بفضل أذهابهم عن الأرملة والمسكين , إذا خرج الجلاب باعوا على نحو ما يريدون من التحكم , ولكن أيما جالب جلب يحمله على عمود كبده في الشتاء والصيف حتى ينزل سوقنا , فذلك ضيف لعمر , فليبع كيف شاء الله , وليمسك كيف شاء الله. وقال عبد الرزاق (2) : أخبرنا ابن جريج ومحمد بن مسلم , عن عمرو بن دينار , قال: قال عمر بن الخطاب: من باع في سوقنا , فنحن له ضامنون , ولا يبيع في سوقنا محتكر. أخبرنا معمر أنه بلغه , أن عمر برجل يبيع طعامًا قد نقص سعره , فقال: اخرج من سوقنا , وبع كيف شئت ". ووصله البيهقي فقال (3) : أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وأبو بكر بن الحسن , قالا: حدثنا أبو العباس الأصم، أنبأنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم , أنبأ ابن وهب، أخبرني مالك , عن يونس بن يوسف , عن سعيد بن المسيب قال: مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على حاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له بالسوق , فقال له عمر رضي الله عنه: إما أن تزيد في السعر , وإما أن ترفع من سوقنا.   (1) السنن. ج:6. ص:30. (2) المصنف. ص: 206 و207. ح: 14903/14906. (3) السنن. ص: 29. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1299 وتعقبه البيقهي بقوله: فهذا مختصر، وتمامه فيما روى الشافعي عن الدراوردي , عن داود بن صالح التمار , عن القاسم بن محمد , عن عمر رضي الله عنه , أنه مر بحاطب بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب , فسأله عن سعرهما , فسعر له مدين لكل درهم , فقال له عمر رضي الله عنه: لقد حدثت ببعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبًا وهم يعتبرون بسعرك , فإما أن ترفع في السعر , وإما إن تدخل زبيبك للبيت تبيعه كيف شئت , فلما رجع عمر حسب نفسه , ثم أتى حاطبًا في داره فقال له: إن الذي قلت ليس بعزمة مني , ولا قضاء , إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد , فحيث شئت فبع , وكيف شئت فبع. وقال عبد الرزاق: أخبرنا مالك , عن يونس , عن يوسف , عن ابن المسيب , أن عمر بن الخطاب مر على حاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له في السوق , فقال له عمر: إما أن تزيد في السعر , وإما أن ترفع عن سوقنا. أخبر ابن جريج , عن عمرو بن شعيب , قال: وجد عمر بن الخطاب ابن أبي بلتعة يبيع الزبيب بالمدينة , فقال: كيف تبيع يا حاطب؟ فقال: مدين. فقال: تبتاعون بأبوابنا وأفنيتنا وأسواقنا , تقطعون في رقابنا , ثم تبيعون كيف شئتم، بع صاعًا , وإلا فلا تبع في سوقنا , وإلا فسيروا في الأرض واجلبوا , ثم بيعوا كيف شئتم. وروى مالك في الموطأ (1) : عن يونس بن يوسف , عن سعيد بن المسيب , أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له في السوق , فقال له عمر: إما أن تزيد في السعر , وإما أن ترفع عن سوقنا. قلت: انفرد الشافعي إذا ثبت ما نقل عنه البيهقي بما زاده في روايته لقصة حاطب , من أن عمر راجع نفسه , فعاد إليه وأذن له في البيع كيف شاء , وعلى فرض صحة هذه الزيادة - والزيادة من الثقة مقبولة , فكيف إذا كانت من إمام كالشافعي رحمه الله - فإن عمر فعل ذلك في رأينا والله أعلم إكرامًا لحاطب؛ لأنه بدري , وللبدريين مقام متميز بين الصحابة , فضلًا عن سائر المسلمين.   (1) الموطأ. ص: 544. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1300 قال أبو عبيد (1) : "وأما ما جاء في ترك القسم , فإن هشيم بن بشير حدثنا , قال: أخبرنا العوام بن حوشب , عن إبراهيم التميمي , قال: لما افتتح المسلمون السواد , قال عمر: اقسمه بيننا , فإنا افتتحناه عنوة. قال: فأبى , وقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف إن قسمته أن تفاسدوا بينكم في المياه , قال: فأقر أهل السواد في أرضيهم , وضرب على رؤوسهم الجزية وعلى أرضيهم الطسق (2) ولم يقسم بينهم. وحدثني سعيد بن أبي سليمان , عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، حدثنا الماجشون , قال: قال بلال لعمر بن الخطاب في القرى التي افتتحها عنوة: اقسمها بيننا , وخذ خمسها. فقال عمر: لا , هذا عين المال , ولكن أحبسه فيما يجري عليهم وعلى المسلمين. فقال بلال وأصحابه: أقسمها بيننا. فقال عمر: اللهم اكفني بلالا وذويه. قال: فما حال الحول ومنهم حي يطرف. قال عبد العزيز بن سلمة: وأخبرني زيد بن أسلم , قال: قال عمر: تريدون أن يأتي آخر الناس وليس لهم شيء. حدثنا عبد الرحمن بن مهدي , عن مالك بن أنس , عن زيد بن أسلم , عن أبيه قال: سمعت عمر قال: لولا آخر الناس ما افتتحت قرية إلا قسمتها. حدثنا ابن أبي مريم , عن ابن لهيعة قال: أخبرني يزيد بن أبي حبيب عمن سمع عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة يقول: سمعت سفيان بن وهب الخولاني يقول: لما افتتحت مصر بغير عهد , قام الزبير فقال: يا عمرو بن العاص اقسمنها. فقال عمرو: لا أقسمها. فقال الزبير: لتقسمنها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر. فقال عمرو: لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إلى عمر , فكتب إليه: أن دعها حتى يغزو منها حبل الحبلة. حدثنا أبو الأسود عن ابن لهيعة , عن زيد بن أبي حبيب , أن عمر كتب إلى سعد بن أبي وقاص يوم فتح العراق , أما بعد فقد بلغني كتابك أن الناس قد سألوا أن تقسم بينهم غنائمهم وما أفاء الله عليهم، فانظر ما أجلبوا به عليك في العسكر من كراع أو مال فاقسمه بين من حضر من المسلمين , واترك الأرضين والأنهار لعمالها ليكون ذلك في أعطيات المسلمين , فإنا لو قسمناها بين من حضر لم يكن لمن بعده شيء.   (1) الأموال. ص: 181 و184 الأثر: 146 إلى 152. (2) الخراج ولعلها ليست عربية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1301 حدثنا إسماعيل بن جعفر , عن إسرائيل , عن أبي إسحاق , عن حارثة بن مضرب , عن عمر أنه أراد أن يقسم السواد بين المسلمين , فأمر أن يحصر , فوجد الرجل يصيبه ثلاثة من الفلاحين , فشاور في ذلك , فقال له علي بن أبي طالب: دعهم يكونوا مادة للمسلمين. فتركهم وبعث إليهم عثمان بن حنيف , فوضع عليهم ثمانية وأربعين , وأربعة وعشرين , واثني عشر (1) حدثنا هشام بن عمار الدمشقي , عن يحيى بن حمزة , قال: حدثني تميم بن عطية المعلي , قال: أخبرني عبد الله بن أبي قيس أو عبد الله بن قيس الهمداني - شك أبو عبيد (2) قال: قدم عمر الجابية , فأراد قسم الأرض بين المسلمين , فقال له معاذ: والله إذن ليكون ما تكره , إنك إن قسمتها صار الربع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون , فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة , ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا وهم لا يجدون شيئًا , فانظر أمرًا يسع أولهم وآخرهم. قال هشام: وحدثني الوليد بن مسلم , عن تميم بن عطية , عن عبد الله بن أبي قيس - أو ابن قيس - (3) أنه سمع عمر يكلم الناس في قسم الأرض , ثم ذكر كلام معاذ إياه , قال: فصار عمر إلى قول معاذ. وقال ابن زنجوية (4) :   (1) على أساس اعتبار رقم استدلالي لها - حسب التعبير الحديث - يزيد وينقص اعتبار الأقوال لمن تضرب عليهم , وفي ذلك روى ابن زنجويه (الأموال. ج: 1. ص: 159 الأثر: 157) وغيره واللفظ لابن زنجويه , قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مندل , عن الشيباني , عن أبي عون , عن المغيرة , عن شعبة , أن عمر بعث إلى رهط من أهل السواد , فسألهم عن أعمالهم وعن عيالهم وعن بطالتهم , ثم وضع عليهم ثمانية وأربعين درهمًا , وأربعة وعشرين , واثني عشر. وأعقبه بحديث أبي عبيد الذي أدرجناه في الأصل على حين وردت أحاديث بما يزيد عن هذا القدر وينقص طبقًا لأحوال من تضرب عليهم. (2) قال ابن حجر (التقريب. ج: 1. ص: 442. ترجمة: 557) : عبد الله بن أبي قيس , ويقال: ابن أبي موسى أبو الأسود النصري بالنون الحمصي , ثقة مخضرم , من الثانية , ورمز إلى أنه روى عنه البخاري في الأدب المفرد ومسلم والأربعة. (3) قال ابن حجر (التقريب. ج: 1. ص: 442. ترجمة: 557) : عبد الله بن أبي قيس , ويقال: ابن أبي موسى أبو الأسود النصري بالنون الحمصي , ثقة مخضرم , من الثانية , ورمز إلى أنه روى عنه البخاري في الأدب المفرد ومسلم والأربعة. (4) الأموال. ج: 1. ص: 190. الأثر: 222. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1302 حدثنا سعيد بن أبي مريم، أنبأ محمد بن جعفر، أخبرني زيد بن أسلم , عن أبيه , أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: أنا والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس ببانا (1) ليس لهم شيء ما فتحت في قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ولم أتركها خزانة لهم يقسمونها. قال البخاري (2) : حدثنا صدقة، أخبرنا عبد الرحمن , عن مالك , عن زيد بن أسلم , عن أبيه قال: قال عمر رضي الله عنه: لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر. وقال البخاري (3) : حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر , قال: أخبرني زيد , عن أبيه , أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يقول: أما والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس ببانا ليس لهم شيء ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر , ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها. حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن مهدي , عن مالك بن أنس , عن زيد بن أسلم , عن أبيه , عن عمر رضي الله عنه قال: لولا آخر المسلمين ما فتحت عليهم قرية إلا قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر. ونقل الحافظ في الفتح (4) : عن الدارقطني عن غرائب مالك من طريق معن بن عيسى عن مالك بسند الحديث السابق , عن عمر قال: لئن بقيت إلى الحول لألحقن أسفل الناس بأعلاهما. لكن روى أحمد في مسنده (5) :   (1) بموحدتين مفتوحتين , الثانية ثقيلة , يعنى شيئًا واحدًا أو معدمين لا شيء لهم , وقيل: صوابه "بيانًا " بموحدة ثم تحتانية بدل الموحدة الثانية , والمعنى واحد , انظر ابن حجر فتح الباري. ج: 7. ص: 375 و376. (2) ج: 5. ص:81. (3) ج: 5. ص:81. (4) الصحيح. ج: 4. ص: 51. (5) ج: 1. ص:31. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1303 "عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو , قال: حدثنا هشام - يعني ابن سعد - عن زيد بن أسلم , عن أبيه قال: سمعت عمر يقول: لئن عشت إلى هذا العام المقبل لا يفتح للناس قرية إلا قسمتها بينهم كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر. وواضح أن بين هذا الأثر والآثار السابقة له عن عمر ما يشبه أن يكون عمر قد رجع عن احتباس الأرض المفتوحة عنوة وقفا لبيت مال المسلمين , ترجع عوائده على الأجيال المتعاقبة إلى قسمتها بين الفاتحين , وقد اعتمد ابن حزم في المحلى (1) هذه الرواية , فاستظهر بها لما ذهب إليه في هذا الشأن، بيد أننا نرتاب في صحتها متنا لما بين بعض ألفاظها وألفاظ الروايات الأخرى من شبه يوحي بأن فيما اختلفت فيه عن الروايات الأخرى وهما، وقد عرف هشام بن سعد بأنه صدوق , ولكن له أوهام (2) . وسيأتي عن عمر من التصرفات ما يعضد ما ذهبنا إليه في هذا الشأن على أن احتباس الأرض المفتوحة عنوة أو الرجوع عن احتباسها لو ثبت كلاهما يعضد ما نستظهر به من أعمال عمر على اعتبار التصرف بمقتضى الإمامة طبقًا للمصلحة العامة قاعدة شرعية ثابتة تضبط تصرفات أولي الأمر , وتحكم ما قد تتغاير فيه المصلحتان العامة والخاصة. قال يحيى بن آدم (3) : "حدثنا قيس بن الربيع , عن رجل من بني أسد , عن أبيه قال: أصفى حذيفة أرض كسرى وأرض آل كسرى ومن كان كسرى أصفى أرضه , وأرض من قتل , ومن هرب , والآجام ومغيض الماء. قلت: كان حذيفة عاملًا لعمر. وقال: "حدثنا عبد الله بن المبارك , عن عبد الله بن الوليد بن عبد الله بن معقل , قال: حدثني عبد الملك بن أبي حرة , عن أبيه قال: أصفى عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا السواد عشرة أصناف , أصفى أرض من قتل في الحرب , ومن هرب من المسلمين , وكل أرض لكسرى , وكل أرض كانت لأحد من أهله , وكل مغيض , وكل دبر بريد , قال: ونسيت أربعًا , قال: وكان خراج ما أصفى سبعة آلاف ألف , فلما كانت الجماجم أحرق الناس الديوان , فأخذ كل قوم ما يليهم.   (1) ج: 7. ص: 343. (2) انظر ابن حجر في تهذيب التهذيب. (3) الخراج. ص: 63.الأثر: 197 و199. وانظر أيضًا السنن الكبرى ج: 9. ص: 134. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1304 حدثنا عبد السلام بن حرب , عن عبد الله بن الوليد المزني , عن رجل من بني أسد , قال: لم أدرك بالكوفة أحدًا كان أعلم بالسواد منه , قال: بلغت غلة الصوافي على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أربعة آلاف ألف , وهي التي يقال لها: صوافي الأسنان اليوم , قلت: وما الصوافي؟ قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصفى كل أرض كانت لكسرى أو لآل كسرى أو رجل قتل في الحرب أو رجل لحق بأهل الحرب أو مغيض ماء أو دبر بريد , قال: وخصلتين ذكرهما ولم أحفظهما. وفي حديث قيس: والآجام , ومن كان كسرى أصفى أرضه. وقال أبو عبيد (1) . "حدثنا معاذ بن معاذ وأزهر السمان , كلاهما عن ابن عون , فأما أزهر فقال: عن عمر بن يحيى الزرقي , وأما معاذ فقال: عن الزرقي ولم يسمه , قال: أقطع أبو بكر طلحة بن عبيد الله أرضًا , وكتب له بها كتابًا , وأشهد له ناسًا فيهم عمر قال: فأتى عمر طلحة بالكتاب , فقال: اختم على هذا. قال: لا أختم , أهذا كله لك دون الناس؟ قال: فرجع طلحة مغضبًا إلى أبي بكر. فقال: والله ما أدري أنت الخليفة أم عمر؟ قال: لا بل عمر , ولكنه أبى. وقال ابن زنجويه (2) : حدثنا النضر، أخبرنا ابن عون، أنبأنا رجل من بني زريق , أن أبا بكر رضي الله عنه أقطع طلحة أرضًا , وكتب له بها كتابًا , وأشهد فيه ناسًا , وأشهد عمر فيمن أشهد , قال: فأتاه بالكتاب , وقال: اختم هذا. قال: لا , لم؟ أكل المسلمين أعطى مثل ما أعطاك؟ قال: فخرج وهو غضبان حتى دخل على أبي بكر , فقال: ما أدري أنت الخليفة أم عمر؟ قال: لا , بل عمر , لكنه أبى ذلك.   (1) الأموال. ص: 191. أثر: 685. (2) الأموال ج: 2. ص: 622 و623. أثر: 685. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1305 قلت: تكلموا في عمر بن يحيى الزرقي , وقال عنه ابن معين: ليس بشيء (1) ثم إنهم قالوا: إن حديثه عن أبي بكر وعمر مرسل , ومع ذلك فهو يتسق مع تصرفات عمر التي سيأتي بعض منها , وقد روى ابن زنجويه هذا الحديث عن أبي عبيد بالسند السابق (2) . وقال أبو عبيد (3) : حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي , عن محمد بن شعيب بن شابور , عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر , أن أبا بكر أقطع لعيينة بن حصن قطيعة , وكتب له بها كتابًا , فقال طلحة أو غيره: وإنا نرى هذا الرجل سيكون من هذا الأمر بسبيل - يعني عمر - فلو أقرأته كتابك فأتى عيينة عمر , فأقرأه كتابه , ثم ذكر مثل حديث ابن عون - يعني المتقدم في شأن طلحة - وزاد فيه: أنه بصق في الكتاب ومحاه , قال: فسأل عيينة أبا بكر أن يجدد له كتابًا , فقال: لا , والله لا أجدد شيئًا رده عمر. ورواه البيهقي بأطول ولفظه (4) : أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد، أنبأ عبد الله بن درستويه، حدثنا أبو يوسف يعقوب بن سفيان، حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا المحارب , عن حجاج بن دينار الواسطي , عن ابن سيرين , عن عبيدة قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقالا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم , إن عندنا أرضًا سبخة , ليس فيها كلأ ولا منفعة , فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نزرعها ونحرثها ... فذكر الحديث في الإقطاع وإشهاد عمر رضي الله عنه عليه ومحوه إياه , فقال عمر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما , والإسلام يومئذ قليل , وإن الله أعز الإسلام , فاذهبا فاجهدا جهدكما , لا أرعى الله عليكما إن رعيتما.   (1) قال البخاري (التاريخ الكبير. ج: 6. ص: 206. ترجمة: 2184) : عمر بن يحيى الزرقي الأنصاري , أن أبا بكر رضي الله عنهما , روى عنه ابن عون , مرسل. ونقل الرازي (الجرح والتعديل. ج: 6. ص: 142. ترجمة: 769) كلام البخاري بلفظه ونسبه إلى أبيه , ثم روى بسنده عن عثمان بن سعيد , قال: قلت ليحيى بن معين: عمر بن يحيى ما حاله؟ قال: ليس شيء. قلت: لم أعزله على ذكر في تاريخ ابن معين. وقال الذهبي (الميزان. ج: 3. ص: 230. ترجمة 6247) : عمر بن يحيى الزرقي شيخ تابعي , حدث عنه ابن عون , قال ابن معين: ليس بشيء. (2) الأموال. الأثر: 1024. (3) الأموال. الأثر: 686. (4) السنن الكبرى. ج: 7. ص: 20. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1306 ونقله السيوطي (1) عن ابن أبي حاتم بمثل لفظ البيهقي فقال: وأخرج ابن أبي حاتم عن عبيدة السلماني , قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر , فقالا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم , إن عندنا أرضًا سبخة , ليس فيها كلأ ولا ماء ولا منفعة , فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نحرثها أو نزرعها , أو لعل الله أن ينفع بها. فأقطعهما إياها , وكتب لهما بذلك كتابًا وأشهد لهما , فانطلقا إلى عمر ليشهداه على ما فيه , فلما قرآ على عمر ما في الكتاب , تناوله من أيديهما , فتفل فيه فمحاه , فتذمرا وقالا له مقالة سيئة , فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفهما , والإسلام يومئذ قليل , وإن الله قد أعز الإسلام , فاذهبا فاجهدا جهدكما , لا أرعى الله عليكما إن رعيتما. قلت: كان عيينة بن حصن ممن تألفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني فزارة , وكان الأقرع بن حابس ممن تألفهم من بني نصر. وقال الطبري (2) : "حدثنا القاسم , قال: حدثنا الحسين , قال: حدثنا هشيم , قال: حدثنا عبد الرحمن بن يحيى , عن حبان بن أبي جبلة , قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأتاه عيينة بن حصن: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} , وتعقبه بقوله: أي ليس اليوم مؤلفة. وقال عبد الرزاق (3) : عن ابن جريج قال: حدثني هشام بن عروة , عن عروة , أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أخبره , عن أبيه قال: توفي حاطب وترك أعبدًا , منهم من يمنعه من ستة آلاف يعملون في مال لحاطب بشمران , فأرسل إلي عمر ذات يوم ظهرًا وهم عنده , فقال: هؤلاء أعبدك سرقوا , وقد وجب عليهم ما وجب على السارق , وانتحروا ناقة لرجل من مزينة واعترفوا بها ومعهم المزني , فأمر عمر أن تقطع أيديهم , ثم أرسل وراءه , فرده ثم قال لعبد الرحمن بن حاطب: أما والله لولا أن أظن أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم يجد ما حرم الله عليه يأكله لقطعت أيديهم , ولكن والله إذ تركتهم لأغرمنك غرامة توجعك، ثم قال للمتولي: كم ثمنها؟ قال: كنت أمنعها من أربعمائة. قال: أعطه ثمانمائة.   (1) الدر المنثور. ج: 3. ص: 252. (2) ج: 10. ص:113. (3) المصنف. ج: 1. ص: 238 , الأثر 18977و 18978. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1307 وعن معمر , عن هشام بن عروة , عن أبيه , عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب , أن غلمة لأبيه عبد الرحمن بن حاطب سرقوا بعيرًا فانتحروه , فوجد عندهم جلده ورأسه , فرفع أمرهم إلى عمر بن الخطاب , فأمر بقطعهم , فمكثوا ساعة وما نرى إلا أن قد فرض من قطعهم , ثم قال عمر: علي بهم , ثم قال لعبد الرحمن: والله لأني أراك تستعملهم وتسيء إليهم حتى لو وجدوا ما حرم الله لا حل لهم , ثم قال لصاحب البعير: كم كنت تعطي لبعيرك؟ قال: أربعمائة. قال لعبد الرحمن: قم فاعزم لهم ثمانمائة درهم. وقال البيهقي (1) : أخبرنا أبو زكرياء بن أبي إسحاق وأبو سعيد بن أبي عمرو , قالا: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني، حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب , أنبأ جعفر بن عون، حدثنا هشام بن عروة , عن أبيه , عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: أصاب غلمان لحاطب بن أبي بلتعة بالعالية ناقة لرجل من مزينة , فانتحروها واعترفوا بها , فأرسل إليه عمر , فذكر ذلك له , وقال: هؤلاء أعبدك قد سرقوا وانتحروا ناقة رجل من مزينة , واعترفوا بها. فأمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم , ثم أرسل بعدما ذهب فدعاه , وقال: لولا أني أظن أنكم تجيعونهم حتى إن أحدهم أتى ما حرم الله عز وجل , لقطعت أيديهم , ولكن والله لئن تركتهم لأغرمنك فيهم غرامة توجعك. فقال: كم ثمنها للمزني؟ قال: كنت أمنعها من أربعمائة. قال: فأعطه ثمانمائة. وقال ابن حجر (2) : وقال البخاري في التاريخ الصغير: حدثنا محمد بن العلاء , وقال الحاملي في أماليه: حدثنا مروان بن عبد الله - واللفظ له – قالا: حدثنا عبد الرحمن بن حميد المحاربي، حدثنا حجاج بن دينار , عن أبي عثمان , عن محمد بن سيرين , عن عبيدة بن عمرو قال: جاء الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال (3) : يا خليفة رسول الله , إن عندنا أرضًا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة , فإن رأيت أن تقطعناها. فأجابهما , وكتب لهما , وأشهد القوم , وعمر ليس فيهم , فانطلقا إلى عمر يشهداه فيه , فتناول الكتاب وتفل فيه ومحاه , فتذمرا له , وقالا له مقالة سيئة , فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما , والإسلام يومئذ قليل , وأن الله قد أعز الإسلام , اذهبا فاجهدا على جهدكما , لا رعى الله عليكما إن رعيتما. فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمران , فقالا: ما ندري والله أنت الخليفة أو عمر؟ فقال: لا , بل هو لو كان شاء. فجاء عمر وهو مغضب , فوقف على أبي بكر , فقال: أخبرني عن هذا الذي أقطعتهما أرضا هي لك خاصة أو للمسلمين؟ قال: بل للمسلمين عامة. قال: فما حملك على أن تخص بها هذين؟ قال: استشرت الذين حولي فأشاروا علي بذلك , وقد قلت لك: إنك أقوى على هذا مني. وقال ابن زنجويه (4) : حدثنا أبو الأسود، حدثنا ابن لهيعة , عن ابن أبي حبيب , عن ابن أخي عمرو بن الصعق أنه كتب إلى عمر بن الخطاب بأبيات من شعر لما كثر عمال عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عنه: أبلغ أمير المؤمنين رسالة فأنت أمين الله في المال والأمر فلا تدعن أهل الرساتيق والجزى يشيعون مال الله في الأدم الوفر فأرسل إلى النعمان فاعلم حسابه وأرسل إلى عمرو وأرسل إلى بسر ولا تنسين النافعين كليهما وصهر بني غزوان عندك ذو وفر ولا تدعوني للشهادة إنني أغيب ولكني أرى عجب الدهر من الخيل كالغزلان والبيض كالدمى وما ليس ينسى من قدام ومن ستر ومن غيظة مكنونة في صيانها ومن طي أستار معصفرة حمر فقاسمهم أهلي فداؤك إنهم سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر إذا التاجر الطائي جاء بفأرة من المسك راحت في مفارقهم تجري تبيع إذا باعوا وتغزو إذا غزوا فأنى لهم مال ولسنا بذي وفير.   (1) السنن الكبرى. ج: 8. ص: 278. (2) الإصابة ج3. ص: 55 ترجمة: 6151. (3) لعل فيه خطأ صوابه: فقالا (4) كتاب الأموال. ج: 2. ص: 604و 605 , أثر: 995 و996. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1308 وكان عمر بن الخطاب إذا استعمل عاملًا فاستكثر ماله , بعث إليه , فأخذ بشطر ماله. قال أبو عبيد: وأخبرنا معاذ بن معاذ , عن ابن عون , عن ابن سيرين قال: لما قدم أبو هريرة من البحرين , قال له عمر: يا عدو الله وعدو كتابه , أسرقت مال الله؟ قال: لست عدو الله ولا عدو كتابه , ولكني عدو من عاداهما , ولم أسرق مال الله. قال: فقال: من أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟ قال: خيلي تناسلت , وعطائي تلاحق , وسهامي تلاحقت. فقبضها منه , قال أبو هريرة: فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين. وروى عبد الرزاق هذا الأثر فقال (1) : عن معمر , عن أيوب , عن ابن سيرين , أن عمر بن الخطاب استعمل أبا هريرة على البحرين , فقدم بعشرة آلاف , فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله وعدو كتابه. قال أبو هريرة: لست عدو الله ولا عدو كتابه , ولكني عدو من عاداهما. قال: فمن أين هي لك؟ قال: خيل لي تناتجت , وغلة رقيق لي , وأعطية تتابعت علي. فنظروه , فوجدوه كما قال. قال: فلما كان بعد ذلك , دعاه عمر يستعمله فأبى أن يعمل له , فقال: أتكره العمل وقد طلب العمل من كان خيرًا منك يوسف؟ قال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي , وأنا أبو هريرة ابن أميمة أخشى ثلاثًا واثنتين , قال له عمر: أفلا قلت خمسًا؟ قال: لا , أخشى أن أقول بغير علم , وأقضي بغير حلم , ويضرب ظهري , وينتزع مالي ويشتم عرضي.   (1) المصنف. ج: 11. ص: 323. أثر: 20659 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1309 وقال ابن سعد (1) : أخبرنا عمرو بن الهيثم , قال: حدثنا أبو هلال , عن محمد بن سيرين , عن أبي هريرة قال: كنت عاملًا بالبحرين , فقدمت على عمر بن الخطاب , فقال: عدوا لله وللإسلام - أو قال: عدوًا لله ولكتابه - سرقت مال الله. قلت: لا , ولكني عدو من عاداهما , خيل لي تناتجت , وسهام لي اجتمعت. وأخذ مني عشرة آلاف , قال: ثم أرسل إلي بعد آن: ألا تعمل؟ قلت: لا. قال: لم أليس قد عمل يوسف؟ قلت: يوسف نبي ابن نبي , وأخشى من عملكم ثلاثًا واثنتين , قال: أفلا تقول خمسًا؟ قال: لا، أخاف أن يشتم عرضي ويؤخذ مالي ويضرب ظهري , وأخاف أن أقول بغير علم , وأقضي بغير حلم. أخبرنا هوذة بن خليفة وعبد الوهاب بن عطاء ويحيى بن خليف بن عقبة وبكار بن محمد , قالوا: حدثنا ابن عون , عن محمد بن سيرين , عن أبي هريرة قال لي عمر: يا عدو الله وعدو كتابه , أسرقت مال الله؟ قال: فقلت: ما أنا بعدو الله , ولا بعدو كتابه , ولكني عدو من عاداهما , ولا سرقت مال الله. قال: فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟ قال: قلت يا أمير المؤمنين , خيلي تناسلت , وسهامي تلاحقت , وعطائي تلاحق. قال: فأمر بها أمير المؤمنين , فقبضت. قال: فكان أبو هريرة يقول: اللهم اغفر لأمير المؤمنين. أخبرنا عمرو بن عاصم الكلابي، حدثنا همام بن يحيى , قال: حدثنا إسحاق بن عبد الله , أن عمر بن الخطاب قال لأبي هريرة: كيف وجدت الإمارة يا أبا هريرة؟ قال: بعثتني وأنا كاره , ونزعتني وقد أحببتها , وأتاه بأربعمائة ألف من البحرين , فقال: أظلمت أحدًا؟ قال: لا، قال: أخذت شيئًا بغير حقه؟ قال: لا، قال: فما جئت به لنفسك؟ قال: عشرين ألفًا. قال: من أين أصبتها؟ قال: كنت أتجر. قال: انظر رأس مالك ورزقك وخذه , واجعل الآخر في بيت المال. وقال أبو عبيد (2) : حدثنا عبد الله بن صالح , عن الليث بن سعد , عن يحيى بن سعيد , أن عمرو بن الصعق لما نظر إلى أموال العمال تكثر , استكثر ذلك , فكتب إلى عمر بن الخطاب بأبيات شعر قد ذكرها عبد الله بن صالح عن الليث في حديثه , قال: فبعث عمر إلى عماله وفيهم سعد وأبو هريرة , فشاطرهم أموالهم.   (1) الطبقات الكبرى. ج: 4. ص: 335. (2) الأموال. ص: 381 أثر: 664 إلى 666. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1310 وحدثنا معاذ , عن ابن عون , عن ابن سيرين قال: لما قدم أبو هريرة من البحرين , قال له عمر: يا عدو الله وعدو كتابه , أسرقت مال الله؟ قال: لست بعدو الله ولا بعدو كتابه , ولكن عدو من عاداهما , ولم أسرق مال الله. قال: فمن أين اجتمعت إليك عشرة آلاف درهم؟ قال: خيلي تناسلت , وعطائي تلاحق , وسهامي تلاحقت. فقبضها منه، قال أبو هريرة: فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين. وحدثنا يعقوب بن إسحاق , عن زيد بن إبراهيم التستري , عن ابن سيرين , عن أبي هريرة مثل ذلك , وزاد فيه قال: قال أبو هريرة: ثم قال لي عمر بعد ذلك: ألا تعمل؟ قلت: لا. قال: لم أليس قد عمل من هو خير منك يوسف؟ فقلت: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي , وأنا ابن أميمة , وأخشى ثلاثًا واثنتين , قال: فهلا قلت خمسًا؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم , وأحكم بغير حلم - وقال: أقول بغير حلم وأحكم بغير علم , قال: الشك من ابن سيرين - وأخشى أن يضرب ظهري , ويشتم عرضي , وينزع مالي. وقال ابن زنجوية (1) : "أنبأ بكر بن بكار، أنبأ أبو حرة، حدثنا محمد , قال: قال عمر لأبي هريرة: يا عدو الله وعدو كتابه , خنت مال الله؟ قال: ما خنت مال الله , وما أنا بعدو الله ولا عدو كتابه , ولكن عدو من عاداهما , سهامي اجتمعت , وخيلي تناسلت. قال: فغرمه اثني عشر ألف درهم , فلما دخل الصلاة , قال: اللهم اغفر لعمر. حدثنا محاضر بن مجالد بن سعيد , عن عامر الشعبي قال: قال عمر لأناس من أصحاب محمد: يا معشر أصحاب محمد , إذا تخلفتم عن الأمر بمن أستعين أو من أبعث؟ قال أبو هريرة: فأمرني على البحرين , قال: فأتاه بثلاثمائة ألف درهم , فقال عمر: ما رأيت مالًا قط أكثر من هذا , ما في هذا إلا دعوة مظلوم أو مال يتيم؟ قال أبو هريرة: بئس المرء أنا إن كان المهنأ لك , وإن كانت لي المؤنة , ولكن والله ما ألوت أن أطيب. فقال عمر: لله الحمد. فقال أبو هريرة: والله لا أرجع. فقال له: لم يا أبا هريرة؟ قال: لأني أخاف اثنتين - أظنه قال: فيما بيني وبين الله - أخاف بيني وبين الله: أن أقول بغير حكم , وأقضي بغير حق , وأخاف ثلاثًا فيما بيني وبينك: أن أصيب شيئًا فلا تحله لي , وأتعقب من مال فلا تعقبه لي , وإن حدثتك فلا تصدقني.   (1) الأموال. ج2. ص: 606 أثر: 997 و998. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1311 وقال أبو يوسف (1) : "حدثني المجالد بن سعيد , عن عامر , عن المحرر بن أبي هريرة , عن أبيه , أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إذا لم تعينوني فمن يعينني؟ قالوا: نحن نعينك. فقال: يا أبا هريرة أنت البحرين وهجر , ائت العام. قال: فذهبت فجئته في آخر السنة بغرارتين فيهما خمسمائة ألف , فقال له عمر رضي الله عنه: ما رأيت مالًا مجتمعًا قط أكثر من هذا , فيه دعوة مظلوم أو مال يتيم أو أرملة , قال: قلت: لا والله بئس والله الرجل أنا , إذًا إن ذهبت أنت بالمهنأ , وأنا أذهب بالمؤنة. قال الطبري (2) : كتب إلي السري , عن شعيب , عن سيف , عن أبي المجالد وأبي عثمان والربيع وأبي حارثة , قالوا: ولما قفل خالد وبلغ الناس ما أصابت تلك الطائفة , انتزعه رجال , فانتجع خالدًا رجال من أهل الآفاق , فكان الأشعث بن قيس (3) ممن انتجع خالدًا بقنسرين , فأجازه خالد بعشرة آلاف , وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله، كتب إليه من العراق بخروج من خرج , ومن الشام بجائزة من أجيز فيها , فدعا البريد , وكتب معه إلى أبي عبيدة أن يقيم خالدًا ويعقله بعمامته وينزع منه قلنسوته حتى يعلمهم من أين إجازة الأشعث , أمن ماله أم من إصابة أصابها؟ فإن زعم أنها من إصابة أصابها , فقد أقر بخيانة , وإن زعم أنها من ماله , فقد أسرف واعزله على كل حال , واضمم إليك عمله , فكتب أبو عبيدة إلى خالد , فقدم عليه , ثم جمع الناس , وجلس على المنبر , فقام البريد وقال: يا خالد , أمن مالك أوجزت بعشرة آلاف أو من إصابة؟   (1) الخراج. ص: 114. (2) تاريخ الرسل والملوك. ج: 4. ص: 67 وما بعدها. (3) الأشعث بن قيس الكندي صحابي نزل الكوفة كما يقول ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 1. ص: 359. ترجمة 653) , وقيل: مات بها أيضًا بعد استشهاد علي رضي الله عنه بيسير حين صالح الحسن عليه السلام ومعاوية , وكان قد ارتد ثم عاد إلى الإسلام في خلافة أبي بكر وزوجه أخته أم فروة , وشهد القادسية والمدائن وصفين , وكان له دور في الفتنة يغفر الله لنا وله , ولولا أنه صحابي لكان لنا فيه مقال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1312 فلم يجبه حتى أكثر عليه وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئًا , فقام بلال إليه , فقال: إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا. ثم تناول قلنسوته فعقله بعمامته , وقال: ما تقول؟ أمن مالك أم من إصابة؟ قال: لا , بل من مالي , فأطلقه وأعاد قلنسوته , ثم عممه بيده , ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا , ونفخم ونخدم موالينا , قال: وأقام خالد متحيرًا لا يدري أمعزول أم غير معزول , وجعل أبو عبيدة لا يخبره حتى إذا طال على عمر أن يقدم , ظن الذي كان , فكتب إليه بالإقبال , فأتى خالد أبا عبيدة , فقال: رحمك الله ما أردت إلى ما صنعت كتمتني أمرًا كنت أحب أن أعلمه قبل اليوم , فقال أبو عبيدة: إني ما كنت والله لأروعك ما وجدت لذلك بدا , وقد علمت أن ذلك يروعك , قال: فرجع خالد إلى قنسرين فخطب أهل عمله وودعهم وتحمل , ثم أقبل إلى حمص فخاطبهم وودعهم , ثم خرج نحو المدينة حتى قدم على عمر فشكاه , وقال: لقد شكوتك إلى المسلمين , والله إنك في أمري غير مجمل يا عمر. فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان، ما زاد على الستين ألفًا فلك , فقوم عمر عروضه , فخرجت إليه عشرون ألفًا , فأدخلها بيت المال , ثم قال: يا خالد , والله إنك علي لكريم , وإنك إلي لحبيب , ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء. كتب إلي السري عن شعيب , عن سيف , عن عبد الله بن مستورد , عن أبيه , عن عدي بن سهيل قال: كتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدًا عن سخطة ولا خيانة , ولكن الناس فتنوا به , فخفت أن يتوكلوا عليه ويبتلوا به , فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع , وألا يكونوا بعرض فتنة. كتب إلى السري عن شعيب , عن سيف , عن مبشر , عن سالم قال: لما قدم خالد على عمر قال عمر متمثلًا: صنعت فلم يصنع كصنعك صانع وما يصنع الأقوام فالله صانع. فأغرمه شيئًا , ثم عوضه , وكتب فيه إلى الناس بهذا الكتاب , ليعذره عندهم وليبصرهم. وقال الذهبي (1) :   (1) سير أعلام النبلاء. ج: 1. ص: 380. ترجمة: 78. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1313 "الأصمعي , عن ابن عون , عن ابن سيرين , أن خالد بن الوليد دخل وعليه قميص حرير , فقال عمر: ما هذا؟ قال: وما بأسه , قد لبسه ابن عوف. قال: وأنت مثله (1) عزمت على من في البيت إلا أخذ كل واحد منه قطعة فمزقوه. وقبل هذا روى الذهبي ما نقلناه عن الطبري في عزل عمر لخالد , ولم ينسبه إلى الطبري , وإنما قال (2) : "ومن كتاب سيف عن رجاله قال: كان عمر لا يخفى عليه شيء من عمله , وإن خالدًا أجاز الأشعث بعشرة آلاف، فدعا البريد وكتب إلى أبي عبيدة أن تقيم خالدًا وتعقله بعمامته , وتنزع قلنسوته حتى يعلمك من أين أجاز الأشعث , أمن مال الله أم من ماله؟ فإن زعم أنه من إصابة أصابها , فقد أقر بخيانة، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف، واعزله على كل حال، واضمم إليك عمله , ففعل ذلك , فقدم خالد على عمر فشكاه , وقال: لقد شكوتك إلى المسلمين وبالله , يا عمر إنك في أمري غير مجمل. فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان، ما زاد على الستين ألفًا فلك , تقوم عروضه , قال: فخرجت عليه عشرون ألفًا , فأدخلها بيت المال. ثم قال: يا خالد , والله إنك لكريم علي , إنك لحبيب إلي، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء. وقال عبد الرزاق (3) : عن معمر , عن أيوب , عن ابن سيرين , أن رجلًا دخل على عمر بن الخطاب وعليه ثوب "ملالا " - لعله ملألأ منصوب على الحال مخففة فيه الهمزة على مذهب من لا ينطق بالهمزة , أي: صبغ صباغة أحدثت فيه لمعانًا - فأمر به عمر , فمزق عليه , فتطاير في أيدي الناس , فقال عمر: أحسبه حريرًا. وقصة عمر مع قصر سعد بن أبي وقاص في الكوفة مما استفاض ذكره بين الناس , وصفوتها مما رواه الطبري (4) من حديث ابن إسحاق:   (1) الظاهر أن عمر يشير إلى أن ابن عوف رخص له رسول الله صلى الله عليه وسلم في لبس الحرير لمرض به يمنعه من لبس غيره. (2) سير أعلام النبلاء. ج: 1. ص: 380. ترجمة: 78. (3) المصنف. ج: 11. ص: 88 أثر: 19977. (4) تاريخ الرسل والملوك. ج: 4. ص: 47. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1314 "وكانت الأسواق تكون في موضعه بين يديه , فكانت غوغاؤهم تمنع سعدًا. الحديث. فلما بني - يعني قصر سعد - ادعى الناس عليه ما لم يقل , وقالوا: قال سعد: سكن عني الصويت. وبلغ عمر ذلك , وأن الناس يسمونه قصر سعد , فدعا محمد بن مسلمة فسرحه إلى الكوفة , وقال: اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه , ثم ارجع عودك على بدئك , فخرج حتى قدم الكوفة , فاشترى حطبًا , ثم أتى به القصر , فأحرق الباب , وأتي سعد , فأخبر الخبر , فقال: هذا رسول أرسل لهذا الشأن , وبعث لينظر من هو , فإذا هو محمد بن مسلمة , فأرسل إليه رسولًا بأن ادخل , فخرج إليه سعد , فأراده على الدخول والنزول , فأبى , وعرض عليه نفقة , فلم يأخذ ودفع كتاب عمر إلى سعد: بلغني أنك بنيت قصرًا اتخذته حصنًا ويسمى قصر سعد , وجعلت بينك وبين الناس بابًا , فليس بقصرك , ولكنه قصر الخبال , انزل منه منزلًا مما يلي بيوت الأموال , وأغلقه , ولا تجعل على القصر بابًا تمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت , فحلف له سعد ما قال الذي قالوا - يعني: سكن عني الصويت - ورجع محمد بن مسلمة من فوره حتى إذا دنا من المدينة فني زاده , فتبلغ بلحاء من لحاء الشجر , فقدم على عمر وقد سنق - أي: بشم - فأخبره خبره كله , فقال: فهلا قبلت من سعد. قال: لو أردت ذلك كتبت لي به أو أذنت لي فيه. فقال عمر: إن أكمل الرجال رأيًا من إذا لم يكن عهد من صاحبه , عمل بالحزم أو قال به ولم يتكل , وأخبره بيمين سعد وقوله , فصدق سعدًا , وقال: هو أصدق ممن روى عليه ومن أبلغني. ونحسب أن هذه النماذج - وأمثالها كثير في تصرفات عمر - رضي الله عنه تدمغ كل من يحاول أن يرتاب أو يريب أو يلبس على الناس في شأن التصرف بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة. فمنع عمر " الاحتكار " حتى في غير وقت حاجة الناس , بل لمجرد الاحتكار , سواء كان ضارا بالمستهلك بإغلاء السعر أو ضارا بالتاجر بإنقاص السعر عن المتواضع عليه في السوق تواضعًا غير احتكاري عمل من صميم التصرف بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة , سواء كانت المصلحة اقتضتها حماية التاجر أو المستهلك , فالمصلحة العامة ليست أداة حماية طبقة دون أخرى , أو صنف من الناس دون صنف , ولا هي قاعدة يتصرف الإمام اعتبارًا لها في حال دون حال , وإنما هي قاعدة ثابتة أصيلة يلتزمها الإمام في تصرفاته , وإن اضطره التزامها إلى تأويل نص أو وقف العمل به , كما فعل عمر ما هو مستفيض الشهرة عنه , ليس بحاجة إلى نقل مسند من وقفه العمل بقطع يد السارق في عام الرمادة اعتبارًا لحال الناس وما هم عليه يومئذ من الخصاصة التي تضطر البعض منهم إلى تصرفات لو طبق فيها الحكم المنصوص عليه في الكتاب أو في السنة لأوسعهم نكالًا , وإذا فقد يدفعهم إلى العصيان , وهو أشد وأسوأ عاقبة من مجرد التجاوز اضطرارًا لما حظرته النصوص وأوجبت عليه العقوبة في الأحوال العادية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1315 ومثل ما فعله في عام الرمادة إحجامه عن قطع أيدي أعبد لحاطب بن أبي بلتعة - وتقدم إسناد خبره - تقديرًا للظرف الذي دفعهم إلى الاعتداء على مال الغير على أن في هذه الحادثة حكما آخر رسخ قاعدة كنا عرضنا إذ وقفنا عند قوله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (1) وهي قاعدة تسليط العقوبة المالية في بعض الحالات التي تقتضى العقاب , ذلك بأن عمر غرم حاطبا قيمة الجمل الذي نحره أعبده مضاعفة , وهذا يعني أن للإمام أن يعاقب من ثبتت عليه جناية مالية أو لها علاقة بالمال , سواء اقترفها بنفسه أو كان السبب في اقترافها بأكثر مما أضاعت جنايته , وله تقدير هذا "الأكثر" حسب ما يراه اجتهاده رادعًا للجاني ومرضيا للمجني عليه وزاجرًا عن الجناية نفسها , ويتراءى لنا أن تغريم عمر حاطبا تلك الغرامة كان يريد به أن يشيع خبره في الناس , فيمتنعوا عن إجاعة من يعولونهم ويدركوا أن الغرامة على الجناية المالية لا تنحصر بالضرورة عن تعويض ما تلف بسببها , بل إن تقديرها يرجع إلى نظر الإمام وأدناه العوض المجرد. وبذلك يكون تغريم عمر لحاطب تطبيقًا لقاعدة المصلحة العامة وتصرف الإمام بمقتضاها لما توخاه من جعل حاطب عبرة لغيره من الناس، وربما من تشريع هذه القاعدة سنة يتبعها من قد يصير إليه بعده أمر الناس. وموقف عمر من عيينة بن حصن وإقطاع أبي بكر له قد يراه البعض عجبًا , ومن يدري فقد يتخذه الرافض - أو لعلهم اتخذوه , فليس بين أيدينا ما نرجع إليه من مصادرهم - مغمزًا في عمر، إذ يرون فيه عصيانًا صريحًا وإهانة لا تحتمل لأبي بكر , وهو الخليفة يومئذ , فالنظرة الساذجة تعتبر تفل عمر على وثيقة إقطاع أبي بكر لعيينة ومحوه إياها بيده أكثر من مجرد استخفاف لولي الأمر الأعلى، على حين أنه في عمقه عمل جليل من عمر لا يقصد به مجرد إنكار أن يستمر العمل بمداراة (المؤلفة قلوبهم) , وقد أصبح الإسلام عزيزًا يتحدى كل من تسول له نفسه التمرد أو حتى مجرد الفتنة , وإنما يقصد به - وربما أساسًا - أن يضع قاعدة جليلة , هي أن تصرف الإمام نفسه إذا كان مخالفًا للمصلحة العامة يفقد جلاله ووقاره , ويصبح مجردًا من كل احترام؛ لأن المصلحة العامة فوق كل اعتبار.   (1) الآية رقم (103) سورة التوبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1316 ونحسب أن أبا بكر قد فقه ذلك ووعاه , إذ رفض تجديد الوثيقة حين طلب إليه تجديدها , وآية ذلك أنه اتخذ نفس الموقف من طلحة كما اتخذ عمر منه نفس الموقف، وليس طلحة من المؤلفة قلوبهم , بل هو من صدور الصحابة , وكان أحد السبعة الذين جعل عمر الخلافة بينهم , وكان من أقرب المقربين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغم كل ذلك فعل عمر بوثيقة أبي بكر له بالإقطاع مثل ما فعل بوثيقة الإقطاع لعيينة من أبي بكر. ولا عبرة عندنا بمن حاول التشكيك في قضية طلحة , إذ كبر عليه أن يفعل عمر ما فعل بطلحة , فوهم وأوهم بأنها قضية عيينة مستندًا إلى رواية أن طلحة هو الذي نصح عيينة بأن يشهد عمر , وهو وهم عجب ساذج , إذ أن نصيحة طلحة كانت عن تجربة , فقد خبر بنفسه فعل عمر , فلما حضر إقطاع أبي بكر لعيينة نصحه أن يشهد عمر صدورًا عن تجربة سابقة له واختبارًا لموقف عمر إن كان سيختلف موقفه من عيينة عنه معه , ولكن مواقف عمر لا تختلف لسبب بسيط عميق , هو أنه – رضي الله عنه - كان في جميع تصرفاته يصدر عن قاعدة أصيلة في وعيه هي أن المصلحة العامة تعلو عن الأشخاص والمقامات وعن كل اعتبار غيرها. يدل على ذلك موقفه من خالد بن الوليد وأبي هريرة، فما من أحد يستطيع أن يتوهم - مجرد الوهم - أن عمر صدر في تصرفه مع خالد ومع أبي هريرة عن اتهام لأحدهما أو حتى عن مجرد اشتباه , ولكنه قدر أن الناس قد يقولون – والمتربصون والمترصدون للقيل والقال كثير -: إن عمر يغض الطرف عن تصرفات عماله , وإن عمال عمر يتأثلون الأموال في عملهم , وآية ذلك أبيات عمر أو أخيه - على اختلاف الروايات - تشي بالعمل إلى عمر , وتستعديه عليهم بما يشبه التحدي أو الامتحان. وأخرى أن عمر عرض على أبي هريرة أن يعود إلى العمل , فرفض أبو هريرة , وأثنى على خالد بعد أن انتزع منه ما انتزع , فقال له: يا خالد , والله إنك لكريم علي , وإنك لحبيب إلي , ولن تعاتبنى بعد اليوم على شيء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1317 ومرة أخرى لا عبرة بمن حاول التشكيك في قصة عمر مع خالد بحجة أن نقدة الحديث ضعفوا سيفًا , وأن في رجال قصته كما نقلها الطبري عن سيف ونقلها الذهبي عنه أيضًا جهالة , فالقصة مستفيضة , ووصم نقدة الحديث نقلة الأخبار بالضعف ليس بمسلم لهم , إذ لو سلمنا لهم به لالتبس علينا معظم تاريخ القرن الأول وما بعده مما لم يكن يبلغنا لولا ابن إسحاق والواقدي وسيف ومن على شاكلتهم. ثم إن سيفًا لم يصموه بمثل ما وصموا به مالك بن إسحاق , وليس هذا مجال التحقيق والتحرير في موقف رجال الحديث من نقلة الأخبار. وثالثة أن عمر حين نعي له خالد , صرح بما يؤكد ما ذهبنا إليه من تأويل قصته معه. قال الذهبي (1) " الواقدي: حدثنا عمر بن عبد الله بن رباح , عن خالد بن رباح، سمع ثعلبة بن أبي مالك يقول:. رأيت عمر بقباء , وإذا حجاج من الشام قال: من القوم؟ قالوا: من اليمن ممن نزل حمص ويوم رحلنا منها مات خالد بن الوليد , فاسترجع مرارًا , ونكس , وأكثر الترحم عليه وقال: كان والله سدادًا لنحر العدو وميمون النقيبة، فقال له علي: فلم عزلته؟ قال: عزلته لبذله المال لأهل الشرف وذوي اللسان. قال: فكنت عزلته عن المال وكنت تركته على الجند. قال: لم يكن ليرضى. قال: فهلا بلوته. ومرة أخرى حاول البعض التشكيك في هذه الرواية بما وصم به بعض نقدة الحديث الواقدي , وقد سبق جوابنا لهم، ونريد أن نقف مليا عند شهادة عمر لخالد كما وردت في هذه الرواية بأنه إنما عزله لبذله المال لأهل الشرف وذوي اللسان، كان خالد عاملًا لعمر على حمص وما يليها , فكان يتصرف تصرف الإمام في منطقة عمله , والذين سكنوا الشام بعد فتحها أوشاب من الناس مختلفة طبائعهم وخلائقهم اختلافهم أصولًا وسابقة في الإسلام ووعيًا بشريعته وخلقه، وخالد يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ربما أعطى شاعرًا أو داعية ليقطع لسانه أي ليكف أذاه عن المسلمين , وربما أعطى شريفًا في قومه ليتألفه والذين عرفوا (بالمؤلفة قلوبهم) هم أنماط من هؤلاء والشام حديثة عهد بالفتح , ولا تزال ثغورها ميادين حرب , والمصلحة العامة تقتضى أن يتخذ المسؤول فيها كل وسيلة يراها تعصم "الدواخل" والثغور عن كل تأثير "لمواجد" أو "قالات" يمكن أن تنتج بلبالا في الدهماء , اعتبارًا لهذه المصلحة أعطى خالد ما أعطى للأشعث بن قيس , وربما أعطى غيره من ذوي المقامات في قومهم , وربما أعطى بعض الشعراء أو الدعاة.   (1) سير أعلام النبلاء ج 1 ص 380 ترجمة 78 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1318 ونحسب أن عمر إنما وجد على خالد من قضية الأشعث بن قيس بالذات , فالرجل كان من "المؤلفة قلوبهم" ثم ارتد , ثم عاد وأسلم , وعمر يرى أن المسلمين في عهده لا ينبغي أن يقيموا وزنًا لمثل هذا الذي لا يمكن أن يستقر على حال , ورحم الله خالدًا أحسبه حين أعطى الأشعث , كان يحاول أن يحمله على الاستقرار على الإسلام , وأن يأمن اضطرابه , وأن يتألف به قومه. ورحم الله عمر لقد كان رأيه في الأشعث شديدًا , فليت خالد تركه فاضطرب فانكشف أمره للمسلمين قبل أن يكون ما كان في صفين يوم خب الأشعث وأوضع , وكان من أسباب الفتنة وعناصرها. ومهما يكن فكلا الرجلين كان يتصرف "بمقتضى الإمامة " اعتبارًا للمصلحة العامة لا يرتاب في ذلك إلا من ينقصه الوعي والفقه والتوفيق. ولم يكن عمر يلتزم اعتبار المصلحة العامة في تصرفاته بمقتضى الإمامة إذا كانت متصلة بشؤون المال العام أو بما يؤثر فيه فحسب , وإنما كان يلتزمه أيضًا فيما يتصل بشؤون السياسة والتوجيه الاجتماعي والفردي , من ذلك تمزيقه قميص خالد الحريري , وأمره بتمزيق قميص رجل دخل عليه , وكان "ملألأ " فظنه من حرير، والقميصان ملك لصاحبيهما , ولو وقف عمر عند ظواهر النصوص , لأقر بخلعهما , ولكنه نظر إلى أبعد من الظواهر , فخالد من صدور المسلمين , وكان قائد الجانب من الجند وعاملًا على ناحية من البلاد المفتوحة. أما الرجل الذي لم يسم فما أحسبه كان يجرؤ على أن يدخل على عمر في هيأته "اللامعة " تلك لو لم يكن من (ذوي الهيئات) ، لذلك رأى عمر أن يجعل من كليهما عبرة يتناقلها الناس ويتعظون بها، فزلة "ذوي الهيئات" والمقامات إذا لم تحسم بطريقة لها جهارة ودوي يصك آذان العامة , قد يتخذها البعض مسوغًا لسلوك يقدمون عليه , وقد يتخذها آخرون مادة للقيل والقال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1319 وحسما لهذا وذاك تجاوز عمر ظاهر النصوص واعتمدنا قاعدة التصرف بمقتضى المصلحة العامة , فرزأها في قميصيهما ابتغاء أن يشيع خبر ما فعل , وأن يتردد شيوعه بين الناس , فيزدجر المترصدون للاحتذاء , ويحرص المتربصون للغمز واللمز وترتكز قاعدة سياسية واجتماعية مفادها تأكيد حظر لبس الحرير إلا لضرورة مثل التي أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجلها لعبد الرحمن بن عوف أن يلبسه وتطبيق حكم الحظر على الناس جميعًا وإن اختلفت مواقعهم ومقاماتهم بأسلوب واحد لا يتأثر باختلاف المواقع والمقامات , فتتأكد بذلك سنة المساواة بين الناس في الحكم وتطبيق الحكم. وتحريق باب قصر سعد عمل سياسي بعيد المدى عميق الأثر , فعمر أعلم الناس بأنه لو كتب إلى سعد مجرد كتاب يأمره أن يهدم القصر , لا أن يخلع بابه فحسب , لما وضع سعد الكتاب من يده قبل أن يكون قد شرع في هدم القصر. ولكن "أقاويل " بلغت عمر , فخشي على دولة المسلمين أن تنتشر فيها "قالات " تخدش ثقة العامة في قادتها وصدور أئمتها , وما من شك في أن الناس جميعًا - أو جمهرة منهم على الأقل , لا سيما أهل الكوفة وكانوا جندًا لسعد في فارس - قد سمعوا أنه من المبشرين بالجنة , وعلموا مكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقالة فيه تشيع الريبة فيمن لا يزالون من الإسلام على رخاوة، ومن يدري فالعهد بالنفاق غير بعيد وإن مضت أعوام على لحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى , والاحتمال قوي بأن لا يزال في الناس منافقون دخلوا الإسلام رهبة من السيف أو رغبة في الكيد والفسق. وإذا فقد يجدون من قصر سعد - وقد بني على نمط قصور الأكاسرة كما تقول الروايات - ومن إغلاق سعد بابه على الغوغاء الذين يصطخبون عند بابه بتجارتهم , إذ كانت السوق بجانب القصر , والمسجد مادة للارتياب في مدلول العدل والمساواة في الإسلام أو للدس والوقيعة بين عامة المسلمين وصدور أئمتهم , فكان لزامًا أن يقضى على مثل هذا الاحتمال بعمل حاسم صاخب تتناقله الألسنة , ويتخذ منه الناس حديث مجلسهم , ويعتبر به غير سعد من العمال , وقل فيهم أو استحال من يسامت سعدًا موقعًا ومقامًا وعمق دين. ولا ريب عندنا في أن عمر قد ارتأى ذلك , وأبعد منه مدى وأعمق أثرًا وأبلغ اعتبارًا حين أمر محمد بن مسلمة بإحراق باب قصر سعد دون أن يطرقه أو ينذره , ولم يكن يقصد سعدًا بأمره , وإنما كان يقصد غيره من العمال , ويقصد عامة الناس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1320 وآية ذلك أنه عتب على محمد بن مسلمة إن لم يقبل النفقة التي عرضها عليه سعد ليبرهن على أنه لم يكن غاضبًا على سعد حين أصدر أمره ذاك , وأنه جعل سعدًا أحد السبعة الذين رشحهم للخلافة , ونصح للخليفة بعده إن لم يكن سعدًا أن يستعين بسعد , وتبرأ من أن يكون عزله عن عمله بالكوفة اشتباهًا في خيانته أو كفاءته. وقد نلتقي مع عمر وتصرفاته التشريعية البديعة فيما نستقبل من هذا البحث , فهو كاشف أسرار قاعدة (التصرف بمقتضى الإمامة) اعتبارًا للمصلحة العامة والمعلن بعمله أنها أهم مناطق للتشريع الإسلامي في المعاملات وغيرها مما يتصل بحياة البشر , بل وحتى في بعض شعائر العبادات. 17 - المصلحة العامة مناط للتشريع قال ابن منظور (1) : " المصلحة: الصلاح، والمصلحة واحدة المصالح. والاستصلاح: نقيض الاستفساد ". وقال (2) : " المفسدة خلاف المصلحة. والاستفساد خلاف الاستصلاح , وقالوا: هذا الأمر مفسدة لكذا، أي: فيه فساد، قال الشاعر: إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للعقل أي مفسده وفي الخبر: أن عبد الملك بن مروان أشرف على أصحابه وهم يذكرون سيرة عمر , فغاظه ذلك، فقال: إيها عن ذكر عمر , فإنه إزراء على الولاة مفسدة للرعية. وقد اشتبه على كثير من المتفقهة المقلدة من المحدثين ومن سبقهم بعد عصور الرواية والاجتهاد الأولى التمييز بين عموم لفظ " المصالح " وخصوص لفظ " المصالح المرسلة " , فخيل إليهم أنهما شيء واحد , وانطلقوا من هذا " الخيال " ينسبون أحكامًا مقررة أو يصدرون اجتهادات لبعض ما استجد من الأحداث والأحوال , وبذلك وقعوا في مزالق , أيسرها أن بعض الأحكام الثابتة بدلالة نص نقلي من فعل أو قول تخيلوها من " المصالح المرسلة ".   (1) لسان العرب: ج 2. ص: 517 (2) لسان العرب. ج: 3. ص: 353. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1321 ومن هذا الالتباس ما حسبه بعض المحدثين من أن التصرف بمقتضى الإمامة فيما خوله الله للإنسان من وظائف المنفعة والانتفاع بالأرض وما عليها وما تصل إليه يده من هذا الكون الفسيح , ينظر فيه على أساس " المصالح المرسلة " وأن ما فعله عمر – رضي الله عنه – أو غيره مما يتصل بهذا الشأن , إنما هو صادر من قاعدة " المصالح المرسلة ". ومن قبل هؤلاء مضى بعد المبتدعة من دراويش الصوفية وأدعياء التصوف إلى اعتبار بدعمهم صادرة من المصالح المرسلة، أو مشاكلة لها (1) . ولو قد تدبروا لاستبان لهم الفرق البعيد العميق بين عموم " المصلحة العامة " وخصوص "المصالح المرسلة". فهذه من تلك , ما في ذلك شك عند من اعتبرها سندًا يمكن للمجتهد أن يعتمده عند انعدام النص وعدم توافر مؤهلات القياس الجلي في بعض ما يستجد من الأحداث والأحوال , أو هي من القياس الخفي عند الذين لم يعتمدوها سندًا مستقلًا وضبطوها بضوابط نسلكها فيما هو من القياس الخفي , وليس هذا مجال مناقشة هؤلاء وأولئك , وإن كنا نميل إلى تمييزها عن مختلف أنواع القياس , وإن أشبهت بعضًا منها واعتبارها سندًا مستقلًا ليس تقليدًا لمالك – رحمه الله – ولكن اقتناعًا بما اعتمده عليه في هذا الشأن. على أن "المصالح المرسلة" يتضمن اسمها ما يميزها من عموم "المصالح" , بل إن اعتبارها سندًا مصدره التسليم بأن "المصالح " مناط شرعي واجب الملاحظة والاعتبار عند فهم النصوص الشرعية وتعليلها واستكناه حكمتها. وما وجد سبيل إلى تحكيم نص قولي أو فعلي من النصوص المسلم بتحكيمها عند أئمة السلف والأصوليين , فلا يسوغ لأي أحد أن يعدل عن تحكيم النص إلى ابتغاء سند غيره عند الحكم في حادث استجد أو في حال طرأت حتى وإن لم يكن لذلك الحادث أو لتلك الحال شبه بحادث أو حال صدر فيه أو فيها حكم بنص فعلي أو قولي أو بمقتضى نص فعلي أو قولي. ذلك بأن المصالح باعتبارها مناطًا شرعيًا لا خلاف فيها بين الجمهور إلا ما كان من الرازي ومن على شاكلته من العقلانيين (2) على حين أن (المصلحة المرسلة) كانت وما تزال موضع خلاف يقول الشاطبي (3) :   (1) انظر الشاطبي. الاعتصام. ج 2. ص 117 وما بعدها (2) الموافقات ج 2. ص 6، 7. (3) انظر الشاطبي. الاعتصام. ج 2. ص 117 وما بعدها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1322 "وأيضًا فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقًا عليه , بل قد اختلف فيه أهل الأصول على أربعة أقوال , فذهب القاضي وطائفة من الأصوليين إلى رده , وأن المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل , وذهب مالك إلى اعتبار ذلك , وبنى الأحكام عليه على الإطلاق , وذهب الشافعي ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذي لم يستند إلى أصل صحيح , لكن بشرط قربه من معاني الأصول الثابتة , هذا ما حكى الإمام الجويني , وذهب الغزالي إلى أن المناسب إذا وقع في رتبة التحسين والتزيين , لم يعتبر حتى يشهد له أصل معين , وإذا وقع في رتبة الضروري , فسبيله إلى قبوله , لكن بشرط قال: ولا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد , واختلف قوله في الرتبة المتوسطة , وهي رتبة الحاجي , فرده في المستصفى وهو آخر قوليه , وقبله في شفاء الغليل كما قبل ما قبله. وإذا اعتبر من الغزالي اختلاف قوله , فالأقوال خمسة. وقال ابن قدامة (1) : "الرابع من الأصول المختلفة فيها الاستصلاح وهي اتباع المصالح المرسلة , والمصلحة هي جلب المنفعة أو دفع المضرة , وهي على ثلاثة؛ أقسام قسم شهد الشرع باعتبارها , فهذا هو القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص , أو الإجماع. القسم الثاني: ما شهد ببطلانه كإيجاب الصوم بالوقاع في رمضان على الملك , إذ العتق سهل عليه , فلا ينزجر والكفارة وضعت للزجر , فهذا لا خلاف في بطلانه , لمخالفته النص - قلت: بل في ذلك خلاف باعتبار المناط - وفتح هذا يؤدي إلى تغيير حدود الشرع - قلت: وماذا يمنع إذا أصبح ذلك ضروريًا , وكفل تحقيق المناط؟! الثالث: ما لم يشهد له إبطال ولا اعتبار معين، وهذا على ثلاثة ضروب أحدها: ما يقع في مرتبة الحاجات كتسليط الولي على تزويج الصغيرة , فذلك لا ضرورة إليه , لكنه محتاج إليه لتحصيل الكفء خيفة من الفوات واستقبالًا للصلاح المنتظر في المآل.   (1) سقط الهامش من الأصل (المجلة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1323 الضرب الثاني: ما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية حسن المناهج في العبادة والمعاملات كاعتبار الولي في النكاح صيانة للمرأة عن مباشرة العقد لكونه مشعرًا بتوقان نفسها إلى الرجال , فلا يليق ذلك بالمروءة , ففوض ذلك إلى الولي , حملًا للخلق على أحسن المناهج , ولو أمكن تعليل ذلك بقصور رأي المرأة في انتقاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظاهر , لكان من الضرب الأول , ولكن لا يصح ذلك في سلب عبادتها. قلت: هذه العبارة غير واضحة , فهذان الضربان لا نعلم خلافًا في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل، فإنه لو جاز ذلك كان وضعًا للشرع بالرأي , ولما احتجنا إلى بعثة الرسل , ولكن العامي يساوي العالم في ذلك , فإن كل واحد يعرف مصلحة نفسه. الضرب الثالث: ما يقع في رتبة الضروريات , وهي ما عرف من الشارع الالتفات إليها , وهي خمس: أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسبهم ومالهم. ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل وعقوبة المبتدع الداعي إلى البدع صيانة لدينهم وقضاؤه بالقصاص , إذ به حفظ النفوس وإيجابه حد الشرب , إذ به حفظ العقول , وإيجابه حد الزنا حفظًا للنسل والأنساب , وإيجابه زجر السارق حفظًا للأموال , وتفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل , فذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن هذه المصلحة حجة , لأنا قد علمنا أن ذلك من مقاصد الشرع , وكون هذه المعالم مقصودة عرف بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات , فيسمى ذلك مصلحة مرسلة , ولا نسميه قياسًا؛ لأن القياس لا يرجع إلى أصل معين والصحيح أن ذلك ليس بحجة؛ لأنه ما عرف من الشارع المحافظة على الدماء بكل طريق , ولذلك لم يشرع المثلة وإن كانت أبلغ الردع والزجر. قلت: لكن شرع ما يشاكلها في المحارب لما استحق منه المبالغة في الردع والزجر , إذ أباح للإمام تقطيع يده ورجله من خلاف. فتأمل. ولم يشرع القتل في السرقة وشرب الخمر. قلت: لكن حد السرقة من نص قرآني وقطع اليد شبيه بالمثلة، أما حد الخمر فبالنسبة لذلك ضوعف في عهد عمر وما بعده زجرًا لجرأة الناس واستخفافهم بالحد المسنون , فإذا أثبت حكما لمصلحة من هذه المصالح لم يعلم أن الشرع حافظ على تلك المصلحة بإثبات ذلك الحكم كان وضعًا للشرع بالرأي وحكما بالعقل المجرد كما حكي أن مالكًا قال: يجوز قتل الثلث من الخلق لاستصلاح الثلثين. ولا نعلم أن الشرع حافظ على مصلحتهم بهذا الطريق فلا يشرع مثله ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1324 قلت: هذا كلام ابن قدامة , وهو حنبلي , وما نريد أن ندخل معه في جدل , لا سيما حول ما نقل عن مالك من قتل الثلث لإصلاح الثلثين. فمجال الجدل في ذلك بعيد متشعب , وليس من شأننا في هذا البحث أن نريد إلا أن نحاجه في صلب المسألة , مسألة المصلحة المرسلة , وموقف أحد منها بما ننقله من ابن القيم الحنبلي أيضًا. (1) وهو ينقل نبذًا من كلامه في السياسة الشرعية , قال في رواية المروزي وابن منصور: والمخنث ينفى؛ لأنه لا يقع منه إلا الفساد والتعرض له , وللإمام نفيه إلى بلد يأمن فساد أهله , وإن خاف به عليهم حبسه , وقال في رواية حنبل فيمن شرب خمرًا في نهار رمضان أو أكل شيئًا نحو هذا: أقيم الحد عليه وغلظ عليه مثل الذي يقتل في الحرم دية وثلث. ثم قال: "ونص الإمام أحمد - رضي الله عنه - فيمن طاعن على الصحابة أنه قد وجب على السلطان عقوبته وليس على السلطان أن يعفو عنه , بل يعاقبه ويستتيبه , فإن تاب , وألا أعاد العقوبة. ثم قال: قالوا: وهذا كل من وجب عليه حق فامتنع , فإنه يضرب حتى يؤديه , وأما كلام مالك وأصحابه في ذلك فمشهور. وبعد أن أورد فتاوى للشافعي تدل على أخذه بهذا النسق من الحكم , وإن تراءى أنه أبعد الناس عن الأخذ به (2) قال: "وهل السياسة الشرعية إلا من هذا الباب , وهي الاعتماد على القرائن التي تفيد القطع تارة , والظن الذي هو أقوى من ظن الشهود بكثير تارة , وهذا باب واسع.   (1) سقط أيضا هذا الهامش من الأصل (المجلة) . (2) انظر مثلًا الرسالة. ص: 509 إلى 515. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1325 وليس من شأننا في هذا المجال أن نوغل في استقصاء خلافاتهم وأقوالهم ومواقفهم حول (المصالح المرسلة) وهي في أغلبها أقوال وآراء ومواقف شكلية , إذ قلما نعثر وقد لا نعثر على قول أو رأي أو موقف موضوعي , إنما شأننا أن نثبت وجود خلاف وأن نبرز ملامحه تمييزًا لما بين الاستناد في الحكم في حدث أو حال على أساس المصالح المرسلة " والاستناد على أساس المصلحة باعتبارها مناطًا شرعيا , ولا جدال في أن الاستناد إلى سند ليس مثارًا للخلاف أو هو مما اطمأن إليه الجمهور أولى وأرجح بكثير من الاستناد إلى سند اختلفوا فيه اختلافًا عريضًا وإن يكن في جوهره مجرد اختلاف شكلي. على أن اعتبار المصلحة أساسًا للحكم في موضوع هذا البحث لا يتعين إلا في بعض ما يطبق عليه من أحداث وأحوال أما في غيرها , فإن الحكم فيه يرتكز أساسًا على نص شرعي , منه ما هو من القرآن , ومنه ما هو من السنة , ومنه ما هو من عمل أئمة الصحابة وفي طليعتهم عمر - رضي الله عنه - ولئن اختلفوا في حجية عمل الصحابة , فإنا نشعر بأن عمل عمر لا يجوز الاختلاف في حجيته؛ لأن الصحابة كانوا يستقبلونه باعتباره تصرفًا بمقتضى الإمامة , وأغلبه لم ينكره أحد منهم والقليل الذي كان لبعضهم موقف منه مثل عدول عمر عن توزيع أراضي السواد على المسلمين إلى وقفها ليستمر ريعها إلى الأجيال المقبلة منهم وموقف أنس وبعض الصحابة من ذلك , سانده الجمهور مساندة استمرت في عهد عثمان وعلي دون أن تستمر المعارضة له , فصار بذلك كغيره مما لم يعارضه أحد من عمله غير مرتكز على اجتهاد عمر فحسب , وهو وحده حجة حاسمة عندنا , وإنما تحول إلى إجماع سكوتي من غير أولي الأمر وتطبيقي من أولي الأمر , إذ واصل العمل به عثمان وعلي , بل احتج ببعضه عثمان على خصومه , إذ نقموا عليه أشياء مما فعل عمر مثلها مثل التصرف لتوسيع المسجد النبوي في بيوت المجاورين له , ولم ينكر عليه أحد من الصحابة , وخاصة من أهل الفتيا صحة ما احتج به. وعلى قاعدة اعتبار المصلحة مناطًا لتشريع واعتبار انطباقها على أي تصرف في حدث أو حال مستمر أو مستجد تطبيقًا للشرع الذي كان مناطه المصلحة في حكمه في القضية المشاكلة أو الراجحة المماثلة واعتبار الأخذ بهذا الأساس مقدمًا على الآخذ بمبدأ " المصالح المرسلة " في الحكم فيما يستجد من الأحداث والأحوال ثم على قاعدة اعتبار حق الإمام في التصرف بمقتضى المصلحة العامة، نأخذ في تقرير ما خلص إليه بحثنا في موضوع انتزاع الملك للمصلحة العامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1326 18 - خلافة الإنسان وظيفة وليست ملكًا في الأرض لا مراء في أن الإنسان إنما يحوز ما يستطيع حيازته من الأرض وما عليها وما في باطنها وفي غيرها مما استطاعت يده أن تطول إليه من عناصر الكون وأشيائه ابتغاء لمصلحة يراها قائمة أو ينشد تحقيقها، فلولا المصلحة لما أعنت نفسه بالحيازة وما يترتب عليها من الصيانة والرعاية والحماية بما يقتضيه كل ذلك من جهد العمل وخطير التعرض لألوان شتى من المتاعب والمشاق. بيد أن الحيازة أيا كان مصدرها إرثًا أو هبة أو نمطًا من التعاقد أو استيلاء بالقوة أو استيلاء بالسبق (إحياء الموات) ليست وحدها "المؤهل " له للحصول شرعًا على حق المنفعة والانتفاع، فبصرف النظر عن الحيازة غير المشروعة أساسًا مثل التي تأتي بالغصب والسرقة والاحتيال وما إلى ذلك مما لا تبيحه الشرائع السماوية والوضعية , فإن الحيازة المشروعة قد تسوغ صاحبها - نظريًا - حق المنفعة والانتفاع في حين أنه علميًا قد يسلب هذا الحق لأسباب ترجح في اعتبار مصلحته الخاصة أو في اعتبار المصلحة العامة أو في اعتبار مصلحة خاصة لغيره ما يترتب عن مجرد الحيازة المشروعة من التسويغ النظري لحق المنفعة والانتفاع. فمن المسلم به في الشرائع السماوية والوضعية الحجر على السفيه مثلا , ولا جدال في أن السفيه نظريا له حق المنفعة والانتفاع بما صارت إليه حيازته بطريقة مشروعة , بيد أنه - علميًا - غير مسوغ له أن يمارس هذا الحق لافتقاره إلى أهلية الممارسة , كذلك شأن القاصر الذي لم يبلغ الرشد والعاجز الذي فقد القدرة على الممارسة السليمة لحق المنفعة والانتفاع لمعوق كالشيخوخة البالغة حد الاختلاط والمرض والسجن والأسر وما شاكل ذلك. فوضح أنه لا بد من التمييز بين الأهلية لاستحقاق المنفعة والانتفاع , وبين الأهلية لممارسة هذا الحق , وهو تمييز ضروري وأساسي لتكييف وتعيين الظروف والحالات والأسباب التي يصبح تدخل الغير بالتصرف أو التصريف فيما يحوزه إنسان ما بطريقة شرعية اعتبارًا لما تقتضيه مصلحته أو مصلحة لغيره ترجح مصلحته أو المصلحة العامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1327 ويتجلى هذا التمييز باستحضار ما سبق أن قررناه بأدلة من الكتاب والسنة وأثار السلف من أن الطبيعة الحق للعلاقة بين الإنسان وما يسوغ له - أو يستطيع - أن يحوزه من الثابت والمنقول , إنما هي الخلافة عن الله تعالى في عمارة الأرض عمارة تهيئ له وللبشر كافة وللمسلمين خاصة أسباب الحياة الآمنة المطمئنة المتمتعة بكل ما أمكن تيسيره - في نطاق ما يبيحه الشرع - من الطيبات الموفرة لألوان السعادة والبهجة والحبور. وبما أن الخلافة وظيفة اجتماعية في جوهرها وسياسية واقتصادية في منهجها , فإن أي إخلال بمقتضياتها يترتب عنه تلقائيا وبدهيا إما زوالها وإما تحديد مداها بحيث ينحصر فيما لا يتناوله الإخلال. وضوابط الشريعة في الشؤون المدنية وخاصة المعاملات وفي الشؤون السياسية وهي تشمل كل ما يتصل بأمن الدولة الإسلامية داخليا وخارجيا وكفالة الرفاهية والاستقرار والتطور المستمر لها وفي الأحوال الشخصية وفي بعض أنواع الشعائر التعبدية , إذ تتكامل طقوس التعبد الصرف وأنواع من التصرفات المالية كالزكاة والحج حدود لا يكمل مؤهل الإنسان لحق التصرف والتصريف فيما يحوزه إلا بالاحترام المطلق وبالرعاية الكاملة لها وأي تجاوز لها يسلبه تلقائيًا الحق الكامل في التصرف والتصريف إما كليا أو جزئيا. وليس تجاوز هذه الحدود أو بعضها منحصرًا في ممارسة تصرف مما يعتبره الشرع ظلما أو اعتداء على الغير بصورة مباشرة فحسب , بل قد يكون في عدم ممارسة التصرف الذي يعتبره الشرع واجبًا بالتعيين أو بالكفاية بدافع الرفض أو الامتناع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1328 وبيان ذلك: أ- أن مانع الزكاة مثلًا معتد على ضابط من الضوابط التي ترسم له حدود التصرف والتصريف فيما تحوزه مما تجب فيه الزكاة , وبذلك يكون قد اقترف ما يبيح لغيره ممن له الحق شرعًا أن يتدخل ليمارس تصرفًا فيما يحوزه هو , يقيم به شريعة الله , ويؤدي للمستحقين في الزكاة الممنوعة , سواء كانوا أفرادًا أو بيت مال المسلمين ما لهم من حق فيما يحوزه ذلك المانع لها. ب- والممارس للمعاملات الربوية معتد اقترف مما يخول لغير ممن له الحق في أن يردعه ويزجره وينتزع منه ما زاد عن رأس ماله ليرده إلى من أخذ منه بطريقة ربوية إن كان قد اضطر إلى ذلك اضطرارًا أو يعود به على الفقراء وعلى بيت مال المسلمين إن كان الطرفان قد أقدما باختيارهما على ممارسة المعاملة الربوية. ج- والمحتكر الذي يجحف في السعر فيما يكون الناس مضطرين إليه من وسائل عيشهم ومرافقه مثل المواد الغذائية والمساكن المعدة للإيجار معتد سلب نفسه حق التصرف المطلق في النطاق المشروع فيما يحوزه وهي الأسباب لغيره ممن له الحق في منع الاحتكار وردع المحتكر وإقرار العدل بين الناس في تعاملهم وتعايشهم. د- والمدين الممتنع عن الوفاء وهو قادر عليه أو العاجز عنه لإفلاسه معتد أوجد بتصرفه الأسباب والوسائل لمن له الحق في أن يجبره على الأداء إن كان قادرًا ممتنعًا أو يحجر عليه ويبيع ما يملك نيابة عنه للقيام بأداء دينه جزئيًا أو كليًا. هـ- والممتنع عن الإنفاق المتعين لإنماء اقتصاد الدولة الإسلامية أو لتسليحها أو لكفاية أية حاجة من حاجاتها معتد باقترافها من شأنه العمل على إضعاف الدولة الإسلامية والإساءة نتيجة لذلك إلى المسلمين مجتمعًا وأفرادًا وللمسؤول عن شؤون الدولة الإسلامية أن يوقف عدوانه عند حده بأن يمارس نيابة عنه انتزاع حصته من الإنفاق المطلوب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1329 والإنفاق في المجال العام لا يعني بالضرورة "الإعطاء" , بل قد يعني "الترويج" وهو إخراج الأموال من خزائنها وتشغيلها إذا احتاج إليها اقتصاد الدولة , سواء لتنمية صناعتها أو لإيجاد فرص العمل وتحقيق السلم الاجتماعي لأفرادها أو لتجميع طاقة مالية تحتاج إليها للتمكين لهيبتها السياسية بتقوية عملتها أو بتوسيع نفوذها بواسطة سياسة القروض والمساعدات وغير ذلك من الممارسات المالية التي تتوخى منها الدول ضمان وتقوية مركزها السياسي وتأثيرها في المجتمع الدولي. هذه الأمثلة وما شاكلها مسوغات وأحيانًا موجبات للسلب الكلي أو الجزئي لحق التصرف والتصريف ممن لم يحترم ضوابطها فيما يحوزه أيا كان سبيله إلى حيازته؛ لأن حماية الغير عن الظلم وإن برعاية ما يبدو كما لو كان مصلحة خاصة لذلك الغير , هو في حقيقته من المصلحة العامة؛ لأن حماية الأفراد أو الجماعات من الظلم , وصيانة حقوق الآخرين من الضياع من صميم إقامة العدل الذي هو جوهر المصلحة العامة , ولأن حفظ مصالح الدولة الإسلامية وإن كانت حاجية أو تحسينية من صميم المصلحة العامة , فالدولة إنما هي الكيان الذي انصهرت فيه وتبوتقت وتكافلت وتكاملت جميع المصالح الذاتية الحق للأفراد الذين تتألف منهم , ثم هي الجهاز الأمثل لضمان وتنظيم جميع الممارسات الهادفة إلى استمرار عمارة الأرض وتصوره كما وكيفًا وأمدا. وصيانة حقوق الآخرين ورعاية مقتضيات العدل بين الناس والحرص على استمرار نمو الدولة الإسلامية وازدهارها وتطورها ماديًا وسياسيًا واجتماعيًا ضوابط لمدلول الخلافة عن الله في الأرض واختلال ضابط منها يرتب عنه تلقائيًا انعدام جانب من مدلولها , وتنتج عنه تبعة على من كان تصرفه سببًا في ذلك الاختلال وتبعة على من يملك شرعًا الحق في منع ذلك الاختلال. وجلي من الأشواط التي قطعناها في هذا البحث أن استخلاف الله سبحانه وتعالى للإنسان على الثابت والمنقول مما تصل إليه يداه بالطرق المشروعة ليس "تمليكًا " وأن الإنسان ليس "مالكًا " لما في يده من ثابت أو منقول بالمعنى الذي عرفه التشريع الوضعي إلى ما قبل عصر الاشتراكية الملكية، وعرفه الفقهاء المسلمون لها حين قسمها هؤلاء وأولئك إلى قسمين: "ملكية الرقبة " , و"ملكية المنفعةأو الانتفاع ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1330 وقد سبق أن نقلنا عن القرافي (1) رأي المازري - رحمهما الله - من أن الملك الحق لله وحده , وأن الإنسان إنما يملك المنفعة والانتفاع , وورد هذا الرأي في بعض قولنا عن غيره أيضًا وهو مما نعتمده , ولا نعتمد غيره , ولا يتسق غيره مع وصف الله سبحانه وتعالى في القرآن بأنه (رب العالمين) و (مالك الملك) وما إلى ذلك من الأوصاف التي تؤكد أن الملك الحق لله وحده ومع وصف وظيفة الإنسان في القرآن الكريم بأن الله جعله خليفة في الأرض لينظر كيف يعمل , وأن الله يرث الأرض من يشاء من عباده الصالحين. وبما أن الخلافة وظيفة في رأينا وفي رأي الموفقين من السلف وهو ما يدل عليه مناط التشريع في شؤون المعاملات وما يتصل بها من التشريعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وبما أن الوظيفة لا تعني الملكية , وإنما تعني التكليف بمهمة محددة تترتب عن التقصير في أدائها تبعات أيسرها انعدام الأهلية للبقاء في الوظيفة أو لممارسة بعض مهامها. وبما أن الوظيفة يقصد بها أداء نفع عام أو لجماعة معينة أو لمنطقة معينة. فإن الفشل أيا كان سببه في القيام بالوظيفة التي هي الهدف من الخلافة ليستوجب تلقائيًا إما فقد الوظيفة كلها وذلك يعني لفقد الخلافة وإما انحصارها في نطاق أضيق وإحالة جانب منها إلى الغير ممن له القدرة أو الاستحقاق على القيام به وهذا يعني بلغة واضحة انتزاع "التخويل " المترتب عن "الخلافة" له كليًا أو جزئيًا وتحويله أو تحويل جانب منه إلى غيره ممن هو أقدر وأصلح لكفايته أو لرعايته بضوابط الشريعة أو لموقعه من المجتمع.   (1) انظر القرافي في البند السابع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1331 19 - الشرعية هي المدار الوحيد لكل تصرف وتصريف في الأرض إذا تبين أن الإنسان "موظف " بـ "الخلافة " في الأرض لتصريف إلى ما صار إليه من " الثابت والمنقول" بالطرق المشروعة والتصرف فيها طبقًا للطرق المشروعة أيضًا وليس "مالكًا" بالمعنى الذي عرف به "الملك " عند المتفقهة المقلدة وعند واضعي التشريعات الوضعية وضح - بالضرورة – أن " الشرعية" هي المدار الوحيد لكل تصرف وتصريف في الأرض ما عليها يمارسه الإنسان حاكما أو محكومًا فإذا انتفت "الشرعية " من أي تصرف أو تصريف زالت عمن يمارسه واستحال وضعه باعتباره موظفًا بالخلافة إلى وضع يتعين النظر في كيفية إعادته إلى "الشرعية" أو إعادة "الشرعية" إليه أو رفعها عنه نهائيا. وبيان ذلك أن التصرف في "المال" وظيفة اجتماعية حظ الفرد منها يصلح حاله ويحفظ وجوده ويؤهله أن يكون عنصرًا مفيدًا صالحًا في مجتمعه فهو إذًا داخل في إطار المعنى الاجتماعي لوظيفته فإذا تجاوز حدود وظيفته بأن أغفل المعنى الاجتماعي لها أو لم يغفله ولكن تعدى في ممارسته لها مقتضيات العدالة وهي أساس سلامة المجتمع فقد الأهلية، كليًا أو جزئيا للاستمرار فيها وتعين على ولي الأمر إما تصحيح سيره وتقويم مساره وإما إقصاؤه إذا فقد المؤهل كليًا. وطبقًا لهذه القاعدة يتحدد موقف ولي الأمر من حماية الدلالة الاجتماعية لوظيفة الإنسان بالخلافة في الأرض في رصد تصرفات من بأيديهم أموال من الثابت والمنقول ومراقبتها والحرص على أن تكون بجميع أنماطها وفي جميع أحوالها وأطوارها ملتزمة بالمعنى الاجتماعي لوظيفة الإنسان الخليفة في الأرض وعليه اتخاذ جميع الوسائل الضرورية لمنع الانحراف بوظيفة الخلافة عن مقاصدها الاجتماعية، ونعني بالمقاصد الاجتماعية ما يشمل رعاية مصالح الناس أفرادًا وكيانًا "دولة! عاجلًا في معاشهم وآجلًا في مواكبتهم لما يقتضيه التطور الحضاري من النماء الاقتصادي واستمرار القوة المانعة لكل مطمع أو مطمح عدائي وذلك بكيفية متصلة مطردة لا يعتريها أي شيء من شأنه تعويق مسارها أو الإبطاء به إلا أن يكون مما هو من التصرفات القدرية خارجًا عن قدرة الإنسان واختياره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1332 ومن هذه القاعدة باعتبارها مناطًا لتشريع الزكاة انطلق - في ما نظن - أبو بكر - رضي الله عنه - في قتاله لمانعي الزكاة وإن منعوها عقالًا مما كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو المشهور من قوله. بل وإبرازا لهذه المناط ضاعف رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة عقابًا لمن منعها قال عبد الرزاق (المصنف. ج: 4. ص: 18. ح: 6824) : عن معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل أربعين من الإبل السائمة ابنة لبون فمن أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن كتمها فإنا لآخذوها وشطر ماله عزمة، من عزائم ربك لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)) . وقال أحمد (المسند. ج: 5. ص: 2 و4) : حدثنا إسماعيل بن علية عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين بنت لبون لا تفرق إبل عن حسابها فمن أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها منه وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا جل وعز لا يحل لآل محمد منها شيء)) . وحدثنا يحي بن سعيد، حدثنا بهز، حدثني أبي عن جدي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى لا يحل لآل محمد منها شيء)) . وقال ابن زنجوية (الأموال. ج: 2. ص: 833. ح: 1443) حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، أنبأنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء)) .وقال (نفس المرجع. ص: 868. ح: 1534) : حدثنا عبد الله بن بكر، حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون ولا يفرق إبل عن حسابها من أعطى مؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء)) . وقال أبو داود (السنن. ج: 2. ص: 101. ح: 1575) : حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا بهز بن حكيم. وحدثنا محمد بن العلاء، أخبرنا أبو أسامة عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون ولا يفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا - قال أبو العلاء (مؤتجرًا بها) - فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا عز وجل ليس لآل محمد منها شيء)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1333 وقال النسائي (السنن. ج: 5. ص: 25) : أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا معتمر قال: سمعت بهز بن حكيم يحدث عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة من كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا له أجرها ومن منعها فإنا آخذها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء)) . وقال (نفس المرجع. ص: 15) : أخبرنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى قال: حدثنا بهز بن حكيم قال: حدثني أبي عن جدي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون لا يفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن أباها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لأل محمد منها شيء)) . وقال الحاكم (المستدرك.: 1. ص: 377 و378) : حدثنا أبو بكر أحمد بن سلمان الفقيه، حدثنا الحسن بن مكرم، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا بهز بن حكيم وأخبرنا حمد بن سلمان، حدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين ابن لبون لا يفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا لا تحل لآل محمد منها بشيء)) . وتعقبه بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد على ما قدمنا ذكره في تصحيح هذه الصحيفة ولم يخرجاه. وأورده الذهبي في التلخيص ولم يعقب عليه بشيء. وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 4. ص: 105) : أخبرنا عبد الله بن يحيى بن عبد الجبار، أنبأ أحمد بن إسماعيل الصفار، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الرزاق.، أنبأ معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل أربعين من الإبل السائمة ابنة لبون من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن كتمها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربك لا يحل لمحمد ولا لآل محمد)) .وتعقبه بقوله: كذلك رواه جماعة عن بهز بن حكيم وقال أكثرهم: عزمة من عزمات ربنا. ثم قال: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1334 حدثنا أبو العاص محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان قال: قال الشافعي: ولا يثبت أهل العلم بالحديث أن تؤخذ الصدقة وشطر الإبل الغالي لصدقته ولو ثبت قلنا به. وتعقب قول الشافعي هذا بقوله: هذا حديث قد أخرجه أبو داود في كتاب السنن فأما البخاري ومسلم - رحمهما الله - فإنهما لم يخرجاه جريًا على عادتهما في أن الصحابي أو التابعي إذا لم يكن إلا راو واحد لم يخرجا حديثه في الصحيحين ومعاوية بن حيدة القشيري لم يثبت عندهما رواية ثقة عنه غير ابنه فلم يخرجا حديثه في الصحيح وقد كان ضعيف الغرامة على من سرق في ابتداء الإسلام ثم صار منسوخًا واستدل الشافعي على نسخه بحديث ابن البراء بن عازب فيما أفسدت ناقته فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك القصة أنه أضعف الغرامة بل نقل فيها حكمه بالضمان فقط فيحتمل أن يكون هذا من ذاك. والله أعلم. وتعقب السيوطي - وهو شافعي كالبيهقي - حديث النسائي من طريق يحيى الذي أدرجناه آنفًا فقال: قال في النهاية: قال الحربي: غلط الراوي في لفظ الرواية إنما هو وشطر ماله أن يجعل ماله شطرين ويتخير عليه المصدق فيأخذ الصدقة من خير النصفين عقوبة لمنعه الزكاة فأما ما لا يلزمه فلا. وقال الخطابي في قول الحربي: لا أعرف ذا الوجه وقيل: معناه أن الحق مستوفى منه غير متروك وإن تلف شطر ماله كرجل كان له ألف شاة فتلفت حتى لم يبق له إلا عشرون فإنه يؤخذ منه عشر شياه لصدقة الألف وهو شطر ماله الباقي وهذا أيضًا بعيد لأنه قال: إنا آخذوه وشطر ماله وقيل: إنه كان في صدر الإسلام يقع بعض العقوبات في الأموال ثم نسخ كقوله في التمر المعلق من خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة وكقوله في ضالة الإبل المكتوبة غرامها ومثلها معها وكان عمر يحكم به فغرّم حاطبًا ضعف ثمن ناقة المزني لما سرقها رقيقها ونحروها وله في الحديث نظائر وقد أخذ أحمد بن حنبل بشيء من هذا وعمل به وقال الشافعي في القديم: من منع زكاة ماله أخذت وأخذ شطر ماله عقوبة على منعه واستدل بهذا الحديث وقال في الجديد: لا يؤخذ إلا الزكاة لا غير. وجعل هذا الحديث منسوخًا وقال: كان ذلك حيث كانت العقوبة في المال ثم نسخت ومذهب عامة الفقهاء أن لا واجب على متلف شيء أكثر من مثله أو قيمته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1335 انتهى كلام السيوطي. قلت: إن تعجب فعجب رجوع الشافعي عن القول بتغريم كاتم الزكاة بعد أن قال به وقياس الفقهاء كتمان الزكاة بعموم إتلاف الغير دون تمييز بين إتلاف متعمد يقصد به النكاية بصاحب المال وبين إتلاف غير متعمد أو متعمد ولكن بدون نية النكاية وإنما هو الاضطرار كقضية رقيق حاطب وناقة المزني وأعجب من هذا كله فرارهم كدأب كثير من المتفقهة المقلدة إلى دعوة النسخ مع أن الآية الكريمة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} من آخر ما نزل ومع أن عمر - رضي الله عنه - غرم حاطبًا ثمن ناقة المزني مضاعفًا لأنه أجاع رقيقه حتى ألجأه الجوع إلى العدوان على مال الغير فكيف تستقيم دعوى النسخ مع هذه الحقائق؟ ولماذا رجع الشافعي يغفر الله له عن القول بعقوبة كاتم الصدقة إلا أن يكون رأى رأي البخاري ومسلم في عدم اعتماد الحديث لا يعرف إلا من راو واحد وهو رأي قد تكون له وجاهته في ضبط شروط الإخراج لمدون أو مؤلف في السنة ولكنا لا نعرف له وجهًا وجيهًا لمن يقول بالعمل بحديث الآحاد وهو ما يأخذ به الجمهور ويكاد يعتبر عدم الأخذ به شذوذًا فتأمل. وشرعت العقوبات المالية على من لم يسهم في الإنفاق في الجهاد كما سبق أن ذكرنا غير مرة. ونعتقد أن من تتبع أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده وخاصة عمر في الشؤون المالية يتضح له بما يرفع عنه كل لبس ما سبق تقريره من أن الضابط الشرعي الذي يحكم " المؤهل" للوظيفة بالخلافة في الأرض وما عليها من ثابت ومنقول هو دلالتها الاجتماعية أو ما يطلق عليه المصلحة العامة. والمصير الذي لا مصير غيره من هذا المنطلق هو أن واجب ولي الأمر إذا تعينت المصلحة العامة أن يسلب كليًا أو جزئيًا وظيفة الخلافة في الثابت أو المنقول من كل من كان تصرفه غير ملتزم بها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1336 ولا سبيل إلى حصر الموجبات على ولي الأمر أن يتخذ هذا الإجراء بيد أننا سبق أن سقنا أمثلة من منع الزكاة والإمساك عن الإنفاق في الجهاد أو له بإمداد الدولة بالمال الذي تكون بحاجة إليه لتطوير قوتها أو صيانتها إرهابًا لأعداء الله وأعداء المسلمين والتعامل مع الآخرين بطريقة من شأنها الإخلال بالسلم الاجتماعي مثل إرهاق العمال أو اضطهادهم أو عدم إنصافهم في الأجور ومثل إجحاف العمال في مطالبهم بما يتجاوز حقوقهم العادلة أو ضرارهم لمن يعملون عندهم لاعتبارات لا علاقة لها بالعمل كالاعتبارات السياسية ومثل محاولة أرباب الصنائع والمصانع ومختلف وسائل الإنتاج استغلال ظروف خاصة حدثت للمجتمع أو للدولة من أجل الحصول على مكاسب إضافية ليست مما يقتضيه العدل، ومثل اندفاع التجار جشعًا إلى استغلال حاجة الناس إلى ما بين أيديهم من ثابت أو منقول برفع أسعارها ورفض تقديمها بالسعر العادل أن يخفض أسعارها عن مستواها العادل ضرارًا لغيرهم ممن يعود عليهم الخفض والخسارة وربما بالإفلاس لمجرد إقصائه من السوق أو لسبب آخر لا يمت إلى العدالة أو الرفق في حقيقته بصلة ومثل ادخار مالكي النقود نقودهم في الخزائن أو المصارف إما بغرض منع التعامل بها إلا بالطرق الربوية وإما بغرض اكتنازها فحسب لاسيما حين تكون الدولة أو المجتمع بحاجة إلى السيولة النقدية إما لتوفير العمل للعاطلين وإما لتحقيق الموازنة بين الصادرات والواردات وإما لأداء ديون مترتبة على الدولة اضطرها إليه! سبب مشروع وإما لتدعيم عملة الدولة لتحتفظ بقيمتها أو لتزداد قوتها إذا كان في ازدياد قوتها مصلحة اقتصادية. وفي جميع هذه الحالات وما شاكلها يتعين على ولي الأمر أن يتخذ طبقًا للتصرف بمقتضى الإمامة واعتبار المصلحة العامة جميع الإجراءات التشريعية على هدي القواعد العامة للشريعة الإسلامية لتحقيق ما تقتضيه المصلحة العامة أو يستوجبه الحفاظ على ضوابط الشريعة الإسلامية في المعاملات وغيرها مما يتصل بقواعد الإسلام أو بالمصالح العامة. ومن هذه الإجراءات محاسبة مانعي الزكاة والذين لم يؤدوها! وإن لم يقصد بعدم أدائها إلى منعها عن كل ما تجمع في ذمتهم منها وأخذه بالقوة إن امتنعوا عن أدائه ولو اقتضى ذلك مصادرة جميع ما يملكون إذا استغرقتها ديون الزكاة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1337 ومنها محاسبة من يتعامل مع المصارف أو مباشرة بالطرق الربوبة على ما تجمع لديهم من الفوائد الربوية وأخذه منهم بجميع الوسائل ومنها مصادرة الأموال كلها إذا تبين أنها جميعًا فوائد ربوية ووضح أن رؤوس أموالهم استهلكوها في نفقاتهم الخاصة وأن كل مدخراتهم مجرد فوائد ربوية. ومنها مصادرة كل ثابت أو منقول صار إلى من يتصرف فيه بطريقة غير مشروعة وحتى بطريقة "مشبوهة" وإن اتخذت صبغة المشروع مثل من يثبت لولي الأمر أنه حاز ما بيده من ثابت أو منقول نتيجة للتعاون مع حكم أو جهاز غير إسلامي عند احتلاله لبلد إسلامي إما في شكل أجور أو في شكل تسهيلات إدارية أو قانونية مكنته من حيازة ما تأثله من ثابت أو منقول لأن ذلك مال حرام ومصير المال الحرام إلى ولي الأمر ينفقه في المصالح العامة. ومنها تسخير الأموال المدخرة لتوظيفها في تحقيق مصلحة عامة مثل الزيادة في الإنتاج وتحقيق الاكتفاء الذاتي وما شاكل ذلك إذا امتنع أصحابها عن ترويجها اختياريًا في السبيل التي يرى ولي الأمر أنها بحاجة إليها لأن ذلك في رأينا من "الكنز " الذي أنذر الله صاحبه بالنكال في الدنيا والآخرة ولأن ترويج المدخرات المالية فيما يحقق المصلحة العامة هو عين الإنفاق في سبيل الله وليس هذا الإنفاق محصورًا في انتزاع المال المكتنز من صاحبه انتزاعا كاملًا بل قد يتحقق في انتزاع التصرف فيه من صاحبه وقيام الدولة بدلًا منه بالتصرف فيه على أن يبقى حق المنفعة والانتفاع به لصاحبه في إطار ما تقتضيه الوظيفة الاجتماعية بالخلافة وذلك بناء على القاعدة التي سبق أن أوضحناها من أن الحق الشرعي للإنسان فيما يحوزه من الثابت والمنقول ينحصر في حق المنفعة والانتفاع في نطاق المصلحة العامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1338 ومنها إعادة توزيع الأموال الثابتة كالأرض والعقارات إذ تجمعت بعامل توفر النقد أو غيره في أيد محدودة حرم منها عامة أفراد المجتمع وكانوا بحاجة إليها أو كان المستحوذون عليها مستغلين لها بصورة تضر بجمهور أفراد المجتمع أو كانوا مقصرين في استغلالها بحيث لا يستغلونها استغلالًا كاملًا ولا يستفيد المجتمع اقتصاديًا وماليًا بما تستطيع تلك العقارات إنتاجه من عوائد يضر عدم توفرها بتلك المصالح. ومنها إجبار من تكون لهم أموال خارج الدولة الإسلامية التي يقيمون فيها بعامل تهريب النقود أو تهريب الخبرات ابتغاء استغلالها خارج تلك الدولة وإن كان في دولة إسلامية أخرى- إذا قلنا بجواز تعدد الدول الإسلامية أو إذا سلمنا بالأمر الواقع وإن لم ندن لله بشرعيته وهذا هو موقفنا - لمجرد أن ما يعود عليهم من استغلالها خارجها لاسيما إذا كانت الدولة التي يقيمون فيها ويدينون لها بالولاء بحاجة إلى تلك الأموال أو الخبرات لتدعيم تطورها الاقتصادي أو قوتها العسكرية التي تتوخى من تدعيمها إرهاب أعداء الله وأعداء المسلمين أو لتحقيق أمنها الداخلي بتوفير الأسباب الكفيلة بإقرار السلم الاجتماعي على اختلافه. ولا يلجأ إلى "الإجبار" إلا إذا امتنع أصحابها من إعادتها باختيارهم ويشمل "الإجبار" المدخرات من النقود والممتلكات من العقارات إذ تلجأ الدولة إلى بيعها عليهم كما يشمل إجبار الخبراء على العودة إلى بلادهم واتخاذ جميع الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك لاسيما إذا كانوا ممن تفتقر الدولة إلى خبرتهم لما لهم من الاختصاص في أنماط من التقنية المتطورة أو في فروع من العلم التجريبي أو النظري بحيث تضطر الدولة إلى جلب خبراء أجانب عنها لتوفير حاجتها من تلك الاختصاصات إذا لم تجبرهم على العودة إلى بلادهم ذلك بأن "الخبرة " و" الاختصاص " مما يعتبر بمثابة "المال" لما ينتج عنه عند استغلاله فضلًا عن أنهما مما يتعلق به الواجب العيني على كل فرد من بذل الجهد في تدعيم الدولة الإسلامية التي ينتمي إليها ومن الإنفاق في سبيل تدعيمها ما كانت بحاجة من أبنائها إلى الجهد والإنفاق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1339 ومنها مصادرة كل مال أو خبرة أو اختصاص ليست الدولة بحاجة إليه ولكنه يستعمل خارجها أو من داخلها استعمالًا يفيد مباشرة أو بطريقة غير مباشرة أعداء الله وأعداء المسلمين أو دولة إسلامية انتسابًا ولكنها غير ملتزمة وإن زعمت الالتزام لاسيما إذا كانت حربًا على السنة النبوية ومناهجها انطلاقًا من بعض الأهواء والبدع التي كانت السبب فيما عرفته الدولة الإسلامية من الفتن وما أصابها من تفرق وشتات ويشمل هذا النوع كل طائفة أو نحلة تتخذ من النيل من الخلفاء الراشدين أو من بعضهم قاعدة لوجودها وجدليتها ذلك بأن أي مال يستعمل في تدعيم هذا النوع من الاتجاهات يندرج في مضمون حرب الله ورسوله والسعي في الأرض فسادًا وعلى الدولة الإسلامية الملتزمة بالسنة النبوية أن تصادره إذ أن صاحبه لم يعد يملكه أو بالأحرى فقد حق خلافة الله في التصرف فيه بالمنفعة والانتفاع لما استعمله فيما يحارب الله ويفسد في الأرض. لكن إذا ثبت أنه لم يكن قاصدًا إلى حرب الله والإفساد في الأرض وإنما أساء الفهم وأساء التأويل يعاد إليه ما صودر منه على أن يستعمله داخل دولته المسلمة الملتزمة بالسنة النبوية البعيدة عن البدع والأهواء المنحرفة. ومنها انتزاع حق التصرف والتصريف ممن لا يحسن إنفاق ماله بما يعيث فيه فسادًا بالتبذير والإسراف أشرًا وبطرا {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (1) لأن هذا التصرف من شأنه - أولًا -: أن يسرع بالفناء فيما بين يديه من مال فيصبح أو يصبح ورثته من بعده عالة على المجتمع و ثانيًا -: أن يكون سببًا في إشاعة نمط من التصرف الفاسد بين من يشهدونه من ذويه خاصة ومن غيره من الدهماء والعوام الذين تستخفهم المظاهر فلا يحسنون التمييز بين ما هو خير وما هو شر وقد يكون ذلك سببًا في إشاعة الحسد في قلوبهم وفي دفعهم إلى تصرفات غير صالحة وقد يكون سببًا في تزيين ذلك السلوك الفاسد لبعض من يملكون مثله أو قريبًا منه ما ييسر لهم مشاكلته أو مقاربته فيترتب عن ذلك شيوع الأخلاق الفاسدة في المترفين والفقراء على السواء. وهذا النمط من الناس الأشرين البطرين يدخلون أساسًا في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (2) من واجب ولي الأمر المسلم التحجير عليهم واستعمال ما يملكون نظريًا فيه حق المنفعة والانتفاع استعمالًا صالحًا يكفل نماءه ويصونه من الضياع ويفيد صاحبه ومجتمعه الإفادة التي تقتضيها الوظيفة الاجتماعية المعنية بخلافة الإنسان في الأرض على أن ينفق عليه بالمعروف.   (1) الآية: (27) سورة الإسراء. (2) الآية رقم (5) سورة النساء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1340 هذه بعض الوجوه التي تجعل من المتعين على ولي الأمر المسلم أن يتدخل بسلطان الشرع الإسلامي لتصحيح مسار المال كوسيلة لإسعاد المجتمع الإسلامي وإعزازه وإنماء مقوماته الاقتصادية وتدعيم ركائزه وأركانه السياسية وتحقيق سيادته على العالم وتأمينه داخلًا وخارجًا "من كل ما يحدث فيه اختلالًا أو اعتلالًا ولا أحسب أحدًا يستطيع أن يزعم أن هنالك مصلحة تعلو أو تسامت هذه المصلحة أو أن هنالك تكليفًا يسبق أو يواكب هذا التكليف لولي الأمر المسلم فيما ولي من أجل رعايته وتحقيقه من أمور المسلمين. ولا نكران أن تدخل ولي الأمر في هذه الوجوه وما شاكلها من شأنه أن يحدث ألمًا لمن يكون هذا التدخل سلبًا أو تحديدًا لحقه في التصرف والتصريف فيما خوله الله نظريًا حق التصرف فيه وتصريفه من الثابت والمنقول باعتباره واحدًا من البشر الذين وكل الله إليهم خلافته في الأرض بيد أن ما يصيبه من الألم ويعتبره - وقد يعتبره مثله جمهرة من مقلدة المتفقهة - مفسدة لا يجوز إغفالها ليس بشيء في الاعتبار الشرعي عند موازنته بما توخاه وفي الأمر المسلم بتدخله من تحقيق المصلحة العامة فلا توجد مصلحة لا يحتمل أن تصاحبها مفسدة وإنما المعيار الذي لا معيار غيره هو التأكد من أيهما الراجح المصلحة أم المفسدة؟ وحتى لو تراءى - بادي الرأي - أنهما سواء في الموازنة فإن المرجح الحاسم الذي يعتبر إبرامًا لا ينقض هو النظر إلى المال والتأكد من مدى تطابقه وتجانسه مع مقتضيات الشرع الإسلامي نصوصًا أو مناطًا. وفي هذا المجال يقول الشاطبي - رحمه الله - (1) : " النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون ذلك الفعل مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب أو مفسدة تدرأ ولكن له مال على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع مفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذ أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المولد إلا أنه عذب المذاق محبوب الغب جار على مقاصد الشريعة.   (1) الموافقات. ج: 4. ص: 194. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1341 والدليل على صحته أمور أحدها: أن التكاليف - كما تقدم - مشروعة لمصالح العباد، ومصالح العباد إما دنيوية وإما أخروية أما الأخروية فراجعة إلى مآل المكلف في الآخرة ليكون من أهل النعيم لا من أهل الجحيم وأما الدنيوية فإن الأعمال - إذا تأملتها - مقدمات لنتائج المصالح فإنها أسباب لمسببات هي مقصودة للشارع والمسببات هي مآلات الأسباب فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب وهو معنى النظر في المآلات) . ثم قال: والثاني: إن مآلات الأعمال إما أن تكون معتبرة شرعًا أو غير معتبرة فإن اعتبرت فهو المطلوب وإن لم تعتبر أمكن أن يكون للأعمال مآلات مضادة لمقصود تلك الأعمال وذلك غير صحيح لما تقدم من أن التكاليف لمصالح العباد ولا مصلحة تتوقع مطلقًا مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد وأيضًا فإن ذلك يؤدي إلى أن لا تتطلب مصلحة بفعل مشروع ولا تتوقع مفسدة بفعل ممنوع وهو خلاف وضع الشريعة كما سبق. والثالث: الأدلة الشرعية والاستقراء التام أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) ، وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (3) وقوله: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (4) وقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (5) وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (6) وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (7) وأما في المسألة على الخصوص فكثير، فقد قال في الحديث حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه ((أخاف أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)) ورد هذا اللفظ في قضيتين: الأولى تتصل بعبد الله بن أبي بن سلول وحولها قال أحمد (المسند ج: 3. ص: 392 و393) : حدثنا حسين بن محمد، حدثنا سفيان يعني ابن عيينة عن عمرو قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قال: يرون أنها غزوة بنى المصطلق فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار فقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ فقيل: رجل من المهاجرين كسع رجلًا من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها فتنة قال جابر وكان المهاجرون حين قدموا المدينة أقل من الأنصار، ثم إن المهاجرين كثروا فبلغ ذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسمع ذلك عمر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أضرب هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه.   (1) الآية: (21) سورة البقرة (2) الآية: (183) سورة البقرة. (3) الآية رقم (188) سورة البقرة. (4) الآية رقم (108) سورة الأنعام. (5) الآية: (165) سورة النساء. (6) الآية: (216) سورة البقرة. (7) الآية: (179) سورة البقرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1342 وقال البخاري (ج: 4. ص: 160) : حدثنا محمد، أخبرنا. مخلد بن يزبد، أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابرًا - رضي الله عنه - يقول: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجربن حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريًا فغضب الأنصاري غضبًا شديدًا حتى تداعوا وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى أهل الجاهلية ثم قال: ما شأنهم فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها، فإنها خبيثة وقال عبد الله بن أبي بن سلول: أقد تداعوا علينا، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال عمر: ألا تقتل يا رسول الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه. ثم قال (نفس المرجع. ج: 6. ص: 65 و66) : حدثنا علي، حدثنا سفيان قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: كنا في غزاة قال سفيان مرة في جيش: فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما بال دعوى جاهلية؟ قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع بذلك عبد الله بن أبي، فقال: فعلوها، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1343 وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة ثم إن المهاجرين كثروا بعد، قال سفيان فحفظته من عمرو فقال عمرو: سمعت جابرًا؛ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مسلم (على هامش شرح النووي. ج: 16. ص138) : حدثنا أبو بكر بن أي شيبة وزهير بن حرب وأحمد بن عبدة الضبي وابن أبي عمر "واللفظ لابن أبي شيبة " قال ابن عبدة: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: سمع عمرو جابر بن عبد الله يقول: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال دعوى الجاهلية قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال: دعوها، فإنها منتنة، فسمعها عبد الله بن أبي بن سلول فقال: لقد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال عمر: دعنى أضرب عنق هذا المنافق فقال: دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه. وقال التزمذي (الجامع الصحيح. ج: 5. ص: 417و8 1 4.ح: 5 1 33) : حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، سمع جابر بن عبد الله يقول: كنا في غزاة قال سفيان: يرون أنها غزوة بني المصطلق، فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما بال دعوى الجاهلية، قالوا: رجل من المهاجرين كسع رجلًا من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوها؛ فإنها منتنة، فسمع ذلك عبد الله بن أبي بن سلول. فقال: أوقد فعلوها، والله (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، وقال غير عمر، فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله: والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز، ففعل. وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 9.: ص: 32) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني محمد بن عبد الله الكعبي، حدثنا محمد بن أيوب، أنبأ علي بن المديني، حدثنا سفيان قال: قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - يقول: كنا في غزاة وقال سفيان مرة أخرى: كنا في جيش فكسع - أي ضربه من خلف - رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار فقال - هنا سقطٌ، صوابه ما سبق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1344 أن نقلناه عن البخاري وغيره؛ -: دعوها؛ فإنها منتنة، فسمع ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهنا سقط أيضًا كالسابق - فقال: قد فعلوها، أما والله (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهنا سقط أيضًا كسابقيه – دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه قال: وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة، ثم إن المهاجرين كثروا بعد. والقضية الثانية ما كان من بعض المنافقين في قسمة غنائم غزوة حنين وقد اختلفت الرواية في شأنها من الذي استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل المنافق الذي حاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فورد في بعضها أنه عمر وورد في أخرى أنه خالد ويبدو لي أن نسبها إلى خالد أقرب إلى المنطق بأن القضية الأولى كان بطلها عمر وما أراه إلا قد اعتبر بها أما الثانية فمعقول جدًا أن يكون بطلها خالدا وإنما التبس على بعض الرواة شأن القضيتين فنسبوا الثانية إلى عمر كما نسبوا الأولى وهذه طائفة من الروايات المختلفة في شأنها. قال أحمد (المسند. ج: 3. ص: 354 و355) : حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معاذ بن رفاعة، حدثنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم هوازن بين الناس بالجعرانة قام رجل من بني تميم فقال: اعدل يا محمد فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، لقد خبت وخسرت إن لم أعدل، قال: فقال عمر: يا رسول الله، ألا أقوم فأقتل هذا المنافق؟ قال: قال معاذ الله أن تتسامع الأمم أن محمدًا يقتل أصحابه ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا وأصحابًا له يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق المرماة من الرمية قال معاذ قال لي أبو الزبير فعرضت هذا الحديث على الزهري فما خالفني إلا أنه قال: النضي قلت القدح فقال ألست برجل عربي. وقال (نفس المرجع. ص: 56) : حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسمًا إذ جاء ابن ذي الخويصرة التميمي فقال: "اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل فقال عمر بن الخطاب: أتأذن لي فيه فأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه؛ فإن له أصحابًا يحتقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء ينظر في نضيته فلا يوجد فيه شيء، ينظر في رصافة فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم منهم رجل أسود في إحدى يديه أو قال: إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر يخرجون إلى حين فترة من الناس فنزلت فيهم {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1345 قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن عليًا حين قتله وأنا معه جيئ بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال (نفس المرجع. ص: 65 و353) : حدثنا محمد بن مصعب حدثنا الأوزاعي عن الزهري عن أبي سلمة والضحاك المشرفي عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم يقسم مالًا إذ أتاه ذو الخويصرة رجل من بنى تميم فقال: يا محمد اعدل فوالله ما عدلت منذ اليوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله لا تجدون بعدي أعدل عليكم مني، ثلاث مرات، فقال عمر: يا رسول الله، أتأذن لي فأضرب عنقه؟ فقال: لا، إن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر صاحبه إلى فوقه فلا يرى شيئًا، آيتهم رجل إحدى يديه كالبضعة، أو كثدي المرأة، يخرجون على فرقتين من الناس يقتلهم أولى الطائفتين بالله، قال أبو سيد فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأني شهدت عليًا حين قتلهم فالتمس في القتلى فوجد على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدثنا حسن بن موسى، أنبأنا أبو شهاب عن يحيى بن سعيد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله: قال جئت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الجعرانة وهو يقسم فضة في ثوب بلال للناس فقال رجل: يا رسول الله، اعدل فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل لقد خبت إن لم أكن أعدل، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أقتل هذا المنافق فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم أو تراقيهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية. وقال البخاري (الصحيح. ج: 4. ص: 78 1 و79 1) : حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بنى تميم فقال: يا رسول الله اعدل فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر: يا رسول الله أتأذن لي فأضرب عنقه؟ فقال: دعه، فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه، فلا يوجد فيه شيء، قد يسبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أومثل البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعت. وقال مسلم (على هامش شرح النووي ج: 7. ص: 159 إلى 167) : حدثنا محمد بن رمح بن المهاجر، أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها يعطي الناس فقال: يا محمد اعدل قال: ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق. فقال: معاذ الله؛ أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي،إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية. وحدثنا محمد بن المثنى حدثتا عبد الوهاب الثقفي قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله. وحدثنا أبو بكير ابن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنى قرة بن خالد، حدثنى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم مغانم، وساق الحديث، حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري قال: بعث علي - رضي الله عنه - وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر الأقرع بن حابس الحنظلي وعيينة بن بدر الفزاري وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بنى كلاب وزيد الخير الطائي ثم أحد بني نبهان قال: فغضبت قريش فقالوا: أيعطي صناديد نجد ويدعنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما فعلت ذلك لأتألفهم)) فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1346 محلوق الرأس فقال: اتق الله يا محمد قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فمن يطع الله إن عصيته أيأمنني على أهل الأرض ولا يأمنوني)) قال: ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم في قتله "يرون أنه خالد بن الوليد " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من ضئضئ هذا قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)) . حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الواحد عن عمارة بن القعقاع، حدثنا عبد الرحمن بن أبي نعم قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبة في أديم مقروط لم تحصل من ترابها قال: فقسمها بين أربعة نفر بين عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وزيد الخيل والرابع إما علقمة بن علاثة وإما عامر بن الطفيل فقال رجل من أصحابه كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحًا ومساءً قال: فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار فقال: يا رسول الله اتق الله فقال: ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله قال: ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا؛ لعله أن يكون يصلي، قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم قال: ثم نظر إليه وهو مقف فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبًا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فقال: أظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود. حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع بهذا الإسناد قال: وعلقمة بن علاثة ولم يذكر عامر بن الطفيل؛ وقال ناتئ الجبهة ولم يقل ناشز وزاد؛ فقام إليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال: لا، قال: ثم أدبر فقام إليه خالد سيف الله فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال: لا، فقال: إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله لينًا رطبًا وقال: قال عمارة: حسبته قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود. حدثنا ابن نمير، حدثنا ابن فضيل عن عمارة بن القعقاع بهذا الإسناد وقال بين أربعة نفر زيد الخير والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة أو عامر بن الطفيل وقال: ناشز الجبهة كرواية عبد الواحد وقال: ((إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم)) ولم يقل لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود. حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن عطاء بن يسار أنهما أتيا أبا سعيد الخدري فسألاه عن الحرورية هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها قال: لا أدري من الحرورية ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يخرج في هذه الأمة "ولم يقل: منها" قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم فيقرأون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء)) . حدثني أبو الطاهر، أخبرنا أبو عبد الله ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري. وحدثني حرملة بن يحي وأحمد بن عبد الرحمن الفهري قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني يوسف عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن والضحاك الهمداني أن أبا سعيد الخدري قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله اعدل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويلك ومن يعدل إن لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أعدل)) . فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه، فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء "وهو القدح " ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد في شيء سبق الفرث والدم آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت. وقال الطبراني (المعجم الكبير. ج: 2. ص: 175. ح: 1753) : حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1347 حدثنا يحيى بن بكير، حدثني ابن وهب عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد عن أبي الزبير عن جابر قال: أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وفي ثوب بلال فضة، رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبضها للناس ويعطيهم، فقال له رجل: يا رسول الله اعدل قال: ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: دعني يا رسول الله فلأقتل هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية. وقال ابن ماجه (السنن. ج:1. ص:21. ح: 172) : حدثنا محمد بن الصباح، أنبأنا سفيان بن عيينة. عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله بالجعرانة وهو يقسم التبر والغنائم، وهو في حجر بلال، فقال رجل: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل فقال: ويلك من يعدل بعدي إذا لم أعدل فقال عمر: دعني يا رسول الله حتى أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا في أصحاب أو أصحاب له يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. قلت: ورد ذكر ذي الخويصرة في عدة روايات لهذه القصة وذو الخويصرة هذا يقال إنه حرقص بن زهير أحد صدور الخوارج الذي قتل في النهروان ويظهر أن ابن حجر لم يتأكد لديه هذا القول فقد قال وهو ينقله عن ابن عبد البر (الإصابة. ج:1. ص: 320 ترجمة: 1661) "وزعم أبو عمر أنه ذو الخويصرة التميمي رأس الخوارج المقتول بالنهروان" ثم أورد أخبارًا تشكك في صحبة حرقص بن زهير ثم قال وهو يترجم لذي الخويصرة (نفس المرجع. ص: 485. ترجمة: 2450) : التميمي ذكره ابن الأثير في الصحابة مستدركًا على من قبله ولم يورد في ترجمته سوى ما أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ذات يوم قسمًا فقال ذو الخويصرة رجل من بني تميم: يا رسول الله اعدل فقال: من يعدل إذا لم أعدل. الحديث. وأخرجه من طريق تفسير الثعلبي ثم من طريق تفسير عبد الرزاق كذلك، لكن قال فيه: إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي وهو حرقص بن زهير فذكره. ثم قال ابن حجر: ووقع في موضع آخر في البخاري قال عبد الله بن ذي الخويصرة وعندي في ذكره في الصحابة وقفة. انتهى كلام ابن حجر. وهذا الشك في صحبة ذي الخويصرة وصحبة حرقص بن زهير وهل هما رجل واحد أم اثنان واختلاف الرواة في تعيين الرجل الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اعدل. الحديث. نستخلص منه العبر الآتية: الأولى: أن اختلافهم في التعيين إذا لم يترتب عنه حكم لا يعتبر اضطرابًا في الحديث. الثانية: أن إطلاق الصحابي على كل من رأى الرسول! أو حتى على كل من شهد منه مشهدًا (ذا لم يثبت استمراره في العيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تردده عليه إذا كان يقطن بعيدًا عن المدينة إطلاق يجب التحري فيه إذ يترتب عن قبوله القول بعد التهم جميعًا ومن شأن هذا القول أن يحدث حرجًا في اعتبار أمثال ذي الخويصرة هذا - إن ثبت أنه صاحب المقولة - صحابيًا ولا سيما وقد ذكرت بعض الرواة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنه سيدخل النار أو كما قال، فكيف يعتبر عدلًا وهو ما لا مناص منه إن عددناه في الصحابة. الثالثة: إن الخوارج في جميع مصادرهم لتترجم الرجال وتاريخ وقائعهم، ويذكرون حرقص بن زهير كأحد الإمامين الأولين لهم، وهذا يعني أنه يتحمل جانبًا من مسؤولية قيادة الفتنة بين المسلمين، وقد نجد عذرًا فيمن التبس عليهم الأمر فاشتركوا مع معاوية في وقعة صفين، أو مع من واجه عليًا - رضي الله عنه - في وقعة الجمل، فالأمر في ذلك لا يعدو نطاق الاجتهاد والترجيح في موقع الحق بين المتخاصمين، وفي كلا معسكري الخصام الصحابة الأجلاء، ولكن الذين واجهوا عليًا في النهروان من الصعب اعتبارهم معذورين بالاجتهاد. فالمعسكران غير متكافئين فيمن اشتركا فيهما ومعسكر النهروان أبعد شيء عن أن يقارب معسكر علي في نوعية المشتركين أو في عدد الصحابة الذين ضمهم فإذا كان حرقص بن زهير هو ذو الخويصرة وإن أثبت أن ذا الخويصرة هو صاحب المقولة وأنه هو الذي جاء فيه ما ورد من نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سيتجيش معه أفلا يكون ذلك رادعًا للقائلين بأن صفة صحابي تشمل كل من أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كل من روى عنه، وإن حديثًا واحدًا؟ الواقع أن إطلاق لفظ صحابي بحاجة إلى كثير من التأمل والتحرير. وقوله: لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم يكاد لا يخلو مسند من مساند السنة أو مصدر من مصادر التاريخ الإسلامي من حديث من الأحاديث الواردة في هذا المعنى ولا يترتب عنه حكم متجدد إلا ما كان من اعتبار الحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم المعجمة - من الكعبة أو ليس منها وهو أمر طال فيه الخلاف وليس هذا مقام تحريره لذلك نقتصر في تخريج الحديث الذي أشار إليه الشاطبي - رحمه الله على ما رواه عبد الرزاق وهو أقدم من الشيخين رحمهما الله - إذ لا نجد حاجة إلى استقراء روايات غيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1348 قال عبد الرزاق (المصنف. ج: 5. ص: 102 و104. ح: 9106) : في حديث طويل رواه عن معمر عن عبد الله - يعنى ابن عثمان بن خثيم - عن أبي الطفيل فذكر حريقها في زمان ابن الزبير فقال ابن الزبير: إن عائشة أخبرتني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لولا حداثة قومك بالكفر لهدمت الكعبة فإنهم تركوها سبعة أذرع في الحجر ضاقت بهم النفقة والخشب. وقال (نفس المرجع. ص: 27 1 و28 1.ح: 0 5 1 9 و1 5 1 9) : عن ابن جريج قال سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير قال وفد الحارث بن عبد الله على عبد الملك في خلافته فقال عبد الملك: ما أظن أبا حبيب سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها قال: وكان الحارث مصدقا لا يكذب قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: سمعتها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قومك استقصروا من بنيان البيت وإني لولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت فيه ما تركوا منه، فإن بدا لقومك أن يبنوه من بعدي فهلم لأريك ما تركوا منه فأراها قريبًا من سبعة أذرع. هذا حديث عبد الله بن عبيد وزاد عليه الوليد بن عطاء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: وجعلت له بابين موضوعين في الأرض شرقيًا وغربيًا وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ قالت: لا. قال:! تعززا لأن لا يدخلوها إلا من أرادوا فإن الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعونه حتى يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط قال عبد الملك للحارث: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال نعم فنكت بعصاه ساعة ثم قال: وددت أني تركته وما تحمل. عن معمر عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: ((الم تري أن قومك استقصروا عن قواعد إبراهيم؟)) قالت: أفلا ترده يا رسول الله على قواعد إبراهيم؟ قال: ((إن قومك حديثو عهد بكفر، أو أنهم حديثون بكفر)) . بمقتضى هذا أفتى مالك الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم فقال له: لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله، هذا معنى الكلام دون لفظه قال القاضي عياض (ترتيب المدارك. ج: 2. ص: 105 و106) : قال بعضهم: لما قدم الرشيد المدينة وقال آخر: بعض الخلفاء أراد أن ينقض منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويزيد فيه فقال لمالك: ما ترى؟ فقال: ما أرى. فغضب وقال: قد زاد فيه معاوية. فقال مالك: إن المنبر إذ ذاك كان صلبًا فلست آمن إن نقضته إن تذهب البركة منه وفي رواية: أن يتهافت فيتشاءم الناس منك ويقولون: زال على يده أثر من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أحسن الله جزاءك فترك ما كان نواه. قال: وشاور المهدي مالكًا في ثلاثة أشياء في الكعبة في أن ينقضها ويردها على ما كانت عليه فأشار عليه أن لا يفعل، وفي المنبر أن ينقضه ويرده على ما كان عليه؛ وذلك حين أراد أن يرد المنابر كلها صغارًا على منبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له مالك: إنما هو من طرفاء وقد سمر إلى هذه العيدان يعني التي زادها معاوية وأخشى إن نقضته أن يخرب وينكسر ولولا ذلك لرأيت أن ترده إلى حالته الأولى وشاوره في نافع بن أبي نعيم القارئ أن يقدمه للصلاة. فأشار عليه ألا يفعل وقال: هو إمام أخاف أن يكون منه شيء في الغفلة فيحكى عنه. وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه حتى يتم بوله وقال: لا تزرموه (1) وحديث النهي عن التشديد على النفس في العبادة خوفًا من الانقطاع وجميع ما مر في تحقيق المناط الخاص مما في هذا المعنى حيث يكون العمل في الأصل مشروعًا لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة أو ممنوعًا لكن يترك النهى عنه لما في ذلك من المصلحة وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها فإن غالبها تذزع بفعل جائز إلى عمل غير جائز فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع ولا معنى للإطناب بذكرها وكثرتها واشتهارها قال ابن العربي: حين أخذ في تقرير هذه المسألة اختلف الناس بزعمهم فيها وهي متفق عليها بين العلماء فافهموها وادخروها".   (1) قال المزي (تحفة الأشراف. ج: 1. ص: 110. ح: 290) : حديث أن أعرابيا بال في المسجد ... الحديث. خ في الأدب (35: 2) عن عبد الله بن عبد الوهاب الحجي. م س جميعًا في الطهارة (م.3. س 45) عن قتيبة - ق فيه (الطهارة: 78) عن أحمد بن عبدة الضبي - ثلاثتهم عنه به. ورواه أحمد أيضًا وغيره ونقتصر على لفظ البخاري (ج: 7. ص: 80) حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب حدثنا حماد بن زيد عن أنس بن مالك أن أعرابيًا بال في المسجد فقاموا إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه ثم دعا بدلو من ماء فصب عليه. وقد رواه البخاري وغيره بلفظ مختلف في أبواب الطهارة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1349 وواضح أن تقدير المآل لكل تصرف في هذا المجال يعتمد على كفاية ولي الأمر وأهليته للاجتهاد فليست الأحوال والأوضاع سواء وقد أشرنا من قبل إلى ما أطلقنا عليه اسم "الظرفية " وهو يشمل تغاير الأزمنة والبيئات وتغاير تأثيرها في الأحوال والأحداث وتكييفها لها تبعًا لتغايرها وجانب كبير من تقدير هذا الأمر يعتمد على كفاية ولي الأمر وأهليته للاجتهاد ولا سبيل إلى اعتبار ما قد يقوله بعض المقلدة المتفقهة ممن تجمدوا على ظواهر ألفاظ الأصوليين وقواعدهم من أن ولي الأمر الذي يكون إليه الحكم في تحديد أو تحويل ممارسة التصرف والتصريف في المال يجب أن يكون ضليعًا في العلوم الشرعية واللغوية مستوفيًا شروط الأهلية للاجتهاد لأن هذا النمط من الاجتهاد الذي نكله إلى ولي الأمر ولا مناص من أن يوكل إليه لأنه من صميم مهامه وتبعاته ليس هو استنباط الحكم الشرعي وإنما هو إدراك مناط الحكم الشرعي وتقدير الموجبات لتطبيقه اعتبارًا لمناطه من الأحوال والأحداث والظروف في هذا المجال يقول الشاطبي - رحمه الله - (1) : " قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط فلا يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به من حيث قصدت المعرفة به فلا بد أن يكون المجتهد عارفًا ومجتهدًا من تلك الجهة التي ينظر فيها يتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى كالمحدث العارف بأصول الأسانيد وطرقها وصحيحها من سقيمها وما يحتج به من متونها مما لا يحتج. فهذا يعتبر اجتهاده فيما هو عارف به كان عالمًا بالعربية أم لا. وكذلك القارئ في تأدية وجوه القراءات والصانع في معرفة عيوب الصناعات والطبيب في العلم بالأدواء والعيوب وعرفاء الأسواق في معرفة قيم السلع ومداخل العيوب فيها والعاد في صحة القسمة والماسح في تقدير الأراضين ونحوها، كل هذا وما أشبهه يعرف به مناط الحكم الشرعي غير مضطر إلى العلم بالعربية ولا العلم بمقاصد الشريعة وإن كان اجتماع ذلك كمالًا في المجتهد. والدليل على ذلك ما تقدم من أنه لو كان لازمًا - أي أن يكون مجتهدًا في كل علم يتعلق به الاجتهاد أي تعلق كان (المعلق الشيخ عبد الله دراز) - لم يوجد مجتهد إلا في الندرة بل هو محال عادة وإن وجد فعلى جهة خرق العادة) .   (1) الموافقات. ج: 4. ص: 165. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1350 ثم قال:" وأيضًا إن لزم في هذا الاجتهاد العلم بمقاصد الشارع لزم في كل علم وصناعة أن لا تعرف إلا بعد المعرفة بذلك إذ فرض من لزوم العلم بها العلم بمقاصد الشارع وذلك باطل فما أدى إليه مثله فقد حصلت العلوم ووجدت من الجهال بالشريعة والعربية ومن الكفار المنكرين للشريعة. ووجه ثالث: أن العلماء لم يزالوا مقلدين في هذه الأمور من ليس من الفقهاء وإنما اعتبروا أهل المعرفة بما قلدوا فيه خاصة وهو التقليد في تحقيق المناط فالحاصل أنه إنما يلزم في هذا الاجتهاد المعرفة بمقاصد المجتهد فيه كما أنه في الأوليين - وهما الاجتهاد من النصوص ومن المعاني (المعلق) - كذلك فالاجتهاد في الاستنباط من الألفاظ الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد تلك الألفاظ من الوجه الذي يتعلق به الحكم لا من وجه آخر وهو ظاهر". ولا يعني اعتمادنا هذه القاعدة التي أحسن الشاطبي - رحمه الله - صياغتها وإيضاحها كما هو دأبه في جل ما يصوغ ويوضح - والكمال لله وحده - أننا نبيح لولي الأمر أن يتصرف دون الاعتماد على حكم الشريعة الإسلامية بل بمجرد رأيه الشخصي. فذلك إنما يعني أننا نبيح له أن يحكم بهواه ونعوذ بالله من أن نبيح الحكم بالهوى. وإنما نعتمد هذه القاعدة على اعتبار أنه " المختص"، بتقدير الأوضاع والأحوال التي يواجهها بحكم ما عليه من مهام وتبعات واختصاصه هذا لا يعطيه حرية التصرف المطلقة كما أن عدم اختصاصه - إذا لم يكن مختصا في الشريعة الإسلامية- لا يجرده من حرية التصرف وإنما يؤهله اختصاصه لأن يكون تقديره محل اعتبار واستنادًا لمن يجب أن يكون بجانبه ومستشارًا له من المختصين في الشريعة الإسلامية وعدم اختصاصه في الشريعة أو عدم أهليته للاجتهاد فيها وإن كان بصيرًا بها بصرًا لا يؤهله للاجتهاد يوجب عليه قبل أن يقدم على تنفيذ ما يرى بتقديره أنه عادل أو ضروري أن يعود إلى مشورة ذوي الاختصاص في الشريعة الإسلامية. كما أن ذوي الاختصاص هؤلاء يجب عليهم أن يعتمدوا فيها يشيرون به عليه إلى جانب الحكم الشرعي المجرد نصا واستنباطًا ما يبسطه لهم من تقديره والعوامل التي صدر عنها فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1351 على أنه إذا اختلف من يرجع إليهم لابتغاء حكم الشريعة في مشورتهم له وكان قادرًا على استيعاب الأدلة التي أوضحها له كل فريق من المختلفين وعلى الوعي بالمقاصد التي يرمى إليها كل دليل وعلى التمييز والترجيح المجردين من الهوى ومن التأثر بكل نزعة أو جدلية خارجة عن نطاق الشريعة الإسلامية بين الأدلة المعروضة عليه من المختلفين وما يرمي إليه كل دليل من مناط وعلى اكتشاف الدليل والوجه والمناط والأنسب لما وقر في رأيه عند تقدير الحادث أو الحال موضوع الاجتهاد كان عليه أن يتحمل تبعته أمام الله وأن يعتمد على ما رجح لديه ووقر في نفسه أنه الحق والعدل تطبيقًا لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (1) . فليس ولي الأمر عندنا - والله أعلم - ملزمًا بما يسمى اليوم "رأي الأغلبية" وإنما هو ملزم بما يترجح عنده - إذا لم يتأكد فكيف إذا تأكد - أنه الحق والعدل لأن الذي يمارس أمور الناس قد يعرف من خفاياها وقد يستطيع أن يكتنه من سرائرها ويدرك من ملابساتها ويستشرف من معقباتها ما لا يستطيعه غيره ممن يشهدون تلك الأمور من بعيد أو من قريب دون أن يمارسوها بأنفسهم مما يبلغ خبرة بها أو بالبعض منها. فالخبرة النظرية وحدها لا تكفي لاستكناه السرائر وإدراك الملابسات واستشراف المعقبات وهذا في ما نفهم - والله أعلم - بعض السر في أن الله سبحانه وتعالى لم يأمر نبيه عليه الصلاة والسلام وتبعًا منه ولي أمر المسلمين من بعده أن يلتزم باتباع مشورة من يستشيرهم وهو ما يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ} ومعناه - والله أعلم بأسرار كتابه العزيز - إذا تأكد لديك أو ترجح رأي أو حكم بعدما أشار عليك من استشرت وليس ضروريا أن يكون هو نفس ما أشار به عليك فتوكل على الله فالعزم هنا هو الشعور الذي ينتج عن التأكد والرجحان إذ أن المسؤول الأول والأخير هو ولي الأمر وهو إذا اجتهد بعد أن أحسن التقدير واستشار المؤهلين للمشورة من ذوي الاختصاص في الأمر المجتهد فيه شرعًا أو موضوعًا مأجور أجرًا مضاعفًا إن أصاب وأجرًا واحدًا إن أخطأ ما لم يكن للهوى أو لأي مؤثر غير الاعتبارات الشرعية ومقتضيات المصلحة العامة تأثير في اجتهاده.   (1) الآية: (159) سورة آل عمران. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1352 ذلك بأن نتائج أي اجتهاد لا يمكن أن تكون قطعية وغاية أمرها - مهما وضحت أدلتها وتضافرت على تركيزها وتركينها القرائن والشواهد والقواعد - أن تكون راجحة رجحًا قد يتراءى شبيهًا بالتأكد بيد أنه - رغم ذلك - ليس له أن يتجاوز درجة الرجحان إنها حصيلة جهد البشر غير المعصوم ومصدرها خبرة المجتهد بالأمر الذي يجتهد فيه طبيعة وظروفًا ومآلًا، وبصره بصرًا عميقًا شاملًا بمصادر الاعتبار الشرعي في الحكم في ذلك الأمر نصوصًا محكمة أو مفاهيم أو آثارًا أو أقيسة أو ما إليها كالاستصحاب والاستحسان والمصالح المرسلة. ولا سبيل في الاجتهاد إلى الاكتفاء بأحد العنصرين، عنصر الخبرة وعنصر البصر الشرعي أو "الفقه"، إذ أن عنصر الخبرة وحده قد يجلو ويشخص المصادر والموارد والمنافع والمفاسد كما تتراءى للعقل البشري، والعقل البشري مهما حاول أن يتجرد للعدل الصرف ويتنزه عن الهوى ويأتي له الخلوص إلى الرشد الحق إلا أن يستهدي بأنوار الوحي لأن قدرته على التنزه محدودة وبصره بحقائق العدل والحق محدود أيضًا فلا مناص له من الاستعانة بهدي الوحي أي بالشرائع المتنزلة لفظًا أو إلهامًا (الكتاب والسنة) وبما سبق السلف إلى استنباطه منها موضوعًا أو منهجًا. إذ إن استنباط السلف - عليهم رحمة الله - صحابة كانوا أو تابعين قد يكون غير قابل للتأثر "بالظرفية" لأنه متصل بما لا يؤثر فيه تغاير الأزمنة والبيئات وجل ما يكون هذا النوع في العبادات غير المعقولة المعنى وفيما يتصل بشعارها خاصة وقد يكون قابلًا للتأثر "بالظرفية" إذا كان يتصل بالعادات والمعاملات والجوانب الخاضعة لمؤثرات التطور والتغير البيئوي والزمني أو ما نسميه بالتطور الحضاري من حياة البشر. وهذا النوع من الاستنباط - فهمًا كان أو اجتهادًا - لا سبيل إلى الالتزام به موضوعًا إذا تغاير مع ظروف زمنية أو بيئوية كما أنه لا سبيل إلى إغفاله منهجًا وإن تعذر أو استحال الالتزام به موضوعًا. فالحياة المادية البشرية في هذا العصر تكاد لا تتشابه في معظم عاداتها وأدواتها وممارساتها مع حياة السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن ظهرت الثورة البخارية في الصناعة ثم الثورات الأخرى المتفرعة عنها، والتي لا يزال تفرعها مطردًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1353 والالتزام باستنباطاتهم موضوعًا لا مناص من أن يعطل إما حياة المسلمين من مواكبة التطور وإن التزامهم بالإسلام وشرائعه وإن التزموا بعقائده إذا هم آثروا مواكبة التطور انسجامًا مع طبيعة الحياة ومقتضياتها ومن الحرب على الإسلام أن يحاول أحد أو تحاول طائفة اضطرار المسلمين إلى هذا الاختيار بحجة ضرورة الالتزام موضوعًا بسلوك السلف واجتهاداتهم ونمط حياتهم إذ إن هذه المحاولة ستقضي على الالتزام بالإسلام شريعة وربما عقيدة أيضًا فليس في طاقة فرد أو مجتمع أن يعاكس تطور الحياة. على حين أن الكلمة القرآنية والجملة القرآنية - القرآن هو الأساس لكل تشريع إسلامي حتى ما كان منه سنيًا – يتجلى الإعجاز الإلهي فيها بتجانسها مع البصائر والأفهام في كل ظرف زمني أو بيئوي وفي كل طور حضاري حتى لا يكاد القارئ البصير ببعض التدبر - فكيف بالتدبر المتعمق المستأني - أن يظن أن الآية يقرأها إنما نزلت للحظته تلك وأن نزولها في زمن سابق لم يكن لهداية ذلك الزمن وإنما كان ليتعبد بتلاوتها من كانوا أحياء فيه ولتتداولها الأجيال إلى لحظته تلك. وما من شك في أن كل قارئ بصير موفق في جميع الأزمنة والظروف والبيئات منذ نزل القرآن الكريم كان يجد مثل هذا الشعور وهو يتلو آيات الله البينات وهذا - والله أعلم بسرائر كتابه ولطائف إعجازه - من أقوى الأدلة وأوثق البيانات على أن محمدًا عليه الصلاة والسلام كان خاتم الأنبياء وأن القرآن كان خاتم الكتب المنزلة ومهيمنًا عليها وكان ويظل ما بقيت الأرض والسماوات الوشيجة الواشجة بين السماء هداية وبين الأرض اهتداء. وهذا الوعي بالطبيعة التطورية للتصور البشري للدلالة القرآنية المواكبة لطبيعة التطورية للتأثر البشري بالتطور الحضاري هو الذي جعلنا نقسم الاعتبار لاجتهاد السلف إلى موضوعي ومنهجي. ونتيجة لهذا الاعتبار أصبح اليوم من المتعين ضروريًا أن لا ينفرد الفقيه ولا الخبير بالاجتهاد أو بتعيين الحكم وإن بمجرد الفهم لنص من النصوص في أي حادث وفي أي حال وفي أية قضية مما يتصل بالحياة المادية للبشر ونعني بالحياة المادية ما ليس من الحياة الروحية الصرفة كالعبادات غير المعقولة المعنى ولا من الحياة الذاتية غير المتغيرة كمعظم ما يتصل بشؤون النكاح والطلاق وما شاكلهما من الأحوال الشخصية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1354 ذلك بأنه لا سبيل إلى تحكيم الفقيه وحده أو الخبير وحده في شأن من شؤون الاقتصاد مثلًا واعتبار حكم هذا أو ذاك مما يرتضيه الشرع أو لا يتناقض معه وإن تراءى أوثق بالشرع أو أوثق بالمصلحة. فالظروف التي نشًأ فيها الفقه الإسلامي وتطور كانت طرائق المعاملات ذات الطابع الاقتصادي لا تكاد تتشابه مع ظروف معاملاتنا اليوم شكلًا ولا موضوعًا، كان الاقتصاد يومئذ فرديًا صرفًا وكان النقد عينيًا صرفًا ويكاد التعامل بالمقايضة لا يختلف عن التعامل بالنقد فكلا التعاملين يقوم على نمط من التقييم وكان مدار الكسب الجهد الفردي ومجال التجارة الجهد الفردي فإن اشترك اثنان أو ثلاثة أو أكثر فلفترة محدودة في بضاعة محدودة لزمن محدود. فالبنية الاقتصادية إذن كانت بنية فردية صرفة، كذلك كانت الصناعة فليست أكثر من عمل فرد في يعتمد على خبرة فردية مصدرها في أغلب شأنها ما يكتسب من التجربة الفردية ومداها في كل شأنها ما تستطيع قوة الفرد أن تنتج فأين هذا من شأن اقتصادنا اليوم وقد أصبح كيانات جبارة ليس الفرد فيها إلا كلولب صغير من اللوالب التي تضبط بها أجزاء المصنع ولا وجود فيها لعينية النقد وإنما هو قطع اعتبارية من الورق أو المعدن ويكاد لا يكون لها أساس يمكن لمسه أو تشخيصه وإنما هو مجموعة اعتبارات (الطاقة الإنتاجية ومدخرات العملة الصعبة ومدخرات الذهب ومدخرات الأرض من المعادن المعتبرة) فكيف يحاول من يحاول أن يحكم طرائق الممارسة التي ضبط لها الفقهاء أحكامًا مما استنبطوه من النصوص القرآنية أو السنية لعهودهم تلك في أوضاعنا الراهنة هذه؟ إنه لا مناص من أن يشترك الخبير والفقيه في الاجتهاد بل وأن يتعاونا على إعادة قراءة النصوص وفهمها من جديد. فبدون ذلك لن يكون للإسلام بقاء ولن يتاح له أن يستعيد هيمنته هاديًا وموجهًا وضابطًا على الأمة الإسلامية فضلًا عن أن يجتذب إليه الأمم والنحل الأخرى. واعتبارًا لكل هذا قررنا بأن الحكم في الظروف التي يتعين فيها تدخل ولي الأمر في ما خول للإنسان من حق الانتفاع والمنفعة والتصرف والتصريف إذا تعين التدخل فيه يجب أن يعتمد على اجتهاد مزدوج من كل من الفقيه والخبير لا ينفرد به أحدهما ولكن لولى الأمر - لاسيما إذا كان خبيرًا - حق الموازنة والترجيح واتخاذ القرار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1355 لكن الالتزام بمناهج السلف في الاجتهاد قل أن يمكن التخلي عنه لأصول مناهجهم المستمدة من استقراء الطرائق والأساليب القرآنية والسنية في التعبير والتعليل والدلالة والإيماء وهي ضوابط لسبل فهم الشريعة والاستنباط منها، لا تتخلف أو قل ما تتخلف فإن تخلفت فليس التخلف منها وإنما هو من مدى فهم وتميز من استنبطوها ورسموا قواعدها ومعالمها ولا تتأثر بمؤثر خارجي أو قل ما تتأثر فإن تأثرت فليست هي المتأثرة ولكن العقول التي استنبطتها ورسمت معالمها وقواعدها لم تستطع أن تبلغ مداها من الارتفاع عن المؤثرات فقصرت وهي تضبط قواعدها وترسم معالمها عن أن تجعل عملها الاجتهادي متجردًا عن طبيعتها الفانية متجانسًا مع الطبيعة الأبدية لطرائق الكتاب والسنة في التعبير والتعليل والدلالة والإيماء. لذلك لا سبيل إلى التخلي عن المنهاج الاجتهادي للسلف إلا أن يتعين قصوره عن المدى الأبدي الشامل لينابيعه الأولى من الكتاب والسنة وذلك قليل، بل نادر يكاد لا يكون له وجود. ونحسب أن هذا الاعتبار اعتبار ازدواجية الاجتهاد في الشؤون غير التعبدية وما على شاكلتها هو الحكم الفيصل في إخلاف الزمن الذي اضطرب فيه الفقهاء والمقلدة حول جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل. فجمهرة المتخلفين - إن لم يكونوا جميعًا - اعتمدوا البصر بالشريعة بصرًا مؤهلًا للاجتهاد شرطًا من شروط الأهلية للإمامة على تفاوت بينهم في الالتزام بهذا الشرط لاعتبار صحتها أو في اعتباره شرطًا ترجيحًا. بيد أن استقراء مواقف أئمة الاجتهاد الأول ممن اعتمدوا أئمة المذاهب السنية أو لم يعتمدوا ولكنهم وثقوا في مجال الدراية والرواية وفي طليعتهم نفر من التابعين يدمغ أسباب هذا الاختلاف وحججه ويثبت مما لا يدع مجالًا للارتياب والمراء أنهم كانوا يدينون بصحة الإمامة لمن عاصروهم من الخلفاء الأمويين والعباسيين من معاوية إلى هارون ثم المعتصم والواثق وما منهم من شكك في وجوب الطاعة لهم ما لم يأمروا بمنكرٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1356 فقد كان نفر من صغار الصحابة الذين تصدروا للفتيا من عهد الخليفتين الراشدين أو بعدهما وجمهرة من الطبقة الأولى والثانية من التابعين يدينون بالولاء لمعاوية وابنه يزيد ولمروان وابنه عبد الملك. ودرج التابعون على هذا المنوال بعدهم وكان مالك - رحمه الله - يدين بالولاء للمنصور والهادي والمهدي وهارون ويقبل جوائزهم ويخاطبهم بإمارة المؤمنين (1) وكان الشافعي يدخل على الرشيد ويحضر مجلسه (2) ويصيب من جوائزه. كذلك كان أبو حنيفة وصاحباة (3) بل إن أبا يوسف كان قاضي قضاة الرشيد وله وضع كتاب الخراج. ومن أجل الحظوة عنده كان ما كان بينه وبين محمد بن الحسن (4) . وكان أحمد يدين بالولاء للمعتصم حتى بعد أن امتحن بأمر منه ويدين به للواثق بعد المعتصم بل إنه لما علم بفتح عمورية غفر للمعتصم ما امتحن به بأمر منه (5) . ومن قبل هؤلاء كان بعض أئمة الحديث الكبار ومن أبرزهم سفيان بن عيينة (6) يدخل على العباسيين وينال جوائزهم وكان قبل هؤلاء أيضًا جمهور من التابعين ومن أبرزهم الحسن البصري (7) يقبلون جوائز الأمويين ويدينون لهم بالولاء.   (1) عياض ترتيب المدارك. ج: 2. ص: 20 و95 وما بعدها وانظر أيضًا ما ذكره الذهبي في ثنايا ترجمته لمالك (سير أعلام النبلاء. ج: 8. ص: 48 إلى 135) . وفي ثنايا ترجمته للشافعي (نفس المرجع. ج: 10.: 15 إلى 99) وكذلك غير الذهبي ممن أفاضوا في ترجمة الإمامين الجليلين. (2) عياض ترتيب المدارك. ج: 2. ص: 20 و95 وما بعدها وانظر أيضًا ما ذكره الذهبي في ثنايا ترجمته لمالك (سير أعلام النبلاء. ج: 8. ص: 48 إلى 135) . وفي ثنايا ترجمته للشافعي (نفس المرجع. ج: 10.: 15 إلى 99) وكذلك غير الذهبي ممن أفاضوا في ترجمة الإمامين الجليلين. (3) انظر ما كتب عن أبي حنيفة وصاحبيه في تاريخ بغداد. ج: 2. ص: 172 إلى 182. ترجمة: 593. وج: 13. ص: 242 إلى 263. ترجمة: 7558. (4) انظر ما كتب عن أبي حنيفة وصاحبيه في تاريخ بغداد. ج: 2. ص: 172 إلى 182. ترجمة: 593. وج: 13. ص: 242 إلى 263. ترجمة: 7558. (5) انظر سير أعلام النبلاء. ج: 11. ص: 77 1 إلى 358. ترجمة: 58. والأحكام السلطانية. ص: 19 وما بعدها. (6) سير أعلام النبلاء. ج: 8. ص: 454 - 475. ترجمة: 120. (7) سير أعلام النبلاء. ج: 4. ص: 563 إلى 582. ترجمة: 223. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1357 ولئن كان بعض كبار التابعين قد أثر عنهم ما يمكن اعتباره اشتباهًا أو جرحًا في شرعية الخلفاء بعد معاوية فإن موقفهم هذا لم يعتمده أئمة الاجتهاد من معاصريهم وممن بعدهم إلا ما كان مصدره الاعتبار السياسي كما هو الشأن في مواقف كل من الشيعة والخوارج على اختلاف بينها. فمصدر تجريح الشيعة لشرعية خلافة الأمويين هو أنهم ليسوا من سلالة رسول الله صلى الله عليه وسلم على تفاوت بينهم في التزام هذا المصدر عمليًا على الأقل أما الخوارج فهم أشد تطرفًا في اعتبار أفضلية الإمام وأن ليس للمفضول أن يتولى الإمامة مع وجود الفاضل إلا في حالات خاصة شاذة وأن العلم بالشريعة الإسلامية المؤهلة للاجتهاد فيها شرط ضروري لصحة الإمامة وإن كان موقفهم هذا ظل نظريًا لم ينسجم معه تصرفهم في عقد الإمامة والولاء لها في جميع البيئات والعصور إلى أن انتهى وجود الإمامة عندهم عمليًا في أوائل هذا القرن. على أن هذا ليس شأننا في هذا البحث وإنما اضطرنا إلى أن نعرض له ما يترتب من أحكام على وجود إمام ليس مؤهلًا للاجتهاد وفي الشريعة الإسلامية. ذلك بأن ما أطلقنا عليه أنفًا " ولي الأمر " يشمل الإمام ومن يتولى نيابة عنه أمور المسلمين في قطر من الأقطار الخاضعة له ولاية تفويض أو ولاية تنفيذ. وبالتعبير الحديث من يكون وزيرًا له أو عاملًا أو واليًا ثم من يخولون سلطات أو صلاحيات من الوزراء والولاة والعمال في المدن والقرى والجماعات البدوية على تفاوت بين السلطات والصلاحيات التي تخول لهم تبعًا لمراتبهم في الجهاز الهرمي للدولة وهو تفاوت يترتب عنه تلقائيًا مدى ما يخول لهم شرعًا من حق التصرف الاجتهادي بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة وهذا (المدى) تضبطه وثائق التعيين والتخويل. والإمام الذي نتحدث عنه جريًا على سنن الفقهاء المتأخرين هو خليفة المسلمين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1358 عند وجوده أو الملك أو السلطان أو رئيس الجمهورية وبعبارة أشمل رئيس الدولة في التعبير الحديث. وقد ألمعنا آنفًا إلى موقفنا من وجوب وحدة الدولة الإسلامية وواقع تعدد الدول في العالم الإسلامي في الوقت الراهن وهو واقع لا سبيل إلى إغفاله أو تجاهله مهما يكن غير منسجم انسجامًا كاملًا مع مقتضيات الشرع الإسلامي لأن إغفاله وتجاهله من شأنه أن يحدث اضطرابًا خطيرًا في سير ومسار مصالح المسلمين وهذا الاضطراب أشذ خطرًا وأبعد أثرًا من أن يغفل شأنه في تقدير الأحكام الواجب تطبيقها على شؤون المجتمعات الإسلامية بحجة أن الواقع السياسي للمسلمين ليس منسجمًا مع الصيغة التي قررها الشرع الإسلامي. على حين أن اعتبار هذا الواقع في ضبط الأحكام التي يجب تطبيقها على المسلمين مجتمعات وأفرادًا لا يعني الحكم بشرعيته وإنما يعني التسليم بوجوده تسليمًا ليس معناه القبول باستمراره ولكن معناه اعتباره منطلقًا إلى التحقيق السلمي لتطوير الكيان السياسي للأمة الإسلامية إلى الصبغة الوحدوية التي يقرها ولا يقر غيرها الشرع الإسلامي وعلى هدي هذا الذي بيناه بإيجاز نقرر: 1- أن من يتولون أمور المسلمين في مختلف أقطارهم يملكون حق الانتزاع بالمصادرة أو التحديد لما يتصرف فيه الأفراد من أموال ثابتة أو منقولة في الأحوال التي يبيح الشرع فيها أو بنسبها مصادرة تلك الأموال أو تحديدها كما أو كيفًا. 2 - أن هذا الحق غير مخول إلا لولي الأمر الملتزم - وإن نظريا - بمختلف صيغ الالتزام الدستورية باعتبار الإسلام الدين المهيمن على تشريعات الدولة والمتحكم في تقدير شرعية أو عدم شرعية كل تشريع منها سواء كان مجاله الأحوال الشخصية أو المدنية أو الجنائية. - نقول الملتزم وإن نظريا بصرًا منا بأن الالتزام التطبيقي الكامل يكاد ينعدم في هذه الأيام ولا يمكن لهذه الحال المؤلمة أن تتخذ عائقًا لأي تدبير ألجأت إليه اعتبارات صادقة موافقة للمصلحة العامة في أية دولة من الدول الإسلامية لأن اعتبارها عائقًا يحول دون تحقيق الكثير مما من شأنه تطوير أوضاع المسلمين إلى ما هو أفضل اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا تطويرًا يعلو اعتباره على كل اعتبار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1359 إن هذا الحق لا تجوز ممارسته إلا حين تتوفر جميع البينات على توقف تحقيق المصلحة العامة للمسلمين على ممارسته وعند توفر هذه البينات يجب أن تنحصر ممارسته في الإطار الذي ترسمه وألا تتجاوزه بحال من الأحوال وأقل تجاوز لها ظلم تجب مقاومته بجميع الطرق السلمية المشروعة وإن كان لا يجوز الالتجاء في مقاومته إلى الطرق غير السلمية لأن جريمة العصيان من شأنها أن تحدث اختلالًا أو اضطرابًا في الدولة الإسلامية تنجر عنه مفسدة أشد من الظلم الذي قد يحدث من تجاوز مقتضى تلك البينات. فالمصلحة العامة توجب عدم الالتجاء إلى العصيان مهما يبلغ مدى ظلم الولاة إلا أن يصل حد منع المسلمين عن ممارسة الشعائر التعبدية كما نصت عليه السنة النبوية لا يتسع المجال لإيراد العشرات من الأحاديث الثابتة في هذا الشأن لذلك نقتصر على ثلاث أحاديث أخرجها البخاري في كتاب الأحكام قال (ج: 9. ص: 105 و106) : حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن أبي التياح عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) وقال المزي (تحفة الأشراف. ج:1. ص: 438 و439) : حديث: اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد. وفي حديث غندر: قال لأبي ذر: اسمع وأطع ... الحديث. خ في الصلاة (205: 2) عن بندار وفي الأحكام (4: 1) عن مسدد كلاهما عن يحيى - وفي الصلاة (207) عن محمد بن أبان عن غندر كلاهما عن شعبة عنة به. ق في الجهاد (39: 2) عن بندار وأبي بشر بكر بن خلف كلاهما عن يحيى به. حديث: لولا الهجرة لكنت أمرءًا من الأنصار ... الحديث. خ في التمني (9 تعليقًا) تابعه أبو التياح عن أنس. وقال البخاري (نفس المرجع) : حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن الجعد عن أبي رجاء عن ابن عباس ويرويه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى من أميره شيئًا فكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت إلا مات ميتة جاهلية)) . وقال المزي (نفس المرجع. ج: هـ. ص: 192. ح: 6319) في تخريج الحديث: حديث: من كره من أميره شيئًا فليصبر فإنه من خرج من السلطان ... الحديث. خ في الأحكام (4: 2) عن سليمان بن حرب وفي الفتن (2: 3) عن أبي النعمان كلاهما عن حماد بن زيد وفيه الفتن (2: 2) عن مسدد عن عبد الوارث كلاهما عن الجعد أبي عثمان عنه به. م في المغازي (66: 7) عن حسن بن الربيع عن حماد بن زيد به. و (66: 8) عن شيبان عن عبد الوارث به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1360 وقال البخاري (نفس المرجع) : حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله حدثني نافع عن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) . وقال المزي (نفس المرجع. ج: 6. ص: 175. ح: 8150) في تخريجه لحديث السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة. خ في الأحكام (4: 2) وفي الجهاد (107: ا) عن مسدد - م في المغازي (61: 19) عن زهير بن حرب - ومحمد بن المثنى - ثلاثتهم عنه به. د في الجهاد (96: 3) عن مسدد به. 4- إن ممارسة هذا الحق حين تتوفر البينات الموجبة لممارسته يجب أن تنضبط بالمجال والكيفية اللذين تتوفر البينات لوجوب ممارسته في إطارهما وليس هذا تكرارًا للجزء الأخير من الفقرة السابقة وإنما هو نوع آخر. فالذي ألمعنا إليه في الفقرة السابقة هو تجاوز الإطار في نفس المجال والكيفية أما الذي نريد إيضاحه الآن فهو تطبيق الإطار العام للبينات في غير المجال والكيفية اللذين وضع لهما. وبيان ذلك أنه حين تتوفر البينات بأن المصلحة العامة تقتضي تحديد مجال أو كيفية أو مدى تصرف إنسان فيما خول له التصرف فيه منفعة وانتفاعًا من الأموال الثابتة والمنقولة لا يجوز أن يتجاوز ولي الأمر نطاق " التحديد "، إلى " المصادرة ". فحين يتبين أن المصلحة العامة للمسلمين تقتضي أن لا تتجمع مساحات من الأرض واسعة أو مجموعة من العمارات السكنية متعددة أو مجموعة من الحيوانات التي تجب فيها الزكاة وفيرة جدًا فإن على ولي الأمر أن يمارس إعادة توزيعها ولكن مع تعويض من كانت مجتمعة تحت يده عما انتزع منه تعويضًا ليس رمزيًا كما تفعله بعض الدول اليوم وإنما هو تعويض كامل أساسه القيمة الواقعية لما انتزع منه كما هي في الأسواق الداخلية للدولة يوم انتزاعه وأي نقص من القيمة الواقعية ظلم يجب العمل على رفعه بالطرق السلمية. وهنا تبرز مسألة ذات خطر بالغ وهي المبالغ النقدية التي يمكن لولي الأمر أن ينتزعها من مدخريها إذا تبين أن المصلحة العامة للمسلمين تقتضي انتزاعها لصالح الدولة إلى السيولة النقدية أو لحاجتها إلى تدعيم قوتها العسكرية أو إلى دفع ديونها الخارجية وفي هذه الحال كيف يعوض صاحبها؟. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1361 ذلك أن العملات مهما تبلغ قوة وأيًا كانت دعائمها تظل عرضة في قيمتها للارتفاع والانخفاض طبقًا لتغير الأوضاع الاقتصادية للدولة وطبقًا للتقلبات الاقتصادية العالمية أيضًا. وإذا لم يقع تعويض النقود المنتزعة تعويضًا عاجلًا بقيمتها من الأموال الثابتة أو المتنقلة بل أعطي صبغة دين في ذمة الدولة تدفع أقساطًا أو إلى أجل مسمى بقيمته الاسمية وليس أسهما وسندات خاضعة للتقلبات في سوق القيم المالية فإن من انتزعت منه قد يصيبه الضرر إذا انخفضت العملة عند دفع أقساط الدين أو عند حلول أجل الدفع الكامل وقد يصيب الدولة الضرر عند ارتفاعها إذا كانت العملة المنتزعة ليست عملة الدولة نفسها وإنما هي عملة أجنبية معتمدة عالميًا. لذلك نعتقد أن الوضع السليم للتعويض في مثل هذه الحال يجب أن يرتبط بالعملة " المقياس " المعتبرة عالميًا فبذلك وحده يمتنع الإضرار بحق الدولة وبحق المنتزع منه. وقضية اضطراب سوق النقد وأسعار العملات ذات أبعاد خطيرة وآثار بالغة في جوانب من التشريع الإسلامي المتصل بمعاملات مثل تماثل النقد في المعاملات المؤجلة عند من يقول بأن لا ربا إلا في النسيئة والمعجلة أيضًا عند من يقول بربا الفضل ومثل سداد الديون وما شاكل ذلك بل إنها تؤثر حتى فيما تجتمع فيه الاعتبارات التعبدية الصرفة والاعتبارات المالية الصرفة أو بالأحرى ما يجتمع فيه حق الله وحق العباد مثل الزكاة في موضوع تحديد النصاب المالي لها من مختلف العملات وتحديده في الذهب والفضة بعد أن أصبح النقد اعتباريًا وزال حكم انفرادهما بالتقييم النقدي إذ لم يعودا المرجع التقييمي الوحيد للنقد الاعتباري وليس هذا مجال بحث هذه القضية إنما ألممنا بها عرضًا لعلاقتها بما يجوز انتزاعه من النقود المدخرة بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة. ثم إن اضطراب أسعار العملات لا يؤثر فيما نسميه اليوم العملات العالمية أو العملات الصعبة فحسب بل يؤثر أيضًا في العملات المحلية غير المتعامل بها في الأسواق العالمية للقيم أو تلك المتعامل بها فيها باعتبارها معترفًا بها ولكنها ليست مراجع للتقييم العالمي للعملات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1362 وهذان النوعان من العملات المحلية أو العملات الخاصة بدولها بتعبير أوضح ينجم إشكال جدير بالملاحظة والاعتبار من انتزاع المدخرات منها انتزاع تسخير لا انتزاع مصادرة - وسيأتي تفصيل الفرق بين الانتزاعين - إذا لم يكن تعويض من انتزعت منه عاجلًا بأموال ثابتة أو منقولة غير نقدية. ذلك بأن العملة المحلية شأنها شأن العملة العالمية عرضة للاضطراب القيمي فقد ترتفع قيمتها بالقياس إلى العملات العالمية أو إلى الطاقة الشرائية المحلية لها وقد تنخفض وفي كلا الحالتين ينتج ضرر فإن ارتفعت قيمتها لحق الدولة ضرر عند الأداء لأنها تؤدي مبلغًا من المال إن يكن مماثلًا لما انتزعته من قبل من حيث العدد فهو أكثر منه باعتبار القيمة التي أصبحت لذلك العدد وإن انخفضت قيمتها كان الدائن هو المتضرر لأنه عندما تقضيه الدولة ما تدين له به كامل العدد فهي فعلًا قد دفعت المبلغ المنتزع كاملًا باعتبار العدد بيد أنها دفعته ناقصًا باعتبار القيمة الشرائية وذلك ضار عمليا بمن انتزعه منه انتزاع تسخير ما يدخره من النقد. ولا سبيل إلى تلافي هذا الضرر بأن يحتسب النقد أو الازدياد عددًا فيضاف أو يقتطع عند الأداء لأن ذلك فيه شبهة ربا وهي شبهة قوية يجب التحرج منها أيًا كان الرأي في علاقة التعامل بالنقد الاعتباري مع المعاملات الربوية. وإنما السبيل في رأينا - هو أن تعتبر قيمة النقد المنتزع عند التزامه في العملة أو العملات العالمية التي يرتبط بها عالميًا تقييم العملات وأن يسدد دينه على أساس تلك القيمة المعتبرة عند انتزاعه وليس على أساس المبلغ العددي للنقود المنتزعة وبذلك لا يلحق الضرر بالدولة لو ارتفعت قيمة تلك العملة ولا بمن انتزعت منه لو انخفضت. ومع أن ما يلحق الأفراد من الأضرار عند التصرف بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة غير ملتفت إليه عامة إذ أن المصلحة العامة يعلو اعتبارها عن أي مفسدة تتعلق بفرد معين فإن اجتناب حدوث المفسدة أولى - وقد يكون واجبًا إذا أمكن - من عدم اجتنابه اعتبارًا لرجحان المصلحة العامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1363 ثم إن هذه القاعدة التي قررناها تفيد المصلحة العامة كما تفيد المصلحة الفردية إذ أن احتمال خسارة الدولة تماثل احتمال خسارة الفرد في الاعتبار فلا سبيل - في أغلب الحالات - إلى التأكد من أن الخسارة ستكون على الفرد لا على الدولة من تقلبات الأسواق الدولية. على أن انتزاع المدخرات النقدية قد يكون في بعض الحالات معتمدًا فيه على المصلحة المرسلة وليس على دليل شرعي قاطع أو راجح، وبذلك يكون أساسه أقل ثباتًا وأدعى إلى التحرج من أساس ما كان معتمدًا فيه على دليل شرعي قاطع أو راجح. ويتجلى ذلك في حال لجوء الدولة إلى انتزاع الفائض من النقد في أيدي الأفراد أو مؤسسات القطاع الخاص ليس لأنها بحاجة إليه ولكن لمجرد الحد من التضخم المالي وارتفاع الأسعار الناتج عن وفرة السيولة النقدية وذلك اجتنابًا للوقوع في المحظور الذي تقع فيه الدول غير الإسلامية أو غير الملتزمة بتطبيق الشريعة الإسلامية من معالجة هذا الوضع برفع الفوائد الربوية من المعاملات. وفي هذه الحال يكون الإضرار بالفرد لو نزلت قيمة العملة المنتزعة منه أشد إيلامًا وأبرز مفسدة إذ أنه في حال الانتزاع منه لحاجة الدولة اقتصاديًا أو عسكريًا يمكن أن يعتبر نفسه في حال انخفاض قيمة العملة المنتزعة منه مسهمًا بنصيب في تحقيق مصلحة عامة يناله منها حظ. أما في حال الانتزاع لمجرد الحد من السيولة النقدية ومنع التضخم المالي المؤدي إلى ارتفاع الأسعار فإن شعور الفرد بالإسهام في تحقيق مصلحة عامة إن نقصت قيمة العملة المنتزعة منه يكون أقل وأضأل من شعوره بذلك في الحال المشار إليها آنفًا وقد لا يتأتى مثل هذا الشعور للفرد العادي وقد ينتج عن عدمه ما يجب التحرج منه من شيوع النقمة بين العامة من تصرفات الدولة شيوعًا قد يتطور إلى ما لا تحمد عقباه. واعتبار تباين سعر العملة وخاصة طاقتها الشرائية تجب ملاحظته - عندنا - في مجال جباية الزكاة ممن امتنع عن دفعها وتجمعت في ذمته مقادير منها بمرور الزمن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1364 لكن هل يلاحظ هذا الاعتبار في تحديد النصاب الواجب اعتماده عند محاسبته على الزكاة المتجمعة في ذمته أم في تحديد العقوبة التي يمكن للإمام أن يعاقبه بها نكالًا له إن امتنع من أدائها؟ واضح أن كلا الوجهين ممكن التنفيذ الذي نطمئن إليه هو أن يقدر نصًا كل سنة من السنوات التي لم يؤد الزكاة فيها على حدة وأن يحاسب في واجبه المترتب عنه بسعر العملة في ذلك العام سواء انخفضت أو ارتفعت حسب ما كان عليه في سوق القيم المالية ثم للإمام بعد ذلك أن ينزل عليه العقوبة التي يراها رادعة له ويراه مستوجبًا لها لامتناعه أو لغفلته عن أداء الزكاة. ومثل هذا الاعتبار هو الصالح للاعتماد في محاسبة من يمارس المعاملات الربوية لمصادرة ما تأثله منها إذ إن عدم اعتماد هذا الاعتبار من شأنه أن يبقي له جانبًا من الفوائد الربوية التي تأثلها في حال انخفاض سعر العملة التي يحاسب بها عند محاسبته عما كانت عليه أثناء ممارسته للمعاملات الربوية أو في بعض فتراتها وعلى هذين المثالين تقاس أية حالات متشابهة لهما. ونخلص من كل ما سبق إلى أن الانتزاع المخول لولي الأمر أن يمارسه بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة يتمثل في ثلاثة أشكال: 1- المصادرة: وهي انتزاع كل ما في يد فرد أو مؤسسة خاصة من مال ثابت أو منقول ثبت أنه حاصل من طرق غير مشروعة كالغصب والاحتيال والرشوة والأجرة المحرمة والمكافأة من حاكم غير مسلم أو من حاكم مسلم غير ملتزم، لاسيما إذا كانت المكافأة من مال ليس خاصا بالدولة وإنما هو مغتصب من أفراد أو مؤسسات أو جماعات بقوة السلطان وينطبق هذا حتى على ما بيع لمن يقع انتزاعه منه سعر رمزي كما حدث كثيرًا في عدد من الأقطار الإسلامية خلال الحكم الأجنبي لها مما مارسه الحاكمون عندئذ مع عملائهم من أبناء تلك الأقطار. وكالمال الذي يتأكد أنه حصيلة ممارسات ربوية وإن كان. أساسها رأس مال حلال إذا تبين أن من يتصرف في ذلك المال قد استهلك رأس ماله في نفقاته الخاصة وأن ما يتصرف فيه الآن هو حصيلة الممارسات الربوية الصرفة كما ألمعنا منذ قريب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1365 2 - التسخير: وهو انتزاع حق التصرف في مال ثابت أو منقول تكون الدولة بحاجة إليه اقتصاديًا أو عسكريًا وتستحيل تحقيق تلك الحاجة بنوع من التعامل أو التعاون مع من يتصرف في ذلك المال وقد يكون هذا التسخير لوقت معين وذلك في بعض الأموال الثابتة أو المتنقلة مثل أن تكون الدولة بحاجة إلى مساكن لإيواء من أصابتهم كوارث طبيعية أو لإسكان فقراء بحاجة إلى السكن ولم يتيسر للدولة عندئذ إنشاء مساكن لهم ومثل تسخير وسائل النقل لحاجة الدولة عند الكوارث الطبيعية أو في حالة الحرب وقد يكون التسخير دائما وهذا يتمثل في تسخير المدخرات النقدية التي تكون الدولة في حاجة دائمة إليها اقتصاديًا أو عسكريًا مثل توظيف تلك المدخرات في صناعات أو مشاريع فلاحية وتجارية علمية لتيسير العمل للعاطلين أو لتنشيط صناعة الدولة أو لتطوير تقنيتها أو لتوفير صادراتها ابتغاء تحقيق الموازنة لميزان أداءاتها أو توفير الفائض في تجارتها ليتيح لها نفوذ أو هيمنة على أسواق دول غير إسلامية تمكينًا لهيبتها وتدعيما لسلطانها. وقد يكون التسخير لحاجة لا تتصل بالدولة مباشرة وإنما تتصل بالمجتمع الذي ترعاه وتضطلع بحفظ مصالحه وإقرار العدل بين أفراده ويتمثل هذا النوع في منع الاحتكار وتسعير المواد التي تتوقف عليها الحياة الضرورية - وحتى الحاجية أحيانًا - لعامة أفراد المجتمع وقد يتعين هذا التصرف في حالات استثنائية كأحوال القحط اجتنابًا لاضطرار الدولة اضطرارًا تامًا أو جزئيًا إلى استيراد ما يكفل الاستجابة لضرورات أبنائها أو في حال حروب إقليمية أو عامة تجعل الاستيراد أمرًا متعذرًا لما يكتنفه من تعرض وسائل النقل للخطر فتكون الدولة مضطرة إلى ضمان التوزيع العادل لما في أيدي أفرادها أو لما يتاح لهم استيراده من المواد والوسائل المتصلة بضرورة الناس وحاجاتهم توزيعًا يكفل حظا عادلًا من الربح لمن لديهم تلك المواد مستوردة أو متزنة لقاء ما بذلوه من جهد ويمنعهم من المغالاة في السعر استغلالًا لظروف الحاجة الطارئة ولإقبال الناس على الشراء.وقد يتعين في حالات غير استثنائية وهذا يمكن تصوره في الدول التي تأخذ بمبدأ الاقتصاد الحر إذا تواطأ التجار فيها أو الفلاحون على الاتفاق على أسعار ثابتة مبالغ في تقديرها لمواد مما ينتجون أو يستوردون وتتوقف عليها ضرورات عامة الأفراد أو حاجاتهم إذ يتعين على ولي الأمر أن يكبح جشع المستغلين ورغبتهم في الربح الوفير بأن يوفر لهم ربحًا معقولًا فيما يكفل لعامة الناس الحصول على حاجاتهم وضروراتهم بسعر عادل دون أن يتحكم فيهم المحتكرون من منتجين أو تجار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1366 ثم إن التسخير لا ينحصر بالضرورة في المال العيني بل قد يشمل المال الاعتباري، ونعني بالمال الاعتباري الدراية التقنية والمهارة الصناعية والطاقة الإنتاجية لمختلف وسائل الإنتاج كالمصانع والأراضي الفلاحية والوسائل الإنتاجية مثل أدوات الصناعة جماعية كانت أم فردية والأيدي العاملة العادية والخبرة الفردية لأية حرفة أو مهنة يمارسها صاحبها بنفسه أو مع غيره من الفعلة كالحلاقة والحدادة والنجارة الصغيرة وحتى تنظيف الشوارع والأزقة وجمع القمامة وقيادة السيارات العامة والخاصة وشاحنات النقل والقطارات والبواخر والطائرات والمراقبة الجوية والإرشاد الملاحي في الأنهار الكبرى والمضايق وما إلى ذلك من الأعمال التي يمارسها الفرد أو الجمهور كل ذلك إذا احتاجت الدولة إليه حاجة دائمة أو عارضة وامتنع أصحابه من أدائه طمعًا منهم في أجور أعلى يعملون على تحقيقها باستغلال ظرف حاجة الدولة أو لأسباب سياسية أو غير سياسية امتناعًا من شأنه أن يلحق الضرر بسير الشؤون العامة والخاصة إذا كانت هذه الشؤون ذات علاقة بحالة الحرب أو ينتج عن تعويقها اعتلال في اقتصاد الدولة أو اختلال في مواجهة متطلبات الحياة العامة للمواطنين كتوزيع المؤونة أو جلبها أو تفريغها من البواخر والشاحنات وكضمان استمرار توزيع الماء والنور واستمرار السير العادي لوسائل النقل وما إلى ذلك مما يلحق المصلحة العامة بتعويقه ضرر يرجح ما قد يصيب الممتنعين عن الاضطلاع بواجبهم من مفاسد يمكن أن تبلغ حد الإساءة إلى مصالحهم الشخصية المادية ولكنها مهما بلغت لا توازي ما ينجر عن امتناعهم عن أداء واجبهم من الإضرار بالمصلحة العامة لاسيما إذا كانت تتصل مباشرة بسلامة الدولة عسكريًا أو باتصال نموها وتطورها اقتصاديًا اتصالًا ينتج عن الإخلال به أو تعويقه وإن لفترة قصيرة إضرار بنفوذ الدولة الخارجي أو بالتزاماتهم الدولية أو بمركزها الاقتصادي العالمي أو يحدث اضطرابًا ومصاعب في التزاماتها الداخلية. ففي جميع هذه الأحوال وما شاكلها تعلو المصلحة العامة على كل اعتبار لمصلحة أو مفسدة فردية أو متعلقة بجزء من المجتمع مثل طائفة بعينها أو أرباب مهنة أو صناعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1367 ويتبين من هذا أن إجبار العمال على العمل وإجبار أرباب الصناعات والمصانع والفلاحين ومن شاكلهم على الإنتاج إذا تبين أن إضرابهم يلحق بالدولة ضررًا محققًا واجب على ولي الأمر أن يمارسه بمقتضى تصرف الإمامة وأن أوامر التسخير التي يصدرها ذات صبغة شرعية واجبة التنفيذ بشرط أن يكون في تقديره لمدى الاضطرار إلى هذا التصرف صادرًا عن موازنة دقيقة وموازاة للاعتبارات السياسية والإدارية بالاعتبارات الشرعية الدينية وهذا يعني أنه يجب قبل أن يتخذ قرار التسخير في هذا المجال أن يستشير المجتهدين من الفقهاء وأن يشرح لهم ظروفها ونتائجها شرحًا واضحًا دقيقًا نزيهًا فإن اتفقوا على موقف فعليه أن ينزل عند اتفاقهم وإن اختلفوا كان له حق الترجيح لما يميزه عنهم من الخبرة التي يملكها نتيجة للممارسة المبصرة له ما قد لا يبصره غيره من الملابسات والعقبات ويشمل هذا الحكم تسخير الكفايات التقنية لجميع وسائل التسخير فلولي الأمر أن يجبر ما وجد منها داخل الدولة على العمل في جهاز الدولة نفسها إذا توقفت حاجة الدولة إليه وأن يمنعه من العمل المستقل أو في القطاع الخاص وإن كان ذلك يمنعه من أجر أعلى مما تسمح له به القوانين التنظيمية للدولة كما أن لولي الأمر أن يتخذ جميع الوسائل والتشريعات الممكنة له لإرغام ذوي الكفايات من مواطنيه على العودة إلى بلادهم والعمل في إطار الدولة ابتغاء الأجر الوفير أو إذا كان عملهم خارج الدولة يضر بها أو بالإسلام والمسلمين أو ينشًا عنه ما من شأنه نفع أعداء الدولة وخاصة إذا كانوا من غير المسلمين أو من المسلمين اسمًا ذوي الأهواء والنحل المنحرفة وإن لم يكونوا مع الدولة في حالة حرب بل وحتى إن كانوا معها في حلف أو صداقة مما تقتضيه اعتبارات سياسية متواضع عليها بين الدول ولا يعني التضامن العملي الذي لا يستقيم إلا في حال تماثل المبادئ والمناهج والأهداف. 3 - تحديد الملكية وهو يشمل تحديد ما يمكن أن نسميه بـ" الملكية الاعتبارية" ونعني به ما شرحناه منذ قريب من تسخير الكفايات التقنية وطاقات الإنتاج على اختلافها كما يشمل تحديد الملكية المادية وهي ما دأبنا على تسميته بـ: "حق المنفعة والانتفاع". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1368 وقد سبق أن ألمعنا إلى حق ولي الأمر " بمقتضى الإمامة " اعتبارًا للمصلحة العامة في أن يمنع في تجميع المساحات الكبيرة من الأرض الفلاحية أو المهيأة للعمارة أو وسائل الصناعة الكبرى أو الصغرى أو العمارات السكنية وما شاكل ذلك في يد واحدة أو في أيد قليلة تيسرت لها الأسباب المالية لتجميعها. كما سبق أن أوضحنا أن من حق ولي الأمر بل من واجبه "بمقتضى الإمامة" اعتبارًا للمصلحة العامة، وهنا أيضًا نضيف قيامًا بتنفيذ الأحكام الشرعية الإسلامية أن يصادر كل مال ثابت أو منقول تأثله صاحبه أو أصحابه - وإن شكل مؤسسة ذات شخصية معنوية - من طرق مخالفة لما يبيحه الشرع الإسلامي. وفضلًا عن هذين النمطين من الامتلاك الذي قد يوفر لصاحبه أو أصحابه أرباحًا طائلة يعود توفيرها لهم على عدد أكبر منهم من الناس - مثل عمال الأرض وعمال المصانع - بالإجحاف بما يحرمهم من توزيع عادل لعوائد ما يبذلون من جهد أو كفاية تقنية أو مهارة صناعية أو خبرة فلاحية. هناك نوع من الملكية قد يتعين تحديده على ولي الأمر بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة وهو الملكيات الصناعية والفلاحية والعقارية الواسعة التي يكون منشأها حلالًا طيبًا ويكون أصحابها يحسنون استثماره إحسانًا يجعله ينتج أقصى طاقته الإنتاجية بيد أنهم لا ينفقون عوائدهم منه طبقًا لما رسمته الشريعة الإسلامية من طرائق وحدود نتيجة لذلك تنشًأ عن تصرفاتهم طبقة من المترفين من شأنها أن تحدث انقسامًا في المواطنين متباعد الآماد متمادي التفاوت لدرجة لا يمكن معها الاعتماد على التكييف الأخلاقي وحده لتلافي نتائجها النفسية ثم ما يسمى اليوم بالتفاوت الاجتماعي والصراع الطبقي. على حين أن ولي الأمر إذا تصرف بمقتضى الإمامة في تلك الملكيات الواسعة بإعادة التوزيع يتلافى تلك النتائج الخطرة على السلم الاجتماعي للدولة دون أن يضر بالمستوى الاقتصادي للإنتاج. ففي مثل هذه الحال وإذا رجح لدى ولي الأمر أنه إذا لم يعد توزيع تلك الملكيات سيواجه اختلالًا داخليًا خطيرًا وإذا وافقه المجتهدون من الفقهاء في تقدير ما يتوقعه من الاختلال ومعقباته له - وقد يكون واجبًا عليه - أن يعيد توزيعها وأن يعوض مالكيها عن الأقساط التي ينتزعها منهم ليوزعها على الآخرين بسعرها الحقيقي يوم انتزاعها في السوق الداخلية تعويضًا عاجلًا أو مقسطًا في الإطار الذي رسمناه آنفًا من ربط القيمة المؤجلة بسعرها من العملة أو العملات المستدل بها في أسواق القيم المالية العالمية على قيم العملات الخاصة والمؤثرة في قيم الأسهم والسندات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1369 ذلك بأن صيانة جميع أنواع الأمن الداخلي والخارجي وحمايتها من أسباب الاعتلال والاختلال مصلحة عامة تعلو على كل اعتبار. يتحصل من كل ما سبق أن انتزاع الملك أو بالأحرى انتزاع حق المنفعة والانتفاع انتزاعًا كاملًا أو جزئيًا اعتبارًا للمصلحة العامة قد يكون واجبًا على ولي الأمر وقد يكون مندوبًا إليه تبعًا لاختلاف الحوافز والدواعي إليه والنتائج المترتبة عنه. وعمادنا في ذلك أمران: أحدهما هو ما سبق أن ألمعنا إليه أكثر من مرة أن علاقة الإنسان بما تحت يده من الأموال الثابتة والمنقولة إنما هي علاقة الخليفة بوظيفة الخلافة ومناطها تحقيق المنفعة والانتفاع باعتباره جزءًا من المجتمع الإسلامي وتحقيقهما للمجتمع الإسلامي أفرادًا وجماعات ومجتمعًا وكيانًا سياسيًا، فإذا أخل بهذه الوظيفة عن قصور أو تقصير أو انحراف عن قواعد الشرع الإسلامي فقد حقه أو بعض حقه وكان لولي الأمر - وقد يكون واجبًا عليه - بمقتضى الإمامة أن يتصرف التصرف الذي يعينه ويحدد مداه اعتبارالمصلحة العامة مقدرة بمقادير الشرع الإسلامي ومحددة بحدوده ومعالمه غير معتمدة في ذلك على اجتهاده وحده بل مستعينًا باجتهاد كل من الخبراء المتخصصين والفقهاء المجتهدين فنازلًا على حكمهم عند اتفاقهم متصرفًا باجتهاده في ترجيح أحد الآراء عند اختلافهم على أن يخالف آراءهم جميعًا وعلى أن لا يكون متأثرًا في اجتهاده بأي مؤثر خارجي من جدليات وأهواء ليست في أساسها ومصدرها على شيء من العلاقة بالإسلام وإن تراءت بعض مظاهرها غير غريبة عنه، فإن تأثر بشيء من تلك الجدليات وإن تأثرًا لم يتجاوز مجرد الإعجاب أو الاستحسان كان ذلك جارحًا في أهليته للاجتهاد يحظر عليه أن يقيم لاجتهاده أي اعتبار ويحتم عليه أن لا يعتمد إلا اجتهاد الخبراء التقنيين والفقهاء المجتهدين، فإن اختلفوا تعين عليه اعتماد ما قال به الجانب الأغلب إلا أن يكون الجانب الأقل معتمدًا على نصوص صريحة من الكتاب والسنة لا تتعارض في جوهرها مع الخبرة التقنية بينما يعتمد الجانب الأغلب على مفاهيم واجتهادات وطرائق من الأقيسة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1370 والاستحسان والاستصحاب أو تقدير المصالح المرسلة. ففي هذه الحال عليه أن يأخذ برأي الجانب المعتمد على صريح نصوص الكتاب والسنة أو نصوص أحدهما ما لم تتعارض مع مقتضيات الخبرة التقنية المجمع عليها من الخبراء التقنيين وإن تكن هذه المقتضيات مرجوحة بالقياس إلى مقتضيات أخرى تساند رأي الفقهاء المجتهدين المستندين إلى مفاهيم واجتهادات مرجحين لها على بعض النصوص. وثانيهما حديث "لا ضرر ولا ضرار". وقد روي بأسانيد مختلفة بعضها متصل وبعضها مرسل وراق لبعضهم أن يريب فيه كما راق لآخر أن ينحرف بدلالته انحرافًا عجيب الشذوذ ونؤثر أن نسوق طائفة من ألفاظه وأسانيده قبل أن نقف عند تمحيص بعض ما تقول فيه المتقولون. قال مالك (1) : "حدثني يحيى عن مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) . وقال الشافعي (2) : "روى الشافعي أن مالكًا أخبره عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) . وقال أحمد (3) : "حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن جابر عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار وللرجل أن يجعل خشبة في حائط جاره والطريق الميتاء سبعة أذرع)) .   (1) الموطأ. ص: 638. ح: 36. (2) ترتيب مسند الإمام الشافعي ج: 2. ص: 134 و. ح: 442. (3) الفتح الرباني. ج 15. ص: 110. ح: 354. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1371 وقال أبو داود (1) : ((عن واسع بن حيان قال: كانت لأبي لبابة عذق في حائط رجل فكلمه فقال: إنك تطأ حائطي إلى عذقك فأنا أعطيك مثله في حائطك وأخرجه عني. فأبى عليه فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيه فقال: يا أبا لبابة خذ مثل عذقك فحزها إلى مالك واكفف عن صاحبك ما يكره فقال: ما أنا بفاعل فقال: اذهب فاخرج له مثل عذقه إلى حائطه ثم اضرب فوق ذلك بجدار فإنه لا ضرر في الإسلام ولا ضرار)) . وقال ابن ماجه (2) : "حدثنا عبد ربه بن خالد النميري أبو المغلس، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار)) . وحدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) . وقال الدارقطني (3) حدثنا محمد بن عمرو البختري، حدثنا أحمد بن الخليل حدثنا الواقدي، حدثنا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) . وحدثنا أحمد بن محمد بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة، حدثنا عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((للجار أن يضع خشبته على جدار جاره وإن كره والطريق الميتاء سبع أذرع ولا ضرر ولا إضرار)) .   (1) المراسيل. ص: 207. (2) السنن. ج: 2. ص: 784. ح: 0 234 و1 234 (3) السنن. ج: 4. ص: 227. ح: من 83 إلى 86. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1372 حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا عباس بن محمد حدثنا عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا إضرار)) . وحدثنا أحمد بن محمد بن زياد، حدثنا أبو إسماعيل الترمذي، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو بكر بن عياش قال: أراه قال: عن ابن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرورة ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبة على حائطه)) . وقال البيهقي (1) "أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقري، أنبأنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب، حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا فضيل بن سليمان عن موسى بن عتبة بن أبي عياش، حدثني إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: ((إن من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى أن لا ضرر ولا ضرار)) . أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنبأنا أبو عمرو بن نجيد، حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا أبو بكير، حدثنا مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) - وتعقبه البيهقي بقوله: هذا مرسل (وقد رويناه) في كتاب الصلح موصولًا -. وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن وأبو محمد بن أبي حامد المقري وأبو صادق بن أبي الفوارس قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ العباس بن محمد الدوري حدثنا عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي، حدثنا عبد العزيز بن محمد الداروردي عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار من ضار ضره الله ومن شاق شق الله عليه)) .   (1) السنن الكبرى. ج:10. ص: 133 وج: 6. ص: 69 و70 و56 1 و57 1. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1373 وتعقبه بقوله: تفرد به عثمان بن محمد عن الدراوردي ورواه مالك بن أنس عن عمرو بن يحيى عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) مرسلًا ". لكن علق عليه بن التركماني بقوله: لم يتفرد به - يعني عثمان بن محمد عن الداروردي بل تابعه عبد الملك بن معاذ النصيبي فرواه كذلك عن الدراوردي كذا أخرجه أبو عمر - يعني ابن عبد البر - في كتابيه التمهيد والاستذكار. ولم يتيسر لنا الإطلاع على الجزء الخاص بالعين مع الميم من تمهيد ابن عبد البر لأنه لم يكن قد طبع عند تحريرنا لهذا البحث وبذلنا غاية الجهد للإطلاع على النسخة الخطية أو صورة منها فلم يسعفنا الحظ. ثم قال (1) "أخبرناه أبو أحمد المهرجاني، أنبأ أبو بكر بن جعفر حدثنا محمد بن إبراهيم، أنبأ ابن بكير، أنبأ مالك فذكره. أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي المقري، أنبأ الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب، حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا فضيل بن سليمان عن موسى بن عقبة حدثني إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن عبادة بن الصامت قال: ((إن من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى أن لا ضرر ولا ضرار)) . وأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع ابن سليمان، أنبأ الشافعي أن مالكًا أخبره عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) . ونقل الطبراني عن الهيثمي في الأوسط (2) : "وحديثًا عن جابر بن عبد الله قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) وتعقبه بقوله: وفيه ابن إسحاق وهو ثقة ولكنه مدلس.   (1) السنن الكبرى. ج:10. ص: 133 وج: 6. ص: 69 و70 و56 1 و57 1. (2) مجمع الزوائد. ج: 4. ص: 110. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1374 وحديثًا عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) وتعقبه بقوله: وسمر ابن أحمد بن رشدين وهو بن محمد وهو بن محمد بن الحجاج بن رشدين وقال ابن عدي: كذبوه ". قلت: لم أقف على هذا الاسم في الكامل لابن عدي. وذكر بعض المعلقين أن الحاكم أخرجه كما ذكر آخر أنه في سنن أبي داود ولم أقف عليه رغم شدة البحث في المستدرك ولا في السنن ولعل الحاكم رواه في غير المستدرك أو في غير مظانه من المستدرك وكذلك أبو داود أو لعله في بعض الروايات لسننه وقد يكون بعضهم التبست عليه "المراسيل" "بالسنن" أو أن في بعض روايات (السنن) إدراجًا لرواية " المراسيل ". ونقله المزي (1) : "عن النسائي عن محمد بن يحيى عن عبد الرزاق عن معمر عن عكرمة عن ابن عباس ". وذكر أن النسائي أخرجه في الأحكام (الباب: 17. ح: 2) لكنا لم نجده في السنن ويظهر أنه نقله من "السنن الكبرى" إذ سبق أن نقل عنه حديثين قبل هذا ووضع المحقق أمام الحديث الأول كلمة الكبرى بين قوسين واللفظ الذي نقله المزي هو "لا ضرر ولا ضرر ". ولقد أبدأ وأعاد كل من نقدة الحديث ومقلدة الفقهاء وشذاذ المبتدعة الذين يحكمون العقل البشري في التشريع ويرجحون الأحكام العقلية على النصوص الشرعية المقطوع بها وعلى غيرها من الأدلة المعتمدة شرعًا إذا تعارضت تلك الأحكام معها.   (1) تحفة الأشراف. ج: 5. ص: 119. ح: 6016. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1375 ومرد هذا الإبداء والإعادة وذلك الاضطراب والالتباس أو الانحراف إلى خطر القاعدة التي يقرها الحديث الشريف، إذ يظهر أن المتمسكين بحرفية قواعد "الجرح والتعديل " وشكلية مناهجه الذين لم تبلغهم بعض طرق الحديث حاولوا أن يغمزوا فيه بالإرسال والانقطاع دون أن يميزوا بين الطرق المرسلة أو المنقطعة والقرائن التي ترجحها أو تضعفها، ومن هؤلاء من يترجح من الاستدلال بالحديث المرسل أو يرفضه وهو موقف ليس هذا مجال مناقشته وإن كنا لا نقرة ومنهم من يؤرجح بين (المراسيل) فيأخذ بالبعض ويترك البعض حسب اجتهاده في توثيق بعض المرسلين والتحرج من غيرهم وذلك شأنه فله اجتهاده. بيد أننا نعتمد الحديث المرسل إذا أرسله تابعي ثقة أيًا كان فكيف بمن هو بمنزلة رجال مالك أو في مقام الحسن بن أبي الحسن ومن على شاكلة هؤلاء؟ ذلك بأن توثيقهم يقتضي تلقائيًا اعتماد ما وثقوا به إذ أن أصحاب "الجرح والتعديل" أنفسهم كانوا يتشددون في التوثيق أو كذلك كان الجيل الأول منهم فلا يصفون أحدًا منهم بأنه ثقة لمجرد أنه مشهود له بالصدق بل لأنه فضلًا عن ذلك ممن يرتضون دينه بل إن بعضهم يشترط أيضًا أن لا يكون ممن يعتمد على الكتابة إذ كانوا يرون أن الذين يعتمدون على الكتابة يمكن أن لا يكون سماعهم مباشرة وإنما يحدثون عن طريق النقل وهذا جارح عند هؤلاء وما من أحد من أهل "الجرح والتعديل"، يستطيع أن يغمز وإن في سريرته في أمثال الحسن بن أبي الحسن ومالك وأحمد رضوان الله عليهم جميعًا فكيف يجوز أن نتحرج من مراسيلهم لا سيما من التزم منهم بمثل ما التزم به مالك من التحرج الشديد فيما يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنقيحه مرة بعد مرة لكتابه الجليل "الموطأ" من مآثره التي تداولتها بإجماع ألسنة النقلة ومدونات السير وتراجم الرجال. ويحيى بن عمارة المازني وابنه عمرو اللذان أسند اليهما مالك وغيره هذا الحديث روى عنهما الجماعة وممن أجمعوا على توثيقهم فلماذا يحاول البعض أن يريب في الحديث لمجرد أن يحيى لم يذكر عمن رواه من الصحابة مع أن ممن روى عنهم أبا سعيد الخدري (1) وقد رفع إليه غيره الحديث. أما نحن فنعتمد رواية مالك "المرسلة" لما يشهد لها من رواية غيره "المرسلة" أكثر مما نعتمد الرواية الموصولة وإن كنا لا نرى فيها مغمزًا.   (1) انظر ابن حجر تهذيب التهذيب. ج: 11. ص: 259. ح: 520. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1376 ثم إننا لا نعجب من تضعيفهم لبعض الأسانيد التي أسند بها هذا الحديث لمجرد أن من رجالها من تكلموا فيه بما لا يبلغ حد الغمز في دينه أو في حفظه عامة مع أن هذه الأسانيد تدعمها الأسانيد التي لم يغمزوا فيها إلا بالإرسال أو الانقطاع دعما نعتبره وأمثاله شهادة دامغة على صحة الحديث صحة لا يغمز فيها أن وجد بين بعض من أسندوه من قال فيه النقدة كلامًا لم يبلغ درجة الاتهام بالوضع والكذب أو بالدعوة الجاهرة إلى بدعة أو نحلة ذلك بأن المبالغة في تقصي أحوال الرجال لو طبقناها في جميع المحدثين ومنهم بعض التابعين لكان لنا مقال في نفر من كبار من وثقوه من الطبقة الأولى والثانية والثالثة من التابعين ولكنا نبرأ إلى الله من أن نجرِّح أحدًا لشيء قد يثبت عنه وقد لا يثبت مما يتصل بحياته الخاصة وسلوكه الشخصي أو برأي شخصي له لم يتخذ الدعوة إليه دأبًا ومهمة مما لا يتصل بالصدق في النقل وبالدقة والضبط لما ينقل. ومن عجب أنهم ربما لم يتحرجوا من بعض النقلة الذين عرفوا باللحن أو بعدم التدقيق في ضبط ما ينقلون واعتذروا لهم بأنهم أخطأوا في سماع بعض الألفاظ أو في قراءته من "الكتاب" أمام المؤلف أو بالإجازة أو المناولة منه واعتمادًا على هذا العذر يقبلون حديثه مع أن الخطأ في قراءة شكلة أو رواية نقطة فضلًا عن حرف قد تؤثر في المعنى وقد تغيره جوهريا وقد ينشأ عنه اختلاف في الدلالة أو قرينة المناط. مهما يكن فليس هذا مجال بسط القول في رأينا وموقفنا من بعض "مقولات " نقدة الحديث ولعلنا سنبسطه في مجال آخر نفرده له، إنما عرضنا له الآن ونحن في أواخر مراحل هذا البحث لنوضح معالم منهجنا في الاستدلال ببعض الأحاديث التي قد يلتبس استدلالنا بها على بعض مقلدة النقدة وليس خطر هؤلاء على السنة وفهمها والاستدلال بها واستنباط الأحكام منها بأقل من خطر المتفقهة المقلدة ولأمر ما كان أحمد - رحمه الله - يفضل الأخذ بالحديث الضعيف على الأخذ بالرأي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1377 وآخرون اتخذوا من هذا الحديث أساسًا لأقيسة فيها حتى لأوشكوا أن يبلغوا إلى تعطيل الحدود وغيرها من الأحكام المنصوص عليها لأتفه الأسباب وخطر هؤلاء هو أن النهج الذي سلكوه يجعل من هذا الحديث أداة لتعطيل حدود وأحكام يؤدي تعطيلها إلى اعتبار جوانب من التشريع الإسلامي كما لو أنها تجاوزتها الأحداث فأصبحت مجرد نمط من تاريخ التشريع وجل هؤلاء من متأخري المتفقهة المقلدة إذا لم نقل "المتفيقهة" الذين استهوتهم نزعات تظاهرت على غزو الأمة الإسلامية من يمين ويسار منشأ فلسفات بعضها عقلي مجرد وبعضها ذرائعي انتهازي وصعب على بعضهم أن يندفع معها متجردًا صراحة من الإسلام وحسن لآخرين أن يحاولوا التوفيق بينها وبين الإسلام رغبة منهم في أن لا يظهر الإسلام كما لو أنه غير قابل للتطبيق في هذا العصر فاتخذ هؤلاء وأولئك معًا هذا الحديث قاعدة لمحاولات توفيق من هؤلاء وتسويغ من أولئك بين الإسلام وتلك النزعات والجدليات إذا لم نقل تلك النزوات والنزعات فضلوا وأضلوا ومرد ضلالهم إلى أنهم لم يعايشوا السنة النبوية فضلًا عن النصوص القرآنية معايشة خالصة ووعي واستيعاب ومنهم من يرجع إلى القرآن الكريم حين يضطر إلى الرجوع إليه مهتديًا بمعاجم ألفاظه أو ببعض مؤلفات وضعها المستشرقون لتصنيف آياته الشريفة طبقًا لموضوعاتها وفاتهم أن دلالة الآية لا تتم ولا تنجلي إلا في ارتباطها بما قبلها وبما بعدها في أغلب الأحيان. ويرجع إلى السنة النبوية - إذا رجع إليها في غير كتب الفقهاء - معتمدًا على بعض المختصرات التي تعتمد في الاختصار على تجريد الحديث من السند ولم يدركوا أن الحديث المجرد من السند لا يصلح للاستدلال به لأن دلالته تعتمد على رتبة السند قوة وضعفًا كما تعتمد على المقارنة بين متونه التي يغفل أصحاب المختصرات إيرادها جميعًا مقتصرين على واحد منها وقد يكون طرفًا من حديث طويل لا يستقيم الاستدلال به إلا بفهمه في إطار الحديث كله وهذا أيضًا مجال من القول في طريقة الاستدلال بالحديث مما قعد الأصوليون بعضه وقعد المحدثون بعضه وأغفل المقلدة المتفقهة خفه ليس بسطه من شأن هذا البحث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1378 وأخطر من كل من سبقت الإشارة إليهم ممن اضطربوا في الاستدلال بهذا الحديث أو جنحوا به ضال مضل ما كنا لنعرض له أو نقيم له وزنًا لولا أن بعض المعاصرين - نرجح أن منهم من في موقفه من الإسلام دخل - أهمهم أمره فخبوا وأوضعوا في عرض وتحليل آرائه ومن أسف أن منهم من اعتمدها. هذا الضال المضل هو سليمان بن عبد القوي الطوفي أحد الذين كتبوا في أصول الفقه وفروعه وفي التصوف في أوائل النصف الثاني من القرن السابع الهجري ومن عجب أن ينسب أو ينتسب إلى مذهب أحمد والله يشهد أن أحمد - رحمه الله - ومن اعتصم بمنهجه من الفقهاء والمحدثين براء منه وتدل القرائن والشواهد على أنه شيعي رافضي وهو بالشيعة الروافض أشبه. وقد كان حريًا بهذا الدعي لأهل السنة وما هو منهم أن يطويه النسيان وما كتب لولا أن فتن به بعض المعاصرين وفي طليعتهم الدكتور مصطفى زيد الذي ابدأ وأعاد في الترجمة له وتحليل مزاعمه وأباطيله ونشر جانبًا منها في كتابه " المصلحة في الشريعة الإسلامية ونجم الدين الطوفي". ومعاذ الله أن يكون الطوفي نجمًا من نجوم الدين. وكان من مزاعم هذا الضال ما تقوله حول حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) من أنه قاعدة ينطلق منها إلى ترجيح المصلحة المجردة على النص الصريح أو الإجماع إذا تعارضت معهما. وجلي أنه ما من عالم واع يدرك سرائر الفروق بين ما مرجعه إلى هداية الله وإرشاده وما مرجعه إلى إدراك العقل واجتهاده يسيغ له وعيه أن يحكم نتاج العقل المجرد وهو بعض ما خلق الله على شريعة الله اللطيف الخبير بما خلق العليم الحكيم فيما شرع الذي لا تحده الحدود الزمنية ولا المكانية ولا البيئوية. فلو كان للعقل المجرد أن يتحكم في شرع الله لكان للإنسان أن يصبح في غنى عن شرائع الله إذا بلغ مرحلة معينة من التطور العقلي وهل يقول بهذا مسلم؟ بل هل يقول بهذا عالم واع وإن كان غير مسلم؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1379 ونحن إذ نعرض لكل هذا الذي عرضنا له في الفقرات السابقة إن نريد إلا أن نرسم المعالم الدقيقة للنهج الذي نعتمد في تقرير أن لولي الأمر بما له من حق التصرف بمقتضى الإمامة أن يتحكم كليًا أو جزئيًا اعتبارًا للمصلحة العامة فيما في أيدي الناس من الأموال الثابتة أو المنقولة في نطاق الضوابط والقيود التي أوضحناها فيما سبق بما نعتقد أن فيه كفاية التحديد والتبيان. وللمزيد من رفع الألباس التي أوقعت في المحاذير الخطرة بعض المتفيقهين المعاصرين ومن قبلهم بعض المتفقهة المقلده حول الاعتماد على حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) في تقدير وضبط العلاقة بين المصلحة والنص نقتبس كلامًا شريفًا للعلامة المحقق المعاصر الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه البديع الجامع ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" (1) : " ... على أن الباحث في أمر تخالف المصلحة مع النص أن ينتبه إلى حقيقتين مهمتين: الأولى: أن المصلحة التي تخالف النص تنقسم إلى مصلحة مجردة لا شاهد لها في أصل المعتبر وهي "المرسلة" وإلى مصلحة لها شاهد معتبر وهي ما استند إلى دليل القياس. الثانية: أن التخالف بينهما إما أن يكون تخالف معارضة بحيث لا يمكن الجمع بينهما وإما أن يكون تخالفًا جزئيًا بحيث يمكن الجمع بينهما بتخصيص ونحوه. فأما المصلحة التي لا شاهد لها من أصل تقاس عليه فلا يجوز اعتبارها عند مخالفة النص لها سواء كانت مخالفة كلية أو جزئية أو غيره وسواء كان النص قطعيا أو غير قطعي أجمع على هذا كافة (2) الصحابة والتابعون وأئمة المذاهب ومثلها المصلحة القائمة على أساس القياس إذا عارضت نصا قطعيا كأية صريحة من القرآن أو سنة متواترة فهو قياس فاسد لا يؤخذ به، أجمع على ذلك أيضًا عامة المسلمين ". وعندي أن القياس يكون فاسدًا أيضًا إذا عارض نصًا راجحًا أحديًا لا سيما إذا كان مستفيض الشهرة.   (1) ص:200 و201. (2) التعبير السليم الذي يتفق مع تواضيع عليه أئمة البيان أن يقال: أجمع على هذه الصحابة والتابعون وأئمة المذاهب كافة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1380 ثم قال: "وأما المصلحة التي لها شاهد من أصل معتبر تقاس عليه وكان بينها وبين النص تخالف يمكن إزالته من طريق التخصيص أو كان بينهما وبين النص تعارض ولكنه نص غير قطعي كخبر الآحاد ". قلت: وقد أوضحت منذ قليل رأييَّ فيه. " فالأمر في هذا خاضع لاجتهاد العالم المتثبت لأنه في حقيقته اجتهاد في توفيق النصوص مع بعضها لا في ترجيح مصلحة مجردة على نص. وكل ما استند إليه بعض الكاتبين لتجويز تقديم المصلحة المجردة على النص في بعض الحالات من اجتهادات وفتاوى الأئمة فإنما هو من هذا النوع وليس فيه أي شاهد على ما يريدون ". قلت: وقد بينا فيما سبق أن الاجتهاد في مسائل المعاملات وما شاكلها مما لا يتصل بشؤون العبادة غير المعقولة المعنى يجب أن يكون اجتهادًا جماعيا يشترك فيه الخبراء في الموضوع الذي يتصل به الاجتهاد مع الفقهاء المؤهلين للاجتهاد لأن ظروف الحياة الإنسانية أو بالأحرى الطور الذي صارت إليه الحضارة الإنسانية جعلت حياة الإنسان المادية على حال من التشعب والتعقيد يتعذر معها وقد يستحيل على الفرد الواحد مهما بلغ علمه من السعة والشمول أن يحيط بكل الدقائق والملابسات والعواقب التي يجب اعتبارها عند الاجتهاد لإصدار حكم في شأن مما يتصل بها، وهذا مظهر آخر من مظاهر رأينا في تحكم الظرفية فيما يتعين من الاجتهاد في الشؤون الحضارية المعاصرة. وقد عرض عدد من الأصوليين والفقهاء إلى الجانب الزماني من موضوع "الظرفية " وقل منهم من عرض عرضًا بوضوح للجانب البيئوي وهو في رأينا أبعد خطرًا وأعمق أثرًا من الجانب الزماني. فقد يمتد الزمان بقطر أو جماعة أحقابًا وأعصرًا ولا يكون تطورها الحضاري مواكبًا لذلك الامتداد بل قد يكون متوقفًا أو شبه متوقف فينعدم تأثير الظرفية الزمنية في تكييف أي اجتهاد يتصل بشؤونها الحياتية أو يكاد. على حين قد يسرع التطور الحضاري بأقطار أو جماعات أخرى بما يشبه مسابقة الزمن حتى لا تشبه أطوارها "الانقلابات" أو ما يقرب منها وحتى تصبح حياتها في فترات قصار شبه مقطوعة الصلة بما كانت عليه كلما أعقبت فترة غيرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1381 وفي مثل هذه الحال يكون للظرفية البيئوية أن تتحكم في تعيين طرق الاجتهاد وأساليبه كلما عرضت قضية أو استجد أمر يتعين معها أو معه الاجتهاد في حكمه أساسًا أو في طريقة تطبيقة الحكم عليه وفي كيفية التطبيق. وقد أبدع ابن القيم - رحمه الله - فشفى وأعجز في بيان تأثير الظرفية - بيئوية وزمنية - في تحديد وتكييف طرائق استنباط الأحكام وتطبيقها فقال (1) وهو يشرح مسألة الطلاق الثلاث وما استحدثه عمر - رضي الله عنه - من موقف بشأنها وكيف أن هذا الموقف لا ينبغي اعتباره أساسًا لا محيد عنه حين يتبين أن الأسباب المؤدية أو المناطات المعتبرة له لم تعد قائمة: "والذي ندين الله به ولا يسعنا غيره وهو القصد في هذا الباب أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنًا من كان لا راويه ولا غيره إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث أو لا يحضره وقت الفتيا أولا يتفطن بدلالته على تلك المسألة أو يتأول تأويلًا مرجوحًا أو يقوم في ظنه عما يعارضه ولا يكون معارضًا في نفس الأمر أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه ولو قدر انتفاء ذلك كله ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه لم يكن الراوي معصومًا ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيأته حسناته وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك". ثم قال: " إذا عرفت هذا فهذه المسألة - يعنى إيقاع الطلاق الثلاث باللفظ به مرة واحدة - مما تغيرت الفتوى بها بحسب الأزمنة كما عرفت لما رأته الصحابة من المصلحة لأنهم رأوا مفسدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تدفع إلا بإمضائها عليهم فرأوا مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع ولم يكن باب التحليل الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله مفتوحًا بوجه ما، بل كانوا أشد خلق الله في المنع منه وتوعد عمر فاعله بالرجم وكانوا عاملين بالطلاق المأذون فيه وأما في هذه الأزمان التي قد شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رمد بل عمى في عين الدين وشجى في حلوق المؤمنين من قبائح تشمت أعداء الدين به وتمنع كثيرًا ممن يريد الدخول به في سببه بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب ولا يحصرها كتاب يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح ويعدونها من أعظم الفضائح فقد قلبت من الدين رسمه وغيرت منه اسمه وضخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل وقد زعم أنه طيبها للحليل". إلى أن قال (2) : " ... فألزمهم عمر بالطلاق الثلاث إذا جمعوها ليكفوا عنه إذ أن المرأة تحرم به وأنه لا سبيل إلى عودها بالتحليل، فلما تغير الزمان وبعد العهد بالسنة وآثار القوم وقامت سوق التحليل ونفقت في الناس فالواجب أن يرد الأمر إلى ما كان عليه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل أو يقللها ويخفف شرها، إذا عرض على من وفقه الله وبصره بالهدى وفقهه في دينه مسألة كون الثلاث واحدة ومسألة التحليل ووازن بينهما تبين له التفاوت وعلم أي المسألتين أولى بالدين وأصلح للمسلمين".   (1) أعلام الموقعين. ج: 3. ص: 52. (2) أعلام الموقعين. ج: 3. ص: 52. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1382 وواضح لكل ذي عقل بصير وإدراك سليم وذوق في شؤون الشريعة قادر على النفاذ إلى سرائرها ومكامن المناط منها أن ملاك الأمر في هذا الشأن وفي كل شأن من شؤون الاجتهاد هو اعتبار المصلحة في نطاق المعايير الشرعية سواء كانت عامة أو فردية وأن اعتبار المصلحة مرده إلى أولي الأمر ممن إليهم المرجع في تبيان الحكم إن كان مما يتصل بالفتوى أو ممن إليهم المرجع في تنفيذه وتحديد موجباته وتقدير ظروفه إن كان مما يتصل بالشؤون العامة وهذا النوع خاصة هو ما يعنينا في هذا البحث وقد أطلق عليه في العصور المتأخرة لفظ "سياسة"، أو " السياسة الشرعية " ولا نذكر أننا عثرنا على هذه العبارة في تعابير الصحابة والتابعين وأئمة الاجتهاد الأول ولكنا نجدها آخذة في الشيوع من حوالي القرن الخامس الهجري حتى أصبحت بابًا جليلًا من أبواب الفقه، وقد عقد لها ابن القيم فصلًا جليلًا وقال فيه كلامًا شريفًا تدعو الحاجة إلى استكمال عناصر التبيان لموقفنا في هذا البحث إلى أن نقتطف منه ما يلي: قال - رحمه الله - (1) : " في معرض العمل بالسياسية".   (1) أعلام الموقعين. ج: 4. ص: 373 و375. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1383 " وجرت في ذلك مناظرة بين أبي الوفاء بن عقيل وبين بعض الفقهاء فقال ابن عقيل: العمل بالسياسة هو الحزم ولا يخلو منه إمام وقال الآخر: لا سياسية إلا ما وافق الشرع فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي فإن أردت بقولك لا سياسة إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغلط للصحابة- لعل الصواب وتغليط للصحابة- فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا يجحده عالم بالسير ولو لم يكن إلا تحريق للمصاحف- لعل صوابه: إلا تحريق عثمان للمصاحف – كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة وكذلك تحريق علي كرم الله وجهه الزنادق في الأخاديد ونفي عمر نصر بن حجاج. قلت – القائل ابن القيم -: هذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام وهو مقام ضنك في معترك صعب فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وجرأوا أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد وسدوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من الطرق التي يعرف بها الحق من الباطل وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق ظنًا منهم منافاتها لقواعد الشرع والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه وأفرط فيه طائفة أخرى فسوغت منه ما يناقض حكم الله ورسوله وكلا الطائفتين أتيت من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله، فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض فإذا ظهرت أمارات الحق وقامت أدلة العقل وأسفر صبحه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر بل قد بين مما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها وإنما تراد غاياتها التي هي المقاصد ولكن نبه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها ولن تجد طريقًا من الطرق المثبتة للحق إلا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها وهل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك ولا نقول إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها وتسميتها سياسة أمر اصطلاحي وإلا فإذا كانت عدلًا فهي من الشرع ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1384 ثم ساق أمثلة من أحكام وأقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم تدعم هذا الذي قرره، ثم قال: " وتقسيم بعضهم طرق الحكم إلى شريعة وسياسة كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة وتقسيم آخرين الدين إلى عقل ونقل وكل ذلك تقسيم باطل بل السياسة والحقيقة والطريقة والعقل، كل ذلك ينقسم إلى قسمين صحيح وفاسد، فالصحيح قسم من أقسام الشريعة لا قسيم لها والباطل ضدها ومنافيها وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها وهو مبني على حرف واحد وعموم رسالته صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معرافهم وعلومهم وأنه لم يحوج أمته إلى أحد بعده وإنما حاجته من يبلغهم عنه ما جاء به فلرسالته عمومان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص عموم بالنسبة إلى المرسل إليهم وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه من بعث إليه في أصول الدين وفروعه فرسالته كاملة شافية عامة لا تحوج إلى سواها ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته في هذا وهذا فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به ". وقد التبس على بعض المعاصرين من أساتذة وأصدقاء نجلهم ونقدر صدق إخلاصهم وسلامة إصدارهم وإيرادهم فيما يتخذون من مواقف التمييز بين اعتماد الشارع للمصلحة أساسًا ومناطًا ما ورد في جزئيات الشرع من النهي عن أشياء قد يبلغ البعض منها حد المنكرات مع أنه لا مناص من إغفال اعتبارها لتحقيق بعض ما يقره مبدأ اعتبار المصلحة الأساس المهيمن والقاعدة المحكمة في تطبيق مبدأ التصرف بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1385 وقد واجه الشاطبي - رحمه الله - - وربما من بعض معاصريه مثل هذا الالتباس فأوضح في رفعه - أبدع إيضاح وأروعه وذلك دأبه - حقيقة موقف الشرع منه وكيفية مواجهته له فقال وهو يشرح القواعد المتفرعة عن أصل أن "النظر في مآلات الأشياء معتبر مقصود شرعًا " إلى آخره مما سبق أن نقلناه عنه (1) : " ومن هذا الأصل أيضًا تستمد قاعدة أخرى وهي أن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية والتكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضي شرعًا فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال واتساع أوجه الحرام والشبهات وكثيرًا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز ولكنه غير مانع لما يؤول إليه التحرز من المفسدة المربية على توقع مفسدة التعرض ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا لأدى إلى إبطال أصله وذلك غير صحيح وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكير يسمعها ويراها وشهود الجنائز وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور من أصولها لأنها أصول الدين وقواعد مصالح وهو المفهوم من مقاصد الشارع فيجب فهمها حق الفهم فإنها مثار اختلاف وتنازع وما ينقل عن السلف الصالح مما يخالف ذلك قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها فتصير إلى موافقة ما تقرر إن شاء الله والحاصل أنه مبني على اعتبارات مآل الأعمال فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق. والله أعلم". ولابن القيم - رحمه الله - كلام شريف في هذا الشأن قال (2) :   (1) الموافقات. ج: 4. ص: 210 و211. (2) أعلام الموقعين. ج: 3. ص: 147 وما بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1386 " لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن بها بحسب إفضائها إلى غاياتها فوسيلة المقصر تابعة للمقصود وكلاهما مقصود ولكنه مقصود قصد الغايات وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقًا لتحريمه وتثبيتًا له ومنعًا أن يقرب حماه ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم وإغراء للنفوس به وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد مناقضًا وحصل من رعيته وجنده ضد مقصودة وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه عن الطرق والذرائع الموصلة إليه وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها والذريعة ما كان وسيلة أو طريقًا إلى شيء". ثم ذكر أن الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان: أحدهما، أن يكون وضعه الإفضاء إليها والثاني، أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه وساق أمثلة للقسمين ليس هذا مجالها. ثم قال: "ثمن هذا القسم - يعني الثاني - من الذرائع نوعان: أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته فها هنا أربعة أقسام. الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة. الثاني: وسيلة موضوعة للمباح يقصد بها التوصل إلى المفسدة. الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوصل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها. الرابع: وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1387 ثم قال: " فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم - يعني الرابع - أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة بقي النظر القسمين الوسط هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما؟ ". ثم ساق تسعة وتسعين وجهًا في بيان منع القسم الثاني والثالث وهما وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوصل إلى المفسدة ووسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوصل إلى المفسدة ولكنها مفضية إليه غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها. ثم قال (1) "وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف فإنه أمر ونهي. والأمر نوعان: أحدهما مقصود لنفسه والثاني وسيلة إلى المقصود. والنهى نوعان: أحدهما ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين ". ولعل الأشواط التي قطعناها في هذا البحث قد رسمت بأبين ما يكون الرسم وأوضحه وأدقه تحديدًا لمعالم موقفنا من قضية " انتزاع الملكية للمصلحة العامة! من أنها قضية قد تكون ضرورية في هذا العصر وقد تكون حاجية وقد تكون تكميلية تعين اعتبارات المصلحة العامة صفة كل واقعة من وقائعها على هدى المعايير الشرعية وقد لا تدعو الحاجة إليها إذا كان الالتجاء إليها لمجرد مسايرة الغير ومشاكلته وقد تكون منكرًا ظلما إذا كان الداعي إليها تسليط تطبيق جدلية لا علاقة لها بالشرع الإسلامي على المسلمين وربما كانت قاعدتها مناهضة للشرائع السماوية وتسفيهها ومحاولة تدمير كياناتها وملاك التمييز بين كل واقعة وأخرى هو الصبغة المهيمنة على تصرف ولي الأمر وعلى طبيعة سياسته التشريعية والتطبيقية فإذا كان مسلما ملزمًا باعتبار الشريعة الإسلامية مصدرًا لفكره التشريعي ومعيارًا لسلوكه لا ينحرف عنها ولا يحيد كان تصرفه بمقتضى الإمامة إذا التزم فيه اجتهادًا جماعيًا من الخبراء التقنيين والفقهاء المجتهدين ومن بصره هو بملابسات الأمر ودواعيه وعواقبه تصرفًا مشروعًا تجب الاستجابة له ولا يجوز أن يخالف أو ينكر عليه من أي كان حتى وإن كان من بعض الفقهاء والمجتهدين الذين لم يتفق معهم في الرأي ووافق على غيرهم من أقرانهم لأن المخالفة والإنكار في هذه الحال على ولي الأمر قد تؤدي إلى الفتنة أو حتى إلى مجرد التشكيك في شرعية تصرفه مما ينجم عنه اختلال أو اعتلال في وحدة الرأي والسلوك الضروريين لرسوخ الأواصر بينه وبين الرعية. ولعل من تمام الفائدة في إيجاز المجالات التي يتعين في أغلب الأحوال على ولي الأمر أن يتدخل بالتصرف كليًا أو جزئيًا فيما في أيدي الأفراد مما استخلفهم الله تعالى فيه للتصرف والتصريف ابتغاء المنفعة والانتفاع لهم وللمجتمع الإسلامي أن ننقل كلامًا شريفًا لابن تيمية أوجز فيه أغلب الدواعي والموجبات لهذا النمط من تصرف ولي الأمر. قال - رحمه الله - (2) :- " بذل المنافع والأموال سواء كان بطريق التعوض أو بطريق التبرع ينقسم إلى واجب ومستحب وواجبها ينقسم إلى فرض على العين وفرض على الكفاية. فأما ما يجب من التبرعات - مالًا ومنفعة - فله موضع غير هذا وجماع الواجبات المالية بلا عوض أربعة أقسام مذكورة في الحديث المأثور ((أربع من فعلهن فقد برئ من البخل: من آتى الزكاة وقرى الضيف ووصل الحرم وأعطى في النائبة)) (3) . ولهذا كان حد البخيل من ترك هذه الأربعة في أصح القولين لأصحابنا اختاره أبو بكر وغيره ". ثم قال: " وأما الواجبات المنفعية بلا عوض فمثل تعليم العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصر المظلوم وهي كثيرة جدًا وعامة الواجب في منافع البدن".   (1) أعلام الموقعين. ج: 3. ص: 147 وما بعدها. (2) مجموع الفتاوى. ج: 29. ص: 185 إلى 196. (3) لم أقف على حديث بهذا اللفظ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1388 ثم قال: " وأما المنافع المالية وهي كمن اضطر إلى منفعة مال الغير كحبل ودلو يستقي به ماء يحتاج إليه وثوب يستدفئ به من البرد ونحو ذلك فيجب بذله لكن هل يجب بذله مجانًا أو بطريق العوض كالأعيان فيه وجهان. وحجة التبرعة متعددة كقوله تعالى {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (1) ففي سنن أبي داود عن ابن مسعود قال: كنا نعده عارية القدر والدلو والفأس (2) وكذلك إيجاب بذل منفعة الحائط للجار إذا احتاج إليه على أصلنا المتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من المواضع، ففي الجملة ما يجب إيتاؤه من المال أو منفغة أو منفعة البدن بلا عوض له تفصيل آخر في موضع آخر ولو كان كثير من الفقهاء مقصرين في علمه بحيث ينفون وجوب ما صرحت الشريعة بوجوبه ويعتقد الغالط منهم أن لا حق في المال سوى الزكاة أن هذا عام ولم يعلم أن الحديث المروى في الترمذي عن فاطمة أن في المال حقا سوى الزكاة (3) ومن قال بالأول أراد الحق المالي الذي يجب بسبب المال فيكون راتبًا وإلا فنحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله قد أوجب إيتاء المال في غير الزكاة المفروضة في مواضع مثل الجهاد بالمال عند الحاجة والحج بالمال ونفقة الزوجة والأقارب والمماليك من الآدميين والبهائم ومثل ما يجب من الكفارات من عتق وصدقة وهدي، كفارات الحج وكفارات الأيمان والقتل وغيرها وما يجب من وفاء النذور المالية إلى غير ذلك بل المال مستوعب بالحقوق الراتبة أو العارضة بسبب من العبد أو بغير سبب منه وليس هذا موضع تفصيل هذه الجملة". ثم قال: "ونحن نعلم قطعًا أنه إذا كان إيتاء المال أو المنفعة بلا عوض واجبًا بالشريعة في مواضع كثيرة جدا لأسباب اقتضت الإيجاب الشرعي وليس ذلك من الظلم الذي هو أخذ حق الغير بغير حق فلأن يكون إيتاء المال والمنفعة بعوض واجبًا في مواضع أولى وأحرى بل إيجاب المعاوضات أكثر من إيجاب التبرعات وأكبر فهو أوسع منه قدرًا وصفة. ولعل من استقراء الشريعة تبين له أن المعاوضة إذا احتاج المسلمون إليها بلا ضرر يزيد على حاجة المسلمين وجبت، فأما عند عدم الحاجة ومع حاجة رب المال الكافية لحاجة المعتاض فرب المال أولى فإن الضرر لا يزول بالضرر والرجل أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين و"ابدأ بنفسك ثم بمن تعول "   (1) الآية الأخيرة من سورة الماعون. (2) لفظه عند أبي داود (السنن. ج: 2. ص: 124. ح: 1657) : حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو عوانة عن عاصم بن أبي النجود عن شقيق عن عبد الله قال: كنا نعد – الماعون على عهد رسول الله عارية الدلو والقدر. (3) انظر البند (12) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1389 هذا الحديث روي عن عده طرق حتى لقد بلغ رتبة المتواتر أو كاد. وقد ارتأينا أن نقتصر على حديثين رواهما البخاري في كتاب الزكاة مع ذكر من أخرجهما غيره نقلًا عن المزي. قال البخاري (ج: 2. ص: 117) : حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله عن يونس عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول)) . وقال المزي (تحفة الإشراف. ج:.1. ص: 68. ح: 13340) : حديث: خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول. خ في الزكاة (18: 1) عن عبدان عن عبد الله – س فيه (الزكاة 60: 3) عن عمرو بن بن سواد عن ابن وهب - كلاهما عنه به. وقال البخاري (نفس المرجع) : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب، حدثنا هشام عن أبيه عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول وخير الصدقة عن ظهر غنى ومن يستعف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله)) . وعن وهيب قال: أخبرنا هشام عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بهذا. وقال المزي (نفس المرجع. ج: 3. ص: 78. ح: 3433) : حديث: اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول ... الحديث. خ في الزكاة (18: 2) عن موسى بن إسماعيل عن وهيب عن هشام بن عروة عن أبيه. روى عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وسيأتي (ح 14131) . . ثم قال: "وبالجملة فوجوب المعاوضات من ضرورات الدنيا والدين أن الإنسان لا ينفرد بمصلحة نفسه بل لا بد له من الاستعانة ببني جنسه، فلو لم يجب على بني آدم أن يبذل هذا لهذا ما يحتاج إليه وهذا لهذا ما يحتاج إليه لفسد الناس وفسد أمر دنياهم ودينهم فلا تتم مصالحهم إلا بالمعاوضة وصلاحها بالعدل الذي أنزل الله له الكتب وبعث به الرسل ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1390 ثم قال: " وعلى هذا فإذا احتاج المسلمون إلى الصناعات كالفلاحة والنساجة والبناية فعلى أهلها بذلها لهم بقيمتها كما عليهم بذل الأموال التي يحتاج إليها بقيمتها إذ لا فرق بين بذل الأموال وبذل المنافع بل بذل المنافع التي لا يضر بذلها أولى بالوجوب معاوضة ويكون بذل هذه فرضًا على الكفاية وقد ذكر طائفة من العلماء ومن أصحابنا وغيرهم أن أصول الصناعات كالفلاحة والحياكة والبناية فرض على الكفاية والتحقيق أنها فرض عند الحاجة إليها وأما مع الإمكان عن الاستغناء عنها فلا تجب، وهذه حكينا بيعها فإن من يوجبها بالمعاوضة لا تبرعًا فهو إيجاب صناعة بعوض لأجل الحاجة إليها وقوله عند الحاجة فإن المسلمين قد يستغنون عن الصناعة بما يجلبونه أو يجلب إليهم من طعام أو لباس والأصل أن إعانة الناس بعضهم لبعض على الطعام واللباس والسكنى أمر واجب وللإمام أن يلزم بذلك ويجبر عليه ولا يكون ذلك ظلما بل إيجاب الشارع للجهاد الذي فيه المخاطرة بالنفس والمال لأجل هداية الناس في دينهم أبلغ من هذا كله فإذا كانت الشجاعة التي يحتاج المسلمون إليها والكرم الذي يحتاج المسلمون إليه واجبًا فكيف بالمعاوضة التي يحتاج المسلمون إليها ولكن أكثر الناس يفعلون هذا بحكم العادات والطباع وطاعة السلطان غير مستشعرين ما في ذلك من طاعة الله ورسوله وطاعة أولي الأمر فيما أمر الله بطاعتهم فيه ". ثم ختم هذا الكلام القيم بقوله: " والإمام العدل تجب طاعته فيما لم يعلم أنه معصية وغير العدل تجب طاعته فيما علم أنه طاعة". ونعتقد أنه ليس بعد كل ما أسلفناه من نقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وكبار أئمة الاجتهاد مجال للريب أو التردد في أن استحقاق الإنسان لخلافة الله فيما لديه من الثابت والمنقول رهن بقيامه بوظيفة الخلافة في تحقيق المنفعة والانتفاع للمجتمع الإسلامي بالتصرف فيه وتصريفه في نطاق ضوابط الشرع الإسلامي وطبقًا لمقتضياته. وفي أن من صميم واجبات ولي الأمر رعاية ذلك وحسن توجيهه بالإرشاد وبالتدخل لتصحيح سيره وتقويم مساره عند الحاجة إلى مثل هذا التدخل ثم بالتدخل لتحويل التصرف والتصريف إذا تعين تحويلهما اعتبارًا للمصلحة العامة لعجز من كان في يده أو لانحرافه عن مقتضيات الشرع الإسلامي إصراره على الانحراف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1391 وهذا النمط الأخير من التدخل، على ولي الأمر أن يلتزم فيه بمبدأ التعويض بالمثل أو بالسعر الحقيقي في السوق الداخلية إلا إذا كان موجب التدخل هو إقامة حدود الله في مال اكتسبه صاحبه بطريقة غير مشروعة أو امتنع فيه من أداء حقوقه المشروعة وقد سبق بيان ذلك من قبل. وشهد الله لقد استفرغت الجهد في استقراء النصوص واستقصاء الاجتهادات وإعمال الفكر في الموازنة والتقدير والتمحيص وأرجو من الله الحكيم الخبير الغفور الرحيم أن لا أكون قد أخطأت الفهم أو أخطأت التقدير. " {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (1) {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (2) {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) .   (1) الآية رقم (88) سورة هود. (2) الآية رقم (8) سورة آل عمران. (3) الآية رقم (108) سورة يوسف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1392 المناقشة بسم الله الرحمن الرحيم الرئيس: الحمد لله.. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد. نفتتح مستعينين بالله تعالى هذه الجلسة الصباحية والتي سيعرض فيها موضوع انتزاع الملك للمصلحة العامة. وقد وزعت الأبحاث في هذا الموضوع ويكون العرض من فضيلة الأستاذ محمد قاسم والمقرر هو الشيخ عبد الله محمد عبد الله. الشيخ عبد الله موجود؟ تفضل بعرض الموضوع. عرض الشيخ عبد الله محمد عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. في الواقع أنا فوجئت بهذا التكريم أو التشريف لأنه لم يكن اسمي واردًا في جدول الأعمال الذي وزع علينا بالأمس ولهذا سأحاول بقدر الإمكان إضافة إلى أن بعض البحوث وزعت علينا أخيرًا في آخر النهار فسأحاول بقدر الإمكان أن أعطي إلمامًا من واقع البحوث التي وصلتنا سابقًا. والظاهر على هذه البحوث أنها تتفق من حيث المبدأ على جملة أمور ولم أر بينها تباينًا في الرأي من حيث النتيجة وإن كانت تجمع على أن الانتزاع بدون وجه حق محظور شرعًا ولا ينزع عن أحد ملكه إلا لمصلحة عامة وحاجة عامة أيضًا. وهذه البحوث أخذت في بادئ الأمر تتكلم عن المصطلحات أو مفردات العنوان " الملك والمنفعة العامة " ثم أخذت تبحث عن الحالات التي يجوز فيها نزع الملك. وهذه الحالات بعضها يصدق عليه التعريف أي أنها للمنفعة العامة وبعضها ليست لهذا الغرض وإنما لمنفعة أفراد معروفين كبيع المال جبرًا عن صاحبه لسداد ديونه وكبيع الشفيع والشريك وهكذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1393 فالمقصود إذن من العنوان الملك الذي ينزع لأجل منفعة عامة كإنشاء مسجد أو توسعة مسجد أو طريق أو نحو ذلك، في هذه الحالات اشتدت الحاجة واحتاج الطريق العام من تنظيمه إلى أملاك الأفراد فهنا أجاز الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم لنزع الملك ولكنهم يشددون على ضرورة ألا ينزع عن أحد ملكه إلا بعد تعويضه تعويضًا عادلًا هذا الاتفاق الفقهي القديم هو ما أخذت به القوانين والتشريعات الحديثة في مختلف البلاد لأن نزع الملك الآن أصبح له طابع خاص فإننا ننشيء مدنًا على أنقاض مدن وننشيء مدنًا كبيرة على أنقاض تلك المدن كما في بلاد الخليج. وفي المملكة التي شاهدت اتساع العمران واتساع النهضة العمرانية فيها هناك أيضًا أمر مهم يلفت النظر إليه وهو أن نزع الملك الأصلي يتم عن طريق الاتفاق بين أصحاب عقارات وبين الدولة أو السلطة في الدولة، فإذا تم هذا الاتفاق فإن الأصل أن نخضع القواعد في نزع الملك للأحكام والمعاملات من حيث الاتفاق على الثمن وطريقة الدفع للتعجيل أو التأجيل. أما إذا رفض هؤلاء البيع فهنا تقوم السلطة بما لها من قوة بانتزاع الملك وتدفع الثمن في هذه الحالة قبل الاستيلاء على العقار أو قبل طرد صاحبه أو أخذه من صاحبه. أما إذا تم الاتفاق بينهما فإنه تنطبق الاتفاقات التي تمت بينهم وهذا شيء اتفق عليه الذين كتبوا في هذا الموضوع، لم أر من خالف في ذلك. ثم إن السند الذي اتجه إليه أو استدل إليه الباحثون فعل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وما اتخذه سيدنا عمر رضي الله عنه عندما وسع المسجد الحرام وكذلك عندما وسع مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فإن سيدنا عمر وسيدنا عثمان رضي الله عنهما قاما بنزع الأملاك ودُفع لأربابها الثمن الذي قدروه فتمثل تقريبًا القيمة الحقيقية. وأريد أن أشير إلى ناحية إلى أنه يجوز أن يكون التعويض أو المقابل أكثر من القيمة الحقيقية لأن فيه أيضًا نوعًا من التعويض عن هذا الحال كما تم في عهد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم والتابعين. وأشير أيضًا إلى نقطة ربما انفردت بها في بحثي وهو أن المقابل لا يتعين أن يكون بالنقد بل يجوز أن يكون مقايضة بان يعطي عقارًا بدل عقار أو أن يعطي عقارًا ونقدًا بدل عقاره وقد تم ذلك في أيام السلف الصالح عند توسعة المسجد النبوي وحالات أخرى. وأرجو في هذه العجالة أو هذا الإيجاز الشديد أن أكون قد أعطيت صورة عن هذا الموضوع. وشكرًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1394 الشيخ محمد على التسخيري: شكرًا سيدي الرئيس.. أود قبل أن أتحدث أن أهنئكم على بدء هذه الدورة وأعتذر من تأخري لظروف قاهرة. أما الحديث حول هذا الموضوع أعتقد أن المسألة تبتنى على مقدمة يجب أن نتفق عليها أو ربما كانت هذه المقدمة بعد شرحها واضحة من حيث الاتفاق. المسألة مسألة دور ولي الأمر في المجتمع ولي الأمر حسب ما يمكن أن ينتهي إليه الاستقراء عليه أن يقوم أولا بتطبيق الأحكام الأولية الإسلامية وعليه أيضًا أن يوحد الموقف في بعض الأمور كمسألة الأهلة، وعليه أيضًا أن يقوم بتوجيه الأموال العامة للصالح العام، وعليه أيضًا أن يحقق المصلحة العامة التي يمكن أن يعبر عنها بالتعبيرات الحديثة بالسير المتوازن للمجتمع أو ما يمكن أن يقال عنه كل ما يحقق للمجتمع مسيرة طبيعية في مثل هذا الجو المعين. إذا لاحظنا هذه الوظائف ولاحظنا أن هناك أحكامًا أولية ثبتت للأشياء بعناوينها الأولية كالملكية والصوم والصلاة. هذه ثبتت للأشياء بعناوينها الأولية وأن هناك أحكاما ثانوية تفرضها الضرورة كمقتضى قاعدة لا ضرر ولا حرج وأمثال ذلك. وأن هناك أحكاما يصدرها الولي يمكن أن نطلق عليها أحكامًا حكومية أو أحكامًا ولائية وما إلى ذلك ليقوم الولي بتحقيق أهدافه وواجباته كولي أمر وقائد للمجتمع. بالنسبة إلى موردنا هذا، الملكية حق مضمون في الشريعة، والناس مسلطون على أموالهم وبالعنوان الأولى الملكية لا ينتزعها مطلقًا نحتاج إذن إلى عنوان ثانوي أو مصلحة يراها الولي فيصدر في مجالها حكمًا ولائيًا في هذا المعنى. لا أرى سبيلًا إلا أن نطرح هنا قاعدة التزاحم بين الأحكام عندما تتزاحم الأحكام تارة يكون التزاحم فرديا فالفرد يعين أهمية التحكم عندما يجب عليه أن ينقذ غريقين، وأحدهما أهم من الآخر، أحدهما له أهمية كبرى ولا يستطيع إلا أن ينقذ أحدهما، ليس عليه إلا أن يقدم الأهم ويتأخر عن المهم. بالنسبة للأمور الاجتماعية الذي يحقق الأهمية أو الذي يحكم بأن الأهمية هنا موجودة وهو ولي الأمر على ضوء خبرته بالمجتمع عندما يتنافى حق الملكية مع مصلحة المجتمع المتوازن فتكون الأهمية هنا لصالح النظام وحفظ النظام وحفظ المجتمع المتوازن وولي الأمر هو الذي يحقق ذلك، هو الذي يكتشف ذلك، وهو الذي يحكم بذلك حينئذٍ يمكن تقديم الأهم على المهم وهي قاعدة وافق عليها الجميع وعرف الاستحسان أحيانًا بتقديم الأهم على المهم، وعلى هذا التعريف إذا كان هو على تعريف الاستحسان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1395 لا أتصور أن هناك مسلمًا يخالف فيه أو عاقلًا حتى يخالف في تقديم الأهم على المهم عند التزاحم. ولي الأمر هو الذي يعين الأهمية في هذا المجال طبعًا هذا المعنى لا يتنافى مع مسألة التعويض. يجب أن يعوض لأن تقديم الأهم على المهم لا تنافي له مع مسألة تعويض هؤلاء وحتى التعويض بقيمة أعلى أو التعويض بثمن مالي أو غير مالي هذا أمر آخر ولا تنافي مع التوافق تحقيق توافق معين اللهم إن هناك ظروفا استثنائية للمجتمع يلجأ فيها ولي الأمر إلى عدم التعويض عندما يرى المصلحة العامة ذلك. لا أرى مانعًا في ذلك وأعتقد أننا لو طرحنا المسألة على أساس التزاحم بين حفظ النظام العام وبين الحكم الأول لكان الحكم فيها واضحًا. وشكرًا. الرئيس: شكرًا.. في الواقع يا أصحاب الفضيلة إن هذا الموضوع يظهر أنه ليس بحاجة إلى كثير من المداولات والمناقشات لأنه في حكم المسلمات في الشريعة سواء كان من حيث النص كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الخليفة الراشد عمر رضي الله تعالى عنه والخليفة الراشد عثمان رضي الله تعالى عنه وعدد من الولاة، وتابع العلماء على ذلك في مصنفاتهم وفي مؤلفاتهم الفقهية والحديثية، أو كان من باب طرد قاعدة الشريعة التي تفضل بها الشيخ علي، وهي تزاحم المصالح وتقديم الأهم كي تتقدم المصلحة العامة والأبحاث التي قدمت لكم هي تتفق على هذه النتيجة وهي على وفق ما قرره أهل العلم في مسألة نزع الملك للمصلحة العامة ويمكن أن يصنف في عدة ضوابط: الأول: أن الأصل حرية المالك في ملكه وأنه مسلط على ملكه لا سلطان لأحد عليه وأنه لا يسوغ انتزاع ملكه منه بغير حق. الثاني: المبدأ الثاني هو جواز نزع الملك للمصلحة العامة وأن المصلحة العامة هي التي يقدرها ولي الأمر على ضوء ما هو مقرر في كتب الشريعة. والثالث: أنه لا يجوز نزع الملك إلا بتعويض عادل مهما يلحق مع ذلك من ضوابط ثنائية. فإذا رأيتم أن يقصر بحث الموضوع لنأخذ الموضوع الذي بعده ونؤلف له لجنة من الباحثين ومن بعض أصحاب الفضيلة وندخل في الموضوع الذي بعده فهو مناسب لأني لا أرى فيه مجالًا للخلاف والنزاع طالما أنه في حكم المسلمات واللجنة بين يديها الأبحاث وستستخلص مشروع قرار أرجو أن يكون وافيًا بالمطلوب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1396 الشيخ إبراهيم فاضل الدبو: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين. في الواقع كما تفضل السيد رئيس المجمع أن الفقهاء قد أغنوا هذا البحث ووضعوا له الضوابط الكفيلة بحماية حق الفرد وحماية حق الدولة في هذا المجال إلا أنني أضيف إلى ما ذكره فضيلة الأستاذ أنه ينبغي أن لا تنزع الملكية من شخص وتملك لشخص آخر وإنما يقيد نزع الملكية للمصلحة العامة. فلا يجوز أن ينتزع ملك زيد ويعطى لعمرو. وشكرًا. الشيخ محمد عطا السيد: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين. اللهم صل على محمد عبدك ورسولك. السيد الرئيس في جلساتنا السابقة كنا إذا اتضح الأمر بمثل هذه الصورة التي أمامنا الآن كنا نتخذ قرارًا ونصوغه ونعرضه على الأعضاء ويوافقون عليه. وأرى عدم جدوى تكوين لجنة لهذه الحالة ويمكن للرئيس أن يصوغ كما فعل في الماضي قرارا ثم نتفق عليه وننتهي من هذه المسألة. الرئيس: ما فيه مانع إذا رأيتم هذا الشيء نعمله. موافقون. مناقشة مشروع القرار الشيخ عبد الستار أبوغدة: قرار رقم 4 بشأن انتزاع الملكية للمصلحة العامة.. بعد الإطلاع على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع انتزاع الملك للمصلحة العامة. وفي ضوء ما هو مسلم في أصول الشريعة من احترام الملكية الفردية حتى أصبح ذلك من قواطع الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، وإن حفظ المال أحد الضروريات الخمس التي عرف من مقاصد الشريعة رعايتها، وتواردت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على صونها، مع استحضار ما ثبت بدلالة السنة النبوية وعمل الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من نزع ملكية العقار للمصلحة العامة، تطبيقًا لقواعد الشريعة العامة في رعاية المصالح وتنزيل الحاجة منزلة الضرورة وتحمل الضرر الخاص لتفادي الضرر العام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1397 قرر ما يلي: أولا: يجب رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء عليها، ولا يجوز تضييق نطاقها أو الحد منها، والمالك مسلط على ملكه وله في حدود المشروع التصرف فيه بجميع وجوهه وجميع الانتفاعات الشرعية. ثانيًا: لا يجوز نزع ملكية العقار للمصلحة العامة إلا بمراعاة الضوابط والشروط الشرعية التالية: 1- أن يكون نزع العقار بمقابل تعويض فوري عادل. 2- أن يكون نازعه ولي الأمر أو نائبه في ذلك المجال. 3- أن يكون النزع للمصلحة العامة التي تدعو إليها ضرورة عامة أو حاجة عامة تنزل منزلتها كالمساجد والطرق والجسور. 4- أن لا يؤول العقار المنزوع من مالكه إلى توظيفه في الاستثمار العام أو الخاص، وألا يعجل نزع ملكيته قبل الأوان. فإن اختلت هذه الشروط أو بعضها كان نزع ملكية العقار من الظلم في الأرض والغصوب التي نهى الله عنها ورسوله صلى الله عليه وسلم. على أنه إذا صرف النظر عن استخدام العقار المنزوعة في المصلحة المشار إليها تكون أولوية استرداده لمالكه الأصلي، أو لورثته بالتعويض نفسه. الشيخ علي المغربي: رقم واحد في ثانيًا: لا يجوز نزع ملكية العقار للمصلحة العامة إلا بمراعاة الضوابط والشروط الشرعية التالية: أن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري عادل. هذا التعويض الفوري والعادل بالنسبة لمن؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1398 الرئيس: هذه جيدة ولهذا قد ترون مناسبًا: بتعويض فوري عادل لا يقل عن ثمن المثل. الشيخ علي المغربي: هنا تختلف الجهات. فهناك من يرى كلمة العادل بالنسبة للواقع أو بالنسبة للدولة. فإذا جئنا لقطعة تراب، الدولة ترى أن قطعة التراب للمتر الواحد يساوي عشرة ريالات مثلا بالنسبة إليها ولكنه في السوق الواقعي الذي يباع به يساوي الألف. هل نعتبر ما تقدمه الدولة عدلًا أو نعتبر واقع الأمر هو العدل وهنا يكون الظلم على صاحب العقار. الرئيس: المهم هذه العبارة ألا تحل الإشكال إذا قلنا: مقابل تعويض فوري عادل لا يقل عن ثمن المثل بواسطة أهل الخبرة؟. الشيخ على المغربي: لأن أهل الخبرة في الواقع تخرجهم الدولة. الرئيس: هذا قرار شرعي يا شيخ ونريد أهل الخبرة على ضوء الشريعة. الشيخ محمد المختار السلامي: أعتقد أن تنزيل الحاجة منزلة الضرورة يعني هذا التنزيل مثلًا عندنا ضرورة. بعد الإطلاع وفي ضوء وعند الأولى بعد الإطلاع آخر الفقرة. الرئيس: تنزيل الحاجة منزلة الضرورة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1399 الشيخ محمد المختار السلامي: أصوليا عندنا الحاجة حاجة والضرورة ضرورة. أما أن ينزل الحاجة منزلة الضرورة. الشيخ عبد الستار أبو غدة: قاعدة حنفية هذه والشيخ تقي يشرحها. الشيخ محمد تقي العثماني: الحاجة العامة. الشيخ عبد الستار أو غدة: أو حاجة عامة تنزل منزلة الضرورة. الشيخ محمد المختار السلامي: يا سيدي الحاجة العامة حاجة عامة، الضروري ضروري. الرئيس: قد ترون لا هذا ولا هذا: الشيخ عبد الستار أبو غدة: أن يكون النزع للمصلحة العامة التي تدعو إليها ضرورة عامة أو حاجة عامة تنزل منزلتها. الرئيس: هذه قاعدة يا شيخ تنزيل الحاجة منزلة الضرورة. الشيخ عبد الستار أبو غدة: نضيف العامة. الشيخ محمد المختار السلامي: لقد قرأت بين الدفتين أول من بسط بسطا علميا هذه القواعد وهي قاعدة الضروريات والحاجيات والتحسينات وأفضل من بسطها وهو الشاطبي ولم أر تنزيل الحاجة منزلة الضرورة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1400 الرئيس: هل كلامكم في رقم 3. الشيخ محمد المختار السلامي: فقط في الأولى. الرئيس: وتنزيل الحاجة منزلة الضرورة. قيدناها وقلنا تنزيل الحاجة العامة. الشيخ محمد المختار السلامي: شكرًا، الله يحفظك، الله يبارك فيك. الشيخ محمد هشام البرهاني: في آخر عبارة عندما يصرف النظر عن استخدام هذا العقار ويرد إلى مالكه قد تختلف الأسعار فإذا قلنا بنفس السعر قد يكون فيه ظلم إما للمالك وإما للجهة. فلا بد أن يكون السعر الذي يعود إليه السعر الحالي لأن الزمن قد يتباعد. في آخر العبارة بالتعويض نفسه. الشيخ محمد المختار السلامي: بالتعويض العادل. الشيخ عبد الستار أبو غدة: بالتعويض العادل. في آخر سطر رقم 1: أن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري عادل يقدره أهل الخبرة بما لا يقل عن ثمن المثل. الشيخ خليل محي الدين الميس: كلمة في الصياغة. إذا ممكن رقم 3 أن يكون رقم 1 لأنا وضعنا المشروط قبل الشرط لأن رقم 3 يكون نزع الملكية بالشروط التالية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1401 الرئيس: الحقيقة يظهر أن الإخوان راعوا شيئًا واحدًا وهو أن أهم هذه الشروط هو الأول فاجعلوا الأول في الواجهة للاهتمام. الشيخ إبراهيم بشير الغويل: سيدي في هذا الموضوع انتزاع الملكية للمصلحة العامة كل الأمور ماشية تماما إلا أنه لا يراعى أي قيد على أن هذه الملكية تكون قد اكتسبت بطرق مشروعة كما هو شريعة الله. دائمًا رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء. نحن نصون ونمنع الاعتداء على ملكية اكتسبت بطرق مشروعة وفقًا لشريعة الله. الرئيس: يا شيخ إبراهيم. الديباجة فيها ما شاء الله ما يغطي هذا وزيادة، ارجع إليها. الشيخ محمد علي التسخيري: أنا أعتقد أننا تقريبًا أطلقنا اليد إلى حد ما في الملكية الفردية فحبذا لو حذفنا عبارة جميع الانتفاعات الشرعية وأضفنا في ذيل هذه الفقرة: يجب رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء عليها ولا يجوز تضييق نطاقها أو الحد منها والمالك مسلط على ملكه وله التصرف فيه بجميع وجوهه كل ذلك في الحدود الشرعية. الرئيس: والله – يا شيخ الشرعية ما تقررت في قرار مثل تكررها في هذا القرار. الشيخ محمد علي التسخيري: لا يجوز تضييق نطاقها. ما أكثر مجالات تضييق نطاق الملكية، على الأقل ولي الأمر يستطيع أن يمنع كثيرًا من المباحثات. فإذا حكمنا حكمًا شرعيًا في هذا المعنى اجعلوا هذا العنوان. احذفوا كل مكان حدود المشروع والانتفاعات الشرعية وأعطوا القيد لكل المقيدات. قولوا كل هذه الأمور في الأطر الشرعية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1402 الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم.. أمران. الأمر الأول هو أن المعدوم شرعًا كالمعدوم حسا. فإذا قلنا: شيء ملكية شرعية بمعنى أنها الملكية الحقيقية في الشرع مع أنها ملكية ونصف ملكية شرعًا. الأمر الثاني: أنه كثيرا ما استمعت إلى قضية ولي الأمر هذا. عندنا أن ولي الأمر معزول عن غير المصلحة وأنه لا يستطيع بذاته أن يعلم كل شيء وعليه أن يستشير وإذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشاور، فإنما ذلك سُن لكل ولي أمر أن يشاور، فليس لنا في الإسلام أن ولي الأمر هو كل شيء وأنه هو المرجع وهذا لا أريد أن أعود إليه. الرئيس: هل عندكم اعتراض على قرار نزع الملكية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1403 قرار رقم (4) د 4/ 08 /88 بشأن انتزاع الملكية للمصلحة العامة إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18- 23 جمادى الآخر 1408هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988م، بعد الإطلاع على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع " انتزاع الملك للمصلحة العامة" وفي ضوء ما هو مسلم في أصول الشريعة، من احترام الملكية الفردية، حتى أصبح ذلك من قواطع الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، وأن حفظ المال أحد الضروريات الخمس التي عرف من مقاصد الشريعة رعايتها، وتواردت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على صونها، مع استحضار ما ثبت بدلالة السنة النبوية وعمل الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من نزع ملكية العقار للمصلحة العامة، تطبيقًا لقواعد الشريعة العامة في رعاية المصالح وتنزيل الحاجة العامة منزلة الضرورة وتحمل الضرر الخاص لتفادي الضرر العام. قرر ما يلي: أولا: يجب رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء عليها، ولا يجوز تضييق نطاقها أو الحد منها، والمالك مسلط على ملكه، وله في حدود المشروع التصرف فيه بجميع وجوهه وجميع الانتفاعات الشرعية. ثانيًا: لا يجوز نزع ملكية العقار للمصلحة العامة إلا بمراعاة الضوابط والشروط الشرعية التالية: 1- أن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري عادل يقدره أهل الخبرة بما لا يقل عن ثمن المثل. 2- أن يكون نازعه ولي الأمر أو نائبه في ذلك المجال. 3- أن يكون النزع للمصلحة العامة التي تدعو إلى ضرورة عامة أو حاجة عامة تنزل منزلتها كالمساجد والطرق والجسور. 4- أن لا يؤول العقار المنزوع من مالكه إلى توظيفه في الاستثمار العام أو الخاص، وألا يعجل نزع ملكيته قبل الأوان. فإن اختلت هذه الشروط أو بعضها كان نزع ملكية العقار من الظلم في الأرض والغصوب التي نهى الله تعالى عنها ورسوله صلى الله عليه وسلم. على أنه إذا صرف النظر عن استخدام العقار المنزوعة ملكيته في المصلحة المشار إليها تكون أولوية استرداده لمالكه الأصلي، أو لورثته بالتعويض العادل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1404 سندات المقارضة إعداد الصديق محمد الأمين الضرير أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية القانون جامعة الخرطوم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين معالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ردا على خطابكم الذي تطلبون مني فيه الكتابة عن الموضوع التالي: سندات المقارضة: أ - هل يكون إطفاء سندات المقارضة بقيمة اسمية أم سوقية؟ وهل يتم ذلك باستبعاد عدد معين من الأسهم الكاملة، أم يكون ذلك باستبعاد جزء من كل سهم؟ ب- وعلى الوجه الأخير هل يعتبر ربح كل سهم متناقصا مع تناقص القيمة، أم يظل ربحه كاملا حتى نهاية الإطفاء؟ أبعث إلى معاليكم بالآتي: كنت اعتذرت في خطابي بتاريخ 29 من ذي القعدة 1407- 25/ 7/ 1987 عن عدم تمكني من الكتابة في هذا الموضوع، لأني لم أجد المراجع الكافية، وقد تحصلت أخيرا على قانون سندات المقارضة لسنة 1981 (الأردني) . والمذكرة التفصيلية الخاصة ببيان الوجوه الفقهية المؤيدة لإمكان قبول تعهد الحكومة بضمان سندات المقارضة المخصصة لإعمار أراضي الأوقاف التي أعدها الدكتور سامي حمود. ومحاضرة الدكتور وليد خير الله عن سندات المقارضة مع حالة تطبيقية. فأردت أن أشارك بهذه الورقات القليلة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1405 الحديث عن أحكام إطفاء سندات المقارضة يتطلب الحديث أولا عن حقيقة سندات المقارضة، والمقصود بإطفائها، وهل هذه المعاملة مقبولة شرعا أم لا؟ ولا بد لمعرفة ذلك من استعراض بعض مواد قانون سندات المقارضة لسنة 1981 (الأردني) . 2- تنص المادة الثانية من قانون سندات المقارضة على الآتي: أ - تعني (سندات المقارضة) الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح. ب - يحصل مالكو السندات على نسبة محددة من أرباح المشروع، وتحدد هذه النسبة في نشرة إصدار السندات، ولا تنتج سندات المقارضة أي فوائد، كما لا تعطي مالكها الحق في المطالبة بفائدة سنوية محددة. يفهم من هذه المادة - ومن التسمية – أن المعاملة التي تصدر السندات من أجلها هي عقد مضاربة مقيدة بمشروع معين، أرباب المال فيها هم مالكو السندات، والمضارب هو صاحب المشروع المعين الذي يطلب تقديم المال له، لاستغلاله والاشتراك في ربحه بنسبة تحدد في نشرة إصدار السندات. 3- وذكر في المادة الثالثة الهيئات التي يسمح لها بإصدار سندات المقارضة، وأولها وزارة الأوقاف، ولعلها هي التي أصدر القانون من أجلها، يقول الدكتور سامي حمود في مذكرته ص1: (إن سندات المقارضة تمثل الطريق الملائم لتجميع الموارد المالية المتناثرة لدى جمهور الراغبين في الاستثمار الحلال، حيث يمكن عن طريق تجميع هذه الموارد إقامة المشاريع الكبيرة، وبخاصة مشاريع الإعمار العقاري للأراضي الموقوفة، ذات المواقع التجارية الصالحة لاستثمار على هذا الأساس) اهـ. ص1. ويفهم من هذا أن المبالغ المتحصلة من سندات المقارضة– أموال المضاربة– تستثمرها وزارة الأوقاف – المضارب – في تعمير أراضي الأوقاف، ويؤيد هذا الحالة التطبيقية التي ذكرها الدكتور وليد خير الله (لتمويل بناء على أرض وقفية بأسلوب سندات المقارضة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1406 4- وجاء في المادة الرابعة من القانون ذكر الشروط التي تشترط في المشروع الذي تصدر سندات المقارضة لتمويله ومنها: جـ- أن يدار المشروع ماليا كوحدة مستقلة بحيث تتضح في نهاية السنة المالية أرباحه المعدة لإطفاء السندات وتوزيع الأرباح حسب النسبة المقررة في نشرة الإصدار. اهـ. واشتراط اتضاح ربح المشروع في نهاية السنة المالية شرط جيد وضروري: لأن الربح هو الذي يوزع بين رب المال والمضارب فلا بد من معرفته، ولعل هذا هو الذي جعل جمهور الفقهاء يحصرون العمل الذي يقوم به المضارب في التجارة بالبيع والشراء. فهل هذا الشرط متحقق في مشروع وزارة الأوقاف؟ الذي ظهر لي من مذكرة الدكتور سامي حمود، ومن الحالة التطبيقية التي أوردها الدكتور وليد خير الله أنه غير متحقق، فالدكتور سامي يقول في ص2: (وتعتمد فكرة سندات المقارضة المخصصة على التنظيم الحسابي لتمويل إنشاء الأبنية ذات المردود الاقتصادي المرتفع – نسبيا – حيث يتم تخصيص حصيلة السندات المباعة لتمويل إنشاء المبنى المعلن عنه في كل إصدار على حدة، وتكون الإيرادات الصافية (بعد تنزيل نفقات الصيانة والإدارة الخاصة بالمبني) معدة للتوزيع على النحو التالي: 30 % مثلا للتوزيع على المكتتبين في السندات وذلك بصفة أرباح. 70 % أيضا للتوزيع على المكتتبين في السندات ولكن بصفة مبالغ مسددة من أصل قيمة السند. وليس هناك ما يمنع من أن يكون لوزارة الأوقاف نصيب من الربح نظير الإدارة. اهـ. فالدكتور سامي يتحدث عن توزيه الإيرادات الصافية، ويسميها ربحا، فهل الإيراد السنوي للمشروع هو الربح الذي يوزع بين رب المال والمضارب في عقد المضاربة؟ وقول الدكتور سامي: (وليس هناك ما يمنع..إلخ) غير صحيح، فالمانع موجود، وهو أن الإيرادات قد خصمت منها نفقات الإدارة، فكيف تستحق وزارة الأوقاف نصيبا من الربح نظير الإدارة بعدما خصمت نفقاتها؟ وأما الحالة التطبيقية التي أوردها الدكتور وليد، فهي واضحة جدًا في أن الذي يوزع هو عائد الإيجارات للمشروع (انظر ص2- 4) . وعائد الإيجار السنوي ليس هو الربح الذي يوزع بين رب المال والمضارب بالمفهوم الفقهي. وسأفترض أن هذا خطأ في التطبيق، وأن الربح الحقيقي للمشروع يمكن معرفته وتوزيعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1407 وأنتقل بعد هذا إلى طريقة توزيع الربح. المعروف في عقد المضاربة أن الربح يوزع بين رب المال والمضارب، وفي موضوعنا هذا ينبغي أن يوزع ربح المشروع بين مالكي السندات (أرباب المال) ووزارة الأوقاف (المضارب) ولكن القانون ومذكرة الدكتور سامي، والحالة التطبيقية التي أوردها الدكتور وليد جاءت بتوزيع غريب على عقد المضاربة، فجعلت نسبة من الربح لمالكي السندات، وجعلت النسبة الباقية لإطفاء السندات، وهذه النسبة تعطى أيضا لمالكي السندات، ولكن بصفة مبالغ مسددة من أصل قيمة السند، كما يقول الدكتور سامي، وهذا هو المراد من كلمة إطفاء السندات الواردة في القانون، وهذا يعني أن صافي إيراد المشروع السنوي، الذي سمي ربحا، يعطى كله إلى مالكي السندات بعضه سمي ربحا والبعض الآخر جعل سدادا للمبلغ الذي دفعه المكتتب، وأعطى السند مقابلة، وهذا الإجراء يحول المعاملة من عقد مضاربة إلى عقد آخر، التزمت فيه وزارة الأوقاف بأن ترد لمالك السند المبلغ المبين في السند كاملا على أقساط سنوية، وتدفع له مع كل قسط مبلغا زائدا على القسط يسمى ربحا، وهذا الالتزام موثق بكفيل هو الحكومة كما جاء في المادة (12) من القانون (تكفل الحكومة تسديد قيمة سندات المقارضة الاسمية الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة) اهـ. فماذا يسمى هذا العقد في الفقه الإسلامي؟ إنه عقد قرض اشترط فيه المقترض للمقرض زيادة على اقترضه منه، ووثق العقد بكفيل. وهذا وحده يكفي لإفساد هذا العقد، وإبعاده عن عقد المضاربة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1408 5- ومما يؤكد أن هذا العقد عقد قرض، وليس عقد مضاربة ما جاء في المادة (20) من أن (الهيئة المصدرة تحل محل مالكي الأسناد المطفأة في الحصول على الأرباح المتحققة لهم) اهـ. فهذه المادة تفيد بأن كل عائد المشروع تأخذه وزارة الأوقاف بعد أن تدفع لمالكي السندات المبالغ التي أخذتها منهم مع أرباحها السنوية، ويفهم من هذا أن المباني التي أقيمت على أرض الوقف بأموال مالكي السندات تصبح مملوكة لوزارة الأوقاف، ويؤيد هذا الفهم الدكتور سامي بقوله: (وعندما يسترد مالكو سندات المقارضة أصل قيمة السندات التي اكتتبوا فيها، وذلك بنتيجة المبالغ الموزعة عليهم سنويا بصفة مبالغ مسددة من أصل رأس المال، فإن الملك بكامله (أي البناء المقام فوق الأرض الموقوفة) يصبح مملوكا بالكامل للوقف الإسلامي) ص2. إن وزارة الأوقاف لا تستطيع أن تتملك البناء المقام فوق الأرض الموقوفة إذا كانت الأموال التي صرفت فيه أموال مضاربة، لأنه يكون مملوكا لأرباب المال، ولا يمكن أن ينتقل إلى وزارة الأوقاف – المضارب – إلا بسبب ناقل الملكية. أما إذا كانت الأموال التي صرفت في البناء قرضا مضمونا على وزارة الأوقاف فإن البناء يكون مملوكا لها من أول الأمر وليس بعد سداد القرض. فالقول بأن البناء يصبح مملوكا للوقف بعد أن يسترد مالكو سندات المقارضة أصل قيمة السندات لا يستقيم سواء جعلنا المعاملة قرضا أو قراضا. 6- ومما تجدر الإشارة إليه أن الدكتور سامي اعتبر في مذكرته هذه المعاملة عقد مضاربة، وأجهد نفسه في تبرير ضمان الحكومة لرأس مال المضاربة مع اعترافه بأن اشتراط العامل رد أصل رأس المال يفسد عقد المضاربة في رأي بعض الفقهاء، ويبطل الشرط ويصح العقد في رأي بعضهم (انظر ص3 ولا يخلو كلام الدكتور سامي من اضطراب في هذه المسألة) . وقد بنى الدكتور سامي رأيه في جواز ضمان الحكومة لأصل رأس المال على أن وزارة الأوقاف لا دخل لها في هذا الضمان (انظر ص3 و4) ، وهذا غير صحيح، فوزارة الأوقاف متعهدة برد رأس المال، والحكومة كفيلة بذلك، وقد نص على هذا التعهد من وزارة الأوقاف صراحة في وثيقة إصدار السندات، وهذا هو النص كما جاء في نموذج الوثيقة المرافقة لمحاضرة الدكتور وليد: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1409 وتتعهد وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية أن تدفع لمالك هذه السندات كامل قيمتها الاسمية مع الأرباح حسب الشروط المبينة على ظهره، وقد كفلت حكومة ... الوفاء الكامل للقيمة الاسمية للسندات في الموعد المحدد.اهـ. وجاء في نشرة الإصدار الأول من سندات المقارضة المخصصة لمشروع وزارة الأوقاف ما يلي: أ- تدفع القيمة الاسمية لمالك السند في موعد إطفائه فور تقديمه في مكاتب وكيل الدفع والحافظ الأمين. ب- تكفل حكومة المملكة الأردنية الهاشمية كفالة غير مشروطة دفع القيمة الاسمية للسندات الواجب إطفاؤها في الموعد المحدد لاستحقاق السند. ج- تصبح كفالة حكومة المملكة الأردنية الهاشمية واجبة التنفيذ، إذا تخلفت وزارة الأوقاف عن دفع القيمة الاسمية في الموعد المحدد، ولم تتمكن من الدفع، بموجب إخطار يوجهه إليها الحافظ الأمين مدته ثلاثون يوما.اهـ. إن هذا التعهد من وزارة الأوقاف برد رأس المال، وكفالة الحكومة لوزارة الأوقاف، يكون مقبولا إذا كانت السندات سندات قرض، ولا وجه لقبوله إذا كانت السندات سندات قراض، إلا في حالة التعدي أو التقصير من وزارة الأوقاف على مال القراض. 7- لا أراني بعد هذا في حاجة إلى الإجابة عن الأسئلة الموجهة إلي عن إطفاء سندات المقارضة: هل تكون بقيمة اسمية أم سوقية..؟ لأن القانون أجاب بوضوح عن هذا السؤال، وأن الإطفاء يكون بالقيمة الاسمية، فأفسد عقد المضاربة الذي بني عليه القانون، وحوله إلى عقد قرض غير مقبول شرعا. 8- ربما يسأل سائل: هل يتغير الحكم لو كان إطفاء سندات المقارضة هذه بالقيمة السوقية؟ والجواب: هو أننا لو اعتبرنا المبلغ المبين في السند قرضا فلا محل للحديث عن القيمة السوقية، لأن القرض يقضي بمثله، ولا يجوز اشتراط قضائه بأكثر منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1410 وإذا اعتبرنا المبلغ المبين في السند مال مضاربة فإن هذا المال تحول إلى مبان، وهذه المباني كما قلنا مملوكة لصاحب السند، لأن أصلها مملوك له، ولا يمكن أن تنتقل ملكيتها إلى وزارة الأوقاف إلا بعقد من العقود الناقلة للملكية، والإطفاء ليس عقدا ولا سببا من أسباب نقل الملكية، فالحديث عن الإطفاء غير مفهوم، ولست أدري من أين أتى القانون بهذه الكلمة، التي لا أصل لها في الفقه الإسلامي، ولا في القانون الوضعي. ثم إن الحديث عن القيمة الاسمية والقيمة السوقية تعبير في القانون التجاري يستعمل في الأسهم، ولا أعرف استعماله في السندات، لأن السند في القانون يمثل دينا دائما، بخلاف السهم فإنه يمثل حصة في موجودات الشركة، لها قيمة اسمية وقيمة سوقية، وقيمة حقيقية. فالحديث عن إطفاء سندات المقارضة غير مقبول في جميع الحالات. 9- ما البديل الشرعي إذن لسندات القرض بفائدة، الذي يحقق لوزارة الأوقاف غرضها في الحصول على أموال تعمر بها أراضي الوقف؟ البديل هو: أ- سندات القرض الحسن الذي ينتظر المقرض فائدته في الآخرة. قد يقال: إن الذين يقبلوا على هذا النوع من السندات قليل، وهذا صحيح، ولكنه لا يمنع من الدعوة إليه، والحث عليه، مع توفير الضمانات الكافية التي تطمئن المكتتبين في هذه السندات على استرداد حقوقهم في مواعيدها. ب- المشاركة المتناقصة، أو المشاركة المنتهية بالتمليك. وهذه الصيغة من المعاملات معمول بها في البنوك الإسلامية، وهي شركة يعد فيها أحد الشريكين شريكه بأن يبيع له نصيبه كله أو بعضه في أي وقت يشاء بعقد ينشآنه عند إرادة البيع. وفي مسألتنا هذه فإن وزارة الأوقاف تكون شريكا بقيمة الأرض، والجمهور يكون شريكا بما يقدمه من مال، وكل واحد من الشركاء يكون مالكا لجزء من المشروع بقدر ما دفعه من مال. ويمكن أن يضمن العقد بندا يعد فيه الشريك وزارة الأوقاف بأن يبيع لها نصيبه كله أو بعضه برأس ماله (تولية أو إشراكا) متى رغب في شرائه، ويكون هذا الوعد ملزما للشريك، وتكون الوزارة بالخيار إن شاءت اشترت وإن شاءت تركت، ولا يتم البيع إلا بعقد جديد بتراضي الطرفين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1411 وبهذه الطريقة تكون وزارة الأوقاف قد حققت غرضها في تعمير أرض الوقف، وإعادتها عامرة للوقف. 10- أما صيغة المضاربة فليست بديلا ملائما في مثل هذه الحالات، لأن تطبيق أحكام المضاربة في مشروع وزارة الأوقاف تعترضه بعض الصعوبات، منها أن الوزارة تخلط مال المضاربة بمال الوقف، ومال الوقف أرض، والأرض عرض لا يصلح مالا للمضاربة، إلا إذا بيع، وتحول إلى نقود، كما يقرر عامة الفقهاء. ومن الصعوبات أيضا معرفة الربح الحقيقي بعد سلامة رأس مال المضاربة في آخر كل عام، ولا يصح أن يعتبر صافي الإيراد السنوي ربحا حقيقيا. لهذا فإني أستبعد استعمال صيغة المضاربة في مشروع الوقف، وتبقى معنا: سندات القرض الحسن ويمكن أن تكون بهذا الاسم في مقابل سندات القرض بالفائدة. والمشاركة المتناقصة أو المنتهية بالتمليك، وأستحسن أن تسمى صكوك المشاركة المتناقصة بدلا من سندات. وفقنا الله جميعا وهدانا الصراط المستقيم. الصديق محمد الأمين الضرير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1412 سندات المقارضة إعداد الدكتور رفيق يونس المصري مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي جامعة الملك عبد العزيز – جدة بسم الله الرحمن الرحيم سندات المقارضة تعريف: سندات المقارضة عبارة مؤلفة من مضاف ومضاف إليه، المضاف فيها لفظ (سندات) وهو مصطلح في القوانين والأعراف السائدة اليوم بمعنيين، الأول: سندات لأمر = سندات إذنية billets a ordre، وهي أحد أنواع الأوراق التجارية المعرفة في القوانين التجارة الوضعية (السفاتج والسندات والشيكات) ، وهذا المعنى غير مراد هنا. والمعنى الآخر هو سندات قرض = سندات مالية obligations، وهي أحد نوعي الأوراق المالية المعروفة في القوانين التجارية (الأسهم والسندات) ، وهو المعنى المراد هنا. ويبدو أن لفظ (سندات) قد اختير بدل (الأسهم) لأن العملية تجمع بين القرض والشركة، والقرض دل عليه لفظ السندات، والشركة دل عليها لفظ المقارضة. هذا عن المضاف في العبارة، وهو السندات، أما المضاف إليه وهو (المقارضة) فهو اصطلاح فقهي إسلامي يعني (القراض) وكلا اللفظين (القراض) و (المقارضة) فيه معنى الاشتراك، فصيغة (فعال) و (مفاعلة) مثل قتال ومقاتلة تفيد الاشتراك كما هو معلوم عند أهل اللغة. والمقارضة هي المضاربة وزنا ومعنى، وتعريفها الفقهي معروف لا حاجة لذكره هنا، وهي أحد ضروب الشركة المعروفة في الفقه الإسلامي، والتي لقيت من اهتمام الفقهاء، على اختلاف مذاهبهم، ما يزيد على ضروب الشركة الأخرى، حتى إن كتب الفقه أفردت لها كتابا أو فصلا خاصا. وبهذا فإن لفظ (السندات) يشعر بالقرض، ولفظ (المضاربة) يشعر بالشركة، فالعملية إذن قرض مشارك في الأرباح كما سنزيده وضوحا فيما بعد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1413 وقرض المشاركة في الأرباح ليس من الأساليب التمويلية الجديدة كما توهم البعض، ربما لعدم إطلاعهم على صيغ التمويل المعروفة في الغرب، وربما لأن العملية قدمها بعض العارفين على أنها جديدة وأصيلة. ولا أعني بهذا أن العملية إذا كان مصدرها غربيا فيجب المسارعة إلى رفضها، بل أعني أن نظامها معروف، كله أو جله، ولا حاجة للإطالة بذكره، كما لا يصح أن ننسبها إلينا نحن المسلمين على أنها من ابتكارنا، فأول شيء علمنا الإسلام هو الصدق. تاريخ ومقارنة: سندات المقارضة هذه شبيهة في الغرب والقوانين الوضعية بأسلوبين: 1- الأول سندات المشاركة obligations participantes، حيث تتأثر فائدتها، وربما أصلها (= رأس مالها) برقم أعمال المشروع أو نتائج المشروع من ربح أو خسارة. وتتأثر الفائدة فقط إذا كانت السندات مشاركة في الأرباح فقط دون الخسائر، ويتأثر الأصل إذا كانت مشاركة في الخسائر أيضا. 2- الثاني قروض المشاركة prets participatifs التي أنشأها القانون الفرنسي المؤرخ في 13 تموز (يوليو) 1978م، والخاص بتوجيه المدخرات لتمويل المشاريع. وإذا كانت هذه القروض مشاركة في الخسائر بالإضافة إلى الأرباح فإن أولويتها في السداد تأتي بعد أولوية الدائنين الممتازين والعاديين، ويكون لها أهمية عندئذ بالنسبة لدائني المشروع، من حيث إنها تشكل لهم ضمانة كضمانة الأموال الخاصة للمشروع أو حقوق المساهمين في شركة المساهمة (رأس المال + الاحتياطيات + الأرباح غير الموزعة) . وفي مقابل إشراكها في الخسائر وتحملها مخاطر هذه الخسائر لها الحق في المشاركة بحصة من الأرباح أعلى، في التقدير، من معدل الفائدة، وربما منحت فائدة ثابتة بالإضافة إلى حصة من الأرباح تقتطع من الربح القابل للتوزيع، قبل أي توزيع على المساهمين أو أي اقتطاع آخر من هذا الربح. والأشخاص المانحون لهذه القروض هم الدولة والمصارف والمؤسسات المالية ومؤسسات الإقراض ذوات النظام القانوني الخاص وشركات وتعاونيات التأمين والشركات التجارية. ويجب أن تظهر بوضوح في ميزانية كل من المقرض والمقترض. وتخضع هذه القروض لقانون 28 كانون الأول (ديسمبر) 1966م، المتعلق بالربا، حيث لا يجوز أن يتجاوز عائدها الثابت والمتغير المعدل الذي يحكم عليه بأنه ربا حرام في نظر القانون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1414 وربما أطلق على هذه القروض اسم آخر، هو القروض التابعة prets subordonnes ولعل سبب هذه التسمية هو أن أصلها وفائدتها يتبعان نتائج المشروع من ربح أو خسارة. وقد لجأت البلدان الإنغلوسكسونية وهولندا، إلى هذا النوع من القروض، قبل فرنسا، للجمع بين وضعين: 1- وضع رأس المال الذي يخاطر به المساهمون في مقابل ربح متغير. 2- ووضع رأس المال الذي يقدمه المقرضون، ويكون مضمونا بموجودات (= أصول) المشروع، ومأجورا في صورة فائدة ثابتة. ومن الناحية الحقوقية، لا ينظر إلى هذا المقرض على أنه مساهم، إذ لا يتمتع بحق التصويت في الشركة، ويستمر في الاستفادة من أولوية يتمتع بها على موجودات المشروع. كما لا ينظر إليه على أنه مقرض أو دائن عادي، إذ ليست له المرتبة الأولى في الاستيفاء عند تصفية المشروع المدين. بل هو في مركز وسط بين ما يتمتع به المقرض من الضمان لقرضه وما يتعرض له المساهم من المخاطرة برأس ماله. وهذه القروض تعزز القدرة المالية للمشروع حيال دائنيه العاديين، لأنها شبيهة بأموال المشروع الخاصة من بعض الجوانب، ولعل هذه غاية من غايات استخدامها في الغرب، فالمعلوم أن المنشأة لا تستطيع أن تعقد من القروض إلا في حدود معينة تتأثر بالنسبة بين الأموال الخاصة (رأس المال + الاحتياطيات + الأرباح غير الموزعة) والديون في جانب المطاليب (= الخصوم) من ميزانية المنشأة طالبة القرض (1) . وقد تم اللجوء إلى تلك القروض لدعم قدرة المشروعات المتوسطة والصغيرة على الاقتراض.   (1) راجع بيان السيد ريمون بار رئيس وزراء فرنسا، بتاريخ 19 نيسان (أبريل) 1978م، وما كتبه السيد غي نوبو Guy Nebit في صحيفة لوموند الفرنسية بتاريخ 11/ 3/ 1980م، وكتاب (العمليات المصرفية) لجاك فيرونيير وإيمانويل شيلازر، دللوز، باريس، ط6، 1980م، ص507 و547 و696 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1415 وفي كتاب (القانون التجاري السعودي) يقول مؤلفه الدكتور محمد حسن الجبر (1) : (قد يشترط المقرض على المقترض الذي يريد استثمار مبلغ القرض في مشروع اقتصادي أن يحصل على نسبة معينة من الأرباح بدلا من فائدة ثابتة. وقد يصعب في هذه الحالة التمييز بين الشركة، كتقديم الحصة والمشاركة في الأرباح، ومع ذلك فالثابت أن العقد لا يعتبر شركة في هذه الحالة، نظرا لأن المقرض لا يشارك في المشروع مشاركة إيجابية، فهو يظل بمعزل عن كيفية استثمار المشروع فضلا عن أنه لا يساهم في الخسائر، وهو ما يعني أن العقد لا يعتبر شركة في هذه الحالة، لتخلف نية المشاركة لدى المقرض الذي غالبا ما يلجأ إلى هذا النوع من العقود للتهرب من تحريم الفوائد الربوية) اهـ. ومن الواضح أن الكلام ههنا يختص بقروض تشارك في الأرباح دون الخسائر، كسندات المقارضة الأردنية. سندات المقارضة الأردنية: لسندات المقارضة في الأردن تطبيقان: 1- تطبيق على مستوى المصرف الإسلامي الأردني (2) ، لجذب المدخرات واستثمارها في مشاريع مخصصة أو مشتركة.   (1) محمد حسن الجبر: القانون التجاري السعودي، نشر عمادة شؤون المكتبات جامعة الملك سعود، الرياض، 1402هـ = 1982م، ص155 (الشركة وعقد القرض مع الاشتراك في الأرباح) . كما أحال الكاتب إلى (الوجيز في القانون التجاري) للدكتور مصطفى كمال طه، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1974م، ف182 (2) انظر قانون البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار رقم 62 لسنة 1985م، المادة 2 ص5، والمادة 14 ص10، وعقد التأسيس المادة 19؛ وقانون البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار رقم 13 لسنة 1978م، المادة 2 ص31، والمادة 14 ص36 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1416 2- وتطبيق آخر على مستوى البلدان والمؤسسات العامة ذوات الاستقلال المالي ووزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية (1) ، لاستغلال أراضي الأوقاف وإعمارها، صدر بقانون أطلق عليه (قانون سندات المقارضة) وسندات المقارضة في هذا القانون أسهم مشاركة مضمونة القيمة، أو سندات قرض مشاركة في الربح. فالأصل إذا كان مضمونا فهو قرض. وسندات المقارضة الأردنية من هذه الناحية قروض تضمن قيمتها الاسمية وزارة الأوقاف، بكفالة الدولة باعتبارها طرفا ثالثا وذلك على أساس الوعد الملزم حسب الفتوى الأردنية المتعلقة بالموضوع. وحقيقة القرض أنه مضمون، يضمن قيمته الاسمية المقترض، وهو الوزارة المذكورة، والدولة تضمن ما ضمنه المقترض. خصائص سندات المقارضة الأردنية: 1- أنها قروض سندية (= سندات قرض) ، وليست شركة أو أسهما في شركة، من حيث اختيار تسميتها سندات لا أسهما، ومن حيث أن المادة الثانية من القانون نصت على أن (صاحب المشروع) هو الأوقاف وليس رب المال، فلو كانت هذه السندات عبارة عن (مقارضة) خالصة، لكان صاحب المشروع هو الأوقاف في حدود قيمة أرض الوقف، وأرباب المال في حدود اكتتاباتهم. وهي أيضا قروض من حيث إنها مضمونة الأصل من قبل الوزارة، بكفالة الدولة (المادة 12) . وهي قروض من حيث إنها تسدد بقيمتها الاسمية (المادة 7- ب، والمادة 11 و12) ، فلو كانت مشاركات لوجب تسديدها بقيمتها وقت السداد لأن الشركاء يملكون صافي موجودات المشروع، أي لهم حق عيني على الموجودات (2) وما يطرأ عليها من أرباح أو خسائر رأسمالية. والظاهر أن أصحاب سندات المقارضة ليس لهم إلا حق نقدي اسمي في ذمة الطرف الآخر، وهذا مركز الدائن لا مركز الشريك. 2- أنها قابلة للتداول في السوق المالية (المادة 18 و20 – ب) . 3- أنها مشاركة في الربح الصافي للمشروع، وليس في إيرادات المشروع (المادة 2 – ب والمادة 11) . ففيها إذن معنى الشركة بالإضافة إلى معنى القرض.   (1) انظر القانون المؤقت رقم 10 لسنة 1981م (قانون سندات المقارضة) ، لا سيما المادة 3 منه (2) انظر (الشركات الإسلامية لتوظيف الأموال) للأستاذ محمد فوزي حمزة، في مجلة الأمة القطرية، العدد 67 رجب 1406هـ آذار (مارس) 1986م، ص15 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1417 هذا ونشير إلى أن المقارضة فيها ليست مقارضة مجردة، بل هي مؤلفة من مقارضة ومشاركة، لأن الطرف الآخر (الأوقاف) يشترك مع أصحاب السندات في المال المتمثل في الأرض التي يجب تقويمها نقدا لمعرفة الحصة المالية لكل طرف، وهي كذلك مضاربة لأن هناك أرباب مال لا يعلمون. ولا يستطيع أن ينكر أحد أن المضاربة نوع شركة، لأنها شركة بين طرفين، أحدهما يقدم المال والآخر يقدم العمل، وهي شركة في الربح والصافي. وشركة الأموال فقها شركة بين طرفين كل منهما يقدم المال والعمل، فهي أعمق من المضاربة لأنها شركة في المال والعمل والربح والخسارة، في حين أن المضاربة شركة في الربح فقط، حيث العامل لا يشارك في المال ولا في الخسارة المالية. نقد: 1- بما أن سندات المقارضة فيها معنى القروض، كما بينا في (الخصائص) فإن الربح المتوقع حتى ولو لم يكن ثابتا محددا مسبقا، فإنه يعتبر فائدة ربوية محرمة، لأن تعهد المقرض بدفع أي فائدة، سواء كانت معلومة مسبقا أو غير معلومة، يعد ربا محرما، وأن عقد القرض عقد إرفاق لا يقصد من ورائه فائدة ولا ربح دنيوي. والقرض في حالة سندات المقارضة قرض بفائدة، تمثل الفائدة فيه (نسبة معينة من الربح، وتكون الفائدة هنا أمرا احتماليا، قد يتحقق إذا تحقق ربح، وقد لا يتحقق إذا انعدم الربح) (1) . ثم إذا قبلنا كفالة الدولة لرأس مال المكتتبين، فما الذي يمنع كذلك فيما بعد من كفالتها لمستوى معين من الربح؟ وعندئذ ماذا يبقى من فرق بين سندات المقارضة وسندات القروض الربوية؟ 2- ثم إن تداول السندات قد يؤدي إلى بيعها بأكثر من قيمتها الاسمية، فهذا ربا آخر. 3- لا اعتراض على الخصيصة الثالثة، لأن القراض من شأنه الشركة في الربح الصافي، كما هو نص القانون. لكن لو تمت الشركة في أجور كراء المكاتب والمخازن التي ستقام على أرض الوقف، فإن هذه الشركة لا تجوز (2) .   (1) الوسيط في شرح القانون المدني للدكتور عبد الرزاق السنهوري، دار إحياء التراث العربي، بيروت د. ت، ج5، ص427 (2) راجع بحثي (مشاركة الأصول الثابتة في الناتج أو في الربح) الذي سينشر في مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، العدد الأول، المجلد الثالث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1418 الجمع بين القرض والقراض: إن سندات المقارضة عملية ملفقة من القرض والقراض معا فهي قرض من حيث ضمان رأس المال، وقراض من حيث الشركة في الربح والصافي. ويخطئ من يظن أن الفرق بين الربا والقراض هو مجرد استبدال الشركة في الربح بالفائدة الثابتة، فإن الفرق أكبر من هذا بكثير، كما سنبين في الفقرة التالية مباشرة. هل يأتلف القرض والقراض معا في عقد واحد؟ 1- الأصل في القرض أنه عقد مقصده إحسان المقرض إلى المقترض، فهو كما سبق أن بينا، من عقود الإرفاق. والأصل في شركة المقارضة أنها عقد مقصده تحقيق منفعة لكل شريك (تبادل المنافع بين الشركاء) . واجتماع القرض مع المقارضة فيه شبهة الربا، لأن القرض قد يتوصل فيه إلى الربا عن طريق القراض، ذلك أن القرض وحده لا يسمح في الإسلام بأي فائدة، أما القراض (أو المقارضة) فيسمح بحصة من الربح. 2- الأصل في القرض أنه من عقود التبرعات. أما الشركة فقد أدخلها بعض الفقهاء في عقود المعاوضات، واعتبرها ابن تيمية وابن القيم وبعض الفقهاء الآخرين من عقود المشاركات، أي أصلا ثالثا مستقلا بنفسه. وهي على كل حال عقود دائرة بين النفع والضرر، فقد يتحقق ربح أو تقع خسارة. 3- المقرض ينقل ملكية القرض إلى المقترض، الذي يصبح ضامنا بمجرد القبض. فالقرض من عقود التمليك. أما شريك المال (رب المال في شركة القراض) فيبقى مالكا لرأس المال وحده (أو على الشيوع بمقدار حصته في رأس المال، إذا تعدد أرباب المال) وضامنا له، والعامل لا يملك من مال القراض إلا بمقدار ما يتراكم له من حصة من الربح لم يسحبها. ففي القرض المقترض (آخذ المال) ضامن، وفي القراض المضارب (آخذ المال) أمين، ورب المال ضامن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1419 4- المقترض يتصرف برأس المال تصرف الأصيل (الضامن) ، لأنه مالك لرأس مال القرض. أما المضارب فيتصرف برأس المال تصرف الوكيل (الأمين) . 5- المقترض ضامن لرأس المال، يرده بمثله لا بعينه، سواء وقع منه تعد أو تقصير أو لم يقع. أما المضارب فهو أمين على رأس المال، لا يضمن إلا في حالات التعدي والتقصير (أي حالات مخالفة شروط العقد) . 6- المقترض إذا دفع رأس المال إلى آخر جائز لأنه ضامن. أما المضارب إذا دفع المال إلى آخر (المضارب يضارب) فهو غير جائز، ويصبح ضامنا، ما لم يأذن له رب المال. 7- يستطيع المقرض أن يطلب رهنا أو كفالة أو ضمانا من المقترض، للاستيثاق من استرداد القرض. أما رب المال في القراض فليس له في الأصل ذلك، وإن كان يجوز له استثناء لضمان حالات التعدي والتقصير فقط. فالضمان يطلب ممن هو ضامن، ولا يطلب ممن هو أمين. هذا هو الأصل. 8- المقرض يملك مالا موصوفا مثليا مضمونا في ذمة المقترض. أما رب المال فيملك مالا معينا قيميا، لا في ذمة المضارب، فهو مالك للمال النقدي المقدم منه للمضاربة. ثم إذا ما اشترى العامل بهذا المال النقدي سلعا وعروضا يبقى رب المال هو المالك لهذه الأصناف المالية الجديدة، وتتحول ملكيته من النقود إلى العروض. 9- المقرض يملك مقدارا معلوما في النهاية (عند السداد) . أما رب المال فلا يملك مبلغا معلوما، لأن ماله قد يزيد بالربح، وينقص بالخسارة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1420 10- المقرض يتعرض إلى خطر الإعسار، ورب المال يتعرض إلى خطر أساسي مختلف هو خطر الخسار. 11- القرض عند جمهور الفقهاء حال، أي يستحق عند الطلب، ورأي بعضهم أنه مؤجل، أي يستحق في الأجل المضروب. أما رأس مال القراض فليس حالا ولا مؤجلا، فإذا تصرف به المضارب فلا يعود لرب المال إلا إذا نض المال (أي عاد نقودا بعد أن صار عروضا وديونا) . وقد أجاز بعضهم تأجيل (تأقيت) القراض، غير أن هذا لا يعني أكثر من توقف المضارب عن الشراء عند الأجل، والانصراف إلى تصفية الشركة، مع ما يحتاج ذلك من انتظار مبيع العروض إلى الزبائن بالأسعار المعقولة. 12- إذا كان القرض حالا فإن المقترض يعتبر مماطلا إذا قدر على الوفاء في أي لحظة ولم يفعل. أما في القراض فإن المضارب يمكنه التأخر في رد المال حتى ينض، ولا يعتبر هذا ظلما ولا مطلا. 13- المقرض لا يحق له على العموم التدخل في أعمال المقترض، حتى تلك التي تتصل بالقرض، ذلك أنه لا يستفيد من أي ربح إذا ربح العمل بالقرض، ولا يتحمل أي خسارة إذا عمل المقترض بالمال فخسر. وتتأكد رغبته في عدم التدخل بالعمل والإدارة إذا كان أيد قرضه بضمان أو رهن أو كفالة. أما رب المال فله حق التدخل في الإدارة الداخلية (حق التصويت) ، في العلاقة بينه وبين شريكه المضارب. ولا يتدخل في الإدارة الخارجية، في علاقة الشركة بالغير. والخلاصة أن المقرض دائن لا يتدخل، ورب المال شريك يتدخل. وبهذا فإن المساهم في شركة المساهمة عضو في الجمعية العمومية (= الهيئة العامة) وقد يكن عضوا في مجلس الإدارة. أما المقرض فليس له حق تمثيل في الإدارة. 14- أموال القرض بزيادتها تنقص قدرة المشروع على الاقتراض. أما حصص رأس المال فإنها تعزز القدرة المالية والمركز المالي للمشروع حيال دائنيه، فهي أموال خاصة بالمنشأة، وتشكل الضمان العام لدائنيها، بخلاف القروض فإنها أموال الغير، ومعلوم أن المشروع لا يستطيع الاقتراض إلا ضمن حدود معينة تتأثر بنسبة القروض إلى الأموال الخاصة. 15- القروض قابلة للاستهلاك، بخلاف حصص رأس المال. فاستهلاك القروض يعني تخلص الشركة أو المشروع من الديون المترتبة عليه، أما استهلاك الحصص فإنها تعني انخفاض رأس مال الشركة أو المشروع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1421 16- حق المقرض مقدم على حق الشريك، عند تصفية المشروع أو الشركة. 17- كل زيادة مشروطة في عقد القرض تعتبر ربا محرما. أما الربح المشروط في عقد القراض فهو جائز، بل واجب، لكن لا يصح إلا إذا كان جزءا شائعا لا معينا، لأن تحديد مبلغ معين من الربح يمكن أن يؤدي إلى قطع الشركة، كما أنه يخل بمبدأ العدالة بين الشريكين. على أن الفائدة الثابتة تعد أكثر انسجاما مع القرض من الشركة في الربح، لأن القرض مقدار معلوم في الذمة، وكذلك الفائدة، هي مقدار معلوم في الذمة. أما الحصة في الربح فهي مقدار غير معلوم. 18- الشريك شريك في الخسائر والأرباح الصافية الإيرادية والرأسمالية بلغة علم المحاسبة. والمقرض في الشرع لا يشترك في الخسائر ولا في الأرباح، لا الإيرادية ولا الرأسمالية. النتيجة: لدى المتأمل في هذه الفروق، وبعضها فروع لأصل واحد، بين القرض والقراض، يبدو لي أن الجمع بينهما كالجمع بين السلف والبيع المنهي عنه في السنة النبوية، ذلك أن العملية تتلخص في النتيجة بأنها قرض بمنفعة مشروطة الأساس، وإن كانت احتمالية المقدار (غير محددة) ، فهناك شرط الاتفاق على الربح، فإن الشركة وإن بدت أنها من عقود غير عقود المعاوضات، إلا أن تصنيفها في عقود المشاركات لا يبعد عنها شوب المعاوضة، باعتبارها عقودا دائرة بين النفع والضرر، فإذا ما أعفي الشريك من الخسارة صارت الشركة دائرة بين النفع وعدمه، ولا يمكن اعتبار الربح من باب حسن القضاء، لأنه مشروط في العقد، ويتحدد حسب النتائج (الربح والخسارة) ، أي بضابط موضوعي، لا حسب رغبة المقترض وإرادته (ضابط شخصي) . وبهذا فإن سندات المقارضة الأردنية إنما هي سندات قروض ومشاركة في الأرباح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1422 وقد بدا لي بعد كتابة ما سبق أن الفقهاء بحثوا مسألة قريبة من مسألتنا، وهي القراض أو المضاربة بالدين الذي لرب المال على العامل (ضارب بما لي عليك من دين) ولم يجيزوها، ما لم يقبض رب المال الدين المستحق، فتتحول يد المضارب من يد ضمانة إلى يد أمانة، وتمتنع التهمة، لأن المدين قد يكون معسرا، أو راغبا في الاحتفاظ بمبلغ الدين، أي تأخير وفائه على أن يزيده فيه. هذا مع أن المسألة التي بحثها الفقهاء يتحول فيها الدين إلى شركة تحولا كاملا. أما مسألتنا فإن الدين يبقى فيها دينا، ويتحول إلى شركة جزئيا، بحيث يبقى دينا وشركة في آن معا. مما يجعل مسألتنا تجاريها وتباريها في الحرمة، بل عدم جوازها أولى والله أعلم. فإما قرض وإما شركة، أما قرض شركة فلا. هذا ولم تعترف بعض القوانين الوضعية بهذا القرض المشارك، بل اعتبرته شركة باطلة، هي شركة الأسد soviete leonine (1) .، لأنها شركة في الغنم دون الغرم، أي في الربح دون الخسارة. وذهبت تلك القوانين إلى أن الربح إذا تحقق (وزاد نصيب المقرض فيه على الفائدة المسموح بها قانونا، أنزل النصيب إلى الحد القانوني) (2) . وحتى لو شارك القرض في الخسارة بالإضافة إلى أن الربح لم يجز، لما في اجتماع القرض والقراض من تعارض وتنافر كما بينا. ثم إن النظم الاجتماعية ذوات النزعة الإنسانية تميل دائما إلى توسيع قاعدة الملكية، ملكية وسائل الإنتاج التي تتصاعد أهميتها في العالم المعاصر، وملكية العقارات والثروات الأخرى. ومن شأن سندات المقارضة أنها تميل إلى حصر الملكية في أيدي حفنة قليلة من الأثرياء، سواء أصدرتها الدولة أو القطاع الخاص، وذلك بالقوانين وما يستتبعها من نظم ولوائح تنفيذية. ولعل الحل البديل المقبول يكون في إنشاء أسهم مقارضة يتم تداولها في السوق المالية، واستردادها بالتدريج عن طريق تخفيض قيمة السهم في حدود القانون، وربما تم ذلك باعفاء المساهم من قسط لم يطلب بعد، أو عن طريق تخفيض عدد الأسهم بإلغاء بعضها، على أساس نسبة لكل مساهم، أو بإلغائها بعد شرائها من السوق. ويوزع على كل سهم ما يخصه من ربح، ولا شك أن الحصة الكلية لمجموع هذه الأسهم من الأرباح تنخفض بانخفاض قيمتها. ومن أفضل الطرق لمحاولة ضمان قيمتها ضمانا نسبيا غير مؤكد، ولضمان توزيع ربح عليها في كل دورة، هو إنشاء صندوق احتياطي لهذا الغرض، يغذي بتبرعات أصحاب الاستحقاق من مساهمين وغيرهم، في نهاية كل دورة مالية، وعند التصفية يصرف رصيد هذا الصندوق للجهات الخيرية. د. رفيق يونس المصري   (1) الوسيط للسنهوري، سبق ذكره، ج5 ص282 و427 (2) الوسيط للسنهوري، ج5 ص427 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1423 سندات المقارضة وسندات الاستثمار إعداد الدكتور حسن عبد الله الأمين رئيس وحدة الشريعة الإسلامية بالمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية بسم الله الرحمن الرحيم سندات المقارضة وسندات الاستثمار هذا الموضوع خطط لدراسته، أن يوزع على أربع نقاط أساسية يتولى بحث ودراسة كل نقطة منها بعض الفقهاء والخبراء حتى تأتي الدراسة الكلية مستوفية لجميع نواحي الموضوع تفصيليا توخيا للوصول إلى أفضل النتائج، وكانت العناصر التي وزع الموضوع على أساسها كالآتي: 1- تصوير سندات المقارضة كما يمثلها الطرح الأردني لها – دراسة وتشريعا. 2- تحديد طبيعة سندات المقارضة من الوجهة الشرعية في ضوء الطرح الأردني. 3- إطفاء سندات المقارضة – كيفياتها التي وردت في الدراسة والقانون الأردني، وتكييفها الشرعي. 4- ضمان رأس مال وأرباح سندات المقارضة. كما ذكرت فقد أسندت دراسة كل عنصر أو نقطة من النقاط المذكورة إلى بعض المختصين من السادة العلماء والخبراء كما هي معروضة الآن بين يدي هذه الندوة، ولقد كانت لي متابعات سابقة في هذا الموضوع حينما عرض لأول مرة في ندوة عامة، هي الحلقة الدراسية لتثمير ممتلكات الأوقاف التي كانت باكورة نشاط قسم التدريب بالمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب هنا، وكان عرض هذا الموضوع حينذاك في شكل دراسة مصحوبة بحالة تطبيقية لسندات المقارضة في الأردن، قدمها الأستاذ وليد خير الله – المدير التنفيذي بالبنك المركزي الأردني – وقد كتبت تعليقا في ذلك الوقت على ما كتبه الأستاذ وليد خير الله. ثم تابعت هذا الموضوع حينما عرض مرة أخرى في الدورة الثالثة لمجمع الفقه الإسلامي المنعقدة بعمان بدولة الأردن حينما قدم وشرحه بإفاضة الدكتور عبد السلام العبادي وكيل وزارة الأوقاف. وها أنا أعود لمتابعة الموضوع للمرة الثالثة، والمشاركة فيه، ولكني لا أتقيد بمنهج التخصص بنقطة معينة الذي تسير عليه دراسة الموضوع في هذه الحلقة الدراسية مسايرة لحكم الألفة والاعتياد كما جرى في المرات السابقة ولعل في ذلك زيادة نفع بإذن الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1424 نشأة فكرة (سندات المقارضة) وتطورها 1- نصت المادة (19) من عقد التأسيس والنظام الداخلي للبنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار سنة 1978م شركة مساهمة عامة محدودة نصت هذه المادة بالآتي (تصدر الشركة – بحسب الأحكام الواردة في القانون الذي تأسست بموجبه – سندات المقارضة المشتركة أو المخصصة، وذلك بالشروط والكيفية المعينة في القانون المشار إليه، وحسب ما يقرره في ذلك مجلس الإدارة) . وكانت هذه أول نشأة فكرة سندات المقارضة. 2- وجاء تعريفها في قانون البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار رقم 13 سنة 1978م، المادة الثانية منه كالآتي (سندات المقارضة الوثائق الموحدة القيمة والصادرة عن البنك بأسماء من يكتتبون فيها مقابل دفع القيمة المحررة على أساس المشاركة في نتائج الأرباح المحققة سنويا حسب الشروط الخاصة بكل إصدار على حدة. ويجوز أن تكون هذه السندات صادرة لأغراض المقارضة المخصصة وفقا للأحكام المقررة لها في هذا القانون. 3- وقد أعيد نص هذه المادة برقمها كما هو في قانون البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار رقم 62 لسنة 1985م. تطور جديد للفكرة في مرحلة التشريع 4- وحينما صدر قانون سندات المقارضة – المؤقت – لسنة 1981م جاء تعريفها به – أي سندات المقارضة – مختلفا بعض الشيء من حيث الصيغة والمحتوى عما جاء عنها بقانون البنك الإسلامي الأردني السابق واللاحق، فقد نصت المادة (2) – أ – من هذا القانون بالآتي: تعني (سندات المقارضة) الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1425 هذه هي (سندات المقارضة والاستثمار) كما صوروها – أو عرفها قانون البنك الأردني سابقا ثم قانون سندات المقارضة لاحقا، وهما الوثيقتان اللتان يلتمس منهما ومن مذكاتهما الإيضاحية فهم هذا الموضوع وإبداء الرأي حوله، مع الدراسات التي سبق وأن جرت حوله. ونلاحظ من هذا أن فكرة (سندات المقارضة للاستثمار) قد جاءت مصاحبة لنشأة البنك الإسلامي الأردني حيث جاءت الإشارة إليها في المادة 19 من عقد التأسيس والنظام الداخلي له، ثم عرفت بوضوح في قانونية رقم 13 لسنة 1978م ورقم 62 لسنة 1985، وذكر في تعريفها أن الجهة المصدرة لها هي البنك الإسلامي الأردني، ولغرضين: 1- أحدهما: على أساس المشاركة في نتائج الأرباح المتحققة سنويًا – حسب الشروط الخاصة بكل إصدار. 2- الثاني: أن تكون هذه السندات صادرة لأغراض المقارضة المخصصة – وفقا للأحكام المقررة لها في القانون. ولكن حينما نأتي إلى قانون (سندات المقارضة) المؤقت لسنة 1981م نجد اختلافًا واضحًا في التعريف يشمل الأغراض وجهات الإصدار، فقد اقتصر هذا القانون على غرض واحد هو المقارضة المخصصة في تعبير قانون البنك الإسلامي الأردني حيث قال: (سندات المقارضة) الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه، بقصد تنفيذ المشروع.. إلخ. وسكت عن الغرض الأول الذي ذكره قانون البنك الإسلامي الأردني والخاص، بالاستخدام العام والمطلق للأموال التي تمثل سندات المقارضة. وحدد هذا القانون الجهات التي يحق لها إصدار سندات المقارضة المخصصة بالمشروعات – في جهات ثلاثة، هي كما جاء بالمادة الثالثة منه: أ - وزارة الأوقاف والشؤون والمقاصد الإسلامية. ب - المؤسسات العامة ذات الاستقلال المالي. ج- البلديات. وبذلك صار الغرض الأول لسندات المقارضة الذي ذكره قانون البنك الإسلامي الأردني قاصرًا على هذا البنك، وليس داخلًا في أغراض قانون سندات المقارضة وعلى ذلك أصبح دور البنك الأردني الإسلامي بالنسبة لهذا الموضوع كدور سائر البنوك الإسلامية في الوقت الحاضر، التي تتلقى الأموال من أصحابها لاستخدامها في نشاطها العام وغير المخصص واقتسام عائد الربح معهم. ولا فرق حينئذ أن يكون ذلك مرتبا بطريق سندات مقارضة محددة القيمة أو غير محددة أو بطريق استلام عادي لتلك الأموال واستخدامها في الأغراض المذكورة مما يدخل في باب المضاربة الشرعية المطلقة، والتي استقر العمل بها في جميع البنوك الإسلامية دون إثارة غبار حولها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1426 (سندات المقارضة للاستثمار) كما طرحها القانون الأردني ننتقل الآن للكلام عن سندات المقارضة للاستثمار التي طرحها القانون الأردني المؤقت رقم 10 لسنة 1981م وذلك من النواحي الثلاث الآتية: 1- تحديد طبيعة هذه السندات وبيان حقيقيتها. ب - ضمان القيمة الاسمية لهذه السندات في نهاية مدة استحقاقها عن الحكومة الأردنية. 3- مسألة إطفاء السندات، كيفيتها وتخريجها الشرعي. وفيهما يتعلق بالبند الأول – تحديد طبيعة سندات المقارضة ننقل النصوص القانونية التي توضح ذلك والتفسيرات الشارحة له، ممن تولوا شرح هذا القانون وتفسيره من المسؤولين الأردنيين، ونوضح رأينا على ضوء ذلك، وكما ذكرت سابقا فقد كانت أول محاولة في طرح هذا الموضوع محاضرة عن التعريف بقانون سندات المقارضة الأردني، وشرحه وبيان تطبيقاته، مرفق بها دراسة تطبيقية عملية، قدمها الأستاذ وليد خير الله، أحد كبار المسؤولين بالبنك المركزي الأردني في ندوة (إدارة وتثمير ممتلكات الأوقاف) التي نظمها المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية في الفترة من 20/3 – 2/4/1404هـ الموافق 24/12/1983م – 4/1/1984م على أساس أن ينظر فيها على أنها أسلوب من أساليب تنمية واستثمار ممتلكات الأوقاف. ولم نطلع حينذاك على قانون سندات المقارضة الأردني، ولكن من عرض الأستاذ وليد خير الله لبعض نصوص هذا القانون في محاضرته المكتوبة والحالة التطبيقية المرفقة معها والنقاش والمداولات التي جرت حولها خرجت بحصيلة كتبتها كتعليق على تلك المحاضرة – مؤداها أن سندات المقارضة للاستثمار في القانون الأردني – كما عرضها وشرحها الأستاذ خير الله في محاضرته، ليست من نوع المضاربة أو القراض المعروف في الفقه الإسلامي، وإنما هي في حقيقتها قروض مؤجلة بفوائد مشروطة وأنها معاملة ربوية، من أجل ذلك لم تأخذ بها الحلقة الدراسية في توصياتها التي اقترحتها لأنواع أساليب تثمير ممتلكات الأوقاف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1427 والآن أعود للنظر في الموضوع مرة أخرى من خلال نصوص قانون سندات المقارضة مباشرة بعد الحصول على نسخة منه وفي ضوء عرض جديد له قدمه الأستاذ الدكتور عبد السلام العبادي وكيل وزارة الأوقاف الأردنية، فهل في الأمر من جديد؟ لنرى فيما يلي: تنص المادة (2) من قانون سندات المقارضة على الآتي: أ - تعني (سندات المقارضة) الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها، مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح. ب - يحصل مالكو السندات على نسبة محددة من أرباح المشروع، وتحدد هذه النسبة في نشرة إصدار السندات، ولا تنتج سندات المقارضة أي فوائد، كما لا تعطي صاحبها المطالبة بفائدة سنوية محددة. ولتحديد ماهية سندات المقارضة وبيان حقيقتها لا بد أن نقرن نص المادة (2) أعلاه بالفقرة (ب) من المادة (7) التي تقول (يعين في نشرة الإصدار، بنك مرخص أو مؤسسة مالية، وكيلا للدفع يتولى شؤون دفع القيمة الاسمية للسندات وأرباحها بالقيم المستحقة وفي المواعيد المقررة) . فالفقرة – أ – من المادة الثانية توضح أن الوثائق المحددة القيمة التي تمثل سندات المقارضة، هي عبارة عن صكوك – أو إيصالات، بمبالغ قدمت لصاحب مشروع بعينه لتنفيذه واستغلاله وتحقيق الربح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1428 ونصت الفقرة (ب) من المادة المذكورة على استحقاق أصحاب تلك الأموال (نسبة من أرباح ذلك المشروع المعين، تحدد في نشرة إصدار السندات ولم توضح المادة المذكورة في فقرتها أساس استحقاق هذه الأموال الشيء من الأرباح، هل ذلك على أساس أن هذه الأموال تمثل رأسمال مشاركة في المشروع فتستحق نصيبا في الربح بهذه الصيغة؟ أم أنها أموال مضاربة، وكيف؟ فتستحق جزءا من الربح على هذا الوجه؟ أم أنها تمويل للمشروع عن طريق القرض لهذه الأموال؟. ولو أن القانون الأردني اقتصر على هذه المادة وحدها في التعريف وبيان حقيقة ماهية سندات المقارضة لكان لنا أن نبحث في كيفية ومدى انطباق مواصفات وشروط عقد القراض – المضاربة الشرعية، أو الشركة في الفقه الإسلامي عموما على سندات المقارضة التي طرحها هذا القانون، لنرى إلى أي حد يمكن أن تلتقي وتتفق هذه السندات مع أي من العقدين. ولكن القانون في الفقرة (ب) من المادة السابعة حسم هذا الأمر بالنص على دفع القيمة الاسمية للسندات، في المواعيد المقررة، إضافة إلى أرباحها بالقيم المستحقة في تلك المواعيد المقررة. فدفع القيمة الاسمية للسندات وفي مواعيدها المقررة يجعل منها قروضا محددة الأجل، ويجعل مما سمي بأرباحها بالقيم المستحقة، فوائد على قروض مؤجلة مشروطة عند التعاقد، وإن لم تحدد بمقادير معينة. وينفي عنها أن تكون أموال قراض – مضاربة شرعية – أو شركة أخرى، الأمر الذي كان يتحتم معه أن تكون ممثلة لأسهم في أصل المشروع، لا قروضا تمويلية لتنفيذه. وبناء على ما تقدم فإن النتيجة التي نصل إليها من هذا العرض والمناقشة لسندات المقارضة من خلال قانون سندات المقارضة الأردني، أن هذه السندات هي في حقيقتها نوع من التمويل عن طريق القرض المؤجل بفائدة مشروطة وإن لم تكن محددة، وتسميتها ربحا لا يغير من حقيقتها، فهي قروض بفوائد ربوية في صورتها الحالية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1429 ضمان سندات المقارضة أنتقل بعد ذلك لمسألة ضمان هذه السندات، فقد نصت المادة (12) من قانون (سندات المقارضة) الأردني بالآتي: (تكفل الحكومة تسديد قيمة سندات المقارضة الاسمية الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة، وتصبح المبالغ المدفوعة لهذا السبب قرضا ممنوحا للمشروع بدون فائدة مستحق الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات) . إن هذا النصيب يساير الاتجاه القائل بأن سندات المقارضة – كما يفهم من تسميتها أنها عبارة عن أموال مضاربة شرعية، وتفاديا لحرج تضمن المضارب – عامل المضاربة – المتفق على منعه بين الفقهاء، فقد جاء النص المذكور لعلاج هذه المسألة، على أساس أن هذا الضمان لأموال المضاربة جاء من جهة خارجية وليست من أحد طرفي عقد المضاربة، ومن هنا كانت صحته وجوازه شرعا. وعلى افتراض أن (سندات المقارضة) تمثل أموال مضاربة شرعية فإن نص المادة (12) المذكور، لا يحقق الغرض المطلوب لضمان سندات المقارضة وأرباحها، ذلك أنها لم تقدم سوى قرض مؤجل ومستحق الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات تسترده من صاحب المشروع المقارض- عامل القراض. فالضمان الحقيقي يقع على كاهل عامل المضارب – الذي هو صاحب المشروع، والمضارب لا ضمان عليه، لأنه أمين فيما هو بيده من مال المضاربة عند جميع الفقهاء إلا إذا ظهر منه تعد أو تقصير فيما ائتمن عليه من مال المضاربة، ولذلك فإن الضمان الحكومي لسندات المقارضة المنصوص عليه في المادة (12) فقرة (ب) لا يمثل ضمان طرف ثالث لمال المضاربة ولا يرفع عبء الضمان الحقيقي عن كاهل عامل المضاربة أو يزيل الحرج الشرعي عن ضمانه لمال المضاربة في سندات المقارضة، على افتراض أنها أموال مضاربة شرعية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1430 إطفاء السندات والآن نصل إلى النقطة الثالثة والخاصة بإطفاء سندات المقارضة كما وردت في قانون سندات المقارضة الأردني. وبحث هذه النقطة أيضا هو مسايرة للاتجاه القائل بأن سندات المقارضة – كما يدل على ذلك اسمها – هي أموال قراض – مضاربة شرعية – وفي ضوء هذا الاقتراض نبحث هذه النقطة، فما هو إذن إطفاء السندات؟ يقول الأستاذ وليد خير الله في رده على ملحوظاتنا على محاضرته – المشار إليها في أول هذا البحث (صورته مرفقة) يقول: (إن المراد بالإطفاء هو دفع قيمة السندات الاسمية في التواريخ التي تحددها نشرة الإصدار، بالطريقة التي توضحها هذه النشرة.. وهناك طريقتان لعملية الإطفاء: الأولى: عن طريق تكوين مخصص يدفع مرة واحدة لجميع حملة السندات في تاريخ الاستحقاق. والأخرى: الدفع الدوري السنوي، وفق طريقة يتفق عليها، وتنزل لقيمة المطفأ من السند من أصل قيمته الاسمية. وقد يقول قائل: إن مسألة إطفاء السندات هذه مسألة إجرائية لا تثير غبارا ولا ينتج عن السؤال عنها والإجابة عليها سوى إدراكها وفهمها. وهذا القول صحيح بالنسبة للطريقة الأولى من طريقتي الإطفاء لكنه ليس صحيحا بالنسبة للطريقة الأخرى، لقيام استشكال حول كيفية استحقاق العائد الربحي للأسناد المطفأة تدريجيا، هل يكون ذلك كاملا للسهم، وعلى مر الأعوام التي يندرج فيها انخفاض قيمته بالإطفاء الجزئي السنوي؟ أم أن العائد الربحي يتأثر بهذا الانخفاض المتدرج لقيمة السهم، وبالتالي ينخفض هذا الربح بما يعادل انخفاض قيمة أصله – السهم؟ وعلى القول الأول، فكيف يبرر استحقاق الربح – الكامل، من الناحية الشرعية؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1431 تداول سندات المقارضة نصت المادة (18) من قانون سندات المقارضة بالآتي: (يتم تداول سندات المقارضة في سوق عمان المالي حسب أحكام قانونه وأنظمته وتعليماته، كما يتم نقل ملكيتها حسب هذه الأحكام. لقد سبق أن أنهينا في بحث النقطة المتعلقة بتحديد طبيعة سندات المقارضة أن هذه السندات تمثل صكوكا بغرض مالي مؤجل وبفائدة هي عبارة عن نسبة من عائد المشروع الإيجاري بعد اكتماله، وتسميته هذا العائد ربحا لا يغير من هذه الحقيقة، ومعنى ذلك أن هذه السندات تمثل ديونا في ذمة صاحب المنشأة أو المشروع، ولا تمثل أسهم مشاركة، في شركة مضاربة أو غيرها وحينئذ فبيعها أو تداولها يكون بيعا لدين في الذمة ولغير من عليه الدين، بنقد حاضر وهذا لا يجوز كما هو مقرر لتخلف شرط التقابض ودخول الفضل فيه) . البدائل الصالحة لعل إدخال شيء من التعديل على الصورة المطروحة بها سندات المقارضة بشكلها الحالي، يؤدي قبولها وصحتها، ويحقق في الوقت نفسه الأهداف والأغراض المرجوة من إصدارها، وذلك بأن تعتبر هذه السندات أسهما في المنشأة أو المشروع، تمثل حصصا في أصل ملكيته لأصحابها سواء أكان المشروع في أرض وقفية أو غيرها، لأن الوقف يمكن إعماره ببيع جزء فيه عند اللزوم كما نص على ذلك الحنابلة والأحناف (1) وعند ذلك يمكن تداول هذه السندات ما دامت تمثل حصصا في أصل المشروع والمنشأة، ويمكن إجراء إطفائها على قاعدة الملكية المتناقصة بجزء من عائدات إيجار المشروع، أو استخداماته الاستثمارية الأخرى المشروعة. أما مسألة ضمان هذه السندات – ضمان لأصلها – لا ريعها – أي عائداتها، فإن هذه يمكن تأمينها عن طريق شركات التأمين الإسلامية، أو إنشاء صندوق خاص لهذا الضمان، يدبر مكوسه بجزء من عائدات المشروع، شريطة ألا يكون ذلك كليا أو جزئيا من نصيب عامل المضاربة حتى لا نقع في إلزامه بالضمان من طريق آخر، أو يمكن أن يتم عن طريق طرف آخر متبرعا، ويمكن أن تفعل ذلك الحكومة على وجه التبرع لتشجيع أدوات الاستثمار.   (1) المغني لابن قدامة، جـ6، ص225. وحاشية ابن عابدين، جـ 4، ص384 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1432 . مشروع شهادات الاستثمار المخصصة بالبنك الإسلامي للتنمية لعل بعض المقترحات والتدابير التي أشرنا إليها، هو ما فعله مشروع شهادات الاستثمار المخصصة بالبنك الإسلامي للتنمية حيث نصت المادة التاسعة من المشروع صراحة على أن يكون دور البنك في استخدامه لمتحصلات الأوراق التي يصدرها هو دور المضاربة وبذلك قطعت أن العلاقة تقوم على أساس القراض – المضاربة الشرعية، وأكدت ذلك في المادة (7) من المشروع التي نصت على أن للورقة المالية في حد ذاتها ممثلة لحصة مالية شائعة في مجموع صافي موجودات المشروع. وفي المادة (14) اقترحت إنشاء صندوق للتأمين التعاوني، لتغطية مخاطر الاستثمار، وفي المادة (15) المخصصة لكيفية توزيع الربح في نهاية فترة الاستثمار أشارت في الفقرة (ج) للنسبة التي تخصص من الربح لصندوق تأمين مخاطر الاستثمار. وهكذا جاء هذا المشروع منسجما مع أحكام فقه المضاربة الشرعية ومتجنبا لما يوقع في أي مخالفة أو محظور. ويمكن لسندات المقارضة الأردنية أن تأخذ بهذا المسلك دون الوقوع فيما يعطل الأهداف والأغراض المتوخاة من هذا الموضوع. والله الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل. الدكتور حسن عبد الله الأمين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1433 حول محاضرة سندات المقارضة للأستاذ وليد خير الله تعريف سندات المقارضة: ليس من المعروف في اللغة اشتقاق اللفظ من غير مادته المأخوذ منها سواء أكان من لفظ لمادة أخرى، والشيء السليم أن يؤخذ من منطوق اللفظ المشتق منه – وهو القراض – هنا بمعنى القطع وليتسق ذلك مع هذا الاسترسال في شرح معناه. كما أنه كان من الميسور تسميته بسندات (المضاربة) وبيان الاشتقاق وشرح معنى هذه التسمية بسهولة، دون أي لبس. ومن الحالة التطبيقية صفحة (2) بدل الخلو من مالك العقار لا يجوز لعدم العوض المقابل، ولكن يجوز للمستأجر الذي يتخلى عن مصلحته في استعمال العقار للمستأجر الجديد، لأنه في هذه يمثل بدل المنفعة – وهي مال عند الجمهور. صفحة (2) يلاحظ أنه لم يوضح المراد بالإطفاء للسندات هل هو شراء عدد منها بالكامل سنويا بحيث تتناقص سنويا إلى أن تنتهي ملكيتها كلها إلى الجهة المصدرة، أم أن المراد بالإطفاء نقص قيمة السندات تدريجيًا سنويًا إلى أن تنقضي قيمتها بالكلية لصالح الجهة المصدرة؟. وعلى كلا الحالتين فكيف تظل أرباح جملة السندات ثابتة من السنة الثالثة إلى نهاية مدتها في السنة السادسة، مع تناقص عددها في الحالة الأولى، أو قيمتها في الحالة الثانية وبالتالي كيف يجوز شرعا؟ صفحة (3) السطر قبل الأخير من المحاضرة: المحاضر يقصر مشاركة سندات المقارضة على ريع المشروع الناتج من إيجار المشروع بعد اكتماله، ولا يجعل لها حق المشاركة في ذات المشروع ويسمى حامل هذا السند مقرضا صراحة. وفي صفحة (4) حيث يقول وهو بصدد تعداد الأسباب الموجبة لاستقلال المشروع: (أن تكون للمقرض شخصية اعتبارية وذمة مالية مستقلة عن شخصية الصفة المصدرة ومذمتها) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1434 وفي صفحة (6) من المحاضرة أن من ضمن ما تحويه نشرة إصدار سندات المقارضة (تحديد فترة السماح اللازمة لتنفيذ المشروع) كأنما هناك قرض بفائدة يشتمل على فترة سماح. وهذا ما تفيده هذه النصوص، بل تفيده مجموع المحاضرة كلها، ويؤيده ما جاء في صفحة (4) من الحالة التطبيقية لتمويل بناء أرض وقفية المرفقة مع هذه المحاضرة حيث جعلت قيمة السهم الاسمية عند الإطفاء ثابتة كما هي عند طرح السندات للبيع بعد مضي عدة سنوات عليها وبعد قيام المشروع وإدارة عوائد تزيد قيمتها على القيمة الاسمية للأسهم ومع فعل التضخم الذي يقلل من القيمة الاسمية التي كانت محددة للسند عند الطرح. كل ذلك يجعل هذه السندات بعيدة كل البعد عن اسم المشاركة ويحتم أنها قروض مؤجلة بفائدة هي عبارة عن نسبة مئوية من العائد الإيجاري للمشروع والسند ما هو إلا عبارة عن صك بتوثيق مبلغ القرض المؤجل، والخلاصة من هذا أن سندات المقارضة كما شرحها المحاضر وطبقها في الحالة التطبيقية ما هي إلا قروض مؤجلة بفائدة. هذا ما خرجنا به من المحاضرة والنموذج التطبيقي لها، وليس بين أيدينا القانون الكامل لسندات المقارضة. لذلك فهذا حكم على المحاضرة ونموذجا وليس حكما على القانون الذي لم نطلع على نصوصه بعد. وحبذا لو أرفق المحاضر نسخة من نص ذلك القانون مع محاضرته، إذن لأبرأ ذمته وأنصف القانون. د. حسن عبد الله الأمين بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1435 البنك المركزي الأردني التاريخ: 4/6/1984م الموافق 4رمضان 1404هـ الرقم: ....... سعادة الدكتور نفزت يالسنتاس المحترم - جدة تحية طيبة وبعد: تلقيت بمزيد الاحترام والتقدير رسالتكم التي تحمل الرقم (987) المؤرخة في 22/5/1984، والمتعلقة بالملاحظات التي أبداها المراجع حول محاضرة سندات المقارضة. إنني أشكر لكم اهتمامكم واهتمام المعهد بنشر ما دار في ندوة تثمير الأوقاف، معربا عن تقديري لكل من يسهم بهذا الجهد الخير آملًا أن أكون قد وفقت في توضيح بعض الردود حول الملاحظات المثارة. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام. المدير التنفيذي في البنك المركزي الأردني وليد خير الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1436 فيما يتعلق بتعريف سندات المقارضة، فأرجو أن أوضح أن قانون سندات المقارضة رقم 10 لسنة 1981 كان عنوان المحاضرة التي ألقيتها وقد صدر القانون وهو يحمل هذا الاسم. وكان مجال التعريف به في مقدمة المحاضرة للتدليل على التسمية ومرادفاتها مع الإشارة إلى معنى القراض أما فقه هذه التسمية وتفاصيل ماهيتها فقد تركته كما بينت إلى ذوي الاختصاص لأن الأمر فيه اجتهاد كبير. إن جواز أو عدم جواز استحقاق المالك لبدل الخلو مسألة لم ترد في معرض الحديث عن إيرادات المشروع في الحالة التطبيقية وإنما الأمر الذي يعني هنا استحقاق المشاركين في تمويل المشروع وهم حملة الإسناد (إذ لا يوجد مالكين) لإيرادات بدل الخلو في المسألة المطروحة (إعمار الأرض الوقفية) فهذا أمر الأفضل تركه للمستشارين الشرعيين. أما ذكر (بدل الخلو) فكان لا بد منه إذ إنه أمر مالي تنظيمي ولا يجوز تجاهل وجوده. إن المراد بالإطفاء هو دفع قيمة السندات الاسمية في التواريخ التي تحددها نشرة الإصدار وبالطريقة التي توضحها هذه النشرة. ولقد أوضحت نشرة الإصدار المرفقة وبالحالة التطبيقية صورة الأمر المبحوث عنه. ولقد بينت أن ريع المشروع يقسم عند تحققه إلى قسمين، قسم يوزع على حملة الإسناد على شكل أرباح وبالنسبة المعلنة، وقسم آخر يستعمل لدفع قيمة السندات الأصلية أو ما يسمى بالإطفاء. وهناك طريقتان لعملية الإطفاء الأولى عن طريق تكوين مخصص يدفع مرة واحدة لجميع حملة السندات في تاريخ الاستحقاق، والأخرى الدفع الدوري السنوي وفق طريقة يتفق عليها وتنزل القيمة المطفأة من السند من أصل قيمته الاسمية. ومن الطبيعي أن تكون نسبة الأرباح في المراحل الأخيرة لحملة السندات عالية إذ إن ريع المشروع في مراحله الأولى قليل جدا بل ربما تكون هناك خسارة في البداية لعدم وجود ريع – إلى أن يكتمل استثمار المشروع وتحقيق الريع. ولكن النسبة التراكمية في النهاية تبدو معقولة على سبيل المعدل. إن الحالة المبحوث عنها في سندات المقارضة هي أرض وقفية وهي غير قابلة للتمليك من أية جهة ولكنها قابلة للاستثمار، وإن تقديم الأرض والمشروع المقام عليها مستقل تمام الاستقلال عن الهيئة المصدرة (وزارة الأوقاف) لهذه السندات والتي من حصيلتها سيمول المشروع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1437 فالممولون في هذه الحالة لهم حق في ريع المشروع وليس برقبته وإن هلك المشروع فيهلك على ذمة الممولين، أما الأرض الوقفية فهي باقية. ويختلف الحال بحسب طبيعة المشروع الصادرة لتمويله سندات المقارضة فما يقال عن الوقف لا يقال في مجال آخر. إن (المشروع) في الحالة المبحوث عنها هو المقترض وليس لفظ (المقرض) كما جاء في الملاحظات وعليه فإن استعمال لفظ المقترض للدلالة على تلقي المال من طرف آخر وهم حملة السندات الممولين، وهذا لفظ فني معروف في مثل هذه الأمور حتى إنه يطلق على الوديعة المودعة من قبل شخص في أي بنك بأنها قرض حتى ولو كانت بدون فوائد إطلاقا وإن البنك هو المقترض مع أنه ليس كذلك. أما التخريج الوارد في وجود فترة السماح وكأن الأمر يحتمل وجود قرض وفوائد، فأرجو الرجوع إلى نشرة الإصدار المرفقة مع الحالة التطبيقية والتي تعرف فترة السماح (صفحة 5) والتي تقول: (تعتبر الفترة الواقعة بين تاريخ إصدار السندات وبدء توزيع الأرباح فترة سماح لازمة لتنفيذ المشروع) وأظن أن هذا واضح وضروري لتنظيم التعامل وإعلام المشاركين متى تتحقق أرباحهم فلربما يمضي وقت ليس بالقصير حتى يبدأ المشروع بتحقيق أرباح بعد اكتماله بعدة سنوات. وفي الختام أرجو أن أكون قد وفقت في توضيح ما أثير من تساؤلات حول محاضرة سندات المقارضة، كما أرجو المعذرة تثبيت حقيقة وهي أنني كنت قد أرسلت عدة نسخ من قانون سندات المقارضة مرفقة مع المحاضرة لتقوم سكرتارية المعهد بتصويرها وتوزيعها على المشاركين. مشيرا بهذه المناسبة إلى أن القانون كان محاولة تشريعية لتحقيق السير في مبدأ وليس ادعاء بالإحاطة والكمال، كما أنه خطوة نحو التحرك والتطور وقبول التجربة والخطأ مسترشدين بقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا} مستجبين دائما لاتباع ما أمر به الرحمن الرحيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1438 سندات المقارضة إعداد القاضي محمد تقي عثماني قاضي القسم الشرعي بالمحكمة العليا بباكستان بسم الله الرحمن الرحيم سندات المقارضة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد، فإن الموضوع المفوض إلي في هذه الندوة، وإن كان يختص بإطفاء سندات المقارضة فحسب، ولكنه يجب للدخول في هذا الموضوع أن نعرف حقيقة سندات المقارضة، وضرورتها، وتكييفها الفقهي، حتى يتضح لنا معنى إطفاء هذه السندات، وما يجب له من طريق مشروع وفق الشريعة الإسلامية. وإن فكرة سندات المقارضة إنما ظهرت لإيجاد بديل شرعي لسندات القرض الربوية التي تصدرها البنوك أو الشركات التجارية في الاقتصاد المعاصر اليوم، فلنبدأ بمعرفة حقيقتها: سندات القروض: إن سندات القروض صكوك تمثل قروضا تحصل عليها الشركة من عامة الناس على أساس الفائدة الربوية المحددة، وتكون هذه الصكوك في التعامل المعاصر قابلة للتداول، وغير قابلة للتجزئة. وإنما تضطر الشركات في بعض الأحيان إلى إصدار هذه السندات لأنها قد تحتاج في أثناء مزاولة أعمالها إلى مبالغ أكثر مما حصلت عليه من طريق إصدار الأسهم، لتزيد من قدراتها على إنجاز مشاريعها، والتوسع فيها، أو لتواجه أزمة مالية طرأت عليها. ولا ترغب الشركة في عرض اكتتاب بأسهم جديدة على الجمهور، لئلا تتضاءل أنصبة الشركاء، فتضطر إلى أن تقترض هذه المبالغ ممن يمكن الاقتراض منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1439 وفي جانب آخر، تكون عند كثير من الناس مبالغ أفرزوها من حاجاتهم اليومية، ورصدوها لحاجاتهم المتوقعة في المستقبل. وأن هذه المبالغ تكون مودعة في بيوت أصحابها، أو في حسابهم الجاري في البنوك، فلا يمكن أن تستغل هذه المبالغ لصالح الإنتاج الوطني، إلا بأن تدفع إلى المنتجين أو التجار قرضا، فيستعملونها في أعمالهم الإنتاجية أو التجارية. ولكن أصحاب الأموال ينفرون من إقراضها خشية أن لا يجدوها عندما تعرض لهم الحاجات التي رصدوا هذه المبالغ من أجلها. فجاءت فكرة إصدار سندات القروض تشجيعا لأصحاب الأموال في القرض، وإزالة لمخاوفهم، وذلك بطريقين: الأول: بإطماع أصحاب الأموال بتحديد فائدة ربوية على هذه القروض. والثاني: يجعل هذه السندات محلا للتداول، بأن حاملها كلما أراد أن يحصل على سيولة، جاز له أن يبيعها في السوق المفتوحة بقيمتها السوقية التي تزيد في الغالب عن قيمتها الاسمية. وبهذا استطاع النظام الاقتصادي المعاصر أن يستخدم أموال الناس المودعة في بيوتهم لعملية الإنتاج والاستثمار. ولكن هذا الطريق مبني على أساس القرض الربوي الذي لا تبيحه الشريعة الإسلامية في حال من الأحوال، وفيه من المفاسد الشرعية والاقتصادية ما ليس هذا محل لبسطها. ومن هنا أراد بعض المسلمين في البلاد الإسلامية أن يأتوا ببديل لهذه السندات في شكل (سندات المقارضة) والمقارضة أو القراض عقد معروف في الفقه الإسلامي يسلم فيه رب المال أمواله إلى عامل يستثمرها بطريق التجارة، ويكون الربح الناتج من هذه التجارة بينهما بالنسبة المتفق عليها. وإن هذا العقد يسمى (مضاربة) أيضا. فالفكرة الأساسية وراء سندات المقارضة أن يحدث عقد المضاربة بين حامل هذه السندات ومصدرها، فلا يستحق صاحب السند فائدة محددة، وإنما يستحق نسبة معينة من الربح إن أثمرت التجارة ربحا. وقد أصدرت عدة بلاد إسلامية قوانين خاصة بالنسبة لهذه السندات، فنريد في هذا البحث أن ندرس هذه القوانين، وما شرعت لها من خطة عملية، ليمكن لنا البت في حكمها الشرعي. ثم نأتي باقتراح خطة عملية في ضوء الشريعة الإسلامية. وبين يدينا في هذا الوقت مشروع للقانون – وهو قانون سندات المقارضة رقم 10 لسنة 1981م الذي أصدرته المملكة الأردنية الهاشمية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1440 القانون الأردني: القانون الأردني، فعلى ما شرحه الدكتور عبد السلام العبادي في دراسته المعروضة على مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثالثة المنعقدة بعمان، يتلخص في نقاط تالية: 1- إن (سندات المقارضة) هي الوثائق المحدودة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه، بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح. 2- يحصل مالكو السندات على نسبة محدودة من أرباح المشروع، وتحدد هذه النسبة في نشرة إصدار السندات، ولا تنتج سندات المقارضة أي فوائد، كما لا تعطي مالكها الحق في المطالبة بفائدة سنوية محددة. 3- المعهود في المضاربة المعهودة في الفقه الإسلامي، أن المضاربة إذا أردت أرباحا فإنها توزع عند نهاية كل فترة على كل من رب المال والعامل حسب النسبة المتفق عليها في العقد، ولكن القانون الأردني لسندات المقارضة يصرح بأن عند كل فترة لا توزع إلا النسبة المختصة بصاحب السند، فيجوز له ترك حصته من الربح محفوظة في المشروع، ليمكن لها الإطفاء التدريجي للسندات. 4- يجب على كل صاحب سند أن يتقدم في المواعيد المحدودة في العقد، فيطالب الجهة المصدرة بإطفائه على أساس قيمته الاسمية، ويسترد ما دفعه من المال مقابل السند الذي تقدم به. وإن الجهة المصدرة ترد عليه قيمة السند من حصتها المحفوظة من الربح، كما مر في النقطة الثالثة. 5- وهكذا يسترد أصحاب السندات مقدار ما دفعوه أولا بأول، عن طريق الإطفاء التدريجي، إلى أن يتم الإطفاء لجميع السندات. وحينئذ تمتلك الجهة المصدرة المشروع كله بما فيه من أبنية، وآلات، وعروض وما إليها. فيصير المشروع كله ربح الجهة المصدرة الناتج من هذه المقارضة. 6- أما إذا أصيب المشروع بخسارة، فالأصل أن يتحملها أصحاب السندات لأنهم أرباب الأموال، ولكن صرح القانون الأردني بأن الحكومة كطرف ثالث تضمن لأصحاب السندات مبلغ قيمتها الاسمية، فإن أصيب المشروع بخسارة استغرقت الأموال كلها، فإن الحكومة تتدارك لأصحاب الأموال هذه الخسارة. 7- ما تدفعه الحكومة لأصحاب السندات من المال جبرا لخسائرهم، يعتبر قرضا في ذمة الجهة المصدرة، يجب عليها أداؤه إلى الحكومة عندما يتم الإطفاء الكامل لهذه السندات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1441 هذه خلاصة الصيغة التي طرحها القانون الأردني لسندات المقارضة. ولو نظرنا فيها بإمعان. وجدنا أن فيها مؤاخذات من الناحية الشرعية. 1- إن طبيعة المضاربة أو المقارضة تقتضي أن لا يضمن لأحد من الفريقين برأس المال ولا بالربح، فإن ما يحصل لهما ليس فائدة ربوية، وإنما هو ربح تجاري، والربح التجاري إنما يستحق من جهة تحمل الأخطار، فإذا كان رأس المال مضمونا لرب المال، خرج العقد عن طبيعة المضاربة. وبما أن القيمة الاسمية للسندات في الصيغة الأردنية مضمونة لحامليها، فإن هذا الشرط لا يوافق المضاربة المعهودة في الشريعة الإسلامية. وربما يقال: إن الذي ضمن هذه القيمة ليس مصدر السندات أو العامل، وإنما ضمنته الحكومة كطرف ثالث، والممنوع في الشريعة أن يضمن أحد طرفي العقد بالمال للطرف الآخر. فأما إذا جاء شخص ثالث، وضمن لأحدهما ما يخسره في العقد فلا مانع منه شرعا. ولكن هذا العذر غير وارد في الصيغة الأردنية. لأن الحكومة لا تضمن ههنا بالقيمة الاسمية لحامل السند نيابة عن الجهة المصدرة، ولذلك يعتبر المال المدفوع قرضا للحكومة في ذمتها ويجب عليها أداؤه عندما يتم الإطفاء الكامل للسندات. وما دامت الجهة المصدرة تلتزم بأداء هذا المبلغ إلى الحكومة، أن الضامنة في الحقيقة هي الجهة المصدرة للسند، لا الحكومة. 2- ولئن تصورنا تعديل القانون بأن تكون الحكومة متبرعة محضة، ولا يعتبر المال المدفوع من قبلها قرضا في ذمة الجهة المصدرة، فحينئذ تدخل هذه الصيغة المعدلة في حكم (ضمان الطرف الثالث) وإن الضابط المعروف في الفقه الإسلامي أن الكفيل إنما تصح كفالته لما هو مضمون على الأصيل، كالقرض، وثمن البيع، وسائر الديون. أما ما لم يكن مضمونا على الأصيل، فلا تصح كفالته، مثل الوديعة ورأس مال الشركة والمضاربة، وما إلى ذلك، وهذا الضابط معروف في كتب الفقه ليس فيه خلاف لأحد من العلماء. وإليكم بعض النصوص الفقهية في هذا المجال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1442 يقول المرغيناني الحنفي رحمه الله تعالى: (والكفالة بالأعيان المضمونة وإن كانت تصح عندنا، خلافا للشافعي، لكن بالأعيان المضمونة بنفسها، كالبيع بيعا فاسدا، والمقبوض على سوم الشراء، والمغصوب، لا بما كان مضمونا بغيره، كالمبيع، والمرهون، ولا بما كان أمانة، كالوديعة والمستعار والمستأجر، ومال المضاربة، والشركة) (الهداية 3: 120) . ويقول الشربيني الخطيب الشافعي رحمه الله تعالى: يصح ضمان رد كل عين ممن هي في يده مضمونة عليه، كمغصوبة، ومستعارة، ومستامة، ومبيع لم يقبض (إلى قوله) وأما إذا لم تكن العين مضمونة على من هي بيده، كالوديعة، والمال في يد الشريك، والوكيل، والوصي، فلا يصح ضمانها، لأن الواجب فيها التخلية دون الرد. (مغني المحتاج 2: 202) . ويقول ابن قدامة الحنبلي رحمه الله تعالى: ويصح ضمان الأعيان المضمونة كالمغصوب، والعارية، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد القولين (إلى قوله) فأما الأمانات، كالوديعة، والعين المؤجرة، والشركة، والمضاربة، والعين التي يدفعها إلى القصار والخياط، فهذه إن ضمنها من غير تعد فيها لم يصح ضمانها، لأنها غير مضمونة على من هي في يده، فكذلك على ضامنها؛ وإن ضمنها إن تعدى فيها فظاهر كلام أحمد رحمه الله تعالى يدل على صحة الضمان. الخ. (المغني لابن قدامة 4: 595) . وجاء في (كشاف القناع عن متن الإقناع 3: 364) في فقه الحنبلي وتصح الكفالة بالأعيان المضمونة، كالمغصوب، والعواري، لأنه يصح ضمانها، ولا تصح الكفالة بالأمانات، كالوديعة والشركة والمضاربة، إلا إن كفله بشرط التعدي. إلخ. ويقول ابن الهمام الحنفي رحمه الله تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1443 (وضمان الخسران باطل لأن الضمان لا يكون إلا بمضمون، والخسران غير مضمون على أحد، حتى لو قال بائع في السوق على أن كل خسران يلحقك فعلي، أو قال لمشتري العبد إن أبق العبد هذا فعلي لا يصح) . (فتح القدير 6: 323) . ولكن عند صحة الكفالة في هذه الأمور إنما يعني أن المبلغ المكفول به لا يلزم الكفيل قضاء، فلا يجوز للمكفول له أن يطالب به الكفيل في محكمة. ولكن التزام الطرف الثالث بأداء هذا المبلغ يمكن أن يعتبر كوعد محض يلزمه الوفاء به ديانة، لا قضاء. فلو وفَّى الطرف الثالث بوعده، وتبرع بالمبلغ، جاز لحامل السند أن يأخذه، ولكن لا ينفذ القاضي التزامه ككفالة. وهل نستطيع أن نجعله وعدا ملزما في القضاء أخذا بقول المالكية رحمهم الله تعالى؟ لي فيه تردد. فإننا لو جعلناه وعدا ملزما ضمانا لازما، فلا يبقى هناك معنى عدم صحة الكفالة برأس مال الشركة والمضاربة. 3- مسألة إطفاء السندات: والملاحظة الثالثة في الصيغة الأردنية: هي في إطفاء السندات بقيمتها الاسمية فإن إطفاءها بالقيمة الاسمية أخرجها عن طبيعة القراض، وجعلها قرضا. ويجب لإيضاح هذه النقطة أن نعرف التكييف الفقهي لهذا الإطفاء. فالواقع أن إطفاء هذه السندات استرداد لمال المضاربة من قبل رب المال. وإن هذا الاسترداد بسيط إذا كان مال المضاربة ناضًّا. أما إذا تحول مال المضاربة إلى عروض. فإن هذا الاسترداد عبارة عن بيع تلك العروض من المضارب. فالبضائع كلها مملوكة لأصحاب الأموال، ولا يستحق المضارب من عينها شيئا، وإنما يستحق نسبة من الربح إن أدرت ربحا. فمن يتقدم بالسند إلى الجهة المصدرة لإطفائها في حين أن جميع مال المضاربة أو أكثره تحول إلى مشروع صناعي أو تجاري فإنه إنما يريد أن يبيع من الجهة المصدرة حصته الشائعة في المشروع. فهذه الإطفاءات يجري عليها أحكام البيع بأجمعها. فههنا مسائل: الأولى: هل يجوز لرب المال أن يسترد مال المضاربة في حين أنه غير ناض؟ والثانية: هل يجوز اشتراط هذا الاسترداد في عقد المضاربة؟ والثالثة: إذا كان الاسترداد جائزا، فهل يكون ذلك بقيمتها الاسمية أو بقيمتها السوقية؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1444 أما المسألة الأولى: وهي استرداد مال المضاربة في حين أنه غير ناض، فهو بالتعبير الفقهي الدقيق فسخ للمضاربة، أو عزل للمضارب عنها (في حق ذلك السند بعينه) وقد ذكر الفقهاء أن المضارب في هذه الصورة يلزمه بيع العرض. جاء في الدر المختار: وينعزل (أي المضارب) بعزله (أي رب المال) ... فإن علم بالعزل، والمال عروض باعها. (رد المحتار: 5: 655، كتاب المضاربة، قبيل المتفرقات) . وجاء في المغني لابن قدامة: (والمضاربة من العقود الجائزة، تنفسخ بفسخ أحدهما ... وإن انفسخت والمال عرض فاتفقا على بيعه أو قسمه جاز، لأن الحق لهما لا يعدوهما.. وإن طلب رب المال البيع وأبى العامل، ففيه وجهان: أحدهما: يجبر العامل على البيع وهو قول الشافعي لأن عليه رد المال ناضا كما أخذه، والثاني: إذا لم يكن في المال ربح أو أسقط حقه من الربح. (المغني لابن قدامة 5: 180 فروع في أحكام فسخ المضاربة، طبع بيروت 1392هـ) . فتبين بهذا أنه لا مانع شرعا من استرداد مال المضاربة. ويتحتم حينئذ بيع ما كان منه في شكل العروض. ومن الواضح جدا أن هذا البيع كما يمكن أن يعقد مع طرف ثالث، يجوز أن يعقد بين رب المال والمضارب، فيستطيع المضارب أن يشتري العروض لنفسه، ويؤدي قيمته المطلوبة إلى مال المضاربة، فيقبض منها رب المال رأس ماله مع حصته من الربح، والمضارب حصته من الربح فقط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1445 وأما المسألة الثانية: وهي اشتراط هذا الاسترداد بطريق البيع في عقد المضاربة، فلا مانع منه أيضا، لكونه شرطا لا يخالف مقتضى عقد المضاربة، لأن رب المال يملك فسخ المضاربة متى شاء، وحينئذ يجب على المضارب أن يبيع العروض لينض لرب المال ماله، فشرط البيع في المضاربة شرط ملحوظ في طبيعة العقد، غير أن العروض لا تباع في المسألة المبحوث عنها إلا من المضارب، وهذا لا مانع منه شرعا، لأن رب المال والمضارب يجوز أن يجري بينهما البيع والشراء في مال المضاربة عند كثير من الفقهاء. يقول الكاساني رحمه الله تعالى: ويجوز شراء رب المال من المضارب وشراء المضارب من رب المال وإن لم يكن في المضاربة ربح في قول أصحابنا الثلاثة، وقال زفر رحمه الله تعالى: لا يجوز الشراء بينهما في مال المضاربة. وجه قول زفر رحمه الله تعالى: لا يجوز الشراء بينهما في مال المضاربة. وجه قول زفر أن هذا بيع ماله بماله، وشراء ماله بماله، إذ المالان جميعا لرب المال، وهذا لا يجوز، كالوكيل مع الموكل ولنا أن لرب المال في مال المضاربة رقبة، لا ملك تصرف، وملكه في حق التصرف كملك الأجنبي، وللمضارب فيه ملك التصرف لا الرقبة، فكان في حق ملك الرقبة كملك أجنبي، حتى لا يملك رب المال منعه من التصرف، فكان مال المضاربة في حق كل واحد منهما كمال الأجنبي، لذلك جاز الشراء بينهما) . (بدائع الصنائع 6: 101) . فاشتراط البيع من المضارب شرط لا ينافي مقتضى العقد، فلا بأس بذلك شرعا. المسألة الثالثة: وهي: هل يقع إطفاء السندات على قيمتها الاسمية، أو على قيمتها السوقية؟ والجواب عندي أنه يجب أن يقع على قيمتها السوقية، ثم إن كانت قيمتها السوقية أكثر من قيمتها الاسمية، فإن الفرق بين القيمتين يعتبر ربحا لمال المضاربة، فيوزع هذا الربح بين رب المال والمضارب بقدر النسبة المتفق عليها في العقد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1446 ومثاله: لو فرضنا أن القيمة الاسمية للسند هي مائة ربية، صارت قيمته السوقية عند الإطفاء مائة وعشرين، فالواجب على المضارب إن أراد شراءه أن يدفع إلى مال المضاربة مائة وعشرين، ثم إن هذا العشرين زيادة ربحتها المضاربة، فإن كانت المضاربة على النصف مثلا، صارت العشرة منها حصة لرب المال، والعشرة الأخرى حصة للمضارب من الربح، فتوزع عليهما بهذا الطريق، وبهذا يقوم على المضارب ما اشتراه من الجزء المقابل لهذا السند من المشروع بمائة وعشرة. والدليل على أن الإطفاء يجب أن يكون على القيمة السوقية: أن مال المضاربة كله مملوك لرب المال شرعا، وليس للمضارب منه إلا حصته من الربح، فلو ارتفعت قيمة السند في السوق، فليس ذلك إلا لأجل الزيادة في مال المضاربة. وإن مال المضاربة كله مملوك لرب المال بما فيه من الزيادة على رأس المال، سوى حصة المضارب من الربح، فلو شرطنا على رب المال أنه يجب عليه الإطفاء على قيمته الاسمية، فإن هذا الشرط لا يجوز شرعا، لكونه منافيا لمقتضى المضاربة. وقد صرح الفقهاء بهذا، فيقول الكاساني رحمه الله تعالى: (وإذا اشترى المضارب بمال المضاربة متاعا، وفيه فضل، أو لا فضل فيه فأراد رب المال بيع ذلك، فأبى المضارب وأراد إمساكه حتى يجد ربحا، فإن المضارب يجبر على بيعه، إلا أن يشاء أن يدفعه إلى رب المال، لأن منع المالك عن تنفيذ إرادته في ملكه لحق يحتمل الثبوت والعدم، وهو ربح لا سبيل إليه، ولكن يقال له: إن أردت الإمساك فرد عليه ماله، وإن كان فيه ربح، يقال له: ادفع إليه رأس المال وحصته من الربح، ويسلم المتاع إليك) . (بدائع الصنائع 6: 100) . فتبين بهذا أن صاحب السند لا يستحق القيمة الاسمية (وهي رأس المال) فحسب، وإنما يستحق معها حصته من الربح، فلا سبيل إلى إطفاء السند بقيمته الاسمية. وإنما يجب أن يقع البيع بقيمته السوقية، ثم يوزع الربح بين الفريقين بحسب النسبة المتفق عليها. وفي ضوء ما ذكرنا يجب أن يكون إطفاء السند على قيمة تنقص من قيمته السوقية بقدر النسبة المتفق عليها من ربح الجهة المصدرة للسند. فإن اتفقت الجهة المصدرة مع حاصل السند أن الربح يوزع بينهما أنصافا، وكان السند قيمته الاسمية مائة، فصارت قيمته السوقية عند الإطفاء يساوي مائة وعشرين، فإن الإطفاء يقع على مائة وعشرة، لأن العشرة ربح للجهة المصدرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1447 السؤال الأخير: والسؤال الأخير في هذه الندوة في هذا الصدد هو: (هل يتم إطفاء السندات باستبعاد عدد معين من الأسهم الكاملة، أم يكون ذلك باستبعاد جزء من كل سهم؟) . وعلى الوجه الأخير هل يعتبر ربح كل سهم متناقصا مع تناقص القيمة؟ أم يظل ربحه كاملا حتى نهاية الإطفاء؟ والجواب على هذا السؤال عندي هو أنه لا مانع شرعا من اختيار واحدة من الطريقتين المذكورتين للإطفاء، لأن الإطفاء كما أوضحنا فيما سبق بيع لمال المضاربة من المضارب، وإن هذا البيع كما يجوز في جميع مال المضاربة، يجوز في بعضه أيضا، غير أنه إذا باع رب المال نصف مال المضاربة من المضارب، وأبقى المضاربة في نصفه الآخر، وبقى هذا المجموع مصروفا في التجارة المشتركة مختلطا بعضه ببعض، فإن هذا البيع يتضمن إحداث شركة عنان في الحصة المبيعة بين المضارب ورب المال، فيكون المضارب شريكا في هذه التجارة بحصته التي اشتراها من رب المال، مع بقية مال المضاربة، فما حصل من الربح على مجموع هذا المال فإن المضارب يجوز له نصفه كشريك، ويقسم الثاني على رب المال والمضارب بالنسبة المتفق عليها بحكم المضاربة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1448 مثال: لو أعطى زيد مائة ألف ربية إلى خالد مضاربة بالنصف، فاشترى خالد منه بضائع يتجر فيها، فإن جميع هذه البضائع مملوكة لزيد، ثم اشترى خالد النصف المشاع من هذه البضائع ولم يعزلها عن التجارة، بل استمر في استرباحها برضا زيد، فإن ذلك يقتضي أن كلا منهما قد عقد الشركة بهذا النصف المشترى، فصار نصف هذه البضائع مملوكا لخالد وبقي نصفها الآخر مملوكا لزيد، تستمر فيه المضاربة كما كانت وإن خالدا شريك لزيد بنصفها الذي يملكه، ومضاربا له في النصف المملوك لزيد. فلو حصل على هذا المجموع ربح خمسين ألفا مثلا، فإن 25 ألفا منها حصة خالد بفضل كونه شريكا و25 ألفا ربح المضاربة، فيقسم بينهما أنصافا، فيكون لزيد -/12500 بحكم كونه رب المال، ولخالد -/12500 بحكم كونه مضاربا، فيكون توزيع الأرباح بينهما كالآتي: حصة خالد بحكم الشركة -/25000 حصة خالد بحكم المضاربة -/ 12500   مجموع حصتي خالد -/37500 حصة زيد كربِّ المال في النصف -/12500   صافي الربح -/5000 واتضح بهذا أنه كلما يبيع رب المال جزءا من مال المضاربة إلى المضارب، فإن ربح ذلك الجزء ينتقل إلى المضارب بحكم كونه شريكا في التجارة بذلك الجزء، فيقل ربح رب المال، ويزداد المضارب في مجموع التجارة. وبما أن إطفاء جزء من السند بيع لما يقابله فإن ربح ذلك الجزء ينتقل إلى الجهة المصدرة، فيعتبر ربح ذلك الجزء متناقصا في حق صاحب السند فور إطفائه، ولا ينظر في ذلك إلى أن يتم إطفاء السند بكامله. ومثاله: لو كان السند قيمته الاسمية مائة ربية، فتقدم صاحب السند لإطفاء نصفه، واتفقت الجهة المصدرة على ذلك، فإن حق صاحب السند في الربح ينقص خمسين في المائة فور هذا الإطفاء، ولا يصح شرعا أن يظل ربحه كاملا حتى نهاية الإطفاء. هذا من الناحية الشرعية، ولكننا إذا نظرنا من الناحية العملية، فيبدو أن الاقتصار على الطريق الأول من الإطفاء أولى وأسهل. وذلك أن لا يقع الإطفاء إلا على عدد معين من الأسهم الكاملة، ليسهل حساب الربح عملا، ولعل ذلك يتطلب أن تكون القيمة الاسمية للسندات قصيرة لا تحتاج عند الإطفاء إلى التجزئ. والله سبحانه وتعالى أعلم. محمد تقي العثماني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1449 ضمان رأس المال أو الربح في صكوك المضاربة أو سندات المقارضة إعداد الدكتور حسين حامد حسان رئيس الجامعة الإسلامية – باكستان بسم الله الرحمن الرحيم ضمان رأس المال أو الربح في صكوك المضاربة أو سندات المقارضة أولا: المقصود بالضمان: تطلق عبارة الضمان في أقوال الفقهاء والباحثين ويراد بها عدة معان يحسن عرضها بإيجاز قبل بيان حكم الشرع في موضوع ضمان مخاطر الاستثمار في صكوك المضاربة. 1- الضمان بمعنى ضم ذمة إلى ذمة أخرى في الالتزام بدين ثابت وقت الضمان، أو يحتمل ثبوته في المستقبل. وهذا يقتضي أن يكون هناك طرفان أحدهما دائن والآخر مدين له، ثم يأتي طرف ثالث هو الضامن، فيضم ذمته إلى ذمة المدين ويلتزم بأداء ما ثبت أو ما سيثبت في ذمته من دين في المستقبل. والضمان بهذا المعنى طريق من طرق التوثيق الشرعية، ففيه يشترط الدائن أو يتبرع المدين بتوثيق الدين الثابت في ذمته، أو الذي يحتمل ثبوته في ذمته في المستقبل، على رأي القائلين بجواز ضمان الدين الاحتمالي المستقبل غير محدد المقدار وقت منح الوثيقة. وقد ذكر المالكية لذلك صورا، منها أن يقول شخص لآخر: داين فلانا، أو بايعه، أو عامله، وأنا ضامن، فداينه أو بايعه أو عامله، فإن هذا القائل يلزمه ضمان ما سيثبت في ذمة فلان هذا من دين نتيجة هذه المعاملة. غير أن للضامن في هذه الحالة الرجوع عن الضمان قبل المعاملة (حاشية الدسوقي 3: 333) . 2- الضمان بمعنى وجوب المثل أو القيمة على من أتلف مال غيره بفعل ضار غير مشروع. وهنا لا يوجد عقد بين الضامن والمضمون له، بل أساس الضمان هو نص الشارع الذي يوجب على من أتلف مال غيره أو تسبب في إتلافه ضمان مثله أو قيمته. وقد تكلم الفقهاء عن ضمان الأعيان وضمان المنافع المفوتة على المالك في باب الغصب، وهو فعل ضار غير مشروع يوجب الضمان بذاته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1450 3- الضمان بمعنى تحمل تبعة الهلاك أو التلف أو الخسارة بناء على قواعد الملك أو العقد وهو نوعان: (أ) نوع يؤسس على قواعد الملكية التي تقضي بأن المال يتلف أو يهلك على ملك صاحبه، بمعنى أن المالك هو الذي يتحمل تبعة هلاك ملكه، ما لم يوجد سبب شرعي يحمل هذه التبعة على غيره. فإذا كان المال بيد مالكه أو بيد غيره بعقد من عقود الأمانة – كالوديعة والإجارة والمضاربة – فإن تبعة هلاكه أو تلفه تقع على المالك، ما لم يكن هذا الهلاك أو التلف قد حدث بسبب فعل ضار غير مشروع وقع من غير المالك، ويدخل في ذلك تعدى الأمين في المال أو التقصير في حفظه أو استثماره أو مخالفة شرط من شروط عقد الأمانة، وضمان الأمين هنا ليس أساسه عقد الأمانة، بل التعدي أو التقصير أو مخالفة شروط العقد، أي الفعل الضار غير المشروع. (ب) ونوع يؤسس على وضع اليد على المال بعقد من عقود الضمان، أي العقود التي تحمل وضع اليد بعقد معين تبعة هلاك هذا المال، ولو كان الهلاك بسبب لا مبرر له فيه، تطبيقا لقاعدة الخراج بالضمان أو الغنم بالغرم أو قاعدة الاستيفاء، كعقد الرهن فإن يد المرتهن على المال المرهون يد ضمان عند الأحناف، وكعقد العارية عند البعض، وكمن وضع يده على مال سوم الشراء، أو بناء على التعدي أو التقصير المفترض من واضع اليد كالآجير المشترك عند بعض الفقهاء الذين يحكمون بتضمينه ما تلف تحت يده من مال، ما لم يثبت هو أن التلف أو الهلاك كان بسبب أجنبي لا يد له فيه. 4- الضمان بمعنى الالتزام بالقول من جانب الملتزم، وهو ما يطلق عليه عبارة الوعد الملزم، أو التبرع الملزم، أو الالتزام من جانب واحد. وقد يكون هذا الالتزام في مقابل عمل يقوم به الملتزم له، كالتزام الجاعل الجعل، كمن يعلن عن جائزة لمن يقدم له تصميما هندسيا، أو اكتشافا علميا. وقد يكون في مقابل عمل نافع للمتلزم له دون الملتزم، كمن يقول لآخر: ادرس الطب وعليَّ مصاريف دراستك، أو تزوج ابنة عمك وعلي صداقها، أو ابدأ في هذا المشروع وعلي رأسماله. وسوف نرى عند دراسة موضوع ضمان سندات المقارضة أو ما ينتج عنها من أرباح المقصود بالضمان في أقوال الباحثين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1451 ثانيا: الصفة الشرعية لصكوك المضاربة أو سندات المقارضة: صكوك المضاربة أو سندات المقارضة تطبيق حديث لعقد المضاربة الشرعية، يقوم فيه المضارب – فردا أو شركة أو مؤسسة – بدراسة اقتصادية لنشاط معين، أو مشروع خاص، ثم يوجه إيجابا عاما للجمهور، أو لبعض المؤسسات المالية أو الأفراد لتمويل هذا النشاط، أو ذاك المشروع باعتبارهم رب المال في عقد المضاربة، ويأخذ هذا الإيجاب شكل نشرة إصدار تعرف بالمشروع أو النشاط ورأس المال المطلوب، وطريقة إدارته، وحصة أصحاب رأس المال في أرباحه وغير ذلك من البيانات اللازمة لصحة عقد المضاربة، وتشير هذه النشرة إلى أن دراسة الجدوى قد أعدت وفق الأصول العلمية المرعية، واعتمدت على بيانات صحيحة، ويقسم رأس المال المطلوب للمشروع إلى حصص أو وحدات نقدية، وتطرح شهادات أو صكوك تمثل وحدة أو عددا من هذه الوحدات المالية، وكل من يسهم في رأسمال المضاربة بمبلغ من النقود يحتفظ بصك أو أكثر من هذه الصكوك باعتباره يمثل حصة شائعة في المشروع بعد إنشائه. فالملكية لا تنصب على الصك نفسه بل على ما يمثله الصك من حصة مالية في المشروع، فهو دليل الحق ووثيقة إثباته، يقوم تسليمه مقام قبض الحصة الشائعة في المشروع عند التصرف فيها. وتحتوي صكوك المضاربة خلاصة لنشرة الإصدار تتضمن أركان عقد المضاربة والشروط اللازمة لصحته، وتحيل في التفصيل لنشرة الإصدار ودراسة الجدوى، وهذه الوثائق كلها تكون عناصر الإيجاب اللازم لعقد المضاربة، ويفترض فيمن يكتتب في تمويل هذا المشروع بشراء هذه الصكوك أنه اطلع على هذا الإيجاب وأنه رضي به. وتبقى مسؤولية المضاربة قائمة عن صحة ما ورد في نشرة الإصدار وصكوك المضاربة من بيانات، وعن سلامة دراسة الجدوى التي أعدت للمشروع، بحيث يلزمه الضمان إذا تبين عدم صحة البيانات المقدمة أو عدم الالتزام بالأسس العلمية في دراسة الجدوى. وقد يعهد المضارب إلى غيره بإعداد الدراسة المطلوبة وإدارة عملية الإصدار لحسابه في مقابل معين، ولكن هذا لا يعفيه من الضمان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1452 وواضح في هذا التطبيق الجديد لعقد المضاربة أن أطراف عقد المضاربة لا يجتمعون في مكان واحد أو في مجلس عقد واحد، بحيث يمارسون المساومة في شروط عقد المضاربة ونوع النشاط وطبيعة المشروع وسلطات المضارب، وحصته من الربح وغير ذلك مما يتضمن عقد المضاربة، بل وقد لا يعرف بعضهم بعضا، كما أن حملة صكوك المضاربة باعتبارهم أرباب المال قد يتغيرون من وقت لآخر نتيجة تداول هذه الصكوك في سوق الأوراق المالية. ويمكن تشبيه عقد المضاربة في صورته الحديثة التي تقوم على صدور الإيجاب بشروطه وحدوده من المضارب، بحيث لا يتاح لأرباب المال فرصة مناقشة بنود العقد وشروطه، عقود الإذعان في القانون؛ إذ إن رب المال في هذه الصورة لا يملك إلا القبول أو الرفض، وهو إن قبل فإنما يقبل بناء على معلومات وبيانات لا يتيسر له التحقق من صحتها في الكثير الغالب من الحالات، ولذلك قلنا إن المضارب مسؤول عن صحة هذه البيانات والمعلومات. وحصيلة صكوك المضاربة بعد بيعها تمثل رأس مال المضاربة، وهو مملوك لحملة هذه الصكوك، ويد صاحب المشروع (المضارب) عليها يد أمانة، وعند بدء التشغيل وتحويل النقود إلى سلع ومعدات ومبان تنتقل ملكية حملة الصكوك إلى هذه السلع والمعدات باعتبارها مكونات المشروع. ثالثا: ضمان المضارب لصكوك المضاربة: عرفنا أن المضارب في هذه الحالة هو من تم الاكتتاب لصالحه، سواء قام به بنفسه أو قام به غيره نيابة عنه، فهو صاحب فكرة المشروع، وهو الذي يتلقى حصيلة الاكتتاب ويوجهها للاستثمار في المشروع، وفق دراسة الجدوى وشروط نشرة الاكتتاب وصكوك المضاربة، وذلك باعتباره مضاربا، فهو لا يملك المشروع إلا بقدر ما يكتتب فيه لنفسه، ولكنه يديره لحساب مالكيه، وهو يديره وفق أحكام المضاربة الشرعية، وعلى أساس الشروط التي تضمنها الوثائق التي قلنا إنها تمثل الإيجاب، أي نشرة الإصدار ودراسة الجدوى وصكوك المضاربة، والتي على أساسها تم القبول بشراء هذه الصكوك التي تمثل حصته في ملكية المشروع بعد إنشائه. والمضارب في هذه الحالة قد يكون فردا وقد يكون شركة، وقد يكون مؤسسة مالية كالبنوك وشركات الاستثمار، وهو في جميع الأحوال صاحب قرار الاستثمار لا يشاركه فيه حملة الصكوك باعتبارهم أرباب المال، ولا يقيده في إصداره إلا أحكام المضاربة الشرعية والشروط التي تضمنتها نشرة الإصدار ودراسة الجدوى، وصكوك المضاربة، وهذا هو مقتضى عقد المضاربة وحكمها الأساسي الذي يفرق بين المضارب والأجير ولا يجوز الاتفاق على عكسه بأن يقيد المضارب في اتخاذ القرار الاستثماري باستشارة رب المال، أو العمل بتوجيهاته في هذا القرار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1453 وقد تكفلت قواعد الشريعة بحماية رب المال بصورة جمعت بين المصالح المتعارضة، فالمضارب أولا يلتزم في إدارة المشروع بأحكام الشريعة التي تمنعه من كل صور التعدي: أي تعمد الإضرار بمصالح رب المال، وهو مسؤول إذا ارتكب فعلا من أفعال التعدي باتفاق الفقهاء، كما أنه مكلف في إدارته للمشروع وفي إصدار القرارات الاستثمارية باتباع السلوك العادي، وتحري الحيطة والحذر المتوقع من أمثاله من أهل الخبرة في هذا المجال. وهو إن أخطأ أو قصر بدون قصد في هذه الإدارة أو في اتخاذ قرار استثماري معين ترتب عليه لحوق الضرر بالمشروع كان مسؤولا أي ضامنا لكل خسارة تلحق المشروع أو ربح يفوت عليه، ولو لم يكن قاصدا لوقوع هذا الضرر، وهذا هو الفرق بين التعدي والتقصير. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن للمضاربة أحكاما شرعية فصلتها كتب الفقه، وهي قيود والتزامات فرضها الشارع على المضارب في عقوده وتصرفاته وإدارته للمشروع، فهناك نشاط لا يملك المضارب الدخول فيه، وعقود لا يستطيع إبرامها، وتصرفات لا يحل له القيام بها، وهي في مجموعها حماية كافية لرب المال. ولكن الشريعة الإسلامية لم تكتف بذلك، بل أجازت لرب المال أن يضع قيودا، وأن يفرض واجبات على المضارب في عمله، وأن يمنعه من أنشطة معينة، وأن يضمن عقد المضاربة توجيهات ملزمة للمضارب، كل ذلك بشرط واحد هو ألا تصل هذه القيود والشروط والتوجيهات إلى الحد الذي يضيق على المضارب ويكبله في اختيار القرار الاستثماري المناسب، ويمنع الاستفادة منه كخبير استثمار. ومن الملاحظ في عقود المضاربة في البنوك الإسلامية أن هذه البنوك باعتبارها رب مال لا تولي هذا الأمر العناية اللازمة، مما سبب لها أضرارا بالغة، فبعض هذه البنوك ليس لديها خبراء استثمار على المستوى المطلوب لدراسة المشروعات المطلوب تمويلها، كما أنه ليس لديها خبراء في صياغة عقود المضاربة في كل نشاط أو مشروع على حدة، بحيث تتضمن هذه العقود الشروط التي توجه المضارب وتحمي مصالح البنك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1454 ولا خلاف بين الفقهاء في أن المضارب يضمن رأس مال المضاربة، والربح الناتج عنه في الحالات السابقة، أي في حالة الخروج على حكم من أحكام عقد المضاربة، التي فصلتها الشريعة، بأن أتي تصرفا أو أبرم عقد أو اتفاقا لا يجيزه الشرع، أو وقع منه تعد، بأن صدر عنه فعل متعمد ترتب عليه هلاك رأس المال أو تلفه أو نتجت عنه خسارة أو ضاع بسببه ربح، أو سلك في إدارته للمشروع سلوكا يتسم بالتقصير ويوصف بالخطأ الذي لا يتوقع من خبراء الاستثمار أمثاله، نتيجة إهمال وعدم اكتراث، ولو لم يقصد أو يتوقع ترتب الضرر عليه، أو خالف في إدارته للمشروع شرطا أو قيدا أو توجيها تضمنه عقد المضاربة، أي تضمنته دراسة الجدوى ونشرة الإصدار وصكوك المضاربة. ويمكن لحملة الصكوك أن يختاروا من بينهم مجلسا لمراقبة المشروع ومتابعة إدارته والتأكد من التزام المضارب لأحكام الشريعة وشروط المضاربة، واتخاذ الإجراءت المناسبة لحماية حقوق حملة صكوك المضاربة، فهذا المجلس يمثل أرباب المال وينوب عنهم فيما لهم من حقوق، ومهمته هي التأكد من تنفيذ إدارة المشروع للعقد وليس إدارة المشروع أو المشاركة في إدارته، إذ إن ذلك ينافي مقتضى العقد كما سبق بيانه، كما أن لحملة صكوك المضاربة أن يعهدوا بهذه المهمة لجهة أو هيئة معينة تقوم بهذه المهمة في مقابل أجر كمكاتب المحاسبة، والمكاتب الاستشارية، وذلك كله زيادة على قيام أجهزة الدولة بالرقابة على جدية المشروع ونزاهة القائمين عليه، وجدواه الاقتصادية، وسلامة إجراءات الاكتتاب فيه، وحسن إدارته، حماية لمصالح الجمهور، وحفاظا على المصالح الاقتصادية للمجتمع. وهناك قضية هامة ينبغي الإشارة إليها، وهي إثبات التعدي أو التقصير أو مخالفة شروط المضاربة – من جانب المضارب – وقد سلك فيها المالكية مسلكا خاصا يحمي مصالح أرباب المال، فدعوى الهلاك أو التلف لمال المضاربة لا تقبل من المضارب إذا كانت هناك قرائن تكذبها، ويحكم بضمانه لما ادعى هلاكه أو تلفه. أما في دعوى الخسارة فإنهم يتشددون مع المضارب حماية لرب المال؛ فدعواه الخسارة لا تقبل إلا بشرطين: أحدهما أن يحلف اليمين على أنه قد خسر، وثانيهما: ألا توجد قرائن تكذب هذه الدعوى، وهذا الحكم يطبق على المضارب ولو كان حسن السمعة، غير متهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1455 ولا شك أن دراسة الجدوى المقدمة من المضارب، والبيانات التي بنيت عليها هذه الدراسة، وهي تتضمن الربح المتوقع من المشروع، والتي أشار إليها في نشرة الإصدار تعد قرينة قوية على بطلان دعوى الخسارة المجردة عن الدليل، وهنا يحكم عليه بضمان الربح المعلن في دراسة الجدوى حتى يقدم هو الدليل على الخسارة التي يدعيها، ويثبت أن ما ورد في الدراسة لم يتحقق لسبب لا يد له فيه، ولظروف طارئة لم يكن من الممكن توقعها أو قياس نتائجها. وقد مثل المالكية للقرينة بقولهم (بأن سأل رب المال تجار بلد تلك السلع هل خسرت في زمان كذا أولا، فأجابوا بعدم الخسارة) [الشرح الكبير للدردير 3: 536] . جاء في الشرح الكبير للدردير: والقول للعامل في دعوى تلفه كله أو بعضه، لأن ربه رضيه أمينا، وإن لم يكن أمينا في الواقع، وهذا إذا لم تقم قرينة على كذبه وإلا ضمن، وفي دعوى خسره بيمين ولو غير متهم على المشهور إلا لقرينة تكذبه.. فيغرم بمجرد نكوله لأنها دعوى اتهام (الشرح الكبير للدردير 3: 536) . هذه هي حدود مسؤولية المضارب أو القائم على إدارة المشروع الذي صدرت صكوك المضاربة لتمويله، وتلك هي أسباب ضمانه لهلاك رأسمال المشروع أو خسارته. وفي خارج هذه الحدود لا يحكم على المضارب بالضمان باتفاق الفقهاء، وهذا هو العدل الذي جاءت به الشريعة، فالمضارب قد دخل في شركة مع رب المال، وكانت حصته في هذه الشركة عمله وعلمه وخبرته، وكانت حصة رب المال هي رأسماله، وقد اتفقا على توزيع الربح الناتج عن المضاربة على أساس مساهمة كل حصة في إنتاج هذا الربح، أي العمل ورأس المال على نحو استقلا بتقديره دون قيود من الشارع ثم قررت الشريعة أن كلا من المضارب ورب المال مسؤول في حدود حصته دون زيادة، فرب المال يسأل في حدود حصته، فلا يخسر أزيد من رأسماله، والمضارب يسأل في حدود حصته، فلا يخسر إلا جهده وخبرته. فإذا حدث هلاك أو خسارة لا يد للمضارب فيها فليس من العدل أن يتحمل وحده تبعة هذا الهلاك، أو تلك الخسارة. أما إذا تعدى أو فرط أو خالف حكما من أحكام العقد أو شرطا من شروطه فإنه يسأل عن ذلك، ويضمن رأس المال والربح، باعتبار ذلك جزاء عمله غير المشروع الذي أدى إلى الهلاك أو الخسارة. وقد رأينا أن المالكية يقدمون القرائن على دعوى المضارب ويحكمون بتضمينه إذا قامت قرائن تكذب دعواه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1456 رابعا: احتياطي مواجهة مخاطر الاستثمار: ليس هناك ما يمنع شرعا من أن تتضمن نشرة الإصدار وصكوك المضاربة أن حملة صكوك المضاربة يوافقون على اقتطاع جزء من أرباحهم كل سنة كاحتياطي خاص لمواجهة مخاطر الاستثمار، بحيث يعوض من هذا الجزء ما ينقص من رأس المال، أو ما يقلل من الأرباح عن حد معين – في سنة معينة – باعتبار ذلك تبرعا ممن يملك رأس المال وعائده، والتبرع يلزم بالقول عند المالكية. على أنه يجوز أن ينصب التبرع على ما يكفي لجبر الخسارة أو نقصان الربح عن الحد المعين من ذلك الاحتياطي، بحيث يبقى ما يفيض عن ذلك ملك حملة صكوك المضاربة؛ أي أنهم يتبرعون من هذا الاحتياطي بما يكفي فقط لجبر الخسارة أو نقصان الربح في إحدى السنوات، كما أنه يمكن أن يكون التبرع بكل ما يقتطع من الربح ويوضع في الاحتياطي الخاص وفي هذه الحالة فإن ما يزيد عن جبر الخسران، أو نقصان الربح يصرف في نهاية المشروع في وجوه الخير، وتتضمن نشرة الإصدار والصكوك ما يحدد محل التبرع ونسبته، وصفته الشرعية، وكيفية التصرف فيه. وإذا تم تداول هذه الصكوك فإن المالك الجديد للصك بقبوله لشراء صك المضاربة يوافق على هذا التبرع؛ لأن الصك يحمل في ظهره ما يفيد اقتطاع نسبة من الأرباح لتكوين احتياطي لمواجهة مخاطر الاستثمار. وهذا الترتيب يدخل تحت الضمان بمعنى الالتزام بالقول، أو الوعد الملزم، ولا صلة له بالضمان بمعانيه الأخرى التي سبقت الإشارة إليها في مقدمة هذه الورقة، وهذا النظام الذي يهدف إلى تأمين مخاطر الاستثمار في صكوك المضاربة يفضل غيره من الوسائل، ذلك أنه لا يعتمد على طرف ثالث خارجي، فحملة صكوك المضاربة وهم أصحاب المشروع يقومون بالتبرع لتكوين احتياطي يؤمن مشروعهم ضد مخاطر الاستثمار وذلك من أرباح المشروع نفسه، ثم إن الجزء الذي يفيض عن تغطية المخاطر الفعلية المطلوب تغطيتها يبقى حقا من حقوق الملكية، ولا يذهب سدى، كالشأن في التأمين ضد هذه المخاطر لدى إحدى شركات التأمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1457 خامسا: تبرع طرف ثالث بضمان رأس المال أو الربح في صكوك المضاربة: يقصد بالضمان هنا الالتزام على سبيل التطوع، وهو ما يطلق عليه المالكية الوعد الملزم، وذلك بأن تتضمن نشرة الإصدار وصكوك المضاربة موافقة طرف ثالث خارج عن أطراف عقد المضاربة على ضمان رأس المال أو نسبة معينة من الربح. وهذا الطرف الثالث قد يكون فردا أو شركة لها مصلحة في تشجيع نوع معين من النشاط، أو مؤسسة خاصة تهدف إلى تشجيع المدخرات على المساهمة في مشروع معين ضمن خطة التنمية، وتجمع لذلك بعض الأموال على سبيل التبرع لمواجهة هذا الضمان. وليس في مقاصد الشريعة العامة وقواعدها الكلية، وأحكامها الجزئية ما يمنع من صحة تبرع شخص بمبلغ من المال، إذا كان تبرعه هذا معلقا على شرط معين، فغاية الأمر في هذه الحالة أن المتبرع يعلق التزامه على شرط هو تلف رأس المال أو بعضه، أو نقصان الربح عن حد معين، وقد قرر بعض المالكية أنه لو قال شخص لآخر: تزوج هذه المرأة وعلي صداقها، فإنه يلزمه الصداق إذا تزوجها، وأنه إذا قال لآخر: داين فلانا أو بايعه أو عامله أو خدمه عندك، أو قال لأهل السوق اجعلوا فلانا سمسارا عندكم وعلي ضمانه، أنه يلزمه مما يثبت في ذمته، نتيجة هذه المعاملة (الشرح الكبير للدردير 3: 333) بل سلم الحنابلة وغيرهم أنه لو قال لآخر: ألق متاعك في البحر وأنا ضامن، فإنه يلزمه الضمان (المغني لابن قدامة 4: 592) وكذلك ذكر بعض الحنفية أنه لو قال لغيره: اسلك هذا الطريق، فإنه آمن، فإن ضاع متاعك فأنا ضامن، إن الضمان يلزمه إذ المعنى: إن داينت فلانا أو بايعته وثبت في ذمته دين فأنا ضامن، وأن ألقيت مالك في البحر فهلك فأنا ضامن، وإن سلكت هذا الطريق فضاع المتاع فأنا ضامن، وأن ألقيت مالك في البحر فهلك فأنا ضامن، وإن سلكت هذا الطريق فضاع المتاع فأنا ضامن، وقياس ذلك في الحالة المعروضة: اشتر هذه الصكوك، أو استثمر مالك في هذا المشروع، فإن هلك رأسمالك أو نقص الربح عن حد معين، فأنا ضامن، أي ملتزم بأدائه، ولا خلاف عند المالكية في أن التعليق في المعنى في عقود التبرع لا يبطل العقد، فإذا قال شخص لآخر: وهبت لك ثمار هذا البستان العام القادم فإن الهبة تصح، وهي التزام معلق على شرط في المعنى، فكأنه قال: إن أثمر هذا البستان في العام القادم فثماره لك، لأن الجهالة والغرر الناتجين عن التعليق لا تؤثر في عقود التبرع، بل تؤثر في عقود المعاوضات؛ لأن المتبرع إليه لا يتضرر بعدم وقوع المعلق عليه، لأنه لم يغرم شيئا في مقابلة ما وعد به من عوض، في حين أن الطرف الذي علق العوض الذي يستحقه في عقود المعاوضة، يتضرر بعدم وقوع المعلق عليه؛ لأنه قد دفع عوضا مقابلا لما وعد به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1458 سادسا: تبرع الدولة بضمان رأس المال أو الربح في صكوك المضاربة: إذا قامت الدولة بالإعلان عن التزامها بضمان رأس المال أو نسبة معينة من الربح لحملة صكوك المضاربة في مشروع معين، وتضمنت نشرة الإصدار هذا الالتزام كان هذا الإعلان ملزما لها باعتباره تبرعا يلزم بالقول على رأي المالكية وبعض الفقهاء. والدولة في هذه الحالة لا تضمن المضارب، بمعنى ضم ذمتها إلى ذمته فيما يلزمه، لأن الغرض أنه لم يأت بسبب يلزمه به شيء، بل إنها تتبرع لحملة صكوك مشروع معين، إذا هلكت رؤوس أموالهم، أو نقصت أرباحهم الناتجة عن هذا المشروع عن حد معين، وكأنهم يقومون بالاستثمار بأنفسهم، وهذا لا يمنع من جواز ضمان الدولة للمضارب شرعا بمعنى ضم ذمة الدولة إلى ذمته فيما يلزمه من ضمان، نتيجة التعدي أو التقصير، أو مخالفة أحكام المضاربة أو الشروط التي اشترطها رب المال عليه، فهنا تقوم الدولة بتعويض حملة الصكوك عما يلحقهم من ضرر بسبب يترتب عليه الضمان على المضارب، ذلك أن الدولة تشرف على النشاط الاقتصادي، وتقوم المشروعات، ولديها من الوسائل ما تحافظ به على مصالح حملة الصكوك، ولها في سبيل ذلك أن تطمئن أرباب المال على استثمارهم في مشروع معين، يدخل ضمن خطة التنمية للدولة. ويستحسن أن تخصص الدولة ميزانية خاصة، تقوم على أساس التبرع لضمان مخاطر الاستثمار في المشروعات الهامة، أو ذات النفع العام، أو أن تفرض وظيفة خاصة لهذا الغرض تحدد بنسبة معينة من أرباح المشروعات والشركات العامة في الدولة، ويمكن أن يحقق هذا الصندوق أهداف التوازن بين النشاطات المختلفة في داخل الدولة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1459 سابعا: تأمين مخاطر الاستثمار لدى شركة تأمين إسلامية: إن شركة التأمين الإسلامية هي الشركة التي تقوم على إدارة عمليات التأمين واستثمار أمواله لحساب حملة وثائق التأمين الذين يمثلون المؤمن عليهم في نفس الوقت، فشركة التأمين لا تملك أموال التأمين الناتجة عن الأقساط وعائد استثمارها، لأن هذه الأموال ملك لحملة وثائق التأمين، وقد اتفقوا على التبرع منها بما يلزم لدفع التعويضات عن الأضرار الحادثة في عام معين، وفقا للنظام المتفق عليه بينهم في تحديد الأقساط ومبالغ التأمين عند وقوع الأخطار المؤمن منها، وشركة التأمين تقوم بعمليات التأمين وفق الأصول الفنية السائدة، كقانون الكثرة، ونظرية الاحتمالات وغيرهما مما تستخدمه شركات التأمين التجارية، غاية الأمر أن ما يجمع من أقساط يكون على ملك حملة وثائق التأمين أنفسهم، وعائد استثماره يكون حقا لهم، وهم يدفعون من هذه الأقساط وعائدها التعويضات اللازمة لجبر الأضرار نتيجة وقوع الأخطار المؤمن منها، وذلك على سبيل التبرع، وما يبقى من هذه الأقساط فهو ملك لهم. على عكس الحال بالنسبة لشركات التأمين التجارية، فإن الفرق بين ما يجمع من أقساط، وما يدفع من تعويضات في سنة معينة يذهب للشركة ويعد ربحا للمساهمين فيها، وشركة التأمين الإسلامية تأخذ أجرة على قيامها بإدارة عمليات التأمين تغطي مصاريفها، وتحقق هامشا مناسبا من ربح لأصحابها، ويمكن تحديد هذا الأجر بطريق من طريق تحديد الأجر الشرعية، كأن يكون مبلغا مقطوعا أو نسبة من الأقساط، ويمكن أن تعطي هذه الشركة نسبة من عوائد استثمار أموال التأمين باعتبارها مضاربا يقوم باستثمار هذه الأموال. وليس هناك ما يمنع في نظري من التأمين لدى هذه الشركات ضد مخاطر الاستثمار، أي هلاك رأس المال أو الخسارة أو نقص الربح عن حد معين على أن يحدد قسط التأمين على هذا الأساس، فإذا ما حدثت خسارة أو نقص الربح عن حد معين جبرت هذه الخسارة أو النقص في الربح من أموال التأمين، على أنه يجب أن يراعي أن يكون حملة وثائق التأمين أي المؤمنين هم المؤمن لهم، وأن يكون دور شركة التأمين هو دور المدير لعمليات التأمين مقابل أجر، والمستثمر لأمواله مقابل حصة معينة من الربح. د. حسين حامد حسان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1460 سندات المقارضة وسندات التنمية والاستثمار إعداد فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي مفتي الجمهورية التونسية بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه سندات المقارضة علمت بهذه الطريقة في النشاط الاقتصادي لأول مرة في المؤتمر السنوي الثالث لمجمع الفقه الإسلامي بعمان. إذ عرض عطوفة الدكتور عبد السلام العبادي بحثا انفرد به في الموضوع، ثم إني لم أعثر على شيء آخر يفيدني في تصور المقصود بسندات المقارضة ولذا فإني مرتبط بالتصور الذي حصل لي بعد متابعة دراسة الدكتور عبد السلام. الفصل الأول المقصود بسندات المقارضة عرف سندات المقارضة قانون البنك الإسلامي الأدرني رقم 13 لسنة 1978 بأنها الوثائق الموحدة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح.. يحصل مالكو السندات على نسبة محددة من أرباح المشروع. ولا تنتج سندات المقارضة أي فوائد كما لا تعطي مالكيها الحق في المطالبة بفائدة سنوية محدودة وأما النسبة الأخرى من الأرباح فتخصص لإطفاء السندات كل سنة. القسم الأول: سندات يستثمر البنك قيمتها المدفوعة في مشروع استثماري معين لمدة محدودة يستحق صاحب السند كل سنة قسطا من الأرباح على نسبة قيمة السند ثم يقبض في نهاية المدة قيمة سنده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1461 القسم الثاني: وهو الذي يهم وزارة الأوقاف تصويره عمليا: أن تكون وزارة الأوقاف مالكة لأرض أو لعقار تبرز الدراسة الاقتصادية له أنه لو أنفق فيه ما يقيم منه عمارة أو سوقا تجارية أو غير ذلك سيدر أرباحا وأنه مشروع ناجح حسب التقديرات. ولما كانت الوزارة لا تملك الأموال لتنفيذ المشروع. فهي تطرح في السوق سندات بقيم محددة يستحق كل صاحب سهم جزءا من دخل المشروع الذي هو الكراء دوما على حسب ما يقرر في نشرة الإصدار. يوضحه أن الربح السنوي يقسم بين وزارة الأوقاف وبين أصحاب السندات. وأن حظ وزارة الأوقاف من الربح تخصصه لشراء الأسهم ففي كل سنة تتوسع وزارة الأوقاف في نسبة الملكية للمشروع ويتقلص شيئا فشيئا عدد المساهمين إلى أن تستولي الوزارة على كامل المشروع. ويؤكد أن الصناديق لمشاريع الوزارة هي صناديق مستقلة فكل مشروع يقوم حسابه على حدة. الفصل الثاني الأسباب الحاملة على اختيار هذه الطريقة إيجاد تمويل للمشاريع التي تحرك الاقتصاد في دولة إسلامية. إن هذا التمويل فيه تحويل المسلمين عن الاستهلاك والإسراف إلى الإسهام في بعث حركة اقتصادية. فتح منهاج جديد في إيجاد السيولة المالية لبعث مشاريع على الأصول الإسلامية كما جاء في المذكرة الإيضاحية، والمقصود بهذه السندات هو إيجاد البديل الإسلامي لسندات القرض التي يمكن للشركات والبنوك إصدارها على أساس الفائدة. أن يكون الإقبال على التمويل شاملا للجماعة التي بين يديها سيولة مالية وانعزلت عن الاشتراك في موكب تحريك عملية الاقتصاد فانكمشت لارتباط سندات القروض بالربا المحرم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1462 الفقرة 9 ص7 وقد بينت الأسباب الموحية لقانون سندات المقارضة أن الذي دفع إلى الأخذ بهذا النوع من السندات ملاحظة أن إصدار السندات المالية وسيلة ناجحة بين وسائل اجتذاب المدخرات وتجميع الأموال اللازمة لتمويل المشروعات في مختلف الوجوه النافعة خدمة للاقتصاد الوطني وأن السوق المالية الأردنية أخذت تشهد نشاطا متزايدا في مجال إصدار السندات المالية وتداولها سواء في ذلك السندات المالية الحكومية الصادرة بموجب أحكام قانون الدين العام أو السندات المالية التي تصدرها المؤسسات ذات الاستقلال المالي والإداري. ولكن ارتباط هذه الأشكال من السندات بنظام الفائدة المحددة أدى إلى عدم تداول هذه السندات أو التعامل بها بين فئات المواطنين التي لا تقبل على استثمار أموالها على أساس الفوائد المحددة باعتبارها من الربا المحرم. فقد تبين أن الحاجة إلى توسيع قاعدة المتعاملين في مجال السندات يتطلب استحداث هذا النوع الجديد من السندات المنظمة على أساس المشاركة في الإيراد المتوقع للمشروع الممول من حصيلة الإصدار المعين. وذلك على أساس إجراء التصفية التدريجية لهذه السندات وانتقال المشروع بكامله عند تصفية السندات الخاصة به ليصبح مع إيراده ملكا للجهة الحكومية ذات العلاقة فالغاية أن تصب في المحفظة الممولة للمشاريع كل الروافد مؤمنة كانت أو غير مؤمنة ورغبة في تطبيق شرع الله. أو متحللة من ذلك. الفصل الثالث التكييف الشرعي أولا – عرضت هذه الطريقة كأسلوب أنف وصورة من صور التعامل الجديد القائمة على مبادئ الاقتصاد الإسلامي ص5 فقرة 7 وأكد هذا المعنى صفحة 8 فقرة 12. واضح أن صيغة سندات المقارضة تطرح على أنها صورة من صور التعامل الجديد وفق قواعد الاقتصاد الإسلامي. والفقه الإسلامي قاعدة عامة ووفق أرجح المذاهب يرحب بكل صور التعامل الجديدة ما دام أنها لا تتضمن تحليلا لحرام أو تحريما لحلال وفق القاعدة الفقهية المقررة أن الأصل في الأشياء الإباحة أو الأصل التخلية عن الحكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1463 وإذا لم يتعلق بالأمر دليل يحرم فيعود الأمر إلى الإباحة ثم استحوذ على القائمين على البديل لسندات القرض الربوي فكرة أساسية هي أن هذه الصورة هي صورة من النشاط الاقتصادي الحلال. ثم عملوا على وجود سند للتحليل وذلك بالاعتماد على أن الأصل في الأشياء الإباحة وهذا جديد لم يرد فيه نهي عن الشارع فهو مباح ثم أخذ الداعون إلى اعتماد هذه الصورة يبحثون عن طبيعتها فيقول صاحب البحث المقدم: إنهم ترددوا بين كونها مضاربة أو شركة. الفريق الأول: وارتضى الفريق الأول أن العقد عقد قراض بناء على أن أركان العقد قد توفرت وهي المقارِض وهو صاحب السهم، والمقارَض الوزارة ورأس المال ما دفع من مال ناضٍّ في السند ونسبة الربح محددة معلومة لطرفي العقد. وإن الفرق بين الشركة والقراض أنه في عقد الشركة لا بد أن يكون قيمة السهم هي القيمة الحقيقية بينما في القراض تعتمد القيمة الاسمية عند الإطفاء إذ هو رأس المال المدفوع. وحلوا تداول الأسهم بأن الاختلاف عن القيمة الاسمية في التداول تحكمه عوامل السوق التي من أهمها مقدار الأرباح المتوقعة من امتلاك السندات ومدى الثقة بالحصول عليها مستقبلا بالمقارنة مع صور الاستثمار الأخرى. وأن القيمة السوقية للسند تتألف من القيمة الحالية لرأس المال مضافا إليها القيمة الحالية للأرباح وفي هذا تدخل جميع العوامل المؤثرة على ربحية المشروع. وجعلوا مبدأ تداول السندات بَدْوُ صلاح المشروع قياسا على بدو صلاح الثمرة وكمكان معروض يعتبر الوجود القانوني للمشروع بدو صلاحية دون البداية الفعلية. الفريق الثاني: حسب البحث المقدم هي وجهة نظر ثانية يقول الدكتور عبد السلام – وأما الباحثون الذين أدخلوا في مفهوم علاقة المضاربة مفهوم الشركة باعتبار أن هناك مشاركة في المشروع بين المكتتبين والجهة المصدرة فإنا نستطيع أن نجد ذلك في الورقة التي أعدها مجموعة من الخبراء عن الأوراق الإسلامية بتكيلف من البنك الإسلامي للتنمية بجدة في اجتماعه المنعقد 5/ 6 ربيع الثاني 1406هـ - 17/ 18 ديسمبر 1985 وقد انتهت اللجنة إلى إقرار جواز جمع الأموال بطريقة إصدار ورقات مالية تتخذ الصورة النقدية في البداية ثم تتحول بعد ذلك إلى أعيان ومنافع داخل أي شكل من أشكال التنظيمات. وأنه يمكن أن تنتقل ملكية الورقة من شخص إلى آخر بالطرق الشرعية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1464 ثم بينت المحاذير التي ينبغي تجنبها: 1) أن تكون الورقة ممثلة لنقود فقط أو ديون فقط أو ديون ونقود. 2) أن يترتب على التداول مخالفة للنصوص الواضحة. الفصل الرابع ضمان رأس المال اتفق الفقهاء الذين تولوا النظر في إمكانية صاحب المشروع لرد رأس المال كاملا في حالة حدوث خسارة اتفقوا على أنه لا يجوز شرعا أن تضمن الجهة المصدرة لسندات القراض الخسارة (أنه لا بد من أن يتحمل المكتب ما يتعرض له من خسارة وفق قواعد عقد المضاربة في الشريعة الإسلامية) . وهذا دفع القائمين على الفكرة إلى البحث عن صيغة أخرى توفر الطمأنينة للمكتتب في الأسهم فوجدوا الحل في كفالة الحكومة أصل قيمة السند وقالوا إن هذه الكفالة تعرفها قواعد الفقه الإسلامية. وقد عللوا ذلك بأن وزارة الأوقاف لها شخصية معنوية ومن صلاحيات الدولة تشجيع أي قائم على ما يعود بالخير على الجماعة ولذا فإن اللجنة ترى حذف نص تحمل المكتتبين للخسارة وأن الحكومة تتكفل بالخسارة على أساس الوعد الملزم وأن ما تدفعه الدولة من تعويضات للخسائر هو قرض للجهة المصدرة بدون فائض تسترده فور ملكية الجهة المصدرة لجميع أقساط المشروع (انظر الصفحة 16) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1465 سندات المقارضة في ميزان الشريعة أولا: طبيعة هذه المعاملة: إن طبيعة هذه المعاملة هي أنها عقد مضاربة وإن تردد الباحث في اعتبارها عقد مضاربة أو عقد شركة لا مبرر له ذلك أن الفريق الأول كما يقول الباحث يرى أن الأساس الذي يمكن اعتماده لتصوير العلاقة الحقوقية التي تقوم في هذا النوع من التعامل هو عقد المضاربة على أساس أن الجهة المصدرة تمثل العامل والمكتتبين يمثلون صاحب رأس المال. وكذلك الفريق الثاني هو مصرح بأن العلاقة هي المقارضة كما جاء في نص القاعدة الأولى: أنه يمكن أن تجتمع أموال مملوكة لعدد كبير من الناس في يد شخص واحد طبيعيا كان أم اعتباريا يستثمرها كمضارب وتأخذ هذه الحصة شكل ورقة مالية، ص11. وإذا تقرر أن هذا العقد هو عقد قراض فإنه ينبغي أن تحرر أحكامه على أساس عقد المقارضة كما جاء في التشريع الإسلامي. وما أضيف إلى هذا العقد من أمور جانبية لا تغير طبيعة العقد ينظر فيها بميزان الفقه الإسلامي أيضا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1466 أركان هذا العقد: المقارِض: والمقارض هنا هو المكتتب في السند. الدافع للمقدار المالي الذي هو قيمة السند والذي بموجبه يكون له الحق في الربح أو في الخسارة التي قد تصيب النشاط الاقتصادي في المشروع. فهل كان المقارض ركنا مستوفيا لجميع الشروط التي بها يصح العقد؟ لا شك أن المقارض هو شخص رشيد يملك التوكيل يقول الرافعي (وفقه الفصل أن القراض توكيل وتوكل في شيء خاص وهو التجارة فيعتبر في العامل. والمالك ما يعتبر في الوكيل والموكل فكما يجوز لولي الطفل التوكيل في أجور الطفل كذلك يجوز لولي الطفل والمجنون أن يقارض على مالهما) (1) فمشتري السند لا بد أن يكون ممن يصح فيه التوكيل والتوكل. 2- المقارَض: وهو العامل هنا. والعامل ليس شخصا ماديا وإنما هو شخص اعتباري. ومعنى كونه شخصا اعتباريا أي أنه غير موجود في الخارج إلا أن الشارع يقدر وجوده ويرتب على وجوده أحكاما فهو بهذا من خطاب الوضع: التقادير الشرعية. - الأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين أساسيين: أحكام تعود إلى خطاب الوضع: على معنى أن الشارع وضع الحكم دون اعتبار لإرادة المكلف أو غفلته ودون اعتبار لعلمه أو جهله فيكون مناطا للحكم بوضع الشارع. وهذه هي الأسباب والشروط والموانع والتقادير الشرعية. أحكام تعود إلى خطاب التكليف أي لا بد من مراعاة إرادة المكلف واختياره وكونه عاقلا بالغا وهي الأحكام الخمسة الوجوب والحرمة والإباحة والكراهة والندب. فزوال الشمس سبب لدخول وقت الظهر يتحقق للزوال هذا الحكم – دون اعتبار لإرادة المكلف أو علمه ويبقى السبب قائما وصلاة الظهر واجبة على البالغ العاقل بعد وجوب السبب الذي لا دخل له فيه. ووجود الحيض مانع يمنع كون المرأة مكلفة بأداء الصلاة معطل لتعلق السبب بالحائض أرادت المرأة أو لم ترد.   (1) فتح العزيز ج12 ص25/ 26 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1467 والارتباط بين خطاب الوضع وخطاب التكليف ارتباط محكم إذ خطاب الوضع عبارة عن المعطيات الخارجية التي لا أثر للإرادة فيها وخطاب التكليف هو مناط الثواب والعقاب أو العفو مع الفرق بين النظر الكلي والنظر الجزئي فلا يستقل خطاب التكليف عن خطاب الوضع. ولا يستقل خطاب الوضع عن خطاب التكليف وقد يكون الأمر الواحد خطاب تكليف بالنظر إلى جهة وخطاب وضع بالنظر إلى جهة أخرى. فالقتل العمد العدوان حرام وهذا خطاب تكليف. وكون هذا القتل سببا للقصاص خطاب وضع وهذا السبب يتعلق بالحاكم فيكون تنفيذ حد الله واجبا في حقه. والصبي قد يتعدى على مال غيره فيفسده. فالتعدي سبب لغرم الضرر الحاصل. والقائم على أمر الصبي مطالب بأن يجبر الضرر من مال الصبي. فإن لم يكن للصبي مال بقي السبب موجودا وتعطل السبب عن إبراز الحكم لانعدام المال في الحال فمتى وجد المال زال المانع وترتب الحكم التكليفي الذي هو وجوب غرم الضرر. ففي حال الصبي غير الرشيد الذي يملك أموالا يديرها ناظروه وجد خطاب الوضع في فعل الصبي وتعلق الحكم التكليفي بالولي لينفذ ما ترتب على السبب من الغرم. وكل سبب لا يؤثر إلا عند اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، والبيع حكمه حلال في الأصل وقد تعرض له الأحكام الخمسة وإذا تحقق البيع فإنه تترتب عليه إثارة من انتقال الملك واستحقاق الثمن إلى آخر أحكام البيوع إلا أن البيع إذا تم بين شخصين ولم يكن على الطريقة الشرعية اعتبره الشارع معدوما ولا أثر للوجود الخارجي. فتقدير الواقع مرتفعا هو حكم من خطاب الوضع – فالصبي إذا ما باع ماله فالبيع قد وقع في الخارج إلا أن هذا البيع لا تترتب عليه آثاره أصلا وإلا بعد إجازة الولي. فجعل هذا الحدث كأن لم يكن موجودا تقدير شرعي. والذمة هي من التقديرات الشرعية – ذلك أنه لا يوجد شيء في الخارج مشخص هو الذمة- ولا هي وصف حقيقي فهي إذن من خطاب الوضع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1468 عرفها ابن عبد السلام شيخ ابن عرفة بقوله: أمر تقديري يفرضه الذهن وليس ذاتا ولا صفة لها فيقدر المبيع وما في معناه من الأثمان ضمانه في وعاء عند من هو مطلوب به فالذمة هي ذلك الأمر التقديري الذي يحوي ذلك المبيع أو عوضه (1) إن أكمل تعريف في نظري هو تعريف ابن عبد السلام هذا إلا قوله أمر تقديري يفرضه الذهن. إذ البحث ليس في الأمور التقديرية التي يفرضها الذهن وإنما البحث فقها عما يفرضه الشارع ويقدره. فالشارع الحكيم هو الذي فرض وجود هذه المحفظة أو الوعاء لينسجم بذلك الالتزام والإلزام. وهذه المحفظة يسأل عنها تكليفيا من وضعها الشارع فيه تكليفيا فالوقف على المصالح العامة مثلا فيه وعاء يقبل الإلزام والالتزام أي أن الوقف يضاف إليه من الأملاك بالشراء ما فيه المصلحة كالأخذ بالشفعة ويؤاجر من يقوم بمصالحه ويكري ويقبض الكراء لكن هذه المحفظة مودعة عن القائم على الوقف مسؤول عنها تتعلق به الأحكام التكليفية من كون العقد الذي يعقده حلالا أو حراما فإذا تقدم القائم على الوقف واستأجر أجيرا للوقف ليرممه فالذمة بمعنى الوعاء الملتزم والملزم هو الوقف. والمسؤول تكليفيا هو ناظر الوقف. وهذه المحفظة تنتقل من ناظر الوقف إن أعزل أثناء التنفيذ لتتحول إلى المقدم الجديد. إلا أن الفعل تكليفيا معلق بالمقدم الأول أو الثاني حسب المرحلة التي يتم فيها التنفيذ فإذا خدع المقدم العامل فقد فعل حراما وإذا امتنع من دفع أجرة أو عقد إجارة فاسدة فإن أحكام أفعاله تتعلق به ثوابا وعقابا بين يدي الله. أما الالتزام فهو معلق بالمحفظة فيطالب الوقف بما التزمه مقدمه ويطالب الوقف الآخرين بما له عليهم من حقوق. ويحكم الحاكم بالملكية أو الغرامة للوقف وعليه وكذلك مقدم الأيتام. وكذلك الشركات – فذمة الشركة أمر تقديري وفي سندات القراض فبرز جوانب ثلاثة: 1) المقارض بالفتح صاحب رأس المال المكتتب بالأسهم. 2) المقارض بالكسر. هو والباعث للمشروع القائم عليه تفكيرا ومراقبة ومتابعة. 3) جهاز التنفيذ من الموظفين. وهؤلاء ينسق بينهم ويتولى أمر إدارتهم ويسأل عنهم موظف كبير هو الرئيس المدير العام وهو الحامل لمحفظة ذمة القراض وهو في عمله وكيل المقارض. الوزارة أو البنك الإسلامي أو المؤسسة الباعثة للنشاط.. ويتصرف الوكيل في حدود المصلحة ويحاسبه الموكل. وبهذا صح أن يتقاضى أجرا معينا على عمله. ولولا أنه موظف موكل لما حل له أخذ الأجر إذ أجر المقارض هو حصته المتفق عليها من صافي الربح إن كان. ويستحق الموظفون أجورهم أيضا باعتبار أنهم أعوان لا بد منهم لتحريك أموال المكتتبين.   (1) (حاشية المهدي الوزاني ج2 كراس 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1469 وكما قلنا في سندات المقارضة. فكذلك الحكم في أسهم الشركة إذا كان الباعث لشركة غير مسهم في الشركة وحتى إذا أسهمت المؤسسة في الشركة فإن الحكم لا يختلف لأنها إنما تسهم بذمتها الاعتبارية وليس لأي واحد من الشركاء المكتتبين أن يتصرف في أموال الشركة. والنشاط الذي يعزل فيه صاحب رأس المال ولا بد من جولان يده في استثمار أموال الشركة هو خاصية القراض وهذا ما رجح عندي أنه لا يصح اعتبار الشركات المكتتب بأسهم في رأس مالها شركة عنان كما ذهب إليه الدكتور وهبة الزحيلي (1) . (3) رأس المال: - رأس المال يتكون من: أولا: من السندات التي يدفع قيمتها المكتتبون نقدا، إلا أنه جاء في البحث ص 13 (ويمكن أن يكون الدفع للأوراق المالية على دفعة واحدة أو أن يكون على دفعات متعددة وفي حالة عدم سداد الدفعة خلال فترة معينة فإن الحصة تباع لحساب المكتتب) أنه إذا تم تسليم ثمن الورقة دفعة واحدة فالأمر واضح وصحيح لا إشكال فيه من هذه الناحية، أما إذا تم الدفع مقسطا فمعنى ذلك أن المسهم قد أسهم بقسط حال مسلم وقسط في الذمة يدفعه عند حلول الأجل. قال في البحر: الثالث أن يكون رأس المال مسلما إلى المضارب (2) ويقول خليل: (مسلم) أي للعامل واحترز به مما إذا شرط بقاء يده معه أو أمينا عليه مما لو قارضه بدين في ذمته وقد زاد ابن الحاجب لإخراج ذلك قيدا آخر فقال: المال شرطه نقد معين معلوم مسلم (3) وإن اعتبرنا أن الأقساط التابعة هي قراض جديد فإن كان قبل شغل القسط الأول جاز وإن كان بعد العمل في القسط الأول فإنه لا يجوز إذا خلط المال الجديد بالمال القديم (4) وسندات المقارضة يبدأ النشاط فيها بمجرد قبضها. فلا يجوز أن يضاف إلى المال المسلم مالا جديدا على أساس خلطه بما سبق تسليمه.   (1) الشركات في الفقه الإسلامي للشيخ علي الخفيف ص 76 – والفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي ج4 ص881 (2) ج7 ص 287 (3) مواهب الجليل ج5 ص 358 (4) الدسوقي ج3 ص526 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1470 ويمثل ذلك قول الشافعي: الشرط الرابع أن يكون رأس المال مسلما إلى العامل ويستقل باليد عليه (1) . وكذلك عند الحنابلة: وإن كان أذنه رب المال في الخلط بعد تصرف العامل في الأول ولم ينض رأس المال حرم الخلط لأن حكم العقد الأول استقر فربحه وخسرانه يختص به (2) ويقول ابن قدامة: (وإذا دفع إليه ألفا مضاربة ثم دفع إليه ألفا آخر مضاربة وأذن له في ضم أحدهما للآخر قبل التصرف في الأول جاز وصار مضاربة واحدة كما لو دفعهما إليه مرة واحدة وإن كان بعد التصرف في الأول في شراء المتاع لم يجز. لأن حكم الأول استقر فكان ربحه وخسرانه مختصا به فضم الثاني إليه يوجب جبران خسران أحدهما بالربح الآخر فإذا شرط ذلك في الثاني فسد) (3) . فالمذاهب الأربعة متفقة على أنه لا يحل إضافة قدر جديد من المال من المقارض إلى المقارض ليخلط الجميع ويعمل فيهما عملا واحدا إذا كان العامل قد شرع في العمل برأس المال الأول. وهذا ما يوجب إعادة النظر في الفقرة – أ – من المادة (15) كما ورد ذلك في بحث عطوفة الدكتور عبد السلام ص22 – بحيث يجوز تقسيط قيمة سندات المقارضة الاسمية لأمرين هامين – أ – تشجيع المكتتبين على شراء السندات – ب – عدم تجميع مبالغ طائلة مرة واحدة لدى الجهة المصدرة لعدة سنوات لحين البدء في تنفيذ المشروع أو لحين إكماله وتحقق الربح. فلا بد إذن من إلزام كل مكتتب بدفع قيمة السهم قبل الشروع في العمل ووجوب رد رأس ماله له إذا لم يكمل باقي القسط المتخلد بذمته لبيعه على حسابه. ثانيا: من عقارات هي تحت رعاية وزارة الأوقاف. عليها تقام المشاريع التي من ربحها يتكون الأرباح التي ستوزع على المكتتبين. وعلى وزارة الأوقاف.   (1) فتح العزيز ج12 ص9 (2) منتهى الإرادات ج2 ص336 (3) المغني ج5 ص61 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1471 ذكر فقهاء المالكية أن الدخول في عقد القراض على أن العامل يشارك في رأس المال هو مفسد للقراض ويستحق العامل أجرا مثله (1) وأما إذا كان الخلط قد جرى على الطوع بعد العقد فجائز بشرط أن يكون المال عينا أو مثليا (2) وإذا كان الصحيح في المذاهب الأخرى أن القراض لا يكون بالعروض فإن إدخال العقارات من طرف العامل موجب لفساد القراض. على أن هذه العقارات التي سيقام عليها البناء لم يرد في البحث بيان حصتها ولا طريقة تقويمها. ولما كانت أوقافا فإدخالها في عقد القرض مخالف لطبيعتها. إذ الأصل في القراض أنه لا بد أن ينتهي إلى التنضيض. وهي مما لا يباع. فهذا إشكال لم يعوض الباحث حلا له. نعم قد يكون في طبيعة سندات المقارضة من أنها تنتهي برجوع الأراضي وما فوقها إلى الجهة القائمة عليها أعني وزارة الأوقاف قد يكون في ذلك ما يمكن الإجابة فيه عن الاستشكال الأخير أما الباقي فلا بد من حل له. وقد يكون الحل الأفضل في نظري أن يقوم كراء العقارات قبل أن تحدث عليها المباني: وتستحق وزارة الأوقاف كل سنة قيمة كراء أراضيها. وتخصص ذلك لإطفاء السندات التي تستوجبها. ضمان رأس المال: ورد في البحث المقدم ص15 و16. أنه جرى بحث حول ضمان أصل السند للمكتتبين. أي عدم تعرضهم للخسارة. بحيث يستحق كل مكتتب القيمة التي دفعها في سنده عند حلول موعد الإطفاء وإن كان النشاط الاقتصادي أنتج خسارة وذهب بالجزء من رأس المال وقد وجدوا الحل في كفالة الحكومة وأصدرت لجنة الفتوى فتواها بجواز كفالة الحكومة وضمانها لرأس المال: وفصلت المادة 12 من قانون سندات المقارضة ذلك. (تكفل الحكومة تسديد قيمة المقارضة الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة. وتصبح المبالغ المدفوعة لهذا السبب قرضا ممنوحا للمشروع بدون فائدة مستحق الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات) . فالفتوى مع النص القانوني يفيدان ضمان رأس المال كاملا عند الإطفاء، فإذا كانت قيمة السهم لم تنخفض فلا إشكال وأما إذا انخفضت فالوزارة التي هي المقارض ملزمة بإرجاع كامل رأس المال لصاحبه إلا أنها لما كانت حالتها المالية لا تسمح لها بجبر الخسارة فقد تعهدت الدولة أن تقرضها المبالغ اللازمة لذلك لتسددها الوزارة إلى الدولة من ربح المشاريع عقب إطفاء السندات.   (1) الزرقاني: ج6 ص217 (2) الزرقاني: ج6 ص220 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1472 يجمع الفقهاء على أن الخسارة يتحملها صاحب رأس المال ويضيع على العامل أجر عمله واشتراط تضمين العامل رأس المال يتبين حكمه فيما يلي: قال الزرقاني (إن شرط على العامل ضمان رأس المال إن هلك وإنه غير مصدق في تلفه فقراض فاسد لأن ذلك ليس من سنته وفيه قراض المثل إذا عمل والشرط باطل ولا ضمان عليه. وأما لو اشترط عليه أن يأتيه بضامن يضمنه فيما يتلف بتعديه فلا يفسد بذلك) (1) فقد ذكر الزرقاني أولا أنه إذا شرط صاحب رأس المال ضمان العامل فيما يتلف بغير سبب العامل فالشرط باطل. وللعامل قراض مثله – ثانيا أنه إذا طلبه بضامن يضمنه إذا تسبب في التلف فلرب رأس المال أن يتوثق بضامن. ثم أضاف البناني صورة أخرى وهي ما إذا تطوع العامل بضمان التالف: وقد نقل فيها اختلاف الفقهاء فذهب ابن عتاب وشيخه أبو مطرف إلى أن القراض صحيح والضمان لازم وذهب غيرهما إلى المنع من هذا فهو كصورة الاشتراط (2) . وقد بين الرهوني أصل هذا القول فقال: أصل هذا لابن زرب؛ ذلك أن ابن زرب قيد كلام الأئمة في عدم ضمان المكري لما اكتراه إذا كان ذلك في العقد فأما إذا تبرع المكري بالضمان وطاع به بعد تمام الكراء جاز ذلك. فألزمه مناظره أنه يجب على تقييده هذا أن يضمن المقارض أيضا إذا طاع بالتزام الضمان. فقال ابن زرب إذا التزم الضمان طائعا بعد أن شرع في العمل فما يبعد أن يلزمه ما التزم به. وقد بحث المنجور كلام ابن زرب هذا فقال إنما التزم ابن زرب جواز الطوع بالضمان بعد الشروع لأن القراض لا يلزم بالقول على المشهور. والطوع بعد العقد وقبل الشروع في العمل كالشرط وختم الرهوني هذه الأنقال بأن التزم ابن زرب التسوية بين الكراء والقراض غير لازم ولا تناقض إذا قال بجواز الطوع بضمان الكري بعد العقد وعدم جواز الطوع في ضمان القراض بعد العقد وذلك لأن التزام الضمان في الكراء بعد العقد لا محذور فيه. أما القراض فطوعه بالضمان متهم فيه بأنه إنما طاع بالضمان لأجل أن يبقى المال بيده بعد نضوضه وهذه هي علة حرمة هديته بعد الشروع فتأمل (3) ، فتلخص من كل ما سبق: أن اشتراط الضمان على العامل في العقد غير جائز وإن طوع العامل بالضمان بعد الشروع في العمل الصحيح أنه غير جائز أيضا لاتهامه على أنه إنما طاع بالضمان قصد إبقاء المال بيده بعد نضوضه.   (1) ج6 ص216 (2) ج6 ص216 (3) الرهوني ج6 ص23/ 324 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1473 وفي سندات المقارضة انعقد العقد على ضمان الحكومة. وضمان الحكومة ليس إلا قرضا لعامل الوزارة يتقاضاه منها بعد إطفاء جميع السندات. ولذا فإن هذا الحل الذي أقرته اللجنة على أساس الوعد الملزم لا يعطي حلا شرعيا مقبولا. وهو خروج عن أصل المشكلة إلى ناحية جانبية أخرى إذ إن الإشكال لا يتعلق بوفاء الدولة بالتزامها وإنما هو دخول صاحب رأس المال في عقد المضاربة على أن رأس ماله مضمون من العامل أو من ضامن آخر يأتي به والضمان هو ضم ذمة إلى ذمة أخرى وإذا امتنع أن يتكفل الأصيل بشيء فإن البديل أي الضامن لا يجوز له ذلك من باب أولى. قسمة الأرباح: حسب المشروع المقدم تقسم الأرباح كل سنة فتستقل وزارة الأوقاف بنسبة تخصصها لشراء سندات حل إطفاؤها، ويستقل المكتتبون بنسبة أخرى، وقد تخصص نسبة أيضا لضمان تعاوني ويكون كل صاحب سند مستحقا لنصيبه من ربح العقارات إلى تاريخ إطفاء سنده. 1- أنه إذا اعتبرنا أن هذا العقد عقد مقارضة فإنه لا يجوز قسمة الأرباح كل سنة، ففي نوازل البرزلي: قال شيخنا أبو القاسم الغبريني: ولا يصح أن يأخذ العامل من الربح قبل قبض رأس المال ماله ولو أذن له في ذلك ويرد ما قبض. ولا يفسد به القراض. قلت: كذا وقع في الموطأ وغيره. وذكر ابن رشد عن ابن حبيب جواز ذلك قبل المفاصلة. وإذا كان عندها ووقعت وضيعة رد ما أخذ حتى يتم رأس المال. قال ويلغي النفقة للعامل لو لم يكن في المال ربح جهل ذلك رب المال أو علمه (1) . فما أجازه ابن حبيب اعتبره موقوفا إلى تاريخ المفاصلة فإن تبين أن النشاط قد كانت نتيجته خسارة رد ما أخذ وإن تبين أنه أنتج ربحا حوسب على ما تسلمه من الربح يوم المفاصلة.   (1) فتح العلي المالك ج2 ص218 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1474 3) إن قيمة السند ثابتة وهو ما اشترى به المكتتب سهمه يوم العرض (القيمة الاسمية) أما قيمة المنجزات التي حققها المقارض بجهازه الإداري وبرأس المال فهي غير المال المدفوع عند الاكتتاب. فقد تكون أرفع من قيمتها يوم التنفيذ وقد تكون أخفض فبناء رأس المال على قيمة واحدة في المنجزات مخاطرة إذ يثبت الواقع تأرجحها، ولذا فإنه لا بد من تقويم المنجزات عند الإطفاء وبحسب الربح أو الخسارة تبعا لذلك، وحظ رأس المال والعامل من الربح هو ما زاد على رأس المال كما أن حظ رأس المال من الخسارة هو أيضا تابع لقيمة المنجزات عند الإطفاء، وقد نص الفقهاء على أن القراض لما كان مستثنى فإنه يجب أن لا يخالف به سنته خاصة وأن المخالفة هنا قد تفضي إلى تحول المقارضة إلى قرض بربح ثابت غير معين المقدار. أما أنه قرض بربح فذلك أن صاحب السند يكون قد دفع للوزارة ألف دينار مثلا ليأخذ كل سنة بقي فيها الألف بذمة الوزارة نسبة من دخل المشاريع ثم يسترد في نهاية المدة أي وقت الإطفاء الألف دينار، وأما كون الربح ثابتا فلأن الربح هو مدخول الكراء من عمارات ودكاكين ونحو ذلك وهو أمر يقيني؛ لأن هذه المنجزات أقيمت في بلد عامر بأهله قد تنخفض قيمة الكراء وقد تعلو لكن توفر الدخل يقيني واستفادة المقرض من قرضه استفادة مادية مشترطة حرام ربا. تداول السندات: جعلوا مبدأ تداول السندات بَدْوَ صلاح المشروع قياسا على بدو صلاح الثمرة. ثم قالوا إنه يمكن أن يكون الوجود القانوني للمشروع دون البداية الفعلية. إن أمر هذا القياس عجيب جدا؛ ذلك أن بدو صلاح الثمرة المجوزة لبيعها منفصلة عن أصولها معناه: أن الثمرة قد وجدت وأنها قد تجاوزت كل الأطوار التي يمكن أن تتعرض فيها للمخاطر. ولم تبق إلا فترة زمنية قليلة للنضج والقطاف. فهل أن الوجود القانوني كتابة على الورق مكتسبا قوة التنفيذ من السلطة يعتبر قطعا لمراحل إنجاز المشروع وبلوغه حدا يطمأن معه أنه تجاوز مراحل الخطر وأن الأرباح قد أخذت تقترب من البروز الواضح، مع أنه لم يشرع فيه بعد؟ لا يشك ناظر في الحكم على أن مرحلة الوجود القانوني يمكن تنظيرها بنور الأشجار ولعل الخلط وقع بين الإبار وبدو الصلاح فإنه يمتنع بيع الثمر قبل بدو الصلاح أبرأ أو لم يبرأ. وإنما الإبار يقضي بتبعية الثمرة للبائع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1475 ومن مجموع ما تقدم يتضح أن هذا العقد كما قدم من وزارة الأوقاف عقد مرفوض شرعا لا يقبل على أنه معاملة جارية على قواعد التشريع الإسلامي. سندات المقارضة التي يصدرها البنك الإسلامي: هذه السندات إذا كان المكتتبون فيها يملكون صفة الشريك في حضور الجلسات وتوجيه النشاط ومتابعة المشروع في مراحل التنفيذ فهم بذلك شركاء تنطبق عليهم قواعد الشركة. وإن كانوا لا يملكون من الأمر شيئا وإنما هو يكتتبون في الأسهم لتحقيق الربح فتنطبق عليهم قواعد القراض وأحكامه، ولما كنت لا أملك الوثائق التي اعتمدها البنك الإسلامي للتنمية في توجيه نشاطه فإنه يتعذر علي تبعا لذلك الحكم عليها والله أعلم وأحكم وهو ولي التوفيق – حسبي الله ونعم الوكيل. خلاصة البحث سندات المقارضة التي عرضتها وزارة الأوقاف بالأردن عبارة عن سندات تعرض في السوق بقيمة محددة تتولى وزارة الأوقاف جمع المداخيل من بيع السندات لتصرفها في إقامة مشروعات على أراضي الوقف. ويكون دخل الكراء موزعا بين وزارة الأوقاف التي تطفئ به أسهما محددة وبين المكتتبين وهكذا إلى أن يتم إطفاء جميع السندات، وتتكفل الدولة بقرض وزارة الأوقاف لتتمكن من إطفاء جميع الأسهم بالقيمة الاسمية لها. ظاهر العقد أنه عقد مقارضة لا شركة: إن قول الباحث: إن هذا نوع من التعامل جديد الأصل فيه الإباحة غير مقبول، بل كل عقد جديد لا بد أن يعرض معيار الشريعة الإسلامية، وقبل النظر يجب التوقف عن التحليل أو التحريم. إذا أخذنا بأن العقد مضاربة فأركان المضاربة هي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1476 1- المقارِض، وهو المكتتب في السند وشرطه أن يكون من أهل التوكيل. 2- المقارَض وهو هنا ذمة مقدرة عند وزارة الأوقاف. 3- هيئة تنفيذي تقوم بإدارة المشروع والقيام على مراحل التنفيذ كلها، وهم موظفون تحت رئاسة المدير العام يستحقون أجورهم، وهذان الركنان الأول والثاني توفرت فيهما المقاييس الشرعية للصحة. 4- رأس المال: ولا بد أن يكون نقدا مسلما كله قبل الشروع في العمل = وهذا الركن قد اختل في الطريقة المعروضة من ناحيتين: 1) أنهم جوزوا تقسيط رأس المال حتى بعد الشروع في الأعمال وأن مشتري الجزء من السهم إذا لم يوف بباقي القسط فإنه يباع الجزء نيابة عنه ويتحمل الخسارة أو يستفيد من الربح. وهذا لا بد من تعديله بحيث يتم خلاص جملة الأقساط قبل الشروع في العمل من ناحية وإرجاع المال لصاحبه إذا لم يسدد باقي القسط ولا يباع على ذمته. 2) إدخال عقارات الأحباس إذ المشاريع هي عبارة عن إسهامات المكتتبين التي تنفق في البناء وأراضي الأوقاف التي يقام عليها البناء ولا يجوز لوزارة الأوقاف أن تتنازل عنها للمكتتبين. ولا أن تلغي قيمتها والحل أن يقدر كراء تلك الأراضي ويكون عائد الكراء مستحقا للوزارة تتمكن به من شراء الأسهم عند الإطفاء. ضمان رأس المال: انبنى العقد على أن القيمة الاسمية للسهم مضمونة عند الإطفاء بواسطة قرض من الحكومة إلى وزارة الأوقاف. وبناء العقد على ضمان القيمة الاسمية من العامل لا يجوز إجماعا، وتبرير ذلك بأن الضامن طرف ثالث لا يحل المشكل أصلا لأمرين: أحدهما أن الضامن يتنزل منزلة المضمون، وما لا يجوز للمضمون أن يضمنه لا يجوز للضامن. وثانيهما: أن الضمان هنا عبارة عن ضمان الحكومة بقرض الوزارة إذا لم تكن لها القدرات المالية، وأن الدولة ملزمة بالوفاء بما وعدت به من القرض، وهذا لا نزاع فيه، ولكنه غير محل الفساد في العقد الذي هو ضمان الخسارة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1477 إن جعل قيمة السند هي القيمة الاسمية عند الإطفاء يتقاضاها المسهم غير صحيح، لأن مبنى عقد المقارضة على أن صاحب رأس المال يستحق عند انتهاء العقد رأس ماله كاملا مع حصته من الربح أو رأس المال ناقصا منه الخسارة. وقيام العقد على أن صاحب السند يستحق القيمة الاسمية على كل حال يفضي في النهاية إلى انقلاب المقارضة إلى قرض، يكون المقرض قد أخذ كل سنة فائدة، وإن لم تكن محددة المقدار، إلا أنها محددة النسبة من ريع المشروع المضمون الدخل قطعا، لأن الدخل كراء المحلات في بلد عامر بأهله، وللخروج من هذا لا بد من تقويم المشروع عند الإطفاء، ويستحق صاحب السند نسبة سنده من كامل المشروع كانت القيمة الاسمية أكثر أو أقل – أو مساوية. والله أعلم – {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] محمد المختار السلامي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1478 سندات المقارنة وسندات الاستثمار إعداد فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع القاضي بمحكمة التمييز بسم الله الرحمن الرحيم سندات المقارضة وسندات الاستثمار الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد: فلقد اطلعت على نظام سندات المقارضة وعلى قرار الحكومة الأردنية بخصوص إقراره واعتباره مسلكا اقتصاديا تُمْلِهِ قواعد الشريعة ومبادئ الإسلام. كما اطلعت على الفتوى الصادرة من لجنة الإفتاء بالمملكة الأردنية الهاشمية بإقرار هذا النوع من الاستثمار وعدم وجود ما يمنع اعتباره مسلكا من المسالك الاقتصادية الإسلامية كما اطلعت على البحث المقدم من الدكتور عبد السلام العبادي في حكم سندات المقارضة انتهى منه إلى القول بجوازها واعتبارها مسلكا اقتصاديا إسلاميا يتفق مع وجود الاستثمار الإسلامي واستند في تبرير ذلك، والاحتجاج على صحة ما أنجر إليه على بحث الدكتور منذر قحف. كما اطلعت على البحث القيم المقدم من الدكتور علي أحمد السالوس وما فيه من مناقشة لأصحاب هذا القول ومقارنة بين السندات المالية المبنية على الأخذ بالفوائد الربوية حتى يتم سدادها وبين ما يسمى بسندات المقارضة المبنية على تقديم أرباح سنوية غير مقدرة وبين شهادات الاستثمار الصادرة من البنك الإسلامي للتنمية وبعض البنوك والشركات الإسلامية. وإسهاما مني في مناقشة موضوع سندات المقارضة وهل هي حقا سندات مقارضة أم أنها هي السندات المالية وإن اختلفت التسمية أقول ما يلي: أولا: أشكر الأمانة العامة للمجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ممثلة في سماحة الشيخ الحبيب ابن الخوجة على دعوته الكريمة إياي بالمشاركة في هذه الحلقة الدراسية لهذا الموضوع الهام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1479 ثانيا: أضم صوتي إلى صوت فضيلة الدكتور علي أحمد السالوس في استغرابه من لجنة الفتوى في الأردن الشقيق إقرار سندات المقارضة كمنهج اقتصادي تقره قواعد الشريعة ومبادئها، والحال أن أحكام المقارضة في الفقه الإسلامي تختلف عن أحكام سندات المقارضة الصادرة بها قانون أردني مؤيد من لجنة الفتوى. ثالثا: أؤيد تأييدا مطلقا ما جاء في بحث فضيلة الدكتور علي أحمد السالوس من نقد موضوعي لسندات المقارضة انتهى به إلى تأكيد أن سندات المقارضة هي السندات المالية التي دأبت بعض الحكومات والمؤسسات الاقتصادية على إصدارها للحصول على مال تستطيع به تمويل مشاريعها أو إنعاش اقتصادها. وإن تسميتها بسندات المقارضة تسمية ليست لها من مسماها غير اللفظ فقط لبعدها تمام البعد عن جوهر القراض أو المضاربة. رابعا: أن البحثين المقدمين من الدكتور منذر قحف وعبد السلام العبادي هما محاولة يائسة في تبرير الأخذ بنظام سندات المقارضة بحجة أنها تطبيق عملي لشركة القراض أو المضاربة، وقد تخف وطأة استنكارنا ما صار إقراره في بحثيهما حينما نعلم أن لجنة الفتوى في الأردن الشقيق أقرت هذا المسلك – الأخذ بسندات المقارضة – واعتبرته تطبيقا عمليا لشركة القراض المعتبرة في الفقه الإسلامي وفي مذاهبه الفقهية المختلفة. خامسا: أرجو وأكرر رجائي أن تعيد لجنة الفتوى في الأردن نظرها في حقيقة سندات المقارضة في ضوء ما نص عليه قانونها من أحكام جعلتها بكل وضوح وجلاء نوعا من أنواع السندات المالية وإن اتخذت لها اسما يعطي تضليلا للرأي العام المحجم عن الدخول في معاملات ربوية واضحة له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1480 سادسا: أرجو أن تنتهي هذه الحلقة الدارسية إلى التوصية المؤكدة بأن سندات المقارضة ليست من القراض في شيء مطلقا وأنها هي السندات المالية المعروفة وأن تسميتها بهذه التسمية لا تعطيها حق الجواز والاعتبار طالما أنها تختلف عن أحكام المضاربة – المقارضة – في كل أحكامها وتتفق مع السندات المالية في جوهرها ولبابها وأرجو أن تكون هذه التوصية مبررا لاستصدار قرار من مجمع الفقه الإسلامي يبين حقيقة هذه الأسناد ومنافاتها لأحكام القراض – المضاربة – وبالتالي منافاتها للمقتضيات الإسلامية واتفاقها تمام الاتفاق مع السندات المالية المبينة في التعامل بها على الربا الصريح. سابعا: لا يخفى أن شركة المضاربة أو القراض على اختلاف في تسميتها بين أهل العلم ورجال الفقه في الإسلام واتفاق بينهم على أصول أحكامها تعتمد على ما يلي: أ - وجود اشتراك في الجملة بين المال والعمل. ب - استحقاق كل عنصر منهما نصيبه من ثمرة العمل بالمال على ما يجري الاتفاق عليه بينهما إذا كانت ثمرة العمل زائدة عن رأس المال المستثمر. ج- قيام عقد بالاشتراك يكون المال من أحد طرفيه والعمل من الطرف الثاني، على أن يكون المال مؤهلا للاستثمار والعمل بحيث لا يكون دينا على العامل ولا مال غير قابل لتحويله للاستثمار، ومثل لذلك بعضهم بالأموال العينية من عقارات أو عروض أو نحو ذلك. د- تمكين العامل من التصرف بالمال على سبيل الاستثمار وفقا لما يجري عليه التعاقد من نوعية العمل على ألا يكون ذلك مخالفا للقواعد الشرعية العامة. هـ- اعتبار وعاء الاستثمار ملكا لصاحب المال على أن يأخذ العامل منه نصيبه من الربح إن كان ذلك بعد التنضيض – التصفية -. و في حال عدم وجود ربح في المال المستثمر بعد تنضيضه فليس للعامل شيء منه بل هو لصاحب المال. ز- في حال وجود خسارة في المال المستثمر بعد تنضيضه فليس على العامل شيء من حجم الخسارة بشرط ألا تكون الخسارة ناتجة عن تعد أو تفريط في التصرف أو الحفظ أو المخالفة. ح- في حال ثبوت تفريط العامل في التصرف أو الحفظ أو تعديه فنتج عن ذلك خسارة في رأس المال فإن العامل – المقارض أو المضارب – يضمن ذلك النقص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1481 ط- لا يحق لأي من طرفي القراض أخذ شيء من مال المضاربة على سبيل تملكه كجزء من استحقاقه فيها حتى يجري تنضيض مال المضاربة – تصفيته – ليتضح ما إذا كانت رابحة أم لا وليتضح مقدار الربح في حال وجوده. ى- عقد المضاربة أو القراض من العقود الجائزة يحق لكل واحد من طرفيها إنهاؤه وطلب التصفية إلا أن تكون محدودة بوقت معين فيتعين الوفاء بذلك. هذه أهم قواعد وأحكام شركات القراض أو المضاربة كما يسميها بعضهم. ثامنا: بتأمل ودراسة قانون سندات المقارضة تتضح منها الأحكام التالية: أ - ليس هناك شراكة بين العامل ورب المال في وعاء الاستثمار. فموضوع الاستثمار ملك للعامل وحده وما يقدمه رب المال من مال لاستثماره هو دين في ذمة العامل يجري سداده في وقت القدرة على السداد وقد وصفه القانون الأردني بأنه قرض. ب - ليس هناك عقد شركة بين العامل ورب المال مطلقا وإنما التكييف الفقهي لما بينهما أن رب المال أقرض العامل بما قدمه له من مال على أن يعطيه الغلة بعد ظهورها ما جرى الاتفاق عليه من النسبة المعينة له من حجم الغلة. ج- ليس لرب المال من مشروع الاستثمار تملك مطلقا بل أصل الاستثمار وغلته للعامل ولرب المال ما اتفقا عليه من النسبة المعينة من الغلة. د- ما يقدمه رب المال من مال مضمون سداده في وقته المعين كما أنه مضمون من النقص والخسارة وحتى لو هلك مشروع الاستثمار حيث إنه حق مالي انعقد الالتزام به في ذمة العامل. لا أنه منغمس في حجم المشروع. هـ- لرب المال حقه من نسبة الربح بصفة دورية حسبما يتفقان عليه من زمن كل دورة بغض النظر عن تصفية المشروع أو تقييمه. و متى وجد العامل على إطفاء الحقوق على مشروع الاستثمار فحرره بها انقضت الحقوق الإضافية عليه فأصبح المشروع ملكا مطلقا للعامل له كامل أصله وغلاله وبذلك تنقضي علاقة رب المال بمالك المشروع. تاسعا: بالنظر والتأمل في قواعد أحكام وصيغ إصدار السندات المالية من الدولة أو من المؤسسات العامة أو الخاصة تتضح المشابهة الكاملة بينها وبين سندات المقارضة إلا في مقدار العائد الإضافي من السند حيث إن السند المالي يحتسب لصاحبه فائدة ربوية مقدرة بنسبة معينة من حجم السند في حين أن سند المقارضة يحتسب لصاحبه النسبة المتفق عليها فيها. ولا شك أن هذا الفرق لا يؤثر مطلقا في اعتبار ما يسمى بسندات القرض نوعا من السندات المالية المبينة على الفوائد الربوية فجميع قواعد وأحكام هذه السندات – سندات المقارضة – هي نفس أحكام وقواعد السندات المالية. فالسند المالي وثيقة بحق مالي في ذمة آخذه وسند المقارضة وثيقة بحق مالي في ذمة آخذه كذلك. والعائد الإضافي للسندات المالية هي الفائدة الدورية لبقاء قيمة السندات في ذمة آخذها حتى يتم سدادها وهذه الفائدة الدورية للسندات المالية هي من نوع الفائدة الدورية لسندات المقارضة وإن اختلفتا في التعيين والمقدار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1482 وليس لمالك سند القراض أو السند المالي حق في وعاء الاستثمار مطلقا مهما ارتفعت قيمته إذ هو ملك قابض الأسناد كما أن مالك السند سواء كان سندا ماليا أو سند إقراض مضمون سنده ولن يتأثر بنقص مما خسر المشروع وبذلك يتضح أن ما يسمى بسند القراض إنما هو من أنواع السندات المالية الواضح فيها حرمة التعامل بها بيعا وشراء وإصدارًا حسبما تقتضيه من أحكام وقواعد وأن تسميتها بسندات المقارضة تسمية خالية من أحكام وقواعد مسماها القراض – المضاربة. عاشرا: بتأمل ودراسة شهادات الاستثمار الصادرة من الشركات الاستثمارية للمضاربة أو من البنوك الإسلامية يتضح بها أن شهادة الاستثمار وثيقة على مال مبذول من مالكه إلى من التزم بتشغيله في مجال استثماري وتعني هذه الشهادة ما يلي: أ - قيام شركة بين رب المال وبين العامل – المضارب – على أن يقوم العامل باستثمار هذا المال بحصة معينة من ربحه وبعد تنضيضه – تصفيته. ب - اعتبار وعاء الاستثمار ملكا لرب المال ليس للعامل فيه إلا حصته المتفق عليها من الربح إن حصل. ج- في حال عدم وجود ربح في المشروع المستثمر فليس للعامل شيء مطلقا وتعتبر جهوده في الاستثمار هدرا. د- في حال خسارة المشروع المستثمر بدون تعد أو تفريط من العامل يستقل رب المال بتحمل كامل الخسارة وليس على العامل منها شيء. هذه القواعد والأحكام وغيرها مما يعتبر ذكره تكرارا تتفق تمام الاتفاق مع أحكام شركات القراض – المضاربة – وبالتالي فإن شهادات الاستثمار الصادرة من البنك الإسلامي للتنمية ومن البنوك الإسلامية الأخرى يعتبر واقعها تطبيقا عمليا لمقتضيات شركات القراض – المضاربة – ولقد صدرت باعتبارها ملكا اقتصاديا خاليا من شوائب الربا فتاوى شرعية من هيئات معتبرة ومن ذلك قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية. ومما تقدم يتضح أن أمامنا في هذه الحلقة الدارسة ثلاثة أنواع من السندات المالية: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1483 أحدها: السندات المالية الصادرة من الحكومات أو البنوك المركزية أو المؤسسات العامة لغرض تمويل مشروع ما أو تنشيط الحركة الاقتصادية وهي موضع اتفاق بين فقهاء المسلمين على أنها ليست من قبيل شركات المضاربة – القراض – وأنها قروض تلتزم بها الذمة الاعتبارية التي قامت بإصدارها وأنها تنتج فوائد ربوية. الثاني: شهادات الاستثمار ويمثل لها بالأوراق المالية الإسلامية الصادرة من بنك التنمية الإسلامي ومن شركات الاستثمار الخليجية الإسلامية ومن البنوك الإسلامية وقد وصفها بنك التنمية الإسلامي في البند 27 من مشروع شهادات الاستثمار المخصصة بقوله: الورقة المالية الإسلامية في حد ذاتها ممثلة لحصة مالية في مجموع موجودات المشروع. وهذا النوع من السندات المالية المبني التعامل بها على أحكام وقواعد شركات المضاربة لا نعرف أحدا من أهل العلم اعترض على اعتبارها سندات مقارضة وأن العلاقة بين مالك السند وقابض محتواه هي علاقة رب المال مع المضارب – العامل – في شركات القراض – المضاربة. الثالث: ما يسمى بسندات المقارضة والذي صدر باعتباره نوعا من القراض قوانين أردنية تأيدت بفتوى من لجنة الفتوى في الأردن وهذا النوع من السندات هو موضوع حلقتنا الدراسية وقد صدر باعتباره نوعا من شركات القراض – المضاربة – قانون أردني بتاريخ 25/ 2/ 1981م نذكر منه المواد التالية لمزيد التعرف على نوعية هذه الأسناد: المادة – 2 – أ – تعني سندات المقارضة الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1484 ب- يحصل مالكو السندات على نسبة محددة من أرباح المشروع وتحدد هذه النسبة في نشرة إصدار السندات إلى آخرها. المادة – 12 – تكفل الحكومة بتسديد القيمة الاسمية لسندات المقارضة الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة وتصبح المبالغ المدفوعة لهذا السبب قرضا ممنوحا للمشروع بدون فائدة مستحقة الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات. المادة – 18- يتم تداول سندات المقارضة في سوق عمان المالي حسب أحكام قانونه وأنظمته وتعليماته كما يتم نقل ملكيتها حسب هذه الأحكام. إننا بتأملنا هذا النوع من السندات وما هي عليه من تقنين وتقعيد وأحكام يتضح لنا بكل وضوح أنها نوع من السندات المالية التي هي حقوق ثابتة في ذمم مصدريها لمن دفع قيمتها وإن قيل عنها بأنها سندات مقارضة فهي تسمية ليس لها من مسماها نصيب مطلقا ولكنها كما وصفها القانون الأردني في المادة الثانية عشرة منه بأنها قرض ممنوح للمشروع بدون فائدة وأن الدولة ضامنة لسداد قيمته الاسمية. فهي نوع من السندات الاسمية إن أي عائد مقابل بقائه في ذمة مستقرضه يعتبر نوعا من ضروب الربا لإجماع أهل العلم أن كل قرض جر نفعا فهو ربا كما أن بيعه وشراؤه يعتبر من بيوع الأثمان – المصارفة – فهو بيع ثمن غائب عن مجلس العقد بثمن حاضر ولا يخفى أن الحكم الشرعي في صحة المصارفة مشروط جوازه في التماثل والحلول عند اتحاد الجنس وبالتقابض في مجلس العقد في حال اختلاف الجنس. هذه ملاحظات عابرة اقتضاها اشتراكي في هذه الحلقة المباركة أرجو أن أكون بما قدمته قد أسهمت في الحديث عن موضوع هذه الحلقات وأعتقد أن الحكم الشرعي في موضوعها من أوضح الأحكام وأظهرها وأنه من الوضوح بحال لا يحتاج إلى بحوث مطولة ولا إلى نقاش متشعب. والله المستعان وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. عبد الله بن سليمان بن منيع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1485 تصوير حقيقة سندات المقارضة والفرق بينها وبين سندات التنمية وشهادات الاستثمار والفرق بينها وبين السندات الربوية إعداد الدكتور سامي حسن حمود المدير العام مركز البركة للبحوث والاستشارات المالية الإسلامية عمان – الأردن بيان المحتويات تقديم البحث الفصل الأول: - التعريف بسندات المقارضة وتصوير حقيقتها: 1- تحديد المقصود بعبارة (سندات المقارضة) . 2- سندات المقارضة في التشريع المعاصر. 3- تصوير حقيقة سندات المقارضة من واقع التطبيق العملي. 4- الإشكالات الفقهية المثارة في تطبيق سندات المقارضة: أ - تقسيم رأس المال في المضاربة إلى حصص متساوية. ب - بيع وشراء سندات المقارضة في المراحل المختلفة. جـ- دخول الدولة بصفة طرف ثالث كمتعهد بضمان. تسديد ما يتبقى من رأس المال في سندات المقارضة. الفصل الثاني: - الفرق بين سندات المقارضة وكل من سندات التنمية وشهادات الاستثمار والسندات الربوية: 1- الفرق بين سندات المقارضة وسندات التنمية. 2- الفرق بين سندات المقارضة وشهادات الاستثمار. 3- الفرق بين سندات المقارضة والسندات الربوية. - خلاصة البحث. - المراجع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1486 بسم الله الرحمن الرحيم تقديم البحث يعتبر موضوع سندات المقارضة من المواضيع المستجدة في إطار المحاولات الهادفة إلى إيجاد الأدوات الاستثمارية المناسبة للاستثمار المالي القائم على غير أساس الربا. أما العبارة بحد ذاتها فهي اصطلاح مستحدث من ابتكار الباحث فيما وفقه الله إليه عند بدء العمل لوضع مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني خلال عام 1397هـ، وهو القانون الذي ناقشت مواده لجنة الفتوى الأردنية في الفترة الواقعة بين العشرين من رجب والثامن والعشرين من رمضان عام 1397هـ (الموافقة السادسة من تموز (يوليو) والحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 1977م (1) . وهو القانون الذي تم على أساسه بعد إصداره تأسيس البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار بصورة شركة مساهمة أردنية عامة (2) .   (1) انظر – الأعمال التحضيرية لمشروع قانون البنك الإسلامي الأردني مع الأسباب الموجبة ومناقشات لجنة الفتوى والمذكرات المقدمة حول الموضوع إعداد الدكتور: سامي حمود مقرر اللجنة التحضرية. الصفحات 14، 15 من المذكرة الإيضاحية، القسم الأول (2) صدر قانون البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار بصفة قانون مؤقت رقم (13) لسنة 1978م وتم نشره في الجريدة الرسمية للمملكة الأردنية الهاشمية في العدد رقم 2771 الصادر بتاريخ 24 ربيع الثاني عام 1398هـ، الموافق 1نيسان (أبريل) عام 1978 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1487 وكان المقصود من تقديم فكرة سندات المقارضة – كما وردت في المذكرة الإيضاحية المفسرة لمواد مشروع القانون المقترح لإنشاء البنك الإسلامي الأردني – (هو إيجاد البديل الإسلامي لسندات القرض التي يمكن للبنوك إصدارها على أساس الفائدة المحدودة أو على أساس الفائدة العائمة (1) . وقد تطورت فكرة سندات المقارضة حين عرض الباحث على وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في عمان إمكانية تطبيق سندات المقارضة لتمويل الاحتياجات التمويلية لإعمار الممتلكات الوقفية حيث تشكلت لجنة متخصصة لبحث هذا الموضوع من جميع الجوانب الشرعية أولا ثم الجوانب الفقهية والتطبيقية ثانيا (2) ، حيث انتهت المناقشات المستفيضة حول هذا الموضوع إلى إصدار قانون خاص بسندات المفاوضة وهو القانون المؤقت رقم (10) لسنة 1981 المنشور في الجريدة الرسمية رقم (2992) تاريخ 11 جمادى الأولى 1401هـ الموافق 16 آذار (مارس) 1981م (3) . وكان البنك الإسلامي للتنمية مهتما بفكرة سندات المقارضة منذ بداية طرح موضوعها حيث كان رئيس البنك يتابع شخصيا تطور مراحل العمل المختلفة في هذا المجال (4) .   (1) انظر – الأعمال التحضيرية، لمشروع قانون البنك الإسلامي الأردني مع الأسباب الموجبة ومناقشات لجنة الفتوى والمذكرات المقدمة حول الموضوع إعداد الدكتور: سامي حمود مقرر اللجنة التحضرية، صفحة 14 (2) انظر المراسلات الجارية مع معالي الأستاذ كامل الشريف وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية حول موضوع سندات المقارضة عام 1978 (3) تألفت لجنة سندات المقارضة من كل من: - السيد وليد أسعد خير الله (من البنك المركزي) - الأستاذ يوسف المبيضين (محامي وزارة الأوقاف) - الدكتور سامي حمود (مقدم البحث) (4) انظر – المراسلات الجارية مع سعادة الدكتور أحمد محمد علي – رئيس البنك الإسلامي للتنمية حول موضوع سندات المقارضة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1488 وتقوم فكرة سندات المقارضة – كما يتضح من البحث بالتفصيل – على أساس المضاربة الشرعية مع إدخال عنصر تقسيم رأسمال المضاربة إلى وحدات أو حصص متساوية القيمة الاسمية وذلك بهدف تسهيل تداول هذه الحصص وانتقالها بالبيع والشراء من مالك إلى مالك آخر دون حاجة إلى تصفية المشروع الذي يستثمر فيه المال. وإذا كانت البدايات العملية لعرض فكرة سندات المقارضة قد جاءت من واقع التطبيق المحلى في حدود ما يمكن عمله من خلال الإمكانيات المتاحة للبنك الإسلامي الأردني ومشاريع الأوقاف والبلديات وغيرها من المؤسسات العامة الأردنية ذات الاستقلال المالي فإن الإمكانيات المتاحة لتطوير استعمالات سندات المقارضة يمكن أن تسهم في بناء التنمية الحقيقية للعديد من دول العالم الإسلامية المختلفة. ويستوي في تقدير الحاجة لوجود الأدوات المالية المتمثلة في سندات المقارضة، الدول الإسلامية الغنية (بفضل الله) والدول الإسلامية المحتاجة لتمويل مشاريعها على أساس المشاركة في الإيرادات والأرباح. وقد تضمن هذا البحث المقدم النقاط المطلوبة من ناحية تصوير حقيقة سندات المقارضة والفرق بينها وبين سندات التنمية وشهادات الاستثمار من ناحية، كما تضمن البحث كذلك الصور التطبيقية المختلفة لسندات المقارضة لكي تتضح الأهمية الخاصة لوجود هذه الأدوات الاستثمارية القائمة على غير الأساس الربوي الحرام. ويعتبر اهتمام البنك الإسلامي للتنمية من خلال تعاون المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب مع مجمع الفقه الإسلامي لمناقشة فكرة سندات المقارضة من الوجهة الشرعية نقلة بعيدة الأثر حيث يضم هذا المجمع نخبة الفكر الإسلامي من مختلف البلاد الإسلامية المترامية الأطراف. وإذا قدر الله لهذه الأفكار المستحدثة حول موضوع سندات المقارضة بأن توضع في القالب الموافق للمبادئ الشرعية فإن ظهور مثل هذه الأدوات المالية الخالية من التعامل الربوي الحرام يمكن أن يعتبر البداية المتواضعة لتأسيس سوق رأس المال الإسلامي الذي تحتاج إليه البنوك الإسلامية ويحتاج إليه القطاع الخاص من المستثمرين المسلمين، كما يحتاج إليه القطاع العام ومؤسسات النقد والبنوك المركزية في البلاد الإسلامية. ومن هنا تتبدى أهمية هذا الموضوع المطروح للمناقشة في هذه الدورة المباركة. وإن الباحث ليسعده ويشرفه أن تحظى فكرة هذه السندات باهتمام مجمع الفقه الإسلامي الذي يمثل رمز اللقاء الإسلامي الموحد في ظلال منظمة المؤتمر الإسلامي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1489 ويود الباحث – بهذه المناسبة – أن يقدم خالص الشكر والتقدير إلى جميع أصحاب الفضل الذين شاركوا في دعم وإظهار فكرة سندات المقارضة لتكون النبراس الذي سوف يفتح طريق الخلاص من الربا الحرام في المستوى المتقدم للعمل في الأموال العامة وتمويل المشروعات الكبيرة. ويخص الباحث بالشكر كلا من معالي الأستاذ كامل الشريف وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية – سابقا – ومعالي الدكتور أحمد محمد علي – رئيس البنك الإسلامي للتنمية- لما كان لكل منهما دور في دفع تقدم فكرة سندات المقارضة وإخراجها إلى الوجود. كما يشكر الباحث كذلك الأخ الفاضل الأستاذ وليد أسعد خير الله المدير التنفيذي في البنك المركزي على ما قدمه من جهود مستنيرة ولا سيما بالنسبة لخبرته في دائرة سندات الدين العام حيث كان لتعاونه في إعداد الصياغة الفنية أثر واضح في إخراج قانون سندات الدين العام حيث كان لتعاونه في إعداد الصياغة الفنية أثر واضح في إخراج قانون سندات المقارضة الأردني بهذه الصورة العلمية القابلة للتطبيق. كما يشكر الباحث كلا من معالي الدكتور عبد العزيز الخياط وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية بالأردن، وكذلك سعادة الدكتور عبد السلام العبادي – وكيل الوزارة - على ما يقومان به من جهود لمتابعة تطبيق سندات المقارضة وما أدخلاه من تعديلات تحسينية على قانون سندات المقارضة الأردني رقم 10 لسنة 1981. وأخيرا فإن الباحث يتوجه بالشكر إلى صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة – الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي - على ما يقوم به من جهود ومتابعة للنظر في المسائل التي تهم المجتمعات الإسلامية المعاصرة بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية في قضايا التمويل والاستثمار. ونسأل الله أن يجزي جميع العاملين في سبيل خدمة دينه وشريعته خير الجزاء أنه سميع مجيب. وسلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته. الدكتور سامي حسن حمود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1490 الفصل الأول التعريف بسندات المقارضة وتصوير حقيقتها 1- تحديد المقصود بعبارة سندات المقارضة: يقصد بالسند عموما الوثيقة المكتوبة لإثبات حق، فيقال: سند الدين أو سند الملكية للتدليل على وثيقة إثبات الدين أو امتلاك الشيء. لذلك يطلق على السند أحيانا لفظ الصك أو المحرر (بفتح الراء الوسطى مع تشديدها) أو غير ذلك من مصطلحات تختلف باختلاف البلدان والأزمان جاء في لسان العرب في تعريف السند أنه ما ارتفع من الأرض في قبل الجبل أو الوادي والجمع: أسناد لا يكسر على غير ذلك. والسند كذلك ضروب من البرود أي الثياب (انظر لسان العرب كلمة سند) . أما المعجم الوجيز الصادر عن مجمع اللغة العربية فقد اختار لتعريف السند (في الاقتصاد) : أنه ورقة مالية مثبتة لقرض حاصل وله فائدة ثابتة، والسند الإذني مكتوب يتضمن التزاما بدفع مبلغ لإذن شخص أو لحامله في تاريخ معين والجمع: سندات. (انظر المعجم الوجيز، كلمة سند) . التعليق: يؤخذ على اختيار المعجم الوجيز لتعريف السند (في الاقتصاد) بأنه ورقة مالية مثبتة لفرض حاصل وله فائدة ثابتة أمران: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1491 أما الأول فهو: نقصان الدقة في التعريف حين جعل الفائدة ملازمة للقرض مع أنه قد تكون هناك قروض موثقة بسندات وليست لها فوائد، وهذا هو الأصل في القروض إذا كان المقرض مسلما ملتزما بشريعة الإسلام، وكان حريا بنخبة علماء اللغة الذين أشرفوا على وضع هذا المعجم ومراجعته أن لا يقعوا في هذا الوهم المتأثر بالضعف، أما الفكر الغربي الذي يربط القروض بالفوائد إلزاما. ألم يسمع هؤلاء النخبة أبدا بالقرض الحسن بمفهومه الإسلامي؟ وهل سند القرض الحسن لا يسمى سندا لأنه ليس له فائدة ثابتة؟ أما الأمر الثاني فهو يتمثل في قصور العلم لدى واضعي المعجم حين وصفوا الفائدة بكونها ثابتة حيث إنها ليست الشكل الوحيد لسندات القروض المالية. لأنه يوجد هناك أيضا سندات القروض ذات الفوائد العائمة أي الفوائد التي تتغير حسب تغيرات الأسعار العالمية لفوائد العملات القابلة للتحويل. والذي نراه أن تطويع اللغة العربية للمفهوم الاقتصادي الغربي يدل على مدى تغلغل الضعف والتأثر بالفكر الوافد وهو الأمر الذي كنا نتمنى أن لا تتأثر به النخبة المختارة من علماء اللغة العربية الذين يضعون لها المعاجم التي تصبح مع الأيام مرجعا معتمدا. لذلك لا يستغرب أن يكون استعمال كلمة السند حافزا لنفور بعض رجال الفقه المعاصرين المدفوعين بالوهم الذي يوقعهم فيه التعريف المختار في المعجم الوجيز. وإن المأمول أن يتنبه مجمع اللغة العربية لتصحيح هذا التعريف الموهم للسند في الطبعات القادمة بإذن الله. وسندات المقارضة لا تخرج عن هذا المفهوم الاصطلاحي باعتبار أن السند بحد ذاته هو وثيقة إثبات حصة المشاركة في رأس مال القراض. فالمقارضة مأخوذة من لفظ القراض وهو العقد المعروف بلفظ المضاربة. وقد شاع استعمال لفظ المضاربة عند الحنفية والحنابلة والزيدية (1)   (1) انظر في ذلك: - الميرغيناني، الهداية في شرح بداية المبتدى، الجزء الثالث، صفحة 162- كتاب القراض. - ابن هبيرة، عن معاني الصحاح، صفحة 205، باب المضاربة. - السياغي، الروض النضير، الجزء الثالث، باب المضاربة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1492 أما المالكية والشافعية فإنهم يطلقون على نفس العقد لفظ القراض (1) . وقد ذكر الإمام الكاساني في مؤلفه القيم بدائع الصنائع أن لفظ المضاربة مأخوذ من الضرب في الأرض وهو السير فيها ابتغاء الرزق والفضل من الله، أما المقارضة فإنه وارد في عرف أهل المدينة لأنهم يسمون المضاربة مقارضة (2) . والقراض أو المضاربة مبني على اشتراك رأس المال من جانب مع العمل الذي يقدمه الطرف الآخر على أساس اقتسام الربح بالنسبة الشائعة المتفق عليها بينهما كالثلث أو الربع أو غير ذلك بأكثر أو أقل. ويكون الربح هو ما يفضل أي يزيد عن رأس المال فإذا لم يكن هناك خسارة ربح فإن صاحب رأس المال يسترد ما دفع دون زيادة وإن كان هناك خسران فإن الخسارة تكون على رب المال إن لم يكن من العامل تقصير أو مخالفة (3) . وقد فصلت المؤلفات الفقهية في المذاهب المختلفة شروط صحة المضاربة وحقيقتها والعمل الذي تشمله المضاربة مما لا يتسع المقام للدخول في هذه التفاصيل الفروعية. وإن ما يهمنا بيانه أن هذه الشروط هي شروط اجتهادية حيث يظهر للمتتبع أن عقد المضاربة لم يرد فيه نص قطعي الدلالة في الكتاب أو السنة لبيان أحكام هذا العقد أو تحديد شروطه، بل كان كل ما علم من أمره من المعاملات التي كان يتعامل بها الناس في جاهليتهم وأنهم استمروا بالتعامل به بعد إسلامهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد خرج قبل بعثته صلى الله عليه وسلم في مال للسيدة خديجة – رضي الله عنها – مضاربة إلى الشام وأنه أقر الشروط التي سئل عنها بعد النبوة مما كان يشترطه عمه العباس بن عبد المطلب – رضي الله عنه – على من كان يأخذ منه المال ليضارب له فيه (4) .   (1) انظر في ذلك: - المدونة الكبرى، الجزء الثاني عشر، صفحة 86، كتاب القراض. - الإمام الشافعي، كتاب الأم، الجزء الرابع، صفحة 5، باب القراض. (2) انظر: الكاساني، بدائع الصنائع، الجزء الثامن، صفحة 3588 (3) انظر – سامي حمود، تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية الطبعة الثانية، الصفحات 356- 369 حول التعريف بالمضاربة وشروط صحتها. (4) انظر: سامي حمود، تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية الطبعة الثانية، الصفحات 356- 369 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1493 وقد بين صاحب نيل الأوطار حقيقة هذه المسألة بقوله: إنه ليس في المضاربة شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا ما أخرجه ابن ماجة من حديث صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وإخلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع)) . حيث قال الشوكاني بعد ذلك: إن في إسناد هذا الحديث روايين مجهولين (1) . كما نقل صاحب الروض النضير ما قاله ابن حزم في مراتب الإجماع من أن: كل أبواب الفقه لها أصل في الكتاب والسنة حاشا القراض، فما وجدنا له أصلا فيها البتة، ولكنه إجماع صحيح مجرد، والذي نقطع به أنه كان في عصره صلى الله عليه وسلم فعلم وأقره. (2) . كما نقل ابن قدامة الإجماع بقوله: (وأجمع أهل العلم على جواز المضاربة في الجملة – ذكره ابن المنذر) (3) . ومن ذلك يتبين أن المقارضة أو المضاربة هما لفظان لمدلول واحد يحمل معنى المشاركة بين رأس المال من جانب والعمل أو الجهد الإنساني من جانب آخر. ولما كان عقد المضاربة بحد ذاته هو اتفاق بين طرفين فإن هذا الاتفاق يمكن أن يكون بين طرفين يكون كل منهما فردا واحدا مثل اتفاق زيد مع عمرو كما يمكن أن يكون الفريق المالك لرأس المال أو الطرف العامل فيه أشخاصا متعددين.   (1) انظر: الشوكاني، نيل الأوطار، الجزء الخامس، صفحة 21. (2) انظر – السياغي، الروض النضير، الجزء الثالث، صفحة 643 (3) انظر – ابن قدامة، كتاب المغني، الجزء الخامس، صفحة 22. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1494 يقول صاحب المغني في جواز تعدد أصحاب رأس المال: إنه إذا قارض اثنان واحدا بألف لهما جاز (1) . وإذا جاز مبدأ التعدد في اثنين فليس هناك ما يمنع تعدد مالكي رأس المال إلى ما هو أكثر من ذلك طالما كان العقد واحدا. وبذلك يصبح رأس المال في عقد المقارضة مقسما إلى حصص بحسب عدد الشركاء ومقدار حصة كل منهم في رأس المال، ويعتبر الشركاء جميعا هم رب المال في مواجهة العامل أو العاملين إذا تعددوا، وهذه الشركة بين مالكي رأس المال هي شركة مِلك (بكسر الميم) . فإذا كانت هذه الحصص التي ينقسم إليها رأس المال في عقد المقارضة متساوية القيمة وموحدة الشروط فإن الوثيقة المثبتة لهذه الحصة ذات القيمة الاسمية الموحدة تسمى سند المقارضة. ومن ذلك يتضح أن حقيقة سندات المقارضة لا تزيد عن كونها وثائق موحدة القيمة تعطي للراغب في دخول عقد تمويل مشترك لتقديم رأس المال اللازم للعمل فيه بالمضاربة وفق الشروط المعلنة لعموم المشاركين. وأما التكييف الفقهي لما يمثله سند المقارضة فإنه يعتبر حصة مشاركة في رأس المال المدفوع من أطراف متعددين على أساس أنهم جميعا (وإن بلغوا المئات أو الألوف) رب المال وأنهم يتمتعون بهذه الصفة بما لهم من حقوق وما يقع عليهم من التزامات كما لو كانوا شخصا واحدا وأن حقوق رب المال والتزاماته تتقسم بينهم وعليهم بنسبة حصة كل واحد منهم بمقدار ما يملكه من هذه السندات.   (1) انظر – ابن قدامة، المغني، الجزء الخامس، صفحة 32 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1495 2- سندات المقارضة في التشريع المعاصر: كانت المملكة الأردنية الهاشمية أول من قدم مفهوم سندات المقارضة بناء على ما قدمه الباحث عن أفكار لدى تقديم مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني حيث عرف القانون المؤقت رقم (13) لسنة 1978 سندات المقارضة بأنها: الوثائق الموحدة القيمة والصادرة عن البنك بأسماء من يكتتبون فيها مقابل دفع القيمة المحررة بها على أساس المشاركة في نتائج الأرباح المتحققة حسب الشروط الخاصة بكل إصدار على حدة، ويجوز أن تكون هذه السندات صادرة لأغراض المقارضة المخصصة وفقا للأحكام المقررة لها في هذا القانون. (المادة رقم 2) . كما بينت المادة 14 من قانون البنك الإسلامي الأردني المشار إليه أعلاه شروط إصدار سندات المقارضة بنوعيها المشترك والمخصص بما لا يخرج عن القواعد المقررة للمضاربة الشرعية المطلقة والمقيدة. أما قانون سندات المقارضة الصادر بالقانون المؤقت رقم (10) لسنة 1981 فقد كان المقصود به إيجاد الوسائل المناسبة من الناحية الشرعية لتمويل إعمار وتجديد الممتلكات الوقفية حيث سمح القانون المشار إليه لوزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية وكذلك البلديات وسائر المؤسسات العامة ذات الاستقلال المالي لإصدار سندات المقارضة لتمويل مشاريعها ذات الجدوى الاقتصادية القادرة على تحقيق أرباح مناسبة للراغبين في المشاركة بحصة أو أكثر من رأس المال اللازم لتنفيذ المشروع المعروض. ومن ذلك يتبين أن هذا النوع من سندات المقارضة هو بحسب طبيعة ارتباطه بمشروع أو مشروعات معينة إنما يكون من نوع المضاربة المقيدة. وقد عرفت المادة الثانية من القانون المشار إليه مدلول عبارة (سندات المقارضة) بأنها تعني: (الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1496 ويختلف هذا التعريف الذي كان الباحث قد ضمنه في دراسته المقدمة عن الأفكار العامة لسندات المقارضة الإسلامية التي قام بإعدادها بناء على طلب البنك الإسلامي للتنمية خلال فترة عرض مشروع القانون المقترح على وزارة الأوقاف الأردنية حيث أورد الباحث تعريفا أدق فقهيا (بحسب ما يرى) من النص الذي اعتمده القانون الصادر. فقد ورد في الدراسة المذكورة أن سندات المقارضة تعني (الوثائق الموحدة القيمة والصادرة بأسماء من يكتتبون فيها مقابل دفع القيمة المحررة بها وذلك على أساس المشاركة في نتائج الأرباح أو الإيرادات المتحققة من المشروع المستثمر فيه بحسب النسب المعلنة على الشيوع مع مراعاة التصفية التدريجية المنتظمة رأس المال المكتتب به عن طريق تخصيص الحصة المتبقية من الأرباح الصافية لإطفاء قيمة السندات جزئيا حتى السداد التام) (1) . ومهما قيل في الموازنة بين التعريفين فإن المهم هو توضيح التصور التطبيقي لسندات المقارضة والتحقق من توافق هذا التصور مع القواعد الفقهية المعتبرة. 3- تصوير حقيقة سندات المقارضة من واقع التطبيق العملي: لما كان سند المقارضة هو عبارة عن حصة معينة من رأسمال المضاربة المقيدة في مشروع أو مشاريع محددة ومعروفة بذاتها فإن الحكم الذي يجري على هذا السند هو الحكم العام الذي يجري على رأس المال حيث يعتبر مالكو سندات المقارضة بمجموعهم هم رب المال. ولا يؤثر على طبيعة هذه المضاربة كون رب المال مقيدا ولا يستطيع الاشتراط خلافا لما هو معلن من الشروط التي تحددها جهة الإدارة (العامل) للمشروع المعين، لأن الشروط الجائزة في الشرع يمكن أن تحدد من جانب رب المال فيقبل بها العامل فيه أو العكس.   (1) انظر – سامي حمود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1497 أما تخصيص استعمال رأس المال في مشروع محدد بذاته فهو يدخل في باب حقيقة ما تشمله المضاربة حيث يجد المتتبع أن الفقه الإسلامي يسير في اتجاهين متوازيين: - ففي الاتجاه الأول وهو رأي الأكثرين من فقهاء المذاهب الإسلامية فإنه ينظر إلى المضاربة على أنها من جنس المقارضة كالإجارة واعتبروا أن جهالة الأجر تجعل من هذا العقد أنه وارد على خلاف القياس مما ترتب عليه عدم التوسع عند هؤلاء الفقهاء في إجازة ما كان من نحو المضاربة من اتفاقات. فقد ذكر الإمام الكاساني – رحمه الله-: (أن القياس في عقد المضاربة لا يجوز لأنه استئجار بأجر مجهول بل بأجر معدوم ولعمل مجهول، لكنا تركنا القياس بالكتاب العزيز والسنة والإجماع ... ) (1) . وجاء في بداية المجتهد أن (القراض مستثنى من الإجارة المجهولة، وأن الرخصة في ذلك إنما هي لموضع الرفق بالناس) (2) . وقال الرملي في نهاية المحتاج: إن (القراض رخصة لخروجه عن قياس الإجارات كما أنها كذلك لخروجها عن بيع ما لم يخلق) (3) . وفي مقابل هذا الاتجاه المشتابه عموما فيما ذهب إليه فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية نجد أن فقهاء مذهب الإمام أحمد بن حنبل ينظرون للمسألة بمعيار آخر وهو المعيار المبني على اعتبار المضاربة أنها من جنس المشاركات وليست من جنس المعاوضات وإن هذا العقد لا يكون / تبعا لذلك/ واردا على خلاف القياس.   (1) انظر الكاساني، بدائع الصنائع، الجزء الثامن، صفحة 3587 (2) انظر – ابن رشد (الحفيد) ، بداية المجتهد، الجزء الثاني، صفحة 236 (3) انظر – الرملي، نهاية المحتاج، الجزء الرابع، صفحة 161 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1498 وقد فصل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – هذه المسألة الخلافية مع بيان ما يختاره بقوله: (من قال: هي (أي المضاربة) إجارة بالمعنى الأعم أو العام فقد صدق، ومن قال هي إجارة بالمعنى الخاص فقد أخطأ) (1) وبعد أن ناقش – رحمه الله – الأحاديث الواردة في المزارعة والمساقاة حيث انتهى إلى جواز كل منهما باعتبارهما من نوع الشركة، راح يكشف الغطاء عن المسألة كلها في ختام الكلام عن العموم والخصوص في لفظ الإجارة قائلا: ( ... ولهذا جوز أحمد سائر أنواع المشاركات التي تشبه المساقاة والمزارعة، مثل أن يدفع دابته أو سفينته أو غيرهما إلى من يعمل عليها والأجرة بينهما) (2) . وقد أوضح ابن القيم المسألة من ناحية ما قال به شيخه ابن تيمية بعدم وجود أمر في الشريعة على خلاف القياس حيث قال (بأن من قالوا بأن المضاربة – وما شاكلها – واردة على خلاف القياس قد ظنوا أن هذه العقود من جنس الإجارة؛ لأنها عمل بعوض، والإجارة يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض، فلما رأوا العمل والربح في هذه العقود غير معلومين قالوا: هي على خلاف القياس، وهذا من غلطهم، فإن هذه العقود من جنس المشاركات لا من جنس المعاوضة المحضة التي يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض، والمشاركات جنس غير جنس المعاوضات وإن كان فيها شوب المعاوضة) (3) . وفي ضوء هذه السعة والسماحة المميزة في مذهب الإمام أحمد بن حنبل في ميادين العقود والشروط، كان الفقهاء الحنابلة قادرين على تصحيح العديد من حالات التعاقد التي اعتبروها مشاركات جائزة بينما لم يتمكن غيرهم من مباراتهم بسبب ما هم مقيدون به من نظر متحفظ باعتبار أن المضاربة نفسها عندهم هي استثناء وارد على خلاف القياس وأن الأصل فيها هو القول بعدم الجواز. لذلك نجد صاحب المغني قد أورد العديد من الاتفاقات التي لها صفة المشاركة الجائزة عند الحنابلة حيث يقول في ذلك بكل وضوح: ( ... وإن دفع رجل دابته إلى آخر ليعمل عليها، وما يرزق الله بينهما نصفين أو ثلاثا، أو كيفما شرطا صح.. وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله قمصانا يبيعها وله نصف ربحها بحق عمله جاز ... ) (4) .   (1) انظر ابن تيمية، القواعد النورانية الفقهية صفحة 170 (2) انظر ابن تيمية، القواعد النورانية الفقهية، صفحة 184 (3) انظر ابن القيم، أعلام الموقعين، الجزء الأول، الصفحات 384 – 385 (4) انظر ابن قدامة، المغني، الجزء الخامس، الصفحات 7- 8 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1499 كما أورد صاحب منتهى الإرادات حالة دفع الدابة لمن يعمل عليها بجزء من الأجرة وأضاف إليها كذلك أيضا: ( ... خياطة ثوب ونسج غزل وحصاد زرع) (1) . وقد تناول الأستاذ الشيخ محمد جواد مغنية – في مؤلفه الجامع عن فقه الإمام جعفر الصادق – مسألة الاتفاق في المشاركة على أخذ حصة نظير جزء مما يتحصل من العمل على العين فرأى جواز مثل هذا الاتفاق على خلاف ما سار عليه فقهاء المذهب الإمامي حيث ضرب لذلك مثالا من الواقع المعاصر فقال بأنه إذا كان عند شخص سيارة فقام المالك بتسليمها إلى سائق لنقل الركاب بالأجرة حيث يكون ما يرزق الله بينهما بالسوية أو التفاوت، فهل تصح هذه الشركة؟ فقال الأستاذ الشيخ محمد جواد مغنية في ذلك: (اتفق الفقهاء - المقصود فقهاء المذهب الإمامي - كما جاء في مفتاح الكرامة على أنها - أي الشركة بالشكل الوارد في المثال المذكور - باطلة، لأنها إنما تصح بالمال من الشريكين لا من أحدهما فقط، وليس هذا الاتفاق مضاربة ولا إجارة أو جعالة لمكان الجهل بالأجر) (2) . وقد عقب الأستاذ الشيخ على هذا الرأي المنقول قائلا: ( ... والحق أن هذا الاتفاق صحيح وجائز، وليس من الضروري أن ينطبق عليه أحد العقود المسماة كالشركة أو الإجارة أو الجعالة، بل يكفي مجرد التراضي مع عدم المانع من الشرع أو العقل، أما الجهل بأجرة السائق فغير مانع من الصحة ما دامت معينة في الواقع وينتهي الشريكان إلى العلم بها مقدارا وجنسا بعد العمل) (3) .   (1) انظر – الفتوحي، منتهى الإرادات، القسم الأول، صفحة 466 (2) انظر – محمد جواد مغنية، فقه الإمام جعفر الصادق، الجزء الرابع، الصفحات 109 – 110 (3) انظر – محمد جواد مغنية، فقه الإمام جعفر الصادق، الجزء الرابع، صفحة 109 - 110 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1500 ومن ذلك يتبين أن النظرة المتسعة للمضاربة واعتبارها من جنس المشاركات تساعد على قبول تخصيص استعمال رأس المال المتجمع من حصيلة بيع سندات المقارضة لإقامة مشروع معين مثل إنشاء بناء تجاري على أرض مملوكة للوقف الإسلامي بهدف إعمار الممتلكات الوقفية في البلاد الإسلامية. ولكن هل يعتبر مالكو سندات المقارضة في مثل هذا المشروع أنهم شركاء ملك؟ إن الجواب الواضح أن أرض الوقف لا يجري عليها الملك لأنها محبوسة عن التصرف في رقبتها ولكن من الممكن أن تكون هناك مشاركة بين الوقف (مالك الأرض) ومالكي سندات المقارضة باعتبارهم يملكون البناء. وتكون هذه المشاركة على أساس اتفاقي تأخذ بموجبه هيئة الأوقاف المتولية بالتصرف جزءا من الإيراد ليس بنسبة قيمة الأرض إلى قيمة البناء (لأنها ليست شركة ملك كما بينا بل هي شركة عقد) ، وإنما بالنسبة التي حددها عقد المضاربة المقيدة حيث يجوز أن تكون هذه النسبة الربع أو الخمس أو العشر أو أقل أو أكثر. كما أن نصيب مالكي سندات المقارضة من الإيراد المعين لهم في المشروع المحدد يمكن أن تكون كلها ربحا صافيا، كما يمكن أن تكون مقسمة إلى جزء يمثل الربح وجزء آخر استهلاكا لموجودات المشروع لأن البناء يبلى مع مضي الأيام بينما تبقى الأرض إلى ما شاء الله. وما دام رأسمال المقارضة المقسم إلى سندات قد تحول إلى بناء مقام فوق الأرض الموقوفة فإن هذا البناء واقع تحت الاستهلاك. فإذا قلنا مثلا: إن إيجار المبنى الذي يكلف بناؤه خمسمائة ألف دينار (الكلفة للبناء فقط دون الأرض) هو مائة ألف دينار مثلا فإنه يمكن إعلان الاتفاق لمن يقبلون المشاركة في تمويل إنشاء هذا المبنى كما يلي: 20 % من الإيجار للجهة المتولية لإدارة الوقف. 80 % من الإيجار لرب المال المتمثل في مالكي سندات المقارضة. فإن نسبة الثمانين بالمائة من الإيجار المتحصل ومقدارها ثمانون ألف دينار يمكن أن تقسم إلى ما يلي: 30 % توزع كأرباح لمالكي سندات المقارضة. 50 % توزع كتسديد لأصل رأس المال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1501 أي أن مالكي سندات المقارضة يستوفون سنويا مقدار خمسين ألف كتسديد لرأس المال المقدم منهم مجتمعين وهم يقتسمون ذلك بالتساوي فيما بينهم. وهذا يعني أنه بعد مرور عشر سنوات من بدء الإيجار يكون مالكو سندات المقارضة قد استردوا رأسمالهم ولا يعود لهم حق في المبنى الذي تصبح ملكيته للوقف الذي يملك الأرض. ويكون مالكو سندات المقارضة قد استفادوا ربحا يتمثل في نسبة الـ 30 % من الإيجار الذي يأخذونه سنويا طالما كانوا شركاء في البناء. فإذا لم يكن هناك نصيب لتأجير المبنى فلا إيراد لهم، وإذا تلف المبنى أو تعيب أو تقرر هدمه فإنه يتلف عليهم أي على مالكي سندات المقارضة. وبذلك تكون حقيقة سندات المقارضة أنها شركة أملاك في علاقة مالكي السندات بعضهم ببعض لأنهم رب المال، وهي شركة مضاربة بين مالكي السندات بمجموعهم وبين الجهة المتولية لإدارة الوقف وذلك على أساس المضاربة المقيدة بمشروع معين مع الاتفاق المسبق على تصفية حقوق رب المال من واقع إيرادات المشروع إلى أن تعود ملكيته إلى جهة الوقف. وما ينطبق على الوقف الإسلامي يمكن أن ينطبق على مشاريع البلديات والمؤسسات وهيئات النقل البري والبحري والجوي ضمن هذا الإطار العام الذي أجاز به فقهاء الإمام أحمد دفع الدابة أو السفينة لمن يعمل عليها بجزء من الدخل الناتج منهما. 4- الإشكالات الفقهية المثارة في تطبيق سندات المقارضة: يثير التطبيق المستحدث لسندات المقارضة الصادرة لتمويل المشاريع الوقفية وما شابهها من المشروعات عددا من التساؤلات التي تحتاج إلى بيان الإطار الشرعي الذي يمكن من خلاله إصدار هذه السندات وتداولها بالبيع والشراء وكذلك تصفيتها وتسديدها. وتشمل هذه التساؤلات النقاط التالية: أ - تقسيم رأس المال في المضاربة إلى حصص متساوية. ب - بيع وشراء سندات المقارضة في المراحل المختلفة. جـ- دخول طرف ثالث غير رب المال أو العامل فيه كمتعهد بالشراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1502 وفيما يلي توضيح التساؤلات المشار إليها أعلاه وبيان ما يراه الباحث للمناقشة الفقهية. أ - تقسيم رأس المال في المضاربة إلى حصص متساوية: بما أن قواعد الفقه الإسلامي تسمح بتعدد المالكين لرأس مال المضاربة فإنه لا يوجد مانع شرعي من تخصيص هذا التعدد عن طريق تقسيم رأس المال في المضاربة إلى حصص متساوية لا سيما وأن هذه الحصص تكون اسمية أي أن كل سند يصدر باسم مالكه. فليس سند المقارضة ورقة نقدية تنتقل من يد إلى يد بمجرد التسليم وإنما لا بد لنقل ملكية الوثيقة الاسمية من وجود السبب الموجب كالبيع أو الإرث حيث يتم تسجيل اسم المالك الجديد وإصدار الوثيقة باسمه. وكما أنه لا يشترط في شركات الأموال مثل الشركات المساهمة أن يعرف جميع الشركاء بعضهم بعضا فإنه لا يشترط في سندات المقارضة أن يعرف جميع الشركاء في امتلاك حصص رأس المال بعضهم البعض خاصة وأن طبيعة المشروعات الممولة لا تعتمد على العامل الشخصي الذي يؤثر على سلامة إرادة المتعاقدين. وعليه فإن الإيجاب المعلن للعموم الذي يصدر عن الجهة المعنية بتمويل المشروع المعروض يعتبر إيجابا صحيحا ويكون إقدام المكتتب الذي يشتري سندا واحدا أو أكثر من سندات المقارضة قبولا لهذا الإيجاب بحسب الشروط المعلنة في نشرة الاكتتاب. ب - بيع وشراء سندات المقارضة في المراحل المختلفة: يطرح موضوع بيع سندات المقارضة بطريق الاكتتاب العام والسماح بتداول هذه السندات قضية هامة تتعلق بالشروط الخاصة ببيع حصة رب المال في رأس مال المضاربة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1503 والقضية تكون واضحة قبل بدء العمل في المال حيث يكون رأس المال نقودا ولا مجال للقول ببيع النقود وإنما تمكن الحوالة بقيمتها حاضرا بحاضر ويدا بيد ومثلا بمثل بلا زيادة ولا نقصان. أما بعد أن يبدأ العمل فإن رأس المال يصبح مالا مختلطا من النقود المتبقية والديون (إن وجدت) والأعيان المتمثلة في بضاعة المضاربة أو موجودات المشروع الذي جرى استثمار رأس المال فيه. وهنا يصبح سند المقارضة عبارة عن حصة شائعة في مجموع موجودات المشروع تماما كالسهم في الشركات المساهمة. ومعلوم أن السهم له قيمة اسمية معلنة دينار واحد مثلا أو عشرة ريالا إلا أنه يباع ويشتري بقيمة قد تزيد أو تقل عن القيمة الاسمية المعلنة تبعا لنجاح الشركة المساهمة أو فشلها. فإذا أخذنا بهذه النظرة الواقعية من ناحية كون سند المقارضة بعد بدء العمل في المشروع المختص به يصبح ممثلا لحصة شائعة في موجودات ذلك المشروع. فإن القول بجواز تداول مثل هذا السند بالبيع والشراء وغير ذلك من الأسباب الموجبة لنقل الملكية لا يكون متعارضا مع القواعد الفقهية. ويود الباحث أن يستزيد من علم السادة العلماء الأفاضل حول هذه النقطة مع الإشارة إلى أن هناك رأيا مماثلا أفادت فيه لجنة العلماء المشاركين في ندوة البركة الثانية للاقتصاد الإسلامي المنعقدة في تونس ما بين 9 – 12 صفر عام 1405هـ الموافق 4 – 7 نوفمبر عام 1984 حيث أقرت جواز الاتفاق على بيع حصص أو أسهم في شركة ذات موجودات حقيقية ليست مقتصرة على الديون والنقود (1) .   (1) انظر: جواب السؤال الخامس في مجموعة الفتاوى الصادرة من لجنة العلماء في ندوة البركة الثانية للاقتصاد الإسلامي. ملاحظة: ندوات البركة هي ندوات علمية للبحث في الصور التطبيقية للاقتصاد الإسلامي المعاصر قد سن هذه السنة الحسنة الشيخ صالح عبد الله كامل حيث يستضيف في كل عام بعض أهل العلم من رجال الفقه الإسلامي ورجال البنوك والاقتصاد الإسلامي لمناقشة متطلبات العصر وإعطاء الفتوى في المسائل المبحوثة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1504 جـ- دخول الدولة (بصفة طرف ثالث غير رب المال أو العامل فيه) كمتعهد بضمان تسديد ما يتبقى من رأس المال في سندات المقارضة: قدم الباحث هذه الفكرة أثناء مناقشات قانون سندات المقارضة رقم (10) لسنة 1981. حيث اجتمعت لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف الأردنية للنظر في هذا الموضوع. وقد قدم الباحث مذكرة تفصيلية في موضوع التكييف الفقهي لجواز قبول تعهد الحكومة بضمان تسديد ما يتبقى من أصل المال المدفوع في سندات المقارضة عند استحقاق أجلها المحدد. وبعد المناقشة المستفيضة أقرت لجنة الفتوى بإجماع الآراء جواز كفالة الحكومة لسندات المقارضة المخصصة لإعمار أراضي الأوقاف باعتبار أن الحكومة طرف ثالث وذلك على أساس الوعد الملزم (1) . وقد استند الباحث في التدليل لما يراه بهذا الخصوص إلى النقاط التالية: 1- إن الالتزام الممنوع في عقد المضاربة هو ضمان العامل للخسارة حتى لا تجتمع عليه خسارة الربح الذي كان يسعى لتحقيقه وخسارة رأس المال بسبب لا بد فيه حيث لم يكن مخالفا لشرط ولا مقصرا ولا متعديا. وإن الدولة حين تدخل كطرف ثالث فإنها ليست رب المال ولا هي العامل فيه لأن أموال الوقف الإسلامي ليست من أملاك الدولة. وبالتالي فإن تبرع الطرف الثالث في عقد المضاربة بالضمان هو بذل مثل سائر التبرعات، وإذا كان التبرع بالمال جائزا، فإن التبرع بالضمان هو أحرى أن يجوز. 2- الاستناد إلى شرعية عقد الجعالة الوارد في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] . فالالتزام هنا التزام معلن مفتوح على نحو ليس محددا بشخص معين وهو التزام قائم على مجرد الإيجاب وأن الغاية منه هي غاية تشجيعية للقيام بعمل معين.   (1) انظر: المذكرة التفصيلية المقدمة بالموضوع من الدكتور سامي حمود وقرار لجنة الفتوى الصادر بتاريخ 8/ 2/ 1398 هـ الموافق 17/ 1/ 1978 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1505 3- الاستدلال بضمان الرسول صلى الله عليه وسلم للدروع التي استعارها من صفوان بن أمية مع أن الأصل في الإعارة أنها تقوم على الأمانة حيث يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ((ليس على المستعير غير المغل ضمان)) ومعنى الأغلال: هو الخيانة في الأموال. غير أننا نجد أن الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم حين استعار السلاح والدروع من صفوان بن أمية قال له جوابا على تساؤله حين قال للنبي الكريم: أغصبا يا محمد، فقال له عليه الصلاة والسلام: ((بل عارية مضمونة مؤداة.)) 4- الاستدلال بضمان دين الميت بإرادة منفردة حين تعهد أبو قتادة – رضي الله عنه – بوفاء الدينارين عن الميت الذي لم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه حين علم أن الميت لم يترك وفاء لدينه. 5- الاستدلال بضمان خطر الطريق عند الحنفية حيث ذكر بعض فقهائهم – كما أورد ذلك فضيلة الأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء- في بحثه عن التأمين بأنه إذا قال شخص لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، وإن هلك فيه مالك فأنا ضامن. فإن القائل يضمن بهذا القول. وأن الدولة إذا قالت للمواطنين: اسلكوا هذا الطريق من طرق الاستثمار وساهموا في هذا المشروع المدروس وإذا خسرتم شيئا من أموالكم نضمن لكم، فإن تقرير هذا الضمان فيه مصلحة لجميع الأطراف. 6- ورغم ذلك فقد رأى الباحث أن يتم تكييف المسألة على أساس أن تحل الدولة محل مالك السند المباع باعتبارها لا ترد خسارة وإنما تشتري ما يتبقى من الموجودات التي تمثلها سندات المقارضة بسعر قابل للتجديد على أساس القيمة غير المسددة من أصل سند المقارضة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1506 الفصل الثاني الفرق بين سندات المقارضة وكل من سندات التنمية وشهادات الاستثمار والسندات الربوية 1- الفرق بين سندات المقارضة وسندات التنمية: سندات المقارضة – كما بينا في الفصل الأول – هي حصص مشاركة في تمويل مشروع معين بذاته على أساس أن مجموع المالكين لسندات المقارضة وهم رب المال لهم حصة ربح من ريع المشروع وهم يستردون رؤوس أموالهم تدريجيا من الجزء المخصص للتسديد. أما سندات التنمية فهي اصطلاح مستحدث يطلق على حالات اقتراض الدولة من السوق المحلي - غالبا – وهو ما يطلق عليه (الدين العام) حيث تكون إصدارات الدين العام إما بشكل سندات مسجلة (اسمية) وسندات لحامله أو بشكل أذونات الخزينة. فلو نظرنا إلى قانون الدين العام الأردني رقم /1 لسنة 1971 فإننا نجد أن تعريف الدين العام – كما ورد في ذلك القانون – هو الالتزامات المترتب على الحكومة دفعها تسديدا للأموال التي تفترضها من الأشخاص بمقتضى أحكام هذا القانون. وقد نظم المشرع الأردني شروط إصدار الدين العام بأشكاله المختلفة وأعطى للبنك المركزي سلطة الإصدار واعتبر أن قيمة الدين العام الصادر بموجب القانون وفوائده وجوازه المستحقة دينا ممتازا على موجودات الحكومة ويجب أن يسدد من إيراداتها العامة (المادة رقم 10) ، كما أعفى القانون كذلك الأرباح الناشئة عن الاستثمار في السندات الحكومية بما في ذلك فوائد السندات وجوائزها المستحقة من ضرائب أو رسوم أخرى (المادة 13/ أ) . ولا تختلف قوانين البلاد الإسلامية التي توجد بها سندات حكومية عن الصيغة العامة التي سار عليها المشروع الأردني حيث يقوم أساس التنظيم المالي في الإدارات الحكومية على مبدأ الاقتراض مقابل الفوائد من الداخل أو الخارج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1507 ومن ذلك يتضح أن علاقة مالك سند التنمية مع الدولة هي علاقة دائن مقرض بالمدين المقترض وأن الدولة تدفع الفوائد لهؤلاء المقرضين من ميزانيتها السنوية التي تجبى في الحقيقة من المواطنين بشكل رسوم وضرائب وغيرها. وليس هناك خلاف في أن وجود علاقة الدائنية والمديونية والزيادة المشروطة على المدين للدائن تجعل عناصر الربا متوفرة. ولكن السؤال الذي قد يثار هنا هو النظر إلى كل من شخص المقرض والمقترض. فالدولة هي المقترض والمقرضون هم المواطنون، فهل يختلف حكم القول بالتحريم بسبب اختلاف أشخاص المتعاملين؟ تعتبر هذه المسألة من الشبهات المثارة حول الربا قديما وحديثا. فقد ذهب الحنفية في الماضي إلى القول أنه لا يقع الربا بين السيد وعبده وذلك لأن من شرائط جريان الربا – كما قال صاحب البدائع – (أن لا يكون البدلان ملكا لأحد المتبايعين، فإن كان (أي البدلان ملكا لواحد) لا يجري الربا ... ) (1) . وجاء في كتاب النيل وشفاء العليل في الفقه الإباضي في عبارة المتن ( ... حرم الربا لا بين عبده وسيده ... ) (2) وبين شارحه في كتاب شرح النيل بأن العلة في ذلك (ما بيد العبد ملك لسيده) فلم يتحقق بيع (ولكن الشارح عاد ليقول بأن من قال بأن العبد يملك ما وهب له أو أوصى له به أو التقطه أو نحو ذلك حرم الربا بين العبد وسيده) (3) . وقد خالف الشافعي رأي الحنفية في هذه المسألة حيث ذكر النووي في المجموع أنه (يستوي تحريم الربا الرجل والمرأة والعبد والمكاتب بالإجماع) (4) . وإذا كان نظام الرق لم يعد قائما في الواقع المعاصر فإن وجود هذه الآراء الفقهية المذهبية قد فتحت بابا لبعض المعاصرين للقول بأنه لا ربا بين الدولة ورعاياها ولا سيما في ضوء سيطرة الدولة في بعض الدول الإسلامية على البنوك المؤممة وتدخلها المباشر في إدارة القطاع المصرفي.   (1) انظر الكاساني، بدائع الصنائع، الجزء السابع، ص 3129 (2) انظر الثميني، النيل وشفاء العليل، الجزء الثاني، الطبعة الثانية، (الجزائر، المطبعة العربية، 1968، صفحة 455 (3) انظر: محمد بن أطفيش شرح النيل، الجزء الرابع، طبعة الباروني، صفحة 18 (4) النووي، المجموع شرح المهذب، الجزء التاسع، صفحة 442 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1508 وقد ناقش الباحث هذه المسألة في أطروحته للدكتوراة عام 1976 حيث انتهى إلى أن ذمة المواطنين المالية منفصلة عن ذمة الدولة وأن الدولة ليست إلا ممثلة لمصالح الجماعة وراعية لها ولا تقاس علاقة الدولة بالمواطنين مثل علاقة السيد بالعبد إن صح الأخذ بعدم وقوع الربا معه على رأي من يقول: إنه لا يقع. لذلك فإن سندات التنمية المبنية على أساس الاقتراض الحكومي مقابل دفع الفائدة للمقرضين تعتبر من السندات الربوية التي تتطلب النظر في تصحيحها وهو من الأمور الممكنة عمليا والأسلم ماليا. الحل الذي نراه: وإن الحل الذي يراه الباحث أن سندات التنمية الصادرة في أي بلد إسلامي يجب أن تكون مخصصة لمشروع أو مجموعة مشاريع محددة ومعينة بذاتها على نحو ما تقدم في سندات المقارضة. فإذا قائل: إن هناك العديد من المشروعات التي ليس لها عائد أو إيراد مثل الطرق في بلادنا، فإن الرد على ذلك يكون النظر إلى العالم من حولنا حيث تُفرض الرسوم على المرور على الطرقات الدولية والجسور والإنفاق. إن الأوضاع المالية لكثير من الدول الإسلامية وغيرها أصبحت تتطلب إعادة النظر في طريقة الإنفاق على الخدمات والمصالح العامة ولا بد من اشتراك المواطنين في تمويل المشروعات ذات النفع العام، وأن هذا التمويل لا يتم إلا إذا فتحت الأبواب الميسرة للاستثمار الحلال. ويرى الباحث أن مرافق الخدمات العامة: كالمياه والكهرباء والهاتف والبرق والبريد والإذاعة والتلفزة وكذلك المشاريع الخاصة بالطرق والجسور والأنفاق والموانئ، والمطارات كل ذلك يمكن أن يترجم إلى مشاريع استثمارية ممولة على أساس مفهوم سندات المقارضة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1509 2- الفرق بين سندات المقارضة وشهادات الاستثمار: تعتبر شهادات الاستثمار نوعا من سندات التنمية حيث عرفت لأول مرة في مصر مع صدور القانون رقم 8 لسنة 1965. وتنفيذا للقانون المشار إليه فقد أصدر وزير الاقتصاد المصري القرار رقم 392/ 65 والقرار رقم 680 لسنة 1965 القاضيان بإعطاء البنك الأهلي حق إصدار الأنواع الثلاثة التي حددها القانون المذكور من شهادات الاستثمار وهي شهادات القيمة المتزايدة (النوع أ) وشهادات الاستثمار ذات العائد الجاري (النوع ب) وشهادات الاستثمار ذات الجوائز (النوع جـ) . وقد حاول الأستاذ الشيخ علي الخفيف – رحمه الله تعالى – في مشروع بحث كان أعده للعرض على مجمع البحوث الإسلامية (المؤتمر السابع) أن يثبت أن الاتفاق بين حملة شهادات الاستثمار والحكومة بما يدفعونه لها من أموال في سبيل الاستثمار والتنمية هو اتفاق يشبه عقد المضاربة. وقد بدأ - رحمه الله – ببيان رأيه في شهادات الاستثمار ذات الجوائز (النوع جـ) فاعتبر أن الجوائز الموزعة هي الربح الناتج عن استثمار المال في الإعمار العام كما اعتبر أن ضمان البنك الأهلي لدفع الجوائز قائم على أساس التبرع. أما بالنسبة لشهادات الاستثمار (أ) و (ب) فقد ذكر الأستاذ الشيخ علي الخفيف – رحمه الله تعالى – أنه يعتبر العقدين (لكل نوع من شهادات الاستثمار) بمثابة اتفاق بين المودع والدولة مدته عشر سنوات على إيداع ماله لدى الدولة ليكون تحت تصرفها في سبيل التنمية والاستثمار المدرجين في ميزانيتها على أن يكون ربح المال بين الدولة والمودع بنسبة 5 % للمودع من رأس المال عن كل عام وللدولة بقية الربح مع بقاء ملك المودع لماله. (1) . وليس عندي علم ما إذا تم تقديم هذا البحث إلى مجمع البحوث الإسلامية في المؤتمر السابع أم لا، إلا أن الذي أعلمه أن الأستاذ الشيخ محمد فرج السنهوري – رحمه الله تعالى – والذي كان مقررا لمجمع البحوث الإسلامية أفادني (وقد كنت تلميذا لكلا الأستاذين) أنه لا يوافق الشيخ الخفيف على ما يراه بهذا الخصوص. ومهما يكن من أمر فإن الواقع الذي غاب عن ذهن الأستاذ الشيخ علي الخفيف – رحمه الله وغفر له- أنه ليس هناك ربح محدد للأموال المتجمعة من بيع شهادات الاستثمار وأن هذا الربح يتم توزيعه جزافا للنوع الثالث (جـ) أو حسابا بمعدل 5 % من رأس المال للنوعين الأول والثاني (أ، ب) .   (1) انظر: بحث الشيخ علي الخفيف في حكم الشريعة على شهادات الاستثمار بأنواعها الثلاث تطبيقا للقواعد الفقهية العامة والأصول الشرعية للمعاملات، مطبوع على الآلة الكاتبة – مجمع البحوث الإسلامية – القاهرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1510 إن المسألة كما يعرفها موظفو البنك الأهلي المصري – هي حساب الفوائد هكذا وهكذا لقاء ما تقترضه الدولة من المواطنين وأن مجموع هذه الفوائد المدفوعة تقتطع من الميزانية العامة للدولة وتمول من الضرائب والرسوم المفروضة على عموم المواطنين. وبذلك فإن الحكم على شهادات الاستثمار لا يختلف عن الحكم على سندات التنمية وأن الحل الشرعي لكلا المنهجين في الاقتراض العام ممكن عن طريق التخصيص الذي هو أسلم شرعا وتنظيما واقتصادا. 3- الفرق بين سندات المقارضة والسندات الربوية: السندات الربوية هي السندات التي تصدر بالاقتراض الصريح دون تغليف باسم التنمية أو الاستثمار أو الإعمار لتمويل المشاريع العامة أو الشركات الكبيرة على أساس الالتزام بدفع فائدة محددة بسعر معين ثابت أو بسعر عائم حسب أسعار الأسواق العالمية. وليس هناك من شبه بين سندات المقارضة الحلال وهذه السندات الحرام إلا في طريقة جمع الأموال، وليس أسهل على الهيئات العامة والشركات الكبرى من أن تخصص استعمال الأموال وتحدد استحقاق الربح الناتج عن المشاريع الممولة بهذه الحصيلة المتجمعة من الأموال. فلا فرق بالنسبة لشركة كبرى – مثل شركة الأسمنت الأردنية مثلا – من إصدار سندات قرض بفائدة 6 % لبناء الفرن السادس أو إصدار سندات مقارضة لها خمس الأرباح الناتجة عن تشغيل الفرن أو استئجاره من قبل الشركة. وما ينطبق على شركة الأسمنت يمكن أن يطبق على مؤسسة المواصلات والبلديات والأبنية بما يجعل البلدان الإسلامية قادرة على اجتذاب الأموال المعطلة عن المشاركة في تمويل المشروعات التي تحتاج إليها كل البلاد الغنية منها والفقيرة على حد سواء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1511 خلاصة البحث يستنتج مما سبق بيانه حول تصوير حقيقة سندات المقارضة والفرق بينهما وبين سندات التنمية وشهادات الاستثمار والسندات الربوية ما يلي: 1- أن سندات المقارضة صورة حديثة من صور تقسيم رأس المال إلى حصص موحدة القيمة من أجل تسهيل عمليات التبادل والتداول وفتح المجال لأكبر عدد من المستثمرين للدخول في تمويل المشاريع الكبيرة ذات النفع العام – غالبا – على المجتمعات الإسلامية. 2- أن حكم مالكي سندات المقارضة هو حكم رب المال في عقد القراض وأن الربح الذي يتقاضاه مالكو هذه السندات يجب أن يتحصل أساسا من إيراد المشروع الذي جرى تمويله بهذا المال المتجمع من حصيلة بيع السندات. 3- أن التسديد التدريجي لقيمة سندات المقارضة يهدف إلى تصفية عمليات تمويل المشاريع لتوخي تدوير المال في مختلف وجوه النشاط. 4- أن سندات التنمية وشهادات الاستثمار وما شابهها من سندات حكومية يمكن أن تصبح سندات مقارضة شرعية إذا خصصت حصيلة الأموال المتجمعة منها لتمويل مشاريع محددة ومعروفة بذاتها، أما القول العام بحصول هذه السندات على ما يسمى بالفوائد أو الجوائز أو الأرباح مع بقاء قيمة السندات المدفوعة دينا على جهة الإصدار أو الوكيل فإن هذا الوضع يدخل هذه السندات تحت المحظور الشرعي من حيث الصفة الربوية لأن فيها علاقة الدائن بالمدين مع الزيادة المشروطة بنسبة مئوية من رأس المال يدفعها المدين للدائن. 5- أن المؤسسات العامة وكذلك الشركات الكبرى العاملة في البلاد الإسلامية وخارجها تستطيع أن تصدر سندات مقارضة تعتمد على توزيع نسبة شائعة ومعلنة مسبقا من ناتج الربح المتحقق بالفعل في المشروع أو الوحدة الإنتاجية الممولة من حصيلة بيع تلك السندات. 6- أن تعهد الدولة بشراء سندات المقارضة الصادرة عن مختلف المؤسسات ذات الاستقلال المالي مثل هيئات الأوقاف والبلديات والمؤسسات العامة وما شابهها هو تعهد صحيح شرعا باعتبار أن تدخل ولي الأمر كمتعهد للشراء يحقق مصلحة عامة للمجتمع الإسلامي ويحفز المستثمرين للمشاركة في تنمية الاقتصاد ورفع مستوى الإنتاج في البلد الإسلامي، وطالما أن الدولة تحل محل البائع بما له من حقوق وما عليه من التزامات فإن هذه المبايعة تعتبر مبايعة شرعية وليس هناك من مطعن شرعي في إعلان السعر الذي يصدر عن الدولة بصورة إيجاب معلن للعموم بالاستعداد لشراء السندات بأسعار تحدد لكل نوع منها حسب طبيعة القطاع الذي تموله هذه السندات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1512 7- وأخيرا ... فإنه ما دام طريق الحلال قد أصبح واضحا ومعروفا بما يسد احتياجات المشروعات العامة وتمويل خطط التنمية في البلاد الإسلامية فإنه يصبح واجبا شرعيا على ولاة أمور المسلمين لتوجيه الالتزام بإصدار سندات المقارضة وتشجيع تداولها حيث يتحقق من ذلك ما يلي: أ- تشجيع حركة الاستثمار الداخلي وتقوية شعور المواطنين بالمشاركة في تمويل المشاريع التي تعود عليهم بالخير حيث يكون هذا النشاط التنموي هو منهم وإليهم. ب - اجتذاب الأموال المعطلة عن الاستثمار والمخزونة بشكل أموال مكتنزة أو المتروكة في حسابات جارية لدى البنوك بما لا يفيد الاقتصاد الوطني للبلاد الإسلامية ويتسبب في زيادة نسبة عرض النقد بلا مبرر. جـ- التمهيد لوجود أسواق محلية ودولية للسندات الشرعية التي تشكل نواة سوق رأس المال الإسلامي وما يؤدي إليه ذلك من تسهيل تداول انتقال رؤوس الأموال لغايات الاستثمار داخل التجمعات الإقليمية أولا مثل دول مجلس التعاون الخليجي والبلاد العربية الممثلة في مجلس الوحدة الاقتصادية والعالم الإسلامي الممثل في منظمة المؤتمر الإسلامي. وإن البنك الإسلامي للتنمية بما وصل إليه نتيجة دعم الدول الإسلامية له واكتسابه احترام الجميع بفضل استقلالية إدارته وحكمة رئيسه معالي الدكتور أحمد محمد علي – حفظه الله – يمكن أن يكون الجهة القادرة على إصدار سندات المقارضة للدول الإسلامية الراغبة في ذلك وقد آن الأوان لكي يبسط البنك الإسلامي للتنمية أجنحته إلى شرق العالم الإسلامي وغربه بعد أن رسخت جذور إدارته في قلب العالم الإسلامي الذي تلتقي فيه الإرادة الإسلامية الواحدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1513 هذا وقد بادر البنك الإسلامي إلى تأسيس صندوق مخصص لإصدار سندات تشبه سندات المقارضة إلى حد ما حيث جرت تغطية المطروح للاكتتاب الخاص بالكامل من قبل البنوك الإسلامية التي أقبلت على المشاركة. كما وجد في العالم الإسلامي إلى جانب سندات المقارضة التي تبناها المشرع الأردني أدوات استثمارية أخرى مثل الأسهم المشاركة في الأرباح دون التصويت وهي الأسهم التي صدر بها القرار الوزاري رقم (17) لسنة 1986 في دولة البحرين حين طلب بنك البركة الإسلامي للاستثمار العامل في البحرين تأسيس شركة تابعة لإصدار هذه الأسهم المرتبطة بصناديق استثمارية معينة في المرابحة والإيجار والسلم والمشروعات. وإذا تضافرت جهود البنك الإسلامي للتنمية مع جهود مجموعة البركة والبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية فإن النتائج ستعود بالخير بإذن الله على العالم الإسلامي والإنسانية جمعاء لأن رخاء العالم الإسلامي وسيادة السلام والاستقرار فيه هو جزء من رخاء العالم وهنائه. سائلين الله أن يوفق جميع المخلصين العاملين لما فيه الخير أنه سميع مجيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الدكتور سامي حسن حمود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1514 المراجع أولا: فقه المذاهب الإسلامية: من المذهب الحنفي: 1- كاساني: علاء الدين بن مسعود الكاساني (587) هـ بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع. القاهرة: زكريا علي يوسف، دون تاريخ. 2- ميرغيناني: برهان الدين علي بن أبي بكر الميرغيناني (593هـ) . كتاب الهداية شرح بداية المبتدى، الطبعة الأولى. مصر المطبعة الخيرية، 1326هـ. من المذهب المالكي: 3- مالك (الإمام) : أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي (179هـ) . المدونة الكبرى (رواية سحنون عن ابن القاسم عن الإمام مالك) طبعة أوفست عن أول طبعة. بيروت: دار صادر، دون تاريخ. 4- ابن رشد (الحفيد) : محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (595هـ) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، الطبعة الثالثة. مصر، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1960 5- ابن جزي: محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي (741هـ) . قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية طبعة جديدة ومنقحة. بيروت: دار العلم للملايين، 1968. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1515 من المذهب الشافعي: 6- شافعي (الإمام) : محمد بن إدريس الشافعي (204هـ) . الأم، الطبعة الأولى، تصحيح محمد زهري النجار. القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، 1961. 7- نووي: محيى الدين بن شرف النووي (676هـ) . المجموع شرح المهذب. القاهرة: زكريا علي يوسف، دون تاريخ. 8- رملي: شمس الدين محمد بن أحمد الرملي (1004هـ) . نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج في الفقه. على مذهب الإمام الشافعي. وبهامشه حاشية الشبرامسلي والرشيدي. مصر: المطبعة البهية المصرية، 1304هـ. 9- ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم عبد السلام بن تيمية (728هـ) . القواعد النورانية الفقهية، الطبعة الأولى تحقيق محمد حامد الفقي. القاهرة: مطبعة السنة المحمدية، 1951. 10- ابن قدامة: عبد الله بن أحمد بن قدامة (620هـ) . المغني، الطبعة الثالثة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1516 القاهرة، دار المنار، 1367هـ. 11- ابن القيم: شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية (751هـ) . أعلام الموقعين عن رب العالمين، الطبعة الأولى، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد. مصر: المكتبة التجارية الكبرى، 1955. 12- ابن هبيرة: يحي بن محمد بن هبيرة (560هـ) . الإفصاح عن معاني الصحاح، الطبعة الأولى. حلب: محمد راغب الحلبي، 1928. 13- من المذهب الظاهري: ابن حزم: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (456هـ) . المحلى. بيروت: المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع دون تاريخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1517 14- السياغي: شهاب الدين الحسين بن أحمد السياغي (1221هـ) . الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير، الطبعة الثانية. الطائف: مكتبة المؤيد، 1968. 15- مغنية: محمد جواد مغنية. فقه الإمام جعفر الصادق، الطبعة الأولى. بيروت: دار العلم للملايين، 1965. 16- ثميني: ضياء الدين عبد العزيز الثميني (1223هـ) . النيل وشفاء العليل، الطبعة الثانية. الجزائر: المطبعة العربية لدار الفكر الإسلامي 1968. 17- أطفيش: محمد بن يوسف أطفيش (1332هـ) . شرح النيل. طبعة الباروني. من الفقه الإسلامي المعاصر: 18- خفيف: علي الخفيف. حكم الشريعة الإسلامية على شهادات الاستثمار بأنواعها الثلاث تطبيقا للقواعد الفقهية العامة والأصول الشرعية للمعاملات. بحث مطبوع على الآلة الكاتبة ومعد للتقديم إلى مجمع البحوث الإسلامية – المؤتمر السابع. 19- حمود: سامي حسن حمود. تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية (رسالة دكتوراة نوقشت بقسم الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1976) . الطبعة الثانية، 1982. توزيع دار الفكر للنشر والتوزيع، عمان، الأردن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1518 ثانيا: مراجع متنوعة اللغة العربية: 20- ابن منظور: أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري. بيروت، دار صادر للطباعة والنشر، 1968. 21- مجمع اللغة العربية: المعجم الوجيز. بيروت، المركز العربي للثقافة والعلوم، 1980. بحوث ومقالات وندوات: 22- حمود: سامي حمود. أ - المذكرة الإيضاحية ومناقشات لجنة الفتوى (بالأردن) حول مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني (1978) . ب - مذكرة مقدمة للبنك الإسلامي للتنمية بتاريخ 17/ 1/ 1978 حول الأفكار العامة لسندات المقارضة. جـ- مذكرة إيضاحية مقدمة إلى لجنة الفتوى (الأردن) ببيان الوجوه الفقهية المؤيدة لإمكان قبول تعهد الحكومة بضمان سندات المقارضة المخصصة لإعمار أراضي الأوقاف وقرار لجنة الفتوى الصادر بناء على هذه المذكرة بتاريخ 17/ 1/ 1978. د- الأبحاث المقدمة لندوة البركة الثابتة للاقتصاد الإسلامي والمنعقدة في تونس بشهر نوفمبر 1984 حول الأدوات الاستثمارية الإسلامية والفتاوى الصادرة عن العلماء المشاركين في الندوة حول المواضيع المبحوثة والأسئلة المطروحة. هـ- المراسلات الجارية بشأن شرح وتقديم أفكار سندات المقارضة مع كل من وزارة الأوقاف (بالأردن) والبنك الإسلامي للتنمية (جدة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1519 سندات المقارضة والاستثمار إعداد فضيلة الدكتور علي أحمد السالوس أستاذ الفقه والأصول بكلية الشريعة جامعة قطر بسم الله الرحمن الرحيم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} سندات المقارضة والاستثمار الحمد لله تعالى حمدا طيبا مباركا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على رسله الكرام وعلى أولهم الخاتم، وعلى من اهتدى بهديه واتبع سننه إلى يوم الدين. ونسأل الله عز وجل أن يهدينا سواء السبيل، وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل. أما بعد: فعندما عرض هذا الموضوع على المؤتمر الثالث لمجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي لم يقدم في الموضوع إلا بحث واحد هو بحث فضيلة الأستاذ الدكتور عبد السلام العبادي، لهذا كتبت كلمة موجزة قدمتها للمؤتمر آنذاك، وكان الغرض منها إبداء بعض الملاحظات التي رأيت أنها هامة، وأرجئ النظر في الموضوع للمؤتمر الرابع إن شاء الله تعالى حتى يأخذ حقه من الدراسة المتأنية، وتلبية للدعوة الكريمة التي تلقيتها للكتابة في هذا الموضوع أستعين بالله جلت قدرته لتحقيق ما نهدف إليه من الرجوع إلى الحق الذي يرضيه سبحانه وتعالى. والأستاذ الدكتور العبادي تحدث عن قانون سندات المقارضة الأردني، وعن شهادات الاستثمار المخصصة التي أعدها مجموعة من الخبراء بتكليف من البنك الإسلامي للتنمية. غير أنه في حديثه عن القانون الأردني وبيان مشروعيته اعتمد في أكثر من موضوع على بحث للدكتور منذر قحف عنوانه (سندات القراض وضمان الفريق الثالث وتطبيقاتهما في تمويل التنمية في البلدان الإسلامية) . وعندما دار حوار بيننا حول بعض النقاط التي أخالف سيادته فيها أشرك معنا السيد الدكتور منذر قحف. لهذا سأبدأ الدارسة بالنظر في بحث الدكتور منذر قحف، يليه القانون الأردني، فشهادات الاستثمار المخصصة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1520 أولا: سندات القراض وضمان الفريق الثالث: هذا هو بحث الدكتور منذر قحف الذي أقره واحتج به الأستاذ الدكتور عبد السلام العبادي، ولننظر في هذا البحث. يقول السيد الباحث: إن عقد القراض يمنح رب المال الحقوق التالية: (1- الحق باستعادة ماله الذي أعطاه مضاربة، مضافا إليه حصته من الربح (أو مطروحا منه الخسارة) عند انتهاء أو إنهاء العقد. 2- الحق بضمان الشريك العامل عند تفريط الأخير أو إساءته. وفي مقابل ذلك فإن الحقوق التي ينالها صاحب العمل في عقد القراض هي: 1- الحق في التصرف في المال بالشراء والبيع والتجارة وغير ذلك بقصد إنمائه. 2- الحق بالربح حسب النسبة المشاعة من الربح المتفق عليها في العقد) . ويقول بعد هذا: (ولا شك أن مقابل هذه الحقوق واجبات أيضا. والمقارض إنما يحرم نفسه – بدخوله بعقد القراض- من حق التصرف بماله الذي وضعه في المضاربة. فالقراض لغة من القرض وهو القطع، أي أنه يقتطع جزءا من ماله ويسلمه للمقارض (العامل) . أما الأخير فواجبه أن يتصرف بأمانة وإخلاص في إنماء هذا المال، لذلك لا يلزم العامل بالضمان سواء نقص مال المضاربة أو فقد سبب النشاط التجاري كالخسارة، أو بسبب غير تجاري كالسرقة أو الضياع، إذا لم يفرط، أو يسيء في استعمال سلطته) . نرى – مما سبق – أن أقوال السيد الباحث تتفق مع فقه المضاربة فالعامل يتصرف كوكيل عن صاحب رأس المال، وليس بضامن لرأس المال، ويده يد أمانة وليست يد ملك، وليس شريكا إلا بمقدار نسبته من الربح. والوكيل إذا اشترى باسمه فالملكية في الحقيقة للموكل لا للوكيل. وإذا كانت المشتريات لا تزيد قيمتها عن رأس المال فهي كلها ملك لرب المال وليس للعامل أي شيء، وإذا فسخت المضاربة واستحق العامل أجر المثل مثلا، انتقلت الأعيان والحقوق كلها لصاحب رأس المال وحده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1521 ولي ملحظ هنا يتصل بحق العامل في التصرف، وحرمان صاحب رأس المال من هذا الحق. فتصرف العامل واجب استحق به المشاركة في الربح، فليس له وظيفة هنا إلا هذا العمل، وعمله أساسا لصالح صاحب رأس المال وإن عاد النفع عليه متى حقق ربحا، وقد يقيد بقيود وشروط يراها موكلة فيخضع تصرفه لهذه القيود. وتميكن العامل من التصرف لا بد منه حتى يستطيع القيام بعمله. فهذا العبء والتكليف يعبر عنه بأنه حق حرم منه صاحب رأس المال؟ ولو أراد التصرف في ماله فما حاجته إلى العامل؟. قد يقال: إن العبارة لا تبرر مثل هذه الوقفة ما دام الكلام في جملته صحيحا، غير أني ذكرت هذا الملحظ هنا لأن السيد الباحث مهد بهذا الوصول إلى أن هذا الحق كالعقود الناقلة للملكية!! فبعد كل البعد عن فقه المضاربة، ووقع في تناقض بين يظهر قريبا. يرى السيد الباحث أن بحثه يقوم على التمييز بين القراض والشركة وليس على تشابههما. وبعدما ذكره عن القراض مباشرة قال: (أما في عقد الشركة فإن الشريك لا يتنازل عن حق التصرف بالمال! دون أن يمنع ذلك من أن يفوض بعض الشركاء بعضا بهذا الحق) . وبالتالي فإن حق الشريك في الشركة هو حق ملكية كاملة ينصب على العين التي تملكها الشركة وعلى التصرف بها معا، بحيث يملك منها ما يتناسب مع حصته بين سائر الشركاء. ويلاحظ أن عقود الودائع بالمضاربة التي تمارسها جميع المصارف الإسلامية اليوم إنما تقوم على المفهوم المفصل أعلاه من حيث الحقوق والواجبات المتعلقة بعقد القراض. في حين أن حملة الأسهم في المصرف الإسلامي يعتبرون هم الشركاء الذين يملكون أعيان واستثمارات المصرف، ويتصرفون بها. كما أن قانون سندات المقارضة الأردني ... إلخ. ومن أقواله بعد ذلك: (لو كان – أي القراض – شركة لكان ينبغي أن يشتركا في التصرف، ولكان ينبغي أيضا أن يشتركا في الربح والخسارة معا بحيث تتكافأ طريقة توزيع الخسارة مع طريقة توزيع الربح. واستدل هنا بقول الحنفية: لو شرط خلوص اليد لأحدهما لم تنعقد الشركة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1522 وقال أيضا: (فكما أن المرابي ليس شريكا في مال مدينه فكذلك ليس المقارض شريكا في القراض ولا يتمتع بأي حق من حقوق التصرف والأدارة التي يتمتع بها الشريك) . ثم قال: (واعتبار القراض تمويلا ينسجم مع ما رتبه الفقهاء على القراض من نتائج، فهو يفسر اشتراط أن يكون رأس مال القراض مالا حاضرا، لا عرضا ولا دينا) . هذه بعض أقوال السيد الباحث، وبالنظر فيها نجد ما يأتي: 1- ما ذكره من حق الشريك في الملكية والتصرف معا ليس شرطا في كل شركة في الإسلام، وما ذكره عن الحنفية لا ينطبق على كل الشركات، وكان يستطيع أن يرجع إلى أنواع الشركات عند الحنفية أنفسهم ليجد شركة المضاربة بين الشركات ومن اليسير أن يجد هذه الأنواع في مجلة الأحكام العدلية مثلا والقانون المدني الأردني ذكر المضاربة تحت أنواع الشركات وعندما تحدث عن المساقاة في المادة (736) قال: (المساقاة عقد شركة على استغلال الأشجار والكروم بين صاحبها وآخر يقوم على ترتيبها وإصلاحها بحصة معلومة من ثمرها ... ) . ومن المعلوم أن المساقي لا يملك الأرض ولا الشجر، وإنما شركته في الثمر، وهو الذي يقوم بالعمل. ومن ذهب إلى أن المضاربة ليست شركة نظر إلى أن العامل ليس شريكا في رأس المال. ولا في الأعيان والحقوق إلا بعد تحقق الربح فما لم يتحقق ربح لا تبدأ المشاركة، ويبقى الكل ملكا لرب المال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1523 2- المساهمون في المصرف الإسلامي لا يملكون من أعيان واستثمارات المصرف إلا بقدر رأس المال الذي يملكونه، وهو ما يقابل حق المساهمين. أما استثمارات الودائع فلا يملكون منها شيئا إلا بعد تحقق الربح، وتصرفهم تصرف الوكيل المضارب الذي يتصرف في مال غيره بإذنه. وما قال أي فقيه بأن المضارب يتصرف في مال أصبح ملكا له. 3- جعله حق التصرف يعني ملكية العين بعيدا كل البعد عن فقه المضاربة، ويتعارض مع ما ذكره في البداية من أن العامل غير ضامن، وواجبه أن يتصرف بأمانة وإخلاص ... إلخ. 4- قوله بأن رب المال كالمرابي ليس شريكا في المال قول عجيب غريب، يدرك خطأه كل من يفقه القراض والفرق بينه وبين القرض الربوي. 5- لو قرأ الشرائط المختصة بشركة الأموال لوجد على سبيل المثال في مجلة الأحكام العدلية: (المادة 1338) يشترط أن يكون رأس المال من قبيل النقود، فالعروض والوكيل والموزون والعددي المتقارب لا تصلح رأس مال للشركة. (المادة 1341) يشترط أن يكون رأس المال عينا، فلا يجوز أن يكون الدين، يعني ما يثبت في ذمم الناس، رأس مال للشركة. (المادة 1342) لا يصح عقد الشركة على الأموال التي لا تعد من النقود كالعروض والعقار، أي لا يجوز أن تكون هذه رأس مال للشركة. هذه بعض أقوال السيد الباحث وأخطائه، والبحث مليء بالأخطاء وعدم الفقه، وما كان لنا أن نقف أمامه هذه الوقفة لولا أن الأستاذ الدكتور العبادي ذكره مرجعا محتجا به في البحث الذي قدمه للمجمع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1524 ثانيا: قانون سندات المقارضة الأردني بعض نصوص هذا القانون: المادة 2- أ – تعني (سندات المقارضة) الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح. ب - يحصل مالكو السندات على نسبة محددة من أرباح المشروع، وتحدد هذه النسبة في نشرة إصدار السندات. ولا تنتج سندات المقارضة أي فوائد، كما لا تعطي مالكها الحق في المطالبة بفائدة سنوية محددة. المادة 7- ب يعين في نشرة الإصدار بنك مرخص أو مؤسسة مالية وكيلا للدفع يتولى شؤون دفع القيمة الاسمية للسندات وأرباحها بالقيمة المستحقة وفي المواعيد المقررة. المادة 12- تكفل الحكومة تسديد قيمة سندات المقارضة الاسمية الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة، وتصبح المبالغ المدفوعة لهذا السبب قرضا ممنوحا للمشروع بدون فائدة مستحق الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات. المادة 14 – يحق للشخص الطبيعي أو المعنوي من رعايا الدول العربية والإسلامية الاكتتاب في سندات المقارضة، كما يحق تحويل الأرباح المتأنية والقيمة الاسمية لاكتتابه عند البيع أو الإطفاء إلى الخارج بالعملة الأجنبية وفق أحكام القانون ونشرة الإصدار. هذه بعض نصوص السندات، ومنها نرى ما يأتي: 1- أن هذه السندات تختلف تماما عن نظام المقارضة المشروع، ففي المضاربة – كما هو معلوم بغير خلاف – أن المال في يد المضارب أمانة، يستثمرها لصاحب رأس المال مقابل نسبة من صافي الربح، فإذا لم يتحقق ربح فلا شيء له، وإذا خسر بغير تفريط أو مخالفة للشروط فلا شيء عليه. والمضارب إذا استثمر المال في أي مشروع فإنه لا يملك منه إلا بقدر نسبته من الربح، والملكية الحقيقية للمشروع كله – بعد معرفة المقدار الذي يستحقه المضارب إنما هي للموكل أي صاحب رأس المال، وليس للوكيل المضارب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1525 وإذا اشترك المضارب بمبلغ من المال فهو كأصحاب رأس المال، له ما لهم، وعليه ما عليهم، بالإضافة إلى ما يقابل عمله فإذا فرضنا مثلا أن مال المضاربة مائة ألف، اشترى به مصنع. فإن أرباح المصنع توزع بالنسبة المتفق عليها، أما المصنع نفسه فإذا لم يزد عن مائة ألف ولم ينقص فهو ملك لأصحاب رأس المال، وإذا زاد كان للمضارب نسبة من هذه الزيادة فقط. وإذا بطلت المضاربة، وأخذ العامل أجر المثل، فإن المصنع بالكامل يكون ملكا لصاحب رأس المال سواء ازدادت قيمته السوقية عن القيمة الدفترية أم قَلَّت. وإن قلت القيمة السوقية وبقيت المضاربة فلا شيء للمضارب ولا شيء عليه. أما السندات الأردنية فلم تذكر قيمة الأرض التي ستشارك بها وزارة الأوقاف، ولا ينظر إلى قيمة المشروع الذي سينشأ بأموال أصحاب السندات. وصاحب رأس المال له مثل ما أعطى من المال دون زيادة أو نقصان وهو القيمة الاسمية للسند، ومعنى ذلك أنه ليس شريكا في المشروع. فعند البيع أو الإطفاء ليس له إلا القيمة الاسمية وإذا زاد السعر عند البيع فليس له أن يحول للخارج إلا القيمة الاسمية مع الأرباح. ومع أن المضاربة شركة من الشركات في الإسلام إلا أن قانون السندات يقوم على أساس التفرقة بين المضاربة والشركة ويجعل المقارضة نوعا من التمويل فقط دون الاشتراك فيما أنفق فيه هذا التمويل. 2- السندات الأردنية تتفق مع السندات ذات الفوائد الربوية في أن صاحب السند ليس له إلا القيمة الاسمية للسند دون المشاركة في المشروعات التي يستخدم فيها السند، ومصدر السند ضامن لرد المثل في جميع الحالات، ولصاحب السندات زيادة على رأس المال المدفوع. والفرق بين النوعين أن الفوائد الربوية محددة معلومة من البداية، أما السندات الأردنية فالزيادة تعطى من أرباح المشروع الظاهرية، وهذا الفرق قد لا يخرجها من الحرام إلى الحلال، لأنها زيادة مشروطة في العقد وقد لا تكون هناك أرباح في الواقع، بل قد تتحقق خسائر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1526 مثال هذا: إذا استثمرت أموال السندات في البناء، وأجر المبني، فإن الربح الظاهري هو الإيجار، لكن هذا لا يمثل الربح الواقعي. فالمبني إذا تكلف عشرة ملايين، وهبط سعره إلى خمسة، فقد هبط خسارة كبيرة، مع أن الظاهر أن الإيجار ربح، وفي الواقع لا يعوض شيئا يذكر من الخسارة الفعلية. ولو أن هذا المبنى الذي تكلف عشرة، أصبحت قيمته عشرين، فإن الإيجار لا يمثل الربح الحقيقي. وفي الحالة الأولى يكون صاحب السندات ظالما إذا أخذ ما دفعه وهو القيمة الاسمية مع تحقق هذه الخسارة. وفي الحالة الثانية يكون مظلوما إذا لم يأخذ إلا القيمة الاسمية الربح الظاهر. 3- كفالة الحكومة للقيمة الاسمية للسندات تخالف عقد الكفالة، فالكفيل لا يضمن ما ليس مضمونا على الأصيل. وجعل الكفالة هنا من باب الوعد الملزم الذي قال به بعض الفقهاء يحول الأمور إلى مسائل شكلية وكما يجوز ضمان أصل، يجوز ضمان نسبة زيادة على رأس المال، وبذلك يفتح باب الربا على مصراعيه في عصرنا، وتقبل كل الفوائد الربوية على أنها وعد ملزم، فيمكن لبنك رئيسي أن يضمن الأصل والفوائد للمودعين في البنوك الفرعية، وكل منها له ذمة مستقلة. والعلاقة بين البنك الرئيسي وفروعه لا تزيد عن العلاقة بين الدولة وإحدى وزارتها. والمسلم عندما يستثمر أمواله يعلم أن الغنم بالغرم، والغرم بالغنم. فقد يربح وقد يخسر، وهذا فرق واضح بين المسلم المستثمر والمرابي. ومع كل هذا لو سلمنا بجواز كفالة الحكومة لوزارة الأوقاف فإن الكفالة إنما هي لإقراض الوزارة حتى تتمكن من دفع القيمة الاسمية، وليست هبة، والوزارة كمقترض ضامن لرد المثل للحكومة، وهذا يعني أن وزارة الأوقاف هي نفسها الملتزمة بالأداء ولكن بعد الإطفاء الكامل للسندات إذا عجزت عن أداء التزاماتها قبل هذا. إذا وزارة الأوقاف هي في واقع الأمر ضامنة لرد القيمة الاسمية للسند في جميع الحالات، مع جزء من الأرباح الظاهرة لا الحقيقية، ولكن إذا عجزت اقترضت لأداء ما عليها من ديون، والحكومة وعدت وعدا ملزما بأن تقرضها في مثل هذه الحالة. فكيف غاب هذا عمن أفتى بجواز هذه الكفالة؟! 4- هذه السندات إذن ليست من القراض بشروطه المجمع عليها كما نعرف في الفقه الإسلامي، ولهذا يقول الأستاذ الدكتور العبادي: (الواقع أن هذه السندات طرحها التقنين الأردني على أساس أنها من صور التعامل الجديد القائمة على مبادئ الاقتصاد الإسلامي) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1527 وهذا القول فيه نظر، لأن وزارة الأوقاف ضامنة لرأس المال، وفي الوقت نفسه يشاركها صاحب رأس المال في الربح، ومن المبادئ الأساسية في الاقتصاد الإسلامي أن (الخراج بالضمان) كما جاء في الحديث الشريف، وأنه لضمان على من شورك في الربح، وهذا فرق جوهري بين القرض والقراض: فالقرض ضمان بلا مشاركة للضامن في الربح، والقراض مشاركة بلا ضمان من المضارب. 5- عقد القرض ينطبق تماما على هذه السندات وهو من القروض الإنتاجية الاستثمارية. والفرق بينها وبين السندات ذات الفوائد الربوية أنها لا تعطي مالكها الحق في المطالبة بفائدة سنوية محددة. ويتفق النوعان في أن مالك السند له رأس ماله، وهو القيمة الاسمية للسند، وليس شريكا في الأعيان والحقوق التي أسهمت فيها أموال هذه السندات. وبدلا من الفوائد السنوية المحددة التي يأخذها مالك السندات الربوية فإن مالك سندات المقارضة له نسبة محددة من أرباح المشروع. إذا اقترض أحد ألف دينار مثلا ليستثمره في أي مشروع، وتعهد برد المثل في موعد معين، واتفق الاثنان على أن المقرض ليس شريكا في المشروع ولا في خسارته، وإنما له نسبة محددة من الربح مدة بقاء القرض. أيكون هذا الربح الزائد على القرض حلالا؟ فالقيمة الاسمية المضمونة تقابل القرض هنا، والتعهد برد هذه القيمة هو التعهد برد المثل، وموعد الإطفاء هو موعد رد القرض وأرباح السندات هي أرباح القرض، ومالك السند ليس شريكا في المشروع وإنما هو مقرض. 6- قال ابن قدامة في المغني: (4/ 360) : (كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف) . قال ابن المنذر: (أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك إن أخذ الزيادة على ذلك ربا) . وذكرت هذا القول، وما يؤيده من كتب السنة في كتابي المعاملات المالية المعاصرة ص 61- 66. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1528 فالنسبة المحددة من الربح مدة بقاء رأس مال السند قبل الإطفاء زيادة مشروطة، فهي من الربا المحرم. 7- تداول السندات في سوق عمان دون أن يكون لسند المقارضة نصيب في المشروعات كالأسهم، فليس صاحب السند شريكا كالمساهم، سيجعل البيع والشراء مرتبطا بالفوائد الربوية السائدة، وبما يعرف بسعر (الخصم) فمتى كانت الأرباح المتوقعة أعلى زادت القيمة السوقية للسند، ومتى كانت أقل انخفضت القيمة السوقية. وإذا كان السند لا يمثل حصة شائعة في المشروع، وإنما يقابل القيمة الاسمية مع الأرباح التي يأخذها مالك السند، فكيف يجوز بيع مثل هذا السند؟ إنه بيع دين في الذمة بنقد حاضر من جنسه مع الزيادة أو النقص، فكيف أن التحريم هنا غير واضح؟!. وذكر الدكتور العبادي (بأن القيمة السوقية للسند تتألف من القيمة الحالية لرأس المال مضافا إليها القيمة الحالية للأرباح المتوقعة، وفي هذا تدخل جميع العوامل المؤثرة على ربحية المشروع) . وهذا القول لا يخرج عما ذكرته آنفا! وللتوضيح أقول: إذا كانت القيمة الاسمية للسند مائة الدينار، وتسترد القيمة بعد خمس سنوات، والأرباح المتوقعة في كل عام عشرون دينارا، والفوائد الربوية السائدة 10 %، فإن القيمة السوقية للسند تكون أكثر من مائة، لأن المشتري وإن كان لا يأخذ في النهاية إلا القيمة الاسمية غير أنه خلال المدة يحصل على ما يزيد عن الفوائد الربوية السائدة، وعلى العكس من ذلك إذا كانت الأرباح المتوقعة أقل من الفوائد الربوية السائدة فإن القيمة السوقية تقل عن القيمة الاسمية، لأن المشتري الذي يحصل على أرباح أقل سيأخذ في النهاية أكثر مما دفع. وعندما يصبح ريع المشروع معروفا محددا كالمباني عندما تؤجر تصبح الزيادة التي يأخذها مالك السند محددة، وبذلك لا نستطيع أن نفرق بين سندات المقارضة والسندات ذات الفوائد الربوية، فكلها يخضع للعوامل التي تخضع لها القروض الربوية. وبغض النظر عن العوامل المؤثرة فما معنى (القيمة الحالية لرأس المال) ؟ أليس هذا بيع دين في الذمة بنقد حاضر؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1529 فالبيع هنا نقود بنقود، وهو تطبيق أحكام الصرف يعتبر من الربا المحرم لا محالة!! فكيف أجاز هذا السادة الذين وقعوا على الفتوى المرافقة للقانون؟!. 8- البنوك الربوية التي تعطي فوائد محددة على الودائع لديها ما يسمى بالودائع ذات العائد المعوم، وفوائد هذه الوادئع ليست محددة وإنما كما قالوا (معومة وبالطبع فإن هذه الفوائد وإن لم تكن محددة فهي من الربا المحرم) . 9- بعد جلسات المؤتمر الثالث لمجمع الفقه بالأردن شرفني بزيارته الأستاذ الدكتور مصطفى الزرقاء ودار الحديث حول سندات المقارضة، وما أبديت من ملاحظات فقال بأنه يشاركني الرأي فيما انتهيت إليه من التحريم وإنه سيعرض هذا الموضوع على لجنة الفتوى بالأردن لأن التحريم واضح. نسأل الله تعالى الرشاد والهداية. 10- مما يؤسف له حقا ما جاء في بيان الأسباب الموجبة لقانون سندات المقارضة، وما دفع إلى الأخذ بها، وإلى جانب النصوص السابقة نري في البداية ما يلي: (يعتبر إصدار السندات المالية وسيلة ناجحة من وسائل اجتذاب المدخرات وتجميع الأموال اللازمة لتمويل المشروعات في مختلف الوجوه النافعة لخدمة الاقتصاد الوطني بوجه عام. وقد شهدت السوق المالية الأردنية نشاطا متزايدا في مجال إصدار السندات المالية وتداولها، وسواء في ذلك السندات المالية الحكومية الصادرة بموجب أحكام قانون الدين العام أو السندات المالية الصادرة عن مؤسسات ذات الاستقام المالي والإداري. غير أن ارتباط هذه الأشكال المختلفة من السندات المالية بالعائد المبني على نظام الفائدة المحددة قد أدى إلى عدم إمكان تعميم التداول والتعامل في هذه السندات بين مختلف فئات المواطنين، وبخاصة ذلك القطاع الكبير ممن لا يقبلون على استثمار أموالهم على أساس الفائدة) . انتهى. وللأسف الشديد المحزن أن هذا القول يحمل الرضا بل الإشادة بعمل ربوي، ويبين أن اللجوء لسندات المقارضة ليس الرعية في ترك الربا حتى لا نأذن بحرب من الله ورسوله، بل وجود من يرفض هذا التعامل، وهو (قطاع كبير) مما أدى إلى عدم تعميم التداول والتعامل في السندات ذات الفوائد الربوية!!. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1530 ثالثا: شهادات الاستثمار المخصصة بعض نصوص هذا المشروع: 9- يكون دور البنك في استخدامه لمتحصلات الأوراق التي يصدرها هو دور " المضارب المفيد "، ومعنى هذا أن العلاقة بين البنك وحملة الشهادات ليست علاقة دائن بمدين، بل هي علاقة " صاحب المال بالأمين عليه ". 12- أ- يتم تحديد سعر الشهادات خلال فترة الاكتتاب والفترة التي تسبق البدء في النشاط على أساس " القيمة الاسمية " ب- بعد انتهاء الفترة المذكورة أعلاه، يقوم البنك على فترات دورية (لا تتجاوز ثلاثة أشهر) بإعلان أسعار تداول الشهادة بيعا وشراء، وذلك بناء على المركز المالي للمشروع، وظروف العرض والطلب. 14- وحيث إن قواعد الشريعة تسمح بفكرة " التأمين التعاوني " فإنه يمكن للبنك إنشاء صندوق للتأمين التعاوني لتغطية مخاطر الاستثمار. 15- طبقا لعقد المضاربة بين البنك وأصحاب رأس المال، يمكن توزيع الربح في نهاية الفترة المالية بالصورة التالية: أ- نسبة من الأربح توزع على البنك الإسلامي بصفته مضاربا. ب- نسبة من الأرباح توزع على مالكي الشهادات (ومنهم البنك الإسلامي عادة) . ج- نسبة من الأرباح لصندوق تأمين مخاطر الاستثمار. 27- الورقة المالية الإسلامية في حد ذاتها ممثلة لحصة مالية شائعة في مجموع صافي موجودات المشروع. 66- تشكيل " لجنة شرعية " مهمتها المتابعة والرقابة على الإصادرات من جوانبها الشرعية المختلفة. هذه بعض النصوص، وتركنا الكثير حتى لا نطيل، ولعل في هذا القدر ما يكفي ويغني لتوضيح الصورة ودلالتها على فقه عقد المضاربة والانتفاع به في التطوير دون إخلال بمقتضى العقد. ومشروع البنك لاحق للمشروع الأردني، وهناك من اشتراك في إعداد المشروعين فلعل المشروع الأردني يعدل في ضوء هذا المشروع. وأقترح لتعديله. أن تقوم الأرض، ويمثل هذا نصيب وزارة الأوقاف، وباقي التكلفة تمثل حقوق أصحاب السندات، وتكون الشركة بينهم وبين الوزارة، والأرباح تقسم تبعا لنصيب كل مالك لهذه السندات، إلى جانب أن الوزارة تأخذ نصيبها كمضارب بالإضافة إلى نصيبها كصاحب رأس مال ويمكن أن يلجأ للتأمين التعاوني لمواجهة مخاطر الاستثمار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1531 وقد يعترض هنا بأن الوقف لا يباع، ولكن يجوز بيع جزء من الوقف لإعمار الجزء الآخر، وهذا أمر معلوم في الفقه الإسلامي وهذه الشركة يمكن أن تستمر، ويمكن أن تنتهي بالتمليك بالطريقة الشرعية المعروفة، والتي تزاولها المصارف الإسلامية. ويمكن لوزارة الأوقاف - إذا لم ترغب في أسهم المشاركة المستمرة او المنتهية بالتمليك - أن تلجأ إلى عقد الاستصناع عن طريق المصارف الإسلامية. إذن أمام الوزارة أكثر من حل إسلامي. والأمر الذي يزعجني حقيقة هو أن نقدم للقطاع الكبير - الذي يرفض السندات ذات الفوائد الربوية - بديلا غير إسلامي ونرغبهم فيه باسم الإسلام. طبيعة سندات المقارضة أولا: السندات الأردنية: من الدراسة السابقة نستطيع أن نحدد العلاقة الحقوقية بين المكتتبين والجهة المصدرة، وهي كما يلي: 1- الجهة المصدرة تأخذ أموال المكتتبين المدفوعة على سبيل التمليك لا الوكالة، وتتعهد برد المثل في الموعد وهو القيمة الإسلامية للسندات في موعد الإطفاء. 2- كما تتعهد بإعطاء جزء من ريع المشروع لمالكي السندات زيادة على القيمة الاسمية مدة بقاء السند قبل الإطفاء. 3- ويترتب على تملك مال السندات، مع التعهد برد المثل والزيادة أن يصبح المشروع ملكا للجهة المصدرة لا يشاركهم فيه مالكو السندات، ومهما ارتفعت قيمة المشروع أو انخفضت فلا يتأثر بهذا إلا الجهة المصدرة. 4- المكتتبون لهم مثل ما دفعوا، يستردون في الوقت المحدد ولهم أيضا الزيادة المتفق عليها مدة بقاء السند. والجهة المصدرة إذا عجزت عن أداء ما التزمت به من رد المثل اقترضت وأدت ما التزمت به، والدولة تعهدت بإقراضها في حالة العجز. 5- للمكتتبين أن يبيعوا حقهم في استرداد المثل مع الزيادة ومن يحل محلهم يكون له هذا الحق نفسه، حق استرداد القيمة الاسمية مع الزيادة، مع حق البيع أيضا. من هنا نرى أن هذه السندات لا تجعل العلاقة بين المكتتبين والجهة المصدرة علاقة قراض، وهو ما أخذ منه اصطلاح التسمية، وإنما هي علاقة دائن ومدين، وليست شركة من أي أنواع الشركات التي يقرها الإسلام: فمالك السند دائن للجهة المصدرة، دينه مضمون. والجهة المصدرة مدينة، ضامنة لهذا الدين تؤديه في الوقت المحدد. كما أنها ضامنة للأداء للمكتتب أو لمن يحل محله. وتلتزم كذلك بإعطاء زيادة على الدين للدائن مدة بقاء دينه. وهذه الزيادة المشروطة من الواضح الجلي أنها من الربا المحرم، وإن كانت غير محددة، وهذا أشبه بالودائع الربوية ذات العائد المعوم التي أشرت إليها من قبل، وإن كان الشبه غير تام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1532 وهذه السندات تشبه القروض الربوية الإنتاجية التي كانت شائعة في الجاهلية والجديد فيها طريق تحديد الزيادة الربوية، وهذا لا يخرجها من الحرام إلى الحلال. والجديد في عصرنا ولم يكن في الجاهلية، بل لم يخطر لهم على بال، هو أن تحولت القروض الربوية إلى حق يباع ويشترى، وتقام له الأسواق العالمية!! ثانيا: شهادات الاستثمار المخصصة: من النصوص التي نقلتها يتضح أن هذه الشهادات تقوم على أساس عقد المضاربة، مع إمكان الشركة في رأس المال. فالعلاقة الحقوقية بين المكتتبين وبنك التنمية علاقة صاحب رأس المال بالوكيل المضارب الأمين غير الضامن لرأس المال. ومالك الشهادة يملك حصة شائعة في المشروع إن زادت عن رأس المال فالمضارب شريكه في الربح، وإن لم تزد أو قلت فهي ملكه، فليست من حق المضارب أن يطالب بما يقابل عمله، وليس من حق المكتتب أن يطالب بالتعويض عن الخسارة. وعندما يشترك البنك في المشروع المخصص لجزء من رأس المال يصبح كالمكتتبين بالنسبة لهذا الجزء إلى جانب ما يخصه كمضارب. والعلاقة الحقوقية هنا ينطبق عليها ما جاء في المادتين 627، 628 من القانون المدني الأردني، وهذا نص كلا منهما: المادة 627 – 1 – يجب أن يشترك كل من المضارب ورب المال في الربح وذلك بالنسبة المتفق عليها في العقد، فإن لم تعين قسم الربح بينهما مناصفة. - 2 – وإذا جاز للمضارب خلط ماله مع رأس مال المضارب قسم الربح بنسبة رأس المال، فيأخذ المضارب ربح رأس ماله، ويوزع ربح مال المضاربة بين المتعاقدين على الوجه المبين في الفقرة الأولى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1533 المادة 628 – 1- يتحمل رب المال الخسارة وحده، ولا يعتبر أي شرط مخالف. -2- وإذا تلف شيء من مال المضاربة حسب الربح فإن جاوزه حسب الباقي من رأس المال ولا يضمنه مضارب. ومن هذا نرى أن شهادات الاستثمار المخصصة التي قدمها بنك التنمية الإسلامي مقبولة شرعا، وأن سندات المقارضة الأردنية غير مقبولة، ولا ينطبق عليها عقد المقارضة، ولا أي نوع من أنواع الشركات في الإسلام كما جاء في القانون المدني الأردني نفسه وفي الفقه الإسلامي بصفة عامة، وإنما ينطبق عليها عقد القرض، وليس هذه وسيلة استثمار في الإسلام، فالزيادة من الربا المحرم والله عز وجل أعلم بالصواب. والحمد لله تعالى في الأولى والآخرة والصلاة والسلام على رسوله المصطفى. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180، 181، 182] . الدكتور علي أحمد السالوس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1534 سندات المقارضة إعداد الدكتور عبد السلام داود العبادي وكيل وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في المملكة الأردنية الهاشمية بسم الله الرحمن الرحيم تقديم الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على رسوله المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن التزم بشرعه إلى يوم الدين. وبعد: فيهدف هذا البحث إلى التعريف بسندات المقارضة وبيان أهميتها وأثرها في تحقيق التنمية الاقتصادية في المجتمع الإسلامي المعاصر، واستعراض الأسس والقواعد الفقهية التي بنيت عليها مما يبين القدرات الفذة للشريعة الإسلامية على تقديم صيغ جديدة في التعامل مع الواقع الإنساني، بما ينسجم مع نموه وتقدمه، ويوضح أن قواعد الاقتصاد الإسلامي كفيلة بتقديم حلول مناسبة ومعالجات جديدة تحقق خير المجتمع الإنساني ومصلحته. وسندات المقارضة أداة من أدوات التمويل الكبير ووفق قواعد الاقتصاد الإسلامي كان للمملكة الأردنية الهاشمية السبق والمبادرة في تأصيل قواعدها وإخراجها بصورة مبدعة متميزة على أساس من اجتهاد فقهي معاصر تبلور في قانون سندات المقارضة (10) لسنة 1981.. والذي أخذ حظه من الدراسة في اللجان العلمية المتخصصة التي شكلتها وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية لهذه الغاية. وإننا لنأمل أن يكون في هذه السندات خدمة للتوجهات الواضحة في عالمنا المعاصر نحو تبني قواعد الاقتصاد الإسلامي. وبحمد الله سبحانه تجد صيغة سندات المقارضة اهتماما واسعا في الأوساط الاقتصادية في البلاد العربية والاسلامية.. وقد كانت على جدول أعمال أكثر من مؤتمر مالي واقتصادي في العالم الإسلامي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1535 ويبدي البنك الإسلامي للتنمية – وهو إحدى المؤسسات الاقتصادية الكبرى الممثلة فيه جميع الدول الإسلامية، والذي ينص نظامه على التعامل وفق قواعد الشريعة الإسلامية – عناية خاصة بموضوع سندات المقارضة: وقد عقد عدة نداوت عملية متخصصة حضرها المهتمون بهذا النوع من التمويل الإسلامي تهدف إلى وضع الصيغ المناسبة لتبينها على مستوى العالم الإسلامي.. وقد كان للباحث شرف المشاركة في بعض هذه الندوات. وتتعرض هذه الدراسة الموجزة لبيان ما يلي: 1- التعريف بسندات المقارضة والفرق بينها وبين أنواع السندات الأخرى. 2- أهمية سندات المقارضة ودورها في تحقيق التنمية الاقتصادية في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. 3- الأساس الفقهي الذي بنيت عليه سندات المقارضة. 4- قواعد إصدار هذه السندات وشروطه. 5- وزارة الأوقاف وسندات المقارضة: جهودها في إصدار قانونها، مدى استفادتها منها في تمويل مشاريعها الكبرى. 6- البنك الإسلامي للتنمية وسندات المقارضة. وأخيرًا أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يجزي خير الجزاء كل من له دور في إبراز هذه الصيغة المهمة من صيغ التعامل الاقتصادية المتطور وفق قواعد الشريعة الإسلامية. (أنه سميع مجيب الدعاء) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1536 أولا: التعريف بسندات المقارضة والفرق بينها وبين أنواع السندات الأخرى 1- نبتت فكرة سندات المقارضة أثناء وضع مشروع قانون البنك الإسلامي في المملكة الأردنية الهاشمية بهدف أن تكون من الأدوات التي يمكن اعتمادها من البنك للحصول على تمويل طويل الأجل لمشاريعه الكبرى (1) . وقد عرَّف قانون البنك الإسلامي رقم (13) لسنة 1978 السندات هذه بأنها: الوثائق الموحدة القيمة والصادرة عن البنك بأسماء من يكتتبون فيها مقابل دفع القيمة المحررة بها على أساس المشاركة في نتائج الأرباح المتحققة سنويا حسب الشروط الخاصة بكل إصدار على حدة. 2- وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لقانون البنك الإسلامي أن هذه السندات تكون إما لآجال معينة طويلة نسبيا (من 5- 10 سنوات) أو لغايات محددة. وبذا يمكن للبنك أن يصدر هذه السندات بكيفيتين (2) : الأولى: أن تكون صادرة لأجل معين يهدف إلى الحصول على تمويل يدخل في جملة الأموال المستثمرة من البنك، وقد سمتها المذكرة الإيضاحية للقانون في هذه الحال بسندات المقارضة المشتركة وتدخل ضمن اصطلاح: حسابات الاستثمار المشترك المقرر في إطار أعمال البنك الإسلامي (3) .   (1) انظر المذكرة الإيضاحية لقانون البنك الإسلامي (ص13) (2) انظر المذكرة الإيضاحية لقانون البنك الإسلامي (ص12 – 13) (3) بيَّن قانون البنك الإسلامي في مادته الثانية أن حسابات الاستثمار المشترك تشمل الوادئع النقدية التي يتسلمها البنك من الراغبين بمشاركته فيما يقوم به من تمويل واستثمار منظم بشكل متعدد ومستمر وذلك على أساس هذه الوادئع على نسبة معينة مما يتحقق سنويا من أرباح صافية حسب شروط الحساب الداخلة فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1537 والثانية: أن تصدر السندات لغايات معينة مثل تمويل بناء سوق تجاري لوزارة الأوقاف مثلا، فحصيلة السندات في هذه الحالة تكون مخصصة للمشروع المعين، وحيث تسترد قيمة السندات من واقع الدخل المتحقق في المشروع المعين مع المشاركة في الربح بحسب الترتيب الخاص بذلك، والسندات إذا أصدرت بهذه الكيفية تكون داخلة ضمن حسابات الاستثمار الخاص بحيث يكون لكل مشروع حسابه الخاص. 3- وقد عرَّف قانون سندات المقارضة رقم (10) لسنة 1981: سندات المقارضة في المادة (2) فقرة (أ) بأنها: الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح. وجاءت الفقرة (ب) من هذه المادة لتوضح فكرة السندات بقولها: يحصل مالكو السندات على نسبة محددة من أرباح المشروع، ولا تنتج سندات المقارضة أي فوائد كما لا تعطي مالكها الحق في المطالبة بفائدة سنوية محددة. وواضح من نصوص هذا القانون أن فكرة سندات المقارضة قد تم ترسيخ قواعدها وتوضيح أبعادها وأصبحت وسيلة من وسائل التمويل الكبرى التي يمكن أن تلجأ إليها جهات متعددة فيما إذا رغبت في التعامل وفق قواعد الاقتصاد الإسلامي. 4- وقد أتى اصطلاح سندات المقارضة مستمدا من رحاب الفقه الإسلامي. فالمقارضة من القراض الذي يعني في اصطلاح الشافعية والمالكية المضاربة (بل إن هذا الاصطلاح ورد في بعض الأحاديث مثل ما أخرجه ابن ماجة وابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وإخلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع)) (1) . وفي النهاية وفي غريب الحديث والأثر لابن الأثير: (القراض المضاربة في لغة أهل الحجاز يقال قارضه يقارضه قراضا ومقارضة. ومنه حديث الزهري (لا تصلح مقارضة من طعمته الحرام) قال الزمخشري: (أصلها من القرض في الأرض وهو قطعها بالسير فيها وكذلك هي المضاربة أيضا من الضرب في الأرض) (2) . وفي نهاية المحتاج للرملي وهو من كتب الشافعية المعتمدة: (القراض بكسر القاف لغة أهل الحجاز مشتق من القرض: وهو القطع لأن المالك يقطع للعامل قطعة من ماله يتصرف فيها، وقطعة من الربح، أو المقارضة هي المساواة لتساويهما في الربح، أو لأن المال من المالك والعمل من العامل ويسمى عند أهل العراق مضاربة لأن كل منهما يضرب بسهم في الربح، ولما فيه غالبا من السفر وهو يسمى ضربا (3) .   (1) الفتح الكبير في ضم الزيادات إلى الجامع الصغير – النبهاني: جـ2، ص44. وانظر المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي: جـ هـ ص (363) (2) النهاية في غريب الحديث- ابن الأثير: جـ 4 ص41 (3) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج – الرملي -: جـ5 ص 219 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1538 5- والناظر في نصوص قانون سندات المقارضة يلاحظ أن فكرة هذه السندات تقوم فيه على العناصر التالية: أ - أنها وثائق تسجل مقدار الأموال التي قدمها المكتتبون بها لمشروع معين بقصد تنفيذه لتحقيق الربح. ب - أن لكل وثيقة من هذه الوثائق قيمة محددة. جـ- أن لكل شخص من المكتتبين بهذه الوثائق قد يحصل على وثيقة أو أكثر منها بقدر ما دفع من أموال مشاركة في تنفيذ هذا المشروع. د- أن هذه الوثائق تصدر بأسماء من يملكونها. هـ- أن لمالك هذه الوثائق نسبة من ربح المشروع تعلن في نشرة الإصدار خلال الفترة التي تصدر لها السندات، وأن ما يدفع لصاحب السند ليس بفائدة سنوية محددة إنما يرتبط مقدار ما يدفع له بقدر ما يتحقق من ربح المشروع. و أن النسبة الأخرى من الربح مخصصة للإطفاء التدريجي لأصل قيمة السند الأصلية. ز- وبذا يسترد صاحب السند مقدار ما دفعه أولا بأول، في مواعيد الإطفاء المحددة بنشرة الإصدار الخاصة بمشروع معين، وينال في خلال هذه الفترة ربحا معقولا تم تقرير نسبته من دخل المشروع على أساس حساب الدخل المتوقع. ح- وفق هذا الأسلوب ينتهي صاحب المشروع إلى امتلاك المشروع ودخله كاملا وذلك بعد إطفاء القيمة الأصلية لجميع السندات. 6- وعلى ضوء ذلك نستطيع تعريف سندات المقارضة بأنها: وثائق محددة القيمة تسجل مقدار الأموال التي قدمها مالكوها للمشاركة في إقامة مشروع معين بقصد الحصول على نسبة من ربح المشروع وعلى أساس استرداد هذه الأموال تدريجيا من صافي أرباح المشروع وفق ترتيب معلن خاص بكل مشروع على حد ما وضمن الشروط التي يحددها القانون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1539 7- والواقع أن هذه السندات طرحها التقنين الأردني على أساس أنها من صور التعامل الجديدة القائمة على مبادئ الاقتصاد الإسلامي. وهي تعتبر بحق مقابلا لأنواع السندات التي تصدر مرتبطة بفائدة محددة، وتقول المذكرة الإيضاحية لقانون البنك الإسلامي في هذا المجال: والمقصود بهذه السندات هو إيجاد البديل الإسلامي لسندات القرض التي يمكن للبنوك والشركات إصدارها على أساس الفائدة المحددة، أو على أساس الفائدة العائمة (Floating rate of interst) التي أخذت تظهر في الأسواق العالمية (1) والفارق الأساسي بين سندات المقارضة والسندات المعروفة في ظل الاقتصاد الوضعي أن الأخيرة تصدر على أساس دفع فوائد محددة معلنة بنشرة الإصدار خلال مدة السندات وحتى يحين موعد إطفاءها وهي قائمة على أساس أن العلاقة بين الجهة المصدرة والمكتتب علاقة مديونية فذمة الجهة المصدرة مشغولة بالمبلغ المكتتب به طيلة مدة السند وإلى حين الإطفاء حيث يعادل المبلغ فهي قائمة على ضمان رأس المال المكتتب مع الزيادة بالنسبة المعلنة للفائدة. بينما سندات المقارضة ليست العلاقة فيها بين المكتتب والجهة المصدرة علاقة مديونية تجر فوائد ربوية محددة إنما هي علاقة قراض فيه معنى للمشاركة كما سنرى قريبا وهي لا يجري تحديد مسبق لنسبة الفائدة إنما يترك لمقدار ما يتحقق من ربح فعلي للمشروع الذي اكتتب بالسندات من أجله.. ويعلن في نشرة الإصدار الأساس الذي يتم توزيع الربح عليه فليس هنالك ضمان لفترة محددة كما أنه ليس هنالك ضمان في الأصل حتى لرد رأس المال لاحتمال وقوع الخسارة. وبذا نجحت فكرة هذه السندات من الوقوع في الربا المحرم وبنيت العلاقة فيها على عقد مشروع سواء أكان عقد المضاربة أو الشركة أو كليهما كما سنرى فيما بعد.   (1) المذكرة الإيضاحية لقانون البنك الإسلامي صفحة 12 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1540 ثانيا: أهمية سندات المقارضة ودورها في تحقيق التنمية الاقتصادية في المجتمعات الإسلامية المعاصرة 8- تأتي أهمية هذا النوع من السندات من أنه يطرح في مجالات التمويل الكبير والطويل الأمد الذي تحتاجها المشاريع الاقتصادية الكبرى في هذه الأيام صيغة إسلامية متطورة خالية من التعامل الربوي.. ومن هنا اعتبرت هذه السندات البديل الإسلامي لما يسمى بسندات القرض الربوي. وطرح هذه السندات البعيدة عن التعامل الربوي يستوعب القدرات الاقتصادية الكبيرة القائمة في مجتمعنا والمحجمة عن التعامل بالسندات الربوية.. وبذا تتجسم الصيغ الاقتصادية المطروحة مع عقيدة الأمة وتطلعاتها الدينية والخلقية.. عدا عن الفوائد الاقتصادية والاجتماعية والخلقية التي يقدمها التعامل الاقتصادي البعيد عن الربا لما يترتب على الربا من آثار سيئة على الأفراد والجماعات مما لسنا هنا بصدد تفصيله. 9- وقد بينت الأسباب الموجبة لقانون سندات المقارضة أن الذي دفع إلى الأخذ بهذا النوع من السندات ملاحظة أن إصدار السندات المالية بات وسيلة ناجحة من وسائل اجتذاب المدخرات وتجميع الأموال اللازمة لتمويل المشروعات في مختلف الوجوه النافعة خدمة للاقتصاد الوطني. وأن السوق المالية الأردنية أخذت تشهد نشاطا متزايدا في مجال إصدار السندات المالية وتداولها سواء في ذلك السندات المالية الحكومية الصادرة بموجب أحكام قانون الدين العام أو السندات المالية التي تصدرها المؤسسات ذات الاستقلال المالي والإداري.. ولكن ارتباط هذه الأشكال من السندات بنظام الفائدة المحددة أدى إلى عدم تداول هذه السندات أو التعامل بها بين فئات المواطنين التي لا تقبل على استثمار أموالها على أساس الفوائد المحددة باعتبارها من الربا المحرم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1541 ثم قلَّت الأسباب الموجبة (ولما كانت هنالك العديد من المشاريع الاقتصادية القادرة على أن تسترد أصل التمويل اللازم لإقامتها من واقع الدخل المتحقق منها خلال فترة زمنية ملائمة فقد تبين أن الحاجة إلى توسيع قاعدة المتعاملين في مجال السندات بطلب استخدام هذا النوع الجديد من السندات المنظمة على أساس المشاركة في الإيراد المتوقع للمشروع الممول من حصيلة الإصدار المعين، وذلك على أساس إجراء التصفية التدريجية لهذه السنوات، وانتقال المشروع بكامله عند تصفية السندات الخاصة به ليصبح مع إيراده ملكا للجهة الحكومية ذات العلاقة) (1) . ويمكن لسندات المقارضة إذا تم إصدارها من مؤسسات مالية إسلامية دولية كالبنك الإسلامي للتنمية / جدة أن يحقق دورا بارزا في انتقال رؤوس الأموال بين الدول الإسلامية بهدف دعم مشاريع التنمية التي يمكن أن تقام هنا وهناك في رحاب العالم الإسلامي. وهذه قضية يجب أن يوليها مخططو السياسات الاقتصادية والمالية في عالمنا الإسلامي كل عناية لتوافر حجوم من التمويل الكبير في بعض البلاد الإسلامية تبحث عن مشاريع مناسبة لأغراض الاستثمار، وتوافر مشاريع ذات جدوى اقتصادية عالية في بعض البلاد الإسلامية الأخرى التي تبحث عن تمويل كاف من مصادر غير مستغلة، فأسلوب سندات المقارضة يتيح ذلك، على أسس شرعية مقبولة. 10- وبذا يظهر الدور البارز لهذا النوع من السندات في تحقيق التنمية الاقتصادية في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، فهي تمكن وفق قواعد الاقتصاد الإسلامي من اجتذاب المدخرات وتجميع الأموال المطلوبة لإقامة المشاريع الاقتصادية الكبرى بطريقة تنسجم مع الإمكانات المتاحة لمختلف الأفراد وذلك بالاكتتاب بالسندات وفق قدراتهم وإمكانياتهم المالية، يشجعهم على ذلك سهولة تداول هذه السندات وإمكانية الحصول على أرباح مناسبة منها في حالة المحافظة عليها أو بيعها مستقبلا. والواقع أن انسجام هذه الصيغة المطروحة مع أحكام الشريعة الإسلامية يجعل منها أداة مرغوبة ومحبذة لدى قطاعات عريضة من مجتمعاتنا مما يمكنها من النجاح في أداء دورها الاقتصادي المنشود. ولا بد من التنبيه هنا إلى أن أسلوب سندات المقارضة لا يقوم في جميع الأحوال على إجراء التصفية التدريجية لأصل السندات.. بل يمكن تصور نوع من هذه السندات لا يقوم على التصفية التدريجية، إنما يعتمد مبدأ المشاركة الدائمة في نتاج المشروع.   (1) الأسباب الموجبة المنشورة في القانون ص7 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1542 ثالثا: الأساس الفقهي لسندات المقارضة 11- البحث في الأساس الفقهي لسندات المقارضة يتعلق بناحيتين: الأولى: تصوير العلاقة الحقوقية التي تقوم في هذا النوع من التعامل بين المكتتبين والجهة المصدرة للسندات ومعرفة مدى انطباقها على القواعد المقررة في الفقه الإسلامي. الثانية: دراسة الإمكانية الشرعية لضمان أصل هذه السندات بحيث يتم الإطفاء التدريجي لقيمتها الاسمية في المواعيد المقررة بصرف النظر عن ربح المشروع أو عدمه. والحديث عن كل من هاتين الناحيتين فيما يلي: أ - تصوير العلاقة الحقوقية بين المكتتبين والجهة المصدرة. 12- واضح أن صيغة سندات المقارضة تطرح على أنها صورة من صور التعامل الجديد وفق قواعد الاقتصاد الإسلامي.. والفقه الإسلامي قاعدة عامة ووفق أرجح المذاهب يرحب بكل صور التعامل الجديدة ما دام أنها لا تتضمن تحليلا لحرام أو تحريما لحلال وفق القاعدة الفقهية أن الأصل في الأشياء الإباحة، أو الأصل التخلية عن الحكم، وإذا لم يتعلق بالأمر دليل يحرم فيعود الأمر إلى الإباحة. والواقع أن صيغة سندات المقارضة يتجاذبها عند الباحثين أساسان من أسس التعامل وهذان الأساسان هما: عقد المقارضة، وعقد الشركة. الأسباب الموجبة المنشورة في مطلع القانون: ص7 13- وقد ركز بعض الباحثين على أن العلاقة في هذه السندات تقوم وفق عقد المضارب باعتبار أن الأمر فيها عبارة عن مضاربة عامة أو مشتركة (1) .   (1) انظر في ذلك المذكرة الإيضاحية لقانون البنك الإسلامي عند الحديث عن سندات المقارضة. وبحث الدكتور منذر قحف بعنوان: القراض وضمان الفريق الثالث وتطبيقاها في تمويل التنمية في البلدان الإسلامية (مطبوع على الآلة الكاتبة) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1543 وأدخل بعض الباحثين في مفهوم هذه العلاقة بالإضافة إلى عقد المضاربة عقد الشركة باعتبار أن هنالك مشاركة في المشروع بين المكتتبين، والجهة المصدرة تتناقص شيئا فشيئا وفق مواعيد الإطفاء لمصلحة الجهة المصدرة وأن هذه المشاركة لها أحكام خاصة. فالفريق الأول يرى أن الأساس الذي يمكن اعتماده لتصوير العلاقة الحقوقية التي تقوم في هذا النوع من التعامل هو عقد المضاربة على أساس أن الجهة المصدرة تمثل العامل والمكتتبون يمثلون صاحب العمل. ويُبنى هذا الفريق رأيه في عقد المضاربة يدفع المضارب ماله للعامل ليستثمره على أن يكون الربح بينهما بالنسبة التي يتم الاتفاق عليها بالإضافة إلى أنه عقد المضاربة للمضارب الحق باستعادة رأس ماله بزيادة الربح الذي يستحقه، أو بخصم الخسارة التي وقعت بينما يقوم حق العامل على التصرف في المال بأي صورة من صور الإنماء وفق ما يتم الاتفاق عليه، وله الحق بالربح وفق النسبة المتفق عليها.. وهو ما عليها الحال في هذه السندات، ويؤكد هذا الفريق رأيه بأن قانون سندات المقارضة الأردني في مادته الثانية نص على حق حملة سندات المقارضة بنسبة من الأرباح التي تحددها نشرة الإصدار، وفي مادته الحادية عشرة نص على أن حق حملة السندات في المشروع يقتصر على استرداد رؤوس أموالهم، وهو ما سماه القانون إطفاء السندات بالقيمة الاسمية (1) . 14- ويرى هؤلاء الباحثون أنه لا يمكن اعتماد مبدأ الشركة في تصوير العلاقة في هذا النوع من التعامل؛ لأنه لو كان شركة لاقتضى الأمر أن يتم الإطفاء على أساس القيمة الحقيقية للأشياء التي مولت بهذه السندات، مما يقتضى التنضيد أي تصفية موجودات المضاربة العينية وتحويلها إلى نقد ليتم توزيع حقوق طرفي عقد الشركة وإذا كان التنضيد غير ممكن فمن المقرر فقها أن يكتفي بالتقويم. ولو كان الأمر مشاركة لما كان هنالك من داع للتنضيد عند التصفية، إذ ينصب حق الشركاء على الأعيان والحقوق المملوكة للشركة، والتي يمكن لهم أن يقتسموها حسب نسبة مساهماتهم.   (1) انظر د. منذر قحف: ص4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1544 كما ذهبوا إلى القول بأنه لا حاجة للقول بمبدأ المشاركة ليصح تداول السندات؛ لأنه يمكن اعتماد مبدأ المضاربة، ويصح التداول: ويكون الاختلاف عن القيمة الاسمية في التداول تحكمه عوامل السوق والتي من أهمها الأرباح المتوقعة من امتلاك السندات ومدى الثقة بالحصول عليها مستقبلا، بالمقارنة مع صور الاستثمار الأخرى. ولا يكون الأمر في هذه الصور عندها داخل تحت بيع الدين بالدين، فهم يقولون بأن القيمة السوقية للسند تتألف من القيمة الحالية لرأس المال مضافا إليها القيمة الحالية للأرباح المتوقعة وفي هذا تدخل جميع العوامل المؤثرة على ربحية المشروع. وقد اهتم هؤلاء الباحثون بتحديد بداية جواز هذا التداول، واعتبروا أن ما أطلقوا عليه (بدو صلاح المشروع) بداية صالحة لجواز هذا التداول، وتركوا للفقهاء تحديد هذا البدو وقد استأنسوا لذلك بالأحاديث النبوية التي أجازت بيع الثمار عند بدو صلاحها، وقالوا بإمكانية اعتبار اتخاذ المشروع لوجوده القانوني هي البداية دون اشتراط للبداية الفعلية للمشروع. 15- وأما الباحثون الذين أدخلوا في مفهوم علاقة المضاربة مفهوم الشركة باعتبار أن هنالك مشاركة في المشروع بين المكتتبين والجهة المصدرة، فإننا نستطيع أن نجد ذلك في الورقة التي أعدها مجموعة من الخبراء (1) عن الأوراق المالية الإسلامية بتكليف من البنك الإسلامي للتنمية/ جدة، وقد كان للباحث شرف المشاركة في إعدادها. وقد انتهت هذه المجموعة من الخبراء إلى ورقة بحث أعدوها في اجتماع نظمه البنك الإسلامي للتنمية بجدة بتاريخ 5/6 ربيع الثاني لسنة 1406هـ 17-18 ديسمبر 1985 إلى ما يلي: (أن الشريعة الإسلامية تسمح من حيث المبدأ بإصدار أوراق مالية تمثل حصصا مالية لصاحب الورقة في مشروع معين كما تسمح بتداول هذه الحصص، وذلك في ظل القاعدتين التاليتين:   (1) وهم الدكتور حسن عباس زكي- المصرف العربي الدولي الدكتور حسين حامد حسان- جامعة إسلام أباد الإسلامية الدكتور عبد السلام العبادي- وزارة الأوقاف الأردنية الدكتور سامي حسن حمود- بنك البركة الإسلامي الدكتور هشام الصباغ- سوق العمان المالي الأستاذ محمد وليد خير الله- البنك المركزي الأردني الأستاذ محمد جواد حديد- البنك العربي للاستثمار الأستاذ إسماعيل حسن محمد- المصرف الإسلامي الدولي والتنمية بمصر الدكتور محمد صالح الحناوي- البنك الإسلامي للتنمية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1545 الأولى: أنه يمكن أن تجتمع أموال مملوكة لعدد كبير من الناس في يد شخص واحد – طبيعيا كان أم اعتباريا- يستثمرها كمضارب، وتأخذ هذه الحصة شكل ورقة مالية، وهي تتخذ الصورة النقدية في البداية ثم تتحول بعد ذلك إلى أعيان ومنافع داخل أي شكل من أشكال التنظيمات التي تسهل أداء العمل وتحقق أهداف الاستثمار المحدد سلفا، وهناك فائدة تعود على المجتمع وعلى المستثمرين من جراء جمع المدخرات في وعاء واحد يمكن من القيام بمشروعات استثمارية ضرورية لا يقدر على القيام بها مستثمر أو عدد محدود من المستثمرين. ثانيا: أنه يمكن انتقال ملكية الورقة المالية من شخص لآخر وذلك بالطرق الشرعية كالبيع ونحوه) . (ومن ناحية أخرى فلا بد من تجنب الآتي عند القيام بإصدار أو تداول الأوراق المالية: 1- أن تكون الورقة المصدرة ممثلة لنقود فقط أو ديون فقط أو ديون ونقود. 2- أن يترتب على هذا الانتقال أي مخالفة لنص من نصوص الشريعة - بصورة أو بأخرى – لتفادي النصوص المحددة الواضحة) . ثم بينت الورقة أن الهدف من الأوراق المالية الإسلامية هو استخدام حصيلة الأموال المجتمعة نتيجة إصدارها في مشروع معين وبالتالي إيجاد سوق مالية إسلامية وتوفير مقومات تنشيطها. ويقصد بالمشروع هنا أي عمل اقتصادي له ذمة مالية مستقلة وله أنشطة استثمارية ذات أهداف محددة. (15) وأوضحت الورقة بعد ذلك أنه يمكن تحديد المشروع بإحدى الصور التالية: 1- المشاركة الدائمة في رؤوس الأموال. 2- المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك (في حقوق الملكية) . 3- شراء أو استئجار معدات وآلات وغيرها لتأجيرها. 4- الشراء والبيع لمدد قصيرة أو متوسطة أو طويلة الأجل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1546 وبذلك تكون الورقة المالية الإسلامية بحد ذاتها تمثل حصة مالية شائعة في مجموع صافي موجودات الشيوع. وهذا يعني أن ورقة البحث هذه تدخل في مفهوم المضاربة هي معنى الشركة بشكل أو بآخر. وقد نصت الورقة بوضوح (ص6 منها) على أن الأوراق المالية التي يقوم البنك الإسلامي بإصدارها تمثل حصصا في ملكية مشروع معين ولهم حقوق الملكية على الشيوع. (16) وقد أكدت الورقة في ص9 على أن في حالة إصدار البنك الإسلامي للأوراق المالية يكون دوره فيها هو دور المضارب المقيد بنشاط معين، فهو ليس مضاربا مأذونا له بخلط ماله بمال الصندوق كما أن دائني البنك ليس لهم حق المساس بهذه الأموال في حالة الإفلاس – لا قدر الله - وبالإضافة إلى ذلك فهو ليس مالكا إلا بقدر حصته التي تتمثل في القدر الذي قد يملكه من الأوراق المصدرة وله نصيب عن هذه الملكية في الأرباح بنسبة هذا القدر بالإضافة إلى حصته المعلنة كمضارب. وقررت الورقة أن العلاقة بين مالك الورقة المالية والمضارب (البنك) ليست علاقة دائن بمدين بأي حال من الأحوال بل هي علاقة صاحب المال بالأمين عليه والذي يستثمره لحساب صاحبه. وبالتالي فإن هذه الأموال لا تشكل جزءا من الحسابات الفعلية للبنك ولا تظهر في ميزانية البنك. (17) وقد سجلت الورقة بكل وضوح أن الشريعة الإسلامية تسمح بتداول الأوراق المالية الإسلامية بالبيع والشراء وغيرهما، وتعامل هذه الأوراق معاملة الأموال كما تجري فيها العقود الشرعية من ضمان ورهن ووقف وهبة، والأصل أن يحتفظ مالك الورقة بها إلا أنه قد يحتاج إلى نقدية لظروف معينة ويتطلب الأمر تأمين عنصر السيولة والتداول للورقة المصدرة تشجيعا للمدخر لاستثمار أمواله في هذه الأوراق وحتى تتوفر موارد مالية كافية للبنوك الإسلامية. ونظرا لعدم وجود سوق إسلامية للأوراق المالية – وإلى أن يتم تذليل عقبات استخدام الأسواق المالية الموجودة في الدول الإسلامية حاليا – فإنه يقترح تعميم نظام ذاتي لتحيق السيولة للأوراق المصدرة، ويقوم هذا النظام على أساس إعلان البنك الإسلامي المصدر للأوراق (منفردا أو على هيئة مجمع مصرفي من عدد من البنوك الإسلامية) إمكان قيامه بشراء ما يعرض عليه من أوراق أصدرها وبيع ما يملكه منها وذلك ابتداء من تاريخ محدد بعد انتهاء فترة الاكتتاب. وفي حالة رغبة المكتتب وموافقة البنك على استرداد قيمة الورقة في فترة الاكتتاب لا يسترد إلا القيمة الاسمية، وللبنك إذا سمحت نشرة الإصدار أن يقبل حلول شخص آخر محل المكتتب الأصلي وذلك بالقيمة الاسمية أيضا تلافيا لبيع النقد بالنقد متفاضلا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1547 وبينت ورقة البحث أن تحديد سعر الورقة المالية يتم على أساس القيمة الاسمية لذلك خلال فترة الاكتتاب والفترة التي تسبق البدء في النشاط ويمكن أن يكون الدفع للأوراق المالية على أن يكون على دفعات متعددة، وفي حالة عدم سداد الدفعة خلال فترة معينة فإن الحصة تباع لحساب المكتتب بأي صورة يتفق عليها. ومن ناحية أخرى، يقوم البنك الإسلامي المصدر للورقة المالية – بعد إقفال باب الاكتتاب والبدء في مراحل إنشاء المشروع – وفي فترات دورية لا تتجاوز ثلاثة أشهر بالإعلان عن أسعار تداول الورقة المالية بيعا وشراء وذلك بناء على المركز المالي للمشروع وظروف العرض والطلب. وللبنك أن يتعهد بالشراء والبيع بهذه الأسعار المعلنة في خلال فترة محددة تباعا. وهذا الوضع مؤقت إلى أن يتم تسجيل وتداول مثل هذه الأوراق في سوق مالية منظمة. (18) وقد تعرضت ورقة البحث لدراسة توزيعات الربح في هذا النوع من الأوراق المالية وقررت أنه من الناحية الشرعية فإن العائد قي الإسلام يستحق نتيجة: - استثمار المال. - الضمان. - العمل. ويتوافر في عقد المضاربة بين البنك (المضارب) وأصحاب رأس المال عنصر استثمار المال والعمل، وطبقا للشريعة فإن تحقق الربح يعتبر شرطا لتوزيعه، ويتم توزيع الربح في نهاية الفترة المالية بالصورة التالية: - 1- نسبة من الأرباح توزع على البنك الإسلامي بصفته مضاربا. 2- نسبة من الأرباح توزع على مالكي الأوراق المالية بصفتهم أرباب المال (بما فيهم البنك الإسلامي في حالة امتلاكه لبعضها) . 3- نسبة من الأرباح لصندوق تأمين مخاطر الاستثمار. (1) .   (1) وهو ما سيرد بيانه في الفقرة 23 من هذا الحديث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1548 في حالة المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك يتم إعداد شهادة استثمار خاصة يتضمن التوزيع فيها نسبة مئوية من الأرباح تخصص لإطفاء جزء من شهادات الاستثمار وذلك طبقا للقواعد التي تنظم كل حالة. ويكون إطفاء الشهادات محل الإصدار بنسبة واحدة لجميع الشهادات ويكون ذلك فور تقديم الشهادات للبنك الإسلامي للتنمية أو من ينيبه في ذلك عند الإعلان عن الإطفاء وفق الإجراءات المعلنة في هذا الخصوص. (19) وقد يسأل عن نصيب العامل في هذا النوع من التعامل على اعتبار أنه مضاربة في حالة عدم تخصيص أي جزء من الأرباح للجهة المصدرة والاكتفاء بتوزيع الأرباح على نسبة للمكتتبين والنسبة الأخرى لإطفاء أصل السندات، ويجاب عن ذلك بأن الربح سيتحقق في النهاية بامتلاك الجهة المصدرة لكل المشروع ودخله فكأن الربح يتحقق للجهة المصدرة وهي التي تمثل العامل في هذه الصورة شيئا فشيئا كلما تم الإطفاء التدريجي لأصل قيمة السندات. 20- ولابد من التنبيه هنا إلى أن المشاركة المتناقصة هي أحد الصيغ التي قدمها قانون البنك الإسلامي الذي أقرته لجنة الفتوى في المملكة الأردنية الهاشمية باجتماعاتها المتعددة في الفترة الواقعة بين العشرين من رجب عام 1397هـ إلى الثامن والعشرين من رمضان من العام نفسه الموافق 6/ 8/ 1977 إلى 11/ 9/ 1977 وقد كان للباحث شرف المشاركة فيها وقد عرف قانون البنك الإسلامي المشاركة المتناقصة بما يلي: دخول البنك بصفة شريك ممول – كليا أو جزئيا - في مشروع ذي دخل متوقع، وذلك على أساس الاتفاق مع الشريك الآخر بحصول البنك على حصة من صافي الدخل المستحق فعلا مع حقه بالاحتفاظ بالجزء المتبقي أو أي قدر يتفق عليه – ليكون ذلك الجزء مخصصا لتحديد أصل ما قدمه البنك من تمويل. وواضح أن الاحتفاظ هنا ليس شرطا في المشاركة المتناقصة فيمكن دفع هذا الجزء لصاحب السند أولا بأول. ب- دراسة الإمكانية الشرعية لضمان أصل هذه السندات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1549 وهناك أمر أخذ قدرا من النقاش الفقهي أثناء فترة إعداد قانون سندات المقارضة.. فجرى بحث هل يمكن ضمان أصل قيمة السند للمكتتبين بمعنى أن لا يتعرض المكتتبون للخسارة وتتحملها الجهة المصدرة للسند؟ وبحيث يعاد في جميع الأحوال للمكتتب قيمة السند الأصلية في مواعيد الإطفاء المقررة دون نقص أو خسارة بصرف النظر عن ربح المشروع أو عدمه. وذلك تشجيعا للاكتتاب في هذا النوع من السندات وليمكنها منافسة الأنواع الأخرى من السندات وقد عرض هذا في حينه على لجنة علمية مكونة من الأستاذ الدكتور محمد صقر، رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة الأردنية في حينه ومن الباحث حيث كان يعمل رئيسا لقسم الفقه والتشريع في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية، وقد انتهيت في تقرير قدمته لوزارة الأوقاف في حينه، أنه لا بد من أن يتحمل المكتتب ما يتعرض له من خسارة وفق قواعد عقد المضاربة في الشريعة الإسلامية.. مما دفع إلى البحث عن صيغة أخرى، وقد اتجهت النية إلى أن تكفل الحكومة أصل قيمة السند على أساس أنها طرف ثالث غير الجهة المصدرة وغير المكتتبين وأن مثل هذه الكفالة تعرفها قواعد الفقه الإسلامي، وقد بحث هذا الأمر بإطالة في لجنة الفتوى، وقد كان للباحث أيضا شرف المشاركة في ذلك مع عدد من السادة العلماء وذوي العلاقة بصفته أحد أعضاء هذه اللجنة وبعدها أصدرت اللجنة فتوى وقَّع عليها كل من الشيخ عبد الحميد السائح والأستاذ كامل الشريف والشيخ عز الدين الخطيب والدكتور عبد السلام العبادي والشيخ محمد أبو سردانة والدكتور ياسين درادكه والشيخ أسعد بيوض التميمي والأستاذ الدكتور محمد صقر والدكتور سامي حمود والسيد علي الشمايلة. وقد جاء في هذه الفتوى: وبما أن وزارة الأوقاف بمقتضى المادة الرابعة من قانون الأوقاف رقم (26) لسنة 1966 لها شخصية معنوية واستقلال مالي وإداري، وبما أن لها شرعا حكم المتولي على الوقف، وبما أنه يجوز شرعا للحكومة بما لها من ولاية عامة أن ترعى شؤون المواطنين، ولها أن تشجع أي فريق على القيام بما يعود على المجموع بالخير والمصلحة، فإن لجنة الفتوى والمشتركين معها في هذا الاجتماع يرون أنه بعد تحقق كفالة الحكومة فإن النص على تحمل المكتتبين للخسارة لم يعد واردا ولا لزوم له.. فإننا نقرر ما يلي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1550 1- جواز كفالة الحكومة لسندات المقارضة المخصصة لإعمار أراضي الأوقاف باعتبار أن الحكومة طرف ثالث وذلك على أساس الوعد الملزم. 2- عدم الحاجة حينئذ للنص في سندات المقارضة لهذه الغاية على أن يتحمل المكتتبون ما يصيبهم من الخسارة، وقد تم ذلك بتاريخ 28/ 2/ 1398هـ الموافق 17/ 1/ 1978م. 22- وقد جاء النص على كفالة الحكومة في المادة (12) من قانون سندات المقارضة والتي تنص على ما يلي: (تكفل الحكومة تسديد قيمة سندات المقارضة الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة، وتصبح المبالغ المدفوعة لهذا السبب قرضا ممنوحا للمشروع بدون فائدة مستحقة الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات) . وهذا النص يقرر كفالة الحكومة لتسديد قيمة السندات في مواعيد الإطفاء المقررة لا يجعل الأمر على سبيل الهبة من الحكومة إنما على سبيل القرض للشروع ولا حرج في ذلك ما دام أنه بدون فائدة. وأن دفعه سيتم من دخل المشروع المتحقق فيما بعد. 23- ومن الصيغ التي يمكن أن تطرح على أساس فكر ضمان الشخص الثالث تأسيس صندوق خاص لضمان أصل قيمة السندات فتكون موارده من نسبة معلنة مسبقا من أرباح المشروع على أساس التبرع. وهذه الفكرة تبناها قانون البنك الإسلامي لضمان مخاطر الاستثمار باقتطاع جزء من أرباح البنك لهذا الغرض من أجل تغطية الخسائر التي لا تعود لتعدي البنك أو تقصير على أن يكون هذا الصندوق مستقلا وطرفا ثالثا فتعود أمواله لجهة خيرية عند تصفية البنك. (1) .   (1) وقد نص القانون على صندوق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1551 وقد أقرت ورقة البحث التي أعدها مجموعة من الخبراء للبنك الإسلامي للتنمية في جدة والمشار إليها سابقا هذا المبدأ وقالت بكل وضوح (وتسمح قواعد الشريعة الإسلامية بإنشاء صندوق يقوم على أساس فكرة التأمين التعاوني وأنه طرف ثالث وفي حالة التصفية لابد أن تعود أمواله إلى جهة خيرية) (1) . 24- وقد لوحظ عند وضع مشروع قانون سندات المقارضة الأردني أنه يمكن إلحاق جهات خاصة بوزارة الأوقاف وهي كل الجهات التي لها استقلال مالي وتكون الحكومة بالنسبة لها على هذا الأساس طرفا آخر. فجاء نص المادة الثالثة من القانون: يسمح بإصدار سندات المقارضة للهيئات التالية: أ- وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية. ب- المؤسسات العامة ذات الاستقلال المالي. ج- البلديات. 25- وبعد الانتهاء من وضع مشروع قانون سندات المقارضة عرض على لجنة الفتوى وعقدت لذلك اللجنة عدة اجتماعات بحضور السادة: الشيخ محمد عبده هاشم والدكتور إبراهيم زيد الكيلاني، والشيخ عز الدين الخطيب، والدكتور عبد السلام العبادي من أعضائها، وشارك في هذه الاجتماعات كل من السادة الشيخ عبد الحميد السائح والأستاذ كامل الشريف والدكتور محمود أبو السعود والدكتور محمد صقر والأستاذ يوسف المبيضين والدكتور سامي حمود. وقد جاء في قرار اللجنة بهذا الخصوص " وقد تم بحث مشروع قانون سندات المقارضة مادة مادة، لبيان حكم الشريعة الإسلامية فيه، وتم حذف بعض نصوصه وتعديل بعضها، وإضافة نصوص تضمن مطابقة المشروع لأحكام الشريعة الإسلامية، من أجل أن يتحقق الانسجام والتناسق الكامل بين نصوصه ومواده وبخاصة النص الوارد بشأن كفالة الحكومة تسديد قيمة سندات المقارضة الاسمية الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة.   (1) انظر ص12 من ورقة البحث المشار إليها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1552 رابعا: إصدار هذه السندات وشروطها 26- نظَّم قانون سندات المقارضة كيفية إصدار هذه السندات وبيَّن الشروط والأحكام الواجب توافرها لذلك والأسس لقواعد هذا القانون. يلاحظ أن هذه الشروط والأحكام تتعلق بما يلي: أ- المشروع الذي تصدر سندات المقارضة لتمويله. 27- ونصت المادة 4 من القانون على أنه يشترط في هذا المشروع: 1- أن يكون ذا جدوى اقتصادية مجزية. 2- أن يكون مستقلا كل الاستقلال عن المشروعات الأخرى الخاصة بالهيئة المصدرة. 3- أن يدار المشروع كوحدة مستقلة بحيث تتضح في نهاية السنة المالية أرباحه المعدة لإطفاء السندات، وتوزيع الأرباح حسب النسبة المقررة في نشرة الإصدار. ب- اللجنة الخاصة بإصدار سندات المقارضة: 28- نصت المادة 8 من القانون على تأليف لجنة لإصدار سندات المقارضة تدرس نشرات الإصدار وتقرها بشكلها النهائي وتتكون هذه اللجنة من كل من: 1- نائب محافظ البنك المركزي الأردني رئيسا. 2- وكيل وزارة المالية. 3- وكيل وزارة الصناعة والتجارة. 4- وكيل وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية. 5- مدير عام سوق عمان المالي. 6- عضوين من القطاع الخاص يعينهما مجلس الوزراء لمدة سنتين غير قابلتين للتجديد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1553 29- ونصت المادة السادسة من القانون على إعداد نشرة لكل إصدار تشمل فيما يجب أن تشمل على عدة أمور ذكرتها بالتفصيل، وقد قامت لجنة الإصدار بإعداد هيكل عام لنشرة إصدار خاصة بمشاريع وزارة الأوقاف ضمنتها كل الأمور التي طلبها القانون، يمكن الرجوع إليها لمن أراد التفصيل.. ويلاحظ هنا أن الشكل النهائي لنشرة الإصدار الخاصة بمشروع معين يجب أن يعرض على مجلس الوزراء لتصديقها كما هو نص الفقرة (جـ) من المادة الثالثة. 30- والواقع أنه من الضروري أن تتضمن نشرة الإصدار كل البيانات والمعلومات اللازمة لمعرفة المشروع بدقة كافية. وفي ورقة البحث المقدمة للبنك الإسلامي للتنمية المشار إليها سابقا جرى التأكيد على هذا من منطلق أن كل التعامل وهو المشروع الممول بهذه السندات هنا يجب أن يكون معلومًا للمتعاقدين: المكتتب والجهة المصدرة. 31- ومن الأمور التي يجب أن تحويها نشرة الإصدار. - وصف موجز للمشروع وأغراضه. - حجم المال المستثمر. - القيمة الاسمية للإصدار. - الفترة المتوقعة للتنفيذ. - إجمالي الربح المتوقع. - حصة البنك من صافي الربح كمضارب. - المخصص لصندوق التأمين التعاوني لمخاطر الاستثمار. - تواريخ توزيع الأرباح المحققة. - كيفية تداول الشهادات وإجراءاته. - مواعيد الطرح للاكتتاب العام وإقفاله. - اسم أمين الإصدار وأسماء مديري الإصدار ووكلاء الدفع ومتعهدي التغطية. - الأحكام الشرعية التي استند عليها الإصدار. - شرح لوسيلة تمويل المشروع (مساهمة في رأس المال – تأجير – تمويل تجارة.. إلخ..) - شروط الإصدار الأخرى وأحكامه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1554 ولا يقتصر الأمر على هذا الملخص، بل لا بد أن يتاح للمكتتب المرتقب كتيب يتضمن جميع البيانات الأساسية في دراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع والتي لم تشملها نشرة الإصدار. 32- وقد تم تعريف الجهات المتعلقة في إصدار سندات التنمية في ورقة العمل المقدمة للبنك الإسلامي للتنمية كما يلي: 1- المصدر: هو الجهة التي تصدر الأوراق المالية لحسابها بغرض استخدام حصيلة الإصدار في تمويل نشاطها، ويجوز أن يقوم البنك الإسلامية نيابة عنها بالإصدار. 2- مدير الإصدار: وهو الجهة التي تنظم الإصدار من بدايته وتسوقه إلى أن يتم إغلاق باب الاكتتاب نهائيا وذلك نظير أجر معين ومعلن. 3- أمين الإصدار: وهو الجهة التي تتولى رعاية حقوق مالكي الأوراق المالية الإسلامية والرقابة على تنفيذ شروط الإصدار نظير أجر محدد ومعلن. 4- وكيل الدفع: وهو الجهة التي تقوم بالنيابة عن المصدر بدفع العوائد المستحقة في مواعيدها وكذلك أقساط إطفاء رأس المال كليا أو جزئيا نظير أجر محدد ومعلن. 5- متعهد التغطية: وهو الجهة التي تلتزم بالاكتتاب فيما لا يتم الاكتتاب به من الأوراق المالية ويكون هذا التزام دون أجر ممن قدمه. ويمكن أن يقوم البنك الإسلامي بدور جهة أو أكثر من تلك الجهات المذكورة على ألا يجمع بين وظيفة أمين إصدار من ناحية وأي من وظيفتي المصدر ومتعهد التغطية من ناحية أخرى. (1) .   (1) ورقة البحث المشار إليها ص5 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1555 أحكام الاكتتاب 33- عالج القانون موضوع الاكتتاب في سندات المقارضة في عدد من مواده وتشمل هذه الأحكام إجراءات الاكتتاب وأنواع المكتتبين، وكيفية دفع القيم المكتتب بها وضمان حقوق المكتتبين والدفاع عنه وكل ما يتعلق بإدارة إصدار السندات وتغطيتها فيما يعرف بالرجوع إلى مظانه من القانون. المحاسبة المالية في هذه السندات وقواعد إطفائها: 34- حرص قانون سندات المقارضة على تنظيم أمور المحاسبة المالية الخاصة بالمشاريع التي تمول وفق سندات المقارضة من أجل ضمان الحقوق للمكتتبين فقد نصت المادة 21 على تشكيل لجنة مستقلة يعينها مجلس الوزراء بناء على تنسيب الجهة المصدرة لا يتجاوز عددها خمسة أعضاء للإشراف على تنفيذ المشروع وقد أنيط بهذه اللجنة مسك حسابات أصولية مستقلة للمشروع تبين بدقة المشروع واستغلاله ونتائجه المالية وترسل نسخة من هذا التقرير إلى كل من مالكي السندات. كما نظمت المواد 6 فقرة (هـ) و11 و12 أحكام إطفاء السندات ونصت المادة 20 فقرة (أ) على أن الجهة المصدرة تحل محل مالكي الإسناد المطفأة في الحصول على الأرباح المتحققة لهم، وهذا النص الوارد في القانون محل نقد كما سنرى قريبا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1556 خامسا: وزارة الأوقاف وسندات المقارضة 35- نبحث تحت هذا العنوان في أمرين: الأول: جهود وزارة الأوقاف في إصدار قانون سندات المقارضة ومتابعة إصدارها بشكل سليم من الناحية الشرعية. الثاني: مدى استفادة وزارة الأوقاف من قانون سندات المقارضة في تمويل مشاريعها الكبيرة. أ- أما الأمر الأول فقد ظن من الوضع السابق جهود وزارة الأوقاف في إصدار قانون سندات المقارضة رقم 10 لسنة 1981. وهي الآن تتابع إصدار هذا القانون الذي صدر في حينه قانونا مؤقتا ليصدر قانون دائما بعد إقراره من مجلس الأمة. هذا وقد كانت لجنة الإصدار قد درست القانون من جديد دراسة تفصيلية لإدخال أي تعديلات ضرورية عليه قبل إقراره من مجلس الأمة الموقر.. وقد اتفقت اللجنة على ضرورة إجراء عدد من التعديلات على هذا القانون.. وقامت بتفويض بعرضها على اللجان المتخصصة في مجلس الأمة.. وقد قمت بكتابة مذكرة أوضحت فيها المبررات الخاصة بهذه التعديلات المقترحة وقدمتها للجهات المعنية في مجلس الأمة.. وقد أقرت هذه التعديلات بالإجماع في مجلس النواب وهي تنظر الإقرار من مجلس الأعيان في جلساته في الدورة القادمة إن شاء الله تعالى. 36- ولأهمية ما ورد في هذه المذكرة فإنني أرفق نصها فيما يلي: كانت لجنة إصدارات سندات المقارضة قد عقدت اجتماعا في وزارة الأوقاف بتاريخ 12/ 1/ 85 برئاسة عطوفة نائب محافظ البنك المركزي الأردني، وحضور الأعضاء وكيل وزارة الأوقاف، وكيل وزارة الصناعة والتجارة، مدير سوق عمان المالي، الدكتور أسامة الدباغ، من كلية الاقتصاد في الجامعة الأردنية، بالإضافة إلى السيد وليد أسعد خير الله من البنك المركزي، والسيد عصام المحيسن من وزارة المالية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1557 وقد درس المجتمعون مواد قانون سندات المقارضة واقترحوا إجراء مجموعة من التعديلات على مواد القانون ليتم عرضها على مجلس الأمة عند دراسة القانون بهدف إقراره قانونا دائما بعد أن كان قانونا مؤقتا. والتعديلات مبينة بالمحضر المرفق لاجتماع اللجنة. وقد فوض الدكتور عبد السلام العبادي، وكيل وزارة الأوقاف بالقيام بعرض هذه التعديلات المقترحة على اللجان المختصة في مجلس الأمة. والأسباب الموجبة للتعديلات التي اقترحتها اللجنة كما بينها الدكتور عبد السلام العبادي، للجنة المالية في مجلس النواب والتي وافقت عليها بعد مناقشة طويلة بالإضافة إلى إدخال بعض التعديلات الأخرى التي رأتها ضرورية أثناء دراسة القانون ومناقشته هي: 1- شطب الفقرة (ز) من المادة السادسة والتي تنص على ماهية السندات فيما إذا كانت لحاملها أو مسجلة باسم مالكها لكي تنسجم مع نص الفقرة (أ) من المادة الثانية من القانون والتي تنص: - تعني سندات المقارضة الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع. وعليه فإن السندات كما بين تعريفها في القانون تكون فقط باسم مالكها وليس باسم حاملها، إلا أنه يجوز نقل ملكيتها حسب أحكام هذا القانون ولا تعترف إلا بمالك واحد للسند الواحد. 2- الفقرة (أ) من المادة (الثامنة) طلبت تعيين عضوين من القطاع الخاص في لجنة إصدرات سندات المقارضة لمدة سنتين غير قابلتين للتجديد يعينها مجلس الوزراء، ولا بد من وجود جهة تنسب إلى مجلس الوزراء بتعيين هذين العضوين وإنه من الضروري أن يكون الشخصان المختاران من الأشخاص الوثيقي الصلة بالفكر الاقتصادي الإسلامي، لأن هذا القانون من القوانين التي تعتمد مبادئ الاقتصاد الإسلامي بالإضافة إلى أن وزارة الأوقاف من أهم الجهات التي تستفيد من هذا القانون، وقد اقترح بأن يكون التنسيب من وزير الأوقاف، وهو ما وافقت عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1558 وأضافت عبارة من ذوي الخبرة والاختصاص على نص المادة. 3- حذف المادة (11) من القانون: بما أن شروط الإصدار ستكون موضحة في نشرة إصدار سندات المقارضة بحيث تقوم الجهة المصدرة بتوزيع الأرباح الصافية الناتجة عن تنفيذ المشروع على مالكي السندات بنسب معينة تبين مقدار نسبة الربح ومقدار نسبة الإطفاء، وبما أن السندات التي سيجرى إطفاؤها بنسب محددة وفي مواعيد معينة وفق ما سيحدد في نشرة الإصدار، فإنه من المتوقع أن تزيد المبالغ المتحققة للإطفاء من ربح المشروع على القيمة الاسمية للسندات المقرر إطفاؤها. ومن المسلم به أن الزيادة ستدور للسنة التالية وتبقى رصيدا للمشروع ولا يجوز استخدام هذه الزيادة في إطفاء مزيد من السندات.. فالحكم الوارد في هذه المادة من تحصيل الحاصل والموضوع مفروغ منه فلا ضرورة لهذه المادة وإن كان لا ضرر من وجودها. 4- تعديل الفقرة (أ) من المادة (15) بحيث يجوز تقسيط قيمة سندات المقارضة الاسمية عند الاكتتاب لأمرين هامين: أ- تشجيع المواطنين على شراء السندات حيث إنهم لا يضطرون لدفع قيمتها كاملة من البداية فيما إذا تقرر في نشرة الإصدار تقسيطها. ب- عدم تجميع مبالغ طائلة مرة واحدة لدى الجهة المصدرة لعدة سنوات لحين البدء في تنفيذ المشروع ولحين إكماله وتحقق الربح. وهذا أمر معتمد في تقسيط قيم الأسهم المكتتب بها في الشركات المساهمة، ومن الواضح أن هنالك فرقا بين سندات المقارضة وسندات التنمية لأن سندات التنمية تدفع فوائدها فورا لأنها محددة من البداية، أما سندات المقارضة فلا تدفع أرباح لها إلا بعد تحقق الربح وبنسب التوزيع المعلنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1559 5- تعديل الفقرة (أ) من المادة (17) التي تنص على تسجيل اسم مالك السند على ظهر السند وليس على وجهه والأولى أن ينص على تسجيل اسم المالك على وجه السند وليس على ظهره، لأن هذا هو الأصل، والرهن هو الذي يدون على ظهر السند. وكذلك الفقرة (ب) من نفس المادة حيث لا داعي لإصدار فئات متعددة وبقيم اسمية مختلفة وإنما الأفضل أن تكون للسندات قيمة اسمية واحدة وتصدر بفئات متعددة لسهولة ذلك في المحاسبة وتوزيع الأرباح والتداول. لذا عدلت المادة بحيث تصبح (تكون للسندات قيمة اسمية واحدة وتصدر وثائقها من فئات متعددة بحيث تكون الوثائق ذات الفئة العليا قابلة للتجزئة إلى الوثائق ذات الفئة الدنيا) . 6- وقد جرى اقتراح شطب الفقرة (أ) من المادة لأن الأرباح المتحققة عن سندات المقارضة هي في الواقع أرباح أموال أصحاب السندات، لهذا فهم أصحاب الحق في الاستمرار للحصول على الأرباح المتحققة من هذه الأموال ولا وجه لحلول الهيئة المصدرة محل مالكي السندات في الحصول على الأرباح.. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن استمرار حلول الهيئة المصدرة محل مالكي الأسناد سيجعل الأرباح التي يحصل عليها مالكو السندات تقل تدريجيا حتى تكاد تتلاشى في الفترات الأخيرة مما يقتل هذه السندات في أسواق التداول ويظل لصاحب السند الحق في الحصول على النسبة المقررة للتوزيع كأرباح حتى يتم إطفاء جميع سنده فيصبح بعد ذلك كامل المشروع للجهة المصدرة بكامل دخله. ولا بد من الإشارة هنا أن إدخال هذه التعديلات أمر ضروري ليؤدي هذا القانون الغاية المقصودة منه. 37- والواقع أن هذه النقطة ما زالت محل نظر من منطلق أن الجزء المخصص للإطفاء هو نصيب الجهة المصدرة (العامل) في هذه المعاملة والذي يتحول شيئا فشيئا إلى ملكية الجهة المصدرة. وقد طالب بعض الباحثين بالتمسك بالنص الوارد في القانون وإنه لا حاجة لتعديله (1) ولا بد من الإشارة إلى أن إعادة المبالغ المطفئة من أصل قيمة السندات لمالك السند دفع إلى إثارة هذه المشكلة ولو كانت الجهة المصدرة تحتفظ بهذه المبالغ كما هو الحال في مفهوم المشاركة المتناقصة الواردة في قانون البنك الإسلامي الأردني لاختلفت الصورة ولما كان هنالك مشكلة في توزيع كامل النسب الأصلية طيلة مدة هذه السندات.   (1) انظر بحث د. قحف ص: 30- 31 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1560 38- وأما الأمر الثاني عن مدى استفادة وزارة الأوقاف من قانون سندات المقارضة في تمويل مشاريعها الكبيرة.. فالواقع أن حاجة وزارة الأوقاف ورغبتها في إيجاد طريقة شرعية مناسبة لتمويل مشاريعها الكبيرة هو الذي كان وراء صدور قانون سندات المقارضة لأن وزارة الأوقاف تملك العديد من الأراضي الممتازة في مناطق هامة ولكنها لا تملك الأموال التي تمكنها من إقامة المشاريع المناسبة عليها. وهي لا تستطيع الحصول على تمويل مالي قائم على أسس ربوية. فكانت هذه الحاجة وراء إصدار قانون سندات المقارضة. والوزارة قد اتخذت الإجراءات اللازمة لتمويل بعض مشاريعها الكبرى. وفق قانون سندات المقارضة ومن أهم هذه المشاريع المشروع التجاري الكبير الذي ستقيمه وزارة الأوقاف على أرض تملكها على شارع قريش في وسط مدينة عمان، المتوقع أن تصل تكلفته إلى عشرة ملايين دينار.. وهذا المشروع الآن في المراحل الأخيرة لإنجاز التصاميم والمخططات ومن المأمول أن تطرح سنداته للاكتتاب العام وفي وقت ليس بالبعيد. سادسا: البنك الإسلامي للتنمية وسندات المقارضة 39- يبدي البنك الإسلامي للتنمية اهتماما كبيرا بموضوع سندات المقارضة ويشمل على التعريف بها في المحافل الاقتصادية والمالية في العالم الإسلامي ويتابع تمويل مشاريع وزارة الأوقاف بها وقد اتفقت وزارة الأوقاف معه على أن يقوم بتمويل دراسات مشروعها المشار إليه سابقا بقرض قيمته 500 ألف دينار إسلامي أي ما يعادل 500 ألف دولار وقد وعد بتغطية قسم كبير من السندات التي ستطرح لتمويل هذا المشروع. ويضع البنك خططا لإصدار سندات المقارضة لتمويل مشاريع معينة في بعض البلاد الإسلامية، وقد عقدت عدة ندوات علمية متخصصة لبحث موضوع سندات المقارضة والعمل السريع على طرحها على مستوى العالم الإسلامي كما ظهر فيما قدمته مجموعة الخبراء إليه في ورقة البحث المشار إليها سابقا. 40- ويهتم البنك الإسلامي للتنمية بالتعاون مع المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية باقتراح تقدم به صاحب السمو الملكي الأمير حسن ولي العهد في المملكة الأردنية الهاشمية حول قيام البنك للتنمية التوسط في انتقال رؤوس الأموال بين البلدان الإسلامية وتوجيهها نحو الاستثمارات التنموية في البلدان الإسلامية المحتاجة إليها وبخاصة في الظروف الراهنة التي تعيشها الأمة الإسلامية وقد تقدم سموه بهذا الاقتراح في الندوة التي عقدت في عمان بعنوان المشكلات التي تعترض سبل البحث في الاقتصاد الإسلامي في 15 شعبان 1406هـ الموافق 24/ 4/ 1986 في المؤتمر السنوي الخامس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت والذي عقد خلال المدة 14- 17 شعبان 1406هـ الموافق 23- 26 نيسان 1986. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1561 ويرى الباحث أن صيغة سندات المقارضة المطروحة على مستوى العالم الإسلامي من خير الوسائل والأدوات القادرة على تنفيذ اقتراح سمو الأمير حسن وعلى أية حال فقد شكلت الندوة فريق عمل فني لدراسة جميع الأمور المتعلقة بالتطبيق العملي لهذا الاقتراح برئاسة الدكتور أحمد محمد علي رئيس البنك الإسلامي للتنمية/ جدة وعضوية كلا من: - الدكتور عبد الله عمر نصيف – أمين عام رابطة العالم الإسلامي/ مكة المكرمة. - الدكتور عبد العزيز كامل - المستشار بالديوان الأميري بالكويت - الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة – أمين عام مجمع الفقه الإسلامي/ جدة - الدكتور عبد السلام العبادي – وكيل وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية/ الأردن - الدكتور راضي البدور – مدير دائرة العلوم المالية المصرفية بجامعة اليرموك / الأردن. ومن المنتظر أن تعقد هذه اللجنة اجتماعاتها في الفترة التي يعقد فيها مجمع الفقه الإسلامي اجتماعات في دورته الثالثة في عمان في الفترة 11- 16 أكتوبر 1986. وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1562 بسم الله الرحمن الرحيم ملحق لبحث سندات المقارضة الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على رسوله الكريم وبعد: 1) فقد أوضحت في البحث الأصلي النقاش الذي دار حول التكييف الفقهي لسندات المقارضة والعلاقة الحقوقية التي تقوم بين الجهة المصدرة للسندات والمكتتبين بها.. وإضافة لما ورد هناك فإنه يمكن القول أمام النقاش، وما ثار حوله من تعليقات وملاحظات: إن القضية الأساسية التي نواجهها هنا هي: هل نستطيع استحداث أداة تمويل إسلامية مقرة شرعا، تقوم فكرتها على أساس المشاركة في المشروع بشكل أو بآخر والتعرض لاحتمالات الربح والخسارة، وبحيث لا تقوم على مبدأ القرض الربوي المحرم شرعا، والذي يؤمن للممول دخلا معروفا أو مقدرا من النسبة الربوية؟ وإذا كانت هنالك إمكانية شرعية لهذا الاستحداث، فما الشروط والقيود التفصيلية التي تضمن عدم انقلاب هذه الأداة في التطبيق.. وبخاصة في الظروف الاقتصادية الربوية المعاصرة إلى ممارسات ممنوعة شرعا؟ 2) وإجابة على هذا التساؤل انصرفت أنظار العلماء إلى عقد المضاربة من منطلق أنه شركة بين صاحب مال وعامل.. يقدم فيها صاحب المال ماله، ويقدم العامل جهده على أن يكون الربح بينهما وفق ما يتفقان عليه.. والخسارة على صاحب المال، ويكفي العامل خسارة جهده. وعقد المضاربة هذا يقدم أساسا صالحا للتكييف الفقهي لعمليات التمويل بصفة عامة. وقد مارست البنوك الإسلامية ذلك كما هو معروف، ولكن تظل فكرة عقد المضاربة بالشكل المعروف تواجه بعض الصعوبات في مجال تكييف فكرة سندات التمويل وبخاصة عند الإطفاء.. فهل يتم الإطفاء على أساس القيمة الاسمية الأصلية للسند أم على أساس القيمة الفعلية للمشروع المقام؟ من منطلق أن المالك لرأس المال مالك لما يشتري أو يقام به، وليس للعامل فيه إلا النسبة المتفق عليها في العقد من الأرباح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1563 وقد اختار قانون سندات المقارضة الأردني الإطفاء بالقيمة الاسمية.. فهل يمكن قبول هذا إطار القول بأن الأساس الفقهي لفكرة هذه السندات هو عقد المضاربة؟ أجاز عدد من الفقهاء شراء رب المال من مال المضاربة لتعلق حق المضارب به (1) مما يعني أنه ليس مالكا خالصا له وإلا كيف يجوز له أن يشتريه وهو ملكه؟ ثم ألا يمكن القول بأن صاحب المال والعامل قد اتفقا في هذه الصورة المستحدثة من المضاربة على ذلك؟ وليس في ذلك محظور شرعي لأن هذه مبادلة رضائية قَبِلَ الطرفان فيها اعتماد القيمة الاسمية كأساس لتقدير قيمة الأعيان التي قامت في المشروع تشبه البيع بما ينقطع عليه السعر من حيث الإضافة إلى المستقبل ومن حيث المخاطرة في تقدير السعر، ذلك أن الاحتمال قائم في نزول قيمة هذه الأعيان أو ارتفاعها عن القيمة الاسمية فالمخاطرة التي يتعرض لها رب المال في هذه المبادلة الرضائية المضافة إلى المستقبل واضحة، يضاف إليها المخاطرة التي يتعرض لها في احتمال أن لا يتحقق ربح للمشروع والمخاطرة واحتمال التعرض للربح والخسارة هو أساس الاستثمار الجائز شرعا.. أما قضية ضمان على رأس المال فهي ليست من صلب العقد كما هو معلوم.. وتبحث من الناحية الفقهية على حدة. 3) ولا يغيب عن البال أن فكرة الإطفاء ضرورية في المشاريع الدائمة بطبيعتها ولا تسمح بالاشتراك في الملكية كما في عقارات الأوقاف.. ولكنها غير ضرورية في المشاريع غير الدائمة بطبيعتها وكذلك في المشاريع التي تسمح بقيام الاشتراك في الملكية. وعلى هذا الأساس فإن فكرة الإطفاء ليست ملازمة لسندات المقارضة في جميع الأحوال.. ومن هنا رأينا قانون البنك الإسلامي الأردني لم يشر إلى موضوع الإطفاء وكذلك لم يبرز الحديث عنه في ورقة البنك الإسلامي للتنمية عن شهادات الاستثمار الإسلامية. وعلى كل فاختيار القيمة الاسمية أو الفعلية لاحق لتبني فكرة سندات المقارضة.   (1) المغني لابن قدامة: ج5 ص42، 43 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1564 4) ونلاحظ أن هنالك صورة مشابهة يجزي العمل بها في البنوك الإسلامية وهي صورة المشاركة المتناقضة حيث يتفق البنك الإسلامي مع أحد الأشخاص المالكين لقطعة أرض على بناء عمارة مثلا في هذه الأرض ويتفق معه على تقسيم داخل هذه العمارة بنسبة معينة ربحا للبنك ونسبة أخرى لسداد المبالغ التي دفعها البنك في بناء العمارة كما يمكن أن يخصص قدر أيضا لصاحب الأرض فإذا بلغ ما يحصل من النسبة لسداد المبالغ التي دفعها البنك هذه المبالغ خلصت العمارة لصاحب الأرض وخرج البنك من المعاملة، فيكون قد استعاد رأس ماله بقيمته الاسمية وقدرا من الأرباح. وتأتي الحاجة لهذه الصورة من منطلق تقديم بديل لصورة التمويل الربوي حيث لا يرضي مالك الأرض بالبنك شريكا دائما وحيث لا يمكن خروج البنك على أساس التقويم الفعلي للعمارة أولا بأول، ثم من أين سيأتي صاحب العمارة بالمبالغ التي تخرج البنك شراء على أساس التقويم الفعلي وبخاصة في حالة ارتفاع أسعار العمارة. وقد عرف قانون البنك الإسلامي الأردني المشاركة المتناقضة في مادته الثانية بقوله: دخول البنك بصفة شريك ممول كليا أو جزئيا – في مشروع ذي دخل متوقع، وذلك على أساس الاتفاق مع الشريك الآخر بحصول البنك على حصة نسبية من صافي الدخل المتحقق فعلا حقه بالاحتفاظ بالجزء المتبقي أو أي قدر منه يتفق عليه ليكون ذلك الجزء مخصصا لتسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل. 5) ثم ألا يمكن القول: إننا أمام عقد جديد استفيد من بنائه الفقهي من العقود المعروفة سابقا ما دام أننا ما زلنا في إطار الامتناع عن تحريم الحلال وتحليل الحرام.. ومن المعلوم أنه لا ضير في هذا الإطار من إحداث صور عقود جديدة جملة وتفصيلا أخذا بما رجحه عدد من العلماء. 6) وأما ما يتعلق بموضوع ضمان أصل رأس المال.. فواضح أن هذا الأمر ليس جزءا أساسيا من طبيعة سندات المقارضة إنما جرى بحثه فقها لتوليد حوافز للمكتتبين في ضمان رأس المال أمام المنافسة في السندات الربوية التي تقدم ضمانا لنسب فوائد معلنة. وهذا الأمر لا يتعلق بطبيعة سندات المقارضة نفسها ويمكن أن يتم الأمر بدونه. ووجهة النظر الفقهية في هذا أنه ما دام أننا نستطيع أن نؤمن هذا الضمان على أسس الفقه الإسلامي فما الضير في تأمينه؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1565 وقد لجأ لهذا التأمين في قانون سندات المقارضة الأردني على أساس كفالة الحكومة طرفا ثالثا. وفي صيغة شهادات الاستثمار في البنك الإسلامي للتنمية تم الأمر على أساس تأسيس صندوق لتأمين مخاطر الاستثمار وهاتان الصورتان لا مشكلة منها من الناحية الفقهية من حيث الأصل عند كثير من العلماء على أساس فكرة الوعد الملزم كما أشير في الفتوى الأردنية.. إلا أن صيغة قانون سندات المقارضة الأردني تعرضت للنقد من حيث إن القانون عندما نوقش في ديوان التشريع أضيفت للمادة الخاصة بالكفالة زيادة، بيد أنه لا ضير فيها من الناحية الفقهية وهي تقرر أن ما تدفعه الحكومة في حالة عجز المشروع عن دفع القيمة الاسمية للسندات في مواعيد الإطفاء المقررة يعتبر قرضا للمشروع دون فائدة وقد لاحظت أن هذا القيد يثير إشكالا كبيرا ولما كان قانون سندات المقارضة الأردنية في مرحلة الإصدار كقانون دائم بعد أن كان قد أصدر قانونا مؤقتا سنة 1981 فقد عرضت الأمر على لجنة سندات المقارضة واقترحت أن يحال الموضوع من جديد لمجلس الإفتاء وقد كتبت الوزارة بذلك للمجلس، وقمت بعرض الأمر على المجلس بصفتي عضوا فيه. وقد أعاد المجلس دراسة الموضوع من جديد وأصدر الفتوى التالية: قرار رقم 1/ 1987م اطلع مجلس الإفتاء على كتاب سماحة وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية رقم 134/ تعميرات/ أ/ 14602 تاريخ 17/ 4/ 1407هـ الموافق 16/ 12/ 1986م بخصوص قانون سندات المقارضة المتضمن الطلب من مجلس الإفتاء بيان رأيه في نصوص القانون والتعديلات المقترحة وبخاصة المادة الثانية عشرة من القانون وذلك بالإشارة إلى ما وجه إليها من نقد واستنادا للفتوى الصادرة بتاريخ 17/ 1/ 1988م بخصوص القانون. وبعد استعراض مواد القانون المؤقت رقم (10) لسنة (1981م) والتعديلات المقترحة التداول فيها قرر: أ - تأكيد قرار لجنة الإفتاء الصادر بتاريخ 8/ 2/ 1398هـ الموافق 17/ 1/ 1978م بشأن مشروع قانون سندات المقارضة وانطباق نصوصه ومواده مع أحكام الشريعة الإسلامية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1566 ب- تأكيد قرار لجنة الإفتاء بتاريخ 8/ 2/ 1398هـ الموافق 7/ 1/ 1978م بخصوص جواز كفالة الحكومة تسديد القيمة الاسمية لسندات المقارضة الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة باعتبار أن الحكومة طرف ثالث. وأن للحكومة بما لها من ولاية عامة أن ترعى شؤون المواطنين ولها أن تشجع أي فريق على القيام بما يعود على المجموع بالخير والمصلحة. جـ- وقد لاحظ المجلس أن المادة الثانية عشرة من القانون المؤقت رقم (10) سنة (1981م) قد أضافت بعد النص على أن الحكومة تكفل بتسديد قيمة سندات المقارضة الاسمية الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة أن المبالغ التي تدفعها الحكومة في هذه الحالة تصبح قرضا للمشروع وبدون فائدة مستحق الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات، وهذا يعني أن الحكومة التي قبل مبدأ كفالتها لتسديد القيمة الاسمية للسندات على أساس أنها طرف ثالث لم تعد طرفا ثالثا وأن الذي تحمل التسديد هو المشروع نفسه. كل ما في الأمر أنه قام بالاقتراض من الحكومة لعدم توافر السيولة لديه لتغطية القيمة الاسمية المطلوب تسديدها، وهذا في الواقع كفالة لعدم الخسارة أعطيت لصاحب المال من المضارب في عقد المضاربة وهذا أمر يخالف القواعد المقررة لعقد المضاربة في الفقه الإسلامي. لذا يرى مجلس الإفتاء ضرورة الإبقاء على كفالة الحكومة على أساس أنها طرف ثالث واستمرار وضعها في هذه الكفالة على هذا الأساس ليقبل من الناحية الشرعية عدم النص في سندات المقارضة على تحميل المكتتبين ما يصيبهم من خسارة، كما هو وارد في نص لجنة الإفتاء في القرار المشار إليه. ومن هنا يرى المجلس ضرورة الوقوف بالمادة الثانية عشرة عند كلمة المواعيد المقررة وحذف الباقي والواقع أن المشاريع الوقفية والمشاريع التي تقوم بها البلديات والمؤسسات ذات الاستقلال المالي والإداري التي ستستفيد منه هذه الكفالة هي من المشاريع الحيوية التي تعود على الأمة بالخير والنفع والرفاهة مما تحرص الدولة على إقامته والتشجيع عليها تحقيقا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والأصل أن هذه المشاريع كما ينص القانون المؤقت لا يباشر بها إلا بعد دراسات وافية للجدوى الاقتصادية وبوجود ضمانات كافية تضمن حسن سيرها وسلامة الإشراف عليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1567 فليس في كفالة الحكومة تسديد قيمة أصل هذه السندات في مواعيد الإطفاء المقررة أي ضرر أو إضاعة للمال العام إنما هو استخدام إيجابي له في حالات نادرة وفي ظروف استثنائية. د- وقد اطلع المجلس على التعديلات المقترحة في المذكرة المرفقة بكتاب سماحة الوزير ورأي أن التعديلات المقترحة لا تعارض الأحكام الشرعية المقررة، ولا يمانع المجلس في إدخالها على القانون المؤقت. عضو المفتي العام قاضي القضاة عبد السلام العبادي نائب رئيس مجلس الإفتاء رئيس مجلس الإفتاء عز الدين الخطيب التميمي محمد محيلان عضو عضو عضو مود السرطاوي ياسين درادكه نوح سلمان القضاة عضو عضو مصطفى الزرقاء عبد الفتاح عمرو عضو مقرر عضو عضو محمود الفواطلي الرفاعي عبد الحليم الرمحي إبراهيم زيد الكيلاني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1568 الوثائق البيان الختامي وتوصيات لندوة سندات المقارضة وسندات الاستثمار التي أقامها مجمع الفقه الإسلامي بجدة بالاشتراك مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب (بالبنك الإسلامي للتنمية) بتاريخ 6- 9 محرم 1408هـ/ 30 /8- 2 /9 /1987م الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1569 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم انعقدت في جدة ندوة مشتركة بين مجمع الفقه الإسلامي، والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية في الفترة من 6- 9محرم 1408هـ الموافق 30 /8 – 2 /9 /1987م. حول (سندات المقارضة وسندات الاستثمار) . وقد سارت وقائع الندوة طيلة أيامها الأربعة وفقا للبرنامج المعد لها حيث ابتدأت بحفل الافتتاح صباح يوم الأحد 6 /1 /1408هـ - 30/ 8 /1987 بتلاوة من القرآن الكريم، ثم كلمة معالي الدكتور أحمد محمد علي رئيس البنك الإسلامي للتنمية ألقاها نيابة عنه نائب الرئيس الأستاذ عثمان سيك، ثم كلمة معالي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي، ثم كلمة معالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي، ثم كلمة سعادة الدكتور كوكورت أوزال مدير المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، ألقاها نيابة عنه نائب مدير المعهد الدكتور حشمت بشار. وقد تضمنت الكلمات بيان أهمية هذه الندوة وأن الباعث الآن على عقدها هو مواصلة ما بدأه مجمع الفقه الإسلامي من دراسة (سندات المقارضة) في دورته الثالثة بعمان العام الماضي، والتمهيد لاستكمال البحث فيها في الدورة القادمة، وذلك للدور الفعال لها في زيادة القدرات على تنمية الموارد المالية بأساليب التمويل المختلفة في العالم الإسلامي ولاسيما ما يقوم على اجتماع المال والعمل، وتعاون الجهات المليئة والجهات الخبيرة، ولأن سندات المقارضة تعد من أدوات التمويل الجديدة المقترحة التي تحظى باهتمام مؤسسات التمويل الإسلامية. وقد اشتملت كلمة معالي الأمين العام للمجمع على وصف التعاون القائم بين المجمع وبين البنك الإسلامي للتنمية في كل ما يعود بالخير على المسلمين عن طريق خدمة الشريعة ودعم الحركة الفقهية ونحو ذلك من أهداف المجمع ووسائله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1570 وقد شارك في هذه الندوة عدد من أعضاء مجمع الفقه الإسلامي وخبرائه، ومن باحثي المعهد والفنيين بالبنك، وبعض المختصين في الشريعة أو الاقتصاد الإسلامي في الجامعات والمراكز العلمية الأكاديمية وأسماؤهم مدرجة في (القائمة الأولى) الملحقة. وقد اشتمل البرنامج على أربع جلسات طويلة، خلال يوميه الأول والثاني للأبحاث ومناقشتها وخصص اليوم الثالث للجنة الصياغة، واليوم الرابع لمناقشة التوصيات. وقدمت أبحاث أدرجت في البرنامج لعرضها، مع أبحاث أخرى أتيح المجال للإضافة منها في الوقت المخصص للمناقشات نظرا لتأخر وصولها، وتنظر (القائمة الثانية) الملحقة. وكانت هيئة إدارة الندوة مكونة من: معالي الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (رئيسا) ومعالي الشيخ الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة (نائبا للرئيس) والدكتور عبد الستار أبو غدة (مقررا) . ثم عهد بالصياغة إلى لجنة مكونة من: الدكتور حسن عبد الله الأمين. الدكتور حسين حامد حسان. الدكتور سامي حسن حمود. الدكتور عبد الستار أبو غدة (مقررا) . الدكتور عبد السلام داود العبادي. الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع. الدكتور علي أحمد السالوس. وانتهت الندوة، بعد المناقشة، إلى اعتماد التوصيات التالية: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1571 التوصيات 1- سندات المقارضة هي أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القراض (المضاربة) بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة ومسلحة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصا شائعة في رأس مال المضاربة وما يتحول إليه، بنسبة ملكية كل منهم فيه. وبفضل تسمية هذه الأداة الاستثمارية (صكوك المضاربة) . 2- الصورة المقبولة شرعا لسندات المقارضة بوجه عام لا بد أن تتوافر فيها العناصر التالية: العنصر الأول: أن يمثل الصك ملكية حصة شائعة في المشروع الذي أصدرت الصكوك لإنشائه أو تمويله، وتستمر هذه الملكية طيلة المشروع من بدايته إلى نهايته. وتترتب عليها جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعا للمالك في ملكه من بيع وهبة ورهن وإرث وغيرها. العنصر الثاني: يقوم العقد في صكوك المقارضة على أساس أن شروط التعاقد تحددها (نشرة الإصدار) وأن (الإيجاب) يعبر عنه (الاكتتاب) في هذه الصكوك، وأن (القبول) تعبر عنه موافقة الجهة. ولا بد أن تشتمل نشرة الإصدار على جميع البيانات المطلوبة شرعا في عقد القراض (المضاربة) من حيث بيان معلومية رأس المال وتوزيع الربح مع بيان الشروط الخاصة بذلك الإصدار على أن تتفق هذه الشروط مع الأحكام الفقهية المعتبرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1572 العنصر الثالث: أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب باعتبار ذلك تصرفا من المالك في ملكه مع مراعاة الضوابط التالية: أ - إذا كان مال القراض المتجمع بعد الاكتتاب وقبل المباشرة في العمل بالمال ما يزال نقودا فإن تداول صكوك المقارضة يعتبر مبادلة نقد بنقد وتطبق عليه أحكام الصرف. ب- إذا أصبح مال القراض ديونا يطبق على تداول صكوك المقارضة أحكام تداول النقود بالنقود. ج- إذا صار مال القراض موجودات مختلفة من النقود والديون والأعيان والمنافع فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقا للسعر المتراضي عليه وطبقا للأحكام الشرعية، على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعيانا ومنافع. العنصر الرابع: أن من يتلقى حصيلة الاكتتاب في الصكوك لاستثمارها وإقامة المشروع بها هو المضارب، أي عامل المضاربة ولا يملك من المشروع إلا بمقدار ما قد يسهم به بشراء بعض الصكوك فهو رب مال بما أسهم به بالإضافة إلى أن المضارب شريك في الربح بعد تحققه بنسبة الحصة المحددة له في نشرة الإصدار وتكون ملكيته في المشروع على هذا الأساس. وأن يد المضارب على حصيلة الاكتتاب في الصكوك وعلى موجودات المشروع هي يد أمانة لا يضمن إلا بسبب من أسباب الضمان الشرعية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1573 3- مع مراعاة الضوابط السابقة في التداول: يتم تداول صكوك المقارضة في أسواق الأوراق المالية إن وجدت وذلك وفقا لظروف العرض والطلب ويخضع لإدارة العاقدين. كما يتم التداول بقيام الجهة المصدرة أو غيرها في فترات دورية معينة بإعلان أو إيجاب يوجه إلى الجمهور تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة بشراء هذه الصكوك بسعر معين. ويحسن أن تستعين في تحديد السعر بأهل الخبرة وفقا لظروف السوق والمركز المالي للمشروع. 5- لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو نسبة معينة من الربح بأن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمنا كان العقد قرضا لا قراضا وتطبق عليه أحكام القرض فلا يجوز دفع زيادة عليه ولو لم تكن محددة المقدار. 6- لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار ولا صك المقارضة الصادرة بناء عليها على نص يلزم بالبيع ولو كان معلقا أو مضافا للمستقبل. وإنما يجوز أن يتضمن صك المقارضة وعدا ملزما بالبيع. وفي هذه الحالة لا يتم البيع إلا بعقد بالقيمة المقدرة من الخبراء فإن ترتب على الإخلال بالوعد ضرر بالموعود لزم الواعد تعويضه وفقا لأحكام الضمان الشرعية. 8- لا يجوز أن تتضمن نشرة الإصدار ولا الصكوك المصدرة على أساسها نصا يؤدي إلى احتمال قطع الشركة في الربح فإن وقع كان العقد باطلا. ويترتب على ذلك: أ - عدم جواز اشتراط مبلغ محدد لحملة الصكوك أو صاحب المشروع في نشرة الإصدار وصكوك المقارضة الصادرة بناء عليها. ب - إن محل القسمة هو الربح بمعناه الشرعي، وهو الزائد عن رأس المال وليس الإيراد أو الغلة، ويعرف مقدار الربح، إما بالتنضيض أو بالتقويم للمشروع بالنقد، وما زاد عن رأس المال فهو الربح الذي يوزع بين حملة الصكوك وعامل المضاربة، وفقا لشروط العقد. ج - أن يعد حساب أرباح وخسائر للمشروع وأن يكون معلنا وتحت تصرف حملة الصكوك. 7- يستحق الربح بالظهور، ويملك بالتنضيض أو التقويم ولا يلزم إلا بالقسمة. وبالنسبة للمشروع الذي يدر إيرادا أو غلة فإنه يجوز أن توزع غلته، وما يوزع على طرفي العقد قبل التنضيض (التصفية) يعتبر مبالغ مدفوعة تحت الحساب. 8- ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة معينة في نهاية كل دورة، إما من حصة حلمة الصكوك في الأرباح في حالة وجود تنضيض دوري، وإما من حصتهم في الإيراد أو الغلة الموزعة تحت الحساب ووضعها في احتياطي خاص لمواجهة مخاطر خسارة رأس المال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1574 9- ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث بمبلغ بالتبرع مخصص لجبر الخسران في مشروع معين. على أن يكون مستقلا عن عقد المضاربة بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطا في نفاذ العقد وترتب على أحكامه عليه بين أطرافه ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به بحجة أن هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد. 10- نظرا لما لعقارات الأوقاف من طبيعة خاصة وأحكام متميزة، ورغبة في الحفاظ على هذه الأوقاف ودفع التعدي عنها ومساعدة لجهة الوقف على تحقيق الأهداف المقصودة من نظام الوقف الإسلامي واستنباط الصيغ الإسلامية لتعميره واستثمار أصوله، وتحقيق عائد مُجْدٍ للصرف على جهاته فقد درست اللجنة بعناية فائقة التجربة التي قامت بها وزارة الأوقاف الأردنية والتي ظهرت في (قانون سندات المقارضة المؤقت رقم 10 لسنة 1981م) . وهي بصدد استحداث أدوات استثمارية قائمة على قواعد الشريعة الإسلامية واستعرضت ما بنيت عليه تلك التجربة من اجتهادات واطلعت على ما يجري عليها من تعديلات وما أبدى عليها من ملاحظات في الأبحاث المقدمة إلى الندوة. لذا عرض في الندوة بصدد ما يستفاد منه في إطار تعمير الوقف واستثماره الصيغ الآتية بالإضافة إلى الصيغة المقبولة لصكوك المقارضة وفق ما سبق بيانه: 1- أن تقوم شركة بين جهة الوقف وغيرها من أرباب المال وتكون حصة جهة الوقف بها هي قيمة أعيان الوقف، وحصة أصحاب المال فيها الأموال اللازمة لتعميره على أن توزع الأرباح بنسبة الحصص بعد استقطاع حصة لجهة الوقف نظير الإدارة على أن يتضمن عقد الشركة وعدا ملزما من جانب بقية الشركاء ببيع حصصهم لجهة الوقف بالشروط المشروعة التي يتضمنها ويبنى القول بالالتزام بالوعد على أساس أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة، وإعمالا لمقاصد الشارع من تأييد الوقف، وضرورة استثماره وصرف عائده على الوجوه الموقوف عليها وهذه الصيغ تطبيق للمشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1575 2- أن يتم تعمير الوقف على أساس دفع الأعيان باعتبارها أصلا ثابتا يُدِرُّ إيرادا بالعمل فيه والصرف عليه لمن يعمل على استثمار أعيان الوقف مدة المشروع في مقابل اقتسام الإيراد بنسبة محددة، والسند لهذا التخريج ما ثبت في السنة من أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع أرض خيبر لمن يعمل فيها بماله نظير حصة من الناتج، وتعود الأبنية على الوقف لجهة الوقف بناء على قاعدة الحنابلة فيمن يدفع سفينة لمن يعمل عليها بحصة من أجرتها، وتطبيق قواعد الالتصاق الشرعية في حال البناء على الأرض المأجورة أو المستعارة بناء على الإذن أو عدمه في هذا المجال ويصار إلى تملك البناء لجهة الوقف بطرق التمليك المقررة شرعا في هذه الحال. 3- أن تتفق الجهة المسؤولة عن الوقف مع طرف ملئ كالمصارف مثلا على إقامة مبان ومنشآت على أراضي الوقف لقاء بدل مقسط يدفع للصانع من ريع المباني وغيره، على أساس الاستصناع وفق المقرر في المذهب الحنفي، ويمكن ضمان ذلك من جهة الدولة ويمكن أن يكون التزام الدولة بذلك على سبيل الهبة أو القرض الحسن. 4- أن تتفق جهة الوقف مع طرف راغب بالانتفاع بأرض الوقف مدة طويلة بالبناء عليها، على أن يؤول هذا البناء إلى ملك الوقف بعد انقضاء المدة إما باعتبار البناء أجرة مؤجلة للأرض، وإما باعتباره الجزء الغالب من الأجرة. وذلك في حالة تحديد مبالغ قليلة تدفع طيلة المدة في مواعيد دورته للمحافظة على صلة جهة الوقف بتلك الأراضي الموقوفة المبني عليها. وهذه الصيغ المطروحة هي محاولة اجتهادية تحتاج إلى مزيد من البحث والنظر. وهناك صيغ أخرى للاستثمار يتسع لها الفقه الإسلامي وتحتاج كل صيغة منها إلى دراسة متأنية بنظر شرعي لوضع الضوابط اللازمة لاستخدامها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1576 ملحق رقم (1) المشاركون في الندوة عن إدارة المجمع 1- الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس المجمع ووكيل وزارة العدل 2- الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي أصحاب الفضيلة العلماء وأصحاب السعادة الخبراء المشاركون في الندوة مع بيان وظائفهم وترتيب أسمائهم ترتيبا ألفبائيا 1- الدكتور ثروت أرمغان باحث بالمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب 2- الدكتور حسن عبد الله الأمين باحث بالمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب 3- الدكتور حسين حامد حسان رئيس الجامعة الإسلامية العالمية (إسلام آباد) 4- الدكتور حشمت بشار نائب مدير المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب 5- الدكتور رضا سد الله باحث بالبنك الإسلامي للتنمية 6- الدكتور رفيق المصري باحث بمركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي 7- الدكتور سامي حمود مدير مركز البركة للبحوث والاستشارات المالية الإسلامية 8- الدكتور عبد الرحيم الساعاتي جامعة الملك عبد العزيز 9- الدكتور عبد الستار أبو غدة عضو المجمع، خبير ومقرر الموسوعة الفقهية بالكويت 10- الدكتور عبد السلام داود العبادي عضو المجمع، وكيل وزارة الأوقاف بالأردن 11- الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع القاضي بمحكمة التمييز بالمنطقة الغربية 12- الشيخ عبد الله البسام عضو المجمع، والقاضي بمحكمة التمييز 13- الدكتور عبد اللطيف الصباغ أستاذ بكلية الآداب- جامعة الملك عبد العزيز 14- الدكتور عبد الملك الفادني البنك الإسلامي للتنمية 15- الدكتور علي أحمد السالوس أستاذ بكلية الشريعة جامعة قطر 16- القاضي محمد تقي العثماني عضو المجمع، والقاضي بالمحكمة العليا بباكستان 17- الدكتور محمد الحناوي كبير اقتصاديي البنك الإسلامي للتنمية 18- الدكتور محمد الصديق الأمين الضرير عضو المجمع، أستاذ بكلية الشريعة جامعة الخرطوم 19- الدكتور محمد الفاتح خان مدير الإدارة القانونية بالبنك الإسلامي للتنمية 20- الدكتور محمد علي القري بن عيد نائب مدير مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي 21- الشيخ محمد المختار السلامي عضو المجمع، مفتي الجمهورية التونسية 22- الدكتور ناجي شفيق عجم الأستاذ بكلية الآداب جامعة الملك عبد العزيز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1577 ملحق رقم (2) محاور الدارسة، والأبحاث المعروضة، أو المقدمة إلى الندوة (أولا) محاور الدارسة، والأبحاث المعروضة في الندوة (المحور الأول) : تصوير حقيقة سندات المقارضة: 1- بحث (سندات المقارضة) . للدكتور عبد السلام داود العبادي. 2- بحث (تصوير حقيقة سندات المقارضة والفرق بينها وبين سندات التنمية وشهادات الاستثمار والسندات الربوية) . للدكتور سامي حسن حمود. (المحور الثاني) : تحديد طبيعة سندات المقارضة: 3- بحث (سندات المقارضة والاستثمار) للشيخ محمد المختار السلامي. 4- بحث (سندات المقارضة والاستثمار) للدكتور علي أحمد السالوس. (المحور الثالث) : ضمان رأس مال وأرباح سندات المضاربة: 5- بحث (ضمان رأس مال وأرباح صكوك المضاربة) للدكتور حسين حامد حسان. (المحور الرابع) إطفاء سندات المقارضة: 6- بحث (سندات المقارضة) للقاضي محمد تقي العثماني. 7- بحث (سندات المقارضة) . للدكتور الصديق محمد الأمين الضرير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1578 (ثانيا) أبحاث أخرى قدمت إلى الندوة 8- بحث (حول سندات المقارضة وسندات الاستثمار) . للشيخ عبد الله سليمان بن منيع. 9- بحث (سندات المقارضة وسندات الاستثمار) . للدكتور حسن عبد الله الأمين. 10- بحث (سندات المقارضة) . للدكتور وفيق يونس المصري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1579 المناقشة بسم الله الرحمن الرحيم سندات المقارضة وسندات الاستثمار الرئيس: ننتقل إلى الموضوع الذي هو سندات المقارضة وسندات الاستثمار وهو كذلك كغيره من سوابقه قد أعد فيه أبحاث لا المقرر والعارض غير موجودين لكن فارس الحلبة الأستاذ سامي حمود فنرجو أن يتفضل بالعرض عن سندات المقارضة. الدكتور سامي حسن حمود: بسم الله الرحمن الرحيم، بالنسبة لسندات المقارضة هي مصطلح جديد بدأ التفكير فيها عند إنشاء البنك الإسلامي الأردني في الأردن من منطلق أن النظام المصرفي الإسلامي ليس مقصودا به أن يكون فقط على المستوى المحلي وإنما يجب أن تكون الصورة متكاملة في صورة رأس المال المبتدأ الذي تجمع به البنوك الإسلامية الأموال من الناس ثم في صورة رأس المال الثانوي أو الذي يسمونه رأس المال الكبير في السوق المالية الذي تستطيع به البنوك الإسلامية أن تستثمر فائض الأموال السائلة لديها وبدون وجود سوى رأس المال في المستوى المحلي والمستوى الدولي يكون عمل البنك الإسلامي قاصرا وكأنه طائر يطير بجناح واحد وهذا هو السر الذي يلاحظ في عمل البنوك الإسلامية المحلية القائمة حتى اليوم أنها في أرباحها تكاد تدور حول نسبة محددة ضعيفة بالمقارنة مع النسب المعروفة في استثمار المال. من هنا كان منشأ التفكير البعيد منذ عشرات سنوات إلى أن المجتمع الإسلامي بحاجة إلى أدوات تتحكم في مسيرة رأس المال لتكون هي المتنفس الذي تتنفس فيه البنوك الإسلامية عندما يكون لديها فائض سيولة فتعطي وعندما يكون لديها حاجة للسيولة فتأخذ. وقد وضعت المواد الأولية الأساسية لسندات المقارضة في قانون البنك الإسلامي الأردني رقم 13 لعام 1978 من هذا المنطلق إلا أن هذه السندات لم تنفذ لأسباب عديدة منها أن السوق الكبير سوق الجملة يحتاج إلى تكاتف وتعاون ولا يمكن تطبيقه في المستوى المحلي المبتدأ ومن هنا كان التطلع لأن تنتشر الفكرة على مستوى العالم الإسلامي الكبير فتحقق الأمنية التي يوجد بها هذا النظام المتكامل حيث توجد البنوك الإسلامية المحلية ثم توجد سوق رأس المال الإسلامية ذات المستوى الدولي فتتكامل صورة البناء يضم الكبير والصغير ويعضد الصغير عمل الكبير وهكذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1580 ثم انتقلنا إلى مرحلة ثانية في التصور بالنسبة للأوقاف الإسلامية ووجدنا أن الوقف الإسلامي كنموذج نظرنا في المملكة الأردنية الهاشمية هذه الأراضي التي أوقفها أصحابها للخير أصبحت بمرور الزمن مبان آيلة للسقوط لا يستفاد منها بالمفهوم الحديث للمكاتب التجارية الإدارية وللعمارات الكبيرة ونظرنا في أرض الوقف منها أرض تملك ولا تباع فجاءت فكرة إنشاء سندات مقارضة مخصصة لإعمار الأراضي الوقفية في الأردن. هذا المنطلق التاريخي للفكرة. فتصورنا أن سندات المقارضة ووجهنا بالاعتراض الأول استعمال كلمة السند وكأنه يعتبر تقريرا أو إقرارا بقبول الربا. السند أداة وسيلة بحد ذاته لا ينطبق على أي شيء إنما يتكرر وصفه بالإضافة فسند الدين حلال وسند الدين بفائدة حرام. الحرمة في الفائدة وليس في السند فلو قلنا سند الدين بلا فائدة أصبح حلالا وقد أمرنا الله بالكتابة في ديوننا فنثبت سند الملكية. الملكية تقرر شكل السند من هنا تداخل في الأذهان عندما استعمل سند المقارضة لأول مرة أن هذا هو السند الربوي وهو سند القرض لأن في تعريفات بعض الكتب أن السند بمعنى الترجمة الحرفية لكلمة (بون) الإنجليزية تعني سند القرض بفائدة ولكنني في الواقع لم أرد أن أخلي الساحة ليكون السند هو المفهوم الربوي الذي فرضه المفهوم الاقتصادي الغربي وإلا كان الحرم المكي عندما كان مملوءا بالأصنام أن نبعد عنه ونبني حرما آخر. لا، جاء الرسول صلى الله عليه وسلم فطهر هذا الحرم من الأصنام التي تحيط به {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] . فزيد لكلمة السند أصلها اللغوي التي تطهر فيه عن هذا الوصف الدخيل عليها مما أدخله الاقتصاد الفكري الغربي في أن هذا السند هو الذي عرفوه بأنه سند الفائدة ولكننا نعرف أنواعا أخرى من السندات خالية من الفائدة، فاخترنا للتحدي أن يكون الاسم. وكان هذا الإصرار في جميع الجلسات سند المقارضة والمقارضة مشتق من الإقراض بمعنى المضاربة والمضاربة كما تكون مطلقة تكون مقيدة ورأس المال كما يمكن أن يكون مملوكا لشخص واحد يمكن أن يكون مجزأ بقيمة متساوية تمثل كل حصة منها هذا السند أو هذا السحب فهؤلاء الناس الذين يشترون السندات هم أصحاب رأس المال وهم رب المال في عقد المضاربة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1581 استعمال هذا المال المتجمع نتيجة بيع هذه السندات قد يكون بالمضاربة المطلقة وقد يكون بالمضاربة المقيدة والصورة التي طرحت في عملية الإعمار للوقف الإسلامي في الأردن هي أن هذا المال الذي يجمع لهذه الغاية سيكون متفقا عليه ابتداء بأنه سوف يستعمل في إقامة بناء أرض الوقف ثم يكون من شروط هذا الاتفاق أن الريع المتأتي نتيجة إقامة هذا المبنى حيث يصبح هناك إيجارا وخلوا وعائدا وقد تكون قيمة في ارتفاع الأرض والبناء كله هو بحسب شروط عقد المضاربة مقتسم بين جهتين: جهة المالكين لسندات المقارضة وجهة الوقف التي تمثلها وزارة الأوقاف الإسلامية باعتبارها مديرة لهذا الوقف فهي التي تتولى الإدارة وتقسيم الربح أو العائدة يبنهما ولكن لوحظ في ذلك أن هذه الشركة أو هذا النوع من المشاركة لا يقصد به الديمومة والمراد أن يعود الوقف وما ينشأ عليه من أملاك خالصة لجهة الوقف. إذن اتفق على أن يكون هناك نوع من التصفية لحقوق أرباب الأموال الذين يملكون هذه السندات تصفية تدريجية منظمة. فقلنا بأن حملة أو المالكون في هذه السندات يقبضون من الإيراد السنوي نسبة معينة ونتيجة الحساب تبين لنا أن إعطاءهم نسبة 25 % يكفي الـ 75 % المتبقية من حق الأوقاف نظريا أن تأخذها ولكن الأوقاف اختارت أن تبقى هذه النسبة في حساب مرصود لكي تسدد منها لا تنفق هذا المال ولكن ترصده لكي تشتري حصص هؤلاء المالكين لهذه السندات حتى يعود الملك خالصا للأوقاف الإسلامية. هذه التصفية التدريجية التي اخترناها في أسلوب سندات المقارضة الإسلامية كانت منطلقا لتعميم فكرة سندات المقارضة في المشاريع الكبرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1582 من هنا جاء البنك الإسلامي للتنمية واهتم بتطبيق هذه الفكرة ليس على الأوقاف فحسب ولكن على أي مشروع يمكن من خلال دخله أو الاتجار فيه أن يكون الربح المتحقق قادرا على تصفية التملك. ثارت هناك أسئلة عديدة بهذا النوع الجديد من المشاركات بالتسمية بالأسلوب الذي يتبع في التصفية وكان من أكثرها إثارة للجدل تدخل الطرف الثالث في الحلول محل هؤلاء الذين يملكون هذه السندات من الطبيعي أن الإنسان وهو يقدم شيئا جديدا أن يكون ابن عصره ولا يعيش خارج إطار العصر والحكومات الإسلامية مع الأسف اضطرت أن تصور سندات دين مضمونة من البنوك ومضمونة من الدول. هذه الحاجة التي اضطرت إليها الحكومات الإسلامية بسبب عدو وجود البديل وكان ضمان الحكومة غير مشجع للمستثمرين على الإقدام على هذا الاستثمار. فنظرنا هذا السند الذي هو حصة مشاركة بمفهومه الشرعي الذي يمتنع في عقد المضاربة مما اطلعنا عليه من آراء الفقهاء أن العامل لا يجوز أن يجتمع عليه شرط الخسارة الجهد وأن يتحمل ضمان رأس المال هذا أمر واضح ومتفق عليه ولا مجال للخلاف فيه ولكن ما هو القول إذا تدخل شخص ثالث على سبيل الحفز والتشجيع وجاء قال ادفع هذا المال أو استثمر هذا المال في هذا المجال الحيوي عن المجالات اللازمة لإعمار الأراضي الوقفية أو الأراضي الزراعية وكان مستعدا بعد مدة من الزمن أن يحل محل الشخص الذي استثمر ماله ولم يجن منه عائدا وأن يدفع له نصيبه ويحل محله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1583 هذه هي الصورة التي اتفقت عليها لجنة الفتوى الأردنية أمام مذكرة تضمنت عديدا من الحالات التي استند فيها إلى آراء فقهية منها ((أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما استعار دروعا وسلاحا من صفوان بن أمية وسأله وكان حديث عهد بالإسلام سأله في جفاء الرجل الذي ما يزال لا يعرف قدر النبوة أتأخذها غصبا يا محمد؟ قال: بل هي عارية مضمونة مؤداة)) والقصد في العارية أنها إذا استعملت بشروطها المعتادة فليس فيها ضمان بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((ليس على المستعير غير المغل ضمان)) وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فنقل العارية من شرط عدم الضمان إلى أنها عارية مضمونة مؤداة بالشرط. كذلك ما أورده أهل الفقه الأحناف الذين قالوا إذا قال رجل لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن وإذا هلك لك شيء منه فيه فأنا ضامن فسلك وهلك فإن القائل يضمن هنا. نظرنا إلى أن الذي يدفع أو يحفز الشخص إلى أن يستثمر ماله في هذا المشروع وخاصة إذا كان القائل بذلك ولي الأمر الذي تهمه المصلحة العامة وقال استثمروا أموالكم في إعمار الأراضي الوقفية وإذا مضى مدة من الزمن التي وضعت في القانون الأردني عشر سنوات ولم تحصلوا على رؤوس أموالكم فإنني أحل محلكم كحكومة وأدفع لكم رأس مالكم فقط وبلا ربح وليس هناك ضمان في الربح. أدفع لكن رأس المال لأحل محلكم في مطالبة الوقف بالمتحقق عليه فقد يتحقق العائد من المشروع بعد عشر سنين أخرى. هذا هو المنطلق الذي انطلقت منه أو بنيت عليه فكرة سندات المقارضة. ثم جاء هذا المجمع الكريم وكان تحت رعاية البنك الإسلامي للتنمية ووضعت الندوة موضع التدبر والتفكير وكان نتيجة النقاش أن وضعت هذه التوصيات التي هي بين أيديكم وهي خلاصة عمل من جلسات مستفيضة من الفكر والمناقشة وإذا كان هناك متسعا أذن لي سعادة الرئيس أن أقرأ خلاصتها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1584 الرئيس: تفضل. الدكتور سامي حسن حمود: بعد الديباجة وبيان الجهد والمناقشة اختصارا للوقت أقرأ التوصيات مباشرة. أولا: سندات المقارضة هي سندات استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القراض (المضاربة) بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصا شائعة في رأس مال المضاربة وما يتحول إليه بنسبة ملكية كل منهم فيه. ويفضل تسمية هذه الأداة الاستثمارية صكوك المقارضة. وهذا من أثر الخوف والتخوف الذي ذكرته من كلمة السند وأفضل أسلوب التحدي لأن المؤمن قوي بحقه قوي في فهمه. ثانيا: الصورة المقبولة شرعا بسندات المقارضة بوجه عام لا بد أن تتوافر فيها العناصر التالية: العنصر الأول: أن يمثل الصك ملكية حصة شائعة في المشروع الذي أصدرت الصكوك لإنشائه أو تمويله. وتستمر هذه الملكية طيلة المشروع من بدايته إلى نهايته. وتترتب عليها جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعا للمالك في ملكه من بيع وهبة وإرث وغيرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1585 العنصر الثاني: يقوم العقد في صكوك المقارضة على أساس أن شروط التعاقد تحددها نشرة الإصدار وأن الإيجاب يعبر عنه الاكتتاب في هذه الصكوك، وأن القبول تعبر عنه موافقة الجهة ولا بد أن تشتمل نشرة الإصدار على جميع البيانات المطلوبة شرعا في عقد القراض (المقارضة) من حيث بيان معلومية رأس المال وتوزيع الربح مع بيان الشروط الخاصة بذلك الإصدار على أن تتفق هذه الشروط مع الأحكام الفقهية المعتبرة. العنصر الثالث: أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب باعتبار ذلك تصرفا من المالك في ملكه مع مراعاة الضوابط التالية: أ- إذا كان مال القراض المتجمع بعد الاكتتاب وقبل المباشرة في العمل بالمال ما يزال نقودا فإن تداول صكوك المقارضة يعتبر مبادلة نقد بنقد وتطبق عليه أحكام الصرف. ب- إذا أصبح مال القراض ديونا تطبق على تداول صكوك المقارضة أحكام تداول النقود بالنقود. ج- إذا صار مال القراض موجودات مختلفة من النقود والديون والأعيان والمنافع فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقا للسعر المتراضى عليه وطبقا للأحكام الشرعية على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعيانا ومنافع. وهذه الحالة الأخيرة عليها اختلاف ومناقشة. العنصر الرابع: أن من يتلقى حصيلة الاكتتاب في الصكوك لاستثمارها وإقامة المشروع بها هو المضارب أي عامل المضاربة ولا يملك من المشروع إلا بمقدار ما قد يسهم به بشراء بعض الصكوك فهو رب المال بما أسهم به بالإضافة إلى أن المضارب شريك في الربح بعد تحققه بنسبة الحصة المحددة له في نشرة الإصدار وتكون ملكيته في المشروع على هذا الأساس وأن يد المضارب على حصيلة الاكتتاب في الصكوك وعلى موجودات المشروع هي يد أمانة لا يضمن إلا بسبب من أسباب الضمان الشرعية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1586 ثالثا: مع مراعاة الضوابط السابقة في التداول: يتم تداول صكوك المقارضة في أسواق الأوراق المالية إن وجدت وذلك وفقا لظروف العرض والطلب ويخضع لإرادة العاقدين. كما يتم التداول بقيام الجهة المصدرة أو غيرها في فترات دورية معينة بإعلان أو إيجاب يوجه إلى الجمهور تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة بشراء هذه الصكوك بسعر معين ويحسن أن تستعين في تحديد السعر بأهل الخبرة وفقا لظروف السوق والمركز المالي للمشروع. رابعا: لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو نسبة معينة من الربح فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمنا كان العقد قرضا لا قراضا وتطبق عليه أحكام القرض فلا يجوز زيادة عليه ولو لم تكن محددة المقدار. خامسا: لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار ولا صك المقارضة الصادر بناء عليها على نص يلزم بالبيع ولو كان معلقا ومضافا للمستقبل وإنما يجوز أن يتضمن صك المقارضة وعدا ملزما بالبيع وفي هذه الحالة لا يتم البيع إلا بعقد بالقيمة المقدرة من الخبراء فإن ترتب على الإخلال بالوعد ضرر بالموعود لزم الواعد تعويضه وفقا لأحكام الضمان الشرعية. سادسا: لا يجوز أن تتضمن نشرة الإصدار ولا صكوك المقارضة المصدرة على أساسها نصا يؤدي إلى احتمال قطع الشركة في الربح فإن وقع كان العقد باطلا. ويترتب على ذلك: أ- عدم جواز اشتراط مبلغ محدد لحملة الصكوك أو صاحب المشروع في نشرة الإصدار وصكوك المقارضة الصادرة بناء عليها. ب- أن محل القسمة وهو الربح بمعناه الشرعي وهو الزائد عن رأس المال وليس الإيراد أو الغلة ويعرف مقدار الربح إما بالتنضيض أو التقويم للمشروع بالنقد وما زاد عن رأس المال فهو الربح الذي يوزع بين حملة الصكوك وعامل المضاربة وفقا لشروط العقد. ج- أن يعد حساب أرباح وخسائر للمشروع وأن يكون معلنا وتحت تصرف حملة الصكوك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1587 سابعا: يستحق الربح بالظهور، ويملك بالتنضيض أو التقويم ولا يلزم إلا بالقسمة. وبالنسبة للمشروع الذي يدر إيرادا أو غلة فإنه يجوز أن توزع غلته، ما يوزع على طرفي العقد قبل التنضيض (التصفية) يعتبر مبالغ مدفوعة تحت الحساب. ثامنا: ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة في نهاية كل دورة، إما من حصة حملة الصكوك في الأرباح في حالة وجود تنضيض دوري وإما من حصصهم في الإيراد أو الغلة الموزعة تحت الحساب ووضعها في احتياطي خاص لمواجهة مخاطر رأس المال. تاسعا: ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث بمبلغ بالتبرع مخصص لجبر الخسران في مشروع معين، على أن يكون التزامه مستقلا عن عقد المضاربة بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطا في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به بحجة أن هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد. عاشرا: نظرا لما لعقارات الأوقاف من طبيعة خاصة وأحكام متميزة، ورغبة في الحفاظ على هذه الأوقاف ودفع التعدي عنها ومساعدة لجهة الوقف على تحقيق الأهداف المقصودة من نظام الوقف الإسلامي واستنباط الصيغ الإسلامية لتعميره واستثمار أصوله، وتحقيق عائد مجز للصرف على جهاته فقد درست اللجنة بعناية فائقة التجربة التي قامت بها وزارة الأوقاف الأردنية والتي ظهرت في قانون سندات المقارضة المؤقت رقم 10 لسنة 1981 وهي بصدد استحداث أدوات استثمارية قائمة على قواعد الشريعة الإسلامية واستعرضت ما بنيت عليه تلك التجربة من اجتهادات واطلعت على ما يجري عليها من تعديلات وما أبدي عليها من ملاحظات في الأبحاث المقدمة إلى الندوة. لذا عرض في الندوة بصدد ما يستفاد منه في إطار تعمير الوقف واستثماره الصيغ الآتية بالإضافة إلى الصيغة المقولة لصكوك المقارضة وفق ما سبق بيانه: أولا: أن تقوم شركة بين جهة الوقف وغيرها من أرباب المال وتكون حصة جهة الوقف بها هي قيمة أعيان الوقف، وحصة أصحاب المال فيها الأموال اللازمة لتعميره على أن توزع الأرباح بنسبة الحصص بعد استقطاع حصة لجهة الوقف نظير الإدارة، على أن يتضمن عقد الشركة وعدا ملزما من جانب فيه الشركاء ببيع حصصهم لجهة الوقف بالشروط المشروعة التي يتضمنها ويبني القول بالالتزام بالوعد على أساس أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة، وإعمالا لمقاصد الشارع من تأييد الوقف، وضرورة استثمار وصرف عائده على الوجوه الموقوف عليها وهذه الصيغ تطبيق للمشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1588 ثانيا: أن يتم تعمير الوقف على أساس دفع الأعيان باعتبارها أصلا ثابتا يدر إيرادا بالعمل فيه وصرف عليه لمن يعمل على استثمار أعيان الوقف مدة المشروع في مقابل اقتسام الإيراد بنسبة محددة، والسند لهذا التخريج ما ثبت في السنة من ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع أرض خيبر لمن يعمل فيها بماله نظير حصة من الناتج)) ، وتعود الأبنية على الوقف لجهة الوقف بناء على قاعدة الحنابلة فيمن يدفع سفينة لمن يعمل عليها بحصة من أجرتها، وتطبيق قواعد الالتصاق الشرعية في حال البناء على الأرض المأجورة أو المستعارة بناء على الإذن أو عدمه في هذا المجال ويصار إلى تملك البناء لجهة الوقف بطرق التمليك المقررة شرعا في هذه الحال. ثالثا: أن تتفق الجهة المسؤولة عن الوقف مع طرف ملئ كالمصارف الإسلامية مثلا على إقامة مبان ومنشآت على أراضي الوقف لقاء بدل مقسط يدفع للصانع من ريع المباني وغيره، على أساس الاستصناع وفق المقرر في المذهب الحنفي، ويمكن ضمان ذلك من جهة الدولة ويمكن أن يكون التزام الدولة بذلك على سبيل الهبة أو القرض الحسن. رابعا: أن تتفق جهة الوقف مع طرف راغب بالانتفاع بأرض الوقف مدة طويلة بالبناء عليها، على أن يؤول هذا البناء إلى المِلك الوقف بعد انقضاء المدة، إما باعتبار البناء أجرة مؤجرة للأرض، وإما باعتباره الجزء الغالب من الأجرة. وذلك في حالة تحديد مبالغ تدفع طيلة المدة في مواعيد دورته. للمحافظة على صلة جهة الوقف بتلك الأرض الموقوفة المبني عليها. وهذه الصيغ المطروحة هي محاولات اجتهادية تحتاج إلى مزيد من البحث والنظر. وهناك صيغ أخرى للاستثمار يتسع لها الفقه الإسلامي وتحتاج كل صيغة منها إلى دراسة متأنية بنظر شرعي لوضع الضوابط اللازمة لاستخدامها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1589 هذه هي التوصيات التي صدرت في هذا الموضوع. والذي يهمني في ختام هذا العرض الذي فوجئت به في الواقع ولم أكن مستعدا له ولكن أمام حسن تفهمكم فإنني أخ بين إخوان. الذي أقوله: إن سندات المقارضة والسندات الاستثمارية في الواقع الحاجة لها ضرورية جدا لأن واقع العالم الذي نعيش فيه وهذه الدول الإسلامية التي نمثلها بوجودنا هنا مجتمعين لنعبر عن وحدة الأمة الإسلامية، من أقصاها إلى أقصاها دولها تصدر سندات القرض بالفائدة. جميع الدول الإسلامية مضطرة إلى ذلك. باستثناء هذه المملكة التي كرمها الله عن أن تذل لأن تصدر سندات بفائدة. استثناء فيما عدا هذه السنة التي كان فيها عجز في الموازنة، وهناك دراسة وتفكير لأن تكون المملكة العربية السعودية إن شاء الله الرائدة في إصدار سندات الخزانة المتفقة مع الشريعة الإسلامية على غير أساس الفائدة فيكون بذلك مفتاح الخير في عهد خادم الحرمين الشريفين الذي اختار لنفسه هذا اللقب، والذي أسأل الله أن يكرمه بالمقابل فيكون في عهده صدور هذه السندات الحكومية التي لا تقوم على أساس الربا وإنما على أساس العائد، والذي يشعر المواطن في بلده أن يقدم لبلده أكبر خدمة وهو يندفع لإعطاء البلد ما تحتاجه من تمويل فيرد لها بذلك الجميل الذي كانت قدمته إليه في أيام الرخاء فأعطاها عند الوفاء ما تحتاجه من أهل الوفاء. أقول: إن دولنا الإسلامية تصدر السندات بالفائدة وهناك من يبرر لها هذا الإصدار للضرورة ولكن هذه الأداة التي تقدمها لتكون في متناول اليد هي أداة مبنية على أساس شرعي قد يعترض البعض على شكلها، على اسمها، على بعض الشروط المرافقة لها والتي لا تتعلق بالجوهر. هذه أمور يمكن الاتفاق عليها. إنما الذي أرجوه بأن يكون الإنسان في معالجته لهذه الأمور بمقدار ما تمثله من أهمية في غياب الأدوات الاستثمارية وذهاب رأس المال الإسلامي إلى أسواق خارجة عن خدمة العالم الإسلامي. والذي أقوله لمعلوماتكم فقط: إن إحصائية أجريتها قد قادتني إلى أن مجموع ديون العالم الإسلامي التي تبلغ البلايين من الدولارات هي تمثل 75 % من مجموع موجودات العالم الإسلامي من هذه الأموال في الخارج. فلو وجد السوق الإسلامي المنظم لرأس المال بأدواته المحكمة التي نتفق عليها جميعا إيمانا واحتسابا لله لكي نخدم هذه الأمة ونخدم العالم كله لأنه إذا استقر السلام في العالم فإن العالم يهنأ بهذه السعادة. لذلك أرجو أن ننظر إلى هذا الموضوع كما عودتمونا بفكركم وقلوبكم المؤمنة نظرة واعية. لا نهاجم من أجل كلمة ولا نتحرج من أجل شرط خارج عن الموضوع وإنما نصحح. فإن هدفنا أن نلتزم بالشريعة وأن يكون هوانا وإيماننا وطريقتنا خاضعة لشريعة الله وعيا وفهما وعلما وليس بصدود أو بُعْدٍ عن الواقع الذي نحياه والذي نحتاج فيه للتكافل في حياتنا وعلاقتنا بين الحاكم والمحكوم وبين المواطن والمواطن وبين المواطن والمؤسسة. وشكرا لكم وأرجو أن لا أكون استغليت هذه الفرصة لأعبر عما كنت سأقوله في التعليق. والسلام عليكم ورحمة الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1590 الرئيس: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. في الواقع إن هذا الموضوع كما تفضل الأستاذ سامي أنه أقيمت له ندوة تحت مظلة البنك الإسلامي بإدارة أمانة المجمع وحضرها اثنان وعشرون شخصا من أصحاب الفضيلة الذين حضروا كل من: الشيخ عبد السلام والأستاذ سامي الشيخ المختار الشيخ الصديق الضرير الشيخ عبد الله بن منيع وعدد آخر، وذلك عند إثارة الموضوع في الدورة الثانية لمجمع الفقه التي انعقدت في عمان. وكان الاتجاه هو عدم إقرار سندات المقارضة بالصيغة التي طرحت. ولهذا وجدت وجهات النظر التي قرأها الأستاذ سامي وهي تمثل أربعا من وجهات النظر في هذا الموضوع، وعلى كل كما ذكر الأستاذ مطروح للمباحثة والمراد هو أن يصل المجمع - بإذن الله تعالى - إلى صيغة نهائية لهذه السندات تكون على وفق الشريعة الإسلامية من خلال مناقشاتكم وأبحاثاكم في هذا الموضوع. الشيخ إبراهيم. الشيخ إبراهيم فاضل الدبو: بسم الله الرحمن الرحيم.. بادئ ذي بدء أود أن أطمئن الأخ سامي بأن هَوَانَا سوف لا يكون إلا تبعا لما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم. سيادة الرئيس وحضرات الإخوان الأفاضل. من المعلوم لدى حضراتكم أن المضاربة أو المقارضة هي عبارة عن مساهمة جهة من الجهات الرسمية برأس مال معين وقيام جهة أخرى بالعمل. وأن لكل من المتضاربين أي من صاحب رب المال أو من رب المال والعامل فسخ العقد. وقد اختلف الفقهاء - رحمهم الله تعالى - في القول باشتراط إنضاض المال أو عدم إنضاضه لفسخ العقد. وقد تبين لي من خلال الأبحاث المطروحة أن الصورة المعروضة ليست من هذه المعاملة للأسباب التالية: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1591 أولا: أن العامل في المضاربة غير ضامن لما يحدث في المال من خسارة إلا إذا تعدى أو قصر في المحافظة عليه. فأخذ الكفيل من العامل بضمان ما يصيب المال من تلف دون تعدٍّ أو تفريط منه أمر يتنافى مع مقتضيات العقد. ثانيا: أنه بعد فسخ العقد يسترد رب المال رأس ماله، فإذا اشترطنا في العقد أن من حق المضارب أي العامل أن يشتري سندات المضاربة أي رأس المال أمر يتنافى مع مقتضيات العقد فلا أرى في الصورة القائمة إلا أنها قرض وينبغي أن يطبق عليها أحكام القرض المعروفة في الفقه الإسلامي. وألا ننجر وننساق وراء العواطف لأن الحق أحق أن يتبع، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وشكرا. الشيخ عبد الحليم الجندي: أنا أسف لأني سأتقدم باقتراح. هذا مشروع كبير جدًّا جدًّا للأردن يجب ألا يجيء عن طريق البنك أو إلينا لأننا نحن المجمع الفقهي مجموع رجال يبدون رأيا في مبدأ في حكم شرعي. لماذا مشروع كبير جدا للأردن يجب أن يتحمل الأردن بذاته وبجهازه الفقهي أن يمر هذا المشروع دون حاجة لا إلى بنك التنمية ولا إلى المجمع الفقهي هنا لأن المجمع الفقهي أول من علا فيه من الأصوات أن هذا لا يدخل فيما درسناه أو فيما قرأناه. أنا أرى أن هذا يجب أن يبرر وأن يساعد إنما لا يساعد بعرضه على المجمع الفقهي هنا هو سوعد في أنه عرض في ندوة الأردن الجليل، وأنا لو نظرت هذا الموضوع شخصيا لأقررته أو لساعدت بإقراره إنما أرى أن التفاصيل التي سمعتها من زميلنا الفاضل الدكتور سامي ومن هذا البحث الطيب جدا الذي عرض به أيضا أنه أكبر من أن يدرس في ندوة سريعة أو في جلسات بما تنتهي أن يحال إلى لجنة ولا تنتهي لأن التأجيل نفسه يشوش على المشروع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1592 فَكِرُوا حضراتكم في هذا الذي أتكلم فيه هو مسألة خاصة باختصاص المجمع من ناحية إنما أرى أن البنك مستعد أن يساعد على وجه ما بنك التنمية. إنما المجمع لا يمر فيه كل هذا ولا تؤخذ فيه تزكية دون أن يكون في كل التفاصيل التي ذكرت دراسة كافية من ناحية اقتصادية ومن ناحية فقهية. هذا ما أردت أن أقوله في بادئ المناقشة. ففكروا حضراتكم في هذا. الدكتور عبد السلام أرجوك أن تعرض لنا هذا وصلته بالمجمع وأنا شخصيا موافق جدا على كل ما ينفع دولة إسلامية في تعمير الأوقاف، إذا ربطنا بتعمير الأوقاف لوحده نقول لك كفى أنك أخذت الفتوى من الأوقاف. يعني ما أردته من فتوى هنالك كانت كافية على الأوقاف وتقيم عليها مشروعك. إنما عرضها هنا سيكون بين يد رجال نظر. وأنا أرى فيه دراسة علمية واقتصادية جيدة جدا أو هذا ما ظهر لي من تلاوة زميلي. أنا لم أستطع للأسف أن أفحص هذا جيدا ورأيت أن المسألة في القراض لا جدال أن القراض يمشي إنما بتفصيلاته هذه إذا أقرها المجمع دون أن يدرس دراسة كافية أولا أن هذا ليس من اختصاص المجمع فيه قد يعوقه. فأنا أقول هذا فقط لبداية الدراسة. وشكرا. الرئيس: شكرا. في الواقع يا فضيلة الشيخ إن الموضوع لم يأت عن طريق البنك ويكفينا في هذا أنك تقول لم أتمكن من دراسة ما أعد. فطالما أن فضيلتكم لم تتمكنوا من دراسة ما أعد فكيف تجزمون بتسويغ هذا المشروع والمسألة مسألة شرعية وأنتم لم تدرسوها؟ هذه واحدة. الأمر الثاني: لو درستموه لعرفتم يقينا أنه لم يأت عن طريق البنك وإنما درس في المجمع في الدورة الثالثة ثم إن أمانة المجمع رأت أن تهيئ الموضوع لهذه الدورة فعقدت ندوة تحت مظلة البنك الإسلامي بالتساعد مع الخبراء الموجودين والأطراف الذين لهم الخبرة والعناية في هذا الموضوع حضروا في هذه الندوة فرجائي أن يكون الموضوع واضحا الآن. الشيخ محمد علي التسخيري: أنا من خلال مطالعتي للموضوع وملاحظتي الدقيقة لم أر فيه إشكالا وأعتقد أنه يستجيب في مختلف ما يقدمه السهم. النقطة المهمة أن التوصية الرابعة التي انتهى إليها المجمعون نحدد هنا فرقا هنا واضحا بين القراض والقرض. فمن علم أن هذا قرض فتطبق عليه أحكام القرض. لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال بنسبة معينة من الربح. هذا المعنى يفرق تماما بين كون هذا العقد قرضا أو قراضا. ولا نستطيع أن نحمله ما لا يحمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1593 النقطة الأخيرة التي أردت أن أشير إليها هي أن هناك لهذه الصيغة في كتاب ........ نقطة أخرى أردت أن أعلق بها على كلام الأخ الأستاذ سامي أن الظاهر منه أن الدول الإسلامية قد أصدرت سندات القرض. في إيران للمعلومات فقط لم يكن هناك أي إصدار لسند القرض وليس لدينا قرضا لا من الداخل ولا من الخارج على الإطلاق. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم.. لا أريد أن أعلق وإنما أريد أن أتحدث عما أثاره الدكتور العبادي وما اقترحه على هذا المجمع من أن ينظر في التوصيات التي أصدرتها اللجنة وأقره على هذا أي بالنظر في هذه التوصيات واحدة واحدة وإبداء الرأي فيها للوصول إلى قرار بالإجماع في هذه الموضوعات. وأحب أن أنبه إلى أمر ذكره الدكتور العبادي وهو أن التوصيات التسعة الأولى صدرت بالإجماع ولا أظن أن هذا قد حصل فهناك من اعترض في بعض التوصيات ولكن هو رأي الأكثرية ولذلك صدرت هذه التوصيات. الشيخ عبد الحليم الجندي: إن هذا المشروع فيه تفاصيل اقتصادية كثيرة فيحسن أن يتداول كل الأعضاء فيه على أساس أنهم ألموا بالتفاصيل فإذا لم يلم أحد بالتفاصيل يترك الأمر للذين ألموا بها والذين تكلموا فيها إنما المبدأ، المبدأ لا جدال فيه أنه مسلم وهو دفع للاقتصاد الإسلامي في طريقه الكبير الواسع. ولذلك أنا أحب أقول للأستاذ الدكتور عبد السلام العبادي: إحنا بنساعد في هذا ونريد أن ندفع الأردن إلى الأمام بالعكس هذه فرصة طيبة وهو فيها رائد ولوزارة الأوقاف أيضا على عيننا ورأسنا بتاعة الدكتور عبد السلام.. وشكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1594 الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدي رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. الحقيقة هذا مشروع لا يهم الأردن فقط وليس مشروعا خاصا إنما الموضوع الذي أمامنا هو سند المقارضة وهذا يهم الأمة الإسلامية كلها فلذلك الحقيقة إني أرى أن مثل ما رأى الصديق الضرير أن هذه التوصية يعني أننا لم نناقش الموضوع انتهى الموضوع وانتهوا الفقهاء، والفقهاء كلهم من المجمع ما انتهوا إليه من توصيات تقرأ وأن نقرها أو نعلق عليها ثم عندي ملاحظة في الحقيقة إن ما يقال في هذا المجمع الفقهي من كلمات أو مواضيع يعني لا يحجر علينا أحد بأن نقول رأينا فيه. نقول: نشكر الكلمة التي تستحق الشكر وننقد الكلمة التي تستحق الانتقاد ونعلق على الكلمة التي تريد التعليق عليها ونحن حضرنا لهذا الغرض ولا نريد أن يحد علينا أحد في هذا الموضوع. تكون لنا الحرية التامة وأن يكون لدينا المجال واسعا وأن تكون الصدور رحبة وخصوصا اجتماعنا للانتفاع لأن ننتفع من كل ما يقال. شكرا. الشيخ حسن عبد الله الأمين: شكري سيدي الرئيس.. بسم الله الرحمن الرحيم.. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. لا تعليق لي على العرض القيم الذي قدمه الأخ حمود ولعل التوصيات التي خرجت بها الندوة المشتركة بين أمانة هذا المجمع والبنك الإسلامي للتنمية لأني اشتركت فيها وأوافق على التوصيات كلها حتى التاسعة كما ذكر الأخ جزاه الله خيرا الأستاذ العبادي أن ذلك كان باتفاق المجتمعين في ذلك الاجتماع. فقط أريد أن أشير إلى الفقرة (ب) من العنصر السادس في هذه التوصيات وهي: إذا أصبح مال القراض ديونا تطبق على تداول صكوك المقارضة أحكام تداول النقود بالنقود. أنا أفتكر التوصية كانت تداول أحكام الديون لأنها الفكرة التي قبلها (أ) كانت تتكلم عن النقود وذكرت رأي الندوة فيها هذه تتعلق بالديون فإذا كانت ديونا فإن الأحكام التي تتطبق عليها هي أحكام تداول الدين وليس النقد. يبدو من ذلك وفيما أذكر أن ذلك كان هو ما قرر في تلك الندوة. وشكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1595 الشيخ أحمد محمد جمال: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد: في البداية أذكر سماحة الرئيس بما تحدث به في خطبته الأولى يوم الافتتاح بأن على المجمع وعلماء المسلمين أن ينزلوا إلى سوق المعاصرة. والمجامع الفقهية أو المجمع الفقهي هذا بالذات مفروض فيه أن ينظر أو يبحث أو يقرر في مشكلات العصر على أساس اجتهادي أما الأمور الثوابت والقضايا الثابتة لا ينظر فيها وأخشى أن تكون قضية سندات المقارضة مثل قضية زراعة الأعضاء الناس أفتوا فيها والمجامع أفتت فيها وأفتى العلماء فيها في العالم الإسلامي ثم نؤجلها ونختلف عليها. يا إخوننا الأعزاء هذه مما لا شك مشكلة وظاهرة مشكلة سندات المقارضة في حاجة إلى بحث وفي حاجة إلى إقرار كما قال الدكتور سامي: إن العالم الإسلامي يعاني من مثل هذه القضايا فلا بد من البت فيها. أما أن نقول:إن العالم الفلاني هو الفقيه أو المذهب يرى خلاف ذلك. إذن هي مسألة خلافية ومجمعكم إنما قام لينظر في المسائل الخلافية ما قام ليتبع مذهب مالك أو أبي حنيفة أو مذهب الشافعي أو ابن حنبل أو فلان من الفقهاء أنشئ المجمع لينظر في المسائل الاجتهادية الخلافية ويبت فيها ويعالج القضايا التي يعاني منها المسلمون ويضطرون مع الأسف الشديد إلى ارتكاب المخالفة فيجب أيها الأخوة الأعزاء أن يطالبكم سماحة الرئيس بأن تنزلوا إلى ساحة المعاصرة إلى مشكلات الشباب مشكلات الشيوخ مشكلات الدول لا يقول فلان هذا يخالف مسألة القرض مسألة العارية مضمونة أو غير مضمونة ما دام وهناك اختلاف بين الفقهاء القدامى فإنما نشأتم وقمتم لتحلوا هذه الخلافات وتأخذوا بالرأي الذي يكون فيه مصلحة عامة. أحببت أن أذكركم بذلك لأني عانيت في قضية زراعة الأعضاء أنكم اختلفتم فيها وأجلتموها وكان من حقكم ألا تؤجلها لأن الناس ماضون فيها بحق وبباطل فكان ينبغي على المجمع أن يأخذ فيها قرارا صحيحا سليما لا يؤجلها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1596 الدكتور محمد أيمن صافي: أريد أن أطمئن الدكتور أن اللجنة لن تؤجل هذا الموضوع وسيعرض موضوع زرع الأعضاء. الرئيس: على كل اللجنة سيعرض قرارها إن شاء الله تعالى وإن كانت اللجنة هل هي مفوضة على أن تعمل شيئا على خلاف ما أصدر في الجلسة هذا شيء آخر هو المهم سيعرض النتيجة وإذا كانت إن شاء الله تعالى ملاقية فلا يكون إلا فيه الخير إن شاء. الشيخ إبراهيم فاضل الدبو: شكرا سيدي الرئيس.. أحب أن أقول: إن ما ذكرته في هذا الخصوص هو أمر متفق عليه بين فقهاء المسلمين في النقطتين اللتين ذكرتهما وإننا لن ننحاز في هذا المجال إلى مذهب أو إلى رأي معين وإنما نأخذ بالأيسر إلا أن المسألتين اللتين ذكرتهما من عدم جواز اشتراط ضمان المال على العامل بدون تعد أو تفريط أمر متفق عليه ومن أن اشتراط أو جواز أن نضع شرطا بأن من حق العامل أن يشتري أسهم رب المال هذا أيضا أمر متفق عليه. وشكرا. الدكتور سامي حسن حمود: الواقع أن ما يشير إليه الأخ الدكتور إبراهيم من حيث عدم جواز الاشتراط على العامل الضمان هذا واضح بنص التوصيات في الفقرة الرابعة: لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو نسبة معينة من الربح فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمنا كان العقد قرضا لا قراضا. فهذا أمر واضح أخي الدكتور في النقطة الأولى. النقطة الثانية: الواقع تناقشت بها شخصيا مع فضيلة الدكتور وهو جاري في الغرفة حتى في الفندق بأنه قال: إنه لا يجوز ألا يشترط أو يتضمن العقد بأن العامل يكون قادرا على شراء رأس المال باعتبار أن العامل هو المتلقي الشروط من رب المال لأن رب المال الذي يتحكم في الشرط وقلت له لو عكسنا الآية لو كان أن رب المال قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1597 إن تعمل لي في هذا المال وأن يكون لك نصيب من الربح ولنقل: إنه الثلث وضربت له مثال السيارة عندي مال اشتريت به سيارة أعطيتها لمن يعمل عليها وقلت له هذه هي شروطي ثلث الإيراد الناتج من عملك على السيارة يكون لي كرب مال وثلثه يكون لك كعامل في هذا المال والثلث الآخر فإنه لك بمعنى أنه يجوز شرعا أن أقول لك الثلثان ولي الثلث ولكني حددت وقلت الثلث آخذه وأقبضه والثلث الآخر تأخذه وتصرفه والثلث المتبقي تبقيه في حساب خاص لينفق منه على صيانة السيارة وإذا تجمع في هذا الثلث الذي هو حق العامل ما يستطيع أن يشتري به هذه السيارة بعد مدة من الزمان كحافز له على أن يكون أمينا معي في المعاملة وأعده من الآن أن أملكه سيارة فهل هذا جائز؟ فاتفق معي أخي الدكتور أنه إذا كان العرض من رب المال فهذا جائز. فقلت: له إن الأمور في حياتنا الإيجاب والقبول هي تمام العقد وقد يكون في البيع إيجاب من البائع وقد يكون عرض من المشتري ويعتبر العرض من المشتري إيجابيا أتبيعني هذه السلعة بكذا قال أبيعك، وقولي كذلك أبيعك هذه السلعة بكذا، وقوله اشتريت فقد انعقد العقد. فليس المهم هو من يلعب الدور وإنما المهم هي نتيجة الحكم التعاقدي الذي يترتب على العملية فإذا كان الأمر كذلك فإن الشرط المقبول باتفاق أراه من الشروط التي تتنافى مع مقتضى العقد لأن مقتضى العقد في المضاربة أن يسترد رب المال رأس ماله سواء استرده من مال خارجي أو من تنضيض المال الذي كان فيه العمل. فإذا كان المال مال تجارة بأن كان بضاعة من الطبيعي حكم التنضيض فيها أن تباع لتعود رأس المال والأرباح نقودا فأسترد كرب مال رأس مالي وحصتي من الربح وأعطي العامل حصته من الربح. فإذا كان المال الذي استثمر في سيارة أو في عقار فبدلا من أن نبيعه لأطراف آخرين نبيعه بيعا داخليا وحكم شراء رب المال من مال المضاربة والعامل في المال من مال المضاربة من الأمور المبحوثة في كتب الفقهاء. هذه أمور معروفة فإذا اتفقنا عليها محددا لا نكون خالفنا لأن النتيجة الأخيرة أن رب المال سيسترد رأس ماله مع ربحه وأن العامل سيستقل بهذا الربح، ولكن العامل لغاية تنظيمية طلب منه أن لا يبذر في هذا الربح وينفقه يمينا وشمالا وإنما يدخر ما يمكنه من أن يصبح مالكا لأداة الإنتاج وهذه هي الفلسفة الرائعة في الإسلام التي تنقل العاملين من فئة بائع الجهد المجرد إلى أن يصبح مالكا لأداة الإنتاج ووسيلته، هذا هو تكريم الإنسان في مجتمع الإسلام ولا أرى فيه أي خلاف وشكرا لكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1598 الدكتور على أحمد السالوس: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. إشارة سريعة إلى موضوع سندات المقارضة عندما عرض في الأردن وكتبت بحثا سريعا آنذاك وبينت أنه عقد قرض وليس قراضا لأمرين. وأحب هنا أن أشكر الأستاذ الدكتور عبد السلام العبادي لأنه اقتنع بأمر من الأمرين وسعى جادا للتغيير وفعلا وجدنا الصورة تغيرت مع ما ألحقه هو لبحثه. فبالنسبة للضمان أصبح الضمان من طرف ثالث وليس من عامل المضاربة بعد التعديل الذي تم فأكرر شكري له. يبق بعد هذا البيع لرأس المال وليس للحصة الشائعة بالقيمة السوقية. على كل نحن هنا في المجمع أن لا نبحث مشروعا بعينه وإنما التوصيات التي وضعناها في حلقة العمل السابقة بعد المؤتمر الثالث توصيات عامة بحيث يمكن أن تعمم في أي بلد إسلامي. لأننا فعلا في حاجة إلى أوراق مالية إسلامية بحيث تكون بورصة أوراق مالية إسلامية في المستقبل القريب إن شاء الله. وبَعْدُ ظهر أكثر من ناحية مثلا بنك التنمية والمشروع الأردني وهناك أيضا في البحرين ظهرت أوراق مالية إسلامية جديدة. فنحن إذن هنا في المجمع نضع الشروط العامة التي ينظر إليها في التطبيق أما مسألة مشروع معين فإن هذا ليس من الأمور التي نبحثها هنا لأن هذا مشروع وهذا مشروع آخر ومشروعات كثيرة، فالذي أرجوه هنا إذا وافقنا على التوصيات الموجودة أقترح تكوين لجنة للصيغ الأخيرة لأننا في حاجة فعلا إلى استحداث صيغ متعددة فقد نجد أن هذه الصيغة تناسب بلد كذا والصيغة الأخرى تناسب مشروعا آخر وهكذا. فأنا أقترح تشكيل لجنة لدراسة الصيغ الأخيرة التي قلنا عنها. هذه الصيغ المطروحة هي محاولات اجتهادية تحتاج إلى مزيد من البحث والنظر. فأريد تشكيل لجنة للبحث والنظر بحيث يضاف إلى التوصيات السابقة الصور المتعددة فتعرض على المجمع فإذا أقرت كان أمامنا المبادئ العامة التي يضعها المجمع ثم الصور المختلفة من الناحية التطبيقية. ملحظ بسيط أحب أن أذكره. أنا ذكرته للأخ سامي وظننت أنه حذفه ولكن فوجئت أنه لم يحذفه لأن الدكتور سامي في بحثه اتهم مجمع اللغة العربية بالقصور وأنه في غفلة وكلمات كثيرة لما قال لأنه في معجمه الوجيز قال بأن السند في الاقتصاد يعني القرض بفائدة اتهمه باتهامات كثيرة وقال إن هناك القرض الحسن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1599 وفي اللغة كذا وفي اللغة كذا. فأقول للأخ الدكتور سامي مجمع اللغة العربية ليس له معجم وجيز فلا أدري من أين جاء بهذا المعجم هذه ناحية. الناحية الأخرى أن المجمع له معجم وسيط ومنهج مجمع اللغة العربية أنه يذكر الكلمة من الناحية اللغوية ثم بعد هذا إذا كانت الكلمة لها اصطلاح أصبح لها اصطلاح عام من الناحية السياسية من ناحية العلم التجريبي من أي ناحية من النواحي فإنه يذكرها. لذلك أرجو أن يحذف هذا الجزء من بحثه وإن كان هو شيخ كبير إنما مجمع اللغة العربية أكبر. هذا ما أردته والحمد لله وشكرا لكم. الرئيس: في الواقع في موضوع سندات المقارضة قد ترون أن إجراء المداولات على الموضوع بصفة عامة قد ينقضي الوقت الكثير والكثير جدا دون أن نصل إلى نتيجة حاسمة للموضوع، على أي وجهة يصل إليها المجمع بتوفيق من الله تعالى. ولهذا فإن من المناسب أن تقرأ توصيات الندوة عنصرا إثر آخر ونقف عند قراءة كل عنصر من هذه العناصر فإذا كانت هناك مناقشات حولها، مناقشات علمية لا تزيد فيها حتى نستغل الوقت وقفنا، فما أمكن تعديله عدلناه وما أمكن إقراره أقررناه من هذه العناصر. فلعلكم ترون هذا مناسبا لأجل أن نبدأ. أرجو من الأستاذ سامي حتى أنتبه إلى كلمات الإخوة لو تكرمتم بالقراءة. الدكتور سامي حسن حمود: مرة أخرى التوصيات: 1- سندات المقارضة هي أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القراض (المضاربة) بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصا شائعة في رأس مال المضاربة وما يتحول إليه، بنسبة ملكية كل منهم فيه. ويفضل تسمية هذه الأداة الاستثمارية (صكوك المقارضة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1600 الرئيس: هل من مناقشة حول هذه الفقرة؟ الفقرة الثانية. الدكتور سامي حسن حمود: الصور المقبولة شرعا لسندات المقارضة بوجه عام لا بد أن تتوافر فيها العناصر التالية: العنصر الأول: أن يمثل الصك ملكية حصة شائعة في المشروع الذي أصدرت الصكوك لإنشائه أو تمويله، وتستمر هذه الملكية طيلة المشروع من بدايته إلى نهايته. ويترتب عليها جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعا للمالك في ملكه من بيع وهبة ورهن وإرث وغيرها. تريد كل العناصر وإلا عنصرا عنصرا؟ الرئيس: عنصرا عنصرا. وتستمر هذه الملكية طوال المشروع من بدايته إلى نهايته. الشيخ إبراهيم. الشيخ إبراهيم بشير الغويل: سؤال فقط: هل تستمر هذه الملكية طوال المشروع وفي نفس الوقت تترتب عليها كافة الحقوق بما فيها البيع إذا قد تستمر؟ الرئيس: لا تترتب يعني مدة استمرارها باعتبار الأصل. الشيخ إبراهيم بشير الغويل: السؤال: خلال فترة استمرارها هل لي أن أبيعها أم لا؟ الشيخ محمد تقي العثماني: يعني يباع الصك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1601 الرئيس: جهز العنصر التالي يا شيخ. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: إلى هذا العنصر في هذه في الواقع مال مضاربة. الرئيس: أين نضيف العبارة؟ الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: العنصر الأول لا أحب أن أضيف عبارة مع ملاحظة أنها أصبحت جزءا من رأس مال المضاربة هذه صكوك مضاربة. الرئيس: بعد المقطع الأول؟ الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: بعد من رهن وإرث وغيرها. مع ملاحظة أنها أصبحت جزءا من رأس مال المضاربة لأن هذا قد يترتب عليه ملاحظة بعض الأحكام التي تتعلق برأس مال المضاربة ولا نتركها مطلقة هكذا. الرئيس: مع ملاحظة أنها أصبحت جزءا من رأس مال المضاربة. الشيخ محمد تقي العثماني: إنها دون أصبحت. الرئيس: إذن لا صارت ولا أصبحت. إنها جزء. الدكتور سامي حسن حمود: مع ملاحظة أنها تمثل جزءا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1602 الشيخ محمد سالم بن عبد الودود: ليس جزءا؛ لأن السندات مجتمعة هي رأس مال المضاربة باعتبار كل صك على انفراد. الرئيس: هو المراد أن يمثل الصك ملكية خاصة شائعة. المراد الحصة. العنصر الثالث. الدكتور رفيق يونس المصري: بسم الله الرحمن الرحيم. يعني هذه الإضافة مفهومة من البند رقم (1) فلماذا نعود إليها ثانية؟ البند رقم واحد عندما عرفنا سندات المقارضة قلنا: إنها أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القراض بإصدار صكوك مع ما في هذه العبارة من ركة لكن هذه إضافة لا أجد لها في الحقيقة فائدة؛ لأنها مبنية على الفقرات التي تقدمت على الفقرة رقم واحد فما فائدة هذه الإضافة؟ الرئيس: هي توضيحية يا شيخ حتى يكون فيها نوع جلاء للقارئ. الشيخ عبد السلام داود العبادي: إذا سمحت وإن ترتب عليها، على ماذا؟ على الصكوك التي تمثل جزءا فتترتب عليها. على الصكوك بنحكي نحن. لذلك تكون العبارة: مع ملاحظة أنها تمثل جزءا. الصك يمثل الملكية وليس هو الملكية. ونحن نحكي عن الصك الذي يمثل الملكية وليس عن حصة الملكية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1603 الرئيس: هل الصك له قيمة بدون حصة؟ الشيخ عبد السلام داود العبادي: هو البيع للصك باعتباره يمثل الملكية. لأنه يقول: يترتب عليها. على ماذا؟ على الصك. الرئيس: يعني تكون العبارة مع ملاحظة أن الصك يمثل جزءا من رأسمال المضاربة. لكن لو جعلناها مع الضمير. مع ملاحظة أنها تمثل جزءا من رأس مال المضاربة. لا نقول الصك ولا الحصة. الشيخ عمر الزبير: فقط في مجموعها تمثل كامل رأس المال للمضاربة. إذا قلنا تمثل جزءا كان هناك أجزاء أخرى بالإضافة إلى هذه السندات المقارضة، لأن مجموعها يمثل كامل رأس مال المضاربة والقراض، فهي جزء. كل حصة جزء. مجموع الحصص يساوي كامل رأس مال القراض. الشيخ محمد تقي عثمان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1604 ولكن يمكن فعلا أن يكون هناك أموال غير أموال الصكوك. الشيخ إبراهيم بشير الغويل: سيدي ... لاستقامة الصياغة أولا إذا قلنا تترتب عليها سواء قصدنا الحصص أو الصكوك نقول مع ملاحظة أنها جزء لا يجوز لا بد أن نذكر عبارة أخرى في حقيقتها إذا كان قصدنا بها الصكوك أو الحصص فهي تمثل كل رأس المال إنما كل منها يمثل جزءا. مع ملاحظة أن كلا منها مثلا. الرئيس: إذا رأيتم مثلا يا مشايخ أن تكون العبارة: وتترتب عليها جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعا للمالك في ملكه من بيع وهبة ورهن وإرث وغير ذلك وإنها تمثل جزءا من رأس مال المضاربة. لا مع ملاحظة أو كذا. وإنها تمثل جزءا من رأس مال المضاربة. الشيخ إبراهيم بشير الغول: ما هي التي تترتب عليها مجموع الصكوك؟ الشيخ محمد تقي العثماني: مع ملاحظة أنها تمثل رأس مال المضاربة بدون ولو فيه جزء. مع ملاحظة أنها تمثل رأس مال المضاربة. لا نقول جزء ولا كل. الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي: الكلام كله منصب على الحصة بدليل وتترتب عليها أي الحصة وعندئد بقية الكلام وإنها أي الحصة. الرئيس: ولهذا أقول إنه يقال: وإنها أمثل جزء من رأس مال المضاربة وإنها – أي الحصة حتى تصح أن تعود إلى الصك لأن الصك هو الذي يحمل الحصة – فما فيه شيء. العنصر الثالث يا شيخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1605 الشيخ محمد علي التسخيري: العقد ليس دقيقا وإنه إذا قلنا مع ملاحظة أنها أو تحذف هذه العبارة لأنه مدلول عليها في رقم واحد. الشيخ عبد السلام داود العبادي: اتركها مع ملاحظة. الرئيس: إذا رأيتم أنها تبقى ملاحظة أنها تمثل جزءا من رأس مال المضاربة. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: ممكن نقول ملاحظة إن الصكوك تمثل رأس مال المضاربة. ماشي أنه نصرح بها. أما أن نقول مع ملاحظة أن الصكوك تمثل رأس المضاربة أو مع ملاحظة أن الحصة الشائعة تمثل جزءا من رأس مال المضاربة. الرئيس: مع ملاحظة أن الصكوك تمثل رأس مال المضاربة. الشيخ محمد علي التسخيري: بعض رأس مال قد يكون ليس صكا. عندما نقول المعنى لو جعلنا ليس أفضل بل أن نقول هذا المعنى. الرئيس: لكن هل يمكن الدخول فيه في هذا بدون صك؟ الشيخ محمد علي التسخيري: بدي أقول يعني يحتمل أن يكون بعضها ليس صكا. الرئيس: هذا تفريع على ما جاء في رقم واحد من تكييف سندات المقارضة. الثاني يا شيخ. الدكتور سامي حسن حمود: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1606 العنصر الثاني: يقوم العقد في صكوك المضاربة على أساس أن شروط التعاقد تحددها نشرة الإصدار وأن الإيجاب يعبر عنه الاكتتاب في هذه الصكوك وأن القبول تعبر عنه موافقة الجهة. ولا بد أن تشتمل نشرة الإصدار على جميع البيانات المطلوبة شرعا في عقد القراض (المضاربة) من حيث بيان معلومية رأس المال وتوزيع الربح مع بيان الشروط الخاصة بذلك الإصدار على أن تتفق هذه الشروط مع الأحكام الفقهية المعتبرة. الشيخ عبد السلام داود العبادي: موافقة الجهة المصدرة. لا بد من لفظ المصدرة بعدها. الدكتور سامي حسن حمود: القبول الشراء المشترية. القبول تعبر عنه الجهة المشترية هو يقبل الاكتتاب. الشيخ عبد السلام داود العبادي: يعبر عنه الإيجاب الاكتتاب لهذه الصكوك وأن القبول تعبر عنه موافقة الجهة المصدرة؛ لأنه ممكن يكون الاكتتاب أكثر من حجم الإصدار. العقد لا يتم إلا بموافقة الجهة المصدرة. الشيخ وهبة مصطفي الزحيلي: إن القبول يعبر عنه فيه توافق بيِّن وأن الإيجاب يعبر وأن القبول يعبر عنه. الموافقة يجب أن يكون تناسب مع ما سبقه من كلمة الإصدار. الإيجاب يعبر عنه والقبول يعبر عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1607 الرئيس: ماشي يا شيخ تعبر ما فيه شيء أو الموافقة. بقي شيء؟ الشيخ عبد الله إبراهيم: شكرا فضيلة الشيخ. في قوله إن شروط التعاقد تحددها نشرة الإصدار. على أننا قد اتفقنا على أن العقد عقد مضاربة فلما نطق هنا تحددها نشرة الإصدار فيمكن أن تكون هنا شروط خارجة عن شروط المضاربة. الرئيس: يعني تقيد: على أن تتفق هذه الشروط مع الأحكام الفقهية المعتبرة. والشيخ عبد الستار يقول: على أن تتفق جميع الشروط لأنه لم تتقدم الشروط هنا. الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي: من حيث العلم برأس المال. الرئيس: من حيث بيان العلم برأس المال بدل المعلومية. بدل معلومية العلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1608 الشيخ محمد سالم بن عبد الودود: سيدي الرئيس هل الياء التي يعبر عنها النحاة بياء المصدر التي تجعل الاسم الجامد أو الوصف مصدرا، الياء ليست مع هاء التأنيث تجعل الجامد أو الوصف مصدرا؟ معلومية رأس المال معناه كون رأس المال معلوما، فلا تعني العلم برأس المال كون رأس المال معلومة متعاقدين أو حصة الربح معلومة. معلومية معناه كونه معلوما. لكن المعلومية تقتضي أن معلوما تحول الوصف إلى المصدر. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: من حيث بيان رأس المال لأن هذا هو المطلوب أو من حيث لا معلومية ولا علم لنحل هذا الإشكال هو أن يبين رأس المال وتوزيع الربح كيف يكون. الشيخ محمد علي التسخيري: معذرة كلمة الأحكام الفقهية المعتبرة. من متي الأحكام الفقهية غير معتبرة؟ الأحكام الشرعية. الرئيس: الأحكام الفقهية الشرعية. قد يكون فقهية قانونية. العنصر الثالث. الدكتور سامي حسن حمود: العنصر الثالث: أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب باعتبار ذلك تصرفا من المالك في ملكه مع مراعاة الضوابط التالية: أ- إذا كان مال القراض المتجمع بعد الاكتتاب وقبل المباشرة في العمل بالمال ما يزال نقودا فإن تداول صكوك المقارضة يعتبر مبادلة نقد بنقد وتطبق عليه أحكام الصرف. ب- إذا أصبح مال القراض ديونا تطبق على تداول صكوك المقارضة أحكام تداول الديون. عدلناها أحكام الديون بالديون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1609 الرئيس: يكون بدل التداول أحكام التعامل. الدكتور سامي حسن حمود: أحكام تعامل النقود بالنقود: ج- إذا صار مال القراض موجودات مختلطة من النقود والديون والأعيان والمنافع فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقا للسعر المتراضى عليه وطبقا للأحكام الشرعية، على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعيانا ومنافع. الشيخ محمد تقي العثماني: عندي ملاحظة في نقطة ألف من هذا العنصر وهو إذا كان مال القراض المتجمع بعد الاكتتاب وقبل المباشرة في العمل بالمال ما يزال نقودا فإن تداول صكوك المقارضة يعتبر مبادلة نقد بنقد وتطبق عليه أحكام الصرف. أنا أرى أن تحذف هذه الكلمة الأخيرة (تطبق عليه أحكام الصرف) لأن أحكام الصرف إنما تختص بالعينين الذهب والفضة. وصكوك المقارضة هي أموال ولكنها ليست ذهبا ولا فضة. ولو طبقنا عليها أحكام الصرف فإنه يجب أن يكون التقابض في مجلس العقد. ولا يجوز فيه النسيئة أبدا. فلو حذفنا: وتطبق عليه أحكام الصرف واقتصرنا على قولنا: يعتبر مبادلة نقد بنقد فيجري عليه أحكام الصرف عندما نجري أحكام الصرف على النقود ولا تجري عليه أحكام الصرف عندما لا يجري عليه ذلك. فهذا ما أراه. الشيخ محمد علي التسخيري: أنا أثني على هذا الرأي وأرجو حذف هذه العبارة؛ لأن هناك اختلافا كبيرا في كون هذه النقود هي تحمل صفات الذهب والفضة وكونه ذلك فأرجو حذف هذه العبارة. الرئيس: أنا أرجو أن لا تنقضوا ما أبرتم، المهم تبقى بقوة ما صدر من المجمع أعد يا شيخ. الدكتور سامي حسن حمود: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1610 ب- إذا أصبح مال القراض ديونا تطبق على تداول صكوك المقارضة أحكام التعامل بالديون. الشيخ خليل محي الدين الميس: لا يمكن. يظهر ماشي هذا. (ج) يا شيخ. الدكتور سامي حسن حمود: ج- إذا صار مال القراض موجودات مختلطة من النقود والديون والأعيان والمنافع فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقا للسعر المتراضى عليه وطبقا للأحكام الشرعية على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعيانا ومنافع. لو سمح لي السيد الرئيس لي تعليق على الفكرة (ج) . الواقع كانت هذه النقطة محل اختلاف ولم تكن محل اتفاق في لجنة الصياغة الخاصة بالنسبة للقيد الأخير الذي يبدأ من: على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعيانا ومنافع. فهنا جاءت الفكرة أن الإخوان يريدون تغليب الصفة الغالبة في موجودات القراض حتى لا يشتبه أن تكون نقودا أو ديونا. ولكن الواقع لو نظرنا إلى ميزانية البنوك الإسلامية نج أن العنصر الغالب في ميزانية أي بنك إسلامي وأي شركة من شركات الخدمات تغلب عليها النقود والديون. وأمامي على سبيل المثال ميزانية البنك الإسلامي الأردني المعلنة لعام 86: رأس مال البنك 6 ملايين دينار واحتياطه القانوني 3 ملايين لكن موجوداته تتألف من: النقد في الصندوق ولدى البنك 45 ملايين دينار، تمويل استثماري بالمضاربة والمشاركة والمرابحة واستثمارات أخرى وغالب التمويل هنا هو مرابحات 90 % من الديون مرابحات والمرابحة عبارة عن بيوع بضائع بالأجل فهي ديون فبلغ مجموعه 95 مليون دينار، ثم مشاريع وتمويل الاستثمار المخصص 13 مليون دينار، الموجودات الثابتة التي هي الأعيان 4 ملايين دينار. فلو طبقنا هذا القيد على الذي نقول به بتداول موجودات المقارضة وهي عينها موجودات البنك الإسلامي نجد أنه لا يحق لنا أن نبيع ونشتري أسهم البنك الإسلامي الذي تتداول أسهمه يوميا. لو كان هذا العقد صحيحا ولم يكن قيدا تحكيميا كنا نرضى بذلك ولكن ليس لهذه النسبة التي وضعت بأن تكون الغالبية وما معنى الغالبية خاصة وأنه هناك شخصية اعتبارية تنفصل كما ذكرنا بالأمس ملكية التصرف في موجوداتها عن شخص المالك. لذلك الذي أراه أن ينظر الإخوان ويشاركونا الرأي بالنسبة لهذا القيد الذي سيحرم موجودات المقارضة من ميزة التداول لأن الغالب في أعمال البنوك وشركات الخدمات أن تكون موجوداتها من النقود والديون، ولا تشكل الأعيان والأشياء المملوكة. في مكتب الخدمات يتعامل بمائة مليون أكثر من المكتتب وجهاز التليكس والآلة الكاتبة والباقي حقوق وديون متداولة. فأرجو أن ينظر لهذه النقطة وأرشدونا هداكم الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1611 الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم.. اللهم صل على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وعلينا معهم يا أرحم الراحمين. أنا أختلف مع زميلي وجاري في هذه النقطة. ليست كل البنوك موجوداتها ديون أكثر موجوداتها ديون ونقود هذه واحدة. الأمر الثاني: نحن لا نريد أن نطوع الشريعة لبنكونا إنما نريد أن نطوع البنوك للشريعة الإسلامية. وأنا في الحقيقة أوافق على هذه الصيغة كما جاءت والأغلبية معناها أن تكون أكثر من 50 % من الموجودات أعيانا لأنه بالتالي نخشى أن يتخذ هذا ذريعة للربا بالأجل ونبيع الديون ونبيع النقود بالأجل ونأخذ عليها فوائد ونقع تحت طائلة الربا. فأنا في الحقيقة أصر إصرارا شديدا على هذه. جاء فيها ما جاء. الرئيس: على بقاء النص؟ الشيخ أحمد بازيع الياسين: نعم. الشيخ عمر سليمان الأشقر: الذي أريد أن أنبه عليه أن العنصر الثالث جعل بعض الصور في التداول غير صحيحة وبعضها صحيح. فكيف نضمن في مثل هذه المجتمعات الذي يختلط فيه الخير بالشر كثيرا والناس لا يستوثقون لدينهم أن يتداول الناس في المحظور كيف نضمن هذا؟ ينبغي إذن حتى نضمن هذا الشيء ينبغي أن نضع نصا أن التداول لا يكون إلا بموافقة المؤسسة الجهة المصدرة، وإلا فإن الناس عندما نصدر لهم هذا التشريع بعد ذلك سيتداولون بعيدا عنا بدون هذه الضوابط. شكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1612 الشيخ عبد السلام داود العبادي: أنا أعتقد في هذه النقطة القضية ترتبط بعملية بيع السند أو الصك باعتباره يمثل جزءا من رأس مال المضاربة واحتياطا من القضية في هذا الموضوع والتي هي قضية النزول بسعر هذا الصك أكثر من القيمة الاسمية أو أقل بدون ملاحظة ما يمثل حقيقة. فإذا كان فيه قدرة لأنه ما زلنا في مرحلة الإعداد للمشروع والأموال لم تتحول بعد إلى أعيان ومنافع فهو من أحكام الصرف. إذا كان الموضوع في جميع أموال المشروع ما زالت ديونا على الناس ولم تحصل كاكتتابات يعني في مرحلة ما قبل دفع الاكتتاب أيضا لا يجوز البيع لأن القضية قضية ديون. يبقي الآن مسألة فيما إذا تحول جزء من هذه الأموال إلى أعيان ومنافع يعني دارت عجلة المشروع. هل نسمح بتفاضل السعر أو لا نسمح؟ الواقع الرأي الذي كنا تبنيناه أنه نسمح ما دام هذا المقدار الذي ربطت فيه عملية التحول بصرف النظر عن حجمه الإرادة التعاقدية له الحق في أن تبيعه وفق ما تراه مناسبا ومحققا للمصلحة. لكن الخشية التي أبداها بعض الإخوان أنه فيه احتمال أنه يصير فيه عملية تحايل واستغلال فاشترطوا ذلك رغم أنه كما هو معلوم حتى في قضية الاسم التجاري نفس التحوط زائد حتى في القضية واحد واثنين لأنه واحد واثنين أنا لما يكون عندي مشروع وعملت مخططات ودراسات وجهات حددت الكلفة لهذا المشروع وأصبح له اسم وأصبحت كل هذه الإجراءات لها قيمة فاشتراطوا أيضا القيمة الاسمية تحوطا ومسايرة مشيناه رغم أنه كان ممكن أيضا نسمح بالمفاضلة. لما جئنا لحكاية الأعيان والمنافع ما دام صار جزء من المشروع تحول إلى أعيان ومنافع ما المانع الذي أبيع أنا بأكثر أو بأقل من القيمة الاسمية فكان اشتراط الأغلبية اشتراط به مزيد من الاحتياط. أما المثال الذي ذكره الدكتور سامي بالنسبة للبنك الإسلامي الأردني فهو خارج عما نحن فيه لأنه بالنسبة للودائع الموجودة في البنوك هي ليست جزءا من عقد المضاربة الذي يتم بين المساهم كبنك وبين جهة البنك لأنه في الواقع العملية مختلفة يعني ليس بيع المضاربة الذي دخل منه البنك كقابل للودائع من المكتتبين. باقي القضية هل ننص على الغالب أم لا ننص على الغالب هنالك من يرى ما فيه حاجة للنص ما دام دون تحوط جزء بسيط وهناك من يقول بالتحوط كما رجحت اللجنة حرصها على الاتفاق في هذه القضية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1613 الشيخ عبد الستار أبو غدة: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحقيقة فكرة اشتراط الغلبة هنا جاءت تطبيقا لقاعدة شرعية معروفة لدى الفقهاء وهي التابع يأخذ حكم المتبوع. ومن المعلوم أن التعامل في بيع النقد بالنقد يجب أن يأخذ حكم المصارفة ولكن الفقهاء استثنوا حالة التبعية، واستدلوا بالحديث المعروف في بيع العبد إذا كان له مال. فالحديث يقول: ((من باع عبدا وله مال فماله للمبتاع إلا أن يشترطه البائع)) فقالوا بأن هنا يجرى بيع للمال وقد يكون البيع مؤجلا بثمن مؤجل فقالوا إذن يغتفر لأن هناك فيه تبعية والتبعية لا تتصور إلا أن الأمر مغلوبا فإذا كان غالبا لا يكون تابعا وإنما يكون متبوعا. من هنا جاء اشتراط الغلبة لكي يظل هذا النقد أو هذه الديون تابعة للأعيان والمنافع التي يطلق فيها التابع بالحلول والأجل والتماثل والتفاضل فهذا هو الشرط أنه وفاء التبعية موجود مراعاة الإنسان حينما يبيع عبدا يكون المال أقل من قيمة العبد وإلا أنه لا يبيع هذا العبد وله مال أكثر من قيمته فمن هنا راعى الفقهاء القاعدة في أنه يجب أن يكون المال تابعا للمبيع فهنا إذا كان الغالب أعيانه ومنافع فما هناك من ديون ونقود تعتبر تابعة والتابع يأخذ حكم المتبوع ويغتفر فيه ما لا يغتفر في الأصول. شكرا. الشيخ محمد سالم بن عبد الودود: الرئيس يقول: إن قولهم وطبقا للأحكام الشرعية. الرئيس: لا ما يصلح لكن هذا الشرط هل فيه محظور؟ الشيخ محمد سالم بن عبد الودود: ما أدري هو إذا كان هناك أغلبية من الديون وأردنا أن نتبايعها على شرط بيع الدين المعروف فما المانع؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1614 الرئيس: يوضحه الفقرة (ب) يدخل في مشمول الفقرة (ب) أما هذا على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعيانا أو منافع فهو شرط توضيحي لا شك أن قضيته طبقا للأحكام الشرعية لكن هذا أبرز الشروط التي ينبغي مراعاتها في هذه الحالة. الدكتور عمر زهير حافظ: بسم الله الرحمن الرحيم.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الواقع أن الحكم واضح كل الوضوح في حالة البَتِّ فأحكام المصارفة تجري على هذه المعاملة وفي أحكام الديون تجري أحكام التعامل بالدين. بقيت الحالة الثالثة ألا وهي حالة مركبة من الحالتين. في الواقع لا يمكن أن نخرج أي حكم جديد إلا إذا وضعنا مثل هذا القيد وبدون هذا القيد يصبح إما أن يجري الحكم الأول إذا كانت الغالبية هي نقدا فالحكم يصبح حكم المعاملة بالنقود وإذا كان الغالب ديونا يجري عليه حكم الغالب بالديون. أما إذا كان الغالب في الموضوع هو أن تحولت هذه النقود وهذه الديون إلى ممتلكات حقيقية تجرى عليها هذا الحكم الجديد وهو حكم الأموال المختلطة. بقيت نقطة وهي: ما هو الحد؟ حد الغالب بدون المستند الشرعي للغالبية لا يمكن أن نسمِّي هذا المال مختلطا يصبح غالبيته إما نقدا أو غالبية دين إنما الاختلاط لا يأتي والتحول من الحالتين الأولين إلى الحالة الجديدة إلا بهذا التحول أن يكون الغالبية وليست غالبية نسبة 50 % في اعتقادي أن هذا الحد يجب ألا يكون الحد الفاصل لأن ما هو الحد الحقيقي للغالب. الحد الحقيقي للغالب الذي يحول المال من النقد إلى ممتلكات حقيقية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1615 الدكتور رفيق يونس المصري: شكري سيدي الرئيس. بسم الله الرحمن الرحيم أولا أنا أوافق أخانا الدكتور عبد الستار أبو غدة على هذا التوضيح الذي أبداه كما أني أوافق على إصرار الأستاذ بازيع الياسين أيضا بضرورة بقاء هذه العبارة. هذه نقطة. النقطة الثانية: الأمر الذي أبداه أخونا زهير لا بد هنا من بيان واضح بحد الغالب فأنا أقترح أن تكون العبارة على الصورة التالية: على أن تكون الأعيان والمنافع هي الغالبة على تلك الموجودات وأقترح أن تتحدد هذه الغلبة بمقدار الثلثين. والله أعلم. لا بد من أن يكون هناك حد لبيان الغالبية هذه نقطة ثانية. النقطة الأخرى: أقترح إذا سمحتم أن تستبدل بكلمة الأعيان الواردة مرتين في العبارة (ج) كلمة العروض لأن العين أطلق على النقود خشية دفعا للالتباس. كما أقترح عليكم أيضا إذا سمحتم في الفقرة (أ) التي تقدمت أن يقال في آخر العبارة: إن تداول صكوك المقارضة تنطبق عليه أحكام التعامل بالنقود وهذا اقتراح أعم من هذا أنا أرى أن هذه التوصيات قد كتبت في السابق على مستوي ندوة وأنا أعتقد أن هذا المجمع أرفع مستوى من الندوة السابقة وإن كنت أنا أحد المشتركين فيها، ولعل من المناسب إذا رأيتم أن الأمل يطول في استعراض أن توكل إلى لجنة ثلاثية مثل إعادة صياغة التوصيات ومن ثم المرور عليها بسرعة دون إجراء تغييرات جذرية فيها ولكم الشكر. الرئيس: قضية تأليف لجنة ما أظن الحمد لله لأن وجهات النظر ليست متقاربة فحسب وإنما متفقة ولله الحمد فما مضى في العنصر الأول وفي العنصر الثاني وفي العنصر الثالث ما عدا رتوش بسيطة هي لا تؤثر على ذات الحكم سوى ما جاء في الفقرة (ج) وفي الفقرة (ب) وفي الواقع أن قضية الضابط على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعيان ومنافع هو ما وضع هنا إلا بعد تَرَوٍّ كثير والاتجاه الغالب الآن على إقراره وربما ترون أننا إذا استغرقنا من تتابع الكلمات في هذا فعندنا ما لا يحصى. الشيخ رمضان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1616 الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي: يا سيدي نحن متفقون على أن بيع النقد يخضع لأحكام الصرف والتعامل بالديون يخضع لأحكام الديون بيع الدين بالدين ونحو ذلك وعندما يكون الشيء الذي نريد أن نتعامل به مركبا من نقود وديون وسلع فالمسألة تخضع للصفقة الواحدة التي تتكون من أشياء مختلفة وهي تخضع لما يسميه الفقهاء ببيع موت عجوة ودرهم، ومعنى ذلك أن هذه الصفقة بهذا الشكل لا يجوز التعامل بها وكلمة الغالب ما أظن أنها تحل مشكلة أما موضوع التبعية التي أشار إليها الدكتور عبد الستار، فالتبعية واضحة جدا في المثال الذي ذكره، لأن العبد إذا وضع تحت يده مال فبيع ينجرُّ البيع بالتبعية للمال الذي وضع يده عليه ولكن هاهنا فصال كلي بين نقود وديون وسلع إما أن يكون حجم هذا كبيرا وحجم هذا صغيرا فلا يشكل ذلك تبعية. ولذا أرى أن كلمة الغالب لا تحل مشكلة لمن يريد أن يتورع وأن يدقق في هذه القضية إطلاقا. فإذا كنا حريصين على وضعها فينبغي أن نقول بشرط أن تكون هذه الأموال سلعا ومنافع فقط. أما إذا دخل فيها النقد ودخل فيها الدين فقد خضع ذلك لمسألة فقهية معروفة وهي الصفقة التي تتكون من نوعية جائز وغير جائز (موت عجوة ودرهم) هذا هو نفسه. وشكرا لكم. الشيخ محمد تقي العثماني: شكرا سيدي الرئيس. فيما أذكر أن في الندوة السابقة جاءت هذه الفقرة كمزيد من الاحتياط وأرى أن تقرر كما هي على سبيل الاحتياط، ولكننا يجب علينا أن نعرف الوضع الفقهي في هذه المسألة وكما أشار إليه فضيلة الدكتور سعيد رمضان هي المسألة تتعلق بالمسألة المعروفة باسم مسألة موت عجوة، ولكني في تلك المسألة هناك رأيان الرأي القائل أنه لا يجوز البيع في ذلك الحال بوجه من الوجوه. والرأي الآخر: هو رأي الحنفية أنه يجوز إذا كان النقد المدفوع أكثر من المخلوط والمركب واستنبط في ذلك بحديث خلالة خيبر المعروف في الصحيحين فما تفضل به الأستاذ سعيد رمضان أنه نظرًا إلى تلك المسألة لا يجوز البيع أبدا. فإني أرى أنه يجوز البيع وإن حُذِفت هذه الفقرة وحذفت الأغلبية أيضا عند الفقهاء الحنفية لأنهم مثلا إذا باع أحد صاع تمر ودرهم بدرهمين أو بصاعين من التمر يجوز عند الحنفية ولا يجوز عند غيرهم من الفقهاء. فلو أخذنا رأي الفقهاء الذين يجوزون مثل هذا البيع يجوز لنا فقها أن نحذف هذه الفقرة. نعم إذا كنا نريد مزيد من الاحتياط نقرها كما هي. والسلام عليكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1617 الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي: في الحقيقة سبقني الأستاذ القاضي الشيخ تقي إلى ما كنت أريد أن أقوله. كلام الأستاذ الدكتور سعيد هو مذهب الشافعية وأما مذهب الحنفية فهو يجيز ذلك، ولكن أخالف فضيلة القاضي بأن نعمل بمذهب الحنفية ونبقي العبارة على ما هي عليه؛ لأنه لا يمكن يكون عندما بَحَثَ الحنفية هذا الموضوع نظروا إلى الغالب فكيف نجيز هذا بغض النظر عن هذه الإضافة. فإذن نقدر أن نبقي الموضوع على ما هو عليه وهو بعد سار على مذهب الحنفية دون الشافعية. الشيخ إبراهيم بشير الغويل: سيدي أنا عندي سؤال علمي. الآن صدرت سندات المقارضة كيف نضمن المستويات الثلاثة أثناء التعامل؟ هل ستصدر سندات تبلغ الناس أنها ما زالت في المرحلة الأولى ثم تصدر سندات في مرحلة ثانية ثم تصدر سندات في مرحلة ثالثة. أنا أسال هذه الحالات الثلاثة. هل افترضنا مَنِ المسلم الذي يتعامل بهذه السندات أن يلتزمها كيف يعرف؟ هل لا بد أن يعود للاتصال بمن أصدرها؟ السؤال أن هناك ثلاث حالات. أنا في أي حالة من الحالات الثلاثة؟ كيف أعرف ذلك؟ نحن نشترط هنا شروط غير قابلة للتطبيق العملي بمجرد أن تصدر سندات المقارضة سيتعامل بها الناس. هذا أنا أقوله ليس اعتراضا على مثل هذه المشاريع، ولكنني أقول: إن هذا الذي يوضح أن هذه الأساليب العصرية لا بد لها من نظرة خاصة بها. فإن أردنا أن نبحث لها عن قيود سابقة هذه القيود لا تمشي في واقع الحياة. ثم إن هذه السندات فقدت أهم مزاياها إن قيدت بهذا القيد الثالث والقيد الأول والثاني. فلا أدري أنا لماذا لا نحاول أن نستفيد بشيء وهي سندات المقارضة والآن بهذه الصورة لن يستفيدوا منها إلا اعتمادا على أن نحن سنستلمها ثم نتصرف فيها دون مراعاة لأحكام الصرف، ولا أحكام الديون ولا غيرها. سنتصرف فيها باعتبارها سندات مقارضة كأي سندات مقارضة أخرى. الرئيس: شكرا، في الواقع لعلكم ترون أنه حصل فيها مناقشات بما فيه البركة والاتجاه العام إلى إقرارها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1618 الشيخ الصديق الضرير: أولا الضوابط الثالثة مقبولة عندي إذا صح الأصل كلمة صغيرة عن هذا الضابط الثالث الذي طال فيه الحديث وأنا في رأي أن ما ذكره الدكتور عبد الستار كلام وجيه والقاعدة يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وأيضا ما تعرض إليه الدكتور زهير أن كلمة الغالب قد تفسر في 51 أو 50 في المائة هذا لا ينبغي ويجب أن تكون النقود والديون قليلة جدا بحيث يصدق عليها اسم التابع. وأذكر لكم مثالا آخر من الفقه في: يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع من بيع الجنين في بطن البهيمة لا يجوز لوحده إذا قلت له: بعتك ما في بطن هذه البهيمة لكن لو قلت له: بعتك هذه البهيمة وما في بطنها وستقدر له ثمنها جائز. فالغلبة يجب أن تكون بهذه المثابة، ولذلك نتوقف فقط في عبارة أن يكون الغالب قد يصعب تحديده بنسبة، وفي رأي أنه لو قلب الوقت فقيل على أن تكون النقود والديون قليلة جدا يمكن أن نقبل هذا ويكون هذا تابعا. أعود إلى الأصل وهو أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء فترة المضاربة باعتبار ذلك تصرفا من المالك في ملكه0 هذه الأموال صكوك قلنا: إنها أموال مضاربة وهذا هو السبب الذي حرصت من أجله على إضافة هذه العبارة هذا مال مضاربة دفعه رب المال إلى المضارب فتعلق به حق المضارب وهو التصرف فيه فلا يستطيع رب المال أن يتصرف فيه فعبارة: باعتبار ذلك تصرفا من المالك في ملكه. لا. هذا ملك مقيد تعلق به حق الغير. ولقد فكرت في هذه المسألة كثيرا وكنت رفضت هذا التداول، لكن بدا لي أنه من الممكن أن نضع عبارة تُجَوِّزُ هذا التداول وذلك بحذف عبارة: باعتبار ذلك تصرفا من المالك في ملكه ووضع مكانه: بموافقة المضارب التي هي الجهة المصدرة وهذا يحل لنا الإشكال الذي أثاره بعض الإخوة في كيف نطبق هذه القيود الثالثة، لأن المضارب المفروض أن يكون على علم بهذه القيود فلا يسمح بالمداولة في حالة النقود إلا إذا توافرت الشروط ولا بالمداولة في حالة الديون إلا إذا توافرت الديون وهكذا في الحالة الثالثة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1619 الرئيس: شكرا يا شيخ صديق. فيما لو أريد أن تعدل العبارة أن تكون المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب باعتبار ذلك مراعى عند نشوء المستندات. الشيخ صديق محمد الأمين الضرير: لا أنا عايز هذا التصرف بالبيع، بما أن هذا المال تعلق به حق المضارب فرب المال ليس له الحق في التصرف وهو أعطى حق التصرف إلى المضارب وهذا هو شأن المضاربة فلا يمكن أن يتصرف هو استقلالا ويقول أنا أتصرف في ملكي. لنفرض أن بيني وبين شخص مضاربة أعطيته مالا ليضارب به لا أستطيع أنا رب المال أن أبيع أي شيء في هذا المال الذي أعطيته إياه. لا يمكن حق التصرف للمضارب وليس لرب المال وإن كان هو مالكا للرقبة. الرئيس: صيغة التعديل. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: هذا ما بدا لي لكي يجوز هذا التداول لأنه رأيت أن الإخوة مصرين عليه، واعتبروا هذا أمرا أساسيا في سندات المقارضة أقول: بموافقة المضارب الشيخ عبد الستار أبو غدة: هذه الموافقة يمكن الحصول عليها بالإذن. لو قلنا مثلا: باعتبار ذلك مأذونا فيه من المضارب عند نشوء السندات يعني حق الغير روعي. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: لكن هذه تفقدنا حق الرقابة على التطبيق. أنا عايز أقول: في كل حالة يريد فيها رب المال أن يتصرف بالبيع أن يأخذ إذنا من المضارب لكي يتمكن المضارب أن يلاحظ تطبيق الشروط الأخرى لكن إذا أعطينا إذنا عاما باعتبار أن هذا إذنا موجودا عند الإطلاق هذا يفقد المضارب حق الرقابة على تنفيذ هذه الشروط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1620 الشيخ عبد الستار أبو غدة يعني تنازل عن حقه. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: والله تنازل عن حقه فيه ضرر الأولى أن يكون الإذن في كل حالة بيع. الدكتور سامي حسن حمود: لو سمحت لي سيدي الرئيس فيه نقطة وهي عمليا لها حل، لأن سندات المقارضة هي سندات اسمية وليست للحامل ومعنى كونها سندات اسمية أنه في كل حالة بيع متداول يجب تسجيل هذا السند في سجلات الجهة التي أصدرت، لذلك عندما ندخل النقطة اللطيفة التي أثارها الأخ الدكتور بارك الله فيه أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بموافقة المضارب بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب فهذا يضمن لنا المسألة أن تكون منضبطة. وهو ليس فيه تعقيد إداري لأنه حكم يجب التسجيل في سجلات المضاربة. الشيخ عبد الستار أبو غدة: قد تسبب إشكالات في التداول. التداول خارج الجهة المصدرة ستجد نفسها محرجة أما أنا ندخل في البيع الصوري. الدكتور سامي حسن حمود: أبدا يمتنع ذلك أصلا. لا يعتبر مالكا تجاه المصدر إلا من اسمه مسجلا في سجلاته هذا في الشركات المساهمة. الشيخ عبد الستار أبو غدة: التبايع سيتم قبل التسجيل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1621 الدكتور سامي حسن حمود: هناك تبايع يسري ولا يأخذ مفعوله إلا بالتسجيل مثل بيوع الأراضي. قد يتم التبايع بين الشخصين الاتفاق ولكن لا يعتبر ساريا، بالنسبة للدولة إلا متى تم تسجيله في سجلات الأراضي أو الشهر العقاري. وهذا نفس الشيء. الشيخ عبد الستار أبو غدة: هذه ناحية قانونية في الفقه البيع سار من لحظة الإيجاب والقبول. بيع العقار البيع سار من وجود الإيجاب والقبول والتوافق بينهما إنما بقى عملية التوثيق فقط. الدكتور سامي حسن حمود: لكن ولي الأمر إذا أمر أن البيع لا يتم إلا بتسجيله في السجلات فلا يعتبر البيع قائما وتبقى حقوق بين الناس. الدكتور عبد السلام العبادي: بالنسبة للقضية التداول تطبقها نشرة الإصدار، نشرة الإصدار تحدد كل ما يتعلق بالتداول وحتى في قضية التداول عندنا بالنسبة لسندات المقارضة نص بالقانون – للإخوة الذين تسألوا عن الضمانات – نص القانون على أنه لا يجوز التداول في مرحلة قبل بدء الشروع لضمان عنصر تحول جزء من النقود إلى أعيان ومنافع. فنشرة الوصلة تعالج هذه القضية التي هي قضية الموافقة. والثاني النقطة التي حكاها الدكتور يعني لن تقبل جهة الإصدار بتسجيل أي سند باسم شخص جديد ما دام أن الوقت لم يحن للتداول، ثم إن معظم عمليات تداول السندات كما هو معلوم لها جهات لها أسواق مالية تجري فيها عمليات التداول ضمن ضوابط وشروط معينة. فالقضية هذه عليها أكثر من ضابط وأكثر من مجال. فالمهم الموضوع وليس الشكل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1622 الدكتور منذر محمد قحف: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد. شكرا للسيد الرئيس، الحقيقة أنا لي نقطتان: النقطة الأولى: رغم أن هذه السندات هي مسجلة بأسماء إلا أن الجهة المضاربة ليست لها رقابة على الأسعار التي يتم فيها هذا التداول. يعني أن رقابتها مقتصرة على إجراء التسجيل وليس على السعر الذي يتم به التداول. فإذا تم التداول بأي سعر في المرحلة الأولى عندما تكون ما تزال غالبيتها نقودا إذا تم التداول بأي سعر آخر فهذا ليس من شأن الجهة المصدرة وبالتالي الاعتراض الذي قدم على إمكانية الرقابة على هذا ما زال قائما. هذه النقطة الأولى. النقطة الثانية: بالنسبة للعنصر الأول الحقيقة ما يصح أن يجد الذي يبدو دون موضوع الإذن بالتصرف لأن التصرف هو تصرف المضارب في هذا المال وليس تصرف رب المال. فكيف يكون تصرف المالك في ملكه من بيع وهبة ورهن؟ فلا بد من شيء من تعديل في هذا بحيث نفصل بين الحقوق والتي فيها مثلا الإرث وما بين التصرفات، تترتب عليها جميع الحقوق – حقوق المالك – أما التصرفات وهي تصرفات رب المال في المضاربة وليس غير ذلك. الدكتور رفيق يونس المصري: بسم الله الرحمن الرحيم، هناك مسألتان مسألة تنظيمية، الحقيقة أثارها الأستاذ الطويل ومسألة أيضا فقهية أريد أن أذكر بها وأستنجد برأي أساتذتنا من فقهاء المالكية. المسألة التنظيمية. صحيح ما قاله الأستاذ منذر قحف بأن الشركة تطلب مسألة التسجيل ولا تستطيع أن تتحكم في الأسعار. وإضافة إلى هذا أنا أقول: إنه يمكن حل المسألة بطريقة عملية ويحسن أن يشار إلى هذا في الصياغة لكي ندلل على أن كلامنا قابل للتطبيق عمليا. لكن هناك تعترضني مشكلة وهي الفقرة (ب) ، أنا (أ) استطعت أن أتصورها وهي فقرة تأسيس الشركة و (ج) أيضا هي فكرة الاختلاط، فترة عمل الشركة أما الفقرة (ب) فلم أستطع أن أتخيلها بذهني وهي تشكل علي في الاقتراح الذي سأقدمه. بالنسبة للفقرة – أ – عند بداية الشركة يمكن أن تكون الصكوك من نوع خاص. يعني ليست صكوكا نهائية بحيث عندما يتم تبادلها يعرف المتبادلان المسلمان أن هذه الصكوك لا تزال في المرحلة التي تنطبق عليها أحكام التعامل بالنقود. فإذا ما انطلقت الشركة استطاعت أن تصدر الصكوك النهائية عند الفقرة – ج – وهنا يكون لا مشكلة والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1623 المسألة الثانية الفقهية غير التي ذكرها أستاذنا سعيد رمضان حول مسألة تبادل التمر والدراهم وعلق عليه الأستاذ ابن المنيع. أنا أتذكر هنا ما أذكر من الذاكرة لست متأكدا من ذلك أنه عند المالكية في مبادلة الأشياء المحلاة بالذهب والفضة تبادل الربويات عندما يكون هناك اختلاط ويصعب أو يتعسر الفصل الحسي للربوي عن غيره أنا أذكر أن المالكية قالوا بالثلثين. ولهذا ذكرت أنا يعني أحبذ بالاستناد لرأي المالكية في هذا أن نحدد من الغالب لا أن نقول جدا ولا أن نقول غيرها لأن الأمور تبقى مائعة والله أعلم. الرئيس: في الواقع قبل إعطاء الكلمة أحب أن أسأل الشيخ الصديق. ما يتعلق في هذا العنصر الثالث هل للشركة حق التحكم فيه أم أنه بين صاحب الصك وبين ربه؟ الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: رأيي أن الشركة المضاربة هي التي تكون مسؤولة عن تنفيذ هذه الضوابط. فبالنسبة لـ (ج) يجب ألا تسمح بالبيع إلا إذا تأكدت من أن الديون والنقود وهي قليلة جدا بحيث يطلق عليها تابعا. الرئيس: لكن مقصدي أنه لم يوضع ضمانة لتحكم الشركة في هذه التصرفات لأنه قد يجرون العقود فتنشأ مشكلة أخرى جديدة. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: المشكلة في الواقع قائمة. كيف نضمن تطبيقه؟. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1624 الرئيس: ولهذا ما أشار إليه الشيخ عمر الواقع وارد. إذن إذا كانت بين العبد وربه فشأنكم وإياكم وقد يكون بقاؤها ماشي. أما إذا كان للشركة تحكم في هذا فلا بد - الحقيقة - من جعل ضمانات تحقق أنه لا يجري بيعا لهذه الصكوك إلا بيعا شرعيا على وفق هذه الفقرات حتى لا نقع في خلفية إجراء عقود ثم يأتون إلى الشركة فتقف في وجوههم. الشيخ محمد تقي العثماني: كيف تتحكم الشركة عليه؟ الرئيس: هذا هو السؤال. الدكتور سامي حسن حمود: سيدي الرئيس في الواقع في العقود: الشريعة تبني على الظاهر، وبدون هذه الصكوك نعرف أن البيوع العقارية مثلا قد يسجل الثمن أمام الشهر العقاري بسعر ويكون هناك اتفاق خارجي بسعر آخر فهذا أمر بين الإنسان وربه بالنسبة للشركة هنا أو المؤسسة المصدرة تطبق هذه القواعد، فإذا كان التداول في مرحلة ما قبل استعمال المال فهي ترفض تسجيل سند النقل أو عقد البيع الذي تم فيه النقل إلا إذا كان منصوصا أن الثمن مثلا باعتبار أن هذا بيع للنقود وكذلك في الديون، فإذن فلسنا خارج نطاق العقود والديون وأصبحنا نتعامل بموجودات مختلطة فإن البيع لا يتفق عليه المتبايع إلا أن يكون هناك شطط. هذه النقطة التي أراها توضح هذه المسألة واستأذن في التعليق التالي: بالنسبة للنقاط: الميزانية طبعا عندما نتكلم عن البنك الإسلامي الأردني ليس دعاية للأردن ولكن مثال، وأن الهوى بإذن الله هو هواي في هذه الشريعة كما هو هواكم جميعا طائع ومطوع لخدمة الشريعة ولن يكون التفكير بأن يكون العكس احتراما لرأي أخي الكبير الأستاذ أحمد البازيع وما هو في الكويت هي شريعة محترمة ونريدها نفس الشريعة المحترمة في عمان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1625 الميزانية في البنك الإسلامي الأردني حتى لو أخرجنا كما تفضل أخي الدكتور عبد السلام باعتبار الودائع حقوقا مخرجة من الميزانية أجد كمحاسب سابق من تحليل هذه الميزانية أن مجموع حقوق المساهمين عشرة ملايين دينار من بينها أربعة ملايين الموجودات الثابتة وستة ملايين هي نقود وديون مستثمرة فلو طبقنا القاعدة على إطلاقها فيمتنع تداول أسهم هذا البنك لذلك الذي أراه ليس تطويعا لكي تباع أسهم هذا البنك بأن نغير ولكن التصور التالي هو أنني أستفتي الإخوة العلماء الأجلاء في موضوع المخارجة في التركة، التركة التي يتركها المتوفى فيها نقود وفيها ديون وفيها منافع وفيها أعيان وممتلكات. أجازوا أن تتم المخارجة والمخارجة بيع هل هناك أن تفيدونا أفادكم الله شروطا تحدد هذا البيع أن تكون النسبة الغالبة في هذه الشركة ديونا أو نقودا أو أعيانا حتى تجوز أو لا تجوز إن كان هذا فهذا قياس موجود وإن لم يكن هناك شرطا فلماذا لا نطبق؟ يضاف إلى ذلك أن الذي أراه وأطمئن إليه شخصيا اثنين. الصورة الأولى: أن نتعامل مع موجودات لها شخصية اعتبارية منفصلة عن شخصية المالكين وليست قلادة ذهبية مملوكة لشخص مؤلف من ذهب وفضة وخرز عندما يخرج المال من ملك إلى الشخصية الاعتبارية تصبح له قيمة متميزة مجرد الترخيص حصول على ترخيص حق التنقيب عن المعادن يعطي السهم في الشركة قيمة أعلى من القيمة المحاسبية التي أدفعها. مجرد الاسم التجاري والاحتياطات المبنية خلال السنوات يعطي ولو قدرت أسهم هذا البنك الذي أتحدث عنه يباع بدينار وثلاثمائة فلس لو جئت أقيم حسابيات لا أجد له هذه القيمة في الدفاتر هو دينار ونصف فقط لما يدفع المبلغ الزائد باعتبار السمعة وأنه ليس من حق أي إنسان أن يحصل على ترخيص لإنشاء بنك إسلامي في المملكة الأردنية الهاشمية هذا له ثمن واعتبار فإذا كنا نتحدث عن موجودات مفرزة في شخصية اعتبارية مستقلة فهي تخرج عن صفات الإيمان التفصيلية باعتبارها قلادة من ذهب وفضة وخرز. الناحية الثانية: الصندوق إذا كان الصندوق مثل الحال في البنك الإسلامي للتنمية صندوقا متميزا تثبت له الحقوق وتتبعه الواجبات فإنه يأخذ حكم الشخصية الاعتبارية هذه حتى المنطلقات التي أحب أن نتفاهم فيها المسألة وأن نتعلم لكي نضع هذه الشريعة على الرأس والعين قبل كل شيء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1626 الشيخ على صالح: بسم الله الرحمن الرحيم. لماذا لا نجعل مبدأ التأسيس وسيلة لحل القضايا القائمة والتابعة له؟ بعد ذلك وهو أن يشترط الشخص صاحب المال على الجهة القائمة بالتأسيس أو بالقراض أي شرط من الشروط الشرعية حلت لهذا الغالب في هذه الحالة من الأعيان والمنافع لماذا لا نجعل مسألة الحرية للشخص الذي يتبع ماله لهذه الشركة أو للبنك حرية في أن يشترط البيع بالإطلاق أو بالإذن أو بغير ذلك في هذه الأنواع الثلاثة مرة واحدة ليس لنوع الأعيان والمنافع أو للديون تكون المسألة تابعة للبيع ساعة التأسيس عند التأسيس بحيث تكون النتيجة مضمونة ساعة البيع لا أقل ولا أكثر. الرئيس: شكرا. يوجد عند الشيخ عبد الستار خلال هذه الأبحاث صيغة. تفضل بقراءتها من أول العنصر الثالث. الشيخ عبد الستار: أولا الدكتور سامي قال بأن الستة ملايين عبارة عن نقود، هي الحقيقة ليست نقود وإنما حصص في المشاركة كل الأموال التي تقدمها البنوك الإسلامية هي حصص في المشاركة وتمثلها. ولو كانت تظهر مضاربات فأنت لما تلحظ في البنك ألف دينار أو عشرة آلاف ريال هذا رأس مال في المضاربة وتحول فورا إلى ملكية للموجودات في البنك فلا نستطيع أن نسميه نقودا ولو ظهر أنه التزامات للغير مبلغه كذا على أساس أنها قيود لكن هذه كلها حصص في المشاركة للمضاربة. أيضا لو أغلقنا باب التداول ماذا نصنع في البنوك الإسلامية التي تتيح لمن يتقدم بمبلغ ليستثمره في البنك عن طريق المضاربة أن يخرج في أي وقت مجرد يسدد في دفتر التوفير بألف بدينار وبعد يومين ثلاثة يجيء يسحب الألف دينار تقول له مع السلامة. إذن هذا إذن من المضاربة المشتركة وكل ما يتم في البنوك الإسلامية أنها تولية لأنه يخرج بمثل ما دخل هنا بيع مساومة يتم في الخارج فيكفي فيه الإذن يعني المضارب يقول لهذا رب المال: في أي وقت أنت أحل محلك غيرك بنفس الشروط التي تفاهمنا أنا وإياك فيها وهذا يتم في المشاركات يعني الشركاء أحيانا يقول شريك داخل شريك آخر عندنا مانع في أي وقت فلذلك الصايحة تقوم على هذه التوطئة نقول العنصر الثالث: أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب باعتبار ذلك مأذونا فيه من المضارب عند نشوء السندات مع مراعاة الضوابط التالية (أ) ما فيها شيء و (ب) كما هي بعد تبديل كلمة التعامل بالديون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1627 الرئيس: باعتبار ذلك مأذونا فيه. الشيخ عبد الستار: مأذونا فيه من المضارب عند نشوء السندات ونحذف تصرفا من المالك في ملكه مع مراعاة الضوابط التالية: أ- مأذونا فيه من المضارب عند نشوء السندات مع مراعاة الضوابط التالية: أ- كما هي (ب) بعد تعديل التعامل بالديون (ج) إذا صار مال القراض من موجودات مختلفة من النقود والديون والأعيان والمنافع هنا يصير تعديل فإن كان الغالب عليها الأعيان أو المنافع فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقا للسعر المتراضى عليه وطبقا للأحكام الشرعية ثم نشطب الباقي ونقول: وإذا كان الغالب نقودا أو ديونا يطبق ما في الفقرتين السابقتين هي أ، ب. في جواب عن الدكتور رفيق الذي قال في أي حالة فقرة (ب) نحتاج إلى تطبيقها هي موضوعة للاحتياط ولكن ممكن تطبق إذا جمعنا أموال للمقارضة واشترينا بها أعيانا وبعنا كل هذه الأعيان وأصبحت ذمما عند الغير قبل أن يعود شيء من هذه الذمم ويحول مرة ثانية إلى أعيان ففي هذه الحالة تكون مال القراض كله يكون ديون. قد يكون السندات اشتريت بها أعيان وبيعت لاستثمارها قبل أن تدخل في المشاريع، وأصبحت مما يعني هي موجودة لتنظيم هذه الحالة المحتملة. الرئيس: بالنسبة للتعديل الأول نبدؤها واحدة واحدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1628 الشيخ الصديق الضرير: التعديل الأول موافق مع ما فيه أنا أبديت رأيي فيهم وكنت أرى أنا الموافقة في كل حالة فيها شيء من الرقابة على أي حال لكن لا مانع. الرئيس: لكن لو جمعنا بينهما أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بموافقة المضارب ثم نستمر. الشيخ الضرير: نعم هذا الاقتراح مأذون فيه من المضارب عند نشوء السندات كأن هذا إذن عام هذا الذي يفهم من هذه الصياغة أن المضارب أعطى أصحاب المال إذنا عاما أن يتداولوا هذه الصكوك وأنا كان رأيي أن يكون الإذن خاصًّا بكل حالة من الحالات حتى يكون للمضارب الإشراف على تطبيق هذه الضوابط فيما يتعلق بالضابط الأخير إذا كان الغالب نقودا. الدكتور عبد الستار يقول: تطبق (أ) أي تطبق أحكام الصرف فكيف يطبق أحكام الصرف على نقود وأعيان وهو الشيء الذي أفهمه أن الفقرة الثالثة هي القصد منها التسهيل الموجودات تتضمن نقودا وديونا وأعيانا كان الواجب أن نقول النقود تطبق عليها أحكام النقود والديون تطبق عليها أحكام الديون والأعيان تطبق عليها أحكام الأعيان، وفي هذا عسر ومشقة فلجأت الصياغة إلى تغليب ومفهوم هذا أنه إذا كان الغالب الديون أو الغالب النقود والديون فلا تباع بتاتا لا يصدر هناك تداول لأن أحكام الديون فأنا رأيي الصياغة الأولى أقرب إلى القبول. الرئيس: هو في الواقع أن الفروع الفقهية لا تتناهى ومتعددة، والذي يظهر في وقت الإعداد أيام كنا مجتمعين في الندوة أنه لوحظ الحالات الدعم الأغلب، وإلا لو أخذنا في قضية التفاريع والدخول بينها فإنها لا تنتهي وقد تكون الحاجة إليها قليلة ما هو الأهم الأغلب والذي يجري في أسواق التداول؟ فإذا رأيتم أن الفقرة (ج) تبقى كما كانت عليه فيكون هذا هو أولى. ترون تبقى بعد هذا الإضافة التي سمعتموها من المقرر العام أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب باعتبار ذلك مأذونا فيه من المضارب عند نشوء السندات مع مراعاة الضوابط التالية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1629 الشيخ عمر سليمان الأشقر: في ذهني ما حدث في الكويت بما يعرف بأزمة المناخ وكثير من الإخوة علموا بذلك أن تنشأ الشركة وهي اسم ما تزال حبرا على ورق يكون السهم بمائة فلس بعد أسبوع يصبح بدينار يصبح بدينارين بعشرة دنانير قد يكون المال قد جمع والسهم يرتفع ارتفاعا خياليا جدا فهذه الطريقة عندما أضعها للناس في هذا العصر ستنشأ عندنا نفس المشكلة. الرئيس: لكن يا شيخ عمر في الفقرة الأولى لعل فيها ما يكفي في هذا وأنه قال بعد الاكتتاب وقبل المباشرة في العمل بالمال. الشيخ عمر الأشقر: لكن بعد أن ينزل هذا التشريع للناس فيه فتضمن إذا لم يكن هناك رقابة. كيف تضمن هذا لا بد بعد الإذن بعد الموافقة نحن نوافق على هذا عند ذلك تضبط هذه القضية وإلا كيف الناس يعرفون سيتداول الناس بعيدا عنه؟ شكرا. الرئيس: فقرة (ج) كلها هذه انتهينا منها، هذه ليس فيها بحث فقرة (ج) ليس فيها بحث انتهينا منها. الشيخ أحمد بازيع الياسين: أي نعم بس هي الفقرة التعديل الذي قاله الأستاذ الدكتور عبد الستار في الحقيقة يعطي الدكتور الصديق الضرير ما يريده من الإذن الشريك المضارب عندما يأذن مسبقا إذ تحل المسألة الفقهية لكن الحقيقة المسألة العلمية أنا أريد أضيف لها أن قبول المضارب تسجيل ذلك في سجلات لا بد من أن الشريك المضارب تقبل التداول هذا ويسجل في سجلاته لأنه قد تنشأ مثل ما نبه عنه الأستاذ عمر الأشقر نريد طال عمرك أن كل صفقة من الصفقات تسجل في سجل المضارب وهذا العمل سوف يكون بهذا الأسلوب بدون أن يقبل الشريك المضارب تسجيل السند لا يمكن أن تتم الصفقة وهذا تكون مأذونا بإذن مسبق ومسموح فيه أيضا بإذن لاحق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1630 الرئيس: أين تكون الصياغة؟ الشيخ أحمد بازيع الياسين: في الأول لو يضاف: ويجب أن يسجل في سجلات الشريك المضارب. الرئيس: يا مشايخ لو رأيتم أن هذه الفقرة تزال بأن يلاحظ أنه في جميع هذه الأحوال الثلاث يتعين تسجيل التداول في سجلات الجهة المخطرة وبهذا ينتهي. أترون هذا مناسبا وبه ترفع الجلسة ونعود إليها إن شاء الله في الخامسة مساء؟ وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ونستمر في مواصلة البحث والمناقشة في توصيات الندوة حيال سندات المقارضة وقد انتهيتم من العنصرين الأول والثاني والثالث إلا أن العنصر الثالث يرى بعض أصحاب الفضيلة الأعضاء أن تقف الفقرة ج على قوله وفقا للسعر المتراضى عليه وطبقا للأحكام الشرعية وعند هذا تقف الفقرة ويضاف إليه وأن هذا العنصر بفروعه الفقهية بحاجة إلى صدور لائحة تفسيرية تصور فيه الفروع الفقهية التي يمكن ورودها وتطبق عليها الأحكام الشرعية ويجري في ذلك بحوث وتعرض على المجمع في دورته القادمة إن شاء الله تعالى. فهل ترون هذا مناسبا؟ الشيخ علي. الشيخ محمد على التسخيري: التروي مطلوب يا سيادة الرئيس وعلى الاقتراح خصوصا إذا أدى إلى لائحة تفصيلية تلاحظ كل جوانب الأمر أمرا جيدا وأثني عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1631 الشيخ على السالوس: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا الشرط فيه حاليا أوراق مالية ظهرت في بعض البلاد الإسلامية وعندما صدرت هذه الفتوى كان لها أثرها فأعتقد أن حذف: على أن يكون الغالب كذا حذف هذا قد يؤثر فلو أبقيناه وأضفنا ما تريدون بحيث لا يظهر كأن المجمع عدل عن هذا والأوراق المالية الآن تطرح فعلا وعندما ناقشنا المسؤولية هذه الأوراق المالية قرأنا لهم هذا وكنا نريد التعديل في ضوء هذا فلو أبقيناه وأضفنا ما تريدون ولكن أرجو ألا يحذف هذا حتى لا يؤثر بالنسبة للأوراق المالية التي بدئ طرحها في بعض البلاد الإسلامية. الشيخ عبد السلام العبادي: سيدي الرئيس، أشكرك على هذا الاقتراح لأنه في الواقع يغطي فروعا أخرى لو اكتفينا بثلاثة عناصر بدون هذا التعقيب لأوقعنا الأمر في إشكال وأذكر من الإشكالات الواضحة في هذا المجال فيما إذا ما تحول جزء من المبالغ المكتتب بها إلى أعيان ومنافع فالنص على كونه غالب يعني أن نلزم صاحب هذه الأعيان والمنافع بالإضافة إلى المبادلة المتماثلة مع النقود والديون أن نلزم بيعها بالقيمة الاسمية وفي هذا قد يوقع ظلم محض قد يكون هذا هو المدخل بإشكالية الربا فاقتراحكم يعطينا فرصة لأن نستقصي كل الفروع المحتملة في هذا المجال وأن يعطينا مجال تأصيل فقهي لتفصيلات هذه القضية وبالتالي يكون قرارنا في المستقبل قرارا يغطي جميع التفصيلات ونظرا لخطورة الأمر وخشية من أن نوقع الموضوع في لبث في التطبيق لا بد في الواقع من أن يؤجل البت في هذه التفصيلات لأهميتها. شكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1632 الشيخ أحمد البازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم، الحقيقة إذا كان إيراد التأجيل من فلا مانع ولكن لا نحذف أي فقرة من ج ما دام الموضوع يريد يؤجل فلماذا الحذف نبقي الفقرة بكاملها وتدرس الأمور الفقهية الأخرى ويعمل اللائحة التفسيرية وتعرض على مجمعكم. الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي: الحقيقة كنت أريد أن أتكلم بنفس ما تكلم فيه الأستاذ أحمد وأؤكد هذا وأن يبقى الوضع على حاله إذا تصدر المذكرة. فحذف هذه الفقرة الأخيرة فيه ضرر نحن نريد وضع الضوابط لهذه الفقرة فإذا وضع الضوابط يكون في المذكرة أما الحذف فسيخل بالهدف الأصلي الذي قامت عليه الأحكام الشرعية. الأستاذ سامي حمود: في الواقع الذي أراه أن الاقتراح الذي تفضلتم به في محله ويحل إشكالا يمنعنا من الاستعجال في الحكم على المسألة بإدخال قيد قد لا يكون تطبيقه موافقا للحكم الشرعي لأن الموجودات لو فصلناها تفصيلا حسابيا وافترضنا أن لدينا موجودات بمائة دينار نصفها خمسين دينارا من النقود وثلاثين دينارا من الديون وعشرين دينارا من الأعيان وجئنا نطبق عليها البيع بالتساوي فالخمسين والثلاثين التي هي نقود وديون قطعا المساوي لها هو الثمانون لا غير ولكن العشرين الأعيان قد تساوي خمسة وعشرين وقد تساوي خمسة عشر فهما عندما أدفع المائة إما أكون أخذت حقا ليس لي أو حقا ناقصا أو حقا زائدا فالزيادة في السعر هي في مقابلة الزيادة أو النقصان في الأعيان وليس في النقود، يضاف إلى ذلك موضوع المخارجة من التركات والتي هي صلح أو بيع على مدى وسواء سميت صلحا أو بيعا طالما أنها كانت بعوض فإنها تأخذ حكم البيع وجد من سؤال العديد من أهل العلم والمعرفة بالأحكام الشرعية. إن هذه المسألة تحتاج إلى بحث هل هناك قيود في التركة أن تكون مكوناتها يغلب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1633 عليها الأعيان أو أن الفقهاء لم يقيدوا ولم يحددوا؟ وكذلك أمر آخر تساءلت به مع بعض الفقهاء وهي في المضاربة لما يلحق بهما من ضرر فرب المال قد يخسر في رأس المال في الوقت غير المناسب إذا أضيفت هذه المضاربة والعامل قد يخسر جهده فتجنبا بهذا الضرر يتفقان مع شخص آخر ثالث يأتي ليشتري حصة رب المال في رأس مال المضاربة ووجدنا أن هذه المسألة لا يجوز الاستعجال فيها بل لا بد فيها من الرجوع إلى مصادر الكتب الفقهية لتتبع ما قال به الفقهاء والاستئناس والاسترشاد بآرائهم من أجل ذلك وجدت أن الاقتراح الذي طرح هنا بأن نقف بأن هذا يكون هذا البيع وفقا للسعر المتراضى عليه وطبقا للأحكام الشرعية، ومعنى طبقا للأحكام الشرعية أنها تطبق النصوص التي تمنع الجور وتمنع التحايل وتمنع أي خروج عن هذه الأحكام ثم لفت النظر إلى أن هذه المسألة تحتاج إلى مذكرة تفسيرية تتعلق ببحث هذه المسائل التفصيلية التي تتعلق بها وحتى لا يترك أمر التفسير لكل شركة أو مؤسسة تفسر على خاطرها وعلى عاتقها بأن تعود هذه المذكرة التفسيرية إلى مجمعكم الموقر لينظر فيها. إنها تتفق مع القواعد الشرعية ولها أسس نستفيد بها جميعا ولذلك الاقتراح في أن نتجاوز هذا النص الذي يحتاج إلى دراسة ومناقشة وأن نرجع إلى الأصل والنبع الذي نستقي منه في هذا المجال يحقق المقصود وإني أقترح أن نتفق على هذا الرأي والله الموفق لما فيه الخير. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: لما قاله الدكتور والاقتراح الذي تقدمتم به الشيخ محمد تقي العثماني. والحقيقة ما قاله الدكتور سامي يحل الإشكال وما دمنا نقول: إن التبادل يقوم طبقا لأصل الأحكام الشرعية فهذا الإجمال يكفي إلى أن ننتهي أمرا نبت فيه. الرئيس: في الواقع لا شك أن سبيل التحوط هو على بقاء هذا الشرط لكن سبيل التحوط الأوسع طالما أننا قلنا على طبقا للأحكام الشرعية فلا أظن أن جهة تستطيع أن تأخذ هذه الفقرة، وتعمل بها ذمة هذا المجمع ما لم تصدر المذكرة التفصيلية التي تشمل عنصري التصور وتطبيق الحكم الشرعي، فإذا رأيتم الآن أنتم بين خيار واحد من خيارين، إما أن نبقي على هذا الشرط كما قررتم في الجلسة الصباحية، أو تأخذوا بوجهة النظر الأخيرة فالأمر متروك لكم. الشيخ أحمد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1634 الشيخ أحمد بازيع الياسين: أتحفظ على حذف الفقرة ما دامت المسألة محولة إلى الشريعة الإسلامية لا خير من بقائه والخوف من بقائه. الجماعة الذين يريدون حذف هذه العبارة لماذا يتخوفون من بقائها إنما هي في الحقيقة هي الأصل في سند ولو أزيلت هي لأصبح أملنا كله ربوي. الرئيس: إذن ما رأيكم فيما لو جمعنا بين الأمرين في أن تبقى وأن نضيف بأن يصدر مذكرة تفسيرية تجمع القصور وبيان الوجه الشرعي في الجلسة القادمة. ترون هذا مناسبا. الشيخ عبد السلام داود العبادي: أولا: فيما يتعلق بهذه القضية نحن لدينا صورة رابعة بيَّنَّا فيها دون بحث وهي صورة إذا كانت الأعيان والمنافع مغلوبة فهذه لم نتعرض لها. عندما تنظر وتدقق فيما هو أمامنا قلنا في حالة كون مال القراض المتجمع كله نقودا أحكام الصرف كله ديون أحكام الديون. الأعيان والمنافع غالبة بالسعر المتراضى عليه فإذا كانت مغلوبة ما الحكم؟ الواقع لم يعارض المجمع هذه النقطة. فالأبد في الواقع قضية دخول الأعيان في الموضوع سواء أكانت غالبة أو مغلوبة من أن نترك لبيان شاف يغطي كل تفصيلاتها أما كونه البت كونها غالبة كونها مغلوبة تلحقها بالصرف وإلا تلحقها بالديون وإلا كيف فإذن بتبحث. فإذن لماذا نستعجل الأمور هنا ونبت في قضية وقرينتها الملاصقة لها لم نبت فيها. ثم نحن نخاطب مسلمين وإذا قلنا لهم طبقا للأحكام الشرعية لا بد أن يعودوا ويلتزموا بالأحكام الشرعية. فإذا كان الأمر مقطوعا به في الشريعة فلماذا تحذرون وتخافون من الإحالة على الأحكام الشرعية إذا كان الأمر مقطوعا به أما إذا كان غير مقطوع به إذن فنكون في سعة من أمرنا. ثم قضية نقطة النظام الأخرى هو أن يطرح الأمر للتصويت على مجلس المجمع فيما يتعلق بهذه النقطة وغيرها وشكرا. الشيخ عبد الله بن منيع: في الواقع إنني أؤيد وكان الهدف من تأييدي لهذا الاتجاه هو أن الموضوع يحتاج إلى مزيد من الدراسة ويحتاج إلى مزيد اطلاع على أقوال أهل العلم في مختلف المذاهب فيما يتعلق بحكم بيع رب المال مال للمضارب أو لغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1635 الرئيس: شكرا. في الواقع أنا بَدَتْ لي نقطة بسيطة إذا اقتصرنا هنا قلنا طبقا للأحكام الشرعية وفي فقرة (ب) قلنا طبقا لأحكام التعامل بالديون وفي فكرة (أ) قلنا طبقا لأحكام الصرف فنحن في فقرة (أ) حددنا الحكم وفي فقرة (ب) كذلك أما في فقرة (ج) ما بينا الحكم وإنما جعلناه عاما. معنى هذا أن فقرة (ج) لم يبت فيها إذا حذفنا هذا الشرط لأن المفروض أن نقول من (أ، ب، ج) طبقا للأحكام الشرعية أو طبقا للوجه الشرعي لكن طالما أننا بينا في الفقرتين الأولى والثانية. الأولى طبقا لأحكام الصرف، والثانية طبقا للتعامل بالديون فاعتبارهما منتهيتين، أما الفقرة الثالثة فلو أننا قلنا: طبقا للأحكام الشرعية على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعيانا ومنافع فيكون البت فيها إذا حذفنا هذا الشرط وقلنا: طبقا للأحكام الشرعية فليس فيها بت يستفاد منه. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: يكون البت بعد صدور اللائحة. الرئيس: بعد صدور اللائحة لكن الفقرة التي أشار إليها الأستاذ سامي هي كغيرها من الفروع والتصورات التي يمكن أن تُجرى حولها دراسة وترد في المذكرة التفسيرية فعلى كل إنكم الآن بين خيارين إما أن تبقى الفقرة على ما هي عليه أو أن تحذف ونضيف العبارة التي تتضمن دور المذكرة التفسيرية في الدورة القادمة. الشيخ إبراهيم بشير الغويل: سيدي هي كما يقول: وطبقا للأحكام الشرعية التي سترد من لائحة تصدر أو كذا ما المانع بعض هي اللائحة ستطبق توضح الأحكام الشرعية التي ترد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1636 الشيخ عبد الودود: سيدي الرئيس الواقع تتكلمون على أحكام الصرف مستقلة وعلى أحكام البيع مستقلة وعن بيع الديون مستقلة وعلى أحكام اجتماع البيع والصرف حقيقة واحدة ويفرقون بين ما إذا كان صفة الصفقة بيعا أو صرفا ماذا يضرنا لو قلنا: طبقا لأحكام البيع والصرف قلنا في الأولى طبقا لأحكام الصرف وفي الثانية طبقا لأحكام تعامل الديون وفي الثالثة نقول طبقا لأحكام البيع والصرف على ما تحدد اللائحة التفسيرية التي ستحلق؟ الرئيس: اقتراح الشيخ إبراهيم لا يحل الموضوع لأننا لو قلنا طبقا للأحكام الشرعية التي ستصدر بها المذكرة التفسيرية مع غيرها من الفروع المتصورة ويصدر بها قرار في نظري ما فيها شيء. ما بتتنا في شيء. الشيخ أحمد بازيع الياسين: عندي ملاحظة. الرئيس: تفضل يا شيخ. الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم. الحقيقة الذي يجعلني أصر على هذا هو قولنا إذا صار مال القراض موجودات مختلطة، ثم قلنا نقود وديون وأعيان ومنافع فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقا للسعر المتراضى عليه وطبقا للأحكام الشرعية. هذه في الحقيقة تجعل الإنسان يبدأ بالعمل واحد يروح إلى شيخ ويقول له: ما رأيك في العملية ما دامت المسألة فيها نقود وديون وأعيان ومنافع ونريد الاستزادة؟ إذن نقول فقرة (ج) برمتها كلها يعني أن لا نضع فقرة (ب) فيما يتعلق بمسألة مال القراض المختلط من نقود وديون وأعيان ومنافع تعطل لمزيد من البحث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1637 الرئيس: طالما أنه لم يبت فيها فيجعل العبارة صياغة تشمل على أنه سيصدر مذكرة تفسيرية لما لم يذكر من الفروع بعد دراسة متأنية في الموضوع تجمع بين التصور وتطبيق الوجه الشرعي. الشيخ عبد السلام داود العبادي: يا سيدي الواقع قضية التداول قضية أساسية في موضوع الصكوك ولكنها لاحقة من حيث التطبيق يمكن لأي جهة تريد أن تصدر اليوم ما يتعلق بسندات المقارضة تصدر سندات المقارضة وتبدأ بإجراءاتها وتنفيذاتها وترتيباتها وقد يمر عامان أو يزيد حتى ندخل لقضية تحويل المشروع أو البدء في تحويل المشروع إلى أعيان ومنافع فما الضير في أن ننص على مبدأ التداول ثم بعد ذلك تفصيلات هذا الأمر وما يتعلق به كما اقترح الدكتور إبراهيم وكما اقترحتم أنتم في أول الأمر ما الضير في ذلك؟ نحن نرجو أن يعالج هذا الموضوع في إطار أسلم للمجمع أن يأخذ قرارا في قضية دون دراسة وروية ليس سليما. الشيخ عبد الستار: بسم الله الرحمن الرحيم، في الحقيقة هنا أمامنا صورتان صورة مغطاة بالحكم الشرعي، وهو إذا كان الغالب في أموال القراض المختلطة أعيانا ومنافع فهذه يجوز فيها التداول وهذا هو الحكم الشرعي، فكلمة طبقا للأحكام الشرعية هنا تأكيد فقط، لكن تأخذ الآن إضافة تقول: إذا كان الغالب في هذه الحالة نقودا أو ديونا فيجوز التداول طبقا للأحكام الشرعية التي ستبين في لائحة، في صورة متاحة للعمل وصورة مؤجلة. الرئيس: الحقيقة أن هذا فيه جمع بين ما أقر في الجلسة الصباحية والفروع التي لم تدرس بعد هل هذا مناسبا؟ ننتقل إلى ما بعدها. الأستاذ سامي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1638 الأستاذ سامي حمود: (العنصر الرابع) أن من يتلقى حصيلة الاكتتاب في الصكوك لاستثمارها وإقامة المشروع بها هو المضارب أي عامل المضاربة ولا يملك من المشروع إلا بقدر ما يسهم به بشراء بعض الصكوك فهو رب مال بما أسهم به بالإضافة إلى أن المضارب شريك في الربح بعد تحققه بنسبة الحصة المحددة له في نشرة الإصدار وتكون ملكيته في المشروع على هذا الأساس. وأن يد المضارب على حصيلة الاكتتاب في الصكوك وعلى موجودات المشروع هي يد أمانة لا يضمن إلا بسبب من أسباب الضمان الشرعية. الرئيس: ننتقل لما بعدها. الشيخ إبراهيم الدبو: فضيلة سيدي رئيس المجمع إذا أردنا أن نعطى حق جواز شراء بعض الأسهم للمضارب وهو العامل خرج عن كونه مضاربا وأصبح أيضا شريكا، أصبح شريكا لأن المعروف أن المضاربة هو أن العامل يقدم جهده وليس له سهم في رأس المال إلا اللهم إذا أردنا أن نجمع بين شركتي العنان والمضاربة من البداية شريكا ومضاربا هذا ما أردت توضيحه وشكرا. الشيخ عبد الودود: شكرا سيدي الرئيس إن الجمع بين الشركة والقراض مسألة مختلف فيها خصوصا على مستوى المذهب المالكي فأبو القاسم يمنعها وأشهب يجيزها وإنما يمنع أبو القاسم اشتراط أحد العقدين من الآخر بأن تجمعهما صفقة واحدة أما إذا لاحقت إحدى الصفقتين بعد إبرام الأخرى فلا ضير من ذلك، ومن الخلاف يقول أبو بكر بن عاصم من خيرة الحكام: ومنع بيع مع شركة ومع صرف وقرض ونكاح يمتنع ومع مساقاة ومع قراضة أشرف الجواز عنهما. فهذه العقود لا يجوز عند أبي القاسم جمعها وهو المفتى به ويجوز عندئذ جمعها أما أن يلحق بعضها الآخر من غير أن يكون هناك اشتراط أو ترابط فأي ضير في هذا؟ أي ضير من أن يكون حامل القراض أول من بدأ كعامل ثم بعد ذلك اشتراك وصار شريكا وهو بالنسبة لحصته شريك وبالنسبة لحصص الآخرين عامل قراض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1639 الأستاذ سامي حمود: سيدي هذه النقطة التي يثيرها الأخ الدكتور إبراهيم، نقطة منصوص عليها في كتاب المغني لابن قدامة وهي اجتماع الشركة والمضاربة مع العامل في مال المضاربة وضرب بها مثلا بقوله: (فلو قال رب المال للعامل: خذ هذه الألف مني وضمها للألف من عندك واعمل بالألفين مضاربة على نصف الربح من حصة رب المال فإن هذا جائز وتكون شركة مضاربة والشركة بمفردها جائزة والمضاربة بمفردها جائزة والجمع بين الجائزين جائز فاجتماع دور العامل في أن يكون هو عامل في المال وشريك في حصة من رأس المال أمر يجيزه الفقه الإسلامي ويأخذ نصيبين: النصيب الأول حصته كعامل في مال المضاربة وهذا حقه والثاني حصته بنسبة ما يملكه من رأس مال المضاربة وهذا أيضا حقه وهذه من الأمور المقررة والمعروفة شكرا) . الشيخ الطنطاوي: بسم الله الرحمن الرحيم، هي ملاحظة شكلية في الحقيقة وهي أننا الآن نقرأ هذه التوصيات ولا شك أننا استطعنا أن نضيف إليها جديدا نافعا إن شاء الله فأنا أرى بأن هذه التوصيات تبقى كما هي ثم بعد ذلك هذه الإضافات ننقلها من الحاشية أو بحيث أن العنصر الأول مثلا نكتب في الأحسن وفي الجلسة الفلانية التي اجتمعت أضيف كذا وكذا وبهذا عندما في المستقبل نعود إلى هذا الأصل وإلى الاقتراحات التي جدت عليه تكون الصورة إن شاء الله أكمل وضوحا ويكون الحكم في المستقبل أقرب إلى الصواب. أنا أريد ما سجلناه هنا وكتبناه أيضا يكون مسجلا في كل التوصيات التي بين أيدينا إن شاء الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1640 الرئيس: شكرا يا شيخ، التوصيات هذه هي ما تعبر ما توصلت إليه الندوة والذي يراد الآن هو أن يعبر ما وصل إليه المجمع. الشيخ محمد سيد طنطاوي: أنا أريد أن أقول: يا دكتور العنصر الأول موجود في التوصية بهذه الصيغة وأضيف إليه كذا وكذا وكذا عندما نقرأها في المستقبل ونناقشها في المستقبل نستطيع أن نرجح، وأن نبين أكثر وأكثر وأكثر. الرئيس: هو الذي تفضلون به التقرير العام لعله يستوعب بعض الأشياء. الشيخ عبد الله طلبتم الكلمة يا شيخ. الشيخ عبد الله. الشيخ إبراهيم فاضل الدبو: السيد رئيس المجمع أنا لم أقل بمنع الجواز كما فهم الأستاذ سامي بين شركتي العنان والمضاربة لا مانع من ذلك ولكن أقول: لو أن المضارب دخل على أساس أنه مضارب ثم حصل له ربح وأراد أن يكون شريكا في رأس المال من الأساس كيف توزع الأرباح؟ فيما بعد هذا سؤال آخر كيف نوفق بين أن يكون شريكا يضمن ما يصيب المال من خسارة بالنسبة لما أسهم به من مال وبين كونه مضاربا لا يضمن ويصيب المال من خسارة وإنما يخسر جهده فقط؟ هذا سؤالي الذي أوجه. وشكرا. الشيخ وهبة الزحيلي: الشريك على كلا الحالين سواء كان شريك عنان أم كان عامل مضاربة يده يد أمانة يد ضمان وما دام أغلب الفقهاء يجيزون هذا العمل ولا إشكال فيه فما المانع من كثرة النقاش في هذا الموضوع نحن دائما نيسر ما يسره الفقهاء وإذا كان هناك خلاف ببعض المذاهب لا يفيدنا هذا الخلاف فلا داعي للإكثار في كثرة التعليقات على كل ذي وإلا يمكن يستغرق إكمال هذا الموضوع إلى نهاية هذا المؤتمر ما دمنا بهذه الطريقة. العمل جائز وما دام جائزا نسكت ونمشي. الشيخ صديق محمد الأمين الضرير: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1641 هذا الموضوع يجوز أن يفهم على غير هذا الفهم وهو الجمع بين الشركة والقراض وإن كانت هذه المسألة لوردت نص في الحديث الناهي عن صفقتين في صفقة ولكن فيما أعلمه من رجال الحديث أنه لم يأخذ أحد من الفقهاء بعموم هذا النص تكلموا عن بعض الجمع بين بعض الصفات وقد أشار أحد الإخوة إلى مذهب المالكية وذكرت بالتفصيل العقود التي لا يجوز الجمع بينهما وللمالكية قاعدة في هذا هي أن كل عقدين بينهما تناف لا يجوز الجمع بينهما لكن هذه المسألة في رأيي أنها تدخل في خلط مال المضارب خلط ماله بمال المضاربة وهذه مسألة واضحة في فقه المضاربة. والأصل عند الفقهاء أن المضارب ليس له أن يخلط مال المضاربة بماله إلا بإذن من رب المال إما إذن صريح أو تفويض وهذه المسألة معمول بها في كل البنوك الآن ودائع الاستثمار التي تدفع إلى البنوك الإسلامية لتستثمرها هذه البنوك تخلطها بمالها تخلطها بالحسابات الجارية وتخلطها برأس مال البنك نفسه وتستثمرها ثم توزع الأرباح بنسبة كل ماله وهذا مبني في الاستثمارات ودائع الاستثمار من نص صريح بأن رب المال يفوض بأن يستثمر ماله بما يحقق المصلحة وهذا التفويض يعطي المضارب الحق في أن يخلطها ماله وأن يخلط الأموال مع بعضها وأن يعطيها لشخص آخر مضاربة فهذه الفقرة أنا أفهمها من هذا القبيل. الرئيس: شكرا. هل ترون نمضي إلى ما بعدها؟ الأستاذ سامي حمود: ثالثا: مع مراعاة الضوابط السابقة في التداول: يتم تداول صكوك المقارضة في أسواق الأوراق المالية إن وجدت وذلك وفقا لظروف العرض والطلب ويخضع لإرادة العاقدين. كما يتم التداول بقيام الجهة المصدرة أو غيرها في فترات دورية معينة بإعلان أو إيجاب يوجه إلى الجمهور تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة بشراء هذه الصكوك بسعر معين. ويحسن أن تستعين في تحديد السعر بأهل الخبرة وفقا لظروف السوق والمركز المالي للمشروع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1642 الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي: هذه الفقرة ما هي إلا إجراءات لا تتعلق بشيء من الأحكام الشرعية فلا نجد فيها أي مخالفة فنسير على ما قررته. هي إجراءات. الشيخ إبراهيم الغويل: ولتناسق الإجراءات سبق أن أشرنا إلى الإذن أليس كذلك؟ أشرنا أن التداول يتم بالقيد في السجلات. الرئيس: نعم أشير في آخر العنصر الثالث. الشيخ إبراهيم الغويل: هنا ليس العملية تشير إلى ذلك تتوجه إلى أن التداول يتم بعيدا عن هذا وفي أسواق الأوراق المالية. فهل التناسق الإجرائي سليم؟ الشيخ وهبة الزحيلي: مع مراعاة الضوابط أول الفقرة مع مراعاة الضوابط. فما المانع؟ الشيخ إبراهيم الغويل: مع مراعاة المواد السابقة. الشيخ وهبة الزحيلي: الضوابط. قال: الضوابط ما فيه مشكلة. الشيخ عبد الستار أبو غدة: بسم الله الرحمن الرحيم. في الحقيقة هذا البند صحيح أنه إجرائي ولكنه يحقق ميزة في سندات المقارضة وهي ميزة الاسترداد والتي كان يعبر عنها في الأبحاث بالإطفاء وهذا هو الذي يعطي سندات المقارضة الثلاثة في التطبيق وتشجيع الجمهور على الإقدام في شراء هذا السند؛ لأنه حينما يحس بأزمة وحاجة إلى السيولة يستطيع أن يرجع إلى الجهة المصدرة ويبيع ما اشتراه ويسترجع قيمة اسمية ليس القيمة الفعلية السوقية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1643 فهذا هو عملية الاسترداد للسندات وهذا الاسترداد الأصل فيه أن يتم بإيجاب وقبول عند الاتفاق ولكن أستعين هنا بمبدأ وجد في المذهب المالكي وهو أنه يمكن أن يستمر الإيجاب قائما إلى أن يلتقي به القبول في المذاهب الأخرى الإيجاب يتقيد بمجلس العقد فإذا قال له: بعت، ولم يقل في المجلس: قبلت وخرج انتهى الإيجاب وسقط ولكن رأينا في المذهب المالكي كما جاء في الحطاب وهو أبو بكر بن العربي وغيره أنه يمكن أن يرتبط الإيجاب بمدة ويبقى الموجب ملتزم طيلة هذه المدة، ويكون الخيار خيار القبول للطرف الآخر فالجهة المصدرة هنا حتى تسهل تداول هذه السندات ليس تداولا بين الناس خارج الجهة بل بينها وبين الذين حصلوا على هذه السندات فإنها تقول لهم طيلة مدة سنة: أنا مستعدة لشراء السندات التي بأيدي الجمهور وهذا نداء موجه للجميع على طريقة الجعالة ليس الإيجاب موجه لشخص محدد، وإنما لكل من يسمع هذا الإيجاب سواء سمعه مباشرة من الجاعل أو بلغه بلوغا، فالذين يريدون أن يستفيدوا ويستعيدوا مقدرتهم في السيولة يأتون إلى الجهة المصدرة ويقولون: نحن قبلنا هذا الإيجاب ومستعدون لبيع هذا السند إليكم بالقيمة السوقية بالسعر الذي تدخل فيه الخبرة حتى لا تكون العملية عملية قرض كما كان في بعض الأبحاث يسترجع القيمة الاسمية وإنما يسترجع القيمة السوقية بالغة ما بلغته بالتراضي قد يكون أزيد وقد يكون أكثر، وهذا هو الجانب الشرعي في هذه العملية هذه المادة مهمة جدا وهي التي تتميز بها سندات المقارضة. الرئيس: على كل الذي يظهر هو قضية الالتزام بالإيجاب مع التراضي، خلال مدة معينة. إذا قلنا الالتزام بالإيجاب مع التراضي لمدة معينة هل تناقض مع أصل من أصول الشريعة أو نصا صريحا من دلالته؟ الشيخ محمد علي التسخيري: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1644 أولا أود أن أوضح أن هناك اتجاها قويا لدى الإمامية بإمكان بقاء الإيجاب والقبول. الشيء الثاني أؤيد حذف هذه المادة لأنها إجرائية مهما كان وما دامت إجرائية لا يمكن أن تصدر كفتوى من مجمع فقهي. كفتوى فتوى المواد الأخرى يجوز لا يجوز أما هنا واقعة إجرائية هذه المادة، وطبعا الإجراء هنا أسلوب والأسلوب يحتاج إلى حكم شرعي ولكن لا يدخل في صميم الفتوى هنا فأقترح حذف المادة لكي تنسجم مع وضعها كفقهاء. الشيخ تقي العثماني: الحقيقة فيما أظن أن هذه المادة ليست إجرائية لأنها تعني بمسألة مهمة في صلب الموضوع وهو أن إطفاء السندات هل يكون بقيمة اسمية أو قيمة سوقية فتنص هذه المادة أن السعر إنما يتفق عليه بتراض الطرفين فهذا ليس إجرائيا محضا وإنما هو مسألة فقهية قد عرضت على المجمع.. إن الإطفاء يكون على قيمة اسمية أو قيمة سوقية فأرى إبقائها أولى. ولكن لي ملاحظة أخرى في هذه المادة وهي أن القيمة التي يحصل عليها الجهات المصدرة من جانب السهم تكون فيها بعض الأرباح وهذه الأرباح أيضا ينبغي أن توزع على رب المال وعلى المضارب جميعا فينبغي أن التنصيص في هذه المادة بأن القيم الأسماء الحاصلة تكون جزءا من الأرباح وتكون موزعة على كلا الفريقين. الشيخ عبد الحليم الجندي: النص في ويحسن أن نستعين في تحديد السعر بأهل الخبرة لما تركنا للمجهول أن يستعان بأهل الخبرة تركنا له بهذا إنما ممكن أن نستبدل بيستعان في تحديد السعر بأهل الخبرة لا يترك الأمر إلى غير المخاطبين بهذا الأمر واحد، اثنان مع مراعاة الضوابط السابقة في التداوي. ممكن الاستغناء عن هذا القيد لأنه مؤكد انتهى حكم هذا القيد ومؤكد يسري عليه الاستباحة. بهذا إحنا ماشيين نحو ضوابط تفسيرية بأن ليست النصوص قانونا أو لائحة لذلك حبذا لو كل ما قابلنا نص نصوغه صياغة نص قانوني. مجمل كلامي أن مع مراعاة السطر هذا يحذف ويحسن أن نستعين. ويقال ويستعان في تحديد السعر بأهل الخبرة. يبقى قررنا هذا ولم نجعل خيارا للآخرين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1645 الرئيس: هو جميل لكن هو لها مدلول العبارة هنا لأن لو قلنا ويستعان فيه إلزام. الشيخ عبد الحليم الجندي: وإذا قلنا: ويحسن لا يحسن لأهل هذه تريد استحسان. الرئيس: نفس العبارة الموجودة في السطر الثاني كما يتم التداول لو قيل كما يجوز التداول حتى تخرج من كونها إدارية إلى كونها شرعية وإشارة إلى أن هناك خلافا. الشيخ عبد الحليم الجندي: النص يبقى يجري التداول يتخذ عبارة يجري التداول. الرئيس: كما يجوز التداول وبقية من جهة مصدرة وهو لو يستعان. الشيخ عبد الحليم الجندي: الحقيقة أن التداول بمعرفة الجهة المصدرة هو الجديد في هذا النص. النص ليس إجرائيا النص ده فعلا يجيز للجهة المصدرة أنها تطرح أوراقها. ويستعان في تحديد السعر. الشيخ عبد الستار أبو غدة: الحقيقة ملاحظة فضيلة الشيخ تقي العثماني اسمحوا لي أن أقول إنها في غاية الوجاهة لأنها نبهت إلى أمر من أحكام المضاربة بأن هذا التداول الذي تم وقامت به الجهة المصدرة بصفتها مضاربا فإنها في حال حملة الصكوك وهذا العمل هو عمل تجاري استثماري يدخل في نشاط المضاربة فإذا نتج ربح فليس في جميع الأحوال ينتج ربح قد تبيع بسعر القيمة الاسمية نفسها إذا كان هو المناسب وقد تبيع بأنقص ولذلك أريد من فضيلة الرئيس صيغة هذه العبارة إذا أحببتم أن تسمعوها يضاف في آخر الفقرة هذه وإذا نتج ربح من هذا التداول يوزع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1646 الدكتور سامي حسن حمود: أين؟ الدكتور عبد الستار أبو غدة: في آخر الفقرة 3 بعد كلمة وللمركز المالي للمشروع. وإذا نتج ربح من التداول بين الجهة. الشيخ محمد تقي العثماني: قل إذا كان هناك فرق بين القيمة الاسمية والقيمة المتفق عليها فالربح الحاصل من هذا الفرق يوزع لماما. الشيخ عبد الستار أبو غدة: صح. هذا وإذا نتج ربح. الشيخ عبد السلام داود العبادي: هذا على فكرة من الناحية الشرعية. الواقع المقصود بالشراء هنا أن يصبح المضارب شريكا بقدر ما اشترى كما قلنا في بداية العنصر الرابع النقطة التي أثارها الدكتور الدبو أنه ليست قضية مضاربة قضية أنا كجهة مصدرة لي جزء من السندات هذه أملكها بصفتي شريكا فإذا أحببت أن أزيد حصتي في هذه الشركة لا بصفتي مضاربا، بصفتي شريكا من يرغب في المكتتبين ببيع سندات لي أنا أشتريها الحالي فما العلاقة بقضية الربح هنا. الشيخ عبد الستار أبو غدة: إذا اشتريتها بأقل من قيمتها حققت ربحا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1647 الشيخ عبد السلام داود العبادي: ولذلك قلنا ويستعان. لذلك أنا مع الرأي ويستعان. الشيخ عبد الستار أبو غدة: عفوا الشريك ليس له الحق في العمل. العمل هو من حق المضارب فإذا تم شراء فهذا الشراء جرى من المضارب بصفته مضاربا أما الشريك فهو مالك للمال ويده مكفوفة عن العمل حتى لو كان المضارب له مال فهو بالنسبة لماله ليس له أي إدارة. الشيخ عبد السلام العبادي: في الواقع الصكوك تتداول في السوق. فأنا جئت إلى السوق واشتريت لا بصفتي مضاربا إنما بصفتي شريكا أو بصفتي أرغب أن أزيد من حصتي في الشركة هذا لا علاقة له بالمضاربة عند توزيع الأرباح آخذ حصتي كشريك بنسبة ما أملك من السهم أو سندات. يعني القضية أتصور صار فيها شوية خلطة إنما هي الواقع يجب أن نفرق بين كونه مضاربا وكونه يشتري سندات باعتباره شريكا. الشيخ عبد الستار أبو غدة: لكن النشاط الذي قامت به الجهة قامت به من خلال قنوات العمل والإيجاب موجه للجمهور. بأي صفة توجه هذا الإيجاب للجمهور وتضمنه في النشرة وتستقبل هؤلاء لنشرة؟ هذا كله عمل المضاربة. الشريك يتداول من خارج السوق يعني يطلع لكن جهة الإصدار جهة معنوية. صحيح هي تملك بعض الأموال لكن هي الآن تقوم بدورالمضارب وتستثمر عن طريق استرداد بعض السندات. الشيخ عبد السلام داود العبادي: أعيد إلى ذاكرتك يا دكتور عبد الستار ما أصل هذا النص؟ أصل هذا النص أنه جاء إليه البنك الإسلامي للتنمية لأنه يعاني من مشكلة التداول، لأنه ما فيه أسواق مالية يمكن أن يتداول فيها سندات المقارضة التي ينوي أن يصدرها. فكيف نحقق سيولة وتداول بهذه الصكوك يعلن بعد دراسة للمركز المالي للمشروع ووفقا لظروف السوق يعلن أنه يمكن أن يشتري هذه الصكوك عند ذلك يصبح بالقدر الذي اشتراه شريكا في المشروع وليس مضاربا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1648 الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. إن هذا الفصل الثالث أعتقد أنه يجب إبقاؤه على ما هو عليه نظرا لما يلي: أولا: أن هذا يعطي حكما لقضية مختلف فيها. هل يجوز للمضارب أن يشتري أسهما في نهاية المضاربة. فهذه الفقرة أعتقد حكما شرعيا. الأمر الثاني: هل أنه بشرائه هذا هو مضارِب أم شريك؟ كما نعلم أن القضية هي مرتبطة أيضا بالنشاط الذي أراد أن تقوم به وزارة الأوقاف هي تعطي هذه الأراضي التي عندها أو تدخلها لتقيم عليها مباني بأسهم وهي تقصد في النهاية أن تعود كل هذه المباني إلى وزارة الأوقاف. فعندما تشتري وزارة الأوقاف أسهمها من المساهمين فهي قد اشترت ذلك بصفتها شريكا لا بصفتها مضاربا بمعنى أنها قد حلت محل هذا صاحب السهم ولم يزد لا ربح ولا خسارة على الشركة. فالشركة المضاربة بقيت برأس مالها كما هو وليس في القضية هي قضية بيع وشراء للأسهم حتى نقول: إن هذا نشاط قام به المضارب لا بد أن يعود على الجميع. ولكن هي المضارب الذي هو شريك في آن واحد من البداية أراد أن يزيد حصصه، فلا أعتقد أنه يوجد أنه أي وجه لحساب الزائد أو الفائض أو الناقص في مجموع أموال الشركة، أموال شركة المضاربة كما أن كلمة: يحسن أن تستعين لا بد أن يقول يحسن لأن هذه قضية وراءه أكثر منها أو زيادة تحفظ أكثر منها قدر إيجابية؛ لأن للشركة أو للجهة المصدرة أن تقول أنا أشتري هذا السهم بدينار دون أن تعود إلى شيء ما الذي يمنعه من ذلك، لأنها لم تلزم أحد أن يبيع لها بذلك الثمن، فهو إيجاب لكن حرصا على العدالة التامة قلنا: إنه يحسن أن يقع الاستعانة بتحديد السعر لأهل الخبرة. فهذا ما يبدو لي في هذا الفصل الثالث وأعتقد أنه من الخير أن يبقى كما هو سوى أن يبدل كلمة (يتم) بـ (يجوز) وكما (يتم) كما (يجوز) حتى يكون الحكم الشرعي واضحا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1649 الدكتور علي أحمد السالوس: بسم الله الرحمن الرحيم، هو نفس الكلام الذي قاله فضيلة أستاذنا أن العبارة تبقى كما هي لأن هنا. كما يتم التداول بقيام الجهة المصدرة، أو غيرها، يعني يمكن غير الجهة المصدرة أن تعلن هذا. ولذلك لا نستطيع أن نلزم أي جهة بأن تستعين بأهل الخبرة وإنما يحسن، فالعبارة في رأيي فعلا أن تبقى كما هي وأي تغيير في العبارة يخل بالمعنى فيما أرى والله أعلم. الدكتور منذر قحف: بسم الله الرحمن الرحيم، الحقيقة العبارة كما هي تعطي إمكان أن يتم هذا الشراء قيام الجهة المصدرة به أو غيرها تعطي ثلاث حالات: حالة أن الجهة المصدرة بصفتها مضاربة تشتري فإذا اشترت فالشراء نفسه لا ينشأ ربح إنما ينشأ الربح البيع بعده فلا مجال أيضا لنشوء ربح في هذه اللحظة بسبب الشراء. فلا مساغ في الحقيقة في النص في عملية الشراء هذه ولو اشترت بصفتها مضارب فلا مسار أن ينشأ ربح وبالتالي يقال: فما ينشأ عن ربح من ذلك لأنه لو اشترط ستسجل هذا بدفاترها بالقيمة الشرائية التي اشترت بها وتكون هذه الأسهم جزءا من موجودات المضاربة. عند التصفية النهائية يحتسب الربح أو عند إعادة بيعها ويمكن إعادة بيعها. الحالة الثانية: أن يشتري المضارب بصفته الشخصية وليس بصفته عامل مضاربة لأنه شريك يريد أن يطفئ وهذا هو مفهوم الإطفاء أن يستدل ملك الغير في هذه المضاربة بملك له وعند ذلك أيضا لا مساغ للكلام عن الربح لأنه هذا مفهوم الإطفاء الذي هو القصد الأساسي فيها. والحالة الثانية التي ذكرها الدكتور السالوس أن يكون طرف آخر الذي يشتري. فجميع الأحوال حقيقة أرى النص يجب أن لا يغير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1650 الرئيس: ترفع الجلسة لأداء الصلاة ثم نستأنف إن شاء الله تعالى. الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا الاختلاف الذي أثاره اقتراح الدكتور عبد الستار يمكن حسمه إذا عرفنا أن هذه الجهة المصدرة عندما أرادت أن تشتري الصك المعروض للبيع هل ستشتريه من مال المضاربة أم من مالها الخاص؟ إذا كانت ستشتريه من مال المضاربة فهو للمضاربة ويعتقد أي مال اشترته هذه الجهة للمضاربة ولا إشكال في هذا. ولكن الظاهر لي أن هذا ليس هو المراد وهذا هو الذي أوقع الدكتور عبد الستار في الإشكال. إذا كانت هذه الجهة المصدرة تشتريه من مالها الخاص، ويؤيد هذا كلمة (أو غيرها) الجهة المصدرة أو غيرها، هي تشتريه من مالها الخاص. هنا تأتي مسألة شراء المضارب شيئا من مال المضاربة لأنه السهم أو الصك المعروض للبيع هو مال مضاربة. فأراد المضارب أن يشتري بمال المضاربة لنفسه وهذه تحدث عنها الفقهاء، كذلك أن رب المال إذا أراد أن يشتري شيئا من مال المضاربة لنفسه. وفيما أذكره أجازه وهي مسألة خلافية ولكن فيما أذكر جائز عند بعض الفقهاء، فعلى هذا الاعتبار لا محل للقول بمسألة توزيع الربح أو الاشتراك في الربح، هو المضارب اشتراه لنفسه وسيضاف إلى نصيبه إذا أراد أن يضيفه إلى أموال المضاربة. وهذه وجهة النظر التي قالها الدكتور العبادي وأعتقد أن هذا هو المقصود هنا. فإذا كان فيه لبس ينبغي أن يوضح لئلا يلتبس بأن المضارب يشتري بمال المضاربة. هذه نقطة. النقطة الثانية التي أشار إليها الشيخ المختار: أنه ما دامت هذه المسألة وأيضا ذكرها الدكتور عبد الستار ووافقه عليها التي هي مسألة مذهب المالكية في هذا يجب أن ينص على الحكم وهو الجواز. يجوز أن يتم التداول بقيام الجهة المصدرة أو غيرها في فترات دورية معينة بإعلان إلى آخر وإذا كان وجدنا مكان وضعنا فيهم ما يزال اللبس من أن هذه الجهة المصدرة تشتري من مال المضاربة قد يكون أفضل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1651 بقي بعد ذلك ما جاء في أول هذه العبارة وهي مسألة أسواق الأوراق المالية. فهل نحن مطمئنون إلى أن التداول في هذه الأسواق المالية يجري بحسب الأحكام الشرعية؟ أعتقد أن أقل شيء نفعله هو أن نقيده إذا أردنا أن نبقيها مع أن في نفسي منها شيئا. الشيخ محمد تقي العثماني: الواقع أن المسألة التي أشرت إليها وهي توزيع الربح بين الجهات المصدرة وصاحب السهم، إنما هي مبنية على مسألة أخرى وهي هل يجوز شراء رب المال من المضارب وشراء المضارب من رب المال أو لا؟ فقد ذكره الفقهاء في كتبهم. والذين أجازوه على أن في هذا البيع والشراء يعتبر رب المال والمضارب كل واحد منهما أجنبيا عن الآخر. فلو فرضنا أن القيمة الاسمية للسند هي مائة ريال مثلا وصارت قيمته السوقية عند الإطفاء مائة وعشرين ووقع الاتفاق على الشراء بهذه الكمية فحينئذ العشرون ريالا هذه هي ربح مال المضاربة لأن المشتري أجنبي في هذا البيع والشراء عن المضاربة فهو نفع لمال المضاربة وينبغي أن يوزع على هذا الأساس بين رب المال وبين المضارب فهو نفع لمال المضاربة وينبغي أن يوزع على هذا الأساس بين رب المال وبين المضارب وقد صرح الفقهاء بذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1652 وعندي نص من بدائع الصنائع يقول الكاساني رحمه الله تعالى: (إذا اشترى المضارب بمال المضاربة متاعا وفيه فضل أو لا فضل فيه، فأراد رب المال بيع ذلك فأبى المضارب وأراد إمساكه حتى يجد ربحا فإن المضارب يجبر على بيعه إلا أن يشاء أن يدفعه إلى رب المال لأن منع المالك عند تنفيذ إرادته في ملكه لحق يحتمل الثبوت ولعدم هو ربح لا سبيل إليه ولكن يقال له – هذا هو المهم – ولكن يقال له إن أردت الإمساك فرد عليه ماله وإن كان فيه ربح يقال به ادفع إليه رأس المال وحصته من الربح ويسلم المتاع إليه. فهذا هو الذي جعلني أقول إن الربح الحاصل نتيجة هذا البيع والشراء ينبغي أن يوزع على كليهما. والله سبحانه أعلم. الدكتور حسن عبد الله الأمين: شكرا، السيد الرئيس، أضم صوتي بقوة إلى ما ذكره الأخ الشيخ تقي وأشير في هذا الشأن إلى الفقرة سبعة من هذه التوصيات. تقول هذه الفقرة: (يستحق الربح بالظهور وبملك بالتنضيض أو التقويم ولا يلزم إلا بالقسمة، وبالنسبة للمشروع الذي يدر إيرادا أو غلة فإنه يجوز أن توزع عليه ولا يوزع على طرفي العقد قبل (التنضيض) أهو ما يوزع على طرفي العقد قبل التنضيض (التصفية) يعتبر مبالغ مدفوعة تحت الحساب. معنى ذلك أن كل عائد من المشروع المشترك بهذه الحصص – أسهم المضاربة كل حصة تكون قيمتها الأساسية هي الأصل وأي قيمة زائدة أو أي جزء زائد على قيمة البيع السوقية تعتبر الزيادة ربحا ولا يملك في النهاية إلا بالتصفية وما يدفع يعتبر شيئا مقدما خاضعا للمحاسبة في النهاية عند التنضيض. فمعنى ذلك أن العمل مستمر وأن أي زيادة في القيمة الاسمية على القيمة الأصلية هي ربح ويشرك فيه المضارب كما يستحقه رب المال. هذا أمر واضح بينما نقرأ هذه الفقرة. لذلك أعتبر أن القيمة الاسمية الجديدة ما زاد عن القيمة الأولى هو ربح ويشترك بين رب المال وبين المضارب سواء إن كان المشتري لهذه الحصة هو المضارب هذا أو شخص آخر فهي ربح مشترك بينهما ولا بد أن يؤخذ فيه حصته بالنسبة المحددة. وشكرا. الشيخ عبد الحليم محمد الجندي: العبارة تعطي معاني ليست مقصود التي كتبها. نحن نقول يتم تداول صكوك المقارضة في أسواق الأوراق المالية إن وجدت، وذلك وفقا لظروف العرض والطلب ويخضع لإيراد العاقدين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1653 كما يتم التداول بقيام الجهة المصدرة أو غيرها. كما يتم التداول هنا ممكن جدا أن تكون كما يتم نفس التداول لأن العبارة غير واضحة. ممكن تكون كالآتي: (وللجهة المصدرة كذلك أو غيرها في فترات دورية معينة القيام بإعلان أو إيجاب، نشيل إعلان ونقول إيجاب ونشيل إيجاب ونقول إعلان كلاهما إيجاب ثم تلتزم بمقتضاها خلال مدة محددة بشراء هذه الصكوك بسعر معين ويستعان في تحديد السعر بأهل الخبرة. لتكون أمرا تكليفيا بالاستعانة بأهل الخبرة ولا يكون خيارا متروكا للذي سيدلي بهذا. ففي تعديلات مطلوبة. أمامي كذلك أو غيرها. عندكم فيها غيرها تجري هذا الإيجاب. إذا كان أي شخص ممكن يتقدم بطلب لا يبقى، لا يتم، أي شخص آخر أجنبي غيرها لا يبقى مثل الجهة المختصة يعني هنا للجهة المصدرة. لازم تكون واضحة والنص على هذا حقيقة لا يعطي المعاني المطلوبة. الشيخ محمد سالم عبد الودود: سيدي الرئيس، أريد فقط أن أستوضح إذا كانت الجهة المصدرة هي التي ستشتري السندات أو الحصص أو الأسهم باسم شركة المضاربة فإنها ستكون بائعة ومشترية في نفس الوقت؛ لأن هذه الحصص مملوكة لشركة المضاربة وإذا كانت هي مشترية بصفتها شركة مضاربة فإنها ستشتري من نفسها إلى نفسها وهذا غير معقول لأن البائع والمشتري لا بد أن يكونا اثنين. أما إذا كان لإنسان عامل المضاربة فيشتري بنفسه ولحسابه الخاص ليسهم في أصل الشركة أو ليزيد إسهامه في أصل الشركة فهذا شيء آخر. الشيخ عبد السلام داود: إذا سمح السادة العلماء أريد فقط أن أنبه لقضية أن المكتب الذي هو مالك صك المضاربة هذه حصته فيما يمثل هذا الصك في المشروع فإذا قبل عملية الأبحاث التي أعلنت وجاء فباع صكه فهو يبيع حصته في هذا المشروع فإذا كانت هذه الحصة كلفته مائة دينار مثلا وباعها بمائة وخمسين الربح له والذي شرى هذا الصك سواء كانت الجهة المصدرة أو شخصا آخر هو يحل محله في ملكية هذا الصك كما تفضل أستاذنا السلامي وأشار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1654 النقطة الآن التي تفضل بالإشارة إليها أستاذنا الصديق إذا كان هذا الذي اشتراه بمال المضاربة واضح أن العملية أصبحت جزءا من عملية المضاربة لا يتحقق فيها ربح، لا بد أن تسجل في الدفاتر فإذا تحقق فيها ربح قطعا لا بد أن تدخل في مال المضاربة كربح. فلذلك النص فقط إذا أريد الإيضاح مزيد من الإيضاح نقول: إنه من ماله أو من مال غير المضارب فيحل الإشكال رغم أن العبارة أصلها ما دام أضيف إليها أو غيرها فمفهومها أنها ليست من مال المضاربة. وإنما شخص يريد أن يحل محل مالك في ملكية صك من هذه الصكوك. وممكن أن يكون هذا المالك شخصا غير الجهة المصدرة شريكة في المشروع. فما فيه لبس لو تدبرنا في العبارة ليس فيها لبس إنما يمكن لزيادة التحوط أن يضاف ما اقترحه الشيخ الضرير. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم، أشكر الدكتور العبادي لأنه وضح ما أردت وكنت حسبت أن كلامي غير واضح مما أوقع الأخ الدكتور التقي في الاعتراض عليه بعبارة واضحة مذهب الحنفية هو بدأ إذا اشترى المضارب بمال المضاربة فالنص الذي قرأه الدكتور تقي في أن المضارب اشتري بمال المضاربة، اشتري مالا ثم اختلف هو ورب المال فقال له رب المال: بع. وقال هو: ولا أرى وجها للبيع؛ لأن الأسعار ستغلو وهذه مسألة تحدث عنها الفقهاء وما قرره الدكتور تقي هو رأي الحنفية. وأوافقه عليه إلى آخره لكن المسألة خلافية المالكية يقولون حتى فيه رأي، وأظنه رأي الحنابلة يقولون القول للمضارب لأنه هو الذي له حق التصرف. وتوسط المالكية فقالوا القول ليس لأحدهم وإنما نلجأ فنسألهم فإن قالوا: الأفضل أن نبيع الآن بعنا وإلا لم نبع. فهذه المسألة تختلف عن المسألة التي نحن بصددها. أما إذا اشترى من ماله الخاص هذه هي التي تدخل في شراء المضارب شيئا من مال المضاربة. فيه اعتراض أثاره بعض الإخوة أنه كيف يشتري من نفسه لنفسه أو كيف يشتري بمال المضاربة؟ الجواب عن هذا الشخص الذي أراد أن يبيع نصيبه قد يرى المضارب أن من المصلحة أن يشتريه للمضاربة ولا يترك شخصا أجنبيا يشتريه وفي هذا مصلحة للمضاربة لا نمنعه من هذا يشتريه من مال المضاربة ويبقى في أموال المضاربة فكأنه خرج هذا الشخص وتوزع نصيبه على الباقين لأنه اشترى بأموالهم. ليس في هذا عيب فيما أرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1655 الرئيس: إذا أردتم أن النص من خلال المداولات يقرأ. الشيخ عبد الستار. الشيخ إبراهيم بشير الغويل: التعبير يقول: وللجهة المصدرة أو على أي يكون التعبير كما يتم التداول بقيام الجهة المصدرة. هل هناك تعبيرات مختلفة بين الجهة المصدرة وبين من يتلقى حصيلة الاكتتاب أم هما واحد؟ لأن في العنصر الرابع نقول: (إن من يتلقى حصيلة الاكتتاب في الصكوك هو المضارب) . فهل من يتلقى حصيلة الاكتتاب هو هو أم من يتلقى حصيلة الاكتتاب شخص آخر والمصدر شخص آخر؟ ثم إذا كانت هذه الجهة تعلن إيجابا لكي تشتري فهل تشتري بصفتها تمثل جهة قائمة بذاتها أم أنها تشتري لمجموع المضاربين؟ هذه كلها صور تتفرع عن هذا النص ولا بد أن تحدد) . الشيخ عبد الستار أبو غدة: بسم الله الرحمن الرحيم، التعديل الذي يدخل بعد العنصر الرابع أو ثلاثة بعد التعديل: يجوز تداول صكوك المقارضة في أسواق الأوراق المالية إن وجدت وذلك وفقا لظروف العرض والطلب ويخضع لإرادة العاقدين. كما يجوز أن يتم التداول بقيام الجهة المصدرة، ونشطب كلمة أو غيرها الآن. الشيخ محمد المختار السلامي: أعتقد أن وجودها ضروري. الشيخ عبد الستار أبو غدة: نشطبها الآن فقط حتى العبارة ندخل عليها تعديل: كما يجوز أن يتم التداول بقيام الجهة المصدرة في فترات دورية بإعلان أو إيجاب يوجه إلى الجمهور تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة بشراء هذه الصكوك يضاف هنا: (من مال المضارب) بهذا أخرجنا كلمة (أو غيرها) الآن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1656 الشيخ أحمد بازيع الياسين: المسألة الحقيقية يظهر لي أن القضية غير واضحة للسادة الأفاضل فأنا أدعو الأخ سامي أن يوضح العملية بمثل؛ لأنه في الحقيقة نريد توضيحها ويظهر أن المسألة غير واضحة. لو أذن السيد الرئيس بأن يطلب من الأخ سامي توضيحها بمثل؛ لأن الأصل أولا: الغير يجب أن تبقى أنا أميل لأن تبقى كما هي. المسألة الغير ضرورة لأننا نبيع على الغير. أما بالنسبة لأستاذنا الشيخ الضرير يقول: أسواق الأوراق المالية صحيح يجب أن تكون في أسواق الأوراق المالية ولكن عندما تتداول في تلك الأسواق وتتداول حسب الشريعة الإسلامية وليس حسب نظام البورصة. فلو أذن للأخ سامي أن يشرح لنا الموضوع. الرئيس: على كل كمل يا شيخ عبد الستار. الشيخ عبد الستار أبو غدة: كما يجوز أن يتم التداول بقيام الجهة المصدرة في فترات دورية معينة بإعلان أو إيجاب يوجه إلى الجمهور تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة بشراء هذه الصكوك من مال المضاربة بسعر معين ويحسن أن تستعين في تحديد السعر بأهل الخبرة وفقا لظروف السوق والمركز المالي للمشروع. كما يجوز هذه إضافة الإعلان عن الالتزام بالشراء من غير الجهة المصدرة على النحو المشار إليه. وممكن أيضا نضيف عند كلمة الأسواق المالية: بالضوابط الشرعية المعتبرة. حتى نخرج عن نظام البورصة. كما يجوز الإعلان عن الالتزام بالشراء من غير الجهة المصدرة على النحو المشار إليه. يعني إعلان موجه للجمهور خلال مدة إلى آخره. وكلمة من مال المضاربة حتى يكون الربح داخلا في التوزيع. إذا كان من غير مال المضاربة صارت هي جهة غير الجهة المصدرة دخلت في الغير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1657 الشيخ أحمد بازيع الياسين: ليس هناك أموال للمضاربة باقية. الشيخ عبد الستار: يعني إذا كانت هي جهة مصدرة إذن هي هي مضروب فمن مال المضاربة وإذا كانت هي تشتري من غير مال المضاربة هي صارت غير الجهة المصدرة لها صفة أخرى. الشيخ محمد المختار السلامي: يا سيدي إذا كان من مال المضاربة هذا نشاط قام به المضارب فلا ندخل فيه ولا نتحدث فيه وإذا كان من غير مال المضاربة هذا الذي نود أن نتحدث فيه. لا نتحدث بناء على كل ما يقوم به المضارب في الأعمال من أعمال إذا رأى أنه من الخير أن يقوم به لفائدة المضاربة قام به. الرئيس: صاحب الاقتراح موجود الشيخ الصديق. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: الدكتور العبادي هو الذي قصرها على حالة واحدة. الأمران جائزان يعني يجوز للجهة المصدرة أن تشتري من مال المضاربة وفي هذه الحالة يكون هذا الجزء الذي اشترى تبع مال المضاربة. ويجوز لها أن تشتري من مالها الخاص ويكون هذا السهم ملكا لها. فكلاهما جائزان إن أردتم أن تذكروا الأمرين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1658 الدكتور سامي حسن حمود: السيد الرئيس، الواقع أن عمل المضارب في مال المضاربة هو عمل محدد في المشروع الذي أعلن من أجله التداول والإعلان بالالتزام بسعر معين ليشتري معناه يقوم به بالنيابة عن مال المضاربة، فلا يملكه أصلا. إنما وجد عرضا وأنه اشترى بمال المضاربة ليزيد فهو جائز. فالأصل أن يكون الإعلان من الجهة المصدرة أنها تشتري لنفسها من مالها ليتم تصفية المشروع لصاحبها. وهذا هو البناء الذي بنيت عليه العملية؛ لأنه جهة تدعو المواطنين ليكتتبوا في مال تقوم بإقامة مشروع في هذا المال، هؤلاء المكتتبون إما أن يتبايعوها فيما بينهم – وهذا السندات – عن طريق سوق الأوراق المالية إن وجدت فتكون هذه العملية خارج نطاق المضاربة إطلاقا أو أن القائم بأمر المضاربة الذي أعلن وطرح هذه السندات للبيع ليتوفر لديه مال يستطيع أن يشتري من هذه السندات ما يمكنه سويا لتنزيل القيمة تدريجيا إلى أن ينتهي بتملك المشروع بكامله. وهذا هو المقصود الأصلي في العملية. أما أن تقول بأنه يأخذ من مال المضاربة شيئا ليشتري فليس هذا الاختصاص لذلك الصيغة بحالتها التي كانت عليها مع تبديل كلمة (بـ) يجوز (وتبقى) غيرها: في محلها لأن من الممكن جدا في حالة عملية: جهة الاختصاص التي هي وزارة الأوقاف لا تستطيع أن تشتري فيأتي بنك إسلامي أو جهة مالية إسلامية تريد أن تتعهد بالشراء لتساعد في نقاش هذا المشروع فما المانع أن يبقى؟ وهذا هو مقصودنا من تداول أدوات استثمارية مالية إسلامية في العملية. أستأذن في نقطة الربح لتوضيح النقطة التي أشار إليها الأخ الدكتور تقي في موضوع الربح هناك في الربح نوعان: الربح رأس المالي والربح الجاري. الربح الرأسمالي ليس لعملية المضاربة علاقة بها، ومثالنا ذلك على التبسيط في أسهم الشركات المساهمة فقد يكون السهم بمائة ريال ويباع بين الناس بمائتين لا تؤثر هذه المائة الزائدة على موجودات الشركة لا بالزيادة ولا بالنقصان؛ لأن الشركة تسجل في سجلاتها هذه المائة الأصلية. أما ما تحقق من الربح فهو للبائع وللمشتري بالزيادة والنقصان. هذا بالنسبة للربح الرأسمالي الذي ينتج عن التصرف في رأس المال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1659 أما الربح الجاري فله اعتبار شرعي. الربح قبل إعلانه وقبل قسمته يكون مجهولا، ولكنه قد يكون بالحسابات معلوما. ففي المضاربة مثلا لو اشتريت قمحا بهذا المال الذي أعطي لي مضاربة وكان رأس مال القمح مائة ومعلوم في السوق أنه بمائة وعشرين. فهناك حد ظني أن عشرين ربح، ولكن لا يعرف هذا الربح ولا يعترف به شرعا إلا إذا جرى بيع هذا القمح. وهذه عبارة التنضيض التي ينص عليها الفقهاء كما تعلمون. فعند التنضيض يتحقق الربح لأنه قد يحدث أنه عند البيع الفعلي ألا تأتي المائة وعشرون وتأتي مائة وعشرة. هذا الربح إذا كان قبل النض وقبل الإعلان فإن حصتي كمضارب في رأس المال يعتبر منها ضمنيا الزيادة أو النقصان في قيمة هذه الحصة، فهي داخلة ضمنه ويبدأ حقي في الربح من يوم تملكي لهذه الحصة فمتى أعلن فأصبح صاحب الحق في الربح، تماما كحالة المساهم الذي يشتري السهم في شهر نوفمبر وتعلن الأرباح في شهر ديسمبر طالما جاءت الميزانية وهو مسجل في سجلات الشركة أنه مالك السهم فإنه صاحب الحق في الربح ويأخذه. ويطبق نفس النظام تماما على الذين يتداولون هذه السندات في أن مالك السند الذي يسجل اسمه ويكون اسمه مسجلا في سجلات الشركة أو المشروع المعين هو صاحب الحق في الربح يوم إعلان الربح بذلك التاريخ الذي كان فيه مالكا. فإذا باع ذلك فقد تنازل، وإذا باع بعد ذلك فقد ملك هذا الربح وضمه وقيد قيمة السند بالقيمة الأساسية التي كان عليها. الشيخ عمر سليمان الأشقر: الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله. أحب أن ألفت نظر الإخوة الكرام إلى أن مثل هذه التوصيات عندما تصبح قانونا صادرا عن هذا المجمع سيقوم على أساسها كثيرا من المشاريع. فلا يجوز أن يكون مشروعا واحدا له خلفته في أذهاننا يحكم مثل هذا العمل. إذا كانت الجهة المصدرة تعلن عن سعر معين تشتري به إذا لم تكن تقية قد تنظر لمصلحتها عندما تريد أن تبيع وعندما تريد أن تشتري لتحقق كسبا وتحقق ربحا. وهذه اللعبات التي تجري الآن في أسواق المال نعرفها. فإذا نحن وضعنا في أيدي الناس مشروعا فيه ضعاف النفوس أن يدخلوا منه يمكن بعد ذلك أن يضار أصحاب الصكوك إذا ما سمعوا أن الجهة المصدرة كانت القيمة عندهما نازلة قد تراكضون للبيع فتشتري بسعر أقل أو عندما لا تفصل القوانين على مشروع واحد وهذا يمكن أن يقوم على أساسه مئات وألوف من المشاريع. أن نجعل فيه ثغرة بهذه الطريقة ستكون مشكلة كبيرة في المستقبل وشكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1660 الشيخ إبراهيم فاضل الدبو: سيادة الرئيس أنا أريد فقط أن أوضح بهذا الخصوص أن عقد المضاربة يقوم على الوكالة، مبني على الوكالة ولهذا بموجب هذه الوكالة يتصرف المضارب في مال صاحب المال. فالذي أقوله: هل يجوز للوكيل أن يبيع من نفسه؟ فأنا الذي أفهم من خلال المناقشة، والذي طرحه الدكتور سامي على أن الجهة المصدرة هي المضارب وهو العامل أليس كذلك؟ هذا هو ما يدور في ذهني فهل يجوز للجهة المصدرة إذا كان عاملا أن يبيع من نفسه؟ هذا سؤال أوجهه بهذا الخصوص. لهذا أقول ما المانع أن يكون المضارب مساهما ولو بشيء بسيط من البداية ويدخل على هذا الأساس كشريك عنان ومضارب؟ وقلنا من البداية: لا مانع أن تجتمع شركتا العنان والمضاربة في عقد واحد ونحل هذا الإشكال. وشكرا سيدي الرئيس. الشيخ عبد الستار أبو غدة: بسم الله الرحمن الرحيم، في الحقيقة هناك مطلوبان، أحدهما: أن يتم التداول بقصد إطفاء السندات. والآخر: أن يتم التداول بقصد تمكين صاحب السهم أو الصك من السيولة، وهذا إطفاء مؤقت نأخذ منه ثم نعيد ضخ هذه الأسهم مرة ثانية. فنحن نريد أن نغطي الحالتين ونغطي حالة ثالثة وهي أن توجد جهة مغايرة للجهة المصدرة كبنك إسلامي أو بنك التنمية أو غيره أيضا يضم نفسه إلى الجهة المصدرة لإمكانية التسيل في أي وقت، فيكون فيه قوة أن هذا السهم في أي وقت ممكن أن يسيل ويكون هناك أيضا أسعار قد يكون للجهة المغيرة سعر والجهة المصدرة سعر. وهذا يزيد من قابلية التداول. أيضا هناك أمر معروف بالنسبة للشركات أنه لا يجوز أن تشتري الشركة بشخصيتها المعنوية أسهم من الشركاء. هذا معروف. نحن نريد أن نخرق هذه القاعدة المعروفة ونقول: لا الجهة المصدرة يمكن أن يشتري كأنما هي تنقص الأسهم المصدرة فلذلك ننص على أن هذا التداول يكون بقيام الجهة المصدرة بشراء هذه الأسهم. ثم لها أن تضخها مرة ثانية ولها أن تطفئها كذلك جهة مغايرة. لذلك هنا فيه صياغة تحقق هذا كله إذا كان سمح لي الرئيس. من الأول وأي تغيير سأقف عنده حتى ينتبه إليه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1661 مع مراعاة الضوابط السابقة في التداول. يجوز تداول صكوك المقارضة في أسواق الأوراق المالية إن وجدت بالضوابط الشرعية – هذه إضافة لكي يتفادى نظام البورصة غير المشروع – وذلك وفقا لظروف العرض والطلب، ويخضع لإرادة العاقدين. كما يجوز أن يتم التداول بقيام الجهة المصدرة في فترات دورية معينة بإعلان أو إيجاب يوجه إلى الجمهور، تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة بشراء هذه الصكوك من مال المضاربة. هذه إضافة الغرض منها تسييل التداول فقط وليس هناك غرض للإطفاء وإنما تسييل الأسهم. وهذه تغطي حالة. بقيت الحالة الأخرى إذا اشتريت من غير المضاربة ستأتي بعد قليل، إذن نقول: من مال المضاربة بسعر معين ويحسن أن تستعين في تحديد السعر بأهل الخبرة وفقا لظروف السوق والمركز المالي للمشروع. هذا تنظيم لعملية الشراء يعتمد عليه في كل الحالات القادمة. الآن إضافة، كما يجوز الإعلان عن الالتزام بالشراء من غير الجهة المصدرة أو من المال الخاص للجهة المصدرة على النحو المشار إليه. يعني بنفس المواصفات الواردة في الشراء فنكون بهذا قد غطينا ثلاث حالات، حالتين تتم من الجهة المصدرة. مرة عملية استثمارية وتسييل تداول لإيجاد السيولة إذا لم يجد سوق الأوراق المالية ليتخلص حامل الصك من صكه ويحصل على نقد، والحالة الثانية إذا كان الشراء من الجهة المصدرة أو من المال الخاص للجهة المصدرة على النحو المشار إليه من حيث كيفية الشراء أو من الجهة المصدرة من مالها الخاص ممكن. الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. أنا أتحفظ على هذه الزيادة في التقسيم الثالث الذي أوتي به ذلك أن هذا نوع من أنواع النشاط التي فيها صلاح للمضاربة فلا وجه لأن ينص على هذا دون بقية أنواع الأنشطة. فأعتقد أن بقاء الفقرة كما هي مع التبديل فقط في كلمة (الجواز) وبضرورة الشعيرة التي تفضلت بها هي أمر جيد. أما نبيع للمضارب أن يشتري أسهمًا ما معنى ذلك هو له أن يقوم بكل نشاط يعود بالخير على المضاربة هذا وغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1662 الشيخ عبد الله بن بيه: بسم الله الرحمن الرحيم، سيدي الرئيس.. أعتقد بالنسبة للضوابط الشرعية يجب ألا ينص عليها لوجود خلاف في هذه المسألة مبني على القاعدة المشهورة وهي (هل تكون اليد قابضة دافعة؟) والأصل في مذهب المالكية لا تكون اليد قابضة دافعة إلا في حالات معينة فإذا قلنا هنا: طبقا للضوابط الشرعية أي ضوابط، والمسألة مختلف فيها بين الفقهاء، فلسد هذه الذريعة الأفضل والأجدى أن نعتبر أن اليد لا تكون قابضة دافعة وإذا اشترى هذا الشخص بصفة شخصية فهو ليس جهة مصدرة وإنما هو غير. فهو هنا ليس جهة مصدرة، هو يتصرف بصفة أخرى لا بصفة الجهة المصدرة وشكرا. سيدي الرئيس. الدكتور سامي حسن حمود: سيدي الرئيس.. الذي أراه أن إدخال العبارة: لأن الشراء يكون من مال المضاربة، يفسر عملية المضاربة نفسها من الناحية الشرعية لأن عقد المضاربة كما هو معلوم يشترط فيه أن يكون هناك طرفان رب المال باعتباره صاحب المال، والعامل في هذا المال. فإذا قلنا: إن مال المضاربة تشترك، معنى ذلك أننا نخرج رب المال من الميدان فيبقى المال مملوكا لِمَنْ؟ هذه القاعدة التي نبهت القانونيين بأن يتحرزوا في الشركات المساهمة أن تشتري أسهمها بنفسها لأن المساهمين مَنْ يبقى صاحب المال؟ والقاعدة التي نريد أن نخرقها يجب أن نستفيد من وضعها أولا ثم أن نأخذ في الصيغة التكليف، لأن هناك علاقة تعاقدية بين رب المال والعامل، وأن هذا العامل هو في الحقيقة مدير ووكيل وأجير وشريك، له عدة صفات وليست صفة واحدة وهذا هو من مزايا الفقه الإسلامي في تعدد صفات العاقد، وتعدد صفات العقد نفسه. فهذا المدير الأجير الشريك إذا استعمل مال المضاربة لكي يخرج هؤلاء الشركاء أرباب المال واحدا بعد واحد، فنصل إلى نتيجة إلى أنه لا يوجد رب مال فأين المضاربة إذن؟ إذن فَقْدُ هذا الطرف الثالث والذي أقترحه لذلك هذه أن تلغى أساسا من الاعتبار. والمقصود في الإيجاب هنا الإيجاب الذي يكون مفتوحا من الجهة المصدرة لكي تحتفظ كما هو شرط الإعلان الأساسي بهذا المشروع بتملكه إياه تدريجيا عن طريق الخروج التدريجي لهؤلاء الناس ليس من مال المضاربة ولكن من مالها الخاص الذي تصبح معه تدريجيا شريكة تبدأ بنسبة 1 % إلى أن تنتهي بـ 100 %. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1663 الشيخ محمد عمر الزبير: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أشرت بجواز تداول الصكوك بدون تقييد وعندنا ثلاثة أنواع من هذه الصكوك: صكوك في حالة الإنشاء حينما يكون الوضع نقدي، وصكوك في حالة ما إذا كانت ديونا، والحالة الأخيرة هي الحالة المختلطة التي شرطنا فيها أن تكون الغالبية قد تحولت هذه العقود إلى موجودات حقيقية فعلية. فلا بد من ملاحظة ذلك حين القول بجواز تداول هذه الصكوك؛ لأن الوضعين الأولين لا يسريان على حالة التداول، ففي الحالة الأولى عندما يكون المال نقدًا في اعتقادي حتى أحكام الصرف ما هو المبرر والمستند الشرعي لاعتبار هذه الصكوك أموالا نقدية تعادل النقد؟ لأن أحكام الصرف مبادلة نقد بنقد. ففي هذه الحالة هذه الصكوك عبارة عن سند بدين في ذمة الشريك الاعتبارية أو المؤسسة الاعتبارية لأن الأموال في هذه الفترة هي مودعة بإيداع وليست أموالا لأشخاص بأعينهم. ففي حالة هذه الحالة هذه الصكوك تعتبر وثائق في ذمة المؤسسة الاعتبارية. فلا بد من تقييد الوضع بأن الصنف الأخير هو الذي يجوز تداوله في الأسواق المالية. شكرا. الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم، الحقيقة أخذ منا هذا العنصر وقتا طويلا لكن لا بأس. أنا أميل إلى أن الفقرة تبقى كما هي مع تعديل (يجوز) وإن وجدت بالضوابط الشرعية في فقرة (ج) من العنصر الثالث. تضاف لها بالضوابط الشرعية في فقرة (ج) من العنصر الثالث، وبدل (ويحسن أن نستعين) على أن تستعين. وهنا في الحقيقة مضبطة من جميع وجوهها. أما الشراء من أموال المضاربة ليس هناك أموال مضاربة موجودة سائلة لدى المصدر حين يصدر السندات كلها تكون بيد الناس فلم يبق عنده سيولة لأموال المضاربة حتى يشتري منه. أموال المضاربة توزعت على المساهمين ولم يبق لديه سيولة من أموال المضاربة ليشتري شيئا. انتهت أموال المضاربة بإصدار السندات. يستطيع أن يشتري لحسابه الخاص من ماله الخاص أو الآخرون يشترون. هذه وددت بيانها وشكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1664 الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم، أولا أبدأ بتعقيب على ما قاله الأخ الشيخ أحمد، إذا لم يكن في مال المضاربة مال سائل فلا يستطيع أن يشتري هذا موضوع منها. لكن الذي أردت أن أتحدث عنه هو ما حكم به الأخ سامي بأن الشراء المضارب من مال المضاربة صكا من هذه الصكوك يفسدها. هذا غير صحيح في نظري وهذا طبعا مبني على أن في مال المضاربة أموالا سائلة يستطيع المضارب أن يشتري بها بداهة هذا. وأضرب مثلا للأخ سامي أفرض أني أنا مضارب وجاءني عشرة أشخاص دفع كل منهم مبلغا لأضارب به وبدأت أضارب وربحت هذه الأموال وكان عندي من أرباحها حتى لنترك رأس المال عندي فائض من هذه الأرباح، أراد أحدهم أن يبيع نصيبه ما المانع من أن أشتريه أنا المضارب بهذه الأرباح التي عندي ويكون هذا الجزء مملوكا للتسعة الباقين؟ لا أرى أي وجهة لفساد المضاربة في هذا. ولا أريد أن يقاس هذا على ما ذهب إليه القانونيون من أنه لا يجوز للشركة أن تشتري نفسها هذا حكم وضع للشركات. لكن نحن نتحدث عن مضاربة شرعية. لا شيء في هذا بتاتا. لا يمكن الدكتور يرى أنه لو استمر هذا لا يكون هناك رب مال. لا حتى لو استمرينا نشتري كل واحد من التسعة الباقين خرج فيؤول الباقي إلى الواحد الذي فضل هذا، ولا يمكن أن ينعدم صاحب رأس المال. هذا الواحد الأخير الذي اشترى كل الأسهم سيكون هو رب المال المضارب وباقي كما هو ليس عليه إلا أن يتولى عملية البيع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1665 الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. ما تفضل به الشيخ عبد الله بن بيه من أن الجهة واحدة وأنه بائع ومشتر وإنما يجوز هذا في قضايا محددة نعتقد أنه غير وارد. ذلك أن البائع هنا هو مالك السهم، هو شخص مساهم في هذه الشركة المضاربة والذي سيشتري هو المضارب إما بوصفه مضاربا فيكون ذلك للمضاربة، وإما أن يكون بوصفه صاحب رأس مال وصاحب أسهم فيشتري للأسهم ويزيل أسهمه لإطفائها. فالقضية قضية لا يوجد فيها شخص وإنما هما شخصان وهناك بائع ومشتر وشخصيتان متميزتان. الرئيس: على كل يا أصحاب الفضيلة هذه الفقرة لا شك أنها حقيقة جديرة بالمداولة والمناقشة وحصل ما فيه الكفاية والبركة والآراء أمامنا هو حذف هذه الفقرة. وحذفها كما تعلمون هي رئيسية في هذا الموضوع لأن عملية الإطفاء تترتب بشكل كبير على هذه المادة. الأمر الثاني: الاقتصاد على تغيير في ثلاثة مواضع (يتم) (يغير) و (يجوز) ويضاف في قضية الأسواق المالية (إلى أن تكون على وفق الأصول الشرعية) . الموضوع الثالث أو الاقتراح الثالث: هو الإضافة التي قرأها عليكم الشيخ عبد الستار والذي يظهر لي أن الإضافة التي قرأها الشيخ عبد الستار أنها محل أغلبية. أنا أقول الظاهر. الظاهر أنها محل أغلبية. فأنا أقول: هل ترون الشيخ عبد الستار يقرأ علينا هذه المادة الآن أم بعد التعديلات المطلوبة؟ فإذا اتجه إليه الأغلبية ننهي الموضوع بشأنها. الشيخ محمد المختار السلامي: أعرض الثانية والثالثة.. الأولى لاغية.. إما أن يبقى على المادة كما هي بالتعديل حتى تكون صيغة شرعية بالجواز وإصدارها بالحكم الشرعي أو بهذه الإضافة التي جعلت لونا من ألوان النشاط فقط ينص عليه في اللائحة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1666 الشيخ عبد الله بن بيه: أولا: أود أن أقول لأخينا الشيخ المختار السلامي: إن الجهة يمثلها شخص طبيعي أو طبعي هذا الشخص الذي يمثل هذه الجهة هو المالك هنا، والوكيل يكون مالكا ففي كلتا الحالتين هو يبيع لنفسه وهو وكيل عن هؤلاء ويبيع لنفسه يبيع سهما وهو الذي طبعه ووضعه. إذا كان هذا التصور صحيحا فيده هي قابضة دافعة. الشرح الذي أريد أن أضيفه أعتقد أنه يحل الإشكال وهو: الذي أضفتموه في الفقرة التي قبل هذه هو طبقا للائحة شرعية أن يضيف هذا وينتهي الأمر. وتكلف لجنة بوضع اللائحة الشرعية لهذا الموضوع. لدي تحفظ قوي على أن تكون اليد قابضة دافعة لأن هذا من شأنه كما قال أحد الإخوان أن يغري ضعاف النفوس أن يطبعوا أوراقا ويبيعوها اليوم في السوق. الشيخ إبراهيم فاضل الدبو: سيادة الرئيس أنا أضم صوتي إلى صوت الأخ الكريم وأنا أختلف مع أستاذنا الفاضل الشيخ السلامي، بأن اليد هنا قلت بحضور الموكل فنسأل الإخوان في البنوك الإسلامية هل هذا من الناحية العملية حاصل بحضور الموكلين كلهم لأجل يروا هذه المسألة إذا حصل بيع أو شراء حتى تكون هناك يدان يد قابضة ويد دافعة أم أنهم قد خولوا المضارب بذلك؟ فإذا خولوه إذن هو لا يجوز له أن يبيع لنفسه. هذا ما أردت توضيحه وشكر. الشيخ عبد السلام العبادي: في الواقع مع احترامي للكلام الذي يقال الآن هو نقد لأصل التصور. أصل التصور أن هنالك مالكا للصك معروف شخص محدد له وصف وله أهلية يأتي إلى الجهة المصدرة. فنحن أمام شخصين قطعا بائع ومشتر. ما فيه أي تصور بأنه شخص واحد. لا أدري من أين جاء اللبس أن تكون اليد قابضة ودافعة في نفس الوقت. فيه شخص س أو ص أو محمد أو علي أو حمدان معه صك يأتي إلى الجهة المصدرة ويبيعه ويتفق على الثمن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1667 ثم في قضية الاقتراح فيه نص بيكون في نشرة الإصدار الذي قلنا: إنه هو يمثل شروط العقد نشرة الإصدار بتحديد لماذا نأخذ هذه الفلوس ونقيم مشروعا؟ يعني لا يجوز أن يؤخذ من مال المضاربة لشراء صكوك لأن شروط العقد محددة ماذا سيعمل المضارب؟. فلا يجوز أن ينقلب محل الشركاء بصفته مضاربا. هو يمكن أن يحل محلهم بصفته شريكا ليطفئ السندات شيئا فشيئا. هذه قضية لكن أنا أقول لا ضير من النص عليها لأنه في الأخير ستؤخذ صورة من الصور في التطبيق. يعني لا ضير أن تؤخذ الصيغة التي اقترحها الدكتور عبد الستار. الشيخ عبد الستار أبو غدة: بسم الله الرحمن الرحيم، يجوز تداول صكوك المقارضة في أسواق الأوراق المالية إن وجدت بالضوابط الشرعية وذلك وفقا لظروف العرض والطلب ويخضع لإرادة العاقدين كما يجوز أن يتم التداول بقيام الجهة المصدرة في فترات دورية معينة بإعلان أو إيجاب، يوجه إلى الجمهور تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة بشراء هذه الصكوك من مال المضاربة بسعر معين ويحسن أن تستعين في تحديد السعر بأهل الخبرة وفقا لظروف السوق والمركز المالي للمشروع، كما يجوز الإعلان عن الالتزام بالشراء من غير الجهة المصدرة أو من الجهة المصدرة من مالها الخاص على النحو المشار إليه. الرئيس: ماشي النص هذا؟ المهم الذي يرى أنه ماشي يشير بيده. أربعة يا شيخ.. اتفضل يا شيخ سامي. الدكتور سامي حسن محمود: 4- لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو نسبة معينة من الربح فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمنا كان العقد قرضا لا قراضا، وتطبق عليه أحكام القرض فلا يجوز دفع زيادة عليه ولو لم تكن محددة للمقدار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1668 الشيخ إبراهيم فاضل الدبو: سيادة الرئيس، النص ماشي.. الفقرة ماشية أنه لا يتحمل المضارب بأي خسارة.. النص ماشي وهو أنه لا يجوز أن يتحمل المضارب جزءا من الخسارة وإنما يكتفي بخسارة جهده. الشيخ محمد سالم عبد الودود: شكرا سيدي الرئيس. هذه الحالة من الحالات التي ... واعذروني إذا تكلمت بلغة المدرسة المالكية وإن كنت أيضا متمذهبا وإنما متمدرس بهذه المدرسة. الإنسان ما إن يبلغ درجة نظر لنفسه. فلا يكون هناك مجال للمذهب. أقول: لا يبلغ فيكون عاميا والعامي لا مذهب له. المهم أن اشتراط ضمان عامل القراض تفسد القراض ولا يحوله إلى قرض ولكن هناك حكم للقراض الفاسد في هذه الحالة وهو أنه يكون له أجر مليون إقراض ومن الذي يعطي بتفصيل ذلك، أما أن نقول: إنه قرض فتجري عليه أحكام القرض مباشرة فهذه إن كانت جئ بها من مذهب غير المذهب المالكي فعلى الرأس والعين أما إذا كان على ما عهدنا ولا يوجد ما يخالف المذاهب الأخرى فهذا غير مقبول. الدكتور معروف الدواليبي: سيدي الرئيس.. أنا الذي فهمه من هذه العبارة أن ركز الضمان بنسبة معنية القصد منه هو تشجيع المشتري إذا كان هناك مصلحة للبائع. فكما جرى عندنا في المملكة بسلامة التشجيع على شراء أسهم الكهرباء فجاءت الدولة فقالت: من يشتري فأنا أضمن له ربحا لا يقل عن 15 % ما أحد قال: إن هذا الشرط مفسد وكذلك عندنا في سوريا سابقا اشترينا وأنا كنت مسؤولا في مشروع فيما يتعلق بالميناء نحن في حاجة إلى عشرات الملايين وكانت الدولة لا تملك ولا قرشا منه فأصدرنا المرسوم بتأليف هذه المؤسسة وبناء مرفأ يكلفنا كذا مبلغ وقلنا: إن الدولة ستغطيه ولكن من يشتري منه سهم فنحن نضمن له أرباحا لا تقل في المائة 10، وإذا بالناس جاءت بأموالها واشترت كل الأسهم ولم نحتج أن نستقرض من أحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1669 فهذا القدر من الإعلان من جانب واحد مستقل أنه يضمن له نسبة معينة من الأرباح إذا اشترى فهو فيه تشجيع وطالما أجازته المملكة في قضية شراء أسهم الكهرباء، وكذلك نحن في شراء أسهم المرفأ ومصر هي أيضا فيما أعتقد تجري في بعض المشروعات. فأنا لا أفهم أن هذا يبطل العقد وينقلب إلى عائق. الشيخ محمد علي التسخيري: أعتقد أن ما قاله الشيخ عبد الودود أمرا يقبل التأمل، ومن هنا فنحن لسنا بحاجة لأن نتحدث عن مصير العقد إن اشترط. نستطيع أن نكتفي بكلمة إلى الربح – لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة عن نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو نسبة معينة من الربح. فإن النص هذا أمرا يعالج بعد ذلك. هذه حالة تؤول لهواه. الاعتراض الذي ذكره الشيخ في محله هنا من يعطيه حكم القراض الفاسد وشكرا. الشيخ محمد مختار السلامي: هذه الفقرة في جزئها الأول هي فقرة مقبولة. وأما في جزئها الثاني في تحول القراض إلى قرض، إذا لم يكن للجناس فهو غير مقبول. وذلك لأن يد المقترض هي يد أمينة ولا يجوز أن يشترط عليه شرط الضمان. فهذا الشرط لما دخل في العقد أفسد العقد ولكن بعد الوقوع والنزول. فالبداية هي بداية سيئة ونقول: هذا عقد فاسد من أوله، فإذا وقع ونزل ما نسمع. الذي يحسن المالكية كما تفضل معالي الشيخ عبد الودود وأجرى مثل أو قراض مثل لعالم عند فساد الأصل. وهذا الترديد لما شرحه الشراح فصلوا فقالوا: إنه في مثل هذا إذا شرط عليه القراض فهو يعود إلى أجل مثل أي قرض مثل ما جعل انقلابه إلى قرض ما أدري ما هو الوجه الذي يخرج عليه وشكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1670 الشيخ سالم عبد الودود: إيضاح فقط. هذا النوع من القراض فاسد يرد إلى قراض لا إلى أجل المثل وهو إلا قرضه التسعة المعروفة ويرد إلى قراض مثله وقد يكون قراض المثل نفس ما اتفقوا عليه سابقا وقد يكون أكثر. الشيخ عبد الله بن بيه: هذا ليس من باب الجناس ولكن ربما من باب المجانسة. أنت تتكلم المجموعة المالكية اتفقت معي. كما قال الأخ محمد سالم هو يرد إلى قراض المثل لأن هذا الشرط لا يهدم أصل العقد فليس شرطا مناقضا وإنما هو شرط مخالف للحكم وقد فرق المالكية بين هذين النوعين من الشروط. شرط يناقض أصل العقد وشرط ينافي حكما ولا ينافي أصل العقد وقد نص الزقاق على ذلك بقوله (الشرط ما لا يقتضي الفساد إن خالف الحكم يقتضي فائدة أو لا يقتضي فائدة إن خالف الحكم) وذكر منها مسألة الضمان، ثم فصل فقال (إن ابن زرب وابن بشر وابن عتاب إذا كان هذا الشرط لاحقا للعقد فإن العقد صحيح عندهم إذا كان الشرط في صلب العقد فليس صحيحا إلا أنه يكون قراض المثل لأن الشرط لا يهدم الماهية، وإنما يهدم حكما لأن أصول هذه العقود أَلَا يكون فيها ضرر؟ وشكرا. وكنت أريد أن أسأل هل هذا النص له مفهوم مخالفة؟ لا يوجد له مفهوم مخالفة بمعنى أنه إذا لم يشترط في صلب العقد لنفترض المسألة التي تجب. وشكرا) . الشيخ محمد تقي العثماني: عندي ملاحظتان وجيزتان.. الأولى: أن ما تفضل به الشيخ محمد سالم عبد الودود هو وجيه جدا، وما تقدم به من اقتراح الشيخ محمد على التسخيري حفظه الله من أن تشطب الفقرة الأخيرة من هذه العبارة، أظن أن هذا هو الحل لهذه المشكلة لا نذكر المصير عن العقد ولا نقول: إن يكون العقد قرضا أو قراضا إنما نقول: كان العقد فاسدا. ثم الملاحظة الثانية: أن هذه المادة تقول إن تضمين عامل المضاربة برأس المال لا يجوز بحال من الأحوال. ولكن كما تعرفون إذا قصر عامل المضاربة في المضاربة أو خالف شروط المضاربة فإنه يضمن برأس المال، فأعتقد أنه من المناسب الإشارة إلى أن تضمين العامل يجوز عندما قصر في شروط المضاربة وخالفها. وشكرا والسلام عليكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1671 الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي: بسم الله الرحمن الرحيم، كأن فقهاء المالكية يسيطرون على الموقف. والحقيقة أن فقهاء المذاهب الأربعة كلهم مجمعون على أن اشتراط الضمان على الأمين باطل وهذا أمر ليس مقصورا على مذهب دون مذهب. فالقضية إذن شقها الأول سليم جدا ولم أتصور إطلاقا وإن لم أكن في هذه اللجنة التي صاغت هذا الموضوع، لم يدر في خلد الذين قاموا بهذه الصياغة أن العقد يتحول من مضاربة فاسدة إلى قرض وإنما قالوا أو يريدون أنه وجد مثل هذا في صورة أخرى غير هذه الصورة فإن العقد قرض وتطبق عليه أحكام القرض فلا حكمهم فلا يريدون تحول عقد فاسد إلى قرض وهذا ليس مرادا إطلاقا وإنما إذا وجدت مثل هذه الصورة فإن العقد قرض تطبق عليه أحكام القرض هذا شيء. الشيء الثاني: ما تفضل به الدكتور الدواليبي لا ينطبق على هذا الموضوع تدخل المملكة أو أي دولة أخرى في أنها تبرعت بضمان هذا الأمر هذا ليس مما نتحدث عنه الآن فهذا جائز لا غبار فيه وإنما الذي لا يجوز والعبارة سليمة ولا يصح أن نحذفها لأنها باتفاق المذاهب أن يشترط رب المال على المضارب أنك ضامن لي رأس مالي، هذا هو الموضوع الذي نتكلم عنه وأما التبرع أو تدخل دولة أو طرف ثالث بالتبرع بالضمان هذا لا إشكال فيه. ويمكن أن ينص عليه في جهة أخرى. الرئيس: لأن الكلمات كثيرة هل ترون الاقتصار على صدر المادة وننتهي. الدكتور سامي حسن محمود: مع إضافة شرط الضمان على أن التعدي والمخالفة – نحن نقرر قواعد شرعية الآن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1672 الرئيس: لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو نسبة معينة من الربح. الدكتور سامي حسن حمود: ونضيف عليها لو سمحت: ولا يضمن العامل في المقارضة إلا إذا ثبت عليه التعدي والتقصير أو المخالفة. هذا متفق عليه عند الفقهاء. الرئيس: المهم هل ترون الاقتصار على صدر المادة إلى الربح؟ الشيخ عبد السلام العبادي: أولا الواقع ما أظن الإخوان الذين صاغوا هذه الصياغة في هذه الدرجة من عدم ملاحظة الأحكام في قضية العقود. الذي أراه وهو مهم ويجب أن ينص عليه أنه في اللحظة الذي يفكر في إصدار سندات قراض مضمونة على العامل ومضمونة بربح كما تفكر بعض الدول هذا يقبلها إلى سندات قرض لا قراض. هذا المراد ليس المراد أن ندخل في فاسد أو غير فاسد ما هي الأحكام التفصيلية؟. فحتى يحظى هؤلاء الذين يفكرون بمن يتخذها مطية لإصدار سندات ربوية يجب أن ينص على هذه بوضوح واختاروا الصيغة الفقهية التي تناسبكم، أما لا بد أن ينبه بهذا لخطورته. وهذا الذي أرادته اللجنة. الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي: بسم الله الرحمن الرحيم، أحب أن أوضح مسألة وأستفسر عن أخرى. المسألة الأولى التي أحب أن أساهم في إيضاحها هي أن معالي الدكتور الدواليبي أظن أنه قصد ضمان طرف المصدر للربح وتبرعه بهذا الاشتراط على نفسه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1673 الشيخ معروف الداوليبي: هذا الذي قصدته. الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي: ولم يقصد أن يتم ذلك بين طرفين، أما إذا تم ذلك بين طرفين فقد آل الأمر إلى ربا ولا ريب فيه. الشيء الثاني الذي أريد أن أستوضحه. العبارة تقول: هذا الاشتراط يحول عقد المضاربة إلى قرض. طبعا المقصود من هذا أنه شرط يفسد العقد بل يلغيه كما قال الدكتور وهبة لأن الفساد الذي هو دون البطلان أمر خاص من مذهب السادة الأحناف. فإذا ألغي عقد المضاربة وآل إلى قرض ما هو مصير الربح الذي تنامى من جراء هذا القرض؟ هل هو قرض رضائي؟ لو كان قرضا رضائيا لكان الربح كله للمقترض ولكنه ليس قرضا رضائيا في هذه الحالة ذلك لأن عقدا فاسدا لذلك العقد ينبغي أن يستتبع إعادة كل شيء إلى وضعه السابق. ينبغي أن يسترجع صاحب المال ما له إذا لم يعد المال إلى صاحبه، وسكت الطرف المضارب على زجل هذا العقد واستعمل هذا المال، فأعتقد أن المال في هذه الحالة ينبغي أن ينطبق عليه حكم ما لو أخذ الإنسان مالا من شخص آخر واستعمله بدون إذن منه. عند الأحناف العقود كلها موقوفة. فإن أمضى صاحب المال العقود تم ذلك وله أن يشترط أخذ الفوائد والمرابح. وعند الشافعية فيما أعلم وغيرهم فما أذكر أن هذا العقد باطل. هذا ما أستوضحه. يعني القرض يكون بشكل رضائي بين طرفين وهنا لا يوجد تراض إنما الأمر آل إلى القرض تلقائيا أو آليا بسبب الفساد الذي تسلل إلى عقد المضاربة. وشكرا. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم، في الواقع أما في رأيي أن الرأيين من وجهة النظر الفقهية مقبولان، إذا قبلنا أن هذا الشرط يجعل العقد عقد قراض فاسد. يفسد عقد القراض ويأخذ في هذه الحالة حكم القراض الفاسد. ويجوز أيضا أن نقول إن هذا الشرط يحول العقد ولو جاء القراض يحوله من قراض إلى قرض حقيقة لا مجانسة. وهذا معروف في الفقه وهو خلاف بين المذاهب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1674 أذكر منها مثلا لو قال شخص لآخر: بعتك هذه النظارة من غير ثمن بما نحكم على هذا العقد؟ قال بعضهم أنه عقد بيع فاسد، وقال بعضهم هو هبة إعمالا للمعنى وهناك إعمال للنفس. فهنا إذا أعملنا المعنى نقول: إن هذا قرض فلأنه عندما اشترط الضمان فقد انقلب وأصبح يده يد ضمان ليضمن رأس المال وله ربحه ويأخذ أحكام القراض. وإذا أعملنا النص نقول: إنه مضاربة أو قراض فاسد. وفي رأيي أن الذين رفعوا هذه الصياغة مقصودهم كما قال الدكتور العبادي أن يقولوا إن هذا العقد تحول إلى قراض إذا شرط فيه هذا الشرط، وسنطبق عليك أحكام القرض وهذا له مدلول جيد. ولذلك أنا أرى أن يبقى النص كما هو. الشيخ إبراهيم فاضل الدبو: شكرا سيادة الرئيس.. لي تعقيب بسيط على ما ذكره الأساتذة من المالكية. نحن كما ذكر الأستاذ وهبة لا نريد أن يسيطر علينا مذهب واحد. في هذه المسألة اتجاهان وهما كنصوص فقهية صريحة بهذا الخصوص. المذهب المالكي يقول نعم القراض إجازة في مثل هذه الحالة إما يكون إجازة المثل أو يكون إجازة فاسدة. ولكن نصوص المذاهب الأخرى تقول ليس له في مثل هذه الحالة إلا أن يسترد رأس ماله، ليس لرب المال أن يسترد سوى رأس ماله فيما لو وضع مثل هذا الشرط. وشكرا سيادة الرئيس. الرئيس: ألا ترون فيما لو أضيف عبارة.. لأن نحن الآن بين أمرين إما الحذف أو أن تبقى العبارة كما هي ويقال: فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمنا ضمن العقد الذي وقع عليه نص الضمان، كان العقد الذي وقع عليه نص الضمان قرضا لا قراضا. هذا يكون كأن العقد الذي وقع عليه نص الضمان. الشيخ محمد علي التسخيري: سيدي الرئيس من الواضح أن ما يراد الصيرورة إليه غير مقصود للمتعاقدين، وهذه حقيقة ينبغي أن تلحظ هنا. أنا أرجح ما اقترحه سابقا من حذف هذه العبارة وأن أوافق دون تعد إليها لكي نطابق القاعدة وإن كان ذلك غير لازم. أرجو أن يحذف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1675 الدكتور سامي حسن حمود: صياغة سترضي الشيخ علي وسترضيكم جميعا.. في رأيي تكون بهذا الشكل: دون الإخلال بحالات التضمين لتعد أو تقصير. الرئيس: أين مكانها يا شيخ؟ الدكتور سامي حسن حمود: من البداية: دون الإخلال بحالات التضمين لتعد أو تقصير، لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو بنسبة معينة من الربح قاطعة وفي حالة اشتمال نشرة الإصدار أو الصكوك على نص الضمان تكون نشرة الإصدار أو الصكوك نشرة إصدار أو صكوك لقرض لأنه الجماعة يريدون أن يضعفه من الأمل. إن في هذه الحالة تعتبر نشرة قرض وليست نشرة قراض. الشيخ عبد الله بن بيه: بسم الله الرحمن الرحيم، سيدي الرئيس جزاكم الله خيرا.. أعتقد أننا نعمل إلى حد ما في فراغ، هذه نصوص قدمت محذوفة الشواهد مطروحة الزوائد، ليس لها سند، تحتاج إلى سندات هي أيضا تحتاج إلى مستندات فرعية. ولذا كل واحد يتكلم بما تيسر له. نحن نعتقد أن مذهب المالكية لا يريدون أن يسيطروا على القاعة وإنما يريدون إبداء وجهة نظرهم حتى يبرأوا أمام الله سبحانه وتعالى. فتحول هذا من قراض إلى قرض يحتاج إلى سند فقهي. نحن نحتاج إلى هذا السند. وإني أقترح صياغة قد تحل المشكلة بما أعتقد، لا يفهم عامل القراض بحال من الأحوال ضامنا وهذا يشمل صورة أخرى وهي إذا ما تطوع بالضمان بعد العقد. وهنا أيضا هذه الصورة ليست جائزة على مذهب الأكثر تطوع لاحق، ليشمل صورتين نقول: لا يقوم عامل قراض بحال من الأحوال ضامنا وإذا اشترط ذلك فإن أحكام الشريعة التي ينص عليها في لائحة لاحقة تكون منطقية حتى نحرك أحكام الشرط وإن فنحن نتكلم في كلام مهم. نحول قراض إلى قرض بدون نصوص وبدون مستندات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1676 كل واحد يتكلم بما تيسر له وبما حصل في صدره دون أن يرجع إلى نص صريح أو إلى أساس. نحن نعرف أن المسألة هي مسائل الشروط، قد نعتمد على النصوص التي تقول إن الشرط باطل والعقد باطل. وقد نعتمد على من يقول الشرط باطل والعقد صحيح. كل ذلك بصفة عامة ممكن، ولكن في هذه القضية أقترح أن نرجع دائما أن ننص على لوائح وهذه اللوائح تحرر بعد أن تراجع النصوص. وشكرا. الدكتور علي أحمد السالوس: الواقع أن الإخوة الذين وضعوا هذا النص كان معروضا عليهم مشروعا لسندات مقارضة، وفيها نص على التضمين بأن العامل المضارب ضامن، وهذا النص هنا عندما قيل لا يجوز التضمين وأن هذا يأخذ حكم القرض كان لهذا أثره في تغيير المشروع الذي كان معروضا على اللجنة آنذاك. وعلى كل حال ما دمنا نضع قاعدة عامة ولا نقصد مشروعا معينا يمكن أن نكتفي بالجزء الأول ولا شيء في هذا. الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم، أعتقد أن مع النص على القضايا الخاصة لا قياس. فقد نص الفقهاء وفقهاء المالكية على أنه إذا اشترط في القراض الضمان فهو قراض فاسد. فجعل أنه إذا اشترط في القراض يخرج به عن القراض ويحول به إلى قرض هذا لا يصح أن يفتي به مالكي، على حسب المذهب المالكي. ومن كان له شيء مما عليه إلا أن يأتي بالنص في القضية لا بالقياسات عموما. هذه قضية ولا بد أن نسير فيها في هذا المجمع على أنه كل شيء يقال إنما هو ينبغي أن يبنى على نصوص لا على اجتهاد نص، هكذا بناء على أن قولا آخر قيل نقيس عليه ونخرج عليه مع وجود النص في القضية الموجودة وشكرا. الشيخ عبد السلام العبادي: يا سيدي الشيخ الضرير جاء بالنص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1677 الشيخ محمد مختار السلامي: الشيخ الضرير لم يجئ بالنص، الشيخ الضرير قاس. الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي: بسم الله الرحمن الرحيم، يا سيدي أعود لأؤكد الاستفسار الذي بدأته وعندي بعد ذلك تحوير بسيط في هذه المادة. أنا أعلم أننا إذا قضينا بأن عقد المضاربة آل إلى بطلان أو فساد في معنى البطلان فإن المال الذي تحت يد المضارب يصبح أمانة وعليه أن يعيده إلى صاحبه فإن تصرف به فهو ضامن هذا ما أعرفه وأحفظه من كلام الفقهاء. وهذا يسد علينا طريق اعتباره قرضا معتادا دون أن نحمل المضارب شيئا من الأرباح التي استفادها. لكن إذا أردنا أن نصلح هذا الموضوع فلنسلك الطريق التي يسير عليها الأحناف في قواعدهم المتعلقة بعلاقة الشرط بالعقد. عندهم العقد دائما أقوى من الشرط فإذا قيد العقد بشرط فاسد فإننا نغلب سلامة العقد على فساد الشرط وعندئذ نلغي الشرط ونبقي العقد على وضعه الصحيح. وفي هذه الحالة نقول لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو نسبة معينة من الربح فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمنا ثبت العقد مضاربة وبطل الشرط. نعم وعندئذ نحدد الربح بطريقة نلجأ فيها إلى خبراء أو إلى لجنة وهو بديل عما يسمى بأجر المثل وشكرا. الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي: في الحقيقة وضع مناقشة جيدة وممتازة في هذا الأمر لكن أنا أدركت أن هنا اتفاقا ضمنيا بين المخالفين والمؤيدين لهذا النص وعندئذ منعا لهذا الخلاف والقضية قضية صياغة فأرجو تغيير في الجزء الثاني من الفقرة ويسهل عندئذ قبولها من الجميع. الرئيس: طيب نغير الصياغة إذا قلنا فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1678 الشيخ مصطفى الزحيلي: هذا من بدهيات الأحكام عندما نقول لا يجوز، بدأنا ما فيه داعي نقول تحول إلى مضاربة فاسدة. نريد أن نبحث الجزئية الثانية. من بدهيات الفقه أنه لما قلنا لا يجوز معناه فاسد. فالخلاف في الجزئية الثانية نغير صياغتها منعا من إشكال تحول المضاربة الفاسدة إلى قرض. الخلاف في الجزئية الثانية. الدكتور عبد الستار أبو غدة: بسم الله الرحمن الرحيم، صدر المادة بقي كما هو إلى عند كلمة (معينة من الربح) بعدئذ، فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمنا ثبت العقد مضاربة وبكل شرط الضمان واستحق المضارب ربح مضاربة المثل. لأننا عندنا أمران مختلفان: أولا الضمان والنسبة المعينة من الربح، نسبة من رأس المال. هي كلمة نسبة معينة من الربح يعني من رأس المال عفوا، إذا كان نسبة معينة من الربح هذا هو رأس المضاربة لكن المقصود من هذا يحفظ رأس المال ويحفظ معه نسبة معينة من رأس المال. هذا المقصود. ولذلك تلغى الضمان ونلغي هذه النسبة المعينة المنسوبة إلى رأس المال ونقول هناك مضاربة المثل، لا بد من الأمرين لأن كلمة نسبة معينة من الربح يعني نسبة معينة منسوبة إلى رأس المال كربح زيادة أصل المال. هذا هو المقصود. عندنا أمران يجب تغييرهما. لكن هنا الأمران الممنوعان هنا نص بضمان عامل المضاربة رأس المال. هذا ممنوع قطعا. الثاني: الذي جاء على أنه محظور وهو اشتراط نسبة معينة من الربح بعد ضمان رأس المال. يعني يكون رأس مالك يرجع ولك أيضا 5 % من رأس المال كربح أيضا هذا يجب أن نبطله لأن نسبة الربح إلى رأس المال مفسدة وصار ربا. فلذلك شرط الضمان يهدر ويصبح المال أمانة وأيضا نلغي هذه النسبة المعينة المنسوبة إلى رأس المال ونقول لك مضاربة المثل وربح مضارب المثل. الرئيس: أقول هذا المشروع الذي هو صكوك المقارضة أنتم تريدون إخراج مشروع يتفق والأصول الشرعية. فطالما أنه يراد إخراج مشروع يتفق والأصول الشرعية فنحن نقتصر على الجزء الأول الذي يقول: لا يجوز إلى آخر المقطع الأول من هذه الفقرة. أما إذا كنا نريد أن نخرج مشروعا طبق الأصول الشرعية لصكوك المقارضة ونزيد على مشروع آخر أو شيئا من هذا القبيل فشأنكم والجزء الأخير من هذه الفقرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1679 الشيخ محمد تقي العثماني: لا حاجة إلى الفقرة الثانية. تحذف الفقرة الثانية. الشيخ عبد الستار أبو غدة: لو أبقيناها أيضا كأننا نمنع تعيين نسبة الربح. الرئيس: لا نمنع ولا غير.. نحن الآن في مقام على حد العبارة، وإن كان غير صحيح في مقام تشريع المادة لهذا المشروع، أو تثبيت مادة في صكوك المقارضة. جرت العادة في تكوين المواد لمشروع من المشاريع أنه يقال فيه يجوز كذا وكذا ولا يجوز كذا. أما الافتراضات فإن عملوا. أنت الآن تكون له أصول. طالما أن نحن نكون له أصل فنحن بينا أنه لا يجوز، وطالما أنه سيأخذ هذا المشروع فإذا خالفه فإنه وقع فيما لا يجوز. الشيخ عبد الستار أبو غدة: لكن عفوا.. كلمة نسبة معينة من الربح لو قرأناها معنى الكلام لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار على نسبة معينة من الربح وهذا لا يقول به أحد لأنه يجب أن تشتمل على نسبة معينة من الربح. الرئيس: على نص ضمان عامل المضاربة رأس مال أو نسبة معينة. هل أنتم متفقون على الحذف؟ الشيخ عبد الستار أبو غدة: لكن إلى أين الحذف؟ الرئيس: على كلمة الربح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1680 الشيخ عبد الستار أبو غدة: لا عند كلمة (على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال) نسبة من رأس المال ربحا بنسبة منسوبة إلى رأس المال. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: متجيش من رأس المال؛ لأن في المضاربة المضارب يجب أن تكون على أساس نسبة معينة من الربح هذا هو أساس المضاربة. يكون فيها نسبة معينة من الربح لكن الممنوع هو نسبة معينة من رأس المال وليس من الربح. الدكتور سامي حسن حمود: هي العبارة منصرفة للضمان. أو نسبة معينة في الربح إن ربح. الشيخ محمد المختار السلامي: لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال، بضمان نسبة معينة من الربح. هو التعلق بكلمة الضمان. الفقرة كلها بالضمان. فالضمان لا يجوز لا أن يكون لرأس المال ولا يجوز أن يكون ضامنا للربح ولا بد. هنا أمران لا بد منهما. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: ولا يجوز أن يضمن له مبلغا محددا من المال ولو لم يكن. الشيخ عبد السلام داود العبادي: الأولى أن نقول: أو مبلغا مقطوعا من الربح. مقطوع سلف يصرف النظر منسوب لرأس المال أو غير منسوب. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: لا يجوز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1681 الرئيس: ما هو الفرق يا شيخ بين مبلغ مقطوع من الربح أو نسبة معينة من الربح. الشيخ عبد الستار أبو غدة: النسبة جائزة لكن المبلغ المقطوع لا يجوز. الرئيس: هو في مآله مقطوع. الشيخ محمد المختار السلامي: يا سيدي القضية لأن نسبة في مال تتعلق فإذا كان يعملها أو ضمان نسبة معينة من الربح انتهى الكلام. الشيخ عبد الستار أبو غدة: ماشي أو ضمان نسبة معينة. الشيخ محمد المختار السلامي: من الربح. الشيخ عبد الستار أبو غدة: لا ما ينفع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1682 الشيخ عبد السلام داود العبادي: حسن نسبة مبلغ مقطوع من الربح. الشيخ محمد المختار السلامي: الضمان هو الذي غير موجود. يعني يقول أضمن لك نسبة 10 % في الأرباح هذا ضمان غير صحيح. قضية ضمان. إذا أعطينا كلمة ضمان انتهت القضية. الشيخ إبراهيم بشير الغويل: أنا أضمن لك نسبة معينة، ضمن له مبلغا مقطوعا أو نسبة فائدة. الشيخ عبد السلام داود العبادي: الواقع إذا قلت ضمان نسبة معينة من الربح هذا جائز. الشيخ محمد المختار السلامي: غير جائز. الشيخ عبد السلام داود العبادي: كيف يوضح غير جائز. لأن الربح غير محقق قد يأتي وقد لا يأتي. المقصود أن يقطع له بمبلغ معين سواء كان منسوبا إلى رأس المال أو غير منسوب لرأس المال. هذا المقصود يا إخوان. الشيخ محمد المختار السلامي: المعين من الربح، أو ضمان مقدار معين من الربح. الشيخ عبد السلام داود العبادي: بالضبط هذا الذي نريد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1683 الشيخ محمد المختار السلامي: لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو ضمان مقدار معين من الربح. الرئيس: قد ترون الصياغة: على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى رأس المال. الشيخ سامي حسن حمود: الفقرة الخامسة: لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار ولا صك المضاربة الصادر بناء عليها على نص يلزم بالبيع ولو كان معلقا أو مضافا للمستقبل. وإنما يجوز أن يتضمن صك المقارضة وعدا ملزما بالبيع. وفي هذه الحالة لا يتم البيع إلا بعقد بالقيمة المقدرة من الخبراء فإن ترتب على الإخلال بالوعد ضرر بالموعود لزم الواعد تعويضه وفقا لأحكام الضمان الشرعية. الرئيس: أليست النتيجة واحدة أن يكون يتضمن نصا ملزما بالبيع أو يتضمن وعدا ملزما بالبيع. الدكتور علي أحمد السالوس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. الإلزام بالوعد هذه مسألة نحتاج إليها أيضا في بيع المرابحة فلعلنا نناقشها من الآن. الإلزام على أي أساس يكون الإلزام وهذه مسائل من قال بالإلزام بالوعد مثل المالكية قالوا في عقود التبرع وما قالوا أبدا في عقود المعاوضات إن الوعد ملزم، فهذه القضية أرجو أن نناقشها وأن ننتهي منها حيث هذا في الموضوع القادم وهو بيع المرابحة. وشكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1684 الدكتور سامي حسن حمود: لو سمحت لي قد يطول النقاش في قضية الوعد وكونه ملزما أو غير ملزم واختصارا للوقت وتجنبا لما قد يجر من ملاحظات جانبية لا أرى مانعا إذا سمحتم أن يكون وعدا بالبيع دون النص على أنه ملزم. الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما. أثني على ما قاله الدكتور سامي فإن هذه القضية قد بحثت وبحثها قد يجر بنا إلى نقاش قد لا تكفيه كل هذه الندوة. والربط بين حق الصحبة في اتخاذ بعض الإجراءات التي لا تتنافى مع الأصول وإلزام الناس بها. فالوعد ملزما يكاد يكون في جميع القوانين في العالم الإسلامي. ولصاحب السلطة الحق في أن يأخذ مثل هذا الإجراء نظرا للمصلحة التي تترتب عليه، وهو لا يناقض أصلا ولا يهدم أصلا من الأصول. ولذا فإني أقترح إما أن نقبل الفقرة الخامسة كما هي، وإما أن يحذف كلمة ملزم وننتهي من النقاش. وشكرا. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: هذه الفقرة منعت أن يتضمن نص يلزم بالبيع يعني منعت البيع ولو كان معلقا أو مضافا للمستقبل. مع أن تعليق عقد البيع وإضافته، وإن كان هذا هو رأي الجمهور أنه لا يجوز التعليق وبالإضافة بالنسبة للبيع لكن هذا فيه خلاف مشهور ذكره ابن تيمية وابن القيم وجوز ابن تيمية وابن القيم الإضافة والتعليق، ومع ذلك هذه الفقرة منعت هذا ثم جاءت فأجازت الوعد الملزم. وأنا لا فرق عندي بين الوعد الملزم الذي يترتب على الإخلال به ضرر وبين ما قال له من الآن: بعتك، وقال له: قبلت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1685 لا فرق بين الأمرين ما دامت النتيجة واحدة، إننا سنلزمه عندما يأتي وقت البيع سنلزمه بما صدر في الوعد تماما وإذا أخل به يجب عليه التعويض كما لو أخل بعقد البيع، فهذا مرفوض عندي وهذا الوعد في رأيي لا يكفي أن نحذف كلمة ملزم. ولا بد من التصريح بأن المشتري أو البائع أو هما معا لهما الخيار عندما يريدان تنفيذ هذا الوعد وبغير هذه الصورة إذا وضعنا ملزم، هذا لا يجوز عندي. إذا لم نضعها ستوقعنا في إشكال فإذا جاء الوقت ورفض أحد المتعاقدين ماذا يكون الحكم؟ هل سنبقي آخر الفقرة إذا ترتب على الإخلال بالوعد ضررا بالموعود لزم الواعد تعويضه. الرئيس: لا إذا حذفت ملزمة طبعا. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: سنمشي معها. إذا هذا العقد سيؤدي إلى النزاع إذا حصل جاء وقت التنفيذ وقال أحد العاقدين: لا رغبة لي في الشراء. ماذا نفعل؟ ولذلك أرى أن ينص على إعطاء أحد المتعاقدين الخيار. وهذه هي الصورة التي اتفق الفقهاء المتقدمون على جوازها في حالة الوعد. ولا أعلم أحدا قال بالإلزام. الدكتور أنس مصطفى الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم، أود إبداء ملاحظة حول صياغة هذه الفقرة الخامسة حيث تذكر احتمال وقوع ضرر بالموعود. فهنا مسألة الضرر تقتضي تحديد ما المقصود به. فينبغي الانتباه في الصياغة إلى أنه إذا فسر الضرر كما يتبادر غالبا إلى الذهن بأنه الاختلاف بين القيمة الاسمية للسهم وبين قيمته في السوق لو فسر الضرر بهذا سواء إن كان الثمن المقدر له من قبل خبراء أو كان الثمن الذي يحصل في السوق ونكل الواعد عن تنفيذ وعده فقال الذي وقع عليه الضرر: إن ضرري يتمثل بأن ما كنت المبلغ الذي دفعته كقيمة اسمية يختلف الآن عن المبلغ الذي أستطيع تحصيله عند بيعي هذا السهم، إذا فسر الضرر بأنه الفرق بين القيمة الاسمية والقيمة السوقية يحصل إشكال كبير؛ لأنه معنى ذلك نحن إذا قلنا الضرر هو الفرق بين القيمة الاسمية والقيمة في السوق معناه ضمنا لذلك الموعود القيمة الاسمية فمعنى ذلك أن ضمنا له رأس ماله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1686 ومعنى ذلك أننا وقعنا في مخالفة لما سبق تقريره من أن رأس المال لا يضمن. فينبغي في الصياغة أن تراعى. ما أدري ما هي الصياغة الأولى؟ إنما القصد أو ما أرمي إليه أنه تعدل الصياغة بطريقة تستبعد هذا الاحتمال، تستبعد حصوله ضمان عملي القيمة الاسمية التي اشتري بها السهم. وشكرا. الشيخ عبد السلام داود العبادي: بسم الله الرحمن الرحيم، أحب أن أنبه لقضية إن هذه القاعدة وضعت لتحقيق ما يسمى بالاصطلاح في مجال إطفاء السندات فإذا كان هنالك تفكير بالعدول عن مضمون هذه القاعدة سيكون ذلك حجر عثرة في قضية تطبيق العلماء. أنا أستغرب ما دام أستاذنا الجليل الشيخ الضرير يشير، وهذا الذي قلناه في الندوة في حينه، قلنا: ما دام مجموعة من الفقهاء المحترمين ولهم وزنهم العلمي وأشار ما تفضل رأي ابن تيمية في هذا الموضوع يجيزون تعليق البيع وإضافته للمستقبل. فما الحرج في ذلك إذا كان سينبني على هذا أن تقدم هذه الفكرة في الواقع وتستقر وتحقق نتائج في ظلال الالتزام بقواعد الشريعة وأحكام الفقه؟ كما لا بد أن نأخذ الجانب الذي سيقتل هذه الفكرة في التطبيق من آراء فقهائنا. لِمَ الحرص على ذلك؟ لا أدري. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى إذا لم يكن الأمر عبارة عن وعد أخلاقي، لا نتكلم عن القضايا الخلقية هنا والاعتبار الدياني. نحن نتكلم عن موضوع الجانب الحقوقي. إذا نص على هذا يجب أن يترتب عليه آثاره من حيث اعتبار الحقوق وليس من حيث اعتبار الديانة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1687 ولذلك أرجو إما أن نأخذ بخيار النص على جواز تعليق البيع هنا وإضافته للمستقبل بحيث إن موافقة المكتتب على الشروط الواردة في نشرة الإصدار تعني بيعا مضافا للمستقبل في المواعيد المقررة في نشرة الإصدار من حيث مواعيد البيع، وإما أن نأخذ بقضية الوعد. ونرتب الضرر. يعني نحن لجأنا في الندوة من أجل أن هذه الفكرة بما فيها من خير للمسلمين كما أشير أكثر من مرة، أن تمر ولو بالحد الأدنى. فيبدو الآن أننا نتفاوض على الحد الأدنى. فإذا كان فيه في الواقع عدم تصور للفكرة من حيث هي وآثارها الاقتصادية فليتركها المجمع. لأني ألاحظ أن بعض الإخوان عندما يناقشون هذه القضية يغفلون أو لا يلاحظون أساسيات فيها. إذا أغفلت في التطبيق تموت الفكرة كأنها ولدت ميتة. وشكرا. الرئيس: شكرا. في الواقع إن قضية الوعد الملزم هي مهمة جدا وهي كما تفضل الشيخ علي السالوس هي عنصر مهم في بيع المرابحة للآمر بالشراء، وإن دخلنا في تفاصيلها وأبحاثها فقد لا تنتهي إلى نتيجة في وقت مبكر، وإن كان كلام الجمهور من أهل العلم على أن الوعد غير لازم قضاء وإنما لازم ديانة ومنهم من يقول: إنه يلزم إذا تحمل ورطة. فهل ترون أن يكون تعديل العبارة: وإنما يجوز أن يتضمن صك المقارضة وعدا غير ملزم للبيع؟ الدكتور سامي حسن حمود: لو اكتفينا بالقول (وعدًا بالبيع) لأن هناك اختلافات حتى في تصور الوعد الملزم مثلا القانون المدني الأردني المستمد من الشريعة الإسلامية والمبني على الفقه الإسلامي أخذ بنظرية الوعد الملزم، وطالما ننظر إلى هذا التطبيق أن يكون عاما في بلاد إسلامية متعددة فندع النص أنه وعد بالبيع، فالبلاد التي تأخذ قوانينها بالاتجاه الذي يرى أن الوعد يكون لها التصرف ولها أن تختار، والبلاد التي لا ترى الإلزام في الوعد يكون كذلك. أما لو كان النص أن الوعد شرط أن يكون غير ملزم فهنا ندخل في التناقض والحرج في التطبيق. الذي أقترحه وأراه أن يكون النص وعدا بالبيع، ومن يرى الإلزام يأخذ به ومن لا يرى الإلزام لا يأخذ به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1688 الرئيس: والله يا شيخ أقول كون يصدر نص محتمل لا بد من الوضوح لأن هذا بيان حكم شرعي فلا بد من الوضوح. أما أن نتركه وعدا فهو قابل لأنه يرجع على أصل المادة هذه بالنقد بينما إذا كان الوعد ملزما فلا حاجة لأن نقول: لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار ولا صك المقارضة الصادر بناء عليه على نص يلزم بالبيع. لأن طالما أن الوعد ملزم فالنتيجة واحدة. الدكتور سامي حسن حمود: وما هو حكم البلاد التي صدرت بها قوانين مقررة من مجالسها التشريعية؟ الرئيس: نحن لا يهمنا إلا شيء واحد فيما نعتقد وندين الله به، أنه هل الوعد الملزم أو غير ملزم. فطالما أن الأمر كذلك وأن جماهير أهل العلم والمسألة ليس فيها دليل في أنه ملزم يعني دلالة قطعية أو أنه غير ملزم ولكن جماهير أهل العلم الجمهور على أنه غير ملزم قضاء بل إن منهم من قال في الوعد: إنه في غير عقود المعاوضات إلزامية ديانة. فنحن ما نستطيع أن نخرج عن سمات أهل العلم وبحثهم وكلامهم في هذه القضية. فنحن ما نستطيع أن نصدر مواد ذات نهاية رجراجة كأن نقول طبقا للأحكام الشرعية وكل يطبق هذه المادة على ما يراه من الأحكام الشرعية أو نقول: وإنما يجوز أن يتضمن صك المقارضة وعدا بالبيع وهؤلاء لا يطبقون ملزم وهؤلاء غير ملزم. ينبغي أن يقول المجمع كلمته. هذا الذي يظهر لي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1689 الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: أنا في رأيي أننا نصرف موضوع الوعد الملزم والغير ملزم عندما نأتي للكلام عن بيع المرابحة للأمر بالشراء لأن ذلك في موضعه. وهنا اقتراحي هو بدلا أن نقول وعدا غير ملزم نتركه وعدا بالبيع ونضيف في آخر العبارة بعد حذف فإن ترتب يجب أن تحذف ويرضي الطرفين. يعني يكون النص هكذا: يتضمن سندات المقارضة وعدا بالبيع وفي هذه الحالة لا يتم البيع إلا بعقد بالقيمة المقدرة من الخبراء ويرضى الطرفين. الرئيس: هذا طيب ويحذف ما بعد هذا. سادسا. الدكتور سامي حسن حمود: سادسا: لا يجوز أن تتضمن نشرة الإصدار ولا الصكوك المصدرة على أساسها نصا يؤدي إلى احتمال قطع الشركة في الربح فإن وقع كان العقد باطلا. ويترتب على ذلك: أ - عدم جواز اشتراط مبلغ محدد لحملة الصكوك أو صاحب المشروع في نشرة الإصدار وصكوك المقارضة الصادرة بناء عليها. ب - أن محل القسمة هو الربح بمعناه الشرعي، وهو الزائد عن رأس المال وليس الإيراد أو الغلة. ويعرف مقدار الربح، إما بالتنضيض أو بالتقويم للمشروع بالنقد، وما زاد على رأس المال فهو الربح الذي يوزع بين حملة الصكوك وعامل المضاربة، وفقا لشروط العقد. ج - أن يعد حساب أرباح وخسائر للمشروع وأن يكون معلنا وتحت تصرف حملة الصكوك. الرئيس: نقرأ السابعة ثم نعود إلى المادة من أولها. تفضل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1690 الدكتور سامي حسن حمود: 7- يستحق الربح بالظهور، ويملك بالتنضيض أو التقويم ولا يلزم إلا بالقسمة، وبالنسبة المشروع الذي يدر إيرادا أو غلة فإنه يجوز أن توزع غلته، وما يوزع على طرفي العقد قبل التنضيض (التصفية) يعتبر مبالغ مدفوعة تحت الحساب. الشيخ عبد الله إبراهيم: شكرا سيادة الرئيس، أرجع إلى المادة الخامسة في الفقرة جـ: أن يعد حساب أرباح وخسائر للمشروع وأن يكون معلنا وتحت تصرف حملة الصكوك. هنا أريد أن أستفسر فقط هل يحتاج إلى اعتماد من قبل الجمعية العامة مثل ما حد للشركات الإسلامية؟ هل يحتاج إلى اعتماد هذه الحسابات بواسطة الجمعية العمومية؟ الدكتور سامي حسن حمود: الواقع إذا كان المشروع أخذ شكل الشركة المساهمة فسيطبق عليه ما يطبق على الشركات المساهمة من اعتماد الجمعية العمومية. أما إذا كان المشروع متخذا شكل الإدارة المفردة فإن هذه الإدارة تكون ملزمة بتعيين مدقق الحسابات قانوني يراجع هذه الحسابات وهناك ميزانية سنوية يجب أن تكون معلنة ومنشورة فيدفع في كل حال الشكل الذي اختير فيه أن يكون المشروع مدارا به. الرئيس: أمامكم الفقرة السادسة، أظن صدر المادة لا غبار عليه يبقى ويترتب على ذلك هذه الفقرات الثلاث، هل لديكم فيها شيء؟ الشيخ إبراهيم فاضل الدبو: بسم الله الرحمن الرحيم، سيادة الرئيس فقط إني أسأل عن العبارة الواردة في فقرة (ب) أسأل الأستاذ سامي عن قوله: (وهو الزائد عن رأس المال وليس الإيراد أو الغلة) أريد أن أسأل عن هذه المسألة: ما المقصود من الإيراد أو الغلة؟ وشكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1691 الدكتور سامي حسن حمود: واضح هو الربح بمعناه الفقهي ما زاد عن رأس المال، ومعنى ذلك كيف تعرف الزيادة بالمفهوم الحسابي؟ أن يعود رأس المال إلى حالته التي كان عليها. فإذا بدأنا بمائة دينار ونضضنا البضاعة بمعنى قلبناها إلى نقود مائة وعشرين فتكون العشرة هي الربح. هنا قصد الإخوة في الندوة التي عقدت لهذه الغاية بأن يميزوا الربح في مضمونه الفقهي عن الإيراد أو الغلة بمفهومه المعتاد بحيث إنه لم يكن استثمار رأس المال في التجارة وبنيت به أو اشتريت به حافلة أو سيارة. فالعائد الذي يتأتى بمفهومه الفقهي وبين الإيراد أو العائد الذي يأتي نتيجة تأجير البيت، تأجير المكتب، تأجير العمارة أو تأجير السيارة. هذا هو المقصود في التفريق في هذه الفقرة. الشيخ عبد الستار أبو غدة: بسم الله الرحمن الرحيم، يعني يفهم من شرح الدكتور سامي – يفهم من شرحك – أن الخلاف في التسمية والاصطلاح فقط، مع إن هناك فرقا جوهريا آخر غير ما ذكرت أو يضاف إلى ما ذكرت هذا الفرق الجوهري أننا لو قلنا: إن الإيراد هو ربح معناه هذا المستغل إذا كان عقارا مثلا تحقق منه أجرة أو ربح، هذا كله ربح. الواقع أننا لا نعد كل هذا ربحا إذا نقصت قيمة العقار في السوق عن القيمة التي اشترى بها التي هي رأس المال. فيجب أن نميز إذا كان هذا الإيراد قد جاء وقيمة المستغل لم تتغير فكل هذا الإيراد هو ربح. وأما إذا نقصت قيمة المستغل فنأخذ من هذا الإيراد ما يعوض ويرد القيمة إلى ما كانت عليه عند بدء المقارضة فيعتبر هذا كله رأس مال العقار المستغل نفسه وجزءا من الإيراد يعيد قيمته إلى واقعها السابق وما زاد فهو ربح. يعني ليست كل الغلة ربحا، ليس كل الإيراد ربحا. هذا هو الفرق الجوهري الذي قصد في هذه الفقرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1692 الرئيس: يا أستاذ سامي.. فيه عبارة إذا رأيتم يستغني عن قولنا: وليس الإيراد أو الغلة، لو قيل وهو الزائد عن رأس المال وقت القسمة. ونترك وليس الإيراد أو الغلة. وهو الزائد عن رأس المال وقت القسمة. لأنه إذا قلنا: وقت القسمة سواء أكان في أصل رأس المال الذي ضاربت فيه الشركة وحصل عليه ربح أو أنها قُلبت فيما بعد وحصلت نتيجة التقليب الأخيرة. الشيخ عبد السلام داود العبادي: الواقع هنا القسمة ما المقصود بها؟ إذا كان المقصود نسبة الربح الواقع ليس مرادها. الرئيس: صدر المادة نفسه يا شيخ. الشيخ عبد السلام داود العبادي: لا يا سيد لا محل القسمة قسمة الربح المقصود بها. لكن تحديد الربح لا علاقة له بالقسمة. تحديد الربح أساسه هو تقويم هذا الشيء وخصمه ونسبته إلى رأس المال هل فيه ربح أم لا يوجد فيه ربح؟ له علاقة بالقسمة؟ وقد يوجد ربح ولا نقسمه لعدم وجود الأشخاص الذين سيطلبون هذا الربح. فإذن المقصود هو لمعالجة قضية القيمة الاسمية في السنوات الإطفاء عليها أو القيمة الفعلية. فهنا هذا يرتبط بهذا المقصود القيمة الفعلية. يعني نقوم بتقويم هذا البناء نبينه بمليون الآن ثمنه مليونان، نريد أن نطلع المكتتبين فيحسب على أساس المليونين البناء وليس ننتبه إلى إيراد أنه يحصل على مائة ألف في السنة أو مائتي ألف. يعني العبارة التي تبقى لأنها دقيقة وصيغت بعد جهد طويل. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: الزائد عن التنضيض يا سيدي الرئيس. الزائد عن رأس المال عند التنضيض أو التقويم وهذا مشروع في باقي الفقرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1693 الدكتور حسن عبد الله الأمين: شكرا يا سيدي الرئيس.. الربح غير واضح خالص في هذه الشروح التي يبديها الإخوة وهنا غير موضح في الفقرة. إذا قلنا: إن الربح والعوائد هذه ليست ربحا إلا إذا تأكدنا من أن القيمة الأصلية للحصة موجودة وليست ناقصة. فهل معنى ذلك أن القيمة الاسمية للحصة إذا زادت بهذا البيع تضاف إلى الريع وتعتبر كذلك جزءا من الربح، كلاهما يمثلان ربحا؟ وفي هذه الحالة نرجع إلى ما قاله الأستاذ الشيخ تقي من أن هذا الجزء المتحقق من زيادة القيمة في أصل السهم أو الحصة يعتبر جزءا من الربح ويأخذ به حقه أم لا؟ لا أفهم غير هذا من هذه الشروح التي جاء بها الإخوة جميعا. وشكرا. الدكتور رفيق يونس المصري: شكرا يا سيدي الرئيس.. أنا أحب أن أوضح نقطة بصورة علمية. الفرق الذي يبدو لي بين الغلة والربح هو المؤن. النفقات فإذا نزلت النفقات أو خصمت هذه النفقات من الغلة كان هو الربح. والمقصود هنا بالربح هو الربح الصافي بالعبارة المحاسبية التي يعرفها المحاسبون. النقطة الثانية التي أود أن أشير إليها: أن اقتراح سيدي الرئيس بإضافة وقت القسمة لا أرى أي مانع منه لأن المقصود وقت قسمة الأرباح سواء إن كانت هذه القسمة مبنية على التنضيض أي التصفية النهائية أم كانت مبنية على التقويم. وشكرا. الشيخ محمد علي التسخيري: معذرة سيدي الرئيس. بالنسبة للربح هناك مراحل، هناك مرحلة الظهور، كما أشرنا في المادة السابعة، الظهور مرحلة التنضيض ثم مرحلة القسمة. الربح لا يتكون مفهومه بعد القسمة حينئذ الصحيح أن نقول مع حذف عبارة (وليس الإيراد أو الغلة) باعتبار أن الواضح أن الإيراد إذا كان بحيث يغطي ما تنقص عنه قيمة العمارة لا يعد ربحا ولذلك المرجع أن يقال وهو الزائد خالصا عن رأس المال. خالصا هذا قيد خالص لحذف المؤنة وعدم تقييده بالقسمة أو التنضيض. الربح ربحا حتى عند الظهور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1694 الشيخ محمد تقي العثماني: في الواقع إن ما جعل الذين صاغوا هذه التوصيات يذكرون الإيراد والغلة هو أنه يقول بعض الناس: إن الربح إنما هو الذي يدر في الغلة فقط وقيمة الأصول الثابتة لا تدخل في الربح. فلذلك أضافوا هذه الكلمة، ولذلك أرى أنه لا ينبغي أن تحذف هذه الكلمة ولكن لو أضفنا إليها ونقول: وهو الزائد عن رأس المال وليس الإيراد أو الغلة فقط. أظن هذا يحل الإشكال وليس الإيراد أو الغلة فقط. ما زاد عن رأس المال فهو ربح ولا يعني أن الإيراد والغلة هو الربح فقط. الرئيس: لكن ما رأيكم فيما لو أخذنا باقتراح الشيخ الصديق في السطر الثالث من فقرة (ب) بأن نقول: إن ما زاد عن رأس المال عند التنضيض أو التقويم فهو الربح يوزع بين حملة الصكوك وعامل المضاربة وفقا لشروط العقد. الشيخ محمد علي التسخيري: إنه ربما حتى قبل التنضيض يا سيادة الرئيس. الربح ربح حتى قبل التنضيض، ربح واضح ولكنه لا يمكن ادعاؤه ولا يلزم إلا بعد القسمة. ربما هو حتى قبل التنضيض. الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. إن هذه الفقرة الثانية (ب) التي وقع النقاش فيها هي فقرة متكاملة وعدم النظر إلى بعض أجزائها هو الذي أوجب مثل هذا. فإن الذي نتحدث عنه ليس هو تعريفا للربح وإنما نتحدث عن محل القسمة ماذا يقسم؟ قلنا: إن الذي يقسم هو الربح بمعناه الشرعي. والربح بمعناه الشرعي لا بد من بيانه هذا الذي يقسم. فإذا كانت سندات المقارضة افترضنا أنها بمليون ريال هذا المليون ريال أعطانا غلات للمباني بمئتين مليون ريال الذي أردنا أن نقوم ما عندنا أصبح قيمة المبالغ التي بنيناها هي تسعمائة فقط فيكون عندنا تسعمائة وعندنا مائتين التي وردت من الدخل، فالقيمة بالزيادة في الربح هي مائة فقط وليس مائتين. فهي بهذا متكامل ولا بد منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1695 فأعتقد لما قالوا هو الزائد عن رأس المال وليس الإيراد أو الغلة هو لتوضيح ما يقسم بناء على الأول في الفقرة وهو الذي يعطينا مفهوم ما يقع القسمة، ما يستفيد منه المساهم في سندات المقارضة. ثم بعد هذا أعطت الفقرة بماذا نعرف مقدر الربح؟ كيف الطريقة؟ قال: إما بالتنضيض أو بالتقويم. وهذا أمر مقصود أيضا لأن المعروف عن معظم الفقهاء هو التنضيض. فالزيادة والتقويم هو أيضا أمر لا بد منه. فأعتقد أن الفقرة متكاملة وأنه لا يوجد فيها ما يخالف الشرع ولا ما هو مما يعد خطأ في اللغة ولا في التعبير. فأعتقد بقاء الفقرة على ما هو عليه هو الأصلح. وشكرا. الشيخ عجيل جاسم النشمي: بسم الله الرحمن الرحيم، أنا لدي تعليق على الفقرة (أ) التي مررنا عليها هو الاستفسار من الإخوة واضعي النص يقول: عدم جواز اشتراط مبلغ محدد فيفهم منه جواز اشتراط مبلغ غير محدد هذا مقصود؟ لأنه لا يجوز كما أعرف سواء إن كان محددا أو غير محدد. شكرا. الشيخ محمد سالم عبد الودود: من المعلوم أن الربح طبعا معروف الربح الشرعي وهو ما زاد عن رأس المال حتى ولو وقع خسران. ولو وقع خسران فإنه يجد بالربح، وما زاد عن الخسران هو الربح وأما الإيراد والغلة فإن من الواضح من النص إن ما يقسم منه بين حملة السندات وعامل القراض يكون تحت الحساب. تحت الحساب بمعنى أنه يحاسب به عند الاقتصاد وهذا يغني عن المناقشة في الموضوع. الشيخ عبد الله إبراهيم: يظهر لي في المادة الثامنة أن الاقتطاع سيكون من نصيب فرد واحد إذا نص عليه، لا من طرفين من أن العادة أن يكون اقتطاع الاحتياطي هذا يكون من نصيب طرفين معا، حملة الصكوك والمضارب، لأنه ينص السماح بأن ينص في نشرة الصكوك على اقتطاع نسبة معينة في نهاية كل دورة إما من حصة حملة الصكوك أو من حصصهم في الإيراد أو الغلة. فهذا كله لا يؤدي إلى الإطفاء من طرف واحد فأنا أرى أن يكون الاقتطاع الاحتياطي هذا من نصيب الطرفين معا. لهذا أقترح: اقتطاع نسبة معينة في نهاية كل دورة من الربح الناتج قبل القسمة بين الطرفين: حملة الصكوك والمضارب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1696 الشيخ محمد تقي العثماني: ما وصلنا إليه بعد. الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. ما تفضل به الدكتور عجيل من فقرة (أ) من عدم جواز اشتراط محدد لحملة الصكوك. هو وهم قد يفهم فيقال: عدم جواز اشتراط مبلغ محدد من الربح لحملة الصكوك. هذا مبلغ محدد بين الربح لحملة الصكوك هو معروف وشيء مقيد. هل ينصرف على القيد والمقيد معا؟ الواضح أنه على القيد والمقيد معا. لكن جعله على المقيد دون القيد، وإن كان يحتمله لغة لكن ليس هو السابق إلى الذهن. فإذا أردنا التورع في التعبير نزيد هذا، نزيد ما ينبغي رفع الأحجمة. وشكرا. الرئيس: شكرا، على كل حال هو مثل ما تفضلتم هو تحدده نفس المادة ولهذا زيادة العبارة من الربح تكييف. الدكتور رفيق يونس المصري: بسم الله الرحمن الرحيم، أنا في الحقيقة لا أرى أن العبارة تحتمل أي إضافة لأن المقصود هنا اشتراط مبلغ محدد سواء أكان ذلك من الأرباح أو من سواها. وردا على سؤال الأستاذ النشمي، أنا في الحقيقة أود أن أسأله هل يمكنه أن يعطينا مثلا على اشتراط مبلغ محدد؟ وفي ضوء الجواب نستطيع أن نتصرف بالعبارة بشكل مناسب. وشكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1697 الدكتور عجيل جاسم النشمي: أنا الذي كان في ذهني هو القيد الذي ذكره الشيخ السلامي ليرفع التوهم فقط. يعني أرى إضافته من الربح حتى يكون الكلام واضحا. الرئيس: على كل يا شيخ عجيل هو إذا أضيف فهو لا يضر لكن لا ينفع بسبب أن نفس المادة هي أولها إلى آخرها هي في قضية الربح. لا يجوز أن تتضمن نشرة الإصدار ولا الصكوك المصدرة على أساسها نصا يؤدي إلى احتمال قطع الشركة في الربح. فإن وقع، إذا ممكن أن نضيفه هناك ونقول: فإن وقع شرط قطع الشركة في الربح كان العقد باطلا. فعلى كل إن حصل زيادتها فلا ضرر فيها وإن حصل تركها فليست موهمة. هذا الذي يظهر وإن رأيتم زيادتها فلا مانع. عدم جواز اشتراط مبلغ من الربح. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: اشتراط مبلغ محدد من الربح قد يكون جائزا في بعض الأحيان، والمقصود هو عدم اشتراط مبلغ مقطوع وليس مبلغ محدد من الربح. يقول المضارب لرب المال: أعطيك عشرة جنيهات والربح بيننا مناصفة هذا الشرط فيه احتمال قطع الشركة في الربح؛ لأنه قد لا يربح شيئا وهو ملزم بأن يعطيه العشرة جنيهات وقد يربح خمسة جنيهات وهو ملزم بأن يعطيه العشرة جنيهات. هذا هو المقصود. أما اشتراط مبلغ محدد فقد يجوز ونص الفقهاء على اشتراطه في بعض الأحيان إذا لم يترتب عليه عدم الاشتراط في الربح, كما إذا قال له: سأعطيك عشرة جنيهات إذا زاد الربح عن خمسين جنيها من الربح. هذا لا شيء فيه والخمسين توزع مناصفة، وهذا الشرط صدرت فيه فتوى من هيئة الرقابة الشرعية والمقصود به تشجيع. هذا يصرف في الغالب للمضارب تشجيعا له على أن يجتهد في زيادة الربح. إذا زاد الربح عن كذا أعطيك مبلغ كذا. وهذا منصوص عليه في بعض كتب الفقه بالجواز. والعلة في الجواز هي أنه لا يتعارض مع الشرط الرئيسي وهو عدم قطع الاشتراط في الربح. فالنص يجب أن يبقى كما هو وحتى لو أضيف إليه مقطوع يبقى أوضح. اشتراط مبلغ مقطوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1698 الرئيس: إذا رأيتم أن نتجاوز الفقرة إلى الفقرة (ج) لا في الواقع يظهر أن الفقرة (أ) و (ب) ليس فيهما محاذير شرعية، فطالما أنه ليس فيهما محاذير شرعية ولا سيما الفقرة (ب) فيها عبارة جديدة وهو أنه قال: في الربح وهو الزائد عن رأس المال. هذا هو المتعارف عليه شرعا. الدكتور سامي حسن حمود: - يستحق الربح بالظهور، فيملك بالتنضيض أو التقويم ولا يلزم إلا بالقسمة. وبالنسبة للمشروع الذي يدر إيرادا أو غلة فإنه يجوز أن توزع غلته، وما يوزع على طرفي العقد قبل التنضيض (التصفية) يعتبر مبالغ مدفوعة تحت الحساب. الشيخ محمد المختار السلامي: اعتماد رأي الحنفية ونقله بتمامه وكماله من النصوص الأصلية. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: كويس هذا مقبول. الدكتور سامي حسن حمود: 8- ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة معينة في نهاية كل دورة، إما من حصة حملة الصكوك في الأرباح في حالة وجود تنضيض دوري، وإما من حصصهم في الإيراد أو الغلة الموزعة تحت الحساب ووضعها في احتياطي خاص لمواجهة مخاطر خسارة رأس المال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1699 الشيخ عبد الله إبراهيم: سبق وأن قلت بالنسبة لهذه المادة: إنها تسمح بالاقتطاع من نصيب طرف واحد لا من الطرفين مع أن العدل أن يكون الاقتطاع الاحتياطي هذا من نصيب الطرفين معا. ولهذا أنا اقترح أن يكون النص على اقتطاع نسبة معينة في نهاية كل دورة من الربح الناتج قبل القسمة من الطرفين: حملة الصكوك والمضارب. الدكتور رفيق يونس المصري: بسم الله الرحمن الرحيم، أنا أرى من المناسب في نهاية هذه الفقرة تضاف جملة تتعلق بمصير هذا الاحتياطي عند تصفية المشروع. ولا أرى أن يختص بهذا الرصيد المساهمون في ذلك التاريخ، وإنما أن يُصرف رصيده الباقي في أعمال خيرية ومصالح عامة. وشكرا. الدكتور حسن عبد الله الأمين: التخصيص لاستقطاع من أصحاب الأسهم الغرض منه إبعاد نصيب المضارب من أن يتحمل شيئا يعتبر ضمانا منه لعمل المضاربة. هذا التخصيص مقصود أساسا لأصل الشركة فلا يصح أن يكون هذا الاستقطاع شاملا لنصيب المضارب حتى لا يكون ضامنا في هذه الحال بجزء من استحقاقه. وشكرا. الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، واللهم صل على رسولك وعبدك محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه. الحقيقة بالنسبة للاحتياطي إذا كانت الأسهم يتغير حملتها فأميل إلى رأي الأخ الذي قام بتوزيعها على اثنين، ولكن إذا كان حملتها غير متغيرين فالاحتياطي يبقى لهم لأن الأسهم غير متداولة. ثم إن الاحتياطي الحقيقي فيه جبر لنزول القيمة. وشكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1700 الشيخ عبد السلام داود العبادي: في موضوع هذا الاحتياطي بني على أساس فكرة أنه عمل تعاوني لأغراض جبر أي ضرر يقع على هؤلاء المتعاونين فيتبرعون بمبلغ يوضع في صندوق بحيث يدفع من هذا الصندوق لجبر أي خسارة يتعرضون لها. هذه هي أساس الفكرة الشرعية. فهي لمصلحتهم، والنقطة لماذا لم يدخل العالم لأنا نخشى من الوقوع في فكرة ضمان رأس المال ولذلك أنا مع الدكتور رفيق في أنه يجب أن ينص على مصير هذا المال، هذا المال ليس للمضارب وهذا المال تبرع به المكتتبون وقد تتغير أشخاصهم ويتنوعون ويتبدلون فلذلك هو أصبح مالا من الصعب إعادته للجهات التي تبرعت به خاصة أنها قد تبرعت. فلذلك فلينص على مصرفه جهة عامة أو فقراء. الرئيس: لكن فيما لو كان أصحاب الاكتتاب لم يتغيروا. سؤال لو لم يتغير أصحاب الاكتتاب؟ الشيخ عبد السلام داود العبادي: يوزع عليهم. هم تبرعوا حماية لرأس المال. الشيخ محمد المختار السلامي: هم تبرعوا فإذا تبرعوا وخرج عنهم فلا يعود إليهم. الرئيس: لا يا شيخ ما فيه طيب كلهم تبرعوا لغرض معين، لحماية رأس المال من المخاطر. لكن لو فرض أن أصحاب المال أو المكتتبين لم يتغيروا أو أن نسبة كبيرة 80 % أو 90 % لم يتغيروا فكيف إنني أستل المال وأجعله في مشاريع خيرية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1701 الشيخ عبد السلام داود العبادي: بموافقته. الشيخ محمد المختار السلامي: هو من الأول تبرع بمعنى خرج من ذاته وأعطاه إلى صندوق بعيد عنه وقال تبرعت بهذا الصندوق حتى يحقق الأغراض التالية. لقد خرج فالعود فيه لا يكون بشيء. الرئيس: يا شيخ هو لا يحقق إلا غرضا واحدا. وهو لمواجهة خسارة رأس المال أما الأغراض التالية فلا. لكن لو فرض أن رأس المال لم يأتِ عليه مخاطر وأن المكتتبين لا يزالون موجودين وانتهى المشروع. أجعله في مشاريع خيرية وصاحب الحق موجود‍!! الشيخ محمد المختار السلامي: قطعا وهذا هو المصرف وهذه هي الطريقة التي ذهبت عليها التعاونيات كلها، والتعاونيات كلها فيها تبرع أولا تخرج عن ملك الشخص وتصبح تعود إلى غيره. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: رأيان معمول بهما، والمرجع في ذلك إلى صيغة التبرع فإذا كان المتبرع قد تبرع بما يحتاج إليه من تبرعه لصالح رأس المال هنا الزائد يعود إليه لأنه تبرع بالمقدار الذي يحتاج إليه. أما إذا تبرع بكل المبلغ من أول الأمر وهذا أيضا موجود في بعض نظم الصناديق التعاونية فإن هذا ويوجد نص صريح يوزع في سبل الخير عند التصفية. وهذا لا يتم إلا عند تصفية العملية طبعا. الرئيس: أما أنا فأرى بقاء المادة كما هي ولا يضاف إليها طالما أن الغاية حددت وهي لمواجهة مخاطر خسارة رأس المال. الشيخ محمد المختار السلامي: إذا باع أحد أصحاب الأسهم سهمه وكان هناك احتياطي تبرع به فهو قد باع السهم فقط أو باع السهم وباع التبرع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1702 الرئيس: ليس لدينا تبرع هنا يا شيخ. الشيخ محمد المختار السلامي: إذن لا بد من النظر في أصل الصياغة. أصل الصياغة لما دفعه في هذا الصندوق بأي وجه. الرئيس: بوجه واحد ليس ما حددتموه في آخر الفقرة لحماية مخاطر خسارة رأس المال فإذا كان هناك صياغة ستحدد الغايات التي من أجلها هذا الاقتطاع ربما يكون فيه شيئا من الوجاهة. أما إذا كانت إضافة ما ذكره الأستاذ رفيق. أما إذا كان ستقتصر لمواجهة خسارة رأس المال فقط فإنه ما هو التكييف الشرعي في أن يقتطع مبلغا لخسارة رأس المال ثم لا يخسر رأس المال وعند النهاية يؤخذ المبلغ ويجعل منه مشاريع خيرية وأصحابه قائمون؟ الشيخ محمد المختار السلامي: التكييف الشرعي أرجوكم، التكييف الشرعي لتكوين هذا الصندوق قبل كل شيء. الرئيس: لغرض واحد مخاطر رأس المال. الشيخ محمد المختار السلامي: وهل لنا أن نتعاون بهذه الطريقة؟ أرجوكم البحث في هذه القضية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1703 الشيخ عبد السلام داود العبادي: الواقع هنالك قضية يجب أن نسأل عنها. تم تداول هذه السندات على نطاق واسع ولم يعد من السهل معرفة من هم الملاك، هذا المال الذي تجمع عن تصفية المشروع وقد يبلغ ملايين إذا كان المشروع كبيرا، هذا كيف ينصرف بها؟ هل يأخذها المضارب؟ إذا استحالة إعادتها إلى أصحاب السندات لأنهم قد يكونون بمئات الألوف وقد تقلبوا واحد إثر واحد، ما الحل؟ هذا المال تبرع به. تخريج إدخال قضية الفقراء أو الجهة العامة سهل بأن يكون الأمر معروف من بدايته، أنا أتبرع لهذا الصندوق فإذا صار خسران دفع لجبر الخسران إذا لم يحدث خسران أنا من البداية أعرف أن هذا المال سيذهب للفقراء فأنا متبرع والصورة واضحة في ذهني وليس في ذلك إلزاما لي بأي شيء آخر. الدكتور رفيق المصري: بسم الله الرحمن الرحيم، التمييز الذي أبداه الأستاذ الياسين بادئ ذي بدء تمييز حسن وجيد ولكن أريد أن أسأله سؤالا. لنفرض أن بعض حملة الصكوك قد خرجوا والبعض الآخر قد بقوا موجودين في الشركة فماذا نفعل؟ هل نقسم رصيد هذا الاحتياطي ونوزعه جزءا على من بقى والجزء الآخر نتبرع به؟ أرجو أن يوضح ذلك وشكرا. الشيخ محمد سيد الطنطاوي: بسم الله الرحمن الرحيم، الذي أفهمه من النص الذي أمامي أن هذا المبلغ المقتطع إنما هو لشيء محدد وهو مواجهة مخاطر خسارة رأس المال، فالمبلغ المتقطع إنما هو لهذه الخصوصية بذاتها فالتبرع هنا ليس واضحا فإما أن نترك النص على ما هو عليه وإما أن نضيف إليه (ويعود هذا المال المتبرع به إلى صاحبه إذا رغب في ذلك عند التصفية) لأني أنا لم أتبرع في الحقيقة الشركة ألزمتني بأن أضع جزءا من تلك الأرباح لمواجهة الخسارة فبهذه الحالة تبرعي غير واضح ما دام الأمر كذلك فيجب أن يعود إلى مالي عند تصفية هذه الشركة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1704 الرئيس: وهذه الحقيقة طالما أن الغاية محددة، وهي لمخاطر رأس المال ولم يتحقق عليه خسارة. إذن يعود إلى صاحبه. الشيخ محمد سيد طنطاوي: لا بد أن يعود إليه. الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم، الحقيقة جوابي للأستاذ وهو يفهم في هذه الأمور أن الاحتياطي يؤخذ حينما يشعر المضارب أو الشخص القائم على العمل أن هناك مخاطر وإذا شعر بأنه ليس هناك مخاطر لا يؤخذ احتياطي الاحتياطي المنصوص عليه هنا في مادة (8) هو لمواجهة خسارة رأس المال. إذن عندما يكون لزوم لذلك يأخذ الاحتياطي لهذا الموضوع. ولكن عندما يكون ليس هناك ما يدعو لأخذ الاحتياطي فليس هنا داع لذلك. والحقيقة إذا أخذ وبقي شيء من الاحتياطي تقديرا، كان يقدرون أن هنالك خسارة وأخذ لذلك وتراكمت هذه فيما بعد يقدر القيم على العمل من البداية يقول زيد عن الاحتياطي. إذا زاد موضوع ما أخذناه من البداية يأخذ منهم إذن بالتبرع بداية إذا زاد الاحتياطي عن مخاطر رأس المال فنفوض المضارب بأن يتبرع بالزائد إلى الخير، هذا تفويض مسبق وشكرا. الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحقيقة إنني فكرت كثيرا في هذه الفقرة فلم أجد فيها ما يسوغ مآل هذا القدر المقتطع إلى أن يتبرع به. شيء أخذ واقتطع لمصلحة المضاربين فيما إذا وقع خسران أي هذه شريحة بجبر الخسران المتوقع. كيف نحلل بعد ذلك هذا الموقف إلى أن المال يتبرع به ونكون وكلاء عن المضاربين في قصودهم غير الواضحة والتي لا تعبير عنها إطلاقا. أما الجواب على سؤال بعض الإخوة الذين قالوا الأسهم يتبادل عليها أشخاص كثيرون، اختلف الأشخاص، ما مآل هذا المال؟ الحقيقة الجواب واضح لأن هذه الشريحة المقتطعة الموضوعة لمجابهة حالات الخسران هي عبارة تتحول إلى أجزاء تتدخل في قيمة كل سهم فعندما ينتقل السهم من فلان إلى فلان ينتقل معه حكما أيضا جزءا من الاحتياطي. ولذلك فملكية هذا القدر الاحتياطي تنقسم وتنتقل حسب انتقال هذه الأسهم وأنا لا أتصور أبدا إننا نملك أي حجة شرعية في أن نحكم على المضاربين بأن يتبرعوا بها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1705 الرئيس: والله هذا الذي يظهر. الكلمات كثيرة عندي الآن أكثر من حوالي خمسة عشر اسما. فهل ترون أن نبقي على المادة ونمشي ونترك قضية إنها تصرف؟ إذن يبقى على النص. تسعة. الدكتور سامي حسن حمود: 9- ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث بمبلغ بالتبرع مخصص لجبر الخسران في مشروع معين. على أن يكون التزاما مستقلا عن عقد المضاربة بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطا في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء لالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به بحجة أن هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد. الرئيس: يعني هذه المادة التاسعة أَلَا تعود على الرابعة بالنقض؟ الشيخ إبراهيم فاضل الدبو: بسم الله الرحمن الرحيم، أرى كما تفضل السيد رئيس المجمع أن هذه المادة تتعارض مع المادة الرابعة، لأنه لنا من الأدلة الكثيرة التي سطرها فقهاؤنا المسلمون ومستندة إلى أحاديث وردت بهذا الخصوص، بأنه ليس على المضارب ضمان فلو أننا أردنا أن نلزم المضارب أو أن نلزم جهة أخرى تتبرع بضمان هذا المال، فأقول: إن هذا المال ليس بمضمون في الواقع فكيف نتصور أن شخصا يضمن شيئا لا يجب ضمانه؟ وفي الأحاديث الشريفة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن. والقاعدة الفقهية تقول (الغنم بالغرم) فإذن في نظري أن مثل وجود هذا الشرط إنما هو تحايل على الشريعة الإسلامية ولأجل تغرير المساهمين برأس المال في سبيل جرهم إلى هذه المسألة لذا فإني أتحفظ في وجوب هذه الفقرة وشكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1706 الشيخ محمد سالم عبد الودود: شكرا سيدي الرئيس. الحقيقة أن الضمان هنا أولا تحتمل معنى التبرع، والتبرع هنا المعروف والضمان كله أصلا من المعروف واسمحوا لي أن أقول ما قاله الفقهاء المالكيون في خصوص ضمان شخص ثالث للقراض ونحوه، ما ليس بدين ذمة المضمون عنه، الأصل أن يكون الضمان بدين وفي عبد الباقي صحته، إذا لوحظ ما يلزم من العوض كتفريط المصالح وهو من المصالح وعممه في القراض ونحوه وعليه فلا مانع من أن يتبرع متبرع ثالث بضمان القراض على أساس أنه إذا حدث خسر تولى ضمانه حدث تفريط من العامل لا عن الخسارة في رأس المال إذا حدث تفريط من العامل تستوي إلى ضمان. الشيخ محمد علي التسخيري: الحقيقة سيدي الرئيس لا أرى مانعا من أن تتقدم جهة ثالثة بهذا الضمان تبرعا لتشجيع مسائل المضاربة وأمثال ذلك، ولا أرى أي نص يمنع من هذا العمل، وإنما المشكل هنا أن هذه الجهة الثالثة تقدم وعدا ابتدائيا أوليا وعلى الوعد يبقى داخلا تحتها الوعد غير الملزم ويمكن الاستفادة من هذا الوعد لتقوية قلوب هؤلاء الذين سيدخلون عملية المضاربة فقط وإلا يبقى غير ملزم. الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أريد بادئ ذي بدئ أن أتحدث عن موضوعين. موضوع لا بد أن نحترمه جميعا واسمحوا لي أن أقر هذا الغرض لأنه وليد أو لا بد من التعامل بين جماعة يبحثون عن الحقيقة فلا يمكن أن يتهم أي منا شخصا آخر أنه صاغ الفقرة وفيها تحايل وتبرير التحايل في هذا لا يقبل ويجب أن يرفض ويطلب أيضا هذه الكلمات من سجل المجمع. الأمر الثاني: عندما نعود إلى الضمان نجد أن الضمان إما أن يكون داخلا في العقد بمعنى أنه ينبني العقد على اشتراط الضمان وهذا لا يجوز، وتارة يرد الضمان بعد العقد وورود الضمان بعد العقد إما أن يكون من طرف ثالث وإما أن يكون من العامل. فإذا كان من طرف ثالث يجئ الشخص بعد تمام العقد وهو يقول أنا أضمن لكم أنا أتبرع بأنه أنتم أي المساهمون إذا لم تربح هذه الصفقة فأنا أضمن لكم رأس مالكم. فهذا عمل خير لا يستطيع أحد أن يقول: إنه ممنوع إلا الإخوان المالكية والمالكية لهم رأيان في ذلك. رأي يرى أنه لا يجوز هذا ورأي يرى بجوازه وقد نص على ذلك الحطاب فيما نقله. وشكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1707 الدكتور سامي حسن حمود: سيدي الكريم النقطة الأولى أنه يبدو في الطباعة هنالك تقديم وتأخير في السطر الثاني في كلمة (بالتبرع بمبلغ) فتصحيحها أنه ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث بالتبرع بمبلغ وليس بالتبرع. النقطة الثانية: ليس في هذه المادة التاسعة ما يناقض المادة الرابعة؛ لأن المادة الرابعة تمنع ضمان عام المضاربة وهذه تشير إلى التبرع من طرف ثالث غير العامل وغير رب المال. مسألة ضمان الطرف الثالث، المقرر في القواعد الفقهية أن عامل القراض أو عامل المضاربة يمتنع عليه الضمان أما إذا جاء شخص ثالث ليس طرفا في العقد لا من هنا ولا من هناك فإن التبرع بأصل المال جائز شرعا، فما دام هو فماذا يمنع التبرع بضمان احتمالي قد يقع وقد لا يقع؟ الغاية من ذلك هي أن المشروع قد يكون فيه تشكك أو العملية التي يرغب فيها ولي الأمر ليضمن للناس عليها في إقامة مشروعات صناعية زراعية أو إعمار أراضي وقفية، فيأتي ولي الأمر ليضمن للناس إذا حصل لهم خسارة نتيجة قيامه بدراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع. كون هذا التبرع وعدا، والوعد هل هو ملزم أو غير ملزم ما؟ وجدناه في البحوث الفقهية أن الوعد الملزم عند المالكية قالوا: إنه في ميدان التبرعات وليس في ميدان المعاوضات وهنا هذا هو ميدانه وعندما يكون فيه الإلزام مبنيا على إدخال الموعود في كلفة فإن ذلك الوعد يصبح ملزما قضاء وديانة. وهنا عندما يدخل المساهم في هذا المشروع معنى ذلك أنه ألزم نفسه بكلفة وجنب جزءا من رأس ماله للاستثمار في هذا المشروع بناءا على الدارسة الجارية وبناء على تبرع ولي الأمر أو الجهة التي رأت أن تتبرع بالضمان. بضمان ما يعود عليه من خسارة من رأس المال فإن هذا المتبرع الذي يأتي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1708 الرئيس: باقي شيء يا شيخ لأن البحث بين أيدينا. الأستاذ عبد الرحيم. الدكتور منذر قحف: أود أن أسأل من هو المتبرع؟ فإذا كان القطاع الخاص أو قطاع أعمال فلا أظن أنه سيقوم بهذا التبرع دون أن يكون هناك مقابل. أما إذا كانت الدولة فهنا يكون السؤال: من أين سوف تقوم بتعويض المكتتبين؟ فإذا كانت من بيت المال فبالتالي السؤال: هل يجوز من بيت المال يصرف المستثمرين في الوقت أنه المفروض يخصص لأوعية أخرى كالمحتاجين؟ أو عن طريق فرض ضرائب وهذا المتعارف عليه في الدول الحديثة التي صارت معاصرة أنه أهم مصادر الدولة الضرائبي إلى جانب الرسوم. فهنا السؤال عن التكلفة. ومن يتحمل تكلفة الضمان؟ الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي: بسم الله الرحمن الرحيم، أنا مع القائلين بجواز التبرع من شخص ثالث أو حتى من أحد الطرفين المتعاقدين. فالفقهاء إنما قرروا أن اشتراط الضمان على الابن باطل معناه اشتراط وأما إذا حدث تبرعا فهذا جائز هذا شيء. والشيء الثاني: أن كل أوجه التبرع مسموح بها شرعا بنص القرآن الكريم وبحسب القواعد والعقود التي قررها الفقهاء. فمن القرآن الكريم يقول الله جل جلاله {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] . فإذا تبرع فمعنى أنه محسن وهو ألزم نفسه. فنحن لا نلزمه إنما ألزم نفسه فهذا سائغ من الآية. ثم إن الفقهاء قرروا في الجعالة عندما يلزم الإنسان نفسه بمكافأة لمن يكتشف علاجا لمرض معين أو اختراع معين أو يتفوق في قضية علمية، معروف الجعالة أيضا التزام. أيضا ضمان مخاطر الطريق. نص ابن قدامة في كتابه المغني على أن من قال لإنسان: اذهب من هذا الطريق وإني أتحمل كل ما يقع أو يصيبك من أضرار نتيجة المسيرة فيه فأنا ضامن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1709 فإذن ضمان مخاطر الطريق يقر مبدأ التبرع. أيضا مبدأ السبق، السبق من طرف ثالث للمتسابقين كما هو معروف في الخف والحافر ونصل إذا ألزم نفسه إلى أن يعطي مكافأة لأحد الطرفين المتسابقين أيضا هذا مبدأ جائز ومعمول به شرعا. فاستغرب أن يكون هناك اتجاه يمنع مثل هذه التبرعات والإسلام كله يقوم على الإحسان والبر والتعاون على البر والتقوى. بقى قضية الدولة. والدولة في الحقيقة لو فرضنا أن الناس وقعوا في عَيْلَةٍ أو فقر أو مغرق فالدولة بحكم الأنظمة الإسلامية النبي صلى الله عليه وسلم تكفل بإعانة من يقع في مغرم. فالدولة عندما تتكفل ويكون هذا لا من الزكاة وإنما يكون من المصارف العامة التي يكون من مواردها الخراج والضرائب وغير ذلك من الأمور. فالدولة بحكم ولايتها العامة على الأفراد تستطيع أن تتحمل غرم بعض الأحداث وبعض التصرفات وبعض المشكلات. وكل هذه المؤيدات والمسوغات تجيز النص على مثل هذه الأمور والحقيقة أصاب بعض الواضعين في الفقرة 8، 9 أنه ليس هناك ما يمنع شرعا من وجود هذا الشيء. الرئيس: شكرا. على كل في عدد كبير من الكلمات فأحب أن أرى أولا الاتجاه فإذا كان الاتجاه العام إلى إقرارها فلا داعي لمناقشتها الذين يرون أن الاتجاه العام إلى إقرارها يتفضلون برفع أياديهم. إقرار المادة التاسعة. الشيخ محمد تقي العثماني: اقتراح بسيط: إن قضية الوعد الملزم تثار في كثير من المسائل الاقتصادية الآن فأرى أن تكون هذه المسألة مسألة بحث مستقل للمجمع وتبحث في الدورات القادمة. الرئيس: هذه الفقرة؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1710 الشيخ محمد تقي الدين: لا. قضية الوعد الملزم كمبدأ. هل يجوز أن يكون الوعد ملزما أو لا يجوز؟ الرئيس: يعني أن يكون من بين الموضوعات التي تبحث في الدورة القادمة. موضوع الوعد. الشيخ محمد تقي الدين: لأن هناك تناقضا بين الآراء وهناك مذهب المالكية في هذا غالب عند القيام بظروف كثيرة ونرى أن نبت في هذا الموضوع في أي حال من الأحوال هل يجوز أن يكون الوعد ملزما وفي أي حال يجوز؟ الشيخ عبد السلام داود العبادي: الواقع أن هذا الموضوع ليس من قبيل الوعد الملزم لماذا؟ كل ما في الأمر أننا قلنا: ليس هنالك ما يمنع شرعا من النص على أن جهة أخرى تتبرع ونبهنا على أنه لا يجب أن يكون هذا مرتبطا من قريب أو بعيد في موضوع العقد بحيث تترتب الالتزامات على هذا الوعد هذه قضية أخرى الوعد الملزم. يعني ما قلنا نحن يجب أن تتضمن نشرة الإصدار نصا على تبرع ملزم هذا جانب. الجانب الآخر في قضية الدولة القضية كما حدث هنا في مشروع شركة الكهرباء والدولة لها مصالح في أن تقوم مشاريع معينة فتريد أن تحث المواطنين على ذلك، نحن حتى أخذنا بالحد الأدنى لم نقل بضمان ربح. قلنا: يجبر خسران لها أن تقول من أجل تشجيع المواطنين على عمل لمصلحتهم العامة؛ لأن التنمية الاقتصادية وإقامة المشاريع الكبرى هي مشكلة المسلمين في هذه الأيام، هم يستوردون كل شيء ولا يصنعون شيئا. فكون جاءت الدول وتقول مثلا لإعمار أراضي الأوقاف وهو مصلحة عامة أيضا، أيها الناس من يساهم في هذا المشروع نحن واثقون أنه سيربح بعون الله لأن هناك دراسات الجدوى الاقتصادية، ولا يطرح مشروع للاكتتاب العام إلا بعد ذلك لكن لحفز المكتتبين على ذلك تقول لهم الدولة: إن هذا مضمون فيه تبرع مني ألا ينزل ما تنالوه من هذا المشروع رؤوس أموالكم، ما الضير في ذلك؟ وخاصة أننا خططنا وقلنا. وهذا بناء على إصرار الإخوة المتحفظين في قضية الوعد الملزم أضفنا عليه هذه العبارة والتي هي في نهاية الكلام وليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء به إلى آخر مما يؤكد أن هنالك فصلا، وأن القضية ليست قضية وعد ملزم أصلا، هي تبرع من جهة ثالثة، العلاقة بين الجهة الثالثة والمكتتبين ولا علاقة للعقد والتزاماته بذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1711 الشيخ محمد المختار السلامي: بعد أن تفضلت الرئاسة بعرض الموضوع على التصويت فلا يجوز لأحد أن يأخذ الكلمة كيفما كان وهذا شأن الجلسات. الرئيس: إذن إذا كانت المسألة بالتصويت فنحن نقول: إن المسألة بالتصويت والذين ليسوا أعضاء ليس لهم حق التصويت وهذا شيء. والشيء الثاني: أنا رأيت الأكثرية لم يرفعوا أيديهم. المهم المسألة هي رغبة في الوصول إلى الحق فلا يضيرنا أن نزيد عشر دقائق أو ربع ساعة الأمر بسيط يا شيخ المسألة مسألة ضمير وذمة وأنت من أحرص الإخوان والحمد لله في هذا الشيء أو أحرص مني والإخوان. الجميع ذمته تحمل فلا مانع من عشر دقائق أو ربع ساعة وتنتهي الأمور. الدكتور علي أحمد السالوس: رأيي بينه الدكتور وهبة الزحيلي فلا أريد أن أضيف شيئا. الشيخ عمر سليمان الأشقر: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله. في بعض الأحيان الجهة قد نتصور أنها منفكة، الآن الأوقاف تدخل في بطن الدول الإسلامية فكذا لو كانت الدولة هي التي تريد أن تنشئ هذه المشاريع ولكن تجعل الوزارة منفصلة عن الدولة فتقوم الوزارة بطرح المشروع ثم الدولة هي التي تضمن، ماذا لو كان الابن هو الذي يريد أن يقوم بالمشروع ثم يضمن الأب أو العم أو الخال، وهناك مصلحة مشتركة. ما أتصور أن إنسانا يدفع ملايين وملايين الملايين ليضمن مشروعا وليس فيه مصلحة. التبرعات حدودها معروفة وقدرها معروف. هنا أنا لا أقول: إن الذين وضعوا النص يتحايلون لكن كما أكرر بعض الناس الذين لا يريدون الاستقامة على الحق يجدون ثغرة في النص فيدخلون منه إلى ما يحقق أهواءهم ورغباتهم وشكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1712 الشيخ محمد سيد طنطاوي: بسم الله الرحمن الرحيم. في تصوري أن هذا الطرف الثالث لا يلجأ إلى هذا التبرع بالضمان إلا لمنفعة عامة أو خاصة، وهذا التبرع يترتب عليه تشجيع لأصحاب المال على تداول أموالهم ويترتب عليه أيضا تشجيع لمن لا يملكون المال على أن يعملوا وأرى فضلا عن كل ذلك أرى أن يكون هذا الوعد ملزما لصاحبه ما دام المضاربان قد سلكا الطريق الصحيح في عقدهما، يعني ما دام صاحب المال وصاحب العمل سلكا الطريق الصحيح وأنهما قد بذلا كل الجهود في نجاح المشروع ففي هذه الحالة يجب أن يكون العقد ويجب أن يكون هذا الوعد ملزما بالنسبة لهذا المتبرع وهو الطرف الثالث. الدكتور رفيق يونس المصري: بسم الله الرحمن الرحيم، أنا أريد أن أقول كلمة أولا في موضوع الحيل، الحيل لا نستطيع في الواقع أن نستبعدها لا في الفقه ولا في القانون، وباختصار أقول: لولا أن الأمر مهم لما ألف علماؤنا الأفاضل كتابات مطولة في الحيل وعلى رأسهم الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم. هذه نقطة. النقطة الثانية: العامل المضارب يعني أنا أرى هذه خلافا لأستاذنا الزحيلي العامل المضارب إذا كان هو المقصود هنا بالفقرة التاسعة إذا كان هناك احتمالا بأن يكون هو المتبرع ولو كان هذا التبرع بوعد غير ملزم فإن فيه تهمة. فإذا كان العامل المضارب هو الدولة والدولة تتبرع ولو كان هذا التبرع كما قلت بوعد غير ملزم فهذا فيه إشكال عندي. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1713 الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي: بسم الله الرحمن الرحيم أريد أن أقول: إنه لا اعتراض لي إطلاقا على شكلية الحكم فيما يتعلق بأمر التبرع، فالتبرع أمر لا إشكال فيه ولا يعود على عقد سائغ بأي ضرر، وربما قلت أكثر من هذا سواء إن كان هذا التبرع من طرف ثالث أو من أحد المتعاقدين في عقد المضاربة، لكن الشيء الذي أريد أن أقوله: أخشى أن تكون هذه الفقرة منطوية على حيلة لا من نوع ما يشير إليه الدكتور رفيق بل حيلة تنسف الحكم الشرعي والأمر الإلهي يعني أحب فقط وأنا لا أملك أن أقول أن نغير ونبدل، أحب أن أتسائل: هذا المتبرع ما مصلحته في أن يتبرع يعطي شيئا ثم لا يأخذ بالمقابل شيئا آخر؟ قد غدا نفاجأ أنه شركة تأمين تتبرع، لكن شركة التأمين عندما تتبرع تدفع باليمين وتأخذ بالشمال وهو إن ظهر بمظهر المتبرع إلا أنه في الحقيقة ليس تبرعا. أنا لا أتهم والنصوص الفقهية تقف عند حدود الظاهر كما قال الفقهاء، ولكن نحن أمام عمل نتحمل فيه مغبة ونتائج ما نوقع عليه، ينبغي أن تكون مخافة الله ماثلة أمام أعيننا. فأخشى أن تكون فكرة التبرع هذه جسرا إلى تحويرها في حكم شرعي سائغ بالشكل الذي شرعه الله بحيث يقع فيه شيء من التلاعب. كل ما أريد أن أقوله هو هذا. وشكرا. الرئيس: شكرا لكن يا شيخ ترى عدم هذه الفقرة كلها بأجمعها أو ترى من هنا التقييد أو.. الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي: أرى الاحتياط أن نتجاوز هذه الفقرة، نحن لا نخالف وأعتقد أن تطبيق الحكم يفرض نفسه إذا ظهر طرف ثالث وتبرع يا مرحبا ولا ضير، ولكن أن نضع هذا في صلب الورقة أخشى أن تكون متكأ يا سيدي وأن نتحمل الوزر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1714 الرئيس: والله أقول: الاحتياط في الأحكام وما سينشر على الناس ويعم عليهم ويؤسسوا عليه أعمالهم، لا شك أنه متعين فهل نستمر في المداولات، أو أنه كما تفضل الشيخ تقي بما أننا أجلنا فقرة في الصنف الثالث نؤجل هذه بناء على مسألة الوعد؟ ولا مانع من تأجيلها لأنها ليست ضرورية في إقامة سندات المقارضة. فطالما أنها ليست من عصب ولا من الأسس الضرورية لإقامة سندات المقارضة أو صكوك المقارضة فكونها تؤجل حتى ترتبط بقضية الوعد وتبحث هي من زواية هذا الطرف الثالث المتبرع وما أورد الشيخ عمر فيما إذا كانت الحكومة نفسها هي صاحبة المشروع وتبرعت نفسها. يعني تبين الآن عدة جوانب للموضوع فهل ترون التأجيل كما اقترح الشيخ تقي أو بعض الإخوان وتلم بعض هذه الجوانب أو أن يبت في هذه الفقرة أو أنها تحذف؟ الشيخ البازيع. الشيخ أحمد بازيع الياسين: أرى بقاءها لكن أرى أن أنبه إلى أن يكون فعلا المتبرع شخصا ثالثا يعني ألا يكون شخصا صوريا فمثلا نبهنا الشيخ الأشقر، وقال: ربما الوزارة وثم تجيء تضمنها وزارة أخرى أو حكومة فهذا يعتبر شخصا واحدا ثم ربما شخص مضارب باسمه ويكون عنده شركة مستقلة لها شخصية اعتبارية لكنه يملكها ملكا تاما وربما يعتبر بأنه شخص ثالث. في الحقيقة هذه أمور يجب أن ينبه لها وأن توضح بصورة واضحة. إنما حذفها في الحقيقة تعطيل لمصالح قد تأتي بنفع كبير للناس. إنما يجب أن تعد هذه الأمور. الرئيس: بحكم يا شيخ أحمد ممارستك لمسائل البنوك وبيوت المال هل أتى في يوم من الأيام واحد متبرع بعشرات الملايين يكون طرفا ثالثا؟ الشيخ أحمد بازيع الياسين: لا لم يأت شخص إلا له مصلحة، ولكن الذي يأتي ويضمن هنا له مصلحة إما مصلحة عامة وهي الدولة فلها مصلحة عامة تريد أن تنشئ مشروعا أو تريد أن تبني طريقا أو تريد أن تستأجر أو تريد أن تعمل مصلحة عامة ومن مصلحة الدولة نفع الناس فتضمن هذه الدولة للمضارب البعيد عنها والمستقل عنها استقلالا تاما والمشتركين بالمال البعيدين عن الدولة بعدا تاما إنما تشجيعا لهما يأتي بضمان عدم الخسارة لرأس المال وهي بعيدة عن ذلك. وهذه حدثت في بعض البلدان. إنما شخص تاجر أو مؤسسة تجارية استثمارية تأتي للتبرع ما فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1715 الشيخ محمد عطا السيد: الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك. أنا أساسا سيدي الرئيس كنت أود أن أعلق على موضوع ترتيب لهذه الفقرة ولكن بعد أن سمعت كلام فضيلة الشيخ البوطي أحب أن أؤكد أن هذه المادة مهمة جدا وخاصة في الضمان الذي يأتي من جانب الحكومة خاصة في مثل هذه المشاريع التي قد تكون هامة جدا. وأرى أن الذي ينفي الشبهة التي أثارها فضيلة المتحدث هي أنه قد جاء في المادة على وعد طرف ثالث بمبلغ التبرع. ولذلك فكرة أن تكون شركة تأمين شركات التأمين لا تتبرع بالمبلغ تبرعا كما نعرف التبرع ولذلك أرى أن هذه المادة أوفق على محتوى هذه الفقرة، وأرى أنها يجب أن تبقى وأريد يا سيدي الرئيس لكي نتفادى هذا الذي دار بين عدد من الأعضاء من التعارض بين هذه الفقرة الرابعة، أنا لا أرى تعارضا ولكن أقترح ألا ترى يا سيدي الرئيس أننا إذا ضممنا هذه الفقرة إلى الفقرة الرابعة يمكن أن ينفي ذلك التعارض بل ويؤكد من جانبنا عدم التعارض بين الفقرتين. أو ما ضممنا بينها نأتي بالفقرة التاسعة مباشرة بعد الفقرة الرابعة. فأرى أن هذا يساعد كثيرا في نفي هذه الشبهة بالتعارض الذي قد يكون أشد في أذهان كثير ممن يكون خارج هذا المجمع. الشيخ خليل محيي الدين الميس: بسم الله الرحمن الرحيم إن هذا المتبرع قد أطمع المتعاقدين ولذلك تعلق لهم حق في هذا التبرع ولم يعد تبرعا فإن العنوان في أوله يقول سندات مقارضة فهو شريك ومن جهة يقول له: لا تخسر فإما أن يخسر وإما لا يخسر وإذا أطمعه بأنه لا يخسر فعليه أن يفي بوعده. وأقترح هنا أن تقف الجملة عند قوله في مشروع معين، وكفى، وإلا فإن هذا المتبرع دخل من باب وخرج من باب آخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1716 الشيخ عبد السلام داود العبادي: فقط أحب أن أقول للشيخ عمر سليمان الأشقر: إنه بالنسبة لموضوع وزارات الأوقاف، وزارات الأوقاف منفصلة في ذمتها المالية والإدارية عن الحكومة بنصوص قوانينها في جميع بلاد المسلمين وأنه لا يجوز من الناحية الشرعية إدخالها في موازنة الدولة في ذمتها. ولذلك ضمان الحكومة لتنمية أموال الأوقاف وللمشاريع المقامة عليها هي ضمان طرف ثالث. ما دام نحن ذكرنا أن هذا الوعد وعد طرف ثالث فنحن خرجنا من المحظور الشرعي. لكن لزيادة الإيضاح كما اقترح البازيع ممكن أن نؤكد هذا المعنى وأن نقول طرف ثالث منفصل في ذمته وأمواله عن طرفي العقد؛ لأنه لا بد أن يكون طرفا بعيدا عن عملية التعاقد حتى نضمن ألا تكون عملية اختلاط وتداخل في الضمان من الطرف الثالث على عامل المضاربة. وهذا في القانون الأردني ينص عليه بكل وضوح؛ يعني اشترط أن لا يقوم بهذه المشاريع إلا جهات لها استقلال مالي وإداري عن الدولة، لأنه نص في القانون على أن الدولة لا تتبرع بكفالة أصل قيمة السند – أصل المال – وما دام الأمر في هذا الإطار ممكن أن ينص على هذا التحوط لمزيد من التنبيه والتركيز عليه. وشكرا. الرئيس: تسمعون صياغة من الشيخ عبد الستار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1717 الشيخ عبد الستار أبو غدة: بسم الله الرحمن الرحيم، تصبح المادة تسعة: ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث – يزاد هنا – منفصل في ذمته وأمواله عن طرفي العقد بالتبرع، يزاد – بدون مقابل – وإن كان كلمة التبرع مفيدة، لكن حتى لا يأخذ أي مقابل بمبلغ مخصص إلى آخره. الرئيس: ولو زيادة في التأكيد حتى تنفي شركات التأمين مثل ما تفضل الشيخ. الشيخ عبد الستار أبو غدة: نقرأها مرة ثانية: على وعد طرف ثالث منفصل في ذمته وأمواله عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص إلى آخره. الرئيس: يظهر إن شاء الله تعالى أن في هذا أتت إليه الضمانات التي قد تحمي. إذن موافقون على هذه. إذن عشرة. الدكتور سامي حسن حمود: نظرا لما لعقارات الأوقاف من طبيعة خاصة وأحكام متميزة ورغبة في الحفاظ على هذه الأوقاف. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: هل وافقنا على هذا يا سيدي الرئيس؟ قبل قليل كان المؤيدون عشرة أو عددا قليلا حصلت الموافقة على كل هذه الفقرة. الرئيس: سمعتم التعديل، سمعتم وكتبتموه. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: سمعته ولا أوافق عليه وأنا طلبت الكلمة من بدري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1718 الرئيس: تفضل. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: أنا في رأيي أن هذه المادة التاسعة ولو كانت مقبولة شرعا وهي غير مقبولة عندي فإنها لا حاجة إليها، المادة الثامنة فيها الكفاية، المادة الثامنة أنشأت صندوقا احتياطيا لمواجهة مخاطر خسارة رأس المال وهذا سيدفعه أصحاب رأس المال وهذا مقبول وهو كاف في نظري لضمان رأس المال. الشيخ عبد السلام داود العبادي: يا سيدي كيف أنها مقبولة شرعا وغير مقبولة عندك.. إذا سمحت. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: هذا من الناحية العملية وهذا هو المعمول في كل حالات الضمان بالنسبة لمثل هذه الأشياء فما الداعي لإدخال هذه الجهة، وأقول لكم حقيقة إن هذا المعنى كان موجودا في المشروع الأول وكان كفالة صريحة للمضارب الذي هو وزارة الأوقاف، كانت وزارة الأوقاف ضامنة لرأس المال والحكومة ضامنة لوزارة الأوقاف. الشيخ عبد السلام داود العبادي: لا ليس هكذا. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: هذا هو المشروع الأول والنصوص عندي. فجاءت هذه المادة بعدها وما أدري ما الداعي إليها ثم نقرأ في هذه الفقرة هل الاقتراح أننا سنقف عند هذا الحد وإلا سنأخذ كل المادة على أن يكون التزاما مستقلا عن عقد المضاربة – لا أفهم كيف ترون التزاما مستقلا عن عقد المضاربة وهو يضمن لصاحب رأس المال ماله. يستحيل أن يحصل هذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1719 الشيخ عبد الستار أبو غدة: الكيفية مشروحة. الرئيس: بمعنى. بمعنى يا شيخ. الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: هل ستحذف: على أن يكون التزاما مستقلا. الأسطر الأربع الأخيرة. تبقى. لا يمكن أن يفهم هذا. كيف يضمن الطرف الثالث رأس المال في مضاربة ويكون ضمانه هذا أو تبرعه هذا مستقلا عن عقد المضاربة؟ الرئيس: أما من الناحية العملية فالذي يظهر لي - والله أعلم - تعذره إلا من جهة حكومية؛ لأنه أولا من واقع الحال لا يعرف أن أحدا أتى وتبرع بمئات الملايين مثل هذا الضمان. الأمر الثاني أن هذا لا يقصد به إلا الحكومات لكن هنا شيء واحد طالما أنه متبرع وقيد بأنه بغير مقابل وقيد بأنه أجنبي عن العقد لا صفة له فيه لا من قريب ولا من بعيد لو فرض أن إنسانا عنده من الأموال - الله به عليم - وضمن لشركة خيرية وهو لا صلة له بها لا من قريب ولا من بعيد هل فيه ما يصادم هذا شرعا بدليل ينفس هذا الضمان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1720 الشيخ محمد المختار السلامي: تسمح يا أستاذ كلمة واحدة بسيطة.. عندنا كل الشروط إذا كانت وقعت على الطوع فهي مقبولة والأحسن فقط أن تكتب بعقد مستقل. يقول ابن عاصم: وحيث ما شرط على الطوع جعل فالأحسن الكتب بعقد مستقل الرئيس: يعني نكتب البيت هذا. تفضل يا شيخ سامي. الدكتور سامي حسن حمود: 10- نظرا لما لعقارات الأوقاف من طبيعة خاصة وأحكام متميزة، ورغبة في الحفاظ على هذه الأوقاف ودفع التعدي عنها ومساعدة لجهة الوقف على تحقيق الأهداف المقصودة من نظام الوقف الإسلامي واستنباط الصيغ الإسلامية لتعميره واستثمار أصوله، وتحقيق عائد مُجْدٍ للصرف على جهاته فقد درست اللجنة بعناية فائقة التجربة التي قامت بها وزارة الأوقاف الأردنية والتي ظهرت في (قانون سندات المقارضة المؤقت رقم 10 لسنة 1981م) وهي بصدد استحداث أدوات استثمارية قائمة على قواعد الشريعة الإسلامية واستعرضت ما بنيت عليه تلك التجربة من اجتهادات واطلعت على ما يجري عليها من تعديلات وما أبدي عليها من ملاحظات في الأبحاث المقدمة إلى الندوة. لذا عرض في الندوة بصدد ما يستفاد منه في إطار تعمير الوقف واستثماره الصيغ الآتية بالإضافة إلى الصيغة المقبولة لصكوك المقارضة وفق ما سبق بيانه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1721 الرئيس: في الواقع يا مشايخ الذي أمامنا هو أربعة مشاريع على الأصح وليست وجهات نظر فإذا رأيتم أن يطلب من الأمانة بإعطاء استكتاب بمن يعطي تصورا لهذه الوجهات الأربعة ودراسة شرعية حولها ويؤجل النظر فيها إلى الدورة الآتية. مناسب. وبهذا ترفع الجلسة للاستراحة خمسة عشر دقيقة وصلى الله وسلم على سيدنا محمد. الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي: كلمة مقارضة أنا لا أعرف هذه الكلمة في الاصطلاح الفقهي إما مضاربة أو قراض فلتكن سندات القراض. الشيخ عبد الستار أبو غدة: عفوا مصدر قياسي قارض يقارض مقارضة وقراضا. الرئيس: لا ولهذا كل من ذكرتها له يحصل عنده لبس ما هي المقارضة، ما هي صكوك المقارضة فلو جعلت صكوك المضاربة يكون فيه وضوح وجلاء. الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي: مضاربة. عقد المضاربة وأخشى أن تكون مقارضة مآلها إلى القرض، المشاركة في القرض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1722 مناقشة مشروع القرار الرئيس: في الواقع يا مشايخ سندات المقارضة وسندات الاستثمار أمامكم الآن أربعة صفحات من صفحة تسعة حتى الثانية عشر وتعرفون - ولله الحمد - أن هذا القرار أعطي حظه بقدر ما نملك من النقاش والوقت ونوقش فقرة فقرة والأستاذ الشيخ عبد الستار كان يسجل ما يزاد وما يحذف فقراته وقد تستغرق الوقت الطويل، فهذا أمامكم هل تريدون أن نعطيكم خمس دقائق أو أنه لا يحتاج؟ إذن ما بعده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1723 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم. قرار رقم (5) د 4/ 08/ 88 بشأن سندات المقارضة وسندات الاستثمار إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 – 23 جمادى الآخرة 1408هـ، الموافق 6 –11 فبراير 1988م. بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة في موضوع (سندات المقارضة وسندات الاستثمار) والتي كانت حصيلة الندوة التي أقامها المجمع بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية بتاريخ 6 – 9 محرم 1408هـ/ 30 / 8 - 2/ 9/ 1987م تنفيذا لقرار رقم (10) المتخذ في الدورة الثالثة للمجمع وشارك فيها عدد من أعضاء المجمع وخبرائه وباحثي المعهد وغيره من المراكز العلمية والاقتصادية وذلك للأهمية البالغة لهذا الموضوع وضرورة استكمال جميع جوانبه، للدور الفعال لهذه الصيغة في زيادة القدرات على تنمية الموارد العامة عن طريق اجتماع المال والعمل. وبعد استعراض التوصيات العشر التي انتهت إليها الندوة ومناقشتها في ضوء الأبحاث المقدمة في الندوة وغيرها، قرر ما يلي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1724 أولا: من حيث الصيغة المقبولة شرعا لصكوك المقارضة: 1- سندات المقارضة هي أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القراض (المضاربة) بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصا شائعة في رأس مال المضاربة وما يتحول إليه، بنسبة ملكية كل منهم فيه. ويفضل تسمية هذه الأداة الاستثمارية (صكوك المقارضة) . 2- الصورة المقبولة شرعا لسندات المقارضة بوجه عام لا بد أن تتوافر فيها العناصر التالية: العنصر الأول: أن يمثل الصك ملكية حصة شائعة في المشروع الذي أصدرت الصكوك لإنشائه أو تمويله، وتستمر هذه الملكية طيلة المشروع من بدايته إلى نهايته. وترتب عليها جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعا للمالك في ملكه من بيع وهبة ورهن وإرث وغيرها، مع ملاحظة أن الصكوك تمثل رأس مال المضاربة. العنصر الثاني: يقوم العقد في صكوك المقارضة على أساس أن شروط التعاقد تحددها (نشرة الإصدار) وأن (الإيجاب) يعبر عنه (الاكتتاب) في هذه الصكوك، وأن (القبول) تعبر عنه موافقة الجهة المصدرة. ولا بد أن تشتمل نشرة الإصدار على جمع البيانات المطلوبة شرعا في عقد القراض (المضاربة) من حيث بيان معلومية رأس المال وتوزيع الربح مع بيان الشروط الخاصة بذلك الإصدار على أن تتفق جميع الشروط مع الأحكام الشرعية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1725 العنصر الثالث: أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب باعتبار ذلك مأذونا فيه من المضارب عند نشوء السندات مع مراعاة الضوابط التالية: أ - إذا كان مال القراض المتجمع بعد الاكتتاب وقبل المباشرة في العمل بالمال ما يزال نقودا فإن تداول صكوك المقارضة يعتبر مبادلة نقد بنقد وتطبق عليه أحكام الصرف. ب - إذا أصبح مال القراض ديونا تطبق على تداول صكوك المقارضة أحكام تداول التعامل بالديون. ج - إذا صار مال القراض موجودات مختلطة من النقود والديون الأعيان والمنافع فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقا للسعر المتراضي عليه، على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعيانا ومنافع. أما إذا كان الغالب نقودا أو ديونا فتراعى في التداول الأحكام الشرعية التي ستبينها لائحة تفسيرية توضع وتعرض على المجمع في الدورة القادمة. وفي جميع الأحوال يتعين تسجيل التداول أصوليا في سجلات الجهة المصدرة. العنصر الرابع: أن من يتلقى حصيلة الاكتتاب في الصكوك لاستثمارها وإقامة المشروع بها هو المضارب، أي عامل المضاربة ولا يملك من المشروع إلا بمقدار ما قد يسهم به بشراء بعض الصكوك فهو رب مال بما أسهم به بالإضافة إلى أن المضارب شريك في الربح بعد تحققه بنسبة الحصة المحددة له في نشرة الإصدار وتكون ملكيته في المشروع على هذا الأساس. وأن يد المضارب على حصيلة الاكتتاب في الصكوك وعلى موجودات المشروع هي يد أمانة لا يضمن إلا بسبب من أسباب الضمان الشرعية. 3- مع مراعاة الضوابط السابقة في التداول: يجوز تداول المقارضة في أسواق الأوراق المالية إن وجدت بالضوابط الشرعية وذلك وفقا لظروف العرض والطلب ويخضع لإرادة العاقدين. كما يجوز أن يتم التداول بقيام الجهة المصدرة في فترات دورية معينة بإعلان أو إيجاب يوجه إلى الجمهور تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة بشراء هذه الصكوك من ربح مال المضاربة بسعر معين ويحسن أن تستعين في تحديد السعر بأهل الخبرة وفقا لظروف السوق والمركز المالي للمشروع. كما يجوز الإعلان عن الالتزام بالشراء من غير الجهة المصدرة من مالها الخاص، على النحو المشار إليه. 4- لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى رأس المال، فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمنا بطل شرط الضمان واستحق المضارب ربح مضاربة المثل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1726 5- لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار ولا صك المقارضة الصادر بناء عليها على نص يلزم بالبيع ولو كان معلقا أو مضافا للمستقبل. وإنما يجوز أن يتضمن صك المقارضة وعدا بالبيع. وفي هذه الحالة لا يتم البيع إلا بعقد بالقيمة المقدرة من الخبراء ويرضي الطرفين. 6- لا يجوز أن تتضمن نشرة الإصدار ولا الصكوك المصدرة على أساسها نصا يؤدي إلى احتمال قطع الشركة في الربح فإن وقع كان العقد باطلا. ويترتب على ذلك: أ - عدم جواز اشتراط مبلغ محدد لحملة الصكوك أو صاحب المشروع في نشرة الإصدار وصكوك المقارضة الصادرة بناء عليها. ب - أن محل القسمة هو الربح بمعناه الشرعي، وهو الزائد عن رأس المال وليس الإيراد أو الغلة. ويعرف مقدار الربح، إما بالتنضيض أو بالتقويم للمشروع بالنقد، وما زاد عن رأس المال عند التنضيض أو التقويم فهو الربح الذي يوزع بين حملة الصكوك وعامل المضاربة، وفقا لشروط العقد. ج- أن يعد حساب أرباح وخسائر للمشروع وأن يكون معلنا وتحت تصرف حملة الصكوك. 7- يستحق الربح بالظهور، ويملك بالتنضيض أو التقويم ولا يلزم إلا بالقسمة. وبالنسبة للمشروع الذي يدر إيرادا أو غلة فإنه يجوز أن توزع غلته. وما يوزع على طرفي العقد قبل التنضيض (التصفية) يعتبر مبالغ مدفوعة تحت الحساب. 8- ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة معينة في نهاية كل دورة، إما من حصة الصكوك في الأرباح في حالة وجود تنضيض دوري، وإما من حصصهم في الإيراد أو الغلة الموزعة تحت الحساب ووضعها في احتياطي خاص لمواجهة مخاطر رأس المال. 9- ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين، على أن يكون التزاما مستقلا عن عقد المضاربة بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطا في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به بحجة أن هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1727 ثانيا: استعرض مجلس المجمع أربع صيغ أخرى اشتملت عليها توصيات الندوة التي أقامها المجمع، وهي مقترحة للاستفادة منها في إطار تعمير الوقف واستثماره دون الإخلال بالشروط التي يحافظ فيها على تأييد الوقف وهي: أ - إقامة شركة بين جهة الوقف بقيمة أعيانه وبين أرباب المال بما يوظفونه لتعمير الوقف. ب - تقديم أعيان الوقف (كأصل ثابت) إلى من يعمل فيها بتعميرها من ماله بنسبة من الريع. ج- تعمير الوقف بعقد الاستصناع مع المصارف الإسلامية لقاء بدل من الريع. د - إيجار الوقف بأجرة عينية هي البناء عليها وحده، أو مع أجرة يسيرة. وقد اتفق رأي مجلس المجمع مع توصية الندوة بشأن هذه الصيغ من حيث حاجتها إلى مزيد من البحث والنظر وعهد إلى الأمانة العامة الاستكتاب فيها، مع البحث عن صيغ شرعية أخرى للاستثمار، وعقد ندوة لهذه الصيغ لعرض نتائجها على المجمع في دورته القادمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1728 بدل الخلو إعداد الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي رئيس قسم الشريعة الإسلامية بجامعة الإمارات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فإن موضوع (بدل الخلو) أو (مقابل الخلو) من الموضوعات المهمة جدا في الحياة المعاصرة، والذي يتطلب إبداء الحكم الشرعي فيه، بسبب إباحته في أعراف الناس، ومنعه في القوانين الوضعية، فإنها لا تجيز أخذ بدل الخلو كالذي يدفعه المستأجر للمالك في بداية عقد الإيجار إضافة إلى الأجرة ويحكم القاضي عادة بوجوب رده لدافعه إذا ادعى على المالك أنه قبض منه بدل خلو. لذا تكرر السؤال عن حكمه الشرعي، وتحرج أهل الورع من أخذه لاعتقادهم عدم إباحته وأنه محظور، فهو لا يعدو في تصورهم أن يكون مالا سحتا أو أكلا لأموال الناس بالباطل، علما بأنه قد يزيد بدل الخلو في أغلب الأحيان عن مجمع ما دفعه المستأجر من أجرة للمالك طول مدة الإجارة. وتتعقد المشكلة إزاء أزمة المساكن الحالية، وغلاء أو ارتفاع بدلات الخلو أوما يسمى بالفروغ أو مقابل الخلو، وخصوصا في بعض الشوارع التي أصبحت ذات مقصد كبير للتجار، حيث أصبح المحل ذا موقع مهم جدا (استراتيجي) للتجارة أو لأغراض أخرى تطمح إليها المكاتب المؤجرة لأعمال أو مهن حرة متعددة الأنشطة في الحياة الحديثة. وهذا يقتضينا ضرورة البت في هذا الموضوع، ببيان مدى حله أو حرمته، وشروط الحل وحالات الحرمة، وتعيين آخذ البدل. تعريف بدل الخلو: هو مبلغ من المال يدفعه الشخص نظير تنازل المنتفع بعقار (أرض أو دار أو محل أو حانوت) عن حقه في الانتفاع به. وحكمه الشرعي فيما يبدو لي – والله أعلم – ما يأتي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1729 أولا: للمالك المؤجر أن يأخذ من المستأجر مقدارا مقطوعا من المال، بالإضافة إلى الأجرة السنوية أو الشهرية، إذا تراضيا على ذلك، وقام المؤجر بعدها بتسليم العقار إلى المستأجر، مؤثرا إياه على غيره من المستأجرين. ويعد المأخوذ جزءا معجلا من الأجرة المشروطة في العقد، وتكون الأجور التي تدفع في المستقبل سنويا أو شهريا جزءا آخر من الأجرة مؤجل الوفاء مضافا إلى ما تم تعجيله، مثل اتفاق الزوجين في العصر الحاضر على قسمة المهر إلى معجل ومؤجل، عملا بالعرف العام السائد في البلاد الإسلامية. ثانيا: أن ما يأخذه المستأجر من بدل الخلو من المالك المؤجر لفسخ عقد الإيجار، ضمن مدة العقد، وتسليمه المأجور لصاحبه يعد كسبا حراما غير مباح شرعا في رأي الجمهور غير المالكية وأبي يوسف؛ لأن إقالة عقود المعاوضات المالية أو فسخها، كالبيع والإيجار، لا تجوز إلا بنفس العوض الذي تم التعاقد عليه في رأي الإمام أبي حنيفة الذي جعل الإقالة فسخا في حق العاقدين، بيعا جديدا في حق شخص ثالث غيرهما. ومقتضى هذا الرأي أن الإقالة للبيع ومثله الإيجار، تصح بالثمن الأول، ويبطل ما شرطه المتعاقدان من الزيادة أو النقص أو الأجل، أو الجنس الآخر من الأعواض، سواء أكانت الإقالة قبل القبض أم بعده؛ لأن الإقالة فسخ في حق العاقدين، والفسخ رفع العقد والعقد وقع بالعوض الأول، فيكون فسخه بالعوض الأول، ويبطل الشرط الفاسد، فإذا تقايل العاقدان على أكثر من العوض الأول أو أقل على جنس آخر، يلزم العوض الأول لا غير. وهذا هو الحكم أيضا على قول زفر الذي يجعل الإقالة في رأيه فسخا في حق الناس كافة وهو أيضا قول محمد الذي يجعل الإقالة فسخا إلا إذا تعذر ذلك للضرورة، فتجعل بيعا. وكذلك قال الشافعية والحنابلة، الذين قرروا بطلان الإقالة في هذه الحالات بسبب الشرط الفاسد في البيع ونحوه، فلا تجوز عندهم الزيادة ولا النقصان. أما الإمام مالك فيرى أن الإقالة بيع جديد، فيجوز فيها الزيادة أو النقصان وهو أيضا قول أبي يوسف الذي يجعل الإقالة بيعا جديدا في حق العاقدين وغيرهما، إلا أن يتعذر جعلها بيعا، فتجعل فسخا (1) .   (1) البدائع: 5/ 306، فتح القدير: 5/ 247، بداية المجتهد: 2/140، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص152، المغني لابن قدامة: 4/ 121 وما بعدها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1730 وبناء على هذا الرأي يصح للمالك المؤجر دفع زيادة عن الأجرة المقبوضة إلى المستأجر الذي دفعها، نظير فسخ الإجارة وتسليم المأجور. وأما إذا وهب المؤجر باختياره ورضاه بعد انتهاء الإجارة من المال للمستأجر، يسميه الناس الآن (مقابل الخلو) لأجل إخراج المستأجر من المأجور، فهو أمر جائز باتفاق العلماء؛ لأن الهبة تبرع، وقد تم الدفع بالتراضي. ثالثا: الحالة الغالبة المثيرة للنزاع: وهي ما يأخذه المستأجر من بدل الخلو من شخص آخر غير المالك المؤجر، مقابل تنازله عن اختصاصه بمنفعة العقار، ليحل محله ذلك الشخص في الانتفاع بالعقار. هذه الحالة جائزة أيضا بشرط أن يكون التنازل ضمن مدة عقد الإجارة. فإذا كانت المدة سنة، أمضى المستأجر في العقار مدة ستة أشهر منها مثلا، جاز له التنازل لشخص آخر للانتفاع بالمأجور بقية المدة المتفق عليها بين المالك والمستأجر. وإذا كانت مدة الإجارة سنويا (مسانهة أو معاومة) دون تحديد مدة قصوى، وهو ما يحدث الآن في عقود الإيجارات، فذلك جائز في رأي جمهور الفقهاء غير الشافعية، ولكنه لا يلزم إلا بالدخول في المدة الجديدة أو التلبس فيها، ويصير ذلك كعقد المعاطاة إذا جرى من المساومة ما يدل على التراضي بها. وحينئذ يجوز للمستأجر التنازل عن المأجور في مدة أخرى نص عقد الإيجار على تجديدها ضمنا أو صراحة، وذلك مقابل مبلغ من المال يسمى اليوم (بدل الخلو) : لأن المستأجر مالك لمنفعة المأجور أثناء المدة، وله استيفاء المنفعة بنفسه أو بغيره باتفاق العلماء، وهذا يعني شرعا جواز ما يسمى اليوم (التأجير من الباطن) خلافا للقانون، لأن حق المستأجر في فقهنا حق عيني، وفي القانون حق شخصي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1731 وقد أفتى الحنفية بجواز النزول عن الوظائف بمال كالإمامة والخطابة والأذان ونحوها، استنادا إلى الضرورة وتعارف الناس، وبالقياس على ترك المرأة قسمها لصاحبتها (الضرة) لأن كلا منهما مجرد إسقاط للحق، وقياسا على أنه يجوز لمتولي الأوقاف عزل نفسه عند القاضي، ومن العزل: الفراغ عن وظيفة النظر أو غيره، وقد جرى العرف بالفراغ بعوض (1) . واستدل بعض العلماء على جواز مسألة (النزول عن الوظائف بمال) بما صنعه سيدنا الحسن رضي الله عنه – سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم – من تنازله عن الخلافة وقبوله الراتب. وربما نوقش هذا بأن ما كان يأخذه السيد الإمام رضي الله عنه، لم يكن عوضا عن التنازل عن أمر الخلافة فحسب، لأن الخلفاء قد تعودوا منح الوظائف والرواتب غيره كثيرا من الصحابة والتابعين، فلم يكن راتب سيدنا الحسن عوضا عن تنازله على الخلافة. وصرح الشافعية أثناء كلامهم عن صيغة عقد البيع بقولهم: (لا يبعد اشتراط الصيغة في نقل اليد في الاختصاص – أي عند التنازل عن حيازة النجاسات لتسميد الأرض كأن يقول: رفعت يدي عن هذا الاختصاص، ولا يبعد جواز أخذ العوض عن نقل اليد، كما في النزول عن الوظائف) (2) . فالنزول عن الوظائف جائز بعوض وبغير عوض، كما قالوا. إلا أن ذلك كله مقيد شرعا- حال تنازل المستأجر عن منفعة المأجور – بمدة الإيجار المتفق عليها. فإن تنازل المستأجر لغيره بعوض بعد انتهاء مدة الإيجار، فلا يجوز ذلك شرعا إلا برضى المالك وإبرام عقد إجارة جديد.   (1) الدر المختار ورد المحتار لابن عابدين: 4: 15، إتحاف الأبصار والبصائر: ص237 (2) حاشية البجيرمي على شرح الخطيب: 3/3، نهاية المحتاج للرملي: 5/ 336 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1732 وأما المالكية فهم أيضا كالشافعية، جاء في رسالة للمتأخرين من علماء المالكية بعنوان (جملة تقارير وفتاوى في الخلوات والإنزالات (1) . عند التونسيين) لمفتي المالكية إبراهيم الرياحي بتونس (المتوفى سنة 1266هـ) والشيخ محمد بيرم التونسي، والشيخ ابن صالح باش مفتي المالكية بتونس، والشيخ محمد السنوسي قاضي تونس، جاء في هذه الرسالة ما يدل على تجويز المعاوضة عن الخلوات عملا بالعرف والعادة، ولأن المستأجر يملك المنفعة، فله أن يتنازل عنها بعوض كالإجارة وبغير عوض كالإعارة (2) ، فقد نقل البناني عن البرزلي في النزول عن الوظيفة ما يقتضي جوازه، ونقل فتوى الفاسيين بجواز بيع الخلو، وقال الشيخ محمد بيرم: وما أشبه الخلو بالمغارسة، غير أن الخلو لا تحمل به ملكيات الرقبة، لتعلقه بالمنفعة. وأما الحنابلة: فلم يجيزوا أخذ العوض على الاختصاصات؛ لأن محل حق الاختصاص الانتفاع فقط، ولا يملك أحد من مزاحمة مستحقة، لكن الاختصاص يجري فيما هو محرم كعصير العنب المتخمر عنه المسلم، ويجري في بعض المباحات كتحجير الأرض الموات، أما المملوكات الجارية في الأعيان والمنافع، فيجوز التنازل عنها بعوض (3) . والخلاصة: أن بدل الخلو جائز شرعا إذا كان ضمن مدة الإيجار مع المالك المؤجر، وأما بعد انتهاء المدة فلا يجوز التنازل عن المنفعة، ولا أخذ البدل عنها إلا برضا مالك العقار، وإبرام عقد آخر مع المستأجر الجديد، وإلا كان أخذ البدل سحتا حراما، والمتنازل غاصبا، وآكلا أموال الناس بالباطل، وكذلك يكون المتنازل معتديا على حقوق الآخرين.   (1) الخلو والإنزال والجلسة بمعنى واحد: وهو المنفعة التي يملكها دافع الدارهم لمالك الأصل مع بقاء ملكه للرقبة، فإن كانت الرقبة التي هي الأصل أرضا عبر عن تلك المنفعة بالإنزال في اصطلاح بعض الناس، وإن كانت حوانيت أو دورا، عبر عنها بالخلو في غير اصطلاح أهل فاس، وفي اصطلاحهم يعبر عنها في الحوانيت بالجلسة (2) الفروق للقرافي: 1/ 187 (3) القواعد لابن رجب: ص192، المغني: 5/ 42 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1733 بدل الخلو إعداد الدكتور محمد سليمان الأشقر عضو بالموسوعة الفقهية – الكويت بسم الله الرحمن الرحيم درجت العادة بين العوام في كثير من البلاد الإسلامية على إطلاق لفظ (الخُلُوِّ) هكذا مفردا على مبلغ نقدي سوى الأجرة، قد يأخذه مالك العقار من مستأجره، لتمكينه من استئجار العقار، وقد يأخذه المستأجر من المالك إذا رغب المالك لسبب ما في إخلاء العقار من المستأجر، وقد يأخذه المستأجر من مستأجر آخر حيل محله في شغل العقار. فهي حالات ثلاث (1) . أما الذي جرى عليه الفقهاء والقانونيين فهو إطلاق لفظ (الخلو) على المنفعة نفسها التي يملكها دافع النقود إلى المالك أو إلى المستأجر قبله ليحصل على حق القرار في العقار وإطلاق لفظ (بدل الخلو) على المقابل النقدي لهذه المنفعة. الحالة الأولى: أخذ المالك بدل الخلو من المستأجر: الأصل أن بدل الإيجار كاف لتمكين المستأجر من العقار. ولكن تنشأ في بعض الأحوال الحاجة إلى بذل المستأجر بدل الخلو، والغالب أن يكون مبلغه أضعاف الأجرة الشهرية أو السنوية، ولا يمكن المالك المستأجر من وضع يده على العقار إلا بعد الحصول على البدل المذكور. وهذا العرف جارٍ الآن في كثير من البلاد في إجارة الحوانيت ونحوها من الأماكن الصالحة لممارسة التجارة أو الصناعة غير جار في إجارة العقارات المعدة للسكن الخاص، وفي بعض البلاد جرى العرف أيضا على بذل بدل الخلو عند استئجار المساكن، كما يحصل في مصر.   (1) العامة يقولون (الخلو) ولا يقولون (بدل الخلو) ، وسوف يتبين من البحث إن شاء الله وجه التسمية بكل منهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1734 وتنشأ الحاجة إلى بذل بدل الخلو في هذه الحالة الأولى لأسباب: الأول: أن يكون المالك محتاجا إلى مال يبني به أرضه، أو مال يستعجل الحصول عليه. فيأخذ من الراغبين في استئجار الحوانيت مبالغ بدل الخلوات مقدما ليتمكن من البناء على أن يكون للمستأجر الذي بذل بدل الخلو حانوت معين منها، ويتفق الطرفان على أجرة شهرية أو سنوية، فوق بدل الخلو، تكون في الغالب أقل من أجر المثل بنسبة النصف أو أكثر أو أقل، وقد يتفق الطرفان على أن يكون للمستأجر حق القرار في الحانوت مدة معينة تكون غالبا مدة طويلة كخمسين أو ستين عاما، وقد يجري العرف باستحقاق المستأجر حق القرار أبدا ولو لم ينص في العقد على المدة. وهذا النوع ذكره متأخرو المالكية، وأخذوا به، وكان أول من أفتى به منهم الشيخ ناصر الدين اللقاني وفتواه مشهورة، ونصها على ما نقله الشيخ عليش في فتاويه (2/ 249، 250) والزرقاني وغيرهما، (سئل العلامة الناصر اللقاني بما نصه: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - في خلوات الحوانيت التي صارت عرفا بين الناس في هذه البلدة وغيرها، وبذلت الناس في ذلك مالا كثيرا حتى وصل الحانوت في بعض الأسواق أربعمائة دينار ذهبا، فهل إذا مات شخص له وارث شرعي يستحق خلو حانوته، عملا بما عليه الناس أم لا؟ وهل إذا مات من لا وارث له يستحق ذلك ببيت المال أم لا؟ وهل إذا مات شخص وعليه دين ولم يخلف ما يفي بدينه يوفي ذلك من خلو حانوته؟ أفتونا مأجورين. فأجاب بما نصه: الحمد لله رب العالمين. نعم إذا مات شخص وله وارث شرعي يستحق خلو حانوته عملا بما عليه الناس، وإذا مات من لا وارث له يستحق ذلك بيت المال. وإذا مات شخص وعليه دين ولم يخلف ما يفي بدينه فإنه يوفى من خلو حانوته. والله سبحانه وتعالى أعلم) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1735 • وقال الشيخ عليش والشيخ الزرقاني: إن التعويل في هذه المسألة على هذه الفتيا. وقال الحموي في شرح الأشباه (1/ 137) في شرح قاعدة (العادة محكمة) : (ليس في المسألة نص عن مالك وأصحابه، والتعويل على فتوى اللقاني والقبول الذي حظيت به، وجرى عليه العمل) . وقال الغرقاوي كما في فتاوي عليش: (إنها فتوى مخرجة على النصوص، وقد أجمع على العمل بها، واشتهرت في المشارق والمغارب. وانحط عليها العمل) . ونقل بعض متأخري الحنفية هذه الفتوى وأجازوا العمل بها، وإن كان الأصل عندهم أن المنفعة لا تباع منفردة لأنها حق مجرد، وقالوا كما في الدر المختار وحاشية ابن عابدين (4/ 14 – 16) : (أفتى الكثيرون باعتبار العرف الخاص، وبناء عليه يفتى بلزوم خلو الحوانيت، فيصير الخلو في الحانوت حقا له، فليس لرب الحانوت إخراجه منها ولا إجارته لغيره، قال: وقد وقع في حوانيت الجملون في الغورية أن السلطان الغوري لما بناها أسكنها التجار بالخلو، وجعل لكل حانوت قدرا أخذ منهم، وكتب ذلك بمكتوب الوقف) . وقال ابن عابدين في حاشيته (4/ 17) : (ممن أفت بلزوم الخلو بمقابلة دراهم يدفعها إلى المالك العلامة عبد الرحمن العمادي وقال: فلا ملك صاحب الحانوت إخراجه منها: ولا إجارتها لغيره، فيفتي بجواز ذلك) . وانظر مثل ذلك الفتاوى المهدية (5/ 26، 43، 44، 49، 61) . وأجازه أيضا بعض الحنابلة كما في مطالب أولي النهى (4/ 370) ففيه أن الشيخ البهوتي يصرح بأنه أن الخلوات إذا اشتريت بالمال من المالك تكون مملوكة لمشتريها مشاعا، لأنه يكون قد اشترى نصف المنفعة مثلا. قالوا: (ولا تصح إجارة الخلو، ولكن يصح بيعه وهبته ووفاء الدين منه) . التكييف الفقهي لهذا النوع من الخلو: رأي المالكية ومن أجاز إنشاء الخلو من الحنفية والحنابلة أن إنشاء الخلو بمال يدفعه المستأجر للمالك هو في الحقيقة بيع جزء من المنفعة مجردا، وصوَّر ذلك العدوي من المالكية في شرحه على الخرشي (7/ 79) في شأن الوقف كما يلي: أن تكون الأجرة في الأصل ثلاثين دينارا في كل سنة، فإذا أخذ الناظر الخلو يجعل الأجرة خمسة عشر فقط في كل سنة، وتكون منفعة الحانوت شركة بين ذلك المكتري وبين جهة الوقف ما كان منها لذلك المكتري هو (الخلو) والشركة (أي نسبة حق كل من الطرفين) بحسب ما يتفق عليه صاحب الخلو وناظر الوقف على وجه المصلحة. ثم قاله العدوي: إن الخلو المذكور هو من ملك المنفعة لا من ملك الانتفاع، إذ مالك الانتفاع ينتفع بنفسه، ولا يؤجر ولا يهب ولا يُعِيرُ، ومالك المنفعة له تلك الثلاثة مع انتفاعه بنفسه، فالخلو من ملك المنفعة، فلذلك يورث اهـ. وصرح البهوتي الحنبلي كما في مطالب أولي النهى (4/ 370) بأن الخلو المشترى بالمال يكون من باب ملك المنفعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1736 ولما كان إنشاء الخلو من هذا النوع بيعا لجزء من المنفعة، فقد ضيق القائلون بجوازه، في إجرائه في الوقف، بحيث يقتصر فيه على أحوال الضرورة، في صور حدودها، بشروط معلومة، يمكن الرجوع إليها في فتاوى الشيخ عليش (2/ 250) والحموي على الأشباه (1/ 138) وهذا بخلاف الطلق، فإنه لما كان للمالك أن يتصرف في ملكه كما يشاء فله أن ينشئ الخلو على عقاره كما يشاء عند كل من أجاز بيع المنفعة مجردة، سواء كان ذلك لضرورة أو غيرها. قال الشيخ عليش (2/ 252) : (إن الخلو إذا صح في الوقف ففي الملك أولى لأن المالك يفعل في ملكه ما يشاء) ويفهم مثله من كلام صاحب مطالب أولى النهى من الحنابلة. الحكم الشرعي لهذا النوع من الخلوات: يرجع الحكم فيه إلى حكم بيع المنفعة المجردة، والراجح فيما نرى جوازه ولذلك نرى جواز إنشاء حق الخلو في الصورتين المذكورتين، بالشروط الآتية: 1- أن تعرف نسبة كل من الطرفين من المنفعة، كأن يكون للمالك النصف، وللمستأجر النصف. وينبغي النص على ذلك صراحة في العقد الذي يبرم بين الطرفين. 2- أن تكون المدة التي يستحق فيها المستأجر منفعة الخلو محددة، طويلة كانت أم قصيرة، ولا تكون مؤيدة. ولا ينبغي أيضا إطلاق العقد عن تحديد المدة لئلا تتأبد. وتؤول منفعة العقار بعد انتهاء المدة إلى المالك. ولا ينبغي أن تزيد المدة المتفق عليها عن خمسين عاما أو ستين، لئلا ينسى الأصل. 3- أن يجري تسجيل الخلو لدى إدارة التسجيل العقاري في صفحة العقار نفسها. 4- ينتقل الخلو إلى الوارث، ويجوز بيعه والإيصاء به وجميع أنواع التصرفات الجائزة ويشترط في البيع ونحوه إذن المالك، لأن مشتري الخلو سيكون مستأجرا لباقي المنفعة، ولا يرغم المالك على أن يؤجر لمن لا يرضاه. 5- المالك أولى بالشفعة في الخلو توحيدا للملك قدر المستطاع، ولتقليل النزاعات بين المالكين والمستأجرين (انظر ابن عابدين 4/ 18 و5/ 142 وتنقيح الفتاوى الحامدية 2/ 199) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1737 6- أجرة التي يدفعها المستأجر للمالك عن الجزء الذي يخص المالك من منفعة العقار وتسمى الحكر (انظر فتاوى الشيخ عليش) يجب أن تكون مساوية لأجر المثل، ولذلك يجب تعديلها بمضي السنين بمعرفة أهل الخبرة، وخاصة في ظل النظام النقدي الحاضر الذي تتدهور فيه قيمة النقود الورقية باستمرار. السبب الثاني من أسباب نشوء الخلوات: أن تكون هناك قوانين وضعية أو أنظمة معينة تحد من حق المالك في إيجار عقاره بأجر المثل، بل تلزمه بتسعيرة جبرية، أو تحد من حقه في إخلاء الساكن عند نهاية المدة التي جرى عليها التعاقد في عقد الإيجار ليتعاقد مع ساكن جديد، أو مع الساكن الأول نفسه بكامل حرية كل من الطرفين، أي على أساس المساومة الحرة، وهي الأصل في عقود المعاوضات. فإذا وجدت مثل هذه الأنظمة أو القوانين، فربما تغير سعر أجرة المثل للعقار، ويكون غالبا بارتفاع السعر بسبب ارتفاع نسبة التضخم النقدي للعملات الورقية. فبدأ أصحاب الأملاك يحسبون هذا الحساب عند ابتداء الإجارة، وطلبوا بدل الخلوات من المستأجرين ليحصلوا على قسم ذي أهمية، من النفقات التي تكبدوها عند إنشاء العقارات. وفي حالة التسعيرات الجبرية لأجور العقار، إن كان التسعير بأقل من أجرة المثل، يحتال أصحاب العقارات بأخذ بدل الخلو لتغطية قسم من التكلفة، وقد يكون ذلك خفية عن أنظار السلطات، ويدعو إلى ذلك ضآلة السعر الجبري بالنسبة إلى التكلفة الفعلية في أغلب الأحوال. رأينا في هذا النوع من الخلوات: في رأيي أنه بالنسبة للتسعيرة الجبرية لا يجوز التسعير بأقل من أجرة المثل، تحقيقا للعدالة بين الطرفين، فإن زادت أجرة المثل ينبغي زيادة أجرة العقار تبعا لذلك. وفي جميع الأحوال لا ينبغي الحد من حرية المالك في إخلاء العقار من المستأجر عند نهاية المدة التعاقدية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1738 وحيث اقتضت الظروف في بعض الأحوال مَدِّ الإجارة بقوة القانون لا ينبغي أن يكون الامتداد بأقل من أجرة المثل، ويجب تعديل الأجرة باستمرار لتلحق بمقدار أجرة المثل في وقتها، لأن في ترك ذلك ظلما للمالك من جهتين. الأولى: نقص الأجرة المستحقة، والثانية: أن قيمة العقار تتأثر بمقدار الأجرة فلو كانت أجرة المثل مائة دينار مثلا لعقار قيمته عشرة آلاف، فإنه إن ألزم المالك بأجرة مقدارها خمسون دينارا فقط، فإن المالك لو أراد البيع لا يستطيع بيع عقاره بأكثر من خمسة آلاف أو ستة، وفي ذلك ظلم له وأي ظلم. فلو التزم بتعديل الأجرة دائما في الأحوال الإلزامية لتصل إلى أجرة المثل تنعدم الحاجة إلى هذا النوع من بدل الخلو أو تكاد. ومع ذلك ففي ظل الأوضاع الحالية في بعض البلاد الإسلامية التي تحد من حرية المالك على الوجه المشروح فما حكم أخذ المالك بدل الخلو لتمكين المستأجر من السكنى؟ وما حكم بذل المستأجر لذلك البدل؟ وماذا يستتبع ذلك من التصرفات؟ أما المالك: فيظهر أنه لا حرج عليه شرعا في الأخذ؛ لأن العقار خالص ماله، وله أن يتصرف فيه كما يشاء، ومن ذلك أن لا يأذن لأحد بدخوله إلا بعوض، والعوض هنا يجوز أن لا يحتسب من الأجرة، بل يكون جعلا لا غير. وقد قال البعض: إنه لا يحل إلا إذا احتسب من الأجرة، فتكون أجرة السنة الأولى مثلا خمسة آلاف دينار, وأجرة كل سنة من السنوات اللاحقة ألف دينار لا غير، وتكون الأربعة الآلاف الزائدة في أجرة السنة الأولى هي بدل الخلو (1) . ونحن لا نرى ذلك لازما، بل لو اعتبر جعلا لمجرد التمكين من الاستئجار، لجاز أيضا. وكذلك دافع بدل الخلو إلى المالك يحل له الدافع ولا حرج عليه. وأما ما يستتبعه ذلك البذل والأخذ فأمران: 1- فمن الملحوظ أن المستأجر لا يبذل ذلك الجعل، وقد يكون كبيرا، إلا ليكون له (حق القرار) بنفسه طبقا للقانون المعمول به في البلاد، فيكون ذلك ملزما شرعا، كالعرف، بل هو الأقوى.   (1) صدرت عن لجنة الفتوى الشرعية بالكويت، بتاريخ 25/ 10/ 1982م فتيا نصها) اتفقت اللجنة على أن الاستعاضة عن الخلو برفع القيمة الإيجارية أمر جائز ويجري على البدل كل أحكام الأجرة بحيث لو فسخ العقد يسترد المبلغ المقدم الذي يخص الفترة والله أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1739 2- للمستأجر في هذه الصورة الفراغ عن خلوه إلى مستأجر لاحق. ولكن ذلك لا يلزم المالك إن كان بعد انقضاء المدة التعاقدية كما يأتي في الحالة الثالثة، فلا يتم هذا الفراغ إلا بإذن المالك، وللمالك أن لا يأذن إلا مقابل عوض معلوم، أو مقابل نسبة معينة من بدل الفراغ. الحالة الثانية: أن يأخذ المستأجر بدل الخلو من المالك: وتنشأ الحاجة إلى ذلك لأسباب: السبب الأول: أن يكون الخلو قد استحقه المستأجر بطريقة شرعية مما ذكر في الصورة الأولى. وذلك مثل أن يكون قد أنشأه باتفاق مع هذا المالك أو مالك قبله، بمال دفعه له طبقا لعقد مبرم بينهما حائز على الاشتراطات الشرعية المعروفة، ومثل أن يكون المستأجر قد اشترى الخلو من مستأجر قبله نشأ خلوه بطريقة مشروعة. فإن كان الأمر كذلك، فرغب المالك في استعادة الخلو، وإخراج المستأجر، ودفع مقابل ذلك لصاحب الخلو بدلا ماليا، فرضي صاحب الخلو، جاز للمالك الدفع وجاز لصاحب الخلو الأخذ، لأنه بيع صحيح، وسواء أكان ذلك بمثل الخلو الذي كان المستأجر الأول قد ملك به الخلو إن كان أقل أو أكثر، ما دام قد بقي من المدة المتفق عليها لدوام الخلو جزء له قيمة. ولا إشكال في ذلك. السبب الثاني: أن يكون المستأجر لا يزال في مدة التعاقد الأصلية، (أي قبل الامتداد القانوني الذي تلزم به بعض القوانين) فللمستأجر أن يتمسك بالعقد ويرفض إخلاء المكان إلا ببدل يرضاه، يأخذه من المالك، لأن ذلك البدل هو في الحقيقة ثمن بيع باقي المدة المتفق عليها، ولا حرج عليهما في ذلك، كما لو اشترى رجل من آخر خمسة رؤوس من الغنم فاستهلك منها أربعة، وأراد البائع أن يستعيد الرأس الخامس بالشراء فلصاحبه أن لا يبيعه إلا بأضعاف ثمنه الذي كان قد اشترى به (1) .   (1) انظر المغني ط ثالثة ج5 ص438 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1740 السبب الثالث: أن يكون المستأجر قد استفاد حق القرار في العقار بوضع قانوني صرف، لم تأت به الشريعة، بأن يكون استمرار بقائه في العقار رغما عن المالك وبغير رضاه، مع انتهاء المدة الأصلية للتعاقد، وهو ما يسمى (الامتداد القانوني) ولم يكن المالك قد أخذ منه بدل خلو عند إنشاء عقد الإيجار ويرغب المالك في استعادة العقار، ويتراضى هو والمستأجر على مبلغ مالي، قد يسميه بعض العامة (خلوا) . وقد ينضم إلى هذا السبب: التسعير الإجباري من الجهة المسؤولة، ويكون السعر أقل من أجر المثل. فهذا النوع من الخلوات فيه احتمالان: الأول: أن يقال: إنه غبر مشروع فيه أخذ البدل لأن القانون الذي يلزم بالامتداد بغير اختيار المالك، أو بالتسعير الإجباري، قانون غير مقبول شرعا في حالات السعة، وأما في حال الاضطرار فيجوز بأجر المثل ولا يجوز بأقل منه. ووجه عدم مشروعية بدل الخلو في هذه الصورة بالنسبة لآخذه أنه لو كان للمالك، بعد انتهاء المدة التعاقدية، أن يخلي المكان من المستأجر، ويؤجره لغيره بكامل حريته وهو الوضع الذي كفله له الشرع، ما كان على المالك أن يدفع شيئا أصلا. وقد ذكر الحنفية هذه المسألة، وصرحوا بحكمها فمنعوها مطلقا في الأملاك الخاصة، وأجازوها في الوقف بأجرة المثل. (1) وقد بين صاحب الفتاوى الحامدية (2/ 200) وابن عابدين (4/ 16) أن الفرق هو أن (المالك أحق بملكه إذا انتهى عقد إيجاره، ثم هو قد يرغب في تجديد إيجاره للمستأجر الأول بمثل الأجر الأول، أو أقل أو أكثر، وقد لا يرغب في ذلك، وقد يريد أن يسكنه بنفسه، أو يبيعه، أو يعطله، بخلاف الموقوف المعد للإيجار فإنه ليس للناظر إلا أن يؤجره فإيجاره من ذي اليد بأجرة المثل أولى من إيجاره لأجنبي، لما فيه من النظر للوقف ولذي اليد، ولأنه يلزم من عدم إخراج صاحب الحانوت للمستأجر عند نهاية المدة حجر الحر المكلف عن ماله، وإتلاف ماله، وذلك لا يجوز) وهي مسألة إجماعية كما نقله صاحب الفتاوى الخيرية (1/ 173) وكما هو معلوم من أحكام الإجارة في الشريعة (انظر الموسوعة الفقهية – الإجارة ف 90، 91) .   (1) أي في حالة وضع المستأجر (جدكه) في العقار بإذن الناظر كما سيأتي آخر هذا البحث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1741 ثم إن كان للمستأجر عند انتهاء الإجارة في الحانوت بناء أو غيره فللمالك أن يكلفه رفعه على خلاف وتفصيل يرجع إليه في أحكام الإجارة. والاحتمال الثاني: أن يقال: إنه كان مبنيا على قانون صادر بأمر السلطان، وكان للسلطان أن يقيد بعض التصرفات في ضمن اجتهاده في تحصيل المصلحة، ولو أخطأ كان ما ينبني عليه جائزا، ويحل للآخذ ما أخذه. والاحتمال الأول عندي أرجح، والعمل عليه أوثق، وأما الاحتمال الثاني فإنه مبني على اجتهاد فاسد الاعتبار، لأمور: الأول: مخالفته للنصوص الشرعية الصحيحة، من مثل: قول الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه)) ومخالفته للقواعد الشرعية المتفق عليها، من مثل ((أن المالك أحق بالتصرف في ملكه)) . الثاني: أن المصلحة العامة، على المدى الطويل، ليست في الحقيقة في ظلم المالكين لمصلحة المستأجرين، فإن ذلك يحد من الحركة العمرانية، إذ يتقاعس أصحاب الاقتدار عن إنشاء العمران الجديد، فتقل المساكن، ويعود الأمر بالضرر على المالكين وعلى المحتاجين إلى الاستئجار أيضا، كما هو مشاهد قديما وحديثا. والثالث: أن هذا الاجتهاد في الحقيقة ليس اجتهادا، وإنما هو تقليد صرف، فهو تقليد لبعض الدول الغربية إذ اتخذت إجراءات وقتية لمواجهة بعض الأزمات اللاحقة للحروب، بتقييد حرية المالكين في التصرف، ولم يكن ذلك كنظام عام، بل كانت قوانين استثنائية، ثم بدأت كثير من تلك الدول الغربية في التخلي عن ذلك والعودة إلى نظام الإجارة الحرة التي تكفل العدالة وانتظام العمران، وبعضهم عاد إلى إجراءات معينة لعزل أثر التضخم النقدي، بتعديل الأجرة سنويا، لتبقى القوة الشرائية للأجرة ثابتة، فلا يضار المالك في الأجرة ولا في قيمة عقاره، واستمر على التمسك بنظام تثبيت الأجور، على علاته ومساوئه، أكثر الدول العربية والإسلامية فيما لا يزيد عن أن يكون تقليدا أعمى لا يبصر وجوه المصالح، ولا مداخل الفساد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1742 وبعض الفقهاء: (مثلا: الزميل السابق الدكتور محمد سلام مدكور رحمه الله في مجلة المجتمع الكويتية العدد 430 الصادر في 2 ربيع الأول سنة 1399هـ ص30 وما بعدها) ذهب إلى أن للسلطان أن يقيد حرية المالكين، حماية للضعيف ومنعا للاستغلال والاحتكار والإضرار بالجماعة، وأن إعطاء القانون للمستأجرين حق القرار الدائم وتحديد الأجور هو من ذلك، ولكن مع ذلك لم ير من حق المستأجر أن يأخذ الخلو، وهو عنده نوع من الاستغلال. ونحن نرفض القول بأن للسلطان هذا التقييد لحرية المالكين، لأن هذا تغيير للشرع. والذي للسلطان أن يفعله أن يَرعى المضطرين بمال الدولة لا بأموال الأفراد. وعليه أن يهيئ لهم من ذلك المال ما لا بد لهم منه من السكن ويضع الخطط لتيسير ذلك لهم باستصلاح الأراضي وبناء المساكن وتيسير التمليك والتأجير. ثم ليس في إعطاء الحرية للمالك في التصرف في ملكه تقوية للاحتكار ولا تأييد له، لأن الاحتكار الممنوع أن يشتري المحتكر ما في السوق من البضاعة التي لا بد للناس منها، ثم يحتجزه عنده ليغليه على الناس، فالذي بنى عمارة ليستغلها بالتأجير بأجر المثل، أو بالأجر الحر ليس محتكرا أصلا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1743 وأيضا فليس كل المستأجرين في البلاد التي تلزم بالامتداد القانوني لإجارة الأماكن أو بالتسعيرة الجبرية، ليسوا جميعا مضطرين، بل المضطر قسم منهم قليل، وغالبهم قادر على أن يشتري سكنا أو يستأجر إجارة حرة، لكنه في ظل التسعيرة الجبرية يفضل أن ينعم بالسكن في عقار غيره رغما عنه، بالأجرة التافهة، على أن يقوم بالبناء أو الشراء لسكن خاص. فيفقد القطاع السكني جزءا كبيرا من القدرات المالية التي كان من الممكن أن تشترك في الإنشاءات لو كان الإيجار والاستئجار خاضعا لنظام التعاقد الحر. وأيضا فإن المالكين مواطنون، يقومون بخدمة جليلة، بتهيئة العقار وتوفيره، وليسوا دائما جبابرة ولا طواغيت، وربما كانوا فقراء ومحتاجين، وكثير منهم كما قال تعالى: {ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} [البقرة: 266] بحاجة إلى ما يقوتهم ويقوم بأودهم من ثمرة عقار خلفه لهم الموروث. وكثيرا ما يكون بعض المستأجرين لديهم خيرا منهم حالا وأوفر مالا. ومن الظلم الحيلولة بينهم وبين عقارهم يستثمرونه على الوجه الموافق للشرع. الحالة الثالثة: أن يأخذ المستأجر بدل الخلو من مستأجر لاحق: وتنشأ هذه الحالة لأسباب: السبب الأول: أن يكون المستأجر الأول قد ملك منفعة الخلو بطريقة شرعية، بأن يكون قد تعاقد عليه مع المالك تعاقدا صحيحا، أو اشتراه من المالك شراء صحيحا على ما تقدم في أول الحالة الثالثة، فله أن يبيعه لغيره بما شاء من المال، قل أو كثر، ما دام شيء من مدة الخلو باقيا. ويحل لآخذ البدل ما أخذ، لأنه ملك منفعة الخلو بالتعاقد الحر الشرعي، فله أن يبيعه لمن شاء، وتجوز له فيها سائر التصرفات الشرعية (انظر الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3/ 467، 433 والزرقاني على خليل 7/ 57، والخرشي 7/ 79، ومطالب أولى النهى 4/ 370) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1744 السبب الثاني: أن لا يكون للمستأجر في المكان خلو صحيح، ولكن لا يزال له في عقد الإجارة بينه وبين المالك جزء من مدة التعاقد الأصلية التي أجراها المالك بكامل حريته دون تسعيرة إجبارية، ولا ضمن امتداد قانوني. فإن أخذ من المستأجر اللاحق مالا مقابل إخلائه المحل له ليحل مكانه، فهذا البدل المالي الذي قد يسمى لدى العامة (خلوا) هو مشروع للآخذ والمعطي على السواء، لأنه في حقيقته بيع للمدة الباقية من المنفعة المستحقة بعقد الإجارة. وقد ذكر الشيخ عليش المالكي هذه المسألة والتي بعدها في فتاواه (2/ 250) فقال: (الذي يدور عليه الجواب في ذلك أن الساكن الذي أخذ الخلو إن كان يملك منفعة الحانوت مدة فأسكنها غيره، وأخذ على ذلك مالا، فإن كان الآخذ بيده إجارة صحيحة من الناظر أو الوكيل بشروطها بأجرة المثل [أي الوقف، وأما في الملك فلا يشترط] فهو سائغ له الأخذ على تلك المنفعة التي يملكها. وأما إن لم يكن مالكا للمنفعة بإجارة صحيحة فلا عبرة بخلوه ويؤجره الناظر لمن يشاء بأجر المثل، ويرجع دافع الدارهم على من دفعها له) . السبب الثالث: أن يكون المستأجر الأول ليس له في المحل خلو صحيح، على ما تبين في المسألة السابقة، وقد انتهت مدته التعاقدية، ولكن كان هو تلقى المحل ببذل مال لمستأجر قبله حتى مكنه من استئجار المحل. فهذا إن أراد أن يتخلى لغيره عن المحل فقد يأخذ منه مالا متعللا بأنه قد كان دفع للمستأجر السابق شيئا كثيرا. فهذا المال قد يسميه بعض العامة (خلوا) وليس هو من الخلو المصطلح عليه في شيء. ولا يلزم المالك أن يؤجر المحل له سواء بأجر المثل أو أقل أو أكثر، لأن المالك بعد انتهاء عقد الإيجار، حر يصنع في ملكه ما يشاء. ثم إن لم يتمكن الآخذ من إقناع المالك بتوقيع عقد مع المستأجر الجديد، فله أن يرجع على الآخذ بما دفعه له، لأنه إنما دفعه له على تحقيق مصلحة، فلم تتحقق. أما إذا اتصل بذلك وضع قانوني معين يمنع المستأجر من أخذ الخلو من المستأجر اللاحق كان هذا القانون واجب الرعاية، لأنه يؤكد حقا شرعيا، ولأنه يمنع المستأجر من الاستغلال غير المشروع، وذلك لأن القوانين التي تعطيه حق البقاء في المكان المستأجر بعد انتهاء المدة التعاقدية قصدت – بزعم واضعيها – إلى رفع الضرر عنه، لا إلى تحكمه في حق المالك، وأكله ثمرة جهده بغير حق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1745 حق القرار للمستأجر بسبب ماله في المكان من الأمتعة والأثاث: إذا ثبت للمستأجر القرار في المكان المستأجر استتبع ذلك من حيث طبيعة الأمور في التعامل غالبا إمكانية حصول المستأجر على بدل الخلو. أما إن لم يثبت له حق القرار فتكون فرصته في الحصول على البدل ضئيلة جدا، لأن المالك إذا استعاد المكان، وأمكنه أن يؤجره لآخر بتعاقد حر، فإنه من حيث طبيعة الأشياء سيطلب أجر المثل أو أعلى منه، وتكون ثمرة ملكه له، وبذا يستقيم أمر العمران. حق القرار يثبت للمستأجر في صور منها: الصورة الأولى: يثبت للمستأجر حق القرار طيلة المدة التعاقدية بمقتضى عقد الإجارة، بشرط أن تكون الإجارة صحيحة، والمدة معلومة ولو كانت طويلة، على أن لا تزيد على خمسين أو ستين عاما كما تقدم. الصورة الثانية: أن يكون اشترى منفعة الخلو من المالك بتعاقد عليها صريح – كما تقدم في أول الحالة الأولى – فيثبت له حق القرار إذا جرى العرف بذلك (فتاوى عليش، والعدوي على الخرشي 7/ 79) ، وحكم بيع المستأجر للخلو هنا الجواز، لكن لا بد من تعديل الحكر الذي يحصل عليه المالك عن باقي منفعة المكان ليصل إلى أجر المثل. الصورة الثالثة: أن يكون المستأجر قد وضع في المكان أمتعته وأثاثه، فإن كان أثاثا منفصلا عن المبنى، فإذا انتهت مدة الإجارة فللمالك إن لم يشأ تجديد الإجارة له أن يأمره برفع أثاثه وتسليم المكان. أما إن كانت الأشياء التي وضعها في المكان متصلة بالمبنى، وتفقد قيمتها – أو جزءا كبيرا من قيمتها – برفعها، فهي التي تسمى الجدك (أو: الكدك) وهو ما يحتاج إليه كثيرا أصحاب المصانع والمتاجر، فقد قيل: إنه يثبت للمستأجر بذلك حق القرار، ولم يرد هذا القول عن أحد من الفقهاء القدامى فيما نعلم في الأملاك الخاصة، بل الذين اطلعنا على كلامهم صرحوا بنفيه فيها، فلا يثبت للمستأجر بوضعها حق القرار بل يلزم المستأجر برفعها عند نهاية المدة ولو تلفت برفعها، وعليه تسوية المكان بعد قلعها وإعادته إلى ما كان عليه. لكن استثنى من ذلك بعض الفقهاء إجارة الوقف خاصة، إن كان المستأجر قد وضع جدكه بإذن الواقف أو الناظر، ورضي المستأجر بتعديل أجرته حتى تصل إلى مقدار أجرة المثل، قالوا: لأن الوقف لا بد أن يؤجر، فإجارته لذي اليد أولى. فإن أبى يؤمر برفع جدكه وإخلاء المكان، قالوا: (إن كان للمستأجر بناء ونحوه مما يسمى الجدك أو الكردار فإذا لم يدفع أجرة المثل يؤمر برفعه وإن كان موضوعا بإذن الواقف أو أحد النظار) (1) .   (1) حاشية ابن عابدين، الطبعة الثانية 4/ 16 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1746 وهذا الذي قاله بعض أصحاب المذاهب وأخذت به بعض القوانين في شأن الأوقاف، كان سببا للاستيلاء على الأوقاف مع طول المدة، أو احتكار منافعها وحرمانها من أخذ الأموال الهائلة بدل خلوتها التي آلت إلى واضعي الأيدي عليها، وحصل الإضرار بها، وأقل ذلك ما تحمله الأوقاف من تكاليف المنازعات القضائية التي تذهب بالقليل الذي قد يتبقى من غلائها، وباء بإثمه من أفتى بذلك إن كان فعله للهوى. ولو أنهم التزموا بالقاعدة الشرعية في الإجارة الحرة من انقضاء حق المستأجر بانقضاء المدة التعاقدية لكان للأوقاف في العالم الإسلامي اليوم شأن آخر. والله المستعان. فما يأخذه المستأجرون من بدل الخلوات في الأوقاف بدعوى حق القرار المدعى في هذه الصورة الثالثة وفي رأيي من السحت الذي أكلت به حقوق الأوقاف، وأدت إلى بطلانها وانقضاء منافعها واستيلاء أهل الفساد عليها والله أعلم. ففي رأينا أن إذن الواقف أو الناظر لا يعطي للمستأجر حق القرار ما لم ينص عليه وكان الوقف مضطرا إلى ذلك لأجل لإعماره. أما إن لم يكن وضع الكدك بإذن صريح من الواقف أو الناظر على الوجه المتقدم (1) فقد قيل أيضا يثبت بذلك حق القرار للمستأجر. وذلك واضح البطلان. ويمكن أن تحل مسألة الحاجة إلى استقرار المستأجر المدة التي يراها كافية لصناعته أو تجارته بطريق الإجارة الطويلة. والله أعلم.   (1) أي عند اضطرار الوقف إليه لأجل إعماره، بأن لم يوجد للوقف مال يعمر به، ولم يوجد من يستأجره على حاله من التخرب، ولم يوجد من يتبرع بإقراضه، ولم يمكن استبداله بوقف ذي ريع، ولم يرض أحد باستئجاره إجارة طويلة بأجرة مقدمة يمكن إعماره بها. فإن كان الأمر كذلك جاز الإذن من الناظر بوضع الجدك من المستأجر بشرط القرار، وإثبات الخلو. وإن لم يكن كذلك لم يجز وحرم اتفاقا ولو رضي المستأجر بشرط القرار، وإثبات الخلو. وإن لم يكن كذلك لم يجز وحرم اتفاقا ولو رضي المستأجر بأجر المثل، قال ابن عابدين (3/ 399) (من أفتى بأنه (أي المستأجر) إن قبل الزيادة العارضة يكون أولى بالاستئجار من غيره فذلك مخالف لما أطبقت عليه كتب المذهب من متون وشروح وحواش وفيه الفساد وضياع الأوقاف حيث إن بقاء أرض الوقف بيد مستأجر واحد المدة الطويلة يؤدي إلى دعوى تملكها مع أنهم منعوا من تطويل الإجارة في الوقف خوفا من ذلك) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1747 الخلاصة 1- للمالك أن يأخذ بدل الخلو إن أنشأ الخلو (أي بيع جزء من منفعة العقار) صريحا، وذلك فيما جرى العرف بإنشاء الخلو فيه، وقد جرى العرف بذلك في الحوانيت دون المساكن. وينبغي في إنشاء الخلوات مراعاة شروط خاصة يرجع إليها في البحث. 2- إذا اشترى المستأجر الخلو من المالك صريحا ملكه، ويكون له حق القرار في العقار، ويدفع أجرة الجزء الآخر من المنفعة، ويجب تعديل تلك الأجرة بعد انتهاء مدة التعاقد الأصلية، لتلحق بأجرة المثل باستمرار. وللمستأجر بيع خلوة للمالك أو غيره، ويورث عنه. 3- إذا أخذ مالك الحانوت من المستأجر مالا سوى الأجرة لتمكينه من الحانوت دون تصريح بإنشاء حق الخلو، فهذا النوع مشتبه والظاهر أن يكون خلوا يثبت به حق القرار وللمستأجر حينئذ بيع الخلو، وأخذ بدله، ويورث عنه، ما لم يمنع من ذلك عرف أو قانون. 4- في غير الصورتين المتقدمتين يجوز للمستأجر أخذ بدل خلو من المالك أو غيره إن كان ذلك أثناء المدة التعاقدية الأصلية، وأما بعد انتهائها فليس له أخذه، والحق للمالك في تجديد الإجارة أو استرجاع عقاره. فإن وجد قانون يمنعه من ذلك فالظاهر أن القانون لا يكون مشروعا إلا في حالات الضرورة وليس للمستأجر استغلال ذلك الوضع للحصول على بدل الخلو. 5- الجدك (أو الأعيان الثابتة التي يضعها المستأجر متصلة بالعقار) لا تعطيه حق القرار في الوقف أو غيره، وبالتالي لا يحق له أخذ بدل الخلو بسبب جدكه، وله أن يبيعها للمالك أو المستأجر اللاحق بثمن المثل لا أكثر، لئلا يكون حيلة على أكل مال المالك بالباطل. والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1748 حكم الشريعة في بدل الخلو (السرقفلية) إعداد فضيلة الأستاذ إبراهيم فاضل الدبو الأستاذ المساعد بكلية الشريعة – جامعة بغداد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. وبعد: ليست كلمة – السرقفلية – عربية بل هي كلمة فارسية، ترمز إلى ما تعارف في أيامنا الأخيرة بأن يتنازل المستأجر عما تحت تصرفه من إيجار المحل الذي يشغله إلى الآخر، ويتقاضى إزاء هذه العملية مقدارا من المال يتفق عليه الطرفان، وربما سمي ذلك في اللغة الدارجة – الخلو – وهو مأخوذ من تخلية ما تحت اليد إلى الغير، وهي على نوعين: الأول: أن يتم الاتفاق بين المستأجر القديم والجديد فيتنازل الأول عما تحت تصرفه إلى الثاني لقاء مبلغ من المال كما ذكرنا آنفا، والمالك في هذه الصورة في مجنب عن المعاملة والاستفادة منها. ولا بدَّ لنا – والحالة هذه – من معرفة الوجه الشرعي في أخذ المال والتصرف به من قبل من كان المحل تحت تصرفه أولا، وكيفية إعطاء المال من قبل المستأجر الجديد. كما أنه لا بد من تحديد موقف المالك من هذا التنازل من شخص قد استأجر ما هو ملك له وقبول المستأجر الجديد، وهل بإمكانه الوقوف في طريق هذه المعاملة أو لا؟ النوع الثاني: ومن أقسام هذه المعاملة أيضا، ما شاع أخيرا في أيامنا الحاضرة من أن المالك هو الذي يستلم بدل الخلو هذا من المستأجر بعد أن تنبه كثير من الملاك إلى أن موضوع بدل الخلو أصبح أمرا عرفيا شائعا في الأسواق، فبدلا من أن يتمتع بهذا المال غيره، فهو أحق به، فمثلا يأخذ المالك مائتي دينار كبدل خلو وخمسين دينارا كإيجار سنوي, والفرق بين هذا النوع والنوع الأول واضح، ذلك لأن المالك في النوع الأول بعيد عن المعاملة الجديدة بين المستأجر الجديد والقديم، أما في هذا النوع فهو قد قبض مبلغا من المال حين إيجاره للمحل من أول الأمر، فما هو الحكم في هذا المبلغ المأخوذ من المستأجر الأول؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1749 أقول وبالله التوفيق: إن بيان رأي الشريعة في هذه المعاملة يتطلب منا قبل ذلك معرفة الحقوق وأنواعها عند الفقهاء المسلمين رحمهم الله، لمعرفة ما إذا كان للمستأجر الحق في مثل هذا التصرف أم لا؛ لأنه من المعلوم كما سيظهر لنا ذلك من خلال البحث أن المستأجر في الحالة الأولى لا يملك سوى منفعة العين بدون الرقبة، فمن أجل بيان موقع حق ملكية المنفعة بين تلك الحقوق، ينبغي الرجوع إلى آراء الفقهاء رحمهم الله تعالى. الحق في اللغة والاصطلاح: الحق لغة: مصدر حق الشيء يحق إذا ثبت ووجب، وقد ذكر صاحب القاموس المحيط أن الحق يطلق في اللغة على المال والملك والموجود الثابت. ومعنى حق الأمر: وجب ووقع بلا شك (1) . والحق في استعمالاته المختلفة لغة يفيد الوجوب والثبوت مما يدل على أن أصل معناه هو هذا. أما في الفقه: فقد استعمله الفقهاء في عدة استعمالات، فهم يستعملونه بمعنى عام يشمل كل ما يثبت للإنسان من ميزات أو مكنات، سواء أكان الثابت ماليا أو غير مالي. ويستعملونه في مقابلة الأعيان والمنافع المملوكة ويقصدون بذلك المصالح التي ثبتت بأمر من الشارع، وذلك كحق الشفعة وحق الطلاق والحضانة. وقد يلاحظ الفقهاء عند استعمالهم للحق المعنى اللغوي فقط، من هذا قولهم: حق الدار، ويقصدون بذلك مرافقها، كحق التعلي والشرب والمرور وغيرها، لأنها ثابتة للدار ولازمة لها. وقد يطلق الحق مجازا على غير الواجب، للحض عليه والترغيب في فعله، إلى غير ذلك من الإطلاقات والاستعمالات (2) .   (1) انظر القاموس المحيط 321/ 1 (2) الملكية في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد السلام العبادي 94/ 1 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1750 وبخصوص تعريف الحق لدى فقهاء الشريعة، فإنهم لم يعنوا بإيراد تعريف له مع كثرة استعمالهم للحق وإسهابهم في الكلام عن آحاده، وقيل في ذلك كأنهم رأوه واضحا فاستغنوا عن تعريفه (1) . ومن الأصوليين: من أراد أن يعرف الحق تعريفا جامعا، فعرفه محمد عبد الحليم اللكنوي بأنه: حكم يثبت (2) إلا أن تعريفه جاء مجملا في بيان ما يتميز به الحق، وواضح أن مراده بالحكم أثر الخطاب لا ذات الخطاب (3) . وقد وضع الفقهاء المعاصرون عدة تعاريف للحق، منها تعريف الشيخ علي الخفيف، بأنه (مصلحة مستحقة شرعا) (4) . وتعريف الأستاذ مصطفى الزرقاء بأنه: (اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفا) (5) وذكر أستاذنا أحمد فهمي أبو سنة أن الحق في عرف الفقهاء: (هو ما ثبت في الشرع للإنسان أو لله تعالى على الغير) (6) . والذي يتضح من هذه التعاريف أن أصحابها اتجهوا ثلاثة اتجاهات في مفهوم الحق: الاتجاه الأول: ويرى أصحابه بأن الحق مصلحة، ويعنون بالمصلحة، المنفعة ذاتها والواقع كما يذكر الأستاذ العبادي، أن المصلحة هي هدف الحق وغايته، فهي شيء آخر غير الحق، وكأن أصحاب هذا الرأي قد نظروا إلى ما يبتغي بالحق من مصلحة فعرفوه بها (7) . الاتجاه الثاني: ويرى أصحابه بأن الحق اختصاص. ويذكر الأستاذ الزرقاء عند شرحه لتعريفه للحق قائلا: إن الاختصاص، هو علاقة تشمل الحق الذي موضوعه مالي كاستحقاق الدين في الذمة بأي سبب كان، والذي موضوعه ممارسة سلطة شخصية كممارسة الولي ولايته والوكيل وكالته.   (1) انظر التعسف في استعمال حق الملكية للدكتور سعيد الزهاوي ص 16 (2) انظر حاشيته المسماة: قمر الأقمار على نور الأنوار شرح المنار 216/ 2 (3) انظر التعسف في استعمال حق الملكية للدكتور سعيد الزهاوي ص 16 (4) انظر الحق والذمة وتأثير الموت فيهما ص37 (5) انظر الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ص10 (6) انظر النظريات العامة للمعاملات في الشريعة الإسلامية ص 50 (7) انظر مؤلفه الملكية في الشريعة الإسلامية 98/ 1 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1751 وهذه العلاقة لكي تكون حقا، يجب أن تختص بشخص معين أو بفئة، إذ لا معنى للحق إلا إذا تصورنا بأن هناك ميزة مقصورة على صاحبه دون غيره. وبذلك تخرج العلاقة التي لا اختصاص فيها، وإنما هي تعتبر من قبيل الإباحات العامة كالاصطياد والاحتطاب في الصحراء. واشترط الأستاذ الزرقاء في تعريفه كذلك إقرار الشرع لهذا الاختصاص وما ينشأ عنه من سلطة أو تكليف؛ لأن نظرة الشرع هي أساس اعتبار الحقوق. وبين بأنه ذكر (سلطة أو تكليفا) لأن الحق تارة يتضمن سلطة وتارة تكليفا. والسلطة نوعان: سلطة على شخص كحق الولاية على النفس، وسلطة على شيء معين كحق الملكية. والتكليف دائما عهدة على إنسان، وهو إما عهدة شخصية كقيام الأجير بعمله، وإما عهدة مالية كوفاء الدين. ثم بيَّن أن الحق بهذا المعنى لا يشمل الأعيان المملوكة، لأنها أشياء مادية وليست اختصاصا فيه سلطة أو تكليف، وقد عرض رأيه بما حكاه عن الفقهاء من أنهم يذكرون الحقوق في مقابلة الأعيان، بينما يذكره الأحناف في مقابلة الأموال. ويقولون: بأن الحق ليس بمال. وقد انتقد تعريف الحق بأنه مصلحة، وبيَّن أنه ليس إلا اختصاص الشخص بهذه المصلحة وعلاقته بها، فليست المصلحة في الحقيقة سوى متعلق للحق، أي محل له، فالحق صلة أو علاقة اختصاصية بين الشخص والمصلحة (1) . الاتجاه الثالث: وقد عرَّف أصحاب هذا الرأي الحق انطلاقا من معناه اللغوي. فقد ذكر أستاذنا أبو سنة في شرح تعريفه للحق، بأن المقصود (بما) أي شيء. وهو شامل لملك العين ولملك المنفعة وللدين، وللحقوق الفكرية كحق التأليف والصناعة والاختراع، ويشمل كذلك الامتناع عن الفعل الضار، وللحقوق الفطرية أيضا، كالحياة والحرية، لا فرق بين أن يكون الثابت على وجه الاختصاص وهو المعروف بالملك أو على وجه الاشتراك كما في الإباحة العامة (2) .   (1) انظر مؤلفه الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ص14 (2) انظر النظريات العامة في المعاملات ص52 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1752 والمراد بالثبوت هنا (التمكن والتسلط) بحيث لا يملك أحد رده عما ثبت له ولا الحيلولة دون ممارسته ولو كان فعلا مباحا أو مندوبا. والمراد بقوله: في الشرع، أن يكون الحق الثابت قد شرعه الله عز وجل ولم تمنع الشريعة منه، لأنها هي مصدر الحقوق كلها (1) . وقصد الشيخ بقوله: (للإنسان أو لله تعالى) تعميم الحق، ليشمل حق الإنسان كملكه لماله والتصرف فيه، وحق الله تعالى في أن يعبده الناس ويقيموا دينه. وعنى بقوله: (على الغير) أن كل ما ثبت للإنسان أو لله تعالى هو واجب على الغير سواء كان هذا الغير معينا كحق الإنسان في ثمن ما باع وفي أجرة عمله، فإنه واجب على المشتري ورب العمل، أم كان واجبا على الناس جميعا كملك الإنسان لأرضه وولايته على طفله (2) . وقد انتقد الشيخ أبو سنة تعريف بعض الفقهاء، للحق بأنه اختصاص يقره الشرع، بمعنى أن يكون الشيء ثابتا لصاحب الحق وحده وممنوعا عن غيره، كالكتاب الذي هو ملك لصاحبه ولا يجوز للغير التصرف فيه، أما ما يشترك فيه الجميع من المباحات العامة كالسير في طريق عام أو الشرب من النهر مثلا، فإن البعض لا يسميه حقا بل يسميه إباحة. ويمضي في قوله: (بأن هذا التحديد ليس بسديد، لأن الفقه كما يطلق الحق على ما فيه اختصاص، يطلقه كذلك على ما فيه الاشتراك كالأمثلة السابقة) (3) . ولا أرى مبررا لما ذكره أستاذنا أبو سنة، لأننا إذا عرفنا بأن الاختصاص يقوم على عدم جواز التعرض للمختص في حدود ما وقع عليه الاختصاص فإنه يتصور عندئذ تحققه في الإباحات العامة، لأن الشخص عندما يستعمل حقه في أي مباح من المباحات العامة، فلا يجوز لأحد التعرض له فيه ولا منعه عنه بالقدر الذي وضع المختص يده عليه، وهذا ما أكد عليه الأستاذ الزرقاء عند شرحه لتعريف الحق (4) .   (1) انظر النظريات العامة في المعاملات ص52 (2) انظر النظريات العامة في المعاملات ص52 (3) انظر النظريات العامة في المعاملات ص52 (4) انظر الملكية في الشريعة الإسلامية للدكتور العبادي 103/ 1 وكذا الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ص14 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1753 أقسام الحق: ينقسم الحق باعتبارات مختلفة، فهو ينقسم باعتبار صاحب الحق إلى: حق الله تعالى، وحق الإنسان، وما اجتمع فيه الحقان. وقد تكفلت كتب الفقه وأصوله ببيان تلك الحقوق مما لا مجال للكلام عنها هنا، حيث إننا سنقتصر في الكلام عن الحقوق المالية فقط، لأنها هي المقصودة في موضوع بحثنا هذا. وقد قسم ابن رجب الحنبلي حقوق العباد التي تتعلق بالأموال إلى خمسة أنواع وهي: (1) 1- حق الملك: ومثَّل له بحق السيد في مال عبده. 2- حق التملك: وذلك كحق الأب في مال ولده وحق العاقد للعقد إذا وجب له، وحق الشفيع في الشفعة (2) . 3- حق الانتفاع: وقد بين أنه يدخل فيه صور منها: (أ) وضع الجار خشبة على جدار جاره إذا لم يضر به للنص الوارد فيه. (ب) إجراء الماء في أرض غيره إذا اضطر إلى ذلك في رواية عن الإمام أحمد. (جـ) لو باع أرضا فيها زرع يحصد مرة واحدة ولم يبد صلاحه أو شجرا عليه ثمر لم يبد صلاحه، كان ذلك مبقى في الشجر والأرض إلى وقت الحصاد والحذاذ بغير أجرة ولو أراد تفريغ الأرض من الزرع لينتفع بها إلى وقت الحذاذ أو يؤجرها، لم يكن له ذلك.   (1) انظر القاعدة الخامسة الثمانين ص 200 –208 من القواعد (2) وذكر بعد ذلك صورا قد اختلف فيها: هل يثبت فيها المِلك أو حق التملك؟ منها الموصى له بعد موت الموصي وبيَّن أن فيها وجهين أحدهما: أنه يثبت له الملك والثاني: أنه يثبت له حق التملك بالقبول، ومنها من بنت في أرضه كلأ أو نحوه من المباحات أو توحل فيها صيد أو سمك ونحوه، فهل يملك بذلك؟ في المسألة روايتان معروفتان وأكثر النصوص عن أحمد تدل على الملك، وعلى الرواية الأخرى إنما يثبت حق التملك وهو مقدم على غيره بذلك إذ لا يلزمه أن يبذل من الماء والكلأ إلا الفاضل عن حوائجه ومنها متحجر الموات، المشهور أنه لا يملكه بذلك، ونقل صالح عن أبيه ما يدل على أنه يملكه وعلى الأول فهو أحق بتملكه بالإحياء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1754 4- حق الاختصاص: (وهو عبارة عما يختص مستحقه بالانتفاع به ولا يملك أحد مزاحمته فيه وهو غير قابل للشمول والمعاوضات) . وقد ذكر جملة من صور حق الاختصاص منها: (أ) الكلب المباح اقتناؤه كالمعلم لمن يصطاد به، فإن كان لا يصطاد به أو كان جروا يحتاج إلى التعليم فوجهان: (ب) مرافق الأملاك كالطرق والأفنية ومسيل المياه، ونحوها، فهل هي مملوكة أو ثبت فيها حق الاختصاص، رأيان في المسألة: أحدهما ثبوت حق الاختصاص فيها من غير ملك، وبه حزم القاضي وابن عقيل. والرأي الآخر أنه يفيد الملك، وصرح به الأصحاب في الطرق. (جـ) مرافق الأسواق المتسعة التي أعدت للبيع والشراء، كالدكاكين المباحة ونحوها فالسابق إليها أحق بها، وهل ينتهي حقه بانتهاء النهار أو يمتد إلى أن ينقل قماشه عنها؟ على وجهين. (د) الجلوس في المساجد ونحوها لعبادة أو مباح، فيكون الجالس أحق بمجلسه إلى أن يقوم عنه باختياره قاطعا للجلوس، أما لو قام لحاجة عارضة ونيته العودة فهو أحق بمجلسه. 5- حق التعلق لاستيفاء الحق، وقد مثل له بعدة صور منها: (أ) تعلق حق المرتهن بالرهن، ومعناه أن جميع أجزاء الرهن محبوس بكل جزء من الدين حتى يستوفى جميعه. (ب) تعلق حق الجناية بالجاني، ومعناه أن حقه انحصر في ماليته وله المطالبة بالاستيفاء منه، ويتعلق الحق بمجموع الرقبة لا بقدر الأرش على ظاهر كلام الأصحاب. (جـ) تعلق حق الغرماء بالتركة هل يمنع انتقالها بالإرث؟ على روايتين، وهل هو كتعليق الجناية أو الرهن؟ اختلف كلام الأصحاب في ذلك، وصرح الأكثرون بأنه كمتعلق الرهن. ويفسر بثلاثة أشياء: أحدها: أن تعلق الدين بالتركة وبكل جزء من أجزائها، فلا ينفك منها شيء حتى يوفى الدين كله. الثاني: أن الدين في الذمة ويتعلق بالتركة، وهل هو ذمة الميت أو الورثة؟ على وجهين. الثالث: أنه يمنع صحة التصرف، وفي ذلك وجهان أيضا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1755 (د) تعلق حق الموصى له بالمال، هل يتبع الانتقال إلى الورثة؟ جعل طائفة من الأصحاب حكمه حكم الدين، وجزم القاضي بعدم انتقاله إلى الورثة، مفرقا بين الدين والوصية بأن حق الموصى له في عين التركة ولا يملك الورثة إبدال حقه، بخلاف الدين، فإن حق صاحبه في التركة والذمة، وللورثة التوفية من غيره. أقسام الحق عند فقهاء القانون: قسم رجال القانون الحقوق المالية إلى ثلاثة أنواع هي: الحقوق العينية والحقوق الشخصية والحقوق الذهنية أو المعنوية. فعرفوا الحق العيني بأنه: سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شيء معين فصاحبه يستطيع أن يباشره دون وساطة أحد. وعرفوا الحق الشخصي: بأنه مطلب يقره الشرع لشخص على آخر وهذا الحق يكون متعلقه تارة قياما بفعل ذي قيمة لمصلحة صاحب الحق وتارة امتناعا عن فعل مناف لمصلحته، وذلك كحق كل من المتبايعين على الآخر (1) . وقسموا الحقوق العينية إلى حقوق أصلية وحقوق تبعية، وعرفوا الحقوق العينية الأصلية بأنها: الحقوق التي تقوم بذاتها مستقلة لا تتبع حقا آخر، وبموجب هذا الحق تصبح لصاحبه سلطة تخوله إحدى أو جميع المكنات الثلاث التالية:   (1) انظر الأستاذ الزرقاء في مؤلفه الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ص17، وكذا محاضرات في النظرية العامة للحق للدكتور إسماعيل الغانم ص31 وما بعدها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1756 1- استعمال العين محل الحق. 2- واستغلالها. 3- والتصرف بها. وهذه المكنات الثلاث إذا اجتمعت شرعا في حق عيني، كونت فيه أوسع سلطة يمكن أن يكسبها صاحب حق عيني، ولكنها لا تجتمع كلها إلا في حق عيني واحد، هو ملكية الشيء ولذلك توصف الملكية بأنها أوسع الحقوق العينية مدى، وتوجد إلى جانب حق الملكية حقوق متفرعة عنه لا تخول صاحبها إلا بعض هذه المكنات كحق الاستعمال وحق الانتفاع وحق السكنى وحقوق الارتفاق القانونية (1) . وعرفوا الحقوق العينية التبعية بأنها: الحقوق التي لا توجد مستقلة، إنما تتبع حقا شخصيا لضمان الوفاء به كما في الرهن. وسلطة هذا الحق لا تخول صاحبه شيئا من هذه المكنات أو المزايا، لأن غايته توثيق حق شخصي لصاحبه كما قلنا، فسلطته تنحصر في ضمان استيفاء ذلك الحق الشخصي من المال المقرر عليه هذا الحق العيني التبعي بطريق الأولوية على غيره من الدائنين الآخرين (2) . أما الحق المعنوي فهو: (سلطة مقررة لشخص على شيء معنوي أي على شيء لا يدرك بالحواس. وذلك كالأفكار والمخترعات، فهو سلطة على شيء غير مادي، هو ثمرة فكر صاحب الحق أو نشاطه (3) . وقد نحا قريب من هذا أستاذنا أبو سنة عندما قسم الحق باعتبار علاقته البارزة إلى حق متعلق بالعين وحق ثابت في الذمة، فعرف الحق المتعلق بالعين) بأن يكون للإنسان حق في ذات شيء من الأشياء (وذلك كحق الملك في الدار، وحق سقي الزرع من جدول معين ومنه كل ما هو أمانة في يد حائزه كالوديعة والعارية والعين المستأجرة في يد المستأجر والموصى له بالمنفعة في المنافع الموصى بها.   (1) انظر الأستاذ الزرقاء في مؤلفه الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ص17، وكذا محاضرات في النظرية العامة للحق للدكتور إسماعيل الغانم ص20 وما بعدها (2) انظر الأستاذ الزرقاء في مؤلفه الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ص17، وكذا محاضرات في النظرية العامة للحق للدكتور إسماعيل الغانم ص21 (3) انظر الدكتور العبادي في مؤلفه الملكية في الشريعة الإسلامية 112/ 1 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1757 كما اعتبر الحقوق الفكرية من جملة الحقوق المعنوية، فهي أموال ذات مميزات خاصة اختص بها صاحبها دون غيره. فالعلاقة البارزة ثابتة بين المالك وهذا المال المعنوي. أما الحق الثابت في الذمة، فهو إما أن يكون دينا ماليا أو غير مالي، وإما عمل كبناء دار وخياطة ثوب أو منفعة كما في إجارة الدار وإجارة الأجير الخاص، وقد يكون امتناعا عن عمل كتكليف الزوجة ألا تدخل أحدا من الأجانب بيت الزوج إلا بإذنه. (1) وبعد أن عرض الشيخ أبو سنة أقسام الحقوق في الشريعة الإسلامية أراد منها بتقسيم الحقوق عند فقهاء القانون، ثم أضاف قائلا:) والشريعة لا تعارض في هذا الاصطلاح لأنه مجرد تنظيم ما دام يفصل في كل حق بحكم الله غير أن الأقسام التي ذكرها علماء الشريعة مبنية على اختلاف الخصائص والأحكام الشرعية لكل قسم وهي وافية بالأغراض القضائية والديانية (2) . وقال الشيخ الخفيف بعد عرضه لأنواع الحق لدى فقهاء القانون: (وإذا كان الفقه الإسلامي لم يشر إلى هذه الأنواع، ولم يعرض لهذه القسمة، فإنه مع القسمة. ذلك أنه قد عرف هذه الأنواع بأسماء أخرى، ولم يغفل بيان أحكامها غير مجموعة تحت عنوان واحد في مواضع متفرقة، حيث عرض لبيان أسبابها. وكان له في الحق قسمة أخرى نظر فيها إلى ما للحق من ارتباط بما يعني به، من حيث إنه شريعة وضعت لتنظيم الصلات بين العبد وربه وبين العبد وأمثاله من الناس، فقسم إلى حق لله وحق للعبد وحق مشترك بينهما وغير ذلك من القسمات الخاصة به الكاشفة عن جوانب أخرى من جوانب الحق لم يعن الفقه الوضعي بها لعدم حاجته إليها) (3) . حق الملكية: بعد أن تبين لنا أن حق الملكية يعد أكمل وأوسع الحقوق العينية الأصلية، وذلك من حيث السلطات التي يمنحها الفقه الإسلامي والقانون الوضعي للمالك على الشيء الذي يملكه، نقف الآن على ما ذكره الفقهاء المسلمون بخصوص أنواع الملكية، وما يجوز للمالك من التصرف في كل نوع منها.   (1) انظر النظريات العامة للمعاملات ص 70 (2) انظر النظريات العامة للمعاملات ص 77 (3) انظر الملكية في الشريعة الإسلامية 13 – 14/ 1 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1758 وقبل البدء بتقسيم الملكية أود أن أشير باختصار إلى بعض تعاريف الفقهاء لها فإنهم يعبرون في كتبهم عن حق الملكية بالملك، ولأهمية هذا الحق وشموله عنوا بتبيينه ولهم في ذلك تعريفات تختلف إيجازا وإسهابا، كما تتفاوت في إبراز الخواص المميزة لهذا الحق والجهات الملحوظة فيه. فقد عرفه الكمال بن الهمام بقوله: (قدرة يثبتها الشارع ابتداء على التصرف إلا لمانع) (1) . وذكر السيد الشريف الجرجاني أن الملك في اصطلاح الفقهاء هو: (اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقا لتصرفه وحاجزا عن تصرف غيره فيه) (2) . وعرفه القرافي بقوله: (حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة تمكن من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك والعوض عنه من حيث هو كذلك) (3) . وعرَّف ابن الشاط الملكية بقوله: (تمكن الإنسان شرعا بنفسه أو نيابة من الانتفاع بالعين أو المنفعة ومن أخذ العوض أو تمكنه من الانتفاع خاصة) (4) . ويلاحظ في معظم التعريفات المتقدمة الحرص على إدراج الشرعية في تعريف الحق، أو التصريح بإثبات الشارع كما فعل الكمال، وكل ذلك إفصاح عن مصدر الحق كما يقول الأستاذ الزهاوي (5) . وذكر الشيخ الخفيف في تعريف الملكية (بأنها وصف شرعي يثبت لصاحبه نتيجة حيازته للمملوك حيازة ناشئة عن سبب من أسباب الملك) (6) . والمقصود بالوصف الشرعي بأنه المكنة أو الإباحة التي أعطاها الشارع للحائز من أجل أن ينتفع بالمال أو يتصرف فيه أو يستحق عوضه.   (1) انظر فتح القدير 456/ 5 (2) انظر تعريفات سيد شريف ص155 (3) انظر الفروق 209/ 3 وفي مكان عرف الملك بقوله: (إباحة شرعية في عين أو منفعة تقتضي تمكن صاحبها من الانتفاع بتلك العين أو المنفعة أو أخذ العوض عنهما من حيث هي كذلك) . انظر 216/ 3 من نفس المرجع (4) انظر حاشيته على الفروق 209/ 3 (5) انظر مؤلفه التعسف في استعمال حق الملكية ص 64 (6) انظر مؤلفه الحق والذمة ص 61 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1759 أنواع الملك: يقسم الملك إلى عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة، فبالنظر إلى خصائصه، قسم إلى ملك خاص، وهو ما يثبت لصاحبه على سبيل الاستئثار، وملك عام، وهو ما كان لمجموع أفراد الأمة أو لجماعة من الجماعات، وذلك كالأنهار والطرق وأفنية المدن (1) . وبالنظر إلى صورته يقسم الملك إلى مفرز، وهو ما اختص به مالك واحد دون اختلاط بملك الآخرين. وملك شائع، وهو ما كان محله يختص به أكثر من مالك من غير تعيين الأجزاء التي تعود لكل منهم، وإنما لكل منهم نسبة معنية في كل جزء (2) ، وهذه القسمة خاصة بملكية الأعيان. وأما بالنظر إلى محلها حسب ورودها على العين أو المنفعة فقد قسم ابن رجب الحنبلي الملك إلى أربعة أنواع وهي: أولا: ملك عين ومنفعة، ويشمل عامة الأملاك الواردة على الأعيان المملوكة بالأسباب المقتضية لها من بيع وهبة وإرث وغير ذلك. ثانيا: ملك العين بدون منفعة، وقد مثل له بالوصية بالمنافع لجهة وبالرقبة لجهة أخرى، أو تركها للورثة. ثالثا: ملك المنفعة بدون عين، وهو ثابت بالاتفاق، وهو على ضربين، أحدهما: ملك مؤبد كالوصية بالمنافع، وكالأرض الخراجية المقرة في يد من هي في يده بالخراج يملك منافعها على التأبيد. والآخر: ملك غير مؤبد، ومنه الإجارة ومنافع المبيع المستثناة في العقد مدة معلومة.   (1) انظر الملكية للشيخ الخفيف 73/ 1 (2) انظر الملكية للشيخ الخفيف أيضا 81/ 1 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1760 رابعا: ملك الانتفاع المجرد، وله صور متعددة، منها: (أ) ملك المستعير فإنه يملك الانتفاع لا المنفعة على رواية. (ب) المنتفع بملك جاره من وضع خشب وممر في دار ونحوه، وإن كان بعقد صلح فهو إجارة. (ج) إقطاع الإرفاق كمقاعد الأسواق ونحوها (1) . وقد وردت هذه الأنواع في كتب القواعد لمذاهب أخرى مع إفراد النوع الرابع وتمييزه عن سائرها. فبعد أن ذكر السيوطي من الشافعية الأنواع الثلاثة الأولى قال: وقد يملك الانتفاع دون المنفعة، وعقب على قوله هذا، بأن ذلك إباحة لا تمليك (2) . وكذلك ذكر العلامة ابن نجيم الحنفي الأنواع الثلاثة، وأفاد أن المراد بالنوع الرابع عند غيرهم ما يقابل إباحة الانتفاع عندهم (3) . حكم الملك: المقصود بحكم الملك هنا، هو الأثر الذي يترتب عليه، وقد سبق لنا عند كلامنا عن أقسام الحق عند فقهاء القانون أن قلنا: إن لصاحب الحق العيني الأصلي سلطة تخوله إحدى أو جميع المكنات الثلاث، التي هي: استعمال العين محل الحق، واستغلالها والتصرف بها. وفي الواقع هذه هي عناصر حق الملكية كما سماها رجال القانون، فللمالك أن يفعل في ملكه ما يشاء ما لم يرد قيد هذا التصرف. وهذه القدرات والمكنات المذكورة، هي التي عناها فقهاء المسلمين بقولهم: حق الملك، ومرادهم به كما ذكرنا، الأثر الذي يترتب عليه. والنصوص الفقهية التي توضح ما يثبت للمالك من سلطات أو قدرات أو مكنات على الشيء المملوك كثيرة، وهي مبثوثة في الأبواب الفقهية هنا وهناك. من هذه النصوص: ما جاء في حاشية ابن عابدين: (الانتفاع بالمال يعتمد في كل شيء بما يصلح له) (4) . وفي قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (يثبت التصرف بحصول الملك ويزول بزواله) (5) . ومن هنا يمكن القول بأن فقهاء الشريعة وإن لم يتعرضوا لتفصيل مكنات الحق على النحو الذي ذكره فقهاء القانون، إلا أنها مسلم بها عندهم كمظهر للملكية التامة (6) .   (1) انظر القاعدة السادسة والثمانين ص208 (2) انظر الأشباه والنظائر ص381 (3) انظر الأشباه والنظائر ص351 (4) انظر حاشية ابن عابدين 502/ 4 (5) انظر قواعد الأحكام 6/ 2 (6) انظر الأستاذ الزهاوي في مؤلفه: التعسف في استعمال حق الملكية ص69 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1761 أسباب الملك: قلما يفرد الفقهاء فصولا خاصة تجمع أسباب الملك، وإنما يتكلمون عنها ضمن أبواب الفقه، وغالبا ما يذكرها فقهاء الأحناف عند بيانهم لأسباب شركة الملك، فيذكرون منها الشراء والهبة والوصية والإرث والاستيلاء والخلط والاختلاط (1) . إلا أن العلامة ابن نجيم عند بيانه القول في الملك أفرد المسألة الأولى لبحث أسباب التملك وعنون لها بذلك, وذكر من تلك الأسباب ما تقدم وأضاف أسبابا كثيرة أخرى على سبيل يشبه الاستيعاب (2) . وكذلك قليلا ما يتعرض فقهاؤنا رحمهم الله لرد أسباب الملك إلى أنواع تجمعها، وقد أشار الحافظ ابن رجب إلى ذلك إشارة عارضة بقوله: (إن الملك يقع تارة بعقد وتارة بغير عقد) (3) . أما العلامة ابن نجيم فقد فصل القول في ذلك حيث رد أسباب الملك جميعها إلى ثلاثة أنواع: ما هو مثبت للملك من أصله (أي ابتداء) وناقل للملك، وخلافه. وحصر الأول بالاستيلاء على المباح، فشرطه خلو المحل عن الملك، ومثل للثاني بالبيع والهبة، وللثالث بملك الوارث (4) .   (1) انظر ابن نجيم في الأشباه والنظائر ص346 وما بعدها (2) انظر ابن نجيم في الأشباه والنظائر ص346 وما بعدها (3) انظر القاعدة الحادية والخمسين ص74 (4) انظر الأشباه والنظائر ص346 وما بعدها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1762 ومن الفقهاء من تعرض لقسمة الأسباب إلى قولية وفعلية، وإذا لوحظ أن المراد بالأسباب الفعلية ما يعود إلى فعل الإنسان وما لا يعود إلى فعله، وأنها أسباب لما يترتب عليها بجعل الشارع، أي أنها أسباب شرعية، وأن مراد الفقهاء بالأسباب القولية التصرفات الشرعية، اتضح لنا كما يقول الأستاذ الزهاوي التقاء الفقه الإسلامي مع القانون في رد أسباب الملك وأسباب الحقوق بصورة عامة إلى الوقائع الشرعية والتصرفات الشرعية التي تقابل الوقائع القانونية والتصرفات القانونية (1) . وأما أسباب الملك الناقص ففي ملك الرقبة الوصية والميراث، والوصية تدخل في الأسباب الناقلة والميراث خلافة، وإن كانت الوصية أيضا تفيد خلافة عند فريق من الفقهاء وإلى هذين الأصلين ترجع أيضا أسباب ملك المنفعة وهي: الإجارة والإعارة عند المالكية وأكثر الحنفية. والوصية والوقف والوراثة سبب لملك المنفعة في حقوق الارتفاق التي تعد من قبيل ملك المنفعة عند فقهاء الشريعة وتورث اتفاقا، وكذلك في الإجارة عند من لا يقول بانفساخها بموت المستأجر، وفي الوصية بالمنافع عند من لا يقول بانقضائها بموت الموصي له قبل انتهاء المدة (2) .   (1) انظر الأستاذ الزهاوي في بحثه التعسف في احتمال حق الملكية ص71 (2) انظر الأستاذ الزهاوي في بحثه التعسف في احتمال حق الملكية ص72، الشيخ علي الخفيف أحكام المعاملات المالية ص51، 52 – 63 – 66 وكذا الملكية 142/ 1 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1763 مدى انتفاع المستأجر بالعين المستأجرة: لقد تبين لنا من خلال البحث أن الإجارة سبب من أسباب الملك الناقص، وأن المستأجر مالك لمنفعة العين المؤجرة خلال مدة الإجارة، وأن هذا الحق قد ثبت للمستأجر بطريق المعاوضة المالية، وهو ما دفعه من مال لصاحب العين، ونريد هنا أن نتعرف ماهية الحقوق التي أجازها له الشارع مدة انتفاعه بالعين المستأجرة: لقد اتفق الفقهاء على أن ما يملكه المستأجر بالعقد، هي المنفعة، لأن الإجارة كما عرفوها بقولهم: عبارة عن تمليك المنافع بعوض، فالعين ليست مملوكة بالإجارة كالمبيع (1) . ويلزم المؤجر تمكين المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، فإن كانت دارا وجب على المالك تسليمها وعمارة ما يحتاج فيها إلى تعمير (2) . والمقصود بانتفاع المستأجر، استغلال منفعة العين في الحدود المتعارف عليها ويجب عليه العناية بالعين المنتفع بها وردها إلى المالك عند نهاية الانتفاع (3) .   (1) انظر روضة الطالبين وعمدة المفتين للإمام النووي 211/ 5 (2) جاء في مرشد الحيران مادة 637 ما يلي: (لا يجوز للمؤجر أن يتعرض للمستأجر في استيفائه المنفعة مدة الإجارة ولا أن يحدث في العين المؤجرة تغييرا يمنع من الانتفاع بها أو يخل بالمنفعة المعقودة عليها) (3) ذكر صاحب المرشد الحيران في المادة 654 مايلي (يجب على المستأجر أن يعتني بالعين المؤجرة كاعتنائه بملكه ولا يجوز له أن يحدث بها تغييرات بدون إذن مالكها) وفي المادة 658 ذكر بأنه يجب على المستأجر تفريغ الدار أو الحانوت المؤجرة ويسلمها لصاحبها، ولا حاجة للتنبيه عليه بالتخلية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1764 هل يجوز للمستأجر تمليك المنفعة لغيره؟ لو كانت العين المؤجرة عقارا، كأن تكون دارا أو دكانا أو ما أشبه ذلك، فإذا أراد المستأجر تأجير العقار المذكور لشخص آخر من دون الرجوع إلى رأي صاحب العقار فهل يجوز له ذلك شرعا أم لا؟ الجواب على هذا: يجوز لمالك المنفعة أن يستوفيها بنفسه أو بغيره كمستأجر أو مستعير، فإن كانت العين دارا، فله أن يسكن فيها بنفسه ومع غيره، وله أن يسكن فيها غيره بالإجارة والإعارة، وله أن يضع فيها متاعا وغيره، غير أنه لا يجعل فيها حدادا ولا قصارا ولا طحانا ولا ما يضر البناء ويوهنه، لأن ذلك قد يعرض العين للتلف وذلك لا يجوز لأن مطلق العقد ينصرف إلى المعتاد، والحانوت الذي يكون في صف البزازين لا يؤجر لعمل الحداد والقصار والطحان فلا ينصرف مطلق العقد إليه، إذ المطلق محمول على العادة فلا يدخل غيره في العقد إلا بالتسمية أو الرضا، وإنما جاز للمستأجر أن يؤجر من غيره ويعير، لأنه ملك المنفعة، فكان له أن يؤجر من غيره بعوض أو بغير عوض (1) . وبخصوص تأجير المستأجر للعقار بأكثر مما استأجره، للفقهاء في المسألة قولان: أحدهما: ويقضي بجواز ذلك مطلقا سواء أضاف المستأجر إلى العين المؤجرة شيئا من ماله أم لا، دليل هذا الرأي هو: أن المنافع لها حكم الأعيان، فتصير مملوكة للمستأجر بالعقد مسلمة إليه بتسليم الدار، فكان بمنزلة من اشترى شيئا وقبضه ثم باعه وربح فيه، فالربح يطيب له لأنه ربح على ملك حلال له. هذا ما ذهب إليه الشافعية (2) . وهو الصحيح من مذهب الحنابلة أيضا (3) . والرأي الثاني: وقد ذهب فيه أصحابه إلى القول: أنه لا يجوز للمستأجر أن يؤجر العين بأكثر مما استأجرها به، وإذا فعل ذلك، تصدق بالفضل إلا أن يكون أصلح منها بناء أو زاد فيها شيئا، فحينئذ يطيب له الفضل، دليل هذا القول: أن المنافع لم تدخل في ضمان المستأجر وإن قبض العين المؤجرة، بدليل أن العين المذكورة لو انهدمت لم يلزمه الأجر، فهذا ربح حصل لا على ضمانه، ((ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن)) ، هذه وجهة نظر الحنفية (4) ورواية للحنابلة أيضا (5) .   (1) انظر القاعدة السابعة والثمانين من القواعد لابن رجب الحنبلي ص210 وانظر المبسوط للسرخسي 130/ 15. مصادر الحق للدكتور عبد الرزاق السنهوري 72/ 6 (2) انظر الخطيب الشربيني في مغني المحتاج 350/ 2 (3) انظر ابن رجب في القاعدة السابعة والثمانين ص210 فقد ذكر فيها ما يقبل النقل والمعارضة من الحقوق المالية والأملاك وقد فرع منها إجارة المستأجر فذكر بأنها جائزة على المذهب الصحيح بمثل الأجرة وأكثر وأقل. (4) انظر السرخسي في المبسوط 130/ 15 (5) انظر القواعد ص210 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1765 وما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول هو المختار لما ذكروه من تدليل. حكم ما إذا أحدث المستأجر في العين عمارة أو شيئا آخر: إذا كانت العين المؤجرة دارا أو دكانا مثلا، فأضاف إليها المستأجر بناء أو أجرى عليها تحسينا، فما هو حكم الشيء المضاف في هذه الحالة؟ الجواب على ذلك: أن المسألة تحتمل الوجوه التالية: 1- إذا كانت الإضافة مما لا يمكن قلعها من البناء الأول، وقد فعل المستأجر ذلك بموافقة مالك العقار، فله الرجوع على المالك بما بذله من مال، إلا أن ذلك لا يمنع من إخراجه من الدار عند انتهاء العقد، بعد أن يستوفي المستأجر ما أنفقه على العقار من مال، إلا في حالة واحدة وهي: ما إذا اتفق المتعاقدان على أن تكون نفقة الإضافة من الأجرة، فعندئذ تكون بمثابة نقد بمقدارها، لا يحق للمؤجر طلب تخلية العقار قبل مضي المدة المقابلة لذلك. ولو أراد المستأجر أن يسكن معه آخر مقابل مبلغ من المال في نظير الكلفة التي أنفقها على العقار لا يجوز له ذلك (لأن المكان وما فيه ملك لصاحبه – أعني الدار والعمارة) والذي يستحقه المستأجر هو ما أنفقه من مال على الدار في ذمة صاحبها فقط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1766 2- إذا كانت الإضافة مما تنقل أو تحول كأن تكون خشبا أو نحاسا أو ما أشبه ذلك وقد وضعت بإذن من المالك، فإن الشيء المضاف يبقى في هذه الحالة على ملك المستأجر، فإذا انقضت مدة الإجارة، فله أخذ ما أضافه من مواد أو مطالبة المالك بدفع قيمة الشيء المضاف، ولو أراد المستأجر أن يسكن معه غيره مقابل مبلغ يدفعه الساكن له، جاز له أخذ ذلك، لأنه في المعنى باعه ما يستحق، ويصح حكم المستأجر الثاني مع مالك العقار كحكم المستأجر الأول. 3- إذا كانت الإضافة المذكورة قد قام بها المستأجر بلا إذن من المالك، فلا رجوع له عليه بشيء، ويخير صاحب العقار بين أن يلزم الساكن بأخذ عين شيئه أو دفع قيمته له مقلوعا (1) . جواب السؤال مدار البحث: بعد أن وقفنا على رأي فقهائنا رحمهم الله فيما يملكه المستأجر من حقوق في العين المؤجرة، تبين لنا ما يأتي: أولا: يجوز للمستأجر بحكم تملكه لمنفعة العين المؤجرة أن يؤجرها للغير مدة إيجاره لتلك العين المعقود عليها مع المالك الأصلي، على أن تلاحظ الشروط التي ذكرها الفقهاء بخصوص عدم إلحاق الضرر بالعين المؤجرة من قبل المستأجر الجديد. وللمالك طلب تخلية الدار من المستأجر الجديد بعد انتهاء مدة عقد الإجارة مع المستأجر الأول. ثانيا: فيما عدا ذلك لا يجوز للمستأجر أن يتصرف بالعقار بأية حال من الأحول، فما يأخذه من مال لقاء تخليته العقار لشخص آخر، لا يجوز له شرعا، لأن حقه ينتهي بانتهاء عقد الإجارة مع المالك، وما يطلبه من مال في مقابل عين ولا منفعة. وما يفعله البعض من ترك بضاعة أو شيء من الأثاث على أساس أن ما يؤخذ هو في مقابل هذه العين، أن ذلك يعتبر من قبيل التحايل على أكل أموال الناس بالباطل، إذ لا من مسوغ له شرعا التصرف بالعين المؤجرة بعد انتهاء العقد.   (1) انظر فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك لأبي عبد الله محمد أحمد عليش، 230/ 2 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1767 ثالثا: أما موقف الشريعة من النوع الثاني من بدل الخلو، فالجواب عنه كما يلي: أ - إن أخذ المالك للمبلغ الإضافي من المستأجر على أساس أنه بدل الخلو، لا يجوز له شرعا لأنه لا مبرر لأخذه، فإن قيل: لِمَ لا يعتبر المبلغ المذكور من قبيل الهبة؟ فالجواب على هذا: أن وجود مثل هذا الشرط أمر مخل بعقد الإجارة، لأنه شرط يتنافى مع مقتضى العقد. ب - يجوز لمالك العقار من دار أو دكان أو ما أشبه ذلك، تأجير عقاره ببدل إيجار لمدة سنة بمبلغ من المال ولسنة أخرى ببدل إيجار أقل أو أكثر سواء كان لذات المستأجر الأول أو لغيره، لأنه تصرف في خالص حقه. والله تعالى أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1768 مصادر البحث بعد القرآن الكريم. 1- الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة تأليف زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم مؤسسة الحلبي 1387هـ - 1968م. 2- القواعد في الفقه الإسلامي للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي – الطبعة الأولى – مكتبة الكليات الأزهرية. 3- الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية – تأليف جلال الدين عبد الرحمن السيوطي – عيسى البابي الحلبي. 4- روضة الطالبين وعمدة المفتين – للإمام النووي، المكتب الإسلامي – الطبعة الثانية 1405هـ - 1985م. بيروت. 5- الملكية في الشريعة الإسلامية – للدكتور عبد السلام داود العبادي/ القسم الأول مكتبة الأقصى/ عمان. الطبعة الأولى 1394- 1974م. 6- مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لشيخ محمد الشربيني الخطيب مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1377- 1958م. 7- فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك لأبي عبد الله محمد أحمد عليش وبهامشه تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لابن فرحون المالكي/ الطبعة الأخيرة – مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1378هـ - 1958م. 8- محاضرات في النظرية العامة للحق- الطبعة الثالثة – القاهرة – تأليف الدكتور إسماعيل غانم – الناشر – مكتبة عبد الله وهبة. تاريخ الطبع 1966م. 9- الحق والذمة وتأثير الموت فيهما – للشيخ علي الخفيف – الناشر مكتبة عبد الله وهبة في 1364هـ - 1945م. 10- مصادر الحق في الفقه الإسلامي – للدكتور عبد الرزاق السنهوري – الطبعة الثالثة 1968 معهد البحوث والدارسات العربية. 11- الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد – للأستاذ مصطفى الزرقاء/ مطبعة طربين في دمشق 1384هـ - 1965م. 12- النظريات العامة للمعاملات في الشريعة الإسلامية للأستاذ أحمد فهمي أبو سنة. مطبعة دار التأليف بالقاهرة 1387- 1967م. 13- التعسف في استعمال حق الملكية – تأليف الدكتور سعيد أمجد الزهاوي. الطبعة الأولى دار الاتحاد العربي بالقاهرة. 14- كشف الأسرار ونور الأنوار. حاشية الشيخ عبد الحليم اللكنوي المسماة قمر الأقمار على نور الأنوار شرح المنار/ دار الطباعة بالأستانة 1306هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1769 15- الفروق – للإمام القرافي وبهامشه تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية. دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت لبنان. 16- حاشية ابن عابدين على الدر المختار – رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار- للعلامة محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز الشهير بابن عابدين. مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1327. 17- المبسوط لشمس الأئمة لأبي بكر محمد بن أبي سهل السرخسي وهو شرح لما تتضمنه كتب ظاهر الرواية – الطبعة الأولى – مطبعة السعادة مصر. 18- فتح القدير – حاشية على الهداية شرح البداية وفتح القدير للإمام الكمال بن الهمام – الطبعة الأولى – المطبعة الخيرية 1326هـ. 19- مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان لمحمد قدري باشا وقد صاغه في مواد على غرار المجلة. الطبعة الثانية – مطبعة المعارف بغداد 1375هـ - 1955م. 20- قواعد الأحكام – العز بن عبد السلام – دار الكتب العلمية – بيروت لبنان. 21- الملكية في الشريعة الإسلامية مع مقارنتها بالقوانين العربية للشيخ علي الخفيف/ مطبعة الجبلاوي بالقاهرة 1969م. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1770 بدل الخُلُوِّ في الفقه الإسلامي إعداد فضيلة الشيخ محيي الدين قادي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الفتاح العليم، والصلاة والسلام على النور المبين سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد فقد شرفتني الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة حين طلبت مني بحث قضية (بدل الخلو في الفقه الإسلامي) ولا يخفى أن هذه القضية استشكلها جهابذة الفقهاء، وكثر منهم استشكالها، وهي في الحقيقة مشكلة ويأتي في مقدمة ذلك نور الملة والدين العلامة على الأجهوري الفقيه المالكي [1066هـ] (1) شيخ المالكية في الدنيا بوقته على حد وصف العياشي له في رحلته فإنه يذكر أن معاصريه من الفقهاء كثر منهم استشكال مسألة الخلو، ثم يقفي على ذلك بقوله: (وهي في الحقيقة مشكلة) (2) وناهيك أن المحقق البناني التبس عليه الأمر فعد الجلسة خلو الحوانيت في الفتح الرباني (3) وتردد التماق فيما قاله المحقق البناني في رسالته التي أراد أن يزيل فيها الالتباس الحاصل فيما عند الفقهاء والموسومة بـ (إزالة الدلة عن وجه الجلسة) (4) ، ووجدنا هذا الالتباس في فتوى العلامة سيدي إبراهيم الرياحي حيث يقول: الجزاء والإنزال والخلو والجلسة ألفاظ متحدة الذات مختلفة الاعتبار في الاصطلاح فذاتها ومعناها المنفعة التي يملكها دافع الدراهم لمالك الأصل مع بقاء ملكه للرقبة (5) وسيأتي لي في هذا البحث التفريق بين هذه الأنواع وأنها تخلتف اسما ومسمى. وأمام استشكال من ذكرت ومن لم أذكر من الفقهاء الأثبات بقيت في حيرة من أمري لم تلبث أن تبددت وشرح الله صدري لإنفاذ هذا الأمر فدرست هذه القضية فيما تيسر لي من المصادر والمراجع، وبعد أن تبلورت المعلومات عن هذه القضية في ذهني صممته على النسق التالي: أ - تمهيد. ب - مباحث.   (1) محمد الحجوي: الفكر السامي 2/ 279 (2) أحمد الفيومي: رسالته في تحقيق مسألة الخلو عند المالكية /8 (3) 6/ 128 (4) محمد المهدي الوزاني الشريف: نوازله 4/ 17 (5) فتوى منشورة ضمن مجموع مطبوع / 3 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1771 أما التمهيد فيحتوي على نقاط: 1- نشأة قضية الخلوات: لم تُعرف هذه القضية في طبقات فقهاء الإسلام المتقدمين، ولا في أوائل المتأخرين منهم ولكنها عرضت للفتوى في القرون الأخيرة، وسأحاول جهدي ضبط تاريخ نشأة قضية الخلوات لأن الخائضين فيها أكثرهم لم يُولِ هذا الأمر عناية، وبعضهم أشار إلى ذلك إشارة عابرة، ولكن أقوال من أشاروا قد التبست هي الأخرى فسماحة الأستاذ الإمام سيدي محمد الطاهر بن عاشور – رحمه الله تعالى – يرى أن الكراء المؤبد جرت به فتوى علماء الأندلس: ابن سراج وابن منظور في أواخر القرن التاسع في أرض الوقف، ثم تبعهما في ذلك أهل مصر في القرن العاشر بفتوى ناصر الدين اللقاني في أحكام الأوقاف (1) لكن يذكر المحقق البناني أن المتأخرين من شيوخ فاس كالشيخ القصار وابن عاشر وأبي زيد الفاسي وسيدي عبد القادر الفاسي وأضرابهم أفتوا في الجلسة وجرى بها العمل الفاسي لما رأوه من المصلحة فيها فهي عندهم كراء على التبقية وقد أشار لها خليل في التوضيح في باب الشفعة (2) ، ومحل الاستشهاد بقول البناني هذا هو ما ذكره من إشارة خليل إلى الجلسة في توضيحه في باب الشفعة وخليل توفي على ما صححه السوداني سنة ست وسبعين وسبعمائة (3) ونص خليل على ما أورده محمد المهدي الوزاني الشريف في نوازله المعروفة بالمعيار الجديد هو: (وينبغي أن يتفق في الأحكار التي عندنا بمصر أن تجب الشفعة في البناء القائم بها؛ لأن العادة عندنا أن رب الأرض لا يخرج صاحب البناء أصلا فكان ذلك بمنزلة مالك الأرض) قاله شيخنا رحمه الله تعالى (4) فتكون قضية الخلوات قد تعرض لها الفقهاء منذ القرن الثامن، ويكون ابن سراج وابن منظور مسبوقين بتعرض خليل وشيخه للقضية في نمط من أنماطها وهو الحكر المؤبد، وكذلك لم تقع الإشارة إلى ما قاله خليل في فتوى ناصر الدين اللقاني ولا في فتوى سالم السنهوري المذكورتين في شرح العلامة سيدي عبد الباقي الزرقاني (5) ولا من طرف البدر القرافي في رسالته (الدرة المنيفة في الفراغ عن الوظيفة) .   (1) مقاصد الشريعة الإسلامية 133- 134 (2) 6/ 128 (3) محمد الحجوي: الفكر السامي 2/ 245 (4) 4/ 19 (5) 6/ 128 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1772 ولكن الأغرب في صنيع هذا الأخير وهو المتوفى سنة ثمان وألف أنه يقول ما نصه: (فائدة انجر الكلام إليها لتعلقها بهذا المقام [بيان حكم الفراغ عن الوظيفة بمقابل] وهي كثيرة الورود وحديثة العهود، ولم يقع في كلام فقهائنا فيما أعلم التعرض إليها ولا التوجه لهم بها وقد قال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه – تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. فالمسألة الواقعة هي أن حوانيت الأوقاف بمصر جرت عادة سكانها أنه إذا أراد أحدهم الخروج من الحانوت أخذ من آخر مالا على أن ينتفع بالسكنى في ذلك الحانوت ويسمون ذلك القدر المأخوذ من المال خلوا ويتداولون ذلك بينهم واحدا بعد واحد) (1) ثم استدرك في غير وضوح رؤية بما بلغه عمن يوثق من إفتاء ناصر الدين اللقاني باعتماد الخلو وأنه حق يورث ثم قفَّى على ذلك بقوله: (ولم أقف في فروع المذهب على ما يقتضيه) (2) . ثم أورد نص فتوى اللقاني بعد السؤال المرتبة عليه، فظهر لي من كل ما سبق أن المجتمع الإسلامي منذ القرن الثامن الهجري أخذ يتعرض لتغيرات اجتماعية أفرزت فيما أفرزت أنماطا من الأكرية المؤبدة اتفقت في أحكام الكراء، واختلفت في الدواعي والأسباب، وأن أول نمط منها هو الأحكار المؤبدة التي أشار إليها خليل في توضيحه في القرن الثامن الهجري، والأحكار المؤبدة هي المسماة عندنا في تونس بالإنزال، وعند المغاربة بالجزاء وهذا ما غفل عنه بسكال أحد أعضاء البرلمان الفرنسي في رسالته التي كتبها مدة جولاته بتونس وأرسلها إلى رئيس جمعية البحث عن أحوال المستعمرات في 21 مايو سنة 1886م وجعل عنوانها: (طريق الاستعمار في المملكة التونسية) حيث ظن أن أول من قال بجواز الإنزال هو العلامة باش مفتي المالكية بتونس سيدي إبراهيم الرياحي – رحمه الله – حيث يقول ما تعريبه: (لا يوجد نص صريح في جواز الإنزال ولا تكلمت عليه الفتاوى، وقد وجد في العصر الأخير أحد الفقهاء الثقات وهو الشيخ إبراهيم الرياحي قال: إن إخراج العقار من الحبسية جائز إذا وجدت منفعة معتبرة في تغيير كيفية الانتفاع) (3) .   (1) 154 (2) 154 (3) محمد السنوسي الحفيد: مطلع الداراري: 134 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1773 وليس من مقتضيات المقام مناقشة بسكال في أن الإنزال ليس إخراجا للوقف عن الوقفية، وفي أن فتوى الشيخ إبراهيم الرياحي المشار إليها أشارت إلى وجود جدل فقهي في قضية الإنزال كما سيأتي في معظم نص الفتوى المنقول بحرفه في محله من هذا البحث، ولكن الذي يهمنا محاولة إثبات خطأ بسكال في نشأة الإنزال وبيان أن هذا النوع من أنواع الخلوات نشأ منذ القرن الثامن، وأن توضيح خليل أشار إليه، ثم ظهرت بعده فتاوى ابن سراج وابن منظور في أواخر القرن التاسع بالأندلس في جواز الكراء المؤبد في الأراضي الزراعية الوقفية فيكون الأندلسيون فيما يظهر تابعين لما جاء في التوضيح الذي هو من أشهر شروح جامع الأمهات لابن الحاجب الذي نسخ ما تقدمه من كتب المالكية، وكيف لا وهذا الشرح الخليلي قد احتوى الشروح السابقة وزاد عليها ونقل عن شرح ابن عبد السلام وهو أحسن الشروح (1) ثم جاء القرن العاشر وظهرت في مصر ملابسات جديدة وازدهر الاقتصاد ووصل الأمر أن بعض أسواق القاهرة وزن الناس ثمنا لخلو الحانوت فيها أربعمائة دينار ذهبا جديدا كما ورد بالسؤال الذي ترتبت عليه فتوى ناصر الدين اللقاني (2) الآتية في محلها من هذا البحث – إن شاء الله – مع السؤال المرتبة عليه. 5- العرف: دعاني إلى إثارة قضية العرف في هذا التمهيد لانبناء مسألة الخلوات عليها: فالعرف أساس لها، وسيكون بحثي لهذه المسألة بإيجاز وبتركيز على ما يخدم المبحث المخصص لحكم الخلوات، وأسارع فأقول: إن بحثي لمسألة العرف ينحصر في النقاط التالية:   (1) محمد الحجوي: الفكر السامي 2/ 231 (2) أحمد العرفاوي الفيومي: رسالة في تحقيق مسألة الخلو عند المالكية: 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1774 العرف لغة واصطلاحا: العرف في اللغة: المعروف، وهو الخير والرفق والإحسان (1) . وأما في الاصطلاح فعرفه الجرجاني بقوله: ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول ... وكذا العادة وهي (ما استمر الناس عليه على حكم المعقول وعادوا إليه مرة بعد أخرى) (2) . وجمع الإمام الأكبر محمد الخضر حسين بين العرف والعادة في تعريف واحد فقال: والعرف والعادة ما يغلب على الناس من قول وفعل وترك (3) . ومثال العرف القولي قول الفقهاء في وقف يقول واقفه (داري حبس على ولدي) بدخول البنات، إذا كان عرف بلد الواقف كذلك أو لم يكن هناك عرف، وأما إذا جرت عادة أهل ذلك البلد بإطلاق لفظ الولد على الذكر دون الأنثى فلا يدخل الإناث في الوقف رعيا لعرف الاستعمال، وإن كانت كلمة ولد تعم في العرف اللغوي الذكر والأنثى لأن العرف القولي مقدم على العرف الشرعي فلو حلف لا يأكل لحما لم يحنث بالسمك وإن سماه الله لحما، أو لا يجلس في ضوء سراج لا يحنث إذا جلس في ضوء الشمس وإن سماها الله سراجا. ويعتد بالعرف القولي إذا عم بلدا أو قوما من أهل البلد وتحمل عليه ألفاظ المتكلمين بإطلاق في العقود والالتزامات والأيمان والنذور أما إذا خص متكلما دون قومه أو بلده حمل لفظه عند المالكية على عرفه الخاص في الأيمان والنذور والطلاق وألغى سائر العقود والالتزامات ووقع الرجوع إلى العرف العام. ومثال العرف الفعلي: مسألة الحيازة عند المالكية فمن حاز عقارا عشر سنين ثم ادعاه آخر طولب المدعى بالبينة على سكته تلك المدة كغيبته عن البلد أو عدم علمه بحيازة المدعى عليه للعقار، ولا تنفعه البينة الشاهدة بأصل الملك؛ لأن العرف والعادة عدم سكوت الإنسان عن تصرف آخر في ملكه هذه المدة الطويلة. وشروط الاعتداد به أن يعم بلدا أو قوما من أهل البلد.   (1) الفيومي: المصباح المنير 2/ 33 (2) الجرجاني: التعريفات 80 (3) مجلة نور الإسلام مج1 ع: 7/ 534 سنة 1349هـ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1775 أما العرف الفعلي الخاص بفرد فقد ذكر شهاب الدين القرافي أن الإجماع منعقد على عدم تأثيره في اللفظ اللغوي تخصيصا وتقييدا وإبطالا. واعتراض ابن عرفة وغيره حكاية الإجماع، وقال الشيخ ابن ناجي في شرح المدونة: الإيمان تُحمل على المقصد العرفي وظاهر مسائل الفقهاء أنه لا فرق بين أن يكون العرف قوليا أو فعليا ولبعض أهل الأصول أنه لا يعتبر إلا العرف القولي (1) . قال الشيخ محمد جعيط – رحمه الله – [ت 1337هـ] ويدخل تحت لفظ البعض المصنف (2) قال الإمام الأكبر محمد الخضر حسين: وأوردوا مسائل في المذهب تدل على التخصيص بالعوائد الفعلية وإن كانت خاصة ومثل بعضهم لذلك الرجل يوكل آخر على شراء ثوب فيشتري له مالا يناسب عادته فقد أفتوا بلزوم المشتري للموكل لا لمن وكَّله (3) . ومثال العرف الجاري بالترك تسامح الناس في أخذ الثمار الساقطة خارج حدود البساتين دون توقف على إذن ملاكها لجريان العرف بالتسامح في ذلك. أقسام العرف: قسم الفقهاء العرف باعتبار الشارع له وعدم اعتباره إلى أقسام ثلاثة: 1- ما قام البرهان الخاص على اعتبار الشارع له كمراعاة الكفاءة في الزواج. 2- ما قام البرهان الشرعي الخاص على إلغائه كطواف أهل الجاهلية من العرب بالبيت عراة. 3- ما لم يقم دليل شرعي خاص على اعتباره أو إلغائه وذلك مراد رحب للمجتهدين، ذهب إلى اعتباره قضاء وفتيا جمهور الفقهاء واعتبروه أصلا من أصول التشريع الإسلامي وأكثر ما نجد ذلك عند الأحناف والمالكية والحنابلة.   (1) محمد جعيط: منهج التحقيق التوضيح لحل غوامض التنقيح 2/ 53 –54 (2) محمد جعيط: منهج التحقيق التوضيح لحل غوامض التنقيح 2/ 54 (3) نور الإسلام مج1: ع 7/ 535- 1349هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1776 هذا والعلاقة بين الشريعة وبين العرف تبدو كالتالي: إقرار الكثير من أعراف الجاهلية في شبه الجزيرة بعد إضفاء الصبغة الإسلامية على تلك الأعراف كالقسامة والدية على العاقلة والقراض والرهن والإجارة والسلم. ما ألغته لأنه شر وفساد كالخمر والأنصاب والأزلام والميسر ووأد البنات. وقد وقف الموقف نفسه فقهاء الفاتحين في عهد الفتوحات الإسلامية. الأحكام المأخوذة بطريق الأعراف تدور معها وجودا وعدما كالنقود في المعاملات والعيوب في الأعراض في البياعات ونحو ذلك فلو تغيرت العادة في النقد والسكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن في البيع عند الإطلاق على السكة التي تجددت العادة بها دون ما قبلها، وكذلك إذا كان الشيء عيبا في الثياب عادة رددنا به المبيع فإذا تغيرت العادة وصار ذلك المكروه محبوبا موجبا لزيادة الثمن لم ترد به، وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المترتبة على العوائد، وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه بل قد يقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا؟ هذا ما قرر معناه شهاب الدين القرافي (1) ولذلك أوصى المفتين قائلا: (إذا جاء رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجْرِهِ على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين) . (2) . لكن هنالك أعراف فاسدة في معاملات الناس فهل تقع مراعاتها أو لا تقع؟ يقول محمد الخضر حسين نقلا عن ابن الفرس (وإذا تنازعا في بيع أو إجارة وادعى أحدهما الصحة والآخر الفساد وكان الفساد الذي ادعاه جاريا بين الناس فالمشهور أن القول قول مدعي الصحة) .   (1) الفروق 1/ 223 (2) الفروق 1/ 224 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1777 ومن أصحاب مالك من يقول: (القول لمدعي الفساد، وتفسخ المعاملة لأنهم يرون أي الفريق الأول في العرف الفاسد غلبة معنى على الناس يستلزم غلبة الظن بصدق من اقترن هذا المعنى بدعواه) (1) . وبرغم مراعاة الشريعة للعرف في إطار ما سبق يجب أن يعلم أنه لا يجوز في مجالي القضاء والفتيا اعتماد أعراف تخالف أصلا من أصول الشريعة الإسلامية، قال العلامة أبو عبد الله بن شعيب من علماء أفريقية في القرن الثامن الهجري: (وغلبة الفساد إنما هي من إهمال حملة الشريعة ولو أنهم نقضوا عقود الفساد لم يستمر الناس على الفساد) . وقال عماد الفتوى في عصره الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي – رحمه الله – (والعرف المعتبر هو ما يخصص العام ويقيد المطلق، وأما عرف يبطل الواجب ويبيح الحرام فلا يقول به أحد من أهل الإسلام) (2) فإذا اعتمد فقيه في قضاء أو فتوى عرفا مخالفا لأصول شريعة الإسلام فقد جاء أمرا إدًّا إلا أن تدعو لذلك ضرورة. وقد خرج سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور – رحمه الله – الفتوى بجواز الخلوات على أنها ضرورة عامة مؤقتة (3) وسيأتي تفصيل ذلك في محله من هذا البحث. 1- الخلوات ذات البدل هي المدروسة في هذا البحث سواء أدفع البدل المالي إلى المالك أو ناظر الوقف أو مستحقه أو قام المستأجر بالعمارة مقابل امتلاكه للخلو، أو تخلى المستأجر لمستأجر آخر عن الخلو ببدل كما سيأتي بيان ذلك عندما أعرض لفتوى ناصر الدين اللقاني وأحمد السنهوري، أو لما جاء في رسالة البدر القرافي (الدرة المنيفة) من المالكية أو لفتوى العلامة ابن نجيم من الحنفية وغيرهم. هذا ما يتعلق بالتمهيد.   (1) نور الإسلام مج1 ع 7/ 537- 1349هـ (2) نور الإسلام مج1 ع: 7/ 539- 1349هـ (3) مقاصد الشريعة الإسلامية 133- 234 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1778 وأما المباحث: 1- تعريفه لغة واصطلاحا: أما لغة فالخلو بالمعنى المبحوث هنا كلمة مولدة، ولعلها تكون مأخوذة من قول العرب أخليت المكان جعلته خاليا، ووجدته كذلك. ويجمع على: خلوات بفتحات، وما ذكرته لم أجده في الصحاح والأساس والقاموس واللسان والمصباح وغيرها من المعاجم المشهورة ولا في شفاء الغليل للخفاجي الذي يعني بالكلمات المولدة والدخيلة فحسب، كما لم أجد ضبطا دقيقا للمفرد، وإنما استخلصت هذا المعنى الذي ذكرت من كون صاحب الخلو عندما يدفع النقود لمستحق الرقبة من الملاك، أو مستحق المنفعة من الموقوف عليهم أو من يتولى شؤون الوقف من النظار يفعل ذلك مقابل أن تخلى الرقبة له ليتمكن من امتلاك منفعتها. وأما في الاصطلاح فقد عرفه أبو الإرشاد على الأجهوري – رحمه الله – بقوله: (اسم لما يملكه دافع الدراهم من المنفعة التي دفع الدراهم في مقابلتها) . 2- المبحث الثاني: أصل ملك الخلو: يرجع ملك الخلو إلى أصلين: أ - ملك الهواء. ب - إجارة الأرض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1779 أما ملك الهواء فجائز قال الشهاب القرافي – رحمه الله –: قد نص أصحابنا على بيع الهواء لمن ينتفع به ... لأن الناس شأنهم الاستشراف والنظر إلى المواضع البعيدة من الأنهار ومواضع الفرح والتنزه والاحتجاب عن غيرهم بعلو بنائهم وغير ذلك من المقاصد ... وحكم الأهوية تابع لحكم الأبنية، فهواء الملك ملك وهواء الوقف وقف، وهواء المسجد مسجد (1) . وإلى جواز بيع الأهوية أشار ابن عاصم في تحفة الحكام بقوله: وجائز أن يشتري الهواء لأن يقام معه البناء (2) . قال شارحها العلامة التسولي: أي يجوز شراء عشرة أذرع مثلا من هواء فوق سقف بيت موجود لأجل أن يقيم المشتري في ذلك الهواء بناء موصوفا.. وكذا يجوز شراء هواء فوق هواء كشراء عشرة أذرع مثلا فوق عشرة أذرع يبنيها البائع إذا وصف البناء الأسفل والأعلى في هذه لرغبة صاحب الأعلى في وثاقة بناء الأسفل ورغبة صاحب الأسفل في خفة بناء الأعلى، ويملك صاحب الأعلى ما فوقه من الهواء في الصورتين، ولكن لا يبني فيه إلا برضا صاحب الأسفل وهذا يفيد أن من ملك أرضا يملك هواءها إلى ما لا نهاية له، ولهذا جاز بيعه، وكذا يملك باطنها على المعتمد (3) .   (1) الفروق 4/ 19 – 20 (2) 64 (3) البهجة على شرح التحفة 2/ 14 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1780 ويبدو أن مدار جواز بيع الهواء قائم على انتفاء الغرر والجهالة. هذا وقد أشار الشهاب القرافي – رحمة الله عليه – إلى جريان الخلاف في هذه المسألة، ولكنه دعم القول بعدم ملكية صاحب الأرض لما في تخومها قائلا: (وسر الفرق بين القاعدتين أن الناس شأنهم توفر دواعيهم على العلو في الأبنية للاستشراف والنظر إلى المواضع البعيدة من الأنهار ومواضع الفرح والتنزه والاحتجاب عن غيرهم يعلو بنائهم وغير ذلك من المقاصد، ولا تتوفر دواعيهم في بطن الأرض على أكثر مما يستمسك به البناء من الأساسات، ولو كان البناء على جبل أو أرض صلبة استغنوا عنه، والشرع له قاعدة وهو أنه إنما يملك لأجل الحاجة وما لا حاجة فيه لا يشرع فيه الملك فلذلك لم يملك ما تحت الأبنية من تخوم الأرض بخلاف الهواء إلى عنان السماء فهذا هو الفرق والمساجد والكعبة لما كانت بيوتا كانت المقاصد فيها لمن يدخلها متعلقة بهوائها دون ما تحت بنائها كالمملوكات) (1) . لكن ابن الشاط لم يسلم ما قاله القرافي قائلا: (ما قاله من أنه لا تتوفر الدواعي في بطن الأرض على أكثر مما يتمسك به البناء من الأساسات ليس بصحيح، كيف وقد توفرت عليه دواعي كثير من الناس كحفر الأرض للحبوب والمصانع والآبار العميقة، هذه غفلة منه شديدة والذي يقتضيه النظر الصحيح أن حكم ما تحت الأبنية كحكم الأهوية، ومما يدل على ذلك أن من أراد أن يحفر مطمورة تحت ملك غيره يتوصل إليها من ملك نفسه يمنع من ذلك بلا ريب ولا خلاف، فلو كان ما تحت الأبنية ليس له حكم الأبنية، بل هو باق على حكم قبوله للأحياء لما منع من ذلك، والله أعلم.) .   (1) الفروق 4/ 20 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1781 وأما ما قاله: (والشرع له قاعدة وهو أنه إنما يملك لأجل الحاجة وما لا حاجة فيه لا يشرع فيه الملك فلذلك لم يملك ما تحت الأبنية من تخوم الأرض بخلاف الهواء إلى عنان السماء) فقد أجاب عنه بقوله: (إذا كانت القاعدة الشرعية أن لا يملك إلا ما فيه الحاجة وأي حاجة في البلوغ إلى عنان السماء. وإذا كانت القاعدة أنه يملك ما فيه الحاجة فما المانع من ملك ما تحت البناء لحفر بئر يعمقها حافرها ما شاء، فما ذكر من سر الفرق لم يظهر وبقى سرا كما كان، فالصحيح أنه لا فرق بين الأمرين ومن الدليل على ذلك ما هو معلوم لا شك فيه من أن من ملك موضعا له أن يبني فيه ويرفع فيه البناء ما شاء ما لم يضر بغيره وأن له أن يحفر فيه ما شاء ويعمق ما شاء ما لم يضر بغيره) (1) . وبما قاله الشهاب القرافي وتعقبه محشيه ابن الشاط نستخلص أن صاحب الأرض يملك عمقها وهواءها بلا حدود ما لم يضر بالغير. وأما إجارة الأرض فلا إشكال في كونها أصلا لملكية الخلوات، وإنما الإشكال قائم على أن الخلوات كراء على التبقية كما جرى بذلك عرف أهل القرون الأخيرة وانعقدت عليه ضمائرهم، والأصل في الكراء أن يكون لمدة محدودة بعوض معين ينتهي الكراء بانتهائها.   (1) إدرار الشروق على أنواء الفروق 4/ 20 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1782 والخلوات هذه لا يخلو حال ملكيتها من أن تكون ناشئة عن وقف أو عن ملك. فإذا كانت ناشئة عن وقف فلا يخلو حال الوقف من أن يكون أرضا أو دورا وما شاكلها. فإذا كان الوقف أرضا فلا يخلو الحال من أن يكون وقفا على معينين كهذه الأرض حبس على أبناء صالح، أو على غير معينين كهذه الأرض حبس على الفقراء والمساكين أو على مرضى المستشفى كذا. والأرض الموقوفة على معينين للناظر كراؤها لغير من مرجعها له السنة والسنتين لا أكثر في رواية ابن القاسم (1) . قال خليل: (وأكرى ناظره إن كان على معين كالسنتين) (2) .والكاف في كالسنتين ينبغي إسقاطها، أو اعتبارها استقصائية، وظاهر قول خليل كالسنتين سواء كان الكراء بالنقد، أو بغيره مما لا تخرجه الأرض، لكن إذا كان الكراء بغير النقد كأقمشة أو مواعين فباتفاق، وإذا كان الكراء بالنقد فعلى أحد القولين. ولو كان الكراء لأكثر من سنتين لا يجوز كراؤه بنقد ولا بغيره لكن به اتفاق وبغيره على أحد القولين؛ لأن ما زاد على السنتين بعيد وشملت قوله خليل الأقسام الأربعة التي ذكرها العلامة ابن رشد. وأما إذا كانت الأرض أي الزراعية الموقوفة على غير معينين كأرض حبس على الفقراء أو على مستشفى كذا أو على قنطرة، أو مسجد فإنه يجوز كراؤها لمدة طويلة، واستحسن قضاة قرطبة على ما حكى المواق كونه لأربعة أعوام، خوف اندراسه بطول مكثه بيد مكترية ونقل ابن مزين (أن عمل قضاة قرطبة جرى على كرائها خمس سنين، قال العدوي: (ومن المعلوم أن ما يقوله المواق مقدم على غيره) . وكلام خليل السالف الذكر يتسنى حمله على الدور الموقوفة أيضا وهو ما يبدو من كلام المواق والخرشي في صغيره (3) . وحمله غيرهما كالدردير على الأرض التي للزراعة وأما الدور فلا يجوز كراؤها أكثر من سنة ونصه: (والعام لا أكثر إن كان دارا) (4) على معينين أو على غير معينين.   (1) انظر حاشية العدوي على صغير الخرشي 7/ 99 (2) المختصر: 249 (3) انظر حاشية العدوي على صغير الخرشي 7/ 100 (4) الشرح الكبير 4/ 96 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1783 وهذا كله – كما أسلفت – إذا كان المكري له ليس مرجعا سواء كان المرجع بتحبيس عليه أو ملك على ما استظهره الزرقاني وسلمه البناني (1) وأما إذا كان مرجعا فيجوز له أن يكري الأرض الزراعية أو الدور من باب لا فرق، عشر سنين. وقال ابن رشد: قال عبد الملك: وقد أكرى مالك منزله عشر سنين وهو صدقة على هذا الحال، وكان المرجع فيها له (2) . وإلى هذه المسألة أشار خليل بقوله: (ولمن مرجعها له كالعشر) (3) . وقيد بعض شيوخ المالكية قول خليل هذا بقيد أن يكون مرجعا بلا واسطة ومثال ذلك حبس على زيد دارا ثم على عمرو فإنه يجوز لعمرو أن يكتري الدار عشرة أعوام، أما إذا كان لا ينتقل إليه إلا بواسطة له فعلَّة المنع موجودة. ولا بد هنا من بيان أن المراد بالناظر الناظر الموقوف عليه، وهو الذي عناه خليل بقوله: (وأكرى ناظره) إلخ ... وأما غير الموقوف عليه من النظار فيجوز له أن يكون لأزيد من ذلك؛ لأن الناظر الموقوف عليه بموته تنفسخ الإجارة وفي ذلك الغرر والجهالة، والناظر غير الموقوف عليه لا تنفسخ الإجارة بموته وبذلك يخف أمر الجهالة والغرر ... هذا وما سلف من تفصيل في كراء الوقف مشروط بشرطين: 1- أن لا يشترط الواقف مدة معينة وإلا عمل بها للقاعدة: إن شرط الواقف كلفظ الشارع إن جاز وأمكن وإليها أشار خليل بقوله: (واتبع شرطه إن جاز) وأشار إليها ابن عاصم بقوله: وكل ما يشترط المحبس من سائغ شرعا عليه الحبس   (1) شرحه على مختصر خليل مع حاشية البناني: 7 عليه 7/ 92 (2) حاشية العدوي على صغير الخرشي 7/ 100 (3) المختصر 249 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1784 2- أن لا تدعو الضرورة لأكثر من المدد المذكورة لأجل مصلحة الوقف، وأما إذا دعت الضرورة لذلك تجووزت المدد المذكورة كما وقع في زمن القاضي ابن باديس بالقيروان أن دارا حبسا على الفقراء خربت ولم يوجد ما تصلح به فأفتى بأنها تكرى السنين الكثيرة كيف تيسر بشرط إصلاحها من كرائها، وأبى أن يسمح ببيعها وهو المعول عليه (1) ، وجرى ببطليوس اكتراء أرض محبسة خمسين عاما وقام المحبس عليهم بعد سبع سنين على الغارس لفسخ الكراء فامتنع المكتري وهو أبو شاكر أحد فقهاء البلد، وحكي عن المنصور بن أبي عامر أنه اكترى موضعا حبسا إلى سبعين عاما. قال البرزلي: الواقع عندنا اليوم بتونس. مما جرت به العادة في أحباس قرطاجنة بقاء المدة أربعين سنة، ورأيت كذا في قاعة دار خمسين سنة وهذا نحو ما وقع لأبي شاكر ومنصور بن أبي عامر ولعلهم لم يجدوا من يقبلها إلا على هذه الهيئة فاغتفروا ذلك للضرورة كالتزام الجزاء على أرض الجزاء أبدا لضرورة حاجة بيت مال المسلمين وإن كان عن ثمن الأرض لكونه تابعا لأصل جائز للضرورة والله أعلم (2) . وفي هذه الحالة أي حالة الاضطرار إلى كراء الوقف مدة طويلة يقول الحطاب الابن: (إن الواقف إذا شرط أن لا يؤجر الوقف أكثر من سنة مثلا وخرب الوقف ولم يوجد ما يصلح به وأراد الناظر أو المستحق للوقف إجارته السنين بمقدار ما يعمره به هل يمنع من ذلك ويتبع شرط الواقف ولا يؤجر أكثر مما شرطه أو لا يتبع شرطه ويؤجر من السنين بما يعمر به لأن شرطه يؤدي إلى إبطال أصل الوقف؟ ويكون حكم هذه المسألة حكم ما إذا شرط الواقف أن يبدأ من غلته بمنافع أهله ويترك إصلاح ما ينهدم منه لأنه لا يتبع شرطه كما نصوا على ذلك وعللوا ذلك بأنه يؤدي إلى بطلان أصل الوقف وما كان كذلك من الشروط لا يوفي به. قال ابن الحاجب: ويبدأ بإصلاحه ونفقته ولو شرط خلافه لم يقبل، وقال الشيخ في توضيحه أي ويبدأ الناظر بإصلاحه إن كان عقارا وبنفقته إن كان حيوانا لأن الغرض من الوقف دوام المنفعة) (3) . هذا كله إذا كان الخلو ناشئا عن وقف.   (1) الخرشي: صغيره على مختصر خليل 7/ 100 (2) راجع فتح العلي المالك للشيخ عليش 2/ 240 (3) الحطاب: رسالته في بيع الوقف إذا خرب 27 – 28 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1785 وأما إذا كان ناشئا عن ملك فلقد نقل المواق عند قول خليل: (والنقد فيه إن لم يتغير غالبا) ، عن ابن شاس (له أن يكري الدار إلى حد لا تتغير فيه غالبا وينقد فأما ما لا يؤمن تغيرها فيه لطول المدة أو لضعف البناء وشبه ذلك فيجوز العقد دون النقد ما لم يغلب على الظن أنها لا تبقى إلى المدة المعينة فلا يجوز كراؤها إليها) (1) وقال مالك (لا بأس أن يستأجر مسيلا يجري الماء فيه إلى داره السنة والسنين الكثيرة أو للأبد) ، قال ناصر الدين اللقاني: وهو نص على جواز الإجارة أبدا فيما يؤمن فيه التغير وهو الأرض، وقال أبو الإرشاد على الأجهوري: وهذا يقتضي أن هذا يجري في الأرض المحبسة والمملوكة (2) . بعد هذا العرض لاجتهادات فقهاء المالكية في ركني ملكية الخلوات: ملكية الهواء وإجارة الأرض أو بعبارة أدق مدة إجارة الأرض نلاحظ ما يلي: 1- ليس هناك نصوص من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحسم في جواز ملكية الهواء أو في تحديد مدة الإجارة وإنما هي اجتهادات للفقهاء تخضع للأعراف إذا أمن التغير وانتفت الجهالة وكانت في ذلك مصلحة. 2- أن الخلوات امتداد للقول بجواز الإجارة الأبدية. وهو ما أفاده قول مالك السالف لا بأس أن يستأجر مسيلا يجري الماء فيه إلى داره السنة والسنتين الكثيرة أو للأبد، وهو كما قال ناصر الدين اللقاني نص على جواز الإجارة أبدا فيما يؤمن فيه التغير وهو الأرض، سواء في الأرض المحبسة أو المملوكة كما أفاد ذلك نور الملة والدين على الأجهوري (3) .   (1) التاج والإكليل: 5/ 408- 4 (2) السنوسي الحفيد: مطلع الدراري 129- 130 (3) السنوسي الحفيد: مطلع الدراري 130 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1786 3- نلاحظ أثر العادة والعرف جليا في اجتهادات الفقهاء في مدة إجارة الأرض والدار. وقديما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور) . وقعد الفقهاء قاعدة وهي: العادة مُحَكَّمَةٌ كما سيظهر ذلك جليا في محله من هذا البحث. 3- المبحث الثالث: أنواع الخلوات: تعددت الخلوات وتنوعت في المجتمع الإسلامي حصيلة لظروف متقاربة غالبا واختلفت أسماؤها والمسمى واحد غالبا وأهمها على حسب ما في فقه المتأخرين من المالكية ما يلي: 1- خلو الحوانيت: هو على ما يبدو لي من أوائل الخلوات خلا الأحكار المؤبدة وهو عبارة على أن يتسلم الإنسان من مالك، أو ناظر وقف، أو مستحقه دارا أو حانوتا، أو مستودعا أو ما شاكل ذلك ويضع فيه لوازم صناعته أو تجارته، ولا مفهوم للحوانيت لأن المسألة مبنية على العرف وهو جار في الحوانيت والأرحبة وبيوت الفنادق ونحو ذلك على أن يدفع له عوضا معجلا ويلتزم له بقدر من الكراء سنوي أو شهري وبتصرف بعد ذلك في منفعته بشتى وجوه التصرف من كراء وهبة وإعارة ونحو ذلك فلا يبقى لصاحب الحانوت أو الدار من منفعتهما إلا بمقدار ذلك الكراء السنوي أو الشهري وما زاد على ذلك فهو ملك لدافع العوض أبدا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1787 فهذه المنفعة التي تقابلها الزيادة عن الأجرة الأصلية هي المسماة بخلو الحوانيت في مصر أو بالمفتاح في تونس لأن مالك المنفعة استقل بملكية مفتاح التصرف المفتاح عند فقهاء المالكية يعتبر كاعتبار العين، وقد قرر الفقهاء في بابي الوقف والبيع أن تسلم المرء للمفتاح يعتبر تسلما لعين العقار الذي يفتح به وحوزا له ويسمى في المغرب الأقصى بشراء المفتاح قال حافظ المذهب المالكي في زمنه الشيخ سيدي محمد المهدي الوزاني الشريف ناقلا عن الفقيه محمد بن أحمد التماق في تأليفه الذي سماه (إزالة الدلسة عن وجه الجلسة) ما نصه: (سمعنا عن بعض الأسواق المغبوطة في هذه الأزمنة كالقيسارية والعطارين أن من تكون بيده الحانوت يبتغي أن يعطيه الداخل له برضاه ما يتفقان عليه فيما بينهما ليرفع له يده عنها ويسمون ذلك شراء المفتاح من الساكن ولا مدخل في ذلك لذي الأصل الذي عقده أولا للساكن أو ذي المنفعة) (1) . ومن خلو المفتاح ما عرف عندنا في تونس بخلو الحزقة في الدور التي يعمرها اليهود من أهل الذمة. وسبب ذلك على ما يذكر الشيخ أحمد بن أبي الضياف في الإتحاف (2) أن أبا محمد حمودة باشا الحسيني – رحمه الله – أوائل دولته (تاريخ ولايته 1196هـ) منع اليهود من شراء الريع والعقار لسياسة ظهرت له وقتئذ حتى غلت أكرية دورهم وتضايقوا بسبب ذلك في السكنى كما حدد لهم حارات خاصة بسكناهم على وجه الكراء فتضايقوا شديد الضيق وتنافسوا في الكراء بما يتجاوز كراء مثل تلك الدور بأضعاف الأضعاف وشكوا الأمر لأحبارهم فخرجوا بقرار جماعي مفاده أن الدار إذا اكتراها أحدهم وأسرج فيها قنديله فقد حزق عليها واختص بسكناها بقدر كرائه ولا يتسنى لأي يهودي آخر أن يزيد عليه ولصاحب الحزقة من اليهود أن يتنازل عن حزقته إلى يهودي آخر مقابل دراهم يدفعها له على حسب قرار أحبارهم وإنما مملك هاته المنفعة التي أطلق عليها اسم الحزقة مقابل التزامه بدفع قدر من الدراهم للمالك بمجرد دخول الدار وإنارة القنديل فيها، وأصبح هذا الأمر شائعا في تونس وتقليدا راسخا (3) وهو لا يختلف عما يعرف بخلو الحوانيت في مصر أو المفتاح في تونس، أو شراء المفتاح في المغرب الأقصى.   (1) النوازل أو المعيار الجديد 4/ 17 (2) 5/ 260 (3) محمد السنوسي الحفيد مطلب الدراري 161 – 162 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1788 وهناك نوع آخر من خلو الحزقة هو من باب ما عرف عندنا في تونس بخلو النصبة سأعرض إليه عند بحث هذا النوع من الخلوات وكلا الضربين كراء على التبقية وامتلاك للمنفعة والحزقة بضربيها قد زالت من المعاملات التونسية على عهد محمد باشا بأي تونس ومنعت منعا باتا ولم يبق العمل جاريا بها إلا فيما يخص الأملاك القديمة وذلك عند صدور أمر الباي المذكور في 5 صفر 1275هـ الموافق لـ 14سبتمبر 1858م والقاضي تسريح اليهود لشراء ما يملك من الريع والعقار وغير ذلك لأن هذا الباي هو صاحب عهد الأمان الذي تنص مادته الثالثة على التسوية بين المسلم وغيره من سكان المملكة التونسية في استحقاق الإنصاف لأن استحقاقه لذلك بوصف الإنسانية لا بغيره من الأوصاف (1) . 2- خلو الجلسة: وهو على حد قول العلامة أبي الفداء إسماعيل التميمي رحمه الله عليه – أصله ومبدأه أن يكري المرء حانوتا أو رحى أو ما أشبه ذلك من رباع الغلة مشاهرة أو مساناة أو وجيبة لمدة معينة وينصب فيها مواعين صناعته وما تحتاج إليه حرفته وتجارته ويستمر على ذلك لعدم من يزيد عليه في الكراء أو لعدم احتياج أرباب الحوانيت إليها فلا يخرجونه لكونها معدة للكراء فتعرف تلك الحانوت بإضافتها إلى معمرها وتصير له يد فيها، يقدم بها على غيره فإذا بدا له الخروج منها تخلى عنها لغيره وأخذ منه بدلا على ذلك وقام هذا الغير مقامه وفشا ذلك وأصبح عرفا شائعا فمن أكرى ربعا مقصودا به الغلة كان كراؤه على التبقية فهذه المنفعة التي يستحقها هذا المكتري بالسبق والتقدم هي المسماة عند المغاربة بالجلسة وتسمى أيضا خلوا. وخلو الجلسة هو المتعارف عند المغاربة وعليه تكلم فقهاؤهم ووردت فيه فتاويهم وهو كراء أبدي وإن حد بمدة فإن ذلك غير مقصود لانعقاد الضمائر على خلافه (2) .   (1) أحمد بن أبي الضياف: الإتحاف 4/ 289 (2) إسماعيل التميمي: رسالة في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين: 3 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1789 3- خلو النصبة: وينشأ عن وضع المكتري الآته وموازينه مما تقع به عمارة المحل المكتري وتبقى به يد المكترى بالكراء الدائم وقد عرف هذا النمط من الخلوات بتونس. وتسمى هذه العمارة في مثل حوانيت العطارين بتونس نصبة وفي مثل حوانيت السوقة: باعة الزيت والخبز وديار الصابون (راغلة) وفي مثل الطواحين (عدة) وتعددت الأسماء والمسمى واحد (1) . وسبب نشوء خلو النصبة يعرض إليه العلامة محمد السنوسي الحفيد من فقهاء جامع الزيتونة الأعظم في كتابه (مطلع الدراراي) فيقول: والأصل فيه أن غرباء الوافدين على البلاد من الترك كانوا إذا اكترى أحدهم حانوتا بغير عمارة وأنفق عليه ما يحتاجه من الخزائن وآلة الصناعة والموازين وأراد المالك أو ناظر الأوقاف إخراجه بعد انقضاء أمد الكراء تشكى من خسارة ما استكمل به عمارة المحل وحيث إن المالكين وناظري الأوقاف لم يجعلوا لحوانيتهم ما يلزم للصناعة المعد لها الحانوت مع كونهم أكروه لتلك الصنائع وتحمل المكترون مصاريف ذلك وقع الحكم بأن المكتري إذا كان على تلك الصفة ووضع ما يلزم من العمارة بإذن المالك فلا يصح إخراجه إلا أن يقبل المالك تلك الموضوعات بدون خسارة وإلا فيبقى المكتري بكرائه متمتعا بخلوه ولما يجحف بالمالكين من تعويض مصاريف الموضوعات اضطروا لإبقائهم فتصرف المكترون بأنفسهم وأكروا لغيرهم وباعوا مكانهم عل أن لا يأخذ المالك إلا مقدار الكراء وما زاد عليه يبقى لصاحب العمارة وبتطاول الأعصار وارتفاع الأسعار جرى عمل البلاد على ذلك وتقررت به أملاك لها بال في سائر أنحاء المملكة التونسية حيث تعتبر فيه التبقية.   (1) إسماعيل التميمي: رسالة في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين: 3 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1790 وقد أبطلت الدولة التونسية خلو النصبة منذ 1295 تقريبا مستقبلا وألزمت المتعاقدين بما يتراضيان عليه عند العقد وبقيت النصبات القديمة على ما هي عليه يتصرف أصحابها في خلوها بسائر وجوه التصرف. مقتصرين على دفع الكراء على أصله ومن هنا يتضح ما قلته في مبحث أصل ملك الخلوات فالمكتري بدفعه الكراء يعترف للمالك الأصلي بملكه وإطلاق عنان التصرف يشهد لصاحب النصبة بتملك الهواء الذي هو الخلو أتم التملك. ومن خلو النصبة كما أسلفت نمط من نمطي حزقة اليهود بتونس وهو النمط الذي لا يتسلم فيه المالك أو ناظر الوقف أو مستحقه بدلا معجلا في الحزقة وإنما يملك اليهودي الحزقة بسبب أن المالك التونسي المسلم أو ناظر الوقف أو مستحقه لا يجوز له أن يسكن بالحارات المختصة باليهود لتحجير ذلك بمقتضى أمر على من الأمير في ذلك التاريخ الذي أسلفت الكلام عليه، واليهودي الذي اكترى دارا وأسرج فيها مصباحه وشهد له بذلك أحبار اليهود امتلك حزقة الدار وبامتلاكه للحزقة يشهد على تفويتها مهرا لزوجته فلانة أو حبسا على قنديل في البيعة وحين انتهاء أمد الكراء يساوم المالك أو ناظر الوقف أو مستحقه على أن يبقى بذلك الكراء الدائمي أو يترك المحل فيضعهم أمام معضلة لا حل لها لأنهم لا يستطيعون السكنى بالدار الموجودة بحارة اليهود لاختصاص اليهود بها ولا كراءها ليهودي آخر لتحريمها على سائر اليهود بالإجماع من طرف مجلس الأحبار، ولم يبق أمامهم إلا شراء الحزقة من الزوجة أو من أحبار البيعة بما يقع عليه التراضي فيفتكون بذلك قوة صاحب الحزقة فترجع لمالك الرقبة ويتسنى له كراء الدار بأجر المثل ليهودي آخر بعد افتكاك الحزقة وبما أن مالك الرقبة أو ناظر الوقف أو مستحقه يجحف بهم أن يشتروا خلوهم مرة ثانية جنح أكثرهم إلى إبقاء الحزقة دون أخذ عوض فكانت بمنزلة خلو النصبة ولم يبق لهم من وجوه الانتفاع بالملك إلا قدر الكراء. هذا والحزقة بنمطيها قد زالت بزاول سببها كما ذكرت آنفا (1) . 4- الإنزال: وهو كما يقول العلامة أبو الفداء الشيخ إسماعيل التميمي: كراء الأرض على التأبيد لمن يبني بها دارا أو غيرها أو يغرس بها أشجارا بكراء شهري أو سنوي كما يذكر أن ما يسمى بالإنزال عندنا يسمى بالجزاء عند المغاربة ويقال له برطانة الأندلس (سينسو) وعند المصريين حكرا.   (1) راجع مطلع الدراراي 159 وما بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1791 وما أقيم من بناء من شجر يدعى إنقاخا (1) . وما ذهب إليه أبو الفداء من أن الإنزال هو الحكر عند المصريين مقيد بما إذا لم يوجد ما يدل على أن ما حددت به مدة الحكر غير مراد فيتحرى الأمور حينئذ على عرف مصر من الاستمرار في الأحكار إلى الأبد. فمن احتكر بمصر أرضا مدة وانقضت تلك المدة فليس لناظر الوقف أو مستحقه إخراجه لانعقاد الضمائر على التبقية في صورة انعدام مخصص للعرف ويكون ذلك من ملك الخلو. هذا ما نقله السنوسي الحفيد في مطلع الدراري عن كتاب الزهرات الوردية في الفتاوى الأجهورية من مسائل الإجارة لأبي الإرشاد على الأجهوري رحمه الله (2) وإلا فقد جاء في فتاوى علماء المالكية المصريين ما يفيد تحديد المدة في الأحكار ومن ذلك ما أجاب به الشيخ محمد أحمد عليش حين سئل عن أرض محبسة على الجامع الكبير بمدينة إسنا بأقصى صعيد مصر طرح الناس أتربة وأقذارا فيها حتى صارت تلا لا ينتفع في الحال فأجرها نائب القاضي تسعا وتسعون سنة لمن ينقل ما فيها من الأتربة والأقذار ويبنيها خانا كل سنة بأربعة أرطال زيت لا غير وأزال المكتري ما فيها وأصلحها فحصلت الرغبة فيها بزائد عن تلك الأجرة فهل تفسخ تلك الإجارة، ويصير الأنفع للوقف، أفيدوا الجواب. فأجاب رحمه الله بجواب مطول يستفاد منه أن الحكر ليس دائما على التأبيد وقد أتى على كثير من النقول مما عرضت له عند كلامي على الأصل الثاني من أصلي ملك الخلوات وهو إجارة الأرض (3) . وليس الإنزال ولا الحكر المؤبد بالأمفتيوز الروماني والذي يعني في لغة الإغريق الغرس والتلقيح، كما يطلق فيها على إقامة الرجل مكان غيره وعلى التمتع بملك الغير مع إمكان الغرس مقابل كراء لمدة أقلها عشرون سنة وأكثرها تسع وتسعون سنة..إلخ ما يتعلق به من الأحكام (4) .   (1) رسالته في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين 7 (2) مطلع الدراري 153. (3) راجع فتح العلي المالك له 2/239 وما بعدها (4) محمد السنوسي الحفيد: مطلع الدراري 152- 153 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1792 ولكن العالم الفرنسي بسكال يقول عن الإنزال أنه بمثابة أمفتيوز مؤبد (1) والعلامة عبد الرزاق السنهوري يقول عن أحكار مصر أنها عقود تأثرت بأحكام عقد الأمفتيوز الروماني (2) . ولا يتسنى بحال قبول قول بسكال الذي قاله في الإنزال لقيامه على استمرارية الكراء ودوامها، وأما ما قاله عبد الرزاق السنهوري فإنه يصدق بالأحكار غير المؤبدة وهي التي أقرها القانون المدني المصري فبينها وبين الأمفتيوز شبه قوي. هذا والأصل في الإنزال جريانه في أرض الوقف بعد شهادة العرفاء المشهود لهم بذلك عرفا أن ذلك أصلح لأرض الوقف التي خربت وانعدم نفعها وأن إنزالها بكراء ثابت انفع لجانب الوقف وأن العمارة الدائمة خير من الزراعة في أرض البور ويقدرون قيمة الكراء لكل مرجع أو هكتار ويشهدون على انتفاء الغبن بعد ضبط حدودها وما يرجع إليها فإذا وقع استيفاء ذلك فالقاضي أو نائبه يبرم عقد الإنزال ويمضيه هذا ما جرى به عمل أهل تونس في الإنزالات وإلى ذلك يشير محمد السنوسي الجد في نظمه لقط الدرر بقوله: وأن ترد إنزال أرض الوقف فسق إليها عرفاء العرف ليشهدوا بأن ذاك أحظى وفيه رغبة لوقف ترضى وإن ثابت الكراء أولى إذ لا يبور أشهرا أو حولا وإن فيما دام في العمارة خيرا من الزراعة البوارة وشهدوا بأن قيمة الكرا لكل مرجع كذا مقدرا والغبن منتف بها والحد وكيلها يضبطها والعد حتى إذا استكملها فالقاضي يعقد أو من ناب وهو ماضي ويبدو من كلام صاحب لقط الدرر أن صحة الإنزال تتوقف على إذن القاضي لكن عماد الفتوى في عصره الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي – رحمه الله – ينفي ذلك وهذا ما قاله صاحب لقط الدرر. عقد بيع الخلو والإنزال بإذن قاض ماله إهمال (3) . والذي لا يجوز إهماله بحال هو الواجب أو الشرط.   (1) محمد السنوسي الحفيد: مطلع الدراري 153 (2) الوسيط في شرح القانون المدني 6/1438 (3) مختارات من لفظ الدرر ضمن مجموع: 5 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1793 وجاء في فتوى للشيخ سيدي إبراهيم الرياحي ما يلي: وأما اشتراط إذن القاضي فلم أر من ذكره على أنه شرط في صحة الإنزال لا في الحبس ولا في غيره وإنما ذكروه في رفع الغبن عن الإنزال في الأحباس خاصة لا في أصل عقده (1) . ومجال جريان الإنزال في الأراضي الفارغة من الأشجار أي البيضاء وأما الأراضي المشتملة على أشجار فلا يتسنى تنزيلها إلا إذا توفرت الشروط الآتية: 1- أن يكون الكراء وجيبة. 2- أن يكون الشجر طيب الثمرة أثناء مدة الكراء. 3- أن تكون قيمة الثمر الثلث فأقل. 4- أن يكون اشتراط دخولها لأجل دفع الضرر, وهذه الشروط هي التي تشترط في دخول الأشجار في الأرض المكتراة بصورة عامة قال خليل: (واغتفر ما في الأرض ما لم يزد على الثلث بالتقويم) قال الزرقاني في شرحه عليه (واغتفر اشتراط ما في الأرض المكتراة وجيبة من شجر فيه ثمر وكذا دار ما لم يزد على الثلث ويعتبر الثلث بالتقويم بأن يقال: ما قيمة كراء الأرض أو الدار بلا ثمر مثمر؟ فيقال: عشرة مثلا وما قيمة الثمرة منفردة بلا أرض بعد إسقاط الكلفة؟ فيقال: خمسة أو أقل. فإنما ينظر لذلك بالتقويم أي لا بما استؤجرت العين به لأنه قد يزيد على القيمة ولا بد أن يكون طيب الثمرة في مدة الكراء وأن يكون اشتراطها لدفع ضرر فإن زاد على الثلث بعد إسقاط الكلفة لم يغتفر اشتراطه ولو شرط منه قدر الثلث أو أقل على المشهور، وقدرنا اشتراطه لأنه لا يدخل الثلث فما دونه إلا به كما في المدونة) (2) .   (1) مختارات من لفظ الدرر ضمن مجموع: 3 (2) 7/23 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1794 واعتبر الثلث قليلا لما ذكره ابن رشد في المقدمات من كتاب الحوائج فقال: مذهب مالك أن كل ما يجب به اعتبار القليل من الكثير فالثلث في حد اليسير إلا ثلاثة، الجوائح، ومعاقلة المرأة الرجل، وما تحمله العاقلة من الدية. قال ابن غازي في التكميل ويجمع الثلاثة للحفظ أن تقول: الثلث نزر في سوى المعاقلة ثم الجوائح وحمل العاقلة (1) . هذا وبعد عرضي لأهم أنواع الخلوات التي عرض لها فقهاء مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس – رضي الله عنه – رأيت من المفيد ذكر الفروق بينها لما يحصل من معرفة الفروق بين الفروع من الفقه لها أتم من الفقه فأقول. ومن الله استمد بلوغ المأمول:   (1) البناني: حاشيته على شرح الزرقاني 7/23 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1795 إن أهم ما وقع التعرض له في المبحث السابق من أنواع الخلوات أربعة على اختلاف الاصطلاح: 1- خلو الحوانيت كما هي التسمية المصرية، والمفتاح أو أحد نمطي الحزقة في الدور التي يعمرها اليهود كما هي التسمية التونسية، أو شراء المفتاح كما تعارف ذلك في المغرب الأقصى. 2- خلو النصبة كما هي التسمية في تونس ومنه أيضا أحد نمطي الحزقة في تونس ولعله المقصود بكلمة زينة الحوانيت في المغرب الأقصى. 3- خلو الجلسة المعروف بفاس. 4- الإنزال كما هو الاصطلاح التونسي أو الجزاء كما هو الاصطلاح المغربي، أو أحد أنواع الحكر المؤبد كما هي التسمية المصرية. وبعد ضبط تسميات أنواع الخلوات نشرع في ذكر الفروق بينها وهي: 1- الفرق بين خلو الحوانيت وبين خلو الجلسة: إن صاحب خلو الحوانيت شريك، وصاحب خلو الجلسة كار على التبقية فهما مختلفان شكلا ونتائج، فصاحب خلو الحوانيت يلزمه إصلاح الريع عل نسبة ما يساويه خلوه، فلو كانت الرقبة قبل العمارة تكرى مساومة بدينار مثلا، وصارت بعد العمارة تكرى بثلاثة دنانير لكان مالك خلو الحوانيت شريكا بالثلثين إذا احتاجت تلك الأماكن إلى العمارة مرة ثانية، وصاحب الرقبة بالثلث ومالك خلو الجلسة يكون مجرد كار فإصلاح الريع على مالكه أو ناظر وقفه أو مستحقه وله كراء المثل فإذا بذل مالك خلو الجلسة الكراء فليس للآخر إخراجه. ويتفق خلو الحوانيت وخلو الجلسة في استمرارية الكراء ودوامه وعدم إمكانية الزيادة على الكراء المدخول عليه ولو ارتفعت الأسعار وتبدلت الأزمان. وبهذا البيان يظهر الفرق بين خلو الحوانيت وبين خلو الجلسة ويندفع ما يساور بعض الأذهان من اتحاد مورد فتاوى الفريقين وينزاح ما عسى أن يرد على توهم ذلك من الإشكال ويتيقن اختلاف المورد بين فتاوى المصريين وبين فتاوى المغاربة، وأن الأولى واردة على ما يزامل مورد الثانية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1796 وهذا وجه أول من وجوه الفرق بينهما وهناك وجه ثان وهو أن خلو الجلسة المتعارف لدى المغاربة وخلو الحوانيت كما هي التسمية المصرية كلاهما الكراء فيه على التأبيد لكن التأبيد في خلو الجلسة مستفاد من العرف المنزل منزلة الشرط، وفي خلو الحوانيت مستفاد من دفع الدراهم في مقابلته ومن هنا نعلم أنه لا مانع من إلزام أجر المثل في خلو الجلسة عند تغير الأعصار وتبدل الأسعار بعد العقد وأن خلو الحوانيت لا يجوز فيه ذلك ويمنع منه إعطاء الدراهم فإنها معدودة من الكراء (1) . ولفت نظري تردد التماق في رسالته الموسومة بـ (إزالة الدلسة عن أحكام الجلسة) إن خلو الجلسة بفاس هو خلو الحوانيت بمصر (2) وجزم المحقق البناني في حاشيته على شرح الزرقاني بذلك حيث يقول ما نصه: (وقول الزرقاني: وقد أفتى الشيخ شمس الدين إلخ بمثل ما ذكره من الفتاوى: وقعت الفتوى من شيوخ فاس المتأخرين كالشيخ القصار وابن عاشر وأبي زيد الفاسي وسيدي عبد القادر الفاسي وأضرابهم ويعبرون عن الخلو المذكور بالجلسة جرى بها العرف) الخ (3) والفرق كما ذكرت واضح وقد رد أيضا ما تردد فيه التماق وجزم به المحقق البناني العلامة محمد المهدي الوزاني – رحمه الله – حيث قال: وفيما تردد فيه التماق وجزم به بناني من أن الخلو عند أهل مصر هو الجلسة بفاس نظر، لأن الجلسة بفاس هي الكراء على التبقية، والخلو بمصر هو ما يقبضه مالك منفعة الحانوت مثلا على رفع يده عنها ولا يبقى له تصرف فيها بل يمكن مفتاحها لدافع الخلو ويصير له التصرف دونه فالخلو بمصر هو شراء المفتاح بفاس (4) . 2- الفرق بين الجلسة بفاس وبين النصبة بتونس: أن المغاربة في خلو الجلسة داخلون على التأبيد وإن لم يشترطوه للعرف الجاري بذلك المنزل منزلة الشرط، وأن التونسيين في خلو النصبة غير داخلين على ذلك وأن الريع يكون بيد مكتريه إلى أن يزيد عليه غيره ويدل على ذلك إنهم إذا أرادوا التأبيد جعلوه خلوا (أي خلو مفتاح) وسكوتهم لمانع أو عذر، هذا ما استظهره العلامة أبو الفداء إسماعيل التميمي الذي ادعى الاجتهاد ولم ينكره عليه معاصروه بل جزم بعدم صحة خلافه (5) .   (1) إسماعيل التميمي: رسالته في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين ص3- 4 –5-6 (2) محمد المهدي الزواني: نوازله 4/18 (3) 6/128 (4) محمد المهدي الوزاني: نوازله 4/18 (5) رسالته في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين: 6 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1797 وقد حاول محمد بأي تونس سالفا إبطال النصبات بعاصمة تونس استنادا لكلام قاضيه أبي الفداء فلم يتيسر ذلك له لما يطرأ على ذلك من ضرر كبير على مالكي النصبات وهم جم غفير وقد قال أحمد الغرقاوي الفيومي في رسالته: تحقيق مسألة الخلو عند المالكية (باعتماد صحة القول بعدم جواز تحبيس الخلو المتأتي عن الوقف لأنه وقف ووقف الوقف لا يجوز، ولكنه مال عما اعتمده إلى القول بجواز تحبيسه لجريان العمل به كثيرا في سائر الممالك سيما في الديار المصرية فينبغي اعتماد صحته ارتكابا لأخف الضررين لما يلزم على بطلانه من ضياع أموال الناس وتفاقم الأمر بينهم وكثرة الخصام المؤدي إلى التقاطع والتدابر المنافيين لأخوة الإسلام فهذا مما عمت به البلوى فيبغي أن لا فتى به أي فيه بالبطلان) (1) . وذلك هو سر التراجع من طرف محمد بأي فيما أبداه قاضية المذكور. 3- الفرق بين الإنزال وخلو الحوانيت من وجوه: أ -أن مالك خلو الحوانيت اشترى الخلو بما دفعه من الدراهم الخاصة، وبقي يدفع كراء ما زاد عليه للأرض أو البناء. ب -أن مالك الخلو صار شريكا لمالك الأرض أو الرقبة ويصلحان معا البناء بموجب الاشتراك. جـ- أن مالك الخلو ممنوع من تغيير هيئة الرقبة. أما الإنزال فهو عند متأخري المالكية كراء بحت ليس فيه شراء أصلا، ومع ذلك يطلق به عنان التصرف للمستنزل وليس فيه شركة بين مالك الأرض أو الرقبة وبين المستنزل (2) .   (1) 12 (2) محمد السنوسي الحفيد: مطلع الدراري ص158 –159 بتصرف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1798 4- المبحث الرابع: حكم الخلوات ودليله: من المعلوم أن مسألة الخلوات اشتهرت نسبتها إلى مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه والحال أنه ليس فيها نص عنه ولا عن أحد من تلامذته ولم يتعرض لها الأوائل من المالكية وإنما خاض فيها المتأخرون وصدرت عنهم فتاوى في أنواع الخلوات أصلها ومبناها العرف الذي هو أصل من أصول التشريع الإسلامي توسع المالكية في الاستدلال به كما عرضت لذلك في النقطة الثانية من نقاط التمهيد. وأشهر هذه الفتاوى ما يلي: 1- فتوى ناصر الدين اللقاني (ت935هـ) حين سئل: (ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في خلوات الحوانيت التي صارت عرفا بين الناس في هاته البلدة (القاهرة) وغيرها ووزن الناس في ذلك مالا كثيرا حتى وصل الحانوت في بعض الأسواق أربعمائة دينار ذهبا جديدا فهل إذا مات شخص وله وارث شرعي يستحق خلو حانوت مورثه عملا بعرف ما عليه الناس أم لا؟ وهل إذا مات من لا وارث له يستحق ذلك بيت المال أم لا؟ وهل إذا مات شخص وعليه دين ولم يخلف ما يفي بدينه يوفى ذلك من خلو حانوته؟ أفتونا مأجورين) . فأجاب رحمه الله تعالى – بما نصه: (الحمد لله رب العالمين نعم إذا مات شخص وله وارث شرعي يستحق خلو حانوت مورثه عملا بعرف ما عليه الناس وإذا مات من لا وارث له يستحق ذلك بيت المال وإذا مات شخص وعليه دين ولم يخلف ما يفي بدينه فإنه يوفي من خلو حانوته. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. كتبه الفقير ناصر الدين اللقاني المالكي حامدا ومصليا) (1) . وقد وجه أحمد الغرقاوي الفيومي المالكي فتوى العلامة مجتهد التخريج ناصر الدين اللقاني فقال: وفتواه مخرجة على النصوص وقد أجمع على العمل بها واشتهرت في المشارق والمغارب وانحط الأمر على المصير إليها وتلقيها بالقبول وهو وإن لم يستند فيها إلى نص صريح لكن العمل عليها ... ولا يضر عندنا عدم استناد المفتي للنص فيما أفتى به لأنه يجوز للمفتي إذا لم يجد نصا في النازلة تخريجها على المنصوص في إطار ما اشترطه الشهاب القرافي.   (1) أحمد الغرقاوي الفيومي: رسالة في تحقيق مسألة الخلو عند المالكية: 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1799 وقد سئل أبو الإرشاد على الأجهوري – رحمه الله – عن جواب المفتي إذا لم يكن له مستند ولا مرجع فيما أفتى به كفتوى الناصر اللقاني في مسألة صحة الخلوات وجوازها هل يكون من أحد الأدلة الشرعية حتى أنه يجوز للمفتي المالكي أن يفتي بقوله ويتخذه حجة ودليلا على جواز الخلوات وصحتها مع عدم وقوفه على نقل في ذلك من أئمة المذهب المتقدمين أم لا؟. فأجاب رحمه الله – بما لفظه: قال الشيخ شهاب الدين القرافي: يجوز إذا لم يجد نصا في النازلة أن يخرجها على النصوص إذا كان شديد الاستحضار لقواعد مذهبه وقواعد الإجماع ونص أيضا على أنه يجوز لمن حفظ روايات المذهب وعلم مطلقها ومقيدها وعامها وخاصها وعلم أصول الفقه وكتاب القياس وأحكامه وترجيحاته وموانعه وشرائطه أن يفتي بما يخرجه على ما هو محفوظ له منها، والشيخ الإمام شيخ شيوخ عصره الشيخ ناصر الدين اللقاني ممن اتصف بالصفة التي يسوغ لمن تلبس بها الإفتاء فيما لم يكن فيه نص بالمخرج على النصوص على ما بلغنا من ثقات الشيوخ واشتهر ذلك اشتهارا لاخفاء فيه وقد أطبق من وجد بعده من العلماء فيما أعلم على متابعته فيما يفتي به مما لا يوجد فيه نص في المذهب وإن لم يظهر لهم المدرك بل ربما كان مشكلا عندهم كمسألة الخلو هذه التي بناها على العرف فإنه كثر منهم استشكالها وهي في الحقيقة مشكلة، ومع ذلك يتبعونه فيها للثقة به واعتقاد اطلاعه على ما لم يطلعوا عليه وإنه لا يقدم على ذلك من غير شيء يعتمد عليه لاسيما وقد وافقه على ذلك من هو مقدم عليه في الفقه وهو أخوه الشيخ محمد اللقاني وكان لسان حالهم يقول: وإذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار وقد وقع لعلماء مذهبنا المعتمدين المعول عليهم في المذهب كالإمام ابن عرفة والبرزلي وابن ناجي وغيرهم العمل بما جرى عليه شيوخهم مما ليس بمنصوص وإن لم يتعين له مدرك كما تقدم فهذا ونحوه يفيد أنه يجوز للمفتي أن يفتي بما خرجه غيره على نصوص المذهب ممن فيه أهلية التخريج كالشيخ ناصر الدين، هذا إن لم يعرف المدرك حيث لا يخالف النص ومما يستأنس به في هذا المقام قوله عليه الصلاة والسلام ((ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)) (1) .   (1) قال العلائي: لم أجده مرفوعا في شيء من كتب الحديث أصلا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه موقوفا عليه أخرجه الإمام أحمد في مسنده. ابن نجيم: الأشباه والنظائر: القاعدة السادسة: العادة محكمة 101 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1800 وقد قال شيخ شيوخنا القرافي: (إن لشيوخ المذهب المتأخرين كأبي عبد الله بن عتاب وأبي الوليد بن رشد وأبي الأصبغ بن سهل والقاضي أبي بكر بن زرب والقاضي أبي بكر ابن العربي ونظرائهم اختيارات وتصحيحات لبعض الروايات والأقوال عدلوا فيها عن المشهور وجرى باختيارهم عمل الحكام والفتيا فيما اقتضته المصلحة وجرى به العرف والأحكام تجري مع العرف كما قاله القرافي في قواعده وابن رشيد في رحلته وغيرهما من الشيوخ) (1) . وقد اعتمد فتوى الشيخ ناصر الدين أبو الإرشاد علي الأجهوري ومدرسته المصرية في الفقه المالكي ومن أبرز أولئك العلامة عبد الباقي الزرقاني في شرحه على المختصر الخليلي ووالده على ما ذكر هو في شرحه المذكور والشيخ سالم السنهوري في شرحه على المختصر أيضا ومحمد الأمير في شرحه وحاشيته على مجموعه والشيخ سيدي محمد أحمد عليش في فتاويه وغيرهم كما اعتمدها جهابذة من فقهاء جامع الزيتونة بتونس كالعالم مجتهد المذهب أبي الفداء سيدي إسماعيل التميمي في رسالته في وجوه الخلوات عند المصريين والتونسيين والمغاربة وصاحب نظم لقط الدرر محمد السنوسي الجد الذي أقام على خطة القضاء ما يناهز الثلاثين سنة حيث يقول مشيرا إلى عدم وجود نص في المذهب في مسألة الخلو وإنما العمدة في ذلك فتوى ناصر الدين:   (1) رسالته في تحقيق مسألة الخلو عند المالكية 7- 8 – 9 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1801 وليس في المذهب فيها نص مصرح بحكمها يختص وإنما خرجها اللقاني الناصر المحقق الرباني وأصدر الفتوى بها للناس وأجريت في الملك والأحباس وأعملتها العلماء بفاس فما على تابعهم من بأس كما اعتمدها عماد الفتوى بتونس في عصره الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي – رحمه الله – وغيرهم ممن لم أذكر واعتمدها من فقهاء المالكية المتأخرين بالمغرب الأقصى حافظ المذهب المالكي في وقته الشيخ محمد المهدي الوزاني الشريف في فتوى له فيما يسميه المغاربة شراء المفتاح ويسميه المصريون خلو الحوانيت، ونقل فتوى ناصر الدين عن شرح الزرقاني على المختصر الخليلي كما نقل غيرها ثم قال: (فظهر بهذه النقول أن صاحب المفتاح اليوم له التصرف التام فيه بالبيع وغيره لثبوت ملكه الكون العرف ذلك اليوم شائعا بفاس وغيرها) (1) . هذا ولعلماء تونس فتاوى في أنواع أخرى غير خلو الحوانيت كالنصبة والحزقة التي هي من نمط النصبة والإنزال وقد عرض لجميعها العالم المجتهد أبو الفداء إسماعيل التميمي – رحمه الله – في رسالته في الخلو ووجوهه عند المصريين والتونسيين والمغاربة وهي مصدر هام من مصادر هذا البحث بالرغم عن كونها مؤلفها لم يتمها، كما أفتى في أنواع من الخلوات الإنزال وخلو الحوانيت والجلسة عماد الفتوى في عصره الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي – رحمه الله – وهذا نص فتواه إجابة عن سؤال أحد أبنائه: الجزاء والإنزال والخلو والجلسة ألفاظ متعددة الذات مختلفة بالاعتبار في الاصطلاح فذاتها ومعناها المنفعة التي يملكها دافع الدراهم لمالك الأصل مع بقاء ملكه للرقبة فإن كانت الرقبة التي هي الأصل أرضا عبر عن تلك المنفعة بالإنزال وإن كانت في حوانيت أودور عبر عنها بالخلو في غير اصطلاح أهل فاس وفي اصطلاحهم يعبر عنها في الحوانيت بالجلسة وإن كانت في دور يسكنها اليهود عبر عنها بالحزقة في تونس. فإذا تقرر معناها فقد اضطربت الفتاوى في حكمها جوازا ومنعا، وأكثر كلامهم المنع كما قاله بعض الأئمة نظما. الجلسة التي جرت بفاس لدى الحوانيت بلا التباس ليس لها في الشرع أصل بعلم ولا قياس قاله من يفهم   (1) نوازله 4/ 17 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1802 ولكن الذي جرى به عمل المصريين كشمس الدين اللقاني وناصر الدين اللقاني وغيرهما جواز ذلك وصحته، ووافقهم على ذلك شيوخ فاس المتأخرون كالشيخ القصار وابن عاشر وأبي زيد الفاسي وسيدي عبد القادر الفامي وأضرابهم. وقد ختم فتواه بقوله: (هذا ما ظهر لمزجي البضاعة) (1) وبمثل فتوى سيدي إبراهيم الرياحي أفتى تلميذه الشيخ الشاذلي بن صالح باش مفتي المالكية بتونس في فتوى له اعتمد فيها على فتوى شيخه وأضاف إليها قوله: (ولا يقال: إن هذا العمل لا مستند له في الفقه كما صرح بذلك بعضهم لأنا نقول: ما جرى به العمل من مثل الأئمة المذكورين المقتدى بهم في أمور الدين لا بد له في الواقع من مستند غير أننا لم نطلع عليه كما قال الشيخ العقباني: إن عدم الاطلاع على المستند لا يبيح لنا الخروج عن العمل وقرر صاحب الموافقات أن اختلاف قول المجتهد بالنسبة للمقلد كاختلاف الأدلة على المجتهد) (2) هذا وإلى جانب الفتاوى تكلم في صحة الخلو وجوازه ثلة من الفقهاء المالكية المتأخرين كنور الملة والدين سيدي علي الأجهوري في شرحه لعواري المختصر الخليلي وأحمد الغرقاوي الفيومي في رسالته: (تحقيق مسألة الخلو عند المالكية) وهو مصدر هام من مصادر هذا البحث وسيدي عبد الباقي الزرقاني في باب العارية والأمير في حواشيه وشرحه على مجموعه في باب الوقف وعلى الصعيدي في حاشيته على صغير الخرشي وغيرهم كما تكلم من متأخري المغاربة على صحة الجلسة جمع منهم العلامة الدسولي في شرحه على تحفة ابن عاصم قال: يجوز شراء الملاحة وإن كان ما يخرج منها مجهول القدر والصفة لأن ذلك في مقابلة رفع اليد عنها وكذا يجوز أخذ شيء من الدراهم ونحوها في مقابلة إباحة صيد من بركة ماء أو واد أو نحوهما قاله الزرقاني عند قول المتن في السلم. لا فيما يمكن وصفه كتراب المعدن الخ. قلت: وفي المواق عند قول المصنف: وجائز سؤال البعض ليكف عن الزيادة: أنه يجوز للإنسان أن يقول لآخر: كف عني ولك دينار ويلزمه الدينار اشترى أم لا. ومن هذا المعنى بيع الجلسة والجزاء الذي جرى به عمل المتأخرين المشار له بقول ناظم العمل. [أبو زيد عبد الرحمن الفاسي] : وهكذا الجلسة والجزاء..إلخ. انظر شرحه. ويلاحظ أن العلامة الدسولي جعل خلو الجلسة مخرجا على فروع المذهب كشراء الملاحة في مقابلة رفع اليد عنها وأخذ شيء من الدراهم في مقابلة إباحة صيد من بركة ماء ...   (1) نشرت بمجموع طبع بتونس: 3 (2) نشرت بمجموع طبع بتونس: 6 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1803 وممن أفتى بجواز أخذ مقابل الخلو من الحنفية ابن نجيم حيث قال: (والحاصل أن المذهب عدم اعتبار العرف الخاص، ولكن أفتى كثير من المشائخ باعتباره فأقول على اعتباره: ينبغي أن يفتي بأن ما يقع ببعض أسواق القاهرة من خلو الحوانيت لازم، ويصير الخلو في الحانوت حقا له فلا يملك صاحب الحانوت إخراجه منها ولا إجارتها لغيره ولو كانت وقفا، وقد وقعت في حوانيت الجملون بالغورية أن السلطان الغوري لما بناها أسكنها للتجار بالخلو وجعل لكل حانوت قدرا أخذه منهم وكتب ذلك بمكتوب الوقف) (1) وقد استنبط الفقيه الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي من قول البجيرمي: (لا يبعد اشتراط الصيغة في نقل اليد في الاختصاص أي عند التنازل عن حيازة النجاسات لتسميد الأرض – كأن يقول: رفعت يدي عن هذا الاختصاص ولا يبعد جواز أخذ العوض عن نقل اليد كما في النزول عن الوظائف) مشترطا أن يكون ذلك ضمن مدة الإجارة المتفق عليها، وبذلك يكون مقابل الخلو يجوز أخذه على مذهب الشافعي) (2) . ومدار الفتاوى السابقة العرف والعادة والعادة محكمة كما هي القاعدة الفقهية، والتخريج على فروع فقهية لما رُوعي من المصلحة في ذلك. والمصلحة على ما يظهر أن داعيا هاما من دواعي وجود الخلوات نظام الوقف في مجتمعنا الإسلامي والأعيان الموقوفة لا تخضع للتداول العادي، إذ الوقف مصدرا: (إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازما بقاؤه في ملك معطية ولو تقديرا واسما: ما أعطيت منفعة) (3) إلخ التعريف السالف. وإذا كان الأمر كما ذكر فيؤول أمر الوقف إلى قلة نفع أو خراب وتنعدم مهمة ما وقف عليه والغرض من الوقف كما قال خليل في توضيحه: (دوام المنفعة) إذ الدور بطول المدة تنهدم، والأراضي الزراعية تصبح بورا ولا تكفي المدة المحددة لإيجار الوقف بالتفصيل المذكور في النقطة الثانية من مبحث أصل ملك الخلوات أن يؤجره مستأجر وينفق نفقات كبيرة ويستطيع في المدة المحددة أن يستفيد منها، ويندر أن يكون للوقف مال يصلح به، وحتى على القول بجواز بيع الوقف العقار إذا قل نفعه أو خرب من باب أولى وهو ما ذهب إليه طائفة من متأخري المالكية أو معاوضته وقد ذهب إليها جمع من فقهاء المذهب المالكي من المتأخرين أيضا إذا توفرت شروطها وإليها الإشارة في العمليات الفاسية بقوله:   (1) الأشباه والنظائر 113- 114 (2) الفقه الإسلامي في أسلوبه الجديد: 1/ 566 (3) محمد الرصاع: كتاب الهداية الكافية الشافية لبيان حقائق الإمام ابن عرفة: الوافية: 411 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1804 كذا معاوضة ربع الحبس على شروط أسست للمؤتسي وفي العمليات العامة بقوله: وبالمعاوضة فيها اعملوا على شروط عرفت لا تهمل والشروط وجود الخراب أو قلة المنفعة في الوقف وكون الربع المعاوض به الحبس أكثر قيمة من ربع الحبس قلت: وحتى على القول بجواز بيع الوقف إذا قل نفعه أو خرب أو معاوضته فلا يوجد له مشتر إلا بأقل الأثمان، أو معاوض إلا بما هو قليل النفع وخرب عادة، ومن أجل ذلك شعر الفقهاء منذ زمن بعيد بأن مدة كراء الوقف القصيرة والتي فصلت القول فيها في النقطة الثانية من مبحث أصل ملك الخلوات غير كافية فأفتوا بجواز كراء الوقف السنين الكثيرة كيف تيسر بشرط إصلاحه من كرائه لأن بيعه غير مسموح به على المشهور وهو المروي عن مالك – رضي الله عنه – في المدونة. وقد جرت فتاوى تلك العصور على هذا الاعتبار فجرى ببطليوس كراء أرض محبسة خمسين عاما كما حكي عن اكتراء المنصور بن أبي عامر موضعا حبسا سبعين عاما وذكر البرزلي أن العادة في أحباس قرطاجنة كراؤها لمدة أربعين سنة كما ذكر أن قاعة دار حبس على عهده اكتريت لخمسين عاما وعلل إطالة مدة كراء هذه الأحباس بقوله: لعلهم لم يجدوا من يتقبلها إلا على هذه الهيئة فاغتفروا ذلك للضرورة كالتزام الجزاء على أرض الجزاء أبدا لضرورة حاجة بيت مال المسلمين وإن كان عن ثمن الأرض لكونه تابعا لأصل جائز للضرورة والله أعلم. كما تنبه الفقهاء إلى القول بتجاوز شرط الواقف الذي هو كلفظ الشارع إذا أدى إلى بطلان أصل الوقف فقال ابن الحاجب: (ويبدأ بإصلاحه ونفقته، ولو شرط خلافه لم يقبل) . وعلل شارحه خليل ذلك بقوله: (لأن الغرض من الوقف دوام المنفعة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1805 وبمجموع ذلك وجدت الخلوات التي تقوم على التبقية في الكراء. وأما في الأملاك فيذكر العلامة الأمير جواز الخلوات من باب أحرى (1) لحرية تصرف المالك في ملكه من غير تعسف في استعمال هذا الحق ولما يبدو في ذلك من المصلحة أيضا، إذ كثير من الملاك للرباع والعقارات يقومون بمهمات أخرى في حياتهم تملأ عليهم أوقاتهم ولا يستطيعون القيام بمتطلبات دورهم أو أراضيهم الزراعية أو نحو ذلك فتتعرض هذه الأملاك إلى قلة النفع أو الخراب، وملاك آخرون تركيبهم النفسي أو الجسدي لا ينسجم مع متطلبات أملاكهم ((وكل ميسر لما خلق له)) كما في السنة الشريفة وملاك آخرون يمنعهم تشتت الملكية وصغرها عند القسمة من القيام بشؤونها وكلهم يريد الإبقاء على هذه الأملاك شعورا منهم بأنها استمرار لخلود الأسرة وتبقية لاسمها فلاذوا بالكراء الدائم حتى يخرجوا من ترك واجب شرعي وهو إهمال أملاكهم يقول أحمد غنيم النفراوي: (لم يتكلم [ابن أبي زيد القيرواني] على ما إذا كان له كرم أو زرع يحتاج إلى سقي بحيث يتلف بتركه والحكم فيه أنه يجب عليه القيام به إما بنفسه أو بدفعه لمن يعمل فيه ولو بجميع الثمرة فإن لم يفعل أثم لما في تركه من إضاعة المال ولم يثبت نص ببيعه) ولعل مما يدعم صحة كراء الأملاك إذا أمن التغير على التبقية ما روي عن مالك – رضي الله عنه – أنه قال: (ولا بأس أن يستأجر مسيلا يجري الماء فيه إلى داره السنة والسنين الكثيرة أو للأبد قال ناصر الدين اللقاني في شرحه على المختصر الخليلي (وهو نص على جواز الإجارة أبدا فيما يؤمن فيه التغير وهو الأرض) . قال الأجهوري في شرحه عليه أيضا: (وهذا يقتضي أن هذا يجري في الأرض المحبسة والمملوكة) (2) . هذا بالنسبة إلى المؤجرين مستحقي منفعة وقف أو نظاره أو ملاك.   (1) الفواكه الدواني 2/ 238 (2) محمد السنوسي الحفيد: مطلع الدراري 129 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1806 وأما المستأجرون فَقَلَّ أن يوجد مستأجر يقبل أن يغامر بصرف أموال طائلة في تجديد بناء وقف قَلَّ نفعه أو خرب أو في إحداث بناء في أرض حبس أو غراستها لمدة قصيرة إذ طبيعة أهل عصرنا هي ما عبر عنه الحديث الشريف: ((ولو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب)) (1) . ولم يبق المجتمع الإسلامي مجتمع مواساة أو تكافل، وقديما قال الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، وهي من الكلمات المباركة التي فاضت على لسان هذا الإمام الفقيه فأصبحت قاعدة فقهية قطعية تلهم الفقيه التساؤل عن الأحكام المرتبة على العوائد والأعراف الحاصلة في فقه الأئمة إذا تغيرت تلك العوائد والأعراف وصارت تدل على ضد ما كانت تدل عليه هل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في الكتب ويفتي بما تقتضيه العوائد المتجددة؟ أو يقال: نحن مقلدون وما لنا إحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد فيفتى بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين؟ أجاب القرافي رحمه الله عليه في كتابه (الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام) في السؤال التاسع والثلاثين عن هذا السؤال فقال: إن جري هذه الأحكام التي مدركها العوائد مع تغيير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة وليس ذلك تجديدا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هي قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد. وبناء على كل ما تقدم أصبح العوذ بالخلوات من باب الضرورة العامة المؤقتة وهي على ما عرفها الأستاذ الإمام سيدي محمد الطاهر بن عاشور – رحمه الله تعالى – أن يعرض الاضطرار للأمة أو طائفة عظيمة منها تستدعي الإقدام على الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي من سلامة الأمة وإبقاء قوتها أو نحو ذلك.   (1) الحافظ السخاوي: المقاصد الحسنة 349. وقد قفَّى على نص الحديث بقوله: الشيخان والترمذي وأبو عوانة وغيرهم بألفاظ متقاربة من حديث ابن شهاب، ومسلم وأبو عوانة من حديث قتادة كلاهما عن أنس مرفوعا واتفق عليه أيضا من حديث عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس وانفرد به البخاري عن ابن الزبير ومسلم عن أبي موسى. وفي حديث بعضهم أنه كان يقرأ في القرآن. المقاصد الحسنة 349 – 350 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1807 وهذا التوقيت وهذا العموم مقول على كليهما بالتفاوت ولا شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة الخاصة، وأنها تقتضي تغييرا للأحكام الشرعية المقررة للأحوال التي طرأت عليها تلك الضرورة. وليست أمثلة هذا النوع من الرخصة بكثيرة. فمنها الكراء المؤبد الذي جرت به فتوى علماء الأندلس ابن سراج وابن منظور في أواخر القرن التاسع في أرض الوقف حين زهد الناس في كرائها لزرع الأرض من وفرة الخدمة ووفرة المصاريف لطول تبويرها، وزهدوا في كرائها للغرس والبناء لقصر المدة التي تكتري أرض الوقف لها ولا بنية الباني أو الغارس أن يبني أو يغرس ثم يقلع ما أحدثه في الأرض فأفتى ابن سراج وابن منظور بكرائها على التأبيد، ورأيا أن التأبيد لا غرر فيه لأنها باقية غير زائلة ثم تبعهما على ذلك أهل مصر في القرن العاشر بفتوى ناصر الدين اللقاني في أحكار الأوقاف وجرى العمل بذلك في المغرب في فاس وتونس في العقد المسماة عندنا في تونس بالنصبة والخلو [المفتاح] وفي فاس بالجلسة والجزاء (1) . وأصبح ذلك تقليدا فاشيا وعرفا شائعا وعم الأملاك أيضا – لما ذكرته سالفا – علاوة على الأوقاف.   (1) مقاصد الشريعة الإسلامية 133 – 134 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1808 المبحث الخامس: التصرف في الخلوات: قد سبق في المبحث الأول من هذا البحث أن أبا الإرشاد عليها الأجهوري عرف الخلو بقوله: (اسم لما يملكه دافع الدراهم من المنفعة التي دفع الدراهم في مقابلتها) . ومن خلال التعريف يتضح أن الخلو من باب ملك المنفعة، لا من باب ملك الانتفاع، وذلك ما أيده علم من أعلام المدرسة الأجهورية في الفقه المالكي سيدي عبد الباقي الزرقاني في شرحه على المختصر الخليلي في باب العارية (1) . وقد فرق العلامة شهاب الدين القرافي – رحمه الله – بين قاعدة تمليك الانتفاع وبين قاعدة تمليك المنفعة في كتابه الفروق في الفرق الثلاثين فقال ما نصه: تمليك الانتفاع نريد به أن يباشر هو نفسه فقط، وتمليك المنفعة هو أعم وأشمل فيباشر بنفسه ويمكن غيره من الانتفاع بعوض كالإجارة وبغير عوض كالعارية. مثال الأول: سكنى المدارس والرباط والمجالس في الجوامع والمساجد والأسواق ومواضع النسك كالمطاف والمسعى ونحو ذلك، فله أن ينتفع بنفسه فقط، ولو حاول أن يؤاجر بيت المدرسة أو يسكن غيره، أو يعارض عليه بطريق من طريق المعاوضات امتنع ذلك وكذلك بقية النظائر المذكورة معه. وأما مالك المنفعة فكمَنْ استأجر دارا أو استعارها فله أن يؤاجرها من غيره، أو يسكنه بغير عوض، ويتصرف في هذه المنفعة تصرف الملاك في أملاكهم على جري العادة على الوجه الذي ملكه، فهو تمليك مطلق في زمن خاص حسبما تناوله عقد الإجارة أو شهدت به العادة في العارية، فمن شهدت له العادة في العارية بمدة كانت له تلك المدة ملكا على الإطلاق يتصرف كما يشاء بجميع الأنواع السالفة في التصرف في المنفعة في تلك المدة ويكون تمليك هذه المنفعة كتمليك الرقاب (2) .   (1) 6/ 127 (2) 1/ 232 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1809 هذا وقد فرع الفقهاء عن كون الخلو ملك منفعة أنه يورث من طرف الورثة، وعند انعدام الوارث يستحقه بيت المال وتوفى منه الديون كما جاء بفتوى ناصر الدين اللقاني السالفة الذكر، ويرهن ويوهب ويؤجر ويعار: وقد سئل عن هذا كله الشيخ أحمد السنهوري – رحمه الله – فأجاب بما نصه: (الخلوات الشرعية يصح وقفها ويكون لازما منبرما مع شرط اللزوم كالحوز وانتفاء المانع كالدين كوقف صحيح الأملاك ويجب العمل بذلك ورهنه وإجارته وعاريته والمعاوضة عليه، كل ذلك صحيح ولواقفه أن يجعله مؤبدا، أو مؤقتا بوقت على معين فقط أو عليه وعلى ذريته أو على جهة من جهات الخير كوقود مصباح وتفرقة خبز وتسبيل ماء ونحو ذلك مما ينص عليه الواقف ويراه ويشترطه فيه مما يجوز له اشتراطه من الأمور الجائزة كل ذلك عملا بما أفتى خاتمة المحققين أعلم علماء الإسلام الشيخ ناصر الدين اللقاني في جواب سئل عنه) (1) . وإلى كل وجوه التصرف أشار السنوسي الجد في نظمه لقط الدرر بقوله: وملكه عنه أمورا فرعوا وفي الطروس ما أفادوا استودعوا والشيخ أحمد الرضا السنهوري صرح في فتواه بالأمور قال: كمثل إرثه في الهلك ورهنه ووقفه كالملك وهبة عطية إجارة وغيرها مما اقتفى آثاره وما ذكرته سابقا من جواز وقف الخلو كنمط من أنماط التصرف في ملكيته لا خلاف فيه بالنسبة إلى الخلوات الناشئة عن ملك، وأما الخلوات الناشئة عن وقف فظاهر فتوى ناصر الدين اللقاني أنها توقف، وفتوى الشيخ أحمد السنهوري نص في ذلك كما سلف، وقد خالف في ذلك أبو الإرشاد علي الأجهوري وحاصل ما قاله في ذلك: أن منفعة الوقف وقف، فلو صح وقف الخلو لزم وقف الوقف واللازم باطل، وأيضا فشرط الشيء المحبس أن لا يتعلق به حق للغير ولا يلزم من ملك منفعة الخلو وقفها، فإن المالك قد يمنع من فعل بعض التصرفات لمانع كمنع وقف من ملك عبدا على مرضى لقصد الضرر، ومنع مالك آلة الحرب من بيعها لحربي وقاطع طريق، ومنع مالك عبد مسلم من بيعه لكافر، ولا شك أن تعلق الوقف بمنفعته يمنع وقفها لما بيناه من تعلق الحق به.   (1) أحمد الفيومي الغرقاوي: رسالته: تحقيق مسألة الخلو عند المالكية 11- 12 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1810 وجوابه: أن الوقف والحق في المنفعة الأصلية، والوقف الثاني للخلو الذي حصل بالتعمير مثلا فقد اختلف المحل لكن يظهر كلام الإرشاد على الأجهوري في وقف منفعة كانت موجودة العين حين وقفية أصلها كحانوت موقوف على مسجد لإنارته وتحصيره، وبحوالة الأسواق أصبح كراؤه لا يفي بذلك فاضطر ناظره إلى بيع منفعته مقابل نقود صرفها على المسجد وجعل كراه بخمسة عشر دينارا بعد أن كان بثلاثين فصارت منفعة الحانوت الوقف بعينها مشتركة بين صاحب الخلو والناظر فكيف يوقفها ثانية؟ (1) . وقد جمع أحمد الغرقاوي الفيومي بين القولين فقال: (فتوى السنهوري محمولة على وقف منفعته تجددت بعد وقف العين، وكلام شيخنا الأجهوري محمول على وقف منفعة كانت موجودة حين وقفية أصلها لدخولها تحت الوقف الأول) . (2) وبذلك يكون الحلاق لفظيا. هذا ويمتاز خلو الحوانيت - كما هي التسمية المصرية - بأن صاحبه يصير شريكا لصاحب الرقبة في المنفعة ونسبة الشركة بينهما لا يخلو حالها من أمرين: أ- أن تكون الرقبة وقفا. ب- أن تكون الرقبة ملكا. فإذا كانت الرقبة وقفا توقفت معرفة نسبة الاشتراك بينهما على معرفة الداعي إلى بيع الخلو الوقف، والداعي لذلك على ما ذكره العلامة أبو الفداء إسماعيل التميمي - رحمه الله تعالى - أحد أمرين: 1 - خراب محل الخلو نفسه. 2 - خراب المحل الموقوف محل الخلو عليه. ومثال الأول: أن يكون الوقف قد خرب، أو آل إلى الخراب يعطيه الناظر لمن يعمره ويكون ما صرفه خلوا له. ونسبة الشركة في هذه الصورة بقدر ما تزيده عمارة صاحب الخلو في كراء الوقف كما لو كان الوقف يكرى قبل العمارة بدينار مياومة، وبعدها بثلاثة دنانير فيكون صاحب الخلو شريكا بالثلثين، وتظهر الشركة في صورة احتياج الوقف إلى عمارة ثانية فعلى الوقف الثلث وعلى صاحب الخلو الثلثان.   (1) الأمير: حواشيه على شرح مجموعه 2/ 181 – 182 (2) رسالته: تحقيق الخلو عند المالكية 13 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1811 ومثال الثاني إذا كان هناك وقف على مصرف وتعطل بقلة نفع الوقف كحانوت وقف على حاجيات مسجد من إنارة وتحصير وتنظيف وأجرة إمام ونحو ذلك ولا تقوم غلته بذلك فيباع خلوه ليعان بثمنه أو ليشترى به ربع آخر يصرف ريعه في ذلك. ونسبة الشركة في هذه الصورة بنسبة ما ينقص بيع خلوه من أجرة مثله غير مبيع خلوه كما إذا كانت أجرة ذلك الحانوت في كل شهر ثلاثين دينارا غير مبيع خلوه وعلى أنه مبيع خلوه بخمسة وعشرين فيكون لصاحب الخلو سدس المنفعة إذ هو القدر الذي نقص بسبب دفعه ثمن الخلو وذلك لأن لدفع عوض الخلو تأثيرا في النقص إذ لا يرغب فيه ولا يقدم على شرائه إلا بنقص من أجره الذي يبذله من لا يدفع فيه شيئا وذلك واضح. وعلى هذا فما به الاشتراك هو ما تزيده عمارة صاحب الخلو في أجرة الوقف وما ينقص من أجر مثله بسبب دفع ثمن الخلو (1) . وزاد الأمير داعيا ثالثا لبيع الخلو وهي: أن تكون أرض محبسة يستأجرها من الناظر ويبني فيها دارا مثلا على أن عليه كل شهر لجهة الوقف مائة دينار ولكن الدار تكرى بمائتين فالمنفعة التي تقابل المائة الأخرى يقال لها خلو. والذي يبدو أن هذه الصورة ملحقة بالداعي الأول الذي ذكره أبو الفداء في نسبة الشركة فهي بقدر ما تزيده عمارة صاحب الخلو في أجرة الوقف، لكن في صورة عمارة ثانية يكون الإصلاح على صاحب الخلو وحده. كما ذكر الأمير أيضا أن الخلو يتسنى أن يكون مشتركا بين عدة أفراد فإذا باع أحدهم حصته فلبقية الشركاء الأخذ بحق الشفعة (2) . فاتضح من كل ما سلف أن مالك الخلو يتصرف في خلوه تصرف الملاك في أملاكهم بيد أنه لا يجوز له أن يغير حالة العقار وهيأته فضلا عن أن يدخله في عقار آخر إلا برضى متولي الوقف أو المالك ذلك ما قاله صاحب مطلع الدراري. (3) (4) هذا كله إذا كانت الرقبة وقفا. وأما إذا كانت الرقبة ملكا: فيجري فيه ما جرى في الوقف من باب أحرى إذ المالك يتصرف في ملكه كما يشاء وكما يريد في الإطار الذي حددته شريعة الإسلام، وبغير تعسف في استعمال حق الملكية.   (1) رسالته في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين 7 – 8 (2) حواشيه على شرح مجموعه 2/ 281 (3) 161 (4) فيه نظر فليتأمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1812 وبيان ذلك أن المالك إذا أذن في العمارة على أن تكون خلوا شاركه بقدر ما تزيده العمارة، وإذا قبض منه شيئا على أن يكون له خلو في ريعه شاركه بقدر ما ينقص ذلك من أجره. هذا ما قرره العلامة أبو الفداء إسماعيل التميمي - رحمة الله عليه – ولكنه أورد بعده أن الشيخ عبد الباقي الزرقاني سمع من شيخه الأجهوري يقول: معظم شيوخنا أفتوا بأن منفعة ما فيه الخلو شركة بين صاحب الخلو والوقف بحسب ما يتفق عليه صاحب الخلو والناظر على وجه المصلحة كما يؤخذ مما أفتى به الناصر وعقب عليه بقوله: وهو صريح في أن ما به الاشتراك هو ما وقع عليه اتفاق المتعاقدين وهذا هو الحق، إذ الخلو بمعنى المنفعة مبيع فلا بد من تعيين قدره عند انعقاد البيع فيه ليدخلا على معلوم فتعيينه موكول لاختيارهما فإذا عينه البائع ورضي المشتري باشتراء ذلك المقدار من المنفعة، فذلك، وإلا فلا بيع. وقد أشكل على كلام أبي الفداء من وجوه: 1- أن ما قرره سابقا نسبة للشركة في منفعة الوقف بين الوقف وبين صاحب الخلو يبدو منه الإلزام، وذلك ما يظهر جليا فيما نقله عن بعض فضلاء المالكية (1) مما أورده السيد الحموي في غمز عيون البصائر في شرط صحة الخلو حيث يقول: إن الخلو إذا كان لخراب المحل فلا بد أن يكون بقدر ما يصلح ذلك الخراب، فما يفعل الآن [في عصر بعض الفضلاء من المالكية] من أخذ دراهم لا يصح في ذلك القدر الزائد، وإنما تعتبر الشركة في المنفعة بقدر ما تزيده العمارة فيها لا غيره. وما قرره هنا فيما نقله عن العلامة الزرقاني عن شيخه علي الأجهوري أنه قال: إن معظم شيوخنا أفتى إلخ ما سبق يفيد أن نسبة الشركة بين الوقف وبين صاحب الخلو في منفعة الوقف تكون على حسب ما يقع عليه الاتفاق بين صاحب الخلو والناظر مثلا (2) . وبين الأمرين فرق كبير.   (1) بعض الفضلاء المالكية الغرقاوي والنص مأخوذ من رسالة في تحقق مسألة الخلو 11 بتوسع وتصرف (2) رسالته: تحقيق الخلو عند المالكية 7 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1813 2- قد تضمن ما أفتى به معظم شيوخ الأجهوري أن منفعة ما فيه الخلو شركة بين صاحب الخلو وبين الوقف بحسب ما يتفق عليه صاحب الخلو، والناظر على وجه المصلحة اعتماد فتوى ناصر الدين اللقاني. ونص فتوى ناصر الدين لم يتعرض للشركة بين صاحب الخلو وبين الوقف في منفعة الوقف لا نصا ولا مفهوما، ولو سلمنا بأخذ نسبة الشركة بينهما من فتوى الناصر اللقاني فقد حذر فقهاء المالكية من أخذ الفقه بالمفهوم من غير كلام المعصوم.. 3 - أن المنقول عن شيوخ الأجهوري متعلق بالشركة في الوقف بين الوقف وصاحب الخلو، وللوقف قيوده وقد دعم به الشيخ نسبة الشركة في الملك بين المالك وصاحب الخلو في منفعة الملك، وبين الأمرين بون شاسع إذ المالك يتصرف في ملكه كما يشاء ويريد في حدود الشرع. وبعد هذه النظرة في وجوه التصرف في الخلو يتضح لنا أن القول بجوازه حل وسط يبطل الادعاء بأن الوقف خرم لنظام الاقتصاد العام ويثبت أن الوقف لا يحول دون استثمار الموقوف حتى في أطوار الركود للمجتمعات الإسلامية وقد عد الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور -رحمه الله - الفتوى بجواز الخلوات وصحة التصرف فيها وسيلة وافية لنظام الوقف من أن يكون معول هدم للنظام الاقتصادي العام في فتوى له نشرت في كتيب بعنوان: الوقف وآثاره في الإسلام فقال: ومنها أي [الوسائل التي تجعل مستحق الوقف فاقد القدرة على القيام به ينتفع به] عقود الاستنزال في الأوقاف لا سيما الرباع على حسب فتوى ناصر الدين اللقاني والغرقاوي ومن جاء بعدهم، وهو أن تكرى كراء مؤبدا بقدر معين لا يتغير فيصير المستنزل متصرفا فيها تصرف المالك في ملكه. (1) وقبل إنهاء الكلام في هذا المبحث لا بد من بيان أن جواز الخلو وصحة التصرف فيه بوجوه التصرفات السابقة مشروط بشروط سيأتي تفصيلها في المبحث الموالي المبحث السادس: شروط صحة التصرف في الخلوات: حري بنا قبل بيان الشروط المشترطة لصحة التصرف في الخلوات أن نوطئ بتوطئة نبين فيها النقاط الآتية: 1- أن صاحب خلو الحوانيت، كما هي التسمية المصرية، أو المفتاح كما هو الاصطلاح التونسي، أو أحد نمطي الحزقة كما تعورف إطلاق ذلك في تونس على خلو الدور التي يسكنها اليهود شريك وأن غيره من أصحاب الخلوات الأخرى ليسوا بشركاء وقد سبق بيان ذلك.   (1) 27 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1814 2- أن ما سنعرض إليه في هذا المبحث من الشروط منه ما يختص بخلو الحوانيت الناشئ عن وقف والمبيع من طرف مستحق الوقف أو ناظره، أو مالك أو ناظر ملك يتيم، ومنها ما يشترط فيه وفي غيره من أنواع الخلوات الأخرى التي هي أكرية على التبقية والمبيعة من طرف الساكن الذي أخذ الخلو بملك منفعة الحانوت حسب البيان الآتي قريبا -إن شاء الله. 3- لا خصوصية للبيع فيما سأعرض إليه من الشروط، بل هي مشروطة في جميع التصرفات السالفة في المبحث السابق ولكن لفظ البيع هو الذي غلب على من تكلم في هذا الموضوع. وبعد هذه الإضاءات الموطئة فما هي الشروط المشترطة في صحة بيع الخلو المعروف مصريا بخلو الحوانيت الوقف الواقع بيعه من طرف مستحق الوقف أو ناظره؟ وما هي شروط صحة بيع خلو الحوانيت من طرق المالك أو ناظر ملك اليتيم؟ وما هي شروط صحة بيع الخلوات جميعا من طرف الساكن الذي أخذ الخلو بملك منفعة الوقف؟ وإجابة عن السؤال الأول أقول: تنوعت شروط بيع خلو الحوانيت الوقف من طرف مستحق الوقف أو ناظره إلى نوعين: 1- شروط عامة. 2- شروط خاصة. أما الشروط العامة بعد الاستقراء فسبعة: 1- أن يكون الداعي المحوج إلى بيع الخلو الوقف المشار إليه سالفا أحد أمرين: خرابة، أو تقوية النفع باشتراء ربع يصرف ريعه بجانب الوقف، فإذا انعدم هذا الداعي لا يصح بيع الخلو في الوقف لأن ناظره معزول عما لا مصلحة فيه (1) . 2 - أن يكون ثمن الخلو المبيع عائدا بالمنفعة على الوقف بأن ينتفع به في جهة الوقف، فإذا أخذ الناظر الثمن وصرفه في مصالحه، وجعل لدافع الثمن خلوا في الوقف فبيع هذا الخلو غير صحيح، ويرجع دافع الثمن على الناظر بالثمن الذي دفع (2) .   (1) إسماعيل التميمي: رسالته في الخلو ووجوهه عند المصريين. والمغاربة والتونسيين 8 (2) أحمد الغرقاوي الفيومي: رسالة في تحقيق مسألة الخلو عند المالكية: 11 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1815 ويجب أن يعلم أن الخلو إذا كان داعية خراب المحل فلا بد أن يكون ثمن الخلو بقدر العمارة، فإن أخذ الناظر قدرا زائدا على العمارة فلا يصح الخلو في ذلك المقدار الزائد عن العمارة لأن الشركة في المنفعة بين مالك الخلو والوقف إنما تعتبر بقدر ما تزيده العمارة فيها فقط، ويرجع عن الناظر بالزائد عن العمارة من ثمن الخلو، ولا يصح أن يشارك بقدر ما تنقصه بأن يكون في هذه الصورة الفرضية مشاركا بما زادته العمارة وما نقضته الدراهم الزائدة عليها لعدم توفر الشرط وهو عود المنفعة على الوقف بالنسبة للزائد (1) . 3 - أن لا يكون للوقف ريع يعمر منه، فإن كان ويفي بعمارته وحاجياته كأوقاف الملوك الكثيرة الريع، صرف من ذلك الريع على ما يحتاج إليه الوقف ولا يصح بيع خلوه، فإن وقع كان باطلا، ورجع دافع الدراهم على قابضها. 4 - إذا كان السبب المحوج لبيع خلو الوقف عمارته اشترط في ثبوتها أن يكون بالبينة لا بالتصادق إذا كان للوقف شاهد وذلك بأن يثبت صرف ما دفع ثمنا للخلو على منافع الوقف بالوجه الشرعي، فلو صدق الناظر على الوقف صاحب الخلو فيما ادعى صرفه من غير ثبوت عمارة ولا ظهورها فلا عبرة بهذا التصديق لأن الناظر غير مصدق في مصرف الوقف عند وجود شاهد للوقف (2) . فإذا ثبت أنه بنى وأنفق في العمارة عدا أن البينة لم تقف على القدر المنفق على العمارة وإنما شهدت بأن هذا الأساس وضعه مشتري الخلو وهذا الجدار بناه، وهذا السقف أوجده وما شاكل ذلك فالذي استظهره أبو الفداء إسماعيل التميمي تصديقه في القدر المنفق على العمارة بعد يمينه إذا كان البناء يشبه ما ادعاه من الإنفاق عادة وعرفا، فمجموع شهادة العرف والاستظهار باليمين في المقدار المنفق يتنزل منزلة الشهادة بتعيين القدر وحصول العمارة. أما إذا ثبت القدر المنفق من أجل العمارة ولم تثبت العمارة كما إذا دفع أثمان الحديد والأسمنت والحجارة إلخ مقومات البناء وأجرة المقاول بشهادة الشهود، ولكن هؤلاء الشهود لم يقفوا على البناء ولا عاينوه، فقد أجاب عنها الشيخ الإمام أبو القاسم الغبريني في سؤال رفع إليه في ناظر حبس سور مشترط عليه أن لا يتولى دخلا أو خرجا إلا بالعدالة وفي السؤال فصول أخر فكان جوابه عن هذا الفصل أن قال: فإن حكم الحبس عندي في ذلك كحكم ربع الأيتام وإصلاح الوصي له، فانظر ذلك في الوصايا من كتاب الوثائق وأعمالها للمتيطي فإن قدر المقدم على إثبات أن ما أصلحه محتاج للإصلاح فيقوم له ما ظهر جديدا ويحاسب به والله سبحانه وتعالى أعلم.   (1) إسماعيل التميمي: رسالته في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين /9 (2) أحمد الغرقاوي الفيومي: رسالة في تحقيق مسألة الخلو عند المالكية /11 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1816 وأما إذا لم يكن للوقف شاهد أصلا فإن قول ناظر الوقف مقبول كقبول قول: ولي اليتيم، وقد نقل ابن فرحون عن شرح الجلاب للقرافي وعن غيره أن الوصي وكذا ولي السفيه مصدق فيما ذكر من نفقة اليتيم على نفسه وعلى عمارة ربعه إذا أتى بما يثبته لأن النفقة لا بد منها، وإقامة البينة تشق على الأولياء وقد يتعذر ذلك فيؤدي إلى عدم النفقة وخراب الربع. اهـ. والمشهور أنه لا يقبل قوله في النفقة إلا إذا كانوا في حضانته ولم يأت بسرف ولا بد من حلفه على ذلك. فإن أراد أن يحسب أقل ما يمكن فقال أبو عمر: أن لا يمين. وقال عياض: لا بد منها إذ قد يمكن أقل منه، وظاهر كلام المتأخرين ترجيحه، وأما عمارة الربع فهي جارية على ذلك فلا بد من أشباه قوله واليمين على القدر الذي دعاه، فإذا ادعى نفقة عظيمة مثلها يكون لها أثر في الربع ولم يوجد أثر فلا تسمع دعواه لأن العادة تكذبها، وكذا إذا وجد أثر لا يحتمل ما ادعاه. أما إذا ادعى نفقة في الدار مثلها لا تكون للإقامة كحل خندقها وإصلاح بئرها وماجلها وما أشبه ذلك وجرت العادة بأن تلك الدار لا تخلو عما ذكره فههنا يقبل قوله بيمينه. وعلى هذا يجري الحكم في صرف الناظر ثمن الخلو إن لم يكن للوقف شاهد، والاحتياط أن لا يطلق القاضي يده على ذلك فيشترط عليه أن لا يفعل شيئا إلا بإشهاد لتسارع الناس في هذا الزمن للأوقاف وتهالكهم على أموالها وتحيلهم على ذلك بأنواع الحيل حسبما رأيناهم (1) . 5 - أن يكون القدر المملوك من المنفعة معلوما لدى المتعاقدين ساعة العقد فإن ذلك القدر مثمون فلا بد من تعيينه ومعرفة المتعاقدين بقدره. وهذا الشرط يشترط في الملك أيضا (2) . 6 - أن يكون بائع الخلو مالكا له بملكية صحيحة احترازا من ملكية حكام السوء لأوقاف المسلمين بطريق العسف، فإنها ليست بملكية. ولعل ذلك ما يشير إليه قول أبي البركات أحمد الدردير - رحمه الله - فيما بناه الملوك والأمراء بقرافة مصر ونبشوا مقابر المسلمين وضيقوا عليهم: وهذه يجب هدمها قطعا، ونقضها محله بيت مال المسلمين تباع لمصالح المسلمين أو يبنى بها مساجد في محل جائز أو قنطرة لنفع العامة ولا تكون لوارثه إن علم إذ هم لا يملكون منها شيئا، وأين لهم ملكها وهم السماعون للكذب الأكالون للسحت يكون الواحد منهم عبدا مملوكا لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه فإذا استولى بظلمه على المسلمين سلبهم أموالهم وصرفها فيما يغضب الله ورسوله ويحسبون أنهم مهتدون؟ (3) .   (1) إسماعيل التميمي: رسالته في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين9- 10 (2) إسماعيل التميمي: رسالته في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين 11 –12 (3) الشرح الكبير5/ 91 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1817 7 - أن يتوجه عرفاء عدول لتحقيق السبب المحوج إلى بيعه من الأسباب السالفة الذكر، وبعد عمل تلك الشهادة يقع البيع بتقويم العرفاء العدول أيضا حتى يسلم من الغبن وإلى هذا الشرط أشار السنوسي الجد في لقط الدرر بقوله: وبيع خلو الوقف بالتقويم بالعرفا في المنهج القويم حتى يزول الغبن في الأوقاف ولا يرى لنفيه منافي (1) هذه هي الشروط العامة، وهي شروط على الجمع متى اختل منها شرط لم يصح بيع الخلو. وأما الشروط الخاصة فتتمثل في شرط واحد هو: إذا كان لذمي خلو في وقف لمسجد فإنه يمنع من وقفه على كنيسة مثلا قطعا بالعقل والنقل. أما العقل فلأن الوقف الأصلي حامل لمنفعة الخلو، لا يصح أن يحمل المسجد للكنيسة. وأما النفل فالنصوص الدالة على أن من مقاصد شريعة الإسلام إذلال الكفر وأهله وهذا ينافيه (2) . ولعل خلو الحزقة الذي عرضت له سابقا هو أحوج ما يكون إلى هذا الشرط. هذا ما يتعلق ببيع الخلو إذا كان ناشئا عن وقف وما اشترط فيه من الشروط العامة والخاصة. وأما إذا كان ناشئا عن كراء أَبَدِيٍّ فقد اشترط البدر القرافي لذلك الشروط الآتية: 1- أن يكون إكراء محل الخلو من مستحق للوقف أو ناظره أي من مالك ملكية صحيحة لمنفعة الوقف أو من ينوب عنه. 2- أن يكون الساكن الذي أخذ الخلو يملك منفعة الحانوت مده (3) . ويبدو لي أن البدر القرافي أراد بهذا الشرط أن تحصل للساكن المذكور شهرة في ذلك المحل ويضيف إلى المنفعة زيادة وهو ما يسمى اليوم بـ (الاسم التجاري) فإذا أراد بيعه اشترى من عنده يكون الدافع لثمن شرائه مقابل انتفاعه بتلك الشهرة وبتلك المنفعة المضافة في تلك المدة من طرف الساكن قبله في ذلك المحل المالك لخلوه.   (1) مختارات من لقط الدرر ضمن المجموع السابق /3 (2) حاشية الأمير على شرح مجموعه 2/ 281 (3) رسالة الدرة المنيفة. تقديم وتحقيق أحمد الشتيوي. مجلة الحياة الثقافية س 6- 1981 ع 14 – 15/ 154 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1818 3- أن يكون بيد الساكن الذي يريد بيع الخلو عقد إجارة بمقتضاه يملك الخلو وأما إن لم يكن مالكا للمنفعة بإجارة وهو الكثير الوقوع فلا عبرة بذلك الخلو، ويؤجره الناظر لمن شاء بأجرة المثل وبذلك أفتى بعض مشائخي وبناء على قول ابن رشد ولا يجوز بيع أصل العطاء لأنه يبطل بموته (1) . 4 - وأن تكون الإجارة بأجرة المثل. ويبدو لي أن المثلية في فروع الفقه يقررها العرف وتخضع للتغير ولذلك تكون مشروطة فيما يظهر حين العقد. ورد الغرقاوي في رسالته تحقيق مسألة الخلو عند المالكية اشتراط البدر القرافي أن يكون بيد الساكن في محل يريد بيع خلوه عقد إجارة وقال: قضيته بل صريحه أن لا بد في صحة الخلو من الإجارة وليس كذلك إذ ليست ركنا ولا شرطا له لوجود حقيقته وصحته بدونها إذ هي كما تقدم عن شيخنا الأجهوري: اسم لما يملكه دافع الدراهم من المنفعة الخ. نعم ليس للناظر إجارته إذا أراد ذلك لغير رب الخلو (2) . والذي يبدو أن جملة البدر القرافي وما تضمنته من شروط تعم جميع أنواع الخلوات ولا تختص بما يسمى مصريا خلو الحوانيت. هذا ما تيسر لي الوصول إليه من شروط بيع الخلو الناشئ عن كراء أبدي. وأما بيع الخلو الناشيء عن ملك فلا يخلو حال المالك من أن يكون مالكا رشيدا، أو مالكا يتيما، فإن كان رشيدا فله حرية التصرف في ملكه في الحدود المشروعة ولا يشترط فيه على ما يبدو خلا شرطا واحدا وهو أن يكون القدر المملوك من منفعة الرقبة الملك خلوا معلوما لدى المتعاقدين ساعة العقد فإن ذلك القدر مثمون فلا بد من تعيينه ومعرفة المتعاقدين بقدره. وهذا الشرط كما أسلفت يعم الوقف والملك. وأما إن كان يتيما فيشترط لبيع خلو ملكه أن يكون السبب المحوج لبيعه ثبوت خراب المحل وليس لليتيم مال يعمر به أو قلة نفعه وليشتري بثمن خلوه ربع آخر يدر على اليتيم مالا وربحا. واستظهر العلامة إسماعيل التميمي أنه يلحق بذلك احتياج دار اليتيم إلى العمارة أو احتياج اليتيم إلى النفقة أو إلى أمر ضروري لا تفي به الغلة ويكون بيع الخلو في كل ذلك من صلح من بيع الرقبة.   (1) رسالة الدرة المنيفة. تقديم وتحقيق أحمد الشتيوي. مجلة الحياة الثقافية س 6- 1981 ع 14 – 15/ 154 (2) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1819 وعند انعدام هذا السبب المحوج مما ذكر لا يصح البيع وإن وقع من ناظر اليتيم فسخ لأنه معزول عن كل تصرف لا يعود بالنفع عن اليتيم. المبحث الثامن: وجهة نظر المانعين لصحة: من الأمانة العلمية أن نقرر أن الغرقاوي وهو من أشهر القائلين بصحة الخلو وجوازه - يعرض إلى أن بعض فقهاء المالكية اعترض ذلك متعمدا ما يلي: 1- أن صاحب الخلو كأنه أسلف الواقف ما دفعه إليه من الدراهم وجعل له الواقف السكنى في مقابلة ذلك وهو سلف جر نفعا. والقاعدة: أن كل سلف جر نفعا فهو ربا. 2- ما دام الخلو عائدا إلى التصرفات الربوية فلا يعول على العرف كما قال اللقاني لأنه مبني على فاسد والمبني على الفاسد فاسد. 3- أن القول بجواز الخلو يؤدي إلى تصرف فيه غرر وجهالة لأن تلك المنفعة التي يملكها دافع الدراهم -والخلو اسم لها - غير محدودة بل هي له لموته فتبطل ويدفع الناظر له دراهمه التي قبضها منه الواقف ويتصرف هو في حانوت الوقف بالإجارة له أو لغيره ولكن هذا لا يصح أن يفتى به الآن لأن فيه ضياع أموال الناس وتجرى الحكام على ذلك فيصير من العلم الذي يجب كتمه. وهذا كله إذا وقع من الواقف. وأما إن وقع من الناظر فلبعض الفقهاء اعتراضان على ذلك: 1- أن الناظر لا يجوز له بيع الوقف لقول خليل في مختصره: (لا عقار وإن خرب) . 2- إن وقع الخلو منه يكون فيه الإجارة بدون أجرة المثل وهو وكيل والوكيل لا يجوز له أن يبيع إلا بالقيمة بل بأكثر منها. وبعد أن عرض الغرقاوي لاعتراضات بعض فقهاء المالكية على صحة الخلو وجوازه نقضها واحدا واحدا وقال: 1- نمنع مدعاكم بأنه سلف جر نفعا ونقرر أنه بيع من الواقف لتلك الحصة لا المنفعة وإن كانت هي المقصودة من العين فهو عقد معاوضة وليس سلفا حتى يوصف بأنه جر نفعا. 2- بتقرير الإجابة الأولى فالعرف ليس مبنيا على فاسد إذ ليس الخلو سلفا جر نفعا، والعرف أصل من أصول التشريع الإسلامي يجب العمل به وقد جعلوه كالشرط قاله القرافي في قواعده وابن رشيد في رحلته وغيرهما ومن أفتى بما في الكتب حيث تغيرت العادة فقد خالف الإجماع. وبهذا يتبين بطلان هذا الاعتراض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1820 3 - وأما قول هذا المعترض: إن بيع الخلو فيه غرر وجهالة فمردود بأن الدراهم التي دفعها صاحب الخلو واشترى بها تلك الحصة التي أصبح بشرائها شريكا، وهي وإن لم تكن حاضرة حالة العقد فالعقد صحيح إذا وصفت إذ بيع الغائب الموصوف صحيح عند المالكية وله الخيار إذا رآه، لا في مقابلة منفعة حتى يبني عليها كونها غير محدودة، وإذا كانت في مقابلة عين وكان الواقف قد باعهم تلك العين كما هو فرض المسألة عنده فلا يبطل استحقاقه لها لموته بل تنتقل لوارثه. وقول يبطل: فيه نظر. وقوله: ويدفع الناظر له دراهمه مبني على البطلان الذي ذكره المبني على فرض المسألة في المنفعة لا العين وقد علم ما فيه. 4 - وقوله: وأما إن وقع من الناظر فلا يصح، مردود لأنه -كما ذكر وكيل عن الواقف فله أن يفعل في الوقف كل ما جاز أن يفعله ويرضاه إن لو كان حيا ورآه لأنه قد يراعي قصد المحبس في بعض الأمور دون لفظه كما يؤخذ ذلك من كلام القابسي في جواب سؤال رفع له ونقله الحطاب عن البرزلي وبنى عليه حكما أشار إليه بقوله: وكزيادة رواتب الطلبة لما أن كثروا وتفضل شيء من خراجها بحيث لو كان المحبس حاضرا لارتضاه، وكان ذلك كله برضى الناظر في الحبس للنظر التام. انتهى نص الحطاب فانظره، وقوله: لأن الناظر لا يجوز له بيع الوقف: نقول بهذا الموجب: بل ولا للواقف نفسه حيث لم يشترطه لنفسه فضلا عن الناظر، وكأنه حمل فعل الناظر للخلو على البيع كما فرضها في الوقف والأمر بخلاف ذلك إذ ما يقع من الناظر من الخلو ليس بيعا للوقف وإنما هو يصير ما عاد على الوقف مستحقا لمريد الخلو. 5 - وقوله: إن وقع يكون فيه الإجارة بدون أجر المثل. غير مسلم لأنه إن كانت المنفعة العائدة على الوقف عمارة فهي خلو له ويستأجر الأرض بأجرة مثلها قبل العمارة فليس فيها الإجارة بدون أجرة المثل وكذا لو كانت المنفعة غير عمارة بل دراهم دفعت للناظر وعادت لجهة الوقف فتكون الإجارة على حسبها مثلا: أو كان المحل قبل عود الدراهم عليه يكري بعشرة وبعدها بخمسة عشر فالإجارة تكون بعشرة تدفع لجهة الوقف والخمسة خلو له فليس فيه أيضا بدون أجرة المثل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1821 وقوله: والوكيل لا يجوز له أن يبيع إلا بالقيمة: تأمل كيف جعله من قبيل الإجارة ثم جعله من قبيل البيع وإن كانت الإجارة بيع المنافع لكن ليس مراد المعترض وإنما مراده البيع الاصطلاحي بدليل مقابلته بالإجارة وهل هذا إلا تناقض! ثم إن كون الوكيل لا يبيع إلا بالقيمة مسلم في حد ذاته ولكن ليس ثم ما يباع إذا الكلام في الوقف وهو لا يباع والله أعلم (1) . هذا ما أورده الغرقاوي في رسالته المذكورة سابقا أوردته على طوله حتى أبين أن مشكلة الخلو ليس متفقا على حكم فيها وخاصة في الوقف لكثرة قيوده في الظروف العاديه وحيث لم تكن هنالك ضرورة عامة مؤقتة، أما إذا وجدت هذه الضرورة العامة المؤقتة جاز وصح وهو ما وجه به الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور - رحمه الله - فتوى ابن سراج وفتوى ابن منظور الأندلسيين وغيرهما، وقد عرضت لذلك سالفا، وما جاء صريحا في فتوى المحقق عبد الرحمن أفندي العمادي مفتي دمشق من الحنفية جوابا لسؤال عن الخلو المتعارف بما حاصله: أنه يجوز ذلك قياسا على بيع الوفا الذي تعارفه المتأخرون احتيالا عن الربا حتى قال في مجموع النوازل: اتفق مشائخنا في هذا الزمان على صحته بيعا لاضطرار الناس إلى ذلك ومن القواعد الكلية: إذا ضاق الأمر اتسع حكمه فيندرج تحتها أمثال ذلك مما دعت إليه الضرورة، وبهذا نأتي إلى تمام هذا البحث والله ولي التوفيق. محي الدين قادي   (1) بتصرف 5/ 6/ 7 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1822 بدل الخلو وتصحيحه إعداد فضيلة الشيخ حجة الإسلام محمد علي تسخيري بسم الله الرحمن الرحيم ما هو بدل الخلو؟ يطلق هذا الاصطلاح على المبلغ المدفوع لقاء فسح المجال لقيام الدافع باستئجار محل ما. ورغم أنه متعارف في المحال التجارية إلا أنه لا يختص بها فقد يتصور وقوعه في غيرها. والدواعي المتصورة هنا متعددة منها: أ - التمتع باستئجار المحل لقاء مبلغ الإجارة القليل. ب - التمتع بالموقع الممتاز للمحل. أنواعه: والمعروف منها نوعان: النوع الأول: أن يقوم المستأجر بتخلية المحل لمستأجر ثان لقاء أخذ بدل الخلو. النوع الثاني: أن يقوم المؤجر نفسه بأخذ مبلغ تحت هذا العنوان لكي يؤجر المحل للمستأجر. الإشكال المطروح هنا والداعي لهذا البحث يتلخص في الأمور التالية: أ - في مالية ما يدفع بدل الخلو لقاءه لئلا تأتي قاعدة (حرمة أكل المال بالباطل) والباطل هنا هو ما لا مالية عرفية له. ب - مدى استحقاق الأخذ (سواء كان المستأجر والمؤجر) . جـ- ما هو موقف الأطراف من هذا العمل؟ مثلا ما هو موقف المالك إذا أخذ المستأجر الأول هذا البدل أو ما هو موقف المستأجر الأول إذا أخذه المالك وأجَّر المحل على مستأجر آخر؟ فهل يمكن تصحيح هذه المعاملة؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1823 أما بالنسبة للنوع الأول فهناك فروض: الفرض الأول: أن يقوم المستأجر الطبيعي وغير المشترط مسبقا لشيء ما بشرط صريح بعد انتهاء مدة إجارته بهذا العمل أي يسلم المحل لمستأجر آخر لقاء (بدل الخلو) . وهذا العمل في الوهلة الأولى واضح البطلان لأنه مع افتراض انتهاء مدة الإجارة لم يبق له أي حق في أي شيء فهو إذن يستلم المبلغ لقاء ماذا؟ هذا أولا ثم هو يتصرف في مال غيره دونما إذن منه وهو محرم. إلا أن هذا العمل يقع بين أهل الحرف والتجارات فما هو الوجه لتصحيحه – إن كان هناك وجه؟ ربما يقال هنا: إن هذا المقدار من التنازل حق من حقوق المستأجر الأول – وهو حق عرفي يعترف به المالك أيضا - ولذا فهو يقدمه على غيره عند انتهاء مدة الإجارة ومن هنا فهو يأخذ هذا البدل لقاء هذا التنازل عن الحق. ولكن هذا المعنى يجب أن نحلله إلى فرضين: فتارة نفترض أن المالك راضٍ بهذا العمل وأنه عازم على تقديم المستأجر الأول لو طلب التمديد فإنه حينئذ يمكننا أن نصحح أخذ البدل لقاء عدم قيامه بمزاحمة المستأجر الثاني وفسح المجال له كي يتم العقد مع المالك ويكون ذلك بنحو (الهبة المعوضة) أو بنحو الجعالة (بناء على أنه يكفي في الجعالة أن لا يعمل شيئا إذا كان عدم العمل أمرا له مالية عند العقلاء) . كما يمكننا أن نفترض حقا عرفيا هنا له مالية يتنازل عنه المستأجر الأول لقاء بدل الخلو هذا دونما حاجة لإجراء الهبة المعوضة أو الجعالة. وربما استدل له برواية عن الإمام الصادق جاء فيها: (عن الرجل يرشو الرشوة على أن يتحول عن منزله فيسكنه غيره قال: لا بأس) (1) . ولكنه قيل في جوابه بأن الرواية واردة في المنازل التي هي مشتركة كالمدارس الوقفية (حيث الوقف لمن سبق) . وعلى أي حال فهو عمل لا غبار عليه. وأخرى: نحاول أن نجبر المالك على القبول بهذه المعاملة والرضوخ للإجارة الثانية وهذا ما لا نجد فيه ابتداء أي ملزم ويأتي فيه إشكال التصرف في مال الغير.   (1) وسائل الشيعة / الباب 82 من أبواب ما يكتسب به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1824 إلا أنه حاول البعض تصحيحه من خلال افتراض كون هذا العرف الجاري مشكلا لشرط ضمني ارتكازي من قبل المستأجر على المالك كي يسمح له في نهاية المدة بالقيام بهذا العمل ذلك أن بناء العرف وخصوصا في هذه الأزمنة قائم على أساس أن المالك لا يخرج المستأجر إلا برضاه ولا يتخلف عن تجديد العقد معه عند انتهاء مدة الإجارة. والشرط الضمني المرتكز كالشرط المصرح به تماما كما لو باع شخص كتابا بثمن فإنه لا يحق للمشتري أخذ الكتاب واحتساب المبلغ دينا بذمته لأن نقدية الثمن شرط ضمني لجريان العرف على التسليم. وقد رفض بعض العلماء هذا النوع من الاستدلال بحجة أن العرف هنا غير ملزم للمالك وإنما هو محبذ لتجديد العقد لا غير وأضاف: (ومن البعيد جدا أن يكون المؤجر حين عقد الإيجار يقصد إنشاء هذا الحق للمستأجر) (1) . بل وحتى لو كان العرف يراه حقا إلزاميا فهو حق تبعي لحصول الإجارة لا يأتي إلا بعد حصولها فلا يمكن أن يكون شرطا ضمنيا فيها، لو قبلنا بهذا لزم أن نحول كل الظروف المماثلة إلى شروط ضمنية فمن المتعارف أن تخدم الزوجة في بيت الزوج ولكن ذلك لا يحول الأمر إلى شرط ضمني في ذلك بحيث تجب عليها الخدمة. ولكننا نستطيع أن نصحح هذا العمل لو افترضنا وضوح العادة العرفية وعموميتها بحيث يتصور المتعاقدان هذا المعنى تماما عند القيام بالعقد ويحسب كل منهما لهذا الحق حسابه. ولا يقاس هذا على موارد كخدمة الزوجة لأن الزواج يتم بكل وضوح على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ووفق الظروف الشرعية التي وضحت الحقوق والواجبات ولا يتجاوز الفهم العرفي مسألة العادة العائلية المنبية على الخدمة الطوعية للزوجة لا غير أما إشكال التبعية في هذا الحق فهو واضح البطلان فصحيح أنه يأتي دوره بعد العقد ولكنه متصور حين العقد بنحو يجعله شرطا. الفرض الثاني: أن تأتي هذه المعاملة في ظل قانون حكومي يفرض على المؤجر أن يجدد العقد تباعا متى ما شاء المستأجر والاشتراط هنا أوضح والتصحيح أسهل.   (1) بحوث فقهية للمرحوم الشيخ حسين الحلي، ص149 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1825 الفرض الثالث: أن يستأجر المحل لعشرين سنة مثلا ويشترط لنفسه الحق في إيجاره من غيره، ولا مانع في هذه الصورة من القيام بأخذ بدل الخلو وتأجير المحل إلى تمام المدة المذكورة وفقا للتخريجات الماضية. الفرض الرابع: أن يستأجر المحل ويشترط في عقد الإجارة أن يوكله في التأجير الثاني، وهذه الوكالة ملزمة لأنها شرط في عقد لازم ولا مانع حينئذ من القيام بهذا العقد الثاني. الفرض الخامس: أن يستأجر المحل بلا دفع (بدل الخلو) لأحد إلا أنه يشترط في عقد الإيجار أنه ليس للمالك إجباره على التخلية وللمستأجر حق البقاء في المحل وتجديد عقد الإجارة سنويا لنفسه فقط وفق مبلغ معين. فإن للمستأجر أن يتنازل عن المحل ويخليه للمستأجر الثاني لقاء (بدل الخلو) على أن يتفق هذا الثاني مع المالك على الإيجار الجديد فهذا البدل إنما يتم لقاء الخلو لا بإزاء انتقال حق التصرف منه إلى المستأجر الثاني. وهكذا وجدنا في هذه الفروض أن المصحح لأخذ بدل الخلو من قبل المستأجر هي حالة ما إذا كان للمستأجر حق البقاء بنحو من الأنحاء (حتى ولو كان ذلك بالأولوية العرفية) فإن له التنازل عن هذا الحق لقاء بدل الخلو. النوع الثاني من أنواع التعامل ببدل الخلو وهو أن يقوم المالك بأخذ هذا البدل ابتداء. فما هو المصحح لأخذ هذا البدل؟ وهل للمالك أن يمنع المستأجر الأول من إيجاره لآخر مع أخذ بدل الخلو منه؟ أما عن المصحح لأخذ هذا البدل، فقد قيل بأن حق الإيجار هو أمر إضافي على نفس منافع المحل ولذلك فيمكنه أن يأخذ في قباله مبلغا معينا يسمى هنا ببدل الخلو ولا نرى مانعا من ذلك. إلا أن البعض لما لم يستطع تصور كون هذا الحق مما يقبل التعويض راح يتصور وجوهًا أخرى. منها: أن المالك يشترط هنا شرطين في عملية الإقراض: الأول: أن يدفع المستأجر مبلغا معينا. الثاني: أنه يشترط على نفسه أن يسلطه على إيجار المحل لمن شاء عند انتهاء مدة الإجارة أو قبلها. ومنها: أن يتصالح الطرفان على أن يدفع المستأجر مبلغا من المال بإزاء عدم مزاحمة المالك للمستأجر في إيجار المحل لمن شاء عند انتهاء المدة أو قبلها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1826 ومنها: أن يجعل بدل الخلو جزءا من مبلغ الإجارة ويقبل بأن تكون مشروطة بأن تتجدد عند انتهائها بمقدار الجزء الآخر أو أنه يمكن أن يقوم المستأجر بتسليمها إلى مستأجر آخر بنفس المقدار من الإجارة وحينئذ يكون له أخذ بدل خلو يتفق عليه مع المستأجر الثاني. ومنها: أن يؤجره المحل بألف مثلا ويشترط في ضمن الإجارة أن يكون المستأجر وكيلا في إيجار المحل لنفسه أو لغيره بذلك المبلغ ووكيلا في توكيل الثالث ويكون بدل الخلو في قبال هذه الوكالة التي تعود لازمة لاشتراطها ضمن عقد لازم. إلا أننا نرى أن نفس إقدام المالك على عقد الإيجار حق له ماليته العرفية التي يمكن أن تقابل بمبلغ ما. يبقى أن المستأجر في قبال ذلك يشترط شروطا تضمن له الاستفادة من هذه الفرصة فهذا أمر آخر (كأن يشترط وفق الصور الماضية) بل وحتى لو لم يشترط شيئا يؤهله لأخذ بدل الخلو بعد ذلك ولم يقبل المالك أي شرط من هذا القبيل ولكن المستأجر يرى أن نفس تأجيره المحل بهذا المبلغ الزهيد رغم موقعه الممتاز وتعهد المالك بإدامة المبلغ وتجديد العقد له بالخصوص على هذا النمط هو مكسب له فإنه يستطيع الإقدام على هذا التعامل. نعم لو لم يكن في العقد أي شرط لصالح المستأجر – حتى بشكل ضمني – فإن العرف يفهم من ذلك أن مبلغ الإجارة يساوي بدل الخلو زائدا المبلغ المسمى للإيجار. أما التساؤل حول ما إذا كان بإمكان المالك أن يمنع المستأجر الأول من إيجاره لآخر مع أخذ بدل الخلو منه فذلك يتبع وجود الاشتراط الصريح أو الضمني وعدمه ولا علاقة له بالمبلغ المدفوع في بدء المعاملة إذا لم يتم الاشتراط. محمد علي التسخيري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1827 المناقشة بسم الله الرحمن الرحيم الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، لدينا في هذه الجلسة بدل الخلو، وبيع الاسم التجاري والترخيص، وكان من المقرر أن يكون فيه عارضان، أحدهما الشيخ محمد الأشقر لكنه تخلف عن الحضور، والشيخ وهبة الزحيلي نرجو أن يتفضل بعرض عن هذا الموضوع. عن بدل الخلو فقط. الشيخ وهبة الزحيلي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وبعد، هذا الموضوع، موضوع بدل الخلو أصبح من الموضوعات المهمة في حياتنا المعاصرة ويتطلب إبداء حكم شرعي فيه بسبب تنازع الناس واختلافهم الشديد حول هذه القضية والناس وإن طغت القوانين الوضعية على أفكارهم لكن ما يزال فيهم أصالة من خير ولله الحمد فكثير منهم يتعففون وينأون عن أخذ بدل الخلو سواء في المحلات التجارية، أو في الدور والعمارات أو في غير ذلك من الأماكن. لهذا لا يجد الناس سبيلا لأن يطمئنوا على حكم هذا الموضوع من الناحية الشرعية إلا اللجوء إلى الإفتاءات الفردية، ولذا أصاب المجمع وأحسن حينما جعل هذا الموضوع أحد الموضوعات التي تدرس في هذه الدورة لما له من أهمية لينضم إلى الفتاوى الفردية الفتوى الجماعية ويرتفع الحرج عن كثير من الناس في هذا الموضوع سواء ممن يقول بالمنع أو يقول بالحل والإباحة أو يتوسط، ويأخذ الأمور بحسب ما تقرره القواعد الشرعية والمبادئ الفقهية. أما تعريف بدل الخلو، فهو مبلغ من المال يدفعه الشخص نظير تنازل المنتفع بعقار عن حقه في الانتفاع به. وهذا الموضوع يتطلب بيان حكمه الشرعي بحث أمور أو حالات ثلاثة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1828 الحالة الأولى: هي أن للمالك المؤجر أن يأخذ من المستأجر مقدارا مقطوعا من المال. بالإضافة إلى الأجرة السنوية أو الشهرية إذا تراضيا على ذلك وهو ما يدفع عادة في بداية عقد الإيجار، يدفع بدل مقدم كبير نسبيا ثم تدفع أجور شهرية أو سنوية دورية. فالحقيقة هذا أمر لا مانع منه ويعتبر هذا المبلغ الذي يدفع أولا مقسطا على سنوات أو شهور أو أيام الإيجار. فأجد أن هذا لا مانع منه شرعا وتكون الأجرة شاملة لما دفع كمبلغ معجل مقطوع أولا. ثم ما يضم إليه من أجور تدفع سنويا أو شهريا أو ما شاكل ذلك. هذه هي الحالة الأولى. أما الحالة الثانية: وهي ما يأخذه المستأجر من بدل الخلو من المالك المؤجر من أجل فسخ عقد الإيجار. الرئيس: ممكن تلخيص الأولى يا شيخ. الشيخ وهبة الزحيلي: تلخيص الأولى: يأتي شخص يريد استئجار محل تجاري وهو ذو موقع استراتيجي مهم فيطلب منه مالك هذا المحل التجاري، يتفق معه على إيجار سنوي مثلا عشرين ألف ريال في السنة ثم يقول له أو يتفق معه، لكن على أن تدفع فروغ أو بدل خلو مثلا مائة ألف ريال الآن، فهنا يصبح ما يأخذه المالك من مستأجر هذا المحل التجاري أجرة سنوية دورية كل عام والمبلغ المقطوع الذي يدفعه المستأجر قبل أن يتسلم هذا المحل التجاري، فرأيت أن هذا المبلغ المدفوع رضي به المستأجر مع المالك ويعتبر أجزاء هذا المبلغ المدفوع مقسطة على مدة الإيجار طوال السنوات المتفق عليها ولا مانع من أن تدفع الأجرة كلها معجلة أو مقسطة أو مؤجلة بحسب الاتفاق والتراضي الذي يحدث بينهم. هذه هي الحالة الأولى. أما الحالة الثانية وهي كثيرا ما تحدث، يريد مالك منزل أن يخرج المستأجر من هذا المنزل أو المحل التجاري فيطلب منه تسليمه المكان فيأبى المستأجر من تفريغ هذا المكان إلا إذا دفع له مالك هذا العقار المأجور مبلغا من المال. تكييف هذا الموضوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1829 هو أن يأخذه المستأجر بحسب القواعد الفقهية يكون في نظير فسخ عقد الإيجار. وحينئذ أردت أن أبين هذا الموضوع في ضوء ما يقرره فقهاؤنا من أنه هل يجوز أن يأخذ الإنسان عوضا آخر مخالفا للعوض الأصلي الذي تم الاتفاق عليه بسبب إقالة العقد وفسخه أو أنه لا تصح الإقالة إلا بنفس العوض السابق ولا يجوز أن يأخذ عنه زيادة مما دفع. الحقيقة الفقهاء في هذا الموضوع اتجهوا اتجاهين: الاتجاه الأول رأي الجمهور غير المالكية والإمام أبي يوسف أن هذا الذي يأخذه المستأجر يعتبر كسبا حراما غير مباح شرعا لأن إقالة عقود المعاوضات المالية أو فسخها كالبيع والإيجار لا يجوز إلا بنفس العوض الذي تم التعاقد عليه في رأي الإمام أبي حنيفة الذي يجعل الإقالة فسخا في حق العاقدين وبيعا جديدا في حق شخص ثالث غيرهما. فبناء على هذا الرأي لا يصح أن يأخذ المستأجر من المال شيئا لأن الإقالة يجب أن تتم بنفس العوض السابق وهذا رأي أبي حنيفة يوافقه عليه أيضا زفر الذي يجعل الإقالة فسخا في حق الناس كافة وليس في حق العاقدين فقط كما ارتأى أبو حنيفة فلذلك أيضا لا يجوز أخذ هذا العوض. وكذلك أيضا الشافعية والحنابلة الذين قرروا بطلان الإقالة في هذه الحالات إذا طلب عوض زائد عن الثمن الأصلي وبسبب هذا الشرط الفاسد وهو أنه قال له بعتك الشيء مثلا ثم أقاله على أن يدفع له أزيد - يدفع أي المشتري إلى البائع - أزيد من الثمن الذي دفعه أولا فهذا أيضا عند الشافعية والحنابلة والحنفية كما بينا ما عدا أبا يوسف كل ذلك لا يجوز أخذ زيادة عليه مقابل الفسخ عملا بالحديث النبوي الإقالة نوعا من التعاون ((من أقال نادما أقال الله عثرته يوم القيامة)) فلذلك لا يعتبر نوعا من الإرفاق والتعاون ورفع هذا الندم الذي حل بالمشتري. فلذلك يجب أن يكون عملا من أعمال المعروف ولا يأخذ زيادة عما دفعه المشتري سابقا. أما الإمام مالك فيرى أن الإقالة بيع جديد، وإذا كانت بيعا جديدا فيجوز فيها الزيادة أو النقصان. وهو أيضا قول أبي يوسف الذي يجعل الإقالة بيعا جديدا في حق العاقدين وغيرهما، إلا أن يتعذر جعلها بيعا، فتجعل فسخا. بناء على هذا الرأي الثاني يصح للمالك المؤجر دفع زيادة عن الأجرة المقبوضة إلى المستأجر الذي دفعها، نظير فسخ الإجارة وتسليم المأجور من المستأجر إلى مالكه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1830 أما إذا وهب المؤجر باختياره ورضاه بعد انتهاء الإجارة من المال للمستأجر يسميه الناس الآن (مقابل الخلو) لأجل إخراج المستأجر من المأجور، فهو أمر جائز باتفاق العلماء، لأن الهبة تبرع، وقد تم الدفع بالتراضي. يعني لا ندخل هذا تحت المشارطات وتحت المفاوضات وإنما أراد أن يكرم هذا المالك ذلك المستأجر عندما سلمه هذا العقار المأجور وربما كان في بعض البلاد لا تسمح أكثر البلاد الآن إلا ما عدا الحمد لله البلاد المحظية بتطبيق الشريعة الإسلامية إلى حد كبير في ديارها هناك قوانين تحمي المستأجرين وهي تكاد تُمَلِّك المستأجر هذا العقار فييأس الملاك من استرداد عقاراتهم والناس يصرون على أن يأخذوا بدل الخلو، وكان هذا المستأجر متعففا متدينا وَرِعًا ثم أراد المالك أن يكرمه فقدم له شيئا من المال هبة وتطوعا ودون مفاوضات ولا مشارطات ففي الحقيقة هذا داخل في التبرع، والتبرع لا نزاع في جوازه. هذه الحالة الثانية. أما الحالة الثالثة وهي الحالة الغالبة والتي تثير النزاع: ويقع الخلاف فيها بين الناس في الوقت الحاضر وهي ما يأخذه المستأجر من بدل الخلو من شخص آخر غير المالك المؤجر، ليتنازل عن اختصاصه بمنفعة العقار، ليحل محله ذلك الشخص الجديد في الانتفاع في العقار. هذه الحالة جائزة أيضا بشرط أن يكون التنازل من المستأجر إلى مستأجر آخر ضمن مدة عقد الإجارة. فإذا كانت المدة سنة، أمضى المستأجر في العقار ستة أشهر منها مثلا، جاز له التنازل لشخص آخر للانتفاع بالمأجور بقية المدة المتفق عليها بين المالك والمستأجر. وإذا كانت مثلا الإيجارة سنوية دون تحديد مدة قصوى، وهذا ما أجازه الفقهاء غير الشافعية - مسانأة أو معاومة أو مشاهرة - يعني العقد يتجدد تلقائيا كل سنة أو شهر. وهذا ما يحدث الآن في كثير من البلاد من عقود الإيجارات. فهذا أيضا العقد جائز وحينئذ تكون المدة غير محددة لا يحدد أقصاها. فحينئذ يستطيع المستأجر أن يتنازل عن العقار الذي يشغله إلى شخص آخر، وهذا ما يعرف في القوانين بالتأجير من الباطن. وفقهاؤنا قالوا إن المستأجر يتملك المنفعة وحقه خلاف ما يقرره القانونيون أن حق المستأجر حق شخصي وفقهاؤنا قرروا أن حق المستأجر حق عيني وبالتالي يستطيع أن يستوفي المنفعة بنفسه أو بغيره ويجوز له أن يتنازل عن هذه المنفعة إلى الغير إما بعوض أو بغير عوض. فكل ذلك جائز ما دام ضمن مدة الإيجار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1831 ويؤيد هذا أن فقهاء الحنفية أفتوا صراحة بجواز النزول عن الوظائف بمال كالإمامة والخطابة والأذان ونحوها، استنادا إلى الضرورة وتعارف الناس، وبالقياس على ترك المرأة قسمها لضرتها لصاحبتها للزوجة الأخرى لأن كلا منهما مجرد إسقاط للحق، وقياسا على أنه يجوز لمتولي الأوقاف عزل نفسه عند القاضي ومن العزل الفراغ عن وظيفة النظر أو غيره وقد جرى العرف بالفراغ بعوض. فهذا دليل على الجواز أيضا: التنازل عن الاختصاصات مقابل عوض جائز كما صرح الحنفية. كذلك استدل بعض العلماء على جواز مسألة (النزول عن الوظائف بمال) بما صنعه سيدنا الحسن رضي الله عنه - سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم - من تنازله عن الخلافة وقبوله الراتب. ولكن ربما نوقش هذا الكلام بأن ما كان يأخذه السيد الإمام رضي الله عنه، لم يكن عوضا عن التنازل عن أمر الخلافة فحسب، لأن الخلفاء قد تعودوا منح الوظائف والرواتب غيره كثيرا من الصحابة والتابعين، فلم يكن راتب سيدنا الحسن عوضا عن تنازله عن الخلافة. يعني الحقيقة الاستدلال بهذه الواقعة التي استدل بها بعض الفقهاء غير سديد. ولكن أردت أن أذكر ذلك وإن كنت مقتنعا بالرد الذي رد به عليهم من أجل الإحاطة بالموضوع. أيضا الشافعية صرحوا أثناء كلامهم في كتاب (واضح بجرم الخطيب) في الصفحة الثانية في عقد البيع على أنه يجوز التنازل عن الاختصاص بعوض أو بغير عوض. والاختصاصات كل المنافع التي تكون تحت تصرف الإنسان كما قال الحنفية من إمامة وخطابة وغير ذلك أجازوا التنازل عنها بعوض. إلا أن ذلك كما قلت مقيد شرعا - حال تنازل المستأجر عن منفعة المأجور- بمدة الإيجار المتفق عليها. فإن تنازل المستأجر لغيره بعوض بعد انتهاء مدة الإيجار، فلا يجوز ذلك شرعا إلا برضا المالك، وإبرام عقد إجارة جديد. لأن العقد يجب أن يحترم وإنما البيع عن تراض وكل العقود يجب أن يتم فيها التراضي خلافا لما نجد من عقود قهرية وبالإكراه وبالقسر. عقود إجارات كثيرة في كثير من البلدان التراضي فيها غير متوفر إلا بحماية القوانين الجائرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1832 وكذلك المالكية أيضا كالشافعية، وجدت في رسالة أطلعني عليها المرحوم زين العابدين خضر حسين شقيق شيخ الأزهر السابق الذي كان مقيما في دمشق بالميدان، أطلعني على رسالة لمتأخرين من علماء المالكية بعنوان (جملة تقارير وفتاوى في الخلوات والإنزالات عند التونسيين) طبعا إخوتنا التونسيون يعرفون هذه الرسالة معرفة تامة لمفتي المالكية إبراهيم الرياحي بتونس والشيخ محمد بيرم التونسي إلى آخره كلهم جاء في هذه الرسالة ما يدل على تجويز المعاوضة عن الخلوات عملا بالعرف والعادة ولأن المستأجر يملك المنفعة فله أن يتنازل عنها بعوض كالإجارة وتعتبر عوض كالإعارة. وأيضا نقل البناني عن البرزلي في النزول عن الوظيفة ما يقتضي جوازه، ونقل فتوى الفاسيين بجواز بيع الخلو وقال الشيخ محمد بيرم: وما أشبه الخلو بالمغارسة غير أن الخلو لا تحمل به ملكية الرقبة لتعلقه بالمنفعة. أما الحنابلة: فلم يجيزوا أخذ العوض على الاختصاصات، لأن محل حق الاختصاص الانتفاع فقط، ولا يملك أحد مزاحمة مستحقه، لكن الاختصاص يجري فيما هو محرم شرعا كعصير العنب المتخمر عند المسلم، ويجري في بعض المباحات كتحجير الأرض الموات، أما المملوكات الجارية في الأعيان والمنافع فيجوز التنازل عنها بعوض. والخلاصة: أن بدل الخلو جائز شرعا إذا كان ضمن مدة الإيجار مع المالك المؤجر وأما بعد انتهاء المدة فلا يجوز التنازل عن المنفعة، ولا أخذ البدل عنها إلا برضا مالك العقار، بإبرام عقد آخر مع المستأجر الجديد، وإلا كان أخذ البدل سحتا حراما، والمتنازل غاصبا، وآكلا أموال الناس بالباطل، وكذلك يكون المتنازل معتديا على حقوق الآخرين. والسلام عليكم ورحمة الله. الشيخ محمد أحمد جمال: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: في البداية لا بد من توضيح أن ظاهرة الخلو بحثها الفقهاء الأقدمون على سبب أو على ظاهرة غير الظاهرة التي تعاني منها بعض البلاد العربية ولذلك أجازها بعض الفقهاء القدامى أجاز أخذ الخلو، ومنعه البعض. واستندوا إلى قياس الصداق المؤجل والصداق المعجل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1833 ولكن ظاهرة الخلو أو بدل الخلو في عهدنا الحاضر ظاهرة غير الظاهرة التي كانت أو التي اعتمد عليها أو أسس عليها الفقهاء القدامى لذلك أباحوا أن يؤخذ الخلو باعتباره مؤجلا أو على أساس البيع بالتقسيط. اعتبروا الخلو جزءا من الإيجار ثم يدفع المستأجر الأجر الشهري أو السنوي أقل من أجرته الحقيقية: على هذين الأساسين فيما علمت أو فيما درست بنى الفقهاء القدامى جواز أخذ الخلو. لكن نحن هنا نعاني في عصرنا الحاضر في بعض البلاد العربية من الخلو معاناة غير المعاناة التي كانوا يعانون منها. السبب في ذلك أن بعض البلاد العربية أخذت ببعض القوانين الغربية فجمدت الإيجارات أو أجور العقار. البلاد الغربية نفذت هذا المبدأ أو هذا القانون تنفيذا مؤقتا ثم عادت عنه لكن بعض البلاد العربية تمسكت بهذا القانون وهو تجميد الأجور، سبب تجميد أجور العقار في هذه البلاد العربية ظلما للملاك. استمرت الأجور مثلا خمسين عاما في بلد عربي معروف كما هي بينما ارتفعت أسعار الأغذية والأكسية والأطعمة، الملاك تظلموا من هذا التجميد ومن هذا الظلم القانوني في بلادهم حتى أحدث ظاهرة أخرى الآن في هذه البلاد العربية وهي أن الملاك الجدد أصبحوا يملكون عماراتهم للتمليك لا للتأجير فأحدث أزمة سكن في هذه البلاد العربية نتيجة لظلم القانون، ظلم قانون الدولة التي فرضت تجميد أجور العقار. إذا اضطر الملاك أن يفرضوا نتيجة لما يقاسونه من ظلم وعنت خلوا لأنهم يعلمون يقينا أن هذا المستأجر لن يخرج من أملاكهم ولن يزيد في أجورها سنويا أو بعد عدة سنوات. فالسبب هنا غير السبب الذي أسس عليه الفقهاء القدامى جواز أخذ الخلو باعتباره كبيع التقسيط أو كالمهر المؤجل والمعجل. هناك كان فيه شبه تعاون أو تخفيف بين المالك والمستأجر في أن يدفع خلوا مبلغا ما، ثم يقسط الأجرة شهريا أو سنويا بأقل من الأجرة المعتبرة أو كمقدمة صداق ومؤخرة صداق. فهنا ينبغي للمجمع الموقر أن ينظر إلى أسباب الخلو الآن، وما يعانيه الملاك بسبب تجميد أجور عقارهم وما أحدث ذلك من في عقار ولجوء الملاك إلى تمليك العقار لا إلى تأجيره، فيكون وضع الإباحة أو الجواز أو المنع على هذا الأساس على أساس ما جاء في الأبحاث المقدمة من استنادات شرعية سابقة لا تتفق مع ظروف الخلو في الوقت الحاضر. الرئيس: شكرا. في الواقع إن ما ذكره الشيخ أحمد مهم جدا حتى يحدد ويحسم البحث الذي نريده وهو أن السبب في إحالة بدل الخلو إلى المجمع ليس هو قضايا التحكير والصبرة وما جرى مجراها، وإنما هو قضية القانون أو مواد القانون التي فرضت على المالك ألا يخرج المستأجر من ملكه، وأن يكون بنفس الأجرة التي تم عليها العقد حتى ولو فرض أن العقار زاد أضعافا مضاعفة إلى ما شاء الله من الأضعاف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1834 ولهذا فقد ترون مناسبا أن تكون المداولات والنقاش في ضوء ما نتج عن هذا السبب سواء أريد في حالاته الثلاثة التي تفضل بها الشيخ وهبة من المالك إلى المستأجر، أو من المستأجر للمالك أو بين المستأجر الأصلي مستأجر آخر. وبهذا يكون الموضوع متوحدا في هذه القناة وبه يحسن أن يبحث الأصل وهو قضية صدور هذه المادة. هل هي شرعية أو لا؟ فإذا كانت غير شرعية فهل أخذ المستأجر المالك ضمانة أمام هذا القانون الذي لا حيلة له في التصرف فيه أن يأخذ بدل خلو من المستأجر في مدى شرعية هذا؟ ثم المستأجر مع المالك إذا امتنع من الإخلاء إلا ببدل. ثم المستأجر الأصلي مع مستأجر آخر إذا أخذ يضارب أو يؤجر غير ما هو يملك وفيما هو خارج عن مدة الإجارة. وأرجو أن تروا مناسبا أن تكون المداولة في هذه الحدود حتى يمكن لنا أن تكون مجدية وأن ننطلق من الواقع الأعم الأغلب وإن كانت قضايا التحكير والصبرة لا تزال قائمة لكن ليس لها من الشمول والعموم وقوة القانون مثل ما لمسألة عدم تمكين المالك من إخراج مستأجر أو زيادة الأجرة. الدكتور رفيق يونس المصري: بسم الله الرحمن الرحيم، في الحقيقة هذه الكلمات التي تفضلتم بها جميعا كلمات مفيدة وتساعدنا في الوصول إلى الغاية. أنا كنت أود من خلال اطلاع سريع على الأوراق التي قدمت ومن خلال ما سمعت الآن يجري أن الحديث في بدل الخلو حول حكمته، مقصده، نشأته أسبابه تكييفه الشرعي الفقهي، التمييز الذي ذكره الأستاذ أحمد جمال بين أسباب نشأته في الماضي وأسباب نشأته في الحاضر ما معنى الخلو عند القدامى؟ ولكن أريد أن أختصر الآن لأصل إلى نقطة. إذا كان بدل الخلو في ضوء القوانين الحديثة – القوانين الوضعية - هو يعتبر بمثابة تعجيل الأجرة إلا أن الدكتور الزحيلي لم يتكلم عن نقاط أخرى طبعا قد لا تتسع لها الورقة. ختم عرضه بجملة فهمت منها أن عقد الإجارة إذا انتهى فلا يستطيع المستأجر أن يطالب المالك يعني إذا آل المأجور إلى المالك لا يستطيع أن يطالبه ببدل الخلو وقد استشكلت هذا للسبب التالي. لنفرض مثلا أنني دفعت عند عقد الإيجار بدل خلو قدرت أن هذا يعدل أجرة خمس سنوات مقدما ثم لسبب طارئ انتهت الإجارة بعد سنتين فكيف لا يجوز لي أن أطالب المالك بحصة من هذا المبلغ المدفوع مقدما والذي اعتبرناه إجارة؟ وشكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1835 الدكتور أنس مصطفى الزرقاء: بسم الله الرحمن الرحيم. . يبدو لي من بين الدراسات المقدمة دراسة من قبل الدكتور محمد الأشقر وجدت أنني كاقتصادي أوافق تقريبا على كل ما أتى فيها من تقسيمات وما انتهى إليه فيها من نتائج وأرى أن البند الرابع من الخلاصة في بحث الدكتور الأشقر وهي في الصفحة عشرين تلخص الموضوع بطريقة يمكن إصدار قرار بها. فلا أقرأها الآن فهي موجودة بين أيديكم. إنما أولا أؤكد تماما ما ذكره الأستاذ أحمد جمال من ملاحظات مهمة جدا وذات علاقة بالموضوع وألاحظ أن بحث الدكتور الأشقر والذي أؤيد النتيجة التي انتهى إليها في البند 4 من خلاصته لم تتعرض لحالة كثيرة الوقوع في ظل القوانين المعاصرة التي تقيد الإجارة على خلاف الأصل الشرعي وهي الحالة التالية: (في ظل قانون مخالف للأصل الشرعي ويقيد الإجارة إما سعرا أو يقيدها من حيث المدة فيلزم المالك لا يستطيع إخراج المستأجر مهما طال العقد ولا يغير الأجرة. في ظل مثل هذا الوضع لو أتى إنسان ودفع بدل خلو للمالك نفترض عمارة جديدة واستأجرها ملحوظ في بدل الخلو في ظل نظام من هذا النوع هو نظام جائر ولكن في ظل هذا النظام الجائر دفع بدل الخلو والمالك يعلم أن هذا يعني أن المستأجر أن يبقى في هذا البيت إلى ما شاء الله. فالآن في مثل هذه الحالة لو بعد حين من الزمن أراد هذا المستأجر أن ينتقل إلى مكان آخر، أليس من حقه أن يأخذ بدل الخلو، بدل الخلو الذي يرضى به سواء كان من المالك، أو من مستأجر لاحق، ما دام دفع الخلو الأصلي جرى في ظل قانون جائر ولاحظ فيه الطرفان أن دخول المستأجر إلى هذا المنزل يعني حقه قانونا في البقاء فيه إلى المدى الذي يشاء) . ففي ظل هذه الحالة الخاصة التي لم أر أن بحث الدكتور الأشقر تعرض إليها كما أني ما سمعته من كلام فضيلة الدكتور الزحيلي أيضا لم يتعرض إليها. ألا يحق لنا هنا أن نقول في هذه الحالة الخاصة إن للمستأجر حق أخذ الخلو في هذه الحالة؟ والسلام عليكم. الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي: بسم الله الرحمن الرحيم.. يبدو أننا لا بد أن نلجأ بين الحين والآخر إلى مسألة تحديد محل بحث أو تحرير محل نزاع. فهذا سيبلور الأمر وسيزيد الموضوع جلاء. أولا: ما سمعته في التلخيص الجيد لبحث زميلنا وأخينا الأستاذ الدكتور وهبة. النقطة الأولى أظن أنها خارجة عن محل البحث. عندما نتكلم عن إقالة العقد أو فسخ العقد مقابل مال فعلا هذا شيء مبحوث في كتب الفقه ومحل خلاف ولكن ليست هذه هي المشكلة المطروحة. الرئيس: هذه هي الحالة الثانية يا شيخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1836 الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي: نعم الثانية. المشكلة المطروحة أن عقد الإيجار ينتهي، عقد الإيجار إما مشاهرة أو عقد سنوي. في نهاية العام انتهى العقد آليا ومع ذلك فإن المالك يدفع الخلو في سبيل إخراج المستأجر. إذن هذه الصورة لا تنطبق على ما قاله الفقهاء من المراوضة أو المحاورة في سبيل إقالة عقد أو في سبيل فسخ عقد. هذا لا علاقة لنا به إطلاقا. الموضوع الآخر، تنازل المستأجر عن المنفعة التي يملكها أثناء امتلاكه لها، أي أثناء جريان العقد. أيضا هذا ذكره كثير من الفقهاء ومنهم كثير من متأخري الحنفية. هذا الإنسان يملك حقا وثم فهل يملك أن يتنازل عن هذا الحق مقابل بدل أم لا؟ شيء مبحوث، إلا أن بحثا ليس جاريا في هذا الموضوع قط. مدة الإيجار تنتهي وتطوى المنفعة وتفرغ يده من الانتفاع بها ومع ذلك فهو يطالب المالك أو يطالب المستأجر الآخر ببدل. إذن هذا أيضا لا علاقة له بما ذكره الفقهاء. إذن نحن أمام الحالة التالية: عقد الإيجار انتهى ولم يعد للمستأجر حق في المنفعة أو الانتفاع ومع ذلك فهو يطالب المالك أو يطالب المستأجر الآخر ببدل. هذا البدل ما هو غطاؤه الشرعي؟ هذا هو المبحوث عنه. الغطاء الوحيد هو ما أشار إليه الأستاذ أحمد. إننا أمام وضع جائر، أمام قانون ألجأ المستأجر في بعض الأحيان والمالك في بعض الأحيان إلى أن يقتص لنفسه من بريء وأن يطالب لحق من إنسان ليس هو المُفْتَئِت عليه في هذه الحالة. إذا تصورنا الأمر بهذا الشكل فأعتقد أنني سأقول: إن هذا البدل بدل غير سائغ ولا وجه له. أما ما ذكره الأستاذ الدكتور أنس من أن هذا الخلو بما أنه جاء نتيجة قانون جائر فإن من حق من أصبح ضحية لهذا القانون أن ينتصف لنفسه إما من مستأجر قادم أو من المالك الذي أجر. هذا الكلام لا مسوغ له لأن ما جر إليه الباطل فهو باطل، ولأن هذا الكلام يفتح ثغرة كبرى وهو يتنافى مع مبدأ سد الذرائع. خير من معالجة هذا الوضع الذي جاء ثمرة لقانون غير سوي، خيرا من هذا أن نعود إلى القانون أصله فنعالجه ونعيده إلى وضعه الطبيعي والسوي. إذن فممكن لموضوع إقالة العقد، أو فسخ العقد أن نسير مع الرأي القائل ندفع المال في سبيل إقالة العقد. هنالك من قال ذلك ولا حرج. ممكن أيضا أثناء جريان عقد الإيجار أن آخذ مالا مقابل المنفعة التي أعطيتها لشخص آخر ليستفيد منها، لا ضير، ولكن عندما ينتهي عقد الإيجار وقبل أن يبتدئ العام الآخر، نعم لا أستطيع أن أكيف هذا الأمر بشكل شرعي. ولكم الشكر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1837 الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. إن قضية بدل الخلو ليست وليدة قانون جاء، ولكنها قضية نشأت منذ قرون في العالم الإسلامي وقد نص فقهاء مصر على أن كثيرا من الدكاكين كان خلوها حبسا وكان ملكها لشخص آخر. الخلو حق الانتفاع بمقابل في الدكان أو في الحانوت هو للمصالح العامة على مسجد والمالك الذي يأخذ الإيجار هو شخص أو عائلة أو ولد. وهذا نشا من عهود قديمة ثم في عهد السلطان الغوري كما نعلم لما بنى الدكاكين التي بناها اشترط على كل من يكتري منه دكانا أن يدفع له قيمة جملية تعطيه حق البقاء في ذلك المحل ووقع في كثير من بلدان العالم الإسلامي أنه جرى العرف والعادة أن من يكتري محلا لا يخرج منه، وعلى هذا خرج كثير من الفقهاء قضية الخلو هذا باعتبار أن ما كان موجودا بالعرف وقت العقد، فمعنى ذلك أن المتعاقدين قد دخلا عليه. حينئذ لا بد أن نفرق بين الإجارة حسب ما قررها الفقهاء في العهود الأولى. فالإجارة إما أن تكون لمدة معينة تنتهي بانتهائها أو تكون وجيبة تتكرر كلما تكررت المدة إلى أن يفسخ أحد الطرفين في نهاية المدة أو ينبه على الآخر بفسخ العقد هذا أمر جرى عليه المسلمون قرونا. ثم حدث وهذا أمر جديد، حدث على الأنحاء التالية: أولا: أن يطلب المالك من المستأجر - ممن يستأجر المحل - أن يدفع له مقابلا من الأول صبرة زيادة على قيمة الإيجار. هذه واحدة. الأمر الثاني: هو أن لا يدفع إليه شيئا ولكن العرف الجاري هو الذي مكن المستأجر من البقاء في المحل وعلى هذا وقع. فإذا ما أراد أن يتنازل عن هذا الحق. أله حق في أن يأخذ مقابلا؟ ها هنا جاءت فتاوى العلماء قديما ليس بعد هذا قانون على جواز ذلك. فالقضية يجب ألا ننظر إليها على أنها وضع جديد ولكن على أنها وضع قديم وقد وجد هذا في الأبحاث التي بين أيدينا مطولا ومتتابعا وتكلم من أول ما تكلم به ينسب فيه إلى المالكية ولكن تكلم فيه المالكية وتكلم فيه الحنفية وتكلم فيه غيرهم. والقضية هي قضية العرف ومقدار تأثير العرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1838 الشيخ محمد على التسخيري: شكرا سيدي الرئيس: أنا أعتقد أن النقطة الأساسية هنا أن بدل الخلو يعطى في قبال التنازل عن حق، وهذا الحق إما أن يأتي من بقاء مدة مقررة في العقد ويتنازل المستأجر عن ذلك مثلا، أو من شرط اشترط في العقد وهو يستفيد من هذا الشرط، أو حتى من مجرد الإقدام على الإيجار من قبل المالك فله الحق ألا يقدم أو حتى من عدم الاستفادة من حق الأولوية إذا منح هذا الحق المالك للمستأجر وأراد المستأجر أن يستفيد من حق الأولوية هذه في الاستمرار في الإيجار. والشرط الذي أشرت إليه قد يكون صريحا، وقد يكون ضمنيا. الشرط الضمني قد يكون في إطار قوانين حكومية تمنع من إخراج المستأجر هذه القوانين تضيف شرطا يتراضى عليه المتعاقدان عند الاستئجار ويخول المستأجر مثلا أن يأخذ بدل الخلو عند انتهاء مدة الإجارة. وقد يكون هذا الشرط شرطا متعارفا تعارفا عرفيا يشكل ارتكازا، هذا الارتكاز يجعل الشرط كأنه شرط صريح في العقد وحينئذ يستطيع المستأجر أن يستفيد من هذا الحق المشترط عرفه. أشير هنا إلى بعض الملاحظات بشكل سريع، هناك مسألة حق الولاية التي أشار إليها الأستاذ وهبة. ما نعتقده أن حق الولاية، ولاية الأمر لا يمكن التنازل عنها مطلقا ولا يقبل الإسقاط. الملاحظة الثانية: ملاحظة الأستاذ أحمد في مسألة تجميد الأجور أعتقد أن مسألة قوانين تجميد الأجور أو الإيجارات، هذه القوانين بالعنوان الأول وبطبيعة الحال غير جائزة ولكن إن رأى ولي الأمر الشرعي أن هناك أزمة اجتماعية ضخمة سوف تحدث إن لم يظل مثل هذا القانون فإنه يستطيع أن يستفيد من حق تدخل ولي الأمر في المنطقة المباحة والإلزام ببعض الأمور وبعض الشروط ويصدر مثل هذا القانون للحفاظ على أصل النظام وهو الأهم. طبعا إذا كان القانون جائرا أو صادرا من ولي غير شرعي، ففي هذه الحالة إن استطاع هذا القانون أن يؤثر شرطا في العقود فله أثره وإلا لا قيمة له. وشكرا. الشيخ أحمد بن حمد الخليلي: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه. في الحقيقة يجب علينا أن نلاحظ أمورا منها أن الأصل في مال الغير عدم جواز أخذه إلا بوجه شرعي. {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . فالتراضي على كل حال أمر مشترط والتراضي يعني ألا يكون هناك إكراه من قانون جائر أو حاجة ملحة بحيث يجب التعاون مع المحتاج إزاءها ويمكن بسبب هذا التعاون أن يتوصل هذا المحتاج إلى ما يحتاج إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1839 فبدل الخلو إنما يبحث الآن في ضوء الأوضاع الحاضرة والأوضاع الحاضرة كما تعلمون في كثير من بلاد الإسلام تسلطت عليها قوانين غير شرعية، غير جائزة في الفقه الإسلامي فمن هذه الناحية وحسب ما سمعنا من الأستاذ أحمد جمال وحسب ما سمعنا من الشيخ وهبة في تقسيمه حق الخلو إلى ثلاثة أقسام. ينبغي أن ننظر في هذه الأقسام الثلاثة كما تفضل معالي رئيس الجلسة. وحسب رأي الخلو الذي يأخذه صاحب العقار إن كان صاحب العقار اتفق من أول الأمر مع أحد على إيجار معين لمدة معينة بعض هذا الإيجار مقدم وبعض هذا الإيجار مقسط فالإيجار المقدم حكمه كحكم الإيجار المقسط من حيث استحقاقه له، لكن مع مراعاة مضي المدة، أي مع مراعاة إبقاء ذلك العقار في يد مستأجره إلى أن تمضي المدة فإذا أراد المستأجر أن يتخلى عن ذلك الإيجار مع أن هذا الإيجار مقدم كان إيجارا له قسط كبير فينبغي أن يرد إليه بالمحاصَّة مقدار ما تبقى من المدة التي اتفق عليها الجانبان. أما إذا كان هذا الإيجار يأخذه هذا المستأجر من شخص آخر يريد أن يستأجر منه هذا العقار في المدة المتفق عليها من أول الأمر بين الجانبين في المدة الشرعية التي يقرها الشرع بين الجانب المؤجر والجانب المستأجر ويأتي مستأجر آخر. هنا لا أجد مانعا منه، أما في ضوء القوانين غير الشرعية، في الأوضاع الحاضرة بحيث لا يمكن لصاحب الملك أن يتوصل إلى الانتفاع بملكه ما دام هنالك عقد بينه وبين غيره، هذا العقد ولو كان لملك غير محدد لمدة معينة يبقى ساريا إلى ما نهاية له. فهنا أخذ المستأجر لهذا الخلو في مثل هذه الحالة يجب أن ينظر فيه لأن الوعيد في الأموال وعيد شديد. هذا الذي أردت أن أقوله لكم وتفضلوا بالنظر. الشيخ إبراهيم فاضل الدبو: بسم الله الرحمن الرحيم، سيادة الرئيس الذي وددت أن أقوله هو ما ذكرته في بحثي المقدم أمام حضراتكم باختصار هو أن المبلغ الذي يأخذه المؤجر سلفا والذي أجازه فضيلة أستاذنا وهبة الزحيلي هل هو جزء من الأجرة أو هو خارج عن الأجرة؟ فإذا كان جزءا من الأجرة يدفعه المستأجر للمؤجر على شكل أقساط أو ما أشبه ذلك فلا باس في هذه الحالة على ما أرى. ولكن إن كان ما يأخذه بدلا عن الخلو فأقول: إن المؤجر هو المالك وهو صاحب الحق فإن كان مقابل تنازله عن حقه فقد تنازل عنه بالأجرة التي هي بدل الإيجار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1840 لهذا لا أرى مسوغا للمؤجر أن يأخذ شيئا إلا إذا اعتبره جزءا من الأجرة. هذا بالنسبة للحالة الأولى. الحالة الثانية: حق استئجار المنفعة من قبل المستأجر خلال المدة أمر جائز ولا أرى بأسا في ذلك كما قرره معظم فقهاء المسلمين رحمهم الله تعالى. أما الحالة الثالثة التي ذكرها الأستاذ الفاضل الزحيلي بعد انتهاء العقد. فالذي أقوله هنا إذا انتهى العقد بأي حق يجوز للمستأجر أن يتمتع بهذا العقار؟ انتهت مدة عقد الإجارة بأي حق يجوز للمستأجر أن يتمتع بهذا العقار؟ فلا أرى له مسوغا شرعيا أن يطالب ببدل خلو من المؤجر أو لا أرى له من مسوغ شرعي أن يتنازل عن حقه بعد انتهاء فترة العقد إلى رجل أجنبي ثالث لقاء مبلغ من المال. هذا ما وددت بيانه وشكرا لكم. الرئيس: شكرا. نكتفي بهذا القدر من المناقشات وترفع الجلسة وتكون العودة إن شاء الله تعالى في الساعة الخامسة مساء وبالله التوفيق.. الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، نستأنف الجلسة بإعطاء المناقشة للشيخ خليل الشيخ خليل محيي الدين الميس: بسم الله الرحمن الرحيم. الكلام في موضوع بدل الخلو في الحقيقة لا بد له من مقدمة وسؤال. لماذا جميع الأنظمة تراعي زيادة الراتب مع هبوط العملة ولم يراع أحد زيادة الأجرة مع هبوط العملة؟ هذا أمر. إذن الذي جعل كل دولة أو كل رب عمل يزيد في الأجر مع اتفاقه سلفا على أجرة معينة وإذا به يزيد في الأجر شعورا منه بإنصاف هذا المستأجر وهل هناك فرق بين العين المستأجر وما بين الإجارة التي ترد على منفعة الأشياء؟ أمر آخر، إن الأنظمة غالبا ما نراها تتوسل إلى العامة على حساب الخاصة. مثلا إن الأنظمة تتوسل إلى العمال، أو ما يسمى بالشعب فتضغط على أرباب الأعمال لصالح الشعب. ولماذا هذه القيود على الملكية؟ قيدت الملكية لأن أغلب قوانين الدول معاصرة أنها تورد قيودا على المالك بينما لا تورد قيودا على المستأجر، لنضرب لذلك مثلا. إن الإجارة في بلادنا - ولا أدري في المملكة كيف شأنها - الإجارة صارت عقدا ملزما تنتهي المدة وتبقي الإجارة بنفس الأجر السابق وهذا أمر لا شك أنه مخالف للشريعة الإسلامية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1841 فإذا كنا نراعي حال المستأجر فلماذا لا نراعي حال المالك؟ وهذه الخلوات وإن كان فيها الظلم، لكن الظلم الأشد في تلك التشديدات التي يراعى بها وضع القيود على الملكية. وللأسف نلاحظ كل القوانين الحديثة المستقاة من الدول الأوروبية مثلا تتقرب من العمال على حساب رب العمل، تتقرب من المستأجرين على حساب المالكِين. هذا التوجه الذي لا يخفى خلفيته، وإن الملجأ الوحيد لهذا الأمر لا شك إلى عقد الإجارة كما صوره فقهاء المسلمين، والإجارة كما هو معلوم عقد على منفعة تتجدد ساعة فساعة. وقد ضربوا له الشهر أو الأسبوع وما إلى ذلك وإذا بالشهر يصير سنة وإذا بالسنة تصير جيلا وجيلين كما هو معروف في كثير من الدول يموت المؤجر والمستأجر ويرث أبناء المستأجر العين المستأجرة بنفس تلك القيمة التي أجرت فيها والقوانين لا تواكب في تطوراتها بالإجارة كما تواكب القوانين الإنصاف للعمال. فبينما نلاحظ في الحقيقة أن كثيرا من القوانين المستقاة من الدول الغربية كأن فيها جورا على الملكية لصالح الشعب وبينما الإسلام كما هو معروف {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} إذن في النتيجة لماذا لا نصدر تعميما أو فتوى تناسب بأن عقد الإجارة عندما يكون سنويا أو مسانهة كما قيل في نهايته إما أن يعدل في الأجرة وإلا فإن المستأجر يأكل مالا حراما. والله أعلم. الشيخ محمد سيد طنطاوي: بسم الله الرحمن الرحيم.. لعل من الخير عندما نتكلم عن هذا الموضوع الهام أن نتذكر بعض النصوص وبعض القواعد الأصولية التي وضعها العلماء وعلى رأس هذه النصوص قوله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنون عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما)) وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم أنه ((لا ضرر ولا ضرار)) ومن القواعد الشرعية التي تعلمناها وحفظناها أن بعض الأحكام قد تتغير بتغير الأزمان وبتغير الأحوال ولا بأس بذلك ما دام هذا التغير لا يناقض نصا أو لا يعارض نصا من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والصور الثلاثة التي ذكرها الأخ الفاضل الدكتور وهبة والصورة الأولى منها أن للمالك المؤجر أن يأخذ من المستأجر مقدارا مقطوعا من المال بالإضافة إلى الأجرة السنوية أو الشهرية، وجميل منه أن يقول إذا تراضيا على ذلك. أرى أن هذه المسألة جائزة ولا شيء فيها ما دام قد حدث التراضي لأن هذا التراضي لا يتم إلا عن مصلحة يراها كل طرف من المؤجر والمستأجر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1842 وما دام هناك تراض حقيقي وهناك أيضا إيجاب وقبول ففي هذه الحالة أرى بأنه لا بأس من أن يأخذ المالك المؤجر من المستأجر مقدارا معينا ولكن النقطة التي وقفت أمامها أن فضيلته جعل ما يأخذه المالك وقام المؤجر بعدها بتسليم العقار إلى المستأجر مؤثرا إياه على غيره من المستأجرين الذي وقفت أمامه ويعد المأخوذ جزءا معجلا من الأجرة المشروطة في العقد في تصوري أن الأجرة المشروطة في العقد هي تلك الأجرة السنوية أو الشهرية وما أخذه المالك زيادة على ذلك إنما أخذه بناء على مصلحة يراها وارتضاها المستأجر أيضا هذه المصلحة كما هو حادث في بعض البلاد أن صاحب العقار مثلا عندما يبني عمارة ويريد أن يعرض شققها للإيجار لا يحكمه في هذه الحالة قانون العرض والطلب وإنما الذي يحكمه أنه بعد أن يؤجر الشقة بمائة جنيه مثلا تأتي بعد ذلك لجنة معينة فتخفضها إلى خمسين جنيها مثلا، وهذا حاصل وموجود وفي هذه الحالة المالك عندما أخذ الزيادة إنما أخذها احتياطا لغبن قد يقع عليه عند تقدير هذه اللجنة لأن هذا الإيجار هو لا يملكه في الحقيقة وإنما الذي تملكه بعد ذلك هي جهة معينة هذه الجهة تقدر أن إيجار هذه الشقة هو كذا وفي هذه الحالة تطالب المالك إذا كان قد حرر العقد بزيادة عن هذا التقدير الذي قدرته اللجنة عليه أن يرد للمستأجر ذلك. فالمالك في هذه الحالة مسكين يرى أن هذا الإيجار فيه غبن شديد وفي هذه الحالة هو يلجأ إلى أن يأخذ حقه بهذا الطريق وما دام في رأي أن المستأجر قد رضي بذلك فلا بأس في هذه الحالة. النقطة التي وقفت أمامها قول الأخ الفاضل الدكتور وهبة - ويعد المأخوذ جزءا معجلا من الأجرة المشروطة في العقد - في الحقيقة أنا الذي أفهمه أن الأجرة المشروطة في العقد هي ما أشار إليه فضيلته من أنها الأجرة السنوية أو الشهرية المحددة. بالنسبة للنقطة الثانية، يرى فضيلته أن جمهور الفقهاء يرون أن ما يأخذه المستأجر من بدل الخلو من المالك المؤجر لفسخ عقد الإيجار ضمن مدة العقد وتسليمه الشيء المؤجر لصاحبه يعد كسبا حراما، وهذا كما هو أمامنا رأي الجمهور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1843 في الحقيقة الإنسان أيضا يعود إلى تلك القاعدة التي حفظناها وهي أن بعض الأحكام قد تتغير بتغير الزمان وبتغير الأحوال فأنا في الأحوال التي أراها الآن سائدة في كثير من الدول، عندما يأخذ المستأجر من المالك شيئا ربما بعض الملاك يقبل يديه، يقبل يد المستأجر لأن المستأجر في هذه الحالة يريد أن يأخذ من المالك شيئا لكي يذهب إلى مسكن آخر يلائمه أو يلائم مركزه الاجتماعي وهو هذا المسكن بأجر ضئيل وقد مضى عليه عشرات السنين فيذهب إلى مكان آخر فربما دفع المستأجر ضعف ما أخذه من المالك لأنه يريد أن يتحول إلى مكان آخر وفي الوقت نفسه المالك استفاد استفادة عظمى لأنه بعودة هذا الملك إليه يستطيع أن يربح من ورائه أضعاف أضعاف ما كان يربحه من وراء هذا المستأجر الأصلي. فما دامت الأمور مبنية على التراضي، المستأجر قد انتفع لأنه ذهب إلى مسكن آخر ودفع فيه هذا المبلغ الذي أخذه من المالك أو دفع أكثر أو دفع أقل، والمالك قد انتفع بمسكنه لأنه يستطيع أن يؤجره بعد إدخال تعديلات معينة عليه، يستطيع أن يؤجره بإيجار أضخم وأضخم وتراضيا على ذلك عن طواعية وعن اختيار وبدون استغلال. فأرى أن هذا ليس فيه شيء من الحرام، ولذلك أنا أميل إلى رأي المالكية ورأي الإمام أبي يوسف في هذه المسألة. فيما يتعلق بالمسألة الثالثة، وهي الحالة الغالبة المثيرة للنزاع وهو ما يأخذه المستأجر من بدل الخلو من شخص آخر غير المالك المؤجر مقابل تنازله إلى آخره. أنا أرى أن المسألة أيضا لا ضير فيها بشرط أن يكون قد نص في العقد على أن من حق هذا المستأجر أن يؤجر العين لغيره في المدة المحددة للإيجار أو لا بد أن يكون هناك شرط لأن الملكية الخاصة محترمة في شريعة الإسلام. فالمالك ما دام مالكا لهذه العين فلا يصح للمستأجر بحال من الأحوال أن يتصرف في هذه العين إلا بإذن المالك وإذا تصرف فإنما يكون تصرفه في حدود ما يملكه من أخشاب، من أدوات هو يملكها. أما التصرف في العين بأي صورة من صور التصرف فلا بد أن يكون بإذن من المالك، فلا يصح لهذا المستأجر أن يؤجرها من الباطن لغيره، ولعل هذا هو الذي تأخذ به البلاد فيما يتعلق بالتأجير من الباطن وهو أنه لا بد أن يكون بإذن من المالك لأن الملكية الخاصة محترمة ما دامت قد أتت عن طريق الحلال وما دام صاحبها يؤدي حق الله ويؤدي حق المجتمع فيجب أن لا تمس ويجب أن يحافظ عليها محافظة تامة وبالله التوفيق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1844 الشيخ محمود شمام: بسم الله الرحمن الرحيم، لي ملاحظة شكلية قبل الدخول في الأصل. الموضوع له علاقة متينة بموضوع الاسم التجاري فأنا أرجو، لأن الموضوع يشكل فرعين الاسم التجاري وبدل الخلو، فأنا أرجو قبل إصدار قرار فيما يتعلق ببدل الخلو مناقشة الاسم التجاري ولي كلمة حول الاسم التجاري تشمل بدل الخلو أرجئها لما بعد. وشكرا. الشيخ أحمد محمد جمال: الحمد الله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. أحب في البداية أولا أن أعقب على كلمة فضيلة الشيخ خليل الميس عما لاحظه من ظاهرة الظلم النازل بالملاك وعدم تغيير الأجرة لسنوات طويلة وأقول له وأعطيه مثلا حكيما في ذلك وهو أن المملكة العربية السعودية هنا منذ عهد الملك عبد العزيز رحمه الله كان يصدر أمره حسب ظروف ارتفاع تكاليف المعيشة وارتخائها، يصدر أمره أحيانا بتخفيض الأجرة 25 % ثم بعد سنتين أو ثلاث عندما يرى تغير الأحوال الاقتصادية يرفعها إلى25 % هكذا كان جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله يراعي الظروف الطارئة في المجتمع السعودي ولا يترك الملاك يستبدون تارة ولا يترك أيضا المستأجرين يستبدون تارة أخرى، إنما يلاحظ هذا الاختلاف في الظروف المعيشية بين انخفاض وارتفاع. الأمر الثاني الذي أشار إليه فضيلة الأستاذ الميس هو أن ذلك مقتبس، النظام الواقع في المجتمعات العربية والإسلامية من الدول الغربية والحقيقة أنا أرى أنها مقتبسة من الدول الشرقية لأن زعماء الدول العربية هؤلاء الذين يضغطون على الملاك إنما يستندون إلى المذاهب أو المبادئ الشيوعية لأنهم ينظرون إلى الملاك نظرة إقطاعيين، الملاك في نظر هذه الدول الاشتراكية وزعمائها الملاك جماعة من الإقطاعيين وهم يريدون أن يتملقوا طبقة العمال الطبقة الوسطي من الموظفين، لذلك يضغطون على العمال في سبيل إرضاء الطبقة العاملة أو الطبقة المتوسطة. بعد ذلك انتقل للموضوع الأساسي وأرجو أن يسمح لي أصحاب الفضيلة العلماء أن أنبه إلى أنه ينبغي لنا ألا نكرر ما سبق في المناقشة الماضية من اهتمام بالجزئيات في المبادئ والأحكام، الاهتمام بالجزئيات والاهتمام بالثانويات والاهتمام بالفرعيات، فهذه تترك للتفصيلات أو المذكرات التفسيرية أو اللوائح كما يقال ذلك في عداد الأنظمة. لماذا؟ لأنا نحن كمشرعين أو كواضعين أحكاما جديدة تعالج قضايا حديثة لا يمكن أن نحتاط لكل هذه الفرعيات. وأعتقد أن معظمها من باب الديانة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1845 ومبدأ الديانة أو ملحظ الديانة في التشريع الإسلامي معتبر. الرسول عليه الصلاة والسلام - وهو الملهم المعصوم الذي يتلقى الوحي دائما - لاحظ هذا الملحظ فتركه للمسلم، ما احتاط في كل حكم بملاحظة وفرع وشرط، وهكذا لأن ذلك يطول ولا يمكن أن نحصي ملاحظ الشرط في المعاملات. الرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما تذكرون: ((إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه فإنما أقضي له بقطعة من النار إن شاء أخذها وإن شاء تركها)) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. إذن لا يمكننا أن نحيط بكل دقيقة في كل مبدأ من المبادئ التي نضعها الآن. فنترك الفرعيات والثانويات لتحل عند النظر أو عند النزاع. أقول ذلك لأنا نستطيع أن نستمر في الحوار الدائم وفي النقاش الدائم والكلام الكثير لا نخرج بحكم أو بأحكام حكيمة أو صحيحة أو سريعة كما ينبغي. فأحب أن ألفت النظر إلى ذلك. استتماما لهذا الموضوع أو لهذه القضية أحب أن أقدم اقتراحا طبعا قابل للتصحيح والتعديل مشروع للقضية في مادتين أو في ثلاثة مواد قابلة للتعديل. خذوها كفكرة تقرب المسافة بيننا. المادة الأولى: لا يجوز أن يفرض المالك بدل خلو على المستأجر إلا إذا كان هذا البدل جزءا معجلا يترتب عليه انخفاض الأجرة السنوية أو الشهرية، وأن يذكر ذلك في العقد صراحة أي يكون بالتراضي وأن يكون جزءا من الأجرة.. المادة الثانية: يجوز للمستأجر إذا طالبه المالك بالإخلاء خلال فترة العقد أن يطالب بتعويض يقدر بمثل ما بقي من أجرة للفترة الباقية من العقد. ثالثا: لا يجوز أن يؤجر المستأجر العين على آخر دون إذن المالك احتراما لحقه في الملكية الأصلية. هذه كرؤوس كعناصر إنما تمهد لنا السبيل لنقر شيئا ولا نطيل في الجدل في الفرعيات والثانويات وشكرا. الشيخ درويش جستنية: بسم الله الرحمن الرحيم.. والصلاة والسلام على الرسول النبي الأمين. أقول وبالله التوفيق.. أولا بالنسبة لتعريف خلو الرجل. ألاحظ أن هناك اختلافا في تعريف خلو الرجل فأنا أعرفه مثلا بأنه مبلغ يدفعه مستأجر يحل عن مستأجر آخر وليس علاقة كرائية بين مالك ومستأجر. ثانيا: ليس من الضروري أن تكون فكرة خلو الرجل مبنية أو مبررة بسبب وجود قانون ظالم يقيد حرية المالك في التصرف في ملكه. فكما سمعنا من أصحاب الفضيلة أن خلو الرجل قائم وقديم بصرف النظر عن دوافعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1846 لكن الذي أشير إليه هنا هو أن لخلو الرجل مبررات اقتصادية تقوم على أساس أنه يحقق مصالح لكل من المالك والمستأجر والمؤجر له، أي أنه عقد فيه ثلاثة أطراف وليس عقدين لطرفين. فصورة واقعية من صور المصلحة الاقتصادية هو أن يكون هناك مثلا تاجر يستأجر متجرا في السوق بإيجار سنوي معين ويأتي تاجر آخر يرغب في أن يستأجر نفس المتجر لكنه لا يمكنه ذلك لأن شاغل المتجر سوف يجدد العقد كبقية المستأجرين في نهاية العام، كذلك فإنه من غير المقبول شرعا ولا عرفا أن يذهب للمالك فيغريه بإيجار أعلى حتى يطرد المستأجر الأول ولا يجدد له العقد. لذلك فهو يتفق مع التاجر الأول على مبلغ معين مقابل بعض الأثاث الموجود بالمحل وكإرضاء له على التنازل عن مصلحته في تجديد العقد دون قهر وفي نفس الوقت يقوم التاجر بالاتصال بالمالك ليتفق معه على زيادة أجر العين أو إعطائه مبلغا مقابل الموافقة على تجديد العقد باسم التاجر الثاني. وبذلك تتحقق مصلحة لكل الأطراف وتحقق أيضا مصلحة التوازن بين الإيجارات والمستوى العام للأسعار كما أشار إليه بعض السادة المتحدثين. وهذا معمول به هنا في المملكة. وهناك صور أخرى كثيرة لا مجال لذكرها الآن وهي صور لعقد إرفاق كما أظن. فهل في هذه الصورة ما يتعارض مع نص شرعي يجعلها غير جائزة؟ وباختصار فإنني أعتقد بأهمية تحديد الصور التي تبنى عليها الفتوى. وأن يحقق الخلو مصلحة لكل من المالك والمستأجر الأول والثاني. والسلام عليكم. الشيخ عبد الله محمد عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم.. في الواقع إن الإخوة الذين تحدثوا ربطوا بين الخلو وبين قوانين الأجرة وامتداد عقد الإيجار بقوة القانون. أما فيما يتعلق بالنسبة لتحديد الأجرة فإني أعتقد أنه لا ارتباط بين الخلو وبين تحديد الأجرة. إذ في البلاد التي لا تقيد الأجرة ولا تحددها أيضا يجرى فيها مسألة الخلو. كالكويت مثلا القاعدة أنها تخضع لقاعدة العرض والطلب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1847 كلما كثر الطلب على الأماكن وقلت الأماكن هنا يتدخل الملاك ويضعون مبالغ للتفاضل بين المتقدمين من يدفع لهم يأخذ ولهم تحايل لاستحلال أو لأخذ هذه المبالغ. منهم من يجعلها جزءا من الأجرة تدفع جملة على أن تكون الأجرة الشهرية مراعى فيها ما دفع سابقا. والدليل على ذلك عندما كثرت المحلات التجارية وقل الطالبون أخذ أصحاب المحلات التجارية هم أو أصحاب العقارات يعرضون ويكتبون الإعلانات في الصحف وعلى المحلات طالبين الأجرة ولا يطلبون الخلو؛ لأن هذه المسألة خاضعة للعرض والطلب ليس إلا. فينبغي البحث في مسالة الحكم الشرعي على ضوء ما بحث الباحثون وقدموه في بحوثهم. وشكرا. الشيخ محيي الدين قادي: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وآله وصحبه. أنا شخصيا أريد أن أرجع بقضية الخلو إلى أصلها الذي نشأت فيه، في المجتمعات الإسلامية المتأخرة نسبيا. أول ما ظهرت، ظهرت في أراضي الأوقاف. (أراضي الأحباس) ففي القرن الثامن ظهرت في مصر ما يعرف بالأحكار المؤبدة وهي التي أشار إليها العلامة خليل في توضيحه في باب الشفعة ونصه: (وينبغي أن يتفق في الأحكار التي عندنا بمصر أن تجب الشفعة في البناء القائم بها لأن العادة عندنا أن رب الأرض لا يخرج صاحب البناء أصلا فكان ذلك بمنزلة مالك الأرض) ، قاله شيخنا ومصطلح خليل إذا قال شيخنا فهو يعني المنوفي. هذا بالنسبة إلى الأراضي الزراعية التي هي من امتلاك الأوقاف وجاء بعد خليل عالمان من علماء المالكية وعللا ذلك هما ابن منظور وابن سراج في فتاويهما المنشورة بمعيار الونشريسي. التعليل في ذلك أنها من قبيل الضرورة. وزاد هذا الموضوع توضيحا سماحة الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور رحمة الله عليه فقال: هي ضرورة عامة مؤقتة. كيف هي ضرورة؟ لأن لو تركت أراضي الأحباس ما يدخلها من التشتت أو من الإهمال ومن التجزئة لأهملت ولأصبحت أرضا بورا ولأدخلت شللا على الاقتصاد. فمن هذا المنطلق أفتى هؤلاء الأعلام فيما يخص الأراضي الزراعية وهي المشكلة التي عرضت بالنسبة إلى عصرهم. وبعد ذلك ازدهرت الحالة الاقتصادية في مصر وبالخصوص التجارة وغلت أكرية الحوانيت حتى وصل الحانوت في سوق الغورية بمصر إلى أربعمائة دينار ذهب جديد. ورفعت النازلة إلى عالم من علماء المالكية هو من طائفة مجتهدي التخريج ألا وهو ناصر الدين اللقاني فأفتى بجواز ذلك وبدون قيد ولا شرط وبقي المالكية يتحدثون عن هذه الفتوى بين قابل لها، وهم الأكثر وبين رافض لها وهم الأقل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1848 وقد بسطت كل هذا في البحث الذي قدمته. لكن هذه المشكلة ماذا يصنع ناصر الدين اللقاني في حوانيت هي من قبيل الأحباس وقد ازدهرت الحالة الاقتصادية وأصبحت غير كافية، الحوانيت لما يتطلب من التجارة وغلت، فكيف يقول للناس قال بذلك. ولكن عندما قال هؤلاء وهو ما يسمى في مصر خلو الحوانيت ويسمى في تونس بخلو المفتاح، هذا النوع من الخلو فيه مصلحة. المصلحة فيه ماذا؟ أنه الذي يعطي هذا المقدار الدراهم يصبح شريكا في المنفعة. يصبح الكاري المستأجر مالكا للمنفعة مع صاحب الوقف. وحتى في إصلاح الحانوت يكون بينهما شركة وفي كل شيء هو بينهما شركة ولو تعدد الشركاء وباع أحدهم نصيبه في المنفعة شفع فيها الآخر. كما ذكر ذلك الأمير في مجموعه وفي حواشيه على المجموع. هذا بالنسبة إلى ما أفتى فيه الفقهاء، الفقهاء كانوا يفتون ويرجحون المصلحة أو تقهرهم أعراف فيرجعون إلى القاعدة التي قررها الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. هذا بالنسبة للخلو الذي عرفناه ربما مؤخرا وهو قديم أيضا أن يعمد مستأجرا ويكري من مستأجر آخر المنفعة فهذا قد ألف البدر القرافي فيه رسالة عرض فيها لمسألتين منها هذه المسألة وجوز ذلك بشروط وقد أتيت على هذه الشروط في البحث الذي كتبته. جوز ذلك بشروط لأنه يملك المنفعة وأضاف الجديد وقت أن بقي في الحانوت مدة زمنية طويلة أو في الحمام أو في المقهى أو في غير ذلك. فقد أضاف إليها شيئا. هذا هو الذي راعاه البدر القرافي في رسالته: الدرة المنيفة في التنازل عن الوظيفة راعاه وقال بالجواز مع حف هذه المسألة بشروط. وكما سبق لسماحة مفتي جمهورية مصر العربية الناس على شروطهم والمؤمنون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا. هذا بالنسبة لما أفتى به الفقهاء ولكني رأيت أن الاتجاه لا يتجه إلى فتاوى الفقهاء وإنما يتجه إلى ما أقرته القوانين الوضعية البشرية. هنا المجمع مطالب بأن يعرف ما أفتى فيه الفقهاء وما هو فقه وينزله ويلزم به إن استطاع إلى ذلك سبيلا الدول الإسلامية على أن تعدل القوانين الموجودة في البلاد الإسلامية على ضوء الفتاوى الصادرة عن المجمع. هذه وجهة نظر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1849 أما العلماء، الإشكال في الخلوات والذي استشكله الفقهاء هو هذه الإيجارة على التبقية ولم أسمع في عرض الصباح وهو الشرط الذي اشترطه الفقهاء كلهم قضية التبقية. لم أسمع في عرض الصباح أو لعلي لم أنتبه إلى قضية التبقية التي هي روح المسألة. هو يدفع المقدار لأنه يبقى بصورة أبدية ولا تخضع المسألة لتغير الأسواق وحوالة الأسواق وقد نص على ذلك فقهاء المالكية وحققه أبو الثناء إسماعيل التميمي في رسالة له وهو ممن ادعى اجتهاد التخريج ولم ينكره عليه معاصروه. هذا بالنسبة إلى القضية من أساسها. وأصل الإشكال فيها أنه كيف يكون الكراء على التبقية. ومالك رضي الله عنه يروى عنه هذا النص: (ولا أرى مانعا من أن يكري إنسان مسيلا يوصل الماء إلى داره السنين الطويلة أو إلى الأبد. لأن مالك رأى أن الحاجة إلى الماء فأقر نظرا لهذه الحاجة أن يكري الإنسان مسيلا من الماء إلى داره أو إلى أرضه على سنين طويلة أو إلى الأبد. ومنه جوز فقهاء المالكية الكراء على التبقية أو الكراء الأبدي) . هذا وقد ذكر البرزلي عينات كثيرة وأتيت على البعض منها في البحث، عينات كثيرة وقعت في تونس - فالفقهاء أفتوا نتيجة ظروف وأنا لن أذكر شيئا حتمت في الظرف، مثلا في تونس في وقت من الأوقات في عهد حمودة باشا الحسيني أصدر هذا الباي أمرا بأن اليهود يمنع عليهم امتلاك الأراضي الزراعية والعقارات وحصرهم في حارات معينة نظرا لما لليهود من الخبث عندما حصرهم في حارات معينة ضاق بهم الأمر وغلا الكراء وارتفع وحجر على المسلمين السكن في حاراتهم ماذا يصنع المالك المسلم في الدار الموجودة في حارة من حارات اليهود؟ فتحتم الأخذ بنوع من الخلو ويبقى اليهودي في الدار على الأبد على التبقية. إلى غير ذلك من المسائل. فالمطلوب معناه أين هو الإشكال؟ هو في كون الكراء على التبقية وفي كونه إجارة على التبقية. هذا ما عرضت ضرورة عامة مؤقتة أوجبته فإذا زالت من المجتمعات الإسلامية فالرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح في أكريتهم. وتحدث للناس أقضية بمقدار ما أحدثوا من الفجور. نكتفي بهذه الكلمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1850 الرئيس: شكرا. على كل ملاحظة بسيطة يا شيخ محي الدين وهي قضية لما ذكرتم تريدون تنزيل فتاوى العلماء على الواقع الموجود في العصر ما أظن أن هذا يتلاقى لأن فتاوى العلماء الذين ذكرتم هي بموجب الأسباب التي توفرت موجبة هذه الفتوى والأسباب التي كانت موجبة لهذه الفتاوى هي خلاف الأسباب التي كانت موجبة للنازلة الموجودة في عصرنا. لهذا فإن قضية التزيل ليست لازمة. الفتاوى لا شك يستنار بها ويستضاء بها أما أن يقال: تنزل فتاوى العلماء السابقين على الأشياء الموجودة فهذا ما أظنه يحصل. الشيخ إبراهيم الغويل. الشيخ إبراهيم بشير الغويل: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. الحقيقة أنا لدي اقتراح عملي لأني أثناء المناقشات ما وددت أن أتدخل لأن كما اتضح الآن أن قضية بدل الخلو ليست قضية جديدة رغم اختلاف أو ما يراه البعض من اختلاف الأسباب. ولكن أثناء المناقشة اتضح أننا في حاجة إلى أن نناقش جذور الأمور كقضية الملكية وحدودها ووظيفتها في شريعة الله. وبعض القضايا الأخرى التي قد يكون من المناسب أن تبحث كقضية إيجار الدور، ومتى كانت؟ وما مستندها وأساسها؟ حتى ينظر في هذه الأمور نظرة تؤصل ما تواجهه المجتمعات الإسلامية وتشكو منه. وقد يكون من المناسب أن أذكر نفسي وإخوتي العلماء الأجلاء الأفاضل أن الناس في الشارع قد يشكون خلاف ذلك قد يرون أن هناك إرهاقا وظلما للمستأجرين. لقد سمعت هنا الحديث عن إرهاق وظلم المالكين ولكن جموع المسلمين وجماعة المسلمين قد تشكو في كثير من الأحيان ما يلحق المستأجرين من ظلم وحيف وجور وإلقاء أثاث دورهم في الشوارع وإغلاء الأجرة عليهم وما إلى ذلك، فكل هذه الأمور يجب أن تكون في اعتبار السادة الأجلاء العلماء الأفاضل. إذن هذا البحث عن بدل الخلو في حقيقة الأمر كان من الممكن أن يكتمل ضمن بحث كامل لقضية الملكية وقضية الإيجار والأجرة وقضية بدل الخلو تكون فرعا صغيرا ضمن هذه النظرة الكلية. الحقيقة وإن كان صحح البعض ولكنني سمعت من زميلي الشيخ خليل الميس أمرا عجبا كأن يقال إن النظام الذي يسمح للمالكين أو يظلم المالكين إنما هو من أثر النظام الغربي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1851 فلا شك أنه إذا كان النظام الغربي هو الذي يقوم على رأس المال وحماية المالكين وإطلاق يدهم وأن يفعلوا في أموالهم ما يشاؤون أمر نريد نحن أن نتجاوز حدوده أيضا ونعتبره قليلا وفيه ظلم للمالكين وذلك أمر عجب. أنا أتصور أن هذا النظام الذي أطلق يد المالكين في الغرب حتى إنهم يفعلون في أموالهم ما يشاؤون لا يمكن أن يعتبر أن فيه ظلم للمالكين بل أنه دائما عرف بأنه النظام الذي ينسب إلى رأس المال وإلى الملاك والمالكين. لكن هذا الأمر قد لوحظ عليه وسبقني إليه آخرون. ولكنني أقترح اقتراحا محددا: أن هذه الأمور تتعلق بجذور نظرة كلية، المسلمون في حاجة أن يقدموها للبشرية. ما هي النظرة للملكية في الإسلام؟ وما هي النظرة لوظيفية الملكية؟ وما هي حدود المالكين في تصرفاتهم وما يترتب على ذلك من نظر في قضية الأجرة؟ وما إليه فلعل بحث الأمور من جذورها سيساعدنا في الموضوع الذي بين يدينا ولعله تفريع عن مشكلة أساسية تحتاج لتقديم نظرة الشريعة فيها وشكرا. الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. ما كان لي أن أتدخل في قضية بدل الخلو لأنني جئت إليها متعلما ومشاركا ولست متخصصا ولا باحثا وبقيت أستمع وأتعلم وأفيد من كلمات إخواني وزملائي وتعقيبات الأمانة الكريمة والرئاسة الرشيدة حتى بدرت كلمة، حاولت أن أرفعها والتمس لها المعاذير فلم أستطع ولم يسعفني ذهني ولا عقلي الكليل. وهي من أخ لي صديق حبيب أُكِنُّ له كل احترام وتقدير هو أكبر مني سنا وفي نفسي أنه أكبر قدرا وبيني وبينه روابط وشيجة من الصداقة في ذات الله. غير أن هذه الكلمة لو أني سكت عليها نفاقا اجتماعيا لعددت نفسي آثما وليس لي فيها من تعليل إلا أنها زلة لسان وجل الذي لا يسهو هذه الكلمة التي تفضل بها وكانت مشاركته جيدة ومثمرة فضيلة العالم الفاضل الجليل الأستاذ الشيخ أحمد محمد جمال - حفظه الله - وأفدت من كلامه الكثير غير أن هذه الكلمة ما كان ينبغي أن تخرج من أمثاله من أهل الفضل فزلة العَالِم زلة العَالَم فقال: إننا كمشرعين. يا سيدي الذي أعرفه وتعلمته من إخواني ومن مشايخي ومن أساتذتي أننا لسنا مشرعين، ولا يحق لنا بحال من الأحوال أن نطلق على أنفسنا هذا الكلام أو هذا اللقب لأنه قد أجمعت الأمة كلها على أن المشرع هو الله، هو الحاكم وأنه لو أننا أطلقنا هذا اللفظ الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم لكان مجازا لا على سبيل الحقيقة. فأقصى ما نطمح إليه أن يقال فينا إننا علماء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1852 ولا نقول هذا في أنفسنا بل يقال فينا. وإنني أعتقد وأدين الله تعالى أن جميع زملائي في هذا المجمع الموقر علماء وأني أنا في نفسي طالب علم. فنحن يا سادة طلاب علم، لسنا مشرعين ولا متشرعين وأخشى إن نحن سكتنا على هذا أن يزداد الأمر وأن يستمع الناس إلى كلامنا في التسجيل أو غدا حينما يخرج في المجلة - فيستكبرونها منا لا سيما من عالم جليل وباحث كبير له فضله ووزنه. وأقول وأكرر أني أعتقد وأدين الله أنها زلة لسان ولكن هذه الزلة ينبغي أن تستدرك. الرئيس: يا شيخ عبد اللطيف لاشك كلامكم حق لكن أحب أن أضيف كلمة واحدة. نفس الشيخ أحمد لما تعلمها أردفها بكلمة يقول أي عاملين لهذا الموضوع أضاف هذه وأردفها رأسا فهي الذي يظهر أنها درجت على اللسان بحكم الشيوع. ولا يقصدها، ولكن هو فسرها بقوله أي العاملين لهذا الشيء. الشيخ عبد اللطيف الفرفور: نعم. لكن أخشى أن لا يأخذ هذا الكلام على محمل التناصح. الرئيس: هذا ما فيه إشكال وجزاكم الله خير وأحيطكم بشيء آخر أن أمانة المجمع عندما تعد المجلة وتنشر المداولات وكذا يجري تصفية وتنقيح. الشيخ عبد اللطيف الفرفور: طيب يا سيدي هذه واحدة وأستميحه عذرا لأن فضيلته يعلم صفاء نفسي ومحبتي له وإجلالي، وهذا الشيء معترف به. المسألة الثانية: هي أني لا أزال أرقع لزملائي لكن هذه المسألة لم أستطع أن أرقعها. فيه مسألة ثانية رقعتها هي قضية أخي الشيخ خليل الميس وهو أنه ذكر أن الغرب وَرَّدَ لنا هذا الذي يقال في قضية ظلم المالك. من إلى أن الموضوع نظرة سطحية خطأ الشيخ خليل وإنني أصوبه لأن الغرب مع كونه رأسماليا إلا أن النزعة الجماعية الاقتصادية نبتت فيه ولم تنبت في الشرق ولكنها بعد ذلك ظهرت في الشرق فهذه مسألة هو فيها على صواب في حقيقة الأمر وإن ظن أنه خطأ. فإن جميع ما قاله نزعة جماعية إنما هو في مجتمع رأسمالي ونشاؤا وماتوا فيه هذه الناحية الثانية. وأما الناحية الثالثة فهي أنني أكرر اعتذاري للأمانة وللرئاسة ولأخي الأستاذ الشيخ أحمد محمد جمال ولأخي الأستاذ خليل فنحن كلنا المؤمنون بعضهم لبعض نصحة والمنافقون بعضهم لبعض غششة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1853 الشيخ أحمد بازيع ياسين: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدي رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد، عندما أتكلم عن الخلو أحب أن أتكلم كإنسان عندي ممارسة فيه. الحقيقة المتاجرة في الخلو فيها ضرر كبير وأنا شاهدت دكانا صغيرا لو أقول لكم المبلغ الذي بيع به تستغربون بيع ب 14 مليون دينار خلو لأنه سمع واحدا من مشايخنا قال لا بأس ببيع الدكاكين 14 مليون دينار بيع الخلو بهذا السعر هذه واحدة. الأمر الثاني: المتاجرة في الخلو تحبس المنفعة من العين بحيث كثير من الدكاكين الجديدة تحبس ولا تستغل ولا ينتفع منها الناس. يحبسها المتاجرون وهذا موجود بنايات كثيرة عندنا محبوسة للمتاجرة في الخلو. فهذه صورة من الصور التي عاينتها وشاهدتها. موضوع الخلو الذي عرفته هو للحانوت المؤجر الذي يستثمره صاحبه سنين طويلة ويدخل عليه تحسينات، في البناء في الرفوف في الديكور فيه أثاث فيه كهرباء فيه تلفونات، ويكون الخلو مقابل هذه، فيصير الخلو مقابل حاجة للإنسان الذي يترك محله. ثم إن الذي يبيع المستأجر ليس له أن يتصرف أيضا ويؤجر على من يشاء بدون إذن المالك. عندما يريد أن يؤجر دكانه هذا يقتضي عليه أن يستأذن المالك ويقول: أنا أحب أن أؤجر لفلان الفلاني وأترك العمل إذا تأذن لي. فإذا كان بهذه الصورة الخلو فأظن أنه لا بأس به ولكن في حدود المبلغ الذي له مقابل في داخل الحانوت. أما الدكان الخالي أو الحبس عن المنفعة وثم التداول فيها فأنا أخشى أنها تدخل تحت طائلة أكل أموال الناس بالباطل. وشكرا. الشيخ مصطفى كمال التارزي: أشكر السيد الرئيس على إجابته للرغبة التي برزت من هذا المجمع في إعادة النظر في قضية بيع الخلو، حول واقعنا الذي نعيشه في هذه الأيام التي برزت فيها الأحكام الوضعية وتعامل الناس بها. وأصبحت عرفا يعمل بها في الأسواق والميدان التجاري. والذي نريده أن نستضيء بأحكام الفقهاء في قضية بيع الخلو بطريقة تجعلنا لا نحيد عن الأحكام الشرعية وتقربنا من جهة أخرى إلى الواقع وتهدينا إلى السبيل السوي في حل هذه المشكلة بطريقة لا يتضرر فيها المالك ولا يتضرر المستأجر. سيدي الرئيس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1854 يبدو لي أن الفقهاء في الماضي والحاضر لم يجدوا حرجا في تبرير عمل المالك في اشتراطه كمية من المال على المستأجر يأخذها مسبقا زيادة عن الأجرة السنوية والشهرية التي لا تقل عادة عن أجر المثل واعتبروا أن ما يأخذه المالك مسبقا من المستأجر هو جزء من الإيجار. وربما كان لتخريجهم هذا مبررا في العصور الماضية حيث كانت الأعمال تحمل على الصلاح غالبا. أما اليوم فالحقيقة التي يعلمها العام والخاص هو أن المالك يأخذ هذا المال المسبق بعنوان بيع خلو محله خوفا من أن يتمسك به المستأجر عند انتهاء مدة الكراء. فهل يصح أن نبرر عمله هذا. كما أن المستأجر الذي اشتهر في هذا الزمان بأنه يتمسك بالمحل ولا يلتزم بالخروج عند انتهاء مدة العقد لا ينبغي أن نحكم عليه دائما مسبقا بالاحتيال والتعدي والظلم لأن الإجراءات التجارية الجديدة أصبحت في كثير من بلدان العالم الإسلامي معقدة تخضع لتراتيب كثيرة وتجبر المستأجر لأن يخضع لتنظيمات بلدية ويستجيب لشروط يفرضها ديوان التجارة أو وزارة الاقتصاد الوطني زيادة عما تفرضه عليه المنافسة التجارية من تزيين نفقات باهظة ومدة طويلة، فالحكم بإخراجه عند انتهاء مدة الكراء بدون نظر إلى ظروفه قد يوقعه في ضرر كبير. ربما يوقعه في الإفلاس. وفي الشريعة الإسلامية متسع لمد يد المساعدة إلى هذا المستأجر حتى ننقذه مما هو فيه إذا ثبت ضرره. وفي اعتقادي أنه لا بد لمجمعنا هذا من إيجاد حلول وسطي تضمن التوازن وعدم الإجحاف بالملكية العقارية التي هي حق المالك والملكية التجارية التي هي حق المستأجر حتى يتحقق التعايش والتكافل بين كل قطاعات المجتمع الإسلامي. ولا مانع من أن تقوم الدولة بإصدار قوانين جديدة تحد من جشع المالك الذي رأيناه في ميادين كثيرة وتحايل المستأجر. فالمستأجر قد يتضرر من العقد لأن التجارة تفرض عليه أشياء ما كان يتوقعها ويحتاج إلى رخص من الدولة ومن الدواوين وإجازات، ربما تنتهي مدة الإيجارة وهو لا يستطيع تحقيقها. فلا بد من إعادة النظر في مسالة بيع الخلو أو ما يسمى في العرف الحاضر بالأصل التجاري أو المحل التجاري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1855 وقد ذكرت في البحث الذي قدمته للمجمع أنه من الحلول المقترحة في منع التبقية وقضية التبقية هي المعروفة عندنا في الفقه ببقاء المستأجر في المحل، في منع التبقية في المحل بإيجاد عقود طويلة الأمد يمكن بموجبها أن نقطع حجة المستأجر الذي يدعي دائما أنه لا يتمكن من الربح في المدة القصيرة وأنه يحتاج إلى مدة أطول حتى يتمكن من توفير الربح اللازم لحياته والسلام عليكم. الأمين العام: بسم الله الرحمن الرحيم.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. إن هذا الموضوع في اعتقادي قد أخذ من البيان والشرح لمختلف الآراء والاتجاهات ما فيه كفاية وأقترح أن تتكون لجنة للصياغة تتداول النظر في محور هذا الموضوع والأجزاء المتفرعة عنه فتبين لنا أو تضع قرارا يبين ما هي الصور التي يقبل فيها بدل الخلو ومتى يكون جائزا والصور التي يكون فيها إجحاف لأحد الطرفين أو ظلم يقع التنبيه عليها حتى لا نقع في هذا الضرر، وأرجو أن نبادر بتكوين هذه اللجنة حتى تتمكن هي من المضي في عملها لإعداد القرار المناسب الذي يعرض على حضراتكم بعد هذا. الرئيس: شكرا. لعلكم ترون هذا مناسبا، ولهذا فإنه قد ترون اللجنة هي كل من أصحاب الفضيلة المشايخ الشيخ وهبة الزحيلي، الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، الشيخ عبد الله بن منيع، الشيخ الدكتور درويش جستنية، وبهذا ترفع الجلسة لأداء صلاة المغرب ثم نعود إن شاء الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1856 مناقشة مشروع القرار رقم (6) بشأن بدل الخُلُوِّ الشيخ عبد الستار أبو غدة: بعد اطلاع المجمع على الأبحاث الفقهيه الواردة إلى المجمع بخصوص كذا.. قرر ما يلي: أولا: تنقسم صور الاتفاق على بدل الخلو إلى أربع صور هي: 1 - أن يكون الاتفاق بين مالك العقار وبين المستأجر عند بدء العقد. 2 - أن يكون الاتفاق بين المستأجر وبين المالك وذلك في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها. 3 - أن يكون الاتفاق بين المستأجر وبين مستأجر جديد، في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها. 4 - أن يكون الاتفاق بين المستأجر الجديد وبين كل من المالك والمستأجر الأول قبل انتهاء المدة أو بعد انتهائها. ثانيا: إذا اتفق المالك والمستأجر على أن يدفع المستأجر للمالك مبلغا مقطوعا زائدا عن الأجرة الدورية (وهو يسمى في بعض البلاد خُلُوًّا) فلا مانع شرعا من دفع هذا المبلغ المقطوع على أن يعد جزءا من أجرة المدة المتفق عليها. وفي حالة الفسخ تطبق على هذا المبلغ أحكام الأجرة. الرئيس: هل من اعتراض؟ الشيخ علي. الشيخ علي المغربي: تضاف عبارة تطبق على هذا المبلغ أحكام الأجرة الأصلية القديمة قبل الاتفاق على زيادة الإيجار. نقول الأصلية. الرئيس: إذا قيل أحكام الإجارة. الشيخ عبد الستار أبو غدة: ثالثا: إذا تم الاتفاق بين المالك وبين المستأجر أثناء مدة الإجارة على أن يدفع المالك إلى المستأجر مبلغا مقابل تخليه عن حقه الثابت بالعقد في ملك منفعة بقية المدة. فإن بدل الخلو هذا جائز شرعا، لأنه تعويض عن تنازل المستأجر برضاه عن حقه في المنفعة التي باعها للمالك. الرئيس: لأن المدة لا تزال في حوزة المستأجر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1857 الشيخ عبد الستار أبو غدة: أما إذا انقضت مدة الإجارة، ولم يتجدد العقد صراحة أو ضمنا عن طريق التجديد التلقائي حسب الصيغة المفيدة له، فلا يحل بدل الخلو لأن المالك أحق بملكه بعد انقضاء حق المستأجر. رابعا: إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد أثناء مدة الإجارة على التنازل عن بقية مدة العقد لقاء مبلغ زائد عن الأجرة الدورية، فإن بدل الخلو هذا جائز شرعا، مع مراعاة مقتضى عقد الإجارة المبرم بين المالك والمستأجر الأول، ومراعاة ما تقضي به القوانين النافذة الموافقة للأحكام الشرعية. على أنه في الإجارات طويلة المدة خلافا لنص عقد الإجارة طبقا لما تسوغه بعض القوانين لا يجوز للمستأجر إيجار العين لمستأجر آخر، ولا أخذ بدل الخلو فيها إلا بموافقة المالك. أما إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد بعد انقضاء المدة فلا يحل بدل الخلو، لانقضاء حق المستأجر الأول في منفعة العين. الشيخ محمد سالم عبد الودود: على أنه في الإجارات الطويلة المدة بدل طويلة المدة. الشيخ محمد علي التسخيري: في هذا المقطع الأخير: أما إذا تم الاتفاق في آخر. الرئيس: بين المستأجر الأول والمستأجر الجديد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1858 الشيخ محمد علي التسخيري: بعد انقضاء المدة فلا يحل بدل الخلو. هناك حالة وهي طبيعية متعارفة أن صاحب العقار أو صاحب المحل يعطي الأولوية للمستأجر الأول فالمستأجر الأول يملك أولوية في مسألة التمديد ويتنازل عن هذا الحق لقاء بدل الخلو، نحن لم نلتفت لهذه النقطة وحرمنا الأمر بشكل مطلق وحرمنا عملا جاريا متداولا. الرئيس: هل ترون إضافة حرف هنا: أما إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد لما بعد انقضاء المدة، كونه يتعاقد مع طرف آخر. الشيخ عبد الستار أبو غدة: نضيف كلمة لما بعد انقضاء المدة. الشيخ محمد علي التسخيري: لم نحل هذه الإشكال يا سيدي الرئيس. الشيخ محمد سالم عبد الودود: استشكال الشيخ التسخيري يحل لو أضفنا كلمة واحدة على أن يحل له أن يبذل له عوضا مقابل تخليه عن حق الأولوية. لأنه ممكن للإنسان أن يقول لبعض المرتشين لبيع المزايدة: انسحب من المزايدة على أن أعطيك بدلا، كل من يترشح لأمر يجوز لإنسان آخر يريد أن يحل محله. الشيخ علي المغربي: في الفقرة الثانية تقيدنا: أما إذا اتفق المالك والمستأجر على أن يدفع المستأجر للمالك مبلغا مقطوعا زائدا عن الأجرة الدورية وهو ما يسمى في بعض البلاد خلوا، فلا مانع شرعا من دفع هذا المبلغ المقطوع على أن يعد جزءا من أجر المدة المتفق عليها. هذا هنا لم يدفع له شيئا لأنه دفع له قيمة الأجرة وعليه لم يدفع له شيء مع أن المتعارف أن هناك خلوا يدفع لأن المحل تنقص قيمته بطول المدة التي يبقى فيها المستأجر. فالمستأجر يدخل المكان جديدا فربما يقع فيه الفساد وبطول المدة تنقص قيمة ذلك المحل. فإذا قلنا له: أرجع ما أعطيت أو ما أخذت فهنا نكون قد ظلمنا صاحب المحل وعليه فلا داعي لهذا الشرط وهو قولنا: أن يعد جزءا من أجرة المدة المتفق عليها. هذا ربما يكون فيه ظلم لصاحب المحل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1859 الرئيس: هل ترون أن يصدر القرار وأن يربط في ضوء القوانين والأنظمة من تجميد الأجور وعدم إعطاء الفرصة للمالك في تجديد المستأجر؟ الشيخ طه جابر العلواني: البلد الذي تقريبا تتضح فيه هذه القضية بشكل كبير قوانينه تنص على أنه لا يجوز إبرام عقد إيجار لمدة تزيد عن تسع سنوات بينما الخلو الذي يأخذ مالك العقار يبلغ قيمة نصف ثمن العقار المؤجر ويقسط النصف الآخر على أساس أنه إيجار وتكون العقود دائما سنوية ولا ينص في العقد على أنه إيجار لأكثر من سنة ولكن بحكم القانون لا يستطيع المالك أن يُخرج هذا الإنسان. ففعلا من الحكمة ربط الموضوع بالقوانين المتبعة في هذه البلاد التي ابتليت بهذا الأمر لكي لا يقع تناقض بين الفتوى الشرعية وبين واقع الناس الذين يتعاملون به ويظهر أن الفقهاء لم يلاحظوا هذه المسائل. الشيخ علي المغربي: ولكن البلاد تختلف. فهناك بلاد لا تعتبر هذا تسع سنوات كل بلاد لها قوانينها في الأكرية ولهذا فقوانين الأكرية ليست متحدة في كل البلاد. الشيخ محمد عبده عمر: لو نضيف كلمة إلا بإذن المالك الأصلي.. بحيث تكون الصياغة هكذا: أما إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد بعد انقضاء المدة فلا يحل بدل العوض لانقضاع حق المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد بعد انقضاء المدة فلا يحل بدل العوض لانقطاع حق المستأجر الأول في منفعة العين إلا بإذن المالك الأصلي. الرئيس: لكن هو استعمل في كثير من البلدان طواعية أو في ظل القانون؟ أنا أسال سؤالا. الشيخ محمد علي التسخيري: أقول هناك بلدان ليست فيها قوانين تأبيد ولكن بشكل طبيعي وطواعية يملك حق الأولوية المستأجر الأول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1860 الرئيس: إذن أنا أقول لو يصدر هذا القرار أنه في ظل القوانين الموجودة في عدد من الدول الإسلامية أو في ظل القوانين الموجودة في عدم تجميد الأجور وعدم إعطاء المالك الحرية في طلب الإخلاء. الشيخ محمد علي التسخيري: يعني نقول يتنازل عن حق الأولوية. الشيخ عبد السلام داود العبادي: سيدي القضية تثار في حالة الإلزام باستمرارية الأجرة. الرئيس: الإلزام الحكومي. الشيخ عبد السلام داود العبادي: نعم. وهذه عالجتها الفقرة التي قبلها بالضبط، الفقرة السابقة لها. على أنه في الإيجارات طويلة المدة خلافا لنص عقد الإجارة طبقا لما تسوغه بعض القوانين لا يجوز للمستأجر. الرئيس: خلاص. هذا كاف. خامسا ما قرأته يا شيخ الشيخ عبد الستار أبو غدة: خامسا: إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأصلي والمالك قبل انقضاء المدة على أن يحل محله مستأجر جديد مقابل مبلغ يدفعه المستأجر الجديد للمستأجر الأول وحده أو له وللمالك فإن بدل الخلو هذا جائز شرعا، لأن هذا التنازل تعويض للمستأجر الأول والمالك عن حقهما الثابت بموجب العقد والملك. الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: يا معالي الرئيس، ابن عابدين يذكر في حاشية بدل الخلو ويقول في نهاية الكلام: ويتسامحان. فأرجو إضافة هذه الكلمة التي نص عليها ابن عابدين بأنه في نهاية الأمر تحوط لدين الله عز وجل. ويتسامحان في حاشية ابن عابدين، رد المحتار. الرئيس: أين تضاف.. أين مكان إضافتها؟ اقتراحك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1861 الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: نضيفها في أي مكان من القرار، نضيفها في آخر القرار تحوطا لدين الله. فيه مانع من إضافتها. الرئيس: نحن ما عرفنا مكان الإضافة. الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: بآخر القرار. بآخر كلمة. الرئيس: كيف يتسامحان؟ الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: يقول له: سامحني. الرئيس: لا يسامحه ليس لنا شغل في هذا؛ لأن المسامحة ما هي حكم شرعي بات قضائي، هذا حكم أخلاقي. الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: يا سيدي هذا الموضوع الذي نحن نَبُتُّ فيه هذا هو حكم الله في هذه الحادثة.. هذا ما توصلنا إليه. الرئيس: ما نستطيع أن نقول: إنه حكم الله يا شيخ، هذا نقول اجتهاد أو مجاز. يمكن أن يكون مخطئا. الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: يجوز فلذلك يقول: ويتسامحان. الشيخ محمد تقي العثماني: لم يظهر لي كيف يجوز للمالك أن يأخذ هذا البدل، يتحتم أن له وللمالك .... الرئيس: خلينا نشوف يا شيخ: إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأصلي والمالك قبل انقضاء المدة على أن يحل محله مستأجر جديد مقابل مبلغ يدفعه المستأجر الجديد إلى المستأجر الأول وحده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1862 الشيخ محمد تقي العثماني: إلى هنا ماشي. بأي طريق يخرج تعويض هذا المالك؛ لأننا قلنا في أولا. الشيخ علي المغربي: الخامسة والثانية تتناقضان. ثانيا معناه من أخذ الأجرة وقلنا تحسب من الكراء، وفي الأخير قلنا يأخذ ثمن المدة الباقية. الرئيس: على كل أقر المادة الثانية. الشيخ عبد الستار أبو غدة: ثانيا: إذا اتفق المالك والمستأجر- هذا لأول مرة يستأجر- على أن يدفع المستأجر للمالك مبلغا مقطوعا زائدا عن الأجرة الدورية. الرئيس: هذا لا علاقة له به. الشيخ عبد السلام داود العبادي: يا سيدي لا مانع من إضافة قيد صغير أن يقال: إنه وبالنسبة للمالك يتم ذلك في إطار ما ورد في ثانيا. الرئيس: لماذا لا يقال: خامسا مع مراعاة ما جاء في الفقرة الثانية ؟ الشيخ محمد علي التسخيري: يأتي الإشكال هنا، هل المراد للمدة المتبقية أو للمدة التي ما بعد؟ الرئيس: لا للمتبقية. الشيخ محمد علي التسخيري: المدة المتبقية المالك لاحق له والمدة التي ما بعد تدخل في ثانيا. الرئيس: إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأصلي والمالك قبل انقضاء المدة على أن يحل محله مستأجر جديد مقابل مبلغ يدفعه المستأجر الجديد إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأصلي والمالك. فيه سؤال يا شيخ هل: يشترط أن المالك أن يحل محل المستأجر أجير آخر في نفس المدة؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1863 الشيخ محمد علي التسخيري: إلا أن يتنازل عن حق المباشرة، إلا أن يكون قد اشترط الإجارة المباشرة وتنازل عن هذا الحق المالك. الشيخ محمد سالم عبد الودود: يحق للمستأجر أن يكري من غير إذن المالك لمن لا يزيد عليه ضررا بالمالك، لمن مثله في المعاملة والسلوك والأخلاق. أما هذه الزيادة التي استشكلها بعض الإخوة ومنهم الأخ الشيخ علي المغربي.. هذه الزيادة في العبارة قد لا تفهم على ما قصد منها، هي تكون بمعنى تحسب الأجرة كأن الأجرة التي وقع الاتفاق عليها نوعان أجرة مقطوعة وأجرة مقسطة الجميع أجرة، أما فيما يتعلق بما إذا اتفق المستأجر الأصلي والجديد والمالك قبل انقضاء المدة فإن هذا يعتبر من المستأجر إيجارا للجديد في باقي المدة ومن المالك وعد بالإيجار بعد انقضاء المدة. الرئيس: المهم ماذا ترى في خامسا يا شيخ؟ خامسا تعدل أو تبقى أو تحذف. الشيخ محمد سالم بن عبد الودود: لا أرى مانعا من بقائها كما هي. الشيخ عجيل جاسم النشمي: أنا أقول: إن كان القصد هو عن المدة الباقية فأقترح أن تحذف خامسا اكتفاء بثانيا. إذا كان القصد عن المدة الباقية في خامسا، أرى أن تشطب خامسا كلها ويكتفي بثانيا. الرئيس: يعني تحذف خامسا ويكتفى بثانيا أرى أنها تحذف. الشيخ علي المغربى: يا أستاذ خامسا متفق عليها لا نزاع فيها إنما لما جئنا ثانيا قلنا إن هذا المقدار الذي يأخذه ينزع من الكراء وهذا غير ممكن؛ لأن خامسا أبحنا له أن يأخذ شيئا مطلقا وثانيا أن ما يأخذه يقتصَّ من الكراء فهنا تناقض وليس هنا توافق هذه كلمة يقتص من الكراء هذه نحذفها. هذا التزام أنه يحسب له من الكراء نحذفها فإذا أجزناها تكون الثانية والخامسة متساويين إذن أزلنا كلمة يقتص من الكراء في ثانيا. (على أن يعد جزءا من أجزاء المدة المتفق عليها) إذا أزلنا هذه يكون هناك توافق بين ثانيا وخامسا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1864 الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم.. أرى أن تبقى هذه الفقرة خامسا وتقيد برابعا وثانيا لأنها جمعت بين هاتين الفقرتين فرابعا تتحدث عن اتفاق بين المستأجر الأول والمستأجر الجديد وثانيا تتحدث عن الاتفاق بين المالك والمستأجر وهذه المادة خامسا جمعت بينهما. فهذا جائز بشرط بالقيود التي وردت في ثانيا وفي رابعا أي أن المالك يأخذ على أن يكون جزءا من الأجرة والمستأجر الأول يأخذ مع تقييده بما قيدناه به في رابعا وفي رأي أن هذا يزيل الإشكال. الشيخ محمد علي التسخيري: سيدي الرئيس هناك توضيح يحل المشكلة.. هذه الصورة الخامسة إنما تصدق في حالة واحدة وهي ما لو اشترط المؤجر على المستأجر المباشرة في الإجارة يعني منعه من تأجيره من الأول، في هذه الحالة يستطيع المستأجر أن يأخذ في قبال المدة الباقية ويستطيع المؤجر والمالك أن يأخذ في قبال تنازله عن الشرط وإلا فتحذف المادة الخامسة لأنها مغطاة بالرابعة والثانية. الشيخ عبد السلام العبادي: نقول في خامسا: أما تتعلق بالمالك والمستأجر والحالتان عرضنا لهما في ثانيا ورابعا فلا ضرورة لها. الرئيس: إذن ألا ترون تحذف خامسا؟ تحذف يا شيخ عبد الستار. الشيخ عبد الستار أبو غدة: توضيح قبل الحذف خامسا جاءت لتنظيم حالة غير الحالات السابقة وهي أنه يأتي مستأجر جديد قبل انقضاء مدة الإجارة بشهر فيوقع مع المالك عقدا لإجارة هذا الشهر مضافا إليه خمس سنوات أو عشر سنوات، فهنا ينشأ حقان، حق للمستأجر الأول يعوض، وحق للمالك كالحالة الثانية، هي مطبقة كما قيل هنا في المملكة ليعطي للمستأجر وللمالك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1865 الرئيس: على كل طالما أنها تحدث لبسا.. أنا أرى أنها طالما تحدث لبسا واضطرابا أو توهما ونحن نريد أن نخرج نصوصا لا تقبل الاضطراب فالاكتفاء بما حصل في ثانيا وثالثا وتحذف خامسا من المشروع. الشيخ طه جابر العلواني: سيادة الرئيس.. إذا سمحتم لا بد من رفع هذا القرار بالواقع المعاش ولا بد من الإشارة إلى أن هذه التصرفات إنما أحدثتها قوانين لم تلاحظ التغيرات الحادثة في هذا المجال. الرئيس: في الواقع إذا رأيتم أن الشيخ عبد الستار في الديباجة يجعل عبارة مهذبة توحي بهذا الشيء. الشيخ طه جابر العلواني: ممكن أن نقول ما يلي: إذا أحببتم بناء على ما حدث. الرئيس: أعطني مكانها فين مكانها. الشيخ طه جابر العلواني: في الديباجة فقط. الشيخ عبد الستار أبو غدة: أعطني الورقة. الشيخ عبد السلام داود العبادي: نظرا لحساسية هذا الموضوع ودقته أرجو أن يعرض علينا. الرئيس: تحدد العبارة. الآن تحدد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1866 الشيخ عبد الستار أبو غدة: الإضافة المقترحة من الدكتور طه - نقول - بعد الاطلاع على الأبحاث وبناء على ما حدث نتيجة تطبيق بعض القوانين من تصرفات حادثة في قضايا الإجارة وقيام أنواع حادثة من العلاقات بين المالكين والمستأجرين، فإن مجلس المجمع محاولة منه لمعالجة هذه الأحوال والتصرفات الحادثة وتخفيفا لأسباب التنازع بين المسلمين قرر ما يلي: الرئيس: والله لا بد من عبارة لا تتجاوز نصف سطر أو شيئا من هذا القبيل ولكن تعطي إيحاء لأجل قضايا التحكير، هذا القصد؛ لأنه لو جعلنا هذا التثبيت في أول القرار يخرج قضايا التحكير حتى لا يكون أدخلنا أحكاما على أحكام أخرى. الشيخ عبد الستار أبو غدة: مبدأ الخلو موجود في بلاد بدون هذه القوانين لا داعي لها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1867 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (6) دع /08/ 88 بشأن بدل الخلو إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18- 22 جمادى الآخرة 1408هـ، الموافق 6- 12 فبراير 1988م. بعد اطلاعه على الأبحاث الفقهية الواردة إلى المجمع بخصوص (بدل الخلو) وبناء عليه. قرر ما يلي: أولا: تنقسم صور الاتفاق على بدل الخلو إلى أربع صور هي: 1- أن يكون الاتفاق بين مالك العقار وبين المستأجر عند بدء العقد. 2- أن يكون الاتفاق بين المستأجر وبين المالك وذلك في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها. 3- أن يكون الاتفاق بين المستأجر وبين مستأجر جديد، في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها. 4- أن يكون الاتفاق بين المستأجر الجديد وبين كل من المالك والمستأجر الأول قبل انتهاء المدة، أو بعد انتهائها. ثانيا: إذا اتفق المالك والمستأجر على أن يدفع المستأجر للمالك مبلغا مقطوعا زائدا عن الأجرة الدورية (وهو ما يسمى في بعض البلاد خلوا) ، فلا مانع شرعا من دفع هذا المبلغ المقطوع على أن يعد جزءا من أجرة المدة المتفق عليها، وفي حالة الفسخ تطبق على هذا المبلغ أحكام الأجرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1868 ثالثا: إذا تم الاتفاق بين المالك وبين المستأجر أثناء مدة الإجارة على أن يدفع المالك إلى المستأجر مبلغا مقابل تخليه عن حقه الثابت بالعقد في ملك منفعة بقيمة المدة، فإن بدل خلو هذا جائز شرعا، لأنه تعويض عن تنازل المستأجر برضاه عن حقه في المنفعة التي باعها للمالك. أما إذا انقضت مدة الإجارة، ولم يتجدد العقد صراحة أو ضمنا عن طريق التجديد التلقائي حسب الصيغة المفيدة له، فلا يحل بدل الخلو، لأن المالك أحق بملكه بعد انقضاء حق المستأجر. رابعا: إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد أثناء مدة الإجارة على التنازل عن بقية مدة العقد لقاء مبلغ زائد عن الأجرة الدورية، فإن بدل الخلو هذا جائز شرعا، مع مراعاة مقتضى عقد الإجارة المبرم بين المالك والمستأجر الأول، ومراعاة ما تقضي به القوانين النافذة الموافقة للأحكام الشرعية. على أنه في الإجارات الطويلة المدة خلافا لنص عقد الإجارة طبقا لما تسوغه بعض القوانين لا يجوز للمستأجر إيجار العين لمستأجر آخر، ولا أخذ بدل الخلو فيها إلا بموافقة المالك. أما إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد بعد انقضاء المدة فلا يحل بدل الخلو، لانقضاء حق المستأجر الأول في منفعة العين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1869 كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقية إعداد فضيلة الشيخ/ رجب بيوض التميمي عضو مجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقية تحيا الأمم وتنهض وترتقي وتزدهر وتنزع بكيانها إلى الرفعة والحياة الكريمة وإلى القوة والمجد والعزة والفضل والكمال بجميل أخلاقها وحسن سيرها. وقد مدح الله تعالى نبيه ومصطفاه (صلى الله عليه وسلم) بأجمل وصف قائلا له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) . وقد بين (صلى الله عليه وسلم) ما للخلق الحسن من أساس كريم في حياة الأمم بقوله: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) . وقوله (صلى الله عليه وسلم) ((أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا)) . وترتكز صفات العلو في الأخلاق وأحاسنها على الإيمان بالله تعالى والعقيدة الصالحة، فالإيمان بالله تعالى والعقيدة هما الأساس الذي تنبثق منه الأخلاق الحسنة والخصال الحميدة، ذلك أن الإيمان بالله تعالى يطهر القلب من الشوائب الضارة والأمراض النفسية والمفاسد ويجعله صالحا نقيا طاهرا سليما فيصلح الإنسان وتصلح أعماله ويطمئن بذلك قلبه قال الله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (2) وقال (صلى الله عليه وسلم) ((ألا أن في الجسد مضغة إن صلحت صلح الجسد وإن فسدت فسد الجسد ألا وهي القلب)) فالعمل الصالح أساسه الإيمان بالله تعالى فالمؤمن يلتزم امتثال أوامر الله سبحانه وتعالى ويجتنب نواهيه قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) وما هذه المفاسد والشرور والآثام المنتشرة في المجتمعات الناتجة عن الأخلاق السيئة والأفكار الهدامة إلا بسبب البعد عن أوامر الله وشريعته جل وعلا وبسبب فساد القلوب ستعلق النفوس الأمارة بالسوء بالمادة المهلكة الطاغية التي تؤدي بالإنسان إلى ترك الفضائل والسير في طريق المصالح الذاتية والأنانية والبغيضة والفساد والانحدار الخلقي المهلك. فلا بد من مكافحة المفسدات والمنكرات لأننا أن تهاونا في ذلك انتشرت وعمت فهي أشبه في سرعة التنقل والشيوع بجراثيم الأمراض التي لا تلبث إن وجدت في مكان ما أن تنتقل وتنتشر وتعم عملها في المجتمع كله.   (1) القلم: الآية (4) (2) الرعد: الآية (28) (3) العصر: الآيات (1-3) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1870 وقد عني الإسلام عناية كاملة بمكافحة المنكرات والمفسدات وأرشد إلى الطريق الواضح البين في ذلك وجعلنا بسببه خير أمة أخرجت للناس، وهو التمسك بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المرتكز كما بينت على الإيمان بالله تعالى والعقيدة الصالحة المتينة. قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) ، فإذا قامت الأمة الإسلامية بواجبها وامتثلت لأوامر ربها جل وعلا استحقت هذه المكانة الكريمة التي أكرمها الله تعالى بها فيعود العالم والإنسانية عامة إلى الخير والفضيلة والعدل والرحمة. وقد رسم الله تعالى لنا دائرة الخير والفلاح وجعلها منوطة بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والداعين إلى الخير. قال الله جل شأنه {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) وفي هذه الآية الكريمة بيان أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وقد وصف الله تعالى المؤمنين بقيامهم بهذا الواجب وحرصهم عليه بقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) فالتارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن وصف هؤلاء المؤمنين الموصوفين في هذه الآية الكريمة. وقد استحق التاركون للنهي عن المنكر من بني إسرائيل لعنة الله تعالى جل شأنه {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (4)   (1) آل عمران: الآية (110) (2) آل عمران: الآية (104) (3) التوبة: الآية (71) (4) المائدة: الآيات (78-79) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1871 وقد عني الإسلام بسلامة المجتمع وطهارته فوجه المؤمنين لكفاح المفاسد والمنكرات وبين أن أثر المفسدات غير خاص بمرتكبيها وكان الساكتون عليها عاملين على نشرها وإذاعتها، وبذلك يكونون أهلا لحلول العقاب بهم وإصابتهم بما يصاب به المباشرون لها قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (1) وقد روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: ((ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده)) وفي الآية الكريمة والحديث الشريف بيان أن الذنب يصدر عن شخص وهو الفعل نفسه وذنب يصدر عمن يعلم هذا الذنب ويقدر على مكافحته ثم طمعا في المال أو مكانة يبعد نفسه عن مكافحة هذا الذنب وبذلك يكون شريكا في العمل على نشره وإساءة المجتمع بذلك يستحق العقاب كالفاعل نفسه. وبذلك أوجب الإسلام على المسلم أن يقوم بإنكار المفسدات والمنكرات تجاه المجتمع في كل وقت وفي كل مكان وقد قال (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه ((إياكم والجلوس على الطرقات قالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها قال: فإذا أبيتم فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) ولذلك حرص المسلمون حرصا شديدا على القيام بهذه الواجبات ليكون المجتمع فاضلا كريما. كما أوجب الإسلام على جماعة المسلمين أن يسارعوا إلى المحافظة على سلامة المجتمع من الدمار والهلاك والضرب على أيد المفسدين كما أرشدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقد روى النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استووا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا لم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)) رواه البخاري.   (1) الأنفال: الآية (25) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1872 هذا ويشترط أن يكون القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مكلفا شرعا قادرا على ذلك فالصبي والكافر والعاجز مثلا ليس أهلا لذلك ويجب أن يكون مؤمنا لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصرة لدين الله ودعوة إلى الله فلا يجوز من الجاحد لأصله وعدو الله. ويجب أن يكون من أهل الأمانة والعدالة والاستقامة ويكون أهلا للقدوة الحسنة والعمل الصالح حتى يؤثر في النفوس فيهتدي بقوله من يدعوه إلى الخير فلا خير في الفساق وأهل المعصية لأنهم معول هدم وفساد. قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} . (1) . وقوله جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} . (2) . كيفية مكافحة المنكرات والمفاسد: وقد رسم لنا الإسلام الطريق البين الواضح في مكافحة المنكرات وإزالتها وتغييرها وقد أرشدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لذلك بقوله: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم. وفي هذا الحديث الشريف قيست درجات الإيمان بمراتب على مكافحة المفسدات والمنكرات وتغييرها. المرتبة الأولى: التغيير باليد.. وهي أولى مراتب التغيير حتى يتم القضاء على المنكر وإزالتها وهو يكون من ولي الأمر وصاحب السلطان والقوة؛ لأن الله وضع في يده سلطان التأديب ووسائل الردع والزجر بما شرع من عقوبات وبما فرض من تعزيرات. فهم وحدهم القادرون على التغيير العملي العام. ويكون التغيير باليد أيضا من رب الأسرة، فيمن يلي من الأبناء والأهل في الحدود التي بينها الله فيما شرعه لنا، وكذلك الرؤساء والمربون في الحدود التي رسمها الله لنا في شريعته. فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والوالد مسؤول عن ولده، والزوج مسؤول عن زوجته، والمربي مسؤول عمن وكلت إليه تربيتهم، والرئيس مسؤول عن مرؤوسيه. وسيحمل الجميع أمام الله ذنوب من يسألون عنهم، وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي (صلى الله عليه وسلم) : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والأمير راع والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولدها فكلكم مسؤول عن رعيته)) متفق عليه.   (1) البقرة: الآية (44) (2) الصف: الآية (2-3) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1873 المرتبة الثانية: التغيير بالقول.. ويكون بالوعظ الحسن المؤثر في القلوب والنفوس ببيان آثار المنكر في حياة الشخص وفي صحته وكرامته وفي رضا الله والمجتمع عنه. وببيان أن المفسدات تفقد الإنسان إنسانيته ومكانته في المجتمع فيكون محتقرا لا شأن له. ويجب أن يقوم بهذه المهمة أهل العلم والتربية بجميع الوسائل المتاحة. وهم مسؤولون أمام الله والجميع من موقفهم من المنكرات وهم قادرون على التغيير بالقول. وعليهم أن يتحلوا بالحكمة التي يكون لها التأثير في طهارة المجتمع وإزالة المفسدات المهلكة التي تبعده عن معاني الحياة الفاضلة. المرتبة الثالثة: التغيير بالقلب.. يجب أن يكون للتغيير بالقلب أثره الإيجابي لأن الإنكار السلبي لا يصدق عليه تغيير، والتغيير في واقعه من مقتضي أهل الإيمان وأن من لم ينكر المعصية بقلبه لا يكون مؤمنا بأنها معصية. والتغيير بالقلب يكون بقطع الصلات التي تربط المؤمن بمرتكب الفساد والمنكر. فلا يجالسه ولا يعامله ولا يؤاكله ولا يعينه ولا يقضي له حوائجه، وأن يقاطعه مقاطعة تامة حتى يشعر مرتكب المنكر والفساد بعزلته وبتحقير المجتمع له ونبذه وهذا التغيير بالقلب له أثره في تغيير المفاسد وإزالتها وهو أدني مراتب التغيير ومن أضعف الإيمان. وهذه المراتب الثلاثة للتغيير جعلها الرسول (صلى الله عليه وسلم) وسيلة لتطهير المجتمع من المنكرات والمفاسد. وهي مسؤولية أمام الله يجب على جميع المسؤولين أن يقوموا بها إيمان وإخلاص لتطهير المجتمع من عوامل الشر والفناء والهلاك ولنسير بمجتمعنا إلى طريق الخير والفضيلة والكمال ليكون مجتمعنا قويا يقود العالم إلى الرحمة والعدل والرشاد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) .   (1) الأنبياء: (107) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1874 منهج مكافحة المنكرات والمفاسد: إذا نظرنا نظرة دقيقة في أحوال مجتمعنا الحاضر لوجدنا أن هناك عوامل كثيرة عملت على إفساده في جميع شؤونه السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومن أهم العوامل قيام المستعمر الكافر منذ بداية هذا القرن بتنظيم مخططات مدروسة لإضعاف المسلمين وإبعادهم عن دينهم مصدر قوتهم فوجه سهامه الفكرية الهدامة وثقافته الفاسدة لغزو المجتمع الإسلامي وإفساده بكل وسائله فعمل على إفساد الأسرة وتفكيكها حتى تركت المرأة بيتها للعمل وأهملت تدبير شؤون بيتها وتربية أولادها، وضعفت صلات المودة والحنان والعطف التي تربط الأسرة برباط متين (والأسرة هي اللبنة الأولى الأساسية في بناء المجتمع) وعمل الاستعمار الكافر على نشر الخلاعة والفجور بإنشاء دور الملاهي والسينما الخليعة التي تفتك بأخلاق الشباب والفتيات حتى خرجت المرأة من خدرها واختلطت بالرجال وتبرجت تبرج الجاهلية الأولى وعمل على إفساد وسائل الإعلام ببرامج التوجيه الفاسدة وأفسد مناهج التعليم التي أنشأت جيلا من أبناء المسلمين يجعلون تعاليم دينهم وفكرهم وثقافتهم الإسلامية وعمل على إدخال نظامه الكافر في اختلاط التعليم بين الشباب والفتيات في المدارس والجامعات ونشر المفاسد الأخرى في مجتمعاتنا وولي أمر توجيه التعليم ووضع المناهج الفاسدة لمن رباهم بأفكاره الفاسدة وثقافته الكافرة البعيدة عن الإيمان وعقيدة الأمة ليعملوا على هدم المجتمع الإسلامي بمخطط مدروس في جميع شؤون الحياة في الأسرة والمدرسة والنوادي والإعلام والأنظمة والقوانين، وعمل المستعمر الكافر على إنشاء البنوك والمصارف الربوية حتى شاع الربا في المجتمع وأصبح من أسس النظام الاقتصادي ولولا وجود المعاهد والجامعات الشرعية في البلاد الإسلامية التي حافظت على شريعة الله وتراث الأمة، ولولا بقية من أهل العلم والفكر الإسلامي وأهل الفضل والخير وهم بحمد الله كثير، لعم البلاء وخيم الظلام وضلت الطريق. لذلك يجب أن يتدبر المصلحون المخلصون من أهل العلم والفضل أمرهم فيعملوا على وضع المخططات المدروسة التي تقاوم هذا الغزو الفكري والثقافي الكافر لإنقاذ المجتمعات الإسلامية والأمة من أعدائها المتربصين بها حتى تأخذ الأمة الإسلامية مكانتها الكريمة التي أرادها الله وعلا لها لتقود العالم نحو الخير والكمال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1875 ويمكن اتباع المنهج التالي في مكافحة المفسدات والمنكرات: أولا: إصلاح الأسرة: يجب العمل والاهتداء بأوامر الله جل وعلا في تربية الأولاد تربية إسلامية في البيت بتنشئتهم على الآداب والأخلاق الإسلامية بغرس الروح الإيمانية في نفوسهم وتعليمهم شؤون دينهم وإرشادهم إلى أداء الواجبات الدينية المفروضة على صلاة الصلوات المفروضة في أوقاتها وصيام شهر رمضان وليكون كل من الأب والأم قدوة صالحة لهم بقيامهم بالشعائر الدينية والتمسك بالدين الحنيف وليتمثل رب الأسرة بحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر)) فالصلاة عماد الدين تطهر القلب وتهذب النفس، وبذلك تكون الأسرة لبنة خير وصلاح المجتمع الإسلامي الكريم. ثانيا: المسجد والمدرسة: إن المسجد هو مركز الإشعاع ونور الهداية في المجتمع الإسلامي وقد كان المسجد مركز القيادة في جميع الشؤون من سياسة وعسكرية واجتماعية واقتصادية وكانت المساجد معاهد للدرس والمعرفة ثم أنشئت دور التعليم بجانب المساجد وكانت مرتبطة بها وهما مصدر هداية وإرشاد للمجتمع في جميع شؤون الحياة. لذلك يجب العناية عناية تامة بالتوجيه في المساجد والمدارس للتمسك بالشرع الشريف وامتثال أوامر الله جل وعلا ومقاومة التيارات الفكرية الهدامة والثقافة الفاسدة والعمل على مكافحة المنكرات والمفاسد. ثالثا: الثقافة والإعلام: يجب أن يحرص القائمون على توجيه المجتمع بالثقافة الإسلامية، أن يرشدوا الناس بأخبار السلف الصالح من علماء ومفكرين ومصلحين وبسِيَر صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبالتاريخ الإسلامي المجيد وبالآداب الكريمة وأن يقوم الموجهون في الإعلام في الصحافة والإذاعة والتلفاز بتعليم الناس بالتعاليم الإسلامية والتربية المهذبة للنفوس. وأن تتجنب الصحافة والإذاعة والتلفاز كل الأفكار والمشاهد الفاسدة التي تضر بالمجتمع. ويجب أن يكون الموجهون من المؤمنين المخلصين لدينهم وأمتهم وأن يعملوا لمقاومة التيارات الفاسدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1876 رابعا: القوانين والتشريعات: يجب أن يعود المجتمع الإسلامي إلى سابق عهده بسيادة التشريع الإسلامي في المجتمع وتطبيقه أن يعمل العلماء والمصلحون على نبذ الأنظمة والقوانين الوضعية المخالفة لشريعة الله تعالى ويجب أن يعمل الحاكم على رعاية تنظيم وتطبيق الشريعة الإسلامية ليعيش الجميع في ظل الإسلام في طريق الخير والهداية والرشاد ويسير نحو الرقي والخير والكمال. خامسا: النوادي والنقابات: يجب العناية بالنوادي والنقابات وتوجيه الشباب فيها توجيها إسلاميا بالحكمة والموعظة الحسنة ليتسلح الجميع بالأفكار والثقافة الإسلامية ليقاوموا التيارات الفاسدة والأفكار الهدامة وليرتبط الجميع بالمسجد والمدرسة للسير بالمجتمع نحو التقدم والفضيلة. سادسا: الندوات والاجتماعات: يجب أن يقوم العلماء والمفكرون والدعاة بتنظيم الندوات والاجتماعات لتوجيه الشباب وتثقيفهم بآداب الدين الحنيف والأخلاق الحسنة والأفكار الإسلامية بإلقاء المحاضرات في التفسير والحديث الشريف والتاريخ الإسلامي وأخبار العلماء والمصلحين. ولهذه الندوات والاجتماعات تأثير مفيد وفيها تكون المناقشة والحوار لاكتشاف المعلومات وإبداء المقترحات فيعمل الجميع على إصلاح المجتمع وصيانته من الأفكار الكافرة الهدامة والثقافة الدخيلة. أرجو أن يكون هذا المنهج من المناهج التي يمكن بها مقاومة المناهج والمخططات التي ينظمها أعداء الأمة لإفساد مجتمعنا وإبعاده عن دين الله القويم مصدر قوته وعزه ومجده. فعلى العلماء والمفكرين والمخلصين من رجال الأمة الإسلامية أن يصدقوا ما عاهدوا الله عليه لخدمة الإسلام وأهله ويقوموا بإعداد المخططات والدراسات وتنفيذها ليردوا كيد الكائدين من أعداء الله. والله لا يضيع أجر من أحسن عملا {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (1) والله ولي التوفيق. رجب بيوض التميمي   (1) التوبة: الآية (105) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1877 كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقية إعداد الشيخ هارون خليف جيلي عضو مجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله الذي خلق فهدى، وأرسل إلينا رسولا كريما، رؤوفا رحيما، بكتاب كريم. فيه تبيان لكل شيء، وهدى ورحمة للمؤمنين. ومدح فيه نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) بالخُلُق العظيم. بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) . والصلاة والسلام على هذا النبي الكريم، والسيد المطاع، سيدنا محمد صاحب الخلق العظيم، القائل: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) . وعلى آله الكرام وصاحبته الأخيار ومن اهتدى بهديه، وتخلق بخلقه. وبعد، فلما رأيت في جدول البحوث الفقهية المزمع عرضها في الدورة الرابعة لـ (مجمع الفقه الإسلامي بجدة) هذا العنوان (كيفية مكافحة المفاسد الخلقية) جذبني إليه لأهميته وخطورته في مجتمعنا المعاصر. فاخترته للبحث فيه من بين زملائه قدر ما تسنح لي الفرصة، ويوفقني الله الكريم فيه أنه جواد كريم. وإن البحث في مثل هذا الموضوع بحثا علميا وفقهيا يحوجنا أولا إلى تعريف الخُلُق، ومنشئه ومقاصده ومكانته وأنواعه وأثره في سلوك الفرد والجماعة. ثم إلى تعريف مفاسد الأخلاق وأسبابها ومظاهرها وأضرارها ثم الإشارة إلى الطرق التي عالجها الإسلام قديما، ثم المحاولة إلى الاهتداء للكيفية الناجحة لمكافحة تلك المفاسد الخُلُقية بإذن الله. وسيكون بحثي في أكثر نقاطه موجزا وعابرا غير عميق، وربما يكون بعضها أطول من بعض لأهميته أو لنكتة أخرى. كما ستراه – أن شاء الله - في نقطة (الملاهي المحرمة- الأغاني- الاختلاط- التبرج) . وسأقسم كلامي المتواضع حول هذا الموضوع الحساس الهام المتراطم الأطراف إلى خمسة فصول في كل فصل منها عدة مباحث. كالآتي: الفصل الأول: (مفاهيم الأخلاق، ومنشؤها ومصدرها) . الفصل الثاني: (قيمة الأخلاق في الإسلام) . الفصل الثالث: (الأخلاق وأنواعها) . الفصل الرابع: (أهم أسباب الانحراف والانحلال) . الفصل الخامس: (طرق مكافحة المفاسد الخلقية) . والله أسأل التوفيق والسداد. وهو حسبي ونعم الوكيل.   (1) القلم: الآية (4) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1878 الفصل الأول المبحث الأول في مفاهيم الأخلاق ومنشئها ومصدرها في الأخلاق لغة واصطلاحا الأخلاق لغة: جمع خُلُق. والخلق بضم الخاء واللام هو: الدين والطبع والسجية، وحقيقته صورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها، وهي بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها. فحقيقة الإنسان وقيمته بصورته الباطنة وما فيها من أخلاق حسنة أو رذيلة. (انظر: ابن الأثير في غريب الحديث. ومختار الصحاح) ص: (206و 309) . أما في الاصطلاح: فإن الخُلُق: يطلق على الصفة التي تقوم بالنفس على سبيل الرسوخ، فيستحق الموصوف بها المدح أو الذم. ويطلق على التمسك بأحكام الشريعة الإسلامية السمحة فعلا وتركا. وقيل: هو قواعد من السلوك التي يلتزمها الإنسان الذي يعيش في جماعة. فمن الأول: قول النبي (صلى الله عليه وسلم) لأشج عبد القيس ((أن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم، والأناة)) قال: يا رسول الله أخلقين تخلقت بهما أم جبلت عليهما؟ قال: ((بل جبلت عليهما)) . قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله. رواه أبو داود والترمذي والبخاري ومسلم. ومن الثاني قوله (صلى الله عليه وسلم) ((البر حسن الخلق)) . رواه: مسلم والترمذي. وقول عائشة (رضي الله عنها) وهي تصف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (كان خلقه القرآن) . رواه مسلم. ومن الثالث: ما نسب لبعض العلماء الاجتماعيين، من إنهم يقولون: إن الأمم المتوغلة في البدائية لم تعش من غير سلوك في جماعتها، فالجماعة هي التي وضعت نفسها قواعد لسلوك خاص لتسير عليه وتضمن لنفسها البقاء إذا حرصت على التزام تلك القواعد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1879 المبحث الثاني: في مفهوم الأخلاق: أن الأخلاق عند أرسطو وأفلاطون ومن وافقهما لا تخرج عن دائرة السعادة –راحة النفس وسرور الفرد. وإنها عند الماديين لا تخرج مبادئها من أنها ظواهر اجتماعية تفرض على الأفراد دون أن يكون للفرد دخل في بنائها أو في الإيمان بها. وتقول نظريتهم هذه: (إن الأخلاق تختلف عن الدين، وإنها من استجابة النفس إلى الوسط الذي تعيش فيه، فإذا تغير الوسط تغيرت الأخلاق، وإن الأمم لا تحتاج إلى الدين، ولكنها تحتاج إلى الأخلاق، فالأخلاق هي التي ترفع الأمم إلى مستوي الرقي والتقدم لا الدين، وأن (أوربا) لم تنهض من الحضيض إلى العلياء إلا بالأخلاق، فيمكن الاستغناء عن الأديان اكتفاء بالضمير الإنساني الدافع إلى عمل الخير) إلى آخر ما روي عن أقطابهم. فمجمل نظريتهم هذه: أن الأخلاق نتاج للبيئة، تختلف من شعب لآخر ومن حقبة لأخرى، فهي مادية الأصل. ولا ريب أن المفكر المسلم لا يرى لتلك النظرية آية قيمة أساسية، بل يرى فيها خلطا بين الأخلاق والتقاليد، وبين الأصول التي جاءت بها الأديان السماوية والأعراف التي أقامها الناس. وأما في الإسلام وشريعته المباركة: فإن الأخلاق تقوم على أساس التقوى من الله خالق هذا الكون والذي جعل الناس خلفاء في الأرض. وعلى أساس الجمع بين الدنيا والآخرة. قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (1) فالأخلاق الإسلامية أخلاق تقوِّي الإنسان وتقومه، بما تحمله من معان سلبية وإيجابية، كالتجنب عن الحرام، والإقبال على الحلال. وكالتجرد عن الرذائل والتحلي على الفضائل ... فالإسلام يعتبر الأخلاق أنها منهاج عملي، غايته التعاون في الحياة، واحترام القيم الإنسانية، وحسن المعاملة. وأن مبدئها الأساسي يقوم على الإرادة والمسئولية والجزاء.   (1) القصص: الآية (77) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1880 والإسلام ربط بين الدين والأخلاق، فلا انفصام بينهما ولا انفصال، فمن لا خُلُق له لا دِينَ له، ومن لا دين له لا خلق له. فجعل الإيمان بالله وعاء الأخلاق. وفرق بين الأخلاق والتقاليد. فالأخلاق ثابتة ومتصلة بالقيم العليا، لأنها من صنع الله.. وأما التقاليد: فهي وسائل عارضة، وتختلف وتتغير مع تغير الزمان لكونها من صنع البشر ... ولا شك أن فكرة الالتزام الخلقي هي العنصر الأساسي الذي تدور عليه القيم الأخلاقية، فإذا زالت فكرة الالتزام يضيع جوهر الحكمة العقلية والعملية التي تهدف الأخلاق إلى تحقيقها، وإذا انعدم الالتزام انعدمت المسؤولية حتما، وإذا انعدمت المسؤولية ضاع كل أمل في وضع الحق في نصابه وإقامة العدالة ... وهذه النتيجة واضحة في واقع المجموعة البشرية الآن إلا ما ندر، فالأخلاق قد فقدت الالتزام من المجتمع إلا ممن قل وندر فانعدمت المسؤولية والأمانة والإحسان والعفة.. فضاع الأمل في إصلاح سلوك الناس عند كثير من المفكرين. المبحث الثالث: مصدر الأخلاق ومنشؤها: قيل إن الأخلاق تكونت من تجمع جماعة ما من الجماعات البدائية، حيث تكونت لدى هؤلاء البدائيين مبادئ أربعة هي أصول الأخلاق وأمهاتها. وهي: 1- منع القتل في القبيلة الواحدة: فقالوا: إن من قتل فردا من أفرادها هدد بالانتقام من شبيه القتيل. وهذا الشبيه هو (العفريت، أو الهامة) ، العقاب اللازم. وتنتقم الروح لصاحبها شر انتقام، فتصب على القبيلة الجوائح حتى تثأر لها. 2- منع السفاح: فقالوا: إن علاقة الرجل بالمرأة لا بد لها من حفل كبير، تجتمع فيه الأسرتان –أسرة الزوج والزوجة- عند شيخ من شيوخ القبيلة. ويترتب على تلك العلاقة تبادل شيء من ممتلكاتهما.. وأن كل علاقة تتم بغير هذه الطريقة تعتبر سفاحا. وهي جريمة لها عقوبة شديدة حيث تهدد القبيلة كلها في كيانها.. فتصب بها الصواعق والرعود والرياح اللافحة، فتصيب الزرع والضرع، وتستمر تلك المصيبة حتى يتم القبض على المجرم. 3- منع السرقة: فلا يتعدى أحد على ما في يد غيره من مال، خوفا من العقوبة المنتظرة التي ستهدد القبيلة كلها. وكانوا يضعون علامة على المنزل الذي فيه مال أو الحديقة، ليعلم كل من سولت له نفسه أن يسرقه أن المكان مقدس ومحروس. فمن مس هذا المال أو أخذ منه شيئا ليسرق، فإنه يتعرض للهلاك وتتعرض قبيلته للتهلكة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1881 4- حرمة الحاكم مصونة: كانوا يعتقدون أن حكامهم مقدسون لا يخطئون، وأنهم يشعرون بتقديس قبائلهم، وأنهم أصدقاء الكهنة والسحرة، فكان المساس على شرف الحكام جريمة موجبة للجائحة والتهلكة. انظر: (الخلق والدين) د. إبراهيم سلامة. فعند أصحاب هذا القول (فريزير) ومن على شاكلته من علماء الاجتماع – أن الحضارة الأخلاقية أخذت من المبادئ الأربعة قبل ظهور الأديان السماوية الصحيحة. ولا شك أن هذه المبادئ الأربعة قررتها الأديان الصحيحة نسبيا. فالإسلام يحرم كلا من السفاح، والسرقة، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ويعطي الحاكم الذي يحكم بما أنزل الله حقه من الطاعة والقبول.. فالإسلام دين الفطرة. جاء ليحدد لتلك الفطرة سبيلها إلى بارئها تحديدا يرتفع بها إلى ربها راضية مرضية ومطمئنة. وإن الجوائح أو العقاب الجماعي الذي يهدد القبيلة التي فعل فيها الذنب عقاب أقره الإسلام. قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (1) وحديث أصحاب السفينة الذين اقترعوا على متنها مشهور بدلالته على ذلك دلالة واضحة. ولكن المسؤولية الجنائية تعود على الفرد. قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (2) . وإذا أمعنا النظر حول هذه القضية في آيات القرآن نجد أن العقوبة الجماعية ومسؤوليتها مع المسؤولية الفردية ملموسة في قوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (3) . فالأمة إذا تركت المذنب فيها بلا عقاب زاجر، فلا شك أنها تكون أمة آثمة وفاسقة، فتستحق التدمير، والعقاب الصارم، والعذاب الأليم.. قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (4) .   (1) الأنفال: الآية (25) (2) الأنعام: الآية (164) (3) المائدة: الآية (79) (4) الإسراء: الآية (16) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1882 فالمسؤولية الفردية مسئولية مقررة. والمسؤولية الجماعية تعود إلى الفردية إذا لم تنهه ولم تعاقبه، فيكون كل فرد من الجماعة سائلا ومسؤولا عن نفسه، وعن غيره. وتصير الأمة كلها أمة قد استوجبت العقاب والعذاب الشامل. وقيل: إن أمهات الأخلاق وأصولها ومصادر بقينها أربعة: وهي (الحكمة، الشجاعة، والعفة، والعدل) . فالحكمة: حالة للنفس، فبها يدرك الإنسان الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الاختيارية. والعدل: حالة للنفس وقوة فيها تَسُوس الغضب والشهوة فتحملها على الحكمة، وتضبطها في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاها. وأما الشجاعة: فهي كون قوة منقادة للعقل، في إقامتها وإحجامها.. ,إما العفة: فهي قوة تؤدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع. فمن اعتدال هذه الأصول الأربعة تصدر الأخلاق كلها جميلة.. ومن عدم اعتدالها تصدر الأخلاق كلها سيئة وقبيحة.. اهـ. قال الإمام الغزالي في (إحياء علوم الدين) (جـ3/ 53) : والقول الحق الذي لا نقول غيره هو: إن الدين مصدر الأخلاق ومقيدها، لا الإنسان العادي، ولا الجماعة التي يعيش فيها، ولا الحكام البشرية. وأن كلا من الحكمة والشجاعة والعفة والعدل كلها من الأخلاق الكريمة المؤثرة في سلوك الإنسان. وأن الأمم البدائية ما عرفت أصول المحرمات والممنوعات إلا على لسان نبي أو رسول من عند الله، ولو لم نعرفه، لأن القرآن الكريم يدلنا على ذلك. فالله لم يترك أمة إلا وقد أرسل إليها رسولا كريما.. قد عرف لنا رسالتهم جملة من غير تفصيل. قال تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (1) .   (1) غافر: الآية (78) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1883 الفصل الثاني قيمة الأخلاق في الإسلام المبحث في مكانة الأخلاق الفاضلة بالنسبة للحياة ونظمها: إن مكانة الأخلاق في نظر الإسلام مكانة مرموقة لأنها عنصر أساسي في أي عمل من أعماله، فعلا وتركا. فلا يخلو عنها عمل إسلامي مهما كان نوعه ... فللإسلام شعب تكليفية كثيرة ومتنوعة، لا يستغني واحد منها من حسن الخلق منها: شعبة العقيدة –الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.. وهذه الشعبة هي الأساس الأول ليكون الإنسان مسلما عند الله. فلا بد لصحة هذه العقيدة من صدق وأمانة.. وفي الحديث: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) رواه الطبراني وأحمد. ومنها: شعبة العبادات والتقرب إلى الله تعالى. وهذه الشعبة هي الأثر الظاهر الوحيد للصدق في الشعبة الأولى. وغذاؤها الذي يقويها وينميها، كما لا يخفى.. ومنها: شعبة نظم الحياة والمعاملات وفق ميزان العدل والحكمة. ومنها: شعبة علاقة الإنسان بالحياة والمعيشة. ومنها: شعبة الكون الفسيح أمام الإنسان وخلافة الأرض. فقد أباح الإسلام للإنسان في علاقته بالحياة والمعيشة أن يتمتع بكل نعمة من نعمها على شكل لا يخرجه عن القصد والاعتدال.. قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (1) . وأشعر (شعبة الكون أمام الإنسان) بعبارات واضحة من حيث تسخيره له ليعمل فيه ويكدح، ويؤدي الخلافة، فالله [هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا] فسخر له الشمس والقمر، والليل والنهار والأرض الجبال، والبحار والأنهار وكل ما في الكون.. ووجه إلى البحث والنظر فيه لاستخراج أسراره وكنوزه ... ولا شك أن قوام الانتفاع بهاتين الشعبتين، وقوام الصدق في الشعب السابقة: العقيدة، والعبادة، والمعاملات إنما هو يتوقف بشعبة أخرى هي شعبة الأخلاق. لما دلت الرسالات الإلهية في جميع مراحلها المختلفة من امتناع تحقيق أي شعبة منها على وجهها الصحيح إلا بالخلق الحسن: 1- أن السعادة التي جعلت هذه الشعب سبيلا إليها لا بد إلى وصول تلك السعادة من حسن الخلق. 2- وأن الإيمان الذي يرجع إلى مجرد العلم بوحدانية الله.. لابد لبقائه من حسن الخلق. 3- وأن العبادة التي ترجع إلى الصور والأشكال الظاهرة لا تستغني عن حسن الخلق.   (1) الأعراف: الآية (32) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1884 4- وأن النظم الاجتماعية والقانونية والفقهية المحفوظة في صدور الناس لا بد لها من الخلق الحسن. 5- وأن المتعة بالحياة التي ترجع إلى إصابة لذائذها وتحصيلها لا بد لها من الخلق الحسن. 6- وأن نظرة الإنسان إلى الكون الفسيح التي ترجع إلى مظاهره العامة لا بد لها من خلق سليم. وهذا كله معلول: بأن انقطاع هذه الشعب في جوهرها عن شعبة الأخلاق أو انقطاع شعبة الأخلاق عنها لَمَمًا يهدم في النفوس وفي الحياة أثر الحكمة الإلهية في الإنسان على التكليف بهذه الشعب. ومن هنا نعلم أن الخلق المطلوب لصون هذه الشعب ليس مجرد معرفة (الصدق) مثلا بأنه فضيلة فقط، و (الكذب) بأنه رذيلة. و (الإخلاص) بأنه سمو، و (الخيانة) بأنها انحطاط. ولا هو مجرد الحديث فيما بين الناس من ذلك ... وإنما الخلق الفاضل هو انفعال النفس وتأثيرها بما ينبغي أن يفعل فيفعل، وبما لا ينبغي أن يحصل فيترك. فالخلق بهذا المعني [هو صمام تلك الشعوب، والمعتصم الذي يعتصم به كل من أراد أن يكون مسلما] فالعقيدة بلا خلق كشجرة بلا ظل ولا ثمر.. والخلق بدون عقيدة كظل لشبح غير مستقر. ومن هنا كانت عناية الإسلام بالخلق عناية تفوق كل عناية حتى وصلت عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنها من متعلقات الرسالة حيث يقول (صلى الله عليه وسلم) : ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) رواه الإمام مالك في الموطأ وأحمد والبيهقي. وقد كثرت توصياته بها حتى قال: ((أثقل ما يوضع في الميزان حسن الخلق)) أبو داود والترمذي وصححه. حتى وصف الخلق بأنه هو الدين، ففي الحديث: ((أن رجلا جاء إليه ذات يوم، وقف أمامه (صلى الله عليه وسلم) فسأله: ما الدين يا رسول الله؟ فقال (صلى الله عليه وسلم) : (حسن الخلق) ثم جاءه من قبل يمينه فسأله نفس السؤال الأول، فأجاب: بأنه حسن الخلق. ثم من الشمال ومن الخلف والسؤال واحد والجواب واحد)) . رواه: محمد بن نصر المروزي. وقيل له (صلى الله عليه وسلم) : إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيئة الخلق، تؤذي جيرانها بلسانها، فقال: ((لا خير فيها أنها في النار)) رواه: ابن حبان والحاكم وصححه. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) . وقال (صلى الله عليه وسلم) : ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا)) رواه: أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم (الإحياء) .   (1) الأعراف: الآية (33) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1885 فالأخلاق الفاضلة هي ميزة الإنسان الكامل في أمته وهي من صفات سيدنا محمد –عليه الصلاة والسلام- فقد قال الله تعالى: في حسن سلوكه وسجيته: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) . وكان ذلك برحمة من الله ورعاية منه وحده، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (2) . وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (3) . فحقا كان (صلى الله عليه وسلم) كما وصفه الله صاحب الخلق العظيم. متخلقا بكل خلق كريم ومبتعدا عن كل وصف ذميم، فكان أمين الأمة، وأرحم الناس للناس وأنصحهم، وأفصحهم لسانا، وأقواهم بيانا، قبل النبوة وبعدها. بشهادة زوجته أم المؤمنين خديجة –رضي الله عنها- حين قالت له: (كلا والله لا يخزيك الله إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتُقْرِي الضيف، وتُعين على نوائب الحق) . ولا شك أن الأخلاق الفاضلة هي الدعامة الأولى لحفظ كيان الأمم وتقدمها في ميادين الحياة.. فهي عنصر ضروري للفرد. لصالح نفسه، وللمجتمع في جملته.. فكما يضر الفرد ويفسد أعماله أن يكون كذابا مرائيا حسودا شريرا ماكرا إلخ.. فكذلك تفسد الجماعة شيوعها في آحادها.. فالإنسان لا يحفظ إنسانيته عن الانحطاط إلا بالأخلاق الفاضلة، والأمة لا تحفظ كيانها عن التحلل والاضمحلال إلا بها. ولهذا اتجهت عناية بعض الفلاسفة والمشرعين العاملين على إنهاض الجماعات الأوربية –في أول الأمر- إلى الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، لأنها هي الدعامة الأولى في بناء كل مجتمع سليم.. قال الفيلسوف (شاتوبريان) : (الأخلاق أساس كل مجتمع) (4) . ولكنهم ما طبقوا على ذلك بل عكسوا الأمر كله، فقتلوا كل فضيلة وأقبروها، وفسحوا كل رذيلة ونشروها، مع اعترافهم بأن الأخلاق الفاضلة فيها كمال الإنسان وسعادة المجتمع. كما أن الأخلاق السيئة فيها انهيار الإنسان وخراب الأمة. فماتت الفضيلة لدى تلك الأمم في مهدها لأنهم ما أخذوها من مصدرها الأصيل، فما عرفوها حق معرفتها. وما راعوها حق رعايتها. وما قدروها حق قدرها.. فغيروها وبدلوها كبدلهم (الإحسان) بالضريبة..   (1) القلم: الآية (4) (2) آل عمران: الآية (159) (3) التوبة: الآية (128) (4) انظر روح الدين الإسلامي، العفيفي الدين طبارة (ص 204) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1886 وإن الأخلاق الفاضلة في نظر الإسلام إنما هي تفجير للطاقة في طريقها الصحيح. سواء كانت الطاقة علمية أو عقلية، أو روحية، أو نفسية، أو جسدية. فلا تعطيل لطاقة منها: فالعلم فريضة، ((طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)) البخاري وابن ماجه. والتفكير فرض {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} (1) . والصفاء الروحي فريضة، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (2) .والتخلق بالخلق الفطرية فريضة. قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (3) وتدريب الجسم فريضة مقدسة قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} (4) والزواج أفضل من التفرغ للعبادة. ففي الحديث ((لا رهبانية في الإسلام)) . ((ومن استطاع منكم الباءة فليتزوج)) رواه الجماعة. وإن كثير من أخلاق النفس تموت لعدم تنميتها.. فترتقي الأخلاق الفاضلة عند الإسلام، من الحنان إلى الكرم.. إلى الحلم.. إلى الرحمة.. إلى اللطف.. فهكذا كل خلق في النفس ينمي تنمية صحيحة. وإن الأمراض الخلقية النفسية –كالحسد والغل والكبر تجتث اجتثاثا عند الإسلام. وإن الإنسان يحقق بخلقه الإسلامية حكمة وجوده، فيكون سيد الكون وعبدا لخالقه. فالأخلاق تجعل الإنسان إنسانا يؤدي كل ذي حق حقه، فيكون في وضعه السليم.. ومن أجل هذا صاغ الله تعالى جوانب الحياة الإنسانية صياغة أخلاقية. كالجانب النظري، والعقلي، والعقائدي، والعبادي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي.. فصيغ كلها بشكل متكامل ومتناسق.. فالأخلاق إذا هي الميزان الذي يوزن به صفة الإنسانية عند البشر فمن أخذ حظا وافرا منها كان الإنسان الكامل، ومن قل حظه منها كان إنسان قليل الفائدة كثير الضرر.   (1) سبأ: الآية (46) (2) الشمس: الآيات (9-10) (3) الروم: الآية (30) (4) الأنفال: الآية (60) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1887 ومن لم يأخذ منها شيئا كان كالحيوان المفترس.. لأن الإنسان إذا لم يتخلق بالأخلاق الفاضلة فلابد أن يكون شريرا أو بهيميا. فإن كان يغلب عليه الجانب البهيمي فيجري وراء الشهوات والملذات.. وإن كان يغلب عليه مزاجه الجانب الشيطاني دبر المكائد وفرق بين الأحبة.. وإن كان عصبيا جعل همه العلو في الأرض والفساد. وعلى كل حال فمكانة الأخلاق الفاضلة مكانة عظيمة، حيث لا يستغني عنها من أعمال الإنسان، مهما كانت نوعيته. سواء كان عملا فرديا كالعبادات، أو جماعيا كالمعاملات.. دنيويا كان أو أخرويا.. قوليا كان أو فعليا.. فلا إيمان لمن لا خلق له، ولا دين لمن لا أمانة له.. ولا عز ولا شرف ولا كرامة ولا وجود لأمة لا خُلق لأفرادها. قال الشاعر الحكيم: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا وإن الحكم في حسنها وسيئها من الله. وتبيينها من الرسل الكرام، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) وقال (صلى الله عليه وسلم) : ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) رواه الإمام مالك وأحمد والبيهقي وقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة. وفي الحديث أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: ((حسنوا أخلاقكم)) . رواه بكر بن لال في (مكارم الأخلاق) انظر الإحياء جـ3 ص48. وقد علمنا بفعله وقوله (صلى الله عليه وسلم) أن كلا من الصدق والأمانة، والوفاء والإخلاص وأدب الحديث، وسلامة الصدر من الأحقاد، وقوة العزيمة، والحلم والأناة والقصد والعفة والطهارة والحياء، والعدل والسخاوة، والإخاء ... علمنا كلها أنها حسنة وإنها من مكارم الأخلاق. فأرشدنا إلى التخلق بها. وكذلك علمنا (صلى الله عليه وسلم) أن كلا من الكذب والخيانة، والخلف والنفاق والبذاءة والحقد والميوعة والإسراف والشره والفحش والخلاعة، والظلم والبخل، والبغضاء.. وغيرها من الخصال الخبيثة. علمنا كلها أنها من سيئات الأخلاق فحذرنا منها بما سنذكره في الفصل الثالث من هذا البحث –إن شاء الله-.   (1) القلم: الآية (4) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1888 المبحث الثاني في مقاصد الأخلاق الفاضلة إن للأخلاق الفاضلة مقاصد هامة. منها: (حفظ اللسان، والدين، والعقل، والعرض، والمال، وأداء المسؤولية..) 1- فلا يحفظ الإنسان نفسه ولا نفوس إخوته من الناس إلا إذا أحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، وأصلح نفسه ونفوس الآخرين ممن في كنفه من أهل وأولاد وأصحاب، ونصح قومه: لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإذا لم يحب الإنسان لمن يعيش معه ما يحب لنفسه، ولم يكره له ما يكره لنفسه، فلا تسلم نفسه من غائلة.. وإذا لم يصلح نفسه وأهله لا بد أن يصبح فريسة لكل فساد.. وإذا لم ينصح مجتمعه ولم يأخذ يد العابث فلا بد أن يهلك مع الهالكين.. 2- ولا يحفظ الإنسان دينه من الضياع إلا إذا تحلت نفسه بمحافظة أعضائه وأعصابه على أداء ما أوجبه الله عليه باستقامة وإخلاص.. وإلا إذا تخلي عن جميع المخالفات من الأذى والخلف والخيانة والكذب والزنا والفحشاء والمنكر وسوء المعاملة فليحفظ الإنسان دينه –إسلامه- وإيمانه حرم الأذى. والخيانة والزنا لقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) . متفق عليه. ولقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) رواه: البخاري ومسلم والنسائي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1889 ولحفظ الدين والعقيدة أوجب الله على الإنسان العاقل محافظة أركانه العملية، بإخلاص ومراقبة.. وحرم النفاق والكفر والفسوق والعصيان.. فالإيمان لا يبقي بغير عمل متطلباته العملية من عبادات صحيحة وأعمال صالحة.. والعمل الصالح لا يستقيم بغير إخلاص واستقامة. 3- ولا يحفظ الإنسان عقله إلا إذا احتفظ نفسه عن تعاطي الخمور والمخدرات والملاهي.. فالعلم المجرد عن العقيدة والخلق لا يقدر أن يحفظ عقول الناس كما هو الواقع اليوم. حيث تري وتسمع التقدم العلمي الهائل في ميادين الحياة ولكنك تجد العلم في جانب، والواقع في جانب آخر، فالعلم يقول: إن الخمر مضرة والواقع يقول: إنها مباحة.. والعلم يقول: إن الزنا مفسد وليس لصالح الجنس البشري ، والواقع يقول: إنه مباح.. وتري وتسمع الأكاذيب تنشر في المجلات والصحف والإذاعات بدون حساب فيساء إلى العقل في الحالتين: حين يفرض عليه أن يكتب أو يقرأ أو يسمع هذا فعليا وحين يفرض عليه أن يصدق هذا واقعيا.. فقد ظهرت نتيجة تضليل العقول وتغطية بصائرها بتراكم تلك الترهات على أفكارها قلة الذكاء، والإرهاق العصبي والعقلي، فالإحصائيات اليوم تثبت أن نسبة الذكاء في العالم قد تناقصت تناقصا هائلا، وأن الأمراض العقلية قد ارتفعت ارتفاعا مذهلا. يقول خبير أخصائي معاصر: (من الحقائق أن نصف عدد الأسرة في مستشفياتنا اليوم يشغلها أناس يثقلهم الإرهاق العصبي والعقلي) . وقال غيره (1) : (إن شخصا من كل (22) شخصا من سكان (نيويورك) يجب إدخاله إحدى مستشفيات الأمراض العقلية بين آن وآخر) .   (1) والقائل (ديل كارتجي) انظر (الأصول الثلاثة، الفصل الثاني، ج2 ص8 لسعيد حوى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1890 4- ولا يحفظ الإنسان (عرضه) وشرفه إلا إذا حفظ أعراض غيره وتدرع هو وأهله بدروع العفة والصيانة من تربية صحيحة، ورعاية، ومراقبة، ومعاشرة سليمة، وستر وإكرام ... ففي الحديث قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم)) . وقال (صلى الله عليه وسلم) : ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن..)) رواه: البخاري ومسلم والنسائي. ولصيانة العرض شرع الله النكاح بتراض بين الطرفين مع حسن اختيار رفيق الحياة من كليهما قبل إبرام العقد. فالمعاشرة بمعروف حين قسم الحقوق بينهما حتى تثمر المحبة والمودة والسكن بينهما.. فإن جاء خلل فيما بينهما فلا بد من التريث والتؤدة والتشاور، فإذا انفصم الحبل بينهما وخيف من أضرار تصيب العرض والشرف ففي شرعه الحكيم: الطلاق، ثم الطلاق، ثم الطلاق بإحسان. ولصيانة العرض أوجب الله التستر والعفة والعفاف والرعاية، وحرم السفاح ومقدماته ومهيجاته فأوجب الحد والتعزير.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1891 5- ولا يقدر أحد أن يحفظ ثروته المالية عن الخسارة والضياع إلا إذا حفظها في حرزها عن تلاعب أيدي السفهاء، قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (1) . وإلا إذا أدى الحقوق التي فيها إلى أهلها من فقير وغريم، وعامل ومجاهد، وإلا إذا حفظها عن التطفيف والسرف والتبذير، والقمار، والميسر.. وقال تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (2) وقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} (3) فوفاء الكيل والميزان عند التبادل واجب شرعي والتطفيف والبخس والغرر الفاحش والغصب والسرقة والتلاعب به حرام والصيانة والحفظ في الحرز من واجبات المالك؛ لأن المال شقيق الروح. ولحفظه حرم الله السرقة والغصب.. فأوجب قطع يد السارق قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (4) 6- ولا يقدر أحد أداء مسؤوليته –الخاصة والعامة، الدينية والدنيوية، الفردية والجماعية، النفسية والعقلية والمالية، الشخصية والأسرية والشعبية، في منزله وفي مكتبه، وفي الشارع والنادي ... لا يقدر أحد من أداء تلك المسؤولية المتنوعة إلا إذا عرفها، وعرف قدرها، ومارسها بجد وإخلاص مع احترامه وتقديره ما للآخرين من حقوق. ومن هذا تعلم: أن مقاصد الأخلاق الفاضلة مقاصد أساسية للكيان البشري وضرورياته وحاجياته، من (نفس وعقل، ودين، ومال، وعرض وشرف وكرامة في فرده، وأسرته، ومجتمعه، وأمته) . لأن النفس البشرية لا تحيا إلا إذا كان لها: (حياة وعقل ودين ومال وشرف) : حياة تظهر وجودها وعقل تعقل به الخير والشر؛ ودين يحدد لها الأصلح والأسلم وغيره ويوضح لها الطريقين: طريق الخير وطريق الشر؛ ومال تحفظ به وجودها من غائلة الجوع والعطش، والحر والبرد، وتستعين به لبلوغ كل مقصد مطلوب، وتدافع به عنها كل ضرر.. وعرض يتشرف به ويؤهله من أن يستحق المسؤولية والخلافة ويستمد من الشعور به والاعتزاز به القوة والمنعة والشجاعة في الخوض في معترك الحياة. لأن من لم يكن له عرض مصون وشرف يفتخر به فهو كالحيوان العجم لا يكون له حافز لحفظ شيء، فهو كالأنعام بل هو أضل سبيلا..   (1) النساء: الآية (5) (2) الأنعام: الآية (141) (3) الأنعام: الآية (152) (4) المائدة: الآية (38) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1892 الفصل الثالث في الأخلاق وأنواعها تمهيد: في الأخلاق والنفوس البشرية وقابليتها: إذا أردنا أن نبحث أخلاق الإنسان من حيث أنواعها وأقسامها وتأثيرها في سلوك الفرد والجماعة، ومن حيث مكانتها وغايتها.. فلا بد أن نلاحظ أولا: إلى ما أودع الله في الإنسان من غرائز وميول، وما أسنده إليه من تكاليف.. ليتبين لنا مدى أهمية الأخلاق في السلوك. فلكل مخلوق في الأرض طابعه وعاداته، فللحيوان الأعجم عاداته وطبائعه، وللإنسان العاقل عاداته وأخلاقه.. فعادات الحيوان قليلة ومحدودة لضآلة مبلغ علمه، وقدرته وإرادته، بخلاف الإنسان، فقد أوتي من العلم والإرادة والقدرة والبيان والكمال الجسدي ما لم يؤتَ غيره، ولذا كانت دائرة عادته وأخلاقه كثيرة جدا.. وإذا لاحظنا تلك الأخلاق نجد بعضها يشترك فيه كثير من الناس، وبعضها يختص به أناس، وبعض منها قريب القبول من الناس وبعضها بعيد القبول.. وبعض منها يقبله العقل السليم والذوق المستقيم. وبعض منها يرفضه ويأباه.. وبعضها يتفق مع سنن الكون، وبعضها يختلف معه تماما.. وبعضها حسن يجتمع الناس على حسنه، وبعضها سيء يتفقون على فحشه وقبحه، وبعضها يتنازعون فيه، وبعضها ثابت، وبعضها متغير.. فبعض من الناس مفكرون وبعضهم مقلدون وبعضهم شهوانيون، وبعضهم أنانيون. إلخ.. ومنهم من عنده استعداد لنوع من السلوك، ومن عنده استعداد لنوع آخر، ومنهم من توصل بتجربته إلى نوع معين من الأخلاق.. وقد قيل: إن أهل البلاد الحارة أكثر كسلا.. وإن أهل البلاد الباردة أكثر هدوءا.. وإن أخلاق النباتيين تختلف عن أخلاق أكلة اللحوم (الإسلام لسعيد حوى ص: 97، 98) . وهذه الأخلاق منها الحسن والسيئ والطيب والكريم والخبيث واللئيم. فالكذب خلق سيء، وكذلك الغش والخيانة.. والصدق خلق كريم، وكذلك الإخلاص والعفة.. فمن الذي يصدر الحكم على كل خلق بأنه حسن أو قبيح؛ هل يستقل العقل البشري بالحكم؟ أو التجربة الطويلة..؟ أو الله الذي هو أحكم الحاكمين..؟ لا ريب أن العقل السليم لو فكر تفكيرا سليما أنه يصل إلى أحكام صحيحة في الحكم على بعض الأخلاق.. كالتسويف بإنجاز الواجبات.. ولكن العقل والتجربة لا يصلحان للحكم على جميع الأخلاق ألبتة.. لأن أحكامها ليست أحكاما قطعية للأسباب التالية: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1893 1- لأن العقل البشري ليس محيطا على كل عمل ونتائجه فيصدر أحكاما على كل شيء. 2- وأن بعض الأخلاق يصعب عليه ترجيح أحد جانبي الخير والشر في الحكم عليها. 3- وأن نتائج التجربة قد لا تظهر إلا بعد مدة طويلة في كثير من الأخلاق. 4- وأن شهوات الإنسان وأهواءه يؤثران على الحكم أحيانا. 5- وأن عقول البشر تتفاوت، وتجاربهم تتغاير، فلا يتفقون على تحسين سيء أو تقبيحه. 6- ولأن كثيرا من الأخلاق تبدو كأنها سيئة.. فما فيه مصلحة لواحد قد تكون فيه مفسدة للآخرين، وبالعكس. ومن ثم جعل الله سبحانه أمر إصدار الحكم بتحسين الحسن وتقبيح القبيح إليه وحده، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (1) . وقال: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (2) لأن الله وحده هو الذي يحيط كل شيء علما. وهو الحكيم الخبير المنزه عن الخطأ، وهو الغني عن خلقه، وهو خالق الإنسان وفعله، فليس لغيره حق الحكم على الإنسان وأخلاقه. قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (3) . فالله وحده هو الذي يحكم سلوك الإنسان بأنه حسن أو قبيح، وهو الذي يزكيه كما بين في كتابه العزيز، حيث حكم خلق نبيه بالعظمة، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) ، ولذا قال (صلى الله عليه وسلم) : ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) [الإمام مالك وأحمد والبيهقي] . ومن التتبع في أشكال الأخلاق وآثارها المختلفة نعلم أن نقسمها قسمين: فالأخلاق من حيث الخير والشر قسمان: فضائل ورذائل، أو محاسن ومفاسد. فالأخلاق الفاضلة هي الأصل في سلوك العاقل المتوازن النزعات والميول، المؤمن المتفكر، الواعي من أين أتي، وإلى أين ينتهي وماذا عليه من حقوق ... وأما الرذائل: فهي حوادث تأتي من عدم التوازن، أو من عدم الإيمان، أو من عدم التفكير السليم.. والتقليد الأعمى.. أو من هواة النفس.   (1) الأنعام: الآية (57) (2) الأعراف: الآية (54) (3) الملك: الآية (14) (4) القلم: الآية (4) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1894 المبحث الأول في أهم الأخلاق الفاضلة هناك أخلاق أساسية هي بمثابة الأصول، وأخرى تعتبر فروعا من الأصول فقد قيل: أن أصول الأخلاق وأمهاتها أربعة: هي الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.. فمن لم يتصف بهذه الأربعة ولم يتخلق بها فهو في خسارة في كل عمل يمارسه.. قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } (1) 1- فالإيمان: يشتمل على جوانب العقيدة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.. إلخ فهذا الإيمان هو الحافز الأساسي لطلب كل سلاح نفسي ومالي، ولممارسة كل عمل صالح، كما هو الوازع الأساسي عن فعل كل عمل فاسد، في نفسه، أو مجتمعه في الحال. أو المآل.. فلذا قال (صلى الله عليه وسلم) ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) رواه الطبري وأحمد. 2- والعمل الصالح: يشتمل كل عمل مثمر في هذه الدنيا –كزرع المأكولات الأساسية والصناعات المفيدة –ومثمر في الدار الآخرة- كأداء الصلوات- ومثمر فيهما –كإصلاح ذات البين- مع مراعاة آداب كل. قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2) 3- والتواصي بالحق: يتضمن كلا من النصيحة، والأمر والنهي، والدعوة إلى كل خير، والمنع من كل شر.. فردي، وعائلي وشعبي.. دنيوي وأخروي.. 4- والتواصي بالصبر: يشمل الأمر على أداء المسؤولية الحقة وأدائها، والصبر على مشقة كل عمل صالح وعن كل ما تشتاق إليه نفسه من كل ما يعود عليها أو على المجتمع بالضرر ولو بعد حين. وفي الحديث قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم..)) [رواه مسلم] . 5- ومن الأخلاق الكريمة الرئيسية: الإخلاص في كل عمل، قولي أو فعلي، فردي أو جماعي، فهو خلق كريم وشامل، يشجع الإنسان إلى إتقان العمل. ويقيه من الرياء والسمعة.. فيعيش في هذه الدنيا حياة طيبة ومطمئنة.. قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3)   (1) العصر: الآيات (1-3) . (2) فاطر: الآية (10) (3) النحل: الآية (97) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1895 6- والاستقامة بإصلاح النفس: خلق شامل في كل عمل يعمله الإنسان سواء كان العمل دنيويا أو أخرويا وصاحب هذا الخلق فائز، وآمن مطمئن في بحبوحة عيش. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) وقال تعالى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} (2) . وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (3) . 7- والصدق: خلق كريم يدخل في كل باب من أبواب العمل، فهو الصدق في كل قول يقوله الإنسان: منشئا أو مخبرا أو ناقلا. عن نفسه، أو عن غيره ... قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (4) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (5) 8- والأمانة: تشمل حفظ جميع الأمانات من نفس، ومال، وعرض، ودين، وشهادة حق، وقوة وعقل وعلم وعضو.. وجميع المواهب.. وهي فضيلة خلقية يستحق الإنسان بها الثواب الجزيل، قال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (6) . ومن لا أمانة له لا إيمان له. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (ما خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) ) [رواه الطبراني وأحمد] . 9- والعفة: هي خلق كريم يشمل العفة عما في أيدي الناس مما لا حق له، وعن الزنا ومقدماته وعن القذف ودواعيه وعن الفسوق ومظانه وعن السرقة وسبلها، وهي منقبة عظيمة تدعو وتؤهل صاحبها للرفعة والسؤدد، والطمأنينة النفسية ويستحق المجتمع الذي سادت في أفراده الأمن والاحترام والشرف والمحافظة والرعاية كما تنعدم فيه –أو تقل- الجرائم والمشاكل الجنسية والعائلية. قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ} (7) . وقال في الحديث: ((عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم)) .   (1) الاحقاف: الآية (13) (2) الجن: الآية (16) (3) الأعلى: الآية (14) (4) التوبة: الآية (119) (5) الأحزاب: الآية (70-71) (6) الأنعام: الآية (82) (7) النور: الآية (33) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1896 10- ومنها: الوفاء وهو خلق رفيع يشمل وفاء العهود والعقود، كما يشمل مراعاة الحقوق، وإعطاء كل ذي حق حقه.. بين الأفراد، والأسر، والأمة وبين العمال وأرباب العمل، وبين الموظفين وأصحاب الوظائف.. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (2) . وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} (3) . 11- ومنها الإحسان: فهو الإحسان في العمل –إتقانه- والإنفاق بالمال في المحتاجين وفي المشاريع الخيرية.. وهو باب واسع وعريق في خلق المسلم. وقد ذكر في القرآن كثيرا.. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (4) . وقال: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} (5) . قال تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (6) . وقال: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (7) . 12- ومنها: التعاون: وهو يشتمل على التعاون بأداء الأعمال الواجبة والخيرية والتعاون بسد المشاكل وإزالتها وجلب المصالح.. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (8) . 13- ومنها: النصيحة: فالنصيحة هي خلق كريم ورفيع. وفي الحديث الشريف: ((الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) . [رواة مسلم] . 14- ومنها: الجد وهو ضد الهزل، واللهو واللعب وضد الكسل والتكاسل.. وهو الحافز الثاني بعد الإيمان لعمل كل ما يصلح ودفع كل ما يضر.. وفي الحديث قال (صلى الله عليه وسلم) : ((اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) [رواه الحاكم والبيهقي] . وفي حديث آخر: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ((بادروا بالأعمال سبعا. هل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غني مطغيا، أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)) . [رواه الترمذي وابن حبان] .   (1) المائدة: الآية (1) (2) (البقرة: الآية (40) (3) النحل: الآية (91) (4) (النحل: الآية (90) (5) الإسراء: الآية (7) (6) القصص: الآية (77) (7) (لقمان: الآية (22) (8) (المائدة: الآية (2) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1897 15- ومنها البر وهو خلق شامل يشمل الإيمان بجميع أركانه، والأعمال الصالحة من صلاة وزكاة وصدقة وصلة، ووفاء عهد وصبر ومجاهدة، وصدق. وكل خلق كريم. قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (1) . وفي الحديث: ((البر حسن الخلق)) [رواه مسلم والترمذي] . 16- ومنها العدل وهو خلق عميم فليس مقصورا بالحكم بين المتخاصمين في المحاكم كما هو المتبادر، بل هو أعم من هذا فيدخل فيه العدل بين الأولاد والأخوة، وبين الزوجات والخدم وبين أرباب العمل والعمال وبين القريب والبعيد، وبين الغني والفقير. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (2) وفي الحديث قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم..)) [رواه أصحاب السنن وأحمد وابن حبان] . 17- ومنها الأمن والسلامة منه. فالسلامة خلق أصيل فمنه اسم الإسلام ... وفي الحديث: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه)) . [متفق عليه] . وزاد الترمذي: ((والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)) . وزاد البيهقي: ((والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله)) . 18- ومنها: الحياء – وهو من صميم ديننا الإسلامي ففي الحديث: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ((أن لكل خلقا وخلق الإسلام الحياء)) [رواه الإمام مالك في الموطأ وابن ماجه في سننه] . والحياء والإيمان قرينان لا ينفك أحدهما عن الآخر. ففي الحديث. ((الحياء والإيمان قرناء جميعا. فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)) [رواه الحاكم] وما ذلك إلا أنه شعبة من الإيمان كما في الحديث الذي رواه البخاري ((والحياء شعبة من الإيمان)) . وفي الحديث الآخر: ((الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة والبذاء من الجفاء والجفاء في النار)) [رواه أحمد] وهو لا يأتي إلا بخير. كما رواه البخاري ومسلم. فهو خلق ضروري لحفظ إيمان المرء ومروءته..   (1) البقرة: الآية (177) (2) النساء: الآية (58) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1898 المبحث الثاني في أهم الأخلاق الفاسدة الأساسية أن من أهم مفاسد الأخلاق الفتاكة المنتشرة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة ما يلي: 1- النفاق: هو ضد الإخلاص. وهو فعل قلبي يفسد جميع الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، لأن صاحب النفاق شخص انطفأ نور قلبه. فلا يري في الأخلاق الفاضلة فضلا ولا في الأعمال الصالحة صلاحا. فالمنافق هو شخص يظهر خلاف ما يبطنه، وهو فاشل في كل عمل، وهو فاسد النية ومفسد.. وفاقد الإيمان وعديم الثقة. يظهر نفاقه في قوله وفعله، في حديثه ووعده ومخاصمته.. ففي الحديث الصحيح ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)) متفق عليه. فالنفاق إيمانه وعمله، فلا بركة في عمله في هذه الدنيا والدار الآخرة. قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} . (1) وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر)) . متفق عليه. فالمنافق إنسان غير موثوق به عند غيره، وغير واثق بنفسه ولا بعمله، لأنه مذبذب بين أهل الحق وبين أهل الباطل، فهو دائما في خيانة وخديعة، وقوله كذب وافتراء ومخاصمته فجور وثرثرة، وهو مخلف الوعد، وغادر للمعاهدة، فلذا استحق أشد الوعيد من الله. قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} . (2) وإن هذا الخلق الفاسد خلق قديم فتاك اليم، فليحذر المسلمون من التخلق به. قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . (3)   (1) النساء: الآية (142-143) (2) النساء: الآية (145-146) (3) النور: الآية (63) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1899 2- ومنها الكذب: فالكذب مفسدة خلقية خطيرة انتشرت في مجتمعنا الحاضر في جميع طبقاته في كافة الميادين. فانعدمت الثقة بين المتعاملين إلا ما قل وندر، فالكذب ضد الصدق.. وصاحب الكذب شخص ساقط في نظر الشريعة القيمة ومجرم يستحق التأنيب والتأديب. لأنه مسيء لنفسه ولدينه ولمجتمعه فالكذب يأتي من عدم العقيدة الراسخة ومن عدم الإيمان بعلام الغيوب وبالحساب والجزاء. ومن عدم الضمير الحي الذي يقدر نتائج الأقوال والأفعال في المحال والمآل. ومن عدم الاحترام لنفسه وأهله ومجتمعه والشريعة، والقانون والأخلاق كلية والكذب مفسدة أخلاقية تفسد في وقت قصير ما لا تفسده الأمراض الخطيرة في النفوس.. وفي الحديث ((المتبايعان إذا صدقا ونصحا بورك لها في بيعهما وإذا كتما وكذب نزعت بركة بيعهما)) . متفق عليه. ولا يكون المؤمن كذابا، ففي الحديث: ((يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب)) رواه الإمام أحمد. وقد سئل النبي (صلى الله عليه وسلم) فقيل له: ((أيكون المؤمن جبانا قال: نعم. قيل أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: نعم. قيل: أيكون المؤمن كذابا؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا.)) رواه الإمام. فالكذب والإيمان لا يجتمعان في شخص لأن الكذب يهدي إلى الفجور والشقاق وعدم الإيمان.. كما في الحديث الصحيح. فلابد للمؤمن أن يتقي عن الكذب حتى إذا مزح.. 3- منها الخيانة: وهي مفسدة خلقية خبيثة، تفسد الأمانة بين المتآمنين.. وهي تشمل كل فعل يخالف ما تعاهد الإنسان مع غيره، أو أخذ ما ائتمن عليه من مال أو منفعة أو عرض، أو تضييع شيء من ذلك، فهي مفسدة قديمة.. وقد فشت هذه المفسدة في مجتمعنا الحاضر، في كل درب من دروب الحياة بين رب البيت وأسرته، والراعي ورعيته، إلا النزر القليل فأفسدت كل شيء، وكل أمانة وكل علاقة، وكل سلوك وكل خلق. وهي من علامات النفاق كما سبق.. وهي كثيرا ما تأتي من عدم الإيمان بالله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ومن عدم الإيمان بالملائكة الكرام الكاتبين الشهود الذين يعلمون كل ما يفعله الإنسان أو يقوله. ومن عدم الإيمان بالكتاب وما تضمنه من وعد ووعيد لكل إنسان على فعله وقوله. ومن عدم الضمير الحي الذي يقدر نتائج الأعمال.. ومن عدم احترام نفسه ونفس من يخونه هو من فرد ومجتمع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1900 ومن عدم التقدير والمقارنة بين ما يستفيد من خيانته من متعة قليلة وبين ما ينتج منها من عار وعقاب أليم.. وفي الحديث عن أنس ابن مالك وعبادة بن الصامت أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ((تقبلوا إلى بست أتقبل لكم بالجنة، قالوا: وما هن قال: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد لا يخلف، وإذا ائتمن فلا يخن، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم وكفوا أيديكم)) . [رواه الحاكم بإسناد صحيح وبإسناد أخر فيه مقال] قال تعالى ناهيا عن الخيانة وعاقبتها الوخيمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) وفي الحديث المرفوع الذي رواه عنه (صلى الله عليه وسلم) كل من أبي أمامة وسعد ابن أبي وقاص، وابن عمر رضي الله عنه أنه قال: ((كل خصلة يطبع أو ينطوي عليها المسلم إلا الخيانة والكذب)) . رواه ابن أبي شيبة في مصنفه. وابن عدي في كامله. والدارقطني في العلل كما في (الأحياء3/132) 4- ومنها النميمة: وهي ضد النصيحة والصلح والإصلاح وهي نقل كلام بعض لبعض على سبيل الإفساد. أو خلق معايب لبعض ونقلها إلى بعض أخر فهي مفسدة سلوكية خطيرة تفسد المحبة والمودة بين الناس، وتقطع العلاقات وتغري بالعداوة والبغضاء. ونقصد منها ما يشمل كل من النميمة والغيبة والبهتان والافتراء بجميع أنواعها وهي مفسدة خلقية خبيثة وقديمة. وقد فشت هذه الظاهرة بصورة مذهلة في مجتمعات عصرنا بصفة عامة، وفي مجتمعنا الإسلامي بصفة خاصة حتى عمت وطمت. فأفسدت جميع العلاقات التي بين المرء وزوجة والوالد وولده، والإخوة والأخوات وبين العامل وأرباب العمل.. وبين الحاكم والمحكوم والدولة والدولة.. والشعب والشعب الآخر، والأبيض والأسود.. والنميمة قد تأتي من حقد دفين وحسد كمين في نفسية النمام سواء كان ذلك الحقد كان نتيجة ذنب سابق أم لا. وقد تأتي من توقع غرض ما من عمله هذا وقد تأتي من إغراء طرف أخر.. وقد تأتي من جهل ولآمة أو عصبية أو أنانية. عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلي. قال: المشاؤون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبراء العيب)) . رواه الإمام أحمد وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ((أن من شرار الناس من اتقاه الناس لشره)) . متفق عليه.   (1) الأنفال: الآية (27) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1901 وفي حديث حذيفة رضي الله عنه قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((لا يدخل الجنة نمام)) متفق عليه. 5- ومنها: اتباع هوى النفس وشهواتها والجري وراء ملذاتها. أن اتباع هوى النفس مفسدة خطيرة قد عمت وطمت، فأثرت في سلوك الأفراد.. والانقياد لهوى النفس يأتي من قبل الرغبات والشهوات فيؤثر السلوك والتفكير في شؤون الحياة. فيختار تابع الهوى المصلحة الخاصة الموهومة بتزيين من نفسه.. فيضر غيره بتشبيع رغباته وشهواته أن لم يضر نفسه في عاقبة أمره، فالهوى مفسده للنظام الطبيعي في حياة الإنسان. والانقياد للهوى مفسدة خطيرة لحياة الإنسان وعقله.. لأن الإنسان يعيش في حياته وسط تيارات شتى من النزاعات والشهوات التي تأتي من قبل نفسه.. وكثيرا ما يختار لنفسه ما يظن أن المصلحة فيه لها خاصة. ولو كان فيه ضرر بالغ لغيره أو لنفسه في عاقبة الأمر، فلا يهمه أن تكون أعماله سيئة ما دامت تشبع رغباته وأهواءه. أن من أهم أهداف الإسلام مواجهة تلك الرغبات والأهواء، والحيلولة بينه وبين الانقياد لها، حفظا لتوازن الميول، وتحقيقا لإبقاء الحق في كفته. قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (1) . فالهوى يشوش نظام ميول الإنسان المرتب المتناسق المتوازي فيختل التوازن واتباع الهوى يصرف الإنسان عن حقائق هذه الحياة وما خلق له إلى الأوهام التي تسد سبيل الحق. مثل أوهام الجنس والأنانية وحب التملك، والشره واللهو فلا يستجيب الحق فيهتدي به، بل يتمادى في ضلاله وطغيانه قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2) . وإن من أهم أسباب اتباع الهوى في هذه الحياة: ضعف أصيل في النفس. ونقص كبير في العقل المعرفة. وكثرة المثيرات الجنسية والملاهي المعمية وحب المادة المطغية.. والتقليد الأعمى. فالهوى يملك على العقل فيمنعه من الإدراك والتذكر والتفكر.. وتحوم نفسه حول نقطة واحدة.. فمنظر الهوى مخالف عن منطق العقل السليم فيضل الإنسان بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير.. قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . (3) وقال: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . (4) . وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (5)   (1) المؤمنون: الآية (71) (2) القصص: الآية (50) (3) الأنعام: الآية (119) (4) الروم: الآية (29) (5) القصص: الآية (50) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1902 وإن أكثر أسباب اتباع الهوى في هذه الحياة –قديما وحديثا- هو ضعف في النفوس، ونقص في المعرفة.. وإغراء من المترفين. ولذا ترى الهوى قد ملك عقل الإنسان –لاسيما عقل إنسان هذا العصر - فلا يدرك ولا يتذكر ولا يفكر.. بل تحوم نفسه حول نقطة واحدة. فمنطق الهوى مخالف عن منطق العقل.. فالهوى يضل الإنسان بغير علم كما هو دأب أكثر الناس في كل وقت –إلا ما شاء الله- قال الله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أن رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} . (1) وقال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . (2) . وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . (3) ومنها: السفور والجري وراء المادة تحت متطلبات الغرائز الجنسية، والأنانية، وحب التملك بغير تحديد.. والسفور هو الخروج عن الحشمة والحياء وهو التملص عن مراعاة المسؤولية عن السلوك، وهو عدو أو ضد للعفة والصيانة والشرف والمروءة..وفي هذا السلوك مفسدة عظيمة لا حد لها. لأنها تجرد الإنسان عن الأخلاق الفاضلة سواء كانت إنسانية محضة أو إسلامية.. وقد فشت تلك الظاهرة في عالمنا الإسلامي. وهي ظاهرة خبيثة وقديمة قد استأصلها الإسلام بتوجيهاته وتحذيراته وحدوده وتعزيراته في أول عهده، فكان من سولت نفسه أن يفعل نوعا ما من السفور، كان شخصا لا قيمة له في مجتمعه، فكان يلقي من الحد أو التعزير أو الغرامة ما يزجره. روي أن الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يخشى من فتنة التبرج إذ كان يتعسس ذات ليلة فسمع امرأة تقول: هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم من سبيل إلى نصر بن حجاج. فقال: أما في عهد عمر فلا. واستدعي نصرا في الصباح فإذا هو من أجمل الناس وجها، فأمر بحلق شعره، ثم نفاه إلى بادية الشام. (انظر: فقه السنة) . وروي عنه رضي الله عنه أنه رأي رجلا يمشي خيلاء فضربه، ثم رآه وهو مازال كما كان فضربه ثم رآه كذلك فضربه، فتاب الرجل عن سلوكه وشكر الخليفة. فلكي يكون الإنسان كاملا متوازن الميول مستقيم الحال طاهر النفس، فليتخلق بالخلق الفاضل التي سبقت الإشارة إليه.. وليتنزه عن الرذائل كلها..   (1) الأنعام: الآية (119) (2) الروم: الآية (29) (3) لقمان: الآية (6) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1903 الخلاصة في الإنسان الكامل الموازن المستقيم أن الإنسان الكامل هو الذي له إيمان صادق كامل راسخ لا يزعزعه شيء، بل يدعو صاحبه إلى كل عمل صالح مثمر لنفسه ومجتمعه، وينفره عن ممارسة كل عمل باطل. ويدعوه إلى الحق. ومحبته والدفاع عنه، وصيانته. هذا الإنسان المتصف بهذا الإيمان الصادق الكامل الراسخ.. لابد أن ينسجم معه فيعمل الصالحات دائما –قدر الاستطاعة- من كل ما افترضه الله الذي آمن به، وبكتابه، ورسله وملائكته ووعده ووعيده –عليه من العبادات والمعاملات الفردية والأسرية والجماعية، ويحرص على محافظتها ونشرها بين إخوته. ويدعو أهله ومجتمعه بقوله وفعله بحكمة مذكرا لهم ما في هذا العمل الصالح والإيمان الحق من فوائد فردية وجماعية. دنيوية وأخروية ويوصي نفسه وغيره محافظة هذا الحق ومداومته وإروائه ونشره، مشيرا له إلى ما يحيط به من عراقيل وعوائق نفسية وشيطانية وإنسية وجنية.. فيأمر بالصبر على ما في أداء ذلك الحق من مشقة نفسية وبدنية ومالية، كما يأمره بالصبر عن اللذات القليلة وشهوات النفس الأمارة بالسوء متذكرا فيما وعده الله لمن آمن بالحق وعمل به. وصبر عليه من ثواب عاجل وآجل. هذا الإنسان المؤمن الصالح المحق الصابر الآمر الناهي هو الذي يعمل ذلك كله. بإخلاص قلبي، بلا رياء ونفاق. وبلا منفعة من غير ما ينتجه له عمله. وهو الذي يستقيم على هذا الطريق دائما ليلا ونهارا في السراء والضراء. والشدة والرخاء، دون اعوجاج ولا ميل ولا ملل.. وهو يصدق في أقواله وأفعاله خبره وإنشائه فيطابق لسانه على الحق وفعله على قوله، فلا يخلطه بكذب ولا افتراء أو بهتان. وهو الأمين الذي يأمن الناس بوائقه، ويأمنون من لسانه ويده، فلا يخون أحدا في ماله أو عرضه، بل يأتمنونه على ودائعهم وأماناتهم وعهودهم وعقودهم فيؤديها لهم في أوقاتها كاملة غير ناقصة، وفي مكانها المحدد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1904 وهو العفيف الذي يعف عن أعراض الناس، يعف عن الزنا ومقدماته، ويعف عما في أيدي الناس، يعف عن السرقة والغصب ومقدمات كل منهما. ويعف عن النفس البريئة، فيعف عن قتل الأنفس ومسبباته من سب وقذف وبغي وقطع طريق.. كما يعف عن تعاطي كل مخدر مفتر ومسكر، ومن كل ما يغير عقله أو صحته الروحية أو الجسدية. وهو الوفي الذي يوفي كل ذي عهد عهده، وكل ذي عقد عقده، فيكمل الكيل إذا كال لأحد، ويتم الوزن إذا وزن له، فلا بخس لديه ولا غش.. وهو المحسن الذي يحسن العمل الذي يعمله، فيتقنه، ويحسن لأهله وإخوته، وأمته، فينفق ماله على المنكوبين والمحتاجين ويبذله في المشاريع الخيرية ويساعد أهل الخير بما لديه من علم ومال.. فلا يسيء معاملة أحد من مجتمعه. وهو مع ذلك صاحب تعاون وتجاوب في الأعمال الخيرية، فهو رجل اجتماعي فيتعاون مع المتعاونين في المشاريع الخيرية ذات النفع الجماعي، مثل بناء المدارس والمساجد والملاجئ والمستشفيات فلا يتخاذل وليس بخائن ولا متكبر ولا أناني.. وهو البر الرحيم، يطيع والديه في غير المعاصي ويحترمهما ويدعو لهما، يوقر الكبير من قومه ويرحم الصغير. وهو الأخ الكريم العدل الرؤوف، يعدل بين المتخاصمين أن أصبح حاكما، وبين أفراد الرعية أن كان راعيا، فلا ينجذب مع القرابة أن كان مستشهدا في قضية بين قرابته وبعدائه. ولا يميل إلى الغني لغناه.. بل دائما قوله الحق وحكمه الفصل، لا يأتي من طرفه ظلم ولا جور، وهو اليقظ، المجد، المجاهد، الذي تراه دائما في يقظة وجد واجتهاد قد قسم أعماله ونظمها في الأوقات، تراه مرة في عبادة ربه المحضة، ومرة في عمل وظيفته، ومرة في أعمال تنفع مجتمعه، وطورا تراه بين أولاده وأزواجه يدربهم للأعمال الجدية. ولا تراه أبدا في خوض، ولا في مجون، ولا في تيه ولهو، ولا في قمار وميسر، ولا تراه أبدا يستمع إلى أغاني الغانيات وأناشيد المطربين العازفين، ولا تراه أبدا وهو يلهو ويشاهد رقصات الراقصات والأفلام الخليعة والمجلات الخرافية والمسرحيات الماجنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1905 وربما تراه بقلة وهو يتجول مع أهله وأولاده في الحدائق لمشاهدة الطبيعة. أو تراه في سواحل البحار، يعلمهم السباحة وطبائع البحار، أو على قمم الجبال، ليطلعهم على طبائع هذا الكون. وربما تراه طورا –في هذا العصر - وقد جلس مع أولاده أمام شاشة يرى ما عليها كأن جيشا مسلما يقاتل الأعداء ويدافع عن الإسلام والمسلمين والوطن ببسالة فيحببهم إليه. ولا تراه في هزل ولعب –إلا إذا كان طفلا- ولا في تكاسل وأسباب الغفلة وكيف تراه في ذلك اللهو واللعب.. إلا في حالة نسيان.. فيتوب منها ويستغفر فليس لذلك المؤمن وقت فاضل يقضيه في الملاهي.. فالمؤمن الكامل هو الذي يحفظ نفسه دائما عن الضلالة وهواها، ويحفظ دينه الحق عن أن يشوبه ضلال ويحفظ عرضه عن أن يمسه دنس أدنى مساس، فلا يسمح لأهله وأولاده ما يؤديهم إلى الانحراف أو التميع والانحلال ويحفظ عقله وماله عن كل ما يفسدهما في الحال والمآل. وهو السخي الذي يبذل المال ويعطي، بلا تبذير ولا إسراف. في الطرق الخيرية والمباحة. فلا تراه يبخل بماله. كما لا تراه وهو يرابي به. وكما لا تراه مترفا مترفها. فإذا: شخصية المسلم المؤمن المتصف بما سبق شخصية متميزة. متميزة في عقيدتها فلا تستقي هذه الشخصية المسلمة الصادقة عقيدتها من غير عقيدة الإسلام. ولا تأخذ مبادئها من غير مبادئ الإيمان. لأنها شخصية قد آمنت بقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} . (1) . وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . (2) . وتأثرت بمثل قوله (صلى الله عليه وسلم) حينما أتاه عمر رضي الله عنه بكتاب من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه. فغضب ((أتتهوكون –أي أتشككون ملتكم- فيها يا بن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لو أن موسي كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)) رواه الإمام أحمد.وبمثل قوله (صلى الله عليه وسلم) حينما جاءه أناس من المسلمين بكتف كتبوا فيها ما سمعوا من اليهود: ((كفي بقوم حماقة أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم)) أبو داود. فنزلت الآية: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . (3) .   (1) آل عمران: الآية (19) (2) آل عمران: الآية (85) (3) العنكبوت: الآية (51) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1906 وهي –أيضا- شخصية متميزة في عبادتها في صلاتها وصيامها، وحجها وذبحها.. قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} . (1) وقال (صلى الله عليه وسلم) : ((صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود وصوموا يوما قبله أو يوما بعده)) . رواه أحمد. وهي –أيضا- متميزة في أخلاقها، في حرصها على التكوين والتربية، على الصدق والأمانة على التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، لغيرها قدوة صالحة. تتحلي بالفضائل التي تدعوا إليها أولا، لأنها تستقذر العتاب والوعيد الذي في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} . (2) ومثل قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} . (3) . واستنارت بموقف الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه من التخلق والتطبيق بكل ما يقول. فقد روي أنه كان يجمع أهل بيته ليقول لهم: (إني سأدعو الناس إلى كذا وكذا، وأنهاهم عن كذا وكذا، وإني أقسم بالله العظيم لا أجد واحدا منكم أنه فعل ما نهيت الناس عنه، أو ترك ما أمرت الناس به إلا نكلت به نكالا شديدا..) ثم كان رضي الله عنه يخرج ويدعو الناس إلى الخير، فلم يتأخر أحد عن السمع والطاعة لإعطائهم القدوة بفعله قبل إعطائهم إياها بقوله..   (1) البقرة: الآية (144) (2) الصف: الآية (2-3) (3) البقرة: الآية (44) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1907 تنبيه اعلم يا أخي القارئ أن ما سبق لنا في هذا البحث من عرض حول مفاهيم الأخلاق، ومنشئها ومصدرها وقيمها وأنواعها.. إلخ إنما كان قصدنا منه الإشادة بمكانة الأخلاق الفاضلة في سلوك الإنسان والتنبيه والتذكير إلى شمولها بجميع شعب الإسلام. وإن الأخلاق الفاسدة التي ذكرناها في الفصل الثالث منه من (نفاق وكذب وخيانة ونميمة) وغيرها.. إنما عرضتها عرضا سريعا بغير إشارة إلى كيفية لمعالجتها مع كونها من أخبث المفاسد الخلقية الأساسية في المجتمع المعاصر. وذلك للأسباب الآتية: أنها مفاسد قديمة، ومنشؤها من النفس الخبيثة وقد حذرنا الله تعالى من مغبتها في كتابه الكريم مرارا، كما وضحها لنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) في أحاديثه الشريفة فليس في قبحها وحرمتها غموض ولا شائبة. وأن حرمتها والتحذير منها لما اتفق عليه جميع عقلاء الناس قديما وحديثا، فليس لها مشجع. وإنها ليست مقصودة في موضوع البحث المطلوب دراسته المقدم من شعبة التخطيط –حسب نظريتي-. وإنما ذكرتها في هذا البحث كتوطئة لما بعدها من المفاسد الخلقية الآتية التي انتشرت في مجتمعنا الحاضر بصفة ذريعة، والتي اختلق لها معاذير ومبررات ومشجعات. وهي: الملاهي المحرمة من أغان ماجنة ومسكرات وما صاحبهما من مثيرات الغريزة الجنسية: من تبرج جاهلي واختلاط بين الجنسين وإلى آخر ما سيأتي –إن شاء الله-. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1908 الفصل الرابع الملاهي المحرمة المبحث الأول الأغاني والمعازف وأحكامها في الإسلام أن من أهم الأسباب التي أفسدت الأخلاق وأتت بالانحراف والانحلال والميوعة لكثير من أبنائنا وبناتنا ورجالنا ونسائنا في هذا العصر كثرة الملاهي المحرمة شرعا. كما سنبين فيما بعد إن شاء الله. وإن من أهم تلك الملاهي المشؤومة هذه الأغاني المائعة الماجنة مع ما يصاحبها من المعازف والموسيقي المطربة. التي تبثها الإذاعات والتلفزة المحلية والمستوردة بأساليب مختلفة منفردة، أو ضمن مسرحيات وقصص غرامية، وأفلام خليعة.. وقد اكتظت بتلك الظاهرة السيئة جميع الأندية ودور السينما في جميع أقطار عالمنا الإسلامي –إلا ما قل وندر- حتى دخلت تلك المفسدة الخطيرة الفنادق السياحية وكثيرا من البيوت العائلية المتحضرة عن طريق الفيديو. وقد تسبب عن هذه الظاهرة الخبيثة انهيار خلقي رهيب، بسرعة مذهلة في جميع طبقات الأمة لا سيما الشباب والمراهقين الذين لم يتربوا تربية إيمانية صحيحة وخلقية صالحة فأفسدت عفتهم فلا ترى شابا عفيفا غيورا يصون شرفه وعرضه عن الضياع إلا من عصمه الله ولا شابة تحفظ شرفها وعفتها من أماكن الريبة إلا من عصمها الله. ولا ترى أكثر الآباء والأمهات في كثير من مجتمعاتنا إلا وقد أهمل تربية أولاده. في تلك الناحية، فماتت غيرته نحو صبيانه وعرضه شيئا فشيئا. بل أصبح كثير من شبابنا مضحكين وممثلين ومغنيين ومطربين وهكذا يظهرون في كل مكان في مشيتهم ولبستهم.. حتى ضاعت اللياقة والاتزان والتعقل والتمييز بين الحق والباطل. وبين الحسن وبين القبيح، وبين المفيد وغير المفيد فأصبحوا إمعة مع أن نبينا محمدا (صلى الله عليه وسلم) نهى عن ذلك ((لا يكن أحدكم إمعة ... )) كما سيأتي.. كم ترى منهم من لم يحفظ القرآن الكريم غير فاتحة الكتاب وقد حفظ عشرات من الأغاني الخمرية. وكم تلاقي من امتلأت خزانته من عجلات الأغاني المائعة والألحان المطربة وليس لديه كتاب واحد من الكتب الإسلامية الصحيحة أو العلمية النافعة؟ وكم تشاهد من لم يتعرف اسم راو من رواة الحديث المشهورين مع أنه يذكر لك عشرات من المغنين والمطربين عن ظهر قلب.؟ وقد أفسدت تلك الأغاني: العقل، والدين، والشرف، والمال، والأمل، , بعدما أماتت الأخلاق الفاضلة وأقبرتها فأصبح الإنسان الذي اعتاد بممارسة تلك الأغاني الماجنة، والقصص الخرافية الجنسية، والأفلام الفاجرة باستماعها ومشاهدتها، أصبح إنسانا فاقد العقل والوازع الديني والخلقي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1909 هذا هو الواقع المرير، وهو الوضع الذي نحاول تغييره بأسلوب حكيم غير مثير، فلا بد لنا من عرض هذا الموضوع، بشيء من التفصيل مع شيء من أدلة تحريمية من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء المعتبرين في هذا الميدان فنقول: تعريف الغناء: -الغناء بالمد- هو رفع الصوت مطلقا. قال ابن الأثير في (نهاية الأرب: 3/390) . وابن منظور في (اللسان) . وقيل: أنه يطلق على الترنم وعلى الحداء وعلى الإنشاد ويطلق على (التمطيط والتلحين بالأشعار على النغمات الموسيقية. وإذا أفرد –عن الإضافة- فالمراد به هذا الأخير) وفاعله يسمى مغنيا، لأنه يحرك به الساكن ويبعث به الكامن، ويعرض بالفواحش) . انظر: (الفتح جـ2 ص: 442 وجـ: 3 ص: 393) . ومنشؤه كان من دولة الفرس قبل الإسلام فكانت الملوك تحصر لسماعه ومشاهدته ثم انتقل إلى العرب عن طريق اختلاطهم بالعجم عند الفتح الإسلامي في العصر الأموي فالعباسي، واقترنت معه آلات الطرب (المزامير، والطنابير، والعيدان .... ) ثم انتقل هذا النوع من الغناء إلى (الأندلس) في أوائل العهد العباسي، وقد انخرط وانحرف فيه بعض من الخلفاء العباسيين. كـ (الرشيد.. والواثق بالله، والمنتصر، ... ) . كما قاله كل من ابن الأثير في (النهاية) والأصفهاني في (الأغاني) . وابن خلدون في (المقدمة) . وقد افتتن به بعض فقهاء ذلك العصر. (كإبراهيم بن سعد الزهري) و (عبيد الله العنبري) وبعدهما (محمد بن حزم الظاهري) . انظر: ما رواه الخطيب في (تاريخ بغداد: 6 /83) و (التقريب 1 /35 وذم الملاهي.) . وقد امتد الغناء وازداد عشاقه حتى وصل في عصرنا هذا الغاية القصوى، فغمر الأندية والمحافل. وأصبح الشغل الشاغل عند كثير من الناس بصفة لا مثيل لها، كما سبقت الإشارة إليه. موقف الإسلام منه بصفة عامة أن الغناء انفعال يشترك فيه جميع الأمم. فكل أمة لها غناء لأنه من خصائص البشر، فلكل حاسة من حواسه مستلذ. فالعين تستلذ المناظر الجميلة، والأذن تستلذ الأصوات العذبة.. انظر: مقدمة كتاب السماع لأبي الوفاء المراغي (ص12) . لذا يري الإسلام أن الصوت الطيب من حيث هو طيب لا حرمة فيه، بل هو حلال فليست حرمة الأصوات الطيبة لكونها طيبة أو لكونها موزونة، وإنما حرمتها لأسباب أخرى. أهمها ثلاثة كما نقله الأستاذ (أحمد مصطفى) في (مفتاح السعادة: 3/385) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1910 وهي: 1- أن الأغاني من شعار أهل الفسق وعادتهم فيمتنع التشبه بهم، (الإحياء: 2/269 ومفتاح السعادة 3/385) . 2- وإنها تذكر مجالس الفجور، فتدعو إليه وكل ما يدعو إلى الفجور فهو حرام. (ذم الملاهي 83) . 3- وإنها تطرب الإنسان فتخرجه من حد الاعتدال والاتزان. انظر إغاثة اللهفان ص (267) . فكان تحريم الغناء من قبيل تحريم الجار إلى الحرام. كتحريم الخلوة مع الأجنبية لكونها مقدمة إلى الزنا. وكتحريم النظر إلى الفخذ لأن التساهل فيه يؤدي النظر إلى السوأتين فلهذه العلل وغيرها حرمت الأصوات المطربة بالأوتار والمزامير والموسيقي. وخلاصة القول فيه أن: الغناء المعروف –قديما وحديثا- ينقسم من حيث الحل والتحريم إلى قسمين: قسم لا خلاف في جوازه بين أهل العلم، ومن هذا القسم الأغاني المعروفة في صدر الإسلام بالأشعار الحماسية وما شاكلها في كل زمان من الأشعار المشجعة في الجهاد والبناء والعمل، إذا سلمت من كل فحش وفسق وفجور، ومن هذا القسم أيضا ما يقال في مناسبة العيد والعرس، وقدوم الغائب.. إذا خلا –أيضا- من الفحش والفجور.. وعلى هذا القسم يحمل كل ما ورد من الأحاديث والآثار التي وردت في إباحته، سواء كان مع الدف أو بغيره. وقسم منه اتفق الجمهور على تحريمه وهو (الغناء المعروف بالتلحين والتمطيط والترنم على النغمات الموسيقية) . فقد اتفقوا على تحريم هذا النوع من الغناء لأمور عديدة. منها: اقترانه بالمعازف والمزامير الشيطانية، التي وردت الأدلة الصحيحة على تحريمها. كما سيأتي. ومنها: ورود الأحاديث في ذم الغناء المعروف بهذه الصفة، وما نلمسه من بعض الآيات القرآنية. وما يؤيد ذلك من الآثار الثابتة عن الصحابة والتابعين كما سيأتي. وخالف الجمهور في حكم هذا النوع ابن حزم الظاهري ومن تبعه على شذوذه. فذهبوا إلى إباحة الأغاني وآلات الطرب. فلننظر إلى ما استدل به الجمهور على قولهم من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين، وإلى ما تشبث به ابن حزم لتأييد ما قاله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1911 المبحث الثاني أدلة تحريم الأغاني والمعازف لقد استدل الجمهور على تحريم الغناء المذكور بكل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين: فمن الكتاب: 1- استدلوا من الكتاب قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) وقالوا: إن أصح ما فسرت به الصحابة (لهو الحديث) هو (الغناء) فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه قال: هو (الغناء وأشباهه) . كما رواه البخاري في الأدب المفرد ص 432 والبيهقي في السنن: 10/ 223. وابن جرير في تفسيره (21/ 60) . (وإغاثة اللهفان: 1/ 238) . وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: (هو والله الغناء) كما رواه: الحاكم (2/ 411) . والبيهقي (10/ 223) وابن أبي شيبة بإسناد صحيح: انظر: (تلخيص الحبير 4/ 200) و (الإغاثة) جـ1 ص: 240) . وروي عن جابر رضي الله عنه قوله: (إنه الغناء والاستماع له) كما أخرج الطبري في تفسيره: 21 / 61. وروي عن مجاهد قوله: (إنه الغناء) . كما رواه البيهقي 10/ 223 وابن جرير في التفسير: 21/ 62.   (1) لقمان: الآية (6) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1912 وكذلك روي عن عكرمة قوله: (إنه الغناء) . رواه البيهقي في السنن الكبرى: 10/ 223. وروي عن قتادة قوله: (إن لهو الحديث كل لهو ولعب) . أخرجه الطبري في التفسير: 21/ 21. وروي عن الواحدي قوله: إن أكثر المفسرين ذهبوا على أن المراد بلهو الحديث (الغناء) . فمن هذا نعلم أن الآية تدل على تحريم الغناء المعروف الآن بلا شك. 2- وقوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} (1) . فقد قالوا: أن لفظة (سامدون) معناها: المغنون واللاهون اللاعبون، والمستكبرون الأشرون البطرون، والغافلون المعرضون المشتغلون عن أمورهم بالهموم والأفراح. كما روي عن بعض الصحابة والتابعين والمفسرين.. فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه: (أن السمود هو الغناء باللغة الحميرية) . (الإغاثة) 1/ 258) وفسره –أيضا- (باللهو) أخرجه الطبري في (التفسير: 17/ 82) . وقال الضحاك (هو اللهو واللعب) كما أخرجه الطبري في (التفسير: 17/ 82) . وقال مجاهد: (هو البرطمة) والبرطمة هي (الانتفاخ غضبا) كما في القاموس –أخرجه الطبري 870.   (1) النجم: الآية (59-61) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1913 وقال المبرد: (السمود هو الاشتغال عن الشيء بهم وفرح يشاغل به) انظر (الإغاثة: 1/ 258) . وقال الأنباري: (السامد: اللاهي والساهي والمتكبر.) . وقال ابن عباس رضي الله عنه: ( {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} : أنتم مستكبرون) (الإغاثة: 1/ 258) وقال الضحاك: ( {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} : أشرون بطرون) انظر (إغاثة اللهفان: 1/ 258) . وقال غيرهم: (أنتم سامدون: لاهون غافلون معرضون) (الإغاثة 1/ 258) . والمعلوم أن الغناء يجمع تلك المعاني كلها فلا تناقض بين المعاني كما لا يخفي. انظر: (الأغاني والمعازف وآلات الملاهي. للمحقق كتاب الآجري: ص380-381) . 3- وقوله تعالى في سورة الإسراء: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} (1) . قال الله تعالي هذا القول في خطابة إبليس عدوه وعدو بني آدم بصفة عامة، فما هو صوت إبليس –عليه اللعنة- في هذه الآية؟ فقد قال مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: صوت الشيطان: هو (الغناء والمزامير واللهو) . وقال الضحاك: (صوت الشيطان في الآية هو صوت المزمار) . وقال مجاهد في تفسير هذه الآية: صوته –أي صوت إبليس- (الغناء والباطل) رواه عنه ابن أبي حاتم. وقال –أيضا-: (صوته هو المزامير) رواه ابن أبي حاتم.. ثم روى بإسناده عن الحسن البصري قال: (صوته هو الدف) انظر (الإغاثة: 1/ 356) . ومن هذا كله نعلم علما أكيدا: أن الغناء المعروف المنتشر مع ما يصاحبه من آلات الطرب واللهو هو من صوت إبليس وندائه إلى طريقته. فلا بد من تحريم ذلك إذن بهذه الآيات الثلاثة وغيرها من الآيات القرآنية.   (1) الإسراء: الآية (64) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1914 ومن الحديث: مما استدل لتحريم الأغاني والمزامير والموسيقي أحاديث كثيرة ومروية في كتب الحديث المعتمدة. فلنأخذ منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: 1- عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) أخرجه البخاري في صحيحه محتجا به وعلقه تعليقا مجزوما به. ورواه أبو داود في سننه مختصرا وابن حبان في صحيحه والبيهقي في السنن الكبرى. والطبراني في المعجم. والذهبي في تذكرة الحفاظ، وابن القيم في إغاثة اللهفان.. فالحديث ثابت وصحيح، قد اتفق على صحته جمهور المحدثين وما خالف في ذلك إلا ابن حزم الظاهري ومن اقتدي به. والحديث من معجزاته الخبرية لأن مضمونه قد تحقق، فقد استحل كثير من الأمة (الحر) –وهو الفرج والمراد الزنا، و (الحرير) . (والمعازف) وهي: آلات الملاهي كالعود والدف، والعازف هو اللاعب بها، قال الذهبي في التذكرة: (المعازف اسم لكل ما يعزف به، كالطنبور والزمر والشبابة وغير ذلك من آلات الملاهي) . ووجه الدلالة منه: أن المعازف هي آلات اللهو كلها ولا خلاف بين أهل اللغة في ذلك. ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها. ولما قرن استحلالها باستحلال (الخمر والزنا) . 2- وعن عبد الرحمن بن غنم الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في التاريخ، وأبو داود في سننه، وابن ماجه في سننه –واللفظ له- والبيهقي في السنن، وابن حبان في صحيحه. والطبراني في الكبير، وقال البيهقي بعد أن أخرجه في السنن الكبرى 10/ 221: ولهذا شواهد من حديث علي وعمران بن حصين، وعبد الله بن بسر، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك وعائشة، رضي الله عنها عن النبي (صلى الله عليه وسلم) . فدرجة الحديث: أنه حسن لغيره، وقد صححه ابن حبان. ووجه الدلالة منه: أن فيه توعد مستحلي المعازف والمغنيات بالخسف والمسخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1915 3- وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: ((تبيت طائفة من أمتي على أكل وشرب ولهو ولعب، ثم يصبحون قردة وخنازير باستحلالهم الخمور وضربهم بالدفوف واتخاذهم القينات)) [رواه الإمام أحمد والطبراني، وأبو نعيم وابن أبي الدنيا] . 4- وعن على بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ((إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل عليها البلاء قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: إذا كان المغنم دولا. والأمانة مغنما. والزكاة مغرما، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وبر صديقه، وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور، ولبس الحرير واتخذ القينات، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليترقبوا عند ذلك ريحا حمراء، أو خسفا أو مسخا)) . رواه الترمذي وابن أبي الدنيا. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي مثله. وحسنه الترمذي. من هذه الأحاديث وغيرها نعلم: أن الأغاني المطربة الحالية وما رافقها من المعازف والموسيقي محرمة كالخمر والزنا، لما في هذه الأحاديث المتعاضدة من وعيد شديد. بوقوع الخسف والمسخ في هذه الأمة، المقيد بأصحاب الأغاني والمعازف وشاربي الخمور. وقد قيل عن بعض أهل العلم (إذا اتصف القلب بالمكر والخديعة والفسق، ثم انطبع بذلك انطباعا تاما صار صاحبه على خلق الحيوان الموصوف بذلك. من القردة والخنازير، وغيرهما ثم لا يزال يتزايد ذلك الوصف فيه شيئا فشيئا، حتى يبدو على صفحات وجهه بدوا خفيا.. ومن له فراسة تامة يرى على صورة الناس مسخا من صورة الحيوانات التي تخلقوا بأخلاقها في الباطن.. فقلَّ أن تري رجلا محتالا مكارا إلا وعلى وجهه مسخة قرد. وقَلَّ أن تري رجلا شَرِهًا نَهِمًا، نفسه نفسا كَلْبِيَّةَ إلا على وجهه مسخة كلب ... ) انظر (إغاثة اللهفان) (جـ1 ص267) . 4- من أقوال الصحابة والتابعين التي قد استدل على تحريم الأغاني الخليعة وآلاتها المطربة ممارسة واستماعا ما يلي: 1- عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه قال: (الغناء والعزف مزمار الشيطان) . كما نقل عن كتاب: مدارج السالكين. ولا شك في نكارة عمل نسب للشيطان كهذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1916 2- وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (الغناء ينبت النفاق في القلب) رواه: أبو داود. والبيهقي وابن أبي الدنيا، وإسناده صحيح، وقد قال كل من ابن القيم في (الإغاثة: 1/ 266) . والأذرعي كما في (كف الرعاع) : إن هذا حجة لأنه لم يخالفه أحد من الصحابة، وقد ثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: ((رضيت لأمتي ما رضي به ابن أم معبد)) . كما رواه: البخاري في الصحيح والحاكم. 3- وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لمغن: (أف. شيطان أخرجوه أخرجوه..) رواه البخاري في الأدب المفرد. والبيهقي في السنن الكبرى بسند رجاله ثقات. فما هذا التأفف الشديد والطلب الملح بالإخراج من أم المؤمنين إلا أنها تكره الغناء وتحرمه ... 4- وعن أنس رضي الله عنه أنه قال: (أخبث الكسب كسب الزمارة) رواه ابن أبي الدنيا في (ذم الملاهي) بسند حسن فلا شك أن هذا من الأدلة الدالة على تحريم الزمارة التي يتغنى بها الدعاة. وأن ما اكتسب منها خبيث وسحت وحرام. 5- وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال –وقد رأى صغيرة تغني- (إن الشيطان لو ترك أحدا لترك هذه..) رواه البخاري في الأدب. وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي. فلا شك أن في هذا الحديث دليلا على قبح الغناء وكراهته لأن الاشتغال به من عمل الشيطان وتسليطه. 6- وعن فضالة بن عبيد بن قيس الأنصاري رضي الله عنه (أنه كان بمجمع –أي حي من الأحياء- من المجامع. فبلغه أن قوما يلعبون بالكوبة –أي الطبل- وقيل: النرد، والشطرنج، والطبل الصغير – (فقام غضبانا ينهى عنها أشد النهي) . ثم قال: (ألا أن اللاعب بها ليأكل ثمرها كالآكل لحم الخنزير ومتوضئ بالدم) رواه البخاري في الأدب المفرد بسند رجاله ثقات. لا ريب أن هذا –أيضا- من أدلة التحريم إذ إنك تري أن الصحابي الجليل غضب من ذلك أشد الغضب. ونهى عنه أشد نهي، وشبه بكسبه بأخبث شيء. 7- وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: (ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم رواه ابن ماجه في سننه وفي سنده: الصلت بن دينار. قيل: هو صبي متروك الحديث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1917 8- وعن سعيد بن المسيب أنه قال: (إني لأبغض الغناء وأحب الرجز) رواه عبد الرازق الصنعاني في (المصنف) بسند صحيح (وهو من أقوي الأدلة في الرد على من زعم أن سعيد بن المسيب كان يبيح الغناء) . فنقول: إنما كان يسمع الرجز فقط، وشتان ما بين الرجز والغناء فالرجز نوع من الشعر العادي. وزنه (مستفعلن) ست مرات سمي بذلك لتقارب أجزائه. أما الغناء: فهو –كما سبق- نغمات تلحن وتمطط بتكسير وتقطيع. والله أعلم. 9- وعن قتادة أنه قيل له: فما صوته –أي ما صوت إبليس-؟ فقال: (المزمار، ومصائده النساء) . رواه ابن أبي الدنيا في (مكائد الشيطان) وابن القيم في (إغاثة اللهفان) والطبراني كما في مجمع الزوائد. وروي رفعه، ولكن الصحيح هو الموقوف إلا أنه مرسل ومعلوم أن لهذا الأثر شواهد كثيرة. 10- وعن الضحاك بن مزاحم الهلالي: أنه قال (الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب) . ذكره ابن الجوزي في (تلبيس إبليس) ص: 235. 11- وعن يزيد بن الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين العادل المعروف بالناقص أنه قال: (يا بني أمية إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعله السكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء رقية الزنا) . رواه ابن أبي الدنيا في (ذم الملاهي) وابن كثير في (البداية والنهاية) وابن القيم في (إغاثة اللهفان) . 12- وعن الفضيل عن عياض أنه قال: (الغناء رقية الزنا) رواه ابن أبي الدنيا في (ذم الملاهي) وابن الجوزي في (تلبيس إبليس) . 13- وقال على بن الحسين (زين العابدين) : (ما قدست أمة فيها البربط) رواه: ابن أبي الدنيا في (ذم الملاهي) . وابن الأثير في (النهاية) وابن القيم في (الإغاثة) بإسناد رجاله ثقات. 14- وعن قاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه قال لمن سأله عن الغناء: (أنهاك عنه وأكرهه لك، قال: أحرام هو؟ قال: انظر يا أخي إذا ميز الله الحق من الباطل في أيهما يجعل الغناء؟) رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي في السنن. وابن الجوزي في التلبيس وله شاهد من حديث عباس الذي ذكره ابن القيم في (الإغاثة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1918 15- وعن عمر بن عبد العزيز –رحمه الله- أنه قال: (الغناء بدؤه من الشيطان وعاقبته سخط الرحمن) . 16- وعن محمد بن الفضل الأزدي أنه قال: (نزل الحطيئة برجل من العرب، ومعه ابنته (مليكة) فلما جنه الليل سمع غناء، فقال لصاحب المنزل: كف هذا عني، فقال: وما تكره من ذلك؟ فقال: إن الغناء رائد من رادة الفجور. ولا تسمعه هذه –يعني ابنته- فإن كففته وإلا خرجت عنك) ذكره ابن أبي الدنيا في (ذم الملاهي) . كما نقله ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان عن مكائد الشيطان) (جـ1 ص246) . 17- وعن أبي عبيدة معمر بن المثني، أنه قال (جاور الحطيئة قوما من بني كلب –فتشاور القوم في شأنه- فأتوه في فناء خبائه. فقالوا: يا أبا مليكة، إنه قد عظم حقك علينا بتخطيك القبائل إلينا، وقد أتيناك لنسألك عما تحب فنأتيه وعما تكره فنزدجر عنه، فقال: جنبوا ندي مجلسكم، ولا تسمعوني أغاني شبيبتكم، فإن الغناء رقية الزنا) . رواه ابن أبي الدنيا بسند مقبول لكن فيه انقطاع. وفي هذا الأثر والذي قبله دلاله واضحة على قبح الغناء وشناعته، وأن خطره معروف حتى عند الشعراء الذين اشتهروا بالهجاء والسب والسفه.. وقد قال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) : إذا كان هذا الشاعر المفتون الذي هابت العرب هجاءه خاف عاقبة الغناء، وأن تصل رقيته إلى حرمته، فما الظن بغيره؟ انظر (جـ1/ 246) . ومن هذه الأقوال نعلم علما أكيدا: أن كثيرا من الأغاني الحالية التي يتغنى بها كثير من أبنائنا وبناتنا، ونسمعها عن قصد أو من غير قصد –هي من عمل الشيطان، يفسد بها القلوب والعقول ويغضب الله، فالغناء إذًا هو نفسه حرام، وكسبه حرام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1919 المبحث الثالث من أقوال علماء المذاهب الأربعة في حكم الأغاني والموسيقي ما يلي لقد اتفق جمهورهم على تحريم الغناء المقترن بآلات الطرب. والمشتمل على ذكر أوصاف النساء، والخمور، والكذب، والافتراء ونحوها. 1- وهذا التحريم هو مذهب أبي حنيفة وسائر أهل الكوفة في ذلك الزمن كالثوري والشعبي، والنخعي فقد ذكر الحافظ ابن الجوزي في (تلبيس إبليس) عن أبي الطيب أنه قال: (كان أبو حنيفة يكره الغناء، ويجعل سماعه من الذنوب، وكذلك سائر أهل الكوفة ... ) . وذكر الألوسي في تفسيره (روح المعاني) تحريمه عن أبي حنيفة، وأنه حرام في جميع الأديان. وأن كلا من صاحب الهداية والذخيرة سمياه كبيرة. وقال (صاحب الدر المختار شرح تنوير الأبصار) : لا تقبل شهادة من يغني للناس؛ لأنه يجمعهم على كبيرة، وكذلك لا تقبل شهادة من يستمع الغناء، أو يجلس بمجلس الغناء أو مجلسا آخر من مجالس الفجور. وبهذا جزم الزيلعي في (تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق) (جـ4 ص120) . وكذلك جزم به صاحب الفتاوى الهندية في فتاويه. فمذهب أبي حنيفة في ذلك أشد المذاهب. وقوله فيه أغلظ الأقوال قاله ابن القيم في (الإغاثة) . وقال فيه –أيضا- (وقد صرح أصحاب أبي حنيفة بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار، والدف، حتى ضرب القضيب، كما صرحوا بأنه معصية توجب الفسق فترد به الشهادة كما قالوا: إن سماعه فسق والتلذذ به كفر) . وقال أبو يوسف في دار يسمع منها المعازف والملاهي: (ادخل عليهم بغير إذن للنهي، لأن النهي عن المنكر فرض، فلو لم يجز الدخول إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض) انظر (إغاثة اللهفان) . 2- وهو مذهب الإمام مالك وسائر أهل المدينة في ذلك الوقت سوى إبراهيم بن سعد الزهري وعبيد الله بن الحسن العنبري. فقد قال الإمام مالك حينما سئل عن الغناء (إنما يفعله عندنا الفساق) يعني بذلك إبراهيم ومن شاركه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1920 وعن أبي الطيب الطبري: أن مالك بن أنس (نهى عن الغناء وعن استماعه) وقال: (إذا اشتري-إنسان- جارية فوجدها مغنيه كان له ردها بالعيب –يقصد بذلك العيب (كونها مغنية) . وقال: وهذا مذهب سائر أهل المدينة) . وذكر ابن عبد البر في كتاب (الكافي في فقه أهل المدينة المالكي) : (إسقاط شهادة من يستمع الغناء أو يغشى المغنين) انظر (الكافي) (2/ 205) . وذكر الحطاب في (شرح مختصر خليل) عن ابن عبد الحكم (أن سماع الغناء بغير آله إذا تكرر منه يكون قادحا في المروءة وأما الغناء بآلة: فإن كانت ذات أوتار كالعود، والطنبور، والمزمار فممنوع) انظر (6/ 153) . والحاصل: أن مذهب الإمام مالك وسائر أهل المدينة المعتبرين متفقون على كراهة الغناء ومنعه إلقاءً واستماعا. وإن ما يدعيه ابن حزم الظاهري في ذلك المضمار فهو باطل. كما سنذكره إن شاء الله. 3- والتحريم –أيضا- هو مذهب الشافعي كما هو معروف لدى العلماء فقد صرح في (كتاب الأم) : 6/ 214، (بأن الرجل الذي يغني فيتخذ الغناء صناعة لا تجوز شفاعته؛ لأنه من اللهو الذي يشبه الباطل، وأن من يتخذ الغلام والجارية المغنين ويجمع عليهما أي يجتمع هو والناس على استماعهما والنظر إليهما –فهذا سفيه ترد به شهادته) قال: (وفي الجارية أكثر –سفها وأشد نكارة- لأن فيه سفاهة ودياثة..) . (وإنما جعل هذا الرجل سفيها فاسقا، لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا إلى باطل كان سفيها وفاسقا) . قال ابن الجوزي في (تلبيس إبليس) : وعن أبي الطيب الطبري: (أن من أضاف إلى الشافعي إباحة الغناء والضرب بالقضيب فقد كذب عليه) حكاه عنه ابن الجوزي. وحكي ابن الصلاح: (الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة والغناء فالخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل الشبابة منفردة والدف منفردا..) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1921 وقال ابن القيم في (الإغاثة) : (إن أصحاب الشافعي العارفين بمذهبه صرحوا بتحريم الغناء، وأنكروا على من نسب إليه حله كالقاضي أبي الطيب وابن الصباغ) . انظر: ملحق كتاب (تحريم النرد والشطرنج والملاهي) ص317. وحكي عن أبي إسحاق في التنبيه: (أنه لا تصح الإجارة على منفعة محرمة كالغناء والزمر ولم يذكر فيه خلافا) . قد تضمن كلام الشيخ أمورا: أحدهما: أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة. الثاني: أن الاستئجار عليها باطل. الثالث: أنه لا يجوز للرجل بذل ماله للمغني ويحرم عليه ذلك، فإنه بذل ماله في مقابل محرم، وأن بذله في ذلك كبذله في مقابلة الدم والميتة. فهذا قول علماء الشافعية وأهل التدين منهم، وإنما رخص في ذلك من قل حياؤه وغلبه هواه قاله ابن الجوزي. وذكر الهيتمي في الزواجر: (أن الشافعية استدلوا على تحريم المزامير بأنها شعار شربة الخمور) . انظر (الزواجر) ص2/ 278. فخلاصة القول: أن الأغاني المطربة بالمعازف وآلات الطرب محرمة عند المذهب الشافعي. وأن كل ما حكي عن الشافعية من إباحة المزامير والأوتار فهو غير صحيح. 4- أما مذهب الإمام أحمد بن حنبل في مسألة حكم الأغاني فهي لا تخالف كثيرا مما سبق. فلننظر قليلا فيما نقل عن ذلك الإمام. فقد قال ابنه عبد الله: سألت أبي عن الغناء فقال: (الغناء ينبت النفاق في القلب؛ فلا يعجبني) . وروي عنه يعقوب الهاشمي (أن التغبير بدعة محدثة) وروى عنه أبو الحارث، أنه قال: (التغبير بدعة. فقيل له: إنه يرقق القلب فقال: هو بدعة) . وروي عن يعقوب بن غياث. أنه قال: (أكره التغبير وأنه نهى عن استماعه) . وقد قيل: إن الغناء الذي كان موجودا في زمانه هو إنشاد القصائد الزهدية وكان الزهاد يلحنونها لذا اختلفت الروايات عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1922 والتغبير: قيل هو الطقطقة بالقضيب أي الضرب به على المخدة وهي نوع من الجلد يتخذ وسادة بعد نفخه بالهواء كالقربة. ومعلوم أن هذه الروايات كلها تدل على كراهية الغناء عند أحمد. وروي عن المروزي عن الإمام أحمد أنه قال: (كسب المخنث خبيث يكسبه بالغناء) . وقد نص الإمام أحمد (في أيتام ورثوا جارية مغنية ورثوا جارية مغنية وأرادوا بيعها أن لا يبيعوها إلا على أنها ساذجة غير مغنية) ، لأنها بوصفها مغنية قد يزيد ثمنها، فيفهم من هذا أنه لو كان بيع المغنية حلالا والغناء مباحا عند أحمد لم يأمر بتضييع مال اليتامى، لأن تضييع مالهم من أشد الحرام.. فدل هذا على أن الإمام أحمد كان يحرم الغناء ولا يبيحه. ونص –أيضا في كتب المذهب الحنبلي (أن تكسر آلات اللهو والطرب كالطنبور وغيره، إذا رئيت مكشوفة وأمكن كسرها) .. لأنها من المنكرات كما نص فيها –أيضا- (أنه لو علم هناك آله مستورة تحت ثوب لكشف عنها وكسرت) . فالحاصل من ذلك أن الغناء المطرب وآلاته ممنوعان في مذهب الإمام أحمد. وأن ما حكي عنه في الكراهة وعدمها إنما هو في القصائد الزهدية. نضيف إلى ذلك بعض ما قاله علماء هذا المذهب حول هذه المسألة: فقد قال ابن عبد البر: (من مكاسب المجمع على تحريمها أخذ الأجرة على النياحة والغناء واللعب، والباطل كله) نقله القرطبي في تفسيره. 7/ 3. وحكي عن ابن المنذر أنه قال: (أجمع كل من حفظ عنه من أهل العلم على إبطال إجارة النائحة والمغنية) . وقال ابن قدامة (كل ما قصد به الحرام كبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطاع الطريق، وكبيع الأمة للغناء أو إجارتها.. حرام، والعقد باطل (. ففي الحديث قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((أن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه)) . رواه أحمد وأبو داود في سننه، والدارقطني. ومن هذا كله نعلم أن الأئمة الأربعة متفقون على تحريم الأغاني المطربة، والمعازف الملهية والمزامير الشيطانية والله أعلم. وقد ذكرنا الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين فلا نكررها هنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1923 المبحث الرابع في غير الجمهور وأقوالهم وأما غير الجمهور –وهم إبراهيم بن سعد، وعبيد الله العنبري ومحمد بن حزم الظاهري، ومن تبعهم من أهل الظاهر وأصحاب الأهواء- فهؤلاء قد فارقوا الجماعة، فذهبوا إلى إباحة الأغاني وآلات الملاهي والطرب من غير قيد ولا استثناء حتى ادعى واحد منهم – محمد بن طاهر المقدسي القيسراني - إجماع أهل المدينة والصحابة والتابعين على إباحة الغناء بالعود، وهو قول باطل يخالفه النقل كما سبقت الإشارة إليه. فإليك بعض ما استدلوا على إباحة ذلك من: 1- استدلوا على إباحة الأغاني مطلقا، بحديث عائشة رضي الله عنها، وهو أنها قالت (دخل عليَّ أبو بكر رضي الله عنه وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقولت الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ وذلك يوم عيد فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((يا أبا بكر أن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا.)) ) . رواه البخاري. ومسلم وأحمد والنسائي وابن ماجه وفي لفظ رواية أحمد: (قال أبو بكر: عياذ الله أمزمور الشيطان؟ قالها ثلاث مرات) . وفي رواية مسلم والنسائي وابن ماجه: (وعندها جاريتان تضربان بدف) . قال ابن حزم في استدلاله بهذا الحديث: لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أقره بحضرته وأنكر على الصديق إنكاره، وأن قولها: (وليستا بمغنيتين) –معناه- ليستا بمحسنتين فلا حجة في قولها ولا في إنكار الصديق.. وإنما الحجة في إنكاره (صلى الله عليه وسلم) على أبي بكر رضي الله عنه.. فصح أنه مباح مطلقا لا كراهية فيه، وأن من أنكره فقد أخطأ اهـ بتصرف انظر المحلي (9/ 75) . 2- واستدلوا على إباحة سماع الغناء بالعود وبيع المغنية بقصة غير صحيحة وهي ما روي بسند منقطع عن محمد بن سيرين (أن رجلا قدم المدينة بجوار فأتى إلى عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن فأحدث حتى ظن ابن عمر أنه قد نظر إلى ذلك، فقال ابن عمر: حسبك سائر اليوم من مزمار الشيطان، فساومه، ثم جاء الرجل إلى عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن إني غبنت بسبعمائة درهم فأتي ابن عمر إلى عبد الله بن جعفر فقال: أنه غبن بسبعمائة درهم، فإما أن تعطيها إياه، وإما أن ترد عليه بيعه، فقال: بل نعطيها إياه) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1924 قال ابن حزم بعد ما روى هذه القصة في (المحلى) (فهذا ابن عمر قد سمع الغناء وسعى في بيع المغنية..) انظر (المحلى 9/ 77) . 3- احتج ابن الطاهر القيسراني على إباحة الغناء بحديث مكذوب رواه في (صفوة التصوف) وهو قوله (–روي- عن أنس رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: ((هل فيكم من ينشدنا؟)) فقال بدو: نعم يا رسول الله. فقال: ((هات)) فأنشأ: قد لسعت حية الهوى كبدي فلا طبيب لها ولا راقي إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده بقيتي وترياقي قال: فتواجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتواجد معه أصحابه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فتقاسمها فقراء الصفة، وجعلوها رقعا في ثيابهم، فقال معاوية: ما أحسن لهوكم؟ فقال: ((مهلا يا معاوية ليس بالكريم من لم يتواجد عند ذكر الحبيب)) . ذكره ابن تيمية في (الرسائل المنبرية) والسهروردي في (عوارف المعارف) . 4- واستدل ابن حزم على إباحة بيع المغنيات وشرائهن، وبيع آلات الملاهي كالمزامير، والمعازف، والطنابير .... بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (1) . وبقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} . (2) . وبقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) وقال: ولم يأت نص بتحريم شيء من ذلك. وقال: ورأى أبو حنيفة الضمان على من كسر شيئا من ذلك (انظر المحلي: 9/ 66-76) .   (1) البقرة: الآية (29) (2) الأنعام: الآية (119) (3) البقرة: الآية (275) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1925 وهذا خلاصة ما وقفت عليه مما احتجوا على تأييد رأيهم.. فإليك أجوبة الجمهور عن تلك الحجج الواهية. أولا: إن حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه الذي استدلوا به إباحة الغناء ليس لهم فيه حجة، بل هو حجة عليهم، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) أقر الجاريتين بالغناء لأمور عدة: منها: أنها يوم عيد، فقد علل النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك بقوله: ((دعهما فإنه يوم عيد)) فدل على أن أيام العيد ليست كذلك فلا يدل على جواز الغناء إلا في يوم العيد وما شاكله. وهذا الجواب نورده إذا قيل: إن الجاريتين كانتا تغنيان بالغناء المعروف عن أهل اللهو واللعب. وإن كان غناؤهما مجرد إنشاد للأشعار – كما هو الأصح - فليس فيه دليل على إباحته لا في يوم عيد ولا غيره، لأن الجاريتين غنتا بأشعار الشجاعة والحروب التي قيلت يوم بعاث، فلم يقل أحد من الفقهاء بمنع مثله، انظر فصل الخطاب (ص3 (الأغاني والمعازف وآلات الملاهي) (لمحمد سعيد عمر إدريس) ص: 278) . ومنها: أن غناءهما لم يبلغ إلى درجة الكراهة لأنهما، لم تكونا مغنيتين ففي شرح النووي على مسلم، وشرح الكرماني على البخاري: قال القاضي عياض في شرح هذا الحديث: (أي ليستا ممن يغني بعادة المغنيات من التشويق والهوى والتعريض بالفواحش، والتشبه بأهل الجمال وما يحرك النفوس.. وليستا ممن اشتهر بإحسان الغناء الذي فيه التمطيط والتكسير، وتحريك الساكن.. ولا من اتخذه صنعة وكسبا) . وقال النووي في شرحه على مسلم: معناه (ليس الغناء عادة لهما، ولا معروفتان به) . ومنها: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم ينكر على أبي بكر رضي الله عنه بتسمية الغناء مزامير الشيطان بل أقره على التسمية –أي لم يقل: (ليس من مزامير الشيطان ولا ما يماثله) بل أمره بترك التغليظ في الإنكار على الجارتين وعلل ذلك بأنها أيام عيد.. فقول ابن حزم في هذه النقطة بعيد كل البعد؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه ليس الذي بدأ بهذه التسمية على الغناء. وإنما النبي (صلى الله عليه وسلم) هو الذي سماه باسم مزامير الشيطان، كما في حديث جابر رضي الله عنه: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ((نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان)) . رواه: الترمذي، والحاكم، والبيهقي، وأبو داود الطيالسي في مسنده. ومنها: أن في إنكار الصديق رضي الله عنه على عائشة رضي الله عنها والجاريتين وانتهارهن دليلا على المنع من الغناء ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1926 وخلاصة القول: أن حديث عائشةرضي الله عنها للجمهور لا لابن حزم وأتباعه كما نص عليه أبو الطيب الطبري حين قال: (أن هذا الحديث حجتنا ... ) . وكما نص ابن القيم في (مدارج السالكين) بقوله: (إن هذا الحديث من أكبر الحجج عليهم فإن الصديق رضي الله عنه سمى ذلك مزمورا من مزامير الشيطان .... ) . ثانيا: وأما الجواب عن قصة الجارية التي قال ابن حزم: إنها غنت بالعود أو الدف على مسمع ومرأى ابن عباس وابن جعفر رضي الله عنهما: فقد أجابوا عنها من وجوه عدة: منها: أن القصة التي ساقها ابن حزم منقطعة السند في مرحلتين: بينه وبين حماد، وبين ابن سيرين وبين الرجل المجهول، وفيها رجل مبهم مجهول. ومها: أنه ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه ((أنه سد أذنيه ونأى عن الطريق حينما سمع زمارة راع. كما في حديث نافع.. فقد روى عنه (أنه رضي الله عنه كان مع ابن عمر رضي الله عنه في طريق، فسمع زمارة راع، فعدل عن الطريق. ثم قال لنافع: هل تسمع؟ فلم يزل يقول: يا نافع أتسمع؟ حتى قلت: لا فأخرج أصبعه من أذنه ثم رجع إلى الطريق، وقال: هكذا رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صنع)) . رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه. وابن حبان في صحيحه والبيهقي في السنن الكبرى والطبراني في المعجم الصغير. وهو حديث صحيح وثابت ومشهور فهو يناقض القصة.. ومنها: أن فيما رواه البخاري في الأدب المفرد من حديث عبد الله بن دينار ما ينقض القصة: وهو أنه قال: خرجت مع عبد الله بن عمر رضي الله عنه إلى السوق، فمر على جارية صغيرة تغني، فقال: (إن الشيطان لو ترك أحدا لترك هذه لجارية) .. ثالثا: وأما الجواب عن الحديث الذي احتج به ابن طاهر على إباحة الغناء: فإنه يقال: إن هذا الحديث باطل ولم يصح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) إطلاقا بل هو موضوع. فقد قال الذهبي في (الميزان) (عمار بن إسحاق الضبي كأنه واضع هذه الخرافة لأنه من الأحاديث المكذوبة. انظر) ص77. وقال محمد المنيحي الحنبلي في كتاب (الرقص والسماع) (إن هذا –هو حديث مكذوب وموضوع باتفاق أهل العلم) . انظر (مجموعة الرسائل المنبرية) (3/169) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1927 وأما قولهم في بيع المزامير والمعازف وآلات الطرب (أنه حلال كله) فالجمهور يقولون (إن قولهم هذا باطل ومردود بالأحاديث الصحيحة وإجماع من يعتد بهم من فقهاء السلف والخلف) . ,أما الأحاديث فمنها ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري المرفوع: ((ليكونن من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) كما سبق. وقد قيل: (إن الحر هو الفرج) ، والمراد به في هذا الحديث (الزنا) .. وأن المعازف: جمع معزف كمنبر ومنابر وهي آلات الملاهي كالعود والدف ونحوه. والعازف: اللاعب بها. وقيل: (المعازف اسم لكل ما يعزف به كالطنبور والمزمار، والشبابة وغير ذلك من آلات الملاهي) كما في التذكرة للذهبي. ومحل الشاهد في هذا الحديث قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((يستحلون)) لأنه دليل على أن هذه الأشياء المذكورة محرمة كلها ومن ضمنها المعازف ثم يأتي أقوام يحلونها.. ومنها قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان)) رواه الترمذي وحسنه، والحاكم في المستدرك. والبيهقي في السنن والبزار، والطيالسي في مسنده وابن أبي شيبة وأبو يعلى الموصلي وإسحاق بن راهويه، وعبد بن حميد كما في (نصب الراية) (4/ 84) . وأما الإجماع على خلاف ما ذهب إليه ابن حزم: فقد قال ابن عبد البر (من المكاسب المجمع على تحريمها أخذ الأجرة على النياحة والغناء والزمر واللعب والباطل) . كما في تفسير القرطبي. وممن حكى الإجماع الحافظ في (فتح الباري) فقد قال: قد حكي قوم الإجماع على تحريم المعازف. وحكى ابن قدامة المقدسي في (المغني) الإجماع على أن الطنبور والمزمار والشبابة من آلات المعصية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1928 وأما قول محمد بن حزم الظاهري في كتابه (المحلى) : ومن كسر شيئا من ذلك –أي المزامير والمعازف والطنابير –ضمنه- لأنها مال من مال مالكها. فهو قول غير صحيح؛ لأن الشارع الحكيم قد أمر وحث على إزالة المنكر ومحاربته، حيث قال (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) . ولا شك ولا ريب أن من أشد المنكرات وأخطرها على المجتمع تلك الآلات آلات اللهو والطرب فتغبيرها واجب عظيم وإزالتها أمر لازم. وإن تعليله بأنها (مال مالكها) فمردود لأنها ملعونة وقد وصفها (صلى الله عليه وسلم) بأنها صوت أحمق وفاجر. والفاجر الملعون لا يجوز اقتناؤه، كما لا يثبت الملك فيه لأحد فهي مثل الخمر في قبحها وعدم جواز اقتنائها. وفي عدم ثبوت ملكيتها لأحد. بل يجب إتلافها حيثما وجدت، وإراقتها كما أراقها النبي (صلى الله عليه وسلم) وأمر أصحابه.. وكذلك تلك الآلات، فيجب إتلافها ولا يجوز تركها مع القدرة على إتلافها لأنها منكر يجب إزالته. وفي حديث أبي أمامة أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((بعثت رحمة وهدى للعالمين وبمحق الأوثان والمعازف وأمر الجاهلية)) رواه أحمد والطيالسي وابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان والحميدي في مسنده. وأما استدلاله على تحليل بيع آلات اللهو بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (1) . مع قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (2) فغير مسلم به لأن عموم الآيتين مخصوص بما ثبت تحريمه في الكتاب والسنة. وآلات الملاهي قد ثبت تحريمها بهما كما سبق. فتكون مخصصة من عموم الآيتين كما لا يخفي.   (1) البقرة: الآية (29) (2) البقرة: الآية (275) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1929 المبحث الخامس إن من الأسباب التي أدت إلى انهيار الأخلاق الإسلامية في هذا العصر الحاضر خطط أعداء الإسلام والمسلمين التي تنفذ وتنتشر بصفة مباشرة وغير مباشرة في العالم الإسلامي. فقد تبنت الماسونية واليهودية مذهب (فرويد) الذي فسر كل شيء في سلوك الإنسان بالإباحة والانطلاق في طريق الغريزة الجنسية والشهوة واللذة. وآراء (كارل ماركس) الذي دعا إلى إلغاء الأديان السماوية وهاجم عقيدة الألوهية، ونادى إلى المسرح كبديل عنها، قائلا: اشغلوهم عن عقيدة الألوهية بالمسرح. ولبوا بآراء (نيتشه) الذي ألغي الأخلاق وأباح لكل أحد أن يفعل ما تمليه إليه ميوله من كل ما يؤدي إلى استمتاعه فهؤلاء يجتهدون دائما لتنهار الأخلاق في كل مكان بجميع الطرق والوسائل وقد قالوا في (بروتوكولاتهم) يجب علينا أن نكسب المرأة المسلمة، فأي يوم مدت إلينا يدها نفوز بالحرام، وتتبدد جيوش المنتصرين للدين. وتبنوا بآراء (داروين) الخبيثة الذي أعلن نظرية التطور المرفوضة وقالوا: إن فرويد منا –نحن اليهود- وسيظل دوما يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس، لكي لا يبقي في نظر الشباب شيء مقدس، ويصبح همه الأكبر وشغله الشاغل إرواء غرائزه الجنسية وعندئذ تنهار الأخلاق.. وقال (زويمر) أحد القساوس المبشرين في مؤتمر المبشرين في القدس ما يلي: (إنكم أعددتم نشئا في ديار المسلمين لا يعرف الصلة بالله.. وبالتالي جاء النشء طبقا لما أراد له الاستعمار، فلا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل، فلا يصرف همه في الدنيا إلا في الشهوات فإن تعلم فللشهوات، وإن جمع المال فللشهوات، وإذا تبوأ أسمى المراتب والمراكز ففي سبيل الشهوات. (وقال أحد أقطاب المستعمرين) : كأس وغانية تعملان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع. فأغرقوها في حب المادة والشهوات ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1930 ونقل الأستاذ محمود العقاد في كتابه (الإسلام والشيوعية) عن وثيقة من الوثائق الشيوعية ما خلاصته: (نجحنا في المجتمعات الدينية في تعميم ما يهدم الدين، من القصص، والمسرحيات والمحاضرات، والصحف والمجلات، والمؤلفات التي تدعو وتروج الإلحاد وتهزأ بالدين ورجاله، وتدعو للعلم وحده، وتجعله الإله المسيطر) . وهذا نزر قليل من مخططات أعداء الإسلام اتخذوها لهدم حصون الإسلام والمسلمين ويتسللوها إليهم ويغيروا كل ما لديهم من خلق ودين وعقيدة. وها قد نالوا مرادهم من كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام. وقد اتضح لنا من هذا الذي نقلناه منهم أن كلا من اليهودية والماسونية والشيوعية، والصليبية، والمستعمرين وقوى الشر كلها متعاونون ومتساندون على إفساد الأمة المحمدية عن طريق الخمر والمسرح والأغاني الماجنة، والتبرج الخليع، والاختلاط الفاحش، وترويج القصص الغرامية، والأفلام الوقحة، والصور العارية، على صورة ترويج بعض البضائع، أو على صورة التجميل والتزين والصحف والمجلات، وقد وصلوا بعض مراميهم من شبابنا بهذه الوسائل.. فعلى المسلمين أن يتنبهوا إلى ذلك. وأن ينتهوا عن هذا التقليد الأعمى لهؤلاء المضلين، من الناحية الخلقية والسلوكية..كالاختلاط بين الجنسين والتبرج الجاهلي والخمر والخَنَا.. وكممارسة الملاهي المحرمة من كل ما يصد عن ذكر الله، أو يغري بينهم البغضاء، أو يثير الغريزة الجنسية أو يميت الغيرة.. وأن يتميزوا عن غيرهم في العقيدة والعبادة والسلوك، وأن يغيروا ما بهم من الميوعة والخلاعة والانحلال، لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن يزيلوا هذا الجهل المطبق. وفي الحديث الشريف قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا أن تجتنبوا إساءتهم ... )) رواه الترمذي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1931 المبحث السادس في التبرج والاختلاط إن التبرج والاختلاط وما صاحبهما من كشف وعري.. لظاهرة رذيلة ومفسدة خطيرة للأخلاق والأعراض والأموال والأبدان والأرواح وجميع مقومات الحياة الإنسانية.. وقد فشا ذلك كله في كثير من المجتمعات الإسلامية المعاصرة، فلم يسلم منه إلا من قل وندر. وذلك عن طريق التقليد الأعمى للأعداء، والجهل عن مخططاتهم، والتناسي عن الدين الحنيف وتوجيهاته القوية القويمة نحو هذا التبرج.. فلنبحث صفحات ما كتب حول هذا الموضوع قليلا: 1- التبرج: أصله الخروج من البرج –أي القصر- ومعناه التكلف بإظهار ما يجب ستره، وقد استعمل في خروج المرأة من الحشمة والحياء. وإبراز محاسنها. وقد جاء لفظ التبرج في القرآن الكريم. قال الله تعالى في سورة الأحزاب {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) وفي سورة النور: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} . (2) فالتبرج المذكور في الآيتين هو عين التبرج الذي نرى في نسائنا اليوم، كما لا يخفي ولا شك أن هذا التبرج ينافى الخلق، والدين، والمدنية معا، لأن أهم ما يتميز به الإنسان عن الحيوان الأعجم هو اتخاذ الملابس وأخذ الزينة. وقد امتن الله سبحانه وتعالى على الإنسان أن خلق له ما يستر به عورته، وما يتزين به ويتجمل قال تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} . (3) وقال تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} . (4) والملابس والزينة من مظاهر الإنسانية الكاملة والمدنية الحقة. والتجرد عنها رجوع إلى الانحطاط والحيوانية، والحياة البشرية لا تسير إلى الوراء والتقهقر إلا إذا أصابتها نكسة تغير الأفكار والآراء كما هو واقع اليوم. واتخاذ الملابس والزينة بالنسبة للمرأة قد قيل إنه من ألزم اللوازم، لأنه هو الحافظ الوحيد، الذي يحفظ دينها، وشرفها، وعفافها، وإن أعز ما تملكه المرأة هو الشرف والعفة والحياء. فليس من صالح المرأة والمجتمع أن تتخلي عن الصيانة والاحتشام لأن الغريزة الجنسية هي من أشد الغرائز وأعفها على الإطلاق. والتبرج مثير لتلك الغريزة الجموحة.   (1) الأحزاب: الآية (33) (2) النور: الآية (60) (3) الأعراف: الآية (26) (4) الأعراف: الآية (31) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1932 ولذا أعطي الإسلام عناية فائقة نحو ملابس المرأة وصيانتها. وتناولها كل من القرآن والسنة. فنهى الله عن التبرج في الآيتين السابقتين. وأمرهن بالاحتجاب وسدل الجلباب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} . (1) وفي قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} . – الجسدية - {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} . (2) –كالكفين والوجه- {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} . (3) إلى أن قال: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا} . (4) . وفي الحديث أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: ((يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا. وأشار إلى وجهه وكفيه)) أو كما قال. رواه البخاري.وفي حديث آخر قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((صنفان من أهل النار لم أرهما، رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات لا يدخلن الجنة..)) مسلم. وقد قيل: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يخشى من فتنة التبرج العارمة في زمنه، فيقمعها قبل أن تقع، لأن الوقاية خير من العلاج فقد روى (أنه كان يتعسس ذات ليلة فسمع امرأة تقول: هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم من سبيل إلى نصر بن حجاج. فقال رضي الله عنه: أما في عهد عمر فلا. فلما أصبح استدعي نصرا فوجده من أجمل الناس وجها، فأمر بحلق شعره فإزداد جمالا. فنفاه إلى بادية الشام) . وأما في الوقت الحاضر: فقد أصبح من المعتاد أن يجد الرجل المسلم –ولو كان رئيس القوم- المرأة المسلمة متبرجة مبتذلة، عارضة مفاتنها، كاشفة عن صدرها ونحرها، وظهرها، وخاصرتها وفخذيها –وربما تظهر بطنها- متعطرة.. ومغنية ومترنمة بنغماتها.. فلا تجد أية غضاضة من صنيعها. لأنه أصبح من الضروري وضع المساحيق المتنوعة. والتطيب واختيار الملابس المغرية المثيرة.. والأغاني المطربة.. فترى المرأة المسلمة وقد اعتادت أماكن الفجور والفسق والملاهي، والملاعب والمسارح، والأندية والسينما، والفنادق. بالزي الذي ذكرناه بمرافقة أقرانها من الرجال الأجانب.. إلخ.. إلى آخر ما هو معروف من الرقص والتمثيليات كما يقولون. ما ذلك إلا بسبب الجهل العميق عن أوامر الدين ونواهيه. وعن عاقبة هذا الانحراف والانحلال أو التجاهل والتناسي عنهما وإلا بسبب التقليد الأعمى للأعداء، وتنفيذ مخططاتهم الشنيعة {الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا} . (5) .   (1) الأحزاب: الآية (59) (2) النور: الآية (31) (3) النور: الآية (31) (4) النور: الآية (31) (5) النور: الآية (19) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1933 وأصبحت النتيجة من هذا الانحراف أن كثيرا من الفسوق بكافة أشكاله في الأمة وانتشر الزنا بصورة رهيبة. وفشت المخدرات في الجيل الجديد فانهدم كيان الأسر. وأهملت الواجبات الدينية والدنيوية، فتركت العناية بأطفال كثيرة. وتأزم قانون الزواج في كثير من البلدان. فصعب التطبيق عليه فرارا من مسؤولياته. حتى أصبح الحرام أسهل وأيسر حصولا من الحلال.. وضاعت الأخلاق الفاضلة والآداب الإسلامية من صدق وأمانة، وإخلاص وعفة واستقامة.. إلخ.. فتأزمت الحياة والمعيشة من كل جانب.. وماتت الفضيلة في تلك البيئة الفاسدة العفنة المتأزمنة إلا من عصمه الله.. وإن هذا الوضع السيئ لما نتأسف منه كثيرا.. وإن تلك الظاهرة –ظاهرة التبرج- لظاهرة سيئة تحتاج منا إلى علاج حاسم يقطع شأفتها بحكمة شيئا فشيئا. فلكي نصل إلى نتيجة حاسمة من هذه الناحية فلننظر إليها من الجانب الآخر، وهو ما يعبر عنه (بظاهرة الاختلاط بين الجنسين) . 2- في ظاهرة الاختلاط وما قيل فيها من آراء وأحكام: إن ظاهرة الاختلاط بين الجنسين –الرجال والنساء في جميع الميادين- في المدارس والمعاهد والجامعات والمكاتب والمصانع والنوادي في مظهر مريب، هي ظاهرة من مظاهر هذه الحضارة المادية. وهي ظاهرة خطيرة قد ركز عليها الأعداء المضلون في مخططاتهم الماكرة. كما سبقت الإشارة إليه. ونعني بظاهرة الاختلاط ذلك الاختلاط المشبوه المثير للغريزة الجنسية الجامحة. الذي يروجه دعاة الإباحة. فقد تري في كثير من مجتمعات هذا العصر من يدعو إلى الاختلاط والسفور بقوله أو بفعله، قائلا: (إن الاختلاط بين النساء والرجال فيه تهذيب للغريزة وتصريف وتنظيف لكوامن الشهوة) كما يقولون، فيجعل اجتماع النساء بالرجال والشباب بالشابات أمرا مألوفا وعاديا. ولا شك أن هذا القول كلام فارغ بل هو ادعاء كاذب ومرفوض لأن كلا من الفطرة والواقع والتجربة يكذبه ويرفضه. أما الفطرة فالله سبحانه وتعالى لما خلق الرجل والمرأة ركب في كل منهما الميل إلى الآخر. قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} . (1) وقال: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} . (2) لا سيما إذا كان كل منهما مائعا خلقيا وجائعا جنسيا، فتلك المودة وميل كل منهما إلى الآخر غريزة فطرية لا تبديل لها..   (1) الروم: الآية (21) (2) الروم: الآية (30) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1934 وفي الحديث: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ((ما خلا رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما)) . رواه الترمذي. وأما تكذيبه بالتجربة فحدث عنه ولا حرج، فقد قيل: إن نسبة الحبالى من جراء هذا الاختلاط قد زاد زيادة سريعة في المجتمعات المتقدمة –كما يقولون- يقولون: إن نسبة الحبالى من تلميذات المدارس الأمريكية قد بلغت 48 % ثمان وأربعون بالمائة. ونقل عن جريدة (الأحد) اللبنانية من عددها 650: (أن الفضائح الجنسية في الجامعات والمعاهد الأمريكية بين الطلاب والطالبات تتجدد وتزداد عاما بعد عام، وأن الطلاب يقومون بمظاهرة في –بعض- جامعات أمريكا. ويهتفون فيها: نريد فتيات، نريد أن نرفه أنفسنا. وأن هجوما ليليا وقع من الطلاب على غرف نوم الطالبات وسرقن ثيابهن الداخلية) . وقال عميد الجامعة معقبا على ذلك الحدث: (إن معظم الطلاب والطالبات يعانون جوعا جنسيا رهيبا. ولا شك أن الحياة العصرية الراهنة لها أكثر الأثر في تصرفات الطلاب الشاذة) . انظر: ما نقل من جريدة الأحد اللبنانية عدد650. (ودلت الإحصائيات في العام الماضي على أن (120) ألف طفل أنجبتهم فتيات بصورة غير شرعية –لا تزيد أعمارهن على العشرين، وأن كثيرا منهن من طالبات الجامعات) . (وأن الطالبة لا تفكر إلا بعواطفها، وبالوسائل المتجاوبة مع العاطفة) . (وأن أكثر من (60 %) ستين بالمائة من الطالبات سقطن في الامتحانات وتعود أسباب فشلهن إلى أنهن يفكرن في الجنس أكثر من دروسهن ومستقبلهن ... وأن (10 %) عشرة بالمائة فقط ما زلن محافظات) انظر ما نقل من جريدة الأحد اللبنانية عدد650. فأين تهذيب الاختلاط للغريزة الجنسية؟ وأين تصريفها عن الميل؟ وأين تنظيفه وتطهيره لكوامن الشهوة؟ وأما تكذيبه بالواقع –فإن الحوادث المذهلة منتشرة من جراء الاختلاط كما اعترف بها الأعداء المروجون في الربع الأخير من هذا القرن. (والحق ما شهدت به الأعداء) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1935 منها: ما كتبه (جورج بالوش) في كتابه (الثورة الجنسية) (صرح الرئيس (كيندي) في سنة 1962م بأن مستقبل أمريكا في خطر لأن شبابها مائع منحل غارق في الشهوات، فلا يقدر عبء المسؤولية الملقاة على عاتقه، وأن من كل سبعة شبان يتقدمون للجندية يوجد ستة منهم غير صالحين لها؛ لأن الشهوة التي أغرقوا فيها أفسدت..) وإن قيل: إن هذا الادعاء لم يتحقق فأمريكا ما زالت من إمامة العالم (نقول: ومنها: ما صرح به (خروشوف) سنة 1962 (بأن مستقبل (روسية) في خطر، لأن شبابها لا يؤمن على مستقبلهم، لأنه مائع منحل غارق في الشهوات) . ومنها: ما كتبته (جريدة الأهرام) المصرية في عددها الصادر 7/ 5/ 1965م (أن الجمعية البريطانية أصدرت لمعالجة الشذوذ الجنسي تقريرا اليوم قالت فيه: إن مليون رجل في بريطانيا –وربما أكثر- مصابون بالشذوذ الجنسي.) ومنها: ما ذكره (جورج بالوش) في نيسان سنة 1964م من أنه (أثيرت في (السويد) ضجة كبرى عندما وجه (140) من الأطباء المرموقين مذكرة إلى الملك والبرلمان، يطلبون فيها اتخاذ إجراءات حاسمة للحد من الفوضى الجنسية التي هددت الأمة –حيويتها وصحتها- وطالب الأطباء بقوانين زاجرة ضد الانحلال الجنسي) ومنها: ما نشرته صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية في عددها الصادر 15/ 7/ 1979 من (أن: 75 % بالمائة من الأزواج يخونون زوجاتهم في أوربا وأن نسبة أقل من ذلك من المتزوجات يفعلن الشيء ذاته، وأن في كثير من الحالات يعلم الزوج بخيانة زوجته، وتعلم الزوجة بخيانة زوجها.. ومع هذا قد تستمر العلاقات الزوجية الشكلية دون أن يطرأ عليها انفصام) من باب المثل (أسكت عني أسكت عنك) . ومنها: ما كتبته الكاتبة الأمريكية (هيلسبيان ستانسيري) في صحيفة (الجمهورية) يونيو 1962م تحت عنوان كاتبة أمريكية تقول: (امنعوا الاختلاط وقيدوا حرية المرأة) –كما نقله (السيد سابق) في (فقه السنة) - وخلاصته ما يلي: أن المجتمع العربي مجتمع كامل وسليم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1936 ومن الخليق به أن يتمسك بتقاليده التي تقيد الفتاة والشاب في حدود المعقول. وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الأوربي والأمريكي. فعندكم تقاليد تحتم تقييد المرأة، واحترام الأب والأم.. وتحتم عدم الإباحية الغربية، التي تهدد اليوم المجتمع والأسرة في (أوربا) و (أمريكا) .. وهذه القيود صالحة ونافعة.. لهذا أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم.. وامنعوا الاختلاط، وقيدوا حرية الفتاة. بل ارجعوا إلى عصر الحجاب. فهو خير لكم من إباحية وانطلاق ومجون (أوربا) و (أمريكا) . امنعوا قبل العشرين. فقد عانينا منه في أمريكا الكثير. لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعا معقدا، مليئا بكل صور الخلاعة. وإن ضحايا الاختلاط والحرية قبل سن العشرين يملأن السجون والبارات السرية. وقالت الكاتبة: (إن الاختلاط والإباحية والحرية –المطلقة- فينا هدد الأسر وزلزل القيم والأخلاق. فالفتاة الصغيرة فينا تخالط الرجال، وترقص وتشرب الخمر، والسجائر وتتعاطى المخدرات ومن هذا العرض السريع حول التبرج والاختلاط المشين، وما في ذلك من مأساة ونتائج وخيمة، وما أوردنا حوله من آيات ناهية وأحاديث فيها الوعيد الشديد اللهجة نعلم أن كلا من التبرج والاختلاط مظهر خطير لا يليق بالأمة المسلمة ولا يجوز لها) . ومما أوردنا في العرض من أقوال الأعداء المخططين نتأكد من أن هذه المفسدة مدروسة ومرسلة إلينا من غزاة الفكر الإسلامي ليحطموا أخلاقنا وشرفنا. فأصابوا منا المقاتل كما اعترفوا به. وإن ذلك التبرج والاختلاط الجاهليين وما صاحبهما من خلاعة وميوعة وانحلال هو مما اكتوى به غيرنا من الأمم المادية فذاقوا وباله قبلنا، كما نرى ونسمع مثل الحوادث التي نقلناها عن أصحابها. وأن ذلك الوباء تسرب إلينا من تلك الأمم الغارقة بكيفية مخططة من قساوستهم وطواغيتهم. وقد فشا في مجتمعنا بسبب التقليد الأعمى. وأن ما ادعوه من أن الاختلاط بين الجنسين فيه تهذيب للغريزة وتنظيف لها هو ادعاء باطل، يكذبه كل من الفطرة والواقع والتجربة. وهذا مما لا يختلف فيه اثنان إلا من تجاهل عن الحقيقة أو تناسي عنها. أو من اغتر بما وصلت إليه تلك الأمم من تقدم مادي ولم يهتد إلى أن التقدم المادي له سبب مغاير عن تلك الخلاعة. إذا عرفنا العلة وخطورتها وعرفنا السبب. فلا بد لنا من أن نبحث عن علاج ودواء ناجع. فأولاه: ترك أسباب الوباء وسد طرقه. ولكن قبل الإشارة إلى طرق العلاج فلنكمل مبحثنا هذا بمبحث آخر وهو من نتائج التبرج ودواعيه وهو: الخمر والمخدرات وأضرارها وأسباب انتشارها وأحكامها.. فإليك ما يلي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1937 المبحث السابع في الخمور ومظهرها وضررها في الأخلاق وشيئ من أحكامها الخمر: ما خامر العقل. رطبا كان أو يابسا. مأكولا أو مشروبا أو مشموما.. (فكل مسكر خمر، وكل مسكر حرام) . أخرجه مسلم، وابن حبان في صحيحه، وعبد الرزاق والدارقطني (نصب الراية للزيلعي) . والخمر ظاهرة خبيثة قد عمت وطمت في كثير من مجتمعاتنا المنتسبة للإسلام، مع أن الجميع يعرفون ضررها على (العقل، والدين والمال والبدن) وتقتل الأخلاق قتلا فهي تغتال العقل، وتخرج منه تعظيم المحارم، وتذهب الغيرة منه، وتدعو شاربها إلى الزنا ولو من المحارم، وتهون له ارتكاب القبائح والآثام، كما يشهده الواقع. وهي رجس من عمل الشيطان العدو اللدود، وسلاحه الفتاك الذي يصد به عن ذكر الله، وإقام الصلاة ويوقع به العداوة والبغضاء بين الناس.. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} . (1) كما هي تصدع الرأس وتسبب القتل، وتتلف الكبد والكلي. وتسبب الضعف العقلي والعصبي والجسمي. كما يشهده الأطباء وكما قاله كل من ابن القيم والذهبي. وهي تنزف المال. وتورث الندامة والفضيحة، وتهتك الأستار وتفشي الأسرار وتلحقه بالمجانين، وتسلبه عن السمات الحسنى، فتكسوه أخبث الصفات..   (1) المائدة: الآية (90-91) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1938 كما أنها توجب على شاربها ثمانين جلدة. وتمنعه من الإيمان حين يشربها. وتمنع شاربها غير التائب دخول الجنة، وتجعل مدمنها كعابد الوثن وملعون من الله ورسوله إذا لم يتب لما في الأحاديث الشريفة.. منها: قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث ... )) أخرجه ابن أبي الدنيا. والبيهقي. ومنها قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((مدمن الخمر كعابد الوثن)) . رواه ابن ماجه. وابن حبان في صحيحه – والبزار. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) . وفي رواية: " ... فإذا فعل ذلك خلع ربقة الإسلام من عنقه، فإن تاب تاب الله عليه ". البخاري، مسلم في صحيهما. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((من شرب الخمر خرج نور الإيمان من جوفه)) . رواه: مسلم والنسائي. ومنها: قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، وهي مفتاح كل شر)) الحاكم وقد انعقد الإجماع على تحريمها لما في الآية الكريمة والآحاديث الشريفة السابقة.. ولما في تناولها من أضرار بالغة كما سبق الإشارة إليه –أيضا-. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1939 وقد قيل: (إن الحكمة من تحريم الخمر هي المحافظة على سلامة دين المسلم وعقله وبدنه، وماله) . ولذا حذرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن الخمر والاقتراب منها أو الاستفادة من إنتاجها فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها)) رواه أحمد والحاكم، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه: السيوطي والألباني. وفي لفظ آخر ((إن الله لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وشاربها، وآكل ثمنها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، ومستسقاها)) . رواه أحمد بسند صحيح. ومن أهم أسباب انتشار الخمر والمخدرات التي غيرت أخلاق كثيرة من شبابنا وأفسدت صحة كثير منهم، وتسببت لكثير من الحوادث.. ما يلي: 1- إرسال شبابنا –وهو في عنفوان شبابهم- إلى بلدان (أوربا) و (أمريكا) وغيرها من البلدان اللادينية، ليتعلموا في جامعاتها قبل أن يتعلموا في بلداننا من الدين وعقيدته الراسخة وأخلاقه الفاضلة ما يكون لهم درعا متينا وحصنا حصينا من تسرب عوائد أهل تلك البلدان الإباحية. وغوائل أخلاقهم الشيطانية.. فعاشوا مع هؤلاء الإباحيين.. فتأثر أكثرهم بتلك الحياة الماجنة والشره العاتي. فتسربت العوائد والأخلاق الماجنة إلى قلوب أولادنا الغرباء، تحت تأثير مظاهر الحياة المادية المتقدمة هناك.. فعادوا إلينا وهو متعودون باستعمال هذا الشراب الخبيث فأصبحوا معلمين للآخرين من أجيالهم على ممارسة ما يمارسونه من هذا الإثم إلا من عصمه الله. 2- وقبل ذلك جاء المستعمرون إلى بلداننا ليستعمروها ويجعلوها أسواقا لمنتجاتهم فمهدوا لها من يستهلكها في بلداننا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1940 3- ومن أسباب انتشار الخمور والمخدرات في العالم الإسلامي، استيراد المستخدمين المتعودين على استعمال تلك المواد المسكرة من بلدان (أوربا) و (أمريكا) وغيرها من البلدان المتقدمة ماديا، المتحللة خلقيا. 4- ومن تلك الأسباب التقليد الأعمى على هؤلاء الأجانب الوافدين المضلين، والتشبه بهم من هذه الناحية التقليدية السلوكية، فتأثر المسلمون بهم كما يتأثر الضعيف بالقوي. 5- ومنها: الجهل المطبق أو التجاهل والتسامح المستمر في خطورة هذا الداء والوباء المتسرب من هؤلاء الماديين وانتشاره في المجتمع المغلوب عليه ماديا المهزوم فكريا..، وإرخاء العنان أو التسهيلات المادية والمعنوية لمريدي انتشار ذلك الشر المستطير. 6- ومنها: فتح الأندية والمرافق السياحية التي شكلت وأسست على إطار شبيه وملائم بأوضاع عوائد الأجانب الذين لا يحترمون أوامر الدين والأخلاق وتلك المرافق موجودة في كثير من مدن العالم الإسلامي في الآونة الأخيرة بصورة جذابة. ولا أقصد بهذا القول الأندية الرياضية كميدان الكرة والسباحة والفروسية، وغيرها من ميادين الألعاب الرياضية، التي تقوي الجسد أو تشحذ الذهن.. لأن تلك الألعاب وأنديتها مباحة ومفيدة شرعا، إن سلمت من مفسدة غير مقصودة منها. وإنما نقصد بتلك الأندية والمرافق المحذورة شرعا، تلك الأندية التي أسست للهو، والقمار، والميسر، والخمر، والتقاء الجنسين.. لأن المقصود منها مفسدة محرمة شرعا.. هذه هي أهم الأسباب لانتشار تلك المفسدة في العالم الإسلامي في العصر الحاضر.. فإذا عُرفت العلة وخطورتها، والأسباب ومصادرها، فلا شك أن علاجها سيعود وهو إيقاف سير الأسباب ومنعها وسد مصادرها بحكمة ومداواة الجروح بأدوية مضادة لجراثيمها، وتغيير الجو الموبوء بتهيئة جو مناسب ونقي وطاهر ونظيف.. وسأذكر أسهل كيفية لمكافحة هذه المفاسد الخلقية الخطيرة –حسب نظريتي- في الفصل القادم، إن شاء الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1941 الفصل الخامس وفيه خلاصة ما توصلت إليه المبحث الأول لقد تبين لنا مما سبق من عرض المفاسد الخلقية المنتشرة من الملاهي الخطيرة. كالأغاني وآلاتها المطربة، ومرافقها من تبرج جاهلي واختلاط فاحش وما أردفناه خلفها من خمور مسكرة ومخدرات مشينة. إن هذه كلها أمراض فتاكة قد اجتاحت مجتمعنا بصورة خطيرة من كل باب حتى أصبحت شيئا مألوفا عند كثير من أبنائنا وبناتنا. وأن مفسدة كل من الأغاني المائعة، والتبرج، والاختلاط، والخمور، والمخدرات هي مفسدة ظاهرة لكل ذي عقل نير. وأن الغناء المعروف بالتلحين والتمطيط على النغمات الموسيقية والمعازف والمزامير حسب أكثر الاستعمالات العصرية –قد اتفق على تحريمها جمهور علماء المسلمين من السلف والخلف كما اتفق على تحريمها أئمة المذاهب الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية والحنبلية. وذلك كله بأدلة من الشريعة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين. وأن من خالف الجمهور في ذلك من العلماء قلة قليلة قد أسقط دليلهم عن ميزان الأدلة وقيمها. وأن كلا من التبرج الجاهلي والاختلاط والخمور محرم عند فقهاء المسلمين قديما وحديثا، بأدلة شرعية لا غموض فيها. وأن انتشار هذه المفاسد في العالم الإسلامي بصورتها الحالية إنما هو من مخططات أعداء المسلمين والإسلام أولا، ومن وجودهم وممارستهم بها في المسلمين ثانيا. ومن الجهل المطبق وحاجتهم الماسة إلى ما عند هؤلاء من تقدم مادي ثالثا ومن التقليد الأعمى لهؤلاء والتشبه بمظاهرهم وعاداتهم ولهوهم تحت تأثير التفوق المادي في المتخلف المحتاج.. مع أن الشريعة تأمر أهلها بالتميز عن غيرهم بعقيدتهم، وعباداتهم وأخلاقهم، ومظاهرهم وغايات أعمالهم ... ومن الفراغ الرهيب. فلا بد لنا من الإشارة إلى شيء من أساليب الشريعة لمعالجة هذا الوضع، ومسؤولية تغييره. إن الشريعة الإسلامية إذا حرمت فعلا من الأفعال على المسلمين فعلى كل واحد من أفرادهم البالغين أن يتركه إثر علمهم بذلك التحريم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1942 وإذا حرمت شيئا من الأشياء فالواجب على كل من بلغه هذا التحريم وعنده ذلك الشيء أن يتخلى عنه فورا. وإنها إذا حرمت عادة من العادات المألوفة فيهم فعلي كل واحد منهم الاقتلاع عن ممارسته تلك العادة. لأن ترك الحرام والتخلي عن المحرم وتغيير المنكر المفسد يكون على الأمة من جميع طبقاتها من غير استثناء في جميع الأوقات والأحوال إلا للتعذر والضرورة. والضرورة تقدر بقدرها. فمسؤولية تغيير تلك المفاسد مسؤولية شاملة على أفراد المجتمع الإسلامي بدليل من الكتاب والسنة.. فمسؤوليته قبل كل شيء على الأئمة والحكام، كما هو المعروف ففي الحديث قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((الإمام راع وهو مسئول عن رعيته)) إلى آخر الحديث، رواه الخمسة إلا النسائي. وهي على عاتق المجتمع إذا قصرت الأئمة وطلبت معاونتهم ففي الحديث الآخر قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على متن سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم وقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا لم نؤذ من فوقنا؟ فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)) رواه البخاري. - وهي على عتق رب الأسرة والزوجة والخادم أو العامل بدليل قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها والخادم في مال سيده راع ومسئول عن رعيته)) رواه الخمسة إلا النسائي. -وهي على عتق كل أحد بقدر طاقته وخيلته إذا علم.. لما في الحديث المشهور قال (صلى الله عليه وسلم) : ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم. وفي الحديث: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته..)) . رواه الخمسة إلا النسائي. من هذا كله نعلم علما أكيدا أن المسؤولية على جميع الأمة، فالكل متعاونون ومتكاتفون ومتساندون على تغيير كل مفسدة ومنكر، وعلى تنظيف وتطهير المجتمع من تلك المفاسد والمفاتن وعلى دفع كل ضرر عن الأنفس والأموال والأخلاق والأعراض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1943 وقد حدد الله سبحانه وتعالى لكل مؤمن ومسلم في هذه الحياة وظيفته الاجتماعية.. ومسؤوليته في حراسة مجتمعه بقدر وسعه ومكانته ومؤهلاته.. كما سبق فبأداء تلك المسؤولية يستحقون الرحمة والرضوان.. كما قال تعالى في سورة التوبة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} . (1) هذا وقد حدد الإسلام وفصل ورتب أمورا كثيرة لأداء الواجبات الأساسية وصيانة الأخلاق الأساسية، كما جعل لجماح كل غريزة من الغرائز الإنسانية ما يكبحها من القيود الشرعية، كما هذب كلا من غريزة حب التملك، والأنانية، وحب البقاء والبغض. في الحديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) . متفق عليه. وكما جعل حدا لكبح الغريزة الجنسية الجموحة. وهي من أعتى الغرائز على الإطلاق وذلك مثل غض البصر عن المحرمات: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} . (2) ومنع الخلوة لقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم)) رواه الشيخان. ومنع التبرج.. قال تعالى لنساء النبي (صلى الله عليه وسلم) : {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} . (3) . ومنع إبداء الزينة للأجانب لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} . (4) وغير ذلك من المظاهر التي تثير الغريزة. وكثيرا ما أشار الإسلام إلى كيفية المعالجة لكثير من المفاسد من غير بيان وتحديد فترك للناس اختيار الأسلوب كتحديد بعض الزواجر والتعازير المتنوعة مع أنه رسم قواعد أساسية عامة لا تخرج الحلول الشرعية عنها بحال من الأحوال.   (1) التوبة: الآية (71) (2) النور: الآية (30) (3) الأحزاب: الآية (33) (4) النور: الآية (31) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1944 المبحث الثاني في طريقة مكافحة المفاسد الخلقية إن طريقة معالجة هذه المفاسد الخلقية الموبقة تكون في إطار القواعد الإسلامية التالية: (دفع الضرر مقدم على جلب المصالح) – و (المفاسد تدرأ وذرائعها تسد) و (الأرواح والعقول والأعراض والأموال محروسة) . إن أقوم الطرق لمعالجة تلك المفاسد بصفة عامة وأسهلها وأوفقها لمبادئ الشريعة الإسلامية في هذه البيئة الموبؤة –حسب نظريتي- اتخاذ الخطط الآتية بصورة حازمة وبحكمة متناهية وهي: 1- نشر الوعي الإسلامي في جميع الشعوب الإسلامية وترسيخ العقيدة في شبابها بصورة مدروسة مبسطة ومقننة ومدللة بأدلة مقنعة. وتبصير الناس بخطورة الاندفاع وراء هذا التيار المادي الجارف القاتم، الذي هدد الأخلاق الفاضلة فهدمها في كثير من أمم العصر، والذي أهدر العفة والطهارة والكرامة فأقبرها. وأسقط الشرف والمروءة الإنسانية فسوى الإنسان بالحيوان العجم، بحيث يعم نشر هذا الوعي جميع طبقات المجتمع الإسلامي، كتربية إسلامية شاملة، ضمن التعاليم المختلفة والتوجيهات المتنوعة، حتى يكون للشخص المسلم شخصية متميزة من غيره في عقيدته وعبادته وأخلاقه وسلوكه، قبل الأخذ بالإجراءات، حتى لا يكون هناك حرج أو إكراه محظور، ولكي يتبين الحق من الباطل لدى الجميع، فيتضح أمامهم معني قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} . (1) .   (1) البقرة: الآية (256) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1945 2- سن قانون موحد وشامل، إسلامي وإنساني في أن واحد لحماية الأخلاق والآداب.. ومعاقبة كل من لم يحفظه ولم يقف عند حده من جماعة المسلمين بشدة وحزم بعد إعلامه وذلك إما بحد صارم.. وإما بتعزير زاجر.. يشرط أن يتضمن ذلك القانون الأمور التالية بصفة واضحة. 3- اختيار ملابس مناسبة لكل من الرجال والنساء أثناء وجودهم في غير منازلهم الخاصة. وذلك كأن يختار للنساء لباسا يستر أجسامهن إلا الوجه والكفين –أو الذراعين- والقدمين. شريطة أن لا يكون مهلهلا ولا رقيقا في صنعه، ولا ضيقا ولا فضفاضا جدا في لبسه وتصنيفه. ولا مشوها للمنظر العام في صورته، ولا مانعا أو معوقا من ممارسة الأعمال من مشي وجري، وقيام وقعود، وأخذ ومد.. تمسكا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . (1) وبقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} . (2) وبقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((إن المرأة إذا بلغت الحلم لا ينبغي أن يري منها غير وجهها وكفيها)) . البخاري.   (1) الأحزاب: الآية (59) (2) النور: الآية (31) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1946 وبقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((كل عين زانية، وإن المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا)) يعني زانية، رواه أصحاب السنن. ويترك تعيين ألوان تلك الملابس وأشكالها للشعوب وقادتها المحليين، تقديرا لرغباتها وتيسيرا لها ودفع الحرج عنها. 4- تكليف التزام اللباس الموصوف على كل من يعمل عملا رسميا بصفة عامة. وذلك التكليف ليس فيه تضييق في حريات الناس، بل فيه تعزيز وتشريف وتجميل وليس هو محظورا شرعا. 5- والإشادة بالفضيلة والحشمة والعفة بجميع وسائل النشر والإعلام –كالإذاعة والتلفزة والصحف والمجلات، وكالأندية والمجاميع العلمية والعملية- وتنزيه جميع وسائل نشراتنا وإعلامنا بث الرذائل. بشرط أن يلتزم ذلك الداعي والمذيع، والمخرج، وأصحاب الأندية والمنتزهات بالفضيلة والتزام الخلق الكريم لتكون دعوته إلى الأخلاق الفاضلة دعوة ناجحة، لمطابقة أقواله وأفعاله لما يدعو إليه. قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} . (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} . (2) . وقال الشاعر الحكيم: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم 6- منع الصحف والمجلات المحلية عن أن تنشر الصور العارية أو القصص الغرامية ووضع الرقابة الآمنة الشديدة على مصممي الأزياء ومخرجي البرامج الثقافية والرياضية، والسياحية، وأصحاب النوادي الحرة، والمتنزهات وعلى مستوردي الأفلام والصحف والمجلات الأدبية والرياضية من الخارج؛ لأن إبراز تلك الصور مع ما يفعله المغرضون والعابثون حول هذه الميادين، لا شك أنه من الغش المحرم شرعا وعقلا. ففي الحديث الشريف قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((من غشنا فليس منا)) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.   (1) البقرة: الآية (44) (2) الصف: الآية (2) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1947 7- منع الرقص الفاحش وما يتصل به من أغان وألحان وآلات مطربة وألعاب ساقطة، وملاهٍ محرمة ... لأن هذه كلها محرمة شرعا –كما سبق- وأن مفاسدها جسيمة كما أسلفنا. فهذه والتي قبلها تستوجب المنع والحظر من كل الشعوب الإسلامية المتحضرة سدا للذرائع. فإن قيل في تلك الأغاني والألحان وآلات الطرب والموسيقي ... وتلك الصحف والمجلات المصورة (الصور الخليعة) كسب لأصحابها ورواج لتجارها وترفيه وتسلية وترويض لمشتريها ومستمعيها ومستهلكيها.. نقول: إن إثمها أكبر من نفعها، ومفاسدها أكثر من منافعها والقاعدة الشرعية الفقهية تقول: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وإن هذا الكسب لكسب خبيث جدا لما في الحديث المروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (أخبث الكسب كسب الزمارة) . رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا بإسناد حسن. ولما في الحديث المرفوع عنه (صلى الله عليه وسلم) وهو أن ((بعثت بكسر المزامير والمعازف)) ثم قال: ((كسب المغنية حرام، وكسب الزانية سحت. وحق على الله أن لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت)) . رواه ابن الجوزي. ولما في حديث صفوان بن أمية، قال: (كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فجاء عمرو بن مرة. فقال: يا رسول الله، إني قد كتب على الشقوة، فما أراني أرزق إلا من دفي بكفي، فأذن لي في الغناء، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((لا آذن لك ... كذبت أي عدو الله، لقد رزقك الله طيبا حلالا. فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه عما أحل الله لك من حلاله. ولو كنت تقدمت إليك لفعلت بك وفعلت، فقم عني وتب إلى الله. أما إنك إن فعلت بعد التقدمة إليك ضربتك ضربا وجيعا، وحلقت رأسك مثلة ونفيتك من أهلك، وأحللت سلبك نهبة لفتيان أهل المدينة ... )) رواه ابن ماجه وابن الجوزي في (تلبيس إبليس) والذهبي في (الميزان) وضعفوه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1948 ونقول –ايضا-: إن الإسراف في إنفاق المال أو القوة والتفكير، أو الوقت والصحة والترفيه المطغي لمما يحرمه الشرع. قال تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} ؟ (1) وقال: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} . (2) فمن هذه الآيات وغيرها نعلم تحريم كل من التبذير بأنواعه، والإسراف بأنواعه. وكذلك الترف، لأنه منكر في الإسلام وشريعته، لما يخلفه من انهيار وانحراف وانحلال وترهل في بنية الفرد وسلوكه، ولما يبثه من فساد وتعفن في كيان الفرد والجماعة فالمترفون كانوا –وسيكونون دائما- أسباب انهيار المجتمعات، كما هو الواقع، وكما أخبرنا الله تعالى في كتابه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} . (3) وفي الحديث قال (صلى الله عليه وسلم) : ((إن شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، ونبتت عليه أجسامهم)) البزار. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((إن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم فضعفت قلوبهم وجمحت شهواتهم)) رواه: البخاري. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((إنما أخشي عليكم شهوات الغي في بطونكن، وفروجكم ومضلات الهوى)) رواه المنذري وأحمد. ومن هذا كله نفهم أن الأمة قد أصيبت من هذا الجانب بتلك الأدواء المهلكة أمة مهزومة ومهددة الكيان خلقيا وعقليا بطوفان الوقاحة وجموح الشهوات من كل جانب وفي كل قطر من أقطار الأمة الإسلامية –إلا ما شاء الله-. الهيجان الجنسي الخطير قد انبعث من تأثير الآداب المنحرفة، والصور المكشوفة والرقص والمسرحيات، فأضرمت نار الشهوة في العوام ثم الجرائد والمجلات المغرية أظهرت القصص الجنسية والصور العارية.. فنتج من ذلك الأمراض الفتاكة كمرض الزهري.   (1) الإسراء: الآية (26-27) (2) الأعراف: الآية (31) (3) الإسراء: الآية (16) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1949 وفساد النظام العائلي. والاجتماعي والمالي.. وخلاصة القول منع تلك المظاهر المفسدة منعا باتا من جميع أقطار الأمة الإسلامية. لحرمتها بالنصوص السابقة، وردا لمفاسدها الخطيرة والتعزير الرادع على كل من لم يمتنع عنها بعد تحذيره عنها بشرط. أن يكون التعزير زاجرا عن ممارسة تلك المفسدة. تنبيه في تعزير المجرم " إن تعزير المجرم أمر مشروع، وهو تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود، وقد يكون تأديبا زائدا على حد ذنب له حدود مقدرة. وهي أنواع وأشكال مختلفة، ويترك للحاكم أن يختار من بينها النوع الملائم للجريمة وحال المجرم، وهي تبتدئ بالإنذار والتهديد. وتنتهي بأشد العقوبات وقد تصل إلى القتل كقعوبة مدمن الخمر في المرة الرابعة، فعن معاوية بن أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شارب الخمر: ((إذا شرب فاجحلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب الرابعة فاضربوا عنقه)) . رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه برواة ثقات، وقد روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنه نحو هذا. وعد من أنواعها تحريق البيت على من تخلف عن حضور الجماعة إذا لم يكن معه فيه من لم يستحقها من النساء والذرية. ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لهممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم بالناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم)) . رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لأحمد: أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء، وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار)) . رواه: الإمام أحمد. ومنها عقوبة الحبس والتغريب والإبعادو التوبيخ والتهديد والتشهير. ومنها: الغرامة وتضعيف الغرم، والغرامة المالية. ومنها: الهجر والتهديد ومنع الاقتران بالنساء. ومنها: العزل عن الوظيفة، والحرمان من بعض الحقوق، كالحرمان من تولي الوظائف العامة،، ومن تولي أداء الشهادات وكإسقاط النفقة ونصيبه في التركة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1950 ومنها: المصادرة والإزالة كمصادرة أدوات الجريمة وما حرمت حيازته وكهدم ما بني في مكان محظور، وكإعدام أواني الخمر وأدوات اللهو المحرم .... ولكل نوع من أنواع تلك التعاذير أدلة من الكتاب والسنة وعمل الصحابة والسلف الصالح. كما أن لكثير منها أمثلة وأقيسة. فمن ذلك ما يلي: 1- أما تحريق البيت على المتخلف عن الجماعة: فقد سبق لنا حديث الصحيحين الدال على العزم الأكيد بالتحريق. وقد بينت الرواية الثانية على وجود المانع .... فمحمد صلى الله عليه وسلم لم ينفذ تلك العقوبة. ولكن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفذ شبه هذه العقوبة. فقد روي: " أن عمر رضي الله عنه أحرق قصر سعد بالكوفة لما احتجب فيه عن الرعية ". وفعل عمر رضي الله عنه مثل هذا الفعل ببيت وجد فيه الخمر تعزيرا لصاحب البيت فقد روي أن عمر رضي الله عنه حرق بيت رجل من ثيف وجد فيه شرابا مسكرا وكان يقال لهذا الرجل: " رُوَيْشِد " فقال له: " فُوَيْسِق ". انظر " كتاب الأموال " لأبي عبيد ص: 102 وما بعدها. وقد قيل: إن لهذا الخليفة العادل رضي الله عنه في التعزير اجتهادا وافقته عليه الصحابة لكمال نصحه ويقظته لمصلحة أمته. ووفور عقله وحسن اختياره للأمة وحدوث أسباب اقتضت تعزيره لهم تعزيرا زاجرا. ولم يكن مثلها في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم. أو زاد الناس عليها فمن ذلك أنهم لما زادوا في شرب الخمر وتتابعوا فيه بعد أن كان قليلا في عهده صلى الله عليه وسلم جعل حد الشارب ثمانين جلدة ونفي فيه ". انظر " إغاثة اللهفان " (1 / 333) . 2- وأما عقوبة الحبس: فهي عقوبة تعزيرية ثانوية والحبس إما أن يكون محدود المدة وإما أن يكون غير محدودها: فالنوع الأول تعاقب به الشريعة على المجرمين غير المعتادين للإجرام. وأقل مدته " يوم وليلة " وحده الأعلى غير متفق عليه: فقيل: " بستة أشهر " وقيل " بسنة " وقيل: يترك تحديده لأولى الأمر: وهذا القول الأخير أقرب إلى الصواب، وإلى محاسن الشريعة ومرونتها ولكن يشترط فيه: أن يؤدي إلى إصلاح الجاني وتأديبه. والنوع الثاني من الحبس يعاقب به المجرمون المعتادون على الإجرام. ومن لا تردعه العقوبات العادية فيكون المجرم محبوسا حتى يتوب. ويظهر صلاحه. وإلا يبقى محبوسا مكفوفا شره عن الناس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1951 وروري " أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة ". رواه: أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه وزاد الأخيران: " ثم خلى عنه ". 3- وأما عقوبة التغريب فهي عقوبة تعزيرية يلتجأ إليها إذا تعددت أفعال المجرم وتعدت إلى اجتذاب غيره إليها أو إلى استضراره بها أيا كانت نوعية الجريمة وذهب أغلب الفقهاء إلى جواز زيادة التغريب عن سنة واستحسنوا ترك تحديدها لأولى الأمر. ويرى بعض منهم أن يوضع المغرب تحت المراقبة في المكان الذي غرب إليه. وقد عاقب النبي (صلى الله عليه وسلم) بالتغريب على الرجال المتشبهين للنساء حيث أمر بإخراج المخنثين من المدينة. ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أتي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء. فقال (صلى الله عليه وسلم) : ما بال هذا؟ قالوا: يتشبه بالنساء. فأمر به فنفي إلى النقيع –بالنون-. فقيل: يا رسول الله ألا تقتله؟ فقال: إني نهيت أن أقتل المصلين)) رواه أبو داود. وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: ((أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أخرج المخنث)) أخرجه الطبراني. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم، فأخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) فلانة، وأخرج عمر رضي الله عنه فلانا)) . رواه: الإمام أحمد والبخاري. وعاقب بالتغريب –أيضا- كل من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما في الحديث الآنف الذكر، وكما في الحديث (أن أبا بكر الصديق أخرج مخنثا) . رواه البيهقي. وفي الحديث الآخر: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخرج واحدا من المخنثين) رواه البيهقي. وفي الأثر: (أن عمر رضي الله عنه عاقب نصر بن الحجاج بالنفي من المدينة) كما سبق. وعاقب به –أيضا- صبيغا، مع الجلد والهجر عن كلامه حتى تاب، وكتب عامل البلد الذي غرب إليه إلى عمر رضي الله عنه بتوبته فأذن للناس في كلامه. 4- وأما عقوبة الغرامة: ففي الحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ((في كل إبل سائمة، في كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبلها عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها. ومن منعها فإنا آخذها وشطر إبله ... )) رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وقال ابن معين: إسناده صحيح كما في (زاد المعاد) (3/ 229) . فدل هذا الحديث على تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله. وفي الحديث الآخر قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((من خرج بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة..)) رواه أبو داود والنسائي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1952 5- وأما العقوبة بالهجر والتهديد والمنع من اقتران النساء (فقد عزر النبي (صلى الله عليه وسلم) بها على الثلاثة الذين خلفوا عنه (صلى الله عليه وسلم) في غزوة تبوك. كعب، ومرارة، وهلال) كما رواه البخاري ومسلم. وكذلك (عاقب بها عمر رضي الله عنه صبيغا) كما سبق. 6- وأما عقوبة التهديد: فهي عقوبة تعزيزية شرعية، بشرط أن لا يكون التهديد تهديدا كاذبا، وأن يرى الحاكم صلاحه في تأديب الجاني، وذلك مثل: أن القاضي أن عاد المجرم إلى جريمة أنه سيعاقبه بالحبس، أو بأقصى العقوبة.. وقيل (إن من التهديد الشرعي حكمه بالعقوبة ثم توقيف تنفيذها إلى مدة معينة) . 7- وأما عقوبة التشهير: فهي عقوبة تعزيرية شرعية تعاقب بها على المجرم فتحرمه من ممارسة الأعمال المدنية والاجتماعية.. ويحصل التشهير بالإعلان عن جريمة المحكوم عليه –ككذبه، وخيانته. وغشه، وسلوكه الخبيث- بجميع وسائل الإعلام. 8- وأما عقوبة العزل عن الوظيفة والحرمان عن بعض الحقوق.. فهي صارمة يفقد المجرم بسببها كثيرا. فتفقد الزوجة الناشزة نفقتها واحترامها ويفقد الزوج الخؤون سكنه واحترامه.. ويعدم العامل المضيع أو الخائن.. عمله ووظيفته.. ويفقد التاجر الكذاب الغشوش ... ثروته ... ويفقد الصانع والمحترف والطبيب صنعته وحرفته ... وهكذا هذه العقوبة تنطبق على جميع الموظفين، سواء كان عاملا رسميا أو مؤقتا.. وعلى أصحاب الحقوق فقاتل المورث يحرم من نصيبه في تركة المقتول تعزيرا له. والغانم المجاهد يحرم من نصيبه من الغنيمة لغشه أو لتواطئه مع غيره، كما في حديث عوف بن مالك الأشعري في قصته مع خالد بن الوليد والمددي في غزوة تبوك ... التي رواها مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه. تركتها لطولها، وقلة جدواها لموضوعنا. 9- وأما عقوبة المصادرة والإزالة فهي عقوبة شرعية رادعة. وهي تحصل بالمصادرة بأدوات الجريمة، كالبندق والمسدس، والخنجر ... إلخ ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1953 وكمصادرة كل ما حرمت حيازته أو حظر لمصلحة المجتمع. وتحصل بإزالة وهدم البناء الذي بني في مكان محظور أو بني لممارسة المحرمات فيه، كحوانيت الخمارين.. وبإعدام أواني الخمر وغيرها من آلات الملاهي والمخدرات والمواد المضرة المحظورة: انتهي التنبيه. 10- الفصل بين الرجال والنساء –من غير مفاضلة بين الجنسين- في المدارس والمكاتب، والمتنزهات والأندية.. إلا فيما دعته الضرورة لأن الضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها –لما أسلفناه من الأضرار الجسيمة الناجمة من الخلطة الفاحشة. لا سيما المراهقين والمراهقات. ومن فوق هذه المرحلة من تلاميذ المدارس والمعاهد العلمية؛ لأن الاختلاط في المدارس في تلك المرحلة قد أضر كلا من البنين والبنات، بل تضرر البنات به أكثر وأشد من تضرر البنين به، كما هو الواقع، وشهد به دعاة الاختلاط أنفسهم في البلدان المتقدمة.. فالفصل بين الجنسين ضرورة حتمية لكل مجتمع يريد صيانة أعراضه وشرفه ودينه الحق من الضياع، ولكل مجتمع يريد التقدم العلمي والعقلي والأخلاقي لا بد له من مراقبة شبابه وصيانتهم من كل ما يدعوهم إلى الميوعة والانحلال. ومعلوم أن الاختلاط قد عاق كثيرا من شباب هذا العصر المادي، وأفقدهم التوازن العقلي، ففشلوا في التعلم والتكسب، والتنمية الجسمية والصحية بسبب هيجان الغريزة الجنسية التي يثيرها داما ذلك الاختلاط والاحتكاك مع ما يصاحبه من الهيجان، كما سبقت الإشارة إليه. فالشاب الذي وجد الفرصة للتعليم العالي لا يقدر ممارسة دراسته إلى تلك المرحلة، إلا النزر القليل، وما ذلك إلا من شؤم الاختلاط والاحتكاك الجنسي. فتراه وقد سقط فريسة لهذا الطوفان وقل في الشابة كذلك ... فماذا ترجو ممن قلت فرصته من فرصة ذلك الذي كان من إمكانه أن لا ينشغل ولا ينجذب إلى لذة جنسية لولا هذا الاختلاط المثير ... لأنه قد قيل: إن لذة العلم في المرحلة العليا من مراحل التعليم بل وفي مرحلة التفتح العلمي يعمي ويغني عن النكاح والتفكر فيه ... وتري كذلك كثيرا من الشباب اليوم لا يقدرون ممارسة التجارة الخاصة، أو تنمية الثروة التي ورثها من والده.. وما ذلك إلا بسبب الاختلاط والتبرج المثير ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1954 وقل كذلك في فقدان القوة العقلية والفكرية والجسمية عند كثير من شبابنا فلنجزم الفصل بين الجنسين في الميادين التي ذكرناها. ولنجاوز كل ما أثاره الإباحيون حول الفصل والستر والحجاب.. بصفة لا تنقص المرأة ولا تخلفها عن الركب.. وقد يحتاج حل هذه المشكلة إلى تدابير عديدة قبل تقريرها. أحسنها أن تكون محاولة الفصل بينهما بالنسبة للمتعلمين والمتعلمات كالآتي: 1- تدريب معلمات متفوقات وتكوينهن تكوينا علميا وخلقيا لجميع مراحل التدريس لا سيما بما بعد الابتدائية, ولا بد للتغلب على الصعوبات أن لا يقل عدد هؤلاء المعلمات بالنسبة للمعلمين الذكور قدر ثلثهم. وذلك لكي يتغلب التعلل بقلة المعلمات. 2- تكثير المدارس والمعاهد والجامعات في البلدان الإسلامية حتى يفحم المتعللون بقلة المدارس فيها واقعيا. 3- ثم الفصل بين البنين والبنات على نحو الترتيب التالي: يكون الفصل بينهما: أولا: في فصول التعليم.. ثانيا: في بناياتها. ثالثا: في ساحات الاستراحة والملاعب أو الساعات. رابعا: في تعيين المعلمات لفصول البنات والمعلمين لفصول البنين.. والأحسن أن يكون البدء بذلك: بالفصول الإعدادية –حتى يبلغ أعمار تلاميذها الرابع عسر أو الخامس عشر- ثم الثانوية ثم الكليات. وأخيرا في المدارس الابتدائية.. بشرط مساواة أكثر المواد المدروسة للبنين والبنات بصفة عامة ولكل نقطة من تلك النقط عللها، ومسوغاتها، وأسبابها وغاياتها ... تركتها مخافة طول الكلام فيها. ملاحظة: قد يقول بعض من العلماء الغيورين: إن تعليم البنات مقصور ببعض سور القرآن وببعض أحاديث كلها تتعلق بعبادتهم وإطاعتهن لأزواجهن. وأما المعاملات بالتجارة والصناعة والزراعة وغيرها من المعاملات فلا تحتاج إليها.. إلخ لقلة مسؤوليتهن.. وقد يقول آخر: إن النساء مثل الرجال في كل عمل، فلهن ما لهم، وعليهن ما عليهم، فلهن أن يمارسن كل عمل تمارسه الرجال كالجندية والسياسة والهندية.. وغيرها مما سهل وصعب.. فنقول: إن كلا القولين مرفوض لما فيهما من التشدد والتساهل فأنا لا أوافق هذا في جميع ما قاله، ولا ذاك.. بل أقول: خير الأمور أوسطها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1955 وإن أصل طلب العلم وتعلمه فرض أو مندوب أو مباح. أو محرم أو مكروه. كما هو معروف، ففي الحديث المشهور قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) . وفي رواية ((ومسلمة)) رواه البخاري في الصحيح. وابن ماجه في السنن. فمن هذا نفهم أن طلب العلم فرض وواجب على الرجل والمرأة المسلمين. وقد قال الفقهاء (إن تعلم العلم يكون (فرض عين) بقدر ما يحتاجه الإنسان لإصلاح دينه ويكون (فرض كفاية) بما زاد عليه لنفع غيره.. ويكون (مندوبا) كالتبحر في علم الفقه وعلم القلوب.. ويكون (حراما) كعلم الموسيقي والشعوذة، والسحر، والتنجيم.. ويكون (مكروها) كأشعار المولدين من الغزل والبطالة، إلا لحاجة بلاغية علمية. ويكون (مباحا) كأشعارهم التي لا سخف فيها ولا كذب إذا سلمت من إضاعة الوقت) . فلنكتف من هذه الأنواع بالنوع الأول وهو (فرض العين) : فمنه: (معرفة حق الخالق، وحق المخلوقين علي مقتضي الشريعة. فيدخل في هذا القسم معرفة الله ورسوله.. والإسلام بصفة عامة، ومعرفة الطريق لإصلاح القلب والنفس. ويدخل فيه تعلم الفقه المحتاج إليه بأنواعه: كالعبادات والمعاملات والأخلاق.. ومعرفة النواحي الأساسية في التربية الإسلامية ومعرفة شيء من السيرة وحياة الصحابة.. ومعرفة تجويد القرآن الكريم. ومعرفة نواقض الإسلام وعلم رد الضلالات المنتشرة في كل وقت وما يناسبه.. وتعلم القتال أحكامه وأدواته وأساليبه بصفة عامة، والتعرف على أحوال المسلمين بقدر المستطاع.. فكل هذا فرض عين على الرجال والنساء من غير فرق) انتهي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1956 ومن هذا نعلم أن علوم العقيدة وعلم النفس والقلوب والفقه بأنواعه –ما عدا الحدود والفرائض والقضاء- وعلوم التربية والتاريخ، وعلوم القرآن، والأخلاق والدعوة والدفاع كلها تدخل في هذا القسم الذي يستوي في أصل تعلمه الرجال والنساء. وأما العمل في نظر الشريعة فإنه عماد الحياة وأساس السعادة في كل أمة في جميع الميادين لذا حض الإسلام عليه ورغب فيه، ونوه به فقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} . (1) وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} . (2) . وقال: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} . (3) وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} . (4) . وفي الحديث قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((ما من مسلم يغرس غرسا –أو يزرع زرعا- فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة)) . وفي حديث آخر قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)) البزار بسند ثقات، وأحمد وإسناده صحيح. وفي حديث آخر قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((إن الله يحب العبد المحترف)) . وفي الحديث الآخر: ((اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا)) . وقال عمر رضي الله عنه: (إني لأكره أن أرى الرجل، لا في أمر دنياه ولا في أمر آخرته) . وقال فقهاء المسلمون: (لو احتاج المسلمون إلى صناعة إبرة ولم يوجد بينهم من يحسن صناعتها فكل المسلمون آثمون) . فمن هذا نأخذ أن العمل واجب في جميع الميادين. فمن قصر فيه فعليه ذنب لا يغتفر إلا إذا عمله آخرون ... كما هو واضح. وإن العمل مطلقا حق لكل مسلم: ذكر أو أنثى، غني وفقير، صغير وكبير، عالم وجاهل. فلا يمنع منه إلا إذا ثبت ضرره له أو للآخرين. فيمنع عنه دفعا للضرر؛ لأن دفع الضرر مصلحة يرعاها الإسلام. لقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((لا ضرر ولا ضرار)) . رواه الإمام مالك وأحمد وابن ماجه والبيهقي والدارقطني.   (1) التوبة: الآية (105) (2) البقرة: الآية (29) (3) هود: الآية (61) (4) النساء: الآية (124) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1957 فالعمل إذًا واجب على القادر في حدود قدرته لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . (1) ، ولقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} . (2) . وفي الحديث قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) متفق عليه. فالعمل إذًا هو حق لكل من الرجل والمرأة على حد سواء فللمرأة أن تبيع وتشتري كما كان ذلك للرجل تماما، إذا لم يكن في ذلك ضرر لأحد. ولها أن تمتهن العمل الذي تريده ما لم تضر به أحدا –كما كان للرجل- فإذا أضرت به أحدا منعناها منه.. وذلك: كالعزف على أدوات اللهو.. الذي يسهر الناس ويمنعهم من النوم أو يحرك الشهوة أو الطرب.. وكصنع الخمر أو شربه.. ولكن هناك أعمال معينة قد تكون المرأة أصلح من الرجل.. مثل: تربية النشء والحضانة.. لما فطرت عليه من العطف والحنان والصبر. كما أن للرجل أعمال معينة تناسبه فيكون أصلح وأحسن من المرأة كالقيادة، والملاحة العملاقة، والجندية.. قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} . (3) . وقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . (4) وقال: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} . (5) . فمجال العمل واسع ومفتوح أمام كل من الرجال والنساء. وكذلك العلوم بصفة عامة.. ((طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)) رواه البخاري وابن ماجه. ولكن قد تكون بعض المهن أنسب للرجال دون النسائي بسبب الفطرة والخلقة. كما قد يكون بعضها أليق وأسهل للنساء دون الرجال بمقتضي الفطرة والميول.   (1) البقرة: الآية (286) (2) آل عمران: الآية (97) (3) النساء: الآية (34) (4) النساء: الآية (19) (5) البقرة: الآية (228) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1958 فالجندية بحذافيرها هي أنسب للرجل بسبب مرونة أجسامهم وأعصابهم وعروقهم. وبسبب ميولهم الغريزية إليها. لذا ترى الأطفال يختارون اللعب بأدوات الفروسية كالبندق والرمح والحراب بخلاف الطفلات فلا تراهن إلا وقد اخترن الدمية واللعبة الجميلة المنظر والناعمة الملمس. فالبنات ألطف وأرحم وأحب للجمال والنظافة منذ طفولتهن من البنين. كما هن أصبر على مساعدة الضعفاء والمرضي وحضانة الأطفال والدواجن وتنظيف الأدوات إذا عقلن من الرجال.. والبنون أغلظ وأشد وأميل إلى مقابلة الشدائد من النساء وأصبر على ممارسة الأعمال البطولية والحربية.. فلذا نقول لم يبتعد عن الصواب بل هو في بحبوحة الحق والعدل من يقول: إن الله قسم ممارسة الأعمال بين الرجال والنساء نسبيا. فالجندية ومهنة البنايات وممارسة المصانع الثقيلة وقيادة الناقلات العملاقة والخوض في قاع البحار المتلاطمة الأمواج. وغيرها من الأعمال التي يحتاج صاحبها إلى صلابة جأش وأعصاب قوية.. كل ذلك من خصوصيات الرجال بطبيعة الحال. ولو لم يمنع النساء من ممارسة تلك الأعمال، كما في حديث ربيع بنت معوذ رضي الله عنها ((لقد كنا نغزو مع النبي (صلى الله عليه وسلم) لنسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة)) رواه البخاري. وتمريض النساء الحاملات منذ العلوق إلى الوضع وما يعقب ذلك مما يتعلق بمعالجة مشاكل النساء الداخلية.. التي هي أعمال وأعراض ضرورية دائمة الحصول.. كلها أعمال من خصوصيات النساء. وكذلك حضانة الأولاد –ذكورا وإناثا- وترتيب الأدوات والأثاث المنزلية وصيانتها وكثير مما يخص المنزل بداخله وما يخص الأطفال.. كل ذلك –أيضا- من الأعمال الخاصة بالنساء. فينبغي لهن التخصص بهذه الأمور علميا وعمليا، لأن مهارتهن في هذا المجال أكثر بكثير من غيره. وما عدا ذلك من الأعمال فهو مشترك بين الجنسين، فكل منهما يمكن أن يكون معلما، أو طبيبا، أو فقيها، أو مهندسا، أو تاجرا أو كاتبا ... إلخ.. ولو كان البعض منها أنسب للرجال من النساء والعكس صحيح. ولو هيئ للرجال علميا ما يناسبهم من الأعمال والوظائف وللنساء ما يناسبهن من الوظائف منذ المرحلة الإعدادية أو الثانوية بصفة خاصة لكان أولى وأسلم. اهـ. ونضيف إلى ما سبق من الأمور التي فرضناها لدرء تلك المفاسد الخلقية ما يلي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1959 9- منع تصنيع الخمر في بلد ما من البلدان الإسلامية تمسكا بالقاعدة الفقهية القائلة: (الضرر يزال) لأن في الخمر ضرر محض لكل من العقل والمال. والنفس والنسل والدين والشرف والخلق. وإنها هي الداء بعينه كما في الحديث الشريف، فقد قال نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) حينما سمع أن بعض الناس يقولون –بغير علم- أن فيها شيء من الدواء. ((ليس فيها دواء بل هي الداء)) أو كما قال. ومن لم يقتنع بهذا وزعم أن فيها شيئا من المنفعة والفائدة المالية للبائع مع ما سبق أن أوردناه في مبحث الخمر السابق من الوعيد الشديد لكل من البائع والمشتري ... فلا بد أن يقتنع الأطباء، وبالتجربة التي تشهد لصدق قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) السالف الذكر، وإن القاعدة الشرعية العامة تقول: (دفع الضرر مقدم على جلب المصالح) . 10- إيقاف ومنع استيرادها من الخارج بصورة قاطعة، ولو كان في البلد الإسلامي أناس غير المسلمين ولو كان ذلك الغير هو المستورد وحده لأنه لا حق له في إنشائها في المجتمع الإسلامي ومن منع هذه المادة المضرة منهم من المسلمين –خصوصا الحكام- فهو محسن ومأجور من الله. وما في بعض كتب الفقه الإسلامي من أن الخمر مباح لغير المسلمين في بلد إسلامي غير صحيح لأن ضررها ليس للدين فحسب بل هو ضرر للعقل وغيره.. مع أن الوضع قد تغير. وأن هذا الضرر ضرر أصيل يعترف به الجميع ولذا حاولت الحكومة الأمريكية منعها عن بلدها سابقا فلم تنجح، وكذلك بعض الدول الأوربية في أوائل هذا القرن. بخلاف الإسلام فإنه نجح بمنعه سابقا.. وسينجح به الآن إذا عزم أهله –إن شاء الله-. 11- ومعاقبة كل من يحاول إدخال الخمر ونحوه في بلد إسلامي عقابا شرعيا أقله التعزير بأنواعه المختلفة التي سبقت. * فيؤخذ منه حاملته وجميع ما اكتسب من تجارة نلك المادة الخبيثة بعد إعلان الحظر.. * ويحرق حانوته إن كان خصيصا لهذه المادة، ولم يمكن الانتفاع لغيرها. * ويحبس إذا لم ينته عن ذلك. فيبقي في الحبس حتى يتوب. * ويطرد عن العمل والوظيفة الاجتماعية إن كان موظفا.. وذلك كله استنادا لما سبق من الأحاديث النبوية والآثار العمرية من تحريق الحانوت وتفسيق صاحبه. والقواعد الفقهية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1960 12- ومعاقبة كل من يتعاطاها من المسلمين، عقابا أقله: * الطرد عن العمل الحكومي وغيره من الوظائف الرسمية، لأنه أصبح غير مأمون. * ومنعه عن العمل الرسمي إن لم يكن عاملا إلى أن يتوب لأنه أصبح فاقد الأهلية للأعمال. * ثم طرده عن المدن إلى القرى مع التعذيب الجسدي إلى أن يتوب من تعاطيها. *ثم الحبس المحدد المدة: من (يوم كامل) ثم (أسبوع) ثم (شهر) (فشهرين) (فأربعة أشهر) (فسنة كاملة) . * ثم الحبس غير المحدد فيبقي في السجن حتى يتوب أو يموت. ذلك كله عملا بما سبق في التعازير من الأحاديث والآثار. على سبيل التدرج في العقوبات. 13- منع إرسال الشباب المسلمين إلى البلدان الإباحية إلا من يوثق به، ويؤمن عليه من التأثير بأخلاق الإباحيين وعاداتهن –مهما كان المقصود من إرساله- عملا بالقاعدة الفقهية الحكيمة التالية: (درء المفاسد أولى من جلب المصالح) . 14- منع استيراد المستخدمين من تلك البلدان اللاأخلاقية. إلا من لا يمارس تلك المادة المفسدة. أو يستغني عنها، بشرط أن يلتزم العفة أثناء وجوده عندنا. 15- معاقبة المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء. بعد إعلان منع تلك الظاهرة. وهي ظاهرة يستند لمعرفتها إلى العرف. فمتي حصلت مشابهة الرجل بامرأة في لباسه وشعره بتفاعل منه، فإن هذا الرجل متخنث غشوش، فاستوجب العقاب لزجره عن ذلك التمويه. وكذلك المرأة المترجلة تستوجب العقاب. تعزيرا لكل منهما: وعقاب كل من المتخنث والمترجلة التهديد والتنكير وإزالة الشبهة والنفي أو التغريب. لما سيق من الأحاديث الواردة في ذلك. فعن أنس رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء. وقال: أخرجوهم من بيوتكم، فأخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) فلانة، وأخرج عمر فلانا.)) رواه أحمد والبخاري. وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: ((أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أخرج المخنث)) . أخرجه الطبراني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1961 وعن يعلي بن مرة رضي الله عنه ((أن النبي (صلى الله عليه وسلم) رأى رجلا متخلقا. فقال له: اذهب فاغسله، ثم لا تعد)) رواه الترمذي والنسائي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه (أنه لعن الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل) . رواه الحاكم. وعنه رضي الله عنه ((أتي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال: ما بال هذا؟ قالوا: يتشبه بالنساء. فأمر به فنفي إلى النقيع ... )) رواه أبو داود. وعن أنس رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يتزعفر الرجل)) . رواه الجماعة إلا مالكا. وروي (أن أبا بكر أخرج مخنثا، وأخرج عمر واحدا من المخنثين) رواه البيهقي. 16- سد الفراغ المخيم على ساحة المجتمع المسلم المعاصر بصفة عامة وشبابه غير المتدين بصفة خاصة بتوجيهات حكيمة ومكثفة على الأعمال الجدية النافعة، وبفتح مجالات العمل في الأقطار الإسلامية جمعاء.. وبالرياضيات النزيهة التي من شأنها التقوية للأجساد. والتشحيذ للأذهان، والتعارف بين الشباب في الشعوب الإسلامية. كالمسابقات المباحة كالمسابقة بالأقدام وبالخيول، والمصارعة، وبالرمي ورفع الأثقال. وبالكرة وأنواعها المعروفة من غير هيجان المتفرجين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1962 وخلاصة القول ونهاية المطاف: إننا إذا أردنا أن نطهر أخلاق أمتنا وسلوكها من المفاسد الخطرة، وندافعها من الفواحش والرذائل، وننقذ أبنائنا وبناتنا من الميوعة والخلاعة والانحلال، ونحصنهم بحصن حصين من كل ما يتسرب إليهم من الأعداء.. من كل ما يضعف القوة ويعدم العزة والمنعة ويمزق الجماعة ويبدد كلا من العقل والعِرض، والصحة والمال، والخلق والدين ... فلا بد لنا من تنفيذ تلك الأمور السابقة. وأمثالها في أسرع وقت ... حتى نصل الهدف المنشود من بحوثنا، ألا وهو إنقاذ أخلاقنا الإسلامية وتنظيف مجتمعنا من المفاتن والمثيرات الجنسية.. ولا يمكن هذا التنظيف إلا بتنظيف كل من البيت والشارع والسوق والمؤسسة والمدرسة، والجامعة والنادي، والشاطئ والمسرح والملعب والإذاعة والتلفزة.. من كل متبرجة، أو صورة عارية متحركة أو ساكنة، أو أغنية فاجرة، أو قصة ساقطة مهيج للشهوة والغضب، ومن كل مثير للغريزة الجنسية سواء كان هذا المهيج أو ذاك المثير امرأة ساقطة أو مسرحية آثمة أو تمثيلية مائعة، أو بيتا داعرا أو أفلاما خليعة أو آلات مطربة أو مزامير شيطانية. كما أنه لا بد لذلك من إنشاء برامج نظيفة من كل تلك الرذائل ومتنوعة لسد الفراغ المخيم في أمتنا. بشرط أن يكون بعضها رياضيا، وبعضها ثقافيا وبعضها علميا. ومسؤولية ذلك التنظيف والتطهير لَمِنْ واجبات الحكام والشعوب والأفراد وكذلك إنشاء البدائل.. وإلى هنا آخر ما توصلت إليه من نتائج في بحث هذا الموضوع. وأسأل الله الكريم أن يجعل هذا البحث خالصا لوجهه، وأن ينفع به المسلمين.. وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. هارون خليفة جيلي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1963 المناقشة بسم الله الرحمن الرحيم كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقية الرئيس: الحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. من الموضوعات المطروحة في جدول أعمال هذه الدورة موضوع كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقية في العالم الإسلامي وقد أعدت في هذه الموضوع عدة أبحاث والعرض لسعادة الطبيب محمد على البار ليتفضل بإعطائنا عرضا عن هذا الموضوع. الدكتور محمد على البار: سماحة الرئيس، أصحاب الفضيلة العلماء الأجلاء، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله الذي نهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن والقائل: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} . (1) . والقائل سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} . (2) وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} . (3) وقد أمر المولى سبحانه وتعالى نساء النبي ونساء المؤمنين بأن يقرن في بيوتهن قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} . (4) وأمرهن بالحجاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (5) . وقد مدح المولى سبحانه وتعالى الحافظين لفروجهم والحافظات وأخبر أن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وهدد كل الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا بأفظع تهديد وأرعبه. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ} . (6) وفرض سبحانه عقوبة شديدة على الزناة قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . (7) .   (1) الأنعام: الآية (151) (2) الاسراء: الآية (32) (3) النور: الآية (30-31) (4) الأحزاب: الآية (33) (5) الأحزاب: الآية (59) (6) النور: الآية (19) (7) النور: الآية (2) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1964 والصلاة والسلام على أفضل خلقه وأكرمهم عليه الذي حذر من الزنا وعواقبه الوخيمة وأول تلك العواقب وأخطرها بالنسبة للمسلم ذهاب الإيمان. قال (صلى الله عليه وسلم) : ((إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فكان كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان)) وقال (صلى الله عليه وسلم) ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) . وفي رواية النسائي (فإذا فعل ذلك، خلع ربقة الإسلام من عنقه، فإن تاب تاب الله عليه) . وثاني تلك العواقب الوخيمة: عذاب الله تعالى يوم القيامة، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((إن الزناة تشتعل وجوههم نارا وفي النار نهر يجري من فروج المومسات يؤذي أهل النار ريح فروجهم)) . وثالث تلك العواقب الوخيمة: عذاب الله في الدنيا: ((إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله)) . ((ولا تزال أمتي بخير ما لم يفشو فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا فأوشك الله أن يعمهم الله بعذاب)) . ((وما نقض قوم العهد إلا كان القتل بينهم، ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الموت ولا منع قوم الزكاة إلا حبس عنهم القطر)) . ((ولم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) . وهذه الأحاديث من دلائل نبوته (صلى الله عليه وسلم) .. وها هو الموت ينتشر بانتشار الفاحشة وها هي الأوجاع والطواعين التي لم تكن معروفة من قبل تنتشر كلما انتشرت الفاحشة، والطاعون يطلق في اللغة مجازا على كل وباء. وإلا فهو وباء مخصوص وكلما انتشرت الفاحشة ظهرت معها مجموعة من الأمراض الجنسية التي لم تكن معهودة من قبل. وأول ظهور لمرض الزهري المعروف باسم (السفيلس) أو داء الفرنجي، كان في عام 1494م، عندما انتشر الزنا في الجنود بصورة واسعة أثناء الحرب الإيطالية الفرنسية وسماه الإيطاليون الداء الفرنسي وسماه الفرنسيون الداء الإيطالي.. وسماه أهل الشام الداء الفرنجي. وقد قتل هذا المرض في خلال القرون الأربعة الماضية عشرات الملايين وأصاب مئات الملايين بأمراض فادحة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1965 وفي العصور الحديثة ظهرت أمراض جديدة لم تكن معهودة من قبل: أشهرها وأكثر تسببا للرعب مرض الإيدز أو مرض فقد المناعة المكتسبة الذي لم يعرف بهذا الاسم إلا عام 1981م وسرعان ما تضاعف عدد الحالات بسرعة رهيبة وعلى هيئة متواليات هندسية حتى بلغ العدد بنهاية 1987م أكثر من مائة ألف حالة مرضية لا يرجى لها شفاء وما بين خمسة و10 ملايين شخص يحملون الفيروس ويتوقع أن يظهر في 50 % منهم، هذا المرض اللعين خلال السنوات الخمس القادمة. وهناك مرض الهربس (العقبولة) التناسلي الذي انتشر انتشارا مرعبا منذ بداية الثمانينات ويبلغ عدد ضحاياه في الولايات المتحدة فقط أكثر من عشرين مليون شخص ولا علاج له حتى الآن. ما هو مدى انتشار الأمراض الجنسية؟ يقول مرجع مرك الطبي (إن الأمراض الجنسية هي أكثر الأمراض المعدية انتشارا في العالم اليوم، ويزداد في كل عام عدد المصابين بها، وتقدر منظمة الصحة العالمية الإصابات التالية سنويا: 250 مليون شخص مصابون بالسيلان ما يسمى (التعقيبة) أو الجدنوريا. 400 إلى 500 مليون شخص مصابون بمرض يسمى الكلاميديا وهو (التهاب مجرى البول الجنسي من غير سيلان) وناتج عن طريق الزنا أو اللواط. وهناك 50 مليون حالة شخص الزهري الأولي أو الثانوي في كل عام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1966 كما أن هناك عشرات الملايين من المصابين بالهربس، والإصابة السنوية في الولايات المتحدة نصف مليون شخص. وهناك عشرات الأمراض الأخرى المنتشرة بين الزناة والشاذين جنسيا مثل التهاب الكبد الفيروسي من نوع B وثاليل التناسل والاتهاب الجيبي المغبني والورم البلغمي الزهري والقرحة الرخوة، وجرب التناسل وقمل التناسل.. ويقول قرار منظمة الصحة في الاجتماع الثامن والعشرين وهو قرار قديم (1975) (إن الأمراض الجنسية هي من أكثر الأمراض المعدية انتشارا في العالم. وتشكل تهديدا خطيرا على الصحة العامة في العالم اليوم. وللأسف فإن كثيرا من الدول لم تدرك بعد أبعاد هذه المشكلة) . ويشهد العالم أجمع زيادة كبيرة من الأمراض الجنسية، ورغم أن الإحصائيات المرعبة تركز على هذه الزيادة في الولايات المتحدة وأوربا إلا أن الدراسة المتأنية توضح أن الأمراض الجنسية ربما كانت أكثر انتشارا في أفريقيا الاستوائية وشرق آسيا ودول أمريكا اللاتينية ففي إحصائيات عام 1975 ظهر أن 470 شخصا من كل مائة ألف شخص مصابون بالسيلان في الولايات المتحدة بينما كانت النسبة 8.9 بالمائة من الذكور و18.3 بالمائة من الإناث في أوغندا. وينتشر في المناطق الاستوائية بالإضافة إلى الإيدز والسيلان والكلاميديا والزهري. أمراض أخري تعتبر نادرة الوقوع نسبيا خارج المناطق الاستوائية وهي الالتهاب الجيبي المغبني والورم البلغمي الزهري والقرحة الرخوة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1967 ما هي أسباب انتشار الأمراض الجنسية؟ من أهم أسباب انتشار هذه الأمراض: - انتشار الشذوذ الجنسي: وخاصة في الغرب. ففي الولايات المتحدة قرابة 20 مليون شاذ جنسيا ويفاخرون بذلك. وقد خرج الشذوذ الجنسي من دائرة السرية إلى العلنية وهناك كنائس ومعابد تزوج الرجال على الرجال والنساء على النساء في الولايات المتحدة وغيرها. ولا يقتصر الشذوذ الجنسي على طبقة معينة في المجتمع وإنما يشمل كافة الطبقات.. بما في ذلك الرهبان والقساوس والربيون والأحبار من اليهود وقد ذكرت صحيفة (الديلي ميل) و (الديلي ميرر) أن 40 % من الرهبان مصابون بالشذوذ الجنسي وأن 80 % منهم زناة. 2- موجة الإباحية والثورة الجنسية: والتحلل من الأخلاق والقيم في الغرب وتصدير ذلك إلى كافة بقاع العالم. 3- السبب الأهم في رأينا هو (سيطرة اليهود على أجهزة الإعلام) ومراكز التوجيه بحيث أصبح الجنس أمرا عاديا لا يخجل منه وبحيث أصبحت العفة والطهارة تثير الخجل في كثير من المجتمعات. وقد عمل اليهود من خلال أجهزة الإعلام والجامعات ومراكز التوجيه على نشر الزنا واللواط على نطاق واسع ثم قاموا بعد ذلك بنشر نكاح المحارم والاعتداء على الأطفال جنسيا. وكمثال لنشر اللواط قام ضابط يهودي في الجيش الأمريكي بتعليق لافته على مكتبه كتب عليها أنا شاذ جنسيا وعندما قام الجيش بطرده، قامت أجهزة الإعلام بحملة ضخمة ضد الجيش التي اضطرت صاغرة إلى إعادته. وطلب الرجل لإلقاء محاضرات في كثير من الجامعات الأمريكية. وقامت مدرسة يهودية شابة بخلع جميع ملابسها وممارسة الجنس مع طلبتها في المرحلة الثانوية أثناء تدريس مادة الجنس وهي مادة تدرس في جميع المدارس ولما أوقفتها إدارة المدرسة عن هذا التدريس العملي نشرت الصحف البريطانية وبخاصة (الديلي ميل) و (الديلي ميرر) التي يملكها مردرخ اليهودي صورتها عارية مع الطالبة بإعادتها وقامت المظاهرات الضخمة واضطرت إدارة المدرسة صاغرة لإعادتها لتقوم بواجبها المقدس كما سمته المجلة في تعليم الطلبة الجنس واقعيا. وقام فرويد العالم النفسي اليهودي بنشر تلفيقاته التي روجها اليهود بحيث أصبحت تدرس في معظم جامعات العالم.. ومنها أن الطفل عندما يلتقم الثدي إنما يقوم بعملية جنسية مكثفة وأن الطفل الذكر يحب أمه جنسيا ويكره أباه وسمي ذلك عقدة أوديب، وأن البنت تحب أباها جنسيا وتكره أمها، وسمي ذلك عقدة أليكترا.. وتحدث عن أن الشذوذ الجنسي مرحلة مهمة في حياة الإنسان ولا بد أن يمر بها وإلا أصابه الكبت.. والعقد النفسية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1968 وقد نشرت التايم في 14 أبريل 1980م تحقيقا واسعا عن ما يسمى نكاح المحارم وقال فيه أحد الباحثين الإنثربولوجي يسمى يهودية كوهين والاسم واضح أمامكم: (إن منع نكاح المحرمات ليس إلا من مخلفات الإنسان البدائي الذي احتاج لإجراء معاهدات خارج نطاق الأسرة فقام عند ذلك بمنع نكاح المحارم. وبما أن ذلك لم يعد له أهمية فإن هذا المنع أصبح أمرا قد عفى عليه الزمن. ويقول الباحث جون موني من جامعة هوبكنز وهي من أشهر الجامعات الأمريكية وأحد الباحثين في الجنس في الأمة الأمريكية كما تقول التايم يقول: إن تجارب الطفل الجنسية مع أحد أقاربه الكبار أو غيرهم من البالغين لا يشكل بالضرورة ضررا على الطفل.. ويهاجم هو وعشيقته جيرترود وليامز المجتمع الأمريكي الذي لا يزال يعتبر من يمارس الجنس مع أمه أو أخته أو ابنته، وكأنه مارق على الدين في مجتمع من مجتمعات العصور الوسطي. ويقول الباحث الجنسي وادل بومري: لقد آن الأوان لكي نعترف بأن نكاح المحرمات ليس شذوذا ولا دليلا على الاضطراب العقلي بل إن نكاح المحرمات وخاصة بين الأطفال وذويهم أمر مفيد لكليهما. ويطالب سيمور باركر من جامعة يوتاه: بإزاحة الشعور بالذنب عندما يقوم شخص ما بنكاح ابنته أو أخته أو أمه ويسأل: ما هي الجدوى التي ستعود من ربط نكاح المحرمات بهذا الشعور من عدم الارتياح بدلا من المحبة والدفء الذي يشعه نكاح المحرمات؟ وتقول التايم: إن مجلس المعلومات والتثقيف الجنسي في الولايات المتحدة وهي مؤسسة ضخمة قد أصدر تقريرا طالب فيه بقوة نشر نكاح المحرمات على نطاق واسع في المجتمع الأمريكي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1969 ونتيجة لذلك فإن 10 % على الأقل من العائلات الأمريكية المحترمة تمارس نكاح المحارم كما تذكر صحيفة الهيرالد تربيون الأمريكية.. وتقول دائرة المعارف البريطانية الطبعة الخامسة عشر 1982م، إن الاتصال الجنسي بين الأخ وأخته واسع الانتشار جدا في الدول الغربية.. وفي الواقع لا يشكل ذلك أي ضرر ولا ينبغي الاهتمام به. ويقول الباحثون الجنسيون وأغلبهم من اليهود كما تنقله عنهم التايم: إن جميع الاتصالات الجنسية مفيدة ولو كانت بين الأب وابنته أو بين الأم وابنها أو بين الأخ وأخته. نعم كلها مفيدة جدا. ولكن الضار فقط هو الشعور بالذنب والإحساس بالخوف.. وأخطر شيء هو الكبت. نعم هو الكبت. وقد ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية (نقلا عن الاتحاد الأسبوعي) في 12 يناير 1984م أن عدد الفتيات اللائي كانت لهن علاقة جنسية مع آبائهن في الولايات المتحدة تقدر بـ12 إلى 15 مليون فتاة. وإننا نستطيع أن ندرك دور اليهود في نشر الفواحش جميعا إذا ما طالعنا التوراة المحرفة. والتوراة تسمى العهد القديم ويتعبد بها اليهود والنصارى وهي ضمن ما يسمى الكتاب المقدس الذي يشمل الأناجيل ويسمون الأناجيل العهد الجديد والتوراة العهد القديم. وقد جاء في التوراة المحرفة أن لوطا عليه السلام –كذبًا وافتراءً- شرب الخمر وزنى بابنتيه وولدت له الكبرى ولدا سماه مراب وهو أبو المرابيين، وولدت له الصغرى ابن عمي وهو أبو بني عمون. (سفر التكوين الإصحاح 30-38) . وزنى يهودا بن يعقوب عليه السلام بزوجة ابنه، كما أن راوبين الابن الأكبر ليعقوب زنى بزوجة أبيه. مرجع (سفر التكوين الإصحاح 35) . وفي التوراة المحرفة أن إبراهيم عليه السلام اشتغل قوَّادا وعرض زوجته على فرعون مصر من أجل الذهب. وأن إسحاق ابنه فعل ذلك مع ملك الفلسطينيين أبي مالك مرجع (سفر التكوين الإصحاح 12) . كما جاء في التوراة المحرفة أن الأنبياء ابتداء من نوح عليه السلام كانوا يشربون الخمر ويسكرون حتى يتعروا دون أن يشعروا. وقد ورد أن يعقوب سرق وقتل غيلة وكذب وحمل الأوثان. ذلك المرجع (سفر التكوين الإصحاح 28-30) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1970 كما ورد أن داود عليه السلام –كذبا وافتراء- زنى بخليلة جاره واحتال لقتله حتى يتخلص منه. أما سليمان فتكذب عليه التوراة المحرفة وتدعي أنه كان زانيا وعابدا للأوثان. وكذلك اتهمت التوراة المحرفة هارون عليه السلام بأنه هو الذي صنع العجل وأمر بني إسرائيل بعبادته. وزني آمون بن داود بأخته حسب نصيحة الحكيم يوناداب. المرجع سفر صموئيل رقم (2) الإصحاح 13 وفي التلمود ما هو أفظع من ذلك بكثير وفيما ذكرناه غنية. 4- من الأسباب المهمة في رأينا إخراج المرأة متبرجة إلى ميادين العمل، وقد أدى ذلك إلى نشر الإباحية بصورة مضطردة وقد ذكرت الباحثة (لين فارلي) في كتابها: ابتزاز المرأة العاملة جنسيا قصصا مرعبة وهو بحث مقدم للجامعة نالت به درجة الدكتوراة قصصا مرعبة من ابتزاز المرأة العاملة جنسيا ابتداء من أماكن اللهو والفنادق والمصانع وانتهاء بإدارات البوليس والقضاء ورئاسة الجمهورية والكونجرس الأمريكي ومنظمات الأمم المتحدة. 5- أدي خروج المرأة للعمل إلى فقدان الأطفال لرعاية أمهاتهم.. وبالتالي إلى نشوء جيل بلا محاضن فاقد للحنان ودفء الحياة العائلية. وتذكر التقارير الطبية أن خروج المرأة إلى العمل أدى إلى الاعتداءات الرهيبة على الأطفال، ففي الولايات المتحدة يعتدى سنويا على ما يقرب 5 مليون طفل اعتداءات جسدية وجنسية من ذويهم وأقاربهم. ويعتبر أهم ثاني سبب لوفيات الأطفال من الولادة إلى سن الخامسة هناك الأمهات العذارى (بالملايين) في الولايات المتحدة. نشر المعلومات الجنسية في أجهزة الإعلام والمدارس. انتشار تجارة البغاء على نطاق عالمي. وخاصة في العالم الثالث. السياحة من أهم أسباب انتشار الأمراض الجنسية وخاصة في مناطق البلاد العربية وفي منطقة الخليج. السفر من أجل العمل. وهناك ملايين من الأشخاص يسافرون بدون زوجاتهم وتضطرهم فترة العزوبة الطويلة في بعض الأحيان مع فقدان العامل الديني والوعي الديني إلى ممارسة الزنا. الهجرة من الريف إلى المدينة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1971 دور الخمور والمخدرات. القوانين الوضعية التي تسمح بالزنا ما دام بين شخصين بالغين عاقلين بدون إكراه وخارج نطاق الزوجية وتسمح جميع القوانين الوضعية للأسف الشديد بما فيها بعض البلاد العربية والإسلامية الأخرى بممارسة الزنا ولا تعاقب عليه إذا كان خارج منزل الزوجية بالنسبة للرجل حتى ولو كان متزوجا وتسمح كذلك للمرأة بالزنا إذا لم تكن متزوجة أو عند انفصام عقد الزوجية إذا انفصم عقد الزوجية بموت أو طلاق لا تعاقب إذا مارست الزنا. هناك أيضا مشاكل بالنسبة للخمور والمخدرات وبعض الإحصائيات التي أحب أن أوردها لكم. التقارير في الحقيقة كثيرة في هذا الباب للأسف الشديد. تنتشر الخمور وتعتبر الخمور حسب تقرير منظمة الصحة العالمية رقم 650 لعام 1980م أن الخمور تعتبر أكثر المواد المسببة للإدمان انتشارا في العالم. وقد تفاقمت مشكلة الخمور وبلغت الزيادة خلال العشرين عاما الماضية في بعض مناطق آسيا 500 بالمائة وفي بعض مناطق أفريقيا 400 ووصلت الخمور إلى أعماق الأرياف قبل أن تصل المياه النظيفة وخدمات المجاري. وتنتشر الخمور في كثير من مناطق العالم. وفي الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة والدول الأوربية. هناك نسب عالية من الإدمان تذكر منظمة الصحة العالمية أن الخمور مسؤولة عن: 86 % من جميع جرائم القتل تحت تأثير الخمور. وأن 50 % من جميع حوادث الطرق تحت تأثير الخمور. وأن 50 % من جميع حوادث الاغتصاب تحت تأثير الخمور. وتذكر دائرة المعارف البريطانية أن معظم حوادث الاعتداء على المحرمات إنما يقع أساسا تحت تأثير الخمور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1972 عدد الذين يلاقون حتفهم بسبب الخمور في الولايات المتحدة فقط 70.000 شخص سنويا كالآتي: 30.000 (50 % من حوادث المرور) . 20.000 (الأمراض الناتجة عن الخمور) . 20.000 جرائم قتل وانتحار تمت تحت تأثير الخمور. وتبلغ الخسائر الاقتصادية للخمور في الولايات المتحدة أكثر من 50 ألف مليون دولار، أما الاتحاد السوفيتي فإن الخسائر أفدح من ذلك بكثير مما أدي بالرئيس جورباتشوف إلى أن يقوم بأضخم حملة عرفها الاتحاد السوفيتي. البلاد العربية: رغم أن الخمور ليست منتشرة في البلاد العربية والإسلامية بصورة واسعة لكن القوانين الوضعية تبيح استخدام هذه الخمور. وذكر الدكتور الباقر في دراسة عن تعاطي الخمور بالسودان عام 75/ 76 أن 47 % من سكان الخرطوم الذكور البالغين تعاطوا الخمر وأن 13 % من هؤلاء كانوا يتعاطونها يوميا. وأن 52 % من حوادث المرور كانت بسبب الخمور. وذكر الدكتور على التويجري مجلة رسالة الخليج العربي أن شاربي الخمور في عاصمة عربية لم يذكر اسمها يدفعون 3195 مليون جنيه. وأن دولة عربية محدودة السكان شربت عام 1981م تسعة ملايين لتر من الخمور. المخدرات: تقرير منظمة الصحة العالمية: ما تنفقه دول العالم على المخدرات أكثر من 300 ألف مليون دولار والولايات المتحدة 60 ألف مليون دولار. أما البلاد العربية: فذكر د. على التويجري أن ما تنفقه البلاد العربية على الخمور والمخدرات يبلغ 64 ألف مليون دولار سنويا. ذكرنا أن القوانين الوضعية في البلاد العربية وكثير من البلاد الإسلامية تبيح موضوع الزنا وللأسف أيضا تبيح هذه القوانين شرب الخمور طالما أنها كانت في أماكن محدودة في بعض البلاد ورغم أن الخمور هي أشد ضررا من المخدرات من الناحية الصحية ومن الناحية الاجتماعية ومن الناحية الشرعية إلا أن القوانين الوضعية تسمح: أ- بصناعة الخمور وترويجها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1973 ب- بيع الخمور في محلات مرخصة. ج- بتناول الخمور وتعاطيها بشرط عدم قيادة السيارات وعدم تسبب إزعاج للغير. وللأسف الشديد تقوم بعض الدول ومنها دول مسلمة أو عربية بتصنيع هذه الخمور مثل مصانع البيرة وتمتلكها الدولة وتقوم الدولة بذاتها بالترويج لها. وتعتبرها أحد إنجازاتها الثورية. وفي الجانب الآخر نجد كثيرا من الدول الإسلامية عربية وأعجمية بدأت تخطو خطوات سليمة في تحريم تعاطي الخمور. ولكنها مع ذلك لا تعتبرها مثل المخدرات فعقوبة تجارة المخدرات تصل في كثير من الأحيان إلى الإعدام. وأما عقوبة التجارة في الخمور فتصل في بعض البلاد المتشددة كما يسمونها إلى السجن أو الغرامة المالية أو كلاهما معا. وعقوبة حمل شجيرة القات أو بعض كمية من الحشيش قد تصل إلى الإعدام أو السجن بينما حمل كرتونة من الويسكي لا تزيد عن السجن بضعة أشهر. ولست أدري ما هو المسوغ في التفريق بين الخمور والمخدرات. إذ إن التحريم جاء نصا في الخمور وتدخل المخدرات ضمنا في ذلك. وأضرار الخمور صحيا واجتماعيا أكثر بكثير من أضرار المخدرات وكما يقول تقرير منظمة الصحة العالمية فإن أضرار الخمور تفوق دون ريب أضرار المخدرات الأخرى مجتمعة. تبقي مشكلة أخري بالنسبة للتدخين، التدخين لا يسبب سكرا ولا ضياعا للعقل ولكنه يقتل أكثر من مليون شخص نتيجة تعاطي التبغ بطرقه المختلفة وتدفع شركات التبغ أكثر من 2000 مليون دولار سنويا. فما هي المكاسب التي تكسبها؟ للأسف تذكر شركات التبغ في استراليا في تقرير حديث نشرته مجلة لانس الطبية في نوفمبر 1987م وهذا التقرير شجاع لمدة ربع قرن من الزمن تقول الشركات: (ونحن نحاول أن نخفي الحقيقة أو نخفف من وقعها. وقد عملنا بشتى الوسائل الخفية والعلنية للتقليل من الأضرار الصحية لتدخين التبغ. إننا نعترف الآن بأننا نقوم بقتل 23 ألف مواطن من سكان استراليا سنويا. ونحن نشعر بثقل المسؤولية ولا نستطيع أن نواصل الإعلان والترويج لمادة تسبب هلاك هذا العدد من البشر. ومنذ عام 1962 وحتى عام 1984م قمنا نحن أصحاب شركات التبغ بقتل 470.000 مواطن استرالي. ثم ذكرت بعد ذلك بالتفصيل كم قتلت كل شركة من الشركات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1974 لقد أثبتت الأبحاث الطبية أن أهم سبب للوفيات هو تدخين التبغ ومع هذا فإن شركات التبغ هذه تقوم بحملات دعائية ضخمة لتزيد من مبيعاتها وخاصة في العالم الثالث. وفي الوقت الذي انحسرت فيه مبيعاتها في الدول الغربية ازدادت هذه المبيعات في دول العالم الإسلامي، وكمثال فقط فقد زادت المبيعات في المملكة العربية السعودية من 4.000.000 كيلوجرام سنة 1972م إلى 36.000.000 كيلوجرام سنة 1981م بزيادة قدرها قرابة 900 بالمائة. أكتفي بهذه المعلومات وأترك لأصحاب الفضيلة والسماحة كيفية مكافحة هذه الرذائل مجتمعة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته) . الرئيس: وعليكم السلام ورحمة الله. كانت أمانة المجمع قد عهدت إلى بعض أصحاب الفضيلة أعضاء المجمع بإعداد ورقة يمكن أن يستخلص منها التوصية التي ستصدر من هذا المجمع. وهي الآن مع فضيلة الشيخ عمر الأشقر فليتفضل بقراءتها. الشيخ عمر الأشقر: بسم الله الرحمن الرحيم. تقويم الانحراف الخلقي – التفاعل بين العقل وبين نتائجه: إن الظاهرة المميزة لاندفاع الحركة العقلية منذ عصر النهضة تبدو في الربط الوثيق بين الحركة الفكرية وأدوات الكون للكشف عن قوانين المادة، ولقد أثر هذا المسار في العقل ذاته وفي القيم والمعايير. وفي السلوك الفردي والجماعي. التفاعل بين الإنجاز العلمي والأخلاق: إن التحول المستمر للبشرية وهي تكسب كل يوم كشفا جديدا يمكن لها من الانتفاع بخيرات الكون الظاهرة والكامنة، تراكم منه على المعايير الخلقية المأثورة من نتائج الكشف العلمي ما غطَّى كل ما سبق، وأبرز للحياة صور جديدة، محورها الذي تدور حوله كل اهتمامات الفرد وهو الانتفاع بهذه المكاسب التي تجعل الحياة المادية أكثر متعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1975 وبرزت في السطح الذرائعية والوجودية والشيوعية كفلسفة وكتطبيق خلقي. المعايير الخلقية – المعايير الاقتصادية: إن دخول الطاقة المادية في الإنتاج بجانب الطاقة البشرية والحيوانية تراكم منه فيض من المصنوعات التي تدعو إلى تكوين أسواق تستهلك ما يقدم لها حتى تستمر حركة النمو في اطراد ومن هنا نشأت المعايير الخلقية الاقتصادية وإذا أردنا أن نجملها نجد أنها تشتمل: 1- ضمان السوق مفتوحة لاستهلاك ما تنتجه المعامل وهذا يفرض: أ- أن يكون المنتج منضبطا في مواعيده. ب- أن يكون صادقا في وصفه. ج- أمينا في تعامله. وهذه صفات خلقية رفيعة جعلت كثيرا من الناظرين في شؤون المجتمعات يقولون: إن الغربيين كفرة في الباطن مسلمون في التعامل عكس المنتسبين إلى بلاد الإسلام مع أن الحقيقة هو أن الدافع لذلك ليس التسامي الخلقي ولكن بقاء السوق ملتهما لما تخرجه المصانع هو الذي طبعهم على هذا السلوك. د- أن يكون ماهرا في الدعوة إلى منتجاته وهذا ما فتح سوق الدعاية المبنية على إبراز إيجابيات السلع وكتمان عيوبها وتولد منها أيضا أنانية تعرف حدا في سوق التنافس وتحطيم الخصم ما دام ذلك الطريق يحقق نتائج أفضل أو التكتل وفرض قرارات على السوق إن كان هذا المنزع أفضل. فكانت الشراهة والجشع صفات خلقية لازمة للحضارة الصناعية. هـ- التسلط على الضعيف أفرادا أو شعوبا ضمانا للسوق فكان ما قاساه العمال وثوراتهم وتمزق المجتمعات في كثير من الدول. وكان ما قاساه العالم من استعمار توطيني وعسكري قم ما يقاسيه اليوم من تحكم اقتصادي وامتصاص لخيراته امتصاصا يبقي على التبعية ويجعل الأنظمة كلها هشة لا تصمد تحت القبضة الحديدة الماسكة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1976 العالم الإسلامي: إن انهزام العالم الإسلامي أمام التطور والقوة للعالمين الأول والثاني جعله في واقعه يتبع أحد الخيارين: 1- التحلل من كل القيم الخلقية الاقتصادية إلا قيمة واحدة تحقيق الربح العاجل السريع فكانت مظاهر الكذب والخداع وخلف الوعد ظواهر مزرية ومخزية في العالم الإسلامي. 2- التقليد للتعامل الاقتصادي للعالم المتقدم في إيجابياته وسلبياته ولم يظهر لحد الآن نشاط اقتصادي إسلامي حقيقة يستطيع في آن واحد أن يفرض نفسه على السوق العالمية بمنجزاته وبقيمه الخلقية. إن التجربة التي أخذت بها منظمات مالية في السنوات العشر الأخيرة من إحداث البنوك الإسلامية لهي تجربة يجب أن تلقي من التأييد والدعم والتجويد ما يجعلها صورة جديدة تقدم للعالم ممكنة من السيولة المالية نظيفة من الجشع المادي. كما أن الوحدة الإسلامية الاقتصادية تعتبر شرطا حيويا لتطور العالم الإسلامي. إن الاتحاد كقيمة خلقية إسلامية وإن التنازع والأنانية كتنكر للمنهج الإسلامي في تكوين الجماعة، احترام ذلك هو المخلص الوحيد للعالم الإسلامي في فرض قيم حقيقية للمواد الأولية التي غنت بها أرض الإسلام كما أن الجباية السوقية للعالم الإسلامي في وحدة هو الذي يجعل الاقتصاد في العالم الإسلامي وهو يمثل خمس سكان المعمورة عدديا يجعل الاقتصاد الإسلامي قوة تفرض نفسها على حماية لذاتها من الذوبان والتبعية. 3- وبهذا تكون القيم الخلقية الاقتصادية نابعة من قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} . (1) ومن قوله {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} . (2) 4- كما أنه لا بد من توجيه التربية في المدارس إلى غرس القيم الخلقية الاقتصادية في الناشئة بتدريبهم عليها عمليا بالانضباط والصدق والأمانة والشجاعة في سبيل الهدف النبيل ولو كان في ذلك تحديد للمغانم. المعايير الاجتماعية: إن المعايير الاجتماعية في عصرنا الحاضر تنقسم إلى قسمين: 1) المعيار المدني 2) المعيار الذاتي. المعيار المدني: إن الكثافة السكانية لأوربا وسبقا في التطور الاقتصادي والانفجار الصناعي الضخم عرض حلولا تلائم تلك المعطيات.   (1) آل عمران: الآية (103) (2) الأنفال: الآية (60) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1977 1- التوسع خرج حدودها الإقليمية بما استعمرته من شعوب وأرض وخاصة في استبدال شعب القارة الأمريكية بأبنائها. 2- التوسع العمودي في بناء المدن مما حرم الأسرة والفرد من الاستقلال في سكنه. وهذه فرضت جملة من الأخلاق: أ- النظافة واحترام الممتلكات العامة فكان الفرد يطوع حياته للحياة الاجتماعية، يحافظ على نظافة الشارع وعلى الممتلكات العامة وعلى حقوق الجوار في العمارة والانتظام التلقائي كلما اتحدت الرغبة في الشيء الواحد بتقديم السابق إلخ. إنه لولا الالتزام بهذه الأخلاق لكانت الحياة ثقيلة وشاقة بل مستحيلة. ب- إن الشعور بالتنازل الدائم عن حرية الفرد ليتلاءم مع غيره كانت إحدى الأسباب القوية التي ولدت عشقا للحرية الفردية في أشياء كثيرة وفرض على المجتمع قبول أنماط من السلوك والمظاهر ما كانت مقبولة من قبل ومن هنا برز المعيار الذاتي. المعيار الذاتي: لقد ضخمت الحضارة الغربية بصفة خاصة من تقديس الحرية الفردية وجعلت هذه القيمة هي عنوانها الذي يميزها وتعيش من أجله وتكافح بكل الوسائل وغيرها لتضمن الحرية لجميع الأفراد. إن الحرية فرضت نفسها كمارد يعبث بكل القيم ويهدم كيانها حتى عاد على الحرية ذاتها بالتدمير. أولا: الحرية الجنسية: كانت الحرية الجنسية أقسى الأوبئة فتكا بالبشرية من نواح عديدة: 1) قتل الحياء كقيمة من القيم وقبل المجتمع كل مظاهر التهييج الجنسي وإبراز مواطن الإثارة الجنسية –إباحة الملاعبة في الأماكن العامة الشارع وعربة النقل العام والحديقة وساحة المعهد والكلية. 2) تجريد الاتصال الجنسي من قداسته التي هي ضمان استمرار الجنس البشري واعتباره رغبة بيولوجية تشبع كما يشبع الإنسان نفسه من الطعام والشراب. وبهذا أصبح الاختلاط الجنسي لا يخضع إلا لأمر واحد هو رضا الطرفين. فكانت الفوضى الجنسية. لقد جرت هذه الفوضى ويلات على البشرية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1978 3) تضخم عدد الأطفال اللقطاء نتيجة الاتصالات غير الشرعية وجبن الأبوين عن تحمل تبعات فعلهما. 4) تضخم عدد النساء اللاتي يلتجئن إلى الطبيب للإجهاض أو قتل المولود بمجرد نزوله إلى الأرض. 5) انتشار الأمراض التناسلية وإن استطاع الطب أن يتغلب على آثارها بواسطة المضاعفات الحيوية بعد الحرب العالمية الثانية إلا أنها ما تزال تؤثر على التركيب النفسي والجسمي لكثير من المصابين. 6) ظهور مرض فقد المناعة وانتشاره انتشارا خطيرا؛ إذ هو يبلغ في البلدان المجموعة الأوربية 100 % كل تسعة أشهر. 7) التجاهر بالشذوذ الجنسي تجاهرا جعل المنحرفين يكونون نقابات للدفاع عن حقوقهم وما ترتب عنه من تضاعف المصابين بفقد المناعة. 8) تولد عن الإثارة زيادة حوادث الاغتصاب وما يقارنها من جرائم قتل أو مضاعفات نفسية تلازم المعتدى عليه طول حياته. 9) تزعزع البيت فأصبح الوفاء لعقد الزوجية وفاء ضعيفا مما اضطر المشرع الفرنسي مثلا إلى اعتبار ولد الخليلة ابنا شرعيا وارثا. 10) استخدمت وسامة المرأة استخداما ماديا حطم قيمتها الإنسانية فإذا نهدها وفخذها وعينيها وأنفها وفمها وأسنانها ورقبتها وقوامها وبطنها أجزاء وكل تستخدم لترويج السلع وزيادة الإقبال على المستهلك؟ ثانيا: تحرر الزوجين من واجبات التربية: العلة الأولى التي أخذت في الانتشار هي مركبة بيولوجية ونفسية أعني انصراف الأم عن إرضاع ولدها حفاظا على وسامتها، وإما لأن العوامل النفسية سلبت الأم القدرة على الرضاعة وتنازلت الأم عن مركزها كمصدر للحنان والعطف والغذاء وتلبية الحاجات، تنازلت عنه إلى البقرة في لبنها المجفف والتقم الرضيع رأس المطاط والقارورة اليابسة الباردة بدل النهد المعطاء الدافئ. أصبح كل واحد من الزوجين يجد في البيت ثقلا تحديدا لحريته وانقسم رد الفعل من جهة إلى قسمين تبعا لمركز العائلة في الثراء أو العادات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1979 1- العائلة المرفهة ماديا شغلت الأم عن البيت باللقاءات والاجتماعات وقسمت اهتماماتها بين حضور الحفلات وبين الإعداد لها والعناية بها. والمزايدة في إبراز قوة الثروة والقدرة على الإسراف والتبذير. 2- العائلة ذات الدخل المحدود الأمر الذي دفع الأم إلى الخروج إلى سوق العمل وبذل المجهود كامل اليوم خارج البيت. النتائج: هو أنه في القسم الأول أوكل تربية الأطفال إلى الخدم الذين ينشؤونهم على ما ربوا عليه من تحلل خلقي أو نقمة على المجتمع وبغض للآخرين. وفي القسم الثاني أوكل تربية الأطفال لدور الحضانة أولا ثم المبيتات أو إهمال الأطفال تحتضنهم مدرسة العراء –الشارع- وما يعج به من مشاكل وانحراف. كما أن الأب انصرف عن البيت لأن مغناطيس البيت عديم الفاعلية مشغول بذاته عن استقطاب العائلة فانصرف إما إلى الحضن الذي يهتم به ويجد فيه الدفء أو إلى الاجتماعات التي تملأ عليه فراغ يصرف فيها وقته أو إلى المخدر الذي ينسيه همومه ويحوله من عالم الحقيقة المرة إلى عالم الخيال يستمتع فيه بالرؤى ويهدم بدنه وماله. وشارك الشباب الصاعد الكهول في البحث عما يلهيهم عن مجابهة صرامة الحياة وعبوسها فالإحصائيات تدل دلالة قاطعة على أن الإقبال على المخدرات والكحول يتضاعف ويشتد خطره مع الزمن. العالم الإسلامي: لقد قلد العالم الإسلامي العالم الصناعي في معاييره الخلقية وهو يجري لاهثا ليلتحق به حتى يكون صورة طبق الأصل وبهذا نجد كل يوم اقترابا من تلكم الصورة وإن كانت المحاسن لا تبرز بروز السلبيات؛ لأن المحاسن تقتضي الجد وصرامة الإرادة والقوة الذاتية الدافعة للخير، وذلك مرتقى أصعب منالا من السوالب التي تدعو إلى الدعة وتساعد أنانية الفرد على الطغيان والتحكم. إننا اليوم في أشد الحاجة إلى إحياء جملة من قيمنا العليا التي نخرها التقليد ووهنها الضياع. إنه من ضرورات البقاء أن نرفع من قيمة الحياء والعفاف والوفاء للرابطة العائلية والقيام في شجاعة وصبر على ما يتطلبه مواصلة حمل أمانة الاستمرار البشري فوق هذه الأرض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1980 إن دور التربية من رياض الأطفال إلى الجامعة هي التي لا بد من أن ننظر فيها نظرة جديدة تخرج بها من التعليم المعرفي إلى التربية المتكاملة. إنه إذا كان المخبر ضرورة من ضرورات التعليم بجانب القاعة للنظريات فإن السلوك والعناية به هو المخبر الذي يزكي النظريات الخلقية. أن الأخلاق التي لا تجد مددا من روح الإنسان وريًّا من منابع الدين هي أخلاق جافة مهتزة لا قرار لها. أثر المعايير الثلاثة: إن المعايير الثلاثة مجتمعة قد ولدت ظاهرة خطيرة هددت حياة الأفراد والجماعات أعني ظاهرة العنف. إن التحدي الذي يزداد عنفا كل يوم بإشعار الفرد أنه محروم: محروم أولا من امتلاك ما تهيجه الداعية لامتلاكه عاجز عن مسايرة سوق العرض، ومحروم ثانيا من المفاتن التي تغريه فتمثل أمامه لاهبة عواطفه وغرائزه في كل لحظة، ومحروم ثالثا من توازنه النفسي إذ ضخمت الحضارة حسه المادي وقتلت قلبه وروحه. هذه التحديات الثلاث ولدت العنف في شكله الجماعي والفردي فالحربان العالميتان وذيول الحرب العالمية الأخيرة والسطو لامتلاك المال والتمييز العنصري والاغتصاب وتحكم القوى الصناعية في اقتصاد العالم وجشع رأس المال في تكبيل العالم الساعي نحو الرفع من مستواه بالربا وخنق إنتاجه والمؤامرات المحبوكة لتوهين قيم المواد التي يعتمدها. كل ذلك خطوط كبرى ترينا شقاء العالم بهذه الحضارة وتدعو ذوي النفوس الصالحة الخيرة إلى إنقاذه مما تردى فيه اعتمادا على قوله (صلى الله عليه وسلم) فيما أخرجه الحكيم الترمذي: ((رأس الحكمة مخافة الله)) . وابن عدي: ((رأس الدين الورع)) . والطبراني: ((رأس العقل بعد الإيمان التودد إلى الناس)) . ويجمع ذلك كله قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . (1) وصلي الله وسلم على عبده ورسوله.   (1) الحجرات: الآية (13) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1981 الرئيس: الشيخ أحمد. مع ملاحظة أن هذا الموضوع تعلمون أنه ليس ولله الحمد محلا للبحث أو محلا للتردد فالكل متفقون عليه وهي منكرات ومفاسد بإجماع المسلمين وإنما تأخذ مناقشتين أو ثلاث من باب التطعيم وإلا فإن الموضوع في نظري إذا رأيتم ذلك مناسبا يؤلف له لجنة من الشيخ أحمد جمال، والشيخ عطا السيد والأستاذ الطيب محمد على البار ويعدوا القرار اللازم لهذا الموضوع وبه ينتهي لأجل أن يشخصوا المفاسد بكلياتها ويشخصوا طرق المكافحة الشرعية لها. عندئذ ألا ترون أن نكتفي بهذا الشيء؟ لأن إذا أراد أحد أن يتكلم فليس أمامنا إلا خمسة دقائق ثم صلاة المغرب. الشيخ أحمد محمد جمال: كلمتي هذه أخيرة ووجيزة، أخيرة ووجيزة لأنها تتعلق بنظام المجمع وإدارة الحوار فيه أرجو أن تغفروا لي هذه الصراحة. والملاحظ على نظام المجمع وإدارة الحوار فيه أمران: الأول: أن أصحاب الفضيلة عندما يتحدثون عرضا أو تعليقا يطلبون الرد أو التعليق أو الحوار ويخرجون عن الموضوع المطروح أو القضية المطروحة بعيدا جدا. وهذا أضاع علينا وقتا كثيرا وأجل النظر في قضايا ومشكلات أهم. فهذا ينبغي أن ينظر في نظام الكلمات في المجلس، يعطي للعضو دقيقتين أو ثلاثة أو خمسا لا يستعرض كل البحث ويتحدث حديثا إنشائيا أو شعريا أو فكريا. نريد هذه القضية مطروحة ما رأيك فيها موافق أو معارض ما دليلك على المعارضة وما دليلك على الموافقة. في أسلوب علمي مختصر هذا رأيي أقوله. الثاني: فيما يبدو لي أن المجمع يريد أن يحول اختصاصه الأساسي وهو النظر في المشكلات والقضايا العصرية التي لا تجد حلا شرعيا فيبدي رأيه فيها ويصدر حكمه فيها يريد المجمع الآن فيما يبدو لي في هذه الدورة أن يحول هذا الاختصاص الأساسي إلى أن يكون مجمعا سياسيا أو مجمعا أخلاقيا أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لا يؤاخذني الإخوان أن قضية الأخلاق ومكافحة المفاسد الأخلاقية ليست من اختصاص المجمع فهي من اختصاص هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1982 الوحدة الإسلامية ليست من اختصاص المجمع من اختصاص منظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية ومجلس الخليج التعاوني. وإذا كانت هذه المؤسسات القوية الأساسية لم تستطع أن تحقق وحدة إسلامية ولا عربية اسمحوا لي ولا خليجيا. هل يستطيع المجمع أن يحقق وحدة إسلامية؟ إذن نحن نضيع وقتنا في أمور ليست أولا من اختصاصنا، وثانيا ليست في استطاعتنا أنتم علماء ينبغي أن نفهم اختصاصنا ما هو، وما هو المطلوب منا ونترك السياسة ومكافحة الجرائم لغيرنا؛ لأنهم اقدر منا عليهما ولأنهم أصحابها. هذه كلمة صريحة أرجوت عفوا عني فيها والسلام عليكم وأنا أعتذر عن أن أكون عضوا في أي لجنة من اللجان. الرئيس: شكرا. أما من حيث النقطة الأولى، فأظن أننا نادينا فيها عدة مرات. ونحن لا بد أن نغتفر كثيرا من الأمور وكل إنسان ينفق مما يملك، فهذه أمور لا يمكن أن يحكمها نظام، وإلا فنظام المجمع صريح وإدارة الجلسات في هذا صريحة، أن لا يخرج الإنسان عن الموضوع وأن تترك الأمور الإنشائية إلى آخره وأن يبين المدرك الفقهي للمسألة. وبين رأيه فيها وتكون بكلمات معدودات ليس فيها تشديد عضلات وإن أسأت التعبير، لكن نحن لا نستطيع أن يتحكم الإنسان وأنتم أكثر مني قد حضرنا عدة من المجامع وعدة من المؤتمرات يحصل فيها من أمثال هذه الرتوش الجانبية التي لا يمكن للإنسان أن يتحكم في عقول البشر وفي أفكارهم لكن تحجم بقدر الإمكان. والحمد لله أن هذه لم تطغ على القيمة الجوهرية للمداولات وللقرارات التي سترونها إن شاء الله تعالى والتي توصلتم إليها وهي نرجو من الله سبحانه وتعالى أن تكون مبرئة للذمة وموصلة إلى ما هو الحق والصواب. أما من ناحية الفقرة الثانية التي أشار إليها أحمد فإن هذا الموضوع هو من عام 1405هـ، وتحت وطأة الإلحاح من عدد كبير من الأعضاء وهو واجب إسلامي شرعي تربوي ووظيفة أهل العلم ووظيفة أهل الإسلام هي أمثال هذه الأمور, ونحن لن نتعرض لدولة بعينها حتى نكون سياسيين، ولن نتعرض لفئة بعينها أو لشخص بعينه وإنما نتعرض إلى هذه الأمور التي طرحت نفسها ليقول أهل العلم كلمتهم فيها على سبيل العموم. ولهذا فنحن في بحثنا هذا وفي بحث الوحدة الإسلامية وفي بحث إسلامية التعليم لن نتعرض على سبيل القطع لأية جهة من الجهات لا في بحثنا ولا في مناقشتنا ولا في مداولاتنا، وإنما نذكر الأمور العامة التي ينبغي لأهل الإسلام أن يلتزموها في جانب الوحدة الإسلامية في جانب مكافحة المفاسد الأخلاقية في الجوانب التعليمية، وهذا من الأمور المحمودة والشيخ أحمد قريب حديث عهد بما سمعه في المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي يصدر منه قرارات على هذا المنوال وهكذا على سنة وظيفة أهل العلم في أمثال هذه الأمور. ثم نعطي الكلمة لفضيلة الأمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1983 الأمين العام. بسم الله الرحمن الرحيم.. صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم حقيقة إن التدخل الذي قام به أخونا الأستاذ أحمد محمد جمال هو تدخل كنت أنتظره وهو جيد، جيد لأنه يذكرنا بالمنهج الذي ينبغي أن نسير عليه في المداولات وفي المناقشات إلى آخره. وما من أحد من المسؤولين في المجمع إلا يشارك الدكتور أحمد جمال في هذا المعني. وبالأمس وزعنا تذكيرا بالموضوع الذي وضعته شعبة التخطيط وفيه ما ينبغي على كل إنسان في إعداده للموضوع وفي مناقشته له وفي إجراء الحوار بحدود معروفة مرسومة لدى المجتمعين وفيها ورقة وزعت بالأمس. أما أن يطغى الحوار وأن نقطع على الناس كلامهم فإنهم إذا ما عرفوا أو علموا أن هناك قواعد فعليهم هم أن يلتزموا بها. ولا نستطيع كل مرة أن نقطع على الناس كلامهم، فهذا لا يليق. ثانيا: أهداف المجمع في الباب الثاني المادة الرابعة تفرض علينا أن نعيش مشاكل عصرنا وأن نعيش القضايا الأخلاقية والاجتماعية والسياسية وما إليها. أولا: يعمل المجمع على تحقيق الوحدة الإسلامية نظريا وعمليا عن طريق السلوك الإنساني ذاتيا واجتماعيا وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية. فنحن إذا ما بحثنا قضية الوحدة الإسلامية أو المسالك التي تستطيع أن تحقق هذه الوحدة فقد خدمنا الإسلام والمسلمين. والإسلام جزء مما يتعلق بالفقه فيه يرجع إلى السياسة الشرعية وما كتب الفقه والسياسة الشرعية إلا متناولة لهذا الغرض. الأمر الثاني: أن شد الأمة الإسلامية لعقيدتها ودراسة مشكلات الحياة المعاصرة والاجتهاد فيها اجتهاد أصيلا.. إلخ. هذه تتصل بالقضايا التي نعيشها. القانون الجنائي في الدول هو جزء من القانون. وقضية الحدود أو التعزير وما إلى ذلك يترتب على مثل هذه المساوئ الأخلاقية التي نعيشها لا بد أن يثار في مثل هذا الاجتماع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1984 ثم بجانب الفقه الجنائي إذا صح التعبير الذي ينبغي أن ننبه إليه وأن نأخذ به وقد تم والحمد لله الأخذ به في كثير من البلاد، هناك الجانب التربوي الذي ينقصنا في المجتمع الإسلامي لو أننا نركز على التربية الإسلامية في مدارسنا وفي بيوتنا وبين أطفالنا وفي أهلينا لخرجنا من كثير من هذه الأمراض التي تكاد تزحف على المجتمع الإسلامي، فإنكار مثل هذه الموضوعات ليس من حقنا أولا. ثم ثانيا هناك لجنة تخطيط هي التي تضع الموضوعات وما على الإنسان إذا وجد شيئا لا يرضاه ولا يقبله أن يصبر لحكم الله فيما ابتلي به من مثل هذه الأحاديث. الرئيس: شكرا، وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1985 مجالات الوحدة الإسلامية وسبل الاستفادة منها إعداد الأستاذ مصطفى الفيلالي بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين تمهيد: قضت الحكمة الإلهية بأن تكون الدعوة المحمدية كونية الطابع، شمولية التوجه تأليفية المقاصد، موجهة إلى الناس كافة في مشارق الأرض ومغاربها، وأن تأتي في أعقاب الأديان السماوية الإقليمية، تحمل إلى البشرية كلها رسالة التوحيد في ركنيها توحي الإيمان بالله الأحد الصمد الذي لا إله إلا هو، ولا شريك له في الأرض ولا في السماء، وتوحيد الأمة في نبذها الشرك واعتصامها بحبل الإيمان الموحد، وفي سعيها المشترك إنشاء مجتمع رشيد. {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} . (1) . فكان من المقاصد السامية للدين أن يعمل على توحيد البشر وتأليف قلوبهم بفضل توحيد الإيمان بالله، واشتراكهم في الإذعان لأوامره ونواهيه بفضل التفافهم حول المفاهيم السامية والقيم الأساسية الواردة في الكتب المنزلة على لسان الأنبياء والرسل، صلوات الله عليهم أجمعين. ولكن الناس قد تفرقت بهم السبل، وزاغت بهم مقاصد الحياة الدنيا عن جادة الوحدة وتفاوتت بينهم مراتب الإيمان والتقوى، فعادوا غثاء وشتاتا، وشعوبا وقبائل (بغيا بينهم) . {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . (2) . وفي هذا الاختلاف قضاء من المولى سبحانه وتعالى، وسنة من سنن الكون الباقية من أجلها أنزل الوحي وأرسل النبيون، وتفاوتت الشعوب، وتنافست الأمم، وتقاسمت بها السبل. {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (3) .   (1) الانبياء: الآية (92) (2) يونس: الآية (19) (3) هود: الآية (118-119) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1986 الحلقات الدورية: وكأن تطور بني الإنسان في أحقاب الزمان تحكي حركة المد والجزر، بين الإيمان والكفر، وبين الهداية والزيغ، وبين مراتب التوحيد والتجزئة، على حلقات زمانية متقاربة في الطول والمدة، وكان عبد الرحمن بن خلدون أحد المفكرين السابقين إلى ملاحظتها وإلى تدبر أمرها فيما ابتكره من سنن العمران البشري، فرأى أن للأمم أعمارا كما للأشخاص، وأن للدول أطوارا متعاقبة على أجيال ثلاثة تدوم مائة وعشرين عاما، ولم يزل فلاسفة التاريخ من بعده يمعنون النظر في الظاهرة الدورية لتطور العمران البشري، قصد تأسيسه على قوانين علمية ثابتة. من هذا المنطلق العلمي أنشأ ابن خلدون علما يجمع بين التاريخ والسياسة والاجتماع، وبني له قواعده النظرية، وأعطى لظاهرة سقوط الدول وانحلال العمران البشري تحاليل لم يزل العلماء يشهدون بسدادها، يقول المؤرخ الأنقليزي (أرنولد تاينبي A.TOYNBEE) (استنبط ابن خلدون ودون فلسفة للتاريخ تمثل ولا شك أعظم ابتكار فكري وأجل خدمة علمية لا يضاهيها إنتاج أي مفكر آخر في أي حقبة زمانية ولا في أي مصر من أمصار العالم) . وإذا نحن قصرنا النظر على ما نحن فيه من أزمة مالية كبرى منذ أعوام قليلة، وجدناها متجاوبة مع أزمة 1930، متماثلة معها في السمات الكبرى، وقد لاحظ رجال الاقتصاد علاقة مماثلة بين أزمة 1930 وبين أمة 1870 من قبلها، وبين هذه وسابقتها عام 1820. فاستخلص من ذلك المفكر الروسي (نيكولا دميتروفيتش كندرايتاف Nicolas DIMTROVICH. KOUDRATIEFF.) قانون الحلقات الاقتصادية الدورية على رأس كل خمسين عاما، وتضاربت نظريته مع المذهب الماركسي فيما يترتب عنها من إمكان رجوع السطوة للرأسمالية تارة أخري، فتكون لها دورة جديدة على حساب الاشتراكية العلمية. من أجل ذلك ألقت السلطات السوفياتية القبض على (كندرايتاف) عام 1930 وقضت عليه بالنفي في سيبيريا حيث مات عام 1941. ولكن نظرية التطور الدوري للاقتصاد العالمي امتد بقاؤها بعد صاحبها وأخذها عنه عام 1947 عدد من الكتاب الأمريكيين من بينهم (إدوارد دوي Edward DEWEY) مؤلف كتاب (علم الاستشراق) وذكر فيه أن الحلقة الثانية من حلقات (كندرايتاف) سيبدأ انحدارها عام 1997. ثم جاء من بعده الأمريكي (روبرت بكمان) فوضع عام 1983 كتابا عنوانه (موجة الزجر أو كيف الخلاص من الأزمة الثانية الكبرى) حلل فيه الحلقات الدورية للتطور الاقتصادي بداية من أواخر القرن الثامن عشر واعتمد على نظريات (كندرايتاف) ، فذكر أن حلقة الانحدار الكبرى ستتأكد من عام 1980 وقد تستفحل في العقد التاسع من هذا القرن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1987 واهتم بظاهرة الحلقات الدورية الكاتب الفرنسي (فرنان برودل F.BRAUDEL.) فأخرج عام 1979 موسوعة اقتصادية كبرى بعنوان: (الحضارة المادية، الاقتصاد والرأسمالية) رجع فيه بالتحليل إلى القرون الوسطي واستنتج أن شؤون المجتمع الإنساني قد خضعت لتوجيهات (TRENDS) دورية على رأس كل مائة سنة، فلاحظ حلقات كبرى إحداها فيما بين 1250 و1350م. وأخرى فيما بين 1507 و1650، وثالثة فيما بين 1733 و1817، ورابعة فيما بين 1896 و1974. وكان (أوزفالد سبلنجر Oswald splenger) قد وضع في 1948 تأليفا عن (أفول نجم الغرب) (Le Declindet L`occid Ent) ارتأى فيه أن لكل واحدة من حضارات الإنسان عمرا متوسطا لا يزيد عن الألف عام، وأن الحضارة الغربية التي بدأت مع الألفية الثانية من التاريخ الميلادي بالغة أوجها وآخذة في الانحدار مع خاتمة هذه الألفية الثانية. إنما استطردنا في مثل هذه المقدمات العمومية تمهيدا للنظر في أوضاع العالم الإسلامي لهذا العصر في بدايات القرن الخامس عشر وخواتم القرن العشرين، فأين نحن اليوم من بناء المستقبل المشترك الذي يضمن للأمة الإسلامية النجاة من الغرق مع الحضارة المادية الغربية، أو يحفزها للانضمام إلى تيار النهضة الإنسانية التي يري المفكرون أن بعضها سيقوم على أيدي الأمم الشرقية الآسيوية، وستنشيء الحضارة الصفراء الجديدة بديلة من الحضارة الغربية البيضاء؟ وهل للأمم الإسلامية من مستقبل ضمن هذه النهضة عن طريق التوحد وتراص الصفوف؟ التضامنات الموضوعية: أول ما يترتب عن هذه المقدمات السابقة هو الترابط المتين في الظروف القائمة وفي المفاهيم الحضارية السائدة بين الأمم الإسلامية وبين المجموعة الإنسانية قاطبة. فليس للشعوب التي تدين بالإسلام في أفريقيا ولا في آسيا ولا في غيرها من أمصار المعمورة من انفراد وتميز في أنواع البنية السياسية باختياراتها ومؤسساتها، وليس لها من استقلال التصرف في مواردها الاقتصادية، استخراجا وتحويلا وتسويقا وتمويلا، ولا واحدة من الشعوب بمعزل اليوم وغدا عن أمواج الغزو الفكرى، ولا عن عوامل الاستيلاب الثقافي، أو مظاهر التبعية في شتى شؤون الحياة: الفكرية والعلمية والتكنولوجية، بالإضافة إلى التبعيات المادية في ميادين الكفاية الغذائية، وتمويل الاستثمارات، وترويج الإنتاج، وفي عامة أنماط التنمية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1988 الأمة الإسلامية راكبة على ظهر السفينة الكونية سفينة المعصرة بينها وبين سائر أمم الجنس البشري صنوف من التضامن الموضوعي، أكثرها تضامن قسري لا مندوحة من أخذه في الاعتبار، ولا من اليسير التحلل من روابطه المتينة. هل أن هذا الترابط القسري الشامل بنسجيه لمختلف ميادين الشأن الحاضر، هو تضامن مستقبلي لا سبيل إلى الفكاك منه أو قد يقول بعضنا لا داعي لطلب هذا الفكاك، اليوم ولا غدا؟ هل أنه محكوم علينا أن يتواصل خضوعنا لنسيج التبعية القسرية، أم أن لنا من خلال هذا النسيج سبيلا فذة من سبل النجاة، وإمكانات عريضة لاختيار المصير الذي نرتضيه لنا ولأبنائنا على آفاق المستقبل القريب؟ هل لمشروع الوحدة الإسلامية من مستقبل ممكن أو من أمل في فجر قريب؟ هل يتأكد السعي في طلب هذا المستقبل وفقا لنمط طريف منفرد، أم يجوز الاكتفاء في ذلك على اتباع الأنماط السائدة المعروفة في أدبيات التنظيمات الجمهورية المعاصرة. يحسن بنا في هذه المرحلة الأولى من تناول الموضوع أن نتساءل بشأن مفهوم الوحدة عن أمور ثلاثة قد علينا الإجابة عنها استطراد النظر في مرحلة لاحقة. أولا: ما هي الشروط الواجبة لكي يكون مطلب الوحدة مطلبا ممكنا جائز التحقيق؟ ثانيا: في أي ميادين الحياة وفي أية حقول الممكن يجوز طلب هذه الوحدة؟ ثالثا: من بين الطرائق من حولنا في العالم أي طريقة نتوخى، ووفق أية مرحلية نسلك إلى بناء الوحدة، أم هل لنا من سبيل فذة ننفرد بسلوكها؟ 1 - شروط الإمكان: يتضح من تجاربنا السابقة في تاريخ الأمة الإسلامية، ومن تجارب الأمم المعاصرة أن بناء مشروع مشترك بين عدد من الشعوب لإقامة حاضرها ومستقبلها على أساس الوحدة هو مطلب صعب، ومقصد بعيد، لا بد من الاحتياط له بمنظومة قيمة من الأسباب المتينة. ونحو نعلم من تاريخنا المعاصر أن الأمة الإسلامية لم تزل تسعى إلى هذه الوحدة، وتتدبر شروطها، ولم يزل مفكرو المسلمين يصنفون في شأنها التصانيف القيمة، من عهد جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي في خاتمة القرن الماضي إلى أعمال عبد العزيز الثعالبي ومصطفى خير الدين وابن باديس في العقود الأولى من هذا القرن. محاولين تجاوز عقدة التناقضات بين الانتماءات الوطنية الجغرافية والقومية وبين الانتساب الملي الديني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1989 ونعلم جميعا المجهودات التنظيمية إلى جانب الاجتهاد الفكري، التي بذلتها الدول الإسلامية لإنشاء مؤسسات سياسية وعلمية واقتصادية مشتركة تيسيرا لبلوغ مقصد الوحدة الإسلامية وجعلت منها –مثل هذا المجمع المبارك للفقه- منابر للحوار والتشاور بغية تذليل المصاعب وتضافر الجهود في هذه السبيل. يتأكد من ذلك كله أن الوحدة مطلب بالغ الشأن في تاريخ الأمة وفي حاضرها، حقيق بالتمحيص والاجتهاد، خليق بأن يحاط بالتدبر اليقظ المستمر، أملا في أن يوفق الله مسعى الأمة الإسلامية في هذه السبيل المستقبلية الضيقة. أ- التواصل الجغرافي: يرى بعض المفكرين أن التواصل الجغرافي هو من بين الشروط المادية عامل ميسر لتمتين العلاقة بين الشعوب ولمد قنوات التشاور والتناصر، ولإنشاء أسباب التعاون والائتلاف. وأن القربى في المستوي الأنفسي والاجتماعي مشتقة من القرب المكاني، ومبنية عليه. ولكن هذا التواصل الجغرافي ليس غاية في ذاته، ولا شرطا كافيا بمفرده، بل أنه شرط تيسير وتمهيد لأنواع أخرى من التقارب ومن التعاون. من أجل ذلك كانت مشاريع الترابط بالمواصلات البرية والبحرية في مقدمة ما تقدم على إنشائه الشعوب التي تعتزم إقامة أواصر التعاون والتوحيد بينها. وما من شك في أن المواصلات بأنواعها أيسر كلفة وأقرب تحقيقا بين الشعوب المتجاورة مما يكون بين الشعوب المتباعدة في الحيز الجغرافي، المنفصلة حدودها الترابية. ثم أن هذا الجوار والتواصل الجغرافي أدعى إلى إنشاء مشاريع التعاون الزراعي مثلا، كما تشهد بذلك مشاريع الأنهار المشتركة مثل نهر النيل بين مصر والسودان، ونهر السينغال بين موريتانيا والسينغال ... أو هو أدعى إلى إقامة سوق مشتركة مثلما تم ذلك بين دول أوروبا الغربية، أو إلى إنشاء رابطة جهوية مثل التي توفقت إلى إنشائها دول الخليج العربي، أو تأسيس منظمة جهوية بين الدول العربية كالجامعة القائمة اليوم، أو كالتي أقامها الاتحاد السوفياتي بينه وبين تسعة من أجواره في الرابطة المعروفة باسم (COMECON) (كومكن) . التواصل الجغرافي إذا هو عامل ميسر، وشرط مادي يحسن اعتماده ولكن التعويل عليه وحده لا يجدي إذا لم تنشأ عن هذا التقارب المكاني أنواع أخرى من الروابط تقوم على التشارك في عدد من المؤشرات الأساسية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1990 ب - التشارك في الثوابت الحضارية: لا يكون التجاور بين المجتمعات البشرية خاليا من المقاصد الفكرية، بريئا من النتائج الحضارية، بل كثيرا ما يقوم إنشاء الحضارات البشرية وامتدادها مقترنا بالتشارك في الحيز الجغرافي وفي المضمون التاريخي، وإن الناظر للخارطة الكونية ليلحظ ظاهرة التركيز الجغرافي بين المجموعات الحضارية الكبرى المتطابقة في الجملة مع مجموعات جغرافية تمتد على رقعة مخصوصة من الأرض. فهي مجموعات حضارية بالدرجة الأولى تقوم على التشارك بين عدد من الشعوب أو من الأجناس في المراجع الحضارية الأساسية كاللغة والدين، والتاريخ بل وحتى في الملامح والطباع، وعلى هذا التشارك الحضاري ومن منطلق هذه المراجع الثابتة تروم شعوب تلك المنطقة إقامة مشروع سياسي يرمي إلى الوحدة، أو مشروع اقتصادي يعمل على بناء اقتصاد متناسق، وحينئذ فإن طلب المصالح والمنافع على أساس التشارك في الأموال والقدرات ودفع المخاوف والمخاطر، والتناصر على مصاعب قائمة أو على عدد مشترك، كل ذلك يندرج في نطاق الثوابت الحضارية ويستمد منها ويترجم عنها، ويتركز في حيز التواصل الجغرافي والتلاقي في التاريخ. 2- ميادين الوحدة أو مضمونها: في أي ميادين الحياة وفي أي من حقول الممكن يجوز طلب هذه الوحدة؟ يمكن التعبير عن هذا السؤال بصيغة أخرى: فنتساءل عن هذه الوحدة: ما هو مضمونها بعد أن تساءلنا عن دواعيها وحوافزها؟. نلاحظ بداهة أن الإجابة عن المضمون تتجه بنا إلى وجهتين اثنتين: فإما أن نروم بناء وحدة شاملة، لا تستثني واحدا من ميادين الممكن، وإما أن نقتصر في إقامتها على ميادين محدودة وعلى مضامين معينة، ومعني هذا أن الخيار واقع بين أمرين: بين وحدة سياسية اندماجية كاملة تقضي على الخصوصيات، وتدمج الوطنيات وتذيب السيادات القطرية في نظام سياسي فوقي واحد، يعمل في إطار مؤسسات جديدة بديلة عن المؤسسات القطرية، وتحت طائل سيادة كبرى، مبنية على أنقاض السيادات الفرعية الصغرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1991 وإما أن نروم التوحيد في ميادين معينة: مثل إقامة حلف عسكري واحد، أو إنشاء سوق تجاري مشترك، أو الاستغلال الأمثل مياه نهر مشترك على ما يكتنفه من مساحات زراعية متاحة، أو مثل الاستغلال المشترك لحوض مناجم الفحم يقع مثل جهة (RHUR) على حدود أربع دول متجاورة، أو الاستفادة من موارد سمكية على امتداد السواحل المتلاصقة.. والأمثلة على ذلك في التجارب المعاصرة كثيرة ومتنوعة. 3 - جدلية الطرائق والآجال: تدل التجارب المعاصرة بما شاهدناه من محاولات ناجحة وأخرى فاشلة أن الخيار في هذا الشأن هو بين طريقين: الطريقة الرأسية والطريقة التأليفية. فأما الطريقة الأولى فهي نازلة من فوق، بقرار سياسي، وفقا لإرادة النخبة وطبقا لبرنامج مسبق، يعمل على إنشاء آليات التوحيد في ميادين معينة، كالميدان الإداري أو العسكري أو الاقتصادي، وكثيرا ما يقصد بهذه الطريقة إلى بناء الوحدة في الأجل القريب، يتعجل الأحداث ويقفز فوق المراحل، ويتعامل مع المصاعب الاجتماعية، ومع العراقيل الأنفسية بمنطق التقليل من شأنها والتنقيص من قدراتها الاعتراضية. ولا حاجة لنا أن نعيد إلى الأذهان ذكر العديد من التجارب الوحدوية الفورية التي جرت المحاولة بإنجازها منذ الحرب العالمية الثانية في الشرق العربي، فكانت هذه المحاولات الارتجالية قصيرة العمر، تركت في بعض الحالات مشاعر قوية من الإحباط يحسن أخذها في الاعتبار حتى نتوخى مزيدا من الحذر في التعامل مع مشروعية الوحدة. على أن الحذر لا يعني الاستكانة لواقع التجزئة والشتات، ولا ينبغي أن يؤدي إلى التسويف والإرجاء في الإقدام على اقتحام المشروع. وسواء كنا راضين عن أمر الوطنيات القطرية كظاهرة عصرية لتأسيس الدولة ولتركيز القوميات أم كنا منكرين لقيامها على حساب رابطة الأمة، فليس من السداد التغاضي عما أصبح لهذه الظاهرة من شأن في تنظيم المجتمعات المعاصرة، ولا أرى أن مجاوزتها وإنكارها لإنشاء التنظيمات الرأسية من فوق وبمجرد قرار سياسي، هو سبيل قويمة في طلب الوحدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1992 ولعل الطريقة التأليفية أنسب ملاءمة مع الواقع السياسي المعاصر، وأضمن من العثرات وأدعى إلى الاطمئنان، وتقتضي هذه الطريقة طلب الوحدة من خلال الواقع القائم على أساس التعامل معه تعديلا وتصحيحا، لا على أساس الإدبار عن هذا الواقع والاستخفاف بشأنه الاجتماعي ولا بكفاءته المعرقلة. وخلافا للطريقة الرأسية فإن الطريقة التأليفية لا تري في القضاء على الخصوصيات الوطنية شرطا واجبا لبناء الوحدة، ولا في محو السيادات القطرية أو توهين المؤسسات الدستورية المميزة. بل تعتمد جميع هذه الخصوصيات وتعمل على توظيفها لفائدة هدف الوحدة، وحدة تأليفية تركيبية، لا وحدة تسطيح وتقليم. لو جاز أن نستعير من لغة رجال الحديث الشريف لقلنا إن الطريقة التأليفية تتوخى منطق التعديل ولا تتوخى منطق الجرح، وتقصد إلى إنشاء وحدة متعددة الجوانب، مؤلفة بين الخصوصيات، ولا تروم وحدة أحادية النظام والصيغة، على نمط واحد فريد لا بديل له. ولو أمعنا النظر فيما أقامته طائفة من المجتمعات العصرية من تنظيمات جهوية وحدوية المقصد، لوجدناها قائمة على احترام الخصوصيات، رغبة أو رهبة، وعلى توظيف هذه الخصوصيات لفائدة المشروع المشترك. ولنا تجارب الاتحاد السوفياتي في تعامله مع الأقليات الإسلامية خير شاهد على المشاريع الوحدوية القائمة على محو الخصائص، وتقليم مقومات الذاتية، وإنكار وجود الواقع العريق، وقد أذعنت سلطات الشيوعية الماركسية في موسكو للواقع الإسلامي في الجمهوريات الإسلامية، وأيقنت أن للإسلام في هذه الجمهوريات جذورا لا تقوى على اقتلاعها معاول الاشتراكية العلمية، وأن محاولة اقتلاع هذه الجذور، كما رام ذلك الطاغية ستالين هي محاولة فاشلة، لا طمع في بلوغها ولا رجاء في جدواها السياسية. ومن البدهي أن تتوخي الطريقة التأليفية منطق المرحلية الزمانية، وتسعى في طلب الوحدة حسب جدول من الآمال العريضة، إيمانا بأن القرارات السياسية لا تغير من مسار الشعوب إلا إذا غير الناس ما بالأنفس وفقا للحكمة الربانية الخالدة المنصوص عليها في الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . (1) وقد لا يتيسر حصول هذا التغيير الأنفسي بصورة عميقة باقية على استعجال وارتجال في الأجل القريب.   (1) الرعد: الآية (11) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1993 ولا يشك أحد أن الناس لا يغيروا ما بأنفسهم إلا بدافع التحفز والإيمان، ولا ينشأ هذا التحفز إلا إذا كان الناس على يقين بأن المشروع المقصود هو أفضل من الوضع الراهن، وأن السعي إلى هذا الأفضل أمر ممكن الإدراك، وأن القدرة عليه قائمة، والمخاطر في سبيله زهيدة هينة، ذلك: يعني ألا يكون المشروع مقصورا على نخبة من الناس، وأن يظل السواد الأكبر من عامة الناس بمعزل من المشاركة في طلبه مشاركة واعية مسؤولة. الواقع الإسلامي الحاضر: يتوزع 3 المجتمع الإسلامي المعاصر بين ثلاث مجموعات إقليمية تميز بينها طائفة من الخصوصيات السياسية والاقتصادية والعرقية والاجتماعية، وتشارك في عدد من السمات الثقافية والحضارية، يحسن بنا أن نأخذها في الاعتبار بصورة موجزة. 1 - ميدان الخصوصيات: فالمجموعة الآسيوية أهم هذه المجموعات عددا وأوفرها كثافة، وأكثرها تميزا، تليها المجموعة العربية في العدد، ثم تأتي المجموعة الأفريقية من بعدها. وإلى جانب هذه الشعوب الإسلامية بتنظيماتها داخل دول إسلامية، تقوم مجموعات أخرى تتمثل في الأقليات الإسلامية، داخل دول غير إسلامية. وأهم هذه الأقليات تعيش في الدول الآسيوية الكبرى مثل الصين والاتحاد السوفياتي، وتليها في الأهمية العددية الأقليات الإسلامية بالدول الأوربية الغربية ثم الشرقية. وتتوزع هذه الشعوب من وراء الانتماءات الوطنية إلى أجناس بشرية مختلفة في اللون وفي الألسن واللغات بما يعنيه اختلاف اللغات من فروق في المضامين الثقافية وفي مراجع الذاتية، كما تتوزع بحسب نوعية الارتباطات الاقتصادية والمالية، وبحسب ما بينها من مراتب التفاوت في الموارد الطبيعية وما بلغته من درجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ولسنا في حاجة إلى تتويج هذه الخصوصيات بما هو مشهود بين الدول الإسلامية من فروق بين الأنظمة الدستورية، ما بين ملكية دستورية وملكية قبلية، وما بين جمهوريات مدنية وأخرى عسكرية، وما بين أنظمة للحكم المطلق وأخرى للحكم الديمقراطي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1994 2- ميدان السمات المشتركة: وإن بين الشعوب الإسلامية داخل هذه المجموعات الإقليمية عددا من السمات المشتركة نراها تتمثل بالخصوص، وعلى مستوي علاقة المجتمع بالدولة في ضعف كفاءة الرأي العام الوطني على المشاركة في صنع القرارات السياسية الكبرى، وهو مؤشر بارز من مؤشرات الحياة الديمقراطية، يجعل الشؤون العامة تدور في دائرة ضيقة من التداول تكاد تكون مقصورة على النخبة من ذوي الجاه أو المال أو من خاصة صاحب السلطان –وفي ذلك تأويل مقتضب ضيق لقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} . (1) وهو لا يعين ولا شك على ترشيد الحياة السياسية المقصودة في هذه الآية الكريمة. ومن أبرز هذه السمات المشتركة ارتفاع نسبة الأمية في الشعوب الإسلامية: أدناها 27 % وأقصاها 93 % ويزيد معدلها العام على 60 %، وهو نتيجة مرتقبة لضعف نسبة الإنفاق على التربية والتعليم من الناتج الإجمالي الوطني، إذ لا يرتفع معدل هذا الإنفاق فوق نسبة 2.5 %، في حين نراه يزيد على 8 % في بعض الدول القليلة. وعلى6 % في عامة الدول المصنعة، وأن في هذا الوضع الردييء إخلالا بإحدى تعاليم الإسلام الذي جعل من طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة وساوى في المنزلة بين مداد الأقلام وبين دماء الشهداء. ولو اعتمدنا عدد ما ينشر من الكتب في العالم الإسلامي بأسره لوجدناه ينحط دون عدد ما يصدر في دولة واحدة من دول العالم المتصنع كاليابان لا يزيد عدد سكانها على العشر من عدد المجموعات الإسلامية. وإن لنا في الميدان الاجتماعي سمات أخرى مستفحلة نخص منها بالذكر عدد البطالة من بين طبقات القوى العاملة، إذ قد يزيد المعدل الإسلامي للبطالة، على ثلث المترشحين للعمل من الذكور وعلى الثلثين من الإناث المترشحات. أما أعداد الأطباء ونسبتها، بالقياس إلى كل ألف ساكن، فهي تتراوح بين 0.020.00 أي (2) في العشرة آلاف أو طبيب واحد على كل خمسة آلاف، وأقصاها 1.230.00 أي لكل عشرة آلاف أو 6 لكل خمسة آلاف. وبالمقارنة نعلم أن نسبة التغطية العلاجية في المجتمعات المعاصرة تزيد على 6 أطباء بالنسبة لكل ألف ساكن أي بمعدل طبيب واحد في خدمة أقل من مائتي شخص، وعلى ذمة أربعين عائلة.   (1) الشورى: الآية (38) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1995 ومعلوم أن المجتمعات الإسلامية متشاركة في وصمة التخلف الاقتصادي لا من جراء نقص في الموارد الطبيعية، ولا في المدخرات المالية، ولا حتى في الكفاءات البشرية، وإنما يعزى هذا التخلف إلى نقص فادح في توظيف هذه الامكانات المتاحة، وإلى سوء استغلال للموارد، ولا حاجة للتذكير بما هو معلوم بالأرقام المضبوطة وبالبيانات الضافية في هذا الشأن، وقد تصنفت فيه التآلف العديدة ولا تزال تصدر عن دور التأليف والنشر بمختلف الحواضر الإسلامية، العديد من التصانيف القيمة، نذكر منها على سبيل المثال منشورات مركز دراسات الوحدة العربية الذي تزيد عناوينه اليوم على مائة وعشرون، من وضع نخبة من خير المفكرين العرب، كما نذكر أيضا التقارير القيمة الصادرة عن مشروع المستقبلات العربية البديلة والتي تناولت فيما تناولت محور الصحوة الدينية الإسلامية وآفاق تطورها في تعاملها مع الأنظمة الحاكمة ومع المجتمعات الإسلامية. ولعل أكبر السمات المشتركة بين دول العالم الإسلامي في الميدان الاقتصادي هي سمة التبعية. تبعية مركبة مصنفة بين ميادين تمويل الاستثمارات وفداحة درجات المديونية المحملة على عاتق الشعوب الإسلامية، وأخطر هذه التبعات هي التبعية الغذائية التي تهم معظم الدول الإسلامية وتجعل أمنها الغذائي واستقرارها السياسي حكرا بأيدي مجموعة من القوى الأجنبية، تتصرف بما تشاء وحينما تشاء في مستقبلات هذه الشعوب، وقد تزيد نسبة هذه التبعة على نصف الاحتياجات الضرورية من الغذاء في بعض الحالات، وأن من الدول الإسلامية من تنفق اليوم أكثر من 60 % من مواردها بالعملة الصعبة لتوريد الحاجيات الغذائية الأساسية لشعبها. ومن البدهيات المقررة اليوم في أدبيات التنمية أن الأمن الغذائي هو حجر الزاوية في الأمن العام وأنه الشرط الواجب المؤسس للسيادة الوطنية، الضامن لاستقرار الأنظمة السياسية. كذلك الشأن بالقياس إلى التبعية التكنولوجية فهي اليوم من أثقل أنواع التبعيات الجاثمة بوزرها على نهضة الأمة الإسلامية في شتى الميادين المصرفية والاقتصادية والاجتماعية تجعل زمام أمورها بأيدي الشركات الكبرى متعددة الأجناس، وتعوقها عن المبادرة في تصريف شؤونها، وأن في ضعف درجات التصنيع بعامة الأوطان الإسلامية وتدني مساهمة الصناعة في الناتج الإجمالي الوطني إلى أقل من العشر، وضعف القيمة المضافة في حصيلة الإنتاج لمؤشرات كبرى على هذه التبعية التكنولوجية التي غدت من أهم السمات المشتركة بين شعوب المجتمع الإسلامي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1996 وإن الأمر بمثل هذه الخطورة في ميدان الإعلام، وقد كثرت بشأنه التقارير والدراسات على مستوي العالم الثالث، وتعالت أصوات الاستنكار ضد الاحتكار الواقعي الذي تتميز به ست وكالات عالمية للأنباء وتتصرف بذلك في حظوظ العالم الثالث بسبب ما لديها من الوسائل الفعالة لصناعة الإعلام ولتوجيه الرأي العام وفق المصالح الاقتصادية والأغراض السياسية التي ترتبط بها بروابط الولاء والتحالف. والعالم الإسلامي خاضع لهذه الوكالات العالمية، كخضوع سائر مجتمعات العالم الثالث، بل نرى الوكالات الغربية للأنباء قد صرفت جهودها بصورة مركزة إلى إخراج صورة خاصة للإنسان المسلم وللرجل العربي المسلم بصورة أخص، وإلى العمل على نشرها في الرأي العام العالمي. كان من نتيجة هذا العمل الإعلامي الموجه أن انقشعت في أذهان الرأي العام الغربي جملة من الملامح المشوهة عن الإنسان المسلم وعن الرجل العربي تقترن بمعان العجز والتبذير والكسل والشهوانية والجبن، ونحن نلمس آثار هذه الحملات الدعائية في الصحافة والوسائل الإعلامية الغربية، ونقف على مفعولها السلبي في المحافل الدولية وبصورة واضحة عند مناقشة القضية الفلسطينية، ولا حاجة لنا أن نذكر بما قد قيل أكثر من مرة في عواصمنا الإسلامية عن دور الدعاية الصهيونية في هذه الحملات، وعما توظفه في حقها من وسائل مالية وبشرية بالغة الشأن. أدركت الدول الإسلامية هذه الأوضاع المتردية في مختلف الميادين وبصورة خاصة في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والمالية والإعلامية، وقد أخذت على نفسها منذ أواخر القرن أن تعالجها لا على الصعيد الوطني المنفرد فقط بل وأيضا على صعيد المجتمع الإسلامي ككل، إقرارا بأن هذه الأوضاع السلبية هي حصيلة لطائفتين من العوامل تضافرت مفعولاتها على مر الزمان: عوامل ذاتية تمثلت أولا وبالذات في تباعد الشعوب الإسلامية عن بعضها وفي توزع جهودها وتفرق كلمتها، اعتزاز خاطئا بما لكل شعب من خصوصيات، ظنا ووهما بأن النجاة ممكنة على سبيل منفردة وبإنشاء ما يتيسر إنشاؤه من الروابط مع بعض الدول الخارجية، وإقامة الأحلاف الخارجية بديلة من الترابط على الصعيد الإسلامي. أما العوامل الخارجية التي أسفرت عن الأوضاع الرديئة، فهي تضافر الدول الأجنبية داخل مجموعات إقليمية لأغراض اقتصادية وتكنولوجية ومالية وعسكرية وإعلامية وغيرها. بحيث إن المجتمع الإسلامي في مفاوضاته مع العالم المصنع، يأتي هذه المفاوضات متفرق الصف موزع الكلمة، فيلقي مخاطبا متوحد الصف، متفق الكلمة، ينطلق من استراتيجية مدروسة مشتركة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1997 هذا ما أدركه العالم الإسلامي في العقود القليلة الماضية غداة الحرب العالمية الثانية، وهذا ما رام ويروم علاجه بتوحيد الكلمة، وتضافر الجهود، عبر المؤسسات المشتركة التي توفقت الدول الإسلامية إلى إنشائها منابر قارة للتشاور والتناصح فيما بينها ومحافل قائمة لتلاقي العزائم ولانعقاد الإرادة، ولاتباع السبيل المشتركة القويمة في إنقاذ الأمة من سلبيات الحاضر ولبناء المستقبل المشترك. 3- القاعدة الحضارية المتينة: ونحن نعلم جميعا ما وفق الله إليه قادة الأمة الإسلامية إذ يسر لها إنشاء مؤسسة المؤتمر الإسلامي، وأمانتها العامة، ثم أعان على انبثاق العديد من الهيئات المتفرعة عنها المختصة في شتى مجالات الاقتصاد والبحث العلمي والتكنولوجيا والإعلام والاستثمار المالي والأمن. يزيد اليوم عددها على خمس عشرة هيئة موزعة مقراتها بين حواضر العالم الإسلامي. وقد انعقدت المؤتمرات الدورية بين رؤساء الدول الإسلامية وبين وزراء الخارجية وصدرت عن هذه المؤتمرات مواثيق مباركة، لتحديد الأهداف المشتركة للعمل الإسلامي، ولاختيار السبل القويمة في طلب هذه الأهداف، انطلاقا من الثوابت الحضارية المشتركة أو كما جاء في إعلان (لاهور) لملوك ورؤساء الدول في فبراير 1974 الذين أكدوا: (إيمانهم بأن دينهم المشترك إنما يمثل رابطة لا انفصام لها بين شعوبهم وأن تضامن الشعوب الإسلامية لا يقوم على معاداة أية جماعة إنسانية أخرى ولا على تفرقة بسبب العنصر أو الثقافة ولكن على المبادئ الإيجابية الخالدة، مبادئ المساواة والأخوة وكرامة الإنسان ... ) . وإن مبدأ التوحيد على أساس رابطة الدين قد تكرر التأكيد عليه في ميثاق مكة المكرمة الصادر عن قادة الدول الإسلامية عام 1981. إذ يقرون: (إيمانا منا بأن المسلمون أمة واحدة يعتصمون برابطة الإسلام ويستلهمون في الحياة منهجا لا اختلاف فيه ويستمدون معينهم الفكري من تراث حضاري مشترك، ويضطلعون في العالم برسالة واحدة، فنحن عاقدون العزم على أن نمضي قدما لتوثيق أواصر التضامن بين شعوبنا ودولنا وعلى أن نتجاوز كل ما يؤدي إلى الشقاق أو يجر إلى الفرقة ... ) . وهكذا يتلاقى توحيد الإيمان مع توحيد المجتمع، لا على الصعيد العقائدي فحسب بل وأيضا على صعيد المصالح المرسلة التي أفسدها القعود الفكري وأوهنتها الخلافات السياسية، وأضاعتها النزاعات الخصوصية المفرقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1998 واضطرت الأمة الإسلامية أن تعمل مرة أخرى على اعتماد وحدتها الدينية، سلاحا قويا، لتمتين اللحمة الاجتماعية ولتعزيز الجهود في بناء المستقبل الحضاري المشترك، مثلما كانت مضطرة في خواتم القرن الماضي وفي النصف الأول من هذا القرن إلى الاعتصام بالدين ضد الاستعمار الغربي، فبات الدين يمثل حارس الليل، لا ينام ولا يغفل، حتى وإن غفلت الأعين وخفتت في الضمائر أصوات اليقظة، وتراخت العزائم. وغير خاف في هذه الفترة من تاريخنا المعاصر (أن طلائع حركات اليقظة العربية كانت طلائع إسلامية سلكت سبيل الإصلاح الديني لبعث روح المقاومة في كيان الأمة ضد الغرب الاستعماري الزاحف على ديار الإسلام) . وهل قامت الوهابية من منتصف القرن الثامن عشر، والسنوسية في ليبيا والجزائر ومصر، والحركة المهدية في السودان، في خواتم القرن التاسع عشر إلا لتحمل مشعل اليقظة العربية الإسلامية الحديثة؟ وهل كان تيار هذه اليقظة الذي قاده جمال الدين الأفغاني في إطار مشروع الجامعة الإسلامية يرمي إلى هدف غير مجابهة المد الاستعماري الغربي على واجهة الشرق العربي الإسلامي بأكمله، ويعمل على إنشاء يقظة إسلامية وتضامن إسلامي، ووحدة فكرية ونضالية للملة الإسلامية قاطبة. وقد دعا هذا التيار إلى الوحدة الإسلامية بل وإلى إقامة (الجنسية الإسلامية) . فالوحدة عند الأفغاني إنما تنبع أساسا من رابطة الملة والدين وهي عنوان على تضامن الملة الإسلامية ضد أعدائها، واستلهامها القرآن لتجديد حياتها الدينية والدنيوية، وقد أقامت نخبة الجامعة الإسلامية مفهوم الوحدة الإسلامية على القاعدة الراسخة لرابطة الدين، ولم نجعل هذه الوحدة متجسدة في الدول الوطنية بالمدلول السياسي، فلا تعارض بين الوحدة الإسلامية بهذا المعني، وبين القومية ودولتها. وقد كتب جمال الدين الأفغاني في هذا الخصوص: (لا ألتمس بقولي هذا أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصا واحدا. فإن هذا ربما كان عسيرا، ولكني أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن الكريم ووجهة وحدتهم الدين. وكل ذي ملك على ملكه. يسعي بجهده لحفظ الآخر ما استطاع، فإن حياته بحياته، وبقاءه ببقائه، إلا أن هذا بعد كونه أساسا لدينهم، تقضي به الضرورة وتحكم به الحاجة في هذه الأوقات) . (1)   (1) محمد عمارة: الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني. ص345. القاهرة 1968. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1999 وقد دعا أعلام الجامعة الإسلامية إلى سلفية دينية تعتمد المنابع النقية للإسلام ولكنها لا تتضارب مع عقلانية إسلامية تستخدم العقل وبراهينه في فهم الدين ووعي مقاصده. كما دعوا إلى تجدد ذاتي في مواجهة المعاصرة ومجابهة التحديات وإلى النظر في الحضارة الغربية (من موقع مستقل ومتميز) لمعرفة أسباب تفوق الخصم وللاستعانة بذلك في الصراع معه. هذا المنهج القويم هو الذي ظل معتمدا في بناء التضامن الإسلامي بعيدا عن الخلافات السياسية وتجاوزا للخصوصيات القطرية واجتنابا لمنازعات السيادة، وهو منهج نراه ضامنا لإقامة صرح الوحدة الإسلامية على صعيدين اثنين: صعيد المصالح المرسلة فيما يهم شؤون الاقتصاد، والإعلام والمالية والتكنولوجيا، والدفاع عن حرمة الأوطان والتعاون الخارجي، وسائر ميادين الحياة المدنية التي تقتضي المصلحة أن ننطق في معالجتها من منظور مشترك وأن نقوم في حلها على التعاون المستمر بين شعوبنا ودولنا، وأن نستفيد من الأجهزة والتنظيمات المشتركة التي هدانا الله إلى إنشائها لتكون منابر للتشاور وإطارا لاستنباط الخطط الاستراتيجية وتحديد الإجراءات العملية في خدمة الأهداف المرسومة. أما الصعيد الثاني وهو صعيد المراجع الحضارية المشتركة فنستطيع أن نمضي فيه بحزم إلى أبعد من المشاريع الدنيوية وإلى أعمق وأنفس من المنجزات المادية أو الظرفية. أود أن أقتبس من تصانيف الدكتور محمد عابد الجابري وخاصة من كتاباته الأخيرة عن (تكوين الفكر العربي) معني التأسي الفكري، يرى الجابري أن الفكر يتأسس فيما يرومه من مقاصد تأسيسا سلبيا بمنطق الضدية والمقاومة، مثلما تأسست مشاريعنا الوحدوية في الماضي القريب بديار المغرب العربي مثلا تأسيسا ضديا لمقاومة الاستعمار، ومثلما تأسس مشروع الجامعة الإسلامية ضد أنواع الاستعمارات الغربية بالمشرق.. ثم إذا ما زالت دواعي الضدية بزوال الاستعمار وحصول الدول على استقلالها أصبح الفكر الوحدوي بحاجة إلى تجديد في التأسيس، يطلب له أسسا أخرى، غير الأسس السلبية التي قام عليها في فترات الكفاح. تلك هي الظاهرة الإيجابية التي نطمع أن يتأسس عليها مفهوم الوحدة الإسلامية في مضمونها الحضاري، فليست الوحدة سلاحا ضد قوة معارضة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2000 ولا يقتصر وجودها على منطق الوسيلة ولا تنحصر في سجل السببية، بل الوحدة غاية في حد ذاتها يتأسس وجودها على منطق الإسهام في الحضارة الإنسانية، إعانة المجتمع الإسلامي أولا، والمجتمع البشري بصورة أعم على إنشاء حضارة جديدة لا تقوم على طمس القيم الدينية ولا على مسخ مقومات الذات البشرية التي كرمها الله، ولا على تجنيس المفاهيم الثقافية والأخلاقية في الاستكانة للمادة، وإنما تقوم على تعزيز أزكى ما في الذات الإنسانية من كفاءة التسامي والتجاوز، وعلى تفتق أصفى ما في سجية الإنسان من ملكات الجود والتطوع والمروءة، وتستمد من منطق الخير والفضيلة بما له من جذور مكينة في النفس السوية. عندئذ لا يكون في الخصوصيات الفطرية عائق عن السعي لمثل هذه المقاصد الحضارية، وقد قضيت حكمة المولى، جلت قدرته أن نكون شعوبا وقبائل لنتعارف فيما بيننا، وأن تكون التقوى مقياس التفاضل والتمايز على مراتب الكرم، التقوى لا الجاه ولا المال ولا مراتب السلطان. ولعل مجمع الفقه الإسلامي الذي نتلاقى اليوم في رحابه أنسب المؤسسات المشتركة بمثل هذا الاجتهاد الفكري (الأصيل الفاعل) الرامي إلى تقديم الحلول النابعة من التراث الإسلامي والمتفتحة على تطور الفكر الإسلامي بغية الوصول إلى الإجابة الإسلامية عن كل التحديات التي تطرحها الحياة المعاصرة. ونحن نأمل أن يصبح للمفكرين المسلمين في هذا المجمع منبر مفتوح للتشاور العلمي المستمر ولإشاعة حصيلة الأبحاث العلمية حول مختلف قضايا المعاصرة التي تعرض للمجتمع الإسلامي، حتى يتوفر زاد من الحلول الاجتهادية تكون ثمرة للعمل العلمي المشترك، وعاملا من عوامل توحيد المعالجة لمشاكلنا المشتركة، وهل تزيد الوحدة بين المجتمعات على توحيد في مناهج التفكير وفي مراجع التدبر، يفضي إلى ضروب من التناسق والمماثلة في التعامل الحي من مشاكل الإنسان. مصطفى الفيلالي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2001 مجالات الوحدة الإسلامية وسبل الاستفادة منها إعداد فضيلة الدكتور عمر سليمان الأشقر كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الكويت بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله قيوم السماوات والأرض، بيده مقاليد الحكم، له الأمر كله والخلق كله، يصرف الأمور ويقدرها وفق علمه وحكمته، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، أنه على كل شيء قدير، قوله القول، وحكمه الحكم، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا مبدل لأمره. وأصلى وأسلم على عبده المصطفى، ورسوله المجتبي، خيرته من خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله، الذي أقام الشريعة الغراء، وأنار القلوب العمياء، ومحا دولة الباطل، وطمس معالم الشرك، وأصلي وأسلم على آله وصحبه الذين جعلوه لهم قدوة وأسوة، واتبعوا النور الذي جاء به، وكانوا على المحجة البيضاء، يقرون بالحق ويدعون إليه، ويجاهدون في سبيل إعلائه حتى ظهر أمر الله، وأصبح الدين كله لله، وعلى التابعين ومن اتبع سبيلهم إلى يوم الدين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2002 أما بعد: فإن الأمة الإسلامية –بإذن من الله وقدر-تسلمت قيادة ركب البشرية منذ أن تكونت على يدي معلم البشرية وهاديها محمد (صلى الله عليه وسلم) ، واستمرت على ذلك دهورا طويلة، ولكنها فقدت تلك المنزلة شيئا فشيئا، حتى أصبحت في أيامنا على الحال التي نعرفها ونشاهدها، ذلت بعد عزة، وجهلت بعد علم، وضعفت بعد قوة، وأصبحت في ذيل القافلة بعد أن كانت في طليعتها، وأخذت تتسول على موائد الفكر الإنساني بعد أن كانت منارة تهدي الحيارى والتائهين، وأخذت تضطرب في سيرها وتتأرجح في فكرها، ولا تعرف السبيل الذي تسلكه بعد أن كانت الدليل الحاذق الرائد في الدروب المتشابكة في الصحراء التي لا يهتدي فيها الأدلاء المجربون. وجاء الذين آلمهم حال أمتهم من أصحاب الفهم الثاقب، والبصر النافذ، والرأي السديد يفكرون في حال هذه الأمة في ماضيها وحاضرها، فهالهم الأمر، فالبون بين الحالين بعيد والفرق كبير. لقد جرب عالمنا الإسلامي مختلف الأنماط في عصرنا هذا، فقد تسلط على رقابنا جماعات وأحزاب وعدتنا بأنها ستعيد لنا عزتنا وكرامتنا وإنها ستنهي مشكلاتنا، وتجمع شملنا، وتوحد جموعنا، وننظر إلى حالنا وقد مضى على الأمل الموعود وقت طويل فلا نرى إلا السراب، لقد كان حظنا مما وعدنا به مزيدا من الفرقة والانقسام والتأخر، فقد أصبحت الأمة الواحدة أمما، والدولة دولا، وانتشر الفقر، وازدادت التعاسة في كثير من ديار المسلمين، وضاع كثير من هذه الديار عندما استولي عليها أعداء الله من الشيوعيين والصليبيين واليهود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2003 لقد تبين لنا تبينا لا لبس فيه فشل دعاة الوطنية ودعاة القومية، كما فشل الاشتراكيون والبعثيون، ولم يبق إلا الإسلام. لقد نجح الإسلام في الماضي عندما حكم هذه الديار –ديار الإسلام- نجح في إيجاد مجتمع مثالي في عالم البشر، فقد أوجد كيانا سعدت به البشرية، وترعرعت في جنباته القيم الصالحة، وتناسى المسلمون في ظله العصبيات للأقوام والأجناس والأوطان، وأصبحوا في ظله إخوة، ولاؤهم لله رب العالمين. لقد أضاع المسلمون الكثير من تعاليم دينهم، وانحرف بهم المسار، واستبدلوا به عادات موروثة، وعادات وفلسفات وتوجهات وافدة، فكان ثمار ذلك الفرقة والانقسام والهزائم العسكرية والفكرية. واليوم صحا المسلمون من جديد يحاولون تنظيم صفوفهم، وتلمس طريقهم ليحملوا الراية من جديد، غير أن الطريق ملئ بالصعاب محفوف بالمخاطر، فالأعداء متربصون بنا من كل جانب يرصدون حركاتنا، ويقرؤون كتاباتنا، ويدرسون فكرنا، ثم يأتمرون ويخططون، ويرسلون إلينا سهامهم، وبعض سهامهم رجال من هذه الأمة، يدعوننا إلى الدمار وغضب الجبار، وقد أصيب جموع كثيرة من هذه الأمة، كما أصيب الدعاة الصالحون فيها بسهام الأعداء ومكرهم وخديعتهم. أضيف إلى ذلك الجهل الذي انتشر في ربوع العالم الإسلامي، والأمراض الفكرية الهائلة التي يعاني منها المسلمون في هذه العالم الرحب، كل ذلك يؤخر المسيرة، ويضعف تيارها، ويجعلنا نعاني معاناة هائلة ونحن نشق طريقنا إلى الأمام. وهذا البحث يسلط الضوء على المكانة الفضلى التي استحقتها هذه الأمة، والسر في استحقاقها لها، ثم يبين السبب الذي عزل الأمة عن المكانة التي كانت تحتلها، وقد أعاد الباحث هذا إلى سبب واحد هو الفرقة بأنواعها: الفرقة في الدين والاعتقاد، والفرقة التشريعية، والفرقة السياسية. كما سلط الضوء على الطريق الذي يعيد للأمة عزها من جديد، ويرقي بها إلى المكانة التي كانت تحتلها، وقد أعاد الباحث هذا إلى سبب واحدة هو الوحدة بكل أنواعها وشتى مجالاتها وأصولها هذه الوحدة: الانتماء للإسلام دون سواه، وتوحيد مصدر الهداية، ووحدة العقيدة، والوحدة السياسية المتمثلة في إقامة الدولة الإسلامية وإرجاع الخلافة الراشدة. وختمت البحث بكلمة موجزة، لإلقاء الأضواء على طرق الدعاة التي سلكوها في عملهم في مجال الارتقاء إلى المستوي الذي يطمعون في بلوغها إليه. وفق الله العاملين بالإسلام إلى توحيد الوجهة والعمل، وإلى توحيد الصفوف، ورصها، وسد الثغرات، وتقويم النفوس وبناء الأمة بالإسلام، كي ستعيد الأمة مجدها من جديد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2004 فضل الأمة الإسلامية قال تعالى مبينا فضل هذه الأمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} . (1) . وأصل الوسط الموضع الذي هو الجزء بين الطرفين. والوسط مركز الاتزان والاعتدال، يقول الزمخشري في هذا: (الوسط عدل بين الأطراف، ليس بعضها أقرب من بعض) . (2) وقد تعارف الناس على ذم الذي يمسك أحد طرفي الشيء ولا يلزم موضع الاعتدال، فتراهم يقولون: فلان متطرف في أمره في مقام الذم، كما يقولون: فلان معتدل في مقام المدح. والسر في ذلك أن العباد في أكثر أحوالهم يجنحون إلى الإفراط أو التفريط، فترى بعضهم يجنح إلى الغلو في الرهبنة والتعبد حتى يتركوا الزواج والملذات ويسكنوا الفيافي والقفار، وآخرون يغرقون في العب من الشهوات بالملذات بعيدا عن مقاصد الشرع وضوابطه، واتباع المنهج الوسط الذي يحقق الاعتدال والاتزان يقضي بأن يعيش المرء في دنياه آخذا منها قدرا أباحه الله من الطيبات في الوقت الذي يؤدي حق ربه، ويكون همه تحقيق مراد الله منه. يقول الطبري في تفسير الوسط: (وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضوع هو الوسط الذي بمعني الجزء الذي هو بين طرفين، مثل وسط الدار، وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلو بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم مقصرين فيه تقصير اليهود، الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياء الله، وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها) . (3) والوسط هو الأفضل والأحسن لأمرين: الأول: أن الأطراف يتسارع إليها الخلل والأعوار، والأوساط محمية محوطة، كما يقول الزمخشري (4) ، ومنه قول الطائي: كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفا   (1) البقرة: الآية (143) (2) الكشاف: 1/317 (3) تفسير الطبري: 2/6 (4) تفسير الزمخشري: 1/317 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2005 والثاني: أن الوسط هو مركز الاعتدال والاتزان، فالعرب تقول: قريش أوسط العرب نسبا، أي افضلها، والرسول (صلى الله عليه وسلم) وسط قريش، أي أفضل قريش نسبا، وفي هذا يقول زهير بن أبي سلمى: (1) هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم وفي محكم التنزيل {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} . (2) أي خيرهم، وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . (3) والصلاة الوسطى صلاة العصر كما ثبت في بعض الأحاديث، وما حث على الالتزام بها إلا لأنها أفضل من بقية الصلوات. وفي الحديث أن الفردوس وسط الجنة وأعلي الجنة، وفوقه عرش الرحمن. وقد صرح الحق –تبارك وتعالى- بأفضلية هذه الأمة على غيرها من الأمم مما يدل على أنه عني بالوسطية الأفضلية، وهذا التصريح جاء في قوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . (4) . وصرح في موضع آخر باجتبائه لهذه الأمة واصطفائه لها، ولا يكون الاصطفاء والاجتباء إلا لفضلها وعلو شأنها، قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . (5) .   (1) تفسير الطبري: 2/6 (2) القلم: الآية (28) (3) البقرة: الآية (238) (4) آل عمران: الآية (110) (5) الحج: الآية (78) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2006 سر هذا الفضل أن هذا التفضيل الذي صرحت به النصوص ليس اعتباطا، وإنما كان لأن الأمة الإسلامية استقامت على منهج الله، فالإسلام هو الذي صنع هذه الأمة، فقد بني عقيدتها، ورسم منهجها وطريقها، وأقام أخلاقها وقيمها، وتأمل في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} . (1) . تجد أن كلمة (جعلناكم) ليس معناها خلقناكم، وإنما المعني الصحيح هو صيرناكم أمة وسطا، وإنما صيرها الله كذلك بدينه المنزل، عندما استقامت على الخصائص التي رسمها رب العالمين، وتستطيع أن تلحظ هذا المعني في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . (2) . فها هنا مخرج وهو الله، ومخرج وهو هذه الأمة، وأداة حصل بها الإخراج على هذا النحو وهو الإسلام، فبالاستقامة على الإسلام تحققت الأفضلية. إذن ليست الأفضلية والخيرية لقبا أطلق على هذه الأمة من غير مضمون، ولكنه عنوان لحقيقة تجسدت في هذه الأمة، فقد سما هذا الدين بهذه الأمة في عقيدتها وتفكيرها وتوجهات قلوبها وأقوالها وأعمالها ونظمها، حتى مثلت الأنموذج الفاضل الذي يريده الله تبارك وتعالى للبشرية. وهذه الأفضلية مرهونة باستمرار هذه الخصائص في هذه الأمة، فإذا تدنت هذه الخصائص أو انحرفت أو زالت، فإن الخيرية تتناقض أو تضمر أو تضعف. وهذا هو السر في تخلف هذه الأمة في عصرنا، والسبب فيما أصابها من فرقة واختلاف، وما رماها به الأعداء من بلايا ومصائب. أن أفضلية هذه الأمة تتلخص بأخذها بهذا الدين في نفسها، ودعوة الناس إلى الحق الذي قرره هذا الدين، ونهيهم عن الباطل الذي نهاهم عنه هذا الدين، مع تحقيق الإيمان وفق ما جاء به الإسلام {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . (3)   (1) البقرة: الآية (143) (2) آل عمران: الآية (110) (3) آل عمران: الآية (110) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2007 لِمَ عَرَّفَ الله الأمة الإسلامية بمكانتها وفضلها؟ إن الحياة الإنسانية مجال صراع رهيب بين الأمم المختلفة، وكل أمة تدَّعي أنها الأفضل والأكمل، وأنها تستحق أن تغلب وتسود، وقد أخبر الله هذه الأمة بمكانتها كي لا تذل في مجال الصراع، ولا تهون في ميدان الخصام {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . (1) لقد ادَّعي كل من اليهود والنصارى والوثنيين أنه الأفضل والأكمل، وأن غيره ليس على شيء {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} . (2) والذين لا يعلمون: هم مشركون العرب. وغلا اليهود والنصارى في دعواهم عندما ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} . (3) ، وادعوا أن الجنة وقف عليهم {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (4) ورتب كل فريق على دعواه مطالبة غيرة باتباع منهجه: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . (5) ولا تزال الأمم المختلفة إلى اليوم تدعي هذه الدعوى، لقد رفع هتلر شعار ألمانيا فوق الجميع، والشعب الأمريكي اليوم يشعر كأنه من طينة أخرى غير طينة البشر، وروسيا تدعي أنها جاءت العالم بإكسير السعادة. إن اليهود كانوا في ميزان الله خير الأمم عندما استقاموا على الشريعة التي أنزلها الله تبارك وتعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} . (6) {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} . (7) . والنصارى كانوا أصحاب رسالة لهم في ميزان الله فضل عندما استقاموا على الدين الذي أنزله الله إليهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} . (8) . ولكن اليهود والنصارى انحرفوا عن المسار، وتنكبوا الجادة، فأصبح اليهود مغضوبا عليهم، والنصارى ضالين، وهو في ميزان الله من الخاسرين، لقد غيروا وبدلوا فلعنهم الله، وغضب عليهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة، وهو لا يمثلون اليوم الفئة الفاضلة في ميزان الحق، وقد جاءت هذه الأمة من بعدهم لتكون الأمة الفاضلة.   (1) سورة آل عمران: الآية (139) (2) سورة البقرة: الآية (113) (3) سورة المائدة: الآية (18) (4) سورة البقرة: الآية (111) (5) البقرة: الآية (135) (6) البقرة: الآية (47) (7) الدخان: الآية (32) (8) الصف: الآية (14) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2008 وإذا أنت رجعت إلى سورة البقرة، وإلى ما حدثنا الحق فيها عن أهل الكتاب، تري أن القرآن كشف لنا عن الدعوى المضللة التي يدعيها أهل الكتاب من أنهم الأفضل والأصلح، وبيَّن أنها دعوى زائفة، ذلك أن أهل الكتاب انحرفوا عن الخصائص التي كانت ترفعهم إلى مصافِّ الأمة الفاضلة وسرت فيهم العلل والأدواء التي شوهت العقيدة الصافية، والشريعة المنزلة، واختلت عندهم القيم والتصورات الإيمانية، كما اختل السلوك والقول والعمل، فمن اتهامات للخالق العظيم، إلى تشويه لسير الأنبياء، إلى تحريف للكتب المنزلة، إلى كتمان للعلم، وسفك للدماء، وتمرد على أحكام الشرع، واتباع الشياطين. وبعد هذا البيان الطويل لحال الأمم التي تدعي الأفضلية في سورة البقرة يأتي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} . (1) . ليقرر مكانة هذه الأمة، وأنها الأمة الفاضلة كي تعرف مكانتها، ولا تهون في مواجهة أهل الكتاب، ولقد سمي أهل الكتاب الذين يحاولون انتقاص هذه الأمة، وإلقاء الشكوك حول تشريعها بالسفهاء {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} . (2) إنهم سفهاء فقدوا المقاييس القويمة، واختلت عندهم الضوابط، ولذلك صدرت عنهم أحكام خاطئة، وتصرفات باطلة. أما الأمم الأخرى التي تنازع هذه الأمة الفضل، ففضلها دنيوي عارض، ليس له في ميزان الله اعتبار؛ لأنه قائم على متاع الدنيا العارض {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} . (3) ، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} . (4) ، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . (5) ولقد وصف القرآن الحضارات التي ارتقت في العلوم المادية، ولكنها انحدرت في عقيدتها وأخلاقها وقيمها بالضلال والزيغ. إن المجتمع الذي يستحق أن يوصف بالرقي –في ميزان الله- هو المجتمع الذي يقيم حياته وفق منهج الله وتشريعه، وإن كان غير متقدم في مجال العمران والزراعة والصناعة. أما الجاهلية فإنها تعتبر المجتمع راقيا إذا كان يملك العلوم المادية، والمجتمع المتأخر في عرفها هو المجتمع الفقير الذي لا يملك أسباب الرقي المادي وتنتشر فيه الأمية.   (1) البقرة: الآية (143) (2) البقرة: الآية (142) (3) آل عمران: الآية (185) (4) الأنعام: الآية (32) (5) الروم: الآية (7) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2009 ونحن عندما ندرس المجتمع الإسلامي المثالي تراه كان مجتمعا فقيرا، لا يكاد الفرد يجد فيه ما يسدُّ رمقه، ولا ما يوراي جسده، وكانت بيوت الرسول (صلى الله عليه وسلم) يمر عليها الهلال والهلال، ثلاثة أهلة في شهرين –كما تقول أم المؤمنين عائشة - ولا يوقد نار لإنضاج طعام، والذين كانوا يحسنون القراءة والكتابة في ذلك المجتمع قليل، والصناعات والعلوم التي ترقى بالحياة في جانبها المادي كانت فيهم قليلة نادرة. إن نظرة الجاهلية إلى المجتمع الصالح المتحضر تصادم نظرة الإسلام، إن الإسلام يَصِمُ أكثر التجمعات الإنسانية تقدما بالتأخر والرجعية والضلال إن لم تحقق العبودية لله، ولم تقم حياتها وتشريعاتها وفق منهج الله. إن هذا الرقي المادي والعلم المادي لم يخلِّص فرعون ونمرود وعادا وثمود وغيرهم من الأمم من مقت الله وغضبه، ليس معني هذا أن الإسلام يحارب الرقي المادي، فالإسلام يأمرنا أن نسعى في الأرض لنسخر ما فيها من خيرات لصالحنا، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} . (1) . ولكنه يريد منا أن نبني هذا الرقي على أصول سليمة قويمة، يريدنا أن نقوم علوم الحياة ونضبطها بضوابط إلهية تحميها من الانحراف والضلال، فلا نقيم الصروح الضخمة التي تستنفذ طاقات الألوف وعشرات الألوف من البشر لغاية تافهة، كما فعل بناة الأهرام الذين أفنوا أعمار أجيال ليقيم الحاكم منهم هرما يكون له قبرا، أو كما فعل النصارى عندما أقاموا الكنائس الفخمة والأديرة، وبذلوا في سبيل ذلك جهودا وأموالا هائلة كان أكثر الأمة بحاجة إلى القليل منها. وقد أنكر هود على قومه مثل هذه الأفعال الحمقاء {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} . (2) . والجاهلية الجديدة أثمرت حضارة مادية هائلة سخرتها لخدمة الشيطان، وإقرار الظلم وإزهاق الحق، وامتصاص دماء الشعوب المغلوبة على أمرها، وأزهقت أرواح الملايين من البشر لا لشيء إلا لكي تكون العزة لأمة على بقية الأمم، أو لشعب على بقية الشعوب. نحن لا نوافق الأمم التي تدعي أنها الأفضل والأحسن لأنها تملك العمارات الشاهقة، والحدائق الغناء، والمسارح الرحبة، والقصور الفخمة، والشوارع المنسقة، والمدارس والجامعات والمستشفيات.. لا نوافقها على أنها الأفضل من أجل ذلك وحده، ولا لأنها توصلت إلى علوم هائلة بنت بها الرقي المادي، ولو كان هذا صحيحا فان اللص صاحب القصر الكبير أفضل من الشريف صاحب الكوخ الصغير، والعالم الذي يخطط لتدمير البشرية أفضل من الإنسان العادي الذي يسعى في إصلاح العباد.   (1) الملك: الآية (15) (2) الشعراء: الآية (128) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2010 لقد أقامت كثير من الأمم حضارات راقية في المجال المادي، ولكنها أقامتها على أسس ظالمة، فأتي الله بنيانهم من القواعد، ودمر ما كانوا يعرشون {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} . (1) {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} . (2) {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} (3) ارتقاء أمة الإسلام إلى المكانة الفضلي حقق المسلمون –بفضل الله ورحمته- في عالم البشر الرقي العظيم الذي أصبحوا به خير أمة أخرجت للناس. ويمكننا أن نلخص العوامل التي أوصلتهم إلى هذا الرقي في عبارة واحدة: (لقد حققوا الهدف الذي خلقهم الله من أجله إلا وهو العبودية لله العظيم) {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . (4) . ومن أجل تحقيق هذا الهدف العظيم أنزل الله كتابه، وأرسل رسله، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . (5) ويحقق البشر العبودية لله في عالمهم عندما يرضون بالله إلها معبودا، ويتخذون دينه الذي أنزل منهجا يستمدون منه عقيدتهم وأخلاقهم وتشريعه، فالدين الذي أنزله الله منهج يقيم العباد على النحو الذي يريده الله تبارك وتعالى، وهو نظام كامل يصوغ حياة البشر صياغة إلهية ربانية، لذا فإن العبارة التي تقول: (إن الإسلام منهج الحياة) تلخص القضية بأوجز عبارة وأوضحها. وتتحقق العبودية باتخاذ الإسلام منهج حياة يحقق الصلاح للنوع الإنساني في داخل نفسه وفي مجتمعه، ولذلك لم يبعد الذين قالوا: إن غاية الدين الذي أنزله الحق –تبارك وتعالى- هي إصلاح النوع الإنساني، وقطع دابر الفساد عن الحقيقة، فقد قال شعيب لقومه: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} . (6) . وذم الله المفسدين في الأرض: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} . (7) . {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} . (8)   (1) سورة الحج: الآية (45) (2) سورة الحج: الآية (48) (3) سورةالأنبياء: الآية (11-14) (4) الذريات: (56) (5) الأنبياء: (25) (6) هود: (88) (7) البقرة: (205) (8) القصص: (4) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2011 إن إصلاح الإنسان حسب فقهنا لكتاب الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) يتم بأمرين: الأول: إصلاح الفرد، وذلك بإصلاح عقيدته وتصوراته وأفكاره وقيمه وأخلاقه وموازينه. والثاني: إصلاح المجتمع الإنساني بإصلاح علاقاته ونظمه وقوانينه. وإذا أنت تأملت سيرة المصطفي (صلى الله عليه وسلم) رأيت عنايته كانت منصبة في المرحلة المكية على تحقيق الأمر الأول ألا وهو إصلاح الفرد، بينما كانت عنايته متجهة في المرحلة المدنية إلى تحقيق الأمر الثاني، وما أَسْلَمَ صلوات الله عليه الروح لبارئها، إلا بعد أن قام المجتمع المسلم الصالح الذي يقوم على أفراد صالحين. لقد نجح الإسلام في إقامة مجتمع صالح، استنارت بصائر أفراده، وصلحت عقائدهم، واستقامت أخلاقهم، وأحكمت العلاقات فيما بينهم، وكانت الدينونة فيه لله وحده، وكان حاكم المسلمين فيه واحدا منهم، يخضع لسلطات الشريعة كما يخضعون، ويحاسب كما يحاسبون، ونسج الإسلام من ذلك المجتمع وحدة، كانت آصرتها الدين، ولحمتها التقي، وهدفها تحقيق العدل في ربوع الأرض بمنهج الحق، وساح المسلمون في المشارق والمغارب ينشرون دين الله، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وتحطمت القوي الجاهلية الجبارة أمام المد الإسلامي المتماسك، وأصبحت الدولة الإسلامية هي الدولة العظمى إلى أمد ليس بالقصير، وصدق الله في هذه الأمة قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . (1) . لقد كان العرب في جزيرة العرب حيارى تائهين ضالين يسلب قويهم ضعيفهم، ويقتل بعضهم بعضا، لا دين يجمعهم، ولا ملك يوحدهم، فغيروا ما بهم من أمراض، وأصلحوا نفوسهم وأمتهم بالدين، فارتقوا إلى مرتبة لم يسبقهم فيها سابق، ولم يلحقهم فيها لاحق، وكانوا كما قال الحق تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . (2) لقد أنجز الله لهم ما وعدهم فاستخلفهم في الأرض، ومكن لهم دينهم الذي هو سبب عزهم وذكرهم، عندما أنجزوا ما شرطه الله عليهم {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} . (3) ولا نزال إلى اليوم ننعم ببقية صلاح الأجيال الأولى التي حملت الإسلام، فعلي الرغم من البلايا والزرايا التي تعرض لها الإسلام من أعدائه وحكامه عبر تاريخ المسلمين الطويل، إلا أن الإسلام لا يزال له وجود ظاهر، وحملته من المسلمين منتشرون في كل مكان.   (1) الرعد: الآية (11) (2) آل عمران: (110) (3) النور: (55) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2012 تأخر الأمة وانحطاطها إن المتفكر في حال الأمة الإسلامية عندما يقارن بين حاضرها المشهود، وماضيها الغابر يهوله الأمر، فالبون شاسع، والفرق بعيد، وعندما يرجع الباحث النظر مرة أخرى مقارنا بين الواقع المشهود والموقع الذي رسمه القرآن لها فإنه يجدها لا تتبوأ المقعد الذي حدده القرآن لها. والدارس لخط سير تاريخ الأمة الإسلامية يجد أن استمرار الأمة الإسلامية على خصائصها التي جعلتها خير أمة أخرجت للناس لم يستمر على وتيرة واحدة، فالخط البياني كان ولا يزال متذبذبا بين هبوط وصعود. وقد أشار الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى هذا التذبذب في خط سير الأمة الإسلامية، فقد سأل حذيفة بن اليمان الرسول (صلى الله عليه وسلم) قائلا: ((يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وأمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) رواه البخاري. فالأمة الإسلامية كما يشير الحديث يصيبها الشر فتهزل، ثم تعود إلى أصالتها، وقد تكون العودة مشوبة فيها دخن على حد قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : ((وفيه دخن)) وقد يكون الانحراف هائلا، وذلك عندما يتسلط على رقاب هذه الأمة دعاة إلى أبواب جهنم، يدعون الناس إلى مذاهب كافرة، فمن استجاب لهم كان مصيره النار، وبئس القرار. لقد ألمحنا من قبل إلى أن الرقي العظيم الذي رفع هذه الأمة هو أخذها بالدين الذي أنزله الله تبارك وتعالى، ثم التفافها حول هذا الدين فأصبحت أمة واحدة، فتشكلت من هذه الأمة قوة هائلة لا تغلب. ويمكن أن نعيد تأخر المسلمين وانحطاطهم إلى قضية واحدة هي الفرقة التي فرقت وحدتها، فجعلتها أمما وشيعا وطوائف وتجمعات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2013 إن السمة العظيمة التي تعطي الأمة الإسلامية مكانة قوية هائلة هي اجتماعها على أساس من دينها، وهذه حقيقة أثبتها القرآن ونبه إليها وأمر بها، فقد أمرنا القرآن بالوحدة ونهانا عن الاختلاف والتفرق، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} . (1) ثم ذكرنا بالحال التي كنا عليها قبل الإسلام. فقد كنا قبائل متفرقة، يقتل بعضها بعضا، ويسبي بعضها بعضا، فجاءنا الله بالإسلام فأصبحنا في ظله إخوة أحبة {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} . (2) ثم نهانا الحق تبارك وتعالى عن مسلك الأمم السابقة وهو التنازع والاختلاف بعد أن جاءتنا البينات {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . (3) وقد أخبر جل وعلا أن التنازع والاختلاف يسبب الفشل وذهاب القوة، ذلك أن الوحدة تجعل الأمة قوية متماسكة في وجه الرياح والأعاصير، وعندما توجه هذه القوة مجتمعة نحو أعدائها، فإنها تفتت بأسهم وتقضي على كيدهم، فإذا اختلفت الأمة أصبح بأسها بينها، وهذا هو الفشل، لأنها تدمر نفسها بنفسها، وعند ذلك ينال أعداؤها منها ما يريدون، وقد حذرت النصوص من هذا المصير، وأخبرت أن الفرقة تعني ذهاب القوة وغلبة الأعداء {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} . (4) . وفي صحيح مسلم عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سالت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوي أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا)) . إن الوعد الإلهي في غاية الوضوح، لقد وعد الله الأمة بالنصر والتأييد والغلبة ما دامت متحدة على كلمة سواء، فإذا تفرقت واختلفت واقتتلت فهناك تكون الهزائم وتسلط الأعداء، وحلول النقم والبلايا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.   (1) سورة آل عمران: (103) (2) سورة آل عمران: (103) (3) سورة آل عمران: (105) (4) سورة الأنفال: (46) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2014 أنواع الفرقة وقد وقعت الأمة الإسلامية في المحذور، فتفرقت وتنازعت واختلفت، وتعددت أشكال الفرقة، ويمكن إرجاعها إلى ثلاثة أنواع: 1- الفرقة العقائدية. 2- والفرقة التشريعية. 3-والفرقة السياسية. وسنعرض لكل واحدة من هذه الثلاث بقدر ما يسمح به المقام. أولا: الفرقة في الدين والاعتقاد: أخطر أنواع الفرقة الفرقة العقائدية؛ لأن الإنسان أسير فكره ومعتقده، وما عمل الإنسان وسلوكه وتصرفاته في واقع الحياة إلا صدى لفكره وعقيدته، ومن هنا كان تبني الفكر المنحرف، وغرس العقائد الضالة في قلوب المسلمين موجبا لاختلاف المسلمين في واقع الأمر. إن الله أراد لهذه الأمة أن تنضوي على اختلاف أجناسها وألونها ولغاتها تحت اسم واحد وهو الإسلام، ولكن الدعوات الضالة لم تزل تطل برؤوسها عبر التاريخ الإسلامي لتجزئ المسلمون إلى فرق وجماعات تخالف الإسلام مخالفة كلية أو جزئية. إن بعض الدعوات والانحرافات التي نشأت في المسلمين تنادي بتوجُّه المسلمين إلى عبادة غير الله، واتباع منهج غير منهج الله، فعادت في ديار الإسلام كثير من مظاهر الشرك المتمثلة بعبادة الأولياء والأموات والأشجار والأحجار، فترى بعض الجهلة من المسلمين يدعونها ويستغيثون بها وينذرون لها ويحجون لها، ويخافون منها كخوفهم من رب العباد. هذه طائفة لها أتباع وأنصار يعدون بعشرات الملايين يزعمون أنهم مسلمون، ومؤسس الجماعة يطالب أتباعه إذا ما وقع الواحد منهم في الكرب أن يناديه هو، لا أن يلجأ إلى الله، يقول من قصيدة له: إذا كنت في هم وغم وكربة فنادني أيا مرغني أنجيك من كل كربة وهذا البوصيري يمدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فيأتي بقصيدة مدهشة، ولكنه أذهب جمالها وبهاءها وطمس ضياءها بما قذرها به من شرك وبغلوه في الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ودعائه له من دون الله. وفي ذلك يقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2015 يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عندك حلول الحادث العمم ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تجلي باسم منتقم فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم إن البلاء الأعظم الذي أصاب البشر كما يعلمنا القرآن –هو اختلافهم في الدين، وذلك باتخاذهم من دون الله أندادا، وعدم استقامتهم على دين الله ومنهجه، وفي ذلك يقول رب العزة: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} . (1) ويقول في موضع آخر: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} . (2) وقد فسر ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أسلم الأمة الواحدة التي وردت في النصين السابقين بالدين الواحد. (3) والتقطع الذي أشارت إليه الآيتان هو التفرق والاختلاف وعبادة غير الله واتباع غير منهجه، وقد لا يصل الأمر إلى عبادة غير الله، ولا إلى الخروج عن دين الله خروجا تاما، ولكن الأمة تختلف في الأصول، وكل هذا يفرق الأمة، وقد أخبرنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن هذا البلاء قد أصاب الأمم من قبلنا، وأنه سيصيب هذه الأمة كما أصاب غيرها من قبلها. ففي سنن أبي داود ومسند أحمد بإسناد صحيح عن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- قال: قام فينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: ((ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة)) . زاد في رواية: ((وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقي منه عرق ولا مفصل إلا دخله)) (التجاري: الوقوع في الأهواء الفاسدة. والتداعي فيها تشبهها بجري الفرس, والكلب: داء معروف يعرض للكلب إذا عض حيوانا عرض له أعراض رديئة فاسدة قاتلة، فإذا تجارى بالإنسان وتمادى هلك) .   (1) سورة المؤمنون: (52، 53) (2) سورة الأنبياء: (92، 93) (3) تفسير ابن كثير: 4/ 590. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2016 وفي سنن أبي داود وسنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ((تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)) . لقد انقسمت الأمة إلى خوارج ومعتزلة وشيعة وأشاعرة وكلابية وماتريدية ومرجئة وقدرية، واختلفت هذه الفرق في الإيمان وحدوده، كما اختلفت في صفات الله وقدر الله، ونشأ عن ذلك كله اختلافات في واقع الأمر. وقد تبنت كثير من هذه الفرق مناهج مضادة للمنهج الإسلامي، ومن ذلك تبني المنهج الفلسفي الكلامي في إرساء العقيدة والإيمان. وهذا المنهج مزاحم للمنهج الإيماني القرآني القائم على الوحي، وعمدة المنهج الفلسفي الكلامي نظريات عقلية، وأصول فلسفية، ومصطلحات منطقية، وهذا المنهج يختلف من المنهج الإيماني القرآني في طريقة الاستدلال وفي المقصد والهدف. فالاستدلال القرآني الإيماني أساسه الوحي والإيمان بالرسالة، ومن علوم الوحي نعرف ربنا، وقد أرشدنا القرآن إلى الدلائل العقلية، ووجه أنظارنا إلى التفكير في الكون، وهذه الدلائل دلائل فطرية قريبة المأخذ مأمونة العاقبة، والغاية التي يدعو المنهج القرآني إليها هي عبادة الله وحده لا شريك له، وعبادته متضمنة لمعرفته وتوحيده. أما عمدة المنهج الكلامي الفسلفي فهو تلك النظريات والأقيسة العقلية التي جعلوها أصولا للعقائد والتشريعات, وهذه الأدلة فيها حق وباطل, وهي سبيل وعر لا يسهل الارتقاء إليه, وقد ينقطع السالك قبل الوصول إلى مراده. وقد اقتضت الأقيسة الباطلة رد كثير من الحق الذي في الكتاب والسنة فردوا كثيرا من الأسماء والصفات بهذه الأقيسة الباطلة. والغاية التي كانوا يريدونها من وراء بحوثهم هي المعرفة الباردة، وهذا لا يكفي، فدعوة الرسل عبادة الله وحده. وهذا يفسر لنا ذلك البرود الذي نجده لدى العلماء الذين يتخرجون من كثير من الجامعات الإسلامية اليوم. ومن المناهج المخالفة للمنهج الإسلامي المنهج الصوفي الذي يفرق في التعبد ويستحدث أنماطا من العبادات لم يشرعها الله تبارك وتعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2017 وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن هذا المنهج، ففي سنن أبي داود عن أنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ((لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم)) . وقد قوم الرسول (صلى الله عليه وسلم) توجه كثيرا من أصحابه الذين أرادوا قيام الليل كله، وصيام الدهر أبدا، أو أرادوا الانقطاع إلى العبادة واعتزال النساء، أو تحريم اللحم، وبين لهم أن ذلك كله مخالف لسنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وأن من رغب عن سنته فليس منه. وجاءت الطامة الكبرى في العصر الحديث حيث قامت في ديار المسلمين دعوات أخذت تنادي بالكفر الصراح. ونبذ الإسلام والانضواء تحت رايات تعلن الحرب على الإسلام، ومن هذه الدعوات تلك التي تنادي بالعلمانية والشيوعية والبعثية. والدعوات التي تنادي بالاعتزاز بالحضارات الكافرة البائدة كالفرعونية والآشورية والبابلية، وقامت دعوات تضع مبادئ ضالة على أساس القومية والوطنية، وتحت ستار هاتين الدعوتين توضع منهاج مخالفة للإسلام تدعو الناس إلى تجمعات ضيقة تضاد الإسلام وتحاده. وقام في أيامنا فريق ينادي بتقليد العالم الغربي، والسير في الطريق الذي سار فيه، غير مفرقين بين ما يحسن أخذه، وبين ما لا يجوز أخذه، فهم يرون أننا لن ننهض حتى ننبذ ديننا، ونسير في مسار العالم الغربي ولو اقتضى الأمر أن ننسلخ من جلودنا ونلبس جلودهم، وما هذا الانبهار بالحضارة الغربية إلا ثمرة لجهل الأمة بدينها ومركزها، وهذا جعلها تنظر إلى الأمم التي غلبتها نظرة فيها كثير من التعظيم والتبجيل، وأخذت تقلد الأمم الغالبة في عوائدها، وتلك سنة من سنن الله في خلقه عقد لها ابن خلدون في مقدمته فصلا فقال: (فصل: المغلوب مولع بتقليد الغالب) . وفي الحديث في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى ولو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟.)) . وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون من قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع. قيل له: يا رسول الله كفارس والروم، قال: من الناس إلا أولئك؟)) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2018 وقد تسلم الذين صبغوا بالثقافة الغربية مراكز التوجيه في ديار الإسلام، وصبغوا الحياة فيها بالصبغة الغربية، وتأثر بهم الناشئة كثيرا. ثانيا: الفرقة التشريعية: لا نعني بالفرقة هنا الاختلاف الذي وقع بين السلف في فقه النصوص بسبب تفاوت العلماء في الفهم والإدراك، كما لا نعني به الاختلاف الناشئ عن عدم وجود نص، فهذا النوع من الاختلاف لا يسبب فجوة بين المسلمين، وقد وقع هذا النوع من الاختلاف بين الصحابة في حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولم ينكره المصطفى على أصحابه، فإنه اختلاف طبيعي، تأبي طبيعة البشر أن لا يختلف فيه. والاختلاف المذموم هو الخلاف الناشئ عن الإعراض عن نصوص الكتاب والسنة تقليدا لآراء الرجال، أو الإعراض عن النصوص اتباعا للهوى. وقد نشأت في المسلمين دعوات كثيرة تهدف –بقصد أو بغير قصد- إلى زحزحة نصوص الكتاب والسنة عن مرتبة الصدارة، ورد الأمر إلى عقول الرجال والقواعد التي أفرزتها تلك العقول. وقام في المسلمين من يدعي أن أكثر نصوص الكتاب والسنة لا تصلح للاستدلال لأنها ظواهر وعموميات لا تفيد اليقين، وأخذ هؤلاء ينادون بالرجوع إلى القواعد العقلية لأنها وحدها التي تفيد اليقين. وقام في المسلمين من نادي بالاقتصار على القرآن وحده ونبذ السنة النبوية، وسمي هؤلاء أنفسهم –زورا وبهتانا- بالقرآنيين. وكذبوا فلو كانوا قرآنيين لأخذوا بالسنة التي يلزمها القرآن بالأخذ بها، وبعض الفرق الضالة رفضت السنة رفضا كليا، وجوز أصحاب هذا المذهب على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الخطأ في غير القرآن، ومعني ذلك أن كلامه ليس بحجة، وقد خالف الخوارج والمعتزلة أهل السنة في كثير مما أجمعوا عليه، ولذلك جوزت الخوارج الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، وذهبوا إلى أن الحكم الواجب في حق الزاني هو جلد مائة جلدة، لا يفرقون بين المحصن وغير المحصن مستدلين بالقرآن ورادِّين للحديث. وذهب المعتزلة إلى رد أحاديث الآحاد مطلقا، فهم يقبلون المتواتر دون الآحاد، وإن كان في أصح كتب الحديث، زاعمين أن الآحاد ظني الثبوت والدين لا يقوم على الظن. وذهب آخرون إلى أن المفروض هو أحاديث الآحاد في العقيدة وقد زعموا أن أحاديث الآحاد ظنية والعقيدة لا تقوم على الظن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2019 وأعاد بعض المغرضين في هذا العصر القضية جذعة، فطعنوا في سنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ورواتها، وأقاموا عقولهم حكما فيما يأخذون ويدعون من سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وفريق آخر بما ليس بحجة في الدين، ومن هؤلاء الذين يعتمدون في إثبات العقائد والأحكام على الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وبذلك يقررون عقائد وأحكاما ليست من الدين وينسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله وقد حذرنا رسولنا من مثل هذا أشد التحذير، ففي الحديث الصحيح: ((من حدث عني بحديث يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين)) (1) وتوعد الرسول (صلى الله عليه وسلم) الكاذب عليه بالنار؛ فقد صح عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: ((من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) . ومن الفرقة التشريعية الافتراق بسبب التقليد، فكثير من المقلدة يرفضون الأخذ بنصوص الكتاب والسنة التي تخالف قول الإمام الذي يقلدونه بدعوى أن إمام المذهب أعلم منهم بالنصوص، وقد بلغ الأمر ببعض المقلدين إلى القول بأن كل نص يخالف المذهب فإنه إما منسوخ أو مؤول. وقد أنشأت العصبية المذهبية فرقة بين الأمة فانقسمت الأمة إلى مذاهب، كل فريق يناصر مذهبه، ويغلو في تقديس إمام المذهب، ويغض من المذاهب الأخرى وأئمتها وفقهها، ونشأ من هذا الخلاف مناظرات وصراعات وقتال في بعض الأحيان. وكان الواجب أن يبقى الخلاف في دائرة فقه النص، وأن يكون رائد الجميع الوصول إلى الحق من خلال النظر في النصوص، وأن يكون فقه العلماء السابقين ثروة تساعدنا على الوصول إلى هذا الهدف. وقد رأينا بعض التجمعات الحديثة في هذا العصر يلزم أصحابها أتباعهم بما تتبناه الجماعة. وفيما تبنته تلك الجماعة أمور مخالفة للكتاب والسنة، فإذا استمسك أحد أتباعها بما علمه من نصوص الكتاب والسنة المخالفة لرأي تلك الجماعة طردته الجماعة من صفوفها. وقد زاد بلاء الفرقة التشريعية في هذا العصر، عندما أقصيت الشريعة الإسلامية عن الحكم في ديار الإسلام، واستبدلت بها القوانين الوضعية، وحكم المسلمون في رقابهم حكم الطاغوت، ولا حول ولا قوة إلا بالله.   (1) الكاذبان: منشئ الكذب وناقله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2020 ثالثا: الفرقة السياسية: الأمة الإسلامية أمة واحدة، يجمعها إطار سياسي واحد، ويحكمها حاكم واحد، هكذا علمنا الإسلام. وافترقت الأمة الإسلامية في نهاية حكم الخلفاء الراشدين، ولكنها استردت وحدتها، وأول فرقة سياسية وقعت واستمرت كانت بعد انهيار الدولة الأموية، حيث حكم العباسيون في الشرق، وحكم الأمويون في الأندلس، ولكن لا تمض بضع مئات من السنين حتى تفرقت كلتا الدولتين إلى دول كثيرة، وقام على كل دولة حاكم وزعيم، إلا أن الخليفة بقي في عاصمة الخلافة رمزا للكيان السياسي الذي يحكم الأمة الإسلامية، ولكنه لم يكن يملك من الأمر الكثير، وكان يحكم باسمه في كثير من الأحيان، بل كان يعزل ويولي غيره بإراده الذين لا يريدون بالأمة خيرا. ثم إن الرمز الذي كان يلوح في عاصمة الخلافة زال وتلاشى، غير أن الاسم الذي يمثل الكيان السياسي للمسلمين استمر، ولم يُقْضَ عليه إلا منذ عهد قريب عندما اجتمعت على تركيا المسلمة جيوش الأعداء ومكر المنافقين، ولم يرضوا منها إلا أن تتنازل عن الشريعة التي كانت تحكم بقاياها تلك الدول، واشترطوا عليها إلغاء الخلافة الإسلامية، ومنصب شيخ الإسلام، وما تركوها حتى غيروا الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية. ووضعوا القبعة فوق رؤوسهم بدل العمامة، وسلخوا الولايات الإسلامية التي كانت تابعة لدولة الخلافة، وتجزأ العالم الإسلامي إلى دول كثيرة ضعيفة هزيلة، ونالت هذه الدول استقلالها ولكنها لم تنهض من كبوتها، ولم تملك زمام الأمور في بلادها. وهذه الطريقة التي سلكها أعداؤنا معنا طريقة قديمة معروفة، استخدمها المستعمرون منذ ألوف السنين، فقد ذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) أن الإسكندر المقدوني اليوناني عندما غلب على ملك الفرس (دارا بن دارا) وأذل مملكته وخرب بلاده، واستباح بيضة قومه، ونهب حواصله، وفرق شمل الفرس شذر مذره، وضع خطة تبقي الفرس ضعفاء لا تقوم لهم قائمة، كي يبقي له السيطرة عليهم ويأمن من انتفاضتهم عليه ومحاربتهم له، يقول ابن كثير موضحا ما فعله هذا الرجل الداهية بالفرس: (عزم أن لا يجتمع لهم بعد ذلك شمل، ولا يلتئم لهم أمر، فجعل يقر كل ملك على طائفة من الناس في إقليم الأرض ما بين عربها وعجمها، فاستمر كل ملك منهم يحمي حوزته، ويحفظ حصته، ويستغل محلته، فإذا هلك قام ولده من بعده، أو أحد قومه، فاستمر الأمر كذلك قريبا من خمسمائة سنة، حتى كان أزدشير بن بابك من بني ساسان بن بهمن، فأعاد ملكهم إلى ما كان عليه، ورجعت الممالك برمتها إليه، وأزال ممالك الطوائف، ولم يبق منهم تالد ولا طارف .... ) (1)   (1) البداية والنهاية 2/ 183. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2021 قارن بين ما فعله الإسكندر في الماضي البعيد بما فعله الكفار بدولتنا الإسلامية تجد التخطيط واحدا والنتائج واحدة، بل إن الحال معنا أشد وأقسي، فإننا لم نعط الاستقلال إلا بعد أن أخذت علينا العهود والمواثيق بأن لا نعود إلى تحكيم الشريعة الإسلامية، ولا نقيم الكيان السياسي الإسلامي، كتب اللورد كرومر في الفصل الأخير من كتابه (مصر الحديثة) الصادر في سنة 1908م (إن انجلترا كانت مستعدة لتمنح الحرية السياسية النهائية لكل ممتلكاتها المستعمرة حالما يكون جيل من المفكرين والسياسيين المشحونين بمثل الثقافة الإنجليزية عن طريق التربية الإنجليزية مستعدا للاضطلاع بالأمور، ولكن الحكومة الإنجليزية لن تسمح بحال من الأحوال بقيام دولة إسلامية مستقلة، ولو للحظة واحدة) . أثر إثارة النعرات والعصبيات في الفرقة السياسية ولا يفوتني –قبل أن أنهي الحديث عن الفرقة والاختلاف- أن أتعرض إلى مرض خطير كان ولا يزال يعمل على تفتيت وحدة المسلمين السياسية، ألا وهو العصبيات التي تثور بين الفينة والفينة في المجتمعات الإسلامية. إن الإسلام جعل الرابطة التي تجمع المسلمين وتوحدهم هي الإسلام. وقد قامت دولة الإسلام على أساس الجامعة الإسلامية، وانصهرت في بوتقة هذه الجامعة العصبية للجنس واللون والوطن والنسب، وأصبح التنادي بين المسلمين للتجمع على أساس غير أساس الرابطة الإسلامية يعد دعوة جاهلية مقيتة، فقد قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأبي ذر عندما عير رجلا بسواد أمه: ((إنك امرؤ فيك جاهلية)) وقد حذر الرسول (صلى الله عليه وسلم) من هذه العصبيات المقيتة، ففي حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((من قتل تحت راية عمية يدعو لعصبية، أو ينصر عصبية فقتله جاهلية)) . أخرجه مسلم والنسائي. وفي سنن أبي داود عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)) . وعندما اختلف رجلان من المهاجرين والأنصار فتناديا يا للمهاجرين، يا للأنصار، وهب كل فريق لنصرة صاحبه، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((ما هذا؟ أدعوى أهل الجاهلية؟)) رواه مسلم في صحيحه. وفي رواية أخري عند مسلم: ((دعوها فإنها منتنة)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2022 إن الإسلام لا يلغي الانتماءات للأوطان والقبائل والشعوب، ولكنه لا يسمح أن تجعل لغير ما أراد الله له، إن حكمة الله اقتضت تقسيم البشر إلى شعوب وقبائل للتعارف لا للتفاضل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . (1) إن الآصرة التي تجمع المسلمين هي الإسلام، وفي ظل هذه الآصرة تتجمع القبائل والشعوب، وسعي المرء في شأن قومه وأهله من الفضائل التي يحمد الإسلام أصحابها، ولكن الإسلام لا يرضي أن ينصر المرء قومه أو بني عشيرته/ أو الذين يشاركونه في اللون محقين أو ظالمين، إن الإسلام قبل مقولة أهل الجاهلية (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) ولكنه رفض التفسير الجاهلي لهذه المقولة، وأعطى تفسيرا مضادا لتفسير الجاهلية، ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ((لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه، فإن له نصر وإن كان مظلوما فلينصره)) . إن نصرة المرء قومه عصبية لهم جريمة كبرى في المجتمع الإسلامي، في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((من نصر قومه على غير حق، فهو كالبعير الذي ردي في مهواة، فهو ينزع بذنبه)) والمهواة: الحفرة من الأرض، وكل مهلكة مهواة، والتردي الوقوع من علو. وقد ثارت العصبيات في القرن الأخير، وحطمت الرابطة الإسلامية والدولة الإسلامية، فدعا الأتراك إلى التركية، والأكراد تنادوا إلى الكردية، وفعل مثل ذلك البربر والعرب، ثم جاءت الدعوة إلى الأوطان، فكل قوم يعيشون على بقعة من الأرض أقاموا عصبية منتمية إلى تلك البقعة، وقامت دعوات تدعو إلى الاعتزاز بالفرعونية والآشورية والفارسية، وقطع الترك كثيرا من الحبال التي كانت تربطهم بالإسلام، وأصبح العالم الإسلامي على الصورة الكئيبة التي نراها عليه اليوم.   (1) الحجرات: (13) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2023 طريق الارتقاء بالأمة الإسلامية إذا كانت الفرقة هي طريق الانحطاط، فإن الوحدة هي سبيل الارتقاء وتبوء المكانة الفاضلة من جديد. والوحدة الإسلامية على أساس من الإسلام أمل القلوب المسلمة الصادقة في كل مكان، ذلك أن الإسلام، يغذي أتباعه دائما وأبدا بأنهم إخوة في دين الله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} . (1) ، ويجعل الأمة الإسلامية أمة مترابطة ترابط الجسد الواحد، ففي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) وفي رواية أخرى عند مسلم: ((المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه، اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه، اشتكى كله)) . وشبههم في حديث آخر بالبنيان المرصوص، ففي صحيح مسلم عن أبي موسي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)) . فالأحاديث تصور المجتمع الإسلامي بالجسد الواحد الذي يخفق فيه قلب واحد، وتسري فيه روح واحدة، ويتأثر كل عضو فيه بما يصيب بقية الأعضاء، أو هو كالجدار الذي تجتمع لبناته لتشكل فيما بينها واحدة متماسكة متراصة. أصول الوحدة الإسلامية: ونحن إذ ننادي بالوحدة الإسلامية لا نريدها وحدة على غير أصول، لا نريدها وحدة تجمع شتاتا مختلفا متناقضا، إنما نريدها وحدة صادقة تقوم على أصول قوية ثابتة، ويلخص هذه الأصول قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} . (2) وسنحاول أن نبرز أهم الأصول التي تقوم عليها وحدة الأمة. الأصل الأول: الانتماء للإسلام دون سواه: العالم اليوم بحر محيط يموج بالدعوات والأفكار، وتقوم هذه الدعوات على مناهج ونظريات أتعب أصحابها أنفسهم في تزيينها وتزويقها، ويجب أن يجهد دعاة الإسلام أنفسهم في الدعوة إلى نبذ جميع المذاهب والمبادئ التي غزت ديار المسلمين وعقولهم وعلي الدعاة أن يحصنوا المسلمين ضد هذه السموم التي تبثها مختلف وسائل الإعلام صباح مساء.   (1) الحجرات (10) (2) آل عمران: (103) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2024 لقد فقد كثير من أبناء المسلمين اليوم هويتهم، ومسخت شخصيتهم بفعل التضليل المستمر الذي يمارسه شياطين الجن والإنس بمختلف الوسائل، وسبيلنا للوحدة الصادقة هو الدعوة إلى الالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة، والاعتزاز بالانتساب إلى هذا الدين، ونبذ كل ما يخالفه ويضاده، وهذا النهج هو نهج أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، الذي حرص على إقراره في بنيه وذريته، وهو المنهج الحق الذي أمرنا الله بالتزامه، وحكم على من أعرض عنه بالسفه والضلال، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالي: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . (1) هذه هي ملة إبراهيم، وهي توحيد الخالق جل وعلا بعبادته وحده لا شريك له، وإقامة الحياة وفق منهج الله، والاعتزاز بهذا المنهج وإقراره في واقع الحياة، ورفض المبادئ المنحرفة الضالة التي اخترعها البشر وجعلوها أديانا يقيمون حياتهم وفقها، ويعتزون بالانتماء إليها. إن الإسلام منهج حياة، والعبودية لله معلم كبير في حياة المسلم، والمسلمون وفق هذا المنهج والفهم يشكلون أمة واحدة في مقابلة التجمعات البشرية. والمسلم الصادق يعتز بالانتساب إلى الإسلام {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . (2) فقد نص على أن أفضل الناس هم الذين يعلنون انتسابهم إلى الإسلام. وكثير من المسلمين اليوم فقدوا انتماءهم، فأخذوا يبحثون عن عقائد ومذاهب وأقوام ينتسبون إليها، وآن لنا أن نرفع الراية التي كان أسلافنا ينتسبون إليها، ألا وهي الإسلام، لا راية الأوطان، أو الأقوام أو الأحزاب أو التجمعات الضالة. التوحيد والانتساب إلى الإسلام ملة إبراهيم، وقد أمر الله رسوله باتباع ملة إبراهيم: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} . (3) . ونحن أولى الناس بإبراهيم بعد أتباعه {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (4)   (1) البقرة: (130-133) (2) فصلت: (33) (3) النحل: (123) (4) آل عمران: (68) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2025 الأصل الثاني: توحيد مصدر الهداية: والأصل الثاني توحيد مصدر الهداية، وهذا لازم للأصل الأول، فما دمنا قد آمنا بأن هذا الدين من عند الله، أنزله لهداية البشر للتي هي أقوم، فيجب أن نحل هذا الدين في المرتبة التي يستحقها في هذا المجال. إن جميع الدعوات والمذاهب والأديان التي يموج بها عالم اليوم يدعى أصحابها أنهم يملكون إكسير السعادة، وهداية البشر للتي هي أقوم، ونحن نقول كما علمنا الله أن نقول: {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} . (1) إن مصدر الهداية الوحيد كتاب الله وسنة رسوله، واتباع أهل الكتاب، وأصحاب الدعوات الباطلة يقود إلى الردة والكفر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . (2) ومتي فقهنا هذه الحقيقة التي قررها قوله تعالى: {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} . (3) وفرنا على أنفسنا جهودا كثيرة في تلمس الهداية في الكتب السماوية المحرفة، وفي نظريات البشر وأفكارهم المتضاربة المتعارضة، وسرنا في الطريق المرسوم، ندعو البشر إلى طريقنا، ونحاكم أفكارهم وعقائدهم ومبادئهم إلى موازين الإسلام، وإذا ما جاؤوا يعرضون بضاعتهم علينا رفضناها، لأننا نعلم أن في بضاعتهم دخنا، وهم لا يرضون عنا حتى ننسلخ من ديننا ونأخذ دينهم {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} . (4) وقد وقف الرسول (صلى الله عليه وسلم) في وجه تلمس الهداية من الأديان المحرفة بقوة، وشدد التنكير على من ذهب هذا المذهب، ففي مسند أحمد عن عبد الله بن جابر قال: ((جاء عمر إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله، إني مررت بأخ لي يهودي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . قال عبد الله بن ثابت: قلت له: ألا ترى وجه رسول الله؟ فقال عمر: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا. قال: فسري عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال: والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين)) .   (1) آل عمران: (73) (2) آل عمران: (100-101) (3) آل عمران: (73) (4) البقرة: (120) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2026 ولذلك فإننا ننظر –اليوم- بكثير من الريبة والحذر إلى ما يسمي بمؤتمرات التقريب بين الأديان والتي تعقد في شتى أنحاء العالم ويحضرها علماء مسلمون وغير مسلمين يبحثون في الالتقاء والتقارب بين الإسلام والنصرانية، ويبحثون في إزالة سوء التفاهم بينهما. إننا نرفض هذه المؤتمرات، لأنها تضع الإسلام الدين الحق والنصرانية الدين المحرف الباطل في مرتبة سواء، ونرفضها لأن الإسلام جاء مهيمنا على النصرانية وغيرها من الأديان، وليس هناك مجال للتقريب بين دين محرف مغير مبدل والدين الحق. إننا نقف في مجامع النصارى لا لنقرب بين دينهم الباطل وديننا، وإنما لنقول لهم: دعوا هذا الدين، ودعوا الشرك بالله والكفر به، وتعالوا إلى الدين الذي بشر به موسى وعيسى، دين الله الخاتم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. إننا نعد قبول العلماء المسلمين بحضور هذه المؤتمرات انحرافا يضر بهم وبدينهم وعقيدتهم، ولا ينفع إلا الذين قالوا اتخذ الرحمن ولدا، لأنهم بذلك يجرجروننا إلى باطلهم، ويوقعوننا في شباكهم. ففي شهر أبريل سنة 1974 عقد مؤتمرا من هذا النوع في باريس التقي فيه علماء مسلمون ورجال فكر أوربيون للبحث في التقارب بين الإسلام والمسيحية، وزار الوفد الإسلامي الفاتيكان وألقي هناك محاضرتين، وقد مهد لهذا المؤتمر منذ عام 1972، وقد وصفت الصحف هذا المؤتمر بأنه مهم. وفي شهر سبتمبر من العام نفسه 1974 انعقد المؤتمر الإسلامي المسيحي في مدينة (قرطبة) وقد كانت مهمة المؤتمر تقريب وجهات النظر بين العالمين المسيحي والإسلام، ودراسة تزايد موجة السعي من أجل إزالة الخلافات وسوء الفهم الذي قد يكون قائما بين الدينين بالنسبة للمعنيين بالأمر والرأي العام. وفي شهر نوفمبر من ذلك العام كان المؤتمر المسيحي الثالث في مدينة (تونس) . وقد عقد مؤتمر إسلامي في مدينة لاهور في باكستان في ذلك العام في شهر فبراير 1974 ومع كونه إسلاميا في الظاهر إلا أنه قد حضره ممثلون من نصارى لبنان، وقد أشاد المؤتمر بالتعاون الإسلامي المسيحي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2027 وهذه المؤتمرات لم تكن الأولى ولا الأخيرة فقد عقد قبلها مؤتمرات وبعدها مؤتمرات على النمط نفسه. وقد تحدث عن شيء من بلايا هذه المؤتمرات الكاتب العلامة الباحث الدكتور محمد محمد حسين في كتابه (حصوننا مهددة من داخلها) ص (321) عندما كشف عن زيف ودجل المؤتمر الإسلامي المسيحي الذي دعت إليه جامعة برنستون ومكتبة الكونغرس الأمريكي في صيف عام 1953 ونشرت قسما من بحوثه مؤسسة فرانكلين الأمريكية كما كشف الدكتور الأهداف الخبيثة لذلك المؤتمر. إن الذين يؤمون تلك المؤتمرات لا يدركون الدسيسة والمكيدة التي أوقعهم أعداؤهم فيها، وآخرون يعلمون ذلك ولكنهم يريدون بالإسلام والمسلمين شرا، وعندما يوجه إليهم اللوم لا تكون إجابتهم إلا كإجابة إخوانهم من قبل: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} . (1) ، وذلك بالتقارب بين الإسلام والمبادئ البشرية، وقد فضح القرآن هذا الصنف من الناس، وبين هؤلاء أتباع الطواغيت همهم إفساد البلاد والعباد وصد الناس عن دين الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} . (2) إننا نعلن لبني قومنا أن الهداية من الضلال لن تكون في غير الكتاب والسنة، وهذا ليس تقولا من أنفسنا، ولكنه صريح كلام الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ففي الموطأ عن أنس بن مالك وفي المستدرك للحاكم عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما كتاب الله، وسنة رسوله)) .   (1) النساء: (62) (2) النساء: (60-63) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2028 الأولى: لا يجوز طلب الهداية من الأديان المحرفة والمذاهب الباطلة وقد أسلفنا القول في هذا الموضوع. الثانية: وهذا لا يعني أنه لا يجب علينا دراسة هذه المذاهب والأديان لبيان عوارها والرد عليها، ويدلنا على صحة هذا مناقشة القرآن لأهل هذه المذاهب والأديان، وقد ألف علماؤنا مؤلفات كثيرة في هذا المجال. الثالثة: أن العلوم الدنيوية في المجالات المختلفة كالطب والهندسة يجب علينا دراستها والاستفادة من جهود البشر فيها، ولا تدخل دراستها في المحذور. الأصل الثالث: وحدة العقيدة: لا يمكن أن تقوم وحدة المسلمين ما لم تجمعهم عقيدة واحدة، والعقيدة تشكل في البناء الفردي والاجتماعي القاعدة التي تقوم عليها الأعمال والعلاقات والأخلاق، فإذا كانت العقيدة مشوهة أو مزورة فإن البناء لا يستقيم، ولا يكاد البناء يواجه الأعاصير والفتن حتى ينهار، بل إن البناء قد لا يقوم من أساسه، وقد شهد عالمنا العربي والإسلامي مزيدا من الفرقة والانقسام، والعقائد الموروثة والحادثة كثيرة، وقد انتشرت في الأمة الإسلامية انتشارا كبيرا، وانقسمت الأمة بناء على ذلك في التقديم والحديث إلى فرق وجماعات، وقام بينها العداء والخصام والحروب. قد يقال: من أين تأتي العقيدة الإسلامية التي تصلح للم شتات المسلمين؟ الجواب: أن العقيدة الإسلامية الصافية منصوص عليها في الكتاب والسنة، ويمكن التدليل على كل أصل من أصولها، أو جزئية من جزئياتها، ثم إن السلف الصالح الذين استقاموا على عقيدة الإسلام الحق دونوا هذه العقيدة تدوينا يميزها عن عقائد أهل الفرق والضلال، ومن هؤلاء العلامة الطحاوي دون عقيدة عرفت باسمه، شرحها محمد بن محمد بن محمد بن أبي العز الحنفي، ولم يقف الأمر عند هذا، فقد دون العقيدة الصحيحة كثير من العلماء من قبله وبعده، منهم الإمام أحمد وابن تيمية، والشوكاني، والإسفرائني وغيرهم. وأحب أن أنبه إلى أن هذه العقائد قواعد تعصم من الخطأ في مجال الاعتقاد وهناك لون آخر من العقيدة، يبعث العباد إلى العمل بما جاءهم من عند الله، مخلصين دينهم لله، وهذا اللون هو الذي يجعل المسلم قوة حية متحركة عاملة، وهذا اللون من العقيدة حتى يعطي ثماره لا بد من دراسته من خلال النصوص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2029 الأصل الرابع: جعل الكتاب والسنة محور الدراسة ومصدر التشريع: لا بد أن تعود المكانة الكبيرة للكتاب والسنة، فقد كانا محور الدراسة والتعليم والتشريع، ولا يجوز استبدالها بآراء الرجال، ولا يجوز إلغاؤهما بحجة أن الفقه الذي دونه الأئمة يكفى في هذا الجانب. ليس معني ذلك أننا نلغي فقه الأئمة فذلك وهم، بل نري أن فقه الأئمة هو محاولة دائبة لفقه الكتاب والسنة، فنحن ندرس الكتاب والسنة، وندرس كيف فَقِهَ علماؤنا النصوص، واستنبطوا منها الأحكام، أما الفقه المجرد الذي لا يصطبغ بالكتاب والسنة، فإنه يبعدنا عن النبع الأصيل. ولا يجوز إقصاء الكتاب والسنة عن دائرة الدراسة والفقه، بحجة أن ذلك مهمة المجتهد وحده، ولا شك أن هذا مزلق خطر، فإن الذي يدرس الكتاب والسنة لن يكون عالما بهما، ولكن ليس كل من درس آيات وبضع أحاديث أصبح عالما يحق له الإفتاء. إن مثل العالم وطالب العلم مثل الطبيب ودارس الطب، فطالب الطب يعطي العلم الذي يؤهله لعلاج الناس وإجراء العمليات الجراحية لهم ولكنه لا يؤذن له في العلاج وإجراء العمليات في السنة الأولى التي يدرس فيها الطب، غير أنه يترقى في ذلك حتى يحصل قدرا صالحا من العلوم الطبية، ثم يتدرب على أيدي المتخصصين من الأطباء الكبار، ثم يمارس مهنة الطب، وقد يواصل دراسته وتنمو خبرته بعد ذلك حتى يستقل في بعض القضايا وتصبح له نظرة اجتهادية يستقل بها عن غيره، ولو منعنا طلاب الطب بعد تخرجهم عن العلاج والممارسة لما كان هناك أطباء كبار. وعالم الشريعة عليه أن يدرس الشريعة من مصادرها، وأن يتفقه في هذا الدين، ويدرس العلوم الخادمة لعلم الشريعة ومن ذلك علم اللغة العربية، ثم لا يزال يترقى في هذا المجال حتى يبلغ مبلغ العلماء المؤهلين. وهذا الطريق ليس بالطريق الصعب المستحيل، ولذلك لا يجوز صد الناس عن السير في طريق العلم الشرعي، كما لا يجوز لمن كان في البدايات أن يُنَصِّبَ نفسه عالما ومفتيا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2030 الفصل الخامس: إقامة دولة الإسلام وإرجاع الخلافة الراشدة: لا يمكن أن تنتهي فرقة المسلمين السياسية إلا بإقامة دولة إسلامية راشدة تقيم فينا دين الله وشرعه، وتحكمنا بالإسلام، وتقيم فينا وفي العالم موازين الإسلام وقيمه، وتسمع العالم صوت الله، فتقيم بذلك الحجة على العالمين، وتقوم بواجب البلاغ الذي كلفنا به، وتحمي حمى الإسلام وتحرس هذا الدين، كما تحمي ديار الإسلام، وتحفظ حرمات المسلمين، وترد كيد الكائدين، وترفع الظلم عن المظلومين، وترد هذا البلاء الذي رمانا به أعداء الإسلام، هذا البلاء الذي جعلنا في ديار المسلمين أذلة، نخشى إن قلنا كلمة الحق أن تقطع منا الرؤوس، وتسلب منا الأموال، ويؤذى أهلنا وأحبابنا، إن دولة الإسلام هي المؤهلة لرد هذا البلاء الذي جعل ديار الإسلام مرتعا لأعداء الإسلام، فصالوا وجالوا من غير رقيب وحسيب. لقد قسموا ديارنا فجعلوها دولا، وجزؤوا أمتنا فجعلوها أمما، بعد أن كنا دولة واحدة وأمة واحدة، إننا نريد دولة الإسلام كي نتوحد في ظلها، لنعود مرة أخرى دولة واحدة وأمة واحدة، تختفي في ظلها النعرات الجاهلية، والعصبيات المقيتة التي فرقت شملنا، وأذهبت قوتنا، وملكت منا الأعداء. أنا أدرك أن إقامة الدولة الإسلامية لا يتحقق بمجرد الأماني، وأن الطريق إليه ليس مفروشة بالورود والرياحين، وأن الطريق إلى تحقيق ذلك تعترضها عقبات جسام، أنا أعلم أن قيام الدولة الإسلامية يقتضي من المسلمين أن يبذلوا في سبيل تحقيقها أوقاتهم وأموالهم وأنفسهم، وأن يرضوا بالتشريد حينا من الدهر، كما يرضوا بالعذاب والسجون، فإن لإقامة الدولة ضريبة وأية ضريبة، ذلك أن دولة الإسلام تبطل مخططات خصوم الإسلام، التي عملوا على تحقيقها دهرا طويلا، بحيث جعلت لهم السيطرة على بلادنا وشعوبنا ومقدراتنا، وتبطل امتيازات المسلطين في ديارنا، كما تبطل مصالح الطبقة التي تأخذ ما تأخذ بالباطل، فإذا جاء الإسلام وأعمل حكم الله أوقف نهب ثروات الشعوب وسوى بين المسلمين وحكم بالعدل، وجعل العزة لله، ومن هنا يحرص أعداؤنا والظلمة المسلطون علينا أن يخنقوا صوت الإسلام. الذي ينادي بالعودة إلى إقامة خلافة راشدة تحكِّم شرع الله، وتقيم دين الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2031 أنا أعلم أن الصعوبات هائلة والعقبات كثيرة، واقتحامها لا يكون بمؤتمر يعقد، ولا اجتماع يتبادل فيه الرأي، ولا بمحاضرة تلقى، ولكننا مع ذلك كله ننادي بإقامة هذه الدولة، ونوقن أن أبناء الإسلام الذين رضوا بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا سيقدمون الثمن، ثمن إقامة الدولة الإسلامية، وهذا الذي سيقدمونه ليس أمرا مندوبا إليه، يمكن أن يقوم به المسلمون كما يمكن أن يغضوا الطرف عنه، فالعقيدة الراسخة في أعماق قلوبنا، والتي تشكل فينا قاعدة الدين الذي رضينا به، كما تعتبر بحق أساس الإسلام والإيمان لا ترضى أن نعيش هكذا من غير راع يرعى المسلمين، ولا دولة تنتظم أمورهم، وتحرسهم، وترفع صوت الله لتسمعه العالم أجمع، إن عقيدتنا تقول لنا: إن الله هو حاكم هذا الكون، الكون كله: أرضه وسمائه، بره وبحره، حيوانه ونباته، نجومه وشمسه وقمره، وكذلك هو الحاكم للتجمعات البشرية فوق ظهر الكرة الأرضية، والفرق بين البشر وغيرهم أن البشر يتحاكمون إلى شرع الله باختيارهم، أما بقية الكائنات فإنها لا تستطيع أن ترفض أمر الله، فالله يريدنا أن نتخذه إلها وربا وحاكما ونرضى بذلك، ونخضع لعظمته ونرضى بشريعته، لأنه خالقنا ورازقنا ومحيينا ومميتنا، وإليه مآبنا، فهو المستحق لأن يجعل حاكما، والله لا يرضى منا حتى نقيم دولة الإسلام التي تسلم مقاليد الحكم إلى الذين يجعلون التشريع لله تعالى، وتنبذ الطواغيت والظلمة الذين اعتدوا على سلطان الله ونازعوه في حكمه وقضائه، وقد قرر الإسلام بصورة واضحة هذه القضية {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} . (1) . فالحكم لله والعبادة لله، ولا تجوز منازعة الله في حكمه، ولا يجوز صرف شيء من ذلك لغير الله، فالإيمان بالله يقتضي تحكيم شرع الله، ونبذ حكم الطواغيت والكفر بها {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} . (2) . فكل من ادعى الإيمان بالله فعليه أن يكفر بالطاغوت، فإن ادعى أنه مؤمن وهو يرضى بحكم الطاغوت فقد تناقض في دعواه، ووقف موقفا يتعجب منه، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} . (3)   (1) يوسف: (40) (2) البقرة: (256) (3) النساء: (60) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2032 إن المسلم لا يقف عند حد الكفر بالطاغوت، بل يتعدى ذلك إلى مصارعة الطاغوت ومغالبته وإقصائه عن مشاركة الله في حكمه {الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} . (1) والطواغيت هم الذين نصبهم الناس، أو نصبوا أنفسهم آلهة ينازعون الله في حكمه، فالقول قولهم والأمر أمرهم، وكلمتهم هي العليا، وشرعهم هو المتبع، وقد يصل الحال إلى السجود لهم وعبادتهم، والله لا يرضى أن يشاركه أحد في حكمه {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} . (2) ، أي لا يرضي أن يشاركه أحد في حكمه، وفي القراءة الأخرى: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} . (3) ، أي لا تشرك أيها المؤمن مع الله غيره في حكمه، والقراءتان معناهما متلازم، وقد جعل الإسلام التحاكم إلى غير شرع الله تحاكما إلى الجاهلية {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . (4) . وحكم على الذين لا يحكمون شرعه المنزل ودينه العظيم بالكفر والظلم والفسق {ووَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ .... فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ .... فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . (5) هذه القضية (الحكم لله) عقيدة عند المسلمين، ولا يمكن تحقيق هذه العقيدة إذا بقيت مقاليد الحكم في عالم البشر بأيدي الطواغيت: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . (6) . إننا لا نستطيع تحقيق الإيمان إلا بإقامة دولة الإسلام التي تقيم شرع الله في كل شئون الحياة. وعقيدتنا تجعل الإيمان بالرسالات السماوية وخاتمها الإسلام دافعا إلى إقامة الدولة الإسلامية، ذلك أن طبيعة هذا الدين توجب إقامة الدولة الإسلامية، لأن هذا الدين منزل من عند الله العلي القدير، والله لا يرضى أن تسود مناهج البشر وشرائع البشر عالَمَ البشر ويقصى دينه وشريعته، لقد أنزل الله دينه من أول يوم ليكون هو الأعلى {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} . (7) . وقد قرر الحق أن طبيعة هذا الدين تأبى أن يخفت صوته، وتطمس معالمه، وتعلوه كلمة البشر {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} . (8) . وأوجب على المسلمين الجهاد والقتال حتى ترتفع كلمة الله، وتكون الدينونة لله الواحد الأحد {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} . (9) .   (1) النساء: (76) (2) الكهف: (26) (3) الكهف: (26) (4) المائدة: (50) (5) المائدة: 44، 45، 47 (6) النساء: (65) (7) التوبة: (33) (8) التوبة: (40) (9) البقرة: (193) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2033 ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا إذا قامت دولة الإسلام، فجعلت الهيمنة في عالم البشر لهذا الدين، وهذه هي المهمة الكبرى المناطة بالدولة الإسلامية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله تعالى إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) والمؤمنون، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ) . (1) . وعقيدتنا تلزمنا بإقامة الدولة الإسلامية، لأن إقامة الدولة أحد أحكام الشريعة الإسلامية، والشريعة الإسلامية هي التي تحقق العقيدة في واقع الحياة، فالدين ليس مجرد عقيدة تبقى حبيسة في صدور أصحابها ولكنها حياة دافعة تتحرك في الصدور وتنبعث بها النفوس، ثم تتشكل في إطار يحكم الواقع وحياة البشر، وبذلك فإن الشريعة التطبيق الواقعي للعقيدة، ولا تزال تلح العقيدة على صاحبها كيما يجاهد، ويناضل لإيجاد الصورة العملية التي تقتضيها تلك العقيدة.   (1) الذاريات: (56) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2034 مرحلة المخاض تحدثنا فيما سبق عن المكانة الفضلى التي رفع الله إليها هذه الأمة بدينه المنزل ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، ثم بينا كيف انحطت هذه الأمة عن مكانتها بسبب فرقتها، وعقبنا على ذلك بالحديث عن الوحدة التي يمكن أن تعيد للأمة الإسلامية عزتها من جديد. ولكن يبقى أمر في غاية الأهمية، وهو الحديث عن الطريق التي تؤدي إلى بناء الأمة الإسلامية من جديد. وأول ما يتبادر إلى الذهن في هذا هو الطريقة التي سلكها الرسول (صلى الله عليه وسلم) في بناء الأمة الإسلامية، والعالم بسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) يجد أنه عليه السلام كان يعنى بالدعوة إلى الله في وسط الكفار، فمن استجاب منهم لاحقه بالتربية والتقويم حتى يصبح لبنة صالحة، وكان هؤلاء يشكلون فيما بينهم وحدة مترابطة متعاونة، تعلم أن مهمتها هي تغيير مجرى الحياة الإنسانية، ولقد أوذيت هذه الفئة أذى شديدا وعذبت في دين الله، وهجرت الأوطان للبحث عن مكان آمن يقيهم الطغيان. وفي هذا الوقت أخذ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يبحث عن مكان صالح لإقامة دولة الإسلام، فكان يعرض دعوته على القبائل مطالبا إياهم بنصره وحمايته حتى يبلغ دعوة الله، وكانت المهمة شاقة وصعبة، ولكن الله هدى بعض أهل يثرب إلى الإيمان بدعوة الإسلام، وانتشر فيهم الإسلام وهاجر الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحبه إلى المدينة، وكانت هذه الهجرة إيذانا بميلاد الأمة الإسلامية، وقيام دولة الإسلام الأولى، وهنا تحول المضطهدون الصابرون على الظلم والأذى إلى مقاتلين، يدفعون الشرك والمشركين بالكلمة كما يدفعونهم بالسيف والرمح، ولم يزل شأن الدولة الإسلامية يعلو حتى هيمن الإسلام على العالم كله، وأطاح بعرش كسرى، وأسقط تاج قيصر، وكان الدين لله. واستمر الوجود السياسي الممثل في الخلافة الإسلامية قائما، كلما سقطت رايته في جانب من جوانب العالم قام في جانب آخر، وكان العلماء والدعاة يسددون الحكام ويقومونهم، وكان الحكام يقتربون من الإسلام ويبتعدون عنه بنسب متفاوته ولكن الإسلام بقي باستمرار هو الدين الوحيد المهيمن على حياة المسلمين، والشريعة الإسلامية هي القانون الذي يتحاكم المسلمون إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2035 وآخر كيان سياسي جامع للمسلمين هو الدولة العثمانية التي انهارت على أيدي اليهود والصليبيين في الربع الأول من القرن العشرين، وكان انهيارها نتيجة محتمة في سنة الله، ذلك أنها أصيبت بأمراض وعلل كثيرة جعلتها ضعيفة في مواجهة أعدائها، ولو بقيت قوية قوة الجبال الرواسي لما عصفت بها الفتن، ودمرتها الرياح. لا يكفي في تقويم الدولة العثمانية أن يدلل الباحثون على أن حكامها كانوا صالحين، وأن آخرهم وهو السلطان عبد الحميد كان مخلصا للإسلام، فهناك علل في الأمة كلها وفي السلطان نفسه تجعل استمرار تلك الدولة في الوجود مخالفا لسنة الله التي سنها في عباده. لقد كانت تلك الدولة تمثل الإسلام، ولكن في الإسلام الذي كانت تمثله دخنا كثيرا في العقائد والسلوك والعلاقات، ودخل الترف حياة الحكام وأغرقوا فيه، وتزلزلت أركان العدل في كثير من ولايات الدولة الإسلامية وانتشرت الفرق الصوفية التي جعلت الإسلام عبارة عن أذكار ورقص وأكل وقعود عن الجهاد، وكان القائمون على الدولة لا يجاهدون لإعادة الأمة الإسلامية إلى المستوى الراقي الذي يحققه الالتزام بالإسلام، بل كان الحكام في كثير من الأحيان يعاقبون المصلحين الذين يحاولون إصلاح الفساد الذي غرقت فيه الأمة الإسلامية. فكانت سنة الله تقضي بأن تنهار هذه الدولة، وعلى الرغم من المأساة الكبرى التي حلت بالمسلمين بسبب انهيارها، إلا أن هذا الانهيار كان ضروريا لا بد منه، واليوم وقد مر على انهيار الخلافة نصف قرن تقريبا ننظر إلى ما أصاب المسلمين في هذا النصف من المآسي والبلايا فنألم، ولكننا نرى من خلال الآلام والمآسي روحا بدأت تسري في الأمة الإسلامية تهدف إلى إعادة مجد الإسلام وعزه من جديد. وشكلت هذه الروح تيارا إسلاميا ناميا، وقد أصبح هذا التيار واضحا ظاهرا، وسر هذا التيار الإسلامي نفوس الموحدين، وأقر أعينهم وساء هذا التيار أعداء الإسلام فارتفعت عقيدتهم محذرة من الخطر الداهم، والمارد الذي بدأ يتململ في قيوده، وهو يوشك أن يخرج من محبسه ويفك أغلاله. ولكن هذا التيار لم يبلغ مبلغا يعيد فيه عزة الإسلام، وينهض بالأمة إلى المستوى الذي كانت تتبوؤه، ولا يزال العلماء والمفكرون المسلمون منذ سقوط الخلافة وإلى اليوم مختلفين في الطريقة التي نعيد بها عز الإسلام ومجده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2036 عندما زالت الخلافة في تركيا، ظن بعض الأخيار أنه يكفي أن ينصب حاكم من حكام المسلمين خليفة كي تعود المياه إلى مجاريها، ويأخذ القوس باريها والسهم نابله، وغفل هؤلاء عن أن الذين أسقطوا الخلافة كانوا لا يزالون يسيطرون على مقاليد الأمور وهم لا يسمحون بإعادة الخلافة مرة أخرى بعد أن بذلوا جهودا هائلة غير مشكورة في هذا السبيل. وبعض دعاة الإسلام ظن أنه يمكن أن يخدم الإسلام ويقيم بناءه إذا انضوى تحت لواء القيادات التي تهمين على مقاليد الحكم في دياره، وفي سبيل تحقيق هذا تنازل عن شيء من الإسلام، فقصر دعوته على الصلاة والصوم والزكاة والحج وبعضا من أخلاق الإسلام، وأعرض عما لا يوافق أهواء أولي الأمر، وهذا ركون للظالمين، وتضييع للإسلام وقد حاول الكفار جاهدين أن يحرفوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن المنهج الذي دعا إليه، بحيث يتفقون معه على حل وسط، فجاءه الوحي من السماء محذرا: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} . (1) . وفي هذا أنزل الله {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} . (2) . وقام في الأمة علماء ومصلحون، وظن هؤلاء أن نشر العلم والتفقيه في الإسلام وبيان المشكلات التي تحيط بالأمة الإسلامية كاف في إعادة مجد الإسلام وعزه، وغفل هؤلاء عن أن الذين يفقهون ويتعلمون ويعرفون من المسلمين يبقون أوزاعا متفرقين لا يشكلون تيارا يصارع الباطل والطغيان. وقام آخرون بإنشاء الصحف الإسلامية والمجلات الإسلامية، ويحاول آخرون إنشاء إذاعات إسلامية، ومهما انتفع الناس بما تكتبه الصحف والمجلات، وما تبثه الإذاعات، فإن الفائدة محدودة؛ لأن الذين لا يريدون للمسلمين أن يفقهوا هم أصحاب الكلمة في الديار التي أنشئت فيها هذه الصحف والمجلات والإذاعات، وهؤلاء يحجبون كلمة الحق، ويمسخونها، ثم إن الذين يتأثرون بذلك كله لا يشكلون وحدة فيما بينهم، وبذلك تبقى قوتهم مشتتة متفرقة، لا تستطيع أن تهدم بناء معارضا للإسلام، كما لا تستطيع إقامة بناء الإسلام. وأفضل الرواد هم الذين تنبهوا إلى أن الخطوة الأولى في إقامة صرح الأمة الإسلامية من جديد تتحقق بإقامة تجمع يؤمن بهذه القضية، يسعى في سبيل تحقيقها باذلا في ذلك النفس والمال.   (1) الإسراء: (74- 75) (2) هود: (113) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2037 وفعلا قامت تجمعات كثيرة في العالم الإسلامي تنادي بالعودة إلى الإسلام وانضوى تحت لواء كل منها ألوف وعشرات الألوف، واستطاعت هذه التجمعات أن تؤثر في حياة المسلمين، لكن واحدا منها لم ينجح في إعادة الأمة إلى مكانتها من جديد. ولا شك أن بناء الجماعة التي تأهل إلى استلام الراية يحتاج إلى بناء مبدع، لأن الخلل في البناء يؤخر النجاح، بل قد يفشله. هناك تجمعات لا تعنى بتربية أفرادها، وتظن أن كل مهتمها هو إقامة الخلافة فإذا قامت الخلافة، فإن الخليفة سيقضي على الباطل بجرة قلم وسيقيم صرح الحق بمنشور أو بيان. الدكتور عمر سليمان الأشقر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2038 مجالات الوحدة الإسلامية وسبل الاستفادة منها إعداد الحاج شيت محمد الثاني بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على النبي الكريم، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد: فيا أيها الإخوة الأعزاء السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: إن أصدق الحديث كتاب الله سبحانه وتعالى وإن خير الهدي هدي سيدنا (محمد صلى عليه وسلم) . وبعد: فلقد اخترت أن أكتب في هذا الموضوع لما له من أهمية بالغة في عصرنا الحاضر وللأمل في أن يكون علاجا لأمتنا الإسلامية التي تفككت أواصرها وتبعثرت كلمتها وتفرقت وحدتها وتمزق شملها وضعف صوتها كل هذا وهكذا لأننا بعدنا عن الدين ولأننا تركنا مباديء الإسلام وجعلنا دستورنا غير القرآن فللأسف كنا على ما نحن عليه يقتل المسلم أخاه المسلم ويخذل المسلم أخاه المسلم. وتألب الأعداء على المسلمين، فصدق فينا قول النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث يقول: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل: أومن قلة نحن يومئذ؟ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن، قال قائل يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)) . حديث عن ثوبان، رواه أبو داود والبيهقي في دلائل النبوة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2039 فما أحوجنا إلى علاج الإسلام ودواء القرآن والعمل بشريعة الله السمحة الغراء فهذا بلا شك سبيل المجد والارتقاء، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} . (1) . صدق الله العظيم فإن الأمة الإسلامية التي ينتسب إليها الإسلام في هذا المجال هي الأمة التي تتعامل بالإسلام ولا يجوز لمن ينتسب إلى الإسلام أن يقاطع أخاه بسبب القبيلة أو سبب السياسة، والأمة الإسلامية أمة واحدة فإن مظاهر وحدة الأمة الإسلامية كثيرة وهي متشابكة لا مثيل لها أبدا لأن كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله هي أصل الوحدة، ومتى قالها الإنسان كان من هذه الأمة وما دام خارج دائرتها فليس منها، ومتى أسلم الإنسان وجهه لله على ملة رسول الله فقد تحقق إسلامه وتحرر من القتل لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى)) . رواه البخاري ومسلم. لأن النبي قال: ((من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله ورسوله)) . رواه البخاري. إن تاريخ المسلم لا يرتبط بطين الوطن ولا بصباغة اللون ولا بلغة الجنس الذي ينسب إليه الناس وتاريخ المسلم الذي ينتسب إليه ويعتز به هو تاريخ الإسلام وعقيدته التي يلقى الله عليها قوله تعالى: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . (2) وقانون الأمة الإسلامية ودستورها هو القرآن الكريم والسنة الطاهرة ولا يجوز أن يكون للمسلمين قانون ودستور يخالف شرع الله.   (1) الانبياء: (92) (2) البقرة: (136) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2040 إن الأمة الإسلامية لها قائد واحد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي له على المسلمين فرض الطاعة، فإذا ما انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى فإن على المسلمين اختيار وانتخاب خليفة له يقيم شريعة الله، فمن الواجب على المسلمين أن يوجدوا دار العدل وأن يقيموا خلافتهم ثم يبدأوا عملهم ويحاربون الحكومة الكافرة ويحررون الأرض السليبة ثم ينساحون في الأرض حتى يخضعوها لسلطان الله ويستردوها من أيدي الغاصبين ولا يعني ضعفنا الحالي الاستمرار فيه بل يفترض علينا أن نحاول سد العجز الموجود عندنا إما من ناحية العتاد أو الرجال أو التدريب والسلاح إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فإن على المسلمين عامة وعلى مسلمي كل قطر خاصة أن يجعلوا قطرهم دار عدل وأن يتحدوا ليشكلوا وطنا واحدا بشكل معقول ويرضى المسلمين، ويكون لكل ولاية دستورها الإسلامي وأن يكون ذلك كله مستمدا من الكتاب والسنة، ويكون بذلك توفير الرجال المفكرين الإسلاميين ووحدتهم على الأسلوب الوحيد في كل مجال من مجالات الدعوة الإسلامية والتبليغ في الكتابة والخطابة والتحدث والنقاش في العمل الإسلامي وكل ذلك بحاجة إلى الأسلوب الحسن الذي يصيب الهدف ويبلغ القصد. إن الإسلام ووحدة الأمة الإسلامية في هذا الزمان بحاجة إلى الرجال المفكرين من الذين يحسنون عرض أفكارهم ومبادئهم بأسلوب شيق جذاب يبشرون ولا ينفرون ويحسنون ولا يسيئون، وكم من أدعياء شوهوا الإسلام بسوء دعوتهم له وأساؤوا إليه وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2041 ومن هنا كانت وظيفة الدعاة ورجال المفكرين لوحدة الأمة الإسلامية خطيرة جدا ومسؤولياتهم كبيرة، ولهذا وجب على الأمة الإسلامية أن تتوافر عناصر الواقعية والإيجابية والاتزان في أساليب الدعوة، ويقول الله تعالى في آخر سورة النحل آمرا نبيه الكريم بالتزام الحكمة في دعوة الناس قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} . (1) وفي سوره آل عمران يشير القرآن الكريم إلى فوائد الرفق واللين في كسب الأنصار والمؤيدين وانطلاق الدعوة ويقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} . (2) .صدق الله العظيم. فإن منهج مجالات الوحدة الإسلامية وهو مفهوم في الفكر الإسلامي، وأما الفكر فهو الجهود العقلية المبذولة في محاولة فهم الإسلام من مصدريه: الكتاب والسنة فالعلماء المسلمون في كل عصر يقبلون على القرآن الكريم، وعلى السنة المطهرة ويأخذون منهما ما يفهمون، لأن مجال التفكير في الكتاب والسنة فهم إسلامي فبه يصيب المفكر والمجالات في وحدة الإسلامية حيث لا ينتسب إلى الإسلام الذي أنزله اللطيف الخبير. فإذا أردنا أن نتعرف على صحة الفكر والمجالات في الوحدة الإسلامية واستقامتها عرضناها على كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) فإذا وافق الفكر ما جاء فيهما كان فكرا إسلاميا أصيلا، وهل يستطيع المفكر المسلم أن يعي حقائق العبادة دون أن يدرك حقائق العقيدة؟ وهل يستطيع أن يتفهم حقائق المعاملات دون أن يدرك العقيدة والعبادة ودورهما في السلوك الإنساني؟ فإذا كان ما في الكتاب والسنة موجها إلى الإنسان وإذا كان هذا الإنسان كلا متكاملا فإنه لا يستطيع أن يفصل عقله عن قلبه ولا قلبه عن جوارحه ولا موضوعات الكتاب والسنة بعضها عن بعض، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فمعرفة المعبود جل جلاله وما يتعلق بذلك ومعرفة كيفية الصلاة والعبادة التي تنظم الشعائر وشؤون الحياة من أخلاق ومعاملات ونظم سياسية واجتماعية واقتصادية جاء مفصلا في الكتاب والسنة، فالعامل على غير ما يريد يفسد أكثر مما يصلح، وفي الحكم من سلك طريقا بغير دليل ضل، ومن تمسك بغير أصل ذل، وروي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ((الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها)) . وقوله عليه الصلاة والسلام ((خذوا الحكمة من أي وعاء خرج)) .   (1) النحل: (125) (2) آل عمران: (159) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2042 فلتتمة هذا الجانب الثقافي والتربوي نرى ضرورة إنشاء المدارس الإسلامية لأطفال المسلمين ومدارس تحفيظ القرآن الكريم، وإصدار النشرات والمجلات والصحف الإسلامية الأسبوعية والشهرية بعيدة عن الصور الخليعة والفساد. وأن تقوم حكومتنا الإسلامية بتشجيع المسلمين على إقامة المساجد في المدارس والكليات والمصانع والمتاجر وإلى غير ذلك من كل مجمع الناس محافظة على هذا الركن الأول العظيم من أركان الإسلام الخمس والتي هي - الصلاة لأنها أول ما يسال عنه العبد يوم القيامة أمام الله فإن صلحت صلح عمله كله وإن فسدت فسد عمله كله كما ورد ذلك في الحديث النبوي الشريف، وكذلك الحرص على تشجيع الشباب المسلم والشابات المسلمات على الزواج المبكر صونا لهن من الانحراف والفساد وتطهيرا لأذهانهن عما قد شاع لديهن من الزواج المتأخر الذي ورثناه من الاستعمار الغربي المنحرف. وعلى الجانب الاقتصادي للإسلام والحمد لله النظام الاقتصادي الإسلامي مستقل عن النظام الاقتصادي في العالم، ونظام الاقتصاد في الإسلام يقوم على أساس التعبد لله تعالى لانبثاقه عن الشريعة الإسلامية لقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) فالاقتصاد الإسلامي قائم على الإنتاج وتنمية الثروة بطرق مشروعة وتبادل المصالح والمنافع دون إلحاق ضرر بأحد أو بعبارة أخرى يهدف الاقتصاد الإسلامي إلى تحقيق التوازن بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية على السواء. فعلى الأمة الإسلامية وحكومتها أن يجعل الإعلام الإسلامي نصب عينها قواعد الشعب الإسلامي العريضة فيخاطب الشباب بلغته ويعرض قضاياه ومشكلاته، ويخاطب الفتاة المسلمة ويتعرف على مشكلاتها واهتماماتها ويخاطب الطفل المسلم ولا يغفل المرأة المسلمة، ولا الرجل الطاعن في السن، وبذلك تقبل ملايين المسلمين في كل أرض على تلك الصحف والمجلات، وأن تبرز الصحف الإسلامية شعار الإسلام واضحا جليا كما ورد في القرآن الكريم: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} . (1) صدق الله العظيم. وقد فرض الإسلام على كل مسلم ومسلمة أن يؤدي صلواته خمس مرات كل يوم إماما كان أو مؤتما، وأن يؤذن ويقيم ويكبر ويهلل ويتشهد وكل هذه العبادات باللغة العربية ورتب فيها ثوابا جزيلا لكل من يقرأ القرآن الكريم باللغة العربية سواء فهم معناه أو لم يفهم. الحاج شيت محمد الثاني   (1) الأنبياء: (92) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2043 الوحدة الإسلامية والتعامل الدولي إعداد فضيلة الشيخ/ محمد علي التسخيري بسم الله الرحمن الرحيم تقول المادة الحادية عشرة (من دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية) ما يلي: (إن المسلمين هم أمة واحدة وذلك بحكم الآية الكريمة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} . (1) وعلى حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن تقيم سياستها العامة على أساس ائتلاف واتحاد الشعوب الإسلامية، وأن تواصل جهودها من أجل تحقيق وحدة العالم الإسلامي في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية) . وسيشتمل حديثنا على بحوث: البحث الأول: الترابط في الإسلام والأمة: نحاول في ما يلي التدرج في عرض الترابط على النحو التالي: أ - الترابط الكوني من وجهة نظر الإسلام. ب- الترابط بين مكونات الإسلام. ج- الترابط بين قطاعات الأمة المسلمة وأفرادها.   (1) الأنبياء: (92) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2044 أ- الترابط الكوني من وجهة نظر الإسلام: إذا كان التعريف الأحدث للفلسفة يصورها على أنها (عملية تحديد موقف) فإن الإسلام يمنح الإنسان أروع فلسفة كونية، وأركز تحديد موقف له من الواقع وإذا كانت فلسفة (هيغل) (المثالية جوهرا والواقعية ظاهرا) تدَّعي الترابط وتتمحله على ضوء خلطها بين عالم الذهن وعالم الواقع، وإذا كانت الفلسفة الماركسية تدعي لنفسها أنها اكتشفت (الترابط الكوني) في ظل قوانين (المادية الديالكتيكية) التي كانت تتصيد لها من التاريخ وبعض القوانين العلمية والآراء الفلسفية ما يقوم دليلا على مدعاها - ولكنها تفشل فشلا ذريعا - في ذلك وعلى كل الأصعدة، نعم إذا كانت هاتان الفلسفتان تكشفان الترابط في جزء من الكون كشفا مهزوزا، فإن الإسلام في نظرته العامة يحق له أن يعرض الترابط ليس بين كل أجزاء هذا الكون المادي المحسوس فحسب، بل بين كل أجزاء الكون (الطبيعة وما فوقها) ليكون الكون كله مرتبطا تمام الارتباط فيما بينه في نفسه وبالله خالقه العظيم، وهذا التصور الشامل ينسجم تمام الانسجام مع تطلعات الفطرة الإنسانية ومع المنطق الموحد الذي يثبته الإسلام وتهدي إليه الفطرة الإنسانية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2045 بين الكون والله: يردد المسلم في مطلع كل أمر يقوم به، وفي مطلع كل سورة يتبرك بقراءتها عبارة جميلة رائعة المدلول هي عبارة (بسم الله الرحمن الرحيم) ولئن كان متعلق الجار والمجرور فيها محذوفا، فإنه يشكل تعبيرا حيا عن إطلاق المتعلق، وهو يعني أن كل شيء على الإطلاق قائم باسمه تعالى ومتعلق به ومرتبط به ارتباطا وثيقا، بل وجود كل الكائنات لا يتجاوز كونه وجودا تعليقا. أي هو التعلق والارتباط بعينه إذ هو لا شيء مع زوال الارتباط.. ولئن جاء الوصفان الرائعان (الرحمن الرحيم) فلكي يعبرا عن إطار صدور كل الكائنات وانبثاقها منه وباسمه ضمن إطار الحركة الإلهية التي وضعت كل شيء. وهذا الإطلاق في القدرة والرحمة والخلق والقيمومة تعرضه لنا آيات قرآنية كريمة. منها قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} . (1) {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . (2) . {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . (3) {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} . (4) الترابط بين عالم الغيب وعالم الشهادة: إن الإسلام ركز في خلد المسلم هذا الترابط بأساليب مختلفة، فالمسلم يعتقد بأن القوانين المؤثرة في الكون لا تختص بالقوانين المادية أبدا. فالاستغفار والتوبة وصلة الرحم والصدقة واتباع الحق والإيمان كل ذلك مؤثر في عالم الطبيعة تمام التأثير. يقول هود عليه الصلاة والسلام مخاطبا قومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} . (5)   (1) الأعلى: (1-5) (2) لأعراف: الآية (54) (3) آل عمران: الآيات (26-27) (4) الشورى: (49-50) (5) هود: الآية (52) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2046 وبنفس هذا المضمون يخاطب نوح قومه. وعلى هذا الإسلام يقوم جزء واسع من التشريع الإسلامي. ولا ننسى أن نشير إلى أن أعظم ترابط واقعي حياتي يندرج في هذا الإطار وهو الترابط بين عالم الدنيا وعالم الآخرة إلى الحد الذي يعين الأول طبيعة الثاني تماما. بين المخلوقات أنفسها: وعلى أساس من ذلك الارتباط القويم للمخلوقات بالله تعالى قام الارتباط التبعي بين الموجودات كلها.. فهي كلها مسخرة بأمره. وهي كلها تسبحه تعالى من موجودات شاعرة وغيرها. {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . (1) {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} . (2) {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} . (3) والشيء الرائع في التصور الإسلامي لهذا الترابط هو هذا التسخير الكامل لصالح الإنسان باعتباره الموجود الأروع والقابل لأن يكون خليفة الله في الأرض، وليكون الهدف الأسمى الذي سخرت له الموجودات لكي يواصل مسيرته نحو الكمال. وهذه الحقيقة واضحة في الآيات التالية: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . (4) {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} . (5) {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} . (6) {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} . (7)   (1) الحديد: الآية (1) (2) الرعد: الآية (13) (3) الإسراء: الآية (44) (4) لقمان: الآية (20) (5) الجاثية: الآية (13) (6) إبراهيم: الآيات (32- 33) (7) النبأ: الآيات (6-16) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2047 وعلى ضوء هذا التسخير الطبيعي لصالح الإنسان تنقلب نظرته للطبيعة من عدو يبغي الصراع معه وانتزاع القوت منه انتزاعا إلى عملية استئناس بها وقيام على إعمارها وإحيائها يؤطر ذلك حب طبيعي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم عند رجوعه من غزوة تبوك وأشرف على المدينة فقال: ((هذه طابة، وهذا جبل أحد، يحبنا ونحبه)) (سفينة البحار) بين أبناء الإنسانية: وهنا تقوم الروابط على أسس قويمة من وحدة المنطلق، ووحدة الشعور الواعي، ووحدة الهدف. فالكل خلق الله، والكل من نفس واحدة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} . (1) . والكل يمثلون الموجود المكرم {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} . (2) . وما كان هذا الاختلاف بين الطوائف الإنسانية إلا للتعارف: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} . (3) . فلا مسوغ لأي تعال عنصري لوني أو جنسي أو مكاني أو نسبي أو غير ذلك ما دامت تلك الوحدة قائمة، بل المجال الوحيد للتفاضل هو التقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . (4) . وهكذا تقوم وحدة إنسانية كبرى تؤسسها هذه النظرة الأخوية الشاملة، وتعبر عنها آيات كريمة. منها: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . (5) وعلى هذا الأساس جاءت التعليمات السامية ومنها ما في هذه الآية المباركة: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} . (6) والآية المباركة: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} . (7) . ومن هنا يكتب الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى عامله على مصر الأشتر النخعي قائلا له: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق..) (نهج البلاغة ص 427) .   (1) النساء: الآية (1) (2) الإسراء: الآية (70) (3) الحجرات: الآية (13) (4) (الحجرات: الآية (13) (5) الممتحنة: الآية (8) (6) المائدة: الآية (32) (7) المائدة: الآية (8) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2048 الروابط الداخيلة: وإذا تجاوزنا الروابط العامة بين أبناء الإنسانية نصل إلى مراحل أخرى للترابط هي أضيق من سابقته: كالترابط الوثيق القائم بين الرجل والمرأة من حيث وحدة الأصل، ومن حيث وحدة القدر عند الله، وتكافؤ الفرص في العمل في سبيل التكامل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} . (1) . {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} . (2) {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} . (3) . وكذلك الترابط القائم بين الآباء والأبناء وغير ذلك. أما الترابط بين أبناء العقيدة الواحدة فهو ترابط وثيق سنتحدث عنه في القسم الثالث من هذا البحث إن شاء الله. ب- الترابط بين مكونات الإسلام: استعرضنا مظاهر الترابط العام في تصور الإنسان المسلم بين موجودات الكون وها نحن نتعرض باختصار إلى الترابط الداخلي في الإسلام (أي بين جوانبه المختلفة) وإن من يدرس الإسلام بعمق ثم يلقي نظرة تجريدية عليه يجد أن الإسلام تصميم هندسي متكامل، يرتبط كل جزء فيه بالجزء الآخر، ويحتل كل عضو فيه محله الطبيعي، ولا يستطيع أي جانب أن يؤدي دوره المطلوب على الوجه الأكمل إلا في ظل الصيغة العامة للكل. وتشكل العقيدة الأساس الرصين الذي يشع روحا في كل الأبنية الفوقية، والتمهيد اللازم للأرضية الصالحة تماما للأشكال العلوية؛ ذلك أن العقيدة الإسلامية تبتني عليها طائفة كبيرة من التصورات الإسلامية عن مختلف الشؤون الحياتية تدعى (المفاهيم الإسلامية) وهي بدورها تشكل أساسا لمجموعة من العواطف الإسلامية. ويمثل الشهيد آية الله الصدر لهذا الترابط فيقول: (ففي ظل عقيدة التوحيد ينشأ المفهوم الإسلامي عن التقوى القائل: إن التقوى هي ميزان الكرامة والتفاضل بين أفراد الإنسان، وتتولد عن هذا المفهوم عاطفة إسلامية بالنسبة للتقوى والمتقين وهي عاطفة الإجلال والاحترام) (اقتصادنا ج 1 ص 271) . وكذلك يمكننا أن نقيم مختلف فروع الأخلاقية الإسلامية على أسس تصورية تنشأ في ظل العقيدة الإسلامية. فالتضحية مثلا يمكن أن تبنى على أساس مفهوم الجزاء الأوفي المبني على عقيدة المعاد وهكذا. ولكن العقيدة والمفاهيم والأخلاق تشكل كلها الأرضية الصالحة للمذهب الاجتماعي الإسلامي في الحياة.   (1) النساء: الآية (1) (2) الروم: الآية (21) (3) آل عمران: الآية (195) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2049 أمثلة من الترابط بين المكونات: وها نحن نذكر بعض أوجه الترابط - على نحو الإجمال: 1- الارتباط بين النظام السياسي ودور الحاكم الشرعي (الإمام المعصوم أو الولي الفقيه) ، وبين التشريع الاقتصادي وذلك لكي يقوم بملء منطقة الفراغ المتروكة له على ضوء الظروف المتطورة ووفق القواعد العامة، وكذلك الارتباط بينهما وبين النظام الجنائي والسياسة المالية للدولة. 2- ارتباط النظام الاقتصادي بمجموعة من العواطف التي يصوغها الإسلام في نظامه الأخلاقي: كعاطفة الأخوة العامة. 3- ارتباط مختلف المذاهب الاجتماعية بالعقيدة الإسلامية وتأثيرها الكبير في تنفيذ تلك التشريعات والالتزام بها. 4- ارتباط إلغاء الربا وأحكام الإسلام الأخرى في المضاربة والتكافل العام والتوازن الاجتماعي. وغير ذلك. ج- الترابط بين قطاعات الأمة المسلمة وأفرادها: وانطلاقا من واقعية الإسلام التي رأى فيها أن النظم المتعددة لن تستطيع أن تقود الإنسانية إلى هدفها الكمالي المنشود، وأن التعدد الشعوري والتعدد في المقاييس لن يستطيعا مطلقا أن ينسجما مع الهدف الواحد الذي أراده الله للإنسان وإلا فالحروب متوقعة، والمصالح متحكمة، ولا مخلص ولا مناص، وانعكاسا لذلك الترابط العام في التصور والتشريع فقد دعا الإسلام إلى تكوين الأمة المسلمة الواحدة التي يفترض فيها أن تضم كل الأرض وتوجه كل الأرض (ليكون الدين كله لله) ، فهي الأمة النموذجية قبل الانتصار الكامل، وهي واسطة العقد الاجتماعي وهي الشاهد على كل الأمم وبعد الانتصار هي الأمة المسلمة التي تعمل على أن تصل إلى أكمل الدرجات من خلال تطبيق تعاليم الإسلام الخالد. وعلى هذا كان الترابط الحقيقي هو المقوم التالي من مقومات الأمة الإسلامية بعد الإيمان العميق النافذ إلى المشاعر. فإذا فقدت الأمة إيمانها النافذ، فقدت شخصيتها، وكذلك إذا فقدت ترابطها، فقدت شخصيتها المميزة لها والتي عملت في فترة التطبيق الإسلامي الأول على إذابة كل الفروق المصطنعة بين المسلمين، وشدتهم إلى بعضهم حتى أعطتهم صفة الأخوة في الله تعالى، وهي أروع صفة تعبر عن الشد القوي في إطار الله، وكذلك أعطتهم صفة الأعضاء في جسد واحد من حيث اشتراك كل المكونات في القيام بالوظائف المطلوبة لتحقيق الهدف العام وذلك بتناسق وتخطيط دقيق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2050 المبحث الثاني المظاهر العامة لتركيز هذا الارتباط في ذهنية الأمة ويمكننا أن ننتظم هذه المظاهر في خطوط عامة هي: الترابط الشعوري: فقد عمل الإسلام على الصعيدين النظري والعملي على خلق ترابط إحساسي بين كل أفراد المسلمين، بحيث يشعر كل مسلم بآلام الآخرين من أبناء أمته، ويفرح لفرحهم، ويهتم لحل مشاكلهم ويعتبرها من مشاكله بالصميم. فعلى الصعيد النظري جاءت الروايات الكثيرة التي تؤكد على أن هذا الشعور هو شرط الإسلام الحقيقي وأن الذي لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، وأن المسلم عليه أن يتفاعل شعوريا مع المسلمين: فيسلم على عباد الله الصالحين، ويدعو للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. إلى غير ذلك مما لا مجال لعرضه مفصلا. هذا على الصعيد النظري أما على الصعيد العملي فقد وجدنا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) ، والقادة من أهل البيت الكرام عليهم السلام، والصحابة المنتجبين، يقدمون أروع الأمثلة على هذا الترابط الشعوري، وكل سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) مصداق لذلك فلا نحتاج إلى عرض الأمثلة. الترابط عبر المقاييس الواحدة: وواضح أن المقياس عندما يتوحد فإنه يوحد ظروف تطبيقه، وما ضاعت الأمم وما تفرقت إلا لأنها اختلفت مقاييسها التي بها تتبين طريقها، وعليها تبني خطواتها ... وإذا رجعنا إلى المقاييس المادية وجدناها مقاييس متفرقة بطبيعتها فسواء أكان المقياس هو المصلحة المادية، أو التوفرات العنصرية.. أو المؤهلات الطبقية وما إلى ذلك من مقاييس مادية. فإن من الطبيعي أن تختلف المصالح الضيقة، أو المؤهلات العنصرية والطبقية وغير ذلك، وحينذاك فالناتج هو الصراع الدموي العنيف والهلاك، أما لو رجعنا إلى مقياس الإسلام الثابت لوجدناه المقياس الوحيد الذي يستطيع أن ينفي كل ذلك وذلك هو رضا الله تعالى {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} . (1) نعم أكبر من كل مقياس، والحاكم على كل شيء وغيره، ورضا الله تعالى يمكن في اتباع شريعته الموحدة، والسير على الحق والعدل وفق تصورات الإسلام لهما. والآن لنتصور الإنسانية وهي تضع هذا المقياس نصب عينيها ثم لنلاحظ هذه المآسي التي نشاهدها اليوم. إن هذا المقياس كما ينظم تطبيق الإسلام وسيرة الأمة القانونية يحرك المناقبية العامة ويصبها في قالب منسجم مع ذلك التطبيق. وذلك ما يعبر عنه بـ (الحب في الله والبغض في الله) .   (1) التوبة: الآية (72) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2051 وهكذا تقوم كل المقاييس في حياة الأمة المسلمة على ذلك المقياس مما يخلق ترابطا تذوب عنده كل أنواع الترابط الكاذب سواء كانت تلك الأنواع روابط قومية أو عنصرية أو مصلحية أو جغرافية أو غير ذلك.. ومن العجب العجاب بل من المنطقي إلى حد بعيد أننا لاحظنا أن تلك المقاييس خلقت في المجتمع الإنساني اليوم نزعة اللا انتماء إلى أي مقاييس اللهم إلا إلى مقياس (اللا مقياس واللا انتماء) فقط. الترابط عبر العبادات: العبادات مظهر جميل أخاذ من مظاهر الارتباط بين الله والعبد. وبين العباد أنفسهم. فهي إلى جنب ربطها الفرد والمجتمع بالله تعالى، وإلى جنب تأثيراتها النفسية الكبرى، تؤثر الارتباط والشعور بالوحدة. فالمسلم أينما كان يقف في أوقات واحدة نسبيا، وفي جماعة حسية تعبر عن المجمع العالمي للمسلمين وتجسده، ويقوم بأعمال تربي فيه الخشوع والخضوع والعقيدة النافذة والترابط بعدها، ويتجه مع إخوته جميعا إلى قبلة واحدة، ويردد نشيدا مقدسا واحدا يسبح به الله تعالى ويحمده، إلى غير ذلك. وهكذا يبدو لنا نوع رائع من أنواع الترابط، بل أروع نموذج تتصوره الإنسانية للترابط في عملية الحج الكبرى بما لا يحتاج إلى كثير شرح وتفصيل، إلا أننا نشير هنا إلى وحدة المركز الذي يطوف حوله الحجاج كتعبير إيجابي عن لزوم جعل هذا المركز مطاف الحياة كلها، والعمل على أن يكون مطاف الأرض كلها بما يجسده من تعبيرات مقدسة، في حين يقف المسلمون في مكان آخر ليرموا رمز الشر المتمثل في الجمرات المتعددة إشارة إلى خطوات الشيطان وسبله المختلفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2052 الترابط عبر الحقوق المشتركة: زخرت كتب الروايات بالأخبار الكثيرة المتواترة إما لفظا وإما معنى بحقوق المسلم على المسلم، وهي لو روعيت تمام المراعاة لعادت على المسلمين بروابط قوية لا يمكن أن يفصمها فاصم. وقد ذكر صاحب كتاب (الأخلاق) (السيد عبد الله شبر رحمه الله تعالى) هذه الحقوق مستمدا إياها من النصوص الشرعية وهي: 1- أن يحب للكافة ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه. 2- أن لا يؤذي أحدا من المسلمين بقول أو فعل. قال (صلى الله عليه وسلم) : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) . 3- أن يتواضع لكل مسلم ولا يتكبر عليه. 4- أن لا يسمع بلاغات الناس بعضهم على بعض ولا يبلغ بعضهم ما يسمع من بعض. 5- أن لا يزيد في الهجر لمن يعرفه أكثر من ثلاثة أيام مهما غضب عليه. قال (صلى الله عليه وسلم) : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) . 6- أن يحسن إلى كل من قدر منهم إن استطاع. 7- أن لا يدخل على أحد إلا بإذنه. 8- أن يخالط الجميع بخلق حسن، ويعاملهم بحسن طريقته 9- أن يوقر المشايخ ويرحم الصبيان. قال (صلى الله عليه وسلم) : ((ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا)) . 10- أن يكون مع كافة الخلق مستبشرا طلق الوجه رقيقا. 11- أن لا يعد مسلما بوعد إلا ويفي به. وهكذا يصل بها إلى ستة وعشرين حقا وهي في الحقيقة بعض الحقوق. ترى لو أن المسلمين جميعا طبقوا هذه الحقوق فهل يصلون إلى ما هم عليه اليوم؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2053 الترابط في المجال الاقتصادي: والدارس للاقتصاد الإسلامي المذهبي يجد بوضوح أن هذا المذهب يشكل دعامة كبرى من دعائم الترابط العام بين كل القطاعات المسلمة. وها نحن نشير إلى ظاهرتين في هذا المجال كمثال يوضح ما نقول. أ - ظاهرة الملكية العامة: فالاقتصاد الرأسمالي إذا كان يعتبر الملكية الخاصة هي الأصل والملكية العامة الاستثناء، والاقتصاد الماركسي يعتبر الأمر على العكس، فإن المذهب الاقتصادي الإسلامي يتميز بأنه يقول بالملكية المزدوجة العامة والخاصة ولكل منهما مساحتها الخاصة بها وملكية الأمة هي جزء مهم من الملكية العامة في الإسلام حيث إن الأرض التي تفتح عنوة بالجهاد تكون ملكا للمسلمين جميعا - على الرأي الأشهر- من هو حاضر ومن سيولد بعد دون أن تورث. فالمسلمون على هذا الأساس شركاء في ملكية الكثير من الأراضي، وإليهم وإلى مصالحهم يعود ريع تلك الأرض. ب - ظاهرة التكافل الاجتماعي: وهي المبدأ الذي يفرض فيه الإسلام على المسلمين فرضا كفائيا كفالة بعضهم البعض. ففي حديث عن الإمام الصادق (ع) (أيما مؤمن منع مؤمنا شيئا مما يحتاج إليه وهو يقدر عليه - من عنده أو من غيره - أقامه الله يوم القيامة مسودا وجهه مزرقة عيناه، مغلولة يداه إلى عنقه، فيقال هذا الخائن الذي خان الله ورسوله، ثم يؤمر به إلى النار) . هذا وإن هذه الروح لتشع في كل جوانب التشريعات الاجتماعية الأخرى في الإسلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2054 الترابط عبر المسؤولية المتبادلة لتطبيق أحكام الله تعالى: ونعني بذلك مضمون ما ورد من أحاديث تؤكد على عاملي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وأن بهما قوام الأمة وبقائها. وكذلك الأحاديث المباركة التي تؤكد على عموم المسؤولية الاجتماعية من قبيل: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) وغير ذلك فإنها تجعل كل مسلم على في أي أرض كان، وبأي مستوى كان مسؤولا عن كل ما يقع من انحراف، وكل توانٍ في المسيرة الإسلامية الصاعدة. فعليه أن يواصل الدفع من جهة، ويرفع العقبات التي أمامها من جهة أخرى. وفي ختام هذا الفصل لا بد لنا من أن ننصت إلى كلام الله الحكيم وهو يخاطب المسلمين جميعا بعبارة (يا أيها الذين آمنوا) ويمنحهم التصور المطلوب عبر لفظ واحد للجميع فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} . (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} . (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} . (3) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} . (4) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} . (5) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} . (6) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} . (7) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} . (8) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} . (9) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} . (10) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} . (11) وهكذا يصف القرآن الأمة المسلمة بالصفات العامة: فهي الأمة الخليفة، والوسط والشاهدة، والمسلمة لله تعالى، والشديدة على الكفار، والرحيمة فيما بينها، والكريمة غير المهانة، والمنفقة، والمتقية، وغير المتشبهة بالكفار، والصابرة المرابطة القائمة بالقسط، والمعادية للكفار، والمقيمة لشعائر الله، والمجتنبة للخمر والميسر، وغير الخائنة، والراكعة الساجدة، والعابدة ربها الذاكرة له، وهكذا تتوالى هذه الأوصاف لتحدد معالم هذه الأمة، وتنتهي بها إلى موقف موحد تماما، وتجعلها (خير البرية) .   (1) البقرة: الآية (254) (2) آل عمران: الآية (102) (3) آل عمران: الآية (156) (4) آل عمران: الآية (200) (5) النساء: الآية (135) (6) النساء: الآية (144) (7) المائدة: الآية (2) (8) المائدة: الآية (90) (9) الأنفال: الآية (27) (10) الحج: الآية (77) (11) الأحزاب: (41) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2055 مجالات الوحدة الإسلامية مجالات الوحدة الإسلامية: يمكننا أن نتصور المجالات التالية للوحدة الإسلامية: 1- المجال العقائدي. 2- المجال التشريعي. 3- الموقف السياسي. أما المجال العقائدي: فمن الضروري والأولى قبل كل شيء أن تتذكر قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} . (1) . فهذه الآية الكريمة تدعو للبحث عن نقاط الالتقاء مع أهل الكتاب وهي بكل وضوح وأولوية تدعو لتأكيد المسلمين على نقاط الالتقاء العقائدية ثم العمل على تجليتها وتوضيحها بروح كلها موضوعية وإخلاص للعقيدة، ثم التحرك إلى نقاط الاختلاف وتسرية تلك الروح الموضوعية إليها فإذا تم الوفاق فنعمت النتيجة وإلا عذر كل منا الآخر فيما اقتنع به. ومن الجدير بالذكر هنا أن هناك أصولا عقائدية لا تسامح فيها وهي تشكل الحدود الفاصلة بين العقيدة الإسلامية والأخرى اللا إسلامية فيجب أن تتوضح تماما وتقاس عليها كل الأقوال. بعد هذا نقول: إن المساحة العقائدية المشتركة بين الفرق الإسلامية واسعة واسعة بحيث لا نلمح الاختلاف إلا لماما، ولا نراه إلا متواريا خلف تلك المساحة الواسعة. ولا ننسى هنا أن نقول: إن الاتفاق على الأصول العقائدية الرئيسية (التوحيد، النبوة، المعاد) أدى إلى وحدة رائعة في المسلمين إلى الحياة، وتكون مفاهيم مشتركة للإنسان والحياة والتاريخ، بل وتركت هذه النظرات العامة أثرها الجيد على الاتجاهات التشريعية الفقهية المخططة للحياة على ضوء المصادر الإسلامية الأصيلة.   (1) آل عمران: الآية (64) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2056 ثانيا المجال التشريعي: ورغم أن احتمالات الاختلاف كثيرة في المجال الفقهي إلا أن الاحتياطات التي اتخذتها الشريعة سواء في تعيين المنابع الأصيلة بالكتاب الكريم والسنة الشريفة أو في تحديد أصول الاستفادة من هذه المنابع، هذه الاحتياطات لم تترك مجالا واسعا للاختلاف رغم كونه طبيعيا في موارد كثيرة نتيجة وجود أسبابه التي يذكرها علم الأصول المقارن. ومن هنا نجد أن المساحة الفقهية المشتركة تتجاوز أعلى حد متصور مما يمكن معه القول: إن التحديدات التشريعية الأصلية وتفريعاتها المهمة مشتركة بين المسلمين وهذا لا يتنافي مع وجود الاختلاف في الآراء الفرعية جدا فهي أمور لا مناص منها ولا يعني مفهوم الوحدة الإسلامية أن تتطابق كل الآراء فلا تجد فيها اختلافا. ثالثا: الموقف السياسي العملي: وهذا هو المجال الوحيد الذي يجب أن تتحد فيه الخطى والخطط فليس من الصحيح أن يتم اختلاف بين الأساليب التخطيطية لإدارة المسلمين بما يؤدي لصراع وتنافر، وليس من الصحيح أن لا تتحد المواقف في مواجهة العدو الكافر، وليس من الصحيح أن يئن جناح ويفرح آخر ويجوع البعض ويشبع الآخرون، ويموت شعب ويترف آخر. سبل الاستفادة من هذه المجالات: يجب أولا تعيين الهدف لكي نشخص سبل الاستفادة من هذه المجالات والهدف النهائي هو تعبيد الأرض لله تعالى ونشر الإسلام على كل ربوع الحياة لتعبد الأرض ربها آمنة مطمئنة لا تشرك به شيئا، أما الهدف المرحلي فهو استرجاع الأمة الإسلامية لخصائصها العامة لتكون بذلك خير أمة أخرجت للناس، والأمة الشاهدة على الناس، والتي تشكل طليعة حضارية للأمم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2057 وهذا الهدف لن يتم إلا إذا انتشر الوعي العقائدي، والتشريعي والسياسي بين المسلمين إلى الحد الذي يجمعهم حول المساحات المشتركة صفا واحدا كأنه بنيان مرصوص، كما أنه لن يتم ما لم يصر المجتمع على تطبيق الإسلام على كل نواحي الحياة فترى القرآن فينظمها خير تنظيم وترى الخلق الإسلامي يتحكم في العلائق الاجتماعية، ومن الطبيعي أن يتم السير المنسجم نحو العلوم الطبيعية واكتشاف أفضل سبل الحياة السعيدة والوصول إلى مستوى القوة في كل هذه المجالات. وهنا نذكر بواجب الفقهاء وهم ورثة الأنبياء في أن يقودوا الحياة الاجتماعية نحو هذه المعاني الخيرة. والله الموفق. محمد علي التسخيري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2058 المناقشة بسم الله الرحمن الرحيم مجالات الوحدة الإسلامية الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. في موضوع الوحدة الإسلامية وسبل الاستفادة منها أرجو من الأستاذ مصطفي الفيلالى أن يتفضل بعرض موجز عن هذا الموضوع. الشيخ مصطفي الفيلالي: سيدي الرئيس.. حضرات الإخوة الأفاضل: لا أريد أن أشق عليكم في خاتمة هذه السلسلة الطيبة من اللقاءات والاجتماعات التي استرسل فيها بحثنا لمختلف القضايا المدرجة بجدول الأعمال، ولكني أريد في عجالة أن أستخلص من هذه الأعمال ومن هذه المناقشات كلها ملاحظة أساسية أراها خير تمهيد لما نحن بصدده الآن في خاتمة هذه الجلسات وهذه الملاحظة تتعلق بالأغراض التي قضينا فيها هذه الأيام الأربعة الطيبة. فلقد كانت هذه الأغراض الطبية والمالية والاقتصادية والقانونية والأخلاقية بمثابة المجالات الطيبة التي تلتقي فيها عزائم النخبة من أبناء الأمة الإسلامية لبناء مجتمع إسلامي يكون خير المستجيب لقاعدة وحدة الإيمان التي مَنَّ الله بها علينا في مشارق الأرض ومغاربها. فإنما هذه المباحث كلها هي مطلب على مستوى الحياة وعلى مستوى المعاملات الدنيوية لكي نؤكد وحدتنا الإيمانية ونعززها بوحدة قومية أو بوحدة أمية بوحدة أمة كاملة تتعاون على البر والتقوى ولا تتعاون على الإثم والعدوان. وإذا نحن كما أبان ذلك السيد سماحة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي قبل هذه الجلسة إذا نحن اعتمدنا الواقع وانطلقنا من هذا الواقع ما الذي نلحظه؟ نلحظ أن المجتمع الإسلامي هو جزء من المجتمع المعاصر من محيط المجتمع البشري كافة وأن هذا المجتمع الإسلامي هو وإياه المجتمع المعاصر على ظهر سفينة واحدة بيننا وبين المجتمع المعاصر ضروب من التشارك في الحال والاستقبال وما يمكن أن نسميه أو نطلق عليه التضامن الموضوعي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2059 فالمجتمع المعاصر بقسميه المصنع والمتخلف أو النامي يشكل اليوم كما هو معلوم تكتلات وأحلافا قائمة في ميادين شتى بين الشعوب المتجاورة جغرافيا في ميدان المنعة والأمن الوطني مما يشكل أحلافا عسكرية، حلف أطلس أو حلف فارسوفيا في ميدان كفاءة التفاوض أو الوزن السياسي ولنا كتلة غربية منضوية تحت زعامة الولايات المتحدة الأمريكية تشابهها أو تقابلها في الجانب الشرقي كتلة أخرى بزعامة موسكو وتكاد أن تخرج أو أن تبرز في العالم اليوم كتلة صفراء بزعامة طوكيو أو بكين. هذه الكتل تعززها من جانب آخر تكتلات اقتصادية تحاول في ميدان الكفاءة الاقتصادية أن تبني وحدة أو مجموعة تضامن مثل التي نتفاوض معها ونتعامل معها في أوروبا وهي السوق الأوروبية المشتركة أو مثل التي أنشأها الاتحاد السوفيتي من حوله في أوروبا الشرقية وتضم تسع دول وتعرف باسم الكومكن. هذا في العالم المصنع. أما في العالم الثالث أو ما يعرف بالعالم الثالث فهناك مجموعات بدرجات متفاوتة من النجاح والفشل في أفريقيا الغربية في أمريكا الجنوبية في آسيا الجنوبية الشرقية إلى غير ذلك. وإنما دعي إلى هذه التكتلات بين الدول المتجاورة والدول المتجانسة في الأهداف أو في الأوضاع الاقتصادية بعض قوانين يعلمها رجال الاقتصاد خير علم وهو أن كل المشاريع الاقتصادية اليوم وخاصة في الميدان الصناعي لها عتبة جدوى أي القدر الأدنى الذي يضمن الجدوى لهذه المشاريع وهو أن تكون لهذه المشاريع سوق لا يقل عدد المستهلكين فيه على 150 مليون مما يشكل عدد العالم العربي بأسره. هذا هو المجتمع الذي نحن فيه فما هي السمات الكبرى في محيط المجتمع الإسلامي ذاته؟ نحن نعلم أن لنا في هذا المجتمع الإسلامي سمات تتوزع وتتفرق تغلبت فيها الخصوصيات الجغرافية والاقتصادية فتفرقت الأقطار بين عدد من السيادات الوطنية وبين عدد من عدد الانتماءات اللغوية والانتسابات العرقية وترابطت هذه الدول أو هذه الشعوب بارتباطات عسكرية واقتصادية ومالية مختلفة مع جهات مختلفة. وهذه المجموعات نعلم أن المجموعة الآسيوية تساوي تقريبا ثلثي في عددها مجموع سكان العالم الإسلامي. وأما المجموعة العربية وهي المجموعة الثانية في الأهمية من حيث العدد فهي تساوي الربع، والمجموعة الأفريقية لا تكاد تزيد على العشر، إلى جانب الأقليات المسلمة المتعددة والمتواجدة خاصة في آسيا وفي أوروبا وفي أمريكا. إلا أن بين هذه المجموعات وبين هذه الأصناف من الشعوب الإسلامية عددا من السمات المشتركة، أولا في الميدان السلبي ثم في الميدان الإيجابي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2060 ففي الميدان السلبي هناك تبعية أو تبعيات متعددة تخضع لها وترزح تحت نيلها الدول والشعوب الإسلامية تبعيات للدول المصنعة في مقدمتها تبعية علمية فكرية. المراجع الفكرية وأنماط التنمية إلى غير ذلك كلها أو معظمها وارد ومقتبس من الأنماط الغربية. تبعية تكنولوجية نحن نعلم أوزارها ووزرها وثقلها، على حياتنا في مختلف ميادين الحياة. تبعية مالية فيما يتعلق بالاستثمار وتتضح بصفة جلية في مستوى المديونية التي تتحمل أعباءها الشعوب الإسلامية اليوم وهي معروفة غنية عن البيان. وتبعية حربية عسكرية إلى عدد من الانتماءات والأحلاف. لكن أفظع هذه التبعيات وأكثرها شأنا أو أعظمها شأنا وخطرا على حياتنا هي التبعية الغذائية لأن الشعوب الإسلامية هي اليوم في حالة بعيدة عن الكفاية الغذائية وتستورد أكثر من نصف حاجياتها من الغذاء وتنفق في ذلك أكثر من 60 % من مواردها وخاصة هذه الموارد بالعملة الصعبة. أختزن بعض الأرقام لتثبيت هذه الحقائق التي نعيشها وهي ذات دلالة على السمات السلبية المشتركة. فالأمية هي ظاهرة تتضح في أوطاننا جميعا وتزيد نسبتها على أكثر من 60 % أدناها 27 % وأقصاها 93 %. الإنفاق على التربية الوطنية وعلى التعليم بالنسبة للناتج الإجمالي الداخلي لا يزيد عن 2.5 % بينما يبلغ 8 % في الدول المصنعة وبعض دول العالم الثالث لا يزيد إنفاقنا على البحث العلمي الذي هو أساس في تقدمنا على 0.2 % بينما يبلغ الإنفاق على البحث العلمي 4 % في الدول المصنعة وطالبت المنظمات العالمية أن نخصص1.5 % من الناتج الإجمالي للبحث العلمي ونحن بعيدون كل البعد عن هذه الأرقام. عدد ما ينشر من الكتب في عالمنا الإسلامي بأسره أقل من عشر ما ينشر في السوق الأوروبية المشتركة بالدول التسعة أو العشرة أو الإثنى عشرة التي تعدها أو أقل ما ينشر في دولة واحدة كاليابان مع أن عدد سكان اليابان يمثل العشر من عدد سكان العالم الإسلامي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2061 أما في الميدان الاجتماعي فالبطالة هي الظاهرة أو السمة الكبرى التي ترزح تحتها أوطاننا وشعوبنا فثلث من الذكور يرزح في البطالة والثلثان من الإناث يتحملون أوزار البطالة. عدد الأطباء: لنا معدل طبيب واحد، معدلات عامة عن كل خمسة آلاف ساكن في العالم الإسلامي في حين أن العالم المتمدن يعد 6 أطباء على الأقل عن كل 1000 ساكن أي أن هناك طبيب واحد أو أكثر من طبيب واحد عن 180 ساكن أي أن هناك طبيب واحد عن كل 40 عائلة تقريبا. أما في الميدان الاقتصادي فالمديونية كما أسلفت تبلغ 60 % من الموارد و25 % مخصصة لخدمة الدين والتبعية الغذائية ذكرتها وذكرت الأرقام التي تتعلق بها. وهنالك كذلك التبعية التكنولوجية التي كثرت بشأنها الدراسات وخاصة هناك دراسات نشرها مركز دراسات الوحدة العربية وتدل على أن الشركات الإنشائية التي تقوم في الأوطان الإسلامية بإنشاء الأشغال الكبرى من مراس ومن مطارات ومن مرافق ومن طرقات ومن بناءات كبرى كالمستشفيات إلى غير ذلك نصدر معها أكثر من 70 % من مواردنا بالعملة الصعبة في ميدان الدراسة وفي ميدان الإنجاز لأن الشركات الإنشائية الكبرى معظمها شركات أجنبية ولا يبقى في أوطاننا من الكلفة التي ننفقها في سبيل إنشاء ما نعهد به إليها أكثر من الثلث أو أقل من الثلث. أريد أن أذكر رقما ذا دلالة بالقياس إلى التبعية التجارية فالمغرب العربي الكبير الذي يعد أربع دول أو خمس دول يشكل ويتعامل في تجارته مع السوق الأوروبية المشتركة. وتمثل تجارة المغرب العربي جملة توريدا وتصديرا مع السوق الأوروبية المشتركة65 % من مجموع المعاملات التجارية لهذه الدول في حين أن مجموعة المغرب العربي ككل بالقياس إلى السوق الأوروبية المشتركة لا يزيد وزنها عن 2 % من المعاملات التجارية الأوروبية. هل نغفل الميدان الإعلامي وما لنا فيه من تبعية كبيرة ومن وزن بالقياس إلى خمس أو ست شركات كبرى أو وكالات كبرى للأنباء تكيف الرأي العام الإسلامي وتكيف الرأي العام الدولي، وتقدم للرأي العام الدولي الذي نتفاوض معه صورة مشوهة عن الإنسان المسلم وعن الإنسان العربي؟ كل هذه هي بعض السمات السلبية المشتركة بين البلاد الإسلامية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2062 لنا إلى جانب هذا بحمد الله عدد من السمات الإيجابية المشتركة وأولها القاعدة الحضارية المتينة وركنها العتيد أنا نحن أمة القرآن أمة الإسلام المؤمنة بالله ورسوله {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} . (1) فتوحيد الإيمان بالله هو المنطلق السديد لتوحيد الأمة ولبناء هذا المجتمع المثالي أو المجتمع المؤمن الطيب، المجتمع العزيز الكريم الذي نريده {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً} . (2) فالاختلاف هو امتحان إرادة الله وهو سنة الله في خلقه ولا يزالون مختلفين إلا من رحمه ربه ولذلك خلقهم. والهدف الذي ينبغي أن نرمي إليه أن يلتقي توحيد الإيمان مع توحيد الشأن أو أن يكون توحيد العقيدة حافزا قويا دائما على توحيد المجتمع. فلنا حوافز، حوافز سلبية ظرفية وحوافز إيجابية قارة على طلب هذه الوحدة. فأستسمحكم في أن أذكر ما أفرده محمد عبده الجابري وهو من كبار الكتاب المغاربة وأستاذ في جامعة الرباط من دراسة لبنية الفكر العربي والإسلامي وخصص له دراسات متعدة نشر مركز دراسات الوحدة العربية بعضا منها فذكر أن الفكر العربي الإسلامي بحاجة إلى إعادة تأسيس بنيته لأن الحوافز الظرفية التاريخية التي أقام عليها هذا الفكر مشروع الوحدة هي حوافز طيبة إذ كانت لمقاومة الاستعمار في النصف الثاني من القرن الماضي وفي النصف الأول من هذا القرن وطلائع حركات اليقظة العربية الإسلامية كانت طلائع إسلامية اعتمدت سبيل إصلاح الدين، لشحذ روح المقاومة ضد الغرب الاستعماري ومجابهة حينئذ المد الاستعماري الغربي هو الحافز الأساسي الذي بني عليه التضامن في الأهداف وتضامن في الرد وموقف الدفاع عن الحوزة وعن العقيدة. لنا في المعاصرة حوافز مستمدة من مجابهة التحديات التي كنت أجملت فيها القول وذكرت بعض الأرقام الدالة عليها وتحقيق النهضة وفي مقدمتها الأمن الغذائي والكفاءة الغذائية والاقتدار التكنولوجي ومنعة الأوطان والتنمية المستقلة كل هذا فيه دراسات وليس هذا محل الاعتماد بشأنه. الحافز الأساسي الكبير والركن المتين هو حافز البناء الحضاري والمشاركة في المعاصرة، فنحن في ركب المعاصرة لا مشاركة بالاستهلاك والاستكانة بل مشاركة بالإبداع والإسهام والريادة. الأساس فيما أعتقد هو تميز النظرة الفكرية؛ لأن للإسلام دورا وأن للإسلام والعقل الإسلامي إسهاما، يمكن أن يمد به الحضارة الإنسانية إذا ما هو اعتمد بعيدا عن الجمود وبعيدا عن العلمانية الضالة اعتمد منطق العقلانية الإسلامية التي بنت الحضارة الإسلامية فيما تشهد به آثار هذه الحضارة من آيات الإبداع في مختلف ميادين المعرفة وفي مختلف ميادين العمران.   (1) الانبياء: (92) (2) يونس: الآية (19) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2063 هذا هو إعادة تأسيس كما ارتآه محمد عبده الجابري. الانضمام إلى المعاصرة والاضطلاع بما للفكر الإسلامي من كفاءة التغيير والتقدم والرقي الحقيقي، رقيا بديلا من الرقي المادي المحجوب عن المقاصد السامية التي من أجلها استخلف الله الإنسان في الأرض {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} . (1) أعتقد أن الشروط التي يجب أن نتوخاها في بناء هذه الوحدة الإسلامية هي بطبيعة الحال شروط مادية ولنا في المؤسسات التي بنيت حول منظمة المؤتمر الإسلامي في مختلف ميادين الشأن الاقتصادي والاجتماعي مشاريع وبرامج كبيرة ومتعددة لا بد أن نهتم بها ونعمل على تطبيقها، لكن أريد أن أركز على الشروط المعنوية وفي مقدمتها تقديم الترابط الداخلي الذاتي، الترابط الحضاري، الترابط في الفكر بين أجزاء العالم الإسلامي. تقديم ذلك على الارتباطات الخارجية مع الدول ومع الحضارة الأخرى. وإعطاء الأولوية المطلقة للعوامل الحضارية المشتركة وفي مقدمتها وحدة الدين ووحدة الفكر الديني، وتنسيق المناهج التربوية والتعليمية على مراحل، التفاتا إلى المستقبل ومحاولة لإنشاء وتخريج جيل من بني القرآن الذين يعتزون بالانتماء إلى أداتيتهم المسلمة العربية والمسلمة بصفة عامة. إن لنا في التجارب التي وقعت في مختلف أصقاع العالم وخاصة في أوطاننا العربية والإسلامية لنا فيها عبرة ينبغي أن نتجنب الطرائق والوسائل الفورية والرأسية التي حاولنا بها أن نبني وحدة إقليمية بين أجزاء معينة من الأوطان وأن لا نتعجل التاريخ ونقفز فوق المراحل ونقضي على النتوءات وخاصة أن نعتمد على نظرة تبين أنها نظرة خاطئة ومعقدة وهي أن الوحدة لا بد أن تقضي شرطها الأساسي في هذا المفهوم الغالط أن تقضي على الخصوصيات وأن تصل إلى إدماج فكري وملي وإدماج في مختلف الميادين الأخرى من ميادين دستورية وتشريعية واقتصادية واجتماعية إلى غير ذلك لتكوين مجتمع واحد موحد على واجهة عرضها عشرة آلاف كيلومتر. وقد بينت التجارب القليلة التي وقعت في العشريات القريبة أن هذه الطريقة طريقة مغامرة وطريقة مسدودة، وطريقة فاشلة لا تأتي بخير لأن هذا الواقع، واقع القومية، وواقع الوطنيات، هو واقع لا سبيل إلى جحده، ولا فائدة في جحده، ولا نرى أن الوحدة الإسلامية ينبغي أن تنبني على محو هذه الخصوصيات وعلى القضاء عليها لتكوين مجتمع واحد بين ملات ولغات وسمات اجتماعية بينها ما ذكرنا من التميز ومن مراتب الانفراد.   (1) النور: الآية (55) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2064 مجالات الوحدة بين المأمول والممكن. المأمول ممكن بالقوة ومجال التغيير الأنفس هو السبيل الوحيد والسبيل القويمة يصبح هذا الممكن بالقوة ممكنا بالفعل. فتوخي سياسة الممكن وطرق المقاصد الكلية في ميادين كبرى أذكر منها اثنين: ميدان المعاملات التجارية والاقتصادية والمالية على أساس التنسيق لا الوحدة، تنسيق بين سياسات التنمية، تنسيق بين المعاملات التجارية، ولا بأس من تكوين أو النظر أو العمل على تكوين أسواق مشتركة في الأفق الإقليمي بحسب الجهات، وتنسيق بين سياسات الاستثمار، وتنسيق في تبادل الكفاءات والخبرات احتسابا لهجرة الكفاءات والمهارات الفنية وما تسببه من نزيف للمجتمع الإسلامي يفقد بموجبه المجتمع الإسلامي خير ما أنشاه وأنفق على إنشائه من كفاءات ومن مهارات علميه تجد لها سوقا رابحة وسوقا نافقة في الأوطان الغربية من الولايات المتحدة وكندا ومن أوروبا إلى غير ذلك، تنسيق على أساس إقليمي بمنطق التدرج مثلا بين البلاد العربية المؤلفة من أربع مجموعات إقليمية، المغرب ووادي النيل، الخليج، الهلال الخصيب. بين البلاد الآسيوية، بين المجموعات الأفريقية المجموعة الغربية والمجموعة الشرقية. وتوسيع كما قلت الاستفادة من المنظمات الإسلامية والعربية المختصة، لكن الميدان الأساسي قلت إن هذا يمكن أن يقع في ميدانين اثنين كبيرين الميدان الأساسي هو الميدان الفكري، وهنا لا بد من أن نعطي الأولوية الأساسية الكبرى العالية للميدان التربوي والتعليمي لابد من السعي إلى أسلمة مناهج التربية مثل ما ذكر السيد الأمين العام للمجمع، إسلامية مناهج التربية والتعليم بالاعتماد على المراجع الباقية الثابتة من مناهل الفكر الإسلامي العربي وما أنجزه هذا الفكر على مر عشرة قرون من النهضة من آيات الإبداع في مختلف الميادين. لا بد من أن نعود أو يتفطن شبابنا إلى أن الإبداع الذي يلحظه في الحضارة الغربية له جذوره أو له مثيله في الحضارة الإسلامية العربية وأن هذه الحضارة لم تكن شحيحة ولم تكن بخيلة وإنما أنتجت الكثير مما ينسب اليوم إلى علماء الغرب وإلى أساتذتهم وإلى باحثيهم. لا بد من أن نعيد بناء مشاعر العزة في نفوس شبابنا حتى يكون الجيل المقبل نحن إن كان جيلنا هذا مقصرا في باب النهضة وفي باب إنشاء هذه الوحدة لابد أن نفسح المجال ونعد العدة لشباب المستقبل، وشباب المستقبل وهو في الروضة أو في رياض الأطفال أو في المدارس الابتدائية أو على أبواب الكليات أو الجامعات. لا بد أن نعد العدة ونبني هذه الأنفس بناء حضاريا، بناء إسلاميا حتى تكون عدة مستقبلنا الذي نريده أن يكون بديلا وخيرا من حاضرنا الرديء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2065 أريد أن أبدي بعض ملاحظات تتعلق بهذا الميدان، فميدان الدراسات الدينية ما زال في منزلة بالقياس إلى النهج الكبير من المعارف الوضعية، المعارف الدنيوية المعارف المادية. لا تزال الدراسات الدينية في طريق هامشي وفي منزلة مهمشة وفي منزلة جانبية بالقياس إلى هذا النهج الكبير من نهج المعرفة. فمثلا التفسير تفسير القرآن الكريم. أعتقد شخصيا وهذا رأي شخصي أن المجتمع الإسلامي في حاجة اليوم إلى تفاسير تأخذ في الاعتبار الفتوحات العلمية الكبرى التي بلغها الفكر الإنساني حتى يتبين لنا، حتى يتبين لشبابنا أن في القرآن، أن في كتاب الله، وأن في سنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ما لا يتضارب على أقل تقدير مع هذه الفتوحات العلمية؛ لأن الفكر السائد والذي غرسه الغربيون وغرسته الحضارة الغربية والفكر الغربي في أنفسنا هو أن الكشوفات العلمية والمكاسب الفكرية والمعرفية الكبرى لا يمكن أن تكون مستمدة أو متفاهمة أو منسجمة ومنسقة مع المفاهيم الدينية ومع الفكر الديني. فأحسن مقاومة لهذا هو أن نعيد النظر أو لا أقول نعيد النظر في القرآن وإنما نعيد النظر في المكاسب الفكرية والمكاسب المعرفية حتى نبين لأنفسنا ولشبابنا لأن شيئا من ذلك لا يتنافي مع الفكر القرآني، الفكر الديني بل أن الفكر الديني يبعث على هذه الفتوحات ويدعو إلى المضي في الكشوفات العلمية قدما. فنحن في ميدان الدراسات الفقهية لا بد من أن نلائم كذلك مع الواقع في أوطاننا الإسلامية وهذا واقع لا سبيل إلى إنكاره. الأوطان التي تتطبق وتعمل على تطبيق الشريعة الإسلامية أوطان قليلة العدد وبقيت الأوطان الإسلامية تعمل بمراجع قانونية أجنبية فلا بد من أن تنصب الدراسات الفقهية إلى تمهيد السبيل للتشاريع الوضعية في أوطاننا التي لا نستطيع أن نقلبها رأسا على عقب بين عشية وضحاها. لا بد من أن نتعامل مع الواقع فيما يقتضيه الواقع من مرحلية، أن نعمل على أن تكون هذه التشاريع مستمدة إن لم تكن مستمدة تماما على أقل تقدير ليس فيها ما يتضارب والشريعة الإسلامية وأحكام الشريعة الإسلامية حتى لا يكون بين المسلم وبين دينه هذا الصراع أو هذه الفجوة أو الجفوة المصطنعة التي هي من آثار الحياة المدنية والمجتمع المدني كما نمارسه في مجتمعاتنا الإسلامية. لا يكون جيل القرآن ولا يمكن أن يكون جيل الاستكانة للظلم والحيف وانكسار الذات وانثلام الذاتية ولا جيل القهر والسفاهة السياسية المبنية على الحرمان المستمر من المشاركة في الحياة العامة في حياة أوطانه ومن الاجتهاد. فلا فائدة في وحدة بين رعاع سفهاء مولى على عقولهم مستلبة شخصيتهم، مطموسة قدراتهم في بناء المجتمع الرشيد الذي نبتغيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2066 هذه بعض الملاحظات حول هذا الموضوع الشائك هذا الموضوع المتسع وأعتقد أن ما يمضي فيه مجمع الفقه الإسلامي من بحوث ومن لقاءات حول مختلف القضايا كالتي بحثناها في هذه الدورة الطيبة المباركة يمهد ويعين على إنشاء هذا المستقبل الكريم البديل من حاضرنا الذي نبتغيه. وأن مدار التغيير الذي نبتغيه إنما هي الأنفس والعقول وفقا للآية الكريمة {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . (1) والسلام عليكم. الرئيس: وعليكم السلام ورحمة الله. وشكرا. في الواقع إن الموضوع كما ذكرت لكم في الجلسة التي امتدت من هذه منها وهو أن هذا الموضوع أصوله من المسلمات ولهذا فإنه من المستحسن أن يعهد إلى الأمانة بأن تعد صياغة للتوصية في هذا الموضوع من خلال الأبحاث والدراسات التي لديها ومن خلال فطرة المسلم لما هو معلوم لدى الجميع. فهل ترون هذا مناسبا؟   (1) الرعد: الآية (11) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2067 القرار الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (1) د 4 / 08 / 88 بشأن انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيًا أو ميتًا. إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988م. بعد hطلاعه على الأبحاث الفقهية والطبية الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع "انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيًا أو ميتًا". وفي ضوء المناقشات التي وجهت الأنظار إلى أن هذا الموضوع أمر واقع فرضه التقدم العلمي والطبي، وظهرت نتائجه الإيجابية المفيدة والمشوبة في كثير من الأحيان بالأضرار النفسية والاجتماعية الناجمة عن ممارسته دون الضوابط والقيود الشرعية التي تصان بها كرامة الإنسان، مع إعمال مراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية الكفيلة بتحقيق كل ما هو خير ومصلحة غالبة للفرد والجماعة، والداعية إلى التعاون والتراحم والإيثار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2068 وبعد حصر هذا الموضوع في النقاط التي يتحرر فيها محل البحث وتنضبط تقسيماته وصوره وحالاته التي يختلف الحكم تبعًا لها. قرر ما يلي: من حيث التعريف والتقسيم: أولاً: يقصد هنا بالعضو: أي جزء من الإنسان، من أنسجة وخلايا ودماء ونحوها، كقرنية العين، سواء أكان متصلاً به، أم انفصل عنه. ثانيًا: الانتفاع الذي هو محل البحث، هو استفادة دعت إليها ضرورة المستفيد لاستبقاء أصل الحياة، أو المحافظة على وظيفة أساسية من وظائف الجسم كالبصر ونحوه. على أن يكون المستفيد يتمتع بحياة محترمة شرعًا. ثالثًا: تنقسم صور الانتفاع هذه إلى الأقسام التالية: 1 - نقل العضو من حي. 2 - نقل العضو من ميت. 3 - النقل من الأجنة. الصورة الأولى: وهي نقل العضو من حي، تشمل الحالات التالية: أ - نقل العضو من مكان من الجسد إلى مكان آخر من الجسد نفسه، كنقل الجلد والغضاريف والعظام والأوردة والدم ونحوها. ب - نقل العضو من جسم إنسان حي إلى جسم إنسان آخر. وينقسم العضو في هذه الحالة إلى ما تتوقف عليه الحياة وما لا تتوقف عليه. أما ما تتوقف عليه الحياة، فقد يكون فرديًا، وقد يكون غير فردي، فالأول كالقلب والكبد، والثاني كالكلية والرئتين. وأما ما لا تتوقف عليه الحياة، فمنه ما يقوم بوظيفة أساسية في الجسم ومنه ما لا يقوم بها. ومنه ما يتجدد تلقائيًا كالدم، ومنه ما لا يتجدد، ومنه ما له تأثير على الأنساب والموروثات، والشخصية العامة، كالخصية والمبيض وخلايا الجهاز العصبي، ومنه ما لا تأثير له على شيء من ذلك. الصورة الثانية: وهي نقل العضو من ميت: ويلاحظ أن الموت يشمل حالتين: الحالة الأولى: موت الدماغ بتعطل جميع وظائفه تعطلاً نهائيًا لا رجعة فيه طبيًا. الحالة الثانية: توقف القلب والتنفس توقفًا تامًا لا رجعة فيه طبيًا. فقد روعي في كلتا الحالتين قرار المجمع في دورته الثالثة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2069 الصورة الثالثة: وهي النقل من الأجنة، وتتم الاستفادة منها في ثلاث حالات: حالة الأجنة التي تسقط تلقائيًا. حالة الأجنة التي تسقط لعامل طبي أو جنائي. حالة "اللقائح المستنبتة خارج الرحم". من حيث الأحكام الشرعية: أولاً: يجوز نقل العضو من مكان من جسم الإنسان إلى مكان آخر من جسمه، مع مراعاة التأكد من أن النفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها، وبشرط أن يكون ذلك لإيجاد عضو مفقود أو لإعادة شكله أو وظيفته المعهودة له، أو لإصلاح عيب أو إزالة دمامة تسبب للشخص أذى نفسيًا أو عضويًا. ثانيًا: يجوز نقل العضو من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر، إن كان هذا العضو يتجدد تلقائيًا، كالدم والجلد، ويراعى في ذلك اشتراط كون الباذل كامل الأهلية، وتحقق الشروط الشرعية المعتبرة. ثالثًا: تجوز الاستفادة من جزء من العضو الذي استؤصل من الجسم لعلة مرضية لشخص آخر، كأخذ قرنية العين لإنسان ما، عند استئصال العين لعلة مرضية. رابعًا: يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة كالقلب من إنسان حي إلى إنسان آخر. خامسا: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته، وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها، كنقل قرنية العينين كلتيهما، أما إن كان النقل يعطل جزءًا من وظيفة أساسية فهو محل بحث ونظر كما يأتي في الفقرة الثامنة. سادسًا: يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو، أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك. بشرط أن يأذن الميت أو ورثته بعد موته، أو بشرط موافقة ولي المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية أو لا ورثة له. سابعًا: وينبغي ملاحظة أن الاتفاق على جواز نقل العضو في الحالات التي تم بيانها، مشروط بأن لا يتم ذلك بوساطة بيع العضو؛ إذ لا يجوز إخضاع أعضاء الإنسان للبيع بحال ما. أما بذل المال من المستفيد؛ ابتغاء الحصول على العضو المطلوب عند الضرورة أو مكافأة وتكريمًا، فمحل اجتهاد ونظر. ثامنًا: كل ما عدا الحالات والصور المذكورة، مما يدخل في أصل الموضوع، فهو محل بحث ونظر، ويجب طرحه للدراسة والبحث في دورة قادمة، على ضوء المعطيات الطبية والأحكام الشرعية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2070 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه. قرار رقم (2) د 4/08/88 بشأن صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408 هـ, الموافق 6-11 فبراير1988م. بعد اطلاعه على المذكرة التفسيرية بشأن "صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته المقدمة إلى الدورة الثالثة للمجمع، وعلى الأبحاث الواردة إلى المجمع في دورته الحالية بخصوص موضوع صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي " يوصي: - عملا على تمكين صندوق التضامن الإسلامي من تحقيق أهدافه الخيرة (المبينة في نظامه الأساسي) والتي أنشئ من أجلها، والتزاما بقرار القمة الإسلامي الثاني الذي نص على إنشاء هذا الصندوق وتمويله من مساهمات الدول الأعضاء، ونظرا لعدم انتظام بعض الدول في تقديم مساعداتها الطوعية له - يناشد المجمع الدول والحكومات والهيئات والموسرين المسلمين القيام بواجبهم في دعم موارد الصندوق بما يمكنه من تحقيق مقاصده النبيلة في خدمة الأمة الإسلامية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2071 ويقرر أولا: لا يجوز صرف أموال الزكاة لدعم وقفية صندوق التضامن الإسلامي؛ لأن في ذلك حبسا للزكاة عن مصارفها الشرعية المحددة في الكتاب الكريم. ثانيا: لصندوق التضامن الإسلامي أن يكون وكيلا عن الأشخاص والهيئات في صرف الزكاة في وجوهها الشرعية بالشروط التالية: أ - أن تتوافر شروط الوكالة الشرعية بالنسبة للموكل والوكيل. ب - أن يدخل الصندوق على نظامه الأساسي وأهدافه التعديلات المناسبة التي تمكنه من القيام بهذا النوع من التصرفات. جـ- أن يخصص صندوق التضامن حسابا خاصا بالأموال الواردة من الزكاة، بحيث لا تختلط بالموارد الأخرى التي تنفق في غير مصارف الزكاة الشرعية، كالمرافق العامة ونحوها. د- لا يحق للصندوق صرف شيء من هذه الأموال الواردة للزكاة في النفقات الإدارية ومرتبات الموظفين وغيرها من النفقات التي لا تندرج تحت مصارف الزكاة الشرعية. هـ- لدافع الزكاة أن يشترط على الصندوق دفع زكاته فيما يحدده من مصارف الزكاة الثمانية، وعلى الصندوق – في هذه الحالة – أن يتقيد بذلك. و يلتزم الصندوق بصرف هذه الأموال إلى مستحقيها في أقرب وقت ممكن حتى يتيسر لمستحقيها الانتفاع بها وفي مدة أقصاها سنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2072 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه قرار رقم (3) د 4/08/88 بشأن زكاة الأسهم في الشركات إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408هـ. الموافق 6-11 فبراير 1988م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع "زكاة أسهم الشركات" قرر ما يلي: أولاً: تجب زكاة الأسهم على أصحابها، وتخرجها إدارة الشركة نيابة عنهم إذا نص في نظامها الأساسي على ذلك، أو صدر به قرار من الجمعية العمومية، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة، أو حصل تفويض من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه. ثانياً: تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد، وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي، وذلك أخذاً بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء في جميع الأموال. ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة، ومنها أسهم الخزانة العامة، وأسهم الوقف الخيري، وأسهم الجهات الخيرية، وكذلك أسهم غير المسلمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2073 ثالثاً: إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه، زكى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم. وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك: فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، وليس بقصد التجارة؛ لأنه يزكيها زكاة المستغلات، وتمشياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع. وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه، زكى قيمتها السوقية، وإذا لم يكن لها سوق، زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة، فيخرج ربع العشر 2.5 % من تلك القيمة ومن الربح إذا كان للأسهم ربح. رابعاً: إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكاه معه عندما يجيء حول زكاته. أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها على النحو السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2074 قرار رقم (4) د 4/ 08 /88 بشأن انتزاع الملكية للمصلحة العامة إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18- 23 جمادى الآخر 1408هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988م، بعد الإطلاع على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع " انتزاع الملك للمصلحة العامة" وفي ضوء ما هو مسلم في أصول الشريعة، من احترام الملكية الفردية، حتى أصبح ذلك من قواطع الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، وأن حفظ المال أحد الضروريات الخمس التي عرف من مقاصد الشريعة رعايتها، وتواردت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على صونها، مع استحضار ما ثبت بدلالة السنة النبوية وعمل الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من نزع ملكية العقار للمصلحة العامة، تطبيقًا لقواعد الشريعة العامة في رعاية المصالح وتنزيل الحاجة العامة منزلة الضرورة وتحمل الضرر الخاص لتفادي الضرر العام. قرر ما يلي: أولا: يجب رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء عليها، ولا يجوز تضييق نطاقها أو الحد منها، والمالك مسلط على ملكه، وله في حدود المشروع التصرف فيه بجميع وجوهه وجميع الانتفاعات الشرعية. ثانيًا: لا يجوز نزع ملكية العقار للمصلحة العامة إلا بمراعاة الضوابط والشروط الشرعية التالية: 1- أن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري عادل يقدره أهل الخبرة بما لا يقل عن ثمن المثل. 2- أن يكون نازعه ولي الأمر أو نائبه في ذلك المجال. 3- أن يكون النزع للمصلحة العامة التي تدعو إلى ضرورة عامة أو حاجة عامة تنزل منزلتها كالمساجد والطرق والجسور. 4- أن لا يؤول العقار المنزوع من مالكه إلى توظيفه في الاستثمار العام أو الخاص، وألا يعجل نزع ملكيته قبل الأوان. فإن اختلت هذه الشروط أو بعضها كان نزع ملكية العقار من الظلم في الأرض والغصوب التي نهى الله تعالى عنها ورسوله صلى الله عليه وسلم. على أنه إذا صرف النظر عن استخدام العقار المنزوعة ملكيته في المصلحة المشار إليها تكون أولوية استرداده لمالكه الأصلي، أو لورثته بالتعويض العادل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2075 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم. قرار رقم (5) د 4/ 08/ 88 بشأن سندات المقارضة وسندات الاستثمار إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 – 23 جمادى الآخرة 1408هـ، الموافق 6 –11 فبراير 1988م. بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة في موضوع (سندات المقارضة وسندات الاستثمار) والتي كانت حصيلة الندوة التي أقامها المجمع بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية بتاريخ 6 – 9 محرم 1408هـ/ 30 / 8 - 2/ 9/ 1987م تنفيذا لقرار رقم (10) المتخذ في الدورة الثالثة للمجمع وشارك فيها عدد من أعضاء المجمع وخبرائه وباحثي المعهد وغيره من المراكز العلمية والاقتصادية وذلك للأهمية البالغة لهذا الموضوع وضرورة استكمال جميع جوانبه، للدور الفعال لهذه الصيغة في زيادة القدرات على تنمية الموارد العامة عن طريق اجتماع المال والعمل. وبعد استعراض التوصيات العشر التي انتهت إليها الندوة ومناقشتها في ضوء الأبحاث المقدمة في الندوة وغيرها، قرر ما يلي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2076 أولا: من حيث الصيغة المقبولة شرعا لصكوك المقارضة: 1- سندات المقارضة هي أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القراض (المضاربة) بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصا شائعة في رأس مال المضاربة وما يتحول إليه، بنسبة ملكية كل منهم فيه. ويفضل تسمية هذه الأداة الاستثمارية (صكوك المقارضة) . 2- الصورة المقبولة شرعا لسندات المقارضة بوجه عام لا بد أن تتوافر فيها العناصر التالية: العنصر الأول: أن يمثل الصك ملكية حصة شائعة في المشروع الذي أصدرت الصكوك لإنشائه أو تمويله، وتستمر هذه الملكية طيلة المشروع من بدايته إلى نهايته. وترتب عليها جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعا للمالك في ملكه من بيع وهبة ورهن وإرث وغيرها، مع ملاحظة أن الصكوك تمثل رأس مال المضاربة. العنصر الثاني: يقوم العقد في صكوك المقارضة على أساس أن شروط التعاقد تحددها (نشرة الإصدار) وأن (الإيجاب) يعبر عنه (الاكتتاب) في هذه الصكوك، وأن (القبول) تعبر عنه موافقة الجهة المصدرة. ولا بد أن تشتمل نشرة الإصدار على جمع البيانات المطلوبة شرعا في عقد القراض (المضاربة) من حيث بيان معلومية رأس المال وتوزيع الربح مع بيان الشروط الخاصة بذلك الإصدار على أن تتفق جميع الشروط مع الأحكام الشرعية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2077 العنصر الثالث: أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب باعتبار ذلك مأذونا فيه من المضارب عند نشوء السندات مع مراعاة الضوابط التالية: أ - إذا كان مال القراض المتجمع بعد الاكتتاب وقبل المباشرة في العمل بالمال ما يزال نقودا فإن تداول صكوك المقارضة يعتبر مبادلة نقد بنقد وتطبق عليه أحكام الصرف. ب - إذا أصبح مال القراض ديونا تطبق على تداول صكوك المقارضة أحكام تداول التعامل بالديون. ج - إذا صار مال القراض موجودات مختلطة من النقود والديون الأعيان والمنافع فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقا للسعر المتراضي عليه، على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعيانا ومنافع. أما إذا كان الغالب نقودا أو ديونا فتراعى في التداول الأحكام الشرعية التي ستبينها لائحة تفسيرية توضع وتعرض على المجمع في الدورة القادمة. وفي جميع الأحوال يتعين تسجيل التداول أصوليا في سجلات الجهة المصدرة. العنصر الرابع: أن من يتلقى حصيلة الاكتتاب في الصكوك لاستثمارها وإقامة المشروع بها هو المضارب، أي عامل المضاربة ولا يملك من المشروع إلا بمقدار ما قد يسهم به بشراء بعض الصكوك فهو رب مال بما أسهم به بالإضافة إلى أن المضارب شريك في الربح بعد تحققه بنسبة الحصة المحددة له في نشرة الإصدار وتكون ملكيته في المشروع على هذا الأساس. وأن يد المضارب على حصيلة الاكتتاب في الصكوك وعلى موجودات المشروع هي يد أمانة لا يضمن إلا بسبب من أسباب الضمان الشرعية. 3- مع مراعاة الضوابط السابقة في التداول: يجوز تداول المقارضة في أسواق الأوراق المالية إن وجدت بالضوابط الشرعية وذلك وفقا لظروف العرض والطلب ويخضع لإرادة العاقدين. كما يجوز أن يتم التداول بقيام الجهة المصدرة في فترات دورية معينة بإعلان أو إيجاب يوجه إلى الجمهور تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة بشراء هذه الصكوك من ربح مال المضاربة بسعر معين ويحسن أن تستعين في تحديد السعر بأهل الخبرة وفقا لظروف السوق والمركز المالي للمشروع. كما يجوز الإعلان عن الالتزام بالشراء من غير الجهة المصدرة من مالها الخاص، على النحو المشار إليه. 4- لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى رأس المال، فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمنا بطل شرط الضمان واستحق المضارب ربح مضاربة المثل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2078 5- لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار ولا صك المقارضة الصادر بناء عليها على نص يلزم بالبيع ولو كان معلقا أو مضافا للمستقبل. وإنما يجوز أن يتضمن صك المقارضة وعدا بالبيع. وفي هذه الحالة لا يتم البيع إلا بعقد بالقيمة المقدرة من الخبراء ويرضي الطرفين. 6- لا يجوز أن تتضمن نشرة الإصدار ولا الصكوك المصدرة على أساسها نصا يؤدي إلى احتمال قطع الشركة في الربح فإن وقع كان العقد باطلا. ويترتب على ذلك: أ - عدم جواز اشتراط مبلغ محدد لحملة الصكوك أو صاحب المشروع في نشرة الإصدار وصكوك المقارضة الصادرة بناء عليها. ب - أن محل القسمة هو الربح بمعناه الشرعي، وهو الزائد عن رأس المال وليس الإيراد أو الغلة. ويعرف مقدار الربح، إما بالتنضيض أو بالتقويم للمشروع بالنقد، وما زاد عن رأس المال عند التنضيض أو التقويم فهو الربح الذي يوزع بين حملة الصكوك وعامل المضاربة، وفقا لشروط العقد. ج- أن يعد حساب أرباح وخسائر للمشروع وأن يكون معلنا وتحت تصرف حملة الصكوك. 7- يستحق الربح بالظهور، ويملك بالتنضيض أو التقويم ولا يلزم إلا بالقسمة. وبالنسبة للمشروع الذي يدر إيرادا أو غلة فإنه يجوز أن توزع غلته. وما يوزع على طرفي العقد قبل التنضيض (التصفية) يعتبر مبالغ مدفوعة تحت الحساب. 8- ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة معينة في نهاية كل دورة، إما من حصة الصكوك في الأرباح في حالة وجود تنضيض دوري، وإما من حصصهم في الإيراد أو الغلة الموزعة تحت الحساب ووضعها في احتياطي خاص لمواجهة مخاطر رأس المال. 9- ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين، على أن يكون التزاما مستقلا عن عقد المضاربة بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطا في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به بحجة أن هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2079 ثانيا: استعرض مجلس المجمع أربع صيغ أخرى اشتملت عليها توصيات الندوة التي أقامها المجمع، وهي مقترحة للاستفادة منها في إطار تعمير الوقف واستثماره دون الإخلال بالشروط التي يحافظ فيها على تأييد الوقف وهي: أ - إقامة شركة بين جهة الوقف بقيمة أعيانه وبين أرباب المال بما يوظفونه لتعمير الوقف. ب - تقديم أعيان الوقف (كأصل ثابت) إلى من يعمل فيها بتعميرها من ماله بنسبة من الريع. ج- تعمير الوقف بعقد الاستصناع مع المصارف الإسلامية لقاء بدل من الريع. د - إيجار الوقف بأجرة عينية هي البناء عليها وحده، أو مع أجرة يسيرة. وقد اتفق رأي مجلس المجمع مع توصية الندوة بشأن هذه الصيغ من حيث حاجتها إلى مزيد من البحث والنظر وعهد إلى الأمانة العامة الاستكتاب فيها، مع البحث عن صيغ شرعية أخرى للاستثمار، وعقد ندوة لهذه الصيغ لعرض نتائجها على المجمع في دورته القادمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2080 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (6) دع /08/ 88 بشأن بدل الخلو إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18- 22 جمادى الآخرة 1408هـ، الموافق 6- 12 فبراير 1988م. بعد اطلاعه على الأبحاث الفقهية الواردة إلى المجمع بخصوص (بدل الخلو) وبناء عليه. قرر ما يلي: أولا: تنقسم صور الاتفاق على بدل الخلو إلى أربع صور هي: 1- أن يكون الاتفاق بين مالك العقار وبين المستأجر عند بدء العقد. 2- أن يكون الاتفاق بين المستأجر وبين المالك وذلك في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها. 3- أن يكون الاتفاق بين المستأجر وبين مستأجر جديد، في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها. 4- أن يكون الاتفاق بين المستأجر الجديد وبين كل من المالك والمستأجر الأول قبل انتهاء المدة، أو بعد انتهائها. ثانيا: إذا اتفق المالك والمستأجر على أن يدفع المستأجر للمالك مبلغا مقطوعا زائدا عن الأجرة الدورية (وهو ما يسمى في بعض البلاد خلوا) ، فلا مانع شرعا من دفع هذا المبلغ المقطوع على أن يعد جزءا من أجرة المدة المتفق عليها، وفي حالة الفسخ تطبق على هذا المبلغ أحكام الأجرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2081 ثالثا: إذا تم الاتفاق بين المالك وبين المستأجر أثناء مدة الإجارة على أن يدفع المالك إلى المستأجر مبلغا مقابل تخليه عن حقه الثابت بالعقد في ملك منفعة بقيمة المدة، فإن بدل خلو هذا جائز شرعا، لأنه تعويض عن تنازل المستأجر برضاه عن حقه في المنفعة التي باعها للمالك. أما إذا انقضت مدة الإجارة، ولم يتجدد العقد صراحة أو ضمنا عن طريق التجديد التلقائي حسب الصيغة المفيدة له، فلا يحل بدل الخلو، لأن المالك أحق بملكه بعد انقضاء حق المستأجر. رابعا: إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد أثناء مدة الإجارة على التنازل عن بقية مدة العقد لقاء مبلغ زائد عن الأجرة الدورية، فإن بدل الخلو هذا جائز شرعا، مع مراعاة مقتضى عقد الإجارة المبرم بين المالك والمستأجر الأول، ومراعاة ما تقضي به القوانين النافذة الموافقة للأحكام الشرعية. على أنه في الإجارات الطويلة المدة خلافا لنص عقد الإجارة طبقا لما تسوغه بعض القوانين لا يجوز للمستأجر إيجار العين لمستأجر آخر، ولا أخذ بدل الخلو فيها إلا بموافقة المالك. أما إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد بعد انقضاء المدة فلا يحل بدل الخلو، لانقضاء حق المستأجر الأول في منفعة العين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2082 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (7) د 4/ 08/ 88 بشأن بيع الاسم التجاري والترخيص إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18- 23 جمادى الآخرة 1408هـ، الموافق 6- 11 فبراير 1988م. بعد اطلاعه على الأبحاث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع (بيع الاسم التجاري والترخيص) والتي تفاوتت في تناولها للموضوع واختلفت المصطلحات المستخدمة فيها تبعا للأصول اللغوية التي ترجمت عنها تلك الصيغ العصرية، بحيث لم تتوارد الأبحاث على موضوع واحد وتباينت وجهات النظر. قرر ما يلي: أولا: تأجيل النظر في هذا الموضوع إلى الدورة الخامسة للمجلس حتى تستوفي دراسته من كل جوانبه مع مراعاة الأمور التالية: أ - اتباع منهجية مقاربة في البحث تبدأ من مقدماته التي يتم فيها تحرير المسألة وتحديد نطاق البحث مع تناول جميع المصطلحات المتداولة في الأبحاث الحقوقية مع مرادفاتها. ب - الإشارة إلى السوابق التاريخية للموضوع وما طرح فيه من أنظار شرعية أو حقوقية لها أثر في إيضاح التصور وأحكام التقسيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2083 ثانيا: محاولة إدراج موضوع (بيع الاسم التجاري والترخيص) تحت موضوع عام لتكون الدراسة أحكم والفائدة أعم وأوسع، وذلك تحت عنوان (الحقوق المعنوية) لكي تستوفي المفردات الأخرى من مثل (حق التأليف – حق الاختراع أو الابتكار – حق الرسالة – حق الرسوم والنماذج الصناعية والتجارية من علامات وبيانات..إلخ) . ثالثا: يمكن للباحثين أن يركزوا على مفردة معينة من الحقوق المشار إليها، كما يمكنهم توسيع نطاق أبحاثهم لتشمل المفردات المتقاربة في هيكل الموضوع العام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2084 قرار رقم (8) د 40/ 08/ 88 بشأن التأجير المنتهي بالتمليك والمرابحة للآمر بالشراء وتغير قيمة العملة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (8) د /08/ 88 بشأن التأجير المنتهي بالتمليك والمرابحة للآمر بالشراء وتغير قيمة العملة إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 – 23 جمادى الآخرة 1408هـ، الموافق 6- 11 فبراير 1988م. قرر ما يلي: أولا: تأجيل النظر في كل من موضوع (التأجير المنتهي بالتمليك) وموضوع (المرابحة للآمر بالشراء) وكذلك تأجيل البت في موضوع (تغير قيمة النقد) للحاجة لاستيفاء جوانبه إلى الدورة القادمة: ثانيا: تكليف الأمانة العامة استيفاء دراسة الموضوعين واستحضار ما قدم من أبحاث في موضوع (التأجير المنتهي بالتمليك) وما صدرت فيه من قرارات عن الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي التي عقدت عام 1407هـ (1987م) . وما قدم من أبحاث في موضوع (المرابحة للآمر بالشراء) في ندورة استراتيجية الاستثمار في المصارف الإسلامية التي أقيمت في عمان عام 1407هـ (1987م) . بالتعاون بين المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب للبنك الإسلامي للتنمية، والمجمع الملكي للحضارة الإسلامية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2085 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.. قرار رقم (11) دع /08/ 88 بشأن مشروع الموسوعة الفقهية إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408هـ، الموافق 16-11 فبراير 1988م. بعد دراسة التقرير المعد من اللجنة المكلفة بإعداد الخطة التنفيذية لمشروع الموسوعة الفقهية، والمشتمل على الخطوات المقترحة للتنفيذ، وهيكل الزمرة المرشحة للبدء بها (زمرة المشاركات) ، وخطط مقرراتها. وبعد اطلاعه على تقرير اللجنة الفرعية المكونة في أثناء انعقاد هذه الدورة لدراسة مشروع الموسوعة الفقهية وتوصيتها باعتماد الخطة التنفيذية للمشروع وفق التعديل المقترح منها، والجوانب المقترح إدخالها على خطط الموضوعات والمراجع المضافة إلى قائمة المراجع. قرر ما يلي: اعتماد الخطة التنفيذية الواردة في تقرير اللجنة المكلفة بإعدادها وفق الاقتراحات المقترحة من اللجنة الفرعية، وتكليف الأمانة العامة للمجمع متابعة تنفيذه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2086 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.. قرار رقم (12) دع /08/88 بشأن مشروع موسوعة القواعد الفقهية إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408هـ، الموافق 16-21 فبراير 1988م. وبعد دراسة التقرير المعد عن مشروع معلمة القواعد الفقهية واطلاعه علي تقرير اللجنة المكونة في أثناء انعقاد هذه الدورة لدراسة مشروع موسوعة القواعد الفقهية ومراحل السير فيه، والمشتمل علي الصياغة النهائية للمشروع ثم المراحل السبع المقترحة لإعداد الموسوعة وما في المرحلة الأولى والخامسة من تعدد الرأي. قرر ما يلي: أولا: اعتماد الصياغة النهائية لمشروع موسوعة القواعد الفقهية والمراحل المتفق علي اقتراحها من لجنة المشروع. ثانيا: تكليف الأمانة العامة للمجمع متابعة تنفيذ ما يترك لها اختيار ما تراه مناسبا من الرأيين المطروحين من لجنة المشروع بالنسبة للمرحلة الأولى والخامسة من مراحل إعداده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2087 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي سيدنا محمد خاتم النبيين وعلي آله وصحبه.. قرار رقم (10) دع/08/ 88 بشأن مشروع تيسير الفقه إن مجلس الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة، الموافق 6-11 فبراير 1988م. بعد دراسة التقرير المعد عن مشروع تيسير الفقه والمشتمل علي الخطة المقترحة للمشروع كما وردت من اللجنة المكلفة بالإشراف عليه. وبعد اطلاعه علي تقرير اللجنة الفرعية المكونة في أثناء انعقاد هذه الدورة لدراسة مشروع تيسير الفقه وتوصياتها باعتماد الخطة المشار إليها وتكليف الأمانة العامة للمجمع متابعة تنفيذه. قرر ما يلي: اعتماد الخطة الواردة في تقرير اللجنة المشرفة علي مشروع تيسير الفقه وفق التعديل المقترح منها، وتكليف الأمانة العامة للمجمع متابعة تنفيذه.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2088 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وصحبه وعلى آله قرار رقم (9) دع /08 /88 بشأن البهائية إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الرابع بجدة من 18 إلى 23 جمادى الآخرة 1408 هـ (الموافق من 6 إلى 11 فبراير1988م) -انطلاقا من قرار مؤتمر القمة الإسلامي الخامس المنعقد بدولة الكويت من 26 إلى 29 جمادى الأولى 1407هـ (الموافق 26 إلى 29 يناير 1987م) , والقاضي بإصدار مجمع الفقه الإسلامي رأيه في المذاهب الهدامة التي تتعارض مع تعاليم القرآن الكريم والسنة المطهرة. - واعتبارا لما تشكله البهائية من أخطار على الساحة الإسلامية وما تلقاه من دعم من قبل الجهات المعادية للإسلام. -وبعد التدبر العميق في معتقدات هذه الفئة والتأكد من أن البهاء مؤسس هذه الفرقة يدعي الرسالة ويزعم أن مؤلفاته وحي منزل, ويدعو الناس أجمعين إلى الإيمان برسالته, وينكر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو خاتم المرسلين ويقول: إن الكتب المنزلة عليه ناسخة للقرآن الكريم, كما يقول بتناسخ الأرواح. -وفي ضوء ما عمد إليه البهاء في كثير من فروع الفقه بالتغيير والإسقاط, ومن ذلك تغييره لعدد الصلوات المكتوبة وأوقاتها إذ جعلها تسعا تؤدى على ثلاث كرات, في البكورة مرة, وفي الأصال مرة, وفي الزوال مرة, وغيَّر التيمم فجعله يتمثل في أن يقول البهائي: (بسم الله الأطهر الأطهر , وجعل الصيام تسعة عشر يوما تنتهي في عيد النيروز في الواحد والعشرين من مارس في كل عام, وحول القبلة إلى بيت البهاء في عكا بفلسطين المحتلة وحرم الجهاد وأسقط الحدود وسوى بين الرجل والمرأة في الميراث وأحل الربا) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2089 وبعد الاطلاع على البحوث المقدمة في موضوع (مجالات الوحدة الإسلامية) المتضمنة التحذير من الحركات الهدامة التي تفرق الأمة وتهز وحدتها وتجعلها شيعا وأحزابا وتؤدي إلى الردة والبعد عن الإسلام. يوصي: بوجوب تصدي الهيئات الإسلامية في كافة أنحاء العالم بما لديها من إمكانات لمخاطر هذه النزعة الملحدة التي تستهدف النيل من الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة. ويقرر: اعتبار ما ادعاه البهاء من الرسالة ونزول الوحي عليه ونسخ الكتب التي أنزلت عليه للقرآن الكريم، وإدخاله تغييرات على فروع شريعة ثابتة بالتواتر، هو إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة، ومنكر ذلك تنظبق عليه أحكام الكفار بإجماع المسلمين. والله أعلم.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2090 مشروع الموسوعة الفقهية تقرير عن اجتماع اللجنة المكلفة بإعداد الخطة التنفيذية للموسوعة الفقهية. زمرة المشاركات والتصرفات المشاكلة لها. (مقدمة عن الزمرة والخصائص العامة للمشاركات) تقرير اللجنة الفرعية المشكلة لدراسة مشروع الموسوعة الفقهية. قرار رقم (11) دع /08/ 88 بشأن الموسوعة الفقهية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2091 بسم الله الرحمن الرحيم تقرير عن اجتماع اللجنة المكلفة بإعداد الخطة التنفيذية للموسوعة الفقهية 27-29/ 6 /1407 هـ - 25-27/ 2/ 1987م بدأت الاجتماعات المشار إليها أعلاه في مقر المجمع (في المكتبة) الساعة العاشرة من صباح يوم الأربعاء المؤرخ 27 جمادى الآخر 1407هـ الموافق5 2 فبراير 1987م. بواقع جلستين يوميا إحداهما من الصباح إلى الظهيرة، والأخرى عقب صلاة العصر إلى العشاء، فضلا عن جلسات تكميلية بعد العشاء عقدها الأعضاء في الفندق الذي ينزلون فيه.. وقد شارك في الاجتماعات المشار إليها كل من: - الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان. - الدكتور نزيه كمال حماد. - الدكتور عبد الستار أبو غدة- عضو المجمع (مقررا) . واعتذر عن عدم الحضور الدكتور محمد إبراهيم علي لارتباطه بعمله في جامعة أم القرى. وقد استهلت الاجتماعات بتقديم المقرر تلخيصا لما عرض في دورات المجمع السابقة، وما صدر عنه فيها بشأن الموسوعة المجمعية لفقه المعاملات، ولا سيما ما يتصل بخصائص الموسوعة وقيودها ومتطلباتها التي اعتمدها مجلس المجمع في دورته الثانية، وكذلك اللوائح المالية التي اعتمدها في دورته الثالثة، فضلا عن المذكرة التوضيحية الشارحة لخصائص الموسوعة، والمفصلة للخطوات التنفيذية المطلوبة لإعدادها والمشتملة على التقسيم المختار من حيث الزمر والأبواب. وقد تمت الإشارة إلى إمكانية التعديل في المذكرة التوضيحية ولا سيما في الزمر زيادة ونقصا لها من حيث هي أو لما اشتملت عليه من أبواب إثباتا وحذفا ونقلا. وكذلك من الممكن (اقتراح) التعديلات بشأن (خصائص الموسوعة) و (لوائحها) للنظرفي ذلك من قبل مجلس المجمع الذي اعتمدها. وبعد هذه التوطئة التي كان لا بد منها لتحديد المطلوب إنجازه من هذه اللجنة والإطار الدقيق لعملها استعرض الأعضاء جدول الأعمال الذي جاء في خطاب الدعوة من الأمين العام للمشاركة في الاجتماع وأقر وهو: ا - تحديد الموضوعات (عشرة) التي سيتم الاستكتاب فيها في المرحلة الأولى (وتخطيط تلك الموضوعات المستكتب فيها من تمام المهمة) . 2 - وضع أنموذج من الكتابة الموسوعية، في أحد الموضوعات المختارة، وذلك لتعميمه على المستكتبين. 3- وضع قائمة بأسماء المستكتبين الذين يمكن للمجمع تكليفهم بالكتابة في المواضيع المدرجة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2092 4 - وضع قائمة بأسماء من يمكن أن توكل إليهم مهمة المراجعة. 5 - تعيين لجنة اعتماد الكتابات المعدة للنشر وتحديد برنامج اجتماعاتها. 6 - مراجعة اللوائح المالية التي أعدت لمكافآت المستكتبين والمراجعين ونحوهم. وقد اختارت ترتيبا آخر لهذه المهام - مع ظهور دقة ترتيبها ومنطقيته - حرصا على إنجاز أكبر قدر منها في الوقت القصير المتاح، وللفراغ مما يتطلب الاستفادة من المكتبة، أو ينبغي له تواجد جميع الأعضاء قبل انشغال بعضهم بارتباطات أخرى. البند الأول: (تحديد 10 موضوعات للاستكتاب وتخطيطها) : استعرضت اللجنة المعاملات المالية (التي هي موضوع موسوعة المجمع) بأبحاثها التي سيقت زمرا، وطرحت آراء حول موقع مفردات كل زمرة، وتبين أنه لا بد من استكتاب أبحاث زمرة كاملة، ليمكن عند إنجازها نشر جميع تلك الزمرة، لتلافي ما هو معهود في عالمنا الإسلامي من عدم الصبر والأناة على المشاريع العلمية إلى أن يكتمل إنجازها كلية. ولا ضير من عدم ترتيب نشر الزمر المكتملة تباعا، لأن ذلك يستدرك عند إكمال نشرها جميعا، حيث يعاد طبعها مرتبة فيما بينها: المعاوضات ثم التبرعات ثم.. أو تجلد الأجزاء التي ظهرت لكل زمرة وترقم مجلداتها متسلسلة كما ينبغي. على أن البدء بتوزيع زمرة للكتابة، لا يمنع من تجهيز زمرة أخرى ليصار إلى توزيعها بمجرد ما يطمأن إلى أن الإجراءات المتخذة للزمرة السابقة صالحة لإيتاء ثمرتها. لذا تقرر اختيار (زمرة المشاركات) ، لما لها من الأهمية في المجال الاقتصادي. وقد حرر النظر في مفرداتها ورتبت فيما بينها وقد أنافت عن العدد المطلوب تحديده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2093 ثم قامت اللجنة بوضع مخططات زمرة المشاركات كلها بالرجوع إلى كتب الفقه والتقنينات فضلا عن المؤلفات الخاصة في البحث نفسه إن وجدت. (والمخططات مرفقة بالتقرير) . ولا يخفى أن هذه المخططات للاستئناس ومن حق الكاتب أن ينصرف في منهج بحثه بما تمليه عليه طبيعته عندما يباشر كتابته، من غير أن يخرج عن الإطار العام للبحث (كما يستخلص من المخطط) أو يقحم فيه ما ليس منه. وروعي أن يستكمل كل بحث مسائله ولو وقع تكرار بين بحث وآخر لتشابه الصور أو الأحكام؛ لأن علاج ذلك في يد لجنة الاعتماد بما تراه أنسب بعد أن ترد إليها الأبحاث. البند الثاني: (كتابة نموذج لبحث موسوعي) : رأت اللجنة أن إنجاز هذا النموذج لن يكفي له الوقت المحدد لجميع مهامها، ولو اشتغلت بهذا البند لحال دون بقية المهام مع عدم التيقن من إنجاز النموذج على النحو المرغوب. لذا تقرر إرجاؤه، ويمكن أن يعهد إلى مقرر اللجنة السير في إنجازه بمعرفة الأمانة. البند الثالث: (قائمة المستكتبين) : استعرضت اللجنة القوائم المدرجة في مجلة المجمع لأعضائه وخبرائه ومن تبادر إلى الأذهان من المتمرسين بالكتابة الفقهية والمشاركين بأبحاث ودراسات في أقسام الفقه والأصول بكليات الشريعة. وانتهت إلى القائمة المرفقة بالتقرير وهي عجالة لتسيير عملية الكتابة، مع العلم أنه لا بد من توسيع رقعة التعاون؛ لأن ظروف المستكتبين قد تحملهم على الاعتذار أو الإبطاء. لذا تقترح اللجنة قيام الأمانة العامة بمخاطبة الجهات المسئولة عن الهيئات التدريسية بكليات الشريعة في قسمي الفقه والأصول لموافاتها بقوائم بهم وبدرجاتهم العلمية وأسماء أطروحاتهم وإنتاجهم العلمي، وبذلك يتوافر العدد الكفيل بانتظام عملية الاستكتاب لزمرة كاملة أو أكثر إن أمكن. البند الرابع: (قائمة المراجعين) : راعت اللجنة عند اختيار هذه القائمة أن يكون المراجع فقيها مشهورا، له ماضٍ طويل في هذا المجال من خلال الاشتراك في تقويم أبحاث الترقية ونحوها.. ومن المألوف أن لا يقل عدد مراجعي البحث عن ثلاثة، وأن تختلف اتجاهاتهم - ما أمكن - بحسب المذهب أو البيئة الثقافية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2094 وينطبق على موضوع (المراجعين) بعض ما سبق في موضوع المستكتبين. وينبغي أن يتضمن التكليف بالمراجعة الإشارة إلى العناصر المطلوب تفقدها في البحث بوجه خاص (فضلا عما جاء في خصائص موسوعة المجمع) وهذه العناصر هي: (أصالة البحث - جهد الكاتب في بيان المعلومات وترتيبها - جودة التعبير إنشاء أو اختيارا - عدم الخروج عن موضوع البحث - تنسيق المعلومات ومنهجية البحث - تحديد المراجع بالغزو الدقيق وبيان الطبعات ... ) البند الخامس: (لجنة اعتماد) : تحرت اللجنة في اقتراح أعضاء لهذه اللجنة أن يكونوا ممن جمع إلى أهلية الاستكتاب المقدرة على كل من المراجعة، والتعديل معا، لأنه سيوكل إلى هذه اللجنة النظر في ملاحظات المراجعين واتخاذ الخطوات اللازمة لتنفيذ ما تقضي به من تعديلات (إن وافقت اللجنة عليها) . أما طريقة عمل هذه اللجنة فهي جمعها كلما توافر لدى الأمانة قدر مناسب من الأبحاث لأن ما يستدعيه تنسيق الأبحاث وتحريرها من تعديلات أو زيادة أو حذف يحتم أن يكون عمل (لجنة الاعتماد) جماعيا من خلال جلسات علمية تعقد وينظر فيها المضمون والأسلوب وليتحقق فيها من المراجع إن ظهرت الحاجة، ولا بد أن يكون في هذه اللجنة (الأمين العام) وبعض المعنيين بالموسوعات، أو الممارسين لمهمة (التحكيم) ، مع مراعاة تعدد المذاهب ما أمكن. وهو ما حاولت اللجنة مراعاته في اقتراحها. ولتوفير الوقت ترسل الأبحاث وملاحظات المراجعين إلى أعضاء اللجنة قبل اجتماعهم. البند السادس: (مراجعة اللوائح المالية للموسوعة) : راجعت اللجنة ما جاء عن الموسوعة في اللوائح المالية، سواء في عملية الاستكتاب، أو المراجعة. وهي المواد (1 - 12) ولم يبد لها ملاحظة جوهرية فيها، وترى أن تلك المكافآت مناسبة. وهناك ما يقتضي التوضيح في المادة (12) عند الحديث عن مكافآت الصفحات الزائدة عن (25) صفحة وهي عبارة وللصفحات الزائدة (100) هي بواقع (5) دولارات ولما زاد عن المائة بواقع (3) دولارات على ألا تقل.. يبدو أنه سقطت كلمة (لغاية) بين (الزائدة) ورقم 100 فتصحح العبارة على النحو التالي وللصفحات الزائدة لغاية (100) هي بواقع (5) دولارات للصفحة، ولما زاد عن المائة بواقع (3) دولارات للصفحة.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2095 بند ما يستجد من أعمال: حيث إن موسوعة المجمع لها خصائصها المختلفة عن الموسوعات القائمة، لذا تقترح اللجنة أن تتضمن رسالة الاستكتاب أهم هذه الخصائص - رغم ورودها كاملة في مرفقات الرسالة مع مخطط البحث - والحقوق المالية للكاتب وما عليه من التزامات أدبية. وعلى سبيل المثال خصيصة شمول المسائل المستحدثة، واستغراق جميع المراجع مهما كان عصرها أو شكلها كأعمال المجامع والمؤتمرات والندوات والدوريات، وتقترح اللجنة تجميع قوائم هذا النوع المتفرق من المراجع، وحصر الدوريات التي تعنى بالأبحاث الفقهية الجديدة أو بالفتاوى المعاصرة. ويناط بالأمانة توفير المراجع الخاصة بالمسائل المستحدثة مما سبقت الإشارة إليه لصعوبة حصول الأفراد على ذلك جميعه. كما تتضمن رسالة الاستكتاب تحديد أمد الإنجاز (وهو يتراوح بين 3 - 6 شهور تمدد بالطلب إلى 9 ثم يلغى الاستكتاب إن لم يرد البحث خلال 12 شهرا) . هذا ما انتهت إليه اللجنة، وتأمل أن يساعد الأمانة فيما تبديه من حرص على تنفيذ قرارات المجمع وما توليه لمشاريعه من اهتمام. والله الموفق. مقرر اللجنة د. عبد الستار أبو غدة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2096 زمرة المشاركات والتصرفات المشاكلة لها (مقدمة عامة عن الزمرة والخصائص العامة للمشاركات) (1) أولا: شركة الملك والأحكام المتعلقة بها: أ - شركة الملك. ب - أحكام الجوار والمرافق المشتركة. ثانيا: شركة العقد: (تمهيد عام للتعريف والمشروعية إجمالا، والتقسيمات) أ - المفاوضة. ب - العنان. ج- الوجوه (المفالس) . د- الأبدان (الصنائع، أو التقبل) . هـ- المضاربة (القراض، أو المقارضة) . و الإبضاع (أو المباضعة) . ز- المزارعة (أو المخابرة) . ح- المساقاة (أو المعاملة، أو المعاقدة) . ط- المغارسة (أو المناصبة) . ثالثا: التصرفات المشاكلة للشركة: أ - القسمة. ب - المهايأة (أو التهايؤ) . ج- التخارج (أو المخارجة) . رابعا: الشركات الحديثة بجميع أنواعها من أشخاص وأموال ومدنية وتجارية أو مدنية بشكل تجاري.   (1) المقدمة العامة والتمهيد العام يكتبان (بعد تمام موضوعات الزمر) داخليا بمعرفة الأمانة العامة ولا داعى لاستكتابها خارجيا، لأنهما لمجرد التوطئة لما بعدها من أبحاث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2097 مخطط بحث (شركة الملك) أ) تعريف شركة الملك. ب) أقسام شركة الملك. أولا: من حيث الموضوع: شركة الدين، وشركة غير الدين (العين- الحق- المنفعة) . ثانيا: من حيث الاختيار وعدمه: شركة اختيارية وشركة اضطرارية. ج) أحكامها: (حكم التصرفات التعاقدية في نصيب الشريك – بيع الشريك حصته لشريكه أو لغيره –حق الشريك في الانتفاع بمال المشترك في حال حضوره أو غيابه- النفقة على المال المشترك – الدين المشترك) . مخطط بحث (أحكام الجوار والمرافق المشتركة) الجوار: أ) تعريف الجوار. ب) المصطلحات ذات العلاقة. ت) ما ورد في شأن الوصاية بالجوار. ث) أحكام ما هو مشترك بين الجيران. أولا: أحكام الطريق غير النافذ المشترك. ثانيا: أحكام الحائط المشترك. ثالثا أحكام الأملاك المشتركة الموقوفة وغير الموقوفة. هـ) أحكام ما ليس بمشترك بين الجيران. و) حكم تمليك الهواء (العلو) والتخوم. ز) فتح النوافذ أو إحداث شيء في جدار الجار. ح) حق صاحب العلو. ط) أحكام المرافق الموجودة من القديم. ي) حكم المنافذ التي يتضرر منها الجار. ك) إزالة الضرر الذي يتحقق من كشف الجار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2098 المرافق: أ) تعريف المرافق. ب) المصطلحات ذات العلاقة (الارتفاق- الإقطاع) . ج) حكم إقطاع الإمام الجلوس بطريق واسعة ورحبة مسجد. د) النزول في خان مسبل ورباط ومدرسة وخانكاه. هـ) حمى الموات لرعي دواب المسلمين. و) نقص الإمام الحمى. ز) الماء النازل من العلو وحق السقيا منه. ح) حق الجماعة في النهر الصغير المستمد من نهر كبير. ى) التصرف في الماء المشترك. مخطط بحث (شركة العقد) تمهيد عام لشركة العقد يتناول (تعريفها-مشروعيتها- حكمتها- تقسيمها باعتبار المحل- تقسيمها باعتبار التساوي والتفاوت- تقسيمها باعتبار العموم والخصوص- تقسيمها باعتبار الاختيار والجبر) . ملحوظة: هذا التمهيد يكتب داخليا بمعرفة الأمانة, ولا داعي لاستكتابه خارجيا, لأنه لمجرد التوطئة لأنواع شركة العقد. مخطط بحث (شركة المفاوضة) أ) تعريفها. ب) مشروعيتها وحكمتها. ج) أركانها. د) شروطها: 1- قابلية الوكالة. 2- معلومية الربح. 3- أهلية الكفالة. 4- التساوي في أهلية التصرف. 5- تساوى الحصص في الربح. 6- التعبير بلفظ المفاوضة. 7- أن لا يشترط العمل على أحد الشريكين. 8- أن يكون رأس المال عينا لا دينا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2099 9- أن يكون رأس المال من الأثمان. 10- أن يكون رأس المال حاضرا عند الشراء. 11- المساواة في رأس المال. 12- شمول رأس المال لكل مل يصلح له من مال الشريكين. 13- إطلاق التصرف لكل شريك في جميع أنواع التجارة. هـ) أحكامها: أولا: الاشتراك في الأصل والغلة. ثانيا: عدم لزوم العقد. ثالثا: يد الشريك يد أمانة. رابعا: ما يستحق به الربح. و) ما يجوز وما لا يجوز في شركة المفاوضة: 1- صحتها مع اختلاف جنس رأس المال وصفته. 2- صحتها مع عدم خلط المالين. 3- صحتها مع تسليم المالين. 4- لكل من الشريكين أن يبيع نقدا ونسيئة. 5- لكل من الشريكين أن يوكل في البيع والشراء وسائر التصرفات. 6- لكل من الشريكين أن يستأجر من يعمل للشركة. 7- الشريك الذي يؤجر نفسه, لمن تكون أجرته؟ 8- لكل من الشريكين أن يدفع مال الشركة إلى أجنبي مضاربة. 9- لكل من الشريكين أن يبضع مال الشركة. 10- لكل من الشريكين أن يودع مال الشركة. 11- لكل من الشريكين أن يسافر بمال الشركة. 12- لكل من الشريكين أن يقابل فيما بيع من مال الشركة. 13- لكل من الشريكين أن يبيع مرابحة ما اشترى للشركة. 14- ليس لأحد الشريكين إتلاف مال الشركة أو التبرع منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2100 15- ليس لأحد الشريكين أن يؤدي زكاة مال الآخر إلا بإذنه. 16- ليس لأحد الشريكين أن يخلط مال الشركة بمال له خاص دون إذن. 17- كل ما اشتراه أحدهما فهو للشركة إلا حوائجه وحوائج أهله الأساسية. 18- ما لزم أحدهما من دين التجارة أو ما يجرى مجراه يلزم الآخر. 19- حقوق العقد. 20- تصرف المفاوض. 21- بيع المفاوض ممن ترد شهادته له صحيح نافذ. 22- للمفاوض أن يشارك شركة عنان. ز) فساد شركة المفاوضة وأحكامها. ح) انتهاؤها: أولا: فسخ أحد الشريكين. ثانيا: إنكار أحدهما الشركة. ثالثا: جنون أحداهما جنونا مطبقا. رابعا: موت أحدهما. خامسا: القضاء بلحاق أحدهما بدار الحرب مرتدا. سادسا: مخالفة شروط العقد. سابعا: هلاك المال في شركة الأموال. ثامنا: فوات التساوي في شركة المفوض تاسعا: انتهاء المدة في الشركة المؤقتة. مخطط (شركة العنان) أ) تعريفها. ب) مشروعيتها وحكمتها. ج) أركانها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2101 د) شروطها: 1- قابلية الوكالة. 2- معلومية الربح بالنسبة. 3- أن يكون رأس المال عينا لا دينا. 4- أن يكون رأس المال من الأثمان. 5- أن يكون رأس المال حاضرا عند الشراء. هـ) أحكامها: أولا: الاشتراك في الأصل والغلة. ثانيا: عدم لزوم العقد. ثالثا: يد الشريك يد أمانة. رابعا: ما يستحق به الربح. و) ما يجوز وما لا يجوز في شركة العنان: 1- صحتها مع اختلاف جنس رأس المال وصفته. 2- صحتها مع عدم خلط المالين. 3- صحتها مع تسليم المالين. 4- لكل من الشريكين أن يبيع نقدا ونسيئة. 5- لكل من الشريكين أن يوكل في البيع والشراء وسائر التصرفات. 6- لكل من الشريكين أن يستأجر من يعمل للشركة. 7- الشريك الذي يؤجر نفسه, لمن تكون أجرته؟ 8- لكل من الشريكين أن يدفع مال الشركة إلى أجنبي مضاربة. 9- لكل من الشريكين أن يبضع مال الشركة. 10- لكل من الشريكين أن يودع مال الشركة. 11- لكل من الشريكين أن يسافر بمال الشركة. 12- لكل من الشريكين أن يقابل فيما بيع من مال الشركة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2102 13- لكل من الشريكين أن يبيع مرابحة ما اشتري للشركة. 14- ليس لأحد الشريكين إتلاف مال الشركة أو التبرع منه. 15- ليس لأحد الشريكين أن يؤدي زكاة مال الآخر إلا بإذنه. 16- ليس لأحد الشريكين أن يخلط مال الشركة بمال له خاص دون إذن. 17- ليس كل ما يشتريه أحد الشركين يكون للشركة. 18- الدين الذي يلزم أحد الشريكين لا يؤخذ به الآخر. 19- حقوق العقد إذا تولاه أحد الشريكين قاصرة عليه. 20- نفاذ تصرف شريك العنان على شريكه يختص بالتجارة. 21- بيع شريك العنان لمن ترد شهادته له باطل في حصة شريكه. 22- ليس لأحد شريكي العنان أن يشارك بغير إذن شريكه. ز) فساد شركة العنان وأحكامها. ح) انتهاء الشركة: أولا: فسخ أحد الشريكين. ثانيا: إنكار أحد الشريكين. ثالثا: جنون أحدهما جنونا مطبقا. رابعا: موت أحدهما. خامسا: القضاء بلحاق أحدهما بدار الحرب مرتدا. سادسا: مخالفة شروط العقد. سابعا: هلاك المال في شركة الأموال. ثامنا: انتهاء المدة في الشركة المؤقتة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2103 مخطط بحث (شركة الوجوه) أ) تعريفها. ب) مشروعيتها وحكمتها. ج) أركانها. د) شروطها. هـ) أحكامها (تطبيق أحكام ما انعقدت عليه المفاوضة أو العنان) . و) انتهاؤها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2104 مخطط بحث (شركة الأبدان) أ) تعريفها. ب) تسمياتها (شركة الصنائع –شركة التقبل – شركة الأعمال) . ج) مشروعيتها د) حكم مشروعيتها. هـ) أركانها. و) شروطها. ) أحكامها (تطبيق أحكام ما اتفق عليه من المفاوضة أو العنان) . و) انتهاؤها. مخطط بحث (المضاربة) أ) تعريف المضاربة. ب) الألفاظ ذات الصلة: الإضباع – القرض) ج) مشروعيتها، حكمتها. د) أركان المضاربة. هـ) شروط المضاربة. و) أقسام المضاربة (مطلقة –مقيدة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2105 ز) التكييف الشرعي للمضارب في أحواله: أولا: المضارب أمين عند تسليم رأس المال. ثانيا: وكيل عند التصرف في رأس المال، التصرف المأذون فيه. ثالثا: شريك عند وجود الربح. رابعا: أجير عند فساد العقد. خامسا: غاصب عند المخالفة والتعدي. ح) تصرفات المضارب الجائزة: أولا: ما لا يحتاج إلى إذن (الشراء – والبيع – التوكيل – الاستئجار –السفر –محال المضاربة – إيداع مال المضاربة –إبضاع مال المضاربة – الحوالة –بمال المضاربة - الرهن) . ثانيا: ما يحتاج إلى إذن عام (المضاربة – الشركة - الخلط) . ثالثا: ما يحتاج إلى إذن خاص (الاستدانة –التبرعات – الإقراض – العتق) . ط) ما يمتنع من تصرفات على المضاربة. ى) أحوال المضاربة: -تعدد المضارب. - المضاربة الفاسدة ك) ما تنتهي به المضاربة. ل) حساب الربح والخسارة والنفقات وتحمل التبعات. م) الاختلاف في المضاربة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2106 مخطط بحث (الإبضاع) أ) تعريف الإبضاع. ب) المصطلحات ذات الصلة: القراض – القرض) ج) مشروعيته، وحكمته. د) أركان الإبضاع. هـ) شروط الإبضاع. و) من يملك إبضاع المال. ز) أحكام الإبضاع. ح) انتهاء الإبضاع. ط) الاختلاف فيه. مخطط بحث (المزارعه) أ) تعريف المزارعة. ب) المصطلحات ذات العلاقة: المساقاة – المغارسة – المعاملة – المخابرة. ج) مشروعيتها، وحكمتها. د) طرفا المزارعة، ومحلها. هـ) أركانها. و) شروطها: في العاقدين والأرض والبذرة، والمدة، والعمل، والخارج. ز) ما يفسد عقد المزارعة من شروط ونحوها. ح) صور المزارعة وتطبيقاتها. ط) أحكام المزارعة: أولا: حكم المزارعة الصحيحة: -في حال الابتداء. -في حال البقاء. -في حال الانتهاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2107 ثانيا: أحكام المزارعة الفاسدة. ى) انحلال المزارعة: -الفسخ قبل اللزوم. -الفسخ بعد اللزوم للأعذار. -الفسخ لموت أحد المتعاقدين. -الفسخ لمضي المدة. مخطط بحث (المساقاة) أ) تعريف المساقاة. ب) المصطلحات ذات العلاقة: المزارعة –المغارسة. ج) شرعيتها. د) حكم تشريعها. هـ) أطرافها. و) أركان المساقاة. ز) شروط المساقاة. ح) شروط محل المساقاة وهو الشجر: -شروط العمل. -شروط المدة. -شروط الخارج. ط) ما تفسد به المساقاة. ى) أحكام المساقاة. أولا: أحكام المساقاة الصحيحة. -في الابتداء –في البقاء –في الانتهاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2108 ثانيا: أحكام المساقاة الفاسدة. ك) انحلال المساقاة: أولا: انحلال المساقاة بالفسخ. -عذر المالك. -أعذار العامل. ثانيا: انحلال المساقاة بموت أحد المتعاقدين. ثالثا: انحلال المساقاة بمضي المدة. مخطط بحث (المغارسة) أ) تعريفها. ب) المصطلحات ذات العلاقة: المساقاة – المزارعة. ج) مشروعيتها وحكمة تشريعها. د) أطرافها. هـ) أركانها. و) شروطها: -شروط المحل. -شروط العمل. -شروط المدة. -شروط الخارج. ز) ما تفسد به المغارسة. ح) أحكام المغارسة: أولا: أحكام المغارسة الصحيحة. ثانيا: أحكام المغارسة الفاسدة. ط) انحلال المغارسة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2109 مخطط بحث (القسمة) أ) تعريف القسمة. ب) تكييفها، هل هي بيع أو تمييز حقوق؟ والآثار المترتبة على ذلك. ح) مشروعيتها، وحكمتها. د) أنواع القسمة: أولا: باعتبار الحاجة إلى التقويم وعدمه (قسمة الإفراز- قسمة التعديل - قسمة الرد) ثانيا: باعتبار إرادة المتقاسمين (قسمة التراضي - قسمة الإجبار) . ثالثا: باعتبار وحدة المحل وتعدده (قسمة الجمع - قسمة التفريق) . رابعا: باعتبار طبيعة المحل (قسمة أعيان - قسمة منافع) . هـ) شرائط القاسم (الأهلية - الملك - الولاية.. إلخ) . و) أجرة القاسم (من يتحملها، وكيف توزع) . ز) شرائط المقسوم له (طلب الشركاء أو بعضهم - انتفاء الضرر- البينة على إرث المدعى إرثه - رضا الشركاء - حضور الشركاء أو نوابهم) . ح) شرائط الشيء المقسوم (اتحاد الجنس - اتحاد صنف المقولات - زوال العلقة بالقسمة - أن لا تنقص القسمة قيمة المقسوم - تعذر أفراد كل صنف بالقسمة - عدم الجمع بين نصيبين - عدم الرد - أن يكون المال المشترك عينا أو منفعة - أن يكون قابلا للقسمة - أن يكون مملوكا للشركاء عند القسمة - حضور المقسوم أو وصفه - عدم الشرط المنافي للشرع. ط) كيفية القسمة: - في العقار. - في المنقول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2110 ى) آثار القسمة (لزومها - استقلال كل واحد بملك نصيبه، والتصرف فيه.. إلخ) . ك) أحكام الطوارئ (الغبن - العيب - الاستحقاق) . مخطط بحث (المهايأة) أ) تعريف المهايأة. ب) المصطلحات ذات العلاقة: قسمة. ج) مشروعيتها. د) حكمة التشريع. هـ) محل المهايأة. و) أقسامها: مهايأة تراض –مهايأة إجبار. ز) كيفية المهايأة: المهايأة الزمانية –المهايأة المكانية. ح) أحكام المهايأة: 1- عدم اللزوم. 2- عدم انتهاءها بموت أحد الشريكين. 3- انتهاؤها بتلف العين. 4- عدم الضمان إذا انتهت بغير فسخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2111 5- حق الاستعلال لكل شريك فيما وقع له بالمهايأة على سبيل الاختصاص. 6- عدم ضمان النقص بالاستغلال. مخطط بحث (التخارج) أ) التعريف. ب) المصطلحات ذات العلاقة: قسمة –صلح. ج) مشروعيته. د) حكم مشروعيته. هـ) أركان التخارج. و) من يملك التخارج. ز) شروط صحة التخارج. ح) تقسيم التخارج. أولا: يحسب البدل: من نفس التركة –من غيرها. ثانيا: يحسب نوعية التركة. ط) كون بعض التركة دينا قبل التخارج. ى) ظهور دين على التركة بعد التخارج. ك) ظهور دين للميت بعد التخارج. ل) كيفية تقسيم التركة بعد التخارج. تخارج الموصي له بشيء من التركة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2112 مخطط بحث (الشركات الحديثة) أ- تعريفها. ب- مشروعيتها في الجملة. ج- أنواع الشركات الحديثة من حيث كونها مدنية أو تجارية. د- خصائص الشركات التجارية والتكييف الفقهي لتلك الخصائص. هـ- أنواع الشركات التجارية. و شركات الأشخاص (أو شركات الحصص) . ز- مشروعيتها في الجملة. ح- تعريفها وخصائصها. ط- صورها إجمالا (التضامن –التوصية البسيطة –المحاصة) . ى- شركات الأموال (أو الشركات المساهمة) . ك- تعريفها وخصائصها. ل- مشروعيتها في الجملة. م- صورها بإجمال (المساهمة المغفلة –التوصية المساهمة –المحدودة المسئولية) . مخطط بحث (شركة التضامن) أ - تعريفها (وكونها من شركات الأشخاص) . ب -خصائصها. ج - تكيبفها الفقهي. د - أركانها (انعقادها) . هـ- شروطها. و إدارتها: - مدير الشركة. - صلاحية الشركاء غير المديرين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2113 ز - توزيع الأرباح والخسائر. ح- انقضاؤها. ط-تصفيتها، وقسمتها. مخطط بحث (شركة التوصية البسيطة) أ - تعريفها (وكونها من شركات الأشخاص) . ب - المصطلحات ذات العلاقة: شركة التوصية المساهمة. ج- خصائصها. د- طبيعتها المركبة لاختلاف نوعي الشركاء فيها. هـ- تكييفها الفقهي عموما. و تكييف انحصار المسؤولية بالنسبة للموصين بقيمة الحصص في الشركة. ز- أركانها (انعقادها) . ح- شروطها. ط - إدارتها: - مدير الشركة. -الشركاء المفوضون. ى- توزيع الأرباح والخسائر. ك- انقضاؤها. ل- تصفيتها وقسمتها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2114 مخطط بحث (شركة المحاصة) أ - تعريفها (وكونها من شركات الأشخاص) . ب - خصائصها. ج- تكييفها الفقهي. د- أركانها (انعقادها) . هـ- شروطها. و إدارتها: - مدير المحاصة. - الشركاء المحاصون. ز- توزيع الأرباح والخسائر. ح- انقضاؤها. ط- تصنيفها وقسمتها. مخطط بحث (الشركات المساهمة المغفلة) أ - تعريفها (وكونها من شركات الأموال –الشركات المساهمة) . ب - خصائصها ج- تكييفها الفقهي. د- أركانها (انعقادها) . هـ- شروطها. و إدارتها: - مجلس الإدارة. - المدير - الجمعية العمومية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2115 ز- توزيع الأرباح والخسائر. ح- انقضاؤها. ط- تصفيتها وقسمتها. مخطط بحث (شركة التوصية المساهمة) أ - تعريفها (وكونها من شركات الأموال – الشركات المساهمة) . ب - خصائصها. ج- المصطلحات ذات العلاقة: شركة التوصية البسيطة. د- تكييفها الفقهي. هـ- أركانها (انعقادها) . و شروطها. ز- إدارتها: -الشريك المدير. -الشركاء المفاوضون. ح- توزيع الأرباح والخسائر. ط- انقضاؤها. ى- تصفيتها وقسمتها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2116 مخطط بحث (الشركة المحدودة المسؤلية) أ- تعريفها (وكونها من شركات الأموال –الشركات المساهمة –والخلاف في ذلك) . ب-خصائصها. ج- تكييفها الفقهي. د- أركانها (انعقادها) . هـ- شروطها. و إدارتها: -المدير. -جمعية الشركاء. - مراقبة الإدارة. ز- توزيع الأرباح والخسائر. ح- انقضاؤها. ط- تصفيتها وقسمتها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2117 بسم الله الرحمن الرحيم تقرير اللجنة الفرعية المشكلة لدراسة مشروع الموسوعة الفقهية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. وبعد، فقد اجتمعت اللجنة الفرعية المشكلة لبحث الخطة التنفيذية للموسوعة الفقهية، بحضور كل من: - فضيلة الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة. - فضيلة القاضي محمد تقي العثمانى. - فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع. - سعادة الأستاذ سيدي محمد يوسف جيري. - فضيلة الدكتور نزيه كمال حماد. - فضيلة الدكتور عبد الستار أبوغدة مقرر. وقد قدم المقرر بيانا للمراحل التي مر بها مشروع الموسوعة الفقهية منذ إقرار المجمع له واعتماد خصائص الموسوعة المجمعية لفقه المعاملات، ثم وضع المذكرة التفسيرية لتلك الخصائص مع الخطوات التنفيذية لإعدادها، ثم التقرير المعد عن اجتماع اللجنة المكلفة بإعداد الخطة التنفيذية للموسوعة في اجتماع دعت إليه الأمانة العامة وحضره كل من: - الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان. - الدكتور نزيه كمال حماد. - الدكتور عبد الستار أبوغدة مقرر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2118 وقد اشتمل التقرير المشار إليه - والذي كلفت اللجنة الحالية النظر فيه تمهيدا لإقرار المجمع له - على اختيار زمرة المشاركات (من فقه المعاملات) وتفصيل مفرداتها وخططها مع بيانات إجرائية بشأن الاستكتاب والمراجعة والاعتماد. وقد قامت اللجنة الفرعية بدراسة الخطوات التنفيذية ولا سيما زمرة المشاركات، وخططها وأقرتها بعد إدخال تعديلات تنظيمية في الفقرات الرئيسية للزمرة بحيث أصبحت خمسة بتحويل فقرة (شركة الملك) إلى فقرتين والثانية لشركة الحق بعد استدراك أنواع هذه الشركة وهي: الشركة في المباحات، وفي المرافق المشتركة، وفي بيت المال، وفي استحقاق الوقف، مع أحكام الجوار. وتم إلحاق فقرة التصرفات المشاكلة للشركة بشركة الملك. وتخصيص فقرة باسم (لواحق زمرة المشاركات) لمعالجة المسائل المنثورة في أبواب الفقه، مما مقتضاه الاشتراك، كالحاصل باختلاط الأموال أو الالتصاق بالبناء في أرض الغير. ورئي الاستعانة بأسلوب الإحالات في تلك المسائل بالتعريف بها وإحاللها إلى الأبواب الفقهية التي تعالج فيها مما هو في زمر أخرى غير زمرة المشاركات. وقد تقرر أن يقرن كل بحث باسم كاتبه وذلك بعد انتهاء مرحلة المراجعة والاعتماد وما يقتضيه ذلك من تعديلات مع الإشارة إلى أنه أدخل في البحث تعديلات. كما تم النظر في المراجع الموصى بالاستمداد منها في كل مذهب مع إلحاق مراجع أخرى وتمييز المراجع المعتمدة من المراجع المشهورة مما سيراعى عند طبع قائمة المراجع التي ترسل إلى المستكتبين. كذلك أوصت اللجنة بأن تطلب الأمانة من الكتاب الاهتمام في أبحاثهم بالجوانب إلتي تساعد على فهم الخلافات الفقهية وهي: - تحديد محل الخلاف. - بيان منشأ الخلاف. - الاستدلال، والاستظهار مما يساعد على استمداد التقنينات من الموسوعة. وقد وزع على أعضاء اللجنة الفرعية قائمة المرشحين للاستكتاب والمرشحين للمراجعة لكي يقترحوا آخرين للاحتياط، مع التوصية إلى الأمانة لمخاطبة أعضاء المجمع - إن رأت ذلك - بطلب الترشيح لهاتين المهمتين. ورئي أن المقدمات والتمهيدات المؤجل توزيعها للكتابة يفضل إعدادها بعد الفراغ من مفردات الزمرة ليكون التقديم لها وافيا. وبذلك أنهت هذه اللجنة الفرعية ما عهد إليها به وتوصي بإقرار التقرير المشار إليه من المجمع.. والحمد لله رب العالمين.. د. عبد الستار أبو غدة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2119 مشروع معلمة القواعد الفقهية - المذكرة التفصيلية لمعلمة القواعد الفقهية: فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد. - مخطط أولي في سبيل إيجاد موسوعة القواعد الفقهية: فضيلة الدكتور محمد صدقي بن أحمد البورنو. - محضر جلسة حلول مشروع المعلمة: أمانة المجمع. - حول مشروع إعداد معلمة القواعد الفقهية: فضيلة الأستاذ علي الندوي. - حول مشروع إعداد معلمة القواعد الفقهية: فضيلة الدكتور سعود مسعد الثبيتي. المذكرة الإيضاحية لمعلمة القواعد الفقهية إعداد معالي الدكتور بكر أبو زيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2120 بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، فإن علماء الشريعة العاملين نضر الله وجوههم، ذهبوا في خدمة الشريعة كل مذهب متفننين بالتدوين والتأليف فنتج من هذا الإثراء تولد عدد غير قليل من العلوم الفرعية ومن أجلها: الفروع الفقهية بدقائقها التفصيلية المنتزعة من مصادرها الأصلية: الكتاب والسنة. والأثر فكان من ثمار تلك التفريعات ظهور القواعد الفقهية الجامعة لعدد من المسائل الفرعية فقد تحيط القاعدة بمئات الفروع.. فصارت القاعدة عندهم تعني: كل تأصيل فقهي كلي أو أغلبي يحوي بتقعيده قضاياه وفروعه المتناثرة التي موضوعها هو فعل المكلف. وهذا التقعيد مسبوق بلسان النبوة في: جوامع الكلم ثم على لسان الصحابة والتابعين، ثم يجدها الناظر في عصور التدوين منثورة في ثنايا الأحكام الفقهية التكليفية للتعليل والتدليل، حتى تكونت أمام العلماء ظاهرة الاهتمام بأفرادها في تآليف مستقلة. وكان ذلك في طلائع القرن الرابع الهجري على يد علماء المذهب الحنفي وفي مقدمتهم الكرخي: عبد الله بن الحسن 340 هـ في كتابه المسمى: أصول الكرخي، وأبو زيد عبد الله بن عمر الدبوسي 430 هـ رحمهما الله تعالى. ثم أخذت الكتب في هذا الفن العلمي الجامع تنشر لدى علماء المذاهب وفقهاء الملة، وقد وقع لي نحو من (200) كتاب استخرجتها من كشف الظنون وذيله. يضاف إليها ما يوجد من القواعد المحررة المشروحة بمئات الأمثلة التفريعية لدى شيخ الإسلام ابن تيمية ولدى تلميذه ابن القيم. وقد استقرأت ما لدى ابن القيم فبلغت نحوا من مائتي قاعدة فقهية طبعت في الجزء الأول من كتابي (التقريب لفقه ابن القيم) ا/ص 259 – 292 مبينا مواضعها من كتبه المطبوعة وهي (31) كتابا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2121 المؤلفات المطبوعة فيها: هذا وقد مَنَّ الله تعالى على المسلمين وهو المانُّ وحده بظهور عدد من كتب القواعد الفقهية مطبوعا منها ما يلى: ا - أصول النظر. للكرخي. 2 - تأسيس النظر. للدبوسي. 3 - القواعد النورانية الفقهية. لابن تيمية. 4 - قواعد الأحكام. للعز بن عبد السلام. 5 - القواعد لابن رجب. 6 - الفرائد البهية في القواعد الفقهية. للحسيني الدمشقي من سنة1305 هـ. 7 - الأشباه والنظائر. لابن نجيم. 8- شرحه: غمز عيون البصائر للحموي. 9 - إتحاف الأبصار والبصائر بتبويب الأشباه والنظائر. لأبي الفتح الحنفي. وهي في مجلدين. 10 - نزهة النواظر على الأشباه والنظائر لابن عابدين. 11 - الإسعاف بالطلب على قواعد المذهب. للتواني المالكي. 12 - إيضاح المسالك إلى قواعد مالك. للونشريسي المالكي. 13 - الأشباه والنظائر للسيوطي الشافعي. 14 - المنثور في القواعد. للزركشي الشافعي. 15 - القواعد لابن رجب الحنبلي. 16 - القواعد لابن اللحام الحنبلي. 17 - مجلة الأحكام العدلية (99) قاعدة في مقدمتها. 18 - شرح القواعد الفقهية. لأحمد الزرقاء. 19 - المدخل لمصطفي الزرقاء. 20 - مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الحنابلة في مقدتها (160 قاعدة) . 21 - مختصر قواعد العلائي. 22 - خاتمة مجامع الحقائق. للخادمي الحنفي من سنة 1176هـ. 23 - الفروق للقرافي المالكى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2122 24 - القواعد للمغربى المالكى 758. وقد حقق منه قسم العبادات في: جامعة أم القرى بمكة حرسها الله تعالى. 25 - التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للأسنوي. 26 - تخريج الفروع على الأصول للزنجاني. وهناك رسائل قديمة وحديثة وأخرى جامعية في دراسة قاعدة فقهية بعينها كقواعد: العرف، الضرر، والمصلحة، وسد الذرائع، والضمان، والضرورة ونحوها. وهي مطبوعة ومنتشرة ولله الحمد. بل برزت كتب مطبوعة شارحة للقواعد في جوانبها كافة، منها: 1 - القواعد الفقهية. لعلى بن أحمد الندوي. 2 - أثر الاختلاف في القواعد الأصولية. للخث. أسباب الدعوة إلى هذا المشروع: مما تقدم يظهر مدى اهتمام العلماء بتشخيص القواعد الفقهية والتفريع عليها. وتظهر أهميتها بما يلى: 1 - جامعيتها، فإن القاعدة قد تنتظم عددا كثيرا من الفروع في عامة أبواب الفقه. 2 - إسعافها للقاضي والمفتي عند غياب النص الفقهي. 3 - فعاليتها المهمة في التطبيقات والنوازل المعاصرة، أنه امتداد لاهتمام العلماء بها ولبالغ أهميتها ولما يلي: أ - عدم وجود مؤلف مستقل ينظم تلك القواعد لدى علماء المذاهب الفقهية. ب - الحاجة إلى تحرير نص القاعدة. ج - إيجاد أقرب سبيل للوقوف عليها. إن لهذه الأسباب ولأن المجامع العلمية ينبغي أن تتبنى مشاريع فيها جدية وتجديد وجامعية واستقطاب، ولأنه لم تسبق حسب التتبع الدعوة إلى هذا المشروع وأعماله فإنه يظهر مناسبا أن يكون من بواكير الإنتاج لهذا المجمع وطلائعه عمل: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2123 معلمة القواعد الفقهية مراعاة فيها ما يلي: 1 - تحرير نص القاعدة وترتيبها. 2 - توثيقها بذكر مصادرها الأصلية والمذهبية. 3- توجيهها أو التدليل عليها. 4 - ذكر بعض فروعها. 5 - التطبيقات المعاصرة عليها ما أمكن. وهذا المشروع مع ضخامته لن ينوء به - إن شاء الله - مجمع يمثل دول العالم الإسلامي ويضم نحو (الهنيدة) من العلماء. وإنه عند الموافقة عليه فإنني إن شاء الله تعالى مستعد للقيام به، على أن ترشح لجنة ثلاثية متخصصة تفحص دوريا ما يتم إنجازه من هذا المشروع المبارك. منح الله الجميع التقوى ومن العمل ما يحب ويرضى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الدكتور بكر أبو زيد مخطط أولي في سبيل إيجاد موسوعة القواعد الفقهية إعداد دكتور محمد صديقي بن أحمد البورنو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2124 بسم الله الرحمن الرحيم يشتمل على ثلاثة أقسام: القسم الأول: تمهيد.. المبحث الأول: المقدمة وموضوعها: الأسباب الداعية إلى جمع القواعد الفقهية وتدوينها والحاجة إليها في عصرنا الحاضر. المبحث الثاني: في مبادئ علم القواعد الفقهية ويشتمل على: أ - تعريف القاعدة في اللغة وفي الاصطلاح الفقهي. ب - تعريف الفقه في اللغة وفي الاصطلاح الفقهي. ج - تعريف القاعدة الفقهية في اصطلاح الفقهاء وأقوال العلماء فيها. د- تعريف علم القواعد الفقهية. هـ - التفريق بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي أو الضابطة الفقهية. و التفريق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية. ز- التفريق بين مسمى القاعدة عند الفقهاء ومسمى المبدأ والنظرية عند المحدثين. ح - بيان مكانة القواعد الفقهية في استنباط الأحكام وفي إثراء الفقه الإسلامي ومدى إمكان الاعتماد على القواعد الفقهية في استنباط الأحكام أو العمل بموجبها. القسم الثاني: ويشتمل على المباحث التالية: المبحث الأول: نبذة تاريخية عن بدء العناية بالقواعد الفقهية وتدوينها واختلاف دلالة القاعدة أو عدم الاختلاف في مدلولها أو الاختلاف في ذلك. المبحث الثاني: حصر المؤلفات في علم القواعد الفقهية قديمها وحديثها وما كتب عنها وترتيب ذلك كله ترتيبا تاريخيا عاما بالنظر إلى سنة وفاة المؤلف أو تاريخ التأليف إن علم، ثم ترتيبها ترتيبا مذهبيا تاريخيا كذلك. المبحث الثالث: ترتيب المؤلفات في القواعد الفقهية ترتيبا منهجيا. وأعني بالمنهجية مدى استيعاب المؤلف في مؤلفه للقواعد الفقهية ومدى تمييزه للقواعد الفقهية - باعتبارها علما مستقلا - عن القواعد الأصولية أو اللغوية أو الكليات أو المسائل الفقهية المختلف فيها، ومدى إدراك المؤلف للفرق بين القواعد الفقهية والضوابط الفقهية الخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2125 القسم الثالث: وهو القسم الأوسع والأهم ويشتمل على مايلي: أولا: جمع عام للقواعد الفقهية مرتبة ترتيبا أبجديا بقطع النظر عن كون القاعدة كبرى أو فرعية، وبقطع النظر عن المذهب القائل بأي منها. ورد كل قاعدة لمصدرها. ثانيا: جمع ترتب فيه القواعد المجموعة كالتالي: أ - القواعد الست الكبرى وما يندرج تحت كل منها من قواعد فرعية مرتبة أبجديا. ب - القواعد الفرعية مرتبة أبجديا كذلك. وتحت كل قاعدة يبين ما يلي: أصل كل قاعدة ودليلها ومعناها في اللغة وفي الاصطلاح الفقهي والخلاف في مدلولها - إن وجد - وما ينبني على ذلك الخلاف من أثر في الأحكام. وأعني بأصل القاعدة أول عبارة وردت تشير إلى معنى القاعدة سواء أكانت آية كريمة أم حديثا نبويا شريفا أم أثرا أم عبارة فقهية لأحد كبار الأئمة المجتهدين أو غيرهم من السلف. وأريد بدليل القاعدة ما يدل على معناها من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو عمومات الشرع. ويلحق بكل قاعدة فقهية أمثلة من أبواب فقهية مختلفة تمثل وجهات النظر المختلفة للمذاهب المختلفة، وإن كان هناك خلاف في مسألة منها بين المذاهب يوضح ذلك الخلاف ويبين منشؤه ويحاول بقدر الاستطاعة التمثيل ببعض المسائل الفقهية المعاصرة مما يمكن أن تندرج تحت بعض هذه القواعد، وبيان الراجح أو الصواب فيها إن شاء الله. ج - ويمكن أن يلحق أيضا قسم آخر يشمل ترتيب القواعد ترتيبا مذهبيا بمعنى أن توضع القواعد المتفق على مدلولها في المذاهب في مبحث خاص ثم قواعد كل مذهب على حدة بحسب الأقدمية للمذهب: الحنفي، المالكي، الشافعي، الحنبلي. وتشتمل كل قاعدة على ما ذكر سابقا من بيان معنى القاعدة وأصلها ودليلها الخ. د-كما يمكن أن يكون هناك ملحق آخر يشمل جميع الضوابط الفقهية في مختلف المذاهب وبيان مدى الخلاف في مدلول الضابط بين علماء المذهب الواحد، وما ينبني على هذا الخلاف من أثر فقهي، مع الإشارة إلى مدى موافقة مدلول أي ضابط في أي مذهب لضابط أو قاعدة في مذهب مخالف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2126 وقد يترتب على هذين الجمعين الأخيرين محاولة حصر أوجه الخلاف بين المذاهب من خلال الاختلاف في مدلولات بعض القواعد أو الضوابط. هذا جهدي أقدمه لأعضاء مجلس المجمع الفقهي الموقرين وهو كما قلت جهد أولي، ولي في علم وجهد الأعضاء الموقرين ونظراتهم النيرة الفاحصة وفي إدراكهم لمسئولية هذا العمل الكبير ما يصحح الدرب ويقوم المسار إن كان هناك ما يحتاج إلى تصحيح أو تقويم أو إضافة. وأرجو الله مخلصا أن يعينني بتوفيقه وهدايته للقيام بهذا العمل الجليل وأن يوفقني وإخواني لأداء هذه الأمانة على الوجه المرضي النافع للفقه خاصة وللعلم عامة أنه ولي ذلك والقادر عليه. وهو حسبي ونعم الوكيل.. دكتور محمد صدقي بن أحمد البورنو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2127 محضر جلسة حول مشروع (معلمة القواعد الفقهية) انعقدت بمقر المجمع بجدة يوم 6 محرم 1408هـ جلسة ضمت كلا من: فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس المجمع فضيلة الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام للمجمع فضيلة الدكتور أحمد بن حميد عميد كلية الدراسات بجامعة أم القرى بمكة المكرمة فضيلة الدكتور محمد صدقي بن أحمد البورنو أستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض وكان موضوعها بحث الدراسة التي كلف الدكتور محمد البورنو بإعدادها حول مشروع (معلمة القواعد الفقهية) ، والتي تحمل عنوان مخطط أولي في سبيل إيجاد (موسوعة القواعد الفقهية) . وبعد التباحث في العديد من النقاط اتفق على ضم عناصر جديدة إلى اللجنة وهم: فضيلة الدكتور سعود الثبيتي أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة فضيلة الدكتور نزيه كمال حماد أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة فضيلة الشيخ علي الندوي أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة فضيلة الدكتور عبد الرحمن الشعلان أستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض فضيلة الدكتور أحمد العنقري أستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض كما تم الاتفاق على الاتصال ببعض الجامعات والمراكز العلمية في مصر وسوريا والمغرب والعراق، وذلك للحصول من طريق الفهارس الموجودة على بعض الكتب الموضوعة في القواعد أو على الرسائل الجامعية الموضوعة حولها. وتقرر بالنسبة للمملكة العربية السعودية الاتصال بجامعة أم القرى، وجامعة الإمام محمد بن سعود، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. أما بمصر فيكون الاتصال بجامعة الأزهر ودار العلوم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2128 وأما بسوريا فيكون الاتصال بكلية الشريعة بدمشق. وبالمغرب الأقصى، فيكون الاتصال بخزانة الرباط والخزانة الحسينية وكلية الشريعة بفاس. وبالعراق فيكون الاتصال بوزارة الأوقاف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2129 حول مشروع إعداد (معلمة القواعد الفقهية) إعداد الأستاذ: علي الندوي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2130 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد، فان هذا البحث الموجز يتناول ثلاثة جوانب تتعلق بموضوع القواعد: 1- كلمة تمهيدية وطريقة بدء العمل في المشروع ومراحله. 2- المصادر الفقهية المهمة المتعلقة بالموضوع ما عدا كتب القواعد والأشباه والنظائر والفروق. 3- نظرة حول خطة المشروع. (أ) إن إعداد معلمه القواعد الفقهية يعد من المشاريع المهمة البناءة التي تبناها المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وذلك مما يدل على سعة أفق القائمين بهذا المجمع الموقر والساهرين على مصالحه، وفي الواقع فإن هذا المشروع يواكب مسيرة الحياة المعاصره ومتطلباتها في شتى الميادين خصوصا في ميدان الفقه باعتبار أنه يبحث عن الأحكام الشرعية العملية التي يحتاج إلى معرفتها والعمل بها جميع المسلمين، وقد جدت قضايا ومسائل في العقود الأخيرة لم تكن تخطر على بال أحد قبل نصف قرن من الزمن. ولذلك كانت المسئولية عظيمة ومتحتمة على الفقهاء لبيان أحكام الفقه الإسلامي ومعالجة قضاياه وإيجاد الحلول الناجعة السليمة للمسائل المستحدثة بالأسلوب الذي يكون مفهوما ومألوفا لدى معظم الدارسين وشداة الباحثين، ولعل تصور إعداد الموسوعات الفقهية كان نابعا عن هذه المسئولية في أقطار مختلفة. وهنا يمكن القول بأن تصور إعداد معلمة القواعد الفقهية تصور فريد، وسررت كثيرا حينما علمت عن وجود هذه الفكرة لأنها صادفت رغبة كامنة في نفسي، فقد راودني هذا الأمل منذ خمس سنوات تقريبا، وقد تحقق ذلك إلى حد ما، ولكن من المعلوم أن الجهود الفردية في الغالب تتعرض للإعواز والنقصان، على سبيل المثال أن العلامة المرحوم الشيخ عميم الإحسان - أحد علماء بنجلاديش - صنف كتابا بعنوان (قواعد الفقه) جمع فيه ما جاء عند الكرخي والدبوسي وابن نجيم وما تأثر في شرح السير الكبير للسرخسي، وهذا جهد مشكور لكنه لا يغطي نصف ما عند الحنفية في كتبهم من القواعد. وكذلك العلامة عبد الرحمن السعدي الحنبلي -من علماء عنيزة- قام بتقصي القواعد والأصول الواردة في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وجمعها في كتابيه: 1 - القواعد والأصول الجامعة. 2 - طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والأصول، ولكن هذا الجهد أيضا لا يستوعب ما ورد في كتب الإمام المذكور كما يظهر ذلك عند إجالة النظر فيها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2131 ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى جهود مكثفة متوالية بل إلى التعاضد والتناصر في هذا المجال لاستكمال الموضوع وإبرازه على الوجه الناصع المطلوب. وذلك يستدعي أن يكون توزيع العمل في هذا الباب حسب المذاهب الفقهية في بداية الطريق، وتناط هذه المهمة بالمتخصصين بالموضوع تيسيرا للعمل وإنجازه في زمن مناسب مع صيانته عن التبدد والفوضى. وقد تبلور لي من خلال مطالعتي المتواضعة أن يكون بدء العمل في إعداد هذا المشروع حسب المراحل التالية: 1 - مرحلة التجميع والإحصاء للقواعد. 2 - مرحلة الانتقاء والتشذيب. 3- مرحلة التنسيق والترتيب. 4 - مرحلة التدليل والشرح واستقراء الفروع مع جمع المستثنيات بالقدر المستطاع. 5 - مرحلة السبك والصياغة. 6 - إعداد الفهارس الجذرية في النهاية. فهذه الأمور لآبد أن تكون موضع العناية والاهتمام قبل استئناف العمل أو الدخول في المرحلة الأولى للموضوع. 2- المصادر الفقهية المهمة المتعلقة بالموضوع: أ - قراءة متأنية للكتب والقواعد والفروق واستخراج القواعد والضوابط منها. ب - النظر في المصادر الفقهية التي عنيت بالتفريع، لأنها تضمنت في طياتها قواعد وضوابط وفروقا وعلل قد لا توجد في كتب القواعد، والمصادر التي تستحق الأولوية والترجيح في هذا المجال هي كما يلي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2132 المذهب الحنفي: 1- كتب الإمام محمد بن الحسن الشيباني. 2- المبسوط وشرح السير الكبير للإمام السرخسي. 3- شرح الزيادات والفتاوى الخانية لقاضيخان. 4- شرح الجامع الصغير لعبد الغفور الكردلي. 5 - شرح العلامة جمال الدين الحصري للجامع الكبير. 6 - شروح مجلة الأحكام. المذهب المالكي: 1- المدونة. 2- جامع البيان والتحصيل. 3- المقدمات لابن رشد. 4 - الشرح الكبير للدردير. 5- حاشية الرهوني. المذهب الشافعي: 1- كتاب الأم للإمام الشافعي. 2- فتح العزيز للإمام الرافعي. 3- المجموع للإمام النووي. 4- كفاية الأخبار للحفني. المذهب الحنبلي: 1- كتب الإمام ابن تيمية وعلى رأسها مجموعة فتاوى شيخ الإسلام. 2 - كتب الإمام ابن القيم. 3- المبدع لابن مفلح. 4 - كشاف القناع للبهوتي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2133 (3) نظرة حول خطة المشروع: مما لاشك فيه أن إعداد خطة البحث أو المشروع أمر لابد منه، وهو يساعد على تنوير الموضوع وإبراز معالمه الأساسيه وخطوطه العريضة، مع العلم بأن الخطة في بداية الطريق - مهما كانت نصوصها واضحة ومصوغة بصياغة محكمة – لا تبقى على حالها وتظل قابلة للتعديل والتطوير فيها إلى نهاية المطاف في الموضوع. وهذا المخطط الأولي الذي قدمه الأستاذ الفاضل الدكتور محمد صدقي البورنو حفظه الله، فيه ما يسد حاجة الموضوع في بداية الطريق، جزاه الله تعالى خيرا لقاء ما بذل في هذا السبيل. ولا بأس أن أشير هنا إلى أمور: 1- أرى أن يستبدل التعبير بكلمة (مبادئ) كما في عنوان المبحث الثاني للقسم الأول بكلمة أخرى شاملة الدلالة على الموضوعات المندرجة تحت هذا العنوان على سبيل المثال يوضع عنوان (مقدمات تمهيدية لأن كلمة) (المبادئ) لا تنطبق على ما ورد تحتها في نظري، لأن المبدأ هو ما يقوم عليه الشيء وليس الأمر كذلك هنا. 2- الشطر الأخير من المبحث الثاني المتعلق بالقسم الأول يستدعي إعادة النظر في نظري ويمكن أن يصاغ على الوجه الآتي: - (مهمة القواعد الفقهية ودورها في إغناء الفقه الإسلامي ومدى إمكان الاعتماد عليها في بناء الأحكام وذلك لأن كلمة (الاستنباط) في صلب الخطة توهم القارئ أن القواعد مصدر من مصادر التشريع أو دليل من أدلة الشرع وفي الغالب ليس الأمر كذلك. 3- وبجانب ذلك يمكن أن يضاف بعض المباحث إلى المبحث المذكور: 1- الفرق بين القاعدة والأصل (باعتبار أن كلمة الأصل لها عدة مفاهيم) . 2- هل هناك فرق بين القواعد الفقهية وبين ما سمى بأصول المذهب أم لا؟.. 3- مدى ارتباط موضوع القواعد بموضوع الفروق الفقهية. 4- الفرق بين القاعدة الفقهية وبين القاعدة القانونية!. في الفقه الغربي مع بيان سمو قواعد الفقه الإسلامي وخصوبتها) . 5- ينبغي - وضع القسم الثاني على طراز القسم الأول - في مبحثين فقط بحيث يضم المبحث الثالث منه مع المبحث الثاني مع التعديل في الصياغة. هذا ما رأى، والرأي رأيكم، والأمر أمركم، والله يتولى الجميع. الأستاذ: على الندوي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2134 حول مشروع إعداد معلمة القواعد الفقهية إعداد الدكتور سعود مسعد الشبيتي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2135 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. يمكن تقسيم المشروع إلى مقدمة وقسمين رئيسيين: المقدمة: في أهمية الموسوعة والحاجة إلى تدوينها في هذا العصر وخطة التدوين. القسم الأول: ويمكن تقسيمه إلى ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف القاعدة عموما - تعريف الفقه - تعريف القواعد الفقهية الفرق بين القاعدة والضابط - الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية - الفرق بين القاعدة الفقهية والقانونية - الفرق بين القاعدة الفقهية والنظرية. المبحث الثانى: أهمية القواعد الفقهية. مكانة القواعد الفقهية في التشريع الإسلامي: 1- من حيث الاستدلال بها. 2- من حيث استنباط الأحكام الشرعية منها. المبحث الثالث: نشأتها وتاريخها - حصر المؤلفات الخاصة والعامة - مناهج المؤلفين في كتبهم من الناحية التنظيمية حيث بعضهم دون قواعده مبتدئا بالقواعد الست ثم الأربعين إلخ والبعض الآخر على حروف المعجم وبعضهم على الأبواب الفقهية الخ. القسم الثاني: ويمكن أن يوزع إلى عدة مراحل: المرحلة الأولى: أ - حصر المصادر الخاصة بالقواعد الفقهية في كل مذهب والرسائل الجامعية وغيرها مما كتب في القواعد أو عنها وأرى أن يجمع ما يمكن جمعه منها (ولو تصويرا) في مركز خاص بالمجمع يسمى (مركز القواعد الفقهية) . ب - حصر المصادر غير المتخصصة التي يمكن أن تؤخذ منها القواعد الفقهية في كل مذهب. المرحلة الثانية: اختيار أوفي الكتب المتخصصة في كل مذهب بحيث يكون أساسا يجمع إليه ما لا يوجد فيه من المصادر الأخرى غير المتخصصة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2136 المرحلة الثالثة: مرحلة الجمع: جمع ما في المصادر المتخصصة من القواعد والضوابط وترتب ترتيبا يسهل معه التقديم والتأخير والإضافة والحذف ومعرفة المكرر على ضوء خطة واضحة عند جميع كل من يقوم بالعمل بعد توزيعه حسب المذاهب بحيث يكلف بكل مذهب شخص أو شخصان ويبدأ بالمجمع بأن تكتب كل قاعدة في بطاقة خاصة حتى يسهل الأمر على أن تكون البطاقة مستوفية لما تلزم الإشارة إليه من اسم الكتاب واسم المؤلف والطبعة وسنتها والناشر إلخ وبعد أن يستوفي الجمع من الكتب المتخصصة يمكن الانتقال إلى المرحلة التالية وهي: المرحلة الرابعة: مرحلة الترتيب للقواعد مذهبيا. يمكن ترتيب قواعد كل مذهب على حدة بأن يبدأ بالقواعد الست وما يندرج تحت كل قاعدة من قواعد فرعية ثم الأربعين ثم القواعد الشاملة وبعد ذلك قواعد أو ضوابط الأبواب وهكذا حتى يتم ترتيب قواعد كل مذهب على هذا المنوال. المرحلة الخامسة: مرحلة التنسيق بين المذاهب. بعد أن رتبت قواعد كل مذهب على النحو السابق يأتي دور التنسيق بين المذاهب بأن ينظر في القواعد المكررة في كل مذهب وهذا كثير وتنظم على النحو السابق في المذهب الواحد الست - الأربعين إلخ كما سبق في تنظيم المذهب الواحد. وأخيرا تذكر القواعد التي انفرد بها كل مذهب على حدة مرتبة حسب الأبواب الفقهية لما في هذا الترتيب من تسهيل العثور على القاعدة المرادة. المرحلة السادسة: 1- تغيير صياغة القاعدة القانونية عند الضرورة - إن وجدت - محافظة على النصوص القديمة ونشرا لها. 2- مرحلة شرح القاعدة ودليلها وضرب الأمثلة على أن يكون ضرب الأمثلة يمثل المذاهب المختلفة فيما تختلف فيه أو تتفق عليه وتكون الخطة في هذا متناسقة بغير إفراط أو تفريط. 3- ذكر الاستثناءات التي تخرج عن القاعدة. 4- تطبيق القاعدة علي المسائل المعاصرة ما أمكن ذلك. المرحلة السابعة: دور المراجعين والتدقيق بأن يتولى هذا العمل علماء عرفوا بالدقة والاهتمام بهذا العلم حتى يظهر في أبهى حلله. الفهارس الدقيقة الشاملة للقواعد والأدلة والاسثناءات والمسائل الخ. وبالله لتوفيق.. الدكتور سعود مسعد الثبيتي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2137 بسم الله الرحمن الرحيم تقرير حول مشروع موسوعة القواعد الفقهية ومراحل السير فيه الحمد لله وحده والصلاة والسلام على خير خلقه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه. وبعد فقد اجتمعت لجنة موسوعة القواعد الفقهية برئاسة معالي أمين عام المجمع الفقهي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة وعضوية كل من فضيلة الدكتور محمد صدقي البورنو وفضيلة الشيخ علي الندوي، وفضيلة الشيخ عبد الرحمن الشعلان، وفضيلة الشيح أحمد العنقري والدكتور سعود مسعد الثبيتي. وبعد استعراض المشروعات المقدمة من كل من فضيلة الدكتور محمد صدقي البورنو وفضيلة الشيخ علي الندوي والدكتور سعود الثبيتي رأت اللجنة أن المشروعات متقاربة يكمل بعضها بعضا فجعلت المشروع المقدم من الدكتور سعود الثبيتي أساسا يضاف إليه ما لا يوجد فيه على ضوء الملاحظات التي أبداها أعضاء اللجنة أثناء المناقشة وعلى هذا تكون الصياغة النهائية للمشروع على النحو التالي: مقدمة: تشتمل على أهمية الموسوعة والحاجة إلى تدوينها في هذا العصر وطريقة البحث فيها. تمهيد: وبمكن تقسيمه إلى ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف القاعدة عموما - تعريف الفقه - تعريف القواعد الفقهية - الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية - الفرق بين القاعدة الفقهية والقانونية – الفرق بين القاعدة الفقهية والنظرية. المبحث الثاني: أهمية القواعد الفقهية ومكانتها في التشريع الإسلامي: 1- من حيث الاستدلال بها. 2- من حيث استنباط الأحكام الشرعية منها. المبحث الثالث: نشأتها وتاريخها - حصر المؤلفات الخاصة والعامة - مناهج المؤلفين في كتبهم من الناحية التنظيمية حيث إن بعضهم دون قواعده مبتدئا بالقواعد الست ثم الأربعين.. إلخ والبعض الآخر على حروف المعجم وبعضهم على الأبواب الفقهية.. الخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2138 أما فيما يتعلق بمراحل إعداد الموسوعة فيمكن أن تقسم إلى عدة مراحل: المرحلة الأولى: أ - حصر المصادر الخاصة بالقواعد الفقهية في كل مذهب، والرسائل الجامعية وغيرها مما كتب في القواعد أو عنها وجمع ما يمكن جمعه منها في قاعدة خاصة في المجمع تسمى (قاعدة القواعد الفقهية) . ب - أما فيما يتعلق باستقرأء المصادر غير المتخصصة التي يؤخذ منها القواعد الفقهية في كل مذهب فقد انقسمت اللجنة إلى فريقين. الفريق الأول يرى أن لا يكتفي بكتب القواعد المتخصصة فقط بل لابد أن يشمل البحث عن القواعد كتب الفقه وأن لا تقل كتب كل مذهب عن ثلاثة مراجع، لأن القواعد الموجودة في كتب الفقه أضعاف أضعاف ما في الكتب المتخصصة وأصحاب هذا الرأي هم: البورنو - الندوي - الثبيتي. ويرى الفريق الثاني الاكتفاء بكتب القواعد لإمكان إنجاز المعلمة في أقرب وقت وقال بهذا: العنقري والشعلان. المرحلة الثانية: مرحلة الجمع: يجمع ما في المصادر من القواعد وترتب ترتيبا يسهل معه التقديم والتأخير والإضافة والحذف ومعرفة المكرر على ضوء خطة واضحة عند جميع من يقوم بالعمل بعد توزيعه حسب المذاهب بحيث يكلف بكل مذهب من نص للقيام به على ضوء ما يتخذ من قرار في الفقرة الثانية من المرحلة الأولى. المرحلة الثالثة: مرحلة التنسيق: بعد استيفاء الجمع ينظر في القواعد المتفق عليها والمختلف فيها فإن اتفق على معناها مع الاختلاف في صيغتها فيختار أوضح الصيغ وأوفاها وإن اختلف في القول بها وعدمه فيشار إلى ما هو محل اتفاق أو اختلاف عند ورودها في الترتيب. المرحلة الرابعة: ترتيب الموسوعة على حروف المعجم بعد تنسيقها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2139 المرحلة الخامسة: وتشتمل على فقرتين: ا - مرحلة شرح القاعدة ودليلها وضرب الأمثلة مع ملاحظة تطبيق القاعدة على المسائل المعاصرة ما أمكن. 2 - ذكر الاستثناءات التي تخرج عن القاعدة وقد رأى أكثر الأعضاء الاكتفاء بذكر المستثنى فقط دون تعليل للاستثناء ورأى د. البورنو بيان وجه الاستثناء وتحت أي قاعدة يندرج هذا المستثنى. المرحلة السادسة: فيما يأتي دور المراجعة والتدقيق ممن عرفوا بالدقة والعلم والاهتمام بهذا العلم حتى يظهر هذا المشروع على هيئة يتحقق معها المقصود منه. المرحلة السابعة: وضع الفهارس الدقيقة الشاملة للقواعد والأدلة والاستثناءات والمسائل ... الخ. ا) الأساتذة الذين يراد انتدابهم ودعوتهم لهذا العمل. 2) الإفادة من الكتب غير المتخصصة. 3) التمثيل وتحديد صوره. 4) المستثنيات وتعليلها. 5) شمول القواعد للضوابط. أعضاء اللجنة: -د. محمد صديقي بن أحمد البرنو. -الشيخ علي الندوي. الشيخ أحمد العنقري. -الشيخ عبد الرحمن الشعلان. -د. سعود مسعد الثبيتي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2140 بسم الله الرحمن الرحيم مشروع تيسير الفقه في شعبة التخطيط المنبثقة عن المجلس الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى به وسار على دربه إلى يوم الدين. وبعد، فقد عقد اجتماع لشعبة التخطيط للنظر في مشاريع المجمع القائمة والمستقبلية وما أعد عنها من مذكرات مقدمة في الدورة الثالثة للمجمع. وقد تم هذا الاجتماع -بحمد الله وتوفيقه -في الفترة بين 8- 9 صفر 1407هـ الموافق 11-12/ 10/ 1986م. وقد حضر جانبا من اجتماع الشعبة كل من معالي رئيس المجمع الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد ومعالي الأمين العام للمجمع الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة. وحضر الاجتماع كل من: ا - فضيلة الدكتور عبد اللطيف الفرفور رئيس شعبة التخطيط. 2 - فضيلة الدكتور إبراهيم بشير الغويل مقرر شعبة التخطيط. 3 - فضيلة الدكتور عبد السلام العبادي مساعد رئيس المجمع. 4 - فضيلة الدكتور عبد الستار أبوغدة عضوا (مع القيام بمساعدة المقرر) حيث تأخر وصول المقرر من بلده إلى اليوم الثاني للاجتماع. 5 - سعادة السفير سيدي محمد يوسف جيري عضو مكتب المجلس. 6- فضيلة الشيخ سالم بن عبد الودود عضوا. 7- فضيلة الشيخ محمد هشام البرهاني عضوا. 8- فضيلة الشيخ تيجاني صابون محمد عضوا. 9- فضيلة الشيخ خليل محيي الدين الميس عضو المجمع. 10 - فضيلة الشيخ رجب التميمي عضو المجمع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2141 مشروع تيسير الفقه: بعد التداول طويلا في هذا المشروع وملابساته ومشكلاته انتهت الشعبة إلى وضع الضوابط التالية لكتابة المؤلف المطلوب في الفقه الميسر، وهي: 1 - أن تتم الكتابة من لجنة لا من أفراد. 2- أن تشتمل اللجنة على فقهاء وممثلين للمذاهب المعتبرة من أصحاب الثقة والورع. 3 - عدم الخروج عن الراجح المفتى به في المذاهب الأربعة. 4 - أن يجرد عن الآراء الشخصية. 5 - أن يكون العرض موثقا. 6 - أن يختار ما هو أرجح دليلا، وأيسر للعامة مع شرح المصطلحات الغريبة وتحديث الأمثلة. 7 - أن تراعى المستويات المختلفة في صياغة واحدة. 8- طي المسائل التي لا وجود لها في التطبيق الآن. 9 - أن يذكر المتفق عليه ويضم إليه ما عداه دون التزام مذهب معين، استئناسا بما عليه العمل في مؤلفات التربية الإسلامية للمدارس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2142 بسم الله الرحمن الرحيم قرار مؤتمر القمة الإسلامي الخامس الكويت 1407هـ - 1987م قصر المؤتمرات د- مجمع الفقه الإسلامي إذ يؤكد الأهداف المرسومة لمجمع الفقه الإسلامي بتحقيق وحدة الأمة الإسلامية نظريا وعمليا عن طريق السلوك الإنساني ذاتيا وجماعيا ودوليا وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية ويشد المسلمين لعقيدتهم ودراسة مشكلات الحياة المعاصرة والاجتهاد فيها اجتهادا أصيلا لتقديم الحلول النابعة من الشريعة الإسلامية. وإذ يؤيد خطة العمل العامة التي رسمها مجلس المجمع في دورة مؤتمره الأول بمكة المكرمة، باعتبارها القاعدة الأساسية التي ينبني عليها عمل المجمع في سعيه لبلوغ الأهداف المرسومة له. وإذ أخذ علما بالقرارات الهامة التي أصدرها المجمع في دورة انعقاده الثانية بالمملكة العربية السعودية ودورة انعقاده الثالثة بالمملكة الأردنية الهاشمية. وإذ يعرب عن ارتياحه لما يوليه المجمع من اهتمام أساسي بالقضايا المتصلة بحياة المسلمين المعاصرة، ولما حققه حتى الآن من إنجازات علمية ذات مستوى رفيع. 1- يحث الدول الأعضاء على دعم المجمع ليواصل أداء رسل لله على الوجه المطلوب. 2- يدعو إلى ضرورة استمرار التنسيق بين المجمع والهيئات العلمية الإسلامية في الدول الأعضاء، وذلك ضمانا لنجاعة وفاعلية العمل المجمعي والبلوغ به إلى الحد الذي يمكن المجمع أن يكون مرجعا وحجة للمجتمع الإسلامي بأسره في معرفة السبيل الذي يكفل حل مشاكله ويعينه علي التطور في ضوء الشريعة الإسلامية. 3- يطلب من المجمع إصدار رأيه في المذاهب الهدامة التي تتعارض مع تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. 4- يطلب من المجمع تركيز الجهود علي تيسير الفقه الإسلامي لتقريبه أكثر فأكثر إلى إدراك عموم المسلمين حتى يعيشوا دينهم ويتمكنوا من تطبيق تعاليمه السمحه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2143 تقرير عن اجتماع لجنة مشروع (تيسير الفقه) في الفترة من 20-21/ 5 / 1987م بمجمع الفقه الإسلامي بجدة لقد تم عقد الاجتماع المشار إليه في الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي واستغرق عدة جلسات خلال يومي الأربعاء والخميس المؤرخين 23 - 24 رمضان 1407هـ الموافقين 0 2 – 21/ 5/ 1987م، مع جلسات تكميلية بين بعض أعضاء اللجنة في مكان إقامتهم. وقد شارك في هذا الاجتماع كل من: - سعادة الشيخ الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة (الأمين العام للمجمع) . - سعادة الدكتور محمد عبده يماني مدير مؤسسة اقرأ، (مع إبلاغه عن الظروف الصحية التي حالت دون مشاركة سعادة الشيخ صالح كامل في الاجتماع) . - فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي (من خبراء المجمع) . - فضيلة الدكتور عبد السلام العبادي (نائب رئيس المجمع) . - فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة (عضو المجمع) . وقد اعتذر عن عدم تمكنه من الحضور بسبب مهام عمله سماحة الشيخ محمد المختار السلامي عضو المجمع، بعد أن أرسل مذكرته حول تصوره للمشروع. وقد بدأ الاجتماع بكلمة قيمة من سعادة الأمين العام أشار فيها: بعد حمد الله تعالى والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه - إلى أن عقد هذا الاجتماع تم بالتنسيق مع مدير مؤسسة اقرأ الدكتور محمد عبده يماني، وسعادة الشيخ صالح كامل باعتبارهما الجهة المتكفلة بمتطلبات إنجاز هذا المشروع ونشره، كما أوضح أن هذا المشروع كان بمبادرة من المجمع حين اتخذت شعبة التخطيط توصية بشأنه في اجتماعها أثناء انعقاد الدورة الثالثة للمجمع بعمان (وهى مدرجة بملف المشروع) ، ثم تلا ذلك إصدار مؤتمر القمة الإسلامي الخامس بالكويت قرارا بدعوة المجمع إلى تيسير الفقه (وهو أيضا مدرج بملف المشروع) ، واستدعى ذلك قيام الأمانة العامة للمجمع بتشكيل لجنة تشرف على هذا المشروع من أعضاء المجمع وخبرائه وكلفت أعضاءها إعداد تصوراتهم (التي جاءت في المذكرات الأربع المدرجة بملف المشروع أيضا) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2144 وأشار إلى أن هذا المشروع لقي ترحيبا واحتضانا من سعادة الشيخ صالح كامل وسعادة الدكتور محمد عبده يماني للسير في إنجازه ونشره طبقا للخطة التي يرتضيها المجمع بعد أن تصاغ في هذا الاجتماع، ثم اقترح قيام الدكتور عبد الستار أبو غدة بمهمة مقرر اللجنة (وتمت الموافقة على ذلك) ثم حدد الأمور التي يراها ضرورية لإمكان البدء بالمشروع وهي: أ - وضع الخطة العلمية ومنهج التنفيذ، من خلال (صياغة أولية للمشروع) تتضمن ماهيته وأهدافه وطريقة إنجازه، لعرضها على مجلس المجمع، لاعتماد مسيرة الأمانة العامة في تنفيذه، بإشراف ومتابعة لجنة المشروع. ب -وضع تصنيف للموضوعات مبينا فيه كل ما يستحق أن يكتب على حدة، مع الإشارة إلى ما هو أولى بالبدء به. ج - وضع معايير للمراجع المستخدمة في المشروع، وللوسائل الإيضاحية المستعان بها في موضوعاته ومسائله، ولأصول الإخراج الفني وطريقة النشر. د - وضع قوائم للمستكتبين، وللمراجعين. هـ - اقتراح أعضاء لتكوين (لجنة الاعتماد) . وختم الأمين العام كلمته بالأمل في إعداد ما هو ضروري الآن من هذه الأمور رغم قصر فترة الاجتماع. وقد أضاف المقرر تنويها بما تتطلبه خطوات تنفيذ المشروع من لوائح إدارية ومالية، والإجراءات اللازمة لأعمال الترجمة والنشر. وعقب الدكتور يماني بأن ذلك ستقوم به الجهة الراعية للمشروع. ثم أعطى الأمين العام الكلمة للدكتور محمد عبده يماني فأشار إلى دواعي الاهتمام بهذا المشروع الهام الذي يتطلع إليه المسلمون من غير المتخصصين في الفقه لإرواء تعطشهم إلى التفقه في الدين بطريقة تناسب إمكاناتهم وظروفهم، وبين أن هذه المهمة ملقاة على عاتق المتخصصين من أهل الفقه، وأن المجمع أجدر من ينهض بها، وأشار إلى ما لمسه خلال جولاته في البلاد الإسلامية التي أصابتها المجاعات من الحاجة إلى جانب العون المادى لإعطاء الشعوب والجاليات الإسلامية قسطا كافيا من الزاد الفكري والفقهي للحفاظ على شخصيتها الإسلامية من الذوبان بفعل المعونات المشبوهة والمحفوفة بتوريد الأفكار المجافية لإسلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2145 ثم بدأ التداول بين الحاضرين فيما اشتملت عليه المذكرات الأربع من تصورات ولا سيما في النقاط المختلف فيها أو التي انفردت بها بعض المذكرات وتم الاتصال هاتفيا بسماحة الشيخ محمد المختار السلامي لمذاكرته في الخطوط العريضة التي طرحت وتبين من جوابه اتفاقه في المآل على تأييد المشروع في ظل الضمانات الكافية لضبط مسيرته وسلامة أهدافه. وقد انتهى الأعضاء إلى اعتماد (الصيغة) المرفقة بالتقرير، للتعبير عن ماهية المشروع وأهدافه وخطته ومنهج تنفيذه. والحمد لله رب العالمين. الأمين العام للمجمع د. محمد الحبيب ابن الخوجة د. محمد عبده يماني د. يوسف القرضاوي د. عبد السلام العبادي (مقرر اللجنة) د. عبد الستار أبوغدة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2146 الصياغة الأولية لخطة مشروع (تيسير الفقه) المقصود بتيسير الفقه. إن المراد بتيسير الفقه هو تسهيل الاستفادة منه، وعرضه على أساس روح الشريعة ومقصدها العام الذي هو اليسر ورفع الحرج.. وهذا المشروع مقدم أصلا لعموم المسلمين من غير المختصين في الفقه، ومن غير من درجوا على تقليد مذهب ارتضوه، وهم كثرة غالبة في معظم العالم الإسلامي ممن لم تتح لهم ظروفهم فرصة الاطلاع المنظم على أحكام الفقه الإسلامي في المؤسسات التعليمية القائمة، ولا سيما بعد أن اختفت الفرصة التاريخية التي كانت توفرها حلقات العلماء في المساجد مما كان له دوره في العناية بالتفقه عن طريق الالتزام بمنهج فقهي واحد. فضلا عن المنزلة التي يحتلها الكتاب الآن باعتباره أداة عملية من أيسر أدوات التعليم الشامل. ولا يعني هذا المساس بقيمة المذاهب الفقهية ومدارس المجتهدين الذين استفرغوا جهودهم المبرورة في خدمة الشريعة وتمكين الناس من الالتزام بأحكامها، فإن هذه المذاهب ثروة عظيمة استمدت من الكتاب والسنة، وهي المرجع لكل عمل فقهي جاد، بل إنها ستكون الأساس المكين لهذا المشروع. كما لا يعني هذا المشروع التأثير على اتباع المذاهب المعروفة لترك التمذهب فإن الأخذ بمذهب فقهي معين هو طريق ممهد للالتزام بأحكام الشريعة. ولن يكون من شأن هذا المشروع في تكوينه تتبع الرخص والتلفيق المذهبي بصرف النظر عن قوة الدليل وقيام المصلحة الشرعية المعتبرة التي تهدف إلى تحقيق مقاصد الشريعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2147 أهداف المشروع: يهدف هذا المشروع إلى: أ - تلبية حاجة عامة المسلمين الملحة إلى معرفة الحكم الشرعي بشكل واضح محدد. ب - توفير المادة العلمية المناسبة التي تمكن غير المختصين من التفقه في الدين لأسلوب سهل ميسور. ج - المساعدة في تكوين الشخصية المسلمة الملتزمة بشرع الله سبحانه وتعالى في شؤون حياتها كافة، وحمايتها من مخاطر الأفكار والتصورات غير الإسلامية. د - الإسهام في تهيئة المناخ الفكرى الإسلامي اللازم لتطبيق الشريعة في شتى مجالات الحياة والاستغناء عن القوانين غير الإسلامية. هـ- سد الحاجة الماسة إلى عرض الشريعة القائمة على التيسير ورفع الحرج، وذلك بالإفادة من جميع ما اشتملت عليه من فقه معتبر، بعيدا عن التضييق والتعصب المذهبي. ولا شك أن عرض الشريعة بيسرها وسماحتها وتنوع أحكامها إلى رخص وعزائم وقيامها على أسس الاعتدال والوسطية وملاءمة الفطرة، ومراعاتها أحوال الاختيار والسعة أو الضرورة والحاجة، سيكون له أعظم الأثر في بقاء معظم الناس في دائرة الالتزام بالشريعة والعمل بهديها، ويتبع ذلك تعميق حسن الانتماء إلى هذا الدين بين جماهير المسلمين، مما يقويهم في مواجهة الأفكار الوافدة ويعينهم على صد حملات التحلل من أحكام الإسلام. خطة تيسير الفقه ومناهج التنفيذ: لكي يتحول تيسير الفقه في فهمه وجوهره من هدف وشعار إلى حقيقة سارية في جميع مسائله لا بد من مراعاة الأمور التالية فيما بعد، وهي أيضا بمثابة ضمانات لتحقيق التوازن والاتساق بين أجزاء المشروع ووحدة نسيجه، وهي عناصر موضوعية أو شكلية تؤدي إلى حسن إنجاز المشروع وإيتاء ثماره التي يتشوف إليها جماهير المسلمين: أ - سهولة العرض المنظم للمادة الفقهية: وذلك بعرض الأحكام الفقهية بأسلوب لغوي سهل التركيب واضح العبارة يفهمه جماهير المسلمين مباشرة دون الحاجة إلى الشرح أو التلقي. ويراعى في ذكر أجزاء الموضوع ومسائله التدرج الموضوعي المنطقي بعيدا عن التشعيبات والتعقيدات التي لحقت ببعض الكتابات الفقهية في العصور المتأخرة كما يستعان بالتمهيدات أو التوطئات التي يتطلبها المقام لفهم الموضوعات وحسن إدراكها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2148 ب - اختيار الأحكام والتوثيق الفقهي: بما أن هذا المشروع ليس مدونة فقهية شاملة للمذاهب، وإنما هو منهج ميسر لأحكام الشريعة فإنه يقوم على أساس اختيار الأحكام من الثروة الفقهية مع التوثيق لها ببيان منازعها بطريقة لا تلحق عسرا في الفهم أو مشقة في العمل وذلك على النحو التالي: - إذا كان حكم المسألة متفقا عليه بين فقهاء المذاهب المعتبرة فإنه يورد دون أي بيان آخر؛ لأنه غير مزاحم، ويميز في الطبع بحروف أكبر، ليستدل بذلك على الاتفاق (من خلال البيان التوضيحي الذي تشتمل عليه مقدمة المشروع) . - وإذا كانت المسألة خلافية، فإنه يذكر الحكم المختار المحقق لليسر، ما دام هناك تكافؤ في الأدلة بصورة يعسر فيها الترجيح. وحين يشار إلى رأى الجمهور أو من خالفهم فإن ذلك يكون بتعيين المذهب وخلاصة الرأي في صلب الكلام بنوع صغير من الحروف (بحيث تستخدم ثلاثة أنواع من الحروف: كبير للمتفق عليه، ثم وسط للمختار في المشروع، ثم صغير للرأي المقابل للرأي المختار) . وسبب الحرص على ذلك مذهب الجمهور في جميع الأحوال إتاحة المجال لمن يريد الحيطة بالأخذ به ولو كان المختار خلافه. وهذا مع استقصاء من اختار الرأي المخالف للجمهور من فقهاء السلف وعلماء الأمة أصحاب الاختيارات، وتوجيه ذلك الرأي وبيان البواعث لاختياره. ج - شمول الفقه للآداب الشرعية: يشتمل هذا العمل على مسائل الآداب الشرعية مما اختصر في كتب الفقه المعروفة، أو ألحق بأبواب موجزة، مما دعا إلى إفراد كتب مستقلة لها تحت اسم (الآداب الشرعية) ونحوه. وبذلك يتحقق الجمع بين الأحكام التي يجري فيها التقاضي والأحكام التي تشرع على سبيل الديانة أو متابعة الهدي النبوي، ويستغني المسلم عن البحث عنها في مظانها خارج كتب الفقه. ويتصل بذلك الحرص على ذكر جميع الكيفيات المأثورة أو المشروعة على وجه الكمال عن مثل (صفة الصلاة) و (صفة الحج) سعيا إلى إيضاح الصور المتكاملة لهذه الشعائر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2149 د - شمول المسائل المستجدة: تستقصى المسائل المستجدة التي استقر حكمها من خلال ما انتهت إليه المجامع الفقهية والمؤتمرات والندوات ولجان الفتوى المشهورة. أما ما كان بحاجة إلى النظر الجماعي فيشار إلى حكمه إن كان ميسورا أو يرشد إلى الموقف المناسب فيها دون جزم أو استباق للجهود المنوطة بالمؤسسات الفقهية المهتمة بهذا المجال. هـ - الأدلة والتوجيهات: ينبغي اقتران الأحكام الأساسية بالأدلة، مع شمول ذلك المسائل الأخرى ما أمكن، فتذكر الأدلة النقلية والإجماع والأقيسة الصحيحة ووجوه المعقول بعيدا عن المناقشات المذهبية، وتستكمل الأدلة النصية الواردة في المسائل وتوجيه الاستدلال ليكون التزام المسلمين بالأحكام نابعا عن الطاعة لله ورسوله واستشعارا للاقتداء والتأسي بالمنهج النبوي. على أنه لا بد من الاقتصار على الصحيح والحسن عند الاستدلال بالسنة وذلك من كتبها المعتبرة، مع الاستعانة للحكم على الحديث بكتب التخريج المشهورة. و حكمة التشريع ومقاصده وتاريخه: لا يخفي ما في ذلك من طمأنينة القلب واقتناع العقل وبيان انضباط الشريعة، ويستمد ذلك مما ورد في كتب الفقه أو الكتب المخصصة لحكمة التشريع وتاريخه ومقاصده، مع الاستفادة مما كتبه المختصون في شتى العلوم العصرية بحسب علاقة الموضوع بمعارف العصر، مع الحذر من الخلط بين حكمة التشريع وعلله لما يؤدي إليه ذلك من فتح باب التحلل من التكاليف حيث تختفي الحكمة في بعض التطبيقات كما تربط الأحكام بمقاصد التشريع وقواعده العامة ويشار إلى ظروف بدء التشريع للحكم بذكر وقته وأسباب نزول الآيات وأسباب ورود الأحاديث. ز - مراعاة المعارف العصرية والتعامل المشروع المستقر: لا مناص من الاستفادة من معارف العصر ومراعاة الأعراف المستقرة التي لا تخالف الشريعة. وذلك في تصوير المسائل وإعطاء الحكم بالرجوع إلى العرف والخبرة الفنية، وكذلك في إبراز حكمة التشريع. مع الاهتمام بما تعامل عليه الناس في مجال المقادير والمقاييس المختلفة، والأدوات الحديثة المتخذة وسائل في أفعال المكلفين. وكذلك باستخدام المصطلحات الحديثة أو المولدة جنبا إلى جنب من الاصطلاحات الفقهية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2150 ح - التركيز على الفقه العملي: يقتصر في عرض المسائل والأحكام على ما يحتاجه الناس فعلا، وتترك الأمور الافتراضية النظرية، أو المسائل التاريخية التي لم تعد قائمة، أو المسائل النادرة الوقوع، فإن مثل هذه الأمور يمكن الرجوع إليها في المدونات الفقهية، وفي حذفها تسهيل على عامة المسلمين. ومن ذلك القبيل إعطاء كل باب حقه من التوسع أو الاختصار تبعا للحاجة العملية، فهناك أبواب تخصصية تنحصر الاستفادة منها في الحاكم أو القاضي أو فئة قليلة من الناس. ومن التيسير إيجاز عرضها، أو الاكتفاء ببعض مسائلها مما يستفيد منها جمهرة المسلمين. ط- استمداد الأمثلة من الواقع: عند بيان أو توضيح المسائل الفقهية بالأمثلة يحرص على استخدام أمثلة مستمدة من واقع الناس المعاصر، والتخفف من الأمثلة التاريخية تسهيلا للفهم، وإبرازا لمواكبة الشريعة لمشكلات مختلف العصور والبيئات. ى - الوسائل الإيضاحية: ينبغي الاستعانة بكل وسائل الإيضاح الممكنة من كل ما هو مباح وملائم من رسوم توضيحية وصور وخطوط بيانية وجداول وخرائط لإيضاح الهيئات المطلوبة شرعا أو المنهي عنها ولا سيما أحكام الصلاة أو الحج بذكر مشاهده ومواضع النسك وماهيات المحظور من الأطعمة من نبات أو حيوان.. الخ؛ لأن ذلك من قبيل الأمثلة المحسوسة. ولا يمكن الآن حصر هذه الوسائل أو تحديد النماذج المحتاج إليها منها، ويحسن اختيار مجموعة من المعنيين بأنواعها المختلفة ليحال إليها أولا بأول كل ما يقترح من وسائل، من قبل المستكتبين أو المراجعين أو لجنة الاعتماد في كل موضوع بحسبه. ك - المراجع المستخدمة في المشروع: بالإضافة إلى الاستمداد من الكتب الفقهية الأساسية الممثلة لفقه المذاهب المعتبرة، وكتب الفقه المقارن يرجع إلى كتب أحكام القرآن، وكتب أحاديث الأحكام وشروحها. مع الاستفادة من المراجع المعاصرة والدوريات وأعمال المجامع والمؤتمرات والندوات ولجان الفتوى، أو الرسائل العلمية المتخصصة ومحاولات تيسير الفقه المعروفة، لأن في هذا النتاج جهدا علميا لا يجوز إغفاله، وله دوره في توجيه النظر إلى ما يحقق اليسر والمصلحة الإسلامية العامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2151 ل - الإخراج الفني والفهرسة: من تمام التيسير المستهدف في هذا المشروع مراعاة أصول الإخراج والنشر الفني، من علامات الترقيم والأقواس والفقرات والعناوين، وتنويع الخطوط وأصناف الحروف المطبعية فضلا عن نوع الورق والحجم والتغليف الخ.. مع ضبط الآيات والأحاديث وتشكيل المشكل. وكذلك الفهرسة الفنية بشتى الاعتبارات لسد الحاجة إلى الكشف عن المسائل بسرعة ويسر. ومن الجدب بالذكر أن كل موضوع سينشر على حدة في إطار سلسلة واحدة تجمع هذه الكتيبات في مواصفات عامة بها، مع اختيار ما يميز كل كتاب منها بالألوان أو الأرقام الخ. م - قوائم المستكتبين والمراجعين ولجنة الاعتماد: طرحت بعض الأسماء لتشكيل القوائم واللجنة المشار إليها، ورئي أن استكمال ذلك على الوجه الصحيح يتطلب مزيدا من الوقت لاستحضار الطاقات المناسبة للنهوض بهذا العمل حيث سيناط بكل من يرشح للكتابة أو المراجعة تحمل مهمة إنجاز ما يكلف به ويفسح له المجال للاستعانة بمن يشاء على مسئوليته. لذا احتفظ بالأسماء المطروحة في ملحق لتكون نواة لتشكيل القوائم واللجنة المشار إليها، بعد استكمالها وتحديد العناوين. كما أشير إلى ضرورة اشتمال التكليف على مدة لإنجاز الكتابة، أو إنجاز المراجعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2152 ومن الضروري أن تتضمن الأبحاث المكتوبة بيانات خاصة بشأن المستندات والآراء غير المختارة. إلخ للمساعدة في عملية المراجعة والاعتماد، وإن كانت ستحذف فيما بعد لعدم حاجة القارئ إليها. ن - معيار أولوية الإنجاز والنشر: لا يخفي أن حاجة عامة المسلمين تختلف بين موضوع وآخر، ومع شمول المشروع لكل موضوعات الفقه وآدابه الشرعية فإن هناك أولوية لنشر بعض أقسام الفقه أو أبوابه، مما سيشار بإزائه في قائمة تصنيف الموضوعات. وعلى سبيل المثال هناك من الأقسام والأبواب المستحقة للتعجيل: أ - العبادات، ولا سيما الصلاة والحج. ب - الأحوال الشخصية. ج –أبواب من المعاملات. من مثل: البيع، الإجارة، الصرف، الهبة. س - تصنيف الموضوعات حسب جدارتها بالإفراد في كتيب: إن من مظاهر التيسير لتناول جماهير المسلمين للفقه تجزئة موضوعاته وإخراجها في كتيبات لطيفة الحجم، ولذلك سيفرد كل موضوع يستحق الإفراد، حسب منهج منضبط تتحقق به الفائدة للقارئ دون إخلال بوحدة الموضوع ومشتملاته وبما أن هذا التصنيف سيحتاج إليه عقب قرار مجلس المجمع للصياغة المعبرة عن المشروع، لذا وُكِّلَ إلى الأعضاء إعداد تصنيف مقترح من كل منهم علي تؤدة وهو بالقرب من مكاتبهم وذلك للتداول فيه عند عقد الدورة القادمة بحيث يساعد ذلك (مع القوائم الشخصية للمستكتبين والمراجعين ولجنة الاعتماد) في الانطلاق بمسيرة المشروع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2153 بسم الله الرحمن الرحيم محضر الاجتماع الثاني للجنة المشرفة علي مشروع تيسير الفقه تم في الكويت عقد اجتماع للجنة المشار إليها، وذلك مساء الجمعة 9/صفر/1408هـ الموافق 2/ 10/ 1987م حضره ثلاثة من أعضاء اللجنة الموكول إليها الإشراف على مشروع (تيسير الفقه) بمناسبة وجودهم في الكويت هم: - سماحة الشيخ محمد المختار السلامي. - فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي. - الدكتور عبد الستار أبو غدة. ولم يتيسر حضور الدكتور عبد السلام العبادي، وتقرر إبلاغه بما دار في الاجتماع وما أحيل إليه من الأعمال الموزعة على أعضاء اللجنة. ولقد استعرضت اللجنة متطلبات تنفيذ الفقرة الأخيرة من خطة المشروع الموضوع من قبلها، بشأن (تصنيف الموضوعات حسب جدارتها بالإفراد في كتيب) ليكون في الإمكان إفراد كل موضوع يستحق الإفراد دون الإخلال بمشتملاته الأساسية. وتبين أنه لا بد من استعراض جميع الأبواب الفقهية وجعلها وحدات مستقلة، سواء ضمت الوحدة بابا أو أكثر من التبويب المألوف أو استدعى الأمر تجزئة ما كان مشتملا على موضوعات تستحق الفصل أو إعادة التوزيع. وتقرر أن ينهض كل عضو من أعضاء اللجنة الأربعة بإجراء هذا المتطلب في قسم من أقسام الفقه (حسب التقسيم الرباعي المعروف) وذلك على النحو التالي: - العبادات وما يتصل بها، (الدكتور يوسف القرضاوي) . - الأحوال الشخصية وما يتصل بها، (الشيخ محمد المختار السلامي) . - المعاملات وما يتصل بها، (الدكتور عبد السلام العبادي) . - العقوبات والأقضية وما يتصل بها، (الدكتور عبد الستارة أبو غدة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2154 كما تم الاتفاق على أن كل عضو (بعد وضع التصنيف المطلوب بالنسبة للقسم الفقهي المخصص له) يقوم باختيار باب من ذلك القسم لكتابته بصورة نموذجية تراعى فيها القواعد والخصائص المبينة في خطة مشروع تيسير الفقه. ولضمان التناسق والتكامل بين عمل الأعضاء فإنه يؤمل أن يسلم ما يقوم به كل منهم إلى الأمانة العامة للمجمع قبل وقت كاف من عقد الدورة المرتقبة لكي يتم تهيئة العمل على شكل موحد في ضوء الاتصال مع الأعضاء إذا اقتضى الأمر. ثم يصار إلى إتمام التداول فيه عند عقد الدورة، كما جاء في كتاب الأمانة العامة الموجه للأعضاء بهذا الشأن. وانتهى الاجتماع في اليوم نفسه، على أن تتفضل الأمانة العامة بإبلاغ الدكتور عبد السلام العبادي بما انتهت إليه اللجنة. والحمد لله رب العالمين. د. عبد الستار أبو غده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2155 بسم الله الرحمن الرحيم تقرير اللجنة الفرعية المشكلة لدراسة مشروع تيسير الفقه الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتدى به إلى يوم الدين، وبعد. فقد اجتمعت اللجنة الفرعية المشكلة لبحث الخطة المقترحة لمشروع تيسير الفقه.. بحضور كل من: الأستاذ الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة الأمين العام للمجمع. الأستاذ الشيخ محمد المختار السلامي الأستاذ الدكتور عبد السلام داود العبادي مقرر. الأستاذ الدكتور عمر جاه الأستاذ الدكتور وهبة مصطفي الزحيلي الأستاذ الدكتور عبد الله إبراهيم وقد استمعت اللجنة إلى شرح مستفيض من معالي الأمين العام عن فكرة المشروع وما مرت فيه من مراحل وقد أشار إلى أن هذا الموضوع قد ورد النص عليه في النظام الأساسي للمجمع وأن ذلك قد تأيد في قرارات مؤتمر القمة الإسلامي الخامس الذي عقد في الكويت 1407هـ الموافق 1987م وأوضح أن شعبة التخطيط كانت قد بحثت هذا المشروع في اجتماعها الذي عقد في عمان بتاريخ 8 - 9 صفر 1407هـ الموافق 11-12/ 1986م أثناء انعقاد الدورة الثالثة لمجلس المجمع. وقد اتخذت فيه مجموعة من التوصيات ثم بين معاليه أن الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي قد قامت بتشكيل لجنة لإعداد هذا المشروع من أعضاء المجمع وخبرائه.. وتتكون هذه اللجنة من كل من: 1 - الشيخ محمد المختار السلامي 2 - الدكتور يوسف القرضاوي 3 - الدكتور عبد السلام داود العبادي 4- الدكتور عبد الستار أبوغدة مقرر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2156 وقد التقت هذه اللجنة بتاريخ 23 - 24 رمضان 1407هـ الموافق 20-21 /5/ 1987م بحضور معالي الأمين العام، وأعدت صياغه أولية لهذا المشروع على ضوء التصورات التي أعدها أعضاؤها. ثم بيَّن معاليه أبعاد التبرع المشكور الذي قدمه سعادة الشيخ صالح كامل ومعالي الدكتور محمد عبده يماني مدير مؤسسة اقرأ لتمويل هذا المشروع. وقد قامت اللجنة الفرعية بدراسة هذه الصياغة وبعد المداولة تبنت اللجنة اعتماد هذه الخطة المقترحة لمشروع تيسير الفقه كما وردت من اللجنة التي قدمته مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة التي ستراعى عند الطباعة. وتوصي اللجنة لمجلس المجمع إقرار هذا المشروع وتكليف الأمانة العامة بمتابعة تنفيذه. هذا وقد اقترح بعض أعضاء اللجنة الفرعية أن يضم لمشروع تيسير الفقه الأحكام الاعتقادية أيضا لأهميتها والحاجة إلى التيسير في عرضها. وقد رأت اللجنة أن هذه الأحكام جديرة بمشروع مستقل لتيسير عرضها وأنه لا ضرورة لإدخالها في هذا المشروع حرصا على ما استقر من اصطلاحات في هذا المجال. مقرر اللجنة الفرعية د. عبد السلام داود العبادي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2157 توصيات الدورة الرابعة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم مناقشة التوصيات الشيخ عبد الستار أبو غدة: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.. أولا: بعد الاطلاع على البحوث الواردة للمجمع في موضوع (كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقية والتي أوضحت ما يعانيه العالم بأسرة من المفاسد الأخلاقية التي أخذت تنتشر في عالمنا الإسلامي بصورة لا ترضي الله تعالى، ولا تتوافق مع الدور القيادي المنوط بهذه الأمة في قيادة البشرية نحو الطهر العقدي والأخلاقي والسلوكي، بين الناس والأمم) . وانسجاما مع خصائص الإسلام المتكاملة، وكون الجانب الأخلاقي من أهم جوانب الدين ولا تتحقق الثمار الكاملة للانتماء إلى الإسلام إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية بجميع مبادئها وأحكامها وفي شتى مرافق الحياة. يوصي: - بالعمل على تصحيح وتقوية الوازع العقدي عبر القيام بتوعية شاملة وتحسيس بآثار العقيدة الصحيحة بالنفوس. - بالسعي إلى تطهير الإعلام المقروء والمرئي والمسموع والإعلانات التجارية في عالمنا الإسلامي من كل ما يشكل معصية لله تعالى وتنقيته تماما من كل ما يثير الشهوة أو يسبب الانحراف ويوقع في المفاسد الأخلاقية. - بوضع الخطط العلمية للمحافظة على الأصالة الإسلامية والتراث الإسلامي، والقضاء على كل محاولات التغريب والتشبه، واستلاب الشخصية الإسلامية والوقوف أمام كل أشكال الغزو الفكري والثقافي الذي يتعارض مع المبادئ والأخلاق الإسلامية. وأن توجد رقابة إسلامية صارمة على الأنشطة السياحية والابتعاث إلى الخارج حتى لا تتسبب في هدم أخلاق ومقومات الشريعة الإسلامية. - بتوجيه التعليم وجهة إسلامية، وتدريس كل العلوم من منطلق إسلامي، وجعل المواد الدينية مواد أساسية في كل المراحل والتخصصات مما يقوي العقيدة الإسلامية ويؤصل الأخلاق الإسلامية في النفوس. كما يجب أن تحرص الأمة أن تكون رائدة في مجالات العلم المتعددة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2158 - ببناء الأسرة الإسلامية بناء صحيحا، وتيسير الزواج والحث عليه، وحث الأباء والأمهات على تنشئة البنين والبنات تنشئة صحيحة، حتى يكونوا جيلا قويا يعبد الله على حق ويتولى المهمة الدائمة لنشر الإسلام والدعوة إليه. وأن تهيأ المرأة لتقوم بدورها أما وربة بيت حسب ما تقضي به الشريعة الإسلامية والقضاء على ظاهرة انتشار استخدام المربيات الأجنبيات خاصة غير المسلمات. - بتهيئة جميع الوسائل التي تحقق تربية النشء تربية إسلامية بحيث يلتزم بأركان الإسلام وسلوكياته، ويدرك واجباته تجاه ربه وأمته ويتخلص من الخواء الروحي الذي يتسبب في تعاطي المخدرات والمسكرات والتفسخ الأخلاقي بأشكاله المتعددة وإشغال أوقات الفراغ لديهم بما هو مفيد وإيجاد وسائل الترفيه والرياضات والمسابقات البريئة الطاهرة وأن توجه وجهة إسلامية كاملة. ثانيا: بعد الاطلاع على البحوث الواردة للمجمع في موضوع (مجالات الوحدة الإسلامية وسبل الاستفادة منها) وانطلاقا من أولوية رابطة الإسلام بين شعوب الأمة الإسلامية وهي رابطة لا انفصام لها، وأساس متين للتضامن المنشود وقاعدة ثابتة لكل بناء حضاري يرمي إلى توحيد صفوفها وإلى التأليف بين الجهود المبذولة في مجابهة التحديات المعاصرة وتحقيق العزة والتقدم. وبما أن في رابطة الإسلام حافزا قويا وعاملا باقيا لأحكام التوجه ولتنسيق سياسات الدول الإسلامية في مختلفة ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية ولتوثيق علاقات التناصر والتعاون والمرحمة بين شعوب الأمة في رفع ما يعوق سيرها من ألوان التبعية ويجابهها من تحديات المعاصرة في بلوغ ما تسعى لتحقيقه من رقي ومنعة وازدهار. يوصي أيضا بما يلى: - بالذود عن العقيدة الإسلامية، وتمكينها بصورتها النقية من الشوائب، والتحذير من كل ما يؤدي إلى هدمها أو التشكيك في أصولها. الشيخ عبد السلام داود العبادي: ما وزعت علينا هذه نحن غير متابعين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2159 الشيخ عبد الستار أبو غدة: هي على كل ليس فيها فقه وإنما هي فكر وأنتم مفكرون.. ستوزع الأن. الرئيس: توزيعها ضروري.. ما هو رأيكم نصلي الظهر ثم نعود، أو تنتظرون خمس دقائق.. نصلي هنا؟ * * * الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم التوصيات بين أيديكم وسيبدأ قراءتها من أولها. الشيخ عبد الستار أبو غدة: نواصل من حيث بلغنا. يوصي أيضا بما يلي: أ - بالذود عن العقيدة الإسلامية، وتمكينها بصورتها النقية من الشوائب، والتحذير من كل ما يؤدي إلى هدمها هذه في الصفحة 26 في البند ثانيا الفقرة أو التشكيك في أصولها ويقسم وحدة المسلمين ويجعلهم مختلفين متنابذين ب - بتأكيد عناية مجمع الفقه الإسلامي بالأبحاث والدراسات الفقهية التي ترمي إلى مجابهة التحديات الفكرية الناشئة عن مقتضيات المعاصرة واهتمام الفقه الإسلامي بمشكلات المجتمع، واعتماده كعنصر أساسي في النهضة الفكرية للأمة وتوسيع دائرة اعتماده فيما تسنه الدول الإسلامية من تشاريع وقوانين في عامة شؤون المجتمع. ج - وجوب التناسق الوثيق في ميدان التربية والتعليم مضمونا ومنهاجا على السبيل القويمة للحضارة الفكرية التي بناها الإسلام بغية تكوين أجيال من المسلمين متوحدين في المرجع التعبدي متقاربين في التوجه الفكري متشاركين في الاعتزاز بالانتساب الحضاري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2160 د - بإعطاء درجة عالية من الأولوية للبحث العلمي في مختلف ميادين المعرفة وتخصيص نسبة10 % من الناتج الإجمالي لتمويل البرامج البحثية، لإنشاء المخابر العلمية على أساس وثيق من التكامل والتعاون بين الجامعات الإسلامية. هـ - بالعمل مع الجامعات الإسلامية على ضبط برنامج دراسي يتألف من عدد من المحاور الكبرى تكون غرضا للبحث الفقهي، وبإنشاء لجنة عليا من المفكرين المسلمين لمتابعة هذه الأبحاث وإجازتها.. الدكتور عبد السلام داود العبادي: يوصي بما يلي تأكيد. يعني يلتزم به، بعضها صار مضطربا. الدكتور عبد الستار أبو غدة: هي تكرار للحرف الجار للتوكيد.. الذي مضطرب نحذفه، وبإنشاء لجنة عليا من المفكرين المسلمين لمتابعة هذه الأبحاث وإجازتها، وتخصيص جائزة تفوق لمكافأة أحسنها.. و أن يكون الإعلام في بلاد المسلمين بكل أنواعه المسموعة والمقرؤة والمرئية إعلاما هادفا إلى تحقيق العبودية لله في أرضه، وبث الخير ونشر الفضيلة والتحرر من المبادئ الهدامة للفكر والخلق، والملحدة في دين الله، والمنحرفة عن الصراط المستقيم، ودعم جهود توحيده من خلال نشاط اتحاد الإذاعات الإسلامية. ز - إقامة اقتصاد إسلامي لا شرقي ولا غربي، بل اقتصاد إسلامي خالص مع إقامة سوق إسلامية مشتركة، يتعاون فيها المسلمون على الإنتاج وتسويقه دون الحاجة إلى غيرهم، لأن الاقتصاد ركن مهم من أركان قيام المجتمعات وتكامله سبيل للوحدة بين شعوب الأمة الإسلامية. الشيخ محمد المختار السلامي: بل اقتصاد إسلامي خالص. من الأول إقامة اقتصاد إسلامي لا شرقي ولا غربي.. مع إقامة سوق إسلامية مشتركة. بل هذه ما فهمت لنا. الرئيس: يريد لا شرقي ولا غربي. الشيخ محمد المختار السلامي: إقامة اقتصاد إسلامي خالص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2161 الشيخ عبد الستار أبو غدة: نضرب عن الإضراب. ثالثا: انطلاقا من أن (إسلامية التعليم) في الديار الإسلامية اليوم ضرورة لا مناص منها لبناء الأجيال الإسلامية بناء سويا متكاملا في الفكر والتصور والسلوك والعمل.. وذلك بجعل جميع العلوم محكومة بالإسلام في المنطلقات والأهداف، وأن يكون الإسلام بنظمه وضوابطه إطارا لهذه العلوم، وأن تكون العقيدة الإسلامية قاعدة وأصلا في بناء المنهج التربوي والتعليمي. وتتلخص أهم معالم المنهج المنشود في (إسلامية التعليم) فيما يلي: الشيخ عبد السلام داود العبادي: بالنسبة للاصطلاح أسلم. ما بده وقفة. الشيخ عبد الستار أبو غدة: والله درج هذا الاصطلاح. الرئيس: هذه العبارة ولو درجت ينبغي تغييرها. الشيخ طه جابر العلواني: لو سمحتم كلمة أسلم فيها معنى خذل والأفضل إسلامية التعليم وإن كان إذا اعتبرناه مصدرا صناعيا ممكن أن يمشي ولكن الأفضل منه إسلامية التعليم. الشيخ محمد تقي عثماني: صبغ التعليم صبغة إسلامية. بدل أسلمة التعليم. الشيخ طه جابر العلواني: وماذا عن إسلامية التعليم. الرئيس: لماذا لا يقول انطلاقا من مطلب التعليم الإسلامي في الديار الإسلامية. (التعليم الإسلامي) . الشيخ محمد المختار السلامي: ممكن سيادة الروح الإسلامية، سيادة التفكير الإسلامي في التعليم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2162 الرئيس: لكن إذا قلنا التعليم الإسلامي ما يكون جيدا؟ الشيخ طه جابر العلوانى: سيادة الرئيس هو المطلوب إسلامية العلوم الإنسانية والاجتماعية وليس المطلوب علوما أخرى. فلذلك إسلامية التعليم المطلوب فيه إسلامية العلوم الإنسانية والاجتماعية لما قلنا التعليم الإسلامي ينصرف للتعليم الشرعي. الأمين العام: يا سيدي صبغ التعليم بالصبغة الإسلامية. الشيخ محمد المختار السلامي: ما معنى إني أبحث في المادة أو عندما نكون طبيب نقول صبغة إسلامية. يا سيدي ما هي صبغة إسلامية. التجربة فيما تصل إليه. الشيخ عمر جاه: فضيلة الرئيس إن إسلامية التعليم تختلف عن التعليم الإسلامي اختلافا كليا فإسلامية التعليم معناها إدخال روح الإسلام في مناهج التعليم وخصوصا في العلوم الإنسانية ولذلك أنا أميل إلى اختيار كلمة إسلامية التعليم. الرئيس: خلاص إسلامية التعليم. الشيخ عبد الستار أبو غدة: انطلاقا من أن (إسلامية التعليم) في الديار الإسلامية اليوم ضرورة لا مناص منها لبناء الأجيال الإسلامية بناء سويا متكاملا في الفكر والتصور والسلوك والعمل. وذلك بجعل جميع العلوم محكومة بالإسلام في المنطلقات والأهداف، وأن يكون الإسلام بنظمه وضوابطه إطارا لهذه العلوم. الشيخ محمد المختار السلامي: ما معنى وذلك يجعل جميع العلوم محكومة بالإسلام في المنطلقات والأهداف عندما تكون القاعدة ونجيب مهندس الجسور والطرقات ونأخذ في الصلب والحديد. هذه أهذب خلقه وأن يكون دائما متصلا بالله وأن يراقب الله في عمله أما أن يكون ذات العلم يصبح أساس ما فاهم أنا هذا.. العلم لا مسيحي ولا إسلامي. احذفوا هذه العبارة وقولوا بجعل الإسلام بنظمه إطارا لهذه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2163 الرئيس: أين. الشيخ محمد علي التسخيري: هو نفس هذه العبارة احذفوها وذلك يجعل جميع العلوم، وانقلوا إلى السطر الثاني وذلك يجعل الإسلام بنظمه وضوابطه إطارا لهذه العلوم. الشيخ محمد المختار السلامي: هذه القضايا علوم تجريبية ونحن بعدنا عنها كثيرا. الرئيس: على فيه شيء يخرج عن حكم الإسلام. ما فيه شيء. الشيخ محمد المختار السلامي: الكلام يوزن ويتتبع. وممكن يأتي غدا في جريدة من الجرائد يحكموا هذا الكلام. الرئيس: وذلك يجعل جميع هذه العلوم محكومة بالإسلام في المنطلقات والأهداف. هذه جميلة في مبناها ومعناها. الشيخ محمد المختار السلامي: ما هي جميلة، في مبناها غير جميلة عندي. الشيخ إبراهيم بشير الغويل: هل سيدي من الممكن توضيح الموضوع. حتى في العلوم العلمية البحتة تختلف النظرات وفقا للإطار الذي يحكمها. فمثلا حينما كان يحكم الإطار مثلا في الفلك نظرة تقول بان هذا الفلك تحكمه نظرة نيوتن التي تقوم على الجاذبية غير حينما وصلنا سنة 1905 وظهرت النظرية النسبية الخاصة ثم أصبحت النسبية العامة وهي وجه نظر حول هذا الكون. فوجه نظر الإطار العام (الغريم) الذي عاد إليه يختلف بين مسلم وغير مسلم والعلوم العلمية البحتة تتغير بين إطار إسلامي وإطار غير إسلامي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2164 الشيخ محمد المختار السلامي: سنأتي بطائرة إسلامية وطائرة غير إسلامية ومهندس يعمل بالطريق الإسلامي ومهندس لا يعمل بالطريق الإسلامي. الأمين العام: يا سيدى نحن نقاسي من الصراع بين الثقافات بين اختلاف العلماء الذين يأتون من الغرب وبين الذين ينشأون في بلادهم وهذه القضية جربناها حتى في بلدنا. فالعداء بين أهل الجامعة الذين تخرجوا من انجلترا وفرنسا وبين أهل الأزهر وأهل جامع الزيتونة قائم لا يمكن رفعه ومن أجل ذلك فإن المؤتمرات السابقة للتعليم الإسلامي وأول اجتماع لرابطة الجامعات الإسلامية الذي انعقد في سنة 969 أم في الرباط يقول بان الأصل لابد أن يكون لكل المتعلمين من أبناء المسلمين خلفية إسلامية يصدرون عنها في تعاملهم وفي فهمهم لحقائق الأمور. فلنأخذ شيئا من هذا ونضعه في هذا المكان. الرئيس: ألف يا شيخ. الشيخ عبد الستار أبو غدة: أ - جعل العقيدة الإسلامية قاعدة التصور الإسلامي الكبير. الشيخ محمد المختار السلامي: معنى هذا أن الآخر مشى ومضى كما هو. الرئيس: العبارة ماشية. الشيخ عبد الستار أبو غدة: وأن تكون العقيدة الإسلامية قاعدة وأصلا في بناء المنهج التربوي والتعليمي وتتلخص أهم معالبم المنهج المنشود في (إسلامية التعليم) فيما يلى: أ - جعل العقيدة الإسلامية قاعدة التصور الإسلامي الكبير الذي يعطي نظرة كلية شاملة للكون والإنسان والحياة، كما تعرف الإنسان بخالق الحياة. الأمين العام: تعرف الإنسان بربه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2165 الرئيس: جعل العقيدة الإسلامية قاعدة التصور الإسلامي الكبير. الشيخ عبد الستار أبو غدة: الذي يعطي نظرة كلية شاملة للكون والإنسان والحياة، كما تعرف الإنسان بربه خالق الحياة. الرئيس: لماذا لا يقال تعرف الإنسان بربه وعلاقته بالكون. الشيخ طه جابر العلواني: ممكن كما تعرف الإنسان بخالق الكون والحياة والإنسان. وبننهي الموضوع. الشيخ عبد السلام داود العبادي: يا سيدى يكفي لعند كلمة والحياة في نصف السطر الثاني. لأنك أنت بتقول العقيدة الإسلامية لا تريد أن تدخل في التفصيلات. الشيخ محمد علي تسخيري: هو النظرة العامة للحياة. نظرة كلية للإنسان والكون والحياة. الشيخ عبد الستار أبو غدة: والعلاقات مهمة. الشيخ عبد السلام داود العبادي: يا سيدي هي داخلة في النظرة. الشيخ عبد الستار أبو غدة: يعني لو قلنا تعرف الإنسان بخالق الحياة وعلاقته بالكون وعلاقة الإنسان بخالقه وبمجتمعه. ب - اتخاذ الإسلام محورا للعلوم الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية والسياسية والبرهنة على أحقيته وأسبقيته لهذه العلوم. الشيخ طه جابر العلواني: في هذه العلوم. الشيخ عبد الستار أبو غدة: في هذه العلوم وإبراز نظرياته الإنسانية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2166 الشيخ عبد السلام داود العبادي: لو سمحت العطف هذا غير دقيق. لا نقول الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية لأن الإنسانية تشملها كل هذا. الشيخ طه جابر العلواني: عفوا هناك فرق كبير بين العلوم الإنسانية والاجتماعية، العلوم الإنسانية هي علم الإنسان والعلوم السلوكية والتربية. والعلوم الاجتماعية الاقتصاد، الإعلام، الإدارة السياسة غيرها. الشيخ عبد السلام داود العبادي: كلها يطلق عليها علوم إنسانية ولا مشاحة في الاصطلاح يا دكتور طه. ليس مستقرا. الشيخ عبد الستار أبو غدة: وإبراز نظرياته الإنسانية وتعلقها بخالق الكون والإنسان والحياة بالتنسيق مع المنظمات الإسلامية العاملة في هذا المجال كالمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية والمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم. الشيخ طه جابر العلواني: هنا أرى أن منظمتين أساسيتين لهذا الغرض أهملتا وهي جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين والمعهد العالمي للفكر الإسلامي. الشيخ عبد الستار أبو غدة: المعهد له فقرة خاصة في الأخير. الشيخ طه جابر العلواني: ولكن هاتين المؤسستين تعملان لهذا الغرض وأسستا من أجله. الشيخ محمد المختار السلامي: ما معنى اتخاذ الإسلام محور العلوم الاجتماعية والسياسية؟ أنا أسال اللجنة التي صاغت هذا. الشيخ عبد الستار أبو غدة: معناه أن علم النفس والفلسفة وغيرها تعتمد النظرات الإسلامية بدل أن تعتمد النظرات التي تقوم على العلمانية هذا هو المحورية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2167 الشيخ عمر جاه: لماذا لا تقول إطار بدل محور؟. الشيخ محمد المختار السلامي: اسمعني يا سيدي. إذا كان بالطريقة هذه قول اخرجي أما تقول ج معنى ذلك أننا نتحدث ولا أحد يسمعنا. ثم أقول أعملنا على التصويت ولي كامل الحق في ذلك. أنا لا أقبل هذا. الشيخ عبد الستار أبو غدة: ج - العمل على إظهار فساد ما يخالف العقيدة الإسلامية من علوم مادية وملحدة وأخرى مضللة كالكهانة، والسحر، والتنجيم، والتحذير من العلوم التي ذمها وحرمها الإسلام،. وكذلك العلوم التي تقوم على الفسق والفجور. د - إعادة كتابة تاريخ العلوم والمعارف وبيان تطورها. الشيخ عبد السلام داود العبادي: إذا سمحت. أنا يصح أنفعل مثلما انفعل أستاذنا السلامي لكن في الواقع فيه بعض عبارات بتمر ليست دقيقة ثم تحسب علينا في النهاية. يعني في الواقع لا يصح أن نقول في – ب - وأسبقيته لهذه العلوم من يقول بالنسبة للعلوم السياسية إننا نحن نجعل الإسلام يسبق في العلوم السياسية فيه شيء، فكر وقضايا اجتهاد ونظر. يعني أن يقال محور ماشي أن يقال إطار أما أن نبرهن على أسبقيته لجميع العلوم. هذه العبارة: اتخاذ الإسلام محورا - والأدق إطارا - للعلوم الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية والسياسية والبرهنة على أحقيته. أما أسبقيته لهذه العلوم هل مطلوب منا أن نبرهن على أن الإسلام سابق لكل شيء. ليس المطلوب هذا. الرئيس: يعني البرهنة على أحقيته وبلاش نظرياته. الشيخ طه جابر العلواني: لعل من الممكن حذف العبارة كلها والاقتصار (وإبراز نظرياته) بعد كلمة السياسية تأتي كلمة وإبراز نظرياته الإسلامية وينتهي الموضوع. الشيخ عبد الستار أبو غدة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2168 د - إعادة كتابة تاريخ العلوم والمعارف وبيان تطورها وإسهامات المسلمين في كل منها وتنقيتها مما دس فيها من نظريات استشراقية وتغريبية تحرف المسار التاريخي الحق، وإعادة النظر في تصنيف العلوم ومناهج البحث وفق النظرة الإسلامية. بالتنسيق والتعاون في ذلك كله مع معهد التاريخ والعلوم بفرانكفورت ومراكز البحث العلمي ومراكز الاقتصاد الإسلامي في شتى البلاد الإسلامية. الشيخ طه جابر العلوانى: أتحفظ على ذكر معهد تاريخ العلوم بفرانكفورت فهو معهد متخصص بنشر كتب التراث ولا علاقة له بدراسة تاريخ العلوم وهو معهد تشرف عليه هيئة استشراقية وإن كان الأستاذ الدكتور فؤاد سزكين يديره. فلا أرى ذكره في هذا المجال. الرئيس: الشيخ عبد الله التركي مدير جامعة الإمام نوه به وهو رئيس مجلس الأمناء. الشيخ طه جابر العلواني: هناك علاقة خاصة بين المعهد وبين جامعة الإمام في مجال تبادل الكتب والمخطوطات ولكن لا أرى أن يتبنى المجمع هذا. الرئيس: لماذا لا يحذف كلهم. الشيخ طه جابر العلواني: لا مانع. الشيخ عمر جاه: نقطة - د - عندما قلنا وتنقيتها مما دس فيها من نظريات استشراقية وتغريبية ليس من المناسب أن نضيف الإلحادية إذا رأيتم ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2169 الشيخ عبد السلام داود العبادي: إذا سمحت فيه قضية تكررت في التوصيات. أنه يقال بكذا بالتنسيق مع كذا من الذي سيقوم لينسق. الشيخ عبد الستار أبو غدة: الأمانة العامة. الشيخ عبد السلام داود العبادي: لا. كيف الأمانة العامة مطلوب منها تعيد كتاب تاريخ العلوم بالتعاون مع كذا ذلك من خلال في أطر نشاطات. الرئيس: لا الذي يظهر لي شيء واحد. هو لا شك أنه قيل من خلال ... وفي أطر ... وفيه نشاطات يكون أولى. لكن هو يراد أن يكون هذا كتوصيات عامة لعموم الدول الإسلامية وأنه يحسن التنسيق مع هؤلاء الجهات كإرشاد. الشيخ عبد الستار أبو غدة: يعني أي جهة تنهض بتنفيذ التوصيات التي وجهت إليهم التوصية. الشيخ عبد السلام داود العبادي: عندما تقول إعادة كتاب بالتنسيق يعني فيه جهة كلفت وستقوم بالتنسيق. الشيخ عبد الستار أبو غدة: التي وجهت إليهم التوصية. الرئيس: يعني لو قيل من خلال ... الشيخ عبد السلام داود العبادي: من خلال أو في إطار نشاطات كذا. الشيخ محمد تقي العثماني: سيدي الرئيس أرى أنه لا يذكر أي معهد بخصوصه. الرئيس: هذا حذفناه ياشيخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2170 الشيخ عبد الستار أبوغدة: وصارت العبارة هكذا: وإعادة النظر في تصنيف العلوم ومناهج البحث وفق النظرة الإسلامية من خلال أنشطة مراكز ومعاهد البحث العلمي ومراكز الاقتصاد الإسلامي في شتى البلاد الإسلامية. هـ - إعادة الوشائج بين العلوم التي تبحث في الكون والإنسان والحياة وبين خالقها فإن العالم الباحث في هذه المجالات يجب أن ينظر فيها على أنها تمثل الإبداع الإلهي والصنعة الربانية المحكمة. و وضع الضوابط والقواعد المستخلصة من الدين الإسلامي أو المنسقة مع أهدافه وغاياته لتكون مبادئ لجميع العلوم أو لعلم واحد منها وإبراز عيوب المناهج الغربية التي أقامت فصاما موهوما بين الدين والعلم، أو بنت العلوم بناء خاطئا كعلم التاريخ والاقتصاد والاجتماع. وينبغى أن يؤخذ في الاعتبار أن هناك مشروعا يشكل ظهيرا لإسلامية التعليم بل ربما كان من الوسائل الضرورية له وهو مشروع (إسلامية المعرفة) وينهض المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن في الولايات المتحدة بمتطلباته من حيث التخطيط ورسم سبل التنفيذ من خلال مقالات ومؤلفات وعقد ندوات. الشيخ عبد السلام داود العبادي: أنا الواقع بالنسبة للدكتور طه أنا مع الإشادة بالمعهد وذكره لكن يخشى إذا لم يتم تعريف بالمعهد أن نقع في لبس خاصة إذا قلنا في الولايات المتحدة الأمريكية كان المجمع يحيل على الولايات المتحدة الأمريكية قضية إسلامية العلوم. فلا بد من التعريف بالمعهد. الرئيس: وكذلك في الفقرة - ب - ياشيخ عبد السلام. مثل ما ذكر الشيخ تقي ألا نسمي. الشيخ طه جابر العلواني: ممكن إن رأيتم تحذف كلمة واشنطن من الولايات المتحدة لأن المعهد له فروع كثيرة في العالم الإسلامي كله وتحذف هذه الفقرة ويكتفي: وينهض المعهد العالمي للفكر الإسلامي - فقط - بمتطلباته. الشيخ محمد عبده عمر: لو سمحت يا سيادة الرئيس - هذه التوصيات أهملت وسائل الإعلام والصحافة. الرئيس: لا ما أهملتها وذكرت المسموعة والمقرؤة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2171 الشيخ طه جابر العلواني: عندي إذا سمحتم الله يرضى عليك سيادة الرئيس هذه القضايا الثلاث أدرجت في هذه التوصيات وتوصيات مباركة إن شاء الله ونافعة لكنني أرى أن هذه الموضوعات الخطيرة جدا التي هي: كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقية، وكيفية تحقيق الوحدة بين المسلمين. وكيفية إسلامية التعليم. موضوعات خطيرة ودائمة ومستمرة فلا ينبغي أن تطوى صفحاتها بمجرد هذه التوصيات ولكني أرى أن المجمع يستمر إن شاء الله في محاولاته سواء بعقد ندوات مع الجهات المتخصصة أو دراسات بحيث كل دورة نستطيع أن نقدم بها بعض الأشياء. فإن رأيتم أن تبقى من الموضوعات المفتوحة التي يستمر بحثها والتوصية بها على مدار ندوات المجمع وجلساته. الرئيس: إن شاء الله هذه دعوة إلى الخير لاشك وهي من طبيعة هذا المجمع وكما قرأ معالي الشيخ الأمين في الأمس في أول مادة من نظام هذا المجمع الدعوة إلى الوحدة الإسلامية لكن يظهر أن مقصد الشيخ أنه في غير هذه التوصيات لو تزال أن يكون في دورات لاحقة تؤخذ بعض مفردات أو الكليات في محاربة ومقاومة المفاسد الأخلاقية وتجسد بدراسة خاصة. الشيخ محمد علي التسخيري: أنا أثني على هذا الاقتراح المفيد والمبارك وأؤكد على أنه في كل دورة إلى هذين الأمرين المهمين. الشيخ طه جابر العلواني: وكذلك إسلامية التعليم طال عمرك. الرئيس: على كل بطبيعة المجمع وبقوة نظامه من الجائز فيه. الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد.. إني أتحفظ على كل ما جاء في هذا القرار لصياغته صياغة خطابية وشكرا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2172 الشيخ عبد السلام داود العبادي: أرجو أن توزع علينا الصفحات من 23 إلى25 المتعلقة بموضوع المفاسد الأخلاقية. في صفحة 26 الفقرة (هـ) ليست واضحة يبدو أن فيها سقطا في الطباعة لأنه مكتوب: بالعمل مع الجامعات الإسلامية على ضبط برنامج دراسي يتألف من عدد من المحاور الكبرى تكون غرضا في البحث الفقهي. في ماذا؟ يعني ليس هنالك مضمون محدد. فلابد من الإشارة ما المقصود في ئانيا. الرئيس: لكن فقرة (هـ) يا شيخ عبد السلام ألا يكتفي عنها بذاك. الشيخ عبد السلام داود العبادي: هي إما أن تشطب أو تعدل. الرئيس: الحقيقة هي لافتة للنظر من أول ما قرأنا لكن لو شطبت لأن في أثناء الفقرات ما يغني عنها. الشيخ عبد السلام داود العبادي: إذن تشطب. وبعدين تخصيص نسبة 1 % الواقع أن طموح بعض الدول لأكثر فنشطب 1 % هذه. وتخصيص نسبة على الأقل المهم لا يقال نسبة 1 % حيث إن بعض الدول بتقول إنها صارت تخصص أكثر صارت1.5 %. الرئيس: صفحة كم يا شيخ عبد السلام: الشيخ عبد السلام داود العبادي: في نفس (د) مكتوب وتخصيص نسبة 1 % يعني أنا أقترح بلاش ذكر النسبة وتخصيص نسبة من الناتج الإجمالي. الشيخ محمد المختار السلامي: لم تبلغها أي دولة ا % من العالم كله ولا دولة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2173 الشيخ عبد السلام داود العبادي: يا سيدي بلاش نبلغها وكثيرا، فبلاش نطلب المستحيل الذي لم تبلغه أي دولة في العالم لأن بلاش الدول المتخلفة تصير أحسن من الدول المتقدمة فيما يخص من إجمالي. ثم واعتماده عنصرا بدل في (ب) بدل كعنصر أساسي في النهضة. الشيخ على المغربي: والعمل على بث الخير ونثر الفضيلة والتحذير من المبادئ الهادمة وغير هذا مما هو مذكور. وهذا من أعمال المجمع. هل قام المجمع بإرسال بعض الأشياء إرشادات وتعليمات للبلاد الإسلامية أو هناك برنامج يكون لهذا. الشيخ عبد السلام دارود العبادي: الإذاعات الإسلامية عن كل الأنواع المسموعة والمقرؤة والمرئية كلها بدها تتم من خلال نشاط إذاعات ما احنا فيه عندنا مرئية أيضا. فتشطب من خلال نشاط اتحاد الإذاعات وفي عندك وكالة الأنباء بلاش ندخل في حساسية مع الجهات. الرئيس: نحذف أين. الشيخ عبد السلام داود العبادي: ودعم جهود توحيده تحذف من خلال نشاط كذا. الشيخ محمد عطا السيد: سيدي الرئيس. أنا أرجو أن أؤكد على القرار الذي اتخذ بعدم ذكر أي أسماء بمعاهد بعينها أو جامعات بعينها وأرى في هذا الموضوع أنه لو ورد أي اسم فسيكون في ذلك خطورة وسابقة خطرة. الرئيس: نحن وأنت تسمع حذفنا جميع أي اسم منظمة أو معهد أو جهة. الشيخ عبد السلام داود العبادي: إلا الأعضاء في المجمع الذي هو المعهد العالمي والمنظمة الإسلامية. حذفنا النسبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2174 بسم الله الرحمن الرحيم نصوص توصيات الدورة الرابعة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة من 18 - 23 جمادى الأخرة1408هـ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988م. أولا: بعد الاطلاع على البحوث الواردة للمجمع في موضوع (كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقية) والتي أوضحت ما يعانيه العالم باسره من المفاسد الأخلاقية التي أخذت تنتشر في عالمنا الإسلامي بصورة لا ترضي الله تعالى ولا تتوافق مع الدور القيادي المنوط بهذه الأمة في قيادة البشرية نحو الطهر العقدي والأخلاقي والسلوكي. وانسجاما مع خصائص الإسلام المتكاملة وكون الجانب الأخلاقي من أهم جوانب الدين ولا تتحقق الثمار الكاملة للانتماء إلى الإسلام إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية بجميع مبادئها وأحكامها وفي شتى مرافق الحياة. يوصي: أ - العمل على تصحيح وتقوية الوازع العقدي عبر القيام بتوعية شاملة وتحسيس باثار العقيدة الصحيحة في النفوس. ب - السعي إلى تطهير الإعلام المقروء والمرئي والمسموع والإعلانات التجارية في عالمنا الإسلامي من كل ما يشكل معصية لله تعالى وتنقيته تماما من كل ما يثير الشهوة أو يسبب الانحراف ويوقع في المفاسد الأخلاقية. ج - وضع الخطط العملية للمحافظة على الأصالة الإسلامية والتراث الإسلامي والقضاء على كل محاولات التغريب والتشبه واستلاب الشخصية الإسلامية والوقوف أمام كل أشكال الغزو الفكري والثقافي الذي يتعارض مع المبادئ والأخلاق الإسلامية. وأن توجد رقابة إسلامية صارمة على الأنشطة السياحية والابتعاث إلى الخارج حتى لا تتسبب في هدم مقومات الشخصية الإسلامية وأخلاقها. د - توجيه التعليم وجهه إسلامية وتدريس كل العلوم من منطلق إسلامي وجعل المواد الدينية مواد أساسية في كل المراحل والتخصصات مما يقوي العقيدة الإسلامية ويؤصل الأخلاق الإسلامية في النفوس. كما يجب أن تحرص الأمة أن تكون رائدة في مجالات العلم المتعددة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2175 هـ - بناء الأسرة الإسلامية بناء صحيحا وتيسير الزواج والحث عليه وحث الأباء والأمهات على تنشئة البنين والبنات تنشئة صحيحة حتى يكونوا جيلا قويا يعبد الله على حق ويتولى المهمة الدائمة لنشر الإسلام والدعوة إليه. وأن تهيا المرأة لتقوم بدورها أما وربة بيت حسب ما تقضي به الشريعة الإسلامية والقضاء على ظاهرة انتشار استخدام المربيات الأجنبيات خاصة غير المسلمات. و تهيئة جميع الوسائل التي تحقق تربية النشء تربية إسلامية بحيث يلتزم باركان الإسلام وسلوكياته ويدرك واجباته تجاه ربه وأمته ويتخلص من الخواء الروحي الذي يتسبب في تعاطي المخدرات والمسكرات والتفسخ الأخلاقي باشكاله المتعددة وإشغال الشباب بمهمات الأمور وإعطائه المسئوليات كل حسب قدرته وكفاءته وإشغال أوقات الفراغ لديهم بما هو مفيد وإيجاد وسائل الترفيه والرياضات والمسابقات البريئة الطاهرة وأن توجه وجهة إسلامية كاملة. ثانيا: بعد الاطلاع على البحوث الواردة للمجمع في موضوع (مجالات الوحدة الإسلامية وسبل الاستفادة منها) وانطلاقا من أولوية رابطة الإسلام بين شعوب الأمة الإسلامية وهى رابطة لا انفصام لها، وأساس متين للتضامن المنشود وقاعدة ثابتة لكل بناء حضاري يرمي إلى توحيد صفوفها وإلى التأليف بين الجهود المبذولة في مجابهة التحديات المعاصرة وتحقيق العزة والتقدم. وبما أن في رابطة الإسلام حافزا قويا وعاملا باقيا لأحكام التوجه ولتنسيق سياسات الدول الإسلامية في مختلف ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية ولتوثيق علاقات التناصر والتعاون والمرحمة بين شعوب الأمة في رفع ما يعوق سيرها من ألوان التبعية ويجابهها من تحديات المعاصرة وفي بلوغ ما تسعى لتحقيقه من رقي ومنعة وازدهار. يوصي أيضا بما يلي: أ - الذود عن العقيدة الإسلامية، وتمكينها بصورتها النقية من الشوائب، والتحذير من كل ما يؤدي إلى هدمها أو التشكيك في أصولها، ويقسم وحدة المسلمين ويجعلهم مختلفين متنابذين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2176 ب - بتأكيد عناية مجمع الفقه الإسلامي بالأبحاث والدراسات الفقهية التي ترمي إلى مجابهة التحديات الفكرية الناشئة عن مقتضيات المعاصرة واهتمام الفقه الإسلامي بمشكلات المجتمع واعتماده كعنصر أساسي في النهضة الفكرية للأمة وتوسيع دائرة اعتماده فيما تسنه الدول الإسلامية من تشاريع وقوانين في عامة شئون المجتمع. ج – وجوب التناسق الوثيق في ميدان التربية والتعليم مضمونا ومنهاجا على السبيل القويمة للحضارة الفكرية التي بناها الإسلام بغية تكوين أجيال من المسلمين متوحدين في المرجع التعبدي متقاربين في التوجه الفكري متشاركين في الاعتزاز بالانتساب الحضاري. د - بإعطاء درجة عالية من الأولوية للبحث العلمي في مختلف ميادين المعرفة وتخصيص نسبة1 % من الناتج الإجمالي لتمويل البرامج البحثية وإنشاء المخابر العلمية على أساس وثيق من التكامل والتعاون بين الجامعات الإسلامية. هـ - بالعمل مع الجامعات الإسلامية على ضبط برنامج دراسي يتألف من عدد من المحاور الكبرى تكون غرضا للبحث الفقهي، وبإنشاء لجنة عليا من المفكرين المسلمين لمتابعة هذه الأبحاث وإجازتها، وتخصيص جائزة تفوق لمكافأة أحسنها. و أن يكون الإعلام في بلاد المسلمين بكل أنواعه المسموعة والمقرؤة والمرئية إعلاما هادفا إلى تحقيق العبودية لله في أرضه، وبث الخير ونشر الفضيلة والتحرر من المبادئ الهدامة للفكر والخلق، والملحدة في دين الله، والمنحرفة عن الصراط المستقيم. ودعم جهود توحيده. ز - إقامة اقتصاد إسلامي لا شرقي ولا غربي، بل اقتصاد إسلامي خالص مع إقامة سوق إسلامية مشتركة، يتعاون فيها المسلمون على الإنتاج وتسويقه دون الحاجة إلى غيرهم. لأن الاقتصاد ركن مهم من أركان قيام المجتمعات وتكامله سبيل للوحدة بين شعوب الأمة الإسلامية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2177 ثالثا: انطلاقا من أن (إسلامية التعليم) في الديار الإسلامية اليوم ضرورة لا مناص منها لبناء الأجيال الإسلامية بناء سويا متكاملا في الفكر والتصور والسلوك والعمل. وذلك بجعل جميع العلوم محكومة بالإسلام في المنطلقات والأهداف، وأن يكون الإسلام بنظمه وضوابطه إطارا لهذه العلوم، وأن تكون العقيدة الإسلامية قاعدة وأصلا في بناء المنهج التربوي والتعليمي. وتتلخص أهم معالم المنهج المنشود في (إسلامية التعليم) فيما يلي: أ - جعل العقيدة الإسلامية قاعدة التصور الإسلامي الكبير الذي يعطي نظرة كلية شاملة للكون والإنسان والحياة، كما تعرف الإنسان بخالق الحياة وعلاقته بالكون، وعلاقة الإنسان بخالقه، وبمجتمعه. ب - اتخاذ الإسلام محورا للعلوم الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية والسياسية وإبراز نظرياته الإنسانية وتعلقها بخالق الكون والإنسان والحياة بالتنسيق مع المنظمات الإسلامية العاملة في هذا المجال كالمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية والمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم. ج - العمل على إظهار فساد ما يخالف العقيدة الإسلامية من علوم مادية وملحدة وأخرى مضللة كالكهانة والسحر والتنجيم والتحذير من العلوم التي ذمها وحرمها الإسلام وكذلك العلوم التي تقوم على الفسق والفجور. د - إعادة كتابة تاريخ العلوم والمعارف وبيان تطورها وإسهامات المسلمين في كل منها وتنقيتها مما دس فيها من نظريات استشراقية وتغريبية تحرف المسار التاريخي الحق وإعادة النظر في تصنيف العلوم ومناهج البحث وفق النظرة الإسلامية من خلال أنشطة مراكز ومعاهد البحث العلمي ومراكز الاقتصاد الإسلامي في شتى البلاد الإسلامية. هـ - إعادة الوشائج بين العلوم التي تبحث في الكون والإنسان والحياة وبين خالقها، فإن العالم الباحث في هذه المجالات يجب أن ينظر فيها علي أنها تمثل الإبداع الإلهي، والصنعة الربانية المحكمة. و وضع الضوابط والقواعد المستخلصة من الدين الإسلامي أو المنسقة مع أهدافه وغاياته أن تكون مباديء لجميع العلوم أو لعلم واحد منها وإبراز عيوب المناهج الغربية التي أقامت فصاما موهوما بين الدين والعلم، أو بنت العلوم خاطئا كعلم التاريخ والاقتصاد والاجتماع. وينبغي أن يأخذ في الاعتبار أن هناك مشروع يشكل ظهيرا لإسلامية التعليم بل ربما كان من الوسائل الضرورية له وهو مشروع (إسلامية المعرفة) وينهض (المعهد العالمي للفكر الإسلامي) بمتطلباته من حيث التخطيط ورسم سبل التنفيذ من خلال مقالات ومؤلفات وعد ندوات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2178 قائمة المشاركين في الدورة الرابعة لمجمع الفقه الإسلامي جدة: 18 إلى 23 جمادى الآخرة 1408 هـ (الموافق 6 - 11 فبراير1988م) أولا: - الأعضاء المنتدبون: 1 - فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد المملكة العربية السعودية الرئيس 2 - فضيلة الدكتور عبد السلام العبادي المملكة الأردنية الهاشمية نائب الرئيس 3- فضيلة الدكتور عبد الله الحاج إبراهيم ماليزيا نائب الرئيس 4- فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور الجمهورية العربية السورية رئيس شعبة التخطيط 5- فضيلة الشيخ عبد العزيز محمد عيسى جمهورية مصر العربية رئيس شعبة الإفتاء 6 - فضيلة الدكتور إبراهيم بشير الغويل ليبيا مقرر شعبة التخطيط. 7 - فضيلة الدكتور محمد شريف أحمد الجمهورية العراقية مقرر شعبة البحوث والدراسات 8- سعادة سيدي محمد يوسف جيري جمهورية مالي عضو مكتب المجلس 9- فضيلة القاضي محمد تقي العثماني جمهورية باكستان عضو مكتب المجلس 10 - فضيلة الدكتور روحان أمباي جمهورية السنغال عضو مكتب المجلس 11- فضيلة الشيخ عجيل جاسم النشمي دولة الكويت عضو مكتب المجلس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2179 12 - سعادة البروفيسور صالح طوغ الجمهورية التركية عضو مكتب المجلس 13 - فضيلة الشيخ محمد هشام البرهاني الإمارات العربية المتحدة نيابة عن ممثل بلده 14- فضيلة الشيخ أحمد أزهر بشير جمهورية إندونيسيا عضو 15- فضيلة الدكتور دوكوري أبو بكر جمهورية بوركينافاسو عضو 16 - أستاذ الحاج عبد الحميد بن باكل سلطنة بروني دار السلام عضو 17- فضيلة الشيخ محمد علي عبد الله جمهورية النيجر عضو 18- فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي الجمهورية التونسية عضو 19- سعادة الدكتور عمر جاه جمهورية غامبيا عضو 20- فضيلة الشيخ هارون خليفة جيلي جمهورية جيبوتي عضو 21- فضيلة الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد جمهورية السودان عضو 22- فضيلة الشيخ آدم شيخ عبد الله علي جمهورية الصومال الديمقراطية عضو 23- فضيلة الشيخ علي المغربي الجمهورية الجزائرية عضو 24- فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري جمهورية إيران الإسلامية عضو 25- فضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف آل سعد دولة البحرين عضو 26- فضيلة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي سلطنة عمان عضو 27- فضيلة الشيخ رجب بيوض التميمي فلسطين عضو 28- فضيلة الشيخ خليل محي الدين الميس الجمهورية اللبنانية عضو 29- فضيلة الشيخ موسى فتحي جمهورية المالديف عضو 30- فضيلة الشيخ محمد سالم محمد علي عبد الودود جمهورية موريتانيا الإسلامية عضو 31- فضيلة الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ جمهورية القمر الاتحادية الإسلامية عضو 32- فضيلة الشيخ محمد عبده عمر جمهورية اليمن الديمقراطية عضو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2180 33- فضيلة الشيخ أنس عبد النور خاليصا جمهورية أوغندا عضو 34- فضيلة الشيخ ثانى محمد شيت جمهورية بنين الشعبية عضو 35 –محمد الأمين حيدرا جمهورية غينيا بيساو عضو 36- السيد الحاج مروي كومارا جمهورية غينيا نيابة عن ممثل بلده 37- الأستاذ علي فارع العصيمي الجمهورية العربية اليمنية نيابة عن ممثل بلده 38- مولانا شريف عبد القادر جمهورية بنجلاديش عضو ثانيا: الأعضاء المعينون: 1- معالي الأستاذ عبد الهادي بوطالب مدير عام المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة المغرب 2- فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة مقرر الموسوعة الفقهية بوزارة الأوقاف الكويتية الكويت 3 - فضيلة الدكتور طه جابر العلواني مدير المعهد العالمي للفكر الإسلامي الولايات المتحدة 4 - فضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير أستاذ بكلية الشريعة والقانون بحامعة الخرطرم السودان. 5- فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود الجندي عضو مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة مصر 6- فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام رابطة العالم الإسلامي السعودية ثالثا: الخبراء: 1 - فضيلة الدكتور وهبه الزحيلي رئيس قسم الشريعة الإسلامية بجامعة الإمارات. 2 - فضيلة الدكتور على أحمد السالوس أستاذ مساعد بكلية الشريعة جامعة قطر. 3 - فضيلة الدكتور محمد الأمين الإسماعيلي أستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط. 4 - فضيلة الدكتور محي الدين قادي أستاذ بالجامعة الزيتونية. 5 - فضيلة الشيخ محمد الحاج ناصر باحث إسلامي متفرغ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2181 6 - فضيلة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي أستاذ بكلية الشريعة جامعة دمشق. 7 - فضيلة الأستاذ خليفة محفوظي عضو بالديوان الملكي بالرباط. 8- فضيلة مولاي مصطفى العلوي - رئيس المجلس العلمي بمنكاس. 9 - فضيلة الدكتور حسن علي الشاذلي رئيس قسم الفقه المقارن - جامعة الأزهر. 10 - فضيلة الدكتور محمد شمام رئيس شرفي محكمة التعقيب بتونس (دار الإفتاء- ساحة الحكومة) . 11 - فضيلة الدكتور إبراهيم فاضل الدبو أستاذ مساعد بكلية الشريعة - جامعة بغداد. 12 - فضيلة الدكتور عبد لله محمد عبد الله مستشار بمحكمة الاستئناف العليا بالكويت. 13 - فضيلة الدكتور عمر سليمان الأشقر أستاذ بكلية الشريعة والقانون - جامعة الكويت. 14 - سعادة الأستاذ مصطفى الفيلالي أستاذ بالجامعة التونسية. 15 - سعادة الدكتور أحمد رجائي الجندي أمين عام المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية. 16 - فضيلة الدكتور سامي حسن حمود مدير مركز البركة للاستشارات المالية الإسلامية بعمان - الأردن. 17 - فضيلة الشيخ كمال الدين التارزي أستاذ بكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين بتونس. 18 - فضيلة الدكتور أحمد محمد جمال أستاذ متعاون مع جامعة أم القرى بمكة المكرمة. رابعا: الوزراء والشخصيات: 1 - معالي الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء - المملكة العربية السعودية. 2 - معالي الشيخ خالد الجسار وزير الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت. 3- معالي الدكتور محمد علي محجوب وزير الأوقاف والشئون الإسلامية بجمهورية مصر العربية. 4 - فضيلة الشيخ أحمد بازيع الياسين رئيس مجلس إدارة بيت التمويل الكويتي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2182 5 - فضيلة الدكتور محمد إبراهيم شقرة مدير شئون مسجد الأقصى بالمملكة الأردنية الهاشمية. 6- فضيلة الشيخ محمد سيد الطنطاوي مفتي جمهورية مصر العربية. خامسا: المنظمات الإسلامية: 1 - الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي: - معالي الأستاذ سيد شريف الدين بيرزادة الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي. - سعادة الأستاذ حسن محمد داود مدير صندوق التضامن الإسلامي. 2 - رابطة العالم الإسلامي: - سعادة الأستاذ أمين عقيل عطاس الأمين العام المساعد للرابطة. 3 - البنك الإسلامي للتنمية: - معالي الدكتور أحمد محمد علي رئيس البنك الإسلامي للتنمية. - الدكتور حسين الدهماني - السيد/ محمد الصديق 4 - منظمة إذاعات الدول الإسلامية: - معالي الأستاذ أحمد فراج الأمين العام لمنظمة الإذاعات الإسلامية. سادسا: 1 - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض والقصيم: - فضيلة الدكتور أحمد بن محمد العنقري. - فضيلة الدكتور عبد الرحمن الشعلان. - فضيلة الدكتور أحمد صدقي البورنو. 2 - جامعة أم القرى بمكة المكرمة: - فضيلة الدكتور نزيه كمال حماد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2183 - فضيلة الدكتور سعود مسعد الثبيتي. - فضيلة الدكتور علي الندوي. - فضيلة الدكتور عبد الله صالح الرسيني. - فضيلة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان. 3- جامعة الملك عبد العزيز بجدة: - فضيلة الشيخ عبد الله بن محفوظ بن بيه. - فضيلة الدكتور ناجي شفيق عجم. - فضيلة الدكتور عبد اللطيف الصباغ. - فضيلة الدكتور عبد الرحيم الساعاتي. - سعادة الدكتور أيمن صافي. 4 - مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي: - سعادة الدكتور درويش جستنية. - سعادة الدكتور محمد علي القري. - سعادة الدكتور محمد عمر الزبير. - سعادة الدكتور محمد نجاة صديقي. - سعادة الدكتور أنس مصطفى الزرقا. - سعادة الدكتور سيف الدين إبراهيم. - سعادة الدكتور رفيق المصري. 5- مركز الملك فهد للبحوث الطبية: - سعادة الدكتور محمد علي البار. 6 - مركز البحث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية: - سعادة الدكتور كوركوت أوزال. - سعادة الدكتور حشمت بشار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2184 - سعادة الدكتور ثروت أرمغان. - فضيلة الدكتور حسن عبد الله الأمين. 7- محكمة التمييز بالمنطقة الغرببة: - فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع. 8 - الديوان الملكي: - معالي الدكتور معروف الدواليبي. سابعا: الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي: ا -فضيلة الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة الأمين العام 2- الأستاذ حمزة ربانة مدير مكتب الأمين العام 3- الأستاذ محمد بن قارة مدير شؤون الإدارية والمالية 4- السيد/ محمد الميساوي القسم الفني 5- السيد/ نور الدين المازنى القسم الإعلامي 6- السيد/ غياث الحسيني قسم المحاسبة 7- السيد/ آدم تيام القسم الفني 8- السيد/ بسام معاذ القسم الفني 9- السيد/محمود سند القسم الفني 10- السيد/ محمد أبو القاسم قسم المراسم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2185 بسم الله الرحمن الرحيم البهائية مناقشة مشروع القرار بشأن البهائية الشيخ عبد الستار أبو غدة قرار رقم 9 بشأن البهائية.. بعد الديباجة - انطلاقا من قرار مؤتمر القمة الإسلامي الخامس المنعقد بدولة الكويت من 26 إلى 29 جمادى الأولى 1407 هـ (الموافق 26 إلى 29 يناير 1987م) والقاضي بإصدار مجمع الفقه الإسلامي رأيه في المذاهب الهدامة التي تتعارض مع تعاليم القرآن الكريم والسنة المطهرة. - واعتبارا لما تشكله البهائية من أخطار على الساحة الإسلامية وما تلقاه من دعم من قبل الجهات المعادية للإسلام. - وبعد التدبر العميق في معتقدات هذه الفئة والتأكد من أن البهاء مؤسس هذه الفرقة يدعي الرسالة ويزعم أن مؤلفاته وحي منزل، ويدعو الناس أجمعين إلى الإيمان برسالته، وينكر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو خاتم المرسلين ويقول: إن الكتب المنزلة عليه ناسخة للقرآن الكريم، كما يقول بتناسخ الأرواح. - وفي ضوء ما عمد إليه البهاء في كثير من فروع الفقه بالتغيير والإسقاط، ومن ذلك تغييره لعدد الصلوات المكتوبة وأوقاتها إذ جعلها تسعا تؤدى على ثلاث كَرَّات، في البكور مرة وفي الآصال مرة، وفي الزوال مرة، وغير التيمم فجعله يتمثل في أن يقول البهائي: (بسم الله الأطهر الأطهر) وجعل الصيام تسعة عشر يوما تنتهي في عيد النيروز في الواحد والعشرين من مارس في كل عام، وحول القبلة إلى بيت البهاء في عكا بفلسطين المحتلة وحرم الجهاد وأسقط الحدود وسوى بين الرجل والمرأة في الميراث وأحل الربا. وبعد الاطلاع على البحوث المقدمة في موضوع (مجالات الوحدة الإسلامية) المتضمنة التحذير من الحركات الهدامة التي تفرق الأمة وتهز وحدتها وتجعلها شيعا وأحزابا وتؤدي إلى الردة والبعد عن الإسلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2186 يوصي: بوجوب تصدي الهيئات الإسلامية في كافة أنحاء العالم بما لديها من إمكانات لمخاطر هذه النزعة الملحدة التي تستهدف النيل من الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة. ويقرر: اعتبار ما ادعاه البهاء من الرسالة ونزول الوحي عليه ونسخ الكتب التي أنزلت عليه للقرآن الكريم، وإدخاله تغييرات على فروع شريعة ثابتة بالتواتر، هو إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة، ومنكر ذلك كافر بالإسلام تنطبق عليه أحكام الكفار بإجماع المسلمين. والله أعلم.. الشيخ محمد عبده عمر: لو نضيف كلمة (كافر بالإجماع) بدلا من كلمة (كافر بالإسلام) . الرئيس: أو تنطبق عليه أحكام الكفار بإجماع المسلمين. الشيخ محمد عبد اللطيف الفوفور: هل ترون أن نزيد كلمة ردة لأن هؤلاء البهائيين والقاديانيين وأمثالهم لا يسمحون لأحد أن يدخل في دينهم حتى يسلم أولا ويؤمن بشريعة نبينا ثم ينزلق إلى دينهم الخبيث فلذلك كان الإيمان بالبهائية ردة. الرئيس: هو ردة. الشيخ محمد تقي عثماني: لا. يمكن أن يكون هناك ردة. الرئيس: يا مشايخ طالما قيل إن هذا كفر وإن قائله كافر وبإجماع المسلمين. الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور: سيدي الردة أبلغ من الكفر، مولانا إن المرتد إما أن يقتل وإما أن يرجع إلى الإسلام لأنهم لا يقبلون أي دين من الأديان يدخل في دينهم حتى يسلم أولا. يعني النصراني من النصرانية إلى البهائية لا يصير، بده يسلم ثم يصير بهائي. لذلك هذه ردة، وليست كفرا فقط، لأن الكافر بيكون نصراني ويصير يكون يهودي إنما هذا مرتد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2187 الشيخ محمد تقي عثماني: إذا ولد بهائيا كيف نقول: إنه أسلم ثم ارتد عن الإسلام. الشيخ محمد علي التسخيري: سيدي الرئيس عندنا الكثير من اليهود في إيران في عهد الشاه صاروا بهائيين بشكل مستقل دون أن يمروا بالإسلام. فنبقي العبارة على ما هي عليه ونحكم عليهم بالكفر المطلق. الرئيس: المهم إذا قيل بإجماع المسلمين تنتهي المسألة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2188 كلمة معالي الدكتور بكر أبو زيد بسم الله الرحمن الرحيم نحمد الله تعالى ونشكره على ما أولى من النعم ونستغفره من تقصيرنا وذنوبنا وأخطائنا وكل ذلك عندنا ونقول اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. أيها العلماء الأجلاء أيها الجمع الكريم لئن كان هذا المجمع في دورتيه السابقتين قد آتى ثمارا طيبة آنس أهل العلم منها رشدا ودخلت في مجال التنفيذ في عدد من الجهات وعلى اختلاف المستويات فإن هذه الدورة الرابعة ولله الحمد تقع قراراتها من سوابقها موقع التاج من الحلة وذلك أنها بتَّت في قضايا مهمة طالما طال الجدل حولها وبآراء موفقة وسديدة بإذن الله تعالى كزراعة الأعضاء في عدد من أوعيتها الشاملة وزكاة الأسهم في الشركات وصكوك المقارضة وبدل الخلو وفي مشاريعه المستقبلية المهمة كمشروع موسوعة الفقه ومشروع معلمة القواعد الفقهية ومشروع تيسير الفقه وما بقي في هذه المشاريع إلا اللمسات الأولية لتأخذ حيز العمل والنفاذ وهذا من نعم الله تعالى بأن تبرز في هذه المدة القصيرة مع نشوؤ هذا المجمع هو حديث عهد في مباشرة أعماله. ولا يفوتني أبدا في هذا المقام المبارك أن أبدي الشكر والدعاء لمقام خادم الحرمين الشريفين حفظه الله تعالى على ما بذله ويبذله في سبيل خدمة العلم والعلماء وفي سبيل هذا المجمع المبارك وكل رجال هذه الحكومة يدا واحدة ولله الحمد تساند هذا المجمع. وهذا المجمع كما تعلمون يعيش تحت مظلة قادة العالم الإسلامي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقهم جميعا لكل خير وكل عمل صالح مبرور وأن يأخذ بيد الجميع لما فيه صلاح العباد والبلاد. وأشكر أمانة المجمع ممثلة في معالي الأمين العام وفي سائر موظفيها على اختلاف تخصصاتهم وما قام به كل من دور بما قدم في هذا المجمع من ترتيبات دقيقة وخدمات جليلة عايشت معالي الأمين منذ الانطلاق من الدورة الثالثة وإلى تاريخه وحتى انتهت النتيجة ولله الحمد مرضية، أرجو أن تجدوا فيها أنسا ورشدا. وأشكر أصحاب الفضيلة أعضاء هذا المجمع والخبراء والباحثين والذين تمت دعوتهم علي مشاركتهم الجليلة وآرائهم السديدة وتوجيهاتهم القويمة وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا وإياكم وأن يرزقنا جميعا الفقه في الدين وأن يجعل أعمالنا خالصة وصادقة وموفقه وأن يثبتنا بقوله الثابت في الحياة الدنيا والآخرة. وصلي الله وسلم علي نبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2189 البيان الختامي للدورة الرابعة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي لمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2190 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل من علماء هذه الأمة أئمة يهدون إلى الحق وبه يعملون، فهم الحجة القائمة لله في أرضه، وهم الأسوة قد آتاهم الله الحكمة يعلمونها الناس وبها يقضون. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد إمام الهدى ورأس العلماء وسيد المتقين ورسول رب العالمين، قد رشد من التزم طريقته وسلك مسلكه واهتدى بهديه فنجا، وغوى وضل عن السبيل من أعرض عن سنته وتنكب المنهج الذي شرعه مرتدا إلى رأيه وأحلامه يعتمدها فبعد عن الحق وتردى. وإنا بحمد الله في هذا المجمع الفقهي الإسلامي الدولي لنسير على هدي أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ونجري على طريقتهم ونحاول قدر الطاقة أن نستقصي النظر في الوقائع والأقضية والنوازل نعرضها على كتاب الله فإن لم نجد فيها متعلقا راجعنا سنن المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ، فإن لم نظفر بطلبتنا ولم نجد حاجتنا تشاورنا واجتهدنا سالكين المسالك القويمة المعتبرة التي أصلها أئمة الهدى وأحكم طرقها وضبط قواعدها علماء الشريعة من أسلافنا.. يقوم بذلك فقهاء مجمعيون وعلماء متخصصون من الأعضاء الموقرين والباحثين المتمكنين والخبراء المتضلعين المبرزين. وإنا لنحمد الله تعالى ولي النعم المعز لملته الناصر لدينه على ما يسر لنا من هذا الأمر في هذه الأرض الطيبة المباركة التي اختارها سبحانه منبتا لرسوله ومطلعا لدينه الذي أظهره على الدين كله وجعلها مجتلى أنوار هدايته ومتفجر أسرار حكمته وشريعته التي بعث بها خير أنبيائه وخاتم رسله (صلى الله عليه وسلم) . فنحن بهذه البقعة الشريفة التي نأوي إليها من كل صوب ونلتف نحوها من كل قطر ونولي وجوهنا شطر مسجدها العتيق حيثما كنا، وبفضل العناية الملكية والرعاية السامية لخادم الحرمين الشريفين، حفظه الله، لمؤسستنا الفتية الرائدة مجمع الفقه الإسلامي الدولي الذي يضم أهل الحل والعقد من كل مكان قد استطعنا بعد طول إعداد للبحوث وللدراسات الفقهية أن نعقد هذه الدورة الرابعة التي تلتئم في مقر المجمع بجدة فيما بين18 - 23 جمادى الآخرة 1458 هـ (6 - 11 فبراير 1988م) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2191 وقد تولى افتتاح هذه الدورة التي انعقدت تحت سامي إشراف خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، حفظه الله، صاحب السمو الملكي الموقر الأمير سعود بن عبد المحسن بن عبد العزيز وحضرها صاحب المعالي الشيخ محمد بن جبير وزير الدولة ورئيس ديوان المظالم في المملكة العربية السعودية وصاحب المعالي محمد علي محجوب وزير الأوقاف في جمهورية مصر العربية ومعالي الأستاذ خالد أحمد الجسار وزير الأوقاف في دولة الكويت، ومعالي الأستاذ سيد شريف الدين بيرزاده الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ومعالي الدكتور أحمد محمد علي رئيس البنك الإسلامي للتنمية، ومعالي الأستاذ أمين عقيل عطاس، الأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي، وفضيلة الشيخ محمد سيد طنطاوي مفتي جمهورية مصر العربية، وأصحاب المعالي رؤساء الجامعات في المملكة العربية السعودية وثلة من الباحثين ومن رجال العلم وأساتذة الجامعات الأجلاء، وعدد من أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمدين في المملكة العربية السعودية. كما شهد هذه الدورة أكبر عدد من الأعضاء العاملين في المجمع حيث بلغ عدد المنتدبين للدول الإسلامية المشاركة ثمانية وثلاثين عضوا يمثلون أعضاء المجمع ممثلو الدول الإسلامية التالية: المملكة العربية السعودية، المملكة الأردنية الهاشمية، ماليزيا، والجمهورية العربية السورية، جمهورية مصر العربية، الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية، الجمهورية العراقية، جمهورية مالى، جمهورية باكستان الإسلامية، جمهورية السنغال، دولة الكويت، الجمهورية التركية، دولة الإمارات العربية المتحدة، جمهورية إندونيسيا، جمهورية بوركينافاسو، سلطنة بروناي دار السلام، جمهورية النيجر، الجمهورية التونسية، جمهورية غامبيا، جمهورية جيبوتي، جمهورية السودان، جمهورية الصومال الديمقراطية، الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، الجمهورية الإسلامية الإيرانية، دولة البحرين، سلطنة عمان، فلسطين، الجمهورية اللبنانية، جمهورية المالديف، الجمهورية الإسلامية الموريتانية، جمهورية القمر الاتحادية الإسلامية، جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، جمهورية أوغندا، جمهورية بنين الشعبية، جمهورية غينيا بيساو، جمهورية غينيا، الجمهورية العربية اليمنية، جمهورية بنغلاديش الشعبية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2192 وشهد هذه الدورة أيضا الأعضاء المعينون وثلة من الخبراء المتعاونين مع المجمع والأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي. وقد كان للكلمة البليغة التي ألقاها صاحب السمو الملكي عن خادم الحرمين الشريفين أطيب الأثر في نفوس كافة المشاركين في الدورة لما تضمنته من رؤى معمقة لرسالة المجمع ولدوره المتميز في حياة مجتمعاتنا المعاصرة، ولما اشتملت عليه من تأكيد لرعاية خادم الحرمين الشريفين ودعمه لهذا الصرح الإسلامي الفتي القائم على خدمة الشريعة المطهرة، بفضل تضافر جهود أعضائه الماضين في سبيل تفصيل أحكام الدين لعامة المسلمين مستمدين من الله العون ومبتغين مرضاته. واستمع المجلس في جلسته الافتتاحية إلى كلمات توجه بها كل من أصحاب المعالي الأستاذ شريف الدين بيرزاده، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي والشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، والدكتور أحمد محمد علي، رئيس البنك الإسلامي للتنمية، والأستاذ عقيل عطاس، الأمين المساعد لرابطة العالم الإسلامي، والدكتور الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة، الأمين العام للمجمع. وتوجه معالي الشيخ خالد أحمد الجسار وزير الأوقاف في دولة الكويت بكلمة طيبة ألقاها أمام المجلس، بتحية من صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، أمير دولة الكويت، حفظه الله، إلى مجمع الفقه الإسلامي مؤكدا رعاية سموه لهذه المؤسسة العلمية الإسلامية. وأعلن معاليه عن استضافة سمو أمير دولة الكويت للدورة الخامسة لمجلس المجمع، وقد قبل المجلس هذه الدعوة الكريمة بالشكر والتقدير. كما استمع المجلس إلى رسالة صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال، ولي عهد المملكة الأردنية الهاشمية الذي تفضل بالإعراب عن تمنياته لهذه الدورة بالتوفيق والنجاح مؤكدا اهتمامه البالغ بسير هذه المؤسسة وبعملها الدؤوب لأداء رسالتها في خدمة الإسلام والمسلمين، خاصة في مواجهة القضايا المستجدة التي تحتاج من عملائنا النظر والبحث لإيجاد الحلول الناجعة على هدى من شريعتنا الإسلامية الغراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2193 ثم ألقى فضيلة الأستاذ عمر جاه نيابة عن أعضاء المجلس كلمة أعرب فيها عن شكره لاستضافة المملكة العربية السعودية لهذه الدورة، ولما تقدمه من دعم مادي ومعنوي لمجمع الفقه الإسلامي الدولي الذي يلتئم مجلسه في ظروف بالغة الدقة وسلسلة من التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية. واستمرت بعد ذلك طوال ستة أيام أشغال المؤتمر في جلسات صباحية ومسائية ترأسها معالي الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد. وقبل الشروع في العروض والمناقشات تولى المجلس انتخاب فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة مقررا عاما للدورة يعينه ثلة من الأساتذة كتبوا في مختلف الموضوعات المعروضة على المجلس. وقد اتخذت إثر المداولات الطويلة جملة من القرارات المتعلقة بالموضوعات التالية: - زرع الأعضاء. - صرف الزكاة عن طريق صندوق التضامن الإسلامي. - زكاة الأسهم في الشركات. - انتزاع الملكية للمصلحة العامة. - بدل الخلو. - كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقية. - مجالات الوحدة الإسلامية وسبل الاستفادة منها. كما درس المجلس المشاريع المقدمة له فاتخذ قرارات بشأن: - الموسوعة الفقهية. - معلمة القواعد الفقهية. - تيسير الفقه. - ميزانية الأمانة العامة للسنة المالية 89/1988م. وستوزع على حضراتكم جملة القرارات والتوصيات التي صادق عليها المجلس. وقد عقد مكتب المجلس أثناء الدورة جلسة برئاسة الشيخ محمد تقي عثماني تولى خلالها بحث بعض المسائل الإجرائية والترتيبية إلى جانب مشروع ميزانية المجمع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2194 ولا يسعني في خاتمة هذا البيان إلا أن أشيد بالروح الإسلامية العالية المتبصرة التي سادت أعمال دورتنا هذه وبما أسهم به أعضاء هذا المجمع وخبراؤه من عطاء علمي متميز، يسر بحمد الله الحوار البناء والمناقشة العلمية الجادة لمختلف القضايا والمشاريع المطروحة على المجلس. وإني لأعرب عن عظيم الشكر والتقدير لفضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس المجلس الموقر الذي أدار أشغال دورتنا بحكمته المعهودة وأثرى مناقشاتها بإسهاماته العلمية الجيدة، وكان بحسن تلخيصه لوجهات النظر المختلفة في كل موضوع يكشف عن الدقائق الفقهية والملاحظات التي تعين لجان الصياغة على ضبط المقررات بصفة شاملة جلية. وإن هذا الشكر ليتوجه كذلك إلى فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة مقرر الدورة العام، وإلى أصحاب الفضيلة مقرري لجان الصياغة من أعضاء عاملين وخبراء منتدبين، أسهموا بقسط واف في إضفاء مزيد من التحري والضبط في إعداد قرارات هذه الدورة. ولا يفوتني في هذا المقام أن أتقدم إلى معالي وزير الإعلام السعودي الأستاذ علي الشاعر بخالص الشكر والتقدير على ما أحاط به هذه الدورة من متابعة وعناية، وأشيد بأجهزة الإعلام السعودية التي واكبت أشغال مجلسنا ساعة بساعة، فبث التليفزيون في الداخل والخارج برامج عن جلساته رددت أصداءها وسائل الإعلام الإسلامية والدولية وخصصت الصحافة المكتوبة المقالات التحليلية المطولة عن القضايا المطروحة. وفي ختام هذا البيان أتقدم إلى إخواني المشاركين في دورتنا هذه أولا بالشكر الفائق والامتنان للجهود العظيمة التي مكنتنا من تحقيق نجاح هذه الدورة، وثانيا بالاعتذار لديهم عن كل تقصير أو إخلال حصل عن غير قصد ولأسباب خارجة عن الطوق، ونحن واثقون من قبولهم لاعتذاراتنا موقنون بأنهم معنا على الدرب للاستجابة إلى تطلعات المسلمين وخدمة الفقه الإسلامي. وإني لأرجو لهم سفرا ميمونا وعودة حميدة إلى أوطانهم راجين من الله أن يجمعنا بهم في الدورة القادمة بإذنه سبحانه. والله أدعو أن يلهمنا الحق والصواب ويرشدنا إلى خير المسالك ويهدينا سبلنا ويرزقنا في عملنا الديني والعلمي التوفيق والسداد، أنه سميع مجيب، وصلي الله علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2195 العدد الخامس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 كلمة معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الدكتور حامد الغابد بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين ورحمة الله للعالمين. يسعدني أن أقدم للقارئ الكريم العدد الخامس من هذه المجلة العلمية الفقهية الرصينة التي رأت النور، أول ما رأت غداة شروع مجمع الفقه الإسلامي في أداء مهمته الجليلة كمؤسسة إسلامية متخصصة في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي. وها هو العدد الجديد من هذه المجلة يصدر، بحمد الله، حافلا بالبحوث العلمية والدراسات الإسلامية التي يجد فيها المسلم، دارسا كان أم باحثا أم فقيها، مرجعا غنيا يجمع طائفة من آراء صفوة فقهاء المسلمين إزاء بعض المشكلات والاستفسارات والقضايا التي تواجه أبناء هذه الأمة في العصر الحاضر. ولقد أتيح لي أن أطلع على الأعداد السابقة من مجلة المجمع، فوجدتها. بحق، مرآة صادقة للجهود التي يبذلها المجمع لفائدة أبناء هذه الأمة، أما هذا العدد فيمثل خطوة أخرى موفقة على الطريق. بما يضمه من مواد فقهية إسلامية نافعة. وأنتهز هذه الفرصة لأشيد بالدور المهم الذي يضطلع به مجمع الفقه الإسلامي بكل اقتدار على صعيد تبصير المسلمين بشؤون دينهم بما يتفق والحياة المعاصرة، وعلى صعيد تسليط الضوء على بعض النقاط التي تحتاج إلى شرح أو بيان من تراثنا الفقهي الزاخر. ويسرني أن أسجل بكل التقدير في هذا المقام أن المجمع قد قطع في بضع سنين شوطا طيبا، ولله الحمد، على طريقه المرسوم، والفضل يعود في ذلك إلى الدعم الملموس الذي حظي به وما يزال يحظى به من الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي من حكومة خادم الحرمين الشريفين التي تشمل المنظمة، أمانة عامة وأجهزة ومؤسسات. بالرعاية والمساعدة والمساندة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 ويعود الفضل في ذلك أيضا، إلى أمانة المجمع العامة، وعلى رأسها سماحة الشيخ الجليل الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الذي عمل بدأب ومثابرة من أجل أن يبلغ المجمع ما بلغه اليوم من مكانة، بل لعل من الإنصاف أن أذكر ما هو معروف من أن سماحته قد أسهم في العمل على إنشاء المجمع، إسهاما مشكورا، حتى منذ كان المجمع مجرد فكرة لم تر بعد النور. فليجازه الله عن المسلمين خير الجزاء. وتطلعا إلى تعميم الفائدة لصالح أكبر مجموعة من القراء فإني آمل في أن يوفق المجمع في العمل مستقبلا على إصدار هذه المجلة باللغات الرسمية الثلاث المعمول بها في منظمة المؤتمر الإسلامي. ذلك أن المواد التي تضمها المجلة جديرة بأن تنقل إلى عدة لغات حتى يتسنى للمسلمين الذين لا يجيدون العربية، ولغير المسلمين من الأجانب، الاطلاع على آراء صفوة الفقهاء، في عصرنا الحاضر، من خلال هذه المجلة العلمية النافعة. ويدعونى ذلك إلى مناشدة المسلمين، دولا وأعضاء، وأفرادًا وجماعات، إلى دعم المجمع الفقهي الإسلامي ومساندته ماديا؛ كي يتمكن من أداء مهمته على خير وجه. والله الموفق، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الدكتور حامد الغابد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 كلمة معالي رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ولي الخلق والأمر والتدبير. والصلاة والسلام على البشير النذير. وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: ففي عام 1409 انعقدت الدورة الخامسة لمجلس الفقه الإسلامي على ضفاف جزيرة العرب في دولة (الكويت) مفتتحا برعاية أمير البلاد سمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح وحضور جمع كريم من رجال البلاد من الأمراء والوزراء والعلماء وغيرهم، وفي مقدمتهم سمو ولي العهد الشيخ سعد العبد الله الصباح، واستضافة وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ممثلة في معالي وزيرها الأستاذ/ خالد أحمد الجسار، ثم تتابعت جلسات هذه الدورة المباركة من 1/5/1409 إلى 6/5/ 1409 في عشر جلسات لمناقشة عدد من الموضوعات والمستجدات والنوازل الفقهية التي يعايشها المسلمون، ويبحثون عن الجواب عليها (بحث شحيح ضاع في الترب خاتمه) . وتختم الدورة منتجة مجموعة من القرارات الشرعية: في إعلان وجوب تحكيم الشريعة على من بسط الله يده، وأن هذا أول واجب على الحاكم المسلم. وفي بيان أحكام العرف. وبيع المرابحة، وتحديد النسل ومدى تدخل الولاة فيه؟ ومنتجة عقد وشائج من الأخوة الإيمانية والتعاون في المجالات الشرعية، ومن أبرزها (اتفاقية الكويت) بين المجمع ومنظمة الطب الإسلامي ممثلة في معالي رئيسها وزير التخطيط الدكتور عبد الرحمن العوضي. وقد أجرى المجمع ولله الحمد، توقيع الاتفاقية، وفيها وجوه التعاون بين المؤسستين. هذه المقيدات وأضعافها، وما دار من مناقشات أبدع بها رجال هذا المجمع من العلماء الأجلاء والفقهاء الفضلاء تراها أمامك في هذه المجلدات ممثلة العدد الخامس لمجلة المجمع. والتي تبرز اليوم في حلة بهية منشورة لأنظار العلماء وطلاب العلم تشد أزر أعداد الدورات السابقة لتكون في تمام اثني عشر مجلدًا. فجزى الله العلماء العاملين والباحثين الجادين أحسن الجزاء، ولله الحمد في الآخرة والأولى، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم. الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 كلمة معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل الكتاب بالحق مفصلا، فيه آيات بينات ونور وهدى وذكر للعالمين. والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد بن عبد الله إمام الهدى ورسول السلام الذي بلغ الناس ما أنزل عليه من ربه من بصائر وحكمة، ومنهاج ورحمة، فثبت في قلوبهم التقوى، وألزمهم بشرائع الله سبحانه في كل الأقوال والأفعال والتصرفات والأعمال. وبعد: فقد وعى مجمع الفقه الإسلامي الدولي مسئولياته منذ تأسيسه، وأدرك ما يواجه أمتنا الإسلامية من تحديات العصر، وما تعانيه من مشكلات، جاهد لإيجاد الحلول الشرعية لها، والبدائل متغلبا بذلك على الغزو الفكر، وما أحدثه من بلبلة في المجتمعات الإسلامية. وانطلاقا من هذا الوعي، وإدراكا لاتساع الفكر الإسلام وقدرته على استيعاب مشكلات كل العصور، اعتمد مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنهج العلمي أساسا لدراسة قضايا الحياة المعاصرة، ولم يتوان في معالجتها، وبذل الوسع لاستنباط الأحكام فيها من أصول شريعتنا، وهو إلى جانب هذا منفتح على العصر، ملتزم بالتقصي والاستقراء، غايته الوصول بقراراته وتوصياته إلى الأحكام الشرعية الصحيحة، وتوفير القاعدة السليمة للحياة الإسلامية المطلوبة في جميع أنحاء الدنيا بين المسلمين عامة، وبينهم وبين غيرهم وفقا لأصول الأحكام الإسلامية، ومبادئ الدين السامية، وطبقا لما تقتضيه مصالح الناس وذلك في إطار تحقيق المقاصد الشرعية. وتلك سنة المجمع التي جرى عليها من يوم شروعه في عمله وفقا لرغبة قادة الأمة الإسلامية الساهرين على حمايتها، وعلى التطور بها تطورا صالحا بناء يعيد لها عزتها، وينمي قدراتها، ويحفظ قوتها وأمنها. وقد وجدنا لتيسير ذلك من دولة المقر، ومن عماد نهضتها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز - أعزه الله ونصره - كل دعم ورعاية يسابقان خطواتنا إلى إنارة المسلمين بتعاليم دينهم، وأحكام شريعتهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 ونحن إذ نقدم هذا العدد الخامس من مجلة مجمع الفقه الإسلامي للسادة القراء من العلماء والفقهاء، ورجال الطب والاقتصاد، وأساتذة الجامعات وطلاب العلم والباحثين، ولعامة المسلمين، نضع يين أيديهم نتاج أعمال المؤتمر الخامس الذي انعقد بالكويت في الفترة من 1 - 6 جمادى الأولى 1409 - 10 - 15 ديسمبر 1988 م بدعوة كريمة من حضرة صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت، ورئيس القمة الإسلامية الخامسة حيث رعى سموه - أيده الله وحفظه - الجلسة الافتتاحية للمؤتمر بإلقاء كلمة كريمة جامعة أكد فيها جلال العلم وفضل العلماء، منوهًا بأهمية مجمع الفقه الإسلامي، وبما يضطلع به من جهود في خدمة الإسلام والمسلمين. وقد اعتمد هذا الخطاب الشريف وثيقةً أساسيةً من وثائق المؤتمر. وكان للدور الذي قام به معالي الأستاذ خالد أحمد الجسار وزير الأوقاف والشئون الإسلامية أكبر الأثر في تحقيق النجاح للمؤتمر، كما كان لأجهزة الإعلام الكويتي من تلفزة وإذاعة وصحافة الفضل الكبير في تغطية أعمال الدورة، ونقل الكبير من عروضه ومناقشاته إلى الجماهير الواسعة في الكويت وخارجها. ويطيب لنا أن ننوه هنا بما تم أثناء انعقاد هذه الدورة بالكويت من توقيع ميثاق التعاون المقترح من معالي الدكتور عبد الرحمن العوضي وزير التخطيط، ورئيس المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بين المجمع والمنظمة، فكان ذلك تتويجا للنجاحات التي تحققت بفضل الله تعالى، ثم بفضل حضرة صاحب السمو أمير الكويت وحكومته الرشيدة وشعبه الكريم، ودعما لمسيرة المجمع وتعاونا معه في كل ما يعود بالخير والنفع على المسلمين عامة. وقد أسهم في أعمال هذه الدورة ثلة كريمة من أصحاب الفضيلة العلماء، ونخبة متميزة من الباحثين والخبراء، وأغلب أعضاء المجمع ممن حضر المؤتمر وكان عدد المشاركين يبلغ المائة أو يزيد، عرضت عليهم جميعهم للدرس، والمناقشة، واتخاذ القرارات جملة من البحوث والدراسات، تناولت الموضوعات التالية: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 1 - تنظيم النسل وتحديده. 23 بحثا 2 - الوفاء بالوعد 9 بحوث 3 - المرابحة للآمر بالشراء 9 بحوث 4- تغير قيمة العملة 12 بحثًا 5 - الحقوق المعنوية 10 بحوث 6 - التأجير المنتهي بالتمليك 5 بحوث 7 - تحديد أرباح التجار 5 بحوث 8 - العرف 11 بحثًا 9 - تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بحثان فقد كانت جملة البحوث المعروضة على الدورة 86 بحثًا أتبعت بما دار حولها من تعقيبات ومداولات، وختمت - كما هو واضح في هذا العدد - بما توصل إليه مجلس المجمع من قرارات وتوصيات. ولا يفوتنا ونحن نقدم للقراء الأكارم هذا العدد الخامس من مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، أن نزجي الشكر الجزيل للسادة الأعضاء، وللباحثين والخبراء. على ما بذلوه من جهود خيرة مباركة تميزت بها هذه الدورة، كما نباهي بالإقبال المتزايد من الطلاب والباحثين، وعامة المسلمين على هذه المجلة، لما فيها من مادة علمية جادة، وآراء اجتهادية دقيقة. كما لا يفوتنا بهذه المناسبة الشريفة أن نشكر حضرة صاحب المعالي الشيخ أحمد جمجموم لأريحيته الكريمة بتوليه الإنفاق على طبع هذا العدد بأجزائه الثلاثة حتى أخرجه في أبهى صورة وأجمل حلية، فالله يجزيه الجزاء الأوفى، ويكلؤه بعنايته ورعايته، وإنى لأدعو لكل من أسهم في إنجاز هذا العمل الجليل بالمثوبة والأجر، وختاما أسأل الله تعالى أن يسدد على طريق الخير والرشاد خطانا، ويوفقنا في جميع أعمالنا، ويتقبل منا هذا الجهد المتواضع، وينفع به المسلمين أجمعين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 كلمة حضرة صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت ورئيس الدورة الخامسة لمنظمة المؤتمر الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه , ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين. إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، باسم الكويت، وباسم منظمة المؤتمر الإسلامي التي تحمل الكويت شرف ومسئولية رئاسة دورتها الخامسة، أرحب بكم في هذه الدورة الخامسة لمجمع الفقه الإسلامي. ومع الترحيب بكم، وأنتم صفوة علماء الإسلام، تقدير وأمل ودعاء. تقدير لما تبذلون من جهد بناء في مد الجسور بين الإسلام والحياة المعاصرة، وعكوف دائب على البحث العلمي وزن الإسلام فيه مداد العلماء بدم الشهداء: هذا يبني الأوطان ويحميها، وهذا يبني العقول ويزكيها. وآمل في أن يستمر عطاؤكم ويزداد. ودعاء أن يثيبكم الله سبحانه خيرًا، وأن يفتح عليكم وبكم من أبواب التعاون ما ينير للمسلمين مسالك الحاضر والمستقبل. إخواني: إن الفقه هو التعمق في الفهم، وإن اختص به القانون والتشريع، وأمامنا الآن فقه أكبر نستطيع أن نسميه " فقه المجتمعات الإسلامية " ويقصد به عمق واتساع فهمنا للقضايا الإسلامية المعاصرة، والاجتهاد في استنباط الأحكام والخطوط الأساسية للتقدم، والاتفاق على الوسائل التي نتخفف بها مما خلفته الأحقاد والحروب من جراح نفسية وفكرية ومادية، وتقوى بها أواصر التعاون في مستوياتها وآفاقها التشريعية والتنفيذية والعلمية والثقافية لتكون الأجيال الجديدة أكثر قدرة وعطاء. وأعتقد أن نقطة البدء هي أجهزة منظمة المؤتمر الإسلامي ذاتها، لتكون صورة التعاون والتكامل والاجتهاد المنشودة، وتتسع دوائرها لتشمل الأجهزة المناظرة في العالم الإسلامي والجاليات الإسلامية في مواطنها الجديدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 إن الفكر الإسلامي يقابل تحديات كثيرة أمام كشوف ومناهج العلم الحديث، ويتساءل المجتمع الإسلامي وبخاصة أجيال الشباب عن آراء العلماء في هذه القضايا والمشكلات، وإنهم يأملون في اجتهادات إيجابية نابعة من القرآن الكريم والسنة الشريفة، تعين على سلوك الطريق، بعد أن رضي جانب من الفكر الإسلامي خلال قرون مضت بالانطوائية والتقليد وما كان هذا ليحول دون استمرار حركة التاريخ، ومتغيرات الحياة والحوار بين الحضارات. إن الإسلام شجرة طيبة، تضرب بجذورها في عمق الفطرة، وتمد فروعها في السماء لتحمل الزهر والثمر، وإذا كنا نستمد الأصالة من فطرة الله التي فطر الناس عليها، فإننا نحمل مسئولية الاجتهاد، وهو أرض اللقاء بين الأصالة وقضايا الحياة المتجددة. إن كل حضارة عالمية لها سماتها الأساسية التي تسبق إلى الذهن إذا جاء ذكرها، فما هي معالم الحضارة الإسلامية في عالمنا المعاصر؟ إننا نستطيع أن نتحدث عن الماضي، وعن الصحوة المعاصرة كانطلاق تختلط فيه الإيجابيات بالسلبيات، والآمال بالعثرات. ولكن علينا بالجهد المشترك أن نتعاون على تشكيل الملامح الطيبة للوجود الإسلامي الذي ينتظم الصف فيه بعد أن كان أمره فرطا، وتمر يد المحبة على آثار التعصب والتباعد، ويمحو فيه ضياء العلم ظلمات التخلف، وتتلاقى العقول والأيدي على صياغة الآمال أعمالا تنفع الناس، وتمكث في الأرض. ولو نظرنا إلى هذه المسئوليات جميعا لوجدناها مستويات أربعة متوالية الاتساع، ومتبادلة التأثير، وتبدأ من تكوين الفرد المسلم إلى الأسرة المسلمة إلى المجتمع المسلم إلى مكانة هذا المجتمع في الحياة المعاصرة. والأسرة هي خلية المجتمع ومدرسته الأولى، أقامها الله سبحانه على المودة والرحمة، وهي خير بيت ينشأ فيه الأبناء. وإن تنظيم الأسرة حب ومسئولية، ويبدو هذا التنظيم في حسن إعداد الأبناء للحياة، فلا يحمل الأبوان فوق ما يطيقان رعايته وتربيته في عالم ازدادت فيه المسئوليات وتقدم العلم، واتسعت آفاق التخصص التي يحتاج إليها المجتمع الإسلامي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 وخير الأبناء من كانوا من الباقيات الصالحات، الذين تقوم حياتهم على الإيمان والعلم، والإخاء والعمل، وتستمر بهم حسنات الآباء، ويتسع الخير والعطاء. نحن محتاجون إلى تربية الأجيال الجديدة على السماحة، وأن نغرس في نفوسهم إخاء يضم أبناء القبلة جميعا، ويشع منهم على العالمين، برا ورحمة في نور من كتاب أنزله الله تعالى هدى ورحمة، وبعث به رسولا على خلق عظيم وصفه بقوله {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء] وتدعونا هذه التربية إلى مراجعة مناهج الدراسة، وإلى الاتفاق على الخطوط الرئيسية في أجهزة الدعوة الإسلامية، والإعلام والثقافة، بحيث تصبح من وسائل الربط والتوثيق، أما المسائل الخلافية فمكانها مجالس العلماء، سعيًا إلى المزيد من التقارب في جو من الأخوة والتعاون. إخواني: إن هذا الإخاء سينعكس على قضايانا الإسلامية، ونحن نرى - والحمد لله - مطالع الخير وإن خالطتها العقبات والمشكلات وهذه سنة الحياة، ومواد الاختبار التي يبتلي الله سبحانه بها عباده ليمحص إيمانهم، وعسى أن نكون من المحسنين. وأمامنا قضية فلسطين: ولقد استطاع الجيل الجديد من أبناء فلسطين أن يشق طريقه رغم كل ضغوط القهر ومحاولات طمس الهوية، وأن يؤكد ذاته على أرض النضال الشريف، وتحركت معه أجيال سبقته على الطريق، وتابعته عقول وقلوب لا تتحرك إلا إذا كان أصحاب القضية أحياء يدافعون عنها ويروونها بالجهد والتضحية. وكانت وحدة القرار السياسي الذي عبر عنه المجلس الوطني الفلسطيني وميلاد الدولة الفلسطينية، من ثمار هذا النضال الصامد، وقد رحبت بذلك دول كثيرة بادرت بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، ولا تزال الاعترافات تتوالى مؤكدة حق الشعب الفلسطيني في قيام دولته فوق أرضه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 وإننا لنحيي هيئة الأمم المتحدة والجمعية العامة على مساندتها العادلة للحق الفلسطيني، وقرارها بأن يكون إلقاء كلمة فلسطين في المقر الأوروبي في جنيف عندما حال القرار الأمريكي المنحاز بينها وبين الوصول إلى منبر الأمم المتحدة في نيويورك. وأما عن العلاقات العراقية الإيرانية، فإننا نتطلع بعد وقف إطلاق النار إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن 598 بكامله لتعود الجهود إلى التعمير والإنتاج وحسن الجوار. وفي أفغانستان نرجو أن يلتقي إخوتنا على كلمة سواء، وأن تثمر رعاية المملكة العربية السعودية الشقيقة للمباحثات بينهم وبين الاتحاد السوفيتي ليفرغ الشعب الأفغاني إلى بناء حياته الجديدة. أما لبنان فإن لنا أملا في أن تقف الدول العربية موقفا موحدا لشد أزره حتى تعود إليه وحدته الوطنية وسيطرته على كامل أرضه، ويلتقي أبناؤه على العمل والتعاون والمودة. ومن الجانب السياسي ننتقل إلى الجانب الاقتصادي والإنساني: هناك الملايين من إخوتنا في العقيدة معذبون في الأرض، ويقاسون من صنوف متنوعة من الحرمان ابتداء القوت الضروري إلى التعليم، وما يقوم عليه من زراعة وصناعة وتقدم علمي، وكل إنسان يحتاج أولا إلى ما يحفظ حياته، ثم إلى ما ترقى به هذه الحياة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 وبهذا تبدو أهمية التنمية الزراعية في العالم الإسلامي في وقت لم تعد الحبوب الغذائية مجرد مادة تقوم بها الحياة، أو سلعة تجارية، ولكن من وسائل الضغط السياسي والاقتصادي، وهذه التنمية مسئولية دينية كما أنها مسئولية سياسية معًا، وما يصدق على الزراعة يصدق على الأنشطة الاقتصادية الأخرى، التي توفر للعالم الإسلامي مادة حياته، وحرية إرادته. إن الإنتاج طريق الكرامة، والسعي فيه عبادة، وإن جهد الزارع والعامل روافد تلتقي مع جهود العلماء، في بناء الحياة الإسلامية، ومن حولها حصون من عزمات الشباب تحفظ الأوطان من أي عدوان. وإننا لنأمل أن يتسع هذا الإنتاج، وتعمق قواعده وتمتد آفاقه إلى المشاركة في البحث العلمي وأن يتم هذا كل بتنسيق بين الأجهزة على مستوى العالم الإسلامي وبتعاون عالمي لا يمكن للبحث أن يسير دونه. هذا أيها الإخوة هو طريق الإسلام، وهو طريق السلام، وإنني أتطلع إلى اليوم الذي يلتقي فيه علماء الإسلام على دستور عمل يجمع المسلمين في ساحة وإخاء تحررت من الصراعات المذهبية وتوجهت إلى بناء مستقبل الإسلام. وأدعو الله سبحانه أن يكتب لكم في هذا السعي فضلًا، وأن يهدينًا جميعًا سواء السبيل. إخواني: أكرر الترحيب بكم، وأتمنى لكم طيب الإقامة وخصوبة الإنتاج، وسلامة العودة، واستمرار التعاون. وفقكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 كلمة معالي الأستاذ خالد أحمد الجسار وزير الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله الذي أرسل رسوله للعالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آل بيته الأطهار وصحابته الأخيار. صاحب السمو أمير البلاد جابر الأحمد الجابر الصباح، سمو ولي العهد سعد العبد الله السالم الصباح حفظكم الله من كل مكروه. ضيوفنا الكرام والمشاركين في هذه الدورة رعاكم الله. باسمي وباسم وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية (وباسم دولة الكويت حكومة وشعبًا، أفرادًا ومؤسسات) أرحب بكم أجمل ترحيب في هذه الدورة الخامسة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي المقام على أرض دولة الكويت. إن استضافة دولة الكويت لهذه الدورة تنبع من اهتمام سموكم حفظكم الله بدعم المشاريع الإسلامية سواء أكانت علمية تقوم بالتنظير ورسم المبادئ، أم عملية تعنى بالدعوة، وتهتم بإيصال النفع للمسلمين وتوفير التكافل لهم، وهي ترى في ذلك تعزيزًا لمكانة المجمع ومظهرًا من مظاهر الأخوة الإسلامية بين هذه الأمة، وإن لدولة الكويت بتوجيهات سموكم علاقة وثيقة بمسيرة هذا المجمع منذ أن شاركت في المرحلة التأسيسية له مشاركة فعالة، ومضت مع زميلاتها من الدول الإسلامية في دعم مسيرته انطلاقًا من الدور الذي يقوم به، فهو الأداة العصرية المؤهلة لمواصلة الجهود الشرعية والتشريعية والبحث الجماعي في حلول المشكلات المعاصرة. والجدير بالذكر أن في الكويت مؤسسة فقهية تلتقي مع أهداف المجمع من أجلها حظيت الكويت بعضو ثان في المجمع فضلًا عن العضو الممثل للدولة، هذه المؤسسة هي الموسوعة الفقهية التي تعتبر هدية الكويت إلى العالم الإسلامي، وإن النهوض بها أغنى المجمع عن جهود ضخمة كان عليه بذلها لإعداد موسوعة فقهية شاملة، ولذا وجه طاقته إلى إنشاء موسوعة خاصة للمعاملات الاقتصادية، وهذا فضلًا عما يتصل بالموسوعة من أعمال موسوعية مساعدة منها مشروع (الكشاف الآلي الشامل للمراجع الفقهية) ويهدف لفهرسة مائة مرجع فقهي عن طريق الحاسب الآلي بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية من خلال ميثاق مشترك فضلًا عن مشروع تحقيق التراث الفقهي المخطوط، ونشر الرسائل التراثية في العلوم الشرعية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 إن وجود ملتقى لفقهاء يمثلون العالم الإسلامي تمثيلًا دقيقًا على مستوى أكاديمي هو مطلب ملح في المجال العلمي، والفكري، والتوحيد السياسي الرشيد، فلا يخفى أن من مصادر الاجتهاد الفقهي (الإجماع) وهو اتفاق المجتهدين المسلمين في القضايا التي لم ينص على حكمها صراحة في القرآن والسنة، فيعمد كل فقيه لتلمس حكمها من منازع استدلالية شتى، فإذا التقت الآراء الفقهية رغم اختلاف مساراتها على حكم متوافق حظي حينئذ بالحجية وقطع الخلاف، ولم توجد طريقة لإحياء هذا المنهج الذي اختفى منذ عصور طويلة إلا عند قيام هذا المجمع من خلال أعضائه الذين يعتبر كل عضو منهم مستقطبًا للفكر المختار لفقهاء الدولة التي يمثلها، مضافًا إلى أعضاء الدول، أعضاء مختارون لتفوقهم البارز، وأعضاء يمثلون المؤسسات المشابهة. ولا يخفى ما تعرض له الفقه الإسلامي (الذي هو نسع الفكر الموحد والثقافة العامة لهذه الأمة) من ركود أو توقف عن المواكبة العصرية بفعل المؤثرات العامة المعروفة التي سبقت عصر النهضة، بحيث أصبح من العسير كمال الاستفادة من معطياته السابقة ومواصلة إمداده بما جدت الحاجة إليه إلا إذا توفرت له سبل العناية المركزة لإعادة حيويته الكامنة في مناهجه وتراثه، وهو ما تجلى في أهداف المجمع، وظهر في الوسائل العديدة التي باشر بها لتحقيقها - رغم حداثة العهد - وذلك من خلال دورته السنوية، وندواته المتخصصة، ولجانه، ومشاريعه العلمية، ومشاركته الرقابية والموجهة لأي نشاط جماعي يتصل بالفقه والفكر الإسلامي؛ ليضع موضع التنفيذ هدفه الأساسي المتمثل في شد المسلمين لعقيدتهم وتحقيق وحدة الأمة الإسلامية نظريا وعمليا عن طريق السلوك الإنساني ذاتيا وجماعيا ودوليا، وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية بحيث أصبح المجمع رمزا للوحدة الفكرية والتشريعية وتآزر الجهود بين فقهاء الدول الإسلامية كلها لإيجاد الحلول للمشكلات المعاصرة، والسعي لاستكمال مقومات عزة الأمة الإسلامية وقوتها في شتى المجالات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 هذا وإن المجمع يعبتر أقدر الجهات على معالجة القضايا المعاصرة، كما يعتبر المرجع الأعلى لهيئات الإفتاء ومراكز البحث حيث تحال إليه المسائل الشائكة المحتاجة لنظر جماعي أصيل من خلال الأبحاث والدراسات العميقة التي يستلزمها طرح أي موضوع في دورات المجمع. وفضلا عن هذا يلحظ المتابع لنشاط المجمع أنه احتل دورا محوريا في الملتقيات الفقهية التي تقام في أرجاء العالم الإسلامي وخارجه من مؤتمرات وندوات، إذ يشارك في أنشطة هذه الملتقيات من خلال أمانته العامة وبعض أعضائه المنتمين إلى جميع الدول الإسلامية أو خبراته في شتى التخصصات، وإن هذه المشاركة مزدوجة الاعتبار فهي من جهة روافد للمجمع، ومن جهة أخرى هي فرصة متاحة لاكتساب أو تعزيز الطابع الأكاديمي للطاقات العلمية. لقد بادرتم يا صاحب السمو باستضافة هذه الدورة على أرض الكويت الحبيبة في فترة رئاسة سموكم للمؤتمر الإسلامي الخامس، لتكون إقامتها على أرض الكويت ظهيرا للجهود العلمية المحلية التي أوجدتموها على أرض البلاد وسهرتم على العناية والاهتمام بنموها، والمحافظة عليها، وتوأمة مع المؤسسات الأكاديمية وتلاقيا مع ما تبثه من فكر ومعرفة سواء أكانت هذه المؤسسات ذات طابع ثقافي شامل، كمؤسسة الكويت للتقدم العلمي التي يرأس سموكم مجلس إدارتها، أو المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، أم كانت مؤسسات معنية بالفقه والتشريع كالموسوعة الفقهية وكلية الشريعة، أم كانت معنية ببعض التخصصات الحيوية مع الاهتمام بالرؤية الإسلامية، كالمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، أم كانت مؤسسات تحقق الوجود الفعال للاقتصاد الإسلامي في صورته الخيرية كبيت الزكاة والهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، أو في التنمية والاستثمار كبيت التمويل الكويتي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 إن جهودكم - يا سمو الأمير - لم تقتصر على الكويت بحدودها بل تجاوزتها إلى الإسهام المستمر في دعم المراكز والمؤسسات والمنظمات في شتى ديار المسلمين ماديا ومعنويا وثقافيا، وحسبنا الإشارة إلى المشاريع الأربعة الأخيرة التي أمرتم بإنجازها لإهدائها إلى العالم الإسلامي وهي: - (قاموس القرآن الكريم) وهو يجمع الجوانب المختلفة المتعلقة بكتاب الله بالكلمة والصورة وبشتى اللغات. - (أطلس الخدمات الإسلامبة) وهو يضع الأساس العلمي لشتى الخدمات وخاصة الصحية والتعليمية والاجتماعية. -مقولات في الطب والقانون والأخلاق وهي تبين الاجتهادات الإسلامية في المستجدات الطبية. -تنظيم لقاء بين الشباب الرياضي الإسلامي على أرض الكويت في الربيع القادم للتعارف وتوثيق الصلة. كما أنكم يا صاحب السمو - صدعتم بالحق على أعلى مستوى في خطابكم التاريخي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لمناصرة قضايا الأمة الإسلامية، والقضايا الإنسانية العادلة، فدعوتم إلى تخفيف معاناة الدول النامية، وإلى مقاومة الإرهاب بشتى صوره ومصادره، وإلى رعاية حقوق الإنسان، وغير ذلك مما أملاه عليكم إيمانكم وإحساسكم الإسلامي الصادق المرهف واهتمامكم بأمر المسلمين. إن هذه الأنشطة والمؤسسات الإسلامية التي نهضت بتوجيهات من سموكم ورعايتكم وعنايتكم بها، والمؤسسات الأخرى التي أسهمتم بها في شتى أنحاء العالم الإسلامي، في مجال نشر الوعي الديني والثقافة الإسلامية، أو في مجال التطبيقات، إنها لتبرز محاسن الشريعة الإسلامية، وتجعل المسلمين يتفيأون ظلالها وينعمون بخيرها، والله المسئول أن يبارك هذه الجهود المتعاونة على البر والتقوى، وأن يحفظكم وسمو ولي عهدكم الأمين ذخرا للبلاد، وهو ولي التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 كلمة معالي السيد شريف الدين بيرزاده الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم صاحب السمو. أصحاب السماحة. أصحاب المعالي. الإخوة الأعزاء. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فإنني أشعر بسعادة غامرة وأنا أخاطب الجلسة الافتتاحية للدورة الخامسة لمجمع الفقه الإسلامي التي تنعقد في دولة الكويت، التي أسهمت حكومة وشعبا تحت القيادة الحكيمة لسمو أميرها المعظم الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، إسهاما ملموسا في تعزيز التعاون بين الدول الإسلامية. وأود في هذا المقام أن أبين أن سمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح رئيس مؤتمر القمة الإسلامية الخامسة يمثل تطلعات المسلمين إلى تجسيد تصور الإسلام النبيل لخلاص الجنس البشري، وإحلال السلام، ودفع عجلة التقدم. واسمحوا لي بأن أتوجه بالتهنئة إلى سماحة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي على النجاح الذي حققته هذه الهيئة الإسلامية منذ إنشائها، فقد استطاعت أن تجتذب إلى رحابها علماء أعلاما وفقهاء بارزين، ونخبة من مفكري العالم الإسلامي، حتى غدت محفلا مرموقا لعمق الدراسة والبحث والعمل الجماعي، في حقول الشريعة وتطبيقاتها في عالم اليوم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 أصحاب السماحة والمعالي الإخوة الأعزاء.. إنه لا يمكن بناء المجتمع الإسلامي الحق إلا على أساس راسخ من فهم مبادئ عقيدتنا السمحة وتطبيقها على حاجتنا المعاصرة، وتكييف حياتنا أفرادا وجماعات وفقا لتعاليم ديننا الحنيف، ومما يثلج الصدر أن دولنا الإسلامية أضحت تدرك إدراكا متزايدا أن جهودها الرامية إلى إقامة نظم سياسية واقتصادية واجتماعية جديرة بالثقة يجب أن تستند إلى الأسس الراسخة للشريعة الإسلامية، وإنني لعلى يقين من أن مجمع الفقه الإسلامي لن يضن على الدول الإسلامية بما يتوفر عليه من معلومات وأفكار وحلول. ومن الأهمية بمكان أن نطرد من أذهان شبابنا أية أفكار مفروضة أو مفهومات خاطئة يمكن أن تنسب إلى الإسلام وإلى التاريخ والحضارة الإسلاميين، كما أن علينا أن نحصن الأمة الإسلامية تحصينا كافيا لمواجهة المذاهب والمؤثرات الغربية عنا، وأن نساعد الدول الإسلامية على وضع نظمها التعليمية والتربوية وفقا لتعاليم ديننا الحنيف وحاجاتنا القائمة. أصحاب السماحة والمعالي. الإخوة الأعزاء ... إن أعداء الإسلام يحاولون على الدوام زرع بذور الشقاق بين صفوفنا، وهناك محاولات دائبة جارية في الوقت الحاضر عمادها السفسطة والتزييف، وهدفها تشويه الفكر الإسلامي، ومن ذلك كتاب يتهجم على المقدسات الإسلامية ألفه المدعو سلمان رشدي بعنوان "قصائد شيطانية". كما أن هناك كتابا آخر نشرته بعثات تبشيرية في قبرص عنوانه "سيرة المسيح بلسان عربي فصيح" حاول مؤلفوه بدافع الحقد الدفين أن ينشروه في شكل القرآن الكريم قصد تشويش أفكار الناس وتضليلهم، وقد حثت الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي الدول الأعضاء على اتخاذ التدبيرات العاجلة لمصادرة بل تدمير مثل هذه الكتب المنطوية على الافتراء والقذف، ولمنع الناشرين من تولي نشر مثل هذه الكتب. والجهل بالإسلام وبتعاليمه الخالدة غالبا ما يؤدي وبخاصة في البلدان الغربية إلى مفهومات خاطئة عن جوانب معينة في المجتمعات الإسلامية، ولذا فإن على مجمع الفقه الإسلامي أن يعمل على إقناع الأكاديميين والمفكرين وأهل الرأي في البلدان الإسلامية وغير الإسلامية بأوجه الإسلام المختلفة، وبخاصة تلك الأوجه التي غالبا ما يساء فهمها وتكون عرضة للنقد، ولا بد كذلك من إصدار دوريات منتظمة لهذا الغرض توزع على نطاق واسع بلغات شتى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 أصحاب السماحة والمعالي: إن على مجمع الفقه الإسلامي كذلك أن ينظر الأسلوب الأمثل الذي يمكن الدول الإسلامية من إدماج المرأة في عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ذلك أن دور المرأة ومكانتها في الإسلام كانا موضوع نقاش حتى في بعض الدول الإسلامية، وهذه قضية مهمة لأن المرأة تشكل تقريبا نصف الأمة، ولقد وضع القرآن الكريم المبادئ، وكانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم المثال الذي يحتذى في تطبيق تلك المبادئ النبيلة، ولا أظن أن هناك اليوم شكا فيما يخص المكانة الرفيعة التي تتمتع بها المرأة في الإسلام، ولذا فعلينا أن نوفر الخطوات العملية التي نستطيع بها إدماج المرأة في تنمية مجتمعاتنا في هذا العصر. أصحاب السماحة والمعالي الإخوة الأعزاء: وعلى مجمع الفقه الإسلامي أن يطور برنامج خدمات استشارية تستفيد منه الدول الإسلامية، على أن يتكون هذا البرنامج، ذو المجالات المتعددة الأبعاد ذات الصلة الوثيقة بالشريعة الإسلامية، من البحوث والدراسات التخصصية، ومن توفير التوصيات اللازمة حول موضوعات ذات أهمية بناء على طلب من إحدى الدول الإسلامية. إن سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه الأبرار تعلمنا الكثير، وتؤكد أن من واجبنا العمل بمبادئ الإسلام النبيلة وتطبيقها عن طريق الجهاد ضد الجهل وتقوية أسس التضامن الإسلامي، ولقد كانت هذه هي الطريقة التي تم بها نشر ديننا الحنيف الذي انبعث من مكة المكرمة والمدينة المنورة إلى سائر أنحاء العالم، والإسلام دين العالمين، ولكي يدرك الإنسان مدى قوة هذا الدين فما عليه إلا أن يتفقه في القرآن الكريم، ويتعمق في سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن واجباتنا الأساسية كخدم لهذه الأمانة المقدسة، أن ننشر رسالة القرآن الكريم في أجلى صورة، فذلك فرض واجب على كل مسلم، ولا شك في أن على مجمع الفقه الإسلامي أن يضطلع بدور رائد في تنفيذ هذه المهمة النبيلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 لقد قدم مجمع الفقه الإسلامي منذ إنشائه مساهمةً قيمة في توضيح وتسهيل وتحديد التعاليم الإسلامية القائمة على الشريعة الإسلامية، ذلك أنه تبني أربعة وعشرين قرارا حول الشريعة، وأصدر ستا وعشرين فتوى حول مختلف القضايا المتعلقة بالمجتمع الإسلامي، وأن المواضيع المتنوعة التي بحثها المجمع أو تلك التي ما زال يبحثها تتضمن عملية زراعة أعضاء الإنسان ودفع الزكاة لصندوق التضامن الإسلامي، والاستثمار والمشاركة في الشركات واستخدام الملكية الخاصة لصالح المجتمع، والاستثمارات بشكل عام، والقضية المتعلقة بتأجير الممتلكات، إضافة إلى المسائل المتعلقة بالوحدة الإسلامية ومكافحة الفساد الخلقي. ويسرني أيضا أن أسجل اهتمام المجمع بالمسائل الهامة المتعلقة بالأمور المالية والاستثمارات والأعمال المصرفية وغير ذلك من القضايا الهامة، وذلك من أجل مساعدة الدول الإسلامية في تنظيم اقتصاديتها وفقا لتعاليم الإسلام، ولا بد من الاستمرار في عقد الندوات المتخصصة حول هذه القضايا الهامة، كما أن توصيات الندوتين اللتين انعقدتا بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية حول الأمور المتعلقة بـ " تذبذب معدل الصرف " و" سندات المقارضة والاستثمار" يجب أن تنشر على نطاق واسع. ومن بين المشاريع الجيدة التي تستحق التنويه والتي قام بها مجمع الفقه هي المشروعان المتعلقان بـ "موسوعة تيسير الفقه" و"الموسوعة الفقهية الاقتصادية" وستكون هاتان الموسوعتان في غاية الأهمية والفائدة بالنسبة للعلماء والباحثين والفقهاء في الدول الإسلامية، وسوف تكون لهاتين الموسوعتين قيمة كبيرة في المحاكم الشرعية التي أنشئت في العديد من البلدان الإسلامية وذلك نظرا لكونهما مرجعين أصيلين من الناحية الشرعية. وأود أن أعرب عن تقديري للمجمع لما أولاه من أهمية للبحث عن حلول مناسبة للقضايا والمسائل المعاصرة التي تهم المسلمين في حياتهم اليومية. إن نجاح المجمع في تحديد رأي يتفق عليه بالإجماع حول قضايا الشريعة وحول أسس علاقات الدول الإسلامية على المستويين الخارجي والداخلي سوف يساهم إلى حد بعيد في تعزيز الوحدة الإسلامية. والواقع أن مجمع الفقه الإسلامي يستحق كل دعم مادي ومعنوي، وعليه فإنني أناشد جميع المسلمين المساهَمة في عمل المجمع بكل طريقة ممكنة من أجل تمكينه من القيام في أحسن الظروف بمهمته النبيلة الموكلة إليه، ألا وهي خدمة الأمة الإسلامية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 الإخوة الأعزاء: إن استضافة دولة الكويت لمحكمة العدل الإسلامية الدولية مدعاة للتقدير والإعجاب، ويسرني في هذا الصدد أن أبلغكم بأن دولة الكويت والمملكة العربية السعودية ومصر والجماهيرية الليبية قد صادقت على النظام الأساسي لهذه المحكمة، كما وأنني أؤيد الرأي القائل بأنه لا بد من القيام بعمل فعال لاستكمال الإجراءات اللازمة والجوانب الإدارية لتمكين المحكمة من الشروع في نشاطها حالَمَا يتم إيداع التصديقات اللازمة في هذا الشأن. وأملنا كبير في أن تستكمل الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي الشكليات اللازمة لتمكين محكمة العدل الإسلامية الدولية من ممارسة عملها في وقت مبكر فإنشاء محكمة العد ل الإسلامية سوف يكون دون شك أداة لتعزيز وحدة الأمة الإسلامية وتضامنها، وستكون الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي الذي تعتمد عليه المحكمة في قضاياها، كما ستأخذ المحكمة في اعتبارها القانون الدولي والاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف والأعراف الدولية المطبقة كقوانين، والمبادئ العامة للقانون، والأحكام الصادرة عن المحاكم الدولية، وآراء فطاحل الخبراء في القانون الدولي في مختلف الدول. أصحاب السعادة: أود أن أختتم حديثي في الإعراب عن امتناني وشكري لسمو أمير دولة الكويت ولحكومة الكويت لكرم الضيافة والترتيبات الممتازة التي وضعت لضمان نجاح مداولاتنا. وإنني لعلى ثقة بأن الدورة الخامسة لمجمع الفقه الإسلامي ستكون معلما آخر على طريق تحسس الأمة الإسلامية لمستقبل مجيد قائم على المرتكزات القوية للشريعة الإسلامية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 كلمة معالي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس المجمع بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله الذي هدانا فجعلنا مسلمين، والحمد لله إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه، إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين، والحمد لله إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته، ولا في ألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته، ولا في حكمه سبحانه وتعالى، وأشهد أن محمدا عبده المجتبى ونبيه المصطفى، اللهم صل وسلم عليه كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون، ورضي الله عن الصحابة والآل وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد دأب شداة الصلاح بهذه الأمة على أن ينطلقوا في إصلاحهم بما يفيض على ألسنتهم وما ترقمه أقلامهم من القواعد العامة والكليات الجامعة والأصول والضوابط الشاملة التي تستلهم الفروع والجزئيات، وتستوعب النوازل والأقضيات والواقعات، وإن أهل الإسلام في غمرة اليقظة الإسلامية التي تتهلل لها الوجوه، يعايشون ظواهر مهمة في يقظة المسلمين وأهمها ظاهرتان: إحداهما تعني العلم والعمل به، تعني البصيرة والتبصر في دين الله وفي أحكام أفعال العباد اعتقادا وقولا وعملا، تأسيسا على كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، هذه الكلمة أسست عليها الملة ونصبت القبلة، ومن أجلها جردت سيوف الجهاد، ومن أجلها خلقت الجنة والنار، وهي أول الأمر وآخره، وهي البداية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر بعثته: ((قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) وهي النهاية كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ((لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله)) . وإن في هذا إرشادا عظيما إلى أن حياة المسلم مبنية على تحقيق كلمة التوحيد، وهذه الكلمة العظيمة هي أول مأمور به في كتاب الله تعالى كما في فواتح سورة البقرة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] ويضادها أول ما نهى الله عنه كما قال بعد ذلك {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] . وهذه الكلمة العظيمة هي أول ما فتح الله به كتابه في سورة الفاتحة مشيرا إلى أنواع توحيده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ونحو ذلك {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] اختتم الله بها كتابه. وفي هذا إشارة إلى أن ما بين اللوحتين أو الدفتين هو كله لتحقيق كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله" وعلى ذلك آيات التنزيل الأخريات في سورة الذاريات {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . قال المفسرون "إلا ليوحدون" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 وإن مجمع الفقه الإسلامي يحمل عبئا كبيرا وقسطا وافرا من حمل أشعة كلمة التوحيد ونشرها بين المسلمين في أمورهم العامة والخاصة، والذي نعقد اليوم دورته الخامسة في ضفاف جزيرة العرب على أرض دولة الكويت بدعوة من سمو أمير البلاد الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح عبر الرسالة الشفهية التي تلقيناها على لسان معالي وزير الأوقاف، فشكر الله لسموكم ذلك وبارك في جهودكم، ولقد زودتم التكريم إكراما، والتشريف تشريفا بتشريفكم في افتتاح هذه الدورة فشكر الله مسعاكم وأكرمكم وجزاكم كل خير. صاحب السمو أمير البلاد الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح سمو الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح ولي العهد أيها العلماء الأجلاء أيها الجمع الكريم وأما أخراهما فهي تلكم المرحلة التاريخية وقبل أن تكون تاريخية فهي حسنة في ميزان الحسنات وإنما الأعمال بالنيات، إنها تلكم المبادرة العظيمة التي تسنمتم قصب السبق لها يا صاحب السمو، إنها محكمة العدل الدولية الإسلامية، إنها إعلان الرد في التحاكم إلى كتاب الله تعالى، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلقد ألبستم المسلمين في هذا لباس الكرامة وحللتموهم رداء عز، ودفعتم التناقض الذي يلهج به ويمضغه أعداء الإسلام، يا معشر المسلمين كيف تؤمنون بالإسلام ولا تحكمونه؟! واليوم نعلن ونقول بكل افتخار: لقد حكمناه بإنشاء محكمة العدل الدولية الإسلامية التي أقرها قادة الدول في العالم الإسلامي، والتي حزتم قصب السبق لها فجزاكم الله خيرا على ذلك أحسن الجزاء وأكمله. هذا وإنه من واقع مشاركتي المتواضعة في إعداد النظام الأساسي من أول لجنة عقدت في مدينة جدة، كان لي نوع من التتبع لما قيل وما نشر وما كتب عن هذه المحكمة، والذي حصيلته أن علماء المسلمين ومفكريهم وصلحاء المسلمين يرون أن هذه المحكمة هي مرحلة نقلة إلى المحاكم الشرعية المحلية إلى تحكيم شريعة الله يبن العباد فوق أرضه وتحت سمائه في ضروريات حياتهم في أموالهم، في أعراضهم، في نسلهم، في حقوقهم، في شؤون حياتهم كافة؛ إذ الذمم مشغولة والعهدة كبيرة، والحجة قائمة وأمامنا مواقف صعاب يوم العرض على رب الأرباب، فأعدوا رحمكم الله للسؤال جوابا، إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه. وإني وإخواني رجال هذا المجمع نقدم خالص شكرنا وتقديرنا لسموكم الكريم، ولسمو ولي عهدكم ولرجال حكومتكم، وفقنا الله وإياكم لكل عمل صالح مبرور وحفظنا جميعا بالإسلام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 كلمة معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله خاتم النبيين وإمام المرسلين وسلم تسليما كثيرا. حضرة صاحب السمو الأمير المعظم الشيخ/ جابر الأحمد الصباح أمير دولة الكويت ورئيس الدورة الخامسة لمنظمة المؤتمر الإسلامي أعزه الله. حضرات أصحاب المعالي والسعادة والسماحة والفضيلة الموقرين. السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد: بيمن الله وكريم فضله وجميل رعايته، تنعقد هذه الدورة الخامسة لمؤتمر مجمعكم الموقر، باستضافة كريمة من سمو الأمير المعظم، وتحت سامي إشرافه بهذه الأرض الطيبة المباركة ديار الكويت، وإنا ونحن في طريقنا إلى هذه القاعة لتتردد على أسماعنا تلكم الكلمات الفرائد التي عقلناها يا سمو الأمير من خطابكم الجليل في القمة والتي رسمتم بها أجمل صورة لهذا البلد المضياف حين قلتم أيدكم الله بنصره وشملكم برعايته وحفظه. إن الكويت تعيش الإسلام دينا والعروبة وطنا، والتعاون طريقا، والسماحة شعارا، والإخاء نورا، والتشاور منهاجا، والعدل ميزانا، والتقدم مسؤولية، والسلام غاية. وفي هذا تعبير صادق عن أبرز ملامح هذه الدولة وهذا الوطن فتلك مقوماته الأساسية واضحة جلية في سلامة العقيدة وشريف القيم وكريم المبادئ وعظيم التطور المسؤول الذي يواجه بحكمة عالية وخطة محكمة كل ألوان التحدي الحضاري المعاصر. وإنكم يا سمو الأمير إلى جانب ذالكم، وبحكم رئاستكم للقمة الخامسة قد توليتم حفظكم الله وتتولون القيام بكثير من الأعمال البناءة للأمة الإسلامية داخل الكويت وخارجها، وارتفع صوتكم بالحق وبالدعوة إلى الحلول الناجعة لجملة من القضايا في المحافل الدولية، وواكبت رئاستكم الشريفة لمنظمة المؤتمر الإسلامي بوادر الانفراج بين الإخوة الأشقاء في العالم الإسلامي كما استمرت العناية والدعم للمكافحين بأفغانستان، وللانتفاضة الشعبية المباركة بالأرض المحتلة وللجهاد من أجل تحرير فلسطين والقدس الشريف، وكان من منن الله على المسلمين في هذه الأيام إعلان المجلس الوطني الفلسطيني وثيقة الاستقلال لقيام دولة فلسطينية تكون بإذن الله خير أداة ووسيلة لمواصلة النضال حتى النصر وتحقيق آمال الأمة في تحرير قبلتها الأولى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 وإننا الساعة في هذا الإطار الديني والروحي، والخلقي والعلمي، الذي شعت أنواره وعمت آلاؤه. وبهذه البقعة الزاهية النضراء من أرض الكويت، نجتمع ممثلين لدولنا التي ورد على لسان سموكم – حفظكم الله – التنويه بشرفها وعظيم خطرها حين وصفتم الموقع الذي يجمعها بأنه يجعل منها قارة إسلامية وسط العالم القديم. ويحقق لأبناءها وجودا إيجابيا في قارات الأرض جميعا، وإنها لمقولة شريفة تذكر بالوسطية وبالدور الذي على المسلمين القيام به، وكأنها تلفت النظر إلى مزيد من التدبر لقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] . وإلى وجوب الحرص على العمل بما استودعته هذه الآية الكريمة من حكم وأسرار. ويسعدني في هذه الجلسة الافتتاحية أن أعرض على حضراتكم مجمل نشاط المجمع، ففيما بين الدورة الثانية التي انعقدت لمؤتمركم الموقر بجدة في ربيع الثاني 1406هـ باستضافة كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز أعزه الله ونصره وبين هذه الدورة الخامسة التي تجمعنا اليوم طرح على المجمع ثلاثة وعشرون موضوعا دينيا واجتماعيا واقتصاديا، كما قدم إليه ما لا يقل عن ستين ومائة بحث ودراسة ومجموعة من الوثائق من أوراق وقرارات علمية في نفس الموضوعات، وتولى مجلسكم الموقر مناقشتها كلها وأصدر بشأنها تسعة وعشرين قرارا مجمعيا فقهيا وثلاثا وعشرين توصية، وفي هذه الدورة يعرض على سامي نظركم نحو خمسين بحثا حول عشرة موضوعات تتبعها كالعادة مناقشات تتلوها بإذن الله قرارات وتوصيات. وقد قرر المجمع عقد ندوتين: الأولى عن سندات المقارضة قام بها بالتعاون مع معهد البحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية، والثانية عن الأسواق المالية أرجئ عقدها لأسباب ترتيبية وتنسيقية إلى موعد لاحق بعد هذا المؤتمر وذلك بالاتفاق مع البنك ومع وزير الأوقاف والشؤون الدينية بالرباط معالي الدكتور عبد الكبير المدغري العلوي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 ومضينا خلال عشرة شهور تفصل بين الدورتين الرابعة والخامسة نسرع الخطى في الإعداد والشروع في تنفيذ مقترحات المجلس بشأن الموسوعة الفقهية، وإحياء التراث وتيسير الفقه، فكان أن وزعنا جملة من المواضيع الفقهية الاقتصادية المتعلقة بالمعاملات على زمرة من الفقهاء والباحثين في الاقتصاد الإسلامي، ووصلتنا بالفعل بعض هذه الدراسات التي سنرفعها قريبا إن شاء الله إلى لجنتي المراجعة والاعتماد لنقوم بعد ذلك بنشرها، وقد تم تحقيق الجواهر الثمنية في فقه عالم المدينة لابن شاس، الذي تكفلت عناية خادم الحرمين الشريفين – حفظه الله بطبعه على نفقته، والكتاب الآن بين يدي أحد فقهاء المالكية الأثبات لمراجعته تمهيدا لنشره، وقد واصلنا النظر في مشروع تيسير الفقه وأعددنا زمرا من الموضوعات مرفقة بالخطة التفصيلية لكل موضوع لتوزع على العلماء المستكتبين في هذا الغرض، كما قمنا بالاتصال بمعالي الدكتور محمد عبده يماني مدير عام مؤسسة اقرأ الخيرية التي ستتولى مشكورة الإنفاق على هذا المشروع لضبط ما يحتاجه من التكاليف إعدادا وإنجازا وترجمة إلى جملة من اللغات الحية والإسلامية. ومما نعتز به ونفخر ذلك التعاون القائم بين المجمع والمؤسسات العلمية المختلفة من جامعية ومجمعية بالمملكة العربية السعودية وبالكويت وبمصر وتونس والمغرب، وأريد أن أذكر في مقدمة ذلك في هذه المناسبة الشريفة اتفاقية التعاون التي تولينا إبرامها بين جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وبين المجمع، والتي تم توقيعها بالرياض منذ شهرين مع العلامة الجليل صاحب المعالي الدكتور عبد الله التركي، وقد أقر حفظه الله – طلبنا تفريغ أحد الأساتذة المختصين في علم القواعد ليعمل كامل الوقت بالمجمع ويشرف بنفسه مع ثلة من زملائه على إنجاز معلمة القواعد الفقهية. وعلى هذا النحو أيضا – بحمد الله – أمضى المجمع اتفاقية ثانية مع جامعة أم القرى ووجدنا لإنجاز هذا المهم كل تشجيع ومساعدة من الدكتور الجليل راشد الراجح مدير الجامعة بمكة المكرمة، وإني لأدعو الله لنا ولهم بالتوفيق والتمكين لخدمة شريعته والاجتهاد بما يرضيه سبحانه مما يحقق لهذه الأمة صالح أمرها ويعيد إليها عزتها وريادتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 ولقد تمكنا – بحمد الله وعونه – إلى جانب ذلك من إعداد ومراجعة وطبع العدد الرابع من مجلة مجمعكم الموقر، ولا يفوتني في هذا الصدد أن أنوه بما لقيناه من الأستاذ النابغ المربي الداعية الإسلامي معالي الدكتور محمد أحمد الشريف من عناية ودعم وبما منحته جمعية الدعوة الإسلامية العالمية بطرابلس للمجمع من مساعدة سخية يسرت علينا إخراج هذا العدد بأجزائه الثلاثة في أجمل صورة وأبهى حلة. ويسرني أن أحيط حضراتكم علما بالقرار45/17س لمؤتمر وزراء الخارجية السابع عشر المنعقد بعمان الأردن بإحالة مشروع النظام الأساسي للجنة الإسلامية الدولية للقانون على مجمعكم الموقر لتبحثوا إمكانية اضطلاع مؤسستكم العلمية الفقهية بالمهام المتوخاة من تلك اللجنة، وفي هذا مظهر من مظاهر الاعتداد بالمجمع وبرسالته الشريفة يظهر – بحمد الله – من الدول الإسلامية ومن المسؤولين في كل بلد كما نلمسه من عامة المؤمنين في الأقطار الإسلامية وخارجها. فكم تلقينا من رسائل وعرضت علينا من قضايا وطلب من فتاوى ومنشورات مجمعية مما يدل على التطلع الكبير إلى نشاطات المجمع تعرفا عليها ومتابعة لها، وقد حمل ذلك السري الماجد معالي الشيخ حسن عباس شربتلي – حفظه الله – على دعم أنشطة المجمع بصلة سنية أراد بها مساندته في الاضطلاع بدوره الديني العلمي. وإني حين أذكر بالمهمة الأولى لمؤسستكم الجليلة التي تتمثل في فتوى الناس في دينهم وتعريفهم بأحكام الله فيما يجري بينهم، وإسعافهم بالحلول الشرعية الناجعة لما يواجهونه في حياتهم اليومية من مشاكل على صعيد الأفراد والمجتمعات دولا وشعوبا، لا يفوتني أن أنوه بجهود هذه العصابة الكريمة والصفوة الخيرة من علماء الشريعة وفقهاء الأمة ممثلين في أعضاء المجلس وخبراء المجمع، فإن في متابعتكم لدرس ما يعرض عليكم من قضايا في مختلف المجالات العقدية والسياسية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية بردها إلى ما وضعه الإسلام من أصول، وضبطه الأئمة من قواعد، وفي مواكبتكم للتحفز العام وللحركة النشيطة التي يشهدها العالم الإسلامي من أجل نهوضه واسترجاع مكانته بين الأمم ما يحمل على الابتهاج والفخر، وإن هذه المواكبة الحازمة وذلك التوجيه السليم لا يتمان إلا بمضاعفة الجهود وبذل الوسع في الأعمال العلمية المجمعية الكبيرة التي لا تنقطع، والتي تحتاج إلى أجيال وأجيال تبني كما بنى الأوائل، فترد الحاضر على الماضي، وتشق السبيل الأقوم لبناء المستقبل الإسلامي، وإن ما تقومون به أيها السادة باستمرار الضمان لتحقيق الغد المشرف المشرق لبلادنا الإسلامية قاطبة. وفي ختام هذه الكلمة أريد أن أزجي الشكر الفائق والامتنان العميق مجددا لراعي دورتنا الخامسة سمو الأمير الجليل الشيخ جابر الأحمد الصباح أمير دولة الكويت – حفظه الله - ولحكومته الرشيدة على ما وجدناه من عناية غامرة، ولا أنسى ما قام به ويقوم به معالي الوزير الفقيه الأديب العالم الجليل خالد أحمد الجسار الذي يرجع إليه الفضل ولأعضاده في وزارة الأوقاف من علماء وإداريين في الإعداد الرائع الدقيق لهذه الدورة، وما وجدناه لديهم كافة من بالغ الحفاوة بإخوانهم العلماء الذين أسرعوا من كل صوب فرحين مستجيبين للدعوة الأميرية الكريمة. والأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي الناطقة باسم المجمع لا يمكن أن تنسى في هذه المناسبة ما قدمه إليها معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الأستاذ سيد شريف الدين بيرزاده في كل مراحل نشاطاتها من عظيم التأييد وكريم الدعم. ولا ما اضطلع به مكتب المجمع من أمانة المراقبة، والدرس للمشاريع، والإعداد لخطة السير، بكامل الموضوعية والتجرد، والحرص على أن يجعل من هذه المؤسسة مفخرة للدول الإسلامية تباهي بها، وتجني من ورائها جليل الخدمات للأمة الإسلامية دولا وأوطانا وشعوبا. وكذلك ما تميز به رئيس مجلسنا العلامة النابغ الدكتور الشيخ بكر بن عبد الله أبي زيد من حكمة وأناة، وحسن رأي، وعميق نظر، وقدرة فائقة على تدبير شئون المجلس وإدارته، وهو لا ينفك طوال السنة عن متابعة سير المجمع، لا يبخل بالتوجيه والمساعدة واتخاذ ما يلزم من التدابير للسير بمؤسستنا قدما. فإلى هؤلاء وأولئك جزيل الشكر والتقدير، وإليكم جميعا حسن الثناء وخالص الدعاء، فلحفظ شريعتكم وإحياء فقهكم ما بذلتم، وفي سبيل الله ما فعلتم وتفعلون {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20] . وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 حول تنظيم النسل وتحديده إعداد الدكتور حسان حتحوت المركز الإسلامي لجنوب كاليفورنيا بسم الله الرحمن الرحيم ما نحسب موضوعا حظي من بحوث الفقهاء وآرائهم منفردين أو مؤتمرين في العقود الثلاثة الأخيرة كموضوع تحديد النسل أو تنظيمه أو غير ذلك من مسميات تصف نفس الموصوف. فإن قلنا قتل بحثا لم نجاف الحقيقة، وإنما حفزنا ذلك على أن نحاذر فلا نجتر ما أصبح بالتكرار معروفا، وإشفاقا على مؤتمراتنا الفقهية أن تختزل إلى إعادة بلا إفادة وهو إشفاق دلت التجربة أنه في موضعه، ولئن قضت الضرورة أن نوجز في أسطر ما استقر عليه الرأي أو كاد في هذا الموضوع، لقد انعقدت نيتنا أن يكون إسهامنا فكرا حول الموضوع لا فيه، وبيانا لمصادره ومراميه، فإن هذا الموضوع كان ولا يزال حمال أوجه، ولما كان الحكم على الشيء فرعا من تصوره، فقد رأيت أن أزيد الصورة وضوحا واكتمالا، والعاجز من نظر من ثقب المفتاح ثم حسب أنه رأى، والعاقل من استوفى خريطة عريضة ذات تضاريس تعينه على تلمس طريقه في هذا الأمر الذي اختلطت مسالكه وانداحت آثاره، حتى لأحسب أن قرننا الحاضر لن يدخل سجل التاريخ بوصفه قرن الذرة والحاسوب ولكن بوصفه قرن التحكم في خصوبة الإنسان. أما الدائرة الداخلية أو المركزية في هذا الموضوع فما اتجهت إليه غالبية فقهاء العصر من أن منع الحمل في ذاته ليس حراما شرعا وإن كان للقلة رأي آخر، ولكل من الرأيين حجته وأسانيده، واستندت الغالبية إلى روايات عن الصحابة بأنهم كانوا يمارسون العزل بعلم الرسول فلم يحرمه، وبأن الغزالي أجازه على مدى واسع من المبيحات الطبية أو الاجتماعية أو الشخصية، ولن نستطرد في سرد كل ما تحويه مكتبة بدائية أو أوردته مؤتمرات سابقة، وإنما قيدت الإباحة بشروط شرعية معروفة، فليس من الجائز تعطيل المقصدين الشرعيين للزواج في الإسلام، وهما الجنس والإنجاب أحدهما أو كليهما، في حال القدرة عليهما، وليس من الجائز انفراد الزوج بقرار منع الحمل، فلا بد أن يكون ذلك بإذن الزوجة لأن الأمر شركة بينهما، ومن الواجب أن تكون وسيلة منع الحمل خالية من المضار الصحية وغيرها، ولا يجوز أن تكون وسيلة منع الحمل مهدرة لحياة تكونت ولو في أدوارها الأولى، أو أن تنطوي على مصادرة نهائية لوظيفة الإنجاب إلا تحت الظروف الاستثنائية التي تبيحها الشريعة، وقد نعرض ذلك فيما بعد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 وأما الدوائر الأخرى التي تحيط بالموضوع أو تكتنفه فنعتقد أنه لا بد من الإحاطة بها من باب العلم أولا، ثم من باب ضبط خطانا إزاء خطى الآخرين في هذا العالم المتلاطم، حتى إذا رأينا أننا وغيرنا نسير في ظاهر الأمر في اتجاه واحد لم يصرفنا ذلك عن الحذر فقد يكون التوافق الظاهر مرحليا رغم الاختلاف الكبير في المصدر وفي الغاية فما ينبغي أن نسلم أنفسنا إلى التيار أو نقع ضحايا للاستدراج. وأود في البداية أن أشير إلى أن الإباحة الشرعية ليست هي المصفاة الوحيدة التي يستعملها المسلم وهو يقرر ما يأخذ أو يدع، فالحرام بطبيعة الحال ينبغي اجتنابه ولكن ماذا عن الحلال؟ وهنا نقول إن رقعة الحلال واسعة بحكم أن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن الفرد المسلم والمجتمع المسلم كل منهما مطالب بأن ينظر في المباحات العديدة فيختار أنسبها وأصلحها وأوفاها بمقتضى الحال، وهذا قد يتغير بتغير الزمان والمكان والظرف المطروح والظروف المحيطة ولا غرابة في ذلك، فما ألبسه في بيتي قد لا يصلح أن ألبسه في عملي، وكلاهما حلال، وسنجد أن لذلك تطبيقاته في موضوع منع النسل وتنظيمه، وقديما قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقديما نهى عمر عن زواج جند العرب الفاتحين من نساء الروم مع أنه في الشرع مباح. خلال عملي الطبي في اختصاص أمراض النساء والتوليد، وصفت وأجريت كل طرائق تحديد النسل.. ويا طالما شرحت وأطنبت بين مريضاتي أو بين طلابي وطالباتي عن المخاطر الصحية التي تتعرض لها النساء غزيرات الإنجاب وذلك علميا صحيح، وقناعتي أن منع الحمل في ذاته ليس حراما، ولكن هل معنى ذلك أن أكتفي بإجابة مبسطة عن سؤال بسيط هو حلال أو حرام، أو أن أكتفي بأن الاعتبار الطبي هو المرجع الوحيد فيما ينبغي للناس أن يأخذوا أو يدعوا؟ لا لأن شواهد العصر ترينا بوضوح أن بين الحروب المستعرة في عالمنا هذا حربا تسمى الحرب الديموغرافية.. تلك التي تهدف إلى تغيير الأنماط السكانية في منطقة من المناطق فتجعل الأغلبيات أقليات والأقليات أغلبيات وتستعين على ذلك بأسباب ووسائل منها التبشير بمزايا تحديد النسل وسوق الناس إليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 ولعل من الأمثلة البليغة على ذلك شعب فلسطين، فإن الصداع الأكبر في الدماغ الإسرائيلي الآن ليس ما حولها من دول عربية وجيوش عربية مجتمعة أو منفردة وإنما هو التفاوت الكبير في معدل الإنجاب بين السكان العرب والسكان اليهود، الذي إن استمر أفضى – لا محالة – إلى أن يجد اليهود أنفسهم هناك بعد بضعة أجيال أقلية مغلوبة، فهل من المقبول أن نقيم حملة بين نساء العرب لتهويل مخاطر الإنجاب وتزيين مزايا التحديد، معتمدين على أن الحكم الشرعي أن منع الحمل حلال؟ إن الأمة التي فقدت كل شيء إلا عدد أفرادها لا يجوز لها شرعا في اعتقادي أن تفرط في هذه الميزة الباقية، وليست فلسطين هي المثال الوحيد للحرب الديموغرافية بما يعمد إليه اليهود من هدم القرى ومصادرة المزارع والتهجير بالرغب والرهب والإفقار المنظم المدروس، وأعلم بالاطلاع الشخصي أن هذه الحرب الديموغرافية دائرة الرحى، منذ زمن في أكثر من بلد من بلاد الشرق الأوسط دونما تسمية حتى لا يظن بنا إشعال فتنة طائفية. ومما أذكر في مطالع حياتي الجامعية في بلدي أن العلاقات ساءت بيننا وبين دولة غربية كبرى وانقطعت الصلات حتى نبه علينا بألا ندخل المكتبة التابعة لوحدتهم الطبية إلا بإذن من مجلس الوزراء، وكانت هي المكتبة الوحيدة التي تتيح لنا الاطلاع على المجلات والدوريات الطبية العالمية التي أقفرت منها بلادنا في تلك الفترة نظرا لقيود العملة، وطالت القطيعة كل شيء إلا شيئا واحدا هو تمويل أبحاث تحديد النسل في بلادنا من قبل تلك الدولة العظمى، فهذه لم تنقطع! ظاهرة في الواقع أوحت لي وللكثيرين غيري بسوء الظن، حتى بت أعتقد أن مشكلة الانفجار السكاني وقصور موارد الأرض إزاء تفاقم تعداد سكانها إنما تمثل جانبا من الحقيقة لا الحقيقة كلها، وإلا فكيف نفسر أن بعض الدول الكبرى لا تتورع عن إحراق الفائض من حاصلاتها الغذائية أو إلقائه في البحر حتى لا تهبط أسعاره؟ وفي عالمنا الذي أصابته المجاعات وأودت بحياة مئات الألوف نرى فائض المحاصيل يستخدم كسلعة استراتيجية للضغط السياسي ولا يستخدم منه في وجوه البر إلا نزر يسير عن طريق هيئات خيرية أو تبشيرية لها هي الأخرى أهداف ومقاصد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 ومن المعلوم أن موارد ضخمة للغذاء في البر والبحر جاهزة لكشف النقاب عنها، وأن التقنيات العلمية الحديثة قادرة على مضاعفة الإنتاج النباتي والحيواني أضعافا مضاعفة، عن طريق الهندسة الوراثية، وأن جزءا من مائة من ميزانيات التسلح، لو وجه هذه الوجهة، لكان بليغ الأثر في سد الهوة بين السكان وبين الموارد، أما العالم الثالث الفقير الذي انهمرت دموع العالم الأول أسفا على فقره وعوزه فأحسب أن الذي يقصم ظهر اقتصاده حقيقة ليس هو النمو السكاني بقدر ما هو مقدار الربا الباهظ الذي يستأديه منه العالم الأول عن ديونه، حتى بات الاقتصاد القومي عاجزا عن الوفاء بفوائد الديون المتنامية فضلا عن الديون نفسها. على أنني لا أريد أن أذكر بعض الحقيقة وأطوي بعضها فأكون قارفت الكذب وإذا بدا حديثي وكأنه ضد تحديد النسل فعلي أن أسائل نفسي: ماذا يستطيع بلد من البلاد عالية التكاثر كبلدي مصر على سبيل المثال- لا التحديد – أن يفعل إذا كان مقدار التنمية أقل من أن يشبع عدد الأفواه الجديدة التي تولد في كل عام؟ وكيف ألوم أسرة بذاتها إن طحنتها أعباء الحياة فلجأت إلى تحديد النسل، أو الدولة إن ناءت مواردها فشجعت الناس على هذا التحديد؟ ولقد هبت على ذلك عاصفة من الانتقادات، بعضها يرتكز على حجج سليمة، ولكن بعضها يستشهد بقول الله {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم خَشْيَةَ إمْلاَقٍ} [الإسراء: 31] ، وقوله {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151] والاستشهاد هنا في غير موضعه، فليس في منع الحمل قتل ولد لا بعد أن يولد ولا قبل أن يولد وهو بعد جنين، وهو ما فرق فيه الغزالي بين منع الحمل والإجهاض، فقال: وليس ذلك كذلك، فإن هذا أي الإجهاض عدوان على موجود حاصل إلى آخر ما قال، وعلى الرغم من أنني أبصر وجه الضرورة التي تلجئ مصر وأمثالها من بلاد العالم الإسلامي إلى الأخذ بسياسة تحديد النسل، فإن هذه السياسة في اعتقادي لا تمثل العلاج الإسلامي لهذه المشكلة، والجفوة بينها وبين الحل الإسلامي ليس مسئولية مصر وحدها ومن لف لفها، وإنما أصل الخلل في نظري هو أن العالم الإسلامي لا يتصرف على أنه عالم إسلامي، ما زال القطر من أقطاره ينظر إلى غيره على أنه الآخر، وليس "الأنا".. ما زال هناك القطر الذي ينوء بالغنى والقطر الذي ينوء بالفقر.. الأرض الخصبة في مكان، والسواعد المدربة في مكان، والمال الوافر في مكان ثالث.. ولكنها لا تلتقي ولو كانت كلها للإسلام لالتقت، ويقول الله {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92] فنسمع ولا نلبي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 ولسنا هنا ندعو لمظهرية وحدة ولكن لحقيقة الوحدة تراحما وتلاحما وتنسيقا وأداء إذن لوجدنا الحل لا لمسألة تنظيم النسل وتحديده ولكن لكافة العقبات التي تحول بين العالم وبين الاهتداء بنور الله الذي يشعه مصباح الإسلام. إن موضوع تحديد النسل في العالم حديث نسبيا، ولعله بدأ بصورة مسموعة عندما تبنت بعض الحكومات سياسة التحديد من باب الضرورة الاقتصادية فدعت الفقهاء فيها إلى أن يبينوا للناس أنه ليس حراما شرعا وكانت من ذلك كتابات وأحاديث وإسهامات فقهية في مؤتمرات قومية وإقليمية وعالمية، ولا نشك في إخلاص فقهائنا الذين اضطلعوا بذلك، ولا نقدح فيما وصلوا إليه من رأي بالإباحة ورغم اشتراكهم في هذا الرأي مع الهيئات الدولية الداعية إليه، فإننا نود أن نؤكد أن هؤلاء وأولئك لم يكونوا جيادا تجري في عنان واحد وبنية واحدة. فحركة تحديد النسل العالمية الحديثة نبعت من آراء داروين ثم مالثيوس اللذين تحدثا من جانب عن تكاثر الناس أكثر من تكاثر الموارد، ولكن من الجانب الآخر عن أن الأجناس المتخلفة تشكل عبئا على الأسرة الإنسانية، وتلويثا لنقائها ورقيها، فينبغي ألا يسمح لها بالتكاثر غير المقنن، ثم كان امتدادهما في حمل لواء الحركة على الأخص سيدتين، هما ماري ستوبسي في بريطانيا، ومرجريت سانجر في أمريكا، تحت شعار حركة الدفاع عن حقوق المرأة، الذي خلط صالحا وسيئا، فكان فيه الفوائد الصحية لتحديد النسل وأثرها على خفض معدلات وفيات الوالدات ووفيات المواليد قرب الميلاد، ولكن كان فيه كذلك ضرورة مساواة المرأة بالرجل في الحريات، ومنها حرية تعاطي الجنس – مشروعا أو غير مشروع – غير مهددة بحدوث حمل غير مرغوب، وبأموال مرجريت سانجر مولت الأبحاث التي أنتجت حبة منع الحمل الأولى، وبنفوذها تأسس الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية، وله صلاته ونشاطه في كثير من بلادنا.. واستقر للحركة النصر فيما يختص بمنع الحمل، فإذا هو الآن حق أكيد للمتزوجات وغير المتزوجات، والقاصرات وتلميذات المدارس بصحبة تغير شامل في القيم والمفاهيم أفضى إلى أن ما نسميه نحن زنى ونعترض عليه أصبح نشاطا إنسانيا عاديا لا غبار عليه وهو حق لمن أراده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 وكانت المعركة التالية: معركة إباحة الإجهاض وجعله حقا لكل من تطلبه، وكانت الآثار الأخلاقية لذلك بالغة المدى، فأغلبية المجهضات على مستوى العالم غير متزوجات، وفيما طالعت في مؤتمرات فقهية سابقة من تناول لموضوع الإجهاض واختلاف عليه، فإن الصاحي لمجريات الأمور في عالمنا الحاضر يدرك بوضوح، أنه لو لم يكن هناك من داع لمنع الإجهاض إلا باب سد الذارائع لكفى وزاد. ونحسب أن موضوع الإجهاض قد حسم الآن في أكثر من مؤتمر إسلامي، باعتبار حياة الإنسان محترمة في كافة أدوارها، حتى دورها الجنيني، فلا يجوز إهدارها إلا لإنقاذ حياة الأم ... وبينما ظن الفقهاء السابقون منذ قرون عديدة أن بدء الحياة قرين نفخ الروح الذي أورده حديث الأربعينات، أو إحساس الأم بحركة الجنين في بطنها، وكلاهما يكون في نهاية الشهر الرابع للحمل، تنبئنا المعطيات العلمية الحديثة، أن حياة الفرد منا قد بدأت قبل ذلك بكثير، بدأت في الواقع منذ بدايتها، بالتحام الحيوان المنوي وهو نصف خلية بالبويضة وهي نصف خلية ليكونا الخلية الكاملة، ذات الحصيلة الإرثية، التي تميز الجنس الآدمي عامة، كما تميز إنسانا فردا بعينه، لم يتكرر بتمامه، ولن يتكرر منذ آدم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. والمطلع على أحكام الفقه الإسلامي عن الجنين في باب الإرث وباب الديات وباب رعاية الحامل وعبادتها وأحكامها، يدرك أن للجنين في الإسلام أهلية وجوب ناقصة من حيث إن له حقوقا، وإن لم تكن عليه واجبات، ويزيد الأمر وضوحا أن نعلم أنه إذا حكم على امرأة بالإعدام وكانت حاملا في أية مرحلة من الحمل، مهما كان باكرا، فإن تنفيذ الحكم يؤجل، حتى تلد وترضع احتراما لحق هذا الجنين في الحياة، مهما كان باكرا وحتى لو كان الحمل من سفاح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 أما الثالثة في مجال التحديد بعد المنع والتجهيض، فجراحات التعقيم، وهي كذلك موجة عالمية اجتماعية سياسية خارج نطاق الطب، يدعو أهلها إلى تعقيم أعداد أزيد وأزيد من النساء في أعمار أصغر وأصغر وعدد أولاد أقل وأقل. وجراحة التعقيم أمر محدث لم يرد فيه نص، ولكن مما يدل على أن اتخاذ القرار بها أمر خطير للغاية، أن نعلم أنه في باب الديات فإن الإصابة التي تفضي إلى منع القدرة على النسل تستحق دية نفس كاملة، ولهذا نرى حصرها في الضرورة الطبية، أو عندما تكون الفترة الإنجابية قد قاربت نهايتها، خاصة وفي الوسع تدبير البديل من وسائل منع الحمل المؤقتة بدلا من إجراء جراحة لا تضمن الرجعة فيها، إن تغيرت الظروف بتغيير الزوج أو فقد الأولاد، ويكون الندم ولات حين مندم. نقول تنظيم النسل وتحديده فما الفرق بينهما؟ تاريخيا – وقد عاصرت ذلك – بدأت الحركة بشعار منع الحمل، فلما أثار غبارا غيرته لتحديد النسل، فلما أثار غبارا غيرته لتنظيم النسل، أو تنظيم الأسرة بقصد المباعدة بين الأحمال، وصولا إلى العدد المناسب لكل أسرة من الأطفال، ثم دخل في نطاقه كذلك معالجة العقم بالوسائل المختلفة، أي على العموم بالزيادة أو النقصان من الحمل، وليس الانتقاص فقط. وقبل أن نتطرق إلى موضوع علاج العقم نود أن نشير إلى مسألة إرضاع الأمهات أولادهن من أثدائهن رضاعا طبيعيا، وهو ما يحوز رضاء الإسلام بلا شك، بل قدر القرآن له سنتين لمن أراد أن يتم الرضاعة، ولو تم ذلك لكان أنجع وسيلة للمباعدة بين الأحمال، نظرا لأن للرضاع أثرا سلبيا على التبويض، ومن ثم على الخصوبة، فضلا عما فيه من فوائد للمواليد والوالدات، جسمية ونفسية، ولو كان الأمر بيدي لطوعت كل الظروف واستعنت بكل الوسائل للاستغناء عن الحليب الصناعي، وتمكين الوالدات العاملات والمتفرغات من أداء الرضاع الطبيعي، وننتقل إلى علاج العقم ما دمنا أدخلناه في زمرة التنظيم.. فنقول إن الحرص على الذرية أمر فطري، وإن السعي إليها لمن حرمها مطلب مشروع ما دام يتم بوسائل مشروعة، ووسائل ذلك الآن عديدة بتعدد الأسباب التي تحول دون الحمل، ولا يستطيع الطب الآن ولا نحسبه سيستطيع في المستقبل أن يكفل الشفاء في مائة بالمائة من الحالات، فمن يشأ الله يبق عقيما وقد عرضت مؤتمرات طبية – فقهية سابقة لطائفة من الوسائل الحديثة التي ابتكرها الطب الغربي والمعروف أنه لا يتقيد بدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 وقد كان لعلماء المسلمين رأيهم فيها، ونرى أن نوجزها هادفين إلى التذكرة عازفين عن التكرار. وحبذا لو قدمنا لذلك بالأسس الشرعية التي تحكم هذا الموضوع وهي ثلاثة: أولا: أن الزواج بعقده الشرعي المعتبر هو الوعاء الوحيد المشروع لكل من الجنس والإنجاب. ثانيا: أن عقد الزواج غايته أقرب الأجلين طلاقا أو مماتا وكلاهما ينهي الزوجية. ثالثا: أن الزواج كما يدل ظاهر التسمية إنما ينتظم اثنين لا ثالث لهما ولا رابع ولا خامس، وليس هناك عقد زواج يسع أكثر من اثنين هما الزوجان، زوج وزوجة، فإذا تعددت الزوجات تعددت العقود، وكل دائما بين اثنين. إن طبقنا هذه الأسس وجدنا إذن أن التلقيح الصناعي جائز بمني الزوج لزوجته حال قيام الزوجية، وأن تقنية أطفال الأنابيب جائزة بين الزوج وزوجته أي بمني منه وبويضات منها، وذلك حال قيام الزوجية وبدون إقحام طرف غريب عنهما، من مني أو بويضة أو جنين أو رحم، وعلى هذا فمسألة الرحم الظئر مستأجرة أو موهوبة لا تجوز، وكما لا يحل المني الغريب، لا تحل البويضة الغريبة، ولا الجنين، لا استقبالا من غريب ولا إيداعا في غريب، ولا يجوز أن تحمل الضرة جنين ضرتها، ولو اشتركا في الزوج، وإلا أقحمنا طرفا ثالثا على ثنائية عقد الزواج، وهي ثنائية لا تقبل التثليث، وتشكل مسألة الرحم الظئر منعطفا خطيرا في تاريخ الإنسانية، فلأول مرة في التاريخ تحمل أنثى الإنسان طواعية، وقد قررت سلفا أنها ستتخلى عن جنينها لغيرها فور ولادتها، ولما كان هذا في الغالب الأعم يحدث لقاء مال متفق عليه، فقد اختزلت الأمومة من قيمة إلى ثمن، والأصل أن صلة الرحم في فطرة الإنسان وفي شرعة الإسلام قيمة تجل عن معيار المادة وتقدير الثمن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 ولقد نشأت عنها في بلاد مروجيها مشاكل عديدة لعل أشهرها تحرك عاطفة الأمومة في نفس الحامل، حتى إذا ولدت وتهيأت للإرضاع تشبثت بالوليد، ونشب النزاع بينها وبين صاحبة البويضة، وراحت كل أمام القضاء تسوق حجتها في موقف أقل ما يوصف به أنه اختلاط أنساب، فالإسلام يأباه ويأبى ما يؤدي إليه، ولكنه إن حدث فغالب علماء المسلمين اليوم يرون الأمر على بداهته وهو أن الوالدة هي الوالدة. هذه سياحة سريعة في موضوعنا، ومن الخير أن نحكم خطوط دفاعنا الإسلامية حتى لا تغزونا تلك الجدائد على علاتها، وإنما بعد عرضها على أحكام الإسلام، فما اتفق أخذناه وما خالف نبذناه. ويبقى في رقابنا واجب آخر نحو بقية العالم الذي أوشك أن يعبد العلم من دون الله، وأن يتخذ إلهه هواه: ذلك هو واجب الهداية، ونعلم أن الغرب في حاجة لاهبة إليه، فتلك رسالتنا إن كنا حقا ورثة النبوة التي أرسلها الله رحمة للعالمين، فلقد استطال العلم واستطال الإلحاد ولم يزد الإنسان إلا شقاء.. فعسى الله أن يهدينا ويهدي بنا ويجعلنا أهلا للرسالة وأوفى بالأمانة. والحمد لله رب العالمين. الدكتور حسان حتحوت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 تنظيم النسل وتحديده إعداد معالي الدكتور محمد علي البار عضو الكليات الملكية للأطباء بلندن وجلاسكو وأدنبره مستشار قسم الطب الإسلامي بمركز الملك فهد للبحوث الطبية جامعة الملك عبد العزيز بسم الله الرحمن الرحيم منع الحمل وحكمه في الإسلام إن هناك طرقا عديدة لمنع الحمل مارسها الإنسان منذ القدم.. وقد استحدثت وسائل جديدة في القرن العشرين واتسع نطاق استخدام هذه الوسائل حتى أصبح عدد اللواتي يستخدمن وسائل منع الحمل يعد بالملايين بل بمئات الملايين.. ومع هذا فإن الحمل قد يحدث رغم استخدام وسائل منع الحمل إذا أراد الله ذلك مصداقا لقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء)) أخرجه مسلم. وطرق منع الحمل كثيرة نوجزها فيما يلي: أ- طرق منع وصول الحيوانات المنوية إلى عنق الرحم. 1- الجماع بدون إيلاج. 2- العزل Coitus Interruptus 3- استعمال الرفال (Condom) وهو يغطي الإحليل. 4- استعمال الحواجز والقلنسوة (القبعة الهولندية) Diaphrafms and Caps 5- استعمال المراهم واللبوس (Suppiditeries) والدوش المهبلي. ب - تنظيم الجماع: بحيث يقع في أول الدورة وآخرها ويتجنب وسطها الذي تخرج فيه البويضة من المبيض والذي يقع عادة في اليوم الرابع عشر قبل بدء الحيض من الدورة التالية. ج- طرق تمنع المبيض من إفراز البويضة: وأهم هذه الطرق هو حبوب منع الحمل التي ظهرت عام 1956 والتي تستعملها حاليا أكثر من مائة مليون امرأة في العالم (1) د- استعمال أداة داخل الرحم (اللولب) . D. لا.1 ويعتقد أن اللولب يعمل بواسطة منع علوق البويضة الملقحة في جدار الرحم. ويقال: إن العرب في الصحراء هم الذين ابتكروا هذه الطريقة حيث كانوا يدخلون أحجارا صغيرة في رحم الناقة عندما يريدون السفر الطويل ويخشون عليها من أن تحبل.. ويقدر عدد النساء اللائي يستخدمن هذه الطريقة بخمسين مليون امرأة في العالم نصفهن في الولايات المتحدة الأمريكية (2) .   (1) Hexagon Vol4 No.5 1976 (2) Time. May 26, 1980 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 هـ- الرضاعة: تعتبر الرضاعة من الوسائل الفسيولوجية لمنع الحمل.. وهي طريقة موغلة في القدم، وقد وجد أن افراز البرولاكتين Prolactin من الغدة النخامية Pitfond وخاصة إذا كانت المرأة تعاني من نقص في التغذية يؤدي إلى منع إفراز البويضة.. وهذه الطريقة قد هيأها الله تعالى للمرأة في الأزمنة الغابرة والحاضرة لمنع الحمل أثناء الرضاع بصورة فسيولوجية.. إلا أن هذه الطريقة نسبة الفشل فيها عالية. ولذا فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن وطء المرضع وسماه وطء الغيلة وأنه يدرك الفارس قيد عثرة، وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده قوله صلى الله عليه وسلم ((لا تقتلوا أولادكم سرا فإن الغيل يدرك الفارس قيد عثرة من فوق فرسه)) (1) . ثم أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم وطء المرضع عندما رأي أنه لا يضر أمتين قويتين آنذاك هما الفرس والروم وكانوا يفعلونه – عن أسامة بن زيد أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إني أعزل عن امرأتي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تفعل ذلك؟ فقال الرجل أشفق على ولدها فقال الرسول: لو كان ضارا لضر فارس والروم)) أخرجه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده (2) . وقد أزال العلماء التعارض الظاهر بين الحديثين ومن أحسن ما كتب ما قاله ابن القيم في زاد المعاد ثم في مفتاح دار السعادة (3) . فقد أخبر المعصوم صلى الله عليه وسلم أن وطء المرضع يضعف المولود حتى إن ذلك الضعف قد يدركه وهو على فرسه قيد عثرة فأرشدهم إلى تركه ولم ينه عنه نهيا قاطعا. ولما رأى أن الإمساك عن وطء النساء مدة الرضاع ولا سيما من الشباب وأرباب الشهوة التي لا يكسرها إلا مواقعة نسائهم يؤدي إلى مفسدة أعظم.. رأى صلى الله عليه وسلم أن دفع المفسدة الأعظم أهم من دفع المفسدة الأصغر.. وقد رأى أن الغيل (وطء المرضع) لا يضر أمتين قويتين هما فارس والروم فعندئذ أرشد إلى مواقعة المرضع.   (1) أخرجه أحمد في مسنده 6/453، 458 وأبو داود في كتاب الطب باب الغيل 4/13 وابن ماجة في السنن كتاب النكاح باب الغيل 6481 (2) صحيح مسلم كتاب النكاح باب جواز الغيلة ومسند أحمد 5/203 (3) زاد المعاد 4/18 ومفتاح دار السعادة 2/270 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 و التعقيم: ويتم تعقيم الرجل بقطع الحبل المنوي في الجهتين.. وقد انتشرت هذه الطريقة في الهند خاصة عندما أمرت بتنفيذها قسرا أنديرا غاندي وأدى ذلك إلى اضطرابات كثيرة وسقوط حكمها آنذاك. أما تعقيم المرأة فقد يتم بإزالة الرحم أو المبايض وذلك عند إصابة هذه الأعضاء بمرض خطير أو نزف شديد.. أو ورم حميد أو خبيث. كما يتم عادة بربط وقطع قناتي الرحم Tubal Ligation ومن المعلوم أن ربط الحبل المنوي من الجهتين وقطعه لا يؤدي إلى العقم مباشرة ولا بد من مرور ثلاثة أشهر على الأقل قبل التأكد من أن الرجل أصبح عقيما.. ومع هذا فإن هناك نسبة لا يستهان بها بقيت لهم قوة الإخصاب رغم قطع الحبل المنوي من الجهتين حتى بعد مرور فترة طويلة من الزمن. وكذلك فإن هناك نساء عديدات حملن رغم ربط الأنابيب (قناتي الرحم) وقطعها وهذا مصداق لقوله تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء)) أخرجه مسلم. ز- الإجهاض: قد يعتبر بعضهم الإجهاض أحد وسائل منع الحمل ... وهناك 25 مليون حالة إجهاض جنائي Induced or criminal abortion في العالم سنويا، ورغم أن هذه أبشع الوسائل لمنع الحمل فإنها للأسف لا تزال واسعة الانتشار. وتختلف وسائل منع الحمل في درجة نجاحها فبعضها ذات نسبة نجاح عال مثل حبوب منع الحمل وربط الأنابيب واللولب وبعضها ذات نسبة فشل كبيرة تصل إلى 30 بالمائة مثل العزل والرضاعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 سياسة منع الحمل في البلاد الإسلامية (عربية وأعجمية) : بما أن الإسلام شجع على التناسل والنكاح ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم)) رواه أبو داود والنسائي والحاكم وفي رواية ((تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم)) والأحاديث والآيات الحاثة على الزواج والتناسل كثيرة جدا فإن سياسة منع الحمل أو ما يسمى تنظيم الحمل والذي تقوم به كثير من الدول في البلاد الإسلامية (عربية وأعجمية) هو سياسة خاطئة تضاد مقاصد الشريعة من كثرة التناسل والزواج والحث عليهما. والأغرب من ذلك أن تقوم بعض الدول (المسلمة) بإكراه النساء على وسائل منع الحمل دون مراعاة لأدنى نصيب من إنسانية الإنسان وكرامته.. ففي بعض البلاد العربية التي تبذل كل جهدها في نشر وسائل منع الحمل بكافة الطرق يقوم الطبيب بإدخال اللولب I.U.D إلى رحم المرأة عند قيامه بفحصها دون علمها ولا رغبتها ولا موافقتها!! وذلك تنفيذا لأوامر الدولة!! وهو أمر يجافي أبسط المبادئ الإنسانية. كما أن هذه الدول تستدين مئات الملايين من الدولارات لتنفيذ سياسة منع الحمل.. وتوجه إعلامها لنشر هذه الوسائل والدعوة إليها.. والسخرية من الحمل وكثرة النسل. وإذا علمنا أن إسرائيل تشجع سكانها على التناسل.. وبدرجة مثيرة للتقزز عندما وقف بيجن وطلب من الإسرائيليات أن ينجبن سواء كان ذلك بطريق شرعي أو غير شرعي – إذا علمنا ذلك أدركنا أن أعداء الإسلام يعملون دائبين على منع الحمل بين المسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وفي البلاد الاشتراكية (الشيوعية) تقوم الدولة بتشجيع الحمل إلا بين الفئات الإسلامية ففي الاتحاد السوفيتي مثلا انزعج المسئولون انزعاجا شديدا عندما رأوا أن المسلمين في آسيا الوسطى (جمهوريات أوزبكستان، طادجيكستان، قزقستان قرغيزيا وتركمنستان) وفي جمهورية أذربيجان وبقية مناطق القوقاز يتكاثرون بنسبة تبلغ ضعف ما عليه الروس والأوكران وهم يعملون بكافة الوسائل لنشر منع الحمل بين المسلمين وزيادة الحمل بين الروس والأوكران وبقية المجموعات غير المسلمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 وتقدم الدولة في الغرب وفي الاتحاد السوفيتي كافة المعونات للنساء الحوامل والمرضعات وتخفف الضرائب عن الأسر التي تعول أطفالا عديدين.. وكلما زاد عدد الأطفال كلما خففت الضرائب وزادت المعونة من الدولة على هيئة غذاء مجاني للأطفال.. بينما تقوم الدولة هناك بفرض ضرائب مرهقة على غير المتزوجين وعلى الأسر بغير أطفال. وأشد هذه الدول الغربية انزعاجا من قلة النسل هي الدولة الألمانية حيث انخفض أطفال الأسرة الواحدة في المعدل إلى 1.6 ومعنى ذلك ببساطة أن سكان ألمانيا (من الألمان) سينخفضون تدريجيا.. ويواجهون مشكلة الانقراض إذا استمر انخفاض التناسل على ما هو عليه. ولا شك أن ارتفاع عدد السكان في أوربا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وأوائل العشرين هو الذي مكن لهذه الدول أن تبسط سيطرتها ونفوذها على مناطق العالم، وإذا علمنا أن كثرة النسل وزيادته في بريطانيا قد أدت إلى أن يستوطن البريطانيون أستراليا ونيوزيلنده وكندا والولايات المتحدة وبالتالي يفرضوا سيطرتهم ولغتهم وثقافتهم على تلك البلاد الشاسعة. ونظرة إلى الوراء توضح لنا سكان بريطانيا.. ففي عام 1400م كان عدد سكانها لا يجاوزون مليونين فقط وفي عام 1500 بلغوا ثلاثة ملايين وفي عام 1600م بلغوا خمسة ملايين وفي عام 1700 بلغوا سبعة ملايين وفي عام 1800 بلغوا عشرة ملايين، ثم حدثت الطفرة التي جعلت بريطانيا الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين ففي عام 1847 بلغ عدد السكان 20مليونا وفي عام 1882 قفزوا إلى ثلاثين مليونا وفي أوائل القرن العشرين (1911) كانوا قد قفزوا إلى رقم 40 مليونا.. وفي عام 1951 وصلوا إلى 50 مليونا (1) وفي عام 1978 كان عدد السكان قد تجاوز 56مليونا (2) .. وإذا قارنا الجزيرة البريطانية بالجزيرة العربية من حيث المساحة والسكان فإننا سنذهل للفارق الكبير بينهما فبينما نجد سكان المملكة العربية السعودية لا يتجاوزون ثمانية ملايين بما فيهم الأجانب نجد سكان بريطانيا قد تجاوزوا 56 مليونا ... وبينما نرى مساحة المملكة العربية السعودية تبلغ 2.240.000 كيلو مترا مربعا نجد أن مساحة المملكة المتحدة (إنجلترا وويلز وأسكوتلندة وشمال أيرلندة) تبلغ 244.104 كيلو مترا مربعا..   (1) Hawkins and Elders: Human Fertility Control P466, Buttey Worths – London, 1979 (2) من كتاب "التحكم في الخصوبة الإنسانية" Hawkins, Elders: Human Fertility Control PP446, Butterworths – London, 1979 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 وتذكر دائرة المعارف البريطانية (1) أن سكان المملكة العربية حسب إحصاء عام 1974 كانوا 7.012.642 (بما فيهم الأجانب الذين قدروا بأكثر من ثلاثة ملايين) أما الكثافة السكانية فتبلغ في المملكة 3.1 لكل كيلو متر مربع (وإذا أخذنا الرقم بالنسبة للسعوديين فهو أقل من شخصين لكل كيلو متر مربع) . وبالمقارنة فإن الكثافة السكانية في المملكة المتحدة حسبما ذكرته دائرة المعارف البريطانية (2) كانت 229.3 في كل كيلو متر مربع. أما عدد المواليد في المملكة فكانوا (في الفترة 1970- 1975) 49.5 لكل ألف من السكان. أما عدد الوفيات فكانوا 20.2 لكل ألف من السكان أي أن الزيادة هي 29.3 لكل ألف نسمة من السكان. وسجل معدل الأعمار في المملكة بـ 44 عاما للذكور و46 عاما للإناث (دائرة المعارف البريطانية) (3) . وبالمقارنة فإن معدل الأعمار في المملكة المتحدة هو 70 عاما للذكور و76 عاما للإناث. أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وكندا (أمريكا الشمالية) فقد كان عدد سكانها عام 1750 م مليون نسمة فقط. وبعد قرن واحد (أي عام 1850م) بلغوا 26 مليون نسمة، وبعد قرن آخر بلغ عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية (بدون كندا) أكثر من 166 مليونا وهذا ما أعطى الولايات المتحدة الزحم السكاني وحولها من مستعمرة لبريطانيا في القرن التاسع عشر إلى أعظم دول الأرض قاطبة في القرن العشرين.. وقد ارتفع السكان ارتفاعا حثيثا في هذه الفترة ولا يزال ارتفاع معدل السكان عاليا فقد زاد السكان عام 1972 إلى 209 مليون نسمة (4) .. وفي عام 1980 بلغ عدد السكان أكثر من 230 مليونا وبالمقارنة فإن كندا التي تبلغ مساحتها 9.976.139 كيلو مترا مربعا فإن سكانها حسب إحصاء 1971 كانوا أقل من 22 مليونا (5) . وهذا ما جعل الولايات المتحدة التي تقل مساحتها عن مساحة كندا دولة عظمى بينما نرى كندا دولة من الدرجة الثالثة.   (1) الميكروبيديا المجلد 8/920 طبعة 1982 (2) الميكروبيديا المجلد 10/266 طبعة 1982 (3) المجلد 8/920 (4) الميكروبيديا المجلد 10/270 (5) الميكروبيديا المجلد 2/496 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 ويقدر عدد سكان العالم العربي عام 1976 بـ 146 مليونا (1) مليونا، بينما بلغ سكان العالم 4045 مليونا في نفس العام. وبما أن مساحة العالم العربي تشكل 1/10 من مساحة اليابسة من الكرة الأرضية فإن سكان العالم العربي ينبغي أن يكونوا أكثر من ثلاثمائة مليون نسمة.. وبما أن الموارد النفطية والمعدنية والزراعية في البلاد العربية كبيرة جدا فإن تقارير الجامعة العربية تؤكد أن البلاد العربية تستطيع أن تضاعف عدد سكانها دون أن تجد أي صعوبة في إطعامهم وإسكانهم وإيجاد العمل المناسب لهم إذا استغلت الطاقات العظيمة الموجود حاليا، وإذا نظمت الأمور تنظيما دقيقا نسبيا على التعاون والتكامل بين كافة الأقطار العربية (2) . وقد جاء في تقرير برنامج الأمن الغذائي الذي أصدرته المنظمة العربية للتنمية الزراعية بالجامعة العربية أغسطس 1980 ما يلي: 1- إن حجم الموارد الطبيعية سواء كانت الأرضية أو المائية يعد كافيا للوفاء باحتياجات الأمة العربية في المستقبل القريب والبعيد. 2- إن آفاق التنمية الزراعية واسعة وإمكانياتها متاحة بلا حدود فيمكن زيادة الموارد المائية السطحية من 139 مليار متر مكعب إلى 202 مليار متر مكعب وذلك بالتحكم فقط في فواقد الأنهار الحالية وتنفيذ مشروعات التخزين السنوي والمستمر. وكذلك نستطيع أن نضاعف مياهنا الجوفية المستغلة من 12 مليار إلى 25 مليار متر مكعب سنويا.. وعلى ذلك يمكن مضاعفة المساحة المروية سنويا إذ يمكن زيادتها من نحو 12.5 مليون هكتار إلى 21.6 مليون هكتار عام 2000 الأمر الذي يشير إلى أن هناك إمكانيات هائلة لتنمية إنتاج الغذاء خاصة إذا استغلت هذه الموارد على الوجه الصحيح. 3- إن مساحة الأرض الصالحة للزراعة في الوطن العربي تبلغ 236 مليون هكتار لا يستغل منها حاليا سوى 46 مليون هكتار. ويعتمد منها على الأمطار 80 % من هذه المساحة وينخفض التكثيف الزراعي على هذه الأراضي المطرية بحيث لا يتعدى 50 % وهو معدل ضئيل للغاية.   (1) كتاب أحوال السكان في العالم العربي للدكتور عزت النصر (2) برنامج الأمن الغذائي- جامعة الدول العربية المنظمة العربية للتنمية الزراعية. أغسطس 1980 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 ويستعرض ذلك البحث الضخم المكون من 8 مجلدات كيفية الاستفادة من الإمكانيات الزراعية الهائلة المتاحة وغير المستغلة حاليا، كما يورد إحصائيات دقيقة عن الموارد المائية الممكنة في الدول العربية من مصادرها المختلفة والتي تبلغ 238 مليار متر مكعب والذي لا يستغل منها حاليا سوى 156 مليار، وبطرق بدائية تسبب عدم الاستفادة حتى من هذه الكمية المستخدمة، كما يتحدث الباحثون بعمق عن مصادر الثروات الحيوانية وكيف يمكن مضاعفتها عدة مرات وكذلك الثروات السمكية والداوجن وغيرها. وخلاصة البحث أن البلاد العربية تستطيع أن تعتمد على نفسها في إطعام سكانها، حتى لو تضاعفوا إذا استخدمت الموارد المتاحة بطرق فنية جيدة وبتعاون وثيق بين مختلف الدول العربية. ويكفي أن تعلم أن السودان وحدها إذا استغلت إمكانياتها الزراعية والحيوانية تستطيع أن تطعم العالم العربي بأكمله، وهي تحتاج إلى أموال وإلى وفرة سكانية يمكن أن تأتيها من مصر التي تعاني من زيادة نسبية في السكان. ولهذا فقد أسمت الدوائر المطلعة السودان "سلة الخبز" للعالم العربي. إذن نخلص من هذا إلى أن سياسة منع الحمل التي تسير عليها الدول العربية والإسلامية الأخرى هي سياسة خاطئة علميا ودينيا وديموجرافيا. منع الحمل على مستوى الأفراد. إذا قررنا أن سياسة منع الحمل على مستوى الدولة سياسة خاطئة، فإننا نعتقد أن موضوع منع الحمل على المستوى الفردي يختلف تمام الاختلاف عن موضوع سياسة منع الحمل على مستوى الدولة. يقرر الإسلام أهمية الحمل والتناسل وما يكون فيهما من أجر للوالدين وخاصة الأم، ويعتبر الإسلام مشقة حملها وولادتها مثل مشقة الجهاد، ولها في ذلك مثل أجر المجاهد، ومع هذا فإن وسائل منع الحمل يمكن أن تمارس بشرط: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 1- أن لا تكون وسائل دائمة أي تؤدي إلى العقم مثل قطع الأنابيب وربطها وقطع الحبل المنوي وربطه أو استئصال الرحم ما لم يكن هناك سبب طبي قوي جدا لذلك الإجراء. 2- أن لا يعقب استخدام وسائل منع الحمل خطر وضرر على صحة المرأة التي تستخدمها، فمثلا لا ينصح باستخدام حبوب منع الحمل في الحالات التالية: 1- أمراض القلب وضغط الدم. 2- أمراض الكلى. 3- أمراض الكبد. 4- امرأة بلغت سن الخامسة والثلاثين فما فوقها. 5- البول السكري. 6- امرأة أصيبت بنوع من أنواع السرطان وخاصة سرطان الثدي وعولجت منه. 7- امرأة أصيبت بجلطة أو تخثر في الدم. 8- الأمراض النفسية مثل الكآبة والقلق والشيزوفرانيا. 9- تزداد أضرار حبوب منع الحمل مع التدخين إذ أن كلاهما يؤثر على شرايين القلب والدماغ والأطراف وكلاهما يزيد من احتمال الإصابة بالجلطات. وتعتبر الوسائل الفسيولوجية هي أسلم الوسائل لمنع الحمل وهي العزل أي القذف خارج الرحم، وتنظيم الجماع بحيث يتجنب فترة نزول البويضة، والرضاعة أما الوسائل الميكانيكية فهي قليلة الضرر مثل الرفال Condon والحواجز والقبعة وهذه الوسائل جميعها نسبة الفشل فيها عالية إذ تترواح ما بين 10 بالمائة إلى 30 بالمائة. وترتفع نسبة النجاح في استعمال اللولب ولكن محاذير اللولب كثيرة وهي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 1- أن طريقة عمل اللولب وهو منع العلوق يعتبر نوعا من الإجهاض المبكر جدا، ويحرمه الإمام مالك والظاهرية (ابن حزم) . 2- النزف المتكرر. 3- آلام شديدة عند بعض النساء في الظهر وأسفل البطن. 4- التهابات ميكروبية في الجهاز التناسلي. 5- انثقاب الرحم وهو أمر نادر الحدوث ولكنه خطير. 6- انغراز اللولب في جدار الرحم. 7- قد يطرد الرحم اللولب دون أن تشعر المرأة فتحمل. 8- تزداد نسبة الحمل خارج الرحم مع وجود اللولب. 9- حدوث الحمل وغم وجود اللولب (بنسبة 6 %) . المسوغات لتنظيم النسل: 1- الخشية على حياة الأم أو صحتها من الحمل والولادة إذا أخبر بذلك طبيب ثقة. 2- الخشية من وقوع حرج دنيوي قد يفضي إلى حرج في دينه فيرتكب المحظور من أجل الأولاد. 3- الخشية على الأولاد أن تسوء صحتهم أو تضطرب تربيتهم 4- الخشية على الرضيع من حمل جديد. وقد أورد الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين (1) النيات الباعثة على العزل وقال هي خمس: الأولى: في الإماء، لأن حمل الأمة (الجارية) يمنع التصرف فيها حيث تصبح أم ولد. الثانية: استبقاء جمال المرأة واستبقاء حياتها خوفا من خطر الطلق ... وتكرر الحمل والولادة وهذا ليس منهيا عنه. الثالثة: الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد والاحتراز من الحاجة ودخول مداخل السوء، وهذا غير منهي عنه فإن قلة الحرج معين على الدين. الرابعة: الخوف من الأولاد الإناث. الخامسة: أن تمتنع المرأة لتعززها ومبالغتها في النظافة والتحرز من الطلق والنفاس والرضاع وكان ذلك عادة الخوارج. وهاتان النيتان (الرابعة والخامسة) نيتان فاسدتان ولا يجوز العزل من أجلهما.   (1) أبو حامد محمد بن محمد الغزالي: إحياء علوم الدين مجلد 2/ كتاب النكاح ص51 – 53 طبعة دار المعرفة بيروت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 الأحاديث الواردة في العزل: 1- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: ((كنا نعزل على عهد رسول الله والقرآن ينزل)) أخرجه البخاري ومسلم وزاد مسلم: ((فبلغ ذلك رسول الله فلم ينهنا)) . 2- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بني المصطلق فسبينا كرائم العرب فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل فقلنا نفعل ذلك ورسول الله بين أظهرنا لا نسأله، فسألنا رسول الله فقال: لا عليكم ألا تفعلوا ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون)) أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه والدارمي وأحمد. 3- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: ((أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن لي جارية هي خادمتنا وساقيتنا -وفي رواية: سانيتنا وهي بمعناه - وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل فقال: اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها فلبث الرجل، ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت فقال: قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها)) رواه مسلم وابن ماجه وأحمد والدارمي. 4- عن جابر بن عبد الله قال ((قلنا يا رسول الله كنا نعزل فزعمت اليهود أنه الموءودة الصغرى. فقال: كذبت اليهود إن الله إذا أراد خلقه لم يمنعه)) وفي رواية ((إذا أراد الله خلقه لم تستطع رده)) . أخرجه الترمذي وأحمد وأبو داود. 5- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها رواه أحمد في مسنده. 6- قال رجل في مجلس عمر رضي الله عنه العزل كالوأد. فقال الإمام على وكان حاضرا المجلس: لا تكون موءدة حتى تمر عليها التارات (وفي لفظ: الأطوار) السبع: حتى تكون سلالة من طين ثم تكون نطفة ثم تكون علقة ثم تكون مضغة ثم عظاما ثم تكسى لحما ثم تكون خلقا آخر. فقال عمر رضي الله عنه: صدقت أطال الله بقاءك (ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم) . 7- الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 وقد أباح أصحاب المذاهب الأربعة العزل عن الأمة برضاها وبدون رضاها كما أباحوا العزل عن الزوجة الحرة برضاها لأن لها حقا في الولد. ولكن جاء في مذهب الأحناف: "إن خاف فساد الولد لسوء الزمان فله أن يعزل بغير رضاها، وكذلك إذا كانت الزوجة سيئة الخلق ويريد فراقها مخافة أن تحبل" (1) وأما المالكية والحنابلة فقالوا: لا يجوز له أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها لأن لها حقا في الولد (2) ، وقال ابن قدامة: ظاهر كلام أحمد وجوب الاستئذان من الزوجة ويحتمل أن يكون مستحبا لأن حقها في الوطء دون الإنزال. وأما الشافعية فأباحوا العزل عن الزوجة على قولين أحدهما "أنه يجب إذنها والقول الآخر أنه لا يجب إذنها لأن لها حقا في الوطء فقط" (3) . وأما الظاهرية فقال ابن حزم (أبو محمد) : "لا يحل العزل عن حرة ولا عن أمة" (4) . ومما تقدم يتضح أن المذاهب الأربعة على إباحة العزل على ما ذكرنا من نياته الباعثة له كما ذكرها الإمام الغزالي في الإحياء مع اشتراط موافقة الزوجة ورضاها عند أغلب الفقهاء لأن لها حقا في الولد ولحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها)) رواه أحمد. فلا مسوغ إذن لمنع هذه الرخصة والتشدد فيها كما فعل بعض العلماء المحدثين مثل الإمام أبو الأعلى المودودي في كتابه حركة تحديد النسل، والباحثة أم كلثوم يحيى مصطفى الخطيب في رسالتها التي نالت بها الماجستير من كلية الشريعة جامعة الأزهر "قضية تحديد النسل في الشريعة الإسلامية". حيث حددوها فقط بوجود سبب طبي قوي وحيث رفضوا البواعث الأخرى التي ذكرها العلماء وأقروها. الدكتور محمد علي البار   (1) حاشية ابن عابدين 2/521 (2) المنتقى شرح الموطأ للباجي 4/128 وكتاب قضية تحديد النسل لأم كلثوم يحيى مصطفى الخطيب.. والحلال والحرام في الإسلام للشيخ يوسف القرضاوي والمغني لابن قدامة (3) المجموع شرح المهذب للنووي 15/577 (4) المحلى لابن حزم 10/87 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 تنظيم النسل أو تحديده في الفقه الإسلامي إعداد الأستاذ الدكتور حسن على الشاذلي أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن نهج نهجه واتبع سبيله إلى يوم الدين. أما بعد: فإن العلي القدير، والمشرع الحكيم، له قدرة علية، وحكمة بالغة، وقدر نافد.. فبقدرته العلية خلق الأرض والسماء وما بينها، خلق الأرض وبارك فيها، وقدر فيها أقواتها، وخلق السماء، وأوحى في كل سماء أمرها، وزين السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم. وبحكمته البالغة خلق الإنسان من الأرض وجعله في الأرض خليفة، واستعمره فيها، وأمده بكل مقومات الحياة، فسخر له ما في السماوات وما في الأرض.. وعرض عليه الأمانة فحملها، وأرسل له الرسل مبشرين ومنذرين. وبقدرته وبحكمته وإرادته جعله متوالدا، متناسلا يتتابع في الوجود، ويتوالى في البقاء، فردا يرث فردا، وجيلا يرث جيلا، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ومن سنته الحكيمة وقدرته الفائقة أن جعل للتوالد بين كل الكائنات سببا، وللتناسل منهجا وطريقة، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الآيات من 47 – 49 من سورة الذاريات] وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الأية 3 من سورة الرعد] . وقال تعالى بشأن الإنسان: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [الآيتان 45-46 من سورة النجم] وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الآيات من 36- 40 من سورة القيامة] . وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الآية 54 من سورة الفرقان] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 فالخلق والتوالد والتناسل قدر نافذ، وسلطان قاهر، وتدبير محكم من عزيز حكيم قدير، عالم بما خلق، محيط بما أوجد، حكيم في شرعه، وما كل الكائنات وجودا وعدما، زيادة ونقصا- إلا خاضعة لإرادته جل شأنه، ولمشيئته العلية لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وكان من حكمته أن شرع للإنسان – من أجل تناسله وتوالده، وإرضاء غرائزه، وصيانته وحفظه.. الزواج، فكان عقدا رضائيا، وكان من بين ثماره النسل والذرية {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} . [الآية 49-50 من سورة الشورى] . واليوم وقد زخر العالم بالخلق، وماج ببني الإنسان، أحاط به ظاهرتان تستدعيان النظر والبحث: ظاهرة كثرة النسل في بلاد ضاق خيرها وقدر رزقها، وظاهرة قلة النسل في بلاد كثر خيرها ووسع رزقها، مما دفع بعض القائمين على الأمور إلى التساؤل عن حكم الشرع في تحكم الزوجين في الإنجاب، هل يجوز أو لا يجوز؟ وعن الأسباب أو البواعث التي يمكن أن تكون صالحة شرعا للقول بذلك واستجابة لهذه الرغبة، وإجابة عن هذا التساؤل، رأيت أن أبين في هذا البحث حكم الشرع في "تنظيم النسل أو تحديده" بالنسبة للأفراد، أو الجماعات والدول متوخيا في ذلك بيان رأي الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة، ومرجحا ما يرجحه الدليل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تناولته على المنهج التالي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 أولا: مقدمة عن الزواج، وحكمته، والترغيب فيه، وعن آثاره. ثانيا: آراء الفقهاء في منع الحمل بالعزل ونحوه. الرأي الأول: يباح العزل مطلقا – وأدلته. الرأي الثاني: يحرم العزل مطلقا – وأدلته. الرأي الثالث: يباح العزل برضا الزوجين – وأدلة الترجيح. حقيقة الرضا أو الإذن من الطرف الآخر. استثناءات يجوز فيها العزل دون إذن. البواعث المشروع منها وغير المشروع ورأي الإمام الغزالي في ذلك. ثالثا: خلاصة ما أرجحه من رأي في تحديد النسل أو تنظيمه في الفقه الإسلامي. والله ولي التوفيق، وهو الهادي إلى سواء السبيل. أ. د/ حسن علي الشاذلي أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن كلية الشريعة والقانون – جامعة الأزهر القاهرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 بسم الله الرحمن الرحيم حكمة مشروعية الزواج: شرع الله تعالى الزواج لحكمة عالية، ومصلحة محققة، وفوائد جمة لا يحدها لفظ، ولا يحيط بها تعبير، وإنما يدركها أولا العقلاء، وثانيا الخبراء والمتخصصون في الحفاظ على النفس البشرية، وحمايتها من غوائل الأمراض النفسية والعضوية والاجتماعية. ولقد نطق القرآن الكريم بهذه الحكم والفوائد، وأشار إليها أكثر من آية من آياته الكريمة، وكذلك نطقت بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرى في هذا الموطن الذي يكفي فيه اللفظ مكان الإشارة، والإشارة مكان العبارة، والإيجاز مكان الإطناب.. أن أبرز في هذا المقام ما يلي:- أولا: الزواج نعمة وسكن لكلا الزوجين: قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) . وقال صلى الله عليه وسلم ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) (2) . ثانيا: الزواج تعمير للكون وبقاء واستمرار لبني الإنسان: قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} (3) . وعن قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل، وقرأ قتادة، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} رواه الترمذي وابن ماجه. وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل نهيا شديدا ويقول ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)) أخرجه ابن حبان وصححه، ورواه أحمد والطبراني في الأوسط.   (1) الآية 21 من سورة الروم (2) رواه مسلم في صحيحه والنسائي وابن ماجه الترغيب ج3 ص41 (3) الآية 72 من سورة النحل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 ثالثا: الترغيب في الزواج والحث عليه: قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (1) . عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب (2) من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) رواه الجماعة. وعن أنس رضي الله عنه أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: لا أتزوج، وقال بعضهم أصلي ولا أنام، وقال بعضهم، أصوم ولا أفطر، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) متفق عليه. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) (3) .   (1) الآية رقم 32 من سورة النور (2) الشاب: يبدأ من سن البلوغ إلى الثلاثين أو اثنين وثلاثين أو الأربعين، ثم بعدها يكون كهلا. الباءة: القدرة على الوطء، وعلى مؤن النكاح ... الوجاء: المقصود أنه يضعف من الشهوة ويكسر حدتها. نيل الأوطار. ج6 ص102 (3) يراجع: العراقي ج2 ص20 بشأن سنده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 رابعا: الذرية منحة من الله تعالى ينظمها بحكمته، ويوزعها على الخلق بتدبيره: قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (1) . يقول ابن العربي قال علماؤنا: "يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا" يعني لوطا، كان له بنات ولم يكن له ابن {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} يعني إبراهيم، كان له بنون ولم يكن له بنت، وقوله {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} يعني آدم، كانت حواء تلد له في كل بطن توأمين ذكرا وأنثى، ويزوج الذكر من هذا البطن من الأنثى من البطن الآخر، حتى أحكم الله التحريم في شرع نوح صلى الله عليه وسلم وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم كان له ذكور وإناث من الأولاد – القاسم والطيب والطاهر، وعبد الله (2) وزينب وأم كلثوم ورقية وفاطمة، وكلهم من خديجة رضي الله عنها، وإبراهيم من مارية القبطية. ثم يقول: "وكذلك قسم الله الخلق من لدن آدم إلى زماننا هذا، إلى أن تقوم الساعة، على هذا التقدير المحمود بحكمته البالغة ومشيئته النافذة، ليبقى النسل، ويتمادى الخلق، وينفذ الوعد ويحق الأمر، وتعمر الدنيا، وتأخذ الجنة وجهنم كل واحدة ما يملؤها ويبقى، ففي الحديث: إن النار لن تمتلئ حتى يضع الجبار فيها قدمه (3) ، فتقول قط قط، وأما الجنة فيبقى منها فينشئ الله لها خلقا آخر"، ثم يقول: إن الله تعالى لعموم قدرته وشديد قوته يخلق الخلق ابتداء من غير شيء، وبعظيم لطفه وبالغ حكمته يخلق شيئا من شيء لا عن حاجة، فإنه قدوس عن الحاجات سلام عن الآفات، كما قال القدوس السلام، فخلق آدم من الأرض، وخلق حواء من آدم، وخلق النشء من بينهما منهما مرتبا على الوطء، كائنا عن الحمل، موجودا في الجنين بالوضع، فالخلق والذرية تكون بتقدير من العزيز العليم، يوزعها على الخلق بتدبيره وبحكمته ويخص بها من يشاء من خلقه، ليبقى النسل، ويتمادى الخلق، وينفذ الوعد ويحق الأمر وتعمر الدنيا".   (1) الآيتان 49- 50 من سورة الشورى (2) وفي المواهب اللدنية: القول الأصح أن الذكور الثلاثة: القاسم وعبد الله (ويسمى بالطيب والطاهر) وإبراهيم راجع شرح المواهب اللدنية) . (3) قال القسطلاني: "أي يذللها تذليل من يوضع تحت الرجل، والعرب تضع الأمثال بالأعضاء، ولا تريد أعيانها، كقولها للنادم: سقط في يده" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 خامسا: إرادة الزوجين وأثرها في تحديد عدد النسل: شاءت إرادة الله تعالى أن يكرم الإنسان ويفضله على كثير من خلقه فكان من إكرامه وتفضيله أن نظم له طريقة إشباع غريزته، وطريقة تكاثره وتناسله حتى يعمر الكون، ويتواصل، وتتوالي الأجيال جيلا بعد جيل، كما أوضحنا آنفا. فكان أن جعل الوسيلة إلى ذلك – هي عقد الزواج- الذي جعله عبادة، لما فيه من تحقيق هدف المشرع الحكيم كما جعله عقدا – فوضع له القواعد والضوابط الموضوعية وكذا الشكلية التي بها يتم تحقيق الهدف الذي شرع من أجله، فجعله عقدا رضائيا، يتم بإرادة الزوجين ورضاهما، وجعل العشرة بين الزوجين قوامها المودة والبر والرحمة والمعروف. وكما نظم المشرع الحكيم كل شئون هذا العقد، كذلك أحاط ثماره – وهم الأولاد – بالرعاية والحفظ والصيانة منذ اللحظة الأولى لبدء تكوين الجنين. وبين للزوجين حدود السلطة الممنوحة لهما إزاء هذا الجنين – سواء كان ذلك قبل التقاء الحيوان المني بالبييضة، أو بعد التقائهما.. وحتى خروجه من بطن أمه خلقا سويا، فتبارك الله أحسن الخالقين. وإذا كان موضوعنا الذي نتحدث عنه هنا هو "تنظيم النسل وتحديد عدده" فإننا نتناول هذا الموضوع طبقا للمنهج التالي: أولا: آراء الفقهاء في عدم الإنجاب: تناول الفقه الإسلامي بيان الحكم فيما لو أراد الزوجان أو أحدهما عدم الإنجاب رغم مواصلة المعاشرة الجنسية بينهما، وذلك من خلال بحث موضوع " العزل عن الزوجة أثناء الجماع" حيث إنه الصورة التي سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكمها والتي كانت هي المعروفة أو المشهورة في هذا الوقت لمنع الإنجاب، ويمكن أن يقاس عليها كل الوسائل التي عرفت حديثا والتي ستعرف ما دامت لا تؤدي إلى الإضرار بأي من الزوجين، ولا يؤدي إلى قتل الجنين في مرحلة من مراحله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 حكم العزل عن الزوجة في الفقه الإسلامي: اختلف الفقهاء في حكم عزل الزوج عن زوجته أثناء الجماع إلى ثلاثة آراء نوضحها فيما يلي. ثم نرجح ما يظهر لنا رجحانه لرجحان أدلته: الرأي الأول: يباح العزل مطلقا- سواء أكان عن زوجته الحرة أو الأمة أو عن سريته، ودون توقف على إذنها – وهو رأي عند الشافعية (1) ، ورأي الفقيه محمد بن يحيى الهادي (2) وأبو حامد الجاجرمي. وقد استدلوا بما يأتي: 1- ما روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) متفق عليه. ولمسلم بلفظ ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه ذلك فلم ينهنا)) فهذا يدل على إباحته، وإلا لنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم. 2- وعن جابر رضي الله عنه أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل، وأنا أطوف عليها، وأكره أن تحمل، فقال: اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها)) رواه أحمد ومسلم وأبو داود.   (1) المهذب ج2 ص66 (2) جاء في شرح الأزهار ج2 ص320 "وقال الإمام محمد بن يحيى، وأبو حامد الجاجرمي أنه يجوز العزل مطلقا، سواء رضيت الحرة أم لا"، والإمام محمد ابن يحيى هو محمد بن يحيى الهادي بن الحسين بن القاسم الرسي بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن علي بن أبي طالب ولد سنة 278هـ ثمان وسبعين ومائتين من الهجرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 3- وعن أبي سعيد قال: قالت اليهود العزل الموءودة الصغرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((كذبت يهود، إن الله عز وجل لو أراد أن يخلق شيئا لم يستطع أحد أن يصرفه)) رواه أحمد وأبو داود (1) . 4- وعن أبي سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيا من العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علينا العزبة، وأحببنا العزل، فسألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ((ما عليكم ألا تفعلوا فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة)) متفق عليه. 5- وقد جاءت الإباحة للعزل صحيحة عن جابر بن عبد الله، وابن عباس، وسعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت، وابن مسعود (المحلى ج10 ص71) . فمن هذه الأحاديث يتبين لنا ما يأتي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي سأله عن العزل عن أمته في حديث جابر ((اعزل عنها إن شئت)) فهذا يدل على إباحته العزل إذا شاء الرجل ذلك. وأيضا في حديث جابر الأول أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينه عن العزل عندما بلغه أن الصحابة كانوا يعزلون عن نسائهم، والقرآن ينزل، فلو كان محرما لحرمه الله تعالى. وأنه صلى الله عليه وسلم حينما قال اليهود: ((العزل هو الموءودة الصغرى)) قال ((كذبت يهود إن الله عز وجل لو أراد أن يخلق شيئا لم يستطع أحد أن يصرفه)) ، ومنه يتبين لنا أن العزل جائز وأنه ليس الموءودة الصغرى – أي ليس قتلا للنفس – وأن العزل لا يؤثر في إيجاد الولد أو عدم إيجاده، فإذا أراد الله وجوده وجد وإن وجد العزل، وإذا لم يرد وجوده لم يوجد وإن لم يوجد العزل.   (1) حديث أبي سعيد هذا أخرجه أيضا الترمذي والنسائي. قال الحافظ ورجاله ثقات، وقال في مجمع الزوائد رواه البزار، وفيه موسى بن وردان، وهو ثقة وقد ضعف، وبقية رجاله ثقات، وأخرج نحوه النسائي من حديث جابر، وأبي هريرة، وجزم الطحاوي بكونه منسوخا، وعكسه ابن حزم. ومثله ما أخرجه الترمذي وصححه عن جابر قال كانت لنا جوار وكنا نعزل، فقالت اليهود: إن تلك الموءودة الصغرى، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال كذبت اليهود لو أراد الله خلقه لم يستطع رده وأخرج النسائي نحوه من حديث أبي هريرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 فقد نفى الرسول صلى الله عليه وسلم تأثير العزل في وجود الولد ومنه يتبين أنه إذا لم يكن للعزل أثر في ذلك فلا تكون هناك حرمة في ذلك، فكما أن له أن يمتنع عن الوطء ابتداء كذلك يجوز له أن يعزل أثناء الوطء. وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد حينما سئل عن رغبتهم في العزل في غزوة بني المصطلق ((ما عليكم ألا تفعلوا، فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة)) ووقع في رواية البخاري وغيره بلفظ ((لا عليكم ألا تفعلوا)) قالوا ومعنى هذه العبارة ليس عليكم حرج في فعل العزل، وحينئذ تكون (لا) زائدة. وقد ناقش العلماء الاستدلال بهذا الحديث على جواز العزل وسنورد هذه المناقشة في الترجيح بين الآراء. كما نقل عن الشافعية إجازة العزل بلا إذن، وعليه الغزالي، وصححه بعض المتأخرين، وذلك لأنه لا حق للمرأة عندهم في الجماع، فضلا عن أن يحتاج في النزع قبل الإفراغ إلى إذنها. وقيل عن الشافعي: لا حق لها فيه إلا الوطأة الأولى (1) . الرأي الثاني: يرى تحريم العزل مطلقا عن الحرة أو الأمة أو السرية، بإذن أو بدون إذن (وهو رأي ابن حزم الظاهري، ورأي للهادوية – القاسم العياني – وابن حبان) . وقد استدل لهذا الرأي بما يلي: ما روي عن جذامة بنت وهب الأسدية قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس، وهو يقول: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة (2) فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم، فلا يضر أولادهم شيئا ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذلك الوأد الخفي)) وقرأ: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} رواه أحمد ومسلم.   (1) ورد ذلك في شرح النيل جـ 6 ص 476 (2) الغيلة – بكسر الغين المعجمة بعدها تحتية ساكنة، ويقال لها الغيل بفتح الغين والياء، والغيال – بكسر الغين المعجمة، والمراد بها أن يجامع امرأته وهي مرضع "وقال ابن السكيت: هي أن ترضع المرأة، وهي حامل، وذلك لما يحصل على الرضيع من الضرر بالحبل حال إرضاعه، فكان ذلك سبب همه صلى الله عليه وسلم بالنهي، ولكنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الغيلة لا تضر فارس والروم وترك النهي عنها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 فهذا الحديث قد صرح فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بأن العزل هو "الوأد الخفي" "وإذا كان وأدا، فالوأد محرم، فيكون العزل محرما، سواء كان العزل عن حرة أو أمة (1) . وقال ابن حزم إن الأحاديث الأخرى غير حديث جذامة موافق لأصل الإباحة إذ الأصل في الأشياء الإباحة – وحديثها يدل على المنع، فمن ادعى أن العزل قد أبيح بعد أن منع فعليه البيان، فحديث جذامة هو الناسخ لجميع الإباحات المتقدمة. وأما حديث أبي سعيد (2) والذي جاء فيه عقب سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل قوله ((ما عليكم ألا تفعلوا)) وفي رواية في البخاري ((لا عليكم ألا تفعلوا)) قال ابن سيرين: هذا أقرب إلى النهي. وحكى ابن عون عن الحسن أنه قال: والله والله لكان هذا زجرا. قال القرطبي: كأن هؤلاء فهموا من (لا) النهي عما سألوه عنه، فكأنه قال: لا تعزلوا، وعليكم ألا تفعلوا. ويكون قوله: وعليكم إلى آخره تأكيدا للنهي. وقد رد على هذا بأن الأصل عدم التقدير، وإنما معناه: ليس عليكم أن تتركوا (أي العزل) وهو الذي يساويه "ألا تفعلوا". وقال بعض العلماء: معنى قوله ((لا عليكم ألا تفعلوا)) أي لا حرج عليكم.. أي لا تفعلوا، ففيه نفي الحرج عن عدم فعل العزل، فأفهم (ذلك) ثبوت الحرج في فعل العزل، ولو كان المراد نفي الحرج عن فعل العزل، لقال صلى الله عليه وسلم: ((لا عليكم أن تفعلوا)) إلا أن يدعى أن (لا) زائدة، فيقال: الأصل عدم الزيادة فيكون الحديث دالا على النهي عن العزل أيضا.   (1) شرح الأزهار جـ2 ص320 "وقال القاسم العياني: لا يجوز العزل مطلقا في الحرة والأمة" (2) نيل الأوطار جـ6 ص197 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 كما استدل ببعض الآثار المروية عن بعض الصحابة، ومنها: ما روي عن عبيد الله بن عمر عن نافع أن ابن عمر كان لا يعزل، وقال لو علمت أحدا من ولدي يعزل لنكلته، قال أبو محمد: لا يجوز أن ينكل على شيء مباح عنده. ومنها ما روي عن على بن أبي طالب رضي الله عنه "أنه كان يكره العزل ". وما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال في العزل "هي الموءودة الخفية" وعنه أيضا: هي الموءودة الصغرى. وعن أبي أمامة قال "ما كنت أرى مسلما يفعله". وما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال "ضرب عمر على العزل بعض بنيه" وما روي عن سعيد بن المسيب قال "كان عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ينكران العزل" (1) . كما قالوا إن النهي عن العزل يترتب عليه أمور كلها تؤدي إلى منعه، وهي: 1- تفويت حق المرأة: لأن لها في الإنزال لذة، ولها في الولد حق، وتفويت حقها لا يصح. 2- "وأن العزل معاندة للقدر ... " وحاشا لله أن يعاند مؤمن القدر. 3- وأنه إضرار بالمرأة حيث يترتب عليه ضرر بها، والضرر مرفوع لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) لكل ذلك يكون العزل محرما شرعا. الرأي الثالث: يرى إباحة العزل إذا أذنت الزوجة، وعدم إباحته إذا لم تأذن (وهو رأي جمهور الفقهاء – الحنفية – المالكية – رأي للشافعية – الحنابلة – الزيدية – الإمامية – الإباضية) .   (1) المحلى جـ 10 ص71 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 ويمكن أن يقال: إن هذا الرأي جمع بين الأدلة، حيث حرم العزل إذا لم تأذن الزوجة فيه – وحينئذ عمل بالأحاديث الدالة على التحريم – وأباح العزل إذا أذنت الزوجة فيه وحينئذ عمل بالأحاديث الدالة على الإباحة، إلا أن هذا التفرقة في الحكم بناء على وجود الإذن وعدمه تحتاج إلى دليل. كما أنهم أيضا اتفقوا على أن هذا هو الحكم إذا كانت الزوجة حرة، وأما إذا كانت أمة فقد اختلفوا في اعتبار الإذن أو عدم اعتباره، وفي اعتبار الإذن منها، أو من سيدها، ونوضح فيما يلي الحكم فيما إذا كانت الزوجة حرة، ثم إذا كانت أمة. حكم العزل عن الزوجة الحرة: لا يجوز العزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء كما بينا – وقد استدلوا على ذلك بما يلي: 1- جميع الأحاديث التي استدل بها أصحاب الرأي الأول – التي تفيد إباحة العزل – غير أن هذا الإطلاق الوارد في هذه الأحاديث قيد بإذن الزوجة في الخبر المروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها)) رواه أحمد وابن ماجه (1) . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ((نهي عن عزل الحرة إلا بإذنها)) أخرجه عبد الرزاق والبيهقي. قال الشوكاني حكي في الفتح عن ابن عبد البر أنه قال "لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها، لأن الجماع من حقها، ولها المطالبة به وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل. قال الحافظ ووافقه في نقل هذا الإجماع ابن هبيرة. غير أن دعوى الإجماع هذه يؤثر فيها ما أوردناه آنفا من الرأيين: الأول والثاني – التحريم مطلقا، أو الإباحة مطلقا.   (1) جاء في منتقى الأخبار بشأن هذا الحديث قوله "وليس إسناده بذلك" وقال الشوكاني: وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال معروف، ويشهد له ما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (نهي عن عزل الحرة إلا بإذنها) وروى عنه ابن أبي شيبة أنه كان يعزل عن أمته، وروى البيهقي عن ابن عمر مثله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 كما استدلوا بالمعقول، وهو أن للزوجة في الولد حقا، وعليها في العزل ضرر، فلم يجز إلا بإذنها "لأن إسقاط الحق لا يكون إلا من صاحبه، وتحمل الضرر لا يكون إلا برضا المضرور في حدود ما يتحمل شرعا". وقد ردوا على أدلة المحرمين للعزل بما يلي: عمدة أدلة المحرمين للعزل هو حديث جذامة بنت وهب الأسدية والذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة للعزل ((ذلك الوأد الخفي)) وقرأ {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} . هذا الحديث يعارض الحديث الذي رواه أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حينما قالت اليهود العزل الموءودة الصغرى، قال ((كذبت يهود، إن الله عز وجل لو أراد أن يخلق شيئا لم يستطع أحد أن يصرفه)) تقدم نصه. ونظرا لهذا التعارض بين الحديثين، فقد سلك العلماء في دفع هذا التعارض عدة مسالك: مسلك النسخ، مسلك الترجيح بالقوة والضعف، مسلك الجمع بينهما، ونوضح هذه الآراء فيما يلي: أ - المسلك الأول وهو النسخ: لما كان النسخ – اصطلاحا – هو أن يرد دليل شرعي متراخيا عن دليل شرعي مقتضيا خلاف حكم الدليل الشرعي المتقدم – وعندنا الآن في العزل دليلان أحدهما حديث جذامة وهو ينص على الحرمة، وثانيهما حديث أبي سعيد، وهو يدل على الإباحة، فقد رأى بعض العلماء أن حديث جذامة منسوخ بالأحاديث الدالة على الجواز، ومنها حديث أبي سعيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 ولما كانت دعوى النسخ هذه تحتاج إلى معرفة المتقدم من الأدلة والمتأخر، أي معرفة تاريخ ورود كل من النصين، ونظرا إلى أنه لم يعرف هذا التاريخ، لذلك كانت دعوى النسخ غير واردة، وتسقط. ومنهم من جعل حديث جذامة هو المتقدم، وأنه كان على وفق ما عليه أهل الكتاب، قال الطحاوي: يحتمل أن يكون حديث جذامة على وفق ما كان عليه الأمر أولا من موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، ثم أعلمه الله تعالى بالحكم، فكذب اليهود فيما كانوا يقولونه. وقد تعقب ابن رشد وابن العربي هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحرم شيئا تبعا لليهود، ثم يصرح بتكذيبهم فيه. وأيضا يمكنني أن أقول: إن قوله (يحتمل أن يكون ... ) لا يصلح أن يكون هذا الاحتمال طريقا لجعل حديث جذامة هو المتقدم. ب - مسلك الترجيح باعتبار السند: من بين العلماء من رجح حديث جذامة بثبوته في الصحيح، وضعف حديث أبي سعيد بالاختلاف في إسناده والاضطراب. قال الحافظ: ورد – على هذا – بأنه إنما يقدح في حديث لا فيما يقوي بعضه بعضا، فإنه يعمل به، وهو هنا كذلك، والجمع ممكن. ومنهم من ضعف حديث جذامة لمعارضته ما هو أكثر منه طرقا (1) . وقد رد على هذا، فقال الحافظ: وهذا دفع للأحاديث بالتوهم، والحديث صحيح لا ريب فيه، والجمع ممكن. جـ- مسلك الجمع بين الحديثين: سلك البيهقي مسلك الجمع بين الحديثين، فحمل حديث جذامة على الكراهة التنزيهية ومثله قاله الطحاوي (2) ويقول الصنعاني "ونوزع ابن حزم في دلالة قوله صلى الله عليه وسلم ((ذلك الوأد الخفي)) على الصراحة بالتحريم للوأد المحقق الذي هو قطع حياة محققة، والعزل وإن شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فإنما هو قطع لما يؤدي إلى الحياة، والمشبه دون المشبه به، وإنما سماه وأدا لما تعلق به من قصد منع الحمل ".   (1) قال الشوكاني "وقد ضعف أيضا حديث جذامة – أعني الزيادة التي في آخره – بأنه تفرد بها سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود، ورواه مالك ويحيى عن أبي الأسود، فلم يذكراها، وبمعارضتها لجميع أحاديث الباب، (التي استدل بها على الإباحة) وقد حذف هذه الزيادة أهل السنن الأربع " (2) سبل السلام جـ3 ص168 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 وجمع ابن القيم بينهما فقال "الذي كذب فيه صلى الله عليه وسلم اليهود هو زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلا، وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد، فأكذبهم، وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لم يرد خلقه لم يكن وأدا حقيقة، وإنما سماه وأدا خفيا في حديث جذامة، لأن الرجل إنما يعزل هربا من الحمل، فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد، لكن الفرق بينهما: أن الوأد ظاهر بالمباشرة، اجتمع فيه القصد، والعزل (1) يتعلق بالقصد فقط، فلذلك وصفه بكونه خفيا، وهذا الجمع قوي. فحديث جذامة حمل على التنزيه وتكذيب اليهود لأنهم أرادوا التحريم الحقيقي، وحمل تكذيب اليهود على أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلا، كما قاله ابن القيم آنفا، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم ((كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطاعت أن تصرفه)) أي أنه تعالى إذا قدر خلق نفس فلا بد من خلقها، وأنه يسبقكم الماء فلا تقدرون على دفعه، ولا ينفعكم الحرص على ذلك، فقد يسبق الماء من غير شعور العازل لتمام ما قدره الله. وقد أخرج أحمد والبزار من حديث أنس، وصححه ابن حبان أن رجلا سأل عن العزل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((لو أن الماء يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولدا)) وله شاهدان في الكبير للطبراني عن ابن عباس وفي الأوسط له عن ابن مسعود. ومن كل هذا يترجح لنا رأي جمهور الفقهاء في أنه يباح العزل عن الزوجة الحرة إذا أذنت في ذلك، ويحرم إذا لم تأذن.   (1) ورد في الشوكاني كلمة (والفعل) ولكن المعنى لا يستقيم فلعله خطأ مطبعي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 حكم العزل عن الأمة: الأمة إما أن تكون زوجة، أو تكون سرية. فإن كانت الأمة زوجة، فهناك اتجاهان رئيسيان: • الاتجاه الأول: يشترط الإذن: وهو رأي جمهور الفقهاء، إلا أنهم اختلفوا فيمن يؤخذ إذنه، هل يؤخذ إذنها، أو إذن وليها، أو هما معا: الرأي الأول: فيرى أبو حنيفة والحنابلة أن الإذن في العزل لمولى الأمة، وقالوا في توجيه ذلك: إن العزل يخل بحق المولى، وهو حصول الولد الذي هو ملكه فيشترط رضاه. بخلاف الحرة، لأن الولد والوطء حقها. الرأي الثاني: يرى الصاحبان " أبو يوسف ومحمد من الحنفية" أنه يشترط رضاها، دون رضى وليها، لأن الوطء حقها، والعزل تنقيص له. الرأي الثالث: يرى المالكية وقريب منه الإباضية، قال المالكية: يجوز لزوجها العزل إذا أذنت وسيدها معا له بالعزل، إذا كانت ممن تحمل ويتوقع منها الحمل وإلا فالعبرة بإذنها دون السيد، وقريب منه قول الإباضية يجوز له العزل عنها بإذنها، أو بإذن وليها، وإنه إن لم يأذن سيدها لم يجز إذنها. * الاتجاه الثاني: لا يشترط إذنا: وهو رأي الشافعية وكذا الزيدية حيث قالوا: "يجوز العزل عن الزوجة الأمة، والمملوكة مطلقا، أي سواء رضيت أم كرهت وسواء رضي سيد الأمة المزوجة أم كره". وأرى رجحان رأي جمهور الفقهاء الذين يشترطون الإذن في العزل عن الأمة المزوجة، كما أرجح الرأي القائل بأن الإذن في العزل يكون من حق الأمة فقط، لأن المولى برضاه بزواجها قد رضي بكل ما يترتب على العقد من أحكام وآثار، وأصبحت العلاقة بين الزوجين علاقة خاصة يحكمها عقد الزواج، فدخوله بعد ذلك في الحياة الزوجية – في العزل وغيره – أمر لا يتفق ومقتضى عقد الزواج وبخاصة أن الوطء حقها، والعزل تنقيص له – كما قاله الصاحبان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 حكم العزل عن السرية: وأما السرية: فيرى الفقهاء (كما صرح: المالكية والشافعية والحنابلة والزيدية والإباضية) أنه يجوز لسيدها العزل عنها دون إذنها – وقد استدل الحنابلة بحديث أبي سعيد الخدري مرفوعا ((إنا نأتي النساء، ونحب إتيانهن، فما ترى في العزل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اصنعوا ما بدا لكم، فما قضى الله تعالى فهو كائن، وليس من كل الماء يكون الولد)) رواه أحمد. أقوله: تأييدا لهذا الاستدلال إن هذا الحديث كان بشأن السبايا، فقد روي عن أبي سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علينا العزبة وأحببنا العزل، فسألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما عليكم ألا تفعلوا فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة)) متفق عليه – وقد تقدم نصه وتقدم مناقشة ما يفهم من هذا النص. وقال في الفتح "يجوز العزل عن السرية بلا خلاف عندهم، إلا في وجه حكاه الروياني في المنع مطلقا، كمذهب ابن حزم، وإن كانت السرية مستولدة فالراجح الجواز فيه مطلقا، لأنها ليست راسخة في الفراش، وقيل حكمها حكم الأمة المزوجة" (1) . وأرى رجحان الرأي الثاني، لأنها باستيلادها، أصبحت لا تباع ولا تشترى ولا توهب، وتعتق بمجرد موت سيدها، لذلك كان القول بقياسها على الأمة المزوجة أولى من قياسها على الأمة السرية. كما أرجح ما رآه الحنفية من أن المكاتبة حكمها حكم الحرة، في أن يؤخذ إذنها فقط عند العزل عنها.   (1) نيل الأوطار جـ 6 ص197 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 حقيقة الإذن المطلوب: الإذن المطلوب إما قطعي بأن تأذن له في العزل عنها صراحة، أو ظني، بأن كان الزوج يغلب على ظنه أنها رضيت بذلك، لا أنها ترضى بذلك بعد وقوعه – صرح بذلك: الزيدية، وللزوجة أن تعدل عن هذا الرضا في أي وقت تشاء، فإذا عدلت عنه يحرم على الزوج أن يعزل عنها. استثناءات لا تحتاج إلى إذن: ما يستثنى من الحالات التي يجوز فيها العزل دون إذن: نص بعض فقهاء الحنفية على بعض الحالات التي لا يحتاج فيها الزوج إلى إذن زوجته بالعزل عنها: جاء في الخانية "أنه يباح العزل في زماننا لفساده" – أي فساد هذا الزمان – قال الكمال: فليعتبر عذرا مسقطا لإذنها. وعلق ابن عابدين بقوله "قال الكمال عبارته" وفي الفتاوى: إن خاف من الولد السوء في الحرة يسعه العزل بغير رضاها، لفساد الزمان، فليعتبر مثله من الأعذار مسقطا لإذنها. كما أن قوله: "فليعتبر مثله من الأعذار ... " يحتمل أنه أراد إلحاق مثل هذا العذر به، كأن يكون في سفر بعيد، أو في دار الحرب فخاف على الولد، أو كانت الزوجة سيئة الخلق، ويريد فراقها، فخاف أن تحبل. فما رآه بعض الحنفية من الأعذار مجيزا لإسقاط إذنها، ينحصر في اتجاهين: أولهما: أن يكون العذر عاما، بأن يكون الزمن زمن سوء، ويخشى من الإنجاب في مثل هذا الوسط السيئ، أو أن يكونا في دار الحرب، ويخشى من استرقاق الولد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 وثانيهما: أن يكون العذر خاصا، وذلك بأن يخشى من الحمل والولادة أثناء سفرهما سفرا بعيدا، أو كانت الزوجة سيئة الخلق ويريد فراقها فيخشى بأن تحبل ويترتب على ذلك ضياع الولد مستقبلا بعد فراقهما. وما قاله بعض علماء الحنفية هنا، لا ينطبق على الزوج وحده، بل وعلى الزوجة أيضا (1) . كما نص الحنابلة على أنه يجب على الزوج أن يعزل – عن زوجته الحرة أو الأمة – كما يجب أن يعزل عن سريته – بدار الحرب دون حاجة إلى الاستئذان – لئلا يستعبد الولد. البواعث التي يجوز من أجلها تنظيم النسل أو تحديده: تناول بعض العلماء هذه البواعث بإيجاز، وبعضهم تناولها بالتفصيل، وأورد فيما يلي ما نص عليه بإيجاز، ثم ما نص عليه بالتفصيل. الحنفية: يجوز عند فساد الزمان، وعند الخوف من الولد السوء، بأن كانت أمه سيئة الخلق – أو كان أبوه كذلك – ويريد كل منهما أو أحدهما الفراق، وكذا يجوز في السفر البعيد، وفي دار الحرب، خوفا على الولد. الحنابلة: يجب العزل في دار الحرب.   (1) فقد قال ابن عابدين في تنبيه له: "أخذ في النهر من هذا ومما قدمه الشارح عن الخانية والكمال أنه يجوز لها سد فم رحمها، كما تفعله النساء مخالفة لما بحثه في البحر من أنه ينبغي أن يكون حراما بغير إذن الزوج قياسا على عزله بغير إذنها" قلت (أي ابن عابدين) : لكن في البزازية أن له منع امرأته عن العزل - اهـ نعم، النظر إلى فساد الزمان يفيد الجواز من الجانبين، فما في البحر مبني على ما هو أصل المذهب، وما في النهر على ما قاله المشايخ والله الموفق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 الإباضية: قالوا "والعزل يكون للفرار من الولد خشية العيال، وإدخال الضرر على المرضع، واسترقاق الولد إن كانت أمة، ولإضرار المرأة بذلك. وأما الذين فصلوا فالإمام الغزالي في إحيائه جـ 2 ص47. فقد تناول آراء العلماء في حكم العزل، مرجحا إباحته، وإن ما ورد من النهي إنما هو لترك الفضيلة وليس لنهي التحريم، ولا لنهي التنزيه. وبعد أن استدل لهذا الفهم تساءل هل يكون النهي مكروها من حيث إنه دفع لوجود الولد، فلا يعدو أن يكره لأجل النية الباعثة عليه، إذ لا يبعث عليه إلا نية فاسدة فيها شيء من شوائب الشرك الخفي؟ ثم رد على هذا التساؤل مبينا البواعث على العزل وصحح أن يكون الباعث عليه (في السرراي) حفظ الملك عن الهلاك باستحقاق العتاق.. وفي الحرائر – استبقاء جمال المرأة وسمعتها لدوام التمتع بها واستبقاء حياتها.. أو الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد – وأما الخوف من الأولاد الإناث لما يعتقد في تزويجهن من المعرة، فهذه نية فاسدة، يأثم بها وكذلك إذا كانت المرأة تمتنع لتعززها ومبالغتها في النظافة والتحرز من الطلق والنفاس والرضاع ... فهي نية فاسدة.. ثم يقول فالنية والقصد هو الفاسد، دون منع الولادة وأرى أن أورد رأيه فيما يلي: رأي الإمام الغزالي: يرى الإمام الغزالي أن العزل مباح، وإن كان فيه ترك الأفضل والأولى (1) ،كما يرى أن العزل قد يحرم إذا كان الباعث عليه منهيا عنه، وقد عدد البواعث عليه مبينا ما يترتب عليها من إباحة أو حرمة، وأرى أن أورد ما أورده بنصه نظرا لأهميته ثم أتبعه بالرأي الذي يظهر لي: تناول الإمام الغزالي العزل، فقال: " ومن آداب النكاح ألا يعزل، بل لا يسرح إلا إلى محل الحرث، وهو الرحم فما من نسمة قدر الله كونها إلا وهي كائنة" هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه من حديث لأبي سعيد.   (1) وفي النهاية للطوسي "ويكره للرجل أن يعزل عن امرأته الحرة، فإن عزل لم يكن بذلك مأثوما غير أنه يكون تاركا للأفضل، اللهم إلا أن يشترط عليها في حال العقد، أو يستأذنها في حال الوطء فإنه لا بأس بالعزل عنها عند ذلك".. وفي اللمعة الدمشقية أن الأشهر الكراهة.. وقيل يحرم، وفيه دية النطفة عشرة دنانير للزوجة" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 فإن عزل، فقد اختلف العلماء في إباحته، وكراهته على أربعة مذاهب: فمن مبيح مطلقا بكل حال، ومن محرم بكل حال، ومن قائل يحل برضاها، ولا يحل دون رضاها، وكأن هذا القائل يحرم الإيذاء دون العزل، ومن قائل يباح في المملوكة دون الحرة، ثم يقول "والصحيح عندنا – أن ذلك مباح – وأما الكراهية فإنها تطلق لنهي التحريم، ولنهي التنزيه، ولترك الفضيلة، فهو – أي العزل – مكروه بالمعنى الثالث أي فيه ترك الفضيلة، كما يقال يكره للقاعد في المسجد أن يقعد فارغا لا يشتغل بذكر أو صلاة، ويكره للحاضر في مكة مقيما بها ألا يحج كل سنة، والمراد بهذه الكراهية: ترك الأولى والفضيلة فقط، وهذا ثابت لما بيناه من الفضيلة في الولد، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل ليجامع أهله فيكتب له بجماعه أجر ولد ذكر قاتل في سبيل الله فقتل (1) وإنما قال ذلك لأنه لو ولد له مثل هذا الولد لكان له أجر التسبب إليه، مع أن الله تعالى خالقه ومحييه ومقويه على الجهاد والذي إليه من التسبب قد فعله، وهو الوقاع، وذلك عند الإمناء في الرحم. وإنما قلنا لا كراهة بمعنى التحريم والتنزيه، لأن إثبات النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص، ولا نص، ولا أصل يقاس عليه، بل ههنا أصل يقاس عليه، وهو ترك النكاح أصلا، أو ترك الجماع بعد النكاح، أو ترك الإنزال بعد الإيلاج، فكل ذلك ترك للأفضل وليس بارتكاب نهي، ولا فرق، إذ الولد يتكون بوقوع النطفة في الرحم، ولها أربعة أسباب: النكاح، ثم الوقاع، ثم الصبر إلى الإنزال بعد الجماع ثم الوقوف لينصب المني في الرحم، وبعض هذه الأسباب أقرب من بعض، فالامتناع عن الرابع كالامتناع عن الثالث، وكذا الثالث عن الثاني، والثاني كالأول. وليس هذا كالإجهاض والوأد، لأن ذلك جناية على موجود حاصل، وله أيضا مراتب، وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت مضغة وعلقة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح، واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشا، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حيا.   (1) وعلق عليه العراقي بقوله "هذا الحديث لم أجد له أصلا" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 وإنما قلنا مبدأ سبب الوجود من حيث وقوع المني في الرحم، لا من حيث الخروج من الإحليل، لأن الولد لا يخلق من مني الرجل وحده، بل من الزوجين جميعا.. وكيفما كان فماء المرأة ركن في الانعقاد، فيجري الماءان مجرى الإيجاب والقبول في الوجود الحكمي في العقود، فمن أوجب ثم رجع قبل القبول لا يكون جانيا على العقد بالنقض والفسخ، ومهما اجتمع الإيجاب والقبول كان الرجوع بعده رفعا وفسخا وقطعا، وكما أن النطفة في الفضاء لا يتخلق منها الولد فكذا بعد الخروج من الإحليل ما لم يمتزج بماء المرأة أو دمها، فهذا هو القياس الجلي. ثم يتساءل الغزالي فيقول "فإن قلت يكون العزل مكروها، من حيث إنه دفع لوجود الولد فلا يبعد أن يكره لأجل النية الباعثة عليه، إذ لا يبعث عليه إلا نية فاسدة فيها شيء من شوائب الشرك الخفي. فأقول: النيات الباعثة على العزل خمس: الأولى في السراري: وهو حفظ الملك عن الهلاك باستحقاق العتاق (1) ، وقصد استبقاء الملك بترك الإعتاق، ودفع أسبابه ليس بمنهي عنه. الثانية: استبقاء جمال المرأة وسمنها لدوام التمتع واستبقاء حياتها، خوفا من خطر الطلق، وهذا أيضا ليس منهيا عنه. الثالثة: الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد، والاحتراز عن الحاجة إلى التعب في الكسب، ودخول مداخل السوء، وهذا أيضا غير منهي عنه، فإن قلة الحرج معين على الدين، نعم: الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله، حيث قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (2) ولا جرم فيه سقوط عن ذروة الكمال، وترك الأفضل، ولكن النظر إلى العواقب، وحفظ المال وادخاره مع كونه مناقضا للتوكل، لا نقول إنه منهي عنه. الرابعة: الخوف من الأولاد الإناث لما يعتقد في تزويجهن من المعرة، كما كانت من عادة العرب في قتلهم الإناث، فهذه نية فاسدة، لو ترك بسببها أصل النكاح، أو أصل الوقاع أثم بها، لا بترك النكاح والوطء (3) فكذا في العزل والفساد في اعتقاد المعرة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد، وينزل منزلة امرأة تركت النكاح استنكافا من أن يعلوها رجل، فكانت تتشبه بالرجال، ولا ترجع الكراهة إلى عين ترك النكاح.   (1) لأن السرية إذا ولدت من سيدها صارت أم ولد، فلا تباع ولا تشترى، وتصبح حرة بعد موته. (2) الآية 6 من سورة هود (3) لعله أراد ترك النكاح والوطء بعد الزواج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 الخامسة: أن تمتنع المرأة لتعززها ومبالغتها في النظافة، والتحرز من الطلق والنفاس والرضاع، وكان ذلك عادة نساء الخوارج لمبالغتهن في استعمال المياه، حتى كن يقضين صلوات أيام الحيض، ولا يدخلن الخلاء إلا عراة، فهذه بدعة تخالف السنة، فهي نية فاسدة، واستأذنت واحدة منهن على عائشة رضي الله عنه لما قدمت البصرة فلم تأذن لها – فيكون القصد هو الفاسد منع الولادة. ثم رد اعتراضات واردة على ما قرره فقال: قان قلت: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ((من ترك النكاح مخافة العيال فليس منا، ثلاثا)) (1) . قلت: فالعزل كترك النكاح، وقوله ((ليس منا)) أي ليس موافقا لنا على سنتنا وطريقتنا، وسنتنا فعل الأفضل (2) . فإن قلت: فقد قال صلى الله عليه وسلم في العزل: ((ذاك الوأد الخفي)) وقرأ ((وإذا الموءودة سئلت)) وهذا في الصحيح.   (1) قال بشأنه العراقي جـ2 ص20: رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي سعيد بسند ضعيف والدارمي في مسنده، والبغوي في معجمه، وأبو داود في المراسيل من حديث أبي نجيح (من قدر أن ينكح فلم ينكح فليس منا) وأبو نجيح اختلف في صحته (2) هذا أحد التفسيرات (ليس منا) فلغيره أن يفسره بالتحريم أو الكراهة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 قلنا: وفي الصحيح أخبار صحيحة في الإباحة (أي إباحة العزل) وقوله ((الوأد الخفي)) كقوله ((الشرك الخفي)) وذلك يوجب كراهة لا تحريما. فإن قلت: فقد قال ابن عباس "العزل هو الوأد الأصغر" فإن الممنوع وجوده به هو الموءودة الصغرى. قلنا: هذا قياس منه لدفع الوجود على قطعه (1) ، وهو قياس ضعيف، ولذلك أنكره عليه علي رضي الله عنه لما سمعه، وقال: لا تكون موءودة إلا بعد سبع، أي بعد سبعة أطوار، وتلا الآية الواردة في أطوار الخلقة، وهي قوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 12، 13] . إلى قوله {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ} أي نفخنا فيه الروح ثم تلا قوله تعالى في الآية {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8] . وإذا نظرت إلى ما قدمناه في طريق القياس والاعتبار ظهر لك تفاوت منصب علي وابن عباس رضي الله عنهما في الغوص على المعاني ودرك العلوم، فكيف وفي المتفق عليه في الصحيحين عن جابر أنه قال: ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) وفي لفظ ((كنا نعزل فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا)) وفيه أيضا عن جابر أنه قال: إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وساقيتنا في النخل، وأنا أطوف عليها، وأكره أن تحمل. فقال عليه الصلاة والسلام: ((اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها)) فلبث الرجل ما شاء الله، ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حملت، فقال: ((قد قلت سيأتيها ما قدر لها)) كل ذلك في الصحيحين (2) اهـ الغزالي.   (1) أي قاس العزل – الذي يترتب عليه دفع وجود الولد – على الوأد، الذي يترتب عليه قطع الوجود (2) هو في مسلم فقط – العراقي جـ2 ص49 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 نتائج البحث حول بيان رأي الفقه الإسلامي في تحديد النسل أو تنظيمه من الدراسة الفقهية المتقدمة نستطيع أن نستخلص في موضوع بحثنا النتائج التالية: أولا: وسائل منع الحمل التي يترتب عليها منع التقاء الحيوان المنوي بالبييضة – سواء كانت في صورة العزل، وهي الصورة المنصوص عليها، أو في صورة سد الرحم بما يمنع وصول المني إلى البييضة – كما صرح بعض الفقهاء، أو في أي صورة شبيهة بذلك – يرى جمهور الفقهاء صحة استخدامها إذا كان ذلك باتفاق الزوجين، وكان الباعث عليه مشروعا. أما إذا كانت الوسيلة لمنع الحمل يبدأ عملها بعد التقاء الحيوان المنوي بالبييضة فإن ذلك لا يجوز شرعا (1) . ثانيا: أن منع الحمل، أو تنظيم فتراته هو حق شخصي للزوجين معا، فهما اللذان يقررانه، وهما اللذان يتحكمان فيه، طبقا لما تقتضيه مصلحتهما، ما دامت هذه المصلحة أمرا يقره الشرع ويرضى عنه. ومن هنا لا يجوز للدولة أن تتخذ من القرارات في هذا الشأن ما يلزم الأفراد بالامتناع عن الإنجاب، أو تحديده بعدد معين، أو تكثيره، ولكن يمكن للدولة أن تنصح بالإنجاب، أو بتنظيمه، وبيان فوائد كلا الأمرين، في الحدود التي تراها تحقق مصلحة عامة للدولة جميعها.   (1) يراجع بحثنا في "حق الجنين في الحياة" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 فهناك بعض الدول تحتاج إلى زيادة الإنجاب وتكثير النسل، نظرا لكثرة خيراتها، ووفرة مواردها، وقلة عددها، وحاجتها إلى زيادة القوة البشرية لكي تستوعب كل هذه الخيرات، وتنميها، وتحافظ عليها. وهناك بعض الدول على العكس من ذلك تحتاج إلى الحد من زيادة الإنجاب، وتنظيمه أو تحديده، نظرا لكثرة عددها وقلة مواردها، وما يحيط بها من ظروف لا تستطيع بها توفير متظلبات شعبها. لكل ذلك أقول: إن للدولة – بأجهزتها العلمية والإعلامية، ومراكز التعليم والتثقيف فيها أن تبصر الناس بعواقب كثرة النسل – إذا كانت الدولة ليست في حاجة إلى هذه الكثرة - وبعواقب قلة النسل – إذا كانت الدولة بحاجة إلى كثرته. وإذا بصرت الناس بذلك عن طريق هذه الوسائل، فإنه يصبح لكل شخص وكل فرد من أفراد الأمة أن يوازن أموره طبقا لما يحيط به من ظروف اجتماعية ومادية – حاضرة أو مستقبله، وعلى ضوئها يقرر مع زوجه ويختار المسلك الذي يحقق له مصلحته – في حدود شرع الله تعالى. وإنما قلت إن حق الإنجاب، أو منعه، أو تكثيره هو حق خاص بالزوجين في الشريعة الإسلامية، وذلك لأن الزواج – وهو عقد يتم برضا الطرفين – حق خاص بكل واحد منهما، إذ كل واحد منهما، إذ كل واحد منهما له الحق في أن يتزوج، وله الحق في ألا يتزوج، وله الحق في أن يطأ، وله الحق في ألا يطأ ومن ثم فله الحق في أن ينجب، وله الحق في ألا ينجب، إلا أنه في هذه الحالة الأخيرة بعد تمام الزواج يصبح هذا الحق لهما سويا؛ لأنه بعقد الزواج أصبح الوطء والإنجاب حقا من حقوق العقد، وأثرا من آثاره، فلا يستأثر به واحد منهما دون الآخر، ولا يتحكم فيه غيرهما، بل هو لهما فقط، كما كان الزواج علاقة خاصة بهما فقط، فكذلك هذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 ثالثا: الباعث على تحديد النسل أو تنظيمه أو منعه: يمكن أن أتناول فيما يلي جملة من البواعث على منع الحمل، أو تنظيمه أو تحديده، وأبين فيما يلي موقف الفقه الإسلامي في كل واحد منهما، صحة وفسادا وأثر ذلك على إباحة المنع أو عدم إباحته: الباعث الأول: الخوف على حياة الأم، أو تدهور صحتها. إذا كان الباعث على استخدام ما يمنع الحمل هو الخوف على حياة الأم، أو تدهور صحتها، بأن كانت مريضة بمرض يؤثر الحمل في زيادته أو تأخير البرء منه فإنه في هذه الحالات يكون الباعث مشروعا، وذلك لأنه يؤدي إلى الحفاظ على حياة الأم، وحفظ الحياة أمر واجب شرعا على الإنسان أن يراعيه سواء بالنسبة لنفسه أو بالنسبة لغيره، زوجا كان الغير أو لم يكن زوجا. قال تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} الآية 29 من سورة النساء. وقال جل شأنه {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} الآية 195 من سورة البقرة. وكل ما يتطلبه هذا الأمر أن يكون هذا الخوف له أسبابه المقنعة والمعقولة والتي يقررها أهل الاختصاص والخبرة – إذ أنه ليس كل خوف يعتد به – فمن الناس من يكون الخوف عنده مرضا يحتاج إلى علاج. الباعث الثاني: الخوف على مستقبل الحمل بعد ولادته: لقد أورد الفقهاء حالات متعددة حول إباحة العزل عند الخوف على مستقبل هذا الطفل بعد ولادته دون إذن من الزوج الآخر. والخوف على مستقبله يتمثل فيما أحاط بالوالدين، وبما يتوقع أن يحيط بالطفل من ظروف بيئية أو اجتماعية بعد ولادته أثناء قيام هذه الظروف. فمن الظروف البيئية والتي تتمثل في إقامتها خارج الوطن: أن يكون الزوجان في دار الحرب، ومن المعلوم لنا أن الحرب وما يكتنفها من مخاطر وما يحيط بها من مفاجآت وأحداث، قد تؤدي إلى قتل الوالدين، ثم ضياع الولد في هذه الدار وإن لم يقتلا أو أحدهما، فقد يتعرض الطفل للرق – إن كان هناك رق – أو لاختطافه وتسخيره فيما يراد تسخيره فيه، أو لعدم رعايته الرعاية المطلوبة والحفاظ على حياته. وكل ذلك خطر جسيم وضرر عظيم يخشى منه على مستقبل الطفل إذا وجد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 لكل ذلك أرجح رأي الحنابلة الذين يوجبون العزل في هذه الحالة خوفا على مستقبل هذا الجنين. ويقرب من ذلك في التعرض للمخاطر أن يكون الزوجان في سفر بعيد وفي مكان يخشيان فيه من أن حدوث الحمل أثناء السفر، ثم الولادة، لا يجدان فيه الرعاية المطلوبة للأم، ولا الإمكانات التي لا بد منها لها مما يضعهما في حرج بالغ وضيق شديد، لما يحيط بالأم في أثناء الحمل وأثناء الولادة من ظروف خاصة يعتبر هذا عذرا يبيح للزوج العزل عن زوجته، ولها أيضا ذلك، كما صرح الحنفية. وأما الظروف الاجتماعية، فقد تكون هذه الظروف عامة أو تكون خاصة: فإن كانت عامة، بأن كان الزمن زمن سوء، تفشت فيه الموبقات، وانتشرت فيه الدعارة، ووئدت فيه القيم، وأصبح الأبوان في ظله يعجزان عن إمكان تربيته التربية السوية الطيبة التي كلفهما المشرع الحكيم بها، ولا يستطيعان – حسب تقديرهما وإحاطتهما بجميع ما يجري حولهما – النجاة به من الانغماس في هذا الشر المستطير – إذا أنجباه – فإن ذلك يكون عذرا مقبولا شرعا يبيح العزل دون إذن من الزوج الآخر، كما صرح به علماء الحنفية. أو تكون الظروف خاصة بأحد الزوجين، كأن كانت الزوجة أو الزوج سيئة الخلق، أو سيئ الخلق، ويخشى إن هو أو هي أنجب منها، أو أنجبت منه، أن يكون مآل هذا الطفل – إذا حملت به – أن يكون سيئ الخلق مثله أو مثلها، فإنه في هذه الحالة أيضا يكون هذا السبب عذرا مبيحا للزوج أو للزوجة أن يعزل عن زوجته، أو تعزل عنه بوضع ما يسد فم الرحم، كما صرح علماء الحنفية أيضا. ومن الظروف الخاصة أيضا أنه إذا كان الزوج قد اعتزم فراق زوجته لعدم حدوث الائتدام والعشرة الطيبة بينهما وتفاقم ذلك بحيث لم يجد مفرا من الفراق، فإنه في هذه الحالة يمكن أن يعتبر ذلك عذرا يبيح له العزل عنها دون إذنها خوفا على مستقبل هذا الطفل – إذا وجد – من الضياع بين والدين مفترقين، كل منهما يعيش حياته الخاصة بعيدا عن الآخر، ولا يرعاه الرعاية المطلوبة شرعا – كما صرح بعض فقهاء الحنفية. الباعث الثالث: الخوف على الطفل الرضيع من حدوث الحمل: إذا كانت المرأة لها طفل رضيع، ترضعه من لبنها، وتعوله وترعاه، وتخشى أن يتأثر لبنها بالحمل، وتتأثر رعايتها لهذا الرضيع من مضاعفات الحمل وظروفه التي تختلف من امرأة إلى أخرى قوة وضعفا.. فأرادت منع الحمل حينئذ. ففي هذا الحالة أيضا يكون الباعث على منع الحمل أثناء هذه الفترة مشروعا، لأنه يكون الهدف منه حماية نفس الرضيع واستمرار رعايته وتتبعه بما يقويه ويساعده على النمو، والوصول إلى درجة الاستغناء عن الرضاعة التي هي عماد الحياة الأولى للطفل، والتي أثبت الطب أنها الغذاء الذي لا يعادله غذاء للطفل، وأي غذاء غيره فيه من المخاطر ما فيه. لكل ذلك، ولنفس الأدلة التي سقناها في الباعث الأول يكون للزوجين الحق في منع الحمل أثناء هذه الفترة، ولا يكون عليهما إثم في ذلك. الباعث الرابع: الخوف من كثرة النسل وتعاقبه: إن التناسل أمر مرغوب فيه شرعا، به يعمر الكون، وهدف مشروع من بين الأهداف التي شرع من أجلها الزواج، به يبقى النسل ويتمادى ويتتابع الخلق كما شاءت إرادة الله تعالى. وأيضا فإن كلا من الأبوين عليهما رعاية نسلهما، وحمايته، والتكفل بجميع متطلباته سواء من الناحية الصحية أو المادية أو الرعوية أو الاجتماعية، أو غير ذلك من الجوانب التي تتطلبها رعاية الأبناء حتى يشبوا قادرين على تحمل التكاليف، وتحمل متطلبات الحياة. وهذه الرعاية أمر مقرر شرعا، سواء من حيث كونها أمانة يتحملها الزوجان نحو أطفالهما، وهذه الأمانة أمرنا بأدائها إلى أهلها، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [الآية 58 من سورة النساء] . وقال تعالى في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [الآية 8 من سورة المؤمنون] . أو من حيث كونها مسئولية وتبعة تحملها الزوجان طائعين، ويسألان عنها يوم الدين حفظاها أو ضيعاها، والأحاديث في ذلك كثيرة منها: ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)) رواه أبو داود والنسائي والحاكم إلا أنه قال: ((من يعول)) وقال صحيح الإسناد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 وروي عن الحسن رضي الله عنه عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)) رواه ابن حبان في صحيحه. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بعلها وولده، وهي مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيده، وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ لمسلم. فإذا كان الإنسان مسئولا عن رعاية كل ذلك، ومنها رعاية ولده، فإن هذه المسئولية تشتمل على أمور متعددة: تشتمل على التربية السوية، والرعاية الحقة، حتى يصلحوا ويكونوا عناصر إيمانية قوية في أمة الإسلام. وتشتمل على الرعاية المادية، حتى يوفر لهم – بإذن الله تعالى وتوفيقه – ما يحتاجون إليه من قوت، ومن ملبس ومشرب، ومن تعليم وتثقيف، ومن رعاية صحية واجتماعية، كل ذلك وغيره داخل في هذه المسئولية التي يسأل عنها الأب والأم كل فيما يخصه حسب منهج الشرع وأسلوبه الذي حدده. فإذا رأى الزوجان أن تتابع النسل وتكاثره لا يمكنهما من توفير الرعاية المطلوبة والتربية الحقة التي أرادها الله وشرعها للمسلمين، حتى يكونوا أقوياء، قال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضيعف ... )) رواه مسلم في صحيحه – فإنه في هذه الحالة يكون الهدف مشروعا، حيث أن المشرع الحكيم سائلنا عمن ضيعناه وأهملنا تربيته ورعايته، فإذا علم الأبوان أو ترجح لديهما أنهما لا يتمكنان من ذلك جاز لهما تنظيم الحمل وتحديده، بالوسائل المشروعة التي لا تضر بصلاحيتهما للإنجاب في الوقت الذي يرغبان فيه في المستقبل، وفي الحدود التي يغلب على ظنهما أنهما يستطيعان القيام بهذه المسئولية إزاء من ينجبانه. وقد سبق أن بينا أنها مسئولية شخصية للأبوين دون غيرهما، وأنها تتم برضاهما معا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 هذا ويجب أن أوضح أن الفقر في ذاته لا يصلح عذرا للمنع ولا يصلح باعثا على ذلك المنع، فإن الرزق لكل كائن مقرر ومكتوب. قال تعالى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [الآية 6 من سورة هود] . وقال تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} الآية 31 من سورة الإسراء، وتراجع الآية 151 من سورة الأنعام. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)) رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود. فالرزق مكتوب عند الله تعالى ومقدر ومقرر، والعلم به كما وكيفا لا يحيط به إلا الله تعالى، ولكن الذي نعلمه ونؤمن به أن لكل إنسان – أو كل دابة – رزقا محددا وعد الله به وهو لا يخلف الميعاد. ومن هنا كان الباعث المشروع هو الذي يدور حول تمكن الأبوين من الرعاية المطلوبة شرعا – على الوجه الذي بيناه – أو عدم تمكنهما، فإذا ترجح لديهما أنهما لن يستطيعا ذلك كان لهما الحق في منع الإنجاب خلال هذه الفترة. قال الله تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الآية 286 من سورة البقرة] وإذا لم يترجح كان لهما ألا يمنعا ذلك. وما قاله الإمام الغزالي من أن الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد والاحتراز عن الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء، وهذا أيضا غير منهي عنه، فإن قلة الحرج معين على الدين، نعم الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله ... "تقدم نص كلامه آنفا" نقول بشأنه ما يلي: أ - إنه يسلم بأن النظر في ذلك فيه سقوط عن ذروة الكمال، وترك الأفضل، وإذا كان الأمر على هذا المنوال، فإن المؤمن سباق إلى الكمال، عامل دائما إلى ما هو الأفضل. ب - قوله: "لكن النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره. مع كونه مناقضا للتوكل لا نقول إنه منهي عنه". نقول له: إن الأمر مختلف، إذ النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره مأمور به شرعا وليس منهيا عنه بصريح الآيات والأحاديث. قال تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [الآية 77 من سورة القصص] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الآية 29 من سورة الإسراء] – ففيها نهي عن التبذير وضياع المال، والنهي عن الشيء أمر بضده. وهو حفظ المال وادخاره. وقال تعالى {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [سورة الإسراء 26، 27] . وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الهدي الصالح والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة)) (أخرجه الطبراني عن جندب بن أبي سفيان البجلي) . وعن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)) رواه مسلم. فابتغاء المال وطلبه للدنيا والآخرة، والإنفاق منه بقدر، دون إسراف أو تبذير، هو أمر واجب على المسلم، وضده منهي عنه، وإذا كان ذلك كذلك فيجب حينئذ الامتثال لما أمر به، والانتهاء عما نهي عنه. أما أن يكون الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد، باعثا مشروعا لعدم الإنجاب، فإن هذا لا يصلح أن يكون مناطا لهذا الحكم ولا باعثا عليه، لأن الله قد تكفل برزق كل مولود، والدخول في هذا المجال دخول فيما لا قبل للإنسان باستكشاف حقيقته، فكم من مولود كان أسعد حظا من والده، وكم من مولود تدفق الرزق على والديه بسببه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 الباعث الخامس: العمل على استبقاء جمال المرأة لدوام التمتع بها: لا شك أن الحفاظ على الزوجة وما وهبها الله من جمال، أمر مرغوب فيه شرعا، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيرا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله)) رواه ابن ماجه، عن أبي أمامة. وإذا كان أمرا مرغوبا فيه، فإن الحفاظ عليه أمر مشروع، لكن هل يصح أن يكون هذا الباعث معطلا للإنجاب نهائيا؟ لا: لا يصح أن يكون كذلك، لأنه إذا كان هذا مرغوبا، فأيضا الإنجاب مرغوب فيه، بل إن الرغبة في الإنجاب – ما دام ممكنا – تفوق الرغبة في حفظ جمالها، لأن لحفظ جمالها غاية خاصة بها أو به، وللإنجاب غاية عامة, وغاية خاصة، فأما عمومها فمن ناحية تعمير الكون وتتابع بني الإنسان تحملا للأمانة، وابتغاء لرضى الله تعالى، وأما خصوصها فمن ناحية وجود العقب وإرضاء غريزة الأبوة والأمومة، وتحصيل متعة امتداد الذكر وبقاء الاسم. لكل ذلك أقول إن منع الإنجاب إذا كان الباعث عليه استبقاء جمال المرأة وعدم تشوه منظرها، إن كان ذلك مانعا من الإنجاب نهائيا كان باعثا غير مرضي عنه شرعا، وإن كان هذا المنع موقوتا، أو لفترة محدودة، أو بعد وجود بعض من الذرية، كان باعثا لا ينهى عنه الشرع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 الباعث السادس: الخوف من إنجاب البنات خوفا من العار: لقد كان من العادات السيئة في الجاهلية كراهة إنجاب البنات، ووأدهن قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الآيات 57- 60 من سورة النحل] . قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [8، 9 من سورة التكوير] . ولكن الإسلام حرم ذلك، ومنع أن يكون النظر للبنت بهذه الكيفية، وجعلها صنو الولد، وجعل تربيتها وإحسان تثقيفها، وتعليمها موجبا لدخول الجنة. قال تعالى {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} الآيتان [49، 50] من شورى الشورى، وأوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالنساء فقال ((استوصوا بالنساء خيرا)) الحديث. وروي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من كن له ثلاث بنات يؤويهن، ويرحمهن، ويكلفهن، وجبت له الجنة البتة قيل. يا رسول الله فإن كانتا اثنتين؟ قال: وإن كانتا اثنتين قال: فرأى بعض القوم أن لو قال واحدة لقال واحدة)) رواه أحمد بإسناد جيد والبزار والطبراني في الأوسط. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من كن له ثلاث بنات، فصبر على لأوائهن (1) وضرائهن، (2) وسرائهن، أدخله الله الجنة برحمته إياهن فقال رجل: واثنتان يا رسول الله؟ قال واثنتان قال رجل: يا رسول الله: وواحدة؟ قال وواحدة)) رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد. الباعث السابع: تأفف المرأة وتضجرها من الوطء، ومبالغتها في النظافة وتحرزها من الطلق والنفاس والرضاع. لقد أوجد الله الإنسان لحكمة، وخلقه على نهج قويم، وجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، وخص كلا منهما بخصائص تناسب تكوينه، واستعداداته الفطرية وجعل لكل منهما مهام تناسب هذه الخصائص، وكلفه بتكاليف تتفق وما منحه وأعطاه وجعلت الشريعة الإسلامية خروج أي منهما عن خصائصه ونزوعه إلى الجنس الآخر أمرا معاقبا عليه شرعا، فلعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء. فإذا كانت المرأة تمتنع عن الحمل تأففا وتضجرا وتحرزا من الطلق والنفاس والرضاع فهو تأفف فاسد، وقصد غير مستقيم، يتنافى مع طبيعة ما خلقت له من ناحية، وما تحملته بمقتضى عقد الزواج من ناحية أخرى، وما خطه الشرع ورسمه لمسيرتها من ناحية ثالثة. لذلك كله نقول إن هذا القصد قصد فاسد. هذا ما أردت معالجته وإبرازه في هذا البحث "تنظيم النسل أو تحديده" راجيا الله تعالى أن يجنبنا الزلل والخطأ. {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . أ. د حسن علي الشاذلي   (1) مشقاتهن، وفي النهاية اللأواء الشدة، وضيق المعيشة (2) أحزانهن وأتراحهن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 تنظيم النسل ورأي الدين فيه إعداد الدكتور/ محمد سيد طنطاوي مفتي الديار المصرية بسم الله الرحمن الرحيم مسألة تنظيم الأسرة من المسائل التي اهتم بها كثير من الدول والهيئات وكتبت فيها عشرات البحوث والمقالات والكتب قديما وحديثا: وقبل أن نبدأ في الحديث عن هذه المسألة من الناحية الدينية نحب أن نتفق على الحقائق التالية لأن تحرير موضع النزاع يعين على حسن الاقتناع وهذه الحقائق هي: 1- أن الأديان السماوية أنزلها الله تعالى لسعادة البشر ولهدايتهم إلى الصراط المستقيم ولغرس المعاني الفاضلة في نفوسهم. وأن الكتب التي أنزلها – سبحانه – على أنبيائه، قد قررت هذه الحقيقة، ومن ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: الآيات 2-4] . وقوله سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سورة إبراهيم:الآية 1] . 2- أن الكلام في الأمور الدينية بصفة خاصة، وفي غيرها بصفة عامة يجب أن يكون مبنيا على العلم الصحيح، والفهم السليم، والدراية الواسعة الواعية لأصول الدين وفروعه ولمقاصده وأهدافه وأحكامه. وأن يكون ذلك لحمته وسداه: الأمانة والصدق وخدمة الحق والعدل والتنزه عن الأحقاد والأطماع والبعد عن المآرب والأهواء والترفع عن النفاق وكتمان الحق، وقال – تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] . وقال سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] . وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا – أي في أنفسهم – وأضلوا- أي: غيرهم. 3- أن الخلاف في الأمور التي تقبل الاجتهاد لا غبار عليه ولا ضرر منه ما دام القصد الوصول إلى الحق، وإلى ما تتحقق معه المصالح النافعة للأفراد والجماعات وما دام أيضا هذا الخلاف مصحوبا بالنية الحسنة وبالكلمة الطيبة وبالمناقشة الرصينة التي يزينها الأدب ومكارم الأخلاق. ولقد سما النبي صلى الله عليه وسلم – بهذا الاجتهاد، فبشر أصحابه بأنهم مأجورون سواء أصابوا أم أخطأوا، فقال في حديثه الصحيح: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد)) . ومن شأن الأمم السعيدة الرشيدة أنه يكثر بين أفرادها التعاون على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان أما الأمم الشقية الجاهلة، فهي التي يشيع بين أفرادها سوء الظن والتراشق بالتهم الباطلة، والتنازع الذي مبعثه الأهواء والأحقاد. 4- أن الأولاد هم ثمرة القلب وإحدى زينتي الحياة الدنيا وقد تمنى الذرية جميع الناس حتى الأنبياء فهذا سيدنا إبراهيم يدعو الله فيقول {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100] ولكن الأولاد في الوقت نفسه أمانة في أيدي آبائهم، ويجب على الآباء أن يرعوا هذه الأمانة حق رعايتها، بأن يحسنوا تربيتهم دينيا وجسميا وعلميا وخلقيا، وبأن يقدموا لهم ما هم في حاجة إليه من عناية مادية ومعنوية ... قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [سورة التحريم: 6] . وقال سبحانه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] . وفي الحديث الصحيح: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 5 – أن هذا الكون قد أقامه الله تعالى – على نظام دقيق، بديع محكم، فكل شيء فيه يسير وفق تدبير متقن وتنظيم بديع، فالشمس تشرق وتغرب في وقت معلوم، ومثلها القمر والليل والنهار، كما قال سبحانه: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . (يس: 40) . وكما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49) . وكما قال عز وجل: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} (الملك: 3) . وإذًا فالإنسان العاقل هو الذي يتخذ النظام شعارًا له في سائر تصرفاته لأنه يوفر المجهود ويضاعف الثمرة، وما وجد النظام في شيء إلا زانه، وما فقد من شيء إلا شانه وصدق الله إذ يقول: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر: 21) . 6 – إننا نعيش في عصر لا تتنافس فيه الأمم بكثرة أفرادها، ولا باتساع أراضيها وإنما نحن نعيش في عصر تتنافس فيه الأمم بالاختراع والابتكار ووفرة الإنتاج والتقدم العلمي بشتى صوره وألوانه، هذا التقدم الذي يجعل احتياج الغير إليك أكثر من احتياجك إليه. ونحن نشاهد أممًا أقل عددًا من غيرها ولكنها أقوى وأغنى من ذلك الغير والأمثلة على ذلك يعرفها عامة الناس، فضلًا عن علمائهم. 7 – أن من مزايا الشريعة الإسلامية أن الأمور التي لا تختلف المصلحة فيها باختلاف الأوقات والبيئات والاعتبارات تنص على الحكم فيها نصًا قاطعًا لا مجال معه للاجتهاد والنظر، كتحليل البيع وتحريم الربا، أما الأمور التي تخضع فيها المصلحة للظروف والأحوال فإن شريعة الإسلام تكل الحكم فيها إلى أرباب النظر والاجتهاد والخبرة في إطار قواعدها العامة، ومن هذه الأمور مسألة تنظيم الأسرة أو النسل، فإنها من المسائل التي تختلف فيها الأحكام باختلاف ظروف كل أسرة وكل دولة، وباختلاف إمكانياتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 فمثلًا هناك دول هي في حاجة إلى الكثرة البشرية لأن وسائل الإنتاج والرقي فيها تحتاج إلى هذه الكثرة القوية المنتجة الرشيدة، وأمثال هذه الدول يقال لها: مرحبًا بهذه الكثرة القوية المؤمنة العاقلة، وهناك دول لا تحتاج إلى الكثرة في عدد أفرادها لأن هذه الكثرة موجودة فيها ولأن إمكانياتها لا تتحملها، ولأن السواد الأعظم من أفرادها يعيش على جهود القلة فيها، ولأنها مع كثرتها تستورد من غيرها معظم ضروريات حياتها، وأمثال هذه الدول يكون تنظيم الأسرة فيها أمرًا مرغوبًا فيه ومطلوبًا منها مع غيره من الوسائل الأخرى التي تؤدي إلى تقدمها، كمضاعفة الإنتاج، ومواصلة تطوير الزراعة والصناعة وغيرهما، وحرص أفرادها على أداء واجباتهم بأمانة ونشاط وقوة. إننا مرة أخرى نقول: إن الكثرة الصالحة المنتجة القوية مرحبًا بها، أما الكثرة الهزيلة الضعيفة الشاردة عن الطريق القويم، المعتمدة في كثير من ضروريات حياتها على غيرها فالقلة خير منها. بعد هذه الحقائق التي أرجو أن تكون محل اتفاق نحب أن ندخل إلى موضوع تنظيم الأسرة أو النسل بأسلوب السؤال والجواب فنقول: أولًا: ما معنى تنظيم الأسرة؟ وهل هناك فرق بينه وبين التحديد والتعقيم والإجهاض؟ والجواب ببساطة: تنظيم الأسرة معناه أن يتخذ الزوجان باختيارهما واقتناعهما الوسائل التي يريانها كفيلة بتباعد فترات الحمل، أو إيقافه لمدة معينة من الزمان يتفقان عليها فيما بينهما. والمقصود من ذلك تقليل عدد أفراد الأسرة بصورة تجعل الأبوين يستطيعان القيام برعاية أبنائهما رعاية متكاملة بدون عسر أو حرج أو احتياج غير كريم. وهناك فرق شاسع بينه وبين التحديد والتعقيم والإجهاض، إذ تحديد النسل بمعنى منعه منعًا مطلقًا ودائمًا، حرام شرعًا، ومثله التعقيم الذي هو بمعنى القضاء على أسباب النسل نهائيًا. وأما الإجهاض وهو قتل الجنين في بطن أمه أو إنزاله، فقد أجمع الفقهاء أيضًا على حرمته وأنه لا يجوز إلا إذا حكم الطبيب الثقة بأن في بقاء هذا الجنين هلاكًا للأم، أو ضررًا بليغًا سيصيبها بسبب بقائه في بطنها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 ثانيًا: هل تنظيم الأسرة بتلك الصورة التي سبق بيانها جائز من الناحية الدينية؟ والجواب: أن تنظيم الأسرة أو النسل بتلك الصورة التي سبق بيانها جائز شرعًا وعقلًا متى كانت هناك أسباب تدعو إليه، وهذه الأسباب يقدرها الزوجان حسب ظروفهما، فقد تنشأ أسباب تدفع الإنسان إلى تنظيم أسرته أو نسله، وقد ذكر الفقهاء قديمًا وحديثًا جملة من الأسباب التي تبيح للزوجين تنظيم نسلهما. ومن الفقهاء القدامى الذين فصلوا الحديث عن هذه المسألة، الإمام الغزالي المتوفى سنة 505هـ، فقد قال في كتابه إحياء علوم الدين ج/2 ص (51) : (وأما العزل – وهو أن يقذف الرجل ماءه خارج الرحم منعًا للحمل، فقد اختلف العلماء في إباحته وكراهته ... والصحيح عندنا أن ذلك مباح) . ثم قال رحمه الله: (والنيات الباعثة على العزل خمس: الأولى: في السراري، وليس منهيًا عنه. والثانية: من أجل استبقاء جمال المرأة وسمنها لدوام التمتع بها واستبقاء حياتها خوفًا من خطر الطلق، وهذا أيضًا ليس منهيًا عنه. والثالثة: الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء، وهذا أيضًا غير منهي عنه فإن قلة الحرج معين على الدين. نعم الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله حيث قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ولكن النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره، لا نقول إنه منهي عنه) . ولقد لخص فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت في كتابه تنظيم النسل ص 8 جانبًا من كلام الإمام الغزالي في هذه المسألة فقال: (يرى الإمام الغزالي أن منع الولد مباح ولا كراهة فيه. قال: لأن النهي إنما يكون بنص أو قياس منصوص، ولا نص في الموضوع ولا أصل يقاس عليه بل عندنا في الإباحة أصل يقاس عليه وهو ترك الزواج أصلًا أو ترك المخالطة الجنسية بعد الزواج، أو ترك التلقيح بعد المخالطة، فإن كل ذلك مباح وليس فيه إلا مخالفة الأفضل فليكن منع الحمل بالعزل أو ما يشبهه مباحًا ... ) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 ومن العلماء القدامى الذين رجحوا جواز العزل الأئمة ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، أما الإمام ابن تيمية فقد جاء عنه في كتاب (مختصر الفتاوى) ص (426) : (وأما العزل فقد حرمه طائفة لكن الأئمة الأربعة على جوازه بإذن المرأة) ، وأما الإمام ابن القيم، فقد رجح في كتابه زاد المعاد ج/4 ص 16 الرأي القائل بإباحة العزل، فبعد أن ذكر طائفة من الأحاديث المصرحة بجوازه فقال: (فهذه الأحاديث صريحة في جواز العزل) . وأما الإمام الشوكاني فقد قال في كتابه نيل الأوطار: (ولا خلاف بين العلماء في جواز العزل، بشرط أن توافق الزوجة الحرة على ذلك، لأنها شريكة في المعاشرة الزوجية) . وأما الفقهاء المحدثون فمنهم فضيلة الشيخ السيد سابق، فقد قال في كتابه المشهور فقه السنة ج 7 ص 145، تحت عنوان: (العزل وتنظيم النسل) : (تقدم أن الإسلام يرغب في كثرة النسل، إذ أن ذلك مظهر من مظاهر القوة والمنعة بالنسبة للأمم والشعوب إلا أن الإسلام مع ذلك لا يمنع في الظروف الخاصة من تنظيم النسل، باتخاذ دواء يمنع من الحمل أو بأي وسيلة أخرى من وسائل الحمل فيباح التنظيم في حالة ما إذا كان الرجل معيلًا – أي كثير العيال – ولا يستطيع القيام على تربية أبنائه التربية الصحيحة وكذلك إذا كانت المرأة ضعيفة، أو كانت موصولة الحمل، أو كان الرجل فقيرًا، أو كان هناك مرض معد في الزوجين أو في أحدهما. ففي مثل هذه الحالات يباح تنظيم النسل، بل إن بعض العلماء يرى أن التحديد في هذه الحالات لا يكون مباحًا فقط بل مندوبًا إليه ... ) . ولقد جاء في مجلة الحج العدد 16 لسنة 1384 فتوى لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز حول هذا الموضوع قال فيها: (العزل هو إراقة المني خارج الفرج، لئلا تحمل المرأة وهذا إنما يفعله الإنسان عند الحاجة إليه، مثل كون المرأة مريضة فيخشى أن يضرها الحمل أو يضر طفلها، فيعزل لهذا الغرض أو نحوه من الأغراض المعقولة الشرعية إلى وقت ما، ثم يترك ذلك وليس في هذا قطع للحمل ولا تحديد للنسل، وإنما فيه تعاطي بعض الأسباب المؤخرة للحمل لغرض شرعي وهذا لا محظور فيه في أصح الأقوال – عند العلماء كما دلت عليه أحاديث العزل) (1) . وبذلك نرى أن تنظيم الأسرة أجازه الفقهاء القدامى والمحدثون متى كان هناك داع إليه.   (1) نقلًا عن كتاب الدين وتنظيم الأسرة ص 69 لفضيلة الدكتور أحمد الشرباصي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 ثالثًا: هل تنظيم النسل أو الأسرة هو الوسيلة الوحيدة لحل مشكلة تزايد السكان ورفع مستوى المعيشة وحصول كل فرد على مطالب حياته بصورة مقبولة؟ والجواب: ما قال عاقل بأن تنظيم النسل أو الأسرة هو الوسيلة الوحيدة لحل هذه المعضلات، وإنما هو وسيلة من بين كثير من الوسائل التي من أهمها: أداء كل فرد من أفرادها لواجبه قبل مطالبته بحقوقه، وحرص هذا الفرد على أن يكون لبنة نافعة في بناء كيان مجتمعه لبنة تقوي كيان المجتمع ولا تضعفه، وتعطيه من إنتاجها أكثر مما تأخذ منه وآفة الآفات في كل أمة تثقلها الديون والمتاعب المتشابكة، تتمثل – في تقديري – في تمزق أبنائها وتفرقهم وسلبيتهم وشيوع سوء الظن بينهم بدون موجب واهتمام معظمهم بالحصول – بكل الطرق – على مصالحهم الخاصة، ومنافعهم الذاتية، أما ما يعود على أمتهم بالخير، فلا يحظى بجانب كبير من تفكيرهم أو اهتمامهم، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) . رابعًا: أهناك فتاوى رسمية صدرت في موضوع تنظيم النسل أو الأسرة؟ والجواب: نعم هناك فتاوى متعددة صدرت في هذا الموضوع، نكتفي بإيراد نماذج منها: 1 – في 25 من يناير سنة 1937، أي منذ أكثر من خمسين سنة ورد إلى دار الإفتاء سؤال نصه: رجل رزق بولد واحد، ويخشى إن هو رزق أولاد كثيرين أن يقع في حرج من عدم قدرته على تربية الأولاد والعناية بهم، أو تسوء صحته فتضعف أعصابه عن تحمل واجباتهم ومتاعبهم، وأن تسوء صحة زوجته بكثرة ما تحمل وتضع، دون أن يمضي بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها، فهل له أو لزوجته أن يتخذا بعض الوسائل التي يشير بها الأطباء، ليتجنبا كثرة النسل، بحيث تطول الفترة بين الحمل فتستريح الأم ولا يرهق الوالد؟   (1) الرعد (11) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 وقد أجاب فضيلة الشيخ عبد المجيد سليم – مفتى الديار المصرية في ذلك الوقت بقوله: (اطلعنا على هذا السؤال، ونفيد بأن الذي يؤخذ من نصوص الفقهاء الأحناف أنه يجوز أن تتخذ بعض الوسائل لمنع الحمل، على الوجه المبين بالسؤال) . والفتوى بكاملها منشورة بمجموعة الفتاوى الإسلامية ج 2 ص 445. 2 – وشبيه بهذا السؤال سؤال آخر ورد إلى لجنة الفتوي بالأزهر في 10 مارس سنة 1953م ونصه: رجل متزوج رزق بولد واحد ويخشى إن هو رزق أولادًا كثيرين أن يقع في حرج من عدم قدرته على تربية الأولاد والعناية بهم ... فهل له أو لزوجته أن يتخذا بعض الوسائل التي يشير الأطباء لتجنب كثرة النسل بحيث تطول الفترة بين الحمل والحمل، فتستريح الأم وتسترد صحتها ولا يرهق الوالد صحيًا أو ماديًا أو اجتماعيًا؟ وكان الجواب: اطلعت اللجنة على هذا السؤال، وتفيد بأن استعمال دواء لمنع الحمل مؤقتًا لا يحرم على رأي عند الشافعية، وبه تفتي اللجنة، لما فيه من التيسير على الناس، ودفع الحرج ولاسيما إذا خيف من كثرة الحمل، أو ضعف المرأة من الحمل المتتابع بدون أن يكون بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها المرأة وتسترد صحتها، والله تعالى يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وأما استعمال دواء لمنع الحمل أبدًا فحرام. 3 – ومن الأسئلة التي وجهت لي شخصيًا حول هذا الموضوع ما يأتى: أ – زوجان معهما طفل واحد، ويسكنان في شقة من حجرتين ودخلهما الشهرى في حدود مائة جنيه في أيامنا هذه سنة 1988، ويريدان باختيارهما واتفاقهما أن يوقفا الحمل لفترة من الوقت ليتفرغا لتربية هذا الطفل تربية كريمة، فهل يجوز لهما شرعًا ذلك مع أنهما يؤمنان إيمانًا عميقًا بأن كل شيء بقضاء الله وقدره؟ وكان جوابي: لا مانع شرعًا من إيقاف الحمل لفترة من الزمان ماداما يقصدان من وراء ذلك حسن التربية لطفلهما، وماداما يؤمنان هذا الإيمان العميق بقدرة الله تعالى على كل شيء، ومسلكهما هذا إنما هو لون من مباشرة الأسباب الشريفة التي أحلها الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 ب – زوجان يسكنان في شقة من ثلاث غرف، ومعهما ولد وبنت ودخلهما الشهرى في أيامنا هذه سنة 1988 مائتا جنيه، ويشعران بأن هذا المبلغ يكفيهما بمطالب الحياة الشهرية التي لا غنى عنها، ويريدان باختيارهما أن يوقفا الحمل لفترة من الزمان وقصدهما من ذلك أن يكون للولد حجرة خاصة ينام فيها، وللبنت حجرة أخرى تنام فيها، فهل يجوز ذلك شرعًا، ومع أنهما يحافظان على أداء فرائض الله تعالى، ويحرصان على التقيد بأحكام دينه؟ وكان جوابي: أنه لا مانع شرعًا من ذلك لأنهما بفعلهما هذا يباشران الوسائل السليمة لتربية ولديهما تربية قويمة، دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((علموا أولادكم الصلاة وهم في سن السابعة واضربوهم على تركها وهم في سن العاشرة، وفرقوا بينهم في المضاجع)) أي عند النوم. ج – زوجان معهما ثلاثة أولاد، وحالتهما المادية والصحية ممتازة، ويريدان أن يوقفا برضاهما واختيارهما الحمل لفترة من الزمان، وليس ذلك لأسباب خاصة بهما وإنما لأنهما يعتقدان بأن الدولة التي يعيشان فيها هي بحاجة إلى تنظيم النسل، فهل هذا جائز شرعًا مع حرصهما التام على أداء أحكام دينهما؟ وكان جوابي: أن هذا الشعور بظروف الدولة التي تعيشان فيها شعور طيب وحميد يدل على حسن الظن وعلى الثقة فيما تصدره الدولة من بيانات حول هذا الموضوع، كما يدل على الاهتمام المشكور بأحوال المجتمع الذي تعيشان فيه استجابة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)) . ومادام شعوركما كذلك، فما تريدان عمله من تأجيل الحمل لفترة من الزمان تتفقان عليها، لا مانع منه شرعًا، فإن الأمور بمقاصدها، والأعمال بالنيات. خامسًا: أيصح للدولة أن تصدر قانونًا لتنظيم الأسرة أو النسل؟ والجواب: لا يصح ذلك في تقديري، لأن مسألة تنظيم الأسرة من المسائل الشخصية التي تتعلق بالزوجين وحدهما، والتي تختلف من أسرة إلى أسرة على حسب ظروفهما وأحوالهما وما يتعلق بالزوجين لا تعالجه القوانين، وإنما خير وسيلة لتنظيم الأسرة فهم الدين فهمًا سليمًا وإشاعة هذا الفهم بين جميع أفراد الأمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 وإني أرجح أن على رأس الأسباب التي جعلت بعض الناس يتهاون في مسألة تنظيم الأسرة هو فقدان الوعي، وعدم الفهم السليم لأحكام الدين ولشئون الدنيا، والاستخفاف بالمسئولية نحو الأبناء. سادسًا: هل تتعارض الدعوة إلى تنظيم الأسرة مع قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أو مع قوله سبحانه {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} أو مع قوله تعالى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} أو مع الحديث الشريف: ((تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم بوم القيامة؟)) . والجواب: لا تتعارض الدعوة إلى تنظيم النسل متى سيقت بأسلوب حكيم، مع قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ومع ما يشبهها من آيات كريمة وذلك لأنه لم ينكر أحد من العقلاء أن المال الحلال والذرية الصالحة هما زينة الحياة الدنيا، ولكن هناك ما هو أسمى منهما وأبقى، وهو ما وضحته بقية الآية في قوله سبحانه: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (1) أي: المال والبنون زينة يتزين بها كثير من الناس في هذه الحياة وإذا كان الأمر كذلك في عرف كثير منهم، فإن الأقوال الطيبة والأعمال الصالحة هي الباقيات الصالحات التي تبقى ثمارها للإنسان وتكون عند الله تعالى خير من الأموال والأولاد، لأن المال والبنين كثيرًا ما يكونان فتنة، كما في قوله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (2) أي أن أموالكم وأولادكم على رأس الأسباب التي تؤدي المبالغة في الاشتغال بها إلى التقصير في طاعة الله تعالى وإلى مخالفة أمره، فكونوا مؤثرين لرضا الله على كل شيء سواه وقال سبحانه في آية أخرى قبل هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (3) . فالأولاد قد يكونون زينة، وقد يكونون فتنة، وقد يكونون أعداء، وتنظيم النسل متى صاحبته النية الطيبة والمقاصد الشريفة، كان عونًا للإنسان على أن يكون الأولاد قرة عين له.   (1) الكهف (46) . (2) التغابن (15) (3) التغابن (14) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 ولا تتعارض الدعوة إلى تنظيم الأسرة مع قوله سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (1) لأنه ما قال أحد بأن تنظيم الأسرة قتل للأولاد، وإنما هو حماية لهم من النواحي الدينية والصحية والاجتماعية ... والآية الكريمة وما يشبهها من آيات، تنهى عن قتل الأولاد قبل ولادتهم، وبعد ولادتهم وتتوعد الذين كانوا يفعلون ذلك من أهل الجاهلية ولاسيما مع البنات بأشد أنواع العذاب، ومن ذلك قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (2) وقوله سبحانه: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (3) . ولقد حرمت شريعة الإسلام الإجهاض – وهو قتل الجنين في بطن أمه – تحريمًا قاطعًا، ولم تبحه – كما سبق أن أشرنا – إلا إذا حكم الطبيب الثقة بأن بقاء هذا الجنين سيؤدي إلى هلاك الأم أو إلحاق ضرر محقق بها. وقال فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت ما ملخصه: (اتفق الفقهاء على أن إسقاط الحمل بعد نفخ الروح فيه – وهو كما يقولون لا يكون إلا بعد أربعة أشهر – حرام وجريمة لا يحل لمسلم أن يفعله لأنه جناية على حي متكامل ولكنهم قالوا: إذا ثبت من طريق موثوق به أن بقاءه بعد تحقيق الحياة هكذا يؤدي لا محالة إلى موت الأم فإن الشريعة بقواعدها العامة تأمر بارتكاب أخف الضررين، وهو إسقاط هذا الحمل، أما إسقاطه قبل نفخ الروح فيه – أي قبل إتمام أربعة أشهر كما يقولون – فقد اختلفوا فيه فرأى فريق أنه جائز ولا حرمة فيه، ورأى آخرون أنه حرام أو مكروه) . ولا يتعارض تنظيم الأسرة كذلك مع قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (4) ، لأن كل إنسان لا يكون مؤمنًا حقًا إلا إذا اعتقد اعتقادًا جازمًا أن كل دابة في الأرض من إنسان أو حيوان أو غيرهما، على الله وحده رزقها فهو سبحانه الرازق للغني والفقير وللصغير والكبير، ولكن ذلك لا ينافي الأخذ بالأسباب والسعي في سبيل الحصول على الرزق إذ أن هذا الرزق قد جعل الله تعالى له وسائل من سلكها نجح ومن أهملها خسر، وكيف لا هو القائل في آية أخرى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} .   (1) الإسراء (31) (2) الأنعام (140) . (3) التكوير (8، 9) . (4) هود (6) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 ولذا فتنظيم الأسرة لا يتعارض إطلاقًا مع الاعتقاد بأن الله تعالى هو الرازق لمخلوقاته لأننا مع هذا الاعتقاد مطلوب منا أن نسعى لطلب الرزق من وجوهه المشروعة حتى نقدم لمن هم أمانة في أعناقنا ما يغنيهم ويسترهم.. وفي الحديث الصحيح: ((إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون وجوه الناس)) ، ثم إني بعد ذلك أتساءل في ألم: هل الناس في مجموعهم يؤمنون بهذه الآية إيمانًا عمليًا كما ينطقون بها لفظيًا؟ والجواب: أن واقعهم العملي الذي نحسه ونشاهده، يخالف أقوالهم.. بدليل أنهم لو كانوا يؤمنون بهذه الآية إيمانًا عمليًا عميقًا، لما رأيت الوساطات من فلان إلى فلان من أجل الحصول على أشياء معينة.. ولما رأيت من يريق ماء وجهه ويذل نفسه لمخلوق مثله، من أجل أن يعين بعض أولاده في وظيفة معينة، أو في عمل معين، أو أن يدخلهم له كلية معينة ... إلخ، ولما رأيت أولئك الذين لا يعرفون معنى التعفف وهم يمدون أيديهم بالسؤال إلى مخلوق مثلهم. فهل هذا المسلك الذي يتنافى مع الكرامة الإنسانية يتفق مع معنى قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ؟ مما لا شك فيه أن الذي يتفق مع معنى هذه الآية الكريمة هو العفاف النفسي والسمو القلبي والتعالي على سؤال المخلوقين في أمر يتنافى مع مكارم الأخلاق.. ولكن آفة الناس الكبرى أن كثيرًا منهم أقوالهم في واد وأفعالهم في واد آخر، وهذا شر ما تبتلى به الأمم. وأيضًا لا تتعارض الدعوة إلى تنظيم النسل مع قوله صلى الله عليه وسلم: ((تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) ؛ لأن هذا الحديث مع كونه مرسلًا نرجح أن المقصود به والله أعلم الكثرة المؤمنة الصالحة القوية المنتجة، إذ من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يباهي بكثرة فاسقة عاصية ضعيفة جائعة متخلفة جاهلة تستورد معظم ضروريات حياتها من غيرها، وإنما يباهي بالكثرة المستقيمة القوية العزيزة الغنية التي دائمًا يدها هي العليا ويد غيرها هي السفلى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 ولقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم الكثرة التي لا فائدة من ورائها في حديثه المشهور الذي يقول فيه: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، قالوا: ومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم حينئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)) ، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) . وإذن فالكثرة الصالحة القوية المنتجة مرحبًا بها، وهي محل المباهاة في كل زمان ومكان، أما الكثرة المنحرفة الطائشة الضعيفة التي تمد يدها بالسؤال إلى غيرها فإن القلة الرشيدة خير منها. ونحن نكرر أن مسألة تنظيم الأسرة ليست من المسائل التي لا تقبل التغيير أو النظر؛ لأنها تنزيل من حكيم حميد، وإنما هي من المسائل التي تقبل المراجعة والنظر والتى هي من الأمور النسبية التي تخضع لظروف كل أسرة وأحوالها، ولإمكانيات كل دولة وتقديرها، فقد يكون تنظيم النسل مطلوبًا في أسرة دون أسرة وفي دولة دون دولة. فالأقطار التي تشكو من تضخم السكان في حاجة إلى تنظيم الأسرة أو النسل، والأقطار التي في حاجة إلى كثرة الأفراد لخروجها من حروب مدمرة أو لوجود إمكانيات ضخمة فيها، لا تطالب بتنظيم النسل. والخلاصة أن هذه المسألة تختلف من أسرة إلى أسرة، ومن قطر إلى قطر على حسب الظروف والأحوال والإمكانيات. سابعًا: هل الدين يدعو إلى اتخاذ وسائل معينة لتنظيم الأسرة؟ الجواب: أن الدين يدعو إلى الحياة السعيدة بين الزوجين ويرسم لهما طريقهما ويحدد لهما ما هو حلال وما هو حرام، ثم بعد ذلك يعيطهما الحرية الكافية لتصريف حياتهما في إطار شريعة الله تعالى ومكارم الأخلاق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 وظروف تنظيم النسل أو الأسرة كانت في القديم مقصورة على (العزل) وهو قذف النطفة بعيدًا عن الرحم عند الإحساس بنزولها. وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل. وفي رواية للإمام مسلم عن جابر أيضًا قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغه ذلك فلم ينهنا. ثم تطورت طريقة تنظيم النسل بمرور الأيام وابتكر الأطباء أنواعًا كثيرة لهذا الغرض، منها ما يؤخذ عن طريق الفم، ومنها ما يؤخذ عن طريق الحقن، ومنها اللوالب المعدنية إلى غير ذلك من الوسائل. وكل هذه الوسائل لا يعارضها الدين مادامت لا تتنافى مع آدابه، ومادام قد حكم الأطباء الثقات بصلاحيتها وعدم حدوث ضرر من استعمالها. ثامنًا: هل يتنافى تنظيم الأسرة مع الإيمان بقضاء الله وقدره؟ والجواب: أنه لا تنافي بين تنظيم الأسرة وبين الإيمان بقضاء الله وقدره، لأن تنظيم الأسرة ما هو إلا لون من مباشرة الأسباب التي أمرنا الله تعالى بمباشرتها لتنظيم حياتنا. وهذه الأسباب قد تنجح وقد لا تنجح، وقد تتخذ المرأة وسائل منع الحمل لفترة معينة مع ذلك يأتي الحمل، كما أن المريض قد يذهب إلى الطبيب فيعطيه علاجًا معينًا، ولكن هذا العلاج قد يؤدي إلى الشفاء وقد لا يؤدي إلى ذلك. ونحن مطالبون دينيًا وعقليًا بمباشرة الأسباب التي شرعها الله تعالى لنجاحنا في الحياة، مع إيماننا المطلق بأن ما قدره الله وقضاه لابد أن يكون، إلا أن ما قدره الله وقضاه نحن لا نعلمه ولا نعرفه؛ لأن مرده إليه وحده، وهو سبحانه علام الغيوب، ورحم الله القائل: إنما الغيب كتاب صانه عن عيون الخلق رب العالمين ليس يبدو منه للناس سوى صفحة الحاضر حينًا بعد حين وإذن فتنظيم الأسرة لا يتعارض إطلاقًا مع الإيمان بالقضاء والقدر لأن ما قدره الله سبحانه نحن لا نعلمه، وإنما نحن نباشر الأسباب، ثم نَكِلُ النتائج له سبحانه يصرفها كيف شاء {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . الدكتور محمد سيد طنطاوى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 تحديد النسل وتنظيمه إعداد الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي أستاذ في قسم الفقه الإسلامي بجامعة دمشق بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة وعرض لخطة البحث الحمد لله ملهم الخير، دل عباده على طريق الصواب ثم ألزمهم به، ونبههم إلى مزالق الردى ثم حذرهم منها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فيحسن أن أضع القارئ الكريم أمام خطة لهذا البحث تبين له هيكله العام، وتسلسل جزئيات مسائله المرتبة بعضها على بعض حتى يكون على بينة من خارطة البحث ونهجه وكيفية تسلسله. وهذه هي الخطة، وعلى نهجها بتوفيق الله نسير: 1 – تحرير محل البحث وتحديده. 2 – تمهيد: متى وكيف بدأت فكرة تحديد النسل أو تنظيمه؟ 3 – حكم المسألة في الميزان الفقهي: أ – مقدمة تتضمن بيان القاعدة الفقهية القائلة: ليس كل ما هو مشروع للفرد يشرع للجماعة. ب – حكم تحديد النسل للأفراد. جـ - حكم تحديد النسل في حق المجتمع بتوجيه من القادة. 4 – دراسة المسألة في الميزان الاجتماعي والديموغرافي. 5 – وأخيرًا المشكلات الجزئية التي تقتضي الحد من النسل أو تنظيمه محلولة، والمصلحة الكلية تتمثل دائمًا في أن يكون الزواج للإنجاب لا لمجرد المتعة والاقتران. هذا وأسأل الله تعالى الرشد والتوفيق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 تحرير محل البحث وتحديده كلمة (تحديد النسل) أو (تنظيم النسل) تعني في المصطلح الشائع اليوم كل ما قد يتبعه الزوجان من الوسائل والأسباب التي من شأنها أن تحول دون نشوء الحمل، كليًا أو جزئيًا، أي دائمًا أو في أحوال وفترات دون أخرى. ويدخل في هذه الوسائل العلاجات المختلفة التي تلجأ إلى استعمالها الزوجة ومنها العزل الذي قد يمارسه الزوج لأسباب اقتصادية أو اجتماعية. إذن فلا يدخل في هذا المصطلح الإجهاض بأنواعه، من كل ما يعد إسقاطًا للجنين أو لمادة الجنين بعد العلوق. إن المراد بتحديد النسل في بحثنا هذا كل ما يدخل في مضمون العمل الوقائي ضد الحمل لا الوسائل العلاجية التي تتخذ لإسقاطه. كما أن مرادنا بتحديد النسل هذا ذاك الذي يمارسه الزوجان ابتغاء هدف اقتصادي أو تربوي أو اجتماعي كما أوضحنا، فلا يدخل في بحثنا هذا ما قد يلجأ إليه مرتكبوا الفواحش، نساء أو رجالًا، من الوسائل الكفيلة بمنع الحمل، فإن لهذه الحالة موازين خاصة بها من النظر والاعتبار. متى وكيف بدأت فكرة تحديد النسل؟ من المعروف لدى علماء التاريخ والاجتماع أنه سادت بعض العشائر البدائية في بعض العصور القديمة عادة قتل الأولاد لأسباب متعددة، لعل من أكثرها شيوعًا الرغبة في التخفيف من أعباء الحياة.. ولما كان البنون أكثر نفعًا لآبائهم في أعمال الإنتاج، فقد كانت البنات وحدهن ضحية هذه العادة، هذا ما يقرره كثير من الباحثين (1) . غير أن هذه العادة لم تكن مضطردة، فكثيرًا ما كان الآباء يصطفون لأنفسهم البنات، فلا يقع القتل إلا على الذكور، مما يبعث على الريبة في السبب الذي افترضه أولئك الباحثون.   (1) انظر الأسرة والمجتمع للدكتور علي عبد الواحد وافي: ص 42 و 101. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 ولقد شاع القتل لكل من الجنسين لدى كثير من القبائل البدائية في أستراليا وغيرها، إذ كثيرًا ما كانت الأم تحرص على التخلص من وليدها دون نظر إلى الجنس، ولعل ذلك كان يتم لمجرد أسباب شخصية تعود إلى رغبة الأم وربما الأب أيضًا، في التخفيف من مشقات التربية، وفي الركون إلى مزيد من الراحة والدعة. وفي إسبرطه كانت التقاليد المتبعة تقضي بأن يختبر الوالد وليده الصغير فور ولادته، فإن وجده ضعيفًا أو مريضًا أو مشوهًا لم ير مانعًا من القضاء عليه بأيسر طريق (1) . كما أن عادة قتل الأولاد كانت سارية عند كثير من القبائل العربية في الجاهلية، مثل كندة، وربيعة، وطيء، وتميم، وغيرها.. والصحيح أن الدوافع إلى ذلك كانت مختلفة، فربما كان الحامل على ذلك خوفًا من الفقر والإملاق، وفي هذه الحال كان الهلاك كان يقع على كل من الذكور والإناث، وربما كان خوفًا من العار أو سيرًا وراء بعض المعتقدات الأسطورية التي تقضي بكون الأنثى من الإنسان رجسًا من الشيطان، وفي هذه الحال كان القتل يستحر بالبنات وحدهن (2) . وأيًا كان الأمر فإن التخلص من النسل أو كثرته لم تكن تعتمد عند تلك الجماعات والشعوب على أي طريقة وقائية سابقة، على نحو ما صورنا وحددنا في نقطة تحرير البحث.. بل كان يأخذ شكل التدارك للأمر من بعد الولادة بواسطة القتل.   (1) دائرة المعارف لفريد وجدي: 4/432، وقصة الزواج والعزوبة في العالم لعلي عبد الواحد وافي ص 122. (2) الأسرة والمجتمع: ص 102، وانظر لسان العرب مادة (وأد) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 وإذا استثنينا النظام الذي كان سائدًا في إسبرطه وأثينا فيما يتعلق بهذا الأمر، فإن هذا الذي كانت تقدم عليه سائر القبائل والشعوب الأخرى، إنما كانت مدفوعة إليه بدافع من جهالتها وبدائيتها في التعامل مع الحياة وأسبابها ... ولم يكن لدى أي قبيلة أو فئة من مجموع أولئك الناس أي انطلاقة علمية أو ثقافية مهما ضؤلت قيمتها إلى تلك العادة المتبعة. ولقد تقدمت الشعوب والأمم صعدًا فيما بعد على درب العلم والحضارة، فترك كثير منها كثيرًا من عاداتها وتقاليدها المتخلفة وراءها.. بما فيها هذه العادة ذاتها، وظل الأمر مستمرًا على ذلك أجيالًا متعاقبة من الزمن. إلا أن الثلث الأخير من القرن الثامن عشر شهد ولادة جديدة لهذا الاتجاه بأسلوب متطور.. لقد ولد هذه المرة في رحم من المسوغات والحيثيات العلمية والحضارية بعد أن كانت ولادته الأولى ضمن ظلمات من تلافيف الجهل والخرافة. فقد نشر القس والعالم الاقتصادي البريطاني (مالتوس) مقالًا بعنوان (تزايد السكان وتأثيره في تقدم المجتمع في المستقبل) وذلك في عام 1798 أوضح فيه أن وسائل الإنتاج وأسباب الرزق في الأرض محدودة، غير أنه لا يوجد حد لتزايد السكان وتضخم النسل. فإذا ترك الأمر بدون تنسيق، فإن المفروض أن يأتي يوم تضيق الأرض فيه بسكانها وتقل فيه وسائل العيش عن تلبية حاجاتهم.. ثم اقترح الكاتب القس لتنفيذ هذا التنسيق سبيلين اثنتين: أولهما: ألا يتزوج الشباب إلا بعد أن يتقدم بهم السن. ثانيهما: أن يبذل الأزواج بعد أن تظلهم الحياة الزوجية قصارى جهدهم في سبيل الإقلال من الإنجاب (1) .   (1) كان هذا المقال من أهم ما حمل داروين على طرح فرضيته المتعلقة بأصول الأنواع. وانظر مقدمة كتابه: أصل الأنواع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 وما كادت أصداء مقالته هذه تنتشر في ربوع أوروبا، حتى كتب الباحث الفرنسي فرنسيس بلاس Francis Palace مقالًا ينادي فيه بدعوة مالتوس، ويؤكد فيه ضرورة الحد من تزايد السكان. وبعد حين ظهر في أمريكا مقال للطبيب المشهور تشارلس كنورتون Charles Knorotton يؤيد فيه الفكرة ذاتها مقدمًا اقتراحاته ضمن آراء وتدابير طبية يمكن الاستفادة منها. وسرعان ما لقيت هذه الدعوة رواجًا في الأوساط المختلفة، وصادفت من الغرب المقبل على بحر من التحلل لا شاطئ له ولا قرار، تربة صالحة، ووجد الباحثون عن اللذة والهاربون من مغارم المسئولية في الاستجابة لها ما يحقق بغيتهم ويعينهم على تحقيق أهدافهم وهذا شيء متوقع من أناس هذه هي حالهم. ولكن لابد أن نتساءل: هل صدقت قواعد العلم، أو هل صدق الواقع الممتد من أواخر القرن الثامن عشر إلى أواخر القرن العشرين، شيئًا من تصورات مالتوس؟ وأحسب أن قرنين من الزمن فيهما فرصة كافية للكشف عن حقيقة هذه النبوءة.. نبوءة تناقص وسائل الرزق عن عدد الأناسي الذين أحصاهم مالتوس في خياله الممتد إلى آفاق الزمن المقبل. إن الذي أثبتته الدراسات العلمية الموضوعية، ودلت عليه تجارب الأمم ووقائع الأزمنة والتاريخ، نقيض ما قد تصوره مالتوس ومن انساقوا وراء افتراضاته، فلنشرح ذلك بالقدر الذي يتناسب وطبيعة هذا البحث، على أن نبدأ قبل كل شيء، فنستجلي حكم هذه المسألة في الميزان الشرعي، فقد كانت حقائق العلم ولا تزال لاحقة بحكم الشرع وخاضعة له، ذلك لأن حكم الشرع ليس إلا قرار خالق العلم وقواعده ومحال أن يقع بينهما أي تناقض أو تشاكس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 حكم المسألة في الميزان الفقهي لهذه المسألة حكمان مختلفان، أولهما يتعلق بالأفراد، وثانيهما يتعلق بالمجتمع الذي تمثله الدولة وينطق باسمه الحاكم أو الإمام، فلنبدأ ببيان الحكم الأول منهما، وهو الحكم الذي يخاطب به الفرد صاحب العلاقة. أولًا: عرض لأهم الأحاديث الواردة في هذه المسألة: 1 – روى البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه، عن جابر رضي الله عنه أنه قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل. 2 – روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصبنا سبيًا فكنا نعزل، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أوإنكم لتفعلون؟!)) قالها ثلاثًا، ((ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة)) . 3 – روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: غزونا مع رسول الله غزوة بني المصطلق فسبينا كرائم العرب، فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء، فأردنا أن نستمتع ونعزل، وقلنا: نفعل ورسول الله بين أظهرنا لا نسأله؟! فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لا عليكم ألا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون)) . ورواه أيضًا بألفاظ مقاربة أبو داود والطبراني والإمام أحمد. 4 – روى مسلم والبخاري وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري أن صلى الله عليه وسلم سُئل عن العزل، فقال: ((لا عليكم ألا تفعلوا ذاكم، فإنما هو القدر)) . 5 – روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ولم يفعل ذلك أحدكم؟)) ، ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم، ((فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 6 – روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا (أي تسقي لنا) وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، فقال: ((اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها، فلبث الرجل ثم أتاه، فقال: إن الجارية قد حبلت، فقال: قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها)) . ورواه أيضًا بألفاظ قريبة أبو داود والإمام أحمد. 7 – روى مسلم وابن ماجه والإمام أحمد عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة حديثًا طويلًا جاء فيه: ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذلك الوأد الخفي". 8 – وروى الترمذي والنسائي كل منهما عن طريق معمر، عن يحيى بن كثير عن جابر قال: كانت لنا جوار وكنا نعزل، فقال اليهود: إن تلك الموءودة الصغرى، فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: ((كذبت اليهود، لو أراد الله خلقه لم تستطع رده)) . ما الذي نفهمه من هذه الأحاديث؟ إذا استثنينا الحديث السابع من مجموع هذه الأحاديث، لاحظنا أن سائر الأحاديث الأخرى دالة على جواز العزل عن المرأة اتقاء الحمل، وإن كانت لا تخلو من دلالة علي الكراهة، فقول جابر في الحديث الأول: كنا نعزل على عهد رسول الله في قوة قوله: كان يعلم أننا نعزل وكان يقرنا على ذلك، وإلا لم يكن لقوله: على عهد رسول الله معنى. وقد نقل الإمام النووي في مقدمة المجموع، أن مثل هذا التعبير من الصحابي يجعل الحديث في قوة المرفوع، بل عده البعض في حكم المرفوع، حتى وإن لم يضفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد أن نقل النووي الخلاف في ذلك قال: وظاهر استعمال كثير من المحدثين وأصحابنا في كتب الفقه أنه مرفوع مطلقًا، سواء أضافه أم لم يضفه، وهذا قوي، فإن الظاهر من قوله: كنا نفعل، أو كانوا يفعلون، الاحتجاج به وأنه فعل على وجه يحتج به، ولا يكون ذلك إلا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبلغه (1) .   (1) المجموع للنووي: 1/60، وانظر فتح الباري: 9/245. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الثاني: ((أوإنكم لتفعلون؟)) يحتمل الاستنكار على وجه الكراهة التنزيهية، ويحتمل الاستنكار على وجه التحريم، كما أن قوله في الحديث الثالث والرابع: ((لا عليكم ألا تفعلوا)) ، يحتمل الإذن والنهي، إذ يحتمل أن يكون معنى هذه الجملة ليس عليكم أن تتركوا ذلك، ويحتمل أن يكون المعنى: لا تعزلوا وعليكم إثم ذلك. إلا أن نص الحديث السادس وهو قوله: ((اعزل عنها إن شئت)) رفع الاحتمال من كلا الجملتين، فبقيت الجملة الأولى دالة علي الكراهة، أما الثانية فدالة على عموم الإذن وعدم الحرج. وإذن فإن سبعة أحاديث من مجموع ما أوردناه تدل على جواز العزل من حيث المبدأ ويقطع النظر عن الإباحة والكراهة. أما الحديث الذي يدل ظاهره على المنع فهو حديث جذامة بنت وهب، فما القول فيه؟ كيف نفهم حديث جذامة؟ نبدأ أولًا فنذكر الوجوه التي ذكرها العلماء في التوفيق بينه وبين الأحاديث الأخرى، ثم نختار من بين هذه الوجوه ما قد يبدو لنا أنه الأقرب والأوفق. الوجه الأول: وذكره النووي في شرحه على مسلم، ويفهم من كلام الطحاوي في شرح معاني الآثار أن حديث جذامة يحمل النهي فيه على كراهة التنزيه، ويحمل الإذن الوارد في الأحاديث الأخرى على عدم الحرمة، فيكون القدر المشترك في دلالة الأحاديث كلها هو كراهة التنزيه (1) .   (1) النووي على مسلم: 10/8، وشرح معاني الآثار للطحاوي: 3/30. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 الوجه الثاني: تضعيف حديث جذامة بسبب كثرة الأحاديث الصحيحة المعارضة له، وبسبب أن حديث تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لليهود أكثر طرقًا، إذ أن النسائي قد أخرجه من طريق هشام وعلي بن المبارك وغيرهما عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي مطيع عن أبي سعيد.. ومن طريق ابن عامر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة.. ومن طريق سليمان الأحول أنه سمع عمرو بن دينار يسأل أبا سلمة بن عبد الرحمن عن العزل، فقال: زعم أبو سعيد.. إلخ، قال: فسألت أبا سلمة: أسمعته من أبي سعيد؟ قال: لا، ولكن أخبرني رجل عنه. فهذا الطريق الأخير وإن كان فيه مجهول، إلا أنه معزز بالطرق المذكورة الأخرى وهي في مجموعها، بالإضافة إلى الأحاديث الأخرى الصريحة في جواز العزل، تقضي بضعف حديث جذامة المنفرد في مضمونه عن كل ما قد روي عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب. الوجه الثالث: أن مضمون حديث جذامة وهو المنع، كان معمولًا به في أول الإسلام، ثم إنه نسخ فيما بعد بالأحاديث الأخرى الدالة على الجواز. الوجه الرابع: وإليه ذهب ابن حزم، أن حديث جذامة هو الذي يجب العمل به، لثبوته في الصحيح، ولاضطراب الطرق الواردة للحديث المقابل له، ولأن حديث جذامة دال على المنع، فهو رافع لحكم الإباحة الأصلية، وهذا أمر متيقن، فمن ادعى أن تلك الإباحة المنسوخة قد عادت وأن النسخ المتيقن قد بطل، فقد ادعى الباطل، ونفى ما لا علم له به، وأتى بما لا دليل عليه (1) .   (1) المحلى لابن حزم: 10/88. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 الوجه الذي نرجحه: إن القول بتضعيف حديث جذامة للأسباب التي ذكرناها قول لا يستند فيما نرى إلى دليل صحيح، ذلك لأن دعوى التعارض في أصلها غير صحيحة، بل غاية الأمر أن قوله عليه الصلاة والسلام: ((ذلك الوأد الخفي)) يشير إلى كراهة العزل تنزيهًا، وليس فيه ما يقطع بالدلالة على التحريم، مع ملاحظة أن أقواله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الأخرى دالة على أصل الجواز الصادق بالكراهة والإباحة، فانتفى التعارض، فانتفى بذلك موجب الشذوذ الباعث على التضعيف. وقد قال الحافظ ابن حجر عن هذا الوجه: وهذا دفع للأحاديث الصحيحة بالتوهم والحديث صحيح لا ريب فيه، والجمع ممكن (1) . وأما القول بأن مضمون حديث جذامة، وهو النهي، كان ساريًا في أول الإسلام، ثم نسخته الأحاديث الأخرى الدالة على الجواز، فيرده أن من شروط النسخ معرفة تاريخ كل من الناسخ والمنسوخ، وليس ثمة ما يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بحكم التحريم أولًا، ثم أخبرهم بعد حين بحكم الجواز. وأما قول ابن حزم بأن المنع في حديث جذامة جاء نسخًا لأحاديث الإباحة الأصلية، فيرده قول جابر رضي الله عنه فيما رواه الستة ما عدا أبا داود: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل، فلو لم يكن جواز العزل مستمرًا إلى وفاته عليه الصلاة والسلام، لما قال جابر ذلك، ولأوضح أن آخر ما استقر عليه الحكم هو التحريم. ويرده أيضًا أن كلامه هذا يعني أن حديث تكذيب النبي لليهود منسوخ، فيقال له عندئذ عين ما يقوله هو لنا، ويطالب هو نفسه بالدليل الذي يثبت أن حديث تكذيب اليهود منسوخ ولا دليل، ذلك لأن دعواه بأن حديث جذامة قد نسخ الإباحة الأصلية، ليست أولى من دعوانا نحن بأن حديث تكذيب النبي لليهود قد نسخ حديث جذامة، هذا كله نقض إجمالي. أما النقض التفصيلي فهو أن يقال لابن حزم: ليس ثمة أي تعارض، كما قد أوضحنا، ومن ثم فإن اللجوء إلى القول بالنسخ غير وارد في هذا الصدد مطلقًا. إذن فقد بقي الوجه الأول الذي رويناه عن النووي وأيده الحافظ ابن حجر والطحاوي وجماهير الفقهاء والمحدثين، وهو الوجه المتعين الذي لا محيد عنه، وهو أن العزل (كأداة من أدوات التحايل لمنع الحمل) جائز مع الكراهة التنزيهية.   (1) فتح الباري: 9/248. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 حكم العزل عند الفقهاء بناء على هذه الأحاديث: ذهب الأئمة الأربعة اعتمادًا منهم على مجموع الأحاديث المذكورة إلى جواز عزل الرجل ماءه عن زوجته مع الكراهة التنزيهية. واتفق الأئمة الثلاثة (مالك وأحمد وأبو حنيفة) على أن ذلك مشروط برضا الزوجة، واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من وافق الجمهور في هذا الشرط، ومنهم من خالفه فأجازه بدون ذلك. قال الإمام النووي: العزل هو أن يجامع، فإذا قارب الإنزال نزع وأنزل خارج الفرج، وهو مكروه عندنا في كل حال، ولكل امرأة سواء رضيت أم لا. إلى أن قال: وأما زوجته الحرة فإن أذنت فيه لم يحرم، وإلا فوجهان أصحهما لا يحرم (1) . وقال ابن جزي من فقهاء المالكية: لا يجوز العزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها (2) . وقال ابن قدامة من فقهاء الحنابلة: ولا يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها. قال القاضي: ظاهر كلام الإمام أحمد وجوب استئذان الزوجة في العزل (3) . وقال الإمام الكاساني، وهو من أئمة الحنفية: ويكره للزوج أن يعزل عن امرأته الحرة بغير رضاها، لأن الوطء عن إنزال سبب لحصول الولد، ولها في الولد حق، وبالعزل يموت الولد، فكان سببًا لفوات حقها، وإن كان العزل برضاها لا يكره؛ لأنها رضيت بفوات حقها (4) .   (1) شرح مسلم للنووي: 10/9. (2) القوانين الفقهية:160. (3) المغني لابن قدامة: 7/228. (4) بدائع الصنائع: 2/334. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 قلت: والمقصود بالكراهة في كلام الكاساني كراهية التحريم، لأن الحنفية إذا أطلقوا الكراهة انصرفت إليها بمصطلحهم. فقد تحصل من هذا أن الأئمة الأربعة متفقون على جواز العزل عن الزوجة، إذا كان ذلك برضاها، وإلا فالأئمة الثلاثة متفقون على التحريم، وللشافعية في ذلك وجهان، رجح الإمام النووي منهما عدم التحريم. ولعل الذي يقتضيه الدليل ويتفق مع القواعد الفقهية ما ذهب إليه الجمهور من اشتراط رضا الزوجة، أما الدليل فما رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن عمر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها. وأما القاعدة فهي قولهم (الضرر يزال) وأصلها قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) (1) بيان ذلك أن للزوجة في الولد حقًا مع الزوج، وفي توفيت هذا الحق إضرار بها. ثم إن العزل من شأنه أن يفوت عليها لذة الجماع، فإن كان ذلك بدون رضاها فقد أضر بها. ثم إن ثمة شرطًا آخر، هو في حكم المتفق عليه لدى الجميع، لدخوله تحت سلطان هذه القاعدة، ألا وهو أن لا يستتبع العزل أو ما يقوم مقامه ضررًا بالزوج أو الزوجة، فلو توقع الضرر من ذلك بعلم طبيب موثوق به وعادل، حرم اتخاذ تلك الوسيلة أيًا كانت.   (1) أخرجه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلًا، وأخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي والدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري، وابن ماجه من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 يدخل في حكم العزل سائر الأسباب الوقائية: الآن وقد علمنا حكم العزل وأدلته وشرائطه، فإننا نقول: إنه يقاس عليه كل ما قد يشبهه من الوسائل التي يتقي بها الزوجان أو أحدهما الحمل، كالحبوب التي تستعملها النساء، وكاللجوء إلى الجماع في الأوقات التي لا يتوقع فيها العلوق، ونحو ذلك من الوسائل التي قد يبدعها الأطباء لتحقيق هذا الغرض. فكل ما اتفق عليه الزوجان من ذلك ولم يستتبع ضررًا بالجسم أو النفس بناء على مشورة طبيب موثوق، جاز استعماله مع كراهة التنزيه. ونحن كما تعلم إنما نتحدث عن الزوجين وما قد يكون بينهما من لقاء مشروع، فأما الزنا وما قد يترتب عليه من محاولات لعدم العلوق، فلا شأن لنا بالحديث عنه في هذا المقام. لا رخصة في استعمال وسائل لاستئصال النسل: اتفق جماهير العلماء على أنه لا يجوز استعمال شيء من الوسائل التي من شأنها القضاء على النسل قضاء مبرمًا، سواء في ذلك الرجل والمرأة، وسواء أكان ذلك باتفاق بينهما أم بدونه، وسواء أكان الدافع دينيًا أم غيره (1) . وذلك كأن يستعمل الرجل علاجًا من شأنه استئصال الطاقة على الجماع، وكإجراء عملية لرحم المرأة يفقدها صلاحية الحمل والإنجاب، ويدخل في ذلك ما يسمى اليوم بربط البوقين.   (1) انظر الأنوار للأردبيلي: 2/41، ومغني المحتاج: 3/126، والإقناع على شرح أبي شجاع: 4/40. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 دليل حرمة ذلك أنه يدخل تحت ما يعد تغييرًا لجانب ذاتي من خلق الله عز وجل، وليس للإنسان أن يستقل بشيء من هذا التغيير، يقول الله عز وجل مبينًا ما أخذه إبليس على نفسه من بذل كل جهد لإغواء الصفوة من عباده: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} (النساء: 118 - 119) . ومن أجل ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التنميص وتزجيج الحاجبين وتفليج الأسنان والوشم، إذ كل ذلك داخل في مسمى التغيير الذاتي، بخلاف ما يدخل في معنى التهذيب والعناية كحلق الشعر والعناية به، وقص الأظافر وتكحيل العين ونحو ذلك. وقد علمنا أن استئصال الشهوة الجنسية أو وسيلة القدرة على الإنجاب من أوضح أمثلة التغيير الذاتي لخلق الله، وقد حذر البيان الإلهي منه كما قد رأينا. ولكن قد يرد علي ما قلناه السؤال التالي: أرأيت لو أن طبيبين عادلين مختصين قررا أن فلانة من الناس يعرضها الحمل لخطر موت غالبي أو مؤكد، وأن ذلك يعود إلى حالة مرضية، الشأن أن تلازمها حتى الموت، ألا يجوز لها في هذه الحالة ربط البوقين، وهي معالجة تمنع الحمل منعًا دائمًا؟ مقتضى القواعد الفقهية أن يجوز لها الإقدام على هذا العمل استثناء من القاعدة العامة لاسيما وأن مرضها الطارئ قد تولى هو تغيير جانب ذاتي في حياتها إذ أفقدها القدرة على تحمل أعباء الحمل، فكان الربط الذي أقدمت عليه انسجامًا مع واقع التغيير الذي ابتلاها الله تعالى به. وكم من فرق بين هذه المرأة وتلك التي تتمتع بصحتها التامة وواقعها السوي، فتقدم على اجتثاث قابلية الحمل وأسبابه، لا شك أن هذه الثانية دون الأولى هي التي يصدق عليها أنها قد غيرت من خلق الله، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 كان هذا بيانًَا لحكم هذه المسألة في حق الأفراد أصحاب العلاقة المباشرة. والآن ما هو حكم هذه المسألة في حق المجتمع المتمثل في الدولة إذ توجه وتأمر وتنهى؟ إننا نقول بكلمة موجزة شاملة: إن الدولة لا تستطيع أن تستفيد شيئًا من أحكام الجواز الذي أوضحناه في حق كل من الزوجين، ولا يحق لها أن تعتمد على شيء من أدلة ذلك الحكم في أي إجراء توجيهي تتخذه إلا أن يكون توجيهًا للناس إلى الحكم الشرعي ذاته، ذلك لأن الدولة ليست هي صاحب العلاقة المباشرة في الموضوع، وليست لها أي سلطة أو ولاية على شيء من أركانه. وهذا الفرق في الحكم يتجلى في كل ما كان الجواز فيه على سبيل الرخصة والتوسعة، فإن حكم الجواز فيه يسري في حق الأفراد أصحاب العلاقة المباشرة، ولكنه يبقى في عمومه، وبالنظر لعامة الناس ومجموعهم على أصل العزيمة التي اقتضتها المصلحة العامة. أرأيت إلى الطلاق؟ إنه حق أعطاه الشارع لصاحب العلاقة وهو الزوج بشروط وقيود معروفة، فهل للدولة أن تفرض لنفسها صلاحية ممارسة هذا الحق وصلاحية فرضه على من تشاء من الناس، أي بأن تجبر من تشاء على الطلاق أو بأن توقع هي الطلاق عنه عندما ترى أن المصلحة تقضي بذلك، محتجة بعموم الأدلة الناطقة بمشروعية الطلاق؟ كذلك أحكام الحد من النسل، فإنما هي عائدة – من حيث هي رخصة – إلي الشخصين اللذين يمثلان أركان القضية، فليس إذن للحاكم أن يحتج بهذا الحق لهما، فيبني عليه دعوة عامة إلي الحد من النسل، ويثير لذلك الدوافع والمرغبات، بل يشرع له الإلزامات الأدبية أو الجزائية بالوسائل المختلفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 وأصل هذا الذي نقرره أن المباح في الشرع نوعان: نوع يتفق مع حكم الأصل، بأن ينطوي على فائدة ومصلحة عامة للفرد والمجتمع، كالتمتع بالطيبات وتناول المنتفعات التي لا ضرر فيها، فحكم الإباحة في هذا النوع ماض في حكم الفرد والجماعة، يقضي به الفرد في حق نفسه، ويقضي به الحاكم لمجتمعه، دون إجبار ولا إلزام إلا في حق المصلحة العامة. ونوع آخر لا يتفق مع حكم الأصل من الإباحة الأصلية العامة، وإنما دخله حكم العفو أو الإباحة (بتسامح في التعبير) من أجل عارض يتعلق بأشخاص بأعيانهم. فحكم العفو أو الإباحة يبقى خاصًا في نطاق هؤلاء الأشخاص الذين تعلقت بهم أحوال عارضة اقتضت التخفيف في أمر كان أصله يقتضي عدم الإباحة. ونحن نعلم أن النكاح إنما شرع في أصله من أجل النسل، ولحكمة بقاء النوع. وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((تناكحوا تناسلوا تكثروا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) (1) .   (1) رواه عبد الرزاق عن سعيد بن أبي هلال، مرسلًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 فالسعي إلى إيقاف النسل أو تقليصه مناف لأصل ما شرع النكاح من أجله ولكن الشارع الحكيم جل جلاله رخص للزوجين في محاولة جزئية وفردية للحد من النسل نظرا لظروف أو مصالح شخصية قد تكتنفهما أو تكتنف أحدهما أما الحكم العام فباق على أصله وهو المنع والحاكم العام هو الأمين على ذلك. وفي بيان هذا الأصل يقول الإمام الشاطبي: إن المباح ضربان: أحدهما أن يكون خادمًا لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي والثاني ألا يكون كذلك. فالأول قد يراعى من جهة ما هو خادم له. فيكون مطلوبًا ومحبوبًا فعله، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب ونحوهما مباح في نفسه، وإباحته بالجزء، وهو خادم لأصل ضروري وهو إقامة الحياة، فهو مأمور به من هذه الجهة ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب، فالأمر به راجع إلي حقيقة كلية، لا إلى اعتبار جزئي.. ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد، لا من حيث هو جزئي معين. والثاني: إما أن يكون خادمًا لما ينقض أصلًا من الأصول الثلاثة المعتبرة أو لا يكون خادمًا لشيء كالطلاق، فإنه ترك للحلال الذي هو خادم لكلي: إقامة النسل في الوجود، وهو ضروري لإقامة مطلق الألفة والمعاشرة واشتباك العشائر بين الخلق، وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما، فإذا كان الطلاق بهذا النظر حرامًا لذلك المطلوب ونقضًا عليه كان مبغضًا، ولم يكن فعله أولى من تركه، إلا لعارض أقوى وعدم إقامة حدود الله، وهو من حيث كان جزئيًا في هذا الشخص وفي هذا الزمان مباح وحلال (1) .   (1) الموافقات للشاطبي: 1/28، وانظر مبحث تنظيم الأسرة للشيخ أبو زهرة، وهو من بحوث المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 أقول وقد يعبر عن هذا الأصل الذي قررناه بالقاعدة الفقهية القائلة: ليس كل ما هو مشروع للفرد مشروعا للجماعة. وهي قاعدة فرعية مخرجة على القاعدة المعروفة الكبرى: تصرف الحاكم منوط بالمصلحة. أي بما أنه وكيل عن الأمة في رعاية مصالحها فقد وجب عليه أن يلتزم جانب الحيطة في الأمر فلا يغامر بمصالحها ولا ينزل عن السعي إلى تحقيق أعلى درجات الصلاح لها. هذا مع العلم بأن أفراد الأمة لو مارسوا بأنفسهم حقوقهم ومصالحهم جاز لكل منهم أن يغامر بمصالحه كما يحب. مثال ذلك أن للفرد من الناس أن يقتدي في صلاته بفاسق إن شاء ذلك.. غير أن الحاكم لا يجوز له أن يعتمد على هذا الحكم، فينصب للناس إمامًا فاسقًا. ومثاله أيضًا أن ولي المقتول يملك أن يعفو عن القصاص على الدية أو جزء منها.. غير أن الحاكم لا يملك مثل هذا الحق، ولا يستطيع أن يلزم ولي المقتول به (1) . وحيثما يعطي الشارع الزوجين حق إيقاف النسل أو يمنعهما منه، طبق ما رأينا آنفًا، فإنما ذلك لمصلحة تتعلق بهما، ولأمر عائد إليهما، وقد يكون المجتمع شريكًا لهما في المصلحة في بعض الأحيان. فتعميم الدولة حكم الإباحة أو الحظر، هدر لمصلحة الأفراد، وتجاوز لواجب الحيطة في رعاية أمر العامة. ولو أن هؤلاء الذين يظلون يفتون للحاكم بالدعوة إلي تحديد النسل، تنبهوا إلي هذه القاعدة التي ما ينبغي أن تخفى على باحث بل طالب علم – لعلموا أنهم مبطلون فيما يفتون به، وأنهم إنما يستلبون بذلك حقًا أعطاه الشارع للأفراد أصحاب العلاقة، ليملكوه لمن لا حق لهم في امتلاكه أو التصرف به. وأخيرًا فإننا نلاحظ أن خلاصة ما ذكرناه من أحكام هذه المسألة وما لم نذكره مما يتعلق بحالات الإجهاض وأحكامه – إنما هي في مجموعها رعاية لحقوق ثلاثة تعود إلي ثلاثة أطراف، وهي حق الأبوين، وحق المجتمع، وحق الجنين. فمن رعاية هذه الحقوق الثلاثة والتنسيق فيما بينها، تتكامل أحكام تحديد النسل وقاية (وهو ما فرغنا من بيانه) وعلاجًا (وهو ما لم نذكره في هذا المقام) (2) .   (1) انظر الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 109. (2) قلنا عند تحرير محل هذا البحث: إن موضوع الإجهاض وأحكامه مفصول في مصطلح الباحثين اليوم عن موضوع تحديد أو تنظيم النسل، ولذا لم نشأ أن نفتح ملف البحث في هذا المقام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 دراسة المسألة في الميزان الاجتماعي والديموغرافي دأب طائفة من الباحثين السطحيين علي إهمال الحكم الشرعي وعدم الوقوف عنده بأي تقدير، كلما كان الحكم متعلقًا بقضية اجتماعية سجل علماء الاجتماع في حقها حكمًا مخالفًا، ونظرة مغايرة لنظر الشرع ومن أبرز مظاهر السذاجة عند هذه الطائفة من الناس، أنهم ينعتون حديث علماء الاجتماع بالقرار العلمي، ويصفون حكم الشريعة الإسلامية بالنظرة الدينية. ولسنا الآن بصدد تحليل هذه الظاهرة الفكرية المتخلفة التي تبعث علي الإشفاق، ولكني أشعر نظرًا لوجود هذه الطائفة فعلًا أن ثغرة ما قد تبقى في تضاعيف هذا البحث إن لم أتبع بيان الحكم الفقهي بما يؤيده من تهافت الكلام الذي يردده من ينعتون أنفسهم بعلماء الاقتصاد أو الاجتماع أو العلماء الديموغرافيين، بدءًا من مالتوس إلي كل من يهيم وراء كلامه في عصرنا هذا. ومعلوم أنهم جميعًا يرفعون – في بلادنا العربية والإسلامية – شعار الدعوة إلى تحديد النسل أو تنظيمه.. والكلمتان توأمان في المدلول وإن اختلفتا في المظهر والنعومة. بإمكاننا أن نكثف الأدلة العلمية المختلفة التي كشفت عن زيف افتراضات مالتوس وأشياعه في بيان النقاط التالية: أولًا: إذا فرضنا أن المستند الذي أقام عليه مالتوس تصوراته، مستند علمي صحيح، يجب إذن أن يكون حقيقة راسخة تهيمن على علاقة الإنسان بوسائل الرزق والإنتاج من حيث الكم، علي طول الحياة الإنسانية فوق هذه الأرض. ذلك لأن الإنسان ذاته في كل عصر، وأسباب الرزق في محدوديتها أو عدم محدوديتها هي أسباب الرزق ذاتها في كل مكان وزمان. فأين هو مصداق تصوره الذي بنى عليه اقتراحاته، على مساحة التاريخ الإنساني كله طولًا وعرضًا؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 لقد ظل الناس يتزاوجون فيتناسلون ويتكاثرون خلال قرون متطاولة مرت، وكانت أرزاق الأرض والسماء كما هي الآن، إن لم تكن أقل غنى منها اليوم فإنها لم تكن أكثر. ومع ذلك فإن شيئًا مما دار في خلد مالتوس لم يقع في أي مرحلة من مراحل ذلك التاريخ الطويل: لم تتناقص كمية الأرزاق أمام زيادة السكان، ولم يقع أي جيل في كمين المهلكة التي ينذر بها المالتوسيون اليوم (1) . وطبيعي أن أنظمة المعيشة ومقوماتها ليست خاصة بإنسان هذا العصر وحده، بل هي لا تسمى أنظمة كونية ومقومات أساسية إلا إذا كانت مهيمنة علي حياة الأسرة الإنسانية كلها منذ فجر التاريخ. قد يناقش بعض السطحيين هذا الكلام بأن من الثابت أن تزايد السكان في هذا العصر يسير بسرعة أكثر مما كان الحال عليه في الماضي، فنسبة تزايد السكان في العالم اليوم ما بين 4.3 % (إحصائيات هيئة الأمم المتحدة) وهي تكشف عن مدى التفاوت في سرعة التكاثر بين هذا العصر والعصور الخالية. والجواب أن ملاحظة هذه النسبة في الزيادة يجب أن تقترن بها ملاحظة التفاوت الكبير في الطاقة الإنتاجية وثمراتها، ما بين عصرنا هذا وتلك العصور الغابرة، فإذا أخذنا هذا بعين الاعتبار، أدركنا أنه ما من زيادة في تكاثر السكان إلا وتتبعها زيادة في الطاقة الإنتاجية وأسباب المعيشة، ذلك لأن التقدم العلمي الذي أصبح عاملًا في خفض نسبة الوفيات هو ذاته الذي غدا عاملًا في تطوير الطاقات الإنتاجية ومضاعفة ثمراتها، ولا يستثنى من هذا التلازم الواضح إلا حالة الركود الذي قد تجنح إليه جماعة من الناس، فالذنب عندئذ إنما هو ذنب الكسل والركود لا ذنب النسل المتكاثر.   (1) من الواضح أننا نعني مجاعة عامة يفترض أنها ظهرت أو ستظهر من جراء سوء التناسب الكمي بين الإنسان ومدخرات الأرض فلا شأن لنا إذن بالمجاعات التي قد تقع لعورض وأسباب خاصة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 ثانيًا: إن أرباب هذه الدعوة، أقاموا دعوتهم على خطيئة كبرى في تقدير معنى الرزق الذي يحتاج إليه الإنسان، فلقد تصوروا أن الحاجات الإنسانية محصورة في الخيرات الثابتة في الأرض والمنافع الكامنة في أحشائها، بقطع النظر عن أي تفاعل يتم بينها وبين الإنسان، وهي بدون شك (علي هذا المعنى) منافع محصورة، سرعان ما يربو عليها نمو السكان وتكاثر الأفراد. ولكن الأمر في واقعه ليس كذلك. ليست مقومات العيش لبني الإنسان متمثلة في هذه المدخرات الثابتة من زيت وفحم وحديد وغير ذلك، وإنما هي كل ما قد يتوالد من تزاوج هذه المدخرات، مع ما قد يبذله الإنسان من جهد ويحققه من تدبير، في سبيل الوصول بهذه المنافع الطبيعية إلى أقصى درجات الاستفادة المتنوعة منها. ومعلوم أن الإنسان كلما اكتشف سبل نفع جديدة من بعض خيرات الأرض، تكون له من ذلك رأس مال جديد لتحقيق مغانم جديدة في مجال النفع الإنساني الذي لا يكاد يقف عند حد.. ويمتد أثر هذا التلاقح من النفع المتوالد بشكل زاوية منفرجة تتسع قدر اتساع الجهد الإنساني. وهذا شيء معروف ومفروغ منه لدى سائر علماء الاقتصاد والديمغرافيا اليوم، ولا نحسب أن أحدًا من المثقفين، فضلًا عن أهل الاختصاص يمتري فيه. يقول الأستاذ فيدروف أمين الأكاديمية السوفياتية للعلوم بصدد نقده لتصورات مالتوس: وإذا كانت موارد الطبيعة محدودة حقًا، وكانت الحاجات الإنسانية غير محدودة فما وجه الاعتراض إذا على تلك النظرية؟ وجه الاعتراض عندنا أن موضع الاهتمام ينبغي أن يركز علي حاجات المجتمع الإنساني الأساسية وعلى وسائل سدها، لا على موارد الطبيعة ذاتها، كالفحم والزيت والحديد وغيرها، وكذلك ينبغي أن لا نغفل عن قيمة الإنسان وسعيه وتدبيره (1) .   (1) من مقال نشرته مجلة ستردي ريفبو، وانظر كتاب المجتمع العربي ومقاييس السكان للدكتور عبد الكريم اليافي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 ويقول العالم الديموغرافي الفرنسي الفريد سوفي: إن الاكتظاظ الذي قد تبدو سماته في بعض البلدان مرده إلى قلة الاستغلال لموارد الطبيعة وضعف اختصاص العمال والاعتماد علي الزراعة، فالاكتظاظ في نهاية التحليل كظاهرة من ظواهر التأخر يزول عند أخذ المجتمع بأسباب التقدم. ثم يذكر الفريد سوفي في ختام كلامه مثال الصين الشعبية إذ كانت تعد من أكثر البلاد اكتظاظًا بالسكان، وقد أصبحت أخيرًا محتاجة إلى مزيد من الأيدي العاملة نظرًا لتقدمها السريع (1) . ويقول المستر هوبرت مارسين وزير داخلية بريطانيا عام 1943: إن بريطانيا إذا كانت تحب المحافظة على مستواها في الوقت الحاضر، والتقدم في سبيل الرقي والازدهار في المستقبل، فمن اللازم أن يتزايد فيها أفراد كل أسرة بنسبة 25 % على الأقل. ولكن ما وجه العلاقة بين ازدياد كثافة السكان، وازدياد الأرزاق والطاقات الإنتاجية؟ هذا ما سنوضحه في البرهان الثالث، وهو: ثالثًا: إن المتحمسين في الدعوة إلي تحديد النسل، يذهلون عن حقيقة ذات أهمية بالغة في ترسيخ دعائم الحضارة والمدنية في المجتمع، وهي حقيقة علمية لا مجال لإنكارها.   (1) كان هذا التقرير من الفريد سوفي في الستينات، أما اليوم فقد يقول البعض: ولكن ها هي الصين تسعى اليوم إلى التخفيض من عدد سكانها.. والجواب أن العبرة من سياسة الصين تجاه كثافة السكان ما كانت تفعله أيام تخلفها، لا ما غدت تتجه إليه بعد تقدمها.. أي فإذا تقدمت البلاد العربية والإسلامية وغدت في مصاف العالم الثاني فإن لها أن تفكر في هذا الأمر إذا شاءت، ولكل حادث حديث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 هنالك ما يسمى عند علماء الديموغرافيا بمبدأ الاصطفاء، وهو يعني باختصار أن مرافق العمل الإنتاجي والاقتصادي في أي مجتمع من المجتمعات متعددة ومتنوعة فمنها ما هو فني، ومنها ما هو علمي، ومنها ما هو عضلي ... إلخ ولابد أن يسد كل واحد من هذه المرافق بالعدد الكافي من الأشخاص الأكفاء.. غير أن الأشخاص الأكفاء لا يظهرون إلا ضمن مجموعة كثيرة من الناس عن طريق الاصطفاء، فالعباقرة العلميون لا يمكن العثور عليهم في ساحة لا يوجد فيها غيرهم، وإنما يتم اكتشافهم من خلال استعراض أناس كثيرين، وكذلك الفنيون، وكذلك غيرهم من ذوي القدرات أو الاختصاصات علي اختلافها. وهكذا فإن من الثابت أن الأمة كلما كانت أكثر عددًا، كانت الصفوة فيها أكثر عددًا أو أكثر تنوعًا، ونتيجة لذلك تصبح فرص المهارات والاختصاصات أمامها أرحب وأوسع. إذن فإن رأس المال الأول الذي لا غنى عنه لتحريك عجلة الحياة الإنتاجية إنما يتمثل في الفيض السكاني إذ يملأ رحب الأرض. يتوهم بعض السطحيين أن عملية الاصطفاء هذه من شأنها أن تخلف وراءها كمية كبيرة من الناس الذين لا يمكن تصنيفهم مع أي فريق من العاملين، فيكونون بذلك عبئًا على المجتمع، وتبوء عملية الاصطفاء بالخسارة بدلًا من الربح. ولا ريب أن هذا توهم باطل ينطوي على خطأ كبير في التقدير.. والحقيقة أن الكرم الإلهي قد وزع مزايا الملكات والطاقات بين سائر الناس، بحيث قل أن تجد – بالنسبة إلى الكثرة الكبرى – إنسانًا جردته الأقدار من كل طاقة فوقف هناك عالة على الناس. غير أنه لا يمكن اكتشاف ما لدى الأفراد من ملكات وطاقات يتمتعون بها، وبتعبير أدق لا يمكن اكتشاف حاجة المجتمع إلى مواهبهم أو جهودهم إلا بعد ظهور صفوة العلماء والفنيين وأصحاب الاختصاصات المتنوعة حيث تتجلى من خلال خططهم ومشروعاتهم التي يتقدمون بها – الحاجة إلى ملكات أولئك الناس وطاقاتهم.. ذلك لأن مرافق الحياة كثيرة ومتوالدة، واحتياجات الإنسان أيضًا كثيرة ومتنوعة لا يكاد يحصرها عد، إلا أن وجه الحاجة إلى كثير من هذه المرافق والاحتياجات والتنبه إلى المشروعات المتوالدة عن بعضها، لا يستبين جليًا إلا بوجود تلك الصفوة المتنوعة من الناس قبل كل شيء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 وإليك هذا المثل: إن استخراجك لحجارة سليمة صالحة لتشييد بناء بها لا يتم في أي تربة أو مكان، إلا من خلال تجميع ركام من الرمال وفتات الحجارة تتكاثر أمامك، وقد تتوهم بادئ الأمر أن هذا الركام شيء لا يجدي شيئًا، ولكن ما أن تتهيأ الحجارة الكبيرة أمامك حتى تتنبه إلى أن ذاك الذي كنت تحسبه ركامًا لا فائدة منه شرط أساسي لإقامة بناء متماسك. لا أظن أن بين هذا المثال والمجتمعات الإنسانية أي فارق إلا في اختلاف الجنس وتفاوت حجم المثال. وتبدو لنا ثمرة هذا الذي نقول فيما نلاحظه من كثرة أصحاب الاختصاصات العميقة والمهارات المتنوعة في الأمم الكثيفة الأعداد (شريطة أن لا تكون كسولة ميالة إلى الدعة) . ومن هبوط عدد هؤلاء الرجال في الأمم التي هي أقل عددًا إلي نسبة أقل بكثير مما يقتضيه الفرق العددي بين حجم كل من الأمتين. ويقرر الدكتور عبد الكريم اليافي بالإضافة إلى هذا حقيقة أخرى إذ يقول: وربما كان في هذا ما يفسر حصول الابتكار والاختراع والكشوف في البلاد الكبيرة على أنه ربما يكون الأفراد في البلاد الصغيرة على درجة عالية من الثقافة ولكن الابتكار والاختراع والكشوف في الغالب من نصيب البلاد الكبيرة (1) . ويقول جاك أوستروي في كتابه: الإسلام والتنمية الاقتصادية مؤكدًا هذه الحقيقة الهامة: وإذا كان الازدياد الكبير في السكان يشكل فيما يبدو أخطارًا اقتصادية لا يمكن إنكارها في بلاد أخرى، فإن هذا الواقع له جانب مفيد أيضًا، وهو تحول التركيب البشري في اتجاه اقتصادي مفيد بإنقاص عدد الأشخاص الذين لا ينتجون اقتصاديًا بالنسبة لعدد المنتجين، وبالتالي يحدث دفعًا مبدعًا له دور أساسي في عملية التنمية (2) .   (1) المجتمع العربي ومقاييس السكان: ص 33. (2) الإسلام والتنمية الاقتصادية لجاك استروي، ترجمة الدكتور نبيل الطويل: ص 28. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 ويعدد الدكتور أحمد عبد العزيز النجار المشكلات الاقتصادية لتنمية المجتمعات المتخلفة بعد أن أوضح عوامل الإنتاج وبين أن الإنسان أهم هذه العوامل من حيث الكم ومن حيث الكيف، فيذكر منها: الخلل في العلاقة الكمية بين الناس المخططين والمنظمين من جهة، والعاملين من جهة أخرى قائلًا: الخلل في العلاقة بين نسب عوامل الإنتاج المختلفة، فرأس المال والمنظمون أقل نسبيًا من الأرض والموارد الطبيعية والعمل (غالبية العمال غير مهرة) وبالتالي فإن وسائل الإنتاج الكامنة لا تستغل استغلالًا كافيًا، ويصاحب الاستغلال السائد طاقة إنتاجية ضعيفة، ويصبح متوسط الدخل القومي للفرد منخفضًا. ويتابع فيقول: تؤدي قلة وجود أنظمة وانعدام الخبرة ونقص الأيدي العاملة الماهرة، وصعوبة الحصول علي رأس المال بتكاليف معدلة، إلى اعتماد الدول النامية الرئيسي على تصدير بعض الخدمات أو المواد الأولية أو نوع أو أكثر من السلع الزراعية واستيراد جميع السلع الاستثمارية ومعظم السلع الاستهلاكية.. ويعتبر هذا الارتباط الشديد بالأسواق الخارجية من أهم العوامل المسببة لمشاكل كثيرة في الدول النامية (1) . أقول: ومن أبرز النتائج لهذه الظاهرة شيوع البطالة، حيث تقل الكثافة السكانية وذلك على النقيض مما يتوهمه السطحيون والبسطاء.. ذلك لأنها وإن كانت تشيع لأسباب شتى، إلا أن من أهم أسبابها أن تعوز الأمة وجود الصفوة الكافية فيها من المخططين والخبراء والمبدعين، فيبقى أكثر السبل إلي الحياة الإنتاجية مغلقة من جراء ذلك، فلا يجد كثير من الناس بسبب ذلك ما يعملون، وتذهب طاقاتهم الكامنة بددًا.   (1) المدخل إلى النظرية الاقتصادية في المنهج الإسلامي: ص 207. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 وأخيرًا المشكلات الجزئية محلولة ثم إن أكثر الذين يتبنون الدعوة إلى ما يسمونه بـ (تنظيم النسل) وهي تسمية ملطفة عن الحقيقة التي هي – تحديد النسل – يتذرعون بأسباب ومقتضيات جزئية يلملمونها من هنا وهنك، ليقيموا عليها دعوتهم الكلية العامة هذه. فهم يذكرون من هذه الأسباب والمقتضيات مثلًا ما قد تتعرض له المرأة أو بعض النساء من أوضار صحية مختلفة، إذا ما تلاحق الحمل بالحمل دون فاصل زمني كاف لإعادة المرأة الأم إلى نشاطها ومناعتها الصحية، أو ما قد يتعرض له الطفل من أمراض وأضرار بسبب الحمل المبكر الذي من شأنه أن يصرف الأم كليًا أو جزئيًا عن إمكانية منحه الرعاية الكافية، أو ما قد تفاجأ به الحامل من أوضاع صحية، وربما نفسية واجتماعية تقتضيها التخلص من حملها.. يذكرون أمثلة من هذا القبيل، ثم يتخذون منها حجة لقيامهم بحملة مركزة عامة في صفوف الناس جميعًا تهدف إلى حملهم على الإقلال من النسل ما أمكن، وخفض نسبة الكثافة السكانية فيهم بصورة عامة، أي بقطع النظر عن أي عارض من العوارض الجزئية ونحن نقول في تعليقنا على هذا الشكل، بل الطريقة من الاحتياج. أولًا: ليس ثمة أي تناسب منطقي بين الاحتجاج بالوقائع الجزئية والقصد إلى توجيه الناس عمومًا نحو العمل على إقلال النسل ومقاومة الكثافة السكانية. إن المشكلات الجزئية إنما يتم التغلب عليها بالحلول الجزئية المتعلقة بها، أما زعم السعي إلي القضاء عليها ضمن تيار عام من التغيير والتحويل، فإنه لا يمكن إلا أن يجر معه مشكلات أخرى أكثر عددًا وأشد خطورة وأهمية من تلك المشكلات الجزئية المتناثرة التي استعمل ذلك التيار العام للقضاء – فيما زعموا – عليها. ثانيًا: إن كلًا من المنطق والشريعة الإسلامية قد تكفل بحل سائر المشكلات الجزئية التي قد تظهر في أي أسرة، مما يتعلق بأمر الحمل والإنجاب وقضايا الصحة والتربية ونحو ذلك. أجل فقد تكلفت الشريعة الإسلامية بحل ذلك، كما قد رأينا في الوقت ذاته الذي يدعو عامة الناس إلى الإكثار من النسل وإلى مسابقة الأمم الأخرى في هذا المضمار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 فقد علمنا أن الشريعة الإسلامية لا تمنع من اتفاق الزوجين على اتخاذ وسيلة وقائية ما لمنع الحمل، بالشروط التي أوضحناها، غير أن من المعلوم أيضًا أن هذا الحكم ليس إلا رخصة رخص الله بها لعباده، ليستعينوا بها في حل مشكلاتهم الجزئية العارضة، ومن ثم فإن هذه الرخصة لا تخلو من الكراهة التنزيهية في أكثر الأحيان. وهي في الحقيقة ليست إلا ذيلًا وتتميمًا للحكم الأساسي العام الذي تنهض عليه الحكمة الكبرى من ربط كل من الجنسين بالحياة الزوجية وإخضاع الإنسان (ذكرًا أو أنثى) لهذا المعنى الغريزي العجيب، تحقيقًا لتنمية النسل وتكاثر أفراد الأسرة الإنسانية المسلمة فوق الأرض ولا يضير بهذا الحكم الأساسي العام وجود رخصة استثنائية تذيله وتقيده، إذ ما من حكم من الأحكام الكلية إلا وله قيود ورخص استثنائية. ومن ثم فإن واجب المسلمين والحالة هذه أن يطبقوا الحكم الكلي في مجاله الكلي العام وأن يضعوا قيوده واستثناءاته ورخصه في مواضعها الجزئية الخاصة بها بحيث لا يجعل من الاستثناءات الجزئية أداة نسف للقاعدة الكلية التي شرعها الله عز وجل. والنتيجة التي تؤخذ من هذا الكلام أنه لا يجوز للدولة ولا لأي جهة عامة ولا لفئات الموجهين والمصلحين توجيه الناس عمومًا إلى الحد من النسل، مهما اختلفت الأسماء والمسوغات، كما لا يجوز – قولًا واحدًا – استخدام شيء من وسائل الإعلام لبث هذه الدعوة في صفوف الناس، أو لحملهم على مضمونها بشكل من الأشكال.. بل واجب هذه الفئات والأجهزة، وعلى رأسهم ممثلو الدولة تذكير الناس بالحكمة الكبرى التي شرع من أجلها الزواج وتشجيعهم بكل الوسائل الممكنة على الإكثار من النسل، كما أن من واجب هذه الفئات العامة ترك الرخص التي شرعها الله استجابة لظروف وأحوال جزئية طارئة يقدرها أصحاب العلاقة أنفسهم. نعم لا بأس من بيان الحكم الشرعي العام والخاص للناس عامة، حتى يكونوا على بينة من أمرهم وعلى علم باليسر الذي ضمنته الشريعة لحياتهم. نسأل الله تعالى أن يرزقنا نعمة الاعتزاز بدينه وشريعته، وأن يلهم المسلمين جميعًا قادة وشعوبًا الرجوع إلى ما ضمن الله به عزنا وسعادتنا وتألفنا واجتماع شملنا، ألا وهو دين الله المتمثل في عقائده وتشريعاته وأخلاقه، إنه سميع مجيب. والحمد لله رب العالمين. محمد سعيد رمضان البوطي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 تنظيم النسل وتحديده إعداد الدكتور إبراهيم فاضل الدبو الأستاذ بكلية الشريعة – جامعة بغداد بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. وبعد.. قد دعا الإسلام إلى زيادة الإنجاب والتكثير من النسل الطيب والذرية الصالحة، وجعل ذلك سببًا لتكثير الأمة وإعلاء كلمة التوحيد، وترجيح كفة الإيمان على الكفر والفسوق والعصيان، وتعزيز جانب الحق وإظهاره على الباطل، وتعمير الأرض بالعمل الصالح {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (1) لأجل هذا ندب الإسلام أتباعه إلى الزواج لأنه السبب في بقاء هذا النوع الإنساني على أحسن وجه، وأكمل نظام، وفيه حفظ النوع البشري من الفناء والانقراض وفيه عمران الأرض وصلاحها، فها هو نبينا الأعظم محمد عليه الصلاة والسلام، يلفت أنظار الشباب لهذا الركن الحيوي من أركان الحياة الاجتماعية، مخاطبًا إياهم بقوله: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" (2) . وبخصوص زيادة النسل وتكثير عدد أفراد الأمة، فقد لفت الإسلام أنظارنا إلى اختيار المرأة الودود الولود. قال صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم " وفي رواية: " فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة" (3) . والتكاثر المقصود، هو التكاثر الذي يستحق أن يباهي به الرسول صلى الله عليه وسلم، الأمم وهو التكاثر القائم على الصلاح والإيمان والقوة والحيوية والخير، أما التكاثر القائم على الفساد والعصيان فإنه أبعد ما يكون عن قصد النبي عليه الصلاة والسلام.   (1) سورة الأنبياء [105] . (2) الحديث متفق عليه. انظر سبل السلام – شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام لمحمد بن إسماعيل المعروف بالصنعاني 109/3 (3) رواه أحمد وصححه ابن حبان وله شاهد عند أبي داود والنسائي. راجع المصدر السابق 111/ 3 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 التنظيم والتنسيق بمعنى واحد، يقال: خرز نسق بمعنى منظم. والنسق أيضًا ما جاء من الكلام على نظام واحد. والإنظام معناه الاتساق (1) . أما التحديد فله معنى آخر، فحد الشيء منتهاه، والحد بمعنى المنع. ومنه قيل للبواب حداداً وللسجان أيضا، لأنه يمنع عن الخروج، أو لأنه يعالج الحديد من القيود (2) . ولا يختلف المعنى الاصطلاحي كثيرًا عن المعنى اللغوي للفظتي التنظيم والتحديد، إذ مقصودنا من هاتين اللفظتين في هذا البحث، هو ترتيب النسل وتنسيقه أو منعه بصورة مؤقتة. الفرق بين تنظيم النسل ومنعه: هناك فرق كبير بين تنظيم النسل المقصود بالبحث هنا، وبين منعه بصورة دائمة وذلك بإجراء بعض العمليات الجراحية، وبعض الطرق العلمية التي تحقق هذا الغرض، ومنع الإنجاب نهائيًا يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية من الزواج الذي من أهم أغراضه ومقاصده التناسل كما ظهر لنا ذلك من النصوص المتقدمة. ثم إن قواعد الشريعة تدل على منع ذلك الأمر وتحريمه من غير ضرورة، فإن في الحرمان من النسل نهائيًا مضرة ظاهرة يأباها الشارع وتدخل فيما نهى عنه بقوله صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " وواضح وجه المضرة في الحرمان من النسل، فإن الشريعة الإسلامية وما تعارفه الناس في أمر النكاح، يقتضي أن يكون هناك تناسل لعمارة الأرض وبقاء الإنسان، كما أنه هو الذي يتفق مع الطبيعة الإنسانية التي أوجدها الله في كل من الذكر والأنثى من حب الأبوة والأمومة، وأن يشعر كل منهما بتحقق هذا الوصف كما تحقق في أصله الذي يرى في حياته إمتدادًا لحياة أصله وتخليدًا له، وفي هذا الأمر تغيير لخلق الله في الإنسان، وتحويل له عن طبيعته، ومقتضى فطرته التناسلية، والدين يأبى ذلك، لأنه جاء مسايرًا للناس في نظرهم السليم، وداعيًا إلى مصالحهم، ومحرمًا لكل ما يترتب عليه ضرر في أشخاصهم ومجتمعاتهم (3) .   (1) انظر مادة نسق ونظم في مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي (2) انظر مادة حدد في المصدر السابق أيضًا (3) الجنين والأحكام المتعلقة به في الفقه الإسلامي للأستاذ محمد سلام مدكور ص313 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 وبناء على ذلك فقد وردت نصوص فقهية، في كتب الشافعية وغيرها تنص على تحريم التعقيم، فقد نقل البجيرمي أحد فقهاء الشافعية في حاشيته على الإقناع، عن فقهاء المذهب " أنه يحرم استعمال ما يقطع الحبل من أصله". ويستوى في تحريم التعقيم، أن يكون قبل الإنجاب مطلقًا، أو بعد الإنجاب اكتفاء بما رزق به الزوجان أو أحدهما من أولاد، فإن ذلك أيضًا يشتمل على مضرة، تتنافى مع أغراض الشارع، فإن ما رزقهما الله به من أولاد، قد يفقدانه دفعة واحدة أو على التتالي، وقد فقدا أو أحدهما وسيلة الإنجاب، فيقعان في الحرمان، ولا يستطيعان على أن يتداركا ما فاتهما، وقد تتحرك فيهما أو فيمن فقد منهما الصلاحية للإنجاب. عاطفة الأمومة أو الأبوة فلا يجدان أو أحدهما مجالا لتحقيقها، والانتفاع بها، ويندمان أو أحدهما وقت لا ينفع الندم (1) . الغرض من تنظيم النسل وتحديده: تلجأ الأسر إلى عملية التنظيم هذه، بقصد عدم إرهاق الأم في أغلب الأحيان سيما إذا كانت الأم مشغولة بالأعمال الوظيفية، وليس لديها الوقت الكافي لإدارة شئون أسرتها فتلجأ إلى هذه الوسيلة لتتهيأ لها فرصة الإشراف على أعمالها المنزلية من خدمة زوجها أو تربية أولادها، وفي بعض الأحيان يكون سببه مرض المرأة مما يجعلها عاجزة عن مهامها البيتية كما قلنا، فتلجأ لذلك. وقد يكون سببه حرص المرأة على المحافظة على جمالها وسمنها لدوام التمتع واستبقاء حياتها خوفًا من خطر الولادة، وهناك عامل آخر قد تلجأ إليه بعض الأسر وهو الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء (2) ومهما كان القصد من تحديد النسل وتنظيمه، فإنه لا يعني منعه بصورة نهائية.   (1) الأستاذ مدكور في المصدر السابق أيضًا (2) انظر: إحياء علوم الدين – للإمام الغزالي 53/2 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 وسائله: لتنظيم النسل وسائل متعددة، منها ما تتم قبل تكوين الجنين في رحم المرأة، وذلك بأن يمتنع الزوج من وطء زوجته في فترة معينة من طهرها، وغالبا ما يكون ذلك في العشرة الوسيطة من الطهر، عندما تكون بويضة المرأة مهيأة للتلقيح، أو في استعمال بعض العقاقير الطبية التي تقلل فرصة الحمل، وأحيانًا يلجأ الزوج إلى العزل وذلك بأن يقذف ماءه خارج رحم زوجته. وهناك وسائل أخرى تلجأ إليها بعض الأسر بعد تكوين الجنين في رحم أمه، سواء كان في مراحل تكوينه الأولى أم الأخيرة، ولكل حالة من هاتين الحالتين حكمها الخاص. حكم الحالة الأولى: وهي ما إذا استعمل الزوجان الوسائل الكفيلة بمنع الحمل بصفة مؤقتة قبل تكوين الجنين. ومنع الحمل بهذه الصفة أمر معروف لدى الأمم قبل الإسلام وبعده، ومنهم الفرس والرومان، وقد اتخذ العرب في الجاهلية العزل وسيلة لمنع الحمل أيضًا، ولما جاء الإسلام والناس على هذه الحال، وكان بعض من دخلوا في الإسلام يتبعون هذه الوسيلة، سأل بعضهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكم العزل باعتباره وسيلة للتحكم في الحمل طالما وجدت الرغبة في عدم حصوله، فأدلى الرسول عليه الصلاة والسلام بما يشعر بإباحته. فما هو العزل؟ هو أن ينزع الرجل بعد الإيلاج ليقذف ماءه خارج الرحم. ويلجأ إليه لأحد سببين، إما خوفًا على الرضيع من أن يلحق به ضرر إن وجد أو لئلا تحمل المرأة (1)   (1) انظر سبل السلام 145/3 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 رأي الفقهاء في العزل: الأصل عند الجمهور هو جواز العزل إلا أنهم اختلفوا في اشتراط إذن الزوجة له أو عدم اشتراطه، وذلك على النحو التالي: 1- نص الحنفية على إباحة العزل بعد إذن الزوجة، إذا كانت بالغة، إذ غير البالغة لا ولد لها، وكالبالغة المراهقة إذ يمكن بلوغها وحبلها. وقد نقل ابن عابدين عن بعض كتب المذهب، أن الزوج إذا خاف من الولد السوء، فله العزل بغير رضاها بسبب فساد الزمن (1) وهذه وجهة نظر الحنابلة أيضًا، قال ابن قدامة: " ولا يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها" (2) معللا لذلك بأن للزوجة حقًا في الولد. وعليها في العزل ضرر فلم يجز إلا بإذنها (3) وهل الاستئذان واجب أو مستحب؟ قال القاضي الحنبلي: " ظاهر كلام أحمد وجوب استئذان الزوجة في العزل، ويحتمل أن يكون مستحبًا لأن حقها في الوطء دون الإنزال " (4) . وبإباحة العزل قال المالكية أيضًا. فقد ذكر الدردير أن للزوج العزل إذا أذنت له الزوجة بذلك (5) ونص الخرشي على مثل هذا بقوله: " يجوز للرجل أن يعزل عن زوجته. لكن إن كانت أمة فلا بد من إذنها وإذن سيدها.. وإن كانت حرة فيكفي أذنها وإن لم يأذن وليها (6) . وفي مذهب الشافعية ما يؤيد هذا الرأي أيضًا، فقد ذكر الفيروزآبادي الشافعي، أن الرجل إذا عزل عن زوجته الحرة، إن كان العزل بإذنها جاز، لأن الحق لهما، ولو لم تأذن الزوجة بالعزل ففيه وجهان: " أحدهما لا يحرم لأن حقها في الاستمتاع دون الإنزال، والثاني يحرم لأنه يقطع النسل من غير ضرر يلحقه" (7) . 2- ونص الغزالي الشافعي في الإحياء على إباحة العزل دون اشتراط أذن الزوجة، وقد نفى أن يكون ذلك مكروها كراهة تحريم أو تنزيه، معللًا لذلك بقوله: " لأن إثبات النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص، ولا نص ولا أصل يقاس عليه، بل ههنا أصل يقاس عليه وهو ترك النكاح أصلا أو ترك الجماع بعد النكاح أو ترك الإنزال بعد الإيلاج فكل ذلك ترك للأفضل وليس بارتكاب منهي " (8)   (1) انظر حاشية رد المحتار على الدر المختار 175/3 (2) انظر المغني 298/7 (3) انظر ابن قدامة في المصدر السابق وكذا منتهى الإرادات للنجار 227/2 (4) المصدر السابق أيضًا (5) انظر الشرح الكبير على سيدي خليل 266/2 (6) الخرشي علي سيدي خليل وبهامشه حاشية الشيخ العدوي في 225 / 3 (7) المهذب طبعة البابي الحلبي 66/2 (8) إحياء علوم الدين 53/2 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 دليل الجمهور فيما ذهبوا إليه: استدل الجمهور على إباحة العزل للزوج من زوجته سواء من اشترط منهم إذنها أو لم يشترط بالروايات الصحيحة الواردة عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم والتي تشعر بجواز ذلك منها: أ – ما جاء في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: " كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل لو كان شيء ينهى عنه لنهانا عنه القرآن " (1) . والحديث فيه دليل على فعل الصحابة للعزل في زمن التشريع ولو كان حرامًا لما أقرهم الوحي عليه. ب- واستدلوا كذلك بما رواه أحمد وأبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي جارية، وأنا أعزل عنها، وأنا أكره أن تحمل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وأن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى قال: كذبت اليهود لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه (2) . وجه الإستدلال من هذا الرواية، أن الرسول صلى الله عليه وسلم فند مزاعم اليهود في تسميتهم العزل بالموءدة الصغرى: وقوله: " لو أراد الله أن يخلقه ... الحديث" معناه أنه تعالى إذا قدر خلق نفس فلا بد من خلقها بأن يسبق الرجل ماؤه من غير شعوره فلا يقدر على دفعه فينفذ الله ما قدره، وفي هذا دليل على جواز العزل (3) . وقد جزم ابن حزم الظاهري بتحريم العزل (4) . وقالت الزيدية بكراهيته (5) . وقد استدل الظاهرية بما رواه مسلم عن جذامة بنت وهب قالت حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: " لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر ذلك أولادهم شيئًا ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذلك الوأد الخفي " (6) والغيلة والغيال بكسر الغين، والمراد بها مجامعة الرجل امرأته وهي ترضع وقيل هي: أن ترضع المرأة وهي حامل، ويعتبر الأطباء ذلك داء، وكانت العرب تكرهه وتتقيه، وقد فند النبي عليه الصلاة والسلام هذه المزاعم لما ثبت عنده من فعل فارس والروم ذلك دون أن يلحق أولادهم ضرر من جرائه (7) .   (1) الحديث متفق عليه انظر سبل السلام 146/3إلا أن قوله " لو كان شيء ينهى عنه.. إلخ " لم ترد في صحيح البخاري وإنما رواه مسلم من كلام سفيان أحد رواته، وظاهره أنه قاله استنباطًا ذكر ذلك الصنعاني في المصدر السابق (2) انظر الصنعاني في المصدر السابق (3) المصدر السابق (4) المحلي 78/10 المسألة 1907 (5) الروضة الندية شرح الدرر البهية لأبي الطيب القنوجي 42/2 (6) جذامة بنت وهب أخت عكاشة بن محصن من أمه انظر الصنعاني 145/3 (7) انظر الصنعاني في سبل السلام أيضًا 145/3 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 وجه الاستدلال في هذه الرواية كما يراها ابن حزم هو: أن النبي عليه الصلاة والسلام اعتبر العزل بمثابة الوأد الخفي وذلك أمارة التحريم، وغيرها من الروايات مرجحة لأصل الإباحة ورواية جذامة تمنع، فمن يدعي إباحة العزل بعد منعه فعليه البيان (1) . جواب الجمهور على ما استدل به ابن حزم: أ – إن حديث جذامة معارض بما رويناه من أحاديث صحيحة، ويمكن الجمع بين رواية جذامة وغيرها، بحمل النهي الوارد في حديث جذامة على التنزيه. ب- إن قوله صلى الله عليه وسلم " الوأد الخفي " في رواية جذامة بنت وهب لا يفهم منه التحريم صراحة، لأن التحريم يثبت للوأد المحقق الذي فيه قطع حياة محققة، والعزل وإن شبهه صلى الله عليه وسلم به فإنما هو قطع لما يؤدي إلى الحياة والمشبه دون المشبه به، وإنما سماه وأدًا لما تعلق به من قصد منع الحمل (2) وبهذا يرجح رأي الجمهور. الحالة الثانية: وهي ما إذا تعمدت المرأة إسقاط النطفة بعد تكوينها في رحمها وذلك باستعمال العقاقير الطبية أو إجراء عملية جراحية أو ما أشبه ذلك، وهو ما يعبر عنه بالإسقاط أو الإجهاض، وقبل أن أنقل رأي الفقهاء في الاعتداء على الجنين بما ذكرناه أود أن أبين هنا مراحل تكوين الجنين بقدر ما له صلة بموضوع بحثنا هذا.   (1) المصدر السابق أيضا (2) الصنعاني في المصدر السابق أيضًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 أطوار الجنين في الرحم: لقد تناول القرآن الكريم أطوار الجنين في رحم أمه من وقت التلقيح الذي هو أصل التكوين الجنيني حتى مرحلة نفخ الروح فيه وتكوين العظام وإكسائها باللحم ثم جعله إنسانًا كامل الخلقة، وكل هذه الأطوار يتناولها قول الله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (1) يتعرض القرطبي في تفسيره للأطوار الثلاثة التي يمر بها الجنين منذ بدء تكوينه ويفسر كل طور من هذه الأطوار، ومن المفيد أن ننقل ما قاله رحمه الله بهذا الخصوص. النطفة: " وهي المني، سمي نطفة لقلته، وهو القليل من الماء وقد يقع على الكثير منه ". العلقة: وهو الدم الجامد، والعلق الدم العبيط، أي الطري، وقيل الشديد الحمرة. المضغة: وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ ومنه الحديث ألا وإن في الجسد مضغة" (2) والأطوار المذكورة عدتها أربعة أشهر وحكي عن ابن عباس قوله: وفي العشر بعد الأشهر الأربعة ينفخ فيه الروح فذلك عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر. (3) ، وجاء الحديث الشريف مؤكدًا الأطوار المارة الذكر التي ذكرها القرآن الكريم، ففي الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.. " (4) ومما مضى تأكد بأن نفخ الروح في الجنين يكون بعد مائة وعشرين يوما، وذلك محل اتفاق بين جميع العلماء، وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع وفي وجوب النفقات على حمل المطلقات وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف (5)   (1) سورة المؤمنون الآيات [12، 13،14] (2) انظر الجامع لأحكام القرآن 6/12وكذا روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للعلامة الآلوسي 14/18 (3) انظر القرطبي في تفسيره السابق (4) المصدر السباق (5) المصدر السابق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 رأي العلماء في الاعتداء على الجنين بالإجهاض: بعد هذه العرض لتكوين الجنين في رحم أمه والأطوار التي يمر بها، أذكر ما قاله فقهاؤنا رحمهم الله بخصوص جواز إسقاطه أو عدم جوازه، وفي أي مرحلة من مراحله يجوز الإسقاط؟ اتفق الفقهاء: على القول بتحريم الإجهاض بعد نفخ الروح في الجنين، أما قبل النفخ فقد اختلفت آراؤهم وذلك على النحو التالي: أجاز الحنفية في كثير من كتبهم الإسقاط بعد الحمل، ما لم تنفخ فيه الروح ولن يتحقق ذلك إلا بعد مائة وعشرين يومًا كما قلنا، ولم يشترط أصحاب هذا الرأي من فقهائهم إذن الزوج في الإسقاط قبل المدة المذكورة، جاء في الدر المختار: " يباح إسقاط الولد قبل أربعة أشهر ولو بلا إذن الزوج". وحكى ابن عابدين عن بعض كتب المذهب ما يفيد الكراهية، إن تم الإسقاط بدون عذر، فقد نقل عن الذخيرة ما نصه.. " لو أرادت الإلقاء قبل مضي زمن ينفخ فيه الروح هل يباح لها ذلك أم لا؟ اختلفوا فيه وكان الفقيه علي بن موسى يقول أنه يكره، فإن الماء بعدما وقع في الرحم مآله الحياة، فيكون له حكم الحياة كما في بيضة صيد الحرم، ونحوه في الظهيرية ". ومن المفيد في ذلك ما نقل عن ابن وهبان، من أن وجود العذر يبيح الإجهاض قبل أربعة أشهر، وذلك كأن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل، وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر ويخاف هلاكه. وفي القول بإباحة الإسقاط هذا استنتج صاحب كتاب النهر، بأنه يجوز للمرأة سد فم رحمها، كما تفعله النساء دون اشتراط إذن الزوج، وقد خالف بذلك رأي صاحب البحر الذي اشترط لذلك إذنه، قياسًا على عزله بغير إذنها، فإنه لا يجوز له ذلك، كذلك الأمر هنا. وفي حالة عدم رجوع الزوجة إلى أخذ رأي زوجها، فإنه يحرم عليها ما تفعله من سد فم رحمها (1) .   (1) انظر ابن عابدين في المصدر السابق أيضا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 وقد تشدد المالكية في هذه المسألة، إذ منعوا إسقاط الجنين ولو قبل الأربعين يومًا على ما هو المعتمد في المذهب. جاء في الشرح الكبير للدردير " ولا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم ولو قبل الأربعين يومًا، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعًا " (1) . وجاء في الخرشي ما يؤيد ذلك أيضًا فقد نص على ما يلي: " لا يجوز للمرأة أن تفعل ما يسقط ما في بطنها من الجنين، وكذا لا يجوز للزوج فعل ذلك ولو قبل الأربعين، وقيل يكره قبل الأربعين للمرأة شرب ما يسقطه إن رضي الزوج بذلك" (2) . على أن الخرشي قد نقل عن أحد أئمة المذهب ما يفيد جواز الإسقاط قبل الأربعين (3) وعلى هذا الرأي، يكون للمالكية رأيان في جواز إسقاط ما في الرحم قبل الأربعين يومًا، الجواز وعدمه، أما بعد الأربعين فلا يجوز إسقاطه قولًا واحدًا. أما الشافعية فمذهبهم تصوره عبارة البجيرمي نقلًا عن ابن حجر إذ يقول: " اختلف الشافعية في سبب الإسقاط ما لم يصل لحد نفخ الروح فيه، والذي يتجه وفاقًا لابن عماد وغيره الحرمة" وفرق بين ذلك وبين العزل، فإن المني حال نزوله محض جماد ولم يتهيأ للحياة بوجه (4) بخلافه بعد استقراره في الرحم، وأخذه في مبادئ التخلق. ثم يمضي البجيرمي قائلًا: إن في بعض الكتب خلاف ذلك أخذا من قول ابن حجر والذي يتجه الحرمة. ومقتضى ذلك أن بعض الشافعية يقول بعدم حرمة الإسقاط قبل نفخ الروح، واستنتج البجيرمي من قول ابن حجر- " وأخذه في مبادئ التخلق " أنه يفيد عدم الحرمة قبل ذلك (5) وقد نص الشبراملسي أنهم اختلفوا في جواز التسبب في إلقاء النطفة بعد استقرارها في الرحم، وأن أبا إسحق المروزي يجوز إلقاء النطفة والعلقة. ونقل عن الغزالي: أورد في بحث العزل، ما يدل على تحريمه وقال: إنه الأوجه لأنه بعد الاستقرار آيلة للتخلق (6) .   (1) انظر 266/2وكذا حاشية الدسوقي على الشرح المذكور بنفس الموضوع، وقد عقب على ذلك بقوله: " هذا هو المعتمد". (2) انظر 255/3 (3) انظر المصدر السباق وقد جاء فيه ما نصه: " والذي ذكره الشيخ عن أبي الحسن أنه يجوز قبل الأربعين" (4) انظر 266/2 (5) المصدر السابق أيضا (6) انظر نهاية المحتاج 179/6 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 وجاء في موضع آخر من نهاية المحتاج، اختلف في النطفة قبل تمام الأربعين على قولين: قبل لا يثبت لها حكم السقط والوأد، وقيل لها حرمة ولا يباح إفسادها، ويتجه أبو بكر بن أبي سعيد القرافي، إلى جواز الإسقاط في فترتي النطفة والعلقة، أي قبل التخلق في مرحلة المضغة، ونقل الشبراملسي عن الغزالي أيضًا ما حاصله: أن العزل ليس كالاستجهاض والوأد وأن مراتب الوجود، دفع نطفة الرجل في الرحم فيختلط بماء المرأة فإفسادها جناية، فإن صارت علقة أو مضغة فالجناية أفحش، فإن نفخت الروح واستقرت الخلقة زادت الجناية تفاحشًا ثم قال الغزالي: ويبعد الحكم بعدم تحريمه، ثم عاد فتردد بقوله: قد يقال إن الإجهاض قبل نفخ الروح لا يقال إنه خلاف الأولى بل يحتمل التنزيه والتحريم ويقوي التحريم فيما قرب من زمن النفخ، ثم قال: نعم لو كانت النطفة من زنى فقد يتخيل الجواز فلو تركت حتى نفخ فيها فلا شك في التحريم (1) ويبدو من مسلك الغزالي هنا كما يقول الأستاذ مدكور، " أنه باحث متحفظ يريد أن يطرق الاحتمالات التي يمكن الذهاب إليها، وأنه لا ينقل عن أئمة الفقه الشافعي على طريقته في الورع الصوفي والنظر الفلسفي، غير أنه استطاع أن يجزم على طريق النظر الفقهي بما أشرنا إلى أنه مجمع عليه , وهو أنه لا شك في تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح، وإن كان لم يشر إلى حالة وجود الفرد اعتمادًا على القواعد الفقهية العامة، كما أنه جزم بحثًا فقهيًا لم يسنده إلى أحد بأن النطفة من الزنا إذا تركت حتى نفخ فيها فلا شك في التحريم، وكأنه يرى أن ذلك يلتحق بالوأد المحرم ومعنى يشترك فيه ابن الزنا وابن الفراش (2) وذكر الخطيب الشربيني، أن المرأة الحامل إذا دعتها الضرورة إلى شرب دواء فشربته ثم أجهضت فينبغي أن لا ضمان عليها في هذه الحالة، كما قال الزركشي بخلاف ما إذا صامت فأجهضت فإنه تضمن دية الجنين (3) . ومن هنا يظهر لي بأن الإجهاض لعذر لا إثم فيه على رأي الشافعية بناء على قول الزركشي هذا، وبهذا يتضح أن الشافعية لا يختلفون عن غيرهم ممن قدمنا كثيرًا في مسألة العزل وإن كانوا يقتربون في مسلكهم الفقهي وذكر الخلافات من مسلك الحنفية على ما أوردناه.   (1) انظر نهاية المحتاج 416/8 (2) انظر الجنين والأحكام المتعلقة به في الفقه الإسلامي ص304. (3) انظر مغني المحتاج 103/4 ونص العبارة كما يلي: " ولو دعتها ضرورة إلى شرب دواء فينبغي كما قال الزركشي أنها لا تضمن بسببه، وليس من الضرورة الصوم ولو في رمضان إذا خشيت منه الإجهاض، فإذا فعلته فأجهضت ضمنته كما قاله الماوردي ولا ترث منه لأنها قاتلة " الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 ويصور لنا ابن قدامة مذهب الحنابلة فيقول: تجب في الجنين إذا سقط من الضربة ميتًا وكان من حرة مسلمة الدية، وقيمتها خمس من الإبل، ولا فرق بين أن يخرج جميع أجزاء الجنين من الضربة أو بعضه، ولو أن رجلا ضرب حاملًا أو ضرب من في جوفها حركة أو انتفاخ فسكن الحركة وأذهبها لم يضمن الجنين، معللًا ذلك بقوله: " لأن الحركة يجوز أن تكون لريح في البطن سكنت ولا يجب الضمان بالشك" (1) . فإن أسقطت المرأة من جراء الضربة ما ليس فيه صورة آدمي فلا شيء فيه، لعدم التيقن من كونه جنينا، " وإن ألقت مضغة فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية ففيه غرة، وإن شهدت أنه مبتدأ خلق آدمي لو بقي تصور ففيه وجهان: أحدهما لا شيء فيه، لأنه لم يتصور فلم يجب فيه كالعلقة، ولأن الأصل براءة الذمة فلا نشغلها بالشك. والثاني فيه غرة لأنه مبتدأ خلق آدمي، أشبه ما لو تصور وهذا يبطل بالنطفة والعلقة " (2) . ومن خلال ما قاله ابن قدامة هنا بعد إلزام الضارب بشيء فيما لو أسقط ما لم يتصور أو كان نطفة أو علقة، يظهر بأن الحنابلة لا يختلفون عن غيرهم من الفقهاء الآخرين، في القول: بجواز إسقاط الجنين ما دام في مراحل تكوينه الأولى من نطفة أو علقة، بخلاف ما لو تصور بمعنى بان خلقه، فلا يحل إسقاطه لاحتمال نفخ الروح فيه. ويرى الظاهرية كما يصور مذهبهم ابن حزم بقوله: " صح أن من ضرب حاملًا فأسقطت جنينًا فإن كان قبل الأربعة أشهر، فلا كفارة في ذلك " وهذا العبارة لا تدل على وقوع الإثم فلا يكون حرامًا، وقد علل ذلك بقوله: " لأنه لم يقتل أحدًا فلا كفارة إذ هي إنما تكون في القتل الخطأ ولا يقتل إلا ذو روح". (3) وإن كان الإجهاض قد حدث بعد الأربعة أشهر فإنه يوجب مع الغرة الكفارة التي هي كفارة القتل الخطأ لأن الجنين بعد مضي أربعة أشهر يكون قد نفخت في الروح الإنسانية.   (1) انظر المغنى 406/8 (2) انظر المغنى 406/8 (3) انظر المحلى 36/11 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 وفي مذهب الزيدية ما يؤيد اتجاه الفقهاء الآخرين، فيرون كما يحكي مذهبهم صاحب البحر الزخار " أنه يجوز القاء النطفة والعلقة والمضغة لأنه لا حرمة لهذه الأشياء" (1) . ونص في موضع آخر على أنه " لا شيء فيما لم يتبين فيه التخلق والتخطيط كالمضغة " ثم قال: " إنه لا كفارة في المستبين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالغرة ولم يذكر الكفارة". خلاصة الآراء: ومن كل ما عرضنا في هذا الموضوع يتبين أن الإتجاه، لا تختلف فيه وجهة النظر في أن الإجهاض بعد نفخ الروح عمدًا محرم شرعًا، وقد حكى اتفاق العلماء هذا ابن قدامة حيث قال: " وإذا شربت الحامل دواء فألقت به جنينًا فعليها غرة، لا ترث منها شيئًا وتعتق رقبة" (2) ويمضي قائلًا:" ليس في هذه الجملة اختلاف بين أهل العلم نعلمه" (3) . وقد انفرد الزركشي من أئمة الشافعية، بجواز ذلك للأم عند الضرورة، كما حكاه الخطيب الشربيني والذي أشرنا إليه سابقًا. أما قبل نفخ الروح في الجنين فقد اختلفت وجهات نظرهم على ما بينا. والذي أرجحه في هذه المسالة: هو حرمة الاعتداء على الجنين بعد نفخ الروح فيه بأي وسيلة كانت، سواء بشرب دواء من الأم أو بإجراء عملية جراحية أو غير ذلك فيما لو تأكد لنا بث الروح فيه، لأن الإجهاض عليه إزهاق لروحه وهذا لا يجوز. وما ذهب إليه الزركشي من جواز ذلك عند الضرورة ينقصه الدليل. أما قبل نفخ الروح في الجنين، فإن دعت الضرورة لإسقاطه كالخوف على هلاك الأم من مرض أو ما أشبهه، فلا أرى مانعًا من إسقاطه، أما إجهاضه لغرض تنظيم النسل بعد استقراره في رحم المرأة، فلا أرى جوازه؛ لأنه ليس بضرورة وبإمكان الزوجين الأخذ بالوسائل المشروعة لتنظيم النسل والذي فصلنا فيها القول عند كلامنا عن العزل.   (1) انظر البحر الزخار 457/5 (2) المغني 418/8 (3) المغني 418/8 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 الخاتمة: في ختام بحثنا لموضوع تنظيم النسل وتحديده، أود أن أبين ما يلي: 1 – إن تنظيم النسل وتحديده بالوسائل المشروعة التي تطرقنا إليها خلال البحث وقبل تكوين الجنين في رحم المرأة، ينطبق عليه حكم العزل الذي فصل العلماء فيه القول، وقد أباحه جمهورهم على أن لا يتخذ ذلك ذريعة لمنع الحمل بصورة دائمة، لأنه يتنافى مع توجيهات الشريعة الإسلامية التي تدعو إلى تكثير النسل. 2 – بعد استقرار في رحم المرأة، وأخذ دوره التكويني سواء كان في طوره الأول النطفة أو الثاني العلقة أو الثالث المضغة، وقبل نفخ الروح فيه، فلا يباح إسقاطه إلا إذا دعت الضرورة إليه، كما ذكرنا ذلك قبل قليل. 3 – وبعد بث الروح في الجنين، ويعرف ذلك عن طريق الأم، أو إخبار طبيب أو مولده، فلا أرى جواز إسقاطه لأي سبب من الأسباب، لما فيه من إزهاق الروح، وهو محرم شرعًا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.. الدكتور إبراهيم فاضل الدبو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 أهم مصادر البحث بعد القرآن الكريم: 1 – الجامع لأحكام القرآن – أبو عبد الله محمد القرطبي، المتوفى 671هـ- مطبعة دار الكتاب العربي- الطبعة الثالثة 1967م 2 – روح المعاني – شهاب الدين السيد محمود الآلوسي – المتوفى 1270هـ- إدارة الطباعة المنيرية- دار إحياء التراث العربي – بيروت. 3 – سبل السلام- محمد بن إسماعيل الكحلاني ثم الصنعاني المتوفى 1182هـ شرح بلوغ المرام لأحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني- مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر. 4 – الروضة الندية شرح الدرر البهية – لأبي الطيب صديق بن حسن القنوجي البخاري- الطبعة الأولى 1404هـ- دار الندوة الجديدة. 5 – منتهى الإرادات – تقي الدين محمد بن أحمد الشهير بابن النجار– تحقيق الدكتور عبد الغني عبد الخالق – الناشر عالم الكتب. 6 – الشرح الكبير – لأبي البركات سيدي أحمد الدردير- طبع بدار إحياء الكتب العربية – عيسى البابي الحلبي وشركاه. 7 – حاشية الدسوقي على الشرح الكبير – للعلامة محمد عرفة الدسوقي. 8 – الخرشي على مختصر سيدي خليل وبهامشه حاشية الشيخ علي العدوي – دار صادر بيروت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 9 – حاشية البجيرمي على المنهج، المساة التجريد بنفع العبيد على شرح منهج الطلاب لأبي يحيى زكريا الأنصاري – الطبعة الأخيرة مطبعة البابي الحلبي. 10- حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار- لمحمد أمين الشهير بابن عابدين - الطبعة الثانية – مطبعة مصطفى البابي الحلبي. 11- إحياء علوم الدين لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي – مطبعة مصطفى البابي الحلبي – سنة الطبع 1385هـ - 1939م. 12- المهذب في فقه الإمام الشافعي - للفيروز آبادي الشيرازي – مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر. 13- مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج- للخطيب الشربيني – مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1377هـ 1958م. 14- المغني – لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة على مختصر أبي القاسم عمر بن حسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي – مطابع سجل العرب 1389هـ- 1969م. 15- مختار الصحاح – لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي- الناشر دار الكتاب العربي. 16- الجنين والأحكام المتعلقة به في الفقه الإسلامي- للدكتور محمد سلام مدكور- الطبعة الأولى 1389هـ - دار النهضة العربية بالقاهرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 تنظيم النسل وتحديده إعداد الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام القاضي بمحكمة التمييز بالمنطقة الغربية المملكة العربية السعودية بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: فهذه خلاصة ونبذة في حكم الشريعة الإسلامية الغراء عن موضوع (تنظيم النسل وتحديده) . نستمد العون من الله تعالى في تحريرها وتطبيقها وفق الشريعة الإسلامية ثم نستمد ذلك من النصوص الكريمة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وكلام علماء المسلمين رحمهم الله تعالى. فقد عودتنا هذه الشريعة الكريمة المعطاءة من الحلول الكافية لجميع مشاكل الحياة وأمورها مما يستجد فيها من وقائع وقضايا، فإنها الشريعة الكفيلة بتقديم كل ما يحل المشكلة المعترضة أو الواقعة الجديدة بكل ما يكفل نجاح المهمة. ذلك أنها شريعة الله الخالدة التي جعلت لصلاح البشرية عبر قرونها الطويلة وستستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وهذه الشريعة لا بد أن يكون فيها عوامل البقاء والدوام ومقومات الشمول والعموم لتصمد في عطائها الحلول الكافية للإنسانية في كل زمان ومكان. وبهذا فإننا على ثقة تامة – بحول الله تعالى وعونه- من أننا سنقدم في هذه القضية وغيرها ما يكفل الصالح العام ويضمن سلامة العاقبة، لتطمئن بها النفوس وترضى بها القلوب وترتاح إليها العقول. تحديد النسل لغة: الحد هو طرف الشيء ومنتهى غايته. النسل لغة: الولد والذرية يقال: تناسل القوم إذا كثر نسلهم. تعريفه اصطلاحا: هو وضع حد ينتهي إليه نسل الأولاد بتقدير من الأبوين أو من الدولة لغاية مرادة بوسائل يظن أنها تمنع الحمل. تاريخه: أقدم ما حفظه التاريخ لمنع الحمل لغرض الحد من النسل هو ما وجد في الآثار الفرعونية، فقد كشف تنقيب الآثار عن وجود كتابات تدل على هذه المحاولة ترجع إلى ما قبل عشرين قرنا قبل ميلاد المسيح عليه السلام، مما يدل على قدم هذه الأفكار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 الأمم التي عرفت بهذا: تقدم أن هذه موجود عند قدماء المصريين منذ عهد الأسر الفرعونية. وقد ذكر علماء الاجتماع أن هذه الظاهرة معروفة لدى الإغريق واليونان والصينيين. وهي كذلك موجودة عند العرب في جاهليتهم بوسائل، منها قتل الأولاد التي نهى عنها القرآن الكريم بقوله {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (1) وبصورة وأد البنات كما قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (2) وقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (3) . وجاء بصورة العزل وذلك بأن ينزع الرجل حينما يحس بقرب نزول شهوته. وطرق محاولة تحديد النسل بمنع الحمل تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة والثقافة. أما تحديد النسل الذي وضحت لنا معالمه ومقاصده وأهدافه وعلمت دوافعه وعمل به كمبدأ اقتصادي وتنظيمي، فإن أول من علمنا به هو العالم الإنجليزي – مالتس روبرت – المولود- 1776- والمتوفي – 1834م. فقد قالت (الموسوعة العربية الميسرة) : مالتس: اقتصادي إنجليزي اشتهر بنظريته في نمو السكان وتناقصهم وبين كيف يميلون إلى الزيادة بنسبة تجاوز كثيرا نسبة الزيادة في المواد الغذائية، وأن التوازن بين السكان والمواد الغذائية يتحقق بالكوارث كالحروب والمجاعات ولا يمكن الخلاص من هذه النتيجة إلا بالامتناع الاختياري عن الزواج أو تأخير ميعاده وتحديد النسل. اهـ. وقد ضمن نظريته كتابه (بحث في مبادئ السكان) . وكان له أثر عميق في المعاصرين واللاحقين من رجال الاقتصاد والاجتماع والسياسة. اهـ. وتلاه في نظريته كل من العالم الفرنسي – فرانسيس بلاس- والطبيب الأمريكي الشهير- تشارلس تون – ثم انتشرت في هذه السنين القريبة حينما وفرت الدول بالسكان العاطلين وحينما ناب الحديد والمعدات الثقيلة بالأعمال الشاقة عن الأيدي العاملة وضاق مجال العمل، وكثرت البطالة فصارت هذه الظاهرة الاجتماعية حجة لأصحاب هذا المبدأ السلبي ممن لا يواجهون مشاكل الحياة إلا بالتواري والانطواء.   (1) الإسراء: [31] (2) التكوير: [8، 9] (3) النحل: [58، 59] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 طرق تحديد النسل: إن هناك حضارات كانت على ضفاف النيل، وهناك الإغريق وقدماء اليونان من تلك الأمم التي لم يصل إلينا من حضارتهم وأساليب عيشهم وأحوالهم الاجتماعية إلا النزر اليسير الذي لا يعطي حكما يقينيا على طرقهم في ذلك، فمع عظمة ما خلد من آثارهم التي توحي بوجود علم واسع وحضارة عريقة، فإن معرفة تلك الطرق لا تعنينا في بحثنا هذا وإنما تعني رجال الآثار وعلماء التاريخ. أما وجوده عند الأمة البدائية وهي العرب في جاهليتها فهو العزل حال الجماع، وذلك بإخراج العضو التناسلي ليريق ماءه خارج الفرج. فهذا الذي قال بعض الصحابة عنه: كنا نعزل والقرآن ينزل. وللعرب طرق في تقليل النسل وذلك بقتل الأولاد عامة من ذكر وأنثى كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (1) وكذلك يئدون البنات، والوأد هو دفنها حية حتى تموت، ولذا قال تعالى {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (2) وقال تعالى {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (3) فكان الوأد عند بعض القبائل العربية وليس عند جميعهم، بل بلغت الرأفة والرحمة ببعضهم أنه كان يفتديها ويشتريها من أهلها فيربيها أحسن تربية، كما قال الفرزدق التميمي يفخر بقومه: ومنا الذي أحيا الوئيدة غالب وعمرو ومنا حاجب والأقارع ولقساتهم في الوأد طريقان: قال في – بلوغ الأرب- للشيخ محمود شكري الألوسي: كيفية الوأد أن الرجل من العرب كان إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية. وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر مع الأرض. الطريق الثاني: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: كانت الحامل إذا قربت ولادتها حفرت حفرة فمخضت على رأس تلك الحفرة إذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة وإذا ولدت ولدا حبسته.   (1) الإسراء: [31] (2) التكوير: [8، 9] (3) النحل: [58، 59] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 طرقه الحديثة: بعد أن تقدم الطب وتقدمت وسائله وأجهزته صار لمنع الحمل عدة طرق: قال الدكتور الطيب الفاضل محمد بن علي البار في كتابه (خلق الإنسان بين الطب والقرآن) : وطرق منع الحمل كثيرة جدا نوجزها فيما يلي: 1 – استعمال الرفال (جلد يغطي الإحليل) . 2 – استعمال الحواجز والقلنسوة لتغطية عنق الرحم. 3 – استعمال المراهم واللبوس (التحاميل) القاتلة للحيوانات المنوية. 4 – تنظيم الجماع بحيث يقع في أول الدورة الشهرية وآخرها. ويجتنب وسطها الذي تخرج فيه البييضة من المبيض. 5 – استعمال حبوب منع الحمل وهي أنواع كثيرة. 6 – استعمال أداة داخل الرحم (اللولب) وهو أنواع كثيرة تزيد على المائة. 7 – تعقيم الرجل أو المرأة فتعقيم الرجل – الآن – بربط الحبل المنوي وقطعه، وأما تعقيم المرأة فبإزالة المبيض والرحم أو إزالة الرحم وهذا في حالة مرض الرحم. وأما الطريقة الشائعة فتكون بقطع قناتي الرحم وربطهما وتسمى – ربط الأنابيب. أغراض تحديد النسل: مادمنا عرفنا أن هذه (العادة) أو هذا (التنظيم) معروف لدى الأمم الماضية والباقية فإن المقاصد منه والهدف من ممارسته تختلف اختلافا كبيرا متباينا لا يمكن حصره في غرض واحد من الأغراض ولكن سنحاول أن نذكر ما وصل إليه علمنا من هذه الأهداف. أولا: علمنا أنه موجود عند قدماء المصريين واليونان وعند الإغريق والصينيين ولكننا نجهل – الآن – الدوافع التي تدعو إليه، ولعلها ترجع إلى قضايا اقتصادية أو اعتقادات دينية، فهذان الأمران هما موضع الاهتمام عند عموم البشرية ولم تقم الحروب وتشعل الفتن إلا لأجل هذين الأمرين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 ثانيًا: الذين وصلت إلينا أخبارهم هم العرب قبل الإسلام فكان قتل الأولاد عامة شائعا عند كثير من قبائل العرب، وكذلك وأد البنات كان موجودا عند بعض القبائل العربية. فكانوا يقتلون أولادهم من وجود الفقر كما قال تعالى في سورة الأنعام: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (1) بل يبلغ بهم الأمر إلى قتلهم خشية الفقر كما قال تعالى في سورة الإسراء: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (2) . وقد جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قلت: ثم أي؟ قال: " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك". ومن أغراضه عند بعض العرب أنهم يئدون بناتهم خشية العار فكانت الحروب تقع بينهم، وكانت القبيلة المنتصرة تستولي – فيما تستولي عليه – على نساء القبيلة المغلوبة المقهورة وهذا من أشق الأمور عليهم أن تكون نساؤهم تحت أعدائهم فكانوا لا يستحيون منهن إلا ما دعت إليه ضرورتهم. وتعظم الغيرة عليهن ويزيد الحقد عليهن حينما يخيرن بعد السبي فيخترن من سباهن على أهلن فكره ذلك عند ولادة البنت لتخلصوا منها بأبشع صورة. وروي أن أول قبيلة وأدت من العرب ربيعة، وذلك أنهم أغير عليهم فنهبت بنت أمير لهم فاستردها بعد الصلح، فخيرت بين أبيها وبين من هي عنده فاختارت من هي عنده وآثرته على أبيها، فغضب وسن لقومه الوأد ففعلوه غيرة منهم ومخافة أن يقع لهم مثل ما وقع، وشاع ذلك في العرب وغيرهم والله أعلم. وما زالت هذه العادة في العرب حتى جاء الإسلام فهذبهم وعلمهم وزكاهم بمثل قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (3) وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (4) .   (1) الانعام [151] (2) الإسراء [31] (3) الإسراء [31] (4) النساء [29] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 ولما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قلت: ثم أي؟ قال: " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ". حبب إليهم الأبناء بقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (1) كما وعدهم الخير بتربية البنات والإحسان إليهن فقال صلى الله عليه وسلم: " من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار ". متفق عليه. ورفع من قدر الزوجة فقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استوصوا بالنساء خيرا". وجاء في خطبته العظيمة يوم عرفة أنه قال صلى الله عليه وسلم: " استوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم، إلا أن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا". وقال صلى الله عليه وسلم: " خياركم خياركم لنسائهم " رواه الترمذي بإسناد الصحيح. فبهذه النصوص الكريمة وأمثالها هذب الإسلام طبائع العرب وأزال منها الوحشية والهمجية، حتى صار للنساء شأن كبير ومكان شريف في المجتمع الإسلامي، وأصبحن شقائق الرجال فيما لهن من الحقوق وما عليهن من الواجبات، وأصبحت المرأة إنسانا كامل الحرية مطلق التصرف، وهذا كله بفضل هذه الشريعة الكاملة العادلة التي أعطت كل ذي حق حقه. المنادون به: لم يصل إلينا علم عن القرون الماضية: هل نادت به واتخذته لها عقيدة دينية أو نظاما وضعيا أو مبدأ اقتصاديا أو غير ذلك من مقاصدها في رعاياها؟ وإنما الذي وصل إليه علمنا أنه كان موجودا لديها. أما العرب قبل الإسلام فإنه كان موجودا لديهم ولكنه على مستوى الأفراد وليس نظاما قبليا تسير عليه القبيلة في ذريتها. ولما جاء الإسلام قضى عليه في جملة ما قضى عليه من أعمالها الجاهلية المستنكرة وعاداتها القبيحة الممقوتة، ولذا فإنه لم يعرف كنظام تسير عليه الدولة إلا حينما نادى به أحد علماء الاقتصاد في بريطانيا وهو العالم – مالتس – وذلك في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي. ثم تلاه على هذا المبدأ الاقتصادي العالم الفرنسي – بلاس- والطبيب الأمريكي- تشارلس – ثم شاع وانتشر كتنظيم سكاني ومبدأ اقتصادي، وقد تبنت هذه النظرية ودعمتها وعززتها منظمة – اليونسكو – التي تعمل لصالح أعداء الإسلام ممن تحركهم الصهيونية العالمية وقد قبل هذه الفكرة بعض المسلمين، إما لسوء نية أو حسن نية.   (1) الكهف [46] (2) النساء [19] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 أهداف القائلين به: أما أهداف القرون الأولى فهي مجهولة لدينا كجهلنا بكثير من أحوالهم ولكن بصفتها أمما ذات حضارة عريقة فلا بد أن لها في سياستها مبادئ خاصة ولها نظامها الاجتماعي وسياستها الخاصة التي ترى أنها تلائم أحوالها ووضعها. وعليه فإننا نرجح أنها أخذت بمبدأ تحديد السكان إما لمبدأ سياسي أو حصانة أمنية أو مبدأ اقتصادي لدى مفكريها. أما الذي وصلت إلينا أخبار أهدافهم ومقاصدهم فهم عرب الجزيرة العربية إبان الجاهلية فيهم والهمجية والوحشية المتفشية فيهم، والفقر المدقع الذي يرزحون تحت وطأته مع ما هم عليه من الغيرة الشديدة على محارمهم ونسائهم اللاتي لا يهون عليهم أن يَكُنَّ عند أعدائهم. وهذه الأهداف في العرب قبل الإسلام سجلها القرآن الكريم عليهم فذكر أن بعض العرب يقتلون أولادهم من البنين والبنات إما لوقوع الفقر فيهم كما قال تعالى " {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} (1) أو يقتلونهم خشية الفقر أن يحل بهم كما قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} (2) . وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب قتل الولد خشية أن يطعم مع أبيه. وأما قتل البنات وهو ما يسمى بالوأد وذلك بأن يدفنها وهي حية حتى تموت فهذا من أجل العار كما تقدم. فكانوا يستقلون من النساء ويتخففون منهن بقدر استطاعتهم فلا يستحيون منهن إلا ما تدعو إليه ضرورتهم. على أن وأد البنات ليس عاما في قبائل العرب، وإنما هو موجود في بعض القبائل العربية، ومن القبائل التي لم تمارس الوأد قبيلة قريش، تلك القبيلة التي شرفها الله تعالى بمجاورة البيت الحرام كما شرفها ببعثه محمدا فيهم، فهذه القبيلة لها من الحصانة والأمان ما يستوجبا الإعظام في نفوس العرب والاحترام الاجتماعي في الجزيرة العربية، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (3) ولذا غلط بعض المؤرخين الذين نسبوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه واد إحدى بناته في الجاهلية، فهو خطأ واضح وغلط فادح فلم تكن هذه العادة في قريش أبدا.   (1) الأنعام [151] (2) الإسراء [31] (3) العنكبوت [67] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 أما اتخاذ – تحديد النسل – مبدأ اقتصاديا تسير عليه الدولة كمحاولة لتحديد السكان بقدر ما يتوقع من وجود المواد الغذائية، فهذا لم يعرف إلا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، حينما ألف العالم الاقتصادي – مالتس- كتابه عام (1798م) في مشكلة السكان والذي جاء فيه العبارة التالية: " إن العالم مقدم على تزايد هندسي في عدد السكان كل (25سنة) بينما تزايد المواد الغذائية يسير بنسبة حسابية متوالية". ومعنى هذه النظرية: أن التزايد الهندسي يكون بالضعف دائما أبدا فإذا كان عدد السكان مثلا مليونا فإنه بعد (25سنة) يكون مليونين وبعد (25سنة) أخرى يكون أربعة ملايين وبعد (25سنة) أخرى يكون ثمانية ملايين وبعد (25سنة) رابعة يكون (ستة عشر مليونا) . بينما لو كان الموجود من المواد الغذائية اليوم – طنا – وزاد في (25سنة) ثالثة يزيد طنا واحدا وفي (25سنة) رابعة يزيد طنا واحدا. ففي مائة سنة تكون نسبة زيادة السكان إلى زيادة المواد الغذائية بمعدل – أربعة أمثال – فنادى – مالتس – آنذاك بتحديد النسل تفاديا – في نظره – لهذا الخطر المتوقع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 موقف الإسلام من تحديد النسل: نستعرض لهذا الموقف بفقرات نبين فيها موقف الإسلام من هذه النظرية التي شغلت أذهان كثير من الناس، وتناولتها بعض الأقلام ما بين رافضة لها ومؤيدة. أولا: الزواج: هو الطريق الطبيعي والشرعي لحصول الأولاد وتكثير النسل وبقاء النوع البشري، حث عليه الإسلام ورغب فيه حتى في حالة الفقر فقال تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (1) وأباح تعدد الزوجات بشرط العدل بينهن فقال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (2) وذلك لفوائد النكاح العديدة التي منها مراعاة تكثير النسل ووفرة الذرية. وجاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج " والنصوص في هذا كثيرة. ثانيا: الزواج وطلب الأولاد وهو مسلك أفضل خلق الله من النبيين والمرسلين وعباد الله الصالحين، فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (3) وقال تعالى عن زكريا عليه السلام: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (4) وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله". فهذا دأب الصالحين المصلحين من عباد الله يستكثرون من الأولاد لما يرون في ذلك من المصالح الكبيرة والفوائد العظيمة والقدوة الحسنة في عبادته وطاعته وعمارته أرضه، فهؤلاء هم الذين جعلهم لنا قدوة وأسوة فقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (5) وليس القدوة هم دعاة الضلال وملاحدة الإفرنج.   (1) النور [32] (2) النساء [3] (3) الرعد [38] (4) آل عمران [38] (5) الأنعام [90] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 ثالثا: نهى الإسلام عن التبتل والانقطاع عن النساء والذرية؛ لأنه طريق عقيم ومسلك وخيم لا يقبله إلا قليلو الإدراك وسطحيو النظر ممن يرون الدين رهبنة وطقوسا جوفاء ويظنون العبادة هي التقشف والبعد عن ملاذ الحياة الطيبة ونعيمها المباح، قال تعالى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (1) وجاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنا أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، من رغب عن سنتي فليس مني ". فالحياة الزوجية وطلب الأولاد مما حبب إليه الإسلام وحث عليه قال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} (2) فالحرث من زرع الذرية وحصول الأولاد الذي هو أهم مطالب النكاح. رابعا: جعل الله تعالى حصول الذرية منة منه على خلقه ونعمة أنعم بها عليهم فقد قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} (3) وقال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} (4) وقال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (5) وقد جعل الله تعالى حصول الولد بشارة كبيرة ونعمة عظيمة فقال تعالى على لسان خليله إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} (6) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (7) وذكر شعيب قومه بنعمة الله عليهم فقال الله عنه: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} (8) . والنصوص التي جعلت من التناسل والتكاثر نعمة أنعم بها الله على خلقه كثيرة جدا، فحصول الولد نعمة من الله على الإنسان حتى بعد موته؛ ولذا جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث. . . " من الثلاث " ولد صالح يدعو له".   (1) الأعراف [32] (2) البقرة [223] (3) النحل [72] (4) آل عمران [14] (5) الكهف [46] (6) الصافات [100، 101] (7) النساء [1] (8) الأعراف [86] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 خامسًا: رغبت الشريعة الإسلامية في كثرة الولد وحثت عليه بعدة نصوص كريمة فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد وابن حبان من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة". ومنها ما رواه الإمام أحمد عن حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " انكحوا أمهات الأولاد فإني أباهي بكم يوم القيامة". فتحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته لا يأتي إلا من كثرة نسلها مع اتباع هذا النسل سنته وتحققه بمتابعته، فتكثير سواد المسلمين وتعظيم شأنهم أمر كبير وهو مطلب من مطالب الشريعة ورغبة أكيدة من صاحب الرسالة المحمدية صلى الله عليه وسلم وإقلاله وتخفيفه مخالفة كبيرة لهذا الأمر العظيم. سادسا: إن لبنات المجتمع لا تكون إلا من أفراده ففرده هو الذي يقوم عليه بناء المجتمع، فإذا قلت الولادة صار البناء صغيرا قليلًا لا يفي بمقصده ولا يحصل به المراد. فتحديد النسل هو تنقيص لهذا المجتمع الإسلامي من أطرافه، وتخون له من جوانبه حتى ينتهي بالقضاء عليه، أما كثرة الولادة فهي لَبِنَات متعددات لقيام مجتمع إسلامي كبير وتكثير لسواد أمة إسلامية تبقى كثيرة العدد مرهوبة الجانب منيعة الذراء قوية البناء. سابعا: إن الله تبارك لم يخلق هذه الخلق إلا لعبادته فقد قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) فتكثير سواد المسلمين هو تكثير لعبادة الله تعالى التي خلق الخلق لأجلها، وتحديد النسل وتقليل المسلمين هو إبطال لهذه الإرادة الشرعية من الله تعالى، فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه الإبقاء على المشركين المعاندين له رجاء أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله. ثامنا: إن بث هذه الدعاية ونشرها بين المسلمين ما هو إلا مكيدة مدبرة ودسيسة مرتبة من أعداء الإسلام الذين يتمثلون في المستعمرين والشيوعيين والصهيونيين والمنصرين، هذه الجهات الأربع التي بذرت في بلاد الإسلام كل شر وزرعت فيه كل قبيح ووجدت من ضعاف النفوس وقليلي الإيمان ممن يدعون الإسلام أكبر عون لها على تنفيذ مخططاتها الماكرة ضد الإسلام والمسلمين بما تبثه من أفكار باطلة ومذاهب خبيثة ومبادئ هدامة تريد بذلك القضاء على الإسلام وإضعاف كيان المسلمين. ونحن – المسلمين – بين رجلين إلى ما شاء الله رجل قبل هذه الأشياء المروجة المغلفة عن حسن نية وسلامة صدر وطيب قلب. وإما آخر خان دينه وأمانته وأمته وبلاده فباع هذا كله بعرض من أعراض هذه الحياة الزائلة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.   (1) الذاريات [56] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 شُبَهٌ وأجوبتها: الأولى: قال المنادون بتحديد النسل: إن الإسلام أباح العزل فقد صحت الأحاديث بجوازه وفعله من بعض الصحابه، وما المراد بالعزل إلا منع الحمل والولد؟ الجواب على هذا من وجهين: الأول: إن الأحاديث الواردة في هذا الباب قد اختلفت فبعضها أباح العزل وبعضها منعه، فمن الأحاديث المبيحة ما في الصحيحين عن جابر قال: " كنا نعزل والقرآن ينزل "، ومنها ما جاء في صحيح مسلم عنه قال: " كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا " وغير ذلك من الأحاديث المفيدة بجواز العزل. أما الأحاديث الناهية عن العزل فمنها ما رواه مسلم من حديث عائشة عن جذامة بنت وهب قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس فسألوه عن العزل، فقال صلى الله عليه وسلم: " ذلك الوأد الخفي " وهو قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (1) وبناء على تعارض الأحاديث فيه فقد اختلف العلماء في حكمه فذهب الأئمة الثلاثة إلى جوازه، وذهب الإمام أحمد إلى تحريمه إلا إذا أذنت الزوجة المشاركة للزوج في اللذة والولد، وذهب ابن حزم والظاهرية إلى تحريمه مطلقا. وذهب إلى تحريم تحديد النسل غالب علماء عصرنا منهم مفتي الديار السعودية سابقا الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ومفتي الديار السعودية حاليا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وأخذ بالتحريم هيئة كبار العلماء بالمملكة ومجلس المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة، ولكل من هذين المجلسين الكبيرين قرارهما الآتي إن شاء الله. أما تعارض الأحاديث في ذلك فأحسن ما يقال في ذلك إن حديث عائشة ناسخ لأخبار الإباحة، فإنه ناقل عن الأصل وأحاديث الإباحة على وفق البراءة الأصلية وأحكام الشرع ناقلة عن البراءة الأصلية. وهذه طريقة ابن حزم رحمه الله تعالى.   (1) التكوير [8، 9] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 الوجه الثاني: أنه على فرض بقاء أحاديث الإباحة على أصلها بدون ناسخ لها فإن هذه الأحاديث لا تدل على ما ذهب إليه هؤلاء المنادون بتحديد النسل، وإنما تدل – في نهاية أمرها- على جواز محاولة منع الحمل لعارض من العوارض وظرف خاص من الظروف في حالات فردية: إما أن تكون الموطوءة أَمَة ويكره أن يكون ولده من أَمَة، وإما أن تتوالى الولادات فيحتاج إلى تنظيم وفترة استراحة، وإما أن يكون هناك مبرر ومسوغ شرعي يجيز ذلك ويبيحه. والشرع الحنيف لا يمنع من جواز ذلك في مثل هذه الحالات فمنع الحمل على مستوى الأفراد جائز في إحدى حالتين. الأولى: أن يكون على الزوجة ضرر في الحمل والولادة ويخشى عليها من ذلك، فصحتها وبقاؤها مقدمان على حصول الولد بناء على القاعدة " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" وقاعدة: " إذا وجد مفسدتان ارتكب أخفهما ". الثانية: إن توالى الحمل بلا فترة راحة للأم فلا بأس في تنظيم الحمل بأن يجعل بين حمل وحمل آخر فترة راحة واستجمام، فهذا جائز لأن هذا لا يعتبر تحديدا للنسل ولا منعا للحمل، وإنما يعتبر تنظيما له وترتيبا. الشبهة الثانية: قال دعاة تحديد النسل: إن مساحة الأرض محدودة والصالح منها للسكنى والاستثمار محدود، وإن وسائل إنتاج الأرزاق محدودة أيضا، أما تناسل الناس فهو غير محدود بل زيادته مستمرة وكلما كثر الناس تضاعفت الزيادة، فإذا استمرت الزيادة في السكان مع محدودية الأرزاق والأمكنة حصلت الضائقة والمجاعات وأصيب الناس بهبوط مستواهم الصحي والعلمي، وانتهى بهم الأمر إلى عيشة البؤس والشقاء. والجواب عن هذا من وجهين: الوجه الأول: إن الذي برأ النسمة وخلق الخلق وأوجد الأشياء هو الذي يقول في محكم كتابه العزيز: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (1) ويقول تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2) .   (1) هود [6] (2) العنكبوت [60] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 وجاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمله وشقي أو سعيد ". والنصوص في هذا مستفيضة من الكتاب والسنة بأن الله تعالى هو المتكفل برزق خلقه وإنما عليهم الأسباب الظاهرة، وقال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} (1) . فيا عجبا: هل نؤمن بكلام أصحاب هذه الأفكار القاصرة والمعلومات المحدودة والأفهام المنحرفة؟ أم نؤمن بكلام خالق السماوات والأرض الذي بارك فيها وقدر فيها أقواتها وأرزاق أهلها بما بسط لهم من الأرض وأجرى من الأنهار والعيون وأخرج لهم من الثمار والغلات التي جاء تقديرها من لدن حكيم خبير؟ الوجه الثاني: أما تزايد السكان في الأرض فليس موضع خيفة وخطر على سعادة البشرية وإنما زيادة السكان زيادة في ثروة عظيمة من زيادة العلوم النافعة والاختراع المفيد والأيدي العاملة والقيام بكل مرافق الحياة إذا نظمت هذه الطاقة البشرية ونسقت. والخالق جل وعلا لما أوجب على نفسه رزق خلقه بقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (2) أودع هذه الأرض التي يسكنها البشر كل حاجات هذه المخلوقات من عناصر الغذاء ومقومات الحياة وكنوز الأرض وجعل في هذه المخلوقات القدرة على الحصول على رزقها المودع فيها، وهذه هي الصورة اللائقة بحكمة الله تعالى ورحمته في خلق الكون وأمرهم بالسعي وحثهم على كسب الرزق حيث قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (3) .   (1) فصلت [9، 10] (2) هود [6] (3) الملك [15] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 هكذا تواجه الحياة وهكذا تستقبل الدنيا وهكذا يعد ويهيأ للأجيال القادمة من العمار والاستثمار، أما الوقوف في وجه الأجيال المقبلة ووضع السدود والمبيدات في طرق وفود السعادة وفيهم العلماء والمفكرون، وفيهم العاملون والمخترعون وفيهم قبل كل ذلك عباد الله الصالحون، فهذا ليس عملا صالحا وإنما هو سلبية وانهزامية وجبن، والمشاكل تواجه وتحل بالإيجابيات المفيدة لا بالتواري والسلبيات. فلا تزال في الأرض قارات ومسافات شاسعة غير مسكونة، ولا تزال الأنهار العظام تصب في البحار لا تجد من يستفيد منها ويوجه مياهها الغزيرة الثمينة إلى الأرض البور لتخرج الأشجار والثمار. ثم إن تحديد النسل مخافة الجوع والضيق إجرام كبير في جانب الله تعالى وسوء ظن بالله تعالى وبوعده الكريم وهي إعادة للجاهلية الأولى بأبشع صورة ممن قال الله عنهم {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (1) . وهو – في نفس الوقت – تدخل بين الله تعالى وبين خلقه الذي دبر معائشهم وقدر أرزاقهم وهو الرازق ذو القوة المتين. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (2)   (1) الإسراء [31] (2) الحجر [20، 21] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 الشبهة الثالثة: قال المنادون بتحديد النسل: إن الطبيعة قضت بتحديد النسل ومنع التضخم السكاني وذلك بكتب الموت والفناء عليهم بعد الوجود، كما قدر ذلك بوجود اليأس من المرأة في آخر عمرها والعجز عن الوقاع من الرجل في آخر حياته، وكما يحصل بالعقم من بعض الأفراد رجالا ونساء. كل هذا مراعاة للتحديد السكاني وعدم التكاثر البشري. الجواب عن هذا من وجوه: الأول: إن الطبيعة ليست شيئا معترفا به عند الشرعيين، وإنما المقر به والمعترف به هو الله العلي القدير المدبر المتصرف في ملكه بلا شريك ولا معين، وإنما هو المتفرد بالربوبية والخلق والرزق والإحياء والإماتة وغير ذلك من شئون ملكوته. وطبائع الأشياء هي أسباب خلقها الله تعالى وجعلها أسبابًا منظمة محكمة حسب إرادته ومشيئته جل وعلا، وإذا أراد تبارك وتعالى أبطلها وأبطل مفعولها فليس في هذا الكون متصرف سواه سبحانه وتعالى. الثاني: إن القول بأن وجود الموت والفناء والعقم والإياس من الولادة ونحو ذلك إنما جاءت لتكون حدا من تكاثر النسل ووفرة السكان هو جراءة على الله تعالى وقول في أمره وخلقه بلا علم، وإنما هي تخمينات وتخرصات تمليها الأفكار القاصرة والعقول الزائغة. والله تعالى جعل القول عليه بلا علم مثل الإشراك به فقال تعالى: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) فالتحكم بمخلوقات الله تعالى تعالى تهجم وهو جهل معه غرور والله تعالى يقول: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} (2) ويقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (3) . فمن أين لهؤلاء المفترين على الله الدليل على أن الله لم يوجد هذه الأسباب إلا ليحد من تضخم البشرية ويقلل من نسلها؟ . إن طبيعة – الكائنات الحية – في الحيوان والنبات تخضع لنظام خاص بها جاء من طبيعة تركيبها وأصل عناصرها، تلك العناصر التي لها حد تنتهي إليه وليس هذا خاصا بالإنسان فلله تعالى في خلقه شئون وأحوال لا ندركها ولا نحيط بشيء منها، فالله لم يعطنا من العلم إلا قليلا ندرك به ما يسعدنا في دنيانا وأخرانا، أما الذي أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا فهو الله تعالت قدرته.   (1) الأعراف [33] (2) البقرة [255] (3) الإسراء [85] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 الثالث: إن الله تبارك وتعالى أودع في طبيعة الأحياء وفي غرائزهم الرغبة في التناسل وحصول الذرية، فهي جبلة وغريزة ملحة في الإنسان تدعوه إلى الرغبة في الزواج لحصول الولد تحقيقا لبقاء النوع وإرضاء لعاطفة الأبوة والأمومة، فالذي جعل هذه الغريزة وتلك الطبيعة هو الذي جعل الوفاة واليأس من الولادة والعقم عوائق عن مواصلة الولادة والتناسل. فحكمة الله تعالى أجل وأسمى من أن ترد إرادتان متضادتان على مراد واحد ومقصد واحد. وإذا أبحنا لأنفسنا تعليل شيء من مراد الله تعالى وتلمسنا حكمته في هذا فإننا نقول: إن فترة الإخصاب بين الرجل والمرأة كافية لحصول عدد كبير من الأولاد، وهي الفترة التي فيها- غالبا- وجود الأبوين قويين لتربية الأولاد وتعليمهم والقيام على شئونهم وما يصلحهم. أما في حالة الشيبة والكبر فهما أنفسهما في حاجة إلى الراحة، وليس لهما قدرة على الولادة والتربية والقيام بشئون الأطفال، فرحمة الله تعالى وحكمته في ضعف الأبوين ورحمته وحكمته بالأطفال المحتاجين للعناية والرعاية أن ينتهي الإخصاب والإنجاب في هذه الفترة، وفترة نشاط الأبوين في سن الشباب إلى سن الكهولة الذي هو وقت الإخصاب وزمن الغبطة بالأولاد والقوة على تربيتهم والقيام بشئونهم كأطفال محتاجين للعناية والرعاية، أما الوفاة والفناء فهذا مصير كل كائن حي حتى على الكائنات التي يعتبر وجودها وتكاثرها إثراء في المواد الغذائية ورغدا في وسائل المعيشة، أما العقم فهو من الندرة بمكان جدا. على أن من فوائده بيان قدرة الله تعالى وكمال إرادته وشمولها كما قال الله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} (1) فهو تعالى يهب الإناث أو الذكور ويهب النوعين ويحرم من يشاء فيجعله عقيما، وكل هذه الأحوال خاضعة لمشيئة الله تعالى يقدرها ويجريها وفق علمه وحكمته. والقصد أن المناطقة وذَوُو العقول يحيلون اجتماع الضدين قال تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (2) .   (1) الشورى [49، 50] (2) الأنبياء [22] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 أقوال العلماء المحققين: قال مفتي الديار السعودية – سابقا – الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: ما قيل في تحديد النسل فهو يناقض ويخالف ويتعارض مع مدلول الأحاديث المرغبة في التزويج بالودود الولود، مع مباهاة الرسول صلى الله عليه وسلم بأمته الأمم يوم القيامة، أما مفتي الديار السعودية – الآن – الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز فله مقالات ضافية في الرد على المنادين بها وتوهين حججهم ودحض أدلتهم، ونشر ما قال سماحته في الصحف وأذيع من المحطات الكبار كمحطة لندن وصار لها وقع كبير في الجمهور الثقافي. وألف العلامة الشيخ أبو الأعلى المودودي رسالة سماها: " حركة تحديد النسل " بنى فيها رده على أقوال الأطباء وإحصائيات اقتصادية ونظريات علماء النفس ورد تلك المزاعم المبيحة لتنظيمه. وألف الشيخ عطية محمد سالم أحد قضاة المدينة المنورة رسالة في هذا الموضوع سماها " تعدد الزوجات. وتحديد النسل " أجاد فيها وأفاد بموقف الإسلام المضاد لهذه النظرية الاستعمارية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 وللشيخ حسنين مخلوف – مفتي الديار المصرية سابقًا – عدة فتاوى في هذه المسألة كلها تحذير من خطورة تنفيذ هذه النظرية المستوردة وجاء في بعض فتاويه قوله: تحديد النسل مشروع خطير ولم يثره بادئ الأمر عندنا إلا الاستعماريون حين أفزعهم تزايد السكان وأقلقهم نمو الأمة ويقظة الشعور العام إلى أساليب الاستعمار، فنادوا في طول البلاد وعرضها بالخوف من المجاعة إذا لم يحدد النسل وزعموا أن الإسلام يبيح هذا التحديد بصفة عامة. فبينا لهم في أكثر من مقال أن من أهم مقاصد الشريعة تكثير سواد الأمة حتى تواجه الخطوب وتستمر خيرات البلاد وتقف في وجوه الأعداء وقديمًا قالوا: إنما العزة في الكثرة. هذا بعض ما قال علماء التحقيق. أما الذين ساروا في ركاب الاستعمار فلا يخلو حالهم من أمرين: إما مخدوع وإما مأجور، فنسأل الله تعالى أن يهدينا صراطه المستقيم وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم والضالين آمين. ولقد سبق – مجمعكم – الموقر بدراسة هذه المسألة من مجمعين كريمين أحدهما - مجلس هيئة كبار العلماء – في المملكة العربية السعودية وهم يضم نخبة ممتازة من علماء هذه البلاد المقدسة ممن جمعوا الرواية والدراية فأصدروا فيها قرارًا بالمنع منه. كما درست هذه المسألة – أيضًا من – مجلس المجمع الفقهي الإسلامي – بمكة المكرمة الذي يضم نخبة ممتازة من علماء المسلمين من أرجاء المعمورة، فأصدروا فيها قرارًا بالمنع منه أيضًا، فرأيت ضم هذين القرارين إلى بحثي وإلحاقهما معه ليكون من مجموعهما مع البحث تعزيز وتقوية. وإلى حضراتكم أول القرارين صدورًا وهو قرار – هيئة كبار العلماء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 قرار رقم 42 وتاريخ 13 / 4 / 1396 هـ الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد: ففي الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر ربيع الآخر 1396هـ، بحث المجلس موضوع منع الحمل وتحديد النسل، وتنظيمه بناء على ما تقرر في الدورة السابعة للمجلس المنعقدة في النصف الأول من شهر شعبان 1395هـ من إدراج موضوعها في جدول أعمال الدورة الثامنة. وقد اطلع المجلس على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء وبعد تداول الرأي والمناقشة بين الأعضاء، والاستماع إلى وجهات النظر قرر المجلس ما يلي: نظرًا إلى أن الشريعة الإسلامية ترغب في انتشار النسل وتكثيره وتعتبر النسل نعمة كبرى ومنة عظيمة من الله بها على عباده، فقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله مما أوردته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في بحثها المعد للهيئة والمقدم لها، ونظرًا إلى أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الخلق عليها وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الرب تعالى لعباده، ونظرًا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين بصفة عامة وللأمة العربية المسلمة بصفة خاصة حتى تكون لديهم القدرة على استعمار البلاد واستعمار أهلها وحيث إن في الأخذ بذلك ضربًا من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله تعالى وإضعافًا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها، لذلك كله فإن المجلس يقرر بأنه لا يجوز تحديد النسل مطلقًا ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد منه خشية الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرازق ذو القوة المتين {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ، وأما إذا كان منع الحمل لضرورة محققة ككون المرأة لا تلد ولادة عادية وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد، أو كان تأخيره لفترة ما لمصلحة يراها الزوجان فإنه لا مانع حينئذ من منع الحمل أو تأخيره عملًا بما جاء في الأحاديث الصحيحة وما روي عن جميع الصحابة رضوان الله عليهم من جواز العزل، وتمشيًا مع ما صرح به بعض الفقهاء من جواز شرب الدواء، لإلقاء النطفة قبل الأربعين، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرورة المحققة، وقد توقف فضيلة الشيخ عبد الله بن عذبان في حكم الاستثناء، وصلى الله على محمد. هيئة كبار العلماء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 وإلى حضراتكم قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة. الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وبعد: فقد نظر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في موضوع تحديد النسل أو ما يسمى تضليلًا بـ (تنظيم النسل) . وبعد المناقشة وتبادل الآراء في ذلك قرر المجلس بالإجماع ما يلي: نظرًا إلى أن الشريعة الإسلامية تحض على تكثير نسل المسلمين وانتشاره وتعتبر النسل نعمة ومنة عظيمة مَنَّ الله بها على عباده، وقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودلت على أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله تعالى لعباده، ونظرًا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين لتقليل عددهم بصفة عامة، وللأمة العربية المسلمة والشعوب المستضعفة بصفة خاصة حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها والتمتع بثروات البلاد الإسلامية، وحيث إن في الأخذ بذلك ضربًا من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله تعالى، وإضعافًا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها. لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر بالإجماع أنه لا يجوز تحديد النسل مطلقًا ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرازق ذو القوة المتين {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} أو كان ذلك لأسباب أخرى غير معتبرة شرعًا، أما تعاطي أسباب منع الحمل أو تأخيره في حالات فردية لضرر محقق ككون المرأة لا تلد ولادة عادية وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الجنين فإنه لا مانع من ذلك شرعًا وهكذا إذا كان تأخيره لأسباب أخرى شرعية أو صحية يقرها طبيب مسلم ثقة، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقق على أمة إذا كان يخشى على حياتها منه بتقرير من يوثق به من الأطباء المسلمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 أما الدعوة إلى تحديد النسل أو منع الحمل بصفة عامة فلا تجوز شرعًا للأسباب المتقدم ذكرها، وأشد من ذلك في الإثم إلزام الشعوب بذلك وفرضه عليها في الوقت الذي تنفق فيه الأموال الضخمة على سباق التسلح العالمي للسيطرة والتدمير بدلًا من إنفاقه في التنمية الاقتصادية والتعمير وحاجات الشعوب. وكاتب هذا البحث بعد أن استعرض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وبعد أن اطلع على كلام العلماء، والقرارين الصادرين في هذه المسألة المدعمين بالأدلة الصحيحة الصريحة، وبعد أن ظهر له وخاصة القول بتحديد النسل وما يجره على الأمة الإسلامية من قلة وذلة، وما يقصد به أعداء الإسلام بهذه المكيدة من إضعاف للمسلمين وتقليل لعددهم لا يسعه إلا أن يقرر بحزم وحتم تحريم القول والعمل بتحديد النسل بصورة جماعية وبنظام متبع عام. أما استعماله بصورة فردية لظرف ملح خاص أو لضرورة داعية فلا مانع من ذلك. وكذلك تنظيم النسل حينمًا يتوالى الحمل والولادة على المرأة فيريد الزوجان أن يجعلًا بين كل مولود وآخر فترة راحة للأم وعلوق للطفل الأول فلا مانع أيضًا. وكاتب البحث يقترح على هذا – المجمع الفقهي الإسلامي – الموقر أن يحذو حذو زميليه – مجلس هيئة كبار العلماء والمجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة – بالمنع من ذلك إلا ما استثني. والحمد لله رب العالمين وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. عبد الله بن عبد الرحمن البسام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 تنظيم النسل وتحديده إعداد الدكتور علي أحمد السالوس أستاذ الفقه والأصول بكلية الشريعة جامعة قطر بسم الله الرحمن الرحيم تنظيم النسل وتحديده" تعقيب " الحمد لله تعالى حمدًا كثيرًا، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين. وبعد: فقد رأيت أن أشترك بثلاثة موضوعات في هذا المؤتمر المبارك إن شاء الله تعالى وهي: تغير قيمة العملة، وأعمال البورصة، وبيع المرابحة، ولكن بعد الاضطلاع على بعض الأبحاث المقدمة بدا لي أن أكتب كلمة موجزة في تنظيم النسل وتحديده، وأركز هنا على النقاط التالية: 1- ما نسمعه من زيادة السكان أو الانفجار السكاني وقلة الغلة، هو قول غريب عن الإسلام وفد إلينا بعد أن تركنا الاقتصاد الإسلامي الرباني وأخذنا بالاقتصاد الوضعي البشري، فمالتس أحد أئمة الاقتصاد الرأسمالي – خرج على الناس بنظريته في السكان، حيث رأى أن الموارد تزيد بمتواليات عددية (1، 2، 3، 4، 5 وهكذا وأن السكان يزيدون بمتواليات هندسية (1، 2، 4، 8، 16 ... وهكذا) . وهذا يعني أن في خلق الأرض خللًا، فغلتها لا تكفي سكانها، وبالطبع فإن هذا يخالف الواقع الذي أخبرنا به خالق السكان، وخالق الأرض، التي بارك فيها وقدر فيها أقواتها، والقائل سبحانه وتعالى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (1) ، ولو أن الناس عمروا الأرض كما أمر الله عز وجل: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (2) أي طلب منكم عمارتها ولو أنهم طبقوا المنهج الإلهي، لما وجد جائع أو عريان. وهذا الخلل المزعوم المتزايد في السكان والموارد، والذي لا وجود له إلا في أوهام المالتسيين، ما علاجه عند مالتس؟ يرى تأخير الزواج مع العفة، ويعارض بناء مساكن لذوي الدخل المحدود، وتقديم أي عون للمحتاجين، ما دام سيساعد على الزاوج، وقد يقال: إنه حرص على العفة لأنه قسيس، ولكن هذا فيه نظر، فمع غير العفة يزداد السكان.   (1) هود: 6 (2) هود: 61 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 وكم من الملايين في عصرنا ولدوا من سفاح، والعجيب أن يعارض من ينسب نفسه للدين مساعدة المحتاجين، والذين أخذوا بنظرية مالتس شجعوا الإجهاض، وتعقيم الرجال والنساء. 2- الإسلام يدعو إلى النكاح، وهذا مسلم به واضح بَيِّنٌ، ومقصد النكاح الأول هو النسل، ولذلك جاء في أكثر من رواية: " تزوجوا الودود الولود ... " ومنع النسل ضد الفطرة، والإسلام دين الفطرة. فإذا ذكرت أحاديث شريفة تبيح العزل، فيجب أن نبحث عن بقية الأحاديث المتصلة بالموضوع، وعلى الأخص إذا وجد ما يعارض أحاديث الإباحة، ثم نسلك بعد هذا المنهج العلمي في النظر في الأحاديث مجتمعة. فمن الأحاديث الصحيحة الصريحة في المنع ما رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام مسلم في صحيحه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل فقال: ذلك الوأد الخفي {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} . ومن حديث المنع، ومنهج الإسلام، يتبين أن الإباحة برخصة فردية على خلاف الأصل، ولا تكون هذه الرخصة عامة على نطاق دولة من الدول. 3- ذكرت بعض الفتاوى المعاصرة الفردية، وأرى أن من أهم ما صدر – إن لم يكن أهمها على الإطلاق – قرار المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1385 هـ (1965 م) والذي صدر بإجماع العلماء الذين كانوا مندوبين عن خمسة وثلاثين دولة إسلامية، ومن بعده قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، التابع لرابطة العالم الإسلامي، في دورته الثالثة سنة 1400 هـ وصدر أيضًا بإجماع الحاضرين. وأذكر هنا نص كل من القرارين:- أولًا: قرار مجمع البحوث الإسلامية: 1- إن الإسلام رغب في زيادة النسل وتكثيره لأن كثرة النسل تقوي الأمة الإسلامية اجتماعيا واقتصاديًا وحربيًا وتزيدها عزة ومنعة. 2- إذا كانت هناك ضرورة شخصية تحتم تنظيم النسل فللزوجين أن يتصرفا طبقًا لما تقتضيه الضرورة، وتقديره هذه الضرورة متروك لضمير الفرد ودينه. 3- لا يصح شرعًا وضع قوانين تجبر الناس على تحديد النسل بأي وجه من الوجوه. 4- وأن الإجهاض بقصد تحديد النسل، أو استعمال الوسائل التي تؤدي إلى العقم لهذا الغرض، أمر لا تجوز ممارسته شرعًا للزوجين أو لغيرهما. ويوصي المؤتمر بتوعية المواطنين وتقديم المعونة لهم في كل ما سبق تقريره بصدد تنظيم النسل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 ثانيًا: قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي الحمد لله وحده، والصلاة على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه: وبعد. فقد نظر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في موضوع تحديد النسل أو ما يسمى تضليلًا بـ " تنظيم النسل ". وبعد المناقشة وتبادل الآراء في ذلك قرر المجلس بالإجماع ما يلي: نظرًا إلى أن الشريعة الإسلامية تحض على تكثير نسل المسلمين وانتشاره، وتعتبر النسل نعمة كبرى ومنة عظيمة مَنَّ الله بها على عباده، وقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلت على أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله تعالى لعباده، ونظرًا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين لتقليل عددهم بصفة عامة، وللأمة العربية المسلمة والشعوب المستضعفة بصفة خاصة، حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها والتمتع بثروات البلاد الإسلامية، وحيث إن في الأخذ بذلك ضربًا من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله تعالى، وإضعافًا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها. لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر بالإجماع، أنه لا يجوز تحديد النسل مطلقًا، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ، أو كان ذلك لأسباب أخرى غير معتبرة شرعًا، أما تعاطي أسباب منع الحمل أو تأخيره في حالات فردية لضرر محقق ككون المرأة لا تلد ولادة عادية، وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الجنين فإنه لا مانع من ذلك شرعًا، وهكذا إذا كان تأخيره لأسباب أخرى شرعية أو صحية يقرها طبيب مسلم ثقة، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقق على أمه إذا كان يخشى على حياتها منه بتقرير من يوثق به من الأطباء المسلمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 أما الدعوة إلى تحديد النسل أو منع الحمل بصفة عامة فلا تجوز شرعًا للأسباب المتقدم ذكرها، وأشد من ذلك في الإثم والمنع إلزام الشعوب بذلك وفرضه عليها في الوقت الذي تنفق فيه الأموال الضخمة على سباق التسلح العالمي للسيطرة والتدمير، بدلًا من إنفاقه في التنمية الاقتصادية والتعمير وحاجات الشعوب. 4- بعد هذه الكلمة الموجزة أريد أن أسأل سؤالا له دلالته وهو: ما الجهات التي تنفق على الدعوة لتحديد النسل وتنظيمه في البلاد الإسلامية ذات القلة غير المسلمة؟ وما أهدافها؟ وما نسبة هذه القلة قبيل بدء الدعوة وما نسبتها؟ نسأل الله تعالى أن يجنبنا الزلل في القول والعمل وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين الدكتور علي السالوس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 تنظيم النسل وتحديده إعداد الشيخ د. الطيب سلامة عضو المجلس الإسلامي الأعلى – أستاذ بالجامعة الزيتونية بسم الله الرحمن الرحيم تنظيم النسل وتحديده البحث في هذا الموضوع يتناول عدة قضايا أهمها اثنتان: الأولى: التوقي من حصول الإخصاب الذي به يبدأ الحمل. • بسط إجمالي. • تنظيم النسل وتحديده. • ما هو النسل؟ • حكمة التناسل ومنزلة الذرية في حياة الناس. • النسل كما يرضاه الإسلام. • هل من شروط الإنجاب حسن القيام؟ • موقف الشريعة الإسلامية من التعرض للإخصاب. • الإنجاب في القرآن. • الإنجاب في السنة الشريفة. 1- اتجاه الجواز. 2- اتجاه القائلين بعدم الجواز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 الرد على القائلين بالمنع. • حكم التوقي من الحمل عند أئمة المذاهب. 1- في المذهب المالكي. - خلاصة المذهب المالكي. 2- عند الشافعية. 3- عند الحنفية. 4- عند الحنابلة. - خلاصة المذاهب. الثانية: الإجهاض والإعقام: • تقديم. • حكم الإجهاض. • حكم الإعقام. • القرار في النسل يتبع الحق في الولد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 القضية الأولى في هذا البحث التوقي من حصول الإخصاب الذي به يبدأ الحمل بسط إجمالي: لا نعدو الحق والواقع إذا نحن قلنا: إن البحث في هذا الموضوع هو بحث في صميم البناء الهيكلي للأسرة البشرية التي بها يتواصل الوجود الدنيوي ويعمر الكون كما أراد الله تعالى أن يعمر، وتتم الخلافة في الأرض للإنسان كما أراد الله أن يحصل ذلك ويتم. وإذا كان الحجر الأساسي في بناء هيكل الأسرة إنما هو الزواج الذي حثت عليه الأديان السماوية ورغبت فيه الفطرة الإنسانية، فإن لهذا الزواج مأملين عظيمين وغايتين شريفتين: - أولى هاتين الغايتين – إعفاف النفس وإحصان الفرج وكفى بذلك نبلا أن الإنسان يرتفع عن مصاف العجماوات، ويتنزه عن الدنس والرذيلة والفجور. - وثانية الغايتين – التناسل والإنجاب اللذان أودع الله تعالى في تركيبه الجبلة الحيوانية عموما، وخص الجبلة البشرية بالرغبة في ذلك تقترن بحب البقاء، وتحقيق الآمال، وبقاء الذكر، والتطلع لامتداد الأجل. - وإذا كان بقاء الإنسان في ذاته منتهيا إلى حد قصير في هذا الوجود الدنيوي، فإن بقاءه في نسله وبنسله قد يستمر ما استمر الملوان.. - وإذا كان من العسير جدا أن يحقق الإنسان بنفسه كل الآمال والأحلام التي ظل يحلم بها ويمني النفس، فإن تحقيق ذلك قد يصبح ميسورا مأمولا إن هو عول في الباقي على ربه وعلى ما وهبه من ذرية صالحة. وقد اشتاقت (حنة) امرأة عمران إلى الولد لما أسنت فدعت ربها، ولما أحست بالحمل نذرت ما في بطنها محررا من شواغل الدنيا لخدمة بيت المقدس، وبذلك تحقق بنسلها ما لم يتيسر لها تحقيقه بشخصها، ولكن جرت المقادير بغير ما اشتهت حنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} . (1) . كما اشتاق زكريا إلى الذرية الصالحة لما رأى من أمر مريم التي تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكان هو الكافل لها، وكان قد انقرض أهل بيته، فدخل محرابه للصلاة في جوف الليل وحكى عنه القرآن توجهه وقوله: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (2) - وإذا كان بقاء الإنسان حيا بالذكر لا يتم إلا بما يحقق من عمل صالح أو من علم بثه في صدور الرجال أو من أبناء ينشئون تنشئة طيبة، فإن أيسر الأمور الثلاثة بقاء الذكر عن طريق الذرية الطيبة والأبناء الصالحين؛ لأن ذلك رهين العناية بهم وحسن القيام على تهذيبهم وتربيتهم، وهذا ليس بالعسير على كافة الآباء والأمهات في حين أن الأعمال الصالحة وبث العلم في صدور الرجال لا يحققان هذه الغاية إلا متى بلغ صاحبهما مبلغ النباهة ورفعة الشأن وحسن الأحدوثة، وليس الوصول إلى ذلك إلا لمن وفقهم الله ويسر لهم الطريق وكلل مساعيهم بالنجاح والفوز. ولقد جاء من أوصاف الصالحين الذين سماهم القرآن عباد الرحمن أنهم هم الذين يدعون ربهم أن يهب لهم أزواجا وذرية – إذ الذرية من الأزواج حتما – ما تقر به أعينهم ويرضي طموحهم إلى مزيد الصلاح والخير فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (3) . فقد دعوا أن يمنحهم الله الخير عن طريق الأزواج والذرية وقدموا ذلك على دعائهم لأنفسهم مباشرة مع أن المعروف من سنة الدعاء هو تقديم النفس على الغير، فيقول الداعي الملتزم بآداب الدعاء مثلا: اللهم ارحمنا وارحم آباءنا وارحم جميع المسلمين.   (1) 35 – 37 / آل عمران. (2) 38 / آل عمران. (3) 74/ الفرقان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 والظاهر أن ذلك التقديم لأمرين: -أحدهما أن دعاءهم للأزواج والذرية هو دعاء للنفس في الواقع؛ لأن صلاح الأزواج والذرية ينتفع به الأب بلا شك. -وثانيهما أن هذا التقديم لإبراز ما للآباء من آمال تعلق على الأبناء هي أقرب للتحقيق من سواها، وما لهؤلاء الآباء من حرص على الأزواج والأبناء يفوق الحرص على النفس من باب ويؤثرون على أنفسهم، وإن كان هذا الإيثار لا يخلف خصاصة. -وهكذا فإن الإنجاب مطمح عظيم تتعلق به أسمى الغايات وتتوقف عليه أزكى المآرب وأشرف المقاصد. -وكفى بالوالد شرفا ونبلا ومكانة وفخرا أن يولد له من صلبه من يعبد الله ويتقيه، وقد خلق تعالى المخلوقات من جن وإنس ليعبدوه، وحصر خلقهم في ذلك الشأن فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) -وأن يولد له من صلبه من يسهم بقسطه في إعلاء كلمة الحق وإقرار القيم والموازين القسطاس ويحمل الأمانة على خير الوجوه كما حملها عباد الله المقربون. -مما أسلفنا عن الإنجاب والذرية – وما أسلفنا غير نبذة – قد اكتسب هذا الموضوع قداسة وأهمية بالغة دفعت بالباحثين في أمر تحديد النسل إلى مزيد من الحذر أحيانا وإلى الخوف من الوقوع فيما يغضب الله أحيانا أخرى. -ولعل الأهم من الحذر والخوف أن يتوصل العلماء والباحثون إلى إنارة السبيل أمام الأفراد والمجتمعات وأمام الماسكين بأزمة السياسة والحكم في العالم الإسلامي حتى لا تحيد الأسرة المسلمة عن منهج دينها الحنيف، وفي دينها من التعاليم والأحكام المرنة التي ترعى المصالح الثابتة والآنية ما يضمن لها أن تعيش عصرها على خير الوجوه وأمثل الطرق، وأن تستغني عن استيراد الأنماط والنماذج المنبترة النزقة التي لا تقاس فضلا عن كونها تلبس.   (1) 56/ الذاريات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 -إن الأسر المسلمة اليوم في هذا العصر تعيش مذبذبة بين أصالة حضارتها الإسلامية، التي طمس صفاءها الجهل بها والتغاضي عنها، وبين زيف حضارة قائمة في بلاد الغرب بناها أهلها على مادية جامحة، لها بريقها ولها مغرياتها فتهافت الأغرار على نارها تهافت الفراش. -بين هذه وتلك تعيش الأسرة المسلمة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ترقب الهداية من الله وتبحث عن العون من أهل العلم والخير والتقى لتجد سبيلها الواضحة القويمة حتى لا تتفرق بها السبل كما هو الواقع والمحسوس. ولها في هذا المجمع الفقهي الكريم وأسرته من العلماء والباحثين الجلة خير مرشد ومعين خصوصا حين يحتسب عمله لله تعالى راجيا أن ينفع به أمة الإسلام متخذا شعاره من شعار رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمه القرآن إياه في قوله {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) ومن المتأكد أن نشير في خاتمة هذا التقديم إلى أن موضوع تنظيم النسل وتحديده قد كان من القضايا الثانوية التي أثارها المتسرون توقيا من حمل الإماء وأثارها بعض الأزواج في حالات قليلة لأسباب عارضة، أما الزوجات فقلما كان الأمر يعنيهن أو يفكرن فيه بحكم أن المرأة لا تكره أن تكون ولودا ودودا ولا يعجزها تدبير بيتها وقوام أمره في حدود نفقات الزوج وقدرته، أما السلطة السياسية فقد تخلت عن هذه القضية لنظر السلطة القضائية باعتبار أنها من الأحوال الشخصية شأنها شأن الزواج والطلاق والإيلاء وغيرها. لكن تغير واقع الحياة عما كان عليه فصار أمر النسل في يومنا هذا موضع عناية المرأة باعتبار أنها خرجت من البيت لتعمل خارجه وصارت تكره أن تكون ولودا ودودا وتعجز عن تدبير البيت وقوام أمره إلا بمال وفير فخرجت تسعى لهذا المال وتروم سد الحاجة فلم تصل إلى سدها ولن تصل. كما صار موضع عناية فائقة من السلطة السياسية، فنادى البعض بتكثير النسل لمجابهة عدد آخر من الأعداد، وعد المتواني في الإنجاب متوانيا في خدمة وطنه، وهو بالتالي لا يبعد كثيرا عن أرباب الخيانة الذين خانوا أوطانهم.   (1) 108/ يوسف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 في حين نادى البعض الآخر بضرورة تحديد النسل والحرص عليه والإسراع به قبل أن تحل الكارثة التي لا يستبعد أن تصيب العالم كله، ويبني نظريته على حسابات عدة يدخل فيها الاقتصاد والإنتاج والتشغيل والإسكان وفتح المدارس وإقامة المستشفيات وتعبيد الطرقات وبناء المسارح والملاهي ونصب المحاكم وتخصيص السجون ... و ... و ... و ... حتى أمر المناخ وكمية الأوكسجين في الهواء أصبحت مهددة بتزايد النسل تزايدا لا يخضع للمقاييس المحددة. وكما أشاد الفريق الأول بالمكثرين من النسل ونوه بخصالهم وليكونوا أسوة لمن سواهم، فقد توسع في البذل والعطاء لهؤلاء المستجيبين ورفع من درجاتهم الاجتماعية حتى عادت الأسر تتباهى بعدد الأبناء وكثرتهم بقلة العدد. كما أشاد الفريق الثاني بالمقلين من الإنجاب واعتبروا فيهم مثالا للتحضر والمعاصرة وسموهم بالواعين والمنسجمين مع حياة الرقي وقالوا عنهم بالفرنسية (Les gens biens) يعني (الناس الكيسون الظرفاء) وبذلوا لهم وسائل الحد من الإخصاب مجانا من ميزان الدولة وأخفوا عنهم ما تخلفه الأدوية والآلات التي توضع في الأرحام من انعكاسات سيئة، وألزموا الأطباء والأعوان الصحيين بأن يغيروا الحقائق العلمية، وأوكلوا أمر العناية بتحديد النسل وتقليله إلى وزارات أو إلى دواوين مجت الأسماع أساليبها الدعائية واشمأزت الأذواق والأخلاق من شعاراتها السمجة وتوضيحاتها وبياناتها المثيرة للسخط والمنفرة، ورغم الإنفاق السخي والمجانية الكاملة لمن يقبلون ورغم العقوبة بالحرمان من بعض المنح والعلاوات لمن يزيدون على الولد الثالث، فإن الحصيلة بقيت هزيلة باعترافهم وبقيت النسبة المؤملة في تحديد النسل تتراءى لهم بعيدة المنال.. فهل يجوز أن نسكت ونترك أمر الإنجاب والتناسل موكولا لاجتهاد زوج غير مسؤول أو لشهوة زوجة ناشز أو لحكم السياسة تعتد برأيها ولا تعتبر أحكام الدين ولا اجتهاد العلماء الذين لا يخشون في الحق لومة لائم؟ اللهم إنه لا يجوز أن نسكت عن هذا التذبذب والتسيب، بل علينا أن نقول للمسلمين ما قاله شرعهم ثم ندعو أن يوفقنا الله وإياهم إلى الهدى وصراط الله المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين – آمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 ما هو النسل؟ النسل في اللسان العربي هو الولد والذرية، والثلاثي منه – من باب كتب، وتختلف المادتان نسل وولد بأن أولاهما مشعرة بالكثرة فيقال: نسلت الناقة أي بولد كثير، بخلاف ولدت ومن هنا أشعرت كلمة النسل بالكم دون كلمة الولد. قال في القاموس النسل = الخلق والولد نسل = ولد كأنسل، وتناسلوا = أنسل بعضهم بعضا. وجاء في المصباح المنير اقتران مادة نسل بمعنى الكثرة، فقال: النسل الولد، ونسل نسلا من باب ضرب (1) كثر نسله. ولعل المراد المطابق لكلمة النسل هي كلمة الذرية، بحكم إفادة كل منهما لمعنى الخلق ومعنى الكثرة. قال في القاموس: ذرأ كجعل = خلق، والشيء كثره ومنه الذرية، لنسل الثقلين. وجاء في المصباح أيضا: والذرية: النسل، والذرية فُعْلِيَّة من الذَّرِّ وهم الصغار (2) وتكون الذرية واحدا وجمعا (3) . ولم ترد كلمة النسل بصيغة الاسم في القرآن إلا مرتين إحداهما في سورة البقرة في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (4) . وإذا اعتبرنا سبب النزول وأنها نزلت في نفاق الأخنس بن شريق الذي كان يتظاهر بالإيمان ولكنه عمد إلى زرع لبعض المسلمين فأحرقه وإلى حمرهم فعقرها، فكشف الله حقيقة أمره. وحينئذ فالمراد بالحرث في الآية هو الزرع كما أن المراد بالنسل الحيوان فأدركنا أن النسل كما يقال على ولد الإنسان يقال كذلك على ولد الحيوان. وثانية المرتين في سورة السجدة في قوله تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (5) . والنسل هنا هو نسل الإنسان أي ذريته.   (1) الصواب من باب دخل؛ لأن نسل التي من باب ضرب معناها أسرع في العدو ومنه قوله تعالى: {إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} . (2) ومنه تسمية صغار النحل بالذر. (3) انظر المصباح=95/1 (ط 1315هـ) . (4) 204-205 البقرة. (5) 6-7/ السجدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 وفي حين وردت مادة نسل في القرآن مرتين بصيغة الاسم – كما بينا – فقد وردت كذلك مرتين فقط بصيغة الفعل في قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} (1) . وفي قوله تعالى في سورة يس: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} (2) . والفعل المكرر في الآيتين بمعنى يسرعون وبابه: ضَرَبَ. وإن كلمة الذرية قد وردت في عديد من سور القرآن وآياته بما لا يقل عن اثنتين وثلاثين مرة وكلها بصيغة الاسم (ذرية) المفرد، مذكرا أو موصوفا أو مضافا، وبعضها بصيغة الجمع (ذرياتنا – ذرياتهم) وأكثر ما ورد من هذه الأسماء جاء مرادا بها النسل والعقب والأبناء وقلما وردت بمدلول مجانب كإطلاق الذرية على الطائفة مثل قوله تعالى: {فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ} (3) ولم تطلق الذرية في الاستعمال القرآني على ولد الحيوان كما كان الشأن بالنسبة لكلمة النسل، فثبت أن اسم الذرية أخص من النسل. ولعل وقوع الاختيار على كلمة النسل في عنوان الموضوع الذي نحن بصدده وهو: تنظيم النسل وتحديده دون كلمة الذرية اعتبارا لكون عملية التنظيم والتحديد هذه إنما تبدأ من البداية، أي من الحيوان المنوي الذي هو بداية الخلق، وبعد أطوار من النمو، ومنذ نفخ الروح يصح إطلاق الذرية على الجنين.   (1) 96/الأنبياء. (2) 51/يس. (3) 83/يونس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 حكمة التناسل ومنزلة الذرية في حياة الناس:- شاءت حكمة الباري التي لا تجارى أن يقوم تواصل الحياة في هذا الكون على نظام المباشرة والتناسل بين المخلوقات، سواء في ذلك أصناف الحيوان وأصناف النبات. وقد شاءت حكمته تعالى أن يخضع توالد النبات إلى نظام دقيق وعجيب هو آية للمتدبرين، وأن يخضع تناسل الحيوان إلى غريزة ماضية لا تفتر ولا تني بل تضمن استمرار الأنواع بقدر وموازنة في نطاق ما رسمته الآية الكريمة في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (1) . وميز الإنسان من بين أصناف الحيوان بفطرة حسنة تكفل له البقاء وتوفر له المتعة والخير في الدارين، ولم يترك الإنسان كما ترك الحيوان إلى الغريزة التي تحدد تحركاته وتسير حياته، بل أعطي مع فطرة الله الحسنة التي فطر الناس عليها عقلا مفكرا ووجدانا هو عالم النفس والشعور، وفوق كل ذلك وضحت له مسالك الهداية والرشاد عن طريق ما جاءه من الدين القيم رحمة من الله وتكريما وحفظا. وهكذا شرف الإنسان عامة بشرف خطاب الله من خلال خطابه لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأتباع محمد رضوان الله عليهم حين قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (2) . وبهذا الشرف فارق الإنسان أصناف الحيوان لأنه لا يتناسل بالغريزة، ولا يتناسل الذكر مع أية أنثى وجدها ولا تقبل الأنثى أو تطلب أي ذكر صادفته، وإنما التناسل لدى الإنسان أمانة يتحمل تبعتها حيًّا وميتًا وهو عمل اختياري هادف وتعامل مدني يتوقف على القدرة والتمييز والأهلية. والتناسل عند الإنسان لا يكون إلا بالزواج وإلا عد فسوقًا وظلمًا وهبوطًا عن أدنى مستوى الإنسانية، فصار الزواج في حد ذاته غاية ووسيلة وهو غاية؛ لأنه يوفر للإنسان نعمة لا تنتجها المعامل والأيدي ولا تابع في المتاجر والأسواق وإنما هي نعمة من الله وآية من آيات خلقه، هي نعمة السكن ونعمة المودة والرحمة قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (3) . وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (4) .   (1) 49/القمر (2) 30/الروم (3) 12 / الروم (4) 198 / الأعراف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 ثم هو وسيلة لآية أخرى من آيات الله الكبرى ونعمة من نعمه الجلية، إنه طريق لإنجاب الأبناء والحفدة إنجابًا يكون حافزًا على تعظيم الخالق وتقواه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (1) ويكون مؤملًا لخير من الله وبركة ورزق الطيبات قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (2) . وهل في الدنيا أو في حياة الناس شيء يعادل منزلة الأبناء الصالحين أو يسد مسد الذرية الصالحة؟ لقد شاءت حكمته تعالى أن يجعلهم من زينة الحياة الدنيا حين قال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (3) بل جعلهم المحور لكل زينة في هذه الحياة حتى إن الإنسان لتنقطع صلته بكل زينة إذا ما انقطعت حياته الدنيوية باستثناء زينة الذرية والأولاد فيهم يستمر بقاؤه وذكره، وعن طريقهم يتواصل عمله فلا ينقطع بحكم أن الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته (4) . وقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا ثلاثة أشياء: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) (5) .   (1) 1/ النساء (2) 72 /النحل (3) 46/ الكهف (4) كما جاء ذلك في حديث ابن عمر المتفق عليه، والذي يقول في أوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ... إلخ) . (5) رواه مسلم – مشكاة المصابيح: 71/1 - عدد 203 (ط، أولى دمشق1380/1961) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 وهكذا تبقى صلة الميت بالدنيا ويستمر عمله كما لو كان حيًا عن طريق العقب والذرية، ولقد جاءت الآثار تؤكد أن الآباء ينتفعون بصلاح الأبناء ولو كانوا قد تبوءوا أماكنهم من الجنة، أخرج مالك عن يحيى بن سعيد أن سعيد بن المسيب كان يقول: " إن الرجل لَيُرْفَعُ بدعاء ولده من بعده. وقال بيديه نحو السماء ورفعها (1) قال الإمام السيوطي في تعليقه على هذا الخبر: قال ابن عبد البر: هذا - أي الذي كان يقول سعيد بن المسيب - لا يدرك بالرأي، وقد روي بإسناد جيد مرفوعًا، ثم أخرج - أي ابن عبد البر - من طريق أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن المؤمن ليرفع له الدرجة في الجنة، فيقول: يا رب بم هذا؟ فيقال له: بدعاء ولدك من بعدك " (2) . وقد نَزَّلَ الله تعالى محبة الأبناء والحفدة سويداء القلوب فحفظ بذلك مصالحهم, وأمن عيشهم فلم يحتج إلى حرص يحفز الآباء لمزيد العناية وحسن القوامة عليهم، بل قد يدعو الأمر إلى تنبيه هؤلاء الآباء إلى الأخذ بالحذر في سعيهم وحدبهم على الأبناء، حتى لا ينقلب الأمر إلى وبال عليهم أو إلى فتنة يفتنون بها في حياتهم، فقال تعالى مرشدًا ومحذرًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (3) .   (1) الموطأ، قرآن (العمل في الدعاء) ، انظر: السيوطي، تنوير الحوالك 1/169. (2) انظر: تنوير الحوالك170/1 (ط مصر 1356/1937) . (3) 14-15/التغابن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 كما قال تعالى في بيان المنهج الرشيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (1) . وقال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ} (2) ولم ينقص هذا الإرشاد ولا هذا التحذير من عاطفة الأبوة المتأججة بل استمر تأججها ضمانًا لبقاء العطف والرحمة وضمانًا لاستمرار الحياة وبقاء النوع البشري. وهذا أسوتنا الحسنة وسيد الأنام صلى الله عليه وسلم يستجيب لأزكى مشاعر الأبوة فينزل من أعلى المنبر ويقطع خطبته لأصحابه من أجل الحسن والحسين رضي الله عنهما، أخرج الترمذي من طريق الحسين بن حريث عن عبد الله بن بريدة (3) قال سمعت أبا بريدة رضي الله عنه يقول: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا إذا جاء الحسن والحسين عليهما السلام، عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: " صدق الله العظيم {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما " (4)   (1) 9/المنافقون. (2) 37/ سبأ. (3) هو أبو عبد الله بريدة بن الحصيب (بضم الأول وفتح الثاني فيهما) الأسلمى روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنه ابناه: عبد الله وسليمان، وعبد الله بن أوس الخزاعي، والشعبي والمليح بن أسامة وغيرهم – شهد خيبر، وَفَتَحَ مكة واستعمله الرسول صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه ذكر ابن سعد أن وفاته كانت في خلافة يزيد بن معاوية سنة (63هـ) ابن حجر. التهذيب: 54/1-55، عدد 797. (4) قال الترمذي: حديث حسن غريب، انظر سننه: مناقب 30، وانظر عارضة الأحوذي: 195/13. (ط دار الكتاب العربي، بيروت) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 ولقد أعرب صلى الله عليه وسلم عن عاطفة الأبوة في غير ما مرة ذلك أنه خرج ذات يوم وهو محتضن أحد ابني ابنته فاطمة رضي الله عنهم، وهو يقول عن الأبناء: " إنكم لتبخلون وتجبنون وتجهلون، وإنكم لمن ريحان الله ". (1) وقال حين أبصر الحسن والحسين: ((اللهم إني أحبهما فأحبهما)) (2) . وفي حديث آخر كان صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحسن والحسين هما ريحاناتي من الدنيا)) (3) . وحين سئل صلى الله عليه وسلم: أي أهل بيتك أحب إليك قال: " الحسن والحسين، وكان يقول لفاطمة ادعي ابني ". فيشمهما ويضمهما إليه، تلكم هي حكمة التناسل، وهذه هي منزلة الأبناء في قلوب الناس وفي حياتهم التي يحيونها. النسل كما يرضاه الإسلام: لا أحد فيما نعلم ينازع أن الشريعة الإسلامية، حثت على الزواج ودعت إلى التناسل ورغبت في التكاثر، والنصوص في هذا من الكتاب والسنة معلومة وعديدة: قال تعالى في بيان شرعه في رسله وأخرى في خلقه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (4) ونوه القرآن بزكرياء حين دعا ربه ليرزقه ذرية طيبة فقال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} (5) وقد جاء في حديث أنس المتفق عليه: " وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " وهل يراد النكاح إلا من أجل الذرية والنسل؟ أخرج ابن ماجه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم، فإن الصوم له وجاء " (6) . كما أخرج عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انكحوا فإني مكاثر بكم " (7) .   (1) أخرجه الترمذي من حديث خولة بنت حكيم رضي الله عنها، وزعم أنه لا يعرفه إلا من طريق سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة الذي قال: وفي الباب عن ابن عمر والأشعث بن قيس رضي الله عنهما. (2) حديث البراء بن عازب، أخرجه الترمذي: مناقب (30) وقال: حديث حسن صحيح (3) حديث أنس أخرجه الترمذي مناقب (30) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه من حديث أنس. (4) 38/الرعد. (5) 38/آل عمران. (6) سنن ابن ماجه: نكاح (1) . (7) سنن ابن ماجه: نكاح (8) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 ومما هو نص في أن المراد من الزواج التناسل والتكاثر ما أخرجه أبو داود بسنده عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: لا – ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم " (1) . نعم لا خلاف أن الإسلام لا يرضي التبتل ولا رهبانية النصارى، كما جاء عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: " رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا " (2) ونظيره ما أخرجه الترمذي وابن ماجه من طريق زيد بن أخزم الطائي وغيره قالوا: حدثنا معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن الحسن عن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل وزاد زيد بن أخزم: وقرأ قتادة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (3) كما لا يرضى الإسلام لمن هفا إلى الزواج – وحري به أن يهفو – أن يخبط خبط العشواء بل عليه أن يتخير القرين الكفء والصالح، لأن هذا القرين سيصبح أقرب الناس إليه وألصقهم به وأشركهم في متاعه، وليس هذا القريب بالمنفك عن قرينه المشدود إليه بعقد الزواج حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا، وليس في حياة القرينين – قران زواج – مسؤولية أثقل ولا عمل أدق وأخطر من إنجاب الذرية وتنشئتهم التنشئة الصالحة والطيبة، لذا وضح رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته الطاهرة معالم الطريق، وذلك بوضع المقاييس الصحيحة والموازين القسط في هذا المضمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض " وفي رواية: " إذا أتاكم - وأخرى: إذا جاءكم - من ترضون دينه وخلقه. . . " إلخ (4) .   (1) سنن أبي داود: نكاح (3) وللنسائي مثله. (2) سنن الترمذي: نكاح (2) سنن ابن ماجه: نكاح (2) . وفي رواية الطبري أن عثمان بن مظعون قال: يا رسول الله أتأذن لي في الاختصاء؟ قال: " إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة ". الشوكاني. النيل: 299/6-230 (ط لبنان، دار الجيل 1973) . (3) عين المصدرين. (4) رواه الترمذي: نكاح (3) وابن ماجه، نكاح (46) من طريق عبد الحميد بن سليمان الأنصاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورجح الترمذي أنه مرسل ثم رواه من حديث أبي حاتم المزني رضي الله عنه وحسنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 والمعتبر في القرين سواء كان زوجًا أو زوجة من الاستعداد والخصال ما يتحققه مع السكن وحسن العشرة سواء قبل الإنجاب أو بعده، ثم حسن القوامة على سير الأسرة وعلى تربية الأبناء وتعليمهم وسد حاجاتهم بعد الإنجاب؛ لذا جاءت بعض الأحاديث ترشد إلى تخير الزوجة كما تتخير التربة فقال صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن عائشة رضي الله عنها ((تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم)) (1) . ولن يوفق الزوجان في بحثهما عن الكفء وعن حياة راضية حتى يضعا في الاعتبار الإيمان والتدين قبل كل اعتبار آخر من مال أو جمال أو نسب، وفي الزوجة المؤمنة نسوق حديث ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما نزل في الفضة والذهب ما نزل، قالوا: فأي المال نتخذ؟ - قال عمر: فأنا أعلم لكم ذلك فأوضع على بعيره، فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في أثره فقال: يا رسول الله: أي المال نتخذ؟ فقال: " ليتخذ أحدكم قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على أمر الآخرة ". (2) وليس أمر الآخرة بالهين إذا لم تعن عليه الزوجة ولم تستعن فيه بزوجها، ولقد جاء الخطاب عامًّا لأرباب التكليف والمسؤولية من الذين آمنوا فقال الحق تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (3) والمخاطب في الآية كل مكلف من المؤمنين في خاصة نفسه من جهة، وفي عامة أهله من جهة أخرى، وبذلك تتوافر دواعي الوقاية لكل فرد. وفي اختيار الدين قال صلى الله عليه وسلم: " تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك " (4) . وقد لا يجتزي الزوج بالزوجة المؤمنة المتدينة، بل قد يطلب فوق ذلك أن تكون الزوجة صالحة فما المراد بالزوجة الصالحة؟ هي التي سماها الحديث بهذا الاسم وهي التي عرفها صلى الله عليه وسلم في قوله الصادق: " ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرًا له من زوجة صالحة: إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله (5) فليست الزوجة صالحة حتى يشمل صلاحها نفع زوجها وأبنائها، وليس الزوج صالحًا حتى يكون صالحًا لأهله، وهل يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم غير هذا حين قال: " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " (6)   (1) رواه ابن ماجه من طريق الحارث بن عمران المدني الذي قال فيه أبو حاتم: ليس بالقوي، انظر: نكاح: (46) . (2) ابن ماجه: نكاح: (5) . ورواه الترمذي في التفسير وحسنه. (3) 6/التحريم. (4) حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه أصحاب الصحاح إلا الترمذي، ولمسلم والترمذي قريب منه، انظر الشوكاني النيل: 232/6-233. (5) رواه ابن ماجه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، نكاح: (5) ورواه النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وعن ابن عباس عند أبي داود والحاكم بلفظ: (ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته، وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته) ونحوه عن ثوبان عن الترمذي. (6) هو حديث عائشة أخرجه الترمذي، انظر: مناقب (63) ومن حديث ابن عباس أخرجه ابن ماجه انظر: نكاح (50) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 ثم ماذا بعد الزوجة الصالحة والزوج الصالح غير الأبناء الصالحين؟ نعم إن الإسلام يكره تقليل النسل ويكره الامتناع عن الزواج وعن الإنجاب ... ولكن أي نسل هذا الذي يكره قلته ويحب الكثرة منه؟ إنه النسل الصالح الذي تزداد الأمة بازدياده مكانة ورجحانًا، وليس النسل الذي تصبح به الأمة غثاء كثغاء السيل، عن ثوبان مولى رسول الله قال: " توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ". – فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: " بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ". فقال قائل: يا رسول الله! . وما الوهن؟ قال: " حب الدنيا وكراهية الموت " (1) . فهل يبقى بعد هذا شك أن المفهوم الصحيح للأمة الإسلامية ليس هو العدد الكثير الوهن حتى صار في الكثرة والتفاهة أشبه بالغثاء؟ إنما مفهوم الأمة الإسلامية مراد منه الكيف أولًا وبالذات وهذا الكيف يأخذ في الاعتبار – حتما وبالأساس – ما ينشأ عليه الفرد من إيمان قوي وتربية فاضلة وسلوك حضاري قويم. هذه الأمة الإسلامية بجوهرها وبعرضها بحيث لا يعد من اختل إيمانه واعتلت تربيته وفسد سلوكه في عداد أفراد الأمة الإسلامية إلا على ضرب من التجوز، أو باعتبار التقسيم الجغرافي للكرة الأرضية. وهذه حقيقة تكاد تصبح بديهية لا ينكرها عالم، ولا يقول بخلافها إلا من قصرت مداركه عن التصور السليم لمفهوم الأمة الإسلامية كأمة متميزة لها حضارة إنسانية فريدة ولها شرعة ومنهاج من الله رب العالمين. وسيرًا في ضوء هذا المقصد التشريعي الواضح أفتى بعض المتأخرين من علماء الحنفية وغيرهم أنه إذا خيف على الولد السوء لفساد الزمان فالأولى الإمساك عن الإنجاب، ويرى البعض أن الأولوية تكون في الإمساك عن الزواج من أصله إذا أمكن إعفاف النفس بالصوم مثلًا.   (1) أخرجه الإمام أحمد بلفظ قريب من هذه انظر: 278/5 وهذا اللفظ لأبي داود انظر: ملاحم (5) عدد 4297، قال في التعليق عليه في مشكاة المصابيح: إنه حديث صحيح، انظر: الحديث عدد 5369. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 هل من شروط الإنجاب حسن القيام؟ ليس غريبًا بعد كل الذي أسلفنا أن نفهم أن القيود على الإنجاب التي تفرضها قاعدة: " لا ضرر ولا ضرار " وقاعدة: درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة جديرة بالاعتبار نظرًا لوضع الأمة الإسلامية اليوم ونظرًا لوضع القيم والأخلاق والمعاملات في عالمنا المعاصر. هل ليجوز للفقيه المسلم – وخصوصًا إن كان يواكب الحياة في هذا العصر – أن يدعو إلى كثرة الإنجاب وأن يدعي تأثم المنظمين لنسلهم أو المحددين لهذا النسل بحسب قدرتهم على أداء الأمانة وبحسب طاقاتهم على الاضطلاع بالمسئولية: مسؤولية التكوين الإيماني السليم، وحسن التنشئة والتربية، ومسؤولية سد الحاجة والإنفاق من المال الحلال؟ هل يجوز لهذا الفقيه المسلم أن يقف عند نصوص الترغيب في كثرة النسل وينسى النصوص الكثيرة التي تعتبر هذا النسل مسؤولية عظيمة سواء المصرحة بذلك أو الملمحة إليه؟ ألم يقل القرآن على لسان زكريا: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} (1) فطلب الذرية الطيبة لا ذرية فحسب؛ لأن الذرية غير الطيبة ليست نعمة يصح بها التوجه والدعاء، وإنما هي مصيبة يجب التعوذ منها، ثم ألم يقل القرآن أيضًا على لسان عباد الرحمن: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (2) فهل كان يصح من هؤلاء الصالحين أن يقنعوا بغير الذرية التي تقر بها العين؟ وهل يستوي عند الله الصالح والطالح من الذرية أم إن الله تعالى يقول: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (3) وكيف ترجى عبادة الله – وهي صلاح من فاقد الصلاح؟   (1) 38/آل عمران. (2) 74/الفرقان. (3) 56/الذاريات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 أما السنة المطهرة فقد اعتبرت الإنجاب مثل الزواج مسؤولية وعملًا يترتب عليه الثواب والعقاب، فقد روى البخاري بسنده من طريق بشر بن محمد السختياني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية ومسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع ومسؤول عن رعيته ")) ، قال: " أو حسبت أن قد قال: والرجل راع في مال أبيه " (1) . وهل يعذر الرجل إن هو أهمل الإنفاق على الأهل مع القدرة عليه؟ ألا يكون مآله السجن بجريمة إهمال العيال؟ وفيه ورد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت، وفي رواية: من يعول " (2) . فكيف يعذر عند الله بجريمة إهمال التربية والإخلال بحسن التنشئة الدينية والأخلاقية والسلوكية؟ أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائل في هذا الحديث الصحيح المتفق عليه: " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه كما تنتج الإبل من بهيمة جمعاء. هل تحس فيها من جدعاء؟ " (3) والقائل في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه. " لأن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدق بصاع " (4) . فيه تفضيل تأديب الأبناء، على عمل آخر وهو التصدق ببعض المال من وجهين: - الوجه الأول: أن العمل الأول واجب والثاني تطوع. - الوجه الثاني: أن ثواب العمل الأول أوفر عند الله وأجزل لأهميته. وهو القائل أيضًا في حديث " ما نحل والد ولدًا من نحل أفضل من أدب حسن " (5) ثم أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يأمرنا في حديثه الذي رواه ابن ماجة عن أنس بن مالك إذ قال صلى الله عليه وسلم: " أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم " (6) . فالواضح من هذا الحديث أن المأمور به هو إكرام الأولاد وذلك بالإحسان في تربيتهم وتأديبهم، لأن أدبهم هو الحد الأدنى والمقدار المفروض اللذان لا يجوز النزول عنهما.   (1) البخاري: وصايا (9) ، بهذا اللفظ ورواه مسلم بلفظ قريب. (2) حديث: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، رواه أبو داود والنسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد. (3) حديث أبي هريرة متفق عليه، اللفظ لمالك في الموطأ: جنائز (52) ولأبي داود: سنة (17) عدد 4714. (4) رواه الترمذي: بر (33) ، وقال: حديث حسن غريب. (5) رواه الترمذي بر (33) ، قال: حديث غريب وهو عندي حديث مرسل (6) ابن ماجه: أدب (3) عدد 3671. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 موقف الشريعة الإسلامية من التعرض للإخصاب لا أحب أن أقول منع الإخصاب لأن ذلك بيد الله وحده وليس الإنسان بقادر على منع الإخصاب، بل هو يتعاطى بعض الأسباب لمحاولة ذلك سواء بالوسائل البدائية الطبيعية كالعزل الذي اعتاد الفقهاء إطلاقه على منع الإخصاب، أو بما يقول مقام العزل من اتخاذ الحائل الذي يحول دون التقاء بويضة المرأة بالحيوان المنوي للرجل وهو الالتقاء الذي قد يتم عن طريق الإخصاب. أو بالوسائل العلمية والتي لا تمنع التقاء الماءين، وإنما تفسد المناخ الطبيعي الذي يتم فيه الإخصاب عادة في الرحم، وقد يكون ذلك باستعمال بعض الأدوية والعقاقير أو باستعمال بعض الآلات التي توضع في الرحم فيصبح رافضا أن يستقر فيه أي شيء، على أن هذه الأدوية والعقاقير وهذه الآلات قد لا تتلائم مع أبدان بعض النساء أو أنها تصبح بتكرر الاستعمال لا تتلاءم معها لهذا احتاجت العملية إلى بحوث وفحوص وتجارب ومؤسسات ونفقات. وإذا كانت الأحكام الشرعية في هذا الموضوع (موضوع العزل – أو موضوع التعرض للإخصاب بالطرق المستحدثة) قد أنيطت بما يترتب على ذلك بما يترتب على ذلك من تقليل النسل، فإن الوسائل الحديثة المستعملة في هذا المضمار والتي حلت محل الوسائل الطبيعية القديمة الخالية من مادة تؤثر على البدن، سواء على الأمد القريب أو البعيد ... قلت فإن هذه الوسائل الحديثة ليست كلها مباحة الاستعمال وليس حكمها واحدًا بالنسبة لكل النساء. لأننا إذا أخذنا بالقاعدتين الكليتين الشرعيتين وهما: أ- لا ضرر ولا ضرار ب- ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. نجد أن الشريعة تمنع كل دواء أو كل عقار أو آلة تلحق بمستعملها ضررًا عاجلًا أو آجلًا في سبيل التصدي للإخصاب والتوقي من الحمل والمتحمل للإثم والوزر هو الطبيب في الدرجة الأولى ولو لم يكن عالمًا، لأنه لا يعذر بجهله، ولأنه من المفروض في حقه أن لا يتعاطى مثل هذا الأمر قبل التأكيد والحصول على الخبرة، ويشارك الطبيب في هذا الوزر المتلقي للعلاج ذكرًا أو أنثى بشرط علمه بالخطر أو المضرة والله تعالى يقول: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) بعد هذا التفصيل في الوسائل، وبعد إخراج وسائل محاولة منع الإخصاب أو التوقي من الحمل الضار، لأنها ممنوعة لذاتها شرعًا فيكون المقدم عليها آثمًا وواقعًا تحت طائلة العقاب والتعزير، فإن البحث يبقى في وسائل محاولة منع الإخصاب أو التوقي من الحمل التي – لا ضرر فيها، هل يسمح الإسلام بتعاطيها بقصد تنظيم النسل أو تقليله وتحديده؟ فنقول وبالله التوفيق.   (1) 195/ البقرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 الإنجاب في القرآن: لم يأت في كتاب الله تعالى ما هو نص في هذا الموضوع، بل جاء ما هو أشمل وأعم، وما يمكن أن نعتبره إطارًا لبحث الموضوع وفهمه، من ذلك: 1- قضية خلق البنين والحفدة، وإن هذا الخلق بقدر من الله وحده لا شريك له، ولا دخل للعبد المخلوق فيه، فهذه حينئذ قضية إيمانية مسلمة وبديهية لدى المؤمنين عالمهم وجاهلهم، كقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} . وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} وقوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} فالواهب للذرية والمانع هو الخالق تعالى وليس للإنسان في ذلك دخل ولا طول. قال الإمام ابن العربي: " لا خلاف بين أهل السنة في أن الأمور تجري على قضاء الله وقدره وعلم سابق وقضاء مقدم، وإن كان علقها بالأسباب، فلاحظ للأسباب فيها إلا أنها علامات على وجود ما قدر وعلم وخلق، فأما أن يكون لها تأثير أو ينسب إليها عمل فلا سبيل في التوحيد إلى ذلك " (1) قلت: أراد ابن العربي بهذا الكلام وهو يتحدث عن حكم العزل عن المرأة أن يستبعد كل الأوهام التي قد تعتبر أن العزل إبطال للخلق أو تعرض للقدر وقد جاءت جميع نصوص السنة في موضوع العزل تقر هذه الحقيقة على النحو الذي قررها القرآن الكريم، وكل من الكتاب والسنة وحي من رب العالمين رب السماوات والأرض قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (2) 2- إن الذرية أمانة ومسئولية باعتبار أنهم من زينة الحياة {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وباعتبار أنهم من مفاتن الحياة {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} وباعتبار أنهم في رعاية خالقهم ورازقهم {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم خشية إمْلاَقٍ} وباعتبار ما في هذه المسؤولية من مزالق {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} . وما ورد في كتاب الله تعالى من هذه الآيات وغيرها كاف لنعلم أن النسل والذرية إنما هو إعداد ومسؤولية خطيرة وليس كثرة بها يكثر الطغام والتشتيت والضياع.   (1) أنظر: عارضة الأحوذي: 75/5-76 (ط دار الكتاب العربي بيروت) . (2) 49-50/الشورى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 الإنجاب في السنة الشريفة: أما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالكلام وارد على العزل في عديد من الأحاديث على اختلاف رواتها ودرجاتهم وعلى اختلاف دواوين السنة التي خرجتها. وحاصل ما روته أهم هذه الدواوين – وأعني بذلك الموطأ – ومسند الإمام أحمد – وسنن الدرامي – والصحاح الستة – من أحاديث الباب ما يزيد عن الاثنين وثمانين حديثًا، وترجع أغلب هذه الأحاديث إلى صاحبيين جليلين هما: أبو سعيد الخدري – وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما مرفوعة أو في حكم المرفوعة وحديث واحد عن كل من عمر – وجذامة – وأنس وأسامة – وأبي سعيد الزرقي رضي الله عنهم وهي أحاديث مرفوعة أو معتمدة، وفي الباب آثار أو أحاديث مقطوعة عن عامر بن سعد بن أبي وقاص وعن أم ولد لأبي أيوب الأنصاري – وفيه فتوى لسعيد بن المسيب ولو تأملنا في كل هذه الأحاديث وهذه المرويات لوجدنا أنها تعضد بعضها بعضا في اتجاهين: 1- اتجاه الجواز: ويمكن إرجاع هذه الأحاديث وهي الأغلبية الغالبة إلى أصول أربعة وهي: الأول: عمل الصحابة وأفعالهم إذ علمها الرسول صلى الله عليه وسلم وسكت عنها ولم ينكرها عليهم، دل ذلك على الجواز، وتحديث الصحابي بهذا الأمر يعد في درجة الحديث المرفوع، من هذه أحاديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: ومنها هذا الحديث المتفق عليه واللفظ لمسلم قال: " كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل ولو كان شيئًا ينهى عنه لنهانا عن القرآن " (1) في رواية أخرى لمسلم: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا " (2) .   (1) البخاري: نكاح: (96) (باب العزل) مسلم: طلاق (32) ابن ماجه: نكاح (30) (باب العزل) عدد 1927 واللفظ لمسلم. (2) مسلم: طلاق (34) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 الثاني: أحاديث أثبتت أنه صلى الله عليه وسلم أبدى عجبه من عزل أصحابه عن نسائهم أو أبدى استفساره عن سبب اللجوء إلى هذا العزل، ورغم ذلك لم ينههم ولم يقل: لا تفعلوا، من ذلك حديث أبي سعيد الخدري ومثله عن جابر وهو متفق عليه ولفظه للبخاري: عن أبي سعيد الخدري قال: " أصبنا سببيا فكنا نعزل فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أو إنكم لتفعلون؟ (قالها ثلاثًا) ما من نسمه كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة " (1) في رواية أخرى للبخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أخبر: " أنه بينما هو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم جاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله إنا نصيب سبيًا، ونحب المال، كيف ترى في العزل؟ - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو إنكم تفعلون ذلك؟ لا عليكم أن لا تفعلوا فإنه ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هي كائنة " (2) . وفي رواية لأحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال: أو إنكم تفعلون؟ - قالوا: نعم – قال: فلا عليكم أن لا تفعلوا، فإن الله تعالى لم يقض لنفس أن يخلقها إلا هي كائنة)) (3) .   (1) البخاري: نكاح: (96) (باب العزل) مسلم: طلاق: (19) . (2) البخاري قدر (4) (باب وكان أمر الله قدرا مقدورا) الدارمي: نكاح: (36) (باب في العزل) ابن ماجه: نكاح: (30) (باب العزل) عدد 1926. (3) انظر المسند: 57/3. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 ومن ذلك استفساره عن سبب عزلهم دون إنكار عليهم كما جاء في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه أخبر سعد بن أبي وقاص أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم تفعل ذلك؟)) ، فقال الرجل: أشفق على ولدها أو على أولادها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان ذلك ضارًّا ضر فارس والروم)) . قال مسلم: وقال زهير في روايته: "إن كان لذلك فلا! ما ضار ذلك فارس ولا الروم ". (1) . ومن الواضح أن صيغة السؤال: ((لم تفعل ذلك؟)) قد أذهبت احتمال المنع، لأن العزل لو كان ممنوعًا لما وقع الاستفسار عن سببه، ولكان الجواب بالنهي: ((لا تفعل)) بدل ذلك، وتأكيدًا لهذا المعنى (أي استبعاد المنع للعزل) جاء هذا الحديث عند مسلم من طريقي عبيد الله بن عمر القواريري وأحمد بن عبدة عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن قزعة عن أبي سعيد الخدري قال: ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ولم يفعل ذلك أحدكم؟)) ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم، ((فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها)) (2) . وهو عن أبي داود من طريق إسحاق بن إسماعيل الطالقاني مع اختلاف طفيف (3) أما الترمذي فيرويه من طريقي ابن أبي عمر وقتيبة عن سفيان بن عيينة، ونسب الزيادة وهي (ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم) إلى شيخه ابن أبي عمر خاصة (4) .   (1) مسلم: طلاق: (40) . (2) مسلم: طلاق (26) . (3) أبو داود: نكاح (48) عدد 2170. (4) الترمذي: نكاح: (39) (باب ما جاء في كراهية العزل) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 الثالث: ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم مما يفيد الإذن بالعزل لأصحابه، بل وما يفيد إنكاره مقالة اليهود التي شبهت العزل بالموءودة الصغرى، أما إذنه صلى الله عليه وسلم بالعزل فقد جاء فيما رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل؟ قال: ((اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها)) ، قال: فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حملت، قال: ((قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها)) (1) . وفي رواية أخرى لأحمد، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: أصبنا سبيًا يوم حنين، فكنا نلتمس فداءهن، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: ((اصنعوا ما بدا لكم، فما قضى الله فهو كائن، فليس من كل الماء يكون الولد)) (2) . وطرقه عند مسلم عن أبي الوداك، عن أبي سعيد الخدري، سمعه يقول: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: ((ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء)) (3) . أما ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من تكذيب لليهود في ادعائهم أن العزل هو الموءودة الصغرى فقد جاء ذلك فيما أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري بسند قال فيه ابن القيم: وحسبك بهذا السند صحة فكلهم ثقات حفاظ. عن أبي سعيد الخدري، أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي جارية وأنا أعزل عنها، وأنا أكره أن تحمل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى، فقال: ((كذبت اليهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه)) (4) . ومثلها رواية الترمذي، عن جابر بن عبد الله قال: قلنا: يا رسول الله، إنا كنا نعزل، فزعمت اليهود أنها الموءودة الصغرى، فقال: ((كذبت اليهود، إن الله إذا أراد أن يخلقه لم يمنعه)) (5) . قال الترمذي: وفي الباب عن عمر، والبراء، وأبي هريرة، وأبي سعيد، فقول الصحابة رضي الله عنهم بلسان جابر: إنا كنا نعزل مشعر بأنهم توقفوا عن ذلك بسبب ما بلغهم من قولة اليهود، فلم يقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا التوقف الناشئ عن أكذوبة اليهود، بل أجاب بتفنيد الأكذوبة وبذلك زال المانع المسبب للخوف والانقطاع.   (1) مسلم: طلاق: (29) - أبو داود: نكاح (48) (باب ما جاء في العزل) عدد 2173 ابن ماجه: مقدمة (10) (باب في القدر) عدد 89 أحمد: 3/312 – واللفظ له وهو قريب جدا من لفظ مسلم. (2) أحمد: 47/3. (3) مسلم: طلاق: (27) . (4) أبو داود: نكاح: (48) (باب ما جاء في العزل) عدد 2171. (5) الترمذي: نكاح: (38) (باب ما جاء في العزل) ، ومثله للإمام أحمد عن أبي سعيد انظر المسند: 53/3.57/3.33/3 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 الرابع: ما دارت حوله كل أحاديث الباب بدون استثناء تقريبًا، وهو أن الأمر يتعلق بقدر الله ومشيئته، ولن يغير العزل أو عدمه من هذا القدر شيئًا، لأن الأسباب ليست هي المنشئة لمسبباتها، وإنما المنشئ والخالق هو الله تعالى، ففي الحديث المتفق عليه، وهو الحديث الوحيد الذي اقتصر عليه مالك في الموطأ في هذا الباب باعتبار أنه جامع، ثم ساق بعده جملة من الآثار تبين اختلاف العمل لدى عدد من الصحابة أنه قال: عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عبد الله ابن محيريز، أنه قال: دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه، فسألته عن العزل، قال أبو سعيد الخدري: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيًا من سبي العرب، فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة، وأحببنا الفداء، فأردنا أن نعزل، فقلنا: نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله؟ فسألناه عن ذلك، فقال: ((ما عليكم أن لا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة)) (1) . وفي رواية أحمد لهذا الحديث: ((ما عليكم أن تعزلوا، فإن الله قدر ما هو خالق إلى يوم القيامة)) ، وفي حديث أنس بن مالك عند الإمام أحمد ما يزيد المسألة تقريرًا وبيانًا، فقد جاء عن ثمامة بن عبد الله بن أنس أنه قال: سمعت أنس بن مالك يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله عز وجل منها - أو: لخرج منها - ولد - الشك منه، أي من ثمامة - وليخلقن الله نفسًا هو خالقها " (2) . فما عليكم سواء عزلتم أم تركتم، فالله تعالى هو خالق كل نفس هو مقدر أن يخلقها، فليس الماء هو المؤثر وليس المكان الذي يكون فيه الماء هو المؤثر، وليس عند هذا السبب يكون المسبب باطراد، فقد روى أحمد، عن سعيد بن المسيب في غير موضع أنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: ((ليس من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله أن يخلق شيئًا لم يمنعه شيء)) (3) . فالخالق والرازق الذي يعلم ما في الأرحام والذي يشاء ويقدر هو الله وحده الذي لا يعارض قدره بعزل ولا بغيره كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في العزل: ((أنت تخلقه؟ أنت ترزقه؟ أقره قراره، فإنما ذلك القدر)) (4) .   (1) الموطأ: طلاق: (95) (باب ما جاء في العزل) أحمد: 63/3 البخاري: مغازي: (32) (باب غزوة بنى المصطلق) ، مسلم: طلاق: (17) ، أبو داود: نكاح: (48) ، (باب ما جاء في العزل) عدد 2172. (2) انظر: المسند: 3/140 وللبزار مثله، وله شاهدان للطبراني في الكبير عن ابن عباس، وفي الأوسط عن ابن مسعود. (3) انظر المسند: 93/3.82/3.59/3.49/3 (4) هو حديث أبي سعيد أيضا رواه أحمد، انظر المسند: 78/3.53/3 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 وقد استشعر بعض أهل الورع والصلاح النهي عن العزل من قوله صلى الله عليه وسلم المتقدم: ((ما عليكم أن لا تفعلوا)) كالذي جاء في مسلم تعقيبًا على حديث أبي سعيد من طريق أبي الربيع الزهرانى، وأبي كامل الجحدري، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا عليكم أن تفعلوا ذاكم فإنما هو القدر)) (1) . قلت: جاء في مسلم قوله: قال محمد (يعني ابن سيرين) ، وقوله: لا عليكم ... أقرب إلى النهي. وجاء تعقيبًا على الحديث الموالي وهو مثله، لكنه من طريق محمد بن المثنى قوله: قال ابن عون: فحدثت به الحسن (أي البصري) ، فقال: والله لكأن هذا زجر (2) . وعندي أن الذي دفع بالرجلين من سلفنا الصالح إلى هذا الاستشعار إنما هو مزيد الورع والأخذ بالأحوط، وهو ما دعا القرطبي إلى القول: كأن هؤلاء فهموا من (لا) النهي عما سألوا عنه، فكأنه قال: ((لا تعزلوا، عليكم أن لا تفعلوا)) ، فيكون ((وعليكم أن لا تفعلوا)) تأكيدًا للنهي في لا تعزله) . وفي هذا الكلام من الكلفة والتقدير ما حمل المتعقبين على القول بأن الأصل عدم التقدير (3) وزعم بعضهم أن النهي عن الفعل مفهوم من الكلام، لأن المستفاد من صريح العبارة نفي الحرج عن عدم الفعل فمعنى: لا عليكم أن لا تفعلوا، لا حرج عليكم في ترك العزل، فأفهم ذلك ثبوت الحرج في الفعل، ولو أراد نفي الحرج عن الفعل لقال: لا عليكم أن تفعلوا. وفي هذا التأويل ما لا يخفي من التكلف في اعتماد الفروض دون تحقيق والدليل على ذلك أنه يمكن السير في مجال الافتراضات لإثبات الحكم المقابل، فيقال: لو أراد صلى الله عليه وسلم المنع لما عبر بنفي الحرج أصلًا، بل لقال: لا تفعلوا، فإن الله قد حرمه عليكم، ولكنه لم يقل ذلك فلا منع ولا حرمة، كما يمكن أن يقال: إن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا عليكم أن لا تفعلوا)) هو على تقدير (لا عليكم أن تفعلوا أو أن لا تفعلوا) فحذف الفعل المثبت مع حرف التسوية (أو) لغرض ندبهم إلى التوكل على الله الذي بيده وحده تصريف الأمر، وهو المعنى الذي ألمح إليه القاضي أبو الوليد الباجي كما سيأتي قريبًا. وليس هذا ببعيد في النتيجة – عن الافتراض القائل بأن (لا) في (لا أن لا تفعلوا) زائدة، قلت: وزيادتها واردة في لسان العرب الفصيح، وعلى ذلك جاء قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} إذ المراد من الآية كما قال المفسرون: وممنوع على قرية قدرنا إهلاكها أن يرجعوا عن ضلالتهم إلى الإيمان مادام قد حق عليهم الهلاك وقدر، فكانت (لا) زائدة للتوكيد والتأويل السليم لمدلول عبارته صلى الله عليه وسلم فيما فهمه الإمام النووي في شرحه على مسلم، وكذلك فيما أشار إليه القاضي أبو الوليد الباجي في منتقاه على موطأ مالك.   (1) مسلم: طلاق: (22) . (2) مسلم: طلاق: (23) . (3) الشوكاني، نيل الأوطار: 348/6 (ط-دار الجيل بيروت 1973) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 أما الإمام النووي فقد قال: معناه ما عليكم ضرر في ترك العزل، لأن كل نفس قدر الله تعالى خلقها لابد أن يخلقها سواء عزلتم أم لا، وما لم يقدر خلقها لا يقع سواء عزلتم أم لا، فلا فائدة في عزلكم، فإنه إن كان الله تعالى قدر خلقها سبقكم الماء فلا ينفع حرصكم في منع الخلق (1) . وأما القاضي أبو الوليد الباجي فقد قال كلامًا في غاية الدقة والاختصار والرشاقة إذ أفاد أن قوله صلى الله عليه وسلم: " ما عليكم أن لا تفعلوا " هو ندب منه صلى الله عليه وسلم إلى نهاية التوكل وإشارة إلى فضيلة من عول على ذلك (2) . وعندي أن كلام الباجي – رحمه الله – هو الذي عنده ينتهي الفهم السليم لمدلول هذه العبارة، وبه ينكشف المقصد الأسمى لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2 – اتجاه القائلين بعدم الجواز مطلقًا أو بالجواز المشروط ومستند المانعين مطلقًا حديث جذامة بنت وهب الأسدية الذي رواه الإمام مسلم قال: حدثنا عبيد الله بن سعيد، ومحمد بن أبي عمر قالا: حدثنا المقرئ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثنا أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة، عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة، قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: ((لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم، فلا يضر أولادهم ذلك شيئًا)) ، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذلك الوأد الخفي)) زاد عبيد الله في حديثه عن المقرئ وهي {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} (3) . وجه الاستدلال بهذا الحديث لدى من قال بحرمة العزل كأبي محمد ابن حزم قالوا: الأصل في الأشياء الإباحة على وفق البراءة الأصلية وأحكام الشرع، إنما تأتي ناقلة عن البراءة الأصلية. فقول جابر رضي الله عنه: (كنا نعزل والقرآن ينزل، فلو كان شيئًا ينهى عنه لنهى عنه القرآن) هو لتقرير حكم الإباحة على وفق البراءة الأصلية، وقد ارتفع هذا الحكم بورود النهي عن العزل ممن أنزل عليه القرآن حين قال: ((ذلك الوأد الخفي)) ، وهي {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} .   (1) انظر: شرح مسلم: 10/10-11 (دار الفكر، ط – ثانية بيروت 1972-1393) . (2) انظر: المنتقى: 142/4 (مط السعادة – ط – أولى القاهرة 1332 هـ) . (3) مسلم: طلاق: (38) أحمد: 434/6.361/6 ابن ماجه: نكاح: (61) (باب الغيل) عدد 2011. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 الرد على القائلين بالمنع: رد عليهم بوجوه متعددة نجملها فيما يلي: أ – إن الأحاديث التي جاءت على خلاف حديث جذامة كثيرة ومتعاضدة في إثبات الجواز لا المنع، زد على ذلك أن بعضها يحكي عمل الصحابة كالآثار التي رواها مالك في الموطأ والتي بينت رأي وعمل سعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم (1) . قال ابن القيم: وقد رويت الرخصة فيه (أي في العزل) عن عشرة من الصحابة: علي، وسعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب، وزيد بن ثابت، وجابر، وابن عباس، والحسن بن علي، وخباب بن الأرت، وأبي سعيد الخدري، وابن مسعود رضي الله عنهم (2) . ويروى عن بعض هؤلاء أنهم كانوا يكرهون العزل مثل علي ومثل ابن مسعود رضي الله عنهما، وقد صح عنه أنه قال: العزل الموءودة الصغرى، كما صح عن أبي أمامة أنه سئل عنه، فقال: ما كنت أرى مسلمًا يفعله. وعن نافع، عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنهما ضرب على العزل بعض بنيه، وعن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان رضي الله عنهما كانا ينهيان عن العزل. قال ابن القيم: وليس في هذا ما يعارض أحاديث الإباحة مع صراحتها (3) . ب – إن حديث جذامة الذي هو مستند القائلين بحرمة العزل لا يقوم به الدليل؛ لأنه معارض بحديث أبي سعيد الخدري المتقدم، والذي جاء فيه: ((كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه)) ، وهو الحديث الذي قال فيه ابن القيم كما سبق أن أشرنا: حسبك بهذا الإسناد صحة فكلهم ثقات حفاظ (4) . وهكذا نرى أن موقف العلماء أمام هذين المتعارضين، حديث أبي سعيد (كذبت اليهود) وحديث جذامة (ذاك الوأد الخفي) كان دائرًا بين الترجيح والجمع.   (1) الموطأ: طلاق: (96) ، (97) ، (99) ، (100) . (2) انظر زاد المعاد: 16/4 (المطبعة المصرية ومكتبتها – القاهرة) . (3) انظر زاد المعاد: 17/4 (المطبعة المصرية ومكتبتها – القاهرة) . (4) انظر زاد المعاد: 17/4 (المطبعة المصرية ومكتبتها – القاهرة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 أما المرجحون فمنهم من ضعف حديث جذامة لمعارضته لما هو أكثر منه طرقًا، وهو حديث أبي سعيد، ومنهم من ادعى أنه منسوخ، ولا يمكن الجزم بهذا حتى يعلم التاريخ، وحاول الطحاوي أن يعرض صورة لنسخ حديث جذامة فقال: يحتمل أن يكون حديث جذامة على وفق ما كان عليه الأمر أولًا من موافقة أهل الكتاب، وكان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، ثم أعلمه الله بالحكم، فكذب اليهود فيما كانوا يقولونه. وقد تعقب هذا الافتراض كل من الإمامين ابن رشد ثم ابن العربي فقالا: بأنه لا يجزم بشيء تبعًا لليهود، ثم يصرح بتكذيبهم فيه (1) ومنهم من قدح في حديث جذامة وضعفه بأن الزيادة التي في آخره (وهي: وإذا الموءودة سئلت) تفرد بها سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود، وقد روى الحديث مالك ويحيى بن أيوب، عن أبي الأسود فلم يذكراها، كما حذفها أهل السنن الأربع (2) . أما إمكانية الجمع فقد قال بها بعض العلماء ومنهم البيهقي حين حمل حديث جذامة على التنزيه دون التحريم. ومنهم ابن القيم حين قال: (الذي كذبت فيه اليهود زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلا وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد، فأكذبهم، وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لم يرد خلقه لم يكن وأدًا حقيقة، وإنما سماه وأدًا خفيًّا في حديث جذامة؛ لأن الرجل إنما يعزل هربًا من الحمل، فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد، ولكن الفرق بينهما أن الوأد ظاهر بالمباشرة، اجتمع فيه القصد والفعل، والعزل يتعلق بالقصد صرفًا، فلذلك وصفه بكونه خفيًّا) (3) قال الشوكاني: وهذا الجمع قوي (يعني ما فعله ابن القيم) وقال شيخ الإسلام ابن حجر: فهذه عدة أجوبة يقف معها الاستدلال بحديث جذامة على المنع. جـ - إن حديث جذامة الذي تمسك به أبو محمد ابن حزم ليس صريحًا في المنع والحرمة إذ لا يلزم من تسمية العزل وأدًا خفيًّا على طريقة التشبيه أن يصبح حرامًا مثل الوأد؛ لأن التشبيه لا يفيد المطابقة وتمام المماثلة إلا على ضرب من الادعاء والمبالغة، وهذا مقبول في مجال التحسينات البلاغية وليس مقبولًا في مجال الحقائق وتحديد الحدود.   (1) ابن حجر، الفتح 309/9 (ط-دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت) . (2) عن الشوكاني انظر: نيل الأوطار: 349/6-350. (3) ابن حجر، الفتح 309/9 (ط-دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت) . عن الشوكاني انظر: نيل الأوطار: 349/6-350. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 وقد أنكر الإمام علي رضي الله عنه وافقه على ذلك عمر رضي الله عنه أن تكون موءودة ما لم تمر بالتارات السبع كما جاء في رواية القاضى أبي يعلى وغيره بإسناده عن عبيد الله بن رفاعة عن أبيه قال: (جلس إلى عمر علي والزبير وسعد رضي الله عنهم في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذاكروا العزل، فقالوا: لا بأس به، فقال رجل: إنهم يزعمون (يعني اليهود) أنها الموءودة الصغري قال على رضي الله عنه: لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع: حتى تكون من سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظامًا، ثم تكون لحمًا، ثم تكون خلقًا آخر. ولا يخفى أن الإمام عليًّا رضي الله عنه يشير إلى قول الحق تعالى في سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (1) . وجاء في فتح الباري ما يعضد هذه الرواية عن علي قال: وعند عبد الرزاق وجه آخر: عن ابن عباس أنه أنكر أن يكون العزل وأدًا، وقال: المني يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظمًا ثم يكسى لحمًا قال: والعزل قبل ذلك كله. ثم قال شيخ الإسلام: وأخرج الطحاوي من طريق عبد الله بن عدي بن الخيار عن علي نحوه في قصة حرب عند عمر، وسنده جيد (2) . وهكذا يتضح أن جوانب الافتراق أكثر من نواحي الشبه بين العزل والوأد فهل يصح سحب حكم الوأد على العزل؟ ولا جامع بينهما إلا مقصد خفي كما سلف عن ابن القيم بيان ذلك.   (1) 12-14 /المؤمنون. (2) فتح الباري: 309/9-310. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 حكم التوقي من الحمل عند أئمة المذاهب: انطلق أئمة المذاهب السنية في بحثهم عن حكم العزل باعتباره الوسيلة المعروفة والمتداولة للتوقي من الحمل، من بحثهم فيما شرع له الزواج وهو أمران: الأول: إعفاف النفس بمسايرة الفطرة السليمة، والاستجابة للشهوة البشرية في نطاق ما حدده الشرع العزيز. الثاني: إنجاب البنين الذين زين الله تعالى حبهم للناس لأن بوجودهم يبقى الذكر، وبصلاحهم تقر العين، ومعهم يكون الأنس والمتعة، فشهوة إتيان النساء وشهوة إنجاب البنين هما من الشهوات التي زينها الله تعالى في قلوب الناس وجعلها متاع الحياة الدنيا ليبتليهم في هذه الحياة كما جاء في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (1) . - أما الإنجاب فهو ألصق بالقضية الثانية (قضية الإجهاض) وهناك سيكون البحث عن صاحب الحق فيه. - وأما إعفاف الذي لا يتم إلا بإطفاء الشهوة المتأججة عن طريق ما شرع من الجماع فقد بات من المتفق عليه بين سائر العلماء وأئمة المذاهب أنه حق للرجل دون خلاف في ذلك. - وإنما الخلاف في المرأة هل هو من حقها مثل الرجل أو لا؟ وعلى هذا الحق ينبني حق العزل لمن يكون؟ في المذهب المالكي: أما المرأة الحرة فحقها في الوطء ثابت عند مالك، ولها المطالبة به إن قصد الزوج بتركه إلحاق الضرر بها. وبناء على هذا الحق لم يجز للزوج أن يعزل عنها إلا بإذنها، وهذا ما صرح به مالك في الموطأ حيث قال: ((ولا يعزل الرجل عن المرأة إلى الحرة إلا بإذنها)) (2) .   (1) 14/آل عمران. (2) الموطأ: كتاب الطلاق (باب ما جاء في العزل) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 وحكى الزرقاني عن ابن عبد البر أن الترخيص في العزل (هو قول جمهور الفقهاء) وذلك إثر ذكر عدد من الصحابة كانوا يفعلون ذلك أو يرون الرخصة فيه (1) . ومهد الحافظ لحكاية الخلاف عن السلف في العزل بقوله: (وفي العزل أيضًا إدخال ضرر على المرأة لما فيه من تفويت لذتها) . ثم قال: (وقد اختلف السلف في حكم العزل، قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها، لأن الجماع من حقها، ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل) (2) . وقد وافق ابن هبيرة على حكاية ابن عبد البر للإجماع، وتعقب الحافظ ذلك بأن المعروف عند الشافعية أن المرأة لا حق لها في الجماع أصلًا، ومن هذا يتبين بوضوح أن للزوجة الحرة كلمتها في كل ما يتعلق بحياتها الجنسية، وليست الكلمة في ذلك للزوج وحده، ومن باب أولى أن الكلمة ليست للزوجة وحدها، وهل يتم شيء سواء في الإنجاب أو في طلب اللذة وإعفاف النفس دون اجتماع الطرفين؟ هذا حكم العزل عن الزوجة الحرة، أما الأمة فلا يخلو حالها إما أن تكون سرية أو زوجة. فإن كانت سرية عند مالكها فقد غلب مالك رسوخها في الرق على رسوخها وحقها في الفراش فقال: "لا بأس أن يعزل عن أمته بغير إذنها". لأن مراعاة حقها في الفراش قد يؤدي إلي أنها تحمل فتصبح أم ولد فيضيع ثمنها على المالك وإن كانت زوجة مملوكة لغير زوجها فالحق دائر بن أطراف ثلاثة: الزوج بما له من حق في الوطء والسيد بحقه في الملكية والأبناء، والأمة الزوجة بحقها في الاستمتاع الذي خوله لها عقد الزواج ... غلب مالك حق الزوج في الوطء وحق السيد في الملكية "ومن كانت تحته أمة قوم فلا يعزل إلا بإذنهم وفي هذا عدم اعتبار لحق الزوجة المملوكة في المتعة؛ لأنها غير راسخة في الفراش مثل رسوخ الحرة، وعدم اعتبار حقها في الإنجاب لأن الأبناء يتبعونها في الرق وملكيتهم لمالكها ".   (1) انظر شرحه على الموطأ: 228/3 (دار الفكر للطباعة والنشر/ 1981-1401) . (2) انظر الفتح 308/9 (ط- دار المعرفة بيروت) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 ومن عجيب ما جاء عن علماء المالكية ما قاله القاضى أبو الوليد الباجي تعقيبا على إمامه وتغليبا لجانب الإنسانية في الزوجة المملوكة إذ قال: "وعندي أن للأمة فيه حقا قد ثبت بعقد النكاح، فلا يجوز له أن يعزل إلا بإذنها لأنه وطء زوجته (يريد وليس وطء مملوكته) فللزوجة حق فيه والله أعلم" (1) "وهذا الرأي هو الذي مال إليه القاضي أبو بكر بن العربي حيث قال: "اتفقوا على أن لا عزل عن الأمة المتزوجة إلا بإذن مولاها وهذا ضعيف فإن الوطء حق الزوجين" (2) وعلى هذا الرأي درج القاضي عياض حين حكى رأى بعض شيوخه فقال: "ورأي بعض شيوخنا إذنها أيضا لحق الزوجية" (3) . واعتبر الزرقاني أن ذلك موافق لمذهبي أبي حنيفة وأحمد كما حكى أن مذهب الشافعية القول بالكراهة مطلقا في كل حال في كل امرأة وإن رضيت؛ لأنه طريق إلى قطع النسل. خلاصة المذهب المالكي: جاء ذلك فيما لخصه الزرقاني حين قال: "ولا يحرم (العزل) في مملوكته ولا زوجته الأمة رضيت أم لا؛ لأن عليه ضرارا في أمته بصيرورتها أم ولد، وفي زوجته الرقيقة لمصير ولدها رقيقا. أما الحرة فإن أذنت لم يحرم، وإلا فوجهان، أصحهما: لا يحرم" (4) . عند الشافعية: جاء في كلام الحافظ ابن حجر وردده أن المعروف عند الشافعية أن المرأة لا حق لها في الجماع أصلا (5) ، وهذا مغاير لما صرح به صاحب المهذب إذ قال: "وإن كانت حرة فإن كان بإذنها جاز (يريد العزل) ؛ لأن الحق لهما (يريد: حق الاستمتاع والوطء) وإن لم تأذن ففيه وجهان: أحدهما لا يحرم؛ لأن حقها في الاستمتاع دون الإنزال، والثاني: يحرم؛ لأنه يقطع النسل من غير ضرر يلحقه (6) فأفهم كلامه أن الحق المشترك بين الزوج وزوجته الحرة إنما هو الاستمتاع دون الإنزال وهذا الفصل بين الاستمتاع والإنزال مخالف لما تقدم في المذهب المالكي عن ابن عبد البر أنه قال: " ... ليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل". وقد حكى القاضي أبو بكر بن العربي عن الشافعي وأبي حنيفة أنهما يقولان: "لا حق لها إلا في وطئة واحدة يستقر بها المهر" واستنكر القول بمنع العزل على من يقول بأن المرأة لا حق لها في الوطء، وقال: "والعجب أن يكون لها حق في العزل عند العلماء، ولا حق لها في أصل الوطء " (7) .   (1) المنتقي: 143/4 (مطبعة السعادة – ط – أولى القاهرة 1332 هـ) . (2) عارضة الأحوذي: 77/5 (ط- دار الكتاب العربي – بيروت) . (3) الزرقاني، شرح الموطأ: 229/3. (4) الزرقاني، شرح الموطأ: 229/3. (5) فتح الباري: 308/9. (6) الشيرازي: المهذب: 67/2 (دار المعرفة – ط – ثانية بيروت: /1959-1379) . (7) انظر عارضة الأحوذي 77/5. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 وتعقب الحافظ كلامه فقال: "ما نقله عن الشافعي غريب والمعروف عند أصحابه أنه لا حق لها أصلا (1) ". قلت: الإشكال الذي عرضه ابن العربي قائم، لأن من لا حق لها في أصل الوطء لا موجب لأخذ رأيها في العزل إلا إذا كان الإنزال شيئا مغايرا للوطء كما أوهمه صاحب المهذب فيما أسلفنا نقله. وسواء قيل بأن الحرة لا حق لها في الجماع أصلا أو قيل: لها حق في الاستمتاع دون الإنزال، أو قيل بأن الحق لهما، فإن أقوال الشافعية تعددت في بيان الحكم. فقد حكى الدمشقي في رحمة الأمة: (أن العزل عن الحرة ولو بغير إذنها جائز على المرجح من مذهب الشافعي، لكن نهى عنه، فالأولى تركه) (2) . وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للحرة فإن الجواز يكون أولى بالنسبة لغيرها، ودون توقف على إذن السيد في الأمة. والقول بالجواز هو الذي حكاه الحافظ عن الغزالي وغيره، ثم قال: "وهو المصحح عند المتأخرين" (3) وقد صرح الغزالي في الإحياء بإباحة العزل وصحح ذلك في المذهب إذ قال: "والصحيح عندنا أن ذلك مباح " (4) . ثم ينفي أن يكون حكم العزل الكراهة بمعنى التحريم أو التنزيه، ولا ينفي القول بالكراهة بمعنى ترك فضيلة وترك الأولى كما يقال: يكره للقاعد في المسجد أن يقعد فارغا لا يشتغل بذكر أو صلاة يعني أنه ترك فعل الأفضل. وعلل الغزالي نفي كراهة التحريم والتنزيه "بأن إثبات النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص، ولا نص ولا أصل يقاس عليه، بل ههنا أصل يقاس عليه وهو ترك النكاح أصلا أو ترك الجماع بعد النكاح، أو ترك الإنزال بعد الإيلاج، فكل ذلك ترك للأفضل، وليس بارتكاب نهي" (5) .   (1) فتح الباري 309/9. (2) انظر رحمة الأمة في اختلاف الأئمة: 224 (دار الكتب العلمية – ط – أولى – بيروت 1407/1987) . (3) انظر: فتح الباري: 309/9. (4) انظر إحياء علوم الدين: 51/2 – (دار المعرفة – بيروت) . (5) انظر إحياء علوم الدين: 51/2 – (دار المعرفة – بيروت) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 وهذا الجواز الذي صححه الغزالي في المذهب وصححه الحافظ عند المتأخرين هو الذي عزاه ابن جزي في القوانين إلى الإمام الشافعي حيث قال: "لا يجوز العزل عن الحرة إلا بإذنها ولا عن الزوجة الأمة إلا بإذن سيدها لحقه في النسل، ويجوز عن السرية بغير إذنها وأجازه الشافعي مطلقا" (1) . أما حكم العزل كما جاء في المهذب فهو دائر بين الكراهة والحرمة حيث قال: " (فصل) ويكره العزل لما روت جذامة بنت وهب ... إلخ". ثم يفصل بين أمته وزوجته المملوكة وزوجته الحرة، فلا حرمة فيه عن أمته؛ لأن الاستمتاع لا حق لها فيه، ولا حرمة فيه عن زوجته الرقيقة؛ لأنه يلحقه العار باسترقاق ولده منها. ثم يقول في الحرة: وإن كانت حرة، فإن كان بإذنها جاز لأن الحق لهما، وإن لم تأذن ففيه وجهان: أحدهما لا يحرم؛ لأن حقها في الاستمتاع دون الإنزال، والثاني يحرم؛ لأنه يقطع النسل من غير ضرر يحلقه (2) ومن وجوه الخلاف في المذهب الشافعي ما حكاه الروياني في منع العزل مطلقا كمذهب ابن حزم (3) . عند الحنفية: سلك الحنفية في بيان حق الزوجة الحرة في الوطء وما يترتب على ذلك من طلب إذنها للعزل عنها على وفق المشهور في باقى المذاهب السنية فقالوا: إن الحرة لا يعزل عنها إلا بإذنها، وإن المتسري بها يعزل عنها بغير إذنها وفي الزوجة الرقيقة قال أبو حنيفة مثل قول مالك: إن الإذن لسيدها، وهو القول الراجح عن محمد بن الحسن، أما أبو يوسف فيرى أن الإذن لها، وعن محمد أنه جنح لما قاله أبو يوسف وهذا ما نقله صاحب الهداية إذ قال: "إذا تزوج أمة فالإذن في العزل إلى المولى عند أبي حنيفة رحمه الله وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أن الإذن في العزل إليها؛ لأن الوطء حقها حتى تثبت لها ولاية المطالبة، وفي العزل تنقيص حقها، فيشترط رضاها كما في الحرة، بخلاف الأمة المملوكة لأنه لا مطالبة لها فلا يعتبر رضاها" (4) .   (1) انظر: القوانين الفقهية: 217 الدار العربية للكتاب - ليبيا - تونس: 1988 (2) انظر المهذب: 67/2. (3) عن فتح الباري 308/9. (4) المرغياني: الهداية: 217/1 (ط-المكتبة الإسلامية) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 عند الحنابلة: المعروف عن الإمام أحمد انه لم يخالف مالكا ولا أبا حنيفة في حكم العزل ولا في حق المرأة في الوطء، فقد فصل هو الآخر فعلق الإباحة على إذن الحرة، وقال بالحرمة إن لم تأذن وجعل الحق للسيد في العزل عن الزوجة الرقيقة لحقه في الولد ولم يبح دون إذنه. قال ابن القيم: وهذا منصوص أحمد رحمه الله (1) . ومن أصحاب أحمد من منع العزل بكل حال، كما قال بمنعه أبو محمد بن حزم الظاهري، ومنهم من قال: يباح بكل حال، ومنهم من قال: يباح بإذن الزوجة حرة كانت أو أمة، ولا يباح دون إذنها حرة كانت أو أمة. قال ابن القيم: "فمن أباحه مطلقا احتج بما ذكرنا من الأحاديث، وبأن حق المرأة في ذوق العسيلة لا في الإنزال ومن حرمه مطلقا احتج بما رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة رضي الله عنهما" (2) . خلاصة المذاهب: مما أسلفنا من أقوال علماء المذاهب السنية يتبين لنا من هؤلاء العلماء من قال بالجواز مطلقا بناء على عدم وجود نص صريح في النهي. ومنهم من قال بالمنع مطلقا، إستنادا إلي حديث مسلم عن جذامة بنت وهب أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل فقال: ذلك الوأد الخفي. ومنهم الجمهور الذين فصلوا بين الحرة والأمة الزوجة أو السرية، وحجتهم ما رواه عبد الرزاق بسند صحيح عنده عن ابن عباس أنه قال: ((تستأمر الحرة في العزل، ولا تستأمر الأمة السرية، فإن كانت أمة تحت حر، فعليه أن يستأمرها)) . قال الحافظ: (وهذا نص في المسألة، فلو كان مرفوعا لم يجز العدول عنه) (3) .   (1) انظر: زاد المعاد: 1604 (المطبعة المصرية القاهرة) . (2) انظر: زاد المعاد: 16/4 (المطبعة المصرية القاهرة) . (3) فتح الباري: 308/9. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 القضية الثانية الإجهاض والإعقام تقديم: الإجهاض هو إسقاط الجنين قبل تمام خلقه أي قبل موعد ولادته وتمام استعداده للحياة خارج رحم أمه. وقد أدرك الفقهاء ما أدركه الأطباء منذ قرون متطاولة من أن تكوين الجنين في الرحم يمر بسبعة أطوار، تبدأ بالتقاء المائين الأمر الذي قد ينشأ عنه اللقاح والإخصاب، وعندما يتم ذلك تبحث البويضة عن مكان عيشها واستقرارها إلى زمن الانفصال وهو زمن الولادة، ومكان عيشها، هو مكان ما ميسر لها في جدار رحم الأم، فتعلق به لتمتص قوتها الذي يأتيها رغدًا في كل حين بإذن ربها، وعلى هذا العطاء تنمو وتقطع مراحلها مرحلة بعد مرحلة إلى نهاية المطاف، وفي ذلك آية من آيات الخلق العجيبة، فتبارك الله أحسن الخالقين. فالأطوار السبعة مقسومة إلى قسمين، الفاصل والمميز بينهما هو نفخ الروح الذي ينتقل به الجنين من حياة إلى حياة، من حياة الإعداد والنمو إلي حياة الحس والحركة، والفارق بين الحياتين أن حياة الإعداد والنمو هي حياة خلية نمت حتى صارت كتلة من الخلايا، مارة بمراحل انطلاقا من مرحلة النطفة ثم العلقة ثم المضغة، ومسافة كل مرحلة أربعون يوما، وفي ختام المائة والعشرين يوما يقدر الله نفخ الروح وعندها يتغير كل شيء وتبدأ مرحلة الحس والحركة، لأن الجنين أصبح يحس وأصبح يتحرك وأصبحت الحامل به أما تتعامل معه وتؤثر فيه، ونستطيع أن نقول: إن تربيته تبدأ من هذا الحد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 ونعني بذلك تربيته الجسمانية وما سيكون لها من استعداد وطاقة لتغذية عقل مدرك ونفس كبيرة، وقد ردد حكماء العصر: أن العقل السليم في الجسم السليم. إن حياة الجنين في مرحلته الثانية هي حياة مخلوق له روح ويمر بمراحل الاكتمال لينزل إلى دنيا الناس بشرا سويا. وبناء على الفارق الواضح بين مرحلة الإعداد والنمو أو مرحلة التكوين الجسمي المحض، ومرحلة الحس والحركة، وهي مرحلة ما بعد نفخ الروح، حيث أصبح الجنين يحس فتحس الأم بإحساسه ويألم فتألم الأم بآلامه. أدرك الأطباء الفرق الكبير بين إجهاض المرأة قبل نهاية الشهر الرابع أي قبل نفخ الروح، والجنين حينئذ ليس إلا كتلة من الخلايا أو قطعة من اللحم خالية من حياة ذوي الأرواح وإنما حياتها مثل حياة عالم الجمادات، وبين الإجهاض بعد نفخ الروح، فالإجهاض في المرحلة الأولى ليس فيه خطورة على الأم كالإجهاض في المرحلة الثانية. بناء على هذه المدركات التي اشترك فيها علماء التشريح وعلماء الشريعة حصل الإجماع على الأمرين التاليين: الأول: إن الإجهاض ليس كالعزل، إذ في الإجهاض جناية على موجود بخلاف العزل. الثاني: إن الإجهاض قبل نفخ الروح ليس كالإجهاض بعده؛ لأن الإجهاض قبل نفخ الروح جناية على أصل الجنين وبذرته، أما بعده فالجناية على كائن مخلوق له روح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 حكم الإجهاض اتفق علماء المسلمين على أن إسقاط الحمل ومحاربته بعد نفخ الروح جناية محرمة؛ لأنها جناية على حي، وأوجبوا فيها الدية إن نزل حيا، والغرة إن نزل ميتا، وهذا إذا لم تدع ضرورة إلي إسقاطه أو إزالته مثل ضرورة المحافظة على حياة الأم عملا بقاعدة: ارتكاب أخف الضررين وقاعدة: الأصل المستقر قبل الفرع المنتظر، ومثيلتها: لا يعدم الأصل من أجل الحصول على الفرع. فليس في هذا الأمر خيار للأبوين ولا لغيرهما؛ لأن الحق لله والحكم متعين، فيتعين إسقاطه إذا توقف على ذلك إنقاذ حياة الأم، وثبت ذلك من طريق موثوق، كما يتعين إبقاؤه واحترام حياته كما تحترم حياة كل إنسان – فيما عدا ذلك. أما قبل نفخ الروح يعني قبل نهاية الشهر الرابع من الإخصاب فقد جرى في ذلك خلاف بين العلماء، ومبنى هذا الخلاف شيئان: أ - هل يعتد بحياة الإعداد والنمو؟ وهل لها حرمة كحياة من نفخت فيه الروح؟ ب - لمن الحق في الولد؟ هل للأب؟ أو للأبوين؟ أو لهما وللأمة جميعا؟ من العلماء من اعتبر حياة المادة التي منها يتكون الجنين قبل نفخ الروح ولم يفرق بينهما وبين حياة الجنين بعد نفخ الروح، باعتبار أن الوجود حاصل في الكل، وأن الحياة أمر لا ريب فيه في الكل، وإن اختلفت هذه الحياة تبعا للأطوار التي يمر بها هذا الجنين، وبناء على ذلك لا يجوز الإجهاض بدون عذر معتبر شرعا، وتشتد الحركة من طور لآخر فليست حرمة إسقاطه قبل نفخ الروح كالحرمة فيما بعد ذلك بدليل ما أسلفنا من وجوب الدية في حالات، ووجوب الغرة في حالات أخرى، مع ما يقترن به ذلك من تعزير يقدره القاضي بحسب جسامة الجريمة فليس إسقاط الحمل في طور النطفة كإسقاطه في طور العلقة وهكذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 ومن هؤلاء العلماء الإمام الغزالي وهو وإن بدا موقفه غير متشدد في أمر العزل إذ جوزه ولو كان الباعث عليه استبقاء جمال المرأة أو الخوف من خطر الطلق والولادة، فإنه يعتبر الإجهاض جناية على موجود حاصل إذ قال: "وليس هذا - أي العزل - كالإجهاض والوأد؛ لأن ذلك جناية على موجود حاصل وله أيضا مراتب، وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت علقة ومضغة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشا، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حيا" (1) . ومن هؤلاء العلماء القائلين بالحرمة والمنع كل الذين قالوا بحرمة العزل إذ الحرمة عندهم هنا بالأولوية. ومن العلماء من اعتبر حياة الجنين في الطور الأول (طور الإعداد والنمو وقبل نفخ الروح) حياة مادة ليست هي حياة الإنسان التي كرمها الله لاقترانها بالروح، فلا جناية إلا مع إزهاق الروح، وحيث لا روح في المادة الأولى التي منها الجنين فلا جناية وإذا لم يكن الحكم عند هؤلاء هو الحرمة ... فهل الحكم هو الكراهة أو الإباحة؟ خلاف بينهم في ذلك، جاء في الذخيرة "لو أرادت الإلقاء قبل مضي زمن نفخ الروح، هل يباح لها ذلك أم لا؟ " اختلفوا فيه (2) . ولقد ثبت علميا أن للإجهاض في مدة الحمل الأولي انعكاسات ومخلفات تتفاوت مضرتها وخطورتها بتقدم زمن الحمل وباختلاف أبدان الأمهات، وتشتد الخطورة إذا تكرر الإجهاض مع قصر الفواصل، وفي هذا دليل على أن الإجهاض فيه معاكسة للطبيعة ومناقضة لسيرها، وما كان كذلك لا يترجح القول فيه بالإباحة، بل الذي يقتضيه النظر الوجيه أن يدور الحكم بين كراهة التحريم وكراهة التنزيه بحسب الأوضاع والحالات والأشخاص، أما القول بالإباحة فهو خلاف الراجح عند العلماء من الفقهاء والأطباء. هذا في فترة الحمل الأولى، أما الفترة الثانية التي تعقب نفخ الروح فقد أسلفنا ذكر الاتفاق بين الفقهاء على حرمة إسقاط الحمل فيها بغير ضرورة وهذا هو الذي يراه الأطباء؛ لأنهم يقررون أن الأمر لا يخلو من خطورة ومجازفة بحياة الأم.   (1) الإحياء: 51/2. (2) عن شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة: 216 (دار القلم – القاهرة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 حكم الإعقام الإعقام من قولهم: أعقم الله رحمها فعقمت (على ما لم يسم فاعله) إذا لم تقبل الولد (1) والإعقام في المرأة يكون بإفساد رحمها حتى يصير رافضا للإخصاب أو بإفساد مائها أو بإفسادهما معا، وهو عبارة عن شل عضو أو إفساد جهاز في الجسم مما خلق الله، ولم تأت الشرائع بذلك أصلا ولم تبحه ولا أباحه العلم؛ لأنه ضرب من إفساد ما خلق الله تعالى والله لا يحب الفساد. ويكون الإعقام في الرجل، فيقال: رجل عقيم، بمعنى لا يولد له، كما يقال امرأة عقيم؛ لأنه من الأوصاف التي يستوي فيها المذكر والمؤنث، ويكون إعقام الرجل قديما بالخصاء، وصار اليوم بما يعرف بربط القنوات أو بتناول بعض العقاقير المفسدة لمائه إن صح ما بلغنا من بعض طلاب العلم في الطب. وقد ورد في شأن الخصاء الحديث المتفق عليه، وهو عند البخاري من طريق قتيبة عن جرير عن إسماعيل عن قيس قال: قال عبد الله - يعني ابن مسعود -: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لنا شيء - وللبخاري من طريق: محمد بن المثني عن يحيى في باب تزويج المعسر: وليس لنا نساء - فقلنا: ألا تستخصي؟ فنهانا عن ذلك" (2) . قال الحافظ: "هو نهي تحريم بلا خلاف في بني آدم" ثم بين سبب الحرمة فأفاد أن السبب يرجع إلى عدة مفاسد منها قطع النسل، ومنها تعذيب النفس والتشويه من إدخال الضرر الذي قد يفضي إلى الهلاك، ومنها أن فيه تغيير خلق الله وكفر النعمة. وقد منعت الشريعة قطع نسل الحيوان، واستثنوا من ذلك الخصاء من أجل تطييب اللحم في الأنعام ما دامت في حال الصغر، حتى لا يشتد تعذيبها عند الكبر، فكيف يكون الحال في الإنسان؟ (3) وتعضيدا لحديث البخاري نقل الحافظ ما أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العزوبة فقال: ألا أختصي؟ قال: ((ليس منا من خصى أو اختصى)) . هذا هو حكم الإعقام الذي به يقطع النسل بلا رجعة، مثل الإخصاء عند الرجال، أو استئصال الرحم عند المرأة لغير علاج، وإنما يقصد قطع النسل عن المرأة المعافاة". أما إذا اتخذت وسائل الإعقام بقصد التصبير وإرجاء الحمل لأجل محدد بحيث يمكن إزالتها بزوال سببها والعودة إلى الإنجاب، فإن ذلك يأخذ حكم العزل، لأنه به أشبه ولأنه لا إفساد فيه ولا تغيير لخلق الله.   (1) قاله مختار الصحاح. (2) انظر: البخاري: كتاب (76) النكاح، باب (6) تزويج المعسر وباب (8) ما يكره من التبتل والخصاء. (3) فتح الباري: 118/9-119 بتصرف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 القرار في النسل يتبع الحق في الولد لكن يبقي السؤال القائم كالتالي: -من الذي يملك حق الولد وحق القرار في الإنجاب أو عدمه؟ هل هو الزوج وحده؟ أو الزوج بالاشتراك مع الزوجة؟ أو هما بالاشتراك مع الأمة التي تمثلها الدولة؟ اختلفت في ذلك أنظار العلماء إلى أربعة آراء: الأول: إن الولد حق للوالد وحده، فإن شاء أنجب وإن شاء لم ينجب وذلك نظرا لكونه رب الأسرة، وهو المسؤول عن القيام على أبنائه نفقة وتأديبا وإعدادا للحياة الجادة كما يريدها الله تعالى، ومن هؤلاء الإمام الغزالي الذي جوز العزل للزوج دون توقف على إذن الزوجة فهو الذي يكون له القرار وتبعا لذلك له الإنجاب إن رامه. الثاني: إن الولد حق للأبوين بالإشراك، ومن غير اختصاص أحدهما دون الآخر؛ لأن الأبناء من زينة الحياة ومتعها وليس ذلك للآباء دون الأمهات، ولأن الأم لا تقل مسؤوليتها عن الأب بل قد تفوق مسؤولية الأب إذا اعتبرنا أن مسؤوليتها التربوية للولد تبدأ من أيام الحمل وتعظم في مرحلة الطفولة الأولى. ومن هؤلاء أئمة المذاهب الذين اشترطوا موافقة الزوجة للترخيص في العزل. الثالث: إن الولد حق مشترك بين الوالدين والأمة مع تغليب حق الوالدين والقائلون بهذا هم العلماء من فقهاء الأمصار، الذين أفتوا بكراهة العزل وكراهة تحديد النسل مطلقا ولو باتفاق الأبوين، لأن الأمر لا يخصهما على انفراد، بل هو لهما على وجه الأمانة حتى يعد للأمة جيل المستقبل الصالح. ومن القائلين بهذه الكراهة أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وابن عباس في إحدى الروايتين عنه. ومن أصحاب هذا الرأي الإمام النووي والشافعي وموفق الدين ابن قدامة الحنبلي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 الرابع: أن الولد حق مشترك بين الوالدين وبين الأمة مع التغليب المطلق لحق الأمة، وهو مذهب القائلين بحرمة العزل وحرمة كل ما يمنع الولد، فالأبوان بمثابة الوكيلين والوكيل معزول – كما يقول الفقهاء – عن غير المصلحة من هؤلاء أبو حاتم محمد بن حبان البستي الشافعي صاحب الصحيح والإمام أبو محمد بن حزم الأندلسي الظاهري. وإذا قلنا بتحديد حق الأبوين وتغليب حق الأمة فهل للدولة أن تتكلم باسم الأمة لتقرر تحديد النسل أو الزيادة فيه؟ الجواب: لا يكون بنعم أو لا؛ لأن المسألة تتعلق بشرعية القرار الذي تتخذه الدولة لا من الناحية الشكلية باعتبار أنها دولة لها (الحق وحدها في أخذ القرار وحماية المصالح) ولكن من ناحية جوهر القرار وتمشيه مع روح الشريعة وعقيدة المسلم وإيمانه بربه. هذا الإيمان الذي تنكرت له العلمانية ولم يتنكر له العلم الصحيح. ولكي يكون قرار الدولة الإسلامية في هذا الصدد مسموعا ومطبقا من المسلمين يتعين اعتبار ما يأتي: 1- أن لا يكون علمانيا فيه إلزام لكل الأسر سواء بتقليل النسل أو بتنظيم الإنجاب أو المباعدة بين الولادات، أو كان المراد منه تكثير النسل بالترغيب في الزواج والمكافأة على الإنجاب، بل يكون قرارا يدعو الناس والأسر إلي الإتيان من ذلك ما في وسعهم وعلى حسب طاقتهم، وظروف عيشهم، والوسائل المتاحة لهم. 2- أن يكون الباعث على القرار الالتزام بالمصالح الشرعية التي فيها مصلحة الأمة وحثها على السعي إلى غد أفضل وإلى تحقيق المزيد من المناعة والقوة، وليس الباعث ما يشير به الخبراء الأجانب ممن قامت تقديراتهم وأبحاثهم على معطيات مادية اقتصادية بحتة كأن المادة هي كل شيء، وكأن الاقتصاد هو الذي يرزق الذرية وهو الذي يقدر موتهم أو حياتهم وقد علمتنا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أن المادة والمال قد يكون نقصهم عائقا أمام تحقيق الغايات، لكن لا يثنينا ذلك عن المضي قدما قصد تسخير المادة وتحصيل المال وتذليل الصعوبات، فلا نحدد النسل بدعوى نقص الموارد مع الإبقاء على استهلاك متهور غير رشيد، بل نرشد الاستهلاك ونتعلم حسن القناعة ونبقي على التناسل والنمو العادي للأمة، روى أحمد في مسنده من طريق هاشم بن القاسم وحسن بن موسى عن زهير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرا لقريش وزودنا جرابا من تمر، لم يجد لنا غيره قال: فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة قال: قلت: كيف تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل" (1) إلى آخر الحديث فما كانت المادة لتعوق عن المهمات العسكرية وقضايا الجهاد، فكيف نتخذ منها تعلة لتحديد النسل؟ مع أن الذي يهدد نسلنا إنما هو تدهور القيم وانحطاط الأخلاق أو ما سماه بعض الحنفية بفساد الزمن الذي يبيح التحرز من الإنجاب. 3- أن تكون الدولة ذات أخلاق ومصداقية: ذات أخلاق تدفعها إلى التعامل مع أحكام الإسلام بصدق، وذات مصداقية؛ لأنها لا تتناقض مع نفسها فالدولة إذا شجعت على كثرة النسل تفقد مصداقيتها إذا لم توفر لهذا النسل ما به ينشأ على الإيمان بالله والاستقامة وحسن التربية والإقبال على مختلف العلوم والمعارف. والدولة إذا نفرت من كثرة النسل بدعوى العجز الاقتصادي ومحدودية الدخل والموارد بالنسبة للأمة لا يبقى شيء من مصداقيتها، ولا يسمع لها قول أو قرار أو رأي إذا هي بذرت الأموال في ميزانها للتصرف واستوردت المحظورات وأكثرت من شراء الكماليات وسمحت للأيدي أن تجول في الأموال والأملاك العمومية، وهل يدعو إلى الرشاد من لم يرشد؟ أمر النسل تكثيرا أو تحديدا أو تنظيما أو إعقاما أو إجهاضا له صلة بعقيدة المسلم وشريعته فلا يتقبل فيها المسلم ما يقوله العلمانيون ولو صادف الحق وواقع التشريع، حتى يسمع من علماء المسلمين الذين ورثوا عن الأنبياء أمر البلاغ لهذه الأمة ولعل أمر هذا البلاغ هو خير ما دعا إلى تأسيس مجمعنا الفقهي الإسلامي هذا. والحمد لله بدءًا وختاما مع خير صلاة وأزكى سلام على الحبيب رسول الله. الطيب سلامة   (1) المسند: 311/3. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 رأي في تنظيم العائلة وتحديد النسل إعداد الشيخ محمد علي التسخيري مسئول العلاقات الدولية في منظمة الإعلام الإسلامية وعضو مجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم تحرير محل النزاع: نود في البدء أن نوضح أننا سنركز في هذا البحث على خصوص (تنظيم النسل) ونعني به (التخطيط الصحيح والشرعي لامتلاك الزوجين عددًا معينًا من الأولاد ينسجم مع قدرتيهما على القيام بحق الوالدية والتربية من جهة كما ينسجم مع قدرة المجتمع الذى.. يعيشان فيه على توفير متطلبات الحياة السعيدة من جهة أخرى) . وبإدخالنا القيد (الشرعي) نخرج به كل أسلوب ثبتت حرمته أو اشتهرت من قبيل (الإجهاض) و (التعقيم الكامل) وأمثالهما. وكذلك لا يشمل بحثنا الأهداف المرفوضة شرعًا وإنما يركز على خصوص الأسباب المشروعة والمتعارفة: فما هو الموقف من هذه العملية؟ هل نرفضها مطلقا أم نقبلها مطلقا؟ أم نقول بالتفصيل بين الصعيد الفردى والإلزام الحكومي؟ أنصار وجوب الإطلاق وأدلتهم: إذا طالعنا أدلة أنصار وجوب الإطلاق في هذا الموضوع وعدم جواز التنظيم مطلقا لاحظناها تركز: أولًا: على أنماط متعددة من النصوص الشرعية التي تؤكد على الأمور التالية: - ذم العادات الجاهلية في وأد البنات وقتل الأولاد خوفًا من قلة الرزق والإملاق. - اعتبار من يموت بلا ولد هالكا. - التركيز على امتلاك الولد الصالح. - التركيز على انتخاب المرأة الولود. - جعل الولد من نعم الله. - الدفع للإكثار من التوالد. - النهي عن التبتل والانقطاع عن الولد. - تعليم المؤمنين بعض الأدعية لحصول الولد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 وغير ذلك من النصوص الشريفة التي تؤدي بمجموعها للقول بأن الإسلام يدعو بكل وضوح إلى الإكثار من النفوس الصالحة. وها نحن نذكر بعض هذه الروايات: 1- ففي صحيحة محمد بن مسلم أن أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله قال: ((تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم غدًا في القيامة)) (1) . 2- وفي رواية جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: ((ما يمنع المؤمن أن يتخذ أهلا لعل الله يرزقه نسمة تثقل الأرض بلا إله إلا الله)) (2) . 3- وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام وفي حديث ((الأربعمائة)) قال: تزوجوا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله كثيرًا ما كان يقول: ((من كان يحب أن يتبع سنتي فليتزوج فإن من سنتي التزويج، واطلبوا الولد فإني أكاثر بكم الأمم غدًا)) (3) . 4- وفي صحيحة جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم وآله فقال: ((إن خير نسائكم الولود الودود العزيزة في أهلها الذليلة مع بعلها)) الحديث (4) . 5- وفي صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله فقال: يا نبي الله إن لي ابنة عم لي قد رضيت جمالها وحسنها ودينها لكنها عاقر فقال: لا تزوجها إن يوسف بن يعقوب لقي أخاه فقال: يا أخي كيف استطعت أن تزوج النساء بعدي؟ فقال: إن أبي أمرني، فقال: إن استطعت أن تكون لك ذرية تثقل الأرض بالتسبيح فافعل، قال: وجاء رجل من الغد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له مثل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم له: تزوج سوآء ولودًا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة. فقال: فقلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما السوآء؟ قال: القبيحة (5) .   (1) رواه الصدوق في الفقيه ومعاني الأخبار أخرجه عنه في الوسائل، الباب الأول من أبواب مقدمات النكاح الحديث 2، ج 14، ص 3 (2) رواه الصدوق في الفقيه، وأخرجه عنه في الوسائل الباب الأول من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 3، ج 14، ص 3 (3) رواه الصدوق في الفقيه والخصال ص 14 - 615 وأخرجه عنه في الوسائل الباب الأول من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 6، ج 14، ص 3 - 4 (4) الوسائل، الباب 6 من أبواب مقدمات النكاح الحديث 2، ج 14، ص 14 (5) الوسائل، الباب 15 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 1، ج 14، ص 33 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 أقول: فتراه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن تزوج العاقر التي لا تلد واستدل بقول يعقوب النبي الذي قد أمر بثقل الأرض بتسبيح الذرية مهما استطاع وقد أمر صلى الله عليه وسلم بتزوج السوآء الولود ومعلوم أن كون المرأة سوآء غير مندوبة عنده كما تدل عليه كلماته الأخر مثل قوله صلى الله عليه وسلم وآله: ((أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهًا وأقلهن مهرًا)) (1) . بل إن مراده صلى الله عليه وسلم أن كون الزوجة ولودًا كثيرة الولادة والأولاد مطلوب جدًّا حتى إنه لو دار الأمر بين الجميلة غير الولود والسوآء الولود فالسوآء الولود هي الأولى والمتعينة. ويستفاد من نقل كلام النبي يعقوب عليه السلام أن كثرة الولد وثقل الأرض بتسبيحه مندوب في جميع الشرائع الإلهية. 6 - وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله ((تزوجوا بكرا ولودا ولا تزوجوا حسناء جميلة عاقرًا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة)) (2) . 7 - وفي رواية محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: ((أكثروا الولد أكاثر بكم الأمم غدا)) (3) . 8 - وفي سنن البيهقي بإسناده عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: ((تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة.)) خ. ((ولا تكونوا كرهبانية النصارى)) (4) . 9 - وفيها قال عمر بن الخطاب والله إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج الله مني نسمة تسبح الله (5) .   (1) الوسائل، الباب 6 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 8، ج 14، ص 16 (2) الوسائل، الباب 16 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 1، ج 14، ص 33 أخرجه عن الكافي (3) الوسائل، الباب 1، من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 8، ج 15، ص 96 (4) البيهقي، كتاب النكاح، باب الرغبة في النكاح، ج 7، ص 78 (5) البيهقي، كتاب النكاح، باب الرغبة في النكاح، ج 7، ص 79 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 10 - وفيها بإسناده عن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم فقال: يا رسول الله إني أصبت امرأة ذات حسب ومنصب ومال إلا أنها لا تلد، أفأتزوج بها؟ فنهاه رسول الله، ثم أتاه الثانية فقال له مثل ذلك فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال له مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم: ((تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم)) (1) . وأخرجه الحاكم في المستدرك بتقديم (الولود) ، وقال: إن هذا حديث صحيح الإسناد. وصححه الذهبي في التلخيص. وأخرجه النسائي في سننه في باب كراهية تزوج العقيم. وأخرجه أبو داود أيضًا في سننه في باب النهي عن تزوج من لم تلد من النساء. 11 - وفيها بإسناده عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم يأمرنا بالباءة (بالنساء. خ د) وينهانا عن التبتل نهيا شديدا ويقول: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء (الأمم، خ ل) يوم القيامة)) (2) . 12 - وفيها بإسناده عن أبي أذينة الصدفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم قال: ((خير نسائكم الودود الولود المواتية المواسية إذا اتقين الله)) الحديث (3) . 13 - وفي سنن ابن ماجه بإسناده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم: ((انكحوا فإني مكاثر بكم الأمم)) (4) . إلا أن في السند طلحة بن عمر والمكي الحضرمي وقد ورد عن الزوائد أنه متفق على تضعيفه. ونكتفي بهذا المقدار وهي باقة من النصوص كثيرة في هذا الصدد. ثانيًا: - كما تمسك أنصار هذا الرأي بالدافع الفطري الذي يحقق استمرار النوع البشري عن طريق التوالد وأن أي وقوف أمامه يعني مخالفة الفطرة بل وسوء الظن بالله تعالى الذي أرسل هذا الدين فطريا، وضمن للإنسان رزقه بشكل واضح، وأكد أن الطبيعة كافية تماما لكل ما يحتاجه أبناء الإنسان، أما النقص فهو ناتج من ظلم الإنسان وكفره {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (5) .   (1) البيهقي، كتاب النكاح، باب استحباب التزوج بالودود الولود، ج 7، ص 81، المستدرك كتاب النكاح، ص 162، ج 2، النسائي، ج 6، ص 6 - 65، أبو داود، ج 2، ص 297 الرقم2050 (2) البيهقي، كتاب النكاح باب استحباب الزواج بالودود الولود، ج 7، ص 82 (3) البيهقي، كتاب النكاح باب استحباب الزواج بالودود الولود، ج 7، ص 82 (4) سنن ابن ماجه، باب تزوج الحرائر والولود، ج 1، ص 599، الرقم 1863 (5) سورة إبراهيم الآية 34 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 ثالثًا: كما ركزوا على الدوافع الاستعمارية والصهيونية والإباحية للقائلين بتحديد النسل وأشاروا من خلال ذلك إلى الحرب الديموغرافية التي يشنها الأعداء ضد الأمة الإسلامية لتقليل عددها وإضعاف قوتها. رابعًا: على إبطال كل الدوافع المدعاة لهذا التحديد. من خلال مناقشة نظرية مالتس التي تؤمن بأن (التصاعد العددي لنمو الإمكانات الغذائية لا يمكنه اللحوق بالتصاعد الهندسي للتوالد البشري) تعرضوا للرد عليها بالحجة وإبطالها، ثم حاولوا التشكيك في دلالة الروايات على جواز العزل أو قالوا بأنها لحالات فردية خاصة ولا يمكن استفادة الإطلاق في الجواز منها. أنصار إمكان التنظيم ومستندهم: أما أنصار إمكان تنظيم النسل فهم يركزون على ما يلي: أولًا: الاستناد إلى الأحاديث التي تجيز (العزل) والتي على أساسها أفتى أئمة المذاهب الأربعة بجوازه مع إذن الزوجة بل أفتى مالك وأبو حنيفة والشافعي بالجواز دون تقيده بإذن الزوجة. أما الإمامية فالمشهور لديهم هو جواز العزل يقول الإمام الخميني (لا إشكال في جواز العزل. في غير الزوجة الدائمة الحرة وكذا فيها مع إذنها وأما فيها بدون إذنها ففيه قولان، أشهرهما الجواز مع الكراهية وهو الأقوى بل لا يبعد عدم الكراهة في التي علم أنها لا تلد وفي المسنة والسليطة والبذية والتي لا ترضع ولدها كما أن الأقوى عدم وجوب دية النطفة عليه وإن قلنا بالحرمة وقيل بوجوبها عليه للزوجة، وهي عشرة دنانير وهو ضعيف للغاية) (1) . وهناك روايات في هذا الموضوع نذكر منها ما يلي: 1 - صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (ع) (يعني الصادق) عن العزل؟ فقال: ذاك إلى الرجل يصرفه حيث شاء. 2 - وعن محمد بن مسلم عن الباقر (ع) قال: (لا بأس بالعزل عن المرأة الحرة أن أحب صاحبها وإن كرهت ليس لها من الأمر شيء) .   (1) تحرير الوسيلة ج 2 ص 242 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 3 - وعن محمد بن مسلم عن أحدهما (أنه سئل عن العزل فقال: أما الأمة فلا بأس، فأما الحرة فإني أكره ذلك إلا أن يشترط عليها حين يتزوجها) . 4 - وعن يعقوب الجعفي قال: سمعت أبا الحسن (ع) يقول: لا بأس بالعزل في ستة وجوه: المرأة التي تيقنت أنها لا تلد والمسنة والمرأة السليطة والبذية والمرأة التي لا ترضع ولدها والأمة. 5 - جاء في الصحيحين عن جابر قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل) . ثانيًا: الاستناد لأصل الإباحة في أصل الزواج وفي أصل الإنجاب خصوصا مع عدم تضرر أي من الجانبين ورضاهما. ثالثًا: الاستناد إلى ما يترتب من ضرر فردي أو اجتماعي أحيانا وهذا أمر يشخصه الفرد في الحالة الفردية والحاكم في الحالة الاجتماعية. ولقد حاول هؤلاء التركيز على أن الإسلام إذ يدعو لتكثير الذرية إنما يطلب بطبيعة الحال ما يمكن أن يباهي به النبي صلى الله عليه وسلم الأمم الأخرى وهي الذرية الصالحة والولد الطيب، فإذا أدت كثرة الإنجاب إلى فقدان القدرة على التربية لم تكن محبذة إسلاميا.. وربما كانت قلة العيال أحد اليسارين. وقد ركزوا لا على نظريات مالتس أو دواعي الغربيين وإنما على الأرقام الفعلية للنمو وضعف الإمكانات في قبال ذلك. القول بالتفصيل: وربما رأينا من يجنح للقول بالتفصيل بين الحالات الفردية والمنع الاجتماعي بحجة أن المباح على نوعين: أ - ما يتفق مع حكم الأصل بأن ينطوي على فائدة عامة للفرد والمجتمع كالتمتع بالطيبات. ب - ما لا يتفق مع حكم الأصل من الإباحة الأصلية العامة وإنما دخله حكم العفو أو الإباحة بالنسبة لأشخاص بأعيانهم أما المجال الأول فللحاكم الشرعي التدخل في منعه لمصلحة. وأما الثاني فليس له ذلك ومسألتنا من هذا القبيل بل ربما يبدو من بعض العلماء قوله بعدم وجود أصل الإباحة فالأصل المنع إلا برخصة باعثة ويعتبر ذلك مما يقتضيه التفكير السليم (1) . ولا مبيح للتحديد على المستوى الجماعي.   (1) الأستاذ عبد المجيد بن ياكل في بحثه. ص 10 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 الرأي المختار: يمكننا في مسألة جواز تنظيم الأسرة بتحديد النسل أن نلاحظ النقاط التالية لنصل إلى الرأي المختار في النتيجة: النقطة الأولى: لا ريب - بملاحظة النصوص الكثيرة والمتنوعة - في أن الشريعة تحث على الإنجاب وتكثير النسل باعتباره مبدأ عاما وأصلا اجتماعيًّا يعتمده المسلمون، وقد بينت النصوص أن ذلك لكي تقوى به الأمة الإسلامية ويباهي بها الرسول باقي الأمم، وطبيعي ذلك باعتبار الأمة الإسلامية يراد لها أن تقود البشرية كلها حضاريًّا؛ لأنها خير أمة أخرجت للناس ولا يمكنها أن تحقق وظائفها وهي ضعيفة من حيث العدد الكمي. إلا أن من الواضح أن التكاثر المراد ملحوظ فيه الجانب الكيفي أيضًا فالتركيز كله على الذرية الصالحة الطيبة المتقية التي تحمل أمانة الآباء وتخلفهم في حمل الرسالة الإسلامية والقيام بأعباء الخلافة الإلهية، وحينئذ فقط يفرح المجتمع الإسلامي بالإنجاب والتوالد الكثير. ومن الواضح أيضا أن الإسلام من خلال ذلك يعطي رأيه في أمثال نظرية (مالتس) التي تتحدث عن بخل الطبيعة في مجال استيعاب معدلات النمو الإنساني في حين أننا نعلم أن الطبيعة تحوي طاقات ضخمة تستوعب أضعاف ما هو موجود اليوم إذا توفر أمران، أولهما شكر النعم الإلهية بالاستفادة الأفضل وتحسين أساليب الإنتاج باستمرار وعدم التبذير والإسراف في الاستهلاك وصرف الأموال على الحروب والأعمال المعادية للإنسانية أو التافهة، وثانيهما العدالة في التوزيع وضمان الحقوق الإنسانية التي ركز عليها الإسلام للإنسان كإنسان. يقول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (1) . فالمشكلة الحقيقية تكمن في ظلم الإنسان وكفره.   (1) سورة إبراهيم الآية 32 - 34 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 النقطة الثانية: ما هو المرجع عند الشك في حكم شرعي لم يمكن إثباته ولا نفيه؟ في مثل هذا المورد يتم البحث على صعيدين: الأول: صعيد الأصل العملي العقلي. الثاني: صعيد الأصل العملي الشرعي. أما على الصعيد الأول: فهناك مسلكان. المسلك الأول: وهو مسلك نفي الحكم التكليفي عند الشك فيه استنادًا إلى قاعدة عقلية هي (قاعدة قبح العقاب بلا بيان) . والمسلك الثاني: مسلك حق الطاعة (كما يسميه السيد الصدر) وهو يؤمن بأن حق الطاعة للمولى الحقيقي حق واسع الأبعاد بحيث يشمل كل حكم تكليفي حتى ولو كان محتملا فقط ويؤمن هذا المسلك بأن العقل الإنساني الوجداني يؤمن بهذه السعة للمولى الحقيقي. أما المسلك الأول فهو يركز على عدم وجود عقاب ما لم يقم دليل قطعي على الحكم مستدلا تارة بأنه لا مقتضى للتحرك وفق الحكم مع عدم الوصول القطعي للتكليف، والعقاب هنا قبيح عقلا. والواقع أننا لو آمنا بضيق دائرة حق الطاعة بحيث لا تشمل التكاليف المشكوكة لكان هذا الكلام صحيحا ولكنه أول الكلام فيجب تحديد دائرة حق الطاعة أولا وهل تشمل التكاليف المحتملة أم لا؟ كما يستشهد أصحاب هذا المسلك بالعرف العقلاني الجاري بعدم العقاب عند عدم البيان ولكن يجب هنا التمييز بين المولى الحقيقي والمولى العرفي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 وهناك أدلة أخرى ذكرت لهذا المسلك. وعلى أي حال فإن آمنا بالمسلك الأول كان مقتضى الأصل العقلي عند الشك في أي حكم تكليفي هو البراءة العقلية من التكليف، وإن آمنا بالمسلك الثاني كان علينا الاحتياط العقلي. هذا، إذا لم يكن هناك أصل شرعي في البين وقد ذكر العلماء أن الأصل الشرعي موجود ومقدم على الأصل العقلي وهو ما يسمى بالبراءة الشرعية من التكليف عند الشك فيه واستدلوا على ذلك بالكتاب الكريم والروايات. أما الكتاب العزيز فقد استدلوا منه بآيات منها: قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا} (1) . وهذه الآية شاملة للشبهات الموضوعية والحكمية. ومنها: قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (2) . فكلمة (الرسول) مثال على إرسال ما يوضح الحكم. ومنها: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) . أما من الروايات: فقد ورد عن الصادق (ع) قوله: (كل شيء مطلق حتي يرد فيه نهي (4) . كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((رفع عن أمتي تسعة: الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة)) (5) . وضعف السند مجبور بشهرته والاستناد إليه وإذا شئنا التفصيل في البحث لزمنا الرجوع إلى الكتب الأصولية (6) .   (1) سورة الطلاق الآية 7 (2) سورة الإسراء الآية 15 (3) سورة التوبة الآية 115 (4) جامع أحاديث الشيعة: أبواب المقدمات الباب الثامن، الحديث 15 (5) جامع أحاديث الشيعة: أبواب المقدمات الباب الثامن، الحديث 3 (6) راجع قبلا دروس في علم الأصول للسيد الصدر ص 29، 64 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 ونخلص من هذا البحث إلى: أنه في الموارد المشكوكة الحكم يكون الأصل العملي فيها البراءة الشرعية وحينئذ فارتكاب العمل مباح. ولا معنى حينئذ للقول بالمنع ما لم يأت دليل مبيح ومسألتنا هنا موضوع لهذا البحث فليس هناك أي دليل على حرمة تحديد النسل وما ذكر من الأدلة المانعة لا يمكن أن تنهض على هذه الحرمة. في حين أن حلية العزل بشرائطه دليل على إباحة التنظيم بلا ريب ولكن حتى لو لم تتم هذه الحلية فإن الأمر يبقي مشكوكًا والأصل الشرعي هنا هو البراءة عن الحكم التكليفي الإلزامي بعد أن لم يصلنا دليل قطعي على الحرمة. النقطة الثالثة: حول سعة دائرة ولاية الحاكم الشرعي. وهنا بحوث مفصلة نحاول أن نذكر منها ما يرتبط بموضوعنا بكل اختصار: ما هي مساحة الولاية؟ ما يمكن استفادته من الأدلة الشرعية أن الحاكم الشرعي يقوم بالوظائف التالية: 1 - التصرف في الأموال العامة وتوجيهها الوجهة الصحيحة. 2 - إقامة الحدود الإسلامية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 3 - إصدار الأحكام في المساحة المباحة من التشريع الإسلامي كالإلزام بالمباح أو تحريمه تحقيقا لمصلحة اجتماعية ضرورية مثل تحديد الأسعار ومنع الاستيراد. 4 - توحيد الموقف الاجتماعي كما في الأهلة والجهاد. 5 - تشخيص موارد التزاحم الاجتماعي بين الأحكام فإذا ما تزاحم حكم شرعي اجتماعي مع حكم آخر ولم يكن بالإمكان الإتيان بهما معا كان من وظيفة الحاكم تشخيص هذا المورد وتقديم الأهم على المهم. 6 - إلزام الأفراد بالعمل بواجباتهم وفق وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1) . وهل هناك فرق بين المباحات للأفراد والمباحات بشكل عام؟ لا تجد هناك ما يبرر هذا الفرق. إلا أن يقول أحد: إن الإسلام أراد لبعض الأحكام أن تكون مباحة دائما للأفراد كالزواج والطلاق والاستمتاع والحرية وليس للدولة الإسلامية أن تحد منها أو تضع لها قيودا حتى ولو كان ذلك بمقتضى مصلحة عامة ملزمة. والظاهر: أن التأمل في نوع إباحة المشي والأكل المعين مثلا وإباحة الطلاق ينتهي إلى وجود فرق بينهما، من حيث كون النوع الثاني من الحلال الذي يعتمده الشارع حلالًا، وحينئذ فتجب مراعاة ذلك ولكن ذلك بالنسبة لأصل هذه والأمور لا لتقييداتها وحينئذ فللدولة الإسلامية إذا رأت المصلحة أن تقيد الزواج مثلا بالكتابة لدى كاتب العدل أو الطلاق ببعض القيود. هذا إذا لم ينته الأمر إلى نوع من التزاحم بين بقاء هذه الإباحة مطلقة وبقاء النظام الاجتماعي العام وهو الأهم حتما فهو المقدم عقلا وشرعا. وتحديد النسل بقانون هو في الواقع تقييد لهذا الحكم المباح ولا مانع منه بناء على ما قدمناه.   (1) راجع لمعرفة التفاصيل (حول الدستور الإسلامي في مواده العامة) للكاتب 2 ص، 60، 61 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 النتيجة: بعد معرفة المقدمات الماضية نستطيع أن نلخص الرأي المختار في موضوع بحثنا على النحو التالي: أولًا: في الحالات الطبيعية يرى الإسلام الإنجاب وفتح المجال لتكثير عدد المسلمين لما يؤدي إليه ذلك من قوة لهم. ثانيًا: للفرد عندما يرى حاجة لتحديد النسل وتنظيم الأسرة أن يستخدم إحدى الطرق المشروعة لذلك ومنها (العزل) مع مراعاة ما يشترطه الفقهاء أحيانًا من قبيل حصول رضا الزوجين وعدم الإضرار بحق الزوجة. ثالثًا: ينبغي أن لا تلجأ الدولة الإسلامية إلى مسألة تحديد النسل بقانون مهما أمكن، وذلك: أولًا: لأنه خلاف التوجه الإسلامي الاجتماعي العام. ثانيًا: لأن فيه تضييقا لا مبرر له على المسلمين ولما فيه من صعوبة عملية شاقة الأمر الذي يلجئ للارتفاع بمستوى الإنتاج بمفهومه الواسع واستيعاب الطاقات الجديدة لتنتقل رأسا للقيام بالواجب الاجتماعي والنهوض بالأمة بدلا من العمل على التحديد. وثالثًا: وعندما تواجه الدولة ضائقة عامة وتتحق المصلحة الملزمة لنوع من التنظيم والتحديد فلا مانع منه ولها القدرة للإلزام بهذا المباح إلى فترة معينة وبتعبير آخر لها القدرة على تقييد هذا الحكم المباح لصالح المجتمع حتى تمر الأزمة الاجتماعية ويعود الحال إلى وضعه الطبيعي. ورابعًا: على أن للدولة الإسلامية أن تقوم بالتحديد لا على أساس ولايتها بل على أساس ما يتولد من الانفتاح المطلق من أَضرار اجتماعية كبرى إن قلنا بأن حديث (لا ضرر) يشمل الضرر الاجتماعي وسوء الحال في المجتمع، وهو الظاهر. محمد علي التسخيري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 مسألة تحديد النسل إعداد الدكتور محمد القري بن عيد باحث بمركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي جامعة الملك عبد العزيز جدة بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه ونصلي ونسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين. تعد قضية السكان واحدة من أهم المشاكل التي تواجه الدول النامية بما فيها أكثر بلدان المسلمين، والثابت ضمن المعرفة الاقتصادية المتاحة أن المجتمع النامي يواجه خيارا صعبا بين تحسين مستوى معيشة أفراده وبين إطلاق العنان للتزايد في عدد سكانه؛ لأن أحدهما لابد أن يأتي على حساب الآخر. ولذلك تضطر البلدان التي يحقق سكانها معدلات نمو عالية ويعجز اقتصادها عن تحقيق متوسطات نمو كافية لتحسين مستوى معيشة الجميع إلى محاولة الحد من التزايد السكاني. ولكن ذلك يواجه من جهة أخرى برفض شعبي سببه الاعتقاد الجازم عند أفراد المجتمع الإسلامي أن سياسة تحديد النسل غير جائزة في الشريعة الإسلامية. إن مجتمعات الإسلام اليوم تختلف عنها بالأمس، فالمصالح صارت متشابكة والحياة معقدة، وكل قرار فردي له آثار اجتماعية مباشرة وغير مباشرة، والحكومة وهي الجهاز الضخم الذي تمس قراراته وسياساته حياة كل الأفراد في يومهم وفي غدهم، أصبحت واقعا يحتاج من جميع الأفراد إلى التنازل عن جزء من حرياتهم لكي يعاد تسخيرها لمصلحة المجموع لتحقيق ما يسمى في القاموس السياسي (المصلحة العامة) . المشكلة التي تواجهها مجتمعات الإسلام اليوم هي إعادة فهم الأحكام الفقهية لكي تأخذ باعتبارها هذا الواقع الجديد، وكل ما تحتويه كتب الفقه حول تحديد النسل إنما يتعلق بالفرد والأسرة، أما السياسة العامة التي تستهدف السيطرة على زيادة عدد السكان فهي أمر مستجد ليس له أصل يقاس عليه، فمرده والحال هذه الأصول العامة للشريعة. وقرار الفرد والأسرة بتحديد النسل أمر له طبيعة مختلفة عن السياسة العامة، فالأول يتخذ الوسائل البيولوجية طريقا إلى منع النسل، أما الثاني فقد يتبنى أساليب كثيرة منها سياسية واقتصادية وإعلامية بالإضافة إلى الطرق المباشرة لمنع التناسل والأهداف التي يسعى الفرد للوصول إليها من تحديد نسله أهداف شخصية مباشرة. أما الأهداف العامة فقد تتعلق بأمور بالغة الأهمية والخطورة تمس حياة المجتمع بمؤسساته ومعتقداته وأجياله الحالية والمستقبلية. لذلك صار لزاما علينا اليوم أن ننظر إلى هذه المشكلة من أبعادها المستجدة. ونسأل الله العلي القدير أن يهدينا إلى الصواب ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 استعراض سريع للكتابات في هذا الموضوع: تعالج أكثر الكتابات الإسلامية في موضوع السكان هذه القضية من زاوية واحدة هي ما يسمى بتحديد النسل، ويكاد يتفق أكثر من كتب في هذا الموضوع من منطلق فقهي على عدم جواز تبني الدولة الإسلامية سياسة عامة يمنع بموجبها الأفراد من إنجاب أكثر من عدد من الأطفال تحدده الحكومة، أو تكره فيها النساء - بقوة القانون - على تناول حبوب منع الحمل، أو تلقي الحقن أو إجراء العمليات الجراحية المؤدية لقطع النسل بصورة مؤقتة أو دائمة، ولكنهم يختلفون فيما دون ذلك، فيميل أكثرهم إلى إباحة التحديد إذا كان ضمن نطاق الأسرة وكان معتمدًا على حاجة حقيقية ورضا مشترك من الزوجين، والأدلة التي يعتمد عليها من كتب في هذا الموضوع كثيرة بعضها عقلي وبعضها نقلي، ومن النوع الأول القول بأن لأي برنامج لتحديد النسل آثارا إجتماعية واقتصادية سيئة، مثل قلة السكان وتدهور الأخلاق وانتشار الفواحش بالإضافة إلى الأضرار الصحية التي يتركها تناول المركبات الكيماوية المتضمنة في وسائل منع الحمل على جسد المرأة، وإلى مخالفة منع الحمل للفطرة الإنسانية السليمة. وسنعرض أدناه لأفكار ما أطلعنا عليه من فقهاء ومفكري الإسلام المعاصرين الذين كتبوا في هذا المجال. يقدم المودودي في كتابه (حركة تحديد النسل) . (1) استعراضا مستفيضا للحركة المذكورة، تاريخها وأهدافها وتجارب الأمم المختلفة معها ونتائجها المحتملة على الفرد وعلى المجتمع. ثم يقوم بتفنيد أدلة القائلين بها، ويقدم أخيرا اقتراحه لحل مشكلة السكان المتمثل في دعوته إلى (أن يُبْذَلَ مَزِيدٌ من الجهود الفعالة الجديدة لزيادة وسائل المعيشة واكتشاف الموارد الجديدة للرزق) (2) ويرى الشيخ أبو زهرة في كتابه (تنظيم الأسرة وتنظيم النسل) (3) أن حركة تحديد النسل هي (دعاية أمريكية إنجليزية صهيونية) (4) وأن (الأرض العربية بكر تحتاج إلى يد عاملة) (5) وكما أن (النسل في ذاته ثروة، وأن أعلى مصادر الثروة هو القوى البشرية. (6) ويضيف آخرون أن الفكرة (أمريكية صهيونية استعمارية شيوعية إلحادية دخيلة علينا كمسلمين) (7) ... وهكذا. إن ما يهمنا في هذا الاستعراض هي الأدلة الفقهية والأصول الشرعية للموقف المذكور من قضية السكان؛ لأن هذا هو المعيار الصحيح للحكم على الآراء المطروحة.   (1) المودودي، أبو الأعلى، حركة تحديد النسل، بيروت، مؤسسة الرسالة 1402 (2) المرجع السابق ص 154 (3) أبو زهرة، الشيخ محمد تنظيم الأسرة وتنظيم النسل (4) أبو زهرة، الشيخ محمد تنظيم الأسرة وتنظيم النسل ص 105 (5) أبو زهرة، الشيخ محمد تنظيم الأسرة وتنظيم النسل ص 104 (6) أبو زهرة، الشيخ محمد تنظيم الأسرة وتنظيم النسل ص 101 (7) علي موسى محمد تحديد النسل على ضوء الكتاب والسنة، بيروت، عالم الكتب 1405، ص 117 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 1 - موقف الفقهاء المعاصرين من سياسة تحديد النسل والأصول الشرعية التي يستمد منها: رغم أن أكثر الكتاب الذين عالجوا قضية السكان من منظور شرعي لم يقدم تعريفا محددا لما يسمى بتحديد النسل، لكن الذي يفهم من تلك الكتابات أنها تنظر إلى تحديد النسل بأنه سياسة تتبناها الحكومة يتم ضمنها منع الناس من الإنجاب أو منعهم من ذلك إلا بإذن الحكومة، أو تحديد حد أعلى لعدد الأطفال بهدف تقليل النسل (1) ، أو وقف النسل الإنساني عن النمو والزيادة بقوة القانون أو بالتأثير الإعلامي (2) . ويدخل في ذلك إقدام الأفراد بأنفسهم على الامتناع عن الإنجاب لأسباب اقتصادية كالخوف من الفقر ... إلخ. والاتجاه العام لدى من تناولوا هذا الموضوع أنه لا يجوز تبني مثل تلك السياسة، واعتمدوا في ذلك على أدلة متعددة، منها عام يتعلق بالمقاصد الكلية للشريعة، ومنها خاص. وسوف نحاول أدناه معرفة ما إذا كان يستفاد من هذه الأدلة حكم شرعي على سبيل القطع في مسألة السكان. أولًا: أدلة عامة: استدل بعض من قال بعدم جواز تبني تلك السياسة بأدلة كلية وبديهيات معروفة وذلك لاستنتاج تناقض تلك السياسة مع المبادئ العامة للدين الإسلامي، من ذلك أن الإسلام دين الفطرة ولذلك فكل قوانينه موافقة للفطرة الإنسانية والتوالد والتناسل من مقتضيات الفطرة الإنسانية (3) . وأن قوانين الإسلام للحياة الاجتماعية والاقتصادية مع تعاليمه الخلقية وتربيته الروحانية قد محت كل سبب أو داعية من تلك الأسباب والدواعي التي لأجلها نشأت حركة تحديد النسل (4) . ومنها أن من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية إيجاد النسل وبقاء النوع الإنساني وحفظه. وقد روي عن الإمام أحمد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بالباءة وينهى عن التبتل (5) ، وأن (هذه هي النظرة العامة للشريعة بالنسبة للنسل وهي تدعو إلى الإكثار فالأحاديث النبوية تحث عليه والقرآن دستور الأمة يشير إليه وهو الفطرة وتحديده يناقضها) (6) . وأن الإسلام رغب في زيادة النسل وتكثير؛ لأن كثرة النسل تقوي الأمة الإسلامية اجتماعيا واقتصاديا وحربيا وتزيده عزة ومنعة (7) .   (1) انظر الخطيب، أم كلثوم يحيى مصطفى، قضية تحديد النسل في الشريعة الإسلامية، جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، 1404هـ ص 53 (2) المودودي، مرجع سابق ص 3. وكذلك الطريقي، عبد الله بن عبد المحسن: تنظيم النسل وموقف الشريعة الإسلامية منه، الرياض، بدون ناشر، 1983 ص 288 (3) المودودي مرجع سابق ص 67 (4) المودودي مرجع سابق ص 69 (5) علي، موسى محمد، مرجع سابق ص 66، وهو ينقل هنا عن الشيخ حسن مأمون (6) أبو زهرة، محمد مرجع سابق ص 96 (7) فتوى المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية المنعقد في مايو 1965 عن مجلة منبر الإسلام عدد شعبان 1398 هـ يوليو 1978 م الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 وكذلك (إن القرآن الكريم قد جاء في أحد مواضعه كقاعدة كلية أن ليس الإقدام على تغيير خلق الله إلا عمل من أعمال الشيطان {وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] ، والمراد بتغيير خلق الله في هذه الآية أن يستعمل شيء لغير الغرض الذي خلقه الله لأجله) (1) فالغرض الأصلى من الزواج هو الاستبقاء على النوع البشري وإقامة الحياة المدنية (2) ، وأن الإسلام يدعو إلى القوة كما في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} الآية، والقوة أول ما تكون بالعدد والقاعدة الأصولية أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (3) ، وأن (من نظر وينظر إلى ما نزل بنا من الحروب وسفك للدماء وطحن للعدة والعتاد، واستشهاد الكثير من الرجال والأبناء يعلم يقينا أننا في حاجة ضرورية لكثرة النسل والإنجاب) (4) . أدلة خاصة: سوف نورد أدناه أهم النصوص من الكتاب والسنة التي يستمد منها بعض الفقهاء ما يطلقونه من أحكام حول موضوع السكان. أولًا: أدلة الكتاب: قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151] ، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31] . وقد استدل عدد من الكتاب بهاتين الآيتين الكريمتين على عدم جواز تحديد النسل؛ لأنهم قاسوا طرق منع الحمل ومنها العزل والإجهاض على قتل الأولاد (5) وأن كليهما يشترك في الباعث وهو الخوف من الفقر وانخفاض مستوى المعيشة.   (1) المودودي، أبو الأعلى مرجع سابق ص 70 (2) المودودي مرجع سابق ص 71 (3) البنا، الإمام حسن تحديد النسل، جدة، مكتبة المنهل 1405، ص 29 (4) علي موسى محمد مرجع سابق ص 108 (5) انظر مثلًا: الخطيب، أم كلثوم مرجع سابق ص 97 – 104 علي، موسى محمد مرجع سابق 98 أبو زهرة، محمد مرجع سابق ص 96، المودودي، أبي الأعلى مرجع سابق ص 170 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 ثانيا: الأدلة من السنة المطهرة: أ - أحاديث التكاثر: يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث تفيد الحث على التكاثر أصحها (1) : ((عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنى أحببت امرأة ذات حسب ومنصب ومال إلا أنها لا تلد أفأتزوجها؟ فنهاه ثم أتاه الثانية، فقال له مثل ذلك، ثم أتاه الثالثة فقال له ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم..)) )) رواه أبو داود والنسائي والحاكم. وأخرج الإمام أحمد في المسند عن أنس رضي الله عنه ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)) . ب - أحاديث النهي عن العزل: وردت عدة أحاديث بحرمة العزل وبأنه الموءودة الصغرى وأخرى بإباحته، وقد أخذ بها فريق من العلماء حكموا بحرمته مطلقا، وقال بعضهم غير ذلك. من هذا: عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ثم سألوا عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ذلك الوأد الخفي)) ، وعن أبي هريرة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها. أخرجه أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري. أخرج البيهقي في السنن الكبرى في كتاب النكاح باب العزل ... أنهم أصابوا سبايا، فأرادوا أن يستمتعوا بهن ولا يحملن، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال ((ما عليكم، فإن الله كتب من هو خالق إلى يوم القيامة)) وبزيادة ((ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها)) (2) . وعن جابر قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لى جارية وهي خادمتنا وسانيتنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل، قال: ((اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها)) أخرجه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده. وعن جابر رضي الله عنه ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) وهو حديث متفق عليه، وفى رواية مسلم زيادة ((فبلغه فلم ينهنا عنه)) (3) . ولذلك فقد اعتد بعضهم بالحديث الأول وغيره بنفس معناه فقال بعدم جواز العزل وقاس عليه منع الحمل وتحديد النسل (4)   (1) ومنها ضعيف مثل " انكحوا فإني مكاثر بكم " متفق على تضعيفه، " انكحوا أمهات الأولاد، فإني أباهي بكم يوم القيامة " فيه ضعف وكذلك " سوداء ولود خير من حسناء لا تلد، وإني مكاثر بكم الأمم ... " ضعيف انظر تعليق الشيخ محمد عفيفي على كتاب تحديد النسل للإمام حسن البنا، مرجع سابق، ص 30 – 32 (2) وعن أبي سعيد الخدري قال: أوقفت جارية لي أبيعها في سوق بني قينقاع فجاءني رجل من اليهود فقال: يا أبا سعيد ما هذه الجارية؟ فقلت: جارية لي أبيعها قال: فعلك أن تبيعها وفي بطنها سخلة، قلت: إني كنت أعزل عنها قال: فإن تلك الموءودة الصغرى، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: " كذبت يهود ولا عليكم أن تفعلوا " وفي رواية: " لو أراد الله خلقه لم يستطع رده " أخرجه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده (3) أبو زهرة، محمد مرجع سابق ص 97 (4) انظر مثلا: علي، موسى محمد مرجع سابق ص 104 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 ونفي القياس عن الحديثين الأخيرين؛ لأنه يستعمل اليوم من الوسائل ما يمنع الحمل مطلقا مثل التعقيم واستئصال الرحم (1) ولأنه ليس لموضوع العزل صلة بتحديد النسل (2) ومنهم من اكتفى بالقول بالكراهة وأنه عبث لأن الله عز وجل خالق ما يشاء (3) . ومنهم من قال بجوازه كاستثناء في حدود الضرورة كرخصة خاصة وأن القاعدة العامة هي حرمة العزل (4) . وأن الرخصة خاصة بصاحب الضرر، ولا يباح كقاعدة عامة، ومنهم من حاول التوفيق بين الأحاديث بالقول بنسخ بعضها أو وجود قوة في إسناد بعضها وضعف في أخرى، وهذا تفصيل كثير ليس هذا مجال تقصيه. إلا أن منهم أيضا من قال بإباحة العزل مطلقا وجواز أن يقاس عليه موانع الحمل المعروفة اليوم وأن تكون أساسا لسياسة عامة لتحديد النسل (5) . جـ - الحث على الزواج: الزواج سنة، حث رسولنا الكريم عليه ورغب فيه وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة منها ما رواه عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) . وعن عبد الله بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب فطرتي فليستن بسنتي ومن سنتي النكاح)) أخرجه البيهقي. ونهى عليه الصلاة والسلام عن التبتل، وأن يخصى أحد من ابن آدم (6) . وحث عليه السلام على اختيار المرأة الولود. وقد عد أكثر الكتاب ذلك دليلا على ضرورة تكثير عدد السكان بزيادة النسل؛ لأن (منع النسل أو تحديده من الأعمال التي تنافي مقاصد النكاح) (7) . (والإنسان مطالب بأن يتزوج وينجب ذرية؛ لأن الإسلام (يرغب) في تكاثر الأعداد البشرية عن طريق الزواج) (8) ... إلخ. وفى ما قيل عن الزواج تفصيل يكفي قليله عن كثيره.   (1) أحمد، عبد الرحمن يسري، ص 194 (2) من كلام الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر سابقًا انظر، الخطيب، أم كلثوم، مرجع سابق ص 19 (3) مثل المودودي، أبو الأعلى، مرجع سابق ص 142 (4) أبو زهرة، محمد، مرجع سابق ص 98، ص 100 (5) الخولي، البهي 241 – 244. الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة، بيروت، دار القرآن الكريم والاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية 1980 (6) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نغزوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وليس لنا شيء فقلنا ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب ... الحديث. (7) الشيخ حسن مأمون، انظر علي، موسى محمد، مرجع سابق ص 66 (8) أحمد، عبد الرحمن يسري، مرجع سابق ص 143 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 2 - تحديد النسل والحد من الزيادة في عدد السكان: يمكن النظر إلى موضوع تحديد النسل على مستويين، الأول فردي محدود بالأسرة والثاني اجتماعي وهو المتعلق بالسياسة العامة للدولة تجاه قضية السكان ومحاولة السيطرة على معدل تزايده، والمسألة الشائكة التي تحتاج إلى نظر وإلى تحرير هي المتعلقة بالمستوى الثاني؛ لأنها مشكلة تمس في زمننا الحاضر مجتمعات كثيرة في بلاد الإسلام وتواجه حكومات متعددة. وسوف نحاول أدناه استجماع الآراء المتعددة في موضوع تحديد النسل وخلافه للوصول إلى موقف محدد في المسألة السكانية بشكل عام. أ - الأرجح أنه لا يجوز إصدار القوانين التي تحدد عدد الأطفال بالنسبة لكل أسرة، كأن يقال مثلا: إنه لا يجوز للزوجين إنجاب أكثر من ثلاثة أطفال، أو نحو ذلك، كما لا يجوز إرغام النساء بقوة القانون على تناول المواد الكيماوية أو خلافها التي تمنع القدرة على الإنجاب بصفة دائمة أو مؤقتة، ولا استئصال الرحم أو تعقيم الرجال بالقوة، ولا الدعوة إعلاميا إلى قطع النسل؛ لأن ذلك كله يتنافى مع مبدأ الحرية الذي قرره الإسلام للفرد في مجتمعه المسلم وتتناقض مع الفطرة فهي إذن تتناقض مع الإسلام؛ لأنه دين الفطرة.. والأدلة على ذلك كثيرة. ب - لا يجوز تحريم الزواج، ولا وضع العراقيل القانونية أو الإدارية التي تحول بين الشباب والزواج ما دام أنه يتم ضمن القواعد المعتبرة شرعا؛ لأن الزواج مباح في الإسلام وهذه من الأمور المعروفة من الدين بالضرورة؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم حث على الزواج ورغب فيه ووصفه عليه الصلاة والسلام بأنه من سنته ومن رغب عن سنته فليس منه. كما لا يجوز منع تعدد الزوجات؛ لأن هذا أمر مباح بنص الكتاب، وكل أمر خالف نصا قطعيا في الشريعة فهو مردود على صاحبه، فلا يجوز عصيانه فقط بل يجب محاربته؛ لأنه يكون مشرعا في الدين ما لم يأذن به الله، والتعدد مسموح به ضمن شروط أهما العدل والاقتدار على النفقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 جـ - يجوز للزوجين باختيارهما استعمال موانع الحمل لأي سبب، كأن تكون الزوجة مريضة أو ضعيفة أو موصولة الحمل. أو أن يكون الرجل فقيرًا (بل إن بعض العلماء يرون أن التحديد في هذه الحالات لا يكون مباحا فقط بل مندوبا إليه) (1) ، وكذلك الخوف من كثرة الحرج بسبب تعدد الأولاد؛ لأن قلة الحرج معين على الدين (2) ، وقد ذكر بعض العلماء أن العزل لمجرد الرغبة في استبقاء جمال المرأة وسمنها لدوام التمتع بها، ليس منهيا عنه (3) وقد اعتقد بعض العلماء أن جواز استخدام وسائل منع الحمل (ومنها العزل) لا يجوز إذا كان ذلك خشية الفقر أو خوفا من زيادة تكاليف العيش؛ لأنه يخالف - في رأيهم - نص الآية الكريمة {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] . (4) والحق أن ذلك قياس مع الفارق فالآية الكريمة تشير إلى قتل الأولاد، واستخدام موانع الحمل ليس فيه قتل لولد؛ لأنه تترتب على القتل أحكام كثيرة لم يقل أحد بأنها تترتب على العزل، ولو كان في العزل قتل لكان كل بالغ غير متزوج قاتلا لأولاده لأن شهوته قد تذهب بغير إنجاب (5) وهذا ما لم يقل به أحد وهو مخالف للمنطق السليم، وقد ذكر الغزالي أن القتل جناية على موجود حاصل، أما العزل فهو غير ذلك (6) ولا نرجح أن يكون الإذن بالعزل رخصة؛ لأن الرخصة لا تكون إلا من عزيمة والعزيمة لا تكون إلا بنص. د - ولكن المهم في الأمر أنه لا يوجد دليل قطعي يقول بضرورة العمل على زيادة عدد السكان، ولذلك لا يوجد سند مقبول للقول أن العمل على زيادة عدد السكان أمر مطلوب شرعا بشكل مطلق، أو أن ذلك أحد مقاصد الشريعة فعلى المستوى الفردي لا يوجد نص قطعي يلزم المسلم بضرورة استخدام كل قدراته التناسلية لإنجاب الأطفال، صحيح أن الإسلام ينهى عن التبتل وعن قطع النسل ويحث على الزواج ولكن هذه كلها غير كافية لاستنتاج أن الإسلام يدعو إلى ضرورة أن يحاول كل مسلم إنجاب أكبر عدد ممكن من الأطفال بل الدليل على عكس ذلك، للأسباب التالية:   (1) عيد، مصطفى محمد سعيد، الإعلام الإسلامي ودوره في إبطال الدعاية لتحديد النسل رسالة لنيل درجة الماجستير (غير منشورة) من المعهد العالي للدعوة الإسلامية، جامعة الإمام محمد بن سعود الرياض 1402، ص 104 وهو ينقل رأيًا للشيخ سيد سابق (2) عيد، مصطفى محمد سعيد، الإعلام الإسلامي ودوره في إبطال الدعاية لتحديد النسل رسالة لنيل درجة الماجستير (غير منشورة) من المعهد العالي للدعوة الإسلامية، جامعة الإمام محمد بن سعود الرياض 1402، ص 25 (3) أبو عبيد، العيد خليل " منع الحمل بالتعقيم بالوسائل المؤقتة في الفقه الإسلامي " وهو ينقل هنا عن أبي حامد الغزالي، مجلة دراسات مجلد 14 عدد 7 ذو القعدة 1407 ص 199 (4) انظر على سبيل المثال علي، موسى محمد، مرجع سابق ص 98 (5) وليس المقصود هنا بالطرق غير المشروعة بل بردود الفعل الجسدية الطبيعية والمعروفة لتراكم الشهوة في الجسد (6) الغزالي، أبو حامد، إحياء، علوم الدين، بيروت، ج 2 ص 65 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 1 - إن الإنجاب لا يتأتى في مجتمع الإسلام إلا عن طريق النكاح الشرعي، والنكاح تسري عليه الأحكام الخمسة، الوجوب والحرمة، والكراهة، والندب والإباحة، والشروط التي يكون فيها الزواج فرضا تجعل هذه الحالة هي الشذوذ لا القاعدة العامة، فلا يكون الزواج كذلك عند الحنفية إلا أن يتيقن الشخص الوقوع في الزنا إذا لم يتزوج (ولا يكفي مجرد الخوف من الوقوع في الزنا) ، وأن لا تكون له قدرة على الصيام الذي يكفه عن الوقوع في الزنا، وألا يكون قادرا على اتخاذ أمة يستغني بها وأن يكون قادرا على المهر والإنفاق من كسب حلال لا جور فيه، فإن لم يكن قادرا لا يفرض عليه الزواج حتى لا يدفع محرما بمحرم. والمذاهب الثلاثة الأخرى قريبة من ذلك (1) ، بل إن الشافعية قد قالوا: (إذا كان قادرا على مؤونة النكاح وليست به علة تمنعه من قربان الزوجة - فإن كان متعبدا - كان الأفضل له أن لا يتزوج كيلا يقطعه النكاح عن العبادة التي اعتادها (2) والمقصود الأصلي من الزواج ليس الإنجاب وإنما أن تكون المرأة سكنا للرجل ويكون الرجل سكنا لها، كما قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] . ولذلك فقد أفتى بعض العلماء بأنه لا يجوز إجراء الكشف قبل الزواج للاطمئنان على قدرة الزوجين على الإنجاب (3) ؛ لأن ذلك مخالف للغرض الإسلامي من الزواج وهو أن يسكن الرجل إلى المرأة وتسكن إليه ويكون بينهما مودة ورحمة. 2 - لا يكون التحريم إلا بنص أو قياس على منصوص، والقول بتحريم الحد من زيادة السكان ليس منصوصا عليه وليس له أصل واحد يقاس عليه، بل الأصل الذي يمكن أن يقاس عليه هو النكاح، والقياس على هذا الأصل يقول بالإباحة لا بالتحريم. فإذا جاز ترك النكاح وهو الأصل ألا يجوز ترك الإنجاب وهو النتيجة؟ وكما لا يجوز تحريم الزواج بتشريع لا يجوز تحريم الإنجاب بتشريع. 3 - لم يبح الإسلام الزواج إلا لمن كان قادرا على نفقاته والقيام بواجباته من رعاية للزوجة والإنفاق عليها.. إلخ. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أن (استطاعة النكاح هي القدرة على المؤونة وليس القدرة على الوطء فإن الحديث إنما هو خطاب للقادر على فعل الوطء ولهذا أمر من لم يستطع الباءة بالصوم فإنه له وجاء) (4) . فالقدرة الاقتصادية لازمة التوفر حتى تكون مؤسسة الزواج ذات جدوى وثمرة مفيدة للفرد والمجتمع.   (1) انظر الجزيري، عبد الرحمن، الفقه على المذاهب الأربعة ج 4 ص 4 – 11 (2) الجزيري مرجع سابق ج 4 ص 7 (3) من فتوى للشيخ إسماعيل الدفتار الأستاذ بجامعة الأزهر منشورة في العدد 147 من مجلة المسلمون بتاريخ 6 / 4 / 1408 الموافق 27 / 11 / 1987 ص 4 (4) ابن تيمية، أحمد، مختصر الفتاوى المصرية، القاهرة، مطبعة المدني، سنة 1400 ص 415 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 يقول عز وجل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية [النور: 33] فالقدرة إذن شرط في النكاح. وإذا لم يكن الفرد قادرا على الكسب بما يسد تلك النفقة إلا من حرام فإن الزواج يكون حراما عليه (1) ، وإذا أعسر الزوج بعد الزواج، وفقد القدرة على الإنفاق جاز للزوجة أن تتقدم للقاضي بطلب الطلاق (2) . والزواج مندوب لمن كان قادرا على مؤنته حتى لو لم يخش على نفسه الزنا ولم يكن له أمل في النسل (3) وهذا يعطينا صورة عن أهمية القدرة الاقتصادية في الزواج فالقدرة على الإنفاق أرجح من الأمل في النسل؛ لأن غير القادر على الإنفاق لا يتزوج حتى لو قدر على الوطء والإنجاب، والقادر على الإنفاق يتزوج حتى لو لم يكن له أمل في النسل. ولا تقتصر المسئولية الملقاة على الأب تجاه أطفاله على رعايتهم وتحري ما فيه خيرهم ورغدهم في حياته بل تتعدى ذلك إلى ضرورة الحرص على أن يترك لهم ما يغنيهم بعد وفاته فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم ... الحديث)) . 4 - إن تعدد الزوجات مباح فقط، (أي ليس مندوبا إليه مثلا) ، وحتى تلك الإباحة مقيدة بشرط القدرة على العدل بين النساء كما قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} الآية [النساء: 3] ولو كان تكثير السكان هدفا إسلاميا عامًّا يكتسب أولوية لقامت الشريعة على ندب التعدد، وربما يكون تحديد الزوجات بأربع وجعل ذلك التعدد مباحا فقط مؤشرا على أن الإسلام لا يهدف إلى التكاثر لمجرد العدد، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث في قوم كانوا يبيحون التعدد حتى عشرين زوجة وكانوا يبيحون تعدد الأزواج، فجاء بتحديد الزوجات بأربع واشترط العدل بينهن وهو إجراء يؤدي إلى تقليل النسل مقارنة بالوضع السابق.   (1) الجزيري، مرجع سابق ج 4 ص 6 (2) العيلي، د. عبد الحميد حسن، الحريات العامة في الفكر والنظام السياسي في الإسلام، القاهرة دار الفكر العربي 1983 ص 307 (3) الجزيري، مرجع سابق ج 4 ص 5 وهذا رأي المالكية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 هـ - لقد أمر الله عز وجل النساء بإرضاع أطفالهن حولين كاملين كما قال تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} الآية [لقمان: 14] . ومن المعروف أن احتمال الحمل بالنسبة للمرأة المرضعة هو أقل ما يكون أثناء الإرضاع ولذلك فإن استمرار إدرارها للحليب لطفلها هو أحد موانع الحمل الطبيعية، فالإرضاع لمدة سنتين ليس فيه مصلحة للطفل فقط بل وللأم كذلك؛ لأن فيه تنظيما لعملية الحمل بالمباعدة بين حمل وآخر (Spacing) . وهذا مؤشر لمعدل الخصوبة في المجتمع الإسلامى، وقد استعملت المجتمعات القديمة طريقة تمديد فترة الإرضاع كوسيلة لخفض معدل الحمل (1) ، فلو كان تكثير النسل يكتسب تلك الأولوية التي يدعيها البعض لقصرت فترة الإرضاع لزيادة معدل الخصوبة. و كما رأينا سابقا فإن النصوص التي يمكن أن يقاس عليها حكمنا على موضوع الحد من تزايد السكان هي الأحاديث المتعلقة بالعزل، والأحاديث التي تحث على التكاثر. أما الأولى فقد رأينا أن في روايتها بعض التناقض، وأن الراجح لدى جمهور العلماء، والله أعلم، هو الإباحة، ومن قال بذلك كثير، منهم عشرة من كبار الصحابة (هم علي وسعد وأبو أيوب وزيد بن ثابت وجابر وابن عباس والحسن بن علي وخباب وأبو سعيد الخدري وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين) (2) ، وكثير من التابعين ومنهم العلماء في كل عصر. لذلك فلا يمكن القول أنها تصلح حجة أو دليلا على ضرورة تكثير عدد السكان. ونريد الآن أن نناقش حديث، أو أحاديث التكاثر، يرى البعض أنه يمكن أن يستفاد من تلك الأحاديث حكم شرعي يقول بضرورة زيادة عدد السكان أو - على الأقل - إطلاق حجم السكان وتركه يتزايد بشكل غير مقيد، ونحن نرى غير ذلك. فالراجح - والله أعلم - أن تلك الأحاديث لا يستفاد منها حكم شرعي على سبيل القطع يقول بضرورة ما ألمحنا إليه أعلاه. وللحديث رواية صحيحة مشهورة هي ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنى أصبت امرأة ذات حسب وجمال وأنها لا تلد أفأتزوجها قال: " لا "، ثم أتاه الثانية فنهاه ثم أتاه الثالثة فقال: " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ")) أخرجه النسائي في المجتبى والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن الكبرى، وأخرجه ابن حبان من حديث أنس ((فإني مكاثر بكم يوم القيامة)) ، وأخرجه ابن ماجه بلفظ ((انكحوا فإني مكاثر بكم)) عن أبي هريرة رضي الله عنه.   (1) تومسون، وارين س، وداند ت. لويس: مشكلات السكان، ترجمة راشد البرادي، القاهرة، مؤسسة فرانكلين 1969 ص 818 (2) ابن القيم، زاد المعاد ج 4 ص 31 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 وفى رأينا - والله أعلم - أن الدليل المتضمن في هذا الحديث يتعلق بالنهي عن قطع النسل وليس فيه دعوة إلى العمل على زيادة عدد السكان لمجرد التزايد، والقرائن التالية تدل - إن شاء الله - على صحة ما نرمي إليه: 1 - يروى الحديث كرد من الرسول صلى الله عليه وسلم على من سأله عن رغبته في زواج الجميلة التي لا تلد، وهذا مهم لفهمنا للمعنى المتضمن في هذا الحديث، فالرسول صلى الله عليه وسلم ينهاه عن قطع نسله بالزواج من العقيم، وهذا هو المعنى الذي فهمه أكثر رواة الحديث ولذلك نجد أن النسائي رحمه الله قد أدرجه في باب ((كراهية تزويج العقيم)) ، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في باب ((النهي في تزويج من لم تلد من النساء)) ، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده في باب ((صفة المرأة التي يستحب خطبتها)) ، فالواضح أن المعنى في الحديث لا ينصرف للدعوة إلى تكثير السكان، وإنما إلى النهي عن قطع النسل. 2 - والراجح أن هذا كان فهم الصحابة رضوان الله عليهم للحديث. إذ لو أنهم فهموا منه الدعوة إلى تكثير السكان لمجرد العدد وأن على ولي الأمر مسئولية فعل ذلك، لكان الخلفاء منهم رضي الله عنهم قد اتخذوا خطوات عملية بهذا الصدد مثل الحث على زيادة الأولاد أو دفع المكافآت لهذا العمل أو الدعوة إلى تعدد الزوجات ... إلخ. ولكننا لا نعرف في السياسات التي اتبعها الخلفاء الراشدون ومن جاء بعدهم في عهود التابعين ما يدل على أن على ولي الأمر أن يعمل على زيادة عدد السكان بالتوالد. 3 - إن كلمة (الولود) معناها الوالدة، كما قال الأعرابى للجاحظ في القصة المشهورة (كل أذون ولود وكل صموخ بيوض) فجعل الولود أي التي لا تبيض وإنما تحمل وتلد (1) . والولود تعني أيضا كثيرة الولد. والذين يدعون إلى ضرورة زيادة عدد السكان لمجرد التكاثر يصرفون معنى الولود في الحديث إلى كثيرة الولد، والأرجح أن المعنى إنما ينصرف إلى عكس العقيم، أي المرأة التي تحمل وتلد لأن سؤال الصحابي كان عن العقيم، ومن ثم لا يكون معنى الحديث الطلب إلى المسلم أن يستغل كل طاقاته التناسلية في إنجاب الأطفال بل مجرد النهي عن قطع النسل.   (1) انظر في ذلك معجم محيط المحيط لبطرس البستاني، بيروت، مكتبة لبنان 1983 ص 984 مادة ولد، ومعاجم اللغة جميعها تورد لكلمة ولد معنيين، الأول الوالدة والثاني كثيرة الولد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 4 - وكلمة التكاثر الواردة في الحديث الشريف تحتاج إلى وقفة. فالتكاثر بمعنى التزايد يحصل بمجرد عدم قطع النسل، فالزوجان إذا أنجبا طفلا واحدا فقد تكاثرا، ولا يعني ضرورة إنجاب أكبر قدر ممكن من الأطفال، فالمقصود يتحقق بإنجاب ولد واحد. ويعني التكاثر أيضا (التفاخر) ، أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم علل دعوته أمته إلى التوالد برغبته صلى الله عليه وسلم بأن يكاثر بها (أي يفاخر) الأمم يوم القيامة، ولكن لا يتصور أن يكون التفاخر بمجرد العدد؛ وذلك لأن الإسلام عقيدة ودين وليس دعوة عصبية، الانتساب إليها مرجعه اتصال الدم والنسب البيولوجي، ولذلك فإن مصدر الفخر للأمة الإسلامية هو المسلم القوي العامل المتعلم الذي اعتنى أبواه بتنشئته وتربيته ووفر له مجتمعه التعليم والثقافة العالية، وقوة الأمة الإسلامية - لو استعرضنا تاريخنا الإسلامي منذ البعثة - لم يكن مصدرها المعدل العالي للولادات، ولكنه بلا شك دخول أكثر أمم الأرض إلى الإسلام في عهد الفتوحات الإسلامية، والدعوة إلى دين الإسلام سوف تظل المصدر الأول للقوة الإسلامية، فالحديث الشريف رغم أنه قطعي في إسناده لكنه ظني الدلالة إلى المعنى المذكور وهو ضرورة زيادة عدد السكان. 5 - وقد يبدو اليوم مستغربا أن يكون الحث على عدم قطع النسل بهذه الأهمية، ولكن الاستغراب سرعان ما يتبدد عندما نعرف أمرين مهمين، الأول: أن قطع النسل كان أمرا معروفا في المجتمعات القديمة حيث كانت تنتشر بعض النحل والملل والمذاهب التي تدعو إلى التبتل وعدم الزواج بل وقطع الشهوة بالاختصاء للرجال، ولذلك جاء دين الإسلام ناهيا عن هذه الأمور، والثاني: أن المجتمع الإسلامي في تلك الفترة كان يمر بالمرحلة الأولى من مراحل التحول الديموغرافي حيث يحقق معدلا عاليا من الوفيات ومن المواليد. وقد قرر علماء السكان أن التوازن كان دقيقا بين المعدلين بحيث أن زيادة معدل الوفيات على المواليد يؤدي إلى اندثار المجتمع برمته. ولهذا كان على مجتمع الإسلام أن يتأكد من عدم حدوث ذلك بالتوالد، ولا ندعي بأن ذلك كان سبب حث الرسول صلى الله عليه وسلم على التكاثر، لكننا نرجح أن مجتمع الإسلام في عصر النبوة يواجه مشكلة محددة هي ضرورة تحقيق التوازن بين الوفيات والمواليد وعدم السماح للأولى بتخطي الثانية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 من هذا كله نخلص إلى النتائج التالية: أولًا: لا يوجد في الكتاب الكريم ولا في السنة النبوية الصحيحة نص يتضمن حكما قطعيا في موضوع السكان، ولذلك لا يمكن لنا أن نقول مطلقا: إن على الدولة الإسلامية أن تعمل على زيادة عدد سكانها، أو أنه لا يجوز لها أن تعمل على الحد من التزايد بالطرق الشرعية المباحة، ولقد ذكر الفقهاء بأن الأمور التي لا يوجد فيها نص من كتاب أو سنة ولا تسعف مصادر التشريع الأخرى في الوصول إلى ذلك الحكم فإن مرجعها إلى أصل الشريعة وهو تحقيق المصلحة. ثانيًا: أن الأمر، والحال هذه، راجع إلى المصلحة، فإذا كان للمجتمع الإسلامي مصلحة راجحة في زيادة السكان أضحى على ولي الأمر أن يعمل على تحقيق ذلك، وإذا كان لذلك المجتمع مصلحة راجحة في الحد من الزيادة، صار لزاما عليه أن يتبع من السياسات المباحة شرعا ما يؤدي الهدف المقصود. قال ابن تيمية رحمه الله: (إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء هل هو على الإباحة أو التحريم، فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته فإن كان مشتملا على مفسدة راجحة ظاهرة فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته بل يقطع أن الشرع يحرمه لا سيما إذا كان مفضيا إلى ما يبغضه الله ورسوله) (1) . ولذلك فإن السياسة السكانية المناسبة للدولة الإسلامية هي تلك التي تستمد أصولها من نظرية المصلحة العامة في الفقه الإسلامى. ثالثًا: إن التزايد السكاني في أي قطر معتمد على متغيرات كثيرة معقدة ومتشابكة، وفى كثير من الأحيان تؤدي السياسات الحكومية الخاصة بتوزيع الدخل وتقديم الخدمات العامة إلى إحداث تسارع في معدل الزيادة السكانية بدون أن تكون تلك الزيادة هدفا مقصودا لهاتيك السياسات، وبما أن من الثابت (ضمن المعرفة الاقتصادية) ارتباط معدل الزيادة في عدد السكان بمتغيرات إقتصادية قابلة للتأثر بالسياسات المذكورة، صار يمكن للحكومة الإسلامية أن تتبنى سياسة تستهدف الحد من تزايد السكان بدون أن تلجأ (بالضرورة) إلى تحديد النسل، ومن المهم إذا الإتفاق على أنه لا يوجد في أصول الشريعة ما يلزم الحكومة بالضرورة بزيادة عدد السكان، ومن ثم يمكن لها أن تجعل آثار السياسات المختلفة على معدل النمو السكاني أحد الاعتبارات المهمة التي يعول عليها في اختيار السياسة المناسبة. محمد القري بن عيد   (1) ذكره حسين حامد حسان في كتاب " المصلحة "، ص 472 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 تحديد النسل وتنظيمه إعداد الدكتور مصطفى كمال التارزي أستاذ بالجامعة الزيتونية بسم الله الرحمن الرحيم إن مسألة تنظيم النسل أو تحديده قضية إنسانية شغلت الناس وخصوصا المفكرين قديما وحديثا، وكانت موضع خلاف بينهم شأنها شأن كل قضية يتغير الحكم فيها بما يكتنفها من اعتبارات وما يرجح في نظر الباحث من مصلحة أو مفسدة، قد يوجبها وضع ما، أو اعتبار معين. وتنظيم النسل أو ضبط النسل أو تحديد النسل أو التحكم في النسل أو تنظيم الولادية عبارات حديثة، حلت محل كلمة العزل المعروفة عند العرب وعند الفقهاء خاصة في القديم، وهي كلها تتعلق بمعنى واحد وتؤول إلى نتيجة واحدة هي تحديد النسل، وإنما استبدلوا أخيرا كلمة التحديد بالتنظيم ليخففوا من وقع معنى التحديد في نفوس الذين رفضوا التحكم في عملية الإنجاب. وسواء قلنا التحديد أو التنظيم، فالسؤال المطروح هو: هل يجوز منع الحمل في حالات خاصة كالمرض؟ وهل يجوز منعه في حالات عامة كما إذا عجزت موارد الدولة عن ضمان ضروريات الشعب أمام تزايد عدد السكان؟ إن الشريعة الإسلامية التي قامت على رفع الحرج والتيسير وجلب المصالح ودرء المفاسد، هي أجدر الشرائع تفهما لهذه المشاكل الاجتماعية، وإيجاد الحلول التي تتحقق بها المصلحة وتبعد عن المجتمع ما يوقعه في الحرج والمفسدة. ويستطيع الباحث أن يجد في بطون الكتب الفقهية القديمة منها والحديثة مادة غزيرة واسعة حول هذه المسألة، سواء فيما يتعلق بالحالات الخاصة أو الحالات العامة. لقد دعا الإسلام إلى النكاح وحث عليه واعتبره طريقا لتحصيل العفة مع تحقيق النسل وبقاء النوع البشري. والمتأمل في كتاب الله عز وجل يدرك من سياق الآيات التي يقترن فيها ذكر الزواج بالنسل صراحة أو كناية أن النسل هدف من أهداف الحياة الزوجية، ومقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية حرصت على المحافظة عليه. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} (1) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (2) .   (1) سورة الفرقان الآية 54 (2) سورة النساء الآية 1 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 فهذه الآيات مقترن فيها ذكر الزواج بالنسل، صراحة أو كناية وهذا يوحي بأن النسل كما قلنا غرض أساسي، والاستكثار منه من مقاصد الشريعة. ومما يؤكد هذا المعنى ويدعو لكثرة النسل أيضا ما روي عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم - وقيل: الأنبياء - يوم القيامة)) (1) . وما روي عن معقل بن يسار، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ قال " لا ". ثم أتاه الثانية فنهاه. ثم أتاه الثالثة فقال: " تزوجوا الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ")) (2) . كما رويت أحاديث كثيرة بينت أن المقصد الأول من الزواج هو النسل. فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لحصير في ناحية البيت خير من امرأة لا تلد)) . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ((النساء تنكح للولد)) . وبهذا نعلم أن الإكثار من النسل مطلوب في ذاته ويتماشى مع الفطرة السليمة والطبيعة الإنسانية، ومنع النسل أو تحديده بدون ضرورة ماسة وقوف أمام الفطرة، والإسلام دين الفطرة كما قال تعالى في كتابه العزيز: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (3) . فهل لأحد فردا كان أو جماعة أن يقف أمام هذه السنة الحياتية؟ يظهر أن موضوع معرفة حكم الله في العزل أو تنظيم النسل مرتبط ارتباطا كبيرا بمعرفة من له حق الولد عند فقهاء الشريعة الإسلامية ولهم في ذلك أقوال ثلاثة:   (1) مسند الإمام أحمد (2) أبو داود والنسائي (3) سورة الروم الآية 30 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 القول الأول: يرى أن الولد حق للوالد وحده فهو الذي يختار الإنجاب أو عدمه وبموجب هذا الاختيار يكون امتناعه عن إنجاب الولد مباحا لا كراهة فيه؛ لأن النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص ولا نص في الموضوع فترك التلقيح بعد المخالطة مباح ليس فيه إلا مخالفة الأفضل. ومن القائلين بهذا الرأي الإمام الغزالي ولذلك فهو لا يتقيد بضرر موجب للعزل؛ لأن بواعث العزل كلها مباحة ما لم يكن منصوصا على كراهته كالخوف من ولادة الإناث فإنه مكروه بالنص. ومثل الغزالي لبواعث العزل المباحة: 1 - باستبقاء جمال المرأة ونضرتها. 2 - الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد. القول الثاني: يرى أن الولد حق للزوج والزوجة وهو مذهب الحنفية الذي يقرر أن العزل مباح بشرط أن تأذن فيه الزوجة؛ لأن الإنزال في داخل الفرج من حقها فهما يشتركان في حق الولد. قال المرغياني صاحب كتاب الهداية (1) : (ويشترط في العزل عن الزوجة الحرة إذنها إذ العزل ينقص من حقها كما أن تحصيل الولد من حقها) . وقال ابن عابدين (2) . في حاشية رد المحتار (ويعزل عن الحرة بإذنها) . قال الكمال بن الهمام: إن خاف من الولد السوء في الحرة يسعه العزل بغير رضاها لفساد الزمان فليعتبر مثله من الأعذار مسقطا لإذنها، ويقول الكاساني في البدائع (3) : (ويكره للزوج أن يعزل عن امرأته الحرة بغير رضاها؛ لأن الوطء عن إنزال سبب لحصول الولد ولها في الولد حق وبالعزل يفوت الولد فكان سببا لفوات حقها. وإن كان العزل برضاها لا يكره؛ لأنها رضيت بفوات حقها) . وجاء في كتاب منتهى الإرادات لابن النجار الحنبلي (4) . (ويحرم وطء في حيض وكذا عزل بلا إذن حرة فالتحريم منصب على حالة العزل دون رضاء الزوجة) . وينص الدسوقي في حاشيته على الدردير، وهو مالكي، على جواز العزل ليمنع الحمل واشترطوا إذن الزوجة بذلك صغيرة كانت أو كبيرة.   (1) الهداية ج 2 ص 494 (2) ابن عابدين الجزء الثاني صفحة 379 (3) بدائع الصنائع ج 2 ص 334 (4) الجزء الثاني ص 227، 228 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 القول الثالث: هو رأي جمهور من العلماء يرى أن منع الولد مكروه كراهة تحريم لحق الأمة فيه ولحق الزوجين إذ العزل يخالف المصلحة العامة وهي حفظ النسل الذي هو أحد الضروريات الخمسة التي قام عليها التشريع الإسلامي، كما يعارض رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى استكثار النسل في قوله ((تناكحوا تناسلوا تكثروا)) . ولهذا قال ابن قدامة (1) . في المغني: والعزل مكروه رويت كراهته عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وروي ذلك عن أبي بكر الصديق أيضا؛ لأن فيه تقليل النسل وقطع اللذة عن الموطوءة. ثم قال في الشرح الكبير (2) . (ولا يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها) . قال القاضي (ظاهر كلام أحمد وجوب استئذان الزوجة في العزل ويحتمل أن يكون مستحبا؛ لأن حقها في الوطء دون الإنزال، والأول أولى لما روي عن عمر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها) (3) . ومعنى هذا أنه إن أجيز للزوج العزل فإن عليه أن لا يتعسف باستعمال هذا الحق بالتعدي على حقوق الغير. فمنعهم ليس لذات العزل وإنما هو مراعاة لحق الغير لأن استكمال لذتها لا يتم إلا بالإنزال في الرحم.   (1) المغني الجزء الثامن ص 132 (2) الشرح الكبير الجزء الثامن ص 133 (3) رواه الإمام أحمد في المسند وابن ماجه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 1 - وسائل منع الحمل: يبدو أنه لا خلاف بين العلماء في إباحة إيقاف الحمل إذا كان هناك موجب شرعي يقتضيه بطريقة من الطرق المعروفة سابقا: 1 - بالعزل: وهي الطريقة البسيطة التي اتخذها القدماء للحيلولة دون الحمل أو دون تكوين الجنين أو دون التقاء الحيوان المنوي للرجل ببويضة الأنثى، ولا زال العزل شائع الاستعمال بين مختلف الأوساط الاجتماعية في الدول النامية والدول الصناعية على حد سواء. 2 - أو بالوسائل الحديثة: كتناول الحبوب ضد الحمل أو استعمال آلة لمنعه. 3 - أو بتوقيف المعاشرة الجنسية أياما معينة من الشهر: بحيث يقع في أول الدورة وآخرها وبتجنب وسطها الذي تخرج فيه البويضة، والذي يقع عادة في اليوم الرابع عشر قبل بدء الحيض وما دامت طريقة العزل مباحة شرعا عند الحاجة إليها لدى غالب العلماء فكل طريقة تماثلها تأخذ حكمها بشرط أن لا يكون المراد الإجهاض أو إسقاط الجنين وألا يكون فيها ضرر للمرأة أو الرجل أو الجنين. 4 - أو الرضاعة: وللإرضاع تأثير مؤقت على الحمل وخاصة في فترته المبكرة وهي طريقة طبيعية ومعروفة من القدم ولكن لا يعول على هذه الطريقة بشكل أكيد؛ لأن فاعلية منع الحمل فيها تختلف من امرأة إلى أخرى. ولذا فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن وطء المرضع، وسماه وطء الغيلة؛ لأن المرأة إذا حملت في هذه المدة تغير لبنها، فإذا رضع الصغير منه ربما يلحقه ضرر آجل أو عاجل، وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده (1) . قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقتلوا أولادكم سرا فإن الغيل يدرك الفارس قيد عثرة من فوق فرسه)) . ثم أباح الرسول صلى الله عليه وسلم وطء المرضع عندما رأى أنه مستعمل عند الأمم بدون ضرر فعال فيها. روى أسامة بن زيد (2) . أن رجلا جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((" لم تفعل ذلك؟ " فقال: أشفق على ولدها، فقال الرسول: " لو كان ذلك ضارا لضر فارس والروم ")) .   (1) أخرجه أحمد في مسنده جزء 6 ص 453 (2) صحيح مسلم، كتاب النكاح باب جواز الغيلة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 وقد استطاع ابن القيم (1) . أن يجمع بين الحديثين بأن النهي عن ضعف المولود أقل خطرا من الإمساك عن وطء النساء مدة الرضاع، ولا سيما الشباب وأصحاب الشهوة، لذلك رأى رسول الله أن دفع المفسدة الأعظم أهم من درء المفسدة الأصغر ولهذا أباح وطء المرضعة بعد أن نهى عنه. وقد تعرض الفقهاء في القديم إلى عدة وسائل أخرى غير العزل كانت تستعملها النساء فقد قال الونشريسي (2) . في المعيار: وقد أجازوا أيضا أن تجعل المرأة وقاية في رحمها تمنع من وصول الماء للوالدة. وذكر ابن عابدين في حاشيته (3) . أنه كما جاز للرجل أن يعزل بإذن زوجته فلها أن تسد فم رحمها كما تفعله النساء في ذلك الزمان، وبذلك نعلم أن الوقاية من الحمل عند المسلمين لم تكن خاصة في الماضى بالرجل، بل كانت من جانبي الرجل والمرأة على السواء، وإذا كان من المقرر أن الرجل لا يعزل إلا بإذن زوجته قالوا فقياسا على هذا: إن المرأة لا تعزل إلا بإذن زوجها. ونقل الرملي في نهاية المحتاج (4) . عن الزركشي: هذا كله في استعمال الدواء بعد الإنزال فأما استعمال ما يمنع الحمل قبل إنزال المني حالة الجماع مثلا فلا مانع منه. وموضوع وسائل منع الحمل طرقه عدد كبير من الأطباء المسلمين القدامى في بحوثهم حول الوسائل المختلفة في تنظيم الولادات ونجد هذا في قانون ابن سينا وإرشاد ابن الجامي وفي الذخيرة في الطب لإسماعيل الجرجاني وفي التذكرة لداود الأنطاكي، فكل هؤلاء تكلموا عن منع الحمل خوفا على صحة المرأة عند ضعفها خشية من الحمل المتتابع.   (1) زاد المعاد ج 4 ص 18 (2) المعيار ج 4 ص 164 (3) الجزء الثاني ص 380 (4) ج 8 ص 416 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 أسباب منع الحمل: أما أسباب منع الحمل فهي كثيرة وقد حصرها الغزالي (1) . في أنواع النية الباعثة على العزل وهي: - استبقاء جمال المرأة لدوام التمتع خوفا من خطر الطلق. - الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد. - الاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء. وذكر غيره أسبابا أخرى منها: - الخوف من الضرر إذا كان الحمل يلحق ضررا مباشرا بصحة الأم. - أو تحقق الأبوين من عجزهما عن القيام بشؤون مولود جديد. - أو كانا في الجهاد وخيف على الزوجة أن يضعفها حملها عن مشقة السفر أو الجهاد أو كانت الزوجة سيئة الخلق ويريد فراقها. قال الكمال بن الهمام (2) : ((: ((وفي الفتاوى إن خاف من الولد السوء في الحرة يسعه العزل بغير رضاها لفساد الزمان فليعتبر مثله من الأعذار مسقطا لإذنها)) )) . فأصل العزل مباح عند من قال إن الولد حق للأب أو للأب والأم معا. أما من يرى أن الولد حق مشترك بين الأمة والوالدين فإنه يبيح العزل في الصور التي تلحق ضررًا بالأب أو الأم دفعا للمفسدة وتطبيقا للقاعدة المقررة أن الضرورات تبيح المحظورات. ويبقى الخلاف محصورا بين الفقهاء في حكم العزل فيما سوى الضرورة، كما إذا كان لمجرد رغبة الأب أو الأم أو هما معا في تحديد الأولاد مع توفر الإمكانيات المادية، تحقيقا للراحة وحب الدنيا واتباع الشهوات والفرار من المسئولية الاجتماعية التي أنيطت بعهدتهما.   (1) الإحياء الجزء الرابع ص 151 (2) ابن عابدين ج 2 ص 379 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 حجة القائلين بكراهة العزل من العلماء من يقول بكراهة العزل إذا لم يكن هناك موجب يقتضيه، احتجوا بما ورد من إنكار النبى صلى الله عليه وسلم للعزل في نصوص كثيرة من السنة حيث لم يرد شيء في القرآن يبين حكم الله في العزل. ومما وقع الاحتجاج به ما ورد في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصبنا سبيا فكنا نعزل وسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أو إنكم لتفعلون - أو إنكم لتفعلون - ما من نسمة كانت إلى يوم القيامة إلا وهى كائنة)) (1) . ففهموا أن هذا الحديث سيق بصيغة الإنكار فيكون العزل غير مشروع ولا مباح. وقد ورد هذا الحديث بعدة صيغ وفي لفظ لمسلم (2) . من طريق ابن محيريز قال: دخلت أنا وأبو صرمة على أبي سعيد الخدري فسأله أبو صرمة فقال: يا أبا سعيد، هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر العزل؟ فقال: نعم. غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بني المصطلق فسبينا كرائم العرب فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا: نفعل ورسول الله بين أظهرنا لا نسأله؟ فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا عليكم أن لا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون)) وفي لفظ لمسلم ((فإن الله كتب من هو خالق إلى يوم القيامة)) وفي لفظ: ((فقال لنا: وإنكم لتفعلون. وإنكم لتفعلون. وإنكم لتفعلون، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة)) وفي لفظ له قال: ((لا عليكم ألا تفعلوا فإنما هو القدر)) . وفسر العلماء هذا على أنه حث على عدم العزل حتى قال الحسن بأن قوله: " لا عليكم أن تفعلوا " تشبه الزجر، وقال ابن سيرين: هذا خبر إلى النهي أقرب. ومنها حديث جذامة بنت وهب الأسدية قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: ((لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر ذلك أولادهم شيئا، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله: " ذلك الوأد الخفي ")) رواه مسلم (3) . ويشير الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا إلى قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (4) .   (1) صحيح البخاري شرح ابن حجر ج 9 ص 305 (2) النووي على مسلم. الجزء العاشر ص 15 (3) النووي على مسلم. الجزء العاشر ص 15 (4) سورة التكوير الآية 8، 9 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 ومنها ما ورد عن أسامة بن زيد ((أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنى أعزل عن امرأتي، فقال له الرسول: " لِمَ تفعل ذلك؟ " فقال له الرجل: أشفق على ولدها أو أولادها: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو كان ضارا ضر فارس والروم ")) رواه مسلم (1) . وكذلك استدلوا بحديث أبي سعيد الخدري من قول الرسول في العزل ((أنت تخلقه؟ أنت ترزقه؟ أقره قراره فإنما ذلك القدر)) وهذا الحديث يقتضي بظاهره منع العزل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل أن يقر الماء في مقره، وهذا يدل على أن الله هو الخالق الرازق، وأنه ليس هناك ما يدعو إلى عزل النطفة والحيلولة بينها وبين أن تستقر في الرحم. فهذه الأحاديث وغيرها تؤكد عند بعض الفقهاء الاتجاه الإسلامي العام القاضي بأن كثرة الذرية من مقاصد النكاح، وأن المحافظة على النسل هو أحد المصالح الخمسة التي يقررها الإسلام أساسا للتشريع. إذ من المعلوم أن المصالح التي اعتمدها الفقهاء أساسا للتشريع ترجع إلى المحافظة على خمسة أمور هي: المحافظة على الدين وعلى النفس وعلى العقل وعلى النسل وعلى المال، وقد قال الغزالي في المستصفى ما نصه: (إن جلب المنفعة ودفع المضار مقاصد الحق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم لكننا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع. ومقصود الشرع في الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، لذلك فكل محاولة تهدف إلى منع الحمل هي محاولة تبعد عن منهج الشريعة الإسلامية الذي يدعو إلى التكاثر. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) (2) . كما يحفز من استطاع الباءة أن يتزوج ويدعو الزوج أن يختار لنفسه الولود الودود.   (1) النووي على مسلم ج 10 ص 16 (2) رواه السيوطي في الجامع الصغير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 وقد سبق أن بينا أن الإسلام. يرغب في الزواج ويأمر به ويمتن على المسلمين بشرعه قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) . ومن أغراض الزواج تكوين الأسرة وإيجاد النسل، والولد من نعم الله تميل إليه الفطرة السليمة وهو في الآن نفسه زينة الحياة الدنيا، لذلك كان العزل والفرار من الحمل انحرافا عن الفطرة السليمة. وإذا كان العزل مكروها عند هؤلاء الفقهاء، فإن مذهب ابن حزم من الظاهرية يحرم العزل كما جاء في المحلى (2) : قال: لا يحل العزل عن حرة ولا عن أمة مستدلًّا بحديث جذامة بنت وهب على أن الرسول لما سئل عن العزل قال: " ذاك الوأد الخفي ": قال إنه خبر في غاية الصحة وساق حديث أبي سعيد الذي قال فيه رسول الله: " لا عليكم أن لا تفعلوا " وقال: إن الذين احتجوا بأخبار أخرى لا تصح؛ لأن خبر جذامة بنت وهب يعارضها جميعا ثم قال: إن كل شيء أصله الإباحة لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وعلى هذا كان كل شيء حلالا حتى نزل التحريم قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فصح أن خبر جذامة بالتحريم هو الناسخ لجميع الإباحات المتقدمة، وهو أمر متيقن؛ لأنه إذا أخبر عليه السلام أنه الوأد الخفي والوأد محرم فقد نسخ الإباحة المتقدمة بيقين، فمن ادعى أن تلك الإباحة المنسوخة قد عادت، وأن النسخ المتيقن قد بطل فقد ادعى الباطل وأتى بما لا دليل له عليه ورد كلام ابن حزم بأن ادعاء النسخ يحتاج فيه إلى معرفة تاريخ الناسخ وحيث إن التاريخ غير معروف فلا يصح ادعاء النسخ.   (1) سورة الروم الآية 21 (2) المجلد السابع ج 10 ص 78 المسألة 197 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 حجة المجيزين للعزل من العلماء من يقول بجواز العزل استنادا إلى جملة من أحاديث صحيحة رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثبتتها الكتب الصحاح، أهما: 1 - ما جاء عن جابر رضى الله عنه الوارد في الصحيحين (1) . قال: ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل، ولو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن)) متفق عليه. ولمسلم ((فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا عنه)) . وأول ما يتبادر إلى الذهن من هذا الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ينه عن العزل بل أقره ولو كان حراما لنهى عنه؛ لأنه كان في وقت تقرير الأحكام ونزول الأوامر والنواهي، وقد أكد جابر رضي الله عنه أن عملهم بالعزل لم يكن خافيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل علم به فأقرهم ولو كان محرما ما أقرهم عليه. 2 - ما جاء في صحيح مسلم (2) . أيضا عن أسامة بن زيد أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رسول الله، إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله: لم تفعل ذلك؟ " فقال الرجل: أشفق على ولدها، فقال: رسول الله: " لو كان ضارا - أي العزل - لضر فارس والروم ")) . 3 - عن جابر ((أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لى جارية هي خادمتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل، فقال: " اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها ")) رواه مسلم فقد كان السائل يطلب من الرسول الحكم في أمر العزل فجاءه النص صريحا في إباحة العزل، ومن العلماء من يرى أن هذا الحديث يفيد معنى أكثر من الجواز؛ لأن الرسول هو الذي أشار بالعزل. 4 - عن أبي سعيد الخدري قال: قالت اليهود: العزل الموءودة الصغرى فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((كذبت يهود. إن الله عز وجل لو أراد أن يخلق شيئا لم يستطع أحد أن يصرفه)) رواه أحمد وأبو داود، ويقول الشوكاني: وقد أخرج هذا الحديث أيضا الترمذي والنسائي ونقل عن الحافظ أن رجاله ثقات.   (1) كتاب النكاح باب جواز الغيلة (2) كتاب النكاح باب جواز الغيلة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 5 - روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها)) رواه أحمد وابن ماجه. وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها)) وهذا يدل على جواز العزل بإذنها. 6 - ما ورد عن رفاعة بن رافع قال: (جلس إلى عمر كل من علي والزبير وسعد وجماعة من أصحاب الرسول فتذاكروا العزل فقال عمر: لا بأس به. فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى. فقال علي: إنها لا تكون موءودة حتى تمر على الأطوار السبعة تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاما، ثم تكون خلقا آخر. فقال عمر: صدقت) لأن الوأد لا يتصور إلا بعد أن تمر بالمادة الأطوار السبعة وبروز الجنين إلى الوجود. 7 - ما رواه أبو داود عن أسماء بنت زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقتلوا أولادكم سرا فإن الغيل يدرك الفارس قيد عثرة عن فرسه)) فقد دل الحديث على أن مواقعة الزوجة في مدة الرضاعة تؤثر على الرضيع حالا أو مستقبلا ولو كان في قوة شبابه. ومن هنا استنتج الفقهاء أن وطء الحامل والمرضع مكروه إن خيف منه ضرر الولد وإن غلب على الظن الضرر حرم. وإذا كانت مدة الحمل والرضاع حولين كاملين فليس للزوج من طريق للوصول إلى مباشرة زوجته إلا عن طريق العزل، وهذا إذن ضمني من الشارع بالعزل على أن القائلين بعدم جواز العزل كثيرا ما يترددون في الاستشهاد بالنصوص القاضية بالمنع. ويرى الأستاذ محمد سلام مدكور في كتابه نظرة الإسلام إلى تنظيم النسل (1) . أن ما ذهب إليه الإمام الشوكاني (2) . من أن معنى (لا عليكم أن لا تفعلوا) من الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري هو: " نفي الحرج عن عدم الفعل وهذا يفيد ثبوت الحرج في فعل العزل " لا يستقيم مع القواعد الأصولية المقررة التي تقول إن نفى الحرج عن جانب يفيد نفيه عن الجانب الآخر. فإذا كان الحديث قد أفاد نفي الحرج عن عدم الفعل، فنفي الحرج أسلوب يفيد الإباحة التي تقتضي التسوية بين جانبي الفعل والترك، فكان الأولى أن يستدل بهذا الحديث على جواز العزل؛ لأنه المتفق مع ما يفيده الأسلوب العربي.   (1) نظرة الإسلام إلى تنظيم النسل ص 43 (2) نيل الأوطار للشوكاني الجزء السادس ص 340 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 وقد ذكر الإمام الشوكاني أنه يمكن أن يخرج الحديث على أن يقال إن (لا) زائدة فيكون المعنى نفي الحرج عن الفعل؛ لأن (لا) كثيرا ما تزاد في أساليب العرب لذا اقتضى السياق ذلك، نظير ذلك قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} والمعنى ليعلم أهل الكتاب. ويؤيد هذا الاتجاه ما ذكره محمد بن خلفة الأبي (1) . في كتابه إكمال الإكمال بعد أن أورد وجهين في فهم الحديث قال والمعنى: لا جناح عليكم في أن تفعلوا العزل. ويقول ولي الله الدهلوي (2) . في قول الرسول ((ما عليكم ألا تفعلوا)) يشير إلى كراهية العزل من غير تحريم والسبب في ذلك أن المصالح متعارضة فالمصلحة الخاصة بنفسه قد تدعوه إلى العزل والمصلحة النوعية ألا يعزل لتحقيق كثرة الأولاد وقيام النسل، والنظر إلى المصلحة النوعية أرجح من النظر إلى المصلحة الشخصية في عامة أحكام الله تعالى التشريعية والتكوينية، فالقضية في نظره لا تزيد على أن يكون العزل خلاف الأولى. وقال ابن قيم الجوزية في إعلام الموقعين (3) . في حديث جابر بن عبد الله الذي قال: كنا نعزل والقرآن ينزل: إن ما فهمه جابر هو كمال فقه الصحابة وعلمهم واستيلائهم على طرق معرفة الأحكام ومداركها. وهذا يدل على أمرين: 1 - أن أصل الأفعال الإباحة، ولا يحرم منها إلا ما حرمه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. 2 - أن علم الرب تعالى بما يفعلون في زمن شرع الشرائع ونزول الوحي، وإقراره لهم عليه، دليل على عفوه عنه. ويقول الإمام الشوكاني في حديث جابر (4) . في قوله: والقرآن ينزل: فيه جواز الاستدلال بالتقرير من الله ورسوله على حكم الأحكام، لأنه لو كان ذلك الشيء حراما لم يقروا عليه.   (1) إكمال الإكمال هو شرح أكمل به الأبي شرح القاضي عياض لكتاب المعلم بفوائد مسلم لمؤلفه محمد بن علي التميمي المشهور بالإمام المازري دفين المنستير (2) حجة الله البالغة ج 2 ص 706 (3) الجزء الثاني ص 438 (4) نيل الأوطار للشوكاني ج 6 ص 347 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 وقال القاضي عياض (إن كثيرا من الصحابة والتابعين أجازوا العزل استنادا إلى حديث جابر) ، ومهما يكن من أمر فإن المسافة بين المانعين والمجيزين لا تتعدى حدود الكراهة، فالمانع يقول بالكراهة، والمجيز يقول بأن العزل هو خلاف الأولى وهو كذلك إذا لم يكن هناك داع. ويعبر عن هذا المعنى الإمام النووي في شرحه على مسلم فيقول: إن هذه الأحاديث التي استدل بها المانعون مع غيرها من الأحاديث التي أفادت الإباحة، يجمع بينها أن ما ورد في النهي محمول على الكراهة التنزيهية، وما ورد في الإذن محمول على أنه ليس بحرام، وليس معناه نفي هذه الكراهة التنزيهية. ويؤيد هذا الاتجاه الإمام الغزالي في آداب معاشرة النساء (1) . حيث يقول (وأما الكراهية فإنها تطلق لنهي التحريم ولنهي التنزيه ولترك الفضيلة وهو مكروه هنا بالمعنى الثالث) . ثم يقول: (وإنما قلنا لا كراهية بمعنى التحريم والتنزيه لأن إثبات النهي إنما يمكن بنص أو قياس على منصوص، ولا نص ولا أصل يقاس عليه، بل ههنا أصل يقاس عليه وهو ترك النكاح أصلا أو ترك الجماع بعد النكاح أو ترك الإنزال بعد الإيلاج، فكل ذلك ترك للأفضل وليس بارتكاب نهي. لذلك فإن المجيزين لمنع الحمل يردون على المانعين ويؤولون كل النصوص التي يستشهدون بها وقالوا في قوله صلى الله عليه وسلم: ((تناكحوا تكثروا)) الحديث: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا في أول الإسلام، وفى فترة كان المسلمون فيها قلة، وكانوا بحاجة أن يكونوا كثرة نامية للوقوف في وجه أعدائهم الكثيرين على أن الرسول عندما يفاخر لا يفاخر بالكم وحده بل إنه يقرن الكم بالكيف وهو القائل: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)) وهو الذي نزل عليه قوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} .   (1) إحياء علوم الدين ج 4 ص 150 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 فالشريعة أيضا لا تعجبها الكثرة الهزيلة ولا تقيم لارتفاع نسبتها في التعداد وزنا إذا لم تكن مؤهلة للقيام بمسؤلياتها، ويشير إلى هذا ما صح في دلائل النبوة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: ((توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا بل أنتم كثيرون ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قال قائل: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)) . وتحتج فئة أخرى بقوله عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} فيكون الله متكفلا برزق جميع خلقه، ولا يتنافى هذا مع الأخذ بالأسباب، قال في تفسير المنار (1) : (قد أعطى كلا منها خلقه المناسب لمعيشته ثم هداه إلى تحصيل غذائه بغريزته) ثم قال (وليس معناها أن الله جعل لكل دابة من كل نوع أن يخلق لها ما تتغذى به، ويوصله إليها بمحض قدرته وإنما معناها: خلقه تعالى لكل منها الرزق الذي تعيش به، وأنه سخره لها وهداها إلى طلبه وتحصيله) . ولقد جعل الإسلام من الزواج مسئولية مادية ومعنوية تجاه الزوجة والأولاد، وقد نص صراحة على أنه إذا تعذر على الرجل القيام بأعباء الزوجية أو يجد في ذلك حرجا فإنه مطالب بألا يقدم على الزواج. قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} سورة النور [33] . وروى البخاري ومسلم عن علقمة رضي الله عنه قال: واللفظ لمسلم (2) . كنت أمشى مع عبد الله بمنًى فلقيه عثمان رضي الله عنهما فقام معه يحدثه، فقال له عثمان: يا أبا عبد الرحمن: ألا نزوجك جارية ثانية لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك؟ قال: فقال عبد الله: لئن قلت ذلك: لقد قال لنا صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) .   (1) المنار ج 12 ص 13 (2) حديث 794 مختصر صحيح مسلم كتاب النكاح ص 207 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 فالدعوة إلى الزواج والإنجاب مرتبطة بالقدرة على تحمل مسئولياتها ونتائجها، ومسئولية الزوج تزداد إذا أنجب إذ عليه مسئولية التربية والتوجيه وتوفير المسكن والغذاء، وإعداد الولد ليكون مواطنا صالحا، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المسئولية في قوله ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) وكثرة العيال قد تكون سببا في تشتيت العائلة وضياع مصالحها وتلاشي تربيتها. وعندما يتأمل المرء في كل الأحاديث والآثار التي استند إليها المانعون للعزل والمجيزون له لا يستطيع الجزم بحرمة العزل الشخصي أو الفردي ما دامت النصوص الواردة في هذا الموضوع غير صريحة والقضية اجتهادية، بل يجد الإنسان نفسه أميل إلى القول بالإباحة إذ هي الأصل، لا سيما إذا وجدت الدوافع أو المصالح التي تدعو الزوج أو الزوجة لمنع الحمل بحيث يكون اتخاذ هذه الوسيلة في حدود الداعي الذي استلزمها ويكون هذا التنظيم فرديا اختياريا. وبهذا نعلم أن ضعف الموارد المادية في العائلة قد يكون عائقا يمنع الزوج عن النهوض بتبعات الأسرة والأظهر اعتباره عذرا من الأعذار المبيحة لمنع الحمل المؤقت وهذا لا ينافي ما نعتقده كمسلمين أن قدرة الله وإرادته فوق قدرة الإنسان وإرادته وأن الإنسان لا يستطيع الفرار من قدر الله وقضائه. وأن الله هو الرزاق وأنه ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها؛ لأن الله في نفس الوقت مكن الإنسان من الكسب والاختيار ومكنه بما أوتي من عقل وفكر أن يدبر ويعمل ويسعى لإصلاح حياته وتنظيمها.. وأن إفساد المادة التناسلية قبل التلقيح هي وسيلة من وسائل منع الحمل لمصلحة لا يكون فيه اعتداء على الجنين بحال من الأحوال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 وقد صدرت فتاوى كثيرة عن هيئات علمية إسلامية محترمة كمشيخة الأزهر الشريف (1) . ومعهد البحوث الإسلامية (2) . وعن مؤسسات دينية ومن شخصيات علمية (3) . جوزت منع الحمل المؤقت للأفراد وعللت ذلك بقولها: (لما فيه من التيسير على الناس ورفع الحرج لا سيما إذا خيف من كثرة الحمل) . أما قرار مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في الحكم الشرعي في تحديد النسل فيبدو أنه أكثر تشددا من القرارات السابقة في خصوص هذا الموضوع فكأنه يريد قصر جواز منع الحمل بحالات المرض خاصة حيث يقول (4) . (لا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها أو كان ذلك لأسباب أخرى غير معتبرة شرعا. أما تعاطي أسباب منع الحمل أو تأخيره في حالات فردية لضرر محقق ككون المرأة لا تلد ولادة عادية وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الجنين فإنه لا مانع من ذلك شرعا. وهكذا إذا كان تأخيره لأسباب أخرى شرعية أو صحية يقرها طبيب مسلم ثقة) .   (1) الجزء الثانى من كتاب الإسلام وتنظيم الأسرة ص 541 (2) كتاب المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1965 ص 404 (3) الجزء الثاني من كتاب الإسلام وتنظيم الأسرة 544 (4) قرارات مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة سنة 1400 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 فكرة تحديد النسل الجماعي ونشأتها إذا كانت كثرة النسل في العصور الأولى تعتبر عنوانا للعزة والقوة في القبيلة وسبيلا إلى الصمود أمام كل اعتداء فإن الكثافة السكانية أصبحت - مع مرور العصور، وتغير المفاهيم والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية - تعتبر في بعض الأحيان من المحاذير التي يجب أن ينظر إليها من قريب حتى لا تنقلب هذه الكثافة كارثة تدعو الحكومة إلى درئها قبل وقوعها. وإذا كان موضوع الانفجار السكاني بهذا الاعتبار فلا غرابة أن يجد اهتماما كبيرا من المفكرين والمشرعين قديما وحديثا، وأن تختلف أنظارهم في الحكم عليه. ولم تَعْدُ فكرةُ تحديد النسل في القديم حدودَ الأسرةِ، وبقيت تطبق بصفة فردية حسب الضرورات الخاصة التي دعت إليها، وإن اختلف مفهوم الضرورة من مدينة إلى أخرى ومن جيل إلى آخر. وأول بروز لفكرة تحديد النسل الجماعي كان في أوروبا ثم في أمريكا في أواخر القرن الثامن عشر، عندما تبنى هذه الفكرة عدد من رجال الاقتصاد في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وحذروا المجتمعات من بروز مشكل اقتصادى خطير وهو عدم التوازن بين نمو عدد السكان في العالم الذي صار يزداد بنسبة عالية، بل أصبح عدده يتضاعف في مدة قصيرة، وبين ضعف نمو وسائل العيش الذي لا يتم بنفس النسبة. وهذا من شأنه أن يحدث خللا كبيرا في التوازن، ويبشر بمجيء يوم يكون فيه عدد السكان أضعاف أضعاف موارد الرزق، وبذلك تحل بالمجتمعات أزمات ومجاعات قد يصعب التخلص منها. ولقيت حركة تحديد النسل الجماعي في أول أمرها صعوبات واعترضتها عراقيل متعددة منعتها من البروز والانتشار حقبة من الزمن. ثم لقيت في النهاية إقبالا من المجتمعات الأوربية المصنعة، فانتشرت كما انتشرت وسائل الوقاية من الحمل في جميع أنحاء أوروبا، ودلت الإحصائيات في أوائل القرن العشرين على أن التخطيط الشعبي الذي انتهجته بعض الدول في التقليل من الإنجاب قد حقق نتائج محسوسة في تقليل الولادية. واستمر انتشار حركة تحديد النسل في جميع أنحاء أوروبا بل في جميع بلاد العالم وما زالت تنتشر بخطى سريعة في مدة وجيزة لاحتواء العالم كله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 أسباب نجاح حركة تحديد النسل لم تكن الوقاية من الحمل بإحدى الوسائل الواقية هي التي حمت وحدها البلاد الأوروبية من الكثافة السكانية، وإنما هي عوامل متعددة أحاطت بهذا المجتمع الذي آمن بأن الأسرة إنما تقوم على الكيف لا على الكم، وعلى سمو تربية الأولاد وتوفير وسائل العيش لهم لا على كثرتهم. وأهم هذه العوامل التي ساعدت على انتشار فكرة تحديد النسل هي: 1 - النهضة الصناعية: وما جلبته من أيد عاملة نازحة كونت كثافة سكانية في المدن، ورغبة في رفع مستوى المعيشة، فكان تحديد النسل وسيلة لمواجهة تلك الضغوط. 2 - مشاركة النساء في العمل: وعجزهن عن القيام بشؤون رعاية البيت والأولاد مع ذلك، إذ كثرتهم تعوق المرأة عن مواصلة عملها خارج البيت. 3 - فقدان التوازن بين الطموح الشخصي وبين المستوى الاقتصادي والاجتماعي: وتعلق الطبقات الكادحة بإيصال أبنائهم إلى أعلى المراتب أسوة بمطامح الطبقات الغنية. وهذا لا يتحقق إلا بقلة الأولاد. 4 - انتشار المبدأ المادي الإلحادي: الذي قطع الصلة بالله الرزاق المجير المنعم المتفضل وجعل الإنسان يفكر في حدود ضيقة، لا يؤمل من الحياة إلا موارده المادية المحدودة. 5 - الانغماس في الاستمتاع الشخصي: إلى أبعد حدوده، فلا يريد الزوجان الإنجاب؛ لأنه - حسب زعمهما - يعكر صفو حياتهما، ومسؤوليات الأبناء تقف حجر عثرة أما شهواتهما ورغباتهما الشخصية وتمتعهما بملذات الحياة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 وهذه الأفكار في مجموعها هي التي تسربت إلى العالم الإسلامى، وتهافتت المجتمعات الإسلامية في تقليدها واعتناقها، مستبيحة كل الوسائل التي استباحها الغرب في التقليل من النسل، وحادت بها - أحيانا - عن مقاصد الإسلام التي تمنع التحديد، إلا إذا كان استجابة لضرورة اقتضتها مصلحة الأبوين، لتبني مبادئ بعيدة عن الإسلام، أساسها: 1 - تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. 2 - تغليب الجانب الاستهلاكي في الإنسان على الجانب الإنتاجي، وعدم تقدير قيمة توفير الأيدي العاملة التي تمكن المجتمعات من استغلال خيرات الله في أرضه وتناسي أن الأزمات الاقتصادية كان سببها في الغالب: - تكاسل الحكومات عن إيجاد حلول اقتصادية إيجابية قد تكلفها متاعب ومشاق. - ضعف التعاون الصادق النزيه بين دول العالم عامة، والدول الإسلامية خاصة. - عدم سعي المجتمعات إلى روح الإنتاج وتحسين الجودة لضعف الوازع الأخلاقي والديني. والذي ينبغي أن نلاحظه في هذا الموضوع أن العالم الغربي أصبح يتراجع عن تأييد فكرة تحديد النسل، ومناصرتها، إذا هو الآن يدعو إلى تكثير النسل، وتشجيع الإنجاب، وإعانة العائلات ذات الأطفال، ومكافأة العاملين على كثرة الإنجاب بالأوسمة والجوائز بينما تقوم بعض الدول الإسلامية في هذه السنوات الأخيرة بإكراه النساء على استعمال وسائل منع الحمل دون مراعاة لأدنى نصيب من إنسانية الإنسان وكرامته. يقول الدكتور محمد على البار: (ففي بعض البلاد العربية التي تبذل كل جهدها في نشر وسائل منع الحمل بكافة الطرق يقوم الطبيب بإدخال لولب إلى رحم المرأة عند قيامه بفحصها، دون علمها ولا رغبتها ولا موافقتها، وذلك تنفيذا لأوامر الدولة. وهو أمر يجافي أبسط المبادئ الإنسانية) (1) .   (1) مقال نشر بمجلة المسلم المعاصر. الصفحة 11 العدد 42 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 نظرة الشريعة إلى تحديد النسل الجماعي لقد تبين لنا مما تقدم أن المنع الفردي للنسل، بالعزل أو بغيره من الوسائل، هو ترك الأفضل أو مكروه، وإذا وجد موجبه عند الفرد كان العزل مباحا على مقدار هذه الرخصة الفردية، والسؤال المطروح: هل يُجَوِّزُ الفقه الإسلامي قياس الرخصة الجماعية لأمة من الأمم أو لدولة من الدول على الرخصة الفردية في منع الحمل، وتحديد النسل، ولو لمدة معينة، حتى يزول المانع؟ المعروف عند الفقهاء أن الرخصة الفردية. محدودة بحدود الضرورات والضرورة تقدر بالنسبة لكل واحد على حدة، حسب ظروفه المادية والمعنوية. فإذا أبيح التحديد فإنما يباح للشخص الذي كانت عنده الرخصة، ولا يباح كقاعدة عامة تعم جميع الناس في بلد أو إقليم، فينتفع بالإباحة صاحب الرخصة وغيره. ولهذا فإن من قاس تحديد النسل على العزل فقد أخطأ، إذ هو قياس مع وجود الفارق، والقاعدة في القياس اتفاق المقيس مع المقيس عليه من جميع الوجوه ولا يوجد في الفقه الإسلامي ما يجعل الرخصة جماعية، إذ من المقررات الشرعية أن المباح بالشخص أو بالجزء، يكون إما مطلوبا بالكل، أو ممنوعا بالكل، على حسب موافقته للمبادئ الكلية المقررة في الشريعة، أو مناقضتها. فإن كان خادما للمبادئ الشرعية الثابتة، كان مطلوبا بالكل، مباحا بالجزء. وإن كان مناقضا للمبادئ العامة، كان مباحا بالجزء حراما بالكل. وقد بين هذا الموضوع الشاطبي في الموافقات، عند تعرضه لبيان المباح، فقال: (إن المباح ضربان: أحدهما أن يكون خادما لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي والثاني أن لا يكون كذلك. فالأول: قد يراعى من جهة ما هو خارج له فيكون مطلوبا ومحبوبا فعله، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب والملبس ونحوها مباح في نفسه، وإباحته بالجزء وهو خادم لأصل ضرورى، وهو إقامة الحياة، فهو مأمور به من هذه الجهة، ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب. فالأمر راجع إلى حقيقته الكلية لا إلى اعتباره الجزئي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 والثانى: إما أن يكون خادما لما ينقض أصلا من الأصول الثلاثة المعتبرة، أو لا يكون خادما لشيء. كالطلاق، فإنه ترك للحال الذي هو خادم لكلي إقامة النسل في وجود وهو ضروري لإقامة مطلق الألفة والمعاشرة واشتباك العشائر بين الخلق وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما. فإذا كان الطلاق بهذا النظر خرقا لذلك المطلوب ونقضا عليه، كان مبغضا، ولم يكن فعله أولى من تركه، إلا لعارض أقوى كالشقاق (بين الزوجين) ، وعدم إقامة حدود الله. وهو من حيث كونه جزئيا في هذا الشخص وفي هذا الزمان فهو مباح وحلال) (1) . وبهذا نعلم أن الشرع لا يجوز منع النسل بالكل، ولا يبيحه كأمر عام، لأن اعتبار حق الأمة في الولد حق تقرره الشريعة الإسلامية لحفظ كيانها، ولنهوضها القومي، ومعاكسة الطبيعة في كف أجهزتها عن القيام بوظيفتها التي خلقت لها مما لا تقره الشريعة. والله يقول {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} . فالتحديد الجماعي لا تقره الشريعة الإسلامية، ولا تبيحه مهما كانت الأعذار ولا تحدد عدد الأولاد الذين ينبغي أن تنجبهم الأسرة، لأن الحكمة في عدم تحديد العدد الأقصى للأولاد، مادام ذلك يتعلق بالاختيار الإنساني في الأسرة، وقدرة كل أسرة على تربية الأولَاد تربية واعية. ولذلك فإن كثيرا من العلماء يرون أن تحديد النسل الجماعي ليس معناه جبر الأمة أو جبر إقليم من أقاليم البلاد على اتخاذ تدابير معينة لتحديد النسل للوصول بهم إلى نسبة ولادية معينة، فهذا مما لا يجيزه الشرع قطعا، بل معناه توعية الآباء والأمهات بمسؤولياتهم الزوجية والأبوية، وإقناعهم بهذه المسؤولية المرعية حتى يصبحوا أكثر احتياطا لمستقبل أولادهم، وأحرص على الاكتفاء بعدد من الأولاد حسب قدراتهم المادية والأدبية، وحتى يمدوا المجتمع بجيل قادر على مواجهة مشاكل الحياة؛ لأن من اهتمامات الشريعة الوصول بحياه المجتمع إلى المثل الأعلى.   (1) الموافقات للشاطبي. الجزء الأول، صفحة 77 مطبعة المدني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 ولا يتم ذلك إلا بتدخلها تدخلا مباشرا في تنظيم الأسرة، وإخراجها من دائرة الحيرة والفوضى والتعسف إلى دائرة الوعي والنشاط والإنتاج، وذلك بتوعيتها توعية دينية واجتماعية وطبية تدفع الضرر الذي يلحق الزوجة أو الأمة من جراء الإنسال الأهوج وإطلاق الحرية غير الواعية في تحصيل النسل وكثرته؛ لأن الكثرة الهزيلة التي تتملكها عوامل الضعف والانهيار كثرة لا خير فيها. فالدعوة إلى تنظيم الأسرة لا يجوز أن تكون دعوة إلى محاربة الزواج أو محاربة النسل، فوجود الذرية بين البشرية أمر فطري لابد منه، والقرآن نفسه يوجبها إلى الذرية الطيبة الصالحة النافعة والمنتفعة، يوجهنا أن ندعو ربنا بدعاء زكريا {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (1) . كما علم عباد الرحمن أن يدعوه ليهبهم الذرية القوية الصالحة بقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (2) . وإنما تكون الذرية سببا للسعادة إذا كانت سليمة قوية، ومستعدة لخوض غمار الحياة. ولا خلاف بين الفقهاء في أن الإسلام يشترط في الزواج أن يكون الرجل صالحا للنهوض بواجبه، قادرا على تحمل تبعاته. فإن كان عاجزا غير قادر طالبه بالتعفف والانتظار، حتى يتوافر لديه المال والاقتدار، يقول الله تبارك وتعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (3) . وإذا أباح عدد من العلماء توعية الأسرة توعية دينية وإجتماعية قصد تعريفها بحقوقها وواجباتها إزاء الأخطار التي تهدد حياة المجتمعات فلا ينبغي أن يقتصر جهدنا على هذا الجانب وحده، بل يجب أن تبذل كل الجهود لمضاعفة الإنتاج، وتطوير الصناعة والزراعة، ومواصلة السعي لكشف خيرات الأرض، والتعاون لتوزيع الفوائض والطاقات بين بلدان العالم.   (1) سورة آل عمران الآية 38 (2) سورة الفرقان الآية 74 (3) سورة النور الآية 33 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 كما علينا - من جانب آخر - أن نعالج المصابين والمصابات بالعقم، حتى يشعر كل الناس أن توعية الأسرة هدف عام وندعو الأغنياء وأصحاب القصور أن لا يبخلوا بإنجاب الأولاد حسب طاقتهم، تلبية لرغبة الأمة المستمرة في إنجاب الأولاد الصالحين. من كل ما قدمناه يتبين أنه لا مجال لإلزام مجتمع ما بإنجاب عدد معين من البنين إذ هو تحكم في حرية الأسرة، وفيه مخالفة للفطرة البشرية، وخروج عن أهداف الشريعة من تكوين العائلة. كما أن إطلاق الحرية للمجتمع كي ينجب دون وعي ولا مراعاة للقدرات الفردية والعائلية والاجتماعية، الصحية منها والاقتصادية أمر لا يتماشى مع أهداف الشريعة الداعية إلى إنجاب أجيال قادرة على تبوء مركز الخلافة في الأرض تماشيا مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (( ..... فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) . وهكذا يتبين أن موقف الشريعة الإسلامية من قضية تحديد النسل هو موقف الاعتدال والوسطية الذي ينصح العائلة ويوجهها، ويبقي لها حق اختيار الموقف الملائم لقدراتها في نطاق استعمال الوسائل التي لا تخرج بها عما يبيحه شرع الله. إن هذا هو الموقف الذي يتحقق به قول الله سبحانه. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 شبهات حول تحديد النسل وقبل أن ننهي الحديث عن تحديد النسل الجماعي لابد أن نتكلم عن شبهات ذائعة بين المسلمين وبعض العلماء الساهرين على شؤون الدعوة الإسلامية حول تنظيم الأسرة. فهناك شبهة تقول: إن الدعاية لتحديد النسل غزو يهودي صهيوني يقصد منه تقليل أفراد الأمة الإسلامية لتبقى ضعيفة لا تستطيع الجهاد والإنتاج وحينئذ تكون عالة على غيرها فيتحكم فيها كما يحلو له ويشهد بهذا ترويج وسائل منع الحمل بين أوساط المسلمين بأرخص الأسعار وقد يباع بعضها بأقل من سعر التكلفة ولا يوجد نظير هذه الحركة بين اليهود أنفسهم. وهناك من يقول إنها دعاية أمريكية وإنجليزية وغربية سرت إلينا وتبعها بعض المخلصين غافلين عن جذورها ومواردها وما يغذيها واتبعها بعض آخر ممن هو معجب بالأفكار الغربية وهؤلاء يتبعون كل ناعق ويسيرون وراءه من غير أن يعرفوا: أَيُسَارُ بهم في طريق يوصل إلى الخير أم يسار بهم في طريق مملوء بالأفاعي والحيات؟ وهناك من يقول: إن الدعوة إلى تنظيم النسل دعوة مرحلية وإننا إذا ذهبنا مع هذه الدعوة وفتحنا صدورنا لتقبلها بشروط وحدود معينة تقبلها الشريعة الإسلامية فإنها ستتحول في المستقبل لا محالة إلى تحديد النسل بصفة إجبارية موحدة وبطريقة لا تقبلها الشريعة الإسلامية بحال. وأمام هذه الشبهات وقف الشيخ أبو زهرة موقفا واضحا في المنع فقال (1) : (هل هنا علاقة بين هذه الدعوة إلى تحديد النسل أو تنظيمه وبين إسرائيل ومن استتر خلفها) ثم قال: (إنه لا يجوز منع النسل بالكل ولا يباح كأمر عام؛ لأنه يعارض قوله تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} أو {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} لذلك نعارض باسم الدين ولا نريد أن نقطع نسلنا ونقلل جمعنا ونعصي رسولنا ونكفر بقدرة ربنا الذي يرزق من يشاء بغير حساب وهو نفس الموقف الذي وقفه المجمع الفقهي الإسلامي بمكة (2) . في قراره في تحديد النسل حيث نص على: (أن تحديد النسل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله لعباده، ونظر إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين لتقليل عددهم بصفة عامة وللأمة العربية المسلمة والشعوب المستضعفة بصفة خاصة حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها والتمتع بثروات البلاد الإسلامية. لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر بالإجماع أنه لا يجوز تحديد النسل مطلقا ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق) .   (1) مقال لأبي زهرة في تنظيم الأسرة وتنظيم النسل نشر في مجلة الأزهر سنة 1966 (2) قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الثالثة سنة 1400 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 أما مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر فإنه لم يتعرض إلى الشُّبَهِ التي تحيط بتحديد النسل الجماعي واقتصرت الفقرة الثالثة من القرار على قضية تحريم جبر الناس على التحديد ونص الفقرة الثالثة (ولا يصح شرعا وضع قوانين تجبر الناس على تحديد النسل بأي وجه من الوجوه) ويوصي القرار في الآخر بتوعية المواطنين وتقديم المعونة لهم بصدد تنظيم النسل. أما الشيخ شلتوت (1) . فإنه يرى أن الشريعة الإسلامية لا تعجبها الكثرة الهزيلة ولا تقيم لارتفاع نسبتها في التعداد وزنا ولا يتخذ منها النبي الكريم مبعثا للمباهاة بها. ويرى عدد من العلماء المعاصرين (2) . أن عدد السكان لما أصبح يزيد زيادة مطردة مع نقص في الموارد الطبيعية لا تسير بنفس النسبة مما يخشى معه عدم القدرة على تحقيق المستوى اللازم لمستوى الفرد فإنه لا مانع شرعا عندهم من النظر في تنظيم النسل إذا كانت الحاجة تدعو إليه على أن يتم ذلك دون قهر أو قسر. إن الجزم بقيمة ومدى تدخل الدول الأجنبية في موضوع تحديد النسل يبقى موقوفا على قلة من الباحثين الذين اطلعوا على أسباب هذا التدخل؛ لأنه يتم في الغالب بطرق سرية ومقنعة. وفي انتظار الكشف عن ذلك للعموم لابد لنا أن نواجه بشجاعة ووعي ما قامت وتقوم به منظمات عالمية وأهلية من جهود كبيرة لخدمة تنظيم الأسرة وما عملته في هذا الميدان منذ عشرات السنين (الاتحاد العالمي لتنظيم الولادية) الذي أسس منذ سنة 1952 وقسم العالم إلى ثمانية أقاليم وكان أحد أقاليمه إقليم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ويضم البلدان الممتدة من أفغانستان حتى المغرب والسودان. وإدارة الإقليم تقدم لمعظم بلدان الإقليم المساعدات المادية والفنية الخاصة في حقل التدريب الطبي والفني لتحديد النسل (3) .   (1) الإسلام عقيدة وشريعة ص 220 (2) انظر الإسلام وتنظيم النسل مؤتمر الرباط (3) نشرة الاتحاد العالمي لتنظيم الولادية إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تونس سنة 1978 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 إن عمل هذا الاتحاد ينبثق من إيمانه بأن ممارسة طرق سليمة وفعالة لتنظيم الأسرة (سواء بمنع الحمل أو المباعدة بين الولادات) هو حق إنساني أساسي كما أن تحقيق التوازن بين سكان العالم وموارده الطبيعية أمر أساسي لتأمين السعادة والرفاهية والسلم للإنسان. والهدف البعيد لهذه المنظمة هو العمل لخلق رأي عام ملائم يشجع الحكومات على تبني خدمات تنظيم الوالدية ضمن خدمات الصحة العامة. وقد تقدمت هذه المنظمة العالمية وغيرها من المنظمات والهيئات التي تعمل في تنظيم الأسرة تقدما كبيرا في عملها هذا، ووجدت إقبالا كبيرا من شعوب العالم واهتماما بالغا ومساعدات متعددة من الدول والحكومات الإسلامية وغير الإسلامية. ويبدو أن بعض الحكومات الإسلامية قد تبنت فكرة تنظيم الأسرة قبل أن تتعرف على حكم الشريعة في ذلك واندفعت في تنفيذ مخططات الجمعيات العالمية والإقليمية العاملة على تنظيم الولادية حتى أصبحت هذه الحركة تشمل آلافا من مراكز تنظيم الأسرة مزودة بأطباء متخصصين في هذا الميدان من مختلف جنسيات العالم. وأصبحت عملية تنظيم الأسرة واستعمال وسائل الوقاية من الحمل معروفة لدى الخاص والعام وعلى الأخص لدى الطبقات الشعبية التي صارت تتردد على هذه المراكز زرافات ووحدانًا وتسعف في غالب جهات العالم الإسلامي بوسائل الوقاية المجانية غير مبالية بما يقول الشرع في هذا الموضوع؛ لأن حركة تنظيم الأسرة غزت المجتمع، والمجتمع استجاب لتوجيهاتها وطبق وسائلها. وفي الختام أدعو إلى إعداد دراسات موضوعية صحية واجتماعية واقتصادية وغيرها تحدد بدقة ما لعملية تنظيم النسل من إيجابيات وسلبيات ودراسات أخرى تكشف بوضوح نوايا الدول المتدخلة في هذا الميدان ودراسات وإحصائيات تبين ما قطعه هذا العمل في مختلف البلدان الإسلامية من أشواط منذ ولجتها فكرة تحديد النسل أو تنظيمه. وبذلك نستطيع أن نحدد من الآراء ما ينير طريق المؤمنين ويساعد على حل هذا المشكل في ضوء شريعة الله. والسلام مصطفى كمال التارزي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 تحديد النسل وتنظيمه إعداد الشيخ رجب بيوض التميمي عضو المجلس الوطني الفلسطيني وعضو مجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فكرة تحديد النسل وتنظيمه خلق الله الإنسان وجعله خليفته على الأرض، استخلفه لتعمير الأرض واشاعة الرخاء وعدم الإفساد فيها بإهلاك الحرث والنسل، وقدر الله في الأرض أقواتها تمهيدا لوجود البشر عليها، وطلب من البشر أن يمشوا في مناكبها، ويعملوا ليأكلوا من خيراتها التي أنعم الله بها عليهم. وأن الله جل وعلا الذي شاءت إرادته أن يعمر الأرض بالبشر لِيعلم أن هؤلاء يزدادون بأمره، ليتمكنوا من السعي في طلب الرزق والاستفادة بما على سطح الأرض وفى جوفها، وسخر لهم البحر علاوة على البر ليبتغوا من فضل الله، وكلما بحث الإنسان ونقب في البر والبحر، فإنه يكتشف موارد جديدة لم تكن في حسبانه، ولا تزال حتى يومنا هذا كثير من الأماكن غير معروفة للإنسان، وهى في حاجة إلى اكتشافها ومعرفة مقدراتها، كما أنه ستكون في حاجة أيضا إلى استغلالها والاستفادة من مواردها، وفي كل هذه الحالات يكون الإنسان محورا أساسيا، في البحث والتنقيب عن المصادر الطبيعية التي خلقها الله جل وعلا، كما أنه الأداة الرئيسية لاستخراج هذه المصادر والاستفادة منها. خلق الله الإنسان من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، يتناسلون ويتكاثرون ويزدادون، فطرة الله التي فطر الناس عليها، وسنته ولن تجد لسنة الله تبديلا. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) . وقال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} (2) .   (1) سورة النساء الآية 1 (2) سورة النحل الآية 72 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 من الأفكار السيئة الهدامة، والتي تخالف الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والتي غزانا بها الغرب، ليقضي بها على قوة المسلمين وعزهم ومجدهم؛ فكرة تحديد النسل، والتي يطلقون عليها أيضا فكرة تنظيم النسل وكلاهما بمعنى واحد والذي يقصد منها العمل على إضعاف الأمة الإسلامية، وتقليل عددها ليتمكن أعداء الإسلام من السيطرة على بلاد المسلمين، ونهب خيراتها، واستعمارها سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وتهافت على هذه الفكرة الخبيثة الملحدة من أبناء المسلمين، من يتبعونهم ويغترون بأفكارهم، دون فهم لمقاصدهم، وما يتربصون به من كيد للإسلام والمسلمين، مع أننا لو أمعنا النظر وتتبعنا ما يقوم به الغرب واقعيا، لوجدناه أنه حينما يروج لهذه الفكرة في البلاد العربية والإسلامية، يدعو إلى عدم تطبيقها في بلاده، ففي أمريكا: أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية الجنرال أيزنهاور في مؤتمره الثاني المنعقد في ديسمبر سنة 1959، أن حكومته لن تفكر في تحديد النسل في أمريكا مادمت في البيت الأبيض، ويقول الرئيس جونسون: أنه ما دامت الفرص أمام الأمريكيين في تزايد، فسوف تظل هذه الأمة تنعم بالخير والبركة، مهما وصل عدد أبنائها، قال هذا: عندما وصل عدد الشعب الأمريكي مائتي مليون نسمة، وأعلن الرئيس نيكسون تأييده لموقف أيزنهاور وطالب بمنع الإجهاض، وفي روسيا قالت صحيفة الديلي تلغراف: إن السلطات زادت الأموال المخصصة وامتيازات السكن للمتزوجين، كما شجعت النساء على إنجاب الأطفال، واشترطت لذلك إعطاءهن إجازات ولادة لمدة سنة مدفوعة الأجر، وفى اليونان: صرفت مكافأة شهرية ثابتة لكل أبوين عن الطفل الثالث، وفى بريطانيا: بالإضافة للإجازة المجانية والعلاوة التي تحصل عليها الأمهات، فإن كل مولود دون استثناء يحصل على علاوة طفل تستمر إلى أن يتخرج من المدرسة الثانوية، وفي فرنسا: صدر قانون سنة 1968 يجعل بيع وسائل منع الحمل ممنوعا، ويحرم الدعاية الإعلانية فيها، ويشترط شهادة طبيب لاستخراجها واستخدامها، وأعلن وزير الدفاع ميشيل دبريه: أن تحديد النسل يمثل خطرًا كبيرًا على مستقبل الدولة، وأنه بالتالي يجب على المرأة الفرنسية أن تعمل على زيادة النسل، كواجب قومي يحفظ لفرنسا كيانها كدولة كبرى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 هذه مواقف أمريكا وأوروبا والدول الغربية التي تروج في بلادنا فكرة تحديد النسل، حتى تعمل كما بينت على إضعاف الأمة الإسلامية، وتقليل عددها ليسهل عليها التغلب عليها، وقهرها سياسيا واقتصاديا والاستيلاء على خيرات بلادها ونهب مواردها، يقول فضيلة الشيخ حسنين مخلوف، المفتي الأسبق لجمهورية مصر العربية وعضو مجمع البحوث الإسلامية في فتواه في هذا الموضوع: وقد عثرت على رسالة وجهها أحد الرؤساء المسيحيين للأطباء منهم، يحذرهم من منع الحمل بين أبناء طائفتهم، ويدعوهم إلى منع ذلك بينهم منعا باتا، بينما يدعوهم إلى مساعدة من يريد التحديد والتنظيم إذا كان من المسلمين، أملا في أن يقل عدد المسلمين ويكثر عدد غيرهم من غير المسلمين، يقول فضيلته في فتواه: وهذا المنشور قرأته بنفسى منذ بضع سنين، وهو منشور سري كتبه هذا الزعيم المسيحى، ونشره بين أبناء ملته سرا، ليعمل به أطباؤهم وينفذوه حين يعرض عليهم الأمر، وخلاصته تقليل عدد المسلمين وتكثير عدد غير المسلمين، وبعبارة أخرى إضعاف المسلمين وتقوية غير المسلمين في مجال الحياة، والله لا يهدي كيد الخائنين - انتهى ما قاله فضيلته. إن من الواجب على المخلصين من أبناء الأمة الإسلامية، أن يقفوا بوعي وحسم وبجدية أمام المؤامرات الإمبريالية والصهيونية، التي تعمل على إخضاع المسلمين والاستيلاء على أقدس بقعة في بلادهم بعد المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوى الشريف بالمدينة المنورة، وهو المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، والقدس الشريف وفلسطين المباركة، إنه من الواجب على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن ينتبهوا ويفيقوا من غفلتهم ويرفضوا هذه الأفكار الخبيثة التي يروج لها أعداؤهم، والتي تؤدي إلى ضعف الأمة وانحلالها، وليعلم الذين يتبعون هذه الأفكار من أبناء الأمة الإسلامية، والترويج لفكرة تحديد النسل، أنهم يساعدون الصهيونية التي تعمل على إبادة الشعب العربي الفلسطيني، وإضعاف العالم العربي والإسلامي، والقضاء على كيانه بالتعاون مع أعداء العرب والمسلمين. إن العالم العربي والإسلامي، عالم متكامل يكمل بعضه بعضا، فقد يكون في بلد كثافة سكانية، وفي بلد آخر تقل الأيدي العاملة وتكثر الأراضي البور الصالحة للزراعة، ولذلك يجب أن ينظر إليه نظرة شاملة، بحيث تذوب الحواجز السياسية والمصطنعة، ويتكون من هذه الأوطان المتعددة عالم قوي متماسك، تتكامل فيه الثروة المادية والثروة البشرية والثروة الأدبية ويتبوأ بذلك مكانته اللائقة في هذا العالم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 إن العالم الإسلامي، لم يحقق وحدته الاقتصادية التي تجعل كل جزء من أجزائه عضوا في الجسد الإسلامي الكبير، بما يحقق التعاون بتنمية الثروة ومضاعفة الانتاج، ومن المؤسف حقا أن المسلمين اليوم يملكون ما يكفي لاستصلاح كل شبر من أراضيهم التي لم تستغل حتى الآن ولكن هذه الثروة توضع في بنوك أوروبا وأمريكا ويستفيد منها الصهيونية وأعداء الأمة، ويستغل هذه الثروة ويستفيد منها المتآمرون على عقيدتهم وحريتهم وبلادهم، وعلى كيانهم التقدمي والحضاري، وبالرغم من قيام منظمات إسلامية وعربية متخصصة في جوانب الاقتصاد، إلا أننا لم نر عمليا حتى اليوم التكامل الاقتصادي في البلاد الإسلامية والعربية، مع أنه يجب أن يعلم أن العالم العربي والإسلامي حين يستغل ثرواته الطبيعية، فإن ميزان القوى في هذا العالم سيتحول لصالحه، ويسير بخطى واسعة في طريق القوة والتقدم والازدهار، وليعلم الجميع أن واقعنا يلزمنا من الإكثار من النسل بعد أن تبين أن عالمنا العربي والإسلامي غني بثرواته الطبيعية، وفي حاجة إلى الأيدي البشرية لاستغلال هذه الموارد والاستفادة منها، ويجب أن يعلم أن قضية تحديد النسل قضية عقائدية، قبل أن تكون مخططا لتقليل عدد المسلمين وإضعافهم، فالقرآن الكريم يقرر أن الله سبحانه وتعالى تكفل برزق العباد، ولكن دعاهم إلى البحث والتنقيب عن مصادر الرزق واستغلالها استغلالا حسنا وعادلا قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (1) . أما الذين يدعون إلى الشرك والضلال والإلحاد يقولون: إن مسألة إيجاد الرزق خاضعة لعقل الإنسان وتخطيطه، ولا علاقة لها بالمسائل الإيمانية، ويزعمون من هذا المنطلق الإلحادي قائلين: إن تحديد أفراد الأسرة يرفع من مستوى المعيشة، ويساعد على التنمية القومية، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} .   (1) سورة الملك الآية 15 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 إن زيادة أفراد الأسرة وزيادة عدد الأطفال فيها، وإن كانوا يمثلون في أول عمرهم عبئًا على الأسرة، ويقللون من مستوى نصيب الفرد في الأسرة لأنهم يستهلكون المواد الاقتصادية فيها، وبالتالي تتدنى المستويات المعيشية لأسرهم، وللمجتمعات التي يعيشون فيها، إلا أنه من المشاهد في المجتمع أن الأسرة التي يزداد عدد أفرادها وأولادها، تحقق فوائد اقتصادية كثيرة من وراء استثمار الوالدين، والأسرة لأموالهم في تربية الأطفال وتعليمهم، ذلك لأن الأطفال إذا كبروا يعملون ويصبحون منتجين، ويكون إنتاجهم أثناء عملهم أكثر من استهلاكهم، وبذلك يتحقق الخير والبركة للأسرة والمجتمع، وإن تحديد النسل ما هو إلا نوع من أنانية الوالدين اللذين ينظران لمصلحتهما أكثر من مصلحة المجتمع الاقتصادية. إن الإسلام يأمرنا بالإكثار من النسل، ويحض عليه ويدعو إليه، فعن معقل بن يسار جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إنى أحببت امرأة ذات حسب ومنصب ومال، إلا أنها لا تلد أفأتزوجها؟ فنهاه ثم أتاه الثانية فقال له مثل ذلك ثم أتاه الثالثة فقال له صلى الله عليه وسلم: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم)) - رواه أبو داود والنسائي والحاكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 إن الذين يدعون إلى حركة تحديد النسل من المسلمين، لا يجدون في القرآن الكريم آية واحدة تؤيدهم في دعواهم، يحاولون أن يستدلوا على صحة فكرتهم بروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في بعضها الإذن بالعزل، إن احتجاجهم بالأحاديث النبوية الشريفة هو احتجاج غير صحيح، ذلك لأن العزل لم يكن شائعا بين المسلمين، ولم تقم فيهم حركة لتحديد النسل ومنع الحمل، وإنما كانت هناك ثلاثة أسباب، هي التي حملت على العزل نفرا من المسلمين، ويمكن أن نعرفها من الروايات الواردة في كتب الحديث الشريف في باب العزل، أولا: خشية أن تحمل الأمة، ثانيًا: خشية أن تستحق الأمة إقامة دائمة إذا صارت أم ولد، ثالثًا: خشية أن يتعرض الولد لنوع من الضرر إذا حدث الحمل في أيام الرضاعة. فهذه هي الأسباب التي من أجلها أحس نفر من الصحابة - منهم عبد الله بن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وأبو أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم - بحاجة إلى العزل في ظروف خاصة، وعملوه بحجة أنهم لم يجدوا في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية دليلا ينهى صراحة عنه، يقول جابر رضي الله عنه: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول في رواية أخرى: كنا نعزل والقرآن ينزل، ويقول في رواية ثالثة: كنا نعزل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل رواها البخاري ومسلم، فواضح من هذه الروايات، أن جابرًا ومن كان على رأيه من الصحابة، في إباحة العزل، لما لم يجدوا في نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة دليلا ينهى عن العزل صراحة، حسبوا ذلك دليلا على إباحته، يقول جابر رضي الله عنه في رواية أخرجها عنه الإمام مسلم في صحيحه: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه ذلك فلم ينهنا. أما الروايات الأخرى فقد جاء في بعضها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان سئل في هذه القضية، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أصبنا سبيا فكنا نعزل) . فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أو إنكم لتفعلون - قالها ثلاثًا - ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهى كائنة)) أخرجها البخاري ومسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 وفى رواية أخرى، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وساقيتنا وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، فقال: اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها. رواه مسلم، مع أن جماعة من الصحابة وغيرهم قد صح عنهم النهي عن العزل، يقول الإمام الترمذي في سننه: وقد كره العزل قوم من أهل العلم من الصحابة وغيرهم، وروى الإمام مالك في الموطأ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أنه كان لا يعزل وكان يكره العزل، والذى يمكن أن نستخلصه من الروايات التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لم تكن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم حركة عامة قائمة لدعوة الناس إلى تحديد النسل، ولا جاء أحد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليسأله عما إن كان له القيام بحركة مثل هذه، وكل ما في الأمر أن نفرا من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم جاءوا إليه على أحيان مختلفة، يعرضون عليه ظروفهم الشخصية المخصوصة، ويسألون عما إذا كان من المباح لهم كمسلمين في مثل هذه الظروف أن يعزلوا؟ والرسول صلى الله عليه وسلم في رده على سؤال بعض هؤلاء قد نهى عن العزل وفى رده على سؤال بعضهم عد العزل فعلا عبثا لا طائل تحته. كما أنه قد سكت في رده على سؤال بعضهم، إذ قال ما لا يمكن الاستدلال به على إباحة العزل، ونحن إذا لم نأخذ بالاعتبار إلا أقواله التي تدل على إباحة العزل فإنه يمكن الاستدلال بها على إباحة العزل للأفراد بصفتهم الفردية في ظروفهم الشخصية المخصوصة. ولا يمكن بحال من الأحوال أن يستدل بها على إباحة القيام بحركة شعبية عامة لمنع الحمل، أما الحركة الاجتماعية لتحديد النسل فهي متصادمة مع الإسلام في صميمه لأنها تؤدي إلى تناقض المجتمع وانخفاض أصحاب الكفاءات العلمية فيه، وإن استعمال الوسائل التي تؤدي إلى منع الحمل، قد تؤدي إلى إشاعة الفاحشة وانتشار الأمراض والفساد في الأرض، كما يولد استخدام هذه الوسائل الأنانية والانحلال لأنه يطلق العنان لشهوات المراهقين الذين يتحولون إلى حيوانات مفترسة، تتصارع مع بعضها لإشباع الغريزة الجنسية، ولا يمكن للدين الإسلامي الذي يرى في الزنا أبشع جريمة خلقية يستحق مقترفها أقصى العقوبات، أن يسكت عن معارضة حركة لابد أن تعرض المجتمع كله لخطر انتشار هذه الجريمة، كما أن الإسلام لن يسكت على هذه الدعوة، التي تقوم على الأثرة وحب الذات، وتسبب مزيدا من النقص في أعداد المسلمين المحاطين بالأعداء المتربصين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 إن موقف الإسلام من هذه الحركة الخبيثة لا يمكن أن يقبل تحديد النسل للأمة الإسلامية التي تريد لنفسها البقاء، وتعمل جاهدة في جميع الميادين، لتأخذ مكانتها اللائقة بها بين الأمم الأخرى، قوية عزيزة الجانب تسير في طريق التقدم والازدهار، كما أنه لا يقبله أحد من أبناء الأمة العاملين المخلصين لرفع شأن الأمة، ومن هنا جاءت الشريعة الإسلامية، على مبادئ القوة واتساع العمران وكثرة الأيدي العاملة والحث على الزواج، وامتن الله على الناس بنعمة الأولاد والحفدة كأثر من آثار الزواج قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} (1) . وقد طمأن الله النفوس على الرزق، وأن المائدة التي أعدها الله لعباده في ظاهرها وباطنها، لا يمكن أن تضيق عن حاجتهم، وحاجة نسلهم مهما تكاثروا وتزايدوا، وحاشا لله أن تضيق مائدته عن عباده، إن القيام بحركة تحديد النسل بشكل كلٍّ، وعلى مستوى الأمة بأسرها، حرام شرعا، ويحرم الإقدام عليه، كما تحرم الاستجابة له؛ لأن أي تقدم اقتصادي وعمراني رهن بكثافة النسل والسكان، وأن خيرات الأمة لا يمكن استغلالها إلا بازدياد عدد السكان، وأصبحت حاجتهم ماسة إليها؛ لأن ضغط السكان على الموارد يعمل في استغلال هذه الموارد لحاجة السكان إليها، وقد تكفل الله جل وعلا برزق المخلوقات، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} (2) . وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (3) . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (4) . وقال تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} (5) . وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (6) .   (1) سورة النحل الآية 72 (2) سورة العنكبوت الآية 60 (3) سورة هود الآية 6 (4) سورة الذاريات الآية 58 (5) سورة الشورى الآية 12 (6) سورة الحجر الآية 20، 21 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 إن المهمة التي يجعلها الله من وظيفة الإنسان بعد بيانه له حقيقة الرزق في هذه الآيات الكريمة هي أن يبذل الإنسان سعيه للبحث عن رزقه في خزائنه المبثوثة على وجه الأرض وفي باطنها وبمعنى آخر فإن الرزق من وظيفة الخالق، وأن البحث عنه من وظيفة الإنسان قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} . وعلى هذا الأساس ينعى القرآن الكريم في غير موضع من آياته الكريمة على الذين كانوا يقتلون أولادهم خشية الإملاق أيام الجاهلية. قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (1) . وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (2) . إن الذين يدعون لحركة تحديد النسل، إنما يدعون الناس لمنع زيادة الأفراد وتكاثر النسل، خشية الفقر كما كانوا في أيام الجاهلية، ويستعملون طرقا أخرى تحول دون الحمل، إنهم بدعوتهم الإلحادية يرتكبون جريمة خطر ضيق الأرض ونفاذ موارد الرزق، وهو الباعث لهم على الترويج لهذه الحركة لمنع زيادة السكان والنسل، إن الذين يدعون لهذه الحركة يخالفون الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وينكرون ما بينه الله عز وجل في الآيات الكريمة، بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ويعملون على تقويض أركان المجتمع، وإهلاك الحرث والنسل، ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون. وإن حركتهم ستبوء بالفشل لأنها قائمة على الإلحاد والدعوة إلى الفساد والله لا يهدي كيد الخائنين. إن منع الحمل إذا كان محددا بشئون فردية مخصوصة، قد يشعر فيها الزوجان بحاجة حقيقية إليه، نظرا لأحوالهما الخاصة، على ألا يكون منها الخوف على الرزق؛ لأن هذا يتصادم مع الشريعة الإسلامية في صميمها، ويشترط أن يفتي بجوازه عالم تقي من علماء المسلمين لصحة حاجتهما، مع ذلك لا يجوز لهما استعمال وسائل منع الحمل إلا عن طريق طبيب مسلم صادق، إذا كان منع الحمل بهذه الشروط يكون مباحا؛ لأنه لن يرجع على الحياة الاجتماعية بمثل تلك المضار التي تؤدي إلى الإخلال بالمجتمع وتنقيص النسل؛ لأن هذا المنع الفردي للحمل، يختلف عن الحركة الشعبية العامة المتصادمة مع الشريعة الإسلامية وتوجيهاتها وأحكامها.   (1) سورة الأنعام الآية 151 (2) سورة الإسراء الآية 31 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 ويجب أن يعلم أن الإجهاض بقصد تحديد النسل، أو استعمال الوسائل التي تؤدي إلى العقم، أمر لا يجوز ممارسته للزوجين، وأن الإجهاض قبل الأربعين وبعدها يكون حراما، إلا في حالة الضرورة العلاجية، وفقا للضوابط المقررة في الشرع وأن العقوبة المترتبة على جريمة الإجهاض عقوبتان: عقوبة دنيوية وعقوبة أخروية. وفى الختام: على المسلم رجلا كان أو امرأة، أن يتحرى الحلال، ويعمل به وأن يتقيَ الله وألا يتخذ من فساد المجتمع مبررا لارتكاب ما نهى الله عنه، وعلى الدول العربية والإسلامية أن تحارب فكرة تحديد النسل أو تنظيمه، محاربة تامة وصريحة وحاسمة، وعلى الدول العربية والإسلامية أن تعمل حظرا على بيع وسائل منع الحمل الحديثة، حفظا على الأخلاق والصحة العامة، وألا تسمح باستعمال تلك الوسائل إلا في الحالات العلاجية الضرورية، وأخيرا على الدول العربية والإسلامية أن تعمل على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية تطبيقا كاملا ومخلصا، في جميع مجالات الحياة حتى تكون الأمة الإسلامية كما أراد الله لها خير أمة أخرجت للناس تقود العالم إلى طريق الخير والعدل والرحمة. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. رجب بيوض التميمي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 تناسل المسلمين بين التحديد والتنظيم إعداد الدكتور أحمد محمد جمال عضو مجلس الشورى وأستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة أم القرى بسم الله الرحم الرحيم تناسل المسلمين بين التحديد والتنظيم. * عقيدة المسلم تمنعه من التحديد. * الدعوة إلى تحديد النسل: مكيدة استعمارية. * قلة السكان من أسباب الكساد!! * متى بدأت فكرة تحديد النسل؟! * المخاطرة الأخلاقية لعمليات التحديد! * الغربيون أنفسهم يعارضون دعوتهم. * تنظيم النسل في حالات فردية لا بأس به. أحمد محمد جمال أستاذ التفسير بجامعة أم القرى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 بسم الله الرحمن الرحيم تتعالى بين حين وآخر.. الدعوة إلى تحديد النسل بحجة تكاثر السكان وقلة الغذاء أو السكن، وخوفًا من حدوث مجاعة عامة، وتتردد - في الوقت نفسه - تحذيرات من بعض الساسة والزعماء العرب والمسلمين.. تؤكد أن وراء هذه الدعوة أغراضا استعمارية سياسية واقتصادية، هدفها الدول العربية والإسلامية. وهناك - في بعض المجتمعات - فكرة أخرى تطرح الدعوة إلى تنظيم النسل وبين الفكرتين أو الدعوتين فرق واضح. فالدعوة الأولى عامة شاملة أما الأخرى فهى محدودة وخاصة ببعض الأسر، تنفذها الأسرة من أجل إمكان تربية أطفالها وتعليمهم فترة بعد فترة، أو بسبب اضطرار الأم إلى الانتظار بضع سنين بين حمل وحمل. وفي الدراسة التالية للموضوعين، محاولة لبيان وجهة النظر الإسلامية حولهما وكشف مكائد الاستعمار الأجنبى اقتصاديا وسياسيا الموجه للعالم العربي والإسلامي من وراء الدعوة إلى تحديد النسل. وحسبنا في بداية بحثنا عن تحديد النسل - من الوجهة الشرعية - أن نذكر كفالة الله الخالق الرازق في قوله عز وجل تأنيبًا وتثريبا للجاهلين الوائدين لبناتهم. {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (1) . {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (2) . {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} (3) . {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (4) . وإلى جانب هذه الكفالة الإلهية الثابتة الخالدة برزق الخلق - يحث الإسلام في قرآنه وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي سيرة خلفائه وأصحابه على البحث والعمل، واكتشاف كنوز الأرض وثرواتها التي لا تنفد واستغلال خيراتها التي لا تغيض.   (1) سورة هود الآية 6 (2) سورة الذاريات الآية 58 (3) سورة الحجر الآية 20 (4) سورة الأعراف الآية 96 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 ففي التشريع الإسلامي: الكفالة الإلهية برزق الناس.. تأكيدا للقدرة، وتعميمًا للرحمة، وإغراء بالإيمان، وفيه الدعوة المكررة إلى العمل امتحانا للإنسان الذي وهبه الله العقل والسمع والبصر والجوارح، {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فهو عز وجل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (1) . ونستأنس بوجهة نظر العلامة الأستاذ علال الفاسي في كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها) يقول الأستاذ الفاسي ما خلاصته. (إن الدولة وذوى السلطة في الأمة الإسلامية ممنوعون من اتخاذ التدابير لقتل الأمة خوفًا من الفقر، وذلك كوأد الأجنة في بطون أمهاتها.. حتى لا تنمو الأمة، فلا تجد بزعمهم ما يسمونه بالمجال الحيوي. إن دعوات جاهلية تنتشر في الشعوب الكثيرة العدد كالصين والهند - ويقلدها في ذلك بعض الدول العربية والإسلامية - تحث على تحديد النسل وإجهاض الأجنة بعد تكوينها بدعوة ضرورة توافق عدد السكان مع مستوى الإنتاج الاقتصادى، وللاحتياط من الفقر والبطالة، لقد خلق الله لنا من عوالم هذه الدنيا وما فوقها وما تحتها، وإلى الآن لم يبلغ الإنسان في استنزاف خيراتها إلا القليل، ولم يبلغ من اكتشاف أسرارها إلا الأقل، فلماذا نضيع الوقت في البحث عن طريق تحديد النسل، وإبادة الخلق، وقطع حبل الإنتاج الإنساني لأوهام لا مبرر لها؟!) . (وليس في إفريقيا الآن إلا قدر ضئيل من السكان بالنسبة إلى مساحتها الكبيرة.. وما عليها الآن بعد أن تخلصت من الاستعمار الأجنبي إلا أن تبدأ كفاحها لإحياء أراضيها واستخراج خيراتها..) . (إن إجهاض الأجنة، واستعمال الأدوية لمنع النسل وتقليله بصفة جماعية ليس مما يتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية - وهو مما يدخل في غاية القرآن مما قصه علينا في وأد البنات عند العرب الجاهليين، والسبب الذي كان يحملهم على ذلك) .   (1) سورة الملك الآية 15 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 وهنا نحب أن نقف قليلا عند قول الأستاذ الفاسي: إن استعمال الأدوية المانعة للنسل أو تقليله.. بصفة جماعية لا يتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية - فنلفت الانتباه والتأمل لقوله (بصفة جماعية) !! فهذا هو الصواب في تحريم تحديد النسل أو تقليله: أن يكون بصفة جماعية تفضي إلى تناقص الأمة عددًا، وضعفها قوةً، وقلة أبنائها ورجالها الذين يعملون لتقدمها وتطورها علميا واقتصاديًا، ويدافعون عن مصالحها ومنافعها سلمًا، وعن حماها وبيضتها (1) . إذا أريدت بحرب أو عدوان. ونتأمل هنا زجر الله عز وجل لخلقه من وأد بناتهم كما كانوا يفعلون في الجاهلية مخافة الفقر حاضرًا ومستقبلًا، مع وعده تبارك وتعالى بأنه الكفيل برزقهم وبرزق أولادهم: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (2) . {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (3) . وللعلامة الأستاذ أبي الأعلى المودودي رأى في الدعوة إلى تحديد النسل يقول سماحته: (إن هؤلاء المتعاقلين - يقصد دعاة تحديد النسل - لا يعرفون أن الله عز وجل قد خلق كل شيء في السماوات والأرض بمقدار كما قال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وأنه لا يصدر شيئًا من خزائنه إلا بقدر معلوم: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} فمهما يكن من ظن هؤلاء القوم بالله وبأنفسهم، فإن الحقيقة التي لا تقبل الجدل هي أن الله الذي خلق هذا العالم وأبدع نظامه المحكم ليس بجاهل، ولا بطالب مبتدئ لفن الخلق والتنشئة، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} - كما أن خلق السكان في العالم أو في بلد من بلاده عز وجل، ثم الزيادة والنقصان في عددهم وتهيئة الأسباب لبقائهم - مما يتعلق بحكمته ونظامه وحده: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} - {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} - {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} .   (1) بيضة كل شيء: حوزته وبيضة القوم: ساحتهم (2) سورة الأنعام الآية 151 (3) سورة الإسراء الآية 31 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 وعلى هذا الأساس يزجر القرآن الذين كانوا يقتلون أولادهم خشية الإملاق - أى الفقر - أيام الجاهلية، وكان زجرهم عن ذلك لارتكابهم جريمتين: الأولى أنهم يقتلون أولادهم، والأخرى أنهم يرون في ولادتهم سببًا لفقرهم وبؤسهم) . ويضيف الأستاذ المودودي: أن هناك عشرات الكتب التي طبعت في الغرب، ومهمتها أن تبالغ كل المبالغة في عرض مشكلة زيادة السكان في الشرق وتقترح على أساسه اتباع خطة تحديد النسل، ومنع الحمل - كحل ناجح لهذه المشكلة، وإن مكتبات البلاد الغربية مليئة بمثل هذه الكتب وهى تؤثر في حكومات الغرب بصفة مستمرة، كما أن السلوك العملي للقوى الاستعمارية يوثقها توثيقًا. تآمر استعماري على العالم الإسلامي: ويثبت الأستاذ المودودي ما يقوله باعتراف لبعض المفكرين الغربيين أمثال فرانك نوتيسين - وأرنولد قرين - وآثر كورماك -: بأن التقدم العلمي والفني قد وصل أيضًا إلى البلاد التي يتزايد عدد سكانها بسرعة فائقة!! وأن سيادة أوروبا تتوجس خطرًا سياسيًا شديدًا من تزايد السكان في العالم الإسلامي، وأن أمريكا تشعر بقلق من تغير الأحوال في آسيا وأفريقيا على أساس زيادة السكان بحيث يصبحون أغلبية في العالم. وهناك مخاطر قلة السكان العرب في ديارهم الواسعة ذات الخيرات والبركات الكثيرة، ومساعي إسرائيل إلى مزيد من تهجير اليهود في العالم الشيوعي إليها لتوطينهم واستعمار الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967 م لقد تحدث الدكتور أحمد زكي عن هذه المخاطر والأطماع اليهودية، وعن إسرائيل وانتصارها مع قلتها على العرب وكثرتهم فقال: إن ما حدث لم يكن من قوة الصهاينة ولكن من ضعف العرب، وقال أيضا: هناك أطماع في الوطن العربي تثيرها قلة السكان مع كثرة الخير. ثم قال: إن زيادة السكان لا نقصهم يجب أن تكون سياسة العرب، على شرط ألا ينتجوا الأنسال للعري والجوع ولكن للرزق الحلال، من العمل النافع، بعد التخطيط له، ثم كرر الكاتب: القول: بأن قلة السكان مع كثرة الخير تحرك الأطماع، ذلك أن بعض مناطق الوطن العربي قد تصبح في أي وقت موضعًا لأطماع تغزوها من الخارج لكثرة خيرها، مجتمعًا هذا إلى قلة سكانها، وضعف الدفاع عنها بناء على ذلك. وهو لا يعني (بالخير) الزيت وحده. وإنما يعني: الأرض الطيبة، والماء الوفير (1) .   (1) كان الدتور أحمد زكي - رحمه الله رئيسا لتحرير مجلة (العربي) التي تصدر في الكويت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 أشار الكاتب إلى أحاديث سبقت له مع بعض اليهود في لندن، صرحوا فيها أنهم لا يهدفون إلى سيناء ولا إلى النقب، ولا إلى الأردن الشرقي، فهي عندهم مناطق صحراء غبراء ولكنهم يهدفون إلى أبعد من ذلك وأخطر من ذلك، وأمرع نباتا وأكبر محصولًا، وأكثر ثمرًا، وأقل رجالًا، بل حيث لا رجال. وقد نشر إلى جوار كلامه هذا خريطتين وضعتا على قاعة المحاضرات في لندن مع دعوة للناس إلى الاستماع إلى محاضرة عنوانها (معجزة العودة - الإسرائيلية إلى الشرق الأوسط) الخريطة الأولى تصور إسرائيل في وضعها الحاضر - والثانية تصورها وهى تغطي جزيرة العرب كلها! وأضاف قوله: إنه إذا لم تكن سرعة النسل بمسعفة فما بال الهجرة من مكان فيه كثرة إلى مكان فيه قله؟؟ نعم هجرة عرب إلى أرض عربية ينزلون فيها ليعملوا في حرث وبذرٍ وجمعٍ وحصاد. قلت: إنه نذير صارخ للزعامات العربية: أن تصحو.. وأن تفكر وأن تعمل وأن تتعاون على الحرث والزرع وتكاثر النسل وبذر الخير للأبناء قبل أن يهجم الأعداء. ومن عجائب الصدف ومحاسن الاتفاق: أن أقرأ في نفس الوقت في كتاب (وجهة الاقتصاد الإسلامي) لجاك أوستروي - رأيًا للمستشرق الفرنسي المعروف لويس ماسنيون يقول فيه: (إن الدراسات البشرية تدل أن سكان البلاد الإسلامية هم من الشباب في ذروة النشاط والأمل، ولن يتركوا إلى ما لا نهاية نظام استغلال بلادهم عن طريق الوصاية. إن هؤلاء الشباب سيصلون إذا عملوا إلى استعادة ثرواتهم الطبيعية من أرض زراعية، ومطاط، وقصدير، ومنغانيز وبترول إلخ) . وقد علقت على هذا الرأى بالعبارة التالية: إذن فالدعاة إلى تحديد النسل في بلادنا العربية والإسلامية، وأصحاب صناعات أدوية منع الحمل: مدسوسون لمنع هذه (اليقظة) الإسلامية ومنع نهوض الشباب الإسلامي لاستراداد حقوقه واستغلال ثروات بلاده الغنية المعطاء! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 قلة السكان سبب للكساد: ولعلماء الاقتصاد الحديث وجهة نظر مضادة لفكرة تحديد النسل، فإنهم يرون أن قلة السكان أقوى أسباب الكساد الاقتصادى لأنه بانخفاض عدد المواليد يقل عدد السكان المستهلكين للسلع المنتجة، مما تفشو به البطالة بين السكان المنتجين، بقلة الطلب على المواد المنتجة، الأمر الذي يضطر أصحاب المصانع لتسريح عدد كبير من العمال، ومن هنا يطالب علماء الاقتصاد المعارضون لفكرة تحديد النسل بزيادة السكان، لضمان استهلاك الإنتاج واستبقاء العمال في مصانعهم. ويؤكد فريق آخر من علماء الاقتصاد الحديث: بأن زيادة السكان في العالم أو في منطقة خاصة منه، ليس معناها زيادة الأفواه الآكلة فقط، بل تعني زيادة الأيدي العاملة أيضًا: وذلك أن للإنتاج ثلاثة أسس: الأرض - والمال - والإنسان هو أهم هذه الأسس وأخطرها ومن المؤسف: أن دعاة تحديد النسل يرون في زيادة السكان عاملًا استهلاكيًا ويصرفون نظرهم جهلًا وعنادًا عن كون هذه الزيادة عاملًا مهما للإنتاج! ولا أدل على صدق وجهة نظر هؤلاء الاقتصاديين - من اهتمام فرنسا بانخفاض نسبة تزايد سكانها - في عام 1967 وتكوينها فرق عمل لدراسة ما يمكن القيام به لحث الأزواج على إقامة أسر متعددة الأفراد أكثر مما هو موجود الآن. كذلك ليس أدل على كذب الدعوى بأن الإنتاج الغذائي في العالم أقل من كفاية سكانه المزايدين عامًا بعد عام - مما أثبته تقرير منظمة الزراعة والأغذية التابعة لهيئة الأمم المتحدة - لسنة 1967 - من أن إنتاج المواد الغذائية في العالم ارتفع بنسبة 3 % وفى البلدان النامية ارتفع الإنتاج إلى 6 % ولم يرتفع عدد السكان في السنة ذاتها إلا بنسبة 2 % - وكانت المحصولات الزراعية غزيرة في أوروبا الغربية وأوروبا الوسطى وأمريكا وأمريكا الشمالية والشرق الأدنى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 وهناك واقع مرير للسياسة الأمريكية والأوروبية الاقتصادية.. وهى قذف آلاف الأطنان من الحبوب والبيض والفواكه في المحيطات والبحار، لأنها زائدة عن حاجة الأسواق العالمية التي تصدر إليها أمريكا وأوروبا إنتاجها الغذائي، ولو كان لهؤلاء الناس المستعمرين كما يزعمون بعض المشاعر الإنسانية لتصدقوا بهذا الفائض من إنتاجهم على الجياع في أفريقيا من شيوخ ونساء وأطفال. وهكذا تبطل حجة المنادين بتحديد النسل، وتسقط دعواهم بأن الإنتاج الغذائي لا يكفي سكان العالم. ومن العجيب المريب: أنه في الوقت الذي ينادي فيه بعض الخبراء الاقتصاديين الغربيين الذين تبعثهم بعض الدول الكبرى - تحت ستار المساعدات الاقتصادية لبعض دول أفريقيا - بضرورة التشجيع على زيادة السكان الأفريقيين لأن بلادهم حديثة عهد بالاستقلال السياسى والتنمية الصناعية ولأن الإنتاج الاقتصادى يحتاج إلى أيد عاملة وفيرة - في هذا الوقت بالذات يكرر المستر (مكنمار) مدير البنك العربي الدولي الذي يتولى إعطاء القروض الربوية لتلك الدول الأفريقية المتطلعة إلى الازدهار الاقتصادي - يكرر الدعوة في تقرير له - عام 1969 - إلى المسارعة لحل مشكلة زيادة السكان في هذه الدول، ويصفها بأنها أكبر عائق للتقدم الاقتصادى والاجتماعى لأغلبية شعوب العالم غير المتطور! وتكرار (مكنمار) لدعوته إلى مقاومة زيادة السكان في الدول الشرقية النامية برهان جديد على أهداف الغرب الاستعمارية من وراء فكرة تحديد النسل، وقد بدأ التخطيط لتحقيق الفكرة منذ رحل الاستعمار الغربي العسكري والسياسي عن بلدان الشرق في آسيا وأفريقيا، حيث لاحظ الغرب المستعمر زيادة عدد السكان المستمرة بين الشرقيين، وتعذر بقائهم محكومين أبدًا للغربيين، وبخاصة بعد تدرب الشرقيين على الآلات الميكانيكية وإلمامهم بالعلوم الفنية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 بدء الدعوة إلى تحديد النسل: واستتمامًا للحديث عن فكرة تحديد النسل نرى أن نذكر منشأها أو ابتداءها التاريخي، لقد بدأت فكرة تحديد النسل في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وكان أول الدعاة إليها الاقتصادي الإنكليزي المعروف مالتوس فقد رأى أن سكان بريطانيا في عهده يتزايدون بصورة غير عادية، وأنه لابد لكى يحافظ الشعب البريطاني على سعة عيشة ورخائه المادي، ورفاهه الاقتصادي: أن يكون ازدياد عدد سكانه متمشيًا مع ازدياد موارد الرزق ووسائل المعيشة في بريطانيا. والطريق التي اقترحها (مالتوس) لتحديد النسل هي أن لا يتزوج الأفراد إلا بعد أن تتقدم بهم السن، وأن يحاولوا التغلب على أهواء النفس وكبت نزواتها في الحياة الزوجية إذا تزوجوا. وبعد مالتس الأنكليزي ظهر فرانسيس بالاس الفرنسي، ودعا في فرنسا بضرورة الحد من تزايد السكان، وكان رأيه الذي تقدم به لتحقيق هذا الغرض هو استخدام الآلات والعقاقير. ثم قام في أمريكا الطبيب الشهير تشارلس نورتون وأصدر كتابه (ثمرات الفلسفة) الذي شرح فيه التدابير الطبية لمنع الحمل، وأشاد فيه بذكر المنافع الاقتصادية لتحديد النسل. وقد تأسست في بريطانيا - على إثر ذلك جمعية برئاسة الطبيب دريسديل، وأصدرت كتبًا ورسائل للحث على تحديد النسل، وبعد ذلك بسنين ظهر كتاب (قانون عدد السكان) للسيدة بيسانت وفى سنة 1881 م وصلت حركة تحديد النسل إلى هولندا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا، وانتشرت شيئا فشيئًا في سائر البلاد المتحضرة في أوروبا وأمريكا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 ويرى الأستاذ المودودي: أن انتشار هذه الحركة في أوروبا وأمريكا كان لأسباب غير الذي دعا من أجله مالتوس وإنما جاء نجاحها نتيجة للنهضة الصناعية الجديدة والنظام الرأسمالي والحضارة المادية السائدة اليوم في الغرب، فقد هجر سكان القرى والأرياف مزارعهم إلى المدن للعمل في مصانعها ومعاملها، واتسعت حاجات الحياة، وغلت تكاليفها غلاء فاحشا ضاق به أصحاب الدخل المحدود، حتى عجز الآباء عن تربية أولادهم، والأزواج عن رعاية زوجاتهم والشباب عن كفالة آبائهم وأمهاتهم الشيوخ، واضطرت النساء أن يكفلن أنفسهن بعملهن فخرجن من بيوتهن لكسب المعيشة. بذلك بطلت القسمة الفطرية القديمة في باب الاقتصاد التي كان بموجبها: أن يكدح الرجال لكسب المعيشة، وأن يتولى النساء تربية الأولاد، وإدارة شؤون المنزل الداخلية، وإذا كان على المرأة أن تعمل كالرجل لتؤدي نصيبها من نفقات الأسرة المشتركة فأنى لها أن تستعد لإنجاب الأولاد، وأن تقوم برعايتهم كما ينبغي! وإن نعجب من نجاح فكرة تحديد النسل لسبب غير السبب الذي من أجله دعا الدعاة إلى تحقيقها وهو تقليل عدد السكان ليتفق مع مقدار الموارد والوسائل الاقتصادية الممكنة. .. فعجب آخر: أن يكون رواج هذه الفكرة بين الأغنياء والطبقات المتوسطة.. التي لا تشكو فقرًا ولا نقصًا في مواردها الاقتصادية، فالعمال الفنيون من ذوي الرواتب الضخمة، وأرباب التجارة والصناعة، والمثقفون ثقافة عليا، ورجال الرفاهية الاقتصادية من الطبقة الوسطى والأغنياء والمترفون من الطبقة العليا - هم المؤيدون لهذه الحركة والعاملون على تحديد نسلهم كما جاء في تقرير اللجنة الملكية لإحصاء السكان في بريطانيا، وظلت طبقة العمال والفلاحين يتزايد عدد أفرادها في مقابل انخفاض عدد الأغنياء والمثقفين. وقد أكد ذلك الفيلسوف البريطاني برترا ثدراسل - في كتابه (مبادئ الإنشاء الاجتماعي) فقال: إن الطبقات التي يقل أفرادها هم المثقفون والأغنياء والأذكياء.. بينما يتزايد عدد أفراد طبقات العمال والأغبياء والجبناء، وحذر راسل من انحطاط مستوى الذكاء والقوة والنشاط والثقافة وطالب بتغيير النظام الاقتصادي والمستوى الأخلاقي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 المخاطر الأخلاقية للتحديد: ومن عجائب آثار حملة تحديد النسل - غير ما تقدم - أن أدوية ووسائل منع الحمل يسرت طرق الفواحش الخلقية. ولم تعد المرأة تخشى فضيحة بسبب حملها إذا ما رغبت في تلبية نزعاتها الجنسية بغير وسيلة الزواج. وبخاصة حين تقوم العقبات الاقتصادية الكثيرة في طريق تأسيس بيت الزوجية، وتتبع الفواحش الخلقية الميسرة - عادة - الأمراض التناسلية الخبيثة المعروفة.. وللأستاذ المودودي تعليق لطيف حكيم، على هذه الناحية الخلقية من نتائج تحديد النسل، يقول سماحته: (إن هناك أمرين لا ثالث لهما يثبتان النساء - بعد خشيتهن لله - على جادة الأخلاق.. وهما حياؤهن الفطري، وخوفهن من أن ولد الزنا يفضحهن في البيئة، أما الحاجز الأول فقد أزاحته المدنية الجديدة إلى حد كبير، فأنى للحياء أن تبقى منه باقية بعد الاختلاط العلني بين الرجال والنساء في محافل الرقص والغناء والخمر وسواحل البحار والمسابح والملاهي، وأما الخوف من ولادة ولد الزنا فإن رواج وسائل تحديد النسل قد جعله أيضا أثرًا بعد عين، وشيئا يمت إلى الماضي لذلك أصبح النساء والرجال جميعا كأنهم قد نالوا إجازة عامة باقتراف الزنا) !! ومن ثمرات تحديد النسل كثرة حوادث الطلاق، وقد أسلفنا أن الفكرة راجت في أوروبا بين طبقات الأغنياء والمثقفين أكثر من رواجها بين الفقراء. والحقيقة أن هناك علاقة واضحة بين الطلاق والحياة الزوجية الخالية من الذرية التي من شأنها أن تشد من رباط الزوجين، كما يقول بارنيس وريودي في كتابهما: (الأسلوب الأمريكى للحياة) ويقرران أن الأزواج والزوجات الذين يطالبون بالطلاق ثلثاهم ممن لم يرزقوا أطفالا. وهنا نقف مليا لنتأمل هذه الحقيقة الإنسانية واضحة بينة في كتاب الله المجيد: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . وهكذا أوهنت بدعة تحديد النسل العلاقات الزوجية بين سكان البلاد الغربية - كما يقول الأستاذ المودودي - وقد أثبت سماحته في كتابه: (حركة تحديد النسل) آراء ونظريات أعلنها مفكرون غربيون حذرا من مخاطر التحديد، وقلة الذرية، وفشو الطلاق بين الأزواج وزيادة عدد الوفيات من الكبار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 الغربيون أنفسهم يعارضون التحديد: وحين تجلت الآثار السيئة لبدعة تحديد النسل من: - رواج الفكرة بين الأغبياء والمثقفين، عكس ما كان يراد لها. - وزيادة نسل الفقراء والأغبياء. - وتفشي الزنا وما يصحبه من الأمراض الخبيثة. - وكثرة حوادث الطلاق بسبب فقدان الذرية. - وزيادة عدد الوفيات من الشيوخ على عدد المواليد من الأطفال.. قام عدد من المفكرين ونادوا بخطأ الفكرة وخطرها وأثرها السيء في مستقبل الأسرة والمجتمع في أوروبا وأمريكا. من هؤلاء (ليندليس بال) الذي قال في كتابه (المشاكل الاجتماعية) : إن مالتوس لو كان حيا لما وسعه إلا الشعور بأن الإنسان في الغرب قد رمي إلى أبعد من اللازم بسبب تحديده للنسل، بل الحقيقة أنه أثبت أن نظرة قصير جدًا.. بشأن التفكير في حفظ مستقبل حضارته. ويضيف ليندليس بال: أن عدد سكان فرنسا وبليجكا قد قل من وقت لآخر؛ لأن الوفيات فيهما تزيد على المواليد، ولكن البقية الباقية من الأمم الصناعية المتحضرة في الغرب يواجهها أيضا هذا الخطر، وفى أمريكا نفسها قال علماء الإحصاء إن خطر قلة السكان سيتحول إلى حقيقة ثابتة بعد جيل واحد فقط. ويقول الأستاذ (كول) مؤلف كتاب (توجيه الرجل الذكي بعد الحرب) (ليست قلة السكان حلًا لمشكلة البطالة في بلادنا كما أنه من المحال أن يرتفع بها مستوى معيشة بقية السكان وستكون مؤثراتها الاقتصادية سيئة للغاية.. إذ لابد بسببها أن ترتفع نسبة العجائز فيضطر المنتجون إلى تشغيل المتقاعدين لكل ذلك علينا أن نستعين بكل طريق ممكن لمواجهة خطر قلة السكان) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 ويقول سوروكون في كتابه (الثروة الجنسية في أمريكا) من قانون الفطرة أن أية أمة إذا لبت نداء شهواتها النفسية، وانقطعت إلى التشرد الجنسي غفلت عن إنجاب الذرية وتخليد النسل، وحسبت الأطفال عائقا في سبيل حريتها ولذاتها ورخائها الاقتصادى - وهو سلوك معاد لقانون الفطرة وبه يقل عدد أفرادها ثم ينحط ويتردى حتى لا تستطيع قضاء حاجاتها اللازمة، ولا تقدر على الاحتفاظ بشخصيتها المستقلة، ولا أن تدافع عن نفسها.. وهذا هو الانتحار! وقد قامت لجان في بريطانيا وفرنسا وأمريكا لدراسة النتائج التي ترتبت على فكرة تحديد النسل، وما لوحظ من نقص المواليد وزيادة الوفيات، ووضعت هذه اللجان تقاريرها المدعمة بالأرقام والحقائق الإحصائية، ودعت بمنتهى الصراحة إلى العمل على زيادة عدد أفراد كل أسرة بنسبة 25 % على الأقل وحذرت من خطر النقص المتزايد في هبوط نسبة الولادة القومية، وأوصت هذه اللجان بمنح الأسر مكافأة مالية على قدر ما يكون لديها من أطفال، وأن تخف وطأة قانون الضريبة على المتزوجين الآباء وتشتد على غير المتزوجين، وأن تبنى على نطاق واسع بيوت تشتمل على أكثر من ثلاث حجرات للنوم.. كل ذلك تشجيعا على الزواج والولادة ومقاومة لخطر قلة التناسل التي نشأت من فكرة التحديد. وكذلك كانت الحال بالنسبة لألمانيا، وإيطاليا، والسويد، فقد شجعت هذه الدول جماهير شعبها على التناسل بعد أن سبق لها تطبيق فكرة التحديد ورأت من أخطاره ما رأت - فقد أصدرت ألمانيا قانونا لتحريم منع الحمل، وترويج طرقه وأخرجت النساء من المعامل والمصانع، وبذلت القروض لتشجيع الزواج والنسل، وكذلك أصدرت إيطاليا والسويد قوانين مماثلة أو شبيهة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 تنظيم النسل في حالات فردية: أما إذا كانت هناك أسباب صحية تدعو إلى وقف التناسل في حالات فردية خاصة.. كأن تكون الأم لا تقوى على الحمل المتواصل لضعفها أو مرضها، أو أنها تحتاج عند كل وضع إلى شق بطنها لإخراج الجنين منه، وهو ما يفضي بها مع التكرار إلى ضرر شديد أو موت مؤكد، وما يشبه ذلك من أخطار وأضرار فردية.. فإن التشريع الإسلامي - في أصوله وقواعده الحكيمة الرحيمة - يأمر بمنع الضرر من ناحية، ويبيح المحظور للضرورة من ناحية أخرى. وهناك مسوغ آخر لتنظيم فترات النسل (أو الحمل) وهو رغبة الأبوين في إحسان تربية كل مولود ورعايته حتى يبلغ السادسة من عمره فيدخل المدرسة، وتتفرغ الأم عندئذ لمولود جديد.. ففي هذا الانتظار بين طفل وطفل - لا شك - مصلحة ظاهرة للآباء والأبناء معا. وقد جاءت بعض الآثار عن الصحابة الأجلاء رضي الله عنهم أنهم كانوا يعزلون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينههم عن (العزل) وإنما وجههم وجهة إيمانية يقينية بأن الله تبارك وتعالى إن يشأ يثبت الحمل مهما عزلوا أو يمنعه مهما اتصلوا فهو القادر على كل شيء وهو الفعال لما يريد. وهذه (القدرة والمشيئة) اللإلهيتان المطلقتان اللتان لفت الرسول عليه الصلاة والسلام إليهما أصحابه الذين كانوا يعزلون عن نسائهم طلبا لعدم الحمل - ما زالتا تتجليان على مدى الدهر فنحن نرى ونسمع أن امرأة تستعمل الأدوية المانعة للحمل فتحمل رغم أنفها وأنف زوجها، وأن أخرى لا تستعملها ولا تحمل على كره منها ومن زوجها، وصدق الله القدير الحكيم فيما قال - عز وجل -. {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (1) . على أنه يجب أن نلاحظ أن العزل الفردي الذي كان يمارسه الصحابة إنما كان لأسباب فردية ومؤقتة منها: خشية أن تحمل الأمة، أو خشية أن تستحق الأمة إقامة دائمة إذا صارت أم ولد أو خشية أن يتعرض الرضيع للضرر إذا حدث الحمل أثناء الرضاعة.   (1) سورة الشورى الآية 49، 50 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 وللإمام الغزالي - في كتابه (إحياء علوم الدين - رأي في تنظيم النسل - يقول: قد يكون الفقر من دواعي تأخير الحمل خوفا من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد، للاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب، ودخول مداخل السوء، وهذا غير منهي عنه فإن قلة الحرج معين على الدين وإن كان الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله حيث قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (1) . كما أن هيئة كبار العلماء في السعودية أصدرت بتاريخ 13/4/1396 ورقم (42) فتوى أباحت فيها تأخير الحمل لفترة ما لمصلحة يراها الزوجان عملا بما جاء في الأحاديث الصحيحة وما روي عن جمع من الصحابة من جواز العزل وما صرح به بعض الفقهاء من جواز شرب الدواء لإلقاء النطفة قبل الأربعين. ودين الله عز وجل يسر، وما جعل الله على عباده من حرج ورحمته واسعة وفضله كبير. وبعد.. فخلاصة البحث يتقرر بها أمران: الأول: أن تحديد النسل، بأية وسيلة من وسائل التعقيم، مخافة الحاجة أو الفاقه حاضرا أو مستقبلا - لا يقره الإسلام؛ لأن الأرزاق والأعمار بيد الله، وهو الوكيل عليها، والكفيل بها ولا يليق بالعبد المؤمن بالله أن يشك في ذلك. الثاني: أن تنظيم النسل.. أى جعله فترة بعد فترة من أجل إتاحة الفرصة للأم أن تتمكن من تربية طفلها الأول ولترتاح نفسيًّا وجسديًّا من متاعب الحمل والوضع والرضاعة بصورة متتابعة، ومن أجل إتاحة الفرصة للأب أيضًا أن يهيئ أطفاله واحد بعد الآخر للدراسة والتعليم - هذا التنظيم أرى فيما أعتقد أنه جائز لا يمنعه الإسلام.. لأنه يستهدف مصلحة الأبوين وأولادهما معا.. والله أعلم. أحمد محمد الجمال   (1) سورة هود الآية 6 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 تنظيم النسل وتحديده إعداد الشيخ محمد بن عبد الرحمن مفتي جمهورية جزر القمر الاتحادية ومستشار الرئيس للشئون الدينية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد ... فهذا بعض من فتاوى الفقهاء وأسانيد بحوثهم في موضوع تنظيم النسل وتحديده نقلتها وجمعتها لتكون ضوءًا لزملائي الذين سيشاركون في مناقشة تنظيم النسل وتحديده في الدوره الخامسة لمجمع الفقه الإسلامي والله وحده المستعان. اختلف الفقهاء قديمًا وحديثًا في جواز منع الحمل وتحريمه على أربعة آراء: الرأي الأول يرى الإمام الغزالي ومن وافقه أن الولد حق لوالده وحده فله إن شاء أن يحصله وله إن شاء أن لا يحصله، وبناء على ذلك يقول الغزالي: يباح للزوج وحده منع الحمل وعلل ذلك بأن النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص، ولا نص في الموضوع ولا أصل يقاس عليه، بل عندنا في الإباحة أصل وهو ترك الزواج أصلا، أو ترك المخالطة الجنسية أو ترك التلقيح بعد المخالطة فإن كل ذلك مباح وليس فيه إلا مخالفة الأفضل، فليكن منع الحمل بالعزل وما يشبهه مباحًا كما أبيح ترك الزواج وترك المخالطة. . . إلخ (1) . الرأي الثاني يرى الحنفية أن حق الولد مشترك بين الوالدين، وبناء على ذلك قالوا: إن منع الحمل مباح بشرط أن تأذن فيه الزوجة لاشتراكهما في حق الولد، قال صاحب الهداية، ولا يعزل عن زوجته إلا بإذنها لأن تحصيل الولد من حقها، وللكمال ابن الهمام وغيره من علماء الحنفية مثل هذا وقال علماء الحنفية: هذا هو أصل المذهب، ولكن المتأخرين أفتوا في زمانهم بجوازه لأحد الزوجين بغير رضا صاحبه إذا خيف على الولد السوء لفساد الزمان، وهذا مبني على قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان (2) .   (1) الإسلام شريعة وعقيدة للشيخ محمود شلتوت ص 220 (2) الإسلام شريعة وعقيدة للشيخ محمود شلتوت ص 220 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 الرأي الثالث يرى جمهور العلماء من فقهاء الأمصار أن منع الولد مكروه نظرًا لحق الأمة فيه، قالوا: قد رويت كراهته عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم؛ لأن فيه تقليل النسل، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الزواج تكثيرًا للنسل، فقال: ((تناكحوا تكثروا)) وقال ((سوداء ولود خير من حسناء عقيم)) . هذا رأيهم في منع الولد من جهة حق الأمة فيه أما من جهة حق الزوجين فأفتوا بالحرمة إذا عزل الرجل بغير رضا زوجته، وقالوا جميعًا إذا دعت إليه حاجة مهمة في نظر الشرع جاز من غير كراهة، وقد مثلوا لتلك الحاجة بأن يكون الزوجان في الجهاد ويخاف على الزوجة أن يضعفها حملها مع مشقة السفر والجهاد، أو يخاف أن يولد لهما ولد في دار الحرب وليس عندهما من وسائل الراحة والصحة ما يطمئنان به، ومن أصحاب هذا الرأى موفق الدين بن قدامة الحنبلي ومنهم الإمام النووي الشافعي المتوفى سنة 676 (1) . الرأى الرابع يرى جماعة منهم ابن حبان وابن حزم، تحريم منع الولد مطلقًا، وقد غلب على هؤلاء حق الأمة في الولد على حق الوالدين، وقالوا: إن في العزل قطع النسل المطلوب شرعًا من الزواج، وفيه أيضًا صرف السيل عن واديه، مع حاجة الطبيعة إليه واستعدادها للإنبات والإثمار لما ينفع الناس ويعمر الكون. الأحاديث التي يستدل بها على تحريم منع الحمل وتعليق بعض العلماء عليها: يستدل بعض الفقهاء على تحريم منع الحمل بأحاديث منها: قوله صلى الله عليه وسلم ((من ترك النكاح مخافة العيال فليس منا)) ومنها: ما رواه مسلم وأحمد من حديث عائشة رضي الله عنها عن جذامة بنت وهب قالت: ((حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس فسألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الوأد الخفي)) يحتج القائلون بتحريم العزل بأن هذا الحديث ناسخ لأحاديث الإباحة ومما يستدل به على تحريم العزل ما رواه مسلم في صحيحه أيضًا عن ابن محيرز أنه قال: دخلت أنا وأبو صرمة على أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فسأله أبو صرمه فقال: يا أبا سعيد هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر العزل؟ فقال: نعم غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بلمصطلق يعني بني المصطلق فسبينا كرائم العرب فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل فقلنا: نفعل ورسول الله بين أظهرنا ألا نسأله؟ فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا عليكم ألا تفعلوا ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون)) . ويستدل أيضًا على التحريم بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: العزل هو الوأد الأصغر.   (1) الإسلام شريعة وعقيدة للشيخ محمود شلتوت ص 223 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 التعليقات على هذه الأحاديث وبما أنه ليس في هذه الأحاديث ولا في غيرها تصريح بحرمة العزل، وإن كان ما جاء فيها يحتمل التأويل، وبما أن العزل هو وحده المسلك الذي كان يلجأ إليه الصحابة لمنع الحمل في عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم علق الإمام الغزالي على هذه الأحاديث بالتأويل فقال في قوله صلى الله عليه وسلم: من ترك النكاح مخافة العيال فليس منا، أي ليس على سنتنا وطريقتنا فعل الأفضل، وقال في قوله صلى الله عليه وسلم: " ذلك الوأد الخفي ". جوابًا لأناس سألوه عن حكم العزل، كما رواه مسلم عن جذامة بنت وهب، قوله: " الوأد الخفي ". كقوله: " الشرك الخفي "، وذلك يوجب كراهة لا تحريما (1) . هذا وقد نقل الشيخ مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء، والشوكاني في نيل الأوطار، عدة وجوه من أجوبة العلماء الذين سلكوا مسلك التأويل، لمعنى حديث جذامة بما لا يتعارض مع حديث جابر، كالقول بأن حديث جذامة لا يقصد منه سوى مجرد التنزيه، وكالقول بأن حديث جذامة ليس بصريح في المنع، إذ لا يلزم من تسمية العزل وأدا خفيًّا على طريق التشبيه، أن يكون ذلك حرامًا، وكالقول السابق آنفا بأن قوله صلى الله عليه وسلم: " إنه الوأد الخفي "، كقوله: " الرياء هو الشرك الخفي ". وإنما شبه بالوأد لأن فيه طريقًا إلى قطع الولادة، وكالقول بأن السبب الوحيد في تسمية العزل، وأدا خفيا في حديث جذامة، هو أن الرجل إنما يعزل هربًا من الحمل، فأجرى قصده بذلك مجرى الوأد لكن الفرق بينهما أن الوأد اجتمع فيه القصد والفعل وأمره ظاهر بالمباشرة بينهما، والعزل يتعلق بالقصد فقط، فلذلك وصف في الحديث بكونه خفيا، وهذا الرأى هو الذي ذهب إليه ابن القيم، وحمل العراقي في شرح الترمذي حديث جذامة على العزل عن الحامل، لزوال المعنى الذي كان يحذره الزوج من حصول الحمل، ولكون العزل حينئذ يكون فيه تضييع للحمل، فقد يؤول إلى موته، وضعفه وهذا وأد خفي، وجزم الطحاوي بأن حديث جذامة منسوخ (2) .   (1) إحياء علوم الدين الجزء الثانى ص 54 (2) الإسلام وتنظيم الأسرة ثبت كامل لأبحاث ومناقشات المؤتمر الإسلامي في الرباط ص 60 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 وقال الإمام ابن القيم بعد ذكر الأحاديث الدالة على جواز منع الحمل: فهذه الأحاديث صريحة في جواز العزل، فقد رويت الرخصة فيه عن عشرة من الصحابة علي وسعد بن أبي وقاص وأبي أيوب وزيد بن ثابت وجابر وابن عباس والحسن بن علي وخباب بن الأرت وأبي سعيد الخدري وابن مسعود رضي الله عنه، إلى أن قال.. أي ابن القيم بعد كلام سبق، والحديثان صحيحان ولكن حديث التحريم ناسخ (يعني قوله صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل: ذلك الوأد الخفي، وهذه طريقة ابن حزم، وقالوا: لأنه ناقل عن الأصل، والأحكام كانت قبل التحريم على الإباحة، ودعوى هؤلاء تحتاج إلى تاريخ محقق يبين تأخير أحد الحديثين عن الآخر، وأنى لهم به، وقد اتفق عمر وعليٌّ على أنه لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع فروى القاضي أبو يعلى وغيره بإسناده عن عبيد بن رفاعة عن أبيه قال: جلس إلى عمر عليٌّ والزبير رضي الله عنهم في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذاكروا العزل، فقالوا: لا بأس به، فقال رجل: إنهم يزعمون أنه الموءودة الصغرى فقال علي رضي الله عنه: لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع حتى تكون من سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظامًا، ثم تكون لحمًا، ثم تكون خلقًا آخر. فقال عمر رضي الله عنه: صدقت أطال الله بقاءك (1) . ويرى الدكتور أحمد الشرباصي أن النهي عن العزل ربما كان في أول الدعوة الإسلامية وكان المسلمون يومئذ قلة، ثم جاءت أحاديث الإباحة والجواز فنسخت النهي السابق ومع ذلك فهناك من قال: إن بعض الأحاديث الواردة في النهي عن العزل إنها ضعيفة أو مضطربة (2) .   (1) زاد المعاد - الجزء الرابع ص 17، 18 (2) الدين وتنظيم النسل للدكتور أحمد الشرباصي ص 71، 72 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 الأحاديث التي يستدل بها على إباحة منع الحمل يستدل بعض الفقهاء على إباحة منع الحمل بأحاديث منها ما رواه الإمامان البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) وجه الاستدلال بهذا الحديث، أن العزل كان معمولًا به في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو عهد التشريع، فلو كان حرامًا لنزلت في القرآن آية بتحريمه، ويؤيد هذا المعنى رواية مسلم في صحيحه عن عطاء عن جابر قال: ((كنا نعزل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) زاد إسحاق قال سفيان: ولو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن. فهذه الجملة الأخيرة (ولو كان شيئًا ينهى عنه) إلخ، وإن قيل أنها من كلام سفيان أحد رواة الحديث قالها استنباطًا إلا أن الشيخ ابن حجر العسقلاني في بلوغ المرام عدها من الحديث وأدرجها فيه، وروى مسلم في صحيحه أيضًا أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لى جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل. فقال عليه الصلاة والسلام: " اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها ". فلبث الرجل ما شاء الله، ثم أتى رسول الله بعد ذلك، فقال: إن الجارية قد حملت. فقال: " قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 وفي مسند الإمام أحمد وابن ماجه من حديث عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها. وجه الاستدلال بالحديث: أن العزل مباح إذا أذنت الحرة، وإذنها أمر ممكن، وعن أبي محيريز قال: دخلت أنا وأبو صرمة على أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فسأله أبو صرمة، فقال: يا أبا سعيد: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر العزل؟ فقال: نعم، غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فسبينا كرائم العرب، فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء، فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا: نفعل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا لا نسأله؟ فسألنا رسول الله، فقال: " لا عليكم ألا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون ". رواه مسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أيضًا أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي جارية، وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل هو الموءودة الصغرى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذبت اليهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه)) ، معناه إذا قدر الله خلق نفس فلا بد من خلقها، وأنه قد يسبقكم الماء فلا تقدرون على دفعه، ولا ينفعكم الحرص على ذلك، فقد يسبقكم الماء من غير شعور العازل لتمام ما قدر الله. وفي صحيح مسلم عن أسامة بن زيد أن رجلًا جاء إلى النبي عليه السلام فقال: يا رسول الله، إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم تفعل ذلك؟)) فقال الرجل: أشفق على ولدها أو قال: على أولادها، فقال رسول الله: ((لو كان ضارا (أي العزل) لضر فارس والروم)) ، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبيا فكنا نعزل، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((وإنكم لتفعلون ذلك - قالها ثلاثا - ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 التعليقات على هذه الأحاديث علق بعض من العلماء على هذا الحديث فقال: قوله: " إنكم لتفعلون ذلك ". ثلاث مرات إقرار لهم على ما فعلوه، وقال آخر: إن ظاهر: " أو إنكم لتفعلون ذلك " كما في رواية، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلع على ذلك، وكونه كررها ثلاثًا يفيد الإنكار، ثم إن ابن حزم يطبق قاعدتين أصوليتين ليستدل على أن العزل غير جائز فنهي عنه، القاعدة الأولى: هي أن الأصل في الأشياء الإباحة، ويزعم أن الذين يرون العزل جائزًا ليس لهم دليل يستندون عليه إلا هذا والقاعدة الثانية: إذا كان الأصل في الأشياء الإباحة فحينئذ تأتي الحرمة بعدها، وبناء على ذلك إذا كان محرما فقد جاء التحريم لا شك متأخرًا عن الإباحة وينسخ الإباحة، وإن حديث جذامة بنت وهب يثبت تحريم العزل، وبذلك يعتبر متأخرًا وينسخ الأحاديث الأخرى التي وردت في الإباحة الأصلية، وزعم أنها غير صحيحة أيضًا عدا حديث جابر، وهو وإن كان صحيحًا عند ابن حزم فإنه لم يتكلم فيه بوجه وتركه من دون أن يعلق عليه بشيء (1) . وقال ابن سيرين: في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، لا عليكم ألا تفعلوا إلخ قوله: ((لا عليكم ألا تفعلوا)) أقرب إلى النهي، وقال الحسن البصري: والله لكأن هذا زجر، وقد اعتبر هؤلاء (لا) ناهية ومدخولها محذوف، تقديره لا تعزلوا، وعليكم أن لا تفعلوا وأكد هذا النهي بقوله: وعليكم ألا تفعلوا. هذا وقد رد الباجي في شرحه على الموطأ على قول الحسن البصري فقال: قوله سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: ((لا عليكم ألا تفعلوا، فإنما هو القدر)) ، ليس معناه النهي كما فهمه الحسن البصري، وحكاه عن ابن عبد البر بل قال أكثر العلماء: إنه ليس نهيًا، بل معناه ليس عليكم إثم أو ضرر ألا تفعلوا كما نقل ذلك الشيخ مرتضى الزبيدي في شرحه على الإحياء، ثم عقب عليه بقوله: قال البيهقي: رواة الإباحة أكثر وأحفظ والله أعلم (2) وذكر فضيلة الشيخ أبو الأعلى المودودي في كتابه (حركة تحديد النسل) أن الاحتجاج بهذه الأحاديث فاسد، فقال: والذين يدعون إلى حركة تحديد النسل من المسلمين لا يجدون في آيات القرآن كلمة واحدة يتأيدون بها، فهم لأجل هذا إنما يرجعون إلى كتب الحديث ويستدلون على صحة فكرتهم بروايات جاء في بعضها الإذن بالعزل.   (1) الإسلام وتنظيم الأسرة، أعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط جـ 2 ص 181 (2) الإسلام وتنظيم الأسرة، أعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط جـ 2 ص 409 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 ولكن هناك ثلاثة أمور أساسية لا بد من رعايتها في استخراج مسألة فقهية من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. 1 - الاستقصاء التام لكل ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم في المسألة التي تحت البحث. 2 - بذل الجهود الممكنة لمعرفة السياق والموقف الذي بين فيه الرسول صلى الله عليه وسلم حديثًا من أحاديثه. 3 - بذل الجهود الممكنة كذلك للاطلاع على الظروف والملابسات السائدة في بلاد العرب في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم. فمع رعاية هذه الأمور الأساسية نريد الآن أن نلقي نظرة على الروايات التي يستدل بها هؤلاء القوم للدفاع عن فكرتهم، ومما لا يخفى على أحد أنه كان قتل الأولاد هو الطريق الجاري في بلاد العرب لتحديد النسل، إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك لسببين: أولهما: تدهور الوضع الاقتصادي فكان الآباء لأجله يقتلون أولادهم خشية أن يشاركوهم في رزقهم. وثانيهما: عاطفة الغيرة المجاوزة لحدودها العادلة، فكانت تحرض الآباء على وأد بناتهم خاصة خشية عار المصاهرة، فلما جاء الإسلام ندد بهذه الجريمة ونهى العرب عن اقترافها، وقلب عقليتهم في شأنها قلبا كليًّا. ثم اتجهت فكرة المسلمين إلى العزل، أي الإنزال بعيدًا عن المرأة، ولكن من المعلوم أن العزل ما كان عامًّا شائعًا بين المسلمين، ولا كانت قد قامت فيهم حركة لتحديد النسل ومنع الحمل، ولا كان المقصود أن تتخذ من العزل سياسة قومية، ولا كانت من الأسباب المحرضة عليه تلك الأفكار والعواطف التي كانت تحرض الناس على اقتراف جريمتي قتل الأولاد ووأد البنات أيام الجاهلية، وإنما كان هناك ثلاثة أسباب هي التي حملت على العزل نَفَرًا من المسلمين، ولنا أن نعرفها بتتبع الروايات الواردة في كتب الحديث في باب العزل. 1 - خشية أن تحمل الأَمَة. 2 - خشية أن تستحق الأَمَة إقامة دائمة إذا صارت أم ولد. 3 - خشية أن يتعرض الرضيع لنوع من الضرر إذا حدث الحمل أيام الرضاعة. ههنا سرد الإمام أبو الأعلى المودودي الأحاديث المبيحة للعزل إلى أن قال: " على أن هناك جماعة من الصحابة وغيرهم قد صح عنهم النهي عن العزل، يقول الإمام الترمذي في سننه: وقد كره العزل قوم من أهل العلم من الصحابة وغيرهم، ويروي الإمام مالك في الموطأ عن عبد الله بن عمر، أنه كان لا يعزل، وكان يكره العزل، فالذى نعلم من تتبع الأحاديث والروايات من كلام النوعين أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان أذن في العزل، بل كان يكرهه ويرى فيه فعلًا عبثا كما يكرهه جماعة من أصحابه رضي الله عنهم ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 آراء الفقهاء في منع الحمل سبق أن قلت: إن الفقهاء اختلفوا في منع الحمل إلى أربعة آراء وهذه نصوص كلام القائلين بالإباحة لذلك. الشافعية قال الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين (1) عند الكلام عن آداب المعاشرة الجنسية: ومن الآداب أن لا يعزل، بل لا يسرح إلا إلى محل الحرث وهو الرحم، فما من نسمة قدر الله كونها إلا وهي كائنة، هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن عزل فقد اختلف العلماء في إباحته على أربعة مذاهب، فَمِن مبيح مطلقًا بكل حال، ومن محرم بكل حال (2) ومن قائل يحل برضاها ولا يحل دون رضاها (3) وكأن هذا القائل يحرم الإيذاء دون العزل، ومن قائل: يباح في المملوكة دون الحرة، والصحيح عندنا أن ذلك مباح، وأما الكراهية فإنها تطلق لنهي التحريم ولنهي التنزيه ولترك الفضيلة فهو مكروه بالمعنى الثالث، أي فيه ترك فضيلة، كما يقال: يكره للقاعد في المسجد أن يقعد فارغا لا يشتغل بذكر أو صلاة، ويكره للحاضر بمكة مقيمًا أن لا يحج كل سنة، إلى أن قال: وليس هذا أي العزل كالإجهاض والوأد؛ لأن ذلك جناية على موجود حاصل، وله أيضًا مراتب وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت علقة ومضغة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشًا، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حيا. اهـ وصرح الإمام الرملي نقلًا عن الزركشي، بأن استعمال ما يمنع الحمل قبل إنزال المني في حالة الجماع مثلًا لا مانع منه، وقال البجيرمي في حاشيته على الإقناع في حل كلام أبي شجاع: يحرم استعمال ما يقطع الحمل من أصله، أما ما يبطئ الحمل أو يؤخره دون أن يقطعه من أصله فلا يحرم، بل إن كان لعذر كتربية فلا يكره أيضًا، وفرق الشبرامسي بين ما يمنع الحمل بالكلية وما يمنعه مؤقتًا، فقال بتحريم الأول واعتبر شبيهًا بالعزل (4) إلخ. ويستدل على الجواز أيضًا بتفسير الإمام الشافعي قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} النساء [3] بقوله: ذلك أقرب ألا تكثر عيالكم، فقد فهم الإمام الشافعي رحمه الله أن التشريع القرآني يتجه إلى كراهية كثرة العيال؛ لأن الله تعالى علل به الأمر بالاقتصار على واحدة عند الخوف من عدم العدل وإذًا فتنظيم النسل لئلا يكثر العيال مما يدخل ضمنا في دلالة الآية الكريمة (5) .   (1) إحياء علوم الدين ص 52 - 53 جـ 2 (2) هو ابن حزم وابن حبان (3) هو الجمهور من فقهاء الأمصار (4) الإسلام وتنظيم الأسرة لأعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط جـ 2 ص 291 (5) الإسلام وتنظيم الأسرة لأعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط جـ 2 ص 126 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 الحنفية يرى الأحناف أن منع الحمل مباح بشرط أن تأذن فيه الزوجة لحقها في الولد كالرجل، ويقول الكمال بن همام في حاشية القدير: العزل جائز عند عامة العلماء، وكرهه بعضهم، ثم قال: والصحيح الجواز، وساق أحاديث الجواز ثم قال: فهذه الأحاديث ظاهرة في جواز العزل. وجاء في حاشية ابن عابدين على شرح الدر (1) نقلا عن صاحب النهر، أنه يجوز للمرأة أن تسد فم الرحم منعا من وصول ماء الرجل إليه لأجل منع الحمل، واشترط صاحب البحر لذلك إذن الزوج، ويؤيد القرطبي المالكي ذلك بقوله: إن النطفة ليست شيئا يقينًا ولا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة ما لم تستقر في الرحم، فهو كما لو كانت في صلب الرجل، فالقرطبي بهذا القول يبيح إلقاء النطفة بعد وصولها إلى الرحم وقبل الاستقرار، فمن باب أولى إذا لم تصل إلى الرحم (2) . المالكية نص فقهاء المذهب المالكي على جواز العزل واشترطوا إذن الزوجة لذلك صغيرة كانت أو كبيرة (3) .   (1) جـ2 ص 412 (2) الإسلام وتنظيم الأسرة لأعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط جـ 2 (3) راجع حاشية الدسوقي في شرح الدردير على متن خليل جـ 2 ص 266 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 الحنابلة ذهب فقهاء المذهب الحنبلي، إلى جواز العزل بشرط رضا الزوجة واستئذانها، قال ابن قدامة (1) : والعزل مكروه، ومعناه أن ينزع إذا قرب الإنزال فينزل خارجًا من الفرج، رويت كراهيته عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود، وروي ذلك أيضًا عن أبي بكر الصديق؛ لأن فيه قطع النسل وقطع اللذة عن الموطوءة إلى أن قال: ولا يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها، قال القاضي: ظاهر كلام أحمد وجوب استئذان الزوجة، ويحتمل أن يكون مستحبًّا؛ لأن حقها في الوطء دون الإنزال. . . إلخ. الزيدية تصريح كتب المذهب الزيدي بإباحة العزل إذا وافقت الزوجة بل صرح الإمام يحيى بن زيد بجواز العزل لمنع النسل، ومعنى ذلك أنه أجاز أخذ الأسباب لمنع النسل صراحة (2) . الشيعة الجعفرية إن كتب مذهب هؤلاء تصرح بأن العزل لمنع الحمل مباح على أن توافق الزوجة على ذلك عند عقد الزواج، وهم بذلك لا يطلبون إلا إذنا عامًّا من الزوجة عند إجراء العقد، سواء رضيت بعد ذلك أو رفضت (3) .   (1) المغني جـ 7 ص 23 (2) كتاب البحر الزخار جـ 3 ص 80 الطبعة الأولى سنة 1948 مطبعة أنصار السنة المحمدية (3) كتاب الروضة البهية - شرح اللمعة الدمشقية جـ 2 ص 68 - مطبعة دار الكتاب بمصر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 الشيعة الإسماعيلية الشيعة الإسماعيلية الذين يتزعمهم (أغاخان) لا يتعدى مذهبهم مذهب الشيعة الجعفرية في حكم العزل، فقد جاء في كتاب دعائم الإسلام (1) . نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن المرأة إلا بإذنها إلخ. مذهب الإباضية أتباع عبد الله بن أباض التميمي نرى في كتبهم التصريح بجواز العزل إذا رضيت الزوجة، وقالوا: إن العزل يباح للفرار من الولد خشية العيال وإدخال الضرر على الرضيع (2) . ويقول الشوكاني: (إن الأمور التي تحمل على العزل، الإشفاق على الولد الرضيع خشية الحمل مدة الرضاع والفرار من كثرة العيال، والفرار من حصولهم من الأصل وخشية علوق الزوجة الأمة لئلا يصير الولد رقيقًا، ثم ذكر أنه لا خلاف بين العلماء على جواز العزل بشرط أن توافق الزوجة الحرة؛ لأنها شريكة في المعاشرة الزوجية) (3) . وهكذا يتضح لنا بعد هذا كله أن العزل مباح إذا دعا إليه داع وهذا الداعي هو ما عبر عنه الفقهاء قديمًا وحديثًا، بأنه دفع الضرر أو رفع الحرج أو صيانة النفس، والقرآن يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج [78] والحرج هو الضيق بسبب تكليف شاق، ويقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة [185] ، ويقول: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (4) البقرة [195] . قبل أن أنقل للقارئ الكريم الدواعي التي تدعوه إلى تنظيم الأسرة ينبغي أن أذكر فصلًا من بحث (الدكتور أحمد الشرباصي) الذي قدمه في المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط من 24 إلى 29 من شهر ديسمبر عام 1971 لأهميته، وهذا نص كلامه: (ويجب أن نسلم أولا بأن الدعوة إلى تنظيم الأسرة لا يجوز أن تكون دعوة إلى محاربة الزواج أو محاربة الأسرة أو محاربة الذرية في حد ذاتها، أو محاولة التخلص منها بعد وجودها، ويجب أن نسلم كذلك بأن حب الذرية أمر فطري لمن تقهره عقبات مصطنعة أو موضوعة في طريقه، ومهما بذلت الإنسانية المتحضرة من جهود في مجالات تنظيم الأسرة سيبقى حب الذرية مسيطرًا على مئات الملايين هنا وهناك وإلى ما شاء الله) (5) . ومن الجدير بالذكر لأهميته أيضًا قول الدكتور الشرباصي في البحث المذكور: (ينبغي أن نفهم بوضوح، ونذكر باستمرار، أن موضوع تنظيم الأسرة يرجع أولًا وآخرًا إلى اقتناع الفرد وإرادته، ونخسر كثيرًا إذا لجأنا في هذا الباب إلى الإكراه والإرغام أو العقاب) (6) .   (1) مطبعة دار المعارف بمصر جـ 2 ص 210 (2) راجع النيل وشرحه جـ3 ص 126 (3) نيل الأوطار جـ 6 ص 198 (4) الإسلام وتنظيم النسل لأعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد بالرباط جـ 2 ص 104 (5) الإسلام وتنظيم الأسرة لأعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط جـ 2 ص 9 (6) الإسلام وتنظيم الأسرة لأعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط جـ 2 ص 24 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 أهم الدواعي إلى تنظيم الأسرة 1 - أن يكون مرض من الأمراض المعدية عند الزوجين أو عند أحدهما، ولو نشأت ذرية عنهما والمرض موجود لا ينتقل المرض إلى الذرية فتشقى به حياتها. 2 - أن يكون عند المرأة مع ضعفها استعداد قوي ظاهر للحمل عقب انتهائها من آثار الحمل السابق. 3 - الخوف على صحة الزوجة وسلامتها من الحمل المتتابع؛ لأنها مريضة وسيزيد مرضها بحملها أو سيتأخر شفاؤها أو سيحدث المرض بسبب الحمل. 4 - الضعف الاقتصادي عند الزوج حيث لا يكون لديه اقتدار مادي يجعله صالحًا للنهوض بتبعات الذرية (1) . ومن المعلوم بداهة أن إيقاف الحمل بسبب مرض الزوجة والخوف على سلامتها هو محل وفاق لا مجال للنزاع فيه عقلًا ونقلًا، أما عقلًا فلأن من المسلم به أنه إذا تضرر الأصل بالفرع وجب تقديم مصلحة الأصل على فرعه، وعند الأصوليين إذا عاد الفرع على الأصل بالإبطال فالفرع يكون باطلًا (2) . وأما إيقاف الحمل بسبب الفقر وضعف الاقتصاد فمختلف فيه، والإمام الغزالي يجيز ذلك بقوله: الثالثة (يعني من البواعث على منع الحمل بالعزل) الخوف من الحرج بسبب كثرة الأولاد والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء، وهذا أيضًا غير منهي عنه، فإن قلة الحرج معين على الدين نعم الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله حيث قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} هود [6] ولا جرم فيه سقوط عن ذروة الكمال وترك الأفضل، ولكن النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره مع كونه مُنَافٍ للتوكل، لا نقول إنه منهي عنه (3) . وقال الإمام محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق: أما تحديد النسل بمعنى تنظيمه بالنسبة للسيدات اللاتي يسرع اليهن الحمل، وبالنسبة لذوات الأمراض المنتقلة، وبالنسبة للأفراد القلائل الذين تضعف أعصابهم عن مواجهة المسئوليات الكثيرة، ولا يجدون من حكومتهم أو من الموسرين من أمتهم ما يقويهم على احتمال هذه المسئوليات. إن تنظيم النسل بشيء من هذا وهو تنظيم فردي، لا يتعدى مجاله شأن علاجي تدفع به أضرارًا محققة ويكون به النسل القوي الصالح، والتنظيم بهذا المعنى لا ينافي الطبيعة ولا يأباه الوعي القومي ولا تمنعه الشريعة إن لم تكن تطلبه وتحث عليه (4) . الشيخ محمد عبد الرحمن   (1) الإسلام وتنظيم الأسرة لأعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط جـ 2 ص 9 (2) الإسلام وتنظيم الأسرة لأعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط (3) إحياء علوم الدين ج 2 ص: 53 (4) كتاب الفتاوى للشيخ شلتوت - ص 266 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 أسماء بعض من كبار العلماء في العصر الأخير الذين أفتوا بجواز منع الحمل بسبب مقبول شرعا * المرحوم الشيخ عبد المجيد سليم - مصر * المرحوم الشيخ محمود شلتوت - مصر * الشيخ عبد العزيز عبد الله بن باز - السعودية * المرحوم الشيخ حسن مأمون - مصر * الشيخ عبد الله القلقيلي - الأردن * آية الله الشيخ بهاء الدين محلاتي - إيران * الشيخ الحاج عبد الجليل بن الحاج حسن - ماليزيا * الشيخ يوسف بن علي الزواوي - ماليزيا * لجنة الفتوى بالأزهر - مصر * لجنة الفتوى بقطاع غزة - فلسطين * المجلس الاستشاري للشئون الدينية - تركيا * رئيس المحكمة العليا الاستئنافية - اليمن هذا ما أردت نقله وجمعه في هذا الموضوع، والرأي الحاسم ما سيقع الاتفاق عليه من السادة المشاركين في الدورة. وبالله التوفيق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 تنظيم النسل وتحديده إعداد الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد أستاذ بكلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا وعضو مجمع الفقه الإسلامي عن جمهورية السودان بسم الله الرحمن الرحيم تنظيم النسل وتحديده الأصل في هذه المسألة قول الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (1) . فحرم الله تعالى في هذه الآية ما كان يفعله الجاهليون من وأد البنات خشية العيلة فالله يرزقهم وأولادهم. وقد كان منهم من يفعل ذلك بالذكور والإناث خشية الفقر كما هو ظاهر الآية. وحرمة هذا الفعل من الأشياء المجمع عليها. وقد اختلف الفقهاء في العزل فاستدل بهذه الآية من يمنع العزل وقال: إنه منع أصل النسل فتشابها، إلا أن قتل النفس أعظم وزرا وأقبح فعلا، وذهب جماعة من الصحابة وغيرهم إلى كراهة العزل لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن العزل فقال: ((ذلك الوأد الخفي)) (2) . وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي وليدة وأنا أعزل عنها، وأنا أريد ما يريد الرجل، وإن اليهود زعموا: أن الموءودة الصغرى العزل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أراد الله أن يخلقه لم تستطع أن تصرفه)) (3) وروي عن ابن عمر أنه كان لا يعزل، قال مالك والشافعي: لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها، ولا عن زوجته الأمة في رأي الإمام مالك إلا بإذن أهلها، ويعزل عن أمته بغير إذنها. وروي عن ابن عباس: (تستأمر الحرة في العزل ولا تستأمر الجارية) وبه قال أحمد.   (1) سورة الإسراء الآية 31 (2) أخرجه مسلم في صحيحه (1442) (141) في النكاح: باب جواز الغيلة وهي وطء المرضع وكراهة العزل، وهو في المسند 6/361 و 434 والبيهقي 7/231 (3) قال الإمام البغوي: وإسناده صحيح وله شاهد عند البيهقي 7/230. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 وقال بجوازه جماعة من الصحابة والتابعين والفقهاء لما ورد في الحديث الذي أخرجه مسلم عن جابر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل قال: " اعزل عنها إن شئت. فإنها سيأتيها ما قدر لها ". فلبث الرجل ما شاء الله ثم أتى رسول الله بعد ذلك فقال: إن الجارية قد حبلت فقال: " قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدرلها ")) . وفي حديث آخر متفق على صحته (1) عن محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز أنه قال: دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه فسألته عن العزل، قال أبو سعيد: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيا من سبي العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علينا العزبة، وأحببنا العزل فأردنا أن نعزل فقلنا: نعزل ورسول الله بين أظهرنا قبل أن نسأله، فسألناه عن ذلك فقال: ((ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة)) . قال جابر (كنا نعزل والقرآن ينزل) (2) ، ورخص فيه زيد بن ثابت وروي عن أبي أيوب، وسعد بن أبي وقاص وابن عباس، أنهم كانوا يعزلون. يمكننا مما سبق أن نصل إلى ما يأتي: أولًا: لا يجوز لأمة مسلمة أن تتخذ تحديد النسل سياسة عامة للدولة خوفا من العيلة والفقر أو ما شابه ذلك لقوله تعالى المذكور في بداية البحث وقوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (3) وليس بعد هذا الضمان الرباني ضمان لمن آمن بالله واليوم الآخر ولينظر كيف أن الله تعالى قد ألزم نفسه برزق عباده، مسلمهم وكافرهم، غنيهم وفقيرهم، صغيرهم وكبيرهم ومن فهم حقيقة الغنى والفقر، وأن الغني قد يصبح فقيرا معدما، والفقير المعدم قد يمسي غنيا موفور الغنى، ومن يعلم لعل ابن الفقير قد يكون من أغنى الناس في مستقبله أو قد يكون من العلماء الصالحين أو المسلمين الأخيار كما دل على ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((استكثروا من أولادكم فإنكم لا تدرون بمن ترزقون)) .   (1) انظر شرح السنة للبغوي ج 9 ص 103 الطبعة الثانية، مطبعة المكتب الإسلامي، بيروت (2) أخرجه البخاري 9/266 في النكاح: باب العزل ومسلم (1440) في النكاح: باب حكم العزل (3) سورة الذاريات الآية 22 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 لا يرتاب من فهم ذلك في أن تحديد النسل خوف العيلة، أو عدم القدرة على الإنفاق، أو خوف المرض، أو عدم القدرة على التعليم، غير جائز ولا يليق بمؤمن. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نصحنا بقوله ((تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) وقوله: ((تزوجوا الودود الولود)) وفى آخر يقول: ((سوداء ولود خير من حسناء عقيم)) . والمتأمل في هذه الأحاديث لا يملك إلا أن يدرك الحكمة البالغة التي رمى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا نظرنا إلى هذه المسألة من الناحية الواقعية، نجد أن الأمة وسلامتها مرتبطان بكثرة أفرادها فالأمم القليلة العدد مغلوبة على أمرها مهما بلغت قوتها الأدبية أو العلمية أو الصناعية فهي دائما قلقة محتاجة إلى من يضمن سلامتها، وإذا أخذت أمة الإسلام بهذا التوجيه، فتكاثرت في إيمان بالله، ووحدت كلمتها، وأعدت عدتها، فيبعد أن تقع فريسة صاغرة لأي أمة أخرى مهما كانت. ثانيًا: إذا كانت هنالك مسائل فردية، مشروطة بحال مرضية أو نفسية كأن يؤكد الأطباء المتخصصون خطورة الحمل مثلا على امرأة بعينها، أو يخشى على حياتها من استمرار الحمل أو تأكد بما لا يدع مجالا للشك أنها وزوجها، غير قادرين على تحمل أعباء تربية الطفل ويخشيان على طفل يولد لهما من الإهمال والضياع وسوء المعاملة المؤكد ... فهذه مسائل شخصية بحتة تتوقف على رأي المتخصصين، والله أعلم بما في صدورهم أجمعين {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (1) . وإليه ترجع الأمور وإليه المصير. محمد عطا السيد   (1) سورة غافر الآية 19 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 تنظيم النسل وتحديده إعداد الأستاذ تجاني صابون محمد أستاذ بمعهد المعلمين العالي بأنجامينا وعضو مجمع الفقه الإسلامي عن تشاد بسم الله الرحمن الرحيم - وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم: الموضوع: بحث حول تنظيم النسل وتحديده: إن المعنى المقصود من تنظيم النسل أو تحديده، هو إيقاف الإنجاب الإنساني عن النمو والزيادة، وقد تستعمل وسائل كثيرة للوصول إلى هذا الغرض، منها: الإجهاض - وتعطيل الرحم بعمليات جراحية - وتعقيم الرجال - واستعمال الحبوب المانعة للحمل - والعزل وقتل الأولاد – (وكبت النفس بالعزوبة) والإبعاد عن الاتصال الجنسي، كل هذه العمليات تسمى بتنظيم النسل تارة، وبتحديد النسل تارة أخرى، أو بتنظيم الأسرة أحيانًا، والوسائل الأكثر شيوعًا في هذا العصر، هي استعمال العقاقير الطبية المانعة للحمل، والعمليات الجراحية لتعطيل الرحم عن الإنجاب. ما هي الأسباب الداعية إلى تحديد النسل؟ قبل التحدث عن رأي الإسلام حول هذه العملية، يجدر بنا أن نتناول الأسباب الداعية إلى القيام بهذه العملية، إن الإنسان بتسليمه إلى القواعد الهندسية والحسابية التي اخترعها، يزعم بأن زيادة السكان في الكرة الأرضية، تتم بنسبة متوالية هندسية (PROGRESSION GEOMETRIQUE) 2، 4، 8، 16، 32، 64، 128، 356 ... - على حين لا تزيد ولا يمكن أن تزيد وسائل رزقهم مهما اخترعوا لزيادتها من الطرق المؤثرة، إلا بنسبة متواليه حسابية PROGRESSION ARITHMETIQUE 1، 2، 3، 4،5،6، 7، 8، 9.. إلخ فعلى هذا يزعم الخبراء المعنيون بهذا الأمر، بأنه إذا ظل عدد السكان يتضاعف بدون ما حاجز، في وجهه، فلابد أن يصل إلى ضعفيه بعد كل خمس وعشرين سنة، بينما لا تزيد وسائل رزقهم خلال هذه المدة إلا إلى 9. فبالحساب على هذه القاعدة يقول الذين يتفكرون على مستوى منطقي عن منطقة خاصة من مناطق الأرض: إن عدد السكان في الكرة الأرضية، أو في منطقة ما منها إذا بقي في الزيادة على حاله، فمهما بذلنا من المحاولات العلمية الجديدة لتنمية موارد الرزق ووسائل المعيشة، فإنه من المحال أن تتوفر فيها الوسائل الكافية لقضاء الحياة، فضلا عن أن يحظى فيها النسل الإنساني بشيء من النهوض والتقدم، إلى أن يأتي وقت لا يبقى على سطح الكرة الأرضية، موضع يضع فيه الإنسان قدميه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 وانطلاقا من هذه المعطيات المفزعة الخاطئة، قام المؤيدون لهذه الفكرة والباحثون حول هذا الموضوع بإطلاق صفارة الإنذار على جميع سكان الأرض، فأقاموا الدول وأقعدوها، ثم فكروا بأنفسهم في كيفية تفادي هذه الكارثة على حد زعمهم، فاقترحوا فكرة تحديد النسل، فقامت بعض الدول، بإباحة الإجهاض والعمليات الجراحية داخل الرحم لمنع الإنجاب، واستعمال حبوب منع الحمل، كما قامت دول بتعقيم الرجال والنساء معا، ولجأت أخرى إلى العزل وكبت النفس بالعزوبه والابتعاد عن الاتصال الجنسي وغيرها من العمليات المحددة أو المنظمة للنسل. - بطلان دعوى مؤيدي حركة تحديد النسل: إن الحجج التي يحتج بها مؤيدو تحديد النسل، ما هي إلا انتقاد لذات الخالق سبحانه وتعالى، واعتراض على حكمته البالغة، ونظامه المحكم في السماوات والأرض، يظنون بالله أنه لا يعلم كثيرا مما يعلمونه أو يتوصلون إليه بقواعدهم الحسابية {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} . لا يعرف هؤلاء أن الله - عز وجل - ما خلق شيئا في السماوات والأرض إلا على كمية محدودة {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (1) . وأنه لا يصدر شيئا من خزائنه إلا بقدر معلوم {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (2) ، فمهما يكن من ظن هؤلاء القوم بالله وبأنفسهم فإن من الحقيقة التي لا تقبل الجدل أن الذي خلق هذا العالم وأبدع نظامه المحكم ليس بجاهل عنه {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} (3) وأنه لو نظروا في آياته، وأسرار حكمته في الآفاق وفي أنفسهم بعين البصيرة والعقل، لتبين لهم أنه الأكمل في تقديراته وحسابه، فقد خلق على هذه المساحة من سطح أرضه أنواعا لا عداد لها من خلائقه، وأودع كل واحد منها قدرة عاتية على التوالد، والتناسل، بحيث لو أرخى العنان في وجه نسل زوجين منه فقط لينمو على هواه لاكتظ به وحده وجه الأرض، من أقصاه إلى أقصاه. إن الماء الذي يفرزه كل رجل في كل اتصال من اتصالاته الجنسية، يمكن أن تحمل به ما بين 300 و 400 مليون امرأة في آن واحد، فلو أن القدرة التناسلية لرجل واحد فقط وجدت في وجهها مجالا كاملا للاتساع والنمو، لاكتظت الأرض اكتظاظا كليا بأفراد نسله وحده في سنوان قلائل، ولكن من الذي أقام الحاجز أمام هذه القوة التناسلية العاتية منذ مئات الآلاف من السنين، بحيث لم يدع نوعا من أنواع الخلائق يتعدى الحدود المعينة لزيادة نسله وتكاثر أفراده.   (1) سورة القمر الآية 49 (2) سورة الحجر الآية 21 (3) سورة المؤمنون الآية 17 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 فبالرغم من الإنذار بالخطر الذي وجهه هؤلاء الخبراء فإننا لم نر زيادة مذهلة للنسل البشري في مرحلة من مراحل تاريخه، بتلك النسبة المتوالية الهندسية، التي يتخوفون منها ولم يأت على الإنسانية زمن كانت فيه النسبة بين عدد السكان وموارد الرزق مثل التي يدعونها، وإن الأمر لو كان هكذا لكان النسل الإنساني قد انقرض عن وجه الأرض منذ زمن بعيد. - النتائج السلبية لعملية تحديد النسل: لقد ثبت علميا بأنه من الممكن باستخدام الوسائل المانعة للحمل، أن ينشأ الاضطراب والاختلال في نظام الرجل الجسماني، كما أنه من الممكن أن ينشأ به الضعف في قوته التناسلية، أو تنعدم فيه هذه القوة كليا، ومما يجوز القول به - على وجه عام - أن هذه الوسائل وإن كانت تحدث في صحة الرجل مؤثرات سيئة جدا إلا أن الذي يخشى دائما أن الرجل عندما لا تشبع غريزته الجنسية بعلاقته الزوجية، يعتريه التبرم والانقباض شيئا فشيئا في حياته العائلية، ولابد أن يحاول إشباع غريزته الجنسية بوسائل أخرى، تفسد عليه صحته، بل وقد تعرضه للأمراض الخبيثة، كما أن اتخاذ الوسائل الصناعية لدى المرأة لمنع الحمل، قد ينشئ التوتر في نظام المرأة الجسماني، ويلازمها شيئًا فشيئًا القلق والاضطراب والتبرم والضجر؛ لأنها عندما لا تشبع غريزتها الجنسية، فإن علاقتها بزوجها يعتريها الشذوذ والانزعاج. وقد شوهدت هذه النتائج بصفة خاصة في الذين يختارون طريق العزل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 كما ثبت علميا، بأن وسائل تحديد النسل، سواء أكانت هي اللولبيات المعدنية، أو الأقراص والعقاقير القاتلة للحيوانات المنوية، أو حواجز المطاط وغيرها، وإن كانت المرأة لا تتعرض باستخدامها لضرر فوري ظاهري، ولكنها إذا ظلت تستخدمها لمدة من الزمان، فلابد أن يصيبها الانهيار العصبي، قبل أن تبلغ سن الكهولة، كما قد قيل: إنها تسبب سقوط الرحم، والمراق وخفقان القلب والجنون، وعللا خطيرة أخرى، ومن أقدم وأهم طرق تحديد النسل الإجهاض أو (إسقاط الحمل) (AVORTEMENT) إنه لا يزال الطريق المستعمل لمنع الحمل في كثير من البلاد، وقد ثبت أن للإجهاض مؤثرات مهلكة على صحة المرأة وعلى نظامها العصبي، كما يذهب عدد غير يسير من الأمهات ضحية الموت أثناء عملية الإجهاض، كما يمكن أن تسبب عملية الإجهاض أضرارا بالرحم مما يتلفها أو يعقمها تماما، أما حبوب منع الحمل فلا يمكننا أن نجهل تأثيرها المؤكد على صحة المرأة وفي تعطيل كثير من قواها العقلية والتناسلية. ويقول أحد الأطباء: إنه من الخيانة الشنيعة القول بأنها غير ضارة بصحة المرأة، وأردف يقول: بأن المرأة عندما تتناول هذه الحبوب لمنع حملها فإنها لا تتعرض للصداع والآلام العصبية فحسب، بل لا تأمن على نفسها أن يصيبها مرض عضال كالسرطان. واستنتج بعض الأطباء أنه من غير القطعي، حتى بعد استعمال كل هذه الوسائل، ومكابدة أخطارها، أن تكون إحداها وسيلة ناجحة لمنع الحمل؛ لأن الطرق المستعملة في يومنا هذا غير قطعية، حيث إن كثيرًا من النساء قد حملن وذلك بالرغم من اتخاذهن تدابير لمنع الحمل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 الإسلام أمام فكرة تحديد النسل: لا توجد في القرآن الكريم آية واحدة، بل كلمة واحدة تبيح عملية تحديد النسل، ولكن الذين يؤيدون عملية تحديد النسل عند المسلمين يستدلون بالأحاديث التي وردت في شأن العزل، ولكن هناك ثلاثة أمور أساسية لا بد من رعايتها في استخراج مسألة فقهية من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. 1 - الاستقصاء التام لكل ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم في المسألة التي هي تحت البحث. 2 - بذل الجهود الممكنة لمعرفة السياق والموقف الذي بين فيه الرسول صلى الله عليه وسلم حديثًا من أحاديثه. 3 - بذل الجهود الممكنة كذلك للاطلاع على الظروف والملابسات السائدة في بلاد العرب في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم. فمع رعاية هذه الأمور الأساسية نريد الآن أن نلقي نظرة على الروايات التي يستدل بها هؤلاء القوم للدفاع عن فكرتهم، ومما لا يخفى على أحد أن قتل الأولاد كان هو الطريق الجاري في بلاد العرب لتحديد النسل، إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك لسببين: أولهما: تدهور الوضع الاقتصادي، فكان الآباء لأجله يقتلون أولادهم خشية أن يشاركوهم في رزقهم. ثانيهما: عاطفة الغيرة المجاوزة لحدودها العادلة، فكان الآباء يحرصون، على وأد بناتهم خشية عار المصاهرة. فلما جاء الإسلام ندد بهذه الجريمة، ونهى العرب عن اقترافها، وقلب عقليتهم في شأنها قلبا كليا، ثم اتجهت فكرة المسلمين إلى العزل، أي الإنزال بعيدًا عن المرأة، ولكن من المعلوم أن العزل ما كان عامًّا شائعًا بين المسلمين جميعًا، ولا كانت قد قامت فيهم حركة لتحديد النسل ومنع الحمل، ولا كان المقصود، أن يتخذ من العزل سياسة قومية، ولا كانت من الأسباب المحرضة عليه، تلك الأفكار التي كانت تحرض الناس على اقتراف جريمتي قتل الأولاد ووأد البنات، أيام الجاهلية، وإنما كانت هناك ثلاثة أسباب، هي التي حملت على العزل نفرًا من المسلمين، ولنا أن نعرفها بتتبع الروايات الواردة في كتب الحديث، في باب العزل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 1 - خشية أن تحمل الأمة. 2 - خشية أن تستحق الأمة إقامة دائمة إذا صارت أم لولد. 3 - خشية أن يتعرض الرضيع لنوع من الضرر إذا حدث الحمل أيام الرضاعة. فهذه هي الأسباب التي لأجلها أحس نفر من الصحابة - منهم عبد الله بن عباس وسعد بن أبي وقاص، وأبو أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم - بحاجة إلى العزل في ظروف مخصوصة وعملوه بحجة أنهم ما وجدوا في نصوص القرآن والسنة شيئا ينهى عنه صراحة. يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول في رواية أخرى: كنا نعزل والقرآن ينزل، ويقول في رواية ثالثة: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل) رواه البخاري ومسلم. فواضح من هذه الروايات أن جابرًا ومن كان على رأيه من الصحابة في إباحة العزل لم يجدوا في نصوص القرآن والسنة شيئًا ينهى عنه صراحة، ويقول جابر رضي الله عنه في رواية أخرى أخرجها عنه الإمام مسلم: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغه ذلك فلم ينهنا، فلا تصرح هذه الرواية فيما إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن حكم العزل أم لم يسأل، وأنه إذا سئل فماذا كان جوابه؟ أما الروايات الأخرى فقد جاء في بعضها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد سئل في هذه القضية، فعن أبي سعيد الخدري أنه قال: ((أصبنا سبيًا فكنا نعزل فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوإنكم لتفعلون؟ - قالها ثلاثًا - ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة)) . أخرجه البخاري ومسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 وقد جاءت هذه الرواية في الموطأ للإمام مالك رضي الله عنه وفيها يقول أبو سعيد الخدري: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيًا من سبي العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علينا العزبة وأحببنا الفداء - يعني أن لا يولد لهم مولود - فأردنا أن نعزل فقلنا: نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله؟ فسألناه عن ذلك فقال: " ما عليكم أن لا تفعلوا - يعنى أي شيء يحدث إذا لم تفعلوا - ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة ". وفى رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولِمَ يفعل ذلك أحدكم؟ " وفى رواية أخرى ((أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لى جارية هي خادمتنا وسانيتنا وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل. فقال: " اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها ")) رواه مسلم. على أن هناك جماعة من الصحابة وغيرهم قد صح عنهم النهي عن العزل. يقول الإمام الترمذي في سننه: وقد كره العزل قوم من أهل العلم من الصحابة وغيرهم، ويروي مالك في الموطأ عن عبد الله بن عمر، أنه كان لا يعزل وكان يكره العزل. فالذي نعلم من تتبع الأحاديث والروايات من كلا النوعين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان أذن في العزل، بل كان يكرهه جماعة من أصحاب العلم من أصحابه رضي الله عنهم، ولكن لما لم تكن هناك حركة عامة لمنع الحمل وتحديد النسل قائمة بين المسلمين، ولا كانت الجهود تبذل لجعل العزل خطة قومية وتعاملًا عامًّا في المجتمع، وإنما كان نفر من المسلمين يعملونه لحاجاتهم وضروراتهم بصفتهم الشخصية، فما أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم حرمته، ولا نهى عنه نهيا مؤكدًا على أنه لو كان في زمانه حركة عامة تدعو الناس إلى منع الحمل وتحديد النسل على نطاق قومي واسع، لنهى عنه نهيا مؤكدًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 ونحن إذا قسنا على العزل ما ظهر في زماننا من الطرق الأخرى لمنع الحمل وتحديد النسل. جاز لنا القول: بأن الشرع إذا لم يكن قد نهى عنه فإنما ذلك لأن الإنسان قد يحتاج إليه حاجة حقيقية في بعض ظروفه.. فمن باب الحيطة أن يسمح له باستخدامه وذلك مثل أن تتعرض المرأة لخطر الموت، أو تخاف على نفسها أو على طفلها الرضيع، ضررًا غير عادي إذا وقع الحمل، ففي هذه الظروف وأشباهها فقط يمكن استخدام إحدى طرق منع الحمل بعد مشورة الطبيب، ولا بأس بذلك في نظر الشريعة. وأما تبني سياسة تحديد النسل عامة في الدول، فقد جاء القرآن صريحا في تحريمها، حيث قال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} (1) فالنتيجة التي ورد ذكرها في هذه الآية الكريمة لتحريم نعمة التناسل بقتل الأولاد، هي الخسران، والوجوه التي تظهر عليها نتيجة الخسران هذه، تكون في الجسد والروح، وفي الحياة المدنية والاجتماعية، وفي الأخلاق وفي النسل والحياة القومية، وفي إضاعة المصالح القومية في سبيل المصالح الشخصية وفي الانتحار القومي، وفي الخسائر الاقتصادية. وذكر بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} (2) فقال: إنهم يحرمون على أنفسهم ما قد أحل الله لهم من المأكولات والسبب في ذلك أنه لم تكن قديما حركة لتحديد النسل ولكن الله الذي يحيط بعلمه كل ما كان وما سيكون، ما استعمل إلا كلمات عامة لا تشمل تحريم المباحات من المأكولات فحسب وإنما تشمل أيضًا تحريم كل نعمة أنعمها على عباده وكلمة " الرزق " لا تستعمل في معاجم اللغة وفي كلام العرب لمجرد المأكولات والمشروبات، وإنما تستعمل لكل نعمة بما فيها نعمة الذرية، ولما قد جاء هنا ذكر تحريم " الرزق " عقب قتل الأولاد، فمعناه الواضح أنه كما قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم، كذلك قد خسر الذين حرموا على أنفسهم، نعمة التناسل والإنجاب والأولاد.   (1) سورة الأنعام الآية 140 (2) سورة الأنعام الآية 140 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 الخلاصة: نستخلص من هذا كله أن اتخاذ طرق لتحديد النسل، من عزل وغيره، من أسباب منع الحمل كخطة قومية وتعامل عام في المجتمع، أمر مصادم للشرع، ومتناف مع أحكامه، ولكن إذا تعرضت المرأة لظروف يمكن أن تؤدي إلى هلاكها، أو هلاك رضيعها، نتيجة حمل، فإنه يمكن في هذه الحالة، أن يسمح لها باستعمال إحدى الطرق المذكورة، لإنقاذها وذلك بعد مشورة الطبيب كما ذكرنا آنفا، والله أعلم. تجاني صابون محمد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 تنظيم النسل وتحديده إعداد الحاج عبد الرحمن باه إمام جامع وعضو المجمع الفقهي الإسلامي عن جمهورية غينيا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وحده لا شريك له، والصلاة والسلام على رسوله الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تمسك بسنته والتمس الرشاد في هديه إلى يوم الدين. وبعد: سادتي العلماء.. وشيوخي الأفاضل.. أقف بين أيديكم موقف المتهنئ لإلقاء كلمة حول الموضوع الذي اخترته من ضمن المواضيع التي ستدرس وتناقش في دورتنا هذه ولعله يكون مساهما في حركة المجمع الفقهي وأرجو أن يكون في محل الثقة عند سعادتكم، وإذا كان الصواب فمن الله تعالى، وإذا كان الخطأ فكلنا خطاؤون وخير الخطائين التوابون. فالموضوع هو: تنظيم النسل وتحديده سبب اختياري لهذا الموضوع: هو أن المجتمع الإسلامي في عصرنا الحاضر يعيش بين التيارات المعادية للإسلام من أهل الباطل والضلال وأصحاب الأهواء والمتجبرين في الأرض، ويخطئ من يظن أن الحرب بين الإسلام وأعدائه قد وضعت أوزارها وإنما بالعكس فالحق أن أعداء الإسلام يدبرون لحربه كل يوم وسيلة من وسائلهم المختلفة إما في الفكر أو الثقافة أو المذهب أو العادات والتقاليد؛ لأن أكثر المعارك الآن تخطيط يتناول مظاهر حياة المسلمين كلها ابتداء من تغيير الزي وتغيير العادة إلى تغيير الخلق والسلوك وانتهاء بتغيير منهج الله وشريعته في المجتمع. أيها السادة والشيوخ.. ما هذا الإنسان؟ مم خلق؟ وكيف كان؟ وكيف صار؟ وكيف قطع رحلته الكبيرة حتى جاء إلى هذا الكوكب؟ ألم يك نطفة من الماء، من منيٍّ يُمْنَى ويراق؟ ألم تتحول هذه النطفة من خلية صغيرة إلى علقة ذات وضع خاص في الرحم، تعلق بجدارنه لتعيش وتستمد الغذاء؟ .. فمن ذا الذي ألهمها هذه الحركة؟ ومن ذا الذي أودعها هذه القدرة؟ ومن ذا الذي وجهها هذا الاتجاه؟ ثم من ذا الذي خلقها بعد ذلك جنينا معتدلًا منسق الأعضاء؟ مؤلفًا جسمه من ملايين الملايين من الخلايا الحية، وهو في الأصل خلية واحدة مع بويضة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 والمرحلة المديدة التي قطعها من الخلية الواحدة إلى الجنين السوي وهي أطول بمراحل من رحلته من مولده إلى مماته. والتغيرات التي تحدث في كيانه في الرحلة الجنينية أكثر وأوسع مدى من كل ما يصادفه من الأحداث في رحلته من مولده إلى مماته! فمن ذا الذي قاد هذه الرحلة المديدة، رحلة هذه الخليقة الصغيرة الضعيفة التي لا عقل لها ولا مدارك ولا تجارب؟ ثم في النهاية من ذا الذي جعل من الخلية الواحدة.. الذكر والأنثى؟ وأي إرادة كانت لهذه الخلية في أن تكون ذكرًا؟ وأي إرادة لتلك في أن تكون أنثى؟ أمن ذا إلى يزعم أنه تدخل فقاد خطواتهما في ظلمات الرحم إلى هذا الاختيار؟ إنه لا مفر من الإحساس باليد اللطيفة المدبرة التي قادت النطفة في طريقها الطويل، حتى انتهت بها إلى ذلك المصير.. وجهات النظر (أ) المفكرون الإسلاميون: لا ريب أن بقاء النوع الإنساني من أول أغراض الزواج أو هو غاية هذه الأغراض. وبقاء النوع إنما يكون بدوام التناسل. وقد حبب الإسلام في كثرة النسل، وبارك الأولاد ذكورًا وإناثًا ولكنه رخص للمسلم في تنظيم النسل إذا دعت إلى ذلك دواع معقولة وضرورات معتبرة، وقد كانت الوسيلة الشائعة التي يلجأ إليها الناس لمنع النسل أو تقليله - في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هي العزل (وهو قذف النطفة خارج الرحم عند الإحساس بنزولها) وهذا يتم بدور الذكر؛ لأن دور الذكر في التناسل هو تقديم النطاف فقط، ولأن طرح النطف لا يفيد في العملية التناسلية أيضًا ما لم يتم في مهبل المرأة. وقد كان الصحابة يفعلون ذلك في عهد النبوة والوحي كما روي في الصحيحين عن جابر: ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا ولو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن)) (1) . وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رسول الله إن لي جارية وأنا أعزل عنها، وإني أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال وإن اليهود تحدث: أن العزل الموءودة الصغرى!! فقال عليه السلام: " كذبت اليهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه ")) (2) . ومراد النبي صلى الله عليه وسلم أن الزواج - مع العزل - قد تفلت منه قطرة تكون سببًا للحمل وهو لا يدري.   (1) سنن الترمذي 241 (2) سنن الترمذي 242 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 وفي مجلس عمر تذاكروا العزل فقال رجل: إنهم يزعمون أنه الموءودة الصغرى فقال علي: لا تكون موءودة حتى تمر عليها الأطوار السبعة، حتى تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم تكسى لحمًا، ثم تكون خلقًا آخر. فقال عمر: صدقت أطال الله بقاءك. لقد قال الشيخ أحمد محمد عساف في كتابه الحلال والحرام في الإسلام ما نصه: (قد تنشأ أسباب أو ضروريات تدفع الإنسان إلى تنظيم أسرته أو تنظيم نسله، بأن يجعل هناك فترات متباعدة بين مرات الحمل وينشأ عن ذلك أن يكون عدد الذرية قليلا، نزولا على مقتضيات تلك العوامل والأسباب) . وقد ذكر إباحة العزل الإمام الغزالي والإمام ابن القيم الجوزية وغيرهما، ولكن لا يجوز إجراء عملية يترتب عليها تعطيل الأجهزة التناسلية بصفة دائمة عند الزوج أو الزوجة؛ لأن هذا اعتداء على خلقة الله تعالى دون موجب.. (ب) المفكرون الغربيون: منهم (مرجريت سنجاير) . ومنذ عام 1915 م قامت مرجريت سنجاير رائدة ضبط تحديد النسل فزينت جدران مكاتب أبحاثها بمدينة نيويورك حتى استجوبها القضاة أمام مجلس القضاء بشأن نشاطها الهدام من أجل ضبط النسل فابتكرت فكرة جديدة وهي أن تعلم النساء طريقة منع الحمل فاختارت خير مكان هو فرنسا وسافرت إلى باريس وبعدما شاعت دعايتها هناك قررت السيدة عودتها إلى نيويورك فأصدرت نشرة شهرية بعنوان: المرأة الثائرة. وألفت كتابا بعنوان: تحديد الأسرة. لم يقبل أي ناشر طبعه. ثم سافرت مرجريت سنجاير إلى موسكو في عام 1934 م ومنها توجهت إلى الهند وقابلت غاندي الذي اقتنع بأن الأمومة ينبغي أن تكون واعية واختيارية خاصة وأن هذه مسألة تتعلق باحترام حرية المرأة في مجال يخصها بالدرجة الأولى فرفض الموافقة على استعمال مواد موانع الحمل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 ضروريات تنظيم النسل 1 - الخشية على حياة الأم أو صحتها من الحمل أو الوضع، إذا عرف بتجربة أو إخبار طبيب ثقة. قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} النساء [29] وقال: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} البقرة [195] . 2 - الخشية من وقوع حرج دنيوي قد يفضي به إلى جرم في دينه، فيقبل الحرام ويرتكب المحظور من أجل الأولاد. قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة 185 - وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} سورة المائدة 6. 3 - الخشية على الأولاد أن تسوء صحتهم أو تضطرب تربيتهم. وفي صحيح مسلم (عن أسامة بن زيد أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أعزل عن امرأتي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لِمَ تفعل ذلك؟)) فقال الرجل: أشفق على ولدها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان ضارًّا لضر فارس والروم)) (1) . وكأنه عليه السلام رأى أن هذه الحالات الفردية لا تضر الأمة في مجموعها بدليل أنها لم تضر فارس والروم وهما أقوى دول الأرض حينذاك. 4 - الخشية على الرضيع من حمل جديد ووليد جديد، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الوطء في حالة الرضاع وطء الغيلة أو الغيل لما يترتب عليه من حمل يفسد اللبن ويضعف الولد، وإنما سماه غيلا أو غيلة؛ لأنه جناية خفية على الرضيع فأشبه القتل سرًّا. وكان عليه السلام يجتهد لأمته فيأمر بما يصلحها، وينهاها عما يضرها، وكان من اجتهاده لأمته أن قال: (لا تقتلوا أولادكم سرًّا فإن الغيل يدرك الفارس قيد عثرة) (2) . ولكنه عليه السلام لم يؤكد النهي إلى درجة التحريم.. ذلك لأنه نظر إلى الأمم القوية في عصره فوجدها تصنع هذا الصنيع ولا يضرها فالضرر إذًا غير مطرد، هذا مع خشية العنت على الأزواج لو جزم بالنهي عن وطء المرضعات، ومدة الرضاع قد تمتد إلى حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة. لذلك كله قال: (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة ثم رأيت فارس والروم يفعلونه ولا يضر أولادهم شيئا) (3) . والمفهوم من تعاليم الشريعة الغراء أنه إذا كان هناك داع يستوجب هذا التنظيم في النسل فلا مانع شرعًا من اتباع طريقة سليمة لتحقيق ذلك. ومن هنا قرر العلماء إباحة منع الحمل مؤقتًا بين زوجين أو دائمًا إذا كان بهما أو بأحدهما داء من شأنه أن ينتقل في الذرية والأحفاد. وتنظيم النسل بهذه الأسباب الضرورية تبيحه الشريعة الإسلامية أو تحتمه على حسب قوة الضرر ونفعه؟   (1) أخرجه مسلم ت: 241 (2) أبو داود ت: 242 (3) مسلم: ت: 243 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 مانعات الحمل أولا: العصر الحديث: 1 - وقد استحدث في عصرنا من الوسائل التي تمنع الحمل حبوب تتركب من مركبات البروجسترون والإستروجين ولكنها ذات تأثيرات جانبية سيئة، تختلف من امرأة إلى أخرى، ومن هذه التأثيرات التوتر الشرياني، والعنانة (الضعف الجنسي) والصداع المعند، والاكتئاب النفسي، واختلاف توازن سكر الدم، واحتقان الثديين بشكل مؤلم (1) . فمعظم النسوة يستعملن هذه الحبوب ليمارسن العلاقات الجنسية المحرمة. يقول الدكتور نيكول: (إن المشكلة التي تواجهنا اليوم هي تبدل قيمنا الأخلاقية التي شجعت وتشجع إقامة العلاقات الجنسية المحرمة، وهذه بدورها سببت ازديادًا حادًّا في إصابات الأمراض الجنسية) SIDA (2) . 2 - الاعتزال: وذلك بأن يعتزل الرجل زوجته فلا يجامعها في أيام محددة من الدورة الطمثية.. ثلاثة أيام قبل موعد الإباضة وثلاثة بعدها ويوم الإباضة، وبذا تتم الإباضة دون إلقاح، ولا بد لنجاح هذه الطريقة من أن تكون الدورة الطمثية منتظمة، وأن نعرف يوم الإباضة بالضبط. ثانيًا: عصر النبوة والوحي: العزل: وذلك بأن يعزل الرجل ماءه ويقذفه خارج مهبل زوجته. لحديث جابر السابق: ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) .   (1) الأمراض الجنسية: د. نبيل ص 86 (2) الأمراض الجنسية. د. نبيل ص 86 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 إسقاط الحمل وإذا كان الإسلام قد أباح للمسلم أن يمنع الحمل لضرورات تقتضي ذلك فلم يبح له أن يجني على هذا الحمل بعد أن يوجد فعلًا. واتفق الفقهاء على أن إسقاطه بعد نفخ الروح فيه حرام وجريمة، لا يحل للمسلم أن يفعله؛ لأنه جناية على حي متكامل الخلق، ظاهر الحياة، قالوا: ولذلك وجبت في إسقاطه الدية إن نزل حيًّا ثم مات، وعقوبة مالية أقل منها إن نزل ميتا، ولكنهم قالوا: إذا ثبت من طريق موثوق به أن بقاءه بعد تحقق حياته هكذا يؤدي لا محالة إلى موت الأم فإن الشريعة بقواعدها العامة تأمر بإرتكاب أخف الضررين، فإذا كان في بقائه موت الأم وكان لا منقذ لها سوى إسقاطه، كان إسقاطه في تلك الحالة متعينًا، ولا يضحى بها في سبيل إنقاذه؛ لأنها أصله، وقد استقرت حياتها، ولها حظ مستقل في الحياة، ولها حقوق وعليها حقوق، فهي بعد هذا وذاك عماد الأسرة، وليس من المعقول أن نضحي بها في سبيل الحياة لجنين لم تستقل حياته، ولم يحصل على شيء من الحقوق والواجبات (1) . وقال الإمام الغزالي يفرق بين منع الحمل وإسقاطه: (وليس هذا - أي منع الحمل - كالإجهاض والوأد؛ لأن ذلك جناية على موجود حاصل، والوجود له مراتب، وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة وإفساد ذلك جناية، فإن صارت نطفة فعلقة، كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشًا، ومنتهى التفاحش في الجناية هي بعد الانفصال حيًّا (2) . تقليل النسل في العصر الجاهلي منها: وأد البنات، قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} التكوير: [8، 9] ، وقيل في التسهيل: الموءودة هي البنت التي كان بعض العرب يدفنها حية من كراهته لها أو غيرته عليها. فتسأل يوم القيامة {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} ؟ على وجه التوبيخ لقاتلها. فلهذا يقول عز وجل: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} النحل [58] .   (1) الفتاوى للشيخ محمود شلتوت (2) إحياء علوم الدين للإمام الغزالي كتاب النكاح: 47 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 الخلاصة رَأْيُنَا حول هذا الموضوع: ترى ما هو العلاج لهذا الموضوع الخطير الذي يحاول أعداء الإسلام تشويه المجتمع الإسلامي به؟ إن مشكلة تنظيم النسل وتحديده في هذا العصر المائع والمجتمع المضطرب والقيم الأخلاقية المتدهورة والصراع المادي المستحكم، ليست سهلة الحل إذا عولجت على أساس أنها عارض منفصل عن بقية أوجه الحياة، والإسلام وحدة متكاملة في نظام حياته المتميز، وَرَحِمَ الله من قال: (خذوا الإسلام جملة أو فاتركوه) . إن تأييد تحديد النسل تأييد لأعداء الإسلام الذين يحاولون تشويه المجتمع الإسلامي ودعاياتهم منتشرة في جميع النواحي. قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} الإسراء [31] . وفي وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) . وقال أيضًا: ((من ترك الزواج مخافة العيال فليس منا)) . فالإسلام كفيل بحل مشكلة تنظيم النسل وتحديده في المجتمعات المسلمة.. عندما تكون له السيادة فيها. أما الترقيع الإجتماعي الجزئي فليس من أسلوب الإسلام ولا من منهجه؛ لأن المصلحة التي هدف إليها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي حماية الرضيع من الضرر - مع تجنب المفسدة الأخرى - وهي الامتناع عن النساء مدة الرضاع وما في ذلك من مشقة. وعلى ضوء هذا نستطيع أن نقرر أن المدة المثلى في نظر الإسلام بين كل ولدين هي ثلاثون أو ثلاثة وثلاثون شهرًا لمن أراد أن يتم الرضاعة، وقرر الإمام أحمد وغيره أن ذلك يباح إذا أذنت به الزوجة؛ لأن لها حقًّا في الولد، وحقًّا في الاستمتاع. وروي عن عمر أنه نهى عن العزل إلا بإذن الزوجة (1) . فالمهم أنه لا يجوز إجراء أي عملية يترتب عليها تعطيل الأجهزة التناسلية بصفة دائمة عند الزوج أو الزوجة. فقد يكون لهما على سبيل المثال ولدان أو عدد من الأولاد ثم يجريان عملية التعقيم وبعد ذلك يموت هؤلاء الأولاد موتًا طبيعيًّا أو في حادث من الحوادث ولا يستطيعان بعد ذلك أن يحصلا على أولاد لتعطل الأعضاء التناسلية عندهما. يقول الدكتور: هـ. فلورنوي (إن الشعب الذي يحتاج إلى التهديد بفرض العقوبات التشجيعية على النسل والحفاظ على ارتفاع معنوياته شعب معتل وليس ناضجًا بالمرة) (2) . سادتي العلماء وشيوخي الأفاضل كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحاج عبد الرحمن باه   (1) الحلال والحرام في الإسلام د / يوسف القرضاوي (2) ضبط النسل وتنظيم الأسرة كاكرين فالا بريج ص 18 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 تنظيم النسل وتحديده إعداد الشيخ الشريف محمد عبد القادر عميد المدرسة العالية بسرسينة وعضو مجمع الفقه الإسلامي عن بنغلاديش بسم الله الرحمن الرحيم تنظيم النسل وتحديده الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد وآله وأصحابه أجمعين أما بعد: 1 - فإن المفهوم المتبادر في الأذهان من كلمة تنظيم النسل وتحديده هو العمليات الجارية للحد من تزايد عدد السكان والمزايا الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عنها - ولكن الكلمة تشمل معنى أوسع وأرحب ليس مقصورًا في شئون التقليل من عدد البطون الآكلة. وقد أولى الدين الإسلامي الحنيف أهمية خاصة لتنظيم النسل وبين أصول وقواعد تحسين وتوطيد الأواصر بين أفراد العائلة وتهذيب أخلاقهم وتطوير مستوياتهم الدينية والمالية. 2 - فإن اللبنة الأساسية للأسرة والوسيلة الشرعية الوحيدة لابقاء عمليات التوالد والتناسل المستمرة هي العلاقة الزوجية بين رجل وامرأة - ونالت هذه العلاقة الزوجية أهمية بالغة وعناية خاصة في الشريعة الإسلامية - قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) . ووصف القرآن الكريم الزوجين بأن أحدهما لباس للآخر - {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (2) . وأشار كتاب الله الكريم إلى وسيلة حسن نظام العائلة وقال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (3) . وتعاليم الدين الحنيف في هذا المجال واضحة ومتوسعة في آيات القرآن الحكيم وأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. ومعرفة هذه الأحكام والنصائح ونشرها فيما بين الناس وخاصة فيما بين الفتيان والفتيات من المسلمين والمسلمات لتمكينهم من بناء أسرة إسلامية سليمة ومن تربية وتوعية الأجيال الآتية تعتبر من أهم أعمال تنظيم النسل والأسرة.   (1) سورة الروم الآية 21 (2) سورة البقرة الآية 187 (3) سورة النساء الآية 34 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 3 - ومن الواجبات المهمة والمكلف بها الآباء والأمهات هي تربية الأولاد الذكور والإناث الذين أنعم الله بهم على الزوجين نتيجة حياة زوجية سليمة وطبيعية وذلك طبقا للشريعة الإسلامية وقوانين الصحة البدنية والعقلية وأكدت الشريعة الإسلامية في هذا الصدد على الرضاعة من ثدي الأم بدلا من الرضاعة الصناعية ومن ثَمَّ بَيَّنَ القرآن الكريم الرضاعة بنوع من التفصيل حيث قال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} الآية - وغيرها من الآيات الكريمة بهذا الشأن - والاعتماد على الخادمات والمربيات لتربية الأولاد وتخلي الأمهات عن هذه الواجبات لينشغلن بشئون أخرى ربما بأمور لا تعنيها مما لا توافق عليه الشريعة الإسلامية ولا ترضى بها فإن تربية المولود في مهد من ولدته هو المطلوب لتنظيم الجيل الصاعد، ومفاسد الاعتماد على المربيات الأجنبيات لتربية الأولاد قد برز جليًّا في بعض مجتمعاتنا الإسلامية خاصة الراقية منها والتي يحلو لها تقليد الغرب في كل شئون الحياة ويتحتم علينا أن نتنبه لهذا الخطر العظيم قبل فوات الأوان - ومن أعمال تنظيم النسل التي يجب علينا أن نتوجه إليها هو توعية الأمهات المسلمات وحثهن على تأدية واجباتهن تجاه رضائعهن كما يجب توفير الأجواء والوسائل المناسبة لهن ليقمن بواجباتهن مرضاة لله العليم الخبير. 4 - إن مرحلة الطفولة التي تعقب مرحلة الرضاعة تعتبر من أهم المراحل في حياة الإنسان - فإن هذه هي المرحلة التي تتكون فيها شخصية رجل وامرأة المستقبل ومسئولية تكوين شخصية الإنسان إنما تقع على عواتق الأبوين كما قال نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أويمجسانه)) - ويدل هذا الحديث الشريف بكل وضوح على أن توعية الأولاد توعية إسلامية وحفظهم من العقائد الضالة والثقافة الباطلة من واجبات الأبوين أولا وقبل أية جهة أخرى - وجاء في الحديث الشريف ((ألا كلكم راع وكل مسئول عن رعيته .... الحديث)) - وقال النبي صلى الله عليه وسلم ((مروا أولادكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 وبالعموم تعليم الأولاد وتربيتهم في البيئة العائلية وبين أفراد العائلة هو الأكثر إفادة والأقوم دعامة والأمثل نتيجة - أما التعاليم المدرسية والجامعية قد تساعد على تقوية أعمال العائلة ولكن في بعض الأحيان وللأسف الشديد قد تؤثر التعاليم المدرسية والجامعية في معظم البلدان الإسلامية تأثيرات سلبية على أفكار ومعتقدات فلذات أكبادنا ومن ثم تزداد مسئولية العائلة وصاحبها وتعتبر تربية الأولاد وتوعيتها من أهم أعمال تنظيم النسل والأسرة. 5 - وشجع الإسلام على تزويج الأولاد والبنات عند بلوغهم سن الزواج وقال ربنا العزيز الرحيم في كتابه الحكيم {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} (1) أما الرهبانية والعزوبة والعنوسة فلا مجال لها في الإسلام - ويرفضها كتاب الله المجيد بنص صريح حيث قال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (2) - وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ((لا رهابنية ولا خصاء في الإسلام)) - وأيضا قال ((النكاح من سنتي ومن رغب عن سنتى فليس مني)) - فإن الزواج الإسلامي هو وسيلة شرعية لزيادة أعداد متبعي الرسول الذين سيباهي بهم - فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((وانكحوا الودود فإني أباهي بكم يوم القيامة)) وأيضا قال: ((فإني مكاثر بكم الأمم)) والامتناع من الزواج لمدة طويلة في انتظار الحصول على الاستطاعة المزعومة مما لا يحمد عاقبته من الناحية الدينية؛ لأن الاستطاعة من الأمور النسبية والبركة في يد الله وأن الاستطاعة لا تعني أبدا توفر أسباب ووسائل الترف والبذخ - وتنظيم النسل في الإسلام يتطلب الإسراع في الزواج بغية الحصول على الأولاد خلال قمة الشباب فيكون الجيل الجديد أقوى من الناحية البدنية والعقلية وفي حين تكون القوى العاملة للوالد في ذروتها بحيث يستطيع بذل جهود متزايده ليبتغي من فضل الله، فيصرفه على الأولاد. 6 - إعداد الأولاد لكسب المال والأرزاق وحثهم على الجهد والعطاء من الواجبات الإسلامية ومتطلبات تنظيم الأسرة وأوصى نبينا المصطفى على أن نترك أولادنا في حالة لا يضطرون فيها على مد أيدي السؤال لما يقتات به من المال، ولا يحصل ذلك بتوفير خزينة من المال وتركها للأولاد، ما لم يكن الأولاد قادرين على حفظ وحسن استخدام هذه الأموال، أما الأولاد الذين تدربوا على حرفة ومهنة وتعرفوا على أساليب سليمة لكسب الأرزاق بالكد والجهد فهم الذين يعيشون حياة ناجحة وسعيدة، وأما جمع المال والمقدرة في مكان واحد فذلك فضل الله يعطيه من يشاء.   (1) سورة النور الآية 32 (2) سورة الحديد الآية 27 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 7 - قد يقال: إن كثرة عدد الأولاد قد تحول دون تأدية الواجبات تجاههم - ويتعذر للأبوين توفير كل المتطلبات للأولاد، ومن ثم يبرر عمليات تحديد النسل، كما يقال: إن خيرات الدنيا ومصادر الرزق محدودة للغاية، كما أن مساحة الكرة الأرضية والمناطق المسكونة منه محدودة - فإن استمر تزايد السكان في العالم بدون حد أو قيد لن يجد الإنسان ما يقتات به ولن يجد مكانًا للسكن - وسيعجز الإنسان من توفير فرص التعليم لأولاده - وسينخفض مستوى معيشة الإنسان إلى الحد الأدنى - وسيعم الفساد في الأرض وستندلع حروب مستنزفة وستحدث كوارث طبيعية ومدمرة ويلقى على أثرها مئات الألوف ضحايا. 8 - ومن أجل الحفاظ على نوع البشر من سلبيات التزايد السكاني المزعومة والمذكورة أعلاه تم إجراء حملة قوية وعالمية لتحديد النسل - وتم إيجاد طرق ووسائل متنوعة للتعقيم ومنع الحمل، وتم اتخاذ إجراءات كفيلة بتوفير هذه الوسائل وتوصيلها إلى متناول عامة الناس بسهولة وبأثمان رخيصة للغاية، ويجري صرف كميات ضخمة من المال واستخدام أفواج كبيرة من البشر لإجراء حملات دعائية واسعة النطاق ترغب عامة الناس في التقليل من الإنجاب واتخاذ وسائل كفيلة بتحديد النسل، وفي بعض البلدان تم فرض حظر قانوني على إنجاب أكثر من عدد محدد من الأولاد والبنات - قد يعاقب الزوجان على إنجاب أكثر من عدد محدد من الحكومة، وذلك بفرض ضرائب مالية عليهما، ومن خلال هذه الوسائل والتدابير تم التقليل من إمكانية استقرار الحمل، وتم في بعض البلدان إحلال الإجهاض - ونتيجة للحملات الدعائية والمعادية للحمل والإنجاب قد زادت عمليات الإجهاض غير الشرعي بشكل كبير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 9 - ومثل هذه الحملات والبرامج لمنع الحمل وتحديد النسل لا تقرها الأصول والمبادئ الإسلامية، ونظرية عجز الأرض من توفير أرزاق العدد المتزايد من العباد تنفي وتعادي عقيدة الكفالة الربانية لأرزاق الخلائق {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (1) {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} (2) {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (3) {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} (4) {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (5) {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (6) {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ} (7) {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (8) - والآيات القرآنية والأحاديث النبوية كثيرة في هذا الشأن ولا داعي لحصرها. 10 - ومما لا شك فيه أن عدد أولاد آدم يتزايد يوما بعد يوم بانسجام تام ووئام كامل مع الخطة السماوية لخلق الخلائق - فإن الخالق العزيز القدير خلق نفسا واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء حتى بلغ عدد سكان العالم اليوم عدة بلايين ولكن لم تبخل الأرض ولا السماء عن توفير الأرزاق لهذا العدد الهائل من البشر بل يتفتح كل يوم آفاق جديدة لرزق لا يحصى - فإن الإنسان ليس عبارة عن بطون آكلة فحسب - بل لكل إنسان عينان يبصر بهما ورجلان يمشي عليهما ويدان يعمل بهما وعدد كبير من الأعضاء والجوارح يستخدمها وله مخ ثمين يفكر به ليس لإبقاء حياته فحسب بل لتحسين مستواه وتطويره - وما حققه الإنسان من النجاح في هذا المجال فهو البين والأظهر من الشمس - ولهذا من الواهيات والخرافات الاعتقاد بأن مصادر الرزق محدودة للغاية وأنها اقتربت للنفاد وسوف تنفد عاجلا إن لم يتم تحديد النسل والتقليل من تزايد البشر - والحق أن خيرات الأرض وفيرة وكافية لسد حاجة سكانها الحاليين وفي المستقبل وكل الحرمان في فريق من البشر مرده إلى بغي الفريق الآخر.   (1) سورة الذاريات الآية 58 (2) سورة هود الآية 6 (3) سورة الإسراء الآية 31 (4) سورة العنكبوت الآية 60 (5) سورة إبراهيم الآية 34 (6) سورة الحجر الآية 21 (7) سورة الأعراف الآية 96 (8) سورة المائدة الآية 66 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 11 - ولا مبرر للقول والاعتقاد بأن عمليات تزايد عدد البشر تجري بدون أي تخطيط من رب العالمين، ولا يجوز القول إن الخالق الرب قد ترك الحبل على الغارب فيتزايد البشر والخلائق بطريقة عشوائية وغير مخططة - فإن من المعترف به علميًّا أن قطرة من النطفة البشرية تحتوى على عدد لا يحصى من الحيوانات المنوية والقابلة لتلقيح البويضة النسائية وبالتالي صالحة لاستقرار الحمل، وكذلك عدد البويضات المفروزة في الدفعة الواحدة مما لا يحصى. وعلى كل هذه الإمكانيات الهائلة كم هو الرقم القياسي للإنجاب في العالم وعلى مدى العصور الماضية؟ هل يقارن ذلك العدد بتلك الإمكانية الهائلة؟ وهذه الحقيقة العلمية تدل على أن عمليات الخلق والموت تجري وتستمر تحت خطة إلهية راسخة، وأية محاولة للتدخل في تنفيذ هذه الخطة المقدسة سوف تسفر عن نتائج وخيمة، وبالفعل قد برزت للظهور سلبيات برامج تحديد النسل في البلدان الراقية والرائدة في هذا المجال، فإن مستوى الأخلاق في تلك الأقطار قد انهار كل انهيار وزادت أحداث الاغتصاب والشذوذ الجنسي بشكل رهيب - وبدأت هذه البلدان تعاني من عجز الكوادر الفنية والأيدي العاملة والعقول المدبرة الوطنية - وزادت نسبة الكهول من الشبان. وهذه السلبيات تسببت بكثير من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية مما يهدد هوية بعض هذه البلدان، وتنبه مسئولو هذه البلدان لهذا الخطر العظيم وبدءوا في اتخاذ إجراءات لتشجيع الشبان على الزواج وإنجاب عدد أكبر ممكن من الأولاد، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} . 12 - وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن دول العالم المتقدمة وغير الإسلامية قد تنبهت لأخطار تحديد النسل - وتجرى في تلك الدول محاولات شاطرة ومدروسة لزيادة العدد السكاني وتصدر من مراكزها الدينية كل يوم وليلة فتاوى تندد بعمليات تحديد النسل وتمنع متبعيها من اتخاذ خطوات لمنع الحمل وتشجعهم على زيادة أبناء المسيح عن طريق التوالد والتبشير، وفي الوقت نفسه تصرف هذه الدول موارد مالية ضخمة وقوى عاملة كبيرة لتشجيع سكان الدول الإسلامية في آسيا وأفريقيا على تحديد النسل والتقليل من تزايد عدد السكان المسلمين. وهذا إلى جانب حملة تبشيرية قوية التي يقوم بها العالم المسيحي في الدول الإسلامية ونظرا إلى هذه الظروف لا يستبعد أن تكون مؤامرة تكمن وراء هذه الحملات والعمليات لتحديد النسل من أجل القضاء على الأمة الإسلامية وثقافتها وكيانها الديني والسياسي. وينبغي أن يظهر أن الأعذار الشخصية المبيحة للعزل وما يقوم مقامه غير مؤثرة في توكل العبد على الله تعالى بإيصاله الرزق إليهم لا جليًّا ولا خفيًّا فهي المرض في الزوجين أو في أحدهما الذي يخاف به نقصان الصحة وسرايته في الولد واستبقاء الحياة بالتحرز عن المخاض وحسنها وسمانتها أو الخوف من الإفضاء إلى كسب حرام أو الخوف من الولد السوء لفساد الزمان ومانحا نحوها وكأن يكون في سفر بعيد أو في دار الحرب فخاف على الولد فعلى العبد أن لا يقع خلل في إيمانه برازقه تعالى عند اختياره شيئًا من تلك الأعمال المرخصة. هذا ما عندي والعلم عند الله تعالى الشريف محمد عبد القادر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 تحديد النسل وتنظيمه إعداد الشيخ مولاي مصطفى العلوي رئيس المجلس العلمي بمكناس ومستشار وزير الأوقاف ورئيس رابطة علماء المغرب والسنغال بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل. استجابة لدعوة مجمع الفقه الإسلامي الموقر للاشتراك في دورته الخامسة بما يسر الله. فقد اخترت أن أدلي ببحث متواضع على قدر استطاعتي وبضاعتي المزجاة من العلم، وذلك حول تحديد النسل وتنظيمه. ومن الله أستمد العون والتوفيق سبحانه. تعريف تحديد النسل وتنظيمه هو اتخاذ ما يمنع الحمل المعهود بين الذكر والأنثى عند الاتصال الجنسي بين الرجل وزوجته بصفة مؤقتة أو دائمة، فالدائمة هي التحديد والمؤقتة هي التنظيم كما سيأتي: حركة التنظيم والتحديد: كثيرا ما نسمع ونقرأ عن حركة التنظيم والتحديد مما يكتب تحت عناوين مختلفة مثل: (تنظيم الأسرة) (والتخطيط العائلي) وغيره والتي يختلف القائمون بها والمهتمون ما بين محبذ ومنكر ومتردد. والكل يأتي بأسباب تتفق أحيانا وتختلف أخرى، ويحاول إقناع القارئ والمستمع بسداد رأيه، وإظهار حجته، وبلورة رأيه بما يتفق والهدف الذي ينشده، والرأي الذي يدافع عنه. والقضية قديمة في تاريخ الإنسانية، ففي المجتمع الإسلامي بدأت في مستهل عصره، وفي عهد النبوة وحياة الرسول عليه السلام وعندما فكر بعض الصحابة في العزل عن المرأة لأسباب وقتية طارئة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأفاد بما يفيد الجواز مع الكراهة كما أفاده الفقهاء من جوابه عليه السلام: " لا عليكم أن لا تفعلوا ". وسنورد الأحاديث الثابتة في ذلك بحول الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 أما في المجتمعات غير الإسلامية فقد ثبت عند العلماء تاريخيًّا أن بعض القبائل البدائية، كانوا يتضايقون من كثرة الإنجاب، فيتخلصون من بعض ما أنجبوه بالقتل رغبة في التخلص من أعباء النفقة التي تثقل كواهلهم ومن هذا المنطلق بدأوا بقتل الإناث والاحتفاظ بالذكور؛ لأن هؤلاء يشتغلون مع آبائهم في شئون الحياة، ويساعدون على كثرة الإنتاج، وفي بعض القبائل العربية كانوا في عصر الجاهلية يتخلصون من الإناث خشية العار، فإذا كبرت البنت ولم تتزوج، أصبحت عارًا على أهلها ومذمة، فكانوا يدفنونها بعد ولادتها، وقد ندد القرآن الكريم بهذا العمل الشنيع في قول الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (1) . وفي بعض الأقطار كانوا يختبرون الطفل في طفولته المبكرة فإذا رأى الأب طفله سالم الخلق ذكيا احتفظ به، وإن رآه غير ما يحب تخلص منه بالقتل. وأحيانا كانوا يقتلون أطفالهم خوفا من الجوع والفقر، ولهذه الأسباب جميعها أو بعضها وبهذا السلوك اللاإنساني جاء القرآن الكريم منددًا مستنكرًا هذا المسلك الشنيع فقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (2) . وفي آية أخرى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (3) . وهكذا لم تكن في الأعصر القديمة وسائل للتخلص من كثرة الأولاد غير قتلهم بعد الولادة، فالأسباب تختلف ولكنها في نطاق ضيق، أما اليوم فإنها قد تنوعت وتعددت، ووسائل التخلص منها أيضا كثرت كالإجهاض.. وهو قتل مبكر قبل الولادة، وحدثت وسائل أخرى لمنع الحمل وهي كثيرة ومتنوعة والتي شاع أمرها وذاع تحت عنوان (تحديد النسل وتنظيمه) وأول من دعا إلى ذلك من فلاسفة الغرب هو الفيلسوف (مالتوس) الإنجليزي في أواخر القرن الثامن عشر للميلاد، فقد لفت الأنظار إلى وجوب الحد من إنجاب المواليد خشية الجوع والفقر، وبعد قرن من الزمن جاء فيلسوف آخر بريطاني أيضا ينادي بخطورة النمو الديموغرافي هو (البير وليم كروكس) وذلك أمام قلة موارد الرزق وقلة وسائل التغذية، مما يؤدي إلى المجاعة المهولة.   (1) سورة التكوير الآية 8 و9 (2) سورة الأنعام الآية 151 (3) سورة الإسراء الآية 31 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 والجدير بالذكر أن بناء الدعوة إلى تحديد النسل على قضية التغذية وخوف المجاعة قد ظهر خطؤه مرارا. فالتقدم الاقتصادي في سائر أنحاء الدنيا حقيقة لا يمكن إخفاؤها، وهو شيء يناقض نظرية (مالتوس) ومن سار على نهجه من دعاة الخوف من النمو الديموغرافي وضائقة الغذاء بالنسبة للجنس البشري. والذي ثبت في تاريخ المجتمع الغربي منذ شروعه في عملية تحديد النسل هو عكس ما يقوله هؤلاء، إن الزمن الذي شاعت فيه فكرة التحديد وبدأ تطبيقها على نطاق واسع في الأقطار الغربية أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العشرين، كان الفترة التي تقدم فيها الاقتصاد وازدهرت حركة الإنتاج، وأصبحوا يتخلصون من فائض إنتاج مواد التغذية بإغراقها في البحر وإحراقها بالنار مخافة هبوط أسعارها في الأسواق العالمية، وهكذا ثبت أيضا أن فكرة الخوف من زيادة السكان أمام ضعف الإنتاج الغذائئ والصناعي لا أساس لها، بل العكس هو الصحيح. فالازدهار والنمو الاقتصادي الذي عرفه الغرب، وبعض الأقطار بصفة خاصة، مثل إنجلترا وفرنسا وأمريكا لم يتم إلا عن طريق النمو الديموغرافي لهذه الأقطار. فبالرجوع إلى تاريخ بريطانيا مثلا نجد النمو السكاني بها هو الذي جعلها أثناء القرن التاسع عشر تصبح سيدة العالم، ولا تغيب الشمس عن أقطار نفوذها، ففي القرن الخامس عشر لم يكن سكانها يتجاوزون المليونين ثم قفز عددهم في نهاية القرن الثامن عشر إلى عشرة ملايين، وفي نهاية القرن التاسع عشر وأوائل العشرين إلى 40 مليونا، وهم الآن نحو 60 مليونا، ومع كثافة سكان الجزر البريطانية بهذا العدد، ومساحتها لا تتجاوز 244.100 كلمترًا مربعًا، وذلك سر قوتها وامتداد نفوذها إلى سائر القارات وإلى أمريكا بالذات، وكندا واستراليا وأقطار شاسعة في آسيا أيضا. أما أميريكا الشمالية فقد كان عدد سكانها في منتصف القرن الثامن عشر مليونًا واحدًا، وفي ظرف مائة سنة قفز عددهم إلى 26 مليونًا، أما عدد سكان الولايات المتحدة - أمريكا - اليوم، فيزيد عن 230 مليونًا، وذاك ما منحها قوة اقتصادية وعسكرية، ونفوذًا على العالم كله، مع ملاحظة أن السر ليس في كثرة العدد، بل فيه مع ارتفاع مستوى تكوينه علميًّا وفنيًّا، فالكم وحده لا يفيد ما لم يكن معه الكيف الرفيع. فالمهم في الأمر هو التكوين العلمي والتكنولوجي الذي أصبحت به الدول الغربية اليوم، قوة لها حسابها في المجتمع الإنساني كله شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 أما قضية النمو الديموغرافي، فإنما هي واجهة يهاجم منها أهل الدعوة إلى تحديد النسل في الأقطار الإسلامية عربية وغير عربية؛ لأن الماسكين بزمام السياسة في المجتمع الإنساني يخشون من تكاثر المسلمين ويقظتهم التي قد تجعلهم يستعيدون وحدتهم، ويأخذون بمنهج دينهم الحنيف، الدين الإسلامي الذي يفرض على معتنقيه الأخذ بأسباب التطور والمعرفة والقوة وبذلك تسترجع أمة الإسلام قوتها وسيادتها ونفوذها على الإنسانية وتكون أمة وسطا كما قال الله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1) . وأعتقد أن هذا هو سر هذه الحملة الموجهة إلى المجتمع الإسلامي كله وفي كل مكان، ومن المعلوم أن الإسلام وهو وحي من الله العليم الخبير. مدبر هذا الكون سره وعلنه، ماضيه وحاضره ومستقبله، قد شجع على التناسل وحض عليه فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) .. وقال في حديث آخر وهو أكثر دقة وصراحة في الموضوع: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم)) والحديثان رواهما أصحاب السنن. ومن المؤسف حقا أن تتأثر الشعوب الإسلامية والعربية بصفة خاصة، بدعوة تحديد النسل التي يروجها خصوم الإسلام، ويبذلون في سبيل تحقيقها من الأموال والوسائل، ما لو أنفقوه على بعض الشعوب ذات المظهر التخلفي والمتسم بالفقر، لكان له أثر محمود على تلك الشعوب ولارتفع مستواها الفكري والثقافي وخرجت من حيز التخلف والفقر والجهل. فالأقطار العربية والإسلامية التي يصفونها بما يحبذ فكرة الخوف من النمو السكاني، والمهددة بشبح المجاعة، ويحاولون إخضاعها لتنظيم النسل وتحديده، وفعلا فقد وقعت في شَرَكِ هذه الدعوة كثير من الدول الإسلامية. وأصبح لفكرة التحديد والتنظيم مؤيدون، وأسست للتنفيذ جمعيات ومؤسسات تسهر على تنفيذ هذا المخطط المفروض، مع أن هذه الشعوب لو انتبهت إلى حقيقة أمرها، ودرست أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية ووجدت من يأخذ بيدها ويساعدها على تطوير إمكانياتها الإنتاجية في الزراعة والصناعة، لكانت على شكل وصفة غير التي هي عليها اليوم، مهددة بالمجاعة والتخلف وكثرة الجائعين والعاطلين.   (1) سورة البقرة الآية 143 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 وقد نشرت مجلة المسلم المعاصر في عددها 42 السنة 1984 بتاريخ جمادى الأولى 1404 هـ بحثًا للدكتور السيد محمد علي البار، وفيه فقرة تصف السودان بأنه (سلة الخبز) نظرًا لإمكانياتها الزراعية والحيوانية التي يمكنها أن تطعم العالم العربي بأكمله، والذي يقدر بمائة وستة وأربعين مليون نسمة، والمعروف أن أقطار العالم العربي توجد بها ملايين الهكتارات المسقية والصالحة للزراعة والإنتاج الحيواني. ومع هذا تجد الدعوة إلى تحديد النسل في الأمة العربية والإسلامية ميدانًا خصبا، لرواجها وقبولها وتنفيذها على أيدي المسؤولين في بعض الأقطار، إنه خطأ فاحش، وانصياع لغزو فكري ظالم مغرض يريد المزيد من تدمير المجتمع الإسلامي، والقضاء عليه، ويجب الانتباه لهذا الأمر الخطير الذي لا يقل عما سبقه قبل فترة من الزمن من حرب مدمرة سلطت على العالم الإسلامي بمختلف الأسلحة الفتاكة عجزت الشعوب الإسلامية عن مقاومتها، فخضعت للاستعمار العسكري المباشر، وذاقت مرارته عشرات السنين. وما فكرة تحديد النسل إلا حرب أخرى وبشكل آخر. تلك قضت على مئات الآلاف من رجال الحرب، الذين قاوموا الاستعمار عند بسط نفوذه وقاوموه لإخراجه، وهذه تضعف الأمة من الأساس، إذ تقلل من إنجاب الأطفال الذين هم رجال المستقبل، فتصبح الأمة فقيرة من الرجال الصالحين الأكفاء الذين يناهضون الاستعمار بكل أشكاله فكريا وعسكريا، واقتصاديا، إنها حرب خفية تلبس لبوس التطبيب والإسعاف والتنظيم والإنقاذ، فتسلك طريق المسعفين الأطباء الذين يعملون عن قصد أو غيره على تعقيم الناس رجالا ونساء كما يقال عن دولة الهند، حيث يجري التعقيم سرا وعلانية، وذلك بأمر سلطان الدولة عند علاج المرضى وبدون شعور أكثريتهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 هذه حقيقة مؤسفة وتلك بعض ملابساتها، ومن الأسباب التي أصبح يتعلل بها المتسلطون في هذا الميدان، زيادة على علة الفقر والخوف من المجاعة التي تؤثر على الأسر في تنشئة الأولاد العديدين، وتوقع في حرج دنيوي، وقد تؤدي إلى ارتكاب ما ليس بمشروع من أجل الإنفاق على الأولاد والتوسعة فيه. من هذه الأسباب الخشية على حياة الأم أو سلامة صحتها عند الإكثار من الحمل والولادة والخشية على الرضيع من حمل جديد يفاجئها، وهو المعروف (بالغيلة) ومن ذلك الحفاظ على سلامة جمال المرأة ورشاقتها وراحتها من أعباء الحمل والرضاعة، والانشغال بتربية الأطفال عن المتعة بشبابها وأناقتها. وقد أصبح الكثيرون مع الأسف الشديد يقدمون على تنفيذ خطة وقف الإنجاب اعتبارا من بعض هذه العلل. وهو أمر ينافي الطبيعة البشرية فيستعملون وسائل التعقيم أو تعطيل الإنجاب مؤقتا، وأحيانا تعطيل الزواج الذي حث عليه الإسلام بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)) وقوله عليه السلام ((تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 موقف الشريعة من تنظيم النسل وتحديده فأما التحديد الدائم، وهو التعقيم الذي يتم عن طريق قطع الحبل المنوي للرجل، وقناتي الرحم للمرأة، بحيث يصير كل منهما عقيما طول حياته، فهو أمر يجافي الطبيعة الإنسانية، ويتنافى وتعاليم الإسلام الصريحة؛ لأنه تغيير لخلق الله، وقد ندد القرآن بذلك عندما نسب أمره للشيطان فقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} (1) . فقطع الحبل المنوي وقناتي الرحم تغيير لخلق الله وعمل شيطاني. وإذن التعقيم الدائم غير مقبول شرعا، وحتى في الطبيعة البشرية والفطرة التي فطر الله الناس عليها {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (2) . وأما اتخاذ وسائل التباعد بين الحملين فهو جائز إذا استعملت فيه الوسائل التي لا تلحق ضررا بأحد الزوجين أو بهما، فطبيعة التكوين البشري تختلف من شخص لآخر فهناك من النساء من لا تتهيأ للحمل إلا بعد أمد طويل، ومنهن من تتهيأ للحمل بسرعة، وقد جاء في القرآن ما يفيد جواز العمل على تباعد ما بين الحملين في قول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (3) . فالمرأة إذا حملت تسعة أشهر ووضعت وظلت ترضع مولودها حولين كاملين يكون الزمن الفاصل بين مولودين، ثلاث سنوات تقريبًا، وقد يستفاد من هذا أن الأصلح للمولود والوالدة أن يكون أقل الفصل بين حملين ثلاث سنوات، تستريح فيها المرأة من عناء الحمل ومشقاته، ويتمتع المولود بفترة كافية من الغذاء الأنسب له، وهو لبن أمه، ريثما يتدرج في التغذية إلى الوسائل الطبيعية.   (1) سورة النساء الآية 117، 118، 119 (2) سورة الروم الآية 30 (3) سورة البقرة الآية 233 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وطء المرضع، وسماه وطء الغيلة، وقال: " إنه يدرك الفارس قيد عثرة ". ولكنه أباحه صلى الله عليه وسلم فيما رواه أسامة بن زيد ((أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: " لم تفعل ذلك؟ " فقال الرجل: أشفق على ولدها، فقال الرسول: " لو كان ذلك ضارًّا لضر فارس والروم ")) . رواه (مسلم، وأحمد) . غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم نظر إلى أن منع الناس من الوطء مدة الرضاع قد يؤدي إلى مفسدة أعظم فرخص لهم في وطء المرضع، دفعا لمفسدة أشد من ذلك وهي اندفاع الأقوياء جنسيا إلى ارتكاب المحظور وهو الزنى، خصوصا وقد علم أن الروم وفارس يفعلون ذلك ولا يضر الرضع عندهم وقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (1) . وهو يؤكد رفع الضرر عن الزوجين معًا ومن أشد الضرر أن يحمله الكف عن المرضع مدة الرضاع فيندفع إلى ارتكابه المحرم الذي قد يتسبب له في الموت رجمًا، إذا افتضح أمره وكان محصنًا. فالمرتكب جريمة الزنى يجلد مائة ويغرب سنة إذا كان غير محصن وإذا كان محصنًا، أي متزوجًا، يرجم حتى يموت، وذلك بحكم القرآن والسنة. قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (2) . أما السنة فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز عندما اعترف بالزنى، وهو رجل متزوج اعترف بخطيئته تخلصا من تبعتها غدا بعد الموت. فهذا صحابي اقترف ذنبا عظيما ورأى أن التوبة في نظره لا تكفيه وإنما أراد التخلص من تبعة الذنب غدا يوم القيامة. وهكذا نرى أن الرضاع يمنع الحمل عند الكثير من النساء وإن كان لا يمنعه عند أخريات.   (1) سورة البقرة الآية 233 (2) سورة النور الآية 3,2 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 وهناك سبب آخر يمنع الحمل وهو طبيعي وجائز شرعا ذاك هو اجتناب الاتصال الجنسي بين الزوجين زمنا معروفا بين الحيضتين، وذلك قبل موعد الحيضة بأربعة عشر يوما؛ لأن البويضة التي يتم بها اللقاح تكون قد تجاوزت صلاحية الإنجاب. وبهذا الترتيب يستطيع الزوجان أن يباعدا بين الحملين حسب اختيارهما، غير أن هذا يختلف باختلاف الناس فينبغي الاحتياط فيه حتى يعرف بدقة متى تفرز البويضة ومتى تنتهي صلاحيتها، وهذا أمر يعرفه الأطباء. إلى جانب هذا هناك أمر ثالث هو العزل بمعنى أن الرجل عندما يشعر بأنه على وشك أن يتدفق منه الماء داخل الفرج ينسحب، وهذا لابد فيه من موافقة الزوجة. وقد ورد فيه عدة أحاديث نسوقها كي يتضح أمر العزل وأسبابه وكيف يتم. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بني المصطلق، فسبينا كرائم العرب، فطالت علينا الغربة ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا نفعل ذلك ورسول الله بين أظهرنا لا نسأله؟ فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا عليكم أن لا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون)) أخرجه الشيخان البخاري ومسلم والإمام أحمد.. وعن جابر رضي الله عنه ((أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا، وساقيتنا، وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل، فقال: " اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها ". فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت فقال: " قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها ")) رواه مسلم. وهذا يدل على أن العزل قد لا يفيد مع قدرة الله. وهذا في الأمة. أما الزوجة فلابد من إذنها لما رواه الإمام أحمد عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 أما قول من قال: إن العزل كالوأد. فقوله مردود بما روي أن رجلا في مجلس عمر بن الخطاب قال: العزل كالوأد، وكان سيدنا علي بن أبي طالب حاضرا فقال: لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع، حتى تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم عظاما، ثم تكسى لحما، ثم تكون خلقا آخر. فقال عمر: صدقت أطال الله بقاءك. رواه ابن رجب في جامع العلوم. والحديث مطابق للآية الكريمة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (1) . كما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زعمته اليهود من أن العزل هو الموءودة الصغرى، فقال: " كذبت اليهود إن الله إذا أراد خلقه لم يمنعه شيء ". وإذن فالعزل جائز بشرط موافقة الزوجة الحرة في مذهب مالك وأحمد، وخالفه الحنفية في مسألة واحدة وهي إذا خاف سوء الولد أو كانت الزوجة سيئة السلوك معه وهو عازم على طلاقها فله أن يعزل عنها بدون رضاها، والله أعلم. وتوجد طريقة أخرى لمنع الحمل وهي استعمال حواجز صناعية تمنع اختلاط ماء الرجل ببويضة المرأة، هي غشاء يغطي به الرجل عضوه التناسلي عند الجماع مما يسمى القبعة أو القلنسوة، وهذا أيضا مما لا إثم فيه ولا ضرر إذا كان متفقا عليه بين الزوجين؛ لأن للمرأة الحق في إرادة الإنجاب أو توقيفه ويشبه هذا استعمال أداة داخل رحم المرأة تسمى (اللولب) وهو أيضا يمنع علوق البويضة بجدار الرحم كي لا تتحول إلى نطفة وتأخذ طريق الأطوار السبعة المذكورة في الآية السالفة والحديث النبوي الشريف.   (1) سورة المؤمنون الآية 12، 13، 14 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 وأخيرا اكتشف في منتصف هذا القرن 1956 ما يدعى (حبوب منع الحمل) وأصبح استعماله شائعا بين سائر الطبقات وهو أخطر الوسائل على المجتمع البشري في نشر الرذيلة والفساد، وقد أصبح وسيلة لمئات الملايين ممن يتهربن من الحمل لأسباب متنوعة ومختلفة، منها المقبول شرعا ومنها ما لا يقبل. فإذا كانت هناك أسباب معقولة ومقبولة أخلاقيا ودينيا. فالأسباب الخارجية عن هذا متعددة ومتنوعة، ونتائجها مهولة وفظيعة في الميدان الشرعي والخلقي والصحي. ففي الميدان الصحي ثبت ضرر اللولب الموضوع داخل رحم المرأة. فكثيرا ما يحدث أمراضا خطيرة أو ثقبا في جدار الرحم. أما الحبوب التي شاع استعمالها كثيرا كثيرا. نظرا لسهولة أمرها ووجودها بكثرة، فإن استعمالها يضر أيضا بكثير من النساء مثل المرأة المريضة بضغط الدم، أو بأمراض القلب والكبد والكليتين، والبول السكري، وسرطان الثدي، وحتى الإدمان على التدخين إلى غير ذلك مما أصبح عادة مألوفة لا يؤبه بضررها. وفي الميدان الأخلاقي نجد استعمال حبوب منع الحمل تساعد على انتهاك حرمة الدين والأخلاق لدى الجماهير المنحرفة خصوصا ونحن نعيش كما يشعر الجميع ظروفا طغت فيها المادية، وضعفت فيها التربية الدينية والأخلاقية، في كثير من بلاد المسلمين، بسبب الغزو الفكري الذي طغى وانتشر في جميع الأوساط مع شديد الأسى والأسف. فاستعمال وسائل منع الحمل بمختلف أشكالها وأنواعها، خصوصا الحبوب الواسعة الانتشار نظرا لسهولة الحصول عليها، ويسر استعمالها سرا من جميع الطبقات خصوصا الفتيات قبل الزواج في ميدان الطالبات والعاملات من غير اللجوء إلى طبيب. إن هذا الاستعمال أعطى لأهله الحرية الجنسية، أو الفوضى الجنسية بأدق تعبير فاختلاط الشباب ذكورا وإناثا في المدارس والجامعات، وفي قاعات السينما، وفي الشوارع والمعامل تجدهم مختلطين مندمجين، لا رقيب ولا ملاحظ من أهل أو معلم أو قريب أو من حارس أخلاق فوجود الشباب على هذا النمط من الحياة أشاع الفاحشة وساعد على الرذيلة في كل الأوساط فمانع الحياء لا أثر له، والخوف من فضيحة حدوث الحمل من الفتاة دون زواج قد انتهى بوجود هذه الحبوب المدمرة للأخلاق والفضيلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 فقد كانت في المجتمعات أمور تبعث الفتاة على الاستقامة والحفاظ على سمعتها وأخلاقها وشرف أسرتها، ومعيار ذلك هو الحياء الفطري والخوف من حدوث ما يخدش كرامتها، من ولد زنى يفضحها في بيئتها ولدى أسرتها، فجاء الحاجز الذي يخفي كل سبب يؤدي إلى الفضيحة، ومن ثم لم يبق للحياء أثر في هذه المدنية الغربية، التي أشاعت الاختلاط العلني في محافل الرقص والغناء، وسواحل البحار ومسابح والملاهي وما فيها من خمر وميسر مما يتنافى وتعاليم ديننا الحنيف. وليست فضيحة الأولاد غير الشرعيين هي وحدها ما انجر على البشرية بسبب وسائل منع الحمل وعلى رأسها وفي مقدمتها الحبوب الملعونة. فهناك أيضا وجود الأمراض الخبيثة والتي يسهل انتشارها بسبب الاتصال الجنسي الذي أصبح فوضى لا يحصره حد من قانون ولا أخلاق ومن آخر ما ظهر بسبب ذلك فقدان المناعة، الذي برز أخيرا، وظهرت خطورته على سائر المجتمعات وأصبح الغول المهول لجميع الأوساط. وقد ضربت المدنية الغربية أعلى مثل في إنجاب الأطفال غير الشرعيين وانتشار الأمراض الخطيرة. ففي إنجلترا يولد كل سنة أزيد من ثمانين ألفا بدون زواج شرعي وفي سنة 1946 كانت نسبة أولاد الزنى واحدا من كل ثمانية ولدوا. وهناك إحصائية مخيفة على حد تعبير أحد الأطباء الإنجليز هو: (أزوالدشوازز) حيث يقول إن 80 ألف امرأة في إنجلترا يلدن أولادا غير شرعيين وإذا كان هذا صحيحا، فينبغي معه اعتبار أنه حدث برغم استعمال وسائل منع الحمل كالحبوب وغيرها، ومنه ندرك أن الإحصائية إنما كشفت جزءا يسيرا من الواقع المر، الذي تسببت فيه طبيعة وجود وسيلة لمنع الحمل في مجتمعات الحضارة الغربية التي نعيشها اليوم. ويقول الطبيب (تشيسر) الإنجليزي في إحصائية أجريت على 600 امرأة سنة 1956: إن واحدة من كل ثلاث نساء في إنجلترا تفقد جوهر عفتها قبل الزواج، ويتساءل هل قد عادت العفة أثرا بعد عين؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 ويعرض الدكتور (سوروكي) وهو مؤرخ وخبير في الشؤون الاجتماعية الأرقام الآتية للعلاقات الجنسية غير الشرعية في أميركا. ويبكي للوضع الخطير الذي تظهره تلك الأرقام من العلاقات غير الشرعية قبل الزواج ففي الرجال من 27 إلى 87 % وفي النساء من 7 إلى 50 %، أما العلاقة غير الشرعية بعد الزواج.. ففي الرجال من 10 إلى 40 %، وفي النساء من 5 إلى 26 %، ويذكر التصاعد الذي يسير عليه وجود الأولاد غير الشرعيين في أمريكا ففي سنة 1927 كان 28 من كل ألف، وفي سنة 1937 أصبح 38.7 من كل ألف، ويحصي حوادث الإجهاض سنويا من 33.300 إلى مائة ألف. ويقول هذا الخبير: إن مظهر هذه الحقائق المرعبة يبدو في الزيادة في بيع الأدوية والآلات المانعة للحمل، وهذه الزيادة التي تكاد تبلغ عنان السماء في أمريكا. أما الجرائم التي كثرت والتي تدل على تدهور الأخلاق، والسير وراء الشهوات الجنسية العارمة والتي لم يبق للحد منها أي وازع من أخلاق أو دين، ومن أفظعها (الإجهاض) . ففي تقرير لمجلة (تايم) عن سان فرنسيسكو أنه قد أجهض 18 ألف جنين مقابل ستة عشر ألف وأربعمائة مولود حي. وفي ميدان الجرائم الجنسية أيضا تقول التقارير عن جرائم الجنس: إنها في تصاعد مستمر، ففي سنة 1938 تدخلت الشرطة في 283.000 جريمة وفي سنة 1955 م تدخلت في 483.000 جريمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 وتدل إحصائية المكتب الاتحادي لتحقيق الجرائم أن حوادث الزنى زادت سنة 1955 م 60 % بالقياس إلى سنوات 1937 - 1939 م. وتقول إحصائية أخرى عن تشرد الشباب وازدياده: إن الشرطة قبضت على 2980.000 سنة 1957 في 1473 مدينة أميريكية وكانت سن 253000 دون 18 سنة، مما يدل على تدهور الأخلاق في صفوف الأحداث أكثر من غيرهم. إن تأثير وسائل منع الحمل في المجتمع الإنساني متنوعة وكثيرة وخطورتها من أشد وأقبح ما يعانيه الإنسان اليوم، فالأمراض الجسدية المنتشرة اليوم سببها هذا الهجوم الفظيع على التقاليد الطيبة والأخلاق الحميدة، والقضاء على كل الفضائل الإنسانية التي فضل الله بها الإنسان على غيره من المخلوقات، واستخلفه في الأرض ليعمرها، ولا يمكن ذلك إلا إذا حافظ الإنسان على ميزته التي أكرمه الله بها وهي العقل واستعمالها للتمييز بين الطيب والخبيث من الأشياء، وما فكرة تحديد النسل إلا من التخلي عن نعمة العقل التي امتاز بها الإنسان على غيره من المخلوقات، وإذا أمعنا النظر واستعملنا العقل في نتائج منع الحمل ... وبهذه الوسائل البسيطة (الحبوب) الرخيصة والسهلة الاستعمال فإن الإنسانية تفقد بعد يسير من الزمن سرها وخصائصها، ويمسي فيها الإنسان مجرد حيوان يمشي على الأرض لا فرق بينه وبين سائر الوحوش والحيوانات. ولعل ذلك إيذان بخراب الأرض ونهاية الحياة فيها نعوذ بالله من السلب بعد العطاء. ومن المناسب أن نسوق في الختام بعض الآيات التي تفند وتبعد السبب الذي يبني عليه المتآمرون على الإنسانية، وعلى أمة الإسلام بصفة خاصة بدعوى الخصاص وخوف الفقر والمجاعة إلى تحديد النسل وما يثبت بأن ذلك مجرد ادعاء لا أساس له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 يقول الحق تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (1) . ويقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (2) . ويقول: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (3) . ويقول تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) . ويقول: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (5) . فمهمة الإنسان هي السعي في البحث عن رزقه مما أودعه الله في هذه الأرض التي استخلفه ليعمرها ويستمتع بخيراتها التي هي من فعل الله سبحانه. والإنسان عليه أن يتخذ الأسباب وعلى الله الكمال، قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (6) . وعلى المسلمين وعلماء الإسلام أن يسعوا جهد المستطاع لإيقاظ الجماهير المؤمنة من الغفلة، وأن ينتبهوا إلى أنهم محاطون بأعداء دينهم من كل جانب وأن يعلموا أن الدعوة إلى تحديد النسل بسبب الخوف من الجوع كذب وبهتان وافتراء.. وما هو إلا سلاح خفي لمحاربة أمة الإسلام. والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. مولاي مصطفى العلوي   (1) سورة هود الآية 6 (2) سورة الذاريات (3) سورة العنكبوت الآية 60 (4) سورة الشورى الآية 12 (5) سورة الحجر الآية 20 - 21 (6) سورة العنكبوت الآية 16 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 المراجع التفسير: 1 - الجامع لأحكام القرآن: ............... للقرطبي. 2 - تفسير القرآن العظيم: ............. لابن كثير. 3 - الكشاف: ............... للزمخشري. 4 - المنار: ............... لرشيد رضا. 5 - في ظلال القرآن: ............... لسيد قطب. 6 - رضوان البيان: ..... لمحمد الأمين الشنقيطي. الحديث: 1 - صحيح الإمام البخاري بشرح القسطلاني. 2 - صحيح الإمام مسلم بشرح النووي. 3 - عون المعبود على سنن أبي داود. 4 - تحفة الأحوذي على سنن الترمذي. 5 - سنن ابن ماجه. 6 - السنن الكبرى للبيهقي. 7 - مسند الإمام أحمد بن حنبل. 8 - الموطأ للإمام مالك. أبحاث: 1 - خلق الإنسان بين الطب والقرآن للدكتور محمد علي البار. 2 - حركة تحديد النسل لأبي الأعلى المودودي. 3 - مجلة المسلم المعاصر عدد 42 السنة 11 تاريخ جمادى الأولى 1404 هـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 تنظيم النسل وتحديده إعداد أونج حاج عبد الحميد بن باكل كبير القضاة بإدارة الشئون الإسلامية ببروني وعضو مجمع الفقه الإسلامي عن بروني بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد. تمهيد: فإن تحديد النسل أو تنظيم النسل أو ضبط النسل ألفاظ مترادفة مؤداها تقليل النسل كما يقصد الكتاب فيها، أو كما يقصده الذين يقومون بالعمل في تنفيذها بمختلف المستويات. فالمراد من تحديد النسل هو التحكم فيه والتقليل من عدده بمنع الحمل قبل وقوعه إما لأسباب تتعلق بصحة الزوجة أو عجز الزوج عن الإنفاق على ذرية كثيرة بسبب ضيق ذات يده، أو تتعلق بضيق محصولات البلاد حيث أصبحت لا تتكافأ مع زيادة السكان المستمرة بنسبة عالية، فلابد من وقف ذلك النمو المتزايد وذلك بجعل النسل يكون على قدر ما يجيء من المحصولات على حسب قول أنصار هذه الفكرة بأفواههم، ومقالاتهم بأقلامهم. أول من نادى بهذه الفكرة أول من نادى بفكرة تحديد النسل هو الفيلسوف البريطاني "مالتس" وسرعان ما انتشرت هذه الفكرة في أوروبا وأمريكا وآسيا والبلدان الأخرى إسلامية أو غير إسلامية، فاحتضنتها بعض الحكومات ورفضتها الأخرى، وكما تأثر بها بعض الناس ورفضها الآخرون. فالنقاش حول هذا الموضوع لا يزال مستمرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 رأي الإسلام الإسلام يدعو إلى الزواج الغريزة الجنسية لدى الإنسان حاجة من حاجات الفطرة السوية، جبل الإنسان عليها وأودعت فيه، كما أودعت فطرة الميل إلى الطعام والشراب، رعاها الإسلام واعتنى بها، شأنه في ذلك شأن كل أمر فطر عليه الإنسان، فنظم هذه الغريزة وأقامها وفق عقد مشروع بين الزوجين له شروطه وأركانه ومستلزماته وأجواؤه. فالزواج في ظل الإسلام - إلى جانب كونه حاجة فسيولوجية، يتوقف عليها بقاء النوع الإنساني - ضرورة اجتماعية تؤدي وظيفتها في تنظيم الغرائز، واستقرار العواطف، واستمرار الحياة الإنسانية مبنية على الود والصفاء. وتنشئة الأطفال على تربية سديدة، وخلق كريم، ليكونوا أعضاء صالحين في تلك المجتمعات، وتنشئة لبنة قوية في بناء هيكل المجتمع، عليها يتوقف صلاح المجتمع وفساده كما قال الله تعالى في سورة الأعراف آية [58] . {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} . ومن هنا دعا الإسلام إلى الزواج الشرعي الذي هو عماد تكوين الأسرة الفاضلة، والأسرة الفاضلة هي عماد تكوين المجتمع القوي. فهو في العموم مندوب إليه في حال الاعتدال في رأي جمهور الفقهاء، بل عند بعضهم سنة مؤكدة لقوله تعالى في سورة النور آية (32) {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ} وفي سورة النساء الآية (3) {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} . فإن الخطاب في الآيتين قد جاء بصيغة الأمر والأمر للوجوب، إذا لم تكن هناك قرينة صارفة عن ذلك وقد قامت القرينة على أنه للندب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) (متفق عليه) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 حين سمع الرسول عليه الصلاة والسلام أن نفرا من أصحابه قال بعضهم: لا أتزوج، وقال بعضهم: أصلى ولا أنام، وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر قال: ((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) - متفق عليه. وقد أمر الله باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول في سورة آل عمران آية [31] : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وقد نهى الإسلام عن التبتل والانقطاع عن الزواج قال الله تعالى في سورة المائدة آية [87] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . والزواج من جملة الطيبات التي أحلها الله سبحانه وتعالى ونعى على السابقين تبتلهم فقال في سورة الحديد [27] : {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} . وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التبتل نهيًا شديدًا (رواه سعيد بن منصور من حديث أنس بن مالك، ورواه ابن ماجه من حديث سمرة) . وجعل المنقطعين عن الزواج من القادرين عليه خارجين عن سنته صلى الله عليه وسلم إذ يقول ((من كان موسرا لأن يناكح ثم لا يناكح فليس مني)) سنن ابن ماجه عن عائشة. قال طاووس ((لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج)) سنن سعيد بن منصور وهو في معنى قوله صلى الله عليه وسلم ((: من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 الإسلام يأمر بتكثير النسل: لقد جاءت أحاديث كثيرة تأمر بتكثير النسل وتحث على زيادة الإنجاب واختيار المرأة الودود الولود لتحقيق ذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)) . وفي حديث آخر أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ قال: " لا ". ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ")) ، وفي حديث آخر قال ((انكحوا فإني مكاثر بكم)) . والتكاثر المقصود هو التكاثر الذي يستحق أن يباهي به الرسول صلى الله عليه وسلم الأمم وهو التكاثر القائم على الصلاح والإيمان والقوة والحيوية والخير بلا شك، فإن التكاثر القائم على الفساد والعصيان لا يباهي به الرسول صلى الله عليه وسلم ولتحقيق زيادة الإنجاب وتكثير النسل حبب الرسول صلى الله عليه وسلم الزواج من الأبكار؛ لأنهن أكثر قابلية على الإنجاب قال: ((عليكم بالجواري الشباب فإنهن أطيب أفواها وأعز أخلاقًا وأفتح أرحامًا ألم تعلموا أني مكاثر ...... )) وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأنتق أرحامًا وأرضى باليسير)) والنتق الرمي والنفض والحركة. وإنما تكون المرأة أنتق رحمًا إذا كانت أكثر استعدادًا للحمل والإخصاب، وهي الشابة التي لم تلد، وهي بلا شك تكون أكثر استعدادًا من تلك التي تقدمت في السن. تحريم قتل الأولاد: وقد وردت أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاختصاء. وقد ورد في حديث عثمان بن مظعون أنه قال: يا رسول الله إنه ليشق علينا العزبة في المغازي أفتأذن لي يا رسول الله في الخصاء فأختصي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا، ولكن عليك يا ابن مظعون بالصيام فإنه محفرة)) أي: قاطع النكاح. والحكمة في تحريم الاختصاء إرادة تكثير النسل كما يقول ابن حجر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 وكما يشمل النهي عن الاختصاء الذكور يشمل أيضًا قطع بيت الرحم في المرأة أو مبيضها لغير علة أو عذر، فإن العلة واحدة في الحالتين، وفي تحريم قتل الأولاد. قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} الأنعام [151] . وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} الإسراء (31) . وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} الأنعام [151] والإسراء [33] . فهذه الآيات تدعو إلى الاعتماد على الله في رزق الأولاد بعد أخذ كل طريقة في الكسب الحلال، وإن التعاون الذي فرضه تعالى على المؤمنين، والتكافل الإجتماعي الذي أوجبه عليهم يوجبان أن يعين الغني الفقير، وذو اليسرة ذا الحاجة، فإذا كان هناك ذو عيال لا يجد ما يكفيهم بالمعروف كان على من يجد أن يمدهم بالعون، والدولة تأخذ من القادر لتكفل غير القادر، فالنسل قوة للأمة، وبدل أن نقول لكثرة العيال أقتل أسباب النسل في أصلاب الآباء أو أرحام الأمهات نقول للدولة: خذي من ذوي الفضل من المال وأعطي من يحتاج، والجميع بكثرتهم قوة للأمة. هذه هي النظرة العامة للشريعة بالنسبة للنسل وهي تدعو إلى الإكثار لا التحديد، فالأحاديث تحث عليه والقرآن يشير إليه وهو الفطرة، وتحديده يناقضها ولكن وردت أحاديث في العزل، وهو إلقاء النطفة في غير مقرها من الأرحام لكيلا يكون إنتاج، وفي بعضها صحة وقوة، فما مدى دلالتها وقوتها في الوقوف أمام الدعوة إلى الإكثار من النسل؟ فلننظر في هذا فإن كثيرين من الذين يتكلمون في هذا يتخذون منه دليلًا للدعاية العامة لتحديد النسل، لقد وردت أحاديث في العزل بعضها متفق عليه في الصحاح، وبعضها سنده ضعيف، ولنذكر ما عثرنا عليه منبهين إلى الضعف، وموفقين بين ما ظاهره التعارض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 1 - روي عن جابر: ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) . وهو حديث متفق عليه، وفى رواية مسلم زيادة: (فبلغه فلم ينهنا) . 2 - وروي عن جابر أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن لي جارية هي خادمتنا وساقيتنا، وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل. فقال: " اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها ")) رواه مسلم وأحمد وأبو داود. 3 - عن أبي سعيد: ((كنا في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من العرب فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة، وأحببنا العزل فسألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لا عليكم ألا تفعلوا فإن الله قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة ")) متفق عليه. واللفظ للبخاري، وظاهره أن المراد النهي عن العزل كما قرر ابن سيرين؛ لأن حرف لا للنهي، وقد تأكد النهي منه بعد ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم ألا تفعلوا " وببيان أن الله كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة. 4 - عن أبي سعيد الخدري قال: قالت اليهود: العزل الموءودة الصغرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كذبت اليهود، إن الله عز وجل لو أراد أن يخلق شيئًا لم يستطع أحد أن يصرفه)) ، وقد ضعف بعض رواته، ويعارضه حديث أقوى منه سندًا. 5 - عن جذامة بنت وهب الأسدية: ((حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس سألوه عن العزل فقال عليه السلام: ((ذلك الوأد الخفي)) {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} )) - رواه أحمد ومسلم، وهذا حديث صحيح، كل رجاله ثقات، ولذا لا يقف أمامه عند التعارض حديث أبي سعيد الخدري الخاص بموءودة اليهود؛ لأنه في حديث أبي سعيد ضعف، وهذا لا ضعف فيه، وبأنه يعاضده حديث غزوة بني المصطلق، والنهي عن العزل فيه صريح، ومن العلماء من رجح حديث أبي سعيد؛ لأن له طرقًا مختلفة، ولكن في كلها ضعف، والقوي لا يعارض بأحاديث قد كثرت طرق ضعفها، وقد قال الحافظ ابن كثير ذلك، هذا دفع للأحاديث الصحيحة بالتوهم والحديث صحيح لا ريب فيه. والذي نراه أن هناك حديثين - متعارضين - متفق عليهما هما حديث جابر وحديث: وكنا نعزل - مع حديث بني المصطلق، ومثلهما، حديث الوأد الخفي مع حديث تكذيب اليهود متعارضان. ولذلك اختلف العلماء في جواز العزل، ففريق جوزه، وفريق منعه، من هؤلاء ابن حزم وبعض الحنابلة، والذين أجازوه على أنه رخصة فردية، وإن اختلفوا في أسباب هذه الرخصة ما بين موسع ومضيق، ومن أشد من وسعوا الغزالي في الإحياء، فقد وسع في أسباب الرخصة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 ومع ذلك فقد قرر الغزالي مع غيره أن العزل ترك الأفضل، بل إنه مكروه، لقد علق على حديث جذامة بنت وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم: فإن قلت فقد قال: ((قوله عليه السلام: الوأد الخفي، كقوله: الشرك الخفي، وذلك يوجب كراهة لا تحريمًا)) . وننتهي من هذا إلى أن بعض الفقهاء يقرر أنه ممنوع، وبعضهم يقرر أنه غير ممنوع، ولكنه ترك للأفضل، ومنهم من يقول: إنه مكروه. وفي الجملة أن الإباحة لا تكون إلا برخصة باعثة وفي غيرها لا يكون جائزا، هذا ما ينتهي إليه التفكير السليم. ويجب أن نقرر أن العزل أو المنع الشخصي للنسل يتعارض مع الفطرة، وفيه معارضة للأحاديث المتفق عليها الداعية إلى تكثير النسل ويعارضه أيضًا الأحاديث الصريحة المانعة له، حتى قال بعض العلماء إنها ناسخة لأحاديث الإباحة على سبيل الرخصة وخصوصًا الحديث الصحيح الذي قال: ((إنه الوأد الخفي)) . ثم تعارضه قاعدة أجمع عليها المسلمون، وهي المحافظة على النسل، وقد أجمع العلماء على أن الضرورات التي يجب المحافظة عليها خمس: النفس والدين والعقل والنسل والمال. فنظرية منع النسل معارضة صريحة لكون المحافظة على النسل من الأمور الضرورية في الإسلام لإجماع العلماء. تبين من البحث السابق أن المنع الفردي للنسل ترك للأفضل أو مكروه وإذا وجد موجبه عند الفرد كان مباحًا على مقدار هذه الرخصة الفردية، ولا يوجد في الفقه الإسلامي ما يجعل الرخصة الفردية جماعية لأمة من الأمم، أو لإقليم من الأقاليم، فالرخص دائمًا فردية. الخلاصة: 1 - تحديد النسل بالنسبة للفرد مكروه أو ترك للأفضل. وبعض العلماء يقول: إنه حرام. 2 - إذا وجد موجب تحديد النسل عند الفرد كان مباحًا على مقدار هذه الرخصة الفردية. 3 - تحديد النسل بالنسبة لجماعة الأمة حرام. والله أعلم. الحاج عبد الحميد بن باكل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 تحديد النسل إعداد الشيخ محمد علي عبد الله مستشار محكمة استئناف نيامي وعضو مجمع الفقه الإسلامي عن جمهورية النيجر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وبه نستعين وعليه نتوكل ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. هو الأول والآخر والظاهر والباطن والهادي إلى الصراط المستقيم، من يهد الله فلا مضل له. ومن يضلل فلا هادي له. عزة ونعمة شهادتنا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله ناصر الحق بالحق والهادي إلى الصراط المستقيم، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون. أما بعد: مقدمة فإن موضوع تحديد النسل يعتبر اليوم من أهم المواضيع الاجتماعية المدروسة في الدول الإسلامية وغير الإسلامية، وفي الحقيقة يمكن القول بأنه فرض نفسه عند طرقه باب الأسر الصغيرة قبل التعدي إلى ساحة المجتمعات الدولية حتى يتم عرضه في قاعات الاجتماعات والحلقات العلمية. ففي هذا يمكن القول بأن الاعتقاد كما ذهب إليه بعض الناس بأن زيادة عدد سكان العالم قد يزيد في الرفاهية والازدهار الاقتصادي. وقد يعتبره بعض علماء علم الاجتماع من المجازفة ما دامت مسألة الطاقة الحيوية والمواد الغذائية نادرة، رغم أن بعض علماء الديموغرافية يأخذون بفكرة ازدياد عدد النسل في العالم يقابله في السلم زيادة حجم الأعمال وازدهار مواردها الصناعية، وهذا يؤدي إلى زيادة الدخل الفردي للمجتمع الصناعي، وبالتالي حتى إن كانت دول العالم الثالث تكافح مسألة زيادة النسل فلابد من إقناعها في ترك كل ما من شأنه أن يعود بالضرر على الأسرة حتى تؤول إلى التخفيض من النسل إذ يعود كما ترون بالفائدة على المجتمع الصناعي، لا مجتمع العالم الثالث الذي يعتبرونه سوق بضاعتهم نشتري منهم الكثير ولا نبيع إلا القليل والنادر في بعض الأحيان، على أنه من الضروري الإشارة هنا بأن هنالك فريقًا من العلماء في علم الاقتصاد من يرى العكس بأن في زيادة النسل وانتشاره في العالم لا يعد ضمانًا للازدهار والرفاهية، إذ إن كانت هذه الزيادة تحل بعض المشاكل الوقتية أو الحالية إلا أنها تعقدها وتشعبها بصفة خطيرة من الناحية الثانية، وعلى سبيل المثال كثرة النسل يؤدي بلا شك إلى كثرة الاستهلاك مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وبالتالي يتحول بدوره مع مرور الزمن إلى تخفيض الدخل الفردي الذي يؤدي حتمًا إلى انخفاض المستوى المعيشي للأفراد. والسؤال الذي يتطرق إلى الذهن حاليًا هو هل يجوز أم لا القول بتحديد النسل؟ وما موقف الدين الحنيف من هذه القضية؟. وسأتعرض خلال هذا البحث إلى موضوع تحديد النسل كما هو معمول به في الدول النامية ودول العالم الثالث مع تحديد نظريتها قبل التعرض إلى موقف الدين الحنيف من هذه المسألة. وبالله التوفيق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 الوضع العالمي الديموغرافي لدول العالم وموقفها إزاء قضية تحديد النسل لقد لوحظ خلال السنوات الأخيرة أن عدد سكان العالم يزداد بسرعة مهولة فقد كان عدد سكان العالم خلال سنة 1850 مليار نسمة فقط وأصبح خلال سنة 1930 مليارين ثم تجاوز ثلاثة مليارات خلال سنة 1970 حتى تجاوز حدود خمسة مليارات خلال السنوات الأخيرة. والإحصائيات اليوم تعطي معدل ما يقارب 6: 7 مليارات نسمة. ويعتبر هذا العدد من خوارق العصر الحالي، ويعتبر بعض العلماء الوضع الديموغرافى المتزايد كنتيجة حتمية لانخفاض عدد الوفيات في العالم. نظرًا للتقدم العلمي الذي مكن من إنقاذ كثير من الأرواح وساعد النسل على النمو بدون مشقة. إلا أنه يجدر بنا الملاحظة هنا بأن معدل النمو المدهش لعدد سكان العالم كان بطريقة غير عادلة من حيث التقسيم الجغرافي للعالم، وبالتالي فإننا في أوروبا واليابان مثلا نجد عدد النمو للسكان يقل عن 15 في الألف فهذه النسبة مثلا تعني أن فرنسا وبعض الدول الأوربية والنامية لا تبلغ نسبة مائة مليون بعد خمسين أو مائة سنة. أما في أمريكا الشمالية وروسيا تبلغ من 15 إلى 20 في الألف. أما في آسيا وأفريقيا فهذه تصل إلى 25 في الألف وربما أكثر من ذلك مما قد يؤدي إلى تضاعف نسبة السكان في هذه المناطق حوالي كل ثلاثين سنة، وهذا النمو الهائل ينجم عنه نتائج خطيرة، فقد يحدث أن ينشأ من جراء زيادة النسل في بعض أقطار العالم قلة الموارد الغذائية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 وأمام الوضع الراهن السائد في أغلب مدن العالم وزيادة النسل فيها فقد بدأت التساؤلات حول مسألة إجازة تخفيض أو عدم تخفيض عدد سكان العالم الحالي، مثلا بأن الدول غير النامية قد تجد نفسها عرضة لزيادة سكانها، ويبدو بلا محال أن بعض هذه الدول غير مستعدة لاستقبال زيادة عدد سكانها في السنوات القادمة. ونظرا لعدم استطاعتها وضع إمكانيات مالية ولازمة للمعاش، كان من الضروري عليهم مراقبة النسل وبسبب ذلك قامت هذه الدول بوضع قانون يهدف إلى مراقبة الولادات، وسلكت سياسة ديموغرافية غايتها التخفيض بصفة نسبية من عدد الولادات. فتقوم هذه الدول بوضع قوانين تهدف إلى مراقبة الولادات وذلك بتشجيع الزوجين على عدم كثرة النسل، وتحديد عدد الأطفال بثلاثة ولأجل ذلك تقوم حاليا بحملات دعائية عن طريق الأشرطة والإعلانات ووضع صور للأسرة المثالية التي لا يتعدى عددها الزوج والزوجة وثلاثة أولاد وزيادة على هذا فهنالك مكافآت لكل زوج أو زوجة يعرض نفسه لعمليات جراحية غايتها الحرمان من إنجاب الأطفال، ولكن رغم كل هذه المحاولات والمجهودات المبذولة لتحديد النسل في الدول النامية والعالم الثالث، فإن النتيجة لم تأت بثمارها المرجوة وإذ تعرضت مسألة تحديد النسل إلى عقبة صعبة الاجتياز، ألا وهي الاعتقادات الدينية، وبالتالي فرغم وجود التصور لزيادة النمو الذي يشير بانفجار العالم لكثرة سكانه في السنوات القادمة، فهذا لا يعني أنه يجب علينا حتما تخفيض عدد سكان العالم إذ في الحقيقة العالم الحالي يتمتع بطاقة معروفة أو غير مستغلة لتحديد زيادة النسل خلال السنوات القادمة، رغم أنه ليس هنالك أحد يستطع أن يحدد لنا كيفية موقفه ومدى الذي سيصل إليه تعمير العالم، على أنه يبدو أن مثل هذا النمو لا يبقى ثابتًا بلا نهاية بدون مخاطر. وبالتالي فلما كان التخفيض من عدد سكان العالم محالا، فإن الجهود الآن تسعى جاهدة إلى تنظيم النسل والتوفيق بين سكان الجيل القادم والموارد الإنسانية المقدرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 مفهوم تحديد النسل وتخطيط الأسرة: منذ سنوات عديدة ومسألة تخطيط الأسرة تعتبر من الموضوعات اليومية في سائر أنحاء العالم، بين من يرى في تخطيط الأسرة عنصر تحرير المرأة ومن يشجع تحديد النسل خشية نمو النسل في العالم الثالث. فهنالك آراء كثيرة، إلا أن الذي يجذب الانتباه ويعبر بتمام عن الغموض في فهم هذا الموضوع يكمن في الكلمات المستعملة لتعيين هذا الموضوع. فالبعض يعتبر أن لفظة تخطيط النسل وتنظيمه تعني عدم تقارب الولادات عند المرأة، وعند الآخرين يعتبر تحديد النسل وبعض عبارات أخرى مستعملة تزيد في غموض المسألة كتنظيم الولادات، والأمومة الاختيارية، وفي زائير مثلا بأفريقيا يقولون بالولادة المرغوبة أو الإرادية فتحديد النسل: هو عباره عن فعل أو عمل يقصد به منع الحمل سواء كان عن طريق آلي أو عن طريق كيماوي (حبوب منع الحمل) أو العادي كالامتناع عن مجامعة الزوجة لمدى معين من الزمن، وهنالك أيضا طريقة الحساب، وطريقة تنظيم الولادات التقليدية: يعتبر مجموعة من عمليات تطبيقية قد تشمل الانقطاع الإرادي عن مجامعة الزوجة، أو الافتراق بين الزوجين الذي يمكن من أبعاد زمن الولادات والتقليل منه لغاية الحفاظ على حياة المرأة وابنها. وهذه الطريقة في الحقيقة كانت منتشرة منذ القدم بأفريقيا، والهدف من تقليل مدة الحمل وإبعاده لم يكن التقليل من عدد الأولاد المنجبين، بالعكس كانت غاية هذه العملية ضمان الحياة لعدد كثير منهم. تحديد النسل المعاصر: يعتمد على استعمال المواد المانعة للحمل دون اللجوء إلى الحساب فيما يخص عدد المواليد المرغوب فيه من الأولاد ويجب تميزه عن تخطيط الأسرة. تخطيط الأسرة: يقصد به التنسيق بين تهذيب أو تربية الأسرة وإمدادها بطريقة منع الحمل مع الأدوية اللازمة لتلك الغاية، لكي يسمح للزوجين من إنجاب ما تيسر لهم من عدد الأولاد اللازم لهم، وتخطيط الأسرة أيضا يعتمد على الحساب الدقيق للعدد الضروري للأولاد، والأسرة معنية اعتبارًا لمقتضياتها المالية والدبية والدينية. وتحديد النسل: يقصد منه نشر فكرة منع الحمل على نطاق عام، عن طريق الدولة حتى يعم كافة الأسر ويشمل هذا النوع أيضا الإجهاض بغاية نقص نسبة الولادة لبلد معين لأسباب اقتصادية، وهذا النوع من تحديد النسل يعتمد عليه في آسيا بصفة عامة، أما في أفريقيا مثلا فهو مشجع في تونس ومصر، أما في المغرب وكينيا وغانا فبنسبة أقل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 موقف الشريعة من قضية تحديد النسل قال تعالى في محكم كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} (1) . ولقد كان أهل الجاهلية يقتلون أبناءهم مخافة الفقر فنزل قول الحق تبارك وتعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (2) . وطالعتنا الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية ببحوث تطول وتقصر، في تأييد الرأي والدعوة إليه، إلا أنه يلزم قبل الخوض في البحث تحديد المقصود من الموضوع، أو تحريم محل النزاع، فقد تبادر للناس أن المقصود منه هو إصدار قانون عام يلزم الأمة كلها أن تقف بالنسل عند حد معين. لا فرق في ذلك بين سيدة يسرع إليها الحمل، فترضع ولدها السابق لبن الحمل، وأخرى يبطئ حملها وتمضي مدة الرضاع أو أكثر في تربية السابق دون حمل، كما ذكره محمود شلتوت في كتابه الفتاوى، دراسة لمشكلة المسلم المعاصر، ولا سيما القوي والسليم من الأمراض يلد أقوياء أصحاء والضعيف المريض يلد ضعفاء مرضى، ولا بين من في سعة من الرزق يستطيع تربية أبنائه مهما بلغ عددهم، وبين فقير في ضيق لا يستطيع القيام بتربية أبنائه الكثيرين فيضعف احتماله وتخور أعصابه وتفسد حياته. وتحديد النسل بهذا المعنى العام، لا يمكن أن يقصده أحد ما فضلا عن أمة تريد لنفسها البقاء، وتعمل جاهدة وبخطوات سريعة في المشروعات الإنتاجية التي بها تنافس الأمم الأخرى، وترد عنها أطماع المستعمرين، عن طريق الإنتاج والاقتصاد، وهو بعد هذا تفكير تأباه طبيعة الكون المستمرة في النمو، وتأباه حكمة الحكيم الذي خلق في الإنسان والحيوان مادة التوالد والتناسل، وخلق مقابل ذلك في الأرض وسائر ما خلق قوة الإنتاج الدائم المضاعف، والمائدة التي أعدها الله عز وجل لعباده في ظاهر الأرض وباطنها لا يمكن أن تضيق عن حاجتهم وحاجة نسلهم مهما كثروا ومهما عاشوا بإذن الله. أما النظرة الداعية إلى تحديد النسل وتنظيمه بالنسبة للسيدات اللاتى يسرع إليهن الحمل، وبالنسبة لذوي الأمراض المتنقلة، وبالنسبة للأفراد القلائل الذين تضعف أعصابهم عن مواجهة المسئوليات الكثيرة، ولا يجدون ما يقويهم على احتمال هذه المسئوليات، فمثل هذا التنظيم فردي أسري لا يتعدى مجاله وهو شأن خاص تدفع به أضرار محققه ويكون به النسل القوي الصالح.   (1) سورة النحل الآية 72 (2) سورة الإسراء الآية 31 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 ومن هنا حثت الشريعة على مبادئ القوة واتساع العمران وكثرة الأيدي العاملة، وعلى تهيئة ما تعمل فيه تلك الأيدي، وحثت على الزواج وامتن الله على الناس بنعمة البنين والحفدة كأثر من آثار الزواج وطمأن النفوس على الرزق كما ورد في قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (1) . وكما جاء أيضًا في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) . فالله عز وجل كرم النبي آدم - عليه السلام - أولا بالسماح له بدخول الجنة ولما أقدم على مخالفة ما نهاه عنه أسكنه الأرض وسخر له ما فيها من حيوان ونبات وكل شيء أليس هذا بتكريم فالبارئ الخالق يقول في كتابه الكريم: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} (2) . قال عز وجل {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (3) . وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (4) . فظلموا أنفسهم وإن الله عز وجل قد قدر مقادير كل شيء من خير وشر وحياة وموت. وهداية وضلال، قبل أن يخلق السماوات والأرض، وقال جل جلاله أيضا {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (5) . وقوله أيضا {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (6) . فهذه الآيات دليل قاطع بأن العزيز الغفار ما خلق الإنسان باطلا، فهو عالم بالأشياء قبل كونها، وكتابته للأشياء قبل برئها، وبالتالي هل يجوز للإنسان المؤمن بقدرة الله الذي لا ينام والذي يمسك السماوات بلا عمد أن يتكلم بتحديد النسل؟ ويشكو بأن الله ليس قادرًا على أن يطعم أبناءه؟ في حين أنه قد قدر له هو الأب قوت يومه فهل يجوز أن نشكو بأن الذي جعل من الماء كل شيء حي وأنزل من السماء ماء ليس قادرا على أن يغذي ذرة من سكان العالم؟ سبحانه الذي قال: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} (7) . وقال أيضا في كتابه الكريم: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} (8) . صدق الله العظيم، والله عز وجل يسقي العالم بأسره بعد أن خلقه بلا شك، فإنه القدير البديع القادر على أن يطعمه، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} (9) . صدق الله العظيم.   (1) سورة النحل الآية 72 (2) سورة الكهف الآية 51 (3) سورة الزخرف الآية 19 (4) سورة القمر الآية 49 (5) سورة الفرقان الآية 2 (6) سورة الأعلى الآية 1، 2، 3 (7) سورة الواقعة الآية 68، 69 (8) سورة المرسلات الآية 27 (9) سورة الملك الآية 30 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 فبعد هذه الآيات هل يجوز الكلام بتحديد النسل أنه حرام أم حلال؟ بل زيادة على ذلك فالله عز وجل بَيَّنَ في محكم كتابه المقدس، كيفية تكوين الإنسان وخلقه، بطريقة دقيقة ورائعه، حيرت علماء العالم، ووحدانية الخالق سبحانه وتعالى تقتضي رعاية مصالح عباده، فهو ربهم وخالقهم إذ هو رب العالمين جميعا، إذ خلق الإنسان من نطفة ضعيفة فسواه وعدله. وجعله كامل الخلقة ذكرا أو أنثى كما يشاء، وجعل بقدرته هذا العالم المنتشر في أقطار المعمورة من ذلك الماء المهين، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} (1) . وهذا الإنسان الذي خلقه الله وأمره بأن ينظر إلى حقيقة خلقه بأن قال عز وجل: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} (2) . ولقد جاء أيضًا في وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((سوداء ولود خير من حسناء عقيم)) وقوله أيضا صلى الله عليه وسلم: ((من ترك الزواج مخافة العيل فليس منا)) . وكثيرا ما تعرض علماؤنا على اختلاف مسئولياتهم واختصاصاتهم من شرع وعلم اجتماع وطب واقتصاد لمسألة تحديد النسل. فالإنسان مطالب بأن يتفكر وأن يتأمل حياتنا، ويعلم كمخلوق بأنه مطالب بعبادة الله الخالق، لأنه قادر على إعادته مرة أخرى بعد موته لمحاسبته على ما عمل في هذه الدنيا من خير وشر، فإن القادر على البدء قادر على الإعادة من باب أولى، فلا يجوز إذًا قتل الأولاد خشية إملاق؛ لأن الله عز وجل قادر على أن يرزقنا جميعا. فقد نهانا عن ذلك عز وجل في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (3) . وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (4) . رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي من تشاء منهما وتمنع من تشاء وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (5) . وقال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (6) . وقد قال تعالى أيضًا {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (7) . وقوله أيضًا {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (8) . وقوله أيضًا {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} (9) . وقال جل وعلا {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} (10) . فإن الله تبارك وتعالى قد جعل رحلة خلق الإنسان آية لنا فتنقل خلقه من حال إلى حال، من نطفة بعد أن خلقه في بطن أمه خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث: ظلمة الرحم، وظلمة البطن، وظلمة المشية، دليل واضح على أنه قادر على أن يرزقه إلى وفاته قبل انبعاثه مرة ثانية للحساب.   (1) سورة الفرقان الآية 54 (2) سورة الطارق الآية 5، 6، 7، 8 (3) سورة الأنعام الآية 151 (4) سورة آل عمران الآية 26، 27 (5) سورة النساء الآية 1 (6) سورة لقمان الآية 10 (7) سورة المؤمنون الآية 12 (8) سورة عبس الآية 18 (9) سورة الإنسان الآية 1، 2 (10) سورة القيامة الآية 37 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 وعن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله عز وجل إليه ملكا بأربع كلمات فيقول: اكتب أجله ورزقه وشقي أو سعيد)) صدق رسول الله الكريم فالإنسان اليوم يسأل نفسه عن مآل أبنائه وأحفاده وإخوانه في المستقبل وهو حائر في ميسرهم ومعاشهم، ويحاول جاهدًا لإيجاد الحل لتحديد النسل، لعل وعسى أن يكون ذلك حلًّا ناجعًا لحماية سلالته من مصاعب الدنيا، وقد أغفل عليه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (1) . صدق الله العظيم فمن كان قادرا على أن يحيي العظام وهي رميم أليس بحق الله أن يكون قادرًا على أن يضمن معيشة خلقه بقدر ما قدر لكل فرد مسلم {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2) . والله صادق فله الخيار في إمداد رزقه لمن يريد من الناس فقد قال تعالى أيضًا {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} (3) . فإن الله هيأ الأرزاق، ويسر أقوات جميع الخلق من إنسان وطيور وحيوان. ولا ننسى أيضًا أنه عز وجل قال {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4) .فكل بيت يولد فيه مسلم ينطق لا إله إلا الله محمد رسول الله بركة لكافة الدنيا لا للمسلمين فقط، إذ هي كلمة الدنيا والآخرة للفرد ولأسرته فالاعتماد حسب رأيي على كل عمل من شأنه التقليل من الإنجاب، يعني حرمان الإسلام من صوت ينشد بوجود الله وبركات رسول الله، فإن كان الفرد في ضيق فقد أمده الخالق بصلاح يعضد به نفسه ويرتكز عليه عند الشدائد ألا وهو الدعاء، فقد قال عز وجل {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (5) . والله عز وجل لا يخلف الميعاد فالدعاء عضد الإيمان والله قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه فهو أقرب من حبل الوريد، فكيف إذن نؤمن بأنه إذا تعطل علينا المطر يقوم الجميع بصلاة الاستسقاء وينزل المطر. ونخاف اليوم بأن ندعوه عز وجل ليبعد عنا الفاقة والجوع والتشرد؟ وبالتالي فإنه لا يجوز للمسلم المؤمن أن يوافق فكرة تحديد النسل بمعناه حرمان أحد الزوجين (الزوج والزوجة) من الإنجاب، أي القيام بعمليات لقطع الحمل قطعا عن طريق الجراحة أو عقاقير خاصة لتلك الغاية، أما إن كان تحديد النسل لغاية التنظيم أي تنظيم النسل فقد يتقبله المؤمن إذ يعتبر علاجًا تدفع به أضرار محققة ويكون به النسل القوي الصالح، ومثل هذا التنظيم لا يجافي الطبيعة ولا يأباه الوعي القومي ولا تمنعه الشريعة وحسب رأيي يجب الأخذ به بشروط عملا بالقياس، إذ القرآن حدد مدة إرضاع الطفل بحولين كاملين فقد قال عز وجل {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (6) .   (1) سورة يس الآية 77، 78، 79 (2) سورة البقرة الآية 212 (3) سورة الملك الآية 19 (4) سورة الذاريات الآية 56 (5) سورة غافر الآية 60 (6) سورة البقرة الآية 233 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرضع الطفل من لبن الحامل، وعملا بالقياس فإن كانت علة منع رضاعة الطفل للبن الحامل هو الضرر الذي قد يصيبه من جراء الرضاعة فإن ذلك قياسا يقضي إباحة العمل على وقف الحمل مدة الرضاع بغية دفع الضرر الذي قد يلحق بالطفل وبالتالي فإنه يمكن القول: بإباحة منع الحمل مؤقتا بين الزوجين في حالة حماية أو الحفاظ على صحة المرأة إن كانت المرأة لا تلد ولادة عادية تضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الجنين، فإن كان تأخير الحمل بالأدوية أو غير ذلك لأسباب شرعية يقرها طبيب مسلم فقيه وكذلك إن ثبت الضرر للمرأة عند الحمل كأن يكون الزوج يخشى على حياة زوجته بعد فحص طبيب وبتقرير من طبيب مسلم. وفي الختام أؤكد لكم أن الدعوة لتحديد النسل أو منع الحمل بصفة عامة لا يجوز شرعا؛ نظرًا لأن المسلمين قلة في عالمنا هذا في حين أن الكفار والمشركين يفوقوننا عددا ولنا زيادة على ذلك أن الشريعة الإسلامية تحض على تكثير نسل المسلمين وانتشاره، إذ يعتبر المال والبنون زينة الحياة الدنيا، وبالتالي فإن النسل يعتبر نعمة من رب العالمين، فعلينا أن نسعى جاهدين في زيادة النسل، حتى يزداد أصوات القائلين بلا إله إلا الله محمد رسول الله، حتى تعم الرحمة برحاب عالمنا هذا، ويقل فيه الفساد إذ لا يخفى عليكم بأن حث أبنائنا وبناتنا على أخذ العقاقير لمنع الحمل في كل وقت وكيف ما كان يؤدي حتما إلى مفاسد الأخلاق وإياكم وغضب الله ولعنته فعلينا أن نحتاط من كيد الداعين لمنع الحمل، الراغبين بكل الطرق على وضع أيديهم على أموال المسلمين كيدا لنا ومقتا، فالحروب الصليبية ليست ببعيدة في أذهاننا، فلا يرتاح بالهم إلا إذا انقضوا على ثروات المسلمين اليوم، فقد حاربونا الأمس لقوتنا وتمسكنا بحبل الله والعمل بسنة رسول الله، ولم يقدروا علينا، فما بالك اليوم وفينا الأغنياء والأثرياء؟ فكيف لا يرغبون في زرع مثل هذه الأفكار البغيضة المعادية للفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها ولشريعتنا الحميدة؟ فعلينا أن لا نخالف الشرع وأن لا ننسى أبدا قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (1) . وقوله أيضًا عز وجل {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) . وعلى هذا نكون قد اختتمنا بحثنا ونسأله تبارك وتعالى أن يوفقنا للعمل الصالح وأن يتم لنا بعمل يدخلنا الجنة إنه ولي ذلك والقادر عليه فنعم المولى ونعم النصير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. محمد علي عبد الله   (1) سورة الإسراء الآية 31 (2) سورة الأنعام الآية 151 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 تنظيم النسل وتحديده في الإسلام إعداد الدكتور دوكوري أبو بكر مدير المعهد العلمي والمشرف العام على المراكز الإسلامية ومستشار الدولة للشئون الإسلامية وعضو مجمع الفقه الإسلامي عن جمهورية بوركينافاسو بسم الله الرحم الرحيم ليس لتحديد النسل وتنظيمه حكم واحد مستقر، وإنما يختلف حكمه باختلاف الدوافع والبواعث على هذا التحديد؛ لذلك اختلف العلماء في هذه المسألة كما هو الحال في شأن كل مسألة يكتنفها اعتبارات مختلفة، فيترك الحكم فيها لما يترجح في نظر الباحث من هذه الاعتبارات وما تقضي به المصلحة. فهذه هي طريقة الإسلام في تشريع الأحكام لذلك كانت شريعته صالحة لكل زمان ومكان ولكل حادثة. وسنتناول في هذا البحث عدة جوانب. الجانب الأول: تحديد النسل من حيث الدافع إليه. الجانب الثاني: مسوغات تحديد النسل. الجانب الثالث: شروط تحديد النسل. الجانب الرابع: وسائل تحديد النسل. ونقول بالنسبة إلى الجانب الأول: إن تحديد النسل إذا كان بسبب ما يروجه الغربيون وعملاؤهم من أن تزايد سكان العالم إذا استمر بالمعدل الحالي لدى جميع الدول فإن العالم سيقع في مجاعة خطيرة في المستقبل نتيجة لكثرة سكانه بحيث لا يمكن تأمين المواد الغذائية الكافية لهم جميعا ففيه نظر. لذلك نرى الدول الغربية المتقدمة، تسعى جاهدة إلى إقناع دول العالم الثالث بضرورة الحد من نسبة المواليد، وقد استجاب كثير من الحكومات إلى هذه النداءات، وذهب بعضها إلى أبعد الحدود في ذلك حيث عقمت الرجال. ونرى كثيرا من الناس في الدول النامية وخاصة المثقفين منهم يقللون عدد أولادهم فيقتصرون على ولد واحد أو ولدين وذلك خوفا من الفقر والعجز عن القيام بأعباء تربية الأولاد ورعايتهم وهذا خطأ فاضح من الناحية الدينية والعقلية ومن حيث الواقع كذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 يقول المرحوم الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي مصر السابق في الجزء الأول من كتابه (فتاوى شرعية وبحوث إسلامية) : (تحديد النسل أو كما يسمونه تنظيم النسل ودعوة الأمة إليه بصفة عامة مشروع خطير تجاذبته الأفكار والأقلام منذ سنين ولم يثره بأدنى الأمر عندنا إلا الاستعماريون حين أفزعهم تزايد السكان وأقلقهم نمو الأمة ويقظة الشعور العام فيها إلى أساليب الاستعمار والتنبه العام إلى ماله من فادح الأخطار على البلاد ومناداة الشعوب في كل الأقطار العربية بضرورة تحريرها وتخليصها من شروره ومفاسده فنادوا في طول البلاد وعرضها بالخوف من المجاعة والفقر إذا استمر تزايد السكان وما لم يحدد النسل بطريقة حاسمة. . . إلخ) . وقد رأى غير واحد من المفكرين المسلمين أن الدعوة إلى تحديد النسل بالطريقة التي ينادون بها في العالم الثالث بوجه عام وفي العالم الإسلامي بوجه خاص مؤامرة استعمارية ضد هذه الشعوب يقصد منها إضعاف هذه الشعوب وإذلالها وإخضاعها دائما وأبدا لسيطرة الدول الكبرى المتقدمة ومما يؤيد وجهة نظرهم هذه أن الدول الغربية تشجع زيادة نسبة المواليد داخلها وتكافئ من يأتي بأكبر عدد ممكن من الأولاد. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن سكان العالم كانوا أقل عددا بكثير مما نحن عليه الآن ومع ذلك فإنهم كانوا يعانون من البؤس والفاقة أكثر مما نعانيه اليوم ولا يخالف أحد في أننا أكثر منهم تقدما ورفاعية وتنعما فعلمنا أن لا علاقة بين وفرة المعيشة ورغد العيش وبين قلة سكان العالم وكثرتهم، وأيضا مما لا يخفى على أحد أن ما تنفقه إحدى الدول الكبرى في برامج الفضاء وفى سبيل تطوير أسلحتها النووية لقادر على توفير الغذاء والعلاج اللازمين لجميع سكان العالم فكيف إذا صرفت هذه الدول مجتمعة كل طاقاتها وإمكانياتها المادية في مجالات التنمية المختلفة الصناعية والزراعية والتجارية أتظنون أنه سيبقى على وجه الأرض جائع واحد؟ كلا!. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 إذن فلا ينبغي لمسلم عاقل أن يغتر بكل بريق ويعتبره ذهبا، وأن يستجيب لكل نداء وأن ينجرف وراء كل تيار، بل عليه أن يكون ناقدا بارعا يحلل الأشياء ويمعن النظر فيها ويعمل فكره في التفريق بين الخطأ والصواب وبين الحق والباطل. فلا ينبغي لأي مسلم أن يحدد نسله بحجة أنه قد يعجز عن الإنفاق على عياله إذا هم كثروا؛ لأنه أولا لا يعلم الغيب، فمن الذي أطلعه على مغيبات الأمور؟ فلئن كان فقيرا اليوم فإنه قد يغنى غدا، فكم من فقير معدم أصبح من كبار الأغنياء وكم من غني موسر أصبح من أفقر الناس ولم يعد يملك حتى قوت يومه وفي ذلك يقول تعالى {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (1) . أي في تقلب الأحوال من حال إلى حال أمر يخالفه. وثانيا: أن هذا الإنسان المسكين ليس ضامنا لرزق نفسه فضلا عن رزق غيره فالله سبحانه وتعالى هو الذي يدير الأرزاق ويقدر لكل إنسان نصيبه منها قبل ولادته وخروجه إلى هذه الدنيا وما قدر له منها فإنه سيناله حتما فليس على وجه الأرض قوة قادرة على منعه من هذا الحق المقدر. قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} (2) . وقال جل من قائل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (3) . وقال في آية أخرى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (4) . أما إذا كان الدافع في تحديد النسل ليس لمجرد الخوف من كثرة العيال والفقر وإنما دعت إليه حاجة ملحة وضرورة معتبرة في نظر الشرع جاز ذلك.   (1) سورة آل عمران الآية 140 (2) سورة العنكبوت الآية 60 (3) سورة هود الآية 6 (4) سورة الأنعام الآية 151 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 مسوغات لتحديد النسل: أولا: أن يكون الزوجان في الجهاد مثلا فيحتاط على ألا تحمل المرأة لأن من شأن حملها تعريضها للضعف وللخطر نتيجة لمشقة السفر والجهاد أو أن يمنعا الحمل خوفا من أن يولد مولود وهما في دار الحرب وليس عندهما من وسائل الراحة والصحة ما يطمئنان به. ثانيًا: إذا أخبر طبيب ثقة أو أثبت بالتجربة أن الحمل أو الوضع يعرض حياة الأم أو صحتها للخطر فيجوز لها منعه لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) . وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (2) . ثالثًا: إذا خفنا على حياة الرضيع أو صحته من حمل جديد أو مولود جديد فيجوز منع الحمل في هذه الحالة حتى يزول هذا الخوف وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم الوطء في حالة الرضاع وطء الغيلة (3) . لأنه إن قدر فيه حمل فإنه سيؤدي إلى إفساد اللبن وبالتالي إضعاف الولد، وإنما سماه غيلة لكونه جناية خفية على الرضيع فأشبه القتل سرا. رابعًا: إذا خشينا على الأولاد أن تسوء صحتهم أو تضطرب تربيتهم لأنهم إن كثروا ولم تكن إمكانيات الوالدين كبيرة فيصعب توفير التربية الضرورية المناسبة لهم من الناحية المعيشية والصحية والتعليمية. شروط تحديد النسل: إذا عرفنا أن هناك مسوغات لتحديد بقي أن نعلم الشروط التي يجب توافرها لمشروعية ذلك. ذكر بعض العلماء أن تنظيم النسل ومنعه لا يجوز إلا إذا أذنت به الزوجة؛ لأن لها حقا في الولد وحقا في الاستمتاع وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نهى عن العزل إلا بإذن الزوجة (4) . وفى هذا دليل على أن الإسلام قد أعطى المرأة حقها في عصر لم يكن يعترف لها بحقوق فعلى الذين يصرخون وينادون بحقوق المرأة في هذه العصور أن يكونوا منصفين ويشيدوا بعظمة الإسلام.   (1) سورة البقرة الآية 2/195 (2) سورة النساء الآية 29 (3) راجع سنن الترمذي (4) هذا الحديث مرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق عمر بن الخطاب وقد أخرجه كل من الإمام أحمد وابن ماجه - راجع مسند الإمام أحمد 1/31 ونيل الأوطار 6/221 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 واشتراط إذن الزوجة في منع الحمل هو مذهب الحنفية قال صاحب الهداية "ولا يعزل عن زوجته إلا بإذنها لأن تحصيل الولد من حقها" وورد مثله عن الكمال بن الهمام (1) . غير أن المتأخرين من الحنفية أفتوا في زمانهم بجواز منع الولد لأحد الزوجين بغير رضا صاحبه إذا خيف على الولد السوء لفساد الزمان وهذا مبني على قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان (2) . أما الإمام الغزالي وجمهور الشافعية فيرون أن الولد من حق الوالد وحده فله إن شاء أن يحصله وله إن شاء أن يمنعه؛ لأن إثبات النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص ولا نص ولا أصل يقاس عليه بل ههنا في الإباحة أصل يقاس عليه وهو ترك النكاح أصلا أو ترك الجماع بعد النكاح أو ترك الإنزال بعد الإيلاج فكل ذلك مباح وليس فيه إلا مخالفة الأفضل فليكن منع الحمل بالعزل وما يشبهه مباحا كما أبيح الزواج وترك المخالطة إلخ.. إلخ (3) . ويرى جمهور العلماء من فقهاء الأمصار أن منع الولد مكروه نظرا إلى حق الأمة فيه ونسب ذلك إلى عدد من الصحابة منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود؛ لأن فيه تقليل النسل وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الزواج تكثيرًا للنسل فقال: ((تناكحوا تكثروا)) (4) . ومن العلماء من ذهب إلى تحريم منع الولد مطلقا سواء أذن الزوجان في ذلك أم لا؛ لأنهم غلبوا حق الأمة في الولد على حق الوالدين، وقالوا: إن العزل فيه قطع النسل المطلوب شرعا من الزواج وفيه أيضا صرف السيل عن واديه مع حاجة الطبيعة إليه واستعدادها للإنبات والإثمار لما ينفع الناس ويعمر الكون، وينسب هذا المذهب إلى ابن حزم وابن حبان (5) .   (1) راجع كتاب الإسلام عقيدة وشريعة لشيخ الأزهر محمود شلتوت ص 222 وهذا المذهب أعني عدم جواز العزل بدون إذن الزوجة الحرة نقل غير واحد الإجماع عليه منهم ابن عبد البر ولا يصح راجع نيل الأوطار 6/222 (2) راجع كتاب شلتوت الإسلام عقيدة وشريعة ص 222 (3) راجع الإحياء 2/51 (4) أخرجه البيهقي في المعرفة وغيره مرسلا وأسنده ابن مردويه في تفسيره عن ابن عمر وسند المرسل والمسند مضعف راجع الجامع الصغير 3/269 (5) راجع نيل الأوطار 6/223. والمحلى 10/70 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 وسائل تنظيم النسل: أولًا: العزل: وهو قذف النطفة خارج الرحم عند الإحساس بنزولها (1) . ويعتبر العزل الوسيلة السائغة التي يلجأ إليها الناس لمنع النسل أو تقليله في العصور السابقة وخاصة عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة يفعلون ذلك في عهد النبوة والوحي كما ورد في حديث جابر الذي في الصحيحين ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) (2) . ولمسلم ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه ذلك فلم ينهنا)) (3) . وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وساقيتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل فقال: ((اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها)) (4) . وفي مجلس عمر تذاكروا العزل فقال رجل: إنهم يزعمون أنه الموءودة الصغرى. فقال علي: لا تكون موءودة حتى تمر عليها الأطوار السبعة حتى تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم علقة، ثم مضعة، ثم عظاما، ثم تكسى لحما، ثم تكون خلقا آخر. فقال عمر: صدقت أطال الله بقاءك. (5) . ومن الوسائل التي يلجأ إليها بعض الناس لتنظيم النسل وتحديده إسقاط الحمل بعد وجوده فعلا وهذه الوسيلة تعتبر جريمة في نظر الإسلام. فلا يجوز لمسلم أن يسقط الحمل بعد نفخ الروح فيه فمن فعله فهو آثم وعليه دية إن نزل حيا وغرة إن نزل ميتا. أما إسقاط الحمل قبل نفخ الروح فيه فقد رأى فريق أنه جائز إذ لا حياة فيه فلا جناية ولا حرمة أما الغزالي فقد صرح بتحريمه حيث قال في معرض تفريقه بين منع الحمل وبين إسقاطه: (وليس هذا - رأي منع الحمل - كالإجهاض والوأد؛ لأن ذلك جناية على موجود حاصل، والوجود له مراتب وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت نطفة وعلقة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشًا، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حيًّا) (6) . وتحريم إسقاط الحمل حتى قبل نفخ الروح فيه مبني على أن فيه حياة محترمة هي حياة النمو والإعداد وقد قاسه بعض الأحناف ببيض الصيد إذا كسره المحرم فإنه يضمن لكونه أصل الصيد، قالوا: وما دام المحرم يطالب بالجزاء إذا كسر بيض الصيد فلا أقل من أن يلحق من يسقط الحمل الذي لم ينفخ فيه الروح إثم إذا كان قد أسقطه بدون عذر شرعي. ومما تجدر الإشارة إليه أن الناس بفضل التقدم العلمي تمكنوا من اكتشاف وسائل علمية لتحديد النسل وتنظيمه بحيث لا يضطرون إلى إسقاط الحمل المفضي إلى ارتكاب محظور شرعي وبحيث لا يضطرون إلى العزل أيضا المفضي إلى الإضرار بالنفس أو بالزوجة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الدكتور/ دوكوري أبو بكر   (1) انظر معنى العزل في النهاية في غريب الحديث 3/230 (2) متفق عليه راجع نيل الأوطار 6/220 (3) راجع نيل الأوطار 6/220 (4) رواه أحمد ومسلم وأبو داود راجع نيل الأوطار 6/220 (5) راجع إحياء علوم الدين 2/52، الحلال والحرام في الإسلام ص 192 (6) راجع إحياء علوم الدين للغزالي 2/51 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 تنظيم الأسرة في المجتمع الإسلامي الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أعد هذا الكتاب للنشر بتكليف من اللجنة التنفيذية لإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية، لجنة مؤلفة من: 1 - الدكتور عصام رشدي الناظر 2 - الأستاذ حسن سعيد الكرمي 3 - الدكتور عبد الرحيم عمران 4 - الدكتور محمود زايد الفصل الأول الإسلام والأسرة والمجتمع الإسلام والأسرة والمجتمع - تقدمة - إن الكلام عن الإسلام وتنظيم الأسرة، في مؤتمر الرباط وفي غيره فيما بعد ينطوي كما لا يخفى على اعتبار مهم واحد وهو أن الأسرة لها كيان خاص يتميز عن غيره ويمكن دراسته وحده، وهذه الفكرة عن الأسرة فكرة جديدة في العالم المتحضر الغربي لم يكن لها قبل القرن التاسع عشر حظ من البروز والظهور مع العلم بأن الأسرة بمعناها المعروف كانت موضع بحوث فقهية إسلامية جديدة منذ القرن الثامن الميلادي عن طريق بحث العلاقة بين الزوج والزوجة، وبحث حقوق الزوجية، ومشكلات العلاقة الزوجية وكثرة الأولاد وقلتهم، وحالة الأسرة الاقتصادية والاجتماعية وما إلى ذلك، فالبحث إذًا في الأسرة عند المسلمين قديم، ولكنه في العالم الغربي حديث. وبداية البحث فيها عند العلماء الغربيين صدرت عن غير رجال الدين، وتناولت هذه البداية منشأ الأسرة وكيف تطورت من الأصل، واحتاج الأمر بالطبع إلى دراسات تاريخية ووثائق وسجلات للاضطلاع على تاريخ الأسرة، وكانت هذه بطبيعة الحال مفقودة إلى حد كبير مما دعا علماء الاجتماع إلى دراسة الأسرة في المجتمعات البدائية لمعرفة تطور الأسرة الحديثة اعتبارا منهم بأن الأسرة كيان اجتماعي نشأ وتطور مع الزمان منذ أمد بعيد. وحصل العلماء من هذه الدراسات على معلومات أصبحت مرجعًا لتاريخ الأسرة. غير أن الاهتمام في هذه الدراسات الأولى كان يتجه إلى أمور معينة مثل: هل كانت الأسرة تحت سلطة الأم أم تحت سلطة الأب؟ وهل كان الرجل يكثر من الزوجات أم يقتصر على زوجة واحدة؟ وهل كانت المرأة تتزوج أكثر من رجل واحد في وقت واحد؟ إلى غير ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 ولكن الثورة الصناعية واستفحال الفقر عند بعض الطبقات دعا الباحثين في العالم الغربي أو الصناعي عامة إلى دراسة مشكلات الفقر وإلى دراسة الأحوال الاقتصادية للأسر الفقيرة بوجه خاص، وفي القرن العشرين ظهرت مشكلات أخرى بالإضافة إلى مشكلة الفقر والعمل، كالطلاق والافتراق بين الزوجين وكثرة عدد الأولاد غير الشرعيين وحوادث الإجرام وغيرها. وهذا معناه قصر الاهتمام في البحث عن الأسرة منفصلة عن المجتمع، ونشأ عن ذلك أن تعمق الباحثون في وضع الأسرة بالنسبة إلى الأفراد وحالاتهم الصحية والنفسانية وأسباب النزاع بين الأفراد وإرجاعه إلى عوامل نفسيه. وبعد الحرب العالمية الثانية قوي هذا الاتجاه في البحث هذا الذي عولجت فيه الأسرة بمعزل عن بقية المجتمع، بل إنه لم تجر إلا محاولات قليلة للربط بين الطرفين، مما أدى في النهاية إلى التركيز على الأحوال والظروف التي تؤدي إلى انهيار الأسرة وعلى معالجة مشكلاتها كالطلاق والإجهاض والتعقيم ومنع الحمل، وبالتالي إلى الاهتمام بتنظيم الأسرة بوجه عام. وقد ظهرت في المدة الأخيرة أبحاث مهمة تتعلق بهذه المشكلات مما اضطر الكثير من الدول وخاصة في أوروبا وأمريكا الشمالية إلى وضع تشريعات لمعالجتها، حتى إن الكنيسة الكاثوليكية لم تجد بدا من الدخول في ميدان الجدل العالمي لتدلي برأيها في وسائل منع الحمل وتنظيم الأسرة. أما في البلاد الإسلامية فإن تنظيم الأسرة كحل لمشكلات الأسرة لم يحظ بمثل هذا الاهتمام رغم أن الوسائل لمنع الحمل وخاصة العزل كانت معروفة (وممارسة) منذ فجر الإسلام. غير أن ازدياد السكان في بعض البلاد الإسلامية زيادة كبيرة حدا بالمسؤولين إلى التفكير جديًّا بهذه القضية. ومؤتمر الرباط الذي عقد في سنة 1971 كان أول استجابة عامة من المسلمين للتحديات الناجمة عن مشكلات الأسرة والسكان وذلك في ضوء التعاليم الإسلامية واجتهادات علماء المسلمين. وكان من إنجازات هذا المؤتمر الكشف بصورة واضحة عن موقف الإسلام من الأسرة، وعن العلاقات بين أفرادها وتفاعلها مع المجتمع. ومما هو جدير بالذكر أن مؤتمر الرباط لم يقتصر في بحث الأسرة على النظر في القضايا الفردية، كما كان الحال في العالم الأوروبي، بل تعرض للأسرة من حيث ظروفها الصحية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وعلاقة ذلك كله بالمجتمع كما سيظهر جليًّا في الملخص التالي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 خلاصة بحوث ومناقشات مؤتمر الرباط الإسلام والأسرة والمجتمع تناولت الدورة الأولى في المؤتمر موضوع الأسرة من حيث تاريخها ومن حيث كيانها وتركيبها، وكذلك الأسرة من حيث الغاية في تكوينها وعلاقتها بالمجتمع، وكل ذلك من وجهة النظر الإسلامية، فإن الإسلام جاء بنظم اجتماعية جديدة بقصد إصلاح المجتمع، ونظرة واحدة إلى ما كانت عليه الجزيرة العربية من نزاع وتفرق بسبب النظام القبلي والتفاخر بالأنساب، توضح الغاية في الإسلام من إيجاد وحدة اجتماعية جديدة لتكون محورًا للمجتمع الأوسع في الأمة الإسلامية. ومن الأقوال في ذلك أن القرابة القبلية لا تتمتع بأي احترام أو رعاية في النظام الإسلامي إذ لم تشجع التعاليم الإسلامية على تنمية العلاقة العشائرية بل حاول الإسلام بطرق كثيرة أن يحطم الوحدة العشائرية في سبيل بناء الأمة القائمة على وحدة المعتقد. لقد كان هدف الإسلام إصلاح المجتمع القبلي في سبيل إيجاد مجتمع مدني حضري جديد يقوم على أساس أسرة وثيقة العرى متآزرة، تدين بالولاء لمجتمعها الصغير من الأقارب بدلًا من الولاء للقبيلة. وهكذا كانت الأسرة موضع تطورات في اتجاهات مختلفة، ومن ذلك أن الأسرة في الإسلام تحولت عن القبيلة إلى الأسرة الموسعة ثم إلى الأسرة الأحادية، وهكذا أصبحت الأسرة في الإسلام ترتبط برابطتين، الأولى الرابطة الداخلية الموجهة إلى مركز هذه الوحدة الاجتماعية الصغيرة، والثانية الرابطة الخارجية إلى الأمة الإسلامية والمجتمع الإنساني قوة الدفع نحو المركز، وفي حين أن الرابطة الثانية تجذب نحو الخارج وتعمل عمل قوة الدفع بعيدًا عن المركز، والإسلام وازن بين القوتين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 معنى الأسرة: كانت الأسرة ومعناها موضع بحث مطول في المؤتمر، واتفق الرأي مع الأستاذ حسن الكرمي والشيخ محمد مهدي شمس الدين والشيخ محمد الفقيه الطنجي على أن الإسلام هو الذي أوجد الأسرة تمييزًا لها عن القبيلة، بشروط تضمن لها أن تكون مصونة من كل ضعف وانهيار، حتى إن الإسلام أمر بالامتناع عن الزواج عند عدم قدرة الزوج على القيام بواجباته نحو أسرته المؤلفة من زوجة وأولاد؛ لأن الغاية من الزواج في الإسلام هي ضمان السعادة والهناء في الأسرة، كما أشارت الآية الكريمة 21 من سورة الروم {وَمِنْ آَيَاتِهِ} وقوله تعالى: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} في رأي الدكتور عبد السلام عظيمي هو إشارة واضحة إلى أن الاطمئنان القلبي أو السكن مع الراحة والمودة التامة لا يمكن أن يكون في بيت يعيش فيه عدد كبير من الأولاد. وترددت هذه الفكرة عند الكثيرين من أعضاء المؤتمر ومنهم الشيخ عبد الحميد السائح الذي قال: إن الإسلام اعتبر أساس العلاقة الإنسانية كلها الرحمة والمحبة، ولذلك اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم شعار الإسلام: الأمان والسلام وإطعام الطعام ومساعدة الآخرين. وكان الاتفاق تامًّا مع السيد رفيع الله شهاب على أن العبرة في الأولاد من حيث القلة أو الكثرة هو إيجاد نسل صالح، إذ لا فائدة من كثرة النسل إذا كانت هذه الكثرة ضعيفة جسميا ونفسانيا وغير صالحة أخلاقيا، وأشير من هذه الناحية إلى أن عدم صلاح الأولاد يؤدي إلى عدم صلاح البيئة، ولذلك ناقش فقهاء المسلمين هذه المشكلة وانتهوا إلى ضرورة الأخذ بإجراءات لتنظيم الأسرة في حالة تدهور الوضع التام الناجم عن سوء البيئات الاجتماعية. ومهما اختلفت الكلمات الدالة على الأسرة في الإسلام، فلا اختلاف في أن تعاليم القرآن الكريم تهدف إلى استقرار الأسرة وسعادتها ووحدتها، وأن تعيش عيشة وادعة سعيدة، كما جاء في الآية الكريمة 21 من سورة الروم. ومعنى الاستقرار هو ثبات القواعد التي يبنى عليها ثبات الأسرة وعدم تقلب هذه القواعد بحسب الاتجاهات الهدامة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 ولقد أثار الدكتور محمد سلام مدكور في البحث قضية التوازن بين مصلحة الأسرة ومصلحة المجتمع على اعتبار أن (مراعاة المصالح من أعمدة التشريع الإسلامي) وأن الفقه الإسلامي يؤثر مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد عند التعارض، وهذا الاتجاه بطبيعة الحال يقضي بأن تكون الأحكام متطورة بسبب الظروف وأن تكون شاملة للوقائع المتطورة أيضا.. (وهي في كل هذا تساير مصالح الناس وهو الأساس الذي قامت عليه) ؛ ولذلك نص فقهاء الحنابلة في هذا الموضوع على أنه (لا يصح أن يخلو العصر من مجتهد؛ لأن طريقة معرفة الأحكام الشرعية إنما هو الاجتهاد) ، وجاء في الحديث الشريف ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)) ووردت عند الفقهاء أقوال وشواهد تؤيد كون الأحكام متأثرة بالزمان والمكان، أي بالبيئة والعرف لمصلحة المجتمع، ومن ذلك قول ابن القيم: (الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد) ، ومن ذلك أيضًا قول الشاطبي: (وضع الشرائع إنما هو لصالح العباد في العاجل والآجل معًا) ، ومنه كذلك قول ابن عابدين الفقيه الحنفي: (كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه، لزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف ورفع الضرر والفساد، ولبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام) . التطور: توسع الدكتور محمد سلام مدكور في هذه الناحية من الموضوع وتكلم بإسهاب عن تغير الأحكام تبعًا لتغير المصلحة، وأورد أقوالًا أخرى تأييدًا لفكرته بأن تغير الأحوال يقتضي تغيير الأحكام واستشهد بقول ابن القيم (إن تغيير الفتوى بحسب الأمكنة والأحوال والنيات والعوائد معنى عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة ما يعلم أن الشريعة لا يعقل أن تأتي به) وينقل الزيلعي الحنفي عن فقهاء بلخ رأيهم أن (الأحكام قد تختلف باختلاف الأزمان) ويقول القرافي المالكي: (إن الجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف) . وهذا يدل على أن التصرف في الأحكام بما يلائم الواقع أمر مشروع. كما يدل عليه تصرفات الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي طالما غير بعض الأحكام إلى ما يرى أنه مصلحة، مع تفسيره للنصوص تفسيرًا يتفق مع المصلحة، وهي تصرفات تبين أن تغييرات الأحكام تبعًا للمصلحة في عصر الصحابة كانت كثيرة، وهو ما درج عليه التابعون، فلقد وضع أئمة الفقه وتلاميذهم بعدهم قاعدة فقهية عامة وهي (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان) حتى إن القاضي أبا يوسف قال: (إذا ورد النص على أساس عرف مستقر وقت وروده، ثم تغير العرف بعد ذلك فإن الحكم يتغير تبعًا لتغيره) ، وقال القرافي: (إن جميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد، إذا تغيرت العادة تغيرت الأحكام في تلك الأبواب) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 وخرج الدكتور محمد سلام مدكور من بحثه في الموضوع بقوله: (ونحن لو نظرنا نظرة فاحصة في مسلك الفقهاء السابقين لما وجدناهم إلا متطورين بتطور عصورهم ومتنقلين مع المصالح حيثما كانت) . ثم تساءل: (وكيف نقف جامدين أمام تطور الحياة، وما يجري فيها من نظم واعتبارات جدت في هذا المجتمع ولا نتعرف على حكم الله فيها) . الدعوة إلى الاجتهاد: وتطرق بعض أعضاء المؤتمر إلى موضوع الاجتهاد في إطار الفكرة التي تنسب التخلف إلى المسلمين والإسلام وخاصة العلماء المسلمين، ودعوا إلى استخدام الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية الكفيلة بإزالة التخلف، وإزالة المفاهيم الخاطئة التي دخلت على المجتمع الإسلامي، وانتهوا إلى أن واجب علماء الدين هو إظهار حكم الإسلام في كل جديد وعليهم أن ينظروا بعين العصر الحاضر. وعلق الدكتور مدكور على هذا بقوله: (إنه ينبغي أن يكون باب الاجتهاد مفتوحًا في كل عصر إذ أن أحكام الشريعة لم تكن قاصرة على ما كان واقعًا عند بدء ظهورها وإنما هي عامة ولابد من عموم أحكامها وشمولها للوقائع المتطورة أيضًا، وهي في كل هذا تساير مصالح الناس وهو الأساس الذي قامت عليه) . وينص فقهاء الحنابلة في هذا الموضوع على أنه (لا يصح أن يخلو العصر من مجتهد) . وختم الدكتور محمد سلام مدكور كلامه في هذه النقطة مشيرًا إلى أن الأحكام تتغير تبعًا لتغير المصلحة، وأن التصرف في الأحكام يكون بما يلائم الواقع، وأن التطور هو سنة الحياة، ودعا إلى الاجتهاد الجماعي بين أولي الأمر من العلماء. وعلق الشيخ محمد مهدي شمس الدين على تغير الأحكام فقال: (فليست هناك أحكام تتغير، وإنما هناك موضوعات تتجدد لقواعد عامة سابقة.. ولكن ما يحدث إنما هو تغير في أوضاع الحياة، ولهذه الأوضاع أحكام في القواعد العامة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 واتخذ عدد من الأعضاء اتجاها حول هذا الموضوع يتلخص في أن الأحكام تتغير بتغير المصلحة وأن الاجتهاد ضروري مع اعتبار المصلحة، وأن الدين فيه عملية تجديد في التشريع كما جرى في المؤلفة قلوبهم حينما حرمهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من حقهم في الزكاة بعد أن قويت شوكة الإسلام، وأجمل الفكرة بصورة عامة السيد محمد ظفار بقوله: (أنا مقتنع بأن الإسلام يعارض النظام الاجتماعي الذي لا يتغير) . التطور والتجديد: الموضوع كله يتعلق بفكرة التجديد في المجتمع، وهي فكرة دارت حولها تفسيرات وتعريفات متعددة، فيما يتعلق بالإسلام. والرأي الذي أبداه الدكتور مدكور عن وجوب مراعاة تغير الأحوال عند وضع الأحكام تعارض مع رأي آخر للشيخ مصطفى أحمد الزرقاء الذي تساءل عن موقف الإسلام من هذا التطور في جميع اتجاهاته وصوره وألوانه قائلًا: (فهل يجاري الإسلام حياة البشر وتطورها فيتطور معها ويتغير كي لا ينفصل عن ركبها) ؟. ثم عرض رأيه في معنى التطور وقال: إن التطور قد يكون إلى الأحسن وقد يكون إلى الأسوأ، وإن التطور فيما يتعلق بالإسلام لا يعني تطوير الدين نفسه وإنما يعني موقف الإسلام من تطور الحياة البشرية في أوضاعها وعاداتها وتقاليدها وقيمها الاجتماعية وسلوكها في بناء الأسر وما إلى ذلك، ولكن التطور أو التغير قد يعتري الفكر الإسلامي أي فهم الناس للإسلام دون تحريف أو تشويه عن جهل أو سوء قصد بإدخال المفاهيم والقيم غير الإسلامية على الفكر الإسلامي، وأشار بصورة خاصة إلى أن (الإسلام قد أتى بأحكام ومقررات أساسية ثابتة في النواحي ذات القيم الثابتة التي لا يتصور أن يعتريها تطور في الحياة العادية الطبيعية تنعكس فيه قيمها) ، ولكن الإسلام فتح باب المعذرة والترخيص اعتمادًا على القاعدة الفقهية (الضرورات تبيح المحظورات) ، بالقدر الذي يندفع به الاضطرار، ولذلك (جاءت نصوص الشريعة في القرآن والسنة النبوية كاشفة عن قضاياها الثابتة القيم، وكانت هذه النصوص صالحة بذلك لكل زمان ومكان بالنسبة للغايات المطلوبة دون الوسائل المتطورة التي تركها الشارع لتتطور بحسب الحاجة) . وأورد الشيخ مصطفى الزرقاء أمثلة على القواعد الإسلامية الثابتة في المجتمع والسياسة التي هي أساسية لا تتبدل وإن تبدلت الوسائل المستعملة لذلك، وقال: إن النصوص الأصيلة غطت جميع الحاجة عن طريق الاجتهاد والاستنباط وتحكيم قاعدة المصالح المرسلة وقاعدة سد الذرائع في كل شأن سكتت عنه النصوص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 وتحديد معنى التطور في عبارة (مجتمع متطور) أدى إلى تفسيرات متعددة، وكان الرأي الغالب أن يكون معنى التطور شاملا للتغييرات سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو ثقافية - وأن يعمل المؤمن على تحديد نظرة الإسلام إلى الأسرة في مثل هذا المجتمع المتطور. وكان السؤال الأساسي هو معرفة ما يقدمه الإسلام من تشريع وتنظيم لمواجهة التغييرات الناجمة عن الحياة الحديثة، وما هي الحلول لمعالجة العوامل الكثيرة التي تتعرض لها الأسرة المسلمة، في المجتمعات المتطورة. وأشار الدكتور قيصر أديب ماجول إلى اهتمام المؤتمر بالمحافظة على المجتمع الإسلامي وقال: (إن الإسلام لا يتغير والحياة الاجتماعية تتغير، ولابد للإسلام من أن يحكم في التغير الذي يطرأ على المجتمع، ويتعين على علماء المسلمين أن يكونوا أكثر إيجابية إزاء التغير، والإسلام يدعو إلى التحديث. والتحديث هو استخدام الوسائل التَّقَنِيَّةِ في حل مشكلات الأسرة والمشكلات الاجتماعية، ويجب أن يكون ذلك في سبيل تماسك المجتمعات الإسلامية) . وعلى كل فإن الإجماع كان تامًّا حول معنى التطور من حيث إنه يعني التغير نحو ما هو أفضل مع التمسك بالقواعد الإسلامية. ومن الطبيعي أن ينتقل البحث في موضوع التطور إلى موضوع معنى الأمة؛ لأن الأمة في الزمان الحاضر مجتمع متطور. وأكد الأعضاء عموما أن المحافظة على الأمة وكيانها تعتبر واجبًا إسلاميًّا منذ أن أوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مجتمع إسلامي، وعبر بعض الأعضاء عن ذلك بأنه يجب وجود توازن في المجتمع بين سرعة التغير وسرعة التمثيل حتى يمكن المحافظة على طبيعة المجتمع الإسلامي. وجرى بحث التطور من ناحية أخرى وهي ناحية التجدد، وهو موضوع بحث السيد وجيه الدين أحمد، إذ بدأ بحثه بالكلام عن معنى التجدد وعن النظرية السيكولوجية المتعلقة بالتجدد، وذكر أن هذه النظرية تقوم على الاقتراحات التالية:- 1 - الأشخاص الذين هم على مستوى عال من التجدد ومسايرة العصر الحديث أقوى على الأخذ بالتخطيط والتنظيم وأشد ميلًا إلى الأخذ بالابتكارات العصرية لتحقيق أهدافهم. 2 - السلوك الذي يميل إلى الابتكار يكون عادة متحررًا من العقبات الثقافية القديمة ويكون منبعثًا عن عقلية مستقلة عن تأثير التقاليد. 3 - المستوى العالي للطاقة المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بأهداف الشخص الخاصة يعزز القدرة على التغيير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 وقال السيد وجيه الدين أحمد: (السلوك الذي يدل على التجديد لا يكون عن طريق الأخذ بالأدوات العصرية والتسهيلات المنزلية الكهربائية وغيرها لا لشيء إنها عصرية ميكانيكية، وإنما يكون عن دافع نفساني سيكولوجي نابع من أعماق النفس، فالقروي مثلًا قد لا يكون مهتمًا بهذه الآلات والأدوات العصرية لذاتها، ولكنه يكون مهتمًّا في تحسين وضعه بشراء ثور أقوى على الحرث أو بقرة حلوب، وقد يكون الإقبال على المظاهر العصرية الحديثة إقبالًا مصطنعًا بسبب تأثير الدعايات التجارية الجماعية، غير صادر عن الظروف الحقيقية ولا عن الوضع الثقافي الاجتماعي. فالفلاح في الباكستان مثلا يقبل على استعمال الأسمدة الكيماوية ويهمل ما هو أهم من ذلك وهو النشاط في العمل. وليس الابتعاد عن الثقافة التقليدية وحده يسهل عملية التغيير والتجديد، والرأي القائل بأن التقاليد كابوس يعطل التقدم في جميع الاتجاهات رأي سطحي، ولو أن بعض التقاليد قد يكون لها هذا الأثر، غير أن تقاليد أخرى قد تكسب التقدم قوة دافعة، ومن ذلك مثلا أن الحركات التجديدية في العالم الإسلامي كانت أقرب ما تكون في حقيقتها إلى المثل القائل (عمل جديد بأسلوب قديم) أي أن هذه الحركات كانت تجمع بين القيم الغربية والنظرة العلمية من جهة، والوحي الديني والقواعد الدينية الأساسية من جهة أخرى، فالدعوة إلى تحرير المرأة مثلا كانت بدافع وضع المرأة في البلاد الأوروبية، ولكنها كانت في الوقت نفسه مبنية على أن النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كن يشاركن الرجل في أعماله ويحاربن معه ويعملن في إسعاف الجرحى) . والنقطة التي أثارها السيد وجيه الدين أحمد - بشأن العلاقة بين التطور والتجدد كان لها صدى في لفت النظر إلى معنى التطور بالنسبة إلى التقاليد فهو يحض على وجوب إعطاء أهمية عظمى للدوافع النابعة من التقاليد؛ لأنها دوافع مألوفة وتحمل معنى القداسة والسلطان والحكمة الجماعية ويغذيها تراث معنوي، إذ بهذه الطريقة تكتسب عملية التربية والتثقيف سهولة وتصبح أكثر عمقًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 وتكلم الدكتور عبد الرحيم عمران عن وجهة جديدة للتطور من الناحية السكانية حسب نظرية التطور الوبائي للسكان وهي نظرية تدرس التغيرات السكانية وأسبابها وآثارها حسب مبادئ علم الوبائيات، واعتمادًا على هذه النظرية قسم الدكتور عبد الرحيم عمران التاريخ إلى دورتين، الدورة القديمة والتي سبقت القرن السابع عشر والدورة الحديثة التي تلت ذلك حتى الآن. ونظرته للدورة القديمة هي تطوير علمي لنظرية الدورات السكانية لابن خلدون، أما نظرته للدورة الحديثة فتعتمد على التفاعل بين العوامل الصحية والاجتماعية، وأشار الدكتور عمران إلى أنه لا يوجد تعارض في الإسلام بين الحث على الكثرة وبين الحث في الوقت نفسه على تنظيم الأسرة، إذ أن الهدف الأساسي هو المحافظة على التوازن الحيوي بين معدلات المواليد والوفيات في المجتمع، وبالتالي فقد كانت متطلبات العصور القديمة كثرة التوالد بسبب ارتفاع معدلات الوفيات وخاصة بين الأطفال، أما في العصور الحديثة ونتيجة لانخفاض معدلات الوفيات فقد قلت الحاجة إلى الكثرة من الإنجاب وبالتالي نشأت الدعوة لتنظيم الأسرة. وأعرب الأستاذ عبد الكريم المراق عن هذه الفكرة بصورة أخرى فقال: (إن المجتمع متطور لأنه يضم كائنات بشرية حية نامية ومتطورة، وحاجة المجتمع إلى الدين هي نفسها متطورة بالنسبة التي يتطور بها المجتمع حتى لا يحصل الاختلال في التوازن الاجتماعي) وقال: (إن الدين صورة للمجتمع الذي ينتمي إليه) فإذا كان ذلك المجتمع في واقعه متميزًا بالصحة العقلية والقوة والمناعة كانت النظرة إلى الدين مستوحاة من هذا الواقع، والإسلام ثورة على الظلم والجهل، وهو لا يزال كذلك. وأضاف بأنه يصح القول بأن (الإسلام كمبادئ عامة يقوى ويضعف تبعًا لقوة أو ضعف الأفراد الذين ينتمون إليه) . وفي النهاية أجمع المؤتمر بأسره تقريبًا على أن كثرة النسل، وإن كانت مرغوبة في الإسلام، تعني كثرة النسل الصالح لا كثرة النسل الفاسد، ومن ذلك قول السيد محمد ظفار أن (إنجاب أطفال أكثر أو أقل إنما يعتمد على الأوضاع والظروف، فأحيانا تجب زيادة السكان كما يجب إنقاصهم في أحيان أخرى لحفظ التوازن، ولدينا قواعد لكلتا الحالتين في كتب الفقه الإسلامي) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 الإسلام والأسرة والمجتمع تحليل وتعليق الأسرة في المجتمع الإسلامي هي محور هذا المجتمع، وقد نظم الإسلام أحوالها بتشريعات متعددة اعتمدها الفقهاء في استنباط أحكامهم التي احتاجت بسبب الأوضاع المستجدة إلى تغيرات لا تخرجها عن الأصل ولكن تجعلها أميل إلى مسايرة العصر. ونفهم من هذا بطبيعة الحال أن الاجتهاد في شؤون الأسرة كان عاملًا مهما يؤدي بالنتيجة إلى الإقرار ولو عمليًّا بأن الاجتهاد في التشريع في هذا العصر ضروري حتى تكون الشرائع منسجمة ومستلزمات العصر المتغيرة وعليه فإن التجديد بحسب الحاجة يربط بين الدين والدنيا ويجعلهما متلازمين، على عكس ما جرى في كثير من البلاد الإسلامية حيث سادت الازدواجية في عرف الناس وهي فصل الدين عن الدنيا حتى أصبح الدين منزويا ومنقطعًا عن سير الحياة الاجتماعية، وأصبح رجال الدين رمزًا للمحافظة على القديم والتزمت. ويجدر بنا في هذه المناسبة أن نذكر ما كتبه خير الدين باشا التونسي (1810 - 1879) عن ذلك بقوله. (ثم من أهم العوائق في تقدم المسلمين وجود طائفتين متعاندتين: رجال الدين يعلمون الشريعة ولا يعلمون الدنيا ويريدون أن يطبقوا أحكام الدين بحذافيرها بقطع النظر عما جد واستحدث.. ورجال سياسة يعرفون الدنيا ولا يعرفون الدين ويريدون أن يطبقوا النظم الأوربية بحذافيرها من غير رجوع إلى الدين. فنقول للأولين: اعرفوا الدنيا، ونقول للآخرين: اعرفوا الدين، فاعتزال العلماء شؤون الدنيا ثم تحكمهم ضرر أي ضرر، وجهل رجال السياسة بأحوال الدين ضرر مثله، والواجب امتزاج الطائفتين وتعاونهما، فهناك أحوال الدين يجب أن تراعى، وهناك أمور لم ينص عليها الدين وتقتضيها مصالح الأمة يجب أن تقاس بمقياس المنفعة والمضرة ويعمل فيها العقل) (1) .   (1) راجع أحمد أمين: فيض الخاطر ج 6 (القاهرة 1945) ص 216 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 وقال الشيخ مصطفي الزرقا عن التجديد (ليس هو إدخال شيء جديد على الدين الإسلامي ليس منه ولا تشمله نصوصه العامة. المقصود بتجديد الدين الإسلامي في هذا الحديث: إحياء ما اندرس من معالمه وترميم ما توهن من لبناته بسوء الاستعمال وإزاحة ما أقيم في طريق مسيرته البناءة للحياة البشرية الصحيحة الكريمة الطيبة من عوائق أو نصب فيها من نصب وهمية لتشد الأبصار إلى غير الخالق تعالى عن جهل أو عن مكر) (1) . ومن الأدلة على وجوب الاجتهاد ما روي عن أصحاب المذاهب أنفسهم فقد كانوا ينصحون تابعيهم بأن فقههم غير ملزم. وقال الإمام أبو حنيفة (علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه فهو أولى بالصواب) وسأله أحد تلاميذه (أهذا الذي تفتي به هو الحق الذي لا شك فيه؟) فقال: (والله لا أدري، فقد يكون الباطل الذي لا شك فيه) وقال الإمام أحمد بن حنبل (لا تقلدني ولا مالكا ولا الشافعي، وخذ من حيث أخذوا) وروي عن الإمام مالك أنه قال (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، كل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه) (2) . وقد سئل الإمام شهاب الدين القرافي المصري المتوفى سنة 682 هجرية (إذا صارت العوائد لا تدل على ما كانت تدل عليه أولا فهل تبطل الفتاوى المسطورة في كتب الفقهاء، ويفتى بما تقتضيه العوائد المتجددة؟ أو يقال نحن مقلدون وما لنا إحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد، فنفتي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين؟ وكان جوابه على ذلك (إن كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه عند تغيير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة. وليس بتجديد للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية للاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف) (3) .   (1) مصطفى الزرقاء - الإسلام وتنظيم الأسرة ج 1 (بيروت 1973) ص 243 (2) راجع بشأن هذه الأقوال محمد سلام مدكور (الإسلام والمجتمع والتطور) في الإسلام وتنظيم الأسرة ج 1 - ص 299 (3) صبحي الحمصاني. فلسفة التشريع في الإسلام (بيروت 1961) ص 214 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 وكانت أولى الخطوات التي اتخذت في سبيل تيسير استنباط الأحكام قيام الدولة العثمانية بإخراج قانون للمعاملات المدنية مقتبس من الفقه الإسلامي مع التقيد بالمذهب الحنفي ومع مراعاة مصالح الناس وروح العصر. وتتمثل جرأة هذه المحاولة في عدم الإصرار على مبدأ التقيد بالرأي الراجح من المذاهب، مما وفر حرية كبرى لأعضاء اللجنة المكلفة باستنباط الأحكام في اختيار الأصلح منها للأمة وهذا واضح في التقرير الذي رفعته هذه اللجنة إلى الصدر الأعظم في عام 1869 وجاء فيه: (علم الفقه بحر لا ساحل له، واستنباط درر المسائل اللازمة منه لحل المشكلات يتوقف على مهارة علمية وملكة كلية وعلى الخصوص مذهب الحنفية لأنه قام فيه مجتهدون كثيرون متفاوتون في الطبقة ووقع فيه اختلافات كثيرة ومع ذلك فلم يحصل فيه تنقيح كما حصل في فقه الشافعية، بل لم تزل مسائله في أشتات متشعبة، فتخير القول الصحيح من بين تلك المسائل والأقوال المختلفة وتطبيق الحوادث عليها عسير جدًا، وعدا ذلك فإنه بتبدل الأعصار تتبدل المسائل التي يلزم بناؤها على العرف والعادة ... ) (1) . وأصدرت الحكومة العثمانية سنة 1917 قانون العائلة وقد سجل واضعو هذا القانون خطوة أخرى في توفير الحرية في الأخذ بالأحكام الفقهية، وأقروا مبدأ التخير في انتقاء الأحكام، وفي مصر نصت المادة 280 من تشكيل المحاكم الشرعية لعام 1910 على العمل مبدئيًا بأرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة، ثم شكلت الحكومة المصرية لجنة من كبار الفقهاء والقانونين لوضع أحكام تؤخذ من الفقه الإسلامي دون التقيد بمذهب معين مع مراعاة روح العصر. وهذا كله شاهد على ضرورة الأخذ بالاجتهاد عند الحاجة.   (1) صبحي الحمصاني. فلسفة التشريع في الإسلام (بيروت 1961) ص 85 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 الفصل الثاني الإسلام وتنظيم الأسرة الإسلام وتنظيم الأسرة تقدمة ناقش مؤتمر الرباط موضوع تنظيم الأسرة في صراحة ووضوح وإخلاص وحرص على إبداء آراء الدين الإسلامي الحنيف فيها، وبالرغم من الاختلاف في بعض التفاصيل، فإن المؤتمر قد توصل إلى تحديد موقف الإسلام من تنظيم الأسرة وتبيان آراء الفقهاء والمذاهب في هذا الموضوع، كذلك استعرض المؤتمر آراء علماء الدين في العصر الحديث، وهي لا تختلف في الأصل عن آراء الفقهاء الأول، وإن كانت قد تعرضت لتفاصيل يحتاجها الوضع الحالي في العالم الإسلامي. كذلك استمع المؤتمر إلى آراء المتخصصين في علوم الطب والاجتماع والسكان والاقتصاد والتربية والتعليم، وأخذها بعين الاعتبار عند تكوين الرأي الأخير في موضوع تنظيم الأسرة، وفي موضوع تقييم مستقبل الأسرة المسلمة والمجتمعات الإسلامية والأقليات الإسلامية، وأبدى المؤتمر اهتمامًا بالغًا بالأسرة بوصفها نواة للمجتمع وبعلاقة تنظيمها بصحة أفرادها ورفاهيتهم وتمكينهم من القيام بواجباتهم في بناء المجتمع الإسلامي. ويمكن أن نقول إن المؤتمر قد حاول أن يجيب على كثير من الأسئلة التي تشغل أذهان المسلمين اليوم ومن هذه الأسئلة ما يأتي: 1- هل تنظيم الأسرة: "بمعنى استعمال وسائل لتأجيل الحمل أو تعجيله، أو لتحديد عدد الولادات. والمباعدة بين حمل وآخر" حرام أو حلال من وجهة نظر الفقه الإسلامي؟ 2- هل تنظيم الأسرة في الإسلام مشروط بشروط معينة، أو هو مباح دون قيد؟ 3- هل تنظيم الأسرة في الإسلام يقتصر على استعمال وسائل معينة مثل الدين الكاثوليكي أم أنه يسمح بكل الوسائل طالما أنها سليمة ومأمونة. 4- ما هي الدواعي الاجتماعية والاقتصادية والأسرية لتنظيم الأسرة في الإسلام، وهل هناك نصوص فقهية في ذلك؟ 5- ما هي الدواعي الصحية لتنظيم الأسرة وما هي النصوص الفقهية المتصلة بذلك؟ 6- المعروف عن الإسلام والأديان جميعًا استحباب الزواج والكثرة، فهل يتعارض ذلك مع تنظيم الأسرة؟ 7- هل يمكن تنظيم الأسرة على مستوى المجتمع الإسلامي، وما هي خبرات بعض البلاد الإسلامية في ذلك؟ 8- هل يعتبر تنظيم الأسرة مؤامرة أجنبية حيث إن البلاد الغربية هي التي تدعو إليه، وتقوم بتمويله وترويجه في البلاد النامية؟ 9- ستجد الإجابة على هذه الأسئلة في ثبت وقائع مؤتمر الرباط الذي نشر في جزأين تحت عنوان "الإسلام وتنظيم الأسرة بالعربية والإنكليزية" كما تجدها في الملخص التالي لبحوث المؤتمر ومناقشاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 خلاصة مؤتمر الرباط الإسلام وتنظيم الأسرة بحوث ومناقشات مضمون تنظيم الأسرة: انتقل المؤتمر إلى بحث موضوع الإسلام وتنظيم الأسرة وكان لابد للأعضاء في هذا البحث من تناول معنى"الأسرة" بزيادة من التوضيح كما سبق ذكره في أبحاث المؤتمر عن ذلك، وكان لابد لهم أيضًا من الوقوف وقوفًا تامًا على فكرة "التنظيم" وعلاقتها بتحديد النسل في الأسرة الواحدة أو بالانفجار السكاني في العالم كله. كما اقترح عدد من أعضاء المؤتمر استعمال عبارة تنظيم الوالدية بدلًا من تنظيم الأسرة، وعرف الشيخ ناصر الدين لطيف تنظيم الوالدية "بأنه اختبار أو سعي إنسان متعمد لتنظيم الحمل في الأسرة بصورة لا تنافي أحكام الدين وقوانين الدولة والقيم الأخلاقية في سبيل تحقيق رخاء الأسرة خاصة ورخاء الأمة والدولة عامة". وقد عرف الشيخ أحمد الشرباصي "تنظيم الأسرة" بأنه "تهيئة الظروف السوية المنظمة التي تعاون الأسرة على أن تعيش سعيدة في مختلف النواحي والجهات"، وقال إن هذا التنظيم يظهر أو ينبغي أن يظهر في عدة مجالات منها: 1- تنظيم الأسرة فيما يتعلق بالذرية قلة وكثرة. 2- تنظيم الأسرة فيما يتعلق بالتمهيد لبنائها تمهيدًا سليمًا. 3- تنظيم الأسرة فيما يتعلق بإيراداتها ومصروفاتها- أي تنظيمها اقتصاديًا. 4- تنظيم الأسرة في تحديد العلاقات بين الأزواج والزوجات، وبين الأولاد والوالدين وبين ذوي القرابة والأرحام إلخ. 5- تنظيم الأسرة علميًا وثقافيًا وطبيًا واجتماعيًا إلخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 وعلل الدكتور الشرباصي هذا التوسع في مفهوم "تنظيم الأسرة" بقوله "إذا كان العرف قد جرى على استعمال كلمة (تنظيم الأسرة) فيما يتعلق بالذرية فقط فينبغي أن نصحح هذا العرف وأن نعيد إلى الكلمة مفهومها الواسع العميق لأن هذا التصحيح يلفتنا إلى واجبات اجتماعية من جهة، وهو يفيدنا في معالجة تضخم السكان من جهة أخرى". أما من وجهة الدين الإسلامي كما قال الدكتور الشرباصي، فإن "الحكم الشرعي الإسلامي في موضوع تنظيم الأسرة، من ناحية قلة الذرية وكثرتها ينهض على الاستنباط والاجتهاد أكثر مما ينهض على إيراد النصوص، إذا لم تكن مشكلة تضخم السكان من المشكلات التي تعرض لها الناس في صدر الإسلام أو في عهد التشريع، والاجتهاد هنا ينبغي أن يكون النظر فيها متطلعًا إلى ما فيه المصلحة ودفع الضرر، مع عدم الخروج عن المبادئ الدينية أو الأصول الشرعية، بناء على القواعد المقررة شرعًا، من أن الضرر يزال، وأنه حيثما كانت المصلحة فهناك شرع الله. والقرآن الكريم يقول {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} [سورة المائدة الآية 6] والملاحظ في الشريعة الغراء أن الأمر الذي يتغير أو يتبدل بتغير ظروف الإنسان أو الزمان أو المكان لا تنص الشريعة فيه على وضع موحد ثابت أو نص صارم قاطع، بل تكله إلى اجتهاد البصراء من علماء الأمة في نطاق مصادر التشريع الإسلامي، وفي ضوء قول الله تعالى {ولوردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [سورة النساء 83] . هذا القول كاد أن يكون محور البحث والنقاش في المؤتمر من وجهة النظر الإسلامية في موضوع تنظيم الأسرة، ولم تكد أبحاث الباحثين تخرج عن هذا القول إجمالًا عند الكلام على نظرة الإسلام، وإن خرجت في مجالات أخرى يتعلق معظمها بمضمون تنظيم الأسرة من الوجهة الدنيوية. وأشار الدكتور الشرباصي إلى أن تنظيم الأسرة قديم يرجع عهده إلى أيام النبي صلى الله عليه وسلم وقال "لقد ورد في السنة النبوية ما نستطيع أن نعهده وسيلة غير مباشرة لتنظيم الأسرة. فقد روى أبو داود عن أسماء بنت يزيد حديثًا قاله النبي صلى الله عليه وسلم ينهى فيه عن المعاشرة الجنسية بين الزوجين بصورة تؤدي إلى الحمل في مدة الرضاع إذا كان هناك طفل لها ما زال يرضع. وهذا الحديث يقول "لا تقتلوا أولادكم سرًا، فإن الغيل يدرك الفارس قيد عثرة"، والغيل هو أن يعاشر الرجل زوجته معاشرة جنسية وهي ترضع ولدًا لها بحيث تحمل وهي ما زالت ترضعه". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 وقال الدكتور الشرباصي إن تنظيم مدة الرضاع بسنتين تكون خالية من الحمل واستراحة الزوجة في مدة تقرب من ثلاثة أعوام، معناها تنظيم الأسرة بطريق غير مباشر. وقال الدكتور الشرباصي إن تنظيم النسل أمر نسبي ليس له قانون صارم لجميع الأزمنة والأمكنة بل يرجع إلى تغير الظروف في المكان والزمان، ويرتبط ارتباطًا وثيقا بالمصلحة، وهي من مصادر الفقه الإسلامي كما ذكر ابن القيم حيث يقول: "الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها. فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل". وفي بحث الشيخ ناصر الدين لطف إجمال لكثير من الآراء حول تنظيم الأسرة أو التخطيط العائلي أو تنظيم الوالدية. وقال:"إن تنظيم الوالدية يجب أن ينظر إليه اجتماعيا واقتصاديا وأخلاقيا وسياسيا وأيديولوجيا". ولا يمكن أن يكون هذا التنظيم محرمًا من الدين الإسلامي. ولا يوجد في القرآن الكريم آية واحدة ولا نص صريح واحد يمنع الزوجين من تنظيم الوالدية، بل أن ما جاء في القرآن الكريم (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (سورة البقرة 185) وما جاء أيضًا في الآية 78 من سورة الحج (وما جعل عليكم في الدين من حرج) دليل على ذلك. وما جاء في القرآن الكريم عن قتل الأولاد خشية الإملاق والنهي عن ذلك كما في الآية 151 من سورة الأنعام والآية 31 من سورة الإسراء فهو متعلق بقتل النفس أو قتل الشيء الذي له روح. ولا يمكن أن يكون حجة أو أساسًا للقول بأن القرآن الكريم ينهى عن تنظيم الوالدية لأن تنظيم الوالدية لا يكون بقتل الجنين الموجود الذي نفخ فيه الروح وإنما هو في تجنب الحمل قبل وقوعه. واعتبر الشيخ لطيف أن الغرض من العزل هو منع الحمل وعلى الأقل ضمن نطاق إيجاد فترات متباعدة بين حمل وآخر أو بين ولادة وأخرى والواضح من أحاديث العزل أن النبي الكريم لم يمنع مسلمًا من العزل في نطاق منع الحمل الذي لا يريده، بل يفهم من رواية لسيدنا جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن صراحة بالعزل. وقال الشيخ لطيف "إنه إذا كان في التعاليم الإسلامية الحقيقية ما يجيز لنا" بل ويطلب منا " أن نسعى إلى التداوي والعلاج، فهل من المعقول أن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يبيحان لنا كوالدين أن نسعى إلى تنظيم الحمل أو تأجيله لفترة معينة من أجل تحقيق الرخاء في أسرتنا؟ ثم أورد فتوى لجنة الإفتاء في الأزهر الشريف وفتوى الشيخ عبد المجيد سليم بأن "لكل من الزوجين برضا الآخر أن يتخذ من الوسائل ما يمنع وصول الماء إلى الرحم منعًا للتوالد". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 وختم الشيخ ناصر الدين لطيف كلامه بقوله إنه مع عدم وجود إجماع عند المسلمين بصدد تنظيم الوالدية ورغم ارتياب بعض المسلمين في الغاية من تنظم الوالدية فإن هذا التنظيم لابد منه عندما تدعو الضرورة الأسرة أو المجتمع إليه. ولخص الدكتور محمد المكي الناصري موقف الإسلام من التخطيط العائلي أو تنظيم الأسرة بقوله إنه بعد البعث وصل إلى الاقتناعات التالية: 1- التخطيط العائلي ينسجم مع التنظيم الإسلامي للأسرة متى كان المراد منه توعية الآباء والأمهات بالمسؤولية في الرعاية بذرية صالحة. 2- لا يجوز أن يقبل أحد على تأسيس الأسرة إلا إذا كان سليم الصحة وقادًرا على الإنفاق. 3- إذا كان اتخاذ التدابير الوقائية لمنع الحمل مقبولًا شرعًا إذا دعت إليه مصلحة الزوجين أو مصلحة أحدهما أو مصلحة الأسرة، فمن باب أولى وأحرى أن يلجأ إليه إذا دعت إليه المصلحة العامة للمسلمين، وحالة المسلمين حاليًا تدعو إلى ذلك. وحض فقهاء المسلمين على العناية بالتخطيط العائلي لأن التخطيط العائلي بمعناه المتعارف عليه اليوم "هو توعية الأزواج والآباء بمسؤولياتهم الأدبية والمادية، وجعلهم أكثر تقديرًا لمسؤولياتهم الزوجية والأبوية، حتى يكونوا أوفر احتياطًا لمستقبل أبنائهم وأحرص على إنجاب ذرية صالحة ونسل سليم جسميا وفكريا، ليكونوا لهم خير خلف ولأمتهم خير سند ومدد". وذهب الشيخ إبراهيم الدسوقي مرعي والشيخ خلف السيد علي إلى أن تنظيم النسل أمر طبيعي لخير البشرية، وهذا يتماشى مع الإسلام والفقه لأن "الدين يدعو إلى التنظيم في كل شيء". وهكذا فإن تنظيم الأسرة من حيث هو تنظيم لا يتعارض مع الدين والتنظيم هنا معناه الملائمة بين حجم الأسرة وظروف المجتمع الاقتصادية والحضارية، فإذا تغيرت الظروف أعدنا النظر في حجم الأسرة، والمعنى من هذا القول من وجهة نمو السكان أن هذا النمو يجب أن لا يتعدى النمو الاقتصادي في الأمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 وأشار الشيخ خلف السيد علي والشيخ إبراهيم الدسوقي بصورة خاصة إلى المخاوف من التنظيم على أنه مناف للإيمان بقضاء الله وقدره، وأنه ينافي تقدير الأرزاق وأنه الوأد الخفي وقالا إن هذه المخاوف غير صحيحة لأن الإيمان بالقدر لا ينافي الأخذ بالأسباب، والقدر لا نعرفه إلا بعد وقوعه، ثم إن تقدير الأرزاق لا يكون مع ذلك إلا بالسعي لقوله تعالى "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" وأما الوأد الخفي فالمقصود به قتل مخلوق موجود خوف الفقر. وذكر أيضًا أن الدين لا يعارض التنظيم لأن الأصل رعاية مصالح الناس ودفع الحرج والمشقة ففي القرآن الكريم قوله تعالى "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" سورة البقرة 185. وبقوله "وما جعل عليكم في الدين من حرج" سورة الحج 78. وقول الرسول عليه الصلاة والسلام "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق". وقوله "إن الدين يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة". ووجه الشيخ محمد مهدي شمس الدين الانتباه إلى نقطة مهمة وهي أن الولد حق الوالدين وحق الأمة معًا. فهو حق الأمة لأنه نهي عن تزوج الحمقاء، وأنه جعل للزوج وللزوجة الحق في فسخ عقد الزواج إذا كان الآخر مصابًا ببعض الأمراض الوبائية وما إلى ذلك. ثم إن تحديد النسل من طرف الأمة عامة يجب أن يكون فيه مصلحة لها، وإذا لم تثبت المصلحة فلا تحديد. ومن حق الوالدين مثلًا أنه يجوز لهما "لأي اعتبار من الاعتبارات الصحية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أن يضبطا نسلهما فيحدداه بعدد معين من الأولاد دون أن يترتب على ذلك أية مسؤولية شرعية، ولهما أن يتوقفا عن الإنسال عن طريق استعمال موانع الحمل المؤقتة دون أن يترتب عليهما من جراء ذلك أية مسؤولية شرعية". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 وتكلم الدكتور علي شعبان عن تنظيم الأسرة في مصر وقال إن المشكلة أثيرت في الصحافة المصرية منذ عام 1937 حين طلب إلى سماحة مفتي الديار المصرية الشيخ عبد المجيد سليم أن يدلي برأي واضح حول الموقف الديني في الإسلام إزاء منع الحمل والإجهاض من الناحيتين الطبية والاجتماعية ويتلخص جوابه فيما يلي: 1- للزوجين أن يتخذا الإجراءات الضرورية لمنع الحمل لأسباب طبية أو اجتماعية، وموافقة الطرفين كليهما ليست ضرورية. 2- قبل مضي نحو 16 أسبوعًا على الحمل يمكن اتخاذ الإجراءات أو العقاقير للتهيئة للإجهاض دون تعرض الأم لأي خطر في حالة توفر إرشاد معقول. 3- اتفق أئمة المسلمين بالإجماع على أنه لا يجوز مطلقًا إجراء الإجهاض بعد تلك الفترة. وأشار الشيخ عبد الرحمن الدوكالي إلى رأي الإمام الغزالي الذي يقول إن منع الولد مباح ولا كراهة فيه لأنه يرى أن النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص، ولا نص هنا في هذا الموضوع ولا أصل يقاس عليه، بل في الإباحة أصل يقاس عليه، وهو ترك الزواج أصلًا أو ترك المخالطة الجنسية بعد الزواج أو ترك التلقيح بعد المخالطة الجنسية، فإن كل ذلك مباح وليس فيه إلا مخالفة الأفضل. والدليل على ذلك ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه حين قال:"كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل" وهذا معناه أن الرسول لم ينه عن العزل، ثم ذكر الشيخ عبد الرحمن الدوكالي رأي الحنفية في إباحة منع الحمل برضا الزوجة وهو الأصل في المذهب أو برضا أحد الزوجين إذا خيف على الولد السوء من فساد الزمان، في رأي المتأخرين من فقهاء الحنفية الذين يأخذون بقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان، وأشار في شأن تحديد النسل إلى النصوص المختلفة التي ذكرها الشيخ محمود شلتوت في فتواه، ثم أبدى رأيه الخاص في القضية فقال" إن دين الإسلام ينشد الكثرة القوية لا الكثرة الهزيلة، وغير خاف أن الطب يقرر منع الحمل لدفع الضرر الذي يلحق الزوجة أو الأمة من جراء إطلاق الحرية في الإنجاب ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 حكم الإسلام في استخدام وسائل منع الحمل: ثم تركز البحث في المؤتمر على جانب منع الحمل عند بحث تنظيم الأسرة، وسعى كثير من الأعضاء إلى تفسير ذلك عن طريق الضرورة أو رفع الضرر أو الاجتهاد بما فيه المصلحة. وفي هذا الصدد قال الدكتور محمد سلام مدكور "إن الفقه الإسلامي بمذاهبه العديدة والآراء المختلفة كفيل بمسايرة الحياة المتطورة، وأصبح يعتمد على أسس قوية صالحة لتحمل كل جديد، منها إيثار مصلحة الجماعة إذا تعارضت مع مصلحة الفرد، وكان أكثر أحكام هذا الفقه وليد استنباط أفراد من المجتهدين". ثم أورد الدكتور مدكور أمثلة على هذه الأحكام المستنبطة منها مثلًا قولهم إنه يجوز للمرأة أن تسد فم الرحم منعًا لوصول ماء الرجل إليه بقصد منع الحمل، وقولهم إنه يجوز لها استعمال الدواء الذي يقطع النسل، ويجوز للمرأة أن تنفض النطفة من الرحم ما لم تستقر. ثم قال: إن القول الأول في جواز سد فم الرحم يندرج تحته ما تطورت إليه وسيلة العزل لمنع الحمل، فمن ذلك العجلة (الحاجز) التي تغطي عنق الرحم لتمنع اتصال الحيوان المنوي بالبويضة، ومنه أيضًا الحجاب المانع "الكبون" الذي يستعمله الرجل ليحول بين الحيوان المنوي والبويضة. ويندرج تحت قول الفقهاء الثاني عن استعمال الدواء ما وصل إليه التطور في إيجاد حبوب منع الحمل والحقن التي يدوم مفعولها عدة أشهر، ويندرج تحته أيضًا كل دواء تهتدي إليه البشرية لتنظيم الحمل دون الإضرار بالقدرة على النسل في الرجل والمرأة على السواء. وقدم الدكتور علي شعبان بحثًا عن منع الحمل في الإسلام وقال إنه ليس في القرآن ما يؤيد منع الحمل أو يعارضه، وقال إن أبسط حالت منع الحمل هو خلال فترة الرضاع تفاديًا للغيل، وقال إن منع الحمل من المميزات للحضارة العربية الإسلامية فقد ذكره ابن البيطار وابن سينا وكانت الأدوية له معروفة. وكان الأطباء المسلمون في العصور الوسطى يعظون الناس بوسائل لمنع الحمل ومن ذلك أن أبا بكر الرازي قد شرح في كتابه "الحاوي" طرقًا مختلفة لمنع الحمل، وقال الرازي "إن من المهم أحيانًا منع المني من دخول الرحم حين يكون الحمل خطرًا على المرأة مثلًا وهناك عدة طرق لمنع دخوله" ونقل الدكتور علي شعبان ذكر الرازي لهذه الطرق، وأشار إلى قول علي بن العباس المجوسي في رسالة "كامل الصناعة الطبية في القرن العاشر" أن الأدوية التي تمنع الحمل وإن كان واجبًا ألا تذكر لئلا يستعملها بعض النساء السيئات السمعة، إلا أنه لا مفر من إعطائها النسوة ذوات الرحم الصغير أو اللائي يعانين مرضًا يجعل الحمل خطرًا إلى حد تعريض الحامل للموت أثناء الوضع.." وكذلك ابن سينا في كتابه "القانون" فإنه بحث في طرق منع الحمل. وأشاد الدكتور شعبان إلى اختلاف السياسة في البلاد الإسلامية بشأن تنظيم الأسرة، وإلى اختلاف المعارضة الدينية في هذه البلاد لمنع الحمل وتنظيم الأسرة، وطالب بضرورة انتهاج سياسة إجماعية وتعاون قوي بين البلاد الأسيوية لمعالجة هذه المشكلة الحيوية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 وقال الدكتور الشرباصي إن منع الحمل قديم وحديث، وإن الغرض من العزل هو منع الحمل وذكر في هذا المجال فتوى لجنة الإفتاء في الأزهر التي جاء فيها أن استعمال دواء لمنع الحمل مؤقتًا لا يحرم ولا سيما إذا خيف من كثرة الحمل أو ضعف المرأة من الحمل المتتابع بدون أن يكون بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها المرأة وسترد صحتها. وأما استعمال دواء لمنع الحمل أبدا فهو حرام. وذكر أيضًا فتوى الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية التي جاء فيها "أنه يجوز أن تتخذ بعض الوسائل لمنع الحمل كإنزال الماء خارج محل المرأة أو وضع المرأة شيئًا يسد فم رحمها لمنع وصولا ماء الرجل إليه "وذكر كذلك ما كتب الشيخ محمود شلتوت 1959 في هذا الموضوع حين قال "أما تحديد النسل بمعنى تنظيمه بالنسبة للسيدات اللواتي يسرع إليهن الحمل وبالنسبة لذوي الأمراض المتنقلة وبالنسبة للأفراد القلائل الذين تضعف أعصابهم من مواجهة المسؤوليات الكثيرة.. إن تنظيم النسل بشيء من هذا وهو تنظيم فردي لا يتعدى مجاله شأن علاجي، تدفع به أضرار محققة ويكون به النسل القوي الصالح، والتنظيم بهذا المعنى لا يجافي الطبيعة ولا يأباه الوعي القومي ولا تمنعه الشريعة إن لم تكن تطلبه وتحث عليه. الدواعي الصحية والاجتماعية لتنظيم الأسرة: تحدث الدكتور عبد الرحيم عمران عن دراسات له حول الأضرار التي تصيب الأسرة من جراء كثرة الأولاد عن غير تنظيم. وقد شملت هذه الدراسات عدة بلاد إسلامية منها مصر وسوريا ولبنان وتركيا وباكستان وإيران وأدت إلى نتائج مهمة في هذا الشأن ولا سيما فيما يتعلق بالأضرار التي تلحق بالأسرة والمجتمع، وعدد هذه الأضرار تحت الأبواب التالية: 1- الأضرار الصحية لأفراد الأسرة ولا سيما الأم والأطفال. 2- الأضرار الاجتماعية والاقتصادية لأفراد الأسرة ولا سيما لرب الأسرة. 3- الأضرار على مستوى المجتمع الذي تعيش فيه الأسرة. وقد ذكر أن الأضرار الصحية لأفراد الأسرة تنتج عما يلي: أ-قصر الفترة بين حمل وآخر خصوصًا إذا قلت عن عامين. ب-زيادة عدد الولادات عن المتوسط المقبول خصوصًا إذا كانت الأم ضعيفة الصحة أصلًا أو كانت سيئة التغذية أو مصابة بأمراض مزمنة أو كانت مرهقة بالعمل أو صغيرة السن. جـ-الحمل في سن مكبرة دون العشرين. د-الغيل- وهو رضاعة طفل من لبن الحامل. هـ-مرض وراثي أو معد يخشى أن ينتقل إلى الذرية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 القلة والكثرة في الإسلام: وفكرة كثرة النسل في الإسلام كانت من أهم المسائل التي تعرض لها الأعضاء، فذهب البعض إلى أنها متفقة مع أوامر الدين، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة)) . وذهب البعض الآخر إلى أنها تتوقف على أمور كثيرة، وليست الكثرة وحدها هي الأصل. وذكر الدكتور عبد الرحيم عمران أن الإكثار من النسل يجب ألا يكون عاملًا على الإضرار بالمجتمع والأمة والأسرة، وأن استعمال وسائل منع الحمل تخدم الأغراض التالية: 1- تحديد حجم الأسرة حسب قدرة الوالدين على الإنفاق. 2- المحافظة على صحة الأم وجمالها. 3- تنشئة الآباء والبنات تنشئة صالحة. 4- المباعدة بين حمل وآخر للمحافظة على صحة الأم والأولاد. وتكلمت السيدة أمينة السعيد عن كثرة الأولاد وعن أسباب التقليل من هذه الكثرة عند كثير من الفقهاء وذكرتها فيما يلي: 1- ضعف المرأة عن تحمل الحمل بسبب عدم استعدادها له. 2- مرض أحد الزوجين. 3- الخشية على صحة المرأة من تكرار الحمل. 4- عدم قدرة الأسرة على مواجهة ظروف الحياة. 5- حرص المرأة على أن لا تفقد جمالها من كثرة الحمل. وقالت عن الانفجار السكاني إنه من الطبيعي أن يفتح المسلمون الطريق لاتخاذ وجهة نظر معينة في تحديد النسل لإنقاذ البشرية، ودعت الفقهاء والمجتهدين إلى التفكير فيما فيه جلب المنفعة ودفع الضرر، وقالت إن الكثرة من الفقهاء تبيح تنظيم النسل قياسًا على العزل، وأوردت طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة التي تؤيد ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 ثم أوردت السيدة أمينة السعيد شواهد أخرى مستقاة من المذاهب الإسلامية وقدمت إلى ذلك بقولها: "ونحن إذا انتقلنا بعد ذلك إلى المذاهب الإسلامية الكبرى ألفيناها جميعًا تقر العزل وتبيحه، ومعنى ذلك أنها تجيز تنظيم النسل ولا ترى فيه شيئًا محرمًا" ومن هذه الشواهد: 1- قول الإمام الغزالي الشافعي المذهب "اختلف العلماء في إباحة العزل وكراهته على أربعة مذاهب.. والصحيح عندنا أن ذلك مباح ". 2- الأصل في الفقه الحنفي إباحة العزل باعتباره الوسيلة لمنع الحمل. 3- فقهاء الحنابلة يذهبون أيضًا إلى إباحة العزل. 4- فقهاء المذهب المالكي ينصون على جواز العزل لمنع الحمل. 5- مذهب الزيدية ينص على إباحة العزل، وفيه أيضًا أن الإمام يحي بن زيد صرح بجواز العزل لمنع النسل. 6- الشيعة الجعفرية. تبيح العزل لمنع الحمل. 7- الشيعة الإسماعيلية لا تخرج على رأي الجعفرية في إباحة العزل استنادًا إلى القول "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها". 8- مذهب الإباضية يجيز العزل ويقول علماؤهم "إن العزل يباح للفرار من الولد خشية الغيل وإدخال الضرر على الرضيع". وتناول السيد محمد النابلي بعد ذلك الكثرة والقلة في الأولاد فقال: "إن الإسلام لا تعجبه الكثرة الهزيلة الواهية، ولا يقيم لارتفاع نسبتها وزنا. ولا يتخذ منها النبي الكريم سببًا للمباهاة بها، بل بالعكس تمقت الشريعة مثل هذه الكثرة الضعيفة كما ورد في "دلائل النبوة" عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((توشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) . فقال "أومن قلة نحن يومئذ؟ " قال: ((لا، بل أنتم كثرة ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن)) . قال قائل "وما الوهن يا رسول الله" قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 وأردف السيد محمد النابلي يقول "إن الدين في الوقت الذي حث فيه على كثرة النسل إنماء للأمة وتكوينًا لقوتها، قضي بصيانة هذه الكثرة من الضعف، ومن أن تكون غثاء كغثاء السيل". وقال عن السبيل إلى الكثرة القوية أن "السبيل إلى هذا هو تنظيم النسل تنظيمًا يحفظ له قوته ونشاطه ويحفظ للأمة قوتها. والتنظيم في النسل على أساس منع الحمل مشروع في كتاب "نهاية المحتاج" للإمام شمس الدين الرملي الشافعي". ثم قال السيد محمد النابلي "إن تنظيم النسل لتحقيق مصلحة الأفراد ولرفع مستوى الحياة للفرد وللمجتمع لا يمكن أن يكون فيه ما يتعارض مع الدين لأن تلك الأهداف هي أصلًا أهداف دينية أيضًا ويرى الإمام الغزالي أن منع الولد مباح ولا كراهة فيه؛ لأن النهي إنما يكون بنص أو قياس عليه وترك الزواج أصلًا أو ترك المخالطة الجنسية بعد الزواج أو ترك التلقيح بعد المخالطة فكل ذلك مباح". ثم ذكر السيد النابلي إن إباحة التنظيم مشار إليها في القرآن الكريم فقد روي عن الإمام الشافعي أنه فسر قوله تعالى "فإن خفتم ألا تعدلوا فوحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا" سورة النساء 3 بأن القصد "ألا تعدلوا" هو أن لا تكثروا من عيالكم وهو ما وافق عليه الفخر الرازي، وهذا دليل على أن تنظيم النسل بحيث لا يكثر، داخل ضمنًا في معنى هذه الآية، كما أن إباحة التنظيم موجودة في قول الإمام علي رضي الله عنه "قلة العيال أحد اليسارين وكثرة العيال أحد الفقرين" ثم أورد السيد محمد النابلي بعد ذلك أقوال الأئمة والفقهاء في العزل وفي إباحته كما ذكر خطبة عمرو بن العاص في يوم الجمعة التي قال فيها "إياكم وخلالا أربعًا، فإنها تدعوا إلى التعب بعد الراحة وإلى الضيق بعد السعة وإلى الذل بعد العز.. إياكم وكثرة العيال وإخفاض الحال وتضييع المال والقيل والقال". وذكر الشيخ محمد المبارك عبد الله بأن الإسلام أقر التنظيم في أول العهد وذلك بتنظيم فترات الحمل وبالسماح بالعزل، وقال إنه لا فائدة من الحمل إذا كان في ذلك إضرار بالوالد أو الوالدة أو الأمة أو المجتمع، وأورد في الحض على عدم التكثير من النسل قول النبي صلى الله عليه وسلم "ليأتين على الناس زمان يغبط فيه الرجل لخفة الحال كما يغبط اليوم أبو العشرة". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 وأورد أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الدعاء الآتي: ((اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء)) فقيل له "وما جهد البلاء يا رسول الله؟ قال: ((قلة المال وكثرة العيال)) . ومما يذكر عن الإمام أبي حنيفة أنه كان يوصي تلميذه أبا يوسف بما يلي "لا تتزوج إلا بعد أن تعلم أنك تقدر على القيام بجميع حوائج المرأة، وإياك أن تشغل بالنساء قبل تحصيل العلم فيضيع وقتك ويجتمع عليك الولد ويكثر عيالك، فإن كثرة العيال تشوش البال". ثم قال شيخ المبارك: ولا خير في كثرة النسل مع ضعف في الأجسام والنفوس والعقول والأخلاق فقد عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثرة مع الضعف والخور والتفكك حين قال: ((توشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) . وفسر الدكتور حسين أتاي معنى تنظيم الحياة العائلية بأنه الحصول على الأولاد الأصحاء والأقوياء وليس الحصول على الكثرة منهم لمجرد الكثرة، وأشار إلى أن الظروف لها أحكام، وأن الإجماع يمكن أن يعاد النظر فيه حسب الظروف، وأن أي قرار يتخذ الآن لا يجوز أن يكون ملزمًا في المستقبل لأن الظروف قد تتغير. وكرر هذه الفكرة الدكتور لطفي دوغان الذي قال" الأسرة لا تكون في حالة حسنة إذا عاشت في بؤس وشقاء، مع كثرة الأولاد وعدم القدرة المالية، فعليها أن ترسم وتخطط لتحديد عدد الأولاد قدر الاستطاعة. كما فسر الحديث النبوي "تناكحوا تناسلوا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة" بأن فيه إشارة إلى كثرة الأولاد، ولكن الغاية منه هي أن تربي ولدًا صالحًا، مؤمنا بالله ورسوله، قويًا بعقله وبدنه، والكثرة هي الكثرة الصالحة. وهذا ما قاله الشيخ إبراهيم الدسوقي مرعي بأن الكثرة هي بالكيف لا بالكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 وقال الدكتور عبد الرحيم عمران إن التنظيم في عدد الأولاد في الأسرة يعود بالنفع على المجتمع الإسلامي وعلى الأمة الإسلامية من نواح عديدة، ولا سيما إذا روعيت أيضًا الشئون الوراثية والجنينية لقيام جيل صحيح العقل والجسم وهذا لا يحدث إلا بتقليل الحمل، وفي الإسلام أقوال ثابتة تدعو إلى الاحتراس من كثرة العيال وتدعو إلى القلة القوية المنيعة، وأورد شواهد على ذلك من القرآن الكريم والحديث الشريف، ففي القرآن الكريم قوله تعالى "إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ" سورة الأنفال 65. وفي الحديث الشريف "لا تقوم الساعة حتى يكون الولد غيظا" وكذلك "يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وولده وأبويه يعيرونه بالفقر ويكلفونه ما لا يطيق، فيدخل المداخل التي ذهب فيها دينه فيهلك". وفي الحديث أيضًا "أغبط الناس عندي مؤمن خفيف الحاذ" أي قليل العيال "ذو حظ من صلاة". والحديث الشريف "التدبير نصف العيش، والتودد نصف العقل، والهم نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين". ويقول ابن عباس "كثرة العيال أحد الفقرين وقلة العيال أحد اليسارين " فالفكرة إذًا تدور حول فائدة كثرة العيال في الحقيقة، وهل هي مقياس للعزة والقوة والمنعة؟ ومع العلم بأن هذا المقياس لا يتوقف على العدد العديد وإنما على العلم والفن والفقه والإيمان ولو كان العدد قليلًا، وذكر الدكتور خلوق شيلوف أن إمكان التنمية الاقتصادية منوط بإيجاد حلول لمشكلات الأسرة ودعا إلى رأي صريح بأن الإسلام يؤيد تنظيم الأسرة وقال إن قانون تنظيم الأسرة في تركيا منذ 1965 جرى تطبيقه باختيار الأسرة حتى يكون هناك ترابط بين التنمية وزيادة السكان ومن ذلك تحديد عدد الأبناء حسب رغبتها. وأشار الدكتور عبد السلام عظيمي في هذه المناسبة إلى قوله تعالى: "لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً" الآية 21 من سورة الروم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 وقال: "إن الاطمئنان القلبي أو السكن مع الراحة والمودة التامة لا يمكن أن يوجد في بيت يعيش فيه عد كبير من الأولاد والأطفال". ولعل الدكتور عظيمي كان يشير هنا إلى ضرورة تحديد النسل عند الحاجة، فإن الكثرة أو التكاثر في الحديث الشريف "تناكحوا تكاثروا.." لا يجوز أن تعني الكثرة من حيث هي بل تعني الكثرة مع صلاح النسل حتى تستطيع الأسرة أن تعيش عيشة فضلى. وأباح العزل لأجل هذا التنظيم. ثم قال: "إنني أرى أن الأليق بالأمة الإسلامية، كما هو واضح من روح الشريعة الإسلامية أن تتبع فكرة تحديد النسل، ومعنى هذا مراعة ظروف كل أسرة وكل أمة ومقتضياتها الخاصة". وأشار السيد محمد ظفار إلى تنظيم الأسرة والكثرة بقوله: "ما من أحد ينكر فوائد الحياة العائلية المنظمة، والواقع أن إنجاب أولاد أكثر أو أقل إنما يعتمد على الأوضاع والظروف، فأحيانا. تجب زيادة عدد السكان، كما يجب إنقاصهم في أحيان أخرى لحفظ التوازن، ولدينا قواعد لكلتا الحالتين في كتب الفقه الإسلامي". وأشار كذلك الدكتور قيصر أديب ماجول إلى الكثرة والقلة في الأولاد وأوضح في هذا الصدد أن الآيات القرآنية التي تدعو إلى تقليل السكان أو تكثيرهم يجب أن تدرس بالنظر إلى الظروف التي نزلت فيها هذه الآيات. وأشار عند الكلام عن التخلف في المجتمعات الإسلامية وعن أن الإسلام غير مسؤول عن ذلك فقال: "إن المسلمين في الفيلبين يتأخرون بسبب الفقر والجهل وسوء الأحوال الصحية، وإنهم يحتاجون إلى التوعية أكثر من احتياجهم إلى الكثرة". مركز الدراسات السكانية في الأزهر الشريف: تكلم الدكتور عصام الناظر المدير الطبي والإداري لمنطقة الشرق الأوسط في الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية عن موضوع مهم وهو إنشاء مركز الدراسات السكانية في الأزهر والذي يجري البحث فيه. وجاء الكلام عن هذا الموضوع المهم في معرض المناقشات التي جرت بين أعضاء المؤتمر حول ضرورة وجود دراسات علمية للمجتمع الإسلامي من ناحية وللأسرة المسلمة من ناحية أخرى، وحول احتمال اضطلاع الأزهر الشريف بإعداد تلك الدراسات من خلال هذا المركز. وذكر الدكتور الناظر أن برقية وردت إليه إلى الرباط من هيئة الأمم المتحدة تطلب فيها منحها فرصة للتحدث إلى أعضاء المؤتمر عن المشروع، وهذا نص البرقية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 هيلتون – الرباط. الدكتور عصام الناظر المدير الطبي والإداري لمنطقة الشرق الأوسط في الإتحاد العالمي لتنظيم الوالدية. المشاورات الأخيرة للأمم المتحدة مع الحكومة المصرية. تشير إلى اهتمام مصر بعرض المشروع المقدم إلى صندوق الأمم المتحدة للنشاطات السكانية من قبل الأزهر لإنشاء معهد للأبحاث والدراسات الإقليمية للسكان. الصندوق مهتم مبدئيًا بمشروع الأزهر، بنود المشروع المقترح يمكن أن تشتمل على توفير الإمكانات للبحوث المخططة لتمكين الأزهر من تنسيق الأبحاث السكانية في المجتمعات الإسلامية، وتوفير إمكانية ترجمة المستندات والدراسات إلى جميع لغات الشعوب الإسلامية، ونشر المعلومات عن الأنماط السكانية وتوزيعها وبرامج تدريبية لتعليم الطلاب المسلمين في الأزهر وخارجه وإنشاء مكتبة. كما أكدت محادثة قريبة العهد مع وزير الأوقاف في القاهرة ما ورد أعلاه. ويشير الصندوق في مؤتمر الاتحاد العالمي لتنظيم الأسرة بالرباط إلى أن المباحثات جارية حول إمكانية إخراج المشروع إلى حيز الوجود وأنه يرحب بالاقتراحات من أعضاء المؤتمر حول أبعاد العمل وبرنامجه في مؤسسات كهذه. ثم أشار الدكتور الناظر إلى وجود السيد شدي الهنيدي في قاعة المؤتمر وهو المسؤول عن برامج الدراسات السكانية في منطقة أفريقيا والشرق الأوسط، وطلب إلى أعضاء المؤتمر أن يسمحوا للسيد الهنيدي بأن يقدم بيانًا يعرض فيه طلب الأزهر من صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية إنشاء مركز فيه للدراسات السكانية، وبعد موافقة الأعضاء على ذلك ألقى السيد الهنيدي هذه الكلمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 منذ زمن طويل ومشكلة تزايد الأعداد مع ضآلة الموارد تؤرق رب الأسرة في معاشه كما تؤرق الحكومات التي تحاول جاهدة أن تزيد ميزانياتها القومية. بيد أن الاهتمام العالمي بالزيادة السريعة في عدد سكان العالم، بالمقارنة مع الموارد المتاحة، يعتبر وليد اليوم. ويرجع هذا الاهتمام إلى التزايد السريع في معدل النمو السكاني منذ عام 1900. منذ بداية هذا القرن، بلغ عدد سكان العالم المسجلين نحو 1.7 بليون نسمة. وقد ارتفع هذا العدد حتى بلغ 2.5 بليون نسمة عام 1950، وفيما بين عامي 1950 و 1970، قفز هذا الرقم إلى 3.6 بليون نسمة. ومن الثابت أن ما يقرب من 2.5 بليون نسمة يعيشون في المناطق ذات الدخل المنخفض. ولعل ما يتنبأ به الخبراء من تضاعف عدد السكان في أواخر القرن الحالي، يركز الضوء على المعضلة المحيرة التي تواجه البلدان النامية التي لم تتمكن حتى الآن. وبالرغم من عمليات التنمية الاقتصادية التي تجري فيها، لم تتمكن من الوفاء بالضروريات الأساسية للعيش الكريم، وما من شك في أن احتمال تضاعف عدد السكان الذين سيتعين إطعامهم وإسكانهم وتعليمهم وتوفير فرص العمل لهم، احتمال لا يبعث على الاطمئنان، وبخاصة إذا نظرنا إلى الوضع الراهن، حيث يعاني ملايين البشر من نقص التغذية، وضآلة الخدمات التعليمية والطبية، وانتشار البطالة. ولقد تبنت الأمم المتحدة قضية الشعوب الفقيرة، فأعدت برامج لم يسبق لها مثيل تستهدف مساعدة الحكومات على رفع المستويات المعيشية لشعوبها، وبناء اقتصاديات متينة قوية تستطيع الاعتماد على نفسها. بيد أن الأمم المتحدة ما لبثت أن تصدت لتحد أكبر من هذا وأعظم شأنا، فأصبحت تهدف إلى دفع جهود التنمية الدولية على أوسع نطاق، حيث يتسنى تعميم مزايا الحياة المتحضرة بين البشر جميعًا في أقصر وقت ممكن. وإحداث تحسن في مستوى المعيشة على وجه الأرض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 وهكذا أصبحت البرامج السكانية من العوامل الجوهرية في نجاح مثل هذه الجهود، ولهذا الغرض، أنشئ صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية لمساعدة البلدان النامية على تنفيذ البرامج السكانية، وتوسيع نطاق عمل أجهزة الأمم المتحدة في هذا الميدان. وقد أنشأ السكرتير العام للأمم المتحدة هذا الصندوق عام 1967، استجابة منه لقرارات الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي في هذا الشأن، وبذلك أتيحت للحكومات والهيئات والأفراد فرصة تقديم التبرعات حتى تتضافر الجهود الدولية مع الجهود الوطنية في مجال السكان. وفي الواقع، أن أسرة الأمم المتحدة قد اعترفت منذ زمن طويل بالعلاقة الوثيقة بين النمو السكاني وعملية التنمية، ولكنها فيما مضى، كانت تقدم مساعداتها في هذا الميدان في إطار التزاماتها الأخرى، فكانت الأمم المتحدة ووكالتها المتخصصة، تدرج بعض النواحي السكانية في البرامج المتعلقة بالعمالة والزراعة والتعليم والصحة. ويلعب صندوق السكان دور العامل المساعد المنفذ، حيث يوفر الموارد اللازمة لتمويل الأنشطة السكانية الجارية عن طريق تنفيذ بعض المشروعات السكانية الكبرى الجديدة، والعمل على تنسيق جهود الأمم المتحدة، وإطلاع الحكومات على مختلف أنواع المساعدات التي يمكن تقديمها لها. وقد بدأ الصندوق أيضًا في الاضطلاع بدور هام في التنسيق بين برامج الأمم المتحدة، والبرامج التي تقوم على تنفيذها هيئات ثنائية أو حكومية أو خاصة. واليوم يمول الصندوق 400 مشروع في 61 دولة من أعضاء الأمم المتحدة، ومن المتوقع أن يزداد عدد مثل هذه المشروعات في السنوات القادمة. وقد بلغت جملة موارد الصندوق من التبرعات في عام 1971 ما يقرب من 25 مليون دولار، ينتظر أن تصل في عام 1972 إلى ما بين 40 و 45 مليون دولار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 ولو أننا نظرنا إلى معدل نمو السكان في معظم البلدان الإسلامية لوجدنا أن نسبته تبلغ في المتوسط نسبة 3 % وربما أكثر، وذلك في مقابل نسبة 8 % في أوروبا، ونحو 2 % بالنسبة للعالم ككل، وفي الحقيقة أن قلة الدراسات والبحوث والبيانات العلمية المتعلقة بمشكلات السكان في الدول الإسلامية، تؤكد الحاجة إلى بذل جهود نشيطة في هذا المضمار. وقد رأت جامعة الأزهر في جمهورية مصر العربية، حيث أن الدول الإسلامية في العالم متباعدة جغرافيًا، أنها - أي جامعة الأزهر- ربما استطاعت القيام بدور نافع في تنسيق البحوث والدراسات السكانية، وتدريب الأفراد على الأنشطة السكانية. ومثل هذه الدراسات يمكن أن تكون بمثابة مصدر للمعلومات الأساسية، ومن شأنها أن تساعد خبراء التخطيط في كافة نواحي التنمية الاجتماعية والاقتصادية. ويعتقد الأزهر أن ثمة حاجة إلى القيام بدراسات تستهدف تحديد العوامل الأساسية التي تتحكم في مستوى دخل الفرد في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. ومستوى الإنتاج الفردي في تلك المجتمعات، ونسبة التعليم فيها، وغير ذلك من الخصائص المشتركة بين المجتمعات المسلمة. وهناك بالإضافة إلى ناحية البحث الحاجة إلى توفير الأفراد المدربين اللازمين لتنفيذ البرامج السكانية، وذلك عن طريق التدريب والتعليم على الصعيد الرسمي، والصعيد غير الرسمي. وفي ضوء هذه الاعتبارات، طلبت جامعة الأزهر من صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية أن يقدم لها المساعدات المالية والفنية اللازمة لإنشاء مركز إقليمي مشترك للأبحاث والدراسات لمواجهة احتياجات الدول الإسلامية في جميع أنحاء العالم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 وتعلمون جميعًا أن عدد طلبة العلم في جامعة الأزهر يبلغ نحو 30.000 طالب يمثلون 71 جنسية إسلامية، وفضلًا عن ذلك فإن جامعة الأزهر هي أقدم جامعات العالم، وستحتفل بعيدها الألفي في النصف الأول من عام 1972: غير أنها بالإضافة إلى ذلك عملت في السنوات العشر الأخيرة على توسيع نشاطاتها وخدماتها، لتشمل فروع العلم الدنيوية إلى جانب العلوم الدينية، وفيها الآن كليات للطب، والهندسة، والقانون، والاقتصاد، والتجارة، والزراعة. . . إلخ. ورغم أنها لا تزال تثقف كل طلبتها بتعاليم الدين الأساسية، فإنها ماضية في النهوض بتدريب العلوم الحديثة. ولقد أدرك صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية أن جامعة الأزهر قادرة على القيام بهذا النشاط الدولي المقترح، فأوفد في الفترة الأخيرة إلى جمهورية مصر العربية بعثة تباحثت مع السيد الدكتور عبد العزيز كامل، وزير الأوقاف وشؤون الأزهر: وقد تم الاتفاق على أن يبحث الصندوق إمكانيات إنشاء المركز المقترح في نطاق الأزهر: كما أعرب السيد الوزير عن استعداد حكومته لاستضافة هذا المركز في أراضيها، كما أكد استعدادها لتأييد إنشاء مثل هذا المركز الدولي المشترك للبحوث والدراسات السكانية. وترى جامعة الأزهر أن يؤدي المركز المقترح الخدمات التالية، على سبيل المثال: 1- إعداد برنامج للدراسات العليا لتثقيف خريجي الكليات المختلفة بالتغيرات السكانية في المجتمعات الإسلامية، ومثل هذا البرنامج سيضمن أيضًا توفير البعثات الدراسية، وتقديم العون للكليات، وتطوير مناهج الدراسة لإعداد برامج تعنى بالاحتياجات التدريبية في الأمد القصير وفي الأمد الطويل، بما في ذلك وضع برنامج للتدريب الرسمي للحصول على درجة الدبلوم في الحركات السكانية الإسلامية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 2- تتوافر للمركز ميزانية خاصة لتمويل البحوث، بغية تشجيع البحوث المشتركة بين عدة دول، وكذلك البحوث في نطاق جامعة الأزهر، وحيث إن هذا المركز سيقوم بدور الأمين على هذه الأنشطة والبحوث والتنسيق المركزي بينها، فإنه سيكلف أيضًا بمسؤولية نشر وتوزيع نتائج هذه البحوث وغير ذلك من المواد المتعلقة بالأنشطة السكانية. 3- ولكي يتمكن المركز من نشر نتائج البحوث والمواد السكانية التي تعود بالنفع المشترك على المجتمعات الإسلامية على الصعيد العالمي، فستعمل الترتيبات اللازمة لإنشاء وحدة ترجمة لنشر مثل هذه المعلومات في أنحاء العالم بجميع لغات الشعوب الإسلامية المختلفة. 4- وسيقوم المركز بتقديم الخدمات الاستشارية للدول الإسلامية في مجالات بحوث الإدارة والعمليات، وتنظيم البرامج السكانية والتقييم وغير ذلك من الأنشطة المتعلقة بالسكان حسب الحاجة. 5- وبالإضافة إلى ذلك سيعقد المركز حلقات دراسية وندوات ومؤتمرات في مختلف دول العالم، فيتيح بذلك الفرصة لاجتماع علماء المسلمين وخبرائهم للتباحث في المشكلات السكانية والتنموية، وإيجاد الحلول لها. ولما كان صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية يدرك أهمية قيام مثل هذا المركز للبحوث والدراسات السكانية فقد وافق من حيث المبدأ على مساندة هذا المشروع. ولذا فهو يرحب بآراء السادة أعضاء هذا المؤتمر فيما يتعلق بهذا الاقتراح، كما يرحب باقتراحاتهم لتحضير برنامج عمل مثل هذا المركز، وأنواع التدريب فيه، وكذلك فيما يتعلق بالمجالات والمشكلات التي يستحسن أن تكون لها الأولوية في البحث. ويسر صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية أن يتلقى اقتراحاتهم التي نرجو أن ترسل مباشرة إلى المركز الرئيسي للصندوق في نيويورك. ثم جرت مناقشة بين أعضاء المؤتمر حول الموضوع، وقدم أعضاء المؤتمر اقتراحات لهم بشأن المركز. ومن ذلك أن الشيخ محمد مهدي شمس الدين اقترح أن يكون العلماء الباحثون في هذا المركز من المسلمين وأن يكون الجانب الديني لا الدنيوي من الأزهر الشريف هو الذي يقوم بالتعاقد، وأنه لابد للخبراء بعد إنجاز أبحاثهم من الاتفاق مع الأجهزة الدينية المعترف بها في العالم الإسلامي؛ لأجل التأكد من أن ما يصدرونه متفق مع الأحكام الشرعية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 الشبهات حول تنظيم الأسرة: وقد أجمل الدكتور سليمان حزين صورة عن الأزهر الشريف وعن علاقته بموضوع مركز الدراسات السكانية، فقال: فيما يتعلق بالمركز المقترح إنشاؤه في الأزهر الشريف فقد كان من حسن حظي ومن نعمة الله علي أن أكون أول من وضع يده في قانونه الجديد، ولا تزال لدي المسودات، ففي عام 1960 ائتمنتني الدولة على أن أضع مع زميل لي انتقل إلى رحمة الله مشروعًا لتنظيم الأزهر الجديد يربط بين الأزهر بصورته القديمة، وبين العلم الحديث. لقد حرصت غاية الحرص على أن يأتي المشروع متكاملًا بحيث لا تبقى في الأزهر الشريف كلية تعنى بالدراسات القديمة وحدها. ولا تكون فيه كلية تعنى بالدراسات الحديثة وحدها. حرصت على أن يجمع طالب الأزهر الشريف بين الثقافتين الدينية والدنيوية. وسينشأ المركز المقترح متواضعًا في البدء على شكل وحدة قد تتطور فيما بعد إلى مركز، والمركز إلى معهد، وعلى أنني أتفق مع الأستاذ شمس الدين على أنه ليس لهذا المؤتمر أن يشير على الأزهر بشيء ولا أن يلفت نظر الأزهر إلى أن مثل هذا المركز يجب أن يحتفظ بالطابع الإسلامي؛ لأن في هذا تعريضًا بقدرة الأزهر على رعاية شؤونه أو قدرة جامعة الأزهر على رعاية شؤونها، ولهذا فإنني لا أرى إطلاقًا إلى الإشارة إلى هذا، وإنما أرى أن يتكرر أمره كله للأزهر، وهو قادر على أن يقوم على شؤونه بنفسه: وعلينا أن نطمئن إلى أن جامعة الأزهر في صورتها الجديدة جامعة دينية تسعى إلى أن تجمع بين القديم والجديد، وأنها تحرص على أن يكون أي مركز ينشأ فيها ذا طابع إسلامي يخدم العالم الإسلامي كله لا مصر وحدها، وجامعة الأزهر هي جامعة للمسلمين لا للمصريين، وتنص إحدى مواد قانونه كما وضعناه على أن يكون الطالب والمدرس مسلمًا لا أكثر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 وعلقت السيدة محاسن سعد على ما يثار من شبهات حول تنظيم الأسرة مثل وصفها بأنها دعاية استعمارية وما أشبه ذلك، وقالت بأن شعوب الدول الاستعمارية هي التي سبقت الدول الأخرى في الاقتناع بأهمية تنظيم الأسرة، وقطعت مراحل في تطبيقه قبل أن ننتبه نحن له. ثم ذكرت أن المسلمين عرفوا التنظيم منذ صدر الإسلام وأنهم استخدموا بعض الوسائل لتنظيم الأسرة وأضافت بأن بعض الشعوب الإسلامية تستعمل الأدوية البلدية والعقاقير وغيرها لمنع الحمل، وعليه فالمشكلة ليست محاولة من جانب الدول الغربية لتفرض علينا شيئًا معينًا، وأرى أن رفضنا لتلك الدول بوصفها دولًا استعمارية قد كون لنا عقدة خطيرة ما زلنا نعاني منها، فنحن دائمًا نعزو أخطاءنا إلى الاستعمار، ونبرر رفضنا للشيء بقولنا: إنه من الاستعمار. ورد الدكتور أحمد الشرباصي على ذلك بقوله: " لقد أشرت في حديثي إلى هذه الشبهات ولم أقل إنها رأي لي، ولم أذكرها بوصفها وقائع وحقائق، وإنما قلت: إنها شبهات والشبهة قد تكون موجودة ولها أساس وقد تكون بلا أساس.. فإن كانت الشبهة واقعة حاربناها وقاومناها وإلا أهملناها ". ثم أضاف قائلًا: "إننا أعضاء هذا اللقاء لا نعطي كلمة فاصلة باسم الإسلام ولا نعبر عن إجماع المسلمين،وإنما نحن مجموعة من العلماء يعطون آراءهم الذاتية التي لا يلزمنا كمجموعة ومن باب لا تلزم غيرنا من المسلمين". وأدلى الدكتور إبراهيم حقي برأيه في هذا الأمر فقال: "كلنا يعلم أن هناك منظمات دولية تعنى بأمور عامة كثيرة لرفع المستوى المعاشي في البلدان النامية، ولتأخذ بيدها فعلًا في سبيل النهوض بالنواحي الزراعية والاقتصادية والاجتماعية وما إلى ذلك. ولكل بلد أن يطلب يد المساعدة من هذه المنظمات بالشكل الذي يتفق وحاجاته، مقدمًا الأهم على المهم، وأرجو أن يقدر أي الأمور أكثر أهمية لنا كمسلمين. فلنبدأ بطلب المعونة لتحقيقه". وعند ذلك تدخل في الكلام الدكتور سليمان حزين فقال: "إن على الدول النامية أن تستفيد من الهيئات الدولية، ومن حقها أن تفعل ذلك وأنه لا مبرر لمركب النقص أو الخوف منها، وذلك لأن مثل هذه الهيئات الدولية تقوم بمهمتها على أساس أن تطلب الدولة المعونة وبعد أن يتم الاتفاق مع الدولة صاحبة العلاقة". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 وهنا تدخل الشيخ أحمد سحنون وردد الشكوك حول الاهتمام الأجنبي بتحديد السكان، وشكك حتى في مشروعية المؤتمر فقال: "أحب أن أناقش أولًا مشروعية تصدي المؤتمر لدراسة قضايا خطيرة في الإسلام مثل قضية تنظيم الأسرة، فالدعوة إلى المؤتمر صدرت عن منظمة إقليمية دولية تمولها مؤسسات أجنبية لا حق لها في التدخل في شؤون الإسلام ولا حق لها في أن تقرر أو أن تخطط باسم الإسلام، وإنما كان ينبغي أن تتصدى لها الأمانة العامة التي انبثقت عن مؤتمر الوحدة الإسلامية الذي عقد في الرباط برئاسة السيد عبد الرحمن الطنجي أو أن يتصدى لها مجمع البحوث الإسلامية أو رابطة العالم الإسلامي أو غيرها من المنظمات الإسلامية. ورد الدكتور سليمان حزين على ذلك قائلًا: "إننا نجتمع هنا في مؤتمر دعت إليه هيئة دولية محترمة تتعامل مع بلادنا الإسلامية على أساس أنه لا إكراه في الدين، وهذه المؤسسة إنما تستشيرنا لتبني رأيها، لكننا لا نستشيرها لنبني رأينا". وعلق الدكتور عصام الناظر على هذا بقوله: "تكملة لحديث أستاذي الدكتور حزين باعتباره يمثل هيئة الأمم المتحدة، أرى واجبًا علي أن أقول كلمة عن الاتحاد العالمي لتنظيم الولادية الذي أتشرف بتمثيله ويتشرف الاتحاد بأن يجمع هذا الحفل الكريم. الاتحاد العالمي هو منظمة غير حكومية ولها مركز استشاري لجميع المنظمات الخاصة لهيئة الأمم المتحدة، إن نشاطات الاتحاد تقوم من خلال جمعيات أهلية وقومية، وهي في غالبيتها جمعيات تطوعية، ويضم الاتحاد حاليًا حوالي ثمانين منظمة في جميع أنحاء العالم وتتلخص نشاطات الاتحاد بالنقاط التالية: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 1- توفير المعلومات للجمعيات الأعضاء وللرأي العام عن جميع جوانب قضايا السكان والتطور في العالم. 2- المساعدة على تأليف جمعيات وطنية لتنظيم الأسرة في الدول غير الأعضاء. 3- توفير التدريب الفني للأطباء والممرضين والعاملين في الحقل الاجتماعي في ممارسة تنظيم الأسرة. 4- تشجيع وعقد مؤتمرات عالمية وإقليمية حول مشاكل تنظيم الأسرة، وهذا المؤتمر أحد هذه النشاطات. 5- تشجيع البحث العلمي في علم التناسل البشري، الدراسات السكانية والاجتماعية ووسائل منع الحمل والإخصاب وقلته أو عدمه، ثم مضمون الوالدية المنظمة أو الوالدية المسؤولة وينبثق نشاط الاتحاد العالمي عن إيمانه بما يلي: 1- إن المعرفة لتنظيم الوالدية هو حق إنساني وأساسي. 2- إن التوازن بين السكان في العالم ومصادر الثروات القومية هو شرط أساسي للتطور الاقتصادي وسعادة البشرية. 3- إن تنظيم الأسرة هو طب وقائي من أجل صحة الأم والأطفال وبالتالي فإن الاتحاد يهدف لتطوير المعرفة والممارسة لوسائل منع الحمل للعالم أجمع، ويهتم بصورة خاصة بتشجيع إدخال تنظيم الأسرة في الخدمات الأساسية للصحة العامة وبرامج الإنعاش الاجتماعي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 الإسلام وتنظيم الأسرة تحليل وتعليق مفهوم تنظيم الأسرة في الإسلام: دلت مناقشات المؤتمر على أن الإسلام قد تناول مفهوم تنظيم الأسرة في إطار أشمل وأكمل من النظريات الحديثة في هذا الموضوع، فهو لا يقصر التنظيم على كثرة الذرية وقلتها- وهذا ما يراد به في الغالب- بل يتوسع في ذلك إلى تناوله في إطار أوضاع الأسرة المختلفة، بما في ذلك وضعها الصحي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتربوي. كما يتناوله في إطار المجتمع المسلم كله، على أساس أن مصالح الجماعة مقدمة على مصالح الأفراد، ويشمل ذلك المسائل المتصلة بكثافة السكان، وتوزيعهم الجغرافي، والقوى العاملة، ومدى التوازن بين معدل السكان وبين معدلات النمو الاقتصادي والاجتماعي والتربوي بحيث لا تضعف الدولة، أو تصير الكثرة فيها غثاء كغثاء السيل، ولم نر في دراستنا الأخرى أي تفاصيل مماثلة لموقف الإسلام في تنظيم الأسرة، ولا غرابة في ذلك، إذ الإسلام آخر الأديان وتعاليمه صالحة إلى آخر الزمان، فكان لابد وأن يضع التشريعات لأحوال مختلفة حسب الزمان والمكان، ومن هنا تبرز مرونة الإسلام فوق كل الأديان والفلسفات الأخرى إذ أتاح للأسرة المسلمة خلال تاريخها الطويل التكيف مع ظروف الحياة المتجددة بحيث لا يحملها فوق ما لا تطيق، أو يكلفها بما يرهق كاهلها. وقد وضع المؤتمر تعريفًا عمليًّا لتنظيم الأسرة هذا نصه: " تنظيم الأسرة" هو قيام الزوجين بالتراضي بينهما، وبدون إكراه، باستخدام وسيلة مشروعة ومأمونة لتأجيل الحمل أو تعجيله، بما يناسب ظروفهما الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وذلك في نطاق المسؤولية نحو أولادهما وأنفسهما" (1)   (1) وافق المؤتمر بالإجماع على هذا التعريف لتنظيم الأسرة وورد في التقرير النهائي للمؤتمر راجع الإسلام وتنظيم الأسرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 شبهات وتخوفات: لابد أن ننبه القارئ الكريم إلى أن المؤتمر كان يعمل تحت ضغوط وتخوفات وشبهات مختلفة منها: أولًا: شبهة ارتباط تنظيم الأسرة في أذهان بعض الأعضاء بمشكلة السكان، بمعنى أن تنظيم الأسرة يقصد به حل مشكلة التضخم السكاني لا غير. ولما كانت هناك بلاد إسلامية لا تعاني من هذه المشكلة فلا داعي لتعميمه، وفي نظر هؤلاء أن العالم الإسلامي غني بالثروات الطبيعية والمعدنية والبترولية التي لو استغلت استغلالًا سليمًا مع حسن توزيعها بين الأقطار الإسلامية حسب حاجاتها لما كانت هناك مشكلة سكان، وبالتالي لا داعي لتنظيم الأسرة من الناحية الاجتماعية وَإِنْ أباحته الشريعة الإسلامية، وقد رد على هذا الرأي كثيرون من أعضاء المؤتمر وأكدوا بأن تنظيم الأسرة حق إنساني أساسي يلجأ إليه سواء أكان هناك مشكلة تضخم سكاني أو لم يكن، وذلك بقصد المحافظة على صحة الأم والطفل، ورفع المستوى الاجتماعي والتربوي للأسرة، وإتاحة الفرصة للمرأة المسلمة المثقفة عادة بأعباء الولادة المتكررة، للمشاركة في بناء المجتمع عن طريق عناية واعية بأطفالها أو مساهمتها في أعمال زوجها، أو انضمامها للقوة العاملة في حدود آداب الإسلام. أما من حيث غنى العالم الإسلامي بالثروات المختلفة، وضرورة استغلالها وتوزيعها بين الأقطار المسلمة كل حسب حاجته، فالواقع يثبت أن هذا حلم عزيز المنال، وحتى يحدث ذلك، لابد لكل بلد أن يعمل جاهدًا على الموازنة بين موارده وثرواته من ناحية، وبين عدد سكانه من ناحية أخرى بحيث لا يحدث الحرج للأسرة من كثرة العيال، أو الحرج للقطر كله من تضخم السكان دون وجود موارد كافية، وهو ما استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه "جهد البلاء". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 ثانيًا: شبهة تخوف بعض الأعضاء من أن يكون تنظيم الأسرة مؤامرة أجنبية يقصد بها تقليل عدد المسلمين وكسر شوكتهم، واحتج هؤلاء بأن حركة تنظيم الأسرة في العالم الثالث وراءها دول غربية يشك في أغراضها ونواياها، ولها تاريخ غير مشرف في البلاد المتخلفة اقتصاديًّا. بل ذكر بعض الأعضاء أن المؤتمر نفسه دعت إليه منظمة أجنبية غير مسلمة، وكان الرد على ذلك بأن العالم الإسلامي تعامل دائمًا مع الهيئات الدولية، وأن المنظمة التي دعت إلى المؤتمر "الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية" خدمت الكثير من البلاد الإسلامية وغيرها. ثم إن تنظيم الأسرة لا يقصد به التقليل من عدد السكان، ولكن التحكم في معدل الزيادة كما هو الحال في البلاد المتقدمة اقتصاديًّا، ولو كان تنظيم الأسرة ضارًّا لما أخذت به الأمم الغربية، فبينما نجد أن معدل زيادة السكان في العالم الإسلامي قد يزيد على 30 في الألف سنويًّا فإن ذلك المعدل لا يزيد عن 10 في الألف في البلاد الغربية. ثالثًا: تخوف بعض الأعضاء من أن يترتب على إباحة تنظيم الأسرة أن يمارس وسائله الشباب غير المتزوج، كما قد يؤدي إلى رواج الفوضى الجنسية والانحلال الخلقي في العالم الإسلامي، وقد رد بعض الأعضاء على ذلك أن التربية السليمة للنشء كفيلة بأن ترد عنا هذا الانحلال، وهذه التربية واجبة سواء أكان هناك تنظيم أسرة أو لم يكن. ويرى البعض أن تنظيم الأسرة سيسمح للوالدين بالوقت الكافي للاهتمام بتربية أولادهم تربية دينية سليمة. رابعًا: تخوف بعض العلماء المتخصصين في الفقه الإسلامي من أن يلجأ غير المختصين في هذا الفقه من علماء الطب والاجتماع مثلًا إلى تفسير الآيات والأحاديث بدون الإلمام التام بأصول الفقه الإسلامي، ولذلك فقد نظر علماء الفقه بحذر إلى ما يقوله علماء الطب والاجتماع والاقتصاد ومعظمهم يؤيد تنظيم الأسرة، ومن هنا كان التخوف من تنظيم الأسرة نفسه، ولكن المناقشات نفت هذه الشبهات وقربت من وجهات النظر، واستطاع المؤتمر أن ينتج للمسلمين ثبتًا قيمًا في موضوع خطير وهام يواجه الأمة الإسلامية في العصر الحالي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 موضوعات المناقشة: ركز أعضاء المؤتمر كلماتهم وتعليقاتهم في الموضوعات الرئيسية التالية: 1- آراء الفقهاء في تنظيم الأسرة. 2- الزواج واستحبابه من ناحية، وعلاقته بتنظيم الأسرة من ناحية أخرى. 3- وسائل تنظيم الأسرة وشرعية كل منها. 4- الدواعي الاجتماعية والاقتصادية والأسرية لتنظيم الأسرة. 5- الدواعي الصحية لتنظيم الأسرة. 6- موضوع الكثرة في الإسلام وتنظيم الأسرة. 7- تنظيم الأسرة في المجتمع الإسلامي وخبرة بعض الأقطار الإسلامية. آراء الفقهاء في تنظيم الأسرة: استشهد أعضاء المؤتمر على شرعية تنظيم الأسرة بأمور أربعة: * كان الرأي الغالب في المؤتمر أن الحكم الشرعي الإسلامي في موضوع تنظيم الأسرة، ينهض في الأغلب على الاستنباط والاجتهاد، والقاعدة الأساسية في ذلك هي مراعاة المصلحة، ورفع الضرر عن الأسرة والمجتمع، والنصوص في ذلك كثيرة، منها الآيات الكريمة التالية: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" ومن هنا يلزم تكييف الأحكام بحيث تمنع الحرج عن المسلمين وفي ذلك يقول الفقيه الحنفي ابن عابدين: "كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغير عُرْف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه لزم منه المشقة والضرر، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف، ورفع الضرر والفساد، ولبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 أما تحريم تنظيم الأسرة فلا ينص عليه إطلاقًا: * إن تنظيم الأسرة ليس أمرًا جديدًا على الإسلام وقد تبين من مناقشات المؤتمر أن الصحابة أنفسهم مارسوه وعلم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بل إنهم ناقشوه فيه، فلم ينههم عن ذلك. وكان القرآن ينزل في ذلك الوقت، ولو كان أمرًا محرمًا لنزلت فيه آيات تحرمه، وقد استشهد كثير من الأعضاء بحديث جابر في ذلك وبأحاديث أخرى، ولكن يكفينا حديث جابر إذ يقول: "كنا نعزل على عهد رسول الله والقرآن ينزل وبلغ ذلك رسول الله فلم ينهنا، ولو كان شيئًا ينهى عنه لنهانا القرآن". * استشهد أعضاء من المؤتمر بآثار غير مباشرة، وهي كراهة الغيل أي الحمل أثناء إرضاع طفل سابق، ولا يعقل أن يمنع الإسلام الزوجين من المباشرة الجنسية مدة الرضاعة إذ قد تصل إلى عامين كاملين دون أن يسمح لهما بما يمنع الحمل. * استعرض المؤتمر آراء المذاهب الإسلامية المختلفة فوجدها كلها إما مبيحة لتنظيم الأسرة بدون شروط، أو تشترط موافقة الزوجين، أو تكره التنظيم دون حاجة. المذهب الحنفي: الأصل في المذهب الحنفي هو إباحة العزل لمنع الحمل، إلا أنهم اختلفوا في ضرورة موافقة الزوجة، فالخلاف ليس على جواز العزل أو عدمه، ولكنه على شرط موافقة الزوجة. وقد أفتى الشيخ عبد المجيد سليم عام 1937 أن علماء الحنفية أجازوا العزل بدون رضا الزوجة إذا كان هناك عذر كأن يخاف الزوج من الولد لسوء فساد الزمان. المذهب الشافعي: يرى الإمام الغزالي جواز العزل، وقد فند حجج الذين يكرهونه، ثم قال: والصحيح عندنا أنه مباح، وقد ذكر عدة أسباب للعزل منها استبقاء جمال المرأة وسمنها، واستبقاء حياتها خوفًا من الحمل والولادة، والخوف من الحرج بسبب كثرة العيال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 المذهب المالكي: يجوز العزل في هذا المذهب لمنع الحمل بشرط رضا الزوجة صغيرة كانت أو كبيرة. المذهب الحنبلي: يذهب العلماء في هذا المذهب أيضًا إلى إباحة العزل وإن كانوا يشترطون رضا الزوجة، ويكرهه بعضهم لغير عذر. مذهب الشيعة الإمامية الجعفرية: يبيح هذا المذهب العزل مع إذن الزوجة، ويمكن أن تستأذن الزوجة عند العقد ولا يلزم استئذانها بعد ذلك. مذهب الزيدية: يبيح العزل مع رضا الزوجة مذهب الإباضية: يبيح العزل فرارًا من الولد وإدخال الضرر على الرضيع. مذهب الإسماعيلية: مثل الجعفرية. هذا وقد انتهت مناقشات المؤتمر إلى عدة نقط أخرى مهمة: الأولى: أن علاج العقم جزء لا يتجزأ من تنظيم الأسرة حتى تشعر الجماهير أن إسعاد الأسرة هدف عام، وليس مقصورًا على الذين عندهم أولاد أكثر من اللازم. والثانية: دعا بعض الأعضاء إلى الاتصال بالقائمين على الجامعات الإسلامية والمعاهد الدينية لكي يجعلوا "تنظيم الأسرة" ضمن الموضوعات التي يدرسها الشباب. والثالثة: أن تنظيم الأسرة ليس هو الطريقة الوحيدة لمواجهة مشكلة تضخم السكان، بل يجب أن يصحب التنظيم العمل بكل جهد لمضاعفة الإنتاج وتطويره. واستغلال الموارد المهملة، والطاقات المطمورة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 الزواج وعلاقته بتنظيم الأسرة: ناقش المؤتمر موضوع استحباب الزواج في الإسلام، فأشاد بذلك، ورأى أنه لا تعارض بين استحباب الزواج وتنظيم الأسرة، وبرزت إلى جانب ذلك نقطة مهمة وهي أنه يستحب تأجيل الزواج لحين القدرة عليه، ونرى أن هذه القدرة في العصر الحديث لا تقتصر على الناحية المادية، بل تشمل كذلك القدرة الاجتماعية والصحية بمعنى أنه يمكن تأجيل الزواج لحين إتمام التعليم مثلًا، أو لحين نضج الزوجين وخصوصًا الفتاة. وسائل تنظيم الأسرة: دلت النصوص الفقهية المتداولة في المؤتمر على أن العزل هو الوسيلة التي كانت شائعة بين الصحابة والمسلمين الْأُوَل والتي نصت عليها كثير من كتب الفقه. وقياسًا على إباحة العزل، أباح الفقهاء الوسائل الأخرى المشروعة، وقد ذكرت في المؤتمر فتوى الشيخ عبد المجيد سليم عام 1937 التي أجاز فيها أن تضع المرأة شيئًا بداخل رحمها لمنع وصول ماء الرجل إليه ومعنى ذلك أن الإباحة ليست مقصورة على العزل ولكن تتعداه إلى الوسائل الأخرى كحبوب منع الحمل، واللولب، والحجاب الحاجز، والمواد الكيمياوية وما يستجد من وسائل لمنع الحمل. وكان هذا الرأي مطمئنًا لكثير من المسلمين والمسلمات فهناك ملايين في العالم الإسلامي اليوم يستعملون هذه الوسائل كما أن العدد يزيد يومًا بعد يوم. الدواعي الاجتماعية والاقتصادية والأسرية لتنظيم الأسرة: يمكن أن نستخلص من مناقشات المؤتمر أن تنظيم الأسرة يُلْجَأ إليه لدواع اجتماعية واقتصادية وأسرية نذكر منها: 1- حسب ما يقوله الإمام الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين": "الخوف من كثرة الحرج لسبب كثرة الأولاد، والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب، ودخول مداخل السوء"، ويقول الغزالي: "وهذا أيضًا غير منهي عنه، فإن قلة الحرج معينة على الدين". 2- تمكين الأسرة المسلمة من تنشئة أطفالها تنشئة إسلامية سليمة وهذا يستدعي تخصيص الأوقات والجهود لهم، ولا يمكن ذلك إذا كان عدد الأطفال كثيرًا. 3- أما على المستوى القومي فقد تلجأ الدولة إلى ترويج تنظيم الأسرة لرفع مستوى المعيشة بين مواطنيها، ولتخفيف حدة التضخم السكاني إذا حدث، أو الوقاية قبل أن يحدث، كذلك فإن تنظيم الأسرة يساعد الدولة على القضاء على البطالة وتشجيع النمو الاقتصادي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 الدواعي الصحية لتنظيم الأسرة: كذلك ناقش المؤتمر الدواعي الصحية لتنظيم الأسرة وهي دواع خاصة بالمحافظة على صحة الأم والطفل ومنها: 1- أن يكون هناك مرض من الأمراض المعدية أو الوراثية يخشى انتقاله من الأبوين إلى الذرية فتشقى به حياتهما. 2- الخوف على صحة الأم وسلامتها بسبب الحمل المتتابع، إذا كانت مريضة وسيزيد مرضها بحملها، أو سيتأخر شفاؤها، أو سيحدث لها المرض بسبب الحمل. 3- الإشفاق على الولد الرضيع من الحمل مدة الرضاع وهو ما يعرف في الفقه بالغيل. 4- الخوف على صحة الجنين والأطفال إذا حدث الحمل على فترة قريبة من حمل آخر، أو إذا حدث لفتاة صغيرة السن أو لامرأة فوق الخامسة والثلاثين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 الفصل الثالث الإسلام والإجهاض تقدمة كان الموضوع الثالث الذي تعرض له المؤتمر هو موضوع الإجهاض ورأي الإسلام فيه. وبخلاف تنظيم الأسرة فإن موضوع الإجهاض مشحون بالعاطفة كما أنه أمر يهم الجميع من ناحية صحة الأم ومستقبل الطفل؛ لذلك فقد اتسمت مناقشات المؤتمر بالشدة نسبيا، لتحمس بعض الأعضاء لآرائهم في هذا الشأن، وقد اعتمدت كل الآراء المتعارضة على نصوص من الفقه بعضها يبيح الإجهاض وبعضها لا يبيحه. والإجهاض من الموضوعات التي تعرض لها الفقه الإسلامي في العهد الأول ببعض التفصيل، ومن يومئذ تغيرت ظروف المسلمين تغيرا كبيرا وتغيرت الدواعي للإجهاض، فبعد أن كان أمرًا يخص إنزال الجنين في حادث تلزم فيه الدية أحيانًا، أصبح الإجهاض وسيلة طبية لإسقاط الجنين لظروف اجتماعية ونفسية وصحية عديدة لم تكن مألوفة من قبل ولهذا لزم التعرض له بالتفصيل. ولقد انتشر الإجهاض العمد في العالم كله بحيث تقدر عدد حالاته من الثلاثين إلى خميس مليون كل عام. ولم يقتصر الانتشار على الأمم غير الإسلامية بل امتد أيضا إلى أمم مسلمة عديدة منها تركيا، وإيران، ومصر، والأردن، وأندونيسيا، وتونس، والمغرب، وبنغلاداس وغيرها، بل إن بلادا إسلامية قد أباحت الإجهاض بقانون " تونس، الجمهورية العربية اليمنية، والجمهورية اليمنية الديمقراطية الشعبية" كما أن بعض الدول الإسلامية الأخرى تنظر الآن في السماح به " أندونيسيا " بينما لا تزال البلاد الإسلامية الأخرى تطبق قوانين وضعية نقلتها عن الدول الغربية، وهي قوانين تحرم الإجهاض، وتعاقب عليه، وقد احتفظت هذه الدول بتلك القوانين حتى بعد أن لجأت الدول الغربية نفسها إلى إباحة الإجهاض بقانون في بلادها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 وهناك عده أسئله تدور بخاطر المسلمين عن الإجهاض منها: 1- علام يعتمد رأي الإسلام في الإجهاض، على القرآن والسنة أم على الاجتهاد والتأويل؟ 2- ما هي تطورات الجنين حسب النصوص الفقهية؟ وهل يتفق ذلك مع الطب الحديث؟ 3- متى تدب الحياة في الجنين، وهل يعتبر الجنين قبل نفخ الروح جمادا لا حياة فيه؟ ومتي يصير إنسانا يحرم قتله؟ وما هي الروح؟ وكيف نعرف أنها دخلت الجنين؟ وهل حركة الجنين علامة على ذلك؟ 4- هل الإجهاض حلال كله أو حرام كله، أم أنه حلال في ظروف بعينها وحرام في غيرها؟ 5- إذا كان الإجهاض مسألة تختلف فيها الآراء فما هو وضع امرأة أجهضت نفسها. هل هي آثمة أم غير آثمة؟ وهل الطبيب الذي أجهضها آثم أم غير آثم؟ 6- ما هي دواعي الإجهاض المسموح به؟ هل هو المحافضة على حياة الأم؟ وهل يشمل أيضا المحافظة على صحتها أو حالتها النفسية؟ وهل هناك دواع جنينية للإجهاض؟ 7- هل الضغط السكاني من دواعي الإجهاض؟ 8- هل للدولة المسلمة أن تبيح الإجهاض بقانون؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 خلاصة بحوث ومناقشات مؤتمر الرباط: مفهوم الإجهاض المتفق عليه في المؤتمر هو خروج الجنين أو إخراجه أو سقوطه أو إسقاطه بصورة غير طبيعية، ويشمل ذلك الإجهاض العفوي والإجهاض العمد. وفي الفقه الإسلامي نوعان من الإجهاض وهما: (1) الإجهاض قبل نفخ الروح في الجنين أي قبل مرور 120 يوما من ابتداء الحمل. (2) الإجهاض بعد نفخ الروح أي بعد مرور 120 يوما على الحمل. ذكر الدكتور حسان حتحوت أن المؤتمر الذي نظمة الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية في بيروت سنة 1971 (1) عن " الإجهاض العمد وأخطاره الصحية" أظهر وجود تيار قوي يشيد بفوائد الإجهاض القانوني الصحية، كما أظهر خلافا سديدا حول موقف الإسلام من الإجهاض، ولما لم يكن بعض أعضاء الندوة شيوخ مسلمون أو علماء في الفقه الإسلامي فقد اقترح الدكتور حتحوت أن يجرى البحث في هذا الموضوع في مؤتمر آخر يعقد فيما بعد فاستجاب الدكتور عصام الناظر لهذا الاقتراح وأعد العدة للمؤتمر الذي عقد في الرباط والذي نحن بصدده. وتكلم حتحوت عن الإجهاض من ناحية تاريخية وتشريعية فقال: إن الإجهاض كان ممنوعا ولا يسمح للطبيب بإجرائه. وبقي الأمر على ذلك حتى الأمس القريب حينما كاد الإجماع على تحريم الإجهاض أن يكون تامًّا، باستثناء الحالات التي يكون فيها استمرار الحمل خطرا عاجلا أو آجلا على حياة المرأة، أو الحالات التي يترجح أو يتأكد فيها أن الجنين مصاب بالتشوه أو الخلل الخطير. فإباحة الإجهاض كانت في عمومها مبنية على دواع طبية قاهرة تعترف بها القوانين، وتعتبر الإجهاض في غيره جريمة ذات عقوبة منصوص عليها في قانون العقوبات، ولو أن كثيرا من حوادث الإجهاض غير المشروع كانت تجري في الخفاء ولا يصل إليها القانون أو تجرى بتزوير شرعي، غير أن السنين الأخيرة قد شهدت نزعة قوية لدى الكثير من البلاد في العالم إلى توسيع نطاق الإجهاض المباح، لا بالتوسع في مبرراته الطبية، ولكن بالاعتراف بدواع أخرى غير طبية، تتيح للمرأة أن تطلب الإجهاض من الطبيب كما تبيح للطبيب إجراءه.   (1) كان هذا أول مؤتمر من نوعه لبحث مشكلة الإجهاض غير القانوني المتزايدة في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقد حضر المؤتمر ممثلون عن معظم كليات الطب ووزارات الصحة ودوائر الإحصاء والعاملين في حقل تنظيم الأسرة في المنطقة مع العديد من الخبراء العالميين، وقد نشرت أعمال المؤتمر وأبحاثه عام 1972 في كتاب باللغة الإنجليزية بعنوان " الإجهاض العمد – خطر يهدد الصحة العامة"، ويمكن الحصول على هذا الكتاب من الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية – ص ب 18 قرطاج – تونس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 وبدلا من أن يكون " الإجهاض القانونى" مرادافًا " للإجهاض الطبي" انقسمت دواعي الإجهاض القانوني إلى عدة شعب هي: 1- الدواعي الطبية. 2- الدواعي الجنينية. 3- الدواعي الإنسانية. 4- الدواعي الطبية الاجتماعية. 5- الدواعي الاجتماعية. الدواعى الطبية: كان المفهوم أن الظروف التي يسمح فيها بإجراء عملية الإجهاض هي إنقاذ حياة الأم. ثم اتسع مفهوم هذه الظروف حتى شمل إنقاذ صحتها، واتسع بعد ذلك حتى شمل أيضا المحافظة على صحتها النفسية، ثم وسعه البعض أكثر من ذلك لينطبق على تعريف " الصحة" الذي أورده دستور منظمة الصحة العالمية ووافقت عليه جميع الدول وهو " الصحة هي حالة من السلام الجسمية والنفسية والاجتماعية وليست مجرد حالة انتفاء المرض أو العجز"، وما زالت معظم الدول الإسلامية تقصر إباحة الإجهاض على غرض إنقاذ حياة المرأة فقط، في حين أن الكثير من الدول تسمح بالإجهاض للحفاظ لا على حياة المرأة فقط وإنما على صحتها أيضًا. الدواعى الجنينية: تشمل مع انتشار الأمراض الوراثية – والحيلولة دون ولادة أطفال ذوي عاهات جسمية أو عقلية تنتج عن تعرض الجنين داخل الرحم للعدوى بأمراض معينة أو لجرعات خطرة من الإشعاع أو العقاقير تناولتها الأم أثناء الحمل، وهذه الدواعي بالطبع ملحقة بالدواعي الطبية، وتعترف بها الكثير من الدول. ولقد كان للحصبة الألمانية لما قد تسببه من تشويه خلقي للجنين ولدواء الثاليدومايد لما أحدثه من تشويه فاحش في الأطفال باعثا قويا على الاعتراف بالدواعي الجنينية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 الدواعي الإنسانية: أباحت بعض البلاد الإجهاض لمثل هذه الدواعي كالحمل الناتج عن الاغتصاب أو من محرم أو من مواقعة قاصر أو ضعيفة العقل، أو حينما يكون الحمل ثلما لشرف الحامل أو شرف أسرتها. الدواعي الطبية الاجتماعية: وهي دواع تقرها دول كاليابان والدول الإسكندنافية ودول أوروبا الشرقية، وأقرتها بريطانية مؤخرًا، وكانت أيسلندة أول دولة فتحت الباب أمام الإقرار بالدوافع الطبية الاجتماعية، إذ نص تشريعها سنة 1935 على أن تقدير حالة " الخطر" بالنسبة إلى الأم ينبغي أن يأخذ في الاعتبار غزارة الإنجاب، وتقارب الولادات، والمدة الزمنية منذ الولادة الأخيرة، والأعباء المنزلية الناجمة عن كثرة الأولاد، ثم الضيق الاقتصادي، ومرض بعض أفراد الأسرة الآخرين، وبعد ذلك حذت حذو أيسلندة دول أخرى كثيرة، فعدلت السويد في سنة 1946 قانونها لسنة 1938 ليبيح الإجهاض آخذا في الاعتبار ظروف المرأة المعيشية التي تجعل إنجاب الطفل يؤثر تأثيرا ضارا على حالتها الجسمية والنفسية، ثم عدلت الدنمارك في سنة 1956 قانونها لسنة 1937 ونص التعديل على ضرورة اعتبار ظروف المرأة كلها، بما في ذلك ظروف الحياة التي تعيشها، مع أخذ الآثار الجسمية والنفسية بالاعتبار، وإلى مثل ذلك ذهبت فنلندا سنة 1950، وينص قانون النرويج لعام 1960 على أن أية قابلية خاصة لدى المرأة للمرض الجسماني أو النفساني ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار لإجراء الإجهاض، بالإضافة إلى ظروفها المعيشية أو أية ظروف أخرى من الجائز أن تؤثر في صحتها فتفضي إلى انهيار في صحتها الجسمانية أو النفسانية، وفي اليابان يباح الإجهاض بقصد حماية المرأة من الإرهاق الصحي أو العنت الاقتصادي، وفي بريطانيا قانون الإجهاض الجديد لعام 1967 على أنه عند تقرير مدى توقع الخطر على المرأة ينبغي النظر إلى البيئة التي تعيش فيها المرأة فعلا وإلى البيئة التي تعيش فيها في المستقبل المنظور. ومثل ذلك في جنوب أستراليا " 1970" وبالولايات المتحدة الأمريكية "1969"، كما أقرته الهند سنة "1971". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 416 الظروف الاجتماعية: قد أخذت بها بعض الدول لإباحة الإجهاض، ولا سيما دول أوروبا الشرقية، وفي قوانين سنة 1970 في فنلندا والدنمارك وألمانيا الشرقية يسمح بالإجهاض إذا كان للمرأة أربعة أولاد وكانت الفترة بين ولادة وأخرى أقل من خمسة عشر شهرًا. وإذا وقع الحمل الحاضر بعد أقل من ستة أشهر منذ انتهاء الحمل السابق، أو إذا كانت الزوجة " وحدها أو مع زوجها" تقوم بشأن خمسة أولاد أو أكثر، وفي بلغاريا يجوز الإجهاض للمرأة التي لديها ثلاثة أولاد، وفي رومانيا يجوز الإجهاض في تشيكوسلوفاكيا لمن لديها ثلاثة أولاد أو أكثر، وفي الدنمارك يباح بدون إذن لمن لديها أربعة أولاد، وفي تونس " بقانون 1965" (1) يباح الإجهاض لمن لديها خمسة أطفال أحياء، وبدون تحديد عدد الأطفال بقانون 1973 (2) وثمة دوافع اجتماعية أخرى، ففي تشيكوسلوفاكيا يباح الإجهاض لوفاة الزوج أو عجزه أو بعده عن زوجته ووقوع مسؤولية العيال على كاهل المرأة وحدها والظروف الحرجة التي تجابه المرأة غير المتزوجة من جراء الحمل، وفي سنغافورة يعتبر الوضع الاقتصادي وحده مبررا للإجهاض. وبعض الدول تبيح الإجهاض قبل سن معينة لأسباب إنسانية أو اجتماعية أو فوق سن معينة لأسباب طبية اجتماعية أو طبية جنينية. فهو مباح في ألمانيا الشرقية دون سن 16 وفوق 40 وفي فنلندا دون 17 وفوق 40، وفي تشيكوسلوفاكيا دون 16 وفوق 45، وفي الدنمارك فوق 38 أو إذا قضت لجنة طبية أن الحامل لم تبلغ من النضج الجسمي أو العقلي درجة تمكنها من رعاية المولود وتشترط بلغاريا موافقة الوالدين دون سن 16 وتبيحه إطلاقا فوق 45.   (1) نص القانون رقم 65 – 24 بتاريخ 1/7/1965 يرخص في إنهاء الحمل خلال الثلاثة أشهر الأولى عندما يكون للزوجين خمسة أطفال أحياء كما يرخص فيه إن خشي في مواصلة الحمل تسبب في انهيار صحة الأم ويجب إجراؤه في تلك الحالتين في مؤسسة استشفائية أو مصحة مرخص فيها من طرف طبيب مباشر لمهنته بصفة قانونية. (2) نص القانون 73 – 75 بتاريخ 19/11/1973: الفصل 214: يرخص في إنهاء الحمل خلال الثلاثة أشهر الأولى منه من طرف طبيب مباشر لمهنتة بصفة قانونية في مؤسسة استشفائية أو صحية أو في مصحة مرخص فيها، كما يرخص فيه بعد ثلاثة أشهر إن خشي في مواصلة الحمل تسبب انهيار صحة الأم أو توازنها العقلي أو كان يتوقع أن يصاب الوليد بمرض أو بآفة خطيرة وفي هذه الحالة يجب إنهاء الحمل كما أشير إليه بالفقرة السابقة، ويجب إجراؤه بعد استظهار لدى الطبيب الذي سيتولى ذلك بتقرير من الطبيب الذي يباشر المعالجة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 417 والدكتور حتحوت في هذا العرض يشير إلى أن المطالبة بإباحة الإجهاض قد نجحت نجاحا في كثير من بلدان العالم ومع هذا مازالت بعض الدول تضع العراقيل في سبيل ذلك ومنها غالبية البلدان الإسلامية، فالإجهاض الذي يجري في هذه البلاد وأمثالها خلافا للقانون يعتبر إجهاضا إجراميا، أما الذي يجري لدواع طبية مشروعة وبإشراف طبيب مختص فهو الإجهاض الطبي. والاتجاه لا يزال نحو إزالة جميع العوائق حتى يكون للمرأة الحق في إجهاض نفسها عند الحاجة دون حرج، أو الإجهاض إطلاقا عند الطلب. وتكلم الدكتور عبد الرحيم عمران عن الديموغرافية والإجهاض وانتشاره من الناحية التاريخية وخاصة في المرحلة الانتقالية وهي الانتقال من ارتفاع نسبة الوفيات والمواليد إلى مرحلة انخفاضها، فربط بين الحاجة إلى الإجهاض والحاجة إلى تخفيض عدد السكان وخاصة مع انتشار الوعي بضرورة تحديد حجم العائلة وتصغيرها بحيث تكون عائلة آحادية غير موسعة. وقال: إنه يرى أن هناك أربعة اعتبارات أساسية يلزم ذكرها إزاء بحث رأي الإسلام في الإجهاض بروح عملية وهي: 1- الضغط السكاني الملزم. 2- التخطيط الواقعي. 3- مراعاة الجوانب الإنسانية. 4- المرونة الدينية في الإسلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 418 وذكر الدكتور عمران الظروف التي طرأت في المجتمع وأدت إلى ازدياد الوعي بالأخطار الناجمة عن الارتفاع الشديد في معدل المواليد، وقال: إن من العوامل في انخفاض نسبة المواليد وفي انتشار فكرة العائلة الصغيرة، الجهود الحثيثة التي تبذل لتنظيم الأسرة سواء أقامت بهذه الجهود مؤسسات أهلية طوعية أم حكومية، وسواء كانت على أساس محلي أو على أساس قومي، ورافق هذه الجهود القبول المتزايد لفكرة تحديد النسل في الأقطار الإسلامية، وذكر بشيء من التفصيل ظهور موجة الإجهاض في الأقطار الإسلامية بسبب العوامل المختلفة المؤدية إلى الوعي بضرورة تحديد حجم العائلة، إما بالوسائل الفعالة لمنع الحمل وإما باللجوء إلى الإجهاض. وكان من نتيجة الضغط السكاني وإدراك عواقبة اتخاذ موقف تحرري من قوانين الإجهاض في معظم أنحاء العالم وفي الكثير من الدول الإسلامية. وكان الاتجاه على الوجه الأغلب نحو تنظيم الأسرة، ولا سيما نحو منع الحمل أولا قبل اللجوء إلى الإجهاض ولكن الدكتور عمران يرى أنه لا بد لنا من أن نقر " أن منع الحمل وحده لا يساعدنا على تحقيق انخفاضات سريعة في نسبة المواليد، أضف إلى ذلك أن نذر نفشي الإجهاض أخذت تبدو ماثلة للعيان في عدة أقطار إسلامية". كما ثبت في البيانات المتوافرة من الأقطار الإسلامية التي تشير بوضوح إلى أن الإجهاض أخذ يسري وينتشر، وقد أثبتت هذه الدراسات التي قدمت في مؤتمر الاتحاد الدولي لتنظيم الوالدية والذي انعقد في بيروت لمناقشة مشكلات الإجهاض (1) . فقد أثبتت هذه الدراسات في معظم دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأن أكثر من ثلث الأمهات المتزوجات فوق الخامسة والثلاثين واللواتي اكتملت أسرهن قد مارسن الإجهاض غير القانوني، كما أثبتت هذه الدراسات بأن الإجهاض غير القانوني هو أكثر انتشار في المدن منه في الريف وزيادة ممارسته مع ارتفاع المستوى التعليمي للمرأة.   (1) راجع دكتور عصام الناظر: الإجهاض العمد: خطر يهدد الصحة العامة " بيروت 1972". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 419 تعريف الجنين: وهنا رأى المؤتمرون ضرورة تعريف الجنين عند بحث الإجهاض فوصف الدكتور حسان حتحوت نمو هذا الجنين منذ أن يصل الحيوان المنوي إلى البويضة ويلقحها في قناة فالوب فيكونان خلية واحدة، تحدث داخلها تغيرات تؤدي إلى قسمة الخلية إلى اثنين، ثم تتوالى الانقسامات بسرعة إلى أربع ثم ثمان ثم ست عشرة وهكذا وعندما يبلغ الجنين شهر الثالث يكون في الواقع إنسانا صغيرا ثم قال: إن الجنين في الإسلام إنسان له حق الحياة. وتناول الدكتور محمد سلام مدكور ما قيل في تعريف الجنين فأورد الأقوال الفقهية في ذلك، ومنها أن النويري نقل عن بعض الحكماء أنهم أطلقوا اسم الجنين على ما بعد خلق الروح، ويؤيد ذلك ما قاله القرطبي عند تفسير قوله تعالى (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) " سورة النجم 32" إذ قال: " الجنين ما دام في البطن"، ويقول البستاني في دائرة المعارف: " الجنين هو الولد ما دام في البطن، ويكون أولا نطفة، ثم يصير علقة، ثم يصير مضغة، ثم جنينا". ويقول الدكتور نجيب محفوظ " في نهاية الشهر الرابع يطلق على العلقة اسم الجنين" وتقول الدكتورة أيدث سيرول في كتابها " جسم الإنسان" " ويسمى الجسم النامي في الرحم مضغة فيما بين الأسبوعين الثالث والثامن من حياته، ولكنه يسمى جنينا منذ الأسبوع الثامن إلى نهاية مدة الحمل" ومع هذا فبعض كتب الفقه تطلق الجنين على ما في الرحم من وقت العلوق، لكن الإمام المزني الشافعي ينقل عن الإمام الشافعي أن الاستعمال الحقيق للجنين يكون في ما بعد مرحلة المضغة، وينبني عليه أن استعماله في ما قبل هذه المرحلة من باب المجاز باعتبار أنه مقدمة للجنين الحقيقى. إذ قال الشافعي في الجنين: " أقل ما يكون به جنينا أن يفارق المضغة والعلقة حتى يتبين منه شيء من خلق آدمي.." وعلى هذا فإننا نرجح أن ما نقله ابن رشد عن الإمام مالك لا يعم أول الحمل وآخره، وإنما هو خاص بما بعد الأربعين عندما يسمى جنينًا". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 420 وأشار الدكتور عبد الرحيم عمران إلى الحديث النبوي الشريف المعروف بحديث الأربعينات عن مراحل تكون الجنين وهو " أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك". وهذا هو الأساس الذي يبنى عليه حساب المئة والعشرين يوما التي يشار إليها في المراجع الدينية باعتبارها المدة التي تسبق نفخ الروح، ومعني ذلك أن الإجهاض إذا حدث قبل نفخ الروح لا يكون قتلا أو وأدا، وإنما يكون القتل أو الوأد عندما يصير الجنين خلقا آخر – أي بعد مرور الجنين في التارات السبع التي أشار إليها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله: " لا يكون موؤودة حتى تمر على التارات السبع: تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاما، ثم تكون لحما، ثم تكون خلقا آخر". وهذا القول مأخوذ من القرآن الكريم من قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)) سُورَةُ المؤمنون " 12 – 14". وللإجهاض تاريخ قديم فقد حرم أبقراط الإجهاض وحرم إعطاء الأدوية التي تسببه. وذكر الدكتور محمود نجم أبادي أن الأطباء المسلمين المشهورين الذين بحثوا قضية الإجهاض في الماضي هم أبو بكر محمد بن زكريا الرازي وعلي بن عباس المجوسي وابن سينا والحسن بن محمد وابن البيطار المالقي والشيخ داود الأنطاكي، وقال " بأن غالبية الأطباء المسلمين يعتقدون أنه لابد من الحيلولة دون وصول ماء الرجل إلى الرحم إذا كان هناك خطر متوقع على حياة الأم، وعليه فلا بد من إخراج هذا الماء إذا وصل، وإن تعذر ذلك جرى إخراج الجنين من الرحم بوسائل ميكانيكية أو بغيرها من الوسائل المعروفة، كالأدوية التي كانت تستخدم لإخراج الجنين منذ الأزمنة القديمة ومازالت. وينبغي أن نذكر أن أغلبية الأطباء لم يقبلوا فكرة الإجهاض إلا بعد الاستشارة وأنه من الأفضل تبصير المرأة بالطرق التي يمكنها بها تجنب الحمل، ويؤكد الأهوازي أن قسم أبقراط يقضي بتحريم الإجهاض والأدوية التي تسببه تحريما مطلقا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 421 ويضيف إلى ذلك أنه ينبغي أن لا تلجأ الحامل إلى الأدوية المؤدية إلى الإجهاض. أما الرازي فيقول: إن على الحوامل اللائي تتعرض صحتهن للخطر من جراء الحمل أن تدخل الواحدة منهن قطعة من الخشب في رحمها، وتبقيها مدة أسبوعين ولا بد من ربط طرف الخشبة التي تبقى خارج الرحم إلى فخذ المرأة إلى أن يبدأ نزيف الرحم ". ويتبين أن الفقه الإسلامي عموما يقسم حياة الجنين قسمين (1) قبل نفخ الروح (2) بعد نفخ الروح، وذلك من حيث تحريم الإجهاض أو إباحته مع العلم بأن عددًا من أعضاء المؤتمر ذكروا استنادا إلى أقوال الفقهاء أن الإجهاض محرم على الإطلاق سواء قبل نفخ الروح أو بعده ما لم يكن خطر على حياة الأم أو لضرورة أخرى كاحتمال ولادة مشوة أو مريض ... والمحافظة على حياة الأم بالإجهاض تكون عند الخطر على حياتها اتباعا للقاعدة الفقهية: " إذا تضرر الأصل بالفرع وجب تقديم مصلحة الأصل على فرعه"، حتى إن البعض في المؤتمر كالشيخ أحمد سحنون والشيخ عبد الرحمن الخير والشيخ محمد مهدي شمس الدين وغيرهم قالوا بأن الإجهاض محرم قبل نفخ الروح وبعده ولا يجوز بحجة الانفجار السكاني، مالم يكن لإنقاذ حياة الأم فقط وليس لأسباب أخرى، وذهب الشيخ سحنون إلى القول بأن الإجهاض والتعقيم لا يقرهما الإسلام. وكان السيد أحمد الغزالي وسطا بين الطرفين إذ يقول " إن الاعتبارات الطبية لا تقف عند حد صحة الأم بل قد تتجاوزها إلى حالتها النفسانية أيضا"، وذكر أن الإجهاض قبل الأسبوع السادس عشر أي قبل نفخ الروح جائز إذا توافرت الشروط التالية: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 422 1- إذا كان الحمل يعرض الأم لمرض نفساني يضر بصحتها. 2- عند احتمال ولادة الجنين مصابا بأمراض معينة. 3- إذا كان الحمل بسبب الاغتصاب أو بسبب اقتراف الزنا مع النساء المحارم. 4- إذا كان الحمل يمس سمعة المرأة المصابة بمرض نفساني. 5- إذا كان الحمل يدفع بالمرأة إلى الانتحار أو تعريض نفسها للهلاك. وقد ناقش الشيخ محمد الحسيني بهشتي الفكرة التي يتبناها معظم الأطباء والاختصاصيين القائلة بأن الإجهاض لا يكون قتلا إلا بعد التخلق " خَلقا آخر" ولكنهم من وجهة علمية يريدون تحديد موعد معين لهذا التخلق حتى يقولوا: إن الإجهاض قبل هذا الموعد مباح، فأشار إلى هذه النقطة بنفسها، وأثار من جديد علاقة أطوار الجنين في نموه بدرجة العقوبة وتساءل " ما هي النفس المحرمة التي عد الإسلام قتلها من أكبر الكبائر؟ وهل يكون الجنين إنسانًا؟ ففي أي طور من هذه الأطوار اعتبر القرآن الجنين إنسانًا؟ حينما كان سلالة من طين أي قبل أن يكون جنينا؟ حينما صار نطفة في قرار مكين؟ حينما صارت النطفة علقة؟ حينما تبدلت العلقة مضغه؟ حينما ظهر فيها العظم؟ حينما تم ظهور العظام فيه فصار الجنين ذا عظام يكسوها اللحم؟ فمتى إذَنْ؟ وقال " الذي يظهر من الآيات التي تَلَوْنَاهَا أن الجنين يصير إنسانا حينما ينشئه الله خلقا آخر أي خلقا يمتاز به عن سائر الحيوانات فيكون إنسانا، وماذا يكتسب في هذا الطور؟ " ثم أورد قوله تعالى: (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) سورة السجدة [6-9] وقوله تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) سورة الحجر [29] وقرر السيد بهشتي أن الإنسان لا يكون إنسانا بعد تسوية جسده في بطن الأم بل بعد نفخ الروح، والروح ليست الروح التي في النبات أو الحيوان وإنما هي روح تختص بالإنسان دون غيره، حتى إذا نفخت هذه الروح في الجنين أصبح الجنين خلقا آخر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 423 أقوال الفقهاء: ملخص أحكام الإسلام في الإجهاض. ثم عاد الدكتور محمد سلام مدكور وتوسع في الناحية الفقهية واستعرض أقوال المذاهب الإسلامية في الإجهاض وفي أطوار الجنين وقال: " إن الإجهاض متفق عليه بأنه محرم بعد نفخ الروح إلا لعذر أو لضرورة؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات، وأما الإجهاض قبل نفخ الروح أي قبل تمام أربعة أشهر من الحمل ففيه اختلاف. من حيث الإباحة والكراهة والحرمة ومن حيث مقدار العقوبة المترتبة بحسب أطوار الجنين، " وحالة العذر لا ينبغي أن تكون موضوع خلاف أو جدل إلا في تقدير العذر المقتضي للإجهاض، وإذا مثل العذر حالة ضرورة فإن الضرورات تبيح المحظورات، وأن الضرر الأكبر يدفع بالضرر الأدنى، والحكم يتبع أخف الضررين كما هي القاعدة الشرعية. وعلى هذا فإنه لو ترتب على بقاء الحمل هلاك الأم مثلا لا محالة، فإن الشرع الإسلامي يبيح الإجهاض، بل يوجبه محافظة على حياة الأم؛ لأن حياتها ثابته بيقين، وحياة الجنين محتملة، كما أن الأم هي الأصل والجنين فرع منها، والأصل مقدم على الفرع". وحكم الإجهاض قبل نفخ الروح عند الحنفية يتفاوت بين مباح ومكروه، فقد نص الحصكفي الحنفي على أنه يباح للمرأة إسقاط الولد قبل أربعه أشهر ولو بغير إذن الزوج، وعلق على هذا ابن عابدين الفقيه الحنفي بما نقله عن كتاب " النهر" وعبارته " هل يباح الإسقاط بعد الحمل؟ نعم يباح ما لم يتخلق منه شيء، ولن يكون ذلك إلا بعد مائة وعشرين يومًا". وعلق الدكتور مدكور على هذا بقوله: ويمكننا أن نقول: إن التخلق في قولهم " نعم يباح ما لم يتخلق" ليس هو نفخ الروح ولا بعد مائة وعشرين يوما، وإنما هو يكون في مدى نحو أربعين يوما من بدء الحمل، وهو عند وصول البويضة الملقحة إلى المرحلة التي عبر عنها القرآن بالمضغة في قول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) " سورة الحج 5 ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 424 فمرحلة المضغة هي المرحلة التي يقع فيها التخلق، وقد يمتد ذلك التخلق حتى يصير في طور آخر، وعلى هذا نستطيع فهم هذا الرأي على أنه يبيح الإجهاض في الفترة قبل مضي أربعين يوما على الحمل. ونقل ابن عابدين أيضا عن ابن وهبان الحنفي قوله: " إن وجود العذر يبيح الإجهاض من قبل أربعة أشهر كأن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر ويخاف هلاكه". ونقل عن " الذخيرة" أن المرأة إذا ألقت ما في بطنها قبل نفخ الروح فهو مكروه. وأردف الدكتور مدكور بقوله: إن هناك قولا بأن الإجهاض قبل نهاية الشهر الرابع يباح مطلقا سواء وجد عذر أو لا، وأن منهم من اتجه إلى أنه مكروه من غير عذر، والكراهة كما هو معروف مرتبة دون مرتبة الحرمة. وقصر هؤلاء الإباحة على حالة وجود عذر واعتبروا من الأعذار مجرد الشعور بالهزال والضعف عن تحمل أعباء الحمل. أما المالكية فكانوا أكثر تشددا من الحنيفة في الإجهاض قبل نفخ الروح إذ أنهم منعوا الإجهاض ولو قبل الأربعين يوما على ما هو المعتمد في المذهب. وفي رأي آخر في المذهب أنه مكروه في هذه المدة، ولا خلاف عندهم في التحريم بعد نفخ الروح لغير عذر، وهذا ما نص عليه الدردير من فقهاء المالكية بقوله: " لا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم ولو قبل الأربعين يوما، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعا". ويقول الدسوقي تعليقا على الدردير: " ولو قبل الأربعين يوما". " هذا هو المعتمد". وقيل: يكره إخراجة قبل الأربعين. وعلق الدكتور مدكور على ذلك بقوله: " وهذا يفيد أن مراد الدردير بعدم الجواز هو التحريم، كما يفيد النقل جميعه أنه ليس عند المالكية قول بإباحة إخراج الجنين قبل نفخ الروح فيه، وأضاف الدكتور مدكور قوله: ويلاحظ أن التعبير (المتكون في الرحم) يفيد أنه قبل تكون المني في الرحم واستقراره بالعلوق يجوز إخراجه. يدل على ذلك ما قاله القرطبي من فقهاء المالكية في كتابه " الجامع لأحكام القرآن": " إن النطفة لا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة قبل أن تستقر في الرحم، فهي كما لو كانت في صلب الرجل". وهذا صريح في أن للزوجة أن تخرج النطفة بأية وسيلة ما دامت لم تستقر ودون أن يترتب على ذلك إثم. أما قول ابن رشد الفقيه المالكي عن أن الإمام مالك استحسن الكفارة في إسقاط الجنين فيرجع صرف قوله باستحسان الكفارة إلى ما بعد نفخ الروح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 425 أما الشافعية فقد اختلفوا في حكم الإسقاط ما لم يصل لحد نفخ الروح فيه والذي يتجه وفاقا لابن العماد وغيره الحرمة، على حد ما نقله البجيرمي الشافعي عن ابن حجر الشافعي، وفرق بين الإجهاض والعزل المباح بأن المني حال نزوله محض جماد ولم يتهيأ للحياة بوجه، على خلاف حاله بعد استقراره في الرحم وأخذه في مبادئ التخلق، وقال البجيرمي: إن مقتضى قول ابن حجر " والذي يتجه على الحرمة" أن بعض الشافعية يقول بعدم حرمة الإجهاض قبل نفخ الروح، كما استنتج من قوله (وأخذه في مبادئ التخلق) بأنه يفيد عدم الحرمة قبل الأربعين وأشار الشبراملسي بوجود هذا الخلاف عند الشافعية بقوله: " إنهم اختلفوا في جواز التسبب في إلقاء النطفة والعلقة بعد استقرارها في الرحم" وقال: " إن أبا اسحاق المروزي يُجَوِّزُ إلقاء النطفة والعلقة"، ونقل عن الغزالي أنه أورد في بحثه عن حكم العزل ما يدل على تحريمه وقال: " إنه الأوجه؛ لأنه بعد الاستقرار آيلة للتخلق"، ونقل الشبراملسي عن الغزالي أن الإجهاض قبل نفخ الروح لا يقال إنه خلاف الأولى، بل يحتمل الكراهة والتحريم أي الكراهة التنزيهية والتحريمية، ويقوى التحريم كلما قرب من زمن النفخ. ثم نقل ما قاله الغزالي في " الإحياء" وعلق عليه بقوله: " والمرجح تحريمه بعد نفخ الروح فيه مطلقا، وجوازه قبله". ويرى الدكتور مدكور بعد هذا العرض للمذهب الشافعي أن من الشافعيه من يرى عدم حرمة الإجهاض قبل نفخ الروح أو قبل الربعين يوما من بدء الحمل، وأن بعضهم يرجح هذا الرأي. وقال: " وبهذا يتضح أن الشافعية يقتربون في مسلكهم الفقهي من مسلك الحنفية، كما يتضح أن المالكية لا يبعدون كثيرا من ذلك، خاصة بعد أن عرضنا ما استحسنه الإمام مالك". ثم انتقل الدكتور مدكور إلى موقف الحنابلة فأورد قول ابن قدامة الحنبلي وعلق عليه بقوله: " إن العلقة لا يجب فيها شيء وإن المضغة غير المخلقة لا يجب فيها شيء أيضا، فكان الإجهاض على هذا غير محظور عندهم في هذه الفترة". وفي المذهب الظاهري، كما جاء في كتاب " المحلى" لابن حزم، أن الإجهاض قبل نفخ الروح أو قبل مضي الأربعة الأشهر تلزم فيه الكفار والغرة والإجهاض بعد نفخ الروح ففيه القود أو الفداء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 426 والزيدية، كما جاء في كتاب " البحر الزخار"، يرون أنه " إذا جاز العزل جاز تغيير النطفة والعلقة والمضغة إذ لا حرمة لجماد"، ومعنى ذلك أن الإسقاط جائز بعلتين: الأولى أن الإسقاط قبل نفخ الروح لا حرمة فيه؛ لأن الجنين يكون في حكم الجماد، والثانية أنه جائز قياسا على العزل. وعند الشيعة الجعفرية والإباضية تحريم للإجهاض في أي طور. وبعد هذا العرض للمذاهب الإسلامية خرج الدكتور محمد سلام مدكور بقوله: " ومن هذا العرض لحكم الإجهاض يتبين أنه محرم اتفاقا بعد نفخ الروح إلا لعذر يقتضيه، وأما قبل ذلك من غير عذر فقد اختلفت وجهات النظر. ويتردد الرأي بين الإباحة والكراهة والتحريم ويمكن أن نستخلص أن في المسألة أربعه أقوال: 1- الإباحة مطلقا دون توقف على عذر، وهو ما نقلناه عن الزيدية وبعض الحنفية وبعض الشافعية، وما استخلصناه من قول المالكية والحنابلة. 2- الإباحة عند وجود عذر، والكراهة عند انعدام العذر، وهو رأي بعض من الحنفية ومن الشافعية. 3- الكراهة مطلقا، وهو رأي لبعض المالكية. 4- التحريم وهو المعتمد عند المالكية، والمتفق مع مذهب الظاهرية، وما يفيده كلام الشيعه الجعفرية وصريح قول الإباضية، ثم أورد الدكتور مدكور رأيه الشخصي " ونحن نميل بالنسبة إلى ما قبل الأربعين – مرحلة التخلق – إلى القول الثاني من الاباحة لعذر ومن الكراهة لغير عذر. وأما بعد ذلك وقبل نهاية الشهر الرابع فنتجه إلى التحريم، أما بعد الشهر الرابع فهو بالاتفاق حرام بكل صور التحريم إلا لضرورة، ويعجبنا قول الغزالي في جعله الخطر بالنسبة للإجهاض على درجات " الإجهاض جناية على موجود حاصل، فأول مراتب الوجود دفع النطفة في الرحم فتختلط بماء المرأة فإفسادها جناية، فإن صارت علقة أو مضغه فالجناية أفحش، فإن نفخت الروح واستقرت الخلقة زادت الجناية تفاحشا فيقوى التحريم كلما قرب من زمن النفخ؛ لأنه جريمة". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 427 وفي هذا الموضوع أبدى الدكتور إبراهيم حقي رأيه بأن الحياة تدب في الجنين منذ التلقيح، وتسير البويضة الملقحة بعد ذلك من حال إلى حال، فالقضاء عليها إذن قتل للنفس وقال: إن الإجهاض مهما كانت الوسائل المتبعه فيه قد يؤدي إلى أضرار خفية أو شديدة أو مؤقتة أو دائمة، فهو إذن غير جائز شرعا إلا إذا شَكَّلَ الحمل خطرًا على حياة الحامل وعندما يكون اللجوء إليه جائزًا من باب " الضرورات تبيح المحظورات" وشاركه في رأيه عن بدء الحياة عند الجنين الشيخ محمد الحسينى بهشتي ولكنه فرق بين الحياة في نظر العلم والروح في نظر الدين فهو يقول: " وربما يقال: إن إجهاض الجنين قتل في جميع الأحوال؛ لأن العلم الحديث بَيَّنَ لنا أن للجنين حياة من أول الأمر". ولكنه استدل على أن المقصود من الحياة التي يثبتها العلم الحديث للجنين شيء غير الروح التي يبين الشرع ولوجها في الجنين في الشهور الأخيرة وقال بناء على ذلك: " إن إجهاض الجنين قبل ولوج الروح الإنسانية فيه لا يكون قتلا للإنسان؛ لأن الجنين إنما يصير إنسانا في التبدل الأخير أي حينما تلج فيه الروح. وإن شئت أن تسمي الإجهاض قبل ولوج الروح قتلا فسمه قتل حيوان، ولا قتل إنسان بالفعل". وهنا أشار الدكتور الشيخ أحمد الشرباصي على أن الجنين عند الفقهاء له حياتان: (1) حياة مستكنة و (2) حياة ظاهرة ثم ذكر السيد محمد النابلي أن هذه الحياة عند الفقهاء لها أطوار بحسب ما جاء في حديث الأربعينات، وفي بعض هذه الأطوار لا يكون فيها للجنين روح حتى إن علماء الطب يفرقون بين أطوار الجنين في الفترة الأولى إذ لا يسميه البعض جنينا إلا بعد مائة وعشرين يوما من الحمل، وتساءل هل الجنين قبل المائة والعشرين يوما مخلوق حي وله الحياة المعروفة عندنا حتى يكون إسقاطة جناية؟ وهل الفقهاء جميعا متفقون على أنه لا يجوز إسقاط الجنين في هذه الفترة؟ ورد على ذلك الدكتور حسان حتحوت بأن الطب لا يستطيع أن يميز الآن بين الأطوار التي جاءت في القرآن الكريم وفي حديث الأربعينات، وإذا سقط الجنين حيا فالحياة المقصودة هنا ليست الحياة الميكروسكوبية وإنما هي الحياة الظاهرة مثل النفس والحركة ونبضة القلب، ولكن بداية الإنسان هي التحام الحيوان المنوي بالبويضة، ووافق على هذا الرأي إجمالا الدكتور عبد الرحيم عمران حين قال: إن المسألة فيما يتعلق بالجنين مسألة وجود الروح والجسد معا أي وجود الحياة الإنسانية أو عدمها، ولكنه استدرك فقال: إنه في الواضح من حديث الأربعينات أن الحياة الإنسانية لا تكون إلا بعد 120 يوما، ومسألة دخول الروح متى تكون، وما هي الروح مسألة غيبية لا يمكن معرفتها بالمجهر، وإنما نؤمن بها إيمانا كليا كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله. وكما آمن بها الفقهاء فأباح بعضهم الإجهاض قبل 120 يوما. وقال: إن القتل هو إزهاق الروح وليس القضاء على حياة بيولوجية وإلا كان بتر عضو في عملية جراحية يعد قتلا أيضا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 428 وقسم الشيخ مصطفى الزرقا الأشهر الأربعة الأولى إلى مرحلتين، وقال: " فإما أن يكون الجنين قد تخلق وظهر بعض الأعضاء فيه أو لم يظهر فيه عضو بعد فإذا لم يكن قد تخلق فيه بعض الأعضاء فمن الفقهاء من يرى إسقاطه كمنع الحمل من حيث الجواز بإذن الزوج؛ لأنه لم يكتسب شيئا من الصفات الإنسانية بعد، والرأي الفقهى الراجح أن إسقاطه بغير عذر مكروه، ومعنى المكروه أنه محظور دينا تحت رتبة الحرام ويوجب احتمال الإثم " الخطيئة"؛ لأنه جزء متهيئ لأن يصير إنسانا غير أنه لا يترتب على إسقاطه تبعات جزائية أو مدنية سوى المسؤولية الدينية إلا إذا كان الإسقاط دون إذن الزوج أو بعدوان من شخص أجنبي فإنه يستتبع تبعة جزائية بالتعزير، والتقرير عقوبة غير محدودة بل متروكة لرأي الحاكم يلاحظ فيها إحالة الشخص وقدر الكفاية لقمع أمثاله". ولخص الدكتور عبد الرحيم عمران بعد ذلك نظرة الإسلام إلى الإجهاض على اعتبار أن هذه النظرة مرنة متسامحة – كما يتبين من القرآن الكريم والسنة – وإجماع العلماء. القرآن الكريم: لا يوجد في القرآن الكريم نص صريح يسمح بالإجهاض أو ينهى عنه غير أن ثمة آيات تفسر مراحل نمو الجنين استشهد بها بعض الصحابة في إثبات أن العزل ليس وأدا وهما الآيتان 13-14 من سورة المؤمنون عن أطوار تخلق الجنين. وهي الأطوار التي وصفها علي رضي الله عنه بقوله: " لا تكون موءودة حتى تمر على التارات السبع. تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاما، ثم تكون خلقا آخر". وقد يستفاد من هذه التحديدات أن الإجهاض إذا حدث قبل نفخ الروح لا يكون قتلا أو وأدا، وإنما يكون القتل أو الوأد عندما يصير الجنين خلقا آخر. السنة: في السنة حديث الأربعينات الذي يستفاد منه أن المدة التي تسبق نفخ الروح تقدر بأربعه أشهر أو 120 يوما، على اعتبار مراحل نمو الجنين الثلاث قبل نفخ الروح والحديث النبوي هذا هو " أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 429 إجماع العلماء: يوجد إجماع بين علماء الفقه الإسلامي على أنه إذا تعرضت حياة الأم للخطر بسبب الحمل جاز اللجوء إلى الإجهاض العمد بغض النظر عن المرحلة التي يكون فيها الحمل بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى زيادة الخطر على حياتها، وهذا معناه أنه إذا كان الخطر محققا وجرى الخيار بين إنقاذ حياة الأم أو إنقاذ حياة الجنين فإن علماء الفقه الإسلامي يختارون إنقاذ حياة الأم، وقد ورد هذا الحكم في الفتوى الصادرة عن الشيخ محمود شلتوت الذي قال: إنه إذا كان استمرار الحمل يعرض حياة الأم للخطر، وإذا كانت الطريقة الوحيدة لإنقاذ حياتها هي الإجهاض العمد فإنه يصبح من الملزم اللجوء إلى الإجهاض العمد؛ وذلك لأن حياة الأم مستقلة وهي أصل الجنين وركن الأسرة، وليس من المنطق التضحية بحياتها من أجل إنقاذ الجنين الذي يعتمد في حياته عليها". وكان الشيخ عبد المجيد سليم أصدر سنة 1937 فتوى بهذا المعنى حين ذكر أن الإجهاض يسمح به للحفاظ على صحة الأم خلال أشهر الحمل الأولى، إذا كانت أعراض صحية تتطلب الإجهاض العمد، وإن لم تكن أعراض فالحكم يختلف باختلاف مذاهب الفقه الإسلامي، كما عرضها الدكتور محمد سلام مدكور في هذا الفصل وفي كتاب له عن تنظيم الأسرة من وجهة النظر الإسلامي (1) . وقد ذكر سماحة الشيخ عبد الله القلقيلي المفتي العام للأردن في فتواه عام 1964 بأن إسقاط الحمل جائز قبل أن يتخلق الجنين أي قبل انقضاء مائة وعشرين يوما على بدء الحمل. وأجمل الدكتور عبد الرحيم عمران موقف الإسلام من الإجهاض بقوله: " إن الإجهاض بعد الشهر الرابع لا خلاف في تحريمه إلا إنقاذا لحياة الأم. وأما قبل ذلك فالمسألة خلافية، ذا أن من علماء المسلمين من يرى أن الإجهاض خلال الأربعة الأشهر الأولى حلال، وبعضهم يراه مكروها، والبعض الآخر يراه حرامًا. ثم دعا إلى عمل كل ما في الوسع إلى تجنب الإجهاض وذلك باستعمال وسائل منع الحمل التي لا خلاف فيها".   (1) راجع دكتور محمد سلام مدكور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 430 تعريف الإجهاض: نستلخص من مناقشات مؤتمر الرباط أن الإجهاض أو الإسقاط هو خروج متحصل الحمل في أي وقت من مدة الحمل، وقبل تكامل الأشهر الرحمية دون أن يعيش، وهذا يتفق مع التعبير الطبي، بأنه خروج الجنين الذي لا يستطيع أن يعيش خارج الرحم، ومن أجل تعميم تعريف واحد بين الأمم، لجأ الأخصائيون حديثا إلى تعريف الإجهاض بأنه خروج متحصل الحمل قبل الأسبوع العشرين، ومن الإجهاض ما هو عفوي أو تلقائي، ومنه ما هو عمد أو متعمد، وقد تركزت بحوث المؤتمر على الإجهاض العمد، كذلك يلزم التنويه بأن الفقه الإسلامي عامة يستعمل لفظ الإسقاط أكثر من لفظ الإجهاض، إلا علماء الشافعية، فيكثر استعمالهم للفظ الإجهاض، هذا ويقسم الفقه الإسلامي الإجهاض إلى طورين أساسيين الأول طور ما قبل نفخ الروح وقد يسمى كذلك مرحلة التخلق والتسوية، والثاني طور ما بعد نفخ الروح التي تبدأ بعد أربعه أشهر من الحمل أي 120 يوما استنادا إلى حديث الأربعينات. وناقش المؤتمر مسألة الروح والحياة، فقال بعض الأعضاء: إنه يجب التفريق بين الحياة وبين الروح، فالحياة البيولوجية موجودة في الجنين منذ اللحظة الأولى، بل هي موجودة في الحيوان المنوي وفي البويضة قبل التلقيح، إذا فالروح شيء والحياة البيولوجية شيء آخر ومن الممكن أن يحيط علماء الطب بخواص الحياة البيولوجية ويرون آثارها تحت المجهر أو بالعين المجردة، أما الروح فهي فوق علم البشر، إذ خص الله نفسه بمعرفة كنهها إذ يقول تبارك وتعالى (وَيَسْأَلُوَنَك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) . هذا وقد ركز الأعضاء الكثير من نقاشهم في رأيين؛ أولهما اعتبار الجنين قبل نفخ الروح جماد أي لا حياة فيه، رغم أن الحياة البيولوجية موجودة فيه قبل ذلك، والرأي الثاني هو اعتبارهم أن علامة نفخ الروح هي إحساس الأم بحركة الجنين وذلك بمصادفة أن يكون الإحساس بالحركة في أغلب الأحيان أواخر الشهر الرابع، أي وقت نفخ الروح، وقد أثبت الطب الحديث أن الحركة تدب في الجنين في الأسابيع الأولى وإن لم تحس بها الأم. وانطلاقا من هذا برز رأيان رئيسيان أولهما يحرم الإجهاض في جميع مراحل الجنين استنادا إلى أن الحياة موجودة في الجنين منذ بدايته، وثانيهما الالتزام القائم على الإيمان الغيبي بآية التخلق وحديث الأربعينات وبالتالي قبول ما ذهب إليه الفقهاء في إباحة الإجهاض في مرحلة ما قبل نفخ الروح. ويتصل بهذا ما ذهب إليه الشيخ محمد الحسيني البهشتي من أنه رغم وجود الحياة البيولوجية عند الجنين منذ ابتدائه " وقد أسماها بالحياة الحيوانية" فإنه لا زال غير إنسان إلى أن تنفخ فيه الروح الإنسانية " وقد أسماها روح العقل" وهذا هو ما فسر به معني " خلقا آخر". ولا تتم إنسانية الإنسان حسب رأيه إلا أيام الأشهر الأخيرة من حياة الجنين داخل الرحم، وانطلاقا من هذا فقد اعتبر أن إجهاض الجنين بعد صيرورته إنسانا ذا روح في الرحم محرم، لكن إجهاضه قبل ذلك ليس محرما وإنما هو عدوان على الأب والأم أو أحدهما إذا لم يكن برضاهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 431 وهناك نقطة أخرى مهمة أثيرت في المؤتمر وهي إباحة الإجهاض صيانة لصحة الأم أو لتشوه الجنين نتيجة لأمراض وراثية أو نتيجة لتناول الحامل عقاقير طبية أو تعرضها لبعض الأمراض أثناء الحمل. وقد كان النقاش حول هذه النقطة مشحونا بالانفعالات وانتهى المؤتمر إلى رفض إباحة الإجهاض " صيانة لصحة الأم" وقصر إباحته " صيانة لحياتها" ثم قبوله " يأسا من حياة الجنين" كما هو مثبت في التقرير النهائي للمؤتمر" (1) . الفصل الرابع الإسلام والتعقيم الإسلام والتعقيم مقدمة ناقش المؤتمر هذا الموضوع المهم الذي يتصل اتصالا وثيقا بتنظيم الأسرة وهو يهم المسلمين عامة وخاصة لزيادة الاهتمام به وممارسته في العالم كله، ففي حين أن الشائع هو أن التعقيم محرم في الإسلام فإن الملايين من المسلمين والمسلمات قد أجريت لهم عمليات تعقيم، ولذا كان لابد للمؤتمرين من مناقشة الجوانب التالية لموضوع التعقيم: 1- الفرق بين التعقيم والخصاء. 2- التعقيم والقدرة الجنسية 3- دواعي التعقيم. 4- حكم الشرع في التعقيم. الإسلام والتعقيم خلاصة بحوث ومناقشات مؤتمر الرباط   (1) الإسلام وتنظيم الأسرة ج2 ص 519 - 520. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 432 التعقيم والخصاء: عرف الشيخ خلف السيد علي والشيخ إبرهيم الدسوقي مرعي التعقيم بأنه اللجوء إلى معالجة أحد الزوجين أو كليهما معا علاجا يمنع الإنجاب نهائيا، وقد وافق على مجمل هذا التعريف غالبية أعضاء المؤتمر، أما الخصاء فهو خلاف التعقيم إذ يعني القضاء على قدرة الرجل الجنسية ومن ثم قدرته على الإنجاب. فالخصاء في الماضي تعبير يعود للرجل فقط بينما التعقيم يشمل الرجل والمرأة (ولقد نبه الكثير من المؤتمرين إلى الخلط الشائع في الأذهان بين التعقيم والخصاء) . التعقيم وحكمه: وفي هذا المضمار تحدث الدكتور محمد سلام مدكور فقسم التعقيم إلى مؤقت ودائم. فالتعقيم المؤقت لايمنعه الإسلام وهو وسيلة من وسائل تنظيم الأسرة المشروعة في الفقه الإسلامي، ومعناه إيقاف إنجاب الأولاد مؤقتا دون القضاء على القدرة على الإنجاب. ومن الوسائل وسيلة العزل التي وردت الأحاديث النبوية بجوازها ومن ذلك قول البيجرمي الفقيه الشافعي " يحرم استعمال ما يقطع الحمل من أصله، أما ما يبطئ الحمل ويؤخره دون أن يقطعه من أصله فلا يحرم بل إن كان لعذر كتربية ولد لم يكره أيضا" ويقرب من ذلك أو مثله ما جاء في كتب الحنفية والمالكية والحنابلة والزيدية والشيعة الجعرفية والأباضية. وقد فرق الشبراملسي الشافعي بين ما يمنع الحمل بالكلية وما يمنعه مؤقتا وقال بتحريم الأول واعتبر الثاني شبيها بالعزل في الإباحة. وصرح الرملي الشافعي في هذا المقام نقلا عن الزركشي بأن " استعمال ما يمنع الحمل قبل إنزال المني في حالة الجماع مثلا لا مانع منه" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 433 وعلق الدكتور محمد سلام مدكور على ذلك بقوله " ولا يعدو شيء من ذلك أن يكون تعقيما مؤقتا، فالحكم لا يختلف في هذا عنه فيما إذا وصل الطب إلى إجراء عمل يمنع الحمل مؤقتا كعقدة القناة الناقلة للبويضة وللحيوانات المنوية أو القناة الرحمية، بحيث يمكن إعادة الحال إلى ما كانت عليه عند الرغبة في الإنجاب". وأما التعقيم الدائم الذي يمنع أصل الصلاحية للإنجاب من غير وجود ضرورة تتطلبه فيقول عنه الدكتور مدكور " إننا لا نعلم فيه نصا من كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه سلم، بل إن بعض النصوص توحي بمخالفة ذلك لمقاصد الشريعة الإسلامية من الزواج ولا يتفق مع الطبيعة البشرية التي أوجدها الله في كل من الذكر والأنثى من حب الأبوة والأمومة، وفضلا عن ذلك فإن الفقهاء السابقين نصوا على منعه وتحريمه". وعرف الدكتور مدكور التعقيم الدائم بأنه " معالجة الزوجين أو أحدهما معالجة تمنع الإنجاب نهائيا وتقطع الأمل في وقوعه" وقال إذا وجدنا مايدعو إليه من مرض نفسي أو عقلي أو جنسي وثبت طبيا أنه ينتقل بالوراثة القريبة أو البعيدة وأنه لا يزول بالعلاج مطلقا فإنه عندئذ يجوز التعقيم بل إنه يستطاع القول بأن قواعد الشريعة العامة تقتضي في مثل هذه الحالة أن يكون مطلوبا لا محظورا، منعا من وجود ذرية مشوهة ضعيفة تحيا حياة مليئة بالعقد والآلام النفسية وهذا ما أفتى به من قبل الشيخ محمود شتلوت إذ يقول " يباح منع الحمل دائما إذا كان بالزوجين أو أحدهما داء من شأنه أن ينتقل في الذرية والأحفاد، وإذا كان هذا ما يقلل النسل جزئيا ويحرم بعض الأفراد من الذرية فإن فيه درء مفسدة ودفع ضرر أكبر ألا هو إنتاج ذرية مصابة بأمراض خبيثة مستعصية، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح". ويرى الدكتور مدكور إباحة التعقيم المؤقت لأنه لا يعدو أن يكون نوعا من وسائل تنظيم النسل المشروعة، ويرى أيضا إباحة التعقيم الدائم في حالات الضرورة الماسة لتحقيق مصلحة ودرء مفسدة فإذا لم يكن التعقيم لحالة ضرورة ماسة فهو محظور ويتنافى مع مقاصد الشرعية وقواعدها ويتعارض مع مصلحة الأفراد أنفسهم. وأشار بصورة خاصة إلى أن التعقيم الدائم بعد إنجاب عدد من الأولاد يتنافى مع أغراض الشارع ويتنافى مع مصلحة الأبوين نظرا إلى أن من المحتمل أن يموت بعض الأولاد أو جميعهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 434 دواعي التعقيم: قدم الدكتور عبد الرحيم عمران والدكتورة خيرية عمران معلومات مفصلة عن استعمال التعقيم الطوعي في بلاد مختلفة كطريقة لتنظيم الأسرة والتخفيف من القطاع السكاني، من ذلك الهند فقد تم تعقيم ما يزيد على عشرة ملايين من الذكور والإناث، ومنها باكستان وتم فيها تعقيم ما يربو على المليون، ومنها أيضا الولايات المتحدة وإنكلترا واليابان وغيرها، ثم ذكرا أن العوامل الباعثة على التعقيم متنوعة، أهمها العوامل الطبية كوجود مرض وراثي أو كتعرض صحة المرأة أو حياتها للخطر الشديد إذا ما حملت مرات أخرى أو اختيار الزوجين التعقيم وسيلة لضبط التناسل بعد أن يكونا قد أنجبا العدد المرغوب فيه من الأولاد. ثم ذكرا أن كثيرا من التردد في السماح بالتعقيم في البلاد الإسلامية يعود إلى الخلط بين التعقيم والخصاء، فإن الخصاء محرم في الإسلام والتعقيم من آخر يختلف تمام الاختلاف لأنه لا ينطوي في حالة النساء والرجال معا على استئصال أية غدة من الجهاز التناسلي كما هو الحال في الخصاء، والتعقيم نوعان: مؤقت ودائم، والتعقيم المؤقت ما هو إلا نوع من العزل الذي لا يثير النفس والأعصاب، أما التعقيم الدائم الذي أشار إليه الدكتور مدكور في بحثه فهو في رأى الدكتور عبد الرحيم والدكتورة خيرية شبيه بالعزل أو باستعمال وسائل منع الحمل التي سمح بها الإسلام، وقد سمح به كثير من العلماء الأجلاء ومن ذلك: 1- الشيخ أحمد إبراهيم وكيل كلية الحقوق في القاهرة وأستاذ الشريعة الإسلامية بها إذ كتب منذ أكثر من ربع قرن يقول: " لا أرى مانعا شرعيا من اتخاذ طريقة التعقيم أو اتخاذ المنع المؤقت تبعا لما تقضي به المصلحة بعد أن يتثبت كل التثبت من ضرورة ذلك". 2- كثير من علماء الشيعة في العراق ولبنان يسمحون بالتعقيم الدائم والمؤقت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 435 3- في كتاب (فقة السنة) للشيخ سيد سابق ما يدل على وجود خلاف على التعقيم الدائم والإجهاض شبيه بالخلاف على العزل، فقد ورد في هذه الموسوعة الفقهية قول مؤلفها: " معالجة المرأة لإسقاط النطفة قبل نفخ الروح يتفرع جوازه وعدمه إلى الخلاف في العزل، فمن أجازه أجاز المعالجة ومن حرمه حرم هذا بالأولى، ويحق للمراة تعاطي ما يقطع الحبل من أصله". ثم قال الدكتور عمران أنه يوجد إجماع على ضرورة منع الحمل بتاتا في حالة داء خطير يمكن أن ينتقل إلى الذرية بل ان البعض يذهب إلى حق ولى الأمر في التفريق بين الزوجين إذا امتنعا عن استعمال وسائل منع الحمل (وأنجعها هو التعقيم الدائم) لأحد الزوجين. ثم قال إن الأوضاع السكانية في العالم الإسلامي تدعو إلى اللجوء إلى التعقيم المؤقت والدائم، وأهم هذه الأوضاع أن ثلث النساء المتزوجات يلدن خمس مرات أو أكثر وأن تعقيم تلك النساء ضروري من الوجهة الطبية لأنهن يتعرضن لأخطار كبيرة في حالة الحمل مرة أخرى. ومن آراء الأطباء والمختصين بصورة عامة في المؤتمر تعليق الدكتور محمد صادق فودة عن التعقيم في باكستان والهند فقال " لقد تم إجراء حوالي عشرة ملايين عملية تعقيم في الهند وباكستان، ونحن نعلم أن الغالبية العظمى من سكان باكستان مسلمون: هل نحكم بأن هؤلاء كفروا؟ لا أظن ذلك." وكان رجال الدين من أعضاء المؤتمر منقسمين إلى فريق يحرم التعقيم المؤقت والدائم لأن التعقيم والإجهاض معناهما القتل كما قال الدكتور محمد مكي الناصري والشيخ أحمد سحنون وفريق أباح التعقيم المؤقت قياسا على العزل وحرم التعقيم الدائم وفريق ثالث أباح التعقيم إطلاقا. ويذكر في هذه المناسبة بصورة خاصة ما قاله عضوا المؤتمر الشيخان خلف السيد علي وإبراهيم الدسوقي مرعي عن التعقيم وهو أن التعقيم " هو اللجوء إلى معالجة أحد الزوجيين أو كليهما معا علاجا يمنع الإنجاب نهائيا – فإنه أمر ممنوع ويحرمه الشرع إلا إذا وجد مايدعو إليه: كأن يكون بأحد الزوجين مرض نفسي أو عقلي أو جنسي، وثبت طبيا أنه ينتقل بالوراثة لا محالة. وأنه لا يزول بالعلاج لا محالة. فإن قواعد الشريعة تقضي في مثل هذه الحالة بأن يكون التعقيم مطلوبا منعا من إنجاب ذرية مريضة مشوهة تعاني الآلام محكوم عليها بالموت الأبدي بل أجاز الفقهاء إجابة الزوجة إلى طلب الفرقة بسبب وجود عاهة في الزوج كالجذام والبرص بعلة أن ذلك يتسبب عنه انتقال المرض إلى الذرية، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح". وقد أصدرت لجنة الفتوى في الأزهر " أن استعمال دواء لمنع الحمل أبدا حرام، إلا في حالات الضرورة بأن يكون بالزوجين أو بأحدهما داء من شأنه أن ينتقل إلى الذرية والأحفاد" (1) .   (1) راجع فتوى لجنة الفتوى بالأزهر الشريف وملحق الكتاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 436 وتحدث الشيخ محمد شمس الدين عن حكم التعقيم بالعملية الجراحية وقال: " فهل يجوز للرجل (أو للمرأة برضا زوجها) أن يجرى أو تجرى عملية جراحية تقضي على إمكانية الحبل عند المرأة، أو تقضي على إمكانية الأحبال عند الرجل، مع بقاء القدرة على الممارسة الجنسية (الوطء) عند الرجل والمرأة على حالها؟ أو أن ذلك محرم شرعًا؟ ". وأردف قائلا: " لدى مراجعة الأدلة الخاصة بهذا الموضوع لا نجد ما يمنع الزوج أو الزوجة من القيام بذلك. لأن حفظ إمكانية الاستيلاد ليس من الواجبات في الشريعة، وليس من حقوق الزوجة. وعلى هذا فيجوز شرعا إجراء عملية جراحية تقضي على إمكانية الحمل أو الإحمال مطلقا، سواء تمكن بعد ذلك من رفع المانع أو لم يتمكن". وقد أوضح الشيخ شمس الدين أن رأيه هذا هو حصيلة اجتهاد شخصي في مسألة التعقيم، وليس رأي المذهب الشيعي الإمامي. وذلك لأن مسألة التعقيم باعتبارها مطروحة حديثا، وباعتبار فتح باب الاجتهاد في المذهب، لم يتكون بعد موقف مذهبي حول هذه المسألة، ولا يمكن أن يتكون حولها رأي مذهبي إلا بعد أن يتناولها عدد كبير من المجتهدين، ويحدد كل واحد منهم رأيه منهم. وهذا مالم يحدث حتى الآن بالنسبة إلى مسألة التعقيم، لأنها طرحت منذ عقد قريب. ولذلك فقد طلب أن لا ينسب أحد رأيه الشخصي هذا إلى المذهب الشيعي الإمامي. وذكر الدكتور أحمد الشرباصي أن الفقيه الشيخ أحمد إبراهيم أجاز التعقيم في حالة وجود الأمراض المزمنة المعدية عند الوالدين ذلك في قوله: " أليس كل من الامتناع عن الزواج والعزل بعد المعاشرة والعلاج قبل وجود الأثر سواء في النتيجة؟ ولم يرد نص يعول عليه في تحريم شيء منها؟ وعلى هذا لا أرى في التعقيم أي مانع ديني لأنه عملية يراد بها دفع الوالد بمنع علته الموجبة لوجوده بحكم العادة، وليس في هذا جناية على شيء وجد ولا على نفس حية قد تهيأت للخروج إلى عالم الوجود، ولا على ما هو مهيأ لأن يكون نفسًا حية، لذلك الأمر واضح جدًا، لا ينبغي التوقف في إباحته وجوازه". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 437 ولكن الشيخ أحمد إبراهيم تحفظ وقال: " إنه ينبغي عدم الإقدام على التعقيم إلا بعد اليأس من أي وسيلة علاجية للقضاء على هذا المرض (المزمن المعدي) أو لمنع انتقاله إلى الذرية". ودعا الدكتور الشرباصي إلى بحث هذا الموضوع من جديد نظر لقيام أوضاع جديدة منذ سنة 1939 حينما قال الشيخ أحمد إبراهيم رأيه ذلك. ويرى الشيخ عبد الرحمن الخير أن التعقيم نوعان (1) تعقيم يمنع القدرة عن الممارسة الجنسية وعن اللذة و (2) تعقيم لا يمنع ذلك كله، وقال إن التعقيم من النوع الثاني يشبه العزل فهو غير محرم، وإنما المحرم هو النوع الأول الشبيه بالخصاء. وتحدث الشيخ سيد محمد الحسيني بهشتي عن التعقيم فقال: " أما التعقيم أي تعقيم الأب أو الأم بالأسلوب الطبي الحديث الذي لايضر بالباه ولا يؤدي إلى آثار مشقة في الوجه أو عقد نفسانية أو أضرار أخرى في النفس. فلم نجد بعد الفحص ما يدل على حرمتها إذا كان يرضي الزوجين، وفرق بين الاختصاء المحرم والتعقيم لا يضر بالباه ولا ينتهى إلى شيء من الأضرار الجسمية والروحية والاجتماعية التي تنجم عن الاختصاء"، وقال إنه " إذا لم يقم الدليل على الحرمة، فيبقى الأمر على أصل الإباحة، إذ كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه". وعلق الدكتور سليمان حزين على الخلاف بين الفقهاء المجتمعين حول التعقيم فقال: " لا حظنا أن بعض فقهاء المسلمين يبيح التعقيم، وهناك شيء من الاختلاف بين باقي الأعضاء فبعضهم يبيح التعقيم المؤقت (الذي يمكن إزالته) . والعلم الآن هو في سبيل حل مشكلة إزالته. ومن الخير أن يعرف رأى المسلمين واضحا فيما إذا كان التعقيم المؤقت مقبولا أو لا. قد يكون حكم التعقيم المؤقت غير مختلف كثيرا عن وسائل منع الحمل. أما التعقيم الدائم فيرى فيه البعض استهانة بإنسانية الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة، وتعرضا لمشيئة الخالق الذي خلقنا لنكون وسيلة لاستمرار الحياة بالإنجاب. وأرجو أن يشتمل التقرير (تقرير المؤتمر) على جميع هذه النواحي دون أن يفضل إحداها على الأخرى، فقد يكون من المفيد أن لاينتهي مثل هذا المؤتمر إلى رأي قاطع في مثل هذه المسألة، وإنما يتركها لاجتهاد المسلمين فيما بعد في ضوء التقدم العلمي ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 438 الإسلام والتعقيم تحليل وتعليق: لقد أصبح واضحا أن الاهتمام بالتعقيم في العالم كله عامة وفي العالم الإسلامي له ما يبرره وذلك بالنظر إلى تفاقم المشكلة السكانية في كثير من البلاد الإسلامية من ناحية، وبالنظر إلى اختيار الكثير من الأفراد لهذه الطريقة لضبط النسل بوصفهما أنجع وسيلة مأمونة وسليمة خصوصا إذا اكتفى الوالدان بما أنجبا من أولاد وهما في سن مبكرة. وقد اتضح جليا من مناقشات المؤتمر وأبحاثهم أن التعقيم ليس خصاء وأن الحكم في منع التعقيم ليس مطلقا كما كان شائعا عند عامة الناس. وأجمع المؤتمر على أن التعقيم المؤقت مباح قياسا على العزل وأن التعقيم الدائم مباح أيضا لمبررات طبية. أما التعقيم الدائم بقصد تنظيم النسل فقد اختلفت فيه آراء المؤتمرين بين محلل ومحرم، وذهبت الأغلبية من أهل الفقه إلى التحريم معتمدة على رأي مجمع البحوث الإسلامية (1) ، وهنا برز رأي شخصي لعالم ديني بارز وهو الشيخ محمد مهدي شمس الدين أجاز التعقيم الدائم بناء على أنه ليس هناك نص ديني صريح وقاطع يحرمه، ومعتمدا أيضا على أن حفظ إمكانية الإنجاب ليس من الواجبات في الشريعة. وبالنظر إلى اختلاف آراء الفقهاء حول هذا الموضوع الحيوي فقد طلب الدكتور الشيخ أحمد الشرباصي بضرورة بحث الموضوع من جديد نظرا لقيام أوضاع جديدة منذ أصدر الشيخ أحمد إبراهيم فتواه عام 1936، " وهو وقت مبكر جدا إذ لم تكن الدعوة إلى تنظيم الأسرة قد أخذت الشكل الحاضر". كما أيد مضمون هذا الرأي الدكتور سليمان حزين إذ طلب أن يترك الحكم في التعقيم الدائم مفتوحا لاجتهاد المسلمين فيما بعد في ضوء التقدم العلمي.   (1) راجع ملاحق الكتاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 439 الفصل الخامس الملاحق التقرير النهائي الذي أقره المؤتمر فتاوى بعض علماء المسلمين من مقررات وتوصيات مجمع البحوث الإسلامية بيان حول السكان من رؤساء بعض الدول والحكومات التقرير النهائي الذي أقره المؤتمر أكد المؤتمر أن الإسلام وضع الأحكام الكفيلة بمواجهة جميع التغيرات الاجتماعية التي تتعرض لها الأسرة في المجتمع الحديث. ونبه المؤتمر إلى ضرورة وضع دراسات علمية عن الأسرة، وإلى ضرورة معرفة الناس حكم الإسلام في ما يجد من أحوال وأحداث. ويرى المؤتمر أن الإسلام قد أعطى المرأة من الحقوق ما يجب لها، وما لم يعطها غيره، وأن عمل المرأة في المجتمع أمر مشروع إذا احتاجت إليه أو احتاج إليه المجتمع المسلم، على أن تكون المرأة في عملها محافظة على دينها وعفتها وحشمتها، وألا يتعارض ذلك مع رسالتها الأساسية كزوجة وأم. ويستنكر المؤتمر أن تستغل أنوثة المرأة في أي مجال من مجالات عملها. وينبه المؤتمر إلى أن يكون زي المرأة محتشمًا حسب حكم الإسلام وينبه الرجل إلى ضرورة قيامه بما يتطلبه منه الإسلام في رعاية أولاده، وأن يلتزم بحكم الإسلام في سلوكه وأخلاقه. وأكد المؤتمرون أنه بينما أباح الإسلام تعدد الزوجات، وضع القيود الكفيلة بعدم سوء استغلال مشروعيته والعبث به. كما أكد المؤتمرون أن أمر الأسرة يهم الوالدين والمجتمع معًا؛ لأن الأسرة لبنة المجتمع الأولى. اتفقت الآراء على ما يلي:- 1- إن الإسلام قواعد ومبادئ وأسسًا ثابتة لا تقبل التغير ولا التحوير؛ لأنها هي ركائز إصلاح الحياة البشرية والطريق المستقيم الذي ارتضاه خالق الخلق والعليم بما يصلحهم وما يفسدهم: كما أن فيه أحكامًا عامة ثابتة للحالات العادية، وأحكامًا خاصة لحالات الضرورة والظروف الاستثنائية. 2- إن نظر الإسلام إلى الوسائل غير نظره إلى الغايات، فالوسائل تقبل التغيير والتطور بحسب الأحوال والأزمان. 3- إن الإسلام نظام شامل لإصلاح الحياة العقلية والروحية والقانونية والاجتماعية يسود جميع شئون الحياة للفرد والجماعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 440 4- إن الإسلام فتح باب الاجتهاد للقادرين عليه استجابة للحاجات المتجددة بطريق القياس والاستحسان ومراعاة المصالح المرسلة والعرف وغيرها في نطاق الكتاب والسنة. وهو كفيل بأن يهيئ الحلول الإسلامية التي تتطلبها جميع قضايا المجتمع على اختلافها، خاصة وأن أحكام المعاملات معللة ومرتبطة بمصالح العباد، والحكم فيها يدور مع علته ثبوتًا وانتفاء، وبذلك تسير أحكام الوسائل في طريق الحفاظ على الغايات. 5- إن الأساس الأول لبناء الحياة الصالحة في نظر الإسلام هو العقيدة القائمة على الإيمان بوحدانية الله وتنزيهه، وأن المجتمع الإسلامي ينبني على مبادئ سلوكية وأخلاقية مقررة في الكتاب والسنة، منها: الإخوة والمودة بين المسلمين، والتكافل الاجتماعي والاقتصادي بينهم. وإقامة العدل، وسيادة قانون الشريعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمجيد العمل الصالح الذي يعود بالنفع على الفرد والجماعة، وحب الخير للبشرية جمعاء، والمسلمون مكلفون بالعمل على تحقيق أكبر قدر من التنمية الاقتصادية والاجتماعية، باكتشاف طاقات الكون وكنوزه، واستخدام هذه الكنوز في تحسين حياة المسلمين، ومن الوسائل الأساسية لتحقيق ذلك: نشر التعليم مع التوعية والتربية الإسلامية. واعتبار الإنفاق في هذا السبيل استثمارًا ضروريًّا للتنمية في العالم الإسلامي كله. وإن أي مسعى يبذل على أي صعيد في سبيل الخروج من حالة التخلف التي يعاني منها العالم الإسلامي يجب أن يكون في إطار الحفاظ على الشخصية الإسلامية الأصلية واتجه المؤتمر إلى أن تنظيم الأسرة هو قيام الزوجين بالتراضي بينهما وبدون إكراه باستخدام وسيلة مشروعة ومأمونة لتأجيل الحمل أو تعجيله بما يناسب ظروفها الصحية والاجتماعية والاقتصادية وذلك في نطاق المسئولية نحو أولادهما وأنفسهما وناقش المؤتمر مسألة التعقيم، فكان اتجاهه إلى الأخذ برأي مجمع البحوث الإسلامية (1) حول هذا الموضوع وهو أن استعمال الوسائل التي تؤدي إلى العقم لغير ضرورة شخصية، أمر لا تجوز ممارسته شرعًا للزوجين أو لغيرهما. وفي أمر الإجهاض الذي هو إفراغ الحمل من الرحم بقصد التخلص منه، استعرض المؤتمر آراء فقهاء المسلمين، فتبين أنه حرام بعد الشهر الرابع إلا لضرورة ملحة صيانة لحياة الأم. أما ما قبل ذلك فرغم وجود آراء فقهية متعددة فإن النظر الصحيح يتجه إلى منعه في أي دور من أدوار الحمل إلا للضرورة الشخصية القصوى صيانة لحياة الأم أو يأسًا من حياة الجنين، ولقد أحاط المؤتمر علمًا بما تزمعه جامعة الأزهر الشريف من إقامة المزيد من الدراسات العلمية في ميدان السكان في العالم الإسلامي بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة. وفي اضطلاع العلماء المسلمين بهذه المهمة، ملتزمين بشريعة الإسلام وأحكامها ما يعود بالنفع فعلًا على العالم الإسلامي.   (1) نص قرار مجمع البحوث الإسلامية مثبت في ملاحق الكتاب (لجنة التحرير) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 441 فتاوى بعض علماء المسلمين (حسب الترتيب الزمني لصدورها) الشيخ عبد المجيد سليم (مصر) 25/1/1937 لجنة الفتوى بالأزهر الشريف (مصر) 10/3/1953 الحاج علي بن محمد سعيد صالح (سنغافورة) 25/4/1955 الشيخ محمود شلتوت (مصر) 1959 المجلس الاستشاري للشؤون الدينية (تركيا) 16/12/1960 الشيخ حسن مأمون (مصر) 22/8/1964 الشيخ عبد الله القلقيلي (الأردن) 6/11/1964 لجنة فتوى بقطاع غزة (الأردن) 1964 الشيخ بهاء الدين محلاتي (إيران) 12/11/1964 الحاج عبد الجليل بن الحاج حسن (ماليزيا) 21/11/1965 الشيخ يوسف بن علي الزواوي (ماليزيا) بدون تاريخ رئيس المحكمة العليا للاستئناف (الجمهورية العربية اليمنية) 23/4/1968 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 442 فتوى الشيخ عبد المجيد سليم (1)) هذه صورة طبق الأصل من الفتوى الصادرة من حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية، بتاريخ 12 ذي القعدة سنة 1355 هـ الموافق 25 يناير سنة 1937 م، سجل 43. ونصها كالآتي: سأل سائل، قال: ما قول فضيلتكم في ما يأتي: رجل متزوج رزق بولد واحد، ويخشى إن هو رزق بأولاد كثيرين أن يقع في حرج من عدم قدرته على تربية الأولاد والعناية بهم، أو أن تسوء صحته، فتضعف أعصابه عن تحمل واجباتهم ومتاعبهم، أو أن تسوء صحة زوجته لكثرة ما تحمل وتضع دون أن يمضي بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها وتسترد قوتها: فهل له أو لزوجته أن تتخذ بعض الوسائل التي يشير بها الأطباء لتجنب كثرة النسل، بحيث تطول الفترة بين الحمل والحمل، فتستريح الأم، ولا يرهق الوالد صحيًّا وماديًّا واجتماعيًّا؟ الجواب اطلعنا على هذا السؤال، ونفيد بأن الذي يؤخذ من نصوص فقهاء الحنفية أنه يجوز أن تتخذ بعض الوسائل لمنع الحمل على الوجه المبين في السؤال، كإنزال الماء خارج محل المرأة، أو وضع المرأة شيئًا يسد فم رحمها لمنع وصول ماء الرجل إليه. وأصل المذهب أنه لا يجوز لرجل أن ينزل خارج الفرج إلا بإذن زوجته، كما لا يجوز للمرأة أن تسد فم رحمها إلا بإذن الزوج، ولكن المتأخرين أجازوا للرجل أن ينزل خارج محل المرأة بدون إذنها إن خاف من الولد لسوء فساد الزمان. قال صاحب المقنع: (فليعتبر مثله من الأعذار مسقطًا لإذنها) والظاهر من العبارة: (فليعتبر مثله من الأعذار) :كأن يكون الرجل في سفر بعيد، ويخاف على الولد. وقياسًا على ما قالوه، قال بعض المتأخرين: إنه يجوز للمرأة أن تسد فم رحمها بدون إذن الرجل (الزوج) إذا كان لها عذر في ذلك. وجملة القول في هذا أنه يجوز لكل من الزوجين برضاء الآخر أن يتخذ من الوسائل ما يمنع وصول الماء إلى الرحم منعًا للتوالد: ويجوز على رأي المتأخرين من فقهاء الحنفية لكل من الزوجين أن يتخذ من الوسائل ما يمنع وصول الماء إلى الرحم بدون رضا الآخر، إذا كان له عذر من الأعذار التي قدمناها أو مثلها.   (1) الدكتور أحمد الشرباصي، الدين وتنظيم الأسرة، دار مطابع الشعب، ص 183 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 443 بقي الكلام في أنه هل يجوز منع الحمل بإسقاط الماء من الرحم بعد استقراره فيه، وقبل نفخ الروح في الحمل؟ اختلف فقهاء الحنفية في ذلك، وظاهر كلامهم ترجيح القول بعدم جوازه إلا بعذر، كأن ينقطع لبن المرأة بعد ظهور الحمل وله ولد، وليس لأبيه ما يستأجر به الظئر (1) ، ويخاف هلاك الولد، أما بعد نفخ الروح في الحمل فلا يباح إسقاطه، وبما ذكرنا علم الجواب عن إسقاطه، وبما ذكرنا علم الجواب عن السؤال حيث كان الحال كما ذكر به، هذا ما ظهر لنا، والله سبحانه وتعالى أعلم. فتوى لجنة الفتوى بالأزهر الشريف (2) السؤال: رجل متزوج رزق بولد واحد، ويخشى إن هو رزق أولادًا كثيرين أن يقع في حرج من عدم قدرته على تربية الأولاد والعناية بهم، أو أن تسوء صحته بضعف أعصابه عن تحمل واجباتهم ومتاعبهم، أو أن تسوء صحة زوجته لكثرة ما تحمل وتضع دون أن يمضي بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها وتسترد قوتها، وتعوض ما فقدته من جسمها في تكوين حملها. فهل له أو لزوجته أن يتخذا بعض الوسائل التي يشير بها الأطباء لتجنب كثرة النسل، بحيث تطول الفترة بين الحمل والحمل، فتستريح الأم وتسترد صحتها ولا يرهق الوالد صحيًّا أو ماديًّا أو اجتماعيًّا؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد. فقد اطلعت اللجنة على هذا السؤال، وتفيد بأن استعمال دواء لمنع الحمل مؤقتًا لا يحرم على رأي عند الشافعية، وبه تفتي اللجنة، لما فيه من التيسير على الناس ودفع الحرج ولا سيما إذا خيف من كثرة الحمل أو ضعف المرأة من الحمل المتتابع بدون أن يكون بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها المرأة، وتسترد صحتها، والله تعالى يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (3) وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (4) وأما استعمال دواء لمنع الحمل أبدًا فهو حرام. وبهذا علم الجواب عن السؤال والله أعلم. 24 جمادى الثانية سنة 1372 هـ 10 مارس سنة 1955 م   (1) الظئر: هي المرضعة لولد غيرها (2) الدكتور أحمد الشرباصي، الدين وتنظيم الأسرة، دار مطابع الشعب، ص 191 (3) سورة البقرة 185 (4) سورة الحج 78 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 444 فتوى الشيخ محمود شلتوت (1) تحدث الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر السابق رحمه الله عن موضوع (النسل بين التحديد والتنظيم) في كتابه الفتاوى، وبعد أن قال: إن تحديد النسل بمعنى إصدار قانون عام يلزم الأمة كلها أن تقف بالنسل عند حد معين دون مراعاة للفروق بين الأفراد، شيء لا يمكن أن يقصده أحد ما، فضلًا عن أمة تريد لنفسها البقاء، وهو تفكير تأباه طبيعة الكون المستمرة في النمو، وتأباه حكمة الله تعالى، ذكر أنه يعتقد أن الذين يدعون إلى تحديد النسل لا يريدونه بهذا المعنى. ثم قال: أما تحديد النسل بمعنى تنظيمه بالنسبة للسيدات اللاتي يسرع إليهن الحمل، وبالنسبة لذوي الأمراض المتنقلة، وبالنسبة للأفراد القلائل الذين تضعف أعصابهم عن مواجهة المسئوليات الكثيرة، ولا يجدون من حكوماتهم، أو من الموسرين من أمتهم، ما يقويهم على احتمال هذه المسئوليات، إن تنظيم النسل بشيء من هذا - وهو تنظيم فردي، لا يتعدى مجاله – شأن علاجي، تدفع به أضرار محققة ويكون به النسل القوي الصالح. والتنظيم بهذا المعنى لا يجافي الطبيعة، ولا يأباه الوعي القومي، ولا تمنعه الشريعة إن لم تكن تطلبه وتحث عليه، فقد حدد القرآن مدة الرضاع بحولين كاملين، وحذر الرسول صلوات الله عليه أن يرضع الطفل من لبن الحامل، وهذا يقضي بإباحة العمل على وقف الحمل مدة الرضاع. وإذا كانت الشريعة تتطلب كثرة قوية لا هزيلة. فهي تعمل على صيانة النسل من الضعف والهزال، وتعمل على دفع الضرر الذي يلحق بالإنسان في حياته. ومن قواعدها: الضرر مدفوع بقدر الإمكان. ومن هنا قرر العلماء إباحة منع الحمل مؤقتًا بين الزوجين، أو دائمًا إن كان بهما أو بأحدهما داء من شأنه أن يتنقل بين الذرية والأحفاد. (فتنظيم النسل بهذه الأسباب الخاصة التي من شأنها ألا تعم الأمة، بل ولا تكون فيها إلا بنسبة ضئيلة جدًّا، تنظيم تبيحه الشريعة، أو تحتمه على حسب قوة الضرر وضعفه، ولا أظن أن أحدًا يخالف فيه، فهو إذن محل اتفاق، وإذن ففيم الاختلاف؟ وعلام تختلف؟ اللهم إلا إذا كان مجرد الاختلاف والجدل شهوة ورغبة، وليس هذا شأن الباحثين والحريصين على خير أمتهم، وأخيرًا فاسمعوا أيها السادة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [سورة البقرة 208] .   (1) الدكتور أحمد الشرباصي، الدين وتنظيم الأسرة، دار مطابع الشعب، ص 179 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 445 فتوى المجلس الاستشاري للشؤون الدينية في تركيا بشأن تحديد النسل (1) تسلمنا الاستعلام من المديرية العامة للشؤون الصحية (رقم: 10456، تاريخ 13/12/60) الذي يسأل عما إذا كانت تدابير تحديد النسل شرعية بالنسبة للدين الإسلامي أرسل إلينا هذا الاستعلام من قبل وزارة الصحة (رقم 35739، تاريخ 16/12/60) وقد بحث مجلسنا الموضوع. بالرغم من أن العزل الذي يمكن اعتباره وسيلة لتحديد النسل، شجبه بعض من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وتابعوهم من العلماء، وأجازه البعض الآخر كالإمام علي، وسعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وأبي أيوب الأنصاري، وجابر، وابن عباس، وعروة بن الزبير، وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود، وسار على هديهم من جاء بعدهم من العلماء. يمكن الذهاب في القول إلى أنه في حين أن موافقة المرأة هي شرط ضروري طبيعيًّا، إلا أنه إذا كانت التربية الملائمة للأولاد غير ممكنة بسبب الأوضاع الآتية، كأن تكون الدولة في حالة حرب أو اضطراب أو ظروف مشابهة، فإن هذا الشرط يبطل أيضًا. لقد قررنا أن نقدم هذه النتائج إلى الوزارة، جوابًا على الاستعلام المذكور أعلاه.   (1) فتوى بشأن تحديد النسل، المجلس الاستشاري للشؤون الدينية في تركيا، مرسوم كانون الأول 1960. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 446 فتوى الشيخ حسن مأمون (1) تحدث الإمام الأكبر الشيخ حسن مأمون شيخ الجامع الأزهر الشريف عن الإسلام وتنظيم الأسرة في جريدة " أخبار اليوم " الصادرة صباح 22 أغسطس سنة 1964 م. فقال: رأي الإسلام في هذا الموضوع واضح وصريح، ولعل ما أثار في نفسك – وما يثير في نفوس الكثيرين – هذا التساؤل، ما هو مأثور عن الإسلام من أنه يدعو إلى التناسل والتكاثر ويحفز من استطاع الباءة (2) من الشباب أن يتزوج، ويدعو إلى أن يختار الرجل لنفسه الزوجة الولود الودود إلى غير ذلك مما قد يرى معه البعض أن هذا الرأي هو الإسلام، ولا رأي غيره. على أنه يمكن لنا أن نتناول الموضوع من زاوية أخرى – وهي الزاوية الأساسية والرئيسية في بناء الحكم الشرعي غالبًا – تلك هي الحكمة التي يبنى عليها الحكم والمصلحة المشروعة التي يستهدف تحقيقها. وفي موضوعنا كانت الحكمة والمصلحة تقضيان بالدعوة إلى التناسل والتكاثر والحفز عليهما. ذلك أن الإسلام في بدء أمره كان غريبًا في مجتمع الشرك الجاهلي، وكان أتباعه قلة ضعفاء وسط الكثرة الباغية المستعلية بما استأثرت به من مال وجاه، وكانت المصلحة تقضي بالدعوة إلى مضاعفة عدد المسلمين، ليواجهوا مسئولياتهم في الذود عن الدعوة الإسلامية، والدفاع عن دين الله الحنيف الذي يتهدده خصوم كثيرون أقوياء. ولكننا الآن نجد أن الظروف قد اختلفت، ونجد أن تكاثف السكان في العالم كله بدأ يهدد بهبوط خطير في مستويات الحياة اللازمة للبشر، لدرجة حدت بكثير من المفكرين إلى تنظيم النسل في كل دولة، بحيث لا تعجز مواردها عن الوفاء بأسباب العيش الكريم لسكانها، وتقديم الخدمات العامة لهم. والإسلام – وهو دين الفطرة – لم يكن في يوم من الأيام ضد مصلحة الإنسان، بل كان دائمًا سباقًا إلى تحقيق هذه المصلحة، ما لم تخالف شرع الله. وإني أرى أنه لا مانع شرعًا من النظر في تنظيم النسل، إذا كانت الحاجة تدعو إلى ذلك، وعلى أن يتم هذا باختيار الناس وإقناعهم، دون قهر أو قسر وفي ضوء ظروفهم على أن تكون الوسيلة إلى ذلك مشروعة.   (1) الدكتور أحمد الشرباصي، الدين وتنظيم الأسرة، ص 195. (2) أي قدر على الزواج والقيام به وبتبعاته وواجباته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 447 فتوى الشيخ عبد الله القلقيلي المفتي العام في المملكة الأردنية الهاشمية بسم الله الرحمن الرحيم لقد عظمت مخاوف العالم من تزايد عدد السكان في كل مكان، وصار الخبراء يعدون ذلك منذرًا بالويل والثبور وعظائم الأمور، ونظروا في وقاية العالم من شره المستطير، وبلائه الخطير، فوجدوا من أعظم ذلك تحديد النسل، لكنهم يعلمون أن اكثر الناس لا يقدمون عليه إلا إذا بين لهم حكم الدين فيه، ولذلك تطلع المسلمون إلى من يثقون به من علماء الدين، ليبينوا حكم الدين فيه، فتواردت علينا الأسئلة في هذه المسألة، ومن هذه الأسئلة ما هو من جهات رسمية، وهذه هي فتوانا فيه (1) إنه من المعروف عن الشريعة الإسلامية السمحة أنها تساير الفطرة، وتجاري الطبيعة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (2) وإن الفطرة التي فطر الله عليها الناس ومن سنن الطبيعة الزواج. وإنما المقصود من الزواج النسل، إذ به بقاء الأنواع، وقد أشارت الآية الكريمة إلى ذلك، وعدته من نعم الله على عباده، قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (3) . فلهذا كان الزواج من سنن الشريعة الإسلامية وكان النسل من مقاصدها المستحبة المرضية، بل إن الشارع قد تشوف إلى كثرة النسل، وذلك لما في كثرة العدد من القوة والهيبة، وأسباب المنعة والعزة، كما قال الشاعر: بالأكثر فيهم حصى وإنما العزة للكاثر   (1) نشرت الفتوى لأول مرة في جريدة الدفاع 16/11/64 ثم وزعت في بيان صادر عن الإتحاد العالمي لتنظيم الوالدية في كانون الأول 1964م (2) سورة الروم 30 (3) سورة النحل 72 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 448 ولذلك ورد الحديث في الحث على تزوج المرأة الولود، ففي السنن عن النبي ((تزوجوا الولود الودود فإني مباه بكم الأمم)) . بيد أن الشارع قيد طلب النسل بالزواج، وتزوج الولود بالقدرة والسعة واليسر، وعدم العجز عن تحمل مؤونة الزواج، وضيق كسب الوالد عن الإنفاق على الولد، وأن لا يجد سعة لتعليمه وتأديبه، حتى يؤدي ذلك إلى إضاعته، وطلبه الرزق من وجوه غير مشروعة، وطرق دميمة مكروهة ممنوعة. فإذا خيف ذلك فإن الحكم يتغير طبقًا للقاعدة الشرعية: تتغير الأحكام بتغير الزمان. فإن هذا هو معناها. فيكون حكم طلب الزواج الذي هو من سنن الإسلام الحظر والمنع، وذلك إذا عجز طالب الزواج عن مؤونة الزواج. وهذا الحكم، وهو خطر الزواج ومنع الشارع منه، هو صريح الكتاب والسنة. فأما الكتاب فقوله عز وجل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} . (1) فإن هذه الآية الكريمة ظاهرة وصريحة في الاستعفاف والصبر عن الزواج، إلى حين القدرة عليه، وأما السنة، فما جاء في الحديث الصحيح: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) . فهذا الحديث مثل هذه الآية الكريمة في الأمر بترك الزواج ومن لم يستطع الباءة، وهي القدرة المالية، وهذه الآية وهذا الحديث يؤخذ منهما قطعًا أن تحديد النسل مشروع بطريق الأولى إذا كانت مصلحة العالم أو مصلحة الفرد في ذلك؛ لأنهما قد نهيا عن الزواج الذي في تركه قطع النسل حين العجز عن مؤونة الزواج: فيؤخذ من ذلك حكم تقليل النسل من باب أولى؛ لأن قطع النسل البتة أفحش من تقليل النسل. فلهذا نعجب ممن يستحب الترهب كيف يتردد في إجازة تحديد النسل؟ وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في إباحة طرق تحديد النسل عينًا، فمن ذلك ما في الصحيحين عن أبي سعيد قال: " أصبنا سبيًا فكنا نعزل، فسألنا رسول الله عن ذلك، فقال لنا: " وإنكم لتفعلون - قالها ثلاثا - ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة ". وفي السنن عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي جارية، وأنا أكره أن تحمل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل المؤودة الصغرى. قال كذبت اليهود. ولو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه. وفي الصحيحين: كنا نعزل على عهد رسول الله والقرآن ينزل، وفي الصحيح أيضا: كنا نعزل على عهد رسول الله فبلغه ذلك فلم ينهنا. ففي هذه الأحاديث الصحيحة والصريحة إجازة العزل الذي هو أحد طرق منع النسل أو تقليله حتى من غير عذر. وقد رويت الرخصة بذلك عن عدد من الصحابة والتابعين، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعي وأحمد.   (1) سورة النور 33 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 449 وقد تفرع عن هذا القول بجواز أخذ الدواء لمنع الحمل، وإسقاط الجنين قبل أن تدب فيه الحياة. وقد قال بجواز ذلك الحنفية إذا كان لعذر، وقد ذكر هذا في كتبهم الفقهية، بل في المطوقات كما جاء في الوهبانية. ويكره أن تسقى لإسقاط حملها. وجاز لعذر حيث لا يتصور. وقد مثل الفقهاء العذر لإسقاط الحمل كما في ابن عابدين إذ قال: وكالمرضعة إذا ظهر بها الحمل وانقطع لبنها، وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر، ويخاف هلاك الولد. وقد بين الفقهاء متى يجوز أخذ الدواء للإسقاط أنه ما دام الحمل مضغة أو علقة لم يخلق له عضو، وقدروا مدة ذلك بمائة وعشرين يومًا. وقد قالوا: إنه في هذه الأطوار لا يكون آدميًّا. وقد روي عن عمر وعلي ما يستفاد منه أنه (لا يكون إسقاط الحمل موؤودة حتى تمر عليه التارات السبع) وجاء في الموطأ: قال مالك: لا يعزل الرجل عن الحرة إلا بإذنها. وقال الزرقاني على ذلك. (وأما الحرة فإن أذنت لم يحرم. قال في الفتح: وينتزع من حكم العزل، حكم معالجة المرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح، فمن قال بالمنع ففي هذه أولى. ومن قال بالجواز، فيمكن أن يلتحق بهذا) ثم قال الزرقاني: (ويلتحق به تعاطي المرأة ما يقطع الحبل من أصله) . فترى من هذا أن المتفق عليه بين الأئمة جواز العزل وهو من طرق منع الحمل. وقد أخذ العلماء من هذا جواز أخذ الدواء لمنع الحمل، بل أخذ الدواء لإسقاط الحمل ونحن نفتي بجواز تحديد النسل مطمئنين. وقد ذكرنا من الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله ما يقطع ريب المستريبين، وإذا قررت الحكومة هذا فإن العمل به يكون لازمًا؛ لأن من المتفق عليه أن أولى الأمر إذ أخذ بقول ضعيف يكون الأخذ به حتمًا. وقد أفتينا بهذا منذ بضع عشرة عامًا قبل أن نلي الإفتاء وطبعت فتوانا في المجموع الأول فتاوينا، ثم سئلنا عنه غير مرة، فأفتينا به ونشرت فتاوينا في هدي الإسلام، والله ولي التوفيق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 450 فتوى لجنة الفتوى بقطاع غزة (1) جاء سؤال عن حكم منع الحمل إلى لجنة الفتوى في قطاع غزة من أرض فلسطين، فأجابت عنه بالجواب التالي المنشور في مجلة نور اليقين، عدد رمضان سنة 1384هـ. وهذا نص الجواب: (إن الدين دعا إلى التناكح، وبين السبب في ذلك وهو كثرة التناسل، وذلك لعبادة الله وعمارة الأرض، واستخراج كنوزها والانتفاع بما فيها، ولحماية الوطن والدفاع عنه، ولبث الفضائل في الكون. . . إلخ. والله سبحانه وتعالى قد ضمن الرزق لعباده، وقدر في الأرض أقواتها {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} (2) {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) } (3) {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (4) ولهذا حارب الإسلام ما كانت تفعله الجاهلية من قتل الأبناء بنات وبنين، خشية العار أو الفقر: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (5) وفي الأخرى: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} . (6) وبعد هذا فالمرأة إذا كانت صحيحة قوية وقادرة وغنية، ولا يوجد أي سبب لمنع الحمل فلا يجوز منعه؛ لأنه يتنافي مع ما دعا إليه الدين مما سبق بيانه وتوضيحه، كما لا يجوز بحال من الأحوال إسقاط الجنين بعد تخلقه، ويعتبر فعله قتلًا للنفس التي حرم الله إلا بالحق، وفاعله مرتكبًا للكبيرة التي يستحق بسببها العقوبة في الدارين، إن لم يتب إلى الله عز وجل.   (1) الدكتور أحمد الشرباصي، الدين وتنظيم الأسرة، دار مطابع الشعب ص 199 (2) سورة فصلت 10 (3) سورة الذاريات الآية: 22،23 (4) سورة هود 6 (5) سورة الإسراء 31 (6) سورة الأنعام 151 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 451 هذا ولزيادة الإيضاح للسائل الكريم نبين له أنه يجوز تعاطي الدواء لمنع الحمل لأسباب، وذلك لتنظيم النسل، وإيجاد المواطن الصالح، ومن ذلك: " لا ضرر ولا ضرار"، وأيضًا: "الضرر مدفوع بقدر الإمكان " ومن تحديد القرآن الكريم للرضاع بعامين: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (1) ومن تحذير الرسول عليه صلوات الله وسلامه من إرضاع الطفل من لبن الحامل. وبهذا. فالقرآن والسنة يوضحان للإنسان تنظيم عملية النسل، وذلك بإيقاف عملية الحمل وقت الرضاع. كما أن الشريعة تحرص على سعادة الإنسان وعزته وكرامته، كما تدعوه إلى القوة المحققة للعمل المنتج الذي دعا إليه الدين: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (2) . وهذا لا يتأتى إلا بالنسل المنظم السليم في جسمه وعقله، والكامل في صحته، والخالي من الأمراض الجسمية والنفسية. وهذا لا يتحقق إلا إذا كان الأبوان قادرين على التربية والتغذية والتعليم والتنشئة الصالحة، وهذا لا يتوافر لكل الناس، ولا يوجد عند جميع الناس. ومن هنا يجوز تعاطي الدواء لمنع الحمل إذا كان الأبوان أو أحدهما مريضًا؛ لأن المرض ينتقل للذرية، أو كانا فقيرين ولا يستطيعان تحمل المسئولية ولا يجدان من يتحملها من المسئولين الموسرين أو الحكومة، أو كان معهما من الذرية ما فيه الكفاية وما زاد يرهقهما ويتعب أعصابهما أو يكلفهما ما لا يطيقان، أو كان معهما من الذرية ما فيه الكفاية، وترى الزوجة أنها لو حملت بعد هذا لذهب جمالها ونالها من الإرهاق ما يجعلها منغصة في حياتها، أو كانت الكثرة تسبب لها مرضا أو إهمالًا في التربية، أو كان الزوج أنانيًّا يرغب في الجمع بين النساء لمتعته. وبالأولاد لا يتحقق ذلك الغرض، والمرأة مع العدد الكثير من البنين لا ترضيه ولا تحقق رغبته، وبهذا تتسبب له في الزواج بغيرها. أو لغير ذلك من الأسباب المنغصة بسبب كثرة الحمل والوضع.   (1) سورة البقرة 233 (2) سورة التوبة: 105 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 452 ولهذا يجوز تعاطي الدواء لمنع الحمل، ويكون من الخير فعله لو وجدت لديه هذه الأسباب، وهذا طبعًا لا يشمل الكل بل البعض؛ لأن هذه الأسباب لا توجد إلا في القليل من الناس، ويعجبنا ما عليه الأجانب في تنظيم النسل وتحديده، وقد سارت الآن في هذا الطريق الطبقة المثقفة القادرة. أما من يجوز لهم المنع فعملوا على عكس المطلوب، فنجد الفقير أو المريض بالشهوة هو الذي يكثر من النسل ويحرص عليه، ويكثر من الزوجات لهذا الغرض، ولا يهمه إلا أن يكون له العديد من الأولاد، سواء كانوا صالحين أو مفسدين في الأرض، ولا شيء تسعد به الحياة كاتباع ما جاء به الدين، فحبذا لو تبصرناه وسلكناه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ". فتوى سماحة آية الله الحاج الشيخ بهاء الدين محلاتي (1) شرعية منع الحمل سؤال: هل توافقون، أو هل من المشروع دينا أن يصف الطبيب، بصورة مؤقتة، أدوية أو وسائل تمنع الحمل، للحيلولة دون التكاثر الإنساني المفرط؟ جواب: باسم الله: من وجهة نظر الشريعة السماوية، لا يبدو أن استعمال الأدوية أو وسائل منع الحمل، خاصة بصورة مؤقتة لضبط الخصب الإنساني، عمل غير شرعي، إذا كان لا يقود إلى الإضرار بخصب الأنثى فيجعلها عاقرًا.   (1) بهاء الدين محلاتي. إجابة عن سؤال للدكتور محمد الصرام بكتاب مؤرخ في 12 تشرين الثاني 1964م الجزء: 5 ¦ الصفحة: 453 فتوى الحاج عبد الجليل بن الحاج حسن المفتي المساعد، جوهور، ماليزيا (1) خلاصة أحكام تحديد النسل والشريعة الإسلامية إن تحديد النسل باستعمال العقاقير أو وسائل منع الحمل مباح إذا كان ذلك لا يسبب العقم الدائم. التعقيم باستعمال العقاقير أو وسائل منع الحمل محرم، إلا في الحالات التي تؤكد فيها شهادة يمكن الحصول عليها من طبيبين، أن حملًا آخر سوف يكون خطرًا، أو يمكن أن يسبب الوفاة.   (1) الحاج عبد الجليل بن الحاج حسن، تقرير من مكتب المفتي في جوهر مؤرخ في 21 تشرين الثاني 1965 م، نسخة صادرة عن الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 454 فتوى الشيخ يوسف بن علي الزواوي (1) مفتي ترنغانو، ماليزيا أحكام تحديد النسل بسم الله الرحمن الرحيم إن تأليف الجماعات والجمعيات في سبيل تنظيم الأسرة عمل تفرضه شرائع الدين الإسلامي على المسلمين. لقد فكر المسلمون مليًّا في الماضي والحاضر بهذا الموضوع. وكانت كتب الحديث والاجتهادات في جميع المذاهب موضع جدل دون الوصول إلى نتيجة حاسمة. وفي زمان الصحابة كان فعل منع الحمل يسمى بالعزل " الذي يعني منع منيِّ الذكر من دخول رحم الأنثى. وقد سئل النبي عن رأيه في طبيعة هذا العمل فكان جوابه: "ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة" قالها ثلاثا. ويفهم من هذا القول أن النبي لم يحرم ممارسة منع الحمل، غير أنه نصح الصحابة بأن لا ينغمسوا فيه كعادة. لقد تساءل الفقهاء المسلمون في تأملاتهم حول وضع الأولاد إذا كان الولد ملكًا لوالديه حقا أو لواحد منهما فقط، أو في ما إذا كان حقا ملكا للوالدين وللمجتمع عموما. وتختلف الآرء بالنسبة للأزمنة والأوضاع. والإسلام دين يحث معتنقيه نحو الوحدة، سواء كان ذلك في المعتقد أو الاقتصاد أو الصحة. ولا تخالف تعاليم الإسلام علم الطب على الإطلاق في ما يختص بالقوانين الصحية. على هذا يجمع الفقهاء المسلمون عمومًا. والقرآن الكريم نفسه، كثيرًا ما يحدد أمورًا تتعلق بالصحة والسلامة الجسدية، كما يقول تعالى، {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (2) الذي تعني أن الوالدات اللواتي يرغبن في إرضاع أطفالهن من الثدي يفعلن ذلك عادة لمدة تقارب السنتين. ويحث القرآن الأمهات على إرضاع أطفالهن من الثدي؛ لأن حليب الأم كما أثبت علم الطب، يحتوي على جميع العناصر الغذائية اللازمة لتغذية طفلها وإعطائه القوة. وتقع على الآباء مسؤولية ما هو على قدر استطاعته. فلا تضرن أم بولدها أو أب بولده. يجب أن يفهم من هذا الحكم أن على الأم المرضع أن تأخذ الاحتياط كي لا تحمل من جديد؛ لأن ذلك يضر بالرضيع. ونرى من هذا الحكم كذلك أن القرآن يشجع دون ريب على ممارسة تنظيم الأسرة.   (1) الشيخ يوسف بن الزواوي، أحكام تحديد النسل، مطبوع على الآلة الكاتبة (بدون تاريخ) (2) سورة البقرة: 233 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 455 روت أسماء بنت يزيد بن السكن أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تقتلوا أولادكم سرًّا فإنه ليلقي الفارس قيد عثرة)) وهو يعني: لا تقتلوا أبنائكم سرًّا لأن "الغيل" (مجامعة المرضع) وهو كالفارس الذي يجندل في المعركة من فوق فرسه. وهذا ما يبين أن الجنين المتكون في رحم أمه وهي ترضع طفلًا آخر، يكون ضعيف البنية. لقد استخلص الفقهاء أن تحديد النسل " مكروه "؛ لأنهم يرون أن الأولاد ملك للجماعة ككل. وبنوا خلاصتهم هذه على كلام سيدنا أبي بكر وعمر وابن مسعود أن تحديد النسل سوف يسبب تناقص الذرية. وبالنسبة للأزواج والزوجات، فقد حكم بأنه لا يجوز للرجل أن يحول دون دخول منيه إلى رحم الزوجة من غير موافقتها إلا إذا كانت هنالك أسباب إلزامية تتناسب مع أحكام الشرائع الإسلامية وتأتي الأمثلة على إباحة الجماع الناقص عندما يكون الزوجان يعيشان في بلد يحارب في سبيل الله حيث إن الحمل مضافًا إلى مصاعب الانتقال والحرب، يمكن أن يزيد من إضعاف المرأة، فيحرمها من الراحة والوقاية الصحية اللازمين. بين الذين يتفقون مع هذا الرأي، الشيخ موفق الدين ابن قدامة الحنبلي الذي توفي في العام 630هـ. وفي رأي الإمام النووي (توفي عام 676 للهجرة) المدون في كتابه شرح صحيح مسلم ما خلاصته: أن فعل العزل، أو منع مني الذكر من دخول رحم الأنثى مرفوض على كل صعيد بصرف النظر عن موافقة الزوجة؛ لأنه يعني قطع الجيل القادم، وهذا ما سماه قول الرسول بالوأد الخفي. إنه يقضي على الحياة تمامًا، كقتل الطفل بدفنه حيًّا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 456 بالاختصار، إني أميل نحو رؤية ثلاثة وجوه لهذا المسألة: 1- إذا كان منع الحمل ضروريا لأسباب صحية، سواء صحة الزوجة أو الزوج أو الجنين المفروض، فإنه ليس هنالك أي قوانين دينية تعارضه إطلاقًا، كما جاء في الآية {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (سورة البقرة 233) ويعني هذا أيضًا أنه يطبق في فترة معينة ومحدودة من الزمن وفي حالات خاصة. 2- يختلف تفكير رجال الفقه حول الحمل، في ما إذا كان الجماع الناقص مقبولًا قبل تكون الحياة في الجنين نفسه (يتم هذا في الشهر الرابع للحمل) . غير أنهم مجمعون على تحريمه بعد انقضاء أربعة أشهر. وإذا قذف الولد نتيجة إجهاض اختياري فإن على المسؤولين عن العمل – الأطباء، والقابلات. . . إلخ- أن يدفعوا الدية للوالدين إن خرج الجنين حيا، وإذا كان ميتًا فعليهم أن يدفعوا ثمن عبد للوالدين. أما الوالدان اللذان وافقا على الإجهاض، فيدفعان غرامة للسلطات الدينية. 3- يحرم منع الحمل الكلي أو التعقيم بدون أسباب يقرها الدين، حتى ولو كان اختياريا، تحريمًا تاما. يتبين من الشرح أعلاه، أي أهمية يوليها الإسلام لموضوع تنظيم الأسرة فعلى الهيئات والجمعيات التي تتألف حول هذا الموضوع أن تعمل وفقًا لما تسمح به شرائع الإسلام كما جاء شرحها في الفتوى التي أعطاها سماحة الشيخ عبد الفتاح العناني. إن تحديد النسل دون مبرر صحي، أو لمجرد الحفاظ على جمال الصورة، أو كوسيلة للتهرب من مسؤولية إنجاب الأولاد يعتبر محرما بالإجماع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 457 وعلى المسلم أن لا يرضى بهذه الممارسة. لقد أشار الله تعالى إلى نعمته علينا كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [سورة النحل: 72] الذي يعني أن الله خلقكم وأعطاكم زوجاتكم والنسل والذرية منهن، وفوق هذا منحكم من الطيبات. في الواقع إن تحديد النسل الذي يمارس بسبب الفقر ومن دون مبرر صحي، غير مقبول في شرائع الإسلام، إذ يطلب الإسلام من الحكومة والمجتمع أن يسهرا على تكاثر أعضائهما لكي يصبح المجتمع قويًّا منيعًا عزيزًا في نظر الأمم الأخرى. وبالاختصار، إن حكم الشرائع الدينية في هذا الموضوع يتوقف كثيرًا على وضع كل من الزوج والزوجة. لذلك فإني أقترح بشدة أن تنتخب الحكومة هيئة من الأفراد المسؤولين حقًّا، المؤمنين بالله للتأكد من أن أهداف هذه الجمعيات تنفذ بإخلاص لصالح الأمة التي هي بأمس الحاجة إلى ذرية صالحة تتسلم مسؤوليات المستقبل. إن هيئة كهذه من نساء ورجال متجردين تضمن أن تعمل الجمعيات بانضباط داخلي، وبانسجام مع أدق شرائع الإسلام. فمن أغراض جمعيات كهذه، أن تسدي النصح الحكيم والدقيق للأزواج والزوجات لكي يتمكنوا من الحفاظ على الانسجام العائلي وعلى صحة الأسرة، إنه لمشروع قيم حقًّا وهو جدير بأن يعطى كل تشجيع ممكن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 458 فتوى رئيس المحكمة العليا الاستئنافية الجمهورية العربية اليمنية سؤال: السيد رئيس المحكمة العليا الاستئنافية. تحية طيبة وبعد: فأرجو إفتاءنا في امرأة متزوجة ولديها عدة أولاد. ولجهلها للوسائل الحديثة لمنع الحمل أصبحت حاملًا الآن وتطلب إجهاضها طبيًّا. فهل تجيز قوانيننا عملية الإجهاض، علمًا بأن ذلك برضاها ورضى زوجها. نرجو الإفتاء سريعًا، ومفصلًا ليكون منا العمل به. جواب: الشريعة المطهرة لا تمنع من ذلك مع رضاء الزوج وبشرط ألا تكون الروح قد نفخت في الجنين. وقد قررت الشريعة أن الروح تنفخ في الطفل من أول الشهر الخامس والله الموفق. 23/ المحرم/ 1388 هـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 459 من مقررات وتوصيات مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة المؤتمر الأول سنة 1964 1- تشخيص مواطن الضعف في المجتمعات الإسلامية والعمل على علاجها. 2- العمل على إصدار الفتاوى والأحكام المستمدة من أصول الإسلام وتعاليمه في المشكلات التي جدت وتجد في حياة المسلمين حتى تسير نهضتم على هدى من دينهم الحنيف. 3- إن الكتاب الكريم والسنة النبوية هما المصدران الأساسيان في الأحكام الشرعية. وإن الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية منها حق لكل من استكمل شروط الاجتهاد المقررة. وكان اجتهاده في محل الاجتهاد. 4- السبيل لمراعاة المصالح، ومواجهة الحوادث المتجددة، هي أن يتخير من أحكام المذاهب الفقهية ما يفي بذلك. فإن لم يكن في أحكامها ما يفي فالاجتهاد الجماعي المذهبي. فإن لم يف كان الاجتهاد الجماعي المطلق. المؤتمر الثاني سنة 1965 1- إن تعدد الزوجات مباح بصريح نصوص القرآن الكريم، بالقيود الواردة فيه، وإن ممارسة هذا الحق متروكة إلى تقدير الزوج. ولا يحتاج في ذلك إلى إذن القاضي. 2- إن الطلاق مباح في حدود ما جاءت به الشريعة الإسلامية. وإن طلاق الزوج يقع دون إذن القاضي. 3- إن الإسلام رغب في زيادة النسل وتكثيره؛ لأن كثرة النسل تقوي الأمة الإسلامية، اجتماعيًّا واقتصاديًّا وحربيًّا، وتزيدها عزة ومنعة. 4- إذا كان هناك ضرورة شخصية تحتم تنظيم النسل فللزوجين أن يتصرفا طبقًا لما تقتضيه الضرورة، وتقدير هذه الضرورة متروك لضمير الفرد ودينه. 5- لا يصح شرعًا وضع قوانين تجبر الناس على تحديد النسل بأي وجه من الوجوه. 6- إن الإجهاض بقصد تحديد النسل أو استعمال الوسائل التي تؤدي إلى العقم لهذا الغرض، أمر لا يجوز ممارسته شرعا للزوجين أو لغيرهما، ويوصي المؤتمر بتوعية المواطنين، وتقديم المعونة لهم في كل ما سبق تقريره بصدد تنظيم النسل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 460 بيان حول السكان من رؤساء بعض الدول والحكومات أصدر السكرتير العام للأمم المتحدة يوثانت، في 10 كانون الأول 1966 البيان التالي نصه حول السكان. وقد وَقَّعَ هذا البيان تسعة عشر زعيمًا من زعماء العالم، بينهم ستة من زعماء الدول الإسلامية وهم: الإمبراطور محمد رضا بهلوي إيران الملك حسين الأردن الرئيس تنكو عبد الرحمن ماليزيا الملك الحسن الثاني المغرب الرئيس الحبيب بورقيبة تونس الرئيس جمال عبد الناصر الجمهورية العربية المتحدة نص البيان إن للسلام العالمي أهمية عظمى لدى جميع الأمم. وتكرس حكوماتنا جهودًا كبيرة لتحسين إمكانات السلام في هذا الجيل وفي الأجيال القادمة. غير أن مشكلة كبيرة أخرى تهدد العالم. مشكلة أقل بروزًا ولكنها ليست أقل إلحاحًا. إنها مشكلة نمو السكان غير المخطط له. لقد قضت الإنسانية الفترة من بدء عصورها التاريخية إلى منتصف القرن الماضي حتى بلغت مليار نسمة في حين أنها ازدادت مليارا آخر في أقل من مائة سنة. ولم تكد تمضي ثلاثون سنة أخرى حتى بلغت ثلاثة مليارات. وإذا استمر معدل الزيادة هذا، فإنها ستبلغ أربعة مليارات في سنة 1975، وما يقرب من سبعة مليارات سنة 2000. ويضعنا هذا التزايد الذي لم يسبق له مثيل وجهًا لوجه أمام حالة فريدة بالنسبة للشؤون الإنسانية، وحيال معضلة تزداد خطورة في كل يوم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 461 إن هذه الأرقام مذهلة بحد ذاتها، بيد أن دلالاتها أعظم من ذلك أهمية بكثير. فتزايد السكان البالغ السرعة، يعيق الجهود لرفع مستويات المعيشة، وتقدم التعليم، وتحسين الصحة العامة، وتأمين السكن ووسائل نقل أفضل، وتعزيز فرص الثقافة والترفيه، بل وتأمين الغذاء في بعض الأقطار، وباختصار، فإن طموح الإنسانية برمتها إلى تحقيق حياة أفضل، أخذ في الانهيار. وبوصفنا رؤساء حكومات معنية فعلًا بمشكلة السكان، فإننا نشارك في هذه القناعات، ونعتقد بأنه ينبغي أن تعتبر مشكلة السكان عنصرًا رئيسيًّا في التخطيط القومي البعيد المدى، هذا إذا أدت الحكومات بلوغ أهدافها الاقتصادية وتحقيق مطامح شعوبها. نعتقد بأن الغالبية العظمى من الآباء يرغبون في أن تتوافر لديهم المعرفة عن تنظيم أسرهم ووسائله، وبأن فرصة تقرير عدد الأولاد والمباعدة بين الولادات هي حق من حقوق الإنسان الأساسية. نعتقد بأن السلام الدائم والمجدي يتوقف إلى حد كبير على الطريقة التي يواجه بها تحدي نمو السكان. نعتقد بأن هدف تنظيم الأسرة هو إغناء الحياة البشرية، لا تقييدها، وبأن تنظيم الأسرة بتأمينه المزيد من الفرص لكل فرد، يطلق الإنسان كي يحقق كرامته الشخصية، ويبلغ كامل إمكاناته. وإذ نعترف بأن تنظيم الأسرة هو من المصالح الحيوية للأمة وللأسرة فإننا نحن الموقعين أدناه نعقد أكبر الآمال على زعماء العالم لكي يشاركونا في رأينا ويضموا جهودهم إلى جهودنا في مواجهة هذا التحدي الكبير من أجل خير شعوب الأرض قاطبة وسعادتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 462 تنظيم النسل وثيقة من المجلس الإسلامي الأعلى بالجمهورية الجزائرية بسم الله الرحمن الرحيم إن المجتمع الذي ترمي إلى إقامته تعاليم الإسلام الأساسية، مجتمع ميزته الصحة والقوة ومؤسس على العدالة الاجتماعية والأخلاق الفاضلة. وهذا مما جعل الإسلام ـ المفهوم بهذه المعاني السامية المنبع الذي ننهل منه باستمرار لاستكمال الثورة الاجتماعية القائمة اليوم في بلادنا. ففي قضية تنظيم الأسرة مثلا نجد الإسلام الذي هو دين الدولة الجزائرية وموجهها التشريعي يهدي إلى مبادئ يتم صلاح البشرية جمعاء بتطبيقها. فالآيات الكريمة الصريحة والأحاديث النبوية الصحيحة الواردة في الموضوع وكذا الآثار المروية عن الصحابة رضوان الله عليهم وآراء كبار الفقهاء وشروحهم تضفي على هذه المسألة الضوء الكافي لاستبانة توجيهات الإسلام الهامة في هذا الميدان، ونذكر من بينها: أولا: احترام الحياة والحفاظ عليها: فلقد كرم الله الإنسان ونفخ فيه من روحه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا إذ يقول في كتابه الحكيم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الاسراء:70] ويقول: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] ، فقيمة الحياة عند الله عظيمة إلى حد أن قتل النفس بغير موجب شرعي يعتبر قتلا للناس جميعا، كما أن إحياءها بمثابة إحياء الناس جميعا، {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] ؛ لذلك كله نجد القرآن الكريم يحرم الوأد الذي يلجأ إليه العربي في الجاهلية لسببين أساسيين، أحدهما أخلاقي: خشية العار والهون الذي يلحقه بزعمه من الأنثى، وثانيهما اقتصادي: خشية الإملاق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 463 وقد دحض القرآن هاتين الحجتين الجاهليتين الواهيتين بقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) } [لنحل 58-59] كما قرر: أن مكانة المرأة عند الله مثل مكانة الرجل يقول عز وجل {لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195] إن الله هو الرزاق لكل مخلوقاته: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] على أن يتخذ الإنسان الأسباب فيؤدي الجهد والعمل اللازم لتحصيل قوته: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] وعلى أن يسود العدل في توزيع الأقوات على العباد {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] إن الطفل يجب أن يحظى بالاحترام والعناية المطلقة من النطفة إلى الولادة إلى البلوغ ولو كانت ولادته من غير زواج شرعي ومعلوم أن الشرع قد فرض الكفالة على المجتمع للأولاد المشردين ولهذا الاعتبار خاصة نجد الفقهاء يبيحون العزل إذا دعت إليه الضرورة، رغم ضرره النفسي على الزوج والزوجة فالعزل الظرفي بالقياس إلى وسائل منع الحمل الحديثة مباح لكونه لا يلحق أذى بحياة موجودة ولا يمس أيضا بمبدأ حفظ النسل وقد بين الإمام علي كرم الله وجهه وأقره على ذلك الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن العزل ليس الموءودة الصغرى ولا تكون كذلك حتى تمر عليها الأطوار السبعة (1) وذلك بخلاف الإجهاض فإنه محرم تحريما قطعيًّا إلا لضرورة الحفاظ على صحة المرأة أو الولد؛ لأنه تَعَدٍّ واضح على حياة موجودة كما أنه خلاف التعقيم بكل الوسائل المؤدية إليه؛ لأنه تعطيل نهائي لوظيفة التناسل فهو ممنوع شرعا.   (1) انظر كتاب الحلال والحرام للدكتور يوسف القرضاوي صفحة 192 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 464 ثانيا: مسؤولية الوالدين عن أولادهما: إن القدرة على تحمل أعباء الزواج ومنها النفقة على الزوجة شرط يعتبره الفقهاء. بدرجات متفاوتة في حِلِّيَّةِ الزواج والمذهب المالكي يجعل النكاح حراما على من كان عاجزا عن الإنفاق على المرأة من كسب حلال ولم يخش الزنا إلا أن ترضى الزوجة بذلك فلا يحرم. كما أن القيام بنفقات الأولاد وتربيتهم إلى أن يبلغوا فرض على الوالدين ويتحملان إثما كبيرا إذا أهملاهم فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)) رواه أبو داود ويقول أيضا في الحديث المشهور: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها " رواه أحمد في مسنده. وتتجلى في هذا الحديث النبوي الشريف خطورة المسئولية الملقاة على كاهل كل إنسان في شتى ميادين الحياة ومنها إنجاب الأولاد فإنجابهم وإهمالهم والرمي بهم إلى الشارع عمل يكرهه الإسلام ويحذر منه. ثالثا: وجوب تحلي الأمة الإسلامية بالعزة والقوة. إن الإسلام يحث المسلمين على أن يكونوا أقوياء في جميع الميادين: الجسمي الخلقي العسكري العلمي الاقتصادي. . . إلخ، فالله تعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول ((: المؤمن القوي خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير)) . إلى غيرهما من الآيات والأحاديث الدالة على أن المسلم يجب أن تتمثل فيه صفات العزة والرفعة لا الذلة والمهانة، حقًّا إن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا المسلمين إلى التناسل والتكاثر، ولكن الكثرة المنشودة هي الكثرة التي تصلح للمباهاة لا الكثرة السلبية التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها كغثاء السيل أي لا قيمة لها ولا وزن سواء عند الله أو عند العباد، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها)) فقال قائل: أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل , ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: " الوهن حب الدنيا وكراهية الموت ")) رواه أبو داود والبيهقي. وبهذا يتضح أن المعتبر في الإسلام هو النوعية قبل الكمية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 465 رابعا: مراعاة صحة الزوجة والأولاد: إن الأحاديث الداعية إلى العناية الكاملة بالصحة عموما وبصحة الزوجة والأولاد خصوصا لا تكاد تحصى، وهدفها الواضح هو بناء الأسرة المسلمة سليمة قوية. ونكتفي بذكر حديث واحد لأهميته، إذ يقرر بوضوح في نظرنا شرعية مبدأ المباعدة بين الولادات إن لم نقل: يحث عليه ويستحبه. هذا الحديث هو حديث الغيل وهو الاتصال بالزوجة المرضعة لتحمل من جديد قبل أن يستكمل الرضيع الأول الفترة الشرعية المحددة، (1) وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم غيلا؛ لما يترتب عليه من حمل يفسد اللبن ويضعف الولد، وإنما سماه غيلا لأنه جناية خفية على الرضيع فأشبه القتل سرا (2) ولفظ الحديث هو: ((لا تقتلوا أولادكم سرا فإن الغيل يدرك الفارس قيد عثرة)) رواه أبو داود، و: ((لقد هممت أن أنهى عن الغيلة ثم رأيت فارس والروم يصنعون ولا يضر أولادهم شيئا)) رواه مسلم. ويستخلص ابن القيم أن المقصود من الحديث الإرشاد والاحتياط للولد، وأن لا يعرضه لفساد اللبن بالحمل الطارئ عليه كما يستخلص الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي، بعد تحليل هذا الحديث ما يلي: (وقد استحدث في عصرنا من الوسائل التي تمنع الحمل ما يحقق المصلحة التي هدف إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حماية الرضيع من الضرر مع تجنب المفسدة الأخرى وهي الامتناع عن النساء مدة الرضاع وما في ذلك من مشقة وعلى ذلك نستطيع أن نقرر أن المدة المثلى في نظر الإسلام بين كل وليدين هي ثلاثون أو ثلاثة وثلاثون شهرا، لمن أراد أن يتم الرضاعة) و (24 شهرا + 9 أشهر = 33 شهرا) (3)   (1) انظر زاد المعاد / ج 4 ص18، الطبعة الثانية (1950) (2) (د. يوسف القرضاوي ـ الحلال والحرام ص (165) (3) راجع د / يوسف القرضاوي ـ الحلال والحرام ص166 الطبعة 11 (1977) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 466 خامسا: احترام إرادة الزوجين وحرية اختيارهما: إن الإمام مالكا رضي الله عنه ومعظم الفقهاء قرروا أن رضى الزوجة ضروري في الامتناع عن الحمل وأثبتوا للزوجة الحق في الولد وهذا منذ 14 قرنا ... سادسا: التشريع الإسلامي يعتبر المصلحة العامة: إن المصلحة العامة معتبرة شرعا وقد صنفت في باب المصالح المرسلة التي يرى جمهور علماء المسلمين والمالكية منهم خاصة أنها حجة شرعية يبنى عليها تشريع الأحكام إذا ثبت أنها مصلحة حقيقية، وأنها مصلحة عامة لا مصلحة شخصية ولا تعارض نصا أو حكما شرعيا صريحا. سابعا: احترام الأخلاق الإسلامية: لقد شرع الله الزواج وحرم الزنا تحريما قطعيا؛ فلذلك ينبغي اتخاذ الإجراءات اللازمة حتى لا تصبح وسائل منع الحمل المعدة أساسا للزواج لتنظيم أسرة، تيسيرا أو تشجيعا للإباحية الاخلاقية، إذ أن المصلحة المرجوة منها قد تنقلب إلى مفسدة وقاعدة سد الذرائع في الشريعة الإسلامية تمنع ذلك وتقضي بإغلاق الباب الذي يؤدي إلى المضرة والفساد. نص فتوى المجلس الإسلامي الأعلى بدعوة من السيد عبد الرحمن شيبان وزير الشئون الدينية اجتمعت لجنة الفتوى والدعوة والإرشاد للمجلس الإسلامي الأعلى بمقر الوزارة تحت رئاسة الشيخ أحمد حسين النائب الأول لرئيس المجلس الإسلامي الأعلى وبحضور الأمين العام لوزارة الشئون الدينية نيابة عن السيد الوزير والأستاذ أحمد درار مستشار بالوزارة. وبعد أن قدم السيد الأمين العام للوزارة موضوع الاجتماع وهو: النظر في توسيع المدة الفاصلة بين الولادتين، نوقشت المسألة من طرف الأعضاء الحاضرين واتفقوا على ما يلي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 467 أولا: التأكيد على المبادئ التي أقرها المجلس في جلسات سابقة حول تنظيم النسل وخاصة خلاصة الفتاوى التي قدمت في شهر محرم 1400هـ الموافق لشهر ديسمبر 1979م، وهذا نصها: وإن اختلف علماء الإسلام ماضيا وحاضرا في إباحة العزل ومنعه أو تقييده بشروط معينة وقياس بعض الأدوية والطرق المانعة للحمل بصفة مؤقته عليه، فهم مجمعون على تقييده بالاختيار الفردي لاستعماله أو عدم استعماله حسب الظروف والمبررات وعدم اللجوء إلى التقنين الشامل الذي يدفع الناس مكرهين إلى تحديد النسل أو تنظيمه، أو إجبارهم عليه أو على استعمال الوسائل المستحدثة بدلا عنه، وإنما يترك الأمر إلى الأفراد ومبادرة كل واحد حسب قناعته والدوافع الشخصية التي تحمله على ذلك من غير أن يخشى الوقوع في الحرام. ويكون بث الوعي هو وحده الطريقة المثلى لمعالجة هذا الموضوع الشديد الحساسية. ثانيا: ترى اللجنة أن مسالة توسيع المدة الفاصلة بين الولادتين موكولة لاتفاق الزوجين وتراضيهما وحكمهما يخضع لظروفهما النفسية والمادية والاجتماعية. والله الموفق.. حرر بالجزائر في 21 محرم 1403هـ الموافق 7 نوفمبر 1982 م عن اللجنة. الشيخ / أحمد حسين الشيخ / محمد الصالح بن عتيق الشيخ / حمزة بكوشة الشيخ /علي المغربي الأستاذ / بلحاح شريفي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 468 مناقشة البحوث بسم الله الرحمن الرحيم الرئيس: نرجو من الأستاذ حسان حتحوت أن يتفضل بالعرض عن موضوعنا اليوم وهو منع تحديد النسل وأرجو أن يكون العرض في ظرف عشرين دقيقة. الدكتور حسان حتحوت: بسم الله الرحمن الرحيم: أسهبت أقلام فاضلة ومؤتمرات سابقة في هذا الموضوع فلا أجد محلا لتكرار ما تعرفون وإنما أجمل فأقول: إن أغلبية الفقهاء اتجهت إلى أن منع الحمل في ذاته ليس حراما شرعا وإن كان للقلة رأي آخر ولكل من الرأيين حجته وأسانيده، واستندت الغالبية إلى روايات عن الصحابة بأنهم كانوا يمارسون العزل بعلم الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يحرمه، وبأن الغزالي أجازه على مدى واسع من المبيحات الطبية أو الاجتماعية أو الشخصية، وإنما قيدت الإباحة بشروط شرعية معروفة، فليس من الجائز تعطيل المقصدين الشرعيين للزواج في الإسلام وهما الجنس والإنجاب أحدهما أو كليهما في حال القدرة عليهما، وليس من الجائز انفراد الزوج بقرار منع الحمل فلابد أن يكون ذلك بإذن الزوجة؛ لأن الأمر شركة بينهما، ومن الواجب أن تكون وسيلة منع الحمل خالية من المضار ولا يجوز أن تكون الوسيلة مهدرة لحياة تكونت ولو في أدوارها الأولى. وهنا أود أن أشير في موضوع اللولب إلى أن منظمة الصحة العالمية في أكتوبر سنة 1987 م أصدرت تصريحا بأن اللولب يعمل مانعا للحمل وليس مجهضا كما كان يظن في السابق ولا يجوز أن تنطوي الوسيلة على مصادرة نهائية لوظيفة الإنجاب إلا تحت الظروف الاستثنائية التي تبيحها الشريعة، ومع ذلك فهناك اعتبارات هامة لابد منها من باب العلم أولا ثم من باب ضبط خطانا إزاء خُطَى الآخرين حتى لا يظن بنا النية الواحدة إن اتفقنا في مرحلة من المراحل، وأود في البداية أن أشير إلى أن الإباحة الشرعية ليست هي المصفاة الوحيدة التي يستعملها المسلم وهو يقرر ما يأخذ أو يدع، فالحرام بطبيعة الحال حرام، أما الحلال فرقعته واسعة بحكم أن الأصل في الأشياء الإباحة. والمسلم فردا أو مجتمعا كل منهما مطالب بأن ينظر في المباحات العديدة فيختار أنسبها وأصلحها وأوفاها. ولا غرابة في ذلك فما ألبسه في بيتي قد لا يصلح أن ألبسه في عملي وكلاهما حلال. وسنجد لذلك تطبيقاته في موضوع منع النسل وتنظيمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 469 خلال عملي أجريت كل طرائق تحديد النسل وطالما أطنبت وبشرت بين مريضاتي أو طلابي عن المخاطر الصحية التي تتعرض لها النساء غزيرات الإنجاب وقناعتي أن منع الحمل في ذاته ليس حراما، ولكن هل معنى ذلك أن أكتفي بإجابة مبسطة عن سؤال بسيط هو حلال أو حرام، أو أن أكتفي بأن الاعتبار الطبي هو المرجع الوحيد فيما ينبغي للناس أن يأخذوا أو يدعوا؟ لا، لأن شواهد العصر ترينا بوضوح أن بين الحروب المستعرة في عالمنا هذا حربا تسمى الحرب الديموغرافية، تلك التي تهدف إلى تغيير الأنماط السكانية لتجعل الأغلبيات أقليات والأقليات أغلبيات وهي تستعين على ذلك بأسباب، منها التبشير بمنع الحمل ولعل من الأمثلة البليغة على ذلك شعب فلسطين، فإن الصداع الأكبر في الدماغ الإسرائيلي ليس الدولة العربية وليس الجيوش العربية وإنما التفاوت الكبير في معدل الإنجاب بين السكان العرب واليهود فإن استمر أفضى إلى أن يجد اليهود أنفسهم بعد بضعة أجيال أقلية مغلوبة، أفيعقل أن نقيم حملة بين نساء العرب لتهويل مخاطر الإنجاب وتزيين مزايا التحديد معتمدين على أن الحكم الشرعي أن منع الحمل حلال؟ إن الأمة التي فقدت كل شيء إلا عدد أفرادها، لا يجوز لها شرعا أن تفرط في هذه الميزة الباقية وليست فلسطين هي المثال الوحيد للحرب الديموغرافية، بل أعلم بالاطلاع الشخصي أن هذه الحرب الديموغرافية دائرة الرحى منذ زمن في أكثر من بلد من بلاد الشرق الأوسط دونما تسمية حتى لا يظن بنا إشعال فتنة طائفية. أذكر في مطالع حياتي الجامعية أن العلاقات ساءت بيننا وبين دولة غربية كبرى وانقطعت الصلات حتى نبه علينا بأن لا ندخل المكتبة التابعة لهم، إلا بإذن من مجلس الوزراء وكانت هي المكتبة الوحيدة التي تتيح لنا الاطلاع على ما أقفرت منه مكتباتنا؛ نظرا لقيود العملة وطالت القطيعة كل شيء إلا شيئا واحدا هو تمويل أبحاث تحديد النسل في بلادنا من قبل تلك الدولة العظمى ظاهرة في الواقع توحي بسوء الظن حتى بت أعتقد أن مشكلة الانفجار السكاني وقصور موارد الأرض إزاء تفاقم سكانها إنما تمثل جانبا من الحقيقة لا الحقيقة كلها، وإلا فكيف نفسر أن بعض الدول الكبرى لا تتورع عن إحراق الفائض من حاصلاتها الغذائية أو إلقائه في اليم حتى لا تهبط أسعاره وفي عالمنا الذي أصابته المجاعات نرى فائض المحاصيل سلعة استراتيجية للضغط السياسي ولا يستخدم منه في وجوه البر إلا نزر يسير عن طريق هيئات خيرية أو تبشيرية لها هي الأخرى أهداف ومقاصد، ومعلوم أن موارد ضخمة للغذاء في البر والبحر جاهزة لكشف النقاب عنها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 470 وأن التقنيات العلمية على استعداد لمضاعفة تلك الموارد وأن جزءا من مائة من ميزانيات التسلح لو وجه هذه الوجهة لكان بليغ الأثر في سد هذه الهوة، أما العالم الثالث الفقير الذي انهمرت دموع العالم الأول أسفا عليه فأحسب أن الذي يقصم ظهر اقتصاده حقيقة ليس النمو السكاني بقدر ما هو الربا الباهظ الذي يستأديه منه العالم الأول عن ديونه حتى بات الاقتصاد القومي عاجزا عن الوفاء بفوائد الديون فضلا عن الديون نفسها على أنني لا أريد أن أطوي بعض الحقيقة، وإذا بدا حديثي وكأنه ضد تحديد النسل فعلي أن أسائل نفسي ماذا يستطيع بلد من البلاد كمصر أن يفعل إذا كان مقدار التنمية أقل من أن يشبع عدد الأفواه الجديدة التي تولد في كل عام؟ وكيف ألوم أسرة بذاتها إن طحنتها أعباء الحياة فلجأت إلى التحديد؟ ولقد هبت على ذلك عاصفة من الانتقادات بعضها يرتكز على حجج سليمة ولكن بعضها يستشهد بقول الله {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء 31] وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام 151] الاستشهاد هنا في غير موضعه فليس في منع الحمل قتل ولد، لا بعد أن يولد ولا قبل أن يولد وهو ما فرق فيه الغزالي بين منع الحمل والإجهاض، فقال: (وليس ذلك كذلك، فإن الإجهاض عدوان على موجود حاصل ... إلخ ما قال) وعلى الرغم من أنني أبصر وجه الضرورة التي تلجئ مصر وأمثالها إلى الأخذ بسياسة تحديد النسل فإن هذه السياسة في اعتقادي لا تمثل العلاج الإسلامي لهذه المشكلة، كما أنها مرفوضة إن كانت قهرية والجفوة بينها وبين الحل الإسلامي ليست مسئولية مصر وحدها ومن لف لفها وإنما أصل الخلل أن العالم الإسلامي لا يتصرف على أنه عالم إسلامي ما زال القطر من أقطاره ينظر إلى غيره على أنه الآخر وليس الأنا ما زال هناك الذي ينوء بالغنى والذي ينوء بالفقر الأرض الخصبة في مكان والسواعد الدربة في مكان والمال الوافر في مكان ثالث، ولكنها لا تلتقي، ولو كانت كلها للإسلام لالتقت، ويقول الله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون 52] فنسمع ولا نلبي ولسنا هنا ندعو لمظهرية وحدة، ولكن الحقيقة الوحدة تراحما وتلاحما وتنسيقا إذن لوجدنا الحل لا لمسألة تنظيم النسل ولكن لكافة العقبات التي تحول بين العالم وبين الاهتداء بنور الله الذي جائنا وكلفنا بنشره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 471 إن موضوع تحديد النسل في العالم حديث نسبيا ولعله بدأ بصورة مسموعة عندما تبنت بعض الحكومات سياسة التحديد من باب الضرورة الاقتصادية فدعت الفقهاء إلى أن يبينوا للناس أنه ليس حراما شرعا وكانت من ذلك كتابات وأحاديث وإسهامات فقهية في مؤتمرات قومية وإقليمية وعالمية ولا نشكك في إخلاص فقهائنا الذين اضطلعوا بذلك، ولا نقدح فيما وصلوا إليه من رأي الإباحة ورغم اشتراكهم في هذا الرأي مع الهيئات الدولية الداعية إليه فإننا نود أن نؤكد أن هؤلاء وأولئك لم يكونوا جيادا تجري في عنان واحد وبنية واحدة، فحركة تحديد النسل العالمية نبعت من آراء داروين ثم مالثيوس اللذين تحدثا من جانب عن تكاثر الناس أكثر من تكاثر الموارد ولكن من الجانب الآخر عن أن الأجناس المتخلفة تشكل عبئا على الأسرة الإنسانية وتلويثا لنقائها فينبغي أن لا يسمح لها بالتكاثر غير المقنن ثم كان امتدادهما في حمل لواء الحركة على الأخص سيدتين هما ميري ستوبس في بريطانيا ومارجريت سنجر في أمريكا تحت شعار حركة الدفاع عن المرأة الذي خلط صالحا وسيئا، فكان فيه الفوائد الصحية لتحديد النسل ولكن كان فيه كذلك ضرورة مساواة المرأة بالرجل في الحريات ومنها حرية الجنس مشروعا أو غير مشروع غير مهددة بحدوث حمل غير مرغوب وبأموال مرجريت سنجر مولت الأبحاث التي أنتجت حبة منع الحمل الأولى، وبنفوذها تأسس الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية وله صلاته ونشاطه في كثير من بلادنا. ولقد رأيت له في مؤتمرنا هذا ورقة لي عليها بعض الاحتراز واستقر للحركة النصر فيما يختص بمنع الحمل فإذا هو الأن حق أكيد للمتزوجات وغير المتزوجات والقاصرات وتلميذات المدارس بصحبة تغيير شامل في القيم والمفاهيم أفضى إلى أن ما نسميه نحن زنا ونعترض عليه أصبح نشاطا إنسانيا عاديا لا غبار عليه وهو حق لمن أراده كانت المعركة التالية معركة إباحة الإجهاض وجعله حقا لكل من تطلبه وكانت الآثار الأخلاقية لذلك بالغة المدى فأغلبية المجهضات على مستوى العالم غير متزوجات وفيما طالعت من مؤتمرات فقهية سابقة من تناول لموضوع الإجهاض واختلاف عليه فإن الصاحي لمجريات الأمور في عالمنا الحاضر يدرك بوضوح أنه لو لم يكن هناك من داع لمنع الإجهاض إلا باب سد الذرائع لكفى وزاد، ونحسب أن موضوع الإجهاض قد حسم الآن في أكثر من مؤتمر إسلامي باعتبار حياة الإنسان محترمة في كافة أدوارها فلا يجوز إهدارها إلا لإنقاذ حياة الأم وبينما ظن الفقهاء السابقون منذ قرون أن بدء الحياة قرين نفخ الروح الذي أورده حديث الأربعينات أو إحساس الأم بحركة الجنين في بطنها وكلاهما يكون في نهاية الشهر الرابع للحمل تنبئنا المعطيات العلمية الحديثة أن حياة الفرد منا قد بدأت قبل ذلك بكثير بدأت في الواقع منذ بدايتها بالتحام الحيوان المنوي والبويضة وكل منهما نصف خلية ليكونا الخلية الكاملة ذات الحصيلة الإرثية التي تميز الجنس الآدمي عامة كما تميز إنسانا فردا بعينه لم يتكرر بتمامه ولن يتكرر منذ آدم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 472 والمطلع على أحكام الفقه عن الجنين في باب الإرث والديات ورعاية الحامل وعبادتها وأحكامها يدرك أن للجنين في الإسلام أهلية وجوب ناقصة من حيث أن له حقوقا وإن لم تكن عليه واجبات ويزيد الأمر وضوحا أن نعلم أنه إذا حكم على امرأته بالإعدام وكانت حاملا في أية مرحلة من الحمل مهما كان باكرا فإن تنفيذ الحكم يؤجل حتى تلد وترضع احتراما لحق هذا الجنين في الحياة مهما كان باكرا وحتى لو كان الحمل من سفاح. وأما الثالثة في مجال التحديد بعد المنع والتجهيض فجراحات التعقيم وهي كذلك موجة عالمية اجتماعية سياسية خارج نطاق الطب يدعو أهلها إلى تعقيم أعداد أزيد وأزيد في أعمار أصغر وأصغر وعدد أولاد أقل وأقل، وجراحة التعقيم محدث لم يرد فيه نص ولكن مما يدل على أن اتخاذ القرار بها أمر خطير للغاية أن نعلم أنه في باب الديات فإن الإصابة التي تفضي إلى منع القدرة على النسل تستحق دية نفس كاملة ولهذا نرى حصرها في الضرورة الطبية أو عندما تكون الفترة الإنجابية قد قاربت النهاية خاصة وفي الوسع تدبير البديل من وسائل منع الحمل المؤقتة بدلا من إجراء جراحة لا تضمن الرجعة فيها إن تغيرت الظروف بتغيير الزوجة وفقد الأولاد ويكون الندم ولات حين مندم وغير صحيح أن إعادة الخصوبة آنذاك مضمون بالجراحة كما يروج بعض الزملاء. نقول: تنظيم النسل وتحديده فما الفرق بينهما؟ أسماء سموها فعندما ثارت اعتراضات على المنع والتحديد سموه التنظيم وأدخلوا فيه علاج العقم أي بالنقص والزيادة وقبل أن نتطرق إلى موضوع علاج العقم نشير إلى أن مسألة إرضاع الأمهات أولادهن من أثدائهن رضاعا طبيعيا حازت رضاء الإسلام بلا شك بل قدر القرآن له سنتين لمن أراد أن يتم الرضاعة ولو تم ذلك لكان أنجع وسيلة للمباعدة بين الأحمال نظرا لأن للرضاع أثرا سلبيا على الخصوبة فضلا عن ما فيه من فوائد للمواليد والوالدات جسمية ونفسية ولو كان الأمر بيدي لطوعت كل الظروف واستعنت بكل الوسائل للاستغناء عن الحليب الصناعي وتمكين الوالدات العاملات المتفرغات من أداء الرضاع الطبيعي. وننتقل إلى علاج العقم فنقول: إن الحرص على الذرية أمر فطري وإن السعي إليها لمن حرمها مطلب مشروع ما دام يتم بوسائل مشروعة ووسائل ذلك الآن عديدة بتعدد الأسباب ولا يستطيع الطب الآن ولا نحسبه سيستطيع في المستقبل أن يكفل الشفاء في مائة بالمائة من الحالات فمن يشأ الله يبق عقيما وقد عرضت مؤتمرات طبية فقهية سابقة لطائفة من الوسائل الحديثة التي ابتكرها الطب الغربي والمعروف أنه لا يتقيد بدين وكان لعلماء المسلمين رأيهم فيها ونرى أن نوجزها هادفين إلى التذكرة عازفين عن التكرار وحبذا لو قدمنا لذلك بالأسس الشرعية التي تحكم هذا الموضوع وهي ثلاثة: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 473 الأول: إن الزواج بعقده الشرعي المعتبر هو الآن الوعاء الوحيد المشروع لكل من الجنس والإنجاب. الثاني: إن عقد الزواج غاية أقرب الأجلين طلاقا أو مماتا وكلاهما ينهي الزوجية. الثالث: إن الزواج كما يدل ظاهر التسمية إنما ينتظم اثنين لا ثالث لهما ولا رابع ولا خامس وليس هناك عقد زواج يسع أكثر من اثنين هما الزوجان فإذا تعددت الزوجات تعددت العقود وكل دائما بين اثنين. إن طبقنا هذه الأسس وجدنا إذن التلقيح الصناعي جائز بمني الزوج لزوجته حال قيام الزوجية وإن تقنية أطفال الأنابيب جائزة بين الزوج وزوجته أي بمني منه وبويضة منها وذلك حال قيام الزوجية وبدون إقحام طرف غريب من مني أو بويضة أو جنين أو رحم وعلى هذا فمسألة الرحم الظئر مستأجرة أو موهوبة لا تجوز وكما لا يحل المني الغريب لا تحل البويضة الغريبة ولا الجنين الغريب لا استقبالا من غريب ولا إيداعا في غريب ولا يجوز أن تحمل الضرة جنين ضرتها ولو اشتركا في الزوج وإلا أقحمنا طرفا ثالثا على ثنائية عقد الزواج وهي ثنائية لا تقبل التثليث وتشكل مسالة الرحم الظئر منعطفا خطيرا في تاريخ الإنسانية فلأول مرة في التاريخ تحمل أنثى الإنسان طواعية وقد قررت سلفا أنها ستتخلى عن جنينها لغيرها ولما كان هذا في الغالب الأعم يحدث لقاء مال متفق عليه فقد اختزلت الأمومة من قيمة إلى ثمن والأصل أن صلة الرحم في فطرة الإنسان وفي شرعة الإسلام قيمة تجل عن معيار المادة وتقدير الثمن ولقد نشأت عنها في بلاد مروجيها مشاكل عديدة لعل أشهرها تحرك عاطفة الأمومة في نفس الحامل حتى إذا ولدت وتهيأت للإرضاع تشبثت بالوليد ونشب النزاع بينها وبين صاحبة البويضة وراحت كلٌّ أمام القضاء تسوق حجتها في موقف أقل ما يوصف به أنه اختلاط أنساب فالإسلام يأباه ويأبى ما يؤدي إليه ولكن إن حدث فغالب علماء المسلمين اليوم يرون الأمر على بداهته وهو أن الوالدة هي الوالدة هذه سياحة سريعة في موضوعنا ومن الخير أن نحكم خطوط دفاعنا الإسلامية حتى لا تغزونا تلك الجدائد على علاتها وإنما بعض أرضها على أحكام الإسلام فما اتفق أخذناه وما خالف نبذناه ويبقى في رقابنا واجب آخر نحو بقية العالم الذي أوشك أن يعبد العلم من دون الله وأن يتخذ إلهه هواه ذلك هو واجب الهداية ونعلم أن الغرب في حاجة لاهبة إليه فتلك رسالتنا إن كنا حقا ورثة النبوة التي أرسلها الله رحمة للعالمين فلقد استطال العلم واستطال الإلحاد ولم يزد الإنسان إلا شقاء فعسى الله أن يهدينا ويهدي بنا ويجعلنا أهلا للرسالة وأوفى بالأمانة. بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف 108] وقد انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه فعسى أن نكون ممن اتبعه والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 474 الدكتور إبراهيم فاضل الدبو: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. السيد رئيس الجلسة المحترم أساتذتي الحضور لقد أغناني أستاذنا الكريم حسان حتحوت في الكلام عن تحديد النسل من الوجهة الاجتماعية والشرعية بصورة عامة وسوف أتجنب الكلام فيما ذكره الأستاذ الفاضل مقتصرا على ذكر أهم النصوص الفقهية في هذه المسألة فأقول وبالله التوفيق: هناك فرق كبير بين تنظيم النسل المقصود بالبحث هنا وبين منعه بصورة دائمة. وذلك بإجراء بعض العمليات الجراحية وبعض الطرق العلمية التي تحقق هذا الغرض ومنع الإنجاب نهائيا يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية من الزواج الذي من أهم أغراضه ومقاصده التناسل كما بينت ذلك النصوص الشرعية ثم إن قواعد الشريعة تدل على منع ذلك الأمر وتحريمه من غير ضرورة فإن في الحرمان من النسل نهائيا مضرة ظاهرة يأباها الشارع وتدخل فيما نهى عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) وواضح وجه المضرة في الحرمان من النسل فإن الشريعة الإسلامية وما تعارفه الناس في أمر النكاح يقتضي أن يكون هناك تناسل لعمارة الأرض وبقاء الإنسان. لتنظيم النسل وسائل متعددة منها ما تتم قبل تكوين الجنين في رحم المرأة وذلك بأن يمتنع الزوج من وطء زوجته في فترة معينة من طهرها وغالبا ما يكون ذلك في العشرة الوسطية من الطهر عندما تكون بويضة المرأة مهيأة للتلقيح أو في استعمال بعض العقاقير الطبية التي تقلل فرصة الحمل وأحيانا يلجأ الزوج إلى العزل وذلك بأن يقذف ماءه خارج رحم زوجته وهناك وسائل أخرى تلجأ إليها بعض الأسر بعد تكوين الجنين في رحم أمه سواء كان في مراحل تكوينه الأولى أم الأخيرة ولكل حالة من هاتين الحالتين حكمها الخاص. حكم الحالة الأولى: وهي ماذا استعمل الزوجان الوسائل الكفيلة بمنع الحمل بصفة مؤقتة قبل تكوين الجنين ومنع الحمل بهذه الصفة أمر معروف لدى الأمم قبل الإسلام وبعده ومنهم الفرس والرومان وقد اتخذ العرب في الجاهلية العزل وسيلة لمنع الحمل أيضا ولما جاء الإسلام والناس على هذا الحال وكان بعض من دخلوا في الإسلام يتبعون هذه الوسيلة سأل بعضهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكم العزل باعتباره وسيلة للتحكم في الحمل طالما وجدت الرغبة في عدم حصوله فأدلى الرسول صلى الله عليه وسلم بما يشعر من إباحته. فما هو العزل؟ هو أن ينزع الرجل بعد الإيلاج ليقذف مائه خارج الرحم ويلجأ إليه لأحد سببين: إما خوفا على الرضيع من أن يلحق به من ضرر إن وجد أو لئلا تحمل المرأة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 475 رأي الفقهاء في العزل: الأصل عند الجمهور هو جواز العزل إلا أنهم اختلفوا في اشتراط إذن الزوجة له أو عدم اشتراطه وذلك على النحو التالي: نص الحنفية على إباحة العزل بعد إذن الزوجة إذا كانت بالغة إذ غير البالغة لا ولد لها وكالبالغة المراهقة إذ يمكن بلوغها وحبلها وقد نقل ابن عابدين عن بعض كتب المذهب أن الزوج إذا خاف من الولد السوء فله العزل بغير رضاها بسبب فساد الزمان وهذه وجهة نظر الحنابلة أيضا قال ابن قدامة: ولا يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها وهل الاستئذان واجب أو مستحب؟ قال القاضي الحنبلي: ظاهر كلام أحمد وجوب استئذان الزوجة في العزل ويحتمل أن يكون مستحبا لأن حقها في الوطء دون الإنزال وإباحة العزل قال المالكية به أيضا وفي مذهب الشافعية ما يؤيد هذا الرأي أيضا. دليل الجمهور فيما ذهبوا إليه: استدل الجمهور على إباحة العزل للزوج من زوجته سواء من اشتراط منهم إذنها أو لم يشترط بالروايات الصحيحة الواردة عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم والتي تشعر بجواز ذلك وقد جزم ابن حزم الظاهري بتحريم العزل وقالت الزيدية بكراهيته مستدلين بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن العزل قال: ((ذلك الوأد الخفي)) . الحالة الثانية: وهي إذا ما تعمدت المرأة إسقاط النطفة بعد تكوينها في رحمها وذلك باستعمال العقاقير الطبية أو إجراء عملية جراحية أو ما أشبه ذلك وهو ما يعبر عنه بالإسقاط أو الإجهاض. وقبل أن أنقل رأي الفقهاء في الاعتداء على الجنين بما ذكرناه أود أن أبين هنا مراحل تكوين الجنين بقدر ما له صلة بموضوع بحثنا هذا. أطوار الجنين في الرحم: لقد تناول القرآن الكريم أطوار الجنين في رحم أمه من وقت التلقيح الذي هو أصل التكوين الجنيني حتى مرحلة نفخ الروح فيه وتكوين العظام أو إكسائها باللحم ثم جعله إنسانا كامل الخلقة وكل هذه الأطوار يتناولها قوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . [المؤمنون 12-14] يتعرض القرطبي في تفسيره للأطوار الثلاثة التي يمر بها الجنين عند بدء تكوينه ويفسر كل طور من هذه الأطوار ومن المفيد أن ننقل ما قاله رحمه الله بهذا الخصوص النطفة: هو المني سمي نطفة لقلته وهو القليل من الماء وقد يقع على الكثير منه، العلقة: وهو الدم الجامد، المضغة: وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ ومنه الحديث "ألا وإن في الجسد مضغة"، والأطوار المذكورة عدتها أربعة أشهر. وحكي عن العباس قوله: "وفي العشر بعد الأشهر الأربعة ينفخ فيه الروح فذلك عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 476 ومما مضى تأكد بأن نفخ الروح في الجنين يكون بعد مائة وعشرين يوما وذلك محل اتفاق بين جميع العلماء وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع وفي وجوب النفقات على حمل المطلقات وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف. رأي العلماء في الاعتداء على الجنين بالإجهاض: بعد هذا العرض لتكوين الجنين في رحم أمه أذكر ما قاله فقهاؤنا رحمهم الله بخصوص جواز إسقاطه أو عدم جوازه وفي أي مرحلة من مراحله يجوز الإسقاط وفي أي مرحلة لا يجوز اتفق الفقهاء على القول بتحريم الإجهاض بعد نفخ الروح في الجنين أما قبل النفخ فقد اختلفت أراؤهم في ذلك على النحو التالي: أجاز الحنفية في كثير من كتبهم الإسقاط بعد الحمل ما لم تنفخ فيه الروح ولن يتحقق ذلك إلا بعد مائة وعشرين يوما كما قلنا ولم يشترط أصحاب هذا الرأي من فقهائهم إذن الزوج في الإسقاط قبل المدة المذكورة جاء في الدر المختار (يباح إسقاط الولد قبل أربعة أشهر ولو بلا إذن الزوج) وحكى ابن عابدين عن بعض كتب المذهب ما يفيد الكراهية إن تم الإسقاط بدون عذر فقد نقل عن الذخيرة ما نصه (لو أرادت الإلقاء قبل مضي زمن ينفخ فيه الروح هل يباح لها ذلك أم لا؟ اختلفوا فيه) وكان الفقيه علي بن موسى يقول: إنه يكره فإن الماء بعدما وقع في الرحم مآله الحياة فيكون له حكم الحياة كما في بيضة صيد الحرم ونحو ذلك في الظهيرية. وقد تشدد المالكية في هذه المسألة إذ منعوا إسقاط الجنين ولو قبل الأربعين يوما على ما هو المعتمد في المذهب جاء في الشرح الكبير للدردير: " ولا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم ولو قبل الأربعين يوما، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعا ". أما الشافعية فإن مذهبهم تصوره عبارة البجيرمي نقلا عن ابن حجر إذ يقول: اختلف الشافعية في سبب الإسقاط ما لم يصل لحد نفخ الروح فيه والذي يتجه وفاقا لابن عماد وغيره الحرمة وفرق بين ذلك وبين العزل فإن المني حال نزوله محض جماد ولم يهيأ للحياة بوجه بخلافه بعد استقراره في الرحم وأخذه في مبادئ التخلق ثم يمضي البيجرمي قائلا: إن في بعض الكتب خلاف ذلك أخذا من قول ابن حجر والذي يتجه الحرمة ومقتضى ذلك أن بعض الشافعية يقول بعدم حرمة الإسقاط قبل نفخ الروح وقد نص الشبرامسلي أنهم اختلفوا في جواز التسبب في إلقاء النطفة بعد استقرارها في الرحم وجاء في موضع آخر من نهاية المحتاج اختلف في النطفة قبل تمام الأربعين على قولين: منهم من أجاز ذلك ومنهم من منع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 477 وذكر الخطيب الشربيني أن المرأة الحامل إذا دعتها الضرورة إلى شرب دواء فشربته ثم أجهضت فينبغي أن لا ضمان عليها في هذه الحالة كما قال الزركشي بخلاف ما إذا صامت فأجهضت فإنها تضمن دية الجنين. ومن هنا يظهر لي بأن الإجهاض لعذر لا إثم فيه على رأي الشافعية بناء على قول الزركشي هذا وبهذا يتضح أن الشافعية لا يختلفون عن غيرهم ممن قدمنا كثيرا في مسألة العزل وإن كانو يقتربون في مسلكهم الفقهي وذكر الخلافات من مسلك الحنفية على ما أوردناه ويصور لنا ابن قدامة مذهب الحنابلة فيقول: تجب في الجنين إذا سقط من الضربة ميتا وكان من حرة مسلمة الدية وقيمتها خمس من الإبل ولا فرق بين أن يخرج جميع أجزاء الجنين من الضربة أو بعضه ولو أن رجلا ضرب حاملا أو ضرب من في جوفها حركة أو انتفاخا فأسكن الحركة وأذهبها لم يضمن الجنين معللا ذلك بقوله: لأن الحركة يجوز أن تكون لريح في البطن سكنت ولا يجب الضمان بالشك فإن أسقطت المرأة من جراء الضربة ماليس فيه صورة آدمي فلا شيء فيه لعدم التيقن من كونه جنينا وإن ألقت مضغة فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية ففيه غرة وإن شهدت أنه مبتدأ خلق الآدمي لو بقي تصور، ففيه وجهان: أحدهما لا شيء فيه لأنه لم يتصور فلم يجب فيه كالعلقة؛ ولأن الأصل براءة الذمة فلا نشغلها بالشك ومن خلال ما قاله ابن قدامة هنا بعدم إلزام الضارب بشيء فيما لو أسقط ما لم يتصور أو كان نطفة أو علقة يظهر بان الحنابلة لا يختلفون عن غيرهم من الفقهاء الآخرين في القول بجواز إسقاط الجنين ما دام في مراحل تكوينه الأولى من نطفة أو علقة بخلاف ما لو تصور بمعنى بان خلقه. ويرى الظاهرية كما يصور مذهبهم ابن حزم بقوله: صح أن من ضرب حاملا فأسقطت جنينا فإن كان قبل الأربعة أشهر فلا كفارة في ذلك وإن كان الإجهاض قد حدث بعد الأربعة أشهر فإنه يوجب مع الغرة الكفارة التي هي كفارة القتل الخطأ لأن الجنين بعد مضي أربعة أشهر يكون قد نفخت فيه الروح الإنسانية وفي مذهب الزيدية ما يؤيد اتجاه الفقهاء الآخرين فيرون كما يحكي مذهبهم صاحب البحر الزخار أنه يجوز إلقاء النطفة والعلقة والمضغة لأنه لا حرمة لهذه الأشياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 478 خلاصة الآراء: ومن كل ما عرضنا في هذا الموضوع يتبين أن الاتجاه لا تختلف فيه وجهة النظر في أن الإجهاض بعد نفخ الروح عمدا محرم شرعا وقد حكى اتفاق العلماء هذا ابن قدامة حيث قال:: (وإذا شربت الحامل دواء فألقت جنينا فعليها غرة) . وقد انفرد الزركشي من أئمة الشافعية بجواز ذلك للأم عند الضرورة كما حكاه الخطيب الشربيني، والذي أشرنا إليه سابقا، أما قبل نفخ الروح في الجنين فقد اختلفت وجهات نظرهم على ما بينا. والذي أرجحه في هذه المسألة هو حرمة الاعتداء على الجنين بعد نفخ الروح فيه بأي وسيلة كانت بشرب دواء من الأم، أو بإجراء عملية جراحية، أو غير ذلك فيما لو تأكد لنا بث الروح فيه؛ لأن الإجهاض عليه إزهاق لروحه وهذ لا يجوز وما ذهب إليه الزركشي من جواز ذلك عند الضرورة ينقصه الدليل. أما قبل نفخ الروح في الجنين فإن دعت الضرورة لإسقاطه كالخوف على هلاك الأم من مرض أو ما أشبهه فلا أرى مانع من إسقاطه، أما إجهاض لغرض تنظيم النسل بعد استقراره في رحم المرأة فلا أرى جوازه؛ لأنه ليس بضرورة، إذ بإمكان الزوجين الأخذ بالوسائل المشروعة لتنظيم النسل والتي فصلنا فيها القول عند كلامنا عن العزل. في ختام بحثنا لموضوع النسل وتحديده أود أن أبين ما يلي: أولا: إن تنظيم النسل وتحديده بالوسائل المشروعة التي تطرقنا إليها خلال البحث وقبل تكوين الجنين في رحم المرأة ينطبق عليه حكم العزل الذي فصل العلماء فيه القول وقد أباحه جمهورهم على أن لا يتخذ ذلك ذريعة لمنع الحمل بصورة دائمة؛ لأنه يتنافى مع توجيهات الشريعة الإسلامية التي تدعو إلى تكثير النسل. ثانيا: بعد استقرار الماء في رحم المرأة وأخذ دوره التكويني سواء كان في طوره الأول النطفة أو الثاني العلقة أو الثالث المضغة وقبل نفخ الروح فيه فلا يباح إسقاطه إلا إذا دعت الضرورة إليه كما ذكرنا ذلك قبل قليل. ثالثا: وبعد بث الروح في الجنين ويعرف ذلك عن طريق الأم أو إخبار طبيبة أو مولدة فلا أرى جواز إسقاطه لأي سبب من الأسباب لما فيه من إزهاق روح وهو محرم شرعا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 479 الدكتور محمد سيد طنطاوي: بسم الله الرحمن الرحيم مسألة تنظيم الأسرة من المسائل التي اهتمت بها كثير من الدول والهيئات. وقبل أن نبدأ في الحديث عن هذه المسألة من الناحية الدينية نحب أن نتفق على الحقائق التالية: أولا: الأديان السماوية أنزلها الله تعالى لسعادة البشر ولهدايتهم إلى الصراط المستقيم، ولغرس المعاني الفاضلة في نفوسهم وأن الكتب الذي أنزلها سبحانه على أنبيائه قد قررت هذه الحقيقة، ومن ذلك قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} . [إبراهيم 1] . ثانيا: الكلام في الأمور الدينية بصفة خاصة وفي غيرها بصفة عامة يجب أن يكون مبنيا على العلم الصحيح والفهم السليم والدراية الواسعة الواعية لأصول الدين وفروعه ولمقاصده وأحكامه، وأن يكون لحمته وسداه الأمانة والصدق وخدمة الحق والعدل والتنزه عن الأحقاد والأطماع والبعد عن المآرب والأهواء، والترفع عن النفاق وكتمان الحق قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل 116] وفي الحديث الصحيح ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) ثالثا: إن الخلاف في الأمور التي تقبل الاجتهاد لا غبار عليه ولا ضرر منه ما دام القصد الوصول إلى الحق وإلى ما تتحقق معه المصالح النافعة للأفراد والجماعات. وما دام هذا الخلاف مصحوبا بالنية الحسنة وبالكلمة الطيبة وبالمناقشة الرصينة التي يزينها الأدب ومكارم الأخلاق ولقد سما النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الاجتهاد فبشر أصحابه بأنهم مأجورون سواء أصابوا أم أخطأوا فقال في حديث صحيح ((: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد)) . رابعا: إن الأولاد هم ثمرة القلب وإحدى زينتي الحياة الدنيا ولكن الأولاد في الوقت نفسه أمانة في أيدي آبائهم، ويجب على الآباء أن يرعوا هذه الأمانة حق رعايتها وأن يحسنوا تربيتهم دينيا وجسميا وعلميا وخلقيا، وبأن يقدموا لهم ما هم في حاجة إليه من عناية مادية ومعنوية. خامسا: إن هذا الكون قد أقامه الله تعالى على نظام دقيق بديع محكم فكل شيء فيه يسير وفق تدبير متقن وتنظيم بديع، فالشمس تشرق وتغرب في وقت معلوم ومثلها القمر والليل والنهار كما قال سبحانه {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 480 سادسا: إننا نعيش في عصر لا تتباهى فيه الأمم بكثرة أفرادها ولا باتساع أراضيها وإنما نحن نعيش في عصر تتنافس فيه الأمم بالاختراع والابتكار ووفرة الإنتاج والتقدم العلمي بشتى صوره وألوانه هذا التقدم الذي يجعل احتياج الغير إليك أكثر من احتياجك إليه ونحن نشاهد أمما أقل عددا من غيرها ولكنها أقوى وأغنى من ذلك الغير، والأمثلة على ذلك يعرفها عامة الناس فضلا عن علمائهم. سابعا: من مزايا شريعة الإسلام أن الأمور التي لا تختلف المصلحة فيها اختلاف الأوقات والبيئات والاعتبارات تنص على الحكم فيها نصا قاطعا كتحليل البيع وتحريم الربا أما الأمور التي تخضع فيها المصلحة للظروف والأحوال فإن شريعة الإسلام تكل الحكم فيها إلى أرباب النظر والاجتهاد والخبرة في إطار قواعدها العامة، ومن هذه الأمور مسألة تنظيم الأسرة فإنها من المسائل التي تختلف فيها الأحكام باختلاف ظروف كل أسرة وكل دولة وباختلاف إمكانياتها، فمثلا هناك دول في حاجة إلى الكثرة البشرية؛ لأن وسائل الإنتاج والرقي فيها تحتاج إلى هذه الكثرة القوية وأمثال هذه الدول يقال لها مرحبا بهذه الكثرة القوية المؤمنة العاقلة وهناك دول لا تحتاج إلى الكثرة في عدد أفرادها؛ لأن هذه الكثرة موجودة، ولأن إمكانياتها لا تتحملها، ولأن السواد الأعظم من أفرادها يعيش على جهود القلة فيها، ولأنها مع كثرتها تستورد من غيرها معظم ضروريات حياتها وأمثال هذه الدول يكون تنظيم الأسرة فيها أمرا مرغوبا فيه، إننا مرة أخرى نقول: إن الكثرة الصالحة المنتجة القوية مرحبا بها، أما الكثرة الهزيلة الضعيفة الشاردة عن الطريق القويم المعتمدة في كثير من ضروريات حياتها على غيرها فالقلة خير منها. بعد هذه الحقائق التي أرجو أن تكون محل اتفاق نحب أن ندخل إلى موضوع تنظيم الأسرة والنسل بأسلوب السؤال والجواب فنقول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 481 أولا: ما معنى تنظيم الأسرة؟ وهل هناك فرق بينه وبين التحديد والتعقيم والإجهاض؟ والجواب ببساطة تنظيم الأسرة معناه أن يتخذ الزوجان باختيارهما واقتناعهما الوسائل التي يريانها كفيلة بتباعد فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان يتفقان عليهما فيما بينهما، وهناك فرق شاسع بينه وبين التحديد والتعقيم والإجهاض إذ تحديد النسل بمعنى منعه منعا مطلقا ودائما حرام شرعا، ومثله التعقيم الذي هو بمعنى القضاء على أسباب النسل نهائيا، وأما الإجهاض وهو قتل الجنين في بطن أمه أو إنزاله فقد أجمع الفقهاء أيضا على حرمته، وأنه لا يجوز إلا إذا حكم الطبيب الثقة بأن في بقاء هذا الجنين هلاكا للأم أو ضررا بليغا سيصيبها بسبب بقائه في بطنها. ثانيا: هل تنظيم الأسرة بتلك الصورة المحددة التي سبق بيانها جائز من الناحية الدينية؟ وبينا في الجواب أن تنظيم الأسرة بتلك الصورة التي سبق بيانها جائز شرعا، وسقنا الأدلة على ذلك. ثالثا: هل تنظيم الأسرة هو الوسيلة الوحيدة لحل مشكلة تزايد السكان ورفع مستوى المعيشة وحصول كل فرد على مطالب حياته بصورة مقبولة؟ والجواب ما قال عاقل بأن تنظيم النسل أو الأسرة هو الوسيلة الوحيدة لحل هذه المعضلات، وإنما هو وسيلة من بين كثير من الوسائل التي من أهمها: أداء كل فرد من أفرادها لواجبه قبل مطالبته بحقوقه، وحرص هذا الفرد على أن يكون لبنة نافعة في بناء كيان مجتمعه، لبنة تقوي كيان المجتمع ولا تضعفه وتعطيه من إنتاجها أكثر مما تأخذ منه وآفة الآفات في كل أمة تثقلها الديون والمتاعب المتشابكة تتمثل في تقديري في تمزق أبنائها وتفرقهم وسلبيتهم، وفي شيوع سوء الظن بينهم بدون موجب واهتمام معظمهم بالحصول بكل طريق على مصالحهم الخاصة ومنافعهم الذاتية والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] . رابعا: أهناك فتاوى رسمية صدرت في موضوع تنظيم الأسرة أو النسل؟ والجواب: نعم هناك فتاوى متعددة صدرت في هذا الموضوع وأوردنا جانبا لا بأس به من هذه الفتاوى. خامسا: أيصح للدولة أن تصدر قانونا لتنظيم الأسرة أو النسل؟ والجواب: لا يصح ذلك إطلاقا؛ لأن مسألة تنظيم الأسرة من المسائل الشخصية التي تتعلق بالزوجين وحدهما والتي تختلف من أسرة إلى أسرة على حسب ظروفها وأحوالها وما يتعلق بالزوجين لا تعالجه القوانين، وإنما خير وسيلة لتنظيم الأسرة فهم الدين فهما سليما وإشاعة هذا الفهم بين جميع أفراد الأمة، وإني أرجح أن على رأس الأسباب التي جعلت بعض الناس يتهاون في هذه المسألة إنما هو عدم الفهم السليم لأحكام الدين ولشئون الدنيا والاستخفاف بالمسئولية نحو الأبناء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 482 سادسا: هل تتعارض الدعوة إلى تنظيم الأسرة مع قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] أو مع قوله سبحانه {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31] أو مع قوله سبحانه {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] أو مع الحديث الشريف ((تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) ؟ والجواب: لا تتعارض الدعوى إلا تنظيم النسل متى سيقت بأسلوب حكيم مع هذه النصوص التي سقناها، والجواب أمام فضيلتكم حرصا على العشر دقائق ولا أحب أن أزيد ننتقل إلى النقطة السابعة. سابعا: هل الدين يدعو إلى اتخاذ وسائل معينة لتنظيم الأسرة؟ والجواب أن الدين يدعو إلى الحياة السعيدة بين الزوجين، ويرسم لهما طريقهما ويحدد لهما ما هو حلال وما هو حرام ثم بعد ذلك يعطيهما الحرية الكافية لتصريف حياتهما في إطار شريعة الله وفي إطار مكارم الأخلاق. ثامنا: هل يتنافى أو يتعارض تنظيم الأسرة مع الإيمان بقضاء الله وقدره؟ والجواب لا تنافي ولا تعارض بين تنظيم الأسرة وبين الإيمان بقضاء الله وقدره؛ لأن تنظيم الأسرة ما هو إلا لون من مباشرة الأسباب التي أمرنا الله تعالى بمباشرتها لتنظيم حياتنا وهذه الأسباب قد تنجح وقد لا تنجح وقد تتخذ المرأة وسائل منع الحمل لفترة معينة ومع ذلك يأتي الحمل، كما أن المريض قد يذهب إلى الطبيب فيعطيه علاجا معينا ولكن هذا العلاج قد يؤدي إلى الشفاء وقد لا يؤدي إلى ذلك ونحن مطالبون دينيا وعقليا بمباشرة الأسباب التي شرعها الله تعالى لنجاحنا في الحياة مع إيماننا المطلق بأن ما قدره الله وقضاه لابد أن يكون إلا أن ما قدره الله عز وجل وقضاه نحن لا نعلمه ولا نعرفه؛ لأن مرده إليه وحده وهو سبحانه علام الغيوب والأمر كما قال القائل: إنما الغيب كتاب صانه عن عيون الخلق رب العالمين ليس يبدو منه للناس سوى صفحة الحاضر حينا بعد حين وإذن فتنظيم الأسرة لا يتعارض مع الإيمان بالقضاء والقدر؛ لأن ما قدره الله تعالى نحن لا نعلمه وإنما نحن نباشر الأسباب التي شرعها سبحانه لسعادتنا، ثم نكل الأمور بعد ذلك لله عز وجل يصرفها كيف يشاء، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 483 الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه لي تعقيب على ما تفضل به بعض الباحثين من قبلي شكر الله لهم مساعيهم وتفضلهم بالبحوث القيمة، فلقد ذكر بعض الإخوة الزملاء أن للحنفية في قضية تحديد النسل أي الإجهاض بالذات مسلكا واحدا، واستشهد على ذلك بكتاب العلامة ابن عابدين رحمه الله وذكر ما لبقية المذاهب من أقوال وآراء، وإنني لم أكتب بحثا في هذا الموضوع حيث بحثي يتعلق بموضوع آخر غير أنني توقفت مليا عند مسلك الحنفية هذا، والذي أعرفه وتذكرته وأذكره بالضبط والتوثيق أن الجمهور لهم مسالك متعددة من جملتها مسلك أربعين يوما وهو مسلك مشهور لديهم، أما الحنفية فلهم مسلكان؛ مسلك بجواز الإجهاض قبل الأربعين فقط، ومسلك بجواز الإجهاض قبل مائة وعشرين يوما وهو المسلك الذي ذكره أخي الباحث مقتصرا عليه حصرا ولعله لم يطلع على المسلك الآخر والذي ذكره العلامة ابن عابدين رحمه الله، هذين المسلكين معا وهما قولان مصححان وذهب جمهور المتأخرين إلى ترجيح القول بقبول ما ذهب إليه الجمهور من الأربعين وإن رجح أيضا القول بأربعة أشهر بعض الحنفية المتأخرين الآخرين، فيظهر لنا أن للحنفية مسلكين معا وليس مسلكا واحدا وللجمهور مسالك وأظن أن أغلب الجمهور عند الأربعين لا عند المائة وعشرين وربما هذا الذي ذكرته في نفسي ولا أستطيع أن أجزم مائة بالمائة أنه عين الحقيقة، ولكن هو ما أذكره يوم كنت على مقاعد الدرس والله تعالى أعلم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 484 الدكتور إبراهيم بشير الغويل: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. أولا: هناك ملاحظة تنظيمية قد أقولها في بداية هذا الحديث، وهناك ثلاث ملاحظات متعلقة بالموضوع، وملاحظة تخص بحث الأستاذ حتحوت كما قدمت. الملاحظة التنظيمية: في دورتنا السابقة لاحظتم أن الذي يقدم للموضوع يتناول لا وجهة نظره فقط بل إلى حد كبير وجهات النظر الأخرى التي عرضها الباحثون حتى على الرغم أعتقد أننا جميعا قد اطلعنا على هذه الآراء ودرسناها وقرأناها، ولكن من المناسب ما سرنا عليه في السابق وهو تقديم الذي يقدم هذا الموضوع يتناول مختلف الأبحاث والآراء وليس مجرد بحثه أو رأيه هو بالذات، هذه من الناحية التنظيمية. بالنسبة للموضوع لعل الدكتور حتحوت أشار إشارة، ولكنه اهتم لأحد جوانب المشكلة، وإذا كان الحكم على الشيء فرع من تصوره فلابد أن نذكر أين بدأت هذه المشكلة؟ بدأت هذه المشكلة في الغرب بناء على نظرية مالتوس التي تقول: إن الموارد محدودة والحاجات متزايدة. هل نحن نوافق أصلا أن الموارد محدودة وربنا هو الذي قدر فيها الأقوات وربنا هو الذي قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وربنا هو الذي جعل فيها المعايش وربنا هو القائل: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: 21] وربنا هو القائل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وربنا هو القائل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ} [الأعراف: 96] ، إذن بداية التصور للمشكلة الاقتصادية هو مخالف للتصور الإسلامي القرآني ولابد أن يقال هذا وأن يقرر في جامعات العالم الإسلامي، وإنه من الخطورة أن تظل المشكلة الاقتصادية هي الموارد المحدودة والحاجات المتزايدة، ولا أريد أن أزيد في هذا الموضوع ولكن هذا الباب كان قد يفتح أمامنا قضية. إذن إن هذه النعم التي لا تحصى كيف يكون شكرها؟ شكرها بالعمل {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] وشكرها بعدم احتكارها وعدالة توزيعها ولفتحنا أبوابا أخرى في قضية النظام الاقتصادي كله لو نظرنا إلى الأمر من منشئه على وجهة النظر القرآنية الإسلامية إذن هذه هي النقطة الأولى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 485 النقطة الأخرى: أشار إليها أيضا الدكتور حتحوت، ولكنه لامسها بمثل ما سبق أن تكرر في العالم الإسلامي، وأود أن يتغير إلى غيره وهو أن هناك مالا يزيد في بعض البلاد ويفيض ولكنه لا يقابل المتحوجين إليه فيعدم، هذه إحدى مشكلات الجانب الاقتصادي كما عالجه الغرب الذي يقول بالموارد المحدودة، ولكنها مشكلة أخرى بالنسبة للعالم الإسلامي، قضية احتكار المعرفة ونقل ما يسمونه بالمعرفة أو أن تعرف كيف (الناو هاو) هذه قضية في مثل هذا المجتمع وفي العالم الإسلامي لابد أن تكون محل نظر ليس مجرد أنهم يحرقون ما يفيض عن حاجاتهم ويمثل هذا جزءا من المشكلة ولكنهم يحتكرون المعرفة ويمنعونها عن العالم الإسلامي، والذي يظن أن القضية قضية نقل للتكنولجيا بمعنى نقل المصانع والمعامل قد أخطأ القضية، القضية قضية نقل المعرفة وعدم احتكارها وهي قضية لابد أن تثار في هذا الموضوع ولو نقلت المعرفة العلمية كما فعل المسلمون في جولتهم الحضارية الأولى للبشرية لكان هناك ما يكفي جميع الإنسانية ويفيض، إذن لابد أن يدان هذا النظام الذي يشوه الحقائق ويحتكر المعرفة ويمنعها ويقتل الناس. الأمر الثالث أنه لابد أن ينظر في هذه المشكلة وأشير إليها أيضا على ضوء تكتل إسلامي يضم القوميات وشعوب العالم الإسلامي كلها، فإن وجدت هناك مشكلة تستدعي النظر في تحديد النسل نظر في هذا الأمر. هذه الملاحظات الثلاث: الملاحظة التي تخص خصيصا بحث الدكتور حتحوت حينما قال: ظن الفقهاء السابقون منذ قرون عديدة أن بدء الحياة قرين نفخ الروح بينما أن الحقائق العلمية اليوم تنبئنا أن حياة الفرد منا قد بدأت قبل ذلك بكثير وهو يشير إلى معنى الحياة البيولوجية الذي يبدأ مع الجنين من أول يوم، وهذا التصور الفكري الغربي مقبول؛ لأن الإنسان عند الغرب حيوان عاقل ولكنه عند المسلمين كائن من الكائنات كما لا يمكن أن يقال عن الحيوان إنه نبات ولكنه متحرك أو متنفس؛ لأن حتى النبات يتنفس وينمو ويتغذى، لا يقال على الإنسان إنه حيوان. هو كائن يحمل أمانة جديدة وهو إنشاء أنشأه الله خلقا آخر، ربنا يقول بعد خلق النطفة {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ} [المؤمنون: 14] الحديث عن الخلق الآخر هو التكوين الإنساني. الروح الإنسانية التي هي محل البحث عند الفقهاء فهم لم يخطئوا وفي الحديث الصحيح أن يكون الإنسان نطفة اثنين وأربعين يوما ويكون علقة اثنين وأربعين يوما ويرد في مجموعهما إلى مائة وستة وعشرين وهي الأربعة أشهر وعشر التي أوضحها القرآن الكريم في ذلك الوقت تنفخ الروح ويتكون الإنسان وينشأ خلقا آخر، وهذا ما بحثه الفقهاء السابقون؛ لأنهم ينظرون إلى الإنسانية أنها إنشاء وأنها خلق آخر وليست مجرد امتداد للحياة البيولوجية الحيوانية المعتادة التي يشير لها الفكر الغربي. هذه هي الملحوظة التي وددت أن أبديها، وهذه هي الملاحظات الثلاث وتلك هي الملاحظة التنظيمية، وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 486 الدكتور عجيل جاسم النشمي: بسم الله الرحمن الرحيم. أود أن أشير إلى أمرين أظنهما هامين وهما ليسا كلاما في الموضوع وإنما في إطاره الصحيح. الأولى هي التي أشار إليها الزميل الدكتور إبراهيم الغويل فلا أطيل فيها وهي أن المراد من اختيار أحد الباحثين أو أكثر لإلقاء البحث وهو تلخيص اتجاهات زملائه الذين كتبوا في نفس الموضوع، وأنا شخصيا من خلال عرض الأستاذين الفاضلين لم أعرف اتجاهات البحوث الأخرى فنود أن يؤخذ ذلك في الاعتبار في البحوث القادمة إن شاء الله. الملاحظة الثانية: وهي في إطار الموضوع أيضا أن هذا الموضوع بحث في ندوتين متخصصتين أقامتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، الأولى كانت ((الإنجاب في ضوء الإسلام)) والثانية كانت ((بداية الحياة ونهايتها في الإسلام أو من منظور إسلامي)) ، وأود أن يكون تركيز البحث في الجديد كي يكون عملنا مكملا لا منشئا أو مبتدئا وشكرا. الرئيس: شكرا ما يتعلق بالملاحظة التي آثارها الشيخ إبراهيم وثنى عليها الشيخ عجيل هذا صحيح؛ ولهذا نرجو من أصحاب الفضيلة المشايخ في البحوث التي في الغد وبعده إن شاء الله تعالى أن ينتبه العارضون إلى أن يكون العرض هو ملخص للأبحاث التي طبعت ووزعت في الموضوع ذاته محل المناقشة وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 487 الشيخ عبد الله البسام: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. ليس عندي ما يقال؛ لأن الإخوان والأساتذة قد أوفوا الموضوع حقه وإنما أحب أن أركز على نقطة واحدة، وهو أننا في بحثنا هذا وفي البحوث المستقبلية إن شاء الله إننا نركز على الموضوع نفسه، فموضوعنا هذا تطرقنا فيه إلى الإجهاض هل يجوز أم لا يجوز؟ وهل يجوز قبل نفخ الروح أو بعد نفخ الروح؟ ثم تطرقنا إلى وسائل منع الحمل القديمة كالنزع والحديثة كالعقاقير الموجودة، أنا في اعتقادي أن مثل هذه المسائل ليس لها مساس في الموضوع وليس لها دخل، نحن نتكلم الآن في حكم الشريعة في تحديد النسل هل الشريعة تجيز تحديد النسل أو لا تجيزه؟ وإذا كانت لا تجيزه هل هناك تنظيم أو ليس هناك تنظيم؟ أحب مثلا أن البحث يقتصر على هذا الموضوع؛ لأن الوقت محدود والبحوث كثيرة جدا، الوقت لا يكفينا فإذا تطرقنا إلى مسائل أخرى هي طيب أن نعرفها وأن نفهم كلام العلماء عنها هذا جيد ولكنه يضيع علينا وقتنا في هذه البحوث وفي هذه الاستطرادات البعيدة وهذا مما يضيع الوقت ومما يجعلنا نخرج من ندوتنا دون أن نحقق البحث المراد من جلستنا. هذا ما أردت أن أقوله، ومن هذا يعني أنا أحب مثلا تحديد النسل أننا نعرف حكم الشريعة فيه يكفينا هذا نعم البحوث فيها استطرادات لكن هذه الاستطرادات لا بأس بها أن تكتب، وأصحابها عرضوها وقرأناها وكلنا كتبنا هذه الاستطرادات، لكننا عند البحث وفي وقت محدد نحصر موضوعنا في المراد وهو تحديد النسل في مثل هذه المسألة، وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 488 الشيخ أحمد بن حمد الخليلي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد. فإني أشكر أصحاب الفضيلة الذين بحثوا هذه القضية وأشبعوها بحثا، ولا أريد أن أطيل في الموضوع وإنما أقول: إن إصدار حكم في قضية ما يجب أن يكون بعد تصور أبعاد تلك القضية وملابساتها المختلفة فقضية تنظيم النسل الآن تكتنفها أمور كثيرة، من بين هذه الأمور مؤامرات اليهود والنصارى والشيوعيين وغيرهم على المسلمين بإقلال عددهم مع أنهم يحرصون على تكثير عدد الكفار كما هو معلوم، فالقضية ليست هينة حتى يصدر من هذا المجمع قرار أو تصدر منه فتوى بإباحة تحديد النسل والنظر إلى الموارد هذا أمر قد كفينا إياه فإن الله سبحانه وتعالى تكفل بأرزاق العباد، والذي هيأ في هذا العصر من موارد الرزق ما لم يكن متصورا عند أسلافنا قادر على أن يهيئ في المستقبل من هذه الموارد ما لا نتصوره نحن، فليس ببعيد أن يكون في المستقبل القريب من الموارد من البر والبحر ما لا نتصوره نحن، فكيف نحن نحرص على بذل المال الكثير لأجل هذه الدعاية لتحديد النسل كما هو واقع في بعض الدول؟ على أننا علينا أيضا أن ننظر إلى القضية بالمنظار الطبي فإن درء المفاسد واجب وسد الذرائع لابد من مراعاته، وحسب ما قرأت لبعض الأطباء الذين كتبوا في هذه القضية بالذات من بينهم د. البار: أمر تحديد النسل له آثار سلبية على صحة المرأة نفسها وعلى صحة الجنين المنتظر الذي يأتي بعد ترك هذه الموانع التي تمنع من النسل، وأنا بنفسي عرفت زوجين كانا لا يريدان الإنجاب فترة من الفترات ثم بعد ذلك رغبا في الإنجاب ورفعا ما كانا يستعملانه للوقاية من الحمل، ولكن المرأة لم تحمل ورجعت إلى الأطباء وحقنت بالعديد من الإبر، وعندما ولدت ولدت مولودا واحدا لم يكن طبيعيا وقد سمعنا في دورة سابقة في هذا المجمع عندما بحث حكم ما يسمى بطفل الأنابيب عندما بحث ذلك سمعنا في هذا المجمع من الدكتور البار أن من جملة الأسباب الدافعة إلى استعمال هذه الوسائل للإنجاب منع الحمل أولا بوسيلة أو بأخرى، فإن ذلك يؤدي إلى تقلص الرحم وعدم إمساكه للجنين فلماذا نلجأ أولا إلى منع الحمل ثم نلجأ آخرا إلى وسيلة أو أخرى لأجل الحمل؟ فلندع الأمور طبيعية وأرجو ألا يصدر من هذا المجمع قرار في مسألة تحديد النسل إلا بعد دراسة القضية من كل جوانبها وبشرط أن يقصر ذلك على الضرورة فحسب، وأسأل الله التوفيق وشكرا لكم والسلام عليكم ورحمة الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 489 الشيخ مصطفى كمال التارزي: بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أشكر أصحاب الفضيلة الذين كتبوا في هذا الموضوع وبودي أن أضيف بعض بيانات حول تحديد النسل الجماعي، لقد بينت في أول البحث الذي قدمته إلى مجمعكم الموقر أن المنع الفردي للنسل بالعزل أو بغيره من الوسائل هو ترك الأفضل أو فعل المكروه، وإذا وجد موجبه عند الفرد كان العزل مباحا على مقدار هذه الرخصة الفردية، والسؤال المطروح: هل يجوز الفقه الإسلامي قياس الرخصة الجماعية لأمة من الأمم أو لدولة من الدول على الرخصة الفردية في منع الحمل وتحديد النسل ولو لمدة معينة حتى يزول المانع؟ المعروف عند الفقهاء أن الرخصة الفردية محدودة بحدود الضرورة، والضرورة تقدر بقدر نسبة لكل واحد حدة حسب ظروفه المادية والمعنوية، فإذا أبيح التحديد فإنما يباح للشخص الذي كانت عنده رخصه ولا يباح كقاعدة عامة تعم جميع الناس في بلد أو إقليم فينتفع بالإباحة صاحب الرخصة وغيره؛ ولهذا فإن من قاس تحديد النسل على العزل فقد أخطأ إذ هو قياس مع وجود الفارق والقاعدة في القياس اتفاق المقيس مع المقيس عليه من جميع الوجوه، ولا يوجد في الفقه الإسلامي ما يجعل الرخصة جماعية إذ من المقررات الشرعية أن المباح بالشخص أو بالجزء يكون إما مطلوبا بالكل أو ممنوعا بالكل على حسب موافقته المبادئ الكلية المكررة في الشريعة أو مناقضتها، فإن كان خادما للمبادئ الشرعية الثابتة كان مطلوبا بالكل مباحا بالجزء، وإن كان مناقضا للمبادئ الكلية العامة كان مباحا بالجزء حراما بالكل، وقد بين هذا الموضوع الشاطبي في الموافقات بيانا شافيا. وبهذا نعلم أن الشرع الإسلامي لا يجوز منع النسل بالكل ولا يبيحه كأمر عام بدون قيود؛ لأن اعتبار حق الأمة في الولد حق تقرره الشريعة الإسلامية لحفظ كيانها ولنهوضها القومي، أما معاكسة الطبيعة في كف أجهزتها عن القيام بوظيفتها التي خلقت لها مما لا تقره الشريعة الإسلامية والله سبحانه وتعالى يقول: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] . فالتحديد الجماعي لا تجوزه الشريعة الإسلامية ولا تبيحه مهما كانت الأعذار، ولا تحدد الأولاد الذين ينبغي أن تنجبهم الأسرة؛ لأن الحكمة في عدم تحديد العدد الأقصى للأولاد ما دام ذلك يتعلق بالاختيار الإنساني في الأسرة وقدرة كل أسرة على تربية الأولاد تربية واعية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 490 ولذلك فإن كثيرا من العلماء يرون أن تحديد النسل الجماعي ليس معناه جبر الأمة أو جبر إقليم من أقاليم البلاد على اتخاذ تدابير معينة لتحديد النسل للوصول إلى نسبة ولادية معينة فهذا مما لا يجيزه الشرع قطعا بل معناه توعية الآباء والأمهات بمسئولياتهم الزوجية والأبوية وإقناعهم بهذه المسئولية المرعية حتى يصبحوا أكثر احتياطا لمستقبل أولادهم وأحرص على الاكتفاء بعدد من الأولاد حسب قدراتهم المادية والأدبية، وحتى يمدوا المجتمع بجيل قادر على مواجهة مشاكل الحياة؛ لأن من اهتمامات الشريعة الوصول بحياة المجتمع إلى المثل الأعلى ولا يتم ذلك إلا بتدخلها تدخلا مباشرا في تنظيم الأسرة وإخراجها من دائرة الحيرة والفوضى والتعسف إلى دائرة الوعي والنشاط والإنتاج وذلك بتوعيتها توعية دينية واجتماعية وطبية تدفع الضرر الذي يلحق الزوجة أو الأمة من جراء الإنسان الأهوج وإطلاق الحرية غير الواعية في تحسين النسل وكثرته؛ لأن الكثرة الهزيلة التي تتملكها عوامل الضعف والانهيار كثرة لا خير فيها، فالدعوة إلى تنظيم الأسرة لا يجوز أن تكون دعوة إلى محاربة الزواج أو محاربة النسل، فوجود الذرية بين البشر أمر فطري لابد منه، والقرآن نفسه يوجهنا إلى الذرية الطيبة الصالحة النافعة والمنتفعة ويوجهنا أن ندعو ربنا بدعاء زكريا {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38] كما علم عباد الرحمن أن يدعوه ليهبهم الذرية القوية الصالحة لقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] ، وإنما تكون الذرية سببا للسعادة إذا كانت سليمة قوية ومستعدة لخوض غمار الحياة، ولا خلاف بين الفقهاء في أن الإسلام يشترط في الزواج أن يكون الرجل صالحا للنهوض بواجبه قادرا على تحمل تبعاته، فإن كان عاجزا غير قادر طالبه بالتعفف والانتظار حتى يتوافر لديه المال والاقتدار لقول الله تبارك وتعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} ... الآية [النور: 33] ، وإذا أباح عدد من العلماء توعية الأسرة توعية دينية واجتماعية قصد تعريفها بحقوقها وواجباتها إزاء الأخطار التي تهدد حياة المجتمعات، فلا ينبغي أن يقتصر جهدنا على هذا الجانب وحده بل يجب أن نبذل كل الجهود لمضاعفة الإنتاج وتطوير الصناعة والزراعة ومواصلة السعي لكسب خيرات الأرض. الرئيس: يا شيخ مصطفى معذرة أنا أحب أن يكون تعقيدا عاما وهو أن الإخوان المشايخ الذين يأخذون الكلمة هو للمناقشة لا لقراءة ملخص البحوث. الشيخ مصطفى كمال التارزي: على كل الموضوع الذي أريد أن أتكلم عنه زيادة على هذا هو موضوع الشبهات التي تثار حول الإنجاب وحول تدخل الصهيونية، أو تدخل هذه الدول الأجنبية فإن هذا التدخل هل وقع بالفعل أو لم يقع؟ ينبغي أن نأخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار أولا في بلادنا، ونقدر الطاقات التي نملكها، ونقدر القدرات المادية التي لدى الدولة هل تستطيع أن تأخذ قرارا في هذا الموضوع؟ ثم هذه الشبهات التي تثار حول مشاركة بعض الدول كالدول الغنية هذه التي تريد التنقيص من عدد المسلمين ينبغي أن تدرس دراسة موضوعية؛ لأننا نقرؤه في الكتب وفي المجلات، ولكن لا نرى بحثا مستفيضا في هذا الموضوع بحثا اقتصاديا أو بحثا ديموغرافيا صحيحا، ينبغي أن تدرس هذه المواضع دراسة موضوعية حتى نتمكن من أخذ قرار نهائي بعد أن توضح لنا كل الجوانب في هذا الموضوع والسلام عليكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 491 حجة الإسلام محمد علي التسخيري: بسم الله الرحمن الرحيم. لا أريد أن أكرر ما تفضل به الأساتذة المحترمون ولكن أشير إلى بعض النقاط بصورة سريعة جدا. أولا: يجب كما قال الأساتذة من قبلي أن نفصل هذا الموضوع عن الأمور التي تلابسه، هناك موضوع التعقيم الكامل وهناك موضوع الإجهاض، هذه الأمور لا تلازم طبيعة موضوع مسألتنا، وإذا لم تكن تلازم هذه الطبيعة يجب أن نفرد لها بحثا خاصا مستقلا ولا علاقة لنا بها. الشيء الثاني: المهم نحن يجب أن ندرس هذا الموضوع على مستويات تارة ندرس الموضوع على ضوء حكم الإسلام الأول له ثم هناك موضوع آخر وهو هل يجوز للدولة أن تلزم بهذا كأمر تقتضيه المصلحة الإسلامية العليا؟ وهناك أيضا مرحلة ثالثة هل يلزم منه الضرر أو الحرج الاجتماعي أو تلزم به ضرورة أو لا؟ هذه مراحل ثلاث للحكم يجب أن يدرس على ضوئها، فعلى ضوء المرحلة الأولى يعني لو لاحظنا الحكم في نفسه بعيدا عن مسألة التعقيم الكامل والإجهاض وبعيدا عن ما يشار إلى المؤامرات الدولية، وما إلى ذلك درسنا الموضوع في نفسه ثم نأتي إلى تلك المواضيع لا أجد في الواقع ما يمنع من تنظيم النسل بالطرق المشروعة الصحيحة خصوصا مع رضا الزوجين وبعد ملاحظة أن العزل أجازه الإسلام بشكل كامل لا يقاس على العزل، العزل هو أسلوب من أساليب تنظيم النسل ولا يقاس عليه في الواقع (أسلوب أجازه الإسلام وحتى وهذا ما أصر عليه حتى لو لم يثبت لدينا جواز العزل مع أن لجواز مقول به من قبل أئمة المذاهب الأربعة، بل كل المذاهب تقريبا وبالخصوص مع رضا الزوجة وحتى لو لم يثبت لدينا جواز العزل هناك أساليب أخرى ليس فيها ما في العزل من خصائص، ولا يمكن أن يقاس حكمها على حكم العزل، يبقى تنظيم الأسرة حكما مشكوك التكليف وهنا نشير إلى بحث مبنائي أشرت إليه في بحثي وهو مسألة أصل الإباحة عندما يشك في الحكم البراءة العقلية جارية البراءة الشرعية جارية القواعد الشرعية في هذا المجال كلها تجري ويبقى الأصل هو الإباحة في مسألة التنظيم. أما على المستوى الآخر مستوى قدرة الدولة على إصدار قانون ينظم لها النسل هذه طبعا مسألة تحتاج إلى دراسة وحبذا لو أمكننا في دوراتنا الآتية أن نبحث عن قدرة ولي الأمر أو الحاكم الشرعي في سن القانون هل هذه القدرة محدودة في إطار المباحات؟ هل أوسع من ذلك؟ هل أضيق من ذلك؟ هذه أمور تحتاج إلى دراسة ولكن بشكل إجمالي ومبنائي أقول: ولي الأمر يمكنه إذا رأى المصلحة الاجتماعية العليا فضلا عن الضرورة الاجتماعية المصلحة الاجتماعية لسير مجتمع متوازن يمكنه أن يصدر أمرا يلزم بمباح تحريما أو واجبا يعني يوجب ذلك المباح أو يحرم ذلك المباح لتحقيق هذه المصلحة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 492 وعلى ضوء هذا يمكننا أن نقول بأن الدولة الإسلامية والحاكم الشرعي يمكنه إذا رأى المصلحة أن يصدر قانونا في ذلك ولا مانع من ذلك والإباحة هنا هي التي تجيز له هذا الإصدار، وخصوصا إذا لاحظنا أن الأمر قد يتطلب أو قد يؤدي إلى فساد النظام الاجتماعي، هناك مناطق اليوم نسبة التوالد فيها أكثر من القدرة الاستيعابية التي تملكها الدولة أكثر من القدرة بشكل واضح، عندنا في إيران أذكر أننا في خلال عشر سنوات زاد شعبنا سبعة عشر مليون نسمة في خلال عشر سنوات وهؤلاء كلهم يحتاجون إلى صحة وتغذية وتربية ومسكن و ... و ... إلخ، فلا مانع إذن من صدور قانون من قبل الحاكم الشرعي إذا رأى ذلك، ولكني مع ذلك أرجح أن لا تلجأ الدولة الإسلامية أو الحاكم الشرعي إلى مسألة التحديد؛ لأن ذلك خلاف التوجه الإسلامي، وأكرر خلاف التوجه الإسلامي، التوجه الإسلامي لكثرة الإنجاب، لكثرة التوالد للإزدياد الكمي للأمة الإسلامية واضح جدا من خلال نصوص كثيرة وفي مواضيع متعددة، فالأفضل للدولة الإسلامية أن لا تلجأ لهذا الحل وتلجا للبدائل في هذا المعنى، أما ما يلزم القضية من أضرار وما أشير إلى الأضرار فيمكن لكل طرف أن يدعي الضرر كما يمكن للطرف المانع أن يدعي الضرر يمكن للطرف المجيز أن يدعي الضرر، وتبقى المسألة إذا كانت على المستوى الفردي تتبع الضرر الفردي، وإذا كانت على المستوى الاجتماعي تتبع الضرر الاجتماعي، إذا قلنا: إن حديث ((لا ضرر)) يمكنه أن يشمل الضرر الاجتماعي وسوء الحال. أشير في ختام هذا التدخل إلى ما أشار إليه الأستاذ الغويل من قضية المشكلة الاقتصادية أيضا، أنا أعتقد أن المشكلة الاقتصادية ليست في عدم التناسب بين التوالي العددي والتوالي الهندسي الذي يشير له مالتس المشكلة الاقتصادية كما يشير القرآن الكريم إليها تكمن في ظلم الإنسان وكفره بالنعمة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] ، فإذا تآزرت وتلاحمت كل أجزاء وقطاعات الأمة الإسلامية لم تعد لدينا مشكلة لا بل على الصعيد البشري لو أن كل هذه الطاقات تلاحمت لم تبق لدينا مشكلة. أعتذر عن هذه الإطالة، وأركز على لزوم الرجوع إلى مبادئ الموضوع وعدم الدخول في القضايا الجانبية وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 493 الدكتور محمد علي البار: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة على أفضل المرسلين. أصحاب الفضيلة، موضوع تحديد النسل أو تنظيم النسل له جانبان؛ الجانب الأول على المستوى العام أو المستوى الحكومي، والجانب الآخر على المستوى الفردي؛ على المستوى الحكومي ظهرت هذه الدعوة بنطاق واسع وأجبر كثير من الحكومات شعوبها لإجراء ما سمته تنظيم النسل، وقامت بعض هذه الحكومات بتعقيم الرجال أو النساء قسرا كما حدث في أيام أنديرا غاندي فقد عقمت أكثر من عشرة مليون شخص من بينهم عدد من المسلمين كبير، وفي الباكستان عقم ما يقرب من مليون شخص هناك كثير من الحكومات تقوم بمحاولات إغراء هذه الشعوب بشتى الوسائل لتنفيذ وسائل منع الحمل وإيجادها لهم رخيصة جدا أو بأثمان رمزية أو بدون ثمن بينما تتكلف الدولة هذه الأموال وتستدين مبالغ طائلة لتنفيذ سياسة ما يسمى بتنظيم الأسرة فعلى المستوى الآخر كما تعلمون الولايات المتحدة الأمريكية بريطانيا فرنسا ألمانيا الاتحاد السوفيتي إسرائيل، وألمانيا على وجه الخصوص تشجع النسل وتكاثر النسل وتدفع الأموال الكبيرة حتى لو كان.. طبعا سمعتم خطاب بيجن عندما كان رئيسا للوزارة في إسرائيل، كان يطلب من الإسرائيليات أن تزيد نسلها ولو كان بطريق الزنا في الاتحاد السوفيتي ملاحظة: رغم تشجيع النسل هناك بصورة عامة إلا أن كثرة المسلمين في الفترة الأخيرة أدت إلى أن الحكومة تشجع عدم زيادة النسل بين المسلمين وزيادة النسل بين الروس والأكران هذه سياسة رسمية وسائرة في الاتحاد السوفيتي إلى الآن بالنسبة للموارد كما أسلف الفضلاء الباحثون الموارد كثيرة، وسأورد مثالا واحدا فقط في البلاد العربية من بحث كبير للجامعة العربية أصدرته عن الأمن الغذائي سنة 1980 وذكرت فيه أن سكان البلاد العربية سنة 1976م كان مائة وستة وأربعين مليونا، وأن مساحة البلاد العربية تشكل عشر اليابسة بينما كان سكان العالم أربعة آلاف مليون في ذلك الوقت، وأن المفروض في البلاد العربية أن يكون عدد سكانها في ذلك الوقت أربعمائة مليون؛ لأن الأرض الصالحة للزراعة في البلاد العربية مائتان وستة وثلاثون مليون هكتار لا يستغل سوى ستة وأربعين مليونا واستغلالا سيئا جدا، وهناك أمثلة كثيرة كثافة السكان مثلا على وجه المثال في المملكة العربية السعودية وهي بلاد كبيرة شاسعة لا تزيد عن ثلاثة أشخاص في كل كيلو متر مربع بينما هي في بريطانيا مائتان وأربعة وأربعون شخصا لكل كيلو متر مربع هذه هي النقاط بالنسبة للسياسة العامة ونرى كما أشار إلى ذلك كثير من الباحثين أن السياسة العامة في إجبار الشعوب أو محاولة إغراء هذه الشعوب بشتى الوسائل على ما يسمى بتحديد النسل أو تنظيم النسل سياسة غير سليمة لا من الناحية الديموغرافية ولا من الناحية الاقتصادية ولا من الناحية الشرعية كما أشار إلى ذلك سادتي الفقهاء، ويأتي الوضع مختلفا بالنسبة للأفراد، ذكر الباحثون الأحاديث الكثيرة التي تبيح موضوع العزل وغيره، ولكن يبقى هناك نقاط معينة بالنسبة للتعقيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 494 التعقيم في الحقيقة يعتبر وسيلة من وسائل منع الحمل ويقصد به قطع الأنابيب بالنسبة للمرأة قناتي الرحم وبالنسبة للرجل قطع الحبل المنوي، ولا يقصد به الإخصاء كما لا يقصد به إزالة المبيض أو الرحم في هذه العمليات التي انتشرت على نطاق واسع تجري في كثير من المستشفيات في البلاد العربية والإسلامية عامة على اعتبار أن هناك أسبابا عديدة منها تكرر العمليات القيصرية ومنها الأمراض الوراثية، بينما كل هذه الأسباب في الواقع ليست أسبابا قطعية يعني هو نفس الطبيب في بعض الأحيان يقول للمرأة إذا كان ما لديها أطفال وتريد الأطفال وعندها مرض في القلب: تستطيعين أن تحملي ونستطيع أن نعالج هذا المرض، وإذا كان لديها عدد كاف من الأطفال طبعا ينظر إلى القضية من زوايا مختلفة وتختلف الآراء بناء على تَوَجُّهَات هذا الشخص وميوله واعتقاداته في هذه القضية، لا شك أن وسائل منع الحمل لها أضرار ولها فوائد، من الفوائد التي يقال عنها طبعا من الناحية الصحية هي تنظيم الفترة بين كل حمل وآخر وجعل الفترة حوالي ثلاث سنوات وهي تعتبر أفضل الفترات بين كل طفل وآخر أو بين كل حمل وآخر تعتبر هذه أفضل الفترات لكن لا يعني ذلك أن الأم إذا ولدت بعد عام آخر أن النسل لابد أن يكون ضعيفا أو لابد أن يكون هزيلا أو ... ، ليس ذلك شرطا، المشكلة أن وسائل منع الحمل التي تباع في الأسواق وبدون وصفات طبية لها أضرار كثيرة حتى في البلاد الأوروبية التي تبيح ذلك لا تسمح ببيع وسائل منع الحمل وخاصة الحبوب؛ لأن هناك موانع كثيرة لإعطاء المرأة حبوب منع الحمل، فالمرأة التي تعاني مثلا من البول السكري أو من أمراض القلب وضغط الدم أو من مرض الكبد أو الكلى أو هي فوق سن خمسة وثلاثين أو لديها أمراض نفسية أو كذا وكذا هذه المرأة تمنع من أخذ حبوب منع الحمل المكونة من مواد السيروجين وغيرها إذن سياسة منع إعطاء الحبوب على نطاق واسع وبدون تمييز أيضا حتى على النطاق الفردي سياسة غير سليمة، وينبغي أن تحدد هذه الوسائل بإشراف الطبيب، وأن لا تعطى بدون وصفة طبية أو بدون إشراف طبي لما يعتور ذلك من أضرار كثيرة على صحة المرأة أو على صحة الرجل أو على صحة الجنين، والسلام عليكم ورحمة الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 495 الدكتور علي محي الدين القره داغي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة العالمين وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين. أشكر الأستاذين الباحثين العارضين على ما أتحفانا به فجزاهما الله عنا خيرا كما أشكر رئاسة الجلسة حيث جمعت بين طبيب فقيه وشيخ جليل، ثم بعد ذلك أستسمح الباحثين الكريمين عذرا في بعض التعليقات على بحثيهما الكريمين وهي: أولا: إن استنتاج الأستاذ الدكتور حسان على أن الأصل عند الفقهاء في منع الحمل هو الإباحة لا أوافق عليه؛ وذلك لأن القول بجواز حادثة لا يعني أن الأصل فيها الإباحة، وذلك لأن جوازها قد يكون لدليل خاص مع أنه إذا ثبت أن الأصل في الشيء الفُلاني الإباحة لا نحتاج إلى دليل بل نحتاج إلى الدليل لحرمته، ومن هنا فما قاله جماهير الفقهاء في جواز العزل ليس دليلا على أن الأصل فيه الإباحة؛ لأنهم استدلوا على جوازه بحديث جابر في العزل فلو كان الأصل فيه الإباحة لاكتفوا بهذا الأصل، أو لاستندوا على هذا الأصل مع أنني لم أطلع على أحد من فقهائنا الكرام استند على هذا الأصل، ثم إن هذه القاعدة الأصل في الأشياء الإباحة ليست على إطلاقها إنما هي خاصة بالمعاملات المالية والإفادة من الكون ولذلك قال المحققون: الأصل في الإبضاع ما يتعلق بالمرأة وما أشبه ذلك الحظر والحرمة كما قالوا: الأصل في العقائد والعبادات التوقف على النص هذا من جانب، ومن جانب آخر أن العزل في نظري هو غير المنع كما تفضل بذلك كثير من الإخوة المتداخلين، فالعزل لا يمنع الحمل منعا مطلقا إذ يمكن معه التفلت والتسرب كما أشار إلى ذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حديثه، أما المنع بالوسائل الحديثة فيكاد تصل نسبة المنع فيه أو في بعضها إلى مائة بالمائة إذ يمكن أن نقول: إن قياس المنع على العزل فيه بعض شيء إن لم يكن قياسا مع الفارق فهو قريب منه، وهذا بخصوص المنع كمبدأ أما تنظيم النسل للضرورة والحاجة فجائز كما ذكره الإخوة الفضلاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 496 ثانيا: إن أستاذنا الدكتور حسان حتحوت أشار إلى عدة قضايا في غاية الأهمية لمخاطر الجري وراء المنع ونضيف إليها فنقول: إن الغرب الآن كما أشار إلى ذلك بعض الإخوة أيضا يستشعر مخاطر كثرة النسل بين المسلمين حيث إن نسبة الأطفال والشباب بين المسلمين تكاد تصل إلى سبعين بالمائة في حين أن نسبتهما في الغرب في حدود ثلاثين إلى أربعين بالمئة، فمعنى ذلك أن الغرب يسير نحو الشيخوخة؛ ولذلك تنبهت كثير من الدول الغربية منها فرنسا حيث خصصت عام 1986 وبالتأكيد في 15/6/1986م على لسان وزير الشئون الاجتماعية خصصت مبلغ خمسة عشر مليارا وتسعمائة مليون فرنك فرنسي لتكثير النسل، واتخذت عدة وسائل تشجيعية لا نستطيع ذكرها الآن، أما ما نقول أو يقال في مشاكلنا الاقتصادية فالواقع ليست مرتبطة بكثرة النسل وإنما هي نابعة عن عدم الاستغلال أو عن عدم استغلال الكون كما ينبغي أو عن سوء الاستغلال أو عن سوء التوزيع، كما أشار إلى ذلك الأستاذ الفاضل الدكتور حسان، وكذلك أستاذنا الفاضل إبراهيم حيث أشار إلى ذلك بوضوح، كما عقب على ذلك أيضا الأستاذ الكريم الدكتور البار فجزاهم الله عنا خيرا. ثالثا: إننا كنا نتوقع من الأبحاث التي ألقيت أن يقوم الباحث بالجمع والترجيح والتوجيه والمناقشة، بالإضافة إلى الجمع بين حديث العزل وحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: ((ذلك الوأد الخفي)) مع أن كثيرا من الإخوة الفضلاء ولا سيما الذين ألقوا البحث لم يشيروا حتى في بحثهم إلى ذلك مع أن ذلك حقيقة لابد من الجمع بينهما. رابعا: إن العارضين ذكروا أن إجماع الفقهاء على حرمة الإجهاض بعد مائة وعشرين يوما مع أن العلم الحديث كما قال أستاذنا الدكتور حسان يقول بأن الحياة تبدأ بالتقاء الحيوان المنوي بالبويضة، وكنت أتوقع من الأستاذ الدكتور وهو خبير جوابا ولكن هذه المشكلة قد أرقتني وقد بحثت عنه ووصلت إلى جواب أعرضه على أصحاب الفضيلة والعلم مجرد عرض وهو أن ذلك في نظري: هناك فرق بين الحياة وبين الروح، فالحياة شاملة لجميع الحيوانات بل لبعض النباتات، بينما الروح خاصة بالإنسان، كما تشير إلى ذلك الآيات الكريمة {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء: 91] من هذا الروح التي فيها صفات العلم وفيها صفات العقل ومنها التكليف وغير ذلك والتسخير التي لم يعط لأي جنس آخر. إذن ممكن أن نجمع بين ما يقوله العلم الحديث وبين ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم إذ لا يمكن أن يكون هناك تعارض بين العلم الصحيح والحقائق العلمية دون النظريات بينما قاله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، إذن فالجمع جدا ميسور في نظري والله أعلم. هذا جانب والجانب الثاني أن فقهائنا الكرام ولا سيما الأصوليون لم يغفلوا عن ذلك، وقد أثبتوا الحياة وأهلية الوجوب الناقصة للجنين بمجرد استقراره في الرحم. إذن من هنا أدركوا وقالوا: إن الحياة فيها مقدرة ومن هنا لا يكون لهم أن يقولوا لو قالوا بأن الحياة هي نفس الروح لما عارضوا الشريعة، ولما عارضوا الحديث لا سيما أن العلم لم يظهر آنذاك بهذه الصورة التي نحن نراها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 497 خامسا: هناك بعض الجوانب الشكلية التي لا أريد أن أذكرها، قضية تخريج الأحاديث حقيقة يجب على الباحثين الكرام الاهتمام بالأحاديث؛ لأن قضية الإثبات والمنع كل ذلك يعود للحديث هل هو صحيح أو حسن ودرجته وبعد ذلك من ناحية نقده وما أشبه ذلك، فحقيقة كنت أحب من الإخوة الفضلاء أن يعنوا بهذا الجانب عناية كبيرة ولذلك من هنا إن بعض الإخوة حقيقة ذكر بعض النصوص الحديثية دون تحقيقها وإخراجها من مصادرها خاصة الأحاديث التي يتوقف الاستشهاد والاستدلال بها على صحتها وثبوتها. كما نقل بعض الإخوة في بحثه يقول: إذ المني حال نزوله محض جماد، هذا الكلام ممكن كان معقولا في الأيام التي لم يظهر العلم، أما الآن حقيقة المسألة لابد أن تعطي الأمر لأصحابه فاسألوا أهل الذكر، فإن مثل هذه الأقوال الفقهية يجب أن تمحص وتعرض على العلم؛ ولذلك إذا ثبت الآن أنه ليس جمادا إذن ما بنى عليه الفقيه هذا الحكم أيضا حينئذ لا يعتد به، إذن أيضا يجب أن يطرح ويحقق، فمثل هذه الأمور الفقهية التي مبناها الأمور الطبية والعلمية يجب أخذ رأي المختصين في هذا الموضوع، ثم نبني عليه رأينا ما دام لا يوجد نص صريح في الموضوع وقد كان سلفنا الصالح مثل الإمام الشافعي كذلك ذلك بهذا الخصوص، إذن من هنا فإن تحديد الحرمة أيضا تارة بأربعين يوما وتارة بعشرين يوما في أكثر الأبحاث يعود في نظرنا إلى هذه النظرة في وجود الحياة أو عدمها، أو يعود إلى الحديث الشريف، فكان الأولى بالباحثين الكرام أن يعودوا إلى فهم هذا الحديث والتعمق فيه والتعمق أيضا فيما عرضه العلم. سادسا: إن ما نقله أحد الباحثين الكرام عن المغني في المذهب الحنبلي لا يدل على دعواه في أن الحنابلة يجيزون ذلك أي يجيزون الإسقاط، فكلام ابن قدامة في المغني وهو عندي نص في صفحة على ما أظن 8 في البحث الكريم الذي ألقاه الأخ الفاضل، فكلام ابن قدامة في المغني في قضية الجنايات والضمانات ولا يترتب على القول بعدم وجود الضمان في بعض الصور لا يلزم منه القول بجواز إسقاط الجنين إذن قد يكون الفعل محرما دون أن يترتب عليه ضمان مادي فالبابان مختلفان. سابعا: أن ما نقله عن الزركشي الصفحة التاسعة من أن الزركشي انفرد بجواز الإسقاط للأم عند الضرورة قال: إنه ينقصه الدليل، فغير مسلم الآن الدليل الاضطراري موجود (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) ، ومن هنا نرى - ومعذرة على التطويل - أن الأصل في تحديد النسل في نظري وتنظيمه هو الحظر والمنع ويباح للضرورة أو للحاجة من مرض أو رعاية للرضيع أو نحو ذلك، وكذلك نؤيد ما قاله صاحب الفضيلة مفتي جمهورية مصر العربية حيث حصر ذلك أيضا في نطاق الفرد دون أن يكون قانونا وتشجيعا عاما، والله الموفق ومعذرة مرة أخرى وجزاكم الله عنا خيرا وسلام الله عليكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 498 الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي: بسم الله الرحمن الرحيم. حقيقة هذا الموضوع المهم بالرغم مما كتب فيه وبالرغم أنه من الموضوعات التي أصبحت تقليدية، والتي كما ذكر بعض الباحثين فيه أنه قتل بحثا بالرغم من كل هذا فإن مجمعنا له حكمة واضحة في عرض هذا الموضوع؛ لأنه يمثل الدول الإسلامية قاطبة فينبغي أن يكون النظر فيه على هذا المستوى عالميا وبالرغم من أنه صدرت قرارات مجمعية واضحة في هذا الموضوع فينبغي الاهتمام بالظروف التي أحاطت بالموضوع، فقد اطلعت عليها وتكاد هذه البحوث تجمع على أنه يجب أن يفرق في شأن معالجة هذه القضية بين الاتجاه والسياسة العامة وبين العمل الفردي، فحقيقة هذا الموضوع له صلة بالسياسة الشرعية العامة التي ينبغي فيها أن نلتزم بمقاصد الشريعة، ومن أهم مقاصد الشريعة التي لا يكابر فيها أحد أن شريعتنا ترغب في إكثار النسل وإن كان يتأول بعضهم أن العبرة بالكثرة النوعية لا بالكثرة الكمية عملا بحديث ((قلة العيال أحد اليسارين)) بالرغم من كل هذا فإن الشريعة تفضل وترغب في إكثار النسل المؤمن لينافسوا بذلك الأمم الأخرى، فكثرة النسل مقصد شرعي ثم إن الاحتياط الواجب في الفتوى في القضايا العامة والذي أدين الله عليه هو أن الأصل في هذا الموضوع هو المنع وهو متفق مع ما ذهب إليه المالكية والظاهرية من أن الإسقاط ولو من أول يوم يعد حراما، لكن أيضا شريعتنا ولله الحمد يمكننا أن نقلد فيها المذاهب الأخرى التي تجيز، ولكن ينبغي أن نحصر هذا في حالات فردية تقررها إما الضرورة القصوى أو الحاجة الملحة، لا ينبغي أن نقصر أيضا الأمر على حالتي الضرورة وإنما أيضا الحاجة تنزل منزلة الضرورة، إذن لا يصح التعميم بحال من الأحوال. أخالف بعض الإخوة الذين أجازوا للدولة أن تصدر قانونا في هذا الأمر، الحقيقة الدولة وسياستها ينبغي أن تكون نابعة من روح الإسلام وأصول عمل السلف الصالح في هذا المجال، فلم نسمع في أي عهد من العهود الإسلامية القرون الأربعة عشر أنهم اتجهوا مثل هذا الاتجاه. لقد جمعتنا في أوائل الستينات نقابة أطباء دمشق جمعت عالما شرعيا وكنت متحدثا عن الشرعيين ورجلا نصرانيا وبعض الأطباء وبعض القانونيين وتحدثوا جميعا في هذا الموضوع، ينبغي أيها الإخوة أن لا يكون دورنا أقل من اليهودية كدين وليس كسياسة كما ذكر بعض الباحثين ألا نكون أقل من اليهودية كدين والنصرانية كدين أيضا في أننا نجيز الإجهاض والإسقاط ونعتدي على خلق من مخلوقات الله جل جلاله، هذا الأمر في غاية الخطورة، وله مضاعفات كثيرة سواء على المستوى الإسلامي العام أو المستوى الخاص، كذلك لا يصح أن نربط هذه السياسة الشرعية العامة بقلة الأمة أحيانا وكثرتها العددية فهذا الأمر يخضع لقانون المد والجزر والكثرة، والظروف ظروف الانتعاش الاقتصادي وقلته، فلا يصح أن نقرر لدولة حتى ولو ضاقت ظروفها الاقتصادية أن نقول لها يحل لكم كقانون عام أن تتجهوا إلى تحديد النسل أو إلى الإقلال من النسل تقليدا للشعوب الغربية التي تسير في هذا الفلك، هذا في الحقيقة هو الذي اطمأننت إليه من خلال دراسة آراء الفقهاء قاطبة والأحاديث النبوية الصحيحة والعمل الإسلامي الجاد الذي يتفق مع ضرورة الاحتياط والورع في مثل هذه الأمور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 499 وهناك على الجانب الفردي الحقيقة يمكن أن نقلد بعض هذه الآراء الفقهية وهي محققة ونعتمد على الرأي الأصح على الرأي الضعيف في المذهب لأنه لا يحل الإفتاء بالرأي الضعيف ومع كل هذا فقد سبقني الشيخ علي إلى ملاحظتين أو ثلاث على بحث سبق عرضه، وهو أنه لا يصح بحال من الأحوال أن نخلط بين ضمان الاعتداء على الجنين ونجعل ذلك أساسا للغرة أو دية الجنين وبين تحريم أو إباحة الإجهاض، فقد يحرم الإجهاض ولا يجب ضمان الغرة أو ضمان الدية وهذا أمر بدهي، وأستغرب أننا نخلط بين أمر ضمان الاعتداء على الجنين وبين أمر الحل والحرمة في هذا الموضوع، كذلك أيضا أكبر الأخ الشيخ عليا وكنت مقررا أن أبين هذه الملاحظة أن الإمام الزركشي أن يقال عنه كما يقول بعضنا لبعض ينقصك الدليل، هذا أمر كبير على الإمام الزركشي المعروف بسعة أفقه العلمي وتبحره في الأصول وفي العلم وهو سيد الأصوليين، وأحسنت وزارة الأوقاف إذ نشرت كتابه النفيس (البحر المحيط في الأصول) ، وكنت أتمنى نشره منذ أكثر من ثلاثين عاما واضح عندما يقول: يجوز ذلك للضرورة والضرورة دليل من أدلة الشرع ونظرية واضحة من النظريات الإسلامية الكبرى، والنصوص القرآنية والنبوية تؤكد هذا المعنى، فالضرورة وحدها دليل من الأدلة ثم إن الأخ الباحث قال: أرجح ذلك للضرورة، إذن ما قلته عن الزركشي ينقصك الدليل أين دليلك أنت أيضا إن لم تكن الضرورة هي دليلك في هذا الموضوع؟ أخيرا حصر جواز الإسقاط في حال الضرورة فقط في الحقيقة على المستوى الفردي دون أن يكون ذلك من قبيل السياسة الشرعية العامة، هذا الاتجاه أيضا فيه مجافاة لروح التسامح الإسلامي وشريعتنا معروفة بتسامحها، فهي حينما تكون حالات اضطرارية أو حاجة تنزل منزلة الضرورة فلا مانع على المستوى الفردي أن نجيز ذلك للأمهات وللآباء ولظروف ضيقة جدا ولكننا نلتزم بأصل الحرمة وأصل المنع، فهذا متفق مع مقصد ومع روح التشريع العامة، وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 500 الدكتور محمد فوزي فيض الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وبعد. فقد تبلور الاتجاه في هذا المؤتمر الكريم فيما يبدو إلى التفرقة في تنظيم النسل بين الحال الفردية وبين الحال الجماعية، وهذا ما ينبغي أن يكون الأرضية لهذا الأمر، لكني أود أن أشير باختصار إلى الحكم في مسألة خفيفة وهي مذهب الحنفية في الإجهاض الذي عرض له بعض السادة الزملاء فالذي يؤخذ من كتبهم ليس هو أن هناك مسلكين لهم في الجزئية بل إن مذهب الحنفية في هذه الجزئية هو تفصيل دقيق تدريجي معقول مقبول، فهم يرون أن الإجهاض قبل أربعين يوما من الحمل وهو مكروه تنزيها؛ لأنه حياة نمو فقط وإن الإجهاض بعد الأربعين وقبل الأربعة أشهر هو مكروه تحريما وهي وإن كانت حياة نامية لكنها بدأت بالتصور والتشكيل الإنساني أما الإجهاض بعد الأربعة أشهر فهو حرام عندهم قطعا كما يقول الجمهور لانبثات أو نفخ الروح فيه وهذا تفصيل حسن ينبغي أن يفكر فيه كثير من أهل العلم وشكرا لكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 501 الدكتور يوسف محمود قاسم: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله عليه وعلى صحبه ومن اهتدى بهداه. شكرا سيادة الرئيس وشكرا للسادة الزملاء والعلماء الأفاضل الذين سبقوني بالكلام، غير أني أوجه إلى السادة العلماء أصحاب الفضيلة أن يعطوا الآية الكريمة القرآنية أهمية تليق بجلال القرآن وقداسته وفي هذا المجمع الذي يعتبر مجمعا لِقِمَّةِ علماء المسلمين لا ينبغي أن تتلى الآية على غير ما هي مدونة في المصحف، فصحة الآية الأولى قوله سبحانه {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة 15 -16] ، وصحة الآية الثانية قوله جل شأنه {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21] . وأما عن الموضوع المعروض فلا تعليق لي عليه إلا الشكر الجزيل للسادة العلماء الأفاضل العارضين والمناقشين مع شكر خاص للأستاذ الدكتور حسان حتحوت على هذا العرض الرائع الذي سمعناه من سيادته، وإن كان لي من شيء قد أشير إليه فهو إنما ينقل عن بعض فقهائنا الذين كتبوا قديما لعصرهم حيث لا ينبغي لنا أن نظلم هؤلاء الأئمة، ذلك أن العلم الحديث والمسلمات العلمية الآن تثبت أنه بمجرد الالتقاء تثبت حياة الجنين بل الحياة مشاهدة علميا عن طريق انقسام الخلايا فهو أمر آخر كما جاء في الآية ذاتها {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ} [المؤمنون: 14] . أما نفخ الروح في الإنسان فهو السر الإلهي الذي أودعه الله تعالى في الإنسان وإلا فما هو الفارق بين الجنين في الإنسان وبين الجنين في غيره من سائر الحيوان؟ نقطة أخيرة أيها السادة العلماء ما قيل من أن الحاكم الشرعي يصدر أمرا أو قانونا فيصير به المباح واجبا أو محرما فهذا غير مسلم، وما قيل من تقييد المباح لا يفيد في هذا الموضوع فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، نعم لولي الأمر تقييد المباح الذي لم يتعلق به حق العباد مثل منطقة معينة في الصحراء يقيدها ولي الأمر لمصلحة الأمة، وفرق كبير بين هذا وذاك، شكرا لكم والسلام عليكم ورحمة الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 502 الشيخ محمد علي عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. حضرة الرئيس حضرات الإخوان، بعد دراستي لموضوع تحديد النسل وجدت نفسي أتساءل فيم حيرة المسلمين وقد فرض الله علينا الدين الحنيف دينا كاملا وقال عز وجل {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام 38] ؟ في الحقيقة المسلمون في هذا العصر يبدو وكأنهم مشتاقون إلى كل ما يأتي من الغرب وكل ما يأتي من أوروبا، وكل ما يأتي من أمريكا، وكل ما يأتي من آسيا في حين أن لدينا كلنا شرفنا لنا أعمالنا إن كل ما نحتاج إليه دينا وعملا فأوروبا أتتنا بأعمال فضيحة أتتنا بأعمال نحتاج إلى طلب كل شيء من عندهم في حين لا نحتاج إلى هذا طلبنا منهم المال والقوت ففرضوا الآن يعطونا فكرة خاصة، فكرة تريد أن تحطم المجتمع الإسلامي، فكرة أن تجعل سدا للسلالة والأبناء وهي أحسن شيء أعطاه الله للمؤمن فكرة تحديد النسل. يا أخي، أرى أن المسألة تحتاج إلى فكرة جيدة، تحتاج إلى الاحتياط قبل أن ندخل في هذا الموضوع , فقد قال عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] ، هذه الآية كاملة وشاملة لا تحتاج إلى تفسير , إن كل شخص موجود في هذه الدنيا الله أعلم بوجوده , لقد فرض الله الحياة كما فرض الموت، لقد فرض الله الغنى كما فرض الله الفقر، فكيف الآن نتساءل: ما يكون مآل أو مصير أبنائنا في الغد؟ ماذا سيكون أكله غدا، الأمر بيد الله إن كنا نؤمن حقا فعلينا أن نعلم أن الله يعلم كل شيء، خطوة كل عمل نعمله أو نقوم به معروف عنده، زيادة على هذا لقد آمن بعض المؤمنين بأنه إن كانت هناك مشقة أو شدة تصلى صلاة الاستسقاء ونتحصل على المياه فكيف اليوم نخاف ونقول: ماذا سيكون عمل غد إن لم يكن لدينا ما نطعم به إخواننا فلم لا ندعوا الله {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] فالدعاء قلب العبادة، فلم الحيرة لماذا نحتاج إلى تحديد النسل؟ لم نبحث عن طريقة لننظم فيها الأسرة، من أدرى نحن أم الله؟ أقول وأؤكد أن ما فرضه الله لا نشك فيه لقد تعرض سيدي الرئيس في الجلسة الافتتاحية لكلمة أثرت بي لأني كنت مؤمنا بها حقيقة تخص موضوع اليوم فيما يخص موضوع تحديد النسل، تعرض الرئيس إلى موضوع كان من المفروض كل شخص أن ينتبه إليه قبل أن نذهب إلى آراء الأطباء قبل أن نذهب إلى آراء الاختصاصيين المسيحيين فيما فرضوه في كتبهم وهو الموضوع الذي تعرض إليه سيادة الرئيس في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] أيضا قال سيادة الرئيس: إن الرزق يأتي من السماء وهذا حق لا شك فيه: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] كما تعرض سيادة الرئيس أيضا إلى موضوع تحديد النسل حين قال: إن ..... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 503 الرئيس: تقصدون من هذا أن تبنى الأحكام على النصوص؟ الشيخ محمد علي عبد الله: صحيح لأنه تعرضت لنفس الموضوع الذي تعرضت إليه أنا شخصيا العفو يا سيادة الرئيس فيما يخص العقيدة والعبادة حقيقة هي كلمة لا إله إلا الله، لقد كدت أبكي من كلمة قلتها لا إله إلا الله وهي عماد الإيمان، وإن كل مؤمن يولد في هذه الدنيا متأكدون بإذن الله أنه سيقول: لا إله إلا الله؛ ولذا أعتبر أن لا إله إلا الله محمد رسول الله هو ميزاننا وأننا كمسلمين في ميزان والكفار من الجهة الأخرى فكل ما نفرض إن قَلَّتْ كلمة لا إله إلا الله نفتكر أن كلام الكفار سيرتفع ونحن نقلل من القائلين بلا إله إلا الله بمنع نساءنا من الإنجاب؛ لأن كل مسلم يرزق وكل مسلم يأتي في هذه الدنيا سينطق بكلمة لا إله إلا الله بإذن الله ولا إله إلا الله هي كلمتنا في الدنيا والآخرة، ثم زيادة على هذا أن تكلمنا في تحديد النسل فإن تحديد النسل سيؤدي إلى فساد الخلق لدى البنات؛ لأن كل بنت تعرف أنه مسموح لها بالقيام بتنظيم النسل ومسموح لها بأخذ الحبوب والأدوية التي قد تشتريها من الصيدليات؛ لأنه ربما سيصدر قانون عام مأذون به وأن سيفتح لها الباب غدا تقوم بأعمال غير لائقة بأعمال مخالفة للإسلام مخالفة للشرع بدون أن يشعر وليها بأي مسئولية عنها. ولهذا أرى أن الكلام في تحديد النسل يجب أن يكون بحذر فالصحيح أن يقال: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، حقا لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة إذا كانت القضية متعلقة بامرأة في حالة خطر أو حامل وترضع، قد يسمح في هذه الحالات الدقيقة الحالات التي لا يمكن أن نتجاوز عنها بقيامها بعملية الإجهاض أو بقيامها بعملية لا تسمح لها غدا بأن تلد وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 504 الدكتور محمد نعيم ياسين: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. في الحقيقة بعض الإخوة وخاصة الدكتور حسان حتحوت في مقالته الراقية الرائعة أوحى بسؤال، ويجب أن نجد له حلا؛ لأن الجزء الأساسي من الموضوع ربما يكون كما قال بعض الإخوة: قد قتل بحثا، ولعل الاتجاه العام فيه إلى إباحة تحديد النسل للأفراد وعدم إباحة ذلك للحاكم، ولكن نريد أن نعرف عندما يغلب الظن يغلب ظني أنا محمد نعيم أن الاجتهاد الخاص أن هناك مؤامرة فعلا في البلد الذي أعيش فيه سواء كنت في جزيرة ترينيداد أو في فلسطين أو في المالديف أو في أي مكان أن هنالك مؤامرة تخطط لجعل نسبة الأقلية المعادية أو أقلية يعني لها اتجاه آخر تزيد وتأخذ مراكز تأثير، أريد أن أعرف عندما يغلب على ظني أنا هل يحرم علي أن أحدد النسل أم يظل ضمن الإباحة؟ وهذا سؤال لا أوجهه للإخوة الذين يرون أن الأصل في تحديد النسل التحريم إنما أوجهه للإخوة الذين يرون أن الأصل في تحديد النسل للفرد، يرون أنه مباح في هذه الحالة هل يحرمونه عليه؟ وإذا كانوا يحرمون عليه ذلك فأرجو إذا ما صدرت توصية بهذا الخصوص وكانت متجهة في الاتجاه الأوسع وهو الإباحة للأفراد أن تستثنى ذلك بحيث يكون حراما أو على الأقل مكروها لأؤلئك الأشخاص الذين يغلب على ظنهم سواء كانوا على مستوى الأفراد المثقفين أو الوسط أو غير ذلك أنه يكون حراما بالنسبة لهؤلاء. هذه ملاحظة أثارها الحقيقة في ذهني كلام الدكتور حسان والدكتور البار ومن جاء بعدهم وجزاهم الله خيرا وبارك الله فيكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 505 الدكتور عمر سليمان الأشقر: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. كنت أود في مناقشة هذا الموضوع أن لا نصدر في أبحاثنا عن رد فعل تجاه شبهة وردتنا من الغرب في ظني أنه آن للمسلمين في هذا العصر أن يتوجهوا بأبحاثهم النابعة من فقههم وشريعتهم تأصيلا: أولا لبيان المفاهيم الأساسية النابعة من الشريعة والنظريات المبنية على الأصول الشرعية لبيان المشكلات المعاصرة تتقدم بها إلى العالم نقول: هذا فقهنا وهذا ديننا وهذه شريعتنا وهذه أصولنا الموافقة للحق، هذا جانب والجانب الآخر كنت أود أن نناقش أصل النظرية لا نكتفي بإيراد الأدلة الشرعية، إنما أن نبين أصل النظرية التي أقيمت عليها هذه المسألة عند علماء الغرب أو عند غير المسلمين، ثم تفند من مختلف الزوايا سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأخلاقية أو العلمية حتى نهدم الأصل الذي قامت عليه؛ ولذلك حبذا لو أن البحث طرق من عدة زوايا زاوية علماء الشريعة هذا جانب علماء الاقتصاد الإسلاميين، هذا جانب آخر علماء الأطباء المسلمين ماذا يقولون في هذا؟ علماء الاجتماع المسلمين ماذا يقولون في هذا؟ نستطيع أن نقدم بعد ذلك للعالم منهجا واضحا في هذه القضية وقد كنت أسمع من المرحوم الدكتور عيسى عبده العالم في الاقتصاد الإسلامي أنه كان يقول: أصل هذه النظرية أصل هذه المسألة مبني في الاقتصاد الغربي على نظرية الندرة النسبية ويقابلها عندنا في الشريعة الإسلامية نظرية الوفرة النسبية، ففي الاقتصاد الغربي الأصل في الخلق الندرة والمفاهيم الشرعية والنصوص الشرعية تعطي أن الأصل في الخلق هي الوفرة النسبية، فكلما احتاج الإنسان إلى شيء أكثر فيكون وجوده أكثر، فالهواء وجوده كثيرا جدا لحاجة الإنسان الشديدة إليه، الماء بنسبة أقل ولكنه وافر، وهكذا. في الختام كنت أيضا أحب أن ألفت النظر إلى أن تاريخ هذه القضية الإخوة الذين تكلموا في هذه القضية بعيد الغور في التاريخ الإنساني فقد رأيت بعض النصوص عند الفلاسفة في أثينا دعوا إلى هذا المنهج، وحدد بعضهم أن العدد المثالي لمدينة أثينا خمسة آلاف وسبعمائة هي التي يمكن للموارد في أثينا أن تكفي سكانها، أما الأكثر من ذلك ففيه خطر يعني هذا البحث قديم أو هذه المسألة قديمة وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 506 الدكتور عمر جاه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم. شكرا فضيلة الرئيس فيما أعتقد أن مسألة المفردات التي تناولناها في تحديد النسل تنظيم النسل منع الحمل هذه كلها مفردات تشير إلى معنى واحد، والذي أراه والذي نستطيع به أن نفرق بين هذا وذاك هو الدوافع، ما هو الدافع؟ ما هو المبرر؟ ما هو الهدف من استعمال هذا الأسلوب لمنع الإنجاب؟ وفي الحقيقة كما رأينا هذا ظاهر في البحوث التي تناولناها أن مسألة منع الحمل وتنظيم النسل كان قائما وليس جديدا في حياة المسلمين، والظاهر الغريب الذي أريد أن أضغط عليه وأصر عليه الغريب في الموضوع هو هذا الضغط الكبير الذي يأتينا من دول تشجع النسل في بلادها وتمنعه في بلادنا نحن ونحن متفقون تماما ولا أشك أن هنالك أحدا يخالف في هذا، إن الهدف أو المبرر لا يمكن أن يكون اقتصاديا ولا ماديا؛ لأن هنالك آيات قرآنية كثيرة ذكرها العلماء في هذا المكان هؤلاء يغنونا عن تكرار ما سبقوا إليه فهذا الكوكب الذي خلقه الله لنا فيه المزيد مما نحتاج إليه لكي نعيش إذا أحسنا، وأشكر الدكتور حتحوت في هذا المجال أشار إلى نقطة هامة جدا ونقطة أساسية في حياة المسلمين تكافل وتكامل، وأنه إذا حدث أن هناك دولة ينقصها موارد لتغذية أبنائها هناك دول إسلامية أخرى عندها وفرة، وإذا كنا مسلمين حقا ينبغي أن نقوم ونتعاون في سد حاجات بعضنا البعض حتى لا نضطر إلى اللجوء إلى أساليب لا يمكن تبريرها فمسألة منع الحمل إما بالتعقيم أو بالعزل أو بطرح كمية ضخمة من حبوب منع الحمل في أسواقنا وهذا يؤدي حتما إلى ظاهرة أخرى غير شرعية فالأخ مندوب النيجر أشار إلى نقطة خطيرة جدا، وأن هناك عددا كبيرا من النسوة يستطعن أن يتناولن هذه الأمور التي تمنع الحمل، وهذا فيه تشجيع على الإباحية كما تعرفون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 507 إذن فالمسألة كما أراها أنا إذا كنا سنصدر في هذا المجلس توصية أو فتوى في هذا المجال ينبغي أن ندرس الموضوع كما قال الأخ عمر الذي سبقني في الكلام، ينبغي دراسة الموضوع دراسة مستفيضة من كل جوانبها، ومن هنا أختلف إلى حد ما مع الإخوة الذين عبروا عن تخوفهم من إقحام موضوعات ليست جزءا من هذا الموضوع ويقولون: إن مسألة الإجهاض والتعقيم تختلف تماما عن موضوع تنظيم النسل، صحيح قد يختلف لكننا لا نستطيع أن نصدر فتوى تفيد إلا إذا بينا هذه الأمور التي أقحمت إقحاما في هذا المجال وهي غير شرعية أنا متفق معهم تماما أن الإجهاض غير شرعي وليس هناك مبرر له إلا إذا كان هناك حاجة لحماية الحياة، الإجهاض في منع حياة أو قتل حياة إذا كانت هذه الحياة التي سوف تأتي لا نقتلها إلا لحماية حياة قائمة إذن الإجهاض غير شرعي ومحرم شرعا إلا إذا كانت هناك ضرورة؛ ولذلك تنظيم النسل وكلنا يعرف أننا نمارس تنظيم النسل حتى من غير أن يكون هناك تشريع على مستوى الدولة لأن كل أسرة تعرف ظروفها الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وتمارس نوعا ما من تنظيم النسل ولكننا ينبغي أن ننتبه إلى أن هذه القضية قضية خطيرة؛ لأنها أقحمت علينا ونتكلم عن أشياء هناك أشياء أخطر من هذا؛ لأن مسألة حبوب منع الحمل الآن أو تركيب لولب هذه الأشياء كان المفروض أن تخصص للمتزوجات والمتزوجين فنجد الآن أن هذه في متناول الملايين وهذا حدث فعلا في الدول الإسلامية، إذن هذا الجانب الخطير ينبغي أن يكون موضع الاعتبار بالنسبة لدراستنا وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 508 الدكتور علي أحمد السالوس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله بعد هذه الأحاديث الطويلة المستفيضة الممتعة وبعد هذا الاتجاه الطيب إن شاء الله أريد أن أشير إلى نقطتين اثنتين فقط. النقطة الأولى: هي أن شيخنا الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله عندما قدم بحثه للمؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية في هذا الموضوع موضوع تنظيم النسل ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه وغير الإمام مسلم، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل، فقال: ((ذلك الوأد الخفي)) ثم قرأ: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير 8-9] ، وجعل أن هذا هو الأساس في الموضوع، وأن الأحاديث الأخرى التي ذكرت في الموضوع يجب أن ينظر إليها في ضوء هذا الحديث ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) كيف كانوا يعزلون والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((ذلك الوأد الخفي)) فلاحظت في الحقيقة أن بعض الإخوة الباحثين اكتفوا بذكر الأحاديث التي تبين أن العزل مباح، وأن هناك أحاديث شريفة أباحت هذا دون ذكر لهذا الحديث الشريف. ووجدت أن بعضهم مر عليه مرورا سريعا مع أن شيخنا رحمه الله وقف عند هذا وقفة طويلة، وَبَيَّنَ أن هناك المنهج الذي أشار إليه فضيلة الأخ الدكتور الأستاذ علي القره داغي وهو أنه يجب أن نجمع الأحاديث كلها، وأن نخرج هذه الأحاديث، وأن ننظر في ضوء هذا التخريج فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ذلك الوأد الخفي)) فلا بد إذن إذا كانت هناك إباحة في أحاديث أخرى تبيح لا بد أن ننظر في ضوء حديث المنع إلى جانب ما ذكر من أن الإسلام يحث على الزواج وكثرة النسل .... إلخ، فلا بد أن نجمع بين هذا وذاك. الأمر الآخر: هناك إشارة إلى بعض الفتاوى الفردية وبعض الفتاوى الجماعية لبعض المؤتمرات الطبية الإسلامية، وأرى أن من أهم الفتاوى التي صدرت فتوى مجمع البحوث الإسلامية، (المؤتمر الثاني سنة 1385هـ - 1965م) حيث حضر هذا المؤتمر كبار علماء يمثلون خمسا وثلاثين دولة إسلامية وصدر القرار بالإجماع، والقرار بالإجماع نصه موجود في البحث الذي قدمته ولا أريد أن أقرأه، كذلك هناك فتوى أخرى إجماعية صدرت بعد هذا بخمس عشرة سنة فتوى مجمع الفقه التابع لرابطة العالم الإسلامي وهي في نفس الموضوع ونصها موجود في البحث الذي قدمته. إذن أعتقد أن هاتين الفتويين من أهم الفتاوى التي صدرت، ولعل الإخوة الكرام ينظرون إليهما عند صياغة الفتاوى والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وشكر الله لكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 509 الدكتور أحمد محمد جمال: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وبعد. تصورت عندما وضعت بحثي عن تحديد النسل وتنظيمه أن هناك أمرين مطروحين على المجمع يريد المسلمون أن يعرفوا رأي الإسلام فيهما، وقد ركزت على هذين الأمرين وهما تحديد النسل على المستوى الجماعي، وتنظيم النسل على المستوى الفردي هذا هو المطلوب، المسلمون يريدون أن يعرفوا: ما حكم الإسلام في التحديد الجماعي؟ أي تدخل الدول في هذا التحديد هذا طبعا لا يجوز وقد استدللنا في أبحاثنا بالأدلة الشرعية من القرآن والسنة، لا يجوز لدولة ما أن تحدد نسل شعبها تحديدا جماعيا فهذا يناقض حكم القرآن وحكم السنة، أما تنظيم النسل على المستوى الفردي فهذا هو الجائز في نظرنا، وقد استدللنا عليه بأدلتنا أيضا الشرعية فلو أتيح لنا من البداية أن يقول كل باحث خلاصة لرأيه وأدلته لكفينا كثيرا من هذه التعليقات الطويلة التي ذهبت بعيدا عن موضوع القضية المطروحة على المجمع. تحديد النسل لا شك أنه ممنوع على المستوى الدولي أي الدولة أو المجتمع، وقد قرئت الآيات الكثيرة التي تضمن الرزق وأيضا نعرف من حيث الواقع حيث واقعنا نحن المسلمين بلادنا تفيض بالخيرات البشرية والزراعية والغذائية والأرضية، وهنا أحب أن أقف وقفة قصيرة تعليقا على كلمة سماحة الشيخ علي التسخيري؛ لأنه يبدو في كلمته أنه يؤيد التحديد الجماعي، وقال: إن عندهم زيادة سبعة عشر مليونا يحتاجون إلى طعام وشراب وتربية ... إلخ , الواقع أن كل الدول الإسلامية بما فيها إيران عندها من الخيرات ما يكفي للتغذية والتربية إذا وفرت هذه الخيرات للشعب. نرجع إلى التنظيم الفردي الذي نرى أنه لا بأس به , لماذا لا بأس به؟ لأنه يقوم على حاجة وضرورة بالنسبة للزوج والزوجة، قد تكون الزوجة مريضة لا تحتمل الولادات المتتابعة، قد تكون تحتاج إلى ولادة بالعملية القيصرية فلا بد لها من راحة عدة سنوات، قد يحتاج الأب إلى تربية لأولاده فترة بعد فترة فالتنظيم الفردي لا بأس به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 510 هذا هو أساس القضية على مستوى فردي , وهنا أشير أيضا إلى ما قرره علماء الأصول على أن المباحات قسمان: وليست قسما واحدا ليس كل مباح مباح على المستوى الفردي والمستوى الجماعي وهذا ما تحدث عنه الإمام الشاطبي في الموافقات وكان حكيما في بيان هذا الفرق بين ما يباح للجماعة وللفرد وما يباح للفرد فقط , فالتنظيم الفردي لا يجوز للدولة أن تستبيحه، هو مباح فقط لضرورات فردية للزوجة للزوج للأسرة فقط، وقد ضرب بعض علماء الأصول المثل بتعدد الزوجات أو بالطلاق فهما مباحان مباح على مستوى فردي لكن لا يجوز لحاكم أن يأمر بتعدد الزوجات كقانون، ولا يجوز أن يتدخل في شئون الأفراد أو يوجب الطلاق. المهم لا أريد أن أطيل في التدليل والتفصيل، وإنما الذي أريده أن نقصر البحث على موضوع القضيتين المطروحتين تحديد النسل على المستوى الجماعي لا يجوز وتنظيم النسل على المستوى الفردي لا بأس به للضرورات التي أشرت إليها. أريد أن أعلق أيضا في سطور محدودة على كلمة الدكتور علي السالوس فيما ذكره من أحاديث العزل منعا وإباحة الواقع أن العلماء بحثوا أحاديث العزل التي تمنع والتي تبيح وأغلب العلماء أيدوا الإباحة أخذا بحديث جابر " كنا نعزل على عهد رسول الله والقرآن ينزل " وهذا الحديث متأخر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم طبعا فاعتبروه حتى لو كان هناك حديث ((الموءودة الصغرى)) يعتبر ناسخا له فالعلماء بحثوا الجمع بين هذه الأحاديث وقرروا أن الإباحة في العزل هي الأساس وشكرا والسلام عليكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 511 الدكتور الطيب سلامة: بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. حضرات العلماء الأفاضل، هذا الموضوع الذي بين أيدينا هو موضوع من الأهمية بمكان لو قايسناه ببقية مواضيع هذه الدورة؛ لأنه موضوع يمس الإنسان المسلم إما عاجلا وإما آجلا في حين أن العديد من الموضوعات الأخرى التي تعني البيع والمرابحة والربا وما شاكل ذلك من قضايا البنوك وقضايا المعاملات هي تتصل بحياة المسلمين عموما، ولكنها لا تمس حياة المسلمين فردا فردا مثل هذا الموضوع، صدقوني إذا قلت لكم: إن من علم من الجماهير العريضة بأن هذا الموضوع سيعرض على المجمع الدولي للفقه الإسلامي هم في أشد الشوق وفي أشد الانتظار لما ستسفر عنه الدورة من قرارات ومن تحليل أو تحريم، ولا أقول جديدا: إن سمحتم لي بأن أُذَكِّرَ بدور هذا المجمع الكريم وأن تأسيسه كان محل ارتياح العلماء والعامة؛ لأننا قد انتهينا إلى قضية ونحن مع طلابنا في أمر الاجتهاد إلى أن الاجتهاد الفردي يحسن أن يعود وإلى أن الاجتهاد الجماعي هو الذي سيأخذ مكان الاجتهاد الفردي، وهو الذي سيوضح للمسلمين معالم طريقهم وأمور دينهم وما سيجد من قضايا حياتهم حينئذ قرارات هذا المجمع هي قرارات اجتهادية، والاجتهاد كما هو معلوم في الشريعة الإسلامية أصل من أصول التشريع الإسلامي حينئذ أود أن أقول من وراء هذا: إن دراسة هذا الموضوع تستدعي أن تأخذ حظها ولو لزم الأمر إلى أن نفكر في مضاعفة دورات المجمع ولا نقتصر على دورة سنوية لحل القضايا ولخدمة هذه المسائل حينئذ قضية تحديد النسل أو التوقي من الحمل أو الإجهاض، هذه كلها قضايا حيوية يحياها الرجال والنساء كما يحياها الشباب بالنظر إلى مستقبل حياتهم الزوجية القضية حينئذ تتطلب مزيدا من التأني وعدم السير على منهج المؤتمرات الأخرى، هذا مؤتمر علمي، وهذا مؤتمر مجمع فقهي، وإن حددناه بزمن فمعنى ذلك أنها دورة يمكن أن تعقبها دورات ويمكن أن تتجدد الدورة وليس اجتماعا سياسيا نريد أن ننتهي فيه حتما إلى قضايا وقرارات سياسية أو إلى لوائح لا بد من إصدارها، هذا من باب التواصي بالحق وبالخير أما إذا عدت إلى موضوع تحديد النسل أو التوقي من الحمل أو العزل وتعددت الأسماء وتقاربت المدلولات وإن كانت هذه الأسماء كلها تجمع قضايا متعددة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 512 الموضوع في الواقع له عدة جوانب والناس والأمة الإسلامية في انتظار الحكم الواضح في كل قضية من القضايا مفصلة هنالك جانب منع الإخصاب والتوقي من الحمل والذي كان يسمى بالعزل في القديم، هنالك جانب ثان وهو جانب منع الإخصاب ولكن ليس بصورة العزل يعني قبل أن يبلغ ماء الرجل المحل " الرحم "، وإنما بعد ذلك فهذه العملية عملية منع الإخصاب ولكن هذه المرة داخل الرحم لا خارجه، وهنالك عملية القضاء على ما تم من إخصاب في فترة من فترات الإخصاب وهو ما يسمى بالإجهاض سواء كان في مرحلة أولى أو في مرحلة ثانية من مراحل الحمل , القضية لها دواع ففي السنة الشريفة وقد تتبعت جل دواوين السنة وجمعت ما فيها من أحاديث فبلغت في هذا الجمع ستة وثمانين حديثا هي أحاديث مقبولة مختلفة الدرجة فيها الصحيح، وفيها الحسن، وفيها المقول في سنده، ولكنها مع ذلك ومع كثرتها كما يعرف أهل الصناعة هي متعاضدة الأحاديث ولكن تعدد هذه الأحاديث قد أفاد شيئا آخر جانبا آخر لمن يتتبعها هو جانب الحياة الاجتماعية وجانب الداعي الذي كان يدعو الصحابة رضوان الله عليهم لسؤال الرسول ولممارسة العزل فكانت قضايا مع زوجات، وكانت قضايا مع سرايا ومع إماء حينئذ الحاجة تدعو إلى هذا العزل، وكان الرسول يجيب فيما يقارب الثمانين حديثا بالجواز وفيها الصحيح المتفق عليه كحديث جابر ولكن هنالك أحاديث أخرى كانت معارضة لهذه الأحاديث وهي عبارة عن ستة أحاديث أو ما يقارب هذا وأصحها حديث مسلم الذي روته جدامة أو جذامة على روايتين بنت وهب والذي تحدث فيه الرسول عن الغيلة وبين أنه كاد أن يمنعها ولكنه رأى أنها لا تضر أبناء فارس ولا الروم، تقول الصحابية الجليلة جذامة: وسئل صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال: ((هو الموءودة الصغرى)) لكن هذا الحديث في الواقع وإن كان صحيحا هو معارض لعدة أحاديث أخرى صحيحة ومعارض أيضا بحديث يعارضه تقريبا نصا بنص وهو أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن اليهود، وأنهم يزعمون أن العزل هو الموءودة الصغرى، فقال صلى الله عليه وسلم: ((كذبت اليهود إن الله إذا أراد أن يخلقه - أي المولود - لم يمنعه)) أي لم يمنعه شيء في حديث جذامة، قد تولى علماء المسلمين من فقهاء قدامى ومن محدثين قد تولوا عملية الترجيح وعملية الجمع بما هم أهل له ورأينا أن الموضوع قد قتل بحثا وأن على علماء العصر أن يتتبعوا ما تم من سلفهم الصالح ليكملوا وليوائموا بين حاجات العصر وبين مقتضيات هذه الأحكام الشرعية حينئذ الحاجات بالنسبة للتوقي من الحمل أو بالنسبة للإسقاط والإجهاض متباينة ومختلفة من عصر إلى عصر ومن فرد إلى فرد، وبذلك دخلت هذه القضية وهي داخلة من أصلها في الأحوال الشخصية ولم يجز بعد ذلك أن تكون من الأحول العامة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 513 وهنا قد يأتي سؤال أو قد يطرح سؤال: هل هذا الأمر أمر الإنجاب وأمر الأولاد هو حق من حقوق الأسرة فقط؟ أو للدولة حق فيه؟ وإذا كان للدولة حق فيه فللدولة أن تتدخل حينئذ من فقهائنا من ذهب إلى أنه حق للأب باعتباره أنه القوام على الأسرة وأنه المسئول عن تربية الأبناء، وأنه هو الذي يقدر المسئولية ولذلك الأمر يرجع إليه، ومن العلماء من ذهب في إعطاء المرأة حقها في الموضوع وتحميلها المسئولية كأشد ما يكون اتجاهاتنا العصرية اليوم بحيث يعتبر أن الأمر للزوجة ولا بد أن تستأمر في ذلك ولا بد أن تستأذن ويحرم على الزوج أن يعزل عنها إن لم توافقه على ذلك، وإذا كان الأمر كذلك حينئذ يصبح الأمر شورى والأمر من تدبير الأسرة من تدبير الزوج والزوجة يعني يفعلان ما يتناسب مع وضعهما ومع حالهما الأسري، أما الدولة: الدولة بالطبع لها الإشراف العام ولكن كما تشرف الدولة على الفلاحة وإذا قلنا الدولة تشرف على الفلاحة ليس معنى ذلك أن تأخذ الجرار أو تأخذ المعول أو هي التي تسقي أو تحرث أو تزرع وإنما لها التوجيه والتوجيه يكون توجيها رشيدا وإلا فلا يكون التوجيه معناه: التوجيه إلى السداد وإلى الرشاد والذي تنتفع به كل أسرة سواء في ذلك الأسرة التي يلائمها تحديد النسل أو الأسر التي لا يلائمها ذلك بحيث تتجه الدولة بسداد ورشاد في هذا المنهج والأسر الواعية بعد توعيتها تطبق وتنفذ. القضية مثل ما قلت: فقهاء المسلمين قد ذهبوا فيها إلى أبعد مما نظن وإلى أبعد مما يظن العلماء المعاصرون في هذا العصر حتى إنهم في مسألة وهي المسألة التي أنتقل إليها من قضية الإجهاض مثلا يبين العلماء أن حياة الجنين في بطن أمه حياتان على خلاف ما تقرره المسيحية، فهنالك حياة بيولوجية حياة جراثيم وهي حياة ما يسمى بحياة الإعداد والنمو خلايا تنمو وتنقسم على بعضها، وهنالك حياة إنسانية للجنين وهي حياة ما بعد نفخ الروح وهي الحياة المحترمة المكرمة، ومن هنا جاء قول الفقهاء الذين يقولون بجواز الإجهاض ولكن ليس جوازا مطلقا جواز مع وجود الداعي يعني قبل المائة والعشرين يوما الأربعة أشهر، وأما بعد ذلك فهي الحرمة باتفاق جمهور العلماء إلا للضرورة، والضرورة كأن تكون حياة الأم في خطر فيعمد إلى الإجهاض ولو بعد الأربعة أشهر لإنقاذ حياة الأم بناء على القاعدة التي تقول: لا يبقى على الفرع بطريق إعدام الأصل. حينئذ الكتب الفقهية، الأحاديث فيها من المادة الزاخرة المهمة ما يفتح لها أمامنا باب الاجتهاد ولكن مع التروي حتى يكون ما يصدر عن هذا المجلس الموقر المحترم وعن هذا المجمع الكريم هو تشريع للأمة الإسلامية التي تنتظره وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 514 الدكتور محمد عطا السيد: الحمد لله رب العالمين اللهم صل على محمد عبدك ورسولك. باختصار شديد يا سيدي الرئيس يبدو لي من أكثرية البحوث التي قدمت والنقاش الذي دار إنه في الحقيقة تبلور النقاش في نقطتين بل وحصل شبه اتفاق على هاتين النقطتين وهما. أولا: لا يجوز وأقدم هذه المسألة عسى أن تكون إطارا لقرار المجمع وتوجيه النقاش في هذه الناحية لأمة مسلمة أن تتخذ تحديد النسل سياسة عامة للدولة خوفا من العيلة أو الفقر أو لرفع مستوى المعيشة أو التعليم أو ما إلى ذلك، وذلك للأسباب والأحاديث الكثيرة التي أوردها الباحثون والمناقشون جميعا. ثانيا: إذا كانت هنالك مسائل فردية مشروطة بحالة مرضية معينة أو نفسية كأن يؤكد الأطباء المتخصصون خطورة الحمل مثلا على امرأة بعينها أو يخشى على حياتها من استمرار الحمل أو ما إلى ذلك أو إذا تأكد أن الزوجين لا يستطيعان أن ينشئا الطفل بالصورة المطلوبة، فهذه حالات فردية ويجوز لكل حالة أن تعالج كل حالة بقدرها وبرأي المتخصصين فيها وفي هذه المسألة طبعا كما نعلم أن الله سبحانه وتعالى رقيب على ضمائر الذين يقررون في هذه المسألة. ولذلك أرى يا سيدي الرئيس انحصار القرار في هاتين النقطتين دون التعرض للتفاصيل المختلفة حتى لا ندخل في متاهات الإجهاض وما إلى ذلك، هذا ما رأيته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 515 الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. ثراء نعمنا به، وبحوث مستفيضة نشكر عليها السادة الباحثين والمعلقين وبقي لي بعض الأمور التي أريد أن أضيفها. الأمر الأول: هو أن هذه المشكلة هل هي مشكلة حقيقية أو هي مشكلة زائفة أَقْنَعَنَا بها الغربُ؟ لا أعتقد أن المشكلة مشكلة زائفة أصلًا فإن التطور العلمي مكن للأطفال بالأسباب التي توفرت من بقاء الحياة، والتطور السكاني أمر مشاهد أمامنا يشاهده كل منا في قريته وفي مدينته وفي بلده، والإحصائيات الرسمية حسب التطور بالحاسوب تفيد أن أفريقيا ستكون في سنة 2057 م أكثر في عدد سكانها من سكان العالم الآن. وستتجاوز ستة مليارات في سنة 2057 م، وهي ليست بعيدة فالمشكلة إذن هي مشكلة واقعة وحقيقية وباعتبار أنها مشكلة واقعة وحقيقية، فمواجهتها وبحثها هو أمر واضح لابد منه وتبحث على ثلاثة نطاقات. النطاق الأول: هو نطاق شخصي بمعنى أن الأسرة التي تجد نفسها عاجزة وغير مهيأة نفسيا لمواصلة الإنجاب هذه تلجأ إلى الطبيب فحكمها في ذاتها في إقدامها على هذا ثم إن الطبيب وما يصفه إما استجابة للطب أو عدم الاستجابة ما هو حكم الله في ذلك، والطبيب يريد أن يكون مسلما وهو يباشر مهنته الطبية. ومن هنا جاء ما تفضل به السادة الإخوان الذين تعمقوا في المشكل. وأعطونا بعض النماذج لتنظيم النسل فليست مسألة خارجة عن نطاق البحث ولكنها هي البحث ذاته؛ لأنه هل يربط القنوات ما هو حكم الربط وهو التعقيم الكامل هل يجري منع على الزوج على الرجل؟ هل هناك فرق بين الرجل والمرأة؟ هل يعطي حبوب منع الحمل؟ تأثير هذه الحبوب على الصحة. فهي كلها قضايا تتطلب جوابا من الطبيب المسلم وللعائلة المسلمة. الأمر الثاني: هو الدولة، والدولة لابد أن نفرق بين مرحلتين على مستويين، المستوى الأول هو أنه هل للدولة وهي تمثل الأمة أن تتدخل تدخلا تنظيميا؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 516 بمعنى أن تعرف الناس بواجباتهم في التربية وبما يلزم كل فرد عندما ينجب وكيف يستطيع الفرد أن يمتنع عن الزيادة هذه ناحية إعلامية تنظيمية، وهناك ناحية أخرى أرفع من هذه وهي أن تتخذ الدولة قرارا في منع التكاثر وفي منع الحمل هذا نجده في بعض الدول أخذت قرارا بأنه ليس للعائلة أن تزيد على شخص واحد إذن فلا بد من النظر في المرحلتين وإعطاء فتوى لكل واحدة منها. والقضية التي تعرض إليها وأريد أن أعلق عليها بكلمة صغيرة هي الحياة والحياة التي هي حركة وانقسام، فالخلية عندما تلتقي بويضة المرأة بالحيوان المنوي للرجل هل هذه الحياة هي نفس الحياة التي ستتبع أو هما حياتان؟ إن التقدم العلمي اليوم وخاصة بالحصيلة الإرثية وتطور الجنين حسب خلق الله لا يتدخل أحد في ذلك، هذا أثبت أن الحياة البشرية تأخذ خصائص تختلف عن الحياة الحيوانية اختلافا كاملا وأنها خصائص يقينية الآن أصبحت عند العلماء؛ ولذلك يكون احترام الجنين من أول يوم للقاح لتلقيح البويضة، وما ورد عن العلماء إنما هو اجتهاد عندما كان المستوى العلمي مستوى معينا، فلما تجاوز المستوى العلمي ما عند العلماء في عصرهم وجب أن تتجاوز الفتوى، وأن يصبح القول الذي لا يعتمد أو هو دون المستوى العلمي هذا قولا لا يعتمد عليه بالفتوى. الأمر الثاني: وأنه وقع التعرض في كثير أو في بعض تدخلات الإخوان على أن القضية ظنية، نعم يا سيدي هي ظنية ونحن نبني فتاوانا على الظن ولا نبني الفتاوى على اليقين، وإذا كانت القضية يقينية فهي من البديهيات التي لا اجتهاد فيها إنما يصبح الاجتهاد في التطبيق فإذا ظننا أن هذا الحمل سيضر بالمرأة عند ذلك نأخذ القرار بناء على الظن لا بناء على اليقين، فاليقين لم يعطنا رب العزة الإمكانيات للوصول إلى اليقين إلا في نطاق محدود، وما كانت الفتاوى إلا مبنية على الظن. وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 517 الشيخ مولاي مصطفى العلوي: بسم الله الرحمن الرحيم سيدي الرئيس أصحاب الفضيلة لقد سمعت ما راج في هذه الجلسة الطويلة، ولا أريد الإعادة لما تقدم به إخواني شاكرا لهم، وإنما أريد أن ألفت النظر إلى ما نتج عن بحوث جاءت من غربيين وفي بلادهم يتخوفون من حبوب منع الحمل التي هي أمر بسيط تستطيع كل امرأة وكل فتاة أن تحصل عليها بسهولة، ففي الميدان الصحي ثبت ضرر كثير منها وهذا أمر للأطباء وقد تعرضوا له ولكن في الميدان الأخلاقي نجد استعمال حبوب منع الحمل تساعد على انتهاك حرمة الدين والأخلاق لدى الجماهير المنحرفة خصوصا ونحن نعيش كما يشعر الجميع ظروفا طغت فيها المادية وضعفت فيها التربية الدينية والأخلاقية. ففي الكثير من بلاد المسلمين بسبب الغزو الفكري الأجنبي ضاعت كثير من الأخلاق فاستعمال وسائل منع الحمل بمختلف أشكالها وأنواعها خصوصا الحبوب الواسعة الانتشار , نظرا لسهولة الحصول عليها ويسر استعمالها من لدن الجميع، خصوصا الفتيات قبل الزواج في ميدان الطالبات والعاملات من غير اللجوء إلى طبيب ولا شك أن هذا يحطم الأخلاق في المجتمعات الإسلامية كما حطمها في جهات أخرى وهنا بعض الإحصائيات التي جاء بها غربيون يتحدثون عن بلادهم فحبوب منع الحمل تسببت في انتشار كثير من الأمراض، وتسببت في الإباحية التي طغت على المجتمعات، ضربت المدنية الغربية أعلى مثال في إنجاب الأطفال غير الشرعيين وانتشار الأمراض الخطيرة ففي بعض البلاد التي نقلدها لحضارتها وقوتها يقول أحد الأطباء فيها: إنه يولد أزيد من ثمانين ألفا بدون زواج شرعي في أحد البلاد الغربية، وفي سنة 46 كانت نسبة أولاد الزنا في بلد يقول هذا واحد من كل ثمانية ولدوا، والسبب هو حبوب منع الحمل التي تتستر من ورائها كثير من الفتيات وكثير ممن يختلطن في المجتمعات، هذه ناحية الأمر الخطير بالنسبة للإسلام وبالنسبة للمجتمع الإسلامي يجب أن نلاحظها في هذا المقام. نحن لا نقول بأن التباعد بين حملين ممنوع أو إنه لا يجوز للإنسان أن يفعل ذلك شخصيا في أسرته، ولكن يجب أن ننظر إلى النتائج التي تعطيها هذه الحملة الشرسة التي جاءتنا من الغرب والتي المقصود منها في اعتقادي وقد أكون خاطئا المقصود منها هو تحطيم المجتمع الإسلامي؛ لأنهم يخشون من الصحوة الإسلامية بأن تتحد الأمة وأن تأخذ طريقها في المنهج الإسلامي وأن تكون الأمة التي وصفها الله تعالى خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر والأمة التي قال فيها الله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، هذه النظرة فقط هي التي أريد الانتباه إليها وشكرا لكم والسلام عليكم. الرئيس: شكرا: في الواقع يا مشايخ لدي الآن اثنا عشر اسما من أصحاب الفضيلة المشايخ وما بقي من الوقت إلا ما يقرب من خمس عشرة دقيقة فهل ترون أن نختم الجلسة ويكون إعلان ما تم التوصل بالاتجاه العام إليه؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 518 الدكتور / عبد السلام العبادي: إذا سمحت سيدي الرئيس هذا التصدي من المجمع لهذه القضية إذا لم يكن له ميزة خاصة لا ضرورة لهذا التصدي خاصة وإنه أشار كثير من الإخوة أن هذا الموضوع درس في مجامع وفي مؤتمرات أنا أقترح إذا كان لا بد في الواقع ما دام تصدينا لهذا لا بد أن يتصف قرارنا بنوع من الميزات الخاصة؛ لأنه مجمع دولي يوجه الرأي العام الإسلامي في كثير من قطاعاته ومواصفات هذا يعني أقترح بشكل محدد إجرائيا أن تشكل لجنة من ثلاثة أو أربعة من إخواننا الذين بحثوا هذا الموضوع تفصيلا بحيث يلاحظون فيما سيصدر من قرار هذا المجمع أمورا أساسية لا بد من تحديد الاصطلاحات في هذه القضية؛ لأنه مما أدى إلى الاختلاط في هذا الموضوع واختلاف حتى الفتاوى التداخل بين منع النسل وتحديد النسل وتنظيم النسل، نحن أمام ثلاثة اصلاحات لا بد من أن تبلور في هذه الفتوى لا بد أيضا من أن يشار إلى اهتمام الإسلام بالنسل ويشار إلى المواجهة الديموغرافية التي تتم في كثير من قطاعات مجتمعاتنا الإسلامية، لا بد من أن يشار إلى قضية الاحتياط في وسائل منع الحمل ولا بد من أن توضع عليها رقابة و .... إلخ، كل القضايا التي أثيرت في هذا النقاش لا بد أن تتبلور في فتوى مستفيضة لخطورة القضية وحساسيتها بحيث يصدر قرار متميز عن المجمع في هذا المجال والواقع ما طرح وتسمح لي بدقيقة بسيطة في قضية المشكلة الاقتصادية يعني أرجو التنبيه للفرق بين النظرة التشاؤمية التي أتى بها مالتس في هذا المجال وبين موضوع المشكلة الاقتصادية موضوع المشكلة الاقتصادية هنالك ندرة نسبية للسلع والخدمات شئنا أم أبينا، ولكن الإسلام وجه هذه المشكلة وجهة خاصة فيما قدم حلولا لهذه المشكلة، ويمكن أن نتناقش مع إخواننا الذين طرحوا هذه الفكرة في لقاءات جانبية لنوضح وجهة نظر الإسلام في هذا المجال وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 519 الأستاذ عبد الهادي بو طالب: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين. سيدي الرئيس أعتقد أن هذا الموضوع الذي نتناقش فيه هو الموضوع الأساسي في هذا الاجتماع المبارك، وأنا أشكر أنه قدم ليتأتى للأساتذة المستعجلين أن يشاركوا فيه وأنا واحد منهم ذلك أنه كان مرتبا في آخر جدول الأعمال حسب ما رأيت، ثم ارتأيتم وحسنا فعلتم سيدي الرئيس. هذا الموضوع سيدي الرئيس موضوع مهم جدا ولو أخذنا منا الوقت ما أخذ فالوقت الذي نقدمه بشأنه يستأهله هذا الموضوع ويستحقه، ومن المفيد أن تكون توصياتنا أو قرارتنا فيه متسمة بالحكمة بعد المزيد من الدراسة، والمزيد من التأني فيه وما يصدر عن المجمع الموقر قال ذلك قبلي إخوة سبقوني يرتقبه العالم الإسلامي ويتشوق إليه ويتطلع إلى نتائج أعمالكم، فأرجو أن نكون عند حسن الظن وأن لا نستعجل الأمور هذه نقطة أقدم بها حديثي. فأما الحديث فإنني أود أن أقول لكم: إن الغرب له في هذا الموضوع منظور خاص به نعلمه ويجب ألا يكون منظورنا نحن على أساس رد الفعل ضد الغرب وما يحيك لنا. ففي المعركة الحضارية التي نخوضها ضد الغرب أو على الأصح يخوضها الغرب ضدنا هذه المعركة التي يخوضها الغرب ضدنا يستعمل فيها وسائل شتى ويقاومنا فيها ويغزونا في مجالات عديدة، ومنها يمكن أن يكون مجال تحديد النسل بالنسبة له هل هو صالح له وغير صالح لنا، أو غير صالح له وغير صالح لنا؟ المهم أننا عندما يطلب منا أو نكون مداومين في اجتماع مثل هذا الاجتماع الحديث في هذا الموضوع الخطير علينا أن نستحضر أو نتشبث فقط بمنظورنا الخاص من واقع مجتمعاتنا الخاصة أيضا بحيث لا يهمنا أكان الغرب يريد منا أن يجرنا إلى ميدانه أو إلى حلبة السباق أو الصراع معه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 520 بقدر ما يهمنا أن نستعرض واقعنا، واقعنا سيدي الرئيس هو الآتي: انطلاقا من إحصائيات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة التي قمنا بها منذ ست سنوات وانتهينا إليها في السنة الماضية أود أن أقول لهذا المجمع الموقر إن العالم الإسلامي اليوم قوامه مليار ومائتا مليون من البشر وهذا ما لم يقر الغرب به لحد الآن بل هو يقلل من عددنا باعتبار أنه لا يوصلنا حتى المليار نسمة في كثير من إحصائياته لكن الإحصائيات التي توصلنا إليها نحن في المنظمة الإسلامية تفيد أن العالم الإسلامي قد بلغ اليوم مليارًا ومائتي مليون إذن العالم الإسلامي مهم جدا إذا نظرنا إليه من حيث الكثرة ومن حيث العدد وهل هذه الكثرة في الحقيقة هي قوة لعالم كعالمنا؟ وبعبارة أخرى إن الإسلام يدعوا إلى أن يكون المسلم قويا عزيزا فهل القوة هي الكثرة؟ إن هناك حديثا سمعته ويردده بعض السادة العلماء: ((تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) هل يباهي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمة ضعيفة ولو أنها كثيرة؟ هذا السؤال يجب أن نضعه على أنفسنا أيفسره حديث آخر ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها)) قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم حينئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن)) قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) وما أعظم هذا الحديث فإنه يصور بكل أسف واقع العالم الإسلامي نحن كثرة أصابنا الوهن إذن يجب أن ننظر إلى واقعنا وما هي متطلباتنا لنكون أمة قوية لنحقق الآية القرآنية: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران 110] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 521 في الواقع من خلال ما سمعناه يمكن أن نقول: إن هناك نقطا للاتفاق تصدر جميعا تقريبا على جميع أفواه المتحدثين من هؤلاء العلماء الأجلاء الموجودين هنا وهي أشياء يمكن أن تكون موضع اتفاق وهي: أولا: إنه لا إجهاض بعد بلوغ الخلق مرحلة الحياة التي ينبغي أن يقول فيها علماء الأحياء كلمتهم بكل دقة والتي في نظري لا يمكن مطلقا أن تكون متناقضة مع ما ورد في الحديث الشريف عن هذا الموضوع بحيث لا يمكن أن نخضع الحديث الشريف إلى ما يذكره علماء الأحياء ولكن يجب أن نجد هناك ما يوفق بين الحديث وبين ما انتهى إليه العلم مع العلم بأن العلم لا ينتهي قط إلى شيء لأن العلم حقائق ليست دائما مسلما بها خلافا لما يقال بدليل أنها تنسخ عصرا بعد عصر وعهدا بعد عهد ولذلك لا يمكن أن نظمئن إلى أن العلم يحقق في الأمور بكيفية دقيقة ولا يدعي هذا حتى الأطباء أنفسهم فقد كانوا يقولون عن الحياة إن مصدرها الدم وغيروا فقالوا: إن مصدرها القلب ورجعوا الآن ليقولوا: إن مصدرها الدماغ وربما يقولون غدا شيئا آخر ولا ينبغي أن نسير في هذه المدرسة التي تبحث عن العلوم وتخضع الآيات القرآنية إلى العلوم الحديثة التي تتغير أيضا بتغيير المفاهيم وتغير الاكتشافات والحقائق فإذن نرى أن هناك أشياء وقع الاتفاق عليها منها هذا وأنه لا إجهاض بعد بلوغ الخلق مرحلة الحياة لا بد من موافقة الزوجين في كل عملية تنظم أو تحدد النسل هذا أيضا رأيت أنه مما يتفق عليه الجميع هناك أيضا فيما يتعلق بالعزل فإن هذا العزل قد يظهر أنه كان مباحا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حديثا وإقرارا. كلام الصحابة يقول: كنا نعزل على عهد رسول الله والقرآن ينزل. وكلام النبي الذي أقرهم على ذلك والسنة التي أقرتهم على ذلك فإذن هذا أيضا نقطة أخرى عليها الاتفاق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 522 بقي أن هناك تخوفات عند بعض الناس أو أدلة وهي القول بأن {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود 6] هذه الآيات القرآنية لا بد أن نفهمها في سياقها الديني السياق الديني يقرن الرزق بالعمل ولا يمكن لأحد إلا أن يقول: الله يرزق لو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدوا خماصا وتروح بطانا إن هناك غدوا ورواحا وليس هناك سكون في العش يرزقها وكذلك تحركوا ترزقوا وهذا معروف ومشروع وأن ليس للإنسان إلا ما سعى لا بد أن نترك هذه الآيات القرآنية وهذه الأحاديث في سياقها والنصوص يقيد بعضها بعضا كما نعلم في فقه الأصول فإذن هناك لا يمكن أن نقول أن نترك العالم الإسلامي يتكاثر ورزقه على الله لا لا بد أن ننظر إلى معطياتنا الداخلية وأن نحلل مجتمعاتنا فقد يصلح لمجتمع في العالم الإسلامي ما لا يصلح لمجتمع آخر مثلا على سبيل المثال إنهم يتخوفون الآن في روسيا من أن يتكاثر المسلمون ويصبحوا عددا هائلا ويتخوفون في الولايات المتحدة أن يصبح المسلمون أكثر من الإسرائيليين أو من اليهود ويتخوفون في إسرائيل من أن يقع في الأراضي العربية المحتلة تكاثر يؤدي إلى ضعف الأقلية اليهودية هذه أشياء تهم هذه الناحية من النواحي المختلفة قد يكون لها اعتبارها في موضوع تحديد النسل أو تنظيمه لا ينبغي أن نغفلها لأن هناك هذه العوامل السياسية الضروري أن نعمل بها وقاء لديننا وحرصا على امتداد جماعتنا الإسلامية هنا وهناك هنا لا يمكن مثلا أن نتصور وأن نقول: حددوا النسل ونحن نراعي هذه النقطة وهي أن هناك صراعا بين قوي وضعيف بين كثرة وقلة ولا بد أن يأخذ الإنسان المسلم مكانه فيها مكينا حصينا ولا يمكن أن يكون ذلك إذا كان قلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 523 لكن هناك دولا تشكوا المجاعة وهناك أيضا التزامات اليوم في التربية، التزامات التربية خطيرة اليوم، كلكم لكم أولاد وأنتم تعلمون ما يحتاج إليه الإنسان في تربية أولاده من نفقات وما عليه أن يقوم به في مواجهة تربية وقواعد تربوية جديدة مكلفة وهذا كلنا نحس به فأعتقد أنه لا يمكن بمجرد دراسة نفردها لمشكل له مظاهر وعواقب سياسية اجتماعية اقتصادية وأيضا خلفيات دينية لا بد أن نراعيها أولا نحن المسلمين ونحن علماء المسلمين لا بد أن نأخذ في هذا بالأحوط والأحوط في نظري المتواضع سيدي الرئيس أن يصدر عن هذا المجتمع ما وقع عليه الاتفاق بين العلماء بمعنى أننا نقول الحد الأدنى الذي وقع عليه الاتفاق في هذا الموضوع هو كذا وكذا وأنا قد عددت بعض هذه الجوانب ويمكن لعلمائنا الأفاضل أن يزيدوا عليها وما لم يقع عليه الاتفاق بمنع إما أننا لم نهتد بعد إلى اجتهاد نهائي فيه وإما أنه يحتاج إلى دراسة أكثر استيعابا وشمولا نرجئه إلى مزيد من البحث ولا يصدر عن هذا المجمع إلا ما لا يتناقض مع متطلبات المجتمعات الإسلامية إنكم هنا تقررون لعقيدة ولشعائر دينية موزعة على عالم قلت لكم: إن قوامه مليار ومائتا مليون ولكل مجتمع خصوصياته ومن فضل الله أن المجتمع الإسلامي قد اجتمع كله على العقيدة الواحدة ولكن هناك خصوصيات وهناك تنوعات لا بد أن نراعيها. إذن أقترح عليكم التأني والاتفاق على ما وقع عليه اتفاق وإرجاء النقط الأخرى والجوانب الأخرى إلى مزيد من البحث ويمكن لهذه اللجنة أن تحصي على الأقل ما هي النقط التي وقع عليها الاتفاق والنقط التي وقع عليها الإجماع وتأتينا بمشاريع توصياتها لهذا الموضوع وشكرا سيدي الرئيس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 524 الدكتور / محمد سليمان الأشقر: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. خرج في نظري كثير من البحث عن موضوع البحث لأن البحث في تحديد النسل وتنظيمه وخرجنا إلى وسائل معينة وذهب ربما ثلث أونصف الوقت في هذه الوسائل المعينة كان المفروض أن يتوقف البحث عند موضوع البحث فالوسائل إذا لم تصلح وسيلة يمكن اتخاذ وسيلة أخرى فليس نظرنا في الوسائل الوسائل هذه لها أبحاث سبقت وربما تلحق أبحاث أخرى في وسائل جديدة نحن هنا مجمع فقهي والمنتظر منا أن يخرج منا فتوى تجيز أو تحرم أو تستحب أو تكره على حسب الأحكام الشرعية المختلفة وكل الأحكام في هذا الموضوع فيها متنفس إلا حكم التحريم والتحريم أمر عظيم جدا والله عز وجل نبه إلى ذلك في كتابه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل 116] وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبينا عظم شأن التحريم الذي يقضي على إمكانيات العمل وإمكانيات التنظيم وإمكانيات التدبير قال عليه الصلاة والسلام: ((أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته)) يعني حتى لو حرم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يستأنف الإنسان حكما بالتحريم وليس هناك أدلة صريحة في التحريم؟ فإذن الموضوع المطروح أمامنا ينبغي أن ينظر فيه بنظر اجتهادي ولا يخفى على حضراتكم أن النظر الاجتهادي أن تبدأ من الأساس الأساس بينه العلماء وأغلب كلام الأصوليين أن الأصل في الأشياء الإباحة وفي الأعمال وفي العقود وفي غير ذلك الأصل فيها الإباحة وإن كان في هذا الأصل اختلاف لكن أغلب العلماء على هذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 525 فمن هنا أرى أنه لا بد من أن نأخذ بهذا الأصل إن شاء الله وأن الأصل في الأشياء الإباحة ومن جملة ذلك تحديد النسل وتنظيمه وبعد أن نؤصل هذا الأصل ننظر هل هناك عندنا دليل صحيح يلزم ويكون حجة علينا بأن الله حرم هذا الشيء أو لا؟ فإن وجد من الأدلة الشرعية ما ينقلنا عن أصل الإباحة ننتقل إلى أصل التحريم وإن لم يوجد فلا يجوز لنا ولا يحل لنا أن نحرم ممكن أن نوجه،نوصي بالتوجه إلى ناحية معينة من استحباب أو استحسان أو تقديم مصلحة أو غير ذلك لكن إذا ما وجد دليل للتحريم فلا يحق لنا أن نلزم المسلمين على هذا المجال الواسع الذي بينه الإخوان فوق المليار أن نحرم عليهم شيئا لم يحرمه الله ولم يحرمه رسوله هل وجد من الأدلة الشرعية ما ينقلنا عن أصل الإباحة أو لا؟ فإن وجد ما ينقلنا عن أصل الإباحة انتقلنا إلى أصل التحريم. نظرنا إلى الأدلة التي أوردها الإخوان الذين قدموا أبحاثهم غالبها قرأته ما وجدت في تقديري شيئا ينقلنا عن أصل الإباحة إلا في صور معينة جزئية وسيلة معينة محرمة كقتل الأولاد ووأد البنات غير ذلك هذه وسائل جزئية لكن كأصل من الأصول ما وجدت يقينا على أصل الجواز يؤيد الجواز أننا كلنا في الحقيقة مارسنا تنظيم النسل بمستويات مختلفة فمنا من ترك الزواج إلى أن بلغ عمره ثلاثين سنة ومنا من يترك الجماع أحيانا خشية أن تحمل المرأة وكثير منا يترك تعدد الزوجات وأنتم هنا موجودون والإخوة الذين يمنعون تنظيم النسل يستطيعون أن يذهبوا ليتزوجوا الليلة امرأة أخرى وثانية وثالثة ورابعة فما الذي يمنعهم من ذلك؟ هذا وسيلة لتكثير النسل أقدموا على ذلك إن كنتم تريدون هذا هذا الأصل لا بد أن نثبته وأن الأصل الإباحة كلنا قادر على تكثير النسل الجميع قادر ولا أستثني أحدا فما الذي يمنعكم من ذلك؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 526 بقي ما هي الأمور التي يظن أنها تنقل عن أصل الإباحة الاحتجاج بالقدر والاحتجاج بأن الله هو الرزاق، الاحتجاج بالقدر هذه طريقة للأسف وأقولها ونفسي يحز فيها أن أقول هذا هذه طريقة المشركين أن يحتجوا بالقدر إن الله عز وجل ذكر عنهم عندما دعاهم إلى الإسلام: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل 35] فاحتجوا لما دعوا إلى عبادة الله وحده احتجوا بأن الله راض عنهم بدليل أنه قدر علينا هذا فالاحتجاج بالقدر ليس بحجة أصلا إلا فيما ما مضى ما صار ماضيا في الزمن الماضي نحتج ونقول قدر الله وما شاء فعل ولكن بالنسبة للمستقبل علينا أن نعد العدة وندبر ونرتب أمورنا بقدر الإمكان والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يترك ثغرة واحدة ينفذ إليها الخطر منه ولقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات وكان يلبس المغفر ويلبس على رأسه ويلبس الدروع ولا يترك موضعا يدخل منه السهم على بدنه وهذا معروف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته ولو نظرنا في تدبيراته من الكتمان والإخبار بالتوريات والتعريض وغير ذلك مما يستر به أفعاله وتدبيراته لوجدنا الشيء العجيب فترك الأمور للقدر هذه طريقة الجبرية وطريقة الجهمية وطريقة اتبعها بعض المنتسبين إلى الطوائف الإسلامية من النوع الذي يميل نحو الكسل والتراخي عن التدبير وترك كل شيء إلى الله عز وجل لا شك الله عز وجل جعل لنا أسبابا وضعها تحت أيدينا وأمرنا أن نسير بتلك الوسائل ونقتدي بنبينا صلى الله عليه وسلم في اتخاذ كل ما ينفعنا والنبي عليه الصلاة والسلام يشير إلى هذه النقطة بالذات يقول عليه الصلاة والسلام: ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فإن أصابك ما تكره فلا تقل: إني فعلت كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)) بعدما يقع القدر لا حيلة لنا في رفع ما مضى لكن لنا حيلة في رفع ما يأتي وقد بين هذا الكلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم بيانا شافيا وإن شئتم أقرؤه عليكم ولكن ليس هناك وقت الآن لقراءة هذا الموضوع. بعد ذلك الاحتجاج بأن الله هو الرزاق لا يخفى عليكم أن كثيرا من المجاعات يموت فيها أناس ويموت فيها حيوانات ويموت فيها كذا الله هو الرزاق الله عز وجل بيده الرزق كله فيعطي ما يشاء ويمنع عمن يشاء وغالبا تبنى على الأسباب وإن شاء تبارك وتعالى يرزق، يُنَزِِل من السماء ذهبا وفضة إن شاء وهو قادر على ذلك ولكن سنة الله جرت أن تسير الأمور على أسبابها وقد قال الله تعالى: {اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد 26] يقدر عليه حتى يموت أحيانا وكثير من المجاعات التي وقعت في سنين قريبة دعوني أتكلم إن شئتم بحرية وإن شئتم أنا أسكت فلا مانع عندي يقدر بمعنى يضيق المفسرون يقولون: يقدر يضيق وليس معناه القدر الذي هو التقدير {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر 49] ولكن الآية الأخرى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد 26] يعني يوسعه وإن شاء يضيقه والجميع بقدر الله ولكن الأسباب جعلت كثيرا منها بأيدينا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 527 شيء آخر احتج به بعض الذين أرادوا أن ينقلونا عن أصل الإباحة وهو العزل الموءودة الصغرى والأحاديث الواردة في النهي تولي كثير من الإخوان بيان العزل وأن هذا الحديث الموءودة الصغرى وإن كان في صحيح مسلم إلا أن هناك أحاديث في الصحيحين كثيرة تدل على جواز العزل فهذا لا يصح أن يحتج به بعد الآن ما دام تبين بالبحث أنه مرجوح ومنع ذلك خشية الفقر وضيق ذات اليد الشافعي رضي الله عنه ورد على مثل هذا القول بقوله: قال الله تبارك وتعالى {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء 3] يعني حتى لا تكثر عيالكم قلة العيال أحد اليسارين فالإنسان كما قلت قادر على أن ينجب عشرين ولدا لكن سيتعب وسيعلم وسيربى وسيقول يا فلان اسكت ويا فلان تكلم ويا فلان ترب ويا فلان كذا فقد تحتاج إلى أن تغطي أولادك حين ينامون في البرد وقد لا يكون عندك القدرة على ذلك فتتعب لو سلمنا بأن آيات القدر يعني تعمل في هذا الباب عملها وآيات الرزق من الله تبارك وتعالى تعمل عملها لكن مع ذلك أحتاج أن أبذل جهدا وليس عندي قدرة أن أبذل جهدا لعشرين طفلا يمكن أن أبذل جهدا لعشرة أو لخمسة. دليل آخر احتج به بعض الإخوان وهو سعة أمصار المسلمين وحاجاتهم والدول الأخرى تحاربنا هذه أقول أنا: لا تنقل على أصل التحريم قد تكون من ناحية مصلحية ننظر فيها بحسب هذه المصلحة أن نعالجها معالجات وقتية وليس معالجة حكم شرعي دائم ولا يجوز بناء على هذا أن نقول بالتحريم الآن توجه أكثر الإخوان إلى أن المسألة تقسم على النظر في معالجتها على النطاق الفردي وفي النظر على أساس المستوى الجماعي فعلى النطاق الفردي ذهب الأكثر إلى الجواز وهذا صحيح بناء على ما ورد من الأحاديث التي أجاز النبي صلى الله عليه وسلم فيها العزل وغير ذلك كما تبين هذا على النطاق العام كأن الإخوان يتوجهون إلى جواز المنع يعني إلى منع ذلك عدم جواز أن تتولى الدولة تحديد النسل على النطاق العام هذه الكلمة لو أطلقناها هكذا منع الدولة على النطاق العام على مستويات كثيرة منها أن تعمل دعاية مختصرة قليلة توجه توجيها فقط هذا نوع منع هذا لا ينبغي أن يقال على طريق عام أيضا إنما على معالجات جزئية وسيلة أخرى أن الدولة لا تلزم إلزاما ولكن تعمل إغراءات مادية على التقليل أو التكثير لأن التنظيم قد يقتضي التكثير أيضا وتشجيع النسل في بعض البلاد التي بحاجة إلى النسل فممكن للدولة أن تتخذ هذه الوسائل المادية مثلا للتقليل تؤخر التوظيف تزيد مثلا الأعباء على المتزوجين يعني تعمل بوسيلة ما لكنها لا توجب على الإنسان أن ينجب كذا من العدد أكثر أو أقل مما يريد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 528 المستوى الثالث: هو الإلزام والإيجاب بقوانين وبعد ذلك تضع عقوبات وقضايا تقام على الناس وتحتاج طبعا إلى أن يكون مجهود الدولة كبيرا في هذا المجال هذه المستويات الثلاثة: لو أطلقنا المنع فيكون فيه إحراج على المستويات البسيطة من ناحية التوجيه والتثقيف والدعاية وأيضا اتخاذ الوسائل المادية للإغراءات ونحوها فهذا لا ينبغي أن يقال بالمنع إنما يترك كما قال فضيلة الشيخ مفتي الديار المصرية إن الأمر هذا ينبغي أن يترك إلى سياسة كل دولة لأن ظروف المجتمعات تختلف من بلد إلى بلد أؤكد أن المطلوب من المجمع الفقهي إصدار فتوى والفتوى إذا كانت في مجال الإباحة أو مجال الاستحباب أو الاستحسان فالأمر فيها سهل لكن أرجو أن لا يصل الأمر إلى التحريم بوسيلة من الوسائل مطلقا إلا في الوسائل الممنوعة شرعا كالوأد وقتل الأجنة ونحو ذلك بارك الله فيكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الرئيس: قبل أن أعطي الكلمة للشيخ عبد الله بن منيع ما تفضل به الشيخ محمد هو بناء على ما رآه هو من أن الأصل في ذلك هو الإباحة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 529 الشيخ عبد الله بن منيع: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده وبعد: لي في هذا تعليق أولًا هو تعليق قصير ولي فيه وقفات قصيرة كذلك. أولا: الوقفة الأولى إن الموضوع المعروض على جدول العمل هو تنظيم النسل لا تحديد النسل ولا ما يتعلق بالإجهاض قبل نفخ الروح أو بعده. الناحية الثانية أرى أن كثيرا من إخوتي الأعزاء بحث وتكلم بكلام يجمع بين تنظيم النسل وبين تحديد النسل وبين حكم الإجهاض وهذا في الواقع تشعيب للموضوع ومزاحمة للموضوع نفسه في الواقع على كل حال لا يستطيع الموضوع أو لا نستطيع أن نعطي الموضوع حقه من العناية والدراسة حينما نشعبه التشعيب الذي يخرج عن النطاق. الأمر الثالث: وهو في الواقع أرجو أن ألتمس من رئاسة هذا المجمع أن تحكم أمر الاقتصار على الموضوع وأن لا يكون هناك تشعيب له لأن هذا في الواقع فيه تشتيت للجهود. الأمر الرابع تنظيم النسل لا يجوز أن يكون الغرض منه الشك في القدرات الطبيعية لتلبية الحاجات الإنسانية فهذا في الواقع لا شك أنه ضعف في الإيمان وشرخ في تحقيق توحيد الربوبية الذي آمن به المشركون فضلا عن المسلمين الذي أرى أن الغرض أو أنه ينبغي أن يكون الغرض من تنظيم النسل هو في الواقع تلبية الحاجة الاضطرارية الموجبة لذلك أن تكون الزوجة ضعيفة أو مريضة أو أن تتابع الولادة سنويا أو نحو ذلك فهذا في الواقع يعتبر غرضا من أغرض تنظيم النسل والتنظيم أرى كذلك أن يقتصر في موضوعه على أن يكون التنظيم أي الأخذ بأسباب منع الحمل لفترة معينة حتى تكون الزوجة قادرة على الإنجاب أما أن يكون لقطع النسل مطلقا فهذا على كل حال خارج عن موضوعنا وفي نفس الأمر فيه ما فيه فأرى أن يقتصر الأمر على هذا وأن يصدر الحكم أو القرار على هذا الموضوع وهو تنظيم النسل بحيث يجوز تعاطي أسباب منع الحمل لفترة معينة حتى تكون هناك استجابة طبيعية للولادة وشكرا لإتاحة هذه الفرصة يا سماحة الرئيس. الرئيس: شكرا الآن انتهى الوقت: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قبل الإعلان عن اختتام الجلسة أود أن أذكركم أن المتبع هو إبداء التوجه العام الذي توصل إليه رجال المجمع وأعضاؤه ومن كان له رأي يريد أن يتحفظ به فعليه أن يتقدم به مكتوبا إلى الأمانة العامة للمجمع كما هو المتبع في الدورات السابقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 530 مناقشة القرار الدكتور عبد الستار أبو غدة: قرار رقم (1) بشأن تنظيم النسل بعد الديباجة. قرر: من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني ولا يسوغ إهدار هذا المقصد لأن ذلك يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها. أولا: يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت الحاجة إليه بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض بشرط ... الأمين العام: يا دكتور من فضلك أنا يظهر لي أن من مقاصد الزواج هي التي يليها اللفظ (قرر) لأن القرار لا يتعلق ببيان مقاصد الزواج. الشيخ مختار السلامي: نرجو سماع التدخل من فضلك. الأمين العام: كلمة (قرر) أعتقد أنها في غير موضعها بعد اطلاعه.. هنا الديباجة , نقول: من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ .... إلخ. قرر: أنه يجوز التحكم. الدكتور/ عبد الستار أبو غدة: وبعد استحضاره أن من مقاصد الزواج كذا. الشيخ محمد علي التسخيري: سيدي الرئيس بعد ملاحظة أن من مقاصد الزواج كذا وكذا قرر ثم تأتي الفقرات العاملة. الدكتور / عبد الستار أبو غدة: وبعد مراعاتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 531 الشيخ محمد علي التسخيري: بعد ملاحظة أن من مقاصد الزواج كذا، وكذا، قرر أنه يجوز. الرئيس: لو أنه يكون العبارة. بعد إطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع تنظيم النسل واستماعه للمناقشات التي دارت حوله وما هو معلوم من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية من الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني.. إلخ، وما هو معلوم من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية من الإنجاب إلخ. الأمين العام: بعد هذا قرر. الشيخ محمد المختار السلامي: ولا يكون هنا قرر بناء على مقاصد، القرار مبني على قرار. مناقش: سيادة الرئيس هي عبارة حسنة، لكن يمكن قرر أن ... لأنها داخلة في الموضوع. الأمين العام: أي نعم، قرر أن ... الرئيس: لا، هو قرر ويكون بناء على ما هو معلوم من مقاصد الشريعة. مناقش: تقرر أن من مقاصد الزواج كذا، وكذا، وكذا. الرئيس: المهم يا مشايخ (تقرر) تبقى في مكانها وبعدها يقال قرر ما يلي: بناء على ما هو معلوم من مقاصد الشريعة الخ. الدكتور عبد الستار أبو غدة: نعم. صارت قرر بناء الخ. أولاً: يجوز التحكم المؤقت. الأمين العام: أعطنا الصيغة النهائية. الرئيس: بناء على ما هو معلوم من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية. أبو غدة: وبناء .... الرئيس: لا بناء. من الإنجاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 532 الدكتور أبو غدة: قرر فيما بعد.. الرئيس: نعم. الدكتور أبو غدة: إذن صارت: بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع تنظيم النسل واستماعه للمناقشات التي دارت حوله وبناء. مناقش: لو جعلتها نمرة واحد جميل , لو جعلت ذه الفقرة رقم واحد يبقى أجمل وأكمل. الرئيس: لا هذا ليس حكما. الدكتور أبو غدة: وبناء على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية .... إلى آخر الفقرة. قرر ما يلي: مناقش: الإنجاب الآن شائع لا يؤدي المعنى هذا، الإنجاب معناه إخراج النسل الطيب. الشيخ مختار السلامي: الرجاء نستمع للمناقشات. مناقش: أقصد لفظة الإنجاب الآن شائعة عند الناس يقول: أنجب ومنجب وهي الآن يعني هذا تعبير خطأ أنتم تريدون استعماله على أنه خطأ شائع. الرئيس: لا يقال النسل. مناقش: وإلا يقال النسل لأن الإنجاب مع المنجبات يعني معناه: أصحاب الذرية الطيبة معروفات المنجبات من العرب. الدكتور عبد الستار أبو غدة: أولا يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت الحاجة إليه بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض بشرط ألا يترتب على ذلك ضرر وأن يكون الوسيلة مشروعة وألا يكون فيها عدوان على حمل قائم. مناقش: تفسير الضرر؟ ما هو الضرر؟ ضرر جسماني؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 533 الدكتور أبو غدة: ضرر طبي. مناقش: ضرر اجتماعي ما نوع الضرر؟ أبو غدة: كل أنواع الضرر. مناقش: أي ضرر؟ مناقش: لو تسمح لي يا أستاذ , حتى يكون تعبيرنا سليما فقهيا خاصة المقدمة التي نؤسس عليها الحكم لا بد أن نقول: من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية أولا الحفاظ على النوع الإنساني ومن المعلوم أن الحفاظ على النوع الإنساني هو حكم عام وربما يتحقق بولد واحد أو ولدين فهذا أعم من الحكم الذي نريد أن نرتبه عليه. الرئيس: يعني " تخصيص وتعميم "؟ مناقش: لا، اسمح لي: الحفاظ على النوع الإنساني هو أعم يعني لا نستنتج من هذا الدليل لا نستطيع أن نتوصل منه إلى الحكم الذي أردنا التوصل إليه وهو أن عدم الزواج يعني منع الحمل لأن الاحتمال أن المحافظة على النوع الإنساني وفي نفس الوقت يمنع إنجاب أكثر من ولد أو ولدين وهذا ما لا نريد أن نتوصل إليه أريد أن أقول: من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الحفاظ على النوع الإنساني وعدم قطع الإنجاب يعني والإنجاب المتواصل ولا يسوغ إهدار هذا المقصد لأنه وليس لأن ذلك يعني دائما نحن نكرر أسماء الإشارة ونستطيع أن نستبدلها بضمير فنقول: لأنه بدلا من ذلك يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها. مناقش: إحدى , ينبغي إحدى ... مناقش: جائز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 534 مناقش: إحدى الكليات يعني كلية. أبو غدة: ثانيا: يجوز التحكم في الإنجاب بعزم الزوجين على الاقتصار على عدد معين من الأولاد لحاجة تدعو إلى ذلك مع أن الأولى مراعاة مقصد الشارع في الحث على كثرة النسل. مناقش: هو في حاجة تدعو إلى ذلك؟ قد تفسر الحاجة مثلا بعدم القدرة على الإنفاق أو نحو ذلك مما تحذرونه أنتم قد تفسر هكذا وأنا أقول: لازم توضيح هذا الموضوع قد يفسر هذا المعنى كان من الحاجة أنه لا يستطيع الإنفاق عليهم، لا يستطيع تربيتهم، لا يستطيع إصلاحهم قد يدعي أنها حاجة، أنتم بينوا هذا الأمر. الرئيس: هو في الواقع يا مشايخ ألا ترون أن الفقرة الثانية تدمج في الأولى فيكون يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه أو المباعدة بين، أو الاقتصار على عدد معين إذا دعت الحاجة إليه حتى نفس الحاجة في الفقرة الأولى لا بد من بيانها فهل نقول الحاجة أو نقول الضرورة؟ مناقشون: الضرورة , الضرورة , الضرورة. مناقش: لكن الضرورة تنزل منزلة الحاجة في بعض الأحيان. الرئيس: الحاجة تنزل منزلتها. مناقش: الحاجة تنزل منزلة الضرورة. الشيخ محمد علي التسخيري: سيدي الرئيس لا يتوقف التحكم على الضرورة. الشيخ مختار السلامي: إنما تصح كلمة (حاجة) وضرورياتها خمس وعلى تيسير الدافع إلى الضرورة هو الذي يعبرعنه بحاجة، فكل تيسير دخل على ضروري هو يعتبر حاجيا حسب قواعد الشريعة فكلمة حاجة هي الأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 535 الدكتور / محمد عبد اللطيف الفرفور: سيدي الرئيس: هل ترون أن نزيد كلمة (مشروعة) لحاجة مشروعة؟ الرئيس: معتبرة شرعا إذا دعت الحاجة المعتبرة شرعا. مناقش: كلمة مشروعة جيدة. الرئيس: لا، المعتبرة شرعا هذه لا نفرة منها. مناقش: أرى أن نضيف إلى الفقرتين مسألة هامة أثيرت أثناء بحث هذا الموضوع وهي مسألة إباحة بيع وسائل منع الحمل بحرية في الأسواق. الرئيس: أنتم الآن دعونا في نفس الموضوع هذا فإذا كان شيء نصل إليه نحن الآن في نفس الفقرات ........ مناقش: لو سمحتم سيدي الرئيس: التحكم لفظة التحكم هذه عبارة أظنها غير سليمة؛ لأن التحكم في الإنجاب لا يستطيع أحد من البشر أن يتحكم في الإنجاب فلو اخترنا عبارة منع الحمل واتخاذ وسيلة من وسائل منع الحمل كان أولى؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو المتحكم في الإنجاب وفي قطع النسل، فكيف هذه الكلمة التحكم في الإنجاب كأن الإنسان يتحكم؟ مناقش: نجعلها التنظيم؟ مناقش: التنظيم أو اتخاذ وسيلة من وسائل منع الحمل وإلا فالتحكم في الإنجاب هذه عبارة خطيرة يعني. الدكتور / طه العلواني: ربما يجوز الاحتياط والتحوط في الحمل. مناقش: فعندنا التحكم وينسب إلى الإنسان ظاهرا والحاكم يحكم ظاهرا والله هو الحاكم ... إلخ. الرئيس: يا شيخ لو حصلت عبارة فقهية هو أولى وأليق لا شك. الدكتور / طه العلواني: حفظك الله قد يعطي لفظ الاحتياط المعنى المطلوب يجوز التحوط في الحمل حتى ليس الإنجاب بعزم الزوجين على الاقتصار ... على ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 536 الدكتور / محمد عبد اللطيف الفرفور: يا سيادة الرئيس هل ترون أن نستبدل بكلمة التحكم الضبط؟ يجوز الضبط. الدكتور / عبد الستار أبو غدة: لجنة الصياغة الخاصة بهذا الموضوع وكان فيها بعض الأطباء الذين يعرفون هذه المصطلحات قالوا: إن هناك تداخلا كبيرا في مفهوم تنظيم النسل وتحديد النسل ومنع النسل؛ ولذلك تحاشينا هذه الألفاظ الثلاثة وجئنا بمفهومها من خلال البيانات التي تأتي ولذلك يعني كلمة تحكم بحسب ما يقصد من المعنى الذي وراءه فاستبعدنا كلمة (تحديد) و (منع) و (تنظيم) إلا في العنوان؛ لأنه عنوان. الرئيس: على كل إذا رأيتم فهي ألطف قليلا يعني يجوز في الإنجاب التنظيم المؤقت والأمر سهل إن شاء الله لكن إذا رأيتم التنظيم فهو. الدكتور / عبد الستار أبو غدة: ثانيا: التحكم في الإنجاب بعزم الزوجين على الاقتصار على عدد معين من الأولاد لحاجة معتبرة شرعا تدعو إلى ذلك ... الرئيس: ما هي الحاجة المعتبرة شرعا في أنه لا ينجب إلا ولدا واحدا؟ الدكتور عبد الستار أبو غدة: حاجة صحية. حاجة.. الشيخ مختار السلامي: كل ما هو معتبر شرعا نقبله، وكل ما هو غير معتبر شرعا لا نقبله. الرئيس: لا، أنا أقصد سلمك الله أنت تعرف أن القرار هذا أكثر من سيستغله عامة المسلمين. الدكتور عبد الستار أبو غدة: طال عمرك حاجة صحية؛ لأن بعض الولادات قد تكون غير طبيعية ولها حد: أكثر من ثلاث مرات لا يمكن لأنها بشق البطن. الرئيس: هل ستقولون هذا؟ أنتم حصرتموها الآن بحالة صحية إذا كانت لا تكون إلا لحالة صحية؛ لأنني أخشى أن يكون من وراء هذا قضية الرزق. مناقش: يا فضيلة الرئيس، نحن قلنا الحاجة المعتبرة شرعا وكلناها للزوجين وقلنا: إن الزوجين هما أدرى بظروفهما وأحوالهما، وكل الأشياء التي تتعلق بهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 537 الدكتور طه العلواني: سيادة الرئيس أعتقد أن المادة الأولى كافية وتغني عن هذه الثانية كافية جدا يعني يجوز التحكم المؤقت في الحمل بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت لذلك حاجة معتبرة شرعا يقدرها الزوجان عن تراض بينهما وتشاور بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم. الرئيس: إن رأيتم الاكتفاء بها فهو طيب. الدكتور/ أبو غدة: الحقيقة الصورة الثانية تضيف جديدا. الرئيس: لا تضيف جديدا يا شيخ. مناقش: الصورة الثانية غير الأولى تماما. الرئيس: الصورة الثانية يعني على عدد معين تقتصر على واحد على اثنين على ثلاثة. الدكتور عبد الستار أبو غدة: من الأول أما الأولى سينجب مما يقسمه الله لكن يباعد بين فترات الحمل. الشيخ مختار السلامي: سيدي الرئيس نقطة نظام: أرجو أو أقترح أن يقرأ كامل التوصية ثم بعد أن نقرأها كلها بدون أي توقف كل شخص يأخذ عنده ملاحظات ويبديها واحدة فواحدة فننتهي؛ لأنه قد يكون الإنسان يعترض ثم بعد ذلك يجد أنه لا مبرر لاعتراضه لما سينشأ فأصبحنا نقرأ سطرا ولا نكمل الجملة ونتدخل، أرجو أن يقع هذا إذا أقررتموه وشكرا. الرئيس: تفضل يا شيخ طنطاوي. الشيخ طنطاوي أؤيد فضيلة الشيخ المختار السلامي بأن نقرأ الأربعة قرارات ثم نعقب بعد ذلك. الأمين العام: حضرات الإخوان أرجو أن يكون التداول واضحا وأن لا يقع تداخل في حديثنا بل كل يتحدث في الوقت الذي تعطى له فيه الكلمة حتى نتمكن من التسجيل ويكون المحضر واضحا. الدكتور عبد الستار أبو غدة: ثالثا: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 538 رابعا: لا يسوغ إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب، وللدولة أن تمارس واجبها في الترغيب بكثرة النسل أو حقها في التوجيه إلى تنظيمه بما يحقق مصالح الأمة، وذلك بالإعلام وغيره من الوسائل والله أعلم. الرئيس: تفضل يا شيخ تقي. الشيخ تقي الدين العثماني: الحقيقة: أو حقها في التوجيه إلى تنظيمه بما يحقق مصالح الأمة.. إلخ، لو حذفناه وأبقينا الأول يكفي إن شاء الله. الرئيس: يعني لا يسوغ إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب ويوقف هذا طيب، وللدولة أن تمارس واجبها في الترغيب بكثرة النسل. الشيخ المختار السلامي: الحقيقة: أن الفضيلة المطروحة هو أن كثيرا من الدول اليوم تجابه مشكلة كثرة النسل وتريد أن تنظمها وهي تريد أن تأخذ فتوى أما أنه لا تتحرر الدولة ولا تتدخل هذا أمر معروف من الأصل فما تم الاجتماع ووقعت المناقشات لأجل مثل هذا. الرئيس: على كل إذا سمحتم لي فأنا من جهتي إبراء لديني فأنا أرى حذف آخر الفقرة هذه فالذين يرون حذفها يتفضلون برفع أيديهم على كل حال لا نطيل يا شيخ إذا رفعوا أيديهم فهو إقرار وانتهينا ما فيها شيء، الذين يرون حذف آخر الفقرة الرابعة وتكون العبارة كالآتي: (لا يسوغ إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب وللدولة أن تمارس واجبها في الترغيب بكثرة النسل) إلى هنا الذين يرون الوقوف في الفقرة إلى هنا يرفعون أيديهم. الرئيس: يعد الأشخاص الذين رفعوا أيديهم (ثم يقول: أكثرية) ..إذن تحذف للأكثرية. مناقش: لكن يا سماحة الرئيس وهنا من حرية الزوجين لماذا نقول الزوجين؟ لماذا لا نقول من حرية الأمة؟ أو من حرية الرعية؟ الرئيس: صبرا يا شيخ: لا يسوغ إصدار قانون عام يحد ... ) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 539 مناقش: من حرية الرعية أو من حرية الأمة لماذا نقول الزوجين؟ الدكتور طه العلواني: عفوا لو سمحتم لي تعديل فقط على العبارة (إنها تكون: حرية الزوجين في الإنجاب حق من حقوقهما لا يجوز المساس به) الرئيس: لا يا شيخ العبارة جيدة نبقي عليها طالما أقرت، انتهت. الشيخ طنطاوي: ما دمتم ترون ذلك فمن أجل غاية الزوجين في الإنجاب وفي هذه الحالة نكون جمعنا بين الأمرين. الرئيس: هذا الأمر سهل، المهم أن يحذف الجزء الأخير إذا رأيتم هذا فلا مانع. الشيخ الطنطاوي: يعني نكتفي (لا يمكن إصدار قانون يحد من حرية الزوجين في الإنجاب) ماشي ونكتفي بهذا. مناقش: سيدي الرئيس: نقطة نظام يا سيدي الرئيس سيدي الرئيس: نوقش هذا الموضوع طرح وأخذت فيه أصواتا، فكيف ترجع تفتح النقاش مرة ثانية؟ الرئيس: إذن انتهينا. تحذف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 540 الشيخ محمد المختار السلامي: سيدي الرئيس الخطأ يرفع ويرجع إلى الحق والصواب نفس العبارة غير صحيحة؛ لأنه للدولة بمعنى مختارة أن تمارس واجبها في الترغيب واجبها كيف يكون الاختيار موجودا؟ الكلام متناقض؛ لأنه لا يصح هذا إلا إذا عطفنا فالفقرة كلها متهافتة. مناقش: وحذفت. الدكتور أبو غدة: وعلى الدولة أن تمارس واجبها. الرئيس: وعلى الدولة.. الشيخ المختار السلامي: أضم صوتي إلى صوت الشيخ المفتي، وأعتقد أنه من الخير أن يقع حذف الكل، وقد صوتنا وعلينا أن نعيد النظر فإن الرجوع إلى الحق رسالة عمر ... تهدينا ... الرئيس: نحن لا نعتقده باطلا أقررناه ولا نعتقده باطلا. الشيخ المختار: لا ... الشيخ المفتي أتى برأي جديد فإعادة النظر فيه لا يعتبر باطلا. الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير: التصويب كان على حذف العبارة الأخيرة، وليس على إقرار ما قبلها كما هو ما قبلها خاضع للمناقشة؛ ولذلك أرى أننا نكتفي وحتى نحذف (وللدولة أن تمارس واجبها) يعني يكفي (لا يسوغ إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب) وهذا هو المقصود. الرئيس: على كل يا مشايخ القصد هو الوصول إلى ما نعتقده إن شاء الله هو الحق فإذا رأيتم: أنا الذي يهمني هو ما اتفق عليه الإخوان من حذف عجز هذه المادة فإذا رأيتم أن يمتد الحذف إلى قوله: (وللدولة ... إلى آخره) فلا مانع، أما صدر المادة متعين أن يبقى. الدكتور طه العلواني: نعم هو يكفي صدرها ولكن أنا أخشى أن ننسى المادة (3) التي كانت موضع مداولة للحذف. الرئيس: لا سنعود إليها. الدكتور طه العلواني: فإذن ستكون العبارة فقط: (لا يسوغ إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب) . الرئيس: ترون هذا كافيا؟ مناقش: كاف. الرئيس: يعني بالإجماع خَلَاص المُخْتَارُ رَفَعَ يَدَهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 541 الشيخ محمد علي التسخيري: لكن هناك مناقشة في عبارة: يسوغ. الرئيس: هو في الواقع إذا رأيتم: نكون فقهاء وعباراتنا فقهية والعبارات العامة هذه ليس لنا فيها لزوم. مناقش: موضوع الزوجين قولنا الزوجين من حرية الزوجين يعني يمكن أن يفسر هذا بأن الدولة أو الحكومة تأتي للزوج والزوجة ... ؟ الرئيس: يا شيخ لماذا لا يقال: (لا يسوغ إصدار قانون عام يحد من حرية النسل في الإنجاب) النسل من حرية الإنجاب في الأمة أو في الرعية. مناقش: كلام طيب. الرئيس: لا يسوغ (لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الإنجاب في الرعية) . مناقش: الزوجين معناه اثنين معناه أنه لا تدخل إلا باثنين. الرئيس: اقرأ الثالثة يا شيخ. الدكتور أبو غدة: ثالثا: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية. مناقش: الفقرة الثانية هل تركناها كما هي: (يجوز التحكم في الإنجاب بعزم الزوجين على الاقتصار على عدد معين من الأولاد لحاجة) ، هل أبقينا على هذا؟ أنا أرى أنه غير لائق. مناقش: نثني على حذفها. الرئيس: أي ... أي؟ الفقرة الثانية التي هي الاقتصار على عدد معين، أما أنا فلا أرى هذه والقرار للأكثرية، أما الذين لا يرون الفقرة الثانية يتفضلون يرفعون أيديهم. الشيخ المختار السلامي: سيادة الرئيس أرجوكم قراءة الفقرة كما ترغبون في جعلها أنا لم أفهم: على ماذا أصوت؟ الدكتور عبد الستار أبو غدة: يجوز التحكم في الإنجاب بعزم الزوجين على الاقتصار على عدد معين من الأولاد لحاجة تدعو إلى ذلك مع أن الأولى مراعاة مقصد الشارع في الحث على كثرة النسل وزيادة عدد المسلمين الأقوياء الأسوياء، وما في ذلك من عمارة الأرض وتقوية جماعة المسلمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 542 الشيخ محمد علي التسخيري: وماذا في هذه العبارة؟ عبارة جيدة. الرئيس: لا الذي فيها. الشيخ المختار: لما.. فيما أظن هذه.. وأظن مكتوبة لما.. وخطأ مطبعي وأظنه لما. الرئيس: ليس القصد هذا نحن لنا قصد آخر وهو قضية: (يجوز التحكم في الإنجاب بعزم الزوجين بالاقتصار على عدد معين من الأولاد) ، هذا هو الذي لدينا أما أنا فأرى أنه تحذف هذه الفقرة. مناقش: أنا ما أوافق على هذه والله , أنا ما أستطيع أن أوافق على عدد معين. الرئيس: المهم حتى لا نطيل النقاش في الشيء الذي فرغنا منه، الذين يرون حذفها يتفضلون ويرفعون أيديهم. الدكتور طه العلواني: لو سمحت سيادة الرئيس هذه الفقرة حقيقة هي ذريعة لإدخال أية قوانين أو أنظمة التي منعناها في الفقرة رابعا ولذلك فالمفروض حذفها. الدكتور عبد الستار أبو غدة: ليس هذا للتقنين.. هذا للتنظيم الشخصي. الدكتور طه العلواني: لكن تتناقض مع ما أقررتموه من قبل. الرئيس: يا شيخ عبد الستار , المسألة وجود المبدأ إذا وجد المبدأ الناس ينفذون منه، فنحن لا نتحمل في ذممنا على أن نوجد للناس مبدأ يكون تكأة لهم في أن يصلوا فيه إلى غاية من الغايات التي نحظرها، وطال الجدل حولها وتقريبا كلنا في وقت المداولة مجمعون أو متفقون على سبيل التحوط على حذفها. الشيخ محمد علي التسخيري: ولكنا متفقون على جوازها يا مولانا. الرئيس: المهم الذين يرون حذفها حتى نضبط الأصوات يقوم بالعد المجموع ستة عشر وتحصل مناقشة حول عدد الحاضرين. الأمين العام: ستة عشر من ثمانية وثلاثين خمسة وثلاثون أعضاء وثلاثة معينون. الرئيس: الحضور تسعة وعشرون. الدكتور عبد الستار أبوغدة: لا اثنان وثلاثون. الرئيس: أعطونا الحضور بالضبط يا شيخ لو سمحتم حتى يكون عملنا دقيقا وأبرأ للذمة. الرئيس: يعد الحاضرين وينتهي إلى العدد 31 الدكتور أبوغدة: للرئيس: وحضرتك مولانا.. الرئيس 32 والشيخ صالح الآن جاء (33) ثلاثة وثلاثون. الرئيس: حياك الله جزاك الله خيرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 543 الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير: أعتقد أن الحكم الموجود في هذا هو موجود في الفقرة التي بعدها؛ لأن هذا معناه أن الزوجين يريدان أن يوقفا النسل، هذا يدخل في الإعقام أو التعقيم فلا داعي إليها من هذه الناحية. أبو غدة: لا لا الرئيس: لا، نحن في الفقرة الثانية. الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير: معروف هذا يجوز التحكم في الإنجاب على عدد معين من الأولاد لحاجة هذه هي التي نريد أن نحذفها. الرئيس: هذه التي نريد أن نحذفها. الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير: هي تدخل أريد أن أعلل هذا تدخل فيما بعدها استئصال القدرة على الإنجاب، وهذه تحصل عادة عندما تكون الزوجة مثلا تلد بقيصرية ووصلت إلى الحد الذي قال الأطباء فيه: إذا ولدت بعد ذلك قد تسبب الوفاة فيحدث التعقيم للزوجة فهو داخل فيما بعدها. الرئيس: يعني هو داخل ... يرى الشيخ أن الحالات الشرعية التي يمكن أن تكون ضرورة هي داخلة في الفقرة الثالثة فإن رأيتم الاكتفاء بها؟ الأمين العام: هي متصلة حتى الثانية. حضرات الإخوان، أريد أن أشارك معكم بملاحظة كما قال الدكتور الضرير الفقرة الثالثة تتصل بنفس الموضوع، وأنا أرى أيضا أن الفقرة الأولى تتصل بنفس الموضوع؛ لأننا عندما نقول: (إذا دعت الحاجة إليه بحسب تقدير الزوجين) هذه الحاجة قد تكون عامة وقد تكون في الثلاثة أو في الأربعة، وقد تكون في أقل من هذا، وعندئذ فهي تغني عن حصر العدد الذي أثار هذا النقاش هو قضية ذكر العدد الذي يراد حصره فنحن في غنى عن هذا؛ لأن ما ورد في الفقرة الأولى، وما ورد في الفقرة الثالثة يغني عن ذلك. الرئيس: المهم هل اتفقتم على حذفها؟ أو بالأكثرية تحذف تحذف يا شيخ الله يرضى عليك يا شيخ؛ لأننا نحن في قضية (القدرة على الإنجاب) أي نعم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 544 الدكتور أبو غدة: إذن صارت الفقرات أولا وثانيا وثالثا. الرئيس: ماذا تقول يا شيخ ... الشيخ مختار؟ الشيخ المختار: كلمة (وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم) هو هذا ما أدرجناه. الرئيس: طيب.. القرار الذي بعده الشيخ عبد الله.. الأمين العام: يا سيدي إذن عندنا الفقرة الأولى تبقى والثانية حذفناها. الرئيس: الفقرة الأولى تبقى وفيها: (وإذا دعت الحاجة المعتبرة شرعا) تضاف المعتبرة شرعا، الفقرة الثانية تحذف، الفقرة الثالثة تبقى، الفقرة الرابعة يبقى صدرها هكذا. الرئيس: في شيء يا شيخ عبد الله؟ الجواب: مقبول. الشيخ عبد الله: شكرا فضيلة الشيخ , إنني أريد أن أضيف إلى قراراتنا ما أثير فعلا في هذا الموضوع أثناء بحث هذا الموضوع وهو مسألة بيع وسائل منع الحمل في السوق بحرية، فحبذا لو نأتي بقرار يمنع بيع هذه الوسائل في المجتمعات الإسلامية ودولها، وتتولى الجهة الحكومية المختصة أو الجهة المصرح لها بصرفها إلى من ثبت بشهادة رسمية أنه متزوج فقط وتحارب السوق السوداء التي تقوم على .... الرئيس: يا شيخ عبد الله , مع تقديري لما تفضلتم به لكن هذه أمور - بدون مؤاخذة - لا تنضبط، ولو أنها تنضبط ما أظن أن الإخوان تخلون عنها.. تفضل يا شيخ. الدكتور أبو غدة: القرار رقم (2) . الشيخ عبد الله: لو تسمح لأعضاء الجماعة حتى ينظروا إلى ما اقترحته. الدكتور أبو غدة: قرار رقم (3) بشأن الوفاء بالوعد والمرابحة للآمر بالشراء. الشيخ المختار السلامي: أرجوكم بعد أن تقع كل التعديلات يقرأ القرار نهائيا كيف تم حتى يكون واضحا. الدكتور عبد الستار أبو غدة: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 545 قرار رقم (2) بشأن تنظيم النسل مناقش: سيادة الرئيس: الرئيس: تفضل الشيخ الشريف. الشيخ الشريف: عفوا حتى تكون الفقرات منظمة ونحن في تنظيم النسل الحقيقة الفقرة الثالثة والرابعة: الفقرة الرابعة هي التي يجب أن تكون نطق الفقرة الأولى والثانية؛ لأن هذا هو الأنسب للمقدمة، نحن نبني على مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية، وإذا تسمح لي أيضا يجب أن نقول: نقرر الحكم العام بعد أن نقول: بناء أو تأسيسا على أن مقاصد الزواج ... إلخ، قرر مثلا الأصل في الشريعة الإسلامية تحريم منع الحمل. ثانيا: لا يسوغ أو لا يجوز إصدار قرار عام يحد من حرية الزوجين. ثالثا: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب للرجل أو المرأة. الرئيس: المهم انظر يا شيخ هذا أخذ به جزاك الله خيرا يعني الفقرة الأخيرة هي الأولى على سبيل التصاعد (ويحرم استئصال القدرة) هي الثانية (ويجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة) هي هي الثالثة تقرأ على الوضع هذا يا شيخ تفضل. الدكتور عبد اللطيف الفرفور: يا سماحة الرئيس كلمة واحدة لو سمحت: الفقرة التي وضعتموها رقم (1) لا يسوغ إصدار قانون عام. الرئيس: لا يجوز. الدكتور عبد اللطيف الفرفور: (لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين) بدلا من ذلك أرى (لا يجوز إصدار قانون عام يحد من الإنجاب) أقصر وأفضل. الأمين العام: من حرية الزوجين، لا لا. مناقش: زيادة (في الأمة) لا يجوز إصدار قانون عام للأمة أو في الأمة. الرئيس: اقرأ يا شيخ. الدكتور عبد الستار أبو غدة: بعد الديباجة. الأمين العام: اقرأ لنا الديباجة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 546 الدكتور أبو غدة: إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي (هذه ديباجة مكررة) بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تنظيم النسل) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، وبناء على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية وبناء على أن.. الرئيس: على ما هو معلوم أجزل يا شيخ (على ما هو معلوم من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية) من الإنجاب أضف من. الدكتور أبو غدة: أي ما هو معلوم من الإنجاب بناء على ما هو معلوم من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني ولا يسوغ إهدار هذا المقصد. الرئيس: ولا يجوز إهدار هذا المقصد. الدكتور أبو غدة: ولا يجوز. الأمين العام: وإنه لا يجوز. الدكتور أبو غدة: وإنه لا يجوز إهدار هذا المقصد؛ لأن إهداره (بدل ذلك) . الرئيس: لأن ذلك ... لأن إهداره. الدكتور أبو غدة: لأن إهداره يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها. قرر ما يلي: أولا: لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب. ثانيا: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم. الأمين العام: لماذا اللفظان , لتكن التعقيم والسلام. الدكتور أبو غدة: الحقيقة الأطباء استخدموا التعقيم بمعنيين والذي هو القضاء على الميكروبات أما الإعقام على وزن الإنجاب تأتي بالتضعيف أو ... الرئيس: المهم اقرأ. الدكتور أبو غدة: ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية. ثالثا: يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعا بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم والله أعلم. الرئيس: جزاكم الله خيرا، هذا طيب إن شاء الله، وإن شاء الله إنه مبارك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 547 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (1) بشأن تنظيم النسل إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 / 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تنظيم النسل) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. وبناء على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني، وأنه لا يجوز إهدار هذا المقصد؛ لأن إهداره يتنافى مع النصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها. قرر ما يلي: أولا: لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب. ثانيا: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم , ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية. ثالثا: يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعا بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض، بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 548 قوة الوعد الملزمة في الشريعة والقانون إعداد الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد 1- ليس غريبا أن يلزم الشخص نفسه بالتزامات يطلب منه الوفاء بها حالا أو مستقبلا؛ ذلك لأن الحياة العملية للأفراد بسبب كون هؤلاء الأفراد أعضاء في مجتمع تربط أعضاءه جملة روابط اجتماعية واقتصادية، فالعقود مثلا صورة شائعة معروفة بين الأفراد تتولد عنها التزامات يراد الوفاء بها. ومن مظاهر التزامات الأشخاص قبل بعضهم " الوعد "، فقد شاع هذا الأمر بين الناس وتراهم يطلقون ألسنتهم لإعطاء الوعود سواء رافق ذلك عزم على الوفاء، أم لم يرافق ذلك نية الوفاء. وحيث إن الوعد يحقق معروفا لشخص من قبل شخص آخر بأمر من الأمور النافعة فلا شك حينئذ أن يكون للوفاء بالوعد وإنجازه أثره البالغ في التأثير في العلاقات الاجتماعية إيجابيا حين يوفي الواعدون وعودهم، أو سلبيا حين يتخلفون عن ذلك. وبناءً على ما تقدم فإني وجدت أن للبحث في هذه المسألة أهميته البالغة في إطلاع الأفراد على وعودهم من الأحكام الشرعية فضلا عن أن للبحث هذا أهميته في كشف صورة من صور تراثنا الفقهي اللامع، أسأل الله تعالى أن يجعل جهدنا هذا نافعا، وأن لا يفوتنا أجره إنه سميع مجيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 549 معنى الوعد: 2- قال ابن سيده: وَعَدَهُ الأمر، وبه عِدَةً وَوَعْدًا وَمَوْعُودًا وَمَوْعِدًا وَمَوْعِدَةً، وهو من المصادر التي جاءت على مفعول ومَفْعِلَة، وقد تواعد القوم واتعدوا، وواعده الوقت والموضع، وواعده فوعده، وقد أوعده وتوعده، وقال الفراء: يقال وعدته خيرا ووعدته شرًّا فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخبر: وعدته، وفي الشر: أوعدته وفي الخير: الوعد والعدة، وفي الشر: الإيعاد والوعيد، فإذا قالوا: أوعدته بالشر أثبتوا الألف مع الياء، وقال ابن الأعرابي: أوعدته خيرا وهو نادر، وفي الصحاح: تواعد القوم أي: وعد بعضهم بعضًا هذا في الخير، وأما في الشر: فيقال: اتعدوا، والإيعاد أيضا قبول الوعد، وناس يقولون: إيتعد يأتعد فهو مؤتعد بالهمزة. قال ابن البري: والصواب ترك الهمزة، وكذا ذكره سيبويه وجميع النحاة (1) هذا معنى الوعد في اللغة. 3- أما تعريف الوعد في الاصطلاح الفقهي فقد قال ابن عرفة المالكي: العدة إخبار عن إنشاء المخبر عروفًا في المستقبل. (2) وعرفه الفقيه الحنفي العيني: الوعد هو الإخبار بإيصال الخير في المستقبل والإخلاف جعل الوعد خلافًا، وقيل عدم الوفاء به. (3) وبعد النظر في التعريفين يتضح: أ- أن التعريف الاصطلاحي للوعد اعتمد التعريف اللغوي، فقرر الوعد الذي هو للخير واستبعد الوعيد الذي هو للشر، فالوعد لا بد وأن يكون بمعروف، فحين يكون الوعد بشر فلا يجب الوفاء به. (4) ب- إن زمن الوفاء بالوعد هو المستقبل وليس الآن (حين الوعد) . 4- وينبغي أن يفرق بين الوعد والنذر، لكون الوفاء بهما في المستقبل فيتشابهان من هذا الوجه، لكن هذا التشابه لا يمنع وجود الفرق بينهما فالنذر وإن كان فيه معنى الوعد، (5) إلا أن فيه معنى القربة إلى الله تعالى، وأن في عدم الوفاء به الكفارة وليس كذلك الوعد.   (1) نقلناه عن عمدة القاري في شرح البخاري للعيني 1/220 وانظر فتح الباري في صحيح البخاري للعسقلاني 1/90 ومختار صحاح اللغة للرازي ص 728 ط 2. (2) انظر: فتح العلي المالك للشيخ عليش 1/254 (3) انظر عمدة القاري 1/22 (4) قال العسقلاني: المراد بالوعد الوعد بالخير أما الوعد بالشر فيستحب إخلافه وقد يجب ما لم يترتب على ترك إنفاذه مفسدة انظر فتح الباري 1/90 (5) لذلك عرف الماوردي والروياني النذر بأنه: الوعد بخير خاصة. وعند غيرهما: التزام قربة لم تتعين (انظر مغني المحتاج 4/354) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 550 5- وهناك فرق بين الوعد والعهد. فإن العهد في اللغة: الأمان واليمين والموثق والذمة والحفاظ والوصية فتقول: عهد الله علي لأفعلن كذا، (1) أما معنى الوعد في اللغة فهو ما تقدم، لذلك فقد قيل للتفريق بين الوعد والعهد: العهد فيما تعبد الله به من أمور الدين، أو ما يكون بين العباد مما يكون بخلفه إتلاف مال أو نفس أو إدخال ضرر كثير. وأما الوعد ففيما لا يتعلق ذلك به حق لمخلوق، وكان في خلفه كالساهي، أو ما لا يؤدي ذلك إلى كثير ضرر، فمن نقض عهده فذلك من كبائر الذنوب ويبلغ به الهلاك، ومن أخلف وعده كان آثمًا ولا يبلغ فاعلوه إلى الكفر والهلاك والله أعلم. (2) ومع ما نقلناه فإن العسقلاني ذكر أنه قد يتحد معناهما، (3) ولعل ما يؤيد قول العسقلاني قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (4) إذ بدأ الذكر الحكيم بقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} فلما أخلفوا رتب عليهم ما رتب ثم علله بقوله: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} . 6- ويفرق بين الوعد والجعالة بأن في الجعالة معنى المعاوضة فإن الجاعل يلتزم بفعل خير للمجعول له مقابل قيام الأخير بعمل يطلبه الجاعل مقابل الجعل، أما الوعد فهو التزام عمل معروف لآخر بدون مقابل.   (1) مختار الصحاح ص460 (2) انظر كتاب المصنف المجلد الأول الجزء الثاني ص 200 تأليف أبي بكر أحمد بن عبد الله بن موسى الكندي (ت 557هـ) تحقيق عبد المنعم عامر والدكتور جاد الله أحمد / إصدار وزارة التراث القومي والثقافة في سلطنة عمان مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه. وهو من كتب الإباضية؛ لذلك فإن قولهم بإثم مخلف الوعد مخالف لرأي الجمهور من الفقهاء كما سيأتي. (3) فتح الباري 1/90 (4) سورة التوبة الآية (75-77) ، وسبب نزول الآية هو عهد ثعلبة بن حاطب بالصدقة إذا أعطاه الله المال، فلما أعطاه أخلف وعده (انظر سبب نزول الآية في تفسير الجلالين) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 551 صيغة الوعد 7- جاء في فتح العلي: وإنما الْعِدَةُ أن يقول الرجل: أنا أفعل، وأما إذا قال: قد فعلت فهي عملية، وقوله: لك كذا وكذا أشبه بقوله: قد فعلت منه بأنا أفعل (1) ومنه يفهم أن الصيغة التي ينبغي استعمالها في الوعد هي صيغة الاستقبال المقترنة بسوف أو السين، أما اللفظ الماضي فإنه لا ينبئ عن الوعد وإنما هو يفيد التنجيز حالا. على أنه لا يكون استعمال الفعل المضارع دائما يفيد الوعد، بل إن ذلك يعتمد القرائن الموجودة في سياق اللفظ، فإذا كان الفعل المضارع الذي يفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال أنه يفيد الالتزام جزما فهو ليس وعدا، أما إذا وجد مع المضارع ما يفيد إرادة المستقبل فإنه الوعد. (2) مشروعية الوعد 8- الوعد مباح (3) فلكل شخص أن يعد بالمعروف والخير من يشاء من الناس لكن الذي ينبغي الإشارة إليه هو أن يتحفظ الشخص في إطلاق الوعود للناس؛ لأن الوفاء بالوعد أمر مستقبل والشخص لا يملك معرفة أحواله المستقبلية {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} (4) إذ قد يكون الواعد عاجزا عن الوفاء فيكون مخلفا للوعد فيوصم بخصلة من خصال النفاق، لذلك فإن الإمام الغزالي رحمه الله قد اعتبر وعد الكاذب آفة إذ يقول: إن اللسان سباق إلى الوعد ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفا، وذلك من أمارات النفاق (5) . هذا فضلا عما يثيره إخلاف الوعد من العداوة بين الوعد والموعود له، وهذا المحذور يؤيده ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ولا تعد أخاك وعدا فتخلفه فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة)) أورد الحديث ابن حزم وقال بأنه حديث مرسل (6) . ومع أن الإباحة هي الأصل في الوعد لكنه قد يكون محرمًا إذا كان الموعود به محرمًا كالوعد بخمر أو زنا، فإن هذا وعد محرم يحرم الوفاء به. التصرفات التي يدخلها الوعد 9- التصرفات التي يدخلها الوعد ويندب الوفاء بها أو يجب على الخلاف الذي سنبينه إنما هي التصرفات التي تنضوي تحت تصرفات التبرعات كالقرض والإعارة والهبة والصدقة وما شابهها.   (1) فتح العلي المالك 1/269. (2) فتح العلي المالك 1/257. (3) أحكام القرآن للجصاص 3/442. (4) سورة لقمان الآية 34. (5) إحياء علوم الدين 3/132. (6) انظر المحلى 8/29. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 552 أما التصرفات التي هي من المعاوضات المالية كالبيع والإجارة ويلحق بها النكاح فإن الوعد بها لا يَلْزَمُ ولا يُلْزِمُ الوفاء بها، يوضح ذلك ما قاله الفقيه المالكي الحطاب رحمه الله في كتابه تحرير الكلام في مسائل الالتزام (1) ، قال: (مدلول الالتزام لغة: إلزام الشخص نفسه ما لم يكن لازما له وهو بهذا المعنى شامل للبيع والإجارة والنكاح وسائر العقود، وأما في عرف الفقهاء: فهو إلزام الشخص نفسه شيئا من المعروف مطلقا أو معلقا على شيء فهو بمعنى العطية، وقد يطلق في العرف على ما هو أخص من ذلك وهو: إلزام المعروف بلفظ الالتزام وهو الغالب في عرف الناس اليوم) ، ولا شك أن الوعد عند المالكية كما أوضحه تعريف ابن عرفة في الفقرة الثالثة من هذا البحث التزام بمعروف. وحين يذكر المالكية المعروفَ إنما يقصدون به عقود التبرعات وقد قال مالك رحمه الله: من ألزم نفسه معروفا لزمه، لذلك فإن البيع والإجارة والنكاح لا تدخل في دائرة التبرعات وإنما الواعد بها يأخذ عوضًا عما يعد به فهي من المعاوضات. كذلك نصت المادة (171) من مجلة الأحكام العدلية على ما يلي: (صيغة الاستقبال التي هي بمعنى الوعد المجرد مثل: سأبيع وأشتري، لا ينعقد بها البيع) وإنما لا ينعقد البيع؛ لأن الوعد المجرد هو في معنى مساومة في البيع (2) . فالبيع وأمثاله من المعاوضات المالية تستدعي جزم الإرادتين في مجلس التعاقد، فلا بد أن تكون صيغة الإيجاب والقبول مفيدة للبت في العقد بصورة لا تردد معها ولا تسويف، وإلا كانت نية الارتباط منتفية؛ لأن التردد في حكم الرفض، ومن الواضح أنه إذا انتفت دلالة الصيغة على وقوع الارتباط والتعاقد فلا عقد ولا التزام وبناءً على هذا فقد قرر الفقهاء أن الوعد بالبيع ينعقد به البيع ولا يلزم صاحبه قضاء (3) . أما عقد النكاح فإن عدم إلزام الواعد بوعده فيه فذلك مبني على أن الواعد إذا أراد الرجوع عن وعده وألزمناه بوعده فإن ذلك يعني أننا سنوقع عقد النكاح في ظل الإكراه، وعقد النكاح يتنافى مع الإكراه. وبناء عليه فإن ما سنذكره من خلاف الفقهاء في وجوب الوفاء بالوعد إنما في الوعود الواردة على عقود التبرعات ولا إلزام في عقود المعاوضات المالية؛ لأن الفقهاء متفقون على أن طريق هذه التصرفات هو الجزم.   (1) انظر فتح العلي المالك 1/254 حيث نقل الشيخ عليش فصلا طويلا من هذا الكتاب تحت عنوان مسائل الالتزام استغرق عشرات الصفحات (2) انظر شرح مجلة الأحكام للمرحوم علي حيدر 1/120 (3) انظر كتاب الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء الجزء الأول ص346 ط3- وقد علق الدكتور الزرقاء على العقود المعلقة على الشرط أو المضافة إلى المستقبل فنفى أن تكون هذه الصور مشابهة للوعد؛ لأن العقد المعلق أو المضاف إلى المستقبل عقد مجزوم بانعقاده مع اقترانه بشرط الخيار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 553 مدى وجوب الوفاء بالوعد 10- حقيقة الوعد أن الشخص ألزم نفسه معروفًا أو خيرًا لشخص آخر وهذا المعروف قد يكون قرضًا أو صدقة أو إعارة أو وجها من أوجه المعروف الأخرى. وهذا الالتزام المتولد عن الوعد ينبغي الوفاء به ديانة ومروءة وتمشيًا مع مكارم الأخلاق التي حثت عليها الشريعة الإسلامية، لكن قوة هذا الالتزام اختلف فيها العلماء، فقد قال الإمام النووي رحمه الله: أجمع العلماء على أن من وعد إنسانًا شيئًا ليس بمنهي عنه فينبغي أن يفيَ بوعده. وهل ذلك واجب أم مستحب؟ فيه خلاف بينهم (1) . وهذا الخلاف في قوة الوعد الملزمة سأتولى تحريره هنا، وقد وجدت للعلماء في وجوب الوفاء بالوعد ثلاثة مذاهب: الأول- استحباب الوفاء بالوعد لا وجوبه. الثاني – وجوب الوفاء بالوعد مطلقا. الثالث- وجوب الوفاء بالوعد بتفصيل. وسأتولى بيان كل من هذه المذاهب الثلاثة تِبَاعًا. المذهب الأول – استحباب الوفاء بالوعد لا وجوبه. 11- ذهب جمهور العلماء بما فيهم أبو حنيفة والشافعي وأحمد والظاهرية وبعض المالكية (2) إلى أن الوفاء بالوعد مستحب مندوب إليه وليس واجبا فلا يقضى به على الواعد، لكن الواعد إذا ترك الوفاء فقد فاته الفضل وارتكب المكروه كراهة تنزيهية شديدة ولكن لا يأثم (3) . لكن هذا كان مثارا لتساؤل بعض العلماء حيث قال العسقلاني: وينظر هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي أن الواعد يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء الوعد؟ وهذا التساؤل له ما يبرره بسبب ما جاء من النصوص الظاهرة في الحث على الوفاء بالوعد ووصف مخلف الوعد بالكذب والنفاق كما سيتضح ذلك عند عرض أدلة من أوجب الوفاء بالوعد. لذلك فقد استشكل والد ابن حجر العسقلاني صرف النصوص عن ظاهرها مستنكرا إذ يقول: والدلالة للموجوب منها – أي من النصوص- قوية فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد (4) ؟   (1) انظر كتاب الأذكار للنووي ص282 (2) انظر: الأذكار للنووي ص282 عمدة القاري 12/121، من مرقاة المفاتيح 4/653، تحفة الأحوذي 6/131، المحلى 8/28، فتح العلي المالك 1/254 وهو مذهب الإمامية كما يفهم من الطبرسي في جامع البيان 9/278 شركة المعارف الإسلامية (3) الأذكار للنووي ص282 عمدة القاري 1/221 (4) انظر: فتح الباري 6/217 طبعة مصطفى البابي الحلبي لسنة 1378هـ1959م الجزء: 5 ¦ الصفحة: 554 هذا وقد نقل العسقلاني عن المهلب أن إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء (1) . وادعاء الاتفاق هذا رده العسقلاني؛ لأن الخلاف فيه مشهور وإن كان القائل به قليل (2) . وسيتبين لك القائلون بوجوب الوفاء بالوعد عند بيان المذهب الثاني. 12- ولكي يخرج الواعد من ارتكاب المكروه في وعده فإن عليه استثناء مشيئة الله تعالى ويكون عازما على الوفاء بوعده قال الجصاص (3) : (وكذلك الوعد بفعل يفعله في المستقبل وهو مباح فإن الأولى الوفاء به مع الإمكان، فأما قول القائل: إني سأفعل كذا فإن ذلك مباح له على شريطة استثناء مشيئة الله تعالى، وأن يكون في عقد ضميره الوفاء به ولا جائز له أن يعد وفي ضميره أن لا يفيَ به لأن ذلك هو المحظور الذي نهى الله عنه ومقت فاعله عليه، وإن كان في عقد ضميره الوفاء به ولم يقرنه بالاستثناء فإن ذلك مكروه؛ لأنه لا يدري هل يقع منه الوفاء به أم لا فغير جائز له إطلاق القول في مثله مع خوف إخلاف الوعد فيه) ولقد تشدد ابن حزم مقررًا أن الوعد بدون استثناء مشيئة الله محرم (4) . وقد ذكر العلماء أن النية الصالحة للوفاء يثاب عليها الواعد وإن لم يقترن معها المنوي وتخلف عنها (5) . وإذا كان أصحاب هذا الرأي قد نفوا الإثم عن مخالف الوعد فإن ذلك لمجرد خلف الوعد، أما لو قصد الواعد في إخلافه إضرار الموعود له فإن ذلك موجب لتأثيمه. (6) . ولا يلزم الوفاء بالوعد على رأي الجمهور كونه معينًا أو مقترنًا بيمين، فقد ذكر ابن حزم أن (من وعد آخر بأن يعطيه مالًا معينًا أو غير معين أو بأن يعينه في عمل ما، حلف له على ذلك أو لم يحلف لم يلزمه الوفاء به ويكره له ذلك وكان الأفضل لو وفى به، وسواء أدخله بذلك في نفقة أو لم يدخله وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان) (7) .   (1) فتح الباري في الموضع السابق: عدم صحة المضاربة بالموعود به هنا بناء على عدم تأكد الوفاء بالوعد بناء على عدم وجوبه (2) الموضع السابق (3) أحكام القرآن 3/442 (4) المحلى 8/29 (5) مرقاة المفاتيح 4/647 (6) مرقاة المفاتيح 4/653 (7) المحلى 8/28 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 555 أدلة هذا المذهب 13- يستدل لمذهب الجمهور بما يلي: أـ أخرج الإمام مالك رحمه الله في الموطأ: ((أنه قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذب لامرأتي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا خير في الكذب. فقال: يا رسول الله: أفأعدها وأقول لها؟ فقال عليه السلام: لا جناح عليك)) (1) . فهذا الحديث يدل على أن إخلاف الوعد ليس قسيم الكذب، وأنه لا جناح على من أخلف وعده. وأجيب على هذا الاستدلال بالحديث بأنه يحمل على أن الواعد لم يف مضطرًا جمعًا بينه وبين أدلة الوفاء إذ أن حمله على هذا المعنى أولى من حمله على غيره (2) . ب ـ أخرج أبو داود ((أنه عليه الصلاة والسلام قال: إذا وعد أحدكم أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف فلا شيء عليه)) (3) . وأجيب عنه بمثل ما أجيب على الحديث الذي سبقه عن مالك (4) . جـ- وبصدد الدفاع عن رأي الجمهور قال ابن حزم: إن وعد وحلف واستثنى – بأن قال: إن شاء الله- فقد سقط عنه الحنث بالنص والإجماع المتيقن، فإذا سقط عنه الحنث لم يلزمه فعل ما حلف عليه وهو الوعد، ولا فرق بين وعد أقسم عليه وبين وعد لم يقسم عليه، وأيضًا فإن الله تعالى يقول {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (5) . فصح تحريم الوعد بغير استثناء، فوجب أن من وعد ولم يستثن فقد عصى الله تعالى في وعده ذلك، ولا يجوز أن يجبر أحد على معصية فإن استثنى فقال: إن شاء الله أو نحوه مما يعلقه بإرادة الله عز وجل فلا يكون مخلفا لوعده إن لم يفعل؛ لأنه إنما وعده أن يفعل إن شاء الله وقد علمنا أن الله لو شاء لأنفذه فإن لم ينفذه فإن الله لم يشأ كونه (6) . د- ويمكن الاستدلال لرأي الجمهور بأن الوعد تبرع محض من الواعد ولا دليل على وجوب التبرع على أحد، وهب أننا كيفنا الوعد على أنه عقد محله الوعد بعمل فإن هذا العقد يكون من عقود التبرعات، وهي بطبيعتها عقود غير لازمة، يجوز فسخها قبل بالقبض، لذلك قال النووي: استدل من لم يوجب الوفاء بأنه في معنى الهبة، والهبة لا تلزم إلا القبض عند الجمهور، وعند المالكية تلزم قبل القبض (7) . وسيأتي أن المالكية يقولون بلزوم الوعد على تفصيل، على أن رأي الجمهور يرد عليه ظواهر نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية التي احتج بها من أوجب الوفاء بالوعد. وقد تأول الجمهور هذه النصوص وصرفوها عن ظاهرها بما يوافق مذهبهم، وسيأتي إيضاح ذلك عند عرض أدلة الموجبين للوفاء بالوعد فيما يلي.   (1) الموطأ بهامش المنتقى للباجي 7/313 (2) حاشية ابن الشاط على الفروق 4/22 (3) ذكره القرافي في الفروق 4/21 وانظر عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي 13/339 طبعة المكتبة السلفية بالمدينة المنورة (4) حاشية ابن الشاط على الفروق 4/22 (5) سورة الكهف آية 23/24 (6) المحلى 8/29 (7) الأذكار ص282 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 556 المذهب الثاني – وجوب الوفاء بالوعد مطلقا 14- ذهب الفقيه المشهور ابن شبرمة رحمه الله إلى أن الوعد يلزم مطلقًا ويجب الوفاء به ويقضي القاضي به على الواعد إلا من عذر يمنع الوفاء (1) . ومن أَجَلِّ من قال بهذا الرأي الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (2) . وذكر البخاري في صحيحه أن هذا قول الحسن البصري، وأن القاضي سعيد بن عمرو بن الأشوع الهمداني قضى بوجوب إنجاز الوعد، وأن ابن الأشوع ذكر أن وجوب إنجاز الوعد مذهب الصحابي سمرة بن جندب رضي الله عنه، وأضاف البخاري بأنه رأي إسحاق بن راهويه وهو يحتج بحديث ابن الأشوع في القول بإنجاز الوعد (3) . ووجوب الوفاء بالوعد مطلقا مذهب بعض المالكية وإن وصفوه بأنه مذهب ضعيف (4) وذهب إلى وجوب الوفاء بالوعد أبو بكر بن العربي المالكي (5) وكذلك صححه ابن الشاط في حاشيته على الفروق (6) . وذكر ابن رجب الحنبلي أن عليه طائفة من أهل الظاهر (7) وقال الإمام الغزالي الشافعي: إذا فهم الجزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر (8) وقد يفهم الجزم في الوعد إذا اقترب به حلف أو إقامة شهود على الواعد أو قرائن أخرى. أدلة هذا المذهب 15- استدل القائلون بهذا المذهب بأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية: الدليل الأول – قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (9) .   (1) المحلى 8/28 (2) الأذكار ص282 فتح الباري طبعة الحلبي 6/219 مرقاة المفاتيح 4/653 (3) انظر صحيح البخاري بهامش فتح الباري 6/218 طبعة الحلبي وعمدة القاري 13/258 وسعيد بن عمرو بن الأشوع الهمداني قاضي الكوفة في زمن إمارة خالد القسري على العراق بعد المائة للهجرة، وقد مات في ولاية خالد وقد عده ابن حبان في الثقات، وعده يحيى بن معين في المشهورين. (4) فتح العلي المالك 1/256 الفروق 4/24 (5) ذكر ذلك القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 18/29 (6) انظر حاشية ابن الشاط على الفروق 4/24 (7) جامع العلوم والحكم ص404 (8) إحياء علوم الدين 3/133 (9) سورة الصف آية 2-3 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 557 فقد ذكر المفسرون أنه يحتج بالآية على أن من ألزم نفسه عقدا لزمه الوفاء به، والوعد مما ألزم الشخص نفسه به مع وجود الخلاف في الوجوب أو الاستحباب (1) . والذين أوجبوا الوفاء بالوعد وجه استدلالهم بالآية أن الواعد إذا وعد وأخلف فإنه يكون قد قال ولم يفعل، فيكون داخلا في استنكار الآية، فيلزم أن يكون وعده كذبا، والكذب محرم فيكون إخلاف الوعد محرمًا أيضا، فلزم الوفاء به خروجًا من صفة الكذب (2) . 16- وقد اعترض على كون إخلاف الوعد كذبا، بأن الكذب وإن كان تعريفه بأنه الخبر الذي لا يطابق إلا أن عدم المطابقة تعرف بالماضي والحاضر من الأخبار، أما ما يتعلق منها بالمستقبل كالوعد فإنه يحتمل المطابقة وعدمها، فلا يمكن الجزم بعدم المطابقة؛ لأن المستقبل بعدم مجيء وقته يكون مجهولًا، وهذا مدعوم بأمرين: الأول- أننا إذا عرفنا الشيء بوصف بأن قلنا في الإنسان مثلا: الحيوان الناطق، إنما نريد الحياة والنطق بالفعل لا بالقوة، وإلا لكان الجماد والنبات كله إنسانا؛ لأنه قابل للحياة والنطق، وحيث أن كون الوعد كذبا بالفعل غير ممكن لتأخر زمنه فإنه لا يمكن التحكم بوصفه بالكذب. الثاني – أن إخلاف الوعد لا حرج فيه كما صرح بذلك الحديث الذي أخرجه مالك في الموطأ وحديث أبي داود – وقد تقدم ذكرهما- حيث أفاد الحديثان أن إخلاف الوعد ليس قسيم الكذب ولا حرج فيه، فإن قيل: إن النصوص القرآنية كقوله تعالى {وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} (3) . وقوله {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} (4) . وقوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} (5) . وقوله {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} (6) وغير ذلك من النصوص تدل على الصدق في وعد الله، فقد تحقق بذلك وصف الصدق في المستقبل، إن قيل ذلك فالجواب عليه: أن الله تعالى يخبر عن معلوم وكل ما تعلق به العلم يجب مطابقته بخلاف واحد من البشر إنما ألزم نفسه أن يفعل مع تجويز أن يقع ذلك منه وأن لا يقع، فلا تكون المطابقة وعدمها معلومين ولا واقعين فانتفيا بالكلية وقت الإخبار (7) .   (1) أحكام القرآن للجصاص 3/442 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/79 (2) الفروق 4/20، 34 المحلى 8/28 (3) سورة إبراهيم آية 22 (4) سورة آل عمران آية 152 (5) سورة الزمر آية 74 (6) سورة الأعراف آية 44 (7) الفروق وحاشيته وتهذيبه 4/21 -44 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 558 17- وقد رد هذا الاعتراض بوجوه: أ- إن الكذب يدخل الماضي والحاضر والمستقبل وإنما سومح في الوعد من أجل تكثير الوعد بالمعروف (1) . ب - إنه لا يسلم أن التعاريف – أي الحدود- تستلزم أن يكون الوصف فيها بالفعل، إذ لو استلزمت ذلك لخرج الطفل الرضيع عن تعريف الإنسان ضرورة؛ لأن النطق الذي هو الفعل مفقود فيه بالفعل مع أن الطفل عند أصحاب التعاريف وهم الفلاسفة إنسان، وما قيل من استلزام كون الجماد والنبات إنسانًا لأنه قابل للحياة والنطق إنما هو جهل بمذهب أصحاب الحدود أو التعاريف، أي الفلاسفة القائلين بأن الحقائق مختلفة بصفتها الذاتية فلا تقبل حقيقة منها صفة الحقيقة الأخرى، فالحيوان لا يقبل أن يكون جمادًا والجماد لا يقبل أن يكون حيوانا، وبهذا فقد بطل كل ما قيل من أن الوعد لا يدخله الكذب؛ لأنه مستقبل (2) . جـ- إنه لا معنى لحديث الموطأ إلا أنه صلى الله عليه وسلم منع السائل له من أن يخبر زوجته بخبر يقتضي تغيظها به، كأن يخبرها عن فعله مع غيرها من النساء بما لم يفعله أو غير ذلك مما يكون فيه التغيظ لزوجته، وسوغ له صلى الله عليه وسلم الوعد؛ لأنه لا يتعين فيه الإخلاف لاحتمال الوفاء به سواء كان عازمًا عند الوعد على الوفاء أو على الإخلاف أو مضربا عنهما، وأن السائل له صلى الله عليه وسلم إنما قصد الوعد على الإطلاق، وسأل عنه؛ لأن الاحتمال في عدم الوفاء اضطرارًا أو اختيارًا قائم، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم الجناح لاحتمال الوفاء، ثم إنه إن وفى فلا جناح عليه، وإن لم يف مضطرا فكذلك، وإن لم يف مختارًا فالظواهر المتضافرة قاضية بالحرج، فتبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل الوعد قسيمًا للكذب من حيث هو كذب وإنما جعله قسيمًا للخبر عن غير المستقبل الذي هو كذب، فكان قسيمه من جهة كونه مستقبلا وذلك غير مستقبل، أو من جهة كونه قد تعين أنه كذب والوعد لا يتعين أنه كذب، وما قيل من أنه صلى الله عليه وسلم منع السائل من الكذب المتعلق بالمستقبل، فمجرد دعوى لم تقم عليها حجة ولا تعين أن المراد ما قاله، كيف وإن ما قاله هو عين الوعد؟ فإنه لا بد أن يكون ما يخبر زوجته عن وقوعه في المستقبل متعلقا بها، وإلا فلا حاجة لها فيما يتعلق بغيرها، وما قيل من أن السائل لم يقصد الوعد الذي يفي فيه بل قصد الوعد الذي لا يفي فيه على التعيين، فإنه مجرد دعوى أيضا إذ من أين علم أنه لا يفعله وعلى أن يكون في حال الوعد غير متمكن مما وعد به؟ من أين يعلم عدم تمكنه منه في المستقبل؟ وإذا تعذر علمه بذلك تعين أن يكون سواء لاحتمال عدم الوفاء أو العزم على عدم الوفاء، فسوغ له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وأن عدم الوفاء لا يتعين، أو لأن العزم على عدم الوفاء على تقدير أن عدم الوفاء معصية ليس بمعصية، وأما حديث أبي داود فإنه يحمل على أن الواعد لم يف مضطرا (3) .   (1) الفروق 4/24 (2) تهذيب الفروق 4/45 (3) تهذيب الفروق 4/45،46 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 559 18- وقد رد ابن حزم الظاهري على الذين استدلوا بالآية لوجوب الوفاء بالوعد: بأن المراد بها الذين يقولون ما لا يفعلون في الأمور الواجبة كالوعد بإنصاف من دين أو أداء حق، وهو من قبيل قوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} (1) فقد استنكر الله إخلافهم؛ لأن الصدقة واجبة والكون من الصالحين واجب فالوعد والعهد بذلك فرضان ففرض إنجازهما، ثم إن هذا نظر من هذا الذي عاهد الله على ذلك، والنذر فرض (2) . ويبدو لي أن هناك فرقا بين هذه الآية والآية المستدل بها ففي هذه الآية علق العهد على شرط وهو إيتاء الله لهم من فضله، فتحقق الشرط وما وفوا، أما الآية المستدل بها فليس فيها مثل هذا الشرط بل إن سياقها يفيد العموم فقد أنكر عليهم أن يقولوا ومنه الوعد ولم يفعلوا فكان مقتًا كبيرًا عليهم. 19- الدليل الثاني – أن الوعد أمر بالوفاء به في جميع الأديان وقد حافظ عليه الرسل المتقدمون قال تعالى {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (3) . ومدح إسماعيل لصدقه في وعده بقوله {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (4) وفي شريعتنا من النصوص ما يؤكده الوفاء بالوعد كقوله تعالى {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} (5) وقوله {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} (6) وقوله {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} (7) وكل هذه النصوص وعشرات مثلها تؤكد أن الله قطع على نفسه الوفاء بما وعد فعلى العباد أن يوفوا بوعودهم. وقد حمل الجمهور القائلون باستحباب الوفاء بالوعد كل ما تقدم من النصوص على الاستحباب لا على الوجوب، فقرروا كراهية الإخلاف فيه.   (1) سورة التوبة آية 75- 77 (2) المحلى 8/30 (3) سورة النجم آية 37 (4) سورة مريم آية 54 (5) سورة الروم آية 6 (6) سورة الزمر آية 20 (7) سورة لقمان آية33 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 560 20- الدليل الثالث- ما أخرجه البخاري ومسلم (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم ((: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذ وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان)) وفي رواية (من علامات المنافق ثلاث ... إلخ) وفي رواية أخرى (آية المنافق ثلاث ... وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) وورد في البخاري: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) ، وفي مسلم: (إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر) . والدليل في هذه الأخبار أن إخلاف الوعد قد عده النبي صلى الله عليه وسلم في خصال المنافقين، والنفاق مذموم شرعًا وقد أعد الله للمنافقين الدرك الأسفل من النار حيث قال {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (2) وعلى هذا يكون إخلاف الوعد محرما فيجب الوفاء بالوعد (3) . 21- والجواب عن هذا الدليل: أن هذا الحديث وإن عده جماعة من العلماء مشكلا كما صرح بذلك النووي (4) من حيث إن هذه الخصال المعدودة في الحديث توجد في المسلم المصدق الذي ليس في إسلامه شك وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقا بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ولا هو منافق يخلد في النار إذ أن إخوة يوسف عليه السلام جمعوا هذه الخصال، وكذلك وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذه الخصال أو كلها. لكن النووي بعد نقله هذا الإشكال نفى أن يكون في الحديث إشكال (5) .   (1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي2/47، 48 صحيح البخاري مع فتح الباري 1/89 (2) سورة النساء آية 145 (3) انظر الفروق 4/20 /46 (4) صحيح مسلم بشرح النووي 2/46 (5) صحيح مسلم بشرح النووي 2/47 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 561 22- ونفي الإشكال مبني على أن الحديث مصروف عن ظاهره، وقد ذهب العلماء في صرف الحديث عن ظاهره مذاهب شتى وهي: أ - قال المحققون والأكثرون وصححه النووي واختاره أن معنى الحديث أن هذه الخصال المعدودة في الحديث خصال نفاق وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام، فيظهره وهو يبطن الكفر، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم. ((كان منافقا خالصا)) أي شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال؛ لذلك قال بعض العلماء: وهذا المعنى فيمن كانت الخصال المذكورة غالبة عليه وله دَيْنًا، ويدل عليه التعبير- بإذا – فإنها تدل على تكرار الفعل فأما من يندر ذلك منه فليس داخلا فيه (1) . ب - قال الترمذي: إن المراد بالنفاق في الحديث نفاق العمل لا نفاق الإيمان (2) . وقد ارتضى هذا المعنى القرطبي والعسقلاني (3) ؛ لذلك قال الكرماني شارح البخاري: مناسبة هذا الباب- علامات النفاق- لكتاب الإيمان: إن النفاق علامة عدم الإيمان أو ليعلم منه أن بعض النفاق كفر دون بعض، والنفاق لغة: مخالفة الباطن للظاهر فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر وإلا فهو نفاق العمل، ويدخل فيه الفعل والترك وتتفاوت مراتبه (4) . وقد استدل لهذا المعنى بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحذيفة: هل تعلم فيَّ شيئا من النفاق؟ فإنه لم يرد بذلك نفاق الكفر وإنما أراد نفاق العمل؛ لما علم بأن عمر رضي الله عنه مقطوع بإسلامه وأنه من المبشرين بالجنة (5) .   (1) صحيح مسلم بشرح النووي 2/47 فتح الباري 1/90 (2) مسلم بشرح النووي 2/47 (3) فتح الباري 1/90، 91 (4) فتح الباري 1/89 (5) فتح الباري 1/.9 عمدة القاري 1/222 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 562 جـ- إن المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير للمسلم عن ارتكاب هذه الخصال أو اعتيادها، والتي يخاف عليه أن تفضي به إلى حقيقة النفاق، وهذا المعنى حكاه الخطابي وارتضاه، ودعم هذا التفسير بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((: التاجر فاجر وأكثر منافقي أمتي قراؤها)) فإن معناه التحذير من الكذب إذ هو في معنى الفجور فلا يوجب أن يكون التجار كلهم فجارا، والقراء قد يكون من بعضهم قلة إخلاص في العمل وبعض الرياء، وهو لا يوجب أن يكونوا كلهم منافقين، ثم إن النفاق ضربان: أحدهما- يظهر الإيمان ويبطن الكفر وهكذا كان المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني- ترك المحافظة على أمور الدين ومراعاتها علنًا وهذا أيضًا يسمى نفاقًا، كما جاء ((:سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر)) وإنما هو كفر دون كفر وفسق دون فسق، وكذلك فهو نفاق دون نفاق (1) . د- إن الحديث ورد في رجل منافق بعينه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول فيقول: يا فلان أنت منافق أو: فلان منافق، بل كان صلى الله عليه وسلم يشير إشارة كقوله عليه السلام: ((: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا)) فههنا عبر بالآية- آية المنافق – حتى يعرف ذلك الشخص بها، وهذا المعنى حكاه الخطابي (2) . وقال العسقلاني: إن أصحاب هذا التفسير قد استدلوا بأحاديث ضعيفة لو صحت لوجب المصير إليها (3) . هـ- إن المراد بالحديث: المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فحدثوا بإيمانهم وكذبوا، وائتمنوا على دينهم فخانوا، ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا وفجروا في خصوماتهم، وهذا قول سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح ورجع إليه الحسن البصري أن كان على خلافه (4) . إلا أن ابن رجب الحنبلي نفى أن يكون الحسن البصري قد رجع إلى قول عطاء (5) . وقال القاضي عياض الفقيه المالكي بأن كثيرا من أئمتنا مالوا إلى هذا الرأي (6) .   (1) فتح الباري 1/98 عمدة القاري 1/222 مسلم بشرح النووي 2/47 (2) مسلم بشرح النووي 2/47 (3) فتح الباري 1/.9. (4) مسلم بشرح النووي 2/47 عمدة القاري 1/222، جامع العلوم والحكم ص403 (5) جامع العلوم والحكم ص 403 حيث ذكر أن خبر الحسن هذا ذكره الشيخ محمد محرم وهو شيخ كذاب معروف بالكذب (6) عمدة القاري 1/222 مسلم بشرح النووي 2/47 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 563 و قال حذيفة: ذهب النفاق وإنما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه الكفر بعد الإيمان، فإن الإسلام شاع وتوالد الناس عليه فمن نافق بأن أظهر الإسلام وأبطن خلافه فهو مرتد (1) . وعلى قول حذيفة فإن النفاق إظهار الإسلام وإبطان الكفر فلا يكون إخلاف الوعد من النفاق، إنما النفاق إما نفاق العمل أو التساهل في أمور الدين سرا والاهتمام بها علنا. ز- قال ابن حزم: لا حجة في الحديث؛ لأنه ليس على ظاهره، لأن من وعد بما لا يحل له أو عاهد على معصية، فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك. كمن وعد بخمر أو زنى وما شابه ذلك فصح بعد ذلك أنه ليس كل من وعد فأخلف أو عاهد فغدر مذموما ولا ملوما ولا عاصيا، بل قد يكون مطيعا مؤدي فرض، فإذا كان الأمر كذلك فلا يكون فرضا من إنجاز الوعد والعهد إلا من وعد بواجب عليه كإنصاف من دَيْنٍ أو أداء حق (2) . من كل ما تقدم يتضح أن الجمهور القائلين بعدم وجوب الوفاء بالوعد، قد صرفوا ظاهر الحديث إلى المعاني التي تقدمت، ومن ثَمَّ فإنهم لا يرون في الحديث دليلا على وجوب الوفاء بالوعد.   (1) عمدة القاري 1/222 (2) المحلى 8/29 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 564 23- الدليل الرابع- قال المسور بن مخرمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر صهرا له فقال ((: ((وعدني فوفاني)) )) أخرجه البخاري وذكره في معرض الاحتجاج لوجوب إنجاز الوعد (1) 24- الدليل الخامس – عن جابر رضي الله عنه قال: ((لما مات النبي جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي، وكان في البحرين فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ أو كانت له قبله عِدَةٌ فليأتنا. قال جابر: فقلت: وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا، فبسط يديه ثلاث مرات، قال جابر: فعد في يدي خمسمائة، ثم خمسمائة، ثم خمسمائة)) (2) . وأخرجه البخاري بلفظ قريب في باب من تكفل عن ميت دَيْنًا (3) . قال العيني: وقد استدل بعض الشافعية على وجوب الوفاء بالوعد في حق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم زعموا أنه من خصائصه ولا دلالة فيه أصلا لا على الوجوب ولا على الخصوصية (4) . كذلك أورد البخاري جملة أحاديث بهذا المعنى في باب من أمر بإنجاز الوعد (5) ولكنها محمولة على الاستحباب عند الجمهور. 25- الدليل السادس – قال صلى الله عليه وسلم ((:وَأْيُ المؤمن واجب)) أي: وعده واجب الوفاء به (6) ، وأورده ابن حزم بلفظ ((وَأْيُ حق واجب)) وقال عنه: فيه هشام بن سعيد وهو ضعيف والحديث مرسل (7) . وأورده الغزالي بلفظ ((الْوَأْيُ مثل الدَّيْنِ أو أفضل)) وقال العراقي: أخرجه ابن أبي الدنيا مرسلا، ورواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف (8) . والوأي بمعنى الوعد وهو صريح في وجوب الوفاء لكنه ضعيف كما عرفت.   (1) صحيح البخاري بشرح فتح الباري 6/218عمدة القاري 13/258 (2) انظر البخاري مع فتح الباري 6/218 عمدة القاري 13/258 (3) عمدة القاري 12- 121 (4) عمدة القاري 12/121 (5) انظر البخاري مع فتح الباري 6/218 عمدة القاري 13/258 (6) الفروق للقرافي 4/.2. (7) المحلى 8/29 (8) إحياء علوم الدين 3/132 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 565 26- الدليل السابع- أورد ابن حزم جملة أحاديث استدل بها من أوجب الوفاء بالوعد ثم ضعفها، من ذلك (1) : عن طريق الليث عن ابن عجلان: ((أن رجلا من موالي عبد الله بن عامر بن ربيعة العدوي حدثه عن عبد الله بن عامر قالت لي أمي: ها تعال أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنك لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة)) (2) . قال عنه ابن حزم: هذا الحديث ليس بشيء؛ لأنه عمن لم يسم. والآخر: من طريق ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ولا تعد أخاك وعدا فتخلفه فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة)) قال عنه ابن حزم: حديث مرسل وابن عياش ضعيف. وأضاف ابن حزم: كان على أبي حنيفة ومالك أن يقولا بوجوب الوفاء بالوعد مطلقا؛ لأنهما يحتجان بالمراسيل، أي أن كلام ابن حزم يعني: لو أن الوفاء واجب لتناقض أبو حنيفة ومالك في قولهما بعدم وجوب الوفاء مع أصلهم بالأخذ بالمراسيل. 27- الدليل الثامن – ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وعد وعدًا قال: عسى)) ، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لا يعد وعدًا إلا ويقول: إن شاء الله، وقد حمل الغزالي ذلك بعد ذكره أنه إذا جزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر فإن كان عند الوعد جازما على أن لا يفي فهذا هو النفاق (3) ، لكن صاحب مرقاة المفاتيح قال بعد نقل هذا عن الغزالي (4) . وهذا كله يؤيد الوجوب إذا كان الوعد مطلقا غير مقيد بعسى أو المشيئة ونحوهما مما يدل على أنه جازم في وعده فقول الغزالي محل بحث.   (1) المحلى 8/29 وانظر جامع العلوم والحكم لابن رجب ص404 (2) رواه أبو داود والبيهقي في شعب الإيمان انظر مرقاة المفاتيح 4/648 (3) إحياء علوم الدين3/133 (4) مرقاة المفاتيح 4/653 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 566 28- الدليل التاسع – روى الترمذي وقال عنه حسن غريب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدا فتخلفه)) (1) . فقد ذكر شراح الحديث أنه يحتمل أن يخلفه- بالرفع- فيكون المنهي عنه الوعد المستعقب للإخلاف، فالمعنى لا تعده موعدا فأنت تخلفه على أنه جملة خبرية معطوفة على إنشائية، ويحتمل النصب أي: فيكون- فتخلفه- جوابا للنهي على تقدير: فيكون مسببًا عما قبله فعلى هذا يكون التنكير في موعد النوع من الموعد وهو ما يرضاه الله تعالى بأن يعزم عليه قطعًا ولا يستثني فيجعل الله ذلك سببًا للإخلاف أو ينوي في الوعد كالمنافق فإن آية المنافق الخلف في الوعد (2) . المذهب الثالث – التفصيل في وجوب الوفاء بالوعد: 29- ذهب فقهاء المذهب المالكي إلى التفصيل فيما يجب الوفاء به من الوعود وما لا يجب وكانوا في ذلك فريقين: الفريق الأول – ويمثله مشهور مذهب مالك وابن القاسم وسحنون وعليه المدونة، ومفاد رأيهم: أن الوعد يكون لازما يجب الوفاء به ويقضي القاضي به على الواعد إذا كان الوعد قد تم على سبب، ودخل الموعود له بسبب الوعد في شيء (3) .   (1) عارضة الأحوذي 8/161، تحفة الأحوذي 6/131 (2) تحفة الأحوذي 6/131 مرقاة المفاتيح 4/653 (3) الفروق 4/25، فتح العلي المالك 1/254 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 567 وبمعنى أوضح أن الوعد لو تم وكان له سبب، ثم باشر الموعود ذلك السبب معتمدا على وعد الواعد، فإن على الواعد وجوب الوفاء ويقضي عليه به، مثال ذلك: أن يقول الرجل للرجل: اهدم دارك وأنا أسلفك، أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، ثم باشر الموعود شيئا من هذه التصرفات لزم الواعد الوفاء (1) . وحيث يتنازع الواعد والموعود له فيما يلزم الواعد بسبب وعده فقد قالوا (2) 0 إن زعم الموعود أنه أراد شيئًا سماه فله ما أراد اتفاقا، وإن لم يكن أراد شيئًا أرضاه الواعد بما شاء، وحلف بالله أنه ما أراد أكثر من ذلك، وهذا هو رأي أشهب، أما على رأي ابن وهب واستحسنه أصبغ فإن على الواعد إرضاء الموعود بما يشبه أي بالمثل، وهو ما يكون مرضيا عند الناس، أما لو حلف الواعد ليرضينه فإن عليه أن يوفيه بما يرضيه ويرضي الناس. 30- الفريق الثاني – ويمثله مذهب أصبغ، وقالوا عنه بأنه مذهب قوي (3) ومفاده أن الوعد يكون لازما يجب الوفاء به ويقضي به عليه إذا تم الوعد على سبب وإن لم يدخل الموعود له في مباشرة شيء، مثال ذلك: قولك: أريد أن أتزوج، أو: أريد أن أشتري كذا، أو: أن أقضي غرمائي فَأَسْلِفْنِي كذا، أو: أريد أن أسافر غدا إلى مكان كذا فَأَعِرْنِي دابَّتَك، أو: أن أحرث أرضي فأعرني بقرتك، فقال: نعم، ثم بدا للواعد الرجوع قبل أن يتزوج أو أن يشتري أو أن يسافر فإن ذلك يلزمه ويقضي به عليه (4) . وهذه الصورة تمثل طلبا واستجابة، وكذلك لو لم تسأله بل هو قال لك من نفسه: أسلفك كذا أو أهب لك كذا لتقضي دينك أو لتتزوج أو نحو ذلك فإن ذلك يلزمه ويقضي به عليه (5) . وهذه الصورة تمثل التزاما من جانب واحد. ويعلم من ذلك أن الوعد المجرد عن سبب كما لو قلت: أسلفني كذا أو أعرني بقرتك ولم تذكر سببًا ولا حاجة، ثم وعدك وبدا له أن يرجع فله الرجوع ولا شيء عليه عند الفريقين، ويلاحظ أن هذه الصيغ تكون لازمة على رأي من أوجب الوفاء بالوعد مطلقًا، وهم ابن شبرمة وموافقوه؛ لأنهم لم يشترطوا وجود سبب في الوعد بل إن مجرد الوعد يوجب الوفاء به.   (1) فتح العلي المالك 1/254، الفروق 4/25 (2) فتح العلي المالك 1/254 (3) فتح العلي المالك 1/255، الفروق 4/.2. (4) فتح العلي المالك 1/254 (5) المرجع نفسه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 568 31- ويظهر الفرق بين فريقي المالكية في مسائل منها: الأولى – لو قال له: إن غرمائي يلزمونني بدين فأسلفني أقضهم، فقال الواعد: نعم، ثم بدا له الرجوع فإن على مذهب أصبغ يجب الوفاء؛ لأنه وعد على سبب، وعلى مذهب مالك ومن وافقه لا يجب؛ لأن الموعود له لم يدخل في شيء إلا إذا اعتقد منه الغرماء على موعد أو أشهد بإيجاب ذلك على نفسه (1) . الثانية – لو سألك مدين أن تؤخره إلى أجل كذا وكذا فقلت: أنا أؤخرك لزمك تأخيره إلى الأجل؛ لأنه وعد على سبب وهذا مذهب أصبغ، أما على مذهب مالك وموافقيه فلا يلزمه ذلك إلا إذا ورطه بذلك أو تدل قرينة على أنه أراد التأخير لا الوعد، والتورط يكون بأن يدفع ما بيده إلى دائن آخر أو شراء حاجة له بسبب بنائه على وعد الواعد (2) . 32- وحجة المالكية في تفصيلهم هذا أن النصوص الشرعية بهذا الصدد قد تعارضت فمنها ما أوجب الوفاء بالوعد مطلقا، وهي الأدلة التي ساقها موجبو الوفاء بالوعد، ومنها ما لم يجعل إخلاف الوعد من الكذب كحديث الموطأ وأبي داود حيث إن الآية {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] نزلت في قوم كانوا يقولون: جَاهَدْنَا، وما جاهدوا، وفعلنا أنواع الخيرات وما فعلوا (3) . ولا شك أن هذا محرم لأنه كذب، وأما كون مخلف الوعد منافقا فهو محمول على حالة كون الإخلاف سجية له أو تعمدا كما تقدم، فكان لا بد من حمل هذه النصوص على خلاف ظاهرها وأن يجمع بين الأدلة، فوافق هذا الرأي من أوجب الوفاء بالوعد إذا كان الوعد على سبب وباشره، ووافق من لم يوجب الوفاء بالوعد فيما عداها من الوعود المجردة، هكذا ذكر القرافي (4) ، وقد رد ابن الشاط كلام القرافي هذا في حاشيته على الفروق: بأن جمع الأدلة ينبغي أن يكون بحمل حديث الموطأ وأبي داود بما يتسق مع الآية، وحديث خصال المنافق بأن تكون المسامحة في إخلاف الوعد اضطرارا (5) . 33- وقد انتقد ابن حزم تقسيم المالكية هذا وتفصيلهم وقال: بأنه لا وجه له ولا برهان يعضده لا من قرآن ولا سنة ولا قول صحابي ولا قياس، فإن قيل: قد أضر الواعد بالموعود إذ كلفه من أجل وعده عملا ونفقة، قلنا: فهب أنه كما تقولون فمن أين وجب على من أضر بآخر وظلمه وغره أن يغرم له مالا (6) ؟   (1) فتح العلي المالك 1/256 (2) فتح العلي المالك 1/257 (3) الجامع لأحكام القرآن حيث ذكر أسباب النزول 18/77 –78. (4) الفروق 4/25. (5) حاشية ابن الشاط على الفروق 4/25 (6) المحلى لابن حزم 8/28 أقول: لعل الحل عند ابن حزم في هذه الحالة هو رفع الضرر والظلم عن الموعود له أي أنه لا يرى الوعد هنا سببا لإيجاب ضمان على الواعد بناء على أن الوفاء بالوعد ليس بلازم عنده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 569 المذهب الراجح 34- تبين لنا أن للعلماء في وجوب الوفاء بالوعد ثلاثة مذاهب: مذهب الجمهور الذي يرى استحباب الوفاء بالوعد، ومذهب ابن شبرمة وموافقيه في وجوب الوفاء بالوعد مطلقا إلا لعذر، ومذهب المالكية على التفصيل الذي ذكرناه. والذي يظهر لي راجحا من المذاهب الثلاثة هو مذهب الجمهور، فالوفاء بالوعد مستحب ويكره للواعد الإخلاف في وعده كراهة شديدة فليس الوفاء بالوعد واجبًا يقضى به على الواعد؛ وذلك لأمرين: الأول – أن الوعد كما عرفه الفقهاء: إخبار عن إنشاء خير في المستقبل فهو بهذا الاعتبار محض تبرع، والمتبرع ليس ملزما بالوفاء بتبرعه في المستقبل إذ له الرجوع عنه. الثاني – لو أقمنا الوعد مقام العقد في حكمه فإن الوعد على رأي كل الفقهاء يرد على عقود التبرعات، وعقود التبرعات ذاتها غير لازمة قبل قبض محل العقد فيجوز فسخها، فجواز فسخ الوعد بها أولى فلا يمكن القول بلزوم الوعد فيها. وإذا كان فقهاء المذهب المالكي بناء على ما ذكر عن إمامهم مالك رحمه الله يرون أن من ألزم نفسه معروفا لزمه ما لم يمت أو يفلس، إلا أنهم قالوا (1) : واعلم أن الالتزام إذا لم يكن على وجه المعاوضة فلا يتم إلا بالحيازة ويبطل بالموت والفلس كما في سائر التبرعات. فتحصل من كل ذلك أن القول بوجوب الوفاء بالوعد مطلقًا أو على التفصيل كما يرى المالكية يكون مذهبا مرجوحًا والله أعلم.   (1) فتح العلي المالك 1/211 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 570 رأي القانون في الوعد: 35- يذهب علماء القانون إلى أن الوعد عقد (عقد الوعد) ينعقد بإيجاب وقبول من الواعد والموعود له، ويجوز أن يكون أي عقد موضوعا للوعد سواء كان عقدًا رضائيا يتم بإيجاب وقبول، أم عينيا يتم بإيجاب وقبول مع قبض محل العقد؛ لذلك يجوز الوعد بالبيع والإيجار والقرض والرهن وغير ذلك من العقود (1) ، فعلى هذا إذا وعد شخصٌ آخرَ بأن يبيعه قطعة أرض في وقت معلوم فإن التزاما قد ترتب على الواعد فيجب عليه الوفاء بالتزامه، وكذلك إن وعد بقرض يجب عليه الوفاء، وقد خالف القانون مذهب فقهاء الشريعة الإسلامية قاطبة في إجازته الوعد بعقود المعاوضات، فنظر فقهاء الشريعة على أن عقود المعاوضات ليست من التبرعات فلا يدخلها الوعد، إضافة إلى أن عقود المعاوضات إنما هي عقود تمليك وطبيعة عقود التمليك أن يكون طريقها الجزم لا الوعد المستقبل، فلا ينفض مجلس العقد إلا وقد انعقدت وترتب عليها حكمها وإلا فلا أثر للوعد فيها، أما رجال القانون فقد أعطوا للوعد في البيع والشراء حكم العقد الموعود به من ترتيب حق شخصي للموعود له على الواعد، وقيدوه بقيود يلتزم من خلالها بالوفاء بوعده وحيث أخل بوعده فإن عليه التعويض، وأنت ترى أن هذا تحكم في ملكية الواعد وحريته في تصرفه في ملكه، مع أن العقد الناقل للملكية لم يتم بعد. وإنما يتم حين يبدي الموعود له رغبته والتي حدد لظهورها مدة معلومة. وإذا كان رجال القانون قد خالفوا فقهاء الشريعة في جواز الوعد في عقود المعاوضات إلا أنهم وافقوهم في جواز الوعد في عقود التبرعات وفاقًا لمذهب ابن شبرمة وموافقيه في لزوم الوعد بها مطلقا.   (1) راجع مسألة الوعد بالتعاقد: نظرية العقد للدكتور السنهوري ص262، الوسيط للسنهوري 1/265 أصول الالتزام للدكتور حسن على الذنون ص67 مطبعة المعارف، الوسيط في نظرية العقد للدكتور عبد المجيد الحكيم 1/193، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للأستاذ الزرقاء 1/346 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 571 36- وحين يعد شخص آخر بالبيع ويعده الآخر بالشراء فإنه وعد ملزم للجانبين، وقد أسماه رجال القانون بالاتفاق الابتدائي. والفرق بين الاتفاق الابتدائي والاتفاق النهائي، هو أن الاتفاق الابتدائي تم ليستكمل المتواعدان مستلزمات العقد النهائي، كاستشارة آخرين أو تهيئة ثمن، في حين أن الاتفاق النهائي يعتبر عقدًا ناقلا للملكية لا يتوقف على شيء (1) . وليس لهذا شبه في الفقه الإسلامي؛ لأن الاتفاق على البيع يعتبر على رأي الفقه الإسلامي عقدا كاملا صحيحا؛ لأنه تم بإيجاب وقبول، نعم هناك عقود تتم وفيها خيار الشرط أو خيار الرؤية، ففي هذه العقود يتم العقد صحيحا لكن لزومه متوقف على أمر آخر هو الخيار، فإذا اختار صاحب الخيار الإمضاء مضى العقد وإن اختار الفسخ ألغى العقد. 37- على أن الدكتور حسن علي الذنون يرى تنافيا بين فكرة عينية العقود مع فكرة الوعد بالتعاقد، فلا عبرة عنده بالوعد بالتعاقد في القرض (2) وذلك بناء على أن العقود العينية لا تتم إلا بقبض محل العقد. وبناء على رأي الدكتور الذنون فإن فكرة الوعد في القانون تختلف تمامًا مع فكرة الوعد في الفقه الإسلامي؛ وذلك لأن مجال الوعد في الفقه الإسلامي هو عقود التبرعات التي هي من العقود العينية باصطلاح رجال القانون، ولا مجال للوعد في عقود المعاوضات في حين أن رأي الدكتور الذنون: أن مجال الوعد هو عقود المعاوضات ويتنافى مع عقود التبرعات (العينية) ، ورأي الدكتور الذنون لا يتفق مع رأي الدكتور السنهوري الذي يرى جواز الوعد في كل العقود. 38- هذا وإن الوعد في النكاح لا ينشئ التزاما في ذمة الواعد على رأي القانون (3) ، وهو متفق مع الفقه الإسلامي؛ لأن إلزام الواعد يؤدي إلى قيام الزوجية في ظل الإكراه. الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني   (1) المراجع السابقة (2) أصول الالتزام للدكتور الذنون ص68 (3) الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للأستاذ الزرقا 1/346 هامش الجزء: 5 ¦ الصفحة: 572 مراجع البحث بعد القرآن الكريم 1- أحكام القرآن لأحمد بن علي الرازي الجصاص نشر دار الكتاب العربي، بيروت. 2- إحياء علوم الدين لأبي حامد محمد الغزالي، المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة. 3- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوري، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. 4- جامع البيان للطبرسي، شركة المعارف الإسلامية. 5- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، نشر دار الكتاب العربي بالقاهرة. 6- جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، نشر دار العلوم الحديثة بيروت ودار الشرق الجديد – بغداد. 7- الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأخيار النووي، الطبعة الرابعة. 8- صحيح مسلم بشرح النووي، دار الفكر – بيروت. 9- عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني، إدارة الطباعة المنيرية. 10- فتح الباري بشرح البخاري للعسقلاني: راجعت الجزء الأول في طبعة دار المعرفة- بيروت والجزء السادس في طبعة البابي الحلبي. 11- فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ محمد عليش، الطبعة الأخيرة 1378هـ 1958م. 12- الفروق لأبي العباس الصنهاجي القرافي مع حاشية قاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط مع تهذيب الفروق لمحمد بن الشيخ حسين. 13- الفقه الإٍسلامي في ثوبه الجديد للأستاذ مصطفى الزرقا، الطبعة الثالثة. 14- المحلى لعلي بن أحمد بن سعيد بن حزم، المكتب التجاري، بيروت. 15- من مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: لعلي بن سلطان محمد القاري، نشر المكتبة الإسلامية. 16- الموطأ للإمام مالك بهامش كتاب المنتقى للباجي، الطبعة الأولى. مراجع قانونية 17- أصول الالتزام للدكتور حسن علي الذنون، مطبعة المعارف. 18- الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للأستاذ مصطفى الزرقا، ط3. 19- نظرية العقد للدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري. 20- الوسيط للدكتور عبد الرزاق السنهوري. 21- الوسيط في نظرية العقد للدكتور عبد المجيد الحكيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 573 الوفاء بالوعد إعداد الدكتور إبراهيم فاضل الدبو الأستاذ بكلية الشريعة / جامعة بغداد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. وبعد: قد يلزم الشخص نفسه بالتزامات يطلب منه الوفاء بها حالا أو مستقبلاً؛ ذلك لأن الحياة العملية للأفراد اقتضت ذلك، بسبب طبيعة الحياة الاجتماعية لهؤلاء الأفراد، حيث إنهم أعضاء في مجتمع تربط أعضاءه روابط منها اجتماعية ومنها اقتصادية. فالعقود مثلا صورة شائعة معروفة بين الأفراد تتولد عنها التزامات يراد الوفاء بها. ومن مظاهر التزامات الأشخاص قبل بعضهم "الوعد" فقد شاع هذا الأمر بين الناس، فأخذ يعد بعضهم بعضا، سواء رافق ذلك عزم على الوفاء أم لم تصحبه نية الوفاء. وحيث إن الوعد يحقق معروفا لشخص من قبل شخص آخر بأمر من الأمور النافعة فلا شك حينئذ أن يكون للوفاء بالوعد وإنجازه أثره البالغ في التأثير في العلاقات الاجتماعية إيجابيا حين يوفي الواعدون بوعدهم، أو سلبيا حين يخلفونه. ومن المعلوم أن مثل هذه الوعود غالبا ما ينجم عنها التزامات مالية، فأصبح من المفيد جدا البحث في مدى قوة مثل هذه الوعود. وها أنا في بحثي هذا أستقصي رأي فقهائنا رحمهم الله تعالى في هذه المسألة. وأستمد منه العون والسداد، إنه سميع مجيب. الباحث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 574 معنى الوعد لغة: قال ابن سيده: وعده الأمر وبه عدة ووعدا وموعودا وموعدة، وهو من المصادر التي جاءت على مفعول ومفعولة، وقد تواعد القوم واتعدوا، وواعده الوقت والموضع، وواعده فوعده، وقد أوعده وتوعد. قال الفراء: يقال، وعدته خيرا ووعدته شرا بإسقاط الألف، فإذا أسقطوا الخير والشر، قالوا في الخير وعدته، وفي الشر أوعدته، وقال ابن الأعرابي: أوعدته خيرا وهو نادر. وفي الصحاح، تواعد القوم، أي وعد بعضهم بعضا، هذا في الخير، وأما في الشر فيقال: اتعدوا، والإيعاد أيضا قبول الوعد (1) . أما تعريف الوعد في الاصطلاح الفقهي: فقد قال ابن عرفة المالكي (العدة إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل (2) . وعرفه العيني بقوله: (الوعد، هو الإخبار بإيصال الخير في المستقبل، والإخلاف، جعل الوعد خلافا، وقيل: هو عدم الوفاء به (3) . وعند النظر في التعريفين يتضح: أ- أن التعريف الاصطلاحي للوعد اعتمد التعريف اللغوي، فقرر الوعد الذي هو للخير واستبعد الوعيد الذي هو للشر. فالوعد لا بد أن يكون بمعروف فحين يكون الوعد بشر، لا يجب الوفاء به (4) . ب- إن زمن الوفاء بالوعد هو المستقبل، وليس الآن (حين الوعد) . وينبغي أن يفرق بين الوعد والنذر لكون الوفاء بهما في المستقبل فيتشابهان من هذا الوجه، لكن هذا التشابه لا يمنع وجود الفرق بينهما، فالنذر وإن كان فيه معنى الوعد، إلا أن فيه معنى القربة إلى الله تعالى، وأن في عدم الوفاء به الكفارة وليس كذلك الوعد.   (1) انظر عمدة القاري شرح صحيح البخاري، للعلامة بدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني 220/1 (2) انظر فتح العلي المالك للشيخ عليش 254/1 (3) انظر عمدة القاري1/ 220 (4) قال العسقلاني: المراد بالوعد، الوعد بالخير، أما الوعد بالشر فيستحب إخلافه وقد يجب ما لم يترتب على ترك إنفاذه مفسدة، انظر فتح الباري90/1 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 575 وهل هناك فرق بين الوعد والعهد؟ لا شك أن هناك فرقا بينهما في اللغة، إذ العهد، يراد به الأمان واليمين والموثق والذمة والحفاظ والوصية، فتقول: عهد الله علي لأفعلن كذا (1) أما معنى الوعد في اللغة فهو ما تقدم، لذلك قيل للتفريق بين الوعد والعهد: إن العهد يراد به ما تعبد الله به من أمور الدين، أو ما يكون بين العباد مما يكون بخلفه إتلاف مال أو نفس، أو إدخال ضرر كثير. أما الوعد ففيما لا يتعلق ذلك به حق لمخلوق. أو ما لا يؤدي إلى إخلافه كثير ضرر، فمن نقض عهده فذلك من كبائر الذنوب ويبلغ به الهلاك، ومن أخلف وعده كان إثما ولا يبلغ فاعلوه إلى الكفر والهلاك (2) . والله أعلم. ومع ما نقلناه من خلاف بين العهد والوعد، فإن العسقلاني ذكر أنه قد يتحد معناهما (3) . ولعل ما يؤيد هذا الرأي قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (4) . إذ بدأ الذكر الحكيم بقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} فلما أخلفوا رتب عليهم ما رتب، ثم علله بقوله: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} .   (1) انظر مختار الصحاح ص 460 (2) انظر كتاب المصنف المجلد الأول الجزء الثاني ص200 تأليف أبي بكر أحمد بن عبد الله بن موسى الكندري، تحقيق عبد المنعم عامر والدكتور رجاء الله أحمد. (3) انظر فتح الباري1/ 90 (4) سورة التوبة آية 75 - 77 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 576 صيغة الوعد: جاء في فتح العلي المالك: " العدة أن يقول الرجل: أنا أفعل، وأما إذا قال: قد فعلت فهي عطية، وقوله: لك كذا وكذا أشبه بقوله: قد فعلت منه بأنا أفعل " (1) . ومنه يفهم أن الصيغة التي ينبغي استعمالها في الوعد، هي صيغة الاستقبال المقترنة بسوف أو السين، أما اللفظ الماضي فإنه لا ينبئ عن الوعد وإنما هو يفيد التنجيز حالا (2) . على أنه لا يكون استعمال الفعل المضارع دائما يفيد الوعد، بل إن ذلك يعتمد القرائن الموجودة في سياق اللفظ، فإذا كان الفعل المضارع الذي يفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال أنه يفيد الالتزام جزما فهو ليس وعدا، أما إذا وجد مع المضارع ما يفيد إرادة المستقبل فإنه الوعد (3) . مشروعية الوعد: الوعد مباح (4) ، فلكل شخص أن يعد بالمعروف والخير من يشاء من الناس، لكن الذي ينبغي الإشارة إليه هو أن يتحفظ الشخص في إطلاق الوعود. للناس؛ لأن الوفاء بالوعد أمر مستقبل، والشخص لا يملك معرفة أحواله المستقبلية قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} (5) . إذ قد يكون الواعد عاجزًا عن الوفاء فيكون مخلفا للوعد فيوصم بخصلة من خصال النفاق؛ لذلك فإن الإمام الغزالي رحمه الله قد اعتبر وعد الكاذب آفة، إذ يقول: "إن اللسان سباق إلى الوعد، ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفا، وذلك من أمارات النفاق" (6) . هذا فضلا عما يثيره إخلاف الوعد من العداوة بين الواعد والموعود له، وهذا المحذور يؤيده ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ولا تعد أخاك وعدا فتخلفه فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة)) أورد الحديث ابن حزم، وقال بأنه حديث مرسل (7) . ومع أن الإباحة هي الأصل في الوعد لكنه قد يكون محرما إذا كان الموعود به محرما، كالوعد بخمر أو زنا، فإن هذا الوعد محرم، يحرم الوفاء به.   (1) انظر 269/1 (2) انظر قوة الوعد الملزمة في الشريعة والقانون، للأستاذ محمد رضا عبد الجبار، وقد نشر البحث في مجلة كلية الشريعة ببغداد العدد الثامن. (3) انظر فتح العلي المالك 257/1 (4) أحكام القرآن للجصاص 442/3 (5) سورة لقمان الآية 34 (6) إحياء علوم الدين 132/3 (7) انظر المحلى 29/8 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 577 مدى وجوب الوفاء بالوعد: اختلف الفقهاء في الوعد، هل يلزم الواعد به شرعا أم لا؟ وذلك على ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: ذهب فريق من العلماء إلى أن الوفاء بالوعد مستحب مندوب إليه وليس بفرض، فلا يقضى به على الواعد، لكن الإخلال بالوعد يفوت الواعد الفضل، ويرتكب بسبب خلفه هذا المكروه، هذا ما ذهب إليه أبو حنيفة والشافعي وأبو سليمان، وقد استدل أصحاب هذا الرأي بما يلي: أولًا: أخرج الإمام مالك رحمه الله في الموطأ ((أنه قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذب لامرأتي، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا خير في الكذب "، فقال: يا رسول الله: أفأعدها وأقول لها؟ فقال عليه السلام: لا جناح عليك)) (1) . وجه الاستدلال من الرواية كما يذكر القرافي (2) . أ- أن الرسول عليه الصلاة والسلام منع السائل من الكذب المتعلق بالمستقبل ونفى الجناح على الوعد. ب- أن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قد جعله قسيم الكذب، ولو كان منه لما جعله قسيما له. ج- كما يستدل من الرواية على أن إخلاف الوعد لا حرج فيه. د- " لو كان المقصود الوعد الذي يفي به لما احتاج للسؤال عنه ولما ذكره مقرونا بالكذب ". فتبين بأن قصد السائل إصلاح حال امرأته بما لا يفعله، فتخيل الحرج في ذلك فاستأذن عليه.   (1) انظر شرح الزرقاني على الموطأ 408/4 (2) انظر الفروق لشهاب الدين أبي العباس الصنهاجي المشهور بالقرافي طبع دار المعرفة 21/4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 578 وقد أجاب ابن الشاط على استدلال القرافي هذا بما يلي (1) : 1- إن القول بأن الرسول عليه الصلاة والسلام منع السائل من الكذب المتعلق بالمستقبل، غير سليم وهي دعوى لا حجة عليها، ولعل السائل كان قصده من الكذب على زوجته أن يخبرها عن فعله مع غيرها من النساء بما لم يفعله أو غير ذلك مما يقصد به إغاظة زوجته، فلم يتعين أن المراد ما ذكره. كيف وأن ما ذكره هو عين الوعد، وما معنى الحديث إلا أنه صلى الله عليه وسلم " منعه من أن يخبرها بخبر كاذب يقتضي تغييظها به، وسوغ له الوعد؛ لأنه لا يتعين فيه الإخلاف لاحتمال الوفاء به سواء كان عازما عند الوعد على الوفاء أو على الإخلاف أو مضربا عنهما، ويتخرج ذلك في قسم العزم على الإخلاف على الرأي الصحيح ... من أن العزم على المعصية لا مؤاخذة به، إذ معظم دلائل الشريعة يقتضي المنع في الإخلاف" (2) . 2- إن القول بأن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا لجعله قسيم الكذب، غير مسلم أيضًا؛ لأنه جعله قسيم الخبر عن غير المستقبل الذي هو كذب، فكان قسيمه من جهة كونه مستقبلا، وذلك غير مستقبل، أو من جهة كونه قد تعين أنه كذب، والوعد لا تعيين كونه كذبا. 3- أما دعوى إخلاف الوعد لا حرج فيه، فليس بصحيح، بل فيه الحرج بمقتضى ظواهر الشرع إلا حيث يتعذر الوفاء، كما سنرى ذلك من الأدلة. 4- إن القول بأنه لو كان قصد السائل الوعد الذي يفي به لما احتاج السؤال منه ... إلخ، فيجاب عليه، بأن السائل لم يقصد الوعد الذي يفي فيه على التعيين، وإنما قصد الوعد على الإطلاق وسأل عنه؛ لأن الاحتمال في عدم الوفاء اضطرارا أو اختيارا قائم، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم عنه الجناح لاحتمال الوفاء، ثم إن وفى فلا جناح، وإن لم يف مضطرا فكذلك، وإن لم يف مختارا فالظواهر المتظاهرة قاضية بالحرج. 5- إن القول: بأن قصد السائل إصلاح حال امرأته .... إلخ، إن هذا القول غير صحيح، إذ من أين يحصل العلم بأن الزوج لا يفعله وعلى أن يكون في حال الوعد غير متمكن مما وعد به؟ ومن أين يعلم عدم تمكنه منه في المستقبل؟ وإذا تعذر العلم بجميع ذلك، تعين أن يكون سؤال الزوج لاحتمال عدم الوفاء أو العزم على عدم الوفاء، فسوغ له عليه الصلاة والسلام ذلك؛ لأن عدم الوفاء لا يتعين أو لأن العزم على عدم الوفاء على تقدير أن عدم الوفاء معصية، ليس بمعصية (3) .   (1) انظر أدرار الشروق على أنوار الفروق لابن الشاط والمطبوع بأسفل الفروق 21/4 (2) انظر أدرار الشروق على أنوار الفروق 21/4 (3) انظر ابن الشاط في المصدر السابق أيضًا 22/4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 579 ثانيا: ومما استدل به هذا الفريق على قولهم: بأن الوعد غير ملزم، ما أخرجه أبو داود أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((إذا وعد أحدكم أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف فلا شيء عليه)) (1) . وأجيب عن هذا الحديث بما أجيب به عن الحديث الذي سبقه. ثالثا: ومما استدل به أصحاب هذا الرأي أيضا، أن الرجل إذا وعد وحلف واستثنى- بأن قال: إن شاء الله- فقد سقط عنه الحنث بالنص والإجماع المتيقن، فإذا سقط عنه الحنث، دل على أنه لم يلزمه فعل ما حلف عليه. وبما أن الوعد لا يصح بدون استثناء لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (2) . دل على أن من وعد ولم يستثن، فقد عصى الله تعالى في وعده ذلك، ولا يجوز أن يجبر أحد على معصية، فإن استثنى فقال: إن شاء الله تعالى، أو: إلا أن يشاء الله تعالى، أو نحوه مما يعلقه بإرادة الله عز وجل، فلا يكون مخلفا لوعده إن لم يفعل (3) ويجاب على هذا الاستدلال، بأن الاستثناء في الوعد سنة وليس بواجب، ولم ينقل عن أحد من العلماء بأنه يحرم الوعد بغير استثناء، حكى القرطبي عن ابن عطية قوله " وتكلم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين، والآية ليست في الأيمان، وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين " (4) .   (1) انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود 339/3 وذكر ذلك صاحب الفروق أيضًا في 21/4 (2) سورة الكهف آية [23] (3) انظر ابن حزم في المحلى 30/8 (4) انظر الجامع لأحكام القرآن385/ض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 580 المذهب الثاني: وهو رأي الفقيه المالكي ابن شبرمة. ويقضي: بأن الوعد ملزم مطلقا ويجب الوفاء به ديانة وقضاء، حكى ذلك عنه ابن حزم حيث قال: " قال ابن شبرمة: الوعد كله لازم ويقضي به على الواعد ويجبر" (1) . وهو مذهب كثير من فقهاء السلف، منهم الحسن البصري والخليفة عمر بن عبد العزيز، وقضى به سعيد بن عمر بن الأشوع (2) . ونقل ذلك عن الصحابي الجليل سمرة بن جندب رضي الله عنه، وذكر البخاري في صحيحه بأنه رأي إسحاق بن رَاهُوَيْهِ مستدلا بحديث ابن الأشوع في القول بإيجاز الوعد (3) . ووجوب الوفاء بالوعد مطلقا مذهب بعض المالكية وإن وصفوه بأنه مذهب ضعيف (4) . وذهب إلى وجوب الوفاء بالوعد كذلك أبو بكر بن العربي المالكي (5) . وهذه وجهة نظر ابن الشاط المالكي وقد دافع عن رأيه هذا من خلال رده على القرافي (6) . وحكى ابن رجب الحنبلي وجوب الوفاء بالوعد مطلقا عن طائفة من علماء أهل الظاهر وغيرهم (7) . وقال الإمام الغزالي الشافعي: إذا فهم الجزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر وقد يفهم الجزم في الوعد إذا اقترن به حلف أو إقامة شهود على الوعد أو قرائن أخرى (8) .   (1) انظر المحلى 28/8 (2) انظر العيني في عمدة القاري 258/13، وسعيد بن عمرو بن الأشوع بن عمرو الأشوع الهمداني قاضي الكوفة في زمن إمارة خالد القسري على العراق بعد المائة للهجرة وقد مات في ولاية خالد وقد عده ابن حبان في الثقات، وعده يحيى بن معين في المشهورين (3) انظر العيني في المصدر السابق، وكذا صحيح البخاريي بهامش فتح الباري طبعة الحلبي 218/6 (4) انظر فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك 256/1، وكذا القرافي في الفروق 24/4 (5) انظر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 29/18 (6) انظر أدرار الشروق على أنوار الفروق 21/4 (7) انظر جامع العلوم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم ص404 (8) انظر إحياء علوم الدين 123/3 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 581 أدلة أصحاب هذا الرأي: استدل أصحاب هذا الرأي بنصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. 1- فما استدلوا به من الآيات القرآنية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) . وجه الاستدلال من الآية: أن العقود تعني المربوط، واحدها عقد، يقال: عقدت العهد والحبل، والعقد: هو كل ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة، وكل ما كان غير خارج عن الشريعة، وكذا ما عقده الإنسان على نفسه لله من الطاعات. قال الزجاج: " المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض (2) . واستدلوا أيضا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) . فالوعد إذا أخلف، قول نكل الواعد عن فعله، فيلزم أن يكون كذبا محرما وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقا (4) . كما استدل هذا الفريق من العلماء بالآيات التي أثنى الله فيها على من بر بوعده وأوفى بعهده، منها قوله تعالى {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} (5) . وقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (6) . ومدح إسماعيل لصدقه في وعده بقوله عز شأنه: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (7) . وقد حمل أصحاب المذهب الأول هذه الأدلة على الندب والاستحباب (8) .   (1) سورة المائدة آية [1] (2) انظر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 33/6 (3) سورة الصف آية 3 (4) انظر القرافي في الفروق 20/4 (5) البقرة آية 177 (6) النجم آية 337 (7) مريم آية 54 (8) انظر الأستاذ محمد رضا عبد الجبار في بحثه قوة الوعد الملزمة في الشريعة والقانون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 582 2- ومن السنة النبوية التي استدل بها القائلون: بوجوب الوفاء بالوعد ما أخرجه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) وفي رواية: " من علامات المنافق ثلاث ... إلخ " (1) . الدليل في هذه الأخبار، أن إخلاف الوعد قد عده النبي صلى الله عليه وسلم في خصال المنافقين، والنفاق مذموم شرعا، وقد أعد الله للمنافقين الدرك الأسفل من النار، حيث قال جل ثناؤه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (2) . وعلى هذا يكون إخلاف الوعد محرمًا فيجب الوفاء به. وقد صرف بعض شراح الحديث معنى النفاق الوارد في الروايات المذكورة عن حقيقته، فقالوا: إن المراد بإطلاق النفاق، الإنذار والتحذير للمسلم عن ارتكاب هذه الخصال أو اعتيادها والتي يخاف عليه أن تفضي به إلى حقيقة النفاق، وهذا المعنى حكاه الخطابي وارتضاه (3) . كما قال البعض منهم، بأن المراد بالحديث، المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فحدثوا بإيمانهم وكذبوا، وائتمنهم على سره فخانوه ووعدوه بالخروج معه للجهاد فأخلفوه. وقد روى محمد المحرم هذا التأويل عن عطاء، وأنه قال: حدثني به جابر، وذكر أن الحسن رجع إلى قول عطاء هذا عند بلوغه الخبر. وقد رد ابن رجب الحنبلي على كلام محرم هذا بقوله: " هذا كذب والمحرم شيخ كذاب معروف بالكذب" (4) .   (1) انظر العيني في عمدة القاري 258/13، وكذا صحيح البخاري مع فتح الباري 89/1، وكذا صحيح مسلم بشرح النووي 47/2 (2) سورة النساء آية: 145 (3) انظر فتح الباري 1/90، عمدة القاري 1/222 (4) انظر جامع العلوم والحكم ص 403 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 583 فالحديث عام في كل إنسان يظهر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الأكبر، والنفاق الأصغر وهو نفاق العمل، وهو أن يظهر الإنسان علانية صَالِحَهُ ويبطن ما يخالف ذلك. والنفاق هذا ترجع أصوله إلى الخصال المذكورة في هذا الحديث وغيره (1) . واستدل أصحاب هذا الرأي أيضًا بقوله عليه الصلاة والسلام: ((والمسلمون على شروطهم)) (2) ولما كان الوعد مما ألزم به الإنسان نفسه فعلى هذا يلزمه الوفاء. واستدلوا أيضا بما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: ((لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي، فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ أو كانت له قبله عِدَةٌ فليأتنا، قال جابر: فقلت: وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا، فبسط يديه ثلاث مرات، قال جابر: فعد في يدي خمسمائة، ثم خمسمائة، ثم خمسمائة)) (3) . وأخرجه البخاري بلفظ قريب في باب من تكفل عن ميت دَيْنًا (4) . قال العيني: وقد استدل بعض الشافعية على وجوب الوفاء بالوعد في حق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم زعموا أنه من خصائصه ولا دلالة فيه أصلا لا على الوجوب ولا على الخصوصية (5) . ومما استدل به أصحاب هذا الرأي ما أخرج البخاري وذكره في معرض الاحتجاج لوجوب الوفاء بالوعد عن المسور بن مخرمة أنه قال: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر صهرا له فقال: وعدني فوفاني (6) . ومن ذلك أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: ((وَأْيُ المؤمن واجب)) (7) . بمعنى وعده واجب الوفاء به. واستدلوا كذلك بما رواه الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدا فتخلفه)) (8) . وقد حمل أصحاب الرأي الأول الروايات التي استدل بها الفريق الثاني على الندب والاستحباب.   (1) انظر ابن رجب في المصدر السابق (2) ونص الحديث: " والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالًا أو أحل حرامًا " نيل الأوطار 287/6 (3) انظر عمدة القاري 258/13، وصحيح البخاري بشرح فتح الباري 218/6 (4) انظر العيني في عمدة القاري 121/12 (5) انظر العيني في عمدة القاري 121/12 (6) انظر عمدة القاري 258/13، وفتح الباري 218/6 (7) انظر الفروق للقرافي في 4/20 (8) أخرجه الترمذي وقال عنه: حسن غريب، انظر تحفة الأحوذي 131/6، وكذا عارضة الأحوذي 161/8 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 584 المذهب الثالث: التفصيل في وجوب الوفاء بالوعد: ذهب فقهاء المذهب المالكي إلى التفصيل فيما يجب الوفاء به من الوعود وما لا يجب، وكانوا في ذلك فريقين. الفريق الأول: وهو المنقول عن مالك وابن القاسم وسحنون، ويقضي رأيهم: بأن الوعد يكون لازما يجب الوفاء به ويقضي القاضي به على الواعد إذا كان الوعد تم على سبب، ودخل الموعود له بسبب الوعد في شيء. قال القرافي: " اختلف العلماء في الوعد هل يجب الوفاء به شرعا أم لا؟ قال مالك: إذا سألك أن تهب له دينارا فقلت نعم ثم بدا لك، لا يلزمك، ولو كان افتراق الغرماء عن وعد وإشهاد لأجله، لزمك؛ لإبطالك مغرما بالتأخير. قال سحنون: الذي يلزم من الوعد قوله: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبني به، أو: اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو: اشتر سلعة أو تزوج امرأة وأنا أسلفك؛ لأنك أدخلته بوعدك في ذلك، أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به بل الوفاء به من مكارم الأخلاق" (1) . وإذا تنازع الواعد والموعود له فيما يلزم الواعد بسبب وعده، فقد قالوا: إذا اشترى رجل من آخر كَرْمًا فخاف الوضيعة، فأتى المشتري إلى البائع ليستوضعه، فقال له البائع: بع وأنا أرضيك، فإن باع المشتري الكَرْمَ برأس ماله أو بربح، فلا شيء على الواعد، وإن باع بالوضيعة، كان عليه أن يرضيه، " فإن زعم الموعود أنه أراد شيئًا سماه، فله ما أراد اتفاقا، وإن لم يكن أراد شيئا، أرضاه الواعد بما شاء، وحلف بالله أنه ما أراد أكثر من ذلك". وهذا هو رأي أشهب. أما على رأي ابن وهب واستحسنه أصبغ، فإن على الواعد، إرضاء الموعود بما يشبه، أي بالمثل، وهو ما يكون مرضيا عند الناس. أما لو حلف الواعد ليرضينه فإن عليه أن يوفيه بما يرضيه ويرضي الناس (2) .   (1) انظر الفروق 24/4 وما بعدها، كذا ابن عليش في فتح العلي المالك 254/1 (2) انظر فتح العلي المالك 255/1 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 585 الفريق الثاني: ويمثله مذهب أصبغ، وقالوا عنه بأنه مذهب قوي، ويقضي بلزوم الموعود له في مباشرة شيء. نقل ذلك ابن عليش المالكي حيث قال: والقول بأنه يقضي بها إذا كانت على سبب وإن لم يدخل بسببها في شيء هو قول أصبغ في كتاب العِدَة (1) . فعلى هذا الرأي، لو قال رجل لآخر: إن غرمائي يلزمونني بِدَيْنٍ فأسلفني أقضهم، فوعده المقابل، ثم بدا له الرجوع، فإن على مذهب أصبغ يجب الوفاء؛ لأنه وعد على سبب، وعلى مذهب مالك ومن وافقه، لا يجب؛ لأن الموعود له لم يدخل في شيء إلا إذا أعتقد منه الغرماء على موعد أو أشهد بإيجاب ذلك على نفسه (2) . وحجة المالكية في تفصيلهم هذا، أن النصوص الشرعية بهذا الصدد قد تعارضت، فمنها ما أوجب الوفاء بالوعد مطلقا، وهي الأدلة التي ساقها موجبو الوفاء بالوعد، ومنها ما لم يجعل إخلاف الوعد من الكذب كحديث الموطأ وأبي داود. وأما قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [سورة الصف: 3] فإنها نزلت في قوم كانوا يقولون: جَاهَدْنَا، وما جاهدوا، وفعلنا أنواع الخيرات وما فعلوا (3) . ولا شكل أن هذا محرم؛ لأنه كذب. وأما كون مخلف الوعد منافقا فهو محمول على حالة كون الإخلاف سجية له أو تعمدا فكان لابد من حمل هذه النصوص على خلاف ظاهرها، وأن يجمع بين الأدلة. فوافق هذا الرأي من أوجب الوفاء بالوعد إذا كان الوعد على سبب وباشره، ووافق من لم يلزم الوفاء بالوعد فيما عداها من الوعود المجردة، هكذا ذكر القرافي (4) . وقد رد ابن الشاط على كلام القرافي هذا، حيث قال: بأنه ينبغي الجمع بين الأدلة وتأويل ما يناقض ذلك، فيحمل حديث الموطأ وأبي داود بما يتسق مع الآية. وحديث خصال المنافق، وذلك بأن تكون المسامحة في إخلاف الوعد اضطرارا (5) . وقد انتقد ابن حزم تقسيم المالكية هذا وتفصيلهم، حيث قال: " بأنه لا وجه له ولا برهان يعضده لا من قرآن ولا سنة ولا قول صحابي ولا قياس، فإن قيل قد أضر الواعد بالموعود إذ كفله من أجل وعده عملا ونفقة، قلنا: فهب أنه كما تقولون، فمن أين وجب على من ضر بآخر وظلمه وغره أن يغرم له مالا (6) . وقول ابن حزم هذا غير مسلم، فلقد ساق أصحاب الرأي الثاني من الأدلة ما فيه الكفاية، للقول بلزوم الوفاء بالوعد.   (1) انظر فتح العلي المالك، وكذا القرافي في الفروق 25/4 (2) انظر ابن عليش في فتح العلي المالك أيضًا وكذا القرافي في الفروق أيضًا (3) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 77/18 (4) انظر الفروق 25/4 (5) انظر حاشية ابن الشاط على الفروق 25/4 (6) انظر المحلى 48/8 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 586 الرأي الراجح: لقد تبين لنا من خلال ما نقلنا عن أئمة الفقه رحمهم الله تعالى، أنهم اتجهوا ثلاثة اتجاهات في القول بإلزام الواعد بالوفاء بوعده أو عدم إلزامه، ومن خلال ما استدل به كل فريق من أدلة، فقد تبين لنا وجاهة الرأي القائل: بوجوب الوفاء بالوعد مطلقا وكما يلزم الواعد بالوفاء بوعده ديانة، يلزم قضاء، وذلك لرجحان الأدلة التي ساقها أصحاب هذا الرأي (1) . إلا أنه خروجا عن خلاف الفقهاء وجمعا بين الأدلة التي ذكرها القائلون بوجوب الوفاء بالوعد، والذاهبون إلى خلاف ذلك، فإني أؤيد وجهة نظر الإمام مالك ومن نحا منحاه في الرأي من فقهاء المذهب القائلة: بأن الوعد إن أدخل الموعود في سبب لزم صاحب الوعد الوفاء بوعده، وكذا لو وعده مقرونا بذكر السبب، كما قال أصبغ، وذلك لتأكد العزم على الدفع حينئذ. والله سبحانه وتعالى أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الدكتور إبراهيم فاضل الدبو   (1) وهذا مذهب ابن شبرمة ومن نحا نحوه، وقد أخذ رجال القانون بهذا الرأي أيضا انظر في ذلك، مسألة الوعد بالتعاقد نظرية العقد للدكتور السنهوري ص262 وكذا الوسيط للمؤلف نفسه 265/1، وكذا أصول الالتزام للدكتور حسن علي الذنون - مطبعة المعارف - بغداد، وكذا الوسيط في نظرية العقد للدكتور عبد المجيد الحكيم 192/1. ترك إنقاذه مندة، انظر فتح الباري 90/1 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 587 مراجع البحث بعد القرآن الكريم 1- الجامع لأحكام القرآن- لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. الطبعة الثالثة – دار الكتاب العربي للطباعة والنشر 1387هـ – 1967م. 2- عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني إدارة الطباعة المنيرية. 3- فتح الباري بشرح صحيح البخاري- العسقلاني – مطبعة البابي الحلبي. 4- صحيح مسلم بشرح النووي- دار الفكر بيروت. 5- إحياء علوم الدين لأبي حامد محمد الغزالي- المكتبة التجارية الكبرى بمصر. 6- فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ محمد عليش- الطبعة الأخيرة 1378هـ- 1958م. 7- الفروق لأبي العباس الصنهاجي القرافي مع حاشية قاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط مع تهذيب الفروق لمحمد بن الشيخ حسين. دار المعرفة للطباعة والنشر في بيروت. 8- المحلى- لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم- المكتب التجاري. 9- جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي. نشر دار العلوم الحديثة، بيروت ودار الشرق الجديد بغداد. 10- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوري- نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. 11- من مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، لعلي بن سلطان محمد القارني – النشر مكتبة الإسلامية. 12- الموطأ- للإمام مالك بهامش كتاب المنتقى للباجي، الطبعة الأولى. 13- بحث في قوة الوعد الملزمة في الشريعة والقانون- للأستاذ محمد رضا عبد الجبار العاني، والمنشور في مجلة كلية الشريعة ببغداد، العدد الثامن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 588 14- نظرية العقد للدكتور السنهوري. 15- أصول الالتزام. للدكتور حسن علي علي الذنون،. طبعة المعارف ببغداد. 16- الوسيط في نظرية العقد، للدكتور عبد المجيد الحكيم، ببغداد. 17- الوسيط. الدكتور السنهوري. 18- أحكام القرآن، لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص، الناشر دار المصحف، مطبعة عبد الرحمن محمد بالقاهرة. 19- شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، لسيدي محمد الزرقاني، الناشر المكتبة التجارية الكبرى، تاريخ الطبع 1355هـ – 1936 م. 20- عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، الناشر محمد عبد المحسن، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. 21- نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للشوكاني. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 589 الوفاء بالوعد إعداد الدكتور عبد الله محمد عبد الله بسم الله الرحمن الرحيم التعريف: قال في لسان العرب: وعده الأمر وبه عدة ووعدا وموعدا وموعدة وموعودا وموعودة – وهو من المصادر التي جاءت على مفعول ومفعولة كالمحلوف والمرجوع والمصدوقة والمكذوبة. قال ابن جني: ومما جاء في المصادر مجموعا معملا قوله: مواعيد عرقوب أخاه بيثرب. والوعد من المصادر المجموعة، قالوا: الوعود، حكاه ابن جني. وقال ابن فارس في المقاييس: الوعد لا يجمع (1) . وقرأ قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} البقرة (51) وعدنا بغير ألف. وهي قراءة ابن عمرو، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي: واعدنا – بالألف. قال ابن إسحاق: اختار جماعة من أهل اللغة: (وإذ وعدنا) بغير ألف. وقالوا: إنما اخترنا هذا؛ لأن المواعدة إنما تكون من الآدميين فاختاروا وعدنا، وقالوا: دليلنا قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} . [إبراهيم: 22] . وما أشبهه. قال: وهذا الذي ذكروه ليس مثل هذا، وأما واعدنا هذا فجيد؛ لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فهو من الله وعد، ومن موسى قبول واتباع، فجرى مجرى المواعدة. قال الأزهري: من قرأ وعدنا، فالفعل لله تعالى، ومن قرأ واعدنا، فالفعل من الله تعالى ومن موسى. وقال ثعلب: فواعدنا من اثنين، ووعدنا من واحد. وقال أبو معاذ: واعدت زيدا إذا وعدك ووعدته، ووعدت زيدا إذا كان الوعد منك خاصة (2) .   (1) معجم مقاييس اللغة 6-125 مادة وعد (2) لسان العرب 3-462 مادة وعد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 590 وفي الاصطلاح هو قريب من التعريف اللغوي. قال ابن عرفة: المواعدة، قال ابن رشد: أن يعد كل واحد منهما صاحبه؛ لأنها مفاعلة لا تكون إلا من اثنين (1) . وذكر الخطاب تعريفًا آخر فقال: العِدَة إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل (2) . حكمها: عقد الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري - رحمه الله تعالى – في جامعه الصحيح في كتاب الشهادات بابًا قال فيه (باب من أمر بإنجاز الوعد) قال: وفعله الحسن البصري أي أمر به وذكر الآية الكريمة: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] قال: وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة، وقال المسور ابن مخرمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم – وذكر صهرًا له فقال: " وعدني فوفاني " قال أبو عبد الله: رأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن الأشوع. حدثني إبراهيم بن حمزة، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله: أن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما- أخبره وقال: أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبي. ثم عقد بابا آخر ذكر فيه حديث أبي هريرة في آية المنافق. وحديث جابر في قصته مع أبي بكر فيما وعده به النبي – صلى الله عليه وسلم – من مال البحرين. وحديث ابن عباس في أي الأجلين قضى موسى. قال الإمام ابن حجر في صنيع البخاري هذا: وجه تعليق هذا الباب بأبواب الشهادات أن وعد المرء كالشهادة على نفسه: (3) وذلك نقلا عن الكرماني (4) ذكر نحوه عن الكرماني بدر الدين العيني (5) .   (1) التاج والإكليل لمختصر خليل للمواق على هامش مواهب الجليل للحطاب 3-412 (2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص153 (3) فتح الباري 6-217 (4) لم أجده في شرح الكرماني (5) عمدة القاري 11-174 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 591 مذاهب العلماء في حكم إنجاز الوعد اختلف العلماء في حكم هذه المسألة على مذاهب: * المذهب الأول: وهو مذهب الجمهور وهو أنه لا يلزم الوفاء وأن الأفضل لو وفى به ويكره الخلف، وبه قال أبو حنيفة والشافعي والأوزاعي وسائر الفقهاء. (1) . * المذهب الثاني: يلزم الوفاء به ويقضى به على الواعد ويجبر، وهو قول ابن شبرمة قال في المحلى (2) وعمر بن عبد العزيز حكاه عنه ابن عبد البر وابن العربي ذكره ابن حجر (3) . وأصبغ قال: يلزمه في ذلك ما وعد. ومالك قال: ولو كان في قضاء دَيْنٍ فسأله أن يقضي عنه، فقال: نعم، وثَمَّ رجال يشهدون عليه، فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان. وهو قول سحنون قال: الذي يلزمه في العدة في السلف والعاريَّة أن يقول لرجل: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبنيها به، أو: اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو: اشتر سلعة كذا، أو تزوج وأنا أسلفك، كل ذلك مما يدخله فيه ويتشبه به فهذا كله يلزمه: (4) .   (1) تفسير القرطبي 11-116، عمدة القاري 11-60 (2) المحلى 5-33 مسألة رقم 1125 (3) فتح الباري 6-217 (4) عمدة القاري 11-.6 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 592 وقال ابن حجر: وقرأت بخط أبي – رحمه الله – في إشكالات على الأذكار للنووي ولم يذكر جوابا عن الآية يعني قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] . وحديث " آية المنافق ". قال: والدلالة للوجوب منها قوية، فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد؟ وينظر هل يمكن أن يقال: يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي: يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك (1) . وذكر البخاري أن الحسن البصري فعل إنجاز الوعد، وأن ابن الأشوع (2) كان يقضي بإنجاز الوعد. وكان إسحاق ابن إبراهيم بن راهويه يحتج بحديث سمرة في القول بوجوب إنجاز الوعد (3) . وقال العيني في عمدة القاري: وفي (تاريخ المستملي) أن عبد الله بن شبرمة قضى على رجل بوعد وحبسه فيه وتلا: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} . [الصف:3] . * المذهب الثالث: قال ابن العربي: والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر (4) .   (1) فتح الباري 6-217 (2) هو سعيد بن عمرو بن الأشوع الهمداني قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق، وذلك بعد المائة مات في ولاية خالد، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يحيى بن معين: مشهور يعرفه الناس (عمدة القاري 11-174 (3) فتح الباري 6-218، عمدة القاري 11- 174، 175 (4) أحكام القرآن لابن العربي 4- 1787، 1788. وتفسير القرطبي 18-79 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 593 أدلة المذاهب أدلة المذهب الأول: إن الوفاء بالوعد وإن كان يستحق صاحبه الحمد والشكر، وعلى الخلف الذم، وإن الله تعالى قد أثنى على من صدق وعده، ووفى بنذره، وإن العرب وكذلك سائر الأمم تمتدح بالوفاء وتذم بالخلف والغدر. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((العِدَةُ دَيْنٌ)) إلا أن ذلك لا يخرجه عن كونه مندوبا إليه وليس بواجب، وقد اتفق العلماء على أن الموعود لا يضارب بما وعد به من الغرماء (1) . وقالوا: إن العدة منافع لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها (2) . واستندوا أيضا إلى الإجماع على أن إنجاز الوعد مندوب إليه وليس بفرض (3) . أدلة من قال بالوجوب: استدلوا أولا بقوله تعالى {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف آية: 3] . وقالوا: إن سبب نزولها أنهم كانوا يقولون: لو نعلم أي الأعمال أفضل أو أحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال ابن العربي وهو حديث لا بأس به. وروي عن مجاهد أن عبد الله بن رواحة لما سمعها قال: لا أزال حبيسًا في سبيل الله حتى أقتل (4) .   (1) فتح الباري 6-217 (2) عمدة القاري 11-60 (3) فتح الباري 6-217 (4) أحكام القرآن لابن العربي 4-1788، تفسير القرطبي 18-79 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 594 واستدلوا ثانيا بحديث الصحيحين، عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)) وحديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من علامة النفاق ثلاثة وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ". (1) . وقد نوقشت أدلتهم من قبل الجمهور فقال ابن حزم: أما الحديثان اللذان صدر بهما فصحيحان إلا أنه لا حجة فيهما؛ لأنهما ليسا على ظاهرهما؛ لأن من وعد بما لا يحل، أو عاهد على معصية فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك، فصح أن ليس كل من وعد فأخلف أو عاهد فغدر مذموما ولا ملوما ولا عاصيا بل قد يكون مطيعا، فإذا كان ذلك كذلك فلا يكون فرضا من إنجاز الوعد والعهد إلا على من وعد بواجب عليه كإنصاف من دَيْنٍ أو أداء حق فقط. وأيضا فإن من وعد وحلف (واستثنى فقط سقط عنه الحنث بالنص والإجماع المتيقن) فإذا سقط عنه الحنث لم يلزمه فعل ما حلف عليه، ولا فرق بين وعدٍ أقسم عليه وبين وعدٍ لم يقسم عليه. والآية محمولة على ما يلزمهم. (2) . وناقش ابن حجر الجمهور في مستنده الإجماع فقال، نقل الإجماع في ذلك مردود فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل (3) .   (1) المحلى 5-34 (2) المحلى 5-35 (3) فتح الباري 6-217 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 595 المواعدة في المذهب المالكي المذهب المالكي أحد المذاهب الإسلامية الكبرى الواسعة الانتشار، وخاصة في المغرب ومصر وغيرهما من أقطار العالم الإسلامي. نقل الشيخ محمد أبو زهرة عن المدارك للقاضي عياض: قوله: (غلب مذهب مالك على الحجاز والبصرة ومصر وما والاها من بلاد إفريقية والأندلس وصقليه والمغرب الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان إلى وقتنا هذا، وظهر ببغداد ظهورا كثيرا وضعف بها بعد أربعمائة سنة، وضعف بالبصرة بعد خمسمائة سنة وغلب في بلاد خراسان على قزوين أبهر، وظهر بنيسابور، وكان بها وبغيرها أئمة ومدرسون) (1) . وقد تكلم الفقهاء المالكيون أكثر من غيرهم عن حكم العدة أو المواعدة بتفصيل لا نجده عند غيرهم، ولعل مرجع هذا إلى أن المصلحة في هذا المذهب أصل من الأصول التي قام عليها، خاصة في الأحكام الشرعية المتعلقة بالمعاملات الجارية بين بني الإنسان بعضهم مع بعض، وهو ما يسمى في اصطلاح الفقهاء بالعادات، وأن الأصل في هذا القسم هو الالتفات إلى المعاني والبواعث التي شرعت من أجلها الأحكام. قال الشاطبي: إنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد والأحكام العادية تدور معها حيث دارت، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز، كالدرهم بالدرهم إلى أجل يمتنع في المبايعة، ويجوز في القرض، وبيع الرطب باليابس وحيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة، ويجوز إذا كانت فيه مصحلة راجحة، وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:179] . وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وفي الحديث ((لا يقضي القاضي وهو غضبان)) و ((لا ضرر ولا ضرار)) وقال ((القاتل لا يرث)) ((ونهى عن بيع الغرر)) وقال ((كل مسكر حرام)) وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91] إلى غير ذلك مما لا يحصى من الأحكام والنصوص، وكلها تشير إلى الصريح باعتبار المصالح أساسًا للإذن والنهي، وأن الإذن دائر معها أينما دارت.   (1) مالك تأليف محمد أبو زهرة ص459 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 596 وإن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في بيان أحكام المعاملات بين الناس، والأمور العادية بينهم، وأكثر ما علل به الحكم المناسبة التي تتصل بالمصالح، والتي تتلقاها العقول بالقبول. ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني، لا الوقوف مع النصوص، بخلاف باب العبادات فإن المعلوم فيه خلاف ذلك، وقد توسع في هذا القسم مالك – رحمه الله- حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة وقال فيه بالاستحسان، ونقل عنه أنه قال: (إنه تسعة أعشار العلم) (1) . وقد استوعب الإمامان: أبو العباس الونشريسي وأبو عبد الله محمد الحطاب، بتركيز شديد أحكام العدة أو المواعدة، في كتابيهما إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، للأول وتحرير الكلام في مسائل الالتزام، للأخير وسأقتصر في اقتناص أهم ما أورداه في الموضوع: قال الحطاب: وأما العدة فليس في إلزام الشخص نفسه شيئا الآن، وإنما هي كما قال ابن عرفة: إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل، ولا خلاف في استحباب الوفاء بالوعد. فالوفاء بالعدة مطلوب بلا خلاف، واختلف في وجوب القضاء بها على أربعة أقوال، حكاها ابن رشد في كتاب جامع البيوع وفي كتاب العارية وفي كتاب العدة، ونقلها عنه غير واحد. القول الأول: - يقضى بها مطلقا. القول الثاني: - لا يقضى بها مطلقا. القول الثالث: - يقضى بها إن كانت على سبب، وإن لم يدخل الموعود لسبب العدة في شيء كقولك أريد أن أتزوج، أو أن أشتري كذا، أو أن أقضي غرمائي فأسلفني كذا، أو أريد أن أركب غدا إلى مكان كذا فأعرني دابتك، أو أن أحرث أرضي فأعرني بقرتك، فقال نعم ثم بدا له قبل أن يتزوج، أو أن يشتري أو أن يسافر فإن ذلك يلزمه ويقضى عليه به ما لم تترك الأمر الذي وعدك عليه، وكذا لو لم تسأله، وقال لك هو من نفسه أنا أسلفك كذا أو أهب لك كذا لتتزوج أو لتقضي دينك أو نحو ذلك فإن ذلك يلزمه ويقضى عليه به. ولا يقضى بها إن كانت على غير سبب، كما إذا قلت أسلفني كذا ولم تذكر سببا، أو أعرني دابتك، أو بقرتك ولم تذكر سببا ولا سفرا ولا حاجة فقال نعم ثم بدا له أو قال هو من نفسه أنا أسلفك كذا أو أهب لك كذا ولم يذكر سببا ثم بدا له. القول الرابع: - يقضى بها إن كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العدة في شيء وهذا هو المشهور في الأقوال (2) .   (1) الموافقات 2/305،307 (2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص153- 155 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 597 الأمثلة المثال الأول: قال أصبغ: سمعت أشهب وسئل عن رجل اشترى من رجل كرمًا فخاف الوضيعة فأتى ليستوضعه فقال له بع وأنا أرضيك، قال: فإن باع برأس ماله أو بربح فلا شيء عليه. وإن باع بوضيعة كان عليه أن يرضيه، فإن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد، وإن لم يكن أراد شيئا أرضاه بما شاء وحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما أراد أكثر من ذلك، وإن لم يكن أراد شيئًا يوم قال ذلك. قال أصبغ: وسألت عنها ابن وهب فقال: عليه رضاه بما يشبه ثمن تلك السلعة والوضيعة فيها. قال أصبغ: وقول ابن وهب هو أحسن عندي، وهو أحب إلي إذا وضع فيها. قال محمد بن رشد: قوله بعه وأنا أرضيك عدة، إلا أنها عدة على سبب وهو البيع، والعدة إذا كانت على سبب لزمت لحصول السبب في المشهور من الأقوال وقد قيل: إنها لا تلزمه بحال. وقيل: إنها تلزمه على كل حال. وقيل: إنها تلزم إذا كانت على سبب، وإن لم يحصل السبب. وقول أشهب إن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد يريد مع يمينه. ومعناه: إذا لم يسم شيئا يسيرا لا يشبه أن يكون أرضاه، والدليل على أنه يحلف على مذهبه إذا قال: أردت كذا وكذا، لما يشبه قوله إنه إن لم يكن أراد شيئا أرضاه بما شاء، وحلف أنه ما أراد أكثر من ذلك، وجوابه هذا على أصله في كثير من مسائله إذ لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه واليمين في هذا يمين تهمة إذ لا يمكن المستوضع أن يدعي بينه فيحقق الدعوى عليه بخلاف ما ذكر أنه أراده فيدخل فيه من الخلاف ما يدخل في يمين التهمة. وأما ابن وهب: فأخذه بمقتضى ظاهر لفظه وألزمه إرضاءه إلا أن لا يرضى بما يقول الناس فيه إنه أرضاه فلا يصدق أنه لم يرض، ويؤخذ بما يقول الناس فيه إنه أرضاه. هذا معنى قوله: ولو حلف ليرضينه لم يبر إلا باجتماع الوجهين وهما أن يضعا عنه ما يرضى به، وما يقول الناس فيه إنه أرضاه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 598 المثال الثاني: إذا قال: إن غرمائي يلزمونني بدين فأسلفني أقضينهم. فقال: نعم، ثم بدا له. فقال أصبغ في سماع عيسى من كتاب العدة يلزمه ذلك ويحكم به عليه وهو جار على قوله بلزوم العدة إذا كانت على سبب وإن لم يدخل بسببها في شيء. وقال ابن القاسم: إنما يلزمه إذا اعتقد الغرماء منه على وعد أو أشهر به على نفسه وذلك على أصله في أنه لا يقضى بالعدة إلا إذا دخل بسببها في شيء. ولو قال: أشهدكم أني فاعل أو أفعل، فظاهر كلام مالك في سماع ابن القاسم من العارية أنه تردد في الحكم عليه بذلك، وأن الظاهر اللزوم. وقال ابن رشد: ولو قال: أشهدكم أني قد فعلت لما وقف في إيجابه عليه ولزوم القضاء به (1) . المثال الثالث: قال أصبغ في سماع عيسى من كتاب العدة: لو سألك مداينك أن تؤخره إلى أجل كذا وكذا فقلت: أنا أؤخرك لزمك تأخيره إلى الأجل، قلت: سواء قلت: أنا أؤخرك أو: قد أخرتك، قال: نعم، سواء في الحكم عليه غير أن قولك: أنا أؤخرك عدة تلزمك، وقولك: قد أخرتك، شيء واجب عليك كأنه في أصل حقك لم تبتدئه الساعة، وكلاهما يلزمك الحكم به غير أن قولك: قد أخرتك أوجبهما وأوكدهما (2) . وقال الونشريسي في القاعدة الخامسة والستين: - الأصل منع المواعدة بما لا يصح وقوعه في الحال حماية، ومن ثَمَّ منع مالك المواعدة في العدة وعلى بيع الطعام، ووقت نداء الجمعة وعلى ما ليس عندك. وفي الصرف مشهورها المنع، وثالثها الكراهة، وشهرت أيضا لجوازه في الحال، وشبهت بعقد فيه تأخير، وفسرت به المدونة (3) .   (1) تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص 157 - 158 (2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص 159 (3) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص 278 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 599 المواعدة في مذهب الأحناف المعروف عن الحنفية أنهم لا يقولون بوجوب إنجاز الوعد، قال بدر الدين العيني: أما الوعد فاختلف الفقهاء فيه، قال أبو حنيفة والشافعي والأوزاعي: لا يلزم من العدة؛ لأنها منافع لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها. (1) وقال: وقد تنزل الهبة التي لم تقبض بمنزلة الوعد بها. وقال المهلب: إنجاز الوعد مندوب إليه وليس بواجب، والدليل على ذلك اتفاق الجميع على أن من وعد بشيء لم يضرب به مع الغرماء، ولا خلاف أنه مستحسن ومن مكارم الأخلاق. (2) ونصت مجلة الأحكام العدلية في المادة 171 على أن صيغة الاستقبال التي هي بمعنى الوعد المجرد مثل: سأبيع وأشتري لا ينعقد بها البيع، قال شراحها المرحوم علي حيدر: صيغة الاستقبال في اللغة العربية هي المضارع المقترن بالسين أو سوف كأن يقال: سأبيعك أو سوف أبيعك، وإنما لا ينعقد البيع بها؛ لأنها وعد مجرد وفي معنى المساومة في البيع. (3) لكن ذهب فريق منهم إلى القول بلزوم المواعيد لحاجة الناس إليها، وأما الحاجة التي دعتهم إلى القول بلزومها فهي بمناسبة البيع الذي اعتاده أهل سمرقند ويسمونه بيع الوفاء. وقد اختلفوا فيه على أقوال، وقد ذكر في البزازية تسعة أقوال في بيع الوفاء، والمعروف في كتبهم أن بعضهم يعتبره رهنًا، وهو القول المعتبر عند فقهائهم وبعضهم يراه بيعًا، قال قاضيخان: الصحيح أن العقد الذي جرى بينهما إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنًا؛ لأن كلًّا منهما عقد مستقل شرعًا لكل منهما أحكام مستقلة بل يكون بيعًا. (4)   (1) عمدة القاري 11 - 60 (2) عمدة القاري ص 61 (3) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1- 120 (4) درر الحكام شرح مجلة الأحكام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 600 ومبنى الخلاف على اعتباره رهنًا أو بيعًا، هو الخلاف في أن العبرة في العقود، هل هو للمقاصد والمعاني أم للألفاظ والمباني؟ فمن قال بالأول قال: إن بيع الوفاء هو في الحقيقة رهن، والمبيع في يد المشتري كالرهن في يد المرتهن لا يملكه، ولا يطلق له في الانتفاع إلا بإذن مالكه، وهو ضامن لما أكل من ثمره واستهلكه من شجره، والدَّيْن يسقط بهلاكه إذا كان به وفاء الدَّيْن، ولا ضمان عليه في الزيادة إذا هلك عن غير صنعه، وللبائع استرداده إذا قضي دَيْنه، لا فرق بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام؛ لأن المتعاقدين وإن سمياه بيعًا ولكن غرضهما الرهن والاستيثاق بالدَّيْن؛ لأنَّ البائع يقول لكل أحد بعد هذا العقد: رهنت ملكي فلانًا، والمشتري يقول: ارتهنت ملك فلان، والعبرة في التصرفات للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. (1) ومن قال: العبرة للألفاظ اعتبره بيعًا جاء في مجموع النوازل: اتفق مشايخنا في هذا الزمان على صحته بيعًا على ما كان عليه بعض السلف؛ لأنهما تلفظا بلفظ البيع من غير ذكر شرط فيه، والعبرة للملفوظ نصًّا دون المقصود، فإن من تزوج امرأة ومن نيته أن يطلقها بعدما جامعها صح العقد. (2) وهؤلاء احتاجوا إلى القول بلزوم المواعدة؛ لأن المتعاقدين وفاء يشترطون الفسخ في العقد والبيع يفسد بالشروط عندهم. قالوا: وكذا يفسد أيضًا إن لم يشترط الفسخ، ولكن تلفظا بلفظ البيع بشرط الوفاء؛ لأن هذا الشرط مفسد له. أو تلفظا بالبيع الجائز وعندهما أي والحال أن في زعمها هو بيع غير لازم، فإنه أيضًا يفسد حينئذ بزعمهما.   (1) جامع الفصولين 1-234، درر الحكام شرح غرر الأحكام لملا خسرو 2 - 207 (2) جامع الفصولين 1-234، درر الحكام شرح غرر الأحكام لملا خسرو 2 - 207 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 601 قالوا: وإن ذكر العاقدان البيع من غير شرط، ثم ذكراه أي الشرط على وجه الميعاد جاز، أي البيع لخلوه عن المفسد ويلزم الوفاء به؛ لأن المواعيد قد تكون لازمة فيجعل هذا الميعاد لازمًا لحاجة الناس. (1) وقال في الأشباه والنظائر في كتاب الحظر والإباحة: الخلف في الوعد حرام كذا في أضحية الذخيرة وفي القنية: وعده أن يأتيه فلم يأته لا يأثم ولا يلزم الوعد إلا إذا كان معلقًا كما في كفالة البزازنة، وفي بيع الوفاء كما ذكره الزيلعي. (2) ونصت مجلة الأحكام العدلية في المادة (84) على أن المواعيد بصور التعاليق تكون لازمة لأنه يظهر فيها حينئذ معنى الالتزام والتعهد. قال الشيخ علي حيدر: يفهم من هذه المادة أنه إذا علق وعدًا على حصول شيء أو على عدم حصوله فثبوت المعلق عليه أي: الشرط كما جاء في المادة (82) يثبت المعلق أو الموعود. مثال ذلك: لو قال رجل لآخر: بع هذا الشيء من فلان وإذا لم يعطك ثمنه فأنا أعطيك إياه. فلم يعطه المشتري الثمن لزم على الرجل أداء الثمن المذكور بناء على وعده. (3) أما إذا كان الوعد وعدًا مجردًا أي: غير مقترن بصورة من صور التعليق فلا يكون لازمًا. مثال ذلك: لو باع شخص مالًا من آخر بثمن المثل أو بغبن يسير، وبعد أن تم البيع وعد المشتري البائع بإقالته من البيع إذا رد له الثمن، فلو أراد البائع استرداد المبيع وطلب إلى المشتري أخذ الثمن وإقالته من البيع فلا يكون المشتري مجبرًا على إقالة البيع بناء على ذلك الوعد؛ لأنه وعد مجرد.   (1) درر الحكام شرح غرر الأحكام 2 – 208، جامع الفصولين 1 - 236 (2) الأشباه والنظائر ص 288 (3) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 - 77 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 602 كذلك: لو قال شخص لآخر: ادفع دَيْنِي من مالك والرجل وعده بذلك ثم امتنع عن الأداء فلا يلزم بوعده هذا على أداء الدَّيْن (1) ويستثنى من هذا الحكم مسألة واحدة في بيع الوفاء وقد سبق بيانها. مسائل متفرقة في العدة ذكرها ابن حزم في المحلى: قال في المسألة 1457: ولا يحل بيع سلعة لآخر بثمن يحده له صاحبها، فما استزاد على ذلك الثمن فلمتولي البيع. ومن تفريعاتها: لو قال له: بعه بكذا أو كذا، فإن أخذت أكثر فهو لك. فليس شرطًا والبيع صحيح، وهو عدة لا تلزم ولا يقضى بها؛ لأنه لا يحل مال أحد بغير رضاه، والرضا لا يكون إلا بمعلوم، وقد يبيعه بزيادة كثيرة لا تطيب بها نفس صاحب السلعة إذا علم مقدارها. (2) وقال في المسألة 1501 – القواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة، وفي بيع الفضة بالفضة وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز، تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا؛ لأن القواعد ليس بيعًا، وكذلك المساومة أيضًا جائزة تبايعا أو لم يتبايعا؛ لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك، وكل ما حرم علينا قد فصل باسمه قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] . فكل ما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال بنص القرآن، وإذ ليس في الدين إلا فرض أو حرام أو حلال فالفرض مأمور به في القرآن والسنة، والحرام مفصل باسمه في القرآن والسنة، وما عدا هذين فليس فرضًا ولا حرامًا فهو بالضرورة حلال، إذ ليس هنالك قسم رابع (3) والله سبحانه وتعالى أعلم. هذا ما يسر الله الكريم به، والحمد لله أولًا وآخرًا وصلى الله على خاتم النبيين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الدكتور عبد الله محمد عبد الله   (1) درر الحكام شرح غرر الأحكام 1 - 77 (2) المحلى 5 - 497 (3) المحلى 5- 597 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 603 الوفاء بالوعد في الفقه الإسلامي تحرير النقول ومراعاة الاصطلاح إعداد الدكتور نزيه كمال حماد بسم الله الرحمن الرحيم 1- إن تحرير الأحكام الشرعية المتعلقة بالوعد من حيث وجوب الوفاء به ديانة أو استحبابه، أو من حيث القوة الملزمة له في القضاء والحكم تقتضينا تناول ألفاظه الاصطلاحية المتعددة التي يستعملها سائر الفقهاء أو بعضهم بالبيان والتفصيل وهي (العدة، المواعدة، الوعد) وذلك من أجل الوصول إلى فقه محكم في المسألة، بعيد عن الاختلاط والتداخل، قد تميز فيه محل الوفاق عن مواطن النزاع، وتبين فيه الموقف الأخلاقي والموجب الدياني من الحكم القضائي حيث يوجد التباين أو يقع الفرق، وبذلك يمكننا إبراز الأحكام الشرعية في القضية واضحة جلية، لا لبس فهيا ولا خلل يعتريها ... 2- وإن كون هذه الألفاظ الثلاثة مشتقة من مادة لغوية واحدة تدل في أصل الوضع " على ترجيةٍ بقول" كما قال ابن فارس (1) لا يسلتزم كون دلالتها الاصطلاحية واحدة؛ لأن تواضع الفقهاء أو بعضهم على مدلول شرعي متميز لكل كلمة قد نقل معناه اللغوي وحوله إلى معنى اصطلاحي جديد، ربما كان أخص أو أضيق شمولا واستيعابا.   (1) معجم مقاييس اللغة 6/125 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 604 (أ) العدة 3- العدة في لغة العرب معناها الوعد، يقال: وعدت فلانًا بكذا ... والاسم منه العدة، فالعدة اسم منقوص من الوعد يحمل معناه دون زيادة أو نقصان (1) . 4- أما في الاصطلاح الفقهي، فقد درج على استعمالها المالكية بدلالة خاصة وهي " الإعلان عن رغبة الواعد في إنشاء معروف في المستقبل يعود بالفائدة والنفع على الموعود". قال الحطاب في كتابه " تحرير الكلام في مسائل الالتزام ": " وأما العدة فليس فيها إلزام الشخص نفسه شيئًا الآن، وإنما هي كما قال ابن عرفة: إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل " (2) . فالعدة إذًا عند فقهاء المالكية هي عبارة: أ- عن تصرف شرعي قولي يتم بالإرادة المنفردة. ب- قوامه تعهد شخصٍ بلفظ الإخبار بأن يسدي لغيره معروفًا مجانًا دون مقابل. جـ- في المستقبل لا في الحال. 5- أما حكم العدة من حيث وجوب الوفاء بها قضاء أو ديانة أو استحباب ذلك، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على خمسة أقوال: (أحدها) يقضى بها مطلقًا. وهو مذهب القاضي سعيد ابن أشوع الكوفي الهمذاني (3) ،وقول عند المالكية (4) ، ورأي ابن شبرمة كما نقل ابن حزم في المحلى (5) . (والثاني) يجب الوفاء بها ديانةً لا قضاءً وهو رأى الإمام تقي الدين السبكي الشافعي، قال: " ولا أقول يبقى دينا حتى يقضى من تركته، وإنما أقول يجب الوفاء تحقيقا للصدق وعدم الإخلاف" (6) .   (1) المصباح المنير 2/831، مشارق الأنوار 2/291، مفردات الراغب ص526، بصائر ذوي التمييز 5/237، مقاييس اللغة 6/125 (2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص153 (3) أخرجه وكيع في أخبار القضاة (3/118) مسندًا، والبخاري في صحيحه (صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/289) معلقا (4) البيان والتحصيل لابن رشد 8/18، تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب ص154 (5) المحلى لابن حزم 8/28 (6) الفتوحات الربانية لابن علان 6/258، 259 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 605 وقد استشكل الحافظ ابن حجر هذه المقولة فقال: " وينظر: هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي يأثم بالإخلاف، وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك؟ " أي في القضاء (1) . فأجاب الإمام السخاوي على ذلك في جزئه المسمى " التماس السعد في الوفاء بالوعد"، فقال: " قلت: ونظير ذلك نفقة القريب، فإنها إذا مضت مدة يأثم بعدم الدفع ولا يلزم به، ونحوه قولهم في فائدة القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة: تضعيف العذاب عليهم في الآخرة مع عدم إلزامهم بالإتيان بها" (2) . (والثالث) أن الوفاء بها مستحب لا واجب، وهو مذهب جماهير العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية وبعض المالكية وغيرهم (3) . جاء في " العقود الدرية" لابن عابدين: " سئل فيما إذا وعد زيد عمرا أن يعطيه أرضه الفلانية، فاستغلها وامتنع من أن يعطيه من الغلة شيئا، فهل يلزم زيدًا شيء بمجرد الوعد المزبور؟ الجواب: لا يلزمه الوفاء بوعده شرعا، وإن وفى فبها ونعمت" (4) . وفي " التمهيد" لابن عبد البر: " وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وعبيد الله بن الحسين وسائر الفقهاء: أما العدة فلا يلزمه فيها شيء لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية: أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض، ولصاحبها الرجوع فيها " (5) .   (1) فتح الباري 5 /290 (2) الفتوحات الربانية على الأذكار النووية 6/259 (3) البيان والتحصيل لابن رشد 8/18، تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب ص154، شرح السنوسي على صحيح مسلم 6/118، المبدع في شرح المقنع 9/345، شرح المجلة للأتاسي 1/239 (4) العقود الدرية في تتنقيح الفتاوى الحامدية 2/321 (5) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 3/209 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 606 وقال ابن عبد البر رحمه الله: " إن العدة واجب الوفاء بها وجوب سنة وكرامة، وذلك من أخلاق أهل الإيمان، وقد جاء في الأثر " وأي المؤمن واجب " (1) أي واجب في أخلاق المؤمنين، وإنما قلنا: إن ذلك ليس بواجب فرضا، لإجماع الجميع على أن من وعد بمال ما كان لم يضرب به مع الغرماء كذلك قلنا إيجاب الوفاء به حسن في المروءة، ولا يقضى به، ولا أعلم خلافا أن ذلك مستحسن، يستحق صاحبه الحمد والشكر على الوفاء به، ويستحق على الخلف في ذلك الذم، وقد أثنى الله عز وجل على من صدق وعده ووفى بنذره، وكفى بهذا مدحا وبما خالفه ذما (2) . وقال ابن حزم: " ومن وعد آخر بأن يعطيه مالًا معينًا أو غير معين، أو بأن يعينه في عمل ما، حلف له على ذلك أو لم يحلف، لم يلزمه الوفاء به. ويكره له ذلك، وكان الأفضل لو وفى به، وسواء أدخله بذلك في نفقة أو لم يدخله، كمن قال: تزوج فلانة وأنا أعينك في صداقها بكذا وكذا أو نحو هذا، وهو قول أبي حنيفة والشافعي " (3) . (والرابع) إن كانت العدة مرتبطة بسبب، ودخل الموعود في السبب، فإنه يجب الوفاء بها كما يجب الوفاء بالعقد، أما إذا لم يباشر الموعود السبب فلا شيء على الواعد، كما إذا وعده بأن يسلفه ثمن دار يريد شراءها، فاشتراها حقيقة، أو أن يقرضه مبلغ المهر في الزواج " فتزوج اعتمادًا على هذا الوعد " ففي هذه الحالات وأمثالها يلزم الواعد قضاء بالوفاء بما وعد به، أما إذا لم يباشر الموعود تلك الأسباب، فلا يلزم الواعد بشيء. وهذا هو القول المشهور والراجح في مذهب مالك (4) . وعزاه القرافي إلى مالك وابن القاسم وسحنون (5) .   (1) ذكره السيوطي في الجامع الصغير وأشار إلى أنه رواه أبو داود في المراسيل (الفتح الكبير 3/301) ، كما نبه على ضعفه ابن حزم في المحلى 8/29 (2) التمهيد 3/207 (3) المحلى 8/28 (4) تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب ص155، البيان والتحصيل لابن رشد 8/18، المنتقى للباجي 3/227 (5) الفروق للقرافي 4/25، وانظر مجالس العرفان لجعيط 2/34، وقارن بما نقل ابن عبد البر عن مالك وابن القاسم وسحنون في التمهيد 3/208، 209 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 607 وقد أشار العلامة محمد العزيز جعيط إلى أن هذا القول المشهور ليس مبنيا على أساس وجوب الوفاء بالوعد (أي أن في الوعد قوة ملزمة للواعد كما هو الشأن في العقد) بل هو مبني على عدم وجوب الوفاء به، وإنما قضي به في صورة ما إذا أدخله في شراء عقار أو تزوج امرأة أو غير ذلك، لأنه تسبب له في إنفاق مال قد لا يتحمله ولا يقدر عليه، رفعا للضرر عن الموعود المغرر به، وتقريرًا لمبدأ تحميل التبعة لمن ورطه في ذلك، إذ لا ضرر ولا ضرار (1) . (والخامس) إن كانت العدة مرتبطة بسبب، وجب الوفاء بها قضاء، سواء دخل الموعود في السبب أو لم يدخل فيه، وإلا فلا، فلو قال شخص لآخر: أعدك بأن أعيرك بقري ومحراثي لحراثة أرضك، أو أريد أن أقرضك كذا لتتزوج، أو قال الطالب لغيره: أريد أن أسافر أو أن أقضي دَيني أو أن أتزوج، فأقرضني مبلغ كذا. فوعده بذلك. ثم بدا له فرجع عن وعده قبل أن يباشر الموعود السبب الذي ذكر من سفر أو زواج أو وفاء دَين أو حراثة أرض ... إلخ، فإن الواعد يكون ملزمًا بالوفاء، ويقضى عليه بالتنفيذ جبرا إن امتنع. أما إن كانت العدة على غير سبب، كما إذا قلت: أسلفني كذا، ولم تذكر سببًا، أو أعرني دابتك أو بقرتك ولم تذكر سفرًا ولا حاجة، فقال: نعم. أو قال الواعد من نفسه: أنا أسلفك كذا أو أهب لك كذا ولم يذكر سببا، ثم رجع عن ذلك، فلا يلزم بالوفاء بها.   (1) مجالس العرفان ومواهب الرحمن لجعيط 2/34 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 608 قال القرافي: " وبذلك قضى عمر بن عبد العزيز رحمه الله " (1) ، وهو قول في مذهب المالكية (2) . وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ أصبغ الذي حكاه الباجي في " المنتقى" بقوله: " وأما إن كانت عدة لا تدخل من وعد به في شيء، فلا يخلو من أن تكون مفسرة أو مبهمة: فإن كانت مفسرة: مثل أن يقول الرجل للرجل: أعرني دابتك إلى موضع كذا. فيقول: أنا أعيرك غدًا. أو يقول: علي دَيْن فأسلفني مائة دينار أقضيه. فيقول: أنا أسلفك، فهذا قال أصبغ - في العتيبة- يحكم بإنجاز ما وعد به، كالذي يدخل الإنسان في عقد، وظاهر المذهب على خلاف هذا؛ لأنه لم يدخله بوعده في شيء يضطره إلى ما وعده. وأما إن كانت مبهمة: مثل أن يقول له: أسلفني مائة دينار، ولا يذكر حاجته إليها، أو يقول: أعرني دابتك أركبها، ولا يذكر له موضعًا ولا حاجة. فهذا قال أصبغ: لا يحكم عليه بها. فإذا قلنا في المسألة الأولى: إنه يحكم عليه بالعدة إذا كان لأمر أدخله فيه، مثل أن يقول له: انكح وأنا أسلفك ما تصدقها، فإن رجع عن ذلك الوعد قبل أن ينكح من وُعِدَ، فهل يحكم عليه بذلك أم لا؟ قال أصبغ في العتبية: يلزمه ذلك ويحكم به عليه، ألزمه ذلك بالوعد (3) .   (1) الفروق 4/25 (2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب ص154، الفروق 4/25 البيان والتحصيل 8/18، وانظر الأذكار للنووي مع شرحه الفتوحات الربانية 6/261، أحكام القرآن لابن العربي 4/1800 (3) المنتقى للباجي 3/227. وقارن بما نقله القرافي عن أصبغ في الفروق 4/25 وما حكاه جعيط في مجالس العرفان عن أصبغ 2/34 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 609 (ب) المواعدة 6- المواعدة في اللغة: تعني نشوء وعدين متقابلين من شخصين، فهذا يعد فلانا، والآخر يعده بكذا في مقابلة ذلك. 7- أما في الاصطلاح الفقهي فهي عبارة عن " إعلان شخصين عن رغبتهما في إنشاء عقد في المستقبل تعود آثاره عليهما". وأكثر الفقهاء استعمالا لهذا المصطلح المالكية، وقد عبر عنها في النكاح الحطاب بقوله: " المواعدة أن يعد كل واحد منهما صاحبه بالتزويج فهي مفاعلة، لا تكون إلا من اثنين، فَإِنْ وعد أحدهما دون الآخر، فهذه العدةُ " (1) . وبهذا افترقت " المواعدة " عن " العدة " من حيث كون الأولى لا تنشأ إلا باجتماع رغبة طرفين، بينما تتم " العدة" بإعلان الرغبة من طرف واحد. وقد ذكر الفقهاء المواعدة في مسائل عديدة منها: المواعدة على النكاح في العدة، والمواعدة في الصرف، والمواعدة على بيع الطعام قبل قبضه، والمواعدة على البيع وقت نداء الجمعة، والمواعدة على بيع ما ليس عند الإنسان (2) . ومع أن الفقهاء اتفقوا على عدم مشروعية بعضها، كالمواعدة على النكاح في العدة، واختلفوا في جواز بعضها الآخر كالمواعدة في الصرف ونحوها، فإنه لم ينقل عن أحد منهم- سواء أكان من المجيزين أو من المانعين – قول بأن في المواعدة قوة ملزمة لأحد المتواعدين أو لكليهما؛ لأن التواعد على إنشاء عقد في المستقبل ليس عقدًا، وفي ذلك يقول ابن حزم: " والقواعد والتواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة، وفي بيع الفضة بالفضة وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز، تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا؛ لأن التواعد ليس بيعا " (3) . على أن المتواعدين لو اتفقا على أن يكون العقد الذي تواعدا على إنشائه في المستقبل ملزمًا للطرفين من وقت المواعدة، فإنها تنقلب إلى عقد، وتسري عليها أحكام ذلك العقد، إذ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.   (1) مواهب الجليل 3/413 (2) انظر إيضاح المسالك للونشريسي ص278، شرح الخرشي 5/38، القوانين الفقهية ص255، المقدمات الممهدات ص 507، الأم 3: 27، إعداد المهج للاستفادة من المنهج لأحمد بن أحمد المختار الشنقيطي ص195، المنهج إلى المنهج لمحمد الأمين بن أحمد زيدان الجكني ص 90، المواق على خليل 3/412 (3) المحلى لابن حزم 8/513 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 610 (جـ) الوعد 8- الوعد في اللغة معناه: الإخبار عن فعل أمر في المستقبل، سواء أكان خيرًا أم شرًّا. بخلاف الوعيد، فإنه لا يكون إلا بشر. وقيل: الوعد والوعيد واحد (1) . 9- ويستعمل الفقهاء كلمة " الوعد " بنفس مدلولها اللغوي، بمعنى أن الوعد قد يكون بمعروف، كقرض أو تمليك عين أو منفعة مجانًا للموعود، وقد يكون بصلة أو برٍّ أو مؤانسة كعيادة مريض وزيارة صديق وصلة رحم ومرافقة في سفر ومجاورة في سكن، وقد يكون بنكاح، كما في خِطْبَةِ النساء، وقد يكون بمعصية كما إذا وعد شخصا بأن يقتل له خصمه أو غريمه أو يتلف ماله ظلما وعدوانا ونحو ذلك. 10- أما الحكم التكليفي للوعد من حيث الوفاء به: فهو محل خلاف بين الفقهاء، وإذا أردنا تحرير محل النزاع في المسألة فلابد من البيان والتفصيل الآتي: * فإذا كان الوعد بمعروف (وهو ما يسمى عند المالكية بالعدة) أو كان من قبيل المواعدة، فقد سبق عرض آراء الفقهاء فيه على الخصوص. * أما ما عدا ذلك من ضروب الوعد وصوره وحالاته، فإنه لا خلاف بين الفقهاء: (أ) في أن من وعد بشيء منهي عنه، فلا يجوز له الوفاء بوعده، بل يجب عليه إخلافه (2) . قال ابن حزم: " من وعد بما لا يحل أو عاهد على معصية، فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك، كمن وعد بزنا أو بخمر أو بما يشبه ذلك، فصح أن ليس كل من وعد فأخلف أو عاهد فغدر مذمومًا ولا ملوما ولا عاصيًا، بل قد يكون مطيعًا مؤدي فرضٍ (3) . (ب) وأن من وعد بشيء واجب شرعا، كأداء حق ثابتٍ أو فعل أمر لازم، فإنه يجب عليه إنجاز ذلك الوعد (4) . (جـ) وأن من وعد بشيء مباح أو مندوب إليه فينبغي له أن يفي بوعده، حيث إن الوفاء بالوعد من مكارم الأخلاق وخصال الإيمان، وقد أثنى المولى جل وعلا على من صدق وعده وكفى به مدحا، وبما خالفه ذمًّا. ولكن هل الوفاء بذلك واجب أم مستحب أم غير ذلك؟ اختلف الفقهاء في ذلك على خمسة أقوال: (أحدها) أن الوفاء بالوعد واجب (5) . قال القاضي أبو بكر ابن العربي: " أجل من ذهب إلى هذا المذهب عمر بن عبد العزيز " (6) .   (1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 6/125، بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي 5/237، مشارق الأنوار للقاضي عياض 2/291 (2) الأذكار للنووي مع شرحه الفتوحات الربانية 6/ 258، أحكام القرآن للجصاص 3/ 442 (3) المحلى 8 / 29 (4) المحلى 8/29 (5) انظر أحكام القرآن لابن العربي 1800/4، الأذكار للنووي مع شرحه لابن علان6/260 (6) الأذكار (مع شرحه الفتوحات الربانية) 6/260، المبدع في شرح المقنع 9/ 345 فتح الباري 5/290 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 611 وقد حكي هذا القول عن ابن شبرمة (1) ، وإليه ذهب العلامة تقي الدين السبكي (2) ، وهو وجه في مذهب أحمد اختاره الإمام تقي الدين ابن تيمية (3) ، وقول في مذهب المالكية صححه ابن الشاط في حاشيته على الفروق (4) . وحجتهم على هذا الرأي قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: آية 2، 3] . وما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) . (5) (والثاني) أن الوفاء بالوعد واجب إلا لعذر، وهو رأي القاضي ابن العربي، فإنه قال: "والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر" (6) وقال أيضًا: "وإذا وعد وهو ينوي أن يفي، فلا يضره إن قطع به عن الوفاء قاطع، كان من غير كسب منه، أو من جهة فقر، أقضى ألا يفي للموعود بوعده، وعليه يدل حديث أبي عيسى –أي الترمذي - عن زيد بن أرقم: ((إذا وعد الرجل وهو ينوي أن يفي به، فلم يف فلا جناح عليه)) ، وهو غريب ضعيف". (7) وإلى هذا الرأي مال الإمام الغزالي، حيث قال في الوعد: " فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر "، ثم نزل النفاق المذكور في الحديث ((وإذا وعد أخلف)) : على من ترك الوفاء بالوعد من غير عذر. (8)   (1) حكاه ابن حزم في المحلى 8/28، وبرهان الدين ابن مفلح في المبدع 9/345 (2) ذكر ذلك ابنه التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى 10/232 (3) الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية للبعلي ص 331، المبدع 9/ 345 (4) حاشية ابن الشاط على الفروق للقرافي 4/24 (5) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/289، صحيح مسلم 1/78 (6) أحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي 4/1800 (7) عارضة الأحوذي لابن العربي 10/100 (8) الإحياء للغزالي 3/115 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 612 (والثالث) أن الوفاء بالوعد مستحب، فلو تركه فاته الفضل، وارتكب المكروه كراهة تنزيه شديدة، ولكن لا يأثم، وهو رأي جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة والظاهرية وغيرهم (1) . قال ابن علان الشافعي: " قد تقرر في مذهبنا أن الوفاء بالوعد مندوب لا واجب " (2) . وجاء في " المبدع" لبرهان الدين ابن مفلح: "لا يلزم الوفاء بالوعد، نص عليه " أي الإمام أحمد – وقاله أكثر العلماء " (3) . (والرابع) أن الوفاء بالوعد أفضل من عدمه إذا لم يكن هناك مانع، وهو رأي الإمام أبي بكر الجصاص القائل: " وكذلك الوعد بفعل يفعله في المستقبل، وهو مباح، فإن الأولى الوفاء به مع الإمكان " (4) . (والخامس) أن الوفاء بالوعد المجرد غير واجب، أما الوعد المعلق على شرط، فإنه يكون لازمًا، وهو مذهب الحنفية. جاء في الأشباه والنظائر لابن نجيم: " وفي القنية: وعده أن يأتيه فلم يأته، لا يأثم. ولا يلزم الوعد إلَّا إذا كان معلقًا " (5) . وجاء في الفتاوى البزازية: " إن المواعيد باكتساء صور التعليق تكون لازمة " (6) ونصت المادة " 84" من مجلة الأحكام العدلية المواعيد بصور التعاليق تكون لازمة. مثال ذلك: لو قال شخص لآخر: ادفع ديني من مالك، فوعده الرجل بذلك، ثم امتنع عن الأداء، فإنه لا يلزم الواعد على أداء الدين، أما لو قال رجل لآخر بع هذا الشيء لفلان، وإن لم يعطك ثمنه فأنا أعطيه لك، فلم يعط المشتري الثمن، لزم الواعد أداء الثمن المذكور بناءً على وعده (7) .   (1) الأذكار للنووي (مطبوع مع الفتوحات الربانية) 6/258، إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين للغزالي 7/507، كشاف القناع 6/279، شرح منتهى الإرادات 3/456، المحلى لابن حزم 8/28 (2) الفتوحات الربانية 6/260 (3) المبدع 9/345 (4) أحكام القرآن للجصاص 3/442 (5) الأشباه والنظائر لابن نجيم. كتاب الحظر والاباحة ص344 (6) الفتاوى البزازية (مطبوع بهامش الفتاوى الهندية) 6/3 (7) شرح المجلة لعلي حيدر 1/77 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 613 وأساس ذلك: أن الإنسان إذا أنبأ غيره بأنه سيفعل أمرًا فالمستقبل مرغوبًا له، فإذا كان ذلك الأمر غير واجب عليه، فإنه لا يلزمه بمجرد الوعد؛ لأن الوعد لا يغير الأمور الاختيارية إلى الوجوب واللزوم، أما إذا كانت المواعيد مفرغة في قالب التعليق، فإنها تلزم لقوة الارتباط بين الشرط والجزاء، من حيث إن حصول مضمون الجزاء موقوف على حصول شرطه، وذلك يكسب الوعد قوة، كقوة الارتباط بين العلية والمعلولية، فيكون لازما (1) . وحكى العلامة الحموي أن الوعد إذا صدر معلقا على شرط، فإنه يخرج عن معنى الوعد المجرد، ويكتسي ثوب الالتزام والتعهد، فيصبح عندئذ ملزما لصاحبه، قال: " لأنه إذا كان معلقا يظهر منه معنى الالتزام، كما في قوله: إن شفيت أحج. فشفي، يلزمه، ولو قال: أحج. لم يلزمه بمجرده " (2) . على أن الحنفية إنما اعتبروا الوعود بصور التعاليق لازمة إذا كان الوعد مما يجوز تعليقه بالشرط شرعًا حسب قواعد مذهبهم، حيث إنهم أجازوا تعليق الإطلاقات والولايات بالشرط الملائم دون غيره، وأجازوا تعليق الإسقاطات المحضة بالملائم وغيره من الشروط، أما التمليكات- كالبيع والإجارة والهبة ونحوها- وكذا التقييدات، فإنه لا يصح تعليقها شرعًا بالشرط عندهم. فليتأمل (3) .   (1) شرح المجلة للأتاسي 1/238، 239 (2) حاشية الحموي على الأشباه والنظائر 2/110، وانظر الفتاوى البزارية 6/3، شرح المجلة لعلي حيدر 1/77 (3) شرح المجلة للأتاسي 1/233، 234، 239 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 614 * وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن النافين لوجوب الوفاء بالوعد حيث نفوه: أ- حملوا المحظور الذي نهى الله عنه ومقت فاعله عليه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3] على من وعد وفي ضميره ألا يفي بما وعد. أو على الإنسان الذي يقول عن نفسه من الخير ما لا يفعله (1) . ب- وأجابوا على استدلال الموجبين للوفاء بالوعد المجرد بحديث " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان": بأن ذم الإخلاف إنما هو من حيث تضمنه الكذب المذموم إن عزم على الإخلاف حال الوعد، لا إن طرأ له (2) . وقال الغزالي: " وهذا ينزل على من وعد وهو على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر، فأما من عزم على الوفاء فعن له عذر منعه من الوفاء لم يكن منافقا، وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق" (3) . * وأن أكثر الفقهاء نصوا على أنه ينبغي للواعد أن يستثني في وعده بقوله: " إن شاء الله " غير أنهم اختلفوا في حكم هذا الاستثناء: - فقال الإمام الغزالي: هو الأولى (4) . - وقال العلامة الجصاص: إن لم يقرنه بالاستثناء فهو مكروه (5) . - وقال الحنابلة والظاهرية: يحرم الوعد بغير استثناء (6) . ودليل الاستثناء قوله تعالى {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف آية 23، 24] . ولأن الواعد لا يدري هل يقع منه الوفاء أم لا؟ فإذا استثنى وعلق بالمشيئة الإلهية خرج. عن صورة الكذب في حال التعذر. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين الدكتور نزيه كمال حماد   (1) أحكام القرآن للجصاص 3/442 (2) مرقاة المفاتيح للملا علي القاري 1/ 106، الحموي على الأشباه والنظائر 2/110 (3) إحياء علوم الدين 3/115، وانظر الفتوحات الربانية لابن علان 6/259 (4) إحياء علوم الدين 3/115 (5) أحكام القرآن للجصاص 3/442 (6) كشاف القناع 6/279، شرح منتهى الإرادات 3/456، المبدع 9/345، المحلى 8/29 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 615 الوفاء بالوعد إعداد الأستاذ الدكتور يوسف قرضاوي عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر بسم الله الرحمن الرحيم تقديم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه. أما بعد، فإن موضوع (الوعد) ووجوب الوفاء به ديانة، وجواز الإلزام به قضاء، من الموضوعات الهامة، التي تحتاج إلى تحريرها في عصرنا، لارتباطها بكثير من المعاملات المعاصرة، وبخاصة (بيع المرابحة للآمر بالشراء) كما تجريه المصارف الإسلامية، الذي أصبح المحور الأساسي لنشاط البنك الإسلامي الآن. ولابد لمن يكتب عن بيع المرابحة أن يكتب عن الوعد ومدى لزومه والإلزام به، فإن كثيرا من البنوك الإسلامية تجري مرابحاتها على أساس الوعد الملزم، وهو ما أراه وأرجحه. وهذه الصحائف تلقي شعاعا من ضوء على هذا الموضوع، أرجو أن يكون فيها بيان لما قصدت إليه. وبالله التوفيق وعليه قصد السبيل أ. د/ يوسف القرضاوي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 616 تحقيق القول في الإلزام بالوعد: من الإخوة الذين شاركوا في مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني بالكويت من وافقوا على المواعدة على بيع المرابحة المذكورة، ولكنهم خالفوا بشدة في قضية الإلزام بالوعد. ومن هؤلاء الإخوة: الدكتور حسن عبد الله الأمين الأستاذ الباحث بالمركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز، والدكتور محمد سليمان الأشقر الأستاذ الباحث بموسوعة الفقه الإسلامي بالكويت، وكلاهما قدم بحثا حول موضوع المرابحة، والزميل: الدكتور علي السالوس الأستاذ المساعد بكلية الشريعة بجامعة قطر، وقد شارك بالمناقشة في المؤتمر. وحجتهم أن فتوى مؤتمر المصرف الإسلامي الأول اعتمدت على مذهب مالك في الإلزام بالوعد والقضاء به، مع أن مذهب مالك في هذه القضية بالذات يمنع ولا يجيز؛ لأنه يعتبرها من بيوع العينة الممنوعة، فكيف نأخذ بمذهب مالك في الإلزام بالوعد، في الوقت الذي نتركه في القضية الخاصة التي ننفذ فيها الإلزام بالوعد؟ ومن جهة أخرى يقول الدكتور الأمين: إن مسألة لزوم الوفاء بالوعد قضاء أو عدمه لزومه (عند المالكية) إنما تتعلق فقط بمسائل المعروف والإحسان دون عقود المعاوضات، ومنها البيع، وينقل عن فتاوى الشيخ عليش المسماة " فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك" الجزء الأول، نقلا عن كتاب " تحرير الكلام في مسائل الالتزام" للعلامة الحطاب ما نصه: (فصل) وأما العدة- (أي الوعد) فليس فيها إلزام الشخص نفسه شيئا الآن، وإنما هي كما قال ابن عرفة: إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل (1) . ومثلوا له بالوعد بقرض، أو عتق، أو هبة، أو صدقة، أو عارية، أي الأمور التي تدخل في باب المعروف والإحسان كما قال ابن عرفة، دون الأمور التي تتعلق بالمعاوضات، كالبيع مثلا.   (1) فتح العلي المالك جـ1 ص (212) طبعة المطبعة التجارية الكبرى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 617 " والوفاء بالعدة (بالتخفيف) مطلوب لا خلاف، واختلف في وجوب القضاء بها على أربعة أقوال حكاها ابن رشد في كتاب: جامع البيوع، وفي كتاب العارية، وفي كتاب العدة، ونقلها عنه غير واحد" (1) فقيل: يقضى بها مطلقا. (2) وقيل: لا يقضى بها مطلقا. (3) وقيل: يقضى بها إن كانت على سبب وإن لم يدخل الموعود بسبب العدة في شيء، كقولك: أريد أن أتزوج أو: أن اشتري كذا، أو أن أقضي غرمائي فأسلفني كذا، أو أريد أن أركب غدا إلى مكان كذا فأعرني دابتك ... فقال: نعم، ثم بدا له قبل أن يتزوج أو أن يشتري أو أن يسافر، فإن ذلك يلزمه ويقضى عليه به. (4) وقيل: يقضى بها إن كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العدة في شيء وهذا هو المشهور (1) وهو مذهب ابن القاسم، قال في المدونة: (لو أن رجلا اشترى عبدا من رجل على أن يعينه فلان بألف درهم، فقال له فلان: أنا أعينك بألف درهم فاشتر العبد، أن ذلك لازم لفلان) (2) . وهذا وعد بمعروف.   (1) فتح العلي المالك جـ1 ص (212) طبعة المطبعة التجارية الكبرى، والفروق للقرافي جـ4 ص 24/25 طبعة دار إحياء الكتب العربية (2) المدونة الكبرى جـ3 ص 264، دار الفكر بيروت، وانظر الشرح الكبير للدردير جـ3 ص 335 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 618 وواضح من تعريف ابن عرفة للعدة – الوعد – ومن الأمثلة عليه، أن القول بلزوم الوفاء بها قضاء، إنما يتعلق بأمور المعروف والإحسان - أي التبرعات - ولا يتعلق بأمور ذات صلة بعقود المعاوضات كالبيع. اهـ كلام د. الأمين. ويتفق الأستاذ الأشقر مع الأستاذ الأمين في أن الوعد الذي قال بعض المالكية بلزوم الوفاء به ديانة وقضاء إنما هو الوعد بإنشاء المعروف، أما الوعد التجاري فهو شيء آخر لم يدر بخلدهم. ويناقش الشيخ الأشقر فتوى فضيلة الشيخ بدر متولي عبد الباسط مستشار بيت التمويل الكويتي التي مال فيها إلى الأخذ برأي ابن شبرمة، الذي يقول: إن كل وعد بالتزام لا يحل حراما، ولا يحرم حلالا، يكون وعدا ملزما قضاء وديانة، وإن هذا ما تشهد له ظواهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية.. وإن الأخذ بهذا أيسر على الناس ويضبط المعاملات. وقال الأشقر: قول ابن شبرمة لا أدري ما مصدره، ولعله منقول بالمعنى لا بالنص. وهو غير محرر ولا مبين، إذ لم يكن له أتباع يحررون مذهبه. كما ناقش القول بأن ظواهر الآيات والأحاديث تدل على وجوب الوفاء بالوعد، ومال إلى أن الوفاء بالوعد ليس بواجب قضاء، ولا ديانة، وإنما هو مستحب ومن مكارم الأخلاق، كما اختاره القرافي. وأن النصوص في كتب المذاهب على عدم لزوم الوفاء بالوعد ديانة. وأرى من المهم هنا مناقشة قضية الوعد، ووجوب الوفاء به ديانة، والإلزام به قضاء، وما في ذلك من خلاف. لما يترتب على الموضوع من نتائج تتعلق بمعاملات المسلمين وما يحل وما يحرم منها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 619 رد على بعض الجزئيات: وقبل أن أُفَصِّلَ القول في الوفاء بالوعد، أحب أن أرد على بعض الجزئيات من كلام الأخ الأشقر فقد سأل عن مصدر قول ابن شبرمة، وأقول له: أقرب مصدر له نعرفه هو " المحلى" لابن حزم، فقد قال: وقال ابن شبرمة: الوعد كله لازم، ويقضى به على الواعد ويجبر (1) . وأما الادعاء بأن قوله غير محرر ولا مبين، لأنه لم يكن له أتباع يحررون مذهبه، فهو ادعاء مرفوض، ويترتب عليه رفض أقوال جميع فقهاء الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن لا أتباع لهم يقلدونهم. ومعنى هذا رفض آراء جميع علماء الأمة إلا أربع أشخاص فقط، هم أصحاب المذاهب المتبوعة عن أهل السنة‍! فهل يلتزم الشيخ الأشقر هذه النتيجة ويقبلها؟ لا أحسب ذلك. وأما الرد على قول الشيخ بدر بأن الأخذ بالإلزام بالوعد أيسر على الناس ويضبط المعاملات، بأن اختلاف العلماء لا يجيز لنا الأخذ بما هو أيسر من أقوالهم بل بما هو أرجح دليلا، ففي هذا الرد نظر؛ لأن المقصود أنه عند تكافؤ الأدلة أو تقاربها يكون الأخذ بالأيسر من دلائل الترجيح؛ لأن الشريعة مبناها على اليسر ورفع الحرج، وخصوصا في أمور المعاملات، وقد يأخذ الإنسان بالأحوط في خاصة نفسه، أما إذا أفتى للعموم فليراع التيسير، ولهذا أثر عن علمائنا في مثل هذه القضايا هذه العبارة: هذا أرفق بالناس. على أن فتوى الشيخ بدر حفظه الله قرنت بالتيسير معنى آخر لم يذكره المعقب، فقد قالت: هذا أيسر على الناس ويضبط المعاملات فلا ينبغي أن يفصل المعنى الأخير عن الأول.   (1) المحلى جـ 8 المسألة رقم 1125 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 620 أدلة الإلزام بالوعد: وأكثر ما أثير من كلام كان حول عنصر الوعد والإلزام به، لهذا كان في حاجة إلى مزيد من التجلية والإيضاح لحقيقته، فأقول: إن الذي أرجحه أن الوفاء بالوعد واجب ديانة، فهذا هو الظاهر من نصوص القرآن والسنة وإن خالف في ذلك المخالفون. أ- ففي القرآن يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] . والوعد إذ أخلف قول لم يفعل فيلزم أن يكون كذبًا محرمًا. وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقا (1) . بل إن عبارة الآية الكريمة {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} تدل على أنه كبيرة، وليس مجرد حرام. ب- وقد ذم الله بعض المنافقين بقوله {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] . والآية تفيد أن نفاقهم بسبب إخلافهم وعدهم مع الله، ومثل ذلك إخلاف الوعد مع الناس، إذ لا فرق في أصل الحرمة بين الأمرين، كما أن نكث العهد محرم سواء كان مع الله أم مع الناس. جـ – وقد أنكر القرآن شدة استغفار المؤمنين للمشركين مهما تكن قرابتهم، فقال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] . وهنا تلوح للمؤمن قصة استغفار إبراهيم لأبيه {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 86] كيف يتفق هذا مع هذا الإنكار الشديد؟ هنا يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] . فكان عذر إبراهيم وعده السابق لأبيه {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] . فلو كان الوفاء بالوعد مجرد أمر مستحب ما ارتكب من أجله الاستغفار لمشرك ضال من أصحاب الجحيم. ولا يقال: لعل الوفاء بالوعد كان واجبا في شرع إبراهيم، وشرع من قبلنا ليس شرعا لنا، ونقول: الصحيح أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخه شرعنا، وبخاصة أن الله تعالى قال لرسوله {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] . د- يؤكد هذا ما ذكره الله عن الشيطان حين يجمعه بمن اتبعه من الغاوين في النار حيث يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [إبراهيم: 22] . وهذا ذكر في معرض الذم للشيطان وحزبه، فلو كان إخلاف الوعد لا يعدو أن يكون مكروها أو خلاف الأولى، لم يكن لذم الشيطان به معنى.   (1) الفروق جـ4: 20 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 621 هـ- وفي الحديث الصحيح المتفق عليه من رواية أبي هريرة: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب. وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) (1) . وفي بعض روايات مسلم: ((آية المنافق ثلاث ... وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)) . و وفي الحديث الصحيح الآخر من رواية عبد الله بن عمر: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ... إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) (2) . ز- وذكر البخاري في كتاب " الاستقراض " حديث عائشة ((: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ في صلاته كثيرًا من المأثم " أي الإثم " والمغرم " أي الدَّيْن" فقيل له: يا رسول الله، ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟! فقال: " إن الرجل إذا غرم - أي استدان - حدث فكذب، ووعد فأخلف ")) (3) ، ومعنى هذا أن – الاستدانة تجره إلى المعصية بالكذب في الحديث، والخلف في الوعد. ح- وهناك أدلة أخرى سنذكرها فيما ننقله عن الغزالي والبخاري وابن القيم، والظاهر من هذه الأدلة أن الوعد سواء كان بصلة وبر، أم بغير ذلك، واجب الوفاء به، إذ لم تفرق النصوص بين وعد ووعد، وهذا ما روي عن ابن شبرمة فيما نقله عنه ابن حزم حيث قال: الوعد كله لازم، ويقضى به على الواعد، ويجبر (4) . وإذا كان كل هذا التحذير من إخلاف الوعد حتى عد من علامات النفاق، وإحدى خصاله الأساسية، فهذا من أظهر الأدلة على حرمته، ولهذا جعله الإمام الغزالي في " إحيائه" من آفات اللسان، وهي إحدى " المهلكات".   (1) رواه البخاري في كتاب الإيمان. باب علامة المنافق، ومسلم في كتاب الإيمان. باب خصال المنافق (2) رواه مسلم في الباب المذكور: ورواه البخاري، أيضًا ولكن وضع مكان " وإذا وعد أخلف " جملة " وإذا اؤتمن خان " (3) صحيح البخاري – كتاب الاستقراض – باب من استعاذ من الدَّيْن (4) المحلى جـ8 مسألة 1125 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 622 رأي الإمام الغزالي في إحيائه: قال وهو يعدد آفات اللسان: الآفة الثالثة عشر: الوعد الكاذب " فإن اللسان سباق إلى الوعد، ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفا، وذلك من أمارات النفاق ... قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] : " وقد أثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل عليه السلام في كتابه العزيز فقال: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] . " ولما حضرت عبد الله بن عمر الوفاةُ قال: إنه كان خطب إليَّ ابنتي رجل من قريش وكان إليه مني شبه الوعد، فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق. أشهدكم أني قد زوجته ابنتي. وكان ابن مسعود لا يعد وعدا إلا ويقول: إن شاء الله، وهو الأولى. ثم إذا فهم مع ذلك الجزم في الوعد، فلابد من الوفاء، إلا أن يتعذر، فإن كان عند الوعد عازما على أن لا يفي، فهذا هو النفاق. وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم ((ثلاث من كن فيه هو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ... )) الحديث. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أربع من كن فيه كان منافقًا ... )) .. الحديث (1) .. وهذا ينزل على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر، فأما من عزم على الوفاء فَعَنَّ له عذر منعه من الوفاء لم يكن منافقًا، وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق، ولكن ينبغي أن يحترز من صورة النفاق أيضًا، كما يحترز من حقيقته، ولا ينبغي أن يجعل نفسه معذورًا من غير ضرورة حاجزة (2) . اهـ.   (1) ذكر الإمام الغزالي هنا بعض أحاديث مثل: " العدة عطية " والوأي - أي الوعد - مثل الدين أو أفضل " وغيرهما.. تركناها لضعف أسانيدها، واكتفاء بصريح القرآن، وصحيح السنة (2) إحياء علوم الدين جـ3: 132، 13 ط. دار المعرفة - بيروت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 623 رأي جماعة من السلف في وجوب الوفاء بالوعد: وذكر الإمام البخاري في صحيحه رأي جملة من السلف ممن يرى وجوب إنجاز الوعد، فقد ترجم في كتاب " الشهادات" من الصحيح باب من أمر بإنجاز الوعد. قال: وفعله الحسن البصري أي أمر به، وذكر الآية الكريمة: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] قال: وقضى ابن الأشوع (وهو سعيد بن عمرو بن الأشوع، قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق وذلك بعد المائة بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب. قال أبو عبد الله البخاري: رأيت إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه يحتج بحديث ابن أشوع (أي الذي ذكره عن سمرة)) . وذكر البخاري في الباب أربعة أحايث للدلالة على وجوب الإنجاز، منها: حديث آية المنافق ثلاث ... وحديث جابر: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي، فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبله عدة فليأتنا. ونقل الحافظ في الفتح قول المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع، وليس بفرض، لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء. اهـ. قال الحافظ: ونقل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور، لكن القائل به قليل. وقال ابن عبد البر وابن العربي: أجل من قال به عمر بن عبد العزيز، وعن بعض المالكية: إن ارتبط الوعد بسبب وجب الوفاء به، وإلا فلا، ومن قال لآخر: تزوج، ولك كذا، فتزوج بذلك، وجب الوفاء به. وخرج بعضهم الخلاف على أن الهبة: هل تملك بالقبض أو قبله؟ قال الحافظ: وقرأت بخط أبي رحمه الله في إشكالات على الأذكار للنووي: ولم يذكر جوابا عن الآية: يعني قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وحديث " آية المنافق " قال: والدلالة للوجوب منها قوية فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد (1) اهـ.   (1) انظر: صحيح البخاري – كتاب الشهادات – باب من أمر بإنجاز الوعد. وفتح الباري. جـ6:217 – 219 ط مصطفى الحلبى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 624 وصنيع المحقق ابن القيم في كتابه " إعلام الموقعين " (1) يدل على أنه ممن يرى وجوب الوفاء بالوعد، فقد نظم العقود والعهود والشروط والوعود الواجب الوفاء بها كلها في سلك واحد، وسرد النصوص الدالة على لزوم الوفاء بالوعد، مع النصوص الدالة على وجوب الوفاء بالعقد وبالعهد وبالشرط، كلها سواء. فذكر قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) . وذكر صحاح الأحاديث في علامات المنافق وخصاله.. وأحاديث أخرى. وزاد على ذلك أحاديث أخرى تتعلق بالوعد خاصة مثل ما في سنن أبي داود عن عبد الله بن عامر قال: ((دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها، فقالت: تعال أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم: "ما أردت أن تعطيه؟ " فقالت: أعطيه تمرا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنك لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة)) . وقال ابن وهب: ثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((وَأْيُ المؤمن واجب)) (3) قال ابن وهب: وأخبرني إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((ولا تعد أخاك عدة وتخلفه، فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة)) . قال ابن وهب: وأخبرني الليث بن سعد عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال لصبي: تعال هذا لك، ثم لم يعطه شيئا، فهي كذبة)) . وفي السنن من حديث كثير بن عبد الله بن زيد بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده يرفعه: ((المؤمنون عند شروطهم)) وله شاهد من حديث محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر يرفعه: ((الناس على شروطهم ما وافق الحق)) وليست العمدة على هذين الحديثين بل على ما تقدم. وأجاب ابن القيم عما في بعض هذه الأحاديث من جهة السند، فقال: أما ضعف بعضها من جهة السند، فلا يقدح في سائرها، ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف إن لم يكن عمدة (4) .   (1) جـ 1 ص386 - 388 (2) الصف [2] (3) الوَأْي: الوعد، أو التعويض بالعدة من غير تصريح، وقيل: العدة المضمونة. والحديث مرسل (4) إعلام الموقعين جـ1: 386 - 388 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 625 نقل العلامة الزبيدي: وقال العلامة " الزبيدي" في شرح القاموس في مادة " وعد ": " اختلف في حكم الوفاء بالوعد: هل هو واجب أو سنة؟ أقوال. قال شيخنا: وأكثر العلماء على وجوب الوفاء بالوعد، وتحريم الخلف فيه، وكانت العرب تستعيبه وتستقبحه، وقالوا: إخلاف الوعد من أخلاق الوغد. وقيل: الوفاء سنة، والإخلاف مكروه، واستشكله بعض العلماء. وقال القاضي أبو بكر بن العربي بعد سرد كلام: وخلف الوعد كذب ونفاق وإن قل فهو معصية. (وقد ألف الحافظ السخاوي في ذلك رسالة مستقلة سماها " التماس السعد في الوفاء بالوعد" جمع فيها فأوعى) (1) اهـ كلام الزبيدي. وإذا كان وجوب الوعد والأمر بإنجازه، قال به مثل عبد الله بن عمر (الذي زوج ابنته لمن صدر منه شبه وعد له، حتى لا يلقى الله بثلث النفاق!) ومثل سمرة بن جندب من الصحابة، ومثل عمر بن عبد العزيز من التابعين، وهو معدود من الخلفاء الراشدين المهديين الذين يعض على سنتهم بالنواجذ، والحسن البصري الإمام المشهور، ومن بعدهم: ابن الأشوع الذي اعتد البخاري بذكره في صحيحه، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن معين: مشهور يعرفه الناس، كما في عمدة القاري (2) .. وابن شبرمة الفقيه الثقة العابد، وإسحاق بن راهويه شيخ البخاري، وأحد أئمة الحديث والفقه، وأمير المؤمنين في الحديث: محمد بن إسماعيل البخاري، كما يبدو من ترجمته للباب وعدم ذكره الرأي الآخر .... بالإضافة إلى ما نقلناه عن العلامة ابن القيم، وما هو معروف من مذهب الإمام مالك وبعض أصحابه، وخصوصا فيما كان له سبب ودخل الموعود من أجله في نفقة وكلفة.. فليس القائل به إذن قليلا، كما قال الحافظ رحمه الله، بل لعل الصحيح ما نقله الزبيدي عن شيخه: إن أكثر العلماء على وجوب الوفاء بالوعد، وتحريم الخلف فيه. وبهذا نرى أن نسبة القول بالإلزام بالوعد إلى بعض المالكية أو إلى ابن شبرمة فقط، فيه تقصير كبير في الاستقصاء.   (1) تاج العروس، شرح القاموس: مادة " وعد " (2) عمدة القاري للعيني جـ13، ص 258 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 626 وقفات ثلاث: بعد البيان السابق ينبغي لنا أن نقف وقفات ثلاثا: الأولى: في شبهات النافين للإلزام بالوعد، وما اعتمدوا عليه من نصوص مع وضوح الأدلة المصرحة بالوجوب والإلزام. الثانية: فيما قيل من التفرقة بين العدة بالمعروف والصلة، والوعد في أمور المعاملات والمعاوضات، وأن الوعد في الأولى هو الذي قيل بوجوبه، أما في الثانية فلا. الثالثة: في التفرقة بين ما هو واجب ديانة، أي بين المرء وربه، وما هو واجب قضاء، بمعنى أن من حق ولي الأمر أو القاضي أن يتدخل فيه ويلزم به. فقد قال من قال: إنما نسلم أن الوفاء بالوعد والالتزام به واجب من الناحية الدينية والأخلاقية، ولكن لا حق للسلطة القضائية أو التقنينية أو التنفيذية في التدخل للإلزام به، أو المعاقبة على الإخلال به. وإن نشأ عن ذلك من الأضرار والخسائر ما لا يرضاه الله ولا رسوله ولا المؤمنون. ولنناقش هذه النقاط الثلاث بغير تطويل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 627 شبهات النافين لوجوب الوفاء بالوعد: لم أجد دليلا مقنعا يقاوم الأدلة الكثيرة المؤيدة للقول بوجوب الوفاء بالوعد، ولكن هناك بعض شبهات ذكرها بعض الفقهاء، أكتفي منها بما ذكره العلامة " القرافي " من أحاديث عارض بها النصوص الدالة على تحريم خلف الوعد، وهي أحاديث لا تقوى على معارضة هذه النصوص، لا من ناحية ثبوتها، ولا من ناحية دلالتها. فقد ذكر هنا حديثين: أولهما: حديث الموطأ: ((قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذب لامرأتي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " لا خير في الكذب ". فقال: يا رسول الله أفأعدها وأقول لها؟ فقال عليه السلام: " لا جناح عليك ".)) قال: فمنعه من الكذب المتعلق بالمستقبل، فإن رضا النساء إنما يحصل به ونفى الجناح على الوعد، وهو يدل على أمرين: أحدهما: أن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا لجعله قسيم الكذب. وثانيهما: أن إخلاف الوعد لا حرج فيه (1) . اهـ. والحديث من ناحية سنده غير ثابت، قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: أخرجه ابن عبد البر في التمهيد من رواية صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار مرسلا. وهو في " الموطأ" عن صفوان بن سليم معضلًا من غير ذكر عطاء (2) اهـ. وأما من ناحية الدلالة، فقد ناقش العلامة ابن الشاط القرافي (في حاشيته على الفروق) . مناقشة جيدة في " الأمر الأول " يحسن الرجوع إليها. ولم أذكرها خشية الإطالة (3) .   (1) الفروق جـ 4: 21 (2) انظر: تخريج العراقي في حاشية الإحياء، جـ3 ص 137، ط دار المعرفة، بيروت. (3) انظر: الفروق وحواشيه، جـ 4، ص 21، 22 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 628 أما الأمر الثاني، وهو أن إخلاف الوعد لا حرج فيه مطلقا، فهو غير مسلم؛ لأن الحديث جاء في علاقة الرجل بامرأته، ومن حرص الشارع على دوام المودة بين الزوجين أن رخص لهما ما لم يرخص لغيرهما، فأجاز شيئا من الكذب كما أجاز في الحرب والإصلاح بين الناس، وقد روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه عن أم كلثوم بنت عقبة: ((أنها لم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء مما يقول الناس: كذب، إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها)) (1) قال النووي في شرح الحديث: قال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذا الصور. واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها: ما هو؟ فقالت طائفة: هو على إطلاقه، وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة. وقال آخرون: ما جاء من الإباحة في هذا، المراد به: التورية واستعمال المعاريض، لا صريح الكذب، مثل أن يعد زوجته أن يحسن إليها ويكسوها كذا، وينوي: إن قدر الله ذلك، وحاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه (2) اهـ. وبهذا نتبين أن العلاقة بين الزوجين هنا موسع فيها، ولا يقول القرافي وغيره هنا بأن الترخيص في بعض الكذب هنا يعني أن الكذب لا حرج فيه بإطلاق. وثاني ما استدل به القرافي هنا هو حديث أبي داود ((إذا وعد أحدكم أخاه، ومن نيته أن يفي فلم يف، فلا شيء عليه)) (3) .   (1) انظر: صحيح مسلم – كتاب البر والصلة: باب تحريم الكذب وبيان ما يباح منه، حديث 2605 (2) شرح النووي على مسلم جـ5، 464، 465، ط. الشعب (3) الفروق ج 4 ص 22 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 629 والحديث في سنن أبي داود بلفظ: ((إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي ولم يجئ للميعاد فلا إثم عليه)) (1) . والحديث سكت عليه أبو داود، ولكن ذكر المنذري في مختصره عن أبي حاتم الرازي أن في سنده راويين مجهولين (أبو النعمان وأبو وقاص) وكذا رواه الترمذي وقال: حديث غريب وليس إسناده بالقوي. قال: ولا يعرف أبو النعمان وأبو وقاص وهما مجهولان (2) . وكذا ضعفه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث " الإحياء " فالحديث متفق على ضعفه. ومثل هذا لا يحتج به في مقابلة الأدلة الأخرى الدالة على تحريم الخُلْف. ومع هذا يمكن حمل هذا الحديث – كما قال ابن الشاط المالكي - على أنه لم يف مضطرا، جمعا بين الأدلة، مع بعد تأويل تلك الأدلة وقرب تأويل هذا (3) . والحق أن العلامة القرافي في هذا الموضوع لم يكن على العهد به من التحقيق والتدقيق، ولهذا نجد العلامة ابن الشاط في حاشيته على " الفروق" المسماة " أدرار الشروق" يعقب على ما ذكره القرافي من اختلاف الفقهاء في الوعد هل يجب الوفاء به شرعا أم لا؟.. إلخ. بقوله: الصحيح عندي القول بلزوم الوفاء بالوعد مطلقا، فيتعين تأويل ما يناقض ذلك، ويجمع بين الأدلة. على خلاف الوجه الذي اختاره المؤلف، والله أعلم (4) . اهـ.   (1) الحديث في السنن برقم 4995 (2) انظر الحديث رقم 2635 من الترمذي (3) انظر: حاشية ابن الشاط على الفروق جـ4 ص 22 (4) حاشية الفروق جـ4 ص 24، 25 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 630 الوعد بالمعروف والوعد في المعاوضات: وأما النقطة الثانية، وهي ما قيل من التفرقة بين الوعد بالصلة والمعروف وأنه هو الذي قيل بوجوبه، وبين الوعد في شئون المعاملات والمبادلات المالية، وأن هذا لم يقولوا بوجوبه. فيهمني أن أؤكد في هذا أمرين: الأول: أن النصوص التي أوجبت الوفاء وحرمت الإخلاف، جاءت عامة مطلقة ولم تفرق بين وعد ووعد، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، ولا دليل عند المعارض يخصص عمومها، أو يقيد إطلاقها. ولهذا قال ابن شبرمة بصريح العبارة: الوعد كله لازم. الثاني: أنه إن كان لا بد من تفرقة بين النوعين- فالأمر يبدو لي على خلاف ما قيل تماما. والذي أراه أن الخلاف المنقول في الوعد ولزوم الوفاء به عند المالكية وغيرهم قد يقبل فيما كان من باب البر والمعروف والإرفاق، على معنى أن من وعد إنسانًا بصلة أو خدمة يقدمها له قد يجري فيه الخلاف السابق؛ لأن أصله تبرع محض، ويستقبح منه على كل حال إخلافه، وهذا ما تعارف الناس عليه وعبروا عنه في نثرهم بمثل قولهم: وعد الحر دين عليه، وفي شعرهم بمثل قول من قال: إذا قلت في شيء: " نَعَمْ " فأتمه فإن " نَعَمْ " دين على الحر واجب! وإلا فقل: " لا " فتسترح وترح بها لئلا يقول الناس: إنك كاذب! وهذا ما لم يدخل بسبب الوعد في ارتباط مالي، فإنه يشبه أن يكون تعاقدا ضمنيا.. ومن هذا ما تَعِدُ به الحكومات موظفيها من علاوات وترقيات وإعانات اجتماعية في حالة الزواج والإنجاب وغيرها. وما تعد به الوزارات والمؤسسات العاملين فيها من مكافآت وحوافز لمن يقوم بجهد معين كعمل إضافي أو خدمة معينة، أو تحسين لمستوى العمل، أو نحو ذلك فيجب أن توفي به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 631 ومن ذلك عقد (الجعالة) فإنما هو وعد من (الجاعل) كأن يقول: من رد علي مالي المفقود، فله كذا.. فرده عليه، فيلزمه إعطاؤه ما وعد به. ومن ذلك ما تعد به المؤسسات الثقافية من جوائز تمنحها لمن يستوفي شروط السبق في مسابقات علمية تعلن عنها، ومثلها المسابقات الرياضية ونحوها. أما الذي ينبغي ألا يقبل الخلاف فيه، فهو: الوعد في شئون المعاوضات والمعاملات، التي يترتب عليها التزامات وتصرفات مالية واقتصادية، قد تبلغ الملايين، ويترتب على جواز الإخلاف فيها إضرار بمصالح الناس وتغرير به. فالوفاء بالوعد هناك كالوفاء بالعهد. لهذا وضعت بعض الأحاديث: ((إذا عاهد غدر)) مكان ((إذا وعد أخلف)) فالمعنيان متلازمان أو متقاربان. وقد ذكر الغزالي في الاستدلال على وجوب الوفاء بالوعد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . دلالة على أن الوعد داخل في " مسمى العقود ". كما أدخل ابن القيم الوعود مع العقود والعهود والشروط جميعا في باب واحد، فكما أن المسلمين عند شروطهم، فهم كذلك عند وعودهم؛ لأنهم لا يقولون ما لا يفعلون. ومن هنا أستغرب اتجاه د. الأمين، ود. الأشقر إلى عكس ذلك تماما، على حين رأينا المالكية الذين اعتمدا مذهبهم، يرجحون الإلزام بالوعد ديانة وقضاء إذا ترتب عليه شيء من الالتزام المالي، فكيف لا نتجه إلى القول بلزوم الوفاء إذا كانت المعاملة كلها قائمة من الأساس على التزام مالي متبادل؟ أما أن المالكية لا يقولون بالإلزام بالوعد في هذه الصورة بالذات، فلما عارضه- في نظرهم – من أدلة أخرى أوجبت منع هذه الصورة. وقد بينا ضعف هذه الأدلة في موضع آخر، ولهذا لا يلزمنا تقليدهم هنا، ولا مانع أبدا من الأخذ برأيهم في الإلزام بالوعد، وعدم الأخذ برأيهم في بيوع الآجال، أو بيوع العينة. على أننا قد وجدنا بحمد الله من غير المالكية من فقهاء الأمة من قال بالإلزام، فمن كان يرى أن رأي المالكية إما أن يؤخذ كله، وإما أن يترك كله، تركنا له رأيهم كله، ووسعنا أن نأخذ برأي الآخرين من القائلين بالإلزام، وهم عدد غير قليل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 632 التفريق بين ما يلزم ديانة وما يلزم قضاء: وأما النقطة الثالثة وهي التفريق بين ما يلزم ديانة وما يلزم قضاء، لاتخاذ ذلك ذريعة إلى أن وجوب الوفاء بالوعد من الناحية الدينية، لا يترتب عليه تدخل السلطات الشرعية للقضاء به، والإلزام بتنفيذه، فالواقع أن الأصل هو الإلزام بكل ما أوجبه الله ورسوله، وما مهمة السلطات إلا تنفيذ ما أمر الله به، ومعاقبة من خرج عليه بحكم مسئوليتهم الشاملة. والذي يتضح لي أن الأعلام الذين نقلنا رأيهم في وجوب الوفاء بالوعد، لم يكونوا يفرقون بين ما يلزم ديانة وما يلزم قضاء، بل الظاهر من سيرهم وأحوالهم وطريقة تفكيرهم أن كل ما يلزم المسلم دينا وشرعا، يقضى به عليه ويجبر على فعله في حالة الأمر والوجوب، وعلى تركه في حالة النهي والتحريم. يؤكد هذا أن بعضهم كان بيده سلطة الإلزام والقضاء بالفعل مثل عمر بن العزيز وابن الأشوع وابن شبرمة، وإنما فرق الفقهاء بين الديانة والقضاء فيما له ظاهر وباطن، فيحكم القضاء بالظاهر، ويكل إلى الله السرائر، كما في حكم القاضي لمن هو ألحن بحجته، ومن شهدت له البينة ولو كاذبة، أو شهد له ظاهر الحال، وإن كان الواقع غير ذلك، فيجوز له أن يأخذ ما حكم له به قضاء لا ديانة. وكذلك في بعض أحوال الطلاق ونحوه، قد يختلف القضاء عن الديانة، لاختلاف النية المكنونة عن الظاهر المشهود.. وهلم جرا. وما قرره مؤتمر المصرف الإسلامي الأول المنعقد في " دبي " من " أن ما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك، وأمكن للقضاء التدخل فيه". يتفق مع اتجاه الشريعة الإسلامية في الإلزام بالواجبات الدينية المحضة وإشراك ولي الأمر في رعايتها، مثل الصلاة والصيام ونحوها مما شدد الشرع في فعله، وأوجب العقوبة على تركه، وإذا كان هذا في العبادات التي لها صفتها الدينية البارزة، فأولى من ذلك ما يتعلق بالعلاقات والمعاملات. ومن المعروف أن عقوبة " التعزير " المفوضة إلى رأي الإمام، (ولي الأمر الشرعي) أو القاضي إنما محلها كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، وهذا باب واسع يستطيع القانون أو القضاء أن يدخل منه ليحاكم أو يعاقب على كل إهمال متعمد لواجب ديني، ومن ذلك ترك من يتعرض للهلاك بالجوع أو العطش أو الغرق أو الحريق أو غير ذلك دون أن يسعفه، فإن المذهب المالكي وغيره يحمله مسئولية جنائية بتركه لواجبه الديني. ومثل ذلك النفقة على البهيمة والرفق بها، مما هو واجب ديني في الأصل، ولكن عند إهماله يمكن أن يلزم القضاء، كما يدخل في سلطة المحتسب. وقانون " الوصية الواجبة " الذي أخذت به بعض البلاد الإسلامية إنما أرادت به إلزام الأجداد قانونا، بما كان يجب أن يراعوه ديانة، نحو أحفادهم الذين ليس لهم نصيب من الميراث في تَرِكَتِهِم لموت آبائهم في حياتهم، فجمعوا بين اليتم والحرمان فألزموا بالوصية لهم وفقا للآية الكريمة في صورة البقرة {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 633 عقد الاستصناع عند الحنفية: والخلاف في موضوع الوعد ومدى إلزامه، يشبه الخلاف الذي جاء في الفقه الحنفي حول " الاستصناع" الذي اتفق أئمة المذهب على جوازه، واعتباره بيعا صحيحا، برغم أنه بيع لمعدوم وقت العقد، ولكنهم أجازوه استحسانا، لتعامل الناس به الراجع إلى الإجماع العملي الممتد من عهد النبوة إلى اليوم بلا نكير، والتعامل بهذه الصفة- كما قال ابن الهمام - أصل مندرج في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) (1) اهـ. ثم اختلف مشايخ المذهب في تكييفه: أهو مواعدة أم معاقدة؟ فالحاكم الشهيد والصفار ومحمد بن سلمة، وصاحب المنثور اعتبروه مواعدة، وإنما ينعقد عند الفراغ بيعا بالتعاطي، ولهذا كان للصانع ألا يعمل ولا يجبر عليه بخلاف السلم، وللمستصنع ألا يقبل ما يأتي به ويرجع عنه. قال ابن الهمام: والصحيح من المذهب جوازه بيعا.. إلخ.. وإذا أتم صنع الشيء المطلوب فالمستصنع (بكسر النون) بالخيار إذا رآه: إن شاء أخذه وإن شاء تركه؛ لأنه اشترى ما لم يره ولا خيار للصانع؛ لأنه بائع باع ما لم يره، ومن هو كذلك فلا خيار له، وهو الأصح بناء على جعله بيعا لا عِدَة في رواية عن أبي حنيفة: أن له الخيار أيضا دفعا للضرر عنه؛ لأنه لا يمكنه تسليم المعقود عليه إلا بضرر. وعن أبي يوسف: أنه لا خيار لهما، أما الصانع فلما ذكرنا (أنه بائع باع ما لم يره) ، وأما المستصنع فلأن الصانع أتلف ماله (أي بتحويله من مادة خام إلى مصنوعات) ليصل إلى بدله، فلو ثبت له الخيار تضرر الصانع؛ لأن غيره لا يشتري بمثله. ألا ترى أن الواعظ إذا استصنع منبرا فالعامي لا يشتريه أصلًا (2) ؟ وهذا التعليل والتمثيل يرينا بوضوح كيف كان فقهنا يعيش في قلب الحياة العملية. وقد عدلت " مجلة الأحكام العدلية" الشهيرة في مسألة " الاستصناع " عن قول أبي حنيفة ومحمد المفتى به في المذهب، والذي يجعل الخيار للمستصنع بعد إنجاز المصنوع، وإن جاء مستوفيا كل المواصفات المتفق عليها، وتبنت قول أبي يوسف في عدم الخيار وإلزامه بأخذ المستصنع. وهذا ما نصت عليه المادة 292 من المجلة. وقد جاء في التقرير الذي قدمت به ما يأتي: - " وعند الإمام الأعظم (أبي حنيفة) أن المستصنع له الرجوع بعد عقد الاستصناع، وعند الإمام أبي يوسف رحمه الله أنه إذا وجد المصنوع موافقا للصفات التي بينت وقت العقد فليس له الرجوع، والحال أنه في هذا الزمان قد اتخذت معامل كثيرة تصنع فيها المدافع والبواخر ونحوها بالمقاولة، وبذلك صار الاستصناع من الأمور الجارية العظيمة، فتخيير المستصنع في إمضاء العقد أو فسخه يترتب عليه الإخلال بمصالح جسيمة.. لزوم اختيار قول أبي يوسف رحمه الله تعالى في هذا، مراعاة لمصلحة الوقت، كما حرر في المادة الثانية والتسعين بعد الثلاثمائة من هذه المجلة ". هذا وبالله التوفيق وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الدكتور / يوسف القرضاوي   (1) شرح فتح القدير على الهداية لابن الهمام جـ5 ص 355 (2) شرح العناية على الهداية للبابرتي جـ5 ص 256 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 634 الوفاء بالوعد وحكم الإلزام به إعداد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد: فلقد رغبت إلي الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ممثلة في أمينها العام المحترم الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة، أن أكتب بحثًا في الوعد وحكم الإلزام به، وكم كنت حريصًا على إجابة رغبة شيخنا الجليل ولكن صار لدي من المشاغل- ومنها إعداد بحث للمجمع في حكم تغير قيمة العملة بعد استقرارها في الذمة – هذه المشاغل حالت دون ذلك، فاكتفيت بجمع ما تيسر جمعه من أقوال أهل العلم في الموضوع، وصار مني بعض التعليقات اليسيرة عليها، وختمتها بتوجيه القول بلزوم الوعد على الواعد، بما لم أر أحدًا من أهل العلم قال به على وجه التفصيل مع ظهور قوة الاحتجاج به، أرجو أن يكون فيما ذكرته من نصوص أهل العلم مزيد إنارة وتبصير. لا شك أن الوعد التزام بما لا يلزم قبله، والوفاء به من مكارم الأخلاق، ومن صفات الأصالة البشرية وقد قالوا: " وعد الحر دين" وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن الوفاء بالوعد من آكد المستحبات، واختلفوا في وجوبه على الواعد ووجوب الوفاء به، فذهب جمهورهم إلى عدم وجوبه، وأن الوفاء مستحب ومن مكارم الأخلاق، وذهب آخرون إلى وجوب الوفاء به ديانة وعدم صحة الحكم به قضاء وذهب فريق ثالث إلى وجوب الوفاء به ديانة وقضاء مطلقًا من غير تفصيل، وفرقة تقول بوجوب الوفاء به ديانة وقضاء إن كان الوعد على سبب سواء دخل الموعود في ذلك السبب أم لم يدخل، كأن يقول لإنسان: تزوج وعلي صداق زوجتك. فيلزمه الوفاء بالوعد، والفريق الثالث يشترط للقول بوجوب الوفاء ديانة وقضاء، أن يترتب على الموعود التزام بسبب دخوله في سبب الوعد، كأن يقول لآخر: اشتر هذه السلعة وأقرضك ثمنها. فإن اشتراها تعين عليه إقراضه ثمنها، وفيما يلي أقوال لبعض أهل العلم في حكم الوفاء بالوعد تفصيلًا للإجمال المتقدم ذكره: 1- جاء في أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب ما يلي: أ) " إذا وعد أحدكم فلا يخلف "، رواه أبو يعلى والحاكم. ب) " إن حسن العهد من الإيمان "، حسنه الحاكم وقال على شرطهما وأقره الذهبي. جـ) " العِدَةُ دَيْنٌ "، فيه حمزة بن داود ضعفه الدارقطني لكن له عدة طرق فهو حسن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 635 2- في الجزء الخامس من فتح الباري على صحيح البخاري ص 289 -290 قال ابن حجر ما نصه: باب من أمر بإنجاز الوعد- وجه تعلق هذا الباب بأبواب الشهادات: إن وعد المرء كالشهادة على نفسه. قال الكرماني: قال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء اهـ. ونقل الإجماع في ذلك مردود فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل، وقال ابن عبد البر وابن العربي: أجل من قال به عمر بن عبد العزيز، وعن بعض المالكية: إن ارتبط الوعد بسبب وجب الوفاء به وإلا فلا. فمن قال لآخر: تزوج ولك كذا. فتزوج لذلك وجب الوفاء به وخرج بعضهم الخلاف على أن الهبة: هل تملك بالقبض أو قبله؟ وقرأت بخط أبي رحمه في إشكالات على الأذكار للنووي ولم يذكر جوابا عن الآية يعني قوله تعالى {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) وحديث: آية المنافق قال: والدلالة للوجوب فيها قوية فكيف حملوه على كراهية التنزيه مع الوعيد الشديد؟ وينظر هل يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك. ثم ذهب رحمه الله يشرح أحاديث الباب فقال: قوله وفعله الحسن أي الأمر بإنجاز الوعد. قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (2) . وفي رواية النسفي وذكر إسماعيل أنه كان صادق الوعد وروى ابن أبي حاتم من طريق الثوري أنه بلغه أن إسماعيل عليه السلام دخل قرية هو ورجل فأرسله في حاجة، وقال له أن ينتظره، فأقام حولا في انتظاره، ومن طريق ابن شوذب أنه اتخذ ذلك الموضع مسكنا فسمي من يومئذ صادق الوعد.   (1) الصف آية 3 (2) مريم آية 54 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 636 قوله: وقضى ابن الأشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب- إلى قوله – قال أبو عبد الله هو المصنف، وأن إسحاق ابن إبراهيم يحتج بحديث ابن الأشوع أي هذا الذي ذكره عن سمرة بن جندب، والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد – ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث، أحدها حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل أورد منه طرفا وقد تقدم موصولا في بدء الوحي. ثانيها: حديث أبى هريرة في آية المنافق وقد تقدم شرحه في كتاب الإيمان. ثالثها: حديث جابر في قصته مع أبي بكر فيما وعده به النبي صلى الله عليه وسلم من مال في البحرين إلى آخره. 3- وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم آية 54] . قال: الثالثة من هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: ((العِدَةُ دَيْنٌ)) ، وفي الأثر: وَأْيُ المؤمن واجب إلى أن قال في المسألة الرابعة – قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه، فقال: نعم، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان – إلى أن قال – وفي البخاري واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد، وقضى ابن الأشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب قال البخاري ورأيت إسحاق ابن إبراهيم - يعني ابن راهويه – يحتج بحديث ابن الأشوع اهـ.. 4- وقال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيره أضواء البيان على قوله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ} ما نصه: مسألة اختلف العلماء في لزوم الوفاء بالعهد، فقال بعضهم: يلزم الوفاء به مطلقا. وقال بعضهم: لا يلزم مطلقًا. وقال بعضهم: إن أدخله بالوعد في ورطة لزم الوفاء به، وإلا فلا. ومثاله – ما لو قال له: تزوج. فقال له: ليس عندي ما أصدق به الزوجة، فقال: تزوج والتزم لها الصداق وأنا أدفعه عنك؛ فتزوج على هذا الأساس، فإنه قد أدخله بوعده في ورطة التزام الصداق، واحتج من قال يلزمه: بأدلة منها آيات من كتاب الله دلت بظواهر عمومها على ذلك وبأحاديث، فالآيات كقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (1) ، وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) الآية، وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (3) الآية، وقوله هنا: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (4) الآية، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث؛ كحديث ((العِدَةُ دَيْنٌ)) .   (1) الإسراء آية 34 (2) المائدة آية 1 (3) النحل: آية. 91 (4) مريم: آية (54) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 637 فجعلها دَينا دليل على لزومها: قال صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: ((العدة دين)) رواه الطبراني في الأوسط، والقضاعي وغيرهما عن ابن مسعود، بلفظ قال: لا يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجز له؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العدة دين)) . ورواه أبو نعيم عنه بلفظ: إذا وعد أحدكم صبيه فلينجز له؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وذكره بلفظ " عطية " ورواه البخاري في الأدب المفرد موقوفا، ورواه الطبراني، والديلمي عن علي مرفوعا بلفظ: " العدة دين، ويل لمن وعد ثم أخلف، ويل له ". ثلاثا، ورواه القضاعي بلفظ الترجمة فقط، والديلمي أيضا بلفظ: ((الواعد بالعدة مثل الدين أو أشد)) أي وعد الواعد، وفي لفظ له ((عدة المؤمن دين، وعدة المؤمن كالأخذ باليد)) ، وللطبراني في الأوسط عن قباش بن أشيم الليثي مرفوعا: ((العدة عطية)) ، وللخرائطي في المكارم عن الحسن البصري مرسلا: ((أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلم تجده عنده، فقالت: عدني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن العدة عطية ")) وهو في مراسيل أبي داود، وكذا في الصمت لابن أبي الدنيا عن الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العدة عطية)) ، وفي رواية لهما عن الحسن أنه قال: ((سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فقال: " ما عندي ما أعطيك " قال: عدني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العدة واجبة)) قال في المقاصد بعد ذكر الحديث وطرقه: وقد أفردته مع ما يلائمه بجزء – انتهى منه، وقد علم في الجامع الصغير على الحديث من رواية علي عند الديلمي في مسند الفردوس بالضعف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 638 وقال شارحه المناوي: وفيه دارم بن قبيصة، قال الذهبي: لا يعرف اهـ. ولكن قد مر لك أن طرقه متعددة، وقد روى عن غير علي من الصحابة كما قدمنا روايته عن ابن مسعود، وقباش بن أشيم الكناني الليثي رضي الله عنهما. وسيأتي في هذا المبحث إن شاء الله أحاديث صحيحة، دالة على الوفاء بالوعد. واحتج من قال: بأن الوعد لا يلزم الوفاء به بالإجماع - على أن من وعد رجلا بمال إذا فلس الواعد لا يضرب الموعود بالوعد مع الغرماء، ولا يكون مثل ديونهم اللازمة بغير الوعد، حكى الإجماع على هذا ابن عبد البر، كما نقله عنه القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة، وفيه مناقشة وحجة من فرق بين إدخاله إياه في ورطة بالوعد فيلزم وبين عدم إدخاله إياه فيها فلا يلزم - أنه إذا أدخله في ورطة بالوعد ثم رجع في الوعد وتركه في الورطة التي أدخله فيها؛ فقد أضر به، وليس للمسلم أن يضر بأخيه؛ لحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) . وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال مالك: إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له: نعم، ثم يبدو له ألا يفعل، فما أرى يلزمه، قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال: نعم، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه يلزمه إذا شهد عليه اثنان. وقال أبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعي، والشافعي وسائر الفقهاء: إن العدة لا يلزم منها شيء؛ لأنها منافع لم يقبضها في العارية؛ لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها، وفي البخاري: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (1) وقضى ابن أشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب، قال البخاري: ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع اهـ كلام القرطبي، وكلام البخاري الذي ذكر القرطبي بعضه هو قوله في آخر كتاب " الشهادات ": باب من أمر بإنجاز الوعد وفعله الحسن {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (2) وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة، وقال المسور بن مخرمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر صهرا له، قال وعدني فوفى لي، قال أبو عبد الله ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع: حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله: أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره.   (1) مريم: آية (54) (2) في البخاري ج/ 3 ص 180 طبع بولاق " وفعله الحسن، وذكر إسماعيل إنه كان صادق الوعد" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 639 قال: أخبرني أبو سفيان: أن هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم؛ فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبي، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف)) . حدثنا إبراهيم ابن موسى، أخبرنا هشام عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال: ((لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء ابن الحضرمي فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين، أو كانت له قبله عدة فليأتنا، قال جابر: فقلت: وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا. فبسط يديه ثلاث مرات، قال جابر: فعد في يدي خمسمائة، ثم خمسمائة، ثم خمسمائة،.)) حدثنا محمد بن عبد الرحيم، أخبرنا سعيد بن سليمان، حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير: قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس، قال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل – انتهى من صحيح البخاري – وقوله في ترجمة الباب المذكور " وفعله الحسن " يعني الأمر بإنجاز الوعد. ووجه احتجاجه بآية " إنه كان صادق الوعد " أن الثناء عليه بصدق الوعد يفهم منه أن إخلافه مذموم فاعله؛ فلا يجوز، وابن الأشوع المذكور هو سعيد بن عمرو بن أشوع الهمداني الكوفي، كان قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق، وقد وقع بيان روايته المذكورة عن سمرة بن جندب في تفسير إسحاق بن راهويه وهو إسحاق بن إبراهيم الذي ذكر البخاري أنه رآه يحتج بحديث ابن أشوع؛ كما قال ابن حجر في " الفتح "، والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 640 وصهر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أثنى عليه بوفائه له بالوعد هو أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أسره المسلمون يوم بدر كافرا، وقد وعده برد ابنته زينب إليه وردها إليه، خلافا لمن زعم أن الصهر المذكور أبو بكر رضي الله عنه، وقد ذكر البخاري في الباب أربعة أحاديث في كل واحد منها دليل على الوفاء بإنجاز الوعد. الأول – حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل وهو طرف من حديث صحيح مشهور، ووجه الدلالة منه في قوله: " فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة" فإن جميع المذكورات في هذا الحديث مع الوفاء بالعهد كلها واجبة، وهي الصلاة والصدق والعفاف وأداء الأمانة، وقد ذكر بعد ذلك أن هذه الأمور صفة نبي والاقتداء بالأنبياء واجب. الثاني- حديث أبي هريرة في آية المنافق. ومحل الدليل منه قوله ((وإذا وعد أخلف)) فكون إخلاف الوعد من علامات المنافق يدل على أن المسلم لا يجوز له أن يتسم بسمات المنافقين. الثالث – حديث جابر في قصته مع أبي بكر، ووجه الدلالة منه أن أبا بكر قال: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبله عدة.. الحديث. فجعل العدة كالدين، وأنجز لجابر ما وعده به النبي صلى الله عليه وسلم من المال. فدل ذلك على الوجوب. الرابع – حديث ابن عباس في أي الأجلين قضى موسى، ووجه الدلالة منه أنه قضى أطيبهما وأكثرهما، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل، فعلى المؤمنين الاقتداء بالرسل، وأن يفعلوا إذا قالوا، وفي الاستدلال بهذه الأحاديث مناقشات من المخالفين. ومن أقوى الأدلة في الوفاء بالعهد قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) ؛ لأن المقت الكبير من الله على عدم الوفاء بالقول يدل على التحريم الشديد في عدم الوفاء به، وقال ابن حجر في " الفتح" في الكلام على ترجمة الباب المذكور وقال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض؛ لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به من الغرماء اهـ. ونقل الإجماع في ذلك مردود؛ فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل، وقال ابن عبد البر وابن العربي أجل من قال به عمر بن العزيز: انتهى محل الغرض من كلام الحافظ في الفتح. وقال أيضا: وخرج بعضهم الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في الهبة، هل تملك بالقبض أو قبله؟ فإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة، وما استدل به كل فريق منهم- فاعلم أن الذي يظهر لي في هذه المسألة - والله تعالى أعلم - أن إخلاف الوعد لا يجوز؛ لكونه من علامات المنافقين، ولأن الله يقول: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: آية (3) ] ، وظاهر عمومه يشمل إخلاف الوعد ولكن الواعد إذا امتنع من إنجاز الوعد لا يحكم عليه به ولا يلزم به جبرًا بل يؤمر به ولا يجبر عليه؛ لأن أكثر علماء الأمة على أنه لا يجبر على الوفاء به؛ لأنه وعد بمعروف محض، والعلم عند الله تعالى.   (1) الصف: آية (3) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 641 5- وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في فتاواه ص395 قال في الإقناع وشرحه عن الرعاية: ولو قال لزيد: طلق زوجتك وعلي ألف أو مهرها. فطلقها لزمه ذلك بالطلاق، ولو قال: بع عبدك من زيد بمائة وعلي مائة أخرى لم يلزمه شيء، والفرق أن ليس في الثاني إتلاف بخلاف الأول، اهـ. أقول: وفي هذا الفرق نظر فإنه إنما اختار بيعه بمائة لضمان المائة الأخرى فكأنه لم يرض ببيعه إلا بمائتين، والذي تقتضيه القواعد استواء المسألتين في الضمان، اهـ. 6- وقال رحمه الله في فتاواه ص 375 ما نصه: مرادهم بقولهم " الحال لا يتأجل " أنه إذا حل عليه دين فرضي بتأجيله بعد حلوله أنه وعد لا يجب عليه الوفاء به بل ليس له الوفاء به، ولو شرط على نفسه ذلك لم يلزمه وليس له مأخذ غير ما عللوه به، ومأخذ القائلين بتأجيله بعد حلوله إذا رضي صاحب الحق أولى فإن الشارع أمر بالوفاء بالوعود والعهود، وذم المخالفين للوعد وأخبر أنه من نعوت المنافقين، وهذا القول هو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد واختاره الشيخ وجملة من الأصحاب- إلى أن قال- والصواب أن القرض والعارية والديون الحالة تلزم بالتأجيل ولا يطالب صاحبها قبل حلول الأجل اهـ. 7- وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في حاشيته على الروض المربع جـ5 ص 40 على قول الزاد: بل ثبت بدله بذمته أي ذمة المقترض حالا ولو أجله المقرض، ما نصه قضية تشبيهه بالصرف عدم جواز التأجيل في القرض وعنه صحة تأجيله ولزومه إلى أجله وهو مذهب مالك وصوبه في الإنصاف، وقال الشيخ تقي الدين: الحال يتأجل بتأجيله سواء كان الدين قرضا أو غيره لقوله: المسلمون على شروطهم. وقال ابن القيم: هو الصحيح لأدلة كثيرة اهـ. وقال على قول الزاد: قال الإمام: القرض حال وينبغي أن يفي بوعده؛ لأن الوفاء بالوعد مستحب. واختار الشيخ لزومه إلى أَجَلٍ، وفي الإنصاف: اختار الشيخ صحة تأجيله ولزومه إلى أجله سواء كان قرضا أو غيره، وذكره وجها وهو الصواب ومذهب مالك والليث وذكره البخاري عن بعض السلف اهـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 642 8- وقال ابن القيم في إعلام الموقعين جـ 3 ص 445 ما نصه: المثال الحادي والثلاثون: اختلف الناس في تأجيل القرض والعارية إذا أجلها، فقال الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه وأبو حنيفة: لا يتأجل شيء من ذلك بالتأجيل وله المطالبة به متى شاء. وقال مالك: يتأجل بتأجيل، فإن أطلق ولم يؤجل ضرب له (أجل مثله) وهذا هو الصحيح لأدلة كثيرة مذكورة في موضعها اهـ. 9- قول الأستاذ الكبير مصطفى أحمد الزرقا في كتابه المدخل الجزء الثاني ص 1023 - 1024 تفريعا على قاعدة المعلق بالشرط يجب ثبوته عند ثبوت الشرط ما نصه: المواعيد بصورة التعاليق تكون لازمة: الأصل في الوعد أنه لا يلزم صاحبه قضاء وإن كان الوفاء به مطلوبا ديانة ... فلو وعد شخص آخر بقرض أو بيع أو بهبة أو بفسخ أو بإبراء أو بأي عمل حقوقي آخر لا ينشأ بذلك حق للموعود فليس له أن يجبره على تنفيذه بقوة القضاء، غير أن الفقهاء الحنفيين لحظوا أن الوعد إذا صدر معلقا على شرط فإنه يخرج عن معنى الوعد المجرد، ويكتسي ثوب الالتزام والتعهد فيصبح عندئذ ملزما لصاحبه (شرح العلامة علي حيدر على المجلة) ، وذلك فيما يظهر اجتنابا لتغرير الموعود بعدما خرج الوعد مخرج التعهد، وقد قال ابن نجيم في الحظر والإباحة من الأشباه جـ 2 ص 110 لا يلزم الوعد إلا إذا كان معلقا. وعلى هذا قرر الفقهاء أنه لو قال شخص لآخر: بع هذا الشيء من فلان وإذا لم يعطك فأنا أعطيكه. فلم يعطه المشتري الثمن بعد المطالبة التزم القائلُ، وكذا لو باع شيئا بغبن فاحش فقال المشتري للبائع المغبون: إذا رددت إلي الثمن فسخت لك البيع. كان هذا الوعد ملزما ويصبح البيع كبيع الوفاء الذي هو في معنى الرهن - إلى أن قال – وفي الاجتهاد المالكي أربعة آراء فقهية حول لزوم الوعد وعدم لزومه قضاء، والمشهور من هذه الآراء أنه يعتبر الوعد بالعقد ملزما للواعد قضاء إذا ذكر فيه سبب ودخل الموعود تحت التزام مالي بمباشرة ذلك السبب بناء على الوعد، وذلك كما لو وعد شخصٌ آخرَ بأن يقرضه مبلغا من المال بسبب عزمه على الزواج ليدفعه مهرا أو ليشتري به بضاعة، فتزوج الموعود أو اشترى البضاعة ثم نكل الواعد عن القرض، فإنه يجبر قضاء على تنفيذ وعده (الفروق للقرافي جـ4 ص24 – 25 ورسالة الالتزام للحطاب وهي منشورة في الجزء الأول من فتاوى الشيخ عليش، بحث مسائل الالتزام) وهذا وجيه جدا فإنه بنى الالتزام على فكرة دفع الضرر الحاصل فعلا للموعود من تغرير الواعد، فهو أوجه من الاجتهاد الحنفي الذي بنى الالتزام على الصور اللفظية للوعد هل هي تعليقية أو غير تعليقية، فإن التعليق وعدمه لا يغير شيئا من حقيقة الوعد اهـ. وجاء في حاشية المدخل للزرقا قوله: وقال أصبغ من فقهاء المالكية: يكفي للإلزام بالوعد ذكر السبب من زواج أو بناء أو غيرهما ولو لم يباشره الموعود اهـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 643 10- ونظرا إلى أن جمهور القائلين بالإلزام بالوعد على تفصيل بينهم، هم فقهاء المذهب المالكي، ولقد كتب أبو عبد الله محمد عليش في الموضوع بحثا قيما مستفيضا تكلم فيه عن الوعد وأقسامه، وحكم كل قسم مستعرضا في ذلك نصوص فقهاء مذهبه - المذهب المالكي - وذلك في كتابه فتح العلي المالك المشهور فتاوى عليش وذلك في الجزء الأول ص 254- 258 رأيت أن هذا البحث مجز عن استعراض أقوال فقهاء المذهب المالكي وعليه فقد جرى مني نقله بكامله وجعله بعضا من هذه النقول في المسألة: قال أبو عبد الله محمد أحمد عليش المتوفى 1299 رحمه الله في كتابه فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك ما نصه: (تنبيه) يجب الوفاء بنذر العتق وإن لم يكن في ملك الناذر حينئذ ما يعتقه، قال في كتاب النذور من المدونة فيمن نذر عتق رقبة فلم يستطعها: إن الصوم لا يجزئه فهذا يدل على أنه يلزم الوفاء به، وإن لم يكن في ملكه من يعتقه، وقال في رسم العبرة من سماع يحيى من كتاب العتق في رجل جعل على نفسه رقبة من ولد إسماعيل، قال مالك: ليعتق رقبة، قيل له: أيجزئه رقبة من الذبح؟ قال: ليعتق رقبة أقرب الرقاب إلى ولد إسماعيل، قال ابن رشد: وهذا كما قال؛ لأن للشريف في النسب حرمة توجب التنافس في العبيد من أجلها وكزيادة في ثمنها والأجر على قدر ذلك اهـ. (فصل) وأما العدة فليس فيها إلزام الشخص نفسه شيئا الآن وإنما هي كما قال ابن عرفة: إخبار عن إنشاء المخبر معروفًا في المستقبل، ولا خلاف في استحباب الوفاء بالوعد. وقد قال مالك في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب الحج ومن كتاب العدة فيمن هلك وعليه مشي إلى بيت الله عز وجل فسأل ابنه أن يمشي عنه فوعده بذلك، فقال مالك: أما إذا وعد فإني أحب له أن لو فعل ذلك، ولكن ما ذلك رأي أو يمشي أحد عن أحد، ولكني أحب له إذا وعده أن يفعل ذلك. قال ابن رشد: المعنى في هذه المسألة أن مالكا استحب له أن يفي لأبيه بما وعده به من المشي عنه وإن كان ذلك عنده لا قربة فيه من ناحية استحباب الوفاء بالوعد في الجائزات التي لا قربة فيها. اهـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 644 فالوفاء بالعدة مطلوب بلا خلاف واختلف في وجوب القضاء بها على أربعة أقوال حكاها ابن رشد في كتاب جامع البيوع، وفي كتاب العارية، وفي كتاب العدة ونقلها عنه غير واحد فقيل: يقضى بها مطلقا، وقيل: لا يقضى بها مطلقا، وقيل: يقضى بها إن كانت على سبب وإن لم يدخل الموعود بسبب العدة في شيء كقولك: أريد أن أتزوج أو أن أشتري كذا أو أن أقضي غرمائي فأسلفني كذا، أو أريد أن أركب غدا إلى مكان كذا فأعرني دابتك، أو أن أحرث أرضي فأعرني بقرك، فقال: نعم، ثم بدا له قبل أن يتزوج أو أن يشتري أو أن يسافر فإن ذلك يلزمه ويقضى عليه به فإن لم يترك الأمر الذي وعدك عليه وكذا لو لم تسأله، وقال لك هو من نفسه: أنا أسلفك كذا لتقضي دينك أو لتتزوج أو نحو ذلك، فإن ذلك يلزمه ويقضى به عليه، ولا يقضى بها إن كانت على غير سبب كما إذا قلت: أسلفني كذا ولم تذكر سببا أو: أعرني دابتك أو بقرك ولم تذكر سفرا ولا حاجة، فقال: نعم، ثم بدا له أو قال هو من نفسه: أنا أسلفك كذا أو: أهب لك كذا، ولم يذكر سببا ثم بدا له والراجح يقضى بها إن كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العدة في شيء، وهذا هو المشهور من الأقوال، قال في آخر الرسم الأول من سماع أصبغ من جامع البيوع قال أصبغ: سمعت أشهب وسئل عن رجل اشترى من رجل كرما فخاف الوضيعة، فأتى ليستوضعه، فقال له: بع وأنا أرضيك، قال: إن باع برأس ماله أو بربح فلا شيء عليه، وإن باع بالوضيعة كان عليه أن يرضيه، فإن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد، وإن لم يكن أراد شيئا أرضاه بما شاء وحلف بالله ما أراد أكثر من ذلك إن لم يكن أراد شيئًا يوم قال ذلك: قال أصبغ.. وسألت عنها ابن وهب فقال: عليه رضاه بما يشبه ثمن تلك السلعة والوضيعة فيها قال أصبغ: قول ابن وهب هو أحسن عندي وهو أحب إلي إذا وضع فيها، قال محمد بن رشد: قوله بع وأنا أرضيك عدة إلا أنها عدة على سبب وهو البيع، والعدة إذا كانت على سبب لزمت بحصول السبب في المشهور من الأقوال، وقد قيل: إنها لا تلزم بحال، وقيل: إنها تلزم على كل حال، وقيل: إنها تلزم إذا كانت على سبب وإن لم يحصل السبب. وقول أشهب: إن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد يريد مع يمينه ومعناه إذا لم يسم شيئا يسيرا لا يشبه أن يكون أرضاه، والدليل على أنه يحلف على مذهبه إذا قال: أردت كذا وكذا لما يشبه قوله إنه إن لم يكن أراد شيئا أرضاه بما شاء وحلف أنه ما أراد أكثر من ذلك، وجوابه هذا على أصله في كثير من مسائله إذ لا يؤخذ بأكثر مما يقر به على نفسه، واليمين في هذا يمين تهمة؛ إذ لا يمكن المستوضع أن يدعي بينة فيحقق الدعوى عليه بخلاف ما ذكر أنه أراده فيدخل فيها من الخلاف ما يدخل في يمين التهمة، وأما ابن وهب فأخذه بمقتضى ظاهر لفظه وألزمه إرضاءه إلا أن لا يرضى بما يقول الناس فيه أنه أرضاه، فلا يصدق إن لم يرض ويؤخذ بما يقول الناس فيه أنه أرضاه، هذا معنى ولو حلف ليرضيه لم يبر إلا باجتماع الوجهين وهما أن يضع عنه ما يرضى به وما تقول الناس فيه أنه أرضاه وقد مضى ما يدل على هذا في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النذور في الحلف ليرضين غريمه من حقه اهـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 645 قلت: وهذا القول الذي شهره ابن رشد في القضاء بالعدة إذا دخل بسببها في شيء قال الشيخ أبو الحسن في أول كتاب الأول وفي كتاب الغرر: إنه مذهب المدونة لقولها في آخر كتاب الغرر: وإن قال: اشتر عبد فلان وأنا أعينك بألف درهم فاشتراه لزمه ذلك الوعد اهـ. وهو قول ابن القاسم في سماعه من كتاب العارية وقول سحنون في كتاب العدة ونصه في سماع عيسى: قلت لسحنون: ما الذي يلزم من العدة في السلف والعارية قال: ذلك أن يقول الرجل للرجل: اهدم دارك وأنا أسلفك أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، وعزاه له ابن رشد في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم من كتاب العارية، وقال القرافي في الفروق الرابع عشر بعد المائتين قال سحنون: الذي يلزم من الوعد اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبنى به أو: اخرج إلى الحج وأنا أسلفك أو اشتر سلعة أو تزوج امرأة وأنا أسلفك؛ لأنك أدخلته بوعدك في ذلك، أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به بل الوفاء به من مكارم الأخلاق اهـ. وقال اللخمي في كتاب الشفعة لها ذكر حجة مقابل المشهور القائل بلزوم إسقاط الشفعة قبل الشراء ما نصه: ولو قال له: اشتر هذا الشقص والثمن علي، فاشتراه لزم أن يغرم الثمن الذي اشتراه به؛ لأنه أدخله في الشراء وهذا قول مالك وابن القاسم اهـ. والقول بأنه يقضي بها إذا كانت على سبب وإن لم يدخل بسببها في شيء هو قول أصبغ في كتاب العدة وقول مالك في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم وهو قوي أيضا، والقول بعدم القضاء بها مطلقا في سماع أشهب من كتاب العارية والقول بالقضاء بها مطلقا لم يعزه ابن رشد، وهذان القولان ضعيفان جدا والله أعلم. (فرع) إذا قال له: إن غرمائي يلزمونني بدين فأسلفني أقضهم، فقال: نعم ثم بدا له فقال أصبغ من سماع عيسى من كتاب العدة: يلزمه ذلك، ويحكم عليه به وهو جار على قوله: بلزوم العدة إذا كانت على سبب ولم يدخل بسببها في شيء، وقال ابن القاسم: إنما يلزمه إذا اعتقد الغرماء منه على موعد أو أشهد بإيجاب ذلك على نفسه وذلك على أصله من أنه لا يقضي بالعدة إلا إذا دخل بسببها في شيء، ولو قال: أشهدكم أني فاعل أو أفعل فظاهر كلام مالك في سماع ابن القاسم من العارية أنه تردد في الحكم عليه بذلك، وأن الظاهر اللزوم. قال ابن رشد ولو قال: أشهدكم أني قد فعلت لما وقف في إيجابه عليه ولزوم القضاء به اهـ. (فرع) قال في سماع أشهب من كتاب العارية فيمن حلف ليوفين غريمه إلى أجل، فلما خشى الحنث ذكر ذلك الرجل فقال: لا تخف ائتين هذه العشية أعطيكها، فلما كان العشي جاءه فأبى أن يعطيه فقال له: أغررتنى حتى خفت أن يدخل علي الطلاق أقراه له لازما، فقال له: لا والله ما أرى ذلك لازما له وما هو من مكارم الأخلاق ولا محاسنها قال ابن رشد قد قيل إنه يلزمه وهو الأظهر؛ لأنه غره ومنعه أن يحتال لنفسه بما يبر به من سلف أو غيره اهـ. قلت فالقول الأول مبني على أن العدة لا يقضى بها ولو كانت على سبب ودخل في السبب وقد تقدم أنه في سماع أشهب من العارية، والثاني مبني على أنه يقضي بها إذا كانت على سبب وعلى المشهور أيضا؛ لأنه قد أدخله بسبب العدة في عدم الاحتيال لنفسه حتى خشي الحنث والله تعالى أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 646 (تنبيه) وأما الفرق بين ما يدل على الالتزام وما يدل على العدة فالمرجع فيه إنما هو إلى ما يفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال بحيث دل الكلام على الالتزام ولهذا قال الشيخ خليل في مختصره في باب الخلع: ولزمت البينونة إن قال: إن أعطيتني ألف فارقتك أو أفارقك إن فهم الالتزام أو الوعد إن ورطها فالشرط في قوله إن ورطها راجع إلى الوعد قال في التوضيح كما لو باعت قماشا أو كسرت حليها والله تعالى أعلم، ولا يفرق بين العدة والالتزام بصيغة الماضي والمضارع كما قد يتبادر للفهم من كلام ابن رشد في رسم حلف من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق وسيأتي في الباب الثالث إن شاء الله تعالى ذكره بتمامه فإن الالتزام قد يكون بصيغة المضارع إذا دلت القرائن عليه كما يفهم من كلام الشيخ خليل الماضي في مسألة الخلع ومن كلام ابن رشد المتقدم قريبا من كلام أصبغ الآتي في الفرع بعد هذا نعم صيغة الماضي دالة على الالتزام وإنفاذ العطية والظاهر من صيغة المضارع الوعد إلا أن تدل قرينة على الالتزام كما يفهم من كلام ابن رشد فتأمله والله تعالى أعلم. (فرع) قال أصبغ في سماع عيسى من كتاب العدة لو سألك مديان أن تؤخره إلى أجل كذا وكذا فقلت أؤخرك لزمك تأخيره إلى الأجل، قلت: سواء قلت أنا أؤخرك أو قد أخرتك قال: نعم سواء في الحكم عليك غير أن قولك أنا أؤخرك عدة تلزمك وقولك قد أخرتك شيء واجب عليك كأنه من أصل حقك لم تبتدئه الساعة وكلاهما يلزمك الحكم به غير أن قولك قد أخرتك أوجبهما وأوكدهما. اهـ. ونقل هذا في الذخيرة واقتصر عليه وهو جار على قول أصبغ في القضاء بالعدة إذا كانت على سبب وإن لم يدخل بسببه في شيء وأما على المشهور فإنما يلزمه في قوله: أؤخرك إذا ورطه بذلك أو تدل قرينة على أنه أراد التأخير لا الوعد به فتأمله وهو يبين لك ما ذكرته من أن صيغة الماضي دالة على الالتزام، وصيغة المضارع إنما تدل عليه مع قرينة، ولم يتكلم ابن رشد على هذه المسألة بشيء بل قال: مضى تحصيل فيها سماع ابن القاسم من كتاب العارية ويشير إلى ما تقدم من الأقوال الأربعة في القضاء بالعدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 647 (فرع) قال في رسم حلف ليفعلن من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح: سئل مالك عن رجل كانت تحته امرأة فخطب أختها لابنه فقالت له عمتها: على صداق أختها فقال: لن أقصر بها إن شاء الله تعالى، فزوجوه، ثم إن الابن طلقها قال: أيقر هو بذلك؟ قال: نعم، قد قلت هذا القول ووعدتهم ولم أوجب على نفسي صداقا فرأيته يراه عليه وقال مرة فيصطلحوا وكأنه يراه عليه تشبيها، ويجاب ولم يبينه، قال ابن القاسم: أرى ذلك عليه إذا زوجوه على ذلك كأنه إنما تزوج على المكافأة، قال سحنون مثله، قال محمد بن رشد: أما إذا كان قولهم قد زوجناك جوابا لقوله لن أقصر عن صداق أختها فبين أن ذلك يلزمه كما قال ابن القاسم لأنه بمنزلة أن لو قالوا له نزوجك على أن لا تقصر عن صداق أختها وأما إن انقطع ما بين الكلامين فالأمر محتمل والأظهر إيجاب ذلك عليه كما ذهب إليه مالك وإن كان لم يبينه لأن ذلك أقوى من العدة الخارجة على سبب وفي التفسير ليحيى عن ابن القاسم أنه يحلف أنه ما أراد إيجاب ذلك على نفسه ولا يلزمه شيء فإن لكل غرم نصف الصداق ووجه ذلك أنه رأى قوله لن أقصر بها إن شاء الله عدة لا تلزم فلم يلزمه شيء إذا حلف أنه لم يرد إيجاب ذلك على نفسه وحلف بالتهمة دون تحقيق الدعوى ولذلك لم ترد اليمين وذلك فقوله على القول بلحوق يمين التهمة وأنها لا ترجع وقد اختلف في الوجهين. انتهى والله تعالى أعلم. 11- وفي الفروق للقرافي في الفرق الرابع عشر بعد المائتين بحث مستفيض في مسألة الوعد وحكم الإلزام به وحاشية الشاطر عليه وتعقبه بعض آرائه في المسألة ورده عليه وحيث إن البحث قد لا يخرج عما ذكره الشيخ عليش رحمه الله فقد رأيت الاكتفاء بلفت النظر إليه لمن يرغب الاستزادة من كلام أهل العلم دون نقله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 648 12- ولقد سعدت بقراءة بحث قيم للدكتور يوسف القرضاوي عن المرابحة والرد على من يعترض على إجازتها وقد كان في رده بحث عن الوعد وحكم الإلزام به استعرض كثيرا من نصوص القائلين وظهر لي أنه من أجل البحوث في هذه المسألة فرأيت جعله جزءا من هذه النقول ونظرا لطوله فقد اعتبرته بحثا مستقلا وقدمت صورته لأمانة المجمع للتكرم بتصويره وتوزيعه على الإخوة المشاركين في هذه الدورة المباركة. وهناك توجيه للقائلين بلزوم الوعد وهو أن من الوعد النذر والنذر عرفه بعض أهل العلم بأنه إيجاب طاعة غير واجبة وقد أجمع أهل العلم على وجوب الوفاء على الناذر إذا كان في طاعة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم)) . فإذا كان النذر ضربا من الوعد وهو حق لله تعالى وحقوق الله تعالى على عباده مبنية على التسامح والاتساع ومع ذلك فقد أجمع أهل العلم على لزومه ووجوب الوفاء به بشرطه فإن القول بوجوب الوفاء بالوعد علي العبد من باب أولى فإن حقوق العباد مبناها على المشاحة والمضايقة لا سيما إذا ترتب على الوعد التزام من الموعود أثر الوعد فإن في إخلاف الوعد ضررا على الموعود وقد قال صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) . ولا يخفى أن من حقوق الله الحدود وهي تدرأ بالشبهات ولا تدخلها الأيمان ويقبل من المقر بها الرجوع عن إقراره بخلاف حقوق العباد فإذا كان حق الله في النذر واجب الوفاء وهو في حقيقته وعد فحق العبد على أخيه الوفاء بوعده ولزوم وفائه متجه كاتجاه لزوم العبد وفاءه بنذره. وقد يرد علي هذا التوجيه بأن حق الله أولى فحق الله على عباده ليس كحقوق بعضهم على بعض لاسيما إذا كان من باب التبرع والالتزام بما لا يلزم. والله ولي التوفيق وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 649 الوفاء بالوعد في الفقه الإسلامي بقلم الشيخ هارون خليف جيلي بسم الله الرحمن الرحيم الوفاء بالوعد تمهيد: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين. وعلى آله الأطهار وأصحابه الأوفياء. وبعد: فقد يلزم الإنسان نفسه بالتزامات تبرعية، ويطلب منه الوفاء مستقبلًا، لأن الحياة العملية للأفراد والجماعات اقتضت ذلك، لأن الفرد عضو من أعضاء مجتمعه، لابد له من رابط أو روابط بينه وبين المجتمع، فمنها روابط اجتماعية واقتصادية. فالعقود المتنوعة صور معروفة وشائعة بين أفراد المجتمع، فيتولد عنها التزامات ينبغي الوفاء بها. ومن مظاهر المجتمع المدني والريفي التزامات أفراده بالوعود والعهود المختلفة، فقديمًا أخذ الإنسان يعد لأخيه الآخر ما سيعود نفعه إليهما. والوعد يحقق معروفا لإنسان من طرف إنسان آخر. فإذًا هو أمر مشروع لإصلاح المجتمع والفرد، فلا شك أن يكون لوفائه وإنجازه أثر بليغ في العلاقات الاجتماعية إيجابيًا أو سلبيا. وهي غالبا ما تنشأ عنها التزامات مالية، فالبحث فيها مفيد جدًا. فلذا أقلب صفحات كتب الفقهاء حسبما تسنح لي الفرصة عسى أن أجد شيئا يمكن تناوله في صفحات قليلة، وأستمد من المولى العلي القدير العون والهداية والتوفيق والسداد، إنه قريب مجيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 650 المبحث الأول: تعريف الوعد لغة واصطلاحًا: أ- تعريفه في اللغة: إن كلمة الوعد مصدر وعد يعد – بالكسر – وعدا وعدة، وموعودًا وموعدًا وموعدةً، ولها صيغ أخرى: كأوعد إيعادًا، وواعد مواعدة. واتعد اتعادًا، وتوعد توعدا.. وهذا من حيث الاشتقاق، أما من حيث المعنى اللغوي: فلم أر – فيما اطلعت فيه من كتب اللغة – من تعرض إلى تحديد المعنى الأصلي للفظة الوعد- إن لم تخن الذاكرة -، لكنهم قالوا (وعد الفحل – أي هدر.. ووعدت الأرض – أي رجي خيرها) ، ولعل هذا المعنى هو المعنى الأصلي لكلمة الوعد. ولكنهم تكلموا عن المعاني المختلفة كثيرا. قال ابن سيده: يقال: وعده الأمر، وبه عدة ووعدا وموعدا وموعودا وموعدة. وهو من المصادر التي جاءت على مفعول ومفعلة ومفعولة، وقد تواعد القوم واتعدوا، وواعدوا الوقت والموضع. وواعده فوعده، وأوعده وتوعد. وقال الفراء: يقال: وعدته خيرا ووعدته شرًا بإسقاط الألف – أي سأنيله إياه- وقال: فإذا أسقطوا الخير والشر، وقالوا في الخير: وعدته، وفي الشر: أوعدته، ويقال في الخير الوعد والعدة، وفي الشرر: الإيعاد والوعيد. وفي الصحاح: تواعد القوم: أي وعد بعضهم بعضا هذا في الخير وأما في الشر: فيقال: اتعدوا. وخلاصة القول: إن الوعد يتعدى بنفسه إلى المفعول الثاني، وبالباء واللام أيضا. وأنه يستعمل في الخير والشر كما في مختار الصحاح وغيره. إذ هو شائع فيهما- كما هو الواضح وذكره البيضاوي في تفسيره وورد ذكرهما في القرآن الكريم بكثرة {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة 268] {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج 72] . وأن الوعد يستعمل في الخير أكثر من الشر، كما في التفسير الوسيط وأن الوعد والعدة يستعملان في الخير، والإيعاد والوعيد في الشر فالمصدر هو الفارق لذا قال ابن النفيس في الياقوت " صرح أئمة اللغة: بأن الوعد يستعمل في الخير والشر مقيدا.. وأما عند الإطلاق: فيستعمل الوعد في الخير والإيعاد في الشر ". وإن صيغ الوعد اللغوية أكثرها واردة في الكتاب والسنة. فمنها: المواعدة التي في قوله تعالى {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51] وقوله تعالى {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة 235] . ومنها: التوعد الوارد في قوله تعالى: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأعراف: 86] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 651 ومنها: التواعد الوارد في قوله: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الانفال 42] منها الموعدة الواردة في قوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة 114] . ومنها: العدة التي في الحديث المتفق عليه عن جابر بن عبد الله في ما شأن وعده النبي صلى الله عليه وسلم ووفى له أبو بكر بعد وفاة النبي حيث: " إن أبا بكر أمر مناديًا، فنادى من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتنا ... ". ومنها: الإيعاد الوارد في الحديث الشريف: " إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ". ولكن الأكثر في ألسنة الفقهاء لا سيما فقهاء المالكية " الوعد والعدة والمواعدة ". وفي كتب اللغة أن العدة معناها اللغوي هو الوعد بعينه فيقال وعد فلان فلانا كذا وكذا أو بكذا وكذا والاسم منه العدة فالعدة إذا هي اسم منقوص من الوعد فيحمل معناه بلا زيادة ولا نقصان، وأن معنى المواعدة في اللغة إنشاء وعدين متقابلين من شخصين أو أكثر، كأن يعد عمر لعلي بأنه سيفعل له كذا وكذا، فيعد علي لعمر عقب وعده بأنه سيؤدي له كذا وكذا في مقابلة ذلك. وأن معنى الوعد اللغوي هو الإخبار عن فعل أمر في المستقبل خيرًا كان أو شرًا، بخلاف الوعيد فإنه لا يكون إلا بالشر، وقيل معناهما واحد. ب- أما تعريف الوعد في الاصطلاح الفقهي: فقد قال ابن عرفة المالكي العدة إخبار عن إنشاء المخبر معروفًا في المستقبل. وقد قيل: إن فقهاء المالكية اعتادوا في اصطلاحهم حول كلمة العدة خاصة: أنها "الإعلان عن رغبة الواعد في إنشاء معروف في المستقبل يعود بالفائدة على الموعود له". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 652 وقال الفقيه الحنفي العيني، كما في عمدة القاري: الوعد هو الإخبار بإيصال الخير في المستقبل، والإخلاف جعل الوعد خلافًا، وقيل عدم الوفاء به وفي مواهب الجليل ما معناه أن المواعدة في الاصطلاح الفقهي –أي المالكية وفقهائهم هم الذين يتكلمون في موضوع الوعد أكثر من غيرهم من الفقهاء- هي إعلان شخصين عن رغبتهما في إنشاء عقد في المستقبل تعود آثاره عليهما. وقال الحطاب –وهو من فقهائهم المعتمدين- " المواعدة: أن يعد كل واحد منهما صاحبه بالتزويج- مثلًا- فهي مفاعلة لا تكون إلا من اثنين، وإن وعد أحدهما دون الآخر فهي العدة. فالتعريف الاصطلاحي للوعد والعدة والمواعدة: قد اعتمد التعريف اللغوي السابق، فقرر الفقهاء الوعد والمواعدة والعدة التي هي للخير واستبعدوا الوعيد والإيعاد اللذين هما لشر فالوعد لابد أن يكون بمعروف فإذا كان الوعد بشر فلا يجب الوفاء به، إن يكن محرمًا. كما قاله العسقلاني في الفتح. جـ- هناك عقود قد تشاكل الوعد من حيث الشكل والحكم والوفاء من أهمها: العهد، والنذر، والجعالة، والهبة. فقالوا للفرق بين الوعد والنذر: أن زمن الوفاء بهما في المستقبل فيتشابهان من ذلك الوجه وكذلك الوفاء في بعض الحالات، لكن تلك المشابهة لا تمنع وجود الفرق بينهما فالنذر وإن كان فيه معنى الوعد فيه القربة إلى الله وحده، وفي عدم الوفاء به كفارة بخلاف الوعد. ولذا عرف كل من الروياني والماوردي الشافعيين النذر " بأنه: الوعد بخير خاصة، وعند غيرهما: التزام قربة لم تتعين. وقالوا للفرق بين الوعد والعهد: إن العهد في اللغة الأمان واليمين والموثق والذمة والحفاظ والوصية فتقول: عهد الله على لأفعلن كذا وكذا. أما معنى الوعد في اللغة فهو ما أسلفناه. ولهذا قيل للتفريق بين الوعد والعهد: إن العهد يكون ويراد به ما تعبد الله به العبد من أمور الدين، أو ما يكون بين العباد مما يكون بخلفه إتلاف مال أو نفس أو إدخال ضرر كبير، أما الوعد: فهو فيما لا يتعلق به حق لمخلوق، وكان خلفه كالساهي، أو ما لا يؤدي إخلافه إلى ضرر كبير – فقالوا- فمن نقض عهده – من غير عذر شرعي فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب يستحق به الهلاك.. ومن أخلف وعده كان آثما ولكنه لا يبلغ فاعله إلى الكفر والهلاك. هذا، وقد ذكر العسقلاني في الفتح: أنه قد يتحد معناهما ولعل دليل اتحادهما ما في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة 75- 77] إذ بدأ الله بقوله {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} فلما أخلفوا رتب عليهم ما رتب عليهم من النفاق الأبدي ثم علله الله بقوله {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 653 وقيل: (إن العهد هو الوصية والوعد الموثق) ففي " التفسير الوسيط" الذي اشترك في تأليفه نخبة من العلماء المعاصرين تحت قوله تعالى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة. 4] العهد هو الوصية والموعد الوثق. وفي تفسير " غرائب القرآن ورغائب الفرقان " تحت قوله تعالى {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة 177] المراد بالعهد ما أخذه الله من العهود على عباده بقولهم وعلى ألسنة رسله إليهم بالقيام بحدوده والعمل بطاعته، فقبل العباد ذلك حيث آمنوا بالأنبياء والكتب، ويندرج فيه ما يلتزمه المكلف ابتداء من تلقاء نفسه مما يكون بينه وبين الله كالنذور، والأيمان، أو بينه وبين رسول الله كالبيعة. أو بينه وبين الناس، سواء كان واجبا، كعقود المعاوضات أو مندوبا كالمواعيد، فلذا قال المفسرون ههنا: هم الذين إذا وعدوا أنجزوا وإذا حلفوا أو نذروا أوفوا وإذا ائتمنوا أدوا وإذا قالوا صدقوا) وفي صفوة التفاسير {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} " أي ومن يوفون بالعهد ولا يخلفون الوعود" وقالوا في التفريق بين الوعد والجعالة: إن في الجعالة معنى المعاوضة لأن الجاعل يلتزم بفعل خير للمجعول له مقابل قيام الأخير بعمل يطلبه الجاعل مقابل الجعل، بخلاف الوعد، فإنه التزام عمل معروف لآخر بدون مقابل. وقالوا في التفريق بين الوعد والهبة: إن الهبة في اللغة: إيصال النفع إلى الغير، وفي الشرع: تمليك العين للغير بلا عوض، وركناها: الإيجاب والقبول، لأنها عقد. فاعتبر القبول عند الشافعي ومالك وأبي حنيفة لصحتهما بخلاف الوعد فهو لا يحتاج إلى قبول أصالة، وليس عقدا عند الجمهور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 654 د- صيغة الوعد لدى الفقهاء: تكلم فقهاء المالكية عن صيغة الوعد فقد نقل عنهم ما معناه: أن العدة أن يقول الرجل مثلا: أنا أفعل كذا وكذا.. بصيغة الاستقبال. وأما إذا قال: قد فعلت كذا وكذا فهي عطية. وإن قال الواعد للموعود: لك كذا وكذا فقوله هذا أشبه بقوله قد فعلت منه بصيغة الاستقبال. ومن هذا يفهم بأن الصيغة التي ينبغي أن يعمل بها في إنشاء الوعد هي صيغة الاستقبال المقرونة بأداة التنفيس، أما الصيغة الماضية: فهي لا تحمل إنشاء الوعد وإنما تفيد التنجيز في الحال. ومع ذلك لا يكون استعمال الفعل المضارع دائما يفيد الوعد، بل لابد لدلالته الوعد وجود القرائن في سياق اللفظ، فإذا كان الفعل المضارع والقرائن التي في سياق الكلام يفيد أن الالتزام جزما فليس بوعد، وأما إذا وجد مع المضارع ما يفيد إرادة المستقبل فإنه الوعد لا غير. هـ- مشروعية الوعد: جاء في أحكام القرآن للجصاص: أن الوعد مباح فلكل شخص أن يعد بالمعروف والخير من يشاء من الناس، ولكن ينبغي أن يتحفظ الشخص في إطلاق الوعود للناس، لأن الوفاء بالوعد أمر مستقبل، والإنسان لا يملك معرفة أحواله المستقبلية. قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان 34] : فقد يعجز الواعد عن الوفاء، فيخلف الوعد، فيوصم بخصلة من خصال النفاق. وقال الغزالي – رحمه الله- في الإحياء " إن اللسان سباق إلى الوعد ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفا. وذلك من أمارات النفاق) . وفي " المحلى " ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ولا تعد أخاك وعدا فتخلفه، فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة)) . ومن هذا وغيره نعلم أن الوعد مباح إنشاؤه في أصل الشرع، وممدوح إفشاؤه بين الناس وأن الوفاء به مأمور به، وإخلافه منهي عنه ... كما سنوضحه إن شاء الله، ولكنه قد يكون محرمًا كالوعد بالخمر أو الزنا أو الربا فالوفاء بهذا ونحوه محرم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 655 و من أهم التصرفات التي يدخلها الوعد ويسن الوفاء بها أو يجب على اختلاف الفقهاء فيها كما سيأتي: هي التصرفات التي تدخل تحت التبرعات كالهبة والعارية، والصدقة والقرض، وما شاكلها. أما التصرفات التي تدخل تحت المعاوضات المالية: كالبيع والإجارة، وما شابهها، وقد ألحقوا فيها النكاح: فإن الوعد بها لا يلزم ولا يثبت، كما لا يلزم الوفاء بها. فقد نقل عن الحطاب المالكي أنه قال: (مدلول الالتزام لغة، إلزام الشخص نفسه ما لم يكن لازما له. وهو بهذا المعنى شامل للبيع والإجارة والنكاح وسائر العقود، وأما في عرف الفقهاء: فهو إلزام الشخص نفسه شيء من المعروف مطلقا أو معلقا على شيء. فهو معنى العطية، وقد يطلق في العرف على ما هو أخص من ذلك، وهو إلزام المعروف بلفظ الالتزام. وهو الغالب ... ) . ونقل عن الإمام مالك أنه قال: من ألزم نفسه بمعروف لزمه، فإن البيع والإجارة والنكاح لا تدخل في دائرة وإنما الواعد يأخذ عوضًا عما يعد به فهي من المعاوضات. وإن استعمل الواعد بصيغة الاستقبال التي هي بمعنى الوعد المجرد، مثل أن يقول: - سأبيع منك هذا بمبلغ كذا، فلا ينعقد بها البيع، لأن الوعد المجرد هو في معنى المساومة في البيع، فالبيع وأمثاله من المعاوضات تعتمد جزم الإرادتين في مجلس العقد بإيجاب وقبول مفيد للبت فيه بصيغة لا تسويف فيها، فإذا انتفت دلالة الصيغة على وقوع الارتباط والتعاقد فلا عقد ولا التزام، ولذا قرر الفقهاء المعاصرون أن الوعد بالبيع ينعقد به البيع ولا يلزم صاحبه قضاءً. وأما الوعد بعقد النكاح فلا ينعقد به النكاح قطعا، ولا يلزم الواعد الوفاء فيه بوعده لم له من الاحتياط في هذا المضمار، ولكنه قد يلزم عليه الغرامات التي لحقت الطرف الآخر بسبب ذلك الوعد. فلا إلزام في عقود المعاوضات المالية، ولا فيما ألحق بها، لأن الفقهاء قاطبة قد اتفقوا على أن طريقها الجزم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 656 المبحث الثاني: في حكم الوفاء بالوعد بصفة عامة: أ- لقد تعرفنا فيما سبق: أن معنى الوعد في اللغة هو الإخبار عن فعل أمر في المستقبل خيرا كان أو شرا. وأن الفقهاء في اصطلاحهم يستعملون كلمة الوعد بعين مدلولها اللغوي. أو قريب منه، حيث قالوا: إن حقيقة الوعد إلزام الشخص على نفسه عملا معروفا لشخص آخر، ولو كان فيه شر له أو لثالث. فقد يكون الوعد بمعروف: كقرض حسن، أو صدقة أو عطاء، أو إعارة شيء ذي منفعة، أو تمليك عين مجانا. وقد يكون بمؤانسة: كزيارة صاحب، وعيادة مريض، ومرافقة في نحو سفر ومسكن. وقد يكون الوعد وعدًا بعقد من العقود اللازمة: الوعد بعقد النكاح، كما في خطبة النساء، والبيع والشراء.. أو بعقد من العقود الجائزة، كالوكالة. والجعالة. وغير ذلك من الأمور المباحة في أصل الشرع. وقد يكون الوعد بأداء واجب شرعي: كأداء دين، ورد أمانة، وإنفاق واجب، وإتقان عمل.. ونحو ذلك من أداء الحقوق الواجبة عليه. وقد يكون الوعد وعدًا بمعصية: كما إذا وعد شخصا صديقا له بقتل خصمه أو غريمه، أو بإتلاف ماله ظلمًا وعدوانًا.. ونحو ذلك من الأعمال المحرمة شرعا. ب- أما الحكم التكليفي للوعد من حيث الوفاء به أو الإخلاف، ففيه التفصيل كالآتي: 1- اتفق الفقهاء على أن من وعد بشيء منهي عنه شرعا فإنه لا يجوز الوفاء بوعده، بل يجب عليه إخلافه، كما ذكره النووي في " كتاب الأذكار" وأبو بكر الجصاص في " أحكام القرآن " وابن حزم في " المحلى". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 657 قال ابن حزم الظاهري: (من وعد بما لا يحل- فعله – أو عاهد على معصية، فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك، كمن وعد بزنا أو بخمر أو بما يشبه ذلك، فصح أنه ليس كل من وعد فأخلف أو عاهد فغدر مذموما، ولا ملوما، ولا عاصيا. بل قد يكون مطيعا مؤديا بفرض ". 2- واتفقوا – أيضًا – " بأن من وعد بشيء واجب شرعا: كأداء حق ثابت، أو فعل أمر لازم فقد وجب عليه إنجاز ذلك الوعد". 3- واتفقوا – أيضا- أن من وعد بشيء مباح أو مندوب إليه.. فإنه ينبغي له الوفاء بوعده، لأن الوفاء بذلك من خصال الإيمان، ومكارم الأخلاق، ولأن الله تعالى أثنى على من صدق وعده ثناء جميلا، كما ذم من خالفه ذمًا قبيحا.. وإنه ينبغي الوفاء به، أعني بالمعروف: ديانة، ومروءة. وتخلقا بمكارم الأخلاق. وقد قال الإمام يحيى بن شرف النووي الشافعي رحمه الله: " أجمع العلماء على أن من وعد إنسانا شيئا ليس بمنهي عنه فينبغي أن يفي بوعده". وإذا أمعنا النظر في حكم هذا الوفاء بذلك النوع من الوعد وتتبعنا آراء الفقهاء فيه: يتضح لنا أنهم اختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب: وجوب الوفاء مطلقًا. استحباب الوفاء لا وجوبه. وجوب الوفاء به بتفصيل. ويمكن تقسيم آرائهم إلى خمسة. الوفاء بالوعد واجب. الوفاء بالوعد واجب إلا لعذر. الوفاء بالوعد مستحب. الوفاء بالوعد أفضل من عدمه إذا لم يكن هناك مانع. الوفاء بالوعد المجرد غير واجب، أما الوعد المعلق على شرط: فيكون لازما. ولكنني سأتناول الطريقة الأولى التي تقول إن في المسألة ثلاثة مذاهب " الوجوب مطلقًا – والاستحباب مطلقًا- والتفصيل" في المبحث التالي بصفة أوسع مما سبق- إن شاء الله-. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 658 المبحث الثالث: أقوال الفقهاء المشهورين في الوعد: أ- المذهب الأول: وجوب الوفاء بالوعد مطلقا. وهو رأي الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، فقد قال القاضي أبو بكر ابن العربي الأندلسي: أجل من ذهب إلى هذا المذهب عمر بن عبد العزيز. ذكره الإمام النووي في الأذكار. وهو قول الحسن البصري، ومذهب الصحابي الجليل سمرة بن جندب رضي الله عنه، ورأي الإمام إسحاق بن راهويه، ورأي الفقيه المالكي المشهور ابن شبرمة، وبه قضى القاضي سعيد بن عمر بن الأشوع الهمداني.. وغير هؤلاء من السلف والخلف كما في " فتح الباري " و" عمدة القاري" و" المحلي". فكل هؤلاء يقولون ما معناه: إن الوعد ملزم مطلقًا ويجب الوفاء به ديانة وقضاء، وقد حكى ابن حزم في " المحلى" عن ابن شبرمة أنه قال: " الوعد كله لازم، ويقضى به على الواعد، ويجبر". وذكر البخاري في صحيحه بأنه قول الحسن البصري وأن القاضي سعيد بن الأشوع قضى بوجوب إنجاز الوعد، وأن وجوب إنجاز الوعد هو مذهب الصحابي سمرة بن جندب. وأنه رأي ابن راهويه. ووجوب الوفاء بالوعد مطلقا مذهب بعض المالكية ووصفوه بأنه مذهب ضعيف ولكن الفقيه المالكي ابن الشاط صحح هذا المذهب في حاشيته على الفروق. وإليه ذهب العلامة تقي الدين السبكي الشافعي كما ذكر ابنه تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى. وقال الإمام الغزالي الشافعي – رحمه الله: " إذا فهم الجزم في الوعد فلابد من الوفاء به إلا إذا تعذر، وقد يفهم الجزم في الوعد إذا اقترن به حلف أو إقامة شهود على الوعد أو قرائن أخرى ... ". وذهب إلى ذلك – أيضا- القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي كما ذكره القرطبي في كتابه " الجامع لأحكام القرآن ". وحكى ابن رجب الحنبلي في كتابه " جامع العلوم والحكم" وجوب الوفاء بالوعد مطلقا عن طائفة من أهل الظاهر وغيرهم. وهو وجه صحيح من مذهب العلامة تقي الدين ابن تيمية 0. كما في شرح المقنع. ومن هذه الأقوال نعلم: أنه يوجد في كل مذهب من المذاهب الفقهية أكثر من فقيه مشهور يقول بلزوم الوعد ووجوب الوفاء به ديانة وقضاء إلا لعذر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 659 ب- أدلة هذا المذهب الأول: لقد استدل القائلون بهذا القول بنصوص من الكتاب والسنة النبوية: 1- منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف2-3] فذكر المفسرون كابن كثير الشافعي في تفسيره الكبير أنه يحتج بالآية على أن من ألزم نفسه عقدا لزمه الوفاء به، والوعد مما ألزم الإنسان على نفسه به مع وجود الخلاف في الوجوب أو الاستحباب. كما في "الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي، و"أحكام القرآن " للجصاص. وذكر الفقهاء في هذه الآية: أن الذين أوجبوا الوفاء بالوعد وجه استدلالهم بالآية أن الواعد إذا وعد، ثم أخلف، فإنه قال قولًا ولم يفعل، فيكون داخلًا في استنكار الآية الكريمة، فليزم أن يكون وعده كذبا، والكذب محرم إجماعا فيكون إخلاف الوعد محرما لا محالة فلزم الوفاء به خروجا من وصف الكذب، كما في كتاب الفروق والمحلى. 2- ومنها: قوله تعالى {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177] ووجه الاستدلال بهذه الآية وغيرها: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالوفاء بكل من الوعد والعهد والعقد في جميع الأديان السماوية، فحافظ عليه الرسل المتقدمون منهم والمتأخرون، فمدحهم سبحانه وتعالى بوفائهم بوعودهم وصدقهم فيها. حيث قال في حقهم {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] وقال {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] وفي شريعتنا ما يؤكد الوفاء بالوعد دائما- مثل قوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم: 6] وقوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر: 20] وقوله جل وعلا- في أكثر من سورة في القرآن الكريم (أن وعد الله حق) فمن هذه الآيات وأمثالها نعلم أن الله سبحانه قطع على نفسه الوفاء بما وعد لعباده من وعد ووعيد فعلى العباد الوفاء بوعودهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 660 3- ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)) . وفي رواية ((من علامات المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف ... إلخ " وفي رواية: " آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف.. وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)) . وحديث مسلم: ((إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف. وإذا خاصم فجر)) . ومحل الدلالة في هذه الأخبار الصحيحة على وجوب الوفاء بالوعد هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عد إخلاف الوعد من خصال المنافقين وصفاتهم، والنفاق مذموم قطعًا في الشريعة، فلذا أعد الله لأهل النفاق الدرك الأسفل من النار: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] فنظرًا لهذا يكون إخلاف الوعد محرما والوفاء به واجبا ". انظر شرح مسلم للإمام النووي. 4- ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه وذكره في معرض الاحتجاج لوجوب الإنجاز بالوعد من حديث المسور بن مخرمة حيث قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر صهرا له فقال: " وعدني فوفاني ". 5- ومنها: ما أخرجه البخاري وغيره من حديث جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو جاء مال البحرين لأعطينك هكذا ثم هكذا)) ثلاث حثيات، وأنجز له ذلك الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصه: قال جابر: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ((لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا ثلاثا، فلم يقدم حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل أبو بكر مناديا فنادى: من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتنا فأتيته، فقلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم وعدني فحثا لي ثلاثا". وفي رواية أخرى " فحثا لي حثية، فعددتها فإذا هي خمسمائة، وقال: خذ مثليها" وفي رواية " فعد في يدي خمسمائة ثم خمسمائة)) . وما رواه الترمذي في سننه وحسنه من حديث أبي جحيفة، قال، ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض قد شاب، وكان الحسن بن علي يشبهه، وأمر لنا بثلاثة عشر قلوصا، فنبهنا نغيفها؟ فأتانا موته، فلم يعطونا شيئا، فلما قام أبو بكر قال: من كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة فليجئ، فقمت إليه، فأخبرته، فأمر لنا بها)) . 6- ومنها: ما رواه ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ولا تعهد أخاك وعدا فتخلفه، فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة)) . ووجه الدلالة في هذا الحديث وما قبله واضح وأبو حنيفة ومالك يحتجان بالمرسل. 7- ومنها: ما روي عنه صلى الله عليه من أنه قال ((وأي المؤمن واجب)) أي وعده واجب الوفاء به وهو حديث مرسل من مراسيل هشام بن سعيد أيضا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 661 8- ومنها: ما روي في الأثر: ((من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وعد وعدا قال عسى، وكذلك كان عبد الله بن مسعود لا يعد إلا ويقول: إن شاء الله)) ذكره الإمام الغزالي في " الإحياء " وقال فيه: إذا جزم الواعد في الوعد فلابد من الوفاء به إلا أن يتعذر، فإن كان عند الوعد جازما على أن لا يفي فهذا هو النفاق بعينه. 9- ومنها ما رواه الترمذي وحسنه وغربه: من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدا فتخلفه)) . 10- ومنها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة 1] وقالوا إن العقد هو كل ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء. وإجاره وكراء.. وكل ما كان غير خارج عن مقاصد الشريعة، وكل ما عقده الإنسان على نفسه من الطاعات ومنها: المواعيد. 11- ومنها: قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} [التوبه: 75- 77] ووجه الاستدلال بالآية: أن الله سبحانه وتعالى استنكر إخلافهم بوعدهم استنكارا شديدا. لأن الصدقة واجبة، والكون من الصالحين واجب بسبب الوعد والعهد الشبيه بالشرط فالوعد بذلك كلاهما فرضان وإنجازهما لازم وواجب، وإن قال بعض من العلماء، أن هذا كان نذرا ممن عاهد الله على ذلك. وهو ثعلبة بن حاطب ومن نحا نحوه، والنذر بالخير فرض وواجب فهو كذلك. 12- ومنها: ما رواه ابن عساكر عن هارون بن رباب من أن عبد الله بن عمر لما حضرته الوفاة قال: " انظروا فلانا فإني كنت قلت له في ابنتي قولا كشبه العدة فما أحب أن ألقى الله بثلث النفاق، فأشهدكم أني زوجته ". ووجه دلالة هذا الأثر واضح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 662 ولأصحاب هذا القول أدلة أخرى من الكتاب والسنة. نكتفي من إيرادها وتتبعها بهذا القدر. وقد رأينا أنه رأي نخبة من علماء الأمة من السلف الصالح ومن علماء المذاهب المشهورة: كالصحابي الجليل: عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – وسمرة بن جندب الصحابي المشهور. وكالخليفة الراشد: عمر بن عبد العزيز - رحمه الله – وكالحسن البصري التابعي الجليل – رحمه الله – وكالإمام إسحاق بن راهويه والقاضي سعيد بن عمرو بن الأشوع الهمداني قاضي الكوفة في إمارة خالد القسري. وكالفقيه المالكي المشهور بابن شبرمة، والقاضي أبي بكر بن العربي الأندلسي المالكي، وكالإمام الغزالي الشافعي، وتقي الدين السبكي الشافعي. وكالإمام تقي الدين ابن تيمية الحنبلي المشهور. هذا المذهب هو أكثر دليلا من غيره من المذاهب الأخرى في هذه المسألة. جـ- المذهب الثاني: استحباب الوفاء بالوعد لا وجوبه مطلقا. 1- وهو مذهب جمهور العلماء: أبي حنيفة والشافعي، وأحمد بن حنبل، والظاهرية، وبعض من علماء المالكية، وغيرهم من علماء الإمامية. وخلاصة قولهم في هذه المسألة " أن الوفاء بالوعد مستحب مندوب إليه، وليس بواجب ولا فرض، فلا يقضى به على الواعد إذا أخلف، ولكن الواعد إذا ترك الوفاء بالوعد فإنه الفضل، وارتكب المكروه بسبب خلفه". قال الإمام النووي في " الأذكار" (ذهب الشافعي وأبو حنيفة والجمهور: إلى أنه مستحب، فلو تركه فاته الفضل، وارتكب المكروه كراهة تنزيه شديدة. ولكن لا يأثم) . وقال ابن علان الشافعي في كتابه" الفتوحات الربانية..": " وقد تقرر في مذهبنا أن الوفاء بالوعد مندوب لا واجب ". ومقتضى حكم آراء علماء الشافعية كما يفهم من كلام النووي في الروضة، و"القليوبي" و"شرح الأذكار"، لابن علان " أن إخلاف الوعد مكروه كراهة شديدة مطلقا، وأن مخلفه لا يجبر على التنفيذ". وقال الإمام أبو بكر الجصاص في كتابه " أحكام القرآن " " إن الوعد بفعل يفعله الإنسان في المستقبل مباح إذا كان الفعل مباحا، وأن الوفاء به أولى من إخلافه مع الإمكان". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 663 وقال ابن حزم الظاهري في " المحلى": " من وعد آخر بأن يعطيه مالا معينا أو غير معين، أو بأن يعينه بعمل ما، حلف له على ذلك أو لم يحلف، لم يلزمه الوفاء به، ويكره له الخلف، وكان الأفضل لو وفى به، وسواء أدخله بذلك في نفقة أم لم يدخله، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان". وقال برهان الدين ابن مفلح الحنبلي في كتابه " المبدع" " لا يلزم الوفاء بالوعد وقال نص عليه – الإمام أحمد – وقاله أكثر العلماء". وكتاب " جامع البيان " للطبرسي ما مؤاده " أن استحباب الوفاء بالوعد" هو مذهب " الإمامية.." ونقل العسقلاني في " الفتح " عن المهلب " أن إنجاز الوعد مأمور به ومندوب إليه عند الجميع، وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعود له لا يضارب بما وعد به مع الغرماء.." وقد رد العسقلاني ادعاء هذا الاتفاق، وعلله بقوله " لأن الخلاف فيه مشهور، وإن كان القائل به قليل". قال بعض العلماء: إن العلماء الذين نفوا الإثم عن مخلف الوعد إنهم عنوا ذلك بمجرد خلف الوعد، فلو قصد الواعد في إخلافه إضرار الموعود له فهو آثم لا محالة. هذا وقد تساءل ابن حجر العسقلاني في القول " بأن الواعد إذا ترك الوفاء بوعده فاته الفضل وارتكب المكروه كراهة تنزيهية شديدة ولا يأثم" وقال: هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي أن الواعد يأثم بالإخلاف وإن ذلك نفقة القريب، فإنها إذا مضت مدة يأثم بعدم الدفع ولا يلزم به ... ". وفي كتاب " التمهيد " لابن عبد البر قال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وعبد الله بن الحسن،وسائر الفقهاء" أما العدة فلا يلزمه فيها شيء وبأنها منافع لم يقبضها في العارية، لأنها طارئة، وفي غير العارية أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض ولصاحبها الرجوع فيها ". ومن هذا كله نعلم: أن هذا المذهب هو مذهب أكثر العلماء والفقهاء، لكن قد لا يوجد له دليل قاطع وصحيح من حيث النقل فلننظر إلى تلك الناحية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 664 ب- أدلة هذا المذهب الثاني: منها ما أخرجه الإمام مالك في " الموطأ ((أنه قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذب لامرأتي؟ فقال صلى الله عليه وسلم " لا خير في الكذب" فقال: يا رسول الله: أفأعدها وأقول لها؟ فقال صلى الله عليه وسلم " لا جناح عليك ")) . ووجه الاستدلال من هذا الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع السائل من الكذب المتعلق بالمستقبل، ونفى الجناح عن الوعد، فإخلاف الوعد لا يسمى كذبا لجعله صلى الله عليه وسلم قسيما له، ولو كان منه لم يجعله قسيما له، فإخلاف الوعد لا حرج فيه، ولو كان المقصود في مثل هذا الحديث – الوعد الذي يفى به – أي يريد الوفاء به- لما احتاج للسؤال عنه، ولما ذكره مقرونا بالكذب، فتبين من ذلك أن مقصود الرجل إصلاح حال زوجته بما لا يفعله. فتخيل الحرج في ذلك فاستوضح النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ... انظر: ما قاله القرافي في " الفروق". أجاب ابن الشاط في حاشيته على الفروق عن هذا الاستدلال إجابة حرفية خلاصتها كالتالي: إن القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم منع السائل من الكذب المتعلق بالمستقبل، غير سليم، إذ يمكن أن يكون قصده من الكذب على زوجته أن يخبرها عن فعله مع غيرها من النساء بما لم يفعله إغاظة لزوجته، فلم يتعين أن المراد ما ذكر، ومعنى الحديث، أنه صلى الله عليه وسلم منعه من أن يخبرها بخبر كاذب يقتضى تغييظها به وأجاز له الوعد لأنه لا يتعين فيه الإخلاف. لاحتمال الوفاء به، إذ معظم دلائل الشريعة يقتضي المنع في الإخلاف ... - ومنها: ما أخرجه أبو داود في سننه من حديث زيد بن أرقم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له، فلم يف ولم يجئ للميعاد، فلا إثم عليه.)) - ومنها – ما في الوعد من معنى التبرع المحض، فقد قال الإمام النووي في " الأذكار" " استدل من لم يوجب الوفاء – بالوعد- بأنه في معنى الهبة - قبل قبضها- والهبة لا تلزم إلا بالقبض عند الجمهور، وعند المالكية تلزم قبل القبض " فالهبة تبرع محض كالوعد- ولا دليل على وجوب التبرع المحض على أحد شرعا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 665 هذا. وإن أدلة هذا الفريق أقل من أدلة الموجبين. وإنها لا تصل إلى درجة القمة التي وصلت من حيث الصحة والوصف. ولذا تأولوا الآيات والأحاديث التي استدل بها الموجبون. وقالوا: إن الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] . إنها نزلت على قوم تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض الجهاد عليهم نكل بعضهم، كقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 77] . وكقوله تعالى {وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد20] فهي خاصة فيهم أو في أمور الجهاد. وهو اختيار ابن جرير. وقول ابن عباس. وقالوا- أيضا- إن المراد بالآية الإنكار على الذين يقولون ما لا تفعلون خاصة في الأمور الواجبة كالوعد بإنجاز دين وأداء حق ونحو ذلك.. كما تأولوا الآية الثانية: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ... } إلخ [التوبة 75] .. بأنها تخبر عن النذر، والوفاء به فرض وواجب. وأجابوا عن الأحاديث التي وردت بأن إخلاف الوعد خصلة وعلامة مميزة للنفاق وأهله بأن الحديث مصروف عن ظاهره، وأن النفاق الوارد في الحديث مصروف عن حقيقة النفاق، فقالوا كما في " فتح الباري" إن المراد بإطلاق النفاق: الإنذار للمسلم وتحذيره عن ارتكاب هذه الخصال واعتيادها، لئلا تفضي به إلى حقيقة النفاق، وهو ما حكاه الخطابي وارتضاه. وقال بعض منهم: إن المنافقين الذين يذكرهم الحديث هم الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فحدثوا بإيمانهم وكذبوا، وائتمنهم النبي صلى الله عليه وسلم على سره فخانوه، ووعدوه بالخروج معه للجهاد فأخلفوه. وقال أكثرهم: إن معنى الحديث: إن الخصال المعدودة فيه خصال نفاق وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، وهو متخلق بأخلاقهم، لأن النفاق إظهار لما يبطن خلافه، ويكون نفاقه في حق: من وعده وخاصمه وحدثه وائتمنه وعاهده من الناس، ولا يكون منافقا في الإسلام: فيظهره ويبطن الكفر، فليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار، وقالوا: إن معنى قوله صلى الله عليه وسلم ((كان منافقا خالص)) ، أي شديد الشبه بهم بسبب تلك الخصال. وقال الترمذي في " سننه" عقب حديث ابن عمر ((أربع من كن فيه كان منافقا.. إلخ)) . " إنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل، وإنما كان نفاق التكذيب على عهد الله صلى الله عليه وسلم، هكذا روي عن الحسن البصري شيء من هذا. وارتضاه كل من القرطبي والعسقلاني- كما في " الفتح". ولكن العسقلاني قال فيه " إن أصحاب هذا التفسير قد استدلوا بأحاديث ضعيفة ولو صحت لوجب المصير إليها ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 666 هـ- المذهب الثالث: التفصيل في وجوب الوفاء بالوعد: وهو مذهب المالكية ومن وافقهم. ذهب فقهاء المالكية فيما يجب الوفاء به من الوعود وما لا يجب إلى التفصيل الآتي، وافترقوا في ذلك إلى فرقتين: ذهب الفريق الأول: إلى أن الوعد يكون لازما فيجب الوفاء به ويقضي القاضي به على الواعد إذا كان الوعد قد تم على سبب ودخل الموعود له في شيء من سبب الوعد أما إذا لم يدخل الموعود له في شيء من ذلك فلا شيء على الواعد ولا يجب الوفاء به كما لا يقضي عليه القاضي به. وهو القول الراجح المشهور في مذهب الإمام مالك، وعزاه القرافي إلى الإمام مالك نفسه، وابن القاسم، وسحنون، وعليه المدونة. قال القرافي في " الفروق" اختلف العلماء في الوعد هل يجب الوفاء به شرعا أم لا؟ قال مالك: إذا سألك أن تهب له دينارا فقلت: نعم ثم بدا لك- أن لا تفي له – لا يلزمك – ولو كان إفراق الغرماء عن وعد وإشهاد لأجله لزمك لإبطالك مغرما بالتأخير، وقال سحنون: الذي يلزم من الوعد قولك اهدم دارك وأنا سأسلفك ما تبني به، أو أخرج إلى الحج وأنا أسلفك – ما تحج به مثلا – أو اشتر سلعة أو تزوج امرأة وأنا أسلفك- كذا وكذا – لأنك أدخلته بوعدك في ذلك. أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق.. ". وقال القرافي – أيضا – وبذلك قضى عمر بن عبد العزيز رحمه الله. ونقل من مؤيدي هذا القول هذا المثال، أو قريبا منه: إذا اشترى رجل من آخر كرما، فخاف الوضعية- أي الكساد - فأتى المشتري إلى بائع الكرم ليستوضعه فقال له البائع، بع وأنا أرضيك، فإن باع المشتري الكرم برأس ماله أو بربح فلا شيء على الواعد. وإن باع بالوضعية كان عليه أن يرضيه وإن زعم الموعود له أن أراد شيئا أو قدرًا سماه – أثناء ممارسة عمله – فله ما أراد اتفاقا، وإن لم يكن أراد شيئا معينا أرضاه الواعد بما شاء، وحلف بالله أنه ما أراد أكثر من ذلك. وقالوا: إن هذا هو رأي أشهب. أما على رأي ابن وهب: فإن على الواعد إرضاء الموعود له بالمثل، وهو ما يكون مرضيا عند الناس، أما لو حلف الواعد أثناء وعده ليرضينه فإن عليه أن يوفيه بما يرضيه ويرضي الناس. وذهب الفريق الثاني، وهو قول أصبغ ومن وافقه من السلف والخلف إلى أن الوعد يكون لازمًا ويجب الوفاء به ويقضي القاضي به على الواعد إذا تم الوعد على سبب وإن لم يدخل الموعود له في ممارسة شيء من السبب. وقالوا: إنه مذهب قوي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 667 وحكى الباجي في كتابه " المنتقى " عن أصبغ قوله: كأنه يجعل العدة شيئًا آخر غير الوعد كعادة علماء المالكية الذين يفرقون الموضوع إلى (عدة، ووعد، ومواعدة) أما إن كانت عدة لا تُدْخِل من وعد به في شيء فلا يخلو من أن تكون – مفسرة أو مبهمة – فإن كانت مفسرة، كأن يقول الرجل للرجل، أعرني دابتك إلى موضع كذا. فيقول: أنا أعيرك غدا، أو يقول: علي دين فأسلفني مائة دينار أقضه فيقول: أنا أسلفك – غدا إياها- فهذا قال أصبغ - يحكم بإنجاز ما وعد به، كالذي يدخل الإنسان في عقد.. وظاهر المذهب – المالكي – على خلاف هذا لأنه لم يدخله بوعده في شيء يضطره إلى ما وعده. وأما إن كانت العدة مبهمة، مثل أن يقول له: أسلفني مائة دينار ولا يذكر حجته إليها، أو يقول: أعرني دابتك أركبها، ولا يذكر له موضعا ولا حاجة، فهذا قال أصبغ- لا يحكم عليه بها. وإن قال في المسألة الأولى: انكح وأنا أسلفك ما تصدقها، فإن رجع عن ذلك قبل أن ينكح من وعد له، قال أصبغ- يلزم ذلك ويحكم به عليه". وفي الفروق " لو قال رجل لآخر: إن غرمائي يلزمونني بدين فأسلفني أقضهم فوعده المقابل، ثم بدا له الرجوع- فعلى رأي مذهب أصبغ الوفاء لأنه وعد على سبب، وعلى مذهب مالك ومن وافقه لا يجب. لأن الموعود له لم يدخل في شيء إلا إذا اعتقد منه الغرماء على موعد أو اشهد بإيجاب ذلك على نفسه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 668 و أدلة هذا المذهب الثالث: قال أصحابه: إن النصوص الشرعية بهذا الأمر قد تعارضت تعارضًا حادًا فمنها: ما أوجب الوفاء بالوعد مطلقًا، أي سواء كانت مرتبطة بسبب أم لا، وسواء دخل الموعود له في ممارسة السبب أم لا، كلف الموعود له بتكلفة أم لم يكلف ... وهي التي ساقها موجبو الوفاء بالوعد، كأحاديث النفاق ومنها- ما لم يوجب الوفاء به مطلقا، ولم يجعل إخلاف الوعد من الكذب كحديث أبي داود والترمذي والموطأ. كما فهمها الجمهور. فاحتاج الموقف إلى تفصيل وتكييف وتوفيق بين الأدلة، لاسيما إذا لوحظ نحو قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف 3] والتي قبلها، لأنها نزلت في قوم كانوا يقولون جاهدنا وما جاهدوا وفعلنا أنواع الخيرات وما فعلوا أو قالوا: لو حصل لنا كذا وكذا لنفعلن كذا وكذا ولا يوفون ولا شك أن هذا وأمثاله محرم لأنه كذب، فلاحظوا تلك الناحية، وكذلك لاحظوا كون مخلف الوعد منافقا وكاذبا فحملوا الإخلاف على ظاهره، كما لاحظوا أن تحويل التبرعات المجانية إلى ملازمات قضائية من غير سبب. فأرادوا الجمع بين الأدلة. فوافقوا رأي من أوجب الوفاء بالوعد إذا كان الوعد مرتبطا على سبب وباشره الموعود له. ووافقوا رأي من لم يلزم الوفاء بالوعد، فيما عدا ذلك من الوعود المجردة، كما ذكره القرافي في كتاب " الفروق". وقال ابن الشاط في حاشيته على الفروق ما مؤداه " ينبغي الجمع بين الأدلة وتأويل ما يناقض ذلك، فيحمل حديث المالكي وأبي داود بما يتسق مع الآية وحديث خصال المنافق، وذلك بأن تكون المسامحة في إخلاف الوعد اضطرارًا ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 669 المبحث الرابع: الخلاصة: الرأي الراجح: لقد اتضح لنا من خلال ما نقلنا في بحثنا هذا عن أئمة الفقه المشهورين رحمهم الله: أن لهم اتجاهات ثلاثة حول الوفاء بالوعد. - اتجاه الجمهور الذين يرون استحباب الوفاء بالوعد مطلقا وكراهة الإخلاف فيه كراهة شديدة، وعدم وجوب الوفاء به. - واتجاه العلماء الذين يرون أن الوعد لازم، والوفاء به واجب.. إلخ.. وهم الذين قد قيل: إن أجلهم الخليفة عمر بن عبد العزيز، وابن شبرمة الفقيه المالكي، وعد منهم تقي الدين السبكي الشافعي، وغيرهم من العلماء الأجلاء. - واتجاه العلماء الذين فصلوا الوعد إلى وعد مجرد، وغير مجرد. وهم أكثر المالكية. وتبيين لنا – أيضا- من خلال ما استدل به كل فريق لرأيه من أدلة، وجاهة رأي القائلين بوجوب الوفاء بالوعد مطلقًا. ديانة وقضاء، سواء كان الوعد مقيدا بسبب أو غير مقيد، وذلك من حيث رجحان الأدلة التي استدلوا بها، فإنها أدلة صحيحة وقوية وواضحة كما لا يخفى. وتبين لنا – أيضا- من ذلك كثرة هذا الفريق وثقل مذاهبهم وأئمتهم، أعني الحنفية قاطبة وغالبية علماء الشافعية، والحنابلة. والإمامية وغيرهم الذين ذهبوا إلى استحباب الوفاء بالوعد وكراهة الإخلاف فيه وعدم لزومه، وقد أجابوا عن أدلة الموجبين إجابات لم يقتنع بها كثير من الأصوليين. ولكننا قد وجدنا أدلتهم التي استدلوا بها لرأيهم ونقلنا منها ما نقلناه فوجدناها أنها ليست رفيعة الدرجة، إن لم تكن ضعيفتها. وقد ذكر الترمذي في سند الحديث الذي أخرجه أبو داود أيضًا من حديث زيد ابن أرقم أن فيه مجهولين. ولم يسلم من الجرح شيء أو حديث واحد مما استدلوا من الأحاديث إلا حديث الموطأ، وقد عرفنا كيف فسره الآخرون. وتبين لنا من ذلك- أيضا- وجاهة رأي القائلين بالتفصيل حيث توسطوا بين الفريقين، فوافقوا القائلين بالوجوب فيما إذا كان الوعد مصحوبا بسبب فقط، محترمين الأدلة الواردة. ووافقوا الآخرين إذا كان الوعد مجردا فقط. وبرأيي المتواضع: أؤيد أو أرجح رأي هؤلاء الذين يقولون بالتفصيل، وأوافقهم من حيث المبدأ من غير تعصب لمذهب.. ولكن لي ملاحظة حول هذا التفصيل لم أر إبداءها قبل أن أجد ما قال علماء القانون العصريون حول الوعود الدولية فإني لم أجد شيئا وأن قل ما قالوه. فلذا أحببت أن أدخر ملاحظتي إلى وقت المناقشة، وفقني الله وإياكم إلى ما فيه الحق والصواب. إنه ولي التوفيق. الشيخ هارون خليف جيلي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 670 أهم المراجع 1- القرآن الكريم. 2- التفسير العظيم لابن كثير. 3- تفسير البيضاوي. 4- تفسير الإمام الصاوي. 5- صفوة التفاسير للصابوني. 6- تفسير البيان للطبري (جـ2) . 7- أحكام القرآن للجصاص. 8- أحكام القرآن لابن العربي. 9- المصباح المنير. 10- مختار الصحاح. 11- قاموس المحيط. 12- المنجد في اللغة والأعلام. 13- صحيح البخاري مع فتح الباري العسقلاني. 14- صحيح البخاري مع عمدة القاري للعيني. 15- سنن الترمذي.. تحفة الأحوذي. 16- سنن أبي داود مع عون المعبود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 671 17- إحياء علوم الدين للإمام الغزالي. 18- الأذكار للنووى مع الفتوحات الربانية لابن علان (جـ1) . 19- المحلى لابن حزم. 20- الفروق للقرافي مع حاشيته لابن الشاط (جـ1) . 21- فتح العلي المالك. لعليش (جـ1) . 22- مغنى المحتاج للشربيني. 23- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي. 24- جامع العلوم والحكم لابن رجب. 25- التفسير الوسيط لنخبة من العلماء. 26- شرح صحيح مسلم للنووي. 27- ياقوت النفيس لابن نفيس. 28- الموطأ لإمام مالك. 29- التمهيد لابن عبد البر. 30- الفتاوى لابن تيمية. 31- إغاثة اللهفان لابن القيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 672 الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد إعداد فضيلة الشيخ الحاج عبد الرحمن باه بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء – (34) ] . وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل – (91) ] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف (2-3) ] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان)) : متفق عليه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر)) (متفق عليه) . قال فضيلة الشيخ أحمد محمد عساف في كتابه الحلال والحرام في الإسلام ما نصه: الوفاء سمة المؤمنين وعلامة الصادقين وهو أفضل القربات التي يتقرب بها العبد إلى الله إلى الناس، ولا يتم الوفاء إلا إذا أصدق القول والفعل وبالوفاء تزداد الروابط بين الناس وينتشر الأمان في المجتمع وتسعد الإنسانية ويعم الحب بين البشر ولذلك عظم الله الوفاء وأمر به في كل شيء. وأمر سبحانه بالوفاء بالعقود التي يتعاقد عليها الناس فيما بينهم من عقد اليمين وعقد النكاح وعقد العهد وعقد البيع والشراء وعقد الشركة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة (1) ] . وبالوفاء بالكيل والميزان {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام (152) ] . والرسول صلى الله عليه وسلم وهو المشرع الأول كان القدوة الحسنة للناس، لذلك ضرب أروع الأمثلة في الوفاء، يقول عبد الله بن أبي الحمساء ((: ((بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث فجئت فإذا هو في مكانه فقال: " يا فتى لقد شققت علي أنا هنا منذ ثلاث أنتظر)) )) رواه أبو داود: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 673 وقال صلى الله عليه وسلم محذرا للمؤمنين ومنفرا لهم من عدم الوفاء: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) متفق عليه. وكان صلى الله عليه وسلم ألزم الناس بالوفاء وأحسنهم وفاء بالعهد، فحينما صالح قريشا على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، وكان من ضعف الشروط أن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب مع سهيل بن عمرو رسول قريش، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤمنا هاربا من قريش، فلما رأى سهيل أبا جندل أخذ بتلابيبه ثم قال، يا محمد قد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتي هذا إليك، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم صدقت، فجعل يجره ليرده إلى قريش وأبو جندل يصيح بأعلى صوته، يا معشر المسلمين أرد إلى الكفار يفتنوني في ديني؟ فقال له الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم، وعندما جاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو براء وعرض عليه الرسول الكريم الإسلام، فأبى ولكنه طلب من الرسول أن يبعث معه إلى أهل نجد من يعلمهم الدين، فبعث عليه السلام أربعين رجلا، فساروا حتى نزلوا بئر معونة، فبعثوا بكتاب رسول الله إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه الكتاب مزقه وقتل الرسول، وقتلوا البعثة كلها، ولم ينج منهم إلا عمرو بن أمية، الذي قابل في طريق رجوعه رجلين من بني عامر، فقتلهما ثأرا لأصحابه، ولم يكن يعلم أن معهما كتاب عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى وفاء النبي إلا أن يدفع إلى أهل القبيلتين ديتهما، فوعده يهود بني النضير بالإعانة رياء ونفاقًا، وأرادوا الغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينجحوا فحاصرهم المسلمون وأجلوهم عن ديارهم. لقد غرس الإسلام في نفوس المسلمين الوفاء حتى ولو كان ذلك العهد من عبد مسلم حبشي. فما أروع هذا الوفاء الذي وفى به نبي الإسلام حتى ولو كان مرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 674 * خلاصة الكلام * معنى الوفاء: قال في كتاب موعظة المؤمنين للشيخ جمال الدين الدمشقي: الثبات على الحب وإدامته إلى الموت معه، وبعد الموت مع الأولاد والأحفاد. ((روي أنه صلى الله عليه وسلم أكرم عجوزًا دخلت عليه، فقيل له في ذلك فقال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة وإن كرم العهد من الدين)) . ومن الوفاء الإيثار على نفسه مع وجود الحاجة. {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر (9) ] في التواصل مع أخيه. ومن الوفاء ألا يتغير حاله وإن ارتفع شأنه كما قال الشاعر: إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم بالمنزل الخشن. واعلم أنه ليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين بل من الوفاء له المخالفة والنصح لله. ومن آثار الصدق والإخلاص وتمام الوفاء أن تكون شديد الجزع من المفارقة نفور الطبع عن أسبابها كما قيل: وجدت مصيبات الزمان جميعها سوى فرقة الأحباب هينة الخطب. ومن الوفاء أن لا يسمع بلاغات الناس على صديقه. ومن الوفاء أن لا يصادق عدو صديقه. قال الشافعي رحمه الله: " إذا أطاع صديقك عدوك فقد اشتركا في عداوتك". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 675 ولقد نزل في القرآن الكريم آيات كثيرة تذم عدم الوفاء. قال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة (100) ] . قال تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف (102) ] . قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة (12) ] . قال تعالى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: (10) ] . قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: (107) ] . قال طه عبد الله العفيفي في المجلد الأول من وصايا الرسول: "وكن وفيا لعهدك حتى تكون من الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ومن الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وحسبك أن تعلم أن الوفاء بالوعد من صفات الله عز وجل الذي يقول: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم (47) ] ويقول: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة (111) ] . ومن صفات الرسل الكرام، قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم (36،37) {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54] . وحتى تكون متصفا بهذه الصفة الحميدة إليك هذا الخبر الذي يحكي: أن رجلا اقترض من غيره مالا ووعده أن يرده إليه في ميعاد كذا ولم يحضر المستدين شاهدا وضامنا له إلا الله ورضي صاحب المال بالله شاهدا وضامنا، ولحسن نية المقترض هذا في السداد قواه الله وأغناه، وجاء ليرد ما عليه فتعذر عليه الوصول لبلد الدائن من أجل تلف القنطرة التي يعبر الناس عليها ولخوفه من الله ومن خلف الوعد هداه تفكيره إلى أن يضع المال في جوف خشبة ثم سدها سدا محكما وقال: اللهم أنت الشاهد والضامن فأسألك أن توصل الحق لصاحبه، ورمى بالخشبة في الماء وشاءت إرادة الله إكراما لهذا الرجل الوفي أن يخرج الدائن إلى البحر مصادفة فوجد الخشبة وفتحها فوجد فيها المال فحمد الله كثيرا وأثنى على المقترض الوفي ودعا له بخير، ولكن المقترض لم تطب نفسه بما عمل وظن أن المال لم يصل إلى صاحبه، فجاء بعد إصلاح القنطرة إليه فقال له الدائن يا أخي بارك الله لك قد أدى الله عنك وأوصل المال إلي لحسن نيتك وعزمك على السداد فانصرف راشدًا. وهذا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) . فلا تنس هذا وكن وفيًا لعهدك حتى لا تقع في شباك النفاق. ففي الحديث " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر " رواه البخاري ومسلم.. .. الحاج / عبد الرحمن باه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 676 الوفاء بالوعد إعداد الشيخ شيت محمد الثاني عضو مجمع الفقه الإسلامي بجدة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي فرض على العباد أداء الأمانة وحرم عليهم المكر والخيانة وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من يرجو بها النجاة يوم القيامة وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي ختم الله به الرسالة صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الموصوفين بالعدالة وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فقد اخترت أن أكتب في هذا الموضوع الشريف وهو: الوفاء بالوعد الذي هو فضيلة من الفضائل الحميدة المطلوبة من المؤمنين، لأنه أمانة فرضها الله تعالى كرد الودائع وأمرهم أن يؤدوها حق الأداء وأوجب عليهم حفظها لأنها اعظم وسائل الفلاح والنجاح، ومن الوفاء بالوعد أن يوجب الإنسان على نفسه شيئًا يتبرع به من عبادة أو صدقة أو دين أو نذر أو غير ذلك، أو وعد به أخاه من إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات مما لو لم يوجبه على نفسه لم يلزمه، وإذا نذر شخص شيئًا بنفسه فعليه أن يوفي نذره، وقد قال الله تعالى في شأن المؤمنين الصالحين {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان (7) ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى)) . فالمؤمن لابد له من الوفاء بالوعد الذي أوجبه على نفسه، وكان المثل يضرب بوفاء العربي، لأن قبائل العرب كانوا يحفظون العهد ويوفون بالوعد ويكرهون الغدر، وفي الكتب الأدبية والتاريخية أمثلة كثيرة تدل على مغالاة العرب في الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة، ولا عجب: فالأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. إن ضياع الوفاء وضياع الأمانة سبب ضياع الأمور بين عالمنا اليوم، ولعدم الوفاء يخون المرء بني جنسه ويضيع الأمن بين الزوج والزوجة وبين المعلم وتلامذته وكذلك بين البائع والمشتري وبين الحكومة وموظفي الدولة وبين الأئمة في المساجد وجماعاتهم، وبين سائقي السيارات والطائرات وركابها وبين المحب وحبيبه، فكان ذلك مما يسبب تأخر المسلمين وعدم الاستقامة في العالم أجمع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 677 فإذا أردنا عزة الإسلام ورفعة شأنه الأعلى، فعلينا بالوفاء وحفظ الأمانة حتى تكون معاملتنا مع الغير مأمونة محفوظة في إنشاء المصانع والمكاتب والمطابع والأسواق المالية والمعاملات في البيع والشراء والبنوك الإسلامية وبناء المساجد والمنازل والمساكن للضيوف والمسافرين ومستأجريها. وقد حثنا الإسلام على الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة حتى نكون مسلمين بمعنى الإسلام، ومن الناس من ليسوا مسلمين وكان لديهم الإسلام ولكن في التعامل، وقد علمنا في الحقيقة أن الدين الإسلامي دين الدنيا والآخرة إرشادًا وتعليما. لا شك أن للوفاء بالوعد وحفظ الأمانة آثارًا ظاهرة في حياة الإسلام والمسلمين، وما تؤكده أصوات المؤمنين التي ترتفع في الحاضر داعية إلى الأخذ بأحكام الدين منهاجًا للحياة يحمي المجتمع الإسلامي من التيارات، ولا شك أن الرغبة الشديدة لدى الشعوب المسلمة في العودة للأخذ بأحكام الدين، من شأنها أن تمهد الطريق أمام الكثير من القيم والأخلاق والفضائل التي أولها الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة، لتأخذ مكانها في حياة الناس دون اضطراب أو قلاقل، لأن الواقع المعاصر داخل بلاد العالم الإسلامي يؤكد وجود صحوة إسلامية طيبة تتمثل في الرغبة القوية لدى الشعوب المسلمة في العودة إلى أحكام الدين الحنيف، وعلينا أن لا نفرح أنفسنا إلى أقوال الذين قالوا إن أكثر الذين تمسكوا بالدين أقل أخلاقًا من الذين تخلوا عنه وتمسكوا بعلم الأخلاق، وفي الحقيقة أنهم بنوا حكمهم هذا على قياس الاستقراء والتمثيل غير أن كلامهم هذا لا يرفض كله كما لا يقبل كله. وقد قيل إن الغربيين اليوم أحسن أخلاقًا في الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة وأدائها مع حسن المعاملة في البيع والشراء وفي الصناعات ورعاية حقوقها، ومن أراد التحقيق فليقارن بين معاملة التجار المسلمين وبين معاملة التجار الغربيين في أوروبا وأمريكا يجد الفرق واضحًا، وكذلك الأمر في الأعمال الإدارية، ولعل ذلك مما حمل الإمام محمد عبده على القول عند رجوعه إلى بلاده من أوروبا في أوائل هذا القرن: " وجدت هناك الإسلام ولا مسلمين، وهنا المسلمين ولا إسلام" فإن واجب المسلمين في هذا المجال عظيم ولا بد من الانطلاق لتحقيق الغايات المرجوة، ويجب اعتماد القيم والتعليم الإسلامي منهاجًا لتيسير حياة الناس في هذه الآونة. وإذا كانت الرغبة الشديدة لدى الشعوب المسلمة في العودة للأخذ بأحكام الدين الإسلامي، فعلينا أن نرجع إلى الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة الذي أمرنا بهما القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومن الناس من هو ظالم لنفسه ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، كبعض أئمة الجوامع وجماعاتهم يطلبون مساعدات مادية كانت أو معنوية لبناء المساجد أو المدارس أو لفتح المصنع الجديد، ومنهم الذين يجمعون الزكاة من أصحابها ويعدون بتوزيعها للفقراء والمساكين واليتامى وأبناء السبيل، ولا يوفون بالوعد ولا يؤدون الأمانة إلى أهلها، ويقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، وينسون قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل (.9) ] ، وفي الحديث الشريف: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 678 ولقد أذن الإسلام للمسلمين بطلب الرزق والأموال والثروة على الوجه الحلال دون الحرام، وأمر باكتساب المعيشة والتعاون بين الأفراد والجماعات، وفرض الله الزكاة على الأغنياء أن يؤدوها للفقراء والمساكين والمستحقين لها والتكافل الاجتماعي في إطعام الجائع والمحتاج، وأمرنا الإسلام بطلب الرزق على الوجه الشرعي دون الحرام لقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة (.1) ] ، وقال أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة (172) ] ، وفي الحديث الشريف: " نعم المال الصالح للرجل الصالح ". وقال أيضًا: " التمسوا الرزق في خبايا الأرض"، ثم قال: " ما أكل أحد طعامًا قط خيرا من أن يأكل من عمل يده"، وقال سيدنا عمر رضي الله عنه: " لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة ". وقد نهى الإسلام المسلمين عن أكل الأموال الحرام كالربا والظلم في البيع والشراء وأكل حقوق العمال في معاملاتهم وتجاراتهم وأرباحهم، وأن لا يطففوا المكيال والميزان، وقال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين (1-5) ] . وقد أقر الإسلام الملكية الخاصة على الوجه الأكمل والمشروع من الصيد والصناعة والتجارة والزراعة والميراث الصحيح، وأوجب الإسلام على الدولة أن تهتم بأمور البيع والشراء في التجارة والصناعة، وحرم الإسلام السرقة بكل وجه من الوجوه، ونهى الإسلام عن الغش والغدر في التعامل التجاري والصناعي، فأصحاب المطابع الذين يأخذون الوعد والأمانة لطبع الكميات من العدد الكبير من الكتب المؤلفة فهم كالوراقين والنساخين والكاتبين في ما ما مضى من الزمان فلهم أجر أعمالهم التي تواعدوا عليها من المؤلف ولكن للأسف كان منهم من يغش ويغدر. والملكية الخاصة مراعاة حقوق التأليف وحقوق الطبع للمؤلف، وقد أحسن الغربيون عندما وضعوا القانون لحماية حقوق التأليف والطباعة، ومع ذلك فإن بعض المطابع تخون وتغدر كما يسرق بعض العلماء من تآليف غيرهم، والذي يسرق التأليف أو الطبع أشد ممن يسرق البيضة والجمل. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الجمل فتقطع يده)) . فمهما فسروا البيضة والجمل فإنه يلحق به سرقة التأليف والطبع، وأكثر أصحاب المطابع يطبعون عددًا أكثر من العهد الذي كان بينهم وبين صاحب الكتاب والمؤلف ويبدأون في بيع الكتب بلا إذن المؤلف ولا يوفون بالوعد الذي سبق بينهما ولا يحفظون حقوق طبع الكتاب مع أنهم يكتبون على كل نسخة من الكتاب: " حقوق الكتاب محفوظة للمؤلف". فلهذا وجب علينا حفظ الأمانة والوفاء بالوعد، كما أمرنا الإسلام بالعدل والإحسان وحفظ الحقوق بين الفرد والجماعة، وحرم الإسلام الظلم والخيانة في كثير من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة مثل قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: (188) ] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 679 فإذا أراد المسلمون العودة إلى الإسلام وحقيقة العدل وحفظ الأمانة والوفاء بالوعد، فعلينا باتباع أحكام الكتاب والسنة المطهرة مع تطبيقها فيكون لدينا الإسلام ونحن مسلمون وقد ظهر وثبت الحق في هذه المعاصرة الحاضرة أن أمة الإسلام خاتمة الأمم وخير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وقد أكمل الله لها الدين وأتم عليها النعمة واختار لها أماكن طيبة مقدسة قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: (3) ] . فلهذا على المسلمين جميعًا أن يحفظوا الأمانة والوفاء بالوعد تجاه ربهم وأنفسهم ليكونوا قدوة حسنة صالحة لغيرهم، كما أوجب عليهم أن يتمسكوا بتعاليم الدين الإسلامي والعمل بالشريعة الإسلامية والاستقامة بالعدل والصدق وقال الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب (23) ] . فلتكميل الموضوع في هذا المجال العظيم جمعت هذه الآيات الكريمة الواردة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة في ذكر الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة على هدي الكتاب والسنة مع تكميلها بآراء السلف وعلماء الإسلام الصالحين مع تطبيق ذلك بالشريعة الإسلامية راجيًا من المولى العلي القدير أن أنال الثواب والغفران إنه لا يضيع أجر من أحسن عملًا. والمؤمن الحقيقي هو الذي يؤدي الأمانة ويرد الودائع فيما بينه وبين عباد الله وبني جنسه، أدوا الأمانة فإنكم عنها مسئولون أمام الله تعالى، وعلى حسب القيام بها أو التفريط فيها تجزون، الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة التي عرضها الله تعالى على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا، وإن الدين الإسلامي يريد من أتباعه أن يتوفر بينهم جو من الطمأنينة والأمن والاستقرار، بحيث يكون كل واحد منهم آمنًا على نفسه وماله وعرضه ومصالحه، كما يريد لهم أن يكونوا عند عقودهم والتزاماتهم يحافظون ويوفون بها حتى تَسُود بينهم الثقة، ويعامل بعضهم بعضًا بروح الوفاء والإخلاص والأخوة والمودة وحتى يطمئنوا جميعًا في معاملاتهم. ونظرًا لأهمية المحافظة على الأمانة ورعاية الحقوق والوفاء بالوعد مع الالتزام بالآثار الطيبة في حياة الناس عامة وفي حياة المسلمين بصفة خاصة، نرى القرآن الكريم والسنة المطهرة يوليانها أهم العناية وأعظم الاهتمام يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال (27) ] . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ، [النساء (58) ] . ثم قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة (1) ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) ويقول: ((آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 680 والإسلام يحث المسلم على المعاملة الأدبية التي قاعدتها الالتزامات الأدبية مثل الوفاء بالوعد والصدق في القول وغير ذلك من الصفات الحميدة، فإذا وعد الإنسان أخاه المسلم أو غير المسلم كان عليه حقًا الوفاء بوعده عملًا بقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء (34) ] ، وقد جاء في وصايا الحكماء والأدباء أمثلة مختلفة تحريضًا على الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة مثله قولهم: " وعد الحر دين عليه "، وأن الوعد كورق الشجر والوفاء به كالثمرة، وكن يا أيها المسلم بطيء الوعد سريع الوفاء، إن الوفاء بالوعد دين توجب عليك الشهامة والمروءه أداءه، ولهذا ينبغي أن يفكر الإنسان قبل أن يعد فإذا ما وعد تحتم عليه أن ينجز وعده مهما كانت الموانع والعقبات، وقال الشاعر: إذا قلت في شيء نعم فأتمه فإن نعم دين على الحر واجب وإلا فقل (لا) تسترح وترح بها لئلا يقول الناس إنك كاذب إن الإسلام يعتبر أرباب الأعمال والعمال إخوة متحابين متعاونين، والإسلام يأمر أن يؤدي المسلم أعماله على الوجه المطلوب، وأن لا يقصر في تأدية حقوق العامل، ويدفع له أجره كاملًا في وقته المحدود، وعلى القدر والمبلغ الذي اتفقا عليه، حتى تكون العلاقة طيبة بين العمال وأرباب الأعمال فتسودها المحبة والأخوة لا روح الاستغلال والكراهية والاستهاننة التي تخلق الشحناء وتولد البغضاء بين طبقات الأمة كما هو مشاهد اليوم مما تنشأ عنه المفاسد التي تكون عواقبها وخيمة على الجميع، وفي الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) . ويقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، وإن الموت والشهادة في سبيل الله هما أرفع درجة الأعمال عند الله وإن الله تعالى لا يكفرن إثم الخيانة ولا يدخلن صاحبه في الجنة إلا برحمته تعالى وهو أرحم الراحمين)) . فالأمة العربية الإسلامية أولى الناس للوفاء بالوعد وحفظ الأمانة لأن المسلمين قد ورثوا ذلك من الأنبياء والمرسلين، وقد جاء الدين الإسلامي والقرآن الكريم بلغة العرب وبواسطة النبي العربي القرشي الهاشمي، والإسلام دين الله الذي أرسله الله إلى كافة الناس أجمعين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء (107) ] ، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: (45) ] ، وقال أيضًا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران (19) ] ، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران (85) ] . فإن الإيمان بالله ورسوله والملائكة والكتب وجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام واليوم الآخر والقدر خيره وشره أمانة على كل مسلم ومسلمة، وإن خمس الصلوات المفروضة والتوحيد والزكاة والحج وصوم رمضان أمانة ومن لم يؤد هذه الأمانات على الوجه الأكمل فهو ناقص الإيمان، وكذلك الوضوء والغسل من الجنابة ثم الوزن والكيل " وما خفي من الشرائع" أمانة وأشد في ذلك الودائع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 681 الوفاء بالوعد: هو عدم الجور والظلم والخيانة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من أحد يكون على شيء من أمور هذه الأمة فلم يعدل فيهم إلا كبه الله في النار)) ، وقال أيضا ((اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) . ثم قال: ((إيما رجل تزوج امرأته على ما قل من المهر أو كثر وليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها فمات ولم يؤد إليها حقها لقي الله وهو زان بها)) ، وقال: إن الله عز وجل يقول: ((أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهما)) وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام أفضل)) وهذا لصدقه وأمانته ووفائه للوعد. الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة من الأخلاق الإسلامية التي تجعل الإنسان يؤدي إلى كل ذي حق حقه حيوانًا كان أو إنسانًا فضلًا عن قيامه بحقوق الله رب العالمين وبهذا يكون المسلم كاملًا في وضعه السليم الصحيح. وما عدا ذلك فلا تطلق عليه صفة الإنسانية الكاملة، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن أحبكم إلي وأقربكم مني في الآخرة أحاسنكم أخلاقًا)) ، والإسلام يطلب من المسلم الحقيقي أن يوفي بالوعد ويحفظ الأمانة مع الصدق والعدل في أعماله وفي جميع ما يتحدث به لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر (55) ] ، وقد قيل: إن سلمان قال لأبي الدرداء: " إن لربك عليك حقًا وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا فاعط كل ذي حق حقه". فقال صلى الله عليه وسلم ((صدق سلمان)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 682 والمسلم لا يبالي برضى الناس عليه أو سخطهم، وإنما الذي يبالي به هو أن يقوم بحق الله عليه متوكلًا على الله وحده، الوفاء بالوعد معناه: الثبات على الحب والصدق حتى الموت وبعد الموت تكون مع أولاد أصدقائك وإنما يراد بذلك الجنة في الآخرة، فإذا انقطع الحب والصدق قبل الموت حبط العمل وضاع السعي والمرؤة، ومن الوفاء بالوعد أن لا تسمع بلاغات الناس على صديقك وأن لا تصادق عدو صديقك، كما قال الشافعي رحمه الله: " إذا أطاع صديقك عدوك فقد اشتركا في عداوتك" فعليك بحفظ الأمانة مع الالتزام، بوفاء العهد، فإن ولاة الأمور صغارا كانوا أو كبار رؤساء أو مديرين يقومون بالعدل والصدق فيما تولوا عليه وأن يسيروا في ولايتهم حسبما تقتضيه المصلحة في الدين والدنيا وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق بدون قسم ((لو أن فاطمة بنت محمد، صلى الله عليه وسلم سرقت لقطع يدها)) ، أقسم على ذلك علنا وهو يخطب الناس حينما شفع إليه في رفع الحد عن المرأة التي سرقت من بني مخزوم، وقد أقسم النبي على ذلك تشريعا للأمة الإسلامية وتبيانا للمنهج السليم الذي يجب أن يسير عليه ولاة الأمور. وفقنا الله وإياكم لأداء الأمانة والوفاء بالوعد وحمانا الله جميعا من الإضاعة والخيانة وغفر الله لنا ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين. الشيخ شيت محمد الثاني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 683 مناقشة الأبحاث الوفاء بالوعد الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. لدينا اليوم موضوعان مترابطان: أحدهما في بحث الوفاء بالوعد وهو تأسيس للموضوع الذي أجل من الدورة الرابعة وهو " بيع المرابحة للآمر بالشراء". وكما هو معلوم فإن الوفاء بالوعد لا يبحث على أنه موضوع مستقل، نصدر به قرارا بخصوصه، ولكن يبحث على وجه التأسيس والتأصيل لبيع المرابحة، ولهذا فإنه قدم في العرض على موضوع بيع المرابحة والعارض هو الأستاذ نزيه حماد فليتفضل. الدكتور نزيه كمال حماد: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. إن تحرير الأحكام الشرعية المتعقلة بالوعد من حيث وجوب الوفاء به ديانة أو استحاببه، أو من حيث القوة الملزمة له في القضاء والحكم تقتضينا تناول ألفاظه الاصطلاحية المتعددة التي يستعملها سائر الفقهاء أو بعضهم بالبيان والتفصيل وهي: العدة والمواعدة والوعد، وذلك من أجل الوصول إلى فقه محكم في المسألة، بعيد عن الاختلاط والتداخل، قد تميز فيه محل الوفاق عن مواطن النزاع، وتبين فيه الموقف الأخلاقي والموجب الدياني من الحكم القضائي حيث يوجد التباين أو يقع الفرق، وبذلك يمكننا إبراز الأحكام الشرعية في القضية واضحة جلية، لا لبس فيها ولا خلل يعتريها. وإن كون هذه الألفاظ الثلاثة مشتقة من مادة لغوية واحدة تدل في أصل الوضع " على ترجية بقول" كما قال ابن فارس لا يستلزم كون دلالتها الاصطلاحية واحدة، لأن تواضع الفقهاء أو بعضهم على مدلول شرعي متميز لكل كلمة قد نقل معناها اللغوي وحوله إلى معنى إصطلاحي جديد، ربما كان أخص أو أضيق شمولا واستيعابا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 684 أ- العدة: العدة في لغة العرب معناها الوعد، يقال: وعدت فلانًا بكذا ... والاسم منه العدة، فالعدة اسم منقوص من الوعد يحمل معناه دون زيادة أو نقصان، أما في الاصطلاح الفقهي، فقد درج على استعمالها المالكية بدلالة خاصة وهي الإعلان عن رغبة الواعد في إنشاء معروف في المستقبل يعود بالفائدة والنفع على الموعود، قال الحطاب في كتابه " تحرير الكلام في مسائل الالتزام " وأما العدة فليس فيها إلزام الشخص نفسه شيئا الآن، وإنما هي كما قال ابن عرفة إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل. فالعدة إذن عند فقهاء المالكية هي عبارة عن تصرف شرعي قولي يتم بالإرادة المنفردة قوامه تعهد شخص بلفظ الأخبار بأن يسدي لغيره معروفا مجانا دون مقابل، في المستقبل لا في الحال. أما حكم العدة من حيث وجوب الوفاء بها قضاء أو ديانة أو استحباب ذلك، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على خمسة أقوال: أحدهما: يقضى بها مطلقا، وهو مذهب القاضي سعيد بن أشوع الكوفي الهمذاني، وقول عند المالكية، ورأي ابن شبرمة كما نقل ابن حزم في المحلى. والثاني: يجب الوفاء بها ديانة لا قضاء، وهو رأي الإمام تقي الدين السبكي الشافعي، قال: ولا أقول يبقى دينا حتى يقضى من تركته، وإنما أقول يجب الوفاء تحقيقا للصدق وعدم الإخلاف، وقد استشكل الحافظ ابن حجر هذه المقولة فقال: وينظر هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي يأثم بالإخلاف. وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك؟ أي في القضاء، فأجاب الإمام السخاوي على ذلك في جزئه المسمى " التماس السعد في الوفاء بالوعد" فقال: قلت ونظير ذلك نفقة القريب، فإنها إذا مضت مدة يأثم بعدم الدفع ولا يلزم به، ونحوه قولهم في فائدة القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، تضعيف العذاب عليهم في الآخرة مع عدم إلزامهم بالإتيان بها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 685 والقول الثالث: إن الوفاء بها مستحب لا واجب، وهو مذهب جماهير العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية وبعض المالكية وغيرهم، جاء في العقود الدرية لابن عابدين: سئل فيما إذا وعد زيد عمرًا أن يعطيه غلال أرضه الفلانية فاستغلها وامتنع من أن يعطيه من الغلة شيئا فهل يلزم زيدا شيء بمجرد الوعد المزبور؟ الجواب لا يلزمه الوفاء بوعده شرعا، وإن وفى فبها ونعمت، وفي التمهيد لابن عبد البر: وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وعبيد الله بن الحسن وسائر الفقهاء، أما العدة فلا يلزمه فيها شيء لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية: أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض ولصاحبها الرجوع فيها، ثم قال: إن العدة واجب الوفاء بها وجوب سنة وكرامة، وذلك من أخلاق أهل الإيمان، وقد جاء في الأثر: " وأي المؤمن واجب "، أي واجب في أخلاق المؤمنين، وإنما قلنا: إن ذلك ليس بواجب فرضا، لإجماع الجميع على أن من وعد بمال ما كان لم يضرب به الغرماء كذلك قلنا: إيجاب الوفاء به حسن في المروءة ولا يقضى به ولا أعلم خلافا أن ذلك مستحسن، يستحق صاحبه الحمد والشكر على الوفاء به، ويستحق على الخلف في ذلك الذم، وقد أثنى الله عز وجل على من صدق وعده ووفى بنذره: وكفى بهذا مدحًا وبما خالفه ذمًا. والقول الرابع: إن كانت العدة مرتبطة بسبب، ودخل الموعود في السبب، فإنه يجب الوفاء بها كما يجب الوفاء بالعقد، أما إذا لم يباشر الموعود السبب فلا شيء على الواعد، كما إذا وعده بأن يسلفه ثمن دار يريد شراءها، فاشتراها حقيقة، أو أن يقرضه مبلغ المهر في الزواج، فتزوج اعتمادا على هذا الوعد، ففي هذه الحالات وأمثالها يلزم الواعد قضاء بالوفاء بما وعد به، أما إذا لم يباشر الموعود تلك الأسباب، فلا يلزم الواعد بشيء. وهذا القول هو المشهور والراجح في مذهب مالك، وعزاه القرافي إلى مالك وابن القاسم وسحنون، وقد أشار العلامة محمد العزيز جعيط إلى أن هذا القول المشهور ليس مبنيا على أساس وجوب الوفاء بالوعد- أي أن في الوعد قوة ملزمة للواعد كما هو الشأن في العقد- بل هو مبنى على عدم وجوب الوفاء به وإنما قضى به في صورة ما إذا أدخله في شراء عقار أو تزوج امرأة أو غير ذلك. لأنه تسبب له في إنفاق مال قد لا يتحمله ولا يقدر عليه، رفعا للضرر عن الموعود المغرر به، وتقريرا لمبدأ تحميل التبعة لمن ورطه في ذلك، إذ لا ضرر ولا ضرار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 686 والقول الخامس: إن كانت العدة مرتبطة بسبب، وجب الوفاء بها قضاء، سواء دخل الموعود في السبب أو لم يدخل فيه، وإلا فلا، فلو قال شخص لآخر: أعدك بأن أعيرك بقري ومحراثي لحراثة أرضك، أو أريد أن أقرضك كذا لتتزوج، أو قال الطالب لغيره: أريد أن أسافر أو أن أقضي ديني أو أن أتزوج فأقرضني مبلغ كذا فوعده بذلك ثم بدا له فرجع عن وعده قبل أن يباشر الموعود السبب الذي ذكر من سفر أو زواج أو وفاء دين أو حراثة أرضٍ ... إلخ، فإن الواعد يكون ملزما بالوفاء، ويقضى عليه بالتنفيذ جبرا أن امتنع، أما أن كانت العدة على غير سبب، كما إذا قلت: أسلفني كذا، ولم تذكر سببا، أو أعرني دابتك أو بقرتك ولم تذكر سفرا ولا حاجة، فقال: نعم، أو قال الواعد من نفسه: أنا أسلفك كذا أو أهب لك كذا ولم يذكر سببا، ثم رجع عن ذلك، فلا يلزم بالوفاء بها، قال القرافي: وبذلك قضى عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وهو قول في مذهب المالكية وقريب منه قول الإمام أصبغ منه. ب- المواعدة: المواعدة في اللغة تعني نشوء وعدين متقابلين من شخصين، فهذا يعد فلانا بكذا، والآخر يعده بكذا في مقابلة ذلك، أما في الاصطلاح الفقهي فهي عبارة عن إعلان شخصين عن رغبتهما في إنساء عقد في المستقبل تعود آثاره عليهما. وأكثر الفقهاء استعمالا لهذا المصطلح المالكية. وقد عبر عنها في النكاح الحطاب بقوله: المواعدة أن يعد كل واحد منهما صاحبه بالتزويج، فهي مفاعلة، لا تكون إلا من اثنين. فإن وعد أحدهما دون الآخر، فهذه العدة، وبهذا افترقت المواعدة عن العدة التي سبق بيانها من حيث كون الأولى لا تنشأ إلا باجتماع رغبة طرفين، بينما تتم العدة بإعلان الرغبة من طرف واحد، وقد ذكر الفقهاء المواعدة في مسائل عديدة منها: المواعدة على البيع وقت نداء الجمعة، والمواعدة على بيع ما ليس عند الإنسان. ومع أن الفقهاء اتفقوا على عدم مشروعية بعضها، كالمواعدة على النكاح في العدة، واختلفوا في جواز بعضها الآخر كالمواعدة في الصرف ونحوها، فإنه لم ينقل عن أحد منهم- سواء كان من المجيزين أو من المانعين- قول بأن في المواعدة قوة ملزمة لأحد المتواعدين أو لكليهما، لأن التواعد على إنشاء عقد في المستقبل ليس عقدا، وفي ذلك يقول ابن حزم: والتواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة، وفي بيع الفضة بالفضة، وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز، تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا، لأن الواعد ليس بَيِّعًا. على أن المتواعدين لو اتفقا على أن يكون العقد الذي تواعدا على إنشاءه في المستقبل ملزما للطرفين من وقت المواعدة، فإنها تنقلب إلى عقد، وتسري عليها أحكام ذلك العقد، إذ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 687 ج- مصطلح الوعد: الوعد في اللغة معناه الإخبار عن أمر في المستقبل سواء أكان خيرًا أم شرًا، بخلاف الوعيد، فإنه لا يكون إلا بشر. وقيل: الوعد والوعيد واحد، ويستعمل الفقهاء كلمة " الوعد" بنفس مدلولها اللغوي، بمعنى أن الوعد قد يكون بمعروف، مقرض أو تمليك عين أو منفعة مجانا للموعود، وقد يكون بصلةٍ أو بر أو مؤانسةٍ كعيادة مريض وزيارة صديق وصلة رحم ومرافقة في سفر ومجاورة في سكن، وقد يكون بنكاح، كما في خطبة النساء، وقد يكون بمعصية كما إذا وعد شخصا بأن يقتل له خصمه أو غريمه أو يتلف ماله ظلمًا وعدوانًا ونحو ذلك. أما الحكم التكليفي للوعد من حيث الوفاء به، فهو محل خلاف بين الفقهاء، وإذا أردنا تحرير محل النزاع في المسألة فلابد من البيان والتفصيل الآتي: إذا كان الوعد بمعروف- وهو ما يسمى عند المالكية بالعدلة- أو كان من قبيل المواعدة، فقد سبق عرض آراء الفقهاء فيه على الخصوص. أما ما عدا ذلك من ضروب الوعد وصوره وحالاته، فإنه لا خلاف بين الفقهاء: 1- في إن من وعد بشيء منهي عنه، فلا يجوز له الوفاء بوعده، بل يجب عليه إخلافه. 2- وإن من وعد بشيء واجب شرعا، كأداء حق ثابت أو فعل أمر لازم، فإنه يجب عليه إنجاز ذلك الوعد. 3- وإن من وعد بشيء مباح أو، مندوب إليه، فينبغي له أن يفى بوعده، حيث إن الوفاء بالوعد من مكارم الأخلاق وخصال الإيمان، وقد أثنى المولى جل وعلا على من صدق وعده، وكفى به مدحا، وبما خالفه ذما. ولكن هل الوفاء بذلك واجب أم مستحب أم غير ذلك؟ اختلف الفقهاء في ذلك على خمسة أقوال: أحدها: أن الوفاء بالوعد واجب، قال القاضي ابن العربي: أجل من ذهب إلى هذا المذهب عمر بن عبد العزيز. وقد حكى هذا القول عن ابن شبرمة - حكاه ابن حزم في المحلى وبرهان الدين ابن مفلح في المبدع- وإليه ذهب العلامة تقي الدين السبكي، وهو وجه في مذهب أحمد اختاره الإمام تقي الدين ابن تيمية، وقول في مذهب المالكية صححه ابن الشاط في حاشيته على الفروق، وحجتهم على هذا الرأي قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] . وما روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 688 والقول الثاني: إن الوفاء بالوعد واجب إلا لعذر، وهو رأي القاضي ابن العربي. قال: والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر. وقال: وإذا وعد وهو ينوي أن يفي فلا يضره إن قطع به عن الوفاء قاطع، كان من غير سبب منه، أو من جهة فقر، اقتضى ألا يفي للموعود بوعده، وعليه يدل حديث أبي عيسى- أي الترمذي - عن زيد بن أرقم: ((إذا وعد الرجل وهو ينوي أن يفي به، فلم يف فلا جناح عليه)) . وهو غريب ضعيف، وإلى هذا الرأي مال الإمام الغزالي، حيث قال في الوعد: فلابد من الوفاء إلا أن يتعذر، ثم نزل النفاق المذكور في الحديث " وإذا وعد أخلف " على من ترك الوفاء بالوعد من غير غدر. والقول الثالث: إن الوفاء بالوعد مستحب، فلو تركه فاته الفضل، وارتكب المكروه كراهة تنزيه شديدة، ولكن لا يأثم، وهو رأي جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة والظاهرية وغيرهم، قال ابن علان الشافعي: قد تقرر في مذهبنا أن الوفاء بالوعد مندوب لا واجب، وجاء في المبدع لبرهان الدين ابن مفلح: لا يلزم الوفاء بالوعد، نص عليه – أي الإمام أحمد - وقاله أكثر العلماء. والقول الرابع: إن الوفاء بالوعد أفضل من عدمه إذا لم يكن هناك مانع، وهو رأي الإمام أبي بكر الجصاص. والخامس: إن الوفاء بالوعد المجرد غير واجب، أما الوعد المعلق على شرط، فإنه يكون لازما وهو مذهب الحنفية. جاء في الأشباه والنظائر لابن نجيم: وفي القنية إن وعده أن يأتيه، فلم يأته لا يأثم، ولا يلزم الوعد إلا إذا كان معلقا، وجاء في الفتاوى البزازية: إن المواعيد باكتساء صور التعليق تكون لازمة. ونصت المادة (84) من مجلة الأحكام العدلية: المواعيد بصورة التعاليق تكون لازمة، مثال ذلك: لو قال شخص لآخر ادفع ديني من مالك، فوعده الرجل بذلك، ثم امتنع عن الأداء، فإنه لا يلزم الواعد بأداء الدين، أما لو قال رجل لآخر: بع هذا الشيء لفلان، وإن لم يعطك ثمنه فأنا أعطيه لك، فلم يعطه المشتري الثمن، لزم الواعد أداء الثمن المذكور بناء على وعده. وأساس ذلك أن الإنسان إذا أنبأ غيره بأنه سيفعل أمرا في المستقبل مرغوبا له، فإذا كان ذلك الأمر غير واجب عليه، فإنه لا يلزمه بمجرد الوعد، لأن الوعد لا يغير الأمور الاختيارية إلى الوجوب واللزوم، أما إذا كانت المواعيد مفرغة في قالب التعليق، فإنها تلزم لقوة الارتباط بين الشرط والجزاء، من حيث إن حصول مضمون الجزاء موقوف على حصول شرطه، وذلك يكسب الوعد قوة، كقوة الارتباط بين العِلِّية والمعلولية، فيكون لازما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 689 وحكى العلامة الحموي في شرحه على الأشباه والنظائر: إن الوعد إذا صدر معلقا على شرط، فإنه يخرج عن معنى الوعد المجرد، ويكتسي ثوب الالتزام والتعهد، فيصبح عندئذ ملزما لصاحبه، قال: لأنه إذا كان معلقا يظهر منه معنى الالتزام، كما في قول: إن شفيت أحج، فشفي يلزمه. ولو قال: أحج، لم يلزمه بمجرده، على أن الحنفية إنما اعتبروا الوعود بصور التعاليق لازمة إذا كان الوعد مما يجوز تعليقه بالشرط شرعا حسب قواعد مذهبهم، حيث إنهم أجازوا تعليق الإطلاقات والولايات بالشرط الملائم دون غيره، وأجازوا تعليق الإسقاطات المحضة بالملائم وغيره من الشروط، أما التمليكات- كالبيع والإجارة والهبة ونحوها – وكذا التقييدات، فإنه لا يصح تعليقها شرعا بالشرط عندهم، فليتأمل. وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن النافين لوجوب الوفاء بالوعد حيث نفوه: أ- حملوا المحظور الذي نهى الله عنه ومقت فاعله عليه في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} على من وعد وفي ضميره ألا يفي بما وعده، أو على الإنسان الذي يقول عن نفسه من الخير ما لا يفعله. ب- وأجابوا على استدلال الموجبين للوفاء بالوعد المجرد بحديث ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) بأن ذم الإخلاف إنما هو من حيث تضمنه الكذب المذموم إن عزم على الإخلاف حال الوعد، لا إن طرأ له، وقال الغزالي: وهذا ينزل على من وعد وهو على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر، فأما من عزم على الوفاء، فعن له عذر منعه من الوفاء لم يكن منافقا، وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 690 الدكتور عبد الله محمد عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم. لقد قام الدكتور نزيه بإعطاء صورة واضحة عن الموضوعات التي تناولت هذا البحث ولكن لي ملاحظة واحدة على البحوث وعلى ما تفضل به الأخ الدكتور. إنه قال إن المواعدة لا تكون إلا في التبرعات، أما في عقود المعاوضات فلا تلزم المواعدة، وفي الواقع إني وجدت في فقه المالكية وفي قواعد الونشريسي ما يدل على لزوم المواعدة حتى في عقود المعاوضات وكذلك في مذهب الأحناف: من ذلك ما جاء في القاعدة الخامسة والستين من قواعد الونشريسي قال: أصل منع المواعدة بما لا يصح وقوعه في الحال، وتطبيقا لهذه القاعدة إن كل عقد يجوز إيقاعه في الحال تجوز المواعدة فيه والعكس صحيح، والأمثلة التى ضربها لهذه القاعدة بيع الطعام قبل قبضه، والبيع من عقود المعاوضة، والبيع وقت نداء الجمعة، وبيع ما ليس عندك. فهذه قواعد أو استثناءات طبقا للقاعدة لأن هذه العقود لا يجوز إيقاعها في الحال فلا تجوز المواعدة فيها. مذهب الحنفية: عند الأحناف الأصل عدم لزوم المواعدة ولكن قالوا بلزومها لحاجة الناس وضربوا لذلك مثلا " بيع الوفاء " على الرأي القائل بأن بيع الوفاء هو بيع وشرطوا فيه شروطا معينة بأن يكون العقد بلفظ البيع وألا ينص في العقد على الفسخ أو الإقالة، بل يكون شرطا لاحقا لأن الشرط المفسد عندهم هو الشرط الذي يقارن العقد ويمازجه كما عبروا بهذا التفسير، أما الشرط اللاحق فإنه لا يؤثر، وهذا الشرط اللاحق هو المواعدة ويجب الوفاء بها للحاجة. وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 691 الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني: بسم الله الرحمن الرحيم. إن قضية الوفاء بالوعد على حقيقتها يجب ألا تحمل على أكثر مما حدده العلماء في تعريف الوعد، فقد عرفه العلامة المالكي ابن عرفة: بأنه إخبار عن إنشاء معروف في المستقبل، وكذلك عرفه العيني الحنفي: بأنه إخبار عن إنشاء خير في المستقبل، ومن هذا التعريف يتضح بأن الوعد مقصور على الخير وعلى المعروف. أما قضية المعاوضات فإن أحكامها واضحة، وإن للعقد أحكامه فلا يجب ولا ينبغي أن يسري حكم الوعد عليه، فقد اتفق الفقهاء على استحباب الوفاء بالوعد دينيا وأخلاقيا ويقابل ذلك قول آخر مفاده وجوب الوفاء بالوعد ديانة وقضاء وبدون تفصيل- أي على إطلاقه – ولكن هذا يمكن أن يناقش، فقول من أوجب الوفاء بالوعد مطلقا عند المالكية لا ينصرف إلى المعاوضات بوضوح ظاهر، وقد صرح بذلك الحطاب في كتابه " تحرير الالتزام" صرح: بأن الوعد لا يشمل المعاوضات كالبيع والإجارة ولا يشمل النكاح وإنما الخلاف الذي دار بين فقهاء هذا المذهب هو في نطاق التبرعات، فمنهم من أوجبه مطلقا، ومنه من أوجبه إذا دخل الموعود على سبب، ومنهم من أضاف أو من أقتصر على وجود السبب بدون دخول الموعود في مباشرة الأسباب فيما وعد فيه، هذا خلاف المالكية وهو لا يحتاج إلى مزيد فهو واضح بالتصريح. يبقى لدينا قول من أطلق القول وهو: ابن شبرمة، وابن الأشوع. فقد ورد عنهما القول بالإطلاق بدون تفصيل. ويبدو لنا أن هذا الإطلاق مقيد ولا يسري على إطلاقه. أولًا: إن تعريف الوعد يقيده كما عرفه العلماء ابن عرفة والعيني وغيرهما فقد قيدوا الوعد بأنه في المعروف وإنه في الخير والمعاوضات في الاصطلاح الفقهي لا يسري عليها هذا المعنى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 692 ثانيا: من المُسَلَّمَات الفقهية عند العلماء أن البيع وأمثاله يجب أن يتم على طريقة الجزم لا على طريقة إبقائه وتعليقه، لذلك قالوا إذا استخدم لفظ المضارع في صيغة البيع إنما هو مجرد وعد لا يفيد شيئا ولا ينعقد البيع ما لم تكن قرينة صارفة إلى إرادة الحال لا المستقبل. ولقد قال المالكية إذا استخدم المضارع في البيع وجب على الموجب أن يحلف أنه ما أراد الوعد. وهذا يكشف لنا أن الوعد في البيع عند المالكية لا يفيد شيئا. فإذا كان الأمر كذلك في رفض استخدام لفظ المضارع المقيد أو المفيد للمستقبل وعدم ترتب أثر عليه وفي مجلس العقد والمبيع مملوك للبائع فكيف يقال بإلزام وعد صدر من شخص إيجابا أو قبولا وصيغته دائما لا تكون إلا مستقبلة، والوفاء لا يكون إلا في المستقبل، وقد لا يكون البيع أيضا ملك البائع. فإذا كان العقد هنا لا وجود له مع استعمال صيغة المستقبل فكيف بالوعد وهو أقل قوة وإلزاما من العقد بلا نزاع!! ولكي يؤكد الفقهاء وجوب الجزم في المعاوضات منعوا جواز تعليقها على أمر مستقبل، والوعد مستقبل، ثم لا يخفى أن القول بإلزام الواعد في البيع أو المشترى يجرنا إلى القول بصحة البيع والنكاح وأمثالهما في ظل الإكراه وهذا لم يقل به أحد من فقهاء الشريعة لأن الإكراه من عيوب الإرادة والعقود. وبناء على ذلك فإنه لا متمسك لمن يقول إن مذهب ابن شبرمة وموافقيه جاءت مطلقة غير مقيدة بمعاوضات أو تبرعات بل يجب أن تقيد بالتبرعات فقط فوجب المصير إلى رأي الجمهور وهو استحباب الوفاء بالوعد لأنه من محاسن الأخلاق لورود النص النبوي الشريف في هذا الخصوص. بقي أن أقول تعقيبا على بحث الأخ الدكتور نزيه: إن التفريق الذي أورده بين العدة والوعد لا يبدو وجيها لأن الأحكام التي أوردها في الوعد والعدة كما تبين: هي متساوية والفقهاء استخدموا اللفظين في المعنى نفسه، فمنهم من عرف العدة ومنهم من عرف الوعد بنفس اللفظ. وقضية التواعد هي وعد في حقيقتها من طرفين إذا أخذناها على الانفراد، فمن هذا وعد ومن ذاك وعد. أما أن تجمع فهي تواعد على الحقيقة وإلا فإن الحكم حكم الوعد يسري عليها، فهي لا تأخذ حكما جديدا. أما ما قيل من الأخ قبل قليل بأن تعليق العقد على الشرط أو الوعد على الشرط يراه نوعا من الإلزام فإن الحقيقة العبرة بالشرط وليس بالوعد. وشكرا لكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 693 الدكتور سامي حسن حمود: بسم الله الرحمن الرحيم. موضوع الوعد والكلام عن الوفاء به في ظل الالتزام الإسلامي، فالمسلمون هم أهل الوفاء والكل يتفق على إن من مكارم الأخلاق الوفاء بالوعد، ولكن عندما تأتي الحقوق والالتزامات يصبح هناك تفريق هل هناك إلزام أو لا يكون إلزام؟ والأبحاث التي قدمت إلى هذا المجمع الكريم متفقة إجمالا على وجوب الوفاء بالوعد وهناك مناطق للتفريق. فمنطقة الأخلاق والمروءات قيل إن الوفاء بالوعد إذا لم يكن ناتجا عنه كلفة فإنه يكون من المكارم ولا إجبار فيه. أما إذا أدخل الموعود في كلفة فهناك سبب قد يكون موجبا للضرر كأن يقول له تزوج وأقرضك (1000) دينار، فهيأ نفسه للزواج ثم قال خطر لي أو عن لي أن لا أقرضك. فهنا؛ جاء رأي المالكية بوجوب الإلزام قضاء وليس ديانة لأنه قد أضر بوعده هذا الذي قاله لجاره أو لأخيه فدخل في الكلفة ثم تركه وحيدا في الساحة. هذا المنطق الذي يأتي من جراء منع الضرر والإضرار هو ظاهر في التبرعات ولكنه في نظري أقوى وأشد لزوما في الالتزامات رغم أن هناك من يحاول أن يحصر هذه العملية في ميدان التبرعات. فعندما نأتي للالتزامات لا يكون الأمر أمر أخلاق ومروءة فحسب ولكنه أمور تترتب عليها التزامات معينة. فلو قال رجل لآخر، لصاحب مصنع اصنع لي كذا وكذا وأنا أشتريه منك بسعر كذا ولم يتفق معه على العقد استصناعا حتى لا يقال أن هناك عقد استصناع وقال: وكما تعلن الدولة تشجيعا للمزارعين مثلا أن من ينتج القطن أو ينتج القمح ففي موسم الحصاد هناك سعر محدد تشتريه الدولة بسعر كذا، ثم يأتي المزارعون فيندفعون في الإنتاج فإذا جاء الوقت قيل عدلنا عن ذلك، هنا الدخول في الالتزامات بالوعد الذي صدر يدخل الموعودين في كلفة. فهؤلاء الذين وعدوا ودخلوا في الكلفة أمامهم أمران: إما أن يكون هناك إجبار على الوفاء بما وعدوا به أو أن يكون هناك مقابل تعويضا لهم عن الضرر الذي تعرضوا له فإذا قلنا بأن الإلزام بالوعد لا محل له بالإجبار على تنفيذ العقد الذي وعدوا به، فإن المقابل وعدل الشريعة تقتضي منا أن نقول نعم. إذا لم يكن هناك إلزام فإن الشريعة لا تسمح بأن يقع ضرر دون أن يكون المتسبب ملزما بتعويض هذا الضرر. ومن هنا يأتي التوازن العادل في الشريعة الإسلامية بأن الوفاء بالوعد واجب في مكارم الأخلاق وعندما تأتي الالتزامات فإنه إن قيل بأن الوعد لا يجبر فيه تنفيذ العقد فإنه أيضا ينص في ذات المادة أن تعويض الضرر إذا حصل وكان ضررا حقيقا حالا غير محتمل وغير متوقع فإن هذا التعويض يكون واجبا على من تسبب بوعده في حدوث هذا الضرر. وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 694 الرئيس: شكرا. ما أشار إليه الأستاذ على أن البحوث تكاد تكون متفقة على وجوب الوفاء، أظن أن هذا غير مسلم به. البحوث واضحة وهي أمامنا ويكاد الأكثر من البحوث- لأننا قرأناها وتتبعنا ما فيها – ينص على عدم الوجوب والتفصيل معلوم. الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي: بسم الله الرحمن الرحيم. بعد أن استمعنا إلى بحث الدكتور نزيه حماد وهو بحث مستوف جميع جوانبه من الناحيتين الموضوعية والتوثيقية وهو من أدق البحوث التي نقلت لنا الثروة الفقهية الموجودة في كتبنا العظيمة بكل أمان واطمئنان، ولكن إيراد الخلافات وعرضها بهذا الشكل الممتاز لا يعفينا من ضرورة تلبية الحاجة الملحة في عصرنا الحاضر وهو الوفاء بالوعد في مجال المعاملات. كلنا نعلم كما تفضل الإخوة الذين عقبوا أن الوفاء بالوعد من مكارم الأخلاق ومن أصول الإسلام ومن مفاخرة أيضا وهو مما أشاد به الإسلام وأقرت به الأعراف العربية السابقة التي كانت تفاخر بهذه الفضيلة العظيمة، فهذا مما لا شك فيه ولكننا بحاجة إلى أن نبين ونركز على ضرورة الوفاء بالوعد في مجال المعاوضات لأن الدوافع والبواعث التي أملت على المجمع والظروف التي أحاطت به في أن يعرض هذا الموضوع هو تلبية الحاجة إلى هذا البحث في مجال المعاملات. فلذلك كنا نود من الأخ الدكتور نزيه أن يبين لنا بما عرف عنه من دقة وموضوعية الرأي الراجح في هذا الموضوع ويركز سواء بالأخذ بالآراء التي هي وإن كانت تمثلها القلة الفقهية يركز على هذه الناحية ويدعمها بالأدلة الواضحة الصريحة التي هي جاءت في الحقيقة في مكارم الأخلاق وفي التبرعات، فهل يمكننا النقلة السريعة من هذا المجال إلى مجال المعاوضات وبالتالي نصل إلى إلزام الواعد بالوفاء بوعده لا سيما إذا أدخله في ضرر؟ الحقيقة نحن نميل في الوقت الحاضر إلى رأي المالكية في هذا الجانب فهو ملب للحاجة ومطابق لما تقتضيه أعراف الناس وعاداتهم في الوقت الحاضر، خصوصا وأن الآخرين ينتظرون ممن يحملون شريعة الله أن يكونوا مثلا عليا في الوفاء بالوعد وفي عدم إلحاق الضرر بالآخرين وفي الالتزام أيضًا بكل ما ألزموا به أنفسهم إذ لا ملزم لهم غير الكلمة التي أصدروها من قبل أنفسهم دون إكراه ودون اضطرار ودون إلجاء. لهذا كله نحن نرحب بأن يكون هناك مجال للترجيح في مثل هذه الآراء الفقهية المتناثرة حتى تكون الصورة واضحة وأن نعتمد على الرأي الذي يمكن أن نفتى به ونوصى به أو يُصدر لنا قرار في مجاله في هذا الموضوع المهم جدا والذي أصبح هناك تطلع إلى معرفة الحكم الشرعي الذي ينبغي أن يصدر عن مجمعنا بشكل حاسم نسبيا. والسلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 695 الشيخ عبد الله محفوظ بن بيه: الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. مسألة الوعد أنا أوافق الأخ أظنه محمد رضا الذي تحدث عن مذهب مالك وقال إن الوعد لا يجب في مذهب مالك فيما يتعلق بالمعاوضات وإن نصوص المذهب وظواهره كلها تدل على أن الوعد إنما يعتد به في المعاوضات أو ما يشبهها أو ما هو في التبرعات أو ما هو من قبيل التبرعات، كالخلع، مثلا. خليل يقول: أو الوعد إن ورطها – أي أدخلها في ورطة – فإن الخلع يجب حينئذ بالوعد لأنه يجوز له أن يطلقها بغير عوض، أما في المعاوضات فقد تتبعنا سائر المسائل في المذهب فما وجدنا مسألة واحدة يوجب فيها الوعد عقدا وإنما هو وعد وليس عقدا كل نصوص المذهب وكل شروحه متواردة متواطئة على هذا لا يشذ منها شيء. والكلام الذي نقل عن الونشريسي هو في جواز الوعد وليس في لزوم الوعد. فيجب أن نتحرى الدقة فيما ننقله عن العلماء. هذه المسألة بنيت عليها أحكام وهذه الأحكام بنيت على أساس لا وجود له وعزيت إلى مذهب مالك وليست في مذهب مالك، إنما الذي في المذهب هو لزوم الوعد على قول من سبعة أقوال ذكرها الحطاب في التزاماته وذكر غيره أربعة أقوال: ذكرها خليل في توضيحه، ونظمها الزقاق في المنهج فقال: هل يجب الوفاء بالوعد؟ نعم أو لا فهذه الأقوال كلها إنما تتعلق بالتبرعات لأن المعاوضات إذا كان ينوي منشئها إلزاما فقد نشأ الإلزام. فمن قال بعتك أو أبيعك قاصدا إنشاء البيع لزمه إنشاء البيع. وهذه مسألة نعرفها حتى في النحو وحتى في البلاغة. إن هذه الجملة الخبرية تتحول إلى جملة إنشائية إذا قال أبيعك أو أزوجك قاصدا إنشاء البيع. أما الوعد فإنه لا يلزمه شيء من ذلك. هذا هو أصل مذهب مالك. أود فقط أن أشير إلى مسألة لعلها لغوية وهي الفرق بين الوعد والعدة. لا فرق بينهما فهما مصدران لوعد والتاء هنا نائبة عن فاء المصدر كما تقول ونقه ونقا ونقة إذا أحبه ووجد به وجدا وجدة إذا حزن عليه وأسف. فلا فرق والكلمة لا تتضمن معنى زائدا على كلمة وعد، والعلماء فرقوا بين وعد وعقد ومذهب مالك لا يوجد فيه هذا الكلام، فنحن نشكر من يقدم لنا شيئا في مذهب مالك، ولعل الأصح في مذهب مالك والأقرب إلى الصواب أن يبيعه ولو باعه ما لا يملكه فهو أمر قد يكون مكروهًا في مذهب مالك إذا كان متوفرا في السوق كما نص عليه ابن رشد في المقدمات الكبرى صفحة 517 نص على أن مالكًا خفف ذلك إذا كان المبيع موجودا في السوق، فهذا أولى من التشبث بوعد لا وجود له وبعقد لا يستند إلى عهد. وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 696 الدكتور علي أحمد السالوس: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. لاحظت في هذه الأبحاث وفي أبحاث سابقة أن الذين يتحدثون عن الإلزام بالوعد يستدلون أساسا برأي ابن شبرمة حيث قال بأن الوعد كله لازم، ولكن أحب أن أقول بأن رأي ابن شبرمة لا يفيد في بيع المرابحة، لأن ابن شبرمة نفسه قال بخيار الرؤية فلو اعتبرنا أن الوعد لازم ولكن عند استيراد السلعة قال العميل بأنه لا يريد بعد أن يرى بحسب رأي ابن شبرمة له هذا، فرأي ابن شبرمة لا يفيد، ثم أحب أن أذكر هنا رأيا آخر كان توفيقا بين الرأيين وذلك أن فضيلة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي يرى الإلزام بالوعد وكنت عارضت هذا ورأيت عدم الإلزام في المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي ثم أصبحنا معا في هيئة الرقابة الشرعية لمصرف قطر الإسلامي فكيف نوفق بين الرأيين؟ أنأخذ بالإلزام أم بعدم الإلزام؟ والعضو الثالث في هيئة الرقابة الشرعية أيد فضيلة الشيخ القرضاوي، فانتهينا إلى أن عقد البيع لا يتم إلا بضوابطه الشرعية وبالتراضي، ولا يلزم العميل بأن يوقع عقد البيع. إلا بالتراضي ولكن إذا لم يلتزم بالوعد فهل تكون هناك شروط يمكن أن يضيفها للعقد بحيث نطبق الحديث الشريف ((لا ضرر ولا ضرار)) والقاعدة الضرر يزال؟ رأينا أن نضيف هذا الشرط بمعنى إذا كان المصرف يبيع السلعة بغير مكسب ولا خسارة فلا يعود على العميل بشيء- باع السلعة وكسب كثيرا فهو يبيع سلعة يملكها – والعميل كذلك إذا لم يقع عليه ضرر فليس له أن يطالب المصرف بشيء، إذا كان بسبب هذا الوعد دخل في أمر معين، كأن دخل في مناقصة مثلا والتزم بها ثم المصرف لم يأته بما وعده فوقع عليه ضرر- عقوبة مثلا- نتيجة الإخلال بهذا، قلنا بأن المصرف يتحمل هذا الضرر، إذن جعلنا هذا شرطا خارجا عن العقد، يعني عقد البيع لا يتم إلا بضوابطه الشرعية، ولكن هناك شرط بأنه إذا حدث ضرر نتيجة عدم الالتزام بالوعد فإن من يتسبب في الضرر عليه أن يلتزم بهذا الضرر. فإذا رأى مجمعكم الموقر أن هذا الرأي يعتبر توفيقا بين الرأيين أمكن أن نقدمه للمصارف الإسلامية وإن رأى غير هذا أمكن أن نحسم الخلاف. والله أعلم بالصواب وشكر الله لكم، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 697 حجة الإسلام محمد علي التسخيري: شكرا سيدي الرئيس، أعتقد أن هناك حالات متصورة للوعد. هناك حالة خفيفة- إذا صح هذا التعبير – الوعد العادي الذي يعد به مسلم مسلما وهناك حالة الوعد الذي يعقده على نفسه فيلتزم به بقوة دون أن يترتب على نقضه أثر، وهناك حالة ثالثة، هذا الوعد المعقود بقوة مع ترتب أثر من نوع ما على نقضه، الحالة الرابعة الوعد المعطى كشرط ضمن عقد من العقود، فهل الوعد في كل هذه الحالات ملزم، أو يختص الإلزام ببعضها دون بعض؟. إذا أردنا أن نطرح الأدلة نجد أن أهمها اثنان: الأول أدلة الوفاء بالوعد وهي كثيرة وواضحة ولا داعي لذكرها، إلا أنه يقال في قبالها كما سمعتم: إن اللزوم فيها أخلاقي دياني محض وليس فيها إلزام تكليفي أو وضعي. الشيء الثاني قوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] بناء على تفسير العقود بالعهود إلا أن الظاهر فيها أنها تركز على العهود العقدية أو العهود التي فيها التزامات قوية فلا تشمل النوع الأول " الوعد العادي" قطعا كما تشمل النوع الرابع الممضي شرعا، وهو الوعد المعطى كشرط ضمن عقد من العقود وفي شمول هذه الآية للنوعين الوسطيين كلام. قيل إن العقد عهد موثق كما حكي عن الكشاف، ورأى آخرون أن التوثيق ليس من جملة معناه فيكفي الرابط بأي نحو كان، وفسروا العقد بالمعنى الاستعاري بأنه يطلق المعاملة بإحال الرابط الاعتباري المتبادل، الظاهر من الآية في رأيي- والله تعالى أعلم- الشمول للنوعين الوسطيين وإن كان هناك إجماع مدعى لدينا على خروجهما من دائرة شمول الآية باعتبار عدم الإلزام الشرعي فيهما. ولما كان خروج هذه الأنواع الثلاثة يعني تخصيص الأكثر وهو مستهجن عرفا فإن ذلك يوضح أن الآية لم تشمل من الأول منذ البدء إلا النوع الرابع وهو الشرط المتضمن في عقد. ولكن كما أعتقد أننا لو سلمنا الإجماع المدعى لا نسلم بأن خروج الكثير من أفراد قاعدة ما مع بقاء كثير من الأفراد أمر مستهجن لغويا. ولذلك نبقى مع هذا الظهور ومثل هذا الإجماع لم يثبت لدينا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 698 شيء آخر أقوله للأخ الأستاذ الدكتور السالوس في الحل الذي طرحه في مسألة الإلزام: أعتقد أن المصرف لا يمكنه أن يبنى مستقبله على ضوء ما سوف يمكن أن يدعى من ضرر هنا أو ضرر هناك، هذا المعنى لا يمكنه أن يجعل أي معاملة معروفة المستقبل أو مضمونة المستقبل، الذي أعتقده أن علينا اللجوء إلى طريقة أخرى لنفترض الاعتماد على سير المعاملات الطبيعي في أن الواعد سوف يقوم بتنفيذ ما وعد، هذا السير الطبيعي يوجب ذلك الظن بشكل طبيعي خصوصا إذا كان الواعد هو دولة تتعامل مع هذا البنك الدولي أو نعتمد على إلزام يأتي من نذر أو عهد وهذا النذر والعهد يوجب لزومًا تكليفيًا لا وضعيًا بالالتزام بالمعاملة وإذا تخلف أي طرف يمكن للدولة أن تلزم بهذا المعنى من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طبعا أنا أخالف الإلزام في عقد المرابحة لأن لدينا الكثير من الروايات التي تمنع الإلزام والإمام يقول فيها: أليس إن شاء أخذ أو إن شاء ترك. قال نعم، قال: لا بأس. فالإلزام من جهة أخرى من روايات خاصة أخالفه ولكن كإلزام ضمن عقود معينة يمكن اللجوء لهذا الإلزام من خلال العهد والنذر وما إلى ذلك أو حتى لو كان شرطًا ضمن عقد آخر إذا صححنا مثل هذا الشرط. وشكرا. الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور: بسم الله الرحمن الرحيم. شكرا أيها السيد الرئيس. بعد هذه التعقيبات الكريمة من الإخوة الزملاء أود أن أطرح إطارا جديدا للبحث لعله يكون – إن شاء الله – فيه خير وإضاءة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 699 المعلوم لدينا جمعيا أن هنالك بالنسبة لموضوع البحث وعدًا وعهدًا وعقدًا، وأن هنالك ما يقابل هذه المسميات الثلاثة: حق المروءة وحق الديانة وحق القضاء، فأما حق المروءة فيقابل دائما الوعد وهو مجرد أن يعد الإنسان إنسانا آخرا بأمر ولا يكلف نفسه عهدا ولا عقدا ولا التزاما ولا ينبني على الإخلاف بذلك ضرر مادي، فحق المروءة كما تفضل الإخوة أخلاقيا أن يفي وإذا لم يف يكون تاركا للفضيلة وتاركا للأحسن والأكرم والأمثل، لكن هناك حق الشرع، وحق الشرع أمران اثنان: حق الديانة وحق القضاء. وهذان الاصطلاحان معروفان لدينا جميعا كطلاب علم. فحق الديانة شيء وحق القضاء شيء آخر، حق الديانة قد يكون الشيء حراما ديانة ولكنه قضاء جائز، وقد يكون حلالًا ديانة وقضاء بالعكس كما مثلوا لذلك من ادعى بشهادي زور أن فلانة امرأته ولم يعلم القاضي بالزور ولا بالشهادين، فهذا قضاء هي زوجته أما ديانة فهو زنا وهو حرام لكن لو ادعت المرأة أو ادعى هو أن تأتي إلى بيت الزوجية وجب قضاء على القاضي أن يقضي بذلك. فالعهد هو ما تشدد الواعد فيه بالالتزام سواء انبنى على ذلك ضرر أم لم يبن. فهذا التشدد يجعل الوعد عهدا. قال تعالى {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] ولم يفصل القرآن الكريم المسئولية في الدنيا أم في الآخرة، فهذا يقتضي الإطلاق، هناك مسئولية، فالمسئولية بالإخلاف هي مسئولية ديانية وليست من حق المروءة هي من حق الشرع فهو مكلف شرعا أن يفي لأنه التزم بذلك وتعهد به وقوى ذلك بشرط أو بنذر أو بشيء آخر، ولكنه قضاء لا يلزمه أن يفي بهذا الوعد، فلو أن من وعد أو من عوهد بالعهد ولنصطلح على هذه الكلمة رفع الأمر إلى القاضي، فالقاضي لا يلزمه بالوفاء ولكن هناك عهدا أرتقى إلى درجة العقد أو ما يشبه العقد وهو ما يسمى لدى علماء القانون بالالتزام فالالتزام أشمل من العقد وإن سماه القرآن عقدا، ولذلك قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} حينئذ قوى العهد إلى درجة صار التزاما. وآية ذلك أنه ينبني على الإخلاف به ضرر فادح بالمعاهد أو بالملتزم له في أمر دينه ودنياه. ولذلك أرى حينئذ – والله تبارك وتعالى أعلم والرأي يعود إلى مجمعنا الموقر أن ترتفع المسئولية إلى القضاء والديانة معا فيصير الملتزم حينئذ مؤاخذًا ومسئولا قضاء وديانة، والله تعالى أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 700 الدكتور إبراهيم فاضل الدبو: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين، وبعد السيد رئيس الجلسة المحترم، لي تعليق بسيط حول الموضوع فأقول: إذا قلنا بأن الوفاء بالوعد واجب في التبرعات فلأن نقول بإلزامها في المعاوضات من باب أولى استنادا إلى الأدلة الواردة من النصوص القرآنية والسنة النبوية الواردة بهذا الخصوص والتي ذكرت العديد منها في بحثي الوفاء بالوعد وذكرها غيري من الإخوان. ثانيا هناك مصلحة تقضي بالقول بوجوب الوفاء بالوعد، فإن عدم القول به كما ذكر بعض إخواني يؤدي إلى الضرر. ثالثا: إذا لم نقل بوجوب الوفاء بالوعد فلنقل بأن هذه المعاملة صيغة مستجدة من صيغ العقود نرجع بها إلى العرف، والقول بالإلزام في مثل هذه الحالة لا يترتب عليه أي محظور شرعي، فإن قيل بأن هذه الصورة تدخل في بيع المبيع قبل قبضه، فأقول من المعروف أن المصرف لا يوقع عقد البيع إلا بعد أن يدخل المبيع في حوزته. فعلى هذا ينتفي ما ذكره الإخوة من أن الإلزام بالوعد يترتب عليه بعض المحظورات الشرعية. لهذا إني أميل وأرجح القول القائل بأن وجوب الوفاء بالوعد في مثل هذه المعاملة هو الراجح لا سيما وأن هناك العديد من النقول ومن أقوال الفقهاء من غير قول ابن شبرمة رحمه الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 701 الدكتور علي محيي الدين القرة داغي: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين. أشكر الإخوة الفضلاء سواء كانوا العارضين أم المعلقين والمتداخلين فجزاهم الله عنا خيرا. حقيقة أيضا أنا أضم صوتي إلى الأستاذ الفاضل في أنه ليس هناك داع إلى أن يذكر لفظ العدة أو موضوع العدة في مكان والوعد في مكان آخر لأنهما حقيقة كما قال الأخ الكريم بمعنى واحد ولا أريد التفصيل في ذلك والسلفيون قالوا: العدة هي الوعد فحذفت الواو تخفيفا وعوضت عنها بالتاء، فإذن فالمعنى واحد يجب أن يذكرا في مكان واحد. ثانيًا: كنت أحب أيضا من بعض الإخوة ولا سيما الأخ الباحث القدير الأستاذ الفاضل الدكتور نزيه أن يذكر رأيه الخاص في هذا الموضوع ولكنه أراد أن يترك هذا الرأي للمجمع الموقر أو للمناقشة. ثالثا: في اعتقادي أنه يجب أن تبحث هذه المسألة من حيث أصولها وجذورها مع احترامي لكل الآراء الفقهية التي قيلت ولكن أيضا يجب الرجوع في ذلك إلى المصدر الأصلي وهو الكتاب والسنة بالإضافة إلى الجانب الفني والعلمي والتنظيري في هذه المسألة، وهي قضية مصدر الالتزام، ما مبنى أو ما هو مصدر الالتزام في الشريعة الإسلامية؟ إذا كان مصدر الالتزام هو الالتزام في القوانين الوضعية ومن هنا يكون من المعقول جدًا أن يكون الالتزام أو أن تكون دائرة الالتزام محصورة بين العاقدين باعتبار التزم لأنك أيضا تلتزم. أما إذا كان مصدر الالتزام في الشريعة الإسلامية هو الأوامر والنواهي أو الشريعة فلا بد حينئذ أن نرجع مرة أخرى إلى هذه الشريعة هل توجب الوفاء بالعقود أو لا؟ فإذا كنا نحن المسلمين قد أقررنا بأن مصدر الالتزام هو الشرع فيجب أن نقول بالوفاء بالوعد لأن الأدلة ظافرة وناطقة على حرمة المخالفة بالوعد فالمفسرون أو جمهورهم فسروا العقود في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] بكل التزام سواء كان هذا الالتزام دينيا أم دنيويا وسواء كان هذا الالتزام له مقابل أو ليس له مقابل كما ذكره الطبري والقرطبي وغيرهما. هذا جانب. جانب ثان أيضًا فإن الناحية الدينية والأخلاقية لا خلاف بين الفقهاء، ولا سيما المحدثين في حرمة مخالفة الوعد وبالتالي يكون الالتزام واجبًا إلا في حالة الضرورة، وإلا فكيف نفسر كل هذه الآيات والأحاديث الدالة على الترهيب والتحذير من مخالفة الوعد وجعلها من علامات النفاق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 702 فإذا اتفقنا على حرمة مخالفة الوعد فلا بد أن نجعل القضاء خادما للجانب الديني والأخلاقي ما دام قادرا على ذلك، فالقضاء لا يدخل في النوايا ولكن يدخل في الأمور الواردة بين الناس فيما يتعلق بالمعاوضات أو في غير المعاوضات ومن هنا أضم صوتي إلى الأخ الكريم الأستاذ فاضل الدبو إذا كان ذلك في التبرعات، ففي باب المعاوضات يكون الالتزام أشد حتى لا يكون هناك فصام وازدواجية بين القضاء والأخلاق والديانة ما دام ذلك ممكنا. وقد ناقشت هذه الآراء في رسالتي بالتفصيل ولنا في ذلك سابقون: وهو بسبق حائز تفضيلا مستوجب ثنائي الجميلا؟ رابعًا: ما ذكره الأستاذ الدكتور نزيه في مناقشة النافين الوفاء لوجوب بالوعد، ففي اعتقادي أن هذه المناقشة لهم لا تمس أدلتهم ولا تدك بنيانها فحمل الآية {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} على من وعد وفي ضميره ألا يفي بما وعد فهذا الحمل تحميل دليل وتخصيص بدون مخصص، فالآية عامة وردت بلفظ ما العامة هذا من جانب، ومن جانب آخر إن مبنى الأحكام الشرعية على الظواهر والله يتولى السرائر فكيف نعلم أنه نوى أم لم ينو؟ وجوابهم كذلك عن حديث النفاق أخص من الدليل حيث نقل الأخ الكريم عن الغزالي وكلامه في عدم الوفاء بعذر مع أن الكلام في مخالفة الوعد مطلقا أو في مخالفة الوعد بدون عذر. خامسًا: ما ذكره الأخ الفاضل الأستاذ محمد رضا في التلازم بين الإكراه والقول بوجوب الوعد أرى أنه لا يوجد أي تلازم بين المسألتين فلا نسلم ذلك، فعدم قبول الإكراه لخلل في القصد، بينما قضية الوعد أمر آخر. وفي الختام أرجح القول بحرمة المخالفة للوعد ديانة، وترجيح القول بإلزامية الوعد قضاء ما دام يترتب عليه ضرر للجانب الثاني بناء على الأدلة السابقة وجمعا بينها والجمع أولى والصلح خير. والسلام عليكم ورحمة الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 703 الدكتور عجيل جاسم النشمي: بسم الله الرحمن الرحيم. تلخص من عرض الدكتور نزيه حماد كما ذكر مجمل البحوث الأخرى أن المذاهب في الوفاء بالوعد خمسة وأرى أن هناك رأيا سادسا ينبغي أن يذكر، فالمذاهب الخمسة التي ذكرت هي: إن الوفاء بالوعد واجب، والثاني إن الوفاء بالوعد واجب إلا لعذر، والثالث أنه مستحب فلو تركه فاته الفضل وارتكب مكروها كراهة تنزيهية، والرابع إن الوفاء بالوعد أفضل من عدمه إذا لم يكن هناك مانع وهو رأي الإمام الجصاص، والخامس أن الوفاء بالوعد المجرد غير واجب أما المعلق على شرط فإنه يكون ملزما. أود هنا أن أبرز رأيا سادسا ربما اعتبره البعض مغمورا ولم يذكره الدكتور نزيه كاملا وذكره بعض الباحثين بمرور سريع وهو رأي الإمام الغزالي وهو قوله: إذا فهم الجزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا إن يتعذر وقد يفهم الجزم في الوعد إذا اقترن به حلف أو إقامة شهود على الوعد أو قرائن أخرى، وهذا الرأي يجمع عند التحقيق عدة آراء سابقة، وأرى أنه رأي وسط جامع يحقق مصلحة المصرف والعميل في آن واحد، فالوعد غير ملزم مطلقا وكي يكون ملزما لا بد من عنصر الجدية فيه وهذه الجدية ضمانة وقائية ومصلحة للمصرف أو البنك وفي هذا الرأي سعة للمصرف في أن يقرن الوعد بتواقيع أو بشهادات أو أية وسيلة أخرى فيكون الوعد ملزما حينئذ. هذا ما استنبطه من رأي الإمام الغزالي. وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 704 الدكتور حسن عبد الله الأمين: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبد الله ورسوله الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وبعد: مسألة الوفاء بالوعد: قضية طرحت منذ زمن طويل على عدة مجامع علمية ولا زالت تراوح مكانها لم تتقدم كثيرا، أول ما طرحت في ندوة المصرف الاٍسلامي بدبي سنة 79 ثم في الندوة الثانية للمصرف الإسلامي بالكويت وفي ندوة البركة الثالثة بتركيا، والذي دعا إلى إثارة قضية الوعد، والوعد معروف وموضح ومقرر في كتب الفقه أحكامه واضحة وبينة كما سردها وبينها الإخوة في أبحاثهم التي عوضوها علينا الآن والتي قرأناها، الذي دعا إلى إثارة هذه القضية هو مسألة بيع المرابحة للواعد بالشراء أو للآمر بالشراء هذه القضية هي التي أثارت هذا الموضوع ودعت إلى البحث عن الوعد في عدة مجامع عملية ومنها انتهى الأمر إلى أن عرضت هذه المرة على مجمعكم الموقر، وقد استند الناس في هذه القضية إلى وجوب الوعد فيما ذكره المالكية عن الوعد في مجال المعروف وقالوا إن الوعد يجب الوفاء به بناء على مذهب المالكية وهو قول غير ممحص كما أشار إلى ذلك بعض الإخوة الذين سبقوني الآن الدكتور العاني والدكتور ابن بيه، وهذا هو الصحيح في مذهب المالكية أن العدة أو الوعد لم يتكلموا عن الوفاء به على عدة صور إلا في حالة واحدة وفيما يتعلق بالمعروف وقالوا إنه لا يرد في أمور الالتزامات أو عقود المعاوضات صراحة، فكيف لنا أن نقول بذلك ونقحمه على المالكية إقحاما؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 705 الذي دعا إلى الدوران حول هذه القضية، قضية الوعد كما قلنه هو ربطها بقضية بيع المرابحة للآمر بالشراء، وفي رأيي أن القضية يجب أن ننظر في حلها نظرا آخر غير هذا التلفيق الذي نربطه بين عقد المعاوضة " البيع " والعقد من جهة واحدة " العقد المنفرد" وهو الواعد إن صح أنه عقد، هذا التلفيق أرى أننا لا نصل في الدوران حوله إلى نتيجة، فالمقررات الفقهية واضحة، المذاهب كلها لا تقول بوجوب الوعد، والمذهب المالكي الذي يقول بالوفاء بالعهد يقصره على المعروف ويبعده عن المعاوضات المالية ولا نجد في ذلك حلا لقضيتنا، فنحن أمام عقد معاوضة واضح ورئيسي وهو عقد البيع للآمر بالشراء، والمشكلة منشؤها أن البيع للآمر بالشراء بيع لسلعة قائمة، فالتعاقد على معدوم غير حاضر، والحديث النبوي الشريف نهى عن بيع المعدوم أو عن بيع غير الحاضر فكيف نحل هذه المشكلة؟ هذا هو بيت القصيد. في رأيي أن الوفاء بالوعد وربط القضية به والتلفيق بينه وبين عقد البيع لا يحل القضية كما ذكرت، وإنما يجب أن ننظر في فقه هذا الحديث، النهي عن بيع الغائب أو عن بيع المعدوم، كيف نحل القضية؟ هل السلعة المصنعة المحددة المواصفات المعلومة المنضبطة الوصف غير الحاضر في مجلس العقد بيعها يعتبر معدوما؟ كل أو أغلب السلع تباع وهي غير معاينة وإنما هي قائمة ولكنها معلومة بأوصافها لدى المتبايعين، فهل ينطبق عليها هذا الحديث؟ وبيع المرابحة يجرى في هذا النوع من السلع فهل فهمنا للحديث يدخل هذا النوع من السلع في بيع الغائب؟ أعتقد أننا يجب أن ننظر للموضوع من هذه الناحية يجب أن نوسع فهمنا للحديث على ضوء المعطيات الحاضرة، هل السلع بأنواعها المختلفة ذات المواصفات المحددة والموديلات المعينة الغائبة التي في مصانعها أو في أماكن بيعها البعيدة عنا التي يجب استيرادها يعتبر بيعها معدوما، أم أن الأمر يحتاج إلى إعادة نظر في فهم الحديث على ضوء هذه المعطيات؟ إذا استطعنا أن نصل إلى فهم لهذه القضية على ضوء ظروفها نستطيع أن نحل المشكلة دون أن نلجأ إلى الوعد والتلفيق والدوران حول هذه القضية على الوجه الذي سرنا عليه وعهدناه في ندواتنا ومؤتمراتنا، ولعل الإمامين الجليلين ابن القيم وابن تيمية لهما نظرات صائبة في هذا المجال تحدثا فيها عن هذا المعنى بيع المعدود وبيع الموصوف، وإذا رجعنا إلى هذه الآراء القيمة استفدنا منها وحاولنا أن نستفيد منها في فهمنا وإدراكنا لقضايانا الحاضرة لعلنا نصل إلى حل يريحنا من هذا الدوران الطويل حول قضية الوعد الملزم أو غير الملزم. شكرا جزيلا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 706 الدكتور عبد الله محمد عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم. في الواقع لي تعقيب بسيط على الموضوع لأننا نريد أن نحقق معنى كلمة " الوجوب: يجب قضاء" فبعض الإخوان يفهم أنه " يجب قضاء " بمعنى أنه لا بد من تنفيذ الوعد بالفعل، وإيقاع وتحقيق العقد لا يلزم من القول بالوجوب وتنفيذ العقد أو تنفيذ الوعد بتحقيق العقد ولعل ابن العربي ومن شايعه في رأيه أنه يجب إلا لعذر نقصد منه هذا. بمعنى إذا امتنع الواعد من تنفيذ وعده وتنفيذ العقد، هل للطرف الآخر أن يلجأ إلى القضاء لا لطلب تنفيذ العقد، بل لمحاكمته مثلا أو إيقاع العقوبة عليه؟ ولهذا قال: العين بدل العين عن ابن شبرمة أنه حبس رجلا لعدم الوفاء بالوعد مستندا إلى قوله تعالى {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} ولم يستند إلى قوله {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} لأن الوعد غير العقد، فإذا امتنع عن تنفيذ الوعد قد يكون لعذر وقد يكون لغير عذر فإن كان لعذر لم يستوجب العقوبة أما إذا كان هزلا وتلاعبا وعدم التزام بالكلمة فهذا الذي يستحق العقوبة. والعقوبة قد تكون بدنية وقد تكون مالية كما تعلمون في التعزير. بقيت مسألة أخرى، الفرق بين الوجوب أو الجواز، عندما استندت إلى كلام الونشريسي وقاعدة الونشريسي بمنع المواعدة، الذي ربط بين المواعدة وبين جواز إيقاع العقد في الحال، وقال: كل عقد لا يمكن إيقاعه في الحال تمنع المواعدة فيه، فهذا القول أطلقه على مختلف العقود وجاء بالأمثلة في عقود المعاوضات كبيع الطعام قبل القبض والبيع وقت نداء الجمعة، وبيع ما ليس عنده، فإذا قلنا إن هذا العقد لا يجوز إيقاعه في الحال فلا تجوز المواعدة فيه، فلو كان العقد جائزا إيقاعه في الحال جازت المواعدة فيه. فإذا كانت المواعدة جائزة ووعد وأخلف، فهل يختلف الحكم؟ إذا كان العقد جائزًا ووقع في الحال، فالمواعدة جائزة، فإذا وعد فهنا المواعدة جائزة في عقد المعاوضات في البيع، فإذا امتنع لاشك أنه يخضع للأقوال الفقهية الأربعة أو الخمسة أو الستة كما ذكر الدكتور عجيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 707 بقيت مسألة من الأمثلة التي ذكرتها في لزوم الوعد ولأضرب مثالا: تواعدت مع شخص على أن يبيعني شيئا وواعدني على ذلك ولم يكن عندي ما أسدد به الثمن فذهبت فبعت سيارتي في السوق لأوفر له الثمن فلما بعتها وجئت أخلف في الوعد، ألم يدخلني في سبب؟ فالذي قال إن المواعدة تلزم إذا كان معلقا على سبب، أو الرأي الآخر إذا قال إذا كان معلقا على سبب ودخل في السبب، أليست المواعدة هنا مبنية على سبب؟ ودخلت في السبب وعرضني مثلا أنني بعت سيارتي بخسارة؟ أليست هذه الصورة شبيهة بهذه الصورة التي ذكرها في تحرير الكلام؟ قال أصبغ: سمعت أشهب وسئل عن رجل اشترى من رجل كرما، فخاف الوضيعة فأتى ليستوضعه فقال له: بع وأنا أرضيك قال فإن باع برأس ماله أو بربح فلا شيء له، وإن باع بوضيعة كان عليه أن يرضيه، أليست هذه الصورة مثل هذه الصورة؟ ما الفرق بين عقد المعاوضة وبين عقد التبرع؟ هنا التزم ... الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني: التزام الوضيعة تبرع وليس بالعقد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 708 الدكتور عبد الله محمد عبد الله: فهذا أشد، فالذي عرض في عقد المعاوضة للخسارة وأدخله في سبب أشد وطئًا من الذي واعده بمجرد الوعد في عقد تبرع، فهذا يعني لابد من استعراض مختلف الصور حتى يكون الحكم مناسبا وملائما ومحققا للمصلحة. فمسألة التفريق بين عقد المعاوضة وعقد التبرع هو أن الونشريسيي حيث قال منع المواعدة في العقد الذي لا يجوز إيقاعه في الحال. نقول في حالة الجواز، أنا معك في حالة الجواز أن العقد الذي يجوز إيقاعه في الحال تجوز المواعدة فيه. أنا معك في هذان مع هذا الجواز استعملنا المواعدة، فماذا يكون الحكم؟. هي الحقيقة الأقوال الثلاثة: الذي يقول بالإلزام مطلقا. والذي يقول بالإلزام إذا كان معلقا على سبب، والذي يقول بالإلزام على معلق على سبب ودخل في السبب، والقول الرابع الذي قاله ابن العربي إذا كان: تلزم المواعدة إلا لعذر، للعذر كيف مثلا؟ هذا وعدني أن يبيعني السيارة وهو في طريقه إلي عمل حادثًا بالسيارة، فأصبح تنفيذ العقد غير قائم، معذور إذن فهذا هو الذي يعذر. أما القول بهذا فهو قول متناقض ومتهافت ومتساقط ولا يحقق المصلحة أبدًا. وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 709 الدكتور محمد سليمان الأشقر: بسم الله الرحمن الرحيم: أنا أود أن أنبه إلى ما حصل من كثرة البحث في الموضوع ومن أسباب كثرة هذا البحث وبذل الجهود الكثيرة التي هي أكثر من اللزوم في الحقيقة، إن الإخوة في المجامع التي طرحت هذا الموضوع انتقلوا من قضية الإلزام المسبق إلى قضية الوعد، ثم ذهبوا إلى الأدلة في الوعد، وأقوال العلماء فيه والأدلة الواردة والكتب المؤلفة فيه، القضية ليست في تصوري هذا وأنا أول من طرح هذه المسألة في رسالة لي نشرت وعرضت على المجمع على ندوة البنوك الإسلامية في بيت التمويل الكويتي سنة 84 م، وكان الموضوع الذي طرح على أساس معين، وهو أنه إن كان هناك إلزام سابق ببيع لاحق بطل البيع اللاحق، وليست المسألة مسالة وعد نسميه وعدا أو ما نسميه، هذا شيء آخر خارج عن الموضوع إن كان هناك كلام سابق غير ملزم في المرابحة اللاحقة أو الوعد اللاحق، صحيح وإن كان هناك إلزام سابق ففي تصوري البيع اللاحق غير سليم لأنه ما صدر عن إرادة سليمة إنما تحت خطر الحكم القضائي بالسجن أو بالغرامة أو بغير ذلك، كما قال كثير من الإخوة في أبحاثهم بالنسبة للخطبة، خطبة النكاح لو كانت وعدا ملزما أو كان فيها إلزام يكون النكاح اللاحق غير واقع بإرادة حرة، فلا يكون صحيحا، فكذلك نقول في هذا إنه إذا كان هناك التزام سابق ببيع لاحق فهذا في نظر الشرع الأسلامي لا يجوز سواء سميتم الأول وعدا أو غير وعد. ليس النظر في كونه وعدا، النظر في أنه هل يجوز الالتزام السابق بوعد لاحق؟ أنا أقول في تصوري وقلت هذا في رسالتي إن قلنا بأن المواعدة السابقة هي إلزام، هذا يقتضي مباشرة وبدون أن يتوقف على أمر آخر بطلان العقد اللاحق لأن هذا يكون من باب بيعتين في بيعة، لو قلنا بجواز إلزام سابق بوعد لاحق فتنفتح هي للربا على مصارعها وحينئذ لا حاجة للكلام في المواعيد والكلام في إلزاميتها والكلام في بيع المرابحة على الطريقة التي جرى فيها البحث، لأنك كما قال الحنفية مثلا، يجوز أن تبيع وأن تقرض إنسانا ألف دينار وبدل أن تطلب فائدتها مثلا مائة دينار للسنة تقول له اشتر مني هذا قلم الرصاص الذي لا يساوي خمسين فلسا اشتراه مني بمائة دينار التي هي فائدة الألف دينار، أبيعك أو أقرضك الألف دينار، هذا عقد معه عقد آخر ببيع قلم رصاص بمائة دينار تكون هي الفائدة، إذا أجزتم الإلزام السابق بوعد لاحق فحيل الربا مفتوحة أمامكم على مصارعها. الإمام الشافعي رضي الله عنه وكذلك أقوال المذاهب الأخرى كلها تدل على أنه لا يجوز البيع اللاحق بناء على إلزام سابق وقد نص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 710 الرئيس: الإلزام السابق يا شيخ ببيع لاحق. الدكتور محمد سليمان الأشقر: فالشافعي رضي الله عنه في النص الذي نقله الإخوة ونقله الأستاذ سامي حمود في رسالته يقول: فإن ألزما أنفسهما بالأمر الأول بقطع النظر عن تسميته وعدا أو غير وعد إن ألزما أنفسهما بالأمر الأول فهو مفسوخ أبدا. كذلك المالكية، المالكية لاشك وهذا أمر قطعي: أن مذهبهم أن المواعدة الجائزة إنما هي في المعروف وقد نصوا في المرابحة بالذات وفي كتبهم جميعا على أن المرابحة بناء على وعد سابق لا تجوز، حتى على وعد لا تجوز. فمن باب أولى لو كان على إلزام سابق، والحنابلة أيضًا كلامهم في ذلك صريح، والحنفية أيضا كون الإلزام لا يجرى بالوعد في البيع الإلزام بالوعد في البيع والإجارة والمعاوضات جميعا لا يجوز. كلهم يرفضون هذا، لماذا؟ يعني ما هي النظرية التي تحكم عملية الوعد السابق الملزم؟ النظرية أنه صار العقدان كأنهما عقد واحد، وكما قلت هذه من النبي صلى الله عليه وسلم عندما نهى عن صفقتين في صفقة، أو بيعتين في بيعة أو شرطين في بيع. وجميع الفقهاء- يعني غالبا- ولا أستطيع أن أجزم على الجميع لكن الرأي المشهور عند الفقهاء جميعا أن اشتراط عقد في عقد هذا هو النوع الوحيد من الشروط الذي يكادون يتفقون على منعه، أن تشترط عقدا في عقد، الحنابلة أوسع الناس في الشروط في العقود إلا أن هذا النوع عندهم هو الوحيد تقريبا الذي يرون أنه ممنوع وإن أجازوا كثيرا من الشروط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 711 نستطيع أن نقول إن الوعد إذا كان ملزمًا وهناك قوانين تلزم به وقضاء يلزم به فهو عقد، أو كما رأيت في بعض أبحاث الإخوة أنه عقد ابتدائي وفعلا هو عقد، وقد رأيت بعض النماذج التي أخرجتها البنوك الإسلامية بالنسبة للوعد السابق، كتب عليها عقد وعد، فهو إذا كان ملزما وهناك التزام فهو نوع من العقد ولا يمنع هذا أن يقال إنه لا نلزمه بالعقد الجديد، ولكن نلزمه بأداء الغرامة وفي حالة عدم أداء الغرامة فإنه يكون معرضا للسجن كل هذا لا يلغي أن هناك إلزامًا سابقًا بل يبقى الإلزام، سواء ألزمناه بعقد جديد أو ألزمناه بتعويض الأضرار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 712 الذي أرى أنه على البنوك الإسلامية أن لا تكتفي بالعمل في المرابحة في ميدان عدم الإلزام بالأمر السابق بناء على قول الحنفية والشافعية الذين يجيزون التسهيل في هذا، طبعا المالكية والحنابلة يرفضون المواعدة السابقة ولو كانت غير ملزمة على مثل هذا النوع من البيع الذي هو بيع المرابحة، لكن الحنفية والشافعية يجيزون المواعدة السابقة كما في نص الإمام الشافعي ونص الحنفية واضح في ذلك. بقي الذي افترضه أن البنوك الإسلامية ترضى وتقبل وتسير بالمسلمين في طريق لا تكاد تكون فيه شبهة كبيرة وهو أن تقبل المواعدة غير الملزمة وتنفذ عملية في حدود هذا المقدار وبدل أن تستند إلى المرابحة في تسعين في المائة من عملياتها تستند إلى خمسين أو ستين أو سبعين في المائة، وهذا يكفي في هذا الميدان، وتبحث عن وسائل جديدة وطرق جديدة أخرى لعل الله يهدي إليها بعض الباحثين ومنها الذي طرحه الأستاذ حسن الأمين من أن نرجع إلى البيع بالوصف وهو الأصل في هذا الموضوع، الأصل في هذا الباب البيع نفسه، نأتي إلى البيع مباشرة أن نبيع بالوصف تبيع البنوك الإسلامية هذه البضاعة المطلوبة مثلا في الذمة بأوصاف محددة وإن كان الشيء غير معين لأنه إذا كان معينا فلا بد أن البنك قد حازه، لكن إذا كان على الوصف فحينئذ لا بأس من أن يبيع البنك إلا أن أيضا هذا الحل يصطدم بأن المشهور عند الفقهاء أن المبيع على الذمة لا بد أن يكون ثمنه مدفوعا فورا، فهل لهذه المسألة من حل؟ أرجو، لعل المجمع يطرحها للبحث في مستقبل الندوات ونصل في ذلك إلى حلول ولعل أيضا الإخوة يركزون على البحث عن حلول أخرى تغطي الكمية الباقية من العقود التي يحتاج إليها في البيع المؤجل. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 713 الرئيس: في الواقع أنه، يعني في هذه المسألة إذا نظرنا أنها تنبني على الوعد، فأمامنا قول جماهير علماء الأمة على أن الوعد المالي أنه غير ملزم، وأمامنا أن الهبة وهي أقوى من قضية الوعد أنها لا تلزم عند الجمهور إلا بالقبض، وأمامنا كما ذكره الحافظ ابن حجر عن بعض أهل العلم في الفتح، أن الموعود بمال ليس له الحق في أن يضارب به بناء على الوعد، هذا إذا كان بناء هذه المسألة على الوعد، هل هو ملزم أو غير ملزم؟ وكذلك ما أشار إليه الأستاذ الشيخ حسن الأمين من بيع الغائب والمعدوم وما إلى ذلك، لأن الشريعة آخذ بعضها بلحمة بعض، وأما لو فرض تكييف المسألة على قضية الإلزام السابق ببيع لاحق فإن الأمر كما ذكر الشيخ محمد لا شك أنه فيه فتح وتوسيع لجريان عدد كبير من المعاملات الربوية في المصارف، لكن هذا يرتبط في البحث الذي سيكون بعد هذه الجلسة إن شاء الله تعالى في بيع المرابحة. والآن استراحة نعود إن شاء الله تعالى في العاشرة والنصف. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 714 قرار رقم (2، 3) بشأن الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ / 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوعي (الوفاء بالوعد والمرابحة للآمر بالشراء) واستماعه للمناقشات التي دارت حولهما. قرر: أولًا: أن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور، وحصول القبض المطلوب شرعًا، هو بيع جائز طالما كانت تقع على المأمور مسئولية التلف قبل التسليم وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم، وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه. ثانيًا: الوعد (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقًا على سبب ودخل الوعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلًا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر. ثالثًا: المواعدة (وهي التي تصدر من الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز، لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكًا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة ((لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده.)) ويوصي المؤتمر: في ضوء ما لاحظته من أن أكثر المصارف الإسلامية اتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء. يوصي بما يلي: أولًا: أن يتوسع نشاط جميع المصارف الإسلامية في شتى أساليب تنمية الاقتصاد ولا سيما إنشاء المشاريع الصناعية أو التجارية بجهود خاصة أو عن طريق المشاركة والمضاربة مع أطراف أخرى. ثانيًا: أن تدرس الحالات العملية لتطبيق (المرابحة للآمر بالشراء) لدى المصارف الإسلامية، لوضع اصول تعصم من وقوع الخلل في التطبيق وتعين على مراعاة الأحكام الشرعية العامة أو الخاصة ببيع المرابحة للآمر بالشراء. والله أعلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 715 المرابحة للآمر بالشراء بيع المواعدة المرابحة في المصارف الإسلامية وحديث ((لا تبع ما ليس عندك)) إعداد الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فهذه مجموعة أبحاث في تصور، وحكم بيع المواعدة الجاري في المصارف الإسلامية باسم (بيع المرابحة للآمر بالشراء) في بعض صوره، وإنما اخترت تلقيبها باسم (بيع المواعدة) لأنها في جميع صورها مبنية على الوعد ملتزما به كان أو غير ملتزم به، ولئلا تختلط على البعض مع (بيع المرابحة) المحرر عند متقدمي الفقهاء – رحمهم الله تعالى – في (بيوع الأمان) . على أن صورتها تدخل تحت اسم (السلم الحال) المنهي عنه في قصة حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه كما في (زاد المعاد) ويأتي نقله في السادس، وسترى في المبحث الثاني) بعد موقعها الصحيح من مباحث الفقهاء. وهذه المجموعة من الأبحاث معقودة في البحوث الآتية: 1- المبحث الأول: بيع المرابحة في اصطلاح متقدمي الفقهاء. 2- المبحث الثاني: في مدى لزوم الوفاء بالوعد. 3- المبحث الثالث: المؤلفات والبحوث فيها. 4- المبحث الرابع: صور بيع المرابحة في المصارف الإسلامية. 5- المبحث الخامس: سبب وجودها في المصارف الإسلامية. 6- المبحث السادس: حكمها. 7- المبحث السابع: في ضوابطها الشرعية. فإلى بيانها والله ولي الهداية والتوفيق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 716 المبحث الأول: بيع بالمرابحة عند متقدمي الفقهاء (1) . يستقرئ بعض أهل العلم أنواع البيوع بأنها أربعة: 1- بيع المساومة، ويقال: المماكسة، ويقال: المكايسة. 2- بيع المزايدة. 3- بيع المرابحة. 4- بيع أمانة. ومنهم من يجعل بيع المرابحة منه، فتكون أقسامه ثلاثة: بيع المرابحة: وهو البيع بأزيد من رأس المال. بيع الوضيعة: وهو البيع بأنقص من رأس المال. بيع التولية: وهو البيع برأس المال سواء. وإنما سميت هذه (بيوع أمان) للائتمان بين الطرفين على صحة خبر رب السلعة بمقدار رأس المال. فبيع المرابحة مثلا: حقيقته بيع السلعة بثمنها المعلوم بين المتعاقدين، بربح معلوم بينهما، ويسمى أيضا (بيع السلم الحال) (2) . فيقول رب السلعة: رأس مالي فيها مائة ريال، أبيعك إياها به وربح عشرة ريالات. وهذا هو معنى ما هو جارٍ على الألسنة من قولهم: اشتريت السلعة مرابحة، أو: بعتها مرابحة. وركن هذا العقد: هو العلم بين المتعاقدين بمقدار الثمن ومقدار الربح، فحيث توفر العلم فيهما فهو بيع صحيح، وإلا فباطل.   (1) أبحاثها منتشرة عند الفقهاء في كتاب البيوع كما ستراه في المراجع اللاحقة (2) زاد المعاد: 4/265 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 717 وهذه الصورة من البيوع (بيع المرابحة) جائزة بلا خلاف بين أهل العلم، كما ذكره ابن قدامة (1) ، بل حكى ابن هبيرة (2) : الإجماع عليه، وكذا الكاساني (3) . والخلاف في الكراهة تنزيها، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وروي عن ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، وعن الحسن، ومسروق وعكرمة، وعطاء بن يسار رحمهم الله تعالى. وقد علل الكراهة تنزيها بأن فيه جهالة، فيما إذا قال: بعتكه برأس ماله مائة ريال، وربح درهم في كل عشرة، فالجهالة أن المشتري يحتاج إلى جمع الحساب ليعلم مقدار الربح، لكن هذه الجهالة مرتفعة؛ لأنها تعلم بالحساب، بل لا ينبغي وصفها بالجهالة، وليس فيها تغرير ولا مخاطرة. وهذه العلة هي مستند ما يحكى عن ابن راهويه رحمه الله تعالى، من قوله بعدم الجواز. وقد علمت ارتفاعها بالحساب، على أن من وراء ذلك الوقوف على صحة السند للمروي. فصح الاتفاق إذًا حكمًا على الجواز، وطردًا لقاعدة الشريعة من أن الأصل في المعاملات الجواز والحِلّ حتى يقوم دليل على المنع. هذا هو بيع المرابحة المسطر في كتب أهل العلم تحت هذا اللقب في: أبواب البيوع، وفي مطاويه صور وفروع، وما زال الناس يتوارثون العمل به في معاملاتهم بأسواقهم من غير نكير. لكن هذه الصورة غير مرادة في هذه الرسالة، وإنما جاء الحديث عنها للاشتراك اللفظي مع (بيع المرابحة للآمر بالشراء) في صورته الحادثة المتعامل بها في المصارف الإسلامية، لينظر: هل يشتركان في الحكم: الجواز، كما اشتركا في الاسم أم أن حكمه التحريم بإطلاق أم بتفصيل؟ هذا ما ستراه إن شاء الله تعالى في أبحاث هذه الرسالة.   (1) المغني: 4/259 (2) الإفصاح: 2/ 350 (3) بدائع الصنائع: 7/92 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 718 المبحث الثاني: في مدى لزوم الوفاء بالوعد ديانة وقضاء (1) . بحث مدى لزوم الوفاء، أساس في معرفة الحكم في هذه المعاملة. بيع المواعدة لأن الوعد أساس في صورها كافة، وعليه فاعلم أنه قد أجمع المسلمون أنه على العموم فإن الوفاء بالوعد (العهد) محمود، وأن إخلاف الوعد (العهد) وعدم الوفاء به مذموم، وقد أثنى الله تعالى على رسوله ونبيه إسماعيل بأنه كان صادق الوعد فقال سبحانه {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} . [مريم آية: 54] .   (1) مباحثه مشتركة بين المفسرين، والمحدثين، والفقهاء، وكتب الرقائق فانظر: تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة: 1] ، وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [سورة مريم: 54، 55] تفسير القرطبي. أضواء البيان /4/322- 328 مهم. أحكام القرآن للجصاص 2/363، وغيرها. وفتح الباري في السلفية 6/242 كتاب فرض الخمس – 5/222 كتاب الهبة 5/289 كتاب الشهادات 5/319 كتاب الشروط 5/359. وكتاب الوصايا منه. المقاصد الحسنة للسخاوي. الجامع الصغير للسيوطي. كشف الخفاء للعجلوني في أطراف الأحاديث: العدة دين. وَأْيُ الواعد دَيْنٌ ... إلخ. التمهيد لابن عبد البر 3/206 -214 مهم. والمحلى 8/28. شرح المنهاج 2/260. الفروق للقرافي 4/21- 25 الفرق رقم /214. فتاوى عليش 1/254. كشاف القناع 6/284. المجلة بشرح الأتاسي 1/238. إعلام الموقعين 1/385- 387. الغرر وأثره في العقود للصديق الضرير ص7 -10. الأذكار للنووي ص/ 270. الأدب المفرد. وللسخاوي رسالة باسم (التماس السعد في الوفاء بالوعد) كما في مادة (وعد) من (تاج العروس) ولغيره: القول السديد في خلف الوعيد للقاري. إخلاص الوداد في صدق الميعاد لمرعي الكرمي الحنبلي. القول السديد في عدم جواز خلف الوعيد للنابلسي. كما في حروفها من (كشف الظنون) وذيليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 719 وهو بدليل مخالفته يفيد أن إخلاف الوعد مذموم، وهذا المفهوم قد جاء مصرحا به في آيات من الكتاب كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3] . وقال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} . [التوبة: 77] . والسنة طافحة بهذا، ومنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف ... )) الحديث. هذا من حيث الوفاء بالوعد بصفة عامة. أما (الوعد المالي) فإن العلماء يجرون الخلاف في حكم الوفاء به (قضاء) على أساس حقيقته الاصطلاحية التي تواضعوا عليها وهي كما قال ابن عرفة المالكي رحمه الله تعالى (1) (الوعد: إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل) . فهو (الوعد المعروف) وعلى هذا يدور كلامهم في حكم الإلزام به كما حكى الشيخ عليش الخلاف بعد بيان الحقيقة المذكورة له. وعليه تجده مبحثا مشتركا بين: المفسرين، والمحدثين والفقهاء، وكتب الرقائق وفضائل الأعمال، كما ساق البخاري رحمه الله تعالى بعض الأحاديث في (العِدَة) في كتابه (الأدب المفرد) والنووي في (الأذكار) . أما هذا النوع الجديد من (الوعد التجاري) الذي يريد به العميل مع المصرف: تداول سلعة بالثمن والربح ولما تحصل ملكيتها بعد، فإن خلافهم في (الوعد) لا ينسحب على هذا بل هو يتنزل على حد حديث حكيم بن حزام وما في معناه (لا تبع ما ليس عندك) ، وعلى مسألة (البيع المعلق) .   (1) فتاوى عليش1/254. الأذكار ص/ 270، الأدب المفرد مع شرحه، بيع المرابحة للشيخ الأشقر: وهو مهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 720 فتحرر من هذا أن عقود المعاوضات، وهي التي يقصد بها تحصيل المنافع وإدرار الربح لا تدخل في المواعدة هذه وخلافهم فيها، إذ جميع الأمثلة التي يسوقها العلماء على إثر الخلاف في (لزوم الوفاء بالوعد من عدمه) إنما هو فيما سبيله الإرفاق المعروف لا الكسب التجاري) (1) . ولهذا فإن (عقد الاستصناع) وهو: عقد على بيع عين موصوفة في الذمة مطلوب صنعها يقرر من قال به إنه عقد لا وعد، فهو من عقود المعاوضات الخالية من الغرر (2) . وبناء على جميع ما تقدم فإن أهل العلم يذكرون هذه الصورة من المبيع في (بيوع المعاوضات المحرمة) فيذكرونها في: 1- بيع العينة. 2- وفي الحيل المحرمة. 3- وفي شرح حديث حكيم وغيره ((لا تبع ما ليس عندك)) . 4- وفي: بيوع الغرر. 5- وفي: تعليق العقود بالشروط. لهذا: فإن جماعة من الباحثين المعاصرين وهموا بإجراء البحث فيها تفريعا على (حكم الوعد هل هو ملزم أم غير ملزم؟) فأوهموا الدارسين لهذه المعاملة والذي نعرفه نجا من هذا ممن كتب فيها بحثا أو فتيا: 1- شيخنا العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز في فتواه حيث خرجها على حديث (لا تبع ما ليس عندك) . 2- وتلميذه الشيخ العلامة محمد الأشقر في رسالة (بيع المرابحة) .   (1) تحرير هذا في: بيع المرابحة للأشقر ص/32- 33 مهم (2) الغرر ص/457- 458 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 721 فإذا أخلف الواعد وعده، هل يلزم به قضاء وحكما؟ الخلاف في هذا على أقوال ثلاثة: القول الأول: عدم الإلزام بالوفاء به مطلقا.. وهو مذهب الجمهور منهم: الثلاثة ورواية عن مالك، ومذهب داود، وابن حزم، وقد حكى عليه الإجماع: المهلب، وابن بطال، وابن عبد البر، وتعقبه الحافظ ابن حجر بوجود المخالف لكنه قليل. القول الثاني: الإلزام بالوفاء بالوعد مطلقا. قال به: عمر بن عبد العزيز، وابن الأشوع الهمداني الكوفي، وابن شبرمة. القول الثالث: التفصيل: إن أدخل الواعد بوعده في (ورطة) لزم الوفاء به وإلا فلا يلزم الوفاء به، وهو رواية عن مالك رحمه الله تعالى. ومثاله: من قال لرجل: تزوج، فقال: ليس عندي ما أصدق به الزوجة، فقال: تزوج وألتزم لها الصداق وأنا أرفق عنك، فتزوج على هذا الأساس فقد احتمل الوعد (ورطة) فيلزم بالوفاء به. وأدلة القول الأول: وهو قول الجمهور من عدم الإلزام بالوعد قضاء مطلقا، فقد استدل له بالإجماع على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء، حكاه المهلب، وابن بطال، وابن عبد البر، قال المهلب (1) : (إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع، وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء) اهـ. وقال ابن بطال: (2) (لم يرو أحد من السلف وجوب القضاء بالعدة، أي مطلقا، وإنما نقل عن مالك أنه يجب منه ما كان بسبب) اهـ. وذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى- تعقب الإجماع في ذلك فقال (3) : (ونقل الإجماع في ذلك مردود فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل، وقال ابن عبد البر، وابن العربي: أجل من قال به عمر بن عبد العزيز) اهـ. ووجه هذا القول من حيث النظر: أنه وعد بمعروف محض (4) ، ولا سبيل عليه بالإلزام في المعروف. والله أعلم. واستدل له أيضا بالهبة فإنها لا تتم عند الجمهور إلا بالقبض خلافا للمالكية، وذلك يقتضي على مذهب الجمهور: عدم الحكم بها قضاء فيما لو رجع الواهب عنها قبل قبض الموهوب له إياها.   (1) فتح الباري 5/290 (2) فتح الباري 5/222 (3) فتح الباري 5/290 (4) أضواء البيان 4/325 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 722 وعليه: فإذا كانت الهبة لا تلزم إلا بالقبض فكيف يلزم بالهبة لو وعده بها مجرد وعد إذا قال له: سوف أهبك إياها (1) . ولهذا استدل بهذا الفرع على عدم وجوب الوفاء بالوعد: ابن قدامة في (المغني) والنووي في (الأذكار) وقال: (واستدل من لم يوجبه بأنه في معنى الهبة، والهبة لا تلزم إلا بالقبض عند الجمهور وعند المالكية تلزم قبل القبض) اهـ. وأدلة القول الثاني: الإلزام به: النصوص المتقدمة، ومنها أيضا حديث " الْعِدَةُ دَيْنٌ " رواه عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا الطبراني في (الأوسط) والقضاعي وأبو نعيم، والبخاري في: (الأدب المفرد) ، والديلمي، والخرائطي في (مكارم الأخلاق) وأبو داود في (المراسيل) ، وابن أبي الدنيا في (الصمت) ، وغيرهم جميعهم بألفاظ متقاربة وأسانيده لا تخلو من ضعف (2) . وأما القول الثالث بالتفصيل (3) : إن احتمل ورطة ألزم به قضاء وإلا فلا، فحجته عموم حديث رفع الضرر في قوله صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) . قال شيخنا الأمين رحمه الله تعالى في (أضواء البيان) بعد أن ساق الخلاف محررا: (الذي يظهر لي في هذه المسألة، والله تعالى أعلم أن إخلاف الوعد لا يجوز لكونه من علامات المنافقين؛ ولأن الله يقول {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وظاهر عمومه يشمل إخلاف الوعد، ولكن الواعد إذا امتنع من إنجاز الوعد لا يحكم عليه به ولا يلزم به جبرا، بل يؤمر به ولا يجبر عليه؛ لأن أكثر علماء الأمة على أنه لا يجبر على الوفاء به لأنه وعد بمعروف محض، والعلم عند الله تعالى) اهـ.   (1) المغني 4/594. الأذكار للنووي ص/270. ورسالة الشيخ الأشقر: بيع المرابحة ص/25، 41. (2) كشف الخفاء، وفيض القدير، وأضواء البيان 4/323- 324، والمقاصد الحسنة للسخاوي وقد أفرد هذا الحديث بجزء كما ذكره في: المقاصد. وفي تاج العروس للزبيدي في مادة (وعد) ذكر اسمها (التماس السعد في الوفاء بالوعد) (3) فتح الباري: 5/222، 290. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 723 المبحث الثالث: البحوث والمؤلفات في هذه النازلة. تم الوقوف على المؤلفات والأبحاث الآتية: 1- بيع المرابحة كما تجريه البنوك الإسلامية. تأليف: محمد بن سليمان الأشقر. طبع: عام 1404هـ. نشر مكتبة الفلاح بالكويت. 2- فقه المرابحة في التطبيق الاقتصادي المعاصر. تأليف: عبد الحميد بن محمود البعلي. نشرر: مكتبة السلام العالمية بالقاهرة. 3- بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية. تأليف: يوسف القرضاوي. طبع: دار القلم بالكويت عام 1405 هـ. 4- المرابحة / أصولها وأحكامها وتطبيقاتها في المصارف الإسلامية. تأليف: أحمد علي عبد الله. نشر: الدار السودانية. الخرطوم. عام 1407هـ. 5- كشف الغطاء عن بيع المرابحة للآمر بالشراء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 724 تأليف: رفيق المصري. 6- الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية.. الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية. 7- المرابحة في البنوك الإسلامية ومناقشة وضعها على ضوء الأدلة. تأليف: بدر بن عبد الله المطوع. نشر: مطبعة الجذور بالكويت. 8- الاستثمار اللاربوي في نطاق عقد المرابحة. بحث: حسن بن عبد الله الأمين. 9- تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية. سامي حمود. الأردن. 10- الودائع المصرفية واستثمارها في الإسلام ص/325-330. حسن عبد الله الأمين، السودان. وقد عقد لمناقشتها عدد من الندوات وفي عدد من مؤتمرات المصارف الإسلامية والمجامع وصدرت فيها عدة فتاوى منها: 1- المؤتمر الدولي الثاني للاقتصاد الإسلامي المنعقد في: إسلام أباد في باكستان عام 1983م. 2- مؤتمر المصرف الإسلامي الأول بدبي عام 1399هـ. 3- مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني بالكويت عام 1403هـ. 4- المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية / عمان عام 1407هـ. 5- فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز/ السعودية. 6- فتوى الشيخ بدر المتولي عبد الباسط/ الكويت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 725 المبحث الرابع: صور بيع المواعدة وفيه: الصورة الجارية في المصارف الإسلامية (بيع المرابحة للآمر بالشراء) . بالتتبع يمكن أن تكون صور بيع المواعدة، أو يقال (صور بيع المرابحة للآمر بالشراء) كما يلي: الصورة الأولى: وتنبني على التواعد غير الملزم بين الطرفين مع عدم ذكر مسبق لمقدار الربح. وصورتها: أن يرغب العميل شراء سلعة بعينها فيذهب إلى المصرف ويقول: اشتروا هذه البضاعة لأنفسكم ولي رغبة بشرائها بثمن مؤجل أو معجل بربح، أو سأربحكم فيها. الصورة الثانية: وتنبني على التواعد غير الملزم بين الطرفين، مع ذكر مقدار ما سيبذله من ربح. وصورتها: أن يرغب العميل شراء سلعة معينة ذاتها أو جنسها، فيذهب إلى المصرف ويقول: اشتروا هذه السلعة لأنفسكم، ولي رغبة بشرائها بثمن مؤجل أو معجل، وسأربحكم زيادة عن رأس المال: ألف ريال مثلا. الصورة الثالثة: وتنبني على المواعدة الملزمة بالاتفاق بين الطرفين، مع ذكر مقدار الربح. وصورتها: أن يرغب العميل شراء سلعة معينة ذاتها أو جنسها المنضبطة عينها بالوصف، فيذهب إلى المصرف ويتفقان على أن يقوم المصرف ملتزما بشراء البضاعة من عقار أو آلات أو نحو ذلك، ويلتزم العميل بشرائها من المصرف بعد ذلك، ويلتزم المصرف ببيعها للعميل بثمن اتفقا عليه مقدارا وأجلا وربحا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 726 المبحث الخامس: سبب وجودها تئن الديار الإسلامية من المعاملات الربوية الضاربة بجرانها في البنوك والمصارف الربوية، دور المحاربة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وأكبر مركز يهز الاقتصاد ويخرب الديار، ويمتص روح الحياء والحياة، ويؤول بالأمة إلى: جمع فقير غارم. وفي طليعة معاملاته التي يهرع إليها كثيرون (صريح الربا) المجلل بالاسم الكاذب (القرض بفائدة) . وإن من مآثر المد الإسلامي المعاصر: حركة المصارف والبنوك الإسلامية، فكان حقيقا عليها إيجاد المعاملات الإسلامية لرد الأمة في معاملاتها إلى دين الله وشرعه، وكف الدخيل عليها. فكما ولد المسلم من نكاح بعقد شرعي فليسر في حياته وكسبه وما فيه قوام دينه ودنياه على جادة العقود الشرعية المتخلصة من الربا ووضره. فرفضًا لذلك الربا الصريح (القرض بفائدة) ، صار إيجاد المصارف الإسلامية لهذه المعاملة التي أطلق عليها اسم: بيع المرابحة، أو: بيع المرابحة للآمر بالشراء والذي يناسب أن يطلق عليه اسم: (بيع المواعدة) ؛ لأن فيه وعدا من الطرفين: وعدا من العميل بالشراء من البنك، ووعدا من البنك بشراء السلعة وبيعها عليه. والمواعدة في هذا البيع ملزمة أو غير ملزمة هي أساس في الاختلاف فيه حِلًّا وحرمة فصارت تسميته (بيع مواعدة) أولى، والأسماء قوالب للمعاني. فهل هذه المعاملة كالقرض بالفائدة في التحريم، أم تجوز مطلقا أم فيها تفصيل يوضحه المبحث بعده؟ والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 727 المبحث السادس: حكمها. وَهلَ جماعة من الباحثين في أبحاثهم فحسبوها من نوازل العصر وقضاياه، فصار الوقوع في أنواع من الغلط والوهم، سيأتي التنبيه عليها بعد إن شاء الله تعالى، في هذا المبحث. والحال أن هذا الفرع الفقهي بصوره مدون عند الفقهاء المتقدمين في مباحث الحيل، والبيوع، فهو عند: محمد بن الحسن الشيباني في كتاب (الحيل) ص/79، ص/127، ومالك في (الموطأ) ومعه (المنتقى) للباجي 5/38-39، والشافعي في (الأم) 3/39، وابن القيم في (إعلام الموقعين) 4/39. وغيرها كثير. وهذه نصوصهم فيها: 1- الحنفية: ففي كتاب (الحيل) لمحمد بن الحسن الشيباني قال: (قلت: أرأيت رجلا أمر رجلا أن يشتري دارا بألف درهم، وأخبره أنه إن فعل اشتراها الآمر بألف درهم ومائة درهم، فأراد المأمور شراء الدار، ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يأخذها، فتبقى في يد المأمور، كيف الحيلة في ذلك؟ قال: يشتري المأمور الدار على أنه بالخيار فيها ثلاثة أيام، ويقبضها، ويجيء الآمر ويبدأ فيقول: قد أخذت منك هذه الدار بألف ومائة درهم. فيقول المأمور: هي لك بذلك، فيكون ذلك للآمر لازما، ويكون استيجابا من المأمور للمشتري: أي ولا يقل المأمور مبتدئا: بعتك إياها بألف ومائة؛ لأن خياره يسقط بذلك فيفقد حقه في إعادة البيت إلى بائعه، وإن لم يرغب الآمر في شرائها تمكن المأمور من ردها بشرط الخيار، فيدفع عنه الضرر بذلك) اهـ. ففي الموطأ للإمام رحمه الله تعالى في: باب بيعتين في بيعة: (أنه بلغه أن رجلا قال لرجل: ابتع لي هذا البعير بنقد حتى أبتاعه منك إلى أجل فسأل عن ذلك عبد الله بن عمر فكرهه ونهى عنه) اهـ. والمسألة مبسوطة لدى المالكية كما في: (1) المنتقى لأبي الوليد الباجي 5/38 – 39، والكافي لابن عبد البر، (والمقدمات) لابن رشد 2/537، وخليل في (المختصر) وشراحه كافة.   (1) انظر بيع المرابحة للأشقر ص/34 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 728 وهذا نص ابن رشد في (المقدمات) (1) : (فصل) والعينة على ثلاثة أوجه جائزة ومكروهة ومحظورة، فالجائزة أن يمر الرجل بالرجل من أهل العينة، فيقول له: هل عندك سلعة كذا ابتاعها منك؟ فيقول له: لا، فيخبره أنه قد اشترى السلعة التي سأل عنها فيبيعها بما شاء من نقد أو نسيئة، والمكروهة أن يقول له: اشتر سلعة كذا وكذا فأنا أربحك فيها وأشتريها منك، من غير أن يراوضه على الربح، والمحظورة أن يرواضه على الربح، فيقول له: اشتر سلعة كذا وكذا بعشرة دراهم نقدا، وأنا أبتاعها منك باثني عشر نقدا، والثانية أن يقول له: اشترها لي بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر إلى أجل، والثالثة عكسها، وهي أن يقول له: اشترها لي باثني عشر إلى أجل وأنا أشتريها منها بعشرة نقدا، والرابعة أن يقول له: اشترها لنفسك بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا، والخامسة أن يقول له: اشترها لنفسك بعشرة نقدا وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، والسادسة عكسها، وهي أن يقول له: اشترها لنفسك، أو: اشتر، ولا يزيد على ذلك باثني عشر إلى أجل، وأنا ابتاعها منك بعشرة نقد، فأما الأول: وهو أن يقول: اشترها لي بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا، فالمأمور أجير على شراء السلعة للآمر بدينارين؛ لأنه إنما اشتراها له، وقوله: وأنا أشتريها منك، لغو لا معنى له؛ لأن العقدة له بأمره، فإن كان النقد من عند الآمر أو من عند المأمور بغير شرط فذلك جائز، وإن كان النقد من عند المأمور بشرط فهي إجارة فاسدة؛ لأنه إنما أعطاه الدينارين أن يبتاع له السلعة وينقد من عنده الثمن عنه فهي إجارة وسلف ويكون للمأمور إجارة مثله إلا أن تكون إجارة مثله أكثر من الدينارين، فلا يزاد عليهما على مذهب ابن القاسم في البيع والسلف، إذا كان السلف من غير البائع وفاتت السلعة أن للبائع الأقل من القيمة بالغة ما بلغت، يلزم أن يكون للأمور ههنا إجارة مثله بالغة ما بلغت، وإن كانت أكثر من الدينارين، والأصح أن لا تكون له أجرة؛ لأنا إنا جعلنا له الأجرة كانت ثمنًا للسلف فكان تتميما للربا الذي عقدا فيه، وهو قول سعيد بن المسيب، فهي ثلاثة أقوال فيما يكون له من الأجرة، إذا نقد المأمور الثمن بشرط، وهذا إذا عثر على الأمر بحدثانه ورد السلف إلى المأمور قبل أن ينتفع به الآمر، وأما إن لم يعثر على الآمر حتى انتفع الآمر بالسلف قدر ما يرى أنهما كانا قصداه فلا يكون في المسألة إلا قولان، (أحدهما) أن للمأمور إجارته بالغة ما بلغت، (والثاني) أنه لا شيء له، ولو عثر على الآمر قبل الابتياع وقبل أن ينقد المأمور الثمن، لكان النقد من عند الآمر، ولكان فيما يكون للأجير قولان: (أحدهما) أن له إجارة مثله بالغة ما بالغة ما بلغت.   (1) المقدمات: 2/537- 539 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 729 (والثاني) أن له الأقل من إجارة مثله أو الدينارين، وابن حبيب يرى أن المأمور إذا نقد فقد تقدم الحرام بينهما فتدبر ذلك، (وأما الثانية) وهو أن يقول: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقدا، وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، فذلك حرام لا يحل ولا يجوز؛ لأنه رجل ازداد في سلفه، فإن وقع ذلك لزمت السلعة للآمر؛ لأن الشراء كان له، وإنما أسلفه المأمور ثمنها ليأخذ به منه أكثر منه إلى أجل، فيعطيه العشرة معجلة ويطرح عنه ما أربى، ويكون له جعل مثله بالغا ما بلغ في قول، والأقل من جعل مثله أو الدينارين اللذين أربى له بهما في قول، وفي قول سعيد بن المسيب: لا أجرة له بحال؛ لأن ذلك تتميم للربا، كالمسألة المتقدمة، قال في سماع سحنون: وإن لم تفت السلعة فسخ البيع، وهو بعيد، فقيل: معنى ذلك إذا علم البائع الأول بعملهما، وأما الثالثة وهي أن يقول له: اشترها لي باثني عشر إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا فذلك أيضا حرام لا يجوز، ومكروهه أنه استأجر المأمور على أن يبتاع له السلعة بسلف عشرة دنانير يدفعها إليه ينتفع بها إلى الأجل ثم يردها إليه، فيلزم الآمر السلعة باثني عشر إلى أجل ولا يتعجل المأمور منه العشرة النقد، وإن كان قد دفعها إليه صرفها عليه، ولم تترك عنده إلى الأجل، وكان له جعل مثله بالغًا ما بلغ في هذا الوجه باتفاق، وأما الرابعة وهي أن يقول له: اشتر سلعة كذا بعشرة نقدا وأنا اشتريها منك باثني عشر نقدا، فاختلف في ذلك قول مالك: فمرة أجازه إذا كانت البيعتان جميعا بالنقد وانتقد، ومرة كرهه للمراوضة التي وقعت بينهما في السلعة قبل أن تصير في ملك المأمور، وأما الخامسة وهي أن يقول: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقدا وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، فهذا لا يجوز إلا أنه يختلف فيه إذا وقع، فروى سحنون عن ابن القاسم، وحكاه عن مالك أن الآمر يكره الشراء باثني عشر إلى أجل؛ لأن المشتري كان ضامنا لها لو تلفت في يده قبل أن يشتريها منه الآمر، ولو أراد أن لا يأخذها بعد اشتراء المأمور، كان ذلك له، واستحب للمأمور أن يتورع فلا يأخذ من الآمر إلا ما نقد في ثمنها، وقال ابن حبيب: يفسخ البيع الثاني إن كانت السلعة قائمة، وترد إلى المأمور، فإن فاتت ردت إلى قيمتها معجلة يوم قبضها الآمر، كما يصنع بالبيع الحرام؛ لأنه كان على مواطأة بيعها قبل وجوبها للمأمور، فدخله بيع ما ليس عندك، وأما السادسة وهي أن يقول له: اشترها لنفسك باثني عشر إلى أجل، وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا، فروى سحنون عن ابن القاسم أيضا، أن البيع لا يرد إذا فات، ولا يكون على الآمر إلا العشرة، وأحب إليه أن لو أردفه الخمسة الباقية؛ لأن العقدة الأولى كانت للمأمور، ولو شاء المشتري لم يشتر، وقال ابن حبيب: يفسخ البيع الثاني على كل حال، كما يصنع بالبيع الحرام للمواطأة التي كانت للبيع قبل وجوبها للمأمور، فإن فاتت ردت إلى قيمتها يوم قبضها الثاني، وهو ظاهر رواية سحنون أن البيع الثاني يفسخ ما لم تفت السلعة، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق وهو الهادي إلى أقوم طريق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 730 وقال الدردير في (الشرح الصغير 3/129) قال: (1) (العينة: وهي بيع – من طلبت منه سلعة للشراء وليست عنده، لطالبها بعد شرائها – جائزة، إلا أن يقول الطالب: اشترها بعشرة نقدا، وأنا آخذها منك باثني عشر إلى أجل، فيمنعه لما فيه من تهمة (سلف جر نفعا) ؛ لأنه كأنه سلفه ثمن السلعة يأخذ عنها بعد الأجل اثني عشر) اهـ. وفي (الأم) للإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (إذا أرى الرجلُ الرجلَ السلعةَ، فقال: اشترها وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، والذي قال: أربحك فيها بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعًا، وإن شاء تركه. وهكذا إن قال: اشتر لي متاعا ووصفه له، أو متاعا أي متاع شئت وأنا أربحك فيه فكل هذا سواء. ويجوز البيع الأول، ويكون فيما أعطى من نفسه بالخيار، وسواء في هذا ما وصفت إن كان قال: ابتعه وأشتريه منك بنقد أو دَيْن، يجوز البيع الأول، ويكون بالخيار في البيع الآخر، فإن جدداه جاز، وإن تبايعا به على أن الزما أنفسهما فهو مفسوخ من قبل شيئين: أحدهما: أنه تبايعاه قبل أن يملكه البائع. والثاني: أنه على مخاطرة أنك إن اشتريته على كذا أربحك فيه كذا) . قال ابن القيم رحمه الله تعالى في (إعلام الموقعين) : (المثال الموفي مائة – أي من أمثلة الحيل-: رجل قال لغيره: اشتر هذه الدار أو هذه السلعة من فلان بكذا وكذا وأنا أربحك فيها كذا وكذا، فخاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يريدها ولا يتمكن من الرد. فالحيلة: أن يشتريها على أنه بالخيار ثلاثة أيام، أو أكثر ثم يقول للآمر: قد اشتريتها بما ذكرت، فإن أخذها منه وإلا تمكن من ردها على البائع بالخيار، فإن لم يشترها الآمر إلا بالخيار فالحيلة: أن يشترط له خيارا أنقص من مدة الخيار التي اشترطها هو على البائع، ليتسع له زمن الرد إن ردت عليه) اهـ. هذه جملة من نصوص العلماء في هذا الفرع الفقهي الذي تبنته المصارف الإسلامية للتعامل به مع العميل لها مستبعدة معاملة البنوك التجارية الربوية من معاملة صريح الربا (القرض بفائدة) . ومن هذه النقول يتضح الحكم في كل واحد من الصور الثلاث المتقدمة على ما يلي: فالصورة الأولى: التي تنبني على التواعد بين الطرفين – غير الملزم مع عدم ذكر مسبق لمقدار الربح وتراوض عليه – فالظاهر الجواز: عند الحنفية والمالكية والشافعية، كما تقدم نقله من كلام ابن رشد في المذهب المالكي؛ وذلك لأنه ليس في هذه الصورة التزام بإتمام الوعد بالعقد أو بالتعويض عن الضرر لو هلكت السلعة فلا ضمان على العميل فالبنك يخاطر بشراء السلعة لنفسه وهو على غير يقين من شراء العميل لها بربح، فلو عدل أحدهما عن رغبته فلا إلزام ولا يترتب عليه أي أثر فهذه الدرجة من المخاطر هي التي جعلتها في حيز الجواز والله أعلم (2) .   (1) بواسطة بيع المرابحة للأشقر ص / 37 (2) انظر: بيع المرابحة للأشقر ص /47 مهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 731 والصورة الثانية: التي تنبني على التواعد غير الملزم بين الطرفين مع ذكر مسبق لمقدار ما سيبذله من الربح ومراوضته عليه فقد تقدم في كلام ابن رشد أنها من العينة المحظورة؛ لأنه رجل ازداد في سلفه وتقدم نقل كلام الشرح الصغير. والله أعلم. والصورة الثالثة: التي تنبني على المواعدة والالتزام بالوفاء بها بالاتفاق بين الطرفين، قبل حوزة المصرف للسلعة، واستقرارها في ملكه، مع ذكر مقدار الربح مسبقا واشتراط أنها إن هلكت فهي من ضمان أحدهما بالتعيين، فهذه حكمها البطلان والتحريم فهي أخية القرض بفائدة، وذلك للأدلة الآتية: 1- أن حقيقتها عقد بيع على سلعة مقدرة التملك للمصرف مربح قبل أن يملك المصرف السلعة ملكا حقيقيا وتستقر في ملكه. 2- عموم الأحاديث النبوية التي نصت على النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده. منها حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني المبيع لما ليس عندي فأبيعه منه ثم أبتاعه من السوق، فقال صلى الله عليه وسلم ((لا تبع ما ليس عندك)) رواه أصحاب السنن وقال الترمذي: حديث حسن ، فسبب الحديث نص في بيع الإنسان ما لا يملك فحكم صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه، قال ابن قدامة في " المغني " (1) . " لا نعلم فيه خلافا " اهـ. وعلته والله أعلم " الغرر في القدرة على التسليم وقت العقد " (2) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((: لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) . رواه أصحاب السنن وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (فاتفق لفظ الحديثين على ((نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده)) فهذا هو المحفوظ عن لفظه صلى الله عليه وسلم وهو يتضمن نوعا من الغرر فإنه إذا باعه شيئا معينا وليس في ملكه، ثم مضى ليشتريه ويسلمه له كان مترددا بين الحصول وعدمه فكان غررا يشبه القمار فنهى عنه، وقد ظن بعض الناس أنه إنما نهى لكونه معدما فقال: لا يصح بيع المعدوم، وروى في ذلك حديثا ((أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المعدوم)) ، وهذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب الحديث ولا له أصل) اهـ.   (1) 4/206 (2) الغرر وأثره في العقود ص 319 (3) زاد المعاد 4/262 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 732 وقال الخطابي رحمه الله تعالى (1) : (قوله ((: لا تبع ما ليس عندك)) يريد بيع العين دون بيع الصفة ألا ترى أنه أجاز السلم إلى الآجال، وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال، وإنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر، وذلك مثل أن يبيعه عبده الآبق، أو جَمَلَهُ الشارد ويدخل في ذلك: كل شيء ليس بمضمون عليه، مثل أن يشتري سلعة فيبيعها قبل أن يقبضها.) اهـ. 3- عموم الأحاديث النبوية التي نصت على نهي الإنسان عن بيع ما اشتراه ما لم يقبضه (2) . وقد صحت الأحاديث في هذا من حديث ابن عمر، وابن عباس وابن عمرو وزيد بن ثابت، وحكيم بن حزام، وجابر رضي الله عنهم وغيرهم رضي الله عن الجميع. منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يَسْتَوْفِيَهُ)) رواه الستة إلا الترمذي. وعن ابن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم ((نهى عن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما لم يقبض)) رواه الترمذي وغيره. وقد حكى: ابن المنذر والخطابي، وابن القيم، وغيرهم: الإجماع على أن من اشترى طعاما فليس له بيعه حتى يقبضه. وأما بيع ما يشتريه الإنسان قبل قبضه من غير الطعام من مكيل أو موزون أو عقار وغير ذلك ففيه خلاف على أقوال أربعة، والذي عليه المحققون هو: أنه لا يجوز بيع شيء من المبيعات قبل قبضه بحال وهو مذهب ابن عباس ومحمد بن الحسن، وإحدى الروايات عن أحمد. حكى ذلك ابن القيم واختاره فقال (3) . (وهذا القول هو الصحيح الذي نختاره) اهـ. ثم حرر ابن القيم رحمه الله تعالى الخلاف في علة المنع من بيع ما لم يقبض وقال (4) . (فالمأخذ الصحيح في المسألة أن النهي معلل بعدم تمام الاستيلاء وعدم انقطاع علاقة البائع عنه، فإنه يطمع في الفسخ والامتناع عن الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه ... ) اهـ. ووجه الاستدلال من هذا في مسألتنا هذه: أن النصوص إذا كانت صريحة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع ما لم يقبض، وأنه على عمومه، وأن العلة عدم تمام الاستيلاء والاستقرار في ملك المشتري، فكيف يجوز للمصرف أن يبيع ما لم يملك أصلا ويصافق ويربح فيه؟ فملكه تقديري لا حقيقي، واستيلاؤه عليه تقديري لا حقيقي. المنع من هذا يكون من باب الأولى والله أعلم.   (1) معالم السنن مع التهذيب 5/143 (2) زاد المعاد 4/262 - 265. تهذيب السنن 5/130- 140. (3) تهذيب السنن 5/132 (4) تهذيب السنن 5/136- 137 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 733 4- أن حقيقة هذا العقد: بيع نقد بنقد أكثر منه إلى أجل بينهما سلعة محللة فغايته (قرض بفائدة) . ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في بيع ما لم يقبض (1) . (أنه يكون قد باع دراهم بدراهم والطعام مُرَجّى) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجة. قال الخطابي: (وهو غير جائز؛ لأنه في التقدير بيع ذهب بذهب والطعام مؤجل غائب غير حاضر ... ) اهـ. والذي عليه المحققون هو شمول النهي عن بيع ما لم يقبض من طعام وغيره وإن ذكر الطعام خرج مخرج الغالب والله أعلم (2) . 5- أن البيوعات المنهي عنها ترجع إلى قواعد ثلاث: 1- الربا. 2- الغرر. 3- أكل أموال الناس بالباطل. وقد روى الجماعة إلا البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر.)) وفي معناه أحاديث أخرى، وهذا الحديث ليس من باب إضافة الموصوف إلى صفته فيكون صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الذي هو غرر وإنما من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، فالمبيع نفسه هو الغرر كبيع الثمار قبل بدو صلاحها (وبيع ما لا يملكه) وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى (3) . ولهذا لما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أقسام المعدوم وهي: معدوم موصوف في الذمة (السلم) وهو جائز اتفاقا. ومعدوم تبع للموجود مثل بيع الثمار بعد بدو صلاحها وهو جائز اتفاقا. ومثل بيع المقاثي والمباطخ فهذا جائز على التحقيق، وأما الثالث فقال (4) : (الثالث: معدوم لا يدري يحصل أو لا يحصل ولا ثقة لبائعه بحصوله بل يكون المشتري منه على خطر فهذا الذي منع الشارع بيعه لا لكونه معدوما بل لكونه غررا فمنه صورة النهي التي تضمنها حديث حكيم بن حزام وابن عمر رضي الله عنهما، فإن البائع إذا باع ما ليس في ملكه ولا له قدرة على تسليمه ليذهب ويحصله ويسلمه إلى المشتري كان ذلك شبيها بالقمار والمخاطرة من غير حاجة بهما إلى هذا العقد ولا تتوقف مصلحتهما عليه) اهـ.   (1) معالم السنن 5/139. بيع المرابحة للأشقر ص/8 (2) الغرر وأثره في العقود ص /329-330 (3) زاد المعاد 4/467. والغرر للضرير ص / 62- 63 (4) زاد المعاد 4/263 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 734 وجهة نظر المخالف: يتضح مما تقدم أنه ليس من خلاف يؤثر عند أهل العلم في أن البيع في (الصورة الثالثة) باطل محرم، لكن لما أثريت في العصر الحاضر، وكتب فيها من كتب وجرى الخلاف بين الكاتبين فيها بين الجواز والمنع قرر المجيزون الجواز لعدة وجوه وهي أن الوعد ملزم وأن العين مرادة (حقيقة) في هذا العقد، فالعقد حقيقي، وليس صوريا: فالعميل يقصد الانتفاع بالعين ولا يريدها للتوصل إلى دراهم يحتاجها، وأن النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده: خاص فيما كان فيه البيع حالًّا بتسليم العين المباعة، أما إذا كانت العين المباعة مؤجلة إلى أجل محدود فلا، وينسحب عليهما حكم بيوع الآجال وإن النهي عن بيع المعدوم: هو ما كان المعدوم فيه مجهول الوجود في المستقبل، أما العين هنا فهي محققة الوجود مستقبلا حسب العادة (1) . وأنه في هذه الصورة لو تأخر العميل في أداء الثمن لم يفرض عليه أي زيادة في الثمن. وأنه على أقل الأحوال فإن الحاجة في التعامل داعية إليه كما دعت إلى السلم، والاستصناع واغتفر ما يعتريهما من الغرر تقديرا للحاجة، والحاجة هنا داعية لاتساع رقعة التعامل وتضخم رؤوس الأموال وحاجة المنشآت إلى دعمها بالآلات والمباني التي لا قوام لها إلا بها، فإن لم تتم تلك المعاملة وقع المسلم في حرج ومشقة الفوات لمصالح يريد تحقيقها، فإن لم تكن من هذا الباب، اضطر إلى (القرض بفائدة) ودينه يعصمه من هذا الربا المحرم، فليقرر هذا التعامل تحت وطأة الحاجة (الضرورة) والانتشال من المحرم وتحقيق مصالح المسلمين. المبحث السابع: في الضوابط الكلية التي تجعل (بيع المواعدة) أي (المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية) – في دائرة الجواز وهي على ما يلي: 1- خلوها من الالتزام بإتمام البيع كتابة أو مشافهة قبل الحصول على العين بالتملك والقبض. 2- خلوها من الالتزام بضمان هلاك (السلعة) أو تضررها من أحد الطرفين: العميل أو المصرف بل هي على الأصل من ضمان المصرف. 3- أن لا يقع العقد للمبيع بينهما إلا بعد قبض المصرف للسلعة واستقرارها في ملكه. والله أعلم بكر بن عبد الله أبو زيد   (1) الغرر وأثره في العقود ص/358 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 735 المرابحة للآمر بالشراء إعداد الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية القانون – جامعة الخرطوم عضو مجمع الفقه الإسلامي بجدة بسم الله الرحمن الرحيم 1- بيع المرابحة: البيع إما أن يكون عن طريق التفاوض بين البائع والمشتري من غير نظر إلى رأس المال الذي قامت به السلعة على البائع، ويسمى بيع المساومة، وإما أن يكون على أساس رأس المال، ويسمى بيع الأمانة، وفي بيع الأمانة قد يكون البيع برأس المال فقط، ويسمى تولية، إذا أخذ المشتري كل السلعة، أما إذا أخذ جزءا منها بما يقابله من الثمن، فيسمى إشراكا، وقد يكون بربح معلوم ويسمى مرابحة، وقد يكون بخسارة معلومة، ويسمى وضيعة ومواضعة ومحاطة ومخاسرة. فبيع المرابحة نوع من البيع الجائز بلا خلاف، غير أن بيع المساومة أولى منه عند بعض الفقهاء، يقول ابن رشد: البيع على المكايسة والمماكسة أحب إلى أهل العلم وأحسن عندهم؛ وذلك لأن بيع المرابحة كما يقول الإمام أحمد: تعتريه أمانة واسترسال من المشتري، ويحتاج إلى تبيين الحال على وجهه، ولا يؤمن من هوى النفس في نوع تأويل أو غلط، فيكون على خطر وغرر، وتجنب ذلك أسلم وأولى. ويشترط في بيع المرابحة ما يشترط في البيع بصفة عامة، ويختص بشروط خاصة أهمها علم المتبايعين برأس المال والربح، كأن يقول البائع: رأس مالي مائة، أو: هو علي بمائة، بعتك بها وربح عشرة. وإذا ظهرت خيانة البائع فيما ذكره من الثمن أو غيره مما يجب ذكره، فالبيع صحيح، ولكن يثبت للمشتري الخيار، فإن شاء أخذ بما بينه البائع على ما فيه من زيادة، وإن شاء ترك البيع، وقال بعض الفقهاء: ليس للمشتري الخيار، وإنما له الحق في إسقاط الزيادة (1) .   (1) انظر أحكام بيع المرابحة في: ابن عابدين 4: 211، والدسوقي على الشرح الكبير 3: 159 والمقدمات الممهدات 2: 276، ونهاية المحتاج 3: 163، والمغني 4: 179، والبحر الزخار 3: 277 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 736 2- بيع المرابحة للآمر بالشراء: حقيقته: هذه صورة من صور التعامل وردت في الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية، وتطبقها البنوك الإسلامية، وكيفيتها كما جاء في الموسوعة: " أن يتقدم العميل إلى البنك طالبا منه شراء سلعة معينة بالمواصفات التي يحددها على أساس الوعد منه بشراء تلك السلعة اللازمة له فعلا مرابحة بالنسبة التي يتفقان عليها، ويدفع الثمن مقسطا حسب إمكانياته". ثم أوردت الموسوعة تبريرا لهذه المعاملة فقالت: " فهذه المعاملة مركبة من وعد بالشراء، وبيع بالمرابحة، فهي ليست من قبيل بيع الإنسان ما ليس عنده؛ لأن البنك لا يعرض أن يبيع شيئا، ولكنه يتلقى أمرا بالشراء، وهو لا يبيع حتى يملك ما هو مطلوب ويعرضها على المشتري الآمر ليرى إذا كان مطابقا لما وصف، كما أن هذه العملية لا تنطوي على ربح ما لم يضمن؛ لأن البنك قد اشترى فأصبح مالكا يتحمل تبعة الهلاك " (1) اهـ. فهذه المعاملة تتم في مرحلتين: المرحلة الأولى: عندما يتقدم العميل إلى البنك طالبا منه شراء سلعة معينة أو موصوفة ليست عند البنك، فيعده البنك بأنه سيشتري السلعة التي يطلبها العميل ويبيعها له، ويعد العميل البنك بأنه سيشتريها منه عندما يقدمها له، ويحددان في هذه المرحلة ثمن الشراء والربح، وطريقة الدفع، وهو مؤجل غالبا، وتطلب بعض البنوك دفع عربون في هذه المرحلة. وقد يكون هذا الطلب شفويا، وقد يكون مكتوبا، ولكن جاء في الموسوعة: " إنه لا ينبغي أن يكون الأمر بالشراء شفاهة وإنما يلزم أن يكون طلبا مكتوبا، وأن يتأكد البنك من جدية الطلب حتى تصبح المخاطرة محسوبة، وحتى يتلافى البنك نكول الآمر بالشراء بعد طلبه ذلك " (2) . والسلعة المطلوبة قد تكون موجودة في السوق المحلي، وقد لا تكون موجودة فيستوردها البنك من الخارج. المرحلة الثانية: المرحلة الأولى كانت مجرد مواعدة، أما هذه المرحلة الثانية فهي مرحلة إبرام العقد، وتبدأ بعد شراء البنك البضاعة وتسلمها وعرضها على العميل وقبوله، وعندئذ تتم كتابة عقد البيع وتوقيعه من الطرفين.   (1) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية 1/29، وهذا الذي ورد في الموسوعة مأخوذ عن الدكتور سامي حمود في رسالته: تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية 476 - 479 (2) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 737 هل هذه معاملة مستحدثة؟ هذه المعاملة ليس مستحدثة، وإنما المستحدث هو التسمية فقط، أما حقيقة المعاملة فهي معروفة في الفقه الإسلامي، ونورد فيما يلي بعض النصوص الفقهية التي تذكر هذه المعاملة وتذكر حكمها: 1- روى مالك في الموطأ أنه بلغه أن رجلا قال لرجل: " ابتع لي هذه البعير بنقد، حتى أبتاعه منك إلى أجل، فسأل عن ذلك عبد الله بن عمر فكرهه ونهى عنه" (1) . ذكر مالك هذه المسألة في باب: " بيعتان في بيعة " فكأنه يرى أن ابن عمر يعتبرها داخلة فيما نهى عنه من بيعتين في بيعة. قال الباجي: " ولا يمتنع أن يوصف بذلك من وجهة أنه قد لزم مبتاعه بأجل بأكثر من الثمن، فصار قد انعقد بينهما عقد بيع تضمن بيعتين: إحداهما الأولى، وهي بالنقد، والثانية المؤجلة، وفيها مع ذلك بيع ما ليس عنده؛ لأن المبتاع بالنقد قد باع من المبتاع بالأجل البعير قبل أن يملكه، وفيها سلف وزيادة؛ لأنه يبتاع له البعير بعشرة على أن يبيعه منه بعشرين إلى أجل، يتضمن ذلك أنه سلفه عشرة في عشرين إلى أجل وهذه كلها معان تمنع جواز البيع، والعينة فيها أظهر من سائرها، والله أعلم" (2) . وقد أورد فقهاء المالكية صورا متعددة لهذه المعاملة تحت عنوان بيع العينة، وبخاصة شراح متن خليل عند قوله: " جاز لمطلوب منه سلعة أن يشتريها ليبيعها بنماء ولو بمؤجل بعضه" (3) .   (1) الموطأ مع المنتقى 57/ 38 (2) المنتقى 5/38، 39 (3) متن خليل مع حاشية الدسوقي، 3/ 88 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 738 2- قال الإمام الشافعي: " وإذا أرى الرجل الرجل السلعة فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز والذي قال: أربحك فيها بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعا، وإن شاء تركه، وهكذا إن قال: اشتر لي متاعا، ووصفه له، أو متاعا أي متاع شئت، وأنا أربحك فيه، فكل هذا سواء، يجوز البيع الأول، ويكون هذا فيما أعطى من نفسه بالخيار، وسواء هذا ما وصفت إن كان قال: ابتاعه وأشتريه منك بنقد، أو بدَيْن، يجوز البيع الأول، ويكونان بالخيار في البيع الآخر، فإن جدداه جاز، وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ من قبل شيئين: أحدهما أنهما تبايعا قبل أن يملكه البائع، والثاني أنه على مخاطرة إنك إن اشتريته على كذا أربحك فيه كذا " (1) . 3- قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني: " قلت: أرأيت رجلًا أمر رجلا أن يشتري دارا بألف درهم وأخبره أنه إن فعل اشتراها الآمر بألف درهم ومائة درهم، فأراد المأمور شراء الدار، ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يأخذها، فتبقى في يد المأمور، كيف الحيلة في ذلك؟ قال: يشتري المأمور الدار على أنه بالخيار ثلاثة أيام، ويقبضها ويجيء الآمر، ويبدأ فيقول: قد أخذت منك هذه الدار بألف ومائة درهم، فيقول المأمور: وهي لك بذلك، فيكون ذلك للآمر لازما، ويكون استيجابا من المأمور للمشتري، وإن لم يرغب الآمر في شرائها تمكن المأمور من ردها بشرط الخيار، فيدفع عنه الضرر بذلك" (2) اهـ. هذه النصوص الفقهية لثلاثة من كبار أئمة الفقه تبين لنا بوضوح أن بيع المرابحة للآمر بالشراء الذي تمارسه البنوك الإسلامية ليس أمرا جديدا، كما يتوهمه بعض الباحثين، وتبين لنا من هذه النصوص أن السلعة التي يطلب الآمر شراءها قد تكون معينة، وقد تكون موصوفة، وقد لا تكون معينة ولا موصوفة كما في عبارة الشافعي: " أو متاعا أي متاع شئت "، كما تبين لنا أن الآمر بالشراء قد يشتري السلعة بنقد وقد يشتريها إلى أجل، وفي الحالين يكون الشراء بربح محدد.   (1) الأم للشافعي 3/33 (2) كتاب الحيل رواية السرخسي 79 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 739 حكم هذه المعاملة عند هؤلاء الأئمة: هذه المعاملة لا تجوز عند هؤلاء الأئمة الثلاثة إذا كانت ملزمة للطرفين، وهذا واضح من عبارة الشافعي، " وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ "، وواضح أيضا من عبارة الباجي التي شرح بها قول مالك وهي: " ولا يمتنع أن يوصف بذلك من وجهة أنه قد لزم مبتاعه بأجل بأكثر من الثمن "، أما الإمام محمد فإن إرشاده المأمور إلى استعمال خيار الشرط يدل على أنه يرى أن إلزام الآمر بالشراء غير جائز؛ لأنه لو كان جائزا لم تكن هناك حاجة إلى الحيلة. والتعليل الذي يؤخذ من أقوال هؤلاء الأئمة للحكم بعدم جواز الإلزام هو: 1- أن البيع مع الإلزام يكون قد وقع قبل أن يملك البائع السلعة، كما يقول الشافعي، والباجي. 2- أن الإلزام يجعل هذه المعاملة داخلة في " بيعتين في بيعة" المنهي عنها " كما يقرر الباجي. 3- أن الإلزام يجعل في المعاملة مخاطرة: " إنك إن اشتريته بكذا أربحك فيه كذا"، كما يقول الشافعي. 4- أن في هذه المعاملة سلف وزيادة، كما يقول الباجي. وهذه كلها معان تمنع جواز البيع، والأظهر منها عندي هو المانع الأول، وهو أن الإلزام بالوعد يجعل هذه المعاملة من قبيل بيع الإنسان ما لا يملك. ويفهم من أقوال هؤلاء الأئمة الثلاثة أن هذه المعاملة تجوز إذا جعل للطرفين الخيار، أو جعل الخيار لأحدهما، وقد صرح الإمام الشافعي بهذا، بل إن الشافعي جعل الخيار للمشتري من غير شرط، وحكم بأن اشتراط الإلزام مفسد لعقد البيع بين الآمر والمأمور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 740 الخلاف الحادث في الإلزام بالوعد في هذه المعاملة: لا أعلم خلافا معتبرا بين الفقهاء المعاصرين في جواز بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا جعل للطرفين أو لأحدهما الخيار وإنما الخلاف بينهم فيما إذا وقع هذا البيع على الإلزام من أول الأمر، بمعنى أن البنك ملزم بالبيع مرابحة للآمر بالشراء، والآمر بالشراء ملزم بتنفيذ وعده بالشراء، عندما يقدم له البنك السلعة المطلوبة. وقد ظهر أول اختلاف بين الفقهاء المعاصرين عندما بحث هذا الموضوع في مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي 1399هـ، 1979م، وكان رأي الأكثرية جواز الإلزام بالوعد في هذه المعاملة، ولهذا جاءت توصية المؤتمر على النحو التالي: يرى المؤتمر أن هذا التعامل يتضمن وعدا من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها، ووعدا آخر من المصرف بإتمام هذا البيع، بعد الشراء طبقا لذلك الشرط. إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقا لأحكام المذهب المالكي، وملزم للطرفين ديانة طبقا لأحكام المذاهب الأخرى، وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك، وأمكن للقضاء التدخل فيه. تحتاج صيغ العقود في هذا التعامل إلى دقة شرعية فنية، وقد يحتاج الإلزام القانوني بها في بعض الدول الإسلامية إلى إصدار قانون بذلك. (1) انتهت التوصية.   (1) مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي 1399هـ – 1979 م ص 14 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 741 وبحث هذا الموضوع مرة أخرى في مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني المنعقد بالكويت في جمادى الآخرة 1403هـ – مارس 1983م، وأصدر فيه المؤتمر التوصية التالية: 8- يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء، بعد تملك السلعة المشتراة وحيازتها، ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق هو أمر جائز شرعا، طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسئولية الهلاك قبل التسليم، وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي. وأما بالنسبة للوعد وكونه ملزما للآمر أو المصرف أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات، وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل، وأن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعا، وكل مصرف مخير في الأخذ بما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه. وكانت التوصية الخاصة بجواز بيع المرابحة للآمر بالشراء بالإجماع، أما التوصية الخاصة بجواز الإلزام بالوعد فكانت رأي الأكثرية. وبحث هذا الموضوع مرة ثالثة في ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي المنعقدة بالمدينة المنورة في شهر رمضان 1403هـ – يونيو 1983م، وجاءت الفتوى على النحو التالي: " وأما الصورة المرابحة للآمر بالشراء فإن اللجنة تؤكد ما ورد في المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي المنعقد في الكويت مع ما تضمنت من تحفظات بالنسبة للإلزام". وقد اختلف العمل في البنوك الإسلامية بالنسبة لإلزام الآمر بوعده وعدمه، تبعا لاختلاف فتاوى هيئات الرقابة الشرعية للبنوك، والعمل في كل البنوك الإسلامية في السودان على عدم الإلزام، ما عدا بنكا واحد، وتضمن بعض البنوك نصا صريحا في العقد يعطي الآمر الخيار في الشراء وعدمه، عندما يقدم له البنك السلعة المطلوبة. والصواب عندي هو عدم إلزام الآمر بالشراء للأدلة التي ذكرها المتقدمون من الفقهاء، وأقواها أن بيع المرابحة للآمر بالشراء مع إلزام الأمر بوعده يؤدي إلى بيع الإنسان ما ليس عنده؛ لأنه لا فرق بين أن يقول شخص لآخر: بعتك سلعة كذا بمبلغ كذا، والسلعة ليست عنده، وبين أن يقول شخص لآخر: اشتر سلعة كذا، وأنا ملتزم بشرائها منك بمبلغ كذا وبيع الإنسان ما ليس عنده منهي عنه بحديث: " لا تبع ما ليس عندك" (1) ولا يغير من هذه الحقيقة كون البنك والآمر بالشراء سينشئان عقد بيع من جديد بعد شراء البنك السلعة وتقديمها للآمر، ما دام كل واحد منهما ملزما بإنشاء البيع على الصورة التي تضمنها الوعد.   (1) انظر الجامع الصحيح 3/536، ومنتقى الأخبار مع نيل الأوطار 5/252، والغرر وأثره في العقود للدكتور الصديق الضرير 318 وما بعدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 742 أدلة المجوزين للإلزام بالوعد في بيع المرابحة، ودفعها: استدل المجوزون لإلزام كل من البنك والآمر بالشراء بوعده في بيع المرابحة للآمر بالشراء بدليلين: الأول: أن الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقا لأحكام المذهب المالكي، وملزم للطرفين ديانة طبقا لأحكام المذاهب الأخرى، وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء، وإذا اقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل فيه (1) . الثاني: الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات، وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل (2) . والدليلان غير مقبولين عندي: أما الدليل الأول، فغير وارد في مسألتنا هذه؛ لأن الوعد الذي وقع الاختلاف فيه بين المالكية وغيرهم، فقال المالكية بالإلزام به ديانة وقضاء، وقال غيرهم بالإلزام به ديانة لا قضاء، هو الوعد بالمعروف من جانب واحد، كأن يعد شخص آخر بأن يدفع له مبلغا من المال، ومسألتنا هذه ليست من هذا القبيل؛ لأن الوعد فيها من أحد الطرفين يقابله وعد من الطرف الآخر، فهو أقرب إلى العقد منه إلى الوعد، وينبغي أن تطبق عليه أحكام العقد. ثم إن الوعد الملزم الذي يجب الوفاء به ديانة وقضاء، أو ديانة فقط، هو الوعد الذي لا يترتب على الإلزام به محظور، والإلزام بالوعد في مسألتنا هذه يترتب عليه محظور، هو بيع الإنسان ما لا يملك. وبناء على هذا فلا يصح القول بالإلزام بالوعد في هذه المعاملة اعتمادا على رأي المالكية أو غيرهم، ويؤيد هذا أن الإمام مالكا وفقهاء المالكية من بعده نصوا على منع هذه المعاملة إذا وقعت على الإلزام (3) .   (1) مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي 1399هـ- 1979م ص14 (2) مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني بالكويت 1403هـ – 1983م (3) راجع ص 3 وراجع شراح متن خليل عند قوله: " جاز لمطلوب منه سلعة ... " الجزء: 5 ¦ الصفحة: 743 ويزيد هذا الأمر وضوحا أن المالكية لا يسمون مثل هذه المعاملة وعدا، وإنما يسمونها " مواعدة "، ولهم في المواعدة قاعدة تنطبق تمام الانطباق على مسألتنا، وهذا هو نص القاعدة مع شرحها: القاعدة الخامسة والستون: " الأصل منع المواعدة بما لا يصح وقوعه في الحال حماية " ومن ثم منع مالك المواعدة في العدة، وعلى بيع الطعام قبل قبضه ووقت نداء الجمعة، وعلى ما ليس عندك ... " (1) . وأما الدليل الثاني، وهو أن في الإلزام استقرار المعاملات ومصلحة الطرفين فهو غير مقبول أيضا، بعدما ثبت أن في الإلزام محظورا شرعيًّا؛ لأن المصلحة التي فيه تكون غير معتبرة شرعا، فهي كالمصلحة التي تعود على الطرفين في بيع الإنسان ما ليس عنده الذي نهى عنه الشارع. هذا لو سلمنا بأن في الإلزام مصلحة الطرفين واستقرار المعاملات (2) . صحيح أن البنك يصيبه ضرر كبير إذا كانت السلعة المأمور بشرائها لا تصلح إلا للآمر، ورفض شراءها من البنك بعدما تملكها. لقد تنبه القائلون بعدم الإلزام لهذه الحالة، وأرشدنا الإمام محمد بن الحسن إلى أن المخرج الذي يجعل البنك في مأمن من الضرر، هو أن يشترط لنفسه خيار الشرط عندما يشتري السلعة المطلوبة، ثم يعرضها على الآمر في مدة الخيار، فإن قبلها تم البيع ولزمته، وإن رفضها ردها البنك إلى من اشتراها منه (3) .   (1) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك تأليف أبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي 278 (2) انظر رأي الدكتور أحمد علي عبد الله في أن استقرار المعاملات والمصلحة في عدم الإلزام، لا في الإلزام، المرابحة: أصولها وأحكامها وتطبيقاتها في المصاريف 255-260 (رسالة دكتوراه على الآلة الكاتبة) . (3) انظر ص4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 744 مسألة تحتاج إلى بحث: يتبين لنا مما تقدم أنه لا خلاف بين الفقهاء، المتقدمين منهم والمعاصرين، في أنه يشترط لصحة بيع المرابحة للآمر بالشراء أن يتم عقد البيع بعد أن يتملك المأمور السلعة المطلوبة، عملا بالحديث الذي ينهى عن بيع الإنسان ما ليس عنده، كما يتبين لنا أن المتقدمين من الفقهاء اشترطوا لصحة بيع المرابحة للآمر بالشراء أن يكون للآمر الخيار في إنشاء العقد بعد أن يتملك المأمور السلعة، ولا يجوز إلزامه بإنشاء العقد؛ لأنه يؤدي إلى بيع المأمور السلعة قبل أن يتملكها، وقد أخذ بعض الفقهاء المعاصرين بهذا الرأي، وخالف بعض منهم، فجوز إلزام الآمر بإنشاء العقد، ولم ير فيه مخالفة للحديث؛ لأن البيع يتم بعد أن يتملك المأمور السلعة. وظهر في أثناء النقاش في هذا الموضوع اتجاه ثالث يطالب ببحث ما يدل عليه حديث: " لا تبع ما ليس عندك"، هل يتناول النهي فيه كل ما ليس في ملك البائع عند العقد، سواء أكان شيئا معينا، أو موصوفا في الذمة، وسواء أكان مدخولا على تسليمه في الحال، أو بعد مدة من الزمان؟ أم يختص ببعض هذه الحالات؟ وقد كان لي رأي قديم في فهم هذا الحديث، كتبته قبل عشرين عاما، خلاصته أن النهي في الحديث يتناول بيع الإنسان ما لا يملك إذا كان مدخولا على تسليمه في الحال، ولا يتناول بيع الأشياء الموصوفة المتفق على تسليمها بعد مدة محددة من الزمان؛ لأن العلة في المنع هي الغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم، وهذا الغرر يزول، أو يقل، إذا كان التسليم بعد مدة يغلب فيها تمكن البائع من الحصول على المبيع وتسليمه للمشتري، وأخذت من هذا أن بيع الاستيراد المتعارف عليه في عصرنا الحاضر لا يشمله النهي الوارد في الحديث (1) ، ولكني توقفت عن الفتوى بهذا الرأي عندما عرضت علينا مسألة من هذه القبيل في هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي السوداني، التي أتشرف برئاستها، وأصدرت الهيئة فتوى متمشية مع ما عليه الفقهاء من الأخذ بظاهر الحديث، ومنع بيع كل من ليس في ملك البائع، إلا أن يكون بيع سلم، وأرسلت بمذكرة في هذا الشأن إلى الهيئة العليا للفتوى والرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية طلبت فيها بحث هذا الموضوع، ولكن لم يتيسر بحثه إلى اليوم. وقد خصص الدكتور أحمد علي عبد الله فصلا لهذا الموضوع في رسالته عن المرابحة: أصولها، وأحكامها، وتطبيقاتها في المصارف الإسلامية (2) ثم قدم هذا الموضوع تحت عنوان " البيع على الصفة " في ندوة في الخرطوم شارك فيها بعض أعضاء هيئات الرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية بالخرطوم، ولكن لم يصلوا فيه إلى رأي موحد. وأقترح أن يبحث المجمع هذا الموضوع في دورته القادمة. ونسأل الله التوفيق والهداية الصديق محمد الأمين الضرير   (1) انظر كتاب الغرر وأثره في العقود 320 (2) رسالة دكتوراه أعدت في قسم الشريعة الإسلامية بكلية القانون بجامعة الخرطوم، الفصل الثالث (261- 303) وصاحب الرسالة يعمل مديرا لإدارة الفتوى والبحوث ببنك التضامن الإسلامي بالخرطوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 745 المرابحة للآمر بالشراء دراسة مقارنة إعداد الدكتور إبراهيم فاضل الدبو الأستاذ بكلية الشريعة جامعة بغداد بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. وبعد: من البيوع التي تناولها التشريع الإسلامي بالبحث: (بيوع الأمانة) وقد أطلق عليها هذه الوصف؛ لأنها تقوم على الأمانة فعلا، حتى إن مجرد الكذب فيها يعتبر خيانة وتدليسا، وتعتبر بحق منطقة حرام كما عبر عنها الأستاذ السنهوري، يفترض فيها على الناس الأمانة في التعامل إلى أبعد مدى (1) . وقد أعطى فيها الفقه الإسلامي المجال لمن قلت خبرته في التعامل أن يتوقى غش الناس إياه وذلك بالتعامل معهم وفق حدود معينة، فتعتبر مجاوزة تلك الحدود خديعة وتغريرا، تجوز للطرف المقابل المطالبة بحقه ورفع الغبن الذي لحق به. وهكذا نجد الفقه الإسلامي قد تكفل بحماية من هو بحاجة لدفع الأذى عنه ورفع ما يعتريه من غبن الآخرين له. وجملة القول في عقود الأمانة هذه، أن المشتري فيها يضع ثقته بالبائع ويطمئن إلى أمانته فيشتري منه السلعة على أساس ثمنها الذي اشترى به البائع نفسه هذه السلعة، وفي هذه الحالة إما أن يربح المشتري البائع قدرا معلوما من المال زيادة على الثمن الأول، فيسمى البيع مرابحة، وإما أن ينقصه من الثمن الأصلي للسلعة بأن يخسر البائع جزءا من رأس ماله فيسمى البيع وضيعة، وإما ألا يزيد ولا ينقص، بل يأخذ المبيع بثمنه الأصلي، فيسمى البيع تولية، وإن أشرك معه آخر في المبيع بما يقابله من الثمن، سمي العقد إشراكا ومشاركة. والذي يعنينا بالبحث هنا، هو عقد المرابحة، وهل يلزم الآمر بالشراء مرابحة بالوفاء بوعده؟ ومن هنا يظهر لنا بوضوح أن طبيعة البحث تقتضي الكلام في مسألتين، وذلك إتماما لفائدة البحث. إحداهما: عقد المرابحة. والثانية: الوعد، وهل يلزم الوفاء به في عقود المعاوضات ومنها المرابحة؟ وسأحاول في بحثي هذا إن شاء الله تقصي رأي فقهاء المسلمين، السلف والخلف منهم في هاتين المسألتين. داعيا العلي القدير أن يوفقنا جميعا لخدمة ديننا الحنيف إنه سميع مجيب. الباحث   (1) انظر مصادر الحق في الفقه الإسلامي 154/2 وما بعدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 746 المرابحة في اللغة: جاء في لسان العرب، يقال " ربح فلان ورابحته وهذا بيع مربح إذا كان يربح فيه " والعرب تقول: ربحت تجارته إذا نال صاحبها الربح فيها. ويقال: أربحته على سلعته، بمعنى أعطيته ربحا " وقد أربحه بمتاعه وأعطاه مالًا مرابحة أي على الربح بينهما ". كما أنه يقال: بعت الشيء مرابحة أو بعت السلعة لفلان مرابحة على كل عشرة دنانير دينار واحد، وكذلك الحال بالنسبة للشراء، إذ يقال: اشتريته مرابحة، ولا بد من تسمية الربح (1) ، والمرابحة مفاعلة، بمعنى أنها تقتضي فعلا من الجانبين؛ لأن إبرام العقد متوقف على رضاهما، فكان كل عاقد فاعلًا للربح وإن اختص به أحدهما (2) . فعلى هذا تكون لفظة المرابحة مشتقة من رابح وأربح، وكلا اللفظين يعنيان البيع أو الشراء بزيادة على رأس المال وهو الربح، وهذا هو المعنى الشرعي لمعنى المرابحة، وبذلك يلتقي مدلول الكلمة اللغوي مع مدلولها في الاصطلاح كما سنرى. المرابحة في الاصطلاح: عرفت المرابحة بعدة تعاريف وكلها تعني الزيادة على رأس المال، فعند الحنفية، المرابحة " نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول مع زيادة ربح " (3) . وقد عرف الدردير من المالكية المرابحة بتعريف مقارب لما قاله الحنفية حيث قال: المرابحة عبارة عن بيع السلعة بالثمن المشتراة به مع زيادة ربح معلوم للمتعاقدين (4) . وعرفها الحنابلة بقولهم: " هو البيع برأس المال وربح معلوم " (5) .   (1) انظر مادة (ربح) في لسان العرب لابن منظور الأفريقي (2) انظر مفتاح الكرامة شرح قواعد العلامة لمحمد جواد العاملي 486/6 (3) شرح الهداية المطبوع مع فتح القدير 252- 5 (4) انظر الشرح الكبير على سيدي خليل 159/3 (5) انظر المغني لابن قدامة المقدسي 136/4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 747 شروط المرابحة: بما أن المرابحة عقد معاوضة، فإنه يخضع لكافة الشروط الواجب توافرها في عقود المعاوضات الأخرى، والتي تناولها الفقهاء بالبحث مما لا مجال لبحثها هنا، وبما أنه عقد أمانة، فإنه يخضع لشروط خاصة يجب توافرها فيه. والشروط التي تخص المرابحة هي التي يعنينا الكلام عنها هنا. وشروط المرابحة، منها ما يخص الصيغة ومنها ما يخص رأس المال، ومنها ما يتعلق بالربح. شروط الصيغة: بما أن المرابحة بيع فإنه يشترط فيها ما يشترط في سائر البيوع الأخرى، وذلك بأن تحتوي الصيغة على لفظ ينم عن رغبة العاقدين في إبرام العقد مع تطابق الإيجاب والقبول، وأن يكونا بلفظين ماضيين أو أحدهما ماضٍ والآخر مستقبل، وذلك كأن يقول البائع للمشتري: بعتك هذه السلعة بألف دينار أو بما اشتريت به وربح دينار لكل مائة، أو ما جرى مجرى هذا اللفظ، فيجيبه الطرف الثاني بالموافقة، بأن يقول: رضيت أو قبلت أو ما أشبه ذلك، ولا بد أن ينص في الصيغة على قدر رأس المال والربح، كما أنه لا بد من ذكر المصرف والوزن إن اختلفا. وإذا كان البائع لم يحدث في المبيع شيئا بأن باعه بالصورة التي اشتراه بها، فالعبارة عن الثمن أن يقول: اشتريت بكذا أو رأس ماله كذا أو تقوم علي أو هو علي (1) . أما لو عمل فيه ما يستوجب زيادة الثمن، فإنه يقول: رأس ماله كذا وعملت فيه بكذا، وإن أعطي على العمل أجرة، جاز له أن يقول: تقوم علي أو هو علي، كما سيتضح لنا ذلك من خلال البحث بإذن الله.   (1) انظر شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام 4/2 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 748 رأس المال، ماهية رأس المال: إن المقصود برأس المال، هو ما يلزم المشتري بالعقد لا ما نقده فيما بعد، وذلك لأن المرابحة بيع بالثمن الأول، والثمن الأول هو ما وجب بالبيع، فأما ما يدفعه بعد ذلك فإنما وجب عليه بعقد آخر، وهو الاستبدال، ونعني به أخذ مال بدل مال آخر، فالمشتري الثاني ملزم بدفع ما وجب بالعقد لا المدفوع بعده، هذه وجهة نظر الحنفية (1) . وبناء على ما قالوه: لو اشترى رجل سلعة بمائة درهم ونقد مكانها عشرة دنانير أو أعطاه دابة بدل السلعة، فرأس المال هو المائة درهم لا الدنانير ولا الدابة؛ لأن الدراهم هي التي وجبت بالعقد، والدنانير أو الدابة بدل عن الثمن الواجب (2) ، وبهذا قالت الزيدية أيضا، مدللين على رأيهم: بأن المبلغ المتفق عليه في العقد معلوم، والعرض المدفوع بدله، عقد منفصل (3) . وقد خالف المالكية وجهة نظر الحنفية والزيدية هذه، حيث اعتبروا المدفوع هو رأس المال سواء كان ما اتفق عليه في العقد أو فيما اصطلح عليه فيما بعد، إذا كان نقدا من النقود. إلا أنهم اشترطوا على البائع بيان ذلك للمشتري، فقد جاء في المدونة إن الإمام مالك سئل عن رجل اشترى سلعة بمائة دينار فأعطى عوض المائة ألف درهم، فهل يجوز للبائع بيع السلعة مرابحة على الألف درهم؟ فأجاب رحمه الله بالجواز على أن يوضح البائع ذلك للمشتري، وعندئذ لا فرق بين أن تكون الدنانير أو الدراهم هي رأس المال إذا رضي المشتري بذلك (4) . ولو أن المشتري دفع عروضًا بدل الثمن نقدا، فإذا أراد بيع المبيع مرابحة، فهل يجوز له أن يجعل العرض نفسه ثمنا أم لا بد من جعل النقد هو الثمن؟ اختلفت المالكية في هذه المسألة على رأيين: أحدهما لابن القاسم ويقضي بأنه لا بأس في ذلك إذا بين البائع ماهية العرض وصفته بأن يقول للمشتري: أبيعك هذه السلعة بربح كذا وكذا ورأس مالها عربة صفتها كذا وكذا وعندئذ يستحق العربة المذكورة وما سمى من الربح. أما لو أراد أن يجعل قيمة العربة هذه هي الثمن، فلا يحل له ذلك، وقاس ابن القاسم جواز بيع المرابحة بهذه الصورة على ما لو اشترى رجل سلعة بطعام، فللمشتري بيعها بطعام إذا وصف ذلك. الرأي الثاني وهو لأشهب، ويقضي بعدم جواز البيع مرابحة في الصورة مدار البحث؛ لأن المسألة تؤول إلى بيع ما ليس عنده وهذا لا يجوز، مبرهنا على ذلك بقوله: إن البائع قد باع سلعته بطعام أو بعرض، وليس في ملك المشتري أحد منهما، فصار البائع كأنه اشترى من المشتري بسلعته ما ليس عند المشتري، فيصبح كأنه باع ما ليس عنده، وذلك غير جائز (5) .   (1) انظر البدائع 3197/7 وما بعدها (2) انظر البدائع 3197/7 وما بعدها (3) انظر البحر الزخار 379/4 (4) انظر230/4 (5) انظر المدونة 231/4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 749 الرأي المختار: من خلال عرضنا لرأي الفقهاء في هذه المسألة، يترجح لنا رأي المالكية؛ لأن الثمن المدفوع إذا كان نوعا من النقود فلا ضير من استبداله بنقد آخر. وإذا كان المدفوع عرضا وقد رضي الطرفان باعتباره ثمنا، فلا بأس في ذلك أيضا؛ لأن المحذور التدليس على المشتري وهذا ينتفي عند بيان الأمر له ورضاه به. حكم الزيادة والحطيطة في ثمن المبيع: لو أراد المشتري أن يزيد في ثمن السلعة المباعة، أو أراد البائع أن يحط من ثمنها شيئا، فإذا بيعت تلك السلعة مرابحة، فهل تعتبر الزيادة والحطيطة من الثمن، أم الثمن هو ما اتفق عليه أولا؟ الجواب على هذا: إن الزيادة والحطيطة إذا وقعت في مدة الخيار، لحقت بالعقد؛ لأن الثمن غير مستقر زمن الخيار، فإذا ما انتهى الخيار لزم العقد واستقر الثمن. أما لو وقعت الزيادة أو الحطيطة بعد إبرام العقد ولزومه، فقد اختلف الفقهاء على رأيين: 1- ذهب أصحاب الرأي الأول إلى القول: بأن الحط أو الزيادة كما تلحق بأصل الثمن في مدة الخيار كذلك تلحق به بعد مضيه؛ لأن كلا منهما يلحق بأصل العقد، فيصير التقدير كأن التعاقد قد تم على أصل الثمن مع الزيادة جميعا، فتصبح الزيادة والأصل رأس مال المبيع، لوجوبهما بالعقد تقديرا، فيباع المبيع مرابحة عليهما، وكذلك يعتبر الباقي بعد الحط رأس مال المبيع أيضا. هذه وجه نظر الحنفية (1) ، ورواية عن الحنابلة (2) ، وبه قالت الزيدية أيضا (3) ، وهذا كما يبدو لي رأي المالكية، بناء على قولهم: بأن اللاحق للبيع كالواقع فيه (4) . 2- ذهب الحنابلة في رأيهم الثاني إلى عدم إلحاق الزيادة في الثمن أو الحط منه بأصل العقد بعد لزومه؛ لأنها تعتبر من قبيل الهبة أو الإبراء، لا العوض، هذا هو رأي المذهب عندهم وعليه أصحابهم (5) وهذه وجهة نظر الشافعية (6) ، والإمامية أيضا (7) . والرأي الأخير هو الراجح عندي، لما قالوه من أن الزيادة أو الحط في هذه الحالة تعتبر من قبيل الهبة أو الإبراء؛ ولأن الثمن يستقر بعد لزوم العقد، فلا تلحق به الزيادة أو الحطيطة بعد ذلك.   (1) انظر الكاساني في البدائع، 3198/7 (2) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 443/4 (3) انظر البحر الزخار 379/4 (4) انظر الشرح الكبير للدردير 165/3 (5) انظر ابن قدامة في المغني 137/4 (6) انظر مغني المحتاج 78/2 والشيرازي في المهذب 289/1 (7) انظر مفتاح الكرامة 491/4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 750 رأي الفقهاء في زيادة المبيع بسبب نمائه: إذا كانت الزيادة الحاصلة في المبيع عند المشتري بسبب طبيعي لا دخل للمشتري فيه كالسمن والكِبَر في الحيوان، فالمرابحة في مثل هذه الحالة تكون على الثمن الأول للمبيع، ولا يحق للمشتري أن يزيد في الثمن؛ لأنه القدر الذي تم شراء السلعة به من البائع الأول. أما لو كان النماء منفصلا وأراد البائع أخذه فللفقهاء رأيان في المسألة عندئذ: 1- ذهب أصحاب الرأي الأول إلى القول: بأنه يجوز للمشترى بيع المبيع مرابحة برأس ماله الأصلي دون أن يشترطوا عليه بيان الحال للمشتري الجديد، حجتهم في ذلك ما يأتي: أ- أن البائع – المشتري الأول – صادق فيما أخبر به دون أن يغرر بالمشتري الثاني، فجاز له السكوت عن أخذ النماء كما لو لم يزد على رأس المال شيئًا. ب- أن ولد الحيوان أو ثمرة الشجرة كل ذلك نماء منفصل عن الأصل فلم يمنع من بيع المبيع مرابحة دون الإشارة إليه كالغلة، كما أنه ليس من موجبات العقد. ج- أن العقد لم يتناول تلك الفائدة كي نلزم البائع ببيانها للمشتري. هذا هو الصحيح في مذهب الحنابلة (1) وبه قالت الشافعية أيضا (2) . وإلى هذا ذهب الإمامية، حجتهم في ذلك: أن النماء عبارة عن فائدة تجددت في ملك المشترى (3) وهذه وجهة نظر الزيدية أيضا (4) .   (1) انظر الانصاف 433/4 وكذا المغنى 137/4 (2) انظر الشيرازي في المهذب 289/1 (3) انظر مفتاح الكرامة شرح قواعد العلامة490/4 (4) البحر الزخار 4/378 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 751 2- اشترط أصحاب الرأي الثاني على البائع في حالة أخذه نماء البيع المنفصل، بيان ذلك للمشترى عند التعاقد، معللين ذلك بقولهم: أ- إن الزيادة الحاصلة من المبيع تعتبر من جملته أيضا، برهان ذلك، أنها تمنع رده بالعيب وإن لم يكن لها حصة من الثمن للحال، فإن لم يوضح البائع ذلك للمشتري، يصبح بمثابة حبسه بعض المبيع وبيعه الباقي، فلا يجوز له من غير بيان (1) . ب- إن استغلال المشترى للمبيع، دليل على تأخره عنده، مما يجعله عرضة لانخفاض قيمته التي تتأثر باختلاف السوق بين الحين والآخر، فبيعه مرابحة من دون توضيح ذلك المشتري، فيه شيء من الغرر، والمرابحة مبنية على الأمانة وعدم الغرر (2) . هذا ما قاله الأحناف (3) ، والمالكية (4) ، ووجه عند الحنابلة (5) . مناقشة وترجيح: إن القول بصدق البائع مع سكوته عن أخذ النماء غير مسلم، لأن النماء فرع عن المبيع، فالمفروض في البائع عند بيعه الأصل وإبقاء الفرع عنده، أن يوضح ذلك للمشتري، لأن المرابحة ليست بيعًا كسائر البيوع من هذه الجهة، فإن الأمانة تفرض على العاقد فيها عدم إخفاء ما فيه أدنى صلة بالمبيع عند بيعه، تحرزًا عن شبهة الخيانة. لذا يكون الرأي الثاني هو المرجح عندي، والله أعلم.   (1) بدائع الصنائع 7/3201 (2) انظر المدونة 4/228 (3) بدائع الصنائع (4) انظر المدونة في 4/228 (5) انظر المرداوي في المصدر السابق: " الإنصاف" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 752 حكم ما لو استغل المشتري المبيع: إن كلامنا عن النماء المنفصل عن المبيع وجواز أخذه من قبل المشتري الذي يعتبر بائعًا في العقد الجديد دون بيان ذلك أو عدم جوازه، دعانا للخوض فيما أثاره الفقهاء بخصوص استغلال المبيع، وذلك كأن تكون العين المتعاقد عليها دارًا فأجرها المشتري أو سكنها فترة من الزمن، أو دابة فكراها للغير أو شاة حلوبًا فاستفاد من لبنها مدة بقائها عنده، فهل يجوز والحالة هذه بيع تلك العين مرابحة دون بيان ما استفاده المشتري منها أم لا؟ الجواب على ذلك: إن الشيء المستفاد من العين المبيعة لا يخلو من أحد أمرين، لأنه إما أن يكون موجودًا أثناء العقد الأول أم لا، فإن كان موجودًا في العقد الأول وذلك كالصوف فوق ظهر الحيوان أو اللبن الموجود في ضرعه، ففي هذه الحالة إذا استغل المشتري المبيع، فالواجب يقضي عليه بيان ذلك للعاقد الجديد، لأن المبيع قد تغير بعد ذلك إلى حالة أنقص من الحالة الأولى، ولما كانت المرابحة مبنية على الأمانة ونفي التغرير بالمشتري والتدليس عليه، وجب توضيح ذلك له. هذا ما ذهب إليه الحنابلة (1) والحنفية (2) والمالكية، (3) وقد ذهب الشافعية إلى أكثر من هذا، حيث ألزموا البائع في هذه الحالة أن يحط من ثمن المبيع بقدر قيمة ما استفاد منه، حجتهم في ذلك: أن العقد الأول قد تناول هذه الغلة وقابله قسط من الثمن، فوجب إسقاط ما قابله، (4) وهذه وجهة نظر الإمامية (5) وبه قالت الزيدية أيضًا (6) أما لو كان المستغل من المبيع قد حصل في ملك المشتري، فلا يحط مقابل ذلك شيئًا من الثمن ولا يجب على البائع إطلاع المشتري على الشيء الذي استفاده من المبيع، دليل ذلك هو: 1- إن الزيادة التي لم تتولد من المبيع لا تعتبر مبيعة، وعلى هذا جاز للمشتري رد المبيع إذا اطلع على عيب فيه. 2- إن المشتري في حالة بيعه المبيع بعد استغلاله لم يكن حابسًا لجزء منه كي نشترط عليه بيان ذلك. (7) 3- إن العقد الأول لم يتناول الزيادة الطارئة، فلا يشترط بيانها في العقد الجديد (8) 4- إن الغلة المستفادة من المبيع، يقابلها ضمان المستفيد. (9) هذه وجهة نظر الحنفية (10) والشافعية (11) والصحيح من مذهب الحنابلة، (12) وبه قالت الإمامية (13) والزيدية. (14) أما المالكية فقد فرقوا بين ما إذا كانت مدة الاستفادة قصيرة أو طويلة، فإن كانت المدة قصيرة فالرأي عندهم مثل ما قاله الآخرون في عدم اشتراط بيان الغلة المستفادة من المبيع، أما لو طالت المدة فالواجب على البائع بيان ذلك للمشتري، معللين ذلك، بأن سعر المبيع يختلف في هذه الحالة لاختلاف الأسواق، لذا ينبغي توضيح الأمر للعاقد الجديد. (15)   (1) انظر ابن قدامة في المغني 4/138 (2) البدائع7/3201 (3) المدونة 4/228 وانظر الخرشي 5/176 (4) المهذب 1/289 (5) مفتاح الكرامة 4/490 (6) البحر الزخار 4/378 (7) البدائع 7/3201 (8) المهذب 1/289 (9) الخرشي 5/178 (10) البدائع 7/3201 (11) المهذب 1/289 (12) الإنصاف 4/443 وانظر ابن قدامة في المغني 4/137 (13) مفتاح الكرامة 4/490 (14) البحر الزخار 4/378 (15) المدونة 4/228 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 753 رأينا فيما قاله المالكية: لا أرى موجبًا للتفريق بين طول المدة أو قصرها، فبالإضافة إلى ما ذكره غيرهم من أدلة، فإن اختلاف السعر أمر غير خاف على العاقد الجديد، وكل ما هو مطلوب من البائع في بيع المرابحة، أن يكون صادقًا في قوله غير مغرر ولا مدلس على المشتري، فحينما تكون الفائدة قد حدثت عنده وقد استغلها مدة طويلة بعد دخول المبيع في ملكه أو قصيرة يكون بمنأى عن ذلك، فعليه لا أرى موجبًا لبيان الغلة من قبل البائع عند دخوله في عقد مرابحة مع الغير. حكم ما لو أضاف المشتري على المبيع شيئًا من ماله: لو فرض أن المبيع بعد دخوله في ملك المشتري طرأ عليه تغيير بسبب من المشتري وذلك كأن يكون قماشًا فصبغه أو دارًا فرممها، ففي مثل هذه الحالة إما أن تكون الزيادة المذكورة قد فعلها المشتري بنفسه أو أعطى عليها أجرة، ولكل حالة من هاتين الحالتين حكمها الخاص بها. حكم ما لو كانت الإضافة بدون أجرة: لو أن المشتري كان قد فعل الإضافة بنفسه أو تطوع له بها شخص، فلا يحق له أن يزيد في رأس مال المبيع الأصلي شيئًا إلا أن يوضح للعاقد الجديد ذلك بأن يقول له: بعتك هذا المبيع بكذا وأجرة عملي أو عمل المتطوع عني وهي كذا أو ربح كذا، وإذا أراد السكوت عنها، فليس له إلا إضافة قيمة الصبغ فقط أو ما أشبهه من عين أخرى. كما أن الأجرة لا تدخل في قول البائع، قام علي المبيع بكذا، لأن عمله وما تطوع له به، لم يقم عليه، وإنما الذي يبذله من ماله على المبيع هو ما قام عليه فقط، هذه وجهة نظر الحنفية، (1) والشافعية، (2) والحنابلة (3) وبه قالت الإمامية، (4) والزيدية أيضًا. (5) أما المالكية فقد وافقوا غيرهم في القول بعدم ضم أجرة عمله إلى ثمن المبيع في مثل هذه الحالة، إلا أنهم يختلفون معهم في ضم قيمة الصبغ إلى الثمن، حيث قالوا: بأن الصبغ المعني إما أن يكون من عند البائع أو لا، فإن كان من عنده، فإن قيمته لا تضم إلى رأس مال المبيع، وإلا حسبت منه. (6) وقول المالكية هذا أمر فيه نظر، إذ لا فرق بين قيمة العين المضافة إلى رأس مال المبيع بين أن تكون العين ملكًا للبائع فأضافها إلى المبيع أو اشتراها من الغير، لأنها عين ولا بد لها من قيمة.   (1) انظر المبسوط لشمس الدين السرخسي 13/82 (2) مغني المحتاج 2/78 (3) المغني 4/137 (4) قواعد العلامة 6/489 (5) البحر الزخار 4/377 (6) الشرح الكبير للدردير 3/160 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 754 حكم الزيادة المضافة على المبيع إذا كانت لقاء ثمن: اتفق الفقهاء على القول: بأن الزيادة التي أضافها المشتري على العين المشتراة وكان قد دفع عوضها مالًا، فإنها تحسب من رأس المال وتحسب لها نسبة من الربح أيضًا، دليلهم في ذلك ما يأتي: أ- إن عرف التجار معتبر في مثل هذه العقود، فما جرى العرف بإلحاقه برأس المال ألحق، وما لا فلا، ولما كان العرف يقضي بإلحاق مثل هذه الإضافة على أصل الثمن وجب القول به. ب- كل ما أثر في المبيع تزداد به ماليته صورة أو معنى، فللبائع أن يلحق ما أنفقه فيه برأس المال والصبغ أو الخياطة وصف في العين تزداد به المالية، لذا جاز إلحاقه بالثمن الأصلي. (1) إلا أنهم اختلفوا في القول بإلزام البائع بتوضيح ذلك للمشتري أو عدم إلزامه على قولين: الأول: إن البائع ملزم بتفصيل ذلك للمشتري، ولا فرق بين تفصيله إياه ابتداء أو يجمله ثم يفصله بعدئذ، أما لو أراد أن يجمل رأس المال الأصلي مع الإضافة، ويقول: قامت علي السلعة بكذا، فلا يجوز له ذلك، والأصل في العقد في مثل هذه الحالة الفساد، هذه وجهة نظر المالكية، (2) وهو رأي المذهب عند الحنابلة (3) وحكى ابن قدامة ذلك عن الحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب وطاوس وغيرهم من فقهاء السلف. (4) الثاني: أجاز فريق من العلماء للبائع في صورة البيع هذه، أن يقول: قام علي المبيع بكذا، إلا أنه لا يجوز له أن يقول: اشتريته بكذا، لئلا يكون كاذبًا في قوله، إذ القيام عبارة عن الحصول بما غرمه البائع، ولا شك بأنه عندما زاد في المبيع شيئًا جديدًا، قد غرم فيه ثمن الزيادة، هذا ما ذهب إليه الحنفية (5) وبهذا قال الشافعية أيضًا (6) ووجه عند الحنابلة، (7) وحكى صاحب القواعد مثل ذلك عن الإمامية، (8) وهذه وجهة نظر الزيدية أيضًا. (9) وما ذهب إليه أصحاب الرأي الثاني هو المختار لما ذكره من تدليل، ولأن البائع صادق في قوله: قام على المبيع بكذا. والعقد في مثل هذه الصورة تتوفر فيه الأمانة.   (1) المبسوط 13/80 (2) الدردير في الشرح الكبير ص 163 (3) المغني 4/137 (4) المغني 4/137 (5) شرح العناية على الهداية وكذا فتح القدير 5/255 (6) مغني المحتاج 2/78 (7) الإنصاف 4/444 (8) انظر 6/489 (9) البحر الزخار 4/377 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 755 هل تضاف نفقات المبيع على رأس المال: ذكرنا فيما مضى رأي الفقهاء في الإضافة التي تدخل على المبيع فتغير صورته كالصبغ والخياطة وما شابه ذلك، ونقف الآن على وجهة نظرهم عندما تكون الزيادة على المبيع، مقابل نقله وتحويله من مكان إلى مكان، أو يكون المبيع قطيعًا من الغنم فيدفع البائع أجرة رعيه، أو مكيلًا وموزونًا يحتاج إلى دار لخزنه، أو أجرة حراسة للحارس الذي يحرسه ونحو ذلك. فالقول عند الفقهاء هو أن ما أنفقه التاجر على نفسه بسبب شرائه المبيع، لا تحسب نفقته من رأس المال، حجتهم في هذا هي: أ- انعدام العرف في إضافة مثل هذه النفقات على رأس مال المبيع ظاهرًا. ب- إن ما أنفقه التاجر على نفسه لا تزداد به مالية المبيع صورة ولا معنى، لهذا لا تحسب نفقاته من جملة رأس مال المبيع. (1) أما ما عدا ذلك من النفقات التي تم صرفها على المبيع، فلا يخلو الأمر من أحد شيئين، أحدهما: أن يوضح البائع تلك النفقات للمشتري، ويشترط عليه ضمها إلى رأس مال المبيع، فيرضى الأخير بذلك، فيرابحه على ثمن المبيع مع زيادة تلك النفقات فهذا جائز والآخر أن يجمل القول، فيقول قام علي المبيع بكذا، وللفقهاء كلام فيما يجوز ضمه من النفقات وفيما لا يجوز عندئذ، نوجز القول فيه كما يأتي: أولًا- الشافعية قالوا: تدخل في قول البائع قام المبيع علي بكذا، أجرة الكيال للثمن المكيل وأجرة الدلال والحارس وأجرة المكان والطبيب إذا اشترى المبيع مريضًا، وأجرة تطيين الدار والعلف المقصود به التسمين، واستثنوا من ذلك المؤن المقصود بها بقاء المبيع كعلف الحيوان المعتاد وأجرة الطبيب إذا حدث بالمبيع مرض عند البائع، فلا تضاف النفقة على رأس المال في مثل هذه الحالة. واشترط الشافعية في مثل هذا البيع، على المتبايعين بثمن المبيع عند قول البائع للمشتري: بعتك المبيع بما قام علي دون تفصيل، ولو جهل أحدهما الثمن، ففي صحة البيع وعدمه عندهم ثلاثة أراء، الصحيح في المذهب بطلان البيع لجهالة الثمن، والثاني صحته لسهولة معرفة الثمن، ولأن الثمن الثاني مبني على الأول. والقول الثالث هو: إن علم المشتري الثاني بمقدار الثمن في المجلس، فالبيع صحيح، وإلا فلا. (2)   (1) انظر المدونة 4/226، المبسوط 13/80وما بعدها (2) انظر الشربيني في مغني المحتاج 78/2 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 756 ثانيًا: الحنفية: وقد جاء رأيهم موافقًا مع رأي الشافعية في ضم أجرة حمل المبيع ونقله من مكان إلى مكان إلى رأس المال، وكذا أجرة الدلال وتطيين الدار، ومثله أجرة سوق الغنم، واتفقوا معهم أيضًا على عدم ضم أجرة الطبيب ومثله مروض الحيوان والبيطار. إلا أنهم اختلفوا معهم في ضم كراء البيت لحفظ المبيع، فإنهم لا يقولون بضمه إلى الثمن، بحجة أن ذلك لا يزيد في العين ولا في القيمة، ومثل ذلك عندهم في الحكم أجرة الراعي، كما أنهم يختلفون مع الشافعية في قيمة علف الحيوان، فالحنفية أجازوا ضمها إلى رأس المال إلا أن تعود على البائع منفعة من الحيوان كاللبن والصوف والسمن، فعند ذلك يسقط ما قابله من المؤنة وينضم ما زاد. (1) ثالثًا: المالكية: وافقوا غيرهم في القول: بضم أجرة حمولة المبيع وما معها ونحوهما كأجرة شده وطيه إلى أصل الثمن إذا كان العرف والعادة يقضيان بأن يستأجر عليهما. واشترط اللخمي أن تزيد أجرة النقل في ثمن المبيع بأن يكون النقل من بلد أرخص إلى بلد أغلى، ولو أن سعر البلدين سواء فلا تحسب الأجرة عنده. كما أنهم وافقوا الأحناف في ضم قيمة علف الحيوان إلى ثمنه الأصلي، ووافقوا غيرهم في القول أيضًا بضم أجرة الدلال إلى رأس مال المبيع إذا تولى بيعه، إلا أن المالكية يقولون بضم ما دفعه البائع من الأجور المذكورة إلى أصل الثمن دون أن يحسب في مقابل ذلك شيء من الربح، بمعنى أن المرابحة تكون على الثمن الأول دون أن تدخل الزيادة الطارئة عليه. (2)   (1) السرخسي في المبسوط 83/13 وانظر فتح القدير 255/5 (2) انظر المدونة 226/4، الخرشي 173/5 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 757 رابعًا- الحنابلة: والذي عليه مذهبهم أن ما أنفقه البائع على المبيع لا يدخل في قوله: تحصل أو قام علي بكذا، إلا أن يبين ذلك للمشتري، قالوا ويحتمل إدخالها في رأس المال. (1) خامسًا- الإمامية والزيدية وقد جاء رأيهم موافقًا لما قاله الشافعية. (2) الرأي المختار: بعد هذا العرض لآراء الفقهاء بخصوص نفقة المبيع التي تدخل في ثمنه والتي لا تدخل يمكننا القول بأنه اتفقوا على إلحاق أكثر المؤن برأس المال، إلا أن خلافهم انصب على المؤن التي يقصد بها بقاء المبيع كعلف الحيوان مثلًا، حيث اختلفوا فيه على قولين كما رأينا. كما أن المالكية انفردوا بالقول كما يظهر لي من النصوص الفقهية بجعل الربح في مقابل أصل الثمن فقط. والذي أرجحه هو إلحاق جميع ما أنفقه المشتري من مال على المبيع برأس ماله الأصلي، إذ لا أرى مبررًا للتفريق بين نفقة وأخرى، فالمشتري قد قام بدفع أجور تلك النفقات من ماله الخاص زائدًا على الثمن الأول، فلم لا نعتبر تلك الزيادة جزءًا من رأس المال؟ كما أني أؤيد وجهة نظر الجمهور بجعل المرابحة على رأس المال الأخير، أي الثمن الأول زائدًا قيمة المؤن، لأن الكل صار بمثابة رأس مال واحد للمبيع.   (1) انظر الإنصاف 4/444 (2) انظر قواعد العلامة 489/4 البحر الزخار 377/4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 758 المرابحة في هذه الحالة، والعلة في ذلك هي: إن المرابحة كما قلنا، بيع بمثل الثمن الأول، فإن لم يكن الثمن الأول مثل جنس الثمن الأخير، فإما أن يقع المبيع الجديد على عرض آخر غير ذلك العرض، وإما أن يقع على قيمته، والبيع لا يصح في كلا الحالتين، فكونه لا يصح في الحالة الأولى، لأنه قد وقع على عرض لا تعود ملكيته للمالك وليس داخلًا تحت يده، كما أنه لا يصح على القيمة أيضًا لجهالتها، حيث أنه تعرف بالحزر والظن لاختلاف المقومين فيها. وأما لو أريد بيع العرض مرابحة بعرض في حوزة مالكه، فينظر: إن جعل الربح شيئًا منفصلًا عن رأس المال معلومًا، فذلك جائز، وذلك كبيع ثوب بثوب وربح درهم أو درهمين، وسبب الجواز هو: أن الثمن الأول معلوم والربح معلوم. أما لو جعل الربح جزءًا من رأس المال، فلا يجوز وصورة البيع في مثل هذه الحالة، أن يعتمد الثمن الأول في البيع الجديد، فيقول البائع للمشتري: بعتك هذا العرض الذي في يدي مقابل العرض الذي بحوزتك على أن يكون الربح دينارًا من كل عشرة دنانير من قيمة عرضي المبيع، وعلة المنع في مثل هذه الصورة، هي أن الربح أصبح جزءًا من العرض، والعرض ليس متماثل الأجزاء، وإنما يعرف بطريق التقويم والقيمة مجهولة أثناء التعاقد، لأن معرفتها بالحزر والظن، فلا تصح المرابحة في هذه الحالة. هذا ما فصله الأحناف في كتبهم. (1) وفي كتب المالكية ما يؤيد هذا أيضًا. (2)   (1) انظر الكاساني في البدائع 3195/7 (2) انظر الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 16/3، الخرشي 172/5 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 759 شروط رأس المال: بعد هذا العرض لرأي الفقهاء فيما يعتبر من الثمن وما لا يعتبر منه، نقف الآن على ما اشترطوه من شروط في رأس المال من أجل تصحيح العقد، والشروط هي: 1- أن يكون معلومًا لدى طرفي العقد، وذلك لأن المرابحة كما ذكرنا عبارة عن بيع بالثمن الأول مع زيادة ربح، والعلم بالثمن الأول شرط لصحة البيوع كلها لما علم من أن الجهالة به تؤول إلى المنازعة، والمنازعة تفسد العقد. فإن لم يكن معلومًا للمشتري، فالبيع فاسد إلى حين معرفته له في المجلس، فيخير بين إمضاء العقد أو إبطاله. ووجه فساده في الحال، هو جهالة الثمن، لأن الثمن في الحال مجهول. وأما إعطاء المشتري حق الخيار، فلوجود الخلل في الرضا، لأن الإنسان قد يرضى بشراء شيء يسير الثمن، إلا أنه لا يرضى بشرائه بالكثير، فلا يتكامل الرضا إلا بعد معرفة مقدار الثمن، فإذا لم تتحقق المعرفة عنده، اختل رضاه، واختلال الرضا يوجب الخيار. (1) ولو أن المتعاقدين تركا المجلس من غير علم برأس المال، فالعقد باطل لتقرر الفساد. 2- أن يكون رأس المال من ذوات الأمثال، أن مما له مثل وذلك كالمكيلات الموزونات والعدديات المتقاربة، فإن كان من هذا القبيل، فبيعه مرابحة جائز على الثمن الأول، سواء جعل الربح من جنس رأس المال أو من خلاف جنسه، بعد أن صار الثمن الأول معلومًا والربح معلومًا. ولو كان الثمن الأول للمبيع عرضًا من العروض القيمية كالثياب والدواب والبط وما أشبه ذلك، وأراد مالكه بيعه مرابحة بعرض مماثل، فلا يخلو الأمر من أن يوجد العرض المماثل في يد المشتري الثاني أم لا، فإن لم يكن العرض في حوزة صاحبه، فلا تصح.   (1) انظر بدائع الصنائع 193/7، ابن قدامة في المغني 136/4 مفتاح الكرامة 486/4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 760 3- أن لا يكون الثمن في العقد الأول من الأموال الربوية، وقد بودل بجنسه مثلًا بمثل، ومعنى هذا الشرط هو: أن الثمن الأول للمبيع المراد بيعه مرابحة إذا كان من الأموال الربوية، فلا يخلو من أن مالكه كان قد اشتراه بجنسه مثلًا بمثل أم لا، فإن اشتراه بخلاف جنسه، فلا بأس من بيعه مرابحة. مثال ذلك: لو أن رجلًا اشترى مثقالًا من الذهب بعشرة دراهم من الفضة، جاز له بيعه مرابحة بأحد عشر درهمًا أو بعشرة دراهم وقطعة قماش مثلًا، لعدم تحقق الربا في مثل هذه الحالة، ولو اشتراه بجنسه مثلًا بمثل، فلا يجوز له بيعه مرابحة، كما لو كان المشتري في المثال المذكور اشترى مثقال الذهب بذهب مثله أيضًا، وعلة المنع هي: أن المرابحة كما ذكرنا عبارة عن بيع بالثمن الأول وزيادة، والزيادة في الأموال الربوية تعتبر ربا لا ربحًا. (1) 4- ومن الشروط التي لها صلة بالثمن ما ذكره فقهاء الحنفية من أنه يشترط لصحة المرابحة كون العقد الأول صحيحًا، فإذا كان فاسدًا، فلا تصح، والسبب في ذلك هو: أن البيع الفاسد وإن كان يفيد الملك، إلا أن المشتري يملك المبيع بقيمته أو بمثله لا بثمنه لفساد التسمية، وبما أن الثمن الأول للمبيع هو المعتبر في بيع المرابحة، فإذا فسدت تسميته فلا يمكن اعتباره، فعليه لا تصح المرابحة في هذه الحالة. (2)   (1) انظر البدائع 3196/7 (2) انظر البدائع 3197/7 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 761 شروط الربح: يشترط في الربح عند إبرام عقد المرابحة أن يكون معلومًا، لأنه جزء من الثمن، والعلم بالثمن شرط في صحة البيوع كلها. أحكام المرابحة: للمرابحة أحكام متعددة، منها ما يظهر قبل إنشاء العقد ومنها ما يتأخر ظهوره لحين إبرام العقد، وسأقتصر في هذا البحث على أهم الأحكام التي ذكرها الفقهاء في موضوع المرابحة، مبتدئًا الكلام عن الأحكام التي تظهر قبل إنشاء العقد. حكم ما لو حدث بالسلعة المراد بيعها مرابحة عيب: إذا حدث بالسلعة عيب في يد البائع أو في يد المشتري، فأراد بيع تلك السلعة المعيبة مرابحة، فإن كان العيب قد حدث بفعله أو بفعل أجنبي، لم يجز له بيع المبيع مرابحة حتى يبين للطرف المتعاقد معه العيب، وهذا محل وفاق بين فقهاء المسلمين رحمهم الله. أما لو حدث العيب بآفة سماوية، فقد اختلف الفقهاء في اشتراط بيان ذلك أو دعم اشتراطه على قولين: أولًا: ذهب الجمهور إلى اشتراط بيان حدوث العيب للمشتري الثاني: مدللين على رأيهم هذا بما يلي: أ- أن البيع مع السكوت على العيب لا يخلو من شبهة الخيانة، لأن المشتري الثاني لو علم بحدوث العيب في يد المشتري الأول، لما أربحه على السلعة شيئًا. ب- أن المشتري الأول عند بيعه المبيع بعد حدوث العيب عنده، قد احتبس جزءًا منه، فلا يملك بيع الباقي من غير بيان العيب، وصار كما لو احتبس بفعله أو بفعل أجنبي. جـ- أن المبيع السليم غير المعيب، فالغرض يختلف من حالة لأخرى. هذه وجهة نظر نفر من الحنفية، (1) وبه قالت الحنابلة (2) والشافعية (3) والمالكية (4) وإلى هذا ذهبت الزيدية، وذلك كما قالوا: للخروج عن التهمة المنهي عنها (5) وهو رأي الإمامية أيضًا (6) ثانيًا: ذهب الحنفية ما عدا زفر إلى القول: بأن المبيع إذا أصابه عيب بآفة سماوية، فللبائع أن يبيعه مرابحة بجميع الثمن دون أن يشترطوا عليه إيضاح العيب للمشتري، حجتهم في هذا هي: أن الفائت من المبيع جزء لا يقابله ثمن، لأنه وصف، بدليل أنه لو فات بعد التعاقد عليه قبل أن يحوزه المشتري، لا يسقط بحصته شيء من الثمن، لهذا فإن بيانه والسكوت عنه بمنزلة واحدة، وما يقابله من الثمن قائم بجميع أجزاءه، فللبائع بيع المعيب مرابحة في هذه الحالة دون أن يشترط عليه بيان العيب، لأنه يكون بائعًا ما بقي من المبيع بعد العيب بجميع الثمن. والفرق عند الحنفية بين حدوث العيب بآفة سماوية وبين حدوثه بفعل يد إنسان هو: أن الفائت من المبيع في الحالة الأخيرة أصبح مقصودًا بالفعل وصار مقابله ثمن، فيكون المشتري قد حبس جزءًا من المبيع يقابله شيء من الثمن، فلا يملك بيع الباقي مرابحة دون العيب. (7)   (1) انظر الكاساني في البدائع (2) انظر المغني 138/4 (3) انظر مغني المحتاج 79/2 (4) انظر المدونة 228/4 وكذا الشرح الكبير 164/3 (5) انظر البحر الزخار 379/4 (6) انظر مفتاح الكرامة 491/4 (7) انظر تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 78/4، البدائع7/3201 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 762 الرأي الراجح: والذي يترجح عندي هو رأي الجمهور لما ذكروه من أدلة، ولأن اطلاع المشتري الثاني على العيب، فيه خروج عن التهمة كما ذكر الزيدية. حكم شراء العرض بالنسيئة وبيعه مرابحة: إذا كان المبيع المراد بيعه مرابحة كان قد اشتراه المشتري نسيئة، فإذا أراد بيعه مرابحة لشخص آخر، لا بد من بيان ذلك له، لأن للأجل شبهة المبيع، بمعنى أنه يعتبر جزءا من المبيع وإن لم يكن في الحقيقة مبيعًا، لأنه مرغوب فيه بدليل، أن ثمن البضاعة قد يزداد في حالة تأجيله، فكان للأجل شبهة أن يقابله شيء من الثمن فيصير بمثابة ما لو اشترى شيئين، ثم باع أحدهما مرابحة على ثمن الجميع، وإذا علمنا بأن الشبهة ملحقة بالحقيقة في هذا الباب وجب التحرز عنها، وذلك عن طريق الإيضاح. (1) حكم شراء العرض مقابل دين: ولو أن المبيع اشتراه صاحبه مقابل دين له على شخص، فلا يخلو الأمر من أن يكون العرض المأخوذ قد أخذه المشتري من الطرف الآخر صلحًا أم لا، فإن كان قد اشتري بطريق المساومة لا الصلح، جاز لصاحبه بيعه مرابحة دون أن يشترط عليه بيان ذلك للعاقد الجديد، أما لو أخذه صلحًا عن دين كان له على إنسان، فلا يجوز له بيعه مرابحة قبل إيضاحه للطرف الذي يروم التعاقد معه. ووجه الفرق بين إلزام المشتري بتوضيح ذلك في حالة الصلح دون الشراء، هو: 1- إن الصلح مبناه على الحط والتجوز بدون الحق، فلا بد من بيان ذلك للمقابل، ليتأكد له ما إذا كان المشتري متساهلًا مع من تصالح معه أم لا، فيقع التحرز عن التهمة، بينما مبني الشراء على المضايقة والمماكسة، فلا حاجة إلى البيان.   (1) انظر ابن قدامة في المغني 139/4، مغني المحتاج 79/2، المدونة 229/4، البدائع 3202/7 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 763 2- إن الخيانة لا يمكن تصورها في حالة الشراء، لأن الشراء لا يقع بذلك الدين بعينه، بل بمثله "وهو أن يجب على المشتري مثل ما في ذمة المديون فيلتقيان قصاصًا لعدم الفائدة". والدليل على هذا: أن المشتري لو تعاقد مع البائع المديون على حاجة ما، ثم تصادقا على أنه لا دين على الأخير، لم يبطل الشراء، ولو فرض أن الشراء قد وقع بذلك الدين بعينه، لبطل، ولما لم يقع الشراء بالدين بعينه، فلا تتقدر الخيانة، وصار كما لو اشترى أي عرض ابتداء، فكما لا يشترط البيان فيه، كذلك الحال في مسألتنا. بخلاف الصلح فإنه يقع بما في الذمة على البدل المذكور، بدليل أن المتصالحين لو تصادقا بعد عقد الصلاح على أنه لا دين في ذمة المتصالح معه، فالصلح يبطل، لاحتماله تهمة المسامحة والتجوز بدون الحق، لذلك وجب على البائع في هذه الحالة إيضاح الأمر للمقابل تحرزًا عن الخيانة (1) . هذا ما ذكره الأحناف في كتبهم، وينبغي أن يكون قول الفقهاء الآخرين مثل هذا، لما ذكره الأحناف من تعليل. أحكام المرابحة بعد العقد: قلنا قبل قليل، بأن الأحكام في المرابحة منها ما يظهر قبل إبرام العقد، ومنها ما يتأخر لحين إبرامه، وقد بينا فيما سبق الأحكام التي تسبق العقد، ونقف الآن على أهم الأحكام التي تليه.   (1) انظر الكاساني وابن نجيم في المصدرين السابقين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 764 حكم الخيانة في المرابحة – الخيانة في قدر الثمن: إذا قال البائع للمشتري: اشتريت هذا المبيع بمائة دينا وبعتك إياه بربح كذا، ثم ظهر أنه قد اشتره بتسعين، فالمبيع في هذه الحالة لا يخلو من أحد أمرين، إذ أنه إما أن يكون قائمًا في يد المشتري ولم يحدث به ما يمنع الفسخ أو لا، بأن يكون المشتري قد استهلك المبيع أو هلك بنفسه أو أحدث به ما يمنع الفسخ، فإن كان مما تنطبق عليه الحالة الثانية، فلا خيار للمشتري ويلزمه جميع الثمن، لأن المبيع إذا لم يكن بحالة تصلح لفسخ العقد، لم يكن في ثبوت الخيار فائدة، فيسقط كما هو الحال بالنسبة لخيار الرؤية والشرط (1) . وإن كان المبيع بحال يصلح للفسخ، فقد اختلف الفقهاء في حكم المبيع في هذه الحالة، وذلك على النحو الآتي: أولا: ذهب بعضهم إلى القول: بأنه يحط قدر الزيادة التي ظهرت في الثمن وما يقابله من الربح، دليل هذا الرأي هو: أ- أن تمليك المشتري للمبيع قد تم باعتماد الثمن الأول، فتخصم الزيادة عنه كما في الشفعة إذا أخذها الشفيع بما أخبر به المشتري ثم أطلع على حقيقة الثمن، فإنه يأخذها بالثمن الأصلي، وكأن العقد لم يبرم إلا بما بقي من الثمن. ب- أن الثمن الأول الذي سمي في العقد أصل في بيع المرابحة، فإذا ظهرت الخيانة، تبين أن التسمية قدر الخيانة غير صحيحة، فألغيت وبقي العقد لازما بالثمن الباقي. ج- قاس أصحاب هذا الرأي المسألة المذكورة على المبيع إذا ظهر به عيب، فإن المشتري له الرجوع على البائع بمقدار ما يقابل العيب من الثمن، وكذلك الحال فيما لو اطلع المشتري على خيانة في المرابحة بعد العقد، هذا هو القول الأظهر عند الشافعية (2) ، وبه قال الحنابلة (3) ، وأبو يوسف من الحنفية (4) . ثانيا: القول عند أبي حنيفة ومحمد بن الحسن هو: أنه لا يحط شيء من الثمن وأن المشتري بالخيار إن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن وإن شاء ترك، ووجه قولهما كما ذكره الكاساني هو: أ- أن المشتري قد رضي بإبرام العقد بعد معرفته لثمن المبيع وتصديقه البائع بمقداره، فإذا ظهر له خلاف ذلك، فلا يلزم بدونه، ويثبت له الخيار لفوات وصف السلامة عن الخيانة، كما ثبت له فيما لو فاتت السلامة عن العيب إذا ظهر بالمبيع عيب. ب- إن الخيانة في المرابحة لا تخرج العقد عن كونه مرابحة، لأنها عبارة عن بيع بالثمن الأول مع زيادة ربح، وهذا موجود بعد الخيانة، لأن بعض الثمن رأس مال وبعضه ربح، فينطبق التعريف على البيع، وكل الذي حصل هو أن الثمن المذكور في العقد ليس بالثمن الأصلي للمبيع مما أحدث خللًا في رضا المشتري، فيثبت له الخيار كما لو ظهرت الخيانة في صفة الثمن بأن كان نسيئة ونحو ذلك (5) . وإلى هذا ذهب الشافعية في القول الثاني، معللين ذلك، بأن المشتري قد سمى العوض في العقد وقد تم الاتفاق على هذا الأساس، والبيع صحيح على القولين عندهم، لأن تغرير البائع بالمشتري لا يمنع الصحة كما لو كان باعه شيئا معيبا (6) . وبمثل هذا قال المالكية أيضا إلا أنهم انفردوا بالقول: بأن البائع لو حط ما كذب به من زيادة الثمن وربحه، فالبيع يلزم المشتري وإلا فله الخيار (7) .   (1) انظر البدائع 3207/7، المدونة 237/ 4 (2) انظر مغني المحتاج 79/2 (3) ابن قدامة في المغني 136/4 (4) انظر الكاساني في البدائع 3209/7 (5) انظر الكاساني في البدائع 3209/7 (6) الخطيب الشربيني مغني المحتاج 2/79 (7) انظر الخرشي 179/5 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 765 خلاف فرعي بين أصحاب الرأي الأول: بعد أن اتفق الفريق الأول من الفقهاء، على حط قدر الخيانة من ثمن البيع في المسألة المذكورة آنفا، اختلفوا في القول، بإعطاء حق خيار فسخ العقد للبائع والمشترى أو سلبه منهما في مثل هذه الحالة. 1- القول الأظهر عند الشافعية بناء على حط قدر الخيانة من الثمن، أنه لا خيار لأي عاقد منهما، وذلك للأسباب التالية: أ- أما المشتري فلأنه قد رضي بالأكثر ثمنًا، فلأن يرضى بالأقل بعد الحط يكون من باب أولى. ب- أما البائع فلتدليسه ولأنه باع المبيع برأس ماله الأصلي وحصته من الربح، وقد حصل له ذلك فعلا. جـ- إن المسألة هنا تشبه ما لو اشترى رجل شيئا على أنه معيب فبان سليما أو وكل في شراء عرض معين بمائة دينار مثلا فاشتراه بتسعين، فكما لا خيار للمشتري في مثل هذه الحالة، كذلك الحال هنا أيضا (1) . وهذا هو ظاهر كلام الخرقي من الحنابلة أيضا (2) . وبمثل هذا قال أبو يوسف من الحنيفة (3) . 2- نص الحنابلة في كتبهم على أن المشتري بعد طرح الزيادة من الثمن، يخير بين أخذ المبيع برأس ماله الأصلي وحصته من الربح، وبين تركه، حكى ذلك ابن قدامة عن الإمام أحمد، دليل هذا الرأي هو: أ- أن المشتري بعد إطلاعه على خيانة البائع قد لا يأمن الجناية في هذه الثمن أيضا. ب – من المحتمل أن يكون للمشتري غرض في الشراء بذلك الثمن بعينه، إما لكونه حالفا على الشراء بمثل هذه الثمن أو ربما يكون وكيلا في ذلك أو غير هذا (4) . وإلى هذا ذهب الشافعية في الرأي الثاني لهم، وقد ذهبوا في هذا الرأي إلى القول: بإعطاء البائع حق الخيار أيضا، لأنه لم يسلم له القدر الذي سماه في العقد، فكان له الخيار (5) . خلاصة الأراء واختيار الراجح منها: لقد ظهر لنا من خلال بحثنا لمسألة الخيانة في ثمن المرابحة أن الاتفاق قد حصل بين الفقهاء على أن المبيع إذا هلك أو استهلك أو أحدث به المشتري ما يمنع فسخ العقد، فالبيع لازم ولا خيار للمشتري في هذه الحالة. وقد اختلفوا فيما لو بقي المبيع على حاله على رأيين: ذهب أصحاب الرأي الأول إلى وجوب إهدار الزيادة من ثمن المبيع، إلا أنهم اختلفوا فيما بينهم إذا كان البيع نافذًا بحق المتعاقدين أو يخير كل منهما بين إمضاء العقد أو فسخه، في حين: خير أصحاب الرأي الثاني المشتري بين إمضاء العقد وفسخه دون أن يقولوا الخيانة التي ظهرت في الثمن. والذي أختاره هنا هو رأي الفريق الأول لرجحان أدلتهم من جهة ولأن بالإمكان تلافي الخلل الذي طرأ على العقد، وذلك بإهدار الخيانة التي ظهرت في ثمن المبيع. وبخصوص تخيير العاقدين بعد حط الزيادة أو اعتبار العقد نافذًا عليهما، فالذي أرجحه هو عدم إعطاء الخيار لأي عاقد، ذلك للأدلة التي استدل بها أصحاب هذا الرأي.   (1) مغنى المحتاج 2/79 وانظر المغنى 4/136، 137 (2) ابن قدامة في المغنى 4/136، 137 (3) البدائع 7/3209 (4) ابن قدامة في المغنى 4/136، 137 (5) الخطيب الشربيني مغنى المحتاج 2/79 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 766 حكم الخيانة في صفة الثمن: ذكرنا فيما سبق حكم الخيانة في المرابحة إذا ظهرت في مقدار الثمن، ونقف الآن على حكمها عند الفقهاء فيما لو حدثت في الصفة، مثال ذلك: أن يشتري البائع المبيع نسيئة، ثم يبيعها مرابحة دون أن يوضح ذلك للمشتري، أو كان قد صالح به من دين على إنسان، فأخفى ذلك عن المقابل، فالحكم في هذه المسائل وأمثالها كما يأتي: أولا: الرأي عند فقهاء الأحناف (1) والشافعية (2) . ورواية عن الحنابلة (3) ، أن المشتري إذا اطلع على خيانة في صفة الثمن، خير بين أخذ المبيع بالثمن المتفق عليه في العقد وبين رده، بمعنى أن البائع غير ملزم برد شيء مقابل تدليسه الأمر على المشتري، والبيع صحيح، إلا أن نفاذه موقوف على رأي المشتري، دليلهم في ذلك ما يأتي: أ – إن البائع قد دلس الأمر على المشتري فثبت له الخيار. ب- إن المرابحة عقد مبني على الأمانة، إذ المشتري قد اعتمد البائع وائتمنه فيما أخبره به، ولما كانت الأمانة مطلوبة في عقد المرابحة، كانت صيانة العقد عن الخيانة مشروطة دلالة، ففواتها يوجب الخيار للمقابل كفوات وصف السلامة من العيب. ج- إن أحجام البائع عن كشف حقيقة الأمر للمشتري، دليل على عدم رضا البائع بذمة المقابل، وقد تكون ذمته دون ذمة مالك المبيع، فهو غير ملزم ببيع المبيع بأجل كما اشتراه، فعليه لا يلزم بالحط من الثمن مقابل الأجل شيئا، وكل ما في الأمر أن يخير المشتري بين إبقاء العقد أو فسخه. ثانيًا: حكى ابن المنذر عن أحمد قولا آخر ذكر فيه أن المبيع إذا كان باقيا بيد المشتري، خير بين أخذه بأجل بقدر الأجل الذي كان للبائع على مدينه قبل استيفاء الدين، وبين فسخ العقد. وإن كان قد استهلك حبس المشتري الثمن بقدر الأجل، وهذه هي وجهة نظر شريح القاضي أيضا (4) . دليل هذا الرأي: أن البيع قد وقع على البائع بهذه الصفة فيجب أن يكون للمشتري أخذ المبيع بمثل تلك الصفة، وصار بمثابة ما لو أخبر بزيادة الثمن، فإن الزيادة هناك تحط عن القيمة، كذلك الحال هنا. وقد أجيب عما قيل بأن البائع قد لا يرضى بذمة المشتري، بأن ذلك لا يمنع نفوذ البيع ولا يلتفت إلى رضا البائع كما هو الحال في حط الزيادة التي أخبر بها، فكما لا عبرة برضاه هناك كذلك الأمر هنا، والواجب هو الرجوع إلى ما وقع به البيع الأول. ثالثًا: حكى ابن عرفة عن المالكية قولين في المسألة، أحدهما: أن المبيع إذا كان قائما، فالمشتري بالخيار بين إمضاء العقد بالثمن الذي اتفق عليه وبين رد المبلغ، وأما لو هلك أو استهلك، فالمشتري يلزم بالأقل من الثمن والقيمة نقدا بدون ربح، فعلى هذا الرأي يكون البيع صحيحا ويكون البائع غاشا في كتمانه الأجل. والرأي الآخر، إن البيع فاسد في مثل هذه الحالة، وعليه يتعين على المشتري رد المبيع إن كان قائما وعند فواته يدفع الأقل من الثمن والقيمة (5) .   (1) البدائع 7/3209 (2) مغني المحتاج 2/79 (3) ابن قدامة في المغني 4/141 (4) انظر ابن قدامة في المغني 4/141 (5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/165 وانظر المدونة 4/231 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 767 الرأي المختار: إن القول الأول للمالكية يتفق مع رأي الفريق الأول من الفقهاء في جزئية وهي، أن المشتري في المسألة المختلف فيها يخير بين إمضاء العقد وفسخه في حالة بقاء المبيع، أما في حالة هلاكه، فالظاهر من رأي الأحناف ومن وافقهم في الرأي، أنه لا شيء للمشتري بعد ذلك لفوات المحل، إلا أن المالكية قد أعطوه حقًا عندما قالوا: بأنه لا يلزم إلا بدفع الأقل من ثمن المبيع وقيمته بدون ربح، معنى هذا أننا قد حفظنا للمشتري حقه ولو بعد هلاك المبيع، جبرا لما أصابه من ضرر، فإن البائع قد غشه عند كتمانه ما ينبغي بيانه له. والحنابلة وإن كانوا قد التفتوا إلى هذه الجزئية في القول الذي حكاه ابن المنذر عن أحمد، إلا أن قول المالكية يبدو لي أوجه مما قاله غيرهم، لذا يكون قولهم الأول هو المختار. حكم ما لو ذكر البائع ثمنا لمبيعه ثم ادعى الغلط: لو أن البائع ادعى ثمنا لمبيعه كأن قال اشتريته بمائة دينار وباعه مرابحة، ثم ادعى الغلط في الثمن، فزعم بأن الثمن الحقيقي هو مائة وعشرة، فما هو الحكم عندئذ؟ الجواب على ذلك: أن المشتري في هذه الحالة إما أن يصدق البائع في ادعائه الغلط أو يكذبه به، ولكل حالة من هاتين الحالتين حكمها الخاص بها. حكم ما إذا صدق المشتري البائع: إذا صدق المشتري البائع في قوله غلطت في ثمن المبيع، فللفقهاء عندئذ قولان في صحة إمضاء المرابحة أو عدم صحتها. 1- ذهب الشافعية في أصح القولين عندهم كما ذكر النووي إلى القول: ببطلان المرابحة في هذه الحالة للأسباب التالية: أ- لقد تعذر إمضاء العقد بسبب الزيادة التي ادعاها البائع المتبوعة بربحها. ب – أن العقد لا يحتمل الزيادة بخلاف النقصان فإنه معهود بدليل أن البائع لو أخذ أرش عيب أصاب المبيع، للزمه حطه من الثمن (1) . 2 – الرأي عن المالكية، هو صحة المرابحة وتنقص الزيادة التي غلط بها البائع وصار بمثابة ما لو غلط المشتري بالزيادة ولا فرق عندهم في مثل هذه الحالة بين تصديق المشتري للبائع أو إثباته ذلك بالبينة، ويخير المشتري بين رد السلعة وأخذ ما دفعه، أو دفع ما تبين أنه الثمن الصحيح للمبيع وربحه، هذا إذا كانت السلعة قائمة، فإن تغيرت بزيادة أو نقص، خير المشتري كذلك بين دفع الثمن الحقيقي للمبيع وربحه أو دفع قيمته إذا كان المبيع قيميًا أو مثله في المثلي، ويعتبر في القيمة والمثل يوم البيع لا يوم القبض، لأن العقد صحيح، بشرط أن لا تنقص القيمة عند المبلغ الذي غلط به البائع مع ربحه، فإن نقصت، تعين على المشتري إذا اختار إمضاء العقد دفع الغلط وربحه (2) . وإلى هذا ذهب الشافعية في رأيهم الثاني، وقد اعتبره الشربيني أصح القولين، إلا أنهم يختلفون عن المالكية في إعطاء حق الخيار، فهم يقولون بتخيير البائع لا المشتري بين إمضاء العقد أو فسخه (3) . وفي مذهب الحنابلة ما يؤيد هذا الرأي أيضا (4) .   (1) مغني المحتاج 2/79،80 (2) الشرح الكبير: 3/168، وانظر حاشية الدسوقي بنفس الموضع (3) الشربيني في مغني المحتاج 2/79،80 (4) ابن قدامة في المغنى 4/142 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 768 الرأي المختار: إن ما ذهب إليه أصحاب الرأي الثاني هو المختار، لأن القول بفسخ العقد وبطلانه ينبغي أن يكون عندما يخرج العقد عن مدلوله، وهنا ما يزال العقد عقد مرابحة، كما أنه لا ضرر على أي طرف من المتعاقدين من جراء ذلك. وبخصوص تخيير المشتري أو البائع عندئذ، أي أن يخير المشتري كما يقول المالكية للأسباب الآتية: أولا: إن تخييره ينفي ضرر البائع له، حيث سيقوم المشتري بدفع الثمن الصحيح للمبيع وربحه. ثانيًا: إن التفريط قد حصل من جهة البائع لعدم ثباته على قوله الأول، فعلى هذا لا خيار له (1) . حكم إما إذا كذب المشتري البائع: إذا ادعى البائع الغلط فيما ذكره من ثمن للمبيع وكذبه المشتري، فأما أن يذكر وجها للغلط أم لا. فإن لم يذكر وجها محتملا للغلط وقد كذبه المشتري، فإذا أراد أن يعزز ادعاءه ببينة، فهل تسمع بينته عندئذ أم لا؟ الجواب على هذه أن رأيان في المسألة: الرأي الأول: ويقضى بعدم قبول قوله وبعدم سماع بينته للأسباب التالية: 1- أن البائع قد كذب البينة بنفسه عند إقراره بالثمن أولًا. 2- أن إقراراه بالثمن الأول قد تعلق به حق الغير فلا يقبل رجوعه عنه. هذه وجه نظر الشافعية (2) ، وبه قال الحنابلة في رواية عنهم، إلا أنهم لم يفرقوا بين ذكر البائع وجها يحتمل الغلط أم لم يذكر شيئا في هذا القبيل (3) . وفي تحليف المشتري اليمين من قبل البائع على أنه لا يعرف الثمن الأخير ثمنا صحيحا للمبيع، وجهان عند الشافعية: أحدهما وهو الأصح، ويقضي بجواز طلبه اليمين، لأن المشتري قد يعترف بالثمن الأصلي عند عرض اليمين عليه، والآخر، ذكروا فيه عدم جواز طلب اليمين من المشتري، كما هو الأمر بالنسبة لعدم سماع بينة البائع.   (1) انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/168 (2) مغنى المحتاج 2/80 (3) ابن قدامة في المغني 4/142 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 769 وعلى الوجه الأول: إن حلف المشتري، فالأصح عندهم إمضاء العقد على ما حلف عليه، وإن نكل عن الحلف، ردت على البائع بناء على القول الأظهر عندهم، من أن اليمين المردودة كالإقرار، فيحلف البائع يمينا باتا على أن ثمن المبيع هو ما ادعاه أخيرا. وفي إثبات الخيار لأي من الطرفين رأيان للشافعية أيضا: الأول، وقد ذكروا فيه أن الخيار للمشتري، وهذا على الوجه الضعيف القائل بثبوت الزيادة، وأما على الرأي المعتمد عندهم، فالخيار للبائع (1) . الرأي الثاني: وهو مروى عن الحنابلة ذكروا فيه، أن البائع في المرابحة إذا ادعى الغلط في الثمن عند كلامه الأول، وأشهد على أن رأس ماله عليه ما قاله ثانيا، تسمع بينته، وقد أجاب ابن قدامة على أدلة القائلين برفض بينة البائع في هذه المسألة بما يلي: 1- إن البينة عادلة وقد شهدت بما يحتمل الصدق فتقبل، كما هو الأمر في سائر البينات. 2- إننا لا نسلم بأن البائع قد أقر بخلاف بينته، لأن الإقرار يعني الاعتراف للغير، وإخبار البائع بثمن مبيعه قد حصل قبل أن يتعلق به حق الغير، فلم يكن إقرارا (2) . ما أرجحه: بعد عرض رأي الفريقين المختلفين من الفقهاء في هذه الجزئية ومناقشة الفريق الثاني لما استدل به الفريق الأول، يترجح عندي القول الثاني لوجاهته من جهة، ولأن البائع في مثل هذه الحالة مدع، ومن المعروف بداهة أن تسمع بينته في مثل هذه الحالة. حكم ما إذا ذكر وجها يحتمل الخطأ: وقفنا قبل قليل على رأي الفقهاء عندما يدعي البائع في المرابحة خطأ في الثمن ولم يذكر وجهًا يحتمل الخطأ، أما لو ذكر وجها يحتمل الخطأ كقوله: جاءني كتاب من وكيلي بأن ثمن المبيع الذي اشتراه هو مائة وعشرة مثلا وليس بمائة دينار، أو اتضح لي ذلك لمراجعة حساباتي وما أعتمد عليه من سجلات وأرقام بينة على ذلك، فالأصح عند الشافعية في مثل هذه الحالة، سماع بينة البائع التي يقيمها لتعزيز ادعائه، كما أن له تحليف المشتري على أنه لا يعرف الثمن الصحيح للمبيع، لأن العذر هنا يحرك ظن صدقه. وذهبوا في وجه ثانٍ لهم إلى عدم قبول بينته حتى في هذه الحالة، ودليلهم هنا هو عين ما ذكروه في الحالة الأولى (3) . وبما أننا اخترنا رأي القائلين: بسماع بينة البائع عندما لا يذكر وجها محتملا لخطئه، فلأن نقول بقبول بينته عندما يحتمل كلامه الأول الخطأ من باب أولى.   (1) الخطيب الشربيني مغني المحتاج (2) المغني 4/142 (3) الخطيب الشربيني مغني المحتاج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 770 الفصل الثاني الوعد ومدى قوة إلزامه في الفقه الإسلامي تمهيد: بعد أن وقفنا في الفصل الأول على رأي فقهاء المسلمين في موضوع المرابحة وما وضعوا لها من شروط وأحكام. نقف في هذا الفصل على رأيهم في المسألة الثانية من موضوع بحثنا، وهي رأي فقهاء المسلمين في الآمر بالشراء مرابحة، ولهذا العقد صور عديدة، منها: أن يتقدم أحد الأشخاص أو الشركات إلى أحد المصارف الإسلامية ويخبره عن وجود بضاعة أو عقار ما عند شخص آخر يريد بيعه، ويبدي المخبر رغبته بأنه إذا ملك المصرف الإسلامي هذه البضاعة أو العقار، يعده بشرائه منه بالأجل بربح معلوم، وقد يكون البادئ بتقديم المعلومات عن البضاعة هو المصنع مخاطبا التاجر الذي يأتي بدوره إلى المصرف المذكور مبديا رغبته في شراء ما عرض عليه من المصنع إذا قام المصرف بالحصول عليه، في هذه الحالة بالصورتين المشار إليهما، يقوم المصرف الإسلامي بدراسة العرض للبضاعة أو للعقار، فإذا ما وجد جدوى من الشراء يتمم ذلك لنفسه ويشحن البضاعة إلى بلد ذلك المصرف ويحوزها المصرف في مخازنه ثم يعقد بعدئذ بيع المرابحة بينه وبين الواعد بالشراء إن تم الاتفاق بينهما على ذلك (1) . فهل يلزم الواعد بالوفاء في وعده في هذه الحالة؟ الجواب على هذا: أنه يفترض بيان رأي فقهاء المسلمين في حكم الوعد ومدى قوة إلزامه لمعرفة مدى إلزام الواعد بالشراء هنا أو عدم إلزامه.   (1) هذه الصورة نقلناها بتصرف من (بيوع الأمانة في ميزان الشريعة) من منشورات بيت التمويل الكويتي، وهناك صور أخرى ذكرت في النشرة المذكورة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 771 فأقول وبالله التوفيق: اختلف الفقهاء في الوعد هل يجب الوفاء به شرعا أم لا؟ وذلك على ثلاثة مذاهب. المذهب الأول: ذهب فريق من العلماء إلى أن الوفاء بالوعد مستحب مندوب إليه وليس بفرض. فلا يقضى به على الواعد، لكن الإخلال بالوعد يفوت الواعد الفضل، ويرتكب بسبب خلفه هذا المكروه، هذا ما ذهب إليه أبو حنيفة والشافعي وأبو سليمان (1) ، وقد استدل أصحاب هذا الرأي بما يلي: أولًا: أخرج الإمام مالك رحمه الله في الموطأ ((أنه قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكذب لامرأتي فقال صلى الله عليه وسلم: لا خير في الكذب، فقال يا رسول الله: أفأعدها وأقول لها؟ فقال عليه السلام: لا جناح عليك)) (2) . وجه الاستدلال من الرواية كما يذكر القرافي (3) . أ- إن الرسول عليه الصلاة والسلام منع السائل من الكذب المتعلق بالمستقبل ونفى الجناح على الوعد. ب- إن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا، لأنه عليه الصلاة والسلام قد جعله قسيم الكذب، ولو كان منه، لما جعله قسيما له. ج- كما يستدل من الرواية على أن إخلاف الوعد لا حرج فيه. د- " لو كان المقصود الوعد الذي يفي به لما احتاج للسؤال عنه ولما ذكره مقرونا بالكذب " فتبين بأن قصد السائل بإصلاح حال امرأته بما لا يفعله، فتخيل الحرج في ذلك فاستأذن عليه.   (1) انظر المحلى لابن حزم الظاهري 28/8 وقد نص على ما يلي: " ومن وعد آخر بأن يعطيه مالا معينا أو غير معين أو بأن يعينه في عمل ما حلف له على ذلك أو لم يحلف لم يلزمه الوفاء به ويكره له ذلك، وكان الأفضل لو وفى.. وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان ". (2) انظر شرح الزرقاني على الموطأ 408/4 (3) انظر الفروق لشهاب الدين أبي العباس الصنهاجي المشهور بالقرافي طبع دار المعرفة 21/4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 772 وقد أجاب ابن الشاط على استدلال القرافي هذا بما يلي: 1- إن القول بأن الرسول عليه الصلاة والسلام منع السائل من الكذب المتعلق بالمستقبل، غير مسلم وهي دعوى لا حجة عليها، ولعل السائل كان قصده من الكذب على زوجته أن يخبرها عن فعله مع غيرها من النساء بما لم يفعله، أو غير ذلك مما يقصد به إغاظة زوجته، فلم يتعين أن المراد ما ذكره، كيف وأن ما ذكره هو عين الوعد، وما معنى الحديث إلا أنه صلى الله عليه وسلم " منعه من أن يخبرها بخبر كذب يقتضي تغييظها به وسوغ له الوعد لأنه لا يتعين فيه الإخلاف لاحتمال الوفاء به سواء كان عازما عند الوعد على الوفاء أو على الإخلاف أو مضربا عنهما، ويتخرج ذلك في قسم العزم على الإخلاف على الرأي الصحيح ... من أن العزم على المعصية لا مؤاخذة به، إذ معظم دلائل الشريعة يقتضي المنع في الإخلاف " (1) . 2- إن القول بأن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا لجعله قسيم الكذب، غير مسلم أيضا، لأنه جعله قسيم الخبر عن غير المستقبل الذي هو كذب، فكان قسيمه من جهة كونه مستقبلا، وذلك غير مستقبل، أو من جهة كونه قد تعين أنه كذب، والوعد لا يتعين كونه كذبا. 3- أما دعوى إخلاف الوعد لا حرج فيه فليس بصحيح، بل فيه الحرج بمقتضى ظواهر الشرع إلا حيث يتعذر الوفاء، كما سنرى ذلك من الأدلة. 4- إن القول: بأنه لو كان قصد السائل الوعد الذي يفي به لما احتاج السؤال عنه ... إلخ. فيجاب عليه، بأن السائل لم يقصد الوعد الذي يفي فيه على التعيين، وإنما قصد الوعد على الإطلاق وسأل عنه لأن الاحتمال في عدم الوفاء اضطرارًا أو اختيارا قائم، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم عنه الجناح لاحتمال الوفاء، ثم إن وفى فلا جناح، وإن لم يف مضطرًا فكذلك، وإن لم يف مختارًا فالظواهر المتظاهرة قاضية بالحرج.   (1) انظر أدرار الشروق على أنوار الفروق لابن الشاط والمطبوع بأسفل الفروق 21/4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 773 5- إن القول: بأن قصد السائل إصلاح حال امرأته ... إلخ، إن هذا القول غير صحيح، إذ من أين يحصل العلم بأن الزوج لا يفعله؟ وعلى أن يكون في حال الوعد غير متمكن مما وعد به، ومن أين يعلم عدم تمكنه منه في المستقبل؟ وإذا تعذر العلم بجميع ذلك، تعين أن يكون سؤال الزوج لاحتمال عدم الوفاء أو العزم على عدم الوفاء فسوغ له عليه الصلاة والسلام ذلك، لأن عدم الوفاء لا يتعين أو لأن العزم على عدم الوفاء على تقدير أن عدم الوفاء معصية، ليس بمعصية. (1) ثانيا: ومما استدل به هذا الفريق على قولهم: بأن الوعد غير ملزم، ما أخرجه أبو داود أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((إذا وعد أحدكم أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف فلا شيء عليه)) (2) . وأجيب عن هذا الحديث بما أجيب به عن الحديث الذي سبقه. ثالثا: ومما استدل به أصحاب هذا الرأي أيضا، أن الرجل إذا وعد وحلف واستثنى – بأن قال إن شاء الله – فقد سقط عنه الحنث بالنص والإجماع المتيقن فإذا سقط عنه الحنث، دل على أنه لم يلزمه فعل ما حلف عليه. وبما أن الوعد لا يصح بدون استثناء، لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (3) . دل على أن من وعد ولم يستثن، فقد عصى الله تعالى في وعده ذلك، ولا يجوز أن يجبر أحد على معصية، فإن استثنى فقال " إن شاء الله تعالى أو إلا أن يشاء الله تعالى أو نحوه مما يعلقه بإرادة الله عز وجل فلا يكون مخلفا لوعده إن لم يفعل " (4) . ويجاب على هذا الاستدلال، بأن الاستثناء في الوعد سنة وليس بواجب، ولم ينقل عن أحد من العلماء بأنه يحرم الوعد بغير استثناء، حكى القرطبي عن ابن عطية قوله " وتكلم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين، والآية ليست في الإيمان وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين " (5) .   (1) انظر أدرار الشروق على أنوار الفروق لابن الشاط والمطبوع بأسفل الفروق 21/4 (2) انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود 339/3 وذكر ذلك صاحب الفروق في 21 / 4 (3) سورة الكهف آية 23- 24 (4) انظر ابن حزم في المحلى30/8 (5) انظر الجامع لأحكام القرآن 385/10 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 774 المذهب الثاني: وهو رأي الفقيه المالكي ابن شبرمة، ويقضي: بأن الوعد ملزم مطلقا ويجب الوفاء به ديانة وقضاء، حكى ذلك عنه ابن حزم حيث قال: " قال ابن شبرمة: الوعد كله لازم ويقضى به على الواعد ويجبر " (1) . وهو مذهب كثير من فقهاء السلف، منهم الحسن البصري، والخليفة عمر بن عبد العزيز، وقضى به سعيد بن عمرو بن الأشوع (2) ، ونقل ذلك عن الصحابي الجليل سمرة بن جندب رضي الله عنه، وذكر البخاري في صحيحه بأنه رأي إسحق بن راهويه مستدلا بحديث ابن الأشوع في القول بإنجاز الوعد (3) . ووجوب الوفاء بالعود مطلقًا مذهب بعض المالكية وإن وصفوه بأنه مذهب ضعيف (4) وذهب إلى وجوب الوفاء بالوعد كذلك أبو بكر بن العربي المالكي (5) . وهذه وجهة نظر ابن الشاط المالكي وقد دافع عن رأيه هذا من خلال رده على القرافي (6) . وحكى ابن رجب الحنبلي وجوب الوفاء بالوعد مطلقا عن طائفة من علماء أهل الظاهر وغيرهم (7) . وقال الإمام الغزالي الشافعي: إذا فهم الجزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر، وقد يفهم الجزم في الوعد إذا اقترن به حلف أو إقامة شهود على الوعد أو قرائن أخرى (8) .   (1) انظر المحلى 28/8 (2) انظر العيني في عمدة القاري 358/13 وسعيد بن عمرو بن الأشوع الهمداني قاضي الكوفة في زمن إمارة خالد القسري على العراق بعد المائة للهجرة وقد مات في ولاية خالد وقد عده ابن حبان في الثقات وعده يحيى بن معين في المشهورين (3) انظر العيني في عمدة القاري 358/13 وكذا صحيح البخاري بهامش فتح الباري طبعة الحلبي 218/6 (4) انظر فتحت العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك لابن عليش 256/1 وكذا القرافي في الفروق 24/4 (5) انظر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 29/18 (6) انظر أدرار الشروق على أنوار الفروق 21/4 (7) انظر جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم مطبعة دار العلوم الحديثة ص 404 (8) انظر إحياء علوم الدين 133/3 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 775 أدلة أصحاب هذا الرأي: استدل أصحاب هذا الرأي بنصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. 1- فمما استدلوا به من الآيات القرآنية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) . وجه الاستدلال من الآية: إن العقود تعني المربوط واحدها عقد، يقال عقدت العهد والحبل، والعقد، هو كل ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة وكل ما كان غير خارج عن الشريعة وكذا ما عقده الإنسان على نفسه لله من الطاعات، قال الزجاج: " المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض" (2) . ويستدل أيضا بقوله عليه الصلاة والسلام: ((المؤمنون عند شروطهم)) . ولما كان الوعد مما ألزم به الإنسان نفسه، فعلى هذا يلزمه الوفاء. واستدلوا أيضا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) . فالوعد إذا أخلف، قول نكل الواعد عن فعله، فيلزم أن يكون كذبا محرما وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقا (4) . كما استدل هذا الفريق من العلماء بالآيات التي أثنى الله فيها على من بر بوعده وأوفى بعهده، منها قوله تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} (5) وقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (6) . ومدح إسماعيل لصدقه في وعده بقوله عز شأنه: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (7) . وقد حمل أصحاب المذهب الأول هذه الأدلة على الندب والاستحباب. 2- ومن السنة النبوية التي استدل بها القائلون: بوجوب الوفاء بالوعد، ما أخرجه البخاري ومسلم (8) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)) وفي رواية ((من علامات المنافق ثلاث ... إلخ)) وفي رواية أخرى ((آية المنافق ثلاث ... وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)) وورد في البخاري ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر)) .   (1) سورة المائدة آية 1 (2) انظر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 33/6 (3) سورة الصف آية 2-3 (4) انظر القرافي في الفروق20/4 (5) البقرة آية 177 (6) النجم آية 37 (7) مريم 54 (8) انظر العيني في عمدة القاري 258/13وكذا صحيح البخاري مع فتح الباري 89/1وكذا صحيح مسلم بشرح النووي 47/2 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 776 الدليل في هذه الأخبار أن إخلاف الوعد قد عده النبي صلى الله عليه وسلم في خصال المنافقين، والنفاق مذموم شرعًا، وقد أعد الله للمنافقين الدرك الأسفل من النار، حيث قال جل ثناؤه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1) . وعلى هذا يكون إخلاف الوعد محرما فيجب الوفاء به. وقد صرف بعض شراح الحديث معنى النفاق الوارد في الروايات المذكورة عن حقيقته، فقالوا: إن المراد بإطلاق النفاق، الإنذار والتحذير للمسلم عن ارتكاب هذه الخصال أو اعتيادها والتي يخاف عليه أن تفضي به إلى حقيقة النفاق، وهذا المعنى حكاه الخطابي وارتضاه (2) . كما قال البعض منهم، بأن المراد بالحديث، المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فحدثوا بإيمانهم وكذبوا، وأتمنهم على سره فخانوه ووعدوه بالخروج معه للجهاد فأخلفوه، وقد روى محمد المحرم هذا التأويل عن عطاء وأنه قال: حدثني به جابر، وذكر أن الحسن رجع إلى قول عطاء هذا عند بلوغه الخبر. وقد رد ابن رجب الحنبلي على كلام محرم هذا بقوله: " هذا كذب والمحرم شيخ كذاب معروف بالكذب" (3) . فالحديث عام في كل إنسان يظهر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الأكبر، والنفاق الأصغر وهو نفاق العمل " وهو أن يظهر الإنسان علانية صلاحه ويبطن ما يخالف ذلك ". والنفاق هذا ترجع أصوله إلى الخصال المذكورة في هذا الحديث وغيره (4) . ومن الأحاديث النبوية التي استدل بها أصحاب المذهب الثاني ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: " أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له سألتك ماذا يأمركم فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة قال وهذه صفة نبي " (5) .   (1) سورة النساء آية 145 (2) انظر فتح الباري90/1، عمدة القاري 222/1 (3) انظر جامع العلوم والحكم ص 403 (4) انظر جامع العلوم والحكم ص 403 (5) أخرج الحديث البخاري عن محمد بن مسلم الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، وهذا قطعة من حديث قصة هرقل. انظر العيني 259/13 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 777 واستدلوا أيضا بما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: ((لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبله عدة فليأتنا، قال جابر فقلت: وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا، فبسط يديه ثلاث مرات، قال جابر فعد في يدي خمسمائة ثم خمسمائة ثم خمسمائة)) (1) . وأخرجه البخاري بلفظ قريب في باب من تكفل عن ميت دينا (2) . قال العيني: وقد استدل بعض الشافعية على وجوب الوفاء بالوعد في حق النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم زعموا أنه من خصائصه ولا دلالة فيه أصلا لا على الوجوب ولا على الخصوصية (3) . ومما استدل به أصحاب هذا الرأي ما أخرجه البخاري وذكره في معرض الاحتجاج لوجوب الوفاء بالوعد عن المسور بن مخرمة أنه قال: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر صهرا له فقال: وعدني فوفاني " (4) . ومن ذلك أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: ((وأي المؤمن واجب)) (5) بمعنى وعده واجب الوفاء به. واستدلوا كذلك بما رواه الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((" لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدا فتخلفه)) (6) . ومن أدلتهم بهذا الخصوص أيضا، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وعد وعدا قال: عسى، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لا يعد وعدا إلا ويقول: إن شاء الله، وقد حمل الغزالي ذلك بعد ذكره لهذا الخبر، على أن الواعد إذا جزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر، فإن كان عند الوعد جازما على أن لا يفي، فهذا هو النفاق (7) . لكن صاحب مرقاة المفاتيح قال بعد نقل هذا عن الغزالي: وهذا كله يؤيد الوجوب إذا كان الوعد مطلقا غير مقيد بعسى أو المشيئة ونحوهما مما يدل على أنه جازم في وعده، فقول الغزالي محل بحث (8) . وقد حمل أصحاب الرأي الأول الروايات التي استدل بها الفريق الثاني على الندب والاستحباب.   (1) انظر عمدة القاري 258/13وصحيح البخاري بشرح فتح الباري 218/6 (2) انظر العيني في عمدة القاري 121/12 (3) عمدة القاري (4) انظر عمدة القاري 258/13 وفتح الباري 218/6 (5) انظر الفروق للقرافي20/4 (6) أخرجه الترمذي وقال عنه: حسن غريب. انظر تحفة الأحوذي 131/6 عارضة الأحوذي 161/8 (7) انظر إحياء علوم الدين 133/3 (8) انظر مرقاة المفاتيح 653/4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 778 المذهب الثالث: التفصيل في وجوب الوفاء بالوعد: ذهب فقهاء المذهب المالكي إلى التفصيل فيما يجب الوفاء به من الوعود وما لا يجب وكانوا في ذلك فريقين. الفريق الأول: وهو المنقول عن مالك وابن القاسم وسحنون، ويقضى رأيهم بأن الوعد يكون لازما يجب الوفاء به ويقضى القاضي به على الواعد إذا كان الوعد تم على سبب ودخل الموعود له بسبب الوعد في شيء. قال القرافي: " اختلف العلماء في الوعد هل يجب الوفاء به شرعا أم لا؟ قال مالك: إذا سألك أن تهب له دينارا فقلت نعم ثم بدا لك لا يلزمك، ولو كان افتراق الغرماء عن وعد وإشهاد لأجله، لزمك لإبطالك مغرما بالتأخير، قال سحنون: الذي يلزم من الوعد قوله: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبني به، أو: اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو: اشتر سلعة، أو: تزوج امرأة وأنا أسلفك؛ لأنك أدخلته بوعدك في ذلك، أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به بل الوفاء به من مكارم الأخلاق " (1) . وإذا تنازع الواعد والموعود له فيما يلزم الواعد بسبب وعده، فقد قالوا: إذا اشترى رجل من آخر كرما فخاف الوضيعة، فأتى المشتري إلى البائع ليستوضعه، فقال له البائع: بع وأنا أرضيك، فإن باع المشتري الكرم برأس ماله أو بربح، فلا شيء على الواعد، وإن باع بالوضيعة كان عليه أن يرضيه، " فإن زعم الموعود أنه أراد شيئا سماه، فله ما أراد اتفاقا، وإن لم يكن أراد شيئا، أرضاه الواعد بما شاء وحلف بالله أنه ما أراد أكثر من ذلك ". وهذا هو رأي أشهب، أما على رأي ابن وهب واستحسنه أصبغ، فإن على الواعد، إرضاء الموعود بما يشبه، أي بالمثل، وهو ما يكون مرضيا عند الناس. أما لو حلف الواعد ليرضينه فإن عليه أن يوفيه بما يرضيه ويرضي الناس (2) .   (1) انظر الفروق 24/4 وما بعدها. وكذا ابن عليش في فتح العلي المالك 254/1 فقد نص على ما يلي: " يقضى بها إن كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العدة في شيء وهذا هو المشهور من الأقوال" (2) انظر فتح العلي المالك 255/1 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 779 الفريق الثاني: ويمثله مذهب أصبغ، وقالوا عنه بأنه مذهب قوي، ويقضي بلزوم الوعد ووجوب الوفاء به إذا تم الوعد على سبب وإن لم يدخل الموعود له في مباشرة شيء، نقل ذلك ابن عليش المالكي حيث قال: " والقول بأنه يقضي بها إذا كانت على سببه وإن لم يدخل بسببها في شيء هو قول أصبغ في كتاب العدة " (1) . فعلى هذا الرأي، لو قال رجل لآخر إن غرمائي يلزمونني بدين، فأسلفني أقضهم فوعده المقابل، ثم بدا له الرجوع، فإن على مذهب أصبغ، يجب الوفاء لأنه وعد على سبب، وعلى مذهب مالك ومن وافقه، لا يجب، لأن الموعود له لم يدخل في شيء إلا إذا اعتقد منه الغرماء على موعد وأشهد بإيجاب ذلك على نفسه (2) . وحجة المالكية في تفصيلهم هذا، أن النصوص الشرعية بهذا الصدد قد تعارضت، فمنها ما أوجب الوفاء بالوعد مطلقا، وهي الأدلة التي ساقها موجبو الوفاء بالوعد، ومنها ما لم يجعل إخلاف الوعد من الكذب كحديث الموطأ وأبي داود، وأما قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} . فإنها نزلت في قوم كانوا يقولون جاهدنا وما جاهدوا، وفعلنا أنواع الخيرات وما فعلوا (3) . ولا شك أن هذا محرم لأنه كذب، وأما كون مخلف الوعد منافقا فهو محمول على حالة كون الإخلاف سجية له أو تعمدا، فكان لا بد من حمل هذه النصوص على خلفا ظاهرها وأن يجمع بين الأدلة، فوافق هذا الرأي من أوجب الوفاء بالوعد إذا كان الوعد على سبب وباشره، ووافق من لم يلزم الوفاء بالوعد فيما عداها من الوعود المجردة، هكذا ذكر القرافي (4) . وقد رد ابن الشاط على كلام القرافي هذا، حيث قال: بأنه ينبغي الجمع بين الأدلة وتأويل ما يناقض ذلك، فيحمل حديث الموطأ وأبي داود بما يتسق مع الآية وحديث خصال المنافق، وذلك بأن تكون المسامحة في إخلاف الوعد اضطرارًا (5) . وقد انتقد ابن حزم تقسيم المالكية هذا وتفصيلهم وقال: " بأنه لا وجه له ولا برهان يعضده لا من قرآن ولا سنة ولا قول صحابي ولا قياس، فإن قيل: قد أضر الواعد بالموعود إذ كلفه من أجل وعده عملا ونفقة، قلنا: فهب أنه كما تقولون فمن أين وجب على من ضر بآخر وظلمه وغره أن يغرم له مالا؟ " (6) . وقول ابن حزم هذا غير مسلم، فقد ساق أصحاب الرأي الثاني من الأدلة ما فيه الكفاية، للقول بلزوم الوفاء بالوعد.   (1) انظر فتح العلي المالك 255/1 وكذا القرافي في الفروق 25/4 (2) انظر ابن عليش فتح العلي المالك 255/1 وكذا القرافي في الفروق 25/4 أيضا (3) انظر الجامع لأحكام القرآن 77/18 (4) انظر الفروق 25/4 (5) انظر حاشية ابن الشاط على الفروق 25/4 (6) انظر المحلى 28/8 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 780 الرأي الراجح: لقد تبين لنا من خلال ما نقلنا عن أئمة الفقه رحمهم الله أنهم اتجهوا ثلاثة اتجاهات في القول: بإلزام الواعد بالوفاء بوعده أو عدم إلزامه، ومن خلال ما استدل به كل فريق من أدلة، يترجح لنا رأي الفريق القائل: بوجوب الوفاء بالوعد مطلقا، وكما يلزم الواعد بالوفاء بوعده ديانة، يلزم به قضاء (1) . وذلك لرجحان أدلة هذا المذهب من جهة، ولعدم وجود مبرر للتفريق بإلزام الواعد بوفاء وعده ديانة وعدم إلزامه به قضاء مع ملاحظة ما اشترطه الفقهاء من وجوب تحقق ركني العقد – الإيجاب والقبول – ممن تتوفر فيهما أهلية التعاقد، وأن يتم ذلك في مجلس واحد وإذا أخل الواعد بوعده، فعليه تعويض ما لحق الطرف المقابل من أضرار. جواب السؤال مدار البحث: بعد أن تبين لنا في موضوع الوعد، رجحان رأي من يلزم الواعد بالوفاء بوعده، فالجواب على سؤال الآمر بالشراء مرابحة، وهل يلزم بذلك؟ يكون الجواب كالآتي: إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاءً لأحكام المذهب المالكي، وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل به. على أن تلاحظ الشروط التي اشترطها الفقهاء في مثل هذه العقود وتلخص بما يلي: 1- تطابق الإيجاب والقبول وأن يتم هذا التطابق في مجلس واحد. 2- أن يكون الثمن والسلعة معلومين لدى المتعاقدين.   (1) وهذا هو مذهب ابن شبرمة ومن نحا نحوه،. وقد أخذ رجال القانون بهذا الرأي أيضا. وانظر في ذلك: مسألة الوعد بالتعاقد، نظرية العقد للدكتور السنهوري ص262، الوسيط للسنهوري أيضا 265/1، أصول الالتزام للدكتور حسن علي الذنون ص67 مطبعة المعارف بغداد، الوسيط في نظرية العقد للدكتور عبد المجيد الحكيم 193/1 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 781 3- أن يبقى العقد معلقا لحين حيازة المصرف الإسلامي السلعة ودخولها في ملكه، لئلا يحصل بيع المبيع قبل قبضه، وذلك لا يجوز. 4- أن توصف السلعة للمشتري وصفا تزول معه الجهالة، فإذا تم العقد وأراد المصرف تسليم البضاعة للآمر بالشراء مرابحة، فإن لم تكن السلعة على الوصف الذي اتفق عليه الطرفان في العقد، فللمشتري الحق في فسخ العقد، عملا بخيار الوصف. ومع أننا قد أخذنا برأي من يلزم الواعد بالوفاء بوعده ديانة وقضاء، فإننا نوصي القائمين على المصارف الإسلامية باتباع ما يلي: وذلك للخروج من خلاف الفقهاء. أ- أن يمتلك التصرف الإسلامي البضاعة قبل أن يتعاقد عليها مرابحة، ومن ثم يبيعها مرابحة وفق الشروط التي تكلمنا عنها في الفصل الأول من هذا البحث. ب- إذا لم يلحق المصرف ضرر من جراء وعد الواعد له بالشراء مرابحة، فلا يطالبه بتعويض مالي، أما لو لحقه ضرر فلا بأس من أخذ التعويض في هذه الحالة، لأن المصرف المعين مؤتمن على الأموال المودعة عنده، قلا يحق للقائمين على شؤونه التفريط في حقوق أصحاب تلك الأموال. وأسأل الله أن يجنبنا الزلل في القول والعمل إنه سميع مجيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. إبراهيم فاضل الدبو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 782 مراجع البحث بعد القرآن الكريم 1) الجامع لأحكام القرآن – لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. الطبعة الثالثة – دار الكاتب العربي للطباعة والنشر 1387 هـ – 1967م. 2) عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني إدارة الطباعة المنيرية. 3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري – للعسقلاني – مطبعة البابي الحلبي. 4) صحيح مسلم بشرح النووي – دار الفكر- بيروت. 5) إحياء علوم الدين لأبي حامد محمد الغزالي، المكتبة التجارية الكبرى بمصر. 6) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ محمد عليش- الطبعة الأخيرة 1378 هـ – 1958م. 7) الفروق لأبي العباس الصنهاجي القرافي مع حاشية قاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط مع تهذيب الفروق لمحمد بن الشيخ حسين دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت. 8) المحلى لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم – المكتب التجاري للطباعة والنشر. 9) جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي – نشر دار العلوم الحديثة – بيروت. ودار الشرق الجديدة – بغداد. 10) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوري – نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 783 11) من مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح – لعلي بن سلطان محمد القارني – نشر المكتبة الإسلامية. 12) الموطأ – للإمام مالك بهامش كتاب المنتقى للباجي – الطبعة الأولى. 13) شرح بداية المبتدي – لبرهان الدين علي أبي بكر المرغيناني والمطبوع مع فتح القدير – الطبعة الأولى – بولاق مصر 1317هـ. 14) شرح فتح القدير للكمال ابن المهام. والمطبوع مع الهداية. 15) المغني – لابن قدامة على مختصر الخرقي _ مطابع سجل العرب بالقاهرة. 16) الشرح الكبير للدردير على مختصر سيدي خليل – المطبعة الأميرية. 17) روضة القضاة وطريق النجاة – لأبي القاسم علي بن محمد بن أحمد الرحبي السمناني تحقيق الدكتور صلاح الدين الناهي. مطبعة أسعد ببغداد. 18) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع – لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني- مطابع الإمام – القاهرة. 19) المبسوط – لشمس الدين محمد بن سهل السرخسي – مطبعة السعادة بمصر 1324 هـ. 20) الدر المختار شرح تنوير الأبصار لعلاء الدين الحصكفي- مطبعة البابي الحلبي الطبعة الثانية. 21) رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين والمطبوع مع الدر المختار. 22) المدونة الكبرى رواية الإمام سحنون بن سعيد التنوطي عن عبد الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك – الطبعة الأولى. 23) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف – لعلي بن سليمان المرداوي مطبعة السنة المحمدية في غزة 1955م. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 784 24) المهذب لأبي إسحاق إبراهيم علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي. مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر. 25) مغني المحتاج إلى معاني ألفاظ المنهاج – للخطيب الشربيني – مطبعة البابي الحلبي. 26) شرح الخرشي لمختصر سيدي خليل – لأبي عبد الله محمد الخرشي ومعه حاشية الشيخ العدوي – المطبعة الأميرية ببولاق مصر – الطبعة الثانية. 27) مطالب أولى النهي في شرح غاية المنتهى للسيوطي الرحيباني – الطبعة الأولى لسنة 1380هـ- 1960م منشورات المكتب الإسلامي بدمشق. 28) كشاف القناع عن متن الإقناع – لمنصور بن يونس البهوتي، والإقناع للحجاوي الناشر مكتبة النصر الحديثة في الرياض. 29) قواعد العلامة – للحسن بن يوسف بن المطهر الحلبي وهو متن مفتاح الكرامة. 30) مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة لمحمد جواد العاملي – مطبعة الشورى. 31) البحر الزخار – الجامع لمذاهب علماء الأمصار – لأحمد بن يحيى بن المرتضى – مطبعة السنة المحمدية بمصر – 1368هـ – 1949 م. 32) مصادر الحق في الفقه الإسلامي – للدكتور عبد الرزاق السنهوري – الجزء الثاني الطبعة الثالثة 1967 م. 33) نظرية العقد – للدكتور عبد الرزاق السنهوري. 34) أصول الالتزام – للدكتور حسن علي الذنون – مطبعة المعارف. 35) الوسيط – للدكتور عبد الرزاق السنهوري. 36) الوسيط في نظرية العقد- الدكتور عبد المجيد الحكيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 785 المرابحة للآمر بالشراء نظرات في التطبيق العملي إعداد الدكتور علي أحمد السالوس أستاذ الفقه والأصول – كلية الشريعة جامعة قطر بسم الله الرحمن الرحيم " إياك نعبد وإياك نستعين " تقديم الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. وبعد: فعندما قامت المصارف الإسلامية جعلت شعارها قول الحق تبارك وتعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: (275) ] . ورأت في بيع المرابحة للآمر بالشراء بديلا عن الإقراض الربوي الذي تقوم به البنوك الربوية. وثار الجدل ولا يزال حول مشروعية هذا البيع كما تجريه المصارف الإسلامية. فذهب فريق من فقهاء العصر إلى أن هذا البيع لا يختلف في جوهره عن بيع المرابحة المعروف في الفقه الإسلامي كنوع من بيوع الأمانة. وذهب آخرون إلى أن منهج البنوك الإسلامية في هذا المسمى بالبيع لا يختلف عن منهج البنوك الربوية في الإقراض الربوي. واستدل كل فريق بأدلة كثيرة رأيناها في الأبحاث المقدمة للمؤتمرات، وفي الصحف والمجلات، كما نشر أكثر من كتاب يبحث هذا الموضوع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 786 فتوى المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي: ومن الفتاوى الجماعية المبكرة في هذا الموضوع ما صدر عن المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي الذي عقد بدبي سنة 1399هـ (1979 م) – أي بعد أربع سنوات من ظهور أول بنك إسلامي. ونص الفتوى ما يلي: الوعد بالشراء مرابحة: " يطلب العميل من المصرف شراء سلعة معينة، يحدد جميع أوصافها، ويحدد مع المصرف الثمن الذي سيشتريها به العميل بعد إضافة الربح الذي يتفق عليه بينهما، وهذا التعامل يتضمن وعدا من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها، ووعدا آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء طبقا لذات الشروط. ومثل هذا الوعد ملزم للطرفين طبقا لأحكام المذهب المالكي، وملزم للطرفين ديانة طبقا لأحكام المذاهب الأخرى، وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك، وأمكن للقضاء التدخل فيه. وتحتاج صيغ العقود في هذا التعامل إلى دقة شرعية فنية، وقد يحتاج الإلزام القانوني بها في بعض الدول الإسلامية إلى إصدار قانون بذلك " اهـ. ولعل المؤتمر لم يأخذ حظه من الإعداد الكافي، والفتوى ينقصها الدقة، فبيع المرابحة كما تجريه المصارف الإسلامية لا يجيزه المذهب المالكي، فضلًا عن أن يلزم به، وعارض الفتوى كثير ممن حضورا المؤتمر ممن لم يشاركوا فيه. ومع هذا فالمؤتمر يعد خطوة أسهمت في مناقشة الموضوع من جوانبه المختلفة ومهدت لعقد مؤتمرات أخرى للمصارف الإسلامية ولغيرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 787 المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي: وبعد أربع سنوات، أي سنة 1403 هـ (1983م) عقد المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي، بعد إعداد جيد، وكتابة قدر كاف من الأبحاث، ودعوة عدد كبير من فقهاء العصر ورجال الاقتصاد، وكان لبيع المرابحة النصيب الأوفى من البحث والمناقشة. وأصدر المؤتمر فتوى من جزأين: الجزء الأول صدر بالإجماع، والجزء الثاني اشتد حوله الخلاف، ولم يمكن الجمع بين الآراء المتعارضة، فصدر تبعا لرأي الفريق الأكثر عددا. الجزء الأول من الفتوى: " يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء: بعد تملك السلعة المشتراة للآمر، وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق، هو أمر جائز شرعا طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسئولية الهلاك قبل التسليم، وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي ". الجزء الثاني من الفتوى: " وأما بالنسيبة للوعد، وكونه ملزما للآمر أو للمصرف أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات، وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل، وإن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعا، وكل مصرف مخير في أخذ ما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه " اهـ. والجزء الأول من الفتوى كان له أثره الكبير في مسيرة المصارف الإسلامية، وفي قرارات هيئات الرقابة الشرعية المختلفة، وفي صياغة العقود لكثير من المصارف. أما الجزء الثاني فلا يزال الخلاف حوله قائما، ولذلك فقد أحسن مجمعكم الموقر إذ جعل لموضوع " الوفاء بالوعد " بحثا مستقلًّا. والجزء الأول وإن صدر بإجماع المشاركين غير أنا وجدنا من غيرهم من يعارضه، وفي انتظار قرار المجمع في دورته الحالية حيث لم يتمكن من إصدار قرار بشأن هذا البيع في دورته السابقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 788 في التطبيق العملي للمصارف الإسلامية: لعل الضوابط الشرعية التي ذكرت في هذا الجزء من الفتوى تعتبر الحد الأدنى اللازم ليكون البيع مقبولا شرعًا، إلا أنني وجدت بعض المصارف الإسلامية لم تلتزم بهذه الضوابط في التطبيق العملي مع موافقتها على الفتوى، ووجدت في التطبيق العملي أيضا أمورا أخرى رأيت أن أعرضها على مجمعكم الموقر ليقول فيها رأيه إسهاما في تصحيح مسار المصارف الإسلامية. وأبدأ بتقديم نموذجين لعقود الوعد بالشراء وبيع المرابحة، وكل نموذج تم التعامل به في مصرف إسلامي أو أكثر. النموذج الأول " الوعد " عقد وعد بالشراء إنه في يوم: الموافق: تم الاتفاق بين كل من: أولا: ويمثله السيد/ طرف أول ثانيا: السيد / السادة / طرف ثان المقدمة حيث إن الطرف الثاني يرغب في شراء / استيراد البضاعة المحددة المواصفات والكمية والمصدر على النحو المبين بطلب الشراء المؤرخ / / والمرقم الملحق بهذا العقد والمتمم له ونظرا لرغبة الطرف الثاني في الحصول على تمويل البضاعة من قبل الطرف الأول، لذا سيقوم الطرف الأول بشرائها ومن ثم بيعها للطرف الثاني إيفاء بوعد الشراء هذا ووفقا للشروط الآتية: المادة الأولى: تعتبر المقدمة بأعلاه جزءًا لا يتجزأ من هذا العقد ومتممة له. المادة الثانية: وعد الطرف الثاني الطرف الأول بشراء البضاعة المبنية آنفا وأبرم عقد البيع والشراء بمجرد استلام وكيل الطرفين (المتعاقدين) البضاعة من المستفيد. المادة الثالثة: يعتبر الناقلون بصفتهم وكلاء عاملون للنقل، وكلاء للطرفين باستلام البضاعة اعتبارا من وقت استلامها وحتى ميعاد الوصول لشروط الاعتماد المستندي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 789 المادة الرابعة: يكون البيع والشراء محل هذا الوعد على أساس المرابحة وبقيمة تكلفة البضاعة الكلية المشتملة على ثمنها وتكاليف شحنها وتأمينها وكافة المصاريف الأخرى بالإضافة إلى ربح الطرف الأول من مجموع التكلفة المذكورة وقدره --------------------------------- ويتحمل الطرف الثاني كامل الكلف الإضافية الطارئة إن وجدت ونتائج أية طوارئ قد تتعرض لها البضاعة عند استلامها من المستفيد كما ورد بالمادة الثانية. المادة الخامسة: وافق الطرف الثاني على دفع نسبة % من قيمة البضاعة عند توقيع هذا الوعد كتأمين لضمان تنفيذ التزاماته قبل الطرف الأول وتسديد ما تبقى من قيمة البضاعة الكلية وأرباح الطرف الأول الواردة في المادة الرابعة أعلاه على النحو التالي: -         المادة السادسة: يلتزم الطرفان بإبرام عقد المرابحة النهائي المتعلق بهذا الوعد بمجرد إبلاغ المستفيد أحد الطرفين بتسليم البضاعة. المادة السابعة: إذا امتنع أحد الطرفين عن تنفيذ هذا الوعد فيتحمل الطرف الممتنع أية أضرارا تلحق الطرف الآخر نتيجة لذلك ووفقا لما تحكم به هيئة التحكيم الواردة الذكر في المادة التاسعة من هذا العقد. المادة الثامنة: إذا امتنع المصدر الذي عينه الطرف الثاني عن تنفيذ الصفقة أو أخرها عن موعد التسليم المتفق عليه لا يكون الطرف الأول مسئولا عن أي ضرر يعود على الطرف الثاني الذي عليه أن يدفع كافة المصاريف التي تحملها الطرف الأول من جراء عدم تنفيذ المصدر، وفي هذه الحالة لا يعتبر الطرف الأول مخلا بالوعد. المادة التاسعة: في حالة نشوء أي نزاع بين الطرفين بشأن تنفيذ هذا العقد فإن هذا النزاع يعرض على هيئة تحكيم من ثلاثة محكمين ويختار كل طرف محكما ويختار المحكمان حكما ثالثا مرجحا، فإذا لم يتفق المحكمان على اختيار المحكم الثالث تتولى اختياره ------------------ خلال أسبوع من تاريخ نشوء النزاع بناء على أي طلب من الطرفين يتم الفصل في النزاع على أساس الشريعة الإسلامية ويكون حكم المحكمين سواء صدر بالإجماع أو بالأغلبية ملزما للطرفين غير قابل للطعن بالمعارضة ولا الاستئناف. المادة العاشرة: كل ما لم يرد ذكره في بنود هذا العقد يخضع للقوانين النافذة بدولة -------- بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية وعقد التأسيس للطرف الأول ومن اختصاص محاكم دولة -------- المادة الحادية عشرة: حرر هذا العقد من نسختين استلم كل طرف نسخة منه. الطرف الأول الطرف الثاني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 790 النموذج الأول " عقد البيع " عقد بيع مرابحة إنه في يوم الموافق حرر هذا العقد بين كل من: أولا: ويمثله السيد / طرف أول / بائع ثانيا: السيد / السادة طرف ثان / مشتري وذلك وفقا لما يلي: 1- يقر الطرف الثاني بأهليته الكاملة للتصرفات المالية عن نفسه أو بصفته   وأنه اطلع على النظام الأساسي ................. (الطرف الأول) لا يلتزم في تعامله معه وفقا لهذا النظام. 2- باع الطرف الأول للطرف الثاني القابل لتلك البضاعة المبينة أوصافها وكميتها بطلب الشراء المرفق بهذا العقد رقم بتاريخ / / 3- حدد الثمن الإجمالي للبضاعة بمبلغ   متضمنا الثمن الأساسي والمصاريف المدفوعة من الطرف الأول والربح المتفق عليه ويتعهد الطرف الثاني بسداده على النحو التالي         4- تم التوقيع على هذا العقد من قبل الطرفين بعد تسليم البضاعة من قبل المستفيد إلى وكيل الطرفين (الناقلين) ويكون العقد نافذا من تاريخه وتصبح البضاعة ملكا للطرف الثاني وتحت مسئوليته. 5- حيث أن الطرف الثاني هو الذي اختار المصدر وحدد مواصفات البضاعة فإن الطرف الأول ليس مسئولا عن أي نقص في البضاعة أو اختلاف في مواصفاتها وأن مسئولية ذلك تقع على عاتق الطرف الثاني طبقا لما هو متعارف عليه دوليا. 6- الرسوم الجمركية ومصاريف نقل البضاعة من ميناء الوصول إلى مخازن المشتري والتخليص عليها لا تدخل ضمن الثمن المتفق عليه بهذا العقد ويتحملها الطرف الثاني (المشتري) . 7- يتعهد الطرف الأول (البائع) بإخطار الطرف الثاني (المشتري) بوصول المستندات الخاصة بالبضاعة وتسليمه هذه المستندات بمجرد وصولها بعد إجراء اللازم في البند رقم (3) . 8- في حالة امتناع الطرف الثاني عن استلام المستندات الوارد ذكرها في البند السابق أو استلام البضاعة فمن حق الطرف الأول بيعها بالسعر السائد في حينه في بلد الوصول أو أي مكان آخر حسبما يراه الطرف الأول ولحساب الطرف الثاني وقبض الثمن لاستيفاء حقوقه وإعادة ما يزيد على ذلك للطرف الثاني وإن قل الثمن عن مستحقات الطرف الأول، كان له أن يرجع على الطرف الثاني بما بقي له في ذمته. 9- في حالة نشوء أي نزاع بين الطرفين بشأن تنفيذ هذا العقد فإن هذا النزاع يعرض على هيئة تحكيم من ثلاثة محكمين ويختار كل طرف محكما ويختار المحكمان محكما ثالثا مرجحا. فإذا لم يتفق المحكمان على اختيار المحكم الثالث تتولى اختياره ----------- خلال أسبوع من تاريخ نشوء النزاع بناء على أي طلب من الطرفين. يتم الفصل في النزاع على أساس الشريعة الإسلامية، ويكون حكم المحكمين سواء صدر بالإجماع أو بالأغلبية ملزما للطرفين غير قابل للطعن بالمعارضة ولا الاستئناف. 10- كل ما لم يرد ذكره في بنود هذا العقد يخضع للقوانين النافذة بدولة   بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية وعقد التأسيس للطرف الأول ومن اختصاص محاكم   11- حرر هذا العقد من نسختين استلم كل طرف نسخة منه. الطرف الأول " بائع " الطرف الثاني " مشترى " الجزء: 5 ¦ الصفحة: 791 تعقيب: عندما يرغب أحد في استيراد سلعة عن طريق الاقتراض من بنك ربوي فإنه يتفق مع البنك على القرض وفائدته، أي الربا الذي يلتزم به تبعا للزمن المتفق عليه، ويقوم البنك بفتح اعتماد مستندي للمقترض، ويستورد السلعة لحسابه، أي أنها تكون ملكا للمقترض، غير أن المستندات تأتي للبنك ويسلمها للعميل بعد اتخاذ ما يراه من إجراءات، ويمكن أن تظل البضاعة رهنا إلى أن تتم هذه الإجراءات. والبنك هنا يتعامل في مستندات تطابق شروط فتح الاعتماد، والتزامه يقف عند هذه المستندات ولا يتعداها إلى السلعة ذاتها. وعندما قامت المصارف الإسلامية رأت أن البديل الإسلامي كما سبق ذكره أن تقوم باستيراد السلعة لحسابها، ثم بيعها للعميل بالأجل عن طريق بيع المرابحة. وتبعا للجزء الأول من فتوى المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي – سواء أكان الوعد ملزما أو غير ملزم – فإن البنك لا يقوم بالبيع إلا بعد التملك والحيازة، ويقع عليه هو تبعة الهلاك قبل التسليم، والرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي بعد التسليم. وإذا نظرنا في النموذج السابق وجدناه يبعد كثيرا عما أفتى به المؤتمر، ويحكم العرف الدولي الذي ينظم الاعتمادات المستندية للبنوك الربوية لا الإسلامية. وتبعا لهذا النموذج فإن السلعة تنتقل ملكيتها – وما يتبع ذلك من ضمان – من المستفيد، أي المصدر، إلى العميل المستورد مباشرة دون أن تدخل في ملكية المصرف وضمانه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 792 وما ذكر من أن الشركة الناقلة وكيلة عن الطرفين، فهي تتسلم السلعة كوكيل عن المصرف، ويعتبر عقد البيع قد أبرم بمجرد هذا التسليم، وبالتالي تتسلم السلعة كوكيل عن العميل، هذا القول ممجوج مرفوض، فالشركة لا شأن لها بالبيع ولا بالشراء، ولم توكل لهذا أصلا، وإنما هي مختصة بالنقل، فالمصرف لم يوكلها لتبيع، والعميل لم يوكلها لتشتري، بل إن الأصل أن العميل ليس بينه وبين الشركة الناقلة أي نوع من العلاقة، فعلاقته بالمصرف، ولا يشتري إلا بعد أن تدخل السلعة في ملك المصرف وحيازته، ويتحمل مسئولية الهلاك قبل وصول السلعة وتسليمها، ولكن المصرف – كما يبدو من النموذج – اعتبر العميل قد اشترى بمجرد الشحن سواء أوافق أو عارض، فلم يشترط موافقة العميل لإتمام العقد. ولم يكتف المصرف بكل هذه المخالفات الشرعية، وإنما جاء إلى الضابط الشرعي الأخير بعد التسليم ومحاه محوا تاما، ثم أضاف مخالفة جديدة أبعد من هذا وأكثر شططا، حيث اعتبر العميل هو المسئول عن أي نقص في البضاعة أو اختلاف في مواصفاتها لما هو متعارف عليه دوليا. والمتعارف عليه دوليا إعطاء هذا الحق للبنك الربوي، حيث يتعامل في مستندات فقط لا في سلع، فهو لا يشتري لنفسه ولا يبيع، وإنما هو واسطة بين المستورد المشتري، والمصدر البائع، ومهمته مراجعة المستندات طبقا للاعتماد المستندي، وتسليمها للمستورد، وتسليم الثمن للمصدر. وإذا لم يتم هذا المسمى بالبيع بكل ما يحمله من مخالفات شرعية بعد فتح الاعتماد المستندي فإن العميل هو الذي يتحمل كافة المصاريف التي تحملها المصرف. وبهذا لا نرى أي فرق بين فتح الاعتماد المستندي – غير المغطى أو المغطى جزئيا لا كليا- في بنك ربوي وفي مصرف إسلامي يأخذ بمثل هذا العقد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 793 النموذج الثاني " الوعد " وعد بالشراء أنه في يوم / / 14 هـ الموافق / / 19 م قد تم الاتفاق بين كل من: 1- مصرف قطر الإسلامي طرف أول 2- طرف ثان على ما يلي: - المقدمة حيث إن الطرف الثاني يرغب في شراء البضاعة المحددة على النحو المبين بطلب الشراء بالمرابحة والمؤرخ / / والمرقم: فقد طلب الطرف الثاني من الطرف الأول القيام بشرائها ثم بيعها إيفاء بهذا الوعد منه بالشراء وفقا للشروط التالية: 1- يقر الطرف الثاني بأهليته للتصرفات المالية وأنه قد اطلع على القانون والنظام الأساسي لمصرف قطر الإسلامي (الطرف الأول) ويلتزم في تعامله معه وفقا لهذا النظام. 2- وعد الطرف الثاني الطرف الأول بشراء البضاعة المبينة آنفا وإبرام عقد البيع والشراء بمجرد إعلام الطرف الأول للطرف الثاني بأن البضاعة جاهزة للتسليم أو وصلت إلى ميناء ---------------------- ووردت مستنداتها. 3- شروط ومكان التسليم: ------------------------ 4- يكون البيع والشراء محل هذا العقد على أساس المرابحة وبقيمة التكلفة الكلية للبضاعة بالإضافة إلى ربح الطرف الأول بنسبة ----------- % من التكلفة الكلية. 5- وافق الطرف الثاني على دفع نسبة % من قيمة البضاعة عند التوقيع على هذا الوعد كعربون لضمان الجدية وتنفيذ التزاماته تجاه الطرف الأول والقيام بتسديد باقي القيمة البيعية للطرف الأول الواردة على النحو التالي:     6- في حالة امتناع الطرف الثاني عن تسلم البضاعة أو المستندات المتعلقة بها فإنه يعتبر ناقضًا لوعده وحينئذ فإنه من حق الطرف الأول بيعها واستيفاء حقوقه من الثمن وإن قل الثمن عن مستحقات الطرف الأول كان له أن يرجع على الطرف الثاني (المشتري) بمقدار ما تحمله من خسائر فعلية تترتب على ذلك وإن زاد ثمن البضاعة عن مستحقات الطرف الأول كانت هذه الزيادة خالصة له باعتباره مالكها. 7- إذا امتنع أحد الطرفين عن تنفيذ هذا الوعد أو قدم بيانات أو معلومات ومستندات غير صحيحة فيتحمل أية أضرار تلحق للطرف الآخر نتيجة لذلك. 8- في حالة ما إذا قام الطرف الثاني بتحديد المصدر فإنه يقر بعدم مسئولية المصرف في حالة عدم تنفيذ وعد الشراء لأسباب ترجع إلى المصدر ما دام المصرف قد وفى بالتزامه بفتح الاعتماد المستندي الضروري لاستيراد البضاعة في المدة المتفق عليها بطلب الشراء، كما يقر الطرف الثاني بعدم مسؤولية المصرف عن أية أضرار قد يتحملها نتيجة تأخر وصول البضاعة إذا تم شحنها خلال المدة المحددة في الاعتماد ويتعهد بشرائها وإبرام عقد البيع فور وصولها تنفيذا لهذا الوعد. 9- أي نزاع ينشأ حول تنفيذ هذا الوعد يكون من اختصاص محاكم دولة قطر. 10- حرر هذا الوعد من نسختين بيد كل طرف نسخة للعمل بموجبه. الطرف الأول الطرف الثاني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 794 بسم الله الرحمن الرحيم النموذج الثاني " عقد البيع " مصرف قطر الإسلامي شركة مساهمة قطرية عقد بيع بالمرابحة (نهائي) في يوم / / 14 هـ الموافق / / 19 م بمدينة الدوحة – قطر – حرر هذا العقد بين كل من: أولا مصرف قطر الإسلامي ويمثله في هذا العقد السيد / طرف أول: بصفته بائعًا ثانيا: السيد / السادة ومقره طرف ثان / بصفته مشتريًا وأقر الطرفان بصفتهما وأهليتهما القانونية للتعاقد واتفق على ما يلي: ... البند الأول ... تنفيذًا – لطلب الشراء رقم () بتاريخ / / ووعد الشراء المؤرخ في / / والذي يعتبر هو وطلب الشراء جزءًا لا يتجزأ من هذا العقد، باع الطرف الأول للطرف الثاني القابل لذلك البضاعة المبينة أوصافها وكمياتها أدناه: وصف البضاعة: -------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------- الكمية: -------------------------------------------- بوليصة الشحن رقم: --------------- وتاريخها: / / رقم الحاوية: ------------------------- الجزء: 5 ¦ الصفحة: 795 . البند الثاني.. حدد ثمن البضاعة بمبلغ ------------------------ متضمنا المصاريف وأرباح المصرف، ويتعهد الطرف الثاني بسداد الثمن الإجمالي المشار إليه أعلاه على النحو التالي: --------------------------------------------------------------------------- .. البند الثالث.. تم التوقيع على هذا العقد من قبل الطرفين المنوه عنهما بالبندين أولا وثانيًا بعد التأكد من حيازة الطرف الأول لهذه البضاعة. .. البند الرابع.. اتفق الطرفان على أن يكون التسليم هو ميناء الوصول، ومن ثم فإن أجور التفريغ والرسوم الجمركية ومصاريف نقل البضاعة من الميناء إلى مخازن المشتري والتخليص عليها لا تدخل ضمن الثمن الإجمالي للبضاعة المشار إليها بالبند الثاني من هذا العقد ويتحملها الطرف الثاني (المشتري وحده) ولا يحسب لها نسبة أو مقدار في الربح. .. البند الخامس.. وافق الطرف الثاني على تسلم المستندات المتعلقة بالبضاعة المبينة في هذا العقد بعد تظهيرها لصالحه من قبل الطرف الأول ويتعهد بتسلم البضاعة والتخليص عليها بمعرفته وذلك بمجرد تفريغها بجهة الوصول ويتحمل الطرف الثاني مصاريف الأرضيات وأجور التخزين في الميناء الناشئة عن التأخير في التخليص عن البضاعة محل هذا العقد. .. البند السادس.. تنتهي مسئولية الطرف الأول عن أية عيوب خفية أو ظاهرة بعد ثلاثة أيام من توقيع العقد بالمرابحة وتقع مسئولية تخزين البضائع وفقا للأصول الفنية على عاتق الطرف الثاني وحده ولا يحق له الرجوع على الطرف الأول بالنتائج التي قد تترتب على مخالفته ذلك. وإذا سبق أن وقع عقد بيع ابتدائي لنفس هذه البضاعة فإن مسؤولية الطرف الأول عن أية عيوب تعتبر منتهية بعد ثلاثة أيام من تاريخ توقيع ذلك العقد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 796 . البند السابع.. كل ما لم يرده ذكره في هذا العقد يخضع القوانين والأعراف التجارية النافذة بدولة قطر وبما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية وعقد تأسيس الطرف الأول ومن اختصاص المحاكم القطرية. .. البند الثامن.. لا يحق للطرف الثاني (المشتري) أن يتأخر في دفع الثمن بالكيفية الموضحة في هذا العقد كما لا يحق له أن يتأخر في دفع الأقساط المقررة عليه، وفي حالة تأخره عن دفع قسطين متتاليين أو في حالة مماطلته أو امتناعه عن الدفع تحل باقي الأقساط فورا دون تنبيه أو إنذار ويحق الطرف الأول في هذه الحالة أن يرجع على الطرف الثاني لاستيفاء كافة حقوقه الناتجة عن هذا العقد. .. البند التاسع.. أي خلاف ينشأ حول تطبيق أحكام هذا العقد أو عن أي شيء متفرع عنه أو له علاقة به يعرض الخلاف على لجنة تحكيم تشكل من ثلاثة أعضاء على الوجه التالي: - حكم يختاره الفريق الأول - حكم يختاره الفريق الثاني - حكم يختاره المحكمان الأولان ويتم الفصل في النزاع على أساس الشريعة الإسلامية، ويكون حكمهم، سواء صدر بالإجماع أو بالأغلبية، ملزما للفريقين، وغير قابل للطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن الجائزة قانونا. وفي حالة عدم توفر الأغلبية يحال الخلاف موضوع التحكيم إلى المحاكم القطرية. وتكون محاكم دولة قطر هي المختصة دون سواها، بالفصل في أي طلبات و / أو قضايا تنشأ بمقتضى التحكيم و / أو ناشئة و / أو متعلقة به و / أو بهذا العقد. .. البند العاشر.. حرر هذا العقد من نسختين بيد كل طرف نسخة للعمل بموجبه. الطرف الأول بصفته الطرف الثاني بصفته البائع المشتري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 797 تعقيب قبل افتتاح مصرف قطر الإسلامي استعان المسئولون بمن سبقهم في هذه التجربة، وأخذوا نماذج من العقود التي وجدوها عندهم، وعرضوها علي للنظر فيها قبل بدء العمل. واختاروا للمرابحة النموذج الأول، فطلبت منهم إحراقه لما رأيته من مخالفات شرعية، وأعطيتهم نموذجا آخر يسيرون عليه حتى تنتهي هيئة الرقابة الشرعية للمصرف من صياغة العقود المختلفة، وكان هذا النموذج الثاني هو ما انتهت إليها الهيئة. ويلاحظ أن هذا النموذج التزم بالجزء الأول الذي صدر بإجامع المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي، وراعى الضوابط الشرعية من التملك والحيازة، ومسئولية الهلاك قبل التسليم، وتبعة الرد بعد التسليم. ولذلك فهو يقوم بفتح الاعتماد المستندي لنفسه، وتصدر مستندات البيع من المصدر باسمه كمشتر، وباسمه أيضا تكون (بوليصة) الشحن والتأمين، ويتحمل مخاطر الطريق وعلى الأخص ما لا يدخل في ضمان شركات التأمين، كما يتحمل نقص البضاعة ومخالفتها للمواصفات، والعيوب الظاهرة والخفية. وتبعا لهذا أصيب المصرف بخسائر في بعض العمليات، ولكنها – بحمد الله تعالى – لم تكن كثيرة، وأثبتت بطريقة عملية الفرق بين بيع المرابحة والقرض الربوي. ويبقى الجزء الثاني الذي ثار حوله الجدل في المؤتمر المذكور: وشاركت في المؤتمر مع فضيلة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي، وكان مع القائلين بالإلزام بالوعد في بيع المرابحة، وكنت مع المعارضين، ثم أصبحنا معا في هيئة الرقابة الشرعية لمصرف قطر الإسلامي، وكان معنا عضو ثالث أيد رأي الشيخ القرضاوي، ودار النقاش، ثم انتهينا إلى هذه الصيغة المعروضة التي توفق بين الرأيين إلى حد ما، وإن كانت أقرب إلى رأي غيري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 798 والفرق بين النموذجين في آثار الالتزام بالوعد: أن النموذج الأول يجعل الموافقة على الوعد إلزاما بعقد البيع حتى وإن امتنع العميل بعد هذا عن تسلم المستندات وإتمام عقد البيع، وإذا باع المصرف السلعة حسبما يراه فإنه يبيعها باعتبارها ملكا للعميل الذي رفض التوقيع على العقد، ثم يأخذ التكاليف والربح، ويعطي العميل ما زاد عنها، ويعود عليه بما يقل عن التكاليف والربح معًا. أما النموذج الثاني فعقد البيع فيه لا يتم إلا بالتراضي، وعند امتناع العميل فإن المصرف يبيع السلعة باعتبارها لا تزال في ملكه، وإن ربح قليلًا أو كثيرًا فالربح له، وإن لم يربح ولم يخسر فلا يعود بشيء على العميل. ويبقى ما يعد شرطا يلتزم به الطرفان لتحمل الضرر نتيجة للوعد: فإن خسر المصرف عاد بمقدار الخسارة على العميل، وإن وقع ضرر على العميل يتحمله المصرف ما دام لم يلتزم بوعده، كأن يكون العميل دخل في مناقصة وترتب على عدم تنفيذه أن غرم مالًا، أو وعده المصرف ببيع آلات لمصنع أو مستشفى واستأجر العميل المكان وأنفق مالًا لإعداده، فهنا يلتزم المصرف بما غرمه العميل. فعقد البيع إذن لا يتم إلا بضوابطه الشرعية، ولكن هذا الشرط الذي وضع لمنع الضرر الذي يسببه أي طرف للآخر نتيجة للوعد أيقبل شرعًا أم لا؟ لعل مجمعكم الموقر يقول: كلمته: فإن أقر هذا اعتبرناه توفيقا بين الرأيين، وقدمناه للمصارف الإسلامية، وإن لم يقره أرحنا من الخلاف، والله عز وجل هو المستعان، وهو الأعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 799 مسائل أخرى في التطبيق العملي لبيع المرابحة: المسألة الأولى: في المرابحات الخارجية وجدت بعض المصارف تفتح الاعتماد المستندي باسم العميل، وتأتي المستندات باسمه، ومعنى هذا صراحة أن السلعة لا تدخل في ملك المصرف. وفي المرابحات المحلية قد يتفق العميل مع البائع، ثم يأتي للمصرف ليأخذ المبلغ الذي يريده، ويكتب عقد بيع المرابحة، ثم يقوم العميل بعد هذا بالشراء مباشرة من البائع. فالمصرف باع قبل أن يملك ويحوز، بل لم تدخل السلعة في ملكه وحيازته بعد هذا. المسألة الثانية: بيع المرابحة عن طريق تظهير (بوليصة) الشحن، وهذا يعني أنه لا حيازة، ولا ضمان، ولا تسليم ولا تسلم، ولا رؤية. وأحيانا يكون الشراء عن طريق التظهير، ثم يتم البيع مرابحة بالتظهير مرة أخرى. المسألة الثالثة: يوكل المصرف أحدا بالشراء، وبعد أن يتم الشراء، وتصبح السلعة أمانة في يد الوكيل، يطلب المصرف منه بيعها مرابحة بشروط معينة، إذا رغب الوكيل في الشراء لنفسه بهذه الشروط جاز بموافقة المصرف، وإذا لم يرغب، ولم يتمكن من بيعها بهذه الشروط، ظلت أمانة عنده. أجاز المجمع هذه الصورة. وجدت مصرفا يوكل غيره بالشراء، ويشترط على الوكيل أن يشتري لنفسه بمجرد شرائه للمصرف بشروط محددة للمرابحة. فتسلم الوكيل للسلعة المشتراة للمصرف يعتبر في الوقت نفسه تسلما للسلعة المبيعة من المصرف، أفيجوز هذا؟ علما بأن المصرف يحتج هنا بفتوى المجمع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 800 المسألة الرابعة: ما دامت السلعة في ملك البائع ولم يتم البيع، فلا يجوز جعل الضمان على طالب الشراء. غير أننا وجدنا – في بضع الحالات – أن طالب الشراء هو الذي يقوم بالتأمين على السلعة التي تشتريها المصرف عند الشحن وقبل أن يتم بيع المرابحة. وأحيانا يقوم المصرف بالتأمين ولكن (بوليصة) التأمين تصدر باسم طالب الشراء بدلا من إصدارها باسم المصرف مالك السلعة. المسألة الخامسة: من المشكلات التي تؤثر في مسيرة المصارف الإسلامية عدم التزام كثير من المدينين بدفع أقساط الديون في مواعيدها المتفق عليها، وقليل من هؤلاء ذو عسرة وأكثرهم يماطلون مع القدرة على الأداء نظرًا لأن المصارف الإسلامية لا تأخذ فوائد التأخير التي يلتزم بها هؤلاء مع البنوك الربوية. وكثير من المصارف لم تجد علاجا لهذه المشكلة، ووجدت حلا جزئيا في اللجوء إلى المزيد من الضمانات، غير أن بعض المصارف لجأت إلى حلول أخرى نرجو أن يقول المجمع فيها رأيه. ونذكر منها ما يأتي: أ- عند عجز المدين (المشتري) عن الدفع، وعلم المصرف بهذا، رأى – تقديرا لظروفه ورأفة به- أن يدخل مع هذا المدين في شركة بقيمة الدين وربما كان هذا التصرف يتعارض مع قول الحق تبارك وتعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة (280) ] . ب- ومن المصارف من لجأ إلى إعادة الاتفاق على نسبة الربح، بحيث تزيد هذه النسبة لصالح المصرف تبعا للزمن الذي يتأجل إليه الدفع. ولعل هذا مثل إعادة جدولة الديون الربوية، وربما كان فيه شبه من المبدأ الجاهلي " إما تقضي وإما أن تُرْبِي ". جـ- وبعض المصارف الإسلامية – وهي ليست قليلة – استحدثت إلزام المدين المماطل دفع تعويض عن الضرر الذي ألحقه بالمصرف نتيجة مماطلته، وحجز المال عن الاستثمار وتحقيق الربح. ولعل هذا الموضوع يحتاج إلى وقفة، نبين فيها وجهة نظر القائلين بهذا الرأي المدافعين عنه، وأثر هذا في التطبيق العملي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 801 هل للمصرف أخذ تعويض من المدين المماطل؟ رأي المجيزون أن الغني المماطل أوقع الضرر بالمصرف، فلولا مماطلته لضم هذا المال لباقي الأموال المستثمرة، ويمكن أن يقدر بمقدار الربح الذي حققه المصرف فعلا في مدة المماطلة. ولذلك أجازوا للمصرف أخذ تعويض بمقدار نسبة الربح التي كان يمكن أن يحققها دين المماطل لو استثمره المصرف، فمتى تبين المصرف الإسلامي أن المدين المماطل مليء غني أضاف إلى دينه نسبة تعادل التي حققها خلال مدة بقاء الدين في ذمته. وقد ناقشت بعض هؤلاء المجيزين، ووجدتهم يستدلون بثلاثة أحاديث شريفة، وبالمصلحة المرسلة التي يرون أنها تتفق مع مقاصد التشريع الإسلامي. والأحاديث الثلاثة هي: 1) ((مطل الغني ظلم)) 2) ((لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته)) . 3) ((لا ضرر ولا ضرار)) . والحديث الأول متفق عليه. قال ابن حجر في الفتح (4/446- الباب الأول من كتاب الحوالة) : " في الحديث الزجر عن المطل، واختلفت هل يعد فعله عمدا كبيرة أم لا؟ فالجمهور على أن فاعلها يفسق، لكن هل يثبت فسقه بمطله مرة واحدة أم لا؟ قال النووي: مقتضى مذهبنا اشتراط التكرار، ورده السبكي في شرح المنهاج بأن مقتضى مذهبنا عدمه، واستدل بأن منع الحق بعد طلبه، وابتغاء العذر عن أدائه، كالغصب، والغصب كبيرة ... وتسميته ظلما يشعر بكونه كبيرة، والكبيرة لا يشترط فيها التكرار، نعم لا يحكم عليه بذلك إلا بعد أن يظهر عدم عذره ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 802 والحديث الثاني " لَيُّ الواجد ... " ذكره السيوطي وأشار إلى رواته وهم: أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم. ورمز للحديث بالصحة. وقال المناوي في فيض القدير (5/400) : " عرضه: بأن يقول له المدين (ولعل الصحيح بأن يقول للمدين) : أنت ظالم، أنت مماطل، ونحوه ما ليس بقذف ولا فحش. وعقوبته: بأن يعزره القاضي على الأداء بنحو ضرب أو حبس حتى يؤدي ثم قال: " قال الحاكم: صحيح، وأقره الذهبي، ولم يضعفه أبو داود ". والحديث ذكره البخاري تعليقا، قال في " باب: لصاحب الحق مقال " من كتاب الاستقرار في صحيحه: ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَيُّ الواجد يحل عقوبته وعرضه)) قال سفيان: يقول مطلتني، وعقوبته: الحبس. وفي تغليق التعليق لابن حجر (3/318-320) ذكر طرقه المختلفة الموصولة، وقال كما قال في الفتح: إسناده حسن. والحديث الثالث: ((لا ضرر ولا ضرار)) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 803 ذكر السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 468) أن الحديث أخرجه مالك والشافعي مرسلا، وأحمد وعبد الرزاق وابن ماجه والطبراني، وفيه جابر الجعفي، وابن أبي شيبة من وجه آخر أقوى عنه، والدارقطني من وجه ثالث. وقال المناوي في فيض القدير (6/432) : الحديث حنسه النووي وقال: له طرق يقوى بعضها بعضا. وقال العلائي: للحديث شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به. والحديثان الأول والثاني ظاهران في ظلم الغني المماطل، واستحقاقه للعقاب، وهما مما يحتج به. والعقوبة هنا تعزيرية، وذهب الجمهور إلى أن العقوبة هنا هي الحبس، وإن جاز في التعزير غيره كالضرب والتوبيخ، وما دام الهدف من العقوبة التعزيرية الردع والزجر وأداء الحقوق، وليس في العقوبة هنا حد مقرر، فالأمر إذن فيه متسع أمام القاضي أو ولي الأمر، فقد يرى في التوبيخ الكفاية، وقد يرى ضرورة الضرب مع الحبس، والأمر لا يستدعي كبير خلاف ما دام الحكم يصدر من عادل غير محكم للهوى والتشهي. والحديث الثالث: ينهى عن الضرر، ومن القواعد الشرعية المعروفة أن الضرر يزال، والمصرف لحقه ضرر فيجب أن يزال. ومن المعروف أن الدائن ليس له إلا دينه، سواء أخذه وقت استحقاقه، أم بعد مدة المطل، وما أجاز أحد من الفقهاء، أن يدفع المدين قدرا زائدا عن الدين لعقوبة تعزيرية، ولو قيل: يدفع مقابل الزمن، فهذا هو عين الربا. قال المجيزون: " إن المصلحة تقتضي منع المماطل من استغلال أموال المسلمين ظلما وعدوانا "، وإذا كانت الفائدة الربوية تمنع المطل مع البنوك الربوية، فإن الإسلام لا يعجز عن أن يوجد حلا لمشكلة المطل التي تعاني منها المصارف الإسلامية، وإذا كان الفقهاء السابقون رأوا أن تكون العقوبة الحبس، وهذا غير مطبق الآن، فعلى فقهاء العصر أن يجتهدوا لإيجاد الحل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 804 ثم أضافوا: " والقدر الذي نرى أن يتحمله المماطل هو ما يقابل الربح الفعلي للمصرف، فهذا ليس من باب الربا، ولكنه من باب منع الضرر الذي يلحق بالمصرف ". وربما كان من الصعب التفرقة بين ما ذهب إليه هؤلاء وبين الربا. ويبقى هنا كذلك أن نسأل: ما الهدف من العقوبة التعزيرية؟ ومن الذي يحدد هذه العقوبة؟ ومن الذي يأمر بإيقاعها؟ أو يقوم بتنفيذها؟ أفيمكن أن يكون شيء من هذا للمصرف؟ لو جاز أن يكون للمصرف استحداث عقوبة تعزيرية يوقعها بالعميل، وهي تشتبه بالربا، إن لم تكن هي الربا بعينه، فمن باب أولى أن يكون له الحق في العقوبة التعزيرية المقررة كالحبس أو الضرب؟ ونأتي إلى الجانب التطبيقي لنرى هل تحقق الهدف من هذه العقوبة؟ بعض المصارف رأت أن المتعاملين معها الذين لا يؤدون الأقساط في مواعيدها بلغوا من الكثرة حدا يصعب معه النظر في كل حالة، والتفرقة بين مطل الغني وعجز الفقير، كما توجد عوامل أخرى تزيد الأمر صعوبة، ولذلك عند تأخر أي مدين عن الأداء يضاف على دينه ما يقابل الربح الذي يعلنه المصرف في حينه، ولا يستطيع أي أحد أن يفرق بين هذا وبين الربا المحرم. وقد يقال: إن هذا خطأ في التطبيق لا في الفتوى، ولكن على المفتي أن ينظر إلى ما يمكن تطبيقه. وبعض المصارف الأخرى تمسكت بنص الفتوى، فكانت ترسل للعميل أولا حتى تتأكد من المطل قبل إنزال العقوبة. ويلاحظ هنا أن الأرباح التي تحققها المصارف الإٍسلامية أقل من الفوائد الربوية في أوقات كثيرة فالذين يستحلون هذه الفوائد استمروا في مطلهم غير عابئين بما يضيفه المصرف الإسلامي. وبذلك تحولت العقوبة التعزيرية إلى زيادة ترتبط بربح المصرف والزمن، ورضي بهذا الطرفان، فهل تحقق الهدف من العقوبة التعزيرية؟ أم تحولت العقوبة إلى نوع جديد من الربا؟ ويبقى هنا أيضا أن نسأل: إذا لم يكن هذا التصرف مشروعا- وأظنه غير مشروع – فهل نجد عند مجمعكم الموقر حلا لمشكلة الأموال الضخمة التي يستحلها الأغنياء القادرون المماطلون؟ نرجو أن يتسع وقت المجمع لبحث هذا الموضوع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 805 الخاتمة بعد هذه الدراسة لبعض الجوانب التطبيقية لبيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية، أرجو ألا يكتفي المجمع بالفتوى من الناحية النظرية، وأن يبين ما يجوز وما لا يجوز مما ذكرته في هذه الدراسة، حتى نساعد المصارف الإسلامية لتصحح مسيرتها، وتبتعد عن الأخطاء في مجال التطبيق العملي. والله عز وجل هو المستعان، نعم المولى ونعم النصير، وهو الهادي إلى سواء السبيل. " سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين " الدكتور / علي أحمد السالوس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 806 بيع المرابحة للآمر بالشراء إعداد الدكتور سامي حسن محمود المدير العام مركز البركة للبحوث والاستشارات المالية الإسلامية عمان – المملكة الأردنية الهاشمية بيان المحتويات مقدمة الموضوع الفرع الأول: أهمية بيع المرابحة للآمر بالشراء واستعمالاته. الفرع الثاني: الوجه الفقهي لتخريج الصيغة المستحدثة. الفرع الثالث: وجوه الاعتراض على بيع المرابحة للآمر بالشراء 1- هل المرابحة للآمر بالشراء من بيع العينة؟ 2- مسألة الإلزام بالوعد 3- نقطة المخاطرة برأس المال. الخاتمة بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الموضوع: يعتبر بيع المرابحة للآمر بالشراء في مجال التطبيق المعاصر للمعاملات الشرعية أنه تعامل حديث دعت إليه الحاجة ورسخت جذوره الظروف السائدة في غالب المجتمعات الإسلامية وأعلت راياته المصارف الإسلامية بما توسعت به في طرق استعمال هذه الصيغة المستحدثة. وقد كان بيع المرابحة للآمر بالشراء بصورته المعروفة حاليًا في التعامل المصرفي كشفًا وفق الله إليه الباحث أثناء إعداده لرسالة الدكتوراه في الفترة الواقعة بين 1973- 1976 (1) حيث تم التوصل إلى هذا العنوان الاصطلاحي بتوجيه من الأستاذ الشيخ العلامة محمد فرج السنهوري- رحمه الله تعالى – حيث كان أستاذ مادة الفقه الإسلامي المقارن للدراسات العليا بكلية الحقوق بجامعة القاهرة.   (1) نوقشت رسالة الباحث للدكتوراه في 30/ 6 / 1976وكانت بعنوان " تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية " وكانت لجنة المناقشة مؤلفة من كل من الأساتذة الأفاضل: - الشيخ زكريا البري (المشرف على إعداد الرسالة من الناحية الفقهية) – الدكتور علي جمال الدين عوض (المشرف من الناحية القانونية) – الشيخ عبد الله المشد – (عضو اللجنة المناقشة) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 807 وعندما صدر القانون المؤقت رقم 13 لسنة 1978 بتأسيس البنك الإسلامي الأردني (وهو القانون الذي تولى الباحث إعداد صيغته الأولية حين كان مقرر اللجنة التحضيرية) وافقت لجنة الفتوى الأردنية بوزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية على تعريف مقترح لبيع المرابحة للآمر بالشراء وهو التعريف الذي تضمنته المادة الثانية من القانون المشار إليه حيث جاء النص عليه كما يلي: بيع المرابحة للآمر بالشراء يعني: قيام البنك بتنفيذ طلب المتعاقد معه على أساس شراء الأول ما يطلبه الثاني بالنقد الذي يدفعه البنك – كليًّا أو جزئيًّا – وذلك في مقابل التزام الطالب بشراء ما أمر به وحسب الربح المتفق عند الابتداء (1) . وقد تثبت هذا النص بتمامه عند صدور القانون الدائم للبنك الإسلامي الأردني وهو القانون رقم 62 لسنة 1985. وقد شاعت صيغة بيع المرابحة للآمر بالشراء وتلقفتها البنوك الإسلامية الناشئة في البلاد الإسلامية وخارجها، واعتمد عليها البنك الإسلامي للتنمية في مجال التجارة الخارجية حيث صارت هذه الصيغة تمثل النسبة الغالبة من تعامل البنوك الإسلامية على اختلاف مواقعها وأنشطتها. وكان من الطبيعي أن تتعرض هذه الصيغة للنقد والجرح بما يتناسب مع درجة الشيوع والذيوع فكان أن تعرض بيع المرابحة للآمر بالشراء إلى زوابع من الكلام المحق حينًا وغير المحق في غالب الأحيان. ومرادنا في هذا البحث الموجز يتمثل في توضيح حقيقة هذه الصيغة لتقويم الاعوجاج في التطبيق – إذا وجد – وإبعاد المغالاة والإغراق في الشكليات البعيدة عن درب اليسر والتيسير الذي ميز الله – سبحانه وتعالى – شريعته الخالدة على مر العصور والأزمان. والله المستعان والمرتجى في كل حين وآن. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته". الدكتور / سامي حمود   (1) انظر في ذلك مجموعة الأعمال التحضيرية لمشروع قانون البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار مع الأسباب الموجبة والمذكرة الإيضاحية – إعداد الدكتور سامي حمود – مقرر اللجنة التحضيرية، وقد كانت لجنة الفتوى، والخبراء الذين انضموا إليها لمناقشة وضع مادة مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني مؤلفة من الأساتذة: - (الشيخ محمد عبده هاشم المفتي العام، الشيخ عز الدين الخطيب، الشيخ محمد أبو سردانه، الشيخ أسعد بيوض التميمي، الدكتور إبراهيم زيد الكيلاني، الدكتور عبد السلام العبادي، الدكتور ياسين الدرادكه. – كما انضم إلى لجنة الفتوى – بتكليف من وزير الأوقاف آنذاك – كل من – سماحة الشيخ عبد الحميد السائح والدكتور محمد سقر) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 808 الفرع الأول: أهمية بيع المرابحة للآمر بالشراء واستعمالاته: تتمثل أهمية بيع المرابحة للآمر بالشراء في أنه يحقق أمرين رئيسين هما: 1- أنه يغطي جانبًا من جوانب الحاجة التي لا يمكن تحقيقها عن طريق الصيغ المعروفة في المعاملات المبحوثة في الفقه الإسلامي كالمضاربة والمشاركة وذلك باعتبار هاتين الصيغتين هما أبرز صيغ التمويل والاستثمار الحلال. فالمضاربة مثلًا فيها تمويل ولكنه تمويل مقصود به العمل من أجل تحقيق الربح، وسواء كان ذلك بطريق تقليب رأس المال في التجارة أو التصرف فيه بالصناعة والزراعة وغير ذلك من الأعمال عند من يرى إمكان شمول المضاربة للأنشطة الأخرى عدا المتاجرة بالسلع انطلاقًا من إطلاق المضاربة على كل عمل يراد به تنمية المال حسبما يرى فقهاء المذهب الحنبلي بشكل مفصل (1) . ولكن كيف يكون الحال لو أن شخصا ما يحتاج إلى آلة خاصة باستعماله الشخصي مثل السيارة أو جهاز التلفاز أو الأثاث المنزلي؟ وماذا يكون الحل لو أنا جهة ما تحتاج إلى أدوات ليست للتجارة بل من أجل تقدم الخدمات للمجتمع، مثل احتياج البلدية لشراء أنابيب لإيصال المياه إلى المواطنين أو سيارات لنقل النفايات؟ فأين يكون موضوع المضاربة هنا؟ من أجل ذلك كان تفكير الباحث متجهًا إلى تكميل صورة العمل المصرفي الإسلامي بحيث يكون قادرًا على تغطية مختلف الاحتياجات. وليس من سبيل لذلك سوى أسلوب بيع المرابحة للآمر بالشراء حيث يحدد صاحب الحاجة ما يرغب فيه ويقوم المصرف الإٍسلامي بالشراء بناء على طلب صاحب الحاجة وبحسب ما يحدده من مواصفات لكي يبيع عليه ما اشتراه بناء على طلبه بعد إضافة الربح المتفق عليه. 2- أما الأمر الثاني الذي تحققه صيغة بيع المرابحة للآمر بالشراء فإنه يتمثل في القالب العملي الذي يتمتع بالمرونة والملاءمة لطبيعة العمل المصرفي المعاصر وذلك ضمن إطار الالتزام بالضوابط الشرعية. فالمصرف الإسلامي – شأنه في ذلك شأن أي مصرف آخر – ليس تاجر اقتناء للسلع والبضائع والخدمات، ولكنه مدير مدبر للاحتياجات.   (1) للتوسع في ذلك يمكن الرجوع إلى بحث " حقيقة المضاربة والعمل الذي تشمله " في كتاب سامي حمود " تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية " الطبعة الثانية " عمان – توزيع دار الفكر، 1982 " الصفحات 369 - 381 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 809 فالمصرف الإسلامي لا يستطيع – حتى لو أراد ذلك – أن يكون مخزنًا عالميًّا لكي يشتري ويقتني من أجل البيع والشراء كل ما يخطر على بال الناس من السلع التي قد يحتاجون إليها في أعمالهم وأغراضهم ومتطلباتهم. ولكن هذا المصرف يستطيع أن يشتري ما يطلبه من صاحب الحاجة وفقًا لظروف كل حالة بحالتها. ويمثل هذا الباب من أبواب التعامل نوعًا من الاستثمار الذي يغلب عليه عنصر البعد عن مسببات الخسارة التي قد تنتج من جراء الإقدام على شراء السلع يصيبها الكساد أو التلف أو يزيد في كلفتها التخزين والحراسة والضوابط الإدارية. فما الوجه الفقهي الذي اعتمد عليه في تخريج هذه الصيغة العملية؟ الفرع الثاني: الوجه الفقهي لتخريج صيغة بيع المرابحة للآمر بالشراء: كانت العمدة في تخريج صيغة بيع المرابحة للآمر بالشراء مبنية على ما ذكر في كتاب الأم للإمام الشافعي – رحمه الله تعالى – حيث أورد فيه ما يلي (1) : " ... وإذا أرى الرجل الرجل السلعة، فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا فاشتراها الرجل. فالشراء جائز والذي قال أربحك فيها بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعًا وإن شاء تركه. وهكذا أن قال اشتر لي متاعًا ووصفه له , أو متاعًا أي متاع شئت: وأنا أربحك فيه فكل هذا سواء، يجوز البيع الأول ويكون فيما أعطى من نفسه بالخيار، وسواء في هذا ما وصفت، إن كان قال ابتعه وأشتريه منك بنقد أو دين يجوز البيع الأول ويكونان بالخيار في البيع الآخر فإن جدداه جاز. وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ من قبل شيئين – أحدهما أنه تبايعاه قبل (أن) يملكه البائع والثاني أنه على مخاطرة أنك إن اشتريته على كذا أربحك فيه كذا ". فالواضح هنا من كلام الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى – أن المبادرة في الطلب تتم من الراغب في شراء السلعة وأنه يرى الطرف الثاني السلعة ويطلب منه أن يشتريها على أساس أنه يعد بشرائها منه بالثمن المدفوع في السلعة زائد الربح المتفق عليه من الابتداء. فهذه العملية هي عملية مركبة من وعد بالشراء من طرف الآمر وبيع المرابحة من طرف المأمور وهذا هو الوجه الذي رآه فضيلة الأستاذ الشيخ محمد فرج السنهوري – رحمه الله تعالى – عند عرض المسألة عليه في مقابلة شخصية بمنزلة بالمعادي بتاريخ 9 / 8 / 1975. وإذا كانت المرابحة قد بحثت في معظم المؤلفات الفقهية عند مختلف المذاهب الإسلامية فإن هذه المرابحة ليست إلا بيعًا مبنيًّا على بيان رأس المال ومقدار الربح. وأما الأمر الذي تفرد به الإمام الشافعي في الصورة المذكورة في كتاب الأم فإنه يتمثل في انتقال المبادرة من المورد للسلعة إلى الراغب في الشراء الذي يطلب من الطرف الآخر أن يشتري سلعة معينة بالذات أو موصوفة بمواصفات محددة.   (1) الإمام الشافعي، كتاب الأم، الطبعة الأولى، تصحيح محمد زهدي النجار – (القاهرة مكتبة الكليات الأزهرية، 1961) ، صفحة 39 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 810 فالطبيب الذي يحتاج إلى جهاز خاص بتخطيط القلب مثلًا يحدد هو مواصفات الجهاز الذي يريده وقد يحدد كذلك اسم الشركة الصانعة ويقوم بالاتصال معها لمعرفة السعر وموعد التسليم وإمكانية إضافة المزايا التي يحبذ وجودها في الجهاز، فإذا تم له ذلك فإنه يأتي إلى الشخص أو المصرف الذي يملك القدرة على شراء مثل هذا الجهاز طالبًا منه أن يشتريه على أساس الوعد منه بشراء الجهاز المطلوب بسعر التكلفة (رأس المال + المصاريف) بالإضافة إلى ربح محدد سلفًا. فالعملية هنا تواعد من طرفين ثم تنفيذ يتم فيه إنجاز المبايعة المتواعد عليها. والتواعد في العقود الشرعية جائز طالما أن البيع جائز، والتنفيذ هو إنجاز يتم بطريق إبرام البيع المتواعد عليه. ويشترط في التواعد المبتدأ والتبايع اللاحق ما يشترط في العقود بوجه عام سواء من حيث العاقدين أو المحل أو غير ذلك من شرائط الانعقاد. فإذا وجدت هذه الأركان صحيحة فإنه ليس هناك ما يمنع المواعدة في البيع الحلال أولًا ثم إجراء المبايعة بعد أن يمتلك البائع ما هو مطلوب شراؤه من الآمر. أما ما يقال من أن المقصود بعقد المرابحة للآمر بالشراء هو التمول أي بمعنى الحصول على النقود عن طريق البيع فليس له اعتبار عند النظر الفقهي الدقيق لصيغة هذا التعاقد إذا جرى بشكله الصحيح، فإذا كان هناك انزلاق في التطبيق لدى بعض الجهات التي تتعامل بالمرابحة سواء من قبل المصارف الإسلامية نفسها أو من قبل المتعاملين معها، فإن هذه المخالفات يجب أن تصحح لكي ترد إلى جادة الحق والالتزام بضوابط الشرع ولا يكون الحل بالتوجيه إلى إغلاق أبواب اليسر في شريعة الله الرحمن الرحيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 811 وإن ما يعتذر به البعض لأنفسهم من هذا التشدد، في التحوط لحماية شرع الله – كما يظنون – لا محل له في التطبيق العملي في حياة الناس، وإلا كان موقف هؤلاء يشبه موقف من ينادي بتحريم زراعة العنب، لأن عصير العنب قد يصنع منه الخمر التي حرمها الله. فهل يقبل بذلك التحوط إنسان مسلم وله فهم بمقاصد الشريعة الإسلامية في الحياة؟ إن ما يهم المسلم المؤمن برسالة الإسلام أن يكون العقد الذي يتعامل به وذلك التصرف الذي يقوم به متفقا مع الشريعة وأن يكون مبنيا على وجه فقهي صحيح. وطالما أن التعاقد وارد على بيع جائز شرعًا وأن شرائط انعقاد العقد صحيحه بالنسبة لذلك البيع، فإن الوعد والتواعد على إبرام العقد الشرعي الصحيح تكون صحيحة في كل عقد يجوز تلك المواعدة. وما يهمنا في صيغة المرابحة للآمر بالشراء هو توفر الشروط التالية: 1- أن تكون الشيء المراد شراؤه مما يجوز للمسلم أن يتملكه فلا تجوز المواعدة لشراء الخمر أو الخنزير مثلًا. 2- أن يكون ذلك الشيء موجودًا أو قابلًا لأن يوجد في السوق. 3- أن يكون قابلًا للتحديد بالوصف المنضبط إذا لم يمكن معيانته بالذات. 4- أن يكون هناك تفريق بين التواعد والتبايع بحيث لا تتم المبايعة إلا بعد ثبوت التملك لدى البائع بحيث تمر عملية الامتلاك بذمته ليكون التمليك صادرًا ممن يملك أولًا ولكي يكون هناك مجال للقول بالضمان إذا تبين أن هناك تلفًا أو عيبًا خفيًّا أو غير ذلك من أسباب الضمان. وليس يهمنا التقيد بالشكل عند من يربطون التملك بالحيازة المادية لأن ذلك ليس شرطًا من شرائط انعقاد العقود الشريعة حيث يكون التسليم أثرًا من آثار الانعقاد وليس ركنًا فيه. فقد يشتري الإنسان الشيء ويبقيه عند البائع كوديعة. حيث تنقلب يد البائع الأول من يد ملك إلى يد أمانة، فإذا باع هذا الإنسان ما اشتراه بعد أن يصبح معينًا إلى شخص آخر فإنه يبيع مما يملك ويقع عليه ضمانه حتى يتسلمه المشتري الأخير سليمًا خاليًا من العيوب الموجبة لرد البيع. وهذا هو الوجه الفقهي الذي نراه لتخريج صيغة بيع بالمرابحة للآمر بالشراء في حدود الفهم الذي تيسر لنا اغترافه من بحر الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان. فما هي وجوه الاعتراض على هذه الصيغة التي كانت العمود الفقري لنجاح العمل المصرفي الإسلامي في التطبيق المعاصر؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 812 الفرع الثالث: وجوه الاعتراض على بيع المرابحة للآمر بالشراء: تعرضت صيغة بيع المرابحة للآمر بالشراء إلى النقد والتجريح بدرجات متفاوته ابتداء من الاعتراض على أساس المعاملة وانتهاء بالاعتراض على مسألة الإلزام في الوعد. وليس يهمنا اعتراض ذلك الفريق من الناس المعتادين على حمل العصا في وجه كل فكرة مستحدثة لكي يغلقوا أبواب الرحمة في هذا الدين الذي بعث الله نبيه به ليكون رحمة للعاملين، كما لا يهمنا أولئك الذين يحسبون أنفسهم أنهم قوامون على أبواب الاجتهاد حيث يريدون إقفال ما تركه رب العباد مفتوحًا لكي تتبارى فيه العقول والأفهام. وإنما يهمنا فقط أن نناقش وجوه الاعتراض الفقهي على بيع المرابحة للآمر بالشراء لنرى ما إذا كانت هذه الاعتراضات جديرة بالاعتبار. جمع الأستاذ الفاضل الدكتور يوسف القرضاوي اعتراضات المعترضين في ست نقاط حيث تولى الرد على هذه الاعتراضات في كتاب أصدره بعنوان " بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية ". وهذه النقاط الستة هي: (1) 1- إن هذه المعاملة ليست بيعًا ولا شراء وإنما هي حيلة لأخذ الربا. 2- إن أحدًا من فقهاء الأمة لم يقل بحلها. 3- إنها من بيوع العينة وهي محرمة. 4- إنها بيعتان في بيعة وذلك منهي عنه. 5- إنها تدخل في بيع ما لا يملك وهو ممنوع. 6- إن فيها إلزامًا بالوعد وهو إيجاب لما لم يوجبه الله تعالى وتقييد لما أطلقه. وقد تولى الدكتور القرضاوي – جزاه الله خيرًا – تفصيل القول في هذه النقاط الستة بما يفي بغاية البحث وبحيث لا أرى مجالًا للزيادة على ما أورده حيث يستطيع من شاء الإطلاع أن يرجع إلى كتابه المشار إليه، ويهمنا فقط أن نختار لتوضيح نقطتين تتطلبان التركيز في الإيضاح مما أورده فضيلة الدكتور القرضاوي وذلك بالإضافة إلى نقطة ثالثة جديدة وجه إليها النظر الدكتور عبد السلام العبادي في محادثة شخصية جرت معه بهذا الخصوص (2) .   (1) يوسف القرضاوي، بيع المرابحة للآمر بالشراء، كما تجريه المصارف الإسلامية، الطبعة الأولى (الكويت: دار القلم، 1983) صفحة 37 (2) الدكتور عبد السلام العبادي – مناقشة شخصية بتاريخ 26 / 9 / 1988 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 813 أ – الاعتراض الوارد على تصنيف بيع المرابحة للآمر بالشراء ضمن بيوع العينة المحرمة. شبه بعض الكاتبين الصورة الواردة في كتاب الأم بما أورده المالكية في كتبهم حيث قالا بأن من صور العينة أن يقول الرجل: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقدًا وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل قال ابن رشد (الجد) في المقدمات فذلك حرام لا يحل ولا يجوز، لأنه رجل ازداد في سلفه (1) . وقال الدريدير في " الشرع الصغير " العينة جائزة إلا أن يقول الطالب: اشترها بعشرة نقدًا وأنا آخذها منك باثنى عشر إلى أجل، فتمنع، لما فيه من تهمة سلف جر نفعًا، لأنه كأنه سلفه عشرة- ثمن السلعة – يأخذ عنها بعد الأجل اثنى عشر (2) . والصورة هنا – كما هو واضح – تختلف عن الصورة الواردة في كتاب الأم من حيث أسس بناء التصور والمفهوم والمقصود. فالتصور في هذه الصورة التي أوردها المالكية هو أن الراغب في الشراء يطلب من الشخص المعنى أن يشتري السلعة له (أي للراغب نفسه) حيث يقول له اشتر لي سلعة كذا وهذا يعني أنه يوكله الشراء، والوكيل كما هو معروف أمين فإذا هلك ما تحت يده بلا تعد ولا تقصير فإنه يهلك على ملك الأصيل. فلا محل لمرور الضمان هنا بذمة المشتري الوسيط حيث يصبح الثمن المدفوع قرضًا أو سلفًا بدأ بعشرة دراهم وانتهى باثني عشر درهمًا، وهذا حرام لأن فيه سلفا وزيادة، وهذا ما أوضحه الدردير في الشرح الصغير حين قال كأنه سلفه عشرة (ثمن السلعة) ليأخذ عنها بعد الأجل مقدار اثنى عشر. أما الصورة التي أوردها الإمام الشافعي فهي تتناول صورة الشراء الكامل من جانب المطلوب منه الشراء. وهو شراء حقيقي يتطلب المرور بذمته وذلك بدليل أن هناك حاجة إلى إجراء عقد البيع اللاحق فإذا لم يتم عقد ذلك البيع فلا بيع بينهما. فهنا لا بد من وجود اتفاقين منفصلين يتضمن الأول منهما المواعدة ثم يتم في الثاني إتمام العقد وذلك أمر قد يتحقق وقد لا يتحقق، حيث يحتلم عدم وجود السلعة أو عدم تمكن المأمور بالشراء من الحصول عليها بالسعر الذي يحدده الآمر أو بالوصف الذي يطلبه. ثم قد يحدث التملك ولكنه يعجز عن التسليم إلى غير ذلك من أحوال.   (1) الشرح الصغير ج 3ص 129 طبعة دار المعارف نقلًا عن كتاب القرضاوي – بيع المرابحة للآمر بالشراء صفحة 55 (2) الشرح الصغير ج 3 ص 129 طبعة دار المعارف نقلًا عن كتاب القرضاوي – بيع المرابحة للآمر بالشراء، صفحة 55 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 814 ب- الاعتراض الوارد على مسألة الإلزام بالوعد: أثار العديد من الكاتبين في موضوع المرابحة مسألة الإلزام في المواعدة التي تتضمنها صيغة بيع المرابحة للآمر بالشراء. وقد تعددت وجهات النظر المطروحة حول هذه المسألة: أ- فهناك من يرى لزوم الوعد لطرفي الاتفاق وهما التزام الآمر بالشراء فيما يعد بشراء ما أمر به، وكذلك التزام المطلوب منه ببيع ما يشتريه بناء على طلب الآمر. وهذا الرأي هو ما أخذت به لجنة الفتوى في المملكة الأردنية الهاشمية عند مناقشة مشروع قانون تأسيس البنك الإسلامي الأردني (1) ، كما أخذ به كذلك بيت التمويل الكويتي وبنك دبي الإسلامي وهو رأي له ما يبرره من ناحية الوفاء بالعهود ودين الإسلام، كما ينسجم مع الاتجاه الذي اختاره القانون المدني الأردني المستمد من الفقه الإسلامي من ناحية اعتبار الوعد ملزمًا. ب - وهناك من يرى لزوم الوعد بالنسبة للمطلوب منه حيث يكون هو ملزمًا بالبيع أما الآمر بالشراء فهو غير ملزَم. وهذا هو ما علمت من الأستاذ الفاضل الدكتور صديق الضرير أنه أفتى به لبنك فيصل الإسلامي المصري، ولم أستطع أن أفهم سببًا لهذا التفريق بلا موجب لوجود هذا الفرق. جـ- وهناك من يرى عدم لزوم الوعد للجانبين حيث يكون كل منهما حرًّا في أن يكمل العملية ليبيع المطلوب منه ما اشتراه بناء على طلب الآمر أو يعدل عن ذلك كما يشاء، وكذلك يكون الآمر حرًّا في أن يشتري ما أمر به أو يعدل عن الشراء. وهذا ما يراه البعض من الكاتبين في الفقه الإسلامي الذين تصدوا للمسألة وخالفوا مسألة القول بلزوم الوعد، ومن أبرزهم الأستاذ الدكتور محمد سليمان الأشقر الباحث بموسوعة الفقه الإسلامي بالكويت والدكتور رفيق المصري الباحث بمركز الاقتصاد الإسلامي التابع لجامعة الملك عبد العزيز في جدة والدكتور على السالوس الأستاذ المساعد بكلية الشريعة بجامعة قطر والدكتور حسن عبد الله الأمين الباحث بالمعهد الإسلامي للتدريب والبحوث التابع للبنك الإسلامي للتنمية بجدة.   (1) انظر – مجموعة أعمال اللجنة التحضيرية للبنك الإسلامي الأردني – تجميع مقرر اللجنة التحضيرية (الدكتور سامي حمود) مطبوعة على الآلة الكاتبة، الصفحة 21 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 815 وقد تنوعت وجهات النظر المثارة حول هذه المسألة بحيث يمكن إجمالها في النقاط التالية: 1- إن القول الوارد في مذهب الإمام مالك في الإلزام بالوعد إنما يتعلق بمسائل المعروف والإحسان دون عقود المعاوضات. وهذا الاعتراض لا يتفق مع المثل الإسلامية التي توجب الوفاء بالوعد فإن قيل بأن الوفاء واجب ديانةً وليس قضاء، فنقول: وماذا يمنع من انتقال الإلزام من منطقة الأخلاق إلى منطقة الإلزام بالقضاء؟ ثم أليس الوفاء بالعهود هو مما أمر به الله تعالى؟ 2- أما النقطة الثانية وهي الأقوى في الاستدلال على عدم صحة اشتراط لزوم الوعد فهي ما احتج به الفريق الذي يرى أن كلام الإمام الشافعي نفسه ينفي هذا الإلزام بدليل ما جاء في آخر العبارة المنقولة عن كتاب الأم بقوله (رحمه الله تعالى) : " وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ من قبل شيئين: أحدهما أنه تبايعاه قبل (أن) يملكه البائع والثاني أنه على مخاطرة أنك إن اشتريته على كذا أربحك فيه كذا ". وإن من يعيد قراءة النص فيما كتبه الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى – يجد أن المقصود هو قيام المتواعدين بإلزام نفسيهما بالبيع بأن قال أحدهما للآخر بعتك بالمرابحة ما سوف أشتريه بناء على طلبك. ولكن الحال الواقع في صيغة المرابحة للأمر بالشراء أن هناك مرحلتين منفصلتين هما: - مرحلة المواعدة ومرحلة المبايعة وبينما فاصل زمني هو حضور البضاعة أو التمكن من إبرام العقد عليها. وهذا بخلاف الإلزام بالبيع مسبقًا حيث يصبح العقد باتًّا، أما كون الواعد ملزمًا فإنه يفيد الإجبار على إبرام العقد حيث يمكن أن يتحقق ذلك أو لا يتحقق، فإذا أمكن تحقيق التنفيذ بإبرام عقد البيع كان به، وإلا كان هناك محل للمطالبة بجبر الضرر الواقع على أحد الطرفين المتواعدين والذي قد يكون المصرف الإسلامي أو من يتعامل معه. وهذا هو مبرر القول بالإلزام في المواعدة، وذلك لأنه وكما جاء في الحديث النبوي- ((لا ضرر ولا ضرار)) فإذا طلب شخص من المصرف الإسلامي شراء آلة هي عبارة عن جزء متمم في مجموع الآلات المتوفرة في المصنع الخاص به ثم فرضنا أن هذا المتعامل قد عن له (لأي سبب كان) أن يعدل عن شراء الآلة التي طلب شراءها، فكيف يتحمل المصرف اٍلإسلامي الخسارة التي قد تكون كبيرة في مثل هذه الحال لأنه لا مصلحة لأحد في شراء هذه الآلة إلا الطالب لها؟. وقد يكون الحال على النقيض من ذلك بأن يستغل المصرف الإسلامي حاجة الطالب للآلة فيمتنع عن الوفاء بما وعد مما يتسبب في إيقاع الضرر بصاحب الحاجة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 816 وإن وقوع مثل هذه المحاذير أمر ممكن عمليًّا ولا يمكن التغاضي عن مصالح الناس بحجة أن الوعد في الإسلام ملزم ديانةً وليس ملزمًا قضاء مع أن أمر الله واضح بالوفاء بالعهود وكذلك وصف الرسول صلى الله عليه وسلم للإخلاف في الوعد بأنه أحد آيات النفاق، فقد ورد في الحديث الصحيح المتفق عليه من رواية أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) . وفي رواية أخرى عن عبد الله بن عمرو حيث جاء فيها ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر)) وإذا كان الوفاء بالوعد هو من مكارم الأخلاق , فماذا يمنع أن تكون هذه المكارم مؤيدة بالزواجر القانونية التي تمنع الإخلال بهذا البنيان المتكامل؟ ولعل أبلغ رد حول مسألة الإلزام بالوعد فيما يدخل أحد طرفي المواعدة في كلفة أو يعرضه للضرر فيما لو لم يتم تنفيذ المواعدة: هو ما نقله الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي عن تطور نظرة الفقه الحنفي في مسألة عقد الاستصناع. فقد ولد هذا العقد في الأصل تحت مظلة الاعتراض عليه من الأساس باعتباره بيعًا لمعدوم ولكن أجيز التعامل به عند الحنفية استحسانًا نظرًا لتعامل الناس به وعموم الحاجة إليه. ولكن اختلف شيوخ الفقه الحنفي في تكييف عقد الاستصناع من حيث اعتباره مواعدة أم مبايعة، كما اختلف النظر كذلك في مسألة الخيار للمستصنع إذا رأي الشيء المتفق على صنعه حيث بدأت المسألة بتقرير الخيار طالما أن المشتري قد اشترى ما لم ير، وهذا هو المفتى به عن قول أبي حنيفة ومحمد. وذهب أبو يوسف إلى أنه لا خيار لأي من الصانع والمستصنع، أما الصانع، فلأنه بائع باع ما لم يره، وأما المستصنع فلأن الصانع أتلف ماله بتحويله من مادة خام إلى مادة مصنوعة، فلو ثبت الخيار للمستصنع لتضرر الصانع، لأن غيره لا يشتريه بمثله. (1)   (1) انظر – د. يوسف القرضاوي، بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية مرجع سابق، الصفحات 105- 106 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 817 ويذكر الأستاذ الدكتور القرضاوي أن مجلة الأحكام العدلية عدلت عن قول أبي حنيفة ومحمد المفتى به في المذهب، والذي يجعل الخيار للمستصنع بعد إنجاز المصنوع رغم أنه مطابق للمواصفات المتفق عليها، وأخذت بقول أبي يوسف فيما يراه بعدم الخيار وإلزامه بأخذ المصنوع، وهذا ما نصت عليه المادة 392 من مجلة الأحكام العدلية (1) . وقد نقل الدكتور القرضاوي التقرير الذي قدمت له مجلة الأحكام العدلية بالنسبة لهذه المادة وهو التقرير الذي نرى الفائدة في نقله عنه كما أورده حيث جاء فيه ما يلي: " وعند الإمام الأعظم (أبي حنيفة) أن المستصنع له الرجوع بعد عقد الاستصناع،وعند الإمام أبي يوسف – رحمه الله تعالى – أنه إذا وجد المصنوع موافقًا للصفات التي بينت وقت العقد فليس له الرجوع، والحال أنه في هذا الزمان قد اتخذت معامل كثيرة تصنع فيها المدافع والبواخر ونحوها بالمقاولة، وبذلك صار الاستصناع من الأمور الجارية العظيمة، فتخيير المستصنع في إمضاء العقد أو فسخه يترتب عليه الإخلال بمصالح جسيمة ... لزوم اختيار قول أبي يوسف – رحمه الله تعالى في هذا – مراعاة المصلحة الوقت، كما حرر في المادة الثانية والتسعين بعد الثلاثمائة من هذه المجلة (2) . ولعل في هذا النقل المتوسع فيه بعض الشيء دليلًا ينير الطريق أمام بصائر البعض ممن يصرون على موقف التشدد الذي قد تضيع معه حقوق الناس وتنعدم ظروف الاستقرار في المعاملات وما يؤدي إليه ذلك من خسائر تعود على المجتمع بأفدح الأضرار. وإنه تبعًا لذلك، فإن على من يقول بعدم الإلزام في الوعد أن لا يسقط من اعتباره مبادئ الشريعة الإسلامية العادلة التي منعت الإضرار بالناس، بل إن الشريعة تمنع إضرار الإنسان بنفسه علاوة منع إضرار الإنسان بأخيه الإنسان. فهل تسمح قواعد شريعة العدل والإحسان أن يأتي إنسان بالسلعة المطلوبة بناء على وصف محدد من الآمر طالب الشراء وكما يراه ويرغبه ثم يبادر هذا الآمر بالنكول والعدول لسبب أو بلا سبب لكي يقع المأمور في الضرر؟   (1) بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية صفحة 106 (2) بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية , صفحة 106 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 818 قد يقول قائل إن السوق موجود والسلعة تباع لغيره. وهذا صحيح في المثليات العامة ولكن ما هو الموقف في الطلبات المخصصة مثل آلة الأشعة للطبيب المختص أو محرك السيارة الخاصة لنوع ميعن أو إطارات طائرات البوينج؟ وكما قد يحدث الضرر للمأمور إذا قلنا بحق العدول للآمر، فإن الضرر قد يحدث لهذا الأخير إذا عدل المأمور عن بيع ما يكون الأمر قد طلب منه شراءه. فلو أن مقاولا ملتزما بتوريد أجهزة مخبرية لمستشقى الجامعة مثلا، وجاء يطلب من المصرف الإسلامي شراء هذه الأجهزة على أساس المواعدة بالمبايعة مرابحة، ثم خطر للمصرف الإسلامي أن يعدل عن البيع استعمالًا لحقه المزعوم بعدم الإلزام، فإن المقاول يتعرض للتغريم ونزول سمعته بل ودرجته. فأي ضرر أعظم من هذا الضرر؟ وهل يستطيع العالم المسلم وهو يتحسس حقيقة مصالح الناس التي جاءت الشريعة لحفظها أن يتجاهل هذه الأمور لكي يتمسك بمقولة أن الوفاء بالوعد هو من مكارم الأخلاق وأن تنفيذ الوعد ملزم ديانة وليس ملزمًا بالقضاء؟ ... إن مكارم الأخلاق هي مرحلة متقدمة جدًا في الرقي الاجتماعي ولكن عندما تصل المسألة إلى انفتاح أبواب الضرر والإضرار فإن ولي الأمر يتدخل لحفظ مصالح الناس، ومن هنا وجد ميدان العقوبات التعزيزية مجاله الخصيب حيث يستطيع الراعي لشؤون الرعية أن يحدث للناس من الأقضية بقدر ما يحدثون من الفجور. والرأي الذي نراه فيما يتعلق بمسألة المواعدة هو اختيار أحد المرتكزات التالية: 1- النظر إلى أن الأمر المطلوب ديانة يمكن أن يصبح ملزمًا قضاء إذا أمر ولي الأمر بذلك تحقيقا لمصلحة عامة يتعلق بها استقرار المعاملات وذلك على النحو الذي اتجه إليه التقنين الأردني في القانون المدني. فلا يظن أن هناك مخالفة شرعية عندما يختار ولي الأمر الانتقال بالمسألة الواجبة الوفاء ديانة بالاتفاق ليجعلها واجبة الوفاء بالقضاء وذلك لأن أمر ولي الأمر واجب الطاعة ما لم يأمر بمعصية وليست هناك معصية في إكساء صفة الإلزام على المواعدة فيما هو جائز شرعا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 819 2- اعتبار الموازنة في الحقوق عند تقرير الاستمساك بمبدأ عدم الإلزام بحيث لا يترتب على ذلك الأمر إضرار بأحد الطرفين المتواعدين، فإذا لم يكن هناك إجبار على التنفيذ فإنه لا بد من النص الصريح بأن الناكل عن تنفيذ الوعد يكون ملزما بتعويض الضرر الذي يصيب الموعود من جراء هذا النكول وذلك باعتبار هذا الواعد الناكل مسببا في إحداث الضرر للموعود حين أمره بشراء شيء لم يكن ليشتريه لولا الوعد الذي أعطاه الأمر بشراء ذلك الشيء. ولا بد من أن يشمل هذا الضرر رأس المال والربح الذي كان متفقا عليه بين المتواعدين بما في ذلك مصاريف الحفظ والتخزين والمتابعة وسائر الأضرار المباشرة. فلو طلب شخص من المصرف الإسلامي مثلا شراء آلة نسيج وجاءت الآلة بحسب المواصفات المطلوبة تماما، ونكل الآمر عن شراء الآلة التي كان طلب من المصرف شراءها على أساس الوعد بالشراء مرابحة بمقدار 10 % من التكلفة، فإن المصرف الإسلامي يمكنه أن يعرض هذه الآلة للبيع. - فإن كان الثمن الذي بيعت به معادلا لما كان متفقا عليه مع الآمر بما في ذلك الربح والمصاريف المدفوعة لإجراءات البيع، فلا يكون هناك ضرر على المصرف ولا مجال لمطالبة الآمر بالشراء بأي تعويض. - وإن كان الثمن أعلى من ذلك فإن الزيادة تعود للآمر وذلك في مقابل الغرم الذي كان سيتحمله لو كان الثمن أدنى حيث يعود المصرف الإسلامي عليه بما يلحقه من ضرر مادي واقع فعلا. وهذا هو الميزان العادل الذي توزن به الحقوق ويحال فيه بين الناس وبين أهواء الاشتهاء لأكل أموال الناس بالباطل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 820 جـ- نقطة المخاطرة برأس المال: أثار هذه النقطة الجديدة الأستاذ الدكتور عبد السلام العبادي في لقاء جمعنا فيه السفر بالطائرة من عمان إلى جدة يوم 26 /9 / 1988 وقد كان الدكتور عبادي عضوا في لجنة الفتوى الأردنية التي ناقشت مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني قبل أحد عشر عاما، كما أنه عايش تطبيق هذه المعاملة في الواقع الذي مارس البنك الإسلامي الأردني نشاطه في هذا المجال. وقد بنى الأخ الدكتور العبادي نظرته على أساس أنه يرى أن حق المال في الربح مبنى على المخاطرة التي تتمثل في إمكان تغير الأسعار أو تلف البضاعة أو ظهور عيوب فيها إلى آخر ما هنالك من أسباب. وبما أن بيع المرابحة للآمر بالشراء هو تعاقد مبني على المبايعة حقيقة وليس صورة، فإن هذه المبايعة يجب أن يكون محلها سلعًا تقبل طبيعتها أن تكون محلا للمخاطرة المحتملة. فلا يجوز مثلا شراء الأرض على أساس المرابحة للآمر بالشراء لأن الأرض لا تتعرض لخطر التلف أو الهلاك وهي ليست محلًا لإثبات العيوب الموجبة لرد المبيع مثلا. وقد استدل الدكتور عبادي من هذا الطرح للمسألة أن بيع المرابحة للآمر بالشراء يجب أن يكون استعماله محددا بدائرة تتفق مع طبيعة السلعة التي تتوافق مع هذه الصيغة. وهذه النظرة لها وجاهتها حيث إن لكل عقد دائرة اختصاص يصلح لها ويناسبها حيث لا يناسب العقد الآخر. فالإيجار هو مبادلة منفعة بمال مثلا في حين أن البيع مبادلة مال من جنس معين بمال من جنس آخر. ولكن الذي أراه بعد توزين المسألة بصورة متأنية أن سبب المشروعية البيع الذي أحله الله ليس مبنيا على أساس الخطر المحتمل إنما أحل الله البيع – والله أعلم – لأن فيه تحويلا للمال وذلك على خلاف الربا الذي يحصر التداول بين الدائن والمدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 821 فالبيع يشتمل على شراء السلعة من الطرف الآخر والذي قد يكون وسيطا أو منتجا حيث يدور المال دورته في المجتمع. ولو أننا سلمنا باشتراط توفر الخطر المحتمل لكان هناك إمكان اعتراض على كثير من العقود لفقدان الضابط في المعيار. فإذا كانت الأرض لا تنقص ولا تستهلك وبالتالي فإنها لا تصلح للتعاقد على شرائها بالمربحة للآمر بالشراء حيث لا توجد مخاطرة برأس المال، فماذا يكون الموقف لو كان المبيع آلة كالسيارة مثلا حيث يتعهد البائع الأول بتحمل تبعة الهلاك إلى أن يتسلمها المشتري الأخير وكذلك مسؤولية رد السيارة لوجود العيب الخفي الذي قد يكتشفه المشتري الثاني؟.. فالواضح هنا أن البائع الأول الوسيط هو في موقع الضمان والأمان بحيث إنه لا يتحمل تبعة الهلاك إلى أن يتسلم السيارة المشتري الأخير ويوافق على شكلها ووصفها ونوعها، وكذلك فإنه لا يتحمل مسؤولية الرد للعيب وإن كان يتلقاه إلا أنه ينقله مباشرة إلى البائع الأصلي. لذلك فإني الذي نراه – والله أعلم – أن العبرة في البيع الحلال هو تحول المال من صورة إلى صورة وذلك لأن راس المال النقدي هو أداة وساطة. ولعل هذا هو ما يرشد إليه ذلك التوجيه الذي رد به الرسول صلى الله عليه وسلم تصرف بلال رضي الله عنه – حين أتاه بتمر خيبر وكله من الجنيب " النوع الجيد " فقال له صلى الله عليه وسلم حين أعلمه بلال بأنه قد قايض صاعين من الجمع ((التمر غير الجيد)) بصاع من الجنيب، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – ((يا بلال إنه عين الربا، إذا أردت ذلك فبع الجمع بالدراهم واشتر بالدراهم جنيبًا.)) وهذا يدل – في نظر الباحث – أنه عندما كانت العلاقة ثنائية فإن التبادل قد ظل محصورًا بين من يملك التمر بأنواعه (من الجمع والجنيب) فكان توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى حقيقة التداول عن طريق توسيط النقود حيث يتحول التمر من الجمع إلى نقود وتتحول النقود إلى التمر الجنيب. فيستطيع من يملك النقود وليس لديه تمر أن يشتري بنقوده تمرا، كما يستطيع من يملك التمر ولا يجد النقود أن يبيع التمر بالنقود. لذلك فإن مبنى البيع في نظرنا هو تحول المال من صورة إلى صورة أخرى لما في ذلك من منافع للمجتمع المتكافل حيث يريد الله للناس أن يسيروا في طريق الخير ليبتغوا من فضل الله، وهذا هو المقصود والله أعلم بالمراد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 822 خاتمة البحث يمكن القول في ختام هذه الجولة مع الأفكار المسترشدة بتراث الفقه الإسلامي العظيم أن نصل بالبحث إلى الاستنتاجات التالية: 1- إن صيغة بيع المرابحة للآمر بالشراء هي إحدى الصيغ المقبولة في التعامل الإسلامي وأن استنادها إلى رأي الإمام الشافعي يكفي – عند أهل العلم – لإعطاء هذه الصيغة الكساء الذي يدخلها في نطاق المعاملات الشرعية المعتبرة. ويؤيد هذا الاتجاه ما هو متفق عليه في الجملة من ناحية أن الأصل في العقود هو الإباحة ما لم يرد دليل التحريم بسبب ثابت في كتاب الله أو سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أو القياس عليهما أو الإجماع على المنع بدليل يتفق عليه أهل العلم، أما فيما عدا ذلك من آراء فردية واجتهادات متأثرة بالأفكار الخاصة بأصحابها فإنها لا تلزم المسلمين للأخذ بها ولو كان صاحبها صادقا بالنسبة لما يراه بفهمه الذي قد يرشده إليه تفكيره. وكم أن المفكر المسلم حر في أن يفكر ضمن إطار الشريعة وحدودها كما يشاء، فإن المسلمين ليسوا ملزمين بالأخذ بما هو أضيق وأشد في حين أن هناك أراء تبسط الطريق لما هو أرحب وأوسع دون الخروج عن حدود ما نهى الله عنه. 2- إن مسألة الإلزام في الوعد وكونها ملزمة ديانة أو ملزمة قضاء هي من المسائل الاجتهادية التي يحتمل فيها الاختلاف، وإن مراعاة استقرار التعامل ومنع الإضرار بالناس أو حتى منع الناس من الإضرار بأنفسهم – لو أرادوا ذلك – إنما هي من مبادئ الشريعة الإسلامية الخالدة وهي المبادئ التي أرادها الله لعباده لتكون طريقًا للهداية والفوز في الدنيا والآخرة. وإذا كان هناك من يرى التمسك بالقول بعدم الإلزام في الوعد، فإن منهج العدل في الشرع الإسلامي يستلزم الأخذ بمبدأ التعويض عن الضرر الذي قد يصيب الطرف الذي يتعرض له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 823 ولا يستطيع مسلم – يقدر شرع الله حق قدره ويستطيع أن يتلمس أصول الشريعة وقواعدها المبنية على العدل الذي يمنع الجور ويقر الرحمة التي تزيل مسببات الضرر والإضرار – أن يتجاهل منطق الشريعة استمساكا بمقولة رأي اجتهادي مبنى على أن الوفاء بالوعد ملزم ديانة وليس ملزما بالقضاء. وإن ما نسأل به أصحاب هذا الرأي القائلين بعدم الإلزام في الوعد بالقضاء، لأن الوفاء بالوعد هو من مكارم الأخلاق وليس من مقاطع الحقوق فنقول لهم بأن مكارم الأخلاق هي مرحلة متقدمة من مراحل الرقي الاجتماعي وهو الصدق الذي وصلت به بعض الأمم إلى ما وصلت إليه من تقدم في الصناعة والتجارة والأعمال، وأنه لا يمنع في نظرنا أن تصبح مكارم الأخلاق مؤيدة بالزواجر التي تحض على الصدق وتعاقب على الكذب. وأنه عندما تصل الأمور إلى انفتاح أبواب الضرر والإضرار بمصالح الناس. فإن تدخل ولى الأمر لدرء الضرر يكون واجبا وليس مستحبًا فحسب ومن هنا وجد ميدان العقوبات التعزيرية مجاله الخصيب حيث يستطع الراعي لشؤون الرعية أن يحدث للناس من الأقضية بقدر ما يحدثون من الفجور. لذلك فإن ما نراه بالنسبة إلى من يتمسكون إلى النهاية بالرأي القائل بعدم الإلزام بالوعود في العقود مبني على وجوب الأخذ بمبدأ التعويض عن الضرر الذي قد يحصل من جراء هذا النكول. فإذا كان النكول من طرف الآمر بالشراء فلم ينفذ ما وعد بشرائه مما أدى إلى أن يبيع المأمور بالشراء السلعة التي لم يكن ليشتريها لولا هذا الأمر المصحوب بالوعد من قبل الآمر، فإن على الناكل عن الوعد أن يتحمل هذا الإضرار الحاصل لأنه لا يهلك حق في الإسلام. وإذا صدر الإخلال بالوعد من قبل المأمور الذي جلب السلعة المطلوبة منه ثم امتنع عن بيعها للآمر بالشراء مما ترتب عليه قيام الآمر بشراء بدل عنها من السوق بسعر أعلى، فإن ذلك الضرر الذي يتحمله الآمر يجب جبره ويقع عبء ذلك على المأمور بالشراء. وهكذا تتوازن الأمور في ظلال الشريعة التي أنزلها رب العباد هداية للناس ورحمة بهم عن التظالم والوقوع في الهوى والانحراف عن السبيل المستقيم. ونسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يزيد الباحثين المتفقهين في شريعته نورًا على نور لكي يبصرنا بالأحكام التي أنزلها الله خاتمة للأديان ومبنية على قواعد العدل والإحسان. وآخر دعوانا – أن الحمد لله رب العالمين. الدكتور سامي حسن حمود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 824 نظرة شمولية لطبيعة بيع المرابحة للآمر بالشراء إعداد الدكتور عبد السلام داود العبادي مدير عام مؤسسة إدارة تنمية أموال الأيتام وعضو مجمع الفقه الإسلامي عن الأردن بسم الله الرحمن الرحيم تقديم الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه ومن اقتدى به إلى يوم الدين. أما بعد: 1- فهذه جملة من الملاحظات والأفكار حول طبيعة بيع المرابحة للآمر بالشراء أقدمها على أساس نظرة شمولية لهذه المعاملة، تهدف إلى شدها إلى محاورها الرئيسية وقواعدها الأساسية، ضمن المفاهيم العامة للاقتصاد الإسلامي، وفي إطار المنهج الذي اعتمدته الشريعة الإسلامية لاستثمار الأموال واكتساب الملكيات وتحقيق الأرباح ... وذلك في نقاط محددة، ودون دخول في التفصيلات والفروع ... وبخاصة أن هذا الموضع قد كتب فيه الكثير من البحوث والمؤلفات، وجرت مناقشته في الكثير من الندوات والمؤتمرات ... وما زال الخلاف فيه قائما ومحتدما. 2- وقد كان لي حظ المشاركة في مناقشة هذا الموضوع أول مرة – بصفتي أحد أعضاء لجنة الفتوى في المملكة الأردنية الهاشمية – عندما عرض عليها مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني سنة (1397هـ – 1977 م) حيث أوضح الأخ الدكتور سامي حمود -حفظه الله- مقرر اللجنة التحضيرية لمشروع القانون وجهة نظره التي ضمنها المشروع، والتي كان قد بينها تفصيلا في رسالته للدكتوراة بعنوان (تطوير الأعمال المصرفية بم يتفق والشريعة الإسلامية) .. وبعد حوار ومناقشة أقرت اللجنة هذه المعاملة، وصدر قانون البنك الإسلامي بعد أن أدخلت اللجنة بعض التعديلات المهمة على مشروعه. ولكني لاحظت أن بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد أن اعتمد في قانون البنك الإسلامي وانتقل إلى الواقع التطبيقي، وأخذت به كثير من البنوك الإسلامية وقع في كثير من المحاذير، وذلك نتيجة الغفلة عن الطبيعة الأساسية لهذه المعاملة مما يتطلب العودة بها إلى جادة الصواب وتخليصها من سوء الفهم والتطبيق، لتظل أداة من أدوات الاستثمار المالي المشروعة في الإسلام، فلا تقع فيما هو محظور شرعا من الربا أو غيره. وإني لأدعو الله سبحانه وتعالى أن ينفع بهذه الملاحظات والأفكار حول طبيعة بيع المرابحة للآمر بالشراء، وأن يكون في عرضها على مجلس مجمع الفقه الإسلامي مساهمة بناءة في استصدار قرار فقهي مجمعي حول هذه المعاملة، يرسخ دورها في مجال المعاملات المصرفية الإسلامية، ويحميها من كل مظاهر سوء الفهم والتطبيق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 825 حقيقة بيع المرابحة للآمر بالشراء وشروطه 3- كان واضحا في لجنة الفتوى في المملكة الأردنية الهاشمية عند إقرار بيع المرابحة للآمر بالشراء الأساسيات التالية فيه: أ- أن السلعة المأمور بشرائها يجب أن تدخل في ملك البنك وضمانه ... وأن هذا هو أساس جواز أخذ البنك للربح، وأن العلاقة الحقوقية عند شراء البنك للسلعة المأمور بشرائها يجب أن تقوم بين البنك وبائع السلعة ولا يصح دخول العميل (للآمر بالشراء) بأي صورة من الصور محل البنك وإلا لماذا أمره بالشراء؟ ؟ وهذا يعني أن البنك في الشراء هو الذي يفتح الاعتمادات، وبوالص الشحن تكون باسمه، وهو الذي يؤمن على السلع في الحالات الملزمة لذلك، وكذلك عليه في الشراء الداخلي جميع الإجراءات والالتزامات المترتبة على المشترين. ب- إن عقد شراء العميل من البنك يجب أن يكون بعد استقرار ملك البنك للسلعة. استقرارًا معقولًا بعرضه لاحتمالات الضمان، فهو لا يبيع حتى يملك السلعة ومن حق العميل أن يتأكد أنها مطابقة لمواصفات ما طلب، وإلا فله أن يردها على البنك وإذا هلكت السلعة أثناء وقوعها في ملك البنك تهلك عليه ولا علاقة للعميل بذلك. جـ- إن وعد العميل بالشراء من البنك وإن كان ملزما لا يصح أن يحمله أي مسؤولية غير إكمال الشراء من البنك بعد أن يستقر ملك البنك للسلعة ... وإذا امتنع عن الشراء فللبنك إلزامه قضائيًا بذلك، ومطالبته بتعويض عما أصابه من أضرار فعلية. د- وإن الثمن الذي يترتب في ذمة الآمر بالشراء بعد ذلك سواء أكان الاتفاق على دفعه نقدا أو مقسطا لا يجوز زيادته عند التأخر في الدفع وإنقاصه عند التبكير فيه إذا كان ذلك مشروطا، أو متفقا عليه فيما بعد، أو استقر عليه عرف الناس، لأن هذا يوقعنا في الربا، بل في ربا الجاهلية: (زدني أنظرك) و (ضع وتعجل) . 4- وقد أكد هذا قرار المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي الذي عقد في دبي سنة 1399هـ (1979م) وقرار المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي الذي عقد في الكويت سنة 1403هـ (1983م) حيث ركزا على ضرورة أن يسبق بيع البنك للسلعة تملكه وحيازته لها وإنه في خلال ذلك يتحمل تبعة الهلاك قبل التسليم ويتحمل أيضا تبعة الرد بالعيب الخفي كما بينا أن الأخذ بإلزامية الوعد مقبول شرعا وهو أحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل. وقد ترك المؤتمران لكل مصرف الخيار في الأخذ بالإلزام وعدمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 826 5- والدكتور سامي حمود فيما قدم من بحوث حول هذه القضية يؤكد على ضرورة التفريق هنا بين التواعد والتبايع بحيث لا تتم المبايعة إلا بعد ثبوت التملك للبنك ليكون التمليك للآمر بالشراء صادرا عن تمليك ولكي يكون هناك مجال للقول بالضمان إذا تبين أن هناك تلفا أو عيبا خفيا أو غير ذلك من أسباب الضمان ولكنه لا يشترط التسليم والحيازة ويقول (وليس يهمنا التقيد بالشكل عند من يربطون التملك بالحيازة المادية لأن ذلك ليس شرطا من شرائط انعقاد العقود الشرعية حيث يكون التسليم أثرا من آثار الانعقاد وليس ركنا فيه. فقد يشتري الإنسان الشيء ويبقيه عند البائع كوديعة، حيث تنقلب يد البائع الأول من يد ملك إلى يد أمانة ... فإذا باع هذا الإنسان ما اشتراه بعد أن يصبح معينا إلى شخص آخر فإنه يبيع ما يملك ويقع عليه ضمانه حتى يتسلمه المشتري الأخير سليما خاليا من العيوب الموجبة لرد المبيع (1) . وهذه قضية في غاية الأهمية لأنها تقودنا لأحد المحاور الأساسية في هذه العملية من حيث هل يمكن أن تكون بعض صورها مما لا يتصور الضمان فيها وأن الامتلاك لسلعة المأمور بشرائها امتلاك شكلى ومظهر صوري ليس إلا مرورا عابرا في الذمة؟ وعند ذلك نعود على أصل القضية بالنقض ... ولا خلاف في أن المشتري يستطيع أن يبقي المبيع في يد البائع كوديعة وعندها تنقلب يد البائع إلى يد أمانة، ولا خلاف بأن هذا المشتري بعد أن ملك ما اشترى يستطيع أن يبيعه كيفما يريد ضمن قواعد الشريعة ... ولكن موضوعنا ليس هذا إنما موضوعنا أن هذا المشتري الثاني هو الذي أمر بالشراء.. فهل مثل هذه الحالة تقلب حقيقة بيع المرابحة للآمر بالشراء من صورتها المقبولة شرعا إلى صورة تمويل ربوي سمي بغير اسمه.   (1) انظر بحث الدكتور سامي حمود المقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة ص8 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 827 المحاذير العملية لهذه المعاملة: 6- والواقع أن بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد أن أخذت المصارف الإسلامية في العمل به قد وقع في محاذير وإشكالات متعددة تتعارض مع ما اعتمد من قواعد لتخريجه والأخذ به. وقد كان ذلك نتيجة لعدم وضوح الرؤية الفقهية السليمة لهذا العقد أو لوجود بعض العقبات القانونية والعملية التي صادفتها البنوك الإسلامية عند التطبيق وقد تمت معالجتها دون انتباه لأصل المعاملة وشروطها وأساسياتها. وقد ساعد على ذلك أن كثيرا ممن يتصدون للعمل المصرفي الإسلامي من المصرفيين الفنيين الذين لا تتوافر لديهم المعرفة الفقهية المطلوبة.. ورغم الجهود الكبيرة التي بذلها المستشارون الشرعيون وهيئات الرقابة الشرعية في عدد من البنوك الإسلامية فإن بعض الصور قد ندت عن هذه القواعد ولم تلتزم بها بشكل تام ويعود ذلك إلى أسباب منها: أ- نقل الصيغ العملية للتطبيق دون عرضها على المستشارين الشرعيين أو هيئات الرقابة الشرعية. ب- حاجة بعض هذه القضايا إلى اجتهاد جماعى عميق حيث لا يصح أن تترك للاجتهاد الفردي العاجل. جـ- النظر الجزئي لهذه القضايا وعدم الربط لها بالقواعد الأساسية التي قام عليها بيع المرابحة للآمر بالشراء في الأصل. 7- هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ركزت كثير من البنوك الإسلامية على أسلوب بيع المرابحة للآمر بالشراء ولم تهتم بأساليب الاستثمار الأخرى كالمضاربة والمشاركة المتناقصة وذلك لسهولة هذا الأسلوب، ولأنه يلبي حاجات التمويل العاجل والذي عليه طلب متزايد، بالإضافة إلى أن البنوك في التطبيق ركنت لهذه الصيغة لأنها استطاعت أن تطبقها بطريقة تكاد تحميها من كل احتمالات التعرض لأي خسارة. وإن معظم إجراءات هذا الأسلوب كما طبق إجراءات مكتبية مربحة. 8- وهكذا كادت هذه الصيغة – في عدد من المصارف- أن تنقلب إلى مجرد صيغة تمويل مالي يعود على البنك بما يسمى بالربح دون أن يقدم البنك غير المال، وبلا أي مخاطرة يمكن أن يتعرض لها البنك وفق الظروف والأحوال العادية ... إلا إذا افترضنا الزلازل والكوارث مما يدخل في الظروف القاهرة، ولا يجري حسابه عند تحديد الالتزامات في العقود ... وإذا أصبحنا أمام تمويل بدون مخاطرة وكان يسترد بزيادة فهذا الربا بعينه، فهو قرض بزيادة وإن أخذ صورة البيع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 828 وأصبح الأمر مثل: أن يوكل شخص البنك بشراء السلعة له، ويطلب منه دفع ثمنها للبائع على أن يقوم هو بتسديد الثمن بزيادة على أقساط ... فهذا من الربا قولا واحدا، ولكن ما الفرق بينه وبين صورة بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا انقلب إلى مجرد تمويل بزيادة وبلا مخاطر. إن أساس جواز معاملة بيع المرابحة للآمر بالشراء هو تعرض المصرف لاحتمالات الربح والخسارة فإذا أفرز التطبيق صورا نقطع معها بالربح في جميع الأحوال ولا تصور لأي مخاطرة انقلبت هذه المعاملة إلى تمويل ربوي لا يجوز مهما كانت التسميات وصور الإجراءات فالمصرف يعمل على تدبير السلع التي يحتاجها الناس الذين يأمرون بالشراء لكن يجب أن لا يقتصر دوره على التمويل دون مخاطرة. مبررات استحقاق الربح في الإسلام: 9- وهذا يعود بنا إلى أصل استحقاق الملك والكسب في الشريعة الإسلامية والقواعد الضابطة لذلك.. فالشريعة حددت وسائل التملك والكسب فأجازت وسائل ومنعت أخرى.. فهي في مجال العقود تمنع كل صور الربا ولا تجيز الربح إلا إذا كان نتيجة مشاركة بين رؤوس الأموال ومشاركة بين رأس المال والعمل أو مشاركة بين الأعمال. ولا تسمح لرأس المال أن يجني مزيدا من الزيادة دون أن يتعرض لاحتمالات الربح والخسارة وهي في المشاركة بين رأس المال والعمل إذا كان هنالك خسارة دون اعتداء أو تفريط من العامل فإنها تقع على صاحب المال ويكفي العامل خسارة جهده وعمله.. ومن قواعد الشريعة السمحة أن الغرم بالغنم وأن الخراج بالضمان.. مما هو محل دراسة مستقلة. وعلى ضوء هذا إذا وجد في التطبيق صور تؤدي إلى أن صاحب المال يستحق في تعامله مع الآخرين دخلا دون أن يكون هنالك تعرض لاحتمالات الخسارة فهذه الصور ممنوعة بأصل القاعدة مهما كانت التسميات المستخدمة والشكليات الممارسة ومهما كانت الأحكام الجزئية لبعض تفصيلات هذه الصور التي قد تكون لها بصرف النظر عن كامل مكوناتها وجميع ملابساتها ... والقول بغير ذلك عدم انتباه لأساسيات الشريعة وروحها العامة في مجال استثمار الأموال وتحقيق الأرباح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 829 طبائع السلعة وعلاقتها بهذه المعاملة: 10- وإذا اتجهنا إلى طبائع السلع فهذا يعني إخراج بعض السلع من الدخول في دائرة التعامل ببيع المرابحة للآمر بالشراء وهي السلع التي يكون دخولها في ملك البنك دخولا شكليا، وإنه لا يتصور أي ضمان أو مخاطرة عليه فيها.. وعندها يكون الاستثمار في هذا النوع من السلع بطرق استثمار أخرى تقررها الشريعة. وعليه فإن من شروط بيع المرابحة للآمر بالشراء أن يكون محله سلعا تقبل طبيعتها المخاطرة المحتملة، فلا يجوز مثلا أن يكون محلها شراء قطعة أرض، لأن الأرض لا يتصور فيها تبعة هلاك يمكن أن تقع على البنك، كما لا يتصور فيها عيوبا خفية موجبة للرد. وهذا النظر يحد في التطبيقات من دائرة انتشار بيع المرابحة للآمر بالشراء الذي طغى على صور الاستثمار الأخرى من مشاركة ومضاربة. وأدى ذلك إلى سلبيات كثيرة ... فلا يعني تقرير عقد من العقود أن كل شيء يصلح محلا له، فلا بد أن يكون المحل قابلا لحكم العقد أو منسجمًا مع طبيعته وهذا هو الميزان العملي للتفريق بين أنواع العقود، فليس كل شيء يقبل الإجارة، وما يقبل البيع قد لا يقبل الإجارة مثلًا. 11- والواقع أننا في بيع المرابحة للآمر بالشراء لا نتحدث عن عقد البيع وطبيعته وأساس مشروعيته، إنما نتحدث عن معاملة مركبة لها شروطها الخاصة التي يجب أن تراعى في كل الأحوال ... وأي نظر فيها لعقد البيع وحده هو عدم انتباه لطبيعة هذه المعاملة المركبة فكيف إذا كان هذا النظر سوف يوقعنا في الربا الذي استحدثنا هذه الصور في التعامل من أجل الهروب منه نسأل الله العفو والعافية. مشكلات التطبيق وحلول مقترحة: 12- ولا يعني هذا أن التطبيق العملي لهذه المعاملة المركبة لا يوجد مشكلات تحتاج إلى نظرة ومعالجة.. فهذا لا بد أن يقع.. ولكن يجب أن تواجه المشكلات بنظر لا يغفل عن أصل المسألة، وبحيث لا تنسف الحلول المقترحة الشروط الأصلية المقررة. فإذا قيل مثلا إن العميل قد يغرر بالبنك ويدفع لشراء سلعة من جهة غير مأمونة قد تضيع حقوق البنك، فلنبحث في صيغة مناسبة لكفالة العميل للبائع أن لا يخل بالتزاماته تجاه البنك. وإذا قيل إن الوعد الملزم قد يتفلت منه العميل وقد ينتهي الأمر بالبنك إلى المطالبة بما وقع عليه من أضرار فعلية قد يطول الحكم بها في القضاء فيمكن البحث في تبني صيغة بيع المخايرة بين البنك وبائع السلعة ويقوم البنك في فترة الخيار وبعد ملك السلعة وتسلمها بالبحث في علاقته مع الآمر بالشراء كما يمكن بحث أخذ العربون من الآمر بالشراء ضمن تكييف شرعي مقبول. ولكن كل هذه الحلول وأي حلول أخرى يجب أن تبقى المسألة في إطارها الأول ولا تحول دخول البنك في هذه الصيغة إلى مجرد تمويل بدون مخاطر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 830 أمور لا يجوز إدخالها في هذه المعاملة: 13- سأل البنك الإسلامي الأردني في ندوة البركة الخامسة التي عقدت في القاهرة مؤخرا سؤالا حول جواز أن يشتري البنك لمن يطلب منه من شركات الكهرباء الطاقة الكهربائية، من سلطة الكهرباء التي تنتجها علما أن الطاقة الكهربائية لا يتسلمها البنك ويجرى نقلها في أعمدة خاصة من موقع الإنتاج في محطات إنتاج الكهرباء إلى نقاط التوزيع التي تمتلكها شركات الكهرباء: فهل يتصور في مثل هذه الصورة ملكية البنك للطاقة الكهربائية ووقوعها في ضمانه؟ وإذا تصور مرورها في ذمته – أي مرور السلعة المشتراه كما عبر الأخ الدكتور سامي في بحثه – فكيف يمكن تصور تحمل البنك لتبعة الهلاك وتبعة الرد التي كانت من أسس القول بالجواز؟؟ إن البنك في هذه الصورة لا يقوم إلا بدفع المال ويسترد ماله بزيادة دون مخاطرة لذلك كان جوابي على هذا السؤال أن هذه من الصور غير الجائز التعامل معها وفق بيع المرابحة للآمر بالشراء لعدم توافر شروطه الأساسية وكذلك تمويل شراء البترول إذا كان ينقل من المنتج للآمر بالشراء بوساطة أنابيب ودون تدخل البنك ملكية وضمانا. ويقاس على ذلك كل سلعة مشابهة ... وليحاول الفقهاء بعد ذلك البحث عن صور مقبولة شرعا لكل هذه الأنواع من الاستثمار كما اقترح علينا الأخذ الدكتور سامي فكرة بيع المرابحة للآمر بالشراء. 14- ومثل ذلك ما تفعله بعض البنوك – الإسلامية – من توكيل للآمر بالشراء بمفاوضة البائع وتحرير الفواتير باسم البنك وتقديمها للبنك، وبعد أن يقوم البنك بدفع قيمتها للبائع دون أن يتسلم البضاعة ويتعرض لمخاطر ملكه وتسلمه، بل كل ما يحدث أن يحضر مندوبه للإشراف على تسلم البضاعة من البائع إلى الآمر بالشراء اكتفاء بصورة دخول البضاعة في ملك البنك بالإيجاب والقبول المتصور بين البنك والبائع.. فالبنك هنا لا يأخذ بضرورة تسلمه البضاعة ومن ثم نقل ملكيتها للآمر بالشراء. ومن غريب ما يحدث هنا أن بعض الآمرين بالشراء هنا يتفقون مع بعض البائعين على زيادة قيم فواتيرهم ... فإذا دفعت لهم من البنك قاموا بإعطائها لهؤلاء الآمرين بالشراء ... بهدف الحصول على سيولة مالية لإنجاز أعمال أخرى وبخاصة في مجال دفع أجور متعهدي البناء، فمواد البناء وأجوره يحصل عليها بهذه الطريقة الموقعة في الربا.. ولا حول ولا قوة إلا بالله. 15 – هذه أهم الأفكار والملاحظات التي لدي حول هذا الموضوع أضعها بين يدي مجلس ومجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة تاركا للحوار والمناقشة التي أرجو أن أكون طرفا فيها – حيث أن ظروفا خاصة وارتباطات علمية أخرى أوجبت على آسفًا ألا أشارك إلا في جزء من هذه الدورة – داعيا الله العلي العظيم أن يوفق مجمعنا العتيد إلى القرار السليم في هذا الموضوع الشائك الخطير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الدكتور / عبد السلام العبادي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 831 بيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية إعداد دكتور رفيق يونس المصري مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي جامعة الملك عبد العزيز – جدة بيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية " يجب على الناس إحياء سنن رسول الله صلى الله عله وسلم، والاقتفاء لأمره، والاهتداء بهديه، في تسهيل ما سهل، وتغليظ ما غلظ، وعلى الله التوفيق والقبول". أبو عبيد - الأموال 594 قد يرى الرجل الرأي " ثم يتبين له الرشد في غيره، فيرجع إليه، وهذا من أخلاق العلماء قديما وحديثًا " أبو عبيد – الأموال 359 مقدمة: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد، ففي هذه الورقة سأبحث باختصار في بيع المرابحة كما ورد في الفقه القديم، ثم بتفصيل أكبر في بيع المرابحة كما هو مطبق في المصارف الإسلامية الحديثة. ولقد سبق لي أن طرقت هذا الموضوع في مناسبات مختلفة، منها مقالي بمجلة المسلم المعاصر عام 1402هـ، ثم مقالي بمجلة الأمة القطرية عام 1406 هـ. ورأيت أن من المتعين علي أن أطرق الموضوع مرة أخرى، بالنظر لما استجد من وقائع، ومعلومات، ومراجع.. وألفت النظر منذ البداية إلى أنني استخدمت أحيانا عبارة " المرابحة المصرفية " للدلالة على بيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية، وذلك على سبيل الاختصار. وربما استخدمت أحيانا أخرى عبارة " المرابحة الملزمة " وأريد بها المرابحة إذا كانت المواعدة فيها ملزمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 832 والله أسأل أن يحمينا من الغرور والغل والحسد والتقعر والإعجاب بالرأي والاستخفاف بأهل العلم والتملق لأهل الباطل، وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، ويمكننا من الحق قولا وعملا، بلا خوف من عقاب، ولا طمع في ثواب، إلا عقاب الله تعالى وثوابه. وقد نهينا عن أن نكون كلابس ثوبي زور في بيع فنبيع ما ليس عندنا أو في علم فنظهر ما لا نملك أو في خلق فنبدي بلساننا ومظاهرنا ما لا يوافق قلوبنا، فمن تخلق للناس بما ليس من شأنه شانه الله تعالى، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه. بيع المرابحة. البيع في الفقه الإسلامي بيعان: مساومة وأمانة. فأما المساومة فيتفق فيها المتبايعان على ثمن البيع، بغض النظر عن الثمن الأول الذي بذله البائع لشراء السلعة أو إنتاجها. وأما الأمانة فهي ثلاثة أنواع: - مرابحة (= مشافة) : وهي البيع بمثل الثمن الأول مع ربح معلوم. والمشافة منا لشف وهو الزيادة، الربح. - وضيعة (= محاطة) : وهي البيع بمثل الثمن الأول مع وضع (= حط) مبلغ معلوم. - تولية: وهي البيع بمثل الثمن الأول بلا ربح ولا خسارة. وفي البناية شرح الهداية 6/488 قوله: " قد صح ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة ابتاع أبو بكر بعيرين. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ولني أحدهما. فقال: هو لك بغير شيء. فقال صلى الله عليه وسلم: أما بغير ثمن فلا)) . ثم ذكر صاحب البناية أن هذا الحديث غريب، وأنه ورد في البخاري ومسند أحمد وفي طبقات ابن سعد، ولكن بدون ذكر لفظ التولية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 833 هذا إذا تعلق البيع بالسلعة كلها، فإذا تعلق بجزء منها فهو " الإشراك "، أي البيع تولية بنسبة الجزء إلى الكل. فيصير المشتري شريك ملك للبائع، كل بحسب حصته من السلعة. على أن الإشراك في نظري، لا ينحصر في التولية، بل يمكن أن يكون في المرابحة، فيبيعه مثلا نصف السلعة بنصف الثمن الأول وربح معلوم، أو يكون في الوضيعة، فيبيعه نصف السلعة بنصف الثمن الأول مع وضع مبلغ معلوم. وجمهور الفقهاء على جواز المرابحة، ولكن روي عن بعض العلماء أنها باطلة (المحلى لابن حزم 9/625- 626) ، وروي عن ابن عباس أنه نهى عنها، وفي بعض الكتب أنه كره بيع المشافة (مصنف ابن أبي شيبة 7/48 و8/42) . كما روي هذا النهي عن عكرمة وإسحاق، والكراهة عن الحسن ومسروق، والجواز عن ابن مسعود وابن المسيب وشريح وابن سيرين (مغني المحتاج 2/77) . وروي عن آخرين أن المساومة أفضل من المرابحة (المغني 4/108، والخرشي على خليل 5/172) . وإني أميل إلى جوازها إذا كان الثمن الأول معلوما، والربح معلوما، ولم تكن هناك خيانة أو شبهة خيانة في بيان الثمن الأول. وهذا الربح يكون في مقابل خبرته وجهده ووقته ومخاطرته. ولعل سبب كراهتها لدى ابن عباس أن البائع مرابحة يبيع السلعة بزيادة ربح مضمون، فيصير هذا الربح أشبه بالربا، لأنه دفع الثمن الأول مثلا 100، وقبض الثمن الثاني 120، والسلعة دخلت ثم خرجت. قد يؤيد هذا أن المشافة من الشف وهو الزيادة كما بينا سابقا. وفي أحاديث الربا ورد قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض..)) (البخاري في البيوع، ومسلم في المساقاة وغيرهما) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 834 ولكن هذا التأويل غير صحيح، لأن الذي اشترى السلعة لم يكن يعلم أنه سيبيعها مرابحة، فربما باعها تولية أو محاطة أو مساومة.. إلخ وربما تكون الصورة التي نهى عنها ابن عباس أو كرهها هي أن يشتري لك سلعة بالنقد ويبيعها إليه بالأجل، ويكون توسطه بشراء السلعة لا معنى له إلا أنه أقرضه المال بربا وقد ورد في بعض الكتب أن المرابحة ربا (مصنف ابن أبي شيبة 6/436، والمحلى 9/14) ، أو " المرابحة بيع الأعاجم" (ده دوازده) (مصنف ابن أبي شيبة 6/434 و7/253) . أما تفضيل المساومة على المرابحة لدى بعض الفقهاء، فسببه أن البائع مرابحة يأتمنه المشتري على الثمن الأول، وقد لا يخلو تحديد الثمن الأول من غلط أو تأويل أو هوى. فقد يضيف البائع إلى الثمن الأول ما ليس منه، كأن يشتري السلعة بأكثر من ثمنها، أو لا يبين الأجل ولا مقداره إذا اشتراها بثمن مؤجل، وللأجل حصة من الثمن، أو يدخل أجرة نقل أو إصلاح لنفسه أو لغيره، والحال أن هذا الغير متطوع لم يقبض منه شيئا، أو يحتسب مصاريف إصلاحها أو مداواتها (إذا كان المبيع حيوانا مثلا) ، أو يكتم أنه مضى زمن على شرائها وانتفاعه بها (إذا كان المبيع مسكنا مثلا أو آلة) . لكن لا بأس بإضافة مصاريف الخياطة والصباغة والتطريز والقصر، ومصاريف النقل والتخزين، وسائر ما يزيد في قيمة المبيع، وجرى العرف بإضافته إلى الثمن. فإذا أشتبه بالمصروف: هل تجب إضافته أم لا؟ بين ذلك.. إلخ ما هو معروف في مظانه من كتب الفقه القديم على المذاهب المختلفة. وتفصيل هذه المصاريف قليل الأهمية في بيع المرابحة المطبق في المصارف الإسلامية، لأن المصاريف كلها تدخل في الثمن الأول لدى هذه المصارف، ولا يقوم المصرف بإدخال أي إضافة على السلعة من تصنيع أو خياطة أو صبغ ... إلخ. لكن قد يكون من المهم معرفة ما إذا كان على المصرف تفصيلها، أو يكتفي بإجمالها دون تفصيل. وأميل إلى تفصيلها ولا سيما إذا طلبه المشتري، فهو أدعى للثقة وأنفى للتهمة وأبرأ للذمة. وعندي أن بيان البائع للثمن الأول يمكن أن يكون مؤيدا بالفواتير والوثائق، وهذا أبعد عن الغلط وسوء الظن، ما لم تكن هذه الوثائق مزورة أو محورة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 835 ويصح أن يكون الربح في صورة مبلغ مقطوع، أو في صورة نسبة من الثمن الأول، مئوية أو غيرها، لأن المال واحد. وما دام هذا البيع من بيوع الأمانة، فعلى البائع أن يكون أهلا لتحمل هذه الأمانة، ومحترزا من الخيانة أو شبهتها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال 27) . وقد نص الفقهاء على أن السلعة إذا كان ثمنها في السوق أرخص، لسبب أو آخر كحوالة الأسواق (= تغير الأسعار) ، وجب على البائع إخبار المشتري به منعا للتغرير وإخفاء المعلومات عن المشتري وربما لم يوجبوا على المشتري إخبار البائع بثمن السوق إذا كان أغلى، لافتراض أن البائع يعلم ثمن سلعته في السوق، وهو راض بثمن العقد. والدافع إلى هذا النوع من البيوع هو أن المشتري قد يكون جاهلا بالسلع وأثمانها، يخشى الغبن في المساومة، أو ليس لديه الوقت الكافي للتحري والتجول على الباعة والمماكسة. هذا إذا كانت المرابحة حالّة، أما إذا كانت مؤجلة، فيستفيد المشتري أيضا من الأجل، ولكن هذا الأجل ليس للمرابحة علامة مميزة لها عن المساومة، فبيع المساومة يمكن أيضا أن يكون مؤجلا. ومن أراد مرجعا حديثا في موضوع المرابحة أمكنه الرجوع إلى كتاب الدكتور عبد الحميد البعلي " فقه المرابحة في التطبيق الاقتصادي المعاصر "، أو كتاب الدكتور أحمد علي عبد الله " المرابحة أصولها وأحكامها وتطبيقاتها في المصارف الإسلامية " (رسالة دكتوراة) . بيع المرابحة للآمر بالشراء كما في المصارف الإسلامية تلك هي بإيجاز المرابحة في الفقه المأثور. أما المرابحة المطبقة اليوم في المصارف الإسلامية، والمسماة بـ" بيع المرابحة للآمر بالشراء" أو لـ" الواعد بالشراء "، فهي أن يتقدم الراغب في شراء سلعة إلى المصرف، لأنه لا يملك المال الكافي لسداد ثمنها نقدا، ولأن البائع لا يبيعها له إلى أجل، أما لعدم مزاولته للبيوع المؤجلة، أو لعدم معرفته بالمشتري، أو لحاجته إلى المال النقدي، فيشتريها المصرف بثمن نقدي ويبيعها إلى عميله بثمن مؤجل أعلى. ويتم ذلك على مرحلتين. مرحلة المواعدة على المرابحة، ثم مرحلة إبرام المرابحة. وهذه المواعدة ملزمة للطرفين (المصرف، والعميل) في بعض المصارف الإسلامية، وغير ملزمة للعميل في بعض المصارف الأخرى. فإذا اشترى المصرف السلعة كان العميل بالخيار، إن شاء اشترى وإن شاء ترك. ويفهم من هذا أن المصرف لا يلتزم بشراء السلعة، ولكنه إذا اشتراها التزم ببيعها إلى العميل إذا اختار العميل شراءها. ولكن المصرف يحرص على شراء السلعة حفاظا على سمعته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 836 ويبدو أن بعض المصارف الإسلامية تفضل أن تكون السلعة، موضوع المرابحة، من السلع المعمرة، كي لا تنتقل ملكيتها إلى العميل إلا بعد سداد الأقساط جميعا، وهذا على الطريقة المعروفة في القوانين الوضعية بـ" الإجارة السائرة للبيع" أو " الآيلة للبيع". والتي سميت في المصارف الإسلامية " بـ الإيجار المنتهي بالتمليك " (السنهوري في الوسيط 4/170، والقرنشاوي ص4) . وفي بعض المصارف جرى التعبير عن هذا بأن البضاعة ومستنداتها ترهن رهنا تأمينيا لصالح المصرف إلى حين استيفائه كامل الثمن، ويكون للمصرف حق امتياز البائع، وله أن يطلب فوقها رهونات أو ضمانات إضافية (أحمد علي عبد الله ص268) . كما تفضل هذه المصارف أحيانا التعامل بالسلع المستوردة لأنها سلع منمطة ومواصفاتها محددة، ودرجة المخاطرة فيها درجة منخفضة، ونسبة تحكم المصرف في تدفقها أعلى، وتصريفها أسهل إذا ما قورنت بالسلع المحلية (القرنشاوي ص4) . على أن المرابحة المصرفية يمكن تطبيقها في شراء الأموال المثلية أو الأموال القيمية كما في شراء المنقولات والعقارات. أهمية بيع المرابحة في المصارف الإسلامية تطبق المرابحة في المصارف الإسلامية في عمليات الشراء الداخلية (مرابحات داخلية) وفي عمليات الاستيراد من الخارج (مرابحات خارجية) . وهذه المرابحات آخذة في التوسع والامتداد إذا ما قورنت بالمشاركات والمضاربات (= عمليات القراض) . وإليك مثالا عن أهمية عمليات المرابحة بالنسبة لمجموع عمليات التمويل: المصرف النسبة السنة المصدر البنك الإسلامي الاردني 80 % 1986 م موسى شحادة ص13 البنك الإسلامي في بنغلادش 65 % 1984م أوصاف أحمد ص8 مؤسسة فيصل المالية في تركيا 94 % 1986 م شوقي شحاتة ص8 البنك الإسلامي لغرب السودان 54 % 1984 أوصاف أحمد ص8 بنك التضامن الإسلامي في السودان 61 % 1984م نفسه بنك قطر الإسلامي 98 % 1984م نفسه وفي هذا البنك الأخير، بلغت عقود المرابحة 665 عقدا من أصل 667 عقدا، والفرق عقدان فقط هما من عقود المشاركة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 837 ويذكر الأستاذ موسى شحادة المدير العام للبنك الإسلامي الأردني أن سبب " توجيه أغلب استثماراته إلى المرابحة، بدل توجيهها إلى المساهمات والمشاركات لسرعة تسييلها، ووضوح التدفق النقدي، ووضوح العائد" (موسى شحادة ص 22) . ويقصد بسرعة التسييل سرعة التنضيض بلغة الفقه الإسلامي، أي تحويل الديون إلى نقود؛ ويقصد بوضوح التدفق النقدي إمكان جدولة الثمن المؤجل في المرابحة على أقساط معلومة وبآجال معلومة، كما يقصد بوضوح العائد إمكان حصول المصرف على عائد معلوم المقدار، في صورة نسبة من الثمن الأول، أي نسبة من رأس المال، رأس المال العملية، أي بدون مخاطرة كما هو الحال في المضاربة أو الشركة. ويقول الدكتور شوقي إسماعيل شحاتة إنه " بظهور البنوك الإسلامية، تعاظم دور بيع المرابحة للآمر بالشراء، وخصوصا بثمن مؤجل، بضوابطه الشرعية. وتأكدت أهميته وجدواه الاقتصادية وملاءمته علما وعملا لطبيعة العمليات التمويلية والعمليات الإيرادية التي تجريها البنوك الإسلامية بعيدا عن القروض ونظام الفائدة الربوية " (شحاتة ص9) ويقصد الدكتور شحاتة بملاءمة المرابحة لطبيعة العمليات التمويلية ملاءمتها لطبيعة العمل المصرفي التقليدي القائم على أساس العمل المضمون واجتناب المخاطرة. كما يقصد بملاءمة المرابحة للعمليات الايرادية بعيدا عن القروض والفائدة الربوية أن المصارف من طريق المرابحة استطاعت أن تحقق لنفسها إيرادات شبيهة بالفائدة من حيث الضمان، ولكنها مشروعة في نظره. غير أن الدكتور شحاتة لم يبين لنا كيف تأكدت أهمية المرابحة وجدواها الاقتصادية. لكن هناك بحوثا أخرى تكفلت بخلاف رأيه، كبحث الدكتور حاتم القرنشاوي بعنوان " الجوانب الاجتماعية والاقتصادية لتطبيق عقد المرابحة ". يقول الدكتور القرنشاوي إن " التطبيق السليم لعمليات المرابحة يتطلب، خلافا لما قد يسود لدى بعض العاملين بالبنوك الإسلامية، درجة عالية من المعرفة بظروف السوق، وتطور الطلب على السلع المختلفة فيه، وجهازا فنيا قادرا على تحليل المناخ العام للسوق، واتجاهات السياسة الاقتصادية في الأجل القصير والطويل، وشبكة مصادر المعلومات لتأمين ما يكفي من بيانات عن المصادر البديلة للسلع ومواصفاتها وأسعارها، فضلا عن الاستعلامات المطلوبة عن العملاء طالبي التمويل. وتوافر ذلك يعني إمكانية قيام البنك بدوره المفترض كتاجر، وليس كممول فحسب " (القرنشاوي ص 7) . وواضح أن الدكتور شحاتة يصدر رؤية غير الرؤية التي يصدر عنها الدكتور القرنشاوي. فالدكتور شحاتة يصدر عن سهولة التطبيق وإمكان القيام بالعمل المصرفي الإسلامي غير بعيد عن العمل المصرفي غير الإسلامي، بل وفق فلسفته في السيولة والربحية والضمانة، حتى أن الفرق بين العملين لا يعدو أن يكون خلافا في الشكل والصورة فحسب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 838 أما الدكتور القرنشاوي فقد أراد للمصرف الإسلامي أن يقوم بدور أصيل ومتميز في الإتجاهين الشرعي والتنموي معا. فالعملية تتلاشى منها المآخذ الشرعية كلما كانت أكثر جدية، بحيث يكون المصرف مؤهلا فعلا للقيام بعمليات البيع الحقيقية، على أنه تاجر سلع، لا على أنه ممول فحسب، ومن جهة أخرى فإن اتجاه المصارف في عملياتها إلى المرابحة، وإلى المرابحة على السلع المعمرة المستوردة قد أدى إلى إهمال عمليات الاستثمار الإنتاجي الأجل، وإلى " ترسيخ قيمة الربح السريع، وتجنب المخاطرة، وهو ما قد يتعارض مع قيم إسلامية أخرى " " القرنشاوي ص2 و8". مناقشة بيع المرابحة للآمر بالشراء من حيث صحة التسمية: هذه التسمية هي من تركيب الدكتور سامي حمود (انظر رسالته تطوير الأعمال المصرفية، ط 2، ص430) . ولا يفهم من رسالته أنه قد اختار قطعا إلزام الطرفين بمواعدتهما، وإن كان في ثنايا كلامه ما قد يدل على ميله للإلزام، الذي توضح واستقر فيما كتبه بعد ذلك، ولا سيما من حيث استخدامه لفظ " الآمر بالشراء، بدل " الواعد" بالشراء. فإذا كان المذهب بعدم الإلزام فالتسمية تبدو غير موفقة، لأن لفظ " الآمر يفيد أن العميل ملتزم بأمره، والمصرف ملتزم بتنفيذ أمر العميل (انظر مقالي في مجلة المسلم المعاصر ص184) ، فكأنه وكيل مأجور ولا يحسن أن يكون المصرف أجيرا، لأنه يصير أجيرا ومقرضا معا إذ يقرض العميل ثمن الشراء ويتقاضى منه أجرا على وكالته، فتجتمع في العملية شبهة البيع مقرونًا بالسلف، وقد ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف.)) ولهذا السبب عدل بعض العلماء عن لفظ " الآمر بالشراء " إلى لفظ " الواعد بالشراء "، وبهذا يعبر الاسم عن مرحلتي العملية: مرحلة الوعد، ومرحلة البيع، وذلك بغض النظر بعد ذلك عن المذهب المختار في الوعد، هل هو الإلزام أو عدم الإلزام؟ ويمكن تسمية العملية أيضا " مواعدة على المرابحة"، فهي مواعدة أولا ثم مرابحة، فإن كانت المواعدة غير ملزمة فكل منهما بالخيار .... إلخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 839 مزايا المرابحة المصرفية المرابحة المصرفية في نظر أنصارها مواتية للعمل المصرفي، لا سيما بالمقارنة مع المشاركة والمضاربة (= القراض) ، فالمصرف يدفع فيها رأس مال معينا، ويتقاضى عليه ربحا معلوما، ويستطيع دعم تمويله بضمان، ويمكنه أن يتخفف قدر الإمكان من أعباء قبض السلعة، فلا يحفظ من القبض إلا على الحد الأدني الذي يبقي على المصرف وساطته المالية وتجارته المالية غير السلعية. فإذا مول عملية ما عرف مسبقا أقساط السداد، وتاريخ سداد كل قسط، وأرباحه من العملية. وهناك علميات لا يستطيع المصرف تمويلها عن طريق الشركة أو المضاربة، مثل تمويل شراء الفرد سيارة لاستعماله الشخصي، أو أثاثا لمسكنه، حيث لا تجارة ولا ربح يمكن الإشتراك فيه؛ ومثل شراء الحكومة أنابيب لنقل المياه، حيث لا يمكن مشاركة القطاع الخاص للقطاع العام في ملكية الأصل أو إدارته وإيراداته؛ ومثل حال التجار الذين لا يريدون شركاء، بل يؤثرون الدائنين على الشركاء من أجل الحصول على المال (حمود: تطبيقات ص8) . ولكن أنصار المرابحة في هذه العمليات التمويلية انطلقوا من أن كل عملية مصرفية تقوم بها المصارف الربوية، يجب أن تقوم بها المصارف الإسلامية، فلم يبينوا ولم يناقشوا مدى أهمية تمويل شراء سيارات للاستعمال الشخصي عن طريق القرض، كما أنهم لم يعملوا أذهانهم لاستكشاف أساليب أصيلة، أو أساليب ملائمة لهذه العمليات أكثر من الديون، مثل فرض ضرائب، أو دين عام بدون فائدة على الأغنياء أو على المصارف، أو الاعتماد على التمويل الذاتي من طريق الادخار والاحتياطي. فالدينُ هَمٌّ بالليلِ ذلٌّ بالنهارِ، ألا ترى إلى هذه البلدان " النامية " المثقلة بالديون، المرهقة بها، حتى لو أعفيت من فوائدها؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 840 التفريق بين المرابحة القديمة والمرابحة المصرفية الحديثة 1- السلعة في المرابحة القديمة تكون موجودة حاضرة لدى البائع مرابحة، وغير موجودة ولا حاضرة لديه في المرابحة المصرفية. 2- المرابحة القديمة تنعقد مرة واحدة في مجلس العقد، أما المرابحة المصرفية ففيها مرحلتان: مرحلة المواعدة، ومرحلة المعاقدة. 3- المواعدة في المرابحة المصرفية قد تكوين ملزمة، مع أن الثمن لا يزال مجهولا، إذ لم يشتر المصرف السلعة بعد، ولم يعرف كلفتها (= ثمنها الأول) أما الثمن في المرابحة القديمة فمعلوم في المجلس. 4- في المرابحة القديمة يكون البائع مرابحة قد اشترى السلعة لنفسه بلا ريب، سواء للانتفاع بها، أو للاتجار بها، وقد يمضى وقت بين شرائها وإعادة بيعها. أما في المرابحة المصرفية فلا يشتري المصرف السلعة إلا بناء على طلب العميل ووعده بشراء السلعة، فهو يشتريها لا لكي ينتفع بها، بل ليعيد بيعها بمجرد حصوله عليها. 5- المرابحة القديمة قد تكون مرابحة حالَّة أو مؤجلة، أما المرابحة المصرفية فالغالب أنها مؤجلة، فالمصرف يشتري السلعة بثمن نقدي، ليعيد بيعها بثمن مؤجل. 6- المرابحة القديمة إذا كانت حالَّة فربح البائع فيها كله ربح نقدي لقاء جهده ووقته ومخاطرته، أما المرابحة المصرفية المؤجلة فربح المصرف فيها كله ربح ناشئ عن التأجيل، أي ربح في مقابل الأجل. ولو أراد المصرف الحصول أيضا على ربح نقدي لارتفعت كلفة التمويل، بما قد يؤدي إلى إحجام العميل عن التعامل معه. وغالبا ما لا يعترف العميل للمصرف إلا بدوره التمويلي في العملية. أما الدور التجاري فهو ما ينهض به العميل، وتدخل المصرف في هذا الدور ليس إلا من باب تحلة العمل. 7- المرابحة القديمة فيها خلاف بين الفقهاء حول ما يجب أن يدخل في الثمن الأول أو لا يدخل، من مصاريف وأجور وسواها. أما المرابحة المصرفية فالأمر فيها ههنا سهل، إذ كل التكاليف تدخل في الثمن الأول، وما قد يقال بعدم إدخاله في الثمن، كمصاريف التأمين مثلا، يمكن إدخاله في الربح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 841 8- في المرابحة القديمة قد يكون البائع مرابحة أدخل على السلعة قيمة مضافة من إصلاح أو تصنيع أو مداواة أو خياطة أو صباغة. أما في المرابحة المصرفية فالمصرف لا يدخل على السلعة أية إضافة، فهو تاجر يشتري السلعة ليعيد بيعها فورًا كما هي. 9- في المرابحة القديمة قد تكون السلعة قابلة للزيادة والنماء، كأن تكون حيوانا يسمن ويكبر ويلد، أو شجرًا يثمر. أما المرابحة المصرفية فتجري على سلع غير قابلة للنماء، لأن المصرف لا يتحمل مثل هذه المسؤوليات في التكاثر والعلف والنماء. ولذلك كان جديرًا بمن بحث المرابحة المصرفية أن لا يعرض للمرابحة القديمة إلا في حدود صلتها بالمرابحة المصرفية، فتفصيل ما يضاف وما لا يضاف إلى الثمن الأول، والتعرض للسلع الحيوانية أو النباتية القابلة للنماء ... كل هذا وأمثاله لا قيمة له في المرابحة المصرفية الحديثة، ولا حاجة للإطالة به. أما ما أشار إليه المالكية من وجوب تفصيل عناصر الثمن الأول أو الاكتفاء بالإجمال فمناقشته مهمة ومفيدة، والله أعلم. زيادة الثمن المؤجل على المعجل في المرابحة إذا اشترى البائع مرابحة السلعة بثمن معجل، وكانت المرابحة معجلة، أي بثمن معجل، فههنا لا مشكلة. لكن قد يحدث أحيانا أن يكون البائع مرابحة قد اشترى السلعة بثمن مؤجل، فإن باعها مرابحة للأجل نفسه (ثلاثة أشهر مثلا إذا كان الأجل الأول ثلاثة أشهر) فلا مشكلة أيضا. أما إذا اشتراها بثمن مؤجل ثم باعها بثمن مؤجل إلى أجل أقل، فلا بد للبائع مرابحة من بيان هذا للمشتري، لأن للزمن حصة من الثمن عند جمهور الفقهاء، والأثمان تختلف باختلاف الأزمان (= الآجال) . قارن البعلي ص69- 70 و193-194، وأحمد علي عبد الله ص 72 – 74 و85 – 92 و126- 128. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 842 وزيادة الثمن للأجل جائزة، وليست ربا محرما كما وهم بعض الناس، وقد دافعت عن ذلك نقلا وعقلا في غير هذا الموضع " انظر مقالي بمجلة الأمة: القول الفصل في بيع الأجل ص 54: وكتابي: الربا والحسم الزمني ص 33) . ولكن زيادة الثمن للأجل قد تصير حراما إذا اتخذت ذريعة للربا الحرام. فالبائع قد يبيع بثمن مؤجل مقداره مائة، ثم يخصم هذا الثمن (الممثل بورقة تجارية: سفتجة أو سند إذنى) لدى مصرف، فيحصل مثلا على تسعين في الحال. فالبيع بثمن مؤجل أعلى من المعجل جائز، ولكن قيام البائع بخصم الثمن المؤجل لدى المصرف حرام، لأن من شأنه أن المصرف يقرض البائع تسعين حالّة في مقابل مائة مؤجلة، وهذا ربا قرض أو ربا نسيئة محرم. وقد تصير الزيادة في الثمن المؤجل على المعجل موضوعا لبعض الحيل الربوية، فيبيعه بثمن مؤجل ويشتري منه ما باعه بثمن معجل، أو يبيعه بثمن مؤجل إلى أجل معلوم، ويشتري منه ما باعه بثمن مؤجل إلى أجل معلوم أدنى من الأجل الأول، فهذا ينقل البيوع من بيوع أجل جائزة إلى بيوع آجال غير جائزة (بيوع عينة) . فلا بد إذن من التفريق بين بيوع الأجل وبيوع الآجال، وهذه العبارة الأخيرة استخدمها بعض الفقهاء (المالكية وغيرهم) للتعبير عن الحيل الربوية. ومن هذا الباب حديث عائشة مع زيد بن أرقم، إذ بيع العبد بثمن نقدي مقداره 600 دينار، ومؤجل مقداره 800دينار (الأم 3/68، والمحلى 9/60، وبداية المجتهد 2/139) . والخلاف بين العلماء في هذا الحديث ليس خلافا في زيادة الثمن المؤجل على المعجل، بل هو خلاف فيما وراء ذلك، حول بيع العبد بـ 800 دينار مؤجلة وإعادة شرائه بـ600 دينار معجلة. وقد ميزت فيما كتبت سابقًا بين جواز البيع بثمن مؤجل أعلى من المعجل، وبين عدم جواز اتخاذ هذا الجواز سبيلًا إلى العينة أو بيوع الآجال، فحسبه بعض القراء من باب التناقض (أبو غدة ص21) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 843 اختلاف صور المرابحة المصرفية من مصرف إسلامي إلى آخر لا يمكن القول إن المصارف الإسلامية تستوي جميعا في موقفها من بيع المرابحة، بحيث تتفق على صورة أو صور موحدة منه. فهناك مصارف تطبق الإلزام بالمواعدة على كل من المصرف والعميل، فيلتزم المصرف بشراء السلعة وبيعها إلى العميل، كما يلتزم العميل بشراء السلعة من المصرف. وثمة مصارف أخرى تطبق الإلزام بالوعد على المصرف فقط، دون العميل. فإذا اشترى المصرف السلعة التزم ببيعها إلى العميل إذا رغب العميل في ذلك. وربما لا توجد مصارف تطبق عدم الإلزام، أي الخيار، بالنسبة لكل من المصرف والعميل، إلا أنه يمكن القول بأن المصارف التي تلزم نفسها دون العميل ليست بعيدة عن الخيار للطرفين، لأن المصرف غير ملزم بشراء السلعة، إنما يلزم فقط ببيعها إذا اشتراها. وهناك مصارف تطبق الإلزام في المرابحات الخارجية، والخيار في المرابحات الداخلية (أبو غدة ص6 و 14) . وهناك مصارف تحدد الثمن الأول والربح منذ المواعدة (حمود: تطبيقات ص14) . ومصارف تحدد الربح عند المواعدة، ولكنها لا تحدد الثمن الأول إلا بعد شراء السلعة. وهناك مصارف تشتري السلعة لنفسها أولا، وربما تودعها في مخازن لها، قبل بيعها، وهناك مصارف أخرى لا تشتري السلعة إلا بناء على طلب العميل، ولحسابه. وربما أخذت المرابحة، في بعض الأحيان، صورة " اتفاق مسبق بين البنك وبعض الموردين على تصريف سلعهم "، فإذا اتجه العميل إلى المورد أرسله المورد إلى البنك لكي يصدر له أمر توريد، ويوكله في عمليات المرابحة (محمد عبد الحليم عمر ص 15) . وقد تكون المرابحة بأن يمنح المصرف النقود للآمر بالشراء ليشتري السلعة بنفسه، ثم يبيعها لنفسه (حمود: تطبيقات ص15) . وربما جرت المرابحة بأن يشتري المصرف سلعة ما من عميله بثمن نقدي، ثم يبيعها إليه بثمن مؤجل أعلى. وقد لا يكون مهما حضور السلعة أو غيابها في مجلس العقد، بل قد لا يكون مهما أن يكون وجودها حقيقيا أو موهوما، لأنها دخلت في المجلس لتخرج في المجلس نفسه (محمد فهيم خان ص3) . لقد أغرق بعض الفقهاء في الحيل، وزادها بعض " المنفذين " إغراقا، وجعلوا العملية أشبه باللعبة منها بالجد. وربما لهذا السبب يعتبر البنك المركزي المصري عملية المرابحة عملية قرض (شلبي ص27) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 844 هل المرابحة المصرفية عملية مستحدثة؟ زعم بعض الكاتبين أن المرابحة المصرفية عملية مستحدثة، إما لعدم اطلاعه على أقوال الفقهاء في هذا الباب، وإما لأنه أراد الذهاب فيها إلى مذهب آخر لا يوافق فيه مذاهبهم. وسنبين في هذه الدراسة أن شراء شيء بثمن نقدي وبيعه بثمن مؤجل ليس أمرا جديدا على الفقه الإسلامي، كما سنبين أن المواعدة في هذه العملية إذا كانت ملزمة لم يجزها أي مذهب من المذاهب الفقهية الأربعة. وهذا دليل على أن العملية ليست مستحدثة. ويبدو أيضًا أن العثمانيين قد لجأوا أيضا إلى المرابحة وأصدروا قانونًا سمى " قانون المرابحة العثماني في المسائل المدنية" (ذكره السنهوري في مصادر الحق3/248، وانظر أيضا نظام المرابحة في الجزء الثاني من مجموعة القوانين ليوسف صادر، ص 262- 263. وننقل نصه لعدم تيسر الرجوع إليه) : نظام المرابحة المادة 1- اعتبارا من تاريخ نشر هذا النظام تعين تسعة في المائة فائدة سنوية حدا أعظم لكل أنواع المداينات العادية والتجارية (1) . المادة 2- إن مقاولات الفائدة التي عقدت على حساب 12 في المائة قبل تاريخ نشر هذا النظام هي مرعية ومعتبرة إلى يوم إعلان هذا النظام. المادة 3- إذا تبين وقوع مقاولة على فائدة زائدة عن حدها النظامي، إما صراحة في السند بين الدائن والمديون، أو بثبوت ضمها إلى رأس المال، فيصير تنزيل مقدار الفائدة السنوية إلى تسعة في المائة. المادة 4- فائدة الديون مهما مر عليها من السنين، فلا يجب أن تتجاوز مقدار رأس المال، وجميع الحكام ممنوعون من الحكم بالفائدة التي تتجاوز رأس المال. المادة 5- إن إجراء الفائدة المركبة في الاقتراضات غير جائز إلا: أولا – إذا لم يصر تسليم دفعات من طرف المديون في ظرف ثلاث سنوات على حساب المبلغ المستقرض. ثانيا – إذا حصل اتفاق بين الدائن والمديون على ضم فائدة الثلاث السنوات التي صار إجراء تمشية حساب الفائض بها إلى أصل المال، فيمكن حينئذ تمشية فائدة مركبة لأجل ثلاث سنين فقط. وإن معاملات الفائض المركب الناشئ عن الحساب الجاري بين التجار توفيقا لأحكام قانون التجارة هي مستثناة.   (1) يتبين من مراجعة قرارات الموراتوريوم (= تأجيل الديون) المنشورة في الصفحة 402 من المجلة القضائية السنة الثانية أنه أجيز أن يحسب للديون غير المنصوص عن مقدار فائدتها 4 في المائة عن الأموال المودعة في البنوك (كذا) و7 في المائة لسائر الديون، وذلك من تاريخ 3 آب سنة 1914م لتاريخ 26 شباط سنة 1921م وفقا لقرار تسديد الديون المؤجلة رقم 655 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 845 المادة 6- إنه ما دامت معاملة الإقراض والاستقراض جارية بين الدائن والمدين، فسواء أريد نقل (لعله خطأ صوابه: قفل) الحساب أو تجديد سند الدين، فإن دعوى تنزيل الفائدة إلى الحد النظامي هي مسموعة، أما إذا صار أداء الدين وصار قطع المعاملات بين الدائن والمديون فإن دعوى استرداد الفائض الفاحش تكون غير مسموعة. المادة 7- إن نظام المرابحة المؤرخ في 16 أيلول سنة 1280هـ (لعل صواب هذه السنة 1880م) هو مفسوخ اعتبارا من تاريخ نشر هذا النظام. المادة 8- أن نظارة العدلية مكلفة بتنفيذ أحكام هذا النظام. في 9 رجب سنة 1304 هـ وفي 22 مارس سنة 1303 م (لعل الصواب 1886م) ومن هذا النظام نستنتج ما يلي: 1- أنه في أيام العثمانين قد صدر نظام مرابحة مؤرخ في 16 أيلول (سبتمبر) 1880م، نسخه هذا النظام الجديد المؤرخ في 22 آذار (مارس) 1886م. 2- الفائدة، والفائض (انظر المادة 5و6) ، والمرابحة في لغة هذا النظام أو القانون هي بمعنى واحد. 3- المقصود بالمرابحة هو الزيادة في المداينة في مقابل الزمن. 4- وقد تدخل القانون العثماني لوضع حد أعلى (سقف) لهذه المرابحة لا يجوز تجاوزه، كان 12 % قبل صدور هذا النظام، وصار في ظله 9 %، وهذا المعدل لا يزال يعتبر في بعض القوانين العربية أعلى معدل فائدة مسموح به قانونا، وهو معدل فوائد التأخير في السداد الذي يكون أعلى من معدل الفوائد التعويضية. 5- لا يجوز أن تتجاوز الفوائد مقدار أصل المال مهما كان أجل الدين. ومن شأن هذا بالطبع أن لا يتم الإقراض إلا لآجال قصيرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 846 6- حدد القانون الحالات التي يجوز فيها اللجوء إلى الفائدة المركبة (= الفائض المركب) وهذه الحالات هي: أ – إذا تأخر المدين في دفع أحد الأقساط لمدة بلغت ثلاث سنوات، أو لم يسدد أي قسط خلال هذه المدة، لا نتيجة تأخير، بل نتيجة اتفاق. ب – واتفق الطرفان (الدائن والمدين) على سريان هذه الفائدة المركبة لمدة لا تتجاوز ثلاث سنوات. ويلحظ أن القانون استخدم لفظ " التمشية " بمعنى اللفظ المستخدم اليوم وهو " سريان " أو " تحقيق سريان ". جـ – الحسابات الجارية بين التجار. 7- لا تسمع دعوى تنزيل الفائدة إلى الحد النظامي إذا تم سداد الدين، وصفي الحساب بين الطرفين، ولم يبق منه شيء. هذا ويلاحظ أن مجلة الأحكام العدلية، وهي القانون المدني العثماني، قد سكتت عن أي نص فيها يحرم الربا. وسادت أيام العثمانيين حيل فقهية كثيرة للتغلب على حرمة الربا، من هذه الحيل ما أطلق عليه بيع المعاملة، وهو أن يبيعه المقرض شيئا بأكثر من ثمنه، أو يبيعه المقترض شيئا بأقل من ثمنه، تمكينا للمقرض من وصوله إلى منفعة القرض (انظر حاشية ابن عابدين، فصل في القرض، مطلب كل قرض جر نفعا حرام، ج5 ص166، وانظر التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة في القرن الأول الهجري، لصالح أحمد العلي بيروت، دار الطليعة، ط 2، 1969م ص290) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 847 ويبدو أن ابن عابدين قد استخدم أيضا المرابحة بمعنى الربح لأجل الأجل. قال " إذا قضى المديون الدين قبل الحلول، أو مات (فحل بموته) فأخذ من تركته فجواب المتأخرين أنه لا يأخذ من المرابحة (أي من الربح المقابل للأجل) التي جرت بينهما إلا بقدر ما مضى من الأيام" (الحاشية 5/160 والعقود والدرية 1/278) . وأوضح هذا الشيباني النحلاوي فقال: " صورته: اشترى شيئا بعشرة نقدا، وباعه لآخر بعشرين إلى أجل هو عشرة أشهر، فإذا قضاه بعد تمام خمسة أشهر، أو مات بعدها، يأخذ خمسة ويترك خمسة " (الدرر المباحة 53) . فكيف يقال بعد هذا إن المرابحة المصرفية عملية مستحدثة؟ بل لقد روى الإمام مالك في الموطأ 2/662، في باب النهي عن بيعتين في بيعة، أنه بلغه أن رجلًا قال لرجل: ابتع لي هذا البعير بنقد، حتى أبتاعه منك إلى أجل، فسئل عن ذلك عبد الله بن عمر، فكرهه ونهى عنه. وهذا مطابق تماما للمرابحة المصرفية، إذا كان الوعد فيها ملزمًا، وسيأتي الكلام عنه في هذه الورقة. المرابحة المصرفية الملزمة غير جائزة بإجماع المذاهب الأربعة قررنا آنفا أن المرابحة المصرفية الملزمة ليست مستحدثة، وهاك آراء الفقهاء من المذاهب الأربعة التي أجمعت على عدم جوازها. 1 – من الفقه المالكي: روى الإمام مالك في الموطأ 2/663، باب النهي عن بيعتين في بيعة: أنه بلغه أن رجلا قال لرجل: ابتع لي هذا البعير بنقد، حتى ابتاعه منك إلى أجل، فسئل عن ذلك عبد الله بن عمر، فكرهه ونهى عنه. وقال ابن جزي في القوانين الفقهية ص284: " إن العينة ثلاثة أقسام الأول: أن يقول رجل لآخر: اشتر لي سلعة بعشرة، وأعطيك خمسة عشر إلى أجل، فهذا (ربا) حرام. والثاني: أن يقول له: اشتر لي سلعة، وأنا أربحك فيها ولم يسم الثمن، فهذا مكروه. والثالث: أن يطلب السلعة عنده فلا يجدها، ثم يشتريها الآخر من غير أمره، ويقول: قد اشتريت السلعة التي طلبت مني، فاشترها مني إن شئت، فهذا جائز ". وانظر ابن رشد في المقدمات ص 538، والباجي في المنتقى 5/39، والشرح الكبير للدردير 3/89، والكافي لابن عبد البر 2/572. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 848 2 – من الفقه الشافعي قال الإمام الشافعي في الأم 3/33، كتاب البيوع، باب في بيع العروض: " إذا أرى الرجل الرجل السلعة فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، والذي قال: أربحك فيها، بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعا، وإن شاء تركه. وهكذا إن قال: اشتر لي متاعا، ووصفه له، أو متاعا أي متاع شئت، وأنا أربحك فيه، فكل هذا سواء: يجوز البيع الأول، ويكون هذا فيما أعطى من نفسه بالخيار، وسواء في هذا ما وصفت إن كان قال: ابتاعه (كذا أي ابتعه) أشتريه منك بنقد أو دين: يجوز البيع الأول، ويكونان بالخيار في البيع الآخر، فإن جدداه جاز. وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ من قبل شيئين: أحدهما أنه تبايعاه قبل يملكه (كذا صحيح مثل: قبل أن يملكه، خلافا لما ظنه بعض الكتاب) البائع، والثاني أنه على مخاطرة أنك إن اشتريته على كذا أربحك فيه " وانظر مقالي في المسلم المعاصر، ص 179- 189. 3- من الفقه الحنفي: في كتاب الحيل للإمام محمد بن الحسن ص79 و127 رواية السرخسي: قلت: أرأيت رجلا أمر رجلا أن يشتري دارًا بألف درهم، وأخبره أنه إن فعل اشتراها الآمر بألف درهم ومائة درهم، فأراد المأمور شراء الدار، ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يأخذها، فتبقى في يد المأمور، كيف الحيلة في ذلك؟ قال: يشتري المأمور الدار على أنه بالخيار فيها ثلاثة أيام ( ... ) وإن لم يرغب الآمر في شرائها تمكن المأمور من ردها بشرط الخيار، فيدفع عنه الضرر بذلك. وانظر بيع المرابحة للأشقر ص46. فلو كان من الممكن أن يكون الوعد بالبيع أو بالشراء ملزما لما احتاج المأمور أن يشتري بالخيار لثلاثة أيام أو غيرها. وفي النص ما يدل على أن " الآمر بالشراء " غير ملزم بالشراء، فقد يأمره بالشراء، ثم يبدو له ألا يشتري، ألا يرغب في الشراء، فهو بالخيار: إن شاء اشترى وإن شاء ترك. 4 – من الفقه الحنبلي: في إعلام الموقعين 4 / 29 لابن القيم نص مثل هذا النص الذي تقدم في الفقه الحنفي. فلو كان الوعد ملزما لما اشترى المأمور بالخيار، ولما رجع الآمر عن رغبته. وتجدر الإشارة إلى أن كلا من نص الإمام ابن القيم ونص الإمام محمد لم يرد فيهما ما يدل على أن المرابحة حالّة أو مؤجلة، لكن المهم فيهما أن الإلزام في المرابحة لا يجوز. الوعد في المرابحة هل هو ملزم أو غير ملزم؟ ذكرنا أن المرابحة المصرفية تجري في المصارف الإسلامية، أو في فتاوى المفتين لها، على مرحلتين: مرحلة المواعدة، ثم مراحلة المعاقدة. فإذا اشترى المصرف السلعة، عرضها على العميل، فكان هذا العميل بالخيار، على رأي من خيره ولم يلزمه بوعده. أو كان ملزما بالشراء وإبرام عقد البيع، على رأي من ألزمه ولم يترك له الخيار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 849 ومن المصارف الإسلامية التي أخذت بإلزام المصرف دون العميل المصارف السودانية التالية: - بنك فيصل الإسلامي - بنك التضامن الإسلامي - بنك البركة - البنك الإسلامي لغرب السودان (أحمد على عبد الله ص 253) ولا ريب أن ذلك بتأثير الاتجاه السوداني الذي يتزعمه الدكتور الصديق الضرير. والحقيقة أن الإلزام بالمواعدة ولو ملنا إليه، وأخذنا به على العموم، إلا أننا نجد أن الآخذ به في المرابحة يؤدي إلى محظورات شرعية، وهو ما بينته في مواضع متعددة، وبينه كذلك كل من الدكتور الصديق الضرير، والدكتور أحمد على عبد الله، والدكتور محمد سليمان الأشقر، والدكتور عبد الله العبادي والدكتور حسن عبد الله الأمين. فهناك حالات لا يكون فيها الوعد ملزمًا، بل يجب فيها إخلافه، فلو وعد أحدهم، بل نذر أو حلف، أن لا يفعل خيرًا أو أن يفعل معصية أو حرامًا، ألا ترى أن عليه أن يخلف وعده، ويفعل الخير، ويمتنع عن المعصية والحرام، ويكفر عن يمينه إذا حلف؟ (انظر مقالي في الأمة، ص27) . إذن لا يمكن القول بالإلزام بالوعد مطلقا، فبالإضافة إلى ما ذكر، فإن المتبايعين في خيار المجلس العقد أعطى لهما الشارع خيار المجلس (العبادي ص 59) ، ولا يستطيع أحد أن يتذرع بعدم الخيار مدعيا بأن الالتزام قد قام بينهما، أو أن المواعدة بينهما ملزمة. والإلزام للطرفين، عند من ذهب إليه، يدخله أن إلزام العميل لا يتقابل ولا يتناظر تماما مع إلزام المصرف، ذلك بأن المصرف لا يلتزم حيال العميل إلا بعد شراء السلعة، فإذا رأى أن الشراء في مصلحته اشترى، وإلا فلا، وهذا من شأنه أن يؤدي في الواقع إلى إلزام العميل حقيقة والمصرف ظاهرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 850 ومما يشكل أيضا أن إلزام العميل بالشراء، لا يمكن شرعا إذا لم يكن الثمن معلوما في وقت الإلزام، فمعلومية الثمن مطلوبة في كل بيع شرعي لأجل تحقيق التراضي، فكيف يتم التراضي على مجهول؟ وكذلك المواعدة إذا كانت ملزمة للعميل، فكيف يلتزم، والثمن الأول للمرابحة لم يعلم بعد؟ إن الذي دعا إلى العلم بالثمن في البيع هو نفسه الذي يدعو إلى العلم بالثمن في المواعدة الملزمة بالبيع ألا وهو التراضي على المعلوم، فالتراضي على مجهول غير متصور. إن الإلزام بالوعد في المرابحة يتنافى مع الرضا المطلوب شرعا في البيوع والتجارات (مقالي في الأمة ص26، وأحمد علي عبد الله ص215) ، ولا سيما على رأي من رأى أن للمصرف أن يشتري السلعة للعميل بدون تحديد الثمن في وقت المواعدة، بل بالاقتصار على تحديد نسبة الربح إلى التكلفة، فهذا رضا بالمجهول، والرضا بالمجهول لا يصح في البيع (قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2/176، والطرق الحكمية لابن القيم ص264 حيث ذكر أن البيع " يعتبر فيه الرضا، والرضا يتبع العلم ") . ومن اضطر إلى إخلاف وعده، دون أن يكون في نيته الكذب أو الإخلاف وقت المواعدة، فليس بمنافق ولا آثم. قال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (التوبة 77 – 78) . وفي بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي 5/237 ((العدة دين)) رواه الطبراني في الأوسط عن علي وابن مسعود (الفتح الكبير) ، ((والعدة عطية)) رواه أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود (الفتح الكبير) . فلا يقال إذن إن العدة دين بإطلاق، ولا عطية بإطلاق. إن الله سبحانه وتعالى لا يخلف وعده، لأنه عالم وقادر، بخلاف البشر، فإنهم يعدون أحيانا ولا يعقدون، لاحتمال الإخلاف نتيجة نقص علمهم وقدرتهم. فليس من المناسب أن نجعل الوعد ملزما كالعقد، ولا أن نجعل العقد كالوعد غير ملزم فلكل منهما دور ووظيفة لا يجب التعدي عليهما. وقد بحث فقهاؤنا السابقون المواعدة في المعاوضات، بمناسبة الصرف (المواعدة في الصرف) ، فمنهم من أجاز المواعدة، ومنهم من لم يجزها، ولكن أحدا منهم لم يجعلها ملزمة، لأن الإلزام بها يؤدي إلى الربا، وإلى الصرف المؤجل (الأم 3/27، والمحلى 8/513، ومقدمات ابن رشد 2/181، والقوانين الفقهية لابن جزي ص276، والخرشي على خليل 5/38) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 851 هذا وقد توسع بعض العلماء المعاصرين في الوعد الملزم، فأخذوا به في المرابحة، وفي المصارفة (محمد خاطر ص225 و288 و230، وفتاوى بيت التمويل الكويتي، ط 1، ص89- 90) ، وفي الإجازة التمويلية Leasing (قرارات مجمع الفقه الإسلامي بجدة، صحيفة الشرق الأوسط ليوم السبت 25/10/1986م ص10) ، وفي التأمين (الزرقا: نظام التأمين ص58 و131) ، وفي سندات المقارضة (سامي حمود: تصوير حقيقة سندات المقارضة ص7 من المذكرة) ، فاحتاج الأمر إلى دراسة منفردة لمسألة الوعد الملزم وتطبيقاتها المعاصرة، لتأصيل هذه المسألة ودراستها قبل الأخذ بها مفتاحا سحريا في كل مناسبة ومناسبة. المالكية برغم قولهم بالوعد الملزم لم يصححوا الإلزام بالوعد في المرابحة استند العلماء في المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي بدبي على مذهب المالكية في الوعد فقالوا: " إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقا لأحكام المذهب المالكي". علي أن صور بيع المرابحة ليست جديدة على المذهب المالكي، ولم يرتضوا الإلزام فيها، برغم مذهبهم بالوعد الملزم قضاء، في بعض الحالات. فقد نُقل عن الإمام مالك أنه كره أن تكون بين الطرفين مواعدة أو عادة، بأن يقول له: ارجع إلي، (المنتقى للباجي 4/288. وانظر مصنف ابن أبي شيبة 6/434 و7/48 و253، ومصنف عبد الرزاق 8/ 232- 233، وسنن البيهقي 5/330، والمحلى 9/14) . وروي عن الحسن أنه كان يكره أن يأتيك الرجل يساومك بشيء ليس عندك فتقول: ارجع إلي غدا، وأنت تنوي أن تبتاعه له. وعن طاوس. لا تؤامر ولا تواعد. قل: ليس عندي (مصنف عبد الرزاق 8/42) . فلا يجوز إذن تجزئة العملية إلى جزأين: وعد، وبيع، ثم الاستعانة بإلزامية الوعد بما يؤدي إلى الغرر في البيع أو الربا أو ربح ما لم يضمن أو بيع ما ليس عنده أو أي محظور شرعي آخر. وقد دافع بعضهم عن أن الإلزام بالوعد في البيع وسائر المعاوضات أولى منه في التبرعات (القرضاوي في كتابه ص 102- 103) ، فقلب بذلك القاعدة الفقهية المعروفة، وهي أن الغرر يغتقر منه في التبرعات ما لا يغتقر في المعاوضات (الصديق الضرير ص521) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 852 مناقشة الرأي القائل بالخيار للعميل والإلزام للمصرف الدكتور الصديق الضرير شارك في المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي بدبي عام 1399هـ، وفي المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي بالكويت عام 1403هـ. وكان من المعارضين لإلزام الطرفين (المصرف، والعميل) بمواعدتهما، ومن المنافحين عن إلزام المصرف دون العميل. وقد أشرف الدكتور الصديق على رسالة دكتوراة، وتوصل فيها صاحبها، وهو الدكتور أحمد علي عبد الله، إلى ما وصل إليه أستاذه المشرف. ومن ناحية اعتراض الدكتور الصديق، والدكتور أحمد علي عبد الله، على الإلزام للعميل، يمكن اعتبارهما متفقين مع من يعترض على الإلزام للطرفين، فالحجج تكاد تكون واحدة (لكنها صلحت عندهما لتخيير العميل فقط، لا للطرفين معا) . ولا خلاف لي معهما في هذا الباب. وأشير هنا إلى أن الحكم الصحيح على مثل هذه المرابحة إنما يتوقف بشكل خاص على مدى التمكن من فهم الربا والغرر في الإسلام، والدكتور الصديق هو ممن كانت له عناية خاصة بدراسة الغرر، فقد كان موضوع رسالته للدكتوراة منذ عام 1386هـ- 1967م. غير أنني لم أفهم كيف ارتضى أستاذنا الصديق إلزام المصرف دون العميل؟ قد يمكن القول بأن المصرف عنده مخير أيضا، لأن إلزامه لا يبدأ حيال العميل إلا بعد شراء السلعة. فإذا أراد ألا يلتزم أمكنه اختيار عدم شراء السلعة. وهذا ما يقرب رأيه من رأي أنصار الخيار للطرفين، وهو الرأي الصحيح المريح عندي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن إلزام المصرف، حتى عند أنصار إلزام الطرفين، لا يبدأ إلا بعد شراء المصرف للسلعة. ولهذا جعلوها في المرحلة الأولى مواعدة، فالمصرف لا يلتزم بوعده إلا إذا اشترى السلعة، والعميل يلتزم بوعده إذا اشترى المصرف السلعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 853 ولكني أرى أن الحكم الشرعي يجب أن يدور ههنا بين تخيير الطرفين معا أو إلزامهما معا، حتى يكونا على قدم المساواة، أي مستويين في الغنم والغرم، فكما تعرض للعميل أسباب تدفعه لعدم إمضاء وعده، فكذلك تعرض للمصرف مثل هذه الأسباب، كتغير سعر السلعة بين تاريخ المواعدة وتاريخ المعاقدة، أو انحراف المصاريف الواقعة عن المتوقعة، مثل مصاريف الشحن والتأمين والجمرك وأسعار صرف العملات، ولذلك لا أرى من الناحية الشرعية إلا وجوب اعتبار الطرفين في حالة خيار لا لزوم. فكيف نلزم المصرف بعد الشراء، ولا نلزم العميل لا قبل الشراء ولا بعده؟ وقد لاحظت أن الدكتور الصديق قد اعتمد على نص كتاب الأم للشافعي في استمداد الخيار للعميل والإلزام للمصرف. مع أن التأمل في نص الأم يفضي إلى خيار الطرفين لا إلى خيار أحدهما دون الآخر (راجع ما كتبته في مجلة المسلم المعاصر، ص184 و188، وأبو غدة ص14) . قال في الأم 3/33: " ويكونان بالخيار في البيع الآخر، فإن جدداه جاز، وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ ". الفرق بين المرابحة والوعد بالمرابحة قد يتساءل: لماذا لجأ بعض الفقهاء المعاصرين إلى تقسيم العملية إلى مرحلتين: مرحلة مواعدة، ومرحلة معاقدة؟ فما دامت المواعدة، عند بعضهم ملزمة، فلماذا لم تنعقد العملية بيعًا منذ البداية؟ فأي فرق بين البيع والوعد بالبيع إذا كان الوعد ملزما؟ الجواب أن المصرف لا يملك السلعة عند المواعدة، وقد لا يستطيع شراءها لسبب أو لآخر، كارتفاع ثمنها أو غير ذلك. لذلك لجأوا إلى المواعدة، وهي حتى لو كانت ملزمة، إلا أنه يجب الانتباه إلى معنى الإلزام عندهم، حتى يلحظ الفرق بين البيع والوعد الملزم بالبيع. فالمواعدة من جانب المصرف لا تصير ملزمة إلا بعد شرائه السلعة، والمصرف ليس ملزما بشراء السلعة، ولكنه إذا اشتراها صار ملزما ببيعها إلى العميل، سواء كان المذهب إلزام المصرف وحده دون العميل، أو كان المذهب إلزام الطرفين. كما لجأوا إلى المواعدة (الملزمة) بدل البيع، لأن هناك نصوصا تمنع من بيع ما لا يملك، فاختاروا لفظ " المواعدة " بدل البيع حتى لا يتطابق بيع المرابحة المصرفية مع بيع ما لا يملك، ومع محرمات أخرى (كربح ما لا يضمن وخلافه) فجعلوها مواعدة أولًا على سبيل الهرب المؤقت من لفظ البيع، ثم ملزمة ثانيا على سبيل الرجوع إلى حقيقة البيع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 854 تناقض بعض الكتاب في أمر المرابحة: على الكاتب أن يتدبر ما يكتب، والتدبر معناه أن يرد الآخر على الأول، والأول على الآخر أي بأن يذكر في موضع ما قاله في الموضع الآخر، فلا يكون هناك تناقض يترك بلا إزالة. ففي معرض الدفاع عن المرابحة المصرفية قد يقال لك: إن المصرف يتحمل تبعة الرد بعيب خفي. وفي معرض التطبيق أو الرغبة في التحصن من المخاطر قد يقال لك: إن المصرف يشترط على العميل إبراءه من كل عيب! وفي معرض التهجم على بعض الكتاب، يقول أحدهم في موضع: إن المشتري مرابحة لا تكون لديه الخبرة في الشراء، ولا القدرة التنظيمية لإتمام عملية الشراء (محمد عبد الحليم عمر ص5) ، ثم يقول في موضع آخر، بعد خمس صفحات فقط: " قيام العميل بتحديد السلعة ومصدرها والسعر المبدئي لشرائها أمر طبيعي، لأنه الذي يحتاج السلعة، وهو أقدر على تحديد مواصفاتها، ويعرف مصادرها، ولديه خبرة بها " (محمد عبد الحليم ص10) . وقد رأيت من رجاحة عقل الكاتب في تصميم استمارة المرابحة الملحقة بورقته، ما يجعلني أشك في جدية تهجمه المنوه به آنفا. فللكتاب لغات، وعلى القارئ أن يعرف اللغة المختارة للكاتب في التعبير عن موضوع ما، لكي يفهم مقاصده. كواشف المرابحة (= روائز المرابحة) بالاعتماد على بحوث العلماء والخلاف الجاري بينهم، قام الدكتور عبد الحميد البعلي في كتابه فقه المرابحة (ص184 – 200) بتصميم استمارة استقصاء لاستبيان مدى جدية بيع المرابحة المطبقة في مختلف المصارف الإسلامية: هل هو بيع حقيقي أم هو بيع صوري هل هو أقرب إلى البيع أم هو أقرب إلى القرض بزيادة؟ ثم طور الدكتور محمد عبد الحليم عمر هذه الاستمارة في ورقته " التفاصيل العملية لعقد المرابحة في النظام المصرفي الإسلامي ". ويمكن الوقوف على مدى جدية المرابحة من خلال الكواشف (= الروائز) التالية: - هل المواعدة غير ملزمة للمصرف والعميل، أم ملزمة لهما؟ - وإذا كانت المواعدة ملزمة، فهل ثمن البيع معلوم أم مجهول في مجلس المواعدة؟ - هل المصرف يقبض السلعة من بائعها، أم يقبضها العميل نفسه من البائع مباشرة، بتوكيل أو سواه من الأساليب؟ - هل قائمة حساب (= فاتورة) البيع وسائر الوثائق، كوثيقة الشحن والتأمين، تصدر باسم المصرف أم باسم العميل؟ - إذا كانت السلعة عقارا أو سيارة، فهل تسجل ملكيتها باسم المصرف أولًا، ثم باسم العميل ثانيا، أم تسجل باسم العميل مرة واحدة، لكي لا يدفع إلا رسم تسجيل واحد؟ (حمود: تطبيقات ص16، ومحمد عبد الحليم عمر ص16، وشحادة ص6، 16، 22) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 855 - هل المصرف يتحمل تبعة الرد بعيب خفي، أم يشترط على العميل براءته من كل عيب؟ (محمد فهيم خان ص23، ومحمد عبد الحليم عمر ص19) . - إذا ظهر عيب في السلعة، أو سلمها البائع (أو المصدر) ناقصة، أو مختلفة المواصفات؟ (البعلي ص181، وأحمد علي عبد الله ص266) . - هل هناك فعلا سلعة حقيقية، أم أن السلعة وهمية والمراد فقط هو القرض بمنفعة؟، (محمد فهيم خان ص3) . - هل المصرف هو الذي يشتري السلعة فعلا، بحيث يكون خبيرًا بالسلعة وأسواقها، ويتصل بالباعة الموردين؟ أم أن هذا العمل يقع على عاتق العميل، فهو الذي يحدد السلعة وبائعها؟ " قارن زاد المعاد لابن القيم 5/816، والبعلي ص103 و163". - هل المصرف يشتري السلعة لنفسه أم للعميل؟ - هل المصرف يشتري السلعة بنفسه أم يوكل العميل بالشراء؟ - هل المصرف يملك الأجهزة الفنية والإدارية الخبيرة بتجارة السلع، أم أن أجهزته لا تتعدى الأجهزة المعتادة في المصارف الأخرى التي تقوم عملياتها على التمويل والائتمان والمتاجرة بالنقود والديون؟ (القرنشاوي ص7) . - هل المصرف يشتري السلعة من البائع بدون كفالة عميله أم بكفالة عميله؟ (أبو غدة ص24) . إذا كان الجواب بالثاني لا بالأول كانت العملية أقرب إلى المراباة منها إلى المرابحة، أو أقرب إلى الحرام منها إلى الحلال. وكلما كثرت الأجوبة بالثاني كانت العملية أقرب إلى الصور والحيل والشكليات الورقية والعكس بالعكس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 856 حد التباس المرابحة بالمراباة في ضوء ما ذكرناه في " كواشف المرابحة " كلما كان الجواب بالأول لا بالثاني كان الفرق أوضح بين المرابحة والمراباة، وكلما تزايدت الأجوبة بالثاني غمض الفرق بينهما وتضاءل إلى حد قد يصل إلى التلاشي الكامل. وربما وصل الأمر إلى ما هو أسوأ من الربا، وذلك في حالات الربا الحرام عن طريق الحيل، فالحيلة لا تحل الربا بل تزيده حرمة، ففي الحيلة معنى الاستهزاء والسخرية، نعوذ بالله. ولعل هذا الاتجاه الشكلي في الفتوى أو في التطبيق هو الذي كان وراء توجه المصارف الأجنبية إلى المرابحة واستساغتها لها، فهي تضيف على المشتري نسبة إلى الثمن النقدي، لا تختلف كثيرا في المحصلة عن خصم نسبة من الثمن المؤجل، عن البائع. يقول الدكتور سامي حمود: " تنبهت البنوك الأجنبية إلى صورة بيع المرابحة للآمر بالشراء، وأحدثت صورا من التعامل الذي تتوسط فيه لشراء سلع أو معادن، بالنقد، من طرف، لبيعها إلى طرف آخر بالأجل، بفارق ربح يتوازى مع أسعار الفائدة الرائجة. وقد اجتذبت هذه الطريقة مئات الملايين من أموال البنوك الإسلامية والمستثمرين الإسلاميين، بسبب توافر المواد، وانتظام الأسواق" (حمود: تطبيقات ص11) . ويقول أريك ترول شولتز: " كما يظهر في التقرير السنوي لسنة 1985م، فإن التجربة العملية للمصرف الإسلامي الدولي الدانماركي، في ضوء أهدافه المزدوجة، قد أثبت أن أي مصرف دانماركي يمكن أن يتعامل بموجب الشريعة الإسلامية تماما " (شولتز ص3) . وذكر الدكتور منذر قحف " أن عددا من المصرفيين الغربيين الذين شاركوا في ندوة لندن 31/10- 1 / 11/1985م لم يروا فيه (أي في بيع المرابحة) اختلافا عن التمويل الربوي إلا من حيث الشكل (قحف ص8) . لا ريب أن التحول من الاقتصاد الربوي إلى الاقتصاد الإسلامي أصعب مما يتصوره هؤلاء الغربيون، وهؤلاء الذين يعتقدون أن الأمر لا يحتاج لأكثر من محاولات إضفاء الشرعية على قوانين الغرب وأعرافه وتقاليده، على علم بهذه القوانين والأعراف والتقاليد أو على غير علم بها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 857 المرابحة الملزمة وسد الذرائع ظن بعض العلماء أن المرابحة الملزمة حرام فقط عند من يقول بسد الذرائع (القرضاوي في كتابه ص55) . والحق أن الإمام الشافعي قد صرح في الأم بحرمة الإلزام فيها، مع أنه لا يقول بسد الذرائع في العينة أو بيوع الآجال، كما تقول المالكية (راجع كتب أصول الفقه، سد الذرائع، وما كتبه الأستاذ محمد أبو زهرة في كتابه عن الإمام مالك ص 369، وكتابه الآخر عن الإمام الشافعي". قال الإمام الشافعي في الأم 3/33: " وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول، فهو مفسوخ من قبل شيئين، أحدهما أنه تبايعا قبل يملكه البائع، والثاني أنه على مخاطرة أنك إن اشتريته على كذا أربحك فيه". والمخاطرة هي الغرر، فقد يتمكن من شرائه بالثمن المحدد أو لا يتمكن. وهكذا ترى أن المرابحة بوعد ملزم لم تجز لا عند الشافعية الذين يضيقون من مبدأ سد الذرائع، ولا عند المالكية الذين يتوسعون في سد الذرائع (راجع نصوص المذاهب في موضع آخر من هذه الدراسة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 858 المرابحة الملزمة والحيل يتوسع بعض المذاهب، أو بعض الفقهاء، في الأخذ بالحيل الفقهية في المعاملات المالية وغيرها، حتى تشعر أنك أحيانا أمام جملة من الألاعيب والأبواب والمخارج المضحكة والمبكية في آن واحد معا. ومن أحسن من تصدى لهذه الحيل شيخ الإسلام ابن تيمية في " كتاب إقامة الدليل على إبطال التحليل"، المطبوع مع الفتاوى الكبرى طبعة دار المعرفة، ج3، ص97 –405، وغير المطبوع مع الطبعة السعودية للفتاوى، وكذلك تلميذه ابن القيم في كتابه " إعلام الموقعين "، فإني أرتضي مذهبهما في محاربة الحيل، حفاظا على جمال الشريعة وكمالها، وحفاظا على جدية المسلمين وأصالتهم، ودفعا لهم إلى الابتكار والبعد عن التقليد والتلفيق والدوران في آفاق محدودة. وقد استشهد بعض أنصار الإلزام بالوعد في المرابحة بحديث التمر ((بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا)) (متفق عليه) ، ورأوا أن الفرق بين (التمر بالتمر) و (التمر بالنقد، ثم النقد بالتمر) مجرد فرق في الصورة (القرضاوي في كتابه ص 44 – 45) . وهذا غير مسلم، لأن الذي باع الجمع بالدراهم، هو بعد ذلك قد يشتري الجنيب من هذا البائع نفسه أو من غيره. ولو كان ملزما بالشراء من البائع نفسه لأمكنهم القول أنه مجرد فرق في الصورة، ولكن هيهات! للشريعة مقاصد، وللعقود مقاصد، لابد من الحفاظ عليها. ومقصد العميل من اللجوء إلى المصرف هو الحصول على المال. نعم له غرض بالسلعة المطلوبة، ولكن غرضه يتحقق باللجوء إلى بائعها مباشرة، ولولا حاجته للمال لما لجأ إلى المصرف. والمصرف إذا كان مصرفا فعلا فلا غرض له من التعامل بالسلع، يقبضها حقيقة لإعادة بيعها في زمان آخر أو مكان، كتجار السلع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 859 المرابحة الملزمة والتلفيق اعتمد أنصار الإلزام بالوعد في المرابحة على التلفيق بين المذاهب، فاخذوا من الإمام الشافعي مرابحته، وتركوا له خياره، وأخذوا من المالكية وعدهم وتركوا لهم مرابحتهم، فقد رأى المالكية إمكان الإلزام القضائي بالواعد في تعض الحالات، فطبقه أنصار الإلزام على هذه الحالة، فخرجوا بنص فقهي لم يقل به فقيه. وهذا التلفيق لم يكن من النوع الجائز، لما دخله من اعتراضات شرعية. وإذا شاع التلفيق في عصر ومصر، فلابد من وضع ضوابط له وحدود، وإلا لأمكن بالتدريج، لا سمح الله، استباحة كثير من المكروهات أو المحرمات. ومعلوم في الشرع أنه قد يجمع بين أمرين، كل منهما جائز على انفراد، ولكن جمعهما حرام. فالسلف (= القرض) منفردا جائز، والبيع كذلك جائز، ولكن لم يجز الجمع بينهما، كما في السنة النبوية، لإفضاء هذا الجمع إلى محظور، وهو أخذ منفعة (= فائدة) السلف من ربح البيع (انظر كتابي: ربا القروض ص22) . ولم يعترف بعضهم بالتقليد والتلفيق بين المذاهب في هذه المسألة، مع أن ذلك واضح في فتاوى المفتين في المصارف والمؤتمرات وبحوث الباحثين، وقد كان حاضرا هذه الفتاوى والمؤتمرات، وكان من الواضح أن نص الإمام الشافعي قد حذفت من آخره القطعة التي فيها الحرمة الصريحة للإلزام، لتستبدل بها قطعة أخرى من المذهب المالكي فيها الإلزام في موضوع آخر. ولكن الكاتب ذكر أنه يجتهد ولا يقلد، وإن وافق مذهبا في جزء وغيره في جزء آخر (القرضاوي في مقاله ص12) . لاشك أن الاجتهاد في شيء سبق الاجتهاد فيه، إذا وصل صاحبه إلى رأي مخالف، عليه أن يرد على الاجتهادات كلها، ولا يصح تجاوزها وغض النظر عنها. المرابحة الملزمة وخصم الأوراق التجارية المرابحة المصرفية اقترحت في الأصل بديلًا لعملية خصم الأوراق التجارية (= الخصم المصرفي) (حمود: تطوير، ط 2، ص430 – 431) والموسوعة العلمية والعملية، 5/498 – 500 و506 و1/28- 29) . ولكنها بالإلزام لا تختلف عن الخصم إلا في أن المال فيها يمنحه المصرف الوسيط إلى الشاري، وفي الخصم إلى البائع. ففي كل منهما ثلاثة أطراف: بائع حقيقي، ومشتر حقيقي، ومصرف وسيط. وقد ذكر أصحاب المرابحة أن هذا الخط التمويلي أو الائتماني يبدأ من المستهلك لا من التاجر. مع ما في هذا من أن العميل قد يكون أيضا تاجرا لا مستهلكًا، وهو الغالب. وإذا صح أنها تمويل استهلاكي ثلاثي الأطراف، فهي تشبه في الغرب نظام التمويل المعروف بـ" بطاقة الائتمان " credit card, carte de credit وتفصيل هذا في غير هذا الموضع. وقد حاول بعضهم أن يجيب عن هذا بأن الخصم المصرفي مبادلة نقد بنقد والمرابحة سلعة بنقد (حسن الأمين ص89، وأبو غدة ص.2) . ولكن الناقد قد غفل عن أن تشبيه المرابحة بالخصم يختص بالمرابحة ذات الوعد الملزم، وهي التي تؤول إلى نقد بنقد أكثر منه، والسلعة لغو. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 860 آراء منقحة الدكتور عبد الستار أبو غدة عضو هيئة الرقابة الشرعية في بيت التمويل الكويتي، والمراقب الشرعي للبنك الإسلامي في الدانمارك، قد انتقد في ورقته " أسلوب المرابحة والجوانب الشرعية التطبيقية في المصارف الإسلامية "، الذين انتقدوا المرابحة المصرفية الملزمة (أي ذات المواعدة الملزمة) . ومع ذلك فقد توصل، بعد صمت طويل، إلى أن " الحقيقة أن زوال الشبهة تماما هو في القول بعدم لزوم الوعد رغم ما يحف بذلك من المخاطر التي لا تخلو عنها طبيعة التجارة؛ وأسلوب المرابحة، أسلوب تجاري، وليس أسلوبا مصرفيا للتمويل دون مخاطر" (أبو غدة ص14) . فيستفاد من كلامه: 1 – أن رأيه بعدم لزوم الوعد. 2- وأن ذلك فيه مخاطر، ولكن هذا من شأن التجارة، والمرابحة منها. 3 – المرابحة الجائزة ليست أسلوبا مصرفيا للتمويل على المضمون، بل هي أسلوب تجاري من شأنه أن يعرض الآخذ به للمخاطرة. ولكن لفظ " تماما " قد يفهم منه أن لزوم الوعد فيه شبهة، ولا بأس عنده بالعمل به مع بعض الشبهة، وأن عدم اللزوم يصفي العملية من كل شبهة. والأستاذ مصطفى الزرقا كان من بين العلماء الذين اشتركوا في المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي الذي انعقد في دبي في الفترة 23- 25 جمادى الآخرة 1399هـ (= 20-22مايو 1979م) ، ووافق على الإلزام في المرابحة. وأكد موافقته هذه في ورقته عن " المصارف " (ص12- 13) (وانظر أيضا كتاب قراءات في الاقتصاد الإسلامي ص 336 حيث أعيد فيه طبع الورقة نفسها؛ وانظر الفتاوى الشرعية لبيت التمويل الكويتي ص 71) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 861 غير أنه كتب مؤخرا في مجلة المجتمع الكويتي (العدد 843لعام 1408هـ = 1987م) أن " الأمر الذي يمكن أن يلام عليه القائمون على هذه المؤسسات الإسلامية الهامة هو أخذهم بطريق جانبي في إدارة الأعمال الاستثمارية وتركهم للطريق الرئيسي والطبيعي. وأعني بذلك أنه عندما تأسست " بيوت الاستثمار" كان أمامها طريقان: أن تنزل إلى السوق وتنفذ مشاريعها الاستثمارية بصورة مباشرة، فتدير أعمالها بنفسها، أو بالمشاركة في مؤسسات تجارية عاملة في مجالات التجارة والصناعة، وهو الطريق الرئيسي المطلوب منها، والطريق الجانبي هو " المرابحة " ( ... ) لقد بدأت " بيوت الاستثمار" بالطريق الأول الطبيعي، وهو الاستثمار المباشر، لكنها ما لبثت أن انحرفت عنه إلى طريق المرابحة، والسبب في ذلك أن القائمين على بعض تلك البيوت الاستثمارية لا يريدون تحمل مسؤوليات العمل الاستثماري في السوق. فالمرابحة طريقة مريحة للبنك، وتتم في المكاتب وعلى المناضد المريحة، وبدون مشقة، فالعميل يحدد المصدر وجهة الشراء، ووظيفة البنك الشراء، وممارسة الأعمال الورقية المكتبية ( .... ) ما تفعله بعض بيوت الاستثمار أنها تختصر العقدين في عقد واحد، بل ويطلبون من العميل التوقيع على وثيقة تلزمه بتحمل جميع المسؤوليات والمصاريف بل وحتى التأمين على البضاعة. فهذا الاختصار الذي أرادوا به الراحة وعدم تحمل المشقة أوقعهم في ملاحظات شرعية وانتقاد من العملاء الذين شكك بعضهم بالفرق بين هذا الأسلوب في المرابحة وبين ما تفعله البنوك الربوية العادية (ص27) . وتعليقا على كلام الأستاذ الزرقا نقول: 1- إن بعض الفقهاء أيضا مسؤولون، لأن القائمين على أمر المصارف إذا رأوا أن ما يفتي به هؤلاء الفقهاء هو مجرد حيل، فإنهم يرون من الجدية أن ينفذوا الأمر بلا حيلة ولا تطويل ولا كلفة. 2- اعتبر الأستاذ الزرقاء أن المرابحة طريق ثانوي (جانبي) ولو جازت. 3- اعتبر التوسع فيها انحرافا عن الجادة. 4 – رأى أن المرابحة أعمال مكتبية ورقية مريحة. 5 – ذكر أن العميل هو الذي يحدد جهة الشراء (المورد) . 6 – يختصر أحيانا الطريق، فيجعل عقدان في عقد. 7 – قد يوقع العميل وثيقة تلزمه بتحمل كل المسؤوليات. 8 – ربما يعتبر هذا الكلام تنقيحا لرأيه السابق. فقد كان من الضروري أن يبين المفتي درجة ثقته بفتواه، وشروط تطبيقها، ومكانة العملية في سلم المصالح (المرابحة بالنسبة للقراض أو الشركة) . وأخيرا يبدو أن الدكتور على أحمد السالوس كان تحفظ على الإلزام مع المتحفظين في المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي بدبي. ولكنه اليوم عضو هيئة الرقابة الشرعية في مصرف قطر الإسلامي التي أفتت بجواز الإلزام، ولا أدري إن كان رجع عن رأيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 862 المصرف الإسلامي هل هو وسيط مالي يتاجر بالنقود والديون أم هو تاجر سلع؟ عن قصد أو غير قصد، لم يتعرض المفتون وكثير من الدارسين لهوية المصرف الإسلامي، هل هو وسيط مالي يتاجر بالنقود والقروض، ويتجنب المتاجرة بالسلعة كالبضائع والعقارات وغيرها، أم هو تاجر سلع يتجنب المتاجرة بالنقود والقروض. فالمصارف (الربوية) كما بين الدكتور جمال الدين عطية تحل الربا لنفسها وتحرم البيع (مجلة الأمة، العدد 56 لعام 1405 هـ، ص46) ، أما المصارف الإسلامية فهي تحرم الربا على نفسها وتحل البيع كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة 275] . وتنص النظم المصرفية على أن المصارف لا يجوز لها شراء العقارات بقصد بيعها، وإذا آل إليها عقار، فعليها التصرف به خلال مدة قصيرة، سنتين أو ثلاث على الأكثر. كما تحظر على المصارف العمل بتجارة الجملة أو التجزئة، أو بالاستيراد أو التصدير (انظر على سبيل المثال المادة 10 من نظام مراقبة البنوك في المملكة العربية السعودية) . والظاهر أن المصارف الإسلامية تتأرجح بين البيع وسواه، فتود البيع ولكن من دون تحمل أعبائه؛ وتحاول اجتناب الربا، ولكن دون الدخول في عمق البيع. وترى في كتابة البعض تأرجحًا مماثلًا بين اعتبار المصرف الإسلامي بائع سلع، أو وسيطا ماليا أو بيت تمويل (القرضاوي في كتابه ص110) . ولاشك أن إطلاق لفظ المصرف أو بيت التمويل على أي منشأة إنما يفيد معنى معروفا هو الاقتراض والإقراض والمتاجرة بالقرض والنقود، عن طريق عمليات الائتمان والمصارفة. فكلما جنح المصرف الإسلامي نحو حقيقة البيع كان أقرب إلى تاجر السلع، ولا معنى لإطلاق لفظ المصرف عليه، وكلما جنح نحو صورة البيع كان أقرب إلى تاجر القروض والنقود، أي إلى المصرف معنى ولفظًا. ولو تفكر العلماء في هذا لسهلت عليهم الفتوى فيما بعد، ولصدروا في كل جزئية عن هذه الكلية، عن هذه الهوية، ولما كان لكل فتوى هوية (قحف ص6) . الخاتمة 1 – بيع المرابحة بالمعنى الفقهي المنقول في كتب الفقه القديم جائز عند جمهور الفقهاء، ولا نأخذ فيه بقول من قال أنه ربا، أو إنه بيع أعاجم، أو أن المساومة أفضل منه، فلكل دور. وربح البائع فيه يكون في مقابل خبرته وجهده ووقته ومخاطرته. والحكمة من هذا البيع هي أن المشتري قد يكون جاهلا بالسلع وأثمانها، وله ثقة بخبرة البائع مرابحة وأمانة، ويفضل أن يشتري بناء على أمانة البائع، لا بناء على مساومته ومماكسته. 2 – بيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية يقوم على شراء المصرف سلعة بطلب عميله، بثمن معجل، ومن ثم بيعها إليه بثمن مؤجل، وذلك بناء على مواعدة بينهما، ملزمة في بعض المصارف، وغير ملزمة في مصارف أخرى. وفي كل الأحوال لا تكون ملزمة للمصرف إلا إذا اشترى المصرف السلعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 863 3 – يحتل بيع المرابحة للآمر بالشراء، في المصارف الإسلامية، مكانة مهمة إذا ما قورن بعمليات المشاركة والقراض، حتى إن بعض المصارف تكاد تقصر عملياتها التمويلية عليه. وذلك لأن مال المصرف فيه يكون مضمونا بأصله وربحه معا، في صورة تدفقات نقدية معلومة المبالغ والآجال مسبقا. 4 – عبارة " بيع المرابحة للآمر بالشراء " أفضل منها عبارة " بيع المرابحة للواعد بالشراء "، لأن لفظ " الآمر " يفيد أن المصرف مأمور، أي كأنه وكيل مأجور، أو يفيد على الأقل أن الطرفين (المصرف والعميل) ملزمان، في حين أن بعض المصارف لا تلزم العميل. وقد يمكن تسمية العملية أيضًا " مواعدة على المرابحة "، سواء كانت المواعدة ملزمة بعد ذلك أو غير ملزمة. 5 – لا يحسن أن يكون المصرف وكيلا للآمر بأجر، خشية اجتماع الإجارة والقرض، لأن المصرف يقبض أجرة الوكالة مع كونه مقرضا، وقد ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف)) ، والإجارة ضرب من البيع (بيع المنافع) . وذلك لما في هذا من فتح الذريعة لأخذ منفعة السلفة من ربح البيع. 6 – لبيع المرابحة للآمر بالشراء، في نظر أنصاره مزايا. فبالإضافة إلى ما ذكر من مزايا الضمان للأصل والعائد، والمعلومية المسبقة للتدفقات النقدية لأقساط استرداد التمويل، هناك أيضا بعض العمليات التي لا يمكن تمويلها بطريق القراض أو المضاربة، حيث لا يكون ثمة ربح يتم الاشتراك فيه، أو حيث لا تمكن الشركة، مثل عمليات القطاع العام؛ أو حيث لا تراد الشركة. 7 – هناك فروق بين المرابحة بمفهومها الفقهي المنقول في كبت الفقه القديم، والمرابحة بمفهومها المصرفي الإسلامي الحديث، وقد بينا هذه الفروق في فصل خاص. 8 – المرابحة في المصارف الإسلامية غالبا ما تكون مرابحة مؤجلة، لا حالة ومن الجائز عند جمهور الفقهاء أن يكون الثمن المؤجل أعلى من الثمن الحالي، وقد برهنت على صحة هذا الرأي وقوته في مقالي " الحسم الزمني في الإسلام " عام 1405هـ، ثم زدته تفصيلا وتوثيقا في مقالي " القول الفصل في بيع الأجل" عام 1406هـ، لمواجهة من قال إن زيادة الثمن الآجل على العاجل ربا محرم، ثم بسطته في كتابي " الربا والحسم الزمني " عام 1406هـ، ولدي الآن صيغة منقحة ومزيدة بالمعلومات والمراجع، أرجو نشرها قريبا. فلا شك عندي نقلًا ولا عقلًا في جواز أن يكون الثمن المؤجل أعلى من المعجل، وهذا مهم لطمأنة إدارة المصارف الإسلامية وعملائها والمتعاملين معها من مودعين ومساهمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 864 9 – ولكن جواز الفرق بين الثمن المؤجل والمعجل لا يجوز الاستناد إليه لتمرير بعض الحيل الربوية، مثل بيع العينة، أو ما يماثله من حيل تستند إلى الحلال وصولا إلى الحرام. والعينة هي أن يبيعه شيئا بثمن مؤجل، ثم يشتريه منه بثمن معجل، وهي عند الفقهاء جميعًا حرام ديانة إذا كانت نية المتعاملين الحيلة الربوية، وحرام قضاء عند الفقهاء الذين سدوا الذرائع. وسد الذرائع ثابت بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد منع بيع الذهب بالذهب بفضل ونساء كي يسد الطريق على المقرضين بالربا أن يلجأوا إلى مثل هذا البيع. كما منع بيع الذهب بالفضة نساء، كي يسد الذريعة إلى عقد القرض بالذهب يرد بالفضة، أو بالعكس، لا سيما وأن منفعة الذهب والفضة واحدة، فكلاهما نقد. كما ثبت سد الذرائع بحديث النهي عن بيع وسلف، كي لا يتوصل إلى منفعة السلف من ربح البيع. وهناك نصوص شرعية أخرى، لكننا اخترنا ما هو مفيد في هذا السياق. ومن المحتمل جدا أن يلجأ المرابون إلى البيع لتحقيق أغراضهم، فقد حرم الله الربا وأحل البيع. وقد يصبح جواز الفرق بين الثمنين المؤجل والمعجل مرتعًا لأهل العينة للوصول إلى مآربهم الربوية. ولهذا يجب التنبه إلى الفرق بين بيوع الأجل وبيوع الآجال، فبيوع الأجل جائزة، ولو بثمن مختلف باختلاف الأجل، أما بيوع الآجال فهي بيوع مختلفة الآجال تتقابل وتتعاكس لتصبح السلعة فيها لغوا، وليخلص أصحابها إلى مقصودهم وهو القرض بزيادة. لقد توسعت في هذا دفعا لما رأيته من التباس في أذهان البعض. 10 – المرابحة في المصارف الإسلامية تختلف صورها من مصرف إلى آخر، باختلاف إدارته وهيئة الرقابة الشرعية فيه. فهي بيع جاد في بعض المصارف، وصوري في مصارف أخرى، وبينهما درجات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 865 11- المرابحة المصرفية ليست عملية مستحدثه كما ذكر البعض. وقد سبق لي أن أشرت إلى هذا في مقالي حول الموضوع بمجلة المسلم المعاصر عام 1402هـ، ثم في مجلة الأمة القطرية عام 1406 هـ، كما أشار إلى هذا عدد من الباحثين، منهم الدكتور أحمد علي عبد الله في رسالته للدكتوراه عن " المرابحة " عام 1407هـ. وقد ضربت، في هذه الورقة، عددا من الأمثلة على قِدم هذه العملية، من التاريخ القديم والحديث، مثل نظام المرابحة المطبق في العهد العثماني، والمرابحة في كتاب متأخري الحنفية، كابن عابدين في حاشيته وعقوده الدرية، والشيباني النحلاوي في درره المباحة. 12- المرابحة المصرفية إذا كانت المواعدة فيها ملزمة فهي غير جائزة بإجماع المذاهب الأربعة، ولا نعلم لها مخالفا. وقد ذكرنا نصوصا في الموضوع من كل مذهب من المذاهب المذكورة. 13 – بينا عددًا من الأدلة على عدم جواز الإلزام بالمواعدة في المرابحة، لما في هذا الإلزام من محظورات شرعية وعقلية تترتب عليه. 14- توسع بعض العلماء المعاصرين في الأخذ بالمواعدة أولًا، ثم في الإلزام بها ثانيا، حتى صارت حلًا سحريا لعدد من المشكلات والقضايا القانونية المعاصرة، كالتأمين والإجارة التمويلية والمصارفة وسندات المقارضة والمرابحة.. إلخ. فوجب إفراد دراسات مستقلة لهذه المواعدة وتطبيقاتها الحديثة، فما هو موجود منها حتى الآن لا يشفي غليل الباحث. 15 – استند بعض العلماء المعاصرين إلى مذهب المالكية في الوعد متى يكون ملزمًا قضاء، وذلك لتجويز المواعدة في المرابحة، هذا والمالكية أنفسهم قد بحثوا هذه المرابحة ولم يجيزوا فيها الإلزام. فلا يصح طرد قاعدة الإلزام في الوعد حتى لو سلمنا بمذهب الإلزام به في الجملة. 16 – زعم بعض الباحثين المعاصرين أن الإلزام بالوعد في المعاوضات أولى من الإلزام به في التبرعات، فكان في هذا خروج على أحكام الغرر وقواعده، منها قاعدة الغرر يغتفر منه في التبرعات ما لا يغتفر منه في المعاوضات. 17- الأستاذ الدكتور الصديق الضرير، والدكتور أحمد علي عبد الله، يريان جواز إلزام المصرف بوعده، إذا اشترى السلعة، دون العميل. وقد بينت أوجه مخالفتي لهذا الرأي، في موضعها من هذه الورقة، ورأيت أن أستاذنا الكريم الدكتور الصديق قد بنى رأيه على نص كتاب الأم للشافعي، فأخذ منه جواز الإلزام للمصرف والخيار للعميل، وإني أختلف معه في هذا النص الذي فهمت منه ضرورة الخيار لكل منهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 866 18 – بينت الفرق بين المرابحة والوعد بالمرابحة إذا كان ملزمًا أي بينت لماذا لجأ بعض العلماء المعاصرين إلى تقسيم العملية إلى مواعدة ثم مرابحة. 19 – بينت أيضا تناقض بعض الكتاب في أمر المرابحة. فهنا يقولون لك: " إن المصرف يتحمل تبعة الرد بعيب خفى "، وهناك يقولون لك: " إن المصرف يشترط على العميل إبراءه من كل عيب "!. وفي موضع يقولون " إن العميل ليست لديه الخبرة في الشراء، ولا القدرة التنظيمية والإدارية عليه ". وفي موضع آخر " إن العميل هو الذي يحدد السلعة وبائعها وثمنها، لأنه أكثر خبرة وقدره "!. 20- وضعت بالاستناد إلى دراساتي ودراسات الباحثين السابقة رائزًا (= كاشفًا) للمرابحة على صورة أسئلة لاختبار مدى جدية المرابحة أو صوريتها. ومن فوائد هذا الرائز أنه يجمع الفتاوى المشتتة في مشهد شامل، للوقوف على اتجاهها الكلي، وتجميع جزئياتها، واستخراج كوامنها. 21- ذكرت أمثلة وشواهد على الحالات التي لا يكاد يرى فيها الفرق بين المرابحة والمراباة. 22- أوضحت، خلافًا للبعض، أن المواعدة الملزمة في المرابحة لا تجوز لا عند الفقهاء المتوسعين في الذرائع، ولا عند غيرهم. 23- تغلب الحيل على بعض صور المرابحة، والحيل من الأمور الفقهية الدقيقة، وهي أوضح ما تكون دراسة لدى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. وقد استدل بعضهم بحديث التمر، ولم ير فرقًا بين (التمر بالتمر) و (التمر بالنقد، ثم النقد بالتمر) إلا في الصورة. وقد دفعت هذا التوهم بأن من يشتري التمر بالنقد ليس ملزما بعد ذلك بالشراء من البائع نفسه، ولو كان ملزما أو مقيدا بذلك لأمكن الاستدلال للحيلة بهذا الحديث. 24- يجب ألا يغيب عن البال في كل فتوى وبحث مقاصد الشريعة ومقاصد العقود، ولا يجوز بحال تفريغ الشريعة من جوهرها، ولا العقود من مقاصدها، ولا المعاملات من روحها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 867 25 – ليس التلفيق جائزًا في كل حال. وقبل استمراء التلفيق، يحسن وضع ضوابط وقواعد لهذا التلفيق. ومن البدهي أن العلماء الجديرين بوضع هذه الضوابط والقواعد ليسوا علماء التلفيق أنفسهم، بل هم علماء الاجتهاد والابتكار والأفق العلمي الواسع. ولا يجوز التلفيق أولًا، ثم الادعاء لتصحيحه بأن هذا الرأي مبنى على اجتهاد مطلق. 26 – المواعدة الملزمة في المرابحة تجعل العملية غير مختلفة عن عملية خصم الأوراق التجارية لدى المصارف. فالمرابحة مبلغ يزيده المصرف على الشاري، والخصم مبلغ يقتطعه المصرف من البائع، الأول ربا والثاني حطيطة. 27 – ربما تكشف لبعض علماء العصر ما في الإلزام بالمواعدة من آثار سلبية، فجعلتهم يبدون وساوسهم وشكوكهم، فسجلوا تراجعا ولو جزئيا عن آرائهم. 28 – من المهم جدا لاستقامة الفتوى والبحث أن تحدد أولًا هوية المصرف الإسلامي هل هو تاجر سلع أم هو تاحر نقود وديون (= وسيط مالي) ؟ يبدو أن وضع المصرف في نظر الكثير من المفتين والباحثين: بين بين، فلا هو وسيط مالي تماما فلا يختلف إذن عن غيره، ولا هو تاجر سلع تماما فتنتفي عنه صفة المصرف بالمرة: عيني ببيع السلع، ولا أقدم عليه، إقدام على البيع شرعا، وإحجام عنه تطبيقا.. هذا هو سر التأرجح! (قارن زاد المعاد لابن القيم 5/816، وفقه المرابحة للبعلي ص103 و163) . 29- والخلاصة أنني من الناحية الشرعية مع العلماء الذين قالوا بالخيار لكل من المصرف والعميل، وهم الشيخ عبد العزيز بن باز، والدكتور محمد سليمان الأشقر، ومن لحق بهذا الرأي مؤخرًا، تمامًا أو على تردد، ومن هو على هذا الرأي ولكنه لم ينشره، أو لم يجد مناسبة لنشره. 30 – أن خدمة الاقتصاد الإسلامي لا تكون إلا من طريق الأصالة والابتكار وكد الذهن، ولا تكون إلا من طريق الحلال المؤيد بكل أداة قوية من أدوات الاستدلال. لقد توسعت في الخاتمة، عسى لضيق الأوقات أن لا يقرأ بعضهم من هذه الورقة غيرها. وهذا ما بلغ العلم القاصر، وفوق كل ذي علم عليم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. د/ رفيق يونس المصري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 868 المراجع - ابن أبي شيبة: المصنف في الأحاديث والآثار، الدار السلفية، بومباي (الهند) ، ط1، 1400هـ = 1980م. - ابن تيمية: الفتاوى الكبرى، دار المعرفة، بيروت، د. ت. - ابن جزي: القوانين الفقهية، عالم الفكر، القاهرة، ط1، 1975م. - ابن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، طبعة رئاسة إدارات البحوث، الرياض، د. ت. - ابن حزم: المحلى، دار الآفاق الجديدة، بيروت، د. ت. - ابن رشد (الحفيد) : بداية المجتهد ونهاية المقتصد، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، د. ت. - ابن رشد (الجد) : المقدمات، دار صادر، بيروت، د. ت. - ابن عابدين: حاشية رد المحتار على الدر المختار، دار الفكر، بيروت، 1399هـ =1979 م. - ابن عابدين: العقود الدرية، دارا لمعرفة، بيروت، ط2، د. ت. - ابن عبد السلام: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، تعليق طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت، ط2، 1400هـ = 1980 م. - ابن قدامة: المغنى مع الشرح الكبير، دار الكتاب العربي، بيروت 1392هـ = 1972م. - ابن القيم: إعلام الموقعين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، ط1، 1374 هـ = 1955م. - ابن القيم: زاد المعاد في هدي خير العباد. تحقيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط3، 1402هـ = 1982م. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 869 - ابن القيم: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت. - الباجي: المنتقى شرح موطأ الإمام مالك، دار الكتاب العربي، بيروت، د. ت. - البيهقي: السنن الكبرى، دار الفكر، بيروت، د. ت. - أبو عبيد: الأموال، تحقيق محمد حامد الفقي، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1353 هـ. - الخرشي: الخرشي على مختصر خليل، دار صادر، بيروت، د. ت. - الدسوقي: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، دار الفكر، بيروت، د. ت. - الشافعي: الأم، طبعة دار الشعب، القاهرة، د. ت. - الشيباني النحلاوي: الدرر المباحة في الحظر والإباحة. - الشربيني: مغنى المحتاج، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1374 هـ = 1955م. - عبد الرزاق: المصنف، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمى، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1403هـ = 1983م. - العيني: البناية في شرح الهداية، دار الفكر، بيروت، ط1، 1401 هـ = 1981م - الفيروز آبادي: بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز، المكتبة العلمية، بيروت، د. ت. - مالك: الموطأ، تعليق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، د. ت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 870 مراجع أخرى - أبو زهرة: الشافعي، دار الفكر العربي، القاهرة، د. ت. - أبو زهرة: مالك، دار الفكر العربي، القاهرة، 1978 م. - خاطر (محمد) : جهاد في رفع بلوى الربا، بدون ناشر، وبدون تاريخ. - الزرقا (مصطفى) : المصارف، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، جدة، 1404هـ. ومنشور أيضا في كتاب " قراءات في الاقتصاد الإسلامي "، مركز النشر العلمي، جامعة الملك عبد العزيز، جدة، ط1، 1407 هـ = 1987 م. - الزرقا (مصطفى) : نظام التأمين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1404 هـ. - السنهوري (عبد الرزاق) : مصادر الحق في الفقه الإسلامي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت. - صادر (يوسف) : مجموعة القوانين، بيروت. 1929 م. - الضرير (الصديق محمد الأمين) : الغرر وأثره في العقود، بدون ناشر، القاهرة، ط1، 1386هـ = 1967 م. - المصري (رفيق يونس) : الحسم الزمني في الإسلام، مجلة المال والاقتصاد، بنك فيصل الإسلامي السوداني، الخرطوم، العدد 2، لعام 1405هـ = 1985 م. - المصري (رفيق يونس) : الربا والحسم الزمني في الاقتصاد الإسلامي، دار حافظ، جدة، ط2 –1، 1406هـ = 1986 م. - المصري (رفيق يونس) : ربا القروض وأدلة تحريمه، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، جدة،1408هـ. - المصري (رفيق يونس) : القول الفصل في بيع الأجل، مجلة الأمة القطرية، العدد 66 لعام 1406 هـ= 1986 م. - مؤسسة النقد العربي السعودي: نظام مراقبة البنوك، صدر بموجب المرسوم الملكي رقم م /5 وتاريخ 22 / 2/ 1368 هـ، الرياض. - الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية، الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، ج 5 الشرعي، القاهرة، ط1، 1402 هـ = 1982م. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 871 مراجع في بيع المرابحة للآمر بالشراء (قائمة مرتبة زمنيا) - سامي حسن حمود: تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية القاهرة، ط1، 1396 هـ. - رفيق يونس المصري: كشف الغطاء عن بيع المرابحة للآمر بالشراء، في مجلة المسلم المعاصر، العدد 32، لعام 1402 هـ. - حسن عبد الله الأمين: الاستثمار اللاربوي في نطاق عقد المرابحة، ورقة مقدمة إلى المؤتمر الثاني للاقتصاد الإسلامي، المنعقد في إسلام آباد 19- 23 آذار (مارس) 1983 م، ومنشورة في مجلة المسلم المعاصر، العدد 35، لعام 1403هـ. - محمد سليمان الأشقر: بيع المرابحة كما تجريه البنوك الإسلامية، ورقة مقدمة إلى المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي، المنعقد في الكويت (بيت التمويل الكويتي) 6 – 8 جمادى الآخرة 1403هـ = 21- 23 آذار (مارس) 1983م، ومنشورة لدى مكتبة الفلاح، الكويت، ط1، 1404هـ = 1984 م. - عبد الرحمن عبد الخالق: شرعية المعاملات التي تقوم بها البنوك الإسلامية المعاصرة، مجلة الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، العدد 59، لعام 1403 هـ. - سامي حسن حمود: رد على نقد حول بيع المرابحة للآمر بالشراء، في مجلة المسلم المعاصر،. العدد 36 لعام 1403 هـ. - عبد الحميد البعلى: فقه المرابحة، نشر الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، د. ت. ثم نشر موسعا بعنوان " فقه المرابحة في التطبيق الاقتصادي المعاصر"، نشر السلام العالمية للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 872 - بدر عبد الله المطوع: المرابحة في البنوك الإسلامية ومناقشة وضعها على ضوء الأدلة، دون ناشر ولا تاريخ. - يوسف القرضاوي: بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية، دار القلم، الكويت، 1404 هـ. - عبد الله العبادي: المرابحة والفوارق الأساسية بينها وبين السلم، مجلة منار الإسلام، العدد 6 لعام 1405هـ. - رفيق يونس المصري: بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية، في مجلة الأمة القطرية، العدد 61 لعام 1406 هـ، وصحيفة " المسلمون " العدد 37 لعام 1406 هـ. - يوسف القرضاوي: بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية، في مجلة الأمة القطرية، العدد 64 لعام 1406 هـ، وصحيفة " المسلمون " العدد 54 لعام 1406هـ. - محمد الشحات الجندي: عقد المرابحة بين الفقه الإسلامي والتعامل المصرفي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1406هـ. - أحمد علي عبد الله: المرابحة أصولها وأحكامها وتطبيقاتها في المصارف الإسلامية (رسالة دكتوراة بإشراف الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير) ، الدار السودانية للكتب الخرطوم، ط1، 1407 هـ = 1987 م. - أوراق ندوة استراتيجية الاستثمار في البنوك الإسلامية، بالتعاون بين المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب (البنك الإسلامي للتنمية) ، المنعقدة خلال المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي في الفترة 22 – 25شوال 1407هـ = 18 – 21 حزيران (يونيو) 1987م، في عمان (المملكة الأردنية الهاشمية) : * حاتم القرنشاوي: الجوانب الاجتماعية والاقتصادية لتطبيق عقد المرابحة. * محمد فهيم خان: تطبيق عقد المرابحة في البنوك التجارية في باكستان. * موسى شحادة: تجربة البنك الإسلامي الأردني. * ايريك ترول شولتز: تجربة البنك الإسلامي في الدانمارك. * شوقي إسماعيل شحاتة: تجربة بنوك فيصل الإسلامية، عقد المرابحة. * محمد عبد الحليم عمر: التفاصيل العملية لعقد المرابحة في النظام المصرفي الإسلامي (مع استمارة استقصاء) . * إسماعيل عبد الرحيم شلبي: الجوانب القانونية لتطبيق عقد المرابحة. * أوصاف أحمد: الأهمية النسبية لطرق التمويل المختلفة في النظام المصرفي الإسلامي. * سامي حسن حمود: تطبيقات بيوع المرابحة للآمر بالشراء. * عبد الستار أبو غدة: أسلوب المرابحة والجوانب الشرعية التطبيقية في المصارف الإسلامية. * منذر قحف: تعليق على الورقة السابقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 873 نظرة إلى عقد المرابحة للآمر بالشراء إعداد الشيخ محمد علي التسخيري مسئول العلاقات الدولية في منظمة الإعلام الدولية وعضو مجمع الفقه الإسلامي عن إيران بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد البشرية محمد خاتم الأنبياء وآله وصحبه ربما أدعي الإجماع على صحة بيع المرابحة وهو (البيع مع الإخبار برأس المال ونوع الزيادة عليه) ووردت في ذلك روايات كثيرة عن أهل البيت (عليهم السلام) منها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر قال – سألته عن الرجل يبيع السلعة ويشترط أن له نصفها: ثم يبيعها مرابحة أيحل له ذلك؟ قال: لا بأس (1) . ورواية علي بن سعيد قال: سئل أبو عبد الله عن رجل يبتاع ثوبًا فيطلب مني مرابحة ترى ببيع المرابحة بأسا إذا أصدق في المرابحة وسمى ربحا دانقين أو نصف درهم؟ قال: لا بأس. إلا أنه وردت أدلة أخرى على كراهتها من قبيل ما رواه محمد بن مسلم قال قال الصادق (عليه السلام) : إني أكره بيع عشرة بإحدى عشرة ولكن أبيعك بكذا وكذا مساومة فقال: أتاني متاع من مصر فكرهت أن أبيعه كذلك وعظم علي فبعته مساومة " (2) . ولكي يتم التأكد من وقوع هذا البيع على الوجه الصحيح رأينا الفقهاء يشترطون شروطًا كثيرة فيه من قبيل: العلم بقدر الثمن وقدر الربح والغرامة والمؤن. ذكر البائع لما طرأ من نقص بعد الشراء. ذكر البائع للأجل إذا كان الثمن مؤجلًا. ذكر البائع لما عمله في السلعة إذا كان البائع دلالًا فإنه يقول: تقوم علي بكذا ولا يقول ... اشتريته بكذا الثمن على البائع أن يسقط الأرش المأخوذ من مجموع الثمن لأن الأرش جزء الثمن إلى ما هنالك من شروط يشترطونها لتحقيق تلك الغاية وهي مقتضى الأمانة فإذا تبين بعد ذلك تخلف أي من هذه الشروط كان البائع آثمًا ولكن البيع صحيح يتخير فيه المشتري بين الأخذ بالثمن والرد. بعد هذه المقدمة نركز على موضوع   (1) وسائل الشيعة ج12 من أحكام العقود، ج3، 1 (2) وسائل الشيعة ج12 باب 12 من أحكام العقود ج4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 874 المرابحة للآمر بالشراء فنقول: إن المعروف من هذه المعاملة يلخصها بأنها عملية يتقدم فيها شخص إلى آخر ليقوم هذا الآخر بشراء سلعة بأوصاف معينة ويعده الشخص الأول بشرائها منه مرابحة بنسبة يتفق عليها معه مقسطة وللعملية مراحل: طلب الأول من الثاني شراء سلعة معينة. وعد الثاني للأول بأنه سيشتري السلعة ويبيعها له. وعد الأول للثاني بأنه سوف يشتري السلعة مرابحة بنسبة معينة بالأقساط شراء الثاني للسلعة. بيعها للأول مرابحة فما حكم هذه المعاملة؟ لا ريب في أنها معاملة صحيحة إذا كان فيها رضا الطرفين إلى نهاية المطاف لأنها تحقق كل مقومات العقد المقبول شرعًا أما إذا أردنا أن ندخل عنصر الإلزام في البين فهل يمكننا ذلك؟ وهل تصح المعاملة؟ أما إدخال عنصر الإلزام في معاملة غير ملزمة في الأصل – لو افترضنا ذلك – فهو ممكن من جهة ولا يضر من جهة أخرى. ذلك أن الإلزام قد يأتي من شرط في عقد آخر، أو من نذر أو من يمين وحينئذ يكون ملزمًا ولا يغير من ماهية المعاملة ولا تنافي بينه وبين كونها في الأصل غير ملزمة. ولكن هل يكفي الوعد هنا في تحقيق الإلزام؟ وفي الجواب لا بد من الرجوع إلى البحث التفصيلي في هذا الموضوع، ولكن نقول إجمالًا: بأن الوعد قد يكون ابتدائيًا دون أي أثر يترتب عليه، وهنا قد يمكن القول بأنه غير ملزم وقد يكون بمعنى التعهد والالتزام، وحينئذ فهناك من الأدلة ما يدعو بكل قوة للإلزام به – وفي طليعتها أدلة الوفاء بالوعد والعهد. وكذلك للفهم العرفي لهذا الوعد على أساس الوجوب مما يجعله مصداقًا لقاعدة (المؤمنون عند شروطهم) . ثم إنه يمكن القول بأن الوعد الابتدائي الآنف ذكره، إذا ترتب عليه ضرر عاد مصداقًا لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وقد يقال هنا إن عدم الربح ليس من الضرر وإنما هو من عدم النفع، ولا يمكن القول هنا بأن حديث ((لا ضرر)) يشمل الواعد أيضًا لأنه هو الذي أوقع نفسه في هذا الضرر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 875 كل هذا كان طبق القواعد الأولية في التعامل مع الحوادث، إلا أنه تطرح في البين أدلة خاصة يقال عنها إنها تخالف مقتضى القواعد الأولية، وهذه الأدلة هي: 1- دخول هذه المعاملة تحت عنوان بيع العينة المنهى عنه. 2 – دخولها تحت عنوان (لا تبع ما ليس عندك) . 3 – دخولها تحت عنوان النهي عن بيعتين في بيعة. 4 – دخولها تحت عنوان المخاطرة. 5 – دخولها تحت عنوان السلف والزيادة. وهنا نقول في هذا الصدد. إن هذه المعاملة لا تدخل تحت عنوان بيع العينة. ذلك أن بيع العينة يصور بصور متفاوتة منها: أن تباع السلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها البائع من المشتري بثمن معجل أقل مما باع به. ومنها: أن يبيع صاحب السلعة سلعته نقدا، ثم يشتريها من المشترى نسيئة بمقدار أكثر قيمة – وهذه هي الصورة التي وردت فيها روايات الإمامية ومنها: أن يبيع صاحب السلعة سلعته نسيئة بالسعر السوقي، ثم يشتريها منه بأقل من السعر السوقي نقدًا. وعلى أي حال فقد وردت نصوص الإمامية، ببطلان هذه المعاملة منها صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر قال: سأله عن الرجل باع ثوبا بعشرة دراهم إلى أجل ثم اشترها بخمسة دراهم بنقد أيحل؟ قال: إذا لم يشترطا ورضيا فلا بأس (1) وهي بمفهوم الشرط تدل على البطلان عند الاشتراط. وعلى أي حال فإن هذا العنوان لا ينطبق على ما نحن فيه رغم وجود عنصر الإلزام في المعاملتين.   (1) وسائل الشيعة ج 12 باب 5 من أحكام العقد حديث 6 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 876 كما أن عقدنا هذا لا يندرج تحت " بيع ما لا يملك " فإن عقد البيع إنما يقع بعد شراء البنك للسلعة ووضعها بين يدى العميل، وقبل ذلك لا يوجد إلا وعد بالبيع على أن بعض الفقهاء ذكروا أن المراد من حديث " لا تبع ما ليس عندك " النهي عن بيع العبد الآبق أو الجمل الشارد، حيث لا يتمكن المشتري فيه من تسلم المبيع ولا البائع من تسليمه، ويحصل منه الضرر، وهذا احتمال وجيه جدًا ويؤكده الفهم العرفي للأحاديث. أما بالنسبة لمصداقية العقد لحديث (بيعتين في بيعة) فيقال فيه إن هذا الحديث وارد فيما إذا تمت المعاملة بعقدين كاملين وهنا قبل قبض العين لا يوجد بيع وإنما يوجد وعد بالبيع. أما بالنسبة للمخاطرة فهو ما لم نتبين وجهه وربما كان في عدم الإلزام مخاطرة. وأخيرا فهل يمكن أن نعد هذه المعاملة من الربا، أو السلف والزيادة؟ الصحيح أنه لا يمكن عده كذلك لترتب أحكام الملكية، والبيع حقيقة على هذا المورد، فلو تلفت العين قبل بيعها تلفت من مالكها، فكيف يمكن عده تحايلًا على الربا؟ وهذا الجواب نقوله أيضا لمن قال بأن هذه المعاملة هي بيع نقد بنقد أكثر منه إلى أجل (بينهما سلعة محللة) غايته قرض بفائدة. والواقع أن كل بيع نسيئة أو بنقد يتضمن هذا المعنى فهل نحرم كل البيوع؟! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 877 رأي الإمامية في هذه المعاملة: يلتزم الإمامية ببطلان مثل هذه المعاملة إذا كانت على نحو الإلزام للنصوص الكثيرة الواردة عن أهل البيت ومنها: 1- صحيحة معاوية بن عمار قال: قلت للصادق (ع) : يجيئني الرجل فيطلب " منى" بيع الحرير، وليس عنده منه شيء، فيقاولني عليه، وأقاوله في الربح والأجل حتى نجتمع على شيء ثم أذهب فاشتري له الحرير فأدعوه إليه، فقال: أرأيت إن وجد بيعًا هو أحب إليه مما عندك أيستطيع أن ينصرف إليه ويدعك؟ أو وجدت أنت ذلك أتستطيع أن تنصرف إليه وتدعه؟ قلت: نعم. قال فلا بأس (1) وهذه الرواية واضحة الدلالة على أن الإلزام في هذه المعاملة الثانية يوجد فيها البأس وهو معنى البطلان، وأما إذا كانت المعاملة الثانية خالية من الإلزام للمشتري وللبائع فلا بأس بها. 2- صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت الصادق (ع) عن العينة فقلت يأتيني الرجل فيقول: اشتر المتاع واربح فيه كذا وكذا، فأراوضه على الشيء من الربح فنتراضى به، ثم أنطلق فأشتري المتاع من أجله، لولا مكانه لم أرده، ثم آتيه به فأبيعه، فقال: ما أرى بهذا بأسًا – لو هلك منه المتاع قبل أن تبيعه إياه كان من مالك، وهذا عليك بالخيار إن شاء اشتراه بعد ما تأتيه، وإن شاء رده فلست أرى به بأسًا (2) . 3- صحيحة منصور بن حازم قال: " قلت للصادق (ع) الرجل يريد أن يتعين من الرجل عينة، فيقول له الرجل: أنا أبعد بحاجتي منك، فأعطني حتى أشتري فيأخذ الدراهم فيشتري حاجته ثم يجيء، بها الرجل الذي له المال فيدفعه إليه، فقال: أليس إن شاء اشترى وإن شاء ترك، وإن شاء البائع باعه وإن شاء لم يبع؟ قلت نعم، قال: لا بأس (3) . 4 – وعن منصور بن حازم أيضًا قال: " سألت الصادق (ع) عن رجل طلب من رجل ثوبًا بعينة قال: ليس عندي. هذه دراهم فخذها فاشتر بها، فأخذها فاشترى بها ثوبا كما يريد، ثم جاء به أن يشتريه منه؟ فقال: أليس إن ذهب الثوب ثمن مال الذي أعطاه الدراهم؟ قلت: بلى، قال: إن شاء اشترى، وإن شاء لم يشتر؟ قلت: نعم، قال: لا بأس (4) .   (1) وسائل الشيعة /ج1/ باب 8 من أحكام العقود /ج7 (2) وسائل الشيعة / ج12/باب 8 من أحكام العقود / ج9 (3) وسائل الشيعة / ج12 / باب 8 من أحكام العقود / ج11 (4) وسائل الشيعة / ج12 / باب 8 من أحكام العقود / ج12 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 878 5- صحيحة إسماعيل بن عبد الخالق قال: " سألت أبا الحسن (ع) عن العينة وقلت إن عامة تجارنا اليوم يعطون العينة، فأقص عليك كيف نعمل؟ قال: هات، قلت: يأتينا المساوم يريد المال فيساومنا وليس عندنا متاع، فيقول: أربحك " ده يازده"، وأقول أنا " ده دوازده " فلا نزال نترواض حتى نتراوض على أمر فإذا فرغنا قال: قلت أي متاع أحب إليك أن أشتري لك؟ فيقول: الحرير لأنه لا يجد شيئا أقل وضيعة منه، فأذهب وقد قاولته من غير مبايعة، فقال: أليس إن شئت لم تعطه، وإن شاء لم يأخذ منك؟ قلت: بلى، قال: فأذهب فأشتري له ذلك الحرير وأماكس بقدر جهدي، ثم أجيء به إلى بيتي فأبايعه، فربما أزددت عليه القليل على المقاولة، وربما أعطيته على ما قاولته، وربما تعاسرنا فلم يكن شيء فإذا اشترى مني ... فقال: أليس إنه لو شاء لم يفعل ولو شئت أنت لم تزد؟ فقلت: بلى لو أنه هلك فمن مالي، قال: لا بأس بهذا، إذا أنت لم تعد هذا فلا بأس به " (1) . 6 – وعن خالد بن الحجاج قال: " قلت للصادق (ع) الرجل يجيء فيقول: اشتر هذا الثوب وأربحك كذا وكذا، قال: أليس إن شاء ترك، وإن شاء أخذ؟ قلت: بلى، قال: لا بأس به ... " (2) . ولا بأس بالتنبيه: إلى وجود روايات تصحح هذه العملية من دون تفصيل بين صورة وجود الإلزام وعدمه، ولكن بواسطة هذه الروايات المتقدمة نعيدها بصورة عدم وجود الإلزام. فمن تلك الروايات المطلقة: 1 – " عن ابن سنان عن الإمام الصادق (ع) قال: " لا بأس بأن تبيع الرجل المتاع ليس عندك تساومه، ثم تشتري له نحو الذي طلب، ثم توجبه على نفسك ثم تبيعه منه بعد " (3) . 2 – وروى عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: " سألت الصادق (ع) عن الرجل يأتيني بطلب مني بيعًا وليس عندي ما يريد أن أبايعه به إلى السنة أيصلح لي أن أعده حتى أشتري متاعًا فأبيعه منه؟ قال: نعم " (4) .   (1) وسائل الشيعة / ج12 / باب 8 من أحكام العقود / ج14 (2) وسائل الشيعة / ج12 / باب 8 من أحكام العقود / ج4 (3) وسائل الشيعة / ج12 / باب 8 من أحكام العقود / ج1 (4) وسائل الشيعة / ج12 / باب 8 من أحكام العقود / ج5، 8 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 879 3 – صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر (ع) قال: " سألته عن رجل أتاه رجل فقال: ابتع لي متاعًا لعلي أشتريه منك بنقد أو نسيئة، فابتاعه الرجل من أجله، قال: ليس به بأس إنما يشتريه منه بعد ما يملكه" (1) . وهناك صورة أخرى لمعاملة المرابحة للآمر بالشراء خلاصتها أن يقول الأول للثاني اشتر لي سلعة بعشرة دراهم نقدًا وأنا أشتريها منك باثنى عشر درهمًا إلى أجل. وهذه معاملة باطلة وهناك نص صحيح يدل على ذلك. فعن محمد بن قيس عن أبي جعفر (ع) قال قضى أمير المؤمنين (ع) في رجل أمره نفر ليبتاع لهم بعيرًا بنقد ويزيدونه فوق ذلك نظرة فابتاع لهم بعيرًا ومعه بعضهم فمنعه أن يأخذ منهم فوق ورقه نظرة. وتبطل أيضا صورة أخرى وهي ما لو قال الأول للثاني اشتر لي سلعة باثنى عشر إلى أجل وأنا أشتريها منك بعشرة نقدًا. ويمكن أن يقال إن الروايات الآنفة شاملة لجميع هذه الصور في روحها، ولذا نفتي بعدم جواز هذه المعاملة إن كان فيها إلزام، اللهم إلا أن يأتي الإلزام من مصدر آخر كالنذر والعهد والشرط ضمن معاملة أخرى لازمة، فحينئذ يمكن التصحيح، إلا أن يقول أحد بأن الشارع قصد من مثل هذه المعاملة عدم الإلزام، وأصر عليه نظير إصراره على بقاء بعض الأمور مباحة، كالطلاق والزواج فلا يمكن الإلزام أو الالتزام بعدمه، وهذا القول رغم كونه قابلًا للتأمل لا يمكن الالتزام به كما نعتقد، كما أنه قد يقال بأن الشرط ضمن معاملة أخرى لازمة غير صحيح في هذا المورد، لأنه يعني إيجاب شيء لم يستوجب. وعلى أي حال يكفى النذر والعهد مع وجود إلزام حكومي للفرد بالعمل بما التزم به فيهما. الشيخ / محمد علي التسخيري   (1) وسائل الشيعة / ج12 / باب 8 من أحكام العقود / ج5، 8 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 880 بيع المرابحة في الإصطلاح الشرعي وآراء الفقهاء المتقدمين فيه إعداد الشيخ محمد عبده عمر باحث علمي في المركز اليمني للأبحاث الثقافية بوزارة الثقافة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله. والصلاة والسلام على من قال: الدين المعاملة: أبي القاسم محمد خاتم الأنبياء وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وترسم خطاه إلى يوم الدين. وبعد. فهذا بحث في موضوع: بيع المرابحة للآمر بالشراء. واستجابة لرغبة مجمع الفقه الإسلامي المتضمنة خطاب سماحة أمينه العام المؤرخ 15 / 8/ 1408هـ في الكتابة في المواضيع التي تعرض على المجمع في دورته الخامسة المزمع انعقادها في ديسمبر 88 م بدولة الكويت الشقيق فقد وقع اختياري على المواضيع التالية: منزلة العرف من الأدلة الشرعية، وقد فرغت من الكتابة فيه. والآخر: بيع المرابحة. وهو ما سوف نتناوله في بحثنا هذا إن شاء الله وقد قسم إلى المباحث التالية: 1- المبحث الأول: تعريف بيع المرابحة في الاصطلاح الشرعي وآراء الفقهاء المتقدمين فيه. 2- المبحث الثاني: الإشارة إلى السوابق التاريخية للموضوع وما طرح فيه من أنظار شرعية إلخ. 3- المبحث الثالث: النظرة الفقهية إلى أدلة الخلاف ووجه الدلالة منها ومخارج الاستدلال. هذا والله وحده الهادف إلى الحق وإلى الصراط المستقيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 881 المبحث الأول: 1- تعريف المرابحة في الاصطلاح الشرعي: هي أن يذكر البائع للمشتري الثمن الذي اشترى به السلعة ويشترط عليه ربحًا كأن يقول البائع أنا اشتريت هذه السلعة بمائة دينار أو هي علينا بمائة دينار وأبيعك إياها بمائة وعشرة. وهناك عدة تعاريف وكلها تدور حول هذا المعنى وكلها تعني الزيادة على رأس المال. فعند الحنفية: المرابحة: نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول مع زيادة ربح. وقال بعض المالكية: المرابحة عبارة عن بيع السلعة بالثمن المشتراه به مع زيادة ربح معلوم للمتعاقدين: أما الحنابلة فقالوا: هو البيع برأس المال وربح معلوم. هذه التعاريف متقاربة المعنى كما نجدها مشتركة في مدلولها اللغوي: فالمرابحة في اللغة مشتقة من رابح واربح وكلا اللفظين يعنيان البيع أو الشراء بزيادة على رأس المال وهو الربح (1) وهذا هو المعنى الشرعي لمعنى المرابحة فاجتمع المدلول اللغوي مع المدلول الشرعي في الاصطلاح. وهذا التعريف للمرابحة ليس هو المقصود هنا بالبحث لأن بيع المرابحة بالتعريف المتقدم يكاد ينعقد الإجماع على صحته عند العلماء سلفا وخلفا بل إنه قد نقل الإجماع على صحة بيع المرابحة بالمعنى المتقدم وإن كان البعض من العلماء يفضل بيع المساومة عليه وهذا خلاف أفضلية وليس خلاف في عدم صحة بيع المرابحة. فبحثنا هذا لا يتعلق ببيع المرابحة بالمعنى الآنف الذكر على اعتبار أنه ليس هناك أي خلاف في صحته وجوازه وإن كانت هناك خلافات جزئية تفصيلية بين الفقهاء سلفا وخلفا وهذا شيء متعارف عليه بين الفقهاء في مسائل عديدة من فقه المعاملات وإن كنا لا بد وأن نتناول بيع المرابحة بالمعنى المذكور ولكنه ليس مقصودا لذاته بل لتحرير المسألة التي يتعلق بها بحثنا هذا وللإيضاح الكافي الذي يجلي المسألة المراد بحثها من أي ملابسة عملا بالقاعدة الفقهية المشهورة: الحكم على الشيء فرع عن تصوره ولكن بحثنا يتعلق بصورة التعامل التي تزاولها البنوك والمصارف الإسلامية تحت عنوان: بيع المرابحة للآمر بالشراء وصورتها: أن يتقدم العميل إلى البنك أو المصرف طالبا منه شراء سلعة معينة بالمواصفات التي يحددها على أساس الوعد منه أي من العميل بشراء تلك السلعة اللازمة له فعلا مرابحة بالنسبة التي يتفقان عليها ويدفع الثمن مقسطا حسب إمكانيته. فهذه الصورة كما يفهم من التعريف ذات شقين: أحدهما عندما يأتي العميل إلى البنك طالبا منه شراء سلعة معينة أو موصوفة ليست عند البنك فيعده البنك بأنه سيشتري السلعة التي يطلبها العميل ويبيعها له ويعده أي يعد العميل البنك بأنه سوف يشتري السلعة عند ما يقدمها البنك. وفي هذه الفترة يحددان الشراء والربح وطريقة الدفع نقدا أو مؤجلًا أو مقسطًا، وبعض المصارف أو البنوك تطلب دفع عربون مقدما. والسلعة المطلوبة قد لا تكون موجودة في الأسواق المحلية فيستوردها البنك من الخارج. 2- الشق الآخر: إبرام العقد وتبدأ بعد شراء البنك البضاعة وعرضها على العميل وقبوله لها: ما حكم هذه المعاملة في فقه الشريعة الإسلامية؟ فهذه هي نقطة البحث التي تتعلق بها الأنظار الشرعية. وإن كانت كما تقدمت الإشارة أتناول في البداية الموضوع بصفة عامة لتحرير وإيضاح نقطة البحث لا أكثر من ذلك. المبحث الثاني: الإشارة إلى السوابق التاريخية للموضوع وما طرح فيه من أنظار شرعية إلخ.   (1) انظر مادة ربح في لسان العرب. المغني لابن قدامة 4/136. البداية والنهاية لابن رشد 2/214 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 882 تقدمت الإشارة إلى أن بيع المرابحة بالتعريف الفقهي المتقدم باستثناء تعريف نقطة البحث من البيوع الجائزة بين الفقهاء ويشترط في بيع المرابحة ما يشترط في البيع بصفة عامة ويختص بشروط خاصة أهم ما فيها علم المتابيعين برأس المال والربح كأن يقول البائع: رأس مالي مائة وربح عشرة. وفي هذا المبحث مسائل لا بد من تناولها. منها ما هو الذي يعد من رأس المال مما لا يعد وفي صفة رأس المال الذي يجوز أن يبنى عليه الربح. والأخرى حكم ما وقع من الزيادة أو النقصان في خبر البائع بالثمن. فأما ما يعد في الثمن مما لا يعد: أي مما ينوب البائع على السلعة زائد على الثمن فإن المالكية يقسمونه إلى ثلاثة أقسام: قسم يعد في أصل الثمن ويكون له حظ من الربح. وقسم يعد في أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح وقسم لا يعد في أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح. فأما الذي يحسب في رأس المال ولا يجعل له حظ من الربح فهو الذي لا يؤثر في عين السلعة مما لا يمكن البائع أن يتولاه صاحب السلعة بنفسه كالسمسرة والطي والشد وقال أبو حنيفة بل يحتمل على ثمن السلعة كل ما نابه عليها وقال أبو ثور: لا تجوز المرابحة إلا بالثمن الذي اشترى به السلعة فقط. إلا أن يفصل ويفسخ عند البيع إن وقع، قال: لأنه كذب لأنه يقول: أي صاحب السلعة ثمن سلعتي كذا وكذا وليس الأمر كذلك وهو عنده أي عند أبي ثور من باب الغش. وأما الذي يحسب في رأس المال ويجعل له حظ من الربح فهو ما كان مؤثرا في عين السلعة مثل الخياطة والصباغ. وأما صفة رأس المال: أي الثمن الذي يجوز أن يخبر به فإن مالكًا والليث بن سعد قالا فيمن اشترى سلعة بدنانير والصرف يوم اشتراها صرف معلوم ثم باعها بدنانير تختلف عن الدنانير التي اشترى بها أو بدراهم والصرف قد تغير إلى زيادة أنه ليس له أن يطلب سعر الصرف الذي كان يوم شرائه للسلعة. كما اختلف بعض فقهاء المالكية: فيمن ابتاع سلعة بعروض هل يجوز له أن يبيعها مرابحة أم لا يجوز فقال ابن القاسم يجوز له بيعها بالثمن الذي اشتراها به من العروض ولا يجوز له على القيمة. وقال أشهب: لا يجوز لمن اشترى سلعة من العروض أن يبيعها مرابحة لأنه يطالبه بعروض على صفة عرضه. وفي الغالب لا يكون عنده فهو من باب بيع ما ليس عنده. كما اختلف مالك وأبو حنيفة فيمن اشترى سلعة بدنانير ثم أخذ بالدنانير عروضا أو دراهم فهل يجوز له بيعها مرابحة دون أن يعلم (1) بما نقد أم لا يجوز؟ فقال مالك لا يجوز إلا أن يعلم بما نقد وقال أبو حنيفة يجوز أن يبيعها منه مرابحة على الدنانير التي ابتاعها: أي التي ابتاع بها السلعة دون العروض التي أعطى فيها أو الدراهم. وقال مالك أيضا فيمن اشترى سلعة بأجل فباعها مرابحة أنه لا يجوز حتى يعلم بالأجل وقال الشافعي إن وقع كان للمشترى مثل أجله. وقال أبو ثور هو كالعيب وله الرد به أما حكم ما وقع فيه من الزيادة والنقصان في خبر البائع بالثمن. فقد اختلف فيه فقهاء السلف ومن هذه المسائل مسألة من ابتاع سلعة مرابحة على ثمن ذكره ثم ظهر بعد ذلك إما بإقراره أو ببينة أنه كان أقل، والسلعة قائمة فقال مالك وجماعة: المشتري بالخيار.   (1) انظر البداية والنهاية لابن رشد المرجع السابق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 883 إما أن يأخذ بالثمن الذي صح أو يترك إذا لم يلزمه البائع أخذها بالثمن الذي صح، وإن ألزمه لزمه. وقال أبو حنيفة ونفر بل المشتري بالخيار على الإطلاق ولا يلزمه الأخذ بالثمن الذي إن ألزمه البائع لزمه. وقال الثوري وابن أبي ليلى وأحمد وجماعة بل يبقى البيع لازمًا لهما بعد حط الزيادة وعن الشافعي قولان قول بالخيار مطلقا وقول باللزوم بعد الحط وحجة من أوجب البيع بعد الحط أن المشتري إنما أربحه على ما ابتاع به السلعة لا غير ذلك فلما ظهر خلاف ما قال وجب أن يرجع إلى الذي ظهر كما لو أخذه بكيل معلوم فخرج بغير ذلك الكيل إنه يلزمه توفية ذلك الكيل. وحجة من رأى أنه الخيار مطلقًا تشبيه الكذب في هذه المسألة بالعيب أعنى أنه كما يوجب العيب الخيار كذلك يوجب الكذب. وأما إذا فاتت السلعة فقال الشافعي يحط مقدار ما زاد من الثمن وما وجب له من الربح وقال مالك: إن كانت قيمتها يوم القبض أي يوم البيع على خلاف عنه في ذلك مثل ما وزن المباع أو أقل فلا يرجع عليه بشيء: أي فلا يرجع عليه المشتري بشيء وإن كانت القيمة أقل خير البائع بين رده للمشتري القيمة أورده الثمن أو إمضائه السلعة بالثمن الذي صح. وأما إذا باع الرجل سلعته مرابحة ثم أقام البينة أن ثمنها أكثر مما ذكره وأنه وهم في ذلك والسلعة قائمة. فقال الشافعي: لا يسمع منه تلك البينة لأنه كذبها آخر. وقال مالك في هذه المسألة إذا فاتت السلعة يخير المبتاع أن يعطى قيمة السلعة يوم قبضها أو أن يأخذها بالثمن الذي صح. ومعرفة أحكام هذا البيع في مذهب السادة المالكية. ينبني على معرفة أحكام ثلاثة وما تركب منها وهي حكم مسألة الكذب وحكم مسألة الغش وحكم مسألة وجود العيب فأما حكم الكذب فقد تقدمت الإشارة، وأما حكم الرد بالعيب فهو حكمه في البيع المطلق. وأما حكم الغش عنده فهو تخيير البائع مطلقا وليس للبائع أن يلزمه البيع وإن حط عنه مقدار الغش كما له ذلك في مسألة الكذب (1) .   (1) الأم للشافعي ج3 ص34 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 884 ومما تقدم يتضح لنا بأن هذه المعاملة معروفة في كتب الفقه الإسلامي. أما الخلاف فيما يتعلق ببحثنا فهو وقوع البيع على الإلزام من أول الأمر بمعنى أن البنك ملزم بالبيع مرابحة للآمر بالشراء. والآمر بالشراء ملزم بتنفيذ وعده بالشراء عندما يقدم له البنك السلعة المطلوبة. فهذه معاملة مركبة من وعد بالشراء وبيع المرابحة فهي في الحقيقة ليست من باب بيع الإنسان ما ليس عنده؛ لأن البنك لا يبيع شيئا ابتداء، وإنما يتلقى أمرًا بالشراء وبالتالي فهو لا يبيع حتى يملك ما هو مطلوب منه ويعرضه على المشتري ليرى ما إذا كان مطابقًا لما وصف أم لا. وبالتالي فإن هذه المعاملة لا تنطوي على ربح ما لم يضمن؛ لأن البنك قد اشترى فأصبح مالكا يتحمل تبعة الهلاك. هذه خلاصة وجهة نظر المجيزين لهذه المعاملة من بعض الفقهاء المعاصرين، أما علماء السلف بما فيهم أصحاب المذاهب الفقهية المشهورة فلا أعلم أحدًا منهم أجاز هذه المعاملة، والمشهور من بعض علماء السلف رضي الله عنهم جواز هذه المعاملة إذا جعل الخيار للطرفين أو لأحدهما. أما الفقهاء المعاصرون فإن أول خلاف ظهر بينهم في هذه المسألة عندما طرح هذا الموضوع على بساط البحث في مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي 1399 هـ 1979م، وكان رأي الأغلبية جواز الإلزام بالوعد في هذه المعاملة وقد جاءت توصية المؤتمر كالتالي: " يرى المؤتمر أن هذا التعامل يتضمن وعدًا من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها ووعدا آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء طبقا لذلك الشرط. إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقا لأحكام المذهب المالكي. وملزم للطرفين ديانة طبقًا لأحكام المذاهب الأخرى. وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل فيه. تحتاج صيغ العقود في هذا التعامل إلى دقة شرعية فنية وقد يحتاج الإلزام القانوني بها في بعض الدول الإسلامية إلى إصدار قانون بذلك " نصًّا: (1) .   (1) انظر مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي 1399 هـ 1979م ص14 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 885 وطرح هذا الموضوع نفسه في مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني المنعقد بالكويت في جمادى الآخر 1403 هـ مارس 1983، وأصدر المؤتمر فيه التوصية التالية: 8 – " يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد تملك السلعة المشتراة وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق هو أمر جائز شرعًا طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسئولية الهلاك قبل التسليم وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي. وأما بالنسبة للوعد ملزما للآمر أو المصرف أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة المصرف، والأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات وقيمة مراعاة لمصلحة المصرف والعميل وأن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعًا وكل مصرف مخير في الأخذ بما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه " نصًّا. بهذا الاستعراض للسوابق التاريخية للموضوع وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بنقطة البحث نخلص من تحرير الموضوع إلى النقاط التالية: 1 – أولا عنوان بحث الموضوع والمحدد تسميته من قبل المجمع: ببيع المرابحة للآمر بالشراء غير دقيق؛ لأن هذا العنوان تدخل فيه صور من بيع المرابحة للآمر بالشراء أجازها العلماء سلفا وخلفا مما جعل البحث في الموضوع محل التباس تبعًا لالتباس العنوان. وأرى ضرورة التسمية التالية: بيع الأمانة للآمر بالشراء لمقابل ربح معلوم للبائع المؤتمن على شراء السلعة للآمر بالشراء؛ لأن هذا البيع في نظري هو بيع أمانة أقرب منه للمرابحة، وهذا التخريج لهذا النوع من البيع يخرجنا من الخلاف الفقهي وعلى وجه الخصوص يخرجنا من النص النبوي الشريف الذي يتمسك به بعض الفقهاء من قوله عليه الصلاة والسلام: " لا تبع ما ليس عندك " على أن لي بعض الملاحظات على وجه الاستدلال بهذا الحديث سوف أوضحها في مكانها من هذا البحث إن شاء الله. كما يخرجنا من الخلاف الفقهي الذي يمثل من وجهة نظري جوهر الخلاف بين الفقهاء في هذه المسألة سلفا وخلفا والخاص بالوفاء بالوعد من جانب العميل خاصة إذا علمنا بأن جمهور الفقهاء قد جوزوا هذا النوع من البيع إذا جعل الخيار للطرفين أو لأحدهما. كما أن الفقهاء المعاصرين مجمعون ولا يوجد بينهم خلاف حسب علمي بأن الخيار في هذا النوع من البيع، إذا جعل الطرفان بالخيار أو أحدهما فإنه يعتبر جائز شرعًا، وإنما الخلاف بين السلف والخلف منصب في هذه المسألة على الوعد الذي يعد به العميل البنك أو المصرف من أخذ السلعة عندما يقدمها له البنك وتكون مطابقة للمواصفات التي اشترطها العميل في توفرها في السلعة. هل الوعد شرعًا ملزم للعميل بأخذ السلعة أو ليس ملزما. وقد تقدم لنا في هذا البحث استعراض أقوال الفقهاء وخلاصة مؤتمرَي دبي والكويت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 886 2 – ثانيا: استدلال بعض الفقهاء بحديث: لا تبع ما ليس عندك، ووجه الاستدلال بهذا الحديث على مسألتنا مناط البحث واضح: وهو أن البنك أو المصرف عندما يعد العميل ببيع السلعة لا يكون البنك أو المصرف قد ملك تلك السلعة، وبالتالي فإن هذا البيع لا يجوز استنادًا إلى نص الحديث. ولكن هذا الاستدلال من وجهة نظري غير دقيق للأسباب التالية. 1 – أولا: أن قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تبع ما ليس عندك)) يحتمل أن النهي منصب على تحريم بيع الإنسان لأخيه شيئًا لا يقدر على تسليمه للمشتري وقت العقد؛ لأن هذا النوع من البيع نوع من بيوع الغرر التي نهى الشارع عنها، ومن الأمور التي لا يستطيع البائع تسليمها وقت العقد كبيع الطير في الهواء والسمك في الماء ومن باب أولى يشمل النهي بيع الفضولي ما ليس يملكه وإن كان بعض الفقهاء قد أجازوه إذا أجازه من يملك عين المبيع بالشروط المعتبرة، كما يحتمل أن ينصب النهي على كل بيع لا يستطيع البائع تسليمه للمشتري وقت إبرام العقد وإن كان يملكه، هذا من ناحية وجه الاستدلال بهذا الحديث على مسألتنا فالحديث بهذا الاحتمال تصبح دلالته ظنية أي غير قائمة الحجة على المخالف؛ لأنها غير قطعية الدلالة على محل الخلاف، أما من ناحية أصولية فإن الحديث يشتمل على عموم وخصوص مطلق يجتمعان في النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده، وينفرد الجواز في بيع الإنسان ما يملكه مما هو قادر على تسليمه؛ لأنه يسمى عرفًا عنده وإن كان غير قادر على تسليمه وقت العقد إذا أخبر المشتري بذلك وهذا ما جرى عليه عرف المسلمين في معاملاتهم. وبالنظر إلى مناط الاستدلال بهذا الحديث على مسألتنا نجد وجه الاستدلال غير دقيق؛ لأن هذه المسألة مركبة من طرفين أو جزأين من وعد بالشراء من جانب العميل طرف، وبيع بالمرابحة من جانب البنك أو المصرف وبالتالي فهي ليست من قبيل بيع الإنسان ما ليس عنده، فجهة النهي منفكة؛ لأن البنك لا يبيع شيئا ابتداء وإنما يتلقى أمرا بالشراء وبالتالي فهو لا يبيع حتى يملك ما هو مطلوب منه وطبقًا للمواصفات الدقيقة التي يحددها الآمر بالشراء، فإذا جاءت السلعة على خلاف الشروط والمواصفات الدقيقة فإن المشتري بالخيار إن شاء عقد الصفقة وأبرم العقد، وإن شاء فسخ البيع باتفاق المذاهب الفقهية، وليس في هذا النوع من البيع شيء من الغرر المحتمل وجوده في حديث: لا تبع ما ليس عندك، كما تقدمت الإشارة، ومعلوم عند علماء سلف الأمة وخلفها بأن نصوص الكتاب والسنة الخاصة بالمعاملات معللة ومعقولة المعنى وخاضعة للحكمة والمصلحة التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، ومن هذا المنطلق كانت المذاهب الفقهية وزخرت المكتبات بإنتاج العقول المتفقهة في كنوز الكتاب والسنة. وهذه هي مهمة المجمع الذي بدأ بخطى ثابتة ومباركة مما جعله الآن موضع اهتمام أمتنا الإسلامية التي تأمل من علمائها وفقهائها الأجلاء مساندتها ومساعدتها على جمع كلمتها في الرأي خاصة في هذا الظرف الذي نجد فيه أمتنا الإسلامية مستهدفة من الطامعين في خيراتها وموقعها والذين ما برحوا يخططون لزرع الفتن بين أبنائها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 887 فإذا لم نجد للمسألة حكمًا من الكتاب ولا السنة ولا الإجماع ولا القياس الصحيح فإن الواجب على المجتهد والحالة هذه أن يلجأ للالتماس في حكم المسألة إلى المصادر الشرعية المعتبرة. المبحث الثالث: النظرة الفقهية إلى أدلة الخلاف ووجه الدلالة منها ومخارج الاستدلال: أن أدلة الخلاف في المسألة مناط البحث تنحصر أصولها في الآتي: 1 – عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((: لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) رواه الخمسة إلا ابن ماجه. الحديث: في ج2 من كتاب المنتقى لابن تيمية الجَدّ، طبعة أولى عام 1351 هـ- 1932 م ص332 (1) . 2 – عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم وأخرجه في علوم الحديث من رواية أبي حنيفة عن عمرو المذكور بلفظ: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط)) ثم قال ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني في الأوسط وهو غريب، متن بلوغ المرام (2) .   (1) انظر 5 و6 من نيل الأوطار ص 175 وما بعدها (2) انظر 5 و6 من نيل الأوطار ص 175 وما بعدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 888 3 – عن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال: ((قلت: يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق. فقال: لا تبع ما ليس عندك)) ، رواه الخمسة، هذه هي النصوص الثابتة بالسنة ومكان الدليل منها على المسألة عند القائلين به هو قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تبع ما ليس عندك)) ، وقد سبق في المبحث الثاني مناقشتي لوجه الدلالة، ووجهة نظر المستدلين بها. وقصدت بجمع نصوص الحديث وكان بالإمكان الاكتفاء بحديث حكيم بن حزام لولا أن الإمام محمد بن علي الشوكاني رضي الله عنه قال في سنده عند شرحه للحديث: ما يلي " الحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن حيكم، انتهى. وفي بعض طرقه عبد الله بن عصمة زعم عبد الحق أنه ضعيف جدا، قال: والكلام للشوكاني:ولم يتعقبه ابن القطان بل نقل عن ابن حزم أنه مجهول. قال الحافظ وهو جرح مردود فقد روى عنه ذلك ثلاثة كما في التلخيص وقد احتج به النسائي، وفي الباب عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عند أبي داود والترمذي، وصححه النسائي وابن ماجه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((:لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا في ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) قال الإمام الشوكاني: قوله: " ما ليس عندك "، أي ما ليس في ملكك وقدرتك. ثم قال: والظاهر أنه يصدق على العبد المغصوب الذي لا يقدر على انتزاعه ممن هو في يده، وعلى الآبق الذي لا يعرف مكانه، والطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه، ويدل على ذلك معنى عند لغة، قال الرضى: إنها تستعمل في الحاضر القريب وما هو في حوزتك وإن كان بعيدا، انتهى. فيخرج عن هذا ما كان غائبًا خارجا عن الملك أو داخلًا فيه خارجًا عن الحوزة. وظاهره أنه يقال لما كان حاضرا وإن كان خارجا عن الملك فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم ((لا تبع ما ليس عندك)) أي ما ليس حاضرا عندك ولا غائبا في ملكك وتحت حوزتك. قال البغوي: النهي في هذا الحديث عن بيوع الأعيان التي لا يملكها، أما بيع شيء موصوف في ذمته فيجوز فيه السلم بشروطه فلو باع شيئا موصوفا في ذمته عام الوجود عند المحل المشروط في البيع جاز، وإن لم يكن المبيع موجودا في ملكه حالة العقد كالسلم. قال: وفي المعنى بيع ما ليس عنده في الفساد بيع الطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه إلى محله، فإن اعتاد الطائر أن يعود ليلًا لم يصح عند الأكثر إلا النحل، فإن الأصح فيه الصحة كما قاله النووي في زيادات الروضة وظاهر النهي تحريم بيع ما لم يكن في ملك الإنسان ولا داخلا تحت مقدرته. وقد استثنى من ذلك السلم فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم. وكذلك إذا كان المبيع في ذمة المشتري إذ هو كالحاضر المقبوض، هذه خلاصة وجهة نظر الإمام الشوكاني ومن نقل عنهم، نجد فيها الاحتمالات التي أشرنا إلى بعضها في المبحث الثاني من هذا البحث. ولكنا نجد الإمام النووي يصرح بجواز البيع إذا كان البيع في ذمة المشتري إذ هو - أي المبيع - كالحاضر المقبوض، انتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 889 وإذا أمعنا النظر في حديث حكيم بن حزام وفي استفتائه للنبي عليه الصلاة والسلام بهذه الصيغة: يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق، إن المعنى المتبادر إلى الذهن من منطوق الحديث أن الرجل طالب السلعة يأتي إلى حكيم ليأخذ منه سلعة في الحال، فيتفقان على الثمن دون علم المشتري أن السلعة التي أبرم بشأنها العقد غير موجودة عند حكيم، ثم يذهب حكيم خلسة إلى السوق فيبحث عن السلعة التي عقد بشأنها العقد مع المشتري فيأخذها من السوق فيأتي بها ليسلمها إلى المشتري. فكانت فتوى هذا السؤال: لا تبع ما ليس عندك، لما في ذلك من الغرر والمخاطرة. أما الغرر فلما فيه من إيهام المشتري بأن السلعة المطلوبة موجودة لدى البائع وقت إبرام العقد حيث لم يقل حكيم: إنه ليأتيني الرجل فيسألني عن البيع، فأقول له السلعة المطلوبة ليست عندي ولكني أعدك بعد إبرام العقد بالذهاب إلى السوق، وأخذها وأعرضها لك وتسليمك إياها حسب المواصفات المتفق عليها في صيغة العقد. فلو كان السؤال على هذا الوجه الذي يحاول المستدل على تحريم نوع البيع في مسألتنا هذه لربما كانت الفتوى بقوله عليه الصلاة والسلام ((لا تبع ما ليس عندك)) على خلاف ما هي عليه. فوجه الدلالة في الحديث افتراضية على خلاف منطوق الحديث ومفهومه وسببه. وأما المخاطرة فلربما ذهب إلى السوق فلم يجد السلعة المباعة مما يثير الخلاف والمنازعة بين البائع ما ليس عنده والمشتري. . . إلخ.. وربما كانت حاجة المشتري إلى السلعة لا تحتمل التأخير إما لحاجته إليها في الحال وإما لنفاذها من السوق بسبب إيهام المشتري بأن السلعة المطلوبة بحوزة البائع مما يجعل المشتري يطمئن إلى محادثة البائع المدلس وضياع جزء من الوقت كان بإمكان المشتري طالب السلعة الحصول عليها بيسر وسهولة لو أن البائع المدلس قال لطالب السلعة: السلعة المطلوبة لا توجد الآن عندي فإن أحببت أحضرتها لك عند الحصول عليها، وإن كنت تريدها الآن فبإمكانك الذِّهَاب إلى السوق أو إلى التاجر الفلاني وهذا من باب النصيحة. 2 – الدليل الثاني من أدلة الخلاف يتعلق بالعميل: أي الوفاء بالوعد بمعنى هل الوفاء بالوعد من جانب العميل يأخذ السلعة عند إحضارها من قبل البنك أو المصرف ملزم أو غير ملزم. ومما زاد الخلاف في المسألة: صيغ الوفاء بالوعد من الكتاب والسنة مختلفة حسب اختلاف الآثار المترتبة عليها فليست كلها تحمل على الوجوب، وليست كلها تحمل على الندب والاستحباب. مما حدا ببعض الفقهاء إلى التفريق بين الوفاء بالوعود التي يترتب على عدم الوفاء بها إضرار للطرف الآخر فجعلوا الوفاء بها واجب وملزم مثل أن يقول فلان من الناس لآخر: اهدم دارك هذه وابن مكانها أخرى وأنا أسلفك ما تحتاج إليه من تكاليف بناء للدار. فيقوم صاحب الدار بهدمها، فإن الوفاء بالوعد ملزم؛ لأن الواعد أدخل الموعود في ورطة، وعلى ذلك فقس مثل قول الواعد لآخر: تزوج وأنا أسلفك تكاليف الزواج، ونحو ذلك، فقالوا: بلزوم كل وعد أدخل الموعود في ضرر من جراء تسبب عدم وفاء الواعد بوعده كما ذهب فريق من الفقهاء إلى الإلزام بالوفاء بالوعد مطلقًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 890 وفريق آخر ذهب إلى عدم الإلزام بالوعد مطلقا، ومن هذا الفريق الأئمة الثلاثة ورواية عن الإمام مالك. علمًا بأن الأئمة الثلاثة ما عدا مالك يجوزون هذا النوع من البيع إذا كان الخيار لهما أو لأحدهما، ولم يحتجوا بحديث حكيم بن حزام المتقدم على فساد البيع مما أضعف الاستدلال به في مسألتنا هذه، ومما يلاحظ في هذه المسألة أن كلام الفقهاء منصب في باب الوفاء بالوعد على العميل دون صاحب البنك أو المصرف فيما إذا لم يلتزم بالوفاء للعميل حسب الاتفاق الذي تم بينهما، فحسب علمي لم أجد أحدًا تناول الطرف الآخر بالإلزام أو بعدمه أو غير ذلك، كما هو الخلاف بالنسبة للعميل علمًا بأن الأضرار التي تلحق بصاحب البنك أو المصرف قد تلحق بالعميل إذا كان يترتب على عدم وفاء البنك بما التزم به من إحضار السلعة بوقت معين معلوم إضرار بالعميل: والخلاصة لهذا المبحث تتحدد في أن النصوص التي وردت في إطار الظنية في ثبوتها أو دلالتها، وهنا يتصدى الاجتهاد للبحث عن صحة السند من خلال دراية السند وطرق روايته أو يتصدى الاجتهاد للبحث في تفسير تلك النصوص بما يؤدي إلى وضوح الدلالة على المعاني المراد منها: الأمر (1) الذي يحتم على مجمعنا الموقر حسم الخلاف في هذه المسألة التي أصبحت ملحة وضرورية في حياة الأمة الإسلامية ولنا في مصادر الاجتهاد النبع الذي لا ينضب فإذا كانت النصوص ظنية الدلالة وشقة الخلاف فيها متسعة، والمسألة المطروحة ضرورية وملحة فإننا نلجأ لترجيح أحد القولين أو الأقوال على الآخر باستلهام روح التشريع الإسلامي الذي استهدف في أحكامه تحقيق مصالح الناس ودفع المفاسد عنهم، وهو الذي يقدر ما إذا كان عملا معينا يحقق لهم مصلحة: أي يجلب لهم نفعا أو يدفع عنهم مفسدة، أي يدرأ عنهم ضررًا. وقد ذهب المالكية إلى أن المصلحة تخصص النص غير القطعي ومنها كل النصوص العامة، ومن ذلك تخصيص الحديث النبوي ((البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر)) فإن المصلحة تقتضي عدم تحليف المدعى عليه إلا إذا كان بينه وبين المدعي خلطة حتى لا يسيء السفهاء استغلال هذا الحق ويكيدون لغيرهم رفع دعاوى أمام القضاء، كما أن المذهب الحنفي ويخصص النص بالمصلحة وإن كان عندهم يأخذ اسم الاستحسان ومنها تخصيص الحديث الذي يوجب رؤية العيان في الشهادة فأباحوا قبول شهادة التسامع في إثبات بعض الحقوق إذا اقتضت المصلحة فيها ذلك، مثل إثبات أصل الوقف صيانة للأوقاف القديمة من الضياع، وأجازوها في إثبات النسب والوفاة والدخول بالزوجة ومنها حديثنا محل الخلاف. فقد خصصوا النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده. فأباحوا بيع الثمار المتلاحقة بعد بدو صلاحها. وكذلك تخصيص النصوص التي توجب أن يكون الشهود من الرجال وحدهم أو من الرجال والنساء معًا، فأباحوا قبول شهادة النساء وحدهن فيما لا يطلع عليه سوى النساء مثل الجرائم التي تقع في الحمامات الخاصة بالنساء وشهادة القابلة على واقعة الولادة وتعيين المولود عند النزاع فيه.   (1) انظر الجامع الصحيح 3/536 الغرر وأثره للدكتور الصديق الضرير ص318. وما بعدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 891 خلافًا للحنابلة الذين يرون عدم جواز تخصيص النص بالمصلحة على الرغم من أخذهم بنظرية المصالح المرسلة وحجتهم في أنه لا محل للنظر إلى المصلحة إلا عند فقدان النص، ولا مجال للنظر إليها عند وجوده؛ لأن دلالة النص وعمومه مقدمان على النظر إلى المصلحة. كما ذهب الشافعي إلى رفض الأخذ بنظريتي الاستحسان والمصالح المرسلة إلى عدم تخصيص النص، ولو كان غير قطعي الدلالة بالمصلحة؛ لأنه يرفض التسليم بالمصلحة كأصل للتشريع، غير أنه يصل إلى ذات النتيجة التي يصل إليها من يأخذ بالمصلحة المرسلة كأساس للتشريع، ويخصصون بها النص ولكن عن طريق أصل آخر هو تحكيم قاعدة الضرورات تبيح المحظورات (1) . وعلى الرغم من الخلاف الشكلي بين الأئمة الثلاثة فإن المصلحة المرسلة أصبحت مصدرًا خصبا للفقه الإسلامي تخصص بعض النصوص وتفسر البعض الآخر منها فمن أمثلة الاعتماد عليها في تفسير النصوص وفهمها منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إعطاء المؤلفة قلوبهم سهمًا في الزكاة رغم الأمر بذلك في القرآن كما أوقف عقوبة السرقة في عام المجاعة وأبقى أرض العراق وغيرها من الأرض المفتوحة في أيدي أصحابها، وفرض ضريبة الخراج عليها بدلا من توزيعها على الفاتحين: وفي هذا الصدد يقول المالكية تعبيرهم المشهور: " فحيث تكون المصلحة العامة للمسلمين يكون شرع الله " (2) . وبعد هذا الاستعراض، ولكون هذا النوع من البيوع أصبح اليوم في حكم الضرورة وبما أن القاعدة الشرعية: هي أن الأصل في المعاملات الإباحة إلا ما قام الدليل المعتبر شرعًا على تحريمه فإنني أرجح جواز إباحة التعامل بهذا البيع مع وضع الشروط والضوابط اللازمة شرعًا، ولو لم يكن في نظري أي مرجح لهذا النوع من البيع إلا تخصيص الحديث النبوي الذي ينهى عن بيع ما ليس عند البائع على فرض سلامة وجه الاستدلال منه لكانت المصلحة وحدها كافية لتخصيصه، ولا يفوتني هنا أن أذكر أصحاب الفضيلة أعضاء المجمع الموقرين بترابط النظرة الفقهية للمجمع في هذه المسألة. وبين القرار رقم (1) و2/7. /86 بشأن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية الذي أصدره في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 12 صفر 1407 هـ / 12 إلى 16 أكتوبر 1986 م. حيث جاء فيه ما يلي: " المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعا. المبدأ الثاني: أن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء بعد حيازة الوكيل لها هو توكيل مقبول شرعا. والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك.   (1) انظر المدخل للزرقا ص 57 وما بعدها المستصفى للغزالي ص137، والأم للشافعي ج7 ص373- 374 (2) انظر محمد يوسف موسى: المدخل ص189، 191، أصول الفقه للبرديسي 1969 ص21 وما بعدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 892 المبدأ الثالث: إن عقد الإيجار يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات وأن يبرم بعقد منفصل عن عقد الوكالة والوعد. المبدأ الرابع: أن الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة جائز بعقد منفصل. المبدأ الخامس: أن تبعة الهلاك والتعيب تكون على البنك بصفته مالكا للمعدات ما لم يكن ذلك لتعد أو تقصير من المستأجر فتكون التبعة عندئذ عليه. . . إلخ. والله أسأل أن يهدينا سواء السبيل ويلهمنا طريق الحق والصواب إنه ولي ذلك والقادر عليه. بقلم عضو المجمع محمد عبده عمر أهم مراجع البحث: 1 – البداية والنهاية لابن رشد. 2 – المدخل لفضيلة الشيخ الزرقا. 2 – المغني لابن قدامة. 3 – الأم للإمام الشافعي. 4 – زاد المعاد للإمام ابن القيم. 5 – نيل الأوطار للإمام الشوكاني. 6 – متن بلوغ المرام على شرح سبل السلام. 7 – الجامع الصحيح. 8 – الغرر وأثره لفضيلة الشيخ الصديق الضرير. 9 – المستصفى للإمام الغزالي. 10- محمد يوسف موسى المدخل. 11- أصول الفقه للبرديسي. 12- أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف. 13- إعلام الموقعين لابن القيم. 14- غمز عيون البصائر لشهاب الدين الحموي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 893 المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) ندوة عن: "خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية: الجوانب التطبيقية، والقضايا والمشكلات". بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب/ البنك الإسلامي للتنمية/ جدة. عمان 22 شوال – 25 شوال 1407 هـ 18/6 – 21/6/1987م بحث الدكتور عبد الستار أبو غدة عن أسلوب المرابحة والجوانب الشرعية التطبيقية في المصارف الإسلامية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فلا تخفى الحاجة الماسة إلى استمرار البحث المتأني المتعمق في أنشطة المصارف الإسلامية، سواء ما أصبح منها جادة مسلوكة يستبعد التنكب عنها، أو الطرق التي لم تبلغ هذه المنزلة لإعوازها إلى التمهيد أو التعبيد، وجميع هذه المناشط تعتبر ضرورية لتغلب المصارف الإسلامية على مصاعب النشأة، ووحشة الغربة، وبواعث المواكبة العصرية لتحقيق نفس الأغراض المبتغاة في الميدان الاقتصادي ولكن بوسائل شتى منها المتوافق مع المتبع من غيرها، ومنها المهذب أو المشذب، ومنها المستحدث بأصله من حيث هو، أو بوصفه والملابسات الإجرائية لتطبيقه. و (المرابحة) هي من هذا النوع الأخير، وقد أدى هذا الطابع القديم الحديث فيها إلى أن لا تقتحمها أبصار الباحثين إلا من خلال الاعتراض عليها أو المنافحة عنها، ولم يسلم هذا ولا تلك من الإفراط أو التفريط. وقد أردت أن أسلط بعض الضوء على (أسلوب المرابحة) من خلال النواحي التالية: - أسلوب المرابحة قديما وحديثا - التأصيل الجماعي لأسلوب المرابحة - الجوانب الفقهية المطبقة في المرابحة - جوانب تطبيقية أخرى للمرابحة - أساليب وصنع طرحت في شأن المرابحة ولا أدعي أن هذا كل ما يقال في هذا المقام فقد اقتصرت على ما رأيت أنه أهم مع بعض المهم، ثقة بما تكشف عنه اللقاءات الجماعية من تكامل، وعسى أن تتمخض البحوث المطروحة في الندوات المتخصصة لموضوع واحد، كهذه الندوة عن تأصيل لذلك الموضع الوحيد من استعراض ما له وما عليه وإحلاله موقعه الجدير به، بعيدا عن ضغط الحاجة، والاسترواح للسهولة أو الشهرة. والله ولي التوفيق. د. عبد الستار أبو غدة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 894 (أولا) أسلوب المرابحة قديما وحديثا (تمهيد وجيز في ماهية المرابحة) : المرابحة صيغة (مفاعلة) من الربح، وهي بيع بزيادة ربح على الثمن الأول، وصيغ المفاعلة للمشاركة وهي هنا اشتراك البائع والمشتري في قبول الإرباح بالقدر المحدد، والمرابحة: نوع من أنواع بيوع الأمانة التي يقوم فيها التبايع على أساس (رأس المال) ، وهو ثمن شراء السلعة أو (التكلفة) وهي ما قامت به السلعة على البائع. ففي بيع المرابحة يتم عقد البيع بإضافة نسبة مئوية معلومة أو مبلغ مقطوع على رأس المال أو التكلفة. أسلوب المرابحة قديما: وهذا البيع بهذه الصورة الساذجة لم يخل منه كتاب من كتب الفقه على شتى المذاهب، ولم ينازع أحد في مشروعيته؛ لأنه بهذه الكيفية الخاصة لتحديد الثمن لم يخرج عن مطلق البيع الذي جاء النص بإباحته في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ، بل جاء في السنة تطبيق للتولية (شقيقة المرابحة) حين اشترى أبو بكر رضي الله عنه الناقتين اللتين أعدهما للهجرة عليهما، وأراد أبو بكر رضي الله عنه إعطاء إحداهما للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الهبة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بل بالثمن، أي يأخذها تولية بمثل الثمن الذي اشتراها به أبو بكر رضي الله عنه. وللفقهاء تفصيلات في أحكام المرابحة وآثارها وما يترتب على ظهور الخلف (التغاير) بين ما أخبر به البائع وبين الثمن الحقيقي (الخيانة في الإخبار عن الثمن) من تصحيح للثمن المستحق على المشتري وثبوت خيار له بين المضي في العقد مصححًا أو الفسخ عند من يثبت له ذلك الخيار، ويسمى (خيار المرابحة) أو (خيار تخبير الثمن) (1) – مع الأخذ بالاعتبار أن هذه التسمية الثانية تشمل بالإضافة إلى المرابحة كلا من (التولية) و (الوضيعة) . ولسنا بمعرض البحث في هذه الأحكام المستقرة بل الغرض مناقشة الطرح الجديد للمرابحة والجوانب الفقهية العصرية لتطبيقها، ولذا آثرت استخدام عبارة (أسلوب المرابحة) .   (1) التسمية الثانية يستعملها الحنابلة و" تخبير " بالباء بعد الخاء بمعنى " الإخبار " وقد وقعت في كثير من كتبهم محرفة إلى " تخيير" بياءين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 895 أسلوب المرابحة حديثا: أما أسلوب المرابحة حديثا فالحق أن أول من طرحه للتطبيق على نطاق المعاملات المصرفية هو الدكتور سامي حسن حمود، وقد أنصف الحقيقة حين أشار إلى (سابقة) قديمة لهذا الأسلوب، هي ما أورده عن الإمام الشافعي في كتاب الأم و (بارقة) جديدة لسند هذا التطبيق، هي ذلك التكييف الشرعي الدقيق الذي أسعفه به العلامة الشيخ محمد فرج السنهوري (1) . أما السابقة فهي قول الشافعي في كتاب الأم: " وإذا أرى الرجلُ الرجلَ السلعةَ، فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، والذي قال: (أربحك فيها) بالخيار: إن شاء أحدث فيها بيعا وإن شاء تركه، وهكذا إن قال: " اشتر لي متاعا، ووصفه له، أو متاعا أي متاع شئت، وأنا أربحك فيه، فكل هذا سواء يجوز البيع الأول، ويكون فيما أعطى من نفسه بالخيار، وسواء في هذا ما وصفت إن كان قال: أبتاعه وأشتريه منك بنقد أو دَيْن، يجوز البيع الأول، ويكونان بالخيار في البيع الآخر. فإن جدداه جاز. وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما فهو مفسوخ من قبل شيئين: أحدهما أنه تبايعاه قبل أن يملكه البائع. والثاني أنه على مخاطرة إنك وإن اشتريته على كذا أربحك فيه على كذا " (2) . وأما التكييف الشرعي لهذا الأسلوب مقولا على لسان العلامة الشيخ محمد فرج السنهوري كما جاء في مقابلة أجراها معه الدكتور سامي حمود بتاريخ (9/8/1975) (3) : " هذه العملية مركبة من وعد بالشراء وبيع بالمرابحة. - وهي ليست من قبيل بيع الإنسان ما ليس عنده؛ لأن المصرف لا يعرض أن يبيع شيئا، ولكنه يتلقى أمرا بالشراء، وهو لا يبيع حتى يملك ما هو مطلوب، ويعرضه على المشتري الآمر ليرى ما إذا كان مطابقا لما وصف. - كما أن هذه العملية لا تنطوي على ربح ما لم يضمن؛ لأن المصرف وقد اشترى فأصبح مالكا يتحمل تبعة الهلاك ".   (1) ذكر ذلك في رسالته للدكتوراة " تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية (ص479) ط (1) (2) الأم للإمام الشافعي 3/29 ط. الكليات (3) تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية (رسالة دكتوراة) سامي حسن محمود (ص479) ط (1) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 896 واستكمالا لتأريخ هذا التطبيق فإن الكيفية التي طرح بها أول مرة لم تلبث أن اتسعت أفقيا وعموديا – إن صح التعبير – فقد ذكر الدكتور سامي هذا الأسلوب على أنه بديل يطرحه لمواجهة مسألة خصم الكمبيالات لدى البنوك الربوية ممن يشترون السلع، وليست لديهم الملاءة للدفع والعاجل ... وأنه: " للمساعدة على تمكين الشخص من الحصول على السلعة التي يحتاجها على أساس دفع القيمة بطريق القسط الشهري، أو غير ذلك من ترتيبات مشابهة، ولكن هذا الخط يبدأ من المستهلك وليس من التاجر ". وهذا الخط أصبح خطوطا حيث صار يصل بين التاجر المستورد وبين المصدر، ويصل بين صاحب المصنع وبين مصدري المصانع، ويصل بين مستغلي منافع البواخر والطائرات وبين صانعيها وهكذا. كما أن المرابحة اتسعت في الشمول بحيث زاحت (المضاربة) ، بل كادت تزيحها من التطبيق، مع أنها وهي الأسلوب الرائد في المصارف الإسلامية، وكانت مطروحة وحدها في الساحة حتى قرنت بها المرابحة.. وسنرى أن هذه المزاحمة أو الإزاحة لم تنج من المخاوف بل المآخذ أحيانا مما سيأتي بيانه في موقعه المناسب. مما جعل الحاجة داعية إلى تقديم ردائف للمرابحة من حيث هي، أو للعنصر الشائك منها وهو أن يسبقها وعد بالشراء باعتباره إجراء يتوقف عليه تطبيقها، وأصبح مثارا للجدل من حيث لزومه وعدم لزومه، وأثر ذلك على جوهرية شراء المصرف السلعة لنفسه وتحمله للضمان. وهو ما طرح في الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي (7 مارس 1987) من خلال خيار الشرط على ما سيأتي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 897 (ثانيا) التأصيل الجماعي لأسلوب المرابحة لم يلبث أسلوب المرابحة المقدم إلى المصارف الإسلامية أن أخذ طريقه إلى الإقرار الجماعي له من خلال قنوات شتى؛ (1) . (إحداها) : ظهوره بصورة أساسية في أنظمة المصارف الإسلامية الأولى ونشراتها، كبنك دبي الإسلامي، وبيت التمويل الكويتي، والبنك الإسلامي الأردني، وبنك فيصل الإسلامي المصري، وبنك فيصل الإسلامي السوداني ... إلخ. (الثانية) : إدراجه في الكتابات المهتمة بتنظير أنشطة المصارف الإسلامية، كالموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية في جزأين منها: الأول ص28، والخامس، الجزء الشرعي، المجلد الأول ص 329، وإن كان معظم ما جاء عنه فيهما يدور على ما كتبه الدكتور سامي حمود. (الثالثة) : صدور التوصيات من المؤتمرات بتنظيم وتعزيز أسلوب المرابحة، كان ذلك في مؤتمر الصرف الإسلامي الأول بدبي 1399 هـ = 1979م. ثم في مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني بالكويت. (الرابعة: تأكيد ذلك في ندوة البركة الأولى للمصارف الإسلامية بالمدينة المنورة. رمضان 1403هـ = يونيو 1983م. والتي عنيت بالرد على بعض الشبهات المثارة حول المرابحة. والجدير بالذكر أن هذين المؤتمرين لم يحسما أعسر الجوانب الفقهية في هذا الأسلوب وهي مسألة إلزامية الوعد، ولا تركاها غفلا، بل جاءا بمبدأ التخيير لكل مصرف في الأخذ بإحدى الوجهتين اللتين اختلف فيهما طويلا، وهما: الإلزام، وعدمه (2) .   (1) الأعمال المصرفية التي يزاولها البنك الإسلامي ص3، بيت التمويل الكويتي للأعمال المصرفية والاستثمار ص16 بيوع الأمانة في ميزان الشريعة (2) بعض المصارف يختار الإلزام، وبعضها يختار عدمه، وبعضها يختار في المرابحات الخارجية الإلزام، وفي المرابحات الداخلية عدم الإلزام وذلك هو المطبق في بيت التمويل الكويتي تبعًا لصعوبة تقدير جدية الوعد ومعرفة العملاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 898 وفيما يلي نص قرار المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي بدبي بشأن اعتبار (الوعد بالشراء مرابحة) بين صور التمويل: " يطلب العميل من المصرف شراء سلعة معينة يحدد جميع أوصافها ويحدد مع المصرف الثمن الذي سيشتريها به العميل بعد إضافة الربح الذي يتفق عليه بينهما. وهذا التعامل يتضمن وعدا من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها، ووعدا آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء طبقا لذات الشروط. ومثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقًا لأحكام المذهب المالكي، وملزم للطرفين ديانة طبقا لأحكام المذاهب الأخرى. وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل فيه. وتحتاج صيغ العقود في هذا التعامل إلى دقة شرعية فنية، وقد يحتاج الإلزام القانوني بها في بعض الدول الإسلامية إلى إصدار قانون بذلك. ويلحظ بوضوح أن الغرض الأساسي من القرار بيان مشروعية (إلزام الوعد) . أما المؤتمر الثاني بالكويت فقد جاء فيه عن المرابحة ما نصه. " يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد تملك السلعة المشتراة للآمر وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الوعد السابق هو أمر جائز شرعا طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسئولية قبل التسليم وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي. وأما بالنسبة للوعد وكونه ملزما للآمر أو المصرف أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعا، وكل مصرف مخير في الأخذ بما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه. وخلاصة هذا القرار: - ضرورة أن يسبق تملك المصرف السلعة لنفسه وحيازتها قبل بيع السلعة للواعد. - تحمل المصرف تبعة الهلاك قبل التسليم - تحمل المصرف تبعة الرد بالعيب الخفي - جواز إلزامية الوعد وعدمها - تخيير المصارف في الأخذ بالإلزام وعدمه من خلال قرار هيئة رقابة المصرف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 899 أما ندوة البركة الأولى فقد جاء في التوصية الثامنة منها ما يلي: " أورد بعض الناس شبهات على جواز بيع المرابحة بالأجل بأنه ينطوي على شبهة ربوية، كما أوردوا شبهات على جواز بيع المرابحة للآمر بالشراء. وهذه الشبهات هي: (أولا) أن هذا العقد يتضمن بيع ما ليس عند البائع (ثانيا) تأجيل البدلين (ثالثا) أنه بيع دراهم بدراهم والمبيع مرجأ، أو أنه نوع من التورق (رابعا) أن المالكية منعوا الإلزام بالوعد في البيع (خامسا) أن هذا العقد يتضمن تلفيقا غير جائز فما هو الجواب عن ذلك؟ الفتوى: بيع المرابحة المعروف في الفقه الإسلامي جائز باتفاق سواء كان بالنقد أو بالأجل، وأن هذه الشبهة الربوية المثارة على بيع المرابحة بالأجل ليست واردة لا في هذا البيع ولا في البيع المؤجل. وأما صورة المرابحة للآمر بالشراء فإن اللجنة تؤكد ما ورد في المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي المنعقد في الكويت مع ما تضمن من تحفظات بالنسبة للإلزام ". (ثالثا) الجوانب الفقهية المطبقة في المرابحة إن المرابحة من حيث هي غنية عن الاستدلال على مشروعيتها هنا، لما أشرت إليه من اشتمال كتب الفقه جميعها على باب للمرابحة تستوفي فيه أدلة مشروعيتها وأحكامها ومستند كل حكم، ولكن بالنظر إلى (أسلوب) المرابحة المتبعة في البنوك الإسلامية هناك بعض الجوانب الفقهية المرعية فيه حتى يمكن تطبيقها بصورة عملية مأمونة. وهذه الجوانب المستحدثة تزيد أو تنقص تبعا لمجالات التطبيق المختلفة، وما دمنا في معرض البحث والمناقشة فإن المناسب استيعاب جميع ما حفت به المرابحة من نقاط مع مستند كل منها بقطع النظر عن كونه مسلما أو محل اعتراض، مع إيراد النقاش المتعلق بكل منها. وفضلا عن ذلك سأشير في الأخير إلى جوانب فقهية وقع الربط بينها وبين أسلوب المرابحة مع أنها لا علاقة لها بهذا الأسلوب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 900 وفيما يلي الكلام عن تلك الجوانب، مع مناقشة ما أورد في ذلك من اعتراضات وشبهات: استعراض الجوانب الفقهية المعترض بها على أصل المرابحة: لعل ما أورده كل من الدكتور يوسف القرضاوي من اعتراضات على أسلوب المرابحة بصدد الدفاع عنها (1) وما أورده الدكتور محمد سليمان الأشقر في كتابه الهادف إلى نقدها (2) . هو أجمع ما قيل في هذا المجال، حيث أورد الدكتور القرضاوي ستة أمور، اثنان منها لا داعي للتوقف عندهما لما فيهما من التكلف، ومجافاة المنطق الفقهي: (أولهما) إن هذه المعاملة ليست بيعا ولا شراء وإنما هي حيلة لآخذ الربا، (وثانيهما) أن أحدا من فقهاء الأمة لم يقل بحلها. وما جاء به المعترضون بهذين لا يزيد عن التهويل اللفظي، وقد نهض الدكتور القرضاوي بكشفه بما لا مزيد عليه. ثم أورد الدكتور القرضاوي – على لسان المعترضين – أربعة أمور أخرى؛ اثنان منها تكفي لمحة يسيرة في الكلام عنها، في حين يقتضي الأمران الآخران شيئا من التفصيل (الآتي فيما بعد) لما لهما من جذور في المراجع الفقهية، كما تكررت بعض هذه الاعتراضات في دراسة الدكتور محمد الأشقر مع زيادات سيأتي الكلام عنها بمناسبتها. * القول بأن أسلوب المرابحة من بيعتين في بيعة: وذلك لما فيها من البيع للواعد بالأجل وهو بسعر مغاير للسعر الحال ... والحقيقة أن هذا الاعتراض ليس موجها للمرابحة لذاتها، بل لما فيها من بيع الأجل؛ لأن تطبيق المرابحة لدى المصارف الإسلامية لا ينفك عن بيع الأجل.. وقد جاء تفسيران (للبيعتين في بيعة) : أحدهما أنها قول البائع: بعتك بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة، والتفسير الثاني أنها بيع العينة؛ لأن فيه بيعتين إحداهما بثمن آجل، والأخرى بثمن حال، لتحصل بذلك الحيلة على الربا. وسيأتي الكلام عن علاقة أسلوب المرابحة ببيع العينة، أما البيع بالأجل فقد اعتبر التشكيك فيه من سقط القول بعد أن أخذ به جماهير الفقهاء، وضبطوا صحته بأن ينفصل المتعاقدان (بعد المساومة في الثمن المتعدد) على ثمن واحد محدد، فلا تكون هناك إلا بيعة واحدة، وينتفي الغرر الذي يحصل لو كانت المساومة أساسًا دون إبرام وجه واحد مما دار فيها. والذي يقع في أسلوب المرابحة هو بيعة واحدة للاتفاق على ثمن واحد هو تحديد ثمن البيع الأجل مع تحديد الأجل، فلا جهالة ولا غرر.   (1) بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية، للدكتور يوسف القرضاوي 37 (2) بيع المرابحة كما تجريه البنوك الإسلامية، للدكتور محمد سليمان الأشقر 7 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 901 * القول بأن أسلوب المرابحة فيه بيع ما لا يملك: وهذا الاعتراض لا مساغ له أيضا في الأسلوب المطبق في المصارف الإسلامية، اللهم إلا ما قد يقع مخالفا لما هو مقرر من مؤتمراتها وندواتها أو هيئاتها ومستشاريها، فما وقع كذلك فهو أسلوب منحرف، وعليه تنصب معظم الاعتراضات (1) . وهذا المحذور من أول ما طرح بالنسبة لأسلوب المرابحة فقد احترزت منه البيانات التي رافقت نشأته. * القول بأن الوعد لازم: لا يخفى أن هناك صلة شديدة بين مسألة (بيع ما لا يملك) وبين الجانب الآخر المهم في أسلوب المرابحة وهو القول بلزوم الوعد، من حيث إن ما ينشأ عن هذا اللزوم يحول الوعد إلى شبه عقد فيقع المصرف في بيع ما لم يملكه بعد. وليست الإشارة إلى هذه العلاقة حديثة بل جاءت في أقوال المتقدمين على ما أورده الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير في إشارة له إلى المرابحة ضمن أشكال وأساليب الاستثمار في الفكر الإسلامي حيث قال: " وجدت في أقوال المتقدمين من الفقهاء صورة من التعامل شبيهة بما نتحدث عنه يؤيد حكمهم فيها ما ذهبت إليه، فقد روى مالك في الموطأ: أنه بلغه أن رجلا قال لرجل: ابتع لي هذا البعير بنقد حتى أبتاعه منك إلى أجل، فسأل عن ذلك عبدَ اللهِ بنَ عمرَ فكرهه ونهى عنه. وقد ذكر مالك هذه المسألة في باب " بيعتين في بيعة " فكأنه يرى أن ابنَ عمرَ يعتبرها داخلة فيما نهى عنه من بيعتين في بيعة. (2) قال الباجي: " ولا يمتنع أن يوصف بذلك من جهة أنه انعقد بينهما أن المبتاع للبعير بالنقد إنما يشتريه على أنه قد لزم مبتاعه بأجل بأكثر من ذلك الثمن فصار قد انعقد بينهما عقد بيع تضمن بيعتين، إحداهما الأولى وهي بالنقد، والثانية المؤجلة، وفيها مع ذلك بيع ما ليس عنده؛ لأن المبتاع بالنقد قد باع من المبتاع بالأجل البعير قبل أن يملكه، وفيها سلف بزيادة؛ لأنه يبتاع له البعير بعشرة على أن يبيعه منه بعشرين إلى أجل، يتضمن ذلك أنه سلفه عشرة في عشرين إلى أجل، وهذه كلها معان تمنع جواز البيع، والعينة فيها أظهر من سائرها ".   (1) ومن ذلك ما جاء في بحث الدكتور محمد سليمان الأشقر حيث أورد بضعة أمور - سبق بعضها - وهي لا تتحقق إلا في تطبيق خاص من تطبيقات المرابحة ليس هو المعمول به في المصارف الإسلامية، ولم يورد على الأسلوب المشهور إلا مسألة إلزامية الوعد. . مع أمور أخرى تتصل به وهي كل ما يقيد حرية الطرفين في إتمام البيع أو تركه، وعدم ترتب تعويض لما يقع على أحدهما من ضرر، وعدم البيع إلا بعد القبض (2) أشكال وأساليب الاستثمار في الفكر الإسلامي، بحث للدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، مجلة البنوك الإسلامية، العدد 19 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 902 ولابد من التعقيب بأن هذا المحذور يقع حقيقة إذا صدر الشراء من العميل والبيع إليه قبل تملك المصرف للسلعة، وهو ما صوره الدكتور محمد الأشقر بقوله: " إن العميل يقول في شأن السلعة: إذا اشتريتموها بمائة فقد أشتريتها منكم بمائة وعشرين نقدا أو مؤجلة "، ثم قال عن هذه الصورة: " فهو عقد بلا ريب ولو سمي وعدا فهو عقد أيضًا ... وهذا لا يسلم إلا بوجود الضميمة التي فيها فإذا اشتريتموها بمائة فقد أشتريتها منكم ... " وليس هذا هو الأسلوب المتبع في المصارف الإسلامية أصوليا، ولا عبرة بما شذ، كما هذه الصورة المنتقدة فيها شراء معلق والبيع والشراء لا يقبل التعليق ولا يقع، خلافا للبيع المضاف إلى زمن مستقبل حيث تلغى الإضافة ويقع البيع. المواقف تجاه لزوم الوعد: بما أن توصية المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي تركت الحرية لكل مصرف في الأخذ بلزوم الوعد أو عدمه فإن المصارف اختلفت مواقفها في هذا الشأن: - فبعضها كالبنك الإسلامي الأردني أخذ بإلزام الوعد مطلقا. - وبعضها كمصرف فيصل الإسلامي السوداني أخذ بالإلزام بالنسبة للمصرف دون العميل، وهو ما رأى الدكتور الضرير أنه أبعد عن الشبهة؛ لئلا تجعل المعاملة عقد بيع مرابحة قبل ملك البنك للسلعة إذا اعتبر ملزما للطرفين. . - وبعضها كبيت التمويل الكويتي أخذ بالإلزام في المرابحات الخارجية، حيث تكثر المخاطر لعدم معرفة حال الواعد، والأخذ بعدم الإلزام في المرابحات الداخلية. والحقيقة أن زوال الشبهة تماما هو في القول بعدم لزوم الوعد رغم ما يحف بذلك من المخاطر التي لا تخلو عنها طبيعة التجارة وأسلوب المرابحة أسلوب تجاري، وليس أسلوبا مصرفيا للتمويل دون مخاطر. وقد رأينا في كلام الشافعي اشتراط الخيار لكل من الطرفين، كما رأينا في كلام المالكية إدراج صور من المرابحة في العينة المكروهة، أو المحظورة حسب الصيغة المتبعة فيها لموضع اللزوم الذي جعل الشراء كما لو كان لصالح الواعد، ثم يتقاضى منه زيادة عن المدفوع وهي نظير الأجل. كما أن من صور هذه المواعدة بأنها عقد لم يحالفه الصواب؛ لأنه أعدم الفوارق بين العقد والوعد لمجرد توثيق الوعد ديانة أو قضاء في حين أن العقد يترتب عليه الحصول على ثمن المبيع، وبمجرد العقد. والوعد لا يزيد عن الحصول على تعويض للضرر إن وقع، وللقضاء فيه مدخل ومجال. . . وقد حان الآن الكلام عن قضية إدراج المرابحة في بيع العينة، وعن مسألة إلزام الوعد: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 903 إدراج المرابحة في بيوع العينة: للعينة صورة مشهورة وقع فيها خلاف بين الجمهور القائلين بحرمتها أو كراهتها تحريما وبين الشافعية القائلين بجواز العقد نظرا إلى اكتمال مقوماته وطرح ما التبس به من نية، وهذه الصورة هي أن يشتري شخص سلعة من مالكها بالأجل، ثم يبيعها إليه نقدا، وهناك صورة أخرى بكون الرغبة للحصول على المال لدى مالك السلعة نفسها حيث يبيع سلعته نقدا إلى شخص، ثم يشتريها منه بالأجل، وهاتان الصورتان لم تتبدل فيهما عين السلعة وعين العاقدين (البائع والمشتري) وهي تتخذ حيلة للاقتراض بفضل خال عن عوض وليس تمليك السلعة مرادا في الصورتين، بل المراد تحصيل السيولة لكن تحت اسم المبايعة. ولا يخفى أنه لا علاقة حقيقة بين أسلوب المرابحة وبين العينة في تحقيق ما يراد من العينة من السلف الذي يجر نفعا دون أن يكون لأحد العاقدين غرض في تملك أو تمليك السلعة؛ لأن هناك سلعة لم تكن لدى كلا المتعاملين بأسلوب المرابحة، بل كانت لدى طرف ثالث (المصدر) وتم تملكها لأحدهما (المصرف) ، ثم بيعها بالأجل للمتعامل الآخر (الواعد بالشراء) ولم يقم المصرف بشرائها ثانية من الوعد بالشراء كما هو الحال في العينة حيث يكون الغرض الحصول على (العين) أي النقد، وليس الحصول على السلعة: ومن هنا جاءت تسمية هذه المعاملة قال الفيومي في المصباح المنير: " قيل لهذا البيع عينة؛ لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عينا أي نقدا حاضرا، وذلك حرام إذا اشترط المشتري على البائع أن يشتريها منه بثمن معلوم، فإن لم يكن بينهما شرط فأجازها الشافعي لوقوع العقد سليما من المفسدات، ومنعها بعض المتقدمين وكان يقول: هي أخت للربا. والربط بين الاشتراط وبين الحرمة هو مذهب الشافعية خلافا للجمهور الذين لم يعلقوا الحرمة على هذا الاشتراط الملفوظ أو الملحوظ. فلو باعها المشتري من غير بائعها في المجلس فهي عينة أيضا لكنها جائزة بالاتفاق "، وهذا الصورة الأخيرة تسمى (التورق) " وهو الحصول على الورق، أي الفضة فهو بمعنى (العينة) التي هي الحصول على العين، أي النقد الحاضر من ذهب أو فضة. ويبدو للمتأمل في مذهب المالكية أنهم اتجهوا وجهة مغايرة كل المغايرة لما أخذ به الشافعية من ربط الحرمة باشتراط الصفقة الثانية التي تعود بها السلعة إلى مالكها الأول، فالمالكية منعوا كثيرا من صور البيع على سبيل الحرمة أو الكراهة أو التورع لوجود الغرض المشابه لبيع العينة على تقدير أنه من الممكن اتخاذ صور من البيع ذريعة للربا، وسموها عِينة، وما أجازوها منه غيروا آثاره ونتائجه لإجراء تغيير في تكوينها مع أنها لا يقع فيها عود السلعة إلى مالكها الأول، ولكن لمجرد قابلية المجال لسلوك سبل أخرى كالقرض، فإذا لم يتم القرض وتم ما يغني عنه مع ترتب زيادة على أحدهما فهي من الذريعة للربا، وهم قد توسعوا في الذرائع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 904 وفيما يلي إيجاز ما أورده ابن رشد (الجد) في " البيان والتحصيل " وهو أصل لِمَا جاء في كتب المالكية التالية له حول تقسيم العينة إلى جائزة وهي إذا لم يقع تواعد بل مجرد استفادة البائع من وجود الرغبة، ومكروهة وهي إذا حصل تواعد على أصل الشراء والإرباح دون تحديد مقدار الربح، ومحظورة قال عنها ما نصه " وهي أن يقول الرجل للرجل: اشتر سلعة كذا وكذا بكذا وكذا، وأنا أشتريها منك بكذا وكذا، وهذا الوجه فيه ست مسائل تفترق أحكامها بافتراق معانيها " ثم سردها معقبا عليها بأحكام شتى، كالجواز، أو الكراهة " لوجود المراوضة التي وقعت بينهما في السلعة قبل أن تصير في ملك المأمور "، وقال في إحداها: " ويستحب له أن يتورع فلا يأخذ منه إلا ما نقد فيها " ولولا خشية الإطالة لأوردت كلامه بكامله فيرجع إليه من شاء (1) . ومن هذا يتبين أن الممنوع هو ما كان فيه قرض بزيادة وظهر في صورة بيع. أما أسلوب المرابحة فهو بيع خالص ولو كان من الممكن أن يقرض البائع المشتري المبلغ الذي يتمكن به من الشراء لصالحه دون فرق الربح الذي حصل لموضوع التأجيل في الثمن، والأمر لا يعدو أن يكون من قبيل الورع والحذر من مشابهة من يتخذ صورة البيع حيلة للإقراض بالربا. . . هذا وقد أورد الدكتور رفيق المصري على (أسلوب المرابحة) بصدد رفضه له أنه لا يخرج عن أسلوب (حسم الأسناد التجارية) قائلا: " فليس الحسم إلا نتيجة عملية مشابهة حيث يقوم البائع بالبيع لأجل مع زيادة السعر، ثم يتقدم إلى المصرف للحسم، فيأخذ الثمن النقدي، على أن يسترد المصرف الثمن المؤجل في الاستحقاق. والفرق بين العمليتين هو أن المصرف يمنح المال للبائع في حال الحسم، ويمنحه للشاري في حال " بيع المرابحة ". وهذا وإن كان (أي المصرف) يطالب الشاري بسداد الثمن عند الاستحقاق قبل الرجوع على البائع (بافتراض أن السند لم يظهر) أي وكأن المصرف في حال الحسم يمنح المال للبائع عوضا أو نيابة عن الشاري، فماذا يبقى من الفرق بين الحسم وما دعاه الدكتور حمود بالمرابحة. هذا مع أن المرابحة فرأينا (أي رأي د. المصري) ليست كما صورها الدكتور حمود.. أن بيع المرابحة يتم ضمن علاقة ثنائية بين البائع والمشتري فيما يريد أن يجعله الدكتور حمود ذا علاقة ثلاثية بإضافة المصرف الممول وهو في هذه الحالة عبارة عن قرض بفائدة يقدمه المصرف إلى الشاري والفائدة ليست إلا فرق السعرين: المؤجل والمعجل فهو يشبه بهذا نظام بطاقة الائتمان المعروف في الغرب. . . وإن هذه الصورة من بيع المرابحة للأمر بالشراء إنما تطابق صورة من بيع العينة المحرم.   (1) البيان والتحصيل لابن رشد (الجد) 7/86 - 89 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 905 وقد استكملت كل كلام الدكتور رفيق؛ لأنه أقسى وأغرب ما أثير على أسلوب المرابحة. وقبل مناقشة بعض ما جاء في كلامه عنه تجدر الإشارة إلى أن هذه النقطة التي وقف عندها طويلًا (وهي المشابهة بينه وبين الحسم) ليست كل ما أبداه من اعتراضات على أسلوب المرابحة، ففي دراسة قدمها في ورقة عمل إلى المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي أضاف إلى هذا الجانب أمورًا أخرى هي أنه من (بيعتين في بيعة) و (بيع ما ليس عند البائع) و (فيها سلف وزيادة) أي قرض مع فضل خال عن عوض. وقد سبق الكلام عن هذه الاعتراضات، وهي قد جاءت أيضًا في بحث للدكتور الصديق محمد الأمين الضرير بصدد أسلوب المرابحة مع الإلزام بالوعد ونقلها على سبيل التشبيه واستند في ذلك إلى عبارة للباجي، وسبق تفصيل ذلك". (1) . أما الجواب عن الجديد منها وهي (تشبيه أسلوب المرابحة بالحسم) فهو لا يلحق بأسلوب المرابحة أي ضير؛ لأنه تشبيه في الأثر والنتيجة مع إغفال الفروق الجوهرية في السبب الشرعي المقتضي التحريم في الحسم، والحل في المرابحة، فكم من صيغتين تشابهتا في تحقيق الغرض مع اختلاف المنهج والحكم. ويلحظ أن الدكتور حسن الأمين – في بحثه عن أسلوب المرابحة (2) استرسل في تكييف هذا الاعتراض بما ربما لم يخطر على بال صاحبه وهو أن الحسم هو بيع بطريق الحوالة، وأن الحوالة مختلف فيها هل هي بيع أم وفاء ثم ضعف ذلك وأشار إلى أن عملية الحسم قرض وفيها مبادلة نقد بنقد زائد في مقابل الأجل على حين أن المرابحة تتضمن مبادلة سلعة بنقد، هذا ما ختم به الدكتور الأمين مناقشته لهذا الاعتراض وهو يغني عن كل ما سواه؛ لأن مرده إلى اختلاف السببين ما بين حلال وحرام. ويضاف إلى هذا أنه لا صحة لكون العلاقة ثلاثية في المرابحة فقد اشتبهت على قائل ذلك المراحل المتعددة لأسلوب المرابحة وفي كل منها علاقة ثنائية، والمرابحة نفسها علاقة ثنائية بين الواعد والبنك، ثم بين البنك والمصدر، ثم بين البنك والعميل. . ثم كيف يسلم للدكتور رفيق المصري قوله: إن " الفائدة ليست إلا فرق السعرين المؤجل والمعجل " مع أن هذا الفرق إذا وقع خلال البيع حلال وهو نفسه مصرح بذلك. (3)   (1) أشكال وأساليب الاستثمار في الفكر الإسلامي بحث للدكتور الصديق الضرير في مجلة البنوك الإسلامية العدد (19) (2) الاستثمار اللاربوي في نطاق عقد المرابحة (بحث منشور في مجلة المسلم المعاصر العدد (35) . (3) بحثه: النظام الإسلامي خصائصه ومشكلاته ص 18، ويبدو أن الولع بنقد المرابحة أدى به إلى هذا القول المختلف عما سبق له أن قرره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 906 رابعًا: جوانب تطبيقية شرعية للمرابحة: توجد هناك لدى بعض المصارف جوانب شرعية تطبقت في المرابحة حتى أصبحت من لوازمها حسب الأسلوب المتبع عمليًّا مع أن هذه الجوانب ليست لازمة لأصل الأسلوب، فمن ذلك: أ- أخذ العربون من الواعد: وموجز الكلام في الحكم الشرعي للعربون أن الإمام أحمد قال بجوازه مستدلًّا بفعل عمر رضي الله عنه، وأن للعربون صورتين: أن يكون جزءًا مقدمًا من الثمن في حال تمام البيع على كل حال، ثم إما أن يعاد لدافعه إن لم تتم الصفقة، أو أن لا يعاد بل يؤخذ في حال العدول من دافعه عن إتمام الصفقة. وما دام حكم العربون خلافيًّا وقد قام الدليل على جوازه ولم يصح الحديث في النهي عن بيع العربون، فوجوده في بيع المرابحة لا يختلف في الحكم عن وجوده في بيع المساومة، لكن بعض من تكلم في مسألة لزوم الوعد ربط بين العربون وبين هذا اللزوم الذي يفضل عدم وجوده، أبعادًا لصورة الوعد عن ملامح العقد المبرم، مع أن العربون ليس فيه مزيد إلزام في لزوم الوعد في ذاته بل هو في معنى التعويض عما لحق بالطرف الآخر من ضرر وليس حملًا على إبرام العقد، فإبرام العقد شيء، وبذلك المال تعويضًا عن ترك التعاقد شيء آخر. وقد اختلفت صور العربون بعد شمول حالته للطرفين للواعد الذي سيؤول إلى مشتر، أو البائع. كما ظهرت صورة يدفع فيها الواعد عربونًا ثم إذا أخل بالتعاقد لا يرد إليه إلا إذا هيأ بمعرفته مشتريًا آخر بحيث لا يقع الضرر. وقد يدفع الواعد قبل دخوله في المواعدة عربونًا للمصدر، ثم يأتي للمصرف الذي يبدي رغبته في شراء السلعة (التي هي موضوع المرابحة) فيفرج المصدر عن عربون الواعد، ثم يشتري المصرف السلعة ويبيعها مرابحة للعميل الواعد. ب- أخذ الضمان من الواعد: الأصل في الضمان (أي الكفالة) أن يؤخذ في الحق الذي وجب أو انعقد سبب وجوبه، وقد أجاز بعض الفقهاء ومنهم الحنفية والحنابلة أن يطلب الضمان لحق سيجب فيما بعد وسموا هذا (ضمان الدرك) ؛ لأنه لما سيدرك الشخص من حقوق عليه، كما سماه بعضٌ: (ضمان السوق) ؛ لأنه يحصل لتمكين غريب يريد العمل في السوق فيكفله تاجر معروف تجاه كل ما سيترتب بذمته وبذلك يعمل في السوق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 907 وبما أن المصرف الإسلامي يجري المرابحة عن طريق استيراد ما يحتاجه العميل، ومن خلال البيانات التي يقدمها العميل عن البضاعة وعن المصدر، وقد يكون في ذلك بعض التوريط للمصرف إذا تعامل مع مصدر لا يعلم جديته في التعامل وأمانته فيه، وقد يدفع له الثمن أو جزءًا منه – من خلال فتح الاعتماد - ثم لا يفي بما التزم تجاه المصرف، وحينئذ يحتاج الأمر إلى جهد كبير لاستخلاص المصرف حقه ومع هذا الجهد قد يرجع بخفي حنين، وهذا ما دعا بعض المصارف إلى أن تطلب من الواعد قيامه بكفالة المصدر – وهي معاملة مستقلة عن المرابحة وإن كانت قد أصبحت من إجراءات أسلوبها المتبع لدى بعض المصارف. على أن الالتزام الذي تغطيه هذه الكفالة ليس هو التزام البيع بالمرابحة؛ لأنه لم يحصل بعد، وإنما هو نتيجة التزام مستقل، وهو التزام تبعي للالتزام الأصيل بين المصرف وبين المصدر الذي منه يتم الحصول على السلعة موضوع المرابحة. ج- تخفيض الثمن بالسداد المبكر: لا يخفى أن أسلوب المرابحة يشتمل على البيع بالأجل، والأجل في البيع له حصة من الثمن، لكنها مدمجة فيه وعليه لا يمكن شرعًا أن يزاد الثمن إذا زاد الأجل، كما لا يمكن أن ينقص إذا نقص الأجل. وهاتان الحالتان من صور الربا في الجاهلية ويطلق على الأولى (زِدْنِي أُنْظِرْك) وعلى الثانية (ضع وتعجل) .. وبما أن أسلوب المرابحة، بل بيع الأجل نفسه يتم في ساحة ترتبط فيها الأسعار بالفائدة وحساباتها الزمنية فإن من يشتري بالأجل لمدة ما، ثم يقوم بالسداد قبل مضيها يشعر أنه قد غبن؛ لأنه اشترى حالًّا بسعر الآجل، مما أدى بالمصرف المركزي بباكستان إلى إصدار تعليماته للمصارف بشأن التزام تخفيض الثمن في حالة السداد المبكر. (1) ولا يخفى ما في ذلك من خلل شرعًا، بالرغم من وقوع الخلاف في قاعدة " ضع وتعجل " فإن ما استقر عليه الفقه منع الحط من الثمن المؤجل إذا تم تعجيله ما دام ذلك الحط بشرط ملفوظ أو عُرْف ملحوظ. (خامسًا) أساليب وصيغ طرحت في شأن المرابحة لقد أتى على المصارف الإسلامية حين من الدهر لم تزل – إلى جانب خدماتها المصرفية - متشبثة في جوهر أعمالها الاستثمارية بالتجارة في ظل قوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . [البقرة: 275] فإن إقدامها على التجارة لا يحصل بالصورة التقليدية المتبعة في الأسواق والتي يصدق عليها قول القائل: (وفازَ باللذةِ الجسورُ) بل إنها – في ظروف استئمان أصحاب الأموال إياها ومناشدتهم لها بلسان الحال في مزيد الحرص على مصالح المودعين المستثمرين في سلامة رأس المال وريعه ما أمكن- لا تتردد في توفير أي ضمان أو أمان لا يخل بقاعدة الرحب الحلال المتمثلة في (الغرم بالغنم) و (الخراج بالضمان) ولا يوقع المتعامل في المحذور بظلم المراباة أو التجارة باختلال التراضي وحصول الخلابة.. والمصارف الإسلامية إن وجدت في (بيع المرابحة المسبوق بالمواعدة) واحة الأمان ليس لها أن تكتفي به؛ لما يعتري هذا الأسلوب من الاحتمالات الناشئة عن إلزامية الوعد وعدمها، ولكثرة الصور العملية التي تستدعي فيها الأسواق اتباع أسلوب المبادرة لتوفير ما يظن اتجاه الرغبات إليه، ولو كانت غير معينة ولا موثقة بالوعد المحترم.   (1) أشار إلى ذلك د. جمال الدين عطية في كتابه على البنوك الإسلامية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 908 أ- أسلوب (بيع المخابرة) وتطبيقه للمصارف الإسلامية المستند الشرعي: أسلوب شرعي يحقق – في الأصل- التروي وتدبر العواقب لصاحب الخيار سواء كان هو المشتري ليرى هل يصلح له المبيع أو لا، أو البائع ليرى هل يناسبه الثمن أو لا، لكن الغاية الخاصة هنا هي حفظ خط الرجعة فيما إذا لم يف الواعد بوعده في شراء السلعة، التي سيتملكها (المصرف الإسلامي) بناء على هذا الوعد، ولا ضير من تعدد الغايات والمصالح من تصرف ما، ولا أثر لذلك على مشروعيته. السابقة العلمية: إن الإمام محمد بن الحسن الشيباني هو أول من أرشد إلى هذه الوسيلة سائلًا سأله (حقيقة، أو تقديرًا على سبيل التعليم) وقد سماها ذلك السائل (حيلة) بمعنى المخرج الشرعي أو الحل الموافق لحالة السائل. وفي ذلك أورد محمد بن الحسن في كتاب "المخارج" ص 37 على لسان من سأله قوله: - أرأيت رجلًا أمر رجلًا أن يشتري دارًا بألف درهم، وأخبره أنه إن فعل اشتراها الآمر بألف درهم ومائة درهم، فأراد المأمور شراء الدار، ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يأخذها، فتبقى الدار في يد المأمور، كيف الحيلة في ذلك؟ - قال: يشتري المأمور الدار، على أنه بالخيار فيها ثلاثة أيام، ويقبضها، ويجيء الآمر إلى المأمور فيقول له: قد أخذت منك هذه الدار بألف درهم ومائة درهم، فيقول المأمور: هي لك بذلك. فيكون ذلك للآمر لازمًا، ويكون استيجابًا من المأمور للمشتري. الخطوات العملية: 1- يتلقى المصرف الإسلامي رغبة من عميله مع وعد بالشراء وهو إن كان لا يبالي – في الواقع- بمصير هذا الوعد، فإن من الضروري الإبقاء على جدية الوعد تفاديًا للدخول في المصفقة وإلغائها مما إذا تكرر يخل بسمعة المصرف كمستورد. 2- يشتري المصرف السلعة الموعود بشرائها مع اشتراطه الخيار (حق الفسخ) خلال مدة معلومة يظن كفايتها للتوثق من تصميم الواعد على الشراء وصدور إرادته بذلك. 3- يطالب العميل الواعد بتنفيذ وعده بالشراء فإذا اشترى السلعة باعه المصرف إياها وبمجرد موافقته على البيع يسقط الخيار الذي له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 909 مزايا هذا الأسلوب: ليس الاستباق والتروي هو الأهم في مزايا أسلوب (بيع المخايرة) فإنه يتيح للمصرف الإسلامي الدخول في مبادرات لشراء ما يتوقع اتجاه الرغبات إليه، كما أنه يجعل المصرف الإسلامي جهة أصيلة في السوق حيث يتلقى رغبات البيع من المصدرين كما يتلقى رغبات الشراء من العملاء. وهذا الأسلوب كان أول ما طرحته جوابًا عن مسألة أثيرت في إحدى جلسات هيئة الفتوى والرقابة الشرعية لبيت التمويل وقد شد انتباه رئيس مجلس إدارته بصفته رئيسًا لتلك الجلسات وعنصرًا مصرفيًا ضروريًا لاكتمال مداولاتها وحسن أداء مهامها فاقترح أن يكون أحد موضوعات الندوة الفقهية الأولى التي أقامها بيت التمويل الكويتي، وذلك لكي يمر بقنوات جماعية بحيث تستطلع الآراء الشرعية والفنية في تطبيقه وأدائه الدور المطلوب. وقد اشتملت الندوة على أربعة أبحاث في هذا الموضوع شاركت بأحدها وهو منشور ضمن أعمال الندوة المذكورة. ولعل من لطيف التوافق أن هذا الأسلوب الذي يمكن اختصار تسميته بكلمتي (بيع المخايرة) سبق إلى تقريره وسيلة للأمان في الاستثمار الأمام محمد بن الحسن الشيباني، كما أن (بيع المرابحة للواعد بالشراء) – وموقعه معروف في أمان الاستثمار- قد سبق إلى الإبانة عنه الإمام الشافعي، مع أن الموضعين يمثل كل منهما بابًا أصيلًا بين أبواب فقه المعاملات. وهذا يزيد من الدلائل على ما في هذا التراث الفقهي من ثروة تشريعية لا تفتقر إلا للترتيب والمواكبة العصرية في صور التطبيق ومجالاته. وفيما يلي بعض ما انتهت إليه الندوة في هذا الأسلوب تأكيدًا لموقعه رديفًا للمرابحة أو بديلًا لها حسب الرغبة: الفتاوى والتوصيات الفقهية: بشأن خيار الشرط وتطبيقه في معاملات المصارف الإسلامية (1) أحكام مختارة في خيار الشرط: أ- خيار الشرط حق يثبت باشتراط المتعاقدين لهما أو لأحدهما أو لغيرهما، يخول من يشترط له إمضاء العقد أو فسخه خلال مدة معلومة. ب- اشتراط الخيار كما يكون عند التعاقد يكون بعده باتفاق العاقدين. جـ- يتم اشتراط الخيار بكل ما يدل عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 910 د- يمكن اشتراط الخيار في جميع العقود اللازمة القابلة للفسخ مما لا يشترط القبض لصحته، فيمكن اشتراطه في البيع والإجارة مثلًا، ولا يسوغ اشتراطه في الصرف والسلم وبيع المال الربوي بجنسه. هـ- لا يجب تسليم البدلين (المبيع أو الثمن) في عقد البيع بشرط الخيار، ولكن يجوز قيام أحد العاقدين أو كليهما بالتسليم طواعية لا سيما بهدف التجربة والاختبار. و ينتقل ملك المبيع إلى المشتري (المصرف الإسلامي مثلًا) بموجب العقد إذا كان الخيار له وحده. ز- نماء المبيع في مدة الخيار يتوقف فيه إلى إمضاء البيع أو فسخه، فإن أمضى كان النماء للمشتري (المصرف) وإن فسخ كان للبائع. حـ- إذا كان الخيار للمشتري وحده (المصرف) فإن تصرفاته، من بيع وإجارة ونحو ذلك، تصرفات صحيحة ناقلة للملك مسقطة للخيار ولو لم يسق ذلك التصرف قبض المصرف الإسلامي للسلعة ما لم تكن قوتًا. ط- يسقط الخيار ويصبح العقد باتًا بمجرد انقضاء مدة الخيار إذا لم يصدر من المشتري (المصرف) فسخ العقد أو التصرف في السلعة. ى- لا يشترط قيام المشتري (المصرف) بإعلام البائع بإبرامه للعقد أو فسخ له، لأن البائع بموافقته على جعل الخيار للمشتري خوله صلاحية اختيار الإمضاء أو الفسخ خلال المدة المعينة. ك- يضمن المشتري (المصرف) المبيع إذا قبضه وتلف مدة الخيار. (2) تقديم صورتين لخيار الشرط للممارسة: يمكن تطبيق إحدى الصورتين التاليتين: الأولى: بناء على رغبة ووعد بالشراء: أ- يتلقى المصرف الإسلامي رغبة من عميله مع وعد بالشراء، وهو وإن كان لا يبالي –في الواقع- بمصير هذا الوعد، فإن من الضروري الإبقاء على جدية الوعد، تفاديًا للدخول في الصفقة بدءًا ثم إلغائها انتهاءً، مما إذا تكرر يخل بسمعة المصرف كمستورد. ب- يشتري المصرف السلعة الموعود بشرائها مع اشتراط الخيار له (حق الفسخ) خلال مدة معلومة تكفي عادة للتوثق من تصميم الواعد على الشراء وصدور إرادته بذلك. جـ- يطالب المصرف الواعد بتنفيذ وعده بالشراء فإذا اشترى السلعة باعه المصرف إياها، وبمجرد موافقته على البيع يسقط الخيار. الثانية: المبادرة لتوفير سلع مرغوبة في السوق: أ- يشتري المصرف الإسلامي سلعة من الأسواق المحلية أو العالمية مع اشتراطه الخيار (حق الفسخ) خلال مدة معلومة تكفي عادة للتوثق من وجود راغبين يبرم معهم عقودًا على تلك الصفقة. ب- يحق للمشتري (المصرف) أن يبرم عقودًا على تلك الصفقة مع الراغبين في شرائها وبمجرد إتمام العقد ينتهي الخيار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 911 من المراجع المستخدمة في البحث أ- من كتب الفقه: - الأم للإمام الشافعي - المغني لابن قدامة - المبسوط للسرخسي - مواهب الجليل للحطاب - البيان والتحصيل، لابن رشد الجد - بداية المجتهد لابن رشد الحفيد - المخارج في الحيل، لمحمد بن الحسن الشيباني ب- من كتب أنشطة المصارف الإسلامية: - تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، د. سامي حسن حمود - الأعمال المصرفية التي يزاولها بنك دبي. - أعمال مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني، بيت التمويل الكويتي. - البنوك الإسلامية، للدكتور جمال الدين عطية - قرارات مؤتمر المصرف الإسلامي الأول، بنك دبي - قرارات ندوة البركة الأولى - فتاوى وتوصيات الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 912 المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) ندوة عن: "خطة (استراتيجية) الاستثمار فلي البنوك الإسلامية: الجوانب التطبيقية، والقضايا والمشكلات: بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب / البنك الإسلامي للتنمية / جدة. عمان 22 شوال – 25 شوال 1407هـ 18/6 – 21/6/1987م الجزء: 5 ¦ الصفحة: 913 بحث الدكتور حاتم القرنشاوي عن الجوانب الاجتماعية والاقتصادية لتطبيق عقد المرابحة مقدمة: عقود المرابحة هي إحدى صيغ التوظيف التي تستأثر بجانب رئيسي من التمويل الذي تقدمه البنوك الإسلامية في الوقت الحالي حيث تتراوح نسبة التوظيف قصير الأجل في تلك البنوك –وعماده المرابحات - بين 40 % - 60 % من إجمالي التوظيفات في المتوسط. ومضمون بيع المرابحة أن يقوم البنك بشراء سلعة ما بناء على طلب عميل ويعرضها للبيع بالثمن الذي اشتريت به مع زيادة ربح معلوم للبائع والمشتري فيدفع المشتري الثمن مضافًا إليها لربح الذي يتفقان عليه. وفي التطبيق العملي فإن العميل يتقدم للبنك طالبًا شراء سلعة معينة تحدد مواصفاتها بدقة وقد يحدد مصدرها ويعد بشرائها بتكلفتها زائد ربح يتفق عليه. وقد يطلب البنك دفع جانب من الثمن (عربون) مقدمًا عند طلب الشراء ويقوم البنك بعد ذلك بالحصول على السلعة إن لم تكن متاحة لديه ويعرضها للعميل الذي يشتريها بحسب ما اتفق عليه أو قد يرفضها. وقد يتفق على أن يتم دفع كامل ثمن السلعة أو المتبقي منه مضافًا إليه ما اتفق عليه من ربح عند توقيع عقد البيع واستلام السلعة وقد تكون مرابحة لأجل- وهي الصورة الأعم في بعض البنوك- بحيث يتم دفع باقي القيمة على أقساط يتفق على مواعيد استحقاقها. وقد ثارت حول عقد المرابحة –وما زالت- العديد من التساؤلات الفقهية والاقتصادية والتطبيقية. فمن الناحية الفقهية أثيرت التساؤلات حول شرعية العقد ذاته ومدى شرعية إلزام المشتري بوعده بالشراء ومن ثم جواز إلزامه بالتعويض في حالة تحمل البنك لأية خسائر قد تنتج عن عدم التزام المشتري بوعده وكذلك أثيرت التساؤلات حول جواز الربط بين بيع المرابحة والبيع لأجل وجواز قبض العربون ومدى حق المشتري فيه إن عدل عن وعده بالشراء. وكذلك فيما يجوز حسابه ضمن الثمن الذي يحتسب الربح على أساسه وهل يحتسب الربح كنسبة أو كقيمة. وهي كلها تساؤلات لها انعكاساتها التطبيقية فضلًا عن جانبها الفقهي. ومن الناحية الاقتصادية فقد أثار توسع البنوك الإسلامية في عمليات المرابحة تساؤلات حول مدى جدية هذه البنوك في تدعيم جهود التنمية الاقتصادية في البلاد الإسلامية والتي تتطلب توجيه جانب متزايد من مواردها لعمليات الاستثمار الإنتاجي وهو طويل الأجل بالضرورة. وعن تأثير ذلك من الناحية الاجتماعية على ترسيخ قيمة الربح السريع وتجنب المخاطرة وهو ما قد يتعارض مع قيم إسلامية أخرى. وبطبيعة الحال لن تعرض هذه الورقة - ولا تستطيع - لكل هذه التساؤلات التي ما زال بعضها موضع أخذ ورد والتي سيتم مناقشة جانب رئيسي منها في أوراق بحثية أخرى مقدمة لهذه الندوة وإنما ستحاول أن تفتح الباب لحوار مثمر – إن شاء الله- حول بعض الآثار الاقتصادية والاجتماعية لتطبيق عقد المرابحة والإطار المحاسبي لتلك العقود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 914 أولًا: الآثار الاقتصادية لتطبيق عقد المرابحة: لا خلاف على أن لصيغة المرابحة جوانب إيجابية عديدة لعل أهمها يتمثل في توفير بديل "شرعي" لعمليات التمويل الربوي قصير الأجل الذي تقدمه البنوك التقليدية وكذلك في تأمين انسياب السلع المطلوبة للمجتمع بتكلفة نهائية يمكن أن تكون أقل مما هي عليه في حالة التمويل بالفائدة. وكلا الهدفين لازم لحركة النشاط الاقتصادي ولخدمة جماهير المستهلكين. ولكن الذي يمكن أن يثور حوله الخلاف هو الشروط والضوابط التي يمكن من خلالها تجنب المزالق التي نشأت في بعض الأحيان ليس من المرابحة كصيغة شرعية للتعامل –في حدودها المتفق عليها- وإنما في طريقة تطبيقها ومداه. وبصورة أكثر تحديدًا فإننا يمكن أن نبرز ما يلي: 1- نظرًا لأن صيغة المرابحة قد قدمت للبنوك الإسلامية صورة للتوظيف أقرب ما تكون شكلًا لصيغة الائتمان القصير التقليدية من حيث انخفاض درجة المخاطرة نتيجة توافر درجة عالية من الضمانات – وخاصة في حالة الأخذ لإلزام طالب الشراء بوعده وأخذ العربون وعد رده كليًا أو جزئيًا مقابل الضرر الذي قد ينشأ- وكذلك سرعة دوران رأس المال أدى ذلك كله إلى إقبال تلك البنوك على توجيه كم متزايد من أموالها لتلك الصيغة. 2- ساهم عدم توافر الكفايات المهنية اللازمة لدراسة مجالات المشاركة الدائمة أو المتناقصة، واتخاذ القرار بشأنها وعدم الرغبة –أو المقدرة- على تحمل مسئولية ذلك القرار ساهم ذلك كله في تدعيم الاتجاه نحو توظيف كم متزايد من الأموال في عمليات المرابحة وكان ذلك بالضرورة على حساب التوظيف طويل الأجل ومتوسط الأجل. 3- أدت رغبة البنوك الإسلامية –أو بعضها- في الدخول في منافسة غير مطلوبة ولا مرغوبة مع البنوك التقليدية في مجال العائد الذي يحصل عليه العميل ومدى دورية ذلك العائد ليس فقط إلى توجيه الأموال للمرابحات وإنما لتوجيه جانب ليس بالبسيط منها إلى تمويل عمليات شراء السلع نصف الكمالية والكمالية حيث يكون هامش الربح الممكن الحصول عليه أعلى ودرجة المخاطرة أقل كما في حالة السيارات التي تظل قانونًا مملوكة للبنك حتى تمام السداد. وقد كان ذلك بطبيعة الحال على حساب ما يمكن توجيهه للسلع الضرورية ذات هامش الربح المنخفض فضلًا عن تفضيل المرابحات ذات المدى الزمني القصير ما أمكن أو فرض معدلات ربح عالية مقابل الأجل وهو ما أثار بالضرورة تساؤلات لا ترتبط فقط بالشرعية بل بطبيعة البنوك الإسلامية ذاتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 915 4- ارتبط التطبيق أيضًا في نماذج عديدة منه بتفضيل ضمني لتمويل عمليات شراء السلع المستوردة لأسباب عديدة منها نمطيتها وسهولة تحديد مواصفاتها وانخفاض درجة المخاطرة فيها نسبيًا ولازدياد درجة تحكم البنك في تدفقها وسهولة تصريفها بالمقارنة بالسلع المحلية في بعض البلاد. ومؤدى ذلك كله أن تضاءل نشاط البنوك الإسلامية –أو انعدم- في مجال تمويل المضاربات وكذلك تمويل المشاركات الدائمة أو المتناقصة وتحول هيكل الموارد تدريجيًا إلى موارد قصيرة الأجل في المقام الأول وتعرضت عديد من البنوك الإسلامية في البلاد التي تعاني من مشاكل في موازينها التجارية –إلى عديد من المخاطر غير المحسوبة والتي نشأت من وضع قيود على عمليات الاستيراد أو من تقلبات في أسعار العملات أدت لعجز المدينين عن السداد أو نتيجة لتزايد الديون المعدومة التي ترتبت على اندفاع بعض البنوك في القيام بعمليات المرابحة دون دراسة دقيقة مسبقة –وتحت افتراض أن هناك من الضمانات ما يكفي- مما أدى لاستغلال ثغرات العمل أو العقود. والأهم من ذلك كله هو تدني الأثر الكلي لنشاط البنوك الإسلامية على الاقتصاد القومي حيث انصرف ذلك النشاط إلى تمويل التجارة- وهي نشاط مشروع ومطلوب- ولكن على حساب الأنشطة الأخرى ولم يكن ذلك مطلوبًا خاصة في المجتمعات التي تعاني في المقام الأول من قصور هياكلها الإنتاجية ومن حاجتها الملحة إلى إيجاد فرص عمل منتجة لمواطنيها. ولا شك أن مثل ذلك الأثر السلبي لسيطرة توظيفات المرابحة سيتفاوت حسب طبيعة المجتمع وتكوينه والأهمية النسبية لقطاعاته الاقتصادية ومدى التوازن بينها وفرص الاستثمار المتاحة فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 916 ثانيًا: بعض الجوانب الاجتماعية وأخلاقيات العمل المرتبطة بتطبيق عقود المرابحة: يرتبط تطبيق عقد المرابحة بمجموعة من المتطلبات السلوكية والأخلاقية التي تعكس الاشتراطات الإسلامية في مشروعية وطيب عائد النشاط الاقتصادي، فالتطبيق المقبول شرعًا لعقد المرابحة يتطلب فضلًا عن سلامة العقد: 1- الأمانة وعدم الخيانة أو التحايل حيث إن مدار تحديد الربح وما يلحق به ومن ثم كان هذا الأمر مدار بحث وتدقيق من الفقهاء فيما يترتب على عدم الأمانة في تحديد الثمن أو في مكوناته أو في التحايل على ذلك ببيع السلعة صوريًا ثم شرائها وغير ذلك. 2- جدية البائع والمشتري وترسيخ سلوك الوفاء بالعهد والالتزام بالوعد خلقًا وليس بالضرورة قضاءً. 3- ضرورة إظهار عيوب المبيع أو ما يكره فيه إن علمها البائع قبل التسليم وإن خفيت على المشتري وهو ما قد يندرج تحت باب أمانة التعامل. 4- الالتزام الديني حيث قد يداخل تحديد الربح أو مقابل الأجل في حالة المرابحة لأجل شبهة استخدام الفائدة الدائنة في البنوك التجارية أو التسهيلات البنكية الأخرى في احتساب " الربح " وهو ما ينقل العملية من دائرة الحل إلى الشبهة المحرمة إن لم يكن إلى الحرمة ذاتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 917 ومن ناحية أخرى فإن التطبيق المصرفي السليم لعمليات المرابحة يتطلب خلافًا لما قد يسود لدى بعض العاملين بالبنوك الإسلامية- درجة عالية من المعرفة لظروف السوق وتطور الطلب على السلع المختلفة فيه وجهازًا فنيًا قادرًا على تحليل المناخ العام للسوق واتجاهات السياسة الاقتصادية في الأجل القصير والطويل وشبكة مصادر المعلومات لتأمين ما يكفي من بيانات عن المصادر البديلة للسلع ومواصفاتها وأسعارها فضلًا عن الاستعلامات المطلوبة عن العملاء طالبي التمويل. وتوافر ذلك يعني إمكانية قيام البنك بدوره المفترض كتاجر –وليس كممول فحسب- يحصل على السلعة من أفضل مصادرها بأقل تكلفة ممكنة وأفضل شروط متاحة مما يعني توفيرها للعميل بكل هذه المزايا فضلًا عن تأمين ربحه وتقليل المخاطر غير المحسوبة التي قد تنشأ من قصور المعلومات عن العميل أو عن ظروف السوق المحلي وهو ما يخل بدور البنك "كمضارب" في أموال المودعين. ولا شك أن توافر الأفراد القادرين على القيام بهذه المهام إنما يندرج كذلك في باب أمانة التعامل حيث إن العميل هنا –خاصة في حالة إلزامه بوعده بالشراء- إنما يقبل الثمن الذي يحدده البنك بناء على كل ما تكلفه بالفعل فإن لم يكن قد تحرى كل السبل التي تكفل له الحصول على أفضل الأثمان وأحسن الشروط اعتمادًا على التزام العميل فقد شاب تعامله في رأينا- الكثير. وبعيدًا عن تلك المتطلبات الأساسية التي أشرنا لبعضها فإن الصورة التي تم بها تطبيق صيغة المرابحة في الواقع العملي قد أسفر عن بعض الآثار السلوكية السلبية التي انعكست على مودعي البنوك الإسلامية ومتخذي القرار فيها في الوقت ذاته. ولعل من أهم تلك الآثار السلبية هو ترسيخ سلوك انتظار الربح السريع لدى المودعين من ناحية وسلوك تجنب المخاطر – أو ما يتصور أنه تجنب مخاطر- مع الرغبة في زيادة هامش الربح ما أمكن لدى متخذي القرار في البنوك الإسلامية وهو ما أدى بالتالي إلى سيادة معيار للتقييم يرتكز أساسًا على معدلات الربح المحققة بمعرفة البنك دون ما نظر إلى غيرها من المعايير الأخرى مثل الإسهام في تحقيق "مجتمع المتقين" الذي يسعى إليه العمل الإسلامي أو توفير فرص العمل للمحتاجين أو غيرها مما ينبغي أن تكون مكونات أساسية في دالة ربح البنك والمودع على حد سواء. وقد أدى تفشي هذا السلوك – الذي انعكس في توجيه جانب متزايد من الموارد المتاحة لعمليات المرابحة قصيرة الأجل- إلى عدم توجيه الجهد الكافي لتكوين الكادرات الفنية القادرة على العمل في مجال التوظيفات متوسطة الأجل وطويلة الأجل وهي عصب جهاز الاستثمار الذي يتصف بضعفه الشديد في معظم البنوك الإسلامية ومن ثم بدا الأمر وكأنه يدور في دائرة مغلقة فتوجه الموارد إلى التوظيف نتيجة للرغبة في الربح العالي ذو درجة المخاطرة القليلة- مما انعكس على عدم الاهتمام بجهاز الاستثمار وهو ما أدى بالتالي إلى صعوبة توجيه الموارد للتوظيف الطويل وإن وجدت النية ومن ثم توجيه مزيد من الموارد للتوظيف القصير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 918 ثالثًا: بعض الملاحظات حول الإطار المحاسبي لعقد المرابحة: تثير دراسة الإطار المحاسبي لعقد لمرابحة مجموعة من النقاط الأساسية يمكن تحديدها فيما يلي: 1- تحديد ثمن شراء السلعة وما يتم تحميله عليه. 2- تحديد هامش الربح الذي سيحصل عليه البنك. 3- حساب ثمن بيع السلعة للآمر بشرائها وهو محصلة إضافة 1، 2. 4- معالجة طرق سداد الثمن. 1- تحديد ثمن شراء السلعة وما يتم تحميله عليه: وهنا يتطلب الأمر وجود قيود محاسبية مستقلة لكل عملية مرابحة تتحدد فيها كافة المصاريف المباشرة المتعلقة بعملية شراء السلعة ونقلها إلى مقر البنك وكذا التحديد الواضح لنصيب العملية من المصروفات الإدارية إذا ما أمكن احتسابها بصورة دقيقة وإلا فإننا نميل إلى اعتبار تلك المصروفات من بين مبررات الربح الذي يحصل عليه البنك نظير قيامه بالعملية ومن ثم فإن إدخاله في الاعتبار عند تحديد الثمن الذي يضاف إليه هامش الربح قد يعني ازدواجية في الحساب. وجدير بالذكر أن الأمر قد يتطلب إعادة تقويم السلعة في تاريخ عقد البيع إذا ما كان البنك قد حصل عليها نفسه عن طريق مرابحة لأجل ومن ثم لا يجوز تحميل المشتري بالزيادة الناشئة عن الأجل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 919 2- تحديد هامش الربح الذي سيحصل عليه البنك: قد يكون من الأفضل في هذا الشأن خلافًا لما جرى عليه العمل في بعض المصارف أن يتم الإعلان عن هامش الربح الذي يرغب البنك في تقاضيه عن المجموعات السلعية المختلفة والذي يكون أساسًا للتعاقد في حالة الرضا –بين الطرفين وبطبيعة الحال فإن هذا الهامش ينبغي تعديله بصورة دورية في ضوء ما يطرأ من تغييرات في السوق أو في المناخ الاجتماعي أو الاقتصادي وليس على أساس التباين بين العملاء. ومن ناحية أخرى فإننا نميل إلى ما انتهى إليه بعض الباحثين من ضرورة الفصل بين هذا الهامش وبين ما يحصل عليه البنك من زيادة في الثمن مقابل الأجل وان يحدد لذلك هامش مستقل يسترشد في تكوينه بمتوسط العائد من توظيفات البنك ومن متوسط العائد في السلعة موضع التعاقد. وفي كل الأحوال ينبغي أن يضع البنك في اعتباره ذلك التوازن المطلوب –والمفتقد أحيانًا- بين الرغبة في تعظيم الربح وبين الوظيفة المجتمعية للبنك الإسلامي. 3- حساب ثمن بيع السلعة: وهو ما سيأتي كمحصلة لتحديد تكلفة الشراء وإضافة هامش الربح وهامش الآجل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 920 4- طرق سداد الثمن: ينبغي في هذه النقطة أخذ القيمة الحقيقية للعربون أو المقدم الذي دفعه العميل عند طلب الشراء بمعنى أنه من غير المقبول أن يحتسب البنك لنفسه زيادة في الربح مقابل الأجل ثم يعامل طالب الشراء بالقيمة الاسمية لما دفعه قبل التعاقد بشهور عند احتساب المتبقي من الثمن- وفي هذا قد يقترح إيداع المقدم أو العربون كوديعة استثمارية تحتسب أرباحها طول فترة ما قبل التعاقد على البيع ونضفي تلك الوديعة عند التعاقد وتستخدم في السداد الفوري أو كقسط أول في حالة المرابحة لأجل. ولا شك أنه في الحالة الأخيرة يظل العميل مدينًا بقيمة الأقساط ويحمل بها حسابه حتى تمام السداد. ويتعلق بهذه النقطة أمران: أولهما يرتبط بطبيعة التعامل مع العربون أو المقدم في حالة عدول العميل عن الشراء وهنا تختلف المعالجة طبقًا للتفسير الفقهي الذي يأخذ به البنك فإن كان يأخذ بصيغة الوعد الملزم فإنه يحتفظ بحساب العربون حتى يتم تصريف السلعة ويخصم منه ما قد يتحمله البنك من خسارة وأما إذا أخذ بثبوت الخيار للعميل وللبنك فإنه سيقوم في هذه الحالة برد العربون للعميل دون ما خصم. والأمر الثاني يتعلق بما أثير من ضرورة أخذ قيمة النقود لا عددها في الاعتبار عند تحديد الثمن وعند السداد وكذلك عند التأخر فيه والرأي أن مثل هذا الأمر فيه من التحفظات الشرعية ما يتطلب مزيد بحث ودراسة فضلًا عن أنه يدخل ضمن المخاطر التجارية التي ينبغي أخذها في الاعتبار عند تحديد الثمن في البيع الآجل عمومًا ومن ثم فقد يكون الأيسر والأحوط أن يلتزم الطرفان بما يتم الاتفاق عليه من ثمن وأقساط عند التعاقد وأن يوجه مزيد من البحث خاصة لرأي ابن عابدين وغيره من الفقهاء المحدثين في هذا الأمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 921 المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) ندوة عن: "خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية: الجوانب التطبيقية، والقضايا والمشكلات". بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب / البنك الإسلامي للتنمية / جدة. عمان 22 شوال – 25 شوال 1407 هـ 18/6 – 21/6/1987 م الجزء: 5 ¦ الصفحة: 922 بحث السيد موسى شحادة عن "تجربة البنك الإسلامي الأردني" بسم الله الرحمن الرحيم خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية الجوانب التطبيقية والقضايا والمشكلات تجربة البنك الإسلامي الأردني مقدمة: تهدف هذه الورقة إلى تقديم تجربة البنك الإسلامي الأردني في تطبيق عقد المرابحة من الناحية العملية والصعوبات التي تعترض هذا التطبيق مع الإشارة إلى خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنك. ولعل من المناسب قبل شرح هذه التجربة وتفصيلها ونطاق تطبيقها، الإشارة إلى بعض المعلومات والبيانات عن البنك وأهدافه وخطط الاستثمار فيه وذلك حسب متطلبات الورقة التي حددت إطار هذا البحث. تأسيس البنك: تأسس البنك بموجب قانون خاص مؤقت صدر في عام 1978 وتفضلت حكومة المملكة الأردنية الهاشمية بإصداره كقانون دائم عام 1985. ومن الجدير بالذكر أن قانون البنك ونظامه الأساسي قد دُرِسَا من قبل لجنة من العلماء وذلك قبل إقراره. وقد سجل البنك كشركة مساهمة برأسمال مقداره أربعة ملايين دينار أردني، وتم في عام 1986 رفع رأسماله إلى (6) ملايين دينار. أهداف البنك: حدد القانون وجوب التزام البنك باجتناب الربا –في الأخذ والإعطاء- وأكد أن هذا الالتزام مطلق في جميع الأحوال والأعمال، وأن أنظمة البنك ولوائحه وتعليماته الصادرة فيه -خلافًا لموجبات هذا الالتزام- تعتبر غير نافذة في حق البنك له أو عليه. كما حددت مواد قانونه إلى أن البنك يهدف إلى تغطية الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية في ميدان الخدمات المصرفية وأعمال التمويل والاستثمار المنظمة على غير أساس الربا، مع الإشارة بوجه خاص إلى الغايات التالية: أ- توسيع نطاق التعامل مع القطاع المصرفي عن طريق تقديم الخدمات المصرفية غير الربوية مع الاهتمام بإدخال الخدمات الهادفة إلى إحياء صور التكافل الاجتماعي المنظم على أساس المنفعة المشتركة. ب- تطوير وسائل اجتذاب الأموال والمدخرات وتوجيهها نحو المشاركة في الاستثمار بالأسلوب المصرفي غير الربوي. جـ- توفير التمويل اللازم لسد احتياجات القطاعات المختلفة، ولا سيما تلك القطاعات البعيدة عن إمكان الإفادة من التسهيلات المصرفية المرتبطة بالفائدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 923 اختصاصات البنك: ولتحقيق الأهداف المذكورة فقد سمح للبنك بممارسة العمل في المجالات التالية: 1- الأعمال المصرفية غير الربوية: يمارس البنك سواء لحسابه أو لحساب غيره في داخل المملكة وخارجه جميع أوجه النشاط المصرفي المعروفة أو المستحدثة مما يمكن البنك أن يقوم به في نطاق التزامه المقرر ويدخل في نطاق النشاط ما يلي: أ- قبول الودائع وفتح الحسابات الجارية وحسابات الإيداع المختلفة وتأدية الشيكات وتقاصها وتحصيل الأوراق التجارية، وتحويل الأموال، وفتح الاعتمادات المستندية وإصدار الكفالات وخطابات الضمان وبطاقات الائتمان وغير ذلك من الخدمات المصرفية. ب- التعامل بالعملات الأجنبية بيعًا وشراء على أساس السعر الحاضر. جـ- إدارة الممتلكات وغير ذلك من الموجودات القابلة للإدارة على أساس الوكالة بالأجر. د- القيام بدور الوصي المختار لإدارة التركات وتنفيذ الوصايا. هـ- القيام بالدراسات الخاصة لحساب عملائه وتقديم المعلومات والاستشارات المختلفة. 2- الخدمات الاجتماعية: القيام بدور الوكيل الأمين في مجال تنظيم الخدمات الاجتماعية الهادفة إلى توثيق أواصر الترابط بين مختلف الجماعات والأفراد؛ لتقديم القروض الحسنة للغايات الإنتاجية والاجتماعية، وإنشاء وإدارة الصناديق المخصصة لهذه الغايات، وكل ما يلزم من أعمال من أجل هذه الغايات المستهدفة. 3- أعمال التمويل والاستثمار: يقوم البنك بجميع أعمال التمويل والاستثمار على غير أساس الربا وذلك من خلال الوسائل التي تمكنه من تحقيق أهدافه ومنها: أ- تقديم التمويل اللازم –كليًّا أو جزئيًّا- في مختلف الأحوال والعمليات ويشمل أشكال التمويل بالمضاربة والمشاركة، وبيع المرابحة وغير ذلك من صور مماثلة. ب- توظيف الأموال التي يرغب أصحابها في استثمارها المشترك مع سائر الموارد المتاحة لدى البنك وفق نظام المضاربة المشتركة، وكذلك القيام بتوظيف الأموال حسب الاتفاق الخاص بذلك. جـ– استثمار الأموال في مختلف المشاريع. د- تأسيس الشركات في مختلف المجالات وتملك الأموال المنقولة وغير المنقولة واستثمارها واستئجارها وتطويرها في مجالات مختلفة: زراعية وصناعية وإسكان وغيرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 924 مباشرة البنك للعمل: باشر الفرع الأول للبنك أعماله في شهر أيلول (سبتمبر) عام 1979 في مدينة عمان، وتم وضع خطة للتفرع بهدف إيصال الخدمات إلى كافة المواطنين في أنحاء المملكة، وأصبح للبنك الآن اثنا عشر فرعًا تنتشر في مناطق الأردن الأكثر ازدحامًا بالسكان والأكثر نشاطًا من الناحية الاقتصادية. وقد استطاع البنك من خال فروعه، أن يستقطب خلال سبع سنوات من عمله ودائع بلغت حتى نهاية عام 1986 حوالي (128) مليون دينار أردني منها 100 مليون دينار في حسابات الاستثمار المشترك، كما بلغت استثماراته في مجالات الاستثمار المختلفة حتى نهاية الفترة المذكورة، حوالي (95) مليون دينار أردني، وبلغ عدد عملائه حوالي (80) ألف عميل. البيئة التي يعمل فيها البنك: يعمل في الأردن الآن (16) مصرفًا ومثلها كشركات مالية وعقارية تقبل الودائع. وبالرغم من أنه كان آخر مصرف باشر عمله في المملكة، إلا أنه أصبح يحتل، مع نهاية عام 1986، المرتبة الرابعة بين البنوك الأردنية من حيث مجموع الموجودات ومن حيث مجموع الودائع، ومن حيث مجموع الاستثمارات، وذلك بالرغم من قصر المدة التي أنشئ فيها ويبلغ رأس مال البنك واحتياطياته ومخصصاته في الوقت الحاضر حوالي 9.8 مليون دينار يضاف إلى ذلك 2.7 مليون دينار كمخصص لمخاطر الاستثمار. العلاقات مع البنوك المحلية والأجنبية: استطاع البنك خلال الفترة الماضية وضع أسس التعامل مع البنوك المحلية وفق قانونه وتطبيقاته الخالية من الربا. كما تم إقامة علاقات مع المصارف الخارجية وفق نفس الأسس. ومن الجدير بالذكر أن البنك يتبع سياسة إقامة شبكة المراسلين في الخارج مع البنوك الإسلامية أولًا، وإذا تعذر وجودها في بلد ما فإنه يتجه إلى البنوك الأخرى التي تفهمت تطبيقات البنك وأسس تعامله وقبلت التعامل معه وفق هذه الأسس. العلاقات مع البنك المركزي الأردني: يمارس البنك الأعمال المصرفية المختلفة حسب الأعراف والقواعد المتبعة لدى البنوك المرخصة في المملكة وذلك باستثناء ما يتعارض منها مع التزام البنك المقرر بالسير في تعامله على غير أساس الربا. كما يتقيد البنك –في مجال ممارسته لنشاطه المصرفي- بكل ما تتقيد به البنوك المرخصة من ضوابط بما في ذلك الاحتفاظ بالاحتياطي النقدي المقرر والمحافظة على نسب السيولة اللازمة لحفظ سلامة مركز البنك، وحقوق المودعين والمستثمرين والمساهمين، كما يتقيد البنك بالتعليمات الصادرة للبنوك فيما يتعلق بتنظيم الائتمان ونوعيته وتوجيهه في الإطار المطلوب للتنمية الوطنية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 925 ومن الجدير بالذكر أن البنك الإسلامي، وحسب تطبيقات البنك المركزي الأردني، لا يستطيع حتى الآن الاستفادة، كما تستفيد المصارف الأخرى، من التسهيلات التي يقدمها البنك المركزي كملجأ أخير لتلك البنوك عند الحاجة إلى السيولة السريعة، كما أنه لا يستفيد من تعليمات إعادة الخصم أو تشجيع التصدير وغيرها بسبب عدم وجود المنافذ في تلك التعليمات خارج إطار الفائدة. ويأمل البنك الإسلامي أن تتاح له فرصة المساواة مع البنوك الأخرى ليتمكن من زيادة توجيه استثماراته نحو متطلبات التنمية ولمدد أطول مما هو مطبق حاليًا لدى البنك الإسلامي، وتجنبًا لاستمرار تعطيل نسبة عالية من سيولته بسبب ذلك. القوانين والأنظمة التي تحكم علاقاته بالآخرين: باستثناء ما ورد في قانون البنك الإسلامي الخاص، فإن العديد من القوانين ما زالت تعيق حرية تطبيقات البنك وقد أشرت سابقًا إلى الامتياز الذي تمتاز به البنوك الأخرى في مجال استفادتها من تسهيلات البنك المركزي. كما أن بعض القوانين الأخرى تعيق تطبيقات البنك وتجعل تكلفة تعامل الناس معه مرتفعة كقانون رسوم تسجيل الأراضي وغيره من قوانين الرسوم، وسنتعرض إلى إيضاح هذه الناحية في تطبيقات عقود المرابحة وبيان أثرها على تعامل العملاء مع البنك الإسلامي. مصادر الأموال: تتكون موارد البنك من مصادر ذاتية، وتتمثل في رأسمال البنك واحتياطياته وتشكل هذه النسبة حاليًا 10 % من مصادر الأموال، وأما الجزء الأكبر فيتمثل في الموارد من الودائع الائتمانية وحسابات الاستثمار وتشكل هذه الموارد حاليًا 90 %، والحسابات في البنك الإسلامي الأردني ثلاثة أنواع رئيسية هي: أ- حسابات الائتمان: وهي عبارة عن الودائع (الجارية وتحت الطلب) التي يتسلمها البنك على أساس تفويضه باستعمالها وله غنمها وعليه غرمها، ولا تكون مقيدة بأي شرط عند السحب أو الإيداع. ب- حسابات الاستثمار المشترك: وهي الحسابات التي يتسلمها البنك من الراغبين في مشاركته فيما يقوم به من تمويل واستثمار على أساس المضاربة المشتركة مقابل حصول هذه الحسابات على نسبة من الربح المتحقق خلال السنة المالية ذات العلاقة وهذه الحسابات هي حسابات التوفير والإشعار والأجل. جـ- حسابات الاستثمار المخصص: وهي الودائع التي يتسلمها البنك من الراغبين في اسثتمارها في مشروع معين أو غرض محدد على أساس حصول البنك على حصة من الربح، ودون أن يتحمل الخسارة الناشئة بدون تعد أو تفريط. ويبين الجدول رقم (1) فيما يلي تطور موارد الودائع خلال الأعوام 1980 – 1986، كما يبين الجدول رقم (2) فيما يلي تصنيف ودائع لأجل وتحت إشعار في البنك حسب استحقاقها وتدفقها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 926 جدول رقم (1) تصنيف الودائع والحسابات (لأقرب ألف دينار) السنة جارية وتحت الطلب توفير إشعار لأجل المجموع 1980 4848 1097 4099 1598 11642 1981 12213 1864 8024 3233 25334 1982 16382 3268 11530 4654 35834 1983 20728 4902 13485 19451 58566 1984 22298 6826 15033 38712 82869 1985 23746 8060 15875 55183 102864 1986 26641 10287 16334 74352 127614 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 927 جدول رقم (2) تصنيف الحسابات الاستثمارية تحت إشعار ولأجل حسب استحقاقها في نهاية الأعوام التالية:- حسابات تستحق خلال 3 أشهر بعد ثلاثة أشهر ولغاية ثلاثة أشهر بعد ستة أشهر ولغاية تسعة أشهر أكثر من تسعة أشهر 1980 4099 1598 1981 8024 3233 1982 11530 4654 1983 13485 19452 1984 38299 4761 3698 6987 1985 32526 8746 10887 18899 1986 34297 14810 16801 24777 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 928 وحيث إن الودائع تستحق لأعداد كبيرة من العملاء تختلف ميولهم اختلافًا كبيرًا فإنه يتوجب على الإدارة الحكيمة التعرف على العوامل التي تحكم تصرفات هؤلاء العملاء وتوزيع ودائعهم واستحقاقاتها، والوقوف على توقعات السحب والإيداع والأهمية النسبية لكل نوع من أنواع الودائع وتجميع هذه الودائع في إحصائيات لتحديد استراتيجية الاستثمار والاستخدام للموارد، ولتحديد آجال هذه الاستخدامات لتتطابق مع استحقاق الودائع للوصول إلى الحد الأمثل من السيولة والربحية حتى لا تتم التضحية بأي من العنصرين المذكورين على حساب الآخر. ويلاحظ القارئ من الجدولين السابقين أن الودائع " كما ظهرت في الجدول رقم 1 " قد ازدادت في حسابات الأجل عبر السنوات ولا سيما منذ بداية العام 1983 (حيث كانت قبله غير منتظمة الاستحقاق) وأصبحت هذه الودائع تشكل في نهاية عام 1986 58.2 % وتبلغ نسبة حسابات لأجل وتحت إشعار معًا 71.1 % من إجمالي الودائع في نهاية العام المذكور. ويعود السبب في زيادة ودائع لأجل إلى أن إدارة البنك قد توصلت إلى تغيير الأسلوب الذي اتبع في قبول ودائع العلماء عند تأسيس البنك، وتم اتخاذ قرار أثر بشكل جوهري على أوعية الادخار إذ أصبح قبول ودائع لأجل منذ بداية عام 1983 على مدار العام خلافًا لما بدئ العمل به في عام 1979 حيث كان قبول ودائع لأجل مقصورًا على نهاية العام فقط، يضاف إلى ذلك مباشرة البنك بقبول ودائع استثمارية بالعملات الأجنبية منذ ذلك التاريخ. أما الجدول رقم (2) فيوضح أن هيكل استحقاق الودائع قد تغير أيضًا. بحيث أصبحت الودائع التي تستحق بعد تسعة أشهر حوالي 19.4 %، بينما كانت هذه الودائع تستحق في زمن قصير نسبيًّا مما كان يسبب إعاقة تامة في استخدام هذه الأموال لفترات طويلة، وبالتالي يؤثر على خطة الاستثمار في البنك. استخدام الأموال وإدارة التوظيفات: يستثمر البنك الإسلامي أمواله وموارده من خلال قنوات استثمارية متعددة نوجزها فيما يلي: أ- المضاربة: ومن خلال هذه القناة الاستثمارية يدخل البنك طرفًا في عمليات الاستثمار بأن يقدم النقد اللازم كليًّا أو جزئيًّا لتمويل عملية تجارية محددة يقوم بالعمل فيها شخص آخر على أساس المشاركة في الربح أو الخسارة حسب التطبيقات الشرعية المعتمدة. ب- المشاركة: وتشمل مختلف الحالات التي يدخل البنك طرفًا ممولًا فيها في مشروع ذي جدوى اقتصادية. والمشاركة إما مستمرة أو متناقصة تنتهي بتمليك الشريك حصة البنك بعد مدة معينة، وأبرز تطبيقات البنك الإسلامي الأردني في المشاركة المنتهية بالتمليك هي حالات العقارات التي يمولها البنك وذلك بتقديم التمويل، كليًّا أو جزئيًّا، للشريك على أساس حصول البنك على نسبة من صافي الدخل المتحقق فعلًا، مع حقه بالاحتفاظ بالجزء المتبقي ليكون تسديدًا لأصل ما قدمه البنك من تمويل. وبعد استرداد البنك لكامل ما دفعه من تمويل يؤول المشروع مع كامل إيراداته لصاحبه، وقد طبق البنك الإسلامي هذا الأسلوب على العقارات التجارية وبعض العقارات السكنية في مناطق مختلفة من المملكة، وكأمثلة على تطبيقه، مشاركة البنك في مشروع بناء سوق تجاري بالمشاركة مع بلدية أربد، وكلية مجتمع في جرش ومستشفى في الزرقاء. جـ- الاستثمار المباشر: يستثمر البنك موارده في الموجودات والأصول المنقولة وغير المنقولة والمساهمات التي تدر عليه دخلًا يستطيع به أن يغطي بعض مصروفاته ويعطيه إيرادات لمودعيه. د- بيع المرابحة: أما أهم قنوات الاستثمار في البنك الإسلامي الأردني حاليًا فهي بيع المرابحة، وبيع المرابحة كما هو معروف هو البيع برأس المال وربح معلوم مع اشتراط علم البائع والمشتري برأس المال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 929 أما بيع المرابحة للآمر بالشراء المطبق في البنك فهو قيام البنك بتنفيذ طلب المتعاقد معه (العميل) على أساس شراء البنك ما يطلبه الآمر بالشراء بالنقد – كليًّا أو جزئيًّا- على أساس التزام العميل بشراء ما أمر به بالربح المتفق عليه عند الابتداء. والبنك لا يبيع الراغب في الشراء حتى يملك السلعة ثم يجري عقد البيع، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن البنك يشتري ويصبح مالكًا للسلعة، ويتحمل البنك تبعة هلاكها قبل تسليمها لصاحبها. ونظرة إلى الجدول رقم (3) المبين تاليًا تظهر الأهمية النسبية لقنوات الاستثمار في البنك الإسلامي الأردني كما هي في نهاية الأعوام 1984، 1985 و1986. ولعل من المناسب الإشارة هنا إلى أن معظم استثمارات البنك الإسلامي الأردني تمت وانتهت مع عملاء في المملكة، وأن نسبة هذه الاستثمارات القائمة والتي تمت مع عملاء خارج المملكة كما هي الأرصدة في نهاية الأعوام الثلاثة المذكورة كانت تتراوح ما بين 8.9 % إلى 10.3 %. جدول رقم (3) توزيع الاستثمارات في البنك الإسلامي الأردني (لأقرب ألف دينار) :- السنة المشاركة والمضاربة والاستثمارات الأخرى المرابحة المجموع نسبة المرابحة إلى المجموع 1984 11764 51249 63013 81.33 % 1985 14882 56132 71014 79.04 % 1986 19464 75998 95462 79.6 % خطة الاستثمار في البنك: إن مشكلة توازن السيولة والربحية في إدارة الموارد أمر أساسي في كل الأعمال، وبالرغم من أن رسالة البنوك الإسلامية، باعتبارها بنوك استثمار، قد تدفع بعض مسؤوليها إلى تغليب النواحي الاستثمارية وعدم تعطيل الأموال، إلا أن مشكلة السيولة بقيت من الأساسيات التي روعيت تمامًا في مسيرة البنك الإسلامي الأردني باعتبارها أساسًا لاستمرار المؤسسة في العمل، ولقد أثرت الموارد المتاحة واستحقاقاتها وتدفقاتها بشكل جوهري على طبيعة الاستثمار وقنواته ومدته، كما أثر في ذلك أيضًا ضرورة المحافظة على السيولة الكافية لتغطية احتياجات المودعين مقرونا بضرورة إيجاد مصادر دخل سنوي للتوزيع عليهم. وكان أثر عدم الاستفادة من المميزات التي تتمتع بها البنوك التجارية في علاقاتها مع البنك المركزي - كملجأ أخير كما سبق ذكره - في توجهات وقنوات وخطط الاستثمار في البنك إذ كان هذا العامل مقيدًا للاستثمار طويل الأجل وجعله محدودًا نسبيًّا ولا سيما في السنوات الأولى لعمل البنك، ولم يتجه البنك إلى الاستثمار الأطول أجلًا إلا بعد أن اطمأن إلى استمرار تدفق الودائع سنويًّا بما يضمن زيادة مدة الاستثمار وتنويع قنواته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 930 تطبيق عقد المرابحة: بُوشِرَ في تطبيق عقود المرابحة في البنك منذ الأشهر الأولى للعمل وذلك لاستخدام الموارد المتاحة من رأسمال وودائع، وكان إنشاء عقد المرابحة وإقراره من قبل إدارة البنك، بعد موافقة المستشار الشرعي عليه، أمرًا مهمًّا في التطبيق لاستغلال هذه الموارد، وبُوشِرَ وقتها وضع السياسات للعمل وآلية التطبيق والتعليمات اللازمة لذلك. آلية التطبيق بتمويل المرابحة: يجري البنك عمليات التمويل بالمرابحة وفق إجراءات وخطوات جرى إقرارها من الناحية الشرعية والإدارية ويمكن توضيح هذه الإجراءات فيما يلي: 1- بيع المرابحة للأفراد في السلع المميزة والقابلة للرهن (السيارات مثلًا) : تتولى فروع البنك بموافقة الإدارة اختيار العملاء (البائعين) وفق الخطوات التالية: أ- يقدم المشتري طلب شراء السلعة على أساس المرابحة لفرع البنك ويوقع عقد مرابحة للآمر بالشراء. ب- يطلب البنك فاتورة عرض الأسعار من البائع. جـ- يقدم البائع فاتورة عرض أسعار البيع للبنك. د- يوافق البنك على الفاتورة بعد التحقق من أنها مطابقة للشروط المقررة ويعيدها للبائع. هـ- يشتري البنك البضاعة من الوكيل (أو البائع) بموجب فاتورة رسمية صادرة باسم البنك. و يلتزم المشتري بشراء البضاعة مرابحة بالسعر المتفق عليه وذلك بتوقيعه عقد المرابحة الخاص لدى البنك المتضمن ذلك. ز- يتولى البائع بطريق الوكالة تنظيم عقود البيع وتنظيم الكمبيالات وذلك حسب الفاتورة الموضحة في البند (و) أعلاه وتسجيل السيارة باسم البنك. ح- يقدم البائع (الوكيل) المستندات المذكورة للبنك ويقوم البنك بدفع رصيد فاتورة البيع واستلام الكمبيالات بعد استكمال الإجراءات اللازمة. ط- يكفل البائع الكمبيالات المقدمة (إذا كان ذلك من الشروط بين البنك والوكيل) وللبنك عند إتمام العقد الحق في الحصول من المشتري على ضمانات أخرى يراها مناسبة لضمان حقوقه. ى- يبيع البنك السيارة للمشتري مرابحة ويسجلها باسم المشتري (في دائرة السير) ، وفي ذات الوقت يرهنها لصالح البنك لدى دائرة السير. (إذا كان الرهن من شروط الضمان) . ك- يجري تأمين السيارة شاملًا لصالح البنك (إذا كان ذلك من الشروط المتفق عليها بين البنك والمشتري) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 931 2- شراء الأراضي والعقارات: تطبق على شراء الأراضي والعقارات نفس الإجراءات المتعلقة بالسيارات من حيث التسجيل لدى دائرة الأراضي عند شراء البنك للعقار ثم إعادة تسجيله باسم المشتري. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن تسجيل العقار مرتين الأولى باسم البنك كمشتر من البائع ثم باسم العميل مشتري الأرض يوجب دفع رسوم تسجيل العقار مما سبب إعاقة لقيام البنك بمثل هذا التمويل بشكل كبير بسبب ارتفاع هذه الرسوم وأعاق قيام البنك تمويل الأفراد في الشقق والبيوت. 3- تمويل شراء السلع المشتراة محليًّا: يمول البنك الأفراد في السلع غير القابلة للرهن كالتجهيزات المنزلية وغيرها (أثاث، غسالات، ثلاجات، أفران غاز، غرف نوم، ... إلخ) وفق الخطوات التالية: أ- يقدم المشتري طلب شراء السلعة على أساس المرابحة لفرع البنك. ب- إذا وافق البنك على التمويل يوقع البنك والعميل عقد بيع المرابحة للآمر بالشراء. جـ- يطلب البنك فاتورة عرض الأسعار من البائع للبضاعة المطلوبة. د- يقدم البائع فاتورة عرض أسعار البيع للبنك. هـ – يوافق البنك على الفاتورة بعد التحقق من أنها مطابقة للشروط المقررة ومن ثم يعيدها للبائع أو يوجه رسالة للبائع بالموافقة على ما ورد في فاتورة العرض. و يشتري البنك البضاعة من البائع بموجب فاتورة رسمية صادرة باسم البنك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 932 ز- يقوم البنك بدفع قيمة البضاعة للبائع حسب فاتورة البيع. ح- يلتزم المشتري بشراء البضاعة مرابحة بالسعر المتفق عليه وذلك حسب عقد بيع المرابحة الخاص بذلك والموجود لدى البنك والمتضمن ذلك. ط- يتولى البنك تنظيم الكمبيالات على المشتري حسب شروط عقد المرابحة. ى – يتولى أحد موظفي البنك الإشراف على عملية استلام البضاعة من البائع وتسليمها للمشتري. ويجري تطبيق هذه الإجراءات على جميع المواد التي تلزم للأفراد أو التجار في عمليات المرابحة الداخلية كشراء الحديد والأسمنت والمواد الغذائية والمواد الخام وجميع مستلزمات التجارة. وتجدر الإشارة إلى أن البنك قد درج على دفع أثمان المشتريات من العملاء الذين يبيعونه بضائع بموجب شيكات مسطرة حتى لا تصرف نقدًا. 4- تمويل المرابحة بواسطة الاعتمادات المستندية والاستيراد: يجري تمويل البضائع بواسطة الاعتمادات المستندية سواء أكان ذلك لسلع تجارية أو معدات أو مواد خام أو غيرها مما يستورد من بضائع وتتلخص عمليات التمويل بهذه الطريقة بما يلي: أ- يوقع العميل الآمر بالشراء على عقد الآمر بالشراء ثم يوجه أمره إلى البنك لشراء سلعة جاهزة محددة الأوصاف، ويأمر البنك بشرائها. ب- يتولى البنك فتح الاعتماد المستندي من المصدر الذي حدده العميل للبضاعة الموصوفة. جـ- يقوم البنك بشراء البضاعة بموجب الاعتماد المستندي من المصدر، ويدفع قيمتها له. د- عند ورود المستندات المحددة لملكية البضاعة يجري الاتصال بالعميل طالب الشراء ليقوم بالاطلاع على تلك المستندات، ثم يقوم البنك بإتمام عملية البيع ويظهر بوليصة الشحن تظهيرًا ناقلًا للملكية، ويطلب إلى إحدى شركات التخليص إنهاء المعاملة مع الجمارك وتسليم البضاعة إلى العميل. هـ- عند تظهير البوليصة يقوم البنك باحتساب قيمة البضاعة بالدينار الأردني حسب الشروط المتفق عليها مع المشتري، ويتم تنظيم كمبيالات بثمن البضاعة مضافًا إليه ربح البنك حسب الشروط المقررة. ومن الجدير بالذكر أنه إذا وردت مستندات البضاعة مخالفة لشروط الاعتماد أو تبين أن البضاعة عند استلامها من الجمارك بها تلف فإن البنك يتحمل النتائج المتعلقة بذلك، ويكون العميل مخيرًا بين قبول البضاعة أو رفضها. أما إذا تطابقت المستندات والبضاعة مع ما سبق، وأمر المشتري فإنه يلزم بشرائها حسب العقود الموقعة معه. كما تجدر الإشارة إلى أن البنك يتولى تكليف بعض الجهات في بلدان المصدر من أجل معاينة البضاعة وإرفاق شهادة معها تفيد دقة وصحة المواصفات للبضائع المشحونة بسبب مسؤوليته عن تسليم البضائع للمشتري، ومنعًا لشحن بضائع مخالفة للشروط كما يفعل ذلك بعض المصدرين في بعض البلدان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 933 نطاق تطبيق المرابحة: شملت تطبيقات البنك الإسلامي الأردني في المرابحة نطاقًا واسعًا شمل معظم السلع اللازمة معمرة أو غير معمرة أو استهلاكية، ففي مجال الأفراد تم تمويل احتياجاتهم من السلع الاستهلاكية كالسيارات والأثاث وغيرها. وتم تمويل التجار في مختلف احتياجاتهم أيضًا كالأقمشة والمواد الغذائية ومواد البناء. . . إلخ، أما الصناعيين فتم تمويلهم فيما يحتاجونه من معدات ومصانع ومواد خام، وتم تمويل المتعهدين والمقاولين في الآليات والمعدات والجرافات والحفارات وغيرها، وشمل التمويل أيضًا نطاق الآليات الدقيقة كأجهزة الكمبيوتر، وأدوات المختبرات والمعدات الطبية اللازمة للمستشفيات والمواد الخام اللازمة لصناعة الأدوية، وحاجات المعاهد والجامعات وحاجات المزارعين من سماد وبذور وتراكتورات زراعية وبيوت بلاستيكية أو معدات التغليف والتعبئة، وغير ذلك من المواد في جميع القطاعات وتمويل البترول وغيرها. القطاعات والنشاطات التي يطبق فيها عقد المرابحة: إن نظرة إلى تصنيف أعمال التمويل في البنك تشير إلى أن جميع القطاعات قد تم تمويلها بواسطة عقود المرابحة، وفيما يلي كشفًا يبين توزيع التمويل في البنك حسب القطاعات كما ظهر في نهاية الأعوام المذكورة والتي تمثل المرابحة 80 % تقريبًا منها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 934 كشف رقم (4) التوزيع القطاعي للتمويل والاستثمار حسب تصنيف البنك المركزي الأردني القطاع 1984 1985 1986 الصناعة 26.6 % 28.6 % 34.9 % التجارة العامة 21.9 % 23.8 % 22.9 % عقارات وتعهدات 17.3 % 18.2 % 17.2 % نقل 13.7 % 9.4 % 9.9 % أفراد وأصحاب مهن 7.2 % 8.2 % 7.5 % الزراعة والخدمات والأغراض الأخرى (تم دمجها) 13.3 % 11.8 % 7.6 % الصعوبات القائمة: من استعراض سريع لما ورد في هذه الورقة، ومن واقع التطبيق العملي تتبين لنا بعض الصعوبات المبينة تاليًا: 1- قصور بعض القوانين عن معالجة تسهيل مهمة البنك الإسلامي في تحقيق متطلبات عملائه حيث إن بعض هذه القوانين قد صيغ لمعالجة الإقراض الربوي دون حل مشكلة التمويل اللاربوي. وأمثلة ذلك اضطرار البنك عند تمويل شقة لعميل أو سيارة إلى دفع رسوم متكررة تصل في تمويل العقارات إلى (16 %) من تكلفة التمويل مما يثقل كاهل العملاء. 2- منح ميزة للبنوك الربوية على البنك الإسلامي في مجال استفادته من تعليمات تشجيع التصدير بسعر خصم مخفض، مما يجعل تكلفة عملاء البنك الإسلامي أعلى من تكلفة عملاء البنوك الأخرى بسبب هذا الامتياز. 3- اضطرار البنك الإسلامي – بسبب عدم إمكان الإفادة من تسهيلات البنك المركزي- كملجأ أخير- اضطرار البنك إلى ما يلي على سبيل المثال: أ- جعل مُدَد التمويل لعملائه قصيرة الأجل أو متوسطة. ب- الاحتفاظ بسيولة مرتفعة لمواجهة أي طوارئ قد تحصل –لا سمح الله- مما يعيق استثمار الأموال، ويخفض عوائد المودعين. جـ- اعتماد البنك الإسلامي على تدفق الودائع عند اتخاذ خطة توزيع وتنويع استثماراته وتحديد مُدَد التمويل اللازمة. د- توجيه أغلب استثماراته إلى المرابحة، بدل توجيهها إلى المساهمات والمشاركات، لسرعة تسييلها ووضوح التدفق النقدي، ووضوح العائد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 935 4- نقص الأدوات المالية (كسندات المقارضة) التي يمكن بمقتضاها سرعة تدوير الأموال وإيجاد مصادر للسيولة السريعة للبنك مما يشكل باعثًا على الاستثمار الأطول أجلًا. 5- اضطرار البنك إلى التشدد في الحصول على الضمانات لتكون رادعًا للعملاء، بسبب مماطلة بعض العملاء في السداد ولجوئهم إلى الاستفادة من قوانين المحاكمات اعتمادًا على أن البنك لا يتقاضى عوائد عن أمواله المستحقة خلال سنوات المحاكمة. 6- لقد أدى ارتباط العديد من الناس بأعمال البنوك الربوية لمدة طويلة إلى تركز أذهانهم بأن أية نسبة مئوية يتقاضاها البنك على تكلفة المرابحة وإنما هي من أعمال الفائدة دون تفهم لطبيعة عملية المرابحة. 7- اعتراض البعض على قيام البنك بتأمين البضائع التي يمولها من خلال شركات التأمين القائمة. 8- ضعف الأجهزة الوظيفية، ولا سيما في بداية عمل البنك، وعدم قدرتها على تفهم الأمور الشرعية بدقة. الحلول المقترحة: يمكن اقتراح ما يلي في هذا المجال لإيجاد بعض الحلول لدفع مسيرة البنوك الإسلامية: 1- معالجة الثغرات في بعض القوانين لتساير وتتمشى مع حاجات التطبيق وفق ما ذكر في الصعوبات سواء من ناحية الرسوم المكررة أو من ناحية مماطلات العملاء في التقاضي وغيرها. 2- إيجاد حل لمشكلة استفادة المصارف الإسلامية من البنوك المركزية كملجأ أخير خارج إطار الفائدة لا سيما وأن هذه المهمة هي من المهمات الأساسية للبنوك المركزية، وكذلك إيجاد الإمكانية للاستفادة من توجهات السياسة النقدية في مجالات الاستثمار المختلفة كالتصدير؛ ليتمكن البنك من التوجه في استثماراته حسب توجهات خطة التنمية. 3- إيجاد الأدوات المالية وإقرار قانون سندات المقارضة بشكله الدائم ليصار إلى الاستفادة منه وتطبيقه لإيجاد وسائل التسييل السريعة. 4- إيجاد حوافز للبنوك الإسلامية لتقوم بتوجيه استثماراتها ضمن الأسس التي تراها الدولة ووفق خطط التنمية. 5- استمرار توجه البنوك الإسلامية نحو حسابات الودائع لأجل الأطول أجلًا وحسابات الاستثمار المخصص ضمن الحوافر المطلوبة لتتطابق استحقاقات هذه الودائع مع التدفقات النقدية للاستثمارات. 6- الحاجة المستمرة من الفقهاء إلى استمرار تقديم الفتاوى بمرونة وتطور واستيعاب للجديد من الأعمال لتبقى مرونة التعامل، ويبقى التطبيق للنظام المصرفي الإسلامي مسايرًا للمستجدات ضمن قواعد الشريعة الإسلامية السمحاء. 7- استمرار البنك في إجراء التدريب المستمر لموظفيه من أجل تفهم طبيعة العمل واستيعاب مستجداتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 936 8- الاستمرار في توجيه الإعلام المصرفي الإسلامي لتوضيح طبيعة أعماله المطابقة للشريعة. 9- السماح للبنك الإسلامي بإنشاء شركة تأمين تبادلي مطابقة لأحكام الشريعة الإسلامية لإكمال مسيرة أعماله وتطابقها وتناسقها. التوقعات المستقبلية: إن مسيرة البنك الإسلامي خلال الفترة الماضية تعطي دليلًا على ما يمكن أن تصل إليه هذه المسيرة من تقدم ونجاح ما استمرت رعايتها، وتسهيل مهمة القائمين عليها سواء في إزالة الصعوبات التي تواجه المؤسسة أو منح الحوافز لها؛ لتتجه المؤسسة وتشارك في دور أكبر في خطط التنمية المختلفة. ولعل من المناسب الإشارة هنا إلى أن توجهات البنك المستقبلية هي إدخاله في خططه واستراتيجية استثماره خطوات أساسية للوصول إلى أكبر عدد من العملاء في مختلف مناطق المملكة. وقد كان لنجاح تجربة البنك التي بدأها منذ بداية العام الماضي، بتزويد المواطنين بما يلزمهم من تمويل في مواد البناء لإكمال مساكنهم التي استفاد منها أكثر من ألفي مواطن، أغلبهم خارج مدينة عمان، كانت نتائج هذه التجربة مشجعة له على توجيه خطط للوصول إلى الحرفيين وأصحاب الصناعات الصغيرة حيث تقرر هذا العام السير في هذا النوع من التمويل لتوسيع قاعدة المستفيدين من خدماته. أما على صعيد الخدمات العامة فقد توجه البنك في خطط استثماره لهذا العام إلى تمويل بناء المدارس الحكومية، وقدم عرضًا – ما زال يجري البحث فيه مع الجهات المختصة - لتمويل هذه المدارس وفق الأسلوب الذي يتفق عليه، كل ذلك بناء على استقرار تدفق الودائع وحسن استخدامها بما يلائم سياسة البنك الاستثمارية. الخاتمة وأخيرًا وليس آخرًا فإن مسيرة البنك الإسلامي الأردني ما زالت في رأيي في بدايتها رغم وصول البنك إلى المرتبة الرابعة بين البنوك الأردنية في هذه الفترة القصيرة من الجهد والعمل الصامت، وأن مزيدًا من الدعم له سيمكنه من تحقيق الغاية التنموية والاجتماعية التي أنشئ من أجلها بفضل توفيق الله سبحانه وتعالى وجمهور المتعاملين والرعاية التي يلقاها البنك على جميع المستويات. والله الموفق وهو المستعان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 937 المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) ندوة عن: "خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية: الجوانب التطبيقية، والقضايا والمشكلات". بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب / البنك الإسلامي للتنمية / جدة. عمان 22- شوال – 25 شوال 1407هـ 18/6 – 21/6/1987م بحث الأستاذ قاسم محمد قاسم عن البنوك الإسلامية واستراتيجيتها الاستثمارية البنوك الإسلامية واستراتيجيتها الاستثمارية ورقة عمل مقدمة إلى الاجتماع المشترك بين منظمة الخليج للاستشارات الصناعية والبنوك الإسلامية في منطقة الخليج لبحث إمكانيات التعاون بينهما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 938 إعداد قاسم محمد قاسم مدير عام مصرف قطر الإسلامي البنوك الإسلامية واستراتيجيتها الاستثمارية ورقة عمل لبحث إمكانيات التعاون بين منظمة الخليج للاستشارات الصناعية والبنوك الإسلامية في منطقة الخليج مقدمة: ليس الغرض من هذه الورقة تقديم بحث بالمفهوم الأكاديمي لكلمة بحث، وليس الغرض منها التعرض بالتفصيل لتطور المصارف عامة والمصارف الإسلامية خاصة. وإنما الغرض هو عرض تصور مبني على الخبرة والممارسة الفعلية اليومية للاستراتيجية الاستثمارية في المصارف الإسلامية كما يراها الكاتب، والصعوبات التي تصادفها هذه المصارف تمهيدًا لإيجاد تصور مشترك لإمكانات التعاون بين المصارف الإسلامية العاملة في منطقة الخليج، وبين منظمة الخليج للاستشارات الصناعية. فالغرض الذي من أجله وجدت المصارف الإسلامية يكاد يكون هو نفس الغرض الذي أنشئت من أجله المنظمة، فبينما تسعى المصارف الإسلامية لتوظيف الأموال في مجالات التنمية المختلفة تسعى المنظمة – فيما أظن- إلى تقديم الاستشارة المهنية المتخصصة بكامل فروعها في مجالات التنمية الصناعية للدول الأعضاء في المنظمة. إلا أن المصارف الإسلامية تهدف إلى تحقيق الربح المقبول شرعًا على ما تقوم به من استثمارات في حين أن المنظمة لا تهدف إلى الربح فيما تقوم به من دراسات واستشارات إذ يكفيها أن يعود الربح منفعة اقتصادية واجتماعية ناتجة عما يجري تنفيذه من مشروعات لدى هذه الدول الأعضاء. إن إدارات المصارف الإسلامية لم تأل جهدًا - منذ تأسست هذه المصارف- في تطوير أنماط ووسائل العمل المنسجمة مع المبادئ الإسلامية، كما لم تأل جهدًا في البحث عن فرص الاستثمار للأموال المتراكمة لديها من أجل خلق دور منتج للمال بين أيدي المسلمين بما ينفع أصحاب الأموال، وينفع المجتمعات التي تنتمي هذه الأموال لها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 939 لقد كان الهدف الأول لتأسيس أول بنك إسلامي في وقتنا الحاضر هو تطهير الأموال من الربا عن طريق تقديم البدائل المقبولة شرعًا لأنماط الاستثمار المختلفة، والتي درجت البنوك التقليدية على تقديمها سواء لأصحاب الأموال (عرض الأموال) أو مستغلي هذه الأموال (الطلب على الأموال) على أساس ربط الاستثمار وعوائده بفوائد محددة سلفًا. وقد مارست البنوك التقليدية بفلسفة تنصب على الضمان، وهذه الفلسفة نابعة من كون الوديعة عقد قرض وأن المقترض يتصرف بالقرض ويقع عليه الضمانه، وقد ضمنت البنوك للمودع رأس ماله والفائدة المحددة سلفًا. كما أخذت على المقترضين ضمان ما اقترضوا دون ربط القرض بما وراءه من عمل، ودون نظر إلى نتيجة هذا العمل إن ربحًا وإن خسارة، وعليه فإنه يصح وصف هذه الفلسفة بفلسفة تأجير الأموال حيث يتوجب دفع الإيجار (الفوائد) سواء انتفع (ربح) المستأجر (المقترض) أم لم ينتفع. مهنيًّا، فقد اقتنع نظام المصرف الدولي بجدوى هذه الفلسفة في غياب البديل، ومع تواتر التطبيق عبر مئات السنين، فقد أصبحت هذه الفلسفة راسخة، وأصبح المجتمع المصرفي الدولي يقاوم أي تغيير. ولقد طورت الأجهزة المصرفية التقليدية في إحدى مراحلها نوعًا من الممارسات الاستثمارية التي اقتربت بأساسها النظري من المفهوم الإسلامي لاستثمار المال حيث ظهرت مصارف تسمى بنوك التجار أو بنوك الأعمال والاستثمار، وتقوم هذه البنوك على أساس إنشاء المشروعات والمساهمة في رأس مالها مع آخرين إلا أن هذه البنوك قد ظلت وفية للمذهب الذي نشأت عليه وهو نظام الفائدة في تعاملها مع مصادر الأموال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 940 2- النظام المصرفي التقليدي وسلوك الأفراد: 2-1- كان تطور النظام المصرفي التقليدي مواكبًا لتطور الحضارة الغربية الحديثة، والتي كان من أهم إفرازاتها فصل الدين عن الحياة اليومية للأفراد في المجتمعات المسيحية، ودون أن نخوض في بحوث لاهوتية لسنا مؤهلين لها، نقرر أن الدين المسيحي يحرم الربا، ولكننا نجد أن البيئة الحضارية الحديثة أوجدت مناخًا مناسبًا لتطوير العمل المصرفي القائم على نظام الفائدة دون أن يجد مقاومة دينية تمنع تطوره. 2-2- ونظرًا لقيام البنوك بدفع الفوائد على الأموال مع تعهدها برد المال والفوائد المستحقة عليه إلى صاحبه فقد أدى هذا الوضع إلى تباطؤ همم أصحاب الأموال عن استثمار أموالهم بأنفسهم بما في ذلك من مخاطر وقبول الأسلوب الهين وهو الإيداع لدى البنوك مقابل الفوائد. ولنفس السبب، أي ضمان البنك لأموال المودع مع ما يترتب عليه من فوائد فقد تعسفت البنوك في اقتضاء ديونها من المدينين دون نظر إلى الحالة المادية للمدين أو حال المشروع الذي أخذ من أجله المال أو الظروف الاقتصادية السائدة، بل إن مبدأ القرض بفائدة كثيرا ما كان أهم أسباب تردي الحالة المادية للمدين. وما وَضْعُ دولِ العالمِ الثالث المدينة بخاف عنا إذ أن فوائد خدمة الدين كثيرًا ما زادت عن موارد بعض الدول المدينة. وهكذا تراجعت المعايير الأخلاقية في التعامل المالي وقلد التجار والأفراد البنوك فيما ذهبت إليه، وأصبح الطلاق بائنًا بين المال وبين الهدف الذي صرف من أجله، وأصبح تأجير الأموال هو القاعدة، كما أصبح الفرد في سلوكه يجمع المال من أجل المال وتطور الأمر ليصبح عادة اجتماعية. 2-3- ولتشجيع أصحاب الأموال على الاحتفاظ بأموالهم لدى البنوك فقد أصبحت البنوك تدفع لهم الفوائد على فترات زمنية قصيرة جدًّا ربما وصلت إلى ليلة واحدة “OVERNIGHT” ومن الطبيعي أن يكون أجل الودائع مساويًا للفترة التي تدفع عنها الفوائد. وكانت النتيجة أن تغيرت عادات المودع من استثمار أمواله في مشروعات طويلة الأجل إلى استثمارها في ودائع ذات أجل قصير جدًّا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 941 3- المصارف الإسلامية، تطهير وتثمير: 3-1- دخل النظام المصرفي الحديث إلى العالم الإسلامي، والعالم الإسلامي في حالة خطيرة من التمزق والتخلف والجمود، وفي وقت كانت فيه أغلب أقطاره ترزح تحت سيطرة الدول الأجنبية، كما أن دور المؤسسات الدينية بدأ يتراجع إلى الوراء بضغط من الدول الاستعمارية التي كانت ترى دائمًا أن الخطر على نفوذها كبير إذا نهض العالم الإسلامي من سباته بقيادة فكرية إسلامية متطورة؛ ولذا فلقد راوح العالم الإسلامي في مكانه يحاول أن يجيب على السؤال التالي: هل الفوائد المصرفية حلال أم حرام؟ وهل تحل الفوائد إذا كانت دون نسبة معينة وتحرم إن زادت عليها؟ وسمعنا الكثير من الفتاوى التي ليس هنا مجال لبحثها مع أن أغلبها أقر بحرمة فوائد البنوك، إلا أن أحدًا فردًا كان أو مؤسسة أو دولة لم يفكر في إيجاد النظام المصرفي البديل القائم على تطوير أنماط من التعامل الاستثماري المقبول شرعًا. وللتدليل على ذلك فلقد قبلت الدول الإسلامية جميع التشريعات الوضعية الغربية التي أدخلت معه جميع أنماط التعامل المالي الغربية بحلالها وحرامها كما اعترفت صراحة بالفوائد وظهر اصطلاح الفوائد القانونية في تشريعات تلك الدول الوضعية. ويشاء المولى أن يجتمع علماء الأمة الإسلامية في عام 1385هـ في القاهرة في المجمع الفقهي الثاني، ويجتمع معهم لفيف من اقتصادي هذه الأمة، وصدرت فتوى جماعية باعتبار فوائد البنوك من الربا المحرم، وأن على رجال المال والاقتصاد وعلماء الشريعة أن يبحثوا عن البديل. ولقد كان البديل في العشر سنوات الأخيرة نحوا من خمسين بنكا إسلاميًّا إضافة إلى البنك الإسلامي للتنمية الذي تشترك في عضويته أكثر من خمسة وأربعين دولة إسلامية، وكذلك تحويل النظام المصرفي في باكستان بأكمله لينسجم مع الشريعة الإسلامية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 942 لقيت البنوك الإسلامية الكثير من الترحيب والتشجيع منذ قيامها وتمثل هذا التشجيع بالزيادة الكبيرة والمطردة في حجم الودائع لدى هذه البنوك. ذلك أن تأسيس هذه البنوك أوجد منفذًا للكثير من أصحاب الأموال الذين لا يتقاضون أية فوائد على أموالهم فوجدوا في البنك الإسلامي مكانًا مناسبًا لاستثمار أموالهم التي ظلت معطلة سنين طويلة. يضاف إلى هذا انجذاب المتعاملين الآخرين الذين لا تحركهم الاعتبارات الدينية بل جذبتهم النجاحات المبدئية التي حققتها تلك البنوك والعوائد المرتفعة التي تمكنت من توزيعها على المودعين في مراحل مختلفة. 3-2- إلا أن نجاح البنوك الإسلامية متمثلًا في الإقبال المتزايد للمودعين كان في حد ذاته بداية لمشاكل فنية حقيقية لهذه البنوك. إن الأموال المتراكمة لدى البنوك الإسلامية كانت ولا تزال تبحث لها عن منافذ شرعية تستثمر بها حتى تعطي مردودًا مناسبًا للمودع وللبنك، فدعوة البنك الإسلامي لنفسه بأنه قام بتطهير الأموال من الربا واستثمار مال المسلمين فيما ينفع المسلمين خارج نظام الفائدة وخارج إطار الإقراض والاقتراض قد حددت مسار البنوك الإسلامية بصفة نهائية – في رأي الكاتب - في الاستثمار. " فالاستثمار يشكل طبيعة عمل المصارف الإسلامية وذاتها بل وحياتها، وبدونه لا يتصور لها استمرارية - وهي في هذا تعطي النموذج الفريد في التوحد في توجهاتها مع أهداف دولها في الاستثمار والتنمية " (1) وكما هو معلوم فالاستثمار المرتبط بالتنمية بالمعنى الذي تقصده وترغب في تحقيقه البنوك الإسلامية هو استثمار طويل الأجل بطبيعته، ويجب أن يتم في مجالات وفرص مجدية. 4- المعوقات التي واجهتها البنوك الإسلامية في توجهاتها الاستثمارية: واجهت البنوك الإسلامية ولا زالت العديد من المعوقات التي تعترض طموحاتها الاستثمارية، وأهم هذه المعوقات في نظر الكاتب ما يلي: أولًا: العادات الربوية لدى المودعين: ومنها أن المودع يودع أمواله في آجال قصيرة لا تتجاوز السنة في أغلب حالاتها، وفي القليل جدًّا من الحالات أصبح المودع يودع في نوع من الودائع المطلقة وهي التي تشبه الودائع بإشعار لدى البنوك التقليدية – وهذا أيضًا ما يجعل من هذه الودائع ودائع قصيرة الأجل عند دراسة طبيعة الموارد المتاحة للاستثمار. إن مثل هذا الوضع يحد من قدرة المصرف الإسلامي على الاستثمار في الأجل الطويل إذ لابد من تماثل الاستحقاقات بين مصادر الأموال وبين استخداماتها، وهي ما يسمى بالإنجليزية “MATCHFUNDING”؛ لأن الإخلال بهذا التماثل بشكل كبير يعرض المصرف لمخاطر كثيرة أهمها احتمال توقفه عن الدفع. ثانيًا: يرتبط بالعادات الربوية لدى المودعين عادة أخرى أهمها أن الإنسان فطر على حب الكسب وكره الخسارة. ومن واقع الخبرة العملية فإن المودع لدى البنك الإسلامي – وإن كان يقبل مقدمًا وعلى الورق على الأقل بمبدأ المشاركة في الخسارة - ينتظر الأرباح الموزعة آخر العام.   (1) أحمد أمين فؤاد – معوقات الاستثمار في البلاد الإسلامية وسبل التغلب عليها ص2 من أبحاث المؤتمر الثالث للمصرف الإسلامي- دبي – أكتوبر 1985. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 943 وكما هو معلوم فإن أي مشروع استثماري ستمر به عدة سنوات قبل أن تظهر ميزانيته أية أرباح. وهذا الوضع، يضاف إلى سابقه دفع بودائع البنوك الإسلامية إلى الاستثمار في مجالات الاستثمار القصيرة الأجل، وخصوصًا المجالات التجارية حتى تتفادى مشاكل اختلاف الآجال وتشبع الناحية النفسية لدى المودع المتمثلة في التطلع إلى الربح السريع. ثالثًا: حداثة نشأة البنوك الإسلامية: ولهذا العامل أثرين: أ- اضطرار البنوك الإسلامية للتركيز على العمليات التجارية القصيرة الأجل لتقوية مراكزها المالية. ب- قلة الكفاءات البشرية المؤهلة شرعيًّا وفنيًّا للبحث عن الفرص المجدية وإعداد دراسات الجدوى العائدة لها، وتقييم ما يقدم إليها من مشروعات. رابعًا: ضيق السوق المحلي أحيانًا وعدم قدرته على استيعاب مشاريع استثمارية معينة بما في ذلك الصعوبات المتعلقة باقتصاديات الموقع وتوطن الصناعة هذا الوضع مقرونا بارتفاع الثروة لدى المودعين في نفس السوق مما يجعل من ازدياد الودائع مشكلة في حد ذاتها؛ لعدم القدرة على خلق فرص مناسبة للاستثمار. خامسًا: عدم توفر الدراسات لمشروعات استثمارية معينة وعدم وجود أولويات لمشاريع استثمارية تجارية تحقق العوائد المناسبة لتحفيز المستثمر للمخاطرة بأمواله، ويرافق ذلك عدم وجود بيوت الخبرة المتخصصة في تقديم دراسات السوق والجدوى وتقييم الفرص، وإن وجدت مثل هذه البيوت فأكثرها مشكوك في حياده وكثيرًا ما عرضت دراسات تم تفصيلها تفصيلًا لتؤثر على القرار تأثيرًا مغرضًا. يضاف إلى ذلك أن بيوت الخبرة الأجنبية ليس لها دراية كافية بالسوق المحلي مما يرفع من تكلفة إعداد الدراسة. سادسًا: القيود على الاستثمار خارج النطاق المحلي: من المنطقي أن يتجه الاستثمار إقليميًّا وإسلاميًّا مع ضيق الأسواق المحلية عن الاستيعاب. فالبنوك الإسلامية في دول الخليج هي بنوك وفرة نقدية في حين أن الدول العربية والإسلامية المجاورة هي أسواق متعطشة للاستثمار، ولديها الكثير من الكوادر البشرية الماهرة ونصف الماهرة اللازمة للعمل في هذا الاستثمار، كما أن كثافتها السكانية توفر القوة الاستهلاكية اللازمة لامتصاص أي إنتاج. إلا أن القيود الضريبية والنقدية ومخاطر تقلبات أسعار الصرف ومشاكل ميزان المدفوعات وعدم الاستقرار السياسي وسرعة تغيير القوانين وتعديلها، كل هذه العوامل وغيرها كثير يجعل المستثمر – بما في ذلك البنك الإسلامي- غير مطمئن على مستقبل استثماره؛ ولهذا رأينا ونرى توجيه الكثير من الأموال العربية والإسلامية إلى الأسواق الأوروبية والأمريكية للاستثمار في القطاعات الصناعية والمالية والعقارية وذلك رغم مخاطر تجميد الاستثمارات الأجنبية، والتي أصبحت أكثر وضوحًا في السنوات القليلة الماضية، رغم كل ما يقال من تبريرات وتفسيرات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 944 سابعًا: القيود الشرعية: معلوم أن المصارف الإسلامية قامت لتقدم البدائل المقبولة شرعًا لأنماط التعامل المالي والمصرفي؛ ولذا فإن أي عملية سواء كانت عملية يومية تجارية أو عملية استثمارية تخضع لمراجعة دقيقة للتأكد من انسجامها مع الضوابط الشرعية التي تسير المصارف الإسلامية على هديها. وأي عملية لا توافق الشروط الشرعية يتم رفضها. ولطمأنة المودع والمستثمر أنشأت المصارف الإسلامية ضمن أجهزتها لجانًا للرقابة الشرعية مكونة من أفاضل العلماء في البلاد التي تعمل فيها لعرض الممارسات المصرفية عليها وصولًا للصيغ المقبولة شرعًا. ولهذا فليست كل الفرص مهما كانت مجدية ومغرية، مقبولة للمصارف الإسلامية. فإذا لم يتساوى أطراف العلاقة في المشاركة في الربح والخسارة وإذا استثمرت المشروعات فائض أموالها أو إذا مولت العجز لديها عن طريق البنوك التقليدية تثور الصعوبات في قبول مبدأ الاستمثار. هناك بالطبع حالات قبلتها بعض لجان الرقابة الشرعية في بعض البلدان ولها أسبابها في ذلك إلا أننا لا نستطيع أن نفترض أن كل اللجان ستتخذ نفس المواقف. إن من الصعوبات الشرعية اختلاف وجهات النظر من لجنة إلى لجنة في النظر إلى الأشياء والعمليات والمعاملات مما يمكن مصرفًا من عمل شيء ولا يمكن مصرفًا آخر من مشاركته به وأبرز مثل على ذلك اختلاف المواقف في قضية الإيجار المنتهي بالمليك (LEASING) ، إلا أن اختلاف لجان الرقابة الشرعية أمر يمكن تلافيه عن طريق التنسيق بين هذه اللجان في المشروعات المشتركة أو بأي أسلوب آخر. 5- الاستثمار خليجيًا: بينا في الصفحات السابقة أن الاستثمار بالنسبة للمصارف الإسلامية هو بمثابة الهواء اللازم لتنفس الإنسان وأن المصارف الإسلامية بدون استثمار حقيقي يضيف إلى الاقتصاد الوطني حقيقية ستلقي ظلالًا من الشك على مبررات وجودها. كما قررنا أن المصارف الإسلامية لا ينقصها المال ولكن تعترضها الصعوبات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 945 وقد استعرضنا بعضًا من تلك الصعوبات وهي في نظري –باستثناء الصعوبات الشرعية- نفس الصعوبات والمعوقات التي تعترض أي مستثمر. ولقد حاولت المصارف الإسلامية كثيرًا لتذليل الكثير من الصعوبات ولا زالت تحاول وسوف تستمر- إن شاء الله في هذه المحاولات. ومن ضمن هذه المحاولات محاولتنا اليوم كمجموعة خليجية ضمن منظومة البنوك الإسلامية لولوج باب الاستثمار من حيث يمكن ولوجه بالتعاون مع منظمة إقليمية متخصصة لا تهدف إلى الربح وأعني منظمة الخليج للاستشارات الصناعية. فدول الخليج تتشابه في الكثير من الخصائص والنظم الاجتماعية والسياسية والنقدية ووفرة الثروة وتشابه التشريعات وهذه كلها نقاط التقاء إيجابية يضاف إليها توجه تلك الدول إلى زيادة التنسيق فيما بينها في مختلف المجالات وصولًا إلى التكامل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. كما تتشابه هذه الدول في صغر كياناتها منفردة –باستثناء السعودية والعراق - من حيث عدد السكان وحجم الأسواق مما يخلق مناخًا استثماريًا غير مؤات إن انفرد كل كيان بتطوير المشروعات التي يرى أنها ضرورية ومن ثم تتكرر المشروعات الاستثمارية المتشابهة مما يؤدي بالتالي إلى الشك في الجدوى الاقتصادية لتلك المشروعات. إذن فالتكامل الاستثماري بين هذه الدول أمر يمكن أن تفيد منه البنوك الإسلامية وتستفيد عن طريق الدخول في المشروعات المشتركة التي تخدم قطاعًا أوسع وأعمق مما لو انفردت هذه البنوك في الاستثمار في مشاريع متكررة. وعليه فمشاركة البنوك الإسلامية مستفيدة من هذا التكامل يدفع بهذا التكامل إلى مراحل متقدمة. كما أن الاستثمار خليجيًّا – في المشاريع التي تثبت جدواها- يعطي للمستثمر إحساسًا أكثر بالأمان على استثماراته، ويستطيع أن يرى بعينه: أين استثمرت تلك الأموال وكيف تجري إدارتها، وذلك نظرًا لقربها منه إقليميًّا. 6- هل يمكن أن تستفيد البنوك الإسلامية في الخليج من منظمة الخليج للاستثمارات الصناعية؟ من كل ما مضى وانطلاقًا من استعداد مبدئي لدى البنوك الإسلامية في منطقة الخليج للاشتراك معًا في مشاريع مشتركة على مستوى الخليج فإن إمكانية التفاعل قائمة بين البنوك الإسلامية والمنظمة، والأسباب بسيطة وسهلة ودون الدخول في تعقيدات علمية لدى البنوك الإسلامية؛ المال، والرغبة في استثماره استثمارًا مجديًا. ولدى المنظمة الخبرة والكوادر الفنية والسوق الواسع ودعم الدول الأعضاء بها لتسهيل تنفيذ دراستها على أرض الواقع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 946 ولهذا فإن منظمة الخليج في اعتقادنا تستطيع أن تشبع الحاجات الآتية للمصارف الإسلامية: 1- إعداد دراسات عن السوق وعن فرص الاستثمار التي يتبين جدواها مبدئيًّا في مجالات الصناعة. 2- إعداد دراسات الجدوى للمشروعات الصناعية والمنوي إقامتها. 3- تقييم دراسات الجدوى التي تعرض على البنوك الإسلامية من عملاء آخرين أو من بيوت الخبرة المتخصصة. 4- مساعدة البنوك الإسلامية في الترويج للمشروعات التي تتبناها البنوك الإسلامية. 5- دعوة البنوك الإسلامية للمساهمة في المشاريع التي تطرحها المنظمة، والتي وافقت عليها الدول الأعضاء. 6- تقديم فرص التدريب اللازمة للكوادر الفنية لدى البنوك الإسلامية في مجالات دراسة وتقييم وإدارة المشروعات الصناعية. أما الصعوبات التي تعرضت لبحث بعضها آنفًا فعند وجود: أ- المشروع المجدي. ب- المتوسط الحجم. جـ- ذو الغرض المقبول شرعًا من وجهة نظر إسلامية. فإنه يمكن بالعمل الدؤوب تخطي الكثير منها والوصول إلى صيغ واتفاقات مقبولة. وأما المنظمة فإن تعاونها مع مجموعة البنوك الإسلامية في دول الخليج سوف يساعدها بالتأكيد على الوصول إلى أهم أهدافها وهو تحقيق الإنماء الصناعي للمنطقة من منظور التعاون والتنسيق الاقتصادي، كما يساعدها في جهودها لتحقيق التكامل الصناعي بين دول منطقة الخليج العربي. إن تعاون المنظمة مع البنوك الإسلامية يمثل أداة فعالة وقادرة على تخطي عقبات الروتين كما يمثل وصولًا أسرع إلى الإمكانيات المادية المطلوبة لدفع عملية التنمية والتكامل، ونحن كمجموعة مصارف إسلامية لنا أمل عريض في أن يشجع هذا التعاون جهات أخرى كثيرة في عالَمَيْنا العربي والإسلامي للسير في نفس الاتجاه وصولًا لتنمية الأمة ورفع مستوى الإنسان وتحقيقًا للاعتماد على النفس. {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] صدق الله العظيم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 947 المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) ندوة عن: "خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية: الجوانب التطبيقية، والقضايا والمشكلات" بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب / البنك الإسلامي للتنمية / جدة. عمان 22 شوال – 25 شوال 1407 هـ 18 /6 – 21 /6 /1987م الجزء: 5 ¦ الصفحة: 948 بحث الدكتور محمد عبد الحليم عمر عن التفاصيل العملية لعقد المرابحة في النظام المصرفي الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: موضوع البحث: حينما قامت البنوك الإسلامية اتجهت صوب الشريعة الإسلامية للبحث عن صيغ لتوظيف أموالها، وكان من بين هذه الصيغ بيوع المرابحة التي تعتبر من الصور المناسبة لطبيعة عمل المصارف في تمويل الأنشطة الاقتصادية المختلفة، وتطبق على نطاق واسع فيها، وبالرغم من ذلك فإنها تكاد تكون الصورة الوحيدة التي ثار حولها جدل كثير ليس من حيث الفكرة كما وردت لدى الفقهاء القدامى، وإنما من حيث الأسلوب الذي تطبق به في البنوك الإسلامية المعاصرة، وبما أن هذا التطبيق يمثل صدى للأفكار النظرية حولها؛ لذلك أثر الخلاف النظري بين الفقهاء المعاصرين على الإجراءات العملية لبيوع المرابحة، الأمر الذي على هذه الصورة محور الاهتمام في كل الندوات والمؤتمرات والدراسات التي جرت حول البنوك الإسلامية، ويأتي هذا البحث ليقوم برصد الإجراءات التفصيلية لبيوع المرابحة لتحديد الفروق بين تطبيقها في البنوك الإسلامية، ثم تقويم هذه الفروق شرعيًّا واقتصاديًّا. وبذلك نصل إلى تحقيق الأهداف التالية. هدف البحث: إن الهدف العام لهذا البحث هو المساهمة العلمية في إنجاح مسيرة البنوك الإسلامية من خلال دراسة إحدى أهم صور توظيف الأموال بها وهي بيوع المرابحة لتحقيق ما يلي: 1- تحديد الإجراءات التفصيلية لبيوع المرابحة في البنوك الإسلامية بصورة مجمعة في بحث واحد حتى يمكن تبادل المعلومات والخبرات بين البنوك التي يجمعها هدف مشترك. 2- تحديد الفروق التطبيقية لبيوع المرابحة بين البنوك المختلفة، ثم تقويم هذه الفروق شرعيا واقتصاديا بصورة تساعد بعض البنوك على تعديل التطبيق استرشادا بالقواعد الشرعية وبما يتم تطبيقه في بنوك أخرى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 949 3- بيان مدى تناسب التطبيق مع الأفكار النظرية شرعية واقتصادية بشكل يوضح للمسئولين في هذه البنوك مدى التزامهم بالأحكام الشرعية في تطبيق عقود المرابحة ومدى ومسايرة هذا التطبيق للأفكار الاقتصادية. مصادر المعلومات: بما أن البحث يجمع بين الإطار التطبيقي والنظري لذلك اعتمدنا في إعداده على المصادر التالية: أ- تجميع المعلومات عن الإجراءات العملية بواسطة الأدوات التالية: 1- استمارة استقصاء – مرفق صورتها – أرسلناها لجميع البنوك الإسلامية ورد علينا بعضها. 2- نماذج من طلب الشراء وعقد الوعد وعقد البيع مرابحة، المستخدمة في عدد من البنوك. 3- دليل إجراءات العمل لبعض البنوك. 4- الإطلاع على الفتاوى الصادرة من هيئة الرقابة الشرعية لبعض البنوك والتي ناقشت تطبيق المرابحة بها. 5- الزيارة الميدانية لبعض البنوك بمصر ومناقشة بعض المسئولين بها عن تطبيق عقود المرابحة. ب- بعض كتب الفقه قديمًا وحديثًا وأعمال المؤتمرات والندوات التي تناولت موضوع المرابحة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 950 محددات البحث: توجد عدة محددات يلزم ذكرها فيما يلي: 1- إن بعض البنوك لم ترد على استمارة الاستقصاء المرسلة إليها وقد تكون لديها إجراءات تختلف عن باقي البنوك لم نذكرها لأننا لم نعلم بها. 2- إننا التزمنا بالضوابط التي وضعتها إدارة الندوة –قدر الإمكان- من حيث عدد الصفحات. 3- إن هناك بحوثًا أخرى في الندوة تتناول بالتفصيل الجوانب المختلفة للمرابحة الفقهية والقانونية والاقتصادية. أسلوب البحث: قام البحث على الأسلوب التالي في عرض المعلومات: 1- بدأنا البحث ببيان الإطار العام لعمليات المرابحة بشقيه الفقهي والمصرفي. 2- قسمنا البحث بحسب المراحل التي تتم بها العملية (المواعدة – الشراء الأول – البيع مرابحة) ثم بحسب الخطوات التي تتم في كل مرحلة. 3- أوردنا الإجراءات العملية التي تتبع في كل خطوة مع تحديد الفروق بينها. 4- أوردنا الرأي الشرعي والاقتصادي بالنسبة لكل خطوة منها. خطة البحث: سعيًا وراء تحقيق الهدف من البحث وتمشيًا مع الأسلوب المذكور تم تنظيم البحث وفق الخطة التالية: المبحث الأول: الإطار العام لبيوع المرابحة. المبحث الثاني: الإجراءات العملية في مرحلة المواعدة. المبحث الثالث: الإجراءات العملية في مرحلة الشراء الأول. المبحث الرابع: الإجراءات العملية في مرحلة البيع مرابحة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 951 المبحث الأول الإطار العام لبيوع المرابحة من المهم وقبل البدء في دراسة الإجراءات العملية لبيوع المرابحة أن نأتي في إيجاز على الجوانب الفقهية والمصرفية لها، لتتضح صورتها الإجمالية ولتساعد على تقويم الفروق التي تظهر في التطبيق، وسوف نتناول ذلك في الآتي: أولًا- الجانب الفقهي ثانيًا- الجانب المصرفي أولًا- الجانب الفقهي: أ- تعريف المرابحة: توجد تعاريف عديدة للمرابحة لدى الفقهاء وهي وإن اختلفت في الصياغة إلا أن دلالاتها واحدة، حيث تدور حول بيع السلعة بثمن شرائها وزيادة ربح، حيث يقول أحد الفقهاء: المرابحة بيع السلعة بالثمن الذي اشتراها به وزيادة ربح. (1) ب- مشروعيتها: يستدل الفقهاء على مشروعية المرابحة بأدلة عامة غير مباشرة مثل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) والرأي الراجح لدى الفقهاء أن المرابحة جائزة شرعًا، وهناك من يرى كراهتها مثل ابن عمر وابن عباس، (3) بل إن هناك من يقول بمنعها مثل ابن حزم (4) ولقد بنيت الآراء التي تقول بالكراهة أو المنع على أن البيع يتضمن غررًا وجهالة ولقد فند ابن قدامة (5) هذه الحجة بما يمكن معه القول أن المرابحة جائزة شرعًا.   (1) الدسوقي – حاشية الدسوقي على الشرح الكبير- دار إحياء الكتب العربية بمصر جـ 3 ص 159 (2) سورة البقرة – آية 275 (3) ابن قدامة – المغني – مكتبة الجمهورية العربية – جـ 4 ص 199 (4) ابن حزم – المحلى – مكتبة الجمهورية العربية – جـ 9 ص 625 (5) ابن قدامة – المغني – مكتبة الجمهورية العربية – جـ 4 ص 199 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 952 ويستفاد من الاستدلال على مشروعية المرابحة بالأدلة العامة، بأن الموضوع يدخل بصورة كبيرة في دائرة الاجتهاد الذي يجب أن يراعي إلى جانب الالتزام بالقواعد الشرعية العامة، ظروف الحال المتغيرة، وبذلك فإن التطبيق المعاصر لبيوع المرابحة يجب أن يراعي الظروف الحالية والتي من أهمها أن العملية تتم بين مؤسسات كبيرة وليس في نطاق المعاملات الفردية التي كانت موجودة في زمن الفقهاء القدامى، هذا إلى جانب التطور الكبير الذي لحق بالأنشطة الاقتصادية، وهذا ما يلزم على المجتهدين المعاصرين مراعاته دون التقيد الحرفي بكل ما قاله الأولون رغم أهميته. جـ – شروط المرابحة: توجد عدة شروط للمرابحة ذكرها الفقهاء القدامى من أهمها: 1- أن يكون الثمن الأول معلومًا لطرفي العقد، وكذلك ما يحمل عليه من تكاليف أخرى. 2- أن يكون الربح محددًا مقدارًا أو نسبة من الثمن الأول. 3- أن يكون الثمن الأول من ذوات الأمثال. 4- أن يكون العقد الأول صحيحًا. إلى غير ذلك من الشروط المذكورة تفصيلًا في كتب الفقه. (1) د- صور المرابحة: يمكن أن تتم المرابحة بإحدى صورتين عرفهما الفقه قديمًا وهما: 1- الصورة الأولى: ويمكن أن يطلق عليها الصورة العامة أو الأصلية وهي أن يشتري شخص ما سلعة بثمن معين ثم يبيعها لآخر بالثمن الأول وزيادة ربح، فهو هنا يشتري لنفسه دون طلب مسبق ثم يعرضها للمبيع مرابحة. 2- الصورة الثانية: وهي ما يطلق عليها حديثًا اصطلاح " بيع المرابحة للآمر بالشراء " وكيفيتها: أن يتقدم شخص إلى آخر ويقول له: اشتر سلعة معينة موجودة –أو يحدد أوصافها- وسوف أشتريها منك بالثمن الذي تشتريها به وأزيدك مبلغًا معينًا أو نسبة من الثمن الأول كربح، وهذه الصورة وإن كانت تسميتها بالبيع مرابحة للآمر بالشراء من إطلاق الفقهاء المعاصرين إلا أن كيفيتها وردت لدى الفقهاء القدامى كما جاء في كتاب الأم للشافعي ما نصه: "وإذا أرى الرجل الرجل السلعة فقال اشتر هذه وأربحك فيها كذا فاشتراها الرجل فالشراء جائز ... " ثم يقول: "وهكذا إن قال: اشتر لي متاعًا - ووصفه - أو متاعًا أي متاع شئت وأنا أربحك فيه فكل هذا سواء يجوز البيع.." (2)   (1) يراجع في ذلك: ابن قدامة المغني مرجع سابق جـ 4 ص 198 وما بعدها، ابن رشد – بداية المجتهد ونهاية المقصد – دار الكتب العربية – جـ 2 ص 273 وما بعدها، الشربيني الخطيب – مغني المحتاج – مطبعة مصطفى الحلبي جـ 2 ص 76 وما بعدها. (2) الإمام الشافعي – الأم- الدار المصرية للتأليف والترجمة جـ 3 ص 33. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 953 ثانيًا: الجانب المصرفي للمرابحة: وسوف نتناول فيه النقاط التالية: أ- مدى تناسب المرابحة مع طبيعة البنوك الإسلامية. ب- حجم عمليات المرابحة في البنوك الإسلامية. جـ- الصورة التي تتم بها وأساليب تطبيقها في البنوك الإسلامية. أ- مدى تناسب المرابحة مع طبيعة عمل البنوك الإسلامية: يثير البعض شبهات (1) حول قيام البنوك الإسلامية بعمليات المرابحة على أساس أن طبيعة عمل هذه البنوك هو الوساطة المالية وأن عملية المرابحة تقتضي الوساطة التجارية ولذلك فإن البنك يطبق المرابحة بأسلوبه كوسيط مالي وليس كتاجر حيث يقوم بدفع مبلغ للمورد ويتقاضى من المشتري مرابحة أزيد منه، وفي ذلك شبهة ربا لا محالة. وفي رأينا أن هذه الشبهة لا محل لها، حقيقة أن طبيعة عمل المصارف عمومًا هو الوساطة المالية، ولكن هذه الوساطة بين الادخار والاستثمار، حيث تقوم بتجميع المدخرات وتوجيهها إلى الاستثمارات المختلفة ويختلف هذا التوجيه بحسب نوع البنوك من تجارية ومتخصصة وبنوك استثمار وأعمال، والتي يحق لها استثمار الأموال بنفسها في أعمال وأنشطة تجارية وصناعية وغيرها.   (1) د. رفيق المصري – النظام المصرفي الإسلامي- المؤتمر الدولي الثاني للاقتصاد الإسلامي باكستان – مارس 1983 ص 47 وله أيضًا نفس الرأي في ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي المدينة المنورة – رمضان 1403 – كتاب المناقشات صفحات 95 – 96، 129 - 130 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 954 ولا تختلف طبيعة عمل البنوك الإسلامية (1) وفق هذا التصور عن غيرها في كونها تقوم بالوساطة المالية بين الادخار والاستثمار، غير أن هذه الطبيعة تقتضي أن تكون البنوك الإسلامية بنوك استثمار وأعمال حيث تقوم بمباشرة الأنشطة الاقتصادية المختلفة بنفسها بصور عديدة ومنها صورة بيوع المرابحة التي تعني شراء وبيع السلع بربح محدد، وبالتالي يمكن القول أن عملية المرابحة لا تتناقض مع طبيعة عمل المصارف الإسلامية بل على العكس هي من أنسب صور توظيف الأموال بها، كما أن دور البنك في هذه العملية ليس التمويل فقط، وإن كان التمويل لا يمنع من كون العملية تجارة أيضًا، لأن الحكمة من بيوع المرابحة تتحدد في الآتي: 1- أن المشتري مرابحة لا تكون لديه الخبرة في الشراء، وبذلك يعهد إلى غيره ممن له خبرة لشرائها ثم يبيعها له مرابحة. 2- أن المشتري مرابحة لا تكون لديه القدرة التنظيمية لإتمام عملية الشراء. 3- أن المشتري مرابحة لا تكون لديه القدرة التمويلية لتمويل عملية الشراء فورًا. 4- تقليل المخاطر على المشتري مرابحة خلال فترة الشراء الأول من المورد. وإحضار السلعة فإنه وإن كان لا يمكن القول بأن البنك الإسلامي أكثر خبرة من المشتري، خاصة إذا كان الأخير يعمل أو يتاجر في السلعة، فإنه بالتأكيد يقدم خدمات أخرى لإتمام العملية مثل تحمل المخاطر خلال فترة الشراء الأول ومباشرة العملية من خلال أجهزته بالإضافة إلى تمويل العملية، ولكل ذلك فهو ليس ممولًا للعملية فقط، وإنما يمارس الدور التجاري، وما يستحق من ربح ليس فقط لتقديم الأموال كالبنوك الربوية وإنما أيضًا لما يقوم به من دور في إتمام الصفقة. ب- حجم عمليات المرابحة في البنوك الإسلامية: تأكيدًا لتناسب عمليات المرابحة مع طبيعة عمل البنوك الإسلامية فإنها تقوم بها على نطاق واسع في جميع أنواع السلع ومن مصادر محلية وأجنبية وبمبالغ كبيرة، فلقد ظهر من الإجابات على استمارة الاستقصاء ما يلي: 1- أن عمليات المرابحة تتم على منقولات من أغذية وسيارات وبضائع مختلفة كما تتم على عقارات في بعض الأحيان. 2- أن نسبة مصدر البضائع تتراوح بين 30 % إلى 90 % مصادر محلية وبين 70 % إلى 10 % مصادر أجنبية. 3- أن نسبة عمليات المرابحة إلى مجموع عمليات التوظيف الأخرى بالبنوك تتراوح بين 90 % وبين 65 % سواء من حيث عدد العمليات أو المبالغ الموظفة.   (1) من المهم الإشارة إلى أن البنوك الإسلامية تختلف عن غيرها في علاقتها بالمدخرين والمستثمرين حيث تقوم هذه العلاقة على قاعدة المشاركة وليس قاعدة الاقتراض والإقراض بفائدة ربوية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 955 جـ- الصورة التي تتم بها المرابحة وأساليب تطبيقها في البنوك الإسلامية: لقد سبقت الإشارة إلى أن الفقه الإسلامي قديمًا عرف صورتين للمرابحة هما الصورة العامة وصورة بيع المرابحة للآمر بالشراء، وبالنظر في التطبيق المعاصر نجد أن الصورة الأولى والتي يسبق العرض فيها الطلب نادرة الحدوث، كما أفادت بذلك البنوك في إجاباتها على أسئلة استمارة الاستقصاء، ويقف وراء هذه الندرة عدة أسباب منها: 1- أن السلع تتعدد ويوجد تخصص في التجارة ولا يعقل أن يتخصص البنك الإسلامي في سلعة معينة، وإلا لكان بذلك يضيق من دائرة نشاطه، كما لا يمكن اقتصاديا شراء جميع السلع وعرضها انتظارًا لطلبها لما يصاحب ذلك من تكاليف ومجهودات كثيرة لدراسة الأسواق، ولوجود مخاطر كبيرة تتمثل في عدم القدرة على تصريف البضاعة وتعطيل جزء من أمواله في المخزون السلعي. 2- أنه لا توجد لدى البنك قدرة تخزينية لاستيعاب السلع التي يشتريها انتظارًا لبيعها مرابحة. 3- عدم وجود الكفاءات البشرية المطلوبة لتنفيذ هذه الصورة والتي يلزم أن تكون متخصصة في عمليات التسويق شراء وبيعًا. لذلك فإن الصورة الأخرى " بيع المرابحة للآمر بالشراء " هي التي تلقى قبولًا في التطبيق العملي كما أفادت بذلك كل البنوك التي ردت على أسئلتنا، وهذه الصورة نقوم بالطبع على الفكرة الأصلية للصورة العامة حيث يقوم المصرف ببيع ما اشتراه مرابحة وإن كان يسبق ذلك طلب من المشتري أي أن الطلب فيها يسبق العرض بما يضمن معه البنك من تصريف السلع التي يشتريها. وبالنظر في الإطار التطبيقي لهذه الصورة كما تحدث في البنوك الإسلامية نجد أنها تطبق بعدة أساليب هي: الأسلوب الأول: وكيفيته أن يتقدم العميل للبنك بطلب شراء سلعة معينة يحدد أوصافها ويقوم المصرف بالحصول عليها بطريقته من أي مصدر ثم يبيعها مرابحة لطالبها. الأسلوب الثاني: وكيفيته أن يتقدم العميل للمصرف بطلب شراء سلعة معينة يحدد أوصافها ومصدر توريدها وكل البيانات المتعلقة بها ويقوم المصرف بشرائها بعينها من نفس المصدر ويبيعها مرابحة لطالبها. وهذان الأسلوبان يطبقان في البنوك الإسلامية وهما جائزان شرعا كما يقرر بذلك الإمام الشافعي في القول السابق سواء حدد العميل سلعة بعينها أو حدد أوصافها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 956 الأسلوب الثالث: ويحدث في حالة السلعة المستوردة والمصرف يكون في دولة تحكمها قوانين وقرارات استيراد، حيث يحدد لكل مستورد في الدولة حصة معينة للاستيراد وتصدر له رخصة بذلك فيتقدم المستورد بطلب إلى البنك ليقوم باستيراد السلعة وبيعها له مرابحة، وبما أن رخصة الاستيراد تكون باسم المستورد وأنه في بيع المرابحة لابد أن تكون السلعة في ملك البنك أولا حتى يمكنه بيعها مرابحة، وحلًّا لذلك فإنه في هذه الحالة يتم تطبيق بيع المرابحة بأي من الطريقتين بحسب ما تسمح به قوانين الدول التي توجد بها البنوك. الطريقة الأولى: أن يقوم العميل المشتري مرابحة بالتنازل عن رخصة الاستيراد للبنك حتى يمكنه شراء السلعة باسمه ثم بيعها مرابحة وهذا ما يتم على سبيل المثال في البنوك الإسلامية العاملة بالسودان. الطريقة الثانية: أن تستخدم الموافقات او الرخص الاستيرادية للعملاء لإتمام عملية الاستيراد وترد مستندات الشحن باسم المصرف ويتم تظهيرها تظهيرا ناقلا للملكية باسم العميل ويتم إبرام عقد البيع مرابحة معه وبذلك تدخل البضاعة إلى الدولة باسم المستورد، وهذا يحدث في بنك فيصل المصري حيث إن قوانين الاستيراد في مصر تحظر على غير المصريين الاستيراد وبنك فيصل يعتبر من المصارف المشتركة لأن به مساهمين أجانب. وتجدر الإشارة إلى أنه لو كان للبنك الحق في الاستيراد فإن العملية تدخل في نطاق الأسلوب الثاني. الأسلوب الرابع: ويمكن تسميته بأسلوب توكيل البائع أو المورد في إجراء عملية البيع مرابحة نيابة عن البنك، وكيفيته كما وردت في جواب المستشار الشرعي للبنك الإسلامي الأردني ردا على مدى شرعية هذا الأسلوب في إجراء عمليات المرابحة، أن يتولى البنك اختيار البائعين وتحديد سقف لمعاملاتهم مع البنك في حدود مبلغ معين على أن يتقدم المشتري بطلب شراء للبنك، فيطلب البنك من البائع عرض أسعار للتحقق من مطابقة الشروط ثم يشتري البنك البضاعة من البائع بموجب فاتورة صادرة باسمه ويتولى البائع بطريق الوكالة تنظيم عقود البيع مرابحة واستلام الدفعة الأولى وتنظيم الكمبيالات وكفالتها ثم يقدم البائع مستندات العملية للبنك الذي يدفع له قيمتها. وقد أجاب المستشار باعتماد هذا الأسلوب (1) .   (1) البنك الإسلامي الأردني – الفتاوى الشرعية جـ1 1984 فتوى رقم 5، 14، 21 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 957 الأسلوب الخامس: ويمكن أن نطلق عليه أسلوب توكيل المشتري مرابحة في إجراء عملية البيع مرابحة نيابة عن البنك، وكيفيته كما ورد في ندوة البركة بالمدينة المنورة (1) أن يطلب شخص من البنك شراء سلعة معينة لبيعها له مرابحة فيتفق معه البنك على توكيله في عملية الشراء، ثم توكيله ثانية في بيعها لنفسه مرابحة، وقريبا من ذلك ما ذكره أحد أعضاء الندوة (2) فيما وجده مطبقا في بعض البنوك بأن يحضر شخص للبنك ويطلب منه شراء سلعة معينة ليشتريها من البنك مرابحة، فيقوم البنك بإعطائه شيكا بالمبلغ لشرائها بنفسه وأخذها مرابحة، وفي رأينا فإن هذا الأسلوب بشقيه (توكيل أو بدون توكيل) غير سليم للآتي: 1- أنه لا يجوز في عقود المفاوضات ومنها البيع أن يتولى شخص واحد تولي العقد عن الجانبين؛ ولذلك لم يجز أن يكون الشخص الواحد وكيلا عن الجانبين في البيع وأشباهه (3) ، وبالتالي فإنه وإن صح توكيل المشتري مرابحة في إجراء الشراء الأول فلا يصح توكيله في البيع لنفسه مرابحة. 2 – أن في هذا الأسلوب شبهة التحايل لمعاملة ربوية حيث قد لا تكون هناك سلعة بالمرة، وإنما تتم العملية صوريًّا لحصول العميل على مبلغ الصفقة حالا ورده آجلا بزيادة، وذكر السلعة بينهما لتغطية العملية. لذلك فإننا ندعو البنوك الإسلامية إلى الامتناع عن هذا الأسلوب الذي يخالف الشريعة الإسلامية.   (1) ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي- المدينة المنورة – مرجع سابق ص 323- 330 (2) د. صديق الضرير – مرجع سابق ص 106 (3) الشيخ محمد أبو زهرة – الملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية – دار الفكر العربي 1976 ص406 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 958 المبحث الثاني الإجراءات العملية في مرحلة المواعدة لقد سبق القول أن بيع المرابحة للآمر بالشراء هو الصورة المطبقة في البنوك الإسلامية، وتبدأ هذه الصورة بمرحلة المواعدة على الشراء حيث يتقدم العميل إلى البنك بطلب لشراء السلعة، وبعد أن يتم دراسة الطلب يتم إبرام عقد الوعد معه، وبالتالي فإن الإجراءات في هذه المرحلة تسير وفق الخطوات التالية: أولا – تلقي المصرف لطلب الشراء. ثانيا – دراسة المصرف العملية. ثالثا – إبرام عقد الوعد مع العميل. أولا – طلب الشراء: تبدأ العملية بتلقي البنك طلبا من العميل يوضح فيه رغبته في أن يقوم البنك بشراء سلعة معينة على أن يشتريها العميل منه مرابحة، ومن الناحية التطبيقية فإن ذلك يتم في جميع البنوك الإسلامية من خلال نموذج يسمى " طلب شراء أو طلب شراء المرابحة أو رغبة بالشراء ". أ – البيانات التي تظهر به: 1 – بيانات مشتركة لدى جميع البنوك وهي: - مواصفات البضاعة المطلوب شراؤها، - بيانات عن العميل. - القيمة الإجمالية، - المستندات المطلوبة. 2 – بيانات تنفرد بها بعض البنوك: - نسبة الربح، - مصدر البضاعة -، شروط ومكان التسليم. هذا مع ملاحظة ما يلي: - أن هذا الطلب أو الرغبة عبارة عن بيان بالبضائع المطلوب شراؤها كما هو واضح من التقديم في نماذجها. - أن هذه النماذج تحيل إلى عقد الوعد الذي يوجد على نفس نموذج طلب الشراء بالصفحة الخلفية في بعض البنوك وتظهر الإحالة بالنص وهذه البضائع هي موضوع وعد الشراء المحرر بيننا وبينكم بتاريخ / /، وبالتالي فإن ما لم يذكر في طلب الشراء من بيانات لدى بعض البنوك يوجد تفصيلا وزيادة عليه في عقد الوعد كما سنرى فيما بعد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 959 ب – ومن دراسة نماذج طلبات الشراء وإجابات البنوك على استمارة الاستقصاء عن هذه الخطوة يتضح أن العميل قد يقوم بالدراسة المبدئية لتحديد السلعة محل الصفقة وتحديد مصدرها وسعر شرائها وكافة الشروط الأخرى المتعلقة بالشراء الأول، ولتقويم ذلك اقتصاديا يمكن القول بالآتي: 1 – إن قيام العميل بتحديد السلعة ومصدرها والسعر المبدئي لشرائها أمر طبيعي لأنه الذي يحتاج السلعة وهو أقدر على تحديد مواصفاتها ويعرف مصادرها ولديه خبرة بها، هذا مع مراعاة أن البنك يقوم بعد تلقى طلب الشراء بدراسة العملية كما سيأتي بعد. 2 – من الناحية الفقهية فإن قيام العميل بالاتصال الأول بالموردين وتحديد السلعة أمر يجد سنده الفقهي في قول الإمام الشافعي المشهور حيث جاء في صدره: " وإذا أرى الرجلُ الرجلَ السلعةَ،: فقال اشتر هذه وأربحك فيها ... " حيث يفهم من النص أنه يجوز أن يقوم المشتري مرابحة بتحديد السلعة تعيينًا ويريها للبائع مرابحة، وتطبيق ذلك في الوقت المعاصر يكون باتصال المشتري مرابحة بالمورد والحصول منه على فاتورة مبدئية وباقي المستندات في حالة الاستيراد من الخارج وتقديمها مع طلب الشراء للبنك. ثانيا – دراسة العملية: حينما يتلقى البنك طلب الشراء من العميل يقوم بدراسة العملية من كل جوانبها، والتي تشمل – بإيجاز – كما ورد بدليل الإجراءات لدى أحد البنوك: (1) . 1- سلامة البيانات المقدمة من العميل سواء عن نفسه أو البضاعة موضوع الصفقة أو المورد. 2 – دراسة سوق السلعة حتى يضمن إمكانية تسويقها في حالة نكول العميل عن الشراء. 3 – التأكد من أن الطلب يدخل فعلا ضمن نشاط العميل حتى لا تكون العملية ستارا لحصوله على مبلغ الصفقة. 4 – التأكد من أن العملية تتفق والأغراض التي يمولها البنك. 5 – التأكد من أن العملية تتفق وأحكام الشريعة الإسلامية والقوانين السائدة. 6 – دراسة الحالة المالية للعميل للتأكد من قدرته على سداد الثمن. 7 – بيان تكلفة العملية بالتفصيل. 8 – تحديد نسبة الربح طبقا لنوع السلعة وأجَل السداد. 9 – تحديد الأسلوب المقترح لتنفيذ العملية من حيث كيفية دفع الثمن للموردين وتحصيله من العميل. 10- تحديد الضمانات المقترحة لضمان حق البنك في تحصيل الثمن في ضوء حالة العميل وقيمة الصفقة.   (1) بنك فيصل الإسلامي المصري – دليل العمل ص120 وما بعدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 960 هذا مع ضرورة الإشارة إلى بعض الأمور المتصلة بدراسة العملية التي اتضحت لنا من إجابات البنوك على استمارة الاستقصاء وهي: أ – أن بعض البنوك عند دراسة العملية تقوم بالحصول على عروض أخرى لنفس نوع السلعة ومواصفاتها بغرض المقارنة والحصول على أفضل العروض لإتمام الصفقة، وهذا أمر له أهميته؛ لأن فيه خدمة للمشتري مرابحة ويؤكد صحة ما ذهبنا إليه سابقا من أن دور البنك في العملية ليس مجرد دور تمويلي فقط كما يعتقد البعض، بل أنه يقوم بدور تجاري أيضا. ولقد أوردنا سؤالًا باستمارة الاستقصاء: " إذا كان لدى المصرف عرض من مورد آخر خلاف المورد الذي حدده العميل بشروط أفضل، هل يؤخذ به؟ " فأجابت بعض البنوك بنعم وأخرى: لا. ب – أنه توجد لدى البنوك مشكلات تتعلق بدراسة العملية من أهمها: 1- عدم توافر المعلومات عن الموردين – خاصة المصدرين – ويقترح لذلك: - إنشاء مركز معلومات عن الموردين. - إقامة علاقات مع كل من الغرف التجارية والزراعية والصناعية والملحقين التجاريين والهيئات التجارية بالدول الإسلامية. 2 – عدم وجود قسم لدراسة السلع يمكن بواسطته دراسة الحالة التسويقية للسلعة حتى يمكن تصريفها في حالة نكول العملاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 961 ثالثا – عقد الوعد: إن الخطوة التالية لدراسة العملية وقبول البنك القيام بها هي إبرام عقد الوعد مع العميل، والذي يتفق بموجبه الطرفان – البنك والعميل على تنفيذ العملية، وسوف نتناول في هذه الخطوة ما يلي: أ – هل يتم إبرام عقد الوعد أو يكتفى بطلب الشراء؟ لقد أجابت غالبية البنوك على هذا التساؤل بنعم وأرفقت بإجاباتها نموذجا لهذا العقد، وأجاب عدد قليل منها بأنه يكتفى بطلب الشراء، والحجة لدى الفريق الأخير أن إبرام عقد الوعد فيه معنى الإلزام بإتمام الصفقة، وهم لا يأخذون بالرأي الذي يقول بالإلزام بالنسبة للعميل – كما سيأتي بعد- وبالتالي فليس هناك حاجة في نظرهم لإبرام عقد الوعد، وبمناقشة ذلك يمكن القول أن إبرام عقد الوعد ضروري من الناحية العملية حتى مع القول بعدم إلزام الوعد؛ لأن العميل وقد أبدى رغبته في الشراء بموجب طلب شراء فإن الأمر يقتضي الرد على طلبه كتابة؛ لأنه لا يمكن الاعتماد على ذاكرة العاملين، أو العميل وبدلا من أن يرسل البنك له خطابا بذلك فإن الأفضل أن يبرم معه اتفاقا مكتوبا يحفظه كل طرف في ملف العملية لديه حتى يبدأ في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذ الصفقة، ويمكن النص إذا رأيا الأخذ بعدم الإلزام على ذلك بالعقد. ب – البيانات التي تذكر بعقد الوعد: بالاطلاع على نموذج العقود التي وصلتنا مع استمارة الاستقصاء وجدنا أنها تشتمل على البيانات التالية: 1 – بيانات مشتركة لدى جميع البنوك، وهي: - المقدمة التي تشتمل على البيانات الخاصة بطرفي العقد، وموضوع العقد وهو البيع مرابحة. - الإحالة إلى طلب الشراء فيما يتعلق بتحديد نوع البضائع ومواصفاتها وغير ذلك من البيانات التي وردت به. - نسبة الربح المتفق عليها. - كيفية سداد ثمن البيع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 962 2 – بيانات تختلف من بنك إلى آخر، وهي: - إقرار الطرف الثاني (العميل) بتنفيذ وعده بالشراء عند إخطار البنك له بأن البضاعة جاهزة، فلقد ورد هذا الإقرار في أغلب النماذج. - ورد في نماذج بعض البنوك بأنه إذا امتنع أحد طرفي العقد (العميل أو البنك) من تنفيذ وعده يتحمل الأضرار التي تلحق بالطرف الآخر، بينما ورد ذلك بالنسبة للعميل فقط لدى بعض البنوك الأخرى. - إقرار الطرف الثاني بأهليته للتعاقد والتزامه بأحكام الشريعة والنظام الأساسي للبنك. - النص على قيام العميل بدفع مبلغ مقدم عند توقيع عقد البيع كتأمين لضمان جديته. - النص على أن الشاحن يعتبر وكيلا عن البنك، وفي نماذج أخرى وكيلا عن الطرفين. - النص على أن ما ورد ذكره يخضع للقوانين والأعراف النافذة في الدولة، وبما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، وفي بنوك أخرى أحالت النزاع الذي ينشأ إلى هيئة تحكيم يختارها الطرفان. - نصت بعض البنوك على أحقيتها في شراء البضاعة من مصدر آخر خلاف المورد الذي حدده العميل في طلب الشراء، بينما نصت بعض البنوك على أنه إذا امتنع المورد الذي عينه العميل عن تنفيذ الصفقة أو أخرها لا يكون البنك مخلا بوعده وليس مسئولا عن الضرر الذي يعود على العميل، وعليه – أي العميل- أن يدفع كافة المصاريف التي تكبدها البنك نتيجة عدم تنفيذ الصفقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 963 وبالنظر في هذه البيانات يمكن إبداء الملاحظات التالية. 1 – أن تحديد الربح ورد في بعض النماذج كنسبة من التكلفة الكلية، وفي البعض الآخر استثنى منها الرسوم الجمركية، ومصاريف النقل إلى مخازن العميل، وسوف نعود إلى ذلك تفصيلا فيما بعد. 2 – أن النص على إلزام العميل بالوفاء بوعده دون البنك في بعض عقود الوعد يحتاج إلى تعديل؛ لأن الأصل المتفق عليه وفقا لقول الشافعي أن البنك ملزم بتنفيذ وعده، بينما الخلاف يدور حول إلزام العميل كما سيأتي بعد. 3 – أن النص في بعض النماذج على التزام العميل بتعويض الضرر الواقع على البنك نتيجة عدم الوفاء بوعده يحتاج إلى تعديل كما جاء في النماذج الأخرى التي تلزم في ذلك كلًّا من العميل والبنك. 4 – أن النص على أن الشاحن يكون وكيلا عن الطرفين ليس له سنده القانوني أو الشرعي؛ لأنه في مرحلة الشراء الأول يكون البنك هو المشتري ولا دخل للعميل بها. 5 – أن النص على أنه إذا امتنع المصدر المعين من قبل العميل على تنفيذ العملية فإن البنك لا يكون مسئولا، يحتاج إلى إعادة نظر؛ لأن ذلك يخفف من مسئولية البنك بينما مسئولية العميل قائمة مهما كانت الأعذار. جـ-الإلزام بالوعد: تعتبر هذه القضية من موضوع بيع المرابحة للآمر بالشراء محل الخلاف الرئيسي حيث كثرت فيها الكتابات وصدرت بشأنها التوصيات العديدة، ويدور الخلاف فيها بين آراء ثلاثة أولها: أن الوعد غير ملزم للعميل أو المصرف، وثانيها: أن الوعد ملزم للمصرف فقط، وثالثها: أن الوعد ملزم لكل من العميل والمصرف، ويأتي التطبيق العملي صدى لهذه الآراء، كما أفادت بذلك البنوك في إجاباتها على استمارة الاستقصاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 964 ويعتبر الرأي الثالث (الإلزام لكلا الطرفين) هو الرأي الراجح لدى الفقهاء المعاصرين وبالتالي هو الرأي السائد في التطبيق العملي، ويقف وراء هذا الرأي الذي تؤيده عدد من الحجج العملية والأدلة الشرعية (1) ، لسنا في حاجة إلى تكرارها لكننا نود التأكيد بخصوصها على الآتي: 1 – أن موضوع المرابحة في أصل من الأمور الاجتهادية التي لم يرد فيها نص شرعي محدد، وبالتالي فإن الاستدلال بقول الإمام الشافعي بعد الإلزام بالوعد للعميل هو اجتهاد منه صدر في ظل ظروف معينة، وكما يقول الدكتور القرضاوي (2) : " ومن يدري لعل الإمام الكبير- يقصد الشافعي – لو رأى ما يترتب اليوم على إعطاء الخيار لطالب الشراء في الصفقات الكبيرة من الأضرار والخسائر لغير اجتهاده دفعا للضرر وتجنبا لأسباب النزاع بين الناس ". وعلى ذلك فإن الرأي الذي وصل إليه جمهور الفقهاء المعاصرين من القول بالإلزام لا يخالف نصا ولا يعطل حكما شرعيا قائما، بل على العكس يدور في فلك مقصود الشريعة من المحافظة على الأموال ومنع الضرر والحد من المنازعة بين الناس. 2- أن الوفاء بالوعد من القواعد الأصولية في الإسلام التي يجب أن يلتزم بها المسلم في كل أعماله. 3 – أن هناك آراء لدى الفقهاء القدامى تقول بالإلزام بالوعد في المعاملات دينا وقضاء.   (1) انظر في ذلك: د. يوسف القرضاوي – " بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية " دار القلم الكويت. (2) د. يوسف القرضاوي – " بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية " دار القلم الكويت ص51 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 965 4 – أن التراضي من أهم ركائز العقود والمعاملات في الإسلام، وحيث إن الطرفين تراضيا على الالتزام بالوعد فإنه ينفذ طالما لم يتفقا على ما يخالف نصا شرعيا، وأن هذا الإلزام لا ينافي مقصود العقد. 5 – أن ما يسوقه البعض (1) من أنه كان هناك إلزام بالوعد فإن العملية تكون قد تمت، وفي ذلك مخالفة للحديث الشريف ببيع الإنسان ما ليس عنده، هذا فضلا على أنه لا يكون هناك داع لإبرام عقد البيع عند حضور البضاعة، هذا القول مردود عليه بأن الاجتهاد الفقهي والتطبيق العملي المعاصر على أن عقد الوعد ليس بعملية بيع، وأنه ينصب على الوفاء بالوعد فقط، بدليل أنه يمكن تعديل الثمن أو شروط السداد في عقد البيع بعد ورود البضاعة والوقوف على تكلفتها الفعلية؛ ولذلك لا تحتوي عقود الوعد في البنوك الإسلامية على ثمن البيع مرابحة بل تذكر بقيمة إجمالية – احتمالية – في طلب الشراء، ولذلك لا يتم عقد البيع إلا بعد ورود البضاعة فعلا للبنك. وفي نهاية هذا المبحث نورد ملاحظة عامة تتعلق بترتيب الإجراءات في مرحلة المواعدة، فلقد تبين لنا أنها لا تمر وفق الخطوات المنطقية التي ذكرناها (طلب شراء – دراسة العملية- إبرام عقد الوعد) ، بل الذي يتم هو تقديم طلب الشراء كبيان بالبضائع مع إبرام عقد الوعد في نفس الوقت، والذي يكون على نفس نموذج طلب الشراء، ثم يبدأ البنك في دراسة العملية، فإن وجدها مجدية استمر فيها وإلا توقف عنها، وهذا الإجراء يتعارض أولا مع الترتيب المنطقي للعملية، وثانيا أنه في حالة الأخذ بالالتزام بالوعد للطرفين ورأى البنك بعد الدراسة عدم جدوى العملية يعتبر مخلا بالوعد، ولكن الذي يحدث في بعض البنوك أنه غير مخل بوعده، وفي ذلك تناقض بين الإطار النظري والتطبيقي لدى هذه البنوك، بل أننا وجدنا بعض البنوك تذهب في المخالفة إلى أبعد من ذلك فتبرم عقد البيع مع عقد الوعد عند تلقي طلب الشراء.   (1) د. الصديق الضرير – ندوة البركة – مرجع سابق ص: 102 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 966 المبحث الثالث: الإجراءات العملية في مرحلة الشراء الأول بعد أن تنتهي الإجراءات في مرحلة المواعدة تبدأ المرحلة التالية وهي قيام البنك بإجراءات شراء السلعة المطلوبة حتى يتمكن من بيعها مرابحة للعميل، وتمر هذه المرحلة في الخطوات التالية: أولا: الاتصال بالمورد والتعاقد معه للشراء. ثانيا: استلام البنك للسلعة من المورد. ثالثا: المخاطر التي تتعرض لها السلعة خلال مرحلة الشراء الأول. أولًا: الاتصال بالمورد والتعاقد معه للشراء: وسوف نتناول في هذه المرحلة الإجراءات التالية: أ – الاتصال بالمورد: يقوم المصرف بالاتصال بالمورد بعدة طرق أهمها: 1 – إذا كان المورد محددا في طلب الشراء المقدم من العميل فإن البنك تكون لديه بيانات عنه وعن البضاعة وأسعارها من واقع الفاتورة المبدئية، وشروط التسليم والدفع، وبذلك فإنه يبدأ في الاتصال به واتخاذ إجراءات الشراء بالطرق المعتادة، وهذا لا يمنع لدى بعض البنوك من أن يحصل البنك على عروض من موردين آخرين للمقارنة بينها واختيار الأفضل، وهذا ما أفادت به بعض البنوك. 2 – إذا لم يكن المورد محددا في طلب الشراء فإن البنك يتولى بواسطة القسم أو الإدارة المختصة لديه بالاتصال بالموردين والحصول على عروضهم، ثم يبدأ في الشراء بالإجراءات المعتادة. 3 – أن يكون هناك اتفاق مسبق بين البنك وبعض الموردين على تصريف سلعهم من خلال عمليات المرابحة بالبنك، وبذلك فإن العميل حينما يذهب للمورد للشراء يرسله للبنك فيقدم طلب شراء وبعد دراسته وإبرام عقد الوعد يصدر أمر توريد للمورد ويشتري منه البضاعة، ثم يوكل البنكُ الموردَ في عملية البيع مرابحة للعميل كما سبق ذكره. 4 – توكيل البنك للعميل في الاتصال بالموردين في مرحلة الشراء الأول خاصة إذا لم يكن في البنك قسم مختص أو خبراء لشراء هذه السلعة، هذا مع ضرورة الإشارة إلى أنه وإن كان يجوز شرعا توكيل البنك للعميل في الشراء الأول، فإنه لا يجوز توكيله في البيع مرابحة لنفسه كما سبق ذكره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 967 ب – التعاقد مع المورد: 1- أسلوب التعاقد: يتم التعاقد مع المورد بأساليب تختلف بحسب الظروف ونوع السلعة وبذلك يأخذ التعاقد أحد الأساليب التالية: - إصدار أمر توريد للمورد، ثم ورود الفاتورة منه، وذلك في الشراء المحلي. - فتح الاعتماد المستندي، وورود مستندات الشحن التي يتسلمها الشاحن وكيلا عن البنك. - إبرام عقد شراء بين المصرف والمورد، خاصة في حالة العقارات وبعض المنقولات كالسيارات. وبكل هذه الأشكال ينعقد الشراء الأول بين المورد والبنك بناء على الرأي الفقهي الراجح (1) في أن العقود تنعقد بكل ما يدل على مقصودها من قول أو فعل أو ما يقوم مقامهما كالكتابة، وحيث إن إرسال أمر التوريد للمورد يمثل إيجابا من البنك فإن إرسال المورد للفاتورة أو مستندات الشحن إلى البنك يمثل القبول. 2 – شروط التعاقد: ومن أهم ما يجب ذكره هنا ما يلي: - أنه يجب أن يكون مستند التعاقد (فاتورة أو عقد) باسم البنك حتى لو تولى أي شخص آخر الشراء وكيلا عن البنك، وذلك حتى يتحقق شرط ملكية البنك للسلعة قبل بيعها مرابحة، وهذا ما يحدث في الواقع التطبيقي كما أفادت بذلك البنوك في إجاباتها على أسئلة استمارة الاستقصاء بأن البنك يقوم بالشراء لحساب نفسه وتكون المستندات باسمه، هذا مع مراعاة أن بعض البنوك أفادت بأن الفواتير ترد باسم العميل وذلك بالنسبة لعمليات الاستيراد، ونرى في هذه الحالة أن العملية لا تكون بيع مرابحة بل يكون البنك وكيلا عن العميل في الشراء. - بالنسبة لبعض السلع كالعقارات والسيارات فإن القوانين السائدة في الدول المختلفة تشترط لنقل الملكية ضرورة تسجيل عقد البيع في إدارة التسجيل الحكومية المختصة " كالشهر العقاري بمصر " وبناء عليه فإنه يلزم في حال شراء البنك لمثل هذه السلع أن يسجلها باسمه قبل بيعها مرابحة حتى تتحقق ملكيته لها، وهذا ما ورد في الفتاوى الشرعية لبعض البنوك (2) ، ونرى بالنسبة لهذه النقطة أنه يمكن الاكتفاء في تحقيق شرط ملكية البنك للسلعة قبل بيعها مرابحة بالعقد الابتدائي تبسيطا للإجراءات، وتخفيضا لتكاليف السلعة خاصة في الدول التي يتطلب التسجيل فيها إجراءات مطولة وتكاليف كبيرة، وبما أن البنك يشتري السلعة ليبيعها بمجرد شرائها، فلا داعي لأن تتم إجراءات التسجيل مرتين، مرة باسم البنك ومرة باسم المشتري مرابحة، هذا فضلا عن أن ما نراه لا يتعارض مع القواعد الشرعية التي تقول بأن العقد ينعقد بكل ما يدل عليه وأن الإقرار به عند حاكم (التسجيل) إجراء لتأكيد العقد وليس ضرورة لإنشائه، فهي توثقة للعقد لا زيادة فيه (3) . - صفة الثمن: نظرا لأن بيع المرابحة يبنى على الثمن الأول، فإنه يلزم العلم به صفة ومقدارا وهذا ما سنوضحه فيما بعد، كل ما نريد توضيحه هنا أنه لو اشترى البنك السلعة بالأجل فلا بد أن يبين هذه الصفة قبل البيع مرابحة (4) لأن للأجل حظا في الثمن يزيد به فلا بد أن يعرف المشتري مرابحة أجل الثمن في الشراء الأول.   (1) الشيخ محمد أبو زهرة – الملكية ونظرية العقد - ص 234، 238 (2) البنك الإسلامي الأردني – الفتاوى الشرعية – مرجع سابق ص 98 (3) الخطيب الشربيني – مغني المحتاج – مرجع سابق جـ2 ص 120 (4) الدسوقي – حاشية الدسوقي – دار إحياء الكتب العربية جـ3 ص165 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 968 ثانيا: استلام البنك للسلعة من المورد: لإتمام تحقق شرط ملكية البنك للسلعة قبل بيعها مرابحة، ولكي يتم الشراء الأول فإنه يلزم أن يستلم البنك السلعة المشتراة، وهذا أمر طبيعي في عمليات الشراء العادية، ولكن بما أن البنك يشتري السلعة ليبيعها مرابحة فإنه تثور بعض التساؤلات تدور حول استلام البنك للسلعة كأحد الإجراءات التي تثبت ملكيته لها، وهذه التساؤلات تدور حول من يقوم بعملية الاستلام ونقل السلعة. أ – من يقوم باستلام السلعة في الشراء الأول: بما أن البنك هو الذي يقوم بالشراء الأول لحساب نفسه فإن الوضع الطبيعي أن يقوم هو باستلام السلعة من مخازن المورد أو المكان المحدد في شروط التسليم، ولكن بما أنه يشتريها ليبيعها مرابحة فإنه يتصور أن عملية التسليم للبنك ثم تسليم السلعة للمشتري مرابحة تتم مرة واحدة، ولقد جاءت إجابات البنوك على هذا التساؤل في استمارة الاستقصاء وفق الآتي: 1 – بعض البنوك أفادت بأن الذي يتسلم البضاعة من المورد هو المشتري مرابحة. 2 – بنوك أخرى أفادت بأن الذي يتسلم البضاعة من المورد هو مندوب المصرف. 3 – والقسم الأخير من البنوك أفاد بأن عملية الاستلام تتم مشاركة بين مندوب المصرف والعميل. ومما لا شك فيه أن حضور المشتري مرابحة – أو مندوبة – عملية الاستلام في الشراء الأول أمر هام؛ لأن ذلك يقلل المنازعة حول السلعة في البيع مرابحة له، غير أنه من المهم حضور مندوب البنك معه؛ لأنه هو الذي يشتري في هذه المرحلة. وفي حالة المشتريات الخارجية فإن البنوك أفادت بأنه في أغلب الأحيان يتولى المشتري مرابحة التخليص الجمركي على البضاعة؛ نظرا لخبرته في ذلك، ولأن البنوك في العادة ليس لديها الإمكانات لعمل ذلك. ب – نقل السلعة من مخازن المورد إلى مخازن البنك قبل بيعها مرابحة: من الأمور المهمة لتحقيق شرط ملكية البنك للسلعة قبل بيعها مرابحة قبضها حتى تتحقق حيازته للسلعة، ومن المقرر قانونا شرعا أن الحيازة للمنقول تكون بنقله، وللعقار تكون بالتخلية وما يحدث في الواقع التطبيقي في البنوك الإسلامية هو الآتي: 1 – بالنسبة للمشتريات الخارجية، فإن شرط قبض البنك للسلعة قبل بيعها مرابحة يتحقق؛ لأن الشاحن يكون وكيلا عن البنك كما سبق ذكره. 2 – بالنسبة للعقارات فإن شرط القبض يتحقق أيضا؛ لأنه يحدث بالتخلية، أي تمكين البنك من العقار. 3 - بالنسبة للمشتريات المحلية (منقولات) فإن البنوك أفادت بأن السلعة تظل في مخازن المورد حتى يبيعها مرابحة؛ نظرا لعدم وجود قدرة تخزينية كافية لديها. وفي تقويم هذا الأسلوب شرعيا نجد أن مالكًا يرى أنه يجوز بيع ما سوى الطعام قبل القبض، وأما الطعام فالقبض فيه شرط في بيعه، ورأي أحمد قريب من هذا. وأما أبو حنيفة فالقبض عنده شرط في كل بيع ما عدا المبيعات التي لا تنتقل ولا تحول كالدور والعقار، وهذا هو رأي الشافعي (1) ، وبالنسبة لجميع المبيعات.   (1) ابن رشد – بداية المجتهد ونهاية المقتصد – دار الكتب العربية جـ2: ص 182 – 183- ابن قدامة – المغنى: مرجع سابق جـ4: ص121- 128 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 969 ثالثا: المخاطر التي تتعرض لها السلعة خلال مرحلة الشراء الأول: إن السلعة في مرحلة الشراء الأول حتى بيعها مرابحة تكون في ملكية البنك، وعلى ذلك فالمقرر شرعا أن ضمانها يكون على البنك بمعنى أنه هو الذي يتحمل مخاطرها؛ لأنه المالك لها، وهذا ما أفادت به جميع البنوك في إجاباتها على استمارة الاستقصاء، لكن هناك بعض النقاط جديرة بالذكر من أهمها: أ – أن البنوك تحمل المشتري مرابحة مبلغ التأمين على البضاعة خلال الشراء الأول، وذلك بإدراج هذا المبلغ ضمن المصروفات التي تحمل على الثمن الأول، ويقتضي الأمر طالما أن البنك هو الذي يتحمل مخاطر السلعة خلال مرحلة الشراء الأول أن لا يحمل العميل قيمة التأمين؛ لأنه ما دام البنك يتحمل تبعة الهلاك، والتأمين هنا تكلفة لتبعة الهلاك فإذا حمل بها الآمر بالشراء كان فيها شبهة، ومن وجه آخر فإنه إذا تعرضت البضاعة لمخاطر معينة وتلف جزء منها فإن البنك هو الذي يقبض مبلغ التعويض فكيف يحمل العميل بقيمة التأمين ويحصل البنك على التعويض؟ ب – بعض البنوك تشترط في عقد البيع مرابحة على العميل إبراءها من أي عيب يكون بالسلعة، ويفهم من هذا أن ذلك يكون سواء حدث العيب عند المورد أو عند البنك، وبالتالي فإنه إذا حدثت مخاطر أدت إلى عيوب بالسلعة فإن الذي يتحملها هو العميل وليس البنك، وهذا جائز شرعا (1) . جـ- في حالة إجراء البيع مرابحة للسلعة على البرنامج أو الصفة أي قبل وصول السلعة وفحصها، ويكون ذلك غالبا في المشتريات الخارجية حيث يقوم البنك بتظهير بوليصة الشحن تظهيرا ناقلا للملكية باسم المشتري مرابحة، فما هو حكم المخاطر التي تتعرض لها السلعة قبل تسليمها للمشتري مرابحة؟ الرأي الفقهي لدى أبي حنيفة أن كل بيع تلف قبل قبضه من ضمان البائع إلا العقار، وقال الشافعي: كل بيع من ضمان البائع حتى يقبضه المشتري. أما مالك فيرى ذلك بالنسبة للطعام فقط، ولأحمد رأيان أحدهما من ضمان البائع والثاني أنه من ضمان المشتري، هذا مع مراعاة ما يلي بالنسبة لهذا البيع: 1 – إنه لو اشترط البنك على العميل إبراءه من أي عيب يظهر بالسلعة فذلك جائز كما سبق ذكره في فقرة (ب) . 2 – أن البيع على البرنامج جائز عند مالك (2) طالما كان المبيع موافقا للصفة التي ذكرت خلافا للشافعي (3) .   (1) ابن رشد – بداية المجتهد ونهاية المقتصد – مرجع سابق جـ2 ص234 (2) الإمام مالك – الموطأ – دار الشعب ص415- 416 (3) الإمام الشافعي – الأم – مرجع سابق جـ3 ص18، 45 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 970 المبحث الرابع الإجراءات العملية في مرحلة البيع مرابحة هذه هي المرحلة الأخيرة من مراحل البيع مرابحة، وسوف نتناول فيها النقاط التالية: أولا: عقد البيع مرابحة ثانيا: ثمن البيع ثالثا: الضمانات رابعا: التوقف عن الدفع خامسا: النكول سادسا: المعالجة المحاسبية لعمليات المرابحة وفيما يلي تفصيل ذلك: أولا: عقد البيع مرابحة: من المقرر في جميع البنوك أنه يتم إبرام عقد البيع مرابحة، ولا يكتفى بعقد الوعد السابق، وهذا ما يؤكد ما سبق أن ما ذكرناه بأن عقد الوعد ليس عقد بيع، وسوف نتناول بخصوص عقد البيع ما يلي: أ – متى يتم إبرام عقد البيع مرابحة؟ يختلف وقت إبرام عقد البيع مرابحة في البنوك المختلفة، فهناك من يذكر أنه يتم إبرام العقد خلال مدة لا تتجاوز خمسة عشر يوما من تاريخ إخطار البنك للعميل بأنه اشترى البضاعة وأصبحت جاهزة، وهناك من حدد هذه المدة بسبعة أيام، بينما توجد بنوك تحدد وقت إبرام العقد بمجرد إعلام العميل بأن البضاعة جاهزة، هذا مع مراعاة أن عملية تجهيز البضاعة التي يعول عليها في تحديد وقت إبرام عقد البيع تكون بإبرام عقد شراء البنك للسلعة أو استلامه للبضاعة، أو استلام الشاحن- وكيل المصرف – للبضاعة ومستندات الشحن أو ورودها للمنطقة الجمركية أو ورود مستندات الشحن للبنك، وإذا كان استلام المصرف للبضاعة يحق له بيعها مرابحة باعتبار أن ذلك يحقق شرط ملكية البنك لها بصورة كاملة، فإن التساؤل الذي يرد هنا هو، هل يحق للبنك بيع البضاعة مرابحة بعد استلام مستندات الشحن أو إبرام عقد شرائها، وبمعنى آخر هل يحق له بيعها مرابحة قبل معاينتها؟ والرأي الشرعي: أن ذلك يجوز طالما كانت السلعة محددة ومعلومة مواصفاتها بدقة وهو المعروف في الفقه الإسلامي ببيع البرنامج، وهو ما صدرت بشأنه فتوى المستشار الشرعي للبنك الإسلامي الأردني (1) بأنه يجوز إتمام البيع مرابحة على أساس بوليصة الشحن عن طريق تظهيرها للغير تظهيرا ناقلا للملكية، وذلك دون معاينة البضاعة الموصوفة في البوليصة.   (1) الفتاوى – مرجع سابق – ص 15 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 971 ب – البيانات الواردة بعقد البيع مرابحة: بالاطلاع على نماذج عقد البيع مرابحة في البنوك الإسلامية نجد أنها اشتملت على بيانات عديدة سوف نسردها في إيجاز مع إفراد فقرات مستقلة لبعضها، مثل الثمن والضمانات حيث نتناولها بالتفصيل لأهميتها، وتشتمل نماذج هذه العقود على البيانات التالية: اسم العقد – التاريخ – مكان العقد – بيانات عن طرفي العقد – إقرار العميل بأنه اطلع على نظام البنك – موضوع العقد – تحديد مكان التسليم – تحديد الثمن – تحديد الربح- طريقة دفع الثمن – التأكد بأن البضاعة في حيازة المصرف- تحديد جهات الاختصاص في حالة وقوع نزاع بشأن العقد سواء المحاكم أو هيئات التحكيم التي تشكل باختيار طرفي العقد- الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالعقد – إقرار العميل بأهليته- مسئولية العميل عن تأخير دفع أقساط الثمن – عدم الحق في مطالبة العميل البنك بالتعويض إذا امتنع المورد عن التوريد – مسئولية العميل عن الأضرار التي تقع على البنك من جراء عدم تسلمه البضاعة – إبراء العميل البنك من ضمان ما يكون من عيوب في البضاعة - مسئولية العميل عن إخطار شركة التأمين والملاحة بأي نقص يظهر في البضاعة - الضمانات التي على العميل تقديمها ضمانا لسداد باقي الثمن – مسئولية العميل عن التصرف في البضاعة وفق القوانين بالدولة- إقرار العميل بأن النقص الذي يظهر في البضاعة لا يفسخ العقد بل يستنزل من قيمتها بمقدار النقص. وتأتي ملاحظاتنا على هذه البيانات في الآتي: 1- إن بعض البنوك تسمي العقد (عقد بيع) فقط دون ذكر كلمة (مرابحة) في عنوان العقد. 2 – إنه يوجد نموذجان من العقود، أحدهما للعمليات المحلية، والآخر لعمليات الاستيراد وتتفق أغلب بياناتهما ما عدا ما يتعلق بعملية الاستيراد من الخارج مثل مكان التسليم. 3 – إن بعض نماذج العقود تحيل إلى عقد الوعد وطلب الشراء في تحديد بعض الأمور، مثل مواصفات البضاعة ومكان التسليم، وحيث إن عقد الوعد لا ينعقد به بيع لذا فمن المستحسن – مثل ما فعلت بعض البنوك – ذكر جميع البيانات في عقد البيع. 4- إنه سبق أن أبدينا ملاحظات على بعض البيانات الواردة خاصة التي تتعلق بمسئولية العميل، والتي ترى أنه يركز عليها دون ذكر لمسئوليات البنك كثيرا. 5 – من الملاحظ أن بعض البيانات السابقة تذكر في نماذج بعض البنوك، ولا تذكر في الأخرى. 6 – إنه على وجه الإجمال فإن البيانات الواردة في نموذج عقد المرابحة تشتمل على ما يحقق شروط المرابحة من السابق ذكرها، وبالتأكيد فإن بعض البحوث الأخرى المقدمة في الندوة والتي تتناول كلا من الجانب القانوني والجانب الفقهي لعقود المرابحة سوف تتناول ذلك تفصيلًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 972 ثانيا: ثمن البيع مرابحة: وسوف نتعرف عليه في النقاط التالية: أ – ذكر الثمن في العقد: إن ذكر الثمن في العقد أمر لازم شرعا وواقعا، ونتناول فيما يلي العقد الذي يذكر فيه وكيفية ذكره. 1 – العقد الذي يذكر فيه: بالنظر في نماذج عقود المرابحة وإجابات البنوك على استمارة الاستقصاء نجد أن ثمن البيع مرابحة يذكر مرتين، مرة في عقد الوعد عند من يبرمه، وأخرى في عقد البيع مرابحة، وفي تقويمنا لهذا الأسلوب نقول بالآتي: - إن الثمن غالبا ما يكون معروفا عند الوعد حيث يتقدم العميل بالفاتورة المبدئية الموضح بها ثمن الشراء الأساسي، إلا أنه ليس من الضروري أن يتفق الثمن الوارد في عقد الوعد مع الثمن الوارد في عقد البيع مرابحة وسبب ذلك كما أفادت البنوك ما يلي: * قيام المورد بشحن جزء من البضاعة والامتناع عن شحن الجزء الباقي. * إذا تغيرت الأسعار من مرحلة المواعدة إلى مرحلة الشراء الأول. * في حالة الاستيراد حيث يمكن أن تتغير قيمة العملة وأسعار الجمارك وغيرها. - أن ذكر الثمن في عقد البيع مرابحة ضروري؛ لأن العلم بالثمن شرط شرعي في جميع عقود البيع، وأما ذكره في عقد الوعد فلا يغني عن ذكره في عقد البيع؛ لأن العقد الأول يتعلق بمواعدة على البيع ولا يتعلق بعملية البيع ذاتها. 2 – كيفية ذكر الثمن في العقد: بالاطلاع على نماذج عقود المرابحة في البنوك الإسلامية نجد الآتي: - بعض البنوك تورد ثمن البيع بصيغة إجمالية هي: " تم هذا البيع وقبله طرفاه بثمن إجمالي قدره.. " وذلك دون الإشارة إلى عناصر الثمن من ثمن شراء أساسي ومصروفات وربح، هذا مع الإشارة إلى أن نفس البنوك تذكر في عقد الوعد بأن الثمن هو قيمة التكلفة المشتملة على ثمن الشراء والرسوم الجمركية وتكاليف الشحن والتأمين وكافة المصاريف الأخرى بالإضافة إلى الربح بنسبة.. % من التكلفة الكلية. وفي رأينا، وكما سبق أن ذكرنا تكرارا أن عقد الوعد ليس عقد بيع وبالتالي يجب أن يذكر في عقد البيع الثمن بمشتملاته من ثمن أساسي وربح، ولا يكتفى في ذلك بما ذكر في عقد الوعد خاصة أن نفس البنوك أجابت بأنه يمكن أن يتغير الثمن في عقد الوعد عن الثمن في عقد البيع. - بعض البنوك تورد الثمن إجماليا ثم تذكر مشتملاته بقولها: إن ثمن البيع متضمنا الثمن الأساسي والمصاريف المدفوعة من البنك مضافا إليه ربح قدره ... ، وهذا الأسلوب سليم شرعا؛ لأنه يحقق شروط العلم بالثمن الأول والربح، لأنه أخير بالثمن الأول بما قامت عليه السلعة به (الثمن الأساسي + التكاليف الأخرى) مضافا إليه الربح المتفق عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 973 ب – عناصر الثمن: من المعروف أن ثمن البيع في المرابحة يتكون من ثمن الشراء الأساسي والمصروفات التي أنفقها البنك على السلعة خلال فترة الشراء الأول بالإضافة إلى الربح المتفق عليه، وبذلك فإن عناصر الثمن تتحدد في كل من الثمن الأساسي أو الأول، المصروفات، الربح، وفيما يلي تفاصيل كلٍّ منها: العنصر الأول: الثمن الأساسي أو ثمن الشراء الأول: من المتفق عليه أن الثمن الأول هو الثمن الذي اشترى به البنك السلعة من موردها مع أمور تتصل بالثمن الأول مثل هل هو الثمن المتعاقد عليه أو المدفوع فعلا؟ لأنه قد تتغير قيمته أو صفته بأن يشتري بدولارات ويدفع بدلا منها إسترليني، ونورد فيما يلي أهم الأمور التي تؤثر على الثمن الأول: 1 – تغير الثمن الأول بسبب تغير الأسعار، وصورته أن يشتري البنك السلعة بـ100000 جنيه مثلا ولكن قبل عقد البيع مرابحة زادت الأسعار لتصبح قيمة السلعة 110000جنيه فالمقرر شرعا (1) والذي يحدث في التطبيق العملي أنه لا يؤخذ بالزيادة في الأسعار بل بالثمن الذي اشترى به فعلا وهو 100000 جنيه. 2 – تغير الثمن الأول بسبب تغير في السلعة ذاتها بأن نقصت بالتلف أو غيره أو زادت زيادة متصلة أو منفصلة، ففي حالة التغير بالنقص فإن المقرر شرعا (2) وما يحدث تطبيقا أنه يتم إسقاط مقابل النقص من الثمن، أما في حالة الزيادة بأن وردت كمية أكبر من المطلوبة مثلا تضاف قيمتها على الثمن الأول. 3 – سعر الصرف: في حالة المشتريات الخارجية تثور مشكلتان بخصوص تغير سعر الصرف هما: - إذا اشترى البنك السلعة بعملة أجنبية محددة كالدولارات 105000 ودفع بدل الدولارات إسترلينيا، وكان سعر الصرف مثلا 3 دولارات لكل جنيه إسترليني، وبالتالي فإن ما دفعه هو 35000 جنيه إسترليني، وعند البيع مرابحة تغير سعر الصرف ليكون 3.5 دولار لكل جنيه إسترليني، وبذلك تكون القيمة 30000 جنيه إسترليني. فهل عند البيع مرابحة يذكر الثمن الأساسي على أنه 35000، أو 30000 جنيه إسترليني؟ الرأي الراجح لدى الفقهاء (3) أن السعر يحسب على ما نقده وبسعر ما صرف يوم النقد أي 35000 جنيه. - إذا اشترى بعملة أجنبيه وباع بعملة محلية وتغير سعر الصرف للعملة المحلية إلى العملة الأجنبية من يوم الشراء الأول إلى يوم البيع مرابحة مثل أن يكون ثمن الشراء الأول 100000 دولار وسعر الصرف 1.30 جنيها مصريا للدولار، وعند البيع مرابحة 1.40 جنيها، وبالتالي فإن الثمن الأول يوم الشراء 130000 جنيها ويوم البيع 140000جنيها فأيهما يؤخذ به؟ المقرر شرعا (4) وما يحدث تطبيقا هو أن الثمن يحسب على سعر صرف يوم البيع لا يوم الشراء الأول أي 140000 جنيه. ويتصل بذلك نقطة أخرى هي أنه إذا اشترى البنك السلعة بعملة أجنبية وباعها مرابحة، واتفق مع المشتري على أن السعر يحسب بالعملة المحلية بسعر الصرف يوم ورود المستندات، ولقد أجاب المستشار الشرعي (5) بأن ذلك غير جائز؛ لأن الثمن غير معلوم عند البيع والعلم به شرط لانعقاد البيع.   (1) ابن قدامة – المغني – مرجع سابق جـ4 ص 200 (2) المرجع السابق ص 201- 202 (3) ابن رشد – بداية المجتهد ونهاية المقتصد – مرجع سابق جـ2 ص274 (4) الإمام مالك – الموطأ – دار الشعب ص 414، ابن رشد – بداية المجتهد ونهاية المقتصد ص274 (5) الفتاوى الشرعية – البنك الإسلامي الأردني – جـ1 ص93 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 974 4 – الخصم (الحسم) أو الحط من الثمن الأول: وكيفيته أن يسمح المورد للبنك بخصم جزء من ثمن الشراء الأول وهو ما يعرف محاسبيا بالخصم بنوعيه؛ (تجاري ونقدي) ، فهل عند البيع مرابحة يذكر الثمن الأول قبل الخصم أو بعده؟ - من الناحية التطبيقية أفادت البنوك في إجاباتها على ذلك بأن بعضها لا تأخذ بالخصم (بنوعيه) في الاعتبار عند تحديد الثمن، والبعض الآخر أفاد بأنه يأخذ الخصم التجاري فقط، بينما هناك فريق ثالث أفاد بأنه يأخذ كلا الخَصْمَين في الاعتبار. - من الناحية الشرعية يدور الرأي الفقهي في هذه المسألة وفق الآتي (1) : * الرأي الأول: البائع (البنك) مخير بين أن يحط من الثمن الأول ما حط بائعها عنه فإن اختار الحط لزمت المشتري مرابحة، وإن لم يختر فالمشتري مرابحة بالخيار وهذا هو رأي المالكية. * الرأي الثاني: يرى أن العبرة في ذلك بوقت الخصم أو الحط، فإذا وقع الحط قبل لزوم العقد الأول - أي في فترة الخيار - فيلزم أن يخصم من الثمن عند البيع مرابحة، وإن وقع الحط بعد لزوم العقد الأول فلا يخصم من الثمن الأول؛ لأنه تبرع لا يقابله عوض فلم يتغير الثمن، وهذا هو رأي الشافعية والحنابلة والحنفية. وتفسير هذا الرأي باللغة المحاسبية المعاصرة أن الخصم التجاري يؤخذ في الاعتبار بخلاف الخصم النقدي، وهذا تخريج سليم؛ لأن الخصم التجاري محاسبيا هو في حقيقته تعديل لسعر البيع، أما الخصم النقدي محاسبيا أو مسألة " ضع وتعجل" فقهيا فهي تتعلق بالدَّيْنِ الناتج عن الثمن، وعادة لا تعرف قيمته إلا عند السداد الذي قد يكون بعد البيع مرابحة. العنصر الثاني: (من عناصر ثمن البيع مرابحة) المصروفات: من المعروف أن البنك يتكلف بعض المبالغ لشراء السلعة بخلاف ثمن شرائها، ويلزم لكي يحقق ربحا من هذه العملية أن يغطي ثمن البيع هذه التكاليف بالإضافة إلى ثمن الشراء الأول وهذا هو المقرر شرعا، وما يحدث في التطبيق العملي على خلاف حول ماهية التكاليف التي تضاف وفقا للآتي: - بالنسبة للواقع التطبيقي: بالاطلاع على عقود المرابحة وإجابات البنوك على استمارة الاستقصاء اتضح ما يلي: 1 – بعض البنوك تضيف على الثمن الأول جميع المصروفات المباشرة على العملية مثل مصاريف وعمولة فتح الاعتماد المستندي والنقل والشحن والرسوم الجمركية والتأمين، أي كل ما يدفع ويتحمله البنك متعلقا بهذه الصفقة. 2 – بعض البنوك تضيف إلى الثمن الأول المصروفات السابقة ما عدا الرسوم الجمركية ومصاريف نقل البضاعة من ميناء الوصول إلى مخازن المشتري على أساس أن مكان التسليم هو ميناء الوصول، وبالتالي فكل ما يحدث من مصروفات بعد ذلك تقع على عاتق المشتري، ولو دفعها البنك نيابة عنه فإنها تُحَصَّل من المشتري كما هي دون إضافتها للثمن الأول أو احتساب ربح عليها. وهذان الأسلوبان يتشابهان باعتبار أن من يحسب الرسوم الجمركية، ومصاريف النقل إلى مخازن المشتري على أساس أن البنك يدفعها، ويبذل مجهودا في إتمام هذه العمليات، وبالتالي فإنه يكون لها حظ من الربح، وأما من لا يحسبها فيبني ذلك على أن البنك لا يتحمل بها بل يدفعها المشتري، هذا مع ضرورة الإشارة إلى أن إضافة مصروفات التأمين ضمن المصروفات التي تحمل على المشتري أمر فيه نظر وقد سبق بيانه.   (1) ابن قدامة – المغني – مرجع سابق ص200 وما بعدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 975 3 – بعض البنوك إضافة إلى ما سبق تذكر في عقد البيع مرابحة بأن يتحمل المشتري أية مصروفات أخرى غير واردة في بنود تكلفة العملية موضوع هذا العقد، وفي الحقيقة فإن ذكر ذلك من غير تحديد لأنواع هذه المصروفات للحكم على ما إذا كانت تلحق بالثمن الأول من عدمه، بالإضافة إلى عدم تحديد قيمتها يثير شبهة حول ضرورة معلومية الثمن. 4 – بعض البنوك ترى أنه يمكن لها أن تنص في عقد البيع مرابحة على حقها في تعديل بعض بنود المصروفات مثل فرق العملة والعمولة.. ولكن المستشار الشرعي (1) لها لم يجز ذلك على أساس أن هذا يؤدي إلى عدم معلومية الثمن كشرط أساسي من شروط البيع. 5 – لقد أفادت بعض البنوك في الرد على أسئلة استمارة الاستقصاء بأنها تضيف إلى الثمن مصروفات أخرى غير مباشرة، ويمثل نصيب العملية في المصروفات العامة للبنك، وفي رأينا أن هذا الإجراء فيه شبهة؛ لأنه في أحسن الأحوال لا يمكن تحديد نصيبها من هذه المصروفات بدقة تامة، ومن وجه آخر فإنه يمكن مراعاة تغطية هذه المصروفات من الربح الذي يستحق على ما يتكبده البنك من مال ومن مجهوداته في هذه العملية. - بالنسبة لوجهة النظر الفقهية في المصروفات التي تضاف على الثمن الأول، تأتي أقوال الفقهاء على التالي (2) : 1 – المالكية: ويفرقون في هذه التكاليف بين الآتي: - ما له أثر في عين السلعة (أي التكاليف الصناعية) وهذه تضاف ويحسب لها ربح. - ما ليس له أثر في عين السلعة مثل النقل وعمولة الشراء (أي التكاليف الإدارية والتسويقية) وهذه يفرق بينها، فإذا كانت العادة أن يستأجر عليها تضاف للثمن ولا يحسب لها ربح وإن كانت العادة أن يتولاها البائع بنفسه كعادة التجار فهذه لا تضاف ولا يحسب لها ربح. 2 – الشافعية والحنابلة: يضاف إلى الثمن الأول كل المصروفات التي تكبدها البائع إلا مقابل ما عمله بنفسه؛ لأنه لا يستحق له أجره على ما عمله بنفسه. 3 – الحنفية: ما يجري عليه العرف السائد بين التجار. وبتقويم التطبيق العملي على ما ورد في أقوال الفقهاء نجد أن له سنده الفقهي من أقوال أئمة المذاهب الكبرى خاصة رأي الحنفية الذي ضبط ذلك بما يجري عليه العرف التجاري.   (1) الفتاوى الشرعية – البنك الإسلامي الأردني – مرجع سابق ص43 (2) ابن رشد – بداية المجتهد ونهاية المقتصد جـ2 ص273 – 274، الخطيب الشربيني – مغني المحتاج – مرجع سابق جـ2 ص175، المرغيناني – الهداية – مطبعة مصطفى الحلبي بمصر جـ3 ص56 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 976 العنصر الثالث: الربح: إن هذا العنصر هو مقصود العملية ومنه يستمد اسمها (بيع مرابحة) ، والعلم به وذكره في العقد شرط من شروط المرابحة، وسوف نتناوله في الآتي: 1 – العقد الذي يذكر فيه الربح: في جميع عقود الوعد في البنوك التي تبرمه يوجد ذكر الربح فيه، وأما بالنسبة لعقد البيع مرابحة فإن بعض البنوك تذكره والبعض الآخر لا يذكره بل يذكر الثمن إجماليًّا متضمنا الربح دون إشارة إلى ذلك، وهذا أمر يجب تعديله بضرورة ذكر الربح في عقد البيع حتى يحقق شرط العلم بالربح كأحد شروط المرابحة، ولا يكتفى في ذلك بذكره في عقد الوعد حتى ولو أشير صراحة في عقد البيع على هذه الإحالة، أولًا لأن عقد الوعد لا ينعقد به بيع كما سبق أن كررناه، وثانيًا لأنه ربما يتم تغيير الربح بين مرحلة المواعدة ومرحلة البيع لأية ظروف، مثل صدور قوانين أو قرارات من الدولة تنظم ذلك. 2- كيفية حساب الربح: يحسب الربح كنسبة مئوية من ثمن الشراء وجميع المصروفات في بعض البنوك ومصروفات محددة في بنوك أخرى على الوجه السابق ذكره، هذا مع ضرورة ذكر الآتي: - أن نسبة الربح يجب أن تختلف بحسب نوع البضاعة وأجل السداد بما يؤثر على إجمالي الثمن الذي يزيد في البيع الآجل عنه في البيع النقدي؛ لأن الرأي الفقهي مجتمع على أن للأجل حظًّا في الثمن، وهذا الحظ يظهر في زيادة نسبة الربح، مع ضرورة الإشارة إلى أن ذلك يجب أن يكون محددًا بصفة قاطعة عند إبرام عقد البيع، ولا يقال مثلًا: إن نسبة الربح لسلعة ما 5 % إذا كان السداد على شهرين، و7 % إذا كان السداد على أربعة شهور، وهو ما يعرف بالتناسب الطردي للأرباح مع أجل السداد، فإذا كان يجوز أن يكون هذا واضحًا قبل التعاقد فإنه إذا تم العقد على نسبة معينة 5 % مثلًا والسداد لمدة شهرين ثم تأخر المشتري عن السداد في الموعد المحدد أن لا تزاد نسبة الربح مقابل الأجل في هذه المرة، بل يعالج الموقف بأحد الإجراءات المقررة للتوقف عن الدفع كما سيأتي: - أنه في بعض الدول تحدد الدولة بقرارات نسب الربح لكل سلعة مستوردة أو محلية لكل من المستورد أو تاجر الجملة والتجزئة، ولقد أجابت بعض البنوك التي بهذه الدول أنها تلتزم في تحديد الربح بالنسب المقررة بالدولة. - نود التنبيه إلى خطورة ما نمى إلى علمنا من أن بعض البنوك تحدد الربح بنسب ثابتة على جميع أنواع السلع (18 % مثلًا) مسترشدة في ذلك بسعر الفائدة الربوي السائد في السوق، وهي بذلك تفرغ عملية المرابحة من مضمونها الاقتصادي والشرعي، وتصبح كأنها عملية إقراض الثمن للمشتري مرابحة خاصة إذا علمنا أنها توكل العملية كلها شراء أول وبيع مرابحة للمشتري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 977 جـ- طريقة دفع الثمن: بعد أن حددنا الثمن بعناصره نأتي إلى نقطة هامة وهي طريقة دفع الثمن حيث أظهر الاستقصاء أن جميع البنوك تسير على أن يدفع العميل الثمن للمصرف آجلًا على أقساط وفي حالات قليلة يدفع نقدًا، وعملية تقسيط الثمن تيسر التعامل على العملاء، وترغب في التعامل مع البنوك الإسلامية وتوسع مجالات الاستثمار باستخدام البيع مرابحة، هذا مع ضرورة أخذ الضمانات الكافية لضمان حق البنك كما سنذكره بعد، وأن سعر البيع بالأجل متى تم الاتفاق عليه في العقد لا يزاد بعد ذلك إذا زاد الأجل؛ لأن الثمن بالأجل دَيْن في ذمة المشتري والدَّيْن لا يزيد بزيادة الأجل. ثالثًا: الضمانات: في حالة البيع بالأجل وهو الغالب في التطبيق العملي فإنه من المقرر شرعًا (1) وقانونًا وما يحدث تطبيقًا أن يحصل البنك على ضمانات من المشتري مرابحة بقيمة المؤجل من الثمن. وبالاطلاع على نماذج عقود المرابحة في البنوك نجد أنها تطلب كل أو بعض الضمانات التالية: 1- الضمان الشخصي المتعلق بسمعة العميل ومركزه المالي، وهذا يظهر في دراسة العملية. 2- الحصول على رهن بقيمة الثمن أو رهن البضاعة ذاتها رهنًا تأمينيًّا. 3- طلب كفالة شخص آخر مليء لضم ذمته إلى ذمة المشتري. 4- الحصول على سندات إذنية للتحصيل أو سندات إذنية بالاطلاع. 5- التأمين على البضاعة محل العقد من كافة الأخطار لصالح البنك. 6- تقديم المشتري خطاب ضمان مصرفي بقيمة البضاعة للبنك. 7- تحفظ البنك على وديعة للمشتري طرف البنك. 8- توقيع المشتري على إيصال أمانة أو شيكات مؤجلة السداد بقيمة المبلغ. 9- عقد البيع مرابحة ذاته. 10- إعطاء البنك حق امتياز البائع على السلعة المباعة. 11- أية ضمانات أخرى يطلبها البنك من المشتري.   (1) راجع بحثنا الاحتياط ضد مخاطر الائتمان في الإسلام – بالتطبيق على المصارف الإسلامية – مجلة الدراسات التجارية الإسلامية – مركز صالح عبد الله كامل – كلية التجارة- جامعة الأزهر- العدد الخامس / السادس 1985. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 978 وبالنظر في هذه الضمانات يمكن القول بالآتي: 1- إن طلب البنك ضمانات من العميل واشتراط ذلك في عقد البيع مرابحة أمر تقره الشريعة حيث إنها لا تخالف مقصود العقد بل تؤكده. 2- إن بعض البنوك لا تشير إلى الضمانات في عقد البيع مرابحة وإن كانت ذكرتها في إجاباتها على استمارة الاستقصاء. 3- إن بعض البنوك يكتفي بضمان واحد أو اثنين فقط من هذه الضمانات. رابعًا: توقف العميل عن الدفع: إذا توقف العميل عن دفع باقي الأقساط وكان موسرًا فإن الإجراءات التي تتبع حيال ذلك أوضحتها نماذج العقد والرد على أسئلة استمارة الاستقصاء في الآتي: 1- حلول باقي الأقساط فورًا. 2- استخدام المصرف للضمانات المقدمة إليه في استيفاء حقه. 3- اللجوء إلى القضاء طبقًا لما هو محدد بعقد البيع، وبعض البنوك تجعل ذلك من اختصاص هيئة التحكيم التي ينص على تشكيلها في عقد البيع بعضو يختاره العميل وعضو يختاره البنك وعضو ثالث مرجح يختار مشاركة بينهما. 4- استرداد البنك للسلعة إن كانت باقية وهذا الإجراء يتبع في بعض البنوك. 5- فرض مبلغ على العميل لتعويض المصرف عن الضرر الذي وقع عليه من جراء هذا التوقف، ويتبع هذا الإجراء في بعض البنوك بناء على ما انتهت إليه هيئات الرقابة الشرعية الثلاث لدار المال الإسلامي وبنكي فيصل المصري والسوداني، والذي يقضي بتعويض المصرف عن الضرر الذي يحدث من جراء تأخر العملاء عن دفع ديونهم في مواعيدها وتحسب قيمة الضرر على أساس متوسط نسبة إجمالي أرباح البنك المحققة عن ذات الفترة فضلًا عن أية تعويضات أخرى فعلية، بينما في المصرف الإسلامي الدولي يفوض تقدير الضرر إلى هيئة التحكيم. وما تجدر ملاحظته بهذا الخصوص أن فرض مبلغ على العميل مقابل التأخير ومقابل الضرر الذي يقع على البنك أمر تجيزه الشريعة بناء على الحديث النبوي الشريف ((لَيُّ الواجد يحل عقوبته وعرضه)) (1) وإذا كانت العقوبة البدنية متفق عليها فإن العقوبة المالية مختلف فيها، والرأي الراجح أنها جائزة وهي في الحقيقة ليس عقوبة بقدر ما هي تعويض للضرر بناء على القاعدة الأصولية إن الضرر يزال، غير أن ما نود الإشارة إليه أن طريقة احتساب الضرر منسوبًا إلى أرباح البنك أمر يحتاج إلى نظر إذ يمكن أن يكون ذلك منسوبًا إلى ما يحققه العميل من أرباح مثلًا، على أساس اعتبار الدَّيْن مال مضاربة. (2)   (1) صحيح البخاري بشرح السندي – دار الشعب جـ 2 ص 58 (2) راجع في ذلك: بحثنا "حماية الديون في الشريعة الإسلامية" بحث مقدم إلى ندوة البركة الثانية – تونس نوفمبر 1984 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 979 خامسًا النكول: كل ما ذكرناه حتى الآن في هذه المرحلة من إجراءات يتعلق بما إذا أوفى العميل بوعده واشترى السلعة مرابحة، أما في حالة نكوله أي رجوعه عن طلب شرائه بمعنى عدم تنفيذه لوعده بالشراء السابق إبداء رغبته فيها أو نكول المصرف عن تنفيذ العملية، فإن هذا ما سنناقشه في هذه الفقرة وفقًا للآتي: أ- نكول العملاء: لقد أفادت البنوك أنه يحدث أحيانًا نكول بعض العملاء، وفي هذه الحالة تتبع الإجراءات التالية: - بالنسبة للبنوك التي لا تأخذ بالإلزام بالوعد تتولى بيع السلعة التي أحضرتها لحساب نفسها وينتهي الأمر عند هذا الحد. - بالنسبة للبنوك التي تبرم عقد الوعد وتأخذ بالإلزام به تتبع فيها الإجراءات التالية: 1- بيع السلعة بالسعر السائد في السوق وقبض المصرف للثمن استيفاءً لحقه وإذا قل الثمن عن مستحقات المصرف كان له الرجوع على العميل لاستيفاء باقي حقه، وإذا زاد الثمن كانت الزيادة خالصة له باعتباره مالكًا للبضاعة، هذا مع مراعاة أن حق البنك هنا يتمثل في تكلفة السلعة وقيمة الأضرار التي لحقته من جراء عدم تنفيذ الصفقة. 2- بعض البنوك تتبع الإجراء السابق ولكنها في حالة إذا زاد ثمن بيع السلعة عن مستحقات المصرف تكون الزيادة للعميل. 3- بعض البنوك تشترط في حالة النكول إحالة الموضوع لهيئة التحكيم للفصل فيه. 4- هناك إجراء آخر يتمثل في مصادرة الدفعة المقدمة في مرحلة المواعدة لضمان الجدية. 5- في كل الأحوال يكون هناك إجراء مستقبلي وهو عدم التعامل مع العميل مرة أخرى. وبالنظر في هذه الإجراءات يمكن القول بالآتي: 1- إن السلعة في مرحلة الشراء الأول تكون ملكًا للبنك، وبالتالي فإنه إذا باعها يكون البيع لحسابه يتحمل بخسارتها ويعود إليها ربحه بناء على الرأي القائل بأن المبيع يكون من ضمان البائع لا من ضمان المشتري قبل البيع. 2- إنه تنفيذًا لإلزام العميل بالوعد تقدر الأضرار التي عادت على البنك سواء خسارته في السلعة أو أية أضرار أخرى ويطالب بها العميل ويستوفيها البنك تمامًا من الدفعة المقدمة لضمان الجدية أو مطالبة العميل بها دون مصادرة الدفعة أيًّا كانت قيمتها. ب- نكول المصرف: بمعنى عدم تنفيذه لوعده بشراء السلعة أو شرائها وعدم بيعها مرابحة لطالبها، وقد أفادت بعض البنوك أنه يحدث أحيانًا نكول المصرف وتتبع بشأن ذلك لما يلي: 1- بعض البنوك تنص على أنه إذا امتنع أحد الطرفين عن تنفيذ هذا الوعد فإنه يتحمل أية أضرار تلحق بالطرف الآخر، وإذا كان ذلك يرد على إجماله في عقود الوعد فإنه في عقد البيع تحدد كيفية حساب الضرر الذي يقع على المصرف عند نكول العميل كما سبق القول، أما كيفية تحديد حساب الضرر الذي يقع على العميل فلا يذكر إلا في الإشارة العامة إلى أن أي نزاع يحدث يحال إلى هيئة التحكيم. 2- بعض البنوك اشترطت في عقود البيع والوعد أنه إذا كان نكول البنك بسبب المورد الذي حدده العميل فإن البنك لا يعتبر مخلًّا بوعده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 980 سادسًا: المعالجة المحاسبية لعمليات المرابحة: وسوف نوضح فيها التوجيه المحاسبي لعمليات المرابحة وأرباحها، إما وفقًا لما جاء في استمارة الاستقصاء أو وفقًا لما نراه متفقًا مع الأصول المحاسبية السليمة، وذلك في الآتي: أ- عند تلقي البنك طلبات الشراء: لا تجرى قيود محاسبية في الدفاتر بل يكتفى بإثبات ذلك في سجل طلبات الشراء مرابحة. ب- عند إبرام عقد الوعد: نظرًا لأن عقد الوعد يلقي التزامات مستقبلية على طرفيه؛ لذلك فإنه قد يكتفى بإثبات ذلك في سجل عقود الوعد مرابحة أو يتم تسجيل الوعد بقيد نظامي كالآتي: ×× من حـ/ التزامات العملاء عن بيوع مرابحة (مرابحة رقم .... ) ×× إلى حـ/ التزامات البنك عن بيوع مرابحة (مرابحة رقم ...... ) وتظهر في الميزانية ضمن الحسابات النظامية. جـ- عند تحصيل الدفعة المقدمة التي تشترطها بعض البنوك لضمان الجدية ×× من حـ/ الخزينة (التحصيل النقدي) ×× أو من حـ/ الحسابات الجارية أو الاستثمارية (حـ رقم..) (خصمًا من حـ/ العميل طرف البنك) ×× أو من حـ/ شيكات تحت التحصيل (التحصيل بشيكات) ×× إلى حـ/ حسابات جارية خاصة (مرابحات) مرابحة رقم .... د- عند قيام البنك بشراء السلعة وحسب طريقة دفع المبلغ ومفرداته ووقته ×× من حـ/ الاستثمارات تحت التنفيذ (استثمار في مرابحات) مرابحة رقم ... ×× إلى حـ/ الشيكات ×× إلى حـ/ الموردين ×× إلى حـ/ المراسلين هـ- عند إبرام عقد البيع مرابحة: ×× من حـ/ مديني المرابحات (اسم المدين) مرابحة رقم ... ×× إلى حـ/ الاستثمارات تحت التنفيذ (استثمارات في مرابحات) رقم.. ×× إلى حـ/ إيرادات الاستثمارات (مرابحات) مرابحة رقم.. و تسوية الدفعة المقدمة مع حـ/ مديني مرابحات: ×× من حـ/ حسابات جارية خاصة (مرابحات) ×× إلى حـ/ مديني المرابحات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 981 ز- عند عقد الضمانات المختلفة: تسجل بحسب نوعها بقيد نظامي كالمعتاد. ح- تحصيل الأقساط تباعًا وبحسب طريقة التحصيل: ×× من حـ/ الخزينة ×× أو من حـ/ حسابات جارية أو استثمارية ×× أو من حـ/ الشيكات ×× إلى حـ/ مديني المرابحات ط- نكول العملاء: 1- بيع البضاعة بخسارة: ×× من حـ/ الخزينة ×× من حـ/ مديني المرابحات ×× إلى حـ/ الاستثمارات تحت التنفيذ (مرابحات) 2- بيع البضاعة بربح لحساب البنك: ×× من حـ/ الخزينة ×× إلى حـ/ الاستثمارات تحت التنفيذ (مرابحات) ×× إلى حـ/ إيراد الاستثمارات ى- المعالجة المحاسبية للأرباح المحققة من عمليات المرابحات، ويحسن أن نوضح ذلك بالمثال التالي: حققت إحدى عمليات المرابحة ربحًا للبنك قدره 24000 جنيه علمًا بأن العملية تمت في 1 /4 /1985 ففي حساب أرباح وخسائر أي سنة يظهر فيه هذا الربح؟ علمًا بأن سداد الثمن على ثلاث سنوات من تاريخ الشراء. في التطبيق العملي للبنوك وفي الفكر المحاسبي المعاصر يوجد رأيان هما: الرأي الأول: أن الربح كله يكون للسنة التي تحقق فيها البيع (1985) وبالتالي يظهر في حـ/ أ. خ الخاص بهذه السنة بالقيد الآتي: 24000 من حـ/ إيرادات الاستثمارات (إيرادات مرابحات) 24000 إلى حـ/ أ. خ الاستثمار 31/ 12 /1985 الرأي الثاني: توزيع الأرباح على سنوات التحصيل كالآتي: على أن يتم تجنيب الأرباح التي تخص السنوات التالية في حـ/ دائن: 24000 من حـ/ إيرادات الاستثمارات (مرابحات) 15000 إلى حـ/ إيرادات استثمارات لم تتحقق (للأعوام التالية) 9000 إلى حـ/ أ. خ الاستثمار (لعام 1985) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 982 وبالنظر في هذه المعالجة بشقيها محاسبيًا وشرعيًا يمكن القول بالآتي: - من الناحية المحاسبية طبقًا لسياسة الحيطة والحذر والتي تقضي بأخذ الخسائر المحتملة في الحسبان فإنه يستحسن أن يكون مخصص بالأرباح التي لم تتحقق، وهي هنا عبارة عن الأرباح المحتسبة على المبالغ غير المحصلة توقعًا لتوقف المدينين عن الدفع، وهذا ما يتبع في البيع بالتقسيط ويتفق ذلك مع الرأي الثاني، وإن كان هذا لا يمنع أن بعض المحاسبين يأخذون بالرأي الأول. ومن الناحية الشرعية يوجد رأيان: الرأي الأول: قال به المستشار الشرعي للبنك الإسلامي الأردني (1) ويرى الأخذ بالمعالجة الأولى على اعتبار أن الربح تحقق في سنة البيع وبالتالي يقيد كله فيها بناء على أن العبرة بتحقق الربح، وأن باقي الثمن في حالة التأجيل يعتبر دينًا على المشتري ولا علاقة له بالربح. الرأي الثاني: ونراه نحن استنادًا إلى القواعد الفقهية التالية: - أن هناك فرقًا في الربح بين مراحل ثلاث، تولده، وتحققه أو ظهوره، وتوزيعه. - فالربح كنماء للمال يولد أو يحدث حتى ولو لم يوجد بيع وهذا ما عليه فقه الزكاة في النظر للنماء كشرط من شروط المال المزكى على أنه نماء حقيقة أو حكما، فعلًا أو بالقوة، أما البيع فإنه يظهر الربح ويحققه وليس شرطًا لحدوثه. - أما توزيع الربح واقتسامه فإنه في فقه المضاربة والتي تعمل البنوك الإسلامية وفق أحكامه في علاقتها بأصحاب حسابات الاستثمار باعتبار البنك مضاربًا وهم أرباب أموال، فالرأي الفقهي (2) على أنه لا بد من نض المال أي تحويله من عروض تجارة إلى نقود كشرط لتوزيع الربح، ولا شك أن باقي الثمن على عملاء المرابحة ليس نقودًا، ولذلك لا توزع الأرباح الناتجة عن عملية المرابحة إلا بعد التحصيل النقدي. وهذا الرأي يتفق مع سابقه في أن الربح تحقق في سنة البيع ولكننا بصدد قضية توزيعه بين المضارب (البنك) وأرباب الأموال الأمر الذي يقضي بأن يظهر الربح في سنة تحققه ولكن لا يوزع منه إلا بمقدار ما حصل وهذا هو جوهر المعالجة الثانية بإثبات الأرباح في سنة 1985، ثم يرحل منه إلى حـ/ أ. خ الاستثمار الخاص بها ما يقابل المبلغ المحصل ويجنب الباقي في حساب دائن للسنوات التالية. وفي النهاية أرجو أن أكون وفقت في عرض الموضوع بصورة يستفاد منها في ترشيد عمل البنوك الإسلامية وأقرر أن هذا جهدًا بشريًّا يعتريه القصور ويشوبه الخطأ وحسبي صدق النية في أنني أريد به وجه الله وإعلاء كلمة الإسلام. والحمد لله أولًا وأخيرًا ... د. محمد عبد الحليم عمر تجارة الأزهر   (1) الفتاوى الشرعية – مرجع سابق ص 36- 40 (2) ابن رشد – بداية المجتهد ونهاية المقتصد – مرجع سابق جـ 2 ص 308 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 983 المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) ندوة عن: "خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية: الجوانب التطبيقية، والقضايا والمشكلات". بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب/ البنك الإسلامي للتنمية / جدة. عَمَّان 22 شوال – 25 شوال 1407هـ 18 /6 – 21 /6/ 1987م الجزء: 5 ¦ الصفحة: 984 بحث الدكتور شوقي إسماعيل شحاتة عن "تجربة بنوك فيصل الإسلامية – عقد المرابحة - دراسة تطبيقية" بسم الله الرحمن الرحيم بحث مقدم إلى ندوة خطة "استراتيجية" الاستثمار في البنوك الإسلامية الجوانب التطبيقية والقضايا والمشكلات المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية "مؤسسة آل البيت" عمان – الأردن بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب البنك الإسلامي للتنمية – جدة من دكتور شوقي إسماعيل شحاته المستشار المالي لبنك فيصل الإسلامي المصري في تجربة بنوك فيصل الإسلامية – عقد المرابحة – دراسة تطبيقية 22 – 25 شوال 1407هـ الموافق 18 يونيو 1987م الجزء: 5 ¦ الصفحة: 985 بسم الله الرحمن الرحيم في إطار أهداف الندوة التي تتلخص في: - دراسة القضايا المتعلقة بتطبيق عقد المرابحة لتوفير التمويل لقطاعات التجارة والصناعة والزراعة والإسكان وغيرها. - تحديد القضايا العملية والصعوبات في تطبيق عقد المرابحة في النظام المصرفي الإسلامي. - تبادل الآراء في مجال النظام المصرفي والتمويل الإسلامي. - اقتراح السبل والوسائل الفعالة لتطبيق عقد المرابحة في البنوك الإسلامية. والتزاما بمنهج الندوة الموحد في الدراسات التطبيقية، ينقسم هذا البحث في " تجربة بنوك فيصل الإسلامية- عقد المرابحة – دراسة تطبيقية إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: خطوط عريضة لاستراتيجية التمويل، والاستثمار والتوظيف، والعائد، ومؤشرات الأهمية النسبية لمصادر واستخدامات الأموال. القسم الثاني: طبيعة عقد المرابحة والتفاصيل العملية في التطبيق المعاصر كما هو معمول بها في بنوك فيصل. القسم الثالث: مشكلات وقضايا وآفاق جديدة في عقد المرابحة وحلول مقترحة. 1- القسم الأول: خطوط عريضة لاستراتيجية التمويل، والاستثمار والتوظيف، والعائد، ومؤشرات الأهمية النسبية لمصادر واستخدامات الأموال في بنوك فيصل الإسلامية: 1- 1- مصادر الأموال الداخلية- حقوق الملكية: وتتمثل في رأس المال المدفوع والاحتياطيات والأرباح المرحلة من سنوات سابقة، وصافي ربح العام:- بلغ عدد البنوك الإسلامية الأعضاء في الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية حتى وقتنا الحاضر ستة وعشرون مصرفا منها تسعة بنوك من بنوك فيصل الإسلامية بالقاهرة، والسودان، والبحرين. وقبرص والنيجر وغينيا والسنغال وجزر البهاما. وأخيرا مؤسسة فيصل للتمويل بإسطنبول – تركيا التي تأسست في 23 يناير 1985م. وبلغت رؤوس الأموال المدفوعة من البنوك الأربعة الأولى في نهاية 1404 هـ – 1984م المتاحة بياناتها ما تعادل جملته مقومه (1) بالدولار الأمريكي 98.7 مليون دولار، أما مؤسسة فيصل للتمويل بتركيا التي بدأت أعمالها في 2أبريل 1985م فقد بلغ رأس مالها المدفوع 5000 مليار ليرة تركية أسهمت فيها دار المال الإسلامي بنسبة 51 % وبنك فيصل الإسلامي المصري. وبنك فيصل الإٍسلامي السوداني. وبنك فيصل الإسلامي بالبحرين.   (1) سمير مصطفى متولي – بحث مقدم إلى المؤتمر العام الأول للبنوك الإسلامية بإسطنبول- تركيا 18- 21 اكتوبر 1986م في " هيكل مصادر الأموال واستخداماتها بالبنوك والمؤسسات المالية ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 986 وفيما يلي بيان بمؤشرات الأهمية النسبية لحقوق الملكية في أربعة من بنوك فيصل الإسلامية من رأس المال المدفوع. والاحتياطيات. والأرباح، منسوبة لمجموع مصادر الأموال- مجموعة الميزانية - في نهاية 1404 هـ- 1984 م: جدول رقم (1) (لأقرب مليون دولار أمريكي) البنوك رأس المال المدفوع الاحتياطيات والأرباح إجمالي المصادر الداخلية مجموع الميزانية 1- بنك فيصل الإسلامي- المصري (1) 40 13.5 53.5 3 % 1862 2- بنك فيصل الإسلامي- السوداني - 32.6 46.00 78.6 31 % 250 3- مصرف فيصل الإسلامي- البحرين 20.00 4.5 24.5 9 % 273 4- مصرف فيصل الإسلامي- قبرص 6.1 0.1 6.2 30 % 21 98.7 64.1 162.8 6.7 % 2406 وتعكس هذه المؤشرات تفاوت الأهمية النسبية لحقوق الملكية- المساهمين- لمجموع المصادر الداخلية الذاتية للأموال بين 3 %،31 % الأمر الذي لا شك في أنه ينعكس ويحكم خطة الاستثمار والتوظيف وطرق وأساليب التمويل والتركيب القطاعي. 1-2- مصادر الأموال الخارجية – التمويل الخارجي: 1-2-1- الحسابات الجارية وحسابات الاستثمار (الودائع تحت الطلب والاستثمارية) : وفقا للمفاهيم والمبادئ الإسلامية في استراتيجية التمويل وأحكام الشريعة الإسلامية بتحريم التعامل والتمويل بأسلوب القروض بفائدة ثابتة مضمونة ومحددة مقدما بنسبة من رأس مال القرض وهي الربا بعينه برزت إلى الوجود في ميزانيات البنوك الإسلامية مصادر للأموال الخارجية والتمويل الخارجي في إطار الغنم بالغرم، والكسب بالخسارة، والخراج بالضمان، والمضاربة الشرعية وحسابات الاستثمار (الودائع الاستثمارية) .   (1) زيد رأس المال المدفوع إلى 70 مليون دولار أمريكي، والاحتياطيات إلى 26.6 مليون دولار بمجموع قدره 96.6 مليون في وقتنا الحاضر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 987 أما الحسابات الجارية فهي ودائع تحت الطلب يضمن البنك رد قيمتها بالكامل وله أو عليه كل عائد استثمارها وتوظيفها. وفيما يلي بيان بمؤشرات الأهمية النسبية لكل من الحسابات الجارية وحسابات الاستثمار منسوبة لإجمالي الودائع، والأهمية النسبية لإجمالي الودائع كمصادر تمويل خارجي منسوبة إلى مجموع مصادر الأموال مجموع الميزانية – في نهاية 1404 هـ- 1984م. جدول (2) (لأقرب مليون دولار أمريكي) م البنوك الحسابات الجارية النسبة المئوية حسابات الاستثمار النسبة المئوية مجموع الودائع النسبة لمجموع الميزانية النسبة المئوية 1 بنك فيصل الإسلامي – المصري 54 3.7 % 1477 96.3 % 1532 1862 78 % 2 بنك فيصل الإسلامي- السوداني 100 65 % 55 35 % 154 250 62 % 3 مصرف فيصل الإسلامي – البحرين 6 2.9 % 225 97.1 % 231 273 86 % 4 مصرف فيصل الإسلامي- قبرص - - 13 100 % 13 21 64 % 160 8.3 % 1770 91.7 1930 2406 80 % وتعكس هذه المؤشرات ضآلة نسبة الحسابات الجارية –الودائع تحت الطلب – التي تتفاوت من صفر % -2.9 %،3.7 % فيما عدا بنك فيصل الإسلامي السوداني التي تعكس أهميتها النسبية لمجموع الودائع 68 % وبلغت في نهاية عام 1405هـ- 1985م- 66 % وفي نهاية عالم 1406هـ- 1986 – 72 %. كما تعكس هذه المؤشرات بوضوح الأهمية النسبية الكبرى لحسابات الاستثمار – الودائع الاستثمارية – التي تتفاوت بين 96.3 % في بنك فيصل الإسلامي المصري، 97.1 % في مصرف فيصل الإسلامي بالبحرين، 100 % في بنك فيصل الإسلامي بقبرص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 988 1-2-2- دائنون وأرصدة دائنة: وتحصل البنوك الإسلامية على تمويل خارجي وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية كائتمان بضوابطه الشرعية في إطار الأساليب البديلة للقروض والدائنية الربوية ومنها: - موردو سلع وخدمات، وأصول ثابتة بثمن مؤجل كديون تجارة بأساليب البيع المختلفة، بيع المرابحة، بيع المساومة، بيع التولية، وبيع الوضيعة، بثمن مؤجل. - الأرصدة الدائنة للمشاركات. والمشارك يختلف عن أصحاب الودائع. كما يختلف عن المساهم. وهو مشارك في عمليات أو أنشطة أو مشروعات. - الأرصدة الدائنة التي تترتب عن معاملات بأساليب أخرى جائزة شرعا. وفيما يلي بيان بمؤشرات الأهمية النسبية للدائنين والأرصدة الدائنة- كتمويل خارجي من منظور إسلامي- في نهاية عام 1404هـ- 1984م. جدول رقم (3) البنوك دائنون وأرصدة دائنة مجموع الميزانية 1 بنك فيصل الإسلامي – المصري 270 14.6 % 1862 2 بنك فيصل الإسلامي – السوداني 22 8.8 % 250 3 مصرف فيصل الإسلامي –البحرين 17 6.2 % 272 4 بنك فيصل الإسلامي – قبرص 1.4 0.7 % 21 320.4 13 % 24.6 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 989 1-3- استخدامات الأموال: العمليات الأولى في حياة أي مشروع مستمر بعد عمليات الاكتتاب النقدي في رأس المال المصدر هي تبديل رأس المال النقد من غير جنسه بعروض تنقسم بلغة الفقهاء إلى عروض تجارة من سلع وخدمات- معدة للبيع، أو بلغة العصر- " الأصول الإيرادية " – وعروض القينة غير معدة للبيع بل للاحتفاظ بها لاستخدامها في العمليات الإنتاجية أو بلغة العصر " الأصول الرأسمالية " طلبا للربح الذي يتحصل بالانتفاع بكل منهما فيما هو مقصود منه. مع مراعاة الاحتفاظ والإمساك بجزء من رأس المال النقدي ومصادر الأموال في صورة نقود وأرصدة نقدية في الصندوق والبنوك أو بلغة العصر " السيولة النقدية المناسبة " لأداء ما هو مقصود منها وهو " المعاملة أولا". وفي الحديث الشريف: " لا عليك أن تمسك بعض مالك فإن لهذا الأمر عدة" ثم تتوالى دورات تقليب مصادر الأموال حالا بعد حال وفعلا بعد فعل طلبا للربح وهذه الدورة هي دورة الحياة في المشروع المستمر. 1-3-1 تبويب استخدامات الأموال - الأصول - من منظور محاسبي إسلامي (1) وقياس ومؤشرات أهميتها النسبية في بنوك فيصل الإسلامية في نهاية عام 1404هـ- 1984م. جدول رقم (4) (لأقرب مليون دولار أمريكي) م البنوك الأصول التمويلية النسبة المئوية الأصول الإيرادية النسبة المئوية الأصول الرأسمالية النسبة المئوية مجموع الميزانية 1 بنك فيصل الإسلامي –المصري 227 12.7 % 1605.8 86.3 % 19.2 1 % 1862 2 بنك فيصل الإسلامي –السوداني 100 40 % 105.1 42 % 44.9 18 % 250 3 بنك فيصل الإسلامي –البحرين 1.7 0.6 % 270.9 99.3 % 0.4 0.1 % 273 4 بنك فيصل الإسلامي –قبرص 13.5 64 % 7.00 33.5 % 0.5 2.5 % 21 352.2 14.7 % 1988.8 82.6 % 65.00 2.7 % 2406   (1) د. شوقي إسماعيل شحاتة " نظرية المحاسبة المالية من منظور إسلامي " 1407هـ -1987م الزهراء للأعلام العربي - القاهرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 990 هذا وقد بلغ مؤشر الأصول التمويلية في بنك فيصل الإسلامي المصري عام 1405هـ – 1985م 11.3 % وفي نهاية عام 1406هـ – 1986م 13.6 %. وانخفض مؤشر الأصول التمويلية في بنك فيصل الإسلامي السوداني في نهاية عام 1405هـ إلى 36 % ثم إلى 28 % في نهاية عام 1406هـ- 1986م وتعكس هذه المؤشرات تفاوتا ملحوظا لا شك في أنه يحكم استراتيجية الاستثمار والتوظيف وطرق وأساليب التمويل والتركيب القطاعي والعائد. 1-3-2- استراتيجية السيولة النقدية والاستخدام الأمثل من منظور إسلامي في البنوك الإسلامية: 1- بشكل الحجم الزائد عن الاستخدام الأمثل للأصول التمويلية- النقود والأرصدة النقدية بالصندوق والبنوك- عبئا تحميليا وعنصرا من عناصر التكاليف على الإنتاج من منظور إسلامي ذلك أن عائد الاحتفاظ بالسيولة غير المناسبة في البنوك الإسلامية ليس صفرا فحسب بل هو عائد سلبي قدره 2.5 % تتمثل في زكاة النقود الواجبة التي بلغت نصابا وحال عليها الحول. 2- عائد توظيف الأصول التمويلية – النقود – قد يكون ربحا وقد يكون خسارة وليس ثمنا في جميع الأحوال كالفائدة الربوية. 3- يعمل الاستخدام الأمثل للأرصدة التمويلية في البنوك الإسلامية على مراعاة تحقيق التوازن في التوظيف على أربعة محاور والمواءمة بينها من حيث: - التقلب ودوران المال العامل وعدد دوراته. - المخاطرة وأعني بها في مخاطرة النشاط والأعمال لا المغامرة. - الربحية. - التنمية. 4- المرونة في التخطيط النقدي في البنوك الإسلامية لمواجهة مواسم التمويل والاستخدامات المتوقعة وحوالة الأسواق. وتجديد الموارد النقدية كلما وجد البنك ذلك مناسبا له وأهمية التعاون بين البنوك الإسلامية وأيسرية انتقال مصادر الأموال والفوائض بينها. 1-3-3- الأهمية النسبية لمؤشرات " المرابحات " في بنوك فيصل الإسلامية وفعاليتها واستقرارها: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 991 بنك فيصل الإسلامي المصري: 1- بلغت جملة أرصدة المشاركات والمضاربات والمرابحات التجارية والإنتاجية في نهاية عام 1406هـ 1986م مبلغ 1533 مليون دولار أمريكي يمثل 74 % من الاستخدامات – مجموع الميزانية وقدرها 2056مليون دولار أمريكي. وكانت في نهاية عام 1405هـ- 1985م مبلغ 1375 مليون دولار تمثل 77 % من مجموع الميزانية. 2- وبلغت جملة أرصدة المرابحات 529 مليون دولار أمريكي تمثل 34 % من إجمالي أرصدة المشاركات والمضاربات والمرابحات في نهاية 1406هـ- 1986م، وتمثل نسبة 26 % من إجمالي الاستخدامات – مجموع الميزانية: 3 – بلغت جملة إيرادات المشاركات والمضاربات والمرابحات لعام 1406هـ- 1986م 113مليون دولار أمريكي بنسبة 92 % من إجمالي الإيرادات وقدرها 123 مليون دولار. 4 – بلغت إيرادات المرابحات 40 مليون دولار أمريكي 35 % من إيرادات المشاركات والمضاربات والمرابحات. وتعكس هذه المؤشرات مدى الأهمية النسبية " للمرابحات التجارية والإنتاجية " وفعاليتها وأظهرت المقارنات بالسنوات السابقة في بنك فيصل الإسلامي المصري استقرارها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 992 مؤسسة فيصل المالية – تركيا: بلغت الأهمية النسبية لمؤشرات استخدامات الأموال في المرابحات والمضاربات في السنة المالية 1985م (والمدة من 2 أبريل 1985م تاريخ مباشرة البنك أعماله حتى 31 /12/ 1985م) كما هي متصلة في التقرير السنوي لعام 1985م. كالآتي: 73.6 % مرابحات محلية 20.8 % مرابحات خارجية 94.4 % 94.4 % المرابحات 5.6 % المشاركات وفيما يلي بيان مؤشرات نشاطات المرابحات على مستوى القطاعات: وجدير بالذكر أن بنك فيصل الإسلامي المصري قد أسس وأسهم في 32شركة مساهمة تلعب دورا متميزا في مجال نشاط المرابحات في الإنتاج الصناعي والدواء والرعاية الطبية – المستشفيات. والإسكان ومواد البناء. والإنتاج الزراعي والحيواني، والتجارة وفي الاستثمارات والسياحة والبنوك والمؤسسات المالية. جدول رقم (5) البنك قطاع الصناعة قطاع الزراعة قطاع التجارة قطاع الخدمات بنك فيصل الإسلامي- المصري 36 % 17 % 12 % 35 % مؤسسة فيصل للتمويل / تركيا 53 % 20 % 21 % 6 % 1-3-4- لماذا نفتقد مؤشرات نشاطات المرابحات في البنك الإسلامي بوصفه آمرا بالشراء؟ لعل ذلك يرجع في رأيي إلى أن البنوك الإسلامية أو بعضها ما زال متأثرا بالنظرة التقليدية للتوظيف وأساليب التمويل في إطار العمل المصرفي باعتبار النقود سلعة، أما الأمر فإنه يختلف جذريا وكليا في البنوك الإسلامية وقد آن الأوان لممارسة البنك الإسلامي لنشاطات المرابحات بشراء السلع والأصول بأسلوب المرابحة بوصفه الآمر بالشراء نقدا وبالأجل وفقا لمؤشرات مصادر واستخدامات الأموال فيه، وبيعها نقدا وبالأجل بضوابطه الشرعية. وفي ذلك ما يفتح آفاقا واسعة في التوظيف الخارجي والتجارة الخارجية. وصدق الله العظيم إذ يقول: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) } [قريش] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 993 القسم الثاني 2 – طبيعة عقد المرابحة والتفاصيل العملية في التطبيق المعاصر كما هو معمول بها في بنوك فيصل الإسلامية. 2-1- طبيعة عقد المرابحة للآمر بالشراء وملائمته علما وعملا للعمليات التمويلية والعمليات الإيرادية تحقيقا للربح من منظور إسلامي: 2-1-1- تعريف التجارة وبيع المرابحة للآمر بالشراء كأحد أنواع البيع من حيث تعلقه بالثمن من منظور إسلامي: أحل الله البيع وحرم الربا، وقد كان للعرب تجارة داخلية في جزيرة العرب، وتجارة خارجية مع العالم شرقيه وغربيه وظل الدينار الشرعي الإسلامي يحتل مكانا مرموقا في التجارة العالمية لمدة خمسة قرون من القرن الأول الهجري إلى القرن الخامس. والتجارة من منظور إسلامي (1) هي: " تقليب المال بمعاوضة لغرض الربح، وهي " صناعة التجار" وهي التصدي للبيع والشراء لتحصيل الربح". ويتم البيع بثمن حال أو مؤجل ولا يصح التأجيل في تسليم الأعيان: وبيع المرابحة هو أحد أنواع البيع الأربعة من حيث تعلقه بتحديد الثمن وهي: (1) إن كان بمثل " الثمن الأول " – أي التكلفة – مع زيادة ربح يتفق عليه فمرابحة. (2) إن كان بمثل " الثمن الأول" – أي التكلفة – بدون زيادة فتولية. (3) إن أنقص الثمن الأول – أي التكلفة – فوضيعة. (4) إن كان بدون زيادة ولا نقص فمساومة – أي بأي ثمن من غير نظر إلى الثمن الأول – التكلفة. وبظهور البنوك الإسلامية تعاظم دور بيع المرابحة للآمر بالشراء وخصوصا بثمن مؤجل بضوابطه الشرعية. وتأكدت أهميته وجدواه الاقتصادية وملائمته علما وعملا لطبيعة العمليات التمويلية والعمليات الإيرادية التي تجريها البنوك الإسلامية بعيدا عن القروض ونظام الفائدة الربوية لتوظيف واستخدامات الأموال في النشاطات والقطاعات المختلفة لغرض الربح من منظور إسلامي في إطار التقليب. والمخاطرة والغنم بالغرم. والخراج بالضمان إلى غير ذلك من أحكام الشريعة الإسلامية الغراء. هذا ويتعين مراعاة الأحكام الشرعية في البيوع الصحيحة بأن يقوم البنك ببيع ما يملك مع الاتفاق على شروط تسليم المبيع. وأن يكون معلوما للمشتري بثمن الشراء- الثمن الأول- وما أضيف عليه من النفقات كالرسوم الجمركية مثلا، والمصاريف المختلفة التي يتفق عليها الطرفان من مصاريف إضافية مختلفة ومصاريف إدارية وتسويقية أخرى تختص بالمبيع وصولا إلى تحديد التكلفة الكلية التي يضاف إليها نسبة الربح المتفق عليها أو مبلغ الربح وصولا إلى تحديد ثمن البيع النهائي بالعقد. وكذلك طريقة وسداد الثمن على الآجال المختلفة.   (1) " نظرية المحاسبة من منظور إسلامي" د. شوقي إسماعيل شحاتة 1407هـ-1987م الزهراء للإعلام العربي – القاهرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 994 وقبل أن نتناول فورا هذه التفاصيل العملية في التطبيق المعاصر لبيع المرابحة للآمر بالشراء بالعقد وبالأجل كما هو معمول به في بنوك فيصل الإسلامية وعلى الأخص بنك فيصل الإسلامي المصري نسترعي الانتباه إلى مدى وأهمية العلاقة بين السعر والتكلفة في التطبيق المعاصر من منظور إسلامي في بيع المرابحة وغيره من بيوع التولية والوضيعة من حيث إنها علاقة تبادلية بمعنى أن كلا منهما يؤثر في الآخر ويتأثر به وإن أسعار البيع وإن تعلقت بالعرض والطلب والعوامل الفعالة المؤثرة في السوق وحوالة الأسواق والمخاطرة إلا أنها تتعلق أساسا في بيع المرابحة بعلاقة وطيدة بين التكلفة، وثمن البيع حالا أو مؤجلا. ومن ثم فإن بيع المرابحة يتميز بملاءمته لطبيعة العمليات التمويلية والعلميات الإيرادية المتعلقة بالربح والمرتبطة مباشرة بالتكلفة وعوامل التقليب. والمخاطرة في سوق المال أو سوق العقود التي تتميز بالخصائص الآتية: 1 – حرمة المعاملات. 2 – تحريم الربا بكل أنواعه وأشكاله الظاهرة والمستترة. 3 – تحريم الغش بكل أنواعه. 4 – تحريم الاحتكار بأنواعه. 5 – توافر المعلومات الصادقة لكل من البائع والمشتري. 6 – أن يتلاءم هامش الربح مع درجة المخاطرة. 7 – أن يكون الثمن عادلا وليس مجحفا بحق البائع أو المشتري. 8 – أي شروط أخرى يراها الحاكم ضرورية لمنع الضرر. 2-2- التفاصيل العملية لتطبيق عقد بيع المرابحة للآمر بالشراء والنشاطات والقطاعات التي يطبق عليها في بنوك فيصل الإسلامية: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 995 2-2-1- الأحكام الشرعية الصادرة من هيئات الرقابة الشرعية وقرارات مؤتمرات البنوك الإسلامية في عقد بيع المرابحة: طبقا للفتاوى الشرعية الصادرة من هيئة الرقابة الشرعية ببنك فيصل الإسلامي المصري وهيئة الرقابة الشرعية ببنك فيصل الإسلامي السوداني. وهيئة الرقابة الشرعية ببيت التمويل الكويتي وهيئة الرقابة الشرعية بمصرف قطر الإسلامي. - وبناء على قرارات مؤتمر المصرف الإسلامي الأول المنعقد في دبي 1399هـ- 1979م، وفتوى وتوصيات لجنة العلماء بالمؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي المنعقد في الكويت 1403هـ – 1983م فإن معاملة الوعد بالشراء والمواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء عقد ملزم لكل من الطرفين الآمر بالشراء والبنك بعد تملك السلعة المشتراة وحيازتها. طالما كانت تقع على البنك الإسلامي مسئولية الهلاك قبل التسليم وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي. والأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات. وفيه مراعاة لمصلحة البنك والعميل إلا أن كل بنك مخير في الأخذ بما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه. - وبناء على الفتاوى الشرعية المصدرة من هيئة الرقابة الشرعية ببنك فيصل الإسلامي يلتزم الطرفان بعقد الوعد بالشراء وعقد البيع بالمرابحة بضوابطهما الشرعية بأن يكون الثمن الأصلي معلوما لمن يشتري بطريق المرابحة وأن تكون جميع النفقات والتكاليف التي تحملها المشتري الأصلي في الحصول على السلعة معلومة كذلك للآمر بالشراء بطريق المرابحة. وأنه لابد من توضيح كل ذلك بجميع أوراق بيع المرابحة المودعة بملف كل عقد من عقودها. - ينبغي ألا يكون الأمر بالشراء شفاهة ويلزم أن يكون طلبا مكتوبا. وأن يتأكد البنك من جدية الطالب حتى تكون المخاطرة محسوبة وحتى يتلافى البنك نكوص الآمر بالشراء بعد طلبه ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 996 - أخذ جزء من الثمن مقدما أو أخذ عربون ودفع الباقي عند التسليم أو دفعه على أقساط يتفق عليها جائز بشرط ألا يحق للبنك أن يستقطع من العربون المقدم إلا بمقدار الضرر الفعلي المتحقق عليه من جراء نكول الآمر بالشراء. - إذا ظهرت خيانة البائع فيما ذكره من الثمن أو غيره مما يجب ذكره فالبيع صحيح ولكن يثبت للمشتري الخيار فإن شاء أخذ بما بينه البائع على ما فيه من زيادة وإن شاء ترك البيع أو أسقط الزيادة. - لا مانع شرعا من الزيادة في الثمن إذا كان البيع بثمن مؤجل، والدفع على أقساط. ولا مانع أيضا من اختلاف الثمن باختلاف الأجل. - يأخذ البنك في الاعتبار ألا ترتفع تكلفة السلعة عن مثيلتها في السوق حتى يجد العميل له ربحا مناسبا عند بيعه لها. - تنقسم عمليات البيع بالمرابحة إلى: 1- مرابحة محبة 2- مرابحة استيرادية 2-2-2- التفاصيل العملية لطلب الشراء كما هو معمول بها في بنك فيصل الإسلامي المصري. يتقدم العميل كتابة بطلب شراء في النموذج المعد يشمل: أ – بيان السلعة أو الأصول موضوع الوعد بالشراء الذي يعتبر جزءا لا يتجزأ من عقد بيع المرابحة. ب- بيان الأوصاف التي يحددها العميل للآمر بالشراء. جـ- التكلفة الكلية التقديرية. د- نسبة الربح من التكلفة الكلية. هـ- بيان شروط ومكان التسليم. و أي شروط أخرى. ز – الاسم – العنوان – رقم صندوق البريد- رقم التليفون – رقم التلكس – رقم الحساب الجاري (إن كان) ورقم حساب الاستثمار (إن كان) – أي بيانات أخرى.. ح – التوقيع والتاريخ 2-2-3- خطوات التنفيذ في المرابحات المحلية: 2 -2-3-1- اختيار العملاء والاستعلام عنهم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 997 إذا كان عمل البنك على هدي أحكام الشريعة الإسلامية الغراء قد أتاح له رصيدا ضخما متزايدا من العملاء أصحاب حسابات الاستثمار على النحو الذي جعل مواردة تقفز بطفرات كبيرة فإن ذلك يضع على عاتق البنك وفروعه باعتباره مفوضا في استثمار تلك الأموال وفق شريعة الله سبحانه وتعالى ضرورة اختيار عملاء المرابحات وغيرهم من العملاء وفق أسس تضمن سلامة التوظيف وحصول البنك على أمواله وعوائدها وفيما يلي الأسس التي يجب مراعاتها عند اختيار عملاء البنك: 1- أن تكون سمعة العميل حسنة محافظا على الوفاء بتعهداته والتزاماته قبل المتعاملين معه سواء البنوك أو الموردين أو غيرهم. 2 – الاستعلام الجيد عن العميل من البنوك التي سبق له التعامل معها، كما يتم الاستعلام عنه لدى الموردين وغيرهم من التجار، وكذلك الاستعلام عن العميل لدى المجتمع الذي يعيش فيه وتصرفاته المالية والأخلاقية. 3 – أن يكون للعميل خبرة في مجال عمله ونشاطه التجاري والصناعي وغيره. 4 – ألا يكون سبق له التوقف عن دفع ديونه أو أجرى ضده بروتستو وذلك بالرجوع لنشرة الأحكام التجارية والحصول على شهادة من المحكمة التابع لها لمطابقتها على النشرة. 5 – ألا يكون قد سبق إشهار إفلاسه. 6 – ألا يكون في نشاطه التعامل على سلع يحرمها الإسلام. 7 – التأكد من سلامة مركزه المالي من ميزانيات العميل والتقارير التي تظهرها الزيادة الميدانية لموقع نشاطه وذلك بمؤشرات حقيقية وواقعية. 8 – أن يقدم العميل ما يوضح موقفه الضريبي وسلامته بشهادة من مراقبة الضرائب أو من محاسب قانوني. 9 – التأكد من سلامة اقتصاديات نشاط العميل مقارنا بالأنشطة المماثلة. 10 – الاستعلام عن المراكز الائتمانية للعميل سواء أكان شركة أو بصفته الشخصية وذلك من إدارة مراكز الائتمان بالبنك المركزي المصري وتحليل هذه المراكز للتأكد من سلامتها. 11- في حالة شركات الأشخاص (تضامن – توصية – بسيطة) يجب الاستعلام عن كل شريك على حدة بخلاف الاستعلام عن موقف الشركة وأن يشمل ملف العملية الحصول على بيان بالمركز الائتماني المجمع لكل منهم على حده من البنك المركزي المصري ودراسة هذه المراكز للتأكد من سلامتها. 12- الحصول على بيان بممتلكات الأشخاص الطبيعين أو الشركاء في شركات الأشخاص والإطلاع على عقود الملكية والشهادات العقارية والسلبية التي تثبت خلو الممتلكات من الرهن أو الاختصاص. كما يطلب من العميل تقديم صور من المستندات الآتية: السجل التجاري - عقد الشركة وملخص العقد- البطاقة الضريبية – البطاقة الاستيرادية – الميزانيات وحسابات الأرباح والخسائر عن الثلاث سنوات الأخيرة وتقارير مراقبي الحسابات ورقم الحساب ببنك فيصل الإسلامي المصري (إن كان) إلى غير ذلك من المستندات اللازمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 998 دراسة عملية بيع المرابحة – العناصر والأسس والقواعد السليمة لدرجة المخاطرة المقبولة: أولا: الظروف التجارية والاقتصادية وظروف السوق داخليا وخارجيا: الظروف التجارية والاقتصادية التي لا يتحكم فيها الفرد ربما تغير مقدرته على مواجهة التزاماته فالتقلبات الاقتصادية في الأعمال التجارية سواء كانت طويلة الأجل أو قصيرة الأجل لا بد أن تؤخذ في الاعتبار عند الدراسة: 1 – قد تكون هذه التقلبات خاصة بصناعة أو منطقة صناعية معينة أو بسلعة معينة. 2 – أو منطقة جغرافية (المناطق الحرة مثلا) 3 – أو الدولة بأكملها. 4 – أحوال المنافسة في السوق. 5 – تقلبات أسعار النقد في السوق ومدى توفير العملات. ثانيا: طبيعة السلعة، أو الخمات أو مستلزمات الإنتاج، أو الأصول موضوع المرابحة: والسلعة أو الأصول أو مستلزمات الإنتاج المحلي والعالمي موضوع العملية المقدمة يجب دراسة طبيعتها بحيث تتوفر فيها العناصر التالية: 1 – قابلية السلعة إلى التصريف: ومدى تحويلها إلى أرصدة نقدية خلال دور البضاعة (المخزون) أي مدى الطلب على السلعة. 2 – طبيعة السلعة والخامات ومستلزمات الإنتاج ومدى قابليتها للتلف السريع، ,أو الشروط الخاصة بالتخزين في درجات حرارية معينة مثلا ... 3 – المواصفات الفنية المطلوبة في الأصول كالآلات – والماكينات – والأجهزة – وقطع الغيار – والصيانة. 4 – أنسب مصادر للشراء من حيث شروط التوريد والالتزام بالمواعيد المحددة والأسعار والسداد والضمانات. ثالثا: سمعة العميل: وهي العنصر الأول الهام في اتخاذ القرار، وتعتمد على مؤشرات أهمها: أ – بالنسبة للأفراد وشركات الأشخاص: 1 – التمتع بسمعة ائتمانية وأخلاقية طيبة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 999 2 – الانتظام في سداد العميل لديونه. ب- بالنسبة لشركات الأموال (الشركات ذات المسئولية المحدودة والمساهمة) : - فلا يستدل على سمعتها بدرجة كبيرة من سمعة القائمين على إدارتها فحسب، بل تعتمد بصفة أساسية على سلامة اقتصادياتها وأساليبها والسياسات التي تتبعها ومدى دقة نظام العمل، ونظامها المحاسبي. وتقارير مراقبي الحسابات. - إن الشكل القانوني للشركة قد يعني رغبة الشركاء في تحديد مسئولياتهم إزاء التزامات الشركة. وهذا يجب أن يؤخذ في الاعتبار عند تقدير المخاطر. جـ- المستندات التي تبين سمعة العملاء ومدى احترامهم لتعهداتهم والوفاء بها في استحقاقاتها كما يلي: 1 – الاستعلام ويتضمن: أ – الاستعلام من البنوك الأخرى التي يتعامل معها العميل. ب- الاستعلام من الموردين الذين يتعاملون معه، ومكان عمله، ومكانته في الهيئة الاجتماعية وخبرته في مجال عمله. جـ- شهادة من المحكمة المختصة التي يقع في دائرتها نشاط العميل تثبت عدم توقيع بروتستات عليه خلال العام. د – نشرة الغرفة التجارية التي تصدرها شهريا متضمنة أسماء التجار الذين أجريت عليهم بورتستات أو توقفوا عن الدفع. 2 – البيان الائتماني المجمع: - دفتر القضايا بالإدارة المركزية لتجميع مخاطر الائتمان بالبنك المركزي المصري. 3 – مركز العمليات السابقة مع العميل: - مركز العمليات السابقة للعميل مع البنك ورأي قسم التنفيذ والمتابعة في مدى انتظامه في السداد. رابعا: القدرة على الدفع: 1 – إن دخل التجارة يستمد أساسا من حجم المبيعات، وأي عامل يؤثر على المبيعات يؤثر إلى درجة ما على القدرة على الدفع. 2 – وكذلك نسبة المصروفات العمومية والإدارية فكلما زادت هذه المصروفات قلت القدرة على مجابهة الالتزامات المستحقة. ولذا وجب التركيز على حجم المبيعات وأي إيرادات أخرى وصافي الربح وتطوراتها خلال عامين على الأقل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1000 خامسا: المركز المالي: يلزم للتعرف على مدى سلامة المركز المالي للعميل أن تستوفي العناصر الآتية: 1 – تحليل الميزانيات وحسابات النتيجة " الأرباح والخسائر " حساب التوزيع لأقرب عامين على الأقل والأفضل ثلاثة أعوام. 2 – الحصول على بيان بممتلكات الأشخاص الطبيعيين أو الشركاء في شركات الأشخاص، والإطلاع على عقود الملكية والشهادات العقارية أو السلبية التي تثبت خلو الممتلكات من الرهن والاختصاص. 3- الإطلاع على المركز الضريبي للعميل سواء بشهادة من مراقبة الضرائب أو من محاسب قانوني موثوق فيه. 4 – التأكد من سداد العميل للتأمينات الاجتماعية على عماله. 5 – الاستفسار من العميل عن التزاماته المالية قبل مورديه، وكذا معاملاته لدى البنوك الأخرى للتأكد على ما ورد بالاستعلام. 6 – الإطلاع على البيان المجمع من الإدارة المركزية لتجميع إحصائيات الائتمان المصرفي بالبنك المركزي وتحليله. سادسا: الربحية: 1 – ملاءمة الربحية لذات السلعة أو النشاط في ضوء أسعار السوق أو العمليات السابقة. 2 – مدى الالتزام بالقرارات الخاصة بنسب تحديد نسب الربح. وقوانين الاستيراد واللوائح التنفيذية. سابعا: تقويم درجة المخاطرة: 1- وفي إطار هذه العناصر والأسس والقواعد تعتبر المخاطرة مقبولة ومحسوبة على أساس سليم. 2 – أما في حالة غياب أي عنصر واحد من هذه العناصر أو ضعفه (فيما عدا السمعة) فإن المخاطرة تعتبر مقبولة. ولكن بشرط مقابلتها بضمان إضافي. 3 – أما في حالة غياب عنصرين من هذه العناصر (فيما عدا السمعة) فإن المخاطرة تعتبر متوسطة وتحتاج إلى ضمانات كافية. 4 – بخلاف ما تقدم تكون المخاطرة غير مقبولة على الإطلاق. - إضافات لخطوط التنفيذ في المرابحة الاستيرادية: 1- تقدم فاتورة مبدئية من المورد محدد بها مواصفات السلعة وعددها وسعرها وشروط التسليم. 2 – يتم تحديد سعر السلعة على أساس التكلفة الكلية المشتملة على ثمن الشراء والرسوم الجمركية وتكاليف الشحن والتأمين ومصاريف التخليص الجمركي وكافة المصاريف الأخرى. بالإضافة إلى ربح البنك ويكون هذا الربح بالإضافة إلى التكلفة الكلية ويجوز أن يكون نسبة من قيمة التكلفة النهائية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1001 3 – في حالة قبول التوريد من المورد المحدد من قبل البنك يجب أن تتضمن شروط التوريد تقديم المورد خطاب ضمان توريد في المواعيد المحددة مع تقديم شهادة بمطابقة البضاعة الموردة للمواصفات المطلوبة وعلى أن ينص على ذلك الاعتماد المستندى. 4 – دراسة مستوى الأسعار للعرض المقدم من المورد في الخارج للتأكد من سلامة هذه الأسعار والاستعلام عن المورد ومركزه الصناعي أو التجاري والمالي عن طريق مراسلي البنك في الخارج. 5 – يقوم البنك بعد إنهاء إجراءات التعاقد باتخاذ اللازم نحو فتح الاعتماد المستندي الخاص بتنفيذ العملية. 6 – يجب أن يخطر المورد بأن تصدر المستندات الخاصة بالعملية (الفواتير – بوالص الشحن ... إلخ) باسم البنك. 7 – عند ورود المستندات يجوز تظهيرها لصالح العميل وتسليمها له لاتخاذ اللازم نحو إنهاء إجراءات استلامها مقابل توقيعه على الشيكات الخاصة باستلام مستحقات البنك وتوقيع الضمانات اللازمة والتي تم الاتفاق عليها عند دراسة العملية، أما في حالة التسليم للبضاعة في مخازن العميل فيقوم البنك باتخاذ الإجراءات اللازمة لتحمل تكاليف النقل والتخليص الجمركي للبضائع حتى مخازن العميل. 8 – إذا تم وصول البضاعة قبل وصول المستندات وإصدار البنك خطاب ضمان ملاحي للإفراج عن البضاعة فإنه يتعين قبل تسليم خطاب الضمان للعميل الحصول على إقرار منه على قبول أية تحفظات ترد على المستندات فيما بعد. بالإضافة إلى الحصول على توقيعه على الشيكات والضمانات الخاصة بالعملية مع تعهده برد أصل خطاب الضمان بمجرد وصول المستندات وتسليمها إليه. 9 – في حالة رفض العميل استلام مستندات الشحن الخاصة بالبضاعة رغم مطابقتها للمواصفات والمواعيد وشروط المرابحة يقوم البنك أو الفرع باتخاذ اللازم نحو البضاعة بالسعر السائد في السوق لحساب عميل المرابحة استيفاء لحقه وفقا لما هو وارد في البند الخامس من عقد بيع المرابحة (استيراد) . 10- عند وصول البضاعة ومعاينة عميل المرابحة لها يتم الحصول منه على تعهد بأن البضاعة الواردة مطابقة للمواصفات والشروط الواردة في التعاقد ويتم بعد الحصول على التعهد برد أصل خطاب الضمان السابق إصداره إلى المورد، ويجوز أن تتم المعاينة في ميناء الشحن في الحالات التي تستدعي ذلك ووفقا لرغبة العميل في القيام بنفسه بهذه المهمة وعلى نفقته الخاصة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1002 ثامنا: الضمانات: يجب على الفرع عند إتمام عملية المرابحة الحصول على ضمانات عينية أو شخصية. ومن هذه الضمانات ما يلي: 1 – التأمين على مخازن العميل والبضاعة موضوع المرابحة ضد كافة الأخطار (حريق- سطو – خيانة – أمانة) لصالح البنك مع التزامه بتقديم الوثائق الدالة على ذلك وتجديد الوثائق دوريا حتى تمام سداد مستحقات البنك. 2 – يلتزم العميل بالاحتفاظ بحساباته الجارية بالنقد المحلي والأجنبي وكذا كافة الإيرادات الخاصة بالبيع موضوع المرابحة سواء كانت نقدا أو شيكات بحسابه الجاري طرف البنك. 3 – إجراء رهن تجاري مشمول بالصيغة التنفيذية. 4 – الحصول على عقود بيع ابتدائية على أملاك العميل أو بعضها بقيمة تغطي مديونية العميل قبل البنك على أن يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة لشهر عقود البيع الابتدائية لهذه الممتلكات. 5 – تقديم العميل لأوراق تجارية برسم الضمان تستخدم حصيلتها لسداد مديونيته. تاسعا: متابعة تحصيل مستحقات البنك والتعويض عن التأخير في سدادها يقوم البنك وفروعه بمتابعة تحصيل الأقساط المستحقة عن العمليات التي عقدها في مواعيدها، وعند التأخير في السداد يطبق ما جاء بالفتوى الشرعية الصادرة عن هيئة الرقابة الشرعية بالبنك والخاصة بالتعويض عن التأخير في سداد مستحقات البنك. كما يجب الالتزام باتخاذ الإجراءات القانونية المختلفة قبل العميل بالتنفيذ على الضمانات التي بحوزته - بعد استيفاء كافة الوسائل في إمكان الوصول إلى تسوية ودية - وحتى في حالة السير في الإجراءات القانونية فهذا لا يمنع من الاستمرار في الاتصالات مع العملاء لمحاولة الحصول على مستحقات البنك. وغني عن البيان أن التعويض عن التأخير في سداد مستحقات البنك في مواعيدها هو تعويض عما أصاب البنك من ضرر فعلي بسبب ما أدى إليه التأخير في السداد من تعطيل دورة تقليب المال، وهي دورة الحياة في نشاط التجارة بمفهومه الواسع الذي يستهدف تحقيق الربح من منظور إسلامي كما سبقت الإشارة إليه. وينص عقد البيع بالمرابحة في بنك فيصل الإسلامي المصري في البند الرابع عشر على أن " القاعدة الشرعية وهي أساس المعاملات تقرر أنه لا ضرر ولا ضرار وذلك على النحو الذي انتهت إليه هيئات الرقابة الشرعية الثلاث في مؤتمرها الثلاثي لدار المال الإسلامي، وبنك فيصل الإسلامي المصري وبنك فيصل الإسلامي السوداني، لذلك فقد اتفق الطرفان على أنه في حالة تأخير الطرف الثاني- المشتري – عن سداد أي قسط عن موعد استحقاقه فإنه يحق للبنك بلا أي منازعة تعويضا عما أصابه من ضرر فعلي بسبب التأخير، وتحتسب قيمة هذا الضرر على أساس متوسط نسبة إجمالي أرباح البنك المحققة عن ذات الفترة، فضلا عن أية تعويضات أخرى فعلية، وأن أي منازعة في استحقاق التعويض أو قيمته تعرض على هيئة الرقابة الشرعية لحسمها نهائيا ورأيها فيه باتا". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1003 القسم الثالث مشكلات وقضايا، وآفاق جديدة في عقد المرابحة وحلول مقترحة: 3-1- قياس التكلفة في عقد المرابحة بين مبدأ التحميل الشامل، ومبدأ التحميل الجزئي الذي نادى به فقه المالكية (1) 3-1-1- الرأي الأول: مبدأ التحميل الشامل في بيع المرابحة: يرى جمهور الفقهاء – عدا المالكية – قياس التكلفة التي يحتسب عليها نسبة الربح أو يضاف إليها مبلغ الربح، وصولا إلى تحديد ثمن بيع السلعة بأسلوب بيع المرابحة على أساس مبدأ التحميل الشامل للسلعة بنصيبها من كل عناصر التكاليف- أي التكلفة الكلية – ويعبر الفقهاء عن ذلك بقولهم " بل يجعل على السلعة كل ما نابه عليها" وهذا هو المعمول به في بنوك فيصل الإسلامية أي أنه بلغة العصر يضاف إلى تكلفة الشراء جميع بنود وعناصر التكاليف الصناعية والتسويقية والإدارية وصولا إلى تحديد التكلفة الكلية. 3-1-2- الرأي الثاني: مبدأ التحميل الجزئي في بيع المرابحة في الفقه الإسلامي عند المالكية: ويحدثنا ابن رشد الحفيد المتوفي سنة 495هـ – 1176م (2) فيقول: " بيع المرابحة هو أن يذكر البائع الثمن الذي اشترى به السلعة ويشترط فيه ربحا، وحاصل مذهب مالك فيما يعد في الثمن- أي الكلفة – مما لا يعد أن ما ينوب البائع على السلعة زائدا على الثمن من الكلف والمؤن – أي من عناصر وبنود التكاليف ينقسم ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يعد في أصل الثمن ويكون له حظ من الربح: أو بلغة العصر " تكلفة الشراء أو تكلفة الإنتاج " أي التكلفة الصناعية التي يعبر عنها ابن رشد الحفيد بقوله: " ما كان مؤثرا في عين السلعة وله عين قائمة مثل الخياطة، والفتل، والصبغ، فإنه بمنزلة الثمن الأول ويحسب له ربح ". القسم الثاني: ما يعد في أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح: ويعبر عنه ابن رشد الحفيد بقوله " وهو ما لا يؤثر في عين السلعة مما لا يمكن للبائع أن يتولاه بنفسه، وتحمل المباع من بلد إلى بلد، وكراء البيوت- أي المخازن – التي توضع فيها، فإنه يحسب في أصل الثمن – أي التكلفة – ولا يحسب له ربح " وعلى هذا فإنه على المذهب المالكي لا يحتسب ربح وصولا لتحديد ثمن البيع بالمرابحة على تكاليف التسويق، وتكاليف الإدارة وإن كانت تدخل ضمن عناصر التكلفة. وفي ذلك يقول ابن عابدين: لأنها ليست هي الغرض الأساسي. القسم الثالث: ما لا يعد في أصل الثمن – أي التكلفة – ولا يكون له حظ من الربح: ويعبر عنه ابن رشد الحفيد بقوله " وهو ما لا تأثير له في عين السلعة مما يمكن أن يتولاه التاجر صاحب السلعة بنفسه كالسمسرة والطي والشد، وكل ما يتولاه بنفسه مما يختص بالمتاع – أي بالسلعة – لا يحسب في التكلفة " أي أنه بلغة العصر لا تتضمن بنود التكلفة أي مقابل لعمل صاحب المنشأة في منشأته، وبالتالي فإن الفكر الإسلامي المحاسبي يرى عدم احتساب أي نفقات أو بنود افتراضية ضمن عناصر التكاليف.   (1) د. شوقي إسماعيل – "نظرية المحاسبة المالية من منظور إسلامي" – 1407هـ – 1987م الزهراء للإعلام العربي – القاهرة – "البنوك الإسلامية" – 1397هـ – 1977م. دار الشروق – جدة. (2) "بداية المجتهد ونهاية المقصد" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1004 مثال: التحميل الشامل، والتحميل الجزئي وتحديد ثمن البيع بالمرابحة من منظور إسلامي. الرأي الأول (التحميل الشامل) الرأي الثاني (التحميل الجزئي) وهكذا نادى فقه المالكية منذ أربعة عشر قرنًا بالأخذ بمبدأ التحميل الجزئي وصولًا لتحديد ثمن البيع بالمرابحة، ويشهد عالمنا المعاصر جدلًا وحوارًا بين محاسبي التكاليف حول الأخذ بمبدأ التحميل الشامل أو بمبدأ التحميل الجزئي وإلى أي مدى، ويسوق كل فريق من الحجج والمزايا والانتقادات للرأي الآخر ما يبرر به رأيه. ونعرض على بساط البحث والمناقشة في هذه الندوة رأي المالكية الذي ينادي بمبدأ التحميل الجزئي كأسلوب آخر يشكل إثراءً ومرونة ويفتح آفاقًا جديدة لتحديد ثمن البيع بالمرابحة في إطار العلاقة بين التكاليف والأسعار. 3-2- التوازن في هيكل الودائع ونوعيتها، واستثمار وتوظيف مصادر الأموال الداخلية والخارجية في الأصول التمويلية، والأصول الإيرادية، والأصول الرأسمالية،، ودور المرابحات التجارية والإنتاجية وفعاليتها في المرحلة الحالية وصعوبات المرحلة الحالية: تلفت المؤشرات التي قدمناها في القسم الأول من البحث عن مصادر الأموال واستخداماتها وأهمية أسلوب المرابحات التجارية والإنتاجية وفعاليتها في المرحلة الحالية إلى أنه يتعين العمل على تحريك مؤشرات مصادر الأموال ونوعيتها والاستثمار والتوظيف. والعائد على خمسة أبعاد رئيسة هي: 1- تعديل هيكل الودائع ونوعيتها وتحقيق التوازن بين الحسابات الجارية وحسابات الاستثمار والمحافظة على السيولة النقدية المناسبة دون زيادة أو نقص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1005 2- المخاطرة المحسوبة بنوعيها في إطار تخطيط التسويق – من مخاطر النشاط والأعمال، والمخاطر النقدية وتغير مستويات أسعار الصرف للعملات الأجنبية. 3- تقليب ودوران رأس المال العامل ومدى دوراته أو بلغة العصر التوظيف قصير أو متوسط أو طويل الأجل. 4- التوازن النسبي في العائد بين المساهمين، وأصحاب الودائع والمستثمرين، 5- الخطة القومية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية للفرد والمجتمع. وأن تعمل البنوك الإسلامية على التغلب على الصعوبات التي تواجهها من حيث ضيق سوق المال وصعوبة انتقال رؤوس الأموال، وتنويع وترويج الصكوك الإسلامية، وتهيئة مناخ الاستثمار والتوظيف في أسواق العقود الآجلة للسلع والأصول بما يكفل معالجة أنواع البيوع بثمن مؤجل ومن أهمها عقد المرابحة في المرحلة الحالية كما رأينا، وتخطيط الربحية والتسويق وفقًا لظروف العرض والطلب في أسواق العقود وحوالة الأسواق مع عدم استخدام سعر الفائدة لتحديد الثمن الآجل، وبعبارة أخرى إقامة سوق إسلامية للعقود الآجلة للسلع والأصول المختلفة. ومن جهة أخرى على البنوك الإسلامية أن تعمل جاهدة على إقناع البنوك المركزية أو بعضها بألا تطبق عليها ما تطبقه على البنوك الربوية من ذات المعايير، وسقوف الائتمان، ونسبة الاحتياطي النقدي من الودائع بالعملة المحلية التي تودع لديها، ومن تقييد نشاطاتها بقيود مختلفة ومتعددة في مجالات الاستثمار والتجارة والتوظيف بما لا يتفق مع طبيعتها وأساليبها التي تختلف اختلافًا جذريًا عن البنوك الربوية. ومن ذلك ألا يزيد إجمال التوظيف عن 65 % من مجموع الودائع بالعملة المحلية، وألا يزيد نشاط قطاع التجارة من مشاركات ومضاربات ومرابحات وغيرها عن 1 % شهريًا – أي 12 % سنويًا – من رصيد يونيو 1984م وأن يمتنع عليها المتاجرة في العقارات وألا تتملكها لغير استخدامات البنك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1006 كما أنه في مجال الاستثمار وتأسيس الشركات المساهمة أو المساهمة في الشركات القائمة والتوسعات والإحلال والتجديد لا يطبق على البنك الإسلامي ما يطبق على البنوك الربوية من عدم تجاوز إجمالي مساهمات البنك في الشركات لإجمالي رأس مال البنك واحتياطاته، كما لا يسهم البنك في رأس مال أي شركة إلا في حدود 25 % من رأسمالها وتشترط موافقة مسبقة من وزير الاقتصاد لتجاوزها. والبنوك الإسلامية إذا ترحب كل الترحيب برقابة البنوك المركزية بل وتتمسك بها إلا أنها تناشد البنوك المركزية أو بعضها أن يتمشى مع ما تضعه من معايير، وضوابط، وسقوف للائتمان في مجال التجارة أو قيود في مجال الاستثمار على مساهماتها في الشركات المساهمة مع طبيعة وأساليب التوظيف وصبغة العمل المصرفي الإسلامي بعيدًا عن سعر الفائدة الربوية، أو البيوع الفاسدة، وأهدافه في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وذلك في إطار ما توضحه وتؤكده المؤشرات التي أوردناها. 3-3- البنوك الإسلامية ومشكلات تغير أسعار صرف العملات الأجنبية: وفي ظل المتغيرات الاقتصادية وهي كثيرة ودائمة الحركة تتغير أسعار صرف العملات الأجنبية تغيرات هامة ومستمرة بعيدة الأثر ولا تخفى أهميتها في البنوك الإسلامية التي تجمع بين كونها بنوك تجارية وبنوك استثمارية تتكامل وظائفها في شتى مجالات النشاطات المالية، والنقدية، والتجارية، والاستثمارية، والخدمية في مختلف القطاعات من صناعة، وتجارة، وزراعة، وإسكان إلى غير ذلك ومن خلال تمويل وائتمان قصير ومتوسط وطويل الأجل. ومن ثم ينعكس أثر تغيرات أسعار الصرف للعملات الأجنبية لا على أرصدة الأصول والخصوم النقدية المدينة والدائنة بالعملات الأجنبية في القوائم المالية فحسب، بل تتعدى آثاره كأحد المعوقات والصعوبات لمسيرة المشروعات الإنتاجية والاستثمارية في مراحلها المختلفة سواء في دراسات الجدوى الاقتصادية، والتشييد، والتشغيل، والتمويل، والنمو والتوسعات، وتكوين مخصصات الأهلاك للأصول الثابتة على أساس القيمة الاستبدالية للمحافظة على رأس المال الاقتصادي الحقيقي والطاقة الإنتاجية وليس على أساس التكلفة التاريخية. لذلك ناديت أكثر من مرة بضرورة تكوين احتياطي لمخاطر تقلبات أسعار الصرف على الأقل للأصول والخصوم النقدية بالعملات الأجنبية، ودعمه، ومتابعته حتى يكون كافيًا لمقابلة تلك المخاطر عميقة وبعيدة الأثر مع ضرورة إظهاره كمفردة مستقلة بذاتها ضمن احتياطيات البنك الإسلامي. كما ناديت دعمًا للتعاون والتكامل بين البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية وشركاتها الإسلامية في مسيرة حركة التمويل والصحوة الإسلامية المباركة المبادرة إلى تكوين صندوق مشترك لمخاطر تغيرات أسعار الصرف للعملات الأجنبية تسهم فيه البنوك والمؤسسات المالية والشركات الإسلامية وحبذا لو تبنى هذا الاقتراح البنك الإسلامي للتنمية بجدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1007 3-4- "محاسبة البنوك" التقليدية والحاجة لتطويرها من منظور إسلامي: تأثرت البنوك الإسلامية في مرحلة نشأتها بنظام "محاسبة البنوك" التقليدية المعمول به في البنوك الربوية الأمر الذي قد آن الأوان لتعديله وتطويره بما يلائم متغيرات العمل المصرفي الإسلامي. وفي إطار النظرة إلى علم المحاسبة في طوره الحالي كنظام للمعلومات فإن مدخلات ومخرجات النظام المحاسبي في البنوك الربوية لا تمثل في رأيي المدخلات والمخرجات الملائمة والكافية والشاملة للبنوك الإسلامية ويتعين إعداد حسابات للتشغيل، والإنتاج، والمتاجرة بالإضافة إلى القوائم المالية بما يكفل معالجة الحجوم، وأرقام الأعمال، والنتائج على مستوى النشاطات والقطاعات مبوبة ومجزأة وقياسها محاسبيًا وليس إحصائيًا ولا يتم ذلك إلا بممارسة محاسبة التكاليف، والمحاسبة الإدارية. ولا تخفى الأهمية البالغة في مجال المرابحات وخصوصًا بثمن مؤجل للتخطيط النقدي، وتخطيط التسويق، وقياس التكلفة، وتحديد الأسعار، وتخطيط الربحية. فضلًا عن قياس التعويض الذي لحق بالبنك من عدم الوفاء بمستحقاته في مواعيدها المحددة على أساس الضرر الفعلي من منظور إسلامي. والله الموفق والمستعان. 25 من رجب 1407هـ 25 من مارس 1987م د. شوقي إسماعيل شحاتة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1008 المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) ندوة عن: "خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية: الجوانب التطبيقية، والقضايا والمشكلات". بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب/ البنك الإسلامي للتنمية / جدة. عمان 22 شوال – 25 شوال 1407هـ 18 /6 – 21/ 6/ 1987م بحث السيد إيريك ترول شولتز عن دراسة تطبيقية: تجربة البنك الإسلامي في الدنمارك دراسة تطبيقية تجربة البنك الإسلامي في الدنمارك أريك ترول شولتز دائرة العلوم الإدارية – جامعة أودنسي مقدمة إلى ندوة خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية: الجوانب التطبيقية، والقضايا والمشكلات: المنعقدة في عمان من 18 – 20 حزيران 1987 والمعدة من قبل المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) بالتعاون مع مركز البحوث والتدريب الإسلامي وبنك التنمية الإسلامي – جدة- المملكة العربية السعودية. شيء من تجربة البنك الإسلامي في الدنمارك: تعتبر عملية إقامة بنك إسلامي في الدنمارك، خطة وتنظيمًا وتطبيقًا، تحديًا صعبًا ومعقدًا في نفس الوقت، وذلك لوجود تباين واسع في الأوضاع القانونية بين الدنمارك والأقطار الإسلامية. وقد بَنَيْتُ ورقة الدراسات التطبيقية على التجارب التي تجمعت لدي خلال ما يقرب من أربع سنوات عملت إبانها مشرفًا على إنشاء بنك دنماركي جديد يتعامل حسب الشريعة الإسلامية وبموجب قانون البنوك الدنماركي في وقت واحد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1009 لمحة تاريخية، مع شيء عن وضع المؤسسة: في خريف 1982 منحت مراقبة البنوك الدنماركية رخصة بنك تجاري للشركة القابضة المسماة جهاز البنوك الإسلامية في لكسمبرج (سميت فيما بعد بيت المال الإسلامي) تُخَوِّلها هذه الرخصة أن تنشئ بنكًا تجاريًّا باسم " البنك الإسلامي الدولي – الدنمارك". وقد أوضحت مراقبة البنوك عند منح الرخصة أن على البنك الإسلامي الدولي أن يعمل ضمن قانون البنوك الدنماركي شأنه في ذلك شأن أي بنك تجاري آخر إذ لا يوجد امتياز أو استثناء لأي بنك دنماركي بالنسبة لقانون البنوك أو أي قانون دنماركي آخر. ولما كانت الشركة القابضة في لكسمبرج هي المساهم الوحيد فقد تقدمت بطلبات ترخيص بنوك في جميع الدول الكبرى في أوروبا، ولكن التصريحات لم تمنح بمجرد تقديم الطلبات فاضطرت الشركة القابضة أن تتقدم بطلب جديد تحدد فيه طلبها بأن تعمل كبنك تجاري مع إذن خاص من البنك المركزي بأن تكون وكيلًا له في العمليات الأجنبية، فقانون البنوك خاص بنوع واحد من البنوك العامة: فالبنوك التجارية وحدها هي التي يسمح لها بتجسير المسافة بين الفائض والعجز في طرفي الاقتصاد، والبنوك وحدها هي المسموح لها بطلب الودائع وقبولها من الجمهور، وتدخل بنوك التوفير تحت سلطة قانون البنوك الدنماركي. وهناك بعض المؤسسات المالية غير البنكية التي تتعامل بالموجودات والمطلوبات دون أن يكون لها حق في قبول الودائع. يتشدد قانون البنوك الدنماركي في تحديد نشاطات البنوك والتأكيد على بقاء قدرتها على الوفاء أعلى من غيرها في الـ OECD أي منظمة التعاون والإنماء الاقتصادي، بحيث لا تقل عن 8 % من مجموع الديون والكفالات معا. كذلك يخضع استثمار الأموال ونسبة السيولة لأنظمة صارمة. تعتبر مراقبة البنوك بصفتها هيئة حكومية هي السلطة المشرفة التي تراقب البنوك ضمن قانون البنوك. أما البنك المركزي الذي يتمتع بشبه استقلال تام عن الحكومة، فيما يتعلق بأمور السيولة، فهو الذي ينظم السياسة المالية المفروضة، فتكون له المراقبة على البنك في مسائل العملة الأجنبية. وقد باشر البنك الإسلامي الدولي أعماله في 18 نيسان سنة 1983 بإدارة عامة وفرع للجمهور في وسط كوبنهاجن، وانحصر التوظيف في الدنمركيين، وقد بدأ تدريبهم على أنظمة التعامل الإسلامية بصورة مكثفة قبل افتتاح البنك للجمهور بشهرين، وكان يدربهم مسؤولون من الشركة القابضة، ولم تتوقف عملية التوعية في الاقتصاد الإسلامي حتى الآن. أما أصعب العمليات وهي إدخال العقود والإجراءات المطلوبة في هذا البنك الدنماركي الجديد، فقد تم التغلب عليها بالتعاون بين الشركة القابضة التي قدمت علماء الشريعة وبين الاقتصاديين والمصرفيين الدنمركيين. ولا ننسى أن هذا كان بنكًا دنماركيًا جديدًا بأهداف جديدة اعتبرها كثير من المراقبين الغربيين بأنها ذات أهداف متضاربة، لأن كل معاملات البنك يجب أن تتمشى مع الشريعة الإسلامية بكل دقة وتحت إشراف المستشار الشرعي المعين لذلك، وكذلك تحت مراقبة فاحص الحسابات الشرعي الداخلي، وفي الوقت نفسه يتعين على البنك أن يطبق قانون البنوك الدنماركي أي أن يكون تحت إشراف السلطات الدنماركية شأنه في ذلك شأن أي بنك دنماركي آخر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1010 وكما يظهر في تقرير البنك السنوي لسنة 1985، فإن التجربة العملية للبنك الإسلامي الدنماركي في ضوء هدفه المزدوج قد أثبت أن أي بنك دنماركي يمكنه أن يتعامل بموجب الشريعة الإسلامية.. والبنك الإسلامي الدولي الدنماركي عضو مقبول لدى السلطات الدنماركية، وفي الوقت نفسه يهيئ هذا البنك الدولي المال الحلال كما وصفه فاحص الحسابات الشرعي. وقد قسمت تعبئة الأموال وإنفاقها في الوجوه التالية: التعبئة: الحسابات الجارية حسابات التوفير أو الحسابات المربوطة لأجل حسابات الاستثمار (ودائع معينة) الإنفاق: المضاربة المشاركة المرابحة الإجارة خطابات الاعتمادات (المرابحة) تم خلال صيف 1986، إجراء خمسة وعشرين عقدًا من عقود التعبئة والإنفاق الشرعية وتم اعتمادها من المستشار الشرعي الدكتور عبد الستار أبو غدة. وإليكم لمحة عن مدى تطبيق عقود المرابحة كما وصفها المستشار الشرعي في تقارير فحص الحسابات لسنتي 1984 و 1985. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1011 جاء في تقرير 1984: "تمت دراسة كثير من المشكلات والنتائج من أجل تطوير وسائل الائتمان الشرعية المتفقة تمامًا مع القوانين الدنماركية والغربية ومع الشريعة الإسلامية، وقد تمكنت الشريعة الإسلامية من إيجاد حلول لكل المشاكل التي واجهها بَنْكُنَا الجديد والتي كانت تحديًا رئيسًا له ضمن الوسط القانوني الدنماركي – من خلال تطوير العمل البنكي نوعًا وتطبيقًا حسب الشريعة الإسلامية مما يمكن البنك الإسلامي الدولي من تزويد البنوك الإسلامية في أقطارها أو الأفراد بالخدمات البنكية الصحيحة. فرضت هذه الظروف – أي العمل في وسط غير إسلامي- على البنك الإسلامي الدولي أن يقبل في بادئ الأمر بعض عمليات غير حلال في انتظار تيسير البدائل المناسبة، ولم تكن هذه النشاطات غير العادية مما يتفق مع اسم البنك الإسلامي الدولي أو سياساته المرسومة أي التعامل حسب الشريعة الإسلامية عند تقديم تلك الخدمات البنكية، مما يدل على أن البنك الإسلامي الدولي خضع لمبدأ الحاجة. وقد تم التغلب على العمليات – غير الحلال التي كان البنك الإسلامي بحاجة لها تمشيًا مع قانون البنوك الدنماركي في بادئ الأمر، عندما تم تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية والعمليات الحلال لدى هذا البنك. أما العمليات الحلال الكثيرة فقد غطت 82 % من استثمارات البنك حتى نهاية سنة 1984. أي أن العلميات الحلال كادت تستهلك كل الودائع الإسلامية في البنك، أما عائدات هذه العمليات الحلال فكانت تقيد في حساب منفصل في سجلات البنك. شَكَّلَ دَخْلُ هذه العمليات سنة 1984 ما نسبته 54 % من الإيرادات العامة، بينما شكلت العمليات غير الحلال نسبة 46 % تم تمويلها من حصة الأسهم التي تم إفرادها منذ البدء لتيسير الخطوات اللازمة لتثبيت موقف البنك في الدنمارك" جاء في تقرير 1985 "قام البنك الإسلامي الدولي خلال سنة 1985 بتطوير عملياته البنكية وزادها بحيث أصبحت تغطي 87 % من الأموال المتاحة للاستثمار و 98 % من مجموع المطلوبات، أما دخل العمليات الحلال فقد ارتفع إلى 78 % من مجموع الدخل العام، وقد جاء هذا التحسن بشكل خاص نتيجة لموافقة البنك المركزي على اعتبار القبولات البنكية الناجمة عن عقود المرابحة الآجلة جزءًا من احتياطي السيولة النقدية، مما مكن البنك الإسلامي الدولي من استعادة المبالغ التي كانت تستعمل في العمليات غير الحلال بموجب التعليمات البنكية القائمة. وجدير بالذكر أن البنك الإسلامي الدولي قد أشنأ جهازًا داخليًا لمراقبة الحسابات بموافقة تامة من السلطات البنكية ضمن قانون البنوك الدنماركي، وتم إقرار هذا الجهاز من قبل مجلس الإدارة الذي يتلقى مراقب الحسابات تعليماته منه. وقد سهل ذلك التأكد من تطبيق مبادئ الشريعة على الحالات الفردية مما سهل في خلق تفهم للصعوبات العملية التي تواجه البنك في جهوده المتواصلة من أجل تحسين النظام المصرفي الشرعي وتطويره. وتبين لنا من فحص حسابات سنة 1985 أن القسم الأكبر من عمليات البنك الإسلامي الدولي، قامت في أساسها على أسس شرعية وصلت الآن إلى عشرين نوعًا من حيث العدد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1012 وسائل الائتمان الرئيسة في استثمارات البنك الإسلامي الدولي: كان الأسلوب المتعارف عليه عالميًا في التعامل بالمرابحة المؤجلة (ادفع واحمل) هو الدافع الرئيسي لاستثمار الأموال. وهذا الأسلوب كان يستعمل في أسواق لندن وعلى نطاق أضيق في نيويورك. ولم يكن لهذا النوع من التعامل مرونة ملحوظة، أما الوسيلة الرئيسة الثانية والتي كانت تتم بالنقد الدنماركي فهي الإجارة. وكانت الوسيلة الثالثة وهي تمويل الصادرات والواردات الدنماركية بالمرابحة المؤجلة المتمثلة في البائع والشاري دونما حاجة إلى حق الرجوع على المحول. أم الجهات التي تم الاستثمار فيها في الدنمارك فكانت في الواردات والصادرات يليها الإنشاءات ضمن خطة الإسكان الدنماركي، ثم تجهيز لوازم الصناعة. الصعوبات القائمة: يظهر في جانب الموجودات لدى البنك الإسلامي الدولي أن الاستثمار في التجارة الدولية هو الأهم ونتيجة لتعليمات دنماركية تنظيمية معينة، صارت هذه العقود المؤجلة للمرابحة إلى قبولات بنكية. وتجاوبًا من طلبات إسلامية أدخل نظام تعامل حلال جديد وذلك بتنظيم سفتجة (كمبيالة) تربط مع بوليصة الشحن القائمة، وبعد أن يباشر البنك الإسلامي الدولي تلك الصفقة يتم وضع ختم تظهير القبول على الكمبيالة، وبذا تصبح عملية استثمار البنك الإسلامي الدولي قبولًا قانونيًّا، وكل هذه العمليات كانت تبرم من خلال سوق لندن، وهذه القبولات تكون في العادة "عمليات كبيرة" لا تترك للبنك الإسلامي الدولي شيئًا من المرونة يتحرك ضمنها. استطاع البنك الإسلامي الدولي فيما بعد أن يطور وسيلة مرنة جدًّا للاستثمار الحلال مستفيدًا من عمليات التصدير الدنماركية الواسعة عن طريق خطابات الاعتمادات، فقد طور البنك وسيلة لتعامل قصير الأجل وفي مدة لا تتجاوز 24 ساعة، وكان لا بد من تنظيم عمليات استثمار معينة صالحة لأي فترة من الوقت، أو للتعامل بأية عملة قابلة للتحويل لدى البنك الإسلامي الدولي وتمت الموافقة على ذلك من قبل المستشار الشرعي للبنك، مثل هذه الاستثمارات في المرابحة تجعل أي بنك إسلامي عديم السيولة لفترة مؤقتة، لأن سيولة هذه العقود لا تتم إلا بين الفريقين البائع والمشتري في آن واحد، حين تنتقل ملكية البضاعة إلى المشتري الأخير الذي يقوم البنك بتمويله. على أن ملكية المنفعة في حالة الإجارة تبقى للبنك الذي يجد الحرية في إدارة موجوداته ومطلوباته بشكل يؤمن السلامة البنكية وسنبحث ذلك فيما بعد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1013 العميلات الحلال المبنية على الاعتمادات المستندية للصادرات: يصلح هذا النموذج من العلميات الحلال لكل أنواع الاعتمادات المستندية، وبعبارة أخرى فهو مستقل عن الاعتماد المستندي المعروف: القابل للنقض وغير القابل للنقض، أو المعزز وغير المعزز، أو المدفوع أو القابل للتظهير، أو بالاطلاع والمؤجل الدفع. وأهم شرط لجعل العملية (حلال) ضمن الاعتماد المستندي هو أن يكون مستند التمليك للآمر أي أن تكون بوليصة الشحن للآمر. وعندما يقدم البائع مستنداته للبنك فاتح الاعتماد يجب أن يكون من بينها سند تمليك. أما الإجراءات فتكون كالتالي: قبل أن يسير البنك فاتح الاعتماد المستندي في إتمام التصرف بالمستندات العائدة للاعتماد والتي يكون من بينها اعتماد مستندي بالاطلاع يسهل تحويل الدفع إلى البائع يقوم البنك الإسلامي بشراء صفقة حلال هي شراء سند التملك الخاص بالاعتماد المستندي بسعر إضافي زائد عن السعر النقدي. وتتم هذه الصفقة الحلال بين البنك الإسلامي والبائع لأن البنك فاتح الاعتماد هو وكيل البائع الذي يتسلم من البنك فاتح الاعتماد الدفعات التي يعطيها له البنك الإسلامي الذي يصبح تبعًا لذلك، المالك الجديد لسند التمليك. ومن خلال هذا السند يمكن تحديد البضاعة وتعيين أي شروط حلال أخرى واجبة التنفيذ مثل نوع البضاعة والجهة الصادرة إليها. بعد ذلك، وبصفته صاحب سند التمليك، يستطيع البنك الإسلامي تنفيذ صفقة بيع حلال وهي بيع سند التمليك إلى البنك فاتح الاعتماد بسعر يتفق عليه يشمل الزيادة الناتجة عن عملية البيع الأخيرة لسند التمليك. يتم هذا النموذج من الصفقات بين ثلاثة أطراف مميزة: البنك الإسلامي الذي ينفذ عملية شراء نقدية للبضاعة المفصلة من وكيل البائع وهو البنك فاتح الاعتماد كطرف ثان ثم يقوم البنك فاتح الاعتماد منفردا وعلى مسؤوليته بشراء سند التمليك من البنك الإسلامي ويكون البنك فاتح الاعتماد في هذه الحالة الأخيرة هو الطرف الثالث. أمكن الوصول بالتعاون بين البنوك إلى السوق اليومية الكبيرة لسندات التمليك (بوالص الشحن) العائدة للصادرات الدنماركية، وهذا يَسَّرَ للبنك الإسلامي حرية ومرونة من حيث السيولة النقدية ومن حيث الوقت بكلفة تجعل العائدات أقل من سعر السوق التقليدي بما لا يزيد على جزء من الواحد بالمائة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1014 هذا النوع الجديد من الاعتمادات المستندية هيأ المرونة الكافية لبناء محفظة الاستثمارات، ولكن بكلفة جعلت عائدات أي بنك إسلامي أقل من توقعات المودعين المبنية على أسعار السوق التي توجد في النظام البنكي التقليدي. هذه السيولة المتجددة لا تتجاوز الفترة التي استعادت فيها محفظة الاستثمارات أنفاسها، إذ أن الوضع الذي طرأ كان عبارة عن إعداد سجل يحتوي على عينات من الاستحقاقات المحددة سابقًا تعطي البنك مواعيد محددة سلفًا ومخطط لها لاستقبال السيولة الواردة. وحسب مبادئ الشريعة فإنه لا يمكن تعويم أي من هذه العمليات قبل موعد استحقاقها ولهذا السبب نشأ وضع بالغ الخطورة بالنسبة للبنك الذي يعمل وسيطًا بين المودعين والمستثمرين، وبالتالي فإن البنك يصبح فاقدًا للسيولة وعليه أن يعتمد على تدفق أموال معروفة وثابتة، اللهم إلا إذا تيسرت له عمليات سوق حلال موازية. ولا بد أن تكون هذه السوق الموازية كبيرة ومركزية لمسائل حلال أهمها (السندات المالية) مختلفة الاستحقاقات، حتى يتمكن البنك من تأمين بيع مستمر يوفر أموالًا وتسعيرات يومية توفر السيولة للبنك الإسلامي في أي وقت. وهذا يزيد في أرباح البنك، ويعدل مستوى عائدات الودائع لتصبح في مستوى الأسواق التقليدية للودائع، ومما يزيد الأمر سوءًا أن أي بنك إسلامي وهو يتدبر أمر موجوداته ومطلوباته في ظل نقص السيولة لا يستثمر الأموال السائلة العفوية المتيسرة بين حين وآخر، أما بالنسبة للبنك الإسلامي في الدنمارك فإن الأموال المعدة للاستثمار لا تطرح إلا عندما تتهيأ الفرص السليمة الشرعية وتكون العملية جاهزة للتمويل، بينما تجد بنوك الدنماركية المنافسة الأموال التي تنتج الربح متيسرة أو تستطيع تأمينها حالًّا عندما تبرم أي اتفاق مع مستثمر أو رجل أعمال. لذلك لا يظهر أي وضع تنافسي للبنك الإسلامي لأنه وهو يستعمل أمواله الخاصة لا يسمح له شرعيًّا بالتعامل بالديون على الإطلاق. لذلك تسبب العجز عن توفير الأموال الصالحة للاستثمار في خلق دخل متوقع يكون أدنى من دخل البنوك التقليدية. أخيرًا وقبل أن نتطلع إلى التوقعات المستقبلية لا بد أن نشير إلى أن أنظمة الضريبة ومبادئ المحاسبة والحسابات في الغرب تحد من نشاط أي بنك إسلامي ومن فاعليته إذا قرر العمل في وسط رسمي غربي. يوجد في الدنمارك والأقطار الأوروبية الأخرى ضريبة القيمة المضافة (VAT) عدا ضريبة الدخل العالي والضرائب الأخرى وهذه الضريبة (VAT) لا تفرض على الفوائد المدفوعة، مما يعطي البنوك الأخرى ميزة على أي بنك إسلامي حيث تفرض هذه الضريبة (VAT) على أي إضافة أو زيادة في عمليات المرابحة، كما يجب أن يراعى أن الربح هو الفائض بعد الضرائب في حين أن الفوائد عامل كلفة يعفي من الضريبة أو ينقصها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1015 تطلعات مستقبلية: تأسس البنك الإسلامي ليثبت أن النشاطات البنكية المبنية على الشريعة الإسلامية قادرة على الصمود في أشد الأوساط الدنماركية (الغربية) محققة الفوائد لعملائها وللبنك نفسه. كتبت فعلًا في سنة 1984 عدة رسائل لأصدقاء جدد في الأوساط المالية الإسلامية لأثير اهتمامه للمشاركة في حل بعض التحديات الرئيسة التي تواجه بنكًا يعمل بموجب مبادئ الشريعة. "إذا أرادت أية مؤسسة إسلامية أن تتحول إلى بنك –وأعتقد أن المكان ليس مهمًا- فإن على تلك المؤسسة أن تسلم بالمبادئ التي تحول أية مؤسسة إلى بنك. ومن بين هذه المبادئ اثنان على الأقل هما: 1- القدرة على قبول الودائع لأجل يتراوح بين ودائع "تحت الطلب" واضحة الشروط من حيث المدة مثلًا من 3 – 12 شهرًا ودائع غير محددة الشروط مثل الودائع المحددة للاستثمار. 2- القدرة على تحويل استحقاقات الودائع المقبوضة إلى موجودات أطول أجلًا - ومن خلال هذه العملية تنتج ربحًا يتقاسمه البنك والمودع. تحويل الاستحقاقات: يواجه هذين المبدأين أي بنك بالشكل التالي: كيف تحول حسابات توفير سائلة إلى استثمارات منتجة للربح ذات استحقاقات أبعد – علمًا بأنك بنك- وفي نفس الوقت تحافظ على السيولة وتتقاسم الأرباح مع المودعين الوافدين إلى البنك بمدخراتهم؟ وأقتبس من رسالة أخرى سنة 1984: "المطلوب قيام مركز مالي مجهز، باستطاعته تحويل الاستثمارات الإسلامية إلى بنك إسلامي. إن الهدف الرامي إلى تحويل الصفقات والإجراءات إلى الشكل الإسلامي في أي بنك يسمي نفسه "إسلاميًّا" يتطلب أن يقبل المستشارون الشرعيون في البنوك الإسلامية أن تقوم تلك البنوك بتحويل الاستحقاقات العائدة لبنود الموجودات لتصلح للمتاجرة السليمة في سوق موازية تنشأ لهذا الغرض. تعتبر أي مؤسسة تسمي نفسها بنكًا مؤسسة تقبل الودائع وتطلبها لذلك فإن عليها أن تكون قادرة على تحويل الاستحقاقات بكفاءة فعلى البنك أن يلبي متطلبات محافظ الموفرين والمودعين، فالمودعون يفضلون أن تكون الوديعة قصيرة الأجل في حين يبحث المستثمرون عن تمويل متوسط الأجل أو حتى طويل الأجل. لذا كانت مهمة البنك أن يحول قبول الودائع قصيرة الأجل إلى استثمارات أطول أجلًا. ولا تزال الوسائل والإجراءات اللازمة لتمكين أي بنك إسلامي من تنفيذ تحويلات الاستحقاق المطلوبة غير متوفرة حتى الآن، وما دامت هذه الوسائل والإجراءات غير موجودة في البنوك الإسلامية، فإن عملها سيبقى محصورًا في كونها مؤسسات استثمارية معتمدة على أن تكون البنوك التقليدية أداة لها" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1016 العمليات الحلال في السوق الموازية – تناول عملي: تم خلال 1985 انتشار عدد من سندات الإجارة، شهادات إيداع مبنية على الإجارة، قابلة للتداول، مع اقتراح فتح سوق موازية (مساعدة أو جانبية) للتعامل بهذه الشهادات، وفيما يلي بعض المقتطفات: يمكن أن يتم في البنوك الإسلامية قبول الودائع الحرة وتحويل استحقاقات الموجودات باستعمال شهادات إيداع صالحة بكل وضوح لمنح حق تملك الأشياء المؤجرة للمستأجر من قبل البنك المصدر للشهادات والذي يعتبر مؤجرًا. وإذا تم إيجاد أوراق تداول حرة تصدر في فئات صغيرة مثل 100 دولار أو دنانير إسلامية، فإنه لا يبقى علينا لإجراء تحويلات الاستحقاقات سوى تأمين سوق جانبية لشهادات الإيداع الحلال، يكون في هذه السوق عميل محرك واحد على الأقل لإتمام تبادل العرض والطلب من خلال عملية التسعير. لو فرضنا أن البنك الإسلامي الكبير (س) اشترى مجموعة من محطات الوقود فأصبح مالكًا لها. ثم قام البنك (س) بتأجيرها إلى أصحاب الاختصاص مقابل دفع الإجارة حسب عقود خاصة. هنا يستطيع البنك في ضوء عقود الشراء وعقود الإجارة أن يصدر شهادات إيداع بالدولار مثلًا تكون قيمتها مساوية للقيمة المدفوعة في شراء هذه المحطات، وتحمل شهادات الدولار هذه على كل منها، ما يشير إلى حق تملك المأجور أي محطات الوقود. ولما كانت هذه الشهادات قد صدرت قابلة للتداول فإن البنك (س) سيعمل على عرضها للبيع في سوق جانبية يقيمها في موقعه، وتكون هذه التسهيلات "فوق الحاجز" متاحة لكل العالم عن طريق رويتر أو غيرها من وكالات الاتصال الدولية ويكون البنك (س) في هذه الحالة هو محرك السوق بصلاحية مزدوجة للتسعير شراء وبيعًا (أخذًا وإعطاءً) . ثم تعمل ترتيبات تأجير لمدة خمس سنوات أو عشر سنوات مع المستأجرين (ص) وتكون العقود حاوية لطريقة الدفع الشهري أو الربع سنوي لكل شهادة قيمتها الاسمية 1000 دولار مثلًا: عندها يتمكن البنك (س) من تحديد السعر المناسب للشهادات ذات الألف دولار، كما تبين هذه الشهادات قيمة العائدة المتوقعة والمبنية على الإجارة المذكورة في عقود الإجارة الأصلية. ومن خلال هذه السوق يستطيع أصحاب الأموال النائمة شراء شهادات من الموجود في السوق وغيرها، ويستطيع أصحاب الشهادات عرضها للبيع إن كانوا بحاجة إلى النقد، ويتحكم حجم العرض والطلب على هذه الشهادات التي تحمل عائدًا متوقعًا في كل وقت، يتحكم في تحديد السعر الآني لهذه الشهادات بالنسبة لمتغيرات السوق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1017 أما الفروقات التي تحدث في العمليات المتبادلة بين يوم وآخر فهي التي تمثل الخسارة أو الربح بالنسبة للأموال التي استثمرت خلال هذين اليومين. يمكن اقتباس طريقة لخلق سوق نشيطة تعطي تسعيرًا أفضل للشهادات الحلال من أسواق العالم التي يتنافس فيها عملاء تلك الأسواق في المزايدة لخلق الأسعار والسيولة للمستثمرين في الأسهم والسندات. الخاتمة: إذا أردنا أن نرسي قواعد نظام مصرفي إسلامي مبني على أساس تقاسم حقوق التملك أو حيازة الموجودات الحقيقية فإن علينا مراعاة الأولويات المقترحة التالية: - توفير سندات حلال قابلة للتداول (شهادات إيداع وشهادات استثمار) صالحة للتملك المباشر. وتكون صالحة للتحويل مع أية أرباح متحققة. - إيجاد سوق مركزية (فيها بيانات رسمية عن حجم التجارة والأسعار مع تسهيلات تسديد ومخالصة) للسندات الحلال، يعمل في هذه السوق وسطاء منافسون يؤكدون وجودهم في مواقعهم غير الثابتة ويعملون بوساطة الاتصالات الإلكترونية. - إيجاد مرونة في التصرف باستحقاقات الموجودات والمطلوبات لدى المؤسسات الوسيطة (البنوك) عن طريق استثمار جزء من موجوداتهم في سندات حلال قابلة للتداول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1018 الجوانب القانونية لتطبيق عقد المرابحة الدكتور إسماعيل عبد الرحيم شلبي كلية الحقوق – جامعة الزقازيق دراسة مقدمة لندوة استراتيجية الاستثمار في البنوك الإسلامية الجوانب التطبيقية والقضايا والمشكلات التي ستعقد خلال الفترة من 18 – 21/ 6/ 1987م بسم الله الرحمن الرحيم الجوانب القانونية لتطبيق عقد المرابحة "مقدمة" (1) من بين مجالات استثمار الأموال في البنوك الإسلامية يظهر نشاط البيوع، وقد شرع الله تعالى إلى جانب بيع المساومة وبيع المزايدة والاستئمان بيوعًا أخرى تقوم على الثقة بين المتبايعين والتي يطلق عليها الفقهاء "بيوع الأمانة" وهذه البيوع لها ثلاثة صور: 1- بيع التولية: وهو أن يتم عقد البيع بنفس سعر الشراء أو التكلفة دون زيادة أو نقص. 2- بيع الوضيعة: وفيه يتم عقد البيع بنقص معلوم عن سعر الشراء أو التكلفة. 3- بيع المرابحة: وفي يتم عقد البيع بالتكلفة مضافًا إليها زيادة نسبة معلومة محددة أو مبلغ مقطوع. أو يتم البيع بالنقد أو بالأجل. فبيع المرابحة مبني على صدق البائع في الإفصاح عن ثمن السلعة ومقدار ربحه فيها، ولهذا اعتبرها الفقهاء من بيوع الأمانة. فالمشتري الأول قام بعملية الشراء الأولى، وهي منفصلة عن بيعها لغيره. كما أنها تمت بعقد شرعي كامل ومنفصل عن قعد بيعه لها. كما أن بيع المرابحة بيع حاضر حيث إن البائع مالك للسلعة المباعة ومن ثم يستطيع التصرف فيها بالبيع للغير وإلا اعتبر بيع ما لا يملك. وهو بيع محرم شرعًا.   (1) انظر تفصيلات ذلك في المراجع التالية: - د. يوسف القرضاوي – بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية – دار العلم – الكويت – 1984. - د. عبد الحميد البعلي – فقه المرابحة في التطبيق الاقتصادي المعاصر – السلام العالمية للطبع والنشر بالقاهرة. - د. الصديق الضرير – أشكال وأساليب الاستثمار في الفكر الإسلامي. - د. محمود الناغي - إطار المحاسبة في عقود المرابحة الإسلامية لأجل – مجلة الدراسات التجارية الإسلامية – جامعة الأزهر – العدد الثاني – 1984. - الموسوعة العلمية للبنوك الإسلامية – الجزء الشرعي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1019 وقد درجت البنوك الإسلامية على اتخاذ صيغة بيع المرابحة للآمر بالشراء كأسلوب من الأساليب الشرعية للتمويل، وتتلخص هذه العملية في أن يتقدم العميل للبنك طالبًا منه شراء سلعة معينة بالمواصفات التي يحددها على أساس الوعد منه بشرائها مرابحة وبالنسبة التي يتفق عليها. وبدفع الثمن مقسطًا حسب إمكانياته. وهذه العملية مركبة من وعد بالشراء ووعد بالبيع وبيع بالمرابحة، فهي ليست من قبيل بيع الإنسان ما ليس عنده لأن البنك لا يعرض أن يبيع شيئًا، ولكنه يتلقى أمرًا بالشراء، وهو لا يبيع حتى يملك ما هو مطلوب ويعرضه على المشتري الآمر ليرى ما إذا كان مطابقًا للمواصفات التي طلبها أم لا. كما أن هذه العملية لا تنطوي على ربح ما لم يضمن لأن البنك قد اشترى هذه السلعة فأصبح مالكًا يتحمل تبعة الهلاك. وقد ثار الكثير من الجدل عن الوعد بالشراء من جانب المشتري الآمر بالشراء والواعد بالبيع من جانب البنك هل هو وعد ملزم أم لا؟ ونود أن نشير إلى أن هذه الدراسة تتضمن ثلاثة فصول: الفصل الأول: ونشير فيه إلى الصعوبات القانونية التي تعترض تطبيق عقد المرابحة وهذا الفصل يتضمن ثلاثة مباحث وهي: المبحث الأول: عن الوعد بالشراء أو بالبيع ملزم أم لا. المبحث الثاني: عن الملابسات القانونية لعقود المرابحة في إطار الممارسات العملية بين العميل والبنك. المبحث الثالث: عن المشاكل القانونية التي تتضمنها القوانين المصرفية. الفصل الثاني: ونلقي فيه الضوء على حق الضمان وموقف البنوك الإسلامية منه وهذا الفصل يتضمن أربعة مباحث: المبحث الأول: عن الضمان في اللغة وعند الفقهاء وفي القرآن الكريم. المبحث الثاني: عن أقسام الضمان. المبحث الثالث: عن الضمان في البيع وفي عقد المرابحة. المبحث الرابع: عن العربون الفصل الثالث: ونشير فيه إلى التعويض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1020 وهذا الفصل يتضمن أربعة مباحث: المبحث الأول: التعويض في الشريعة الإسلامية. المبحث الثاني: التعويض في القانون المدني المبحث الثالث: تقدير التعويض والوقت الذي يجب فيه. المبحث الرابع: ما يجري عليه العمل في البنوك الإسلامية. الفصل الأول "الصعوبات القانونية التي تعترض تطبيق عقد المرابحة" هناك بعض الصعوبات القانونية التي تعترض تطبيق عقد المرابحة في البنوك الإسلامية وسوف نشير فيما يلي إلى أهم هذه الصعوبات. المبحث الأول: الوعد بالشراء أو بالبيع، ملزم أم لا؟ بيع المرابحة للآمر بالشراء إحدى صيغ التمويل الحديثة والتي ظهرت وطبقت بصورة متطورة لبيع المرابحة حيث لم تكن مطبقة إلى وقت قريب (1) ولهذا فقد ثار الجدل حول ما إذا كان الوعد بالشراء أو البيع ملزمًا أم لا؟ وكما سبق أن أشرنا فإنها ليست أكثر من مواعدة على البيع لأجل معلوم بثمن محدد هو ثمن الشراء مضافًا إليه ربح معلوم تزيد نسبته أو مقداره عادة كلما طال الأجل ولكنه ثمن معلوم من أول الأمر. ولقد أثار البعض عدة اعتراضات حولها حيث يرون أن هذه المعاملة ليست بيعًا ولا شراء وإنما هي حيلة لأخذ الربا، وأن أحدًا من الفقهاء لم يقل بحلها، وأنها من بيوع " العينة " وهي محرمة، وأنها بيعتان في بيعة وذلك منهي عنه، وأنها تدخل في بيع ما لا يملك وهو ممنوع، وأن فيها إلزامًا بالوعد وهو إيجاب لما لم يوجبه الله تعالى وتقييد لما أطلقه. (2)   (1) د. سامي حسن حمود: تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية - رسالة 1976 – ص 480، 481 (2) انظر تفصيلات ذلك والرد على هذه الاعتراضات – د. يوسف القرضاوي: فقه المرابحة – مرجع سابق – ص 37 وما بعدها. د. عبد الحميد البعلي – فقه المرابحة – مرجع سابق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1021 ولقد أجاب أكثر من فقيه وعالم وهيئات شرعية على هذه الادعاءات وفندوها، بل اتخذت المؤتمرات العلمية عدة قرارات بشأنها، وأوضحت هذه الردود عدم صحة الاعتراضات الموجهة إليها، ومن هذه الردود نشير بإيجاز إلى بعضها فيما يلي: بخصوص اعتبار هذه الصورة من قبيل الربا، فإن من ينظر إلى بيع الأجل أو التقسيط لا يجد فيه شيئًا من الربا وشبهته لأن الزيادة في بيع الأجل والتقسيط ليست خالية من عوض، بل هي في مقابلة العين المبيعة، وكما أن هذا البيع يفترق عن الربا بأنه إذا حل الأجل ولم يؤد الثمن فإنه لا زيادة عليه ولا مؤاخذة إن كان معسرًا بل يمهل حتى يوسر لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 281] وإن تأخر بغير عذر فهو ظالم يستحق العقوبة كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: مطل الغني ظلم)) . (1) وحديث: ((: لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته)) (2) وعلى ذلك يستطيع البنك الإسلامي أن يحصل على التعويض عن الضرر الفعلي الذي لحقه وذلك استنادًا إلى حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) . (3) وقد جاء في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت ((: اشترى رسول الله من يهودي طعامًا نسيئة ورهنه درعًا له من حديد)) . أما بخصوص اعتبار هذا البيع يدخل في النهي عن بيعتين في بيعة، فإن بيع الأجل بثمن أكبر من ثمن النقد أو الحال لا يدخل مطلقًا ضمن حديث بيعتين في بيعة؛ حيث إن البيع عقد والعقد يتم بالإيجاب والقبول أو ما يقوم مقامهما. وهذا معنى قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . وأن هذا البيع لم يتم إلا بعقد واحد وبيع واحد، أما ثمن النقد أو ثمن الأجل وهو بذلك يخرج عن نطاق النهي عن بيعتين في بيعة.   (1) رواه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة، كما رواه أحمد والترمذي عن ابن عمر كما في فتح القدير – جـ 5 – ص 523 (2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحكم والبيهقي من حديث عمرو بن الشريد، عن أبيه، وعلقه البخاري (3) رواه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1022 أما عن القول بأنها عبارة عن بيع الشخص ما ليس عنده فإنه من المعروف أن البنك لا يعرض أن يبيع شيئًا ولكنه يتلقى أمرًا بالشراء، ولا يبيع البنك حتى يملك ما هو مطلوب ويعرضه على الآمر بالشراء ليرى ما إذا كان مطابقًا للمواصفات. أما الآراء الأخرى والتي ترى أن الوعد ملزم فإنها تستند في ذلك إلى أن الوفاء بالوعد واجب ديانة؛ وذلك استنادًا إلى الآيات القرآنية. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) } [الصف:2،3] ، ومن هذه الآية نجد عبارة " كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ " تعطي الدلالة إلى أنه كبيرة وليس مجرد حرام. (1) وفي آية أخرى يقول الله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] ، ومن هذه الآية الكريمة يتضح لنا ذم الله المنافقين، وأن نفاقهم كان سبب إخلافهم وعدهم مع الله. وقياسًا على ذلك إخلاف الوعد مع الناس، حيث لا فرق في أصل الحرمة بين الأمرين، كما أن نكث العهد محرم سواء كان مع الله أم مع الناس. (2) وفي آية أخرى قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وعندما أثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل قال: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] . وفي الأحاديث النبوية الكثير من هذه الدلالات الواضحة ففي الحديث الصحيح المتفق عليه من رواية أبي هريرة. قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) . (3) وفي حديث عبد الله بن عمر وهو حديث صحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) . (4) كذلك ما روي عن بعض الفقهاء من المسلمين عن إلزام الوعد، ومنهم ما روي عن ابن شبرمة فيما نقله عن ابن حزم حيث قال: " الوعد كله لازم، ويقضى به على الواعد ويجبر" (5) كذلك بالإضافة إلى الكثير من الآراء لجماعة من السلف في وجوب الوفاء بالوعد. (6)   (1) د. يوسف القرضاوي: بيع المرابحة للآمر بالشراء – مرجع سابق- ص 91 (2) د. يوسف القرضاوي: بيع المرابحة للآمر بالشراء. (3) رواه البخاري في كتاب الإيمان – باب علامة المنافق (4) رواه مسلم والبخاري (5) المحلى – جـ 8- مسألة 1125 (6) انظر تفصيلات ذلك في كتاب: د. يوسف القرضاوي – بيع المرابحة للآمر بالشراء - مرجع سابق، ص 94 وما بعدها، وهو يستند في ذلك إلى الإمام البخاري في صحيحه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1023 هذا وإذا ما رجعنا إلى مؤتمرات المصارف الإسلامية وكذا لرأي البنوك الإسلامية القائمة على التطبيق الفعلي نجد موقفها كالآتي: مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي: وفي مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي جاءت توصيته على النحو التالي: يرى المؤتمر أن هذا التعامل يتضمن وعدًا من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها، ووعدًا آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء طبقًا لذات الشروط. إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقًا لأحكام المذهب المالكي، وملزم للطرفين ديانة طبقًا لأحكام المذاهب الأخرى، وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل فيه. (1) ولكن هناك من يرى أن هذه التوصية قد جانبها الصواب من حيث إن العميل الواعد ملزم بالشراء على المذاهب الأربعة، ويرى أصحاب هذا الرأي أن الإمام الشافعي في " الأم " يرى أن الواعد بالشراء ليس ملزمًا وإنما مخير في ذلك. (2) وهناك من يرى أن توصية المؤتمر المذكور فيها من الإجمال ما لا يؤخذ به على طلاقه إذ لا خلاف أن الوعد مستحب، ولكنهم اختلفوا في وجوب الوفاء بالوعد. فالجمهور يرى أن الوفاء بالوعد غير واجب خلافًا للحنفية، والمشهور الراجح عند المالكية وابن شبرمة وابن العربي. وقد جاء في كتاب الأم للشافعي ما يؤيد رأي جمهور الفقهاء فيما يتعلق بالوعد من أن طالب الشراء ليس ملزمًا بالشراء وإنما هو بالخيار في ذلك. (3) مؤتمر المصرف الإسلامي بالكويت: وفي مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني الذي عقد بالكويت في مارس 1983 قرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد تملك السلعة المشتراة، وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق هو أمر جائز شرعًا طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسئولية الهلاك قبل التسليم وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي. وأما بالنسبة للوعد وكونه ملزمًا للآمر أو المصرف أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات، وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل. وأن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعًا، وكل مصرف مخير في الأخذ بما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه. (4)   (1) مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي - 1398هـ/ 1979م- ص 14 (2) موسوعة البنوك الإسلامية – الجزء الخامس، ص 332 (3) د. عبد الحميد البعلي: فقه المرابحة – مرجع سابق- ص 81 (4) مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني بالكويت – في جمادى الآخرة 1403هـ – مارس 1983م. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1024 بنك فيصل الإسلامي السوداني: جرى العمل في بنك فيصل الإسلامي السوداني على أن الوعد ملزم للبنك وغير ملزم للآمر بالشراء، فهو بالخيار عندما يعرض عليه البنك السلعة فإن شاء اشتراها وإن شاء تركها، أما البنك فهو ملزم ببيع السلعة للآمر بالشراء إذا رغب فيها. ويبرر البنك موقفه بأن ذلك أولى وأبعد عن الشبهة؛ لأن اعتبار الوعد ملزمًا للطرفين والعميل بالشراء، والبنك بالبيع – يجعل هذه المعاملة في حقيقتها عقد بيع مرابحة قبل ملك البنك للسلعة. ولا يغير من هذه الحقيقة كون البنك والعميل ينشئان عقد بيع من جديد بعد وصول السلعة ما دام كل واحد منهما ملزمًا بإنشائه على الصورة التي تم بها الوعد. (1) بيت التمويل الكويتي: أصدر فضيلة مستشار بيت التمويل الكويتي فتوى جاء بها: "ما صدر من طالب الشراء يعتبر وعدًا، ونظرًا لأن الأئمة اختلفوا في هذا الوعد أهو ملزم أم لا، فإني أميل إلى الأخذ برأي ابن شبرمة رضي الله عنه الذي يقول: إن كل وعد بالتزام لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا يكون وعدًا ملزمًا قضاء وديانة. وهذا ما تشهد له ظواهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية. والأخذ بهذا المذهب أيسر على الناس، والعمل به يضبط المعاملات؛ ولهذا ليس هناك مانع من تنفيذ مثل هذا الشرط ". (2) ندوة البركة بالمدينة المنورة: جاء في الفتاوى الصادرة عن ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي والتي عقدت بالمدينة المنورة أن المؤتمر يقرر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد تملك السلعة المشتراة وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الوعد السابق هو أمر جائز شرعًا، طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسئولية الهلاك قبل التسليم، وتبعة الرد في ما يستوجب الرد. وأما بالنسبة للوعد وكونه ملزمًا للآمر أو للمصرف أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات، وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل. وأن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعًا. وكل مصرف مخير في الأخذ بما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه. (3)   (1) د. الصديق الضرير: أشكال وأساليب الاستثمار في الفكر الإسلامي، مرجع سابق ص 24، 25. هذا وقد وجد الدكتور الضرير في أقوال المتقدمين من الفقهاء صورة التعامل شبيهة. (2) انظر فتاوى بيت التمويل الكويتي. (3) مجلة البنوك الإسلامية – العدد 35 إبريل 1984 – ص 68 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1025 الوعد بين الشريعة والقوانين المدنية الوضعية: أشرنا فيما سبق إلى الاتجاه الشرعي لمدى الإلزام بالوعد، ثم ألقينا الضوء على مؤتمرات المصارف الإسلامية، ثم وضحنا ما يسير عليه العمل في البنوك الإسلامية، ولا يتبقى لدينا سوى أن نعرف موقف القوانين المدنية الوضعية من مدى الإلزام بالوعد؛ ولهذا سوف نشير فيما يلي إلى الوعد في القانون المدني الأردني , وكذا في القانون المدني المصرفي وبعض القوانين العربية الأخرى لنرى موقف هذه القوانين من الوعد وهل هو ملزم أو غير ملزم. أ- القانون المدني الأردني: ينص القانون المدني الأردني في المادة 106 منه على أن الوعد الصادر من الآمر بالشراء ملزمًا. كما تنص المادة 105 على أن الاتفاق الذي يتعهد بموجبه كل من المتعاقدين أو أحدهما بإبرام عقد معين في المستقبل لا ينعقد إلا إذا عينت جميع المسائل الجوهرية للعقد المراد إبرامه. (1) ومن نص المادة 106 نلاحظ أن القانون الأردني قد قرر صراحة أن الوعد ملزم للآمر بالشراء، وهذه أول حالة نجدها في القوانين الوضعية تنص صراحة وبوضوح؛ وذلك يرجع إلى أن القانون المدني الأردني حديث وقد استطاع المشرعون أن يلموا بجميع المعاملات الإسلامية الجديدة، والتي ظهرت وبرزت بعد انتشار البنوك الإسلامية ومنها عقد المرابحة للآمر بالشراء ومدى الإلزام بالوعد. ب- القانون المدني المصري: يرى القانون المدني المصري أن الوعد بالتعاقد – من أي من الجانبين- عقد كامل لا مجرد إيجاب ولكنه عقد تمهيدي لا عقد نهائي. (2) فالوعد بالتعاقد وسط بين مجرد الإيجاب والتعاقد النهائي. فالواعد بالبيع مثلًا قد التزم بأن يبيع الشيء الموعود ببيعه إذا أبدى الطرف الآخر رغبته في الشراء، وهذا أكثر من إيجاب؛ لأنه اقترن به القبول فهو عقد كامل. ولكن كلا من الإيجاب والقبول لم ينصب إلا على مجرد الوعد بالبيع؛ ولذلك يكون الوعد بالتعاقد مرحلة دون التعاقد النهائي. وتنص الفقرة الأولى من المادة 101 من القانون المدني المصري (وكذلك المادة 102 /2 من القانون المدني السوري والمادة 101/ 2 من القانون المدني الليبي، والمادة 91 /2 من القانون المدني العراقي) على أن: " الاتفاق الذي يعد بموجبه كلا المتعاقدين أو أحدهما بإبرام عقد معين في المستقبل لا ينعقد إلا إذا عينت جميع المسائل الجوهرية للعقد المراد إبرامه والمدة التي يجب إبرامه فيها " (3) ذلك أن الوعد بالتعاقد خطوة نحو التعاقد النهائي، فوجب أن يكون الطريق مهيأ لإبرام العقد النهائي بمجرد ظهور رغبة الموعود له. ولما كان الوعد هو خطوة نحو العقد النهائي كما سبق القول فإن شروط هذا العقد من حيث الانعقاد والصحة تكون بوجه عام مطلوبة في عقد الوعد ذاته. (4)   (1) الفتاوى الشرعية للبنك الإسلامي الأردني – الجزء الأول، 1984، ص 48 (2) د. السنهوري – الوجيز- مرجع سابق، ص 85 (3) د. السنهوري – الوجيز- مرجع سابق، ص 86 (4) كالأهلية وعيوب الإرادة ومشروعية المحل والسبب انظر د. السنهوري – الوجيز - ص 87 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1026 وإذا انعقد الوعد صحيحًا فإن الأثر الذي يترتب عليه يجب أن نميز فيه بين مرحلتين يفصل بينهما ظهور رغبة الموعود له في التعاقد النهائي. ففي المرحلة الأولى التي تسبق ظهور الرغبة لا يكسب الوعد الموعود له إلا حقوقًا شخصية حتى لو كان التعاقد النهائي من شأنه أن ينقل حقًّا عينيًّا كما في البيع. فإذا كان العقد الموعود بإبرامه عقد بيع فإن الموعود له بالبيع لا يكسب إلا حقًّا شخصيًّا في ذمة الواعد، ولا ينتقل إليه ملكية الشيء الموعود ببيعه. فيبقى الواعد مالكًا للشيء وله أن يتصرف فيه إلى وقت التعاقد النهائي ويسري تصرفه في حق الموعود له. فإذا باع العين فليس للموعود له إلا الرجوع بتعويض على الواعد. (1) وإذا هلك الشيء بسبب أجنبي تحمل الواعد تبعة هلاكه لا لأنه لم يسلمه إلى المتعاقد الآخر فحسب كما في العقد النهائي، بل أيضًا لأنه لا يزال المالك. (2) وتحل المرحلة الثانية بظهور رغبة الموعود له في إبرام العقد الموعود به في خلال المدة المتفق عليها، فإذا لم تظهر هذه الرغبة قبل انقضاء المدة، سقط الوعد بالتعاقد (3) أما إذا ظهرت صراحة، (4) أو ضمنًا كأن تصرف الموعود له في الشيء الموعود ببيعه إياه فإن التعاقد النهائي يتم بمجرد ظهور هذه الرغبة، ولا حاجة لرضاء جديد من الواعد، (5) ويعتبر التعاقد النهائي قد تم من وقت ظهور الرغبة، لا من وقت الوعد. وإذا اقتضى إبرام العقد النهائي تدخلًا شخصيًّا من الواعد، كما إذا كان العقد بيعًا واقعًا على عقار ولزم التصديق على إمضاء البائع تمهيدًا للتسجيل فامتنع البائع عن ذلك جاز استصدار حكم ضده، وقام الحكم متى حاز قوة الأمر المقضي مقام عقد البيع. فإذا سجل نقلت ملكية العقار إلى المشتري، وهذه الأحكام نص عليها التقنين المدني صراحة في المادة 102 مدني. (وكذلك المادة 103 من القانون المدني السوري، والمادة 102 من القانون المدني الليبي) . إذ تقول: "إذا وعد شخص بإبرام عقد ثم نكل وقاضاه المتعاقد الآخر طالبًا تنفيذ الوعد، وكانت الشروط اللازمة لتمام العقد وبخاصة ما يتعلق منها بالشكل متوافرة، قام الحكم متى حاز قوة الأمر المقضي به مقام العقد.   (1) فإذا كانت العين عقارًا وجب تسجيل البيع، حتى يسري في حق الموعود له عند إظهار رغبته في الشراء، انظر الوجيز، ص 88 (2) حكم محكمة النقض – مدني 13 يناير 1938م مجموعة نمرة 2 رقم 84 ص 240 (3) قضت محكمة النقض بأن الوعد بالبيع يسقط من تلقاء نفسه بلا إنذار ولا تنبيه إذا انفض الأجل دون أن يظهر الموعود له رغبته في الشراء. ذلك أن الموعود له لم يلتزم بشيء بل كان له الخيار إن شاء قبل إيجاب الواعد ودفع الثمن خلال الأجل المتفق عليه، وإن شاء تحلل من الاتفاق دون أية مسئولية عليه. (نقض مدني 6 مايو 1954م مجموعة أحكام النقض 5 رقم 124، ص 834) . (4) وذهاب الموعود له قبل نهاية الأجل إلى محل إقامة الواعد ومقابلة ابنه وإبداء رغبته له في الشراء واستعداده لدفع الثمن، يعتبر قرينة على علم الواعد بالقبول، ويقع على عاتقه عبء نفي هذه القرينة، (نقض مدني 6 مايو 1954م مجموعة أحكام النقض 6 رقم 124 ص 834 وهو الحكم السابق الإشارة إليه) (5) نقض مدني 14 مايو سنة 1942م مجموعة نمرة 3 رقم 154 ص 430 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1027 مما سبق يتضح لنا أن هناك عدة آراء حول الإلزام بالوعد. فالبعض يرى أن الوعد ملزم والبعض الآخر لا يرى ذلك، وآخرون يرون أن الوفاء بالوعد ملزم ديانة وآخرون يرونه – الوفاء بالوعد - ملزم قضاء، هذا من وجهة نظر الفقهاء الشرعيين. أما من وجهة نظر القوانين المدنية الوضعية فنجد أن القانون المدني الأردني قد نص صراحة في المادة 106 منه بأن الوعد الصادر من الآمر بالشراء ملزم، وينفرد هذا القانون بهذا النص الصريح نظرًا لحداثة هذا القانون، ومن ثم استطاع أن يدرج فيه نصًّا صريحًا لهذه الواقعة الحديثة أيضًا وهي بيع المرابحة للآمر بالشراء ومدى التزام الآمر بالشراء بالوعد. أما القانون المدني المصري ويشاركه أيضًا القانون السوري والقانون الليبي والقانون العراقي – فقد نص على أن الوعد بالتعاقد عبارة عن عقد كامل لا مجرد إيجاب، ولكنه عقد تمهيدي لا عقد نهائي، فهو خطوة نحو التعاقد النهائي، فواجب أن يكون الطريق مهيأ لإبرام العقد النهائي بمجرد ظهور رغبة الموعود له، فإذا كان العقد الموعود بإبرامه عقد بيع فإن الموعود له بالبيع لا يكسب إلا حقًّا شخصيًّا في ذمة الواعد، ولا تنتقل إليه ملكية الشيء الموعود ببيعه. وإذا هلك الشيء المبيع تحمل الواعد تبعة هلاكه لا لأنه لم يسلمه إلى المتعاقد الآخر (المشتري) فحسب كما في العقد النهائي بل أيضًا؛ لأنه لا يزال المالك. ومن روح نص القانون المدني المصري – وكذا القوانين العربية سالفة الذكر- نجد أن الوعد بالتعاقد عقد كامل لا مجرد إيجاب وهو خطوة نحو التعاقد النهائي، ومن ثم ففيه شيء من الإلزام للواعد. حيث إنه في حالة نكوله عن تنفيذ الوعد يحق للطرف الآخر مقاضاته طالبًا التنفيذ، ومتى كانت الشروط اللازمة لتمام العقد متوافرة قام الحكم متى حاز قوة الأمر المقضي به مقام العقد، ومن ثم لا حاجة لإبرام العقد النهائي؛ لأن الحكم قام مقامه. أما بالنسبة للبنوك الإسلامية فنجد أن العميل يسير في معظمها على أن الوعد بالشراء ملزم للواعد، وذلك عدا القليل منها حيث يرون أن الوعد بالشراء غير ملزم للمشتري، وأن له الخيار، مع إلزام البنك بالوعد. ونحن نختار الرأي الذي يرى أن الوفاء بالوعد ملزم لكل من البنك والمشتري الآمر بالشراء من حيث إنه ملزم قضاء طبقًا لأحكام المذهب المالكي، وملزم للطرفين ديانة طبقًا لأحكام المذاهب الأخرى (1) وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل فيه. ذلك هو الصالح العام لكلا الطرفين وكذا لاستقرار المعاملات والمحافظة على المؤسسات المالية الإسلامية.   (1) يشير البعض إلى أن الإمام الشافعي في كتاب الأم يرى أن الواعد بالشراء ليس ملزمًا وإنما مخير في ذلك. انظر الموسوعة العلمية للبنوك الإسلامية – الجزء الخامس- ص 332 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1028 المبحث الثاني: الملابسات القانونية لعقد المرابحة في إطار الممارسات العملية بين العميل والبنك: يقوم كل بنك إسلامي بطبع نماذج خاصة بطلبات الشراء والوعد بالشراء وعقد البيع بالمرابحة، وقد لاحظنا على هذه النماذج ما يلي: (1) أ- الضوابط القانونية لتشكيل هيئة التحكيم: أسندت بعض البنوك الإسلامية للقضاء – الوطني بدولها الاختصاص في فض المنازعات بين البنك وعملائه. (2) بينما نجد أن البعض الآخر منها قد أسند ذلك إلى محكمين ملتزمين بالشريعة الإسلامية يتم اختيارهم على الوجه التالي: 1- حكم يختاره الطرف الأول. 2- حكم يختاره الطرف الثاني. 3- حكم مرجح يختاره الطرفان. وإذا لم يقم الطرف الثاني باختيار الحَكَم المرجح أو اختلفا في اختياره اختارت هيئة الرقابة الشرعية بالبنك الحَكَم المرجح، ويتم الفصل في النزاع وفقًا للقوانين والأعراف التجارية السائدة في الدولة وبما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، ويكون حُكْمهم نهائيًّا وملزما للطرفين. (3) ويلاحظ أن تشكيل هيئة المُحَكِّمِين قد اختلفت في بعض البنوك عن بعضها الآخر؛ ففي أحد هذه البنوك تبين أن تشكيل هيئة المُحَكِّمِين من ثلاثة يختار كل طرف مُحَكِّمًا عنه ويكون رئيس الهيئة شخصًا معينًا حدد بالاسم مسبقًا بمعرفة البنك، ونص في عقد البيع على أنه إذا لم يقم أي من الطرفين باختيار مُحَكِّمِهِ خلال خمسةَ عشرَ يومًا من إخطاره بذلك من الطرف الآخر يتولى رئيس الهيئة (السابق تحديده بالاسم) التحكيم وحده، كما نص على أن هيئة المحكمين تفصل في النزاع بحكم نهائي. (4) وإذا ما رجعنا لقانون المرافعات المصري نجد أن المادة 412 منه تنص على أنه يترتب على الاتفاق على التحكيم – أيًّا كانت صورته - أثران هامان: أثر إيجابي هو الحق في الالتجاء إلى التحكيم، وأثر سلبي هو منع قضاء الدولة من نظر المنازعة محل التحكيم على أنه إذا حكم ببطلان الاتفاق على التحكيم عاد لطرفيه الحق في الالتجاء إلى قضاء الدولة. ويمكن الطعن في حكم المُحَكِّمِين بالبطلان طبقًا لنص المادة 512 من قانون المرافعات وذلك في حالات محددة نصت عليها تلك المادة، وهي: 1- إذا كان قد صدر حكم المُحَكِّمِين دون وجود شرط تحكيم أو استند إلى وثيقة باطلة أو شرط باطل أو صدر في غير حدود النزاع الذي اتفق على التحكيم بشأنه. 2- إذا صدر من مُحَكِّمِين لم يتفق عليهم الخصوم. 3- إذا كان حكم المُحَكِّمِين غير مسبب أو لم يوقع عليه، أو وجود بطلان في الإجراءات أثر في الحكم. مما سبق يتضح لنا مدى السلطة القانونية والحصانة القضائية التي تنوط بنظام التحكيم. ولهذا فقد جرى العرف والعمل على أن تشكل هيئة التحكيم من ثلاثة مُحَكِّمِين على الأقل، يتم اختيار أحدهم بمعرفة الطرف الأول والثاني بمعرفة الطرف الثاني. أما المحكم المرجح فيختار بمعرفة الطرفين، وفي حالة اختلافهما أو تقاعس الطرف الثاني على اختياره، تقوم هيئة الرقابة الشرعية باختياره.   (1) هذه الملاحظات تتعلق بنماذج أربعة بنوك فقط وهي التي استطعت الحصول عليها، وهي بنك فيصل الإسلامي المصري، المصرف الإسلامي الدولي للاستثمار والتنمية، بيت التمويل الكويتي، بنك قطر الإسلامي. (2) بيت التمويل الكويتي، بنك قطر الإسلامي (3) بنك فيصل الإسلامي المصري – بند 10 من الوعد بالشراء (4) المصرف الإسلامي الدولي للاستثمار والتنمية، الفقرة سادسًا من عقد الوعد بالشراء، والفقرة سابعًا من عقد البيع بالمرابحة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1029 كل هذه الإجراءات من أجل كفالة الحياد التام لهيئة التحكيم؛ نظرًا لأن حكمها نهائي وملزم للطرفين ولا يستطيع أي من الطرفين – طبقًا لنص القانون المدني المصري- اللجوء للقضاء إلا في إطار ظروف وأسباب محددة- نصت عليها المادة 512- يصعب تحقيقها. أما أن يحدد الحكم المرجح بالاسم مسبقًا من قبل البنك ويرأس هيئة التحكيم، ويحكم في النزاع بمفرده في حالة عدم قيام أي من الطرفين باختيار مُحَكِّمِهِ خلال خمسة عشر يومًا من إخطاره بذلك فهذا يخالف العرف وما جرى عليه العمل بشأن التحكيم. ب- الموقف القانوني لناقل البضاعة: ورد بأحد نماذج الوعد بالشراء بأن الناقل للبضاعة يعتبر بصفته وكيلًا عامًّا للشحن – وكيلًا لطرفي العقد باستلام البضاعة من وقت تحميلها على ظهر الباخرة من قبل المصدر في ميناء الشحن وحتى ميناء الوصول. (1) ونحن نرى أن هذا النص قد جعل من ناقل البضاعة بصفته وكيلا عاما للشحن وكيلا للبائع، فهذا صحيح، حيث إنه مكلف من قبله بالقيام بعملية الشحن أما أن نجعله أيضًا وكيلا عن المشتري باستلام البضاعة فهذا غير صحيح قانونًا؛ نظرًا لأن البضاعة حتى تلك اللحظة لم تدخل في ملكية المشتري فعلًا أو مستنديًّا حيث إنها ما زالت في الخارج، كما أنها لم تدخل بعد في حوزة البنك فعليًّا. وإنه طبقًا لقواعد عقد البيع بالمرابحة للآمر بالشراء فإن عقد البيع بالمرابحة للآمر بالشراء يشترط فيه تملك البنك للسلعة المباعة، وهذا التملك إما بدخولها لمخازنه أو حصوله على مستندات الشحن الخاصة بها وهذا غير متوفر. وحتى لو توفرت شروط الملكية للبنك فإنه إذا حدثت أي تلفيات أو هلاك للبضاعة فإن البنك يتحمل هذه الخسارة كلية ولا يتحمل الآمر بالشراء شيئًا منها، فكيف يكون الناقل للبضاعة وكيلا له باستلامها وهو – أي الآمر بالشراء - لم يتملكها بعد. جـ- الوضع القانوني لرهن البضاعة المباعة ضمانًا لحق الطرف الأول: ورد بأحد عقود البيع بالمرابحة التزام الطرف الثاني بأن البضاعة ملكه موضوع هذا العقد مرهونة رهنًا تأمينيًّا لصالح الطرف الأول حتى استيفائه لكامل الثمن المتفق عليه وله عليها حق امتياز البائع. (2) ونود أن نشير هنا إلى أن الرهن من التأمينات العينية الخاصة التي يقدمها المدين للدائن ضمانًا للدَّين. والرهن ينقسم لنوعين: رهن حيازي، ورهن رسمي. والرهن الحيازي يقتضي نقل حيازة المال المرهون من يد المدين "الراهن" إلى يد الدائن "المرتهن" ويكون للدائن أن يحبسه حتى يستوفيَ حقه. وهو يرد على العقار والمنقول. أما الرهن الرسمي فإنه يرتب للدائن حقًّا عينيًّا على المال المرهون دون أن تنتقل حيازة هذا المال إلى يد الدائن بل تبقى حيازته في يد المدين الراهن وهو لا يرد إلا على العقار دون المنقول، فهو الذي يمكن رهنه رهنًا رسميًّا. والرهن بنوعيه يعتبر من الحقوق العينية التبعية، بمعنى أن الرهن الذي يقوم ضمانًا للقرض يتبع القرض من حيث وجوده وعدمه ومن حيث صحته وبطلانه، وينقضي الرهن حتمًا بانقضاء الدَّين، كما أن الرهن بنوعيه يخول للدائن مزيتي التقدم والتتبع، فمزية التقدم تخول للدائن اقتضاء حقه من المال المرهون متقدمًا على سائر الدائنين العاديين ومتقدمًا على الدائنين المرتهنين التالين له في مرتبة الرهن، ومزية التتبع تخول للدائن اقتضاء حقه من المال المرهون تحت أي يد يكون قد انتقلت ملكية المال المرهون من المدين إلى الغير (كالمشتري مثلًا) يستطيع الدائن المرتهن التنفيذ على المال المرهون تحت يد من انتقلت إليه ملكيته واقتضاء حقه منه. (3) والرهن بنوعيه مصدره العقد. حيث ينشأ كل منهما بموجب عقد.   (1) بند 3 من نموذج الوعد بالشراء لبنك فيصل الإسلامي المصري (2) المصرف الإسلامي الدولي للاستثمار والتنمية – البند السادس من عقد البيع بالمرابحة (3) الموسوعة العلمية للبنوك الإسلامية – الجزء الخامس ص 240 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1030 والسؤال هنا: هل يجوز للبنك الإسلامي رهن السلع المشتراة من البنك في عقد المرابحة للآمر بالشراء ضمان لما عليه من أقساط؟ أي هل يمكن للعميل أن يقوم برهن السلعة المشتراة ضمانًا للأقساط المتبقية عليه من الثمن على أن يأخذ من السلعة ما يقوم بسداد ثمنه. وذلك نظرًا لأن العميل سوف لا يقوم بدفع جميع الثمن بل سيدفع جزءًا ويقسط الباقي من الثمن على أقساط، وليس هناك ما يضمن العميل لدى البنك في باقي الثمن؟ عرض هذا الموضوع على هيئة الرقابة الشرعية بأحد البنوك الإسلامية فرأت بأنه طبقًا لما جاء بمذهب الإمام مالك يجوز الرهن في دَين أو في بيع ما لم يكن الرهن في البيع وسيلة للتأخير، فيصبح الرهن في هذه الحالة وسيلة إلى الربا فيحرم. (1) وقد رأت الهيئة عدم الموافقة على ما جاء بالموضوع من رهن السلعة ضمانًا للثمن بعدًا عن الشبهات ويمكن للعميل أن يقدم أي ضمان آخر. إلا أن المسؤولين بالبنك الإسلامي يرون أن تطبيق هذه الفتوى يترتب عليها عدة نتائج هي: 1- تعطيل سياسية البنك الرأسية إلى التعامل مع صغار العملاء الذين لا يملكون ضمانات عقارية والذي يحتاجون إلى مساندة البنوك الإسلامية لهم. وتشجيع الشباب الذين يمتلكون الخبرة على اقتحام مجالات الأعمال، بالإضافة إلى توسيع قاعدة التعامل مع صغار العملاء حتى يكون للبنك أثر ملموس في الحياة الاقتصادية للبلاد. 2- إن البنك قد يضطر إلى رهن بعض السلع الراكدة أو الآلات القديمة لدى العميل وتكون قيمتها أقل من قيمة السلعة أو الآلات المباعة لهم مرابحة مما يعرض أموال البنك للضياع. ونود أن نشير بأنه لا يجوز حجب السلعة المباعة مرابحة عن المشتري، وأن العلاقة بين البنك والعميل تنتهي بتسليم العميل للسلعة موضوع المرابحة واستلام البنك لشيكات الأقساط – أو الأوراق الخاصة بالأقساط - وتصبح العلاقة حينئذ علاقة دائن بمدين. كما أن للبنك الحق في الحصول على ما يحتاجه من ضمانات لحفظ حقه بشرط ألا يكثر في طلب الكثير منها حتى لا يثقل على العميل أو المشتري، ومن ثم يحرم من التعامل معه. (2)   (1) الهيئة الشرعية لبنك فيصل الإسلام المصري المصدر البهجة شرح التحفة، جـ 2، كتاب الرهن (2) حجب السلعة المباعة مرابحة عن المشتري لا تمكنه من الوفاء بالتزاماته المادية قبل البنك إذا كانت السلعة المباعة يصعب تجزئتها – كمعدات مصنع - لأنه لن يحدث إنتاج ما لم يتم تركيب باقي أجزاء المصنع خاصة وأن الأقساط تدفع من عائد بين هذا المنتج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1031 المبحث الثالث: المشاكل التي تتضمنها القوانين المصرفية: من المعروف أن البنوك التجارية الوضعية عبارة عن بنوك تتعامل في الدَّين أو الائتمان. فالبنك التجاري يحصل على ديون الغير ويعطي مقابلها وعودًا بالدفع تحت الطب أو بعد أجل وهذه البنوك تعمل في سوق النقد. وعملياتها تتميز بطابع الائتمان قصير الأجل. وأهمية هذه البنوك ترجع للدور الهام الذي تقوم به في التأثير على العرض الكلي للنقود. فهي لا تقبل ودائع الأفراد فقط ولكن تقوم بخلق هذه الودائع أي بخلق الائتمان (1) وعلى ذلك نجد أن نشاطها الإنتاجي يتمثل في التعامل في الديون أو الائتمان، وأن ما لديها من أصول مادية تعد ضئيلة للغاية حيث تقدم هذه البنوك خدمات ائتمانية لعلمائها المودعين والمقرضين وتحصل في مقابل ذلك على مدفوعات من هؤلاء العملاء. ومن هذا التعامل تحقق أقصى ربح ممكن. ويتلخص هذا التعامل في نوعين أحدهما الإتجار في الديون أو الائتمان والآخر هو خلق الائتمان. (2) ونظرًا لصغر رأسمال هذه البنوك والتي يقف دوره عند حدود فترة الإنشاء فقط وطبيعة عملها السالف ذكره فإن البنوك المركزية قد وضعت لها عدة ضوابط ومحاذير لسياستها الائتمانية حتى لا تتعرض هذه البنوك للمخاطر. ومن هذه الضوابط السقوف الائتمانية وتحديد نسبة للسيولة لدى البنوك ونسبة للاحتياطي تودع لدى البنك المركزي وعدم السماح لهذه البنوك بتملك العقارات وتحديد نسبة للمساهمة في الشركات أو المشروعات. كل هذه الضوابط ترجع إلى طبيعة عمل هذه البنوك نظرًا لأنها تتاجر في الديون – أي تعمل بأموال المودعين - ومن ثم يجب أن يكون هناك ملاءمة ما بين السيولة والربحية حتى لا يتعرض البنك للمخاطر إذا ما زادت طلبات السحب. فالودائع عبارة عن دَين واقع في ذمة البنك قبل المودع وعليه أن يردها له وقت الطلب إن كانت تحت الطلب، أو في تاريخ استحقاقها إن كانت لأجل مضافًا إليها الفائدة الثابتة المتفق عليها. ومن المعروف أن هذه العلاقة التعاقدية قائمة ومستقلة بذاتها بين البنك والعميل المودع وليس لها أي ارتباط بأساليب استخدامات البنك لهذه الأموال ومدى شرعيتها وما إذا كانت قد حققت ربحًا أو خسارة. أما البنوك الإسلامية فإنها لا تتاجر في الديون، وإنما تكون العلاقة بينها وبين أصحاب الودائع ومستخدميها علاقة مشاركة ومتاجرة، وليست علاقة دائنية ومديونية. ومن ثم فهي تأخذ شكل المضاربة أو المشاركة. (3) وعلى ذلك فهي لا تعمل على خلق الائتمان ومن ثم فهي تحد من ارتفاع نسبة التضخم. كما أن أرصدة الحسابات الاستثمارية لدى البنوك الإسلامية تختلف تمامًا عن نظيرتها لدى البنوك التجارية الوضعية. إذ أنها عبارة عن أرصدة أودعها أصحابها ليضارب البنك فيها وفقًا لقواعد التعامل الإسلامية حيث لا يوجد ضمان لعائد محدد. ومن ثم فهي معرضة للمكسب والخسارة، وفي حالة الخسارة يتحملها أصحاب الحسابات الاستثمارية.   (1) لفظ خلق الائتمان هذا ليس إلا مصطلح قد درج الاقتصاديون الوضعيون على استخدامه (2) انظر للباحث: - كتاب مقدمة في النقود والبنوك – القاهرة 1982 – البنوك الإسلامية- من منشورات معهد الدراسات المصرفية للبنك المركزي المصري – ديسمبر 1981 - البنوك الإسلامية والتنمية – ندوة بنك فيصل الإسلامي المصري – ديسمبر 1983 - مفاهيم وممارسات البنوك الإسلامية – ندوة الاقتصاد الإسلامي والتكامل التنموي في الوطن العربي – تونس – نوفمبر 1985 (3) انظر للباحث: صكوك المضاربة الإسلامية – الهيئة العامة لسوق المال بالقاهرة – فبراير 1986 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1032 ورغم هذا الاختلاف الكبير بين أساليب وممارسات البنوك الإسلامية والبنوك الوضعية فإن البنوك المركزية ما زالت تنظر إلى البنوك الإسلامية نظرتها للبنوك التجارية الوضعية، ومن ثم تطبق عليها نفس التعليمات والضوابط، مما يثير الكثير من المشاكل والصعوبات في أداء البنوك الإسلامية لرسالتها، ومن هذه المشاكل ما يلي: أ- مشكلة السقوف الائتمانية: فالبنك المركزي المصري يعتبر عملية المرابحة بأنها عملية تمويل بالإقراض في بياناته ويترتب على ذلك أن كل السقوف الائتمانية الموضوعة بمعرفته تحد من عملية المرابحة، حيث إنه وضع ضوابط وشروط وحدود لاستخدام هذه السقوف ففي 15 /10 /1981 صدر قرار مجلس إدارة البنك المركزي بوضع ضوابط للتوسع الائتماني للبنوك التجارية بحيث لا تتعدى المطلوبات من العملاء نسبة 65 % من إجمالي الودائع كمعيار عام رئيسي. مع تحديد معيارين فرعيين أحدهما للمطلوبات، من القطاع التجاري والآخر من القطاع العائلي واتخذ رصيد الائتمان لهذين القطاعين في 30 /9 /1981 أساسًا لتحديد هذين المعيارين مع السماح بزيادة قدرها 12 % من هذا الرصيد وطلب من البنوك الإسلامية الالتزام بهذه الضوابط. حاول المسؤولون عن البنوك الإسلامية توضيح وجهة نظرهم بأن طبيعة عمليات هذه البنوك من مرابحات ومشاركات ومضاربات هي نوع من البيوع الإسلامية أساسها عمليات الشراء والبيع، ومن ثم فإن التدفقات النقدية المترتبة عليها مرتبطة بتدفقات من السلع الضرورية وبما يخدم أهداف التنمية الاقتصادية، وذلك خلافًا لطبيعة عمليات منح الائتمان في البنوك التقليدية الأخرى التي تنطوي على زيادة كمية النقود بما يسمح بمزيد من الضغوط التضخمية، ومن ثم فلا يجوز تكييف عمليات البنك الشرعية على أنها من قبيل الائتمان الذي يعنيه قرار البنك المركزي. كما أن التاريخ الذي اتخذه البنك المركزي كأساس للمعايير وهو 30 /9 /1981 كانت البنوك الإسلامية في بداية عملها وحديثة العهد بالسوق المصرفية ومن ثم فإن ودائعها لم تكن ذات حجم كبير في تلك الفترة. بينما زادت نسبة هذه الودائع بأرقام كبيرة خلال فترات وجيزة. (1) مما أدى إلى زيادة حجم التوظيف ليتناسب مع حجم هذه الودائع. وقد طلب رسميًّا أكثر من مرة من البنك المركزي أن يعمل على إعادة تصحيح هذه المفاهيم إلا أن المشكلة ما زالت قائمة حتى الآن.   (1) كان بنك فيصل الإسلامي المصري يعتبر البنك الوحيد في تلك الفترة حيث افتتح الفرع الرئيسي في 5 /7 /1979 وكان لافتتاح بعض الفروع أثر كبير على زيادة هذه الودائع. فكان حجمها في 30 /9 /1981 وهو التاريخ المحدد من البنك لا تتجاوز 309 مليون جنيه بينما بلغت هذه الودائع 1055 مليون جنيه في 30 /11 /1983 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1033 ب- الحد من عملية الائتمان والمساهمة في رأس مال الشركات: كذلك من تعليمات البنك المركزي والقوانين المصرفية عدم السماح للبنك بمنح ائتمان أكثر من 25 % من رأسماله. وكذلك عدم المساهمة في رأس مال الشركات بما يزيد عن 25 % من رأس مال الشركة أو البنك أيهما أقل. وهذه التعليمات تحد كثيرًا من نشاط البنوك الإسلامية خاصة مساهمتها أو مشاركتها في المشروعات ذات الحجم الكبير، والتي تعود على المواطنين بالخير، حيث إن المشروعات الكبيرة تعطي الإنتاج الكبير، ومن ثم تحدث تنمية اقتصادية ويحصل المواطنون على السلع بأسعار منخفضة مما يساعد على رفاهيتهم. جـ- مشكلة تملك العقارات: تنص المادة 39 من قانون البنوك رقم 163 لسنة 1957 على عدم تملك البنوك التجارية للعقارات بغرض البيع. وكما نص أيضًا على إلزام هذه البنوك بالتصرف في العقارات التي تؤول إليها خلال سنتين على الأكثر. نظرًا لأن البنوك التقليدية تعتمد في نشاطها على أموال الغير والتي تكون في صورة ودائع لديها أي ديون عليها قابلة للدفع تحت الطلب أو في آجال محددة، وهي غالبًا ما تكون قصيرة الأمد فإن التشريعات المصرفية تحرص على وضع قيود على تملك البنوك لأصول ثابتة أو منقولة بخلاف ما يحتاج إليه نشاطها؛ وذلك حتى لا تتعرض للمخاطر إزاء صعوبة تسييل هذه الأصول في حالة الحاجة إلى مواجهة السحب على الودائع، وهذه الضوابط وإن كانت تتلاءم مع طبيعة نشاط البنوك التجارية والتي تتجر في الديون فإنها لا تتلاءم مع نشاط واستثمارات البنوك الإسلامية والتي لا تتجر في الديون ولا تقرض أموالًا وإنما تشارك في المشروعات وتضارب بالأموال في مشروعات إنتاجية وذات فائدة للمجتمع. وعلى ذلك لا تستطيع البنوك الإسلامية أن تساهم في حل إحدى المشكلات الرئيسية – في بلادها، وهي مشكلة الإسكان. بالإضافة إلى أنه لو آلت إليها عقارات فإنها تضطر إلى التصرف فيها على وجه العجلة مما يعرضها للخسارة. مما سبق يتضح لنا أن نشاط البنوك الإسلامية وعملياتها تختلف اختلافًا جذريًّا عن نشاط عمليات البنوك التجارية الوضعية سواء من ناحية الموارد والتوظيفيات، لهذا فإن الأمر يتطلب تغيير المفاهيم والأساليب التي تمارسها البنوك المركزية حيالها، وأن تبدأ بمفاهيم وضوابط تتواءم مع مفاهيم وممارسات البنوك الإسلامية؛ حتى تستطيع الدول التي انتشرت بها هذه البنوك أن تستفيد الاستفادة المرجوة منها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1034 الفصل الثاني حق الضمان وموقف البنوك الإسلامية منه المبحث الأول: الضمان في اللغة: تقول العرب: ضمنت المال، وضمنت بالمال ضمانًا، فأنا ضامن وضمنته – التزمته. (1) الضمان في تعريف الفقهاء: ذكر الفقهاء تعريفات متعددة للضمان تتحدد في معناها وإن اختلفت ألفاظها. فكل هذه تعريفات تتفق من حيث المعنى على ضرورة تعويض المتلف من الأموال بمثله أو قيمته مع التفاوت في الألفاظ التي صيغت منها هذه التعريفات. عرف الشوكاني الضمان بأنه: عبارة عن غرامة التالف. (2) وعرفه الغزالي: "أن الضمان هو وجوب رد الشيء أو بدله بالمثل أو بالقيمة". (3) ويقول المالكية: الضمان شغل ذمة أخرى بالحق. (4) ويقول الشافعية: الضمان لغة: الالتزام، وشرعًا: يقال للالتزام حق ثابت في ذمة الغير وإحضار من هو عليه أو عين مضمونة. (5) ويقول الحنابلة: الضمان: ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق. (6) الضمان في القرآن الكريم: لم يرد في القرآن كلمة ضمن ولكن ورد فيه كفل والتي هي بمعنى ضمن. ومن هذه الآيات قول الله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] ، وقوله تعالى: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} [طه: 40] ، وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [سورة ص: 23] ، وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91] . ومما يدل على وجوب الضمان عمومًا حديث نبوي يعتبر قاعدة أساسية في هذا الشأن، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) .   (1) المصباح المنير- جـ 2، ص 497، 498 (2) نيل الأوطار للشوكاني جـ 5 ص 299 ط العثماني المصرية. (3) الوجيز جـ 1 ص 208 (4) الشرح الكبير للدردير جـ 3 ص 329 ط البابي الحلبي. (5) مغني المحتاج جـ 2 ص 198 طبعة البابي الحلبي (6) المغني لابن قدامة جـ 4 ص 534 الطبعة الثالثة بدار المنار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1035 المبحث الثاني: أقسام الضمان: ينقسم الضمان إلى قسمين أساسيين هما ضمان النفس وضمان المال وما يهمنا هنا هو ضمان المال وهو تعويض المال عن الضرر اللاحق بالغير. وضمان المال يكون بقدر الضرر أو التعدي الحاصل. وينقسم إلى نوعين أحدهما ضمان كلي والآخر ضمان جزئي. والضمان الكلي هو الالتزام بدفع قيمة جميع الشيء المتلف إذا كان الإتلاف كليًّا أو جزئيًّا فاحشًا شبيهًا بالإتلاف التام. وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية. (1) أما في حالة الإتلاف الفاحش أو الجناية على الشيء بدون غصب فيرى كل من الحنفية والمالكية أن صاحب الشيء مخير بين أن يسلم الشيء للجاني ويأخذ منه قيمته، أو أن يأخذ قيمة الجناية الناقصة فقط. (2) وقال الشافعي وأحمد: يضمن الجاني في النقصان ما نقص يوم الجناية. (3) المبحث الثالث: الضمان في البيع: البيع عند صحته يوجب ضمان المبيع على البائع ما دام في يده قبل أن يسلمه، وهلاكه في هذه الحالة يكون بثمنه فيسقط عن المشتري ويسترده من البائع إن دفعه إليه ويبطل العقد. وأما إذا هلك في يد المشتري فإن هلاكه يكون عليه في حال صحة العقد. الضمان في عقد المرابحة: نظرًا لأن المرابحة ما هي إلا عقد بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح فإن ضمان البيع على البائع ما دام الشيء المباع في حوزته ولم يتم تسليمه للمشتري، ومن ثم فهلاكه أو تلفه يقع على البائع ولا يتحمل المشتري شيئًا وإذا كان المشتري قد دفع شيئا من الثمن أو الثمن كله فمن حقه استرداده. أما إذا هلك الشيء المباع أو تلف في يد المشتري بعد استلامه بمواصفاته المتفق عليها فإن الهلاك أو التلف يقع على المشتري. ونظرًا لأن عقد المرابحة للآمر بالشراء عادة ما يتم البيع فيها بالأجل ويقوم المشتري باستلام الشيء المباع حيث يقوم بدفع ثمنه على أقساط شهرية أو سنوية فإن البنك الإسلامي يعمل على الحصول على ضمانات من المشتري خشية تعرض الشيء المباع للتلف أو الهلاك أو التأخير في السداد. ومن هذه الضمانات ما يلي: 1- ضمانات شخصية بتقديم كفيل مليء أو أكثر. 2- ضمانات عينية في صورة رهن عقاري أو تجاري 3- التأمين على الأصول المشتراة أو البضاعة موضوع المرابحة ضد الحريق والسطو وخيانة الأمانة لصالح البنك. 4- التوقيع على سند إذني. 5- التوقيع على إيصال أمانة. 6- حجز مبلغ في حساب الاستثمار بقيمة الضمان المطلوب أو إيداع صكوك مضاربة إسلامية أو أسهم قابلة للتداول. 7- الاهتمام بسمعة العميل وسيرته الحسنة وخبرته وملاءته ومتانة مركزه المالي. 8- أي ضمانات أخرى يراها البنك.   (1) الإتلاف الفاحش عند المالكية هو ما يبطل الغرض المقصود من الشيء، والإتلاف اليسير هو ما يبطل يسيرًا من المنفعة – بداية المجتهد، جـ 2، ص 313 (2) بداية المجتهد، جـ 2، ص 313 (3) بداية المجتهد، جـ 2، ص 313 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1036 المبحث الرابع: العربون: عادة ما يقوم الآمر بالشراء بدفع عربون للسلعة الراغب في شرائها للبنك وقد أقر مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني المنعقد بالكويت في مارس 1983 أخذ العربون في عمليات المرابحة وغيرها جائز، بشرط أن لا يحق للمصرف أن يستقطع من العربون المقدم إلا بمقدار الضرر الفعلي المتحقق عليه من جراء النكول. وقد نصت بعض البنوك الإسلامية في طلب الوعد بالشراء على التزام المشتري بدفع نسبة من قيمة البضاعة عند التوقيع على هذا الوعد كعربون لضمان الجدية وتنفيذ التزاماته قبل الطرف الأول والقيام بتسديد باقي القيمة للطرف الأول (1) كما ورد نص آخر على دفع هذه النسبة كتأمين لضمان الجدية وتنفيذ التزامات الأمر بالشراء قبل البنك والقيام بتسديد باقي القيمة البيعية للطرف الأول. (2) ويلاحظ أن أيًّا من هذه البنوك لم تنص على مصير هذا العربون في حالة عدم إتمام التعاقد. موقف القانون المدني من العربون: يحدث أن يدفع أحد المتعاقدين للآخر عند إبرام العقد مالا يكون عادة من النقد يسمى بالعربون وأكثر ما يكون ذلك في عقد البيع وفي عقد الإيجار فيدفع المشتري للبائع إما لحفظ الحق لكل من المتعاقدين في العدول عن العقد بأن يدفع من يريد العدول مقدار هذا العربون للطرف الآخر، وإما للبت في العقد عن طريق البدء في تنفيذه بدفع العربون. (3) وقد انقسمت القوانين بين هاتين الدلالتين المتعارضتين، فالقوانين اللاتينية بوجه عام تأخذ بدلالة العدول. أما القوانين الجرمانية فتأخذ بدلالة البت. وكلتا الدلالتين قابلة لإثبات العكس. فإذا تبين من اتفاق المتعاقدين أو من الظروف أن المقصود بالعربون غير ما يؤخذ من دلالته المفروضة وجب الوقوف عند إرادة المتعاقدين. أما في القانون المدني المصري لم يشتمل التقنين المدني السابق على نص في هذه المسألة فكان القضاء المصري يتردد بين الدلالتين ويأخذ في ذلك بقية المتعاقدين مفسرًا إياها في ظل العرف الجاري. وحسم التقنين المدني المصري هذا التردد فأورد نصًّا يأخذ بدلالة العدول إذ تنص المادة 103 منه على أن: 1- دفع العربون في وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك. 2- وإذا عدل مَنْ دَفَعَ العربون فَقَدَهُ. وإذا عدل مَنْ قَبَضَهُ رَدَّ ضِعْفَهُ. هذا ولو لم يترتب على العدول أي ضرر. (4) ويتبين من هذا النص أنه إذا لم يتفق المتعاقدان صراحة أو ضمنًا على أن العربون إنما دفع لتأكيد البتات في التعاقد كان دفعه دليلًا على الاحتفاظ لكل من المتعاقدين بالحق في العدول. فإذا لم يعدل أحد منهما عن العقد في خلال المدة المتفق عليها، أصبح العقد باتًّا واعتبر دفع العربون تنفيذًا جزئيًّا له. أما إذا عدل أحد المتعاقدين فإنه يجب عليه أن يدفع للآخر مقدار العربون فإذا كان هو الذي دفعه فإنه يفقده، وإذا كان هو الذي أخذه فإنه يرده ويرد معه مثله. (5) وغرامة العربون على هذا النحو لا تعتبر تعويضًا عن ضرر إذ هي لازمة حتى لو لم يترتب على العدول أي ضرر. ولكنها المقابل الذي اتفق عليه المتعاقدان لحق العدول. مما سبق يتضح لنا أن مفهوم العربون في القانون المدني يختلف عن ما تسير عليه البنوك الإسلامية، حيث إنه بالنسبة للأخيرة يؤخذ لضمان الجدية من الآمر بالشراء وتنفيذ التزاماته قبل البنك. أما بالنسبة للقانون المدني المصري وغيره من القوانين العربية المطابقة له فإنه لا يعتبر تعويضا عن ضرر بل مقابل اتفق عليه المتعاقدان لحق العدول.   (1) بند 6 من طلب الوعد بالشراء لبنك فيصل الإٍسلامي المصري. (2) بند 5 من طلب وعد بالشراء لبنك قطر الإسلامي. (3) د. السنهوري –الوجيز- مرجع سابق، ص91 (4) التقنينات العربية الأخرى المطابقة للقانون المدني المصري هي القانون المدني السوري المادة 104 والليبي المادة 103، أما القانون العراقي فنجد أن المادة 92 منه تجعل من العربون دليل إثبات لا دليل جواز الرجوع. (5) وقد يتفق المتعاقدان على أن أحدهما دون الآخر هو الذي يكون له حق العدول فلا يجوز في هذه الحالة للآخر أن يعدل عن العقد، ولا يدفع قيمة العربون، بل يكون العقد باتًّا بالنسبة له. انظر. د. السنهوري – الوجيز، ص93. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1037 الفصل الثالث التعويض يقصد بالتعويض تغطية الضرر الواقع بالتعدي أو الخطأ. والمبدأ المقرر في المسئولية المدنية هو عدم مقابلة الإتلاف بمثله. إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام. والمقصود من منع الضرار نفي فكرة الثأر التي كانت سائدة في الجاهلية. (1) أما التعويض أو التضحية ففيه نفع يجبر الضرر وترميم الآثار. وعلى هذا فليس للمتضرر أن يتلف مال غيره كما أتلف ماله وإنما له القيمة أو المثل. (2) لهذا قال ابن القيم بصدد تقدير مبدأ التضمين وعدم مقابلة الإتلاف بمثله: "إن مقابلة الإتلاف بمثله في كل الأحوال شرع الظالمين المعتدين الذي تنزه عنه شريعة أحكم الحاكمين". (3) ((وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن على أهل الحوائط –البساتين- حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أصحابها)) . (4) وأما المبدأ المقرر في المسؤولية الجنائية على النفوس البشرية فهو مقابلة الجناية بمثلها – أي المماثلة بين الجناية والعقاب - لأن الجنايات لا تقمع إلا بعقوبة مماثلة لها من جنسها، منعًا لحزازة النفس وإطفاءً لنار الفتنة وأشفى لغليل أولياء المجني عليه وكظمًا لغيظهم. فمن قتل قُتل، ومن جرح جُرح، ومن قطع قُطع. هذا هو مبدأ التعويض في المسئوليتين الدينية والجنائية، وخلاصته هو شرعية القصاص في الدماء دون الأموال.   (1) جمال الدين محمد عطوة –المسؤولية التعاقدية في الفقه الإسلامي- دراسة مقارنة – رسالة مقدمة لجامعة الأزهر 1979 (2) تنص المادة 921 من مجلة الأحكام الشرعية على ما يأتي: "ليس للمظلوم صلاحية أن يظلم آخر بما أنه ظلم. مثلًا: لو أتلف زيد مال عمرو مقابلة بما أنه أتلف ماله يكون من ضامنيه، وكذا لو أتلف زيد مال عمرو للذي هو من قبيلة عليٍّ بما أن بكرًا الذي هو من تلك القبيلة أتلف ماله يضمن كل منهما المال الذي أتلفه وكذا ليس لمن أخذ دراهم زَبُونًا من أحد صلاحية صرفها لآخر" والزَّبُون: ما زيفه بيت المال أي يرده ولكن تأخذه التجار في التجارة. (3) إعلام الموقعين جـ 2 ص 104 (4) انظر إعلام الموقعين ص 327، جـ2، ص 95 وما بعدهما، والمدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء ص 586 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1038 المبحث الأول: التعويض في الشريعة الإسلامية: اتفق العلماء على تحريم الغصب والإتلاف ونحوهما من الاعتداء على أموال الآخرين لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [سورة النساء: 29] ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع ((: إن دمائكم وأموالكم حرام عليكم، من أخذ شبرًا من الأرض طوقه الله من سبع أَرَضِين)) (1) وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)) . (2) لهذا فإن الأصل العام المقرر في الضمانات للتخلص من العهدة والمسئولية هو رد الحقوق بأعبائها عند الإمكان، فإن ردها كاملة الأوصاف برئ من المسؤولية وإن ردها ناقصة الأوصاف جبر الضامن أوصافها بالقيمة؛ لأن الأوصاف ليست بين ذوات الأمثال ولكن لا يضمن نقصها بسبب انخفاض الأسعار إلا عند الفقيه أبي ثور فإنه يوجب ضمان قيمة النقص بسبب ذلك. (3) وقاعدة الضمان أو كيفيته بالنسبة للأموال بسبب الغصب أو الإتلاف أو نحوهما هو أنه يجب ضمان المثل باتفاق العلماء إذا كان المال مثليًّا (4) لقوله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ؛ لأن المقصود من التضمين جبرًا من الضرر وذلك أعدل وأتم في مثل الشيء المختلف؛ لأن المثل معادلة صورة ومعنى أي مراعى فيه جنس التالف وماليته فكان الإلزام بالمثل. والواجب في الضمان الاقتراب من الأصل بقدر الإمكان تعويضًا للضرر وكذلك إذا تعذر وجود المثل ينتقل إلى القيمة للضرورة وعملًا بالقواعد الشرعية" إذا تعذر الأصل يصار إلى البدل (5) إذ هو عندئذ كما لا مثل له. وأما إذا كان المال قيميًّا كالعروض التجارية والحيوان ونحوهما مما لا مثل له. فيجب ضمان القيمة باتفاق العلماء. (6) لأنه تعذر الوفاء بالمثل تمامًا صورة ومعنى فيجب المثل معنى وهو القيمة لأنها تقوم مقامه ويحصل بها مثله واسمها ينبئ عنه. (7) وتجب القيمة في ثلاث حالات وهي: (8) 1- إذا كان الشيء غير مثلي كالحيوانات والدور والمصوغات فلكل واحد منها قيمة تختلف عن الأخرى باختلاف الصفات المميزة بكل واحد. 2- إذا كان الشيء خليطًا مما هو مثلي بغير جنسه. 3- إذا كان الشيء مثليًّا وتعذر وجود مثله إما حقيقة أو حكمًا (9) مما سبق يتضح لنا أن الأصل العام في الضمان أو التعويض هو إزالة الضرر عينًا كإصلاح الحائط أو جبر المتلف وإعادته صحيحًا كما كان عند الإمكان كإعادة المكسور صحيحًا، فإن تعذر ذلك وجب التعويض المثلي أو النقدي.   (1) رواه البخاري ومسلم وأحمد عن عائشة – رضي الله عنها- وللحديث عندهم رواية أخرى عن سعيد بن زيد رواه أحمد والبخاري عن ابن عمر، ورواه أحمد أيضًا عن أبي هريرة. انظر نيل الأوطار للشوكاني، جـ 5، ص 317 (2) رواه أبو إسحاق الجوزي من حديث أبي هريرة الرقاش عن عمه وعمرو بن يثربي. (3) قواعد الأحكام، جـ 1، ص 151 وما بعدها – المغني لابن قدامة، جـ 5 ص 257 (4) رد المحتار، جـ 5 ص 130، جـ 4 ص 173 تبيين الحقائق للزيلعي، جـ 5، ص 223 (5) المادة 53 من مجلة الأحكام الشرعية (6) إلا أن الإمام مالك يقول: لا يقضى في العروض من الحيوان وغيره إلا بالقيمة يوم استهلك. وجمهور الفقهاء يقولون: الواجب في ذلك المثل لا تلزم القيمة إلا عند عدم المثل. – انظر بداية المجتهد، جـ 2 ص 312 (7) انظر تبيين الحقائق للزيلعي، جـ 5، ص 223، 234 (8) جمال الدين محمد عطوة – المسئولية التعاقدية في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة- مرجع سابق. (9) التعذر إما حقيقي حسي كانقطاع وجود المثل في السوق بعد البحث عنه وإن وجد في البيوت، أو حكمي كأن لم يوجد إلا بأكثر من ثمن المثل، أو كان العجز عن المثل شرعًا بالنسبة للضامن كالخمر بالنسبة للمسلم يجب عليه للذمي عند الحنفية ضمان القيمة، وإن كانت الخمر من المثليات لأنه يحرم عليه تملكها بالشراء – انظر جمال الدين محمد عطوة المسئولية التعاقدية في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة - ص 378 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1039 المبحث الثاني: التعويض في القانون المدني: وأما ما سار عليه القانون المدني فنجد أنه قد نص على أن التعويض له طرق ثلاثة وهي: (1) 1- التنفيذ العيني: في المسئولية التقصيرية يمكن في قليل من القروض أن يجبر المدين على التنفيذ العيني على سبيل التعويض، والقاضي ليس ملزمًا أن يحكم بالتنفيذ العيني ولكن يتعين عليه أن يحكم به إذا كان ممكنًا وطالب به الدائن أو تقدم به المدين. 2- التعويض غير النقدي: فإذا تعذر التنفيذ العيني في المسئولية التقصيرية – وهذا هو الذي يقع غالبًا - لم يبق أمام القاضي إلا أن يحكم بالتعويض. وليس من الضروري أن يكون التعويض نقدا، فيصح في قروض نادرة أن يختار القاضي للتعويض طريقا غير النقض. ففي دعاوى السب والقذف يجوز للقاضي أن يأمر على سبيل التعويض بنشر الحكم القاضي بإدانة المدعى عليه في الصحف، بل إن الحكم بالمصروفات على المدعى عليه في مثل هذه الأحوال والاقتصار على ذلك قد يعتبر تعويضًا كافيًا عن الضرر الأدبي الذي أصاب المدعي وهو تعويض غير نقدي؛ لأن الملحوظ فيه هو المعنى الذي يتضمنه. 3- التعويض النقدي: وهذا هو التعويض الذي يغلب الحكم به في دعاوى المسئولية التقصيرية، وكان كل ضرر حتى الضرر الأدبي يمكن تقويمه بالنقد.   (1) د. السنهوري – الوجيز، ص 389 - 391 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1040 المبحث الثالث: تقدير التعويض والوقت الذي يجب فيه: يقدر القاضي التعويض بالاستعانة بالخبراء ويلاحظ ما حدث من الأضرار المادية الملموسة والواقعة فعلًا. أما الأضرار المحتملة فإن كان وقوعها مؤكدًا فهي في حكم الواقعية. وأما ضياع المصالح والخسارة المنتظرة غير المؤكدة فلا يعوض عنها في أصل الحكم الفقهي، لكن يمكن أن نجد مستندًا لها في السلطة التقديرية الممنوحة للقاضي فيما لا نص عليه. وذلك عملًا بمبدأ السياسة الشرعية من إحقاق الحق وتقرير العدل ودفع الحرج والمشقة وأخذًا بمشروعية التعزيرات أو الغرامات المالية، يفعل القاضي ما يراه حسب الحاجة. والمبدأ العام في تعويض الأضرار الناشئة عن ضمان اليد أو المسئولية التقصيرية هو المماثلة بين التعويض والضرر؛ لأن ضمان الإتلاف ضمان اعتداء، والاعتداء لم يشرع إلا بالمثل في النص القرآني، وفي ضمان العقد أو المسئولية العقدية لا يشترط التقيد بالمثل وإنما ينفذ الشرط المتفق عليه قدر الإمكان عملًا بقاعدة يلزم مراعاة الشرط قدر الإمكان. (1) أما الوقت الذي يجب فيه التعويض فنفرق بين ما تلف بطريق الغصب أو بغير غصب. فأما الغصب فاختلفت آراء الفقهاء في الوقت الذي يجب فيه الضمان على أقوال متعددة. فمنهم من قال: إنه تجب القيمة أو المثل يوم الغصب، ومنهم من قال: يوم انقطاعه عن الأسواق، ومنهم من قال: يوم الحكم بهلاكه ووجب الضمان على الغاصب. (2) أما الحالة الثانية، وهي تلف الشيء بدون غصب فلا خلاف بين الفقهاء في أن القيمة تجب يوم الهلاك. وعلى هذا تجب قيمة الشيء المستعار وقت التلف، وفي الرهن تجب القيمة وقت القبض إن كان المرتهن هو الذي أتلف المرهون، وإن كان المتلف هو الأجنبي أو الراهن فتجب قيمته يوم التعدي. أما القانون المدني فيرى أن التعويض مقياسه الضرر المباشر. فهو في أية صورة - كانت - يقدر بمقدار الضرر المباشر الذي أحدثه الخطأ. والضرر المباشر يشتمل على عنصرين جوهريين هما: الخسارة التي لحقت المضرور والكسب الذي فاته. فهذان العنصران هما اللذان يقدمهما القاضي بالمال. وتنص المادة 170 مدني على أن يقدر القاضي مدى التعويض عن الضرر الذي لحق بالمضرور فإن لم يتيسر له وقت الحكم أن يعين مدى التعويض تعيينًا نهائيًّا فله أن يحتفظ للمضرور بالحق في أن يطالب خلال مدة معينة بإعادة النظر في التقدير (3) والظروف الملابسة التي يذكر النص أنها تراعى في تقدير التعويض هي الظروف الشخصية التي تحيط بالمضرور لا الظروف الشخصية التي تحيط بالمسئول. والأصل أنه لا ينظر إلى جسامة الخطأ الذي صدر من المسئول وإنما يقدر التعويض بقدر جسامة الضرر لا بقدر جسامة الخطأ، وفي حالة تغير الضرر ما بين وقت وقوعه إلى يوم النطق بالحكم فإن هذا التغيير يدخل في الحساب عند تقدير التعويض، فالعبرة إذن في تقدير التعويض بيوم صدور الحكم اشتد الضرر أو خف. وإذا كان الضرر لا يتيسر تعيين مداه تعيينًا نهائيًّا وقت النطق بالحكم جاز للقاضي أن يحتفظ للمضرور بالحق في أن يطالب في خلال مدة معينة بإعادة النظر في التقدير وفقًا لنص المادة 170 مدني.   (1) انظر – جمال الدين عطوة- المسئولية التعاقدية في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة- ص 380 (2) انظر – جمال الدين عطوة- المسئولية التعاقدية في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة- 380 (3) التقنينات العربية الأخرى – القانون السوري المادة 171، والقانون الليبي – المادة 173، والقانون العراقي المادة 207، 208، والقانون اللبناني المادة 134 /521 – انظر د. السنهوري – الوجيز 392 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1041 المبحث الرابع: ما يجري عليه العمل في البنوك الإسلامية: أولًا: بالنسبة لامتناع أحد الطرفين عن تنفيذ الوعد أو قدم بيانات أو معلومات أو مستندات غير صحيحة يتحمل أية أضرار تلحق الطرف الآخر نتيجة ذلك. (1) ثانيًا: في حالة تأخير الطرف الثاني "الآمر بالشراء" عن سداد أي قسط من الأقساط في موعد استحقاقه يحق للبنك أن يتخذ الإجراءات القانونية اللازمة لحفظ حقوقه قبل الطرف الآخر الذي عليه أن يتحمل ما يترتب على ذلك من مصاريف وأضرار. (2) ثالثًا: أما بشأن ما يصيب البنك الإسلامي من ضرر نتيجة التأخير في السداد فإن البعض يرى أن تأخير سداد الأقساط المستحقة على العميل في مواعيد استحقاقها على الوجه المتفق عليه يؤدي إلى أضرار بالغة بالبنك يستحق معه التعويض، بحسبان أن القاعدة الشرعية وهي أساس المعاملات تقرر أنه لا ضرر ولا ضرار، وتحسب قيمة هذا الضرر على أساس متوسط نسبة إجمالي أرباح البنك المحققة عن ذات الفترة، فضلًا عن أية تعويضات أخرى فعليه، وأن أي منازعة في استحقاق التعويض أو قيمته تعرض على هيئة الرقابة الشرعية لحسمها نهائيًّا ورأيها فيه باتٌّ. (3) ويرون آخرون أن تأخر المدين عن الوفاء بالدَّين عند حلول الأجل جاز للدائن أن يطالبه بتعويض ما أصابه من ضرر بسبب هذا التأخير إلا إذا أثبت المدين أن التأخير حدث بقوة قاهرة، أَيْ سَبَب لا يد له فيه فعندئذ لا يستحق الدائن تعويضًا عن التأخير وأساس هذا الحكم هو الضمان بالتسبب وشرطه التعدي. (4)   (1) انظر طلبات الوعد بالشراء لبنك قطر الإسلامي – البند السادس، وبنك فيصل الإسلامي المصري- البند الثامن، ويلاحظ أن بعض البنوك نصت على التزام المشتري فقط في تعويض البنك في هذه الواقعة. (2) البند السادس من عقد البيع لبنك قطر الإسلامي. (3) فتوى هيئات الرقابة الشرعية الثلاث لدار المال الإسلامي وبنكي فيصل المصري والسوداني. (4) اتجاه المصرف الإسلامي الدولي للاستثمار والتنمية. انظر فتاوى المستشار الشرعي في هذا الشأن رقم (3) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1042 كما يرى أصحاب هذا الاتجاه أن تأخير الوفاء بالدين دون عذر شرعي مقبول يعد تعديًا؛ لأنه معصية لقوله عليه السلام: ((مطل الغني ظلم)) ، واستند هذا التُّجاه إلى نص المادة 1430، 1431 من مجلة الأحكام الشرعية. (1) ويرى أنه يمكن تعويض الدائن تخريجًا على قواعد الغصب وذلك أن عدم الوفاء بالدين عند حلول الأجل وإمساكه عن الدائن دون عذر شرعي يجعل المدين في حكم الغاصب للدين؛ لأن إبقاؤه بعد حلول الأجل يعد تعديًا والغصب هو التعدي على حق الغير، وإذا كان المدين تاجرًا أي ممن يقوم باستثمار الدَّين نفسه أو بإعطائه للغير مضاربة وأخر الدين عن موعد استحقاقه فإن جميع أرباح الدين تكون للدائن، ويكن تقدير هذه الأرباح إما بإقراره بمتوسط أرباحه وإما بواسطة لجنة تحكيم أو بواسطة القضاء. كما يمكن عند إبرام الاتفاق معه في مضاربة أو مرابحة مثلًا أن يتفق على نسبة الربح من واقع دراسة الجدوى التي قدمها العميل أو التي قبلها وينبني على أن هذا هو الأساس ما لم يثبت المدين أن الأرباح الفعلية أقل من ذلك. (2) وهذا يعني أن تعويض البنك لا يقاس بما لحقه من خسارة بسبب عدم الوفاء عند حلول الأجل بل يقاس بما حققه المدين من ربح خلال المدة التي امتنع فيها عن الوفاء ويمكن إثبات هذا بكافة وسائل الإثبات الشرعية. كما يجوز أن يعهد إلى لجنة تحكيم بتقديره في حين أن التعويض على أساس التسبب في الضرر المذكور يقاس بما لحق البنك من ضرر بسبب التعدي في التأخير وليس بما حققه المدين من ربح من جراء حبس الدين عن الدائن عند حلول الأجل فهما طريقان يمكن اختيار أحدهما.   (1) تنص المادة 1430 على أن: "من تسبب في تلف مال الغير ضمنه" وتنص المادة 1431 على أنه: "يشترط في الضمان بالتسبب التعدي في الفعل الذي تسبب عنه التلف" ويقصد بالتعدي التفريط بأن يكون الفعل مخالفا للشريعة. (2) استند في ذلك لما جاء في المغني جـ 5، ص 205 "إذا غصب أثمانًا فأتجر بها أو عروضًا وأتجر بثمنها اشتراه في ذمته ثم نقد الأثمان، قال أصحابنا: الربح للمالك والسلع المشتراة له؛ لأنه نماء ملكه فكان له وإن حصل خسران فهو على الغاصب.. وإن دفع المال إلى من يضارب به فالحكم في الربح على ما ذكرناه وليس على المالك من أجر العامل شيء؛ لأنه لم يأذن له في العمل بماله. - واستند أيضًا للمادة 1367 "لا يضمن الغاصب (ومثله المدين الممتنع عن الوفاء) ما فوته على المالك من الربح بحبسه مال التجارة". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1043 وأقترح طريقة ثالثة وهي تخريج تعويض البنك عن التأخير في الوفاء بالدين على أساس مضاربة المثل، فالمدين الذي يحبس الدين عن الدائن عند حلول الأجل دون عذر شرعي وهو ممن يمارسون التجارة ويعملون في مجال الاستثمار يكون قد استثمر مبلغ الدين دون اتفاق فيلزمه حصة رأس المال في الربح، كما فعل عمر بن الخطاب مع ولديه عندما اقترضا مالًا من أبي موسى الأشعري دون وجه حق لأن أبا موسى لم يقرض غيرهما. وأقترح طريقة رابعة وهي على أساس التعزير بأخذ المال ممن ارتكب معصية لا حد فيها ولا كفارة وإعطائه لمن أصابه ضرر من جراء ذلك. ولقد ثبت التعزير بأخذ المال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مطل الغني ظلم)) ، "والعقوبة تجوز بأخذ المال وإعطائه للمضَّرِّر". وهذا الأساس لا ينظر في التعويض إلى ما حققه المدين المماطل من كسب أو ربح الامتناع عن الوفاء بالدين بل ينظر إلى أن التأخير كان معصية تكون جريمة تعزيرية وإن كان هناك شخص تضرر من هذه المعصية. ويمكن أن يعهد بتقدير هذا التعويض على هذا الأساس بواسطة لجنة التحكيم دون النص عليه في العقد بهذا التكييف إذ أن التعزير لا يملكه إلا ولي الأمر ونحن نحكم بالتعويض على هذا الأساس الشرعي دون حاجة إلى ذكره في العقد. والخلاصة هي جواز النص على تعويض البنك عن الأضرار التي تلحق به بسبب عدم قيام المدين بالوفاء بالدين عند حلول الأجل ما لم يكن هذا التأخير قد حدث بسبب لابد له فيه ولا يستطيع له دفعًا، أما تقدير التعويض فيؤخذ فيه بأحد المعيارين إما مقدار ما حصل المدين من ربح في مشروعاته وإما مقدار الضرر الذي وقع على البنك ويترك ذلك للجنة التحكيم وفق أحكام الشريعة الإسلامية، وتستطيع اللجنة أن تؤسس حكمها على أحد الاعتبارات السابقة. (1)   (1) يلاحظ أن جميع الحلول المقدمة لم تتضمن اقتراح بتقدير ما لحق الدائن من ضرر الخسائر بتأخير المدين عن الدفع بطريق الاتفاق "حيث إن طريق الاتفاق على مقدار ضرر الدائن من تأخير الوفاء له محذور كبير. حيث إنه قد يصبح ذريعة لربا مستور بتواطؤ بين الدائن والمدين بأن يتفقا في القرض على فوائد زمنية ربوية ثم يعقد القرض لمدة قصيرة وهما متفاهمان على أن لا يدفع المدين القرض في ميعاده لكي يستحق عليه الدائن تعويض تأخير متفق عليه مسبقًا يعادل سعر الفائدة وذلك لا يجوز إذا أقرت فقهيًّا فكرة التعويض عند ضرر التأخير أن يحدد هذا التعويض باتفاق مسبق بل يجب أن يناط تقدير التعويض بالقضاء تقدره المحكمة عن طريق لجنة خبراء محلفين لكيلا يتخذ تقدير التعويض بالاتفاق المسبق ذريعة لفوائد ربوية مستورة". - انظر تفصيلات ذلك في المرجع التالي:- - مصطفى أحمد الزرقا – هل يقبل شرعًا الحكم على المدين المماطل بالتعويض على الدائن؟ – مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي – العدد الثاني- 1985، ص 89 وما بعدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1044 مقدمة رقم الصفحة الفصل الأول: الصعوبات القانونية التي تعترض تطبيق المرابحة 1394 المبحث الأول: الوعد بالشراء أو بالبيع ملزم أم لا 1394 المبحث الثاني: الملابسات القانونية لعقود المرابحة في إطار الممارسات العملية بين العميل والبنك. 1404 المبحث الثالث: المشاكل القانونية التي تتضمنها القوانين المصرفية 1410 الفصل الثاني: حق الضمان وموقف البنوك الإسلامية منه 1415 المبحث الأول: الضمان في اللغة وعند الفقهاء وفي القرآن الكريم 1415 المبحث الثاني: أقسام الضمان 1416 المبحث الثالث: الضمان في البيع وفي عقد المرابحة 1417 المبحث الرابع: العربون 1418 الفصل الثالث: التعويض 1421 المبحث الأول: التعويض في الشريعة الإسلامية 1422 المبحث الثاني: التعويض في القانون المدني 1423 المبحث الثالث: تقدير التعويض والوقت الذي يجب فيه 1424 المبحث الرابع: ما يجري عليه العمل في البنوك الإسلامية 1426 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1045 المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) ندوة عن: "خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية الجوانب التطبيقية، والقضايا والمشكلات " بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب البنك الإسلامي للتنمية – جدة عمان 22 شوال – 25 شوال 1407 هـ 18 / 6 – 21 / 6 / 1987 م الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1046 بحث الدكتور سامي حسن حمود عن "تطبيقات بيوع المرابحة للآمر بالشراء من الاستثمار البسيط إلى بناء سوق رأس المال الإسلامي مع اختيار تجربة بنك البركة في البحرين كنموذج عملي" "تطبيقات بيوع المرابحة للآمر بالشراء من الاستثمار البسيط إلى بناء سوق رأس المال الإسلامي مع اختيار تجربة بنك البركة في البحرين كنموذج عملي" بحث مقدم إلى ندوة "استراتيجية الاستثمار في البنوك الإسلامية" المنظمة بالتعاون بين المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع. للبنك الإسلامي للتنمية في جدة والمقرر عقدها أثناء المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي في الفترة الواقعة يبن 22 – 25 شوال 1407 هـ الموافق 18 – 21 حزيران 1987 في عمان – المملكة الأردنية الهاشمية. إعداد الدكتور سامي حسن حمود مدير عام بنك البركة الإسلامي للاستثمار المنامة – دولة البحرين تقديم البحث وبيان المحتويات يعتبر بيع المرابحة للآمر بالشراء عصب النجاح في التطبيق المصرفي الإسلامي الحديث، سواء كان ذلك على مستوى التعامل المحلي أم كان على المستوى الدولي. لذلك لم يكن مستغربًا –في ضوء أهمية هذا النوع المستحدث من التعامل أن يخصص له المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب هذه الندوة الخاصة التي تعالج مختلف جوانب هذا التعاقد الفريد، وهو التعاقد الذي دعت إليه الحاجة، وأغنته التجربة وتوجته الآمال المزدانة بطموحات العمل المتصل لاستمرار الاجتهاد فيه من أجل التطوير والإبداع. وإذا كان يحق للأردن أن يفخر بما قدمه العالم الإسلامي من بنات فكر أبناءه في مجال ترسيخ بناء هذه الصورة المركبة من الوعد بالشراء والبيع بالمرابحة، سواء كان ذلك في مرحلة البناء النظري أم في ميدان العمل التطبيقي، (1) فإنه ليجدر بمن يسجل الأحداث بحقائقها أن يذكر بالخير ذلك الدور الرائد الذي قام به ابنك الإسلامي للتنمية في بواكير دخوله ميدان العمل حيث تبنى رئيس البنك الأخ الفاضل الدكتور أحمد محمد علي فكرة بيع المرابحة للآمر بالشراء وطبقها على تمويل عمليات التجارة الدولية التي تحتاج إليها الدول الإسلامية.   (1) المقصود بالإشارة هنا هو السبق العلمي الذي كشف فيه الباحث عن الأساس الفقهي لصورة هذا التعاقد الفريد حيث جرى استخراج النص من موطنه في كتاب "الأم" للإمام الشافعي وذلك من خلال البحث العلمي الذي قدم فيه الباحث رسالته لنيل درجة الدكتوراه في الحقوق لدى جامعة القاهرة والتي جرت مناقشتها بتاريخ 30/6/1976 وقد أدخل الباحث هذه الصورة التعاقدية في قانون البنك الإسلامي الأردني رقم 13 لسنة 1978 بعد أن وافقت لجنة الفتوى التابعة لوزارة الأوقاف الأردنية على قبول مبدأ القول بالإلزام في الوعد. انظر في ذلك: أ- سامي حمود، تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية الطبعة الأولى (القاهرة، 1976) ص 476 – 481. ب- سامي حمود – الأعمال التحضيرية لإنشاء البنك الإسلامي الأردني محفوظات خاصة لمشروع القانون الخاص بإنشاء البنك ومناقشات لجن الفتوى للمشروع في الفترة الواقعة بين 6/7/1977 – 11/9/1977 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1047 وإذا كان قد اجتمع في هذه الندوة المباركة السهم الحضاري المتمثل في المجمع الملكي العتيد مع القوس المشدود بعزم الإرادة على العمل المشترك وهو العزم الذي تمثل في إيجاد البنك الإسلامي للتنمية، فإن اجتماع هذا السهم مع ذلك القوس إنما يعبر عن وحدة الفكر والعمل في سبيل استمرار بناء صرح الحضارة الإسلامية المجيد لكي تظل هذه الحضارة مرتفعة الأعلام على مر العصور والأزمان. ويتألف البحث المقدم من أربعة فصول وخاتمة حيث اشتمل الفصل الأول على نبذة تاريخية عن بيع المرابحة وتطوره المعاصر في صورة التعامل المركب من آمر بالشراء ووعد بالتبايع. أما الفصل الثاني فقد تضمن بيان النموذج الأردني في تطبيق بيع المرابحة للآمر بالشراء باعتباره الأساس الذي نسجت على منواله البنوك الإسلامية الأخرى الصور المختلفة للتطبيق مع بعض الاختلافات في الشكل دون الجوهر. وتناول الفصل الثالث آلية (ميكانيكية) تطبيق بيع المرابحة للآمر بالشراء ومجالاته والمشكلات والحلول الفقهية لهذه المشكلات. وتضمن الفصل الرابع الآفاق المستقبلية لبيع المرابحة من ناحية التخطيط المتصور للانتقال بالعملية من مجرد عملية استثمارية بسيطة إلى قاعدة راسخة لإيجاد أدوات استثمارية ملائمة بحسب طبيعتها لإيجاد نواة سوق رأس المال الإسلامي مع الإشارة في ذلك إلى تجربة بنك البركة الإسلامي في البحرين. وقد أوجزت الخاتمة خلاصة البحث وما يراه الباحث من توصيات. ولا يسع الباحث إلا أن يتقدم بالشكر والتقدير لهذه المبادرة الطيبة التي رعاها كل من معالي الدكتور ناصر الدين الأسد – رئيس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية – في عمان ومعالي الدكتور أحمد محمد علي – رئيس البنك الإسلامي للتنمية – في جدة من أجل بحث موضوع المرابحة على هذا المستوى العلمي الرفيع، كما يشكر الباحث كذلك معالي البروفيسور كوركوت أوزال مدير المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب وجميع المشاركين في إغناء التراث الإسلامي بخلاصة الفكر والإبداع. ونسأل الله –سبحانه وتعالى- أن يديم لقاءات الخير في ظل مجد هذه الحضارة التي نرجو لها دوام الازدهار لترسيخ مفاهيم العدل والإحسان في تعامل الإنسان مع إخوانه من بني الإنسان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. الباحث الدكتور سامي حسن حمود البحرين في 14 شعبان 1407 الموافق 12 أبريل 1986م الفصل الأول نبذة تاريخية عن بيع المرابحة وتطوره المعاصر 1- أساس بيع المرابحة في الفقه الإسلامي: يعتبر بيع المرابحة نوعًا من أنواع البيوع المعروفة في الفقه الإسلامي. والبيع في الشرع هو كما جاء في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (مبادلة المال بالمال بالتراضي وفي اللغة هو مطلق المبادلة من غير تقييد بالتراضي. (1)   (1) انظر الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، الجزء الرابع (بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، دون تاريخ) ص 2 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1048 والأصل في البيع أنه جائز بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقد ورد فيه قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [من سورة البقرة الآية: 275] وأما السنة فقد وردت روايات كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيوع وكان الناس يتعاملون بها فأقرهم على ما يجيزه الشرع ونهاهم عما لا يجوز. وأما الإجماع فإن الأمة قد أجمعت على جواز البيع في الجملة وأنه أحد أسباب التملك. (1) ويتميز بيع المرابحة بأن فيه بيانًا لرأس المال في الشيء المبيع، فهو من بيوع الأمانة (2) وقد عرفه ابن قدامة في كتابه المغني بأنه "البيع برأس المال وربح معلوم ويشترط علمهما (أي البائع والمشتري) برأس المال فيقول رأس مالي فيه أو هو علي بمائة بعتك به وربح عشرة فهذا جائز لا خلاف في صحته ولا نعلم فيه عند أحد كراهة". (3) ثم أورد أبو محمد –رحمه الله تعالى- ما نقل من آراء عن ربط الربح بنسبة من رأس المال، كما لو قال البائع للمشتري بعتك هذا الشيء –مثلًا- برأس مالي فيه وهو مائة وأربح في كل عشرة درهمًا، فقال بأنه نقل عن الإمام أحمد بن حنبل كراهة ذلك كما نقل القول بالكراهية أيضًا عن ابن عمر وابن عباس، وأورد أبو محمد أيضًا القول بالترخيص في هذه المسألة عن سعيد بن المسيب وابن سيرين وشريح والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. (4)   (1) انظر الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، الجزء الرابع (بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، دون تاريخ) ص 3 (2) تصنف البيوع في النظر الفقهي من ناحية بيان الثمن إلى بيوع مساومة وبيوع أمانة. - أما بيوع المساومة فهي التي يحدد فيها ثمن المبيع بالمفاوضة أو الإيجاب والقبول دون بيان لرأس المال. - وأما بيوع الأمانة فإنها تكون مبنية على أساس بيان رأس المال وهي تتفرع إلى ثلاث صور هي: - المرابحة وتكون بالبيع برأس المال مع إضافة ربح معين يتفق عليه. - التولية وتكون بالبيع برأس المال دون ربح أو خسارة. - الوضعية أو المواضعة وتكون في حالة البيع بخسارة تطرح من رأس المال. انظر – مصطفى أحمد الزرقاء، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، الجزء الأول (المدخل الفقهي العام) ، الطبعة السادسة (دمشق: مطبعة جامعة دمشق 1959) ، ص 547 (3) انظر: ابن قدامة، المغني، الجزء الرابع (القاهرة: مكتبة القاهرة، دون تاريخ) ص 136 (4) انظر: ابن قدامة، المغني، الجزء الرابع (القاهرة: مكتبة القاهرة، دون تاريخ) ص 136 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1049 والذي يظهر من استعراض آراء من قالوا بالكراهة في بيان الربح بطريق النسبة إلى رأس المال هو الظن بوجود الجهالة في الثمن، وهذا الظن ليس واردًا طالما أن الأمر معلوم أو يمكن العلم به بنتيجة الحساب، لذلك فقد انتهى أبو محمد من تحرير المسألة بالقول بأن الكراهة المروية عن ابن عمر وابن عباس إنما هي كراهة تنزيه وإن البيع صحيح. وإن من يتفحص حقيقة هذا البيع المبني على الأمانة في بيان رأس المال أو إعلان حقيقة تكلفة المبيع بما قام به على البائع يجد أن البيع بهذه الصورة يكون من أشرف البيوع لأنه يمسح من نفس الشاري أي تشكك قد يراوده من ناحية الثمن الذي يدفعه. 2- الصورة المستحدثة في بيع المرابحة للآمر بالشراء: يختلف بيع لمرابحة الذي تتعامل به المصارف الإسلامية عن صورة المرابحة المعروفة عمومًا والمبحوثة في المؤلفات الفقهية لمختلف المذاهب الفقهية المعتبرة. فالمرابحة عند الفقهاء هي نوع من التجارة يكشف فيها التاجر البائع للمشتري رأسماله في السلعة الموجودة بحوزته وذلك بحسب ما اشتراها أو بما قامت عليه، ثم يضيف ربًحا مبينًا ومعلومًا ويقول أبيعها لك برأسمالي فيها وهو كذا وربحي فيها كذا أما بيع المرابحة الذي تتعامل به المصارف الإسلامية فيبدأ من عند صاحب الحاجة الذي يأتي إلى المصرف ليطلب شراء سلعة معينة ليست موجودة بحوزة المصرف وذلك على أساس أن الطالب يعد بأن يشتري السلعة التي يطلبها من المصرف بما تقوم عليه من تكلفة زائدًا الربح الذي يتفق عليه معه. وهذه هي الصورة المستحدثة لهذا التعامل المركب من وعد وبيع، فما هو أصل هذه الصورة وما هو سندها من الفقه وما مدى احتياج الناس والمصارف الإسلامية إلى تطبيقها في الحياة المعاصرة؟ أساس ظهور الصورة في الفقه الإسلامي: ليس لهذا العنوان بالشكل الذي أصبح معروفًا بيع المرابحة للآمر بالشراء وجود في المؤلفات الفقهية القديمة حيث لم تكن هذه الصورة معروفة أساسًا في التعامل قبل عام 1976 عندما اكتشف الباحث –ولأول مرة- وجود الأساس الفقهي لهذه الصورة المركبة من مواعدة وبيع، (1) وقد جاء هذا الاكتشاف من خلال البحث العلمي الذي كان يعده الباحث لنيل درجة الدكتوراه في موضوع –تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية وهي الرسالة التي جرت مناقشتها في كلية الحقوق بجامعة القاهرة في 30/6/1976.   (1) كان هذا هو الرأي الذي انتهى إليه فضيلة الأستاذ الشيخ محمد فرج السنهوري (رحمه الله تعالى) والذي كان أستاذ مادة الفقه المقارن للدراسات العليا بقسم الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بجامعة القاهرة. وقد كان الأستاذ المرحوم مهتمًا اهتمامًا شخصيًا بموضوع الرسالة التي كان يعدها الباحث بعد أن درس على يديه دبلوم الشريعة الإسلامية وكان الأستاذ المشرف على الرسالة (فضيلة الشيخ زكريا البري رئيس قسم الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بجامعة القاهرة) يطمئن إلى رأي الشيخ السنهوري الذي كان أستاذًا للأستاذ المشرف على الرسالة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1050 وقد جاءت بداية الخيط في تحقيق هذا الكشف العلمي من خلال مراجعة كتاب الأم للإمام الشافعي –رحمه الله تعالى- حيث ورد فيه ما يلي: "وإذا أرى الرجل الرجل السلعة فقال: اشتر هذه وأربحكم فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، والذي قال أربحكم فيها بالخيار إن شاء أحدث فيها بيعًا وإن شاء تركه. وهكذا إن قال اشتر لي متاعًا ووصفه له أو متاعًا أي متاع شئت وأنا أربحك فيه فكل هذا سواء، يجوز البيع الأول ويكون فيما أعطى من نفسه بالخيار، وسواء في هذا ما وصفت، إن كان قال ابتاعه (الصواب ابتعه) وأشتريه منك بنقد أو دين، يجوز البيع الأول ويكونان بالخيار في البيع الآخر، فإن جدداه جاز ... " (1) وهذا يعني إمكان قيام صاحب الحاجة إلى سلعة ما (سواء كانت خاصة بالاستعمال الشخصي أم كانت للمتاجرة) بتكليف شخص آخر بأن يشتري هذه السلعة في مقابل وعد من الآمر بأن يشتري هذه السلعة في مقابل وعد من الآمر بأن يشتري منه ما اشتراه مع تحديد الربح الذي يعطيه إياه. وعندما نظر الباحث على هذه الصورة بعين المصرفي المطلع على احتياجات الناس ومتطلباتهم وجد أن هذا الباب يسد حاجة الناس بصورة أوسع مما يسده به باب المضاربة الشرعية لو كان هو المنفذ الوحيد للتمويل في نطاق عمل البنك الإسلامي، فقد كانت المضاربة التي هي صورة من صور المشاركة بين رأس المال وعمل الإنسان هي المخرج الوحيد الذي كان يطرحه المفكرون الإسلاميون في العقدين السادس والسابع من هذا القرن لحل مشكلة الاستثمار والتمويل الإسلامي، ولكن لم يقل لنا هؤلاء المفكرون كيف يمكن أن يمول البنك الإسلامي بالمضاربة شخصًا يريد شراء سيارة لاستعماله الشخصي مثلًا أو أثاثًا لمسكنه حيث لا يوجد ربح ولا توجد تجارة، كما لم يقل لنا أحد منهم كيف يمول البنك الإسلامي شراء أنابيب نقل المياه مثلًا إذا رغبت دائرة المياه الحكومية في أن تتمول للشراء. فهل يقف البنك الإسلامي مكتوفًا أمام هذه الاحتياجات المعتبرة ولا يمول إلا التجارة والتجاريين؟ وهب أن تاجرًا لا يريد شريكًا بل يريد بضاعة يشتريها بالأجل ويتصرف فيها بالبيع والتقليب، أو صانعًا يريد شراء المواد الخام لصناعته ولا يريد لأحد أن يدخل شريكًا معه في مصنعه وعمله، فهل يلزم الناس بالمشاركة من أجل التمويل وهم لا يرغبون؟ ولو كان هناك طبيب بحاجة إلى جهاز للأشعة أو آلة للجراحة المتقدمة فهل يجري معه البنك الإسلامي عقد مضاربة على العمل في الآلة؟ إن قاعدة الإسلام مبنية على رفع الحرج عن الناس، وإن عدل الشريعة مبني على التيسير في دين الله، وإنه لا يمكن النظر في إلزام الناس بقبول ما لا يريدون قبوله طالما أن في الشرع متسع للاختيار ولكن الضيق يأتي من نقصان العلم والمعرفة بالأحكام. فكيف تطورت هذه الصورة من النظرية إلى التطبيق، هذا ما سنعرض إليه في الفصل الثاني.   (1) انظر – الشافعي، كتاب الأم، الطبعة الأولى، تصحيح محمد زهدي النجار، الجزء الثالث، (القاهرة: مطبعة الكليات الأزهرية 1961) ، صفحة 39 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1051 الفصل الثاني النموذج الأردني لبيع المرابحة للآمر بالشراء 1- خلفية التطوير وأثره في العالم كان للتجربة الأردنية أثر واضح في إدخال مفهوم الوعد الملزم على بيع المرابحة للآمر بالشراء وذلك من خلال ما قدمه النموذج الأردني لهذه الصورة عندما صدر قانون البنك الإسلامي رقم 13 لسنة 1978. فقد رأت لجنة الفتوى التي كلفها معالي وزير الأوقاف في ذلك الوقت معالي الأستاذ كامل الشريف بدراسة مشروع قانون البنك –الذي كان للباحث شرف إعداده وتقديمه- إن الأخذ بالقول بلزوم الوعد في هذا التعامل أمر ممكن باعتباره أن الإلزام القضائي بالوعد أمر معروف في الفقه المالكي، فقد نقل الأستاذ الجليل مصطفى أحمد الزرقاء في مؤلفه الجامع "الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد" إن الرأي المشهور عند المالكية يعتبر الوعد بالعقد ملزمًا للواعد قضاء إذا ذكر فيه سبب ودخل الموعود تحت إلزام مالي بمباشرته ذلك السبب بناء على الوعد. (1) كما إن القول بلزوم الوعد قضاء منقول كذلك عن ابن شبرمة. (2) ونظرًا لما يؤدي إليه القول بلزوم الوعد قضاء من استقرار في المعاملات ودفع للضرر الذي قد يتعرض له البنك الإسلامي من جراء النكول عن إتمام البيع فيما يكون الآمر قد طلب شراءه من سلع أو معدات قد لا تكون صالحة لغير الغاية التي طلبها من أجلها، كل ذلك قاد الباحث إلى الاطمئنان إلى عدالة القول بلزوم الوعد قضاء لدفع الضرر والوصول إلى استقرار المعاملات وتجنب الضرر والتغرير. وإن من يستعرض قواعد الشرع الحنيف يجد أنه كما يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) . وفي ضوء هذا التصور المنظور ومن أجل سلامة الأساس الذي سيبني عليه عمل البنك الإسلامي الأردني تم وضع التعريف الشامل لبيع المرابحة للآمر بالشراء وهو التعريف الذي أقرته لجنة الفتوى (3) وتضمنه القانون رقم 78 لسنة 1978 ونصه كما يلي: (4) بيع المرابحة للآمر بالشراء: قيام البنك بتنفيذ طلب المتعاقد معه على أساس شراء الأول ما يطلبه الثاني بالنقد الذي يدفعه البنك كليًا أو جزئيًا وذلك في مقابل التزام الطالب بشراء ما أمر به وحسب الربح المتفق عليه عند الابتداء.   (1) انظر- مصطفى أحمد الزرقاء، مرجع سابق، نفس الجزء صفحة 1023 - 1024 (2) انظر – ابن حزم: المحلى (بيروت: دار الآفاق الجديدة، دون تاريخ) ، الجزء الثامن، ص 28 (3) انظر – تقرير لجنة الفتوى إلى معالي وزير الأوقاف عن مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني وهو التقرير الصادر عن دار الإفتاء تحت رقم 4/5/65 تاريخ 22/9/1977 (4) انظر – المادة رقم 2 من قانون البنك الإسلامي الأردني رقم 13 لسنة 1978 المنشور في الجريدة الرسمية بالعدد 2773 تاريخ 1/4/1978 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1052 ومع صدور هذا التعريف لبيع المرابحة للآمر بالشراء بالصورة التي أقرتها لجنة الفتوى (1) فقد بدأ عهد جديد لدخول هذه الصورة نطاق الاستعمال المتسع سواء على مستوى البنوك الإسلامية المحلية (2) أم على مستوى التعامل الدولي في داخل العالم الإسلامي وخارجه. (3) وهكذا أصبح النموذج الأردني في بيع المرابحة منهجًا معروفًا وتسير على منواله العديد من البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية مع بعض التفريعات والاختلافات التي لا تؤثر في جوهر التعاقد وطبيعته.   (1) شارك في اجتماعات لجنة الفتوى التي كلفت بدراسة مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني كل من: - الشيخ محمد عبده هاشم (المفتي العام) ، الشيخ عز الدين الخطيب، الشيخ محمد أبو سردانه، الشيخ أسعد بيوض التميمي، الدكتور إبراهيم يزيد الكيلاني، الدكتور عبد السلام العبادي الدكتور ياسين الدرادكه، وانضم إلى اللجنة من غير أعضاء لجنة الفتوى كل من: الشيخ عبد الحميد السائح، الدكتور محمد أحمد صقر كما شارك الباحث الدكتور سامي حمود في المناقشات باعتباره معد المشروع وقد عقدت اللجنة لهذه الغاية 15 اجتماعًا في الفترة الواقعة بين 6/7/1977 – 11/9/1977 وكان بعض هذه الاجتماعات يمتد أحيانًا من بعد صلاة العشاء حتى صلاة الفجر. (2) زار الباحث خلال عامي 1977/1978 بناء على دعوات الاستضافة التي تلقاها من البنوك الإسلامية الحديثة لشرح مفهوم العمل المصرفي الإسلامي ومن بينها النموذج الأردني لبيع المرابحة للآمر بالشراء – كلًا من: - الحاج سعيد أحمد لوتاه - رئيس مجلس إدارة بنك دبي الإسلامي – دبي - الحاج أحمد بزيع الياسين – رئيس مجلس إدارة بيت التمويل الكويتي – الكويت - الدكتور أحمد محمد علي – رئيس البنك الإسلامي للتنمية - جدة (3) تنبهت البنوك الأجنبية إلى صورة بيع المرابحة للآمر بالشراء وأحدثت صورًا من التعامل الذي تتوسط فيه لشراء سلع أو معادن بالنقد من طرف لبيعها إلى طرف آخر بالأجل بفارق ربح يتوازى مع أسعار الفائدة الرائجة، وقد اجتذبت هذه الطريقة مئات الملايين من أموال البنوك الإسلامية والمستثمرين الإسلاميين بسبب توفر المواد وانتظام الأسواق، ويا حبذا لو طور العالم الإسلامي تجارته لكي يستوعب الأموال الباحثة عن الاستثمار الحلال وهي تعد بالبلايين بحسب الإحصائيات المتوفرة بالأرقام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1053 2- النقد الموجه للنموذج الأردني واجه النموذج الأردني لبيع المرابحة للآمر بالشراء جبهات متعددة من النقد والتجريح وهو أمر طبيعي في مناهج السلوك والتفكير الإنساني، ذلك أن بيع المرابحة أصبح يمثل حجر الأساس في نجاح البنوك الإسلامية كما أن حجم الاستثمارات المالية المبنية عليه تمثل الحجم الأكبر من استثمارات البنوك الإسلامية التي تستطيع أن تنافس فيها البنوك العادية في كل مجال وميدان. ورغم كثرة الانتقادات إلا أن أحدًا لم يستطع الاعتراض على أساس التعامل وإنما انصب النقد على جوانبه باستثناء ما أورده البعض من أقوال المالكية الذي أوردوا صورًا مماثلة لبيع العينة رغم إن صورة المرابحة ليست منها. فقد ورد في المقدمات لابن رشد إن من صور العينة أن يقول: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقدًا وأنا ابتاعها منك باثني عشر إلى أجل، حيث قال المؤلف أن ذلك حرام لا يحل ولا يجوز لأنه رجل ازداد في سلفه. ورغم أن المنع هنا هو اجتهاد مأخوذ من باب سد الذرائع الذي توسع فيه فقهاء المذهب المالكي إلا أنه لا يعدو أن يكون رأيًا فقهيًا يقابله رأي آخر للإمام الشافعي يجيز فيه ذلك صراحة، فلماذا يلزم الناس ويجبر المفكر الإسلامي على اتباع الرأي الأشد في حين أن التيسير ورفع الحرج هما سمة مميزة من سمات الدين الإسلامي الحنيف. وذهب آخرون إلى القول بأن جهة الحرمة في هذا التعامل (بحسب زعمهم) تتمثل في القول بالإلزام وأنه لو لم يكن هناك إلزام لكان التعامل صحيحًا ومقبولًا شرعًا. وهذا أمر أكثر غرابة من سابقه، فهل يكون القول بلزوم الوعد مخالفة في حين أن الله سبحانه وتعالى يأمر بالوفاء بالوعود والعهود؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1054 ثم من قال بأن الإضرار بالبنك الإسلامي يكون مقبولًا شرعًا؟ فإذا أمر المتعامل البنك بشراء آلة لا يحتاجها غيره وجاء له البنك بالآلة حسب ما طلب ثم عن له أن يخلف الوعد، فهل يكون هذا الخلف بالوعد حلالًا، وإذا كان ذلك يجوز فمن يجبر الضرر الذي يتعرض له البنك بسبب هذا النكول الذي ليس له ما يبرره؟ وبالغ بعضهم في القول بأن هذه المعاملة لم يقل بها أحد من السابقين وكأن شرع الله يلقي الحجر على العقول مع أنه الدين الذي يعطى للمجتهد أجرًا إذا أخطأ وأجرين إذا أصاب. ورغم أن النقد والاعتراض صفة من صفات الإنسان بوجه عام إلا أن محاولة فرض الآراء الضيقة من أجل التضييق على الناس أمر لا يجوز في دين الله الذي رفع به الحرج، وأن هؤلاء الذين يريدون أن يجعلوا من أفهامهم الضيقة موازين لمصالح الناس دون أن يرتفعوا بهذه الأفهام إلى مقاصد الشرع وغاياته ومراميه هم أناس ظالمون لأنفسهم أولًا وظالمون لأمتهم المتطلعة للصعود إلى المجد من جديد. لقد كانت البنوك الربوية متفردة في الساحة لإجبار الناس على التعامل بالربا طوعًا وكرهًا وكان هؤلاء المدعون بحماية الإسلام والمسلمين نائمين على الطريق وليس من عمل إلا أنهم يحوقلون. (1) فلما جاء الفكر الإسلامي المستنير يفتح الطريق للعمل الحلال ويحل المشاكل ويقدم الحلول قام هؤلاء النفر ينقدون ويجرحون، فلا هم جاهدوا من قبل ولا تركوا المجاهدين يقاتلون بأي جهد. ونظرًا لكثرة ما تعرض له بيع المرابحة للآمر بالشراء من هجوم فقد تصدى الأستاذ الفاضل الدكتور يوسف القرضاوي لكل ما يقال من ادعاءات حول هذا التعامل بالصورة التي تقوم بها البنوك الإسلامية وأصدر بذلك كتابًا شاملًا يتضمن الرد على الشبهات المثارة فجزاه الله خيرًا. (2)   (1) الحوقلة – هي القول المعروف لا حول ولا قوة إلا بالله. (2) انظر – يوسف القرضاوي – بيع المرابحة كما تجريه المصارف الإسلامية (الكويت دار القلم، 1984) الطبعة الأولى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1055 الفصل الثالث تطبيقات بيوع المرابحة " الميكانيكية والمجالات والصعوبات " 1- ميكانيكية التطبيق ونطاقه يقوم تطبيق بيع المرابحة للآمر بالشراء في البنوك الإٍسلامية على آلية (ميكانيكية) محددة مؤداها أنه لابد من وجود الأطراف التالية: 1- الآمر بالشراء وهو الراغب في شراء السلعة. 2- المصرف الإسلامي وهو الجهة المستعدة لتلقي الطلب. 3- البائع وهو مالك السلعة. وتتم العملية كما يلي: أ – يأتي الراغب في شراء السلعة للمصرف الإسلامي الذي يتعامل معه ويعرض عليه طلب شراء السلعة التي يرغب في شرائها مبينا أوصافها ومصدرها وثمنها الذي يكون قد سامه وعرفه. ب – إذا وافق المصرف وكان للمتقدم سقف محدد للتعامل، فإنه يتلقى طلب عميله (الآمر بالشراء) ويحدد معه شروط الدفع ويبين له الثمن الذي سوف يبيعه على أساسه وهو السعر المبني على كلفة الشراء (الثمن الأساسي للسلعة زائدا مصاريف الشحن والتأمين والرسوم الجمركية ومصاريف النقل إذا كان المتفق عليه أن يكون البيع في خارج الميناء في حالة الاستيراد) . جـ- يقوم المصرف بدفع ثمن البيع للبائع مباشرة كذلك والمصاريف الداخله في حساب الثمن مثل مصاريف الشحن والرسوم الجمركية وغيرها ولا يجوز دفع النقود للآمر بالشراء ليشتري لنفسه تجنبا للوقوع في الشبهات مع أنه يجوز التوكيل في الشراء إلا أن الابتعاد عن ذلك أسلم وأتقى إلا إذا أمن المصرف تماما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1056 د – عندما يقبل الآمر بالشراء السلعة المشتراة بناء على طلبه فإن هذا القبول يعتبر شراء (سواء كان ذلك كتابة أو شفاهة أو تعاطيا مستفادا من توقيع الكمبيالات بالثمن المتفق عليه) حيث يتسلم المشتري المبيع ويقدم الثمن الذي هو عبارة عن كمبيالات موقعة بالأقساط حسب تواريخ الاستحقاق المتفق عليها من الابتداء. وبذلك تصل العملية إلى نهايتها. أما إذا كانت تصرفات مخالفة سواء من البنوك الإسلامية أو من غيرها فإن التصرف المخالف لا يجوز قبوله. من ذلك مثلا ما قيل أن هناك حالات تعطي فيها بعض البنوك الإسلامية النقود للآمر بالشراء ليشتري السلعة بنفسه ثم يبيع لنفسه ويقدم للبنك كمبيالة بالثمن فيكون كأنما خذ الفا نقدا وقدم سندا بألف ومائتين إلى أجل فإن هذا لا يجوز سدا للذرائع وإن كان من الجائز توكيل الإنسان بأن يشتري لنفسه. كذلك التصرف الذي تتبعه البنوك في عكس عملية المرابحة بخصم قيمة الربح أو جزء منه بعد إتمام البيع وهو ما تطلق عليه هذه البنوك Mark down فإن هذا التصرف غير صحيح بالمعيار الإسلامي الدقيق لأنه عملية خصم كمبيالة. وكذلك الحال بالنسبة لبيع المرابحة الذي تجريه هذه البنوك على أساس شراء سلعة من العميل ثم بيعه نفس سلعته مع ربح مضاف فإن ذلك لا يعتبر مرابحة لأنه ليس فيه تمليك جديد وإنما هو حيلة لبيع النقد بالدين وزيادة وهذا هو الربا الحرام. فالمرابحة بمفهومها الشرعي الكامل هي المرابحة التي تفيد ملكا جديدا في عملية مركبة من ثلاثة أطراف هي البائع والمشترى والمتوسط بالشراء الذي يملك السلعة أولا من البائع ثم ينقل الملك إلى المشترى ويقصد بالتملك هنا حقيقته وآثاره وليس شكله ومظاهره. فلو اشترى البنك الإسلامي سلعة وإبقاها في مخازن البائع ثم طلب منه تسليمها إلى المشترى الآخر فإن ذلك التصرف مقبول طالما أن البنك هو البائع في نظر المشتري وإنه يتحمل تبعة الهلاك وإليه يتم رد المبيع بسبب العيب إن وجد وكان من الأسباب الموجبة لرد المبيع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1057 2- النشاطات والقطاعات التي يطبق فيها بيع المرابحة: يمكن تطبيق بيع المرابحة على مختلف الأنشطة والقطاعات سواء كان ذلك خاصا بالأفراد والشركات أم بالمؤسسات والهيئات المحلية أو الحكومية. ذلك أن بيع المرابحة غير محدود بالنشاط التجاري بل إنه يشمل كل نشاط سواء كان لتلبية الاحتياجات الفردية (شراء سيارة أو ثلاجة) أو الاحتياجات المهنية (شراء جهاز أو آلة) أم كان لتلبية الاحتياجات الحكومية (شراء نفط أو معدات للمطارات والموانيء والمرافق العامة) . فما هي الصعوبات التي تواجه تطبيق هذا البيع في الواقع العملي؟ 3- الصعوبات والحلول المقترحة: تختلف الصعوبات الخاصة بتطبيق بيع المرابحة باختلاف البلاد وتعدد الحالات، ففي بلد كالأردن حيث تبنى القانون المدني المستمد من أحكام الفقه الإسلامي مبدأ الإلزام فإن المصرف الإسلامي قد يواجه مشكلة النكول عن الوعد بسبب لا يد له فيه. أما أهم الصعوبات التي تعترض تطبيق هذا البيع في الواقع العملي في البلاد عموما فإنها تتمثل في التمسك بشكليات الإجراء في البيوع بوجه عام مثل اشتراط التسجيل المباشر في حالات بيع العقارات والسيارات والسفن وغيرها وما يتبع ذلك من رسوم مستحقة الأداء عند البيع والشراء مما يترتب عليه إيجاد تكلفة إضافية دون سبب لذلك. والحل الذي يراه الباحث يتمثل في إمكان السماح للمصرف الإسلامي (باعتباره لا يشتري لنفسه) بأن يشتري باسم شخص يسمى فيما بعد، وهو أسلوب معروف في التداول القانوني في البلاد الغربية ولا يتنافى مع الضوابط الفقهية طالما أن شخص المشتري ليس مؤثرا في سلامة الرضا من جانب البائع. فإذا اشترى البنك الإسلامي الأردني – مثلا – سيارة نقل بناء على طلب من عميله فإن دائرة السير تسمح بنقل السيارة من اسم البائع في سجلات الدائرة على أن يبقى اسم المشترى معلقا على التسمية من جانب البنك ولا بأس من جعل المدة قصيرة جدا مثل خمسة أيام أو سبعة أيام على الأكثر حيث يسمى البنك اسم المشتري الذي يتحمل دفع الرسوم مرة واحدة في هذه الحالة بدل الدفع مرتين بلا سبب موجب لذلك. وبذلك يستطيع هذا التعامل أن يسهم في تحريم دورة المال في المجتمع ليحقق الغاية التي يحققها الماء الجاري في الحديقة الغناء والتي كان يبقى فيها آسنا إذا أبقيناه حبيس الحوض والبناء. فهل هناك من آفاق يمكن أن ينتقل إليها هذا التعامل إلى مدى هو أبعد من حدود هذا التوسط البسيط؟ هذا ما سوف نبينه في الفصل الرابع والأخير من هذا البحث بإذن الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1058 الفصل الرابع تطوير المرابحة كأساس لسوق رأس المال الإسلامي مع التعرض لتجربة بنك البركة في البحرين 1- الانتقال من التمويل إلى التداول يلاحظ المتتبع لنمو البنوك الإسلامية إن هذه البنوك قد نجحت على مستوى القاعدة حيث تدفقت الودائع واتسعت آفاق التمويل والطلب عليه، إلا أن هذه البنوك ما تزال تبحث عن الغطاء في قمة العمل المصرفي وهو الغطاء الذي يتمثل في وجود سوق رأس المال الإسلامي، وإنه من المعروف لدى المصرفيين أن البنوك والمؤسسات المالية تمثل قاعدة السوق الأولية للمال وإن التكامل يتطلب وجود السوق الثانوية لكي تستطيع هذه البنوك أن تكون لها رئة مالية تتنفس فيها شهيقا وزفيرا حيث تعطي الفائض من سيولتها وتمتص ما تحتاجه عند الحاجة إلى هذه السيولة. وفي ظل عدم وجود السوق الثانوية ذات الإطار الإسلامي وجدت البنوك الإسلامية نفسها أسيرة النظام المالي المتحكم في تدوير أموال الشعوب فكان إن ساهمت هذه البنوك إلى حد كبير وعن غير قصد غالبا- في نقل الأموال الإسلامية إلى الأسواق العالمية تحت ظلال المرابحة في السلع الدولية. وليس هناك من سبيل إلى إعادة توطين هذه الأموال المهاجرة من الديار الإسلامية إلى خارج البلاد إلا عن طريق المحاولة لإيجاد سوق لرأس المال الإسلامي يكون مرفودا بعمليات تجارية وتعاون اقتصادي بين دول العالم الإسلامي لخدمة أهداف التنمية ووقاية هذا العالم من الوقوع في شرور التناقض الاجتماعي الذي يسببه اختلال الموازين الاقتصادية وانتشار الفقر والحقد الدفين. ومن هنا بدأ التطلع والعمل للانتقال إلى مرحلة جديدة من مراحل تطور العمل المصرفي الإسلامي من أجل دخول سوق رأس المال بأدواته المتلائمة مع طبيعة العمل الملزم بأحكام الشرع الحنيف. ففي مقابل سند القرض بالفائدة لابد أن توجد الأداة الاستثمارية الإسلامية التي تتمتع بما يتمتع به سند الفائدة من سيولة وربحية وضمان في إطار ما هو ممكن وبما لا يتعارض مع قواعد الفقه الإسلامي العظيم. وقد كانت بيوع المرابحة هي أساس هذا التفكير الذي يكاد يعلم فيه راس المال والربح فور إبرام عقد البيع اللاحق حيث تباع السلعة التي ثمنها ألف دينار بمبلغ ألف ومائة دينار مثلا بعد عام. ومن المعلوم أن ثمن المبيع يكون دينا في ذمة المشتري وإن الديون لا تباع إلا بمثل القيمة دون اعتبار للأجل، فكيف يمكن التصرف في مثل هذا الموقف الذي تبقى يد الدائن مقيدة إلى أن يحل أجل السداد؟ كان هذا هو الحل الذي جاءت به نعمة الرضى من الله سبحانه وتعالى على ندوة البركة الثانية للاقتصاد الإسلامي على نحو ما نبينه أدناه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1059 2- إدخال مفهوم أدوات سوق رأس المال الإسلامي للاقتصاد الإسلامي طرح الباحث في ندوة البركة الثانية للاقتصاد الإسلامي التي تم عقدها في تونس بين 4- 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 1984 موضوع الوسائل الشرعية لتداول الحصص الاستثمارية في حالات السلم والإيجار والمرابحة. وقد كان بيع المرابحة من أبرز الأمثلة المختارة لبيع الحصص الاستثمارية باعتبار أن بيع المرابحة بعد أن يتم يمكن فيه تماما معرفة الربح وموعد تحققه ونسبة ما يستحق من الزمن وما يتبقى لما هو باق من الأيام. وإذا كانت الديون بحد ذاتها لا تباع إلا مثلا بمثل فإن هذه الديون إذا كانت جزءا من موجودات مختلطة مع النقود والأعيان فإنها تصبح قابلة للبيع، ولذا جاز في المخارجة وهي بيع الوارث نصيبه في التركة مع أن فيها ديونا ونقودًا ومنافع لأنها مختلطة بعضها مع بعض. وكذلك جاز لمالك السهم أن يبيع سهمه في الشركة مع أن هذا السهم يمثل حصة في موجودات الشركة كلها بما يدخل فيها من نقود وديون وأعيان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1060 ومن هنا كان مبنى الفكرة المعروضة على لجنة العلماء المشاركين في ندوة البكرةى الثانية (1) وهي الفكرة المتمثلة في إنشاء شركة تابعة لبنك البركة الإسلامي في البحرين تكون مختصة في تمويل المرابحة وتكون أسهمها قابلة للبيع والشراء وفق أسعار معلنة مقدما على أساس محسوب تبعا للعمليات المنفذة والأرباح المستحقة في بيوع المرابحة القائمة وذلك باعتبار أن السهم في الشركة التابعة يمثل جزءا شائعا في موجودات الشركة بكاملها.   (1) ضمن ندوة البكرة الثانية مجموعة من العلماء من مختلف المذاهب وهم أصحاب الفضيلة: 1- الشيخ عبد الحميد السائح رئيسا. 2- الشيخ زكريا البري عضوًا. 3- الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير عضوًا. 4- الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة عضوًا. 5- الدكتور حسين حامد حسان عضوًا. 6- الشيخ محمد السعدي فرهود عضوًا. 7- الدكتور عبد الستار أبو غدة عضوًا. 8- الدكتور حسن عبد الله الأمين عضوًا. 9- الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان عضوًا. 10 – الدكتور محمد إبراهيم عضوًا. 11- الدكتور محمد الطيب النجار عضوًا. 12- الدكتور عبد اللطيف آل محمود عضوًا. 13- الدكتور با بكر عبد الله إبراهيم عضوًا. 14- الشيخ أبو تراب الظاهري عضوًا. 15- الشيخ المختار السلامي عضوًا. 16- الحاج أحمد البزيع الياسين عضوًا مراقبًا 17- الدكتور سامي حسن حمود عضوًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1061 وعندما طرحت فكرة الشركة التابعة على السلطات المختصة في البحرين وتم إيضاح الأهداف المتوخاة من أجل المساهمة في إنشاء سوق رأس المال الإسلامي عن طريق تهيئة الأدوات الملائمة لوجود هذا السوق لم تتردد هذه السلطات في التجاوب الحميد حيث أصدر سعادة وزير التجارة والزراعة في البحرين الأستاذ حبيب أحمد قاسم القرار رقم 17 لسنة 1986 لتسجل دولة البحرين بذلك سبقا كبيرا في مجال التنافس المحمود لوضع قواعد الأساس لنوع جديد من الشركات المساهمة الإسلامية التي تتمتع بخاصيتين هامتين: أولاهما: وجود نوعين من الأسهم هما أسهم الإدارة وأسهم المشاركة والفرق بين النوعين أن أسهم الإدارة تمثل ملكية الشركة وإدارتها أسهم المشاركة فليس للمساهم حق التصويت أو التدخل في الإدارة وإنما هو يشارك في الربح المتحقق فقط. ورغم أن المعروف في هذه الأسهم المسماة بالاصطلاح الأجنبي Non – Voting Shares أنها ترجع إلى الأصول الإنجليزية في التشريع إلا أن الواقع يدل على أن حقيقة التصور في المسألة تتمثل في الأساس الإسلامي الذي تفترق فيه الملكية عن التصرف والإدارة، ولعل المثل الواضح في ذلك هو علاقة رب المال بالعامل في مال المضاربة حيث أن رب المال وهو المالك لا يستطيع أن يتدخل في إدارة مال المضاربة رغم أن المال ماله حيث أن التدخل يفسد العقد من أساسه. وقد كان حريا بأصحاب الفكر الإسلامي أن يقدموا للعالم صورة الشركة المساهمة الإسلامية التي تستطيع أن تصدر أسهم المضاربة لتمويل عملياتها دون أن يحدث هناك خلل في ملكية الشركة وإدارتها وخاصة بالنسبة لبلد مثل بلدنا الأردن الذي يبحث عن الوسائل المناسبة لتشجيع المستثمرين على القدوم إلى البلاد مع الرغبة في المحافظة على الملكية الوطنية للشركات المساهمة التي تمثل دعامة البناء الاقتصادي الوطني. ففي ظل نور الفقه الإسلامي يأتي الحل الموفق بين هذا وذاك. أما الخاصية الثانية فإنها تتمثل في قبول فكرة رأس المال القابل للتغيير وهو أمر معروف في بعض القوانين التجارية حيث يتصاعد رأس المال أو يقل بمقدار الإصدارات المطروحة من أسهم المشاركة أو المباعة أو المطفأة. وقد أحسن القرار الوزاري البحريني صنعا حين الزم في مادته الأولى مثل هذه الشركات المعفاة بأن تعمل وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية. واستنادا إلى صدور القرار الوزاري المشار إليه أعلاه قام بنك البركة الإسلامي في البحرين بتأسيس شركة مساهمة بحرينية معفاة ذات رأس مال متغير لممارسة أعمال الإصدارات المختلفة في صناديق المرابحة والإيجار والسلم والمشروعات ومن المقرر أن يكون الإصدار الأول لصندوق المرابحة من اجل لفت الأنظار إلى إمكان وجود الأدوات المالية الإسلامية والتي تتمتع بالسيولة والربحية والقابلية للتسويق المنظم على أساس السعر المعلن والمكشوف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1062 3- ميكانيكية العمل في صندوق المرابحة وإصداراته المختلفة تقوم فكرة الإصدارات المختلفة لأسهم المشاركة في صندوق المرابحة على أساس أن الصندوق يمثل جزءا من موجودات الشركة بميزانية فرعية تختلط فيها النقود مع الديون والأعيان وأن المساهم يملك حصة مشاعة في مجموع هذه الموجودات. وبما أن عمليات المرابحة يمكن فيها حساب الربح المتحقق شهرا فشهرًا، فإن قيمة السهم يمكن أن تزيد بما يعادل نسبة الربح المتحقق بالفعل، ويستطيع بنك البركة بصفته يملك الشركة أن يعلن استعداده لشراء الأسهم المعروضة وفق سعر محسوب فيه ثمن الأساس زائدا الربح المتحقق بالنسبة لما فات من شهور، وطالما أن الاستعداد للشراء موجود فإن القابلية للبيع تزداد وتستطيع الشركة أن تصدر رأس مالها بمقدار ما تطرحه في السوق من أسهم جديدة للاكتتاب تبعا للعمليات الجارية بانتظام. وبذلك يستطيع المستثمر أن يطمئن إلى أن في إمكانه أن يشتري في أي وقت وأن يبيع أسهمه كذلك عند الحاجة بسعر يمثل سعر الأساس زائدا ما يكون قد تحقق له من أرباح. وهكذا يولد السوق من خلال توفير الاستعداد الدائم المفتوح للبيع والشراء وبما أن الأدوات المالية المباعة والمشتراة تمثل أسهما تزيد بالربح وليست سندات تزيد بالفائدة فإن الوصف الإسلامي لهذا السوق لا يجافي الحقيقة والواقع. وعندما توجد مثل هذه السوق ويشتد عودها فإنها تكون الأولى باجتذاب فائض السيولة لدى البنوك الإسلامية حيث تستطيع الشراء عندما تفيض لديها الموارد وتبيع عندما تشعر بالحاجة إلى السيولة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1063 الخلاصة والتوصيات نستخلص مما سبق بيانه ما يلي: 1 – أن بيع المرابحة للآمر بالشراء في بنائه الفقهي يستند إلى أساس سليم وأن الصورة التطبيقية التي أقرتها لجنة الفتوى في الأردن من ناحية القول بلزوم الوعد في بيع المرابحة هي الصورة الأقرب لتحقيق الاستقرار في التعامل وأعمال الشروط الجائزة بين المسلمين. 2 – أن بيع المرابحة للآمر بالشراء ليس مجرد وسيلة للتمويل أو الاستثمار المحدود ولكنه يمكن أن يتطور إلى إدارة لرأس المال القابلة للتداول والتدوير. 3 – أن الجهات التشريعية في البلاد الإسلامية مطالبة بأخذ التطورات الحديثة التي استدعتها العمليات المستجدة للبنوك الإسلامية على محمل التيسير بهدف تسهيل انتشار التعامل الإسلامي الذي يحقق العدل والإحسان فيما بين الناس. 4 – أن العمل الجاد لإيجاد أدوات سوق رأس المال الإسلامي يكان يكون ضرورة لازمة في سبيل تسهيل إعادة توطين الأموال المتدفقة من بلاد العالم الإسلامي إلى خارج ديار الإسلام، وأن البنوك الإسلامية سوف تكون مضطرة أمام فقدان هذه السوق المالية بأدواتها المتلائمة مع المبادئ الإسلامية إلى الهجرة بفائض ما لديها من أموال إلى حيث توجد السعة والفرص المتاحة لاستيعاب هذه الأموال. 5 – أن شركات المرابحة المساهمة المعفاة (1) يمكن أن تكون نواة ناجحة لإيجاد الأداة المناسبة للتداول والتي يمكن أن تشكل مع غيرها من الأدوات إطارا متكاملا لسوق رأس المال الإسلامي بكل ما يتمتع به هذا السوق من خصائص الجذب والاجتذاب. وكما يبنى البيت الكبير من تجميع الحجر فوق الحجر في نظام هندسي بديع كذلك يبنى النظام المالي المتكامل من تجميع الأداة إلى جانب الأداة في نظام هرمي راسخ في الأرض ومرتفع إلى عنان السماء. وإن هذا البلد الأردني المعطاء لجدير بأن يكون مع غيره من الأشقاء في سلم القيادة على طريق الحق والخير بإذن الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته الدكتور سامي حسن حمود مدير عام بنك البركة الإسلامي للاستثمار دولة البحرين   (1) الشركات المعفاة بالمفهوم القانوني في دولة البحرين يعني الشركات المعفاة من بعض أحكام قانون الشركات وذلك من ناحية تملك المواطنين مثل لما لا يقل عن 51 % من رأس المال وغير ذلك من الاشتراطات وقد نجحت دولة البحرين في اجتذاب العديد من الشركات المسجلة في الدولة للعمل في خارج البلاد على طريقة الافشور أي طريقة التعامل الخارجي لمنع المنافسة مع الشركات الوطنية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1064 مراجع البحث - ابن حزم المحلي (بيروت: درا الآفاق الجديدة، دون تاريخ) - ابن قدامة المغني (القاهرة، مكتبة القاهرة، دون تاريخ) - الشافعي كتاب الأم (القاهرة – مطبعة الكليات الأزهرية، 1961) الطبعة الأولى - الزيلعي تبين الحقائق شرح كنز الدقائق (بيروت – دار المعرفة، دون تاريخ) - مصطفى الزرقاء الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد (المدخل الفقهي العام) (دمشق، مطبعة جامعة دمشق، 1959) . الطبعة السادسة - سامي حمود تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية (عمان – دار الفكر – 1981) الطبعة الثانية. - سامي حمود الأعمال التحضيرية لإنشاء البنك الإسلامي محفوظات خاصة مطبوعة بالآلة الكاتبة. - يوسف القرضاوي بيع المرابحة كما تجريه المصارف الإسلامية (الكويت: دار القلم، 1984) الطبعة الأولى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1065 المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) ندوة عن: "خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية، الجوانب التطبيقية، والقضايا، والمشكلات" بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب/ البنك الإسلامي للتنمية بجدة عمان 22 شوال – 25 شوال 1407 هـ 18/ 6 – 21 / 6/ 1987 م بحث الدكتور م. فهيم خان عن تطبيق عقد المرابحة في البنوك التجارية في باكستان القسم الثاني (شيء من تفصيل حول عقود المشاركة (ربحا وخسارة) لدى قطاع البنوك الباكستانية القسم الثاني: تطبيق عقود المشاركة الرابحة: التطبيقات التالية لعقود المشاركة الرابحة هي الأكثر شيوعا لدى قطاع البنوك الباكستانية: 1- اتفاقية مبنية على زيادة السعر مع بنك تجاري. 2 – اتفاقية إعادة الشراء مع بنك تجاري. 3 – عقد مشاركة مع بنك تجاري. 4 – شهادة مساهمة ذات استحقاق مع مؤسسة للتنمية المالية 5 – اتفاقية مساعدة مالية مع مؤسسات مالية متخصصة في تلبية حاجات المشاريع الصغيرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1066 تظهر في الفصول التالية المعالم البارزة لهذه التطبيقات: 1 / أولًا: الاتفاقية المبنية على زيادة السعر: هذه الاتفاقية عبارة عن تطبيق مبدأ البيع الآجل أو بيع السلم. وفيما يلي أهم ميزات هذه الاتفاقية: 1 – تستغل هذه الاتفاقية لدى البنوك التجارية للقروض التمويلية مختلفة الآجال من قصيرة ومتوسطة وطويلة. 2 – يدخل العميل في اتفاق مع رب المال لشراء أموال منقولة. 3 – يوافق العميل على بيع تلك الأموال إلى البنك على مبلغ يتفق عليه يدعى " سعر البيع " ويقوم البنك بتسليمه للعميل. 4 – يوافق العميل نفسه على شراء نفس البضاعة ثانية من البنك بسعر معين يتفق عليه يسمى " سعر الشراء " (يشمل هذا زيادة السعر) يتم تسديده من قبل العميل في تاريخ معين. وإذا قام العميل بالتسديد في التاريخ المتفق عليه فإن البنك يعطيه تخفيضا خاصا يسمى " منحة " مثلا لو أن شخصا وافق على دفع سعر الشراء بحدود 1300 روبية بعد سنة واحدة. وكان هذا المبلغ يمثل أصل الدين 1000روبية وزيادة السعر 300 روبية. وبعد مرور السنة قام ذلك الشخص بدفع 1300 روبية، فإن البنك يعيد إليه " منحة " قدرها مثلا 160 روبية لأنه سدد في الموعد المتفق عليه. هذه الروبيات المعادة ما هي إلا زيادة في السعر أضافها البنك احتياطا لأي تأخر في التسديد بعد الموعد المحدد ولمدة لا تزيد على 210 يومًا إذ يستطيع البنك أن يحصل أمواله من العميل بموجب قرار محكمة في مدة أقصاها 210 يومًا من تاريخ الاستحقاق الأول. 5 – دفع سعر الشراء مضمون بأن يرهن العميل البضاعة أو يؤمنها لصالح البنك، وأن يكون مستعدا لتقديم ضمانات أخرى قد يطلبها البنك من حين لآخر. 6 – كذلك يلتزم العميل بموجب عقد الشراكة أن لا يفترض أية أموال أو يستغل زيادة سعر أو تمويل من أي بنك آخر أو مؤسسة مالية أو شخص آخر، وأن لا يسدد أي دين أو التزام مالي لأية جهة دون اخذ موافقة خطية مسبقة من البنك. 7 – البنك غير مسؤول تحت طائلة القانون عن البضاعة التي اشتراها العميل من حيث الجودة أو الكمية والقيمة أو أي شيء آخر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1067 8 – إذا تأخر العميل في سداد أي قسط في موعد استحقاقه تعتبر بقية الأقساط مستحقة وللبنك الحق في المطالبة بكامل رصيد سعر الشراء، وله الحق لتأمين تسديد ذلك أن يضع يده على البضاعة ويقوم ببيعها. 9 – للبنك الحق في أن يطالب بتسديد سعر الشراء حالا ودون بيان الأسباب. ويلتزم العميل في مثل هذه الحالة بأن يسدد القيمة خلال سبعة أيام من تاريخ الطلب. وفي حاله التخلف فإن العميل يلتزم أيضا بدفع العطل والضرر بحدود 20 % من قيمة المبالغ التي طلبها البنك وتخلف العميل عن دفعها. 10- الاصطلاحات: البنك والعميل تشمل الورثة بالأصالة أو الوكالة لأي منهما أو منهم. ملاحظة: هذه الاتفاقية أيضا تستخدم في منح تسهيلات لذوي الدخل المحدود. حيث يقوم العميل بتقديم حاجة للبيع ويتعهد بشرائها ثانية بالسعر والزيادة اللذين يفرضهما البنك. 2 / ثانيا: اتفاقية إعادة الشراء: تكاد تكون هذه الاتفاقية مثل الاتفاقية المبنية على زيادة السعر. والخلاف الوحيد ينحصر في أن على العميل أن يقدم حاجة للبيع يقوم ببيعها للبنك (بغض النظر عن قيمتها أو نوعها) بسعر يساوي المبلغ الذي يحتاجه من البنك ويوافق في نفس الوقت على شراء الحاجة ثانية بسعر أعلى (يشمل زيادة السعر التي يضيفها البنك) مثلا: لو كنت بحاجة إلى 10.000 روبية من البنك فإن البنك يطلب مني أن أبيعه شيئا من عندي، عندها أوافق على بيع تلفزيوني مثلا (وليس بالضرورة أن يساوي 10.000 روبية) للبنك وأوافق في نفس الوقت على شراء ذلك التلفزيون ثانية بمبلغ 12.000 روبية أو 15.000 روبية أو حتى باحتساب سعر إعادة الشراء كما يحسب أي بنك يتعامل بالفائدة ما يجب أن يدفعه عميله بحيث يغطى المبلغ الأصلي مضافة إليه الفائدة. يطلب البنك عادة وضمن الاتفاقية أن يقوم العميل بتقديم رهونات أو تأمينات لأية أملاك أو ممتلكات ضمانا للمبلغ الذي سيسدده العميل في الموعد المتفق عليه. ويسرى على هذه الاتفاقية جميع الشروط من 3- 10 الواردة في الاتفاقية المبنية على زيادة السعر المذكورة في البند 2 / أولًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1068 2/ثالثا: المشاركة: عقد اقتسام الأرباح المتداول في أي بنك تجاري باكستاني: المشاركة بطبيعتها نوع من الاستثمار المالي المبنى على تقاسم الأرباح أو الخسائر. ويلجا لمثل هذا التمويل ويطبق على المعاملات المالية للفئات التالية: أ – التمويل الرأسمالي للصناعات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة الحجم. ب- التمويل الرأسمالي للأعمال التجارية والتجارة نفسها. جـ- تمويل الهيئات التي تعمل في إنشاء المباني (مؤسسات الإسكان) د- لمزارع الطيور ومنتجات الألبان. هـ- للبستنة والدواجن. و للغابات. إلا أن مثل هذه الاتفاقات قليلة للتطبيق ولا تزيد على 10 % من مجموع التمويل البنكي. وأهم ما تمتاز به عقود المشاركة: 1- أنها لا تمنح إلا للشركات التي تحتفظ بحسابات رسمية، وتعد ميزانيات نهائية بانتظام. 2 – تتحاشى البنوك احتمالات التلاعب في السوق أو المضاربات أو المغامرات التي قد تؤثر على إرباحية المشروع المشترك أو أن العميل يدير المشروع بطريقه تؤثر على مصالح البنك. ولهذه الأسباب فإنها أي البنوك تمارس منتهى الحذر عندما تقدر صلاحية العميل أو المشروع المشترك ليقوم البنك بإجراءات المشاركة. كذلك تتساءل هل العملية صالحة للتطبيق. 3 – يقدم العميل طلبه على النموذج المعد ويرفق معه: - بيانات عن ثلاث سنوات تشمل نتائج العمليات ورأس المال والميزانية العمومية وحساب الأرباح والخسائر لتلك السنوات. - ضرائب الدخل المدفوعة- إن وجدت – خلال ثلاث سنوات. - بيان سنوي عن أرباح المشروع على شكل كشوفات تقديرية للأرباح تشمل النتائج لعمليات المشروع بموجب تلك التقديرات. 4 – تتطلب المشاركة تقديم ضمانات: ولابد من أن نأخذ بعين الاعتبار ما يلي بالنسبة للضمانات المقدمة: أ – هل الضمانات كافية؟ أي هل قيمتها التحويلية كافية لتغطية استثمار البنك مضافا إليه كمية الربح التي قد تتحقق بموجب كشف الربح التقديري الذي أعده العميل. ب- هل الضمانة سهلة التحويل إلى نقد. جـ- لما كانت طبيعة كثيرة من الضمانات توحي باحتمال نقص قيمتها عادة وفجأة فإن على البنك أن يراعي ذلك عند قبول الضمان. د- يؤمن على الضمانات على حساب العميل وبنفقته. هـ- في حالة الشركات المساهمة المحدودة فإنه تؤخذ كفالة المدراء المسؤولين بصفتهم الشخصية ضمانا إضافيًا للودائع المقدمة ضمانات وهو ما جرت عليه العادة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1069 5 – تقرر حصة البنك في عقود المشاركة في ضوء ما يلي: أ – الكشوفات التقديرية للأرباح التي يقدمها العميل هي التي تقرر حصة البنك والعميل معا. ب- في ضوء ذلك يحقق البنك حصته من الأرباح كل ربع سنة (تحت الحساب) كما هو متفق عليه عادة في اتفاقية المشاركة. جـ – لهذا السبب يقوم العميل أو الشركة بفتح حساب في البنك يسمى حساب المشاركة (تخصيصات الأرباح) ، ويبقى الحساب دائنا ويعطى البنك تفويض ليقيد على هذا الحساب في آخر كل ربع سنة الأرباح المؤقتة المحسوبة بالطريقة المبينة أعلاه على أساس الناتج اليومي على استثمارات البنك القائمة. د – في نهاية كل سنة مالية يوزع الربح المتحقق بموجب حسابات الشركة حسب التخصيصات المعينة لكل استثمار حصته. هـ- عند احتساب التخصيصات – يراعى ما يلي: إذا وجد أن حصة البنك أو أي جهة أخرى صاحبة حق، كانت تزيد على ما استوفته من أرباح مؤقتة فإن تلك الزيادة تقيد في حساب احتياطي خاص يسمى احتياطي المشاركة يقوم البنك بفتحه في سجلاته. أما إذا كانت الأرباح المؤقتة التي استوفاها البنك أو جهة أخرى صاحبة حق، أكثر مما تحقق من أرباح فعلية، فإن الفرق يقيد على الحساب الجديد الذي تم فتحه وهو حساب احتياطي المشاركة. 6 – في حالة الخسارة تتم الإجراءات التالية: أ – تقوم الشركة خلال ثلاثة أشهر من إغلاق حساباتها بتقديم ميزانية مصدقة من فاحص الحسابات إلى البنك. ب- في حالة رغبة الشركة في استعادة الربح المؤقت أو جزء منه من البنك مما كان قد قيد على حساب المشاركة – إذا كانت اتفاقية المشاركة تنص على ذلك، فإن على الشركة أن تخطر البنك خلال ثلاثين يوما من انتهاء الاتفاقية. وإذا لم تقم الشركة بهذا الإشعار خلال تلك المدة فإن ذلك يعتبر تنازلا منها عن تلك الاستعادة، ويعتبر كذلك موافقة من الشركة على قبول الربح القليل الذي وصلها وإقرار ما قيده البنك على حساب المشاركة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1070 جـ- إذا تبين أن حصة البنك من الربح خلال سنتين من السنوات الثلاث السابقة كانت دون ما قيده على حساب المشاركة، فإن للبنك الحق في أن يحول 20 % من استثماره إلى أسهم عادية من أسهم الشركة على حساب أضعاف أسهم الشركة وذلك بموجب البند 120 من نظام الشركات لسنة 1984. د – أما إذا تعرضت الشركة للخسارة خلال فترة اتفاقية المشاركة، فإن للبنك الحق في أن يحول من أسهم الشركة بما يساوي حصته من الخسارة على حساب أضعاف قيمة أسهم الشركة وذلك بموجب نظام الشركات المشار إليه في (ج) أعلاه. هـ- تصدر الشركة كتب توزيع الأسهم كما ذكر أعلاه خلال ثلاثين يوما من طلب البنك وتكون الأسهم عادية ويصحب البنك مثله مثل أي حامل أسهم آخر صاحب حق في الانتخابات والتحويل متمتعا بأية حقوق أخرى يمنحها القانون للشركات المساهمة. و في حالة تعرض الشركة للخسارة خلال فترة الاستثمار بسبب سوء الإدارة أو عجزها عن تسديد أموال البنك أو التعويض عن الأرباح لأي سبب مهما كان، أو عجزت عن تنفيذ أي بند من بنود الاتفاقية، فاللبنك إضافة إلى أي وسائل معالجة أخرى متيسرة أن يباشر إجراءات تصفية الشركة لعله يؤمن ما يستحق له. ز- في حالة عجز الشركة عن تحقيق الأرباح التقديرية بسبب سوء الإدارة أو إهمال المدراء المسؤولين، أو إذا تبين أن هناك تجاوزا على أي بند من بنود الاتفاقية من قبل الشركة، فإن على الشركة أن تتحمل جميع الخسائر. وعلى الشركة كما هو متفق عليه أن تتحمل العطل والضرر الذي تعرض له البنك بسبب عجز الشركة عن تأمين الأرباح التقديرية بسبب إهمالها أو لأي سبب آخر مما ذكر أعلاه. ويعتبر هذا العطل والضرر مساويا في المقدار للربح المؤقت المتفق على دفعه للبنك بموجب الاتفاقية. 2 / رابعا: ش م ق (شهادة مساهمة ذات استحقاق) عقد شراكة في الأرباح تتداوله مؤسسات التنمية المالية (م ت م) الأرباح. تدخل الشركة في اتفاقية (ش م ق) مع (م ت م) – مؤسسة تنمية مالية على الأسس التالية: 1 – تطلب الشركة تمويلا جزئيا لمشروع معين من (م ت م) . 2- توافق (م ت م) على استثمار مبلغ محدد في المشروع. 3 – تتعهد الشركة بتحمل مسؤولية تنفيذ المشروع وإتمامه من جميع الوجوه بما يرضى (م ت م) حسب جدول التنفيذ. ويعتبر المبلغ المدفوع للشركة قرضا عليها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1071 وإذا لم يتم إنجاز العمل في الوقت الذي حددته (م ت م) فتتحمل الشركة غرامة حسب المعادلة التي بينها بنك الدولة الباكستاني لمثل هذه الغرامات التي تستوفي على المبالغ التي تقترضها الشركة من وقت لآخر خلال المدة المقررة لإنجاز المشروع. 4 – بعد إنجاز العمل من جميع الوجوه وبشكل مقبول من (م ت م) ضمن وقت الإنتاج التجاري أو حوالي ذلك الوقت، فإن جميع الموجودات العائدة للمشروع والتي تعتبر ملكا للمؤسسة (م ت م) تباع للشركة بسعر يساوي الأشياء التالية: المبالغ التي اقترضتها الشركة لإنجاز المشروع، مضافا إلى ذلك أية غرامات قد تكون فرضت على الشركة علاوة على نسبة ربح لا تقل عن 12 % تستوفيها (م ت م) على مثل تلك المبالغ ولنفس الآجال إذا استثمرتها في مجالات أخرى، وتكون نسبة الأرباح على مجموع المبالغ والغرامات التي دفعت في سبيل تأمين القيمة التي نسميها " سعر الشراء ". عند إتمام عملية الشراء تقوم الشركة بإصدار (ش م ق) معادلة لسعر الشراء المدفوع إلى (م ت م) وتكون الشهادات من الفئات والاستحقاقات التي تنصح بها (م ت م) . 5 – إذا تبين في أي وقت من الأوقات أن سير الإنجاز دون الوقت المقرر في جدول المواعيد، وأن المشروع لن يتم ضمن التقديرات المالية المتفق عليها، والتي تعتبر أساس هذه الاتفاقية، وزاد التجاوز في النفقات أو توقعنا أن يزيد مستقبلًا على 15 % من الكلفة المقدرة أصلا، فإن (م ت م) تعيد تقييم المشروع. وما دامت (م ت م) هي صاحبة القرار المطلق فإنها قد تقرر ما يلي: أ – أن لا تتجاوز عن التخلف الناتج عن تأخير الإنجاز أو أن تتوقف عن تمويل المشروع حسبما يتراءى لها. وفي مثل هذه الحال فإن (م ت م) : - قد تكلف شخصا آخر أو أحد الشركاء ليقوم بإتمام المشروع وتشغيله بدلا من الشركة. ويقوم هذا الشخص أو الشريك الذي جاءت به (م ت م) بتحمل كافة الأموال الفعلية التي تم استثمارها من قبل ممثلي الشركة ويدفعها لهؤلاء الدائنين بعد إجراء تدقيق الحسابات من قبل فاحصي حسابات قانونيين. - أو تبيع أو تضع يدها على الممتلكات والموجودات عن طريق المناقصة أو البيع بالمزاد العلني، وتخصص عائدات البيع لتغطية استثمارات (م ت م) بالدرجة الأولى. وما زاد عن ذلك إن وجد يستغل بالدرجة التالية لتسديد الممولين الآخرين ودائني الشركة من مدرائها المسؤولين. ب – أو تسمح للشركة بإتمام المشروع بالكلفة المعدلة وبالشروط والتعليمات التي تضعها (م ت م) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1072 6 – حصة (م ت م) من الأرباح تتناسب طرديا مع نسبة شهادات المساهمة غير المستردة إلى مجموع أموال الـPLS الأخرى والاحتياطيات ورأس مال الشركة المدفوع،ومع ذلك ولإعطاء حافز للشركة فإن (م ت م) قد لا تحتفظ إلا بشىء يسير من أرباحها بما يعادل الربح الذي تستوفيه من الشركة بعد 30 يوما من إغلاق حساباتها نصف السنوية وتخصم للشركة 2 % وتبقى (م ت م) لنفسها ما يعادل 15 % فقط من القيمة الاسمية لشهادات المساهمة ذات الاستحقاق (ش م ق) لسنة مالية واحدة. 7 – تفتح الشركة حساب مشاركة مع أي بنك تجاري وطني باسم (م ت م) بعد أخذ موافقتها. وتودع في ذلك الحساب الدفعة نصف السنوية المؤقتة من الأرباح دون إشعار أو طلب مفوضة لصالح (م ت م) . 8 – تدفع الشركة دفعة مؤقتة على حساب الأرباح بمعد 8.5 % حسب حصة الأرباح المتفق عليها في الفقرة السابقة خلال 30 يوما من انتهاء 6 أشهر على بدء سنة الشركة المالية، ويرفق مع الدفعة نسخة من حسابات الشركة نصف السنوية. وتعتبر هذه الدفعة المؤقتة، دفعة مقدمة من أرباح (ش م ق) للسنة المالية وتسوى حسابيا في تاريخ الاستحقاق الأخير لشهادات (ش م ق) . وإذا لحقت الشركة خسارة في أي سنة مالية ندخل الدفعات المؤقتة في السجلات في حساب احتياطي المشاركة وتجرى تسويتها في هذا الحساب في الاستحقاق الأخير لشهادات (ش م ق) . وفي حالة تحقيق الشركة أرباحا تقل عن 15 % من قيمة (ش م ق) القائمة تغطي الشركة ذلك العجز بالوسائل التالية: أ – تعطي شهادات (ش م ق) الصادرة لصالح (م ت م) الأولية في الاستفادة من الأرباح المقررة للتوزيع. ب – إذا حققت الشركة أرباحا عالية بحيث زادت أرباح (م ت م) على الحصة المقررة لأي سنة أخرى، فإن هذه الزيادة في أرباح (م ت م) تقيد أيضا لحساب احتياطي المشاركة. جـ – إذا كانت أرباح الشركة غير كافية لتأمين العائد المتفق عليه مع (م ت م) وكانت أباح المساهمين الآخرين غير كافية لتغطية العجز الحاصل في عائدات أسهم (م ت م) ، يجرى قيد العجز على احتياطي المشاركة، ثم ترحل أي زيادة في ذلك الحساب (إن وجدت) إلى الفترات القادمة احتياطا لمواجهة العجز في السنة أو السنوات التالية في حصة (م ت م) . د – (م ت م) لها الحق في أن تحول ما لا يزيد عن 20 % من (ش م ق) الخاصة بها إلى أسهم عادية بالسعر السائد وفي أي وقت ضمن مدة سريان (ش م ق) . على أن مثل هذه الشهادات لا تصدر، ومثل هذا التحويل من (ش م ق) إلى أسهم عادية لا يلجأ إليه إلا إذا هبط مردود (ش م ق) بعد مرور سنتين من ثلاث سنوات من بدء الإنتاج التجاري إلى ما دون الحد الأدنى لمعدل المردود الذي وضعه بنك الدولة الباكستاني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1073 9 – تتم إعادة الدفع في حساب رأس مال المستهلك خلال سنة مالية معينة على أساس مجزأ دون اعتبار للربح أو الخسارة وإلى موعد الاستحقاق الأخير لشهادات (ش م ق) وبعد أن يسوى حساب الخسارة إن وجدت من حساب احتياطي المشاركة الذي ينشأ بالأسلوب المبين فما يلي من أجل هذه الغاية المحددة. أ – تقوم الشركة بإنشاء حساب احتياطي خاص تسميه حساب احتياطي المشاركة للسنة المالية التي تبدأ منذ تاريخ الإنتاج التجاري وحتى تاريخ استحقاق آخر قسط في (ش م ق) . وتقيد فيه الزيادات الحاصلة في مردود (م ت م) من حصتها من أرباح الشركة. ب- الأموال التي تدفع في حساب احتياطي المشاركة أو المبالغ التي تدفع منه، إن لزم ذلك فما تخصصه الشركة، كل ذلك يستغل ويجهز للاستعمال في أي وقت حتى دفع آخر أقساط (ش م ق) . وأن تخفض حصة الأعضاء من الأرباح وتدفع لمواجهة أي نقص في السنة أو السنوات السابقة في دفع الحد الأعلى من المردود على (ش م ق) المتفق عليه. جـ- دون اجحاف بحق أي تسوية خلال ذلك من حساب احتياطي المشاركة، فإن هذا الحساب سيصفى في نهاية استحقاقات أقساط (ش م ق) ودفع آخر تلك الأقساط وذلك أما بالتوزيع أو التسوية أو التخصيص في أو حول الأولويات التالية: 1 – دفع أية خسارة في استثمارات (م ت م) بالدرجة الأولى 2 – دفع العجز الحاصل في نسبة 15 % الخاصة بـ (م ت م) عن السنوات المالية التي لم تتحقق فيها أرباح للشركة. 3 – رفع حصة (م ت م) إلى 15 % عن السنوات التي تقل فيها أرباح الشركة بحيث لا يصل مردود (م ت م) إلى 15 % 4 – لمواجهة مجموع النقص بشكل عام خلال سنوات حياة (ش م ق) أثناء صلاحيتها منذ إصدارها وحتى استحقاقها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1074 توضيح: تدل عبارة النقص أو العجز المستعملة أعلاه أو في أي مكان آخر، وما لم ينص على خلاف ذلك، تدل على دفعات الربح التي تقل عن 15 % من القيمة الاسمية لشهادات (ش م ق) أو أي جزء من الأصل لا يسترد عند الاستحقاق وفي جميع الأحوال عند استحقاق (ش م ق) . 5 – بعد دفع التخصيصات الواردة في 1 إلى 4 أعلاه وبعد مواجهة أي غرامات قد تنتج عن التأخر في الدفعات أو التخلف عنها يحول أي رصيد باق في حساب احتياطي المشاركة إلى حساب الشركة كمنحة لها مقابل إدارتها الفعالة وحسن أدائها. 10- عند استحقاق (ش م ق) إذا أظهرت الشركة خسارة صافية إجمالية، وتآكل المبلغ الأساسي لشهادات (ش م ق) المتداولة: أ – تعاد للشركة كل المبالغ المدفوعة زيادة على الربح الفعلي. ب- وكذلك ودون تجاوز حصة الأعضاء من الخسارة تعامل (ش م ق) القائمة والتي تمثل الحصة النسبية من الخسارة غير المغطاة بعد التحوط للخسارة التي تزال من الأرباح الخاضعة للضريبة فإن (ش م ق) إما أن تسوى عند المحاسبة على الأقساط الأخيرة فيها أو تستعاد من قبل (م ت م) إلى الشركة، مع احتفاظ (م ت م) بحقها في شراء أسهم الشركة العادية مقابل دفع الثمن. 11- إذا تعرضت الشركة للخسارة في أي سنة مالية فإن (ش م ق) تعامل بالشكل التالي: أ – تعيد الشركة قيمة (ش م ق) الأساسية بشكل يتفق مع الشروط الأصلية. ب- تدور الخسارة المترتبة على (م ت م) في أي سنة إلى موعد الاستحقاق النهائي لأقساط (ش م ق) . جـ- عند انتهاء استحقاق (ش م ق) يتم احتساب الأرباح المقبوضة والخسارة التي سيتحملها حملة (ش م ق) . وإذا وجد أن جملة (ش م ق) سيتحملون أية خسارة صافية، فإن تلك الخسارة ستغطى إن أمكن من حساب احتياطي المشاركة بالدرجة الأولى. د – أما الخسارة التي قد تحدث بعد ذلك، فتغطى من احتياطات الشركة العادية. وإذا استمر وجود خسارة مهما كانت بعد استعمال الاحتياطيين العادي وحساب احتياطي المشاركة تتحمل (م ت م) تلك الخسارة بنسبة مساهمتها. هـ- إذا قامت الشركة بإعادة دفع المبلغ الأصلي واستلمت (م ت م) أرباحها طيلة فترة (ش م ق) بالمعدل المتفق عليه بالنسبة لأصل الدين القائم وحتى الحساب النهائي لاستحقاق (ش م ق) فلا يطلب من (م ت م) أن تتحمل أية خسارة. وتعتبر (ش م ق) بقيمتها الكاملة أنها قد استردت، وتعيدها مؤسسة (م ت م) إلى الشركة بعد إلغائها حسب الأصول. وإذا تبقى أي مبلغ في حساب احتياطي المشاركة بعد تخصيص ما يكفي لدفع عائدات (م ت م) بمعدل 15 % على حسابها غير المسدد طول حياة (ش م ق) وبعد تسديد المبلغ الأصلي وأية غرامات قد تكون فرضت بسبب التخلف عن أو التأخر في التسديد فإن هذا المبلغ المتبقي يعطى للشركة كمنحة مقابل حسن الأداء تعيد استثمارها أو توزيعها على المساهمين كما تراه الشركة مناسبا. و– إذا اضطرت (م ت م) عند الحساب الختامي وبتاريخ الاستحقاق إلى تحمل أية خسارة فإن لها الحق أن تشترى من أسهم الشركة بما يعادل الخسارة التي ستغطيها أو تتحملها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1075 12- استثمارات (م ت م) وأية عائدات أخرى لها محتملة في (ش م ق) أو غير ذلك تعتبر مضمونة برهن من الدرجة الأولى على جميع ممتلكات الشركة الحالية والمستقبلية، سواء المنقولة منها وغير المنقولة وكذلك مضمونة برأس المال غير المدفوع – إن وجد – وأية موجودات متداولة أخرى. 13- تقوم الشركة بتسديد القيمة الأصلية لشهادات (ش م ق) على دفعات نصف سنوية بعد مرور سنة على بدء الإنتاج التجاري، وبعبارة أخرى، بمبالغ تقررها (م ت م) . 14- يحق للشركة، قبل استحقاق (ش م ق) النهائي أن تعيد شراء (ش م ق) القائمة بأن تدفع: أ – ضميمة لتغطي أي نقص، إن وجد، بين الربح الفعلي والربح المقرر في حدود 15 % وعلى (ش م ق) القائمة لتعوض الخسارة على القيمة الصافية الناتجة عن تراكم الخسارة. ب – أو مبلغا معادلا للخسارة التي تحملتها (م ت م) على (ش م ق) التي تم استردادها فعلا. جـ- أو مبلغا مساويا للنقص الحاصل بين الأرباح المدفوعة فعلا، ومتوسط أرباح (ش م ق) التي تم استردادها. د- أو تعويضًا عن الخسارة في المكاسب المستقبلية المحسوبة على أساس تجميع تلك المكاسب المستقبلية. هـ- أو يدفع أية مستحقات أو نفقات أو رسوم قائمة عليها. وإلى أن يتم تسديد المبلغ الأصلي وما يترتب عليه من أرباح (ش م ق) مع أية مستحقات اخرى بموجب هذا الترتيب أو بموج قانون الائتمان أو أية وثيقة تصدر وتكون لصالح (م ت م) وتعاد جميع الأموال إلى (م ت م) بشكل ترضى عنه، فإن الشركة لا تستدين أو تضغط على موجوداتها الثابتة إلا في حالة تسلمها إحالة خطية مسبقة من (م ت م) وبالشروط والتعليمات التي توافق عيها وتحررها النقابة خطيًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1076 15- توافق الشركة كذلك على ما يلي: أ- تمتلك (م ت م) حق تعيين مدير عن (ش م ق) في مجلس إدارة الشركة من وقت لآخر. ب- تدفع الشركة من وقت لآخر رسوما ًربع سنوية بمعدل 1,5 % على المبالغ غير المسددة من أصل الاستثمار. جـ- تدفع الشركة إلى (م ت م) رسوم تصديق بمعدل 0.25 % ورسوم كشف على المشروع بمعدل 0.5 % على قيمة الاستثمار المدفوعة. ويتكرر تحصيل هذين الرسمين عند كل استثمار تال أو كفالة أو غير ذلك من أجل تغطية أية تجاوزات أو الحاجات الإضافية للتمويل. د – تدفع الشركة إلى (م ت م) رسم إشراف على المشروع بمعدل واحد في الألف سنويا من المبالغ القائمة عليها من أموال المساعدة مضافا لذلك أية مصاريف طارئة. هـ- تطلب الشركة إلى مدرائها المسؤولين أن يتعهدوا بتأمين الأموال اللازمة لتغطية النفقات الزائدة، إن وجدت، من أموالهم الشخصية على أن يكون 40 % منها على الأقل من احتياطي رأس المال. و– تطلب الشركة إلى مدرائها المسؤولين أن ينظموا تعهدًا مقبولًا من (م ت م) ، وما دامت أموال (م ت م) في الاستثمار قائمة، بأن يتعهدوا أن لا يتصرفوا بأسهمهم أو يحولوا إدارة مشروع الشركة للغير دون موافقة خطية مسبقة من (م ت م) . ز – يضع المدراء المسؤولون أسهمهم في الشركة تحت تصرف (م ت م) عندما تشاء. ح- لن تصرح الشركة عن أية قسائم أو تبيعها أو تمنح أسهم مجاملة خلال هذه الفترة لأي من أموالها المستحقة أو القابلة للدفع إلى أي عضو في (م ت م) ضمن هذه الاتفاقية إلا بعد أخذ موافقة خطية مسبقة من (م ت م) . ط- تشرف (م ت م) على إقامة المشروع وتنفيذه وتؤمن حيث يلزم ذلك مستشارين وخبراء على حساب الشركة من أجل هذه الغاية. ي – (م ت م) لها الحق أن تكلف فاحص حسابات غير فاحص حسابات الشركة المعين، ليقدم لها تقريرا خاصا عن أوضاع الشركة. مثل هؤلاء المحاسبين سيتأكدون من قيام موجودات الشركة في مواقعها الطبيعية وهو ما تتقاضي عليه (م ت م) رسما. وتكون النفقات على حساب الشركة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1077 ك – تستغل الشركة جميع ما لديها من أموال خلال فترة الإنشاء لإتمام المشروع حسب الخطة التمويلية التي أقرتها (م ت م) . وفي حالة تعرض المشروع إلى تجاوزات أو نقص في الأموال، فإن الشركة تتوقف عن دفع أية مبالغ أو فوائد لأي مؤسسة دائنة أخرى خلال فترة الإنشاء إلا إذا حصلت على موافقة خطية مسبقة من (م ت م) . وعلى مدرائها المسؤولين من جهة أخرى أن يعملوا على تسديد المبالغ المطلوبة مع فوائدها من حساباتهم الخاصة، على أن يخصص 25 % منها للاستثمار من احتياطي رأس المال في الشركة. ل – تمشيا مع توجيهات الحكومة أو إذا رغبت (م ت م) في أي وقت أن تجرى تعديلات على أية شروط أو بنود في الاتفاقية أو رغبت في إدراج شروط أخرى فإن الشركة توافق وتتعهد أن تدخل في اتفاقية لاحقة مع (م ت م) وتعتبر هذه الاتفاقية اللاحقة جزءا لا يتجزأ من الاتفاقية الأصلية. م – إذا لم ينجز المشروع خلال 12 شهرا من تاريخ استلام كتاب التصديق فإنه يعاد تقييم المشروع ليعاد النظر فيه من قبل مجلس إدارة (م ت م) . ويستوفى رسم إعادة تقييم 10 % من رسم الكشف الأصلي على المشروع محسوبا على المبلغ الأصلي وعلى الأموال التي دفعتها النقابة، وقيمة أي كفالة قائمة. وتقوم الشركة بدفع هذا الرسم الذي يعتبر غير قابل للاسترداد بغض النظر عن النتائج التي قد تتمخض عنها إعادة التقييم. ن – إذا وصلت الشركة أي شروط عن طريق أي مستند غير مشمول في هذه الاتفاقية فإن تلك الشروط تعتبر جزءًا من الاتفاقية الأصلية. س – تدفع الشركة إلى (م ت م) عمولة بمعدل 1 / 8 % من قيمة الأموال المستثمرة وعمولة أخرى بمعدل 1 / 10 % (واحد في الألف) من قيمة القسط الخاص بالمبلغ الأصلي الذي يدفع في تاريخ الاستحقاق. وكذلك يدفع مبلغ 1000 روبية تسمى رسم انتداب بصفة (م ت م) قيمًا. 2 / خامسا: اتفاقية مساعدة مالية: عقد مشاركة في الأرباح كما هو متداول في مؤسسات مالية متخصصة في تلبية حاجات الصناعات الصغيرة. تعد هذه الاتفاقية المؤسسات المالية المتخصصة لتؤمن الأموال اللازمة للاتفاق على الأعمال الصغيرة على أساس المشاركة في الأرباح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1078 خصائص هذه الاتفاقية: 1- عميل يرغب في القيام بعمل صغير يتقدم بطلب مبلغ معين من المال لا يتجاوز حدًا معينا، لعمل معين. 2- المؤسسة توافق على تسليم مساعدة مالية معينة للعمل المذكور. 3- تتطلب المؤسسة كفيلين شخصيين (يسري على ورثتهما ما يسري عليهما بالأصالة أو الوكالة) يتعهدان بتسديد الالتزامات المترتبة على العميل طالب المساعدة المالية في حالة تخلفه عن تنفيذ شروط الاتفاقية. 4 – تمنح المساعدة المالية لمدة 3 سنوات من تاريخ التصديق عليها. 5 – يتقاسم الطالب والمؤسسة الأرباح والخسائر في ضوء الشروط التي سترد في 6إلى 10 فيما بعد. 6 – تقرر المؤسسة نسبة الربح والخسارة في ضوء مبلغ المساعدة المالية وقيمة موجودات الطالب كما قدرتها المؤسسة. وتعتبر تقديرات المؤسسة للموجودات نهائية وملزمة للطالب. 7 – إذا زادت الأرباح المعلنة من قبل العميل أو تعادلت مع الربح المتوقع كما سيرد في (9) مما يلي فإن المؤسسة تقبله دون تعليق أو تحفظ كما صرح به العميل، حيث لا يشك في صحة الأرباح المصرح بها. 8 – إذا نقص الربح المعلن عن المعدل المذكور في (9) أدناه أو إذا أعلن العميل عن خسارة، فإن المؤسسة في هذه الحالة ترفض الربح أو الخسارة المصرح بهما، وتقوم بإجراء امتحان لأصالة العملية وفحص حسابات شامل لهذا الربح أو الخسارة يقوم به فاحصو حساباتهما أو آخرون بالنيابة عنها. وما تقرره المؤسسة بعد الفحص والامتحان من ربح أو خسارة يعتبر ملزما للعميل. 9 – تحدد المؤسسة للعميل معدلا متوقعا للربح. وإذا لم يقم العميل بتقديم كشوفات حساب المؤسسة لتجري عليها الفحص والامتحان خلال المدة المطلوبة منه، فإنه يعتبر قد حقق أرباحا لا تقل عن المعدل المتوقع المحدد له من قبل المؤسسة لتلك السنة. 10 – يسدد أصل المساعدة المالية مع أية مصاريف أو نفقات أخرى على أقساط شهرية يدفعها العميل للمؤسسة دون النظر إلى أن العمل قد لا يكون حقق أي ربح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1079 11- يقوم العميل أو كفيله برهن ملك لصالح المؤسسة تأمينا للمساعدة المالية التي دفعتها المؤسسة للعميل. وتبقى هذه الرهنية قائمة مع جميع حقوق الراهن ومصالحه إلى حين تسديد مستحقات الشركة كلها أو جزء منها. 12- إذا حدث نقض لبنود الاتفاقية أو شروطها، فإن للمؤسسة صلاحيات، دون الرجوع للمحاكم، تخولها أن تضع يدها على الملك المرهون وكذلك أن تقوم ببيع المرهون وفاء لقيمة المساعدة المالية، ويعتبر العميل وكفيلاه أو الراهن مسئولين شخصيا عن أي رصيد يتبقى مستحقا بعد ذلك. 13- تأمينا لسداد المستحقات للمؤسسة يرهن العميل كذلك أملاكه لصالح المؤسسة. 14- للمؤسسة الحق في جميع الأوقات، ودونما حاجة إلى إخطار العميل، بل على العكس، على حسابه، أن تدخل أي مكان يحوي بضائع العميل لتقوم بفحصها وقدير قيمتها و/ أو تحصل على كل التفاصيل وتتصرف بالبضائع عندما يتخلف العميل عن الوفاء بأي التزام للمؤسسة. 15- إذا تبين في أي وقت من الأوقات أن مجموع المساعدة المالية وحصة المؤسسة من الأرباح مضافا إليها أية مصاريف أو نفقات أخرى تزيد على سعر الكلفة أو سعر السوق الذي تساويه قيمة ملك العميل المرهون، فإنه يترتب على العميل أن يسدد الفرق حالا، إما بدفعه نقدًا أو زيادة الأملاك المرهونة للمؤسسة وضمن ما تقرره المؤسسة نفسها. 16- يؤمن العميل لصالح المؤسسة ولصالحه جميع البضائع أو الأملاك المرهونة ضمانا للمساعدة المالية التي منحتها المؤسسة، ويتم التأمين لدى أن مكتب تأمين تسميه المؤسسة من وقت لآخر، ويتم دفع الأقساط من قبل العملية. 17- للمؤسسة أن تنهي هذه الاتفاقية متى شاءت دون بيان أسباب ودون أن يكون العميل قد خالف أية شروط أو بنود في تلك الاتفاقية. وعلى العميل أن يقوم حالا بتسديد أصل المساعدة المالية المتبقي مضافا إليه حصة المؤسسة من الأرباح عدا أية نفقات أو مصاريف أو غير ذلك مما يتعلق بالعملية كلها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1080 2 / سادسا: تعليق مختصر على تطبيق عقود المشاركة الرابحة في قطاع البنوك الباكستاني. تحتاج روح استبدال التمويل المبنى على المشاركة في الربح والخسارة بالتمويل المبنى على الفائدة إلى عنصرين أساسيين: أ – الغنم بالغرم، أي أنه لا يحق لأي طرف في الاتفاقية أن ينال مغنما دون أن يتعرض للخسارة أو يتحمل مغرما. ب – التساوي والتوازي، أي أنه لا ينال أي طرف في الاتفاقية فائدة لا يستحقها بحكم المركز في مقابل الطرف الآخر في مركزة الآخر. إذا أخذنا بعين الاعتبار العلاقة بين البنك وبين من يستثمرون أمواله نجد أنه لا توجد هناك عناصر عليا في الجهتين المتعاملتين في اتفاقيات المشاركة الرابحة والرائجة في قطاع البنوك الباكستاني في هذه الأيام. تتعامل البنوك بشكل رئيسي في علاقاتها مع مستثمري أموالها وفي 90 % من عملياتها بمبدأ زيادة السعر. وهذا المبدأ يستعمل بشكل لا ينطوي على عناصر عليا، لذلك كانت زيادة السعر مطابقة للفائدة إن لم تكن أسوأ من ذلك. ففي الحقيقة يعتبر مبدأ زيادة السعر كما هو مستعمل الآن أسوأ من التعامل بالفائدة، لأنه يسبب لمن يتعامل به عناء أكبر خصوصا ما يتعلق بإعداد المستندات. فالبنك لا يتحمل أية مسئولية بالنسبة للنوعية أو الكمية، أو تسليم أي شيء مما له علاقة بالبضاعة موضوع الاتفاقية. وإنما يستوفي البنك زيادة في السعر معلومة تتأثر بزمن التسديد. ولا يشارك البنك أو يتحمل أية أخطار. وهو في هذه الحالة وهو يقبض زيادة السعر يعتبر مخالفًا لمبدأ الغنم بالغرم. أما المبدأ الثاني الذي تتعامل به البنوك في علاقتها مع الذين يستثمرون أموالها فهو مبدأ المشاركة. وهو في البنوك قليل الوجود. وفي حين تتعامل به على نطاق واسع مؤسسات التنمية المالية، أو مؤسسات التمويل المتخصصة، وهذه المؤسسات وهي تتعامل بهذا المبدأ بعيدة كل البعد عن روح التعامل به. فكما نلاحظ من البنود (ثالثا إلى خامسا) من بحثنا هذا فإن البنوك تؤمن نفسها دائما بمردود يكاد يكون ثابتا (15 % غالبا) على المبالغ التي تدفعها، وتسمى هذا المردود معدل الربح المتوقع أو المعدل الذي أنتجه المشروع. فالبنك لا يستوفي أكثر من هذا المعدل حتى ولو أنتج العميل ربحا أعلى من المعدل المتوقع، ولا يطالب عادة بزيادة حصته أسوة بالعميل نفسه. أما إذا تدنى الناتج عن المعدل المتوقع المذكور في الاتفاقية فإن البنك لا يتنازل عن ذلك المعدل المتوقع ويستوفيه كاملا. وفي بعض الحالات النادرة وحين يتعرض العميل إلى خسارة مستمرة خلال بضع سنوات فإن البنك قد يقبل (وليس ذلك بالضرورة قائما) مردودا أقل من معدل الربح المذكور في الاتفاقية. وقد أعدت الاتفاقيات بشكل يجعل مساهمة البنك في الخسارة أمرا غير موجود أو قائم. كل رحلة (مهما طال أمدها) تبدأ بالخطوة الأولى، وقد نظمت الاتفاقيات الواردة في هذا الفصل متأثرة بروح الخطوة الأولى. أما مدى تجاوب علماء المسلمين واقتصادييهم مع مبدأ الخطوة الأولى وإقراره بالإجماع والإيجاب فهو سؤال لم تتم الإجابة عليه بعد.. إذا استطاعت هذه الاتفاقيات أن تضيف غضن تعاسة في جبين شايلوك، فإني أستطيع القول ... لقد بدأنا الخطوة الأولى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1081 المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) ندوة عن: "خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية، الجوانب التطبيقية، والقضايا، والمشكلات" بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب/ البنك الإسلامي للتنمية بجدة عمان 22 شوال – 25 شوال 1407 هـ 18/ 6 – 21 / 6/ 1987 م الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1082 بحث الدكتور أوصاف أحمد عن الأهمية النسبية لطرق التمويل المختلفة في النظام المصرفي الإسلامي أدلة عملية من البنوك الإسلامية أولًا: مقدمة: من المتفق عليه في هذا الموضوع أن البنوك الإسلامية تنمي أموالها عن طريق فتح حسابات مختلفة كالحسابات الجارية وحسابات التوفير، بتفويض استثمارها أو دون ذلك وحسابات الاستثمار العادية أو الخاصة بخدمة العملاء في استثمار أموالهم أو تأمين ما يلزمهم على شكل المضاربة أو المشاركة أو البيع الآجل أو المرابحة أو التمويل برسم التمليك أو القرض الحسن. وقد قيل الكثير عن وسائل الائتمان هذه مفترضين أن العائدات الحدية ضمن هذا الأسلوب من التعامل لن تكون عالية، هذا مع ضآلة المعلومات عن طريقة البنوك الإسلامية في استغلال هذه الوسائل بما يكفي لتأمين التمويل اللازم، كيف تستغل وسائل الائتمان المختلفة المتيسرة؟ وأي هذه الوسائل أيسر تطبيقًا بالنسبة لقطاعات معينة؟ ذلك هما السؤالان الأساسيان اللذان تصعب الإجابة عليهما دون الرجوع إلى الممارسات الفعلية للبنوك الإسلامية، ولابد لمن كان له اهتمام بهذه الأمور من أن يتغلب على صعوبة كبرى، هي عدم توفر المعلومات الكافية، حتى أن الميزانيات العمومية وحسابات الأرباح والخسائر لا تعتبر كافية لتزويدنا بالمعلومات اللازمة حول هذه الوسائل. (1) إن الهدف من هذا البحث هو دراسة وسائل الائتمان التي تمارسها البنوك الإسلامية لبيان مدى أهميتها ودورها في المحصلة النهائية لعمليات الائتمان، وكذلك بيان بعض الملاحظات القصيرة عن نسبة توزيع التسهيلات على مختلف القطاعات بالإضافة إلى التعرف على آجال التسهيلات الائتمانية.   (1) إن الآراء الواردة في هذه الورقة لا تعني بالضرورة وجهة نظر مركز البحوث والتدريب الإسلامي، أو بنك التنمية الإسلامي، والورقة مبنية على دراسة أوسع عنوانها "تطوير البنوك الإسلامية ومشاكلها" والتي تم نشرها مؤخرًا من قبل مركز البحوث والتدريب الإسلامي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1083 ثانيًا: المنهج العلمي، الاستبيان ونوعية الاستجابة: لما كانت المعلومات المتوفرة عن البنوك الإسلامية ضئيلة، فقد رأينا أن من الأنسب جمع المعلومات المطلوبة عن طريق دراسة عينات من البنوك الإسلامية العاملة، وباشرنا هذه الدراسة خلال الفترة من نيسان إلى تشرين الأول (أكتوبر) 1985، ولمعرفتنا أن "الدراسة عن طريق البريد" ضعيفة معدل التجاوب لجأنا إلى الاتصالات الشخصية مع عدد من البنوك الإسلامية مباشرة، فتم تجهيز الاستبيان المناسب وسلم إلى البنوك الإسلامية التي اشتركت في الاجتماع الرابع لمدراء عمليات البنوك الإسلامية الذي عقد في الدوحة (قطر) في نيسان 1985، وأرسل الاستبيان بريديًا إلى البنوك الأخرى التي لم تمثل في ذلك الاجتماع وقد بلغ عدد الاستبيانات المرسلة ثلاثين استبيانًا، وقد تم تذكير المشتركين في الاجتماع الخامس لمدراء عمليات البنوك الإسلامية الذي عقد في لكسمبرغ من 7 إلى 8 تشرين الأول 1985للإجابة على الاستبيان المرسل إليهم سابقًا. وقد قسم هذا الاستبيان إلى ثمانية أقسام اشتملت في مجموعها على 55 سؤالًا وقد ضمت بالإضافة إلى المعلومات العامة معلومات عن العمليات البنكية، والموجودات والودائع، وحساب الإيرادات وعمليات الائتمان وكيفية توزيعها على مختلف القطاعات، وآجال التسهيلات الائتمانية، ونسبة توزيع القروض، والودائع، والدور الاجتماعي للبنوك الإسلامية، ومشاكل الجهاز المصرفي الإسلامي، هذا مع العلم بأن المعلومات المشمولة في هذه الورقة معنية بالدرجة الأولى بعمليات الإقراض ونسبة توزيعها قطاعيًا وبآجال التسهيلات الائتمانية (1) وقد هدف الاستبيان إلى الحصول على معلومات وصفية وزمنية، وذلك في ضوء حقيقة أعمار البنوك الإسلامية فعلى الرغم من حداثة عدد منها –بعد 1983- إلا أن كثيرًا منها تأسس في سنة 1977 أو نحو ذلك، لهذا اعتبرنا أن مجموعة المعلومات الزمنية المقدمة من البنوك الأقدم نسبيًا ستلقي ضوءًا على الاتجاهات المتغيرة لدى البنوك الإسلامية كما ستكون مصدر فائدة للبنوك الإسلامية الجديد خاصة، وسنرى فيما بعد أن هذا الاتصال أدى إلى نتائج مفيدة. وقد استجاب من البنوك الإسلامية الثلاثين التي تم الاتصال بها ما مجموعة ثمانية بنوك فحسب، أي ما يمثل 26? تقريبًا من عدد البنوك الإسلامية القائمة، فإذا اعتبرنا ضعف معدل التجاوب في الاتصال البريدي لمثل هذه الدراسة، ولم نغفل كذلك طبيعة المعلومات المطلوبة فإن ذلك يعتبر معدل تجاوب مقبول.   (1) للحصول على معلومات أوفى راجع كتاب "تطوير البنوك الإسلامية ومشاكلها" للدكتور أوصاف أحمد (1987) IRTI جدة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1084 أما البنوك الإسلامية التي تجاوبت معنا فهي: 1- البنك الإسلامي الأردني الأردن (1979) 2- بنك فيصل الإسلامي القاهرة – مصر (1977) 3- البنك الإسلامي للسودان الغربي السودان (1981) 4- بنك التضامن الإسلامي السودان (1981) 5- بنك قطر الإسلامي الدوحة – قطر (1983) 6- البنك الإسلامي الدولي الدانمارك (1983) 7- بنك بنجلاديش الإسلامي دكا – بنجلاديش (1983) 8- البنك الإسلامي السوداني الخرطوم – السودان (1983) وتمثل التواريخ المحصورة بين هلالين تاريخ تأسيس كل بنك منها. إذا رجعنا إلى الاستجابات نجد أن بنكًا واحدًا قد أجاب على البنود التسعة (بما فيها المعلومات العامة) الواردة في الاستبيان، وقد تحاشت معظم البنوك الإسلامية إعطاء معلومات عن بعض المسائل الحيوية، وقدمت ستة بنوك معلومات عن العمليات البنكية، في حين لم تزد البنوك التي أعطت معلومات عن نسبة توزيع تسهيلاتها الائتمانية على ثلاثة، وهكذا فإن المعلومات التي أعطيت تشعر بوجود حاجة إلى مزيد منها، مع مراعاة أن هذه المعلومات تعود إلى نشاطات لا تكاد توجد لدى البنوك الإسلامية أو بعبارة أصح فإنها لا تعرف عنها شيئًا. لقد كانت العينة المقدمة من البنوك الثمانية عينة مرضية، فقد جاءت من بنوك إسلامية قديمة وأخرى حديثة، ومن بنوك إسلامية كبيرة وأخرى صغيرة، وبلغة الأرقام فإن البنك الإسلامي الأردني بفروعه الأحد عشر كان الأول في هذه العينة، وجاء بعده بنك فيصل الإسلامي المصري بفروعه العشرة، علمًا بأن عدد فروع البنوك الثمانية هو تسعة وأربعون فرعًا، وجاءت العينات من ستة أقطار هي بنجلاديش، وجمهورية مصر العربية والدانمارك، والسودان وقطر والمملكة الأردنية الهاشمية بمعدل بنك واحد من كل قطر باستثناء السودان فقد شارك منها ثلاثة بنوك، ولم يغير عدم ورود ردود من كل بنوك الدولة الواحدة في نتائج الدراسة التي تمت على مستوى البنوك أفرادًا. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1085 ثالثًا: العمليات المالية لدى البنوك الإسلامية: تتم في البنوك الإسلامية معظم العمليات التي تتم في البنوك التجارية مع تعديلات هنا وهناك حيث لا تتفق بعض العمليات مع أحكام الشريعة الإسلامية، أما العمليات فتشمل: قبول الودائع للحفظ أو الاستثمار، ومنح القروض والتسهيلات الائتمانية حسب أحكام الشريعة، وشراء العملات الأجنبية وبيعها، كذلك فتح الاعتمادات المستندية وتحصيل قيمة السحوبات وخصم الكمبيالات وقبول بوالص الشحن وغير ذلك على أساس استيفاء عمولة، وتقوم البنوك التجارية المعاصرة بمعظم هذه الأعمال بفائدة يتفق عليها، في حين تقوم بها البنوك الإسلامية بطريقة لا تتعارض مع أحكام الشريعة، مثلًا تشتري البنوك الإسلامية وتبيع العملات الأجنبية والسبائك الذهبية بالسعر السائد فحسب. ويسهل تمييز البنوك الإسلامية من البنوك المعاصرة التي تتعامل بالفائدة حيث يظهر في ميزانية البنوك الإسلامية وفي جانب الموجودات بالذات عدد من عمليات الائتمان التي تقرها الشريعة الإسلامية (مما لا تعرفه البنوك التي تقوم على الفائدة) مثل عبارات المضاربة والمشاركة والمرابحة والمشاركة المتناقصة والاستثمار المباشر، والإجارة وغير ذلك، ويختلف ظهور هذه العمليات أو مزجها من بنك إسلامي إلى آخر، في حين أظهرت البنوك الثمانية التجارية المتجاوبة أنها تمارس المشاركة وتمارس سبعة منها المضاربة والمشاركة المتناقصة والاستثمار المباشر. ومن عجب أن خمسة بنوك فحسب تمارس المرابحة في أعمالها البنكية، في حين أنها وسيلة ائتمان شائعة بين البنوك الإسلامية، أما الإجارة فلم يشر إلى التعامل بها سوى البنك الإسلامي الدولي – الدانمارك، والبنك الإسلامي- بنجلاديش بينما ذكر بنك فيصل الإسلامي – القاهرة - أن الدراسات الضرورية جارية لإدخال التعامل في الإجارة في المستقبل القريب. . وفيما يلي لمحة عن العمليات التي تقوم بها معظم البنوك الإسلامية: أ- المضاربة: تقوم البنوك الإسلامية بتمويل المشاريع على أساس المضاربة ويسمى البنك رب المال ويسمى المتعهد أو الملتزم مضاربًا، وهو الذي يقوم بالعمل في المشروع، ولا يتدخل البنك في تفاصيل العمل اليومية، وفي نهاية العمل يقسم الربح بين البنك والمتعهد بموجب الاتفاق السابق على حصة كل منهما، أما في حالة الخسارة فإن رب المال أي البنك يتحملها وحده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1086 ب-المشاركة: تقوم البنوك الإسلامية أيضًا بتمويل المشاريع عن طريق المشاركة كأن يتقدم متعهد أو أكثر بطلب بتمويل لمشروعهم من البنك الذي يقوم وحده أو بمشاركة آخرين بتأمين الأموال اللازمة الكافية، ويكون لجميع الأطراف بما فيهم البنك حق الإدارة والإشراف على المشروع، ولهم أو لأي واحد منهم الحق في أن يتخلى عن هذا الحق، أما الأرباح فتوزع بين الشركاء حسب النسب المتفق عليها والتي لا يشترط أن تكون مماثلة لنسبة ما دفعه كل شريك من الأموال، أما الخسارة فيشترط أن يتحملها الشركاء بنسبة ما أسهم فيه كل منهم في رأس المال. جـ- البيع الآجل: تقوم البنوك الإسلامية بتمويل التجارة على أساس البيع الآجل إذ يوافق البنك على بيع حاجة معينة بسعر يتفق عليه يسدد بعد أجل معين، ويقوم البنك بتسليم الحاجة (البضاعة) إلى عميله الذي يصبح صاحب الحق الأوحد في التصرف بتلك البضاعة، ويكون السعر الذي يحدده البنك عادة شاملًا لكلفة البضاعة على البنك مضافًا إلى ذلك نسبة من الربح، ويقوم العميل بعد انقضاء الوقت المقرر بدفع المبلغ المتفق عليه وقد يتساهل البنك مع عملائه فيسمح لهم بتقسيط الدفع بالشكل الذي يتفق عليه الطرفان معًا. د- المرابحة: تتم هذه الطريقة بأن يطلب العميل إلى البنك أن يشتري له منفعة أو حاجة مقابل ربح معين وأجل معين للتسديد، وتقوم معظم البنوك الإسلامية باتباع هذا الأسلوب -أي المرابحة- في شراء الخامات والبضائع والآلات والمواد الأخرى والتجهيزات بسعر ما، ثم تبيعها للعميل على أساس "الكلفة مضافًا إليها نسبة من الربح تم الاتفاق عليها". هـ- الإجارة: تتم هذه العملية بأن تملك البنوك الإسلامية عمارات أو آلات أو تجهيزات وتؤجرها للعملاء مقابل أجر يتفق عليه، وتسمى العملية إجارة، ولها شروط تقرر بالاشتراك مع المستأجر. و الإقراض برسم التمليك: هذه طريقة أخرى من التعامل تقوم بها البنوك الإسلامية، وهي وجه آخر من أسلوب الإجارة السابق، يتملك البنك أشياء منقولة أو غير منقولة ويؤجرها للعميل مقابل تعهد الأخير بأن يدفع أقساطًا متساوية في آجال معينة ولمدة يتفق عليها في حساب توفير يفتحه البنك لهذه الغاية، ويعطي البنك تفويضًا بحق استثمار موجودات الحساب، ويمكن إضافة الأرباح إلى هذا الحساب وعندما تتكامل الأقساط يلغي العقد وتنتهي الإجارة وتنقل الملكية من البنك إلى العميل. ز- القرض الحسن: تقوم البنوك الإسلامية بهذه الخدمة الاجتماعية بأن تمنح أموالًا بدون فائدة للأفراد، وتسمى هذه التسهيلات قرضًا حسنًا، وتتحرى البنوك الإسلامية أن تكون القروض هذه لمن هم بحاجة إلى مساعدة ودعم تمكينًا لهم من إعادة تأهيل أنفسهم ماديًا. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1087 رابعًا: تصنيف أهمية عمليات الائتمان: يمكننا القول بأن البنوك الإسلامية تمتاز من نظائرها من البنوك والمؤسسات المالية التقليدية بأنها تؤدي خدمات مالية جديدة لعملائها وتظهر هذه العلاقات الجديدة بشكل بارز في جانب الموجودات (منه) في ميزانياتها أي في حقل الجهات التي تقدم لها القروض، وقد بينا في الفصل السابق ممارسات البنوك الإسلامية بهذا الخصوص، وقد يهم البعض أن يعرفوا مدى تواتر استعمال وسائل الائتمان المختلفة لدى سائر البنوك الإسلامية، ومراعاة لذلك فقد طلب إلى البنوك الإسلامية أن تزودنا بمعلومات عن مدى تواتر استعمال هذه الوسائل، وكان الاستبيان شاملًا لست من هذه الوسائل الائتمانية: هي المضاربة والمشاركة والمرابحة والإجارة والاستثمار المباشر وصناديق التمويل المشتركة. وقد طلب إلى البنوك الإسلامية أن تزودنا بشكل خاص بكشف من سنة كاملة تبين فيه المبالغ الموظفة في كل نوع من أنواع الإقراض وعدد العمليات التي تمت في كل نوع، وقد حصلنا على المعلومات المطلوبة من ستة بنوك إسلامية كما يظهر في الكشف الإحصائي رقم (1) وكانت المعلومات المقدمة من البنك الإسلامي الأردني أكثرها تفصيلًا، وكان البنك في أول نشأته يتعامل بعمليات تقرها الشريعة الإسلامية هي المضاربة والمشاركة والمرابحة ومنذ سنة 1981 أضاف التعامل في الاستثمار المباشر، ثم أدخل التعامل في صناديق التمويل المشتركة منذ سنة 1983. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1088 جدول رقم (1) تصنيف أهمية المرابحة بين وسائل الائتمان لدى البنوك الإسلامية المختارة سنة 1984 اسم البنك النسبة المئوية لعملية المرابحة من أصل جميع التمويل المخصص 1- البنك الإسلامي الأردني 72.00 2- البنك الإسلامي بنجلاديش 65.3 3- بنك السودان الإسلامي 53.6 4- بنك التضامن الإسلامي 61.4 5- بنك قطر الإسلامي 97.7 المصدر: من المادة المبينة في الكشف الإحصائي رقم (1) ويلاحظ أن المرابحة تتقدم جميع وسائل الائتمان لدى البنك الإسلامي الأردني وإن كانت قد تراجعت قليلًا مع مرور الزمن لأنها كانت تمثل 84 % من التسهيلات في سنة 1980، أما حصة المضاربة من مجموع التسهيلات لدى نفس البنك فكانت قليلة متدنية، فقد كانت النسبة المئوية لسنتي 1981 و 1982 بمعدل 4.9 % و 3 % على التوالي، وفيما عدا هاتين السنتين فقد تدنت نسبة المضاربة إلى أقل من 2 % وبالمقارنة مع المضاربة نجد أن المشاركة كانت أحسن حظًا فقد كانت نسبتها تتراوح حول 7 % بانتظام. أما الاستثمار المباشر فكان 10 % من مجموع التسهيلات، وقد أدخل البنك مؤخرًا حساب صناديق التمويل المشتركة التي ارتفعت حصتها من 2 % من مجموع التسهيلات سنة 1983 إلى 4 % سنة 1984. أما بنك بنجلاديش الإسلامي والذي يتعامل بشكل رئيسي في المشاركة والمرابحة مع شيء يسير من التعامل في عمليات أخرى غير محددة، فقد ارتفعت نسبة المرابحة من 50 % سنة 1983 إلى 65? سنة 1984، وكذلك يظهر تقدم المرابحة بشكل أوضح في عدد العقود السنوية، فبينما كان مجموع عقود التمويل سنة 1984 هو 2244 عقدًا كانت حصة المرابحة 2156 عقدًا منها أي ما نسبته 96 % أما المشاركة فقد كان لها 85 عملية شكلت 23 % من مجموع التمويل لسنة 1984. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1089 وكذلك برز تقدم المرابحة لدى بنك قطر الإسلامي، بل يكاد هذا البنك يحصر تعامله في المرابحة، فمنأصل 230 عقدًا أجراها سنة 1983 كانت حصة المرابحة 229 عقدًا منها تشكل 87 % من مجموع المخصصات التمويلية، والباقي لعملية مشاركة واحدة، وفي سنة 1984 كان للمرابحة 665 عقدًا من أصل 667 عقدًا وللمشاركة عقدان. أما في البنوك الإسلامية في السودان فيبدو أن المشاركة كانت مرغوبة أكثر، فقد أجرى بنك التضامن الإسلامي سنة 1983، (269) عملية كانت حصة المشاركة حوالي 48 % منها تمثل 56 % من مجموع التمويل لتلك السنة، ولكن هاتين النسبتين قد تدنتا إلى 29 % و 37 % على التوالي سنة 1984 حسب المعلومات المتيسرة، وقد برزت أهمية المرابحة لدى بنك التضامن الإسلامي خلال سنتين، فبلغت نسبتها 70 % من حيث عدد العمليات و 61 % من حيث المخصصات التمويلية، أما عمليات المضاربة لدى بنك التضامن الإسلامي فقد كانت أربع عمليات لم تحقق أية أهمية نسبية. أما البنك الإسلامي السوداني فقدم معلوماته عن سنة واحدة هي سنة 1984 تظهر فيها استعمالات متنوعة لثلاث وسائل ائتمان رئيسية، فقد تمت لديه في تلك السنة 14 عملية مضاربة مثلت 3 % من مجموع عدد العمليات و 3 % من مجموع المخصصات المالية، أما الباقي فكان للمشاركة 43 % من المخصصات، وللمضاربة 53 % من تلك المخصصات. تشير الأدلة المتوفرة بأن المرابحة أكثر شيوعًا وأكثر ظهورًا بين وسائل الائتمان لدى البنوك الإسلامية موضوع الدراسة، وقد تبينت الأهمية النسبية للمرابحة في مجموع العمليات المالية لخمسة بنوك إسلامية في جدول رقم (1) الذي يتحدث عن نفسه. (1) ويمكن أن نفترض بعض المبررات لتقدم وسيلة المرابحة على غيرها من وسائل الائتمان لدى البنوك الإسلامية، ومثالًا على ذلك يمكن القول: (1) المرابحة أقرب من غيرها إلى التمويل قصير الأجل، (2) لأنها انسب للتمويل التجاري الذي تنصب فيه معظم أموال الإقراض لدى البنوك الإسلامية، (كما سنرى فيما بعد) (3) تعتبر المرابحة وسيلة ائتمان سهلة الاتباع وأن "قانون الإبهام" أيسر للتطبيق فيها، (4) توجد عوائق إدارية واقتصادية وقانونية في التعامل مع الوسائل الأخرى خصوصًا المضاربة على نطاق واسع وغيرها، على أن هذه تبقى مجرد فرضيات ما لم نحصل على معلومات أوفر تجعل منها حقائق مقبولة. . خامسًا: التوزيع القطاعي للتمويل: من الطبيعي أن نسأل حول العمل المصرفي الإسلامي هذا السؤال: ما هي القطاعات الاقتصادية التي تفيد من النظام المصرفي الإسلامي، وإن نظرة إلى التوزيع القطاعي لمجمل التمويل الذي تقدمه البنوك الإسلامية يلقي بعض الضوء –على هذا السؤال- لذلك طلبنا إلى البنوك الإسلامية أن تزودنا بقيمة المبالغ التي منحتها لمختلف القطاعات في مختلف الأعوام، لهذا الغرض قسمت البنية الاقتصادية إلى خمسة قطاعات رئيسية هي الصناعة الخفيفة والزراعة والإنتاج الصناعي والعقارات والإنشاءات، والتجارة، ولم يصلنا سوى ثلاثة ردود لهذا السؤال، وعلى الرغم من قلة عدد البنوك التي تجاوبت معنا إلا أننا سنورد هذه الردود آملين أن يوفر ذلك بعض المعلومات عن هذه المسألة التي لم يتوفر لها إلا القليل من الأدلة الملموسة. .   (1) قدم بنك فيصل الإسلامي – القاهرة – معلومات عن نسبة توزيع العمليات المالية المختلفة ولكن تلك المعلومات كانت إجمالية جدًا، لذلك لم تدخل في تحليلاتها هذه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1090 جدول رقم (2) التوزيع القطاعي للتمويل في البنوك الإسلامية المختارة 1984 والنسبة المئوية من مجموع التمويل الممنوحة إلى اسم البنك الزراعة الإنتاج الصناعي الصناعة الخفيفة العقارات والإنشاءات التجارة البنك الإسلامي الأردني 0.35 39.79 1.00 25.87 32.79 بنك قطر الإسلامي -- -- -- 9.35 90.34 بنك بنجلاديش الإسلامي 0.83 26.10 -- -- 73.07 المصدر: من المعلومات الواردة في الكشف الإحصائي رقم (2) الجدول رقم (2) يمثل التوزيع القطاعي للتمويل لدى ثلاث بنوك إسلامية هي البنك الإسلامي الأردني وبنك قطر الإسلامي وبنك بنجلاديش الإسلامي لسنة 1984، وقد ظهرت المعلومات المفصلة في الكشف الإحصائي رقم (2) وإن نظرة سريعة إلى جدول رقم (2) تبين أن قطاعات الإنتاج، والعقارات، والإنشاءات، والتجارة تستنزف معظم مخصصات التمويل لدى هذه البنوك الإسلامية، وللتجارة منها حصة الأسد، ففي بنك قطر الإسلامي استهلك 99 % من الأموال المقرضة في حقلي التجارة والعقارات، للأخيرة 9 % وللتجارة 90 %، وفي بنك بنجلاديش استهلكت التجارة والإنتاج الصناعي 99 % أيضًا، منها 73 % لقطاع التجارة، 26 % لقطاع الإنتاج، أما في البنك الإسلامي الأردني فكان التوزيع أعدل إذ نال قطاع العقارات والإنشاءات حوالي ربع أموال التسهيلات الائتمانية، ووزع الباقي بشكل مقبول بين الإنتاج الصناعي والتجارة أما الزراعة فنالت حصة لا تكاد تبين من مجموع الأموال المقرضة. أما التوزيع الزمني لتمويل هذه القطاعات في البنوك الثلاثة، فيظهر في الكشف الإحصائي رقم (2) وهو بنفس النسبة في بنك قطر الإسلامي وبنك بنجلاديش الإسلامي لأنهما تأسسا سنة 1983، حيث بقيت نسبة التوزيع في سنة 1984 كما كانت في سنة التأسيس، أما في البنك الإسلامي فقد ظهرت تغييرات واضحة من سنة إلى أخرى خلال المدة 1980 – 1984 في نسبة توزيع التمويل على القطاعات المختلفة المذكورة في جدول رقم (2) فالتجارة مثلًا كانت حصتها 73 % في سنة 1980 وبدأت تتناقص هذه الحصة تدريجيًا بشكل رتيب ومنتظم بحيث وصلت إلى 32 % من مجموع التسهيلات الائتمانية في سنة 1984 على الرغم من أن التجارة لا تزال في المقدمة من حيث عدد العقود المبرمة أو المبالغ المستهلكة، أما الصناعات الخفيفة والزراعة فلم يتهيأ لهما تمويل عال وكانت حصتهما تتراوح بين 1 % و2 % من مجموع التسهيلات، بينما ارتفعت قيمة الأموال التي استهلكها قطاع العقارات والإنشاءات حتى سنة 1983 عندما حققت نسبة تزيد على ثلث التسهيلات عامة في حين كانت النسبة 13 % سنة 1980، ثم أخذت في التناقص، أما قطاع الإنتاج الصناعي فكانت حصته من مجموع التمويل تتزايد باستمرار من حيث عدد العمليات أو في القيمة المطلقة أو في نسبة ذلك إلى مجموع التسهيلات الائتمانية. إن التمويل الذي يمنحه أي بنك لأي قطاع يعتمد بالدرجة الأولى على عاملين هما أسلوب التمويل، والمدة المقررة للتسديد، وتشير البيانات المقدمة من البنوك الإسلامية أن التجارة تمول عن طريق المرابحة، في حين تلجأ البنوك لتمويل قطاع الإنتاج الصناعي عن طريق المشاركة، ولما كانت حاجات التجارة قصيرة الأمد بطبيعتها، فقد نجحت البنوك الإسلامية في تلبية تلك الحاجات بالرجوع إلى أسلوب المرابحة، هذا ولم يتبلور حتى الآن أسلوب المضاربة في الائتمان، وعندما تتيسر الوسائل والطرائق لإزالة العوائق المبدئية الحائلة دون تطبيق عقود المضاربة بنجاح، فإن البنوك الإسلامية تستطيع حينئذ تنويع عمليات الائتمان قطاعيًا وتلبية حاجة كل من قطاعي الزراعة والصناعات الخفيفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1091 سادسًا: آجال التسهيلات الائتمانية: تعتبر جدولة آجال التمويل عاملًا هامًا في تقييم أي نظام بنكي، ونعني بجدول الآجال التوزيع الزمني المخصص للتمويل، أي ما طول مدة التمويل التي يمنحها البنك لأي عملية محددة، ومن المسلم به أن الحاجة للتمويل تختلف من وحدة إلى أخرى، كما يختلف الوقت الممنوح من قطاع إلى آخر وقد اتفق على تصنيف آجال التسهيلات الائتمانية على النحو التالي: (1) التمويل قصير الأجل جدًا، ولا يزيد أجل القرض على بضعة أيام أو بضعة أسابيع (2) التمويل قصير الأجل الذي تقل مدته عن 90 يومًا (3) التمويل متوسط الأجل الذي تتراوح مدته بين 3 أشهر إلى 6 أشهر – (4) التمويل طويل الأجل والذي قد تمتد فترته من سنتين إلى عشر سنوات أو أكثر. وتحقيقًا للرغبة في معرفة الآجال التي تمنحها البنوك الإسلامية لعملياتها الائتمانية المختلفة فقد أدرجنا طلب ذلك ضمن الاستبيان المرسل لها، وحددنا الآجال في الاستبيان ولغايات إحصائية بستة أنواع (1) لمدة ثلاثة أشهر (2) لمدة 6 أشهر أو أكثر من 3 أشهر (3) لسنة أو أقل ولكن أكثر من 6 أشهر (4) لسنتين (5) لثلاث سنوات (6) لمدة تزيد على 3 سنوات. وقد جاءتنا ردود من أربعة بنوك هي: بنك قطر الإسلامي، والبنك الإسلامي الدولي – الدانمارك، وبنك بنجلاديش الإسلامي، والبنك السوداني الإسلامي، وتظهر المعلومات المتقدمة منهم في الكشف الإحصائي رقم (3) ويرجى ملاحظة أن هذه البنوك الأربعة جميعها قد تأسست سنة 1983، مما يحصر المعلومات في سنتي1983 و 1984، أما البنوك الأقدم فلم تتجاوب لسوء الحظ مع هذا السؤال. وكما يظهر من المعلومات المقدمة فإن معظم البنوك الإسلامية تتعامل إما في التمويل قصير الأجل لثلاثة أشهر أو أقل، أو تتعامل في التمويل متوسط الأجل لمدة سنة أو أقل، ولم يمنح بنك قطر أية قروض لمدة سنتين، في حين منحت البنوك الثلاثة الأخرى قروضًا تزيد آجالها على سنتين ولكنها لا تشكل نسبة عالية في مجموع المبالغ المقرضة، ويمكن القول بأن البنوك الإسلامية بوجه عام لا تميل إلى القروض طويلة الأجل، بل تحصر تعاملها في القروض قصيرة الأجل أو متوسطة الآجال. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1092 سابعًا: الخلاصة: تشمل هذه الورقة معلومات هامة عن توزيع التسهيلات الائتمانية التي تمنحها البنوك الإسلامية من مضاربة أو مرابحة أو مشاركة أو إجارة أو استثمار مباشر أو صناديق التمويل المشتركة، ويبدو أن المرابحة والمشاركة والاستثمار المباشر هي أكثرها شيوعًا لدى البنوك موضوع الدرس، وتبقى المرابحة متقدمة على بقية وسائل التمويل والائتمان لدى البنوك الإسلامية التي تمت دراسة أوضاعها وهذا التقدم يشمل كل عمليات الائتمان من حيث عددها ومن حيث قيمة التمويل الممنوحة، وتحل المشاركة في المحل الثاني من الأهمية. أما المضاربة فحصتها من التمويل قليلة ومتدنية جدًا، وعلى الرغم من قلة الأدلة المحسوسة إلا أن ما توصلنا إليه يدل على أن عمليات المرابحة هي المسيطرة في حقل التجارة، وأن المشاركة هي المستعملة في عمليات تمويل نشاطات الإنتاج الصناعي، ولما كانت المضاربة أميل إلى القروض طويلة الأجل وهي العمليات التي لم تمارسها البنوك الإسلامية حتى الآن، لذلك كان التعامل بها في الوقت الحاضر، وفي أحسن الحالات محدودًا، أما استعمال المضاربة على نطاق أوسع في عمليات التمويل فإنه يستدعي التحقق مسبقًا من بعض الضروريات التي لا توجد في الوقت الحاضر، مثلًا تحتاج البنوك الإسلامية إذا أرادت أن تضع المضاربة موضع التنفيذ، إلى مؤسسات تقييم المشاريع فنيًا، فهي لا تمول إلا المشاريع السليمة فنيًا، ومثل هذه المقدرة الفنية لازمة أيضًا لدراسة أي مشروع مطروح للتمويل لضمان صحة التقييم، وفي بعض البلاد قد توجد موانع قانونية أمام المضاربة، ولابد كذلك من تسهيلات مناسبة لمراقبة المشروع وللتقييم متوسط الأجل، وما لم تتحقق هذه المتطلبات الأساسية هي وغيرها فإنه لا ينتظر من البنوك أن تتوسع في استعمال المضاربة كوسيلة ائتمان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1093 وقد تمت دراسة التوزيع القطاعي للتمويل بالنسبة لخمسة قطاعات رئيسية هي الزراعة، والإنتاج الصناعي، والصناعات الخفيفة، والعقارات، والتجارة، ولم تتجاوب البنوك في هذه الناحية وكانت الأجوبة في الحقيقة من ثلاثة بنوك فقط، وتم تحليل المعلومات لعلها تلقي بعض الضوء على مسار التسهيلات الائتمانية لدى البنوك الإسلامية، وأشارت المعلومات المتوفرة إلى أن معظم التمويل يتجه إلى قطاع التجارة، حيث وصلت نسبة الاستثمار في التجارة لدى بعض البنوك إلى 90 % من مجموع التمويل، وإذا جاز أن نأخذ أي بنك إسلامي مثالًا يحتذى لكل البنوك، فإن من المنتظر أن تتناقص حصة التجارة من مجموع التمويل كما حدث في البنك الإسلامي الأردني حيث ارتفعت حصة القطاعات الأخرى على حساب قطاع التجارة، فقد تبين من تجربة البنك الإسلامي الأردني، وبنك بنجلاديش الإسلامي، أنها يمولان قطاع الإنتاج الصناعي على نطاق كبير، وهذا مؤشر على صحة العمليات ويبشر بأن يزيد تمويل هذا القطاع، ونأمل مع مرور الوقت أن تتمكن البنوك الإسلامية من تعهد تمويل المشاريع بالرعاية. هناك حقلان من حقول الاقتصاد لم يصلهما إلا القليل من أموال القروض في البنوك الإسلامية، هما الزراعة والصناعات الخفيفة، وهذان القطاعان في ضوء الأوضاع الاقتصادية للأقطار الإسلامية هما أكثر القطاعات استبعادًا من قبل أصحاب الأموال المتوفرة للإقراض، فالمعلومات التي بين أيدينا تشير إلى أن حصة الزراعة والصناعات الخفيفة من مجموع التمويل لم تكن شيئًا مذكورًا، ومن الممكن تعليل عدم تحمس البنوك الإسلامية لتمويل هذين النشاطين: تغلب على البنوك الإسلامية صفة البنوك التجارية، وفي أوائل عهدها، كانت السلامة وسرعة المردود تهيمنان على سياسة الإقراض لديها وبالتالي كان تمويل الزراعة أكثر خطورة، أما الصناعات الخفيفة فمعظمها ينقصه التنظيم، وهذه العوامل تبرر ضعف التمويل الموجه للزراعة وعلى كل حال فإن هذا حقل يستطيع التمويل البنكي الإسلامي أن يثبت فيه دوره الاجتماعي والاقتصادي في دفع التنمية الاقتصادية في الأقطار الإسلامية، ولابد من تأمين بعض المتطلبات الأساسية قبل أن تتمكن البنوك الإسلامية من أداء هذا الدور، فلا بد لها من فتح فروعها في المدن الصغيرة والقرى ليسري التعامل البنكي الإسلامي في الشعب، إذ تتركز البنوك الإسلامية في الوقت الحالي في المدن الكبيرة، وقد وجهنا إلى البنوك الإسلامية في دراستنا هذه سؤالًا عن مدى رغبتهم في فتح فروع جديدة في المناطق الريفية، وكانت ردود معظمهم بالإيجاب، وقد يكون هذا دافعًا لتوجيه مصادر التمويل نحو التنمية الاقتصادية. يبقى على البنوك الإسلامية أن توجه عنايتها إلى تمويل النشاطات الزراعية فأي وسائل الائتمان تناسب حقل الزراعة؟ كيف نتغلب على عدم وضوح الرؤية بالنسبة لجودة المحصولات كمية ونوعًا في سنة ما؟ هل نطلب كفيلًا ثالثًا؟ ولابد أن تواجه هذه الأسئلة تمحيصًا وتدقيقًا قبل أن تقدم البنوك الإسلامية على تمويل الزراعة. . نأتي أخيرًا إلى آجال التسهيلات الائتمانية، حيث كشفت هذه الدراسة أن معظم البنوك الإسلامية تقرض الأموال إلى آجال تتراوح بين 6 أشهر وسنة واحدة، وليس لدى هذه البنوك حاليًا إمكانات مادية للآجال قصيرة الأمد جدًا مثل اليوم أو الأسبوع، حيث تستطيع أن تستثمر الأموال وتصفيها بسرعة حتى يلزم ذلك، وفي الحقيقة فإن تطوير مثل هذه القدرات المالية لدى البنوك الإسلامية يستلزم قيام سوق ثانوية حيث يمكن أن يتاجر من خلالها بهذه الأنواع من التمويل، والجهود قائمة لتأمين ذلك من بعض البنوك، ولن نقطف ثمرات تلك الجهود إلا بعد مدة ما، أما بالنسبة للإقراض الطويل الأجل فإنه يلاحظ أن بعض البنوك الإسلامية بدأت تميل إلى تبني ذلك الإقراض الطويل الأجل، وإلى أن يتم ذلك لابد لهذه البنوك الإسلامية من زيادة تجربتها وتطوير خبراتها. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1094 كشف إحصائي رقم (1) عمليات التمويل لدى البنوك الإسلامية 1- البنك الإسلامي الأردني السنة نوع وسيلة الائتمان مبلغ التمويل بالدينار الأردني النسبة المئوية للتوزيع 1980 عمليات المضاربة 95.092 1.40 1980 عمليات المشاركة 715.445 10.60 1980 عمليات المرابحة 5718.247 84.76 1980 الإجارة -- -- 1980 الاستثمار المباشر -- -- 1980 صناديق التمويل المشتركة -- -- 1980 عمليات تمويل أخرى 217.239 3.22 المجموع 6746.023 99.98 1981 عمليات المضاربة 704.555 4.96 1981 عمليات المشاركة 1020.280 7.18 1981 عمليات المرابحة 10046.381 70.75 1981 الإجارة -- -- 1981 الاستثمار المباشر 2093.173 14.74 1981 صناديق التمويل المشتركة -- -- 1981 عمليات تمويل أخرى 334.296 2.35 المجموع 14198.685 99.980 1982 عمليات المضاربة 806.611 3.03 1982 عمليات المشاركة 1951.251 7.34 1982 عمليات المرابحة 20323.895 76.48 1982 الإجارة -- -- 1982 الاستثمار المباشر 3194.775 12.02 1982 صناديق التمويل المشتركة -- -- 1982 عمليات تمويل أخرى 295.239 1.11 المجموع 26571.771 99.98 السنة نوع وسيلة الائتمان مبلغ التمويل بالدينار الأردني النسبة المئوية للتوزيع 1983 عمليات المضاربة 292.261 2.63 1983 عمليات المشاركة 2879.785 7.86 1983 عمليات المرابحة 29634.933 78.71 1983 الإجارة -- -- 1983 الاستثمار المباشر 2812.511 7.41 1983 صناديق التمويل المشتركة 800.000 2.12 1983 عمليات تمويل أخرى 417.759 1.25 المجموع 37591.249 99.98 1984 عمليات المضاربة 182.249 0.28 1984 عمليات المشاركة 4478.500 7.10 1984 عمليات المرابحة 45389.322 72.03 1984 الإجارة -- -- 1984 الاستثمار المباشر 9336.304 14.81 1984 صناديق التمويل المشتركة 3375.000 5.350 1984 عمليات تمويل أخرى 251.848 0.39 المجموع 63013.403 99.96 لم يقدم معلومات عن عدد العمليات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1095 2- بنك بنجلاديش الإسلامي السنة نوع وسيلة الائتمان عدد العمليات مبلغ التمويل بملايين التاكا النسبة المئوية للتوزيع 1983 عمليات المضاربة -- -- -- عمليات المشاركة -- -- -- عمليات المرابحة 60 28.20 50.42 الإجارة -- -- -- الاستثمار المباشر -- -- -- صناديق التمويل المشتركة -- -- -- عمليات تمويل أخرى 3 27.73 49.57 المجموع 63 55.93 99.99 1984 عمليات المضاربة -- -- -- عمليات المشاركة 85 106.58 23.28 عمليات المرابحة 2156 299.08 65.33 الإجارة -- -- -- الاستثمار المباشر -- -- -- صناديق التمويل المشتركة -- -- -- عمليات تمويل أخرى 3 52.13 11.38 المجموع 2244 457.79 99.99 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1096 3- البنك الإسلامي السوداني لسنة 1983 فقط السنة نوع وسيلة الائتمان عدد العمليات نسبة توزيع العمليات مبلغ التمويل بملايين الجنيه السوداني النسبة المئوية للتوزيع 1983 عمليات المضاربة 14 2.02 1.44 2.83 عمليات المشاركة 213 30.73 22.07 43.50 عمليات المرابحة 466 67.24 27.22 53.65 الإجارة -- -- -- -- الاستثمار المباشر -- -- -- -- صناديق التمويل المشتركة -- -- -- -- عمليات تمويل أخرى -- -- -- -- المجموع 693 99.99 50.73 99.99 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1097 4- بنك التضامن الإسلامي – السودان السنة نوع وسيلة الائتمان عدد العمليات نسبة توزيع العمليات مبلغ التمويل بملايين الجنيه السوداني النسبة المئوية للتوزيع 1983 عمليات المضاربة 4 0.71 0.4 0.75 عمليات المشاركة 269 47.86 29.9 56.41 عمليات المرابحة 289 51.42 22.7 47.83 الإجارة -- -- -- -- الاستثمار المباشر -- -- -- -- صناديق التمويل المشتركة -- -- -- -- عمليات تمويل أخرى -- -- -- -- المجموع 562 99.99 53.0 99.99 1984 عمليات المضاربة 4 0.570 0.5 1.33 عمليات المشاركة 206 29.42 13.9 37.16 عمليات المرابحة 490 70.00 23.0 61.49 الإجارة -- -- -- -- الاستثمار المباشر -- -- -- -- صناديق التمويل المشتركة -- -- -- -- عمليات تمويل أخرى -- -- -- -- المجموع 700 99.99 37.4 99.99 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1098 5- بنك فيصل الإسلامي – القاهرة: السنة نوع وسيلة التمويل عدد العمليات مبلغ التمويل بملايين الدولار النسبة المئوية للتوزيع 1979 عمليات المضاربة 52 9 -- عمليات المشاركة -- -- -- عمليات المرابحة -- -- -- الإجارة -- -- -- الاستثمار المباشر -- -- -- صناديق التمويل المشتركة -- -- -- عمليات تمويل أخرى -- -- -- المجموع 52 9.0 -- 1980 عمليات المضاربة 178 61.00 -- عمليات المشاركة -- -- -- عمليات المرابحة -- -- -- الإجارة -- -- -- الاستثمار المباشر -- -- -- صناديق التمويل المشتركة -- -- -- عمليات تمويل أخرى -- -- -- المجموع 178 61.0 -- 1981 عمليات المضاربة 461 124 89.46 عمليات المشاركة -- -- -- عمليات المرابحة -- -- -- الإجارة -- -- -- الاستثمار المباشر 5 11.8 8.51 صناديق التمويل المشتركة 4 2.8 2.02 عمليات تمويل أخرى -- -- -- المجموع 470 138.6 99.99 1982 عمليات المضاربة 1269 410 96.56 عمليات المشاركة -- -- -- عمليات المرابحة -- -- -- الإجارة -- -- -- الاستثمار المباشر 5 11.8 2.77 صناديق التمويل المشتركة 5 2.8 0.65 عمليات تمويل أخرى -- -- -- المجموع 1279 424.6 99.98 1983 عمليات المضاربة 2535 767 -- عمليات المشاركة -- -- -- عمليات المرابحة -- -- -- الإجارة -- -- -- الاستثمار المباشر -- -- -- صناديق التمويل المشتركة -- -- -- عمليات تمويل أخرى -- -- -- المجموع 2535 767 -- 1984 عمليات المضاربة 3464 993.0 91.22 عمليات المشاركة -- -- -- عمليات المرابحة -- -- -- الإجارة -- -- -- الاستثمار المباشر 32 95.5 8.77 صناديق التمويل المشتركة -- -- -- عمليات تمويل أخرى -- -- -- المجموع 3496 1088.5 99.99 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1099 بنك قطر الإسلامي المجموع 470 138.6 99.99 1983 عمليات المضاربة -- -- -- عمليات المشاركة 1 3.00 12.5 عمليات المرابحة 229 20.96 87.4 الإجارة -- -- -- الاستثمار المباشر -- -- -- صناديق التمويل المشتركة -- -- -- عمليات تمويل أخرى -- -- -- المجموع 23 23.96 99.9 1984 عمليات المضاربة -- -- -- عمليات المشاركة 2 0.994 2.20 عمليات المرابحة 665 44.176 97.79 الإجارة -- -- -- الاستثمار المباشر -- -- -- صناديق التمويل المشتركة -- -- -- عمليات تمويل أخرى -- -- -- المجموع 667 45.170 99.99 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1100 الكشف الإحصائي رقم (2) توزيع التمويل حسب القطاعات (أ) البنك الإسلامي الأردني السنة الأنشطة الممولة عدد الأنشطة النسبة المئوية للتوزيع المبلغ بالدينار الأردني النسبة المئوية للتوزيع 1980 الزراعة -- -- -- -- الصناعة 25 17.00 722.886 12.34 الصناعات الخفيفة 8 5.44 47.903 00.81 العقارات والإنشاءات 20 13.60 770.650 13.16 التجارة 94 63.94 4314.169 73.67 المجموع 147 99.98 5855.608 99.98 1981 الزراعة 3 1.17 157.353 1.49 الانتاج الصناعي 34 13.28 919.421 8.74 الصناعات الخفيفة 17 6.64 157.922 1.50 العقارات والإنشاءات 45 47.58 3144.356 29.89 التجارة 157 61.32 6139.772 58.36 المجموع 256 99.99 10518.824 99.98 1982 الزراعة 10 1.98 191.584 1.09 الصناعة 51 10.11 1463.768 8.33 الصناعات الخفيفة 54 10.71 412.305 2.34 العقارات والإنشاءات 81 16.07 5990.986 34.10 التجارة 308 61.11 9508.907 54.12 المجموع 504 99.98 17567.550 99.98 1983 الزراعة 30 3.88 381.002 1.39 الصناعة 56 7.24 5981.842 21.86 الصناعات الخفيفة 80 10.34 594.394 2.17 العقارات والإنشاءات 103 13.32 6816.644 24.91 التجارة 504 65.20 13586.794 49.65 المجموع 773 99.98 27360.631 99.98 1984 الزراعة 43 4.22 226.763 0.35 الصناعة 46 4.52 16818.342 39.79 الصناعات الخفيفة 105 10.32 423.957 1.00 العقارات والإنشاءات 261 25.66 10934.114 25.87 التجارة 562 55.26 13857.198 32.79 المجموع 1.17 99.98 42260.375 99.98 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1101 2- بنك قطر الإسلامي السنة الأنشطة الممولة عدد الأنشطة النسبة المئوية للتوزيع مبلغ التمويل بملايين الريال القطري النسبة المئوية للتوزيع 1983 الزراعة -- -- -- -- الصناعة -- -- -- -- الصناعات الخفيفة -- -- -- -- العقارات والإنشاءات 3 -- 4.30 20.51 التجارة 224 -- 16.66 79.48 المجموع 227 -- 20.96 99.99 1984 الزراعة -- -- -- -- الصناعة الصناعة -- -- -- -- الصناعات الخفيفة الصناعات الخفيفة -- -- -- -- العقارات والإنشاءات العقارات والإنشاءات 5 -- 4.13 9.35 التجارة التجارة 660 -- 40.40 90.64 المجموع 665 -- 44.17 99.99 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1102 3- بنك بنجلاديش الإسلامي السنة الأنشطة الممولة عدد الأنشطة النسبة المئوية للتوزيع مبلغ التمويل بملايين التاكا النسبة المئوية للتوزيع 1983 الزراعة 1 -- 4.00 7.15 الانتاج الصناعي -- -- -- -- الصناعات الخفيفة -- -- -- -- العقارات والإنشاءات -- -- -- -- التجارة 62 -- 51.93 92.84 المجموع 63 -- 55.93 99.99 1984 الزراعة 1 -- 3.60 0.38 الانتاج الصناعي 85 -- 106.58 26.10 الصناعات الخفيفة -- -- -- -- العقارات والإنشاءات -- -- -- -- التجارة 2142 -- 299.08 73.07 المجموع 2228 -- 409.26 100 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1103 الكشف الإحصائي رقم (3) جدول آجال التمويل 1- بنك قطر الإسلامي: السنة أجل القرض عدد العمليات المبالغ المخصصة بملاين الريال القطري النسبة المئوية للتوزيع 1983 3 أشهر أو اقل 139 6.907 32.94 ستة أشهر أو أقل ولكن أكثر من 3 أشهر 87 9.758 46.54 سنة أو أقل 33 4.299 20.50 سنتان -- -- -- ثلاث سنوات -- -- -- أكثر من ثلاث سنوات -- -- -- المجموع 229 20.964 99.98 1984 3 أشهر أو اقل 580 21.577 48.84 6 أشهر أو أقل ولكن أكثر من 3 أشهر 80 18.577 42.10 سنة أو أقل 5 4.135 9.06 سنتان -- -- -- ثلاث سنوات -- -- -- أكثر من 3 سنوات -- -- -- المجموع 665 44.176 100.00 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1104 البنك الإسلامي الدولي – الدنمارك السنة آجال القروض النسبة المئوية 1983 النسبة المئوية للتوزيع 1984 3 أشهر أو اقل 10 20 6 أشهر أو أقل 30 30 سنة واحدة أو أقل 50 40 سنتان 10 10 ثلاث سنوات -- -- أكثر من 3 سنوات -- -- المجموع 100 100 لم تتوفر معلومات مطلقة عن عدد العمليات أو المبالغ المستغلة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1105 3- البنك الإسلامي – بنجلاديش عن سنة واحدة فقط السنة آجال القروض عدد العمليات النسبة المئوية للتوزيع المبالغ المستعملة بملايين التاكا النسبة المئوية للتوزيع 1983 3 أشهر أو اقل -- -- -- -- 6 أشهر أو أقل 125 6.25 10.50 3.51 سنة واحدة أو أقل 1050 52.50 160.00 53.49 سنتان 825 41.25 128.58 42.99 ثلاث سنوات -- -- -- -- أكثر من 3 سنوات -- -- -- -- المجموع 2000 100 299.08 99.99 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1106 4- البنك الإسلامي السوداني لسنة واحدة فقط السنة آجال القروض عدد العمليات النسبة المئوية للتوزيع مبلغ التمويل بملايين الجنيه السوداني النسبة المئوية للتوزيع 1984 3 أشهر أو اقل 464 54.78 20.06 37.18 6 أشهر أو أقل 213 25.14 18.91 35.05 سنة واحدة أو أقل 145 17.11 12.34 22.87 سنتان 23 2.71 2.51 4.65 ثلاث سنوات 2 0.23 0.13 0.24 أكثر من 3 سنوات -- -- -- -- المجموع 847 99.97 53.95 99.99 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1107 مناقشة البحوث المرابحة للآمر بالشراء الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. نستأنف الجلسة الصباحية والتي سيكون محل بحثها إن شاء الله تعالى " بيع المرابحة " وقبل الدخول في ذلك أعطي الكلمة لفضيلة الأمين العام الشيخ الحبيب. الأمين العام: بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. عندما رفعنا الجلسة من أجل الاستراحة سألني بعض الأخوة ممن طلبوا الكلمة للتعقيب على الموضوع الذي كنا بصدد بحثه وهو "الوفاء بالوعد" الذي أريد أن أذكر به إخواني أن الموضوعين، موضوع "الوفاء بالوعد " وموضوع "المرابحة للآمر بالشراء" يكادان يكونان موضوعًا واحدًا، لأن أحدهما مترتب على الآخر، وإنما بحث موضوع الوعد ليكون تمهيدًا للموضوعات التي تأتي من بعده، فآمل أن يكون هذا مجليًا لتأخير إعطاء الكلمة وإسنادها، ويمكنهم بإذن الله مع بقية الإخوان الذين يريدون التعقيب على الموضوع الثاني وهو المرابحة، أن يأخذوا الكلمة إثر العرض الذي سيكون بالنسبة للموضوع الخامس والجلسة الخامسة. وشكرًا لكم. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1108 الدكتور علي أحمد السالوس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وبعد، فعندما قامت المصارف الإسلامية جعلت شعارها قول الحق تبارك وتعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: (275) ] ورأت في بيع المرابحة للآمر بالشراء بديلًا عن الإقراض الربوي الذي تقوم به البنوك الربوية، وثار الجدل ولا يزال حول مشروعية هذا البيع كما تجريه المصارف الإسلامية، فذهب فريق من فقهاء العصر إلى أن هذا البيع لا يختلف في جوهره عن بيع المرابحة المعروف في الفقه الإسلامي كنوع من بيوع الأمانة. وذهب آخرون إلى أن منهج البنوك الإسلامية في هذا المسمى بالبيع لا يختلف عن منهج البنوك الربوية في الإقراض الربوي، واستدل كل فريق بأدلة كثيرة رأيناها في الأبحاث المقدمة كما رأينا هذا أيضًا في الصحف، والمجلات، كما نشر أكثر من كتاب يبحث هذا الموضوع. ومن الفتاوى الجماعية المبكرة في هذا الموضوع ما صدر عن المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي الذي عقد بدبي سنة 1399هـ (1979) أي بعد أربع سنوات من ظهور أول مصرف إسلامي، ونص الفتوى هو ما يلي: "يطلب العميل من المصرف شراء سلعة معينة، يحدد جميع أوصافها، ويحدد مع المصرف الثمن الذي سيشتريها به العميل بعد إضافة الربح الذي يتفق عليه بينهما، وهذا التعامل يتضمن وعدًا من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها، ووعدًا آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء طبقًا لذات الشروط، ومثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقًا لأحكام المذهب المالكي، وملزم للطرفين ديانة طبقًا لأحكام المذاهب الأخرى، وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك، وأمكن للقضاء التدخل فيه". ولعل المؤتمر لم يأخذ حظه من الإعداد الكافي، والفتوى ينقصها الدقة، فبيع المرابحة كما تجريه المصارف الإسلامية لا يجيزه المذهب المالكي، فضلًا عن أن يلزم به وعارض الفتوى كثير ممن حضروا المؤتمر وممن لم يشاركوا فيه، ومع هذا فالمؤتمر يعد خطوة أسهمت في مناقشة الموضوع من جوانبه المختلفة، ومهدت لعقد مؤتمرات أخرى للمصارف الإسلامية ولغيرها. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1109 وبعد أربع سنوات، أي سنة 1403 هـ عقد المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي، بعد إعداد جيد، وكتابة قدر كاف من الأبحاث، ودعوة عدد كبير من فقهاء العصر ورجال الاقتصاد، وكان لبيع المرابحة النصيب الأوفى من البحث والمناقشة، وأصدر المؤتمر فتوى من جزأين: الجزء الأول صدر بالإجماع، والجزء الثاني اشتد حوله الخلاف، ولم يمكن الجمع بين الآراء المتعارضة، فصدر تبعًا لرأي الفريق الأكثر عددًا. والجزء الأول من الفتوى هو: "يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء: بعد تملك السلعة المشتراة للآمر، وحيازتها، ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق، هو أمر جائز شرعًا طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسئولية الهلاك قبل التسليم، وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي" هذا هو الجزء الذي صدر بإجماع من حضر هذا المؤتمر. والجزء الثاني من الفتوى هو خاص بالنسبة للوعد والخلاف حوله ظهر كما ظهر الآن. والجزء الأول من الفتوى كان له أثره الكبير في مسيرة المصارف الإسلامية، وفي قرارات هيئات الرقابة الشرعية المختلفة، وفي صياغة العقود لكثير من المصارف. أما الجزء الثاني فلا يزال الخلاف حوله قائمًا وقد رأيناه في الجلسة السابقة. والجزء الأول وإن صدر بإجماع المشاركين غير أننا وجدنا من غيرهم من يعارضه وفي انتظار قرار المجمع الموقر في دورته هذه حتى يجتمع الجميع إن شاء الله على هدى وبصيرة. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1110 ولعل الضوابط الشرعية التي ذكرت في هذا الجزء من الفتوى تعتبر الحد الأدنى اللازم ليكون البيع مقبولًا شرعًا، إلا أنني وجدت بعض المصارف الإسلامية لم تلتزم بهذه الضوابط في التطبيق العملي مع موافقتها على الفتوى، ووجدت في التطبيق العملي أيضًا أمورًا أخرى رأيت أن أعرضها على مجمعكم الموقر ليقول فيها رأيه إسهامًا في تصحيح مسار المصارف الإسلامية، وابدأ بتقديم نموذجين لعقود الوعد بالشراء وبيع المرابحة، وكل نموذج تم التعامل به في مصرف إسلامي أو أكثر. النموذج الأول: نجد من مواده في عقد وعد بالشراء: وعد الطرف الثاني –وهو العميل- الطرف الأول –أي المصرف- بشراء البضاعة المبينة وإبرام عقد البيع والشراء بمجرد تسلم وكيل الطرفين الناقلين للبضاعة من المستفيد، فاعتبر أن مجرد التسليم هذا يعتبر عقدًا وليس بعد هذا يعقد العقد، وفي المادة الثالثة قال: يعتبر الناقلون بصفتهم وكلاء عامين للنقل، وكلاء للطرفين بتسلم البضاعة اعتبارًا من وقت تسلمها وحتى ميناء الوصول طبقًا لشروط الاعتماد المستندي، وفي المادة الرابعة يتحمل الطرف الثاني نتائج أية طوارئ، الطرف الثاني الذي طلب الشراء، والذي يتحمل نتائج أية طوارئ قد تتعرض لها البضاعة بعد تسلمها من المستفيد، وفي المادة السادسة: يلتزم الطرفان بإبرام عقد المرابحة النهائي المتعلق بهذا الوعد بمجرد إبلاغ المستفيد أحد الطرفين بتسلم البضاعة، وفي المادة الثامنة: إذا امتنع المصدر الذي عينه الطرف الثاني عن تنفيذ الصفقة أو أخرها عن موعد التسليم المتفق عليه لا يكون الطرف الأول وهو المصرف مسئولًا عن أي ضرر يعود على الطرف الثاني الذي عليه أن يدفع كافة المصاريف التي تحملها الطرف الأول من جراء عدم تنفيذ المصدر وفي هذه الحالة لا يعتبر الطرف الأول مخلًا بالوعد. وفي عقد المرابحة ينص البند الرابع: تم التوقيع على هذا العقد من قبل الطرفين بعد تسليم البضاعة من قبل المستفيد إلى وكيل الطرفين (الناقلين) ويكون العقد نافذًا من تاريخه وتصبح البضاعة ملكًا للطرف الثاني وتحت مسئوليته، وفي المادة الخامسة: حيث أن الطرف الثاني هو الذي اختار وحدد مواصفات البضاعة فإن الطرف الأول ليس مسئولًا عن أي نقص في البضاعة أو اختلاف في مواصفاتها وأن مسئولية ذلك تقع على عاتق الطرف الثاني –أي العميل- طبقًا لما هو متعارف عليه دوليًا، -هذا بالنسبة للاعتماد المستندي في البنوك الربوية -، وفي المادة الثامنة: في حالة امتناع الطرف الثاني عن تسلم المستندات الوارد ذكرها في البند السابق أو تسلم البضاعة فمن حق الطرف الأول بيعها بالسعر السائد في حينه في بلد الوصول أو أي مكان آخر حسب ما يراه الطرف الأول ولحساب الطرف الثاني، أي أن يبيع لحساب الطرف الثاني وليس لحساب المصرف. وهكذا وجدنا في هذا العقد أن الأساس عندما يرغب أحد في استيراد سلع عن طريق الاقتراض من بنك ربوي فإنه يتفق مع البنك على القرض وفائدته، أي الربا الذي يلتزم به تبعًا للزمن المتفق عليه، ويقوم البنك بفتح اعتماد مستندي للمقترض، ويستورد السلعة لحسابه، أي أنها تكون ملكًا للمقترض، غير أن المستندات تأتي للبنك ويسلمها للعميل بعد اتخاذ ما يراه من إجراءات، ويمكن أن تظل البضاعة رهنًا إلى أن تتم هذه الإجراءات، والبنك الربوي هنا يتعامل في مستندات تطابق شروط فتح الاعتماد، والتزامه يقف عند هذه المستندات ولا يتعداها إلى السلعة ذاتها.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1111 وعندما قامت المصارف الإسلامية ورأت أن البديل الإسلامي كما سبق ذكره أن تقوم هي باستيراد السلعة لحسابها، ثم تبيعها بالأجل عن طريق بيع المرابحة فإنها تشتري لنفسها وتفتح الاعتماد المستندي لها وتتحمل تبعة الهلاك قبل التسليم وتبعة الرد بعد التسليم، لكن وجدنا هنا أن المصرف يبيع قبل أن يحوز ورأينا أن العميل هو الذي يتحمل تبعة الهلاك قبل التسليم، ورأينا كذلك أنه حتى لو لم يتم تنفيذ العملية ونقول بأنه إلزام للوعد، أن البنك يكون مسئولًا عن الضرر، وجدنا أن العميل هو الذي يتحمل المصاريف التي دفعها المصرف، ولذلك لا أرى في هذا العقد أي فرق بين البنك الإسلامي والبنك الربوي حيث أنه يتعامل في مستندات فقط ولا يتعامل في سلعة، وإنما الذي يتحمل السلعة هو العميل. هذا نموذج أوردته دون ذكر اسم البنك، ثم عرضت بعد ذلك النموذج الثاني وهو لمصرف قطر الإسلامي والنموذج بين أيدي حضراتكم ونلاحظ فيه أن عقد البيع لا يتم إلا بعد وصول البضاعة والمستندات وينص على هذا صراحة في الوعد وفي العقد، ففي الوعد: وعد الطرف الثاني "العميل" الطرف الأول "المصرف" بشراء البضاعة المبينة آنفًا وإبرام عقد البيع والشراء بمجرد إعلام الطرف الأول الطرف الثاني بأن البضاعة جاهزة للتسليم أو وصلت إلى ميناء كذا.. ووردت مستنداته، ولا يتم البيع إلا في هذه الحالة، وفي حالة امتناع الطرف الثاني عن تسلم البضاعة ما ذكرته من قبل عن الوعد والإلزام بالوعد أن قلنا هنا إذا خسر البنك شيئًا يلزم العميل به، وإذا لم يخسر ولم يربح العميل لا يلتزم بشيء وعلى كل حال هو يبيع البضاعة لأنها ملك وليست ملكًا للعميل كما جاء في النموذج الأول. وفي عقد البيع ينص البند الثالث: تم التوقيع على هذا العقد من قبل الطرفين المنوه عنهما بعد التأكد من حيازة الطرف الأول لهذه البضاعة، فلا يتم العقد إلا بعد حيازة البضاعة. إذن هذان نموذجان عمل بكل منهما في مصرف إسلامي أو أكثر، والاثنان أو الأكثر أخذًا بالفتوى التي صدرت عن مصرف قطر الإسلامي، ولذلك أرى أن الفتوى من الناحية النظرية وحدها لا تكفي، وإنما لابد من الإشارة إلى الجوانب العملية ولذلك عرضت بعض المسائل التي وجدتها في التطبيق العملي لبيع المرابحة. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1112 المسألة الأولى: في المرابحات الخارجية وجدت بعض المصارف تفتح الاعتماد المستندي باسم العميل، والأصل أن المصرف يفتح الاعتماد المستندي باسمه هو لأنه هو الذي يستورد ثم بعد أن يملك ويحوز ويبيع، وتأتي المستندات باسم العميل ومعنى هذا صراحة أن السلعة لا تدخل في ملك المصرف، وفي المرابحات المحلية قد يتفق العميل مع البائع وليس مع المصرف ثم يأتي للمصرف ليأخذ المبلغ الذي يريده، ويكتب عقد بيع المرابحة، ثم يقوم العميل بعد هذا بالشراء مباشرة من البائع. فالمصرف باع قبل أن يملك ويحوز، بل لم تدخل السلعة في ملكه وحيازته بعد هذا، ولا أرى فرقًا بين مصرف إسلامي وبنك ربوي. المسألة الثانية: بيع المرابحة عن طريق تظهير بوليصة الشحن ومستندات الشحن، وهذا يعني أنه لا حيازة، ولا ضمان، ولا تسليم ولا تسلم، ولا رؤية وأحيانًا يكون الشراء عن طريق التظهير، ثم يتم بيع مرابحة مرة أخرى عن طريق التظهير مرة أخرى، هذه مسألة أرجو أن يصدر مجمعكم الموقر رأيه فيها. المسألة الثالثة: يوكل المصرف أحدًا بالشراء، وبعد أن يتم الشراء وتصبح السلعة أمانة في يد الوكيل، يطلب المصرف منه بيعها مرابحة بشروط معينة، وإذا رغب الوكيل في الشراء لنفسه بهذه الشروط جاز بموافقة المصرف، وإذا لم يرغب ولم يتمكن من بيعه بهذه الشروط، ظلت أمانة عنده هذه الفتوى أجازها المجمع في دورة من دوراته، وجدت مصرفًا يوكل غيره بالشراء، ويشترط على الوكيل أن يشتري لنفسه بمجرد شرائه للمصرف بشروط محددة للمرابحة، فتسلم الوكيل للسلعة المشتراه للمصرف، يعتبر في الوقت نفسه تسلمًا للسلعة، المبيعة من المصرف أفيجوز هذا؟ علمًا بأن المصرف يحتج هنا بفتوى المجمع السابقة وأرفق فتوى المجمع السابقة مع هذا التصرف. المسألة الرابعة: ما دامت السلعة في ملك البائع ولم يتم البيع، فلا يجوز جعل الضمان على طالب الشراء، غير أننا وجدنا –في بعض الحالات- أن طالب الشراء هو الذي يقوم بالتأمين على السلعة التي يشتريها المصرف عند الشحن وقبل أن يتم بيع المرابحة، وأحيانًا يقوم المصرف بالتأمين ولكن بوليصة التأمين تصدر باسم طالب الشراء بدلًا من إصدارها باسم المصرف مالك السلعة، نرجو من مجمعكم الموقر أن يقول رأيه في هذا، لأننا نرى أن الضمان هنا مفروض على من يملك السلعة وهو المصرف وليس العميل. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1113 المسألة الخامسة: من المشكلات الكبرى التي تؤثر في مسيرة المصارف الإسلامية عدم التزام كثير من المدينين بدفع أقساط الديون في مواعيدها المتفق عليها، وقليل من هؤلاء ذو عسرة وأكثرهم يماطلون مع القدرة على الأداء نظرًا لأن المصارف الإسلامية لا تأخذ فوائد التأخير التي يلتزم بها هؤلاء مع البنوك الربوية، وكثير من المصارف لم تجد علاجًا لهذه المشكلة، ووجدت حلًا جزئيًا في اللجوء إلى المزيد من الضمانات، غير أن بعض المصارف لجأت إلى حلول أخرى نرجو أن يقول مجمعكم الموقر فيها رأيه، ونذكر منها ما يأتي: عند عجز المدين (المشتري) عن الدفع وعلم المصرف بهذا رأينا المصرف بعد أن علم يقول المصرف: تقديرًا لظروف هذا العميل ورأفة به يدخل مع هذا المدين في شركة بقيمة الدين، وربما كان هذا التصرف يتعارض مع قول الحق تبارك وتعالى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} . [البقرة: 280] النقطة الثانية: ومن المصارف من لجأ إلى إعادة الاتفاق على نسبة الربح بمعنى أنه باع مرابحة بربح معين، فلما وجد العميل تأخر عاد معه لاتفاق من جديد على نسبة الربح، بحيث تزيد هذه النسبة لصالح المصرف تبعًا للزمن الذي يتأجل إليه الدفع –ولعل هذا مثل إعادة جدولة إعادة الديون الربوية- وربما كان فيه شبه من المبدأ الجاهلي " إما أن تقضي وإما أن تربى".. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1114 الحالة الثالثة: وبعض المصارف الإسلامية وهي ليست قليلة استحدثت إلزام المدين المماطل دفع تعويض عن الضرر الذي ألحقه بالمصرف نتيجة مماطلته، وحجز المال عن الاستثمار وتحقيق الربح، ولعل هذا الموضوع يحتاج إلى وقفة، نبين فيها وجهة نظر القائلين بهذا الرأي، المدافعين عنه، وأثر هذا في التطبيق العملي، ورأى المجيزون أن الغني المماطل أوقع الضرر بالمصرف، فلولا مماطلته لضم هذا المال لباقي الأموال المستثمرة ويمكن أن يقدر الضرر بمقدار الربح الذي حققه المصرف فعلًا في مدة المماطلة، ولذلك أجازوا للمصرف أخذ تعويض بمقدار نسبة الربح التي كان يمكن أن يحققها دين المماطل لو استثمره المصرف، فمتى تبين المصرف الإسلامي أن المدين المماطل مليء غني أضاف إلى دينه نسبة تعادل النسبة التي حققها خلال مدة بقاء الدين في ذمته. وقد ناقشت بعض هؤلاء المجيزين، ووجدتهم يستدلون بثلاثة أحاديث شريفة، وبالمصلحة المرسلة التي يرون أنها تتفق مع مقاصد التشريع الإسلامي، والأحاديث الثلاثة هي: 1- ((مطل الغني ظلم)) 2- ((لي الواجد يحل عروضه وعقوبته)) 3- ((لا ضرر ولا ضرار)) والأحاديث صحيحة منها ما هو متفق عليه الحديث الأول متفق عليه والحديث الثاني ذكره السيوطي وأشار إلى رواته وهم أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم ورمز للحديث بالصحة والثالث معروف، والحديثان الأول والثاني ظاهران في ظلم الغني المماطل، واستحقاقه للعقاب، وهما مما يحتج به، والعقوبة هنا تعزيرية، وذهب الجمهور إلى أن العقوبة هنا هي الحبس، وإن جاز في التعزير غيره كالضرب والتوبيخ، ومادام الهدف من العقوبة التعزيرية الردع والزجر وأداء الحقوق، وليس في العقوبة هنا حد مقرر، فالأمر إذن فيه متسع أمام القاضي أو ولي الأمر، فقد يرى في التوبيخ الكفاية، وقد يرى ضرورة الضرب مع الحبس، والأمر لا يستدعي كبير خلاف مادام الحكم يصدر من عادل غير محكم للهوى والتشهي، والحديث الثالث ينهى عن الضرر، ومن القواعد التشريعية المعروفة أن الضرر يزال، والمصرف لحقه ضرر فيجب أن يزال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1115 ومن المعروف أن الدائن ليس له إلا دينه، سواء أأخذه وقت استحقاقه أم بعد مدة المطل، وما أجاز أحد من الفقهاء أن يدفع المدين قدرًا زائدًا عن الدين كعقوبة تعزيرية، ولو قيل: يدفع مقابل الزمن، فهذا هو عين الربا: قال المجيزون ردًا على هذا: إن المصلحة تقتضي منع المماطل من استغلال أموال المسلمين ظلمًا وعدوانًا، وإذا كانت الفائدة الربوية تمنع المطل مع البنوك الربوية، فإن الإسلام لا يعجز عن أن يوجد حلًا لمشكلة المطل التي تعاني منها المصارف الإسلامية، وإذا كان الفقهاء السابقون رأوا أن تكون العقوبة الحبس، وهذا غير مطبق الآن، فعلى فقهاء العصر أن يجتهدوا لإيجاد حل، ثم أضافوا: والقدر الذي نرى أن يتحمله المماطل هو ما يقابل الربح الفعلي للمصرف، فهذا ليس من باب الربا، ولكنه من باب منع الضرر الذي يلحق بالمصرف وربما كان من الصعب –تعقيبًا على قول هؤلاء ربما كان من الصعب- التفرقة بين ما ذهب إليه هؤلاء وبين الربا، ويبقى هنا كذلك أن نسأل: ما الهدف من العقوبة التعزيرية؟ ومن الذي يحدد هذه العقوبة؟ ومن الذي يأمر بإيقاعها؟ أو يقوم بتنفيذها؟ أفيمكن أن يكون شيء من هذا للمصرف؟ لو جاز أن يكون للمصرف استحداث عقوبة تعزيرية يوقعها بالعميل وهي تشبه بالربا، إن لم تكون هي الربا، بعينه، فمن باب أولى أن يكون له الحق في العقوبة التعزيرية المقررة كالحبس أو الضرب. . ونأتي إلى الجانب التطبيقي لنرى هل تحقق الهدف من هذه العقوبة؟ بعض المصارف رأت أن المتعاملين معها الذين لا يؤدون الأقساط في مواعيدها بلغوا من الكثرة حدًا يصعب معه النظر في كل حاجة، والتفرقة بين مطل الغني وعجز الفقير، كما توجد عوامل أخرى تزيد الأمر صعوبة، ولذلك عند تأخير أي مدين –وهذا أمر وقع في أكثر من مصرف- ولذلك عند تأخر أي مدين عن الأداء يضاف على دينه ما يقابل الربح الذي يعلنه المصرف في حينه، ولا يستطيع أي أحد أن يفرق بين هذا وبين الربا المحرم، وقد يقال أن هذا خطأ في التطبيق لا في الفتوى، ولكن على المفتي أن ينظر إلى ما يمكن تطبيقه، وبعض المصارف الأخرى تمسكت بنص الفتوى، فكانت ترسل للعميل أولًا حتى تتأكد من المطل قبل إنزال العقوبة. ويلاحظ هنا أن الأرباح التي تحققها المصارف الإسلامية أقل من الفوائد الربوية في أوقات كثيرة، فالذين يستحلون هذه الفوائد استمروا في مطلهم غير عابئين بما يضيفه المصرف الإسلامي، وبذلك تحولت العقوبة التعزيرية إلى زيادة ترتبط بربح المصرف والزمن، ورضي بهذا الطرفان، فهل تحقق الهدف من العقوبة التعزيرية أم تحولت العقوبة إلى نوع جديد من الربا؟ ويبقى هنا أيضًا أن نسأل: إذا لم يكن هذا التصرف مشروعًا –وأظنه غير مشروع- فهل نجد عند مجمعكم الموقر حلًا لمشكلة الأموال الضخمة التي يستحلها الأغنياء القادرون المماطلون؟ نرجو أن يتسع وقت المجمع لبحث هذا الموضوع، هذا من الناحية التطبيقية وأن لا يكتفي المجمع بإذن الله تعالى على المسائل النظرية فقط. والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وشكر الله لكم جميعًا. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1116 الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. تناول الأستاذ مقدم الموضوع، تناول عدة موضوعات ولم يسر على الطريقة التي كنا نتوقعها ونبه إليها الأستاذ رئيس المجلس من أن يعرض علينا ما ورد في البحوث والموضوعات التي تناولها كثيرة ولا يمكن بحثها في هاتين الساعتين ولذلك سأركز حديثي على الناحية النظرية وعلى جوانب خاصة منها، وسأحاول أن أربط بين ما دار في الجلسة الماضية في الحديث عن الوعد باعتباره تمهيدًا للحديث عن بيع المرابحة للآمر بالشراء بقدر الإمكان. أهم نقطة في الواقع في بيع المرابحة للآمر بالشراء التي يجب أن يصدر فيها المجلس قرارًا هي موضوع الإلزام، أو عدم الإلزام بالوعد الذي صدر من البنك وصدر من العميل، كما سمعنا في تكييف هذه المعاملة أن العميل يطلب من البنك أن يشتري السلعة ويبيعها له، ويعده بأن يشتريها إذا قدمها إليه البنك، وكذلك البنك يعد من جانبه أن يشتري السلعة ويبيعها لهذا العميل، لكي نصل إلى الحكم الصحيح في هل هذا الوعد من جانب البنك، والوعد المقابل له من جانب العميل هل هناك إلزام أم ليس هناك إلزام؟ في الموضوع السابق فرق الأستاذ نزيه بين الوعد والمواعدة والعدة، وهذه نقطة في غاية الأهمية وهي المفتاح لحل هذه القضية "قضية الإلزام أو عدمها" وإن كنت لا أتفق مع الأستاذ نزيه في التفرقة الثلاثية هذه، وإنما التفرقة ثنائية فقط، هي تفرقة بين العدة والوعد من جانب، والمواعدة من الجانب الآخر، لأني لم أجد فرقًا بين العدة والوعد، إلا أنه قال: وصحيح هذا أن المالكية يستعملون كلمة عدة أكثر من استعمالهم لكلمة وعد، لكن الحكم واحد عندهم. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1117 الفرق الهام بين الوعد والعدة وبين المواعدة هو أن العدة أو الوعد تكون من جانب واحد، ومادامت من جانب واحد فهي لا تكون إلا بمعروف، لا تكون إلا تبرعًا، فالذين قالوا إنه إذا كان حتى على أكثر الآراء في مسألة اللزوم ولنأخذ به أن هذه العدة التي تصدر من جانب واحد ملزمة لهذا الشخص الذي صدرت منه، قال بعض الأخوة وهم أكثر من واحد إنها إذا كانت واجبة في التبرعات فمن باب أولى تكون واجبة في المعاوضات، وهذا كلام غريب في الواقع بالنسبة لي لأنه إذا كانت هذه العدة لا تصدر إلا من جانب واحد، فكيف تكون في المعاوضات؟ لا يمكن، ولا يمكن أن نجد مثالًا واحدًا لعدة في المعوضات، هي دائمًا تبرعات، بأي صفة صدرت، يدفع له مالًا يعمل عملًا، حتى من ناحية الوعد سواء دخل في السبب أم لم يدخل، كان هناك سبب أو لم يكن، هي كلها وفي جميع صورها تبرع محض، فلا محل للقول بأنها إذا كانت لازمة في التبرعات فهي ألزم منها في المعاوضات، هذا ما يتعلق بالعدة ولنأخذ بالقول بالإلزام ديانة وقضاء وفي جميع الأحوال، لكن هذا كله لا ينفعنا في موضوع البيع المرابحة يدخل في القسم الثاني وهي المواعدة، والمواعدة هذه تكون من جانبين، هي عدة من جانبين، من البنك ومن العميل، فلا يصح إطلاقًا أن نطبق عليها حكم العدة، وهذا هو السبب الذي أوقع بعض الأخوة في الخطأ وفي الاستدلال بمذهب الإمام مالك في وجوب الوفاء بالوعد. فإذا أخرجنا موضوع بيع المرابحة للآمر بالشراء من باب العدة أو الوعد واتفقنا على هذا نكون قد قطعنا شوطًا كبيرًا في حل هذه المسألة، ولنأت بعد ذلك إلى المواعدة، أي وعد من الجانبين: هل هو ملزم أو غير ملزم؟ مذهب المالكية صريح في هذا وقد تحدثوا عن العدة كما تحدثوا عن المواعدة، وأحد الإخوان أشار إلى قاعدة المواعدة، هذه قاعدة عندهم أقرأ لكم نصها: "القاعدة الخامسة والستون: الأصل منع المواعدة بما لا يصح وقوعه في الحال حماية" وشرح هذه القاعدة كما جاء في "إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك": ومن ثم منع مالك المواعدة في العدة لأنه لا يصح الزواج وعلى بيع الطعام قبل قبضه لأنه لا يجوز ووقت نداء الجمعة وعلى ما ليس عندك، وهذا هو محط الشاهد: الإمام مالك والمالكية جميعًا يمنعون المواعدة على ما ليس عندك وهذا هو بيع المرابحة للآمر بالشراء بنصه، لا يختلف عنه في شيء بتاتًا، البنك يعد بأن يبيع السلعة لطالبها، وطالب السلعة يعد بأن يشتريها، وأحب أن أنبه إلى نقطة هنا، المالكية عندما قالوا هذا الكلام، وهذه القاعدة تعني أن هذا لا يجوز في حال الإلزام "الإلزام بهذه المواعدة" لأنا لو ألزمنا كلا من الطرفين بتنفيذ وعده تكون بيعًا، وليست مواعدة، وهذا البيع لا يجوز إنشاؤه في الحال، لا يجوز أن يقول البنك للعميل الذي يطلب لسلعة ليست عند العميل: بعتك السلعة الفلانية التي طلبتها بمبلغ كذا، ويقول له الطالب قبلت، ثم يذهب البنك فيشتريها ويقدمها له. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1118 هذا هو معنى هذه القاعدة: المواعدة لا تصح بما لا يصح وقوعه في الحال، كما لا يصح أن أبيع ما لا أملك، كذلك لا يصح أن أعد بأن أبيع ما لا أملك مع التزام كل من الطرفين بهذا الوعد، هذا هو ما فهمته من هذه القاعدة. والقاعدة تعني أيضًا أن هذه المواعدة يمكن أن تقع صحيحة إذا كان الشيء الموعود أو المتواعد عليه يصح وقوعه في الحال، إذا كان المال الذي أريد أن أبيعه عندي لا مانع من هذه المواعدة عند المالكية. فإذن أنا أريد –وأطلت في هذا- لأدفع به قول من يستشهد بالإلزام في بيع المرابحة بمذهب المالكية، فمذهب المالكية قطعًا لا يجيز هذا، بل إن المالكية قد تطرقوا إلى هذه المسألة تحت باب "العينة" والدكتور بكر كتب في هذا ونقل كل نصوص المالكية في هذه المسألة، وحسب مذهب المالكية فإن المعاملة القائمة بين البنوك بحسب الجزئيات التي ذكروها زيادة على هذه القاعدة العامة لا تجوز، بل أن هذه المسألة ذكرها الإمام مالك في الموطأ، وبالمناسبة أن بيع المرابحة للآمر بهذا ليس أمرًا مستحدثًا، هي التسمية بهذا الشكل هي المستحدثة أما البيع فهو معروف وأقرأ لكم عبارة الإمام مالك في الموطأ: "روي مالك في الموطأ أنه بلغه أن رجلًا قال لرجل ابتع لي هذا البعير بنقد حتى أبتاعه منك إلى أجل، فسأل عن ذلك عبد الله بن عمر فكرهه ونهى عنه" الإمام مالك أورد هذه العبارة في باب "بيعتان في بيعة"، وقد علق شراح الموطأ ومنهم الباجي على هذه المسألة بقوله: ولا يمنع أن يوصف بذلك من وجهة أنه قد لزم مبتاعه بأجل بأكثر من الثمن فصار قد انعقد بينهما عقد بيع تضمن بيعتين، إحداهما الأولى وهي بالنقد، والثانية المؤجلة، وفيها مع ذلك بيع ما ليس عنده، وهذا هو المهم عندي وهو الصفة الواضحة في هذه المسألة لأن المبتاع بالنقد قد باع من المبتاع بالأجل البعير قبل أن يملكه، ثم يستطرد ويقول: وفيها سلف وزيادة.. الخ، فذكر أكثر من دليل على المنع وأوضح هذه الأدلة على المنع هو أن هذا البائع قد باع قبل أن يملك، وواضح من عبارة الإمام مالك ومن شرح الباجي أن هذا إذا كان على الإلزام، أما إذا كان ليس على الإلزام ولو على طرف واحد، على المشتري أنه بالخيار فلا مانع من هذا وخاصة كما تعلمون أن مذهب المالكية أنه عنده الخيار قد يدخل كثير من العقود فيجعلها صحيحة مقبولة وإن كانت في الأصل لو كانت على الإلزام لا تكون مقبولة، أما إذا جعل فيها الخيار لأحد الطرفين تكون مقبولة. ويعللون هذا بأن دخول الخيار يخرجها من باب المكايسة والمغالبة إلى باب المكارمة، مادام أعطى أحد الطرفين الآخر الخيار فقد جعله في حل وسعة، ولهذا فتفسير هذا المنع هو في حال الإلزام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1119 ولذلك الرأي أو الفتوى التي يسير عليها بنك فيصل الإسلامي في السودان هي أن العميل أو طالب الشراء أو الآمر بالشراء بالخيار بين أن يشتري السلعة بعد أن يقدمها له البنك أو يتركها إذا شاء، وقد نص على هذا صراحة في عقد المرابحة للآمر بالشراء، في المرحلة الأولى: إن البنك وعد بأن يشتري السلعة ويبيعها لطالبها إذا رغب فيها ثم بعد ذلك يتم عقد البيع، يقدم البنك السلعة بعد أن يشتريها ويتملكها ويقبض، يقدمها لطالبها، فإن شاء قبلها وإن شاء ردها، وهذا الذي عليه العمل في بنك فيصل الإسلامي السوداني يختلف عما عليه العمل في بعض البنوك الأخرى، وهو أيضًا ما عليه العمل في كل البنوك في السودان، ما عدا بنكًا واحدًا أخذ بنظرية الإلزام. قرأت في بعض بحوث الإخوة المعارضين للإلزام –وأنا أتفق معهم ولعله سيبين رأيه في هذا الأستاذ رفيق المصري- بحثًا جيدًا قدمه وهو لمعارضي الإلزام وأنا أتفق معه في كل ما قاله بالنسبة لرد حجج من يقول بالإلزام ويقول بعدم الإلزام، لكنه ذهب إلى أبعد من هذا فمنع الإلزام فقال بعدم الإلزام من الجانبين أو هذا هو ما فهمته من بحثه. واعترض على ما يسير عليه العمل في بنك فيصل الإسلامي من أنه يعطي الخيار للمشتري ويمنعه للمصرف، أي يلزم البنك، وهذا هو ما عليه، يعني البنك إذا اشترى السلعة هو غير ملزم بشراء السلعة لكنه إذا اشترى السلعة هو ملزم بأن يقدمها أولًا لطالبها، فإذا قبله فهو أولى بها وليس له أن يبيعها لغيره، لكن العميل هو الذي بالخيار، وهذا الذي سار عليه بنك فيصل مأخوذ من نصوص فقهية معتمدة أوضحها وأولها هو كلام الإمام الشافعي: جاء في الأم كلام صريح في جواز بيع المرابحة للآمر بالشراء إذ كان الآمر هذا بالخيار، ومنع منعًا صريحًا أن يكون هناك إلزام على الطرفين، واسمحوا أن أقرأ لكم هذا النص، يقول الإمام الشافعي: "وإذا أرى الرجل الرجل السلعة فقال: أشتر هذا وأربحك فيها كذا"، هذا هو بيع المرابحة للآمر بالشراء، اشتر هذه أمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1120 وفي الباقي القليل الرد على بعض ما جاء في بعض البحوث من أن هذه التسمية غير مقبولة وغير سليمة وهي تسمية معروفة وليست بالابتداع (حتى الدكتور سامي) فالإمام الشافعي يصورها لنا، اشتر أمر، أمره بأن يشتري له السلعة وقال له: أربحك فيها، فكل ما فعله الدكتور سامي أنه صاغ هذه العبارة في عبارة موجزة ومقبولة، وبعض الفقهاء يعبر بالطلب: مثلًا ورد في مختصر خليل: (جاز للمطلوب منه سلعة أن يشتريها ليبيعها بنماء ولو بمؤجل) استعمل كلمة طالب بدل آمر، كل هذا سواء، فالإمام الشافعي يقول: اشتر هذه وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، شراء الأول والذي قال أربحك فيها بالخيار إن شاء أحدث فيها بيعًا وإن شاء تركه، وهذا نص قاطع في الموضوع، أن المشتري الآمر إذا كان بالخيار فالبيع صحيح، ثم يمضي الشافعي فيقول: وهكذا يقال اشتر لي متاعًا ووصفه له، أو متاعًا أي متاع شئت حتى ولو لم يصفه لأنه بالخيار، لكن الذي عليه العمل في البنوك أنه يوصف ويحدد الثمن، فكل هذا سواء يجوز البيع الأول ويكون فيما أعطي من نفسه بالخيار، وسواء في هذا ما وصفت إن كان قال: ابتعه واشتريه منك بنقد أو بدين جاز، وإن تبايعا إن ألزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ، وهذا هو الذي جعلنا نمنع الإلزام من الجانبين، فهو مفسوخ من قبل شيئين: أحدهما أنهما تبايعا قبل تملكه، وهذه الحجة التي اعتمدنا عليها، من صريح كلام الشافعي، والثاني أنه على مخاطرة انك إن اشتريته على كذا أربحك فيه كذا، ولعل هذا أقوى دليل على جواز بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا جعل للمشتري الخيار. بعض الإخوة فهم من عبارة الشافعي هذه أن الخيار لابد أن يكون للطرفين، وليس فيها ما يدل على ذلك، لأن أولها صريح وكل ما قد يطرأ منه التباس هو هذه العبارة: "ويكونان في الخيار في البيع الآخر" يكونان في الخيار هذه، إذا فهمناها في سياق هذا النص كله لا تعني أن كلًا منهما يكون في الخيار، هو البيع في جملته بيع خيار يكون لأحدهم الخيار، هذا يكفي بدليل العبارة التي بعدها "وإن تبايعا على أن ألزما أنفسهما" إذا ألزم أحد الطرفين نفسه ولم يلزم الآخر فلا مانع من هذا أيضًا، على أنه هنا نقطة أحب أن أبينها وهي: في الواقع الصور التي تسير عليها البنوك في الإلزام وعدمه ثلاث وليست صورتين كما ذكر بعض الأخوة –الدكتور رفيق أظن في بحثه أيضًا- بعض البنوك تلزم البنك بالشراء والبيع لطالبه وتلزم المشتري بالشراء، وأظن هذا ما ذهب إليه الدكتور سامي لأنه يوجب التعويض على البنك إذا لم يف بوعده، الصورة الثانية أو البنوك الثانية: تلزم البنك البيع إذا اشترى السلعة أما إذا لم يشترها فلا إلزام عليه، لكن لو اشتراها يجب عليه أن يبيعها لطالبها وعلى طالبها أن يشتريها، الحالة الثالثة والتي عليها بنك فيصل الإسلامي في السودان أن البنك أيضًا غير ملزم بشراء السلعة لكنه إذا اشتراها يلزم ببيعها للمشتري لطالب الشراء، وطالب الشراء غير ملزم. نقطة صغيرة –وأظن أني أطلت وأحب أن أختصر وأنتهي- الدكتور سامي في حديثه في الجلسة الماضية قال: إذا لم يجب التنفيذ قضاء، وأظن أن هذه عبارته "يجب التعويض"، فكأنه يريد أن ينقلنا ويقول مادمتم لا تريدون أن يكون هذا الوعد ملزمًا قضاء ولا تلزمون البنك بالتنفيذ أو لا تلزمون المشتري بالتنفيذ، فيجب التعويض إذا أخل أحد الطرفين فلم يف بوعده، نقول له: هذا غير ممكن، كيف تطالب بتعويض في أمر، في عقد، في تصرف ممنوع؟ التصرف في أصله غير جائز، فكيف ينبني عليه المطالبة بالتعويض؟ يعني إذا دخل من أول مرة المصرف والمشتري على أنهما ملزمان فلا يمكن أن يأتي التعويض هنا، وأكتفي بهذا وشكرًا لكم. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1121 الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الحقيقة أنه الآن ينطبق علينا قول الشاعر: من يتبع القدماء أعاد حديثهم بعد الفشو وضل إن لم يتبع أرى أنه يشفع لي في التدخل قول الشاعر الآخر: والسامرون إذا طال الجلوس بهم ظنوا التسامر في أولى البدايات البيت الأخير قلت معناه، كنت أريد أن أتدخل في الصباح على عرض الدكتور نزيه والذي اتفق مع الشيخ وهبه في أنه عرض موثق توثيقًا جيدًا واستعرض لمختلف الآراء. إلا أن الملاحظة الشكلية التي أوجهها إليه ويمكن أن توجه لكثير من العروض هو أننا عند استعراضنا لمختلف أقوال الفقهاء في قضايا حساسة تشد تطلعات شباب الأمة الإسلامية إليها، ينبغي أن نعطي آراء تشكل مصادر استئناس للجان الصياغة عندما تحاول إعداد مقررات هذا المجمع المحترم. فالوعد نقل فيه الحافظ بن حجر القول الصحيح والذي لا يمكن أن نتجاوزه حيث قال: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به من الغرماء، ثم أضاف: ولم ينقل أي إجماع في ذلك ومن قال به فهو مردود بخلاف المشهور، "فتح الباري جزء 6 صفحة 207 الطبعة الحلبية". فإن الوعد هنا يتفق تمامًا مع ما يعرف في الفقه الغربي بقيام الوجوب، أو الفترة التي يبقى فيها الإيجاب قائمًا، علمًا بأنهم قرروا وهذا التقرير موجود حتى في الفقه الإسلامي وهم أخذوه منه، وقد حللته في رسالتي للدكتوراه "تأثر مصادر الالتزام الغربي في الفقه الإسلامي" هو على أن الإيجاب القائم لا يلزم إلا من وافق عليه ونزل عليه الإيجاب، أما الوعد بالبيع فلا يسمى بيعًا، إلا أن الإنسان إذا وافق على وعد وجهه إليه الواعد أصبح ملزمًا بأداء ما وافق عليه، فإذا نحن قلنا اليوم من منطلق هذا المجمع الفقهي العظيم أن الوعد نافذ على صاحبه وينبغي أن يسال عنه قضاء أضفنا قاعدة جديدة استخلصناها من كلام الفقهاء، ولو كنا أخذنا بشطر الخلاف استجابة للمصالح المتجددة وسدًا للذرائع وخشية أن يصبح الناس في متاهات من المشاكل التي تطرأ بينهم في مثل هذه المواعيد، هذا ما أقوله عن الوعد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1122 أما المرابحة: فالمرابحة بشكلها الحالي الموضوع في المجمع فهو تعبير جديد أضيف إلى بيع المرابحة المعلوم، وبيع المرابحة المعلوم قال فيه ابن رشد: أجمع جمهور العلماء على أن البيع صنفان: مساومة، ومرابحة، وأن المرابحة هي أن يذكر البائع للمشتري الثمن الذي اشترى به السلعة ويشترط عليه ربحًا ما بالدينار أو الدرهم، ثم حلل خلاف العلماء في أنواع الزيادات التي يمكن أن تحسب من رأس المال وتلك التي لا يمكن أن تحسب منه، واستطرد كلام المالكية في هذا الموضوع حيث قالوا: إن البعض من الأعمال اليسيرة التي يقوم بها الشخص لا يمكن أن تحسب من رأس المال عندما يريد أن يبيع فلا يقول: اشتريته بكذا، ولكن يقول: قام علي بكذا وهذا متفق مع مذهب المالكية، وإذا نحن نظرنا إلى ما قاله المنتقي في الجزء الخامس حول المرابحة لوجدنا أنه حللها تحليلًا قيمًا لا يتفق وبعض ما نسب إلى المالكية فيما سمعته من عروض قيمة ألقيت هنا بأنهم حظروا بأن يبيع شخص مجهولًا لشخص آخر وأجازوا أن بيع شخص الشيء المعلوم لشخص آخر بثمن معلوم على أن لا يكون وقت الأداء معروفًا، والمدونة تعرض لاثنتين وثلاثين قضية تهم بيع المرابحة، اثنتين وثلاثين قضية التي تعرضت لها المدونة، منها ما يطرأ على البضاعة من الزيادة وما يمكن أن يضاف إليها، والتحسينات التي يقوم بها الشخص عندما يريد أن يبيع بيع مرابحة، والشيخ خليل في كتابه "المختصر" خصص فصلًا خاصًا للمرابحة حيث أجازها وحذر من المجهول في شأنها فقال: [وجاز مرابحة والأحب خلافه ولو على مقوم مطلقًا أو إن كان عند المشتري تأويلان، وحسب ربح ماله عين قائمة كصبغ وطرز وخياطة وغير ذلك] . فعندما تعرض لهذه الأنواع شارحه الحطاب بين الحظر الكامل الذي يمكن أن يقع في بيع المجهول، أما ما يذكر اليوم من بيع المرابحة للآمر بالشراء أو الوعد للآمر بالشراء كما رأينا في الجزء السابق من المحاضرات فالصيغة المطروح بها اليوم هو بيع دين بدين، وبيع الدين بالدين معلوم، فالذي ينبغي في نظري أن نخرج منه من هذه البحوث، هو أن على المجمع الموقر عندما تتعارض أقوال الفقهاء أن يستخلص لنا القواعد التي يمكن أن يحتج بها أمام القضاء، وأرجح وأؤكد على أولئك الذين قالوا بتدوين قواعد إلزام الوعد لمن وعد به، وعلى بيع المرابحة، ولكن في النظريات الفقهية لا نضيف إليها شيئًا يحلل لنا الربا وندخل تحت المسميات، فنكون هدرنا الشريعة الإسلامية عن طريق مسميات لم تعرف من قبل ولم تستخلص من نظريات الشريعة بأسلوب واضح ومركز، وشكرًا لكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1123 القاضي محمد تقي العثماني: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد. فإن الموضوعات أرى أنها قد اشتبكت ولكنني أريد أن أمر مرًا سريعًا على النقاط المهمة التي طرحت أمامنا اليوم. أولًا بالنسبة للوعد الملزم قد جرى الحديث عنه وقد ذكر كثير من الاخوة أنه يقترح إلزام الوعد لتحيل على الربا الجاري في المصارف ولكنني أريد أن ألفت أنظاركم إلى أن هذه المسألة ليست خاصة بالمصارف الإسلامية فحسب، وإنما هي مسألة مهمة بالنظر إلى التجارة العامة، ولو فرضنا –ولو قطعنا النظر عن المصرف- وفرضنا أن هنالك تاجرًا عاديًا يستورد البضاعات من الخارج، يأتيه أحد ويقول: استورد لي بضاعة كذا، أو أجهزة أو معدات من الخارج، فإني أشتريها منك، ومعلوم أن الأجهزة والمعدات واستيرادها من الخارج ربما يكلف الملايين، فلو استورد هذا التاجر هذه البضاعات أو الأجهزة أو المعدات من اجل هذا المشتري وكلفه الملايين من الروبيات مثلًا، فإذا بذلك المشتري يقول: أنا لا أقبل هذا الشراء، أنا لا أفي بوعدي بالشراء، مع أن هذه الأجهزة والمعدات كانت ملائمة لظروفه، وإنما صنعت من أجله، فلو قطعنا النظر عن المصارف فإن مسألة الوعد الملزم تعرض لنا في التجارات العامة الأخرى أيضًا فإذا نظرنا إلى هذه المسألة من هذا المنظار، فأريد أن ألفت أنظاركم إلى ما ذكره بعض الأخوة عن أن الوعد عند المالكية إنما يختص في التبرعات ولا يوجد في المعاوضات، والحمد لله عندنا ثلة جليلة من علماء المالكية وفقهائهم، ولست أدعي أني أعلم أكثر منهم بمذهب المالكية، ولكن عندي كتاب للإمام الحطاب رحمه الله "تحليل الكلام في مسائل الالتزام" وقد ذكر في هذا الكتاب عدة فروع يبدو أنها تتعلق بالمعاملات والمعاوضات، ومع ذلك فإنه أفتى في ذلك بلزوم الوعد، ومن هذا صورة واحدة وهي في بيع المزايدة، في بيع من يزيد، جاء واحد وقال لآخر كف عني –يعني كف عني في المزايدة- ولك دينار جاز ذلك، ولزمه اشتري أو لم يشتر، ثم يقول ولو قال كف عني ولك نصفها على سبيل الشركة لجاز أيضًا، يعني لو كف عن المزايدة، فإن وعده بأن ما يشتريه من تلك المزايدة يجلس فيها شركة، شركة الملك معه، فهذه أحداث شركة الملك عقد معاوضة وعقد مالي، ووعده بذلك العقد المالي، ويقول ابن رشد رحمه الله لجاز أيضًا، فلو لم يكن الوعد ملزمًا في المعاوضات لا أرى مبررًا لهذه الجزئية التي ذكرها الحطاب عن ابن رشد في هذا الكتاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1124 فالمطلوب من السادة فقهاء المالكية شرح هذه المسألة، ثم لو قطعنا النظر عن مذهب المالكية فإن عند الحنفية رحمهم الله نظرية مشروحة في كتبهم وهي أن المواعيد ربما تجعل لازمة لحاجات الناس، وقد ذكروا هذه القاعدة في ضمن البيع بالوفاء، حينما وعد الرجل بالوفاء فإن ذلك وعد محض ولكن ذكر كثير من فقهاء الحنفية أن هذا الوعد ملزم، وعلى أساس هذه الجزئية جاءت مادة في مجلة الأحكام العدلية تقول: إن المواعيد ربما تجعل لازمة لحاجة الناس. ثم هناك ناحية أخرى لم يذكرها الباحثون، وهي أن الوعد سواء، إن كان واجبًا أو مندوبًا أو مستحبًا، فإنه لا يقل عن أن يكون مباحًا، ومن المعروف أنه لو ألزم ولي الأمر مباحًا على الشعب فإنه يكون واجبًا عليه، فلو ألزم ولي الأمر إيفاء الوعد في هذه المعاملات نظرًا إلى المصلحة الشرعية، لا أرى في القرآن ولا في السنة والدلائل الشرعية الأخرى ما يمنع ذلك، هذا بالنسبة لمسألة الوعد. أما عقد عملية المرابحة كما تجريه الآن المصارف الإسلامية، فأتفق مع الذين ذكروا أن هذه المعاملة إنما تجوز بشروطها، والشرط الأول: أن تكون المعاملة في البضاعة حقيقة لا في النقود، والثانية: أن يقع عقد المرابحة بين المصرف وبين العميل بعد أن يمتلك البنك البضاعة وتأتي في حيازته وضمانه، سواء كان عن طريق القبض الحسي أو المعنوي، وسواء كان مباشرة من البنك أو من وكيله المنصوب لهذا الغرض، وأن يتحمل البنك تبعة الهلاك قبل تسليمها إلى العميل كما ذكره أخونا الأستاذ علي السالوس حفظه الله، والثالث: أن يكون كل من الأجل والثمن معلومًا لدى الجانبين وقت العقد، ولا يكون هناك تردد في الثمن ولا في الأجل، والرابع: أن يكون الثمن لا يزيد في حالة عدم أدائه في الوقت المحدد ولا ينقص في حالة أدائه قبل الموعد المحدد، وأما تعويض البنك في حالة تقصير العميل في أداء ثمنه في وقته المحدد كما يجري في كثير من البنوك الإسلامية، فلي في ذلك وقفة، لأن هذا التعويض في نظري لا يدخل تحت أصل شرعي، ولكن قد ذكر الحطاب رحمه الله في نفس هذا الكتاب مسألة يمكن أن تصبح بديلًا لهذا التعويض، ويمكن أن يكون هذا البديل أكثر أثرًا على العملاء، وهي أن الحطاب رحمه الله قد ذكر أنه لو قال المستقرض: إن لم أوفك هذا القرض في وقته المحدد فإني أدفع مبلغًا كذا إلى الفقراء أو أدفع مبلغ كذا إلى رجل آخر غير المقرض، فإن ذلك يجوز عند جميع المالكية ديانة وعند بعضهم قضاء أيضًا، وأقرأ عليكم نصًا من الحطاب رحمه الله: وأما إذا التزم المدعى عليه للمدعي أنه إن لم يوفه حقه في وقت كذا فله عليه كذا وكذا، فهذا لا يختلف في بطلانه لأنه صريح الربا، وسواء كان الشيء الملتزم به من جنس الدين أو غيره، وأما إذا التزم أنه إن لم يوفه حقه في وقت كذا، فعليه كذا وكذا، فهذا لا يختلف في بطلانه لأنه صريح الربا، وسواء كان الشيء الملتزم به من جنس الدين أو غيره، وأما إذا التزم أنه إن لم يوفه حقه في وقت كذا، فعليه كذا وكذا لفلان، أو صدقة للمساكين، فهذا هو محل الخلاف، والمشهور أنه لا يقضى به، وقال ابن دينار: يقضى به، فلو أخذنا بقول ابن دينار لأن مقصود البنك من فرض التعويض هو الضغط على العميل بأن يوفي الثمن في وقته المحدد ويمكن هذا الضغط بهذا الطريق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1125 ومع هذا أريد أن أنبه إلى ناحية أخرى مهمة في هذا الصدد، وذلك أن عقد المرابحة بعد توفر الشروط التي ذكرتها وإن كانت تدخل في إطار الجواز الفقهي ولكنه في نظري ليس بديلًا مثاليًا للنظام الربوي، ولئن اكتفت المصارف الإسلامية بهذا العقد في سائر مداولاتها، أو في معظمها، فأخشى أن لا يبقى فرق عملي بين النظام الربوي وبين النظام الإسلامي، لأن ما يجري في البنوك الإسلامية اليوم هو أنه يحدد ربحه في عقود المرابحة بعين ذلك الأساس الذي تحدد به البنوك الربوية فائدتها، فكان البنك في النظام الربوي يأخذ خمس عشرة في المائة على القروض فلو أدر مشروع العميل ربح خمسين في المائة فإن نصيب البنك منه لا يجاوز خمسة عشرة في المائة، والخمسة والثلاثون الباقية كلها للعميل، والنتيجة هي هي في عقود المرابحة أيضًا، فإنه ليس نصيب البنك في هذه العقود إلا خمس عشرة في المائة، فتعديل عمليات البنوك من سعر الفائدة إلى عقد المرابحة وإجراء جميع عملياتها على هذا المنهج وإن كان يدخل في إطار الجواز الفقهي ولكنه لا يغير من وضع توزيع الثروة شيئًا، فالبديل الحقيقي للنظام الربوي هو الشركة والمضاربة فإنه هو الذي يضمن التوزيع العادل فيما بين البنك والعميل. فالذي أراه أنه لو أصدر المجمع قرارًا لجواز عقد المرابحة فينبغي أن يصرح فيه بأن البنك لا ينبغي له أن يجري هذه العمليات إلا فيما لا يمكن فيه المضاربة والشركة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الرئيس: ترقع الجلسة الآن لأداء صلاة الظهر ثم نعود إن شاء الله تعالى بعد الصلاة مباشرة لاستكمالها وشكرًا. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1126 بعد الصلاة: الدكتور عبد السلام داود العبادي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسوله الكريم. إذا سمح لي الأخوة الكرام أحب أن أقدم لحديثي ببعض الملاحظات: نحن في هذا المجمع الكريم عندما نتصدى لهذه القضية يجب أن نتصدى لها في إطار أصل المسألة المطروح وهو أننا نحاول أن نضع صيغًا جديدة في مجال المعاملات المصرفية ونبذل في هذا المجال جهدًا في التحرير والتخريج والقياس والاجتهاد، يعني نحن لسنا في صدد بحوث فقهية تعالج جزئيات هنا وهناك لننتهي إلى ماذا ذهب المذهب الفلاني؟ أو إلى ماذا قال الفقيه الفلاني؟ فنحن أمام محاولة اجتهادية جماعية لاستحداث صور جديدة تعالج مشكلات الناس وقضاياهم الملحة، نحن أمام غزو ربوي مركز أثارنا جميعًا بلا استثناء، مواجهة هذا التعامل الربوي الذي يجتاح واقعنا: كيف نواجهه؟ جاءت فكرة البنوك الإسلامية، بدأت البنوك الإسلامية بالعمل بصيغ متعددة، هذه الصيغ يجب أن نقومها في إطار ما استحدثت من أجله وما بحثت من أجله هل هي وسائل للتحايل على الربا؟ هل هي تحقق منهج الشرعية الإسلامية في استثمار الأموال وتحقيق الأرباح؟ هل هذه الصور الجديدة ببعض تفصيلاتها أم بكل تفصيلاتها؟ هل هناك ما يمنع شرعًا من استحداث عقود جديدة ذات مواصفات محددة، شريطة أن لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالًا؟ هذه الأمور في الواقع هي التي يجب أن تكون في الذهن ونحن نتصدى ونعالج هذا الموضوع. الواقع عندما بحث موضوع بيع المرابحة للآمر بالشراء وضعت له شروط دقيقة كان القصد منها هو أن لا نتقلب هذه المعاملة في التطبيق إلى نوع من التمويل بدون مخاطر وبتحقيق زيادات على أصل التمويل وبحيث يكون دخول البنك الإسلامي المؤسسة المصرفية الإسلامية على هذا الخط فيه نوع من المخاطرة والتعرض لاحتمالات الربح والخسارة، ومن هنا جاء الشرط الأساسي في هذه القضية وهي أن السلعة يجب أن تدخل في ملك البنك وضمانه دخولًا فعليًا، يعرضه لاحتمالات الربح والخسارة وإنه في اللحظة التي تتولد صوره في التطبيق تنفي هذا الأصل وهذا الشرط الأساسي، فإن الأمر ينقلب عند ذلك إلى نوع من التحايل والوقوع في دائرة المحظور الشرعي، فكل ما يجب أن نحرص عليه هو أن نضع الضمانات في هذه الصيغة، ولتكن صيغة مستحدثة لا تقوم على التلفيق والتجميع من هنا وهناك، وإنما تقوم على صياغة متكاملة لمعاملة فيها تركيب لعدد من العقود والوعود المترابطة ضمن تصور شمولي يهدف إلى تحقيق عملية الدخول الاستثمارية للبنك وفق قاعدة الشريعة في أن ذلك إذا كان يهدف إلى تحقيق أرباح معينة لابد أن يكون فيه ضمان ومخاطرة كما هي واضحة في قواعد الشريعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1127 في ظني أن المشكلة التي أوقعت بعض التطبيقات المعاصرة لهذا العقد في محاذير التمويل بدون مخاطر ليس موضوع إلزام الوعد أو عدم إلزامه، إنما الذي أوقع هذا العقد في بعض التطبيقات هو حيطة بعض البنوك الإسلامية في أن تبعد نفسها عن الوقوع في أي ضمان متصور في هذا المجال، فذلك انقلبت العملية إلى عملية ربوية في هذه الصورة، لكن إذا التزم بالشروط الأصلية التي وضعت وبحيث أن البنك يملك السلعة التي أمر بشرائها ملكًا حقيقيًا فعليًا وبفترة معتد بها في مجال التملك ليس مرورًا عابرًا في الذمة عند ذلك يكون هذا هو فيصل التفرقة بين عملية التمويل الربوي البحث وهذه الصيغة. موضوع الإلزام وعدم الإلزام في الواقع في التطبيق ليس مشكلة وأظن أي مصرفي واع لما يجري في المصارف الإسلامية، المصارف الإسلامية تشكو من أن الناس لا تلتزم بما وعدت أو أن البنك لا يقوم بهذا، الواقع الجهتان تندفعان لهذا الأمر لأنه هي عملية يربح منها البنك ويربح منها العميل، المشكلة ليست هذا المشكلة نريد أن نحمي هذه المعاملة من أن تكون وسيلة من وسائل التحايل للوقوع في الربا، فنهرب مما وقعنا فيه، وقد أوضحت في البحث الذي قدمته في هذه القضية وطالبت بإلحاح بجملة من الأمور التي تحمي هذا العقد أو هذه الصيغة من صيغ التعامل من أن تنقلب إلى أداة ربوية، هذا من الناحية الموضوعية، ومن العادة أن يؤجل الحديث في القضايا الموضوعية على القضايا الشكلية، لكن أنا أريد أن أذكر السادة أعضاء مجلس المجمع بقضية شكلية وهي نقطة نظام يجب أن ننتبه إليها في هذا المجال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1128 نحن في الواقع عالجنا هذا الموضوع في مجلس المجمع معالجة مستفيضة عندما عرضت علينا استفسارات البنك الإسلامي للتنمية، عرضت علينا كما تذكرون في الدورة الأولى وأجلناها إلى الدورة الثانية ثم عرضت علينا في الدورة الثانية وبعد لجان شكلت وبحوث أعدت ودراسات جهزت انتهينا أيضًا إلى عدم البت في هذه الموضوعات، وأجلناها لمزيد من البحث والدراسة إلى الدورة الثالثة، وفي الدورة الثالثة أعيد الأمر بحثًا واستقصاءً ودراسة وانتهينا فيها إلى قرارات بالأغلبية، والواقع يبدو أننا سنعود على ما أنهيناه بالتحرير والتحليل وإن كان ذلك بالأغلبية، بما نتوجه إليه الآن إذا توجهنا إلى ما ألاحظه في كلام بعض السادة الأعضاء إلى نقض ما انتهينا إليه، لذلك أنا أرجو أن أذكر إخواننا بالقرار رقم واحد في دورة عمان 86 في قضيتين مطروحتين علينا في هذه الدورة، قضية بيع المرابحة للآمر بالشراء، وقضية الإجارة المنتهية بالتمليك. في قضية الإجارة المنتهية بالتمليك كان هناك وضوح كامل لكن أريد أن أذكر النصوص لأنها تعالج قضية الوعد أيضًا وبت فيها: قرر مجلس المجمع بخصوص عمليات الإيجار اعتماد المبادئ التالية فيها: المبدأ الأول: إن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعًا.. هذا المبدأ الأول. المبدأ الثاني: إن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك، لماذا؟ بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء، وهذا وعد، بعد حيازة الوكيل لها توكيل مقبول شرعًا، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور، إذا تيسر ذلك. المبدأ الثالث: إن عقد الإجارة يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات، وأن يبرم بعقد منفصل، عن عقد الوكالة والوعد. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1129 المبدأ الرابع: إن الوعد بهبة المعدات – وهذا أيضًا وعد- عند انتهاء أمد الإجارة جائز بعقد منفصل. المبدأ الخامس: إن تبعة الهلاك والتعيب تكون على البنك بصفته مالكًا للمعدات ما لم يكن ذلك بتعد أو تقصير من المستأجر فتكون التبعة عندئذ عليه. هذا بخصوص الموضوع الذي سيناقض قريبًا والذي هو "الإجارة المنتهية بالتمليك" وهي معالجة كما تلاحظون، معالجة شمولية، غطيت كل تفصيلاتها وما يتعلق بها. بخصوص موضوعنا المطروح اليوم عمليات البيع –سميت هكذا في الاصطلاح هنالك- ولا مشاحة في الاصطلاح، المهم المضامين، سميت هناك عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن، قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية: المبدأ الأول: إن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية ببيع المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعًا –فالقضية منتهية-. المبدأ الثاني: إن توكيل البنك أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية أن يبيعه البنك تلك الأشياء بعد وصولها وحصولها في يد الوكيل، هو توكيل مقبول شرعًا، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك. يعني نحن ذهبنا إلى اكثر من ذلك، ذهبنا إلى جواز أن يوكل الآمر بالشراء نفسه في الشراء على أن يكون في فترة التوكيل قبل تحرير عقد البيع الثاني في ملك البناء وضمانه. المبدأ الثالث: إن عقد البيع يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات والقبض لها وأن يبرم بعقد منفصل. فتلاحظون أيها السادة كيف أن هذه القضية قد بت بها في دورة عمان ولذلك كنقطة نظام ومبدأ قد أقررناه نحن في جلساتنا المتعاقبة أنه لا يجوز أن نعود على قراراتنا بالنقض وأن ما استقر من قرارات لا يجوز أن نصوغ قرارات جديدة تتعارض معها كليًا أو جزئيًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1130 الشيء الآخر هنا في هذا المجال لا أريد في الواقع أن ندخل في نقاش ونعيد ما ذكرته في البحث لكن أحب أن أشير إلى بعض ملاحظات عاجلة في هذا المجال تعليقًا على ما ذكره بعض الإخوان. الواقع كلام الإمام الشافعي والكلام الذي ورد في الموطأ وهنالك كلام أيضًا لمحمد بن الحسن الشيباني في هذا المجال، يدل جميعها على أن هذه الفكرة واضحة بأساسها وشروطها، يعني أنا أفهم نص الشافعي في جزئه الأخير، وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما الأمر فهو مفسوخ من قبل شيئين، إذا أكملنا العبارة في الواقع نلاحظ أن الشرط الذي اشترطناه في بيع المرابحة للآمر بالشراء: "إنه تبايعاه قبل تملكه" نحن فيما صغنا من شروط اشترطنا أن لا يكون التبايع إلا بعد الملك الحقيقي، ولذلك يزول هذا الإشكال، يعني وخشية الإمام الشافعي بما ذكر في نهاية عبارته، أن تكون عمليات التبايع تتم قبل أن يحدث تملك حقيقي للمأمور بالشراء، وعند ذلك تنقلب العملية إلى عملية إقراض ربوي، وهذا هو المحظور الذي احتطنا له بالشرط الذي شرطناه، وهذا يؤكد عبارة الموطأ، هنا عبارة الشافعي تقول: (اشتر هذه وأربحك فيها) يعني الذي سيشتري من؟ المأمور بالشراء وستدخل في ملكه ثم سيدخل في مرابحة مع الذي أمره بالشراء، بينما عبارة الموطأ: (ابتع لي هذا البعير بنقد حتى أبتاعه منك إلى أجل) فالعملية هنالك توكيل بالشراء فكذلك حقيقة الذي أمر بالشراء، وهنا إذن عملية تحايل على الربا لذلك ذكرت هنا تحت بيع العينة، الذي يتخذ وسيلة من وسائل التحايل على الربا، بينما عند الإمام الشافعي لم ترد في هذا المجال، ولدينا عبارة أخرى للإمام محمد بن الحسن الشيباني وكان قد ذكرها الدكتور عبد الستار في بحث له يرشد فيها الإمام محمد بن الحسن إلى حل في كتابه المخارج في قضية الخشية التي نحن خائفون منها، إنه العميل يرفض عملية الشراء بعد ما يقوم المأمور بالشراء، بشراء ما أمر به، فقد جاء في كتاب المخارج "رأيت رجلًا أمر رجلًا أن يشتري دارًا بألف درهم وأخبره أنه إن فعل اشتراها الآمر بألف درهم ومئة درهم فأراد المأمور شراء الدار ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر –لاحظوا حتى نفس العبارة- فلا يأخذها، فتبقى الدار في يد المأمور، كيف الحيلة في ذلك؟ " إذن الصيغة مقررة ومسلمة، لكن فيه خشية من أنه يعدل الذي أمر عن أخذ ما أمر به فيرشده، قال يشتري المأمور الدار على أنه بالخيار فيها ثلاثة أيام ويقبضها ويجيء الأمر إلى المأمور فيقول له: قد أخذت منك هذه الدار بألف درهم ومائة، فيقول المأمور: هي لك بذلك فيكون ذلك للآمر لازمًا، ويكون استيجابًا من المأمور للمشتري: فإذن القضية: المطلوب من البنوك الإسلامية والمصارف الإسلامية أن تطبق هذه الصيغة كما اشترطت، الذي يحدث في التطبيق أيها الأخوة الكرام فيه خلل كبير وهذا ليس حجة على القاعدة، هو حجة على الذين يطبقون، هم قد أفرزوا في التطبيق كثيرًا من الصور ليس فيها ضمان، وأنا تحفظت على ما ورد في كلام الدكتور سامي من نفي موضوع الحيازة، وقال الحيازة ليست شرطًا، يكفي التملك، التملك هو ممكن تملك صوري ومرور عابر في الذمة وعند ذلك فيه محظور كبير من أن نكون قد وقعنا في الربا. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1131 لابد من التملك الفعلي الحقيقي ليكون هناك تعرض لتبعات الضمان في الهلاك، وتعرض لتبعات الرد بالعيب وغير ذلك من معطيات الضمان، وهنالك أيضًا شرط آخر نبهت إليه في البحث الذي هو قضية إنه ليست كل سلعة تقبل التعامل وفق هذه القاعدة أو وفق هذه المعاملة، يعني من شروط تطبيق هذا البيع أن تكون السلعة مما تنسجم مع طبيعته، يعني إذا كان التطبيق له على سلع نقطع معها بأنه لا ضمان على البنك وأنه لا يتصور الضمان في أي حال من الأحوال عند ذلك واضح، أصل المسألة انتفى، وشرط القضية لم يعد واردًا، وبالتالي تدخل في دائرة الممنوع ودائرة الربا، مثل أن تكون بيوع المرابحة للآمر بالشراء متعلقة بالأراضي، حتى لو سجلت في ملك البنك في دائرة الأراضي فكيف ستهلك الأرض، وكيف سيكون الرد بالعيب؟ إذن كل ما في العملية أنها عملية إقراض ربوي لتمويل هذه الصفقة، ولذلك لا تجوز، أحب أن أؤكد على هذه النقطة أولًا نقطة النظام وأننا لا يصح أن نعود إلى ما اتخذنا فيه من قرارات واضحة بالنقض، والنقطة الأخرى أن الصيغة التي قدمت في مجال بيع المرابحة للآمر بالشراء، إذا التزم فيها وفق ما قررتها المجامع المعترف بها والقرارات التي أخذت فيها فإنها بحمد الله وفضله يمكن أن تؤدي دورًا كبيرًا في هذا المجال، وخاصة أن هذا التطبيق سيمنع بهذه الشروط، سيمنع البنوك الإسلامية من التركيز عليها لأنه مادام فيه احتمالات ضمان وخسارة ستتجه إلى المشاركة والمضاربة، لكن لما جعلت هذه الصورة في التطبيق (الواقع لا يطرح قضايا ضمان) استسهلتها البنوك الإسلامية وصارت ترى أن نسبة تقريبًا تسعون بالمئة من أموالها المتداولة توظف في هذا النوع ولا تلجأ إلى الأنواع الأخرى لأن هذا النوع مضمون العاقبة ونحن لا نريد في الاقتصاد الإسلامي أن تقع مثل هذه الصور لأن الأصل احتمالات الخسارة والربح هي الأساس في جواز هذا الربح، وشكرًا والسلام عليكم ورحمة الله. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1132 الرئيس: في الواقع أنه بخصوص عمليات البيع الآجل مع تقسيط الثمن، ليس هو صورة كاملة لبيع المرابحة للآمر بالشراء الذي طرح بحثه، وإذا كان أحد من الأخوة يرى أنه صورة كاملة فيكتفى بما أداه أولًا عن المناقشة، أما من وجهة نظري ومن وجهة نظر عدد من الإخوان فإنه صورتان مختلفتان تمام الاختلاف، ودراسة هذه لا تغني عن دراسة تلك، هي مستقلة على ما هي عليه، على ما أفتى فيها وتم فيها، أما بيع المرابحة للآمر بالشراء بصوره الثلاث، سواء التي كانت في مصرف فيصل الإسلامي في السودان أو التي في بيت التمويل أو غيره، فهي محل البحث في جلستنا هذه. الشيخ عبد الله بن منيع: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده وبعد. لاشك يا إخواني أن الداعي إلى إيجاد أو دراسة هذه المواضيع هو في الواقع شعور عن مرارة الشكوى من انتشار البنوك الربوية وسيطرتها حتى على المجتمعات الإسلامية، ولهذا فزعت مجموعة كبيرة من أهل الخير إلى البحث عن بدائل من شأنها أن تزاحم، أو أن تحل محل هذه البنوك الربوية، وفي نفس الأمر تعطي الخدمات التي يحتاجها العصر الحديث، لاشك في هذا، ولاشك أن من أسباب قيام هذه المؤسسات الإسلامية المصرفية هو تيسير أمورها بحيث لا يترتب على ذلك التمييز أي إثم، ولكن كذلك لا يمكن أن يكون الوقوف أمام هذه المصارف الإسلامية، لا يمكن أن نقف أمامها بأقوال وإن كانت أقوالًا مشهورة وراجحة، لكن لاشك أن العلماء رحمهم الله بحثوا وقالوا إن هناك من الأمور الراجحة ما يمكن أن يأتي عليها من الزمن ومن تغير الأحوال ما يجعلها مرجوحة ويجعل المرجوحة راجحة، هذه في الواقع ناحية أحببت أن أتحدث عنها. ناحية أخرى، هي في الواقع لها أثرها في قبول أي قول يأتي به أي واحد أو أي باحث، وهو أن يؤسس ما يقوله في منع أي شيء على سلبيات يبرزها قبل أن يحتج على هذه السلبيات بقول فلان وفلان المجرد من التعليل، فإذا وجدت العلة ووجدت الآثار المترتبة على هذه العلة وهي آثار سلبية من شأنها مثلًا أن تأتي بالغرر أو بالجهالة أو بالربا أو بأكل أموال الناس بالباطل إذا جاءت هذه الموانع مؤكدة لهذا الشيء فهي مقبولة، أما أن يأتي المنع على أساس أن فلانًا قال كذا، وفلانًا من العلماء قال كذا، مجردًا عن أن يكون هناك علة لهذا الشيء أو أن تكون مبنية على تقعيد له أثره وله في الواقع سلبيته في ذكر الأسباب المانعة، فهذا في الواقع قد لا يكون مقبولًا. آتي على بعض النقاط: في الواقع أن هذه البنوك الإسلامية حين قامت فزعت منها البنوك التقليدية أو البنوك الربوية، في الواقع علمت أنها قد تضايقها أو قد تحل محلها، في الواقع على كل حال هيأت نفسها لمحاربة هذه البنوك الإسلامية محاربة بإيجاد شبه، واستئجار مجموعة ممن لا أخلاق لهم الواقع يأتون بالشبهات ويأتون بما يمكن أن يكون سببًا أو عراقيل من الأشياء الموجبة للحد من نشاط هذه الجمعيات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1133 النقطة الثانية وهو أننا حينما ننظر إلى النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالوعد المطلق والإلزام به والتحذير من مخالفته نجد من ذلك قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] ونجد من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق ثلاث)) ومنها: إذا وعد كذب وقد وجد من أهل العلم ومن سلف هذه الأمة من قال بالوعد الملزم قضاء وديانة، وطالما أن الإلزام بالوعد في الواقع لا يترتب عليه أكل أموال الناس بالباطل، ولا يترتب عليه ربا، ولا يترتب عليه غرر، ولا يترتب عليه جهالة، وإنما الذي أعطى وعده إذا جاء طائعًا مختارًا وهو مؤهل للتصرفات الشرعية، فلماذا لا نقبل منه ذلك ونلزمه بهذا الشيء؟ ثم أن هذا تيسير لأعمال البنوك الإسلامية، حينما نقول هذا لا يجوز لكم وهذا لا يجوز لكم، وهذا ينبغي البعد عنه، وهذا ينبغي كذا، فمعنى ذلك أننا نقول أفسحوا المجال للبنوك الربوية واجعلوا الربا ينتشر بيننا كانتشار النار في الحطب، فهذا في الواقع لا يجوز لنا، أن نسلك هذا المسلك. ناحية ثالثة، في الواقع قال مجموعة من الإخوان بأن الإلزام بالوعد هو بيع في الحقيقة، وأعتقد أن هذا ليس صحيحًا فإنما البيع يترتب عليه أحكام درك المبيع وما يتعلق بذلك، وأما الوعد فهو مجرد وعد، ففرق بين الوعد بالبيع وبين البيع نفسه ولاشك أن لهذا آثاره ولهذا آثاره ففي الواقع على كل حال أنا أرى أنه يتعين علينا أننا لا نبحث أو لا نقول بحل مسألة أو بمنعها إلا بعد أن نذكر العلة المانعة وأن نستدل على ذلك بنصوص من كتاب الله ومن سنة رسوله ومن أقوال السلف الصالح، أما أن نقول والله هذا لا يصلح لأن فلانًا قال كذا وفلانًا قال كذا من غير أن نجد تعليلًا لذلك، فأعتقد أن هذا لا يخدم المصارف الإسلامية التي تحاول جهد إمكانها في أن تحل محل البنوك الربوية أو أن تبعد عن الأمة وباء الربا وانتشاره وآثاره السيئة وشكرًا. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1134 الشيخ خليل محيي الدين الميس: بسم الله الرحمن الرحيم عطفًا على ما ذكره الأخ المتحدث أخيرًا، الحقيقة الكلام موصول، هنالك آية وحديث أو عدة أحاديث، الآية الأولى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] إذن آية تتوجه نحو الوفاء والحديث يتبعها بأمر عجيب وهو مقابل الإيمان إما نفاق وإما كفر، ولذلك جاء في الحديث ((آية المنافق ثلاث)) وعد منها ((وإذا وعد أخلف)) إذن نحن أمام إيمان أمام شريعة يلتزم أهلها بأقوالهم وأفعالهم يصل بنا الكلام إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا في نفس النسق ((لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك)) ، والكل يعلم أن الخطبة هنا وعد بالزواج وليس زواجًا، بل يصل بنا إلى حديث آخر: ((لا يبع أحدكم على بيع أخيه)) ومعلوم هنا أن هذا البيع هو المساومة، إذن الآيات والأحاديث متوجهة نحو الوفاء بالوعد كما هو الوفاء بالعهد والعقد، الآية طالبتنا بالوفاء بالعقود علمًا بأن المطالب بالوفاء هنا طرفان إن صح التعبير، أولًا الآية الكريمة "والمستفيد أو المتضرر من هذا العقد سيطالب" المولى عز وجل يطالبنا بالوفاء، ثم إن الفريق الآخر يطالب بهذا الوفاء باعتبار أن هذا عقد إذن عندنا هنا الوفاء مروءة، نعم، وهل الشريعة إلا تقعيد باصطلاح القانون للمروءة؟ وهذه هي شريعة الإسلام، إنها تسمو بالمروءة لتكون شريعة، وكم من مروءات العرب كانت في الجاهلية صارت شريعة إسلامية، وعليه ما تفضل به الجميع: نلاحظ أن الأحاديث مع الآية تتوجه إلى الوفاء بينما كلام الفقهاء طبعا يقترب من الوفاء حينا ويبتعد أحيانا، وما تفضل به الأخ نحن ملزمون نعم بالأحكام بالنصوص، والنصوص متوجهة إلى الوفاء خاصة إذا كان هذا الوفاء أو هذا الوعد أدخل الطرف الآخر بعقد أو بما مر عليه الأخوة الباحثون بالإلزام، ونحن فعلًا أمام نصوص فقهية، نحترمها ومنها نستقي ونستضيء بها بنور القرآن الكريم والسنة النبوية، ونحن أمام حالة بنوك إسلامية لا نقول نسهل لها الربا ولكن نحول بينها وبين الربا ونحول بيننا وبين المجتمع الربوي الذي غاصت به بنوك العالم الأخرى، وعلى أية حال الآيات والأحاديث متجهة نحو الوفاء، فلنتجه كما اتجه القرآن والسنة، إلى الوفاء بالعهد والوفاء بالوعد، والسلام عليكم ورحمة الله. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1135 الشيخ عبد الله بن بيه: بسم الله الرحمن الرحيم في الحقيقة طلبت الكلام في الموضوع الأول الذي كنا فيه ويبدو أننا مازلنا نتتبع أذياله، فيه بعض المسائل المهمة يجب أن نتفق عليها أولًا، من هذه المسائل هل نحن متبعون أم مبتدعون؟ يقولون إن الناقد بصير ولكنه باتباع الأثر جدير، عندما نقول كل أقوال العلماء، والعلماء تحدثوا عن مسألة الوعد ما تركوها هملًا، العلماء الذين تلقوا السنة وتلقيناها منهم تحدثوا عن هذه المسألة، وفرقوا بين عقد ووعد، وجعلوا النتائج المترتبة، والآثار التي تترتب على العقود ليست هي نفس الآثار المترتبة على الوعود، هذه البديهة الأولى هل نحن متفقون عليها؟ نعم، قلت: إن العلماء الأوائل فرقوا بين الوعد والعقد وهذا أمر بديهي، تحدث عنه الجميع، هل نحن متفقون على اقتفاء الأوائل؟ وهل نحن متبعون أم مبتدعون؟ الجواب على هذا السؤال طبعًا يحدد الإجابة في هذه القضية، إذا كنا قد تتبعنا المذاهب ونقبناها وجدنا أنهم تحدثوا عن هذه المسألة وما أغفلوها، وفي نفس الوقت قالوا إن الآثار المترتبة على الوعد ليست هي نفس الآثار المترتبة على العقد، نعلم ضرورة أن ترتيب هذه الآثار من طرفنا ألا ننشد له سلفًا من الأمة، وبالتالي فهو أمر خطير أن يكون مجمعنا هذا مجمعًا يحدث آراء جديدة على غير هدى، ويقعد قواعد أو يضع جملة من القواعد قد تناولها العلماء قبلنا، ووقفوا منها موقفًا واضحًا صريحًا، ونحن نخالفهم بدعوى أننا نريد إنقاذ البنوك من الربا، وبالتالي لنوقعها في ربا آخر، هذا الأمر له خطوراته أردت أن أنبه إليه. المسألة الثانية هي مسألة المواعدة التي أثارها الدكتور الضرير، وأنا في الحقيقة لم أفهم كيف ألزم طرفًا ولم يلزم الطرف الآخر، ليكون منطقيًا مع نفسه ومع النصوص التي أوردها، فإذا ألزم البنك فعليه أن يلزم الطرف الآخر الذي وعد، أو أن لا يلزم أحدًا منهما، وقد راجعت نص الشافعي فما وجدت فيه إلزامًا، البيع الأول هو بيع البنك أو بيع المأمور بالشراء هو الذي أمضاه الشافعي، أما البيع الثاني فهو بيع جديد ينشأ بين المأمور وبين الآمر، وهو بيع جديد كلاهما بالخيار، بمعنى أن أيًا منهما لم يلتزم شيئًا للآخر، فكيف تلزم بالوعد؟ هي المواعدة هي وعد من اثنين مفاعلة، والمفاعلة هي من اثنين، وقد تكون من واحد قليلًا، كما في قوله تعالى {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] وقد تكون من اثنين كما هو الغالب، فهي مواعدة من اثنين، التقاء وعد بوعد، فكيف تلزم طرفًا وتترك الطرف الآخر؟ أردت فقط أن يوضح لي الدكتور موقفه من هذه القضية، لا أزيد شيئًا كبيرًا –سيادة الرئيس- غير التنبيه على أن هذه المسألة لم نجد لها سلفًا، ولو وجدناه لاتبعناه، وشكرًا. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1136 الدكتور إبراهيم بشير الغويل: الدكتور عبد السلام أيضًا في بحثه القيم الذي كان يتسم بالموضوعية يقول بالنص: ركزت كثير من البنوك الإسلامية على أسلوب بيع المرابحة للآمر بالشراء ولم تهتم بأساليب الاستثمار الأخرى –يعني أهملتها- لأنها استطاعت أن تطبقها بطريقة تكاد تحميها من كل احتمالات التعرض للخسارة، أيضًا يقول: كادت هذه الصيغة في عدد من المصارف أن تنقلب إلى مجرد صيغة تمويل مال بمال يعود على البنك بالربح وبلا أي مخاطرة، الدكتور رفيق المصري أيضًا أورد نسبًا مئوية، كيف المصارف الإسلامية بدأت كلها تترك أي معاملات أخرى وتتجه إلى المرابحة للآمر بالشراء؟ فوصلت إلى ثمانين في المائة في بعض المصارف وإلى ثمانية وتسعين في المائة في بعض المصارف وقد تصبح مئة في المائة، إذن هذا السؤال، إذن هذه المعاملة أو هذا الأسلوب لابد أن ينظر، هذه الملاحظة أود أن أعود إليها أيضًا لأن كثيرين يذكرون بأن هناك آيات في القرآن تؤكد على الوفاء بالعقد وأن هناك أحاديث لم تمر على الأسبقين في أي قرار: نحن نريد أن نصدره علينا أن نذكر أنها موجودة، ولكنهم احتاطوا لما عرفوا أن هذا الأمر يجر إلى معاملات ربوية، وكل عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تتبعه للمعاملات هو مطاردة لاحتمالات تحويلها إلى الربا، أيضًا هذه المعاملة في حد ذاتها حينما نزلت إلى التطبيق دعت الجميع إلى ترك أي أمر، والبحث عن المعاملة العادية التي كنا نحاول أن نتجنبها وهي معاملة تتجنب المخاطرة، تبحث عن الربح السريع، تهمل عمليات الاستثمار الإنتاجي الحقيقي، وبالتالي أصبحت المرابحة في المصارف الإسلامية هي في الحقيقة عبارة عن كسب سريع دون مخاطرة ودون أي جهد. المرابحة في المصارف المعمول بها الآن ليس فيها أي جهد، ولا تعرف حتى على ظروف الأسواق العالمية، ولا تطور الطلب فيها، ولا تحليل مناخ السوق العام ولا اتجاهات الأجل القصير ولا البعيد، ولا معلومات عن أي مصادر لأن هذا كان يستدعي من المصارف جهدًا لا يقل عن الجهد الذي لو دخلت في المضاربات أو المشاركات، فهي مالت وتركت ما أنشئت من أجله وهو إبراز أن ما يريده الإسلام في المعاملات هو المشاركة والدخول في المخاطرة وتشجيع الإمكانيات، وعادت من جديد إلى الأسلوب التقليدي للمصارف أو البنوك، وهو البحث عن الربح السريع مع ضمان وجود أي مخاطرة، وإهمال أي عمليات استثمارية أخرى، هل هذه الظروف التي تحيط بهذه المعاملة بالإضافة إلى ما انتبه إليه الأسبقون من خطورتها تجر إلى ذلك، لتنبهنا إلى أن هذه العملية فعلًا هي تجر الناس جرًا كما انتبه الأسبقون إلى المعاملات الربوية؟ الأسبقون يعون جيدًا أهمية الوفاء بالعقود، ويعون جيدًا توجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يكون الإنسان غير مخل بوعوده، ولكنهم وجهوها في أمور ليس فيها مجال للالتباس في دخول العقود الربوية، ولذلك كان الشيخ صباحًا حينما تكلم كآخر متحدث في موضوع الوفاء بالوعد هو الذي أوضح موضع الداء الذي يتوجه إليه، والآن في المرابحة للآمر بالشراء الأمر واضح بناء على المعلومات التي أدلى بها الدكتور عبد السلام والأخوة أصحاب المصارف الإسلامية من أنها صارت تكاد تنفي أي معاملات أخرى، لماذا؟ لأنها ليس فيها مخاطرة، لأن فيها ربحًا سريعًا، لأن فيها إهمالًا لعمليات الاستثمار الإنتاجية وما تتطلبه من جهد، إذن لا جهد ولا مخاطرة، وما هو المانع وراء الربا غير أنه أخذ المال دون أي مخاطرة أو جهد؟ واستغلال للآخرين، وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1137 الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] . إن هذه القضايا المصرفية التي أحيلت علينا، والتي نظرت فيها مجامع وجلسات كثيرة، علينا أن نعود إلى منبعها، من أين نبعت هذه المشاكل؟ نبعت هذه المشاكل من قرار، قرار خطير حكيم قال به الملك فيصل رحمة الله عليه وألحقه بالشهداء الصالحين، لما منع النفط كان العالم الإسلامي كله فقيرًا لأن الدول التي نهضت –لما نمنا- عملت على تعويقنا، فكان كل ما في العالم الإسلامي من خيرات إنما هي تمتص ليزداد الغرب ثراء وليبقى العالم الإسلامي على فقره، فكان القرار الخطير بمنع تدفق النفط وارتفاع سوق النفط أو ثمن النفط، أن حصل فيض من السيولة المالية عند بعض الدول المنتجة للنفط في العالم الإسلامي، وهذه السيولة المالية كما يقول عمر رضي الله عنه "أبت الدراهم ألا تخرج أعناقها" فلابد من أن هذه السيولة المالية ستنصرف، انصراف المال في أمرين: أولًا حركة، وبغية للربح من أجل المال، ثانيًا في الإنفاق على المتاع وعلى الحياة وهذا التوجه الأول أعني زيادة أو إنماء هذه الأموال ذهبت أولًا وبالذات فعند كثير من الذين تحصلوا عليها، إلى دول الغرب، فأودعت في بنوك أمريكا وفي سويسرا وفي غيرها من الدول المالية، وإذا بمشكلة جديدة حصلت في العالم الإسلامي هي أن هذه الأموال عادت إلى الغرب بعد أن دفعها لتزيده نهضة وتمكن للعالم الإسلامي في قيوده، فكيف تعود هذه الأموال إلى العالم الإسلامي حتى ينتفع بها؟ فكان كحل من الحلول إيجاد البنوك الإسلامية، فهذه البنوك الإسلامية هي تمثل الاحتفاظ بمقوم من المقومات الخمسة –أعني حفظ المال- لأن المهم أولًا وبالذات حفظ مال الأمة، ثم حفظ المال الفردي، فهذا المال الذي قد تفتح له وتجلب الغربيون بكل الطرق وعاد على اقتصادهم بالخير الوافر، كيف يمكن أن يعود إلى العالم الإسلامي ليحركه؟ فكانت هذه البنوك الإسلامية وكان لابد من أن تأخذ هذه البنوك الإسلامية منهجًا وطريقة: هذا المنهج نريده أن يبتعد رويدًا رويدًا وقليلًا قليلًا عن البنوك الربوية التي مضى عليها قرون وقرون حتى يستقل بذاته، وهنا يأتي الموقف الخطير لفقهاء المسلمين، فعلينا أولًا أن نعلم أن هذه المصارف على هذا النحو هي أمر جديد في الإسلام وعلى العالم الإسلامي، وما كان يريد العالم الإسلامي في تاريخه الطويل تجميع الأموال بهذه القوة وتصريفها في الاقتصاد والاستثمار، وإنما كانت الجهود فردية والشركات التي كانت عندما كانت بين أفراد أو اثنين أو ثلاثة ولا تعدو ذلك إلى أن تشمل كامل المواطنين في البلد. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1138 فهذا النوع الجديد من الاقتصاد الذي يحفظ مال الأمة، وكيف نجعله إسلاميًا؟ هو الذي جعل هذا البحث يأتي إلى هذا المجمع الموقر، جاءتنا مشاكل أولًا من البنك الإسلامي للتنمية، وهو بنك يتعامل مع الدول، والنظرة إلى هذا البنك غير النظرة إلى بقية البنوك، ولذلك جاء في المقررات النص على البنك الإسلامي للتنمية باعتبار أنها فتوى في واقعة تشمل كل المعطيات التي تتعلق بتلك الواقعة التي منها البنك الإسلامي للتنمية باعتبار أنه يتعامل مع دول ولا يتعامل مع أفراد، وفرق لأنه لا يبغي الربح في ذاته وإنما يبغي تكوين استثمارات مالية والقيام بمشاريع اقتصادية كبرى في العالم الإسلامي هي في حاجة إليها، سواء أكانت هذه التجهيزات أساسية أو كانت تجهيزات إنمائية. ثم بعد ذلك –والحمد لله- جاءت الاستفتاءات من البنوك الإسلامية التي لها طرق كثيرة في التصرف والتي ستولد طرقًا أخرى، وعلينا أن ننظر في كل الطرق التي تأتينا من التفكير الإسلامي أو تفكير رجال الأموال ورجال الأعمال لتنمية الأموال، فجاء من هذه القضايا قضية الوعد الملزم. الوعد الملزم: إذا أخذنا الوعد الملزم حسبما جاء في نصوص الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة فنحن نجزم أنه في القضايا المالية ليس هناك وعد ملزم ولكن الذي أريد أن أقوله هو أن الوعد باعتباره كقيمة خلقية أي من الناحية الثالثة من القواعد الشرعية وهي قاعدة تحسينات، هي قاعدة من القواعد، لكن هذه القاعدة عندما تصبح خادمًا للأصل أعني الأصل الأول وهو المحافظة على مال الأمة فإنها تلتحق بالحاجة لأن كل ما كان خادمًا للظروف يصبح ملتحقًا بالحاجة وبذلك يكون الوعد النظر في هذا على حسب القواعد التي أسسها العلماء والتي فصلها الإمام الشاطبي رحمة الله عليه يصبح الوعد الملزم محل نظر أو محل ترجيح خاصة وأننا نجد أن الصحابة رضوان الله عليهم قد واجهتهم مشكلة وهي أن اليد الأمينة هي لا تتحمل الضمان، غير ضامنة، لكنهم في النهاية قالوا إن الصناع يعملون رغم أن يدهم يد أمينة وذلك حفاظًا على المصلحة العامة أي على التعامل بين الناس. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1139 ولذا أرى أن وجود الوعد الملزم يمكن النظر فيه، لكن الأمر الذي بقيت أتساءل فيه مع كل الباحثين الذين بحثوا هو أنه في هذه القضايا لابد من البحث الميداني، أعني البحث الميداني، هو أنه البحث مع البنوك الإسلامية هل هي في حاجة للوعد هذا أم لا؟ وهل العقود التي عقدتها مع المتعاملين معها كانت في حاجة إلى هذا الوعد الملزم؟ وكم عدد العقود أو عدد المتعاقدين الذين حصلوا على العقد ثم لم يقع الوفاء به؟ فالحل أننا ننظر في وقائع ميدانية حقيقية وهذا ما أرجو أن يقع التآمل فيه وأن تقع الاستجابة إلى إجابته لأنه مثلًا في قضية الزيادة عند الأجل، يقول أهل بنوك المسلمون: إننا لسنا في حاجة إلى هذا فقد استطعنا أن نأخذ من الضمانات ما يكفينا ولا حاجة لنا في أن نحمل العميل غرامة زائدة، والفقهاء يريدون أن يذهبوا أكثر مما يريده أهل البنوك، فأهل البنوك لابد عندما يتحدث معهم رجال الأعمال أن نستوضح منهم الواقع كما هو، لأن في استيضاح الواقع ما يرشدنا، فإذا وقع التعامل المالي، وأصبحنا نقول للبنوك لا تعملوا وإذا كانوا يعملون فستذهب الأموال إلى أمريكا فهنا علينا أن ننظر في الواقع حسب ما هو، فهذه ناحية أردت أن تضاف إلى البحث حتى نطمئن عندما ننتهي ونعطي فتوى. الأمر الثاني الذي أردت أن أتحدث فيه هو التفرقة بين البيع وبين العقد فيما تحدث فيه فضيلة الشيخ تقي الدين عثماني، فإذا قال له تنح وأنا أعطيك فهذا ليس وعدًا، هذا عقد كامل، لكن المعقود عليه ما هو؟ لأننا كما قلنا لو قال سأعدك بأنني في المستقبل –لا – هو من الآن وقع بينهما عقد على أن يتنحى من المزايدة ويأخذ مالًا لأنه حتى إذا لم تقع المزايدة ولم يشتر الشيء فعليه أن يدفع له، فزاد عقدًا وقع على معقود عليه قد تختلف فيه الأنظار ولكنه ليس مما نحن فيه، ليس بالوعد الملزم، كما أن الشرط الذي ذكره الحطاب في الغرامة هو شرط لاحق، وهو شرط مقدم والذي تريده البنوك هو شرط عند عدم الوفاء يقول له: إما أن تقضي وإما أن تزيد، سواء كانت الزيادة له أو لغيره مشكل آخر، فهذا بعض ما أردت أن أذكره وشكرًا لكم. الرئيس: شكرًا بقي حوالي ثمانية من الذين طلبوا الكلمة وأرى الوقت الآن الواحدة والربع تقريبًا فترفع الجلسة ونستأنفها إن شاء الله تعالى في أوائل الجلسة المسائية الساعة الرابعة وشكرًا. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1140 الجلسة المسائية الدكتور سامي حسن حمود: بسم الله الرحمن الرحيم أساس التسمية " بيع المرابحة للآمر بالشراء " هو من الاختيارات التي أقرها أستاذ الفقه الإسلامي المرحوم محمد فرج السنهوري رحمه الله، حين كنت أدرس في جامعة القاهرة، والتسمية اصطلاحية، لذلك أرى في الاعتراضات من بعض الباحثين أن يقال لها الواعد بدل الآمر، اعتقد أن استقرارنا على الآمر في اللغة العربية، الأمر له معاني متعددة فهو من الأقل إلى الأعلى، رجاء ودعاء، ومن المتساوين التماس، ومن الأعلى إلى الأدنى أمر، الدوافع الأساسية في هذه القضية، قيل من غير العارفين بظروف طرحها للعمل أنها حيلة للربا، وقيل إنها صورة من صور العينة، والواقع أنها بشعور المستظل بظل الفقه الإسلامي في مجالات لا يمكن أن تغطيها المضاربة أو المشاركة، واضرب لذلك مثلًا: إنسان بحاجة إلى سيارة لاستعماله الشخصي، فلا سبيل لشرائها واستعمالها عن طريق المضاربة أو المشاركة، أو الحكومة تحتاج إلى أنابيب تمديد توصيلات المياه وترغب في أن تجد طريقًا للتمويل فلا سبيل إلى المضاربة أو المشاركة، وإنما عن طريق بيع المرابحة تشتري لها الأنابيب وتباع عليها بالسعر والربح المتفق عليه، فهذا الاستظلال بظل الفقه الإسلامي الذي وجدناه في كتاب الأم للإمام الشافعي رحمه الله وجزاه الله خيرًا بما قدم ولم يكن حتى أهل الشافعية يعلمون بذلك كما قال لي الدكتور عبد الغني عبد الخالق الذي درس كتاب الأم ثلاثين عامًا، وقال عندما سألته عن هذه المسألة، هذه أول مرة أطلع عليها في كتاب الأم، فالجدة في الصيغة عن الإمام الشافعي تختلف حتى مع احترامي للذين يقولون إنها واردة عند المالكية فيما ذكره هذا الصباح الأستاذ الفاضل الصديق الضرير حينما أشار إلى ما ورد في الموطأ قال: ابتع لي هذا البعير، هناك فرق في المعنى واللفظ، عندما أقول: ابتع لي هذا البعير بعشرة، وأشتريه منك بأثني عشرة فهو وكيل عني فالبعير ملك لي وله على دين قيمته عشرة، وشراء الدين عشرة بأثني عشرة ربا، وأنا معهم في ذلك وهم محقون ولكن عندما ننظر إلى الصيغة التي طرحها الإمام الشافعي رحمه الله، قال: أشتر هذه وأربحك فيها كذا، اشترها بملكك أنت، وإن هلكت فهي تهلك عليك، وهذه هي الصيغة التي يجب أن تكون واضحة في أذهاننا ونرد البنوك الإسلامية إليها –إن خرجت عنها- بأن يكون الشراء حقيقة، المأمور يقوم به حقيقة ويتملك ويضمن تبعة الهلاك ثم يبيع، إذا رددنا الأمور إلى نصابها فتاتي الصور أو التطبيقات التي يطعن بها البعض في أصل العقد من ناحية الخروج عن الأصل فإذا كان العنب يزرع في بلد من البلاد ويصنع البعض من عصير العنب خمرًا فلا يقال أقلعوا العنب، ولكن امنعوا صناعة الخمور من هذا العنب، ويبقى العنب عنبًا للزراعيين حلالًا طيبًا. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1141 فالمرابحة يجب أن ترد إلى الأصل أن لا يسمح بالتخلص من تبعات الهلاك، وأن لا يكون الآمر أيضًا تخلص من العمل عن طريق التوكيل، توكيل المأمور بأن يقوم بكل مهام العملية، ويشتري لنفسه ويقبض لنفسه وكأنه أخذ المال ابتداءً ورده مع زيادة انتهاء فنصبح واقعين بعملنا في الربا من خلال الخروج عن الصيغة التي وصفها الإمام، وقال: اشتر هذه، يعني قم بعمل الشراء. النقطة التي تتعلق بالوعد والإلزام فيه، المواعدة بحد ذاتها لا تعتبر بيعًا ولو كانت ملزمة وما ذكر الإمام الشافعي يوضح لك لو قرأناه معًا بدقة، قال: وإن تبايعا به على أن الزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ من قبل شيئين، أحدهما أنه تبايعاه، قبل أن يملكه البائع، فهنا لو قال بعتك ما سوف اشتريه لك ولكن عندما يقول أعدك أو نتواعد معًا على أن نتبايع بعد أن يأتي الشيء ويصبح واقعًا، والصورة التي نقلها الإمام تتحدث عن أمرين. الأمر الأول: قال: اشتر هذه، فمعناه يشير إلى شيء حاضر، هذه المعينة اشتر هذه وأربحك فيها كذا، أو قال: اشتر لي هذا المتاع ووصفه له، الوصف وصف لغائب، وسواء وصفه أو قال متاعًا أي متاع شئت، يعني فوضه بذلك، فلا بد عند حضور المتاع: إما حسب الوصف وإما حسب الرغبة، الذي قال اشتر كما تشاء وأرى فكل هذا الأمر يدل على أن العملية يتم فيها الشراء أولًا ثم يأتي العرض على المشتري، فإما أن يشتري وإما أن لا يشتري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1142 فالإلزام في الشراء ليس بيعًا، بدليل أنه لو كان بيعًا لانتقل الملك مباشرة بمجرد حضور البيع، ولكن ليس هناك انتقال وإنما فيه إلزام على البيع، والإلزام في اللغة الشرعية واللغة القانونية مقتضاه أمران: إما أن يكون هناك تنفيذ فيكون تنفيذًا لما تم عليه الاتفاق، أو لا يكون تنفيذ فيكون تعويضًا من الضرر الناتج عن عدم التنفيذ، فمفهوم الإلزام ومقصوده أن لا نخرج من عملية البيع بتحايل قد يضار فيه البنك ولسنا نحمي البنوك الإسلامية فقط، وقد يضار فيه العميل بدليل أنه لو استورد البنك هذه البضاعة ثم ارتفعت الأسعار وطمع البنك في ارتفاع السعر وحرم التاجر من بيعه البضاعة التي طلبها لأنه كان يتوقع ارتفاع الأسعار، وكان هذا التاجر مرتبطًا مع جهة ما ليورد لها هذه البضاعة فيحصل له ضرر كبير لو لم يلتزم البنك، فأما أن نقول بالإلزام للطرفين -وهذا هو المفهوم- أو الطرفان يكونان حرين في ذلك، وهنا إذا كانت الحرية، فتدخل الأطماع، كيف ترتفع الأسعار ونبيع السعر المرتفع بالسعر السابق المتفق عليه؟ فيحدث الضرر ويصبح بلبلة في الأسواق ويتجنب استقرار الاسعار والعقود والمعاملات بين الناس، وتصبح القضية، قضية هزل وليست قضية جد، فإذا كان هناك من يقول: فلتمتنع البنوك الإسلامية عن الالتزام ولا تشتري إلا البضائع التي ليس فيها التزام، فماذا يعني هذا؟ يعني أن البضائع العامة كالقمح والسكر والأرز الذي يمكن أن يباع عمومًا يصبح صالحًا للاستيراد، ماذا عن البضائع المخصصة؟ شركة طيران الكويت تستورد محركات نفاثة لا تصلح إلا لطائراتها البيونغ 747 وجاء المحرك حسب الوصف ثم قال مدير الشركة لا نشتري هذا المحرك، أين يذهب البنك بهذا المحرك؟ هنا يحدث ضرر فإما أن يكون قول بالإلزام لأنه جاء حسب الوصف وهذا هو الذي سار به الأحناف في عقد الاستصناع عندما كان الرأي الأول رأي الإمام أنه هناك خيار في عقد الاستصناع ثم تبينوا مدى الضرر الذي ينتج عن هذا الخيار، فجاء رأي المتأخرين ورأي أبي يوسف وأخذت المجلة (مجلة الأحكام العدلية) بالرأي الأخير الذي ألزم قبول الشيء المستصنع فيه طالما أنه جاء حسب الوصف، ولو كان عند التعاقد معدومًا، وهذا هو الأمر الذي نرى فيه في عقود المرابحة للآمر بالشراء، أنه إذا كان هناك نكول وقلنا بأن اللزوم لا يعني الإجبار على التنفيذ فلابد أن عدالة الشريعة لا تسمح بوقوع الضرر لا للبنك الإسلامي ولا للعميل، وأن تكون هناك قاعدة واضحة بأن هذا الضرر إذا حصل فإن المتسبب فيه يكون ضامنًا لتعويض الجهة المتضررة عنه وبذلك يتكامل عدل الشريعة وجمالها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1143 الذين يقولون أو يعلقون أن المرابحة بيع لمعدوم أقول: عندي ملاحظة لو كان معدومًا إذا كان البيع حاصلًا وقت التعاقد ولكنه وعد، يعني إن جاء هذا الشيء حسب ما اتفقنا عليه فأنا أشتريه، فعندما يأتي الشيء ويتم النظر فيه أو الفحص أو المعاينة فإن هذا هو المطلوب، والذي يحمل النصوص أكثر مما تحتمل فيقول: إن البنوك الإسلامية تفتح الاعتمادات بأسماء الناس، صحيح أن فتح الاعتماد باسم البائع أو الطالب للشراء، ولكن بوليصة الشحن حتى وفق قواعد الاعتمادات المستندية العالمية لا تكون إلا باسم البنك، والملكية تبقى باسم البنك وزادت عليها البنوك الإسلامية أن تبعة الهلاك لا تتعلق بالوثائق ولكن تتعلق بحقيقة البضاعة، وقد حدثت حادثة في البنك الإسلامي الأردني عندما كنت مديرًا له أن جاءت الصناديق حسب الوصف في بوليصة الشحن ولكن المحتوى كان مختلفًا عن وصف البضاعة الحقيقي، فتحمل البنك تبعة الهلاك لأن المسئولية ليست مسئولية وثائق وأوراق، ولكن حقائق وبضاعة حقيقية تكون حسب الوصف المتفق عليه. ولو نظرنا إلى هذا الموضوع من هذه الصورة الشاملة والنظرة المتكاملة اعتقد أننا نعطي الموضوع حقه من جانبيه: حماية للبنك الإسلامي الذي نحرص عليه ولكن حرصنا الأشد أن لا يخرج عن حدود قواعد الشرع، وحماية للمتعامل مع هذا البنك أيضًا حتى لا يساء إليه باسم القول وبعدم اللزوم والإلزام لأن اللزوم شيء والإلزام في العقد شيء، وتنفيذ العقد وتعويض الضرر شيء آخر، وشكرًا لكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1144 الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد: عندما بدئ في بحث هذا الموضوع الذي انتهت البنوك الإسلامية فيه إلى رأيين: الرأي الأول يكون الوعد ملزمًا، والرأي الثاني يكون الوعد غير ملزم، وسارت على هذين الرأيين حسب ما تراه الهيئات الشرعية في كل بنك، انتهت البنوك الإسلامية أقول: إلى هذين الرأيين، وهذان الرأيان مأخوذان من الشريعة الإسلامية ومن قواعدها ومن أسسها، عندما بدئ البحث فيها، قلت سبحان الله لماذا العود على البدء؟ الخطأ حصل أم الرأي جديد جد؟ فأخذت أصغي إلى ما قيل من الصباح إلى اليوم ووجدت أن لا جديد: الفقهاء كل منهم يكرر ويعيد رأيه السابق، وأود أن أقول شيئًا من التصحيح والترجيح ووضع بلسم على ما سمعته من بعض الأخوة على مواطن الترجيح. البنوك الإسلامية هي في الحقيقة أسست لأن تقوم حسب منهج الله سبحانه وتعالى وحسب الشريعة الإسلامية في فقه المعاملات، ولتنقذ الأمة الإسلامية من الربا ومن كل أموال الناس بالباطل، ومن الأمور الأخرى التي لا يجيزها الإسلام، وسارت على هذا المنهج طوال خمسة عشر عامًا، وهي في تفوق وفي نجاح وفي ازدياد، بدليل أن البنوك الإسلامية الآن منتشرة في العالم اجمع، وإن البنوك الأخرى التقليدية تحاول أن تنهج نهجًا وان تسير حسب مسيرتها، فأنا أطمئن الأخوة الذين يخشون أن تقع البنوك الإسلامية في الربا، أطمئنهم بأن كل بنك إسلامي لم يؤسس إلا لمحاربة الربا، وقد يقع في الخطأ ولكن الخطأ غير متعمد وإذا رؤي تصحيح للخطأ يصحح ما عليه العمل في أي بنك من البنوك الإسلامية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1145 في بيت التمويل الكويتي قبل أن نبدأ العمل وضعنا قواعد وأسسًا عليها نسير طيلة ثمانية شهور، ونحن نقعد القواعد ونضع العقود حسب منهج الشريعة الإسلامية نحن لا نعد أحدًا بأن نشتري له بضاعة، وإذا وعدنا أحدًا بأن نشتري له بضاعة نحن نكون صفتنا هنا صفة الوكيل الذي يأخذ أجرًا على الخدمة إنما نعد إذا اشترينا وملكنا نعده بأن نجري عقد البيع معه، في الحقيقة لا أريد أن أطيل لأن ما قاله الشيخ ابن منيع جزاه الله خيرًا صباحًا كفاني –في الحقيقة- الكثير من القول، إنما أرجح الآن أن نقطع الأمر وأنا حسب رأيي أن أرجح بالوعد الملزم لأمرين، الأمر الأول: الوعد الملزم يتلاءم مع القيم الإسلامية الرفيعة، ويطابق النصوص في الكتاب والسنة، ولقد وردت على لسان الفقهاء صباح اليوم ولا داعي لتكرارها. الأمر الثاني: لإزالة الحرج الذي يلقاه المسلم عندما يتواعد مع غير المسلم في المعاملات حيث أن المعاملات المعاصرة في زمننا هذا دائمًا وأغلبها تسبقها المواعدة، وكيف يجوز للمسلمين أن يظهروا للكفار بمظهر يتناقض مع ديانتهم التي تحث على الوفاء بالوعد؟ أما الأخوة الذين يريدون من البنوك الإسلامية بأن تكون بنوكًا تسوية تعمل بالآجال المتوسطة والبعيدة، هؤلاء الأخوة ليسوا اختصاصيين اقتصاديين عليهم هم أن يردوا في المسائل الفقهية، وأن يتركوا المسائل الاقتصادية لأهل الاقتصاد وشكر الله لكم. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1146 الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم كنت راغبًا عن الكلام في هذا الموضوع بعد أن طال وخصوصًا بعد أن قدمت بحثي فيه، والكلام فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الحرج عن الباقين، ولكن بدت لي بعض الملاحظات، معظمها ملاحظات منهجية: أولًا: فضيلة الرئيس قد أشار إلى أن من يعرض بحثًا معينًا عليه أن يشير إلى البحوث الأخرى، وهذا لم يلتزم، مع أنه لازم وخاصة إذا كانت بعض البحوث تنهج نهجًا مخالفًا لعامة البحوث الأخرى، أو متجهة اتجاها آخر، لأن من الظلم لها في هذه الحالة أن تترك، هذه واحدة. الملاحظة الثانية: أننا هنا في الواقع لسنا كما قال بعض الإخوة مبتدعين، نحن متبعون، ولكن ما معنى الاتباع والابتداع؟ هل الأتباع أتباع ما قاله السادة فقهاؤنا السابقون من مقلدي المذاهب المختلفة؟ أم الإتباع هو إتباع ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ لاشك أن الأتباع الذي نلزم به دينا ويحاسبنا الله عليه هو اتباع الكتاب والسنة، وكل أحد بعد ذلك يؤخذ من كلامه ويرد عليه، فلا ينبغي أبدًا أن نلام إذا لم نأخذ بقول الفقيه الفلاني أو الفقيه الآخر، لأن هؤلاء اجتهدوا لزمانهم وعلينا أن نجتهد لزماننا، وكل زمن له أموره الخاصة وأحواله الخاصة، وهذا أيضًا ما أقوله في الملاحظة الثالثة وهي أننا من الناحية النظرية جميعًا نشيد بكلام الإمام ابن القيم وكلام القرافي وكلام ابن عابدين، وغيرهم ممن تحدثوا عن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال والعرف إلى آخر ما نعلم، كلنا يشيد بهذا، وعند التطبيق لا نلتزم هذا، نحن نوقن أن الفقهاء الذين قالوا بعدم الوعد أو عدم الالزام بالوعد أو غير ذلك لو عايشوا ما عايشنا وشهدوا من الوقائع ما شهدنا وأن مثل هذا الأمر إذا لم يقل به يترتب عليه ضياع مصالح كثيرة، وأن المعاملات الآن لم تعد فيما كانت عليه من قبل، أصبحت ملايين وعشرات الملايين، لو أن هؤلاء الفقهاء عايشوا ما عايشنا لقالوا بمثل ما قلنا، فهذه ينبغي أن توضع في الحساب. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1147 رابعًا: في مسائل المعاملات الخاصة، الحقيقة ينبغي أن نتبنى منهج التيسير لا التشديد، وهذا ما جرى عليه الأئمة ومقلدوهم، فكثيرا ما كانت لهم عبارات في مثل هذه الأحوال يقولون: هذا أرفق بالناس، لا يصلح الناس إلا ذلك، عملية الرفق أو يقال مثل هذا، أعني قيل به تصحيحًا لمعاملات المسلمين بقدر الإمكان، وهذا أمر معروف في كل المذاهب، ولهذا قال الحنفية المتأخرون منهم أنهم اجازوا أو اجبروا بالمواعدة لحاجة الناس، والاخوة يذكرون في مسالة بيع الوفاء، ولكن هناك ما هو اسبق من بيع الوفاء، وهو ما ذكرته في بحثي وما أشار إليه الأخ الدكتور سامي حمود "عملية الاستصناع" والاستصناع قالوا هو مواعدة أم مبايعة؟ ورجح الكثيرون أنه مواعدة، ولذلك مذهب الإمام، والمذهب المفتى به عندهم أنه بعد الاستصناع من حق المستصنع له، أو المستصنع طلب الصنعة أن يقول لا، لا يعجبني ويترك ما صنع له، ولكن مجلة الأحكام حينما قننت مذهب أبي حنيفة في المعاملات اختارت مذهب أبي يوسف في هذا، وعللت هذا أنه الآن أصبحت هناك مصانع عظيمة ومعامل كبيرة وسفن وبواخر، فلو أننا خبرنا من طلب الصنعة المستصنع بعد ذلك وقال: لا أريده لترتب على ذلك حرج كبير ومفاسد عظيمة، فمن اجل هذا اختارت المجلة مذهب أبي يوسف، فهذا ينبغي أن نراعيه، مسالة التيسير، وأنا يعجبني هنا كلمة أكررها دائمًا وهي كلمة الإمام سفيان بن سعيد الثوري، وهو إمام في الفقه وإمام في الورع وإمام في الحديث، أمير المؤمنين في الحديث يقول: إنما الفقه الرخصة من ثقة، فاما التشديد فيحسنه كل أحد، والرخصة في المعاملات بالذات لأن الأصل فيها الإباحة، والبيع بصفة خاصة لأن فيه نصًا {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] و (الـ) هنا للجنس أو للاستغراق ولذلك ابن رشد في المقدمة يقول: هذا يشمل كل بيع إلا أم استثناه النص، فالأصل في البيوع خاصة الحل وفي المعاملات عامة الحل، هذه كلها ينبغي أن نراعيها حينما ننظر في موضوع مثل موضوع المرابحة، وهو موضوع تقوم عليه البنوك الإسلامية صحيح نبه أخونا الأستاذ الدكتور العبادي في الصباح إلى أن البنوك الإسلامية أصبحت معظم معاملاتها في المرابحة، وهذا للأسف أمر نأسف له وهو يرجع إلى أمور اقتصادية لا إلى أمور شرعية كما أشار الأخ أحمد بازيع رئيس بيت التمويل، ونحن نبهنا وقلنا: إنه ينبغي أن نخرج البنوك الإسلامية من قمقم المرابحة، هي سجنت نفسها في المرابحة ولكن هذا شيء والقول بتحريم المرابحة شيء آخر، فالمرابحة جائزة والقول بالمرابحة مع عدم الإلزام بالوعد في الحقيقة يترتب عليه ضرر كبير، ونحن أيضًا هنا أذكر ملاحظة، أنه حينما يختلف العلماء، فما المرجع؟ ما قاله الله تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . [النساء: 59] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1148 هل الوفاء بالوعد يصل إلى حد أنه مجرد مستحب؟ وإن إخلاف الوعد مكروه تنزيهًا أو خلاف الأولى؟ هذا يمكن إذا رجعنا إلى النصوص، إذا احتكمنا إلى الله ورسوله، القرآن والسنة مليئان بأن الوفاء بالوعد من الأمور الواجبة والتشديد في إخلاف الوعد والأحاديث محفوظة لكم، القرآن غير {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وغير {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] هنا يقول {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} [التوبة: 77] ما معنى هذا؟ {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] يعني إبراهيم استجاز أن يستغفر لمشرك من أصحاب الجحيم من أجل الوعد السابق، إنه قال: سوف أستغفر لك ربي، يعني معناه أنه يرى أن الوعد لازم، طبعًا شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد نسخ، الإمام الغزالي ذكر الإخلاف بالوعد، جعله من المهلكات في روع المهلكات في الإحياء، وذكر في الآفات وذكر عليه أدلة عديدة من القرآن والسنة ومن أعمال الصحابة وهديهم، كما ذكر عن ابن عمر رضي الله عنه ذكر انه قال عند موته قال لهم أجلسوني ثم قال: إنه قال: قد كلمني رجل من قريش خطب إلي ابنتي، وكان لي منه شبه وعد، أشهدكم أني زوجتها منه حتى لا ألقى الله بثلث النفاق، هذه كانت نظرة الصحابة رضوان الله عليهم إلى المسألة، وعمر بن عبد العزيز وغيره من العلماء منهم ابن شبرمة الذي ذكره ابن حزم في المحلى ومنهم ابن الأشوع، الذي ذكره البخاري في صحيحه، وهو مذهب البخاري كما يبدو من ترجمته في الصحيح ومذهب شيخه إسحاق بن راهوية وهو ما ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين حيث ذكر الوفاء بالشروط والعقود والعهود والوعود، كلها نظمها في سلك واحد، كما أن المسلمين عند شروطهم، فهم عند وعودهم أيضًا لأنهم لا يقولون ما لا يفعلون هذا أمر واضح فيما كتبه ابن القيم، فكيف نقول بعد هذا أن هذا أمر مكروه والحافظ ابن حجر قال: وجدت فيما ذكره أبي من إشكالات على الأذكار للنووي، وجدت بخط أبي أن أباه رضي الله عنه استشكل قال: كيف يقولون بأن اخلاف الوعد مكروه مع قوله تعالى {لِمَ تَقُولُونَ ... } [الصف: 2] ومع ما جاء في الأحاديث ومع هذا الوعيد الشديد؟ فهذا استشكال يعني لا جواب له، فكل هذه الأدلة وما ذكره أيضًا ابن القيم وأضاف إليه في الوعود خاصة، أنك إذا قلت لابنك أعطيك شيئًا ولم تعطه كتب عليك كذبة، وغيره من الأحاديث. ولذلك الذي يطمئن إليه قلب الإنسان المسلم بعد قراءة النصوص هذه كلها لا يمكن أن يراوده شك في أن الوفاء بالوعد واجب وفريضة من فرائض الدين وأن إخلافه من علامات النفاق. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1149 بقيت مسالة في أنه هل الوعد في البر والصلة أو في امور المعاوضات –والبعض يعد في الصلة يعني يوجب إنفاذه- وفي المعاوضات؟ والله أنا أرى الأمر بالعكس، لأنه في الصلة الإنسان متبرع بها وله أن يرجع فيها حتى لو وهب له أن يرجع، إنما إذا ترتب على الأمر معاوضات وترتب عليها أمور في حياة الناس وعلاقاتهم، هذا أهم من أمر البر والصلة، ولهذا نقول بالوفاء بالوعد في المعاوضات وبالالتزام به، وقد قال به مثل عمر بن عبد العزيز وابن شبرمة وابن الأشوع وهم كانوا كما يبدو من طريقة حياتهم وتفكيرهم في ذلك الوقت أنهم لم يكونوا يفرقون بين ما يلزم ديانة وما يلزم قضاء، إنما يفرقون في ذلك بين ما له ظاهر وباطن فيجرون الأمور على ظواهرها، أما كل شيء فإنهم لم يلزمون بما ألزم الله به ورسوله، ولذلك كانوا يلزمون بالعبادات الدينية، الشعائر الدينية ويعاقبون عليها، فكيف في أمور المعاملات؟ وإذا قلنا بالالزام، كيف نقول بالالزام في الوعد بالنسبة للمصرف ولا نقول به بالنسبة للآخرين؟ ولذلك الأخوة مثل الدكتور رفيق المصري الذي كان منطقيًا مع نفسه قال: كلا الطرفين مخير، المصرف والعميل، أما أن تلزم المصرف بالوعد ولا نلزم العميل بهذا يترتب عليه ضرر كبير، أكتفي بهذا القدر أيها الأخوة وشكر الله لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1150 الرئيس: أحب أن أسأل الشيخ يوسف: إذا نكل ولي المخطوبة عن الوعد بعقد الزواج للخاطب وكان هذا الزواج سواء دخل في ورطة من مال أو لم يدخل هل يلزم قضاء؟ الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي: أولًا نحن متفقون أو يجب أن نتفق على ما ذكره الإمام الغزالي أنه إذا وجد عذر فإن الاخلاف جائز، عندما يوجد عذر معين. الرئيس: ليس له عذر، التي لها مبررات نتركها، وهو نكل بلا عذر، هل يلزم بعقد النكاح؟ الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي: يجوز، نحن لا نقول يجب الإلزام في كل قضية من القضايا، نحن نقول إن ما يلزم ديانة يجوز الإلزام به قضاء، ليس هذا وجوبًا فهذا مرجعه إلى المصلحة في بعض الأمور التي فيها مصلحة للناس ودرء مفسدة عنهم يجوز أن نلزم به قضاء وليس أمرًا واجبًا ولا مطردًا. الرئيس: هل نلزم بهذا قضاءً؟ الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي: في القضية الجزئية هذه –هذه قضية جزئية- حيث يكون الأمر أمرًا كليًا عامًا يترتب عليه مصلحة لجمهور الناس يجوز الالتزام به، أما في قضية خاصة، هذه لا معنى لأن أدخل القضاء فيها. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1151 الرئيس: هو كما تعلمون يا شيخ –والكلام للجميع- أن الفتوى إذا صدرت لن تكون في داخل مصرف إسلامي أو في داخل المصارف الإسلامية وإنما هي تفيد قاعدة للأمة أو فتوى لأمة من مصارف ومن متاجر ومن متعاملين وبين مسلمين متواعدين، بينهم وعد، وبينهم أي مواعدة كانت سواء كانوا في بطون المصارف أو في خارجها، فالفتوى إذا صدرت سيكون لها صفة العموم في الأمة، وترد آلاف المسائل على القضاء، فكم من الأوعاد –وما سمعنا أن قضية وعد- رفعت إلى المحاكم، حسب استقرائي ومساسي بالقضاء ما يزيد عن عشرين عامًا في المملكة مثلًا –وذلك على سبيل المثال- ما سمعت بقضية وعد رفعت إلى المحاكم لأن المسلمين شبه متعارفين على أن الأوعاد غير ملزمة وإن كان الإثم لا يلزم الحكم القضائي في كل حال. فالحقيقة هي أن الذي أحب أن يكون أمامنا، هل إذا قلنا إن الوعد ملزم بالمعاوضات، هل هو مقيد في حالة معينة تشتغل بها المصارف الإسلامية ويجعل لها من الضوابط والقيود ما يجعله في قالب شرعي؟ أو نقول لا؟ نأخذ بمقتضى النصوص {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] ((آية المنافق ثلاث..)) إلى غيره نحن معكم –ولسنا نحن معكم- لأننا نحن مع إجماع العلماء وإجماع المسلمين على الترغيب في الوعد، وأن أخلافه مذموم، لكن كونه مذمومًا شيء وكونه يقضى به شيء آخر، لما له من آلاف وأعداد كبيرة من الصور التي لا يمكن التخلص منها، ففي الواقع أردت التساؤل عنه فقط. الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي: اسمح لي، أنا لا أريد أن أقول إننا نجعل الأمر بغير ضوابط، لابد من وضع الضوابط – ولن يكون هذا في كل القضايا وفي كل المسائل- إنما هذه قضايا خاصة –الناس الآن أصبحوا يعملون في مجالها والبنوك الإسلامية تنتظر منا- نحن نقيد الفتوى بهذه القضية وما يتصل بها من ملابسات. الرئيس: هم لا ينتظرون منا لأنهم ماضون شغالون. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1152 الشيخ محمد سالم بن عبد الودود: بسم الله الرحمن الرحيم أن لا أريد أن أطيل، لأن الحديث طال وفيه الكفاية، ولكن أريد تصحيح بعض المفاهيم بالنسبة إلى ما ينسب إلى بعض المذاهب، وأنا لا أريد أن ألزم الناس بالمذاهب ولكن أريد ألا نقول على المذاهب، وعلى علمائنا غير ما قالوا: لا نحمل كلامهم أكثر مما يتحمل. بالنسبة للوعد، معروف في المذهب المالكي أقوال في وجوب الوفاء به ومنها القول بوجوب الوفاء إذا ورط الواعد الموعود، كما إذا قال الرجل لامرأته: إن أعطيتني ألفًا أفارقك، فباعت حليها وتكلفت الإتيان بالألف، فهنا يلزم به قضاء، وفي هذا يقول خليل بن إسحاق المالكي رحمه الله تعالى: عاطفًا على الأمور التي تلزم في باب الخلع: والبينونة فيه إن أعطيتني ألفًا فارقتك أو أفارقك إن فهم الالتزام أو الوعد إن ورطها، ومعروف مورد الفرق بين الوعد والالتزام، قرائن الأحوال وسوق الكلام. أولًا: أريد أن أفتتح تدخلي هذا بكلمة قالها الإمام مالك رحمه الله تعالى عندما قال له عبد الرحمن بن القاسم: إن أهل مصر أعلم الناس بأحكام العقود، البيوع وما شاكلها، فقال له الإمام: ممن تعلموها؟ قال: منك يا أبا عبد الله، قال: سبحان الله، ما أعلم هذا، كيف يتعلمونها مني؟ أقول إن المالكية على اختلافهم في لزوم الوفاء بالوعد الذي أشار إليه على ابن قاسم الزقاق في كتاب المنهج بقوله: هل يلزم الوفاء بالوعد؟ نعم صدر بالإيجاب أو لا؟ نعم لسبب أو إن لزم يركزون على أن الموعود إذا تورط بسبب الواعد لزم الواعد الوفاء، ويذكرون من ذلك قضية الرجل يقول لامرأته إن أعطيتني الفًا فارقتك أو أفارقك –بالمضارع- يكون الالتزام، لزمت البينونة سواء ورطها أو لم يورطها، ويوفون، الوعد وورطها لزم الوفاء لزمت البينونة بمجرد إتيانها بالألف، كما إذا باعت حليها وتكلفت له هرق القربة فإنها في هذه الحال يلزم الوفاء لها قضاء أكثر مما يلزم ديانة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1153 قضية المرابحة للآمر بالشراء هذه لا تخرج عند المالكية، هناك من ينسب إلى المالكية غير ما يقولون ومن يفرق بين اشتر لي وابتع لي، وكلمة ابتع واشتر واحدة، لأن المصطلح عند الفقهاء أن الثلاثي من المادتين يستعمل للإخراج بعوض، والخماسي من المادتين يستعمل للإدخال بعوض، بعت وشريت للإخراج، وابتعت واشتريت للإدخال، فإذا قال له: ابتع لي هذه البكر، فلا فرق بينها وبين أن يقول له اشتر لي هذه البكر، والقضية عندهم ذات طرفين وواسطة، إذا قال له: جاء يسال عن سلعة فقال له المسؤول: أمهلني إلى غد وجاء بالسلعة وباعها بما يريد هذا لا غبار على جوازه، وعنه عبر خليل بن إسحاق بقوله: جاز لمطلوب منه سلعة أن يشتريها ليبيعها بثمن، وفي نسخة بنماء، وفي نسخة بمال ولو بمؤجل بعضه، الطرف الثاني أن يصرح بقدر ما يربحه وهذا ممنوع عندهم وهو قوله بخلاف اشترها لي بعشرة نقدًا وآخذها باثني عشر لأجل، ولزمت الآمر إن قال لي وفي الفسخ إن لم يقل لي أو إمضائها ولزومه الاثني عشر، قولان، والوساطة هي أن يوميء بالتربيح من غير تصريح، ففي هذه الحالة يكره العقد ولا يفسخ، وفي هذا يقول: وكره خذ بمائة ما بثمانين أو اشترها ويوميء بتربيحه ولم يفسخ. والمالكية يركزون على سد باب الحيل، كل ما فيه حيلة على الربا، فإذا كان الآمر بالشراء يحتال على دفع القليل في الكثير فهذا ممنوع عندهم، وإذا كان إنما أراد مساعدته على الحصول على سلعة لا يمكنه شراؤها في الوقت الحاضر فطلبها من بنك أو مورد ووعده أنه سيشتريه له ووعده الآخر أنه سيشتريها منه لا على معنى المعاملة في النقود والمتاجرة بها فهذا من الأمور التي لا تخرج عن أنظار المجتهدين، ومحط الخلاف هو يجوز الأخذ بالأرفق والأوسع فيها، في هذا العصر الذي تكالبت عليه فينا قوى الشر ولم نصبح قادرين على إيجاد ذلك الاستقلال الإسلامي الخالص، والذي صدق علينا فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: - إن صح- ((يوشك أن ياتي على الناس زمان من لم يأكل فيه الربا ناله من غباره)) فنحن نريد أقل الشرين وأخف الضررين لا نريد أن نحرج الناس وفي هذا المعنى قال الإمام مالك رحمه الله تعالى عندما سئل عن جبن الروم، قال: هم قوم كفار ويجيئونه بأنفحة الخنزير، وما أحب أن أحرم على الناس معايشهم وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1154 الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم استدل كثير من الإخوة في أحاديثهم بالآيات القرآنية التي توجب الوفاء بالعقود والوفاء بالعهود وبالأحاديث النبوية التي تؤيد هذا أيضًا، والواقع أن هذا الاستدلال في قضيتنا هذه غير وارد، أعني في قضية بيع المرابحة للآمر بالشراء على الإلزام، وهذه هي النقطة التي سأركز عليها لأن هذه الآيات كلها والأحاديث ليست على عمومها وإنما هي من العام الذي أريد به الخاص، {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: (275) ] الله لم يحل كل بيع وإنما هناك أحاديث وآيات منعت بعض البيوع، فكلمة البيع هنا عام أريد به الخاص وكذلك ما جاء في كلمة التجارة {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] فهذه الآية لا تصلح دليلًا على ما نحن بصدده وإنما هي دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم –الأصل في العقود بدلًا من الأشياء- الأصل في العقود والشروط الإباحة وهي قضية خلافية كما تعلمون لكن هذا هو الذي أرجحه وهو ما استقر عليه آراء المتأخرين من الفقهاء، الأصل في العقود والشروط الصحة والإباحة ما لم يقم دليل على المنع. فهذه الآيات تصلح دليلًا على هذا، ونقبلها من القائلين بجواز بيع المرابحة للآمر بالشراء على الإلزام، نقبلها منهم لكن نرد عليهم بأن دليل المنع قائم، ودليل المنع هذا أجمع عليه الفقهاء المتقدمون، لم أجد فقيهًا واحدًا من المتقدمين أجاز هذه الصورة من البيع على الإلزام، فإن أبوا هذا وقالوا: لا نقبل أقوال المتقدمين ونحن لنا رأينا ونريد النص من القرآن والسنة، كما ثبتت هذه القاعدة من القرآن والسنة، نقول لهم: المتقدمون لم يقولوا هذا الكلام اعتباطًا وإنما بنوه على دليل قوي وسأعتمد على دليل واحد وهو حديث حكيم بن حزام ((لا تبع ما ليس عندك)) وقالوا: وهذا هو ما يقتضيه المنطق إن هذه المبايعة وقد سمعتم نصوصها الكثيرة في مذاهب المالكية وفي غيره، لا أريد أن أعيدها، قالوا: إن هذه المبايعة أو المواعدة إذ كانت على الإلزام من الطرفين فلا فرق بينها وبين بيع الإنسان ما ليس عنده، وسمعتم الأدلة التي اعتمد عليها الشافعي، كلهم متفقون على هذه العلة وهي أنها إذا جازت تؤول إلى أن هذا الشخص قد باع ما ليس عنده، فإذا قال شخص لآخر: أعدك بأن أبيع لك سلعة كذا وهي ليست عنده – الفرض أن السلعة غير موجودة عنده- أعدك بأن أبيع لك سلعة كذا بألف جنيه، وقال له الآخر: أعدك بأن أشتريها، وقلنا إن هذا ملزم وتحايلنا بأن هذين المتواعدين سينشئان عقدًا عندما يمتلك السلعة، ماذا فعلنا؟ هل كونهما سينشئان هذا العقد يغير من الواقع؟ وبخاصة عند من يقول إنه إذا نكل أحدهما يلزم ويأمر القضاء بالتنفيذ فإن لم ينفذ فعليه التعويض، أقول لهم: ما الفرق بين هذا ولم هذه اللفة؟ لم لا يقول له من أول الأمر بعتك سلعة كذا بمبلغ كذا، ويقول له الآخر: قبلت؟ ما الفرق في النتيجة بين هاتين الصورتين؟ هما واحد من غير شك، والذين يقولون –الأخ الشيخ أحمد قال- إن هذا في الغرب والناس يريدون ابتياعه، أقول أن هذه الصورة جائزة في القوانين جميعًا، القوانين العربية الموجودة الآن جائزة فيها ويسمونه بالوعد بالبيع ويشترطون فيه ما يشترط في البيع تمامًا ولا يطالبون بتجديد عقد، وهذا هو المنطق، لم؟ إذا كانا هما ملزمين بأن ينشئا هذا العقد على الصفة التي تواعدا عليها، فلم ينشئان العقد مرة أخرى؟ هذا عبث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1155 ولذلك أنا قلت في بحثي وطالبت بأن يبحث المجمع حديث حكيم بن حزام ((لا تبع ما ليس عندك)) فإذا كانت الصورة التي تتعامل بها البنوك ينطبق عليها هذا الحديث فلا مفر لنا من القول بعدم اللزوم ولا نستطيع أن نقول باللزوم، أما إذا استطعنا أن نوجد مخرجًا وتفسيرًا وقد كتبت في بحثي وهذا تفسير قديم ذهبت إليه وقلت: إن بيع الاستيراد المتعارف بين التجار لا يدخل في بيع ما ليس عندك، وبهذا يكون جائزًا مع أن السلعة غير موجودة عند التاجر، وهذا هو المتعارف في الأسواق الآن، لكن عندما جئنا إلى موضوع البنوك وهيئات الرقابة لم أفت بهذا الرأي في هيئة الرقابة، وطبقت رأي الجمهور وهو ما يقول به جميع الذين تحدثوا عن الإلزام، هم مسلمون بأن هذه الجزئية تدخل في بيع ما ليس عندك، ومع ذلك يريدون أن يجعلوا الوعد ملزمًا، في هيئة الرقابة في السودان لم نجز هذا، ورفضنا الإلزام كما قلت لكم، وقلنا بعدم الإلزام بالنسبة للمشتري بالنسبة لطالب السلعة، وقد تساءل بعض الأخوان واعترض على كيف يكون الإلزام من جانب ولا يكون من الجانب الآخر؟ أقول إن هذا هو الذي يخرج هذه الصورة من بيع ما ليس عندك، لأن المسألة فيها خيار، وسينشأ عقد جديد حقيقي برضا الطرفين، لأن أحدهما مخير لا يلزم أن يكون الاثنان، مادام أحدهما مخيرًا فقد خرجت المسألة من أن تكون من بيع ما ليس عند الإنسان، وقلت إن هذه المسألة وبخاصة عند المالكية –أما الشافعية فقد نص عليها صراحة، بل هو جعل للآمر الخيار من غير شرط، ولو رجعتم إلى عبارتي- عند المالكية وإن كانت عبارتهم مطلقة أو عامة وليس فيها إعطاء خيار لأحد الطرفين، وإنما فيها المنع إذا التزم الطرفان، وقلت إن تخريج إعطاء الخيار لأحد الطرفين على مذهب المالكية مفهوم واضح، لأن المالكية يقولون مثلًا في بيعتين في بيعة: هذه لا تجوز، إذا قال له بعتك هذه السلعة بعشرة نقدًا وبخمسة عشر إلى أجل وافترقا على ذلك بأن ألزما أنفسهما هذا، وهذه هي الصورة التي لا تجوز في بيعتين في بيعة، لكنهم قالوا: إذا جعل البائع الخيار للمشتري جاز ذلك، كذلك في بيع العين الغائبة قالوا لا تجوز من غير صفة ولا رؤية متقدمة إذا كانت على الإلزام –إلزام الطرفين- أما إذا جعل للمشتري الخيار فهي جائزة لأن له أن ينشئ العقد وله أن لا ينشئ، فهذا هو الفرق بين الحالتين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1156 هذا الموضوع فعلًا بحث في مناسبات متعددة والقول بأنه لا جديد فيه هو الجديد فيه، بزيادة الحجج وزيادة المؤيدين، هذا الموضوع عندما بحث في أول الأمر كان المؤيدون حوالي ثمانين في المائة، وابتدأ يتناقص المؤيدون للإلزام، وأرجو أن ينتهي هذا القول بالإلزام في مجمعنا هذا إلى لا شيء وأن يقع الإجماع على أنه جائز إذا لم يكن ملزمًا للطرفين إلى أن يتمكن المجمع من بحث ما يدل عليه حديث حكيم بن حازم ((لا تبع ما ليس عندك)) فعند ذلك نصل إلى تفسير لهذا الحديث وهو في رأيي قد يكون موجودًا فيريحنا من هذه التي أنا أعتبرها حيلة إذا قلنا بالإلزام، وشكرًا. الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. لقد مر على مسامعكم وقرأتم ما يتعلق بالوفاء بالوعد، وأما أكثر المداولات التي جرت هنا على أن الوفاء بالوعد غير لازم في المعاوضات وهذا ما عليه أكثر الباحثين وعليه عامة الفقهاء. وأما ما يتعلق ببيع المرابحة، فتعلمون أن لها صورًا ثلاثًا يمكن التعامل بها، اثنتان قد يبدو أن الأولى منهما لا إشكال في إباحتها، والثانية إباحتها محتملة جدًا، وأما الثالثة التي سواء قلنا أنها تنبني على وعد ملزم أو أنها تنبني على الإلزام السابق ببيع لاحق، فالإخوان المقرر ومن سيؤلفون لوضع القرار في هذا الموضع مشاركون وسمعوا ما جرى في هذا الموضوع من مداولات والاتجاه العام حول ذلك، فأرى تأليف لجنة من المقرر الأستاذ سامي والمشايخ الآتية أسماؤهم: الشيخ نزيه والشيخ العاني، والشيخ علي السالوس، والشيخ الصديق الضرير، والشيخ محمد الاشقر، هل ترون هذا مناسبًا؟ نرفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1157 ويوصي المؤتمر: أولًا: في ضوء ما لاحظه من أن أكثر المصارف الإسلامية اتجه في اغلب نشاطاته إلى التمويل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء، حتى كاد بعضها أن يقتصر على هذا النوع من المعاملات، والمأمول أن يشمل نشاط المصارف الإسلامية بقية أساليب تنمية الاقتصاد عن طريق إنشاء المشاريع الصناعية أو التجارية بجهودها الخاصة أو عن طريق المشاركة والمضاربة مع أطراف أخرى. ثانيًا: أن تدرس الحالات العملية لتطبيق (المرابحة للآمر بالشراء) لدى المصارف الإسلامية لوضع أصول تعصم وقوع الخلل في التطبيق وتعين على مراعاة الأحكام الشرعية العامة أو الخاصة ببيع المرابحة للآمر بالشراء. الرئيس: نعم.. قرر.. "من أولًا".. مناقش: يوصى المؤتمر في ضوء هذا: أولًا:.. الرئيس: لا.. لا دعونا أولًا يا شيخ.. قرر أولًا أن بيع.. الأمين العام: أنا قبل هذا –سيدي- عندنا الموضوعان (الوفاء بالوعد) و (المرابحة للآمر بالشراء) إذن يكون القرار رقم (3) و (4) ونأخذ كل واحد على استقلاله. الرئيس: لا.. لا. نحن يا فضيلة الشيخ في أثناء المناقشة لعلكم تذكرون، قلنا إن بحث (الوفاء بالوعد) هو مدخل لبحث (المرابحة) لم يبحث لذات الموضوع، فطالما أنه ليس لذات الموضوع فإذا رأيتم يبقى على ما هو عليه لكن قد –مثلًا- يرى الأخوان على أن ما صدر من القرار يقدم ما في (الوفاء بالوعد) على (المرابحة) في نفس الصياغة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1158 الدكتور عبد الستار أبو غدة: لكن هنا (بيع المرابحة) هو الذي يفهم به الوعد، لأن الوعد ليس المراد الوعد مطلقًا.. الرئيس: المهم اقرأ أنت الفقرة الأولى ونستمر إن شاء الله. الدكتور عبد الستار أبو غدة: قرر: أولًا: إن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور، وحصول القبض فيما يجب القبض فيه، هو بيع جائز شرعًا، طالما كانت تقع على المأمور مسئولية الهلاك قبل التسليم. مناقش: نقول التلف.. بدل الهلاك التلف، هذه عبارة أفضل. الرئيس: هذا صحيح.. طالما كانت تقع على المأمور مسئولية التلف قبل التسليم. أبو غدة: وتبعة الرد بالعيب الخفي بعد التسليم. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1159 الشيخ البسام: الأحسن نقول: وتبعة الرد بالعيب الخفي، لا تكفي هذه، هناك أشياء ثانية يحصل فيها الرد، التدليس، الغبن، الشكل نقول: ونحوه إذا أردنا أن نقتصر على هذا. الرئيس: وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد. مناقش: ونحوه نعم ونحوه، فيها شيء كثير. الدكتور/ طه العلواني: لكن لو سمحتم تكون بدل (طالما) بشرط أن تقع على المأمور. الدكتور/ عبد اللطيف الفرفور: أرى أن نتابع فضيلة الشيخ البسام ونقول: وتبعة نحو الرد، فقط كلمة نحو، نزيد كلمة (نحو) . الرئيس: وتبعة الرد.. الرد ليس له نحو، النحو للعيب يا شيخ. الفرفور: وتبعة ما هو. الرئيس: لا، وتبعة الرد بالعيب ونحوه. الفرفور: ونحوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1160 الرئيس: نعم في العيب الخفي، ونحوه بعد التسليم، يعني لعلها تناسب. الشيخ المختار: بعد الخفي ونحوه. الدكتور/ طه العلواني: لكن لو وضعنا بدل (ظلما) بشرط، يعني جعلناها شروط هذه الثلاثة. الرئيس: صحيح.. (وحصول القبض فيما يجب القبض فيه هو بيع جائز شرعًا بشرط أن تقع على المأمور مسئولية التلف قبل التسليم) ، مناسب؟ الدكتور/ طه العلواني: نعم.. نعم.. نعم. أبو غدة: أولًا: إن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور وحصول القبض فيما يجب القبض فيه، هو بيع جائز شرعًا، بشرط أن تقع على المأمور مسئولية التلف قبل التسليم، وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم.. ما.. الشيخ البسام: "فيما يجب القبض فيه" لا شيء الآن لا يجب القبض فيه لكن القبض يختلف بحسب المبيع.. وإلا ما في شيء يباع حتى يقبض، لكن القبض يختلف. الرئيس: يا شيخ عبد الله، هذا صحيح لكن أنا يظهر لي لو قال: وحصول القبض، إما أن يقال المعتبر شرعًا أو كل شيء بحسبه أو.. نعم. أي نعم، أو حصول القبض الشرعي، كفى حتى يعم. لأنه ما هناك يعني مثل ما تفضل الشيخ (بحصول القبض الشرعي) . الشيخ المختار: لا.. لا عندنا المنهي عنه: بيع الطعام قبل قبضه، أما بقية المذاهب واحد فلا نحكم المذهب هنا. الدكتور/ عبد الستار أبو غدة: العقار يباع قبل القبض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1161 الشيخ المختار: في مذهب مالك يباع الطعام قبل قبضه، فقط. الرئيس: المهم أن القبض –كما تعلمون- إما أن يكون بالتخلية، قد يكون بالتخلية والتخلية هي قبض، فإذا قلنا يجب القبض فيه، يكون لها يعني.. أبو غدة: تنظيم. الرئيس: مفهوم، ما هو توضيح هذا.. هذا مفهوم مخالفة، لكن لماذا لا نقول: "وحصول القبض الشرعي"؟ الشيخ البسام: نعم.. أحسن. الرئيس: يكفي وننتهي. مناقش: أنا ما أتكلم عن مذهب معين أبدًا. الرئيس: نحن –بدون مؤاخذة- المذهبية انتهت هنا في القرارات، المسألة دليل من الكتاب والسنة، ما في إشكال جزاكم الله خيرًا. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1162 الدكتور/ الصديق الضرير: الكلمة هذه فيما يجب القبض فيه، لأنه يصير موضوع القبض وهذه المسألة –كما تعلمون- خلافية، بعضهم يجعل القبض في كل شيء وبعضهم يجعله في بعضه وقد تبحث في.. ولذلك رأينا أن توضع بهذه الصيغة ولكن ما في مانع إذا كان وجدتم أن المجمع حكم بأنه بعض الأشياء لا يجب القبض فيها، فلا مانع من التعديل الذي ذكره الرئيس "حصول القبض المطلوب شرعًا". الرئيس: يكفي.. مناقش: سيادة الرئيس: ما دام قلنا بعد دخولها ملك المأمور هذا قد يشترط القبض وقد لا يشترط إذن نقصر على بعد دخولها في ملك المأمور ونحذف حصول القبض فيما يجب القبض فيه. يعني ما دام دخل، هو يدخل فيما بالقبض في حالة اشتراط القبض، هو دخل في ملك المأمور ونحذف حصول القبض فيما يجب القبض فيه، يعني مادام دخل هو يدخل فيما بالقبض في حالة اشتراط القبض هو دخل في ملك المأمور. الرئيس: بشرط أن تقع. أبو غدة: بشرط أن تقع على المأمور مسئولية التلف قبل التسليم، وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم مع خلوه –مع خلو العقد- من أي محظور. الرئيس: مكتوب هنا.. وعدم وجود أي محظور. أبو غدة: مع خلو البيع من أي محظور من محظورات العقد. الصديق الضرير: سيدي الرئيس، كلمة (بشرط) إن هذا ليس شرطًا –بل يا سيدي الرئيس- وإنما هو تعليل، السلعة دخلت في ملك البائع، هذا نتيجة، كون أن تبعة التلف وتبعة الهلاك والرجوع بالعيب ليس شرطًا نضعه نحن، وإنما هو نتيجة لدخوله، فالصياغة الأولى هي التي تؤدي المعنى المقصود. أبو غدة: صدقت.. طالما كانت.. الخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1163 ثانيا: الرئيس: انتظر يا شيخ لا، طالما، لماذا لا يقال: "حيث إن المسئولية تقع على المأمور" مسئولية التلف، "حيث إن مسئولية التلف تقع على المأمور قبل التسليم". الشيخ البسام: لأن.. لأن.. الرئيس: لأن مسئولية.. أبو غدة: لماذا لأن؟ الشيخ البسام: حيث ليست تعليلًا. الشيخ المختار السلامي: حيث القضايا.. (النظر فيها فقط) لأن حيث فيها الظرفية فقط. أبو غدة: لا داعي للتعليل هنا، لأنه فقط بيان الأثر الصحيح. الرئيس: ليس القصد، إننا نريد عبارة فقهية، (هل تعلم) يعبر بها الفقهاء؟ هذا هو القصد، الأمر ميسور، هذا لا مشاحة فيه. الشيخ المختار: نتوقف على اللغة الفقهية فقط. الأمين العام: الصديق الضرير فقيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1164 الرئيس: هو ما قال هذه. الأمين العام: لا.. لا هو الذي قالها وقد رجع إليها الآن. الصديق الضرير: (بشرط) هي ليست شرطًا، وإنما هي نتيجة. أبو غدة: نقول: مهما كانت.. مناقش: لأن مسئولية.. أبو غدة: لا، محل للتعليل هنا، نعلل ماذا؟ ما هو المعلل له؟ الرئيس: اتركوا طالما تبقى على ما هي عليه.. مناقش: موضوع "وجود أي محظور آخر من محظورات العقد" العقد لا يتم ويعتبر شرعًا، إلا بأمرين، (وجود شروط وانتفاء موانع) هذه العبارة لا تكفي لهذا المعنى، لا تكفي هذه العبارة لهذين المعنيين. أبو غدة: مع توافر شروط البيع وانتفاء.. البسام: موانعه.. الرئيس: يكفي.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1165 أبو غدة: حتى تجيب الجانب الإيجابي.. الرئيس: حتى تجيب الجانب الإيجابي.. الأمين العام: إذن أعد علينا الصيغة.. أبو غدة: الأخيرة، وإلا كلها؟ الأمين العام: وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم. الرئيس: وتوافر شروط البيع وانتفاء موانعه. أبو غدة: وتوافرت –طالما كانت- وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه. الرئيس: ما يخالف، زيادة خير إن شاء الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1166 أبو غدة: ثانيًا: كون الوعد ملزمًا أو غير ملزم في بيع المرابحة للآمر بالشراء يختلف حكمه بين الوعد والمواعدة. الرئيس: ما ممكن، "فإن هناك فرقًا بين الوعد والمواعدة". أبو غدة: عدلناها من أجل أن تصير فقرة مستقلة –يعني وسط- الشيخ الأمين الحبيب طلب أن تكون قرارًا مستقلًا، على الأقل نعملها فقرة مستقلة. الرئيس: لا.. لا قصدي نحذف كلمة (فإن هناك فرقًا؟) أبو غدة: ونضع بدلًا منها يختلف حكمه بين الوعد والمواعدة. الرئيس: أما كون الوعد ملزمًا أو غير ملزم.. ثانيًا. أبو غدة: كون الموعد ملزمًا أو غير ملزم في بيع المرابحة للآمر بالشراء، يختلف بين الوعد والمواعدة. الأمين العام: يختلف ماذا.. بين الوعد والمواعدة؟ أبو غدة: يختلف الكون.. لا.. لا هو كون الوعد ملزمًا يختلف.. الصديق الضرير: لماذا عدلنا عنها؟ الرئيس: لأنه في الحقيقة فيها قلق لكن شوف، يا شيخ إذا قلنا: أما كون الوعد، لأنه ما في –ترى- مانع من أن يكون ثانيًا (أما كون الوعد) قل لي، فيه مانع؟ ما في مانع يمنع، لأن حتى إذا قلنا.. أبو غدة: استشهد بالفقرة لوحدها بدون ما قبلها. الرئيس: لأنكم تعلمون أن الوفاء بالوعد ما بحث استقلالًا، بحث مدخلًا لبيع المرابحة، فإذا قلنا ثانيًا: " أما كون الوعد ملزمًا أو غير ملزم في بيع المرابحة للآمر بالشراء فإن هناك فرقًا بين الوعد والمواعدة ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1167 الشيخ المختار: القلق الذي عندي من العبارة: هو ابتدأنا أما كون الوعد ملزمًا أو غير ملزم، فإن هناك فرقًا بين الوعد والمواعدة، نحن نتحدث عن الوعد أو المواعدة، فالعبارة كلها قلقة، ابتدأت بوعد وانتهت إلى أن هناك فرقًا بين الوعد والمواعدة. الدكتور/ عبد اللطيف الفرفور: سماحة الرئيس، أرى أن هذا القلق كله جاء نتيجة جعل المدخل خاتمة، والخاتمة مدخلًا، فلو أننا قدمنا هذا الموضوع –الوعد والمواعدة- وجعلناه مادة رقم (1) وقلنا: الوعد قسمان: وعد ومواعدة، ويختلف الحكم، وتكلمنا على ذلك وجئنا ببيع المرابحة بعد ذلك، الوعد نوعان: ملزم وغير ملزم وإن فرقا بين الوعد والمواعدة. الشيخ المختار: فضيلة الرئيس، يجب أن تحذف أن نحذف كلمة.. الرئيس: يا مشايخ، ما رأيكم أن نقول: هناك فرق بين الوعد والمواعدة يختلف؟ أبو غدة: يختلف حكمهم في الإلزام. الرئيس: هناك فرق بين الوعد والمواعدة يختلف الحكم فيهم بالإلزام في بيع المرابحة للآمر بالشراء على ما يلي: الفرفور: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1168 رقم (1) الشيخ المختار: لا، أنا عندما ينتهي من الفقرة، (وموانعه) تكون الفقرة الثانية: "الوعد الذي يصدر من الأمر أو المأمور على وجه الانفراد يكون ملزمًا". المواعدة من الطرفين تجوز بشرط الخيار للمتواعدين، أما كون الوعد ملزمًا أو غير ملزم، لا حاجة لنا بها. الرئيس: لاحظ شيئًا واحدًا، إن عشرة السطور الآتية للتفسير، شرح بيان للوعد وبيان للمواعدة. الفرفور: الذي تفضلتم به هو الخير. الدكتور/ طه العلواني: لو سمحتم سيادة الرئيس، أنا يعني مع الشيخ السلامي في هذا الموضوع، إن السطرين الأولين: (أما كون كذا..) يحذفان ثم يأتي أولًا (الوعد الذي يصدر من الأمر.. الخ) . ثانيًا: المواعدة من الطرفين: الرئيس: اقرأ يا شيخ، الوعد، حتى ننظر الآن: الدكتور/ عبد الستار أبو غدة: صارت ثانيًا: الوعد الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقًا على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة لذلك الوعد، ويتحدد أثر الالتزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلًا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر. ثالثًا: المواعدة من الطرفين تجوز بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو احداهما فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز، لأن المواعدة الملزمة في البيع تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكًا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة ((لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده.)) الدكتور/ طه العلواني: أعتقد، هذا جيد إن شاء الله. الدكتور/ الصديق الضرير: إننا نقول: "لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة وليس في البيع، لأن المواعدة الملزمة هنا جائزة في البيع، نحن نتكلم عن بيع المرابحة "لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع".. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1169 الدكتور/ طه العلواني: جيد هذا.. الشيخ خليل الميس: سيادة الرئيس، إذا أمكن: "وأما المواعدة من الطرفين.. فإنما تجوز بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، لنحذف الفقرة الثانية، إنما تجوز بشرط الحذف (فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز) ، تختصر العبارة وتكون أدق. الشيخ المختار: التنظيم، الوعد الذي يصدر من الأمر وتحدثنا عن الوعد، ثم المواعدة من الطرفين تجوز، هذا الترتيب التنظيم اللفظي وتبقى كما هي. الدكتور/ عبد اللطيف الفرفور: شكرًا سيدي الرئيس. هناك ملاحظتان، واحدة شكلية والثانية موضوعية، الناحية الشكلية أرى أن يجعل الوعد أولاً والمواعدة ثم بيع المرابحة ثانيًا، وهذا المنطق السليم أن نجعل الوسيلة أولًا ثم الغاية، الناحية الموضوعية هي العذر، ما هو العذر؟ هذا عذر مطلق، أرى أن يوجد عذر معتبر شرعًا، أن نضيف كلمة معتبر شرعًا في كلا المحلين، فالوعد الذي يصدر من الآمر إلى آخره، إلا لعذر معتبر شرعًا، وفي آخر العبارة (بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر معتبر شرعًا) فإطلاق العذر هكذا.. الرئيس: الحقيقة أن هناك النقطة –في نظري التي قد تكون واردة- أنه ما فسر الوعد ولا فسرت المواعدة هنا. مناقش: هناك فرق بين الوعد والمواعدة من حيث كذا في بيع المرابحة. الرئيس: هم أرادوا الفرق حكمًا، لكن أنا أريد الفرق حقيقة، فلابد أن يقال: الوعد وهو كذا، لابد أن يصير فيه تفسير: ما هو الوعد هذا؟ لأنه الآن جعل التفريق بين الوعد والمواعدة، القارئ الآن ما يعلم ماذا تقصدون بالوعد، وماذا تقصدون بالمواعدة إلا أنكم أفتيتم هذا ملزم وهذا غير ملزم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1170 الشيخ المختار: الجواب سيادة الرئيس، الوعد الذي يصدر من الأمر أو المأمور، والمواعدة هي من الطرفين، هو موجود أمامنا. الصديق الضرير: من الطرفين، هذا هو المقصود، أن الوعد من جانب واحد، والمواعدة من جانبين، وهذا هو محط الفرق. الرئيس: لا إذا كانت هذه حقيقة الوعد، فالوعد الذي يصدر عن الواعد وهو الذي يصدره، والوعد هو الذي يصدر هنا. الوعد وهو والذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد يكون ملزمًا. مناقش: الوعد في بيع المرابحة. الشيخ المختار: الوعد الذي يصدر.. الذي.. تفسيرية، الذي يصدر هي تفسيرية واضحة جدًا. الرئيس: لا ما هي تفسيرية، القصد شيء واحد، أنتم تصدرون حكمًا، فهل جرت العادة أن الفقيه يصدر حكمًا أن الحقيقة الشرعية للوعد هي كذا، والحقيقة الشرعية للموعود هي كذا أنتم تبنون الحكم على هذه الحقيقة أم لا؟ تبنون الحكم الشرعي على حقيقة الوعد، وحكم المواعدة على حقيقتها، فإذا قلتم الوعد.. أبو غدة: الوعد يصدر.. الرئيس: الوعد وهو الذي يصدر. الضرير: لا.. مقبولة هنا، وهو الذي يصدر زيادة خير. الشيخ المختار: الوعد: الذي يصدر يكون نعتًا، ويكون الخبر، يكون ملزمًا، وإذا قلت الوعد وهو الذي تصبح الجملة في الحقيقة.. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1171 الدكتور/ الفرفور: ما تفضلت به قيم، لكن إذا جعلت التعاريف أو التعريفات في أول الحديث فنقول: الوعد هو كذا وكذا، والمواعدة هي كذا وكذا، والمرابحة للآمر بالشراء، هي كذا وكذا، ثم بعد هذه التعريفات نثني فنقول: الوعد حكمه كذا وكذا، والمواعدة حكمها كذا وكذا، والمرابحة حكمها كذا وكذا، يكون هذا تفصيلًا بعد إجمال، وغاية بعد واسطة، والرأي لكم. الأمين العام: سيدي، نحن لا حاجة لنا لتحديد لا الوعد ولا المواعدة، أما من الناحية اللغوية والشرعية فكلاهما معروف، ثانيًا: المقام يخصص، نحن نتحدث عن الوعد والمواعدة مرتبطين بالمرابحة. الرئيس: والآن الوعد والمواعدة مفسران يا شيخ، لكن تفسيرهما ليس حكمًا من المجلس، التفسير بني عليه الحكم هذا هو الظاهر فأنا أقول: الوعد وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور ثم يأتي الحكم.. هذا لا شيء فيه. الأمين العام: نحو إذن وهو ملزم، يصير الوعد وهو الذي يصدر من الآمر ملزمًا قضاء. الرئيس: فالوعد وهو الذي.. الأمين العام: لا داعي للفاء، الوعد.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1172 أبو غدة: الوعد وهو الذي يصدر.. الشيخ المختار: عندما أقول: "وهو الذي" ماذا أضافت من المعنى؟ لم تضف أي معنى جديد. أبو غدة: الوعد وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد. الرئيس: يأتي الحكم، يكون ملزمًا. أبو غدة: يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر. الرئيس: يكون فيها بيان للناس. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1173 البسام: الواو أحسن حذفها، الوعد هو الذي، لكن وهو الواو حرف عطف، الوعد هو: الذي يصير تفسيرًا للوعد، بين قوسين هو كذا وكذا، الوعد هو الذي.. الرئيس: هذا مناسب. الصديق الضرير: لا يستقيم، لا يستقيم سيدي الرئيس بهذه الكيفية، لأننا نريد الخبر ياتي، هذه جملة اعتراضية، (الوعد وهو الذي) جملة تفسيرية.. خبرها الخبر هو يكون. الرئيس: المراد يا شيخ عبد الله على أنه ليس حكمًا، القرار ليس حكمًا على أن الوعد تفسيره كذا، المراد هنا الحكم على هذا الوعد المفسر، ما فيه شيء تكون بين قوسين يعني تكون بين عارضتين –وهو الذي- وتنتهي. الدكتور/ طه العلواني: سيادة الرئيس، في هذه الحالة لا يكون تفسيرًا، لأنه ناقص (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور) ما الذي يصدر من الآمر والمأمور؟ يجب أن نبين، لا نكمل تقلق العبارة. الرئيس: يكون ملزمًا. العلواني: وهو الذي يصدر من الآمر والمأمور بتعهد بكذا أو شيء حتى يتم. الرئيس: لا.. لا أبدًا ماشية يا شيخ، على أن يكون ملزمًا، اقرأ. أبو غدة: ثانيًا: الوعد (وهو الذي من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزمًا للواعد ديانة الخ العبارة. ثالثًا: المواعدة (وهي التي تصدر من الطرفين) . الأمين العام: والمواعدة وهي.. أبو غدة: وهي التي تصدر من الطرفين. البسام: لا داعي للواو.. لا داعي للواو هذه.. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1174 أبو غدة: حذفنا الواو، المواعدة ثالثًا صارت فقط. (وهي التي تصدر من الطرفين) تجوز ففي بيع المرابحة بشرط الخيار للمواعدين. الأمين العام: أو أحدهما. أبو غدة: المواعدة (وهي التي تصدر من الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما. الرئيس: المهم ما رأيكم في الحكم؟ الصياغة انتهينا منها، لكن ما رأيكم في الحكم في قضية الوعد في هاتين الفقرتين؟ البسام: مسألة خلافية معروفة.. هذه مسألة خلافية معروفة. الرئيس: ما رأيكم فيما انتهينا إليه؟ البسام: جمهور أهل العلم ما يرون الوفاء بالوعد ملزمًا بحال من الأحوال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1175 العلواني: سيادة الرئيس، كنا في منجاة حقيقية قبل اقتراح فضيلتكم، هذا وكانت العبارة سليمة، ومؤدية للغرض فيعني لو قلنا: الوعد الذي يصدر من الآمر أو المأمور يكون ملزمًا وقلنا في العبارة الأخرى: المواعدة وهي التي تصدر من الطرفين تجوز بشرط الخيار، العبارة ماشية وما فيها قلق، فالآن بدأنا نضيف ونقلق في العبارتين فأظن لو نرجع إلى هذا. الرئيس: على كل إذا قلنا الوعد وهو الذي تريدون، الوعد (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر، هذا مقبول لا أظن أنه محل خلاف. الفرفور: عذر أيش؟ أبو غدة: معروف. الشيخ المختار: ما لم يكن شرعيًا لا يكون معتبرًا، قلناها أو لم نقلها. مناقش: عذر شرعي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1176 المختار: هو كل شيء شرعي، الأعذار المعتبرة هي الأعذار الشرعية، غير المعتبر شرعًا مفسوخ ساقط غير موجود. مناقش: إذا تسمح لي سيادة الرئيس. الرئيس: حتى يكون ملزمًا الواعد ديانة، ما في حتى كلمة إلا لعذر، لو حذفت بالأساس ما فيه ما يدعو إليها. مناقش: ليس له محل. الرئيس: لأنها يعني المسألة ديانة، لكن يبقى محل الأخذ والرد من هنا، وهو ملزم قضاء، إذا كان معلقًا على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة لذلك الوعد، هذا طبعًا على مذهب المالكية الذين يقررون إذا دخل في ورطة، إذا دخل الوعد بورطة، ويتحدد أثر الالتزام في هذه الحالة يقررون إما بتنفيذ الوعد وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلًا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر. مناقش: إذا سمحت لنا، يعني يمكن أن نبدل العبارة بصورة أو جزء وأقوى حتى تكون العبارة فقهية بشكل كامل نقول: فالوعد الذي يصدر من طرف واحد يكون ملزمًا، أما الوعد من الطرفين (أي المواعدة) فإنها تجوز بشرط الخيار. العلواني: سيدي الرئيس، ربما تأذنون أنها ماشية ولكن ديانة لا قضاء إلا إذا كان معلقًا ونحذف. الشيخ المختار: الموجود الآن أوضح من هذا، يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر، انتهينا، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقًا. الرئيس: العبارة مستقيمة ما فيها شيء، لكن ليس الشأن بالعبارة الشأن في الحكم هل أنتم متفقون على هذا الحكم أم لا؟ هذا هو الشأن. الذي يوافق عليه يرفع يده. الصديق الضرير: ما فهمته لجنة الصياغة بالاجتماع العام.. الفرفور: بزيادة عذر شرعًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1177 الرئيس: المهم الذي يوافق على هذه الفقرة يرفع يده. الرجاء عدم الحديث الذي يوافق على بقاء هذه الفقرة يرفع يده. أبو غدة: بعد الأيدي المرفوعة.. وصل العدد إلى 19. الدكتور/ طه العلواني: لم نر يدك يا سماحة الرئيس، لم نر يدك. الرئيس: أنا في الواقع يعني ليس قضية أني لا أرى، أنا متوقف في هذا الموضوع منذ وقت بحثه، من الدورة الماضية وأنا أسأل الله أن يفتح لنا ولكم بما هو الحق. الفرفور: أرجو يا سماحة الشيخ. أرجو سماحة الشيخ كلمة واحدة، أن نزيد في آخر العبارة بالوعد بلا عذر شرعًا، أو بلا عذر معتبر. الرئيس: المهم يا مشايخ لا تنسوا نظام المجمع على أن الذين لهم تحفظات فإنهم يكتبون تحفظهم في ورقة ويسلمونها لأمانة المجمع، لأن هذا دين وأحوط لذمة الإنسان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1178 الأمين العام: السؤال الوحيد هو أن فضيلة الشيخ عبد اللطيف الفرفور اقترح تغيير الترتيب، أنأخذ ببيان الوعد والمواعدة ثم بيع المرابحة أم نبقيها كما هي؟ الرئيس: لا.. تبقى على ما هو عليه. عجيل النشمي: لو سمحت يا فضيلة الرئيس. في هذه الحالة ينبغي أن يقال: قرر المجلس بالأغلبية أو المجمع بالاغلبية اعتقد هذا تبعًا للنظام. الأمين العام: القرار يصدر بالأغلبية دائمًا. أبو غدة: ويوصي المؤتمر: في ضوء ما لاحظه –بدون أولًا- من أن أكثر المصارف الإسلامية اتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء حتى كاد بعضها أن يقتصر على هذا النوع من المعاملات بما يلي: المختار السلامي: إزالة (أن) "حتى كاد بعضه يقتصر". أبو غدة: حتى كاد بعضه يقتصر على هذا النوع من المعاملات، بما يلي: أولًا: أن يشمل نشاط المصارف الإسلامية بقية أساليب تنمية الاقتصاد عن طريق إنشاء المشاريع الصناعية أو التجارية بجهودها الخاصة أو عن طريق المشاركة والمضاربة مع أطراف أخرى. ثانيًا: .... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1179 الأمين العام: من فضلك.. من فضلك: أنت غيرت الجملة وبناء على هذا ينبغي أن نضيف. أبو غدة: نحذف رقم (1) الشيخ المختار: كلمة (والمأمول) بداية.. والمأمول.. أبو غدة: لا.. لا. تغيرت.. تغيرت. الشيخ المختار: كيف أصبح التعبير؟ أبو غدة: ويوصي المؤتمر "تحذف رقم (1) " في ضوء ما لاحظه من أن أكثر المصارف الإسلامية اتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل عن طرق المرابحة للآمر بالشراء.. حتى كاد بعضها يقتصر –بدون أن- على هذا النوع من المعاملات، بما يلي: الرئيس: يوصى بما يلي: أبو غدة: تكرر يوصى مرة ثانية؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1180 الرئيس: طال الفصل نعم. الدكتور/ طه العلواني: لا عفوًا إذا سمحتم، ترفع من الأول وتوضع في الأخير، فيقال في البداية، (في ضوء ما لاحظه) إلى قولك (من المعاملات) يوصى بما يلي: ... أبو غدة: لا.. ضروري حتى نفصل بين القرار والتوصية، دائمًا مألوفة في القرارات. التسخيري: وكلمة حتى كاد.. العلواني: يوضع عنوان فرعي "توصية". الرئيس: دعوها.. مناسبة يا شيخ. أبو غدة: يوصى بما يلي: أولًا: أن يشمل نشاط المصارف الإسلامية إلى آخر الفقرة. ثانيًا: أن تدرس الحالات العملية، إلى آخر الفقرة. التسخيري: كلمة (حتى كاد) لو تحذف، لا داعي لها، يعني المعنى الأول كاف، فلماذا نتهم نحن هذا البنك أو ذاك؟ يعني (حتى كاد) لا داعي لها. الشيخ المختار: حتى تكون التوصية واضحة هو اليوم يوجد فيه نشاطات ومختلف أنواع النشاط إنما التوسع في مختلف أنواع النشاط الأخرى هي الأمور التي نبغيها، أما اليوم ليست مقتصرة على البيع بالمرابحة. التسخيري: ولذلك (حتى كاد) يحذف. الشيخ المختار: ما سمعت الكلام في هذا، أنا تدخلت، هذه قضية غير صحيحة، عندما نقول يوصي بالنشاط، النشاط موجود ومتوفر، وسيادتك أنت مع بيت التمويل الكويتي هل الموجود فيه المرابحة فقط؟ أو شمل نشاط المرابحة وغيرها؟ فإذا شمل النشاط المرابحة وغيرها فكيف نوصي بشمول المرابحة وغيرها؟ نوصي بالواقع؟ والذي نراه.. ليس هو الشمول وإنما هو التوسع في مختلف النشاطات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1181 أبو غدة: مناسب.. أن يتوسع. الأمين العام: أن يتسع نشاط المصارف الإسلامية لبقية.. التسخيري: أن يشمل نشاط كل المصارف الإسلامية مختلف النشاطات يعني تعميم وليكن التعميم لكل المصارف الإسلامية. السلامي: أن يتوسع نشاط المصارف الإسلامية في بقية أساليب تنمية الاقتصاد وليس أن يشمل هو شامل الآن. أبو غدة: أن يتوسع نشاط جميع المصارف الإسلامية بشتى أساليب. البسام: أقول (أن) مصدرية تأتي بعد حتى. التسخيري: هذه العبارة كلها تحذف (حتى كاد) الأفضل أن تحذف، يقترح هذا المعنى يا سيادة الرئيس (حتى كاد بعضها يقتصر) هذا المعنى احذفوه، حتى لا داعي لذكر ذلك، اتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل يوصي بما يلي: أولًا: أن يتسع نشاط ... الرئيس: هذا طيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1182 الأمين العام: هذا ما فعلناه. أبو غدة: نشطب يقتصر؟ الرئيس: لا، إلى التمويل. أبو غدة: لا، عن طريق المرابحة للآمر بالشراء، عند كلمة: بالشراء. الرئيس: حتى كاد.. أبو غدة: نشطب (حتى كاد بعضها يقتصر) نقول يوصي بما يلي: صارت هكذا ويوصي المؤتمر: في ضوء ما لاحظه من أن أكثر المصارف الإسلامية اتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء. يوصي بما يلي: أولًا: أن يتوسع نشاط جميع المصارف الإسلامية في شتى أساليب تنمية الاقتصاد ولا سيما إنشاء المشاريع الصناعية أو التجارية بجهود خاصة أو عن طريق المشاركة والمضاربة. الأمين العام: مع أطراف أخرى. أبو غدة: مع أطراف أخرى. ثانيًا: أن تدرس إلى آخره ... ويصبح نص القرار كاملًا على النحو التالي:. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1183 قرار رقم (2، 3) بشأن الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ / 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوعي (الوفاء بالوعد والمرابحة للآمر بالشراء) واستماعه للمناقشات التي دارت حولهما. قرر: أولًا: أن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور، وحصول القبض المطلوب شرعًا، هو بيع جائز طالما كانت تقع على المأمور مسئولية التلف قبل التسليم وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم، وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه. ثانيًا: الوعد (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقًا على سبب ودخل الوعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلًا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر. ثالثًا: المواعدة (وهي التي تصدر من الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز، لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكًا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة ((لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده.)) ويوصي المؤتمر: في ضوء ما لاحظته من أن أكثر المصارف الإسلامية اتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء. يوصي بما يلي: أولًا: أن يتوسع نشاط جميع المصارف الإسلامية في شتى أساليب تنمية الاقتصاد ولا سيما إنشاء المشاريع الصناعية أو التجارية بجهود خاصة أو عن طريق المشاركة والمضاربة مع أطراف أخرى. ثانيًا: أن تدرس الحالات العملية لتطبيق (المرابحة للآمر بالشراء) لدى المصارف الإسلامية، لوضع اصول تعصم من وقوع الخلل في التطبيق وتعين على مراعاة الأحكام الشرعية العامة أو الخاصة ببيع المرابحة للآمر بالشراء. والله أعلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1184 تغير قيمة العملة في الفقه الإسلامي إعداد الدكتور عجيل جاسم النشيمي الأستاذ المساعد في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة الكويت بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (3) . أما بعد (4) : فلقد تعددت المشكلات التي تصيب اقتصاد الدول مما يؤثر تأثيرا بليغا على أحوالها وعلاقاتها واستقرارها، ويعود تأثيره أيضا على أوضاع أفراد المجتمع في تعاملهم واستقرار أحوالهم وشغل ذممهم. وإن من أهم هذه المشكلات الاقتصادية المعاصرة اليوم مشكلة انخفاض القوة الشرائية للنقد أو ما يسمى بمشكلة التضخم. حيث يرخص النقد وتغلو السلع فتتأثر التزامات الدولة داخليا وخارجيا ويجر ذلك إلى مشكلات عديدة. كما يتأثر أفراد المجتمع من خلال تعاملهم بالإقراض، أو البيع بالأجل. فقد يحل أجل القرض أو البيع بالأجل، وقد تغيرت قيمة العملة من حيث قيمتها وقوتها الحقيقية بحيث لا يكون المدفوع عددا عند الأجل مكافئا ومساويا للمدفوع عند بدء التعامل، مما قد يلحق غبنا كبيرا على أحد الأطراف دون تقصير من جانبه. فقد تقوم الدولة لأسباب اقتصادية متعددة بتخفيض قيمة علمتها بالنسبة للذهب الذي ينبغي أن يكون غطاء ثابتا لها، أو بالنسبة لقيمة العملات الأخرى، بل قد تقوم الدولة بإلغاء عملتها أو استبدالها بغيرها. وإن مما لا شك فيه أن مشكلة تغير قيمة العملات تتربع اليوم على رأس المشكلات الاقتصادية على المستوى المحلي للدول وعلى المستوى العالمي، خصوصا بعد أن ارتبطت عملات الدول الصغيرة والنامية بعملات الدول الكبرى المتقدمة، وأصبحت هذه الدول متحكمة بها تحكما اقتصاديا تاما من خلال قوة عملتها الرئيسية تعليق: وأقوى هذه العملات وأكثرها تأثيرا في عالم الاقتصاد اليوم على المستوى العالمي العملة الأمريكية (الدولار) ،   (1) سورة آل عمران: الآية 102 (2) سورة النساء: الآية 1 (3) سورة الأحزاب: الآية 70 – 71 (4) هذه خطبة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يعلمها أصحابه رضوان الله عليهم في كل شأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1185 وإن نظرة سريعة للأرقام ترينا بجلاء تام خطورة الوضع الاقتصادي القائم، وحجم المشكلة الاقتصادية العالمية التي تقف أمريكا وراءها بصفة مباشرة؛ فللحفاظ على الاقتصاد القومي الأمريكي، ولتشجيع الصادرات وتخفيض العجز الهائل في الميزان التجاري كان أمام أمريكا حلان: أما أن تزيد معدلات الفائدة على الدولار فتحمي الدولار، وأما أن تترك الدولار ينخفض، وقد اختارت أمريكا الحل الثاني. يقول وزير الخزانة الأمريكي جيمس بيكر: " إن على الولايات المتحدة أن تختار بين حماية الدولار بزيادة معدلات الفائدة، وبين حماية الاقتصادي القومية بالحفاظ على انخفاض المعدلات وترك الدولار ينزلق، وأوضح وزير الخزانة الأمريكي: أن واشنطن اختارت ترك الدولار ينزلق وهي تعتمد على التعاون الدولي للحفاظ عليه من الانحدار كثيرا. وهذه بعض الأرقام التي ترينا بوضوح حجم مشكلة تغير العملة خصوصا إذا كانت عملة رئيسية عالمية كالدولار، فإن انخفاض الدولار في الآونة الأخيرة أصاب الاقتصادي العالمي بهزة اقتصادية عنيفة لم يشهد لها التاريخ مثيلا في حجمها وآثارها العالمية. ففي يوم الاثنين 19/10/1987 م خسرت أسواق الأوراق المالية في هذا اليوم فقط 500 بليون دولار، وبلغ حجم الأسهم المتداولة 600 مليون سهم. وهبط سعر الأوراق المالية يوم الثلاثاء 20/10/1987 م بمقدار 12.2 % في بورصة لندن و15 % في بورصة طوكيو، و6 % في بورصة باريس. وفي 3/11/1987 م شهد الدولار مزيدا من الانخفاض وبلغ في الولايات المتحدة أدنى مستوى له منذ 40 عاما مقابل الين الياباني. وانخفض سعر الدولار في الشرق الأقصى إلى 136.53. وفي 7/11/1987 م حطم الدولار حاجز الـ 136 ينا في سوق طوكيو مسجلا سعرا منخفضا قياسيا للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية. وانخفض الدولار مقابل المارك الألماني الغربي إلى 1.7097 ماركا بتاريخ 3/11/1987 م وهبط في 7/11/ 1987م إلى 1.70 ماركا، وهو أدنى حد منذ إدخال تحديد التسعيرات الرسمي للعملات في عام 1953م. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1186 وحدد البنك المركزي الألماني الغربي السعر الرسمي للدولار عند 1.7050 ماركا ألمانيا غربيا، وهو أدنى سعر للدولار منذ بدء التعامل بالمارك الألماني الغربي قبل 39 عاما، وهبط سعر الدولار في مواجهة المارك الغربي وبلغ 1.7055 وهو أدنى سعر رسمي سجله الدولار مقابل المارك عندما بلغ 1.7067 في عام 1980م في ذروة ركود اقتصادي أمريكي. كما هبط سعر الدولار إلى نحو 1.41 فرنكا سويسريا وإلى 5.80 فرنكا فرنسيا وبلغ سعر الجنيه الإسترليني 1.7420 دولارا. وفي 26/10/1987 م بلغت خسائر بورصة هونغ كونغ وحدها في هذا اليوم 50 مليار دولار أمريكي أما خسائر الأسهم في هذا اليوم فبلغت كالتالي: لندن % 7 وطوكيو 5 % وهونغ كونغ 35 % ومدريد 5.4 % وباريس 6 % وأمستردام 4.2 %. وفي 10/11/ 1987م في لندن منيت أسعار الأسهم بتدهور جديد لدى افتتاح عمليات التبادل في بورصة لندن وذلك تبعا للخسائر الجديدة التي لحقت بأسعار الأسهم في بورصة وول ستريت بنيويورك أمس الأول وبورصات لندن والشرق الأقصى صباح أمس. وامتنع المتعاملون بالأسهم عن القيام بأي عمليات تبادل بانتظار ورود أنباء إيجابية عن عزم حكومة الولايات المتحدة على إصلاح عجز ميزانها التجاري، والذي لا يمكن بدونه إزالة الركود الذي يسيطر على الأسواق المالية والعالمية. وهبط مؤشر صحيفة فايننشال تايمز لأسهم المؤسسات والشركات الثلاثين الأكثر نشاطا لدى افتتاح عمليات التبادل في بورصة لندن أمس بمعدل 35.7 نقطة حيث انتهي عند حدود 1529.5 نقطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1187 وشهدت أسعار الأسهم هبوطا حادا لدى إغلاق بورصة وول ستريت. وتراجع مؤشر داوجونز بمعدل 54.54 نقطة حيث انتهي عند حدود 1904.51 نقطة. * وفي طوكيو: هبطت أسعار الأسهم في بورصة كوكيو تبعا لتدهور سعر الدولار الأمريكي حيث تراجع مؤشر نيكي داو جونز بمعدل 731.91 ليستقر عند حدود 21686.46 نقطة. ولحقت بورصة سيدني بكل من بورصتي لندن ونيويورك على طريق الخسائر حيث هبط مؤشر أول أورديناريز بمعدل 48.6 نقطة ليستقر عند حدود 203.3 نقطة. وتأثرت بورصة هونغ كونغ بالضعف الذي طرأ على البورصات الأخرى حيث هبط مؤشر هانغ سينت بمعدل 96.07 نقطة لينتهي عند حدود 2043.24 نقطة وفي السوق الفرنسية انخفض مؤشر بورصة باريس إلى حوالي 4.5 في المائة مقارنة مع نهاية الأسبوع. وفي 11 / 11/1987 م أصيبت أسعار الأسهم في طوكيو بانتكاسة جديدة إثر انحدار أسعار الدولار الأمريكي والسندات الحكومية اليابانية لدى بدء التعامل في سوق الأوراق المالية الياباني، وإن أسعار الأسهم انخفضت بشكل حاد، مما أثر على المؤشرات التجارية خاصة مؤشر نيكاي الذي يقيس أداء 225 من الشركات الصناعية الرئيسية. وإن مؤشر نيكاي انخفض 809.14 نقطة ليستقر عند 20877.32 نقطة مقابل 731.19 نقطة أمس الأول. وإن أسعار السندات الحكومية اليابانية فقدت عدة نقاط من قيمتها في تبادل محموم بسبب الارتفاع الملحوظ في أسعار العملة اليابانية، وانخفاض أسعار الأسهم في طوكيو ونيويورك. كما أصيبت الأسواق العالمية الأخرى بمزيد من الانخفاضات المتدنية ومن خلال هذه الأرقام يتضح مدى الاضطرابات في الاقتصاد العالمي، وكان يخشى أن يعقب هذا التضخم العالمي كساد عالمي كما حدث في عام 1929 م حيث عانت الدول الأوروبية من ارتفاع الأسعار منذ بداية الحرب العالمية الأولى 1914–1918م وإلى أوائل العشرينات، حيث ارتفعت الأسعار في ألمانيا في 1923م ملايين المرات بالنسبة للمارك عما كان قبل سنوات قلائل، ثم أصاب الكساد العالمي معظم الدول الصناعية في صيف 1929م وأحدث انخفاضا كبيرا للغاية في مستويات الأسعار في هذه الدول (1) .   (1) جريدة " القبس الكويتية، في 27 / 10 / 1987 م، العدد 5552؛ و4/11/1987م، العدد 5560؛ و7/11/1987م، العدد 5562؛ و9/11/1987م، العدد 5564؛ و13 / 11 / 1987 م، العدد 5568، وجريدة " الوطن " الكويتية، في 11/1/1987م، العدد 4570 و12/11/1987م، العدد 4571 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1188 أما عن تلمس وجهة الفقه الإسلامي في هذه المعضلة الاقتصادية المزمنة، وهي تغير قيمة العملات وما يترتب على ذلك من آثار، فإن الشريعة الإسلامية لما كانت شريعة تنظم علاقات الأفراد فيما بينهم، وعلائقهم بالدولة، وتنظم علاقة الدولة بغيرها من جميع النواحي كان طبيعيا أن يحظى الجانب الاقتصادي بأهمية خاصة في التشريع الإسلامي لماله من خطورة فردية ومحلية ودولية. وقد تضمنت الشريعة الإسلامية نظاما اقتصاديا متكاملا متميزا، له نظريته وأسسه وموازينه، وله علاجاته كل ما قد ينشأ من مشكلات اقتصادية في المجتمع والدولة الإسلامية. إلا أن الشريعة الإسلامية ليست مسئولة عن حل مشكلات نشأت من طبيعة النظم الاقتصادية الأخرى؛ لأن لكل نظام أسلوبه في حل إشكالاته التي قد تنشأ من خلال التعامل، وهي التي قد ينجح هو في حلها، في الوقت الذي قد يعجز نظام آخر عن حلها، ولو كان أكثر تطورا وشمولا. إن الأحكام الفقهية في الشريعة الإسلامية أحكام لواقعات تنشأ في المجتمع الإسلامي، وحينئذ لا بد لكل واقعة من حكم، ولا نعرف واقعة واحدة في تاريخ الدولة الإسلامية لم يجد الفقهاء لها حكما شرعيا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1189 وهذا هو الذي يفسر لنا صعوبة الحل لمثل مشكلة الأوراق النقدية وتغير قيمتها فهي مشكلة لم تنشأ في ظل الشريعة الإسلامية، وما كان لها أن تنشأ لمصادمتها ابتداء لأسس النظام الاقتصادي الإسلامي الذي لا يسمح تطبيقه السليم بظهور مثل هذه المشكلة بالحجم والواقع المعاصر. ولذلك فإن النظر في مثل هذه المشكلات الاقتصادية المعاصرة لا يستلزم بالحتم حلا، فقد يكون في التوقع عند إبداء الحكم الشرعي مندوحة، إذ ترتب عليه لي عنق الآية أو الحديث، أو تحميل اللفظ ما لا يحتمل، أو التحايل على نصوصه وقواعده. وهذا لا يمنع من إبداء الرأي في هذه المعضلة من منظور إسلامي، وهذا ما نحاول أن نطرحه من خلال هذا البحث بالرجوع إلى وقائع الأحداث المشابهة في التاريخ الإسلامي وآراء الفقهاء واجتهاداتهم وما يمكن أن يستنبط من تخريجات لموضوع تغير الأوراق النقدية. ويبقى كل ما يذكر رأيا لا حكما في المسألة موضوع البحث. والله تعالى أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1190 المبحث الأول تغير قيمة العملة وواقعاتها تمهيد سبق أن أشرنا في مقدمة هذا المبحث إلى خطورة موضوع تغير العملة بما له من أثر على الفرد والجماعة والدول، وهو بلا شك قضية العصر الاقتصادية، والتي انفجرت في هذه السنوات الأخيرة إثر تراكمات متوالية من المشكلات الاقتصادية المحلية والعالمية، ولعلها بدأت منذ أن ارتضت الدول واصطلحت على أن تتعامل بالأوراق النقدية من غير اشتراط أن يكون لها غطاء ذهبي أو فضي يوازن قيمتها ويحفظ اضطرابها الأمر الذي شجع كثيرا من الدول تحت ظروف اقتصادية سواء في حال السلم عامة، أو الحرب خاصة، أن تسرف في طبع هذه الأوراق وتغرق بها الأسواق، طمعا في تعديل اقتصادها وإرضاء المشاعر، أو تخديرها، أو كبت بوادر ومظاهر الثورات الاجتماعية، متجاهلة خطورة هذا التوسع في مردوده الاقتصادي الخطير على الأسعار والقوة الشرائية للعملة فيكون سببا في التضخم وهو ارتفاع الأسعار بسبب زيادة الإنفاق النقدي بنسبة أكبر من عرض السلع، ولا شك أن هذا يسبب مشاكل اقتصادية متشعبة المسالك صعبة الحل، وقد تتكرر هذه القضية على فترات تاريخية متقاربة فيقل الخطر أحيانا، ويمكن تلافي آثاره، ويعظم أحيانا فيصعب تداركه وتلافي آثاره السيئة على الفرد والجماعة والدولة، وكم من دول استبيحت أراضيها بأسباب اقتصادية، وكم من دول انهار بنيانها بعد قوة بسبب سوء تصريف اقتصاديا. وكان الربا وما زال هو مرجع هذه الإشكالات، ومصدر المحن الاقتصادية الخانقة، وما التضخم أو الكساد أو غيرها، إلا بعض مظاهر الربا في واقع الأمر، وحقيقته بشكل مباشر أو غير مباشر، وإن موضوع تغير العملة يقع ضمن أدق وأخطر أبواب الفقه الإسلامي، فيقع ضمن أبواب القرض والبيوع والربا والصرف وغيرها، والصرف خاصة هو من أقرب الأبواب إلى الربا، وأمر يقع بين الصرف والربا لهو خطير جدا، وإن ممارسة الصرف وتشعيب قضاياه يحتاج إلى نوع حذر شديد، فلا توسع أبوابه حتى لا يكون ذريعة إلى الربا، ولا تضيق عن حدها فيدخل على الناس العنت في معايشهم وتعكر أحوالهم، وذاك أو هذا مما لا يرتضيه الشرع الحنيف. وينبغي أن تراعى في ذلك قواعد الصرف كما تراعى قواعد الأبواب الأخرى في الفقه حتى يسلم الحكم من شائبة الغرر أو الربا أو غير ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1191 والصرف خاصة: هو بيع الذهب أو الفضة بمثله، أو بيع أحدهما بالأخر، وبالإضافة إلى أركان البيع يشترط في الصرف ثلاثة شروط أخرى: أولهما: أن يكون البدلان متساويين، سواء كانا مضروبين أو غير مضروبين فلا يصح بيع دينار بدينار مع زيادة في أحدهما، ولا سوار بوزن، وسوار بوزن أكبر. ثانيها: الحلول: فلا يصح بيع الذهب أو الفضة مع تأجيل قبضهما أو أحدهما. ثالثها: التقابض في المجلس لما جعل ثمنا ومثمنا، فإذا افترقا قبل القبض بطل العقد. فإذا كان البيع لأحد الجنسين بالآخر، فيشترط حينئذ شرطان، الحلول، والتقابض في المجلس. هذا بالنسبة للذهب والفضة، وكذا بقية الأصناف الربوية عند فقهاء المذاهب سوى الحنفية فإنهم لم يشترطوا التقابض في غير الذهب والفضة. وهذا القدر في الصرف متفق عليه بين المذاهب المعتبرة، أما محل الخلاف فإنما هو في الأثمان من غير الذهب والفضة، كالفلوس والذهب والفضة التي غلب عليها الغش، وهذا ما ستنفصل القول فيه من حيث تغير القيمة فيه بالإضافة إلى تغير قيمة الذهب والفضة في الدراهم والدنانير. وسنتناول الكلام عن هذه القضية ببيان واقعات المسألة في العصور الإسلامية المختلفة، ودور الدولة في علاج هذه القضية، ثم عرض صور تغير العملة والمذاهب فيه ثم إعمال النظر، واختيار ما يغلب على الظن رجحانه. وإن ما نتوصل إليه من الترجيح هو رأي قاصر، لا نلزم به أنفسنا بمجتهدين، ولا نفتي به أحدا ما فإنه لا يسعنا القول في مثل القول في مثل هذه القضية العامة، وما نقدمه لا يعدو كونه رأيا بدا، وإنما يسع جمهرة من فقهائنا الكرام، أن يتداولوا الموضوع ويشبعوه بحثا بما حباهم الله من علم رصين، سياجه ولحمته وسداه تقوى الله تبارك وتعالى، ثم يعلنوا ما ترجح لديهم من حكم الشرع في هذه القضية سواء في الجواز أو المنع، أو الجواز مع وضع الشروط والضوابط، ويسعهم في كل الأحوال التوقف إن رأوا فيه المصلحة. والله الهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1192 واقعات مسألة تغير العملة: إن وقائع الأحداث التي تتكرر وتتجدد أو تستجد تحتاج إلى أحكام فقهية تضفي عليها الوصف الشرعي، لقد تكفل الشرع الحنيف بإعطاء كل واقعة في المجتمع الإسلامي حكما شرعيا من التحريم، أو الكراهة، أو الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، وهذه الأحكام أما مستندها الأدلة المتفق عليها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، أو الأدلة المختلف فيها، من الاستحسان أو المصالح المرسلة أو قول الصحابي أو عمل أهل المدينة وما إلى ذلك من الأدلة المختلف فيها، أو بالرجوع إلى القواعد الفقهية والأصولية المعتبرة من قواعد الضرورات وقاعدة التيسير وما إلى ذلك. وفي ظل هذا الرصيد الوافر من الأدلة الحاكمة لم يواجه فقهاؤنا مسألة عابرة، أو معضلة شائكة إلا وكان لها وصف شرعي ضابط من الحظر أو الإباحة. وإن مسألة تغير العملة كانت إحدى واقعات المسائل التي طرأت على واقع الفقه الإسلامي في عصور متفرقة، وكانت هذه الواقعات تصغر أحيانا، وتكبر في أحيان أخرى، ويلحظ أن هذا مرتبط بمدى تطبيق الأحكام الشرعية في واقع المجتمع المسلم، ومدى التزامه بقواعد الأحكام، خصوصا في مسائل البيوع الجائز منها والمنهي عنه، فكلما كان التطبيق شاملا تاما ندر أن تقع هذه الواقعات، وإن وقعت فحالات فردية، لا تشكل ظاهرة اقتصادية تترك آثارا عامة على المجتمع المسلم، وكلما كان التطبيق الشامل متخلخلا، ومتفاوتا بين فترة وأخرى، فإن ضغوطات التصورات وواقع المجتمعات غير الإسلامية التي قد يكون له تفوق اقتصادي، يبدأ ثقله بالضغط لإيجاد واقع يتجاوب وصفة واقع هذه المجتمعات. ولذا فقد ظهرت هذه المشكلة باعتبارها قضية اقتصادية اجتماعية في العصور المتأخرة للدولة الإسلامية. وأما من قبل فلم تعد كونها فردية جزئية، وإن توسعت فمحلية قطرية ويكون حلها حينئذ تبعا لها فرديا أو محليا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1193 وبطريق التتبع يمكن أن نسجل هنا بعض الوقائع التي حدثت في التاريخ الإسلامي، بقصد أن نقف على طريق نظر الفقهاء لهذه القضية، وصفة الحكم الذي انقدح في أذهانهم فعبروا عنه. أما في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فما نكاد نرى لموضوع تغير العملة حدثا يطابق صورته المعروفة اليوم، وإنما نجد بعض الوقائع التي هي من باب الصرف الجائز وهو اقتضاء أحد النقدين من الآخر، فيكون صرفا بعين في الذمة في قول أكثر أهل العلم، فقد روى أبو داود، والأثرم في سننهما عن ابن عمر رضي الله عنهما،، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطى هذه من هذه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة رضي الله عنها، فقلت: يا رسول الله، رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ((:لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء ")) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1194 قال أحمد: إنما يقضيه إياها بالسعر، لم يختلفوا أنه يقضيه إياها بالسعر إلا أصحاب الرأي: أنه يقضيه مكانها ذهبا على التراضي، قال: لأنه بيع في الحال، فجاز ما تراضيا عليه إذا اختلف الجنس، كما لو كان العوض عرضا، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن بكر بن عبد الله المزني ومسروقا العجلي سألاه عن كرى – أي أجير – لهما له عليهما دراهم، وليس معهما إلا دنانير؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: أعطوه بسعر السوق) (1) . ووجه اتصال هذا بموضوع تغير العملة هو: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يأخذ بدل الدنانير دراهم أو بدل الدراهم دنانير، وقد يكون حالا أو مؤجلا، وفي الأجل قد يتغير سعر الصرف أي قيمة ما دفع أولا يوم البيع عن يوم الأداء، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بسعر يوم الأداء وبشرط التقابض في المجلس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وبينكما شيء)) أي غير مقبوض والواو للحال. قال الخطابي: "واشترط أن لا يتفرقا وبينهما شيء، لأن اقتضاء الدراهم عن الدنانير صرف، وعقد الصرف لا يصح إلا بالتقابض" (2) . ولا يخفي أن نسبة التغير بين الدراهم والدنانير يومها كان طفيفا لا يصل حد الغبن لتعاملهم بالذهب والفضة عينا، وقيمتهما تكاد تكون ثابتة على مر العصور التي كان الذهب والفضة فيها عملة الناس المتداولة.   (1) عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعلامة محمد شمس الحق آبادي مع شرح الحافظ ابن قيم الجوزية: 9/203، والمغني: 4/38، وكشاف القناع: 3/266، الطبعة الثانية، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة 1388هـ – 1969 م (2) معالم السنن، للخطابي: 5 / 6 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1195 وأما في العهود اللاحقة لعهد النبوة، فقد تكرر السؤال عنها خصوصا في عهود الأئمة الأربعة، والمدارس الفقهية في الحجاز والعراق ومصر والشام، مما يدل على ظهور هذه المسألة بين الفينة والأخرى، ويظهر أن هذه المسألة قد ازداد وقوعها عندما شاع استخدام الفلوس والتعامل بالدراهم والدنانير المغشوشة. وفي كل هذه العهود لا تكاد هذه المسألة تعدو كونها مسألة واقعات فردية، وبتغير في السعر طفيف إلا أن الفترات التي شكلت فيها هذه المسألة قضية أو مشكلة ظاهرة في المجتمع الإسلامي فهي في فترات متأخرة، وفي ذات الوقت في ظروف اضطراب سياسي كالحروب المسببة لإشكالات اقتصادية حادة قد تتفاوت فيها الأسعار وقد تقل القوة الشرائية وقد تضعف لارتباط الأسعار بالعرض والطلب. ولعل أول تغير للعملة كان سنة أربع وسبعين في عهد عبد الملك بن مروان حين أمر بضرب النقود في العراق، وقد كانت الدنانير ترد رومية والدراهم كسروية، فغيرها إلى عملة إسلامية (1) .   (1) فتوح البلدان للبلاذري: ص 452 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1196 وقد ظهرت مشكلة تغير العملة باعتبارها مشكلة اقتصادية عامة في فترات عديدة من التاريخ الإسلامية ففي القرن الخامس الهجري يذكر الإمام أحمد بن يحيى الونشريسي 914 هـ: أنه قد نزل ببلنسية حين غيرت دراهم السكة التي كان ضربها القيسي وبلغت ستة دنانير بمثقال ونقلت إلى سكة أخرى كان صرفها ثلاثة دنانير للمثقال، فالتزم ابن عبد البر يوسف بن عبد الله القرطبي 368 (هـ –463 هـ) السكة الأخيرة. ثم قال: وأفتى أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي (403 هـ – 474 هـ) أنه لا يلزم إلا السكة الجارية حين العقد (1) . وقال الونشريسي أيضا: (سئل ابن الحاج (وهو محمد بن أحمد التجيبي 458 هـ – 529 هـ) عمن عليه دراهم، فقطعت السكة، فأجاب: أخبرني بعض أصحابنا: أن ابن جابر (2) (وهو أبو العباس أحمد بن محمد بن جابر) فقيه إشبيلية قال: نزلت هذه المسألة بقرطبة أيام نظري في الأحكام، ومحمد بن عتاب (وهو أبو عبد الله القرطبي) حي ومن معه من الفقهاء، فانقطعت سكة ابن جهور (محمد بن جهور 391هـ – 462 هـ) بدخول ابن عباد (محمد بن عباد بن محمد اللخمي 431هـ – 488هـ) سكة أخرى) (3) .   (1) المعيار المعرب والجامع المغرب، للإمام أحمد بن يحيى الونشريسي: 6/164، طبع دار الغرب الإسلامي 1401هـ – 1981، بيروت؛ وحاشية محمد بن أحمد الرهوني على شرح عبد الباقي الزرقاني، لمتن خليل: 5 /119، الطبعة الأولى، المطبعة الأميرية بولاق 1306 هـ بمصر. (2) وقد وقع في المعيار " أبا جابر " وهو خطأ لعله من الطابع (3) وقد وقع في المعيار "أبا جابر " وهو خطأ لعله من الطابع: 6 / 163 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1197 وفي القرن السابع الهجري، قال الذهبي في تاريخه: في سنة اثنين وثلاثين وستمائة أمر الخليفة المستنصر بضرب الدراهم الفضة يتعامل بها بدلا عن قراضة الذهب فجلس الوزير أحضر الولاة والتجار والصيارفة، وفرشت الانطاع، وأفرغ عليها الدراهم، وقال الوزير: قد رسم مولانا أمير المؤمنين بمعاملتكم بهذه الدراهم عوضا عن قراضة الذهب، رفقا بكم وإنقاذا لكم من التعامل بالحرام من الصرف الربوية، فأعلنوا بالدعاء، ثم أديرت بالعراق، وسعرت كل عشرة بدينار، فقال الموفق أبو المعالي بن أبي الحديد الشاعر في ذلك: لا عدمنا جميل رأيك فينا أنت باعدتنا عن التطفيف ورسمت اللجين حتى ألفناه وما كان قبل بالمألوف ليس للجمع كان منعك للصر ف ولكن للعدل والتعريف (1) . ويبدو أنها كانت بلوى عامة في عهد الإمام ابن تيمية 661 هـ – 728 هـ، وهو عهد كثير القلاقل والاضطرابات، وإجابته وتفصيله في الموضوع يوحي بعموم القضية. كما سيتبينه بعض النصوص لاحقا.   (1) الحاوي للفتاوى: 1/ 103 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1198 وفي القرن الثامن الهجري يقول ابن كثير في تاريخه: في سنة ست وخمسين وسبعمائة: رسم السلطان الملك الناصر حسن بضرب فلوس جدد على قدر الدينار ووزنه، وجعل كل أربعة وعرشين فلسا بدرهم، وكان قبل ذلك الفلوس العتق كل رطل ونصف بدرهم. ويتحدث ابن حجر عن أحداث سنة ست وسبعين وسبعمائة عن الغلاء وتغير أسعار السلع وما تبع ذلك فيقول: لما وقع الفَنَاء في هذه السنة بلغ ثمن الفروج خمسة وأربعين والفرخة خمسين، والرمانة عشرة، والبطيخة سبعين، وينقل السيوطي عن ابن حجر أيضا: بأنه قد بيع الأردب من القمح بمائة وخمسة وعشرين درهما نقرة، وقيمتها إذ ذاك ست مثاقيل ذهب وربع، قال السيوطي: وهذا على أن كل عشرين درهما مثقال، وقال ابن حجر أيضا: في هذه السنة، غلا البيض بدمشق، فبيعت الحبة الواحدة بثلث درهم من حساب ستين بدينار، وهذا أيضا على أن كل عشرين درهما مثقال. ثم ارتفع الفناء وتراجع السعر إلى أن بيع أردب القمح سعر سبعين، وفي آخر هذه السنة إلى عشرين (1) .   (1) إنباء الغمر بأبناء العمر، لشيخ الإسلام أحمد بن حجر العسقلاني: 1/93، الطبعة الأولى، طبع مجلس دائرة المعارف العثمانية 1378 هـ – 1967 م الهند، والحاوي للفتاوى: 1 / 102 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1199 وفي القرن التاسع الهجري في عهد الإمام جلال الدين البلقيني (وهو ابن رسلان البلقيني 791هـ – 868 هـ) يقول السيوطي في رسالته التي خصصها لموضوع تغير العملة والتي سماها " قطع المجادلة عند تغيير المعاملة ": وتكلم في ذلك قاضي القضاة جلال الدين البلقيني: (نقلت من خط شيخنا قاضي القضاة شيخ الإسلام علم الدين البلقيني رحمه الله قال في فوائد الأخ شيخ الإسلام جلال الدين وتحريره ما قال: اتفق في سنة إحدى وعشرين وثمنمائة عزة الفلوس بمصر وعلى الناس ديون في مصر من الفلوس وكان سعر الفضة قبل عزة الفلوس كل درهم بثمانية دراهم من الفلوس ثم صار بتسعة، وكان الدينار الإفلوري بمائتين وستين درهما من الفلوس، والهرجة بمائتين وثمانين، والناصري بمائتين وعشرة وكان القنطار المصري ستمائة درهم فعزت الفلوس ونودي على الدرهم بسبعة دراهم، وعلى الدينار بناقص خمسين فوقع السؤال: عمن لم يجد فلوسا، وقد طلب منه صاحب دينه الفلوس فلم يجدها، فقال: أعطني عوضا عنها ذهبا أو فضة بسعر يوم المطالبة ما الذي يجب عليه؟) (1) .   (1) الحاوي للفتاوى 1 / 95 و 96 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1200 وفي ظل الدولة العثمانية وخصوصا في أواخر عهدها تغيرت قيمة العملة أكثر من مرة، وقد كان النقد المتداول في جميع البلدان العربية في آسيا تقريبيا، يخضع قبل الحرب العالمية الأولى إلى الحكم العثماني، وبالتالي كان النقد المتداول فيها هو النقد العثماني بالدرجة الأولى. فكانت في أواخر القرن التاسع عشر الليرة العثمانية الذهبية وحدة البلاد النقدية، وذلك بعد أن خرجت الإمبراطورية العثمانية عام 1888م عن قاعدة المعدنين واتبعت قاعدة الذهب. وكانت النقود التركية الفضية والنحاسية تستخدم في المدفوعات الصغيرة، أما المدفوعات الكبيرة فكانت تتم بالليرات الذهبية العثمانية، والليرات الذهبية الإنكليزية والفرنسية أما في أطراف الإمبراطورية فكان التداول في أنواع أخرى من النقود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1201 وفي أثناء الحرب العالمية الأولى أعلنت تركيا التداول الإجباري بالنقد الورقي الذي كان قد بدأ إصداره عام 1862م. ولم يلق النقد الورقي التركي في يوم من الأيام قبولا من الأهالي خصوصا في الأرياف والمناطق النائية، فبقى التعامل به محدودا جدا رغم أنه كان قابلا بادئ الأمر للتحويل إلى ذهب، وقد خفت ثقة الناس في النقد الورقي أكثر خلال الحرب، وذلك نظرا للسقوط المستمر الذي تعرضت له قيمته بسبب طبعه بكميات كبيرة لتمويل نفقات الحرب (1) . وقد اضطرت الدولة إزاء المشكلات الاقتصادية والسياسية لهذا التغيير، ويبدو أن اضطراب العملة كان متكررا في عهد الخلافة العثمانية منذ قرابة القرن العاشر الهجري، وهذا الاضطراب الاقتصادي في تغير العملة، أو نقص قيمتها أدى بلا شك إلى إشكالات في البيوع الآجلة خاصة والبياعات التي تمت قبل الأوامر السلطانية، وهذا الذي تشير إليه إفتاءات الفقهاء وخاصة الحنفية منها باعتباره مذهب دولة الخلافة، ولعل أول عمل يذكر في هذه الفترة رسالة الخطيب التمرتاشي، محمد بن عبد الله بن أحمد 939 هـ – 1004 هـ حيث ألف رسالة سماها " بذل المجهود في مسألة تغير النقود " (2) وقد اعتمد على هذه الرسالة من أتى بعد الإمام التمرتاشي، بل إن ابن عابدين بنى رسالته على رسالة التمرتاشي فلخصها وزاد عليها (3) .   (1) النقد والائتمان في البلاد العربية، للدكتور عصام يوسف عاشور: ص 1و2، طبع نهضة مصر1962 م بمصر. (2) خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، للعلامة محمد أمين المحبي: 4/18، طبع مكتبة خياط، بيروت؛ والأعلام، للزركلي: 7/117 وأشار إلى أن له رسالة في النقود وذكر عنوان الرسالة كاملا كما أثبته ابن عابدين في رسالته تنبيه الرقود: ص 75، وفي غيرها من كتبه. (3) العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، للعلامة محمد أمين، ابن عابدين: 1/280، نشر دار المعرفة بيروت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1202 وفي القرن الثالث عشر الهجري ألف الشيخ عبد القادر الحسيني رسالة بعنوان "رسالة في تراجع سعر النقود بالأمر السلطاني" (1) في أوائل القرن الثالث عشر الهجري، فعرض هذه القضية عرضا تفصيليا على المذهب الحنفي، بدا الحسيني رسالته بما يشير إلى المشكلة حيث قال: "وبعد فلما صدر الأمر السلطاني إلى مدينة دمشق الشام ومحروسة حلب بتراجع سعر أنواع النقود الرائجة من الفضة والذهب، وكثرت وقائع الناس في البيوع والمعاملات، واضطربت مسائلهم في سائر العقود والصناعات، واختلفت الفتوى لاختلاف هذه الوقائع … " (2) ، إلخ.   (1) قام بدراسة وتحقيق هذه الرسالة القيمة الدكتور نزيه كمال حماد، ورجح أن هذه الرسالة سابقة لرسالة ابن عابدين " تنبيه الرقود على مسائل النقود " مستدلا على ذلك بأن الحسيني كتب رسالته في 1216 هـ ـ وابن عابدين كتب رسالته 1230 هـ، والحسيني متقدم في العمر والطبقة، راجع تحقيق رسالة الحسيني في "مجلة الاقتصاد الإسلامي"، العدد الثاني، المجلد الثاني، 99 مطبعة الملك عبد العزيز 1405 هـ – 1985 م. (2) قام بدراسة وتحقيق هذه الرسالة القيمة الدكتور نزيه كمال حماد، ورجح أن هذه الرسالة سابقة لرسالة ابن عابدين " تنبيه الرقود على مسائل النقود " مستدلا على ذلك بأن الحسيني كتب رسالته في 1216 هـ ـ وابن عابدين كتب رسالته 1230 هـ، والحسيني متقدم في العمر والطبقة، راجع تحقيق رسالة الحسيني في "مجلة الاقتصاد الإسلامي"، العدد الثاني، المجلد الثاني، 99 مطبعة الملك عبد العزيز 1405 هـ – 1985 م. ص 111 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1203 وبعد قرابة أربعة عشر عاما في 1230هـ (1) ألف محمد أمين عابدين 1252 هـ رسالته " تنبيه الرقود على مسائل النقود " وقد ألف ابن عابدين هذه الرسالة على مذهب الحنفية السائد في الدولة العثمانية وقد لخص فيها رسالة التمرتاشي – كما سبق التنويه – ويبدو أنه لم يطلع على رسالة الحسيني، وعن نقل له رأي الحسيني ولم يرتضه، قال في تنبيه الرقود في معرض كلامه في رخص الفلوس: "وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطي بالسعر الدارج وقت الدفع، ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلا، ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري" (2) . ولعله يريد من ذلك قول الحسيني في رسالته في ذات الموضوع فالظاهر من النقول – نصا ودلالة – أنه يفتي بدفع النقود على السعر الرائج بعد الأمر، بحساب القرش بأربعين مصرية (3) .   (1) وفاقا لما رجحه الدكتور نزيه كمال حماد كما سبقت الإشارة، المرجع السابق، ص 101 (2) تنبيه الرقود: ص 64؛ وقد تعرض لهذه المسألة أيضا في حاشيته رد المحتاج على الدر المختار: 2/30 وما بعدها، و5/24، وما بعدها؛ وفي العقود الدارية: 1/280 وما بعدها (3) رسالة الحسيني في مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي: ص 118 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1204 وقد أشار ابن عابدين إلى خصوص المشكلة في عصره فقال: " وقد شاع في عرف أهل زماننا أنهم يتبايعون بالقروش، وهي عبارة عن قطع معلومة من الفضة، ومنها كبار كل واحد باثنين، ومنها أنصاف وأرباع، والقرش عبارة عن أربعين مصرية، ولكن الآن غلب تلك القطع وزادت قيمتها، فصار القرش الواحد بخمسين مصرية، والكير بمائة مصرية (1) كما أشار إلى ذلك في حاشيته حين قال: إذا رخص بعض أنواع العملة أو كلها واختلفت في الرخص كما وقع مرارا في زماننا". وقال: "اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص" (2) . وأشار عبد الحميد الشرواني " كان حيا 1289 م سنة إتمام حاشيته" (3) في حاشيته على تحفة المحتاج بشرح المنهاج تعليقا على قول المصنف" ولو نقدا أبطله السلطان: قال: " فشمل ذلك ما عمت به البلوى في زماننا في الديار المصرية من إقرار الفلوس الجدد ثم إبطالها وإخراج غيرها، وإن لم تكن نقدا" (4) .   (1) تنبيه الرقود: ص 63؛ وحاشية ابن عابدين: 4/26 (2) حاشية ابن عابدين: 4 / 26، وتنبيه الرقود، ص 64 (3) بروكلمان: 1/681 (4) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج بشرح المنهاج، للإمام أحمد بن حجر الهيتمي: 5 / 44 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1205 ولعل ما ذكرناه هاهنا هو من أهم واقعات تغير العملة أو تبلدها وهو يمنح القضية وضوحا، من حيث صورتها وحجمها، لم يكن مقارنتها بوقائع الأحوال في أيامنا المعاصرة، ومن حيث الجملة فإن المبدأ نفسه وصورة التغير ذاتها، فالتغير في العملة الرئيسية المتداولة أما بتبدل العملة أو بتغيير قيمتها بالنقص، وربما اختلف حجم التعامل ونسبة التغير فحسب بين ما كان وما عليه الحال اليوم، ونظرا لهذا التقارب في الوقائع فإن ما أفتى به فقهاؤنا السابقون سيكون له دور أصيل في تحديد طريق النظر في هذه القضية، وتوضيح مواضع الإشكالات فيها وبه يتيسر استنباط الحكم بعون الله وتوفيقه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1206 * ** المبحث الثاني دور الدولة في استقرار العملة مما لا شك فيه أن الإشراف التام على النقد من حيث نوعه وصفاته وإصداره وكمياته قضية هامة جدا، ولذلك فقد تكلم الفقهاء عن دور الدولة ومسئوليتها في هذا الجانب، وما ينبغي عليها أن تتخذه من إجراءات وأساليب، وفي خصوص ضرب العملة وغشها تكلم الفقهاء فيها سواء بالنسبة للأفراد أو الدولة ممثلة بالحاكم. أما بالنسبة للأفراد فإنهم قد يتدخلون فيما هو من اختصاص الحاكم، فيفتات عليه بضرب النقود، وقد كان هذا موجودا، وإن كان بشكل محدود وفي بعض فترات التاريخ الإسلامي، وهو يحمل شبهة التزوير والغش، وإن كان خالص الذهب، سواء كان في نفس العملة أو عملة أخرى لها تداول في سوق الناس. وقد بين فقهاؤنا الحكم في مثل هذا بالنسبة للأفراد بأسلوب وقائي وعلاجي. فقال: يكره لغير الإمام ضرب الدراهم الدنانير، وإن كانت خالصة، لأنه من شأن الإمام، ولأنه لا يؤمن فيه الغش والإفساد، ولأنه يخفي فيغتر به الناس. وذكر الفقهاء الكراهة هنا محمول على عدم صدور قرار من الحاكم بالتزام العملة المضروبة من الدولة وحدها، ومن جانب آخر: لم تتوافر نية الغش والتزوير ممن يرب هذه العملة المساوية في قيمتها لعملة الدولة، فمن باب سد الذريعة قضوا بذلك، فإن صدر منع أو تحققت نية غش فيأخذ هذا الفعل حكم الفعل المحرم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1207 وكذلك تكلم الفقهاء في ضوابط ضرب النقود بالنسبة للحاكم فهو قائم على مصلحة المسلمين، فلا يكون سببا في فساد أحوالهم واضطرابها، وإن غش العملة أو تغييرها أو إنقاضها كل ذلك مما يحظر على الحاكم فعله إلا في أضيق نطاق بحيث لا يؤثر على أحوال المسلمين، فلا يحملهم التزامات أكبر مما عليهم، ولا يشغل ذممهم بما ليس من قصدهم أو بسبب منهم. وأن يكون القصد من ورائه دفع مفسدة أعظم. ولهذا قال الإمام الشافعي: "يكره للإمام ضرب الدراهم المغشوشة للحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من غشنا فليس منا)) (1) ولأن فيه إفسادا وإضرارا بذوي الحقوق، وغلاء الأسعار، وانقطاع الأجلاب، وغير ذلك من المفاسد." (2) . وقال السيوطي: "من ملك دراهم مغشوشة كره له إمساكها بل يسبكها ويصفيها، قال القاضي أبو الطيب: إلا إذا كانت دراهم البلد مغشوشة فلا يكره إمساكها، قال في شرح المذهب: وقد نص الشافعي على كراهة إمساك المغشوشة، واتفق عليه الأصحاب لأنه يغر به ورثته إذا مات، وغيرهم في الحياة، كذا علله " (3) . وقال أيضا: "يكره للإمام إبطال المعاملة الجارية بين الناس لما أخرجه أبو داود عن ابن مسعود " قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجارية بينهم إلا من بأس)) . (4) . وقال الأصحاب: " يكره لغير الإمام ضرب الدراهم والدنانير وإن كانت خالصة، لأنه من شأن الإمام، ولأنه لا يؤمن فيه الغش والإفساد " (5) .   (1) أخرجه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة، (2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، حديث رقم 164، وأبو داود في عون المعبود، كتاب البيوع، باب 50؛ والترمذي، كتاب البيوع، باب 72؛ وأحمد في مسند: 2/50 و242 و417 و3/416 و4/45، المجموع: 6/10، 11 والحاوي للفتاوى: 1/100، 101 (3) الحاوي للفتاوى: 1/99، والمجموع: 6/11 (4) الحاوي للفتاوى: 1 /100، 101 (5) المجموع 6 / 11 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1208 وجاء في كشاف القناع في ضرب النقد المغشوش. نقل صالح عن الإمام في دراهم يقال لها: المسبية عامتها نحاس إلا شيئا فيها فضة فقال: إذا كان شيئا اصطلحوا عليه كالفلوس واصطلحوا عليها فأرجو أن لا يكون فيها بأس، لا تغرير فيه، ولا يمنع منه لأنه مستفيض في سائر الأعصار، جارٍ بينهم من غير نكير، لكن يكره ضرب النقد المغشوش، لأنه قد يتعامل به من لا يعرفه، فإن اجتمعت عنده دراهم زيوف أي نحاس فإنه يسكبها ولا يبيعها ولا يخرجها في معاملة ولا صدقة، فإن قابضها ربما خلطها بدراهم جيدة وأخرجها على من لا يعرف حالها، فيكون ذلك تغريرا للمسلمين وإدخالا للغرر عليهم، قال أحمد: إني أخاف أن يغر به مسلما. وقال: ما ينبغي أن يغر بها المسلمين. ولا أقول: إنه حرام. قال في الشرح: فقد صرح بأنه إنما كرهه لما فيه من التغرير بالمسلمين وكان عبد الله "ابن مسعود "رضي الله عنه يكسر الزيوف وهو على بيت المال (1) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، ينبغي للسلطان أن يضرب لها فلوسا تكون بقيمة العدل في معاملاتهم، من غير ظلم لهم، ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلا، بأن يشتري نحاسا فيضربه فيتجر فيه، ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم، ويضرب لهم غيرها، بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه، للمصلحة العامة، ويعطي أجرة الصانع من بيت المال فإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس، وأكل أموالهم بالباطل، فإنه إذا حرم المعاملة بها صارت عرضا، وضرب لهم فلوسا أخرى أفسد ما عندهم من الأموال ينقص أسعارها، فيظلمهم فيها، ظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها.   (1) كشاف القناع: 3 / 271، 272 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1209 ثم بنى ابن تيمية المسألة على نهي النبي صلى الله عليه وسلم وسدا لذريعة الظلم والإفساد. فقال: وأيضا فإذا اختلفت مقادير الفلوس: صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغارا فيصرفونها، وينقلونها إلى بلد آخر، ويخرجون صغارها فتفسد أموال الناس، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس)) . فإذا كانت مستوية المقدار بسعر النحاس، ولم يشتر ولي الأمر النحاس والفلوس الكاسدة ليضربها فلوسا ويتجر بذلك: حصل بها المقصود من الثمنيه (1) . وقد قرر جمهور الفقهاء العقوبة التعزيزية لمن يغير سكة المسلمين بأن يضرب على غير سكتهم، فيفتات على الحاكم بفعله، أو بغش العملة، ومن خالف في ذلك من الفقهاء نظر إلى عدم تحقق الضرر على المسلمين، فإن تحقق ضرر فلا خلاف من وجوب العقوبة، قال البلاذري: "حدثني الوليد بن صالح عن الواقدي عن ابن أبي الزناد عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز أتى برجل يضرب على غير سكة السلطان فعاقبه وسجنه". وقال: "حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب أن عبد الملك بن مروان أخذ رجلا يضرب على غير سكة المسلمين، فأراد قطع يده ثم ترك ذلك وعاقبه. قال المطلب: فرأيت من بالمدينة من شيوخنا حسنوا ذلك من فعله وحمدوه، قال الواقدي: وأصحابنا يرون فيمن نقش على خاتم الخلافة المبالغة في الأدب والشهرة وأن لا يروا عليه قطعا، وذلك رأي أبي حنيفة والثوري، وقال مالك وابن أبي ذئب، وأصحابهما: نكره قطع الدرهم إذا كانت على الوفاء، وننهى عنه لأنه من الفساد وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بقطعها إذا لم يضر ذلك بالإسلام وأهله". وقال حدثني عمرو الناقد: قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي عون عن ابن سيرين: أن مروان بن الحكم أخذ رجلا يقطع الدراهم فقطع يده. فبلغ ذلك زيد بن ثابت، فقال لقد عاقبه، قال إسماعيل يعني دراهم فارس.   (1) مجموع الفتاوى 29 / 469 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1210 قال محمد بن سعد، وقال الواقدي: عاقب أبان بن عثمان وهو على المدينة من يقطع الدراهم ضربه ثلاثين، وطاف به، وهذا عندنا فيمن قطعها ودس فيها المفرغة والزيوف. وحدثني محمد عن الواقدي عن صالح بن جعفر عن ابن كعب في قوله تعالى: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} (1) . قال: قطع الدراهم. وقال ابن جرير الطبري في قوله تعالى: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} من كسر الدراهم وقطعها وبخس الناس في الكيل والوزن. وأخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} . قال: نهاهم عن قطع هذه الدنانير والدراهم قالوا: إنما هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء إن شئنا قطعناها وإن شئنا أحرقناها وإن شئنا طرحناها وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه قال: عذب قوم شعيب في قطعهم الدراهم وهو قوله تعالى {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} وأخرج ابن جرير أيضا وابن المنذر وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم رضي الله عنه {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} قال: قرض الدراهم وهو من الفساد في الأرض. وأخرجه عبد الرزاق وابن سعد وابن المنذر وأبو الشيخ وعبد بن حُمَيْد عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: قطع الدراهم والدنانير والمثاقيل التي قد جازت بين الناس وعرفوها من الفساد في الأرض. وأخرجه أبو الشيخ عن ربيعة بن أبي هلال أن ابن أبي الزبير عاقب في قرض الدراهم (2) . وقال البلاذري: حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أنبأنا يحيى بن سعد، قال: ذكر لابن المسيب رجل يقطع الدراهم، فقال سعيد: هذا من الفساد في الأرض (3) .   (1) سورة هود: الآية 87 (2) جامع البيان عن تأويل أي القرآن للإمام أبي جعفر الطبري: 12/101، الطبعة الثانية 1373 هـ – 1954 م، مطبعة مصط في البابي الحلبي بمصر، والدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي: 3/346 نشر محمد أمين دمج – بيروت. (3) فتوح البلدان: ص 455، ص 456 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1211 وقال صاحب المعيار: "ولا يغفل – أي الحاكم – النظر إن ظهر في سوقهم دراهم مبهرجة ومخالطة بالنحاس، بأن يشد فيها ويبحث عمن أحدثها، فإذا ظفر أناله من شدة العقوبة، وأمر أن يطاف به الأسواق لينكله ويشرد به من خلفه، لعلهم يتقون عظيم ما نزل من العقوبة ويحبسه بعد، على قدر ما يرى، ويأمر أوثق من يجد بتعاهد ذلك من السوق، حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم، ويحرزوا نقودهم فإن هذا أفضل ما يحوط رعيته فيه، ويعمهم نفعه في دينهم ودنياهم ويترجي لهم الزلفى عند ربهم والقربة إليه إن شاء الله " (1) . وواضح من كلام الفقهاء: أن نظرهم في قضية تغير العملة أو غشها من حيث هو فعل يرتب عليه حكم شرعي، أن هذا الفعل يدخل في دائرة الحظر من حيث أصله، سواء بالنسبة للأفراد وهو حينئذ أشد حظرا، لأنه يدخل في دائرة الضرر العام، وقد يكون من الإفساد في الأرض فتلزم عقوبة المتسبب به سدا للذريعة. وكذا إن كان تغيير العملة بالغش فيها من الدولة، فالأصل فيه الحظر، وخلافه استثناء فيتقيد بتحقيق مصلحة عامة، أو بقصد احتمال مفسدة أقل في سبيل دفع مفسدة أكبر، فلا تكفي حينئذ الحاجة المحتمل إهدارها، فإن كانت حاجة ملحة يترتب على تركها فوات مصالح عامة راجحة، جاز مع مراعاة ثابت الحقوق والالتزامات بالقدر الذي لا يحمل الناس فوق ما يطيقون، وإن رجح أو تيقن ضرر ومفسدة عامة في ترك التغيير، وجب حينئذ سدا للذريعة وحفظا للحقوق، وإن ترتب على ذلك تفويت بعض المصالح تبعا لقاعدة دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح. وأما في عصرنا الحديث فإن القواعد الفقهية التي ذكرناها والتي بنى عليها الفقهاء نظرهم في طبيعة موضوع تغيير العملة وآثارها بالغش أو غيره، تتحقق بذاتها وإنتاجها، وما ذكره الفقهاء من حكم وعقوبة يأتي هنا بتمامه، ويزاد على ذلك أنه ينبغي على الدولة أن تسترشد حين الإقدام على مثل هذا الفعل بما توصل إليه علم الاقتصاد الحديث من وسائل وتدابير وقائية للحيلولة دون احتياج الدولة إلى تغيير علمتها، والعمل على ثبات قيمة نقدها بالنسبة لغيرها من العملات الأخرى، وبالنسبة إلى أسعار السلع تجنبا للتضخم والكساد، كما يسع الدولة الأخذ بالأساليب الاقتصادية الحديثة في علاج هذه القضية إذا اضطرت إليها، وعلاج آثارها المبنية عليها. وكل ذلك مع مراعاة أصول وضوابط الاقتصاد الإسلامي في أبواب الفقه المختلفة وخاصة في أبواب البيع والصرف والربا.   (1) المعيار: 6 / 407 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1212 المبحث الثالث تغير قيمة العملة بالغش فيها يعتبر غش النقد بمعنى خلطه بغيره نوع تغيير لقيمة العملة سواء أكان غشا للدنانير أم الدراهم، وقد يكون من فعل الأفراد أو الدولة وتختلف نسبة الغش فيه بالنسبة للذهب أو الفضة. ولقد كان ضرب النقد مع غشه من الأفراد، أو الدولة ثم التعامل به قضية واقعة ومُقَرَّة في فترات كثيرة من التاريخ كما يفهم مما سبق. ويبدو أن غش الدراهم والدنانير، وغيرها كالفلوس، كان متقدما في العهد. فيروي البلاذري عن عمرو الناقد: قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا يونس بن عبيد عن الحسن، قال: كان الناس وهم أهل كفر قد عرفوا موضوع هذا الدرهم من الناس فجودوه وأخلصوه، فلما صار إليكم غششتموه وأفسدتموه، ولقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: هممت أن أجعل الدراهم من جلود الإبل فقيل: إذا لا بعير فأمسك (1) . ولقد شاعت أنواع كثيرة من النقد المغشوش، وما تكاد ناحية أو بلدة إلا ويشيع فيها نوع منها، فكان منها ما يسمى بالمبهرجة وهي: ما كان مقدار الفضة منها أقل وغشها أكثر، ولذا كان بعض التجار يردها، وبعضهم وهو المتساهل يقبلها، ومنها ما يطلق عليه الفقهاء: زيوفا وهي: المغشوشة غشا يتجوز في قبوله التجار، وكان بيت المال يردها. ومنها ما يسمى: الستوقة وهي: المغشوشة غشا زائدا (2) ، ومنها العدالي منسوبة إلى العدل (3) والغطارفة منسوبة إلى غطريف بن عطاء الكندي (4) ، والدراهم البخارية وهي فلوس على صفة مخصوصة (5) ، والطبرية واليزيدية وهما مما غلب غشه (6) والمسببة وهي: دراهم يغلب فيها النحاس الفضة (7) . والهروي وهو ذهب مغشوش (8) وغيرها. وقد بنى الفقهاء أحكامهم في النقد المغشوش من حيث ضربه وتداوله على رواجه أو عدم رواجه، وعلى اعتبار الناس له واصطلاحهم عليه أو عدم اعتباره وعلى علم من يتعامل معه أو عدم علمه، وهذه كلها تأخذ عند إبداء الحكم صورة ضوابط للنقد المغشوش، وسينكشف رأي الفقهاء في النقد المغشوش عند معرفة أحكامهم الجزئية الفرعية في مسائله، وسنوضح أهم قضيتين تكلم الفقهاء في حكمهما وهما زكاة النقد المغشوش، والتعامل به في القرض والاستقراض وغيرهما.   (1) فتوح البلدان: ص 456 (2) حاشية ابن عابدين: 3 / 132 و 133، وفتح القدير: 5 / 511 بتصرف (3) تنبيه الرقود: ص 59 (4) شرح فتح القدير: 5/382 (5) حاشية ابن عابدين: 5/163 (6) حاشية ابن عابدين: 4/24 (7) كشاف القناع: 3/271 (8) المجموع 6/289 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1213 زكاة النقد المغشوش: ذهب الشافعية والحنابلة: إلى أن الذهب والفضة إذا كانا مخلوطين بنحو نحاس أو رصاص أو نيكل، فلا زكاة فيهما حتى يبلغ ما فيها من الذهب والفضة والخالصين نصابا كاملا، سواء كان الذهب أو الفضة أكثر مما خلط به أو أقل. وذهب الحنفية إلى أنه إذا سبك أحد النقدين بغيره، فما غلبت فضته أو ذهبه فكالخالص منهما، وكذا ما استوى فيه النقد وغيره احتياطا، ومراعاة لحال الفقراء، وإن سبك الذهب والفضة، فإن كان الذهب غالبا، فالكل في حكم الذهب الخالص، وكذا إذا استويا، لأنه أعز وأغلى قيمة، وإن كانت الفضة غالبة، وبلغت نصابا، ففيه زكاتها، وإن بلغ الذهب نصابا ففيه زكاته، وما غلب غشه ولم يكن ثمنا رائجا، تعتبر قيمته لا وزنه، فإن بلغت نصابا من أقل نقد، تفرض فيه الزكاة إن نوى فيه التجارة وإلا فلا. وذهب المالكية: إلى وجوب الزكاة في المغشوش وناقص الوزن إن راج كل رواج الكامل في المعاملات، فإن لم ترج أصلا، أو راجت دون رواج الكاملة، حسب الخالص في المغشوش، فإن بلغ نصابا زكى، وإلا فلا، واعتبر كمال الناقص بزيادة ما يكمله، ونقل عن مالك أنه يغتفر نقص الحبة والحبتين، وعن أبي حنيفة أنه يغتفر ما دون النصف، ولا يخفي أن ما غلب غشه اعتبر من عروض التجارة فيحتاج إلى نية التجارة، وهذا ما لم يستخلص منه ما يبلغ نصابا من الفضة (1) .   (1) راجع تفصيله في درر الحكام: 2/205، والزرقاني على خليل: 2/141 و5/862، والمغنى مع الشرح الكبير: 2/599، والمبدع شرح المقنع، لأبي إسحاق إبراهيم بن مفلح: 4/207، طبع المكتب الإسلامي بيروت، والمجموع: 6/9، والدين الخالص: 8 /141، والفقه على المذاهب الأربعة: 1/612 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1214 التعامل بالنقد المغشوش: ذهب الفقهاء إلى جواز التعامل بالنقد المغشوش – في الجملة – على تفصيل وقيود. فذهب الحنفية: إلى جواز بيع الغالب الغش من الدراهم والدنانير، اعتبارا للغالب، فيصح بيع الغالب الغش بالخالص من الدراهم والدنانير إن كان الخالص أكثر من المغشوش، ويصح بيعه أيضا بجنسه متفاضلا بشرط التقابض في المجلس، وإن كان الخالص مثل غالب الغش أو أقل منه أو لا يدري فلا يصح البيع، وإذا راج غالب الغش لم يتعين بالتعيين وإن لم يرج يتعين به، وإن كان يقبله البعض دون البعض فهو كالزيوف لا يتعلق العقد بعينه بل بجنسه زيفا إن كان البائع يعلم حاله لتحقق الرضا منه، وبجنسه من الجياد وإن لم يعلم رضاه، واعتبر الحنفية المتساوي كغالب الخالص في المبايعة والاستقراض، وعليه فلا يجوز عندهم البيع بها ولا إقراضها إلا بالوزن فهي بمنزلة الدراهيم الرديئة، ولا ينقض العقد بهلاكها قبل التسليم ويعطيه مثلها، لأن الخالص موجود بها حقيقة ولم يصر مغلوبا، فيجب اعتبارها بالوزن شرعا إلا أن يشار إليها كما في الخالصة (1) . وذهب المالكية إلى جواز بيع مغشوش كذهب وفضة بمغشوش مثله تساوي الغش أم لا مراطلة أو مبادلة أو غيرهما، ويجوز عندهم أيضا بيع المغشوش بالخالص على المذهب، والأظهر خلافه أي بيع المغشوش بالخالص، وأما بيعه بمثله فهذا لا خلاف في جوازه، والخلاف عندهم في المغشوش الذي لا يجري بين الناس كغيره، وإلا جاز قطعا، وشرط جواز بيع المغشوش، ولو بعرض أن يباع لمن يكسره أو لا يغش به، بل يتصرف به بوجه جائز كتحليله أو غيرهما، أما بيعه لمن لا يؤمن أن يغش به، مثله ابن رشد بالصيارفة، فيكره، وفسخ ممن يعلم أنه يغش به، فيجب رده على بائعه إلا أن يفوت بذهاب عينه أو بتعذر المشتري (2) .   (1) درر الأحكام: 2 / 205 (2) حاشية الدسوقي والشرح الكبير: 3 / 43 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1215 وقال الشافعية: ينظر في المعاملة بالدراهم المغشوشة: فإن كان الغش فيها مستهلكا بحيث لو صفيت لم يكن له صورة، كالدراهم المطلية بزرنيخ ونحوه، صحت المعاملة عليها بالاتفاق؛ لأن وجود هذا الغش كالعدم، وإن لم يكن مستهلكا كالمغشوش بنحاس ورصاص ونحوها: فإن كانت الفضة فيها معلومة لا تختلف صحت المعاملة على عينها الحاضرة وفي الذمة أيضا، وهذا متفق عليه صرح به الماوردي وغيره من العراقيين، وإمام الحرمين وغيره من الخراسانيين، وإن كانت الفضة التي فيها مجهولة ففي صحة المعاملة بها معينة وفي الذمة أربعة أوجه: أصحها: الجواز فيها؛ لأن المقصود رواجها: ولا يضرب اختلاطها بالنحاس، كما يجوز بيع المعجونات بالاتفاق، وإن كانت أفرادها مجهولة المقدار، والثاني: لا يصح لأن المقصود الفضة، وهي مجهولة، كما نص الشافعي والأصحاب أنه لا يجوز بيع تراب المعدن؛ لأن مقصوده الفضة وهي مجهولة، وكما لا يجوز بيع اللبن المخلوط بالماء باتفاق الأصحاب والثالث: تصح المعاملة بأعيانها، ولا يصح التزامها في الذمة، كما لا يصح بيع الجواهر والحنطة المختلطة بالشعير معيبة ولا يصح السلم فيها ولا قرضها، والرابع: إن كان الغش فيها غالبا لم يجز وإلا فيجوز، والحكم في الدنانير المغشوشة كهو في الدراهم المغشوشة كما سبق ولا يجوز بيع بعضها ببعض ولا بالدنانير الخالصة، وكذا لا يجوز بيع دراهم مغشوشة بمغشوشة ولا بخالصة – وستأتي المسألة واضحة في باب الربا إن شاء الله تعالى – قال صاحب الحاوي: "ولو أتلف الدراهم المغشوشة إنسان لزمه قيمتها ذهبا؛ لأنه لا مثل لها، هذا كلامه، وهو تفريع على طريقته، وإلا فالأصح ثبوتها في الذمة وحينئذ تكون مضبوطة فيجب مثلها" (1) .   (1) المجموع 6/11 و12، ونهاية المحتاج 3/399، والحاوي للفتاوى: 1/99. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1216 وجاء في المجموع أيضا عن الدراهم المغشوشة: أنها إن كان الغش معلوم القدر صحت المعاملة بها قطعا، فإن كان مجهولا فأربعة أوجه أصحها: تصح المعاملة بها معينة وفي الذمة. والثاني: لا تصح والثالث: تصح معينة ولا تثبت في الذمة بالبيع، ولا بغيره والرابع: إن كان الغش غالبا لم تصح، وإلا فتصح وذكر هناك توجيه الأوجه وتفريعها وفوائدها، قال: أصحابنا: فإن قلنا بالصحيح وهو الصحة مطلقا: انصرف إليها العقد عند الإطلاق، ولو باع بمغشوش ثم بان أن فضته ضئيلة جدا، فله الرد على المذهب وبه قطع الجمهور، حكى الصيمري عن شيخه أبي العباس البصري: أنه كان يقول: فيه وجهان: أحدهما، هذا، والثاني: لا خيار: لأن غشها معلوم في الأصل، وحكى هذا الوجه أيضا صاحب البيان والرافعي وغيرهما (1) . وذهب الحنابلة: إلى "جواز المعاملة بنقد مغشوش من جنسه أي لم يعرف الغش، لعدم الغرر، وكذا يجوز المعاملة بنقد مغشوش بغير جنسه" (2) . " وقال أحمد فيمن اقترض من رجل دراهم، وابتاع منه شيئا، فخرجت زيوفا: البيع جائز، ولا يرجع عليه بشيء" (3) . وقال ابن تيمية: بيع النقرة المغشوشة جائز على الصحيح، كبيع الشاة اللبون باللبون، إذا تماثلا في الصفة، أو النحاس وأما بيع النقرة بالسوداء، إذا لم يقصد به فضة بفضة متفاضلا، فإن النحاس الذي في السوداء مقصود، وهي قرينة بين النقرة والفلوس، فهذه تخرج على النزاع المشهور في مسألة " مد عجوة " إذ قد باع فضة ونحاسا بفضلة ونحاس مقصودين، والأشبه الجواز في ذلك، وفي سائر هذا الباب، إذا لم يشتمل على الربا المحرم (4) .   (1) المجموع: 9/ 262 (2) كشاف القناع: 3 /271 (3) المغنى: 4 / 243 (4) الفتاوى: 29 / 466 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1217 المبحث الرابع تغير قيمة النقد من الدراهم والدنانير والمذاهب فيه تمهيد: يمتاز النقد من الذهب والفضة عن الأوراق النقدية بالاستقرار النسبي لقيمته منذ القدم؛ ولذلك لأن قيمتها راجعة إلى ذات معدنهما النفيس، وقد مضى الناس منذ القدم باعتبارهما أداة التبادل والتعامل، وسببا مقبولا لشغل الذمم وترتب الحقوق والالتزامات. وكان الذهب ولا يزال يحتمل مكان الصدارة في الاستقرار والمحافظة عل سعره وقوته الشرائية بالنسبة للعملات الأخرى، وما قد يطرأ عليه من تغير فهو تغير محتمل يسير حتى في أشد ظروف الكساد، وتأتي الفضة في الدرجة الثانية في استقرار قيمتها النسبية، لكنها تتفاوت كثيرا بالنسبة إلى قيمة الذهب، فكان الدينار في صدر الإسلام يعادل صرفه عشرة دراهم، ولكن هذه النسبة كانت تتغير كثيرا بين فترة وأخرى، أما الأوراق المالية الاعتبارية الاصطلاحية المعروفة اليوم فإنها عرضة للتغير المستمر، كما هو الحال منذ أمد إقرار الدول التعامل بالأوراق النقدية. وما مشكلة تغير العملة وما يترتب عليه من آثار إلا صورة واقعية لطبيعة هذه الأوراق القابلة للتغير وفقا لمتغيرات عديدة سياسية واقتصادية واجتماعية. وقد تطرق الفقهاء لموضوع تغير العملة في عدة مواضع، وفي مسائل عملية هامة، مما يقع كثيرا في التعامل بين الناس سواء أكان نقدا، دراهم أو دنانير، خالصة أو مغشوشة، أم كان فلوسا. وأهم مسائله التي تطرقوا إليها: في القرض، والسلم، وبيع ما في الذمة، والأجرة والصداق، وبدل الغصب، والمقبوض بالبيع الفاسد، وفي الإتلاف بلا غصب، وفي إعارة الدراهم والدنانير للتزيين – على رأي من يجيزه – وما إلى ذلك. وسنتناول فيما يلي مذاهب الفقهاء في تغير النقد إذا كان دراهم أو دنانير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1218 مذاهب الفقهاء: إذا ترتب على التعامل بالنقد الذهب والفضة دين سببه القرض أو البيع، ثم تغيرت قيمته وقت الأداء، لأي سبب كان، فهل يدفع ما اتفق عليه عددا، أو يدفع قيمته؟ اتفق الفقهاء: على أن الدين إن كان من الدراهم أو الدنانير، لا يلزم عند حلول أجل الدين غير ما اتفق عليه، فيؤدي بمثله قدرا وصفه سواء غلت قيمته أو رخصت، ويكاد يكون في حكم القاعدة عندهم "أن الديون تؤدي بأمثالها". مذهب الحنفية: قال ابن عابدين: "إذا كان عقد البيع أو القرض وقع على نوع معين منها كالريال الفرنجي مثلا، فلا شبهة في أن الواجب دفع مثل ما وقع عليه البيع أو القرض" (1) . وقال أيضا: "إن الدراهم الخالصة أو المغلوبة الغش إذا غلت أو رخصت لا يفسد البيع قطعا ولا يجب إلا رد المثل الذي وقع عليه العقد، وبين نوعه كالذهب الفلاني أو الريال الفلاني" (2) . وقال ذات العبارة في تنبيه الرقود ثم زاد تعليلا قوله: لأنها أثمان عرفا وخلقة، والغش المغلوب كالعدم، ثم بين أن خلاف أبي يوسف ليس جاريا في الذهب والفضة فقال: "ولا يجري في ذلك خلاف أبي يوسف. كما سيأتي بيانه – على أنه ذكر بعض الفضلاء أن خلاف أبي يوسف في مسألة ما إذا غلت أو رخصت إنما هو في الفلوس فقط، أما الدراهم التي غلب غشها فلا خلاف له فيها" (3) . ونقل عن شيخه سعيد الحلبي بعد أن تكلم شيخه عن الثمن الذي غلب غشه قال: "وإذا علم الحكم في الثمن الذي غلب غشه إذا نقصت قيمته قبل القبض، كان الحكم معلوما بالأولى في الثمن الذي غلب جيده على غشه إذا نقضت قيمته، لا يتخير البائع بالإجماع، فلا يكون له سواه، وكذا لو غلت قيمته، لا يتخير المشتري بالإجماع، قال: وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جار حتى في الذهب والفضة، كالشريفي والبنقدي والمحمدي والكلب والريال، فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع فإن ذلك الفهم خطأ صريح ناشئ عن عدم التفرقة بين الفلوس والنقود ". ثم قال ابن عابدين: وهذا كالريال الفرنجي والذهب العتيق في زماننا، فإذا تبايعا بنوع منهما ثم غلا، أو رخص، بأن باع ثوبا بعشرين ريالا مثلا، أو استقرض ذلك يجب رده بعينه غلا أو رخص. وقال أيضا: تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن: دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينا، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال إفرنجي أو مائة ذهب عتيق (4) .   (1) العقود الدرية: 1 /281 (2) العقود الدرية: 1 / 280 (3) تنبيه الوقود، ص 61 و 63 (4) تنبيه الرقود، ص 64 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1219 وذهب المالكية: إلى أنه إن بطلت الدنانير أو الدراهم، فالمشهور قضاء المثل على من ترتب في ذمته، وكذا إذا تغيرت من باب أولى. سئل الإمام مالك: عمن له على رجل عشرة دراهم مكتوب عليه من صرف عشرين بدينار، أو خمسة دراهم من صرف عشرة دراهم بدينار، فقال: أرى أن يعطيه نصف دينار ما بلغ كان أقل من ذلك أو أكثر إذا كانت تلك العشرة دراهم أو الخمسة المكتوبة عليه من بيع باعه إياه، فأما إن كانت من سلف أسلفه فلا يأخذ منه إلا مثل ما أعطاه. فقيل له: أرأيت إن باعه ثوبا بثلاثة دراهم: ولا يسمى له صرف كذا وكذا، والصرف يومئذ تسعة دراهم بدينار؟. قال: إذا لم يقل من صرف كذا وكذا، أخد بالدراهم الكبار ثلاثة دراهم، وإن قال بثلاثة دراهم من صرف كذا وكذا بدينار فذلك جزء من الدينار، ارتفع الصرف أو انخفض. قال محمد بن رشد: هذا كما ذكر، وهو مما لا اختلاف فيه أنه باع كذا وكذا درهما ولم يقل من صرف كذا، فله عدد الدراهم التي سمى، ارتفع الصرف أو اتضع، وإذا قال: بكذا وكذا درهما، وصرف كذا وكذا، فلا تكون له إلا الدراهم التي سمى (1) . وعلق الرهوني على قول خليل: "وإن بطلت فلوس فالمثل" قال: ومثلها في ذلك النقد، وهذا هو مذهب المدونة وقد عول عليه غير واحد، ولم يحكوا فيه خلافا، بل صرح ابن رشد، بأنه المنصوص لأصحابنا وغيرهم من أهل العلم، وذكر جماعة الخلاف ورجحوا ما للمصنف (2) .   (1) البيان والتحصيل: 6/ 487 (2) حاشية الرهوني: 5/118؛ وشرح الزرقاني بحاشية البناني: 5/60 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1220 وسئل ابن رشد عن الدنانير والدراهم إذا قطعت السكة فيها وأبدلت بسكة غيرها ما الواجب في الديون والمعاملات والمتقدمة وأشباه ذلك؟ قال: المنصوص لأصحابنا وغيرهم من أهل العلم رحمهم الله: أنه لا يجب عليه إلا ما وقعت به المعاملة. فقال له السائل: فإن بعض الفقهاء يقول: إنه لا يجب عليه إلا السكة المتأخرة، لأن السلطان قد قطع تلك السكة وأبطلها فصارت كلا شيء، فقال وفقه الله: لا يلتفت إلى هذا القول. فليس بقول لأحد من أهل العلم. وقد استدل ابن رشد لقوله: بأنه مقتضى الكتاب والسنة فالقول بخلافه مناقضة لهما في النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، فاعتبر غير المثل من أكل أموال الناس بالباطل سواء بالزيادة أو النقص ولو لم يكن للعاقدين دخل في ذلك؛ لأنه من فعل السلطان. ثم ساق مفارقات في هذه القضية لو قيل بخلاف ما ذكر فقال: ويلزم هذا القائل أن يقول إن بيع عرض بعرض أنه لا يجوز لمتبايعيه أن يتفاسخا العقد فيه بعد ثوبته، وأن يقول: إن من كانت عليه فلوس فقطعها السلطان وأجرى الذهب والفضة فقط أن عليه أحد النوعين وتبطل عنه الفلوس. وأن يقول: إن السلطان إذا أبدل المكاييل بأصغر أو أكبر، أو الموازين بأنقص أو أوفى، وقد وقعت المعاملة بينهما بالمكيال الأول، أو بالميزان الأول، إنه ليس للمبتاع إلا بالكيل الأخير وإن كان أصغر، وإن على البائع الدفع بالثاني أيضا وإن كان أكبر. وهذا مما لا خفاء في بطلانه وبالله التوفيق (1) . وقد نص غير واحد من علماء المالكية على أن هذا هو المشهور. وقد يقال لمفارقات ابن رشد، إنها ليست في محل النزاع إذ هو في الأثمان وما هنا ليس كذلك. وسيأتي الكلام على مقابل المشهور في كساد الفلوس.   (1) فتاوى ابن رشد، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد، تحقيق د. المختار التليلي: ص 540 و541، الطبعة الأولى 1407 هـ – 1987م، دار المغرب بيروت؛ وحاشية الرهوني: 5 / 118، و119 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1221 وذهب الشافعية: إلى وجوب رد المثل في القرض وفي إبطال العملة ليس له غير ما تم العقد به، نقص أو زاد أو عز، فإن فقد وليس له مثل فقيمته. قال الشيرازي: ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل؛ لأن مقتضى القرض رد المثلي، وقال فيما لا مثل له: وجهان: أحدهما: يجب عليه القيمة: لأن ما ضمن بالمثل إذا كان له مثل ضمن بالقيمة إذا لم يكن له مثل كالمتلفات. والثاني: يجب عليه مثله في الخلقة والصورة، لحديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقضي البكر بالبكر (1) . وقال الرملي: ولو باع بنقد دراهم أو دنانير وعين شيئا اتبع وإن عز، فإن كان معدوما أصلا ولو مؤجلا أو معدوما في البلد حالًّا أو مؤجلا إلى أجل لا يمكن فيه نقله إلى البلد بشرطه لم يصح، أو إلى أجل يمكن فيه النقل عادة صح، ومنه ما فقد بمحل العقد. وإن كان ينقل إليه لكن لغير البيع فلا، وإن أطلق وفي البلد: أي بلد البيع، البيع سواء أكان كل منهما من أهلها ويعلم نقدها أو لا على مقتضى إطلاقهم نقد غالب من ذلك وغير غالب تعين الغالب. وإن كان مغشوشا أو ناقص الوزن، إذ الظاهر إرادتهما له فإن تفاوتت قيمة أنواعه ورواجها وجب التعيين، وذكره النقد جرى على الغالب أو المراد به مطلق العوض، لأنه لو غلب بمحل البيع عرض كفلوس وحنطة تعين، ولو مع جهل وزنه وعلم من ذلك أن الفلوس لا تدخل في النقد إلا مجازا. وإن أوهمت عبارة الشارح كابن المقري أنها منه، ويدفع الإيهام أن يجعل قوله: أو فلوس عطفا على نقد. قال الأذرعي: ومحل الحمل على الفلوس إذا سماه، أما إذا سمى الدراهم فلا وإن راجت؛ لأن الإطلاق ينصرف من غير تعيين، ويسلم المشتري ما شاء منها (2) .   (1) المجموع 13 / 174 (2) نهاية المحتاج: 3/397 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1222 وقال الرملي أيضا: "ولو قلت أو عز وجودها في أيدي الناس فإنه لا يجب غيرها، ثم بين العلة بأنها: إمكان تحصيلها مع العزة، بخلاف ما إذا انقطعت أو انعدمت أو فقدت (1) . وقال السيوطي: إن القرض الصحيح يرد فيه المثل مطلقا فإذا اقترض منه رطل فلوس فالواجب رد رطل من ذلك الجنس زادت قيمته أم نقصت، أما في صورة الزيادة فلأن القرض كالسلم. وأما في صورة النقص، فقد قال في الروضة من زوائده: ولو أقرضه نقدا فأبطل السلطان المعاملة به فليس له إلا النقد الذي أقرضه، نص عليه الشافعي رضي الله عنه، فإذا كان مع إبطاله فمع نقص قيمته من باب الأولى، ومن صورة الزيادة أن تكون المعاملة بالوزن، ثم ينادي عليها بالعدد ويكون العدد أقل وزنا، أما لو تراضيا على زيادة أو نقص فلا إشكال (2) . وفي إبطال النقد قال النووي: "ولون أقرضه نقدا فأبطل السلطان المعاملة به فليس له إلا النقد الذي أقرضه" (3) . وقال الرملي: "لو أبطل السلطان ما باع به أو أقرضه لم يكن له غيره بحال: نقص سعره أم زاد أم عز وجوده، فإن فُقِد وله مثل وجب: وإلا فقيمته" (4) . وإذا تقررت القيمة عند الشافعية فوقتها يوم المطالبة (5) .   (1) نهاية المحتاج: 3 / 399 (2) الحاوي للفتاوى: 1 / 97 (3) روضة الطالبين: 4 / 37 (4) نهاية المحتاج: 3/399 (5) نهاية المحتاج: 3/399 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1223 وذهب الحنابلة: إلى وجوب رد المثل في القرض، والقيمة عند الإعواز. جاء في المغنى: "إذا كان الدراهم يتعامل بها عددا، فاستقرض عددا رد عددا، وإن استقرض وزنا رد وزنا، وهذا قول الحسن وابن سيرين والأوزاعي ". وقال في المغنى: "إن المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص السعر أم غلا أو كان بحاله". وقال أيضا: "يجب رد المثل في المكيل والموزون لا نعلم فيه خلافا" (1) . وجاء في مجلة الأحكام الشرعية: "المكيلات والموزونات يجب رد مثلها، فإن أعوز لزم رد قيمته يوم الإعواز" (2) . وإذا كان المقرض ببلد المطالبة تحرم المعاملة به في سيرة السلطان، فالواجب على أصلنا: القيمة، إلا فرق بين الكساد لاختلاف الزمان أو المكان، إذ الضابط أن الدين الذي في الذمة كان ثمنا فصار غير ثمن، ويجب على المقرض رد مثل في قرض مكيل وموزون يصح السلم فيه لا صناعة فيه مباحة، قال في المبدع: إجماعا، لأنه يضمن في الغصب والإتلاف بمثله، فكذا هنا، مع أن المثل أقرب شبها بالقرض من القيمة سواء زادت قيمته أي المثل عن وقت القرض أو نقصت قيمته عن ذلك، فإن أعوز المثل، قال في الحاشية: عوز الشيء عوزا من باب: عز، فلم يوجد، وأعوزني المطلوب – مثل أعجزني لفظا ومعنى – لزم المقترض قيمته أي المثل يوم إعوازه لأنها حينئذ ثبتت في الذمة ويجب على المقترض رد قيمة ما سوى ذلك أي المكيل والموزون، لأنه لا مثل له، فضمن قيمته كالغصب (3) .   (1) المغنى مع الشرح الكبير: 4/405 ح والمغنى: 4/717 و718، وطبعة سجل العرب: 4/239 (2) مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، مادة 749، دراسة وتحقيق د. عبد الوهاب أبو سليمان ود. محمد إبراهيم أحمد علي مادة 749، الطبعة الأولى – مطبوعات تهامة 1401 هـ – 1981 م المملكة العربية السعودية (3) كشاف القناع: 3 / 314 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1224 المبحث الخامس تغير قيمة الفلوس "ومثلها الدراهم والدنانير غالبة الغش في الجملة" تمهيد: لقد تعددت آراء الفقهاء واختلفت فيما بينهم، وفي المذاهب الواحد حول الوصف الشرعي لتغير الفلوس، ومرجع خلافهم إلى تحديد طبيعة الفلوس، هل هي أثمان أو عروض؟ وهل يدخلها الربا في الصرف والبيع والقرض وغيرها أم لا؟ على التفصيل الذي سبق بيانه – وتبعا لهذا الاختلاف اختلف حكم الفقهاء في صور وحالات تغير الفلوس. ويمكن حصر حالات التغير في الآتي: الحالة الأولى: الكساد. الحالة الثانية: الانقطاع الحالة الثالثة: الرخص والغلاء. الحالة الأولى – الكساد ومذاهب الفقهاء فيه: فسر ابن عابدين الكساد: بأن تترك المعاملة بالنقد في جميع البلاد (1) . إلا أن الفقهاء لم يلتزموا لفظ الكساد للدلالة على هذا المعنى دائما، وقد يستخدمون لفظ إبطال الفلوس، أو قطع التعامل، أو ترك المعاملة.   (1) حاشية ابن عابدين: 4/24. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1225 * مذاهب الفقهاء: المذهب الأول: ذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا كسدت الفلوس (1) بأن بطل تداولها في كل البلاد، وسقط التعامل بها، وكذا إذا انقطعت فالبيع فاسد؛ لأن الثمن بالاصطلاح، وكسادها أو انقطاعها يسقط ثمنيتها، فيجب حينئذ رد المبيع إن كان قائما، ومثله إن كان هالكا وكان مثليا وإلا فقيمته. وذهب أبو يوسف ومحمد بن الحسن إلى عدم بطلان البيع لاحتمال أن يروج ثانية، وتجب القيمة عندهما، لكن وقتها عند أبي سوف يوم البيع، وعند محمد يوم الكساد، وهو آخر ما تعامل الناس بها – كما ستأتي الإشارة لذلك - فإن كان الثمن عن قرض أو مهر مؤجل فيجب عند أبي حنيفة رد مثله، ولو كان كاسدا. جاء في البدائع: ولو اشترى بفلوس نافقة ثم كسدت قبل القبض، انفسخ عند أبي حنيفة رحمه الله، وعلى المشتري رد المبيع إن كان قائما، وقيمته ومثله إن كان هالكا، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يبطل البيع والبائع بالخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أخذ قيمة الفلوس. وحجة أبي حنيفة: أن الفلوس بالكساد خرجت عن كونها ثمنا، لأن ثمنيتها ثبتت باصطلاح الناس، فإذا ترك الناس التعامل بها عددا فقد زال عنها صفة الثمنية، ولا بيع بلا ثمن فينفسخ ضرورة، ولو لم تكسد ولكنها رخصت قيمتها أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجماع، وعلى المشتري أن ينقد مثلها عددا، ولا يلتفت إلى القيمة ههنا، لأن الرخص أو الغلاء لا يوجب بطلان الثمنية، وذلك مثل الدراهم قد ترخص وقد تغلو وهي على حالها أثمان.   (1) حاشية ابن عابدين: 4/24 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1226 وحجة أبي يوسف ومحمد: أولا: أن الفلوس في الذمة وما في الذمة لا يحتمل الهلاك، فلا يكون الكساد هلاكا بل يكون عيبا فيما يوجب الخيار، إن شاء فسخ البيع وإن شاء أخذ قيمة الفلوس، كما إذا كان الثمن رطبا فانقطع قبل القبض. وثانيا: أن الواجب يقبض القرض رد مثل المقبوض وبالكساد عجز عن رد المثل لخروجها عن رد الثمنية وصيرورتها سلعة، فيجب عليه قيمتها كما لو استقرض شيئا من ذوات الأمثال وقبضه ثم انقطع عن أيدي الناس. ثم اختلف أبو يوسف ومحمد فيما بينهما في وقت اعتبار القيمة، فاعتبر أبو يوسف وقت العقد؛ لأنه وقت وجوب الثمن، واعتبر محمد وقت الكساد، وهو آخر يوم ترك الناس التعامل بها؛ لأنه وقت العجز عن التسليم، ولو استقرض فلوسا نافقة وقبضها فكسدت فعليه رد مثل ما قبض من الفلوس عددا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وفي قول محمد عليه قيمتها (1) . وجاء في حاشية ابن عابدين والفتاوى الهندية: إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها أو بالفلوس ولم يسلمها للبائع ثم كسدت بطل البيع، والانقطاع عن أيدي الناس كالكساد ويجب على المشتري رد المبيع لو قائما، ومثله أو قيمته لو هالكا، وإن لم يكن مقبوضا فلا حكم لهذا البيع أصلا، وهذا عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد لا يبطل البيع؛ لأن المتعذر التسليم بعد الكساد وذلك لا يوجب الفساد لاحتمال الزوال بالرواج، لكن عند أبي يوسف تجب قيمته يوم البيع، وعند محمد يوم الكساد، وهو آخر ما تعامل الناس بها وفي الذخيرة الفتوى على قول أبي يوسف وفي المحيط والتتمة والحقائق: ويقول محمد يفتي رفقا بالناس (2) . أما في الاستقراض فمذهب أبي حنيفة أنه إذا استقرض فلوسا فكسدت برد مثلها عددا اتفقت الروايات عنه بذلك، وأما إذا استقرض دراهم غالبة الغش، فقال أبو يوسف: في قياس قول أبي حنيفة عليه مثلها، ولست أروي عنه ذلك، ولكن لروايته في الفلوس إذا أقرضها ثم كسدت، وقال أبو يوسف على قيمتها من الذهب يوم القرض في الفلوس والدراهم، وقال محمد: عليه قيمتها في آخر وقت نفاقها.   (1) البدائع: 7 / 3245 (2) حاشية ابن عابدين: 4/24؛ والفتاوى الهندية: 3/225 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1227 ووجه قول أبي حنيفة هنا: أن استقراض المثلى إعارة كما أن إعارته قرض، ويجب في استقراض المثلى رد عينه معنى، والثمنية فضل فيه إذ القرض لا يختص به، وبالنظر إلى كونه عارية يجب رد عينه حقيقة، ولكمن لما كان قرضا، والانتفاع به إنما يكون بإتلاف عينه فإن رد عينه حقيقة، فيجب رد عينه معنى، وهو المثل، ويجعل بمعنى العين حقيقة؛ لأنه لو لم يجعل كذلك لزم مبادلة الشيء بجنسه نسيئة وهو لا يجوز. وأما عند أبي يوسف ومحمد تجب القيمة. ووجه قولهما: أنه لما بطل وصف الثمنية تعذر ردها كما قبض، فيجب رد قيمتها كما إذا استقرض مثليا فانقطع. واختلفا في وقت القيمة – كالسابق – عند أبي يوسف يوم القبض وعند محمد يوم الكساد (1) . وجاء في الدرر (2) : إذا استقرض أحد نقودا غالبة الثمن أو زيوفا عندما كانت واستهلكها ثم كسدت، ففي صورة تأديتها ثلاثة أقوال:   (1) فتح القدير وشرحه: 5/385 و386؛ وتنبيه الرقود: ص57 (2) درر الحكام: 3/94 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1228 القول الأول: قول الإمام الأعظم وهو لزوم مثلها كاسدا، وعدم لزوم قيمتها، ولا يعتبر الغلاء والرخص إذا كان في بلد واحد. القول الثاني: قول الإمام أبي يوسف وهو لزوم قيمتها يوم القبض، وهذا القول أقرب للصواب في زماننا، وقد أفتى بعض مشايخنا بقول أبي يوسف. القول الثالث: قول محمد وهو لزوم قيمتها في آخر يوم من رواجها والفتوى عليه. وهذا كله في الكساد إذا كان عاما في كل البلاد، أما إذا كان في بعض البلاد دون بعض، فالمنصوص عليه عند الحنفية أنه لا يبطل البيع ويخير البائع، خلافا لأبي حنيفة وأبي يوسف فإنه يبطل. قال ابن عابدين: والكساد أن تترك المعاملة في جميع البلاد، فلو في بعضها لا يبطل، لكنه تتعيب إذا لم ترج في بلدهم، فيتخير البائع إن شاء أخذه، وإن شاء أخذ قيمته (1) . وقال ابن عابدين أيضا: وفي عيون المسائل عدم الرواج إنما يوجب الفساد إذا كان لا يروج في جميع البلدان؛ لأنه حينئذ يصير هالكا ويبقى المبيع بلا ثمن، فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة فقط، فلا يفسد البيع؛ لأنه لا يهلك، ولكنه تعيب وكان للبائع الخيار إن شاء قال: اعطني مثل الذي وقع عليه البيع، وإن شاء أخذ قيمة ذلك دنانير (2) . وقال البابرتي في العناية تعليقا على ما نقل في عيون المسائل: قالوا: وما ذكر في العيون يستقيم على قول محمد، وأما على قولهما – أبي حنيفة وأبي يوسف – فلا يستقيم – أي يبطل البيع – وينبغي أن يكتفى بالكساد في تلك البلدة بناء على اختلافهم في بيع الفلس بالفلسين (3) .   (1) حاشية ابن عابدين: 4/24 (2) تنبيه الرقود: ص 57 (3) شرح العناية على الهداية وفتح القدير: 5/383 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1229 المذهب الثاني: ذهب المالكية في المشهور والشافعية والليث بن سعد (1) : إلى أنه إذا كسد النقد لم يكن على المدين غير السكة التي قبضها يوم العقد، وحكى عن الشافعي وجه أن البائع بتخير بين إجازة البيع بالنقد القديم أو فسخه. جاء في شرح الزرقاني على خليل: وإن بطلت فلوس ترتبت لشخص على آخر أي قطع التعامل بها بالكلية، فالمثل على من ترتبت في ذمته قبل قطع التعامل بها (2) . وفي حاشية الرهوني – كما سبقت الإشارة -: وإن بطلت فلوس فالمثل، هذا هو مذهب المدونة وعليه عول غير واحد، ولم يحكوا فيه خلافا، وصرح ابن رشد بأنه المنصوص – كما سبق – وذكر جماعة الخلاف، ورجحوا ما للمصنف (3) . وجاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: إن بطلت فلوس أو دنانير أو دراهم ترتبت لشخص على غيره فقطع التعامل بها، ومن باب أولى إذا تغيرت بزيادة أو نقص، فيجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته قبل قطع التعامل بها أو تغيرها (4) . ولم يذكر خليل ولا الدردير والدسوقي في هذا خلافا، ولعلهما وافقا المصنف في إهمال خلاف المشهور واعتباره منصوصا عليه. وجاء في منح الجليل: ومن ابتاع بنقد أو اقترضه، ثم بطل التعامل به، لم يكن عليه غيره (5) . وجاء في المعيار أن أبا الوليد الباجي كان يفتي أنه لا يلزمه إلا السكة الجارية حين العقد (6) .   (1) أضاف ابن قدامة في المغنى الليث بن سعد: 4/365 (2) شرح الزرقاني على خليل وبهامشهما حاشية البناني: 5/60 والخرشي على خليل: 5/55؛ والمعيار؛ 6 / 461 (3) حاشية الرهوني: 5/118 (4) حاشية الدسوقي: /54 و56 (5) شرح منح الجليل على مختصر خليل، للشيخ محمد عليش: 2/534، وبهامشه حاشيته المسماة تسهيل منح الجليل، تصوير دار صادر، بيروت. (6) المعيار: 6 / 163 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1230 وجاء عند الشافعية في المجموع: ولو باع بنقد معين أو مطلق، وحملناه على نقد البلد، فأبطل السكان المعاملة بذلك النقد لم يكن للبائع إلا ذلك النقد، هذا هو المذهب (1) . وحكى البغدادي والرافعي وجها: أن البائع بخير: إن شاء أجاز البيع بذلك النقد وإن شاء فسخه (2) . وفي تحفة المحتاج: ويرد وجوبا المثل في المثلي، ولو نقدا أبطله السكان، لأنه أقرب إلى حقه. قال الشرواتي: فشمل ذلك ما عمت به البلوى في زمننا في الديار المصرية من إقراض الفلوس الجدد ثم إبطالها وإخراج غيرها وإن لم تكن نقدا (3) . المذهب الثالث: ذهب الحنابلة والمالكية في مقابل المشهور وأبو يوسف ومحمد بن الحسن إلى أن الفلوس إذا كسدت ترد القيمة. واختلفوا في وقت تقدير القيمة، فذهب جمهور القائلين بهذا الرأي إلى أن الوقت يوم القبض، واشترط بعض المالكية أن يكون يوم القبض من النقد الرائج. وقال محمد بن الحسن وبعض الحنابلة أنه وقت الكساد وترك المعاملة في آخر نَفاق الفلوس وفي قول عند الحنابلة وقت الخصومة.   (1) المجموع: 9/364؛ وروضة الطالبين، للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي: 4/37، طبع المكتب الإسلامي، بيروت (2) المجموع: 9/ 309 (3) تحفة المحتاج: 5 / 44 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1231 جاء في المغنى مع الشرح الكبير: إن كان القرض فلوسا أو مكسرة فحرمها السلطان وتركت المعاملة بها، لأنه كالعيب فلا يلزمه قبولها، ويكون له قيمتها وقت القرض سواء كانت باقية أو استهلكها، نص عليها أحمد في الدراهم المكسرة. فقال: يقومها كم تساوي يوم أخذها، ثم يعطيه، وسواء نقصت قيمتها قليلا أو كثيرا، وذكر أبو بكر في التنبيه أنه يكون له قيمتها وقت فسدت وتركت المعاملة بها؛ لأنه كان يلزمه رد مثلها ما دامت نافقة، فإذا فسدت انتقل إلى قيمتها حينئذ كما لو عدم المثل. قال القاضي: هذا إذا اتفق الناس على تركها فأما إن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزمه أخذها (1) .   (1) المغنى مع الشرح الكبير: 4/365؛ ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، للعلامة مصطفى السيوطي الرحيباني: 3/241, 242، منشورات المكتب الإسلامي، بيروت، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، للعلامة علاء الدين على بن سليمان المرادي: 5/127، الطبعة الأولى، مطبعة السنة المحمدية 1376هـ – 1956 م بمصر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1232 وفي كشاف القناع: إن كان القرض فلوسا أو دراهم مكسورة فيحرمها أي يمنع الناس من المعاملة بها السلطان، أو نائبه، سواء اتفق الناس على ترك المعاملة بها أو لا؛ لأنه كالعيب فلا يلزمه قبولها، فللمقترض القيمة عن الفلوس والمكسرة في هذه الحال وقت القرض سواء كانت باقية أو استهلكها، وسواء نقصت قيمتها قليلا أو كثيرا، والمغشوشة إذا حرمها السلطان كذلك. وعلم منه: أن الفلوس إن لم يحرمها وجب رد مثلها، غلت أو رخصت، أو كسدت وتكون قيمة ذلك من غير جنسه إن جرى فيه ربا فضل، كما لو أقرضه دراهم مكسورة، فحرمها السلطان أعطى قيمتها ذهبا حذرا من ربا الفضل وعكسه بعكسه، فلو أقرضه دنانير مكسورة فحرمها السلطان أعطى قيمتها فضة (1) . وجاء في الإنصاف: إن كان فلوسا أو مكسرة فيحرمها السلطان " الصحيح من المذهب أن له القيمة، سواء اتفق الناس على تركها أو لا، وعليه أكثر الأصحاب، وجزم به كثير منهم، وقدمه في المغنى والشرح وغيرهما، وقال القاضي: إن اتفق الناس على تركها فله القيمة، وإن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها، لزمه أحدها، وقيل: له القيمة وقت تحريمها، قاله أبو بكر في التنبيه، وقال في المستوعب: وهو الصحيح عندي، وقال في الفروع غيره: والخلاف فيما إذا كانت ثمنا، وقيل: له القيمة وقت الخصومة" (2) .   (1) كشاف القناع: 3 / 314، والمغنى مع الشرح الكبير: 5 / 358 (2) الإنصاف: 5 / 127؛ ومطالب أولي النهى: 3 / 249 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1233 أما مقابل المشهور عند المالكية: فقد ذهب ابن عتاب وسعيد بن لب وعبد الحميد الصائغ، وعزى لأشهب، ونُقِل عن سحنون: بأن يرجع إلى القيمة، واختلفوا فقال ابن عتاب وسعيد بن لب وعبد الحميد الصائغ: يرجع إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب، ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب. وبه كان يفتي ابن دحون، وفسر ابن الصائغ القيمة بأنها يوم دفعها إليه بهذه السكة الموجودة. وقال سحنون: يرجع إلى قيمة السلعة يوم دفعها بالسكة الجديدة، ونقل عنه أنه يقضي بقيمة الفلوس، وقال أبو يونس وأبو حفص قيمتها يوم الحكم، وبه قال سحنون في صورة قرض – مخصوصة – كما سيأتي – وذهب ابن عبد البر بأنه يأخذ السكة الأخيرة الجارية حين القضاء. فجاء في أقوالهم: سئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة. فأجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن ابن جابر فقيه إشبيليه قال: نزلت هذه المسائل بقرطبة أيام نظري فيها في الأحكام، ومحمد بن عتاب حي ومن معه من الفقهاء، فانقطعت سكة ابن جهور بدخول ابن عباد سكة أخرى، فأفتى الفقهاء أنه ليس لصاحب الدين إلا السكة القديمة وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب. قال: وأرسل إلى ابن عتاب فنهضت إليه فذكر المسألة، وقال لي: الصواب فيها فتواي فاحكم بها، ولا تخالفها، أو نحو هذا الكلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1234 وسئل الأستاذ أبو سعيد بن لب عن رجل باع سلعة بالناقص المتقدم بالحلول، فتأخر الثمن إلى أن تحول الصرف. وكان ذلك على جهة فبأيهما يقضي له؟ وعن رجل آخر باع بالدراهم المفلسة فتأخر الثمن إلى أن تبدل فبأيهما يقضي له؟ فأجاب: لا يجب للبائع قِبَلَ المشتري إلا ما انعقد البيع في وقته لئلا يظلم المشتري بإلزامه ما لم يدخل عليه في عقده، فإن وجد المشتري ذلك قضاه إياه، وإن لم يوجد رجع إلى القيمة ذهبا لتعذره. ومن باع بالدراهم المفلسة الوزانة فليس له غيرها، إلا أن يتطوع المشتري، بدفع وازنة غير مفلسة بعد المفلسة فضلا منه. وكان أبو محمد بن دحون رحمه الله يفتي بالقيمة يوم القرض ويقول: إنما أعطاها على العوض، فله العوض، أخبرني به الشيخ أبو عبد الله بن فرج عنه، وكان الفقيه أبو عمر بن عبد البر يفتي فيمن اكترى دارا أو حماما إما بدراهم موصوفة جارية بين الناس حين العقد، ثم غيرت دراهم تلك البلد إلى أفضل منها، أنه يلزم المكتري النقد الثاني الجاري حين القضاء، دون النقد الجاري حين العقد. وقد نزل هنا ببلنسية حين غيرت دراهم السكة التي كان ضربها القيسي وبلغت ستة دنانير بمثقال، ونقلت إلى سكة أخرى كان صرفها ثلاثة دنانير للمثقال، فالتزم ابن عبد البر السكة الأخيرة، وكانت حجته في ذلك، أن السلطان منع من إجرائها وحرم التعامل بها، وهو خطأ من الفتوى. وأفتى أبو الوليد الباجي أنه لا يلزمه إلا السكة الجارية حين العقد (1) . وجاء في حاشية الرهوني قوله: يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة أي على تقدير ثبوت التعامل بها، ووقع نحوه في كتاب ابن سحنون وحكاه المازري عن شيخه عبد الحميد، وعزى لأشهب؛ لأنه دفع شيئا منتفعا به فلا يظلم بإعطاء ما لا ينتفع به، وقيل يرجع في ذلك إلى قيمة السلعة يوم دفعها بالسكة الجديدة، وقد يظهر ببادئ الرأي أن الشاذ أولى لظهور وجهه المتقدم، وليس كذلك بل المشهور هو الذي يظهر وجهه؛ لأن ذلك مصيبة نزلت كما قاله أبو الحسن (2) .   (1) المعيار: 6/163 و 462؛ وشرح الزرقاني بحاشية البناني: 5/60 (2) حاشية الرهوني والمدني: 5/118 و119 و120 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1235 وقد علق الونشريسي على فتوى ابن عتاب وعللها تعليلا جيدا، وبين أوجه ظواهر النقل فقال: ومن المعلوم أن ابن عتاب إنما التفت في فتياه إلى وصف التعامل على كيفيته في وقته؛ لأن قيمة الشيء بمنزلته، فقد جعل الخسارة في قطع التعامل لاصقة بجهة المطلوب، وذلك عين ما قصدت في النازلة المذكورة عند بقاء السكة نفسها ورجوعها إلى أصلها الذي لم يزل معتبرا فيها، ولما أهمل غيره ذلك الوصف مع أنه مدخول عليه في أصل العقد رأي أنه غير مصيب في فتياه، وهذا وجه ثان من ظواهر النقل، ثم قال: ومثل قول ابن عتاب وقع في كتاب ابن سحنون في الفلوس إذا قطعت، ونحوه حكى المزري عن شيخه عبد الحميد، وأنه عدل عن غيره إليه، وقد أضافه ابن محرز إلى أشهب في كتاب ابن المواز، وهذا وجه ثالث من ظواهر النقل (1) . وذكر الونشريسي المسألة في موضوع آخر وعلق عليها، وذكر التفريع والتخريج فقال: عن حفص العطار: من لك عليه دراهم فقطعت ولم توجد قيمتها من الذهب بما تساوي يوم الحكم لو وجدت. وحكى ابن يونس عن بعض القرويين: إذا أقرضه دراهم فلم يجدها في الموضع الذي هو به الآن أصلا، فعليه قيمتها بموضع إقراضه إذا أقرضه إياها يوم الحكم لا يوم كان دفعها إليه. وفي كتاب ابن سحنون: إذا أسقطت يتبعه بقيمة السلعة يوم قبضت؛ لأن الفلوس لا ثمن لها وفرع على هذا الأصل: من تسلف دراهم فلوسا أو نقرة بالبلاد المشرقية، ثم جاء مع المقرض إلى بلاد المغرب، فوقع الحكم بأنه يلزمه قيمتها في بلدها يوم الحكم كما قال ابن يونس وأبو حفص مع ظاهر المدونة في الرهون، وعلى القول الآخر الذي تلزمه قيمتها يوم فقدت وقطعت وتكون حينئذ قيمتها يوم خروجه من البلد الذي هي جارية فيه، إذ هو وقت فقدها وقطعها وعليه أيضا إذا حالت السكة أو الفلوس بعد الوصول في تلك البلاد والفتاوى فيها أيضا أنه يعطي قيمة الفلوس أو الدراهم المقطوعة في تلك البلاد يوم الحكم ذهبا (2) .   (1) المعيار: 6/192 و193 (2) المعيار: 6/106 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1236 ويظهر مما سبق اضطراب النقل لمقابل المشهور، وقد جمع الرهوني أقوالهم وحصلها فقال: وحاصل ما ذكر: أنه يتعين أخذ السكة، إن كانت موجودة وهذا هو المشهور، والشاذ يقضي بقيمتها، قاله في كتاب ابن سحنون. ومثله لعبد الحميد الصائغ. قال ابن عبد السلام: لا أدري كيف يتصور القضاء بقيمتها مع وجودها إلا أن يريد بقيمتها يوم تعلقها في الذمة لا يوم حلول الأجل، وهو مع ذلك مشكل لأنه إلزام لمن هو في ذمته أكثر مما التزم، وأجاب الصائغ إذا فسدت السكة وباعه بثمن إلى أجل، وصارت غيرها، وصار الأمر إلى خلاف ما دخلا عليه، فعليه قيمتها يوم دفعها إليه بهذه السكة الموجودة الآن، وقد اضطرب فيها المتقدمون والمتأخرون والأولى ما ذكرت لك. وفي كتاب ابن سحنون إذا سقطت يتبعه بقيمة السلعة يوم قبضت؛ لأن الفلوس لا ثمن لها ووجه ما في المدونة أنها جائحة نزلت به، وجزم أبو الحسن في كتاب الصرف بأن الشاذ الإتب0اع بقيمة السلعة فقال ما نصه: وحكى عن ابن شاس أنه قال: إذا كانت الفلوس من بيع على المبتاع قيمة السلعة وهذا خلاف المشهور؛ لأن ذلك مصيبة نزلت به، والذي في الجواهر لابن شاس هو ما نصه: لو كان التعامل بالفلوس، ثم قطعت فهل يقضي فيه بالمثل، أو بالقيمة، المشهور المعروف من المذهب القضاء بالمثل، وإن فسدت إذا وجدت، وحكى بعض المتأخرين عن كتاب ابن سحنون القضاء بالقيمة، ورآه أبو إسحاق التونسي وغيره قياسا (1) . ونقل النص على القيمة من قول أبي يوسف ومحمد: "إذا اشترى بالفلوس أو الزيوف سلعة ثم كسدت قال أبو حنيفة: يبطل العقد، وقال أبو يوسف ومحمد: لم يبطل وعليه قيمتها، لكن عند أبي يوسف قيمته يوم البيع، وعند محمد آخر ما تعامل الناس بها" (2) ، وقد سبق تفصيل هذا الرأي.   (1) حاشية الرهوني والمدني: 5/118 و120 (2) شرح فتح القدير: 5/383 ح والبدائع: /3245؛ وحاشية ابن عابدين: 4/24 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1237 * * * الحالة الثانية – الانقطاع ومذاهب الفقهاء فيه: فسر ابن عابدين الانقطاع: بألا يوجد النقد في السوق، وإن وجد في يد الصيارفة والبيوت. ثم نقل فقال " وقيل: إذا كان يوجد في أيدي الصيارفة فليس بمنقطع والأول أصح" (1) . وقال الزرقاني والبناني في معرض بيان معنى الانقطاع: أنه الانعدام "جملة في بلد تعامل المتعاقدين وإنه وجدت – أي الفلوس – حين القبض في غيرها" (2) . والفقهاء لم يلتزموا لفظ الانقطاع فحسب، بل قد يستخدمون ألفاظا أخرى، كما سيتضح من النقول عنهم. وقد اتفق جمهور الفقهاء: الحنفية في قول أبي يوسف ومحمد وهو المفتي به والمالكية والشافعية والحنابلة على وجوب القيمة عند الانقطاع لكنهم اختلفوا في وقت تقديرها: فعند المالكية في المعتمد وقت الحكم والقول الثاني أبعد الأجلين من الاستحقاق والانقطاع. وعند الشافعية وقت المطالبة، سواء يوم انقطاع إن كان حالا، أو يوم حلول الأجل. وعند الحنابلة ومحمد بن الحسن وبه يفتي عند الحنفية أن القيمة آخر يوم قبل الانقطاع وعند أبي يوسف يوم التعامل.   (1) حاشية ابن عابدين: 4/24، وتنبيه الرقود: ص 58 (2) شرح الزرقاني على الخليل، بحاشية البناني: 5/60 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1238 مذهب الحنفية: ذهب أبو حنيفة – كما سبق – إلى أن الانقطاع يوجب فساد البيع، وخالفه أبو يوسف ومحمد بن الحسن. قال ابن عابدين: " إن انقطعت بأن لا توجد في السوق، ولو وجدت في يد الصيارفة، أو في البيوت، فقيل: يفسد البيع، وقيل: تجب في آخر يوم الانقطاع، وهو المختار " (1) . ونقل ابن عابدين عن كتاب المضمرات قوله: " فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع وهو المختار" (2) . وقال في تنبيه الرقود: "وإن انقطع بحيث لا يقدر عليها، فعليه قيمتها في آخر يوم انقطع من الذهب والفضة هو المختار " (3) . وقال أيضا: وإن انقطعت تلك الدراهم اليوم كان عليه قيمة الدراهم قبل الانقطاع عند محمد وعليه الفتوى: (4) . وقال أيضا: "وأما الكساد والانقطاع فالذي يظهر أن البيع لا يفسد إجماعا إذا سميا نوعا منه، وذلك لأنهم ذكروا في الدراهم التي غلب غشها ثلاثة أقوال: الأول: قول أبي حنيفة بالبطلان، والثاني: قول الصاحبين بعدمه، وهو قول الشافعي وأحمد لكن قال أبو يوسف: عليه قيمتها وقت البيع. وقال محمد: يوم الانقطاع. وفي الذخيرة الفتوى على قول أبي يوسف. وفي التتمة، والمختار، والحقائق. بقول محمد يفتي رفقا بالناس" (5) . وعلة قول أبي يوسف بوقت البيع؛ لأنه مضمون به، وعند محمد يوم الانقطاع؛ لأنه أوان الانتقال إلى القيمة (6) .   (1) العقود الدرية: 1/280 (2) حاشية ابن عابدين: 4/24 (3) تنبيه الرقود: ص 58 (4) تنبيه الرقود: ص 57 و 60 (5) تنبيه الرقود: ص 62 (6) شرح فتح القدير: 5 / 383 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1239 وقال المالكية في المعتمد: القيمة يوم الحكم. وقول: وقت اجتماع الاستحقاق أي الحلول ويوم العدم فالعبرة بالمتأخر منهما، وهذا هو المشتهر عندهم. جاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: إن عدمت الفلوس بالكلية في بلد المتعاقدين وإن وجدت في غيرها، فالقيمة واجبة على من ترتبت عليه ما تجدد أي يدفعها مما تجدد وظهر من المعاملة فيقال: ما قيمة العشرة دراهم التي عدمت بهذه الدراهم التي تجددت فيقال: ثمانية دراهم مثلا فيدفع المدين ثمانية من تلك الدراهم التي تجددت وإذا قيل: قيمتها اثنا عشر، دفع اثني عشر منها وهكذا. وقال خليل: تعتبر القيمة وقت اجتماع الاستحقاق أي الحلول ويوم العدم، فالعبرة عنده بالمتأخر منهما، فإن كان العدم والاستحقاق حصلا في وقت واحد، فالأمر ظاهر. وإن تقدم أحدهما على الآخر فالعبرة بالمتأخر منهما، إذ لا يجتمعان إلا وقت المتأخر منهما، فإذا استحقت ثم عدمت اعتبرت القيمة يوم العدم، وإن عدمت ثم استحقت اعتبرت القيمة يوم الاستحقاق ولم يذكر خليل القول المعتمد. وقال الدرديري: المعتمد أن القيمة تعتمد يوم الحكم، قال الدسوقي: أي اليوم الذي هو متأخر عن يوم العدم وعن يوم الاستحقاق. وانظر على هذا القول: إذا لم يقع تحاكم. والظاهر أن طلبها بمنزلة التحاكم، وحينئذ تعتبر القيمة يوم طلبها ثم قال: إن قول المصنف: من أن القيمة تعتبر وقت اجتماع الاستحقاق والعدم. وكذا على المعتمد من أنها تعتبر يوم الحكم. ظاهره ولو حصلت مماطلة من المدين حتى عدمت تلك الفلوس. وبه قال بعضهم. وقال بعض: كل من القولين مقيد بما إذا لم يكن من المدين مطلب، وإلا كان لربها الأحظ من أخذ القيمة، أو مما آل إليه الأمر من السكة الجديدة الزائدة على القديمة. وهذا هو الأظهر، لظلم المدين بمطله فليس لربه إلا قيمته يوم امتناعه وتبين ظلمه (1) .   (1) حاشية الدسوقي: 3/45 و 46، والخرشي على خليل: 5 / 55، وشرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني: 5/60، وقد خالف المالكية هنا في الحكم بين المماطل وبين الغاصب. فالغاصب يضمن المثل، ولو بغلاء مع أنه أشد ظلما من المماطل لتعديه، وإن لم يكن فمثله، وقد نبه على هذا الشيخ العدوي وأجاب: بأن الغاصب لما كان يغرم في الجملة خفف عنه، ولا كذلك المماطل. الخرشي. على خليل بحاشية العدوي: 5/55 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1240 وقول المالكية باعتبار يوم الحكم أولى عندي من غيره فهو أرفق بالناس وأحرى ألا يختلفوا بعده، وما كان قبل هذا اليوم فهو مظنة الخلاف. وقال الخرشي: إن عدمت فالواجب على من ترتبت عليه قيمتها مما تجدد وظهر، وتعتبر قيمتها وقت أبعد الأجلين عند تخالف الوقتين من العدم والاستحقاق، فلو كان انقطاع التعامل بها أو تغيرها أول الشهر الفلاني. وإنما حل الأجل آخره. فالقيمة آخره. بالعكس بأن حل الأجل أوله وعدمت آخره فالقيمة يوم العدم ولو آخره أجلا ثانيا وقد عدمت عند الأجل الأول فالقيمة عند الأجل الأول؛ لأن التأخير الثاني إنما كان بالقيمة، وبعبارة ولو آخره بها بعد حلول أجلها، وقبل عدمها، ثم عدمت في أثناء أجل التأخير فإنه يلزمه قيمتها عند حلول أجل التأخير، كما يفيده كلام أبي الحسن الشاذلي، ويفهم منه أنه إذا تأخر عدمها عن الأجل الثاني أن قيمتها تعتبر يوم عدمها، ثم قال: وكلام المؤلف مقيد بما إذا لم يحصل من المدين مطل وإلا وجب عليه ما آل إليه، أي من المعاملة الجديدة لا القيمة لأنه ظالم (1) . وهذا ترجيح من الخرشي للتقييد بالمطل – وقد خالف بذلك ظاهر كلام المصنف خليل والمدونة والوانوغي وكثيرا من المالكية. وجاء في شرح الزرقاني عن انقطاع الفلوس: بأن القيمة واجبة على من ترتبت عليه مما تجدد وظهر، وتعتبر قيمتها وقت اجتماع الاستحقاق، أي الحلول والعدم معا، ولا يجتمعان إلا وقت المتأخر منهما، فأشبه وقت الإتلاف، فإذا استحقت ثم عدمت فالتقويم يوم العدم، وإن عدمت ثم استحقت فالقيمة يوم استحقت، كأقصى الأجلين في العدة. ثم قال: وهذا كله على مختار المصنف خليل هنا تبعا لابن الحاجب تبعا للخمي وابن محرز، والذي اختاره ابن يونس وأبو حفص أن القيمة تعتبر يوم الحكم قال أبو الحسن الشاذلي وهو الصواب. وقال البرزلي وهو ظاهر المدونة فكان على المصنف أن يذكر القولين، أو يقتصر عن الثاني ثم استشكل الزرقاني مسألة تقييد الموضوع بالمطل، وهو أمر مختلف فيه فقال فيه: وعليه فانظر إذا لم يقع تحاكم: هل يكون الحكم ما مشي عليه المصنف أو تعتبر قيمتها يوم حلولها إن كانت مؤجلة، ويوم طلبها إن كانت حالة، أو يقال: بمنزلة التحاكم، وظاهر كلام المصنف كالمدونة سواء مطله بها أم لا. وقيدها الوانوغري وأقره في التكميل بما إذا لم يكن من المدين مطل، وإلا وجب عليه لمطله ما آل إليه الأمر من السكة الجديدة الزائدة على القديمة كما هو ظاهر (2) . ونقل في فتح الجليل عن القرافي قوله: "ولو انقطع ذلك النقد حتى لا يوجد لكان له قيمته يوم انقطاعه إن كان حالا، وإلا فيوم يحل الأجل لعدم استحقاق المطالبة قبله" (3) .   (1) الخرشي على خليل بحاشية العدوي: 5/55، وشرح الزرقاني: 5/60 (2) شرح الزرقاني على خليل وبهامش البناني: 5/60، وحاشية الرهوني: 5/121، وفيه مناقشة لقول الزرقاني "وعليه فانظر إذا لم يقع تحاكم … . إلخ" (3) منح الجليل: 2/534 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1241 وعند الشافعية: جاء في تحفة المحتاج، ويرد وجوبا المثل في المثلي حيث لا استبدال، ولو نقدا أبطله السلطان فشمل الفلوس الجديد. وعللوا ذلك بأنه أقرب إلى حقه (1) . وقال الرملي: إن فقد وله مثل وجب، وإلا فقيمته وقت المطالبة (2) . وفصل في المجموع بناء على حكم الاستبدال على الثمن وانقطاع المسلم فيه. فقال: لو باع بنقد قد انقطع من أيدي الناس فالعقد باطل؛ لعدم القدرة على التسليم، فإن كان لا يوجد في ذلك البلد، ويوجد في غيره، فإن كان الثمن حالا أو مؤجلا إلى أجل لا يمكن نقله فيه، فالعقد باطل أيضا، وإن كان مؤجلا إلى مدة يمكن نقله فيها صح البيع، ثم إن حل الأجل وقد أحضره فذاك، وإلا فينبني على أن الاستبدال على الثمن هل يجوز. إنا قلنا: لا، فهو كانقطاع المسلم فيه. وإن قلنا: نعم، استبدال ولا ينفسخ العقد على المذهب، وفيه وجه ضعيف: أنه ينفسخ. أما إذا كان يوجد في البلد ولكنه عزيز فإن جوزنا الاستبدال، صح العقد. فإن وجد فذاك وإلا فيستبدل، وإن لم نجوزه لم يصح. أما إذا كان النقد الذي جرى به التعامل موجودا ثم انقطع فإن جوزنا الاستبدال استبدل وإلا فهو كانقطاع المسلم فيه (3) .   (1) تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني: 5 /44 (2) نهاية المحتاج: 3/399 (3) المجموع: 9 / 364 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1242 وقد حاول ابن البلقيني والسيوطي تخريج مسألة تغير قيمة الفلوس حال انعدامها أو عزتها على مسألة إبل الدية فقال: وظهر لي في ذلك أن هذه المسألة قريبة الشبه من مسألة إبل الدية، والمنقول في إبل الدية: أنها إذا فقدت، فإنه يجب قيمتها بالغة ما بلغت على الجديد. قال الرافعي: فَتُقَوَّمُ الإبل بغالب نقد البلد، وتراعى صفتها في التغليظ، فإن غلب نقدان في البلد تخير الجاني. وتقوم الإبل التي لو كانت موجودة وجب تسليمها. فإن كانت له إبل معيبة، وجبت قيمة الصحاح من ذلك الصنف، وإن لم يكن هناك إبل فيقوم من صنف أقرب البلاد إليهم، وحكى صاحب التهذيب وجهين: في أنه هل تعتبر قيمة مواضع الوجود، أو قيمة بلد الإعواز لو كانت الإبل موجودة فيها؟ والأشبه الثاني. ووقع في لفظ الشافعي: في أنه يعتبر قيمة يوم الوجوب، والمراد على ما يفهمه كلام الأصحاب، يوم وجوب التسليم، ألا تراهم قالوا: إن الدية المؤجلة على العاقلة تُقَوَّم كل نجم منها عند محله، وقال الروياني: إن وجبت الدية والإبل مفقودة فتعتبر قيمتها يوم الوجوب أما إذا وجبت وهي موجودة فلم يتفق الأداء حتى أعوزت. تجب قيمة يوم الإعواز؛ لأن الحق حينئذ تحول إلى القيمة. ثم بين وجه الشبه بين المسألتين، وتخريج المسألة فقال: فهذه تناظر مسألتنا؛ لأنه وجب عليه متقوم معلوم الوزن، وهو قنطار من الفلوس مثلا فلم يجده، فإن جرينا على ظاهر النص الذي نقله الرافعي، فلا يلزمه الحاكم إلا بقيمة يوم الإقرار. فينظر في سعر الذهب والفضة يوم الإقرار، ويحكم عليه القاضي بذلك، وإن قلنا: بما قاله الروياني، فتجب قيمتها يوم الإعواز فإن الأقارير كانت قبل العزة- انتهي ما أجاب به ابن البلقيني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1243 ثم قال السيوطي عن ابن البلقيني: واعلم أنه نحا في جوابه إلى اعتبار قيمة الفلوس؛ وذلك لأنها عدمت فلم تحصل إلا بزيادة. والمثلى إذا عدم أو عزَّ فلم يحصل إلا بزيادة لم يجب تحصيله، كما صححه النووي في الغصب بل يرجع إلى قيمته، وإنما نبهت على هذا لئلا يظن أن الفلوس من المتقومات وإنما هي من المثليات في الأصح والذهب والفضة المضروبان مثليان بلا خلاف، إلا أن في المغشوش منهما وجها أنه متقوم (1) . وقال السيوطي أيضا: إن عدمت الفلوس العتق فلم توجد أصلا، رُجِعَ إلى قدر قيمتها من الذهب والفضة، ويعتبر ذلك يوم المطالبة، فيأخذ الآن لو قدر انعدامها في كل عشرة أرطال دينارا. ولو اقترض منها فلوسا عددا كستة وثلاثين، ثم أبطل السلطان المعاملة بها عددا، وجعلها وزنا كل رطل بستة وثلاثين، كما وقع في بعض السنين، فإن كان الذي قبضه معلوم القدر بالوزن رجع بقدره وزنا، ولا تعتبر زيادة قيمته ولا نقصها، وإن لم يكن وزنه معلوما، فهو قرض فاسد؛ لأن شرط القرض أن يكون المقرض معلوم القدر بالوزن، أو الكيل، وقرض المجهول فاسد، والعدد لا يعتبر به والمقبوض بالقرض الفاسد يضمن بالمثل، أو بالقيمة، وهنا قد تعذر الرجوع إلى المثل للجهل بقدره فيرجع إلى القيمة. وهل تعتبر قيمة ما أخذه يوم القبض أو يوم الصرف؟ الظاهر الأول فقد أخذ ما قيمته يوم قبضه ستة وثلاثون فيرد ما قيمته الآن كذلك. وهو رطل أو مثله من الفضة أو الذهب (2) . أما الحنابلة فقد نصوا على حال الإعواز – كما سبق – جاء في كشاف القناع "وإذا كان المقرض ببلد المطالبة تحرم المعاملة به في سيرة السلطان، فالواجب على أصلنا القيمة، إذ لا فرق بين الكساد لاختلاف الزمان أو المكان، ثم قال: فإن أعوز المثل. قال في الحاشية: عوز الشيء عوزا من باب: عز فلم يوجد، وأعوزني المطلوب، مثل أعجزني لفظا ومعنى، لزم المقترض قيمته أي المثل يوم إعوازه؛ لأنها حينئذ ثبتت في الذمة، ويجب على المقترض رد قيمة ما سوى ذلك أي المكيل والموزون، لأنه لا مثل له، فضمن بقيمته كالغصب" (3) .   (1) الحاوي للفتاوى: 1 / 98 (2) الحاوي للفتاوى: 1/97 (3) كشاف القناع: 3 / 314 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1244 الحالة الثالثة – الرخص والغلاء ومذاهب الفقهاء فيه: ومعنى أن الرخص والغلاء: أن الفلوس أو الأوراق النقدية، قد تهبط قيمتها بضعف قوتها الشرائية فترخص وهذا هو الغالب، وقد ترتفع قيمتها فتقوى قوتها الشرائية فيقال، غلت، وقد يحدث ذلك بعد أن ثبت في ذمة المدين قيمة قرض أو ثمن بيع بالأجل أو غير ذلك. وحل الأجل. فهل يؤدي ما التزم به باعتبار الرخص والغلاء، أما لا اعتبار لهما؟ وفي جميع الأحوال قد يحدث الرخص والغلاء بفعل الدولة أو بسبب العرض والطلب أو بغير ذلك. اختلف الفقهاء في ذلك على مذهبين ووجه: المذهب الأول: ذهب جمهور الفقهاء: المالكية والشافعية والحنابلة وهو قول أبي حنيفة إلى أن الواجب أداء ذات النقد الثابت في ذمة المدين ولا اعتبار للرخص أو الغلاء. فنص المالكية – كما سبق – على وجوب المثل في إبطال الفلوس، واعتبروا تغيرها كذلك من باب أولى، فقال خليل وشارحه الزرقاني: "وإن بطلت فلوس ترتبت لشخص على آخر أي قطع التعامل بها بالكلية، وأولى تغيرها بزيادة، أو نقص، مع بقاء عينها، فالمثل على من ترتبت في ذمته قبل قطع التعامل بها، أو التغير. ولو كانت حين العقد مائة بدرهم، ثم صارت ألفا به، كما في المدونة أي أو عكسه لأنها من المثليات (1) . وقال الدسوقي: إذا بطلت فلوس ترتبت لشخص على غيره بقرض، أو بيع أو نكاح، أو كانت عنده وديعة وتصرف فيها، وكذا لو دفعها لمن يعمل بها قراضا، فالواجب المثل على من ترتبت في ذمته، ولو كانت الفلوس حين العقد مائة بدرهم، ثم صارت ألفا به" (2) . وقال في منح الجليل عن المدونة: "إن أقرضته دراهم فلوسا، وهو يومئذ مائة فلس بدرهم، ثم صارت مائتي فلس بدرهم، فإنما يرد إليكم مثل ما أخذ لا غير ذلك " (3) .   (1) شرح الزرقاني على خليل: 5/60، ومثله في منح الجليل: 2/534 (2) حاشية الدسوقي: 3/45، بتصرف يسير (3) منح الجليل: 2/535 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1245 وفي المعيار: سئل سعيد بن لب عن رجل باع سلعة بالناقص المتقدم بالحلول فتأخر الثمن إلى أن تحول الصرف، وكان ذلك على جهة، فبأيهما يقضي له؟ وعن رجل آخر باع بالدراهم المفلسة فتأخر الثمن إلى أن تبدل فأيهما يقضي له؟. فأجاب: لا يجب للبائع قبل المشتري إلا ما انعقد البيع في وقته لئلا يظلم المشتري بإلزامه ما لم يدخل عليه في عقده (1) . وعند الشافعية يرد المثل أيضا. قال السيوطي في تعليقه على قول النووي في الروضة: " لو باع بنقد معين، أو مطلق، وحملناه على نقد البلد، فأبطل السلطان ذلك النقد … " قال السيوطي تفريعا على قول النووي: إن باع برطل فلوسا فهذا ليس له إلا رطل زاد سعره أم نقص، سواء كان عند البيع وزنا فجعل عددا أو عكسه، فإن باع بألف فلوسا، أو فضة، أو ذهبا، ثم يتغير السعر فظاهر عبارة الروضة المذكورة أن ليس له ما يسمى ألفا عند البيع، ولا عبرة بما طرأ، ويحتمل أن له ما يسمى ألفا عند المطالبة. وتكون عبارة الروضة محمولة على الجنس لا على القدر، وهذا الاحتمال وإن كان أوجه من حيث المعنى إلا أنه لا يتأتى في صورة الإبطال؛ إذ لا قيمة حينئذ إلا عند العقد لا عند المطالبة ويرده أيضا التشبيه بمسألة الحنطة إذا رخصت (2) . وكذلك يرد المثل بناء على اعتبار الشافعية الفلوس من المثليات في الصحيح. فالقرض مثلا يرد بمثله مطلقا. سواء كان ذهبا أو فضة أو فلوسا، وسواء زادت قيمته أو نقصت قال ابن حجر: (ويرد وجوبا حيث لا استبدال المثل في المثلى، لأنه أقرب إلى حقه) (3) .   (1) المعيار: 6/462 (2) الحاوي للفتاوى: 1 / 97 (3) تحفة المحتاج: 5/44، والحاوي للفتاوي: 1/98 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1246 وأما أقوال الحنابلة في رد المثل فجاء في المغني: "وأما رخص السعر فلا يمنع سواء كان قليلا أو كثيرا؛ لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر. فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت، وكذلك يخرج في المغشوشة إذا حرمها السلطان". وجاء فيه أيضا: "أن المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا" (1) . وفي مطالب أولي النهى: "ويجب على مقترض رد مثل فلوس اقتراضها، ولم تحرم المعاملة بها، ورد مثل دراهم مكسرة أو مغشوشة غلت، أو رخصت" (2) . وفي مجلة الأحكام مادة 750: "وإذا كان القرض فلوسا أو دراهم مكسرة، أو أوراقا نقدية، فغلت أو رخصت أو كسدت، ولم تحرم المعاملة بها وجب رد مثلها " (3) . المذهب الثاني: مذهب الحنفية: وهو قول أبي يوسف وعليه العمل والفتوى وهو وجوب أداء القيمة في الرخص والغلاء، فإن كان ما في الذمة قرضا، فتجب القيمة يوم القبض، وإن كان بيعا فالقيمة يوم العقد. وأما أبو حنيفة فرأيه مع الجمهور، ويعلم مذهبه من بيان رأي أبي يوسف التالي تفصيله. نقل ابن عابدين عن المنتقى قوله: "إذا غلت الفلوس قبل القبض، أو رخصت قال أبو يوسف: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء، وليس له غيرها ثم رجع أبو يوسف، وقال: عليه قيمتها من الدراهم، يوم وقع البيع أي في صورة البيع، ويوم وقع القرض، أي في صورة القبض. ثم قال ابن عابدين: وبه علم أن في الرخص والغلاء قولان، الأول: ليس له غيرها، والثاني: قيمتها يوم البيع وعليه الفتوى (4) . ونقل عن الولواجية في: رجل اشترى ثوبا بدراهم نقد البلدة فلم ينقدها حتى تغيرت، فهذا على وجهين: إن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق أصلا قد فسد البيع؛ لأنه هلك الثمن وإن كانت تروج لكن انتقص قيمتها لا يفسد لأنه لم يهلك وليس له إلا ذلك (5) .   (1) المغنى: 4/358، ومطالب أولي النهى: 2/241 (2) مطالب أولي النهى: 3/241، والإنصاف: 5 / 128 (3) مجلة الأحكام الشرعية مادة 750 (4) تنبيه الرقود: ص 58، وحاشية ابن عابدين: 4/24 (5) تنبيه الرقود: ص 56 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1247 وقال ابن عابدين في حاشيته نقلا عن التمرتاشي في رسالته " بذل المجهود في مسألة تغير النقود ". "إذا غلت قيمة الفلوس أو انتقصت، فالبيع على حاله، ولا يتخير المشتري، ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع كذا في فتح القدير، وفي البزازية عن المنتقى غلت الفلوس أو رخصت، فعند الإمام الأول – أبو حنيفة – والثاني – أبو يوسف – أولا – أي رأي أبي يوسف الأول – ليس عليه غيرها، وقال الثاني – أبو يوسف – ثانيا – أي قول أبي يوسف الثاني – عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض وعليه الفتوى وهكذا في الذخيرة والخلاصة عن المنتقى، ونقله في البحر وأقره. فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات، فيجب أن يعول عليه إفتاء، وقضاء، ولم أر من جعل الفتوى على قول الإمام، هذا خلاصة ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى في رسالته " بذل المجهود في مسألة تغير النقود " (1) . ونقل عن البزازية: "استقرض منه دانق فلوس حال كونها عشرة بدانق، أو رخص وصار عشرين بدانق، يأخذ منه عدد ما أعطى، ولا يزيد ولا ينقص. قلت: هذا مبني على قول الإمام وهو قول أبي يوسف أولا، وقد علمت أن المفتى به قوله ثانيا، وجوب قيمتها يوم القرض، وهو دانق أي سدس درهم سواء صار الآن ستة فلوس بدانق أو عشرين بدانق تأمل " (2) . وقال في العقود الدرية: وإن رخصت أو غلت فقيل: ليس للبائع غيرها، فيجب على المشتري رد المثل، وقيل: تجب بقيمتها يوم البيع، أو يوم القرض في صورة القرض. ثم قال وعليه الفتوى، وهذا كله في الدراهم التي غلب غشها والفلوس (3) .   (1) العقود الدرية: ص 281، وتنبيه الرقود: ص 58 (2) حاشية ابن عابدين: 4 / 24 (3) العقود الدارية 1/280 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1248 وقد جزم ابن عابدين بأن المفتي به قول أبي يوسف نقلا عن الغزي قال: وقد تتبعت كثيرا من المعتبرات من كتب مشايخنا المعتمدة، فلم أر من جعل الفتوى على قول أبي حنيفة رضي الله عنه، بل قالوا: به كان يفتي القاضي الإمام. وأما قول أبي يوسف فقد جعلوا الفتوى عليه في كثير من المعتبرات، فليكن المعول عليه. انتهي كلام الغزي رحمه الله تعالى (1) . ثم قال نقلا عن شيخه سعيد الحلبي بإقرار قول أبي يوسف إفتاء وقضاء فقال: وقد نقله شيخنا في بحر وأقره فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء؛ لأن المفتي والقاضي واجب عليهما الميل إلى الراجح من مذهب إمامهما، ومقلدهما، ولا يجوز لهما الأخذ بمقابله؛ لأنه مرجوح بالنسبة إليه وفي فتاوى قاضي خان يلزمه المثل، وهكذا ذكر الإسيجابي قال: ولا ينظر (2) .   (1) تنبيه الرقود: ص 65. (2) تنبيه الرقود: ص58 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1249 الوجه، وهو رأي الشيخ الرهوني: ذكر الشيخ الرهوني رأي المالكية في وجوب المثل في الرخص والغلاء، ووافق على هذا، وبين أنه لا خلاف في هذه المسألة، وإنما الخلاف في الكساد فقال: "ظاهر كلام غير واحد من أهل المذهب، وصريح آخرين منهم، أن الخلاف محله إذا قطع التعامل بالسكة القديمة جملة، وأما إذا تغيرت بزيادة أو نقص فلا". ذكر حجة مقابل المشهور في وجوب القيمة وتعليلهم في الكساد بقصد رد هذه الحجة فقال: وقد يظهر ببادئ الرأي أن مقابل المشهور أولى لما علل به قائله من أن البائع إنما يدل سلعته في مقابلة منتفع به لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه مالا ينتفع به، وليس كذلك بل المشهور هو الذي يظهر وجهه؛ لأن ذلك مصيبة نزلت به، ثم بين أن الإمام مالكا وأتباعه لم يلتفتوا إلى حجة المقابل في مراعاة ضرر البائع. ومع تأييد الرهوني لحجة المشهور في المذهب، إلا أنه حين عرض لرأي المالكية في الرخص والغلاء، لاحت له حجة مقابل المشهور في الكساد، فقيد به رأي المذهب، قال: وينبغي أن يقيد – رأي المالكية في الرخص والغلاء – بما إذا لم يكثر ذلك جدا، حتى يصير القابض لها، كالقابض لما لا كبير منفعة فيه، لوجود العلة التي علل بها المخالف – في الكساد – من أن البائع إنما بذل سلعته في مقابلة منتفع به لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به (1) .   (1) حاشية الرهوني والمدني: 5 / 118 و 120 و 121 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1250 الرأي الراجح: والذي يترجح – مع كثير من الوجل – في القول في بهذا الموضوع الخطير خصوصا وأن الحكم فيه شامل للحكم في الأوراق النقدية. هو قول الإمام أبي يوسف، ووجه الشيخ الرهوني، ورأي سحنون المنقول عنه في تقدير وقت القيمة في الكساد. فتجب القيمة في الرخص والغلاء، إذا كان كثيرا ووقت تقدير القيمة في القرض يوم القبض، وإن كان بيعا فنختار رأي سحنون في الكساد بأن يرجع إلى قيمة السلعة يوم دفعها بالسكة الجديدة. توجيه أدلة الرأي الراجح: إن قول أبي يوسف بإيجاب القيمة في الرخص والغلاء قول يسنده العديد من قواعد الشرع كما سنذكره بعد قليل، ولعل أبا يوسف اعتبر الرخص والغلاء عيبا لحق الفلوس، سواء في القرض أو البيع، فترتب عليه ظلم للدفاع مع الرخص فينبغي أن يجبر بالقيمة، ولا يقتضي إبطال العقد كما لم يبطل في الكساد والانقطاع. وقد لاحظ أبو يوسف ها هنا أن الفلوس أثمان باصطلاح الناس، فإذا تغير اصطلاحهم، أو تغير ما اصطلحوا عليه، فينبغي مراعاة هذا التغير بحيث لا يترتب على طرف ضرر وإلا لم يعد للاصطلاح فائدة أو معنى. وهذا النظر عند أبي يوسف جرى عليه في أحوال التغير كلها في الكساد والانقطاع، وكذا ها هنا في الرخص والغلاء، وإن رأي محمد بن الحسن تبعا لرأيه في الكساد والانقطاع بناء على دليل أبي يوسف، ينبغي أن يكون موافقا لرأيه على اعتبار أنهما اتفقا في دليل الحكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1251 وأما الوجه الذي ذكره الرهوني، فهو رأي وجيه متجه وهو بمثابة ضابط لرأي أبي يوسف، لئلا يمضي رأيه في كل رخص أو غلاء ولو يسيرا، فتضطرب المعاملات وتتزعزع ثقة الناس في التبادل بالفلوس ومثلها الأوراق النقدية. ولأن الغبن اليسير أو الغلاء والرخص اليسير لا تخلو منه المعاملات، ولو تُقُيِّدَ به دخل على الناس العسرُ في معاملاتهم لكن التغيّر في القيمة إذا كان كثيرا فإنه يترتب عليه ظلم على أحد الطرفين في الرخص والغلاء. ولأن الدافع أولا لم يدفع – في غير القرض وأشباهه إلا بقصد الانتفاع والربح، وهذا هو الأصل في المبايعات، ولذا احتج الرهوني بقوله: إن البائع إنما بذل سلعته في مقابلة منتفع به، لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به. والظلم متحقق حتى في القبض، وهو عقد إرفاق، ولو لم تقدر القيمة عند التغير الكبير لتحرج الناس من عمل الخير لئلا يجلب لهم ضررا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1252 وينبغي أن يكون تقدير الرخص والغلاء من ولي الأمر، لأنه الأقدر على معرفة المصلحة العامة وتقديرها، كما ينبغي أن تعتبر مسألة تغير قيمة النقود قضية عامة لا خاصة أما الحالات الفردية فإنها لا تدخل بخصوصها. هذا ما يترتب على قيد الرهوني. وكذلك قول سحنون له وجاهته ها هنا: ذلك أن الدراهم والدنانير تستند في عيار قيمتها إلى ذاتيتها خلقة، فإذا رخصت أو غلت فإنما ترخص وتغلو بالنسبة لذاتها من الذهب والفضلة، لكن الفلوس ومثلها الأوراق النقدية لا تستند إلى عيار من الذهب والفضة حتى تقاس به في الرخص والغلاء وإنما هي مرتبطة إلى حد كبير بالسلع، فكلما ارتفعت قيمة السلع رخصت قيمتها وكلما انخفضت قيمة السلع غلت قيمتها، فلابد للفلوس من ارتباط والسلع تصلح معيارا، أما اصطلاح الناس فلا يصلح بداهة. ويمكن أن يخرج على قول سحنون هذا: ربط تغير العملة بأسعار السلع لمعرفة نسبة انخفاض ورخص العملة أو ما يسمى بالتضخم. ولا نجد ما يمنع من تنظيم الدول نسب التضخم، وتحديها كل عام تكون قائمة الأسعار مقياسا لتقويم العملة. وهذا موضوع ينظر تفصيله عند الاقتصاديين، لكن المبدأ مقبول ابتداء، حتى تنجلي صورته العملية من كل وجه ويتبين عدم مصادمته لنص، أو قاعدة، أو مقصد شرعي. وإن هذا الرأي يتأسس صحيحا على ما سبق تفصيله من طبيعة الفلوس في أنها ليست ثمنا خالصا، ولا عرضا خالصا، وإنما فيها شوب من هذا ومن هذا، فقد تكون ثمنا فتجري عليها أحكام الأثمان، وقد تكون في حكم العروض فتجري عليها أحكام العروض. فلتكن ها هنا كالعروض المعيبة فتؤخذ قيمتها عند الرخص والغلاء الكثير في القرض، لأنه لا بديل عن ذلك، وتؤخذ قيمة السلعة في البيوع لإمكان التقدير بها، وهي عرض محض لا شائبة فيه، فيكون التقدير على وفقها أكثر اطمئنانا. وقد يقال هنا: كيف افترقت الفلوس عن حكم الدراهم والدنانير في أنه لا يجوز القيمة فيها بحال، وقد قستم الفلوس على الدراهم والدنانير بجامع علة الثمنية في كل. فيقال: إن اجتماعهما في علة الثمنية لا يمنع من حيث آثار كل أن يختلفا في قيمة هذه الثمنية، فالدراهم والدنانير لا تبطل ثمنيتها بحال. وقد ترخص بنسبة يسيرة لأنها في الخلقة ثمن، ولذا لا يترتب ضرر محقق للعاقدين حتى يجب رفعه، بخلاف الفلوس ومثلها الأوراق النقدية فإنها قد تبطل ثمنيتها، وقد ترخص كثيرا، فينظر حينئذ إلى ما انبني عليها من آثار شغل الذمم. ومن جانب آخر، إذا رخصت ثمنية الفلوس ومثلها الأوراق النقدية، لم يرخص ما دلت عليه من مقدار شغل الذمم. فقد فارقت في هذا الحال مماثلة الدراهم والدنانير صورة برخص قيمتها، ولم تفارقه حقيقة في مقدار ما شغلت به الذمة، مما اصطلح عليه حين العقد وإن لم يقبل هذا في مفارقة الفلوس الدراهم والدنانير، فيمكن اعتبار المفارقة استحسانا للمصلحة أو الضرورة على رأي الحنفية؛ إذ القياس الجلي هنا يقتضي المثل في الفلوس، والقياس الخفي وهو الاستحسان يقتضي القيمة بدليل المصلحة والضرورة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1253 تخريجات الرأي الراجح: يمكن أن يتخرج الرأي المختار على عدة نظائر، وقواعد فقهية. أما النظائر: فقد تكلم الفقهاء في بيع الفلوس إذا حصل تخالف وفسخ وهي تالفة فتجب القيمة، وتعتبر قيمتها يوم التلف على خلاف بينهم. وتكلموا عن استعارة الفلوس، ففي تلفها قال بعضهم: بالقيمة يوم التلف. وأيضا: لو أخذت الفلوس على جهة السوم، فتلفت ففيها القيمة يوم القبض، أو يوم التلف على خلاف بينهم. أما القواعد التي يدخل فيها الموضوع وله فيها نوع تعلق فهي: قاعدة الضرورة – والضرر لا يزال بالضرر – والضرورة تقدر بقدرها – الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أم خاصة – وتصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة – والخراج بالضمان – الميسور لا يسقط بالمعسور – والمشقة تجلب التيسير – ورفع الحرج. إذا وقع العقد على نقد غير معين النوع: هذا الذي سبق بيانه إذا رخصت أو غلت الدراهم والدنانير والفلوس وكان عقد البيع أو القرض وقع على نوع معين منها، لكن إذا وقع العقد على نقد غير معين من مثل القروش، فالحكم يختلف وقد تكلم ابن عابدين عن هذا الموضوع فقال: أما إذا وقع العقد على القروش التي لا يتعين منها نوع خاص فلا يمكن القول برد المثل؛ لأن المثلية إنما تعلم حيث علم النوع، وقد علمت أن أنواع النقود متفاوتة في المالية، وكذا رخصها الذي ورد الأمر به متفاوت فبعضها أرخص من بعض، وإذا جعلنا الخيار للدفاع كما كان الخيار له قبل ورود الأمر يحصل للبائع ضرر شديد، فإن الدافع يختار ما رخصه أكثر، فإن ما كان من بعض أنواع النقود وقت البيع يساوي مائة قرش مثلا، صار بعد الأمر يساوي تسعين، ومنه ما يساوي خمسة وتسعين، فيختار المشتري ما يساوي تسعين ويحسبه عليه بمائة. كما كان وقت البيع، فيحصل بذلك ضرر بين للبائع، ولا يقال: إن الخيار وقت البيع كان للمشتري، فيبقى له الآن؛ لأنَّا نقول: قد كان الخيار له حيث لا ضرر فيه على البائع، فإنه وقت البيع لو دفع له من أي نوع كان لا يتضرر، ولو كان رخص الأنواع الآن متساويا بلا ضرر لجعلنا الخيار للمشتري، ليدفع على السعر الواقع وقت العقد من أي نوع كان، كما كنا نخيره قبل الرخص، ولكنه لما تفاوت الرخص، وصار المشتري يطلب الأنفع لنفسه، والأضر على البائع قلنا: لا خيار إذ لا ضرر وضرار في الإسلام. ولما لم أجد نقلا في خصوص مسألتنا هذه تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل عصره، وأفقهم، وأورعهم فيما أعلم، فجزم بعدم التخيير، وجنح إلى الإفتاء بالصلح في مثل هذه الحادثة حتى نجد نقلا في المسألة، لأنك قد علمت مما قدمناه أن المنصوص عليه، إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصا لا الأقل ولا الأكثر، كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري، وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطى السعر الدارج وقت الدفع. ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلا ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري. لا يقال ما ذكرته من أن الأولى الصلح في مثل هذه الحالة مخالف لما قدمته عن حاشية أبي السعود من لزوم ما كان وقت العقد بدون التخيير بالإجماع إذا كانت فضة خالصة أو غالبة لأنا نقول ذاك فيما إذا وقع العقد على نوع مخصوص كالريال مثلا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1254 وهذا ظاهر كما قدمناه ولا كلام لنا فيه. وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص. ثم بين وجه من أفتى بخلاف رأيه وشيخه فقال: ووجه ما أفتى به بعض المفتين كما قدمناه آنفا: أن القروض في زماننا بيان لمقدار الثمن، لا لبيان نوعه ولا جنسه، فإذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلا، ودفع المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشا من الريال أو الذهب مثلا، لم يحصل للبائع ذلك المقدار الذي قدره ورضي به ثمنا لسلعته، لكن قد يقال: لما كان راضيا وقت العقد بأخذ غير القروش بالقيمة من أي نوع كان، صار كأن العقد وقع على الأنواع كلها، فإذا رخصت كان عليه أن يأخذ بذلك العيار الذي كان راضيا به، وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها، وقصد الإضرار كما قلنا، وفي الحديث لا ضرر ولا ضرار، ولو تساوى رخصها لما قلنا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد، كأن صار مثلا ما كان قيمته مائة قرش من الريال يساوي تسعين، وكذا سائر الأنواع. أما إذا صار ما كان قيمته مائة من نوع يساوي تسعين، ومن نوع آخر خمسة وتسعين. ومن آخر ثمانية وتسعين، فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوي التسعين بمائة فقد اختص الضرر به، وإن ألزمنا المشتري بدفع تسعين اختص الضرر به فينبغي وقوع الصلح على الأوسط (1) . ويفهم من كلام ابن عابدين رأيه الخاص فيما إذا وقع العقد في البيع أو القرض على القروش غير المعينة، وبين أن الأمر المتفق عليه قبل صدور الأمر السلطاني بالرخص فيها أن المشتري بالخيار في دفع القروش المسماة والمتفق عليها، أو ما يعادلها كل قرش بأربعين مصرية أو من غيرها كالريال، بناء على أن العرف الشائع عندهم أن من اشترى بالقروش لا يجب عليه دفع عينها. أما بعد ورود الأمر السلطاني بالرخص، فأما أن تكون العملات متساوية في قيمتها، أو مختلفة فإن كانت متساوية في الرخص فيجب حينئذ دفع ما يعادل تلك القروش بالسعر الذي كانت عليه وقت العقد. وإن كانت مختلفة فيلجأ إلى الصلح، ولا يخير المشتري لئلا يلحق ضررا بالبائع فينبغي دفع الوسط من الأقل والأكثر توزيعا للضرر على البائع والمشتري.   (1) العقود الدرية: 1/281؛ وتنبيه الرقود: ص 64 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1255 وقد أشار ابن عابدين إلى خلاف رأيه في هذا الموضوع ولم يرتض الفتوى فيه حين أشار بقوله: وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطى بالسعر الدارج وقت الدفع ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلا (1) . ولعله يشير بذلك إلى فتوى الشيخ عبد القادر بن محمد الحسيني، وقد تكلم الشيخ الحسيني عن ذات المسألة في رسالة بعنوان " تراجع سعر النقود بالأمر السلطاني "، وتكلم عن موضوع هو أخص من عنوان الرسالة فقد خصصها لواقعة حال كثيرة الوقوع وهي فيما يقع من التعامل بالقروش ثم يرد الأمر السلطاني برخص القروش ماذا يلزم؟ فقال الحسيني في بداية رسالته: مسألة ما إذا باع بالقروش المتعارفة قبل ورود الأمر السلطاني، ولم يقبض الثمن حتى ورد الأمر، هل للبائع طلب المسمى من القروش أو ما يعدله القرش من النقود؟ هل يدفع بالسعر الذي يروج به بعد ورود الأمر أو بالسعر الذي كان يوم البيع قياسا على ما إذا باع بالدراهم ثم رخصت قبل القبض؟ هل هذا القياس في محله أو مع الفارق؟   (1) هذه الإشارة: من رجاء أن يكون ابن عابدين أراد بما قال رسالة الشيخ الحسيني، قاله الدكتور نزيه كمال حماد في تحقيق الرسالة المسماة: رسالة تراجع سعر النقود بالأمر السلطاني: ص102، ونشرت في مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي، العدد الثاني، المجلد الأول 1405 هـ – 1985م، ط جامعة الملك عبد العزيز – كما سبقت الإشارة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1256 وقد أفتى بأن: (من باع بالقروش قبل ورود الأمر السلطاني، وقبل قبض الثمن، وورد الأمر بتراجع أسعار النقود، كالريال، وأنواع الذهب فعلى المشتري أن يدفع ما يعدل القرش بحساب العرف من أي نوع كان بالسعر الذي يروج به وقت القبض برضى البائع) . وللبائع طلب المسمى في عقد البيع، أو مثله، فإن كانت القروش المسكوكة موجودة بأربعين مصرية – كما كانت أولا – فله طلب ذلك، وإن لم تكن فتجري فيها أحكام الكساد والانقطاع والغلال والرخص … أي على المذهب الحنفي كما فصلناه سابقا – ثم قال: فعلى كل حال: الواجب أما عين القروش أو القيمة المعروفة كل وقت يوم البيع والقبض وغيره، فإذا دفع من النقود كالريال، وأنواع الذهب، فإنه يدفع برضى البائع بالسعر الذي يروج به يوم القبض، ويعدل القرش المسمى في العقد. ثم قال: وليس المشتري مخيرا في دفع أي نوع شاء إلا فيما كان مستويا في الرواج والمالية والجنس واحد … فإذا أراد المشتري دفع الريال بدل القروش بالسعر الرائج وأبى البائع لا يجبر البائع على القبض لاختلاف المالية، فكيف يجبر على قبضه بالسعر القديم، هذا لا قائل به، وليس للمشتري أيضا جبر البائع على أخذ الذهب مكان القروش … فإذا كان لا يجبر على قبض الذهب، ولا على قبض غير المسمى مما اختلفت ماليته فكيف ينبغي القول في وجوب إعطاء النقود بالسعر القديم؟ فإن أورد مسألة رخص الفلوس فجوابه: أن مسألة الغلاء والرخص في المسمى في بالعقد، لا في غير النقود. ثم قال مقررا: فالظاهر من النقول – نصا ودلالة – أنه يفتي بدفع النقود على السعر الرائج بعد الأمر بحساب القرش بأربعين مصرية ثم قال: ومثل البيع الإجارة كما إذا أجر بمائة قرش. ولم يقبض الأجرة فإنه يرد له مثل ما يقبض ريالا أو ذهبنا لا يعتبر غلاؤه ورخصه (1) . ويظهر من وجه الحكمين في المسألة أن رأي ابن عابدين أرجح في ميزان القواعد الشرعية، وأحرى بتحقيق مقصود الشارع في استقرار المعاملات، ورفع الضرر ما أمكن، فإن حجة الحسيني أنه ليس للمشتري الخيار حال اختلاف السعر الرائج لاختلاف المالية. هذا أمر مسلم بنى عليه رأيه في عدم إجبار البائع أن يقبض بالسعر القديم وكذا ليس للمشتري جبر البائع على أخذ الذهب مكان القروش، وهذا قياس أو استنتاج خاطئ لأن عدم جواز إجبار البائع بالسعر القديم إنما سببه اختلاف المالية، وهذا عين الدعوى إذ مع تساوي المالية لا نزاع، ولاختلاف المالية لم يجبر أحد منهما؛ لأن الضرر متحقق في التخير لأيهما، ولذا فتقرير الدفع بالسعر القديم أو الجديد كلاهما ضرر فاختيار أحدهما تحكم في تخصيص أحدهما بالضرر. وحجة ابن عابدين أرفق بالعاقدين فلا تخصيص لأحدهما بالضرر بل يتوزع عليهما بالصلح فيدفع الوسط. وبدونه يحدث الضرر فإن جعل الخيار للدافع يجعل الضرر على البائع شديدا؛ لأن الدافع سيختار الأكثر رخصا. وفيه ضرر لا مبرر له وكون الخيار له في الأصل حيث تساوى في المالية أما مع اختلافها فيتحقق الضرر. والضرر مرفوع للحديث " لا ضرر ولا ضرار " الدكتور عجيل جاسم النشمي   (1) انظر تفصيل ذلك في رسالة تراجع سعر النقود بالأمر السلطاني، للشيخ الحسيني: ص 111 – 119 ضمن مجلة أبحاث الاقتصادي الإسلامي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1257 مراجع البحث 1- الأعلام، للأستاذ خير الدين الزركلي – الطبعة الثالثة. 2- إنباء الغمر بأبناء العمر، لشيخ الإسلام أحمد بن حجر العسقلاني – الطبعة الأولى – طبع مجلس دائرة المعارف العثمانية – 1378 هـ – 1967 م. الهند. 3- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للعلامة علاء الدين علي بن سليمان المرادي – الطبعة الأولى مطبعة السنة المحمدية – 1376 هـ – 1956 م بمصر. 4- بدائع الصنائع، للإمام علاء الدين مسعود بن الكاساني – الطبعة الأولى – مطبعة الجمالية 1328 هـ – 1910 م بمصر. 5- البيان والتحصيل، لابن رشد. 6- تحفة المحتاج بشرح المنهاج، للإمام شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي بحاشية العلامة عبد الرحمن الشرواني، والعلامة أحمد بن قاسم العبادي. 7- جامع البيان عن تأويل أي القرآن، للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري – الطبعة الثانية مصطفى البابي الحلبي – 1373 هـ – 1945 م بمصر. 8- تنبيه الرقود على مسائل النقود، للعلامة أحمد أمين، ابن عابدين – مجموعة الرسائل 2 / 56 – تصوير دار إحياء التراث العربي. بيروت. 9- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، للإمام محمد بن عرفة الدسوقي – طبع دار إحياء الكتب العربية بمصر. 10- حاشية محمد بن أحمد الرهوني على شرح عبد الباقي الزرقاني، لمتن خليل – الطبعة الأولى – المطبعة الأميرية بولاق – 1306هـ بمصر. 11- الحاوي للفتاوى، للإمام جلال الدين السيوطي – نشر دار الفكر. بيروت. 12- خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، للعلامة محمد أمين المحبي – طبع مكتبة خياط – بيروت. 13- درر الحكام في شرح غرر الأحكام، للعلامة منلا خسرو وبهامشه حاشية العلامة الشرنبلالي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1258 14- الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي – نشر محمد أمين دمج. بيروت 15- رد المحتار على الدر المختار، للعلامة محمد أمين المعروف بابن عابدين – طبع الأميرية 1323 هـ بمصر. 16- روضة الطالبين، للإمام ابن زكريا يحيى بن شرف النووي – طبع المكتب الإسلامي بيروت. 17- شرح الزرقاني على خليل بحاشية البناني – نشر دار النشر 1398 هـ – 1978 م بمصر. 18- شرح فتح القدير، للعلامة كمال الدين محمد بن أحمد المعروف بابن الهمام مع تكملة نتائج الأفكار، للعلامة شمس الدين أحمد المعروف بقاضي زاده على الهداية شرح بداية المبتدي، للعلامة برهان الدين علي بن أبي بكر المرغياناني وبهامشه شرح العناية على الهداية، للبابرتي – المطبعة الأميرية 1316هـ بمصر. 19- شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل، للشيخ محمد عليش وبهامشه حاشيته المسماة تسهيل منح الجليل – تصوير دار صادر. بيورت. 20- العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، للعلامة محمد أمين المعروف بابن عابدين – نشر دار المعرفة. بيروت. 21- عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعلامة محمد شمس الحق آبادي مع شرح الحافظ ابن قيم الجوزية. 22- فتاوى ابن رشد، للإمام أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد – تحقيق الدكتور المختار التليلي – الطبعة الأولى 1407هـ – 1987 – دار الغرب الإسلامي. بيروت. 23- فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن يتمية – الطبعة الأولى – مطابع الرياض 1383 هـ. السعودية. 24- الفتاوى الهندية، للإمام فخر الدين الفرغاني بهامشه فتاوى قاضيخان – طبع بولاق 1400 هـ – 1980 بمصر. 25- فتوح البلدان، للإمام أبي الحسن البلاذري – طبع دار الكتب العلمية 1398 هـ – 1978. بيروت. 26- الفقه على المذاهب الأربعة، للشيخ عبد الرحمن الجزيري – الطبعة السادسة بمصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1259 النقود وتقلب قيمة العملة إعداد د. محمد سليمان الأشقر بسم الله الرحمن الرحيم النقود هي ما اتخذه الناس وسيطا للتبادل، ومخزنا للقيم، ومقياسا للأسعار. وكان الذهب والفضة رأس النقود منذ حقب متطاولة في التاريخ لما تميز به هذان المعدنان من ثبات القيمة وعدم التعرض للتآكل وعدم التأثر بالمؤثرات الجوية ونحوها. وقد خصهما النبي صلى الله عليه وسلم من بين سائر المعادن بأحكام منهما: 1 – أنه حرم استعمالهما كآنية للشرب أو الطعام، وفي ذلك توفير لهما لاستخدامهما أثمانا. 2 – أنه حرم استعمال الذهب كحلى للتزين، وفي ذلك توفير لثمنيته كذلك. واستثنى النساء لحاجة المرأة للتزين. 3 – أنه أوجب الزكاة في أعيانهما إذا بلغا نصابا. واعتبر الشرع من لم يخرج الزكاة منهما كانزا يستحق العذاب بهما يوم القيامة. وفي إيجاب الزكاة فيهما تحريك لثمنيتهما، حتى يتداولا في الاستعمال تحصيلا للربح، وإلا أكلتهما الزكاة مع السنين. 4 – وأنه حرم المراباة فيهما تبعا للنص القرآني، والربا فيهما هو بيع الذهب نسيئة في العوضين أو في أحدهما، أو بزيادة أحد العوضين ولو مع الحلول، وكذلك الفضة بالفضة، وحرم بيع الذهب بالفضة نسيئة كذلك. وحرم الإقراض بزيادة على الأصل في الذهب والفضة (وسائر الأموال) . ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صريح خاص يدل على إيجاب الزكاة في (الفلوس) ، وهي ما اتخذ ثمنا من سائر المعادن، ولا نص كذلك يمنع التفاضل أو النساء في بيعها، ولا أوجب فيها الزكاة، مع أن في السنة النبوية والسيرة النبوية مواضع تدل على أن الفلوس كانت مستعملة في عهده صلى الله عليه وسلم. من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال ليس ذلك المفلس، بل المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام، ويأتي وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)) . ومن ذلك قوله أيضًا ((أيما رجل وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس، فصاحب المتاع أحق بمتاعه)) . إلى غير ذلك من الأحاديث التي تذكر الإفلاس. ولفظ الإفلاس بالاتفاق مشتق من (الفلس) ، وذلك لأن الرجل إذا كثر دينه رجع ماله إلى الفلوس بعد أن كان يتعامل بالدرهم والدنانير. وفي حديث أبي ذر عن الإمام أحمد (5/156، 158) ، أنه أمر جارية أن تشتري له " فلوسا ". ويأتي النقل عن مجاهد والنخعى في الفلوس. وقال السيوطى في الحاوى (1/104) : التعامل بالفلوس قديم. ثم استدل على وجودها عند العرب بآثار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1260 النقود الورقية: تعامل الناس في العصور المتأخرة بالنقود الورقية، وقد مرت النقود الورقية بأطوار: الطور الأول: كان يكتب في العملة الورقية من الدولة المصدرة لها تعهد بأنها تدفع لحامل الورقة مقدار ما يذكر فيها من العملة الذهبية. وكان التعهد قائما، فكانت قيمتها مرتبطة بالذهب ارتباطا كاملا. ولذلك حافظت على قيمتها من الذهب. وكان الجنيه الإنكليزي الورقي، أو الجنيه المصري، أو العراقي، أو الفلسطيني، يساوى جنيها ذهبيا، بل ربما زادت قيمة الجنيه الورقي على قيمة الجنيه الذهبي، ولعل مرجع ذلك سهولة التعامل بالورق. ومثل ذلك النقود الورقية التي ظهرت تحمل تعهدا بدفع عملة فضية، كإيصالات الحجاج التي أصدرت الحكومة السعودية عام 1370 هـ تقريبا أو بعدها بقليل. الطور الثاني: وكان مبدأ ذلك في تقديرى منذ الحرب العظمى الثانية 1938 م حينما أخذت بعض الدول تصدر عملة ورقية ليس لها غطاء ذهبى، وكان ذلك بسبب ضرورات الحرب واعتبر ذلك أولا كدين على الحكومات لشعوبها ولحملة الأوراق النقدية. وفي هذا الدور استمرت الدول في كتابة التعهد على أوراقها النقدية، ولكنها لم تلتزم بأداء ما في الورقة من العملة الذهبية أو الفضية، فبدأ سعر الورقة النقدية في الهبوط بالنسبة لما كتب فيها. الطور الثالث: اعتبرت فيه الورقة النقدية عملة قائمة بذاتها. وصدرت الأوراق النقدية خالية من التعهد بشيء، وبذلك أصبحت لا ضابط لها من حيث القيمة. ولمّا لم تكن لها قيمة ذاتية لأنها مجرد أوراق لا قيمة لها في ذاتها لكثرة الورق، ولأن الحكومات، وخاصة في أزماتها الاقتصادية، أو تبعًا لسياسات اقتصادية معينة، بدأت تصدر الأوراق النقدية، وتغرق بها الأسواق، لذا فإن قيمة الورق النقدي بالنسبة إلى الذهب والفضة، وبالنسبة لسائر السلع، بدأت في التدهور والسقوط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1261 ولست أقول: (تقلب سعر العملة الورقية) ، كما هو العنوان المقترح من قبل المجمع، لهذا البحث، بل حقيقة ما يحصل هو التدهور والسقوط المستمر، وليس (التقلب) ، لأن (التقلب) أن ينقص ثم يزيد ينقص وهكذا. أما حقيقة ما يقع في سعر النقد الورقي فهو النزول المستمر إلى الأسفل، وما يشاهد من ازدياد قيمة العملة بالنسبة للسلع، وذلك عند رخص الأسعار في بعض الفترات، فهو ازدياد محدود بنسب تافهة في فترات قليلة. لكن الاتجاه العام هو الهبوط المستمر إلى أسفل ويرجع ذلك غالبا إلى إصدار الحكومات المعنية لأوراق جديدة لسداد ما عليها من الالتزامات لشعوبها، وذلك الإصدار في الأصل ينبغي من جهة اقتصادية أن يكون بالقدر الكافي لبقاء مستوى الأسعار ثابتا، ولكن إذا وقعت الحكومة في أزمات اقتصادية فإنها تصدر الأوراق النقدية، ويكون ذلك عبارة عن ضرائب غير مباشرة يضار بسببها حاملو الأوراق النقدية عينا، أو الذين لهم ديون أو ودائع نقدية ولا يضار بسببها من كانت أمواله أصولا من عقارات أو غيرها، أو عروضا، بل ترتفع قيم تلك الأصول ارتفاعا مقابلا لانخفاض قيمة العملة الورقية. وربما كان لبعض الدول سياسات معينة ترى بموجبها أن من مصلحتها خفض قيمة العملة مؤقتا أو باستمرار (1) .   (1) انظر كلاما لابن تميمة في وجوب محافظة الدولة على مستوى أسعار البضائع بالفلوس بأن لا تضرب فلوسا جديدة أو تكسر الفلوس الموجودة إلا بمقدار (كشاف القناع: 2 / 232؛ ومجموع الفتاوى الكبرى: 29 / 251) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1262 الثبات النسبي للقوة الشرائية للذهب: هذه الظاهرة في النقود الورقية، وهي الهبوط المستمر لقوتها الشرائية، تختلف بها عن النقود الذهبية والفضية، فإن النقود الذهبية والفضية ذات ثبات نسبى من حيث قوتها الشرائية على مدار التاريخ. ونحن نجد في السنة النبوية المأثورة مواضع تعرف منها القوة الشرائية للنقد الذهبي في ذلك العهد، ونقارنه بالقوة الشرائية للذهب في عصرنا الحاضر، فلا نكاد نجد فرقا يذكر، ومن ذلك على سبيل التمثيل: 1 – حديث جابر بن عبد الله الأنصاري، وفيه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه جملا " بأوقية " وفي رواية أخرى " بأوقية ذهب)) وهناك روايات بتقديرات أخرى، (انظر جامع الأصول: 1 / 507، كتاب البيوع / فصل في الشرط والاستثناء) . ورجح بعضهم رواية " بأوقية ذهب " على غيرها، والأوقية كما في القاموس ولسان العرب: سبعة مثاقيل. ولما كان المثقال 25ر4 غراما فإن ثمن ذلك الجمل كان يساوى ما زنته (30) ثلاثون غراما من الذهب وسعر الذهب اليوم (27/3/1987 م) = 3.600 دينارا كويتيا للغرام فذلك (108) دينار كويتى، وهذا المبلغ الآن يكاد يساوى قيمة جمل. 2 – وأيضًا في السنة في باب الديات، أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض على أهل الإبل الدية مائة ناقة، أو ألف مثقال من الذهب. مما يقرب أن معدل قيمة الناقة كانت عشرة مثاقيل من الذهب، أي 42.5 غرام من الذهب وتساوى الآن 153 دينارا كويتيا تقريبا وهي تشترى ناقة أو تكاد. (ويلاحظ أن العرب كانت ولا تزال تفضل الناقة على الجمل في الثمن، لما تأمله من نتاجها) . 3 – وفي السنة أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عروة البارقي دينارا (ذهبيا) ليشتري به شاة، فذهب فاشترى به شاتين، فباع واحدة منهما بدينار وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ودينار، فدعا له بالبركة في بيعه. فهذا يدل على يدل أن معدل قيمة الشاة أيام النبوة كان ما بين نصف دينار، والدينار، (4.25 غرام من الذهب) ، يساوى الآن (15.3) دينارا كويتيا تقريبا وهي تكاد تشتري شاة من شياه الحجاز، وهي أصغر من شياه الشام والعراق التي تساوى عندنا بالكويت اليوم ما قيمته 30 دينارا كويتيا تقريبا. 4 – وفي حديث أبي بكر - رضي الله عنه -في الزكاة، أن من وجبت عليه بنت لبون، فلم يجدها، ووجد بنت مخاض، فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهما. وهذا يدل على أن معدل قيمة الشاة الواحدة كانت في زمن النبوة عشرة دراهم، والدراهم العشرة كانت تساوى دينارا ذهبيا. فهذا يؤيد ما استفيد من حديث عروة البارقى المتقدم. من هذا نستطيع أن نقول: إن القوة الشرائية للذهب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تساوى 100 % أو 120 % مما هي عليه الآن لا أكثر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1263 الثبات النسبي للقوة الشرائية للفضة: لم تكن الفضة فيما يظهر ثابتة كثبات الذهب من حيث القوة الشرائية. فقد تقدم أن حديث عروة البارقي، وحديث أبي بكر، يدلان على أن قيمة الشاة في زمن النبوة كانت عشرة دراهم. فإذا كان الدرهم الفضي يزن 3 غرامات تقريبا فإن قيمة الشاة كانت ثلاثين غراما من الفضة، وهذا المبلغ يساوى اليوم فقط دينارين كويتيين، حيث أن سعر الفضة 673 دينارا للكيلو غرام مما يدل على أن القوة الشرائية للفضة كانت في زمن النبوة أكبر بالنسبة إلى ما هي عليه الآن. مدى سقوط القوة الشرائية للورق: نبادر هنا لبيان مدى هبوط القوة الشرائية للعملات الورقية لتتم المقارنة مع ثبات القوة الشرائية للذهب والفضة. فالمعروف أن العملات الورقية دخلت البلاد العربية والخلافة العثمانية في تركيا كعملات رسمية لها بعد الحرب العظمى الأولى بقليل، أي منذ ستين عاما تقريبا، وكان كل من الجنيه الفلسطيني والجنيه المصري والليرة التركية الورقية ـ كأمثلة للموضوع ـ يساوى كل منهما جنيها ذهبيا (7 غرامات ذهبية صافية تقريبا) . فلننظر إلى ما آل إليه الأمر الآن: 1 – الجنيه الذهبي يساوى الآن 33 دينارا أردنيا (وهو الذي حل محل الجنيه الفلسطيني وكان يساويه في القيمة) . 2 – الجنيه الذهبي يساوى الآن 190 جنيها مصريا. 3 – الجنيه الذهبي يساوى الآن 45000 ليرة تركية ورقية. ومعنى ذلك أن القوة الشرائية هبطت في مدى ستين عاما فقط للعملات الورقية الثلاث كما يلي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1264 هبطت قيمة العملة الورقية الأردنية إلى جزء واحد من 33 جزءا من قيمتها الأصلية، أي هبوط بمعدل نسبة 5 % سنويا تقريبا. وهبطت قيمة العملة الورقية المصرية إلى جزء واحد من 190 جزءا من قيمتها الأصلية، أي بمعدل نسبة 8.4 % سنويا تقريبا. وهبطت قيمة العملة الورقية التركية إلى جزء واحد من 45000 جزءا من قيمتها الأصلية أي بمعدل نسبة 16.4 % سنويا (1) . . فقارن هذا بمدى استقرار سعر الذهب من عصر النبوة إلى الآن (أي في مدى 1400 سنة) ، تجد أنه لم ينخفض أصلا، أو انخفض بنسبة ضئيلة جدا بمعدل لا يكاد يذكر. وهبطت الفضة إلى جزء واحد من سبعة أجزاء من قيمتها في المدة نفسها. ولعل هذا ما دعا بعض فقهائنا إلى أن يقرر أن الذهب والفضة أثمان خلقة، أي أن لهما قيمة ذاتية، فقد خلقا ليكونا أثمانا، أي مقاييس متميزين بالثبات. على أننا ندرك أن القوة الشرائية للذهب والفضة تهتز نسبيا في أزمات الكساد، أو حالات كثرة العرض أو قلته بالنسبة للسلع، أو كثرة العرض أو قلته بالنسبة للذهب والفضة أيضًا، وأنه لو لم يستعمل الورق كعملة في هذه العصور الأخيرة لضاق الذهب والفضة عن أن يتسعا للمعاملات، ولربما كانت قوتهما الشرائية زادت أضعافا مضاعفة. وفي السنة النبوية ما يشير إلى أنه سيأتي في آخر الزمان وقت " يكثر فيه استخراج الذهب والفضة، حتى تهبط قيمته هبوطا حادا سريعا، بل قد يفقد قيمته نهائيا. وذلك ما رواه مسلم نشر عبد الباقي (2 /18 كتاب الزكاة، ح 62) ، والترمزي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان (أي الأعمدة) من الذهب والفضة، فيجئ القاتل فيقول: في هذا قتلت. ويجئ القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي. ويجئ السارق فيقول: في هذا قطعت يدي. ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا))   (1) هذا التقدير على أساس معدل نسبة انخفاض مركبة لستين عاما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1265 أحكام النقود الورقية نتعرض لذلك في فصلين أحدهما خاص بالربا فيها، والثاني خاص بالزكاة. الفصل الأول الربوية في النقود الورقية إن فكرة استعمال النقود من غير الذهب والفضة فكرة قديمة لا يبعد أن تكون قارنت استخدام الذهب والفضة لذلك، وربما تقدمت عليهما. فقد استعملت الفلوس من النحاس وغيره، واستعمل الودع والخرز لذلك. أما فكرة استخدام الورق فلم تخرج إلى حيز التنفيذ فيما نعلم في تراثنا الإسلامي، ولكنها طرأت على بال فقهاء المسلمين، وأثبتت في كتبهم قديما، من ذلك قول الإمام مالك - رضي الله عنه -، كما في المدونة في باب الصرف (1) .: (لو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين، لكرهتها أن تباع بالذهب والورق (أي الفضة) نظرة) . لكن لم يتوسع العلماء في بحث أحكام النقود الورقية إلا بعد دخولها في حيز التداول الفعلي. وقد اختلف العلماء في تكييف الأوراق النقدية، وتطبيق الأحكام الشرعية عليها، على أقوال: فقيل: 1 – هي ديون على الجهة المصدرة لها. 2 – وقيل هي عملات مستقلة ذاتيا، تعامل كالعملات الذهبية والفضية، إلا أنها أجناس مستقلة من النقود، وتكون العلاقة بين كل جنس وجنس منها كعلاقة الذهب بالفضة. 3 – وقيل هي عروض تكون للتجارة إن قصدت لها، كما هي عند الصيارفة، وقد تكون للتجارة، كمن يقتنيها ويدخرها لينفق على نفسه وأهله. ونحن نبحث كلا من هذه الأقوال بتوسع.   (1) رسالة إمتاع الأحداق والنفوس بمطالعة أحكام الفلوس، للشيخ ألفا هاشم الفوتى: ص 26 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1266 القول الأول (أنها دين) : ووجهه أنها في الأصل نائبة عن العين، بتعهد من الجهة المصدرة لها بدفع قيمتها، أو هي مستند بذلك الدين. وقد كان هذا القول قويا، والقائلون به مطمئنين إليه، عندما كان التعهد بدفع قيمتها قائما. ووجهه أنها لا قيمة لها في ذاتها، لكن لما كان يقابلها مقدار محدد من الذهب أو الفضة مودع في خزانة الدولة المصدرة لها، فإن المتعامل بها إذا أخرجها من يده إلى يد أخرى يعتبر قد أحال بذلك الدين الذي له على الدولة شخصا آخر، فهي حوالة، سواء كان مشتريا منه أو مستأجرا أو مستوهبا، أو أخرجها من يده كصداق امرأة أو بأي صورة من الصور المشروعة. وبناء على هذا القول أوجبوا الزكاة فيها كزكاة الدين. لكن الذين قالوا بهذا القول اصطدموا بعقبات مهمة، وذلك بسبب القيود الشرعية على تداول الدين. فمن المعلوم أنه لا يجوز شرعا بيع الدين بالدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك. ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم ((نهى عن بيع الكالئ بالكالئ)) . فلذلك لا يجوز ـ على هذا القول ـ جعل النقود الورقية رأسمال سلم، أو ثمنا لعين موصوفة في الذمة، لو سلمت الثمن الورقي نقدا. وأيضًا ـ بناء على هذا القول ـ لا تصلح المشاركة بالنقود الورقية، لأن الدين لا يكون رأسمال شركة. وأيضًا يمنع ذلك صحة الصرف إذا صرفت ورقا نقديا بورق نقدي من جنس آخر. وأيضًا يمنع اعتبارهما دينا من شراء الذهب والفضة بهما، لأن ثمن شرائهما لا يكون دينا، إذ لا بد من التقابض. وأيضًا القائلون بعدم وجوب الزكاة على الدائن وجدوا في هذا القول مخرجا، بناء على القول بأن زكاة الدين هي على المدين، أو القول الآخر بأن الدين لا زكاة فيه على الدائن ولا على المدين. إلا أنه مع ذلك كان لهذا القول وجه عندما كان لدى الحكومات استعداد لدفع القيمة الاسمية لتلك الأوراق بالذهب. أما الآن فلا وجه له، إذ ليس هناك استعداد لذلك مطلقا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1267 القول الثاني (أنها عروض غير ربوية) : فيجوز بيع بعضها ببعض متساوية أو متفاضلة، حالة أو مؤجلة، لا ضير في ذلك، بشرط قبض أحد العوضين في المجلس، وإذا كانت للتجارة فتجب فيها الزكاة، وإلا فلا. ولا تنطبق أحكام الصرف عند بيع ورق نقدي منها بورق نقدي آخر وعند بيعها بذهب أو فضة. وقد استدلوا لهذا القول بأمور: 1 – أنها ليست بذهب ولا فضة، فلا تنطبق عليها النصوص الواردة بمنع المراباة في الذهب والفضة بل هي باقية من هذه الجهة على حكم الإباحة الأصلية وعلى هذا يجري مذهب الظاهرية. وأيضًا بتتبع العلل الربوية التي ذهب إليها العلماء في تعليل حرمة الربا علم أنها غير موجودة في الورق النقدي، فيمتنع الإلحاق. فإن الحنفية عللوا حرمة الربا في الذهب والفضة بكونهما (أثمانا خلقة) وهذا غير موجود في الورق النقدي لأن ثمنيته اصطلاحية، ولأن ثمنية الذهب والفضة لا تبطل بحال، بينما ثمنية الورق تبطل بالإبطال ممن يملكه. والشافعية قالوا: العلة في الذهب والفضة جوهرية الثمن غالبا، فيختص بالذهب والفضة. وعن أحمد روايتان: إحداهما: أن علة ربويتهما الوزن، والأخرى جوهرية الثمن، كقول الشافعي. فعلى جميع هذه التعليلات لا يقاس الورق على الذهب والفضة، لأن الورق ليس بثمن خلقة بل بالاصطلاح، ولأنه لا يباع بالوزن. 2 – قياس النقود الورقية على الفلوس المعدنية: فإن النقود الورقية ليست أقرب إلى الذهب والفضة من قربها إلى الفلوس. وقد كانت الفلوس موجودة على عهد النبوة كما تقدم، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل فيها ربا كما جعل في الأصناف الستة المعروفة. وكانت الفلوس موجودة طيلة العهود الإسلامية وكان قول كثير من علماء المسلمين فيها أنها لا يدخلها الربا، وذلك موجود في كتب فقهاء الإسلام، منتشر فيها بكثرة لا تخفى على المطلعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1268 ـ على أن هذا لا يعنى اتفاقهم على ذلك، فقد ذهب البعض إلى أنها ربوية. فمما جاء في كلامهم أنها ليست ربوية: (أ) ما نقله السيوطي في الحاوي (1/104) ، عن إبراهيم النخعي أنه قال: لا بأس بالسلف في الفلوس، وقال: أخرجه الشافعي في الأم والبيهقي دليلا على أنه لا ربا في الفلوس. وعن مجاهد: لا بأس بالفلس بالفلسين يدا بيد، وعن حماد مثله. (ب) وفي فقه الحنفية: ـ جاء في كنز الدقائق: يصح بيع الفلس بعينه بالفلسين بأعيانهما. وفي شرحه البحر الرائق لابن نجيم: إن ذلك صحيح عند أبي حنيفة وأبى يوسف. وقال محمد: لا يجوز. وقالوا في فلسين بغير أعيانهما بفلس بعينه: إنه غير جائز (1) . وهذا يعنى أنها ربوية. - ولكن في الفتاوى الهندية: إذا اشترى الرجل فلوسا بدراهم ونقد الثمن ولم تكن الفلوس عند البائع فالبيع جائز. - وفي المبسوط: إن اشترى خاتم فضة أو ذهب بكذا فلسًا وليست عنده فهو جائز. (ج) في فقه المالكية: - جاء في المدونة في كتاب الزكاة ما نصه: (قال ابن القاسم: سألت مالكًا عن الفلوس تباع بالدراهم والدنانير نظرة) أي تأخيرًا (أو يباع الفلس بالفلسين. فقال مالك: إني أكره ذلك وما أراه مثل الذهب والورق) أي الفضة (في الكراهية) . وفي باب الصرف من المدونة ما نصه: قال ابن القاسم في الفلوس: (إنها ليست عند مالك بمنزلة الدنانير والدراهم، وإنه قال في شرائها بالدنانير والدراهم: أكرهه ولا أراه حراما كتحريم الدراهم) . (انظر المدونة4/115) , (أقول: ولعله إنما كرهه لما فيها من شبهة الثمنية، ولم يحرمه لأن التحريم يعتمد الدليل الصحيح، ولا دليل) . - وفي حاشية العدوى على شرح الخرشي: المشهور في الفلوس أنها لا يدخلها الربا.   (1) ابن عابدين: 4/184، ومثله في المبسوط 12/184 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1269 (د) وفي فقه الشافعية: - جاء في منهاج الطالبين للإمام النووي وشرحه للمحلى 2/170: (النقد بالنقد أي الذهب والفضة مضروبًا كان أو غير مضروب، كطعام بطعام، فإن بيع بجنسه اشترط المماثلة والحلول والتقابض قبل التفرق. ولا ربا في الفلوس الرائجة في الأصح، فيجوز بيع بعضها ببعض متفاضلا وإلى أجل) . ـ وفي روضة الطالبين للنووي (12/387) (الصحيح أنه لا ربا في الفلوس ولو راجعت لانتفاء الثمنية الغلبة) . ـ وفي شرح المنهج للشيخ زكريا الأنصاري (4/45، 46) (إنما يحرم الربا في نقدين ذهب وفضة، ولو غير مضروبين، كحلي وتبر , بخلاف العروض، كفلوس وإن راجت) . (هـ) في فقه الحنابلة: ـ جاء في شرح منتهى الإرادات ما نصه (لا ربا في فلوس يتعامل بها عددا، ولو كانت نافقة، لخروجها عن الكيل والوزن وعدم النهي والإجماع) . ـ جاء في شرح الإقناع (يجوز بيع فلس بفلسين عددا، ولو نافقة، لأنها ليست بمكيل ولا موزون، أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن مجاهد قال: لا بأس بالفلس بالفلسين يدا بيد. ثم ذكر عن نص أحمد رواية أخرى: أنه لا يباع فلس بفلسين، ولا سكين بسكينين) . ـ وفي نيل المآرب بشرح دليل الطالب (لا يجري الربا فيما أخرجته الصناعة عن الوزن، كالثياب والسلاح والفلوس والأواني، غير الذهب والفضة) . ـ وفي المغنى لابن قدامة (4/7، ط 3) (إن الراجح جواز بيع الفلس بالفلسين، وهو قول الثوري وأبى حنيفة وأكثر أهل العلم، لأنه ليس بموزون ولا مكيل، إذ لا معنى لثبوت الحكم مع انتفاء العلة وعدم النص والإجماع) . هذا وقد نص الإمام مالك على أنه لا يرى التحريم في بيع الأوراق النقدية بالذهب والفضة مع التأجيل كما تقدم نقله، وإنما مذهبه فيها كراهة ذلك. والكراهة داخلة في في حيز الجواز دون حيز التحريم. ونص من أتباعه على الجواز الشيخ عليش في فتاواه، على أن (الكاغد الذي فيه ختم السلطان ويتعامل له كالدراهم والدنانير لا زكاة في عينه إن كانت عند من احتكرها. لكن إن كانت عند من يريدها فيحمل محمل العروض) وواضح وجه ذلك عند المالكية كما تقدم إيضاحه. ومقصوده بمن يديرها أي من يتجر بها، فيشتريها ويبيعها، وهم الصيارفة ومن يعمل مثل عملهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1270 القول الثالث (أنها عملة نقدية قائمة بذاتها) : تعامل معاملة الذهب والفضة إلا أنها شيء آخر، ليست هي الذهب، وليست هي الفضة، وليست هي قائمة مقام الذهب ولا الفضة، بل هي أجناس أخرى بحسب الدول المصدرة لها، فالدنانير الكويتية جنس، والدنانير العراقية جنس ثان، والدولارات الأمريكية جنس ثالث وهكذا. ودليل هذا القول دليل واحد وهو القياس على الذهب والفضة بجامع الثمنية. وهذا القول هو السائد الآن في الأوساط الإسلامية الملتزمة بالشريعة، على ما فيه من الأضرار والأخطار، كما سيتبين في بقية هذا البحث. وقد درج عليه غالبية المسلمين الملتزمين في التعامل، فإنهم في الحقيقة لم يتعاملوا بالنقود الورقية كمستندات ديون، ولم يتحرجوا من إسلافها في السلع، ولا من صرف بعضها ببعض، ولكنهم تحرجوا من بيع الجنس الواحد منها بعضه ببعض مؤجلا أو متفاضلا، واعتبروا ذلك – إذا وقع – وتحرجوا من شراء الذهب أو الفضة أو بيعهما بالورق النقدي دون تقابض. وصدرت الفتاوى من كثير من المفتين بهذا القول، وصدرت قرارات من بعض المجامع الفقهية بموجبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1271 من أين نشأ القول بأن الأوراق النقدية أجناس ربوية: الذي نراه أنه عندما كانت النقود الورقية مرتبطة بالذهب ارتباطا صحيحا، وكان التعهد قائما بصرف قيمتها لحاملها طبقا لما هو مكتوب فيها، قياما حقيقيا، وكانت تباع وتشترى طبقا لما فيها (أي: جنيه واحد ورقى بجنيه واحد ذهبي) فإن حكمها الشرعي في تلك الحال هو أن تعامل معاملة الذهب، ويجرى بينه وبينها الربا، ولا إشكال في ذلك. وعلى هذا درج التعامل أول ما صدرت النقود الورقية، واعتبرت بمثابة الذهب من كل وجه، فكان الإفتاء بذلك إفتاءً صحيحًا، والحكم بذلك العصر واقعا في محله. ولكن الذي طرأ أن انفك الارتباط بين الورق وبين الذهب منذ أوائل الحرب العظمى الثانية أو قبل ذلك، وقد سار ذلك الانفكاك تدريجيا، وعلى مراحل كما بينته سابقا، إلى أن أصبح الانفكاك تاما ومعترفا به رسميا من جميع دول العالم، فصار الورق عملات مستقلة استقلالا كاملا عن الذهب وليس لها به أي ارتباط. ومع هذا الانفكاك الذي بيَّنْتُه استمر عامة المسلمين الملتزمين واستمر غالب الفقهاء، واستمرت المجامع الفقهية، على الطريقة السابقة من اعتبار الورق ربويًّا قياسًا على الذهب، على ما في ذلك من الخطورة العظيمة على اقتصاديات المسلمين كما سنبينه. إن الأوضاع التي جدت على الورق النقدي في السنين الأخيرة تستدعي من علماء العصر وقفة مستبصرة حاسمة، لإعادة النظر في ذلك القياس الذي جرى عليه غالب الناس. فإن ذلك القياس منشؤه في نظري ذلك الارتباط الذي كان أولا، والذي بسببه قام الورق النقدي مقام الذهب فعلا، وكفل له ذلك الثبات، الذي هو شأن الأثمان الحقيقة. فلما تبدل الحال، وانفك الارتباط، كان على علماء الملة أن يعيدوا النظر في ذلك القياس منذ أمد. وها أنتم تجتمعون لتنظروا في ذلك، نسأل الله لكم السداد في النظر والقول والعمل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1272 خطورة بقاء الوضع الراهن: ليس في بقاء الوضع الراهن خطورة من حيث التعامل الفوري بالأوراق، كالبيع النقدي بها، وكصرف بعضها ببعض فورًا. ولكن في حالة النسيئة وتأجيل الدفع، سواء أكان بيعا أم قرضا، أم إجارة أم شركة أم صداقا، يجيء الخطر، وهو في الحقيقة خطر على البائع والمقرض، وهو أشد في حال القرض عن حال البيع، فإن البائع قد ينظر إلى التأخير ونقص قيمة العملة، فيضيف على الثمن الآجل ما يرى أنه يغطى النقص، ولكن المقرض لا سبيل له إلى ذلك في ظل القول بربوية الورق النقدي. وتكون النتيجة، وخصوصا في ظل القروض الطويلة الأمد، أن لا يحصل المقرض إلا على جزء يسير مما أقرضه. ولنفرض أن دولة إسلامية أقرضت دولة أخرى إسلامية أو كافرة، مبلغ 100 مليون دينار ورقى، وأن الدولة المقرضة ملتزمة بالأحكام الشرعية، فإذا قدرنا نقص القوة الشرائية للعملة بمعدل 6 % سنويًّا، فإن المقرض يخسر 6 ملايين دينار في السنة الأولى، وبنسبة 6 % من الباقي في السنة الثانية وهكذا … ، وتكون هذه الخسارة في الغالب من أموال المتمسكين بالإسلام يستفيد منها غير المتمسكين به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1273 إن الشريعة الإسلامية إذ نصت على تحريم الربا فإنما كان الهدف منع الظلم، وهو أكل المقرض مال المقترض بغير حق، قال الله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (سورة البقرة: الآية 279) . ولم يكن الهدف إطعام مال المقرض للمقترض، فإن ذلك ظلم آخر، تتنزه عنه الشريعة كما تنزهت عن الظلم الأول. وستكون النتيجة: إما امتناع المسلمين عن الإقراض بالكلية، وإما الرضا بالخسائر المحققة، وإما التجاسر على أخذ الفوائد مع اعتقاد أنها محرمة، وإما الالتفاف على الأحكام الشرعية والتحايل عليها، وما أكثر حيل المرابين. وفي الشركة أيضًا، وخاصة شركات المضاربة، يضر نقص القوة الشرائية بصاحب رأس المال، لأنه في الحقيقة لا يسترجع إلا جزءا من حقه عندما يسترجع رأس ماله من الأوراق النقدية بالعدد، وبهذه الطريقة حصل المضاربون على أجزاء كبيرة من أموال أصحاب رأس المال. وفي الإجارة إذ جمدت كثير من الحكومات أجور العقارات، كانت نتيجة انهيار العملات أن أصبحت الأجور بعد المدة الطويلة أجورا لا قيمة لها، حتى إن الدار الكبيرة التي أُجِّرَ مثلها الآن ألف جنيه مثلا في العام لا يأخذ مالكها من مستأجرها إلا خمسين جنيها كما كان الحال عند مبتدأ عقد الإجارة قبل ثلاثين عاما. وبذلك أُطْعِم حق مالك الدار للمستأجر (فعاد المستأجر مالكا والمالك خارجا) . وكان لذلك أثره الكبير على تعطيل الحركة العمرانية والآفات الاقتصادية اللاحقة في بلدان كثيرة من العالم الإسلامي بسبب هذا الظلم الفادح، وتخوف المستثمرين من انهيار قوة العملات الورقية، وبالتالي انهيار الأجور المجمدة وما يتبع ذلك من الخسائر. ولو أن أصحاب العقارات التي جمدت أجورها التي كان قد جرى التعاقد عليها أتيح لهم أن يحصلوا على ما يوازيها من حيث القوة الشرائية ـ على ما سيأتي بيانه ـ لكان في ذلك العدل والإنصاف ولما أدى الأمر إلى الأزمات التي نشاهدها في كثير من البلدان الإسلامية. إن إلزام المسلمين أفرادا وجماعات وشعوبا بالامتناع عن الحصول على مقابل نقدي لنقص قيمة أموالهم تبعا لنقص القوة الشرائية للعملات النقدية لهو خسارة عظيمة تحيق بأموال المسلمين، وليس له مستند إلا التمسك بهذا القياس المهترئ للورق النقدي على الذهب والفضة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1274 هذا القياس على إطلاقه هو في رأينا قياس باطل: في رأيي أن قياس الورق النقدي على الذهب في إثبات حكم الربا فيهما قياس باطل. وبيان وجه البطلان يتبين واضحا إذا علمنا ما يبينه الاقتصاديون من أن الذهب فيه ثلاث خصائص تجعله ـ كما قال علماء الحنفية ثمنا خلقة ـ ويخالفه فيها الورق النقدي في اثنين منهما: الأول: أنه مقياس للقيم فهو ثابت القيمة على مدار التاريخ، كما سبق بيانه، وأما الورق النقدي فلا يصلح مقياسا إلا في المبايعات الفورية. الثاني: أن الذهب مخزن للقيم، لثبات قوته على مدار التاريخ، أما الورق فهو مخزن للقيم ولكنه مخزن مهترئ مخروق القاع، يتسرب مخزونه باستمرار. الثالث: أنه أداة للتبادل. من أجل ذلك فإننا نرى أن الاستمساك بهذا القياس على علاته، استمساك لا معنى له لأن علة القياس بكمالها غير متوفرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1275 الحلول المقترحة: المطروحة لحل هذه المشاكل الخطيرة حلان: الحل الأول: أن ينظر المؤتمر في ترك العمل بالقول الثالث المتقدم أول هذا البحث (وهو أن الأوراق النقدية أجناس ربوية قياسا على الذهب والفضة) لانتفاء علة القياس فيها، ويصار إلى القول الثاني، وهو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة والمالكية في الفلوس: أنها سلع تجارية لا مانع من التفاضل في تبادل المال منها بجنسه نقدا أو نساء، ولا مانع من تأجيره بنقد من جنسه أو من غير جنسه، أو بالذهب أو الفضة، ولا مانع من شراء الذهب بشيء منها نقدا أو نسيئة. وهذا الحل لا يحل مشكلة القروض لأن القاعدة (أن كل قرض جر نفعا فهو ربا) إلا أنه يمكن التحول بدل القروض إلى البيع المؤجل، فبدل أن يستقرض نقودا ورقية إلى سنة يشتريها بما يشاء من العرض أو النقد. ولو بجنسه كما لو اشترى ألف دينار أردني إلى سنة بألف ومائتي دينار أردني. والحل الثاني: أن يبقى حكم ربويتها لما فيها من معنى الثمنية الذي به تشبه الذهب والفضة، ولكن لتصحيح علة القياس ينبغي أن يعدَّل نقص القوة الشرائية في المعاملات المؤجلة منها، بإضافة نسبة مئوية إلى الثمن الذي تأخر دفعه، أو إلى القرض، ليستكمل البائع، أو المقرض، أو المودع في المعاملات المصرفية، مقابل ما نقص من حقه. وهذه النسبة تحدد بمعرفة أهل الاختصاص، وهي التي تسمى (نسبة التضخم) ويمكن أن تتولى الحكومات تحديدها، ويلتزم أصحاب الديون بالحساب على أساس ذلك التحديد. أما الحل الأول فهو مقتضى ما ذهب إليه جمهور علماء المسلمين في الفلوس كما تقدم، والورق النقدي أقرب حكما إلى الفلوس منه إلى الذهب، بجامع أن كلا من الورق والفلوس قيمته اصطلاحية وليست ذاتية، وأن كلا منهما عرضة لتغير القيمة ونقصها،أو للكساد النهائي في حال إلغاء بعض الحكومات له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1276 وقد تقدم بيان ذلك. وهذا الحل يقضى على جميع الإشكالات القائمة، ولا حرج فيه شرعا إذ قد تبين فساد العلة في قياس الورق على الذهب. وأما الحل الثاني فهو أقرب إلى قبول الناس، وخاصة أنهم درجوا على اعتبار النقود الورقية أموالا ربوية، فإذا أقر مؤتمركم هذا الحل فإنه يجعل من السائغ للمقرضين والمتعاملين ببيوع النسيئة ونحوها من الدفوع المؤجلة أن يحصلوا على فروق تمثل نقص قيمة أموالهم. هذا وإن الاقتصاديين الرأسماليين ينظرون إلى الفوائد على الديون المتأخر سدادها أنها تنحل إلى أربعة أجزاء: الجزء الأول: تغطية نقص قيمة العملة. والجزء الثاني: مصاريف تسجيل الدين ومتابعته. والجزء الثالث: ربح على المال يمثل الربح الحقيقي للمقرض. والجزء الرابع: مخاطر عدم السداد في بعض العمليات. فأما الجزء الأول فهو الذي نقترح أن يصدر هذا المؤتمر قرارا بمشروعيته عملا بالعدل، ورفعا للظلم، وتصحيحا للأوضاع، ومحافظة على قيمة الأموال الإسلامية في حال المبادلات المؤجلة. وأما الجزء الثاني فهو عدل أيضًا لأنه لتغطية تكلفة فعلية. وأما الجزء الثالث والرابع فيبقيان على حكم الربا (على هذا الحل الثاني) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1277 هذا الحل الثاني ليس جديدا: قد تعرض فقهاؤنا لتغير قيمة العملة من خلال تغير قيمة الفلوس في أحوال الدفوع المؤجلة وكان اختلافهم فيها على ثلاثة أقوال: القول الأول: منع صور من المداينة بها، ومن جملة ذلك أن المالكية منعوا المضاربة بالعروض قالوا ومنها الفلوس. قال الدسوقي: لأنها مظنة الكساد (1) وكذلك الشافعية على القول المقدم عندهم منعوا القراض (المضاربة) على الفلوس، قالوا لأنها عروض (2) . . وعند الحنابلة (لا تصح الشركة ولا المضاربة إلا بالذهب أو الفضة المضروبين، فلا تصح بالفلوس ولو نافقة، قالوا: لأن الفلوس كالعروض بل هي عروض) (3) . . القول الثاني: جواز فسخ عقد البيع أو عقد القرض بتغير قيمة الفلوس، وهذا مذهب أبي حنيفة كما يأتي في القول الثالث، لأنها نقود اصطلاحية، ونقص قيمتها قبل القبض تعيَّب للثمن يقتضي جواز الفسخ.   (1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/517، 519، ولكن قال الدسوقي في: 3/519، (إن انفرد التعامل بالفلوس جاز اتفاقا القرض بها) ، وقال الزرقاني: 6/215، (لا يجوز القراض بها ولعله ما لم تنفرد بالتعامل) . (2) المحلى على شرح المنهاج: 3/52 (3) شرح منتهى الإرادات: 2/322 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1278 القول الثالث: أن آخذ الفلوس قرضا، أو المشتري بها، إذا تغيرت قيمتها أو كسدت قبل قبضها، يرد قيمتها يوم القبض بالذهب أو الفضة. فلو أخذ المقترض عشرة آلاف فلس، ثم أراد ردها، ينظر قيمتها بالذهب عند قبضها، فإن كانت تساوى عشرين دينارا ذهبيا يوم قبض القرض، فإنه يرد عشرين دينارا ذهبيا، وإن كانت العشرون دينارا تساوى15 ألف فلس يوم السداد جاز أن يرد 15 ألف فلس عند من لا يقول بأن الفلوس ربوية. وهذا قول عند الشافعية (1) . . وهو قول أبي يوسف من الحنفية، وعليه الفتوى عند الحنفية على ما ذكره ابن عابدين في حاشيته (2) . . وألف ابن عابدين في هذا أيضًا رسالة سماها (تنبيه الرقود على مسائل النقود) نقل فيها أقوال الحنفية من الكتب المعتمدة عندهم وأثبت فيها أن هذا هو الراجح عندهم المفتى به رفقا بالناس (3) . ومن جملة كلامه في ذلك، قال ما نصه: (في جواهر الفتاوى قال الزاهدي: باع شيئا بنقد معلوم ثم كسد النقد في يد المشترى: يجب رده عليه، ثم يجب رد المبيع إن كان قائما، فإن كان خرج من ملكه أو استهلك يرد القيمة. ولو كان مكان البيع إجارة فإنه تبطل الإجارة ويجب على المستأجر أجر المثل. هذا كله قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: يجب عليه قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل. وقال محمد: يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس. قال القاضي: الفتوى في المهر والقرض على قول أبي يوسف. وفيما سوى ذلك على قول أبي حنيفة) (4) .   (1) المحلى على المنهاج، وحاشية القليوبي: 2/259 (2) حاشية ابن عابدين: 4/24 (3) رسالة تنبيه الرقود، ضمن مجموع رسائل ابن عابدين ص 56 (4) رسالة تنبيه الرقود، ضمن مجموع رسائل ابن عابدين ص 56. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1279 وقال ابن عابدين: (نقلا عن الغزي: في المنتقى إذا غلت الفلوس قبل القبض رخصت قال أبو يوسف: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء: ليس له غيرها. ثم رجع أبو يوسف وقال: عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع، ويوم وقع القبض. قال ابن عابدين: قوله (يوم البيع) ، أي في صورة البيع، وقوله (يوم القبض) ، أي في صورة القرض. قال: وفي البزازية معزيا إلى المنتقى: غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام أبي حنيفة، وأبى يوسف أولا: ليس عليه غيرها، وقال أبو يوسف ثانيا: عليه قيمتها من الدراهم (أي الفضة) يوم البيع ويوم القبض. وعليه الفتوى. وهكذا في الذخيرة والخلاصة بالعزو إلى المنتقى وقد نقله شيخنا في البحر وأقره. فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من (الكتب) المعتبرات فيجب أن يعول عليه إفتاءً وقضاءً لأن المفتي والقاضي عليهما الميل إلى الراجح) (1) . . ثم قال ابن عابدين نقلا عن الغزي: وقد تتبعت كثيرا من المعتبرات من كتب مشايخنا المعتمدة فلم أر من جعل الفتوى على قول أبي حنيفة، بل قالوا: به كان يفتى القاضي الإمام. وأما قول القاضي أبي يوسف فقد جعلوا عليه الفتوى في كثير من المعتبرات فليكن المعول عليه. اهـ. كلام الغزي وابن عابدين (2) .   (1) تنبيه الرقود: ص 58 (2) تنبيه الرقود: ص 59 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1280 والخلاف المذكور عندهم جار أيضًا في الدراهم التي يغلب عليها الغش. وهذا بخلاف الدراهم الفضية الخالصة، أو التي فيها غش مغلوب، فقال ابن عابدين: (فينبغي أنه لا خلاف في أنه لا يبطل البيع بكسادها ويجب على المشترى مثلها في الكساد والانقطاع والرخص والغلاء، لأنها ثمن خلقة. فترك المعاملة بها لا يبطل ثمنيتها،ولا يبطل تقومها) (1) . ومثله في أحد قولي الحنابلة كما في نص الفروع 4/203 (إن رخصت الفلوس فللمقرض القيمة، كاختلاف المكان) وفي نظم المفردات أن ابن تيمية يرى أنه في حال رخص الفلوس فإن المقترض يرد القيمة. قال ومثله الديون، كالصداق وعوض الخلع وعوض الإعتاق والغصب والصلح عن القصاص. ونص النظم: قال وجا في الدين نص مطلق حرره الأثرم إذ يحقق قال شارح المفردات: يعنى قال ابن تيمية إن الأصحاب ذكروا النص عن أحمد في القرض. قال وكذلك المنصوص عن أحمد في جميع الديون، قال الأثرم (سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل له على رجل دراهم مكسرة أو فلوس، قال: يكون له عليه بقيمتها من الذهب) (2) . . ونقل صاحب الإنصاف (5/128) ما نقله صاحب المفردات ثم لم يعترض عليها. فالقول الثالث المفتى به عند الحنفية والذي روى عن أحمد وأفتى به ابن تيمية هو ما قلناه من تعويض المقرضين والبائعين بالأجل، أو من تأخر استردادهم لحقوقهم المقدرة بالنقود الورقية عن محله. القول الرابع: أن المقرض أو المشتري لا يدفع إلا المثل عددا إن رخصت الفلوس أو غلت وكذا لو كسدت. وهو قول المالكية (3) . .   (1) حاشية ابن عابدين 4/24 (2) المنح الشافيات بشرح المفردات: ص 390 (3) الدسوقي: 3/45، 46 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1281 الفصل الثاني الزكاة في النقود الورقية على القول بأن النقود الورقية ديون على الحكومات المصدرة لها واضح أن حكمها حكم الدين. والراجح في الدين أن فيه الزكاة، والزكاة على الدائن، أي مالك الورقة النقدية. أما إن قلنا بأنها عروض، فمن المعلوم أن العروض لا زكاة فيها إلا إن كانت للتجارة، لما ورد في السنة من قول جابر ((أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع)) . وقد اختلف الفقهاء في الفلوس: فمذهب الحنفية أن الفلوس إن كانت أثمانا رائجة أو سلعا للتجارة ففيها الزكاة. كذا في الشرنبلالية (ابن عابدين 2/32) . وفي الفتاوى الهندية: الفلوس إن كانت للتجارة وبلغت مائتين (أي بلغت قيمتها مائتي درهم) ففيها الزكاة. وفي الهندية أيضًا: ولو اشترى فلوسا للنفقة فلا زكاة فيها. أما من عدا الحنفية فقد قال المالكية: كما في الشرح الكبير للدردير على مختصر خليل (1/455) (أنه لا زكاة في الفلوس النحاس) قال (وهو المذهب) وفي الدسوقي (1/499) يكون فيها الزكاة إن كانت للتجارة ومثله في البناني على الزرقاني (2/140) وفي الدسوقي (1/455) أنها إن كانت للتجارة ثم أقامت عند مالكها سنين ثم باعها بذهب أو فضة فليس فيها إلا زكاة سنة واحدة، كسائر عروض التجارة المحتكرة عند مالك. ومذهب الشافعية كذلك أن الفلوس لا زكاة في قيمتها لكن تزكي إن كانت للتجارة (1) .   (1) إمتاع الأحداق والنفوس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1282 ومذهب الحنابلة كذلك. ففي شرح المنتهي (1/401) (الفلوس ولو رائجة عروض) والعروض تجب الزكاة في قيمتها إذا بلغت نصابا إذا ملكت بنية التجارة مع الاستصحاب إلى تمام الحول. أما لو ملكها لا بنية التجارة ثم نواها لها فلا تصير لها. ـ وفي كشاف القناع ما نصه: (الفلوس كعروض التجارة فيها زكاة القيمة كباقي العروض. ولا يجزئ إخراج زكاتها منها. قال المجد: وإن كانت الفلوس للنفقة فلا زكاة فيها كعروض القنية) (1) . . فالأكثر عند جمهور الفقهاء أن الفلوس لا زكاة فيها لعينها وهو مذهب من عدا الحنفية، لكن إن اشتراها ناويا أنها للتجارة (أي للتقليب بالبيع والشراء بغرض الربح كما يفعل الصيرفي) ففيها الزكاة بالشروط التي بينت في باب زكاة عروض التجارة، من أنها لا بد أن تكون اشتريت بتلك النية، وحال عليها الحول دون أن يغير من نيته في بقائها للتجارة. بخلاف ما لو اشترى الفلوس للقنية أو النفقة. فالمتبادر أنه يلزم من اعتبار النقود الورقية عروضا كالفلوس أنه لا زكاة فيها عند الأكثريين إلا إن كانت للتجارة كالأوراق التي يتجر بها الصيرفي، فأما إن كانت للاقتناء، أو كانت مدخرة للصرف منها وقت الحاجة كما يفعل أغلب الناس فلا زكاة فيها.   (1) كشاف القناع. الرياض، مكتبة النصر: 2/235، ومثله في مطالب أولى النهى: 2/89 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1283 ونحن نميل إلى الأخذ بمذهب الحنفية في إخراج زكاة الفلوس إن كانت أثمانا رائجة فنرى وجوب إخراج الزكاة من الأوراق النقدية على الرغم من القول بأنها ليست ربوية، وأنها ما دامت أثمانا رائجة ففيها الزكاة، فإن النقود الورقية أصبحت هي مخزن القيم في العصر الحاضر وعامة الناس يستعملونها كذلك فهي رءوس أموالهم وغالبها. وأيضًا فإن الله تعالى يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [سورة التوبة: الآية 103] . ويقول: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [سورة المعارج: الآية (24،25) ] . وفي السنة النبوية قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: ((أخبرهم أن الله افترض عليهم في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)) فتؤخذ الزكاة منها وإن لم تكن ربوية. ولا تلازم بين كونها غير ربوية وبين عدم أخذ الزكاة منها، فهي ـ كالإبل مثلا ـ ليست ربوية ومع هذا يؤخذ منها الزكاة. والله أعلم. تنبيه: الآراء التي تذكر في هذا البحث هي للطرح على مؤتمر المجمع للمناقشة والنظر. وليست للإفتاء بموجبها ولا للعمل بذلك ما لم يقرها المجمع. الدكتور محمد سليمان الأشقر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1284 تغير قيمة العملة إعداد أ0 د يوسف محمود قاسم أستاذ ورئيس قسم الشريعة الإسلامية كلية الحقوق – جامعة القاهرة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وتمسك ومسك بشرعه إلى يوم الدين. اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا واجعلنا ممن اهتدى بك فهدى. ثم إن " تغير قيمة العملة " موضوع خطير جدا والكتابة فيه تحتاج إلى حذر كبير فالموضوع حديث معاصر (1) ليس فيه بخصوصه نص من كتاب أو سنة ولا أثر عن صحابي بل ولا رواية عن تابعي أو قول لأحد الأئمة المجتهدين رضي الله عنهم أجمعين. وهو أيضًا وثيق الصلة بالمعاملات المصرفية المعاصرة والتي ترتبط بحياة الناس في عقودهم وسائر معاملاتهم وما أكثر الشبهات التي تحوم حول كثير من المعاملات ذات الأثر الممتد أو بتعبير آخر حول عقود المدة أو بيوع الآجال. وأخطر من ذلك كله أن الكتابة في هذا الموضوع قد تفتح بابا كبيرا للشر فقد يبدو للبعض أن تغير قيمة العملة أو ما نلمسه في الوقت الحاضر من انهيار لقيمة النقود ربما يدعوهم إلى التوقف كثيرا أمام تحريم الربا. وهذا اخطر ما تتعرض له الأمة في دينها فالحق الذي لا مراء فيه أن الشريعة الإسلامية هي المتبوعة وليست التابعة. وعلى ذلك فلا يصح لمسلم أن يقول فلنطور فقهنا حسب أحوالنا وإنما الإيمان الصادق يوجب علينا أن نغير أحوالنا وأعمالنا إلى ما يرضي الله تعالى بتطبيق شريعته الغراء (2) نظرا لهذه المحاذير فإني أوجز القول في هذا الموضوع مركزا على أمرين هما: ثبات النقود، ولماذا تتغير قيمتها في العصر الحديث؟ والأثر الناتج عن تغير قيمة النقود.   (1) بالنسبة لمشكلة النقود الورقية التي تعانى المجتمعات المعاصرة من تدهور قيمتها. (2) فالمسلمون تابعون للشريعة الإسلامية وحاشا لله أن تكون الشريعة تابعة لأهواء الناس ورغباتهم وعندما كان المسلمون يطبقون شريعة الله كانوا هم سادة الدنيا وأصحاب الكلمة النافذة فيها ولكن لما غيروا ما كانوا عليه من طاعة الله ورسوله وحكموا بغير ما أنزل الله تغيرت أحوالهم وانقلبت أوضاعهم سنة الله التي قد خلت في عباده وصدق الله العظيم إذ يقول {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (سورة الأنفال: الآية رقم 53) إنه عدل الله في معاملة العباد فلا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم ويبدلوا سلوكهم ويقلبوا أوضاعهم ويستحقون أن يغير ما بهم مما عطاهم إياه للابتلاء والاختبار من النعمة التي لم يقدرها ولم يشكروها ومن جانب آخر فإنه يُكرِّم المخلوق الإنساني أكبر تحريم حين يجعل قدر الله به ينفذ ويجري عن طريق حركة هذا الإنسان وعمله، ويجعل التغيير القدري في حياة الناس مبنيا على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم وعملهم وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم. ومن الجانب الثالث فإن النص الكريم يلقى تبعة عظيمة تقابل التكريم العظيم على هذا الكائن – الإنسان – فهو يملك أن يستبقى نعمة الله عليه ويملك أن يزاد عليها إذا هو عرف فشكر. كما يملك أن يزيل هذه النعمة إذا هو أنكر وبطر وانحرفت نواياه فانحرفت خطاه، (في ظلال القرآن: 3/1535-1536) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1285 الفصل الأول ثبات قيمة النقود وما يؤثر فيه - الأصل أن تكون النقود ثابتة القيمة بحكم وظيفتها وبحكم التاريخ والواقع ولكنا نشاهد في زماننا تغيرا في قيمة النقود بل انهيارا في هذه القيمة فما السبب في ذلك؟ الأصل ثبات قيمة النقود: النقود هي التي تحكم معاملات الناس وتضبطها بحيث يأخذ كل ذي حق حقه فالعلاقة بين البائع والمشتري وبين المؤجر والمستأجر وكل علاقة بين متعاقدين إنما تحكمها القيمة النقدية لما يملكه كل طرف من أطراف هذه العلاقة. ولذلك فقد استقرت البشرية من قديم الزمن على اتخاذ النقود من أنفس المعادن التي يمكن تداولها بين الناس حتى تظل قيمتها ثابتة لا تغيير إذ لا يعقل أن يكون المقياس أو الضابط للتعامل شيئا غير ثابت. وبالنظر إلى ثبات قيمة الذهب والفضة فإن الناس قد اتخذوهما نقودًا من قديم الزمن وقد استقرت البشرية على ذلك القرون الطوال حتى أن كثيرا من الفقهاء يقولون: أن الذهب والفضة هما أثمان بحكم الخلقة. أي أن الله تعالى خلقهما ليكونا أثمانا وهذا هو الإمام الغزالى يقرر هذا المعنى فيقول رحمه الله: (من نعم الله تعالى (1) خلق الدراهم والدنانير وهما حجران لا منفعة في أعيانهم ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث أن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه كمن يملك الزعفران مثلا وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل وربما يستغني عنه ويحتاج إلى الزعفران فلابد بينهما من معاوضة ولابد في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ولا مناسبة بين الجمل والزعفران حتى يقال يعطى منه مثله في الوزن أو الصورة وكذا من يشتري دارا بثياب أو دقيقا بحمار فهذه الأشياء لا تناسب فيها فلابد أي أن الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي فخلق الله الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما فيقال: هذا الجمل يسوى مائه دينار وهذا القدر من الزعفران يسوى مائة فهما من حيث انهما متساويان بشيء واحد إذن متساويان وإنما أمكن التعديل (2) بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحا ولم يتقض في حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر.   (1) يتكلم الإمام الغزالي رحمه الله عن هذا الموضوع في مقام استدلاله على أن من يستعمل شيئا من نعم الله تعالى في غير طاعته فقد كفر بهذه النعمة. (2) إحياء علوم الدين: 12/2219-2220 طبعة الشعب. ثم قال رحمه الله بعد ذلك: (وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما إذ لا غرض في عينهما، فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودًا على خلاف وضع الحكمة) : ص 2221. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1286 فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل ولحكمة أخرى وهي التوسل بهما إلى سائر الأشياء لأنهما عزيزان في أنفسهما ولا غرض في أعيانهما ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء لا كمن ملك ثوبا فإنه لم يملك إلا الثوب فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب المطعم في الثوب لأن غرضه في دابة مثلا. فاحتيج إلى شيء هو صورته كأنه ليس بشيء، وهو معناه كأنه كل الأشياء والشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها كالمرآة لا لون لها وتحكى كل لون فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى كل غرض وكالحرف لا معنى له في نفسه وتظهر به المعاني في غيره فهذه هي الحكمة الثانية) ولذلك فلا يتصور أن تثور أدنى مشكلة بل ولم تكن البشرية في معظم عصورها تعرف عما يسمى تغير قيمة النقود لأن النقود بذاتها ثابتة كما خلقها الله لذلك واتخذها الناس بحكم الخلقة هكذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1287 ظهور النقود الورقية: وبمرور الزمن توسعت العلاقات التجارية وأخذت تتجاوز نطاق الأفراد إلى مجال المعاملات الدولية ذات الصفات التجارية الكبرى ونظرا لصعوبة نقل الذهب والفضة بكميات كبيرة من دولة إلى أخرى أو من مكان بعيد إلى آخر فكر التجار في إصدار أوراق تحمل تعهدا بالوفاء بالتزاماتهم النقدية مع المتعاملين معهم في الوقت الذي يؤيدون فكانت هذه الأوراق النقدية ضمانا ماليا لحقوق المتعاملين، فظهرت بذلك النقود الورقية وأصدرت البنوك أوراق البنكنوت تسهيلا للمعاملات بل أن النقود الورقية منذ منتصف القرن السابع عشر الميلادي أصبحت منافسا قويا للمسكوكات السلعية النقود المعدنية وإن بقى النوع الأخير من النقد متداولا في معظم البلدان حتى الحرب العالمية الأولى وبعد إعلان هذه الحرب سنة 1914فرضت معظم الدول السعر الإلزامي للنقود الورقية أخذة في سحب الذهب من التداول إما لاستعماله في شراء عتاد الحرب وإما للاحتفاظ به رصيدا للنظام النقدي لا يستعمل إلا لضرورة تثبيت قيمة النقد في الخارج وهكذا اختفى الذهب المسكوك من التداول النقدي منذ ذلك التاريخ (1) وصارت الأوراق النقدية المصدرة من الدولة في صورة نقود وهي ليست في الواقع ذات قيمة في حد ذاتها لكن قيمتها في اعتماد الدولة لها فصارت ملزمة للناس بديلة عن الذهب والفضة فهي بمنزلتهما وتحل محلهما بحكم القوانين السارية في كل دولة (2)   (1) الأستاذ الدكتور محمد زكى الشافعي: مقدمة في النقود والبنوك: ص 49 طبعة 1982. (2) وذلك على الرغم من أن الذهب والفضة أثمان بحكم الخلقة أما لنقود الورقية فهي أثمان بحكم القانون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1288 وهذا الحكم الشرعي الذي لا يصح غيره إن شاء الله أما القول بأن النقود الورقية سندات ديون على الجهة التي أصدرتها للتعهد المسجل بقيمتها لحاملها عند الطلب فإنه قول مخالف للواقع لأن كثيرا من الدول ألغت هذا التعهد وحتى بالنسبة للدول التي لم تصدر قرارا بإلغائه لم يعد لهذا التعهد أدنى أثر من الناحية العملية فهو مجرد " نقش على ورق " وندعوا أصحاب هذا القول أن يتقدم أحدهم بورقية نقدية إلى الجهة صاحبة التعهد: بنك مركزي أو مؤسسة نقد مثلا " طالبا الوفاء بقيمتها ذهبا فإن وجد من يرد عليه فليخبرنا وإن وجد من يضحك عليه فلا يخبرنا وأما القول بأن النقود الورقية عرض من عروض التجارة فالرد عليه من وجهين: الأول أن عروض التجارة تقوم بالنقود الورقية فكيف إذن يقوم الشيء بنفسه؟ هذا غير متصور. الثاني: أنه يؤدي إلى نتائج في غاية الخطورة منها هدم القاعدة الشرعية في أحكام الربا ومنها هدم الركن الثالث من أركان الإسلام وهي فريضة الزكاة ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا يصح القول بأن النقود الورقية تأخذ حكم الفلوس لأننا نرى والله أعلم أن دور الفلوس بجانب الذهب والفضة كان دورا جانبيا إلى أبعد الحدود أما النقود الورقية فلم تظهر إلا لكي تحل محل الذهب والفضة فمحلها إذن الدور الرئيسي الفعال بل يكاد يكون هو الدور الوحيد في هذا الزمن فقد أصبحت كل دولة تعطى نقدها قوة إلزامية واحدة حتى أن النقود المعدنية المتداولة الآن والتي تتمثل في وحدات صغيرة من النقد تراها مقدرة قانونا بالقيمة الثابتة أصلا للنقود الورقية فقروش الجنيه المصري تابعة له ومرتبطة به وقروش الريال السعودي تابعة له ومرتبطة به وفلسات الدينار الكويتي تابعة له ومرتبطة به وهكذا القول في سنتات الدولار الأمريكي وغيره من العملات الأخرى وأخيرا هناك من قال: إن النقود الورقية بدل عن الذهب والفضة وللبدل حكم البدل منه مطلقا وهذا أقرب الأقوال إلى الصواب دون شك ولعل كلمة مطلقا هي الملحوظة الوحيدة على هذا القول إذ لا ريب أن النقود الذهبية ذهب وأن النقود الفضية فضة وأن النقود الورقية ورق " بفتح الراء " فالنقود الذهبية والفضية أثمان بحكم الخلقة كما سبق لنا البيان أما النقود الورقية فهي نقود بحكم القانون وقد أشار فضيلة الدكتور عبد الله بن سليمان بن مينع إلى هذا القول مبينا أن أصحابه بنوه على أن النقود الورقية إن كان له غطاء كامل من الذهب فلها حكم الذهب وإن كان غطاء كامل من الفضة فلها حكم الفضة وحيث إن الوقع خلاف ذلك وإن غالب الأوراق النقدية مجرد أوراق وثيقية قيمتها مستمدة من سن الدولة التعامل بها وتلقى الناس إياها بالقبول وإن القليل المغطى لا يلزم أن يغطى بالذهب والفضة بل قد يغطى بغيرهما من عقار أو أوراق مالية فقد ظهر لنا أن هذه النظرية تفتقر إلى ما يسندها من دنيا الواقع. يراجع في عرض هذه الأقوال ومناقشتها والرد عليها: فضيلة الدكتور عبد الله بن سليمان بن منيع: الورق النقدي: ص 45 – 81 طبعة سنة 1404 هـ. فقد جاء في المدونة الكبرى في باب التأخير في صرف الفلوس: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1289 قلت: أرايت إن اشتريت فلوسا بدراهم فافترقنا قبل أن نتقايض قال: لا يصلح هذا في قول مالك وهذا فاسد قال لي مالك في الفلوس لا خير فيها نظرة بالذهب ولا بالورق ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون له سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة (1) وجاء في مجموع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل بها ولهذا كانت أثمانا والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت (2) وقد سبق أن أشرنا إلى عبارات الغزالي وابن خلدون (3) رحمهما الله تعالى ولذلك فلا نستغرب إذا وجدنا هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية تبحث هذا الموضوع وتؤكد أن الورق المتداول الآن يعتبر نقدا قائما بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة (4) وقد استعرض مجمع الفقه الإسلامي هذا الموضوع واصدر القرار رقم (6) بالدورة الخامسة المنعقدة في مقر رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة فيما بين 8-16 ربيع الثاني 1402هـ وقد جاء في هذا القرار.   (1) المدونة الكبرى – المجلد الثالث: ص 90-91 طبعة سنة 1398 هـ (2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية " 19/251 طبعة مطابع الرياض الورق النقدي: ص 20-21 (3) عند الكلام عن ثبات قيمة النقود (4) قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية رقم (10) بدورتها الثالثة المنعقدة بتاريخ 1/4/1393 هـ 17/4/1393 هـ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1290 أولا: إنه بناء على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة وبناء على أن علة جريان الربا فيهما هو مطلق الثمنية في اصح الأقوال عند فقهاء الشريعة وبما أن الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضة وإن كان معدنهما هو الأصل وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمنا وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها وبها تقوّم الأشياء في هذا العصر لاختفاء التعامل بالذهب والفضة وتطمئن النفوس بتمولها وادخارها ويحصل الوفاء والإبراء العام بها رغم أن قيمتها ليست في ذاتها وإنما في أمر خارج عنها وهو حصول الثقة بها باعتبارها وسطا في التداول وذلك هو سر مناطها بالثمنية وحيث إن التحقيق في علة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية وهي متحققة في العملة الورقية ولذلك كله فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي يقرر أن العملة الورقية نقد قائم بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة فتجب الزكاة فيها ويجري الربا عليها بنوعيه فضلا ونساءً كما يجري ذلك في النقدين من الذهب والفضة تماما باعتبار الثمنية في العملة الورقية قياسا عليهما وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها (1)   (1) ومن تمام هذا القرار: ثانيا: يعتبر الورق النقدي نقدا قائما بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان كما يعتبر الورق النقدي أجناسا مختلفة تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس وأن الورق الأمريكي جنس وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته وبذلك يجري فيها الربا بنوعية فضلا ونساء كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرهما من الأثمان وهذا كله يقتضي ما يلى: أ- لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة مطلقا فلا يجوز مثلا بيع ريال سعودي بعملة أخرى متفاضلا نسيئة بدون تقايض. ب- لا يجوز بيع الجنس الواحد من العملة الورقية بعضه ببعض متفاضلا سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد فلا يجوز مثلا بيع عشرة ريالات سعودية ورقا بأحد عشر ريالا سعوديا ورقا نسيئة يدا بيد. ج- يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقا إذا كان ذلك يدا بيد بيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ذهبا كان أو فضة أو أقل من ذلك أو أكثر وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة ريالات سعودية أو أقل من ذلك أو أكثر إذا كان يدا بيد ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاث ريالات سعودية ورق أو أقل من ذلك أو أكثر يدا بيد لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة. ثالثا: وجوب زكاة الأوراق النقدية إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة. رابعا: جواز جعل الأوراق النقدية رأس مال في بيع السلم والشركات والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1291 ما يؤثر في ثبات القيمة: عندما ظهرت أوراق البنكنوت ذات التعهد عند الطلب لم تكن هنالك مشكلة حول قيمة العملة لأن هذه الأوراق توجب على البنك الذي أصدرها تعهدا بأن يدفع عند الطلب القيمة الذهبية التي تمثلها تلك الورقة فهي إذن تحل محل الذهب في سهولة نقلها وقيمة الذهب محفوظة لكن عندما فصلت كثير من الدول بين غطائها من الذهب وبين أوراقها النقدية وأخذت البنوك المركزية أو مؤسسات النقد تصدر أوراقها النقدية خالية من التعهد عند الطلب صارت الورقة النقدية مجردة من غطائها الذهبي ولا تستمد قوتها إلا من قوة الدولة التي أصدرتها ولذلك فإنه إذا ما اهتز اقتصاد دولة ما فإن عملتها تهتز تبعا لذلك ولما كانت الحروب ذات اثر سيئ جدا على الاقتصاد فإنه بقيام الحرب العالمية الثانية بذات القوة الشرائية للنقود تتناقص شيا فشيئا إلى أن أصبحت في كثر من الدول النامية متدنية غاية التدني بل هي في الواقع متدهور أو منهارة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1292 أسباب تدهور قيمة النقود في العصر الحالي: يعبر الاقتصاديون المعاصرون عن انخفاض القوة الشرائية للنقود بتعبير التضخم وهو في صورته الغالبة: (ارتفاع متواصل في الأسعار إنما يتولد عن زيادة حجم تيار الإنفاق النقدي بنسبة أكبر من الزيادة في عرض السلع والخدمات) (1) وبنظرة موضوعية إلى واقع الدول المسماة بالنامية نجدها غرقى إلى أذنيها في براثن التضخم وذلك للأسباب الآتية: 1- التعامل الربوي (2) الذي هو عبارة عن زيادة في النقود بدون عمل مثمر فالنقود في ظل النظام الربوي تلد نقودا بغض النظر عن الإنتاج وهذه الزيادة في حجم النقود هي بذاتها زيادة في تيار الإنفاق النقدي تفوق كثيرا الزيادة في عرض السلع والخدمات (3) 2- قلة الإنتاج وضعف الاقتصاد وكلا التعبيرين يغنى عن الآخر فإذا تواكل الناس وقصروا في أعمالهم أدى ذلك لا محالة إلى انهيار اقتصادي في هذا الإقليم الذي يقيم فيه هؤلاء الناس وحيث لا إنتاج فلا تقدم في الاقتصاد فيزيد الإنفاق النقدي من غير مقابل في الخدمات فترتفع الأسعار وتتناقص القوة الشرائية للنقود، وواقع الدول النامية يؤكد ارتباط كل من السببين بالآخر فالدول ضعيفة الإنتاج تغطى احتياجاتها بالقروض الربوية هكذا تتضاعف عوامل التضخم من الوجهين المذكورين. 3- أضف إلى ذلك وفي كل عام تقريبا عند النظر في الموازنة العامة تجد الدولة النامية نفسها في مأزق لا مخلص لها منه إلا بأن تطبع ملايين وربما مليارات من النقود الورقية بدون غطاء ذهبي هي تحدث زيادة رهيبة في حجم الإنفاق النقدي دون أي مقابل في السلع والخدمات فقط لمجرد أن تخفف الدولة من بعض مواقفها الحرجة بجانب التزاماتها المدينة التي تفوق كل حد. وهكذا صح ما قلنا أولا من أن القوة الشرائية للنقود في كثير من الدول وعلى الأخص الدول النامية لم تنخفض فقط ولكنها تدنت غاية التدني بل وتدهورت إلى أبعد الحدود.   (1) شافعي – المرجع السابق: ص 135 وجاء في هذا الموضع: فلا الزيادة في كمية النقود وحدها ولا الزيادة في تيار الإنفاق النقدي من حيث هي بمؤدية بالنظام الاقتصادي لا محالة إلى التضخم فقد يعوض انخفاض سرعة تداول النقود عن الزيادة في كمية النقود بحيث يبقى الحجم الكلى لتيار الإنفاق النقدي على حاله وبعبارة أخرى قد تأتى الزيادة في كمية النقود مصحوبة بعزوف من جانب الأفراد والمشروعات عن الإنفاق بما يترتب على ذلك من عدم حدوث تغيير يعتد به في حجم الإنفاق النقدي. ويفسر هذا ما منيت به السلطات النقدية في الولايات المتحدة من فشل عندما حاولت رفع الأسعار وإنعاش الأحوال الاقتصادية عن طريق زيادة كمية النقود خلال الأزمة المالية الأخيرة. (2) وهذا ملحوظ بصورة ظاهرة في الدول المسماة بالنامية حيث تثقل الديون كاهل هذه الدول فضلا عن الربا الفاحش الذي أصبح عبئا رهيبا لا طاقة لهذه الدول به (3) وهذا ملحوظ بصورة ظاهرة في الدول المسماة بالنامية حيث تثقل الديون كاهل هذه الدول فضلا عن الربا الفاحش الذي أصبح عبئا رهيبا لا طاقة لهذه الدول به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1293 الفصل الثاني أثر تغير قيمة العملة تبدو الأهمية العملية لأثر تغير العملة في العقود الآجلة وأظهر هذه العقود بالنسبة لتلك الأهمية القرض والبيع الذي تأجل دفع ثمنه. والمرجع الوحيد الذي أمكننا الاطلاع عليه في هذا الموضوع: هو رسالة العلامة ابن عابدين الفقيه الحنفي المعروف حيث كتب رحمه الله رسالة أسماها: " تنبيه الرقود على مسائل النقود " (1) وقد جمع في هذه الرسالة ما وصل إليه من كلام الأئمة رضوان الله عليهم. وقد بدا كلامه عن البيع المؤجل وتعرض من خلاله إلى أثر تغير العملة في حالة الاستقراض أيضًا. ثم ختم رسالته ببحث الأوامر السلطانية التي تصدر بتغيير قيمة بعض العملات. وفي هذا الفصل نحاول بحث أثر تغير العملة في الظروف العادية ثم نتكلم عن التغير بناء على قرار تصدره الدولة وذلك في مبحثين على التوالي: المبحث الأول أثر تغير العملة في الظروف العادية مقصودنا بالظروف العادية تلك الظروف التي تتغير فيها قيمة العملة دون صدور قرار رسمي من الدولة في هذا الشأن. فهو إذن تغير تلقائي حسب قوة العملة مرتبط باقتصاد الدولة ومدى ما تملك من ثروات وهذه الحالة هي التي بدأ ابن عابدين كلامه عنها في رسالته المشار إليها وهو لم يتكلم عن تغير قيمة النقود عموما وإنما تكلم عن الفلوس والدراهم الغالبة الغش. فإذا أبرم عقد البيع بنقد بلد من هذه الفلوس أو هذه الدراهم ولم يدفع الثمن حتى بطل التعامل بهذه الفلوس وأصبحت غير رائجة في هذا البلد فإن البيع يفسد لأن الثمن قد هلك أما إذا كانت الفلوس رائجة لكن انتقصت فيمتها فإن البيع لا يفسد لأن الثمن لم يهلك والحكم عند أبي حنيفة أن المشتري يدفع الثمن المتفق عليه وعند أبي يوسف أنه يدفع قيمته يوم القبض وكذلك الحال عند الانقطاع (2)   (1) مجموعة رسائل ابن عابدين "2/57-67 (2) المراد بالانقطاع: انقطاع الفلوس بأن أصبحت غير موجودة في أيدي الناس بحيث لا يستطيع المشتري أو المستقرض الحصول عليها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1294 ثم لخص ابن عابدين حكم انقطاع الفلوس ورخصها وغلائها في العبارة الآتية حيث يقول (واعلم أن في الانقطاع قولين: فساد البيع كما في صورة الكساد. والثاني أنه يجب قيمة المنقطع في آخر يوم انقطع وهو المختار وكذا في الرخص والغلاء قولان: الأول / ليس له غيرها والثاني: له قيمتها يوم البيع وعليه الفتوى) (1) فيجب أن يعول عليه إفتاءً وقضاءً لأن المفتي والقاضي واجب عليهما الميل إلى الراجح من مذهب إمامهما ومقلدهما ولا يجوز لهما الأخذ بمقابله لأنه مرجوح بالنسبة إليه (2) . وقد أكد ابن عابدين أن الخلاف المشار إليه لا يجري في الذهب والفضة وهو في هذا ينقل عن علماء الحنفية قولهم: (وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جار حتى في الذهب والفضة كالشريفي والبندقي والمحمدي والريال فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع وهذا كالريال الفرنجي والذهب العتيق في زماننا فإذا تبايعا بنوع منهما ثم غلا أو رخص بأن باع ثوبا بعشرين ريالا أو استقرض ذلك يجب رده بعينه غلا أو رخص (3) . ومن هذا يظهر لنا الفارق الكبير بين الذهب والفضة من ناحية وبين الفلوس والدراهم المغشوشة (أو الغالبة الغش) من ناحية أخرى ذلك أن الذهب والفضة أثمان بحكم الخلقة فلا مجال للتغير بشأنهما (4) وهذا بخلاف الفلوس ونحوها فإنها ليست كذلك وعلى حد عبارة ابن عابدين رحمه الله: (لأن الفلوس والدراهم الغالبة الغش أثمان بالاصطلاح لا بالخلقة فإذا انتفى الاصطلاح انتفت المالية) (5) .   (1) ابن عابدين المرجع السابق " ص 60. (2) ابن عابدين المرجع السابق " ص 60. (3) ابن عابدين المرجع السابق: ص 64 (4) فعلى مدى أربعة عشر قرنا من الزمان لا تكاد تجد تغيراً يذكر بالنسبة للدينار الذهبي (5) المرجع السابق: 2/64 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1295 تغير قيمة العملة: لم يكن في عهد ابن عابدين عملة ورقية كما هو معروف ولا شك أن العملة الورقية تتغير قيمتها بالانخفاض غالبًا وكثيرًا ما تتدهور هذه القيمة إلى أبعد الحدود كما سبق أن بينا. ونحاول هنا أن نبحث عن حكم تغير العملة الورقية في الظروف العادية كما هو موضوع المبحث. وإذا ما أردنا تطبيق هذه القواعد على تغير العملة الورقية فإننا نفصل القول على النحو الآتي: أولا: بالنسبة لعدم رواج العملة أو انقطاعها: فهذا غير وارد بالمرة في هذا العصر (1) إذا لا بد في كل دولة من عملة نقدية معتمدة فيها يلتزم رعاياها بالتعامل بها. وحتى في الظروف الخاصة لبعض الدول التي تجد فيها الدولة نفسها في حاجة إلى إلغاء ورقة نقدية معينة فإنه توجد بالضرورة أوراق نقدية أخرى يتعامل بها الناس أو تصدر الدولة ورقة نقدية أخرى بديلة وكذلك عندما يرى البنك المركزي أو مؤسس النقد أن ورقة نقدية تكاد تختفي من أيدي الناس أما لاستهلاكها أو لاختفائها فإن البنك أو المؤسسة تسارع بإصدار مزيد من هذه الورقة تبعًا لحاجة التعامل التي تقدرها. ثانيا: أما بالنسبة لتغير قيمة الورقة النقدية فهذا ما تعاني منه المجتمعات المعاصرة وعلى الأخص في الدول النامية. وما نقله ابن عابدين رحمه الله عن أئمة الحنفية من أن في رخص الفلوس قولين: ليس له غيرهما. أولهما قيمتها من الذهب عند العقد وعليه الفتوى هذان القولان هما في الفلوس أو الدراهم الغالبة التي ولا تزال عبارة ابن عابدين أمامنا حيث قال: (وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف يجرى في الذهب والفضة) وقد يقال: أنك قد انتهيت في الفصل السابق إلى أن النقود لورقية تحل بالضرورة محل الذهب والفضة وتأخذ نفس الحكم وعليه فلا يجوز الأخذ بمذهب أبي يوسف في انخفاض العملة الورقية لأنها بديلة عن الذهب والفضة. والذي يظهر لي - والله أعلم - أن النقود الورقية وإن كانت بديلا عن الذهب والفضة، ولكن ليس ذلك على إطلاقه. وإذا كان الحنفية يقولون إن الذهب والفضة أثمان بحكم الخلقة والفلوس أثمان بالاصطلاح فإننا نقول إن النقود الورقية أثمان بحكم القانون الملزم فهي إذن تأخذ حكم الذهب والفضة في الثمنية وسائر الالتزامات الشرعية ولكن نظرا لأنها ليست كذلك بحكم الخلقة فإن ذلك يدعونا إلى الاستعانة بالله تعالى والتفكير مليا لعله سبحانه يوفقنا إلى الحكم الشرعي الذي يرضيه. وبناء على ما تقدم وأخذا في الاحتياط فإنى أرى - والله أعلم - التفرقة بين حالتين:   (1) القرن الخامس عشر الهجري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1296 الحالة الأولى – الوفاء في الموعد المتفق عليه: إذا أبرم عقد بيع بثمن مؤجل (1) وحدد الطرفان موعدا لدفع الثمن أو إذا اقترض شخص من آخر مبلغا معينا وتحدد للوفاء به موعد معين ثم قام المدين (بالثمن أو بالقرض) بوفاء ما عليه في الموعد المحدد فإنني أرى - والله أعلم - أنه لا ينبغي أن تثار مشكلة تغير قيمة العملة في هذه الحالة لأن الوفاء تم حسب الاتفاق فانتهى الالتزام. ولا يقال إن المدة قد تكون طويلة وانخفاض العملة في هذه الحالة قد يكون ضارا بالدائن لأننا نقول: أن الدائن نفسه هو الذي حدد الموعد (2) ورضي الطرفان بذلك سلفا ومعروف لدى الناس في هذا الزمان الارتفاع الجنوني في الأسعار الذي هو في حقيقته تغير قيمة العملة فالدائن يعرف ذلك تماما وإذن فلا داعي لأن تثير مشاكل حيث لا إشكال.   (1) حسب القواعد الشرعية (2) تبعا للغالب من الأمور فالطرف القوى هو الذي يتحكم في تحديد الموعد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1297 الحالة الثانية – عدم الوفاء في الموعد المحدد: أما إذا تخلف المدين عن الوفاء في الميعاد المحدد فإن ذلك يستدعي أن نفرق بين صورتين: (أ) إذا كان عدم الوفاء تعذرا قهريا فإن الحكم هنا واضح بنص القرآن الكريم حيث يقول الله سبحانه {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1) . فالدائن مأمور بأنظار المدين المعسر إلى حين اليسار بل ومدعو إلى التنازل عن أصل الدين صدقة لوجه الله تعالى لقوله جل شأنه {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) .   (1) سورة البقرة: الآية 280 (2) سورة البقرة: الآية 280 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1298 (ب) أما إذا كان المدين قادرا على الوفاء ولكنه يماطل فهو ظالم بنص الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((مطل الغنى ظلم)) (1) وهو مسئول عن هذا الظلم في الدنيا والآخرة ولاشك أن مسئوليته في الآخرة موكولة إلى الله تعالى وحده. وأما المسئولية الدنيوية فقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته)) (2) . والمراد من ((ليّ الواجد)) التواؤه ومماطلته بالرغم من أنه يجد ما يسدد به ويدفع منه لصاحبه فهذا الموقف منه يحل عرضه وعقوبته وقد فسر البخاري رحمه الله العرض بأن يقول: أنه مطلني، أو لم يعطني حقي أو أكل مالي إلى غير ذلك بمعنى أن يذكر الظلم الذي وقع منه والتعنت في الوفاء والطرق الملتوية التي سلكها أو حاول سلوكها معه في خصوص ما عليه من دين إذ المظلوم لا يجوز أن يذكر ظالمه إلا بالنوع الذي ظلمه دون غيره (3) . وأما عن عقوبته فالمراد منها أن القاضي له أن يعزره لامتناعه عن الوفاء مع قدرته عليه وهذا التعزير قد يصل إلى حبسه (4) . وعلى ذلك فأرجو ألا يكون هنالك مانع من الحكم عليه بتعويض الدائن عن الأضرار التي لحقت به وعلى الأخص في هذه الصورة التي معنا حيث تسبب المدين المماطل في إلحاق الضرر بالدائن حيث انخفضت قيمة العملة وانتقص دون شك حق الدائن.   (1) أخرجه الشيخان والأربعة (2) أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي وصححه الحاكم (3) لقوله سبحانه {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} (4) سبل السلام للصنعاني 3/55 طبعة سنة 1369 هـ وهو دليل تمسك به القائلون بإباحة حبس المدين المماطل بلا عذر حتى يقضي ما عليه من دين وأجاز جمهور الفقهاء للحاكم أن يحجر عليه وأن يبيع ماله رغما عنه لسداد ما عليه من ديون غير أن الفقهاء اختلفوا حول القدر الذي يصير به المماطل فاسقا فذهب الجمهور إلى أنه لا يفسق إلا إذا ماطل بما قيمته عشرة دراهم قياسا على نصاب السرقة وذهب الهادوية وبعض المالكية والشافعية إلى أنه يصير فاسقا بمماطلته في أداء ما يقل عن ذلك إلا أن فريقا من هؤلاء اشترط تكرار المماطلة حتى يصير فاسقا (المرجع السابق نفس الموضع) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1299 المبحث الثاني تغير قيمة العملة بقرار من الدولة وهذه الحالة أيضًا تناولها ابن عابدين رحمه الله تعالى فقال: (ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض النقود الرائجة بالنقص واختلف الإفتاء فيه والذي استقر عليه الحال الآن (1) : دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينا كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال أفرنجي أو مائة ذهب عتيق) (2) . (أو دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد إذا لم يعين المتبايعان نوعا والخيار فيه للدافع كما كان الخيار له وقت العقد) (3) . وهو رحمه الله يفرق في هذا النص بين أمرين: الأمر الأول: إذا اتفق الطرفان المتبايعان أو المقرض والمقترض على الوفاء بعملة معينة فإنه يجب دفع النوع الذي وقع عليه العقد. فلو كان الثمن مائة جنيه مصري أو ثلاثمائة ريال سعودي فإنه يجب الالتزام بما اتفق عليه الطرفان بغض النظر عما صدر من أوامر أو قرارات بتخفيض قيمة الجنيه أو الريال. الأمر الثاني: إذا لم يحدد المتعاقدان عملة معينة فإن الخيار هنا للدافع (المشتري أو المقترض) حيث يجوز له الوفاء بأي عملة شاء. والواقع الآن (4) أن هذه الحالة التي تكلم عنها ابن عابدين لا وجود لها في زماننا – أوائل القرن الخامس عشر الهجري –.وإذا كان ابن عابدين قد تلكم عنها فما ذلك إلا إنها سائدة ومنتشرة في عهده رحمه الله (5) . فقد كان الاتفاق يتم على بيع سلعة بمائة جنيه مثلا دون بيان نوع هذا الجنيه هل هو شريفي أو محمدي أو بندقي (6)   (1) منتصف القرن الهجري الثالث عشر فقد توفي ابن عابدين رحمه الله عام 1252 هـ (2) ابن عابدين المرجع السابق: ص 66 (3) ابن عابدين المرجع السابق: ص 66 (4) وهذا (الآن) يختلف عن (آن) ابن عابدين رحمه الله فنحن نتكلم عن زماننا وهو أوائل القرن الهجري الخامس عشر. (5) فقد كانت النقود في عهده كثيرة ومتعددة ومختلفة الأشكال والمقادير ولعل التعامل في بعض صوره قد يكون محددا بحيث يتفق الطرفان على تحديد نوع العملة التي يتم الدفع بها مستقبلا بالنسبة للعقود الآجلة مثل البيع المؤجل الثمن ومثل القرض أيضًا. لكن قد يأخذ التعامل صورة أخرى يتفق البائع والمشتري على عقد البيع ويذكران ثمنا محددا مائة ريال دون تحديد نوع هذا الريال أو مائة جنيه من غير بيان نوع هذا الجنيه. (6) فقد كان القرن التاسع عشر ومن باب أولى القرون السابقة له يشهد فوضى ضاربة أطنابها في النظام النقدي بالنسبة لكثير من دول الشرق ومنها مصر بطبيعة الحال نظرا لانتشار التعامل بخليط غير متجانس من المسكوكات الفضية والذهبية وهو ما كان منتشرا في مصر بصورة واضحة حيث كان بعض هذه المسكوكات مصريا وأغلبها نقود أجنبيه تتفاوت فيما بينها تفاوتا ملحوظا فيما تعلق بالوزن والعيار. أ0د محمد زكي شافعي: مقدمة في النقود والبنوك ص 177 طبعة سنة 1982. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1300 .. وقد يصدر بعد إبرام عقد البيع (هذا – المؤجل الثمن) أمر سلطانى بخفض نوع معين قرشين ونوع آخر ثلاثة قروش ونوع ثالث خمسة قروش. وفي هذه الحالة يلجأ الدافع إلى السداد بالنوع الذي انخفض خمسة قروش مبالغة في الإضرار. والذي انتهى إليه العمل في عهد ابن عابدين بالنسبة لهذه الحالة هو الصلح على الأوسط. ولذلك فقد - ساق بعد العبارة التي نقلناها عنه فيما تقدم قوله: (ولكن الأول (1) ظاهر سواء كان بيعا أو قرضا بناء على ما قدمنا، وأما الثاني (2) فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت فبعض الأنواع جعله أرخص من بعض فيختار المشتري ما هو أكثر رخصا وأضر للبائع فقد ينقص نوع من النقود قرشا ونوع آخر قرشين فلا يدفع إلا ما نقص قرشين ... وهذا مما لا شك في عدم جوازه (3) .   (1) أي الأمر الأول الذي أوضحناه في أول هذا المبحث وهو الخاص باتفاق الطرفين على تحديد نوع العملة التي يجب الوفاء بها مستقبلا (2) وهو الأمر الثاني الذي يتعلق بحالة إبرام عقد البيع وتأجيل الثمن دون تحديد نوع العملة التي يتم بها الوفاء (3) ثم يقول ابن عابدين بعد ذلك: (وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأفقههم وأورعهم فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من الضرر وأنه يفتى بالصلح حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد. فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد وإن امتنع البائع لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته أما في هذه الصورة فلا لأنه ظهر أنه يمتنع عن قصد إضراره ولا سيما إذا كان المال مال أيتام أو مال وقف فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به من اختيار الأنفع له فالصلح حينئذ أحوط خصوصا والمسالة غير منصوص عليها بخصوصها فإن المنصوص عليه إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش كما علمناه مما قدمناه فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصا لا الأقل وإلا الأكثر كي لا يتناهي الضرر على البائع أو على المشتري) ، المرجع السابق: ص 66 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1301 ثم بين ابن عابدين السبب الذي من أجله اختار الحل الوسط فقال: (وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الإضرار كما قلنا وفي الحديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) . ولو تساوى رخصها لما قلنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد كأن صار ما قيمته مائة قرش من الريال يساوى تسعين وكذا سائر الأنواع. أما إذا صار ما قيمته مائة من نوع يساوي تسعين، ومن نوع آخر خمسة وتسعين، ومن آخر ثمانية وتسعين فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوي التسعين بمائة فقد اختص الضرر به وإن ألزمنا المشتري بدفعه بتسعين اختص الضرر به فينبغي الصلح على الأوسط) (1) .   (1) مجموعة رسائل ابن عابدين: 2/66-67 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1302 صدور قرار من الدولة بتخفيض عملتها: قد تجد الدولة نفسها في حاجة إلى تغيير قيمة عملتها (1) ، فإذا ما أصدرت قرارا بتخفيض قيمة عملتها الورقية، فما أثر هذا القرار على عقود المدة، وبعبارة أخص على عقدي القرض والبيع بثمن مؤجل؟ ما ذكره ابن عابدين (2) عن فقهاء المذهب الحنفي يوجب القول بضرورة الالتزام بنفس المقدار المتفق عليه في العقد بغض النظر عن القرار الصادر بتخفيض قيمة العملة. ونعيد الإشارة إلى عبارة ابن عابدين التي تقول: (والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينا) (3) . وكل عقد يبرمه الناس في هذا الزمان - أوائل القرن الخامس عشر الهجري- لا يتصور أن يكون صحيحا إلا ببيان نوع العملة التي يكون بها الوفاء ومقدارها. وحتى إذا تم الاتفاق بين الطرفين على الثمن المؤجل وقدره عشرة آلاف جنيه فالمفروض أنها جنيهات مصرية مادام المتعاملان مصريين وأبرما العقد في مصر. وإذا ما اتفق سعوديان على إبرام صفقة بثلاثين ألف ريال فالمفروض أنها ريالات سعودية. وينبني على ما قرره فقهاء المذهب الحنفي من أن تحديد نوع العملة يوجب الالتزام بدفع المقدار المتفق عليه منها بغض النظر عن القرارات الصادرة بتغيير قيمة العملة.   (1) وفي الغالب أن يكون التغير بخفض قيمة هذه العملة ويندر هذه العملة أن يكون برفع هذه القيمة. (2) وهو ما بيناه في الفقرات السابقة (3) المرجع السابق: ص 66 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1303 لكن لا بد لنا من مراعاة الحالتين الآتيتين: الحالة الأولى – الوفاء في الموعد المتفق عليه: ما جاء بالفقرة السابقة ينبغي العمل به - فيما يظهر لي والله أعلم - إذا قام المدين بأداء ما عليه في الوقت المتفق عليه بينهما. فلو أن المقترض التزم بالسداد بعد شهرين، وفي خلال تلك المدة صدر القرار بتغيير قيمة العملة وقام المقترض بسداد ما عليه في الموعد المحدد فإنه لا يطالب إلا بالمبلغ المنصوص عليه في عقد القرض مهما صدر من قرارات بخصوص قيمة العملة. الحالة الثانية – عدم الوفاء في الميعاد: أما في حالة عدم الالتزام بالموعد المحدد بأن حل الموعد ولم يقم المدين بأداء ما عليه فإننا ننظر في سبب عدم الوفاء. أولا: إن كان السبب الإعسار فإنه لا مجال إلا تطبيق النص القرآني وهو قوله سبحانه {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وعلينا أن نتأكد من هذا الإعسار أنه حقيقي فإن كان مجرد ادعاء كما هو حال أكثر المدينين اليوم فالادعاء باطل حتى يقوم الدليل على صحته وفي حالة الإعسار الحقيقي يجب على الدائن إنظار المدين بإعطائه مهلة أخرى في السداد والمدين بطبيعة الحال لا يلتزم إلا بالمبلغ المنصوص عليه في العقد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1304 ثانيا: أما أن كان عدم الوفاء مماطلة فهذا ظلم على ما بينا في المبحث الأول من هذا الفصل فقد سبق أن قلنا إن كان عدم الوفاء عن قدرة على الوفاء فإن المدين يعتبر ظالما وإذا أدت المماطلة إلى أضرار الدائن بأن تغيرت قيمة العملة تدريجيا بدون قرار فإن القاضي ينظر في عقاب المدين عملا بالحديث الشريف ولكننا في هذه الحالة أمام واقعة محددة: اقترض شخص من آخر مبلغ ثلاثين ألفا والوفاء بعد ثلاثة أشهر ومضت المدة المتفق عليها وثبت أن المدين قادر على السداد ولكنه التوى وماطل فصدر قرار من السلطة في الشهر الخامس بخفض قيمة العملة 15 % فما هو الحكم الشرعي في هذه الحالة هل يؤخذ بما جاء عن الحنفية من أنه ما دامت العملة محددة نوعا ومقدارا فيجب الالتزام بالعقد؟ هذا ما أكدناه في الظروف العادية وفي صورة الالتزام بالموعد المحدد أو التأخر عن السداد للإعسار لكننا في هذه الحالة أمام مدين راوغ وماطل وهو قادر إلى أن صدر القرار بالتخفيض فهو إذن المتسبب في هذا الضرر تسببا مباشرا فلو أن التزم بكلمته ووفي بعهده لانتهت المشكلة غير أنه بالتوائه ومماطلته وظلمه قد ألحق بالدائن ضررا محققا بل ومعروفا بقرار رسمي فضلا عن الأضرار الأخرى التي يمكن أن تمس الدائن نتيجة التأخير ألا يستحق مثل هذا المراوغ أن يتحمل على أقل تقدير هذا الضرر المحدد؟ لا أستطيع أن أجيب على هذا التساؤل (1) لا إيجابا ولا نفيا انتظارا لما تسفر عنه مناقشة علمائنا الأفاضل لهذا البحث المتواضع حيث لم أعرض فيه إلا رءوس موضوعات يتفضل مشايخنا الأجلاء بمناقشتها وبحثها عسى الله أن يوفقنا إلى الحكم الشرعي الصحيح الذي يرضيه سبحانه ويرضيه عنا أنه جل شأنه ولي ذلك والقادر عليه وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. أ. د. يوسف محمود قاسم.   (1) وقد يثور تساؤل آخر: ألا يمكن الأخذ بقاعدة الصلح على الأوسط التي قال بها ابن عابدين رحمه الله؟ ، والجواب أن الصلح على الأوسط كان بخصوص عقد لم يحدد طرفاه العملة التي يتم بها الوفاء وإنما المدين يختار واحدة من العملات التي كانت سائدة في البلاد وقد صدر الأمر السلطاني ... والحال كذلك- بتخفيض بعضها قرشا وبعضها قرشين وبعضها خمسة قروش. ولما كان الخيار للمدين فإنه يختار بالعملة التي نقصت خمسة قروش مبالغة في إلحاق الضرر بالدائن. وقد قلنا: إن هذه الحالة لا وجود في عهدنا- أوائل القرن الخامس عشر الهجري- فكل دولة لها عملتها الرسمية. وكل عقد يبرم الآن لا بد أن يتفق أفراده على السداد بمبلغ معين بذكر المبلغ من عملة معينة، وإن لم تحدد العملة، فالقاعدة أنها العملة السائدة في بلد المتعاقدين. ولا مجال الآن لتفصيل بعض الحالات الفردية الأخرى التي يمكن للقاضي أن يطبق بشأنها قواعد الإسناد طبقا للقانون الدولي الخاص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1305 أثر تغير قيمة النقود في الحقوق والالتزامات إعداد د. على أحمد السالوس أستاذ بقسم الفقه والأصول كلية الشريعة جامعة قطر المحتوى تقديم المبحث الأول:الاستقرار النسبى للنقود السلعية المبحث الثاني: بيان السنة المطهرة المبحث الثالث: أثر تغير قيمة العملة عند الفقهاء المطلب الأول: أقوال المالكية المطلب الثاني: أقوال الشافعية المطلب الثالث: أقوال الحنابلة المطلب الرابع: أقوال الحنفية المطلب الخامس: رأي أهل الظاهر المطلب السادس رأي ابن تيمية المطلب السابع: القوانين الوضعية نتائج الدراسة الخاتمة بسم الله الرحمن الرحيم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تقديم الحمد لله حمدا طيبا طاهرا مباركا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونسأله عز وجل أن يجنبنا الزلل في القول والعمل ونصلى ونسلم على رسوله المصطفى خير البشر وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين. أما بعد: كانت البشرية في مهدها تسير على نظام المقايضة في التعامل فعانت الكثير لما لهذا النظام من عيوب ثم اهتدى الإنسان بفضل الله تعالى إلى استخدام النقود والنقود تعرف تعريفا وظيفيا لا وصفيا فهي: أي شيء يكون مقياسا للقيمة ووسيلة للتبادل ويحظى بالقبول العام. وتعددت الأشياء التي استخدمها الإنسان في النقود إلى أن اهتدى إلى استخدام الذهب والفضة فلم ينافسهما أي شيء آخر لما لكل منهما من خصائص مميزة من حيث البقاء دون تلف والتجزئة إلى قطع وعدم التغير بالاستعمال أو التخزين.. إلخ. وعندما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم كانت النقود التي يتعامل بها الناس هي الدنانير الذهبية والدراهم الفضية فشرع الرسول الكريم من الأحكام ما ينظم تعامل المسلمين بهذين المعدنين: الذهب والفضة وهذه الأحكام التي تعرف في الفقه الإسلامي بأحكام الصرف والأحاديث الشريفة التي تبينها كثيرة مشهورة. منها ما رواه عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه قال: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (1) وما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منهما غائبا بناجز)) (2) .   (1) أخرجه مسلم. (2) متفق عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1306 وما رواه أبو بكرة - رضي الله عنه -قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا)) (1) . وما روى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء)) (2) . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدينار بالدينار لا فضل بينهما والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) (3) وهذه بعض الأحاديث الشريفة التي تبين أحكام الصرف ويؤخذ منها أن الصرف كي يتم صحيحا بغير ربا يشترط فيه ما يأتي: أولا: التماثل بغير زيادة أو نقصان عند تبادل ذهب بذهب ومثله دينار بدينار أو تبادل فضة بفضة ومثلها درهم بدرهم. ويسقط هذا الشرط إذا كان بيع الذهب أو الدينار بالفضة أو الدرهم وبيع الفضة أو الدرهم بالذهب أو الدينار. ثانيا: القبض في المجلس قبل الافتراق فلا يباع غائب بحاضر ولا يتأخر القبض وإنما هاء وهاء ويدا بيد. فإذا افترق المتصارفان قبل أن يتقابضا فالصرف فاسد بغير خلاف. وأحكام الصرف واضحة كل الوضوح وتطبيقها في عصر التشريع كان سهلا ميسرا وظل الأمر كذلك ما دامت نقود عصر التشريع قائمة ثم تطورت النقود على مر العصور حتى وصلت إلى ما نراه في عصرنا فبرزت مشكلات في التطبيق بعضها أمكن حله بسهولة مثل تعدد الأجناس فاعتبر تعدد الأجناس بتعدد جهات الإصدار بمعنى أن الورق النقدي المصري جنس والسعودي جنس والقطري جنس وهكذا. ولعل ابرز المشكلات ما يتصل بالقبض في المجلس حيث يتعذر التقايض في كثير من الحالات وهنا يمكن أن يقوم مقام القبض الفعلي للنقد الوسائل العصرية المختلفة كالحوالة والشيك والتلكس وكل ما يعد في العرف قبضا كما قامت السفتجة قديما مقام القبض ولكن لا يجوز تأخير القبض أو ما يقوم مقامه ولذلك نجد أسواق النقد العالمية تعلن عن سعر الصرف الحال وسعر الصرف المؤجل وتجعل المؤجل بزيادة ترتبط بسعر الفائدة أي الربا. والحديث عن هذا الموضع يطول كثيرا وقد انتهيت من دراسته في كتاب عنوانه " النقود واستبدال العملات "   (1) أخرجه الشيخان (2) متفق عليه و " هاء هاء " أي خذ وهات (3) أخرجه مسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1307 المبحث الأول الاستقرار النسبي للنقود السلعية في عصر التشريع كان الغالب في سعر الصرف الدينار بعشرة دراهم ولذا كان نصاب الزكاة عشرين دينارا أو مائتي درهم وبالبحث في النصاب ووزن كل من الدينار والدرهم نجد أن قيمة الذهب كانت سبعة أضعاف قيمة الفضة ومع أن الذهب والفضة يتميزان بالاستقرار النسبي غير أن العلاقة بينهما لم تظل ثابتة فتغير سعر الصرف من وقت لآخر بل وجدنا في عصرنا - الفضة تهبط إلى ما يقرب من واحد في المائة (1 %) من قيمة الذهب. كما أن العلاقة بينهما وبين باقي الأشياء لم تظل ثابتة مثال هذا عندما غلت الإبل في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فزاد مقدار الدية من النقدين. إن هذه الزيادة تعنى أن النقود انخفضت قيمتها بالنسبة للإبل ولكن الأمر لم يكن قاصرا على الإبل فغيرها قد يرتفع ثمنه وقد ينخفض وارتفاع الثمن يعنى انخفاض قيمة النقود وانخفاض ثمن السلع يعنى ارتفاع النقود. غير أن الزيادة أو النقصان لم تكن بالصورة التي شهدها عصرنا عصر النقود الورقية وعلى الأخص بعد التخلي عن الغطاء الذهبي ولجوء بعض الدول أو اضطرارها إلى خفض قيمة ورقها النقدي. والغلاء الفاحش الذي ساد عصرنا لم يكن سائدا في الدول الإسلامية من قبل لالتزامها بمنهج الإسلام أو قربها منه فالاقتصاد الإسلامي يعنى زيادة الإنتاج وعدالة التوزيع وترشيد الاستهلاك. والإسلام يمنع الوسائل التي تؤدى إلى غلاء الأسعار كما هو معلوم لمن يدرس البيوع المنهي عنها وينهى عن ظلم المسلمين بكسر سَكَّتِهِم وإفساد أموالهم. جاء في البيان والتحصيل: 6/474 ما يأتي: قال محمد بن رشد: (الدنانير التي قطعها من الفساد في الأرض هي الدنانير القائمة التي تجوز عددا بغير وزن فإذا قطعت فردت ناقصة غش بها الناس فكان ذلك من الفساد في الأرض وقد جاء في تفسير قوله عز وجل قال: {يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} إنهم أرادوا بذلك قطع الدنانير والدراهم لأنه كان نهاهم عن ذلك وقيل: إنهم أرادوا بذلك تراضيهم فيما بينهم بالربا الذي كان نهاهم عنه وقيل: إنهم أرادوا بذلك منعهم للزكاة وأولى ما قيل في ذلك: إنهم بذلك جميع ذلك وأما قطع الدنانير المقطوعة فليس قطعها من الفساد في الأرض وإنما هو مكروه) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1308 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوسا تكون بقيمة العدل في معاملاتهم من غير ظلم لهم ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلا بأن يشتري نحاسا فيضربه فيتجر به وبأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم ويضرب لهم غيرها بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه للمصلحة العامة ويعطي أجرة الصناع من بيت المال فإن التجارة فيها بابا عظيم من أبواب ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل فإنه إذا حرم المعاملة بها حتى صارت عرضًا وضرب لهم فلوسا أخرى: أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها فيظلمهم فيها وظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها. وأيضًا فإذا اختلفت مقادير الفلوس صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغارا فيصرفونها وينقلونها إلى بلد آخر ويخرجون صغارها فتفسد أموال الناس وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه ينهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس)) فإذا كانت مستوية المقدار بسعر النحاس ولم يشتر ولي الأمر النحاس والفلوس الكاسدة ليضربها فلوسًا ويتجر بذلك: حصل بها المقصود من الثمنية) (1) وقال ابن القيم: (فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوَّم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة ولا يقوّم هو بغيره، إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس ويقع الخلف ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم ولو جعلت ثمنا واحدا لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به الأشياء ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير مثل أن يعطى صحاحا ويأخذ مكسرة أو خفافا ويأخذ أثقالا اكثر منها لصارت متجرا أو جر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولابد فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل يقصد التوصل بها إلى السلع فإذا صارت في أنفسها سلعة تقصد لأعيانها فسد أمر الناس وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات) (2) وفي المعيار المعرب لأبي العباس الونشريسي: (ج6/ص407) تحت عنوان: (ما يجب على الوالي أن يفعله إزاء مرتكبي التزوير في النقود) نجد ما يأتي (ولا يغفل النظر أن ظهر في سوقهم دراهم مبهرجة مخلوطة بالنحاس بأن يشتد فيها ويبحث عمن أحدثها فإذا ظفر به أناله من شدة العقوبة وأمر أن يطاف به الأسواق لينكله ويشرد به من خلفه لعلهم يتقون عظيم ما نزل به من العقوبة ويحبسه بعد على قدر ما يرى ويأمر أوثق من يجد بتعاهد ذلك من السوق حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم ويحرزوا نقودهم فإن هذا أفضل ما يحوط رعيته فيه ويعمهم نفعه في دينهم ودنياهم ويرتجي لهم الزلفي عند ربهم والقربة إليه إن شاء الله المكيال والميزان والإمداد والأقفزة والأرطال والأواقي) .   (1) الفتاوى:29/469 (2) أعلام الموقعين: 2/132 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1309 المبحث الثاني بيان السنة المطهرة مما يعد أصلا في موضوعنا ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم (1) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال: ((لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) . وفي لفظ بعضهم: ((أبيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير)) . فابن عمر كان يبيع الإبل بالدنانير أو بالدراهم وقد يقبض الثمن في الحال وقد يبيع بيعا آجلا وعند قبض الثمن ربما لا يجد مع المشتري بالدنانير إلا دراهم وقد يجد من اشترى بدراهم ليس معه إلا الدنانير أفيأخذ قيمة الثمن يوم ثبوت الدين أم يوم الأداء؟ مثلا إذا باع بمائة دينار وكان سعر الصرف: الدينار بعشرة دراهم أي أن له ما قيمته ألف درهم وتغير سعر الصرف يوم الأداء فاصبح الدينار مثلا بأحد عشر درهما أفيأخذ الألف أم ألفا ومائة؟ وإذا أصبح بتسعة دراهم فقط أفيأخذ تسعمائة درهم يمكن صرفها بمائة دينار يوم الأداء أم يأخذ ألف درهم قيمة مائة الدينار يوم البيع؟ بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبرة بسعر الصرف يوم الأداء وابن عمر الذي عرف الحكم من الرسول الكريم سأله بكر بن عبد الله المزني ومسروق العجلي عن كري لهما له عليهما دراهم وليس معهما إلا دنانير فقال ابن عمر أعطوه بسعر السوق.   (1) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي:2/44 وبين الشيخ أحمد شاكر صحته مرفوعا وموقوفا انظر المسند: 7/50 رواية: 4883 والشيخ الألباني ضعفه مرفوعا وقَوَّى وَقْفَه (إرواء الغليل: 5/173) ولكن تضعيفه ليس بحجة لأنه يعنى تضعيف من احتج به الإمام مسلم ولا يتسع المجال هنا للمزيد وانظر في فقه الحديث على سبيل المثال مشكل الآثار للطحاوي: 2/95-97 وفتاوى ابن تيمية 29/519 وإعلام الموقعين لابن القيم: 4/408. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1310 فهذا الحديث الشريف يعتبر أصلا في أن الدين يؤدي بمثله لا بقيمته حيث يؤدي عن تعذر المثل بما يقوم مقامه وهو سعر الصرف يوم الأداء لا يوم ثبوت الدين. ومن السنة المطهرة ما يبين أن الأموال الربوية ينظر فيها إلى المثل قدرا ولا عبرة بالقيمة ويوضح هذا حديث تمر خيبر المشهور حيث قيل للرسول صلى الله عليه وسلم إنا نبتاع الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال صلى الله عليه وسلم ((لا تفعل)) وفي رواية: ((إنه عين الربا – بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنينًا)) . ومما يعد أصلا في موضوعنا كذلك ما رواه أبو داود في سننه عن المستورد بن شداد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن مسكن فليكتسب مسكنا)) وما رواه أحمد في مسنده عن المستورد أيضًا قال: ((من ولي لنا عملا فلم يكن له زوجة فليتزوج، أو خادم فليتخذ خادمًا، أو مسكن فليتخذ مسكنا، أو دابة فليتخذ دابة)) (1) . قال الخطابي في معالم السنن هذا يتأول على وجهين: أحدهما أنه إنما أباح اكتساب الخادم والمسكن من عمالته التي هي أجرة مثله. والوجه الآخر أن للعامل السكنى والخدمة فإن لم يكن له مسكن ولا خادم استؤجر له من يخدمه فيكفيه منه مثله، ويكترى له مسكن يسكنه مدة مقامه في عمله. وفي عون المعبود (8/161) جاء في شرح الحديث: يحل له أن يأخذ مما في تصرفه من مال بيت المال قدر مهر زوجة ونفقتها وكسوتها وكذلك ما لا بد منه من غير إسراف وتنعم وذكر بعد هذا قول الخطابي. يؤخذ من هذا الحديث الشريف أن أجر العامل مرتبط بتوفير تمام الكفاية ومعنى هذا أن الأجر يجب أن يتغير تبعا لتغير قيمة العملة وهذا يختلف عن الالتزام بالدين كما بينه حديث ابن عمر.   (1) انظر كتاب الخراج والفيء والإمارة في سننه باب في أرزاق العمال وانظر مسند أحمد 4/229-230 والحديث سكت عنه هو والمنذري ولكن السيوطي مع تساهله في التصحيح ذكره في الجامع الصغير ورمز له لعلامة الضعف فلم يوافقه المناوي وذكر في غيض القدير قول الهيثمي رجاله ثقات أثبات وراجعت الحديث ونظرت في كتب الرجال فوجدت الحق مع المناوي والهيثمي فأبو داود يرويه هكذا " حدثنا موسى بن مروان الرقى أخبرنا الأوزاعي عن الحارث بن يزيد عن جبير ابن نفير عن المستورد بن شداد قال وهذا الإسناد متصل بغير انقطاع ورجاله كلهم ثقات غير مجروحين وفي المسند نجد ثلاث روايات للحديث عن عبد الرحمن بن جبير من أربعة طرق عن المستورد فالحديث يرويه عن المستورد بن شداد إذن جبير بن نفير عند أبي داود وعبد الرحمن بن جبير عند أحمد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1311 المبحث الثالث أثر تغير القيمة عند الفقهاء بعد الحديث عن بيان السنة المطهرة نأتي إلى الفقه الإسلامي لنرى ماذا قال السادة الفقهاء والقول عند الحنفية يطول ذكره وعلى الأخص بعد رسالة ابن عابدين في النقود ولهذا أبدأ بغيرهم ثم أنتهي إليهم. المطلب الأول أقوال المالكية في المدونة الكبرى: (4/25) يذكر ابن وهب قول الإمام مالك: " كل شيء أعطيته إلى أجل فرد إليك مثله وزيادة فهو ربا " ويقول بعد هذا: وأخبرني حنظلة بن أبي سفيان عن طاوس بنحو ذلك وأخبرني عقبة بن نافع عن خالد بن يزيد أن عطاء بن أبي رباح كان يقول بنحو ذلك أيضًا. وفي البيان والتحصيل (6/629) لابن رشد (الجد) نجد ما يأتي: عن مالك في رجل قال لرجل: أدفع إلى هذا نصف دينار فدفع إليه به دراهم قال ابن القاسم ليس عليه إلا عدة الدراهم التي دفع يومئذ لأنه نصف دينار وليس عليه أن يخرج دينارا فيصرفه وإنما الاختلاف إذا أمره بقضاء دينار تام قال سحنون قال ابن القاسم يريد إذا كان المأمور إنما دفع إليه الدراهم وأما إن كان إنما دفع إليه دينارا فصرفه فله نصف دينار بالغا ما بلغ. قال محمد بن رشد: كذا وقع في هذه المسألة قال ابن القاسم وليس إلا عدة دراهم التي دفع وصوابه قال مالك فإن المسالة في قوله بدليل تفسير ابن القاسم بقوله يريد إذا كان المأمور إنما دفع إليه الدراهم (6/429) . وفى البيان والتحصيل أيضًا (6/487 – 488) . وسألته أي مالك عمن له على رجل عشرة دراهم مكتوب عليه من صرف عشرين بدينار أو خمسة دراهم من صرف عشرة دراهم بدينار فقال أرى أن يعطيه نصف دينار ما بلغ كان أقل من ذلك أو أكثر إذا كانت تلك العشرة دراهم أو الخمسة المكتوبة عليه من بيع باعه إياه فأما أن كانت من سلف أسلفه فلا يأخذ إلا مثل ما أعطاه. فقيل له: أرأيت إن باعه ثوبا بثلاثة دراهم ولا يسمى له صرف كذا وكذا والصرف يومئذ تسعة دراهم بدينار. قال: إذا لم يقل من صرف كذا وكذا أخذ بالدراهم الكبار ثلاثة دراهم وإنما قال بثلاث دراهم من صرف كذا وكذا بدينار فذلك جزء من الدينار ارتفع الصرف أو خفض وقد كان بيع من بيوع أهل مصر يبيعون الثياب بكذا وكذا درهما من صرف كذا وكذا دينار فيسألون عن ذلك كثيرا فهو كذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1312 قال محمد بن رشد هذا كما ذكر وهو مما لا اختلاف فيه إذا باع كذا وكذا درهما ولم يقل من صرف كذا فله عدد الدراهم التي سمى ارتفع الصرف أو اتضع وإذا قال بكذا وكذا درهماً وصرف كذا وكذا فلا تكون له الدراهم التي سمى إذا لم يسمها إلا ليبين بها الجزء الذي أراد البيع به من الدينار فله ذلك الجزء وكذلك إذا قال: أبيعك بنصف دينار من ضرب وعشرين درهما بدينار، فإنما له عشرة دراهم إذا لم يسم نصف الدينار إلا ليتبين به الدراهم التي أراد البيع بها من الدينار (6/487-488) . وقال الدردير: وإن بطلت معاملة من دنانير أو دراهم أو فلوس ترتبت لشخص على غيره من قرض أو بيع وتغير التعامل بها بزيادة أو نقص (فالمثل) أي فالواجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته إن كانت موجودة في بلد المعاملة (وإن عدمت) في بلد المعاملة وإن وجدت في غيرها (فالقيمة يوم الحكم) أي تعتبر يوم الحكم بأن يدفع له قيمتها عرضا أو يقوم العرض بعين من المتجددة ويتصدق بما يغش به الناس أدبا للغاش فجاز للحاكم كالمكتسب أن يتصدق به على الفقراء (1) . وقال أيضًا: (ورَدُّ) المقترض على المقرض (مثله) قدرًا وصفةً (أو) رَدَّ (عينه إن لم يتغير) في ذاته عنده ولا يضر بغير تغير السوق فإن تغير تعين رد مثله (وجاز أفضل) أي رد أفضل مما اقترضه صفة لأنه من قضاء إذا كان بلا شرط وإلا منع الأفضل والعادة كالشرط ويتعين رَدُّ مثله (2) .   (1) الشرح الصغير مع بلغة السالك 2/23 (2) الشرح الصغير مع بلغة السالك 2/106 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1313 وقال الصاوي في شرحه لقول الدردير: (قوله: أي فالواجب قضاء المثل أي ولو كان مائة بدرهم ثم صارت ألفا بدرهم أو بالعكس وكذا لو كان الريال حين العقد بتسعين ثم صار بمائة وسبعين وبالعكس وكذا إذا كان المحبوب بمائة وعشرين ثم صار بمائتين أو بالعكس وهكذا قوله فالقيمة يوم الحكم وهو متأخر عن يوم انعدامها وعن يوم الاستحقاق والظاهر أن طلبها بمنزلة التحاكم وحينئذ فتعتبر القيمة يوم طلبها وظاهره ولو حصلت مماطلة من المدين حتى عدمت تلك الفلوس وبه قال بعضهم وقال بعضهم هذا مقيد بما إذا لم يكن من المدين مطل وإلا كان لربها الأحظ من أخذ القيمة أو مما آل إليه الأمر من السكة الجديدة الزائدة عن القديمة وهذا هو الأظهر لظلم المدين بمطله قال الأجهوري: كمن عليه طعام امتنع ربه من أخذه حتى غلا فليس لربه إلا قيمته يوم امتناعه وتبين ظلمه (1) . وفي المعيار المعرب تحت عنوان الحكم إذا بدلت سكة التعامل بأخرى يقول المؤلف وسئل عن رجل باع سلعة بالناقص المتقدم بالحلول فتأخر الثمن إلى أن تحول الصرف وكان ذلك على جهة فبأيهما يقضى له؟ وعن رجل آخر باع بالدراهم المفلسة فتأخر الثمن إلى أن تبدل فبأيهما يقضى له؟ فأجاب: لا يجب للبائع قِبَلَ المشتري إلا ما انعقد البيع في وقته لئلا يظلم المشتري بإلزامه ما لم يدخل عليه في عقده فإن وجد المشتري ذلك قضاه إياه وإن لم يوجد رجع إلى القيمة ذهبا لتعذره.   (1) بلغة السالك 2/23 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1314 ومن باع بالدراهم المفلسة الوازنة فليس له غيرها إلا أن يتطوع المشتري بدفع وازنة غير مفلسة بعد المفلسة فضلا منه (1) . وتحت عنوان ما الحكم فيمن أقرض غيره مالا من سكة ألغى التعامل بها؟ قال صاحب المعيار: سئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة؟ فأجاب أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه أشبيليه قال نزلت هذه المسألة بقرطبة أيام نظري فيها في الأحكام ومحمد بن عتاب حي ومن معه من الفقهاء فانقطعت سكة ابن جهور بدخول ابن عباد سكة أخرى. أفتى الفقهاء أنه ليس لصاحب الدين إلا السكة القديمة وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك من قيمة السكة المقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب. قال: وأرسل إلى ابن عتاب فنهضت إليه فذكر المسألة وقال لي الصواب فيها فتواي فاحكم بها ولا تخالفها أو نحو هذا من الكلام. وكان أبو محمد بن دحون رحمه الله يفتى بالقيمة يوم القرض ويقول: إنما أعطاها على العوض فله العوض أخبرني به الشيخ أبو عبد الله بن فرج عنه وكان الفقيه أبو عمر بن عبد البر يفتي فيمن اكترى داراً أو حماما بدراهم موصوفة جارية بين الناس حين العقد ثم غيرت دراهم تلك البلد إلى أفضل منها أنه يلزم المكتري النقد الثاني الجاري حين القضاء دون النقد الجاري حين العقد. وقد نزل هنا ببلنسية حين غيرت دارهم السكة التي كان ضربها القيسي وبلغت ستة دنانير بمثقال، ونقلت إلى سكة أخرى كان صرفها ثلاثة دنانير للمثقال فالتزم ابن عبد البر السكة الأخيرة وكانت حجته في ذلك أن السلطان منع من إرجائها وحرم التعامل بها وهو خطأ من الفتوى.   (1) الكتاب المذكور 6/ 461-462 والمسئول هو أبو سعيد بن لب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1315 وأفتى أبو الوليد الباجي أنه لا يلزمه إلا السكة الجارية حين العقد (1) ومن أقوال المالكية السابقة نرى ما يأتي: 1- القرض يرد بمثله في كل شيء والزيادة على المثل من الربا. 2- تغير السعر لا يؤثر في وجوب رد القرض بمثله قدرا وصفة وكذلك الدين الناشيء عن البيع وإن كان التغير فاحشا كعشرة أضعاف مثلا. 3- يجوز الاتفاق وقت عقد البيع على عملة بسعر الصرف حينئذ ولكن لا يجوز هذا في القرض. 4- إبطال التعامل بالدنانير أو الدراهم أو الفلوس لا يمنع وجوب رد المثل ما دامت موجودة في بلد المعاملة فإن عدمت يلجا إلى القيمة يوم المطالبة عند التحاكم وذلك لتعذر المثل. وفسر الصاوي هذا بقوله (وظاهره ولو حصلت مماطلة من المدين حتى عدمت تلك الفلوس وبه قال بعضهم وقال بعضهم: هذا مقيد بما إذا لم يكن من المدين مطل وإلا كان لربها الأحظ من أخذ القيمة أو مما آل إليه الأمر من السكة الجديدة الزائدة عن القديمة وهذا هو الأظهر لظلم المدين بمطله) . وأفتى ابن عتاب بأن صاحب الدين يأخذ قيمة السكة المقطوعة من الذهب وأفتى ابن عبد البر بأخذ السكة الأخيرة 5- يمكن أن تكون القيمة مقدرة بغير الذهب والفضة وقال سحنون: القيمة لا تكون إلا بالذهب والورق راجع البيان والتحصيل: (7/ 412)   (1) المرجع السابق 6/ 163-164 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1316 المطلب الثاني أقوال الشافعية قال الإمام الشافعي في كتاب الأم: (3/ 28) : ومن سلف فلوسا أو دراهم أو باع بها ثم أبطلها السلطان فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي أسلف أو باع بها ومن أسلف رجلا دراهم على أنها بدينار أو بنصف دينار فليس عليه إلا مثل دراهمه وليس له عليه دينار ولا نصف دينار وإن استسلفه نصف دينار فأعطاه دينارا فقال: خذ لنفسك نصفه وبع لي نصفه بدراهم ففعل ذلك كان له عليه نصف دينار ذهب ولو كان قال له: بعه بدراهم ثم خذ لنفسك نصفه ورد علي نصفه كانت له عليه دراهم لأنه حينئذ إنما أسلفه دراهم لا نصف دينار ". وقال الشيرازي في المهذب: ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل؛ لأن مقتضى القرض رد المثل ولهذا يقال: الدنيا قروض ومكافأة فوجب أن يرد المثل وفيما لا مثل له وجهان إحدهما يجب عليه القيمة لأن ما ضمن بالمثل إذا كان له مثل ضمن بالقيمة إذا لم يكن له مثل كالمتلفات. (والثاني) يجب عليه مثله في الخلقة والصورة (1) وقال أيضًا: ما له مثل إذا عدم وجبت قيمته. قال الشيخ أبو حامد: إنما وجب عليه دفع القيمة يوم المطالبة (2) . وقال الصيمري: ولا يجوز قرض الدراهم المزيفة ولا الزرنيخية ولا المحمول عليها ولو تعامل بها الناس فلو أقرضه دراهم أو دنانير ثم حرمت لم يكن له إلا ما أقرض وقيل: قيمتها يوم حرمت ولا يصح القرض إلا في مال معلوم فإن أقرضه دراهم غير معلومة الوزن أو طعاما غير معلوم الكيل لم يصح لأنه إذا لم يعلم قدر ذلك لم يمكنه القضاء (3) . وقال النووي: ولو أقرضه نقدًا فأبطل السلطان المعاملة به فليس له إلا النقد الذي أقرضه (4) وقال ابن حجر الهيثمي: ويرد وجوبا حيث لا استبدال المثل في المثلي ولو نقدا أبطله السلطان لأنه أقرب إلى حقه وفي المتقوم ويأتي ضابطهما في الغصب برد المثل صورة (5) وفي شرح الشرواني لما سبق قال: (قوله: ولو نقدًا أبطله السلطان) فشمل ذلك ما عمت به البلوى في زمننا في الديار المصرية من إقراض الفلوس الجدد ثم إبطالها وإخراج غيرها وإن لم تكن نقدا (6) وأقوال الشافعية والإمام واضحة لا تحتاج إلى مزيد بيان.   (1) المجموع شرح المهذب 12/ 185 0 (2) المجموع شرح المهذب 12/ 187 (3) المجموع شرح المهذب 12/ 181 (4) روضة الطالبين 4/ 37 (5) تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني 5/ 44 (6) حاشية الشرواني: 5/ 44 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1317 المطلب الثالث أقوال الحنابلة قال ابن قدامه في المغنى (4/ 356-358) : وإن كانت الدراهم يتعامل بها عددا فاستقرض عددا رد عددا وإن استقرض وزنا رد وزنا وهذا قول الحسن وابن سيرين والأوزاعى، واستقرض أيوب من حماد بن زيد دراهم بمكة عددا وأعطاه بالبصرة عددا لأنه وفاه مثل ما اقترض فيما يتعامل به الناس فأشبه ما لو كانوا يتعاملون بها وزنا فرد وزنا. ويجب رد المثل في المكيل والموزون لا نعلم فيه خلافا قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن من أسلف سلفا مما يجوز أن يسلف فرد عليه مثله إن ذلك جائز وإن للمسلف أخذ ذلك ولأن المكيل والموزون يضمن في الغصب والإتلاف بمثله فكذا ههنا فأما غير المكيل والموزون ففيه وجهان أحدهما: يجب رد قيمته يوم القض لأنه لا مثل له فيضمنه بقيمته كحال الإتلاف والغصب، الثاني: يجب رد مثله لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فرد مثله ويخالف الإتلاف فإنه لا مسامحة فيه فوجبت القيمة لأنها أحصر والقرض أسهل، ولهذا جازت النسيئة فيه فيما فيه الربا ويعتبر مثل صفاته تقريبا فإن حقيقة المثل إنما توجد في المكيل والموزون فإن تعذر المثل فعليه قيمته يوم تعذر المثل؛ لأن القيمة ثبتت في ذمته حينئذ وإذا قلنا: تجب القيمة وجبت حين القرض لأنها حينئذ ثبتت في ذمته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1318 وقال في موضع آخر: (4/ 364-365) : ولو أقرضه تسعين دينارًا بمائة عددًا والوزن واحد وإن كانت لا تنفق في مكان إلا بالوزن جاز، وإن كانت تنفق برؤوسها فلا، وذلك لأنها إذا كانت تنفق في مكان برؤوسها كان ذلك زيادة، لأن التسعين من المائة تقوم مقام التسعين التي أقرضه إياها ويستفضل عشرة، ولا يجوز اشتراط الزيادة، وإذا كانت لا تنفق إلا بالوزن فلا زيادة فيها وإن كثر عددها. ثم قال المستقرض: يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا أو كان بحاله ولو كان ما أقرضه موجودا بعينه فرده من غير عيب يحدث فيه لزم قبوله سواء تغير سعره لو لم يتغير وإن حدث به عيب لم يلزمه قبوله وإن كان القرض فلوسا أو مسكرة فحرمها السلطان وتركت المعاملة بها كان للمقرض قيمتها ولم يلزمه قبولها سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها لأنها تعيبت في مكله، نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة وقال يقومها كم تساوى يوم أخذها ثم يعطيه، وسواء نقصت قيمتها قليلا أو كثيرا قال القاضي: هذا إذا اتفق الناس على تركها فأما إن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزمه أخذها وقال مالك والليث بن سعد والشافعي: ليس له إلا مثل ما أقرضه؛ لأن ذلك ليس بعيب حدث فجرى مجرى نقص سعرها ولنا أن تحريم السلطان لها منع إنفاقها وأبطل ماليتها فأشبه كسرها أو تلف أجزائها وأما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء كان كثيرا مثل إن كانت عشرة بدانق فصارت عشرين بدانق أو قليلا لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت (1) . وما ذكره ابن قدامه يوضح المذهب ويغنى عما جاء في كثير من كتب الحنابلة وأضيف هنا ثلاث مواد جاءت في مجلة الأحكام الشرعية وهي في الفقه الحنبلي: مادة (748) : لا يلزم المقترض رد عين مال المقرض ولو كان باقيا لكن لو رد المثلى بعينه من غير أن يتعيب لزم المقرض قبوله ولو تغير السعر أما المتقوم إذا رده بعينه لا يلزمه قبوله وإن لم يتغير سعره. مادة (749) : المكيلات والموزونات يجب رد مثلها فإن أعوز لزم رد قيمته يوم الأعواز، وكذلك الفلوس والأوراق النقدية. أما غير ذلك فيجب فيه رد القيمة، فالجوهر ونحوه مما تختلف قيمته كثيرا تلزم قيمته يوم القبض. مادة (750) : إذا كان القرض فلوسا أو دراهم مكسرة أو أوراقاً نقدية فغلت أو رخصت أو كسدت ولم تحرم المعاملة بها وجب رد مثلها، أما إذا حرم السلطان التعامل بها فتجب قيمتها يوم القرض ويلزمه الدفع من غير جنسها إن جرى فيها ربا الفضل، وكذا الحكم في سائر الديون وفي ثمن لم يقبض وفي أجرة وعوض خلع وعتق ومتلف وثمن مقبوض لزم البائع رده.   (1) المغنى 4/ 365 وانظر الشرح الكبير 4/358 ومطالب أولى النهى 3/ 241-243 المبدع 4/ 207 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1319 المطلب الرابع أقوال الحنفية قال المرغيناني في الهداية: ولو استقرض فلوسًا نافقة فكسدت عند أبي حنيفة رحمه الله يجب عليه مثلها لأنه إعارة وموجبة رد العين: معنى، والثمنية فضل فيه، إذ القرض لا يختص به وعندهما تجب قيمتها لأنه لما بطل وصف الثمنية تعذر ردها كما قبض فيجب رد قيمتها كما إذا استقرض مثليًا فانقطع لكن عند أبي يوسف رحمه الله يوم القبض وعند محمد رحمه الله يوم الكساد على ما مر من قبل وأصل الاختلاف فيمن غصب مثليا فانقطع وقول محمد رحمه الله انظر للجانبين وقول أبي يوسف أيسر (1) وقال ابن الهمام في فتح القدير شارحًا ما سبق (2) (قوله: ولو استقرض فلوسًا فكسدت عند أبي حنيفة رحمه الله مثلها) عددا اتفقت الروايات عنه بذلك وأما إذا استقرض دراهم غالبه الغش فقال أبو يوسف في قياس قول أبي حنيفة عليه مثلها ولست أروي ذلك عنه ولكن الرواية في الفلوس إذا أقرضها ثم كسدت قال أبو يوسف: عليه قيمتها من الذهب يوم القرض في الفلوس والدراهم، وقال محمد: عليه قيمتها في آخر وقت نفاقها وجاء قوله لأنه أي القرض إعارة وموجبة أي موجب عقد الإعارة رد العين إذ لو كان استبدالا حقيقة موجبا لرد المثل استلزم الربا للنسيئة فكان موجبا رد العين إلا أن ما تضمنه هذا العقد لما كان تمليك المنفعة بالاستهلاك لا مع بقاء العين لزم تضمنه لتمليك العين فبالضرورة اكتفى برد العين معنى وذلك برد المثل ولذا يجبر المغصوب منه على قبول المثل إذا أتى به الغاصب في غصب المثلي بلا انقطاع مع إن موجب الغصب رد العين وذلك حاصل بالكاسد (والثمنية فضل في القرض) غير لازم فيه ولذا يجوز استقراضها بعد الكساد وكذا يجوز استقراض كل مثلى وعددي متقارب ولا ثمنية (ولهما أنه لما بطل وصف الثمنية تعذر ردها كما قبضها فيجب رد قيمتها) وهذا لأن القرض وإن لم يقتض وصف الثمنية لا يقتض سقوط اعتبارها إذا كان المقبوض قرضا موصوفا بها لأن الأوصاف معتبرة في الديون لأنها تعرف بها بخلاف الأعيان المشار إليها بوصفها لغوا؛ لأنها تعرف بذواتها وتأخير دليلهما بحسب عادة المصنف ظاهر في اختياره قولهما ثم أصل الاختلاف في وقت الضمان اختلافهما فيمن غصب مثليا فانقطع وجبت القيمة عند أبي يوسف يوم الغصب وعند محمد يوم القضاء وقولهما انظر المقرض من قول أبي حنيفة لأن في رد المثل أضرارا به ثم قول أبي يوسف انظر له أيضًا من قول محمد لأن قيمته يوم القرض اكثر من قيمته يوم الانقطاع فكان قول محمد انظر المستقرض من قول أبي يوسف وقول أبي يوسف أيسر لأن القيمة يوم القبض معلومة ظاهرة لا يختلف فيها بخلاف ضبط وقت الانقطاع فإنه عسر فكان قول أبي يوسف أيسر في ذلك.   (1) انظر الهداية 6/ 278 -279 مع شروحه العناية وفتح القدير والكفاية (2) الهداية 6/ 278-280 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1320 وقال صاحب الكفاية: (6/ 279 -280) : قوله: (وأصل الاختلاف) أي أصل الاختلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وإنما قيدنا به لأنه بنى هذا الاختلاف في غصب المثلي كالرطب مثلا وفيه كان الاختلاف بينهما نظير الاختلاف الذي نحن فيه كذا في النهاية وفي فوائد الخبازي: وأصل الاختلاف فيمن غصب مثليا فانقطع، إلا أن هناك نعتبر القيمة يوم الخصومة عند أبي حنيفة رحمه الله، وهنا لا يقول به؛ لأن إيجاب قيمتها من الفضة يوم الخصومة لا يفسد، لأن قيمتها كاسدة وعينها سواء، بل إيجاب العين كاسدة، أعدل من قيمتها كاسدة فوجب مثلها كاسدة وعندهما لما وجب اعتبار قيمتها رايجة إما يوم القبض أو آخر يوم كانت رايجه فيه فكسدت كان إيجاب قيمتها من الفضة أولى من إيجاب عينها كاسدة كما في المبسوط وقول محمد رحمه الله انظر في حق المقرض بالنظر إلى قول أبي حنيفة رحمه الله وكذا في حق المستقرض بالنسبة إلى قول أبي يوسف رحمه الله وفي فتاوى قاضيخان رحمه الله قال محمد رحمه الله: عليه قيمتها في آخر يوم كانت رايجة وعليه الفتوى وقول أبي يوسف رحمه الله أيسر أي للمفتى أو القاضي لأن قيمته يوم القبض معلومة ويوم الانقطاع لا يعرف إلا بحرج. وقال صاحب العناية (6/ 279- 280) : ولا شك أن قيمة يوم القبض أكثر من قيمة يوم الانقطاع وهو ضرر بالمستقرض فكان قول محمد انظر للجانبين وقول أبي يوسف أيسر لأن قيمته يوم القبض معلومة للمقرض والمستقرض وسائر الناس وقيمة يوم الانقطاع تشتبه على الناس ويختلفون فيها فكان قوله أيسر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1321 هذا ما جاء في الهداية وشروحه الثلاثة وهو يتعلق بحالة الكساد والانقطاع غير أن العلامة ابن عابدين أغنانا عن الرجوع إلى كثير من كتب الحنفية ببحثه القيم " تنبيه الرقود على مسائل النقود " قال في البداية: هذه الرسالة سميتها تنبيه الرقود على مسائل النقود، من رخص وغلاء وكساد وانقطاع. جمعت فيها ما وقفت عليه من كلام أئمتنا ذوى الارتقاء والارتفاع، ضامًا إلى ذلك ما يستحسنه ذوو الإصغاء والاستماع .... إلخ. ورسالة ابن عابدين تقع في عشر صفحات، والكتب التي جمع فيها المتفق عليه والمختلف فيه، وفي بعضها ما يعارض بعضها الآخر. ورأينا من ينقل بعض ما ذكره ابن عابدين منسوبا لأصحابه دون النظر إلى ما ذكره في موضع آخر معارضا الرأي الأول بل أخذ أحد الرأيين على أنه المذهب الحنفي. لذلك رأيت أن أبين خلاصة ما جاء في الرسالة كلها. بعد أن انتهى ابن عابدين من التعريف برسالته بدأها بما يأتي قال في الولواجية في الفصل الخامس من كتاب البيوع: رجل اشترى ثوبا بدراهم نقد البلدة فلم ينقدها حتى تغيرت فهذا على وجهين: إن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق أصلًا فسد البيع، لأنه هلك الثمن وإن كانت تروج لكن انتقص قيمتها لا يفسد لأنه لم يهلك وليس إلا ذلك وإن انقطع بحيث لا يقدر عليها فعليه قيمتها في آخر يوم انقطع من الذهب والفضة هو المختار ونظير هذا ما نص في كتاب الصرف إذا اشترى شيئا بالفلوس ثم كسدت قبل القبض بطل الشراء يعنى فسد ولو رجعت لا يفسد اهـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1322 وفي جواهر الفتاوى قال القاضي الإمام الزاهدي أبو نضر الحسين بن علي: إذ باع شيئا بنقد معلوم ثم كسد النقد قبل قبض الثمن فإنه يفسد البيع، ثم ينتظر إن كان المبيع قائما في يد المشتري يجب رده عليه، وإن كان خرج من ملكه بوجه من الوجوه أو اتصل بزيادة بمصنع من المشتري، أو أحدث فيه صنعة متقومة مثل إن كان ثوبا فخاطه، أو دخل في حيز الاستهلاك وتبدل الجنس مثل إن كان حنطة فطحنها أو سمسما فعصره أو وسمة فضربها نيلا (1) فإنه يجب عليه رد مثله إن كان من ذوات الأمثال كالمكيل والموزون والعددي الذي لا يتفاوت كالجوز والبيض وإن كان من ذوات القيم كالثوب والحيوان فإنه يجب قيمة المبيع يوم القبض من نقد كان موجودا وقت البيع لم يكسد ولو كان مكان البيع إجارة فإنه تبطل الإجارة ويجب على المستأجر أجر المثل وإن كان قرضا أو مهرا يجب رد مثله هذا كله قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف: يجب عليه قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل وقال محمد: يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس. قال القاضي: الفتوى في المهر والقرض على قول أبي يوسف وفيما سوى ذلك على قول أبي حنيفة. (اهـ) انتهى. وفي الفصل الخامس من التتارخانية: إذ اشترى شيئا بدراهم هي نقد البلد ولم ينقد الدراهم حتى تغيرت فإن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق فسد البيع وإن كانت تروج لكن انتقصت قيمتها لا يفسد البيع وقال في الخانية: لم يكن له إلا ذلك وعن أبي يوسف إن له أن يفسخ البيع في نقصان القيمة أيضًا وإن انقطعت تلك الدراهم اليوم كان عليه قيمة الدراهم قبل الانقطاع عند محمد وعليه الفتوى. وفي عيون المسائل: عدم الرواج إنما يوجب الفساد إذا كان لا يروج في جميع البلدان، لأنه حينئذ يصير هالكا ويبقى المبيع بلا ثمن، فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة فقد لا يفسد البيع لأنه لا يهلك ولكنه تعيب، وكان للبائع الخيار إن شاء قال أعطني مثل الذي وقع عليه البيع، وإن شاء أخذ قيمة ذلك دنانير انتهى. وتمامه فيها وكذا في الفصل الرابع من الذخيرة البرهانية والحاصل إنها إما أن لا تروج وإما أن تنقطع وإما أن تزيد قيمتها أو تنقص فإن كانت كاسدة لا تروج يفسد البيع وإن انقطعت فعليه قيمتها قبل الانقطاع، وإن زادت فالبيع على حاله ولا يتخير المشتري كما سيأتي وكذا أن انتقصت لا يفسد البيع وليس للبائع غيرها وما ذكرناه من التفرقة بين الكساد والانقطاع هو المفهوم مما قدمناه.   (1) الوسمة: نبات عشبى زراعي للصباغ. النيل: مادة للصباغ مستخرجة من النبات. والصباغ نفسه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1323 وذكر العلامة شيخ الإسلام محمد بن عبد الله الغزي التمرتاشي في رسالة سماها بذل المجهود في مسالة تغير النقود: اعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها أو بالفلوس وكان كل منهما نافقا حتى جاز البيع لقيام الاصطلاح على الثمنية ولعدم الحاجة إلى الإشارة لالتحاقها بالثمن ولم يسلمها المشتري للبائع ثم كسدت بطل البيع (و) الانقطاع عن أيدي الناس كالكساد (و) حكم الدراهم كذلك فإذا اشترى بالدراهم ثم كسدت أو انقطعت بطل البيع ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائما ومثله إن كان هالكا وكان مثليا وإلا فقيمته وإن لم يكن مقبوضا فلا حكم لهذا البيع أصلا وهذا عند الإمام الأعظم وقالا: لا يبطل البيع لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد وذلك لا يوجب الفساد لاحتمال الزوال بالرواج كما لو اشترى شيئا بالرطبة ثم انقطع وإذا لم يبطل وتعذر تسليمه وجبت قيمته، لكن عند أبي يوسف: يوم البيع، وعند محمد: يوم الكساد وهو آخر ما تعامل الناس بها، وفي الذخيرة الفتوى على قول أبي يوسف وفي المحيط والتتمة والحقائق على قول محمد يفتي رفقا بالناس (58-59) . وبعد هذا الجزء من رسالته ذكر المراد بالكساد والانقطاع فقال: الكساد لغة – كما في المصباح- من كسد الشيء، يكسد من باب قتل: لم ينفق لقلة الرغبات فهو كاسد وكسيد يتعدى بالهمزة فيقال: أكسده الله وكسدت السوق فهي كاسدة بغير هاء في الصحاح وبالهاء في التهذيب ويقال أصل الكساد الفساد. وعند الفقهاء: أن تترك المعاملة بها في جميع البلاد، وإن كانت تروج في بعض البلاد لا يبطل لكنه يتعيب إذا لم يرج في بلدهم فيتخير البائع إن شاء أخذه وإن شاء أخذ قيمته وحد الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت وهكذا في الهداية والانقطاع كالكساد كما في كثير من الكتب لكن قال في المضمرات: فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع هو المختار. ثم قال في الذخيرة: الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت وقيل: إذا كان يوجد في أيدي الصيارفة فليس بمنقطع والأول أصح انتهي هذه عبارة الغزي في رسالته (ص 59-60) . وقال بعد هذا: وفي الذخيرة البرهانية بعد كلام طويل: هذا إذا كسدت الدراهم أو الفلوس قبل القبض، فأما إذا غلت فإن ازدادت قيمتها فالبيع على حاله ولا يتخير المشتري، وإذا انتقصت قيمتها ورخصت فالبيع على حاله ويطالبه بالدراهم بذلك العيار الذي كان وقت البيع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1324 وفي المنتقى: إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت قال أبو يوسف قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء، وليس له غيرها، ثم رجع أبو يوسف وقال عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض، والذي ذكرناه من الجواب في الكساد فهو الجواب في الانقطاع انتهى. (وقوله) : يوم وقع البيع أي في صورة البيع، (وقوله) : ويوم وقع القبض أي في صورة القبض كما نبه عليه في النهر. وبه علم أن في الانقطاع قولين: الأول فساد البيع كما في صورة الكساد، والثاني: أنه يجب قيمة المنقطع في آخر يوم انقطع وهو المختار كما مر عن المضمرات، وكذا في الرخص والغلاء قولان أيضًا: الأول ليس له غيرها، والثاني له قيمتها يوم البيع وعليه الفتوى كما يأتي. وقال العلامة الغزي عقب ما قدمناه: عند هذا إذا كسدت أو انقطعت أما إذا غلت قيمتها أو انقطعت فالبيع على حاله ولا يتخير المشتري ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع كذا في فتح القدير وفي البزازية معزيا إلى المنتقى: غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني أولًا: ليس عليه غيرها، وقال الثاني ثانيا: عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض وعليه الفتوى، وهكذا في الذخيرة والخلاصة بالعزو إلى المنتقى (ص 60) . والدراهم التي ورد ذكرها جاء الحديث عنها بعد ذلك حيث قال: لم تختلف الرواية عن أبي حنيفة في قرض الفلوس إذا كسدت أن عليه مثله. قال أبو يوسف: عليه قيمتها من الذهب يوم وقع القرض في الدراهم التي ذكرت لك أصنافها، يعنى البخارية والطبرية واليزيدية. وقال محمد: قيمتها في آخر نفاقها. قال القدوري: وإذا ثبت من قول أبي حنيفة في قرض الفلوس ما ذكرنا فالدراهم البخارية فلوس على صفة مخصوصة، والطبرية واليزيدية هي التي غلب الغش عليها فتجري مجرى الفلوس، فلذلك قاسها أبو يوسف على الفلوس) (ص 62) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1325 وما ذكره ابن عابدين من أن الرخص والغلاء فيه قولان جاء ما يعارضه، حيث نقل عن مجمع الفتاوى قوله: لو غلت أو رخصت فعليه رد المثل بالاتفاق (ص 61) . وقال: قال الإمام الإسبيجابى في شرح الطحاوي: (وأجمعوا أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد) (ص 62) . وأشار إلى مثل هذا في فتاوى قاضيخان. (انظر ص 60) . وحاول ابن عابدين أن يزيل هذا التعارض فقال: (فإن قلت) : يشكل على هذا ما ذكر في مجمع الفتاوى من قوله ولو غلت أو رخصت فعليه رد المثل بالاتفاق انتهى (قلت) : لا يشكل لأن أبا يوسف كان يقول أولًا بمقالة الإمام ثم رجع عنها وقال ثانيا: الواجب عليه قيمتها كما نقلناه فيما سبق عن البزازية وصاحب الخلاصة والذخيرة فحكاية الاتفاق بناء على موافقته للإمام أولًا كما لا يخفى والله تعالى أعلم) . (ص 61) . وقال في موضع آخر (ص 63، 64) : بقي الكلام فيما إذا نقصت قيمتها فهل للمستقرض رد مثلها وكذا المشتري أو قيمتها؟ لا شك أن عند أبي حنيفة يجب رد مثلها، وأما على قولهما فقياس ما ذكروا في الفلوس أنه يجب قيمتها من الذهب يوم القبض عند أبي يوسف ويوم الكساد عند محمد والمحل محتاج إلى التحرير. اهـ (وفي) حمله الدراهم في كلام البحر على التي لم يغلب غشها نظر ظاهر، إذ ليس المراد إلا الغالبة الغش كما قدمناه وصرح به شراح الهداية وغيرهم (والذي) يغلب على الظن ويميل إليه القلب أن الدراهم المغلوبة الغش أو الخالصة إذا غلت أو رخصت لا يفسد البيع قطعا، ولا يجب إلا ما وقع عليه العقد من النوع المذكور فيه، فإنها أثمان عرفا وخلقة، والغش المغلوب كالعدم، ولا يجري في ذلك خلاف أبي يوسف على أنه ذكر بعض الفضلاء أن خلاف أبي يوسف في مسألة ما إذا غلت أو رخصت إنما هو في الفلوس فقط، وأما الدراهم التي غلب غشها فلا خلاف له فيها (وبهذا) يحصل التوفيق بين حكاية الخلاف تارة والإجماع تارة أخرى، وهذا احسن مما قدمناه عن الغزي ويدل عليه عبارتهم بحيث كان الواجب ما وقع عليه العقد في الدراهم التي غلب غشها إجماعا فما في الخلاصة ونحوها أولى، وهذا ما نقله السيد محمد أبو السعود في حاشية منلا مسكين عن شيخه ونص عبارته: قيد بالكساد لأنها لو نقصت قيمتها قبل القبض فالبيع على حاله بالإجماع، ولا يتخير البائع وكذا لو غلت وازدادت ولا يتخير المشتري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1326 وفي الخلاصة والبزازية: غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني: أولًا ليس عليه غيرها وقال الثاني ثانيا: عليه قيمتها يوم البيع والقبض وعليه الفتوى انتهي. أي يوم البيع في البيع ويوم القبض في القرض كذا في النهر (واعلم) أن الضمير في قوله: قيد بالكساد لأنها إلخ للدراهم التي غلب غشها وحينئذ فما ذكره مما يقتضي لزوم المثل بالإجماع بعد الغلاء والرخص حيث قال فالبيع على حاله بالإجماع ولا يتخير البائع إلخ لا ينافي حكاية الخلاف عن الخلاصة والبزازية فيما إذا غلت الفلوس أو رخصت هل يلزمه القيمة لو ليس عليه غيرها؟ هذا حاصل ما أشار إليه شيخنا من التوفيق قال شيخنا: وإذ علم الحكم في الثمن الذي غلب غشه إذا نقصت قيمته قبل القبض كان الحكم معلوما بالأولى في الثمن الذي غلب جيده على غشه إذا نقصت قيمته لا يتخير البائع بالإجماع، فلا يكون له سواه وكذا لو غلت قيمته لا يتخير المشتري بالإجماع قال: وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جار حتى في الذهب والفضة كالشري في البندقى والمحمدي والكلب والريال، فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع، فإن ذلك الفهم خطأ صريح ناشئ عن عدم التفرقة بين الفلوس والنقود. انتهي ما في الحاشية، وهو كلام حسن وجيه لا يخفى على فقيه نبيه. اهـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1327 وبعد هذا أشار ابن عابدين إلى الأخذ بالفتوى عند الاختلاف في الكساد والانقطاع فقال: (وفي الذخيرة الفتوى: على قول أبي يوسف، وفي التتمة والمختار والحقائق: يقول محمد يفتي رفقا بالناس ... إلخ) (انظر ص 64) ثم ذكر تنبيها يتعلق بالشراء بنوع مطلق من الأثمان غير مسمى. ثم ختم رسالته بما يلي: (ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينا، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال إفرنجي أو مائة ذهب عتيق، أو دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد إذا لم يعين المتبايعان نوعا والخيار فيه للدافع كما كان الخيار له وقت العقد، ولكن الأول ظاهر سواء كان بيعا أو قرضا بناء على ما قدمناه وأما الثاني فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت: فبعض الأنواع جعله أرخص من بعض فيختار المشتري ما هو أكثر رخصا وأضر للبائع فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصا على حساب ما هو اكثر رخصا فقد ينقص نوع من النقود قرشا ونوع آخر قرشين فلا يدفع إلا ما نقص قرشين وإذا دفع ما نقص قرشا للبائع يحسب عليه قرشا آخر نظرا إلى نقص النوع الآخر وهذا مما لا شك في عدم جوازه وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأفقههم وأورعهم فجزم بعد تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من الضرر وأنه يفتى بالصلح حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد وإن امتنع البائع لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته أما في هذه الصورة فلا لأنه ظهر أنه يمتنع عن قصد أضراره ولا سيما إذا كان المال مال أيتام أو وقف فعدم النظر له بالكلية (مخالف) لما أمر به من اختيار الأنفع له فالصلح حينئذ أحوط خصوصا والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها فإن المنصوص عليه إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش كما علمته مما قدمناه فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصا لا الأقل ولا الأكثر كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطى بالسعر الدارج وقت الدفع ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلا ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري لا يقال ما ذكرته من أن الأولى للصلح في مثل الحالة مخالف لما قدمته من حاشية أبي السعود من لزوم ما كان وقت العقد بدون تخيير بالإجماع إذا كانت فضة خالصة أو غالبة لأنا نقول ذاك فيما إذا وقع العقد على نوع مخصوص كالريال مثلا وهذا ظاهر كما قدمناه ولا كلام لنا فيه وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1328 ووجه ما أفتى به بعض المفتين كما قدمناه آنفا أن القروش في زماننا بيان لمقدار الثمن لا لبيان نوعه ولا جنسه، فإذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلا ودفع له المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشا من الريال أو الذهب مثلا لم يحصل البائع ذلك المقدار الذي قدره ورضي به ثمنا لسلعته لكن قد يقال لما كان راضيا وقت العقد بأخذ غير القروش بالقيمة من أي نوع كان صار كأن العقد وقع على الأنواع كلها فإذا رخصت كان عليه أن يأخذ بذلك العيار الذي كان راضيا به وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الأضرار كما قلنا وفي الحديث: لا ضرر ولا ضرار ولو تساوى رخصها لما قلنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد كأن صار مثلا ما كان قيمته مائة قرش من الريال السعودي يساوى تسعين وكذا سائر الأنواع أما ذا صار ما كان قيمته مائة من نوع يساوى تسعين ومن نوع آخر خمسة وتسعين ومن آخر ثمانية وتسعين فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوى التسعين بمائة فقد اختص الضرر به وإن ألزمنا المشترى بدفعه بتسعين اختص الضرر به فينبغي وقوع الصلح على الأوسط والله تعالى أعلم) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1329 من أقوال الحنفية السابقة نرى ما يأتي: 1- إجماع أئمتهم على أن ما ثبت في الذمة من النقود الذهبية أو الفضية يؤدي بمثله دون نظر إلى تغير القيمة. 2- الخلاف حول الفلوس والدراهم غالبة الغش لا المغلوبة والخلاف فيما يجب أداؤه في ثلاث حالات هي: الكساد والانقطاع وتغير القيمة: (أ) فيرى الإمام وجوب المثل في جميع الحالات. (ب) ويرى أبو يوسف وجوب القيمة يوم ثبوت الحق في جميع الحالات أيضًا بعد أن كان موافقا لرأى الإمام في حالة تغير القيمة (ج) ويرى محمد رأي الإمام عند تغير القيمة وفي الحالتين الأخريين يرى وجوب القيمة لكن يوم الكساد أو الانقطاع. 3- اختلف الحنفية في الإفتاء: (أ) فمنهم من ذكر رأي الإمام على أنه إجماع المذهب. (ب) ومنهم من أفتى برأي أحد الصاحبين. (ج) ومنهم من فرق بين الكساد والانقطاع. (د) ومنهم من أخذ برأي الإمام في بعض الحقوق وبرأي غيرها في بعضها الآخر. 4- ما حدث في زمان ابن عابدين – المتوفي سنة 1252 هـ يبين أن اختلاف الإفتاء كان نتيجة لتفاوت الرخص عند ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص ولذ قيل بالصلح لمنع الضرر عن كل من المتبايعين ويرى ألا مبرر للخلاف لو تساوى الرخص ولذلك قال: (وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الأضرار كما قلنا وفي الحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) ولو تساوى رخصها لما قنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد ... الخ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1330 المطلب الخامس رأي أهل الظاهر ذكر بعض الباحثين أن أهل الظاهر يرون رد القرض بقيمته لا بمثله، ونسبة هذا الرأي لأهل الظاهر فيه نظر. قال ابن حزم في المحلى (8/ 462) : (ولا يجوز في القرض إلا رد مثل ما اقترض، لا من سوى نوعه أصلا) وقال في موضع آخر (9/ 509) : (والربا لا يجوز في البيع، والسلم، إلا في ستة أشياء فقط: في التمر والقمح، والشعير، والملح، والذهب والفضة، وهو في القرض في كل شيء فلا يحل إقراض شيء ليرد إليك أقل ولا أكثر ولا من نوع آخر أصلا لكن مثل ما أقرضت في نوعه ومقدراه على ما ذكرنا في كتاب القرض من ديواننا هذا فأعني عن إعادته وهذا إجماع مقطوع به) . المطلب السادس رأى ابن تيمية ونسب بعض الباحثين كذلك القول برد قيمة القرض لشيخ الإسلام ابن تيمية ولكنا نجد شيخ الإسلام ينص على ما يتفق مع ما ذكره ابن حزم آنفا من الإجماع المقطوع به. قال في مجموع الفتاوى (29/ 535) : لا يجب في القرض إلا رد المثل بلا زيادة. والدراهم لا تقصد عينها فإعادة المقترض نظيرها كما يعيد المضارب نظيرها وهو رأس المال ولهذا سمى قرضا ولهذا لم يستحق المقرض إلا نظير ماله وليس له أن يتشرط الزيادة عليه في جميع الأموال باتفاق العلماء والمقرض يستحق مثل قرضه في صفته. المطلب السابع القوانين الوضعية القوانين الوضعية التي تأخذ بها معظم البلاد الإسلامية أباحت الربا المحرم ولكن حسما للخلاف ودرءا للتنازع نراها هنا تنص على ما يأتي: إذا كان محل الالتزام نقودا التزم المدين بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي أثر (1)   (1) السويط السنهوري:1/ 387 وانظر شرح هذه المادة من القانون المدني وما يتصل بها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1331 نتائج الدراسة من الدراسة السابقة يتضح ما يأتي: * أولا: الالتزام بمنهج الإسلام في السياسة النقدية يحد من التضخم، ويساعد على منع الظلم الذي وقع بالناس نتيجة زيادة الأسعار زيادة فاحشة غير مقبولة. فربما استطعنا أن نقدم البديل في مجال النقود كما استطعنا تقديمه في مجال البنوك. * ثانيا: بينت السنة المطهرة أن الدين يؤدي بمثله لا بقيمته حيث يؤدي عند تعذر المثل بما يقوم مقامه وهو سعر الصرف يوم الأداء لا يوم ثبوت الدين. كما بينت السنة المطهرة أيضًا أن أجر العامل مرتبط بتوفير تمام الكفاية ومعنى هذا أن الأجر يجب أن يتغير تبعا لتغير قيمة العملة. ويؤخذ من هذا البيان أن الدين إذا كان نقودا فالعبرة بقدر عددها الثابت في الذمة دون نظر إلى ارتفاع قيمة العملة أو انخفاضها على حين ينظر إلى هذا الارتفاع أو الانخفاض إذا كان الالتزام مرتبطا بتوفير قدر من السلع والخدمات. ثالثا: النقود في عصر التشريع كانت الدنانير الذهبية والدراهم الفضية ولذلك أجمع الأئمة الأعلام على ما يتفق مع بيان السنة المطهرة من أن الدين إذا كان من مثل هذه النقود فإنه يؤدى بمثله قدرا وصفة دون نظر إلى تغير القيمة. رابعاً: اختلف الفقهاء فيما يجب أداؤه في حالتي الكساد والانقطاع أما الغلاء والرخص فلا ينظر إليه ثم رأى أبو يوسف وجوب القيمة يوم ثبوت الحق لا المثل إذا كان الدين من الفلوس أو الدراهم التي تعد فلوسا أو غالبة الغش التي تأخذ حكم الفلوس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1332 الخاتمة وفي ضوء ما سبق أختم هذه الدراسة بما يلي: * أولًا: النقود مرجعها إلى العادة والاصطلاح وبينت هذا في كتاب النقود واستبدال العملات (ص 148-152) ولهذا كانت النقود الورقية نقدا قائما بذاته له ما للذهب والفضة من الأحكام وبهذا أفتى مجمع الفقه التابع لرابطة العالم الإسلامي ومجمع الفقه المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي وغيرهما. وهذا يعنى أن بيان السنة المطهرة في الدنانير والدراهم ينطبق على نقود عصرنا وكل عصر. وخلاف أبي يوسف في الفلوس لا يجري على النقود الورقية لأنه لم يعد الفلوس نقودا شرعية أو نقودا بالخلقة كالذهب والفضة فلو طبق رأيه في الفلوس على نقود عصرنا لأصبحنا في عصر بلا نقود. * ثانيا: النقود الورقية نقود إلزامية ولذلك لا نشعر بمشكلة الكساد والانقطاع وإن كانت هذه المشكلة يمكن أن تقع في القليل النادر كما حدث للمارك الألماني بعد الحرب العالمية وفي مثل هذه الحالة يمكن الأخذ برأي بعض الأئمة في النظر إلى قيمة الدين. * ثالثاً: الموضوع فيه بيان السنة الشريفة وإجماع لم يرد من يخالفه من الصحابة أو التابعين أو الأئمة المجتهدين والاجتهاد يجب أن يكون في ضوء النص الإجماع. * رابعاً: العقود المشروعة لا تشتمل على جهالة تفضي إلى الخلاف والنزاع ورد النقود الورقية بقيمتها تجعل المقرض لا يدري ماذا سيأخذ والمقترض بماذا سيطلب ولا يدري الاثنان المقياس الذي يلجآن إليه عند الخلاف في القول بالزيادة أو النقصان أو الثبات وتحديد مقدار الزيادة أو النقصان. ولهذا وجدنا القوانين الوضعية مع سوئها وإباحتها الربا المحرم تنص على أن القرض يرد بمثله عددا دون نظر إلى القيمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1333 * خامسًا: ما استقر في الفقه الإسلامي من رد القرض بمثله لا بقيمته وهو ما تسير عليه القوانين الوضعية في البلاد الإسلامية وغيرها من بلدان العالم هو أيضًا ما أخذت به القوانين الدولية فالقروض الدولية ترد بمثلها عددا فكيف نطالب دولنا الإسلامية بترك هذه القوانين التي تتفق ولا تتعارض مع الفقه الإسلامي؟ * سادسًا: الذين دعوا إلى رد القرض بقيمته نظروا إلى الانخفاض فقط ولو أخذ بالقيمة لوجب النظر إلى الزيادة والنقصان معا. وعلى سبيل المثال: إذا اقترض أحد من أخيه في الدول النفطية التي تعد نقودها أساسا ثمنا للنفط ثم انخفض النفط إلى الربع فما حق المقرض؟ أهو الربع فقط؟ فإذا أقرضه أربعة آلاف وهي ثمن قدر معين من النفط فبعد الانخفاض يكون ثمن هذا القدر ألفا فقط، فهل من حق المقترض أن يقول للمقرض: ليس لك عندي إلا ألف أو مقدرا كذا من النفط قيمة الألف بسعر اليوم وقيمة أربعة آلاف وقت الاقتراض؟ وإذا تركنا النقط وجئنا لغيره: مثلا كيس الذرة وصل إلى مائتي جنيه ثم انخفض إلى خمسة وعشرين فإذا اقترض مائتين ليشتري كيس الذرة فهل بعد الانخفاض يرد كيس الذرة أو خمسة وعشرين جنيها فقط؟ * سابعًا: ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بمستوى الأسعار بحث لموضوع كلى لا يتجزأ فإما أن يؤخذ به في جميع الحقوق والالتزامات وإما ألا يؤخذ به في الجميع أيضًا. فمن الظلم أن يؤخذ به في الحقوق ويترك في الالتزامات أو العكس ومن الظلم أيضًا أن يؤخذ به في بعض الحقوق أو الالتزامات دون بعضها الآخر والأكثر ظلما أن يؤخذ به في حق أو التزام لأحد دون أحد وعلى سبيل المثال أقول: لو أخذنا بأن القرض يرد بقيمته لا بمثله وكان لمصرف ما قروض مقدارها خمسة ملايين ولديه حسابات جارية مقدارها عشرون مليونا والحساب الجاري عقد قرض شرعا وقانونا كما هو معلوم ووصل التضخم إلى 10 % وزادت قروض المقترضين بهذه النسبة فيجب أيضًا أن تزيد قروض المقرضين 10 % أي أن الحسابات الجارية يسجل لأصحابها هذه الزيادة أفتفكر المصارف في هذا؟ أم أنها تريد زيادة القرض الذي هو حقها دون القرض الذي تلزم به؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1334 كما أن المصارف الإسلامية لا تأخذ ربحا عن عملها كمضارب إلا بعد عودة رأس المال كاملا فلو قلنا بالقيمة لا المثل فإن نسبة التضخم تضاف لرأس المال أولًا ثم يوزع الربح بعد هذا فهل ترى المصارف الإسلامية لو طبق هذا أنها ستأخذ أي ربح؟ أم أن كل ما تحققه من أرباح سيكون جزءا من التضخم؟ ثامنًا: زيادة التضخم تعنى انخفاض قيمة النقود ويلاحظ أن هذه الزيادة تفوق ما تحققه المصارف الإسلامية من أرباح وما تحدده البنوك الربوية من ربا. فلو أن القرض يرد بقيمته فلا حاجة للاستثمار وللتعامل مع البنوك ويكفي أن تعطى الأموال مقترضا يحتفظ لنا بقيمة القرض ويتحمل زيادة التضخم التي تصل أحيانا إلى مئات في المائة. تاسعًا: القرض عقد إرفاق له ثوابه وجزاؤه من الله عز وجل وقد ينتهي بالتصدق {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فكيف اتجهت الأنظار إلى المقترض بالذات ليتحمل فروق التضخم ومساوئ النظام؟ عاشرا: من حق المقرض أن يمنح ما يرى أنه أكثر ثباتا وأقل عرضة للانخفاض من حقه أن يقرض ذهبا أو فضة أو عملة يرى أنها أكثر نفعا له. ولعل هذا يساعد على وجود مخرج له يحجم عن الإقراض خوفا من انخفاض قيمة النقود الورقية فكأنه يدخر ما يرى أنه أنفع له ولكن ليس من حقه بعد هذا أن يطالب بغير المثل إذا جاء الأمر على خلاف ما توقع، فماذا يفعل من انخفضت قيمة مدخراته في غير حالي الإقراض؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1335 * حادي عشر: التضخم يعد من مساوئ النظام النقدي المعاصر، فهل المقترض هو الذي يتحمل هذه المساوئ؟ * أفلا يجب البحث عن أسباب التضخم وعلاجه، وعن عيوب النظام النقدي، ووسائل تجنبها؟ أفلا نبحث عن نظام نقدي إسلامي نقدمه للعالم كما قدمنا له مثلا البديل الإسلامي للبنوك الربوية؟ * ثاني عشر: في عصرنا ظهرت الدعوة إلى رد القيمة في القرض ولم نكد نسمع من يقول الالتزام بالقيمة في البيع الآجل الذي قد يمتد أكثر من عشرين سنة، تنخفض النقود خلالها إلى ما لا يمكن تصوره وقت البيع والمشتري يلتزم بالثمن المحدد عددا لا قيمة والبائع لا يطالب بأكثر من هذا، وليس من حقه إلا ما حدد عند عقد البيع. فلو جاز النظر إلى القيمة لكان في مثل هذا البيع لا في القرض الذي يجب ألا يكون إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى. * ثالث عشر: تغير قيمة النقود لا يظهر في القروض والديون فقط وإنما يظهر أيضًا في عقود أخرى فمؤجر العقار مثلا في معظم البلاد الإسلامية ليس من حقه إنهاء العقد واسترداد ما يملك إلا بموافقة المستأجر ولهذا يمتد العقد إلى عشرات السنين وقد تصبح قيمة الإيجار لا تزيد عن واحد أو اثنين في المائة من قيمة النقود عند بدء العقد. فالنظر إلى تغيير قيمة النقود لا بد أن تكون شاملة عامة. * رابع عشر: ومن الشمول والعموم أيضًا - وهو ضروري وهام جدا - أن ننظر إلى من يلتزم بالقيمة أو بالمثل. فمثلا الأجير الخاص الذي يأخذ راتبا شهريا محددا عندما تنخفض قيمة النقود فهذا يعنى أن راتبه قد انخفض في الواقع العملي فإذا كان مقترضا ومدينا بثمن شراء ومستأجرا، فيكف نطالبه بالزيادة العددية التي تعوض نقص القيمة قبل أن نعوضه هو شخصيا عما أصابه من نقص في قيمة راتبه؟ وما تقوم به بعض البلاد من زيادة الراتب نظرا للغلاء بما يسمى " غلاء المعيشة " يتفق مع بيان السنة الشريفة من حيث المبدأ لكنه غالبا لا يحقق ما أراده الإسلام من تمام الكفاية. هذا ما انتهيت إليه من دراستي للموضوع والله عز وجل أعلم بالصواب وله الحمد في الأولى والآخرة والصلاة والسلام على رسوله المصطفي. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . الدكتور علي أحمد السالوس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1336 تغير العملة الورقية إعداد الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور مستشار السيد وزير الأوقاف السوري لشئون العلماء وأستاذ جامعي وعضو مجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله خاتم رسله وأنبيائه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد، فلقد كتب في شأن تغير العملة الورقية فقهاء كثيرون من شتى المذاهب الإسلامية قدامى ومعاصرون. فمن القدامى رضي الله عنهم وأرضاهم مَنْ أفرد هذا الموضوع برسالة أو برسالتين مثل: 1- الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي في رسالته (قطع المجادلة عند تغيير المعاملة) مطبوع ضمن كتابه الحاوي للفتاوى. 2- العلامة السيد الشريف محمد أمين بن عمر عابدين صاحب حاشية في المذهب الحنفي ومحرر المذهب برسالته (تنبيه الرقود على مسائل النقود) مطبوعة في مجموع رسائل ابن عابدين. ومن القدامى من تكلم عنه في مصنفاتهم الكبيرة ضمن بحوث الفقه فمن هؤلاء رضي الله عنهم الأئمة الكبار: البهوتي في شرح منتهى الإيرادات وفي كشاف القناع، وابن حجر الهيثمي المكي في التحفة وهو أشبه، والخرشي في شرح مختصر خليل، والرملي في نهاية المحتاج، والرهوني في حاشيته على شرح الزرقاني لمختصر الخليل، والزرقاني في شرح مختصر خليل، والزيلعي في تبيين الحقائق، والإمام الشافعي في الأم، وعلماء الهند في الفتاوى الهندية وعليش في منح الجليل وابن قدامة في الشرح الكبير على المقنع وفي المغنى والكاساني في بدائع الصنائع والنووي في المجموع شرح المهذب رحمهم الله وأجزل مثوبتهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1337 ومن المعاصرين من تكلم في هذا البحث فمنهم العلامة الشيخ أحمد الزرقا في شرح القواعد الفقهية والدكتور نزيه حماد والشيخ محمد علي عبد الله والدكتور علي أحمد السالوس وصدرت في ذلك الصدد فتوى من المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة جزى الله الجميع كل خير. وبعد الاطلاع على ما كتبه القدامى والمحدثون رأيت - والله أعلم - رأيًا جديدا في هذا الصدد لعله يكون الصواب والأشبه، ولعله أقرب إلى روح الشريعة ومقاصدها العامة والخاصة وأجمل هذا الرأي فأقول والله المستعان: الورق النقدي اليوم وإن كان أموالًا نافقة وله حكم المال من جميع الوجوه في الشريعة المطهرة غير أن الذهب هو التغطية الاقتصادية الوحيدة لدى أكثر الدول فإن لم تكن الوحيدة فهي التغطية الأساس والأصل، لذا من هذا الوجه فالورق النقدي نائب عن الذهب فنرجع قضايا تغير قيمة العملة الورقية كلها إلى الذهب فقط ونقول لكل من تعامل بهذه العملة الورقية مع الآخرين، أنت تقبض وتقبض ورقا نقديا ولكن حينما تكون هنالك مداينة فاحرص على أن تسعر هذا الورق النقدي بالذهب بسعر ذلك اليوم بما هو عليه في البورصة ويسجل كل من المتداينين ذلك السعر للذهب أساسا للتعامل، وعند انقضاء الأجل يرجع المدين للدائن ذهبا أو ورقًا نقديا بسعر الذهب في يوم انتهاء المداينة. فلو أن رجلًا أقرض آخر إلى سنة (40000) أربعين ألف ليرة سورية يوم الخامس عشر من حزيران 1987 في دمشق وكشفا عن سعر الذهب بالليرات السورية في ذلك اليوم فإذا بهذا المبلغ يساوى (1) كيلو غرامًا واحدًا فقط من الذهب، وبعد انتهاء السنة طالب الدائن المدين بالمال أي في 15 حزيران 1988، فالعدل والإنصاف في الشريعة اللذين بنيت عليهما مصالح العباد ودار حولهما التكليف يقتضيان إما أن يرد المدين للدائن كيلو غرامًا واحدًا من الذهب أو قيمته بالليرات السورية يوم 15 حزيران 1988 ولنفترض أن كيلو الذهب يساوى آنذاك (100000) مائة ألف ليرة سورية وجب أن يرد هذا المبلغ أو الذهب الكيلو الواحد وهو مخير في ذلك لأنه لو رد إليه (40000) الأربعين ألفًا لكان قد رد إليه أقل من نصف كيلو من الذهب، هذا ظلم والظلم حرمه الله ورسوله وقس على ذلك. هذا ما ظهر لي في هذه القضية بعد إعمال الفكر وترديد النظر والله يقول الحق وهو يهدى السبيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1338 أحكام النقود الأوراق في الفقه الإسلامي (3) وجه الاستحسان وضوابطه في ربط العملات متغيرة القيمة ـ بالقيمة إعداد الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور عضو مجمع الفقه الإسلامي بجدة بسم الله الرحمن الرحيم تصدير الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فلقد كنت كتبت بحثا في موضوع الأوراق النقدية وهل هي أثمان تجب فيها الزكاة كالذهب والفضة ويحرم فيها الربا؟ وقدمته إلى المجمع الموقر وصدر قرار المجمع بالإيجاب ولله الحمد. ثم قدمت دراسة موجزة وعرضًا في الدورة الرابعة للمجمع كانت كل واحدة منهما دراسة أولية لموضوع تغير قيمة العملة لا أعدها فصل الخطاب ولا نهاية المطاف، وهذه الدراسة الثالثة اليوم أقدمها على كثير من الوجل في موضوع هو أخطر مواضيع الساعة وأعظمها أثرًا وأبعدها غورا، بل إنه هو بيت القصيد. ولعمري ما جاء مجمعنا الموقر واقعة من واقعات العصر في وزن هذه الواقعة. أتقدم بهذا المشروع إلى مجمعنا العظيم اقتراحا قابلا للمناقشة والدراسة ليس هو الحق كما أنه ليس هو الباطل، بل هو مجرد اجتهاد في نازلة من النوازل قابل للصواب والخطأ، فإن كانت الأولى فمن توفيق الله تعالى وكان لي بذلك أجران وإن تكن الثانية فحسبي ذلك الأجر الواحد وأستغفر الله تعالى وأستعين وقد عزوت ما وسعني ذلك، وما لم أعز النقل فيه فمكانه جريدة المصادر في آخر البحث. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} مخطط البحث يتكون البحث في هذه الرسالة من مدخل ومقاصد ثلاثة وخاتمة، ودونك التفصيل: المدخل إلى البحث: تصور الموضوع بشكل أولى. المقصد الأول: تغير قيمة النقد من الدراهم والدنانير فقط وأحكامه. المقصد الثاني: تغير قيمة الفلوس وما يلحق بها في مذاهب الفقهاء القدامى والباحثين المعاصرين. المقصد الثالث: ترجيح الربط بالقيمة في الفلوس والعملات المعاصرة استحسانا وضوابطه ووجهه. خاتمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1339 مدخل إلى البحث تصور الموضوع بشكل أولى استقر قرار المجمع الموقر في جدة كما استقر قرار المجمع التابع للرابطة في مكة المكرمة على اعتبار الأوراق النقدية أموالا كالذهب والفضة لا خلاف في ذلك. ولكن هذه الأموال تتغير بفعل من الدولة أحيانا وبدونه أحيانا أخرى وهو الأكثر كسادا وانقطاعا أحيانا. ورخصًا وغلاء أحيانًا أكثر وأغلب، وتجري القروض والمداينات بين الناس بها فماذا يلتزمون؟ عددها ومثلها أم قيمتها بالنسبة للذهب والفضة أو العملات الأخرى الثابتة نسبيا، وتكاد الآراء تتوجه إلى الأخذ بالقيمة استحسانا بالقياس إلخ في لولا الخوف من شبهة الربا لا سيما في القرض والديون، فاقتضى ذلك البحث عن الضوابط الكابحة اللاجمة للمضي في الاستحسان لغايته. هذه هي اليوم مشكلة الساعة والسؤال عنها أضحى واقعة العصر. ويترتب على ذلك آثار كبيرة في الحقوق والواجبات، والفقه مقاطع الحقوق فما موقفه من هذه القضية الاقتصادية الخطيرة؟! لقد تعرض الفقهاء القدامى رضوان الله عليهم لطرف من هذا الموضوع حسبما كان الوضع حينئذ عندهم، ولكن الأوضاع الاقتصادية التي كانت يومئذ لديهم تغيرت تغيرا جذريا كبيرا، وأصبح الموضوع اليوم لا يكتفي بما قاله فقهاؤنا القدامى رضي الله عنهم، فهم أفتوا لعصرهم وأعرافهم، وعصرنا اليوم يحتاج إلى اجتهاد جماعي في هذا الموضوع ولا يسعه اجتهاد فرد مهما عظمت فقاهته، وإنما نستطيع الاستئناس بما كتب من قبل ودون. وبما يقوله علماء المسلمين اليوم وفقهاؤهم في سبيل دراسة هذه المسألة وتفنيدها ثم التوصل إلى الحكم الشرعي عن طريق الاجتهاد الجماعي حصرا وذلك بقرار مجمعي يكون فيصلا في هذا الشأن وقد يكون توقفا إذا وسعه ذلك، والله الموفق بمنه وكرمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1340 المقصد الأول تغير قيمة النقد من الدراهم والدنانير فقط وأحكامه بإيجاز لعل هنالك إقرارا ضمنيا لدى الفقهاء بأن الدراهم والدنانير من الفضة في الأولى ومن الذهب في الثانية مستقرة في قيمتها وقوتها الشرائية نسبيا، ولو أن التغير في القيمة قد يطرأ عليهما بقدر يسير، والفقهاء متفقون على أنه إذا ترتب على التعامل بالدراهم والدنانير دين سببه القرض أو البيع ثم تغيرت قيمته وقت الأداء لسبب من الأسباب، وحل الأجل فلا يلزم غير ما اتفق عليه بين المتعاقدين. فيؤدى حينئذ بمثله قدرًا وصفة. سواء غلت قيمته أو رخصت، لأن الديون تؤدى بأمثالها لدى كافة الفقهاء. ويجري هذا الحكم على الدراهم والدنانير الخالصة ومغلوبة الغش. وتكاد هذه القضية تكون من المتفق عليه لدى الباحثين القدامى والمعاصرين وحكى بعضهم فيها الإجماع. (أ) مذهب الحنفية: قال ابن عابدين: (إن الدراهم الخالصة أو المغلوبة الغش إذا غلت أو رخصت لا يفسد البيع قطعًا ولا يجب إلا رد المثل الذي وقع عليه العقد وبين نوعه كالذهب الفلاني أو الريال الفلاني) (1) ولا يجري هنا خلاف أبي يوسف لأنه محصور بالفلوس فقط. (ب) مذهب المالكية: قالوا إذا بطلت الدنانير أو الدراهم فالمشهور قضاء المثل على من ترتب في ذمته، وكذا إذا تغيرت من باب أولى (2) ، وهنالك لبعض المالكية أنه إذا أبطلت تلك العملة واستبدل بها غيرها يرجع إلى قيمة العملة الملغاة من الذهب فيأخذ صاحب القيمة ذهبًا، لكن المشهور في المذهب هو الأول. (ج) مذهب الشافعية: وجوب رد المثل في القرض، وفي إبطال العملة ليس له غير ما تم العقد به نقص أو زاد أو عز، فإن فقد وليس له مثل، فقيمته على الراجح عندهم ووقتها يوم المطالبة (3) . (د) مذهب الحنابلة: وجوب رد المثل في القرض، والقيمة عند الإعواز. جاء في مجلة الأحكام الشرعية (المكيلات والموزونات يجب رد مثلها، فإن أعوز لزم رد قيمته يوم الإعواز) (4) . وقال مثله في المغني فلينظر.   (1) العقود الدرية: 1 / 283، وما بعدها، وتنبيه الرقود: ص 61 و 62 و64. (2) حاشية الرهوني:5 / 118، وما بعدها. (3) نهاية المحتاج: 3 / 399 وما بعدها؛ والمجموع: 13 / 174. (4) انظر المغني على الشرح الكبير: 4 / 405 و 717 و 318؛ والمجلة، مادة 749. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1341 المقصد الثاني تغير قيمة النقود الاصطلاحية تغير قيمة الفلوس وما يلحق بها في مذاهب الفقهاء القدامى والباحثين المعاصرين بإيجاز المبحث الأول التغير في الفلوس وما يلحق بها (أنواعه وأشكاله) ما هي طبيعة الفلوس؟ هل الفلوس أثمان أو عروض؟ هل يدخلها الربا في المعاملات المالية أم لا؟ على ضوء الإجابة على هذه الأسئلة المهمة ينجلي الموقف … ودونك الجواب باختصار: اتفق أئمة المذاهب على أن الفلوس أثمان بالاصطلاح والعرف، ولا تتعلق بذواتها أحكام محدودة واختلف الفقهاء بعد ذلك اختلافًا كبيرًا يرجع إليه في محله، والذي ترجح هو أن الفلوس ليس لها طبيعة خاصة بها، وإنما طبيعتها اعتبارية لأنها مستمدة من حقيقة النقدين وطبيعتهما في بعض الصور والحالات، ومن طبيعة القروض وحقيقتها في بعض الصور والحالات الأخرى، يدل على ذلك أن المجتهدين اختلفت منازع نظرهم واجتهادهم فيها فاختلفت أحكام الفروع المستنبطة عندهم، ومرجع ذلك لدى التحقيق العلمي إلى طبيعتها الاعتبارية. جاء في كلام العلامة ابن عابدين (أن الفلوس لها حكم العروض من وجه، وحكم الثمن من وجه) . اهـ. (انظر رد المحتار: 4 / 184) . وقد ترجح أن الأوراق النقدية نظيرة الفلوس في علة الثمنية فب علة تحريم الربا في النقدين وهي العلة المتعدية حيث قيس عليهما الفلوس، وكذلك تقاس الأوراق النقدية على النقدين من الدراهم والدنانير كما قيست الفلوس عليها وكذلك الكواغد والأنواط، فكل ما يجري على النقدين يجري على الفلوس وما يلحق بها من الأوراق النقدية. وهذا ويلحق بالفلوس أيضًا الدراهم والدنانير غالبة الغش فلها قيمة الفلوس وتعامل معاملتها. وانحصرت حالات التغير في ثلاث حالات: 1 – الحالة الأولى: الكساد. 2 – الحالة الثانية: الانقطاع. 3 – الحالة الثالثة: الرخص والغلاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1342 1 – الحالة الأولى: الكساد: بأن توقف الجهة المصدرة للنقد التعامل فيه فتترك المعاملة به في كل الأقطار. اختلفت فيه مذاهب الفقهاء إلى أقوال ثلاثة: 1 – فذهب المالكية في المشهور، والشافعية في المذهب والليث بن سعد إلى أنه إذا كسد النقد لم يكن على المدين غير السكة التي قبضها يوم العقد سواء كان الدين قرضًا أو ثمن مبيع أو غيره، وحكي عن الإمام الشافعي وجه هو أن البائع يتخير بين إجازة البيع بالنقد القديم أو فسخه. 2 – وذهب الإمام أبو حنيفة فيما يظهر إلى أنه إذا كسدت الفلوس أو انقطعت فالبيع فاسد ويجب الفسخ ما دام ممكنًا، وهذا إن كان بيعًا، فإن كان دينًا فيجب رد مثله ولو كان كاسدًا لأنه هو الثابت في الذمة، وذهب الصاحبان إلى عدم البطلان، وعلل كل لرأيه. 3 – وذهب الحنابلة والمالكية في مقابل المشهور والصاحبان من الحنفية إلى أن الفلوس إذا كسدت ترد القيمة. واختلفوا في وقت تقدير القيمة: - فذهب جمهور القائلين بهذا الرأي إلى أن الوقت يوم القبض أو يوم التعامل وهو كذلك للإمام أبي يوسف فيما يظهر. - واشترط بعض المالكية أن يكون يوم القبض من النقد الرائج. - وقال الإمام محمد بن الحسن من الحنفية وبعض الحنابلة إنه وقت الكساد (أي في آخر نَفَاقِهَا) وترك المعاملة في آخر نفاق الفلوس. - وفي قول عند الحنابلة وقت الخصومة. والذي يترجح من هذه الأقوال والله أعلم هو ما ذهب إليه الحنابلة ومقابل المشهور عند المالكية والصاحبين في وجوب القيمة ويرجع إلى أدلتهم في مظانها عند التوسع. وأما عن وقت اعتبار القيمة فالذي ترجح أن القيمة المعتبرة هي القيمة وقت الكساد وترك المعاملة في آخر نفاق الفلوس من الأسواق، ورجح زميلنا الدكتور النشمي حفظه الله يوم الاستحقاق وهو بالرغم من أنه لا قائل به في الكساد قول وجيه. وهناك حالة الكساد المحلي للنقد الاصطلاحي فالقول المعتمد عند الحنفية في صورة البيع لا يفسد والبائع بالخيار بين أن يطالبه بالنقد الذي وقع به البيع وبين أخذ قيمة ذلك النقد من عملة رائجة، وقيل عن الشيخين في المذهب الحنفي يجري في الكساد المحلي حكم الكساد العام وهو لم يرو عنهما بطريق معتمد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1343 2- الحالة الثانية: الانقطاع: الانقطاع عند الفقهاء: (ترك التعامل بها في الأسواق العامة بين الناس) : انظر ابن عابدين من الحنفية والزرقاني والبناني من الجمهور. أو (بأن يفقد النقد من أيدي الناس لمن يريده) في عصرنا. واتفق جمهور الفقهاء من أئمة المذاهب: المالكية والشافعية والحنابلة والصاحبان من الحنفية وهو المفتى به عند الحنفية على وجوب القيمة عند الانقطاع. وهنالك من قال: إن الانقطاع كالكساد يوجبان فساد البيع، وليس بشيء. ثم اختلفوا في وقت تقدير القيمة: - فذهب المالكية في المعتمد عندهم إلى أنها وقت الحكم. - والقول الثاني وهو المشهور عند المالكية: أبعد الأجلين من الاستحقاق والانقطاع؛ فالعبرة للمتأخر منهما، فإن كان الانقطاع أو الانعدام حصلا معًا فالأمر واضح، وإن تقدم أحدهما فالعبرة بالمتأخر. فإن استحقت ثم عدمت اعتبرت القيمة يوم العدم، وإن عدمت ثم استحقت اعتبرت القيمة يوم الاستحقاق. - وذهب الشافعية إلى أنها وقت المطالبة، سواء يوم انقطاعه إن كان حالًا، أو يوم حلول الأجل. - وذهب الحنابلة والإمام محمد بن الحسن وبه يفتى عند الحنفية، أنها آخر يوم قبيل الانقطاع وهو المعبر عنه بيوم الكساد، وذهب الإمام أبو يوسف إلى أنها يوم التعامل. - وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن الانقطاع مثل الكساد يوجب فساد البيع وخالفه صاحباه والمفتى به قول الإمام محمد من الصاحبين في المذهب. والراجح الذي يصار إليه هو قول الجمهور في أن الانقطاع يوجب القيمة، وفي تقديرها قول الحنابلة ومحمد بن الحسن من الحنفية بأنه يوم الكساد لأنه هو اليوم الذي وجبت فيه القيمة على القول بها. قلت: ولعل أظهر مثال على الانقطاع هو الليرة اللبنانية اليوم في عصرنا الحاضر حتى هجرها الناس من شدة رخصها وتعاملوا بدلًا منها بالدولار الأمريكي في لبنان بعامة وبيروت عاصمة لبنان بخاصة، حتى كاد يبطل التعامل بها عمليًا، وهو يوم كتابة هذه الكلمات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1344 3- الحالة الثالثة: الرخص والغلاء في مذاهب الفقهاء: المطلب الأول – أقوال أئمة المذاهب الفقهية: قد تهبط قيمة الفلوس أو الأوراق النقدية بالرخص بالنسبة إلى الذهب والفضة وهذا هو الغالب، وقد ترتفع قيمتها فتغلو، وقد يحدث ذلك بعد أن ثبت في ذمة المدين قيمة قرض أو ثمن مبيع بالأجل أو غير ذلك ويحل الأجل، فهل يؤدي ما التزم به باعتبار الرخص والغلاء أو لا اعتبار لهما؟ اختلفت الفقهاء في ذلك على أقوال ثلاثة في مذهبين لدى الفقهاء الأقدمين أصحاب المذاهب رضوان الله عليهم. 1- المذهب الأول، مذهب الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة، وهو قول الإمام أبي حنيفة وقول الإمام أبي يوسف أولًا ثم يظهر أنه رجع عنه إلى أن الواجب أداء ذات النقد الثابت في ذمة المدين، ولا اعتبار للرخص والغلاء، وللرهوني من المالكية وجه في وجوب المثل في الرخص والغلاء حيث ارتضاه رأيًا فقيده بما إذا لم يكثر الرخص والغلاء جدًّا فتجب القيمة حينئذ لا المثل. 2- المذهب الثاني، مذهب الحنفية: فقد ذهب الإمام أبو يوسف وعليه الفتوى في المذهب إلى وجوب أداء القيمة في الرخص والغلاء، فإن كان ما في الذمة قرضًا، وجبت القيمة يوم القبض، وإن كان بيعًا فالقيمة يوم العقد، وحكى ابن عابدين رحمه الله تعالى الفتوى عليه. هذا ووجه الرهوني من المالكية بتقييد الرخص والغلاء بما إذا لم يكثر الرخص والغلاء جدًا بحيث يصير القابض لها كالقابض لما لا كثير منفعة فيه فتجب القيمة حينئذ يجتمع مع الحنفية في هذه المسألة غير أنهم يطلقون هم ويقيد هو، فتحصل أن الرهوني مع المالكية في وجوب المثل فيما إذا كان الرخص والغلاء يسيرًا، فأما إذا فحش الرخص والغلاء فهو مع الحنفية في القول بالقيمة فتجب القيمة يوم القبض في القرض، ويوم العقد في البيع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1345 المطلب الثاني – خلاصة أقوال المعاصرين وصبها في تيارات في هذه القضية الخطيرة وهي قضية ربط الحقوق والالتزامات بالقيمة الحقيقية في النقد الاصطلاحي: هنالك ثلاث تيارات واضحة وضوحًا تاما للباحث المتتبع أجمل القول فيها بما يلي: 1- التيار المتشدد: وهو التيار الذي يعد ربط النقد الاصطلاحي بالقيمة الحقيقية في الحقوق والالتزامات – يعدها نوعًا من الربا الذي حرمه الإسلام، فإن لم يكن ربا حقيقة فهو من باب شبهة الربا، وادعى بعضهم الإجماع على ذلك ولم أره، وأما أدلتهم فتنظر في بحوثهم. 2- التيار الوسط: وهم الذين نظروا إلى الموضوع نظرتين مثالية وواقعية: فتوسطوا في الحكم واعتدلوا أكثر من غيرهم، ولكنهم اختلفوا في توجيه هذا الاعتدال في الحكم، فمنهم من ذهب إلى الأخذ بقول الإمام أبي يوسف في القيمة وقيده بضابط هو وجه الشيخ الرهوني وهو ما إذا فحش التغير إلى الرخص بحيث صار القابض لهذه العملات كالقابض لما لا كثير منفعة فيه، وهذا هو المعيار الذي نصبه الشيخ الرهوني لفحش الرخص وكثرته، لكنه رجح وقت تقدير القيمة بالقرض يوم القبض، والبيع أخذ رأي سحنون من المالكية في الكساد بأن يرجح إلى قيمة السلعة يوم دفعها بالسكة الجديدة. - ومنهم من ذهب إلى ربط الأجور بقائمة الأسعار في غير الديون، لكنه أخذ بقول الجمهور في الديون والقروض. - ومن هؤلاء الباحثين من رجح أحد حلين: اعتبار الفلوس وما يلحق بها من الأوراق النقدية سلعًا تجارية في غير القرض أو إضافة نسبة مئوية إلى الثمن متأخر الدفع سماها (نسبة التضخم) مع الإبقاء على حكم ربويتها. - ومن هؤلاء الباحثين من فرق بين الغلاء والرخص في الظروف العادية وبين ما إذا صدر قرار من الدولة بتخفيض عملتها. ففي الواقعة الأولى، في حال الوفاء في الأجل المتفق عليه فلا داعي لبحث التغير للرضا من الطرفين بذلك. وفي حالة عدم الوفاء فإن كان لعذر قهري فنظرة إلى ميسرة. وإن كان مطلًا وليًا من واحد فلا مانع من الحكم على المدين بتعويض الدائن. وفي الواقعة الثانية، نقل الباحث نص كلام ابن عابدين من أنه يجب على المدين دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينًا أو دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد إذا لم يعين المتبايعان نوعًا، والخيار فيه للبائع كما كان الخيار له وقت العقد، لكن لما كان هناك ضرر في هذا الحل للبائعين انتهي العمل إلى الصلح على الأوسط لدفع الضرر وهو الذي اختاره العلامة ابن عابدين رحمه الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1346 3- التيار المجيز لربط الحقوق والالتزامات بالقيمة الحقيقية من الذهب والفضة: وهو قول الإمام أبي يوسف عليه رحمة الله. وهو ما رجحه كثيرون من العلماء والباحثين من أعضاء المجمع الموقر ومن غيرهم في جميع صور الرخص والغلاء. وما يتبعه من التضخم والانكماش. . . ففي هذا المبحث كلًّا لا يتجزأ اتخذ هؤلاء الزملاء موقفًا يتطابق مع مقاصد الشريعة العامة والخاصة، ويرتفع بالموضوع كله عن مزالق الضرر والضرار، وهو ربط جميع الحقوق والالتزامات في الشريعة بالقيمة الحقيقية بالنقود الاصطلاحية إلا وهي الذهب إن لم يتفق عليه من القيمة أو ما اتفق عليه بين المتعاقدين. وحجة هؤلاء أن البائع إنما بذل سلعته في مقابلة منتفع به لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لم ينتفع به هذا في البيع، وأما في القرض والديون فما ذنب الدائن إذا احتسب أمره عند الله تعالى فترك تثمير ماله في يده وأقرضه لإنسان مدة ونقص نقصانًا واضحًا فهل جزاؤه أن يرجع إليه عشر ماله أو أقل مكافأة له على أنه أقرض لوجه الله قرضًا حسنًا؟! إذا لبطل المعروف. وأقلع الناس عن الإقراض، وهلك من جراء ذلك الفقراء المحتاجون. تذييل: في وقوع العقد على نقد غير معين النوع. إذا وقع العقد على نقد غير معين النوع ولا قرينة تعينه كالريال مثلًا في عصرنا، والقروش في عصرهم فقد تكلم في هذا الموضوع فقيهان من الحنفية: 1- العلامة ابن عابدين: ذهب إلى أنه قبل صدور الأمر السلطاني بالرخص فيها فالمشتري بالخيار في دفع العملة المسماة أو ما يعادلها، وحكى الاتفاق على ذلك. وأما بعد ورود الأمر السلطاني بالرخص فإما أن تكون العملات متساوية في قيمتها أو مختلفة: - فإن كانت متساوية في الرخص وجب دفع ما يعادل تلك العملات بالسعر الذي كانت عليه وقت العقد. - وإن كانت مختلفة فيلجأ إلى الصلح فيدفع الوسط. 2- وذهب الشيخ عبد القادر الحسيني إلى أن من باع بالقروش قبل ورود الأمر السلطاني ثم قبل قبض الثمن ورد الأمر من الدولة بتراجع أسعار النقود، فعلى المشتري أن يدفع ما يعادل القرش بحساب العرف من أي نوع كان بالسعر الذي يروج به وقت القبض برضا البائع، وللبائع طلب المسمى في عقد البيع أو مثله. والذي ترجح هو رأي ابن عابدين لكونه وافق مقصود الشارع من استقرار المعاملات ورفع الضرر وأرفق بالعاقدين كما هو ظاهر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1347 المقصد الثالث ترجيح الربط بالقيمة في الفلوس والعملات المعاصرة (وجه الاستحسان وضوابطه) الذي يترجح في هذه المسألة الخطيرة والواقعة الشائكة من واقعات العصر ونوازله هو قول الإمام أبي يوسف رحمه الله تعالى، وهو مجرد رأي لا أدعي فيه أنه فتيا ولا هو حكم الله في الواقعة، بل هذا متروك لمجمعنا الموقر ليبت فيه العلماء الأجلاء فيكون اجتهاد جماعة لا اجتهاد فرد، هو رأي أعرضه على المجمع بكامل هيئته للدرس، رحم الله الإمام أبا حنيفة حيث قال: (علمنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه. فمن جاءنا بأحسن منه كان أحق) وللمجمع الكريم كل الحق في قبول هذا الرأي مقرونًا بضوابطه أو رده أو التخير منه أو التوقف إن وجد في ذلك مصلحة عامة دينية. ولكن لهذا القول ضوابط يجب الوقوف عندها ولا اعتداد بها لجمًا لقول الإمام أبي يوسف وكبحًا لجماحه، وهذه الضوابط اثنان فيما أرى والله تعالى أعلم: 1- الضابط الأول: أن يخرج التغير بالرخص أو بالغلاء اليسير الذي يتسامح به التجار عادة. والمعيار في التغير يسيرًا أو فاحشًا خبرة التجار، كما هو القول في الغبن في البيوع الموقوفة التي يضر فيها الغبن، فالراجح أنه قول التجار من أهل الخبرة والتخصص. ولا يتجه هنا وجه الرهوني من المالكية ومن تبعه من العلماء الزملاء مع تقديري لمحاولة كبحهم جماح قول أبي يوسف، فإن وجه الشيخ الرهوني هنا ليس إلا إلحاقًا لهذه الواقعة – واقعة التغير – بواقعة الكساد. وتجب حينئذ القيمة عند الصاحبين من الحنفية وعند الحنابلة والمالكية في مقابل المشهور كما مر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1348 فقول الشيخ الرهوني بوجوب المثل في الرخص والغلاء إذا لم يكثر الرخص والغلاء جدًا بحيث يصير القابض لها كالقابض لما لا كثير منفعة فيه، قول لا يأتينا بشيء جديد بل كان الشيخ الرهوني يفرق بين حالتين: حالة الرخص والغلاء اليسير في نظره وهو هنا مع الجمهور في وجوب المثل، وحالة الكساد وهو هنا مع الجمهور أيضًا في وجوب القيمة ولا أستطيع أن أعتد بوجه الرهوني ضابطًا لرأي أبي يوسف لئلا يمضي رأي أبي يوسف في كل رخص أو غلاء ولو يسيرًا كما أخذ بذلك بعض الزملاء في المجمع حفظهم الله. وقولهم: (لئلا يمضي رأي أبي يوسف في كل رخص أو غلاء ولو يسيرًا فتضطرب المعاملات وتتزعزع ثقة الناس في التبادل بالفلوس ومثلها الأوراق النقدية، لأن الغبن اليسير أو الغلاء والرخص اليسير لا تخلو منه المعاملات) ، قول سديد، ولكن هل يصلح وجه الشيخ الرهوني رحمه الله من المالكية ضابطًا لهذا الجموح المتوقع؟! اللهم لا بل هذا ذهاب منه لإلحاق الرخص بالكاسد وليس كلامنا في الكساد. بل الضابط في اليسير والفاحش هو قول التجار أهل الخبرة، فما يرونه يسيرًا فهو يسير، وما يرونه تغيرًا فاحشًا كثيرًا فهو كثير. وهو معيار منضبط اعتبره الشرع دائمًا في الأمور الفنية البحتة. ومعنى هذا أن التغير الفاحش شيء والكساد الذي عبر عنه الرهوني رحمه الله شيء آخر. ويظهر ذلك بالمثال الآتي من واقعات العصر (الليرة اللبنانية والليرة التركية) فالليرة اللبنانية أصابها رخص ألحقها بالكاسدة كما ذهب إليه الشيخ الرهوني فهي لم ترخص ولكن كسدت فوجبت القيمة لأنها وصلت من الكساد إلى حد أصبحت لا قيمة لها فانقطعت من التعامل أو كادت بينما الليرة التركية رخصت رخصًا فاحشًا ولكن لم تكسد ولم تنقطع من التعامل وكذلك مثيلاتها من الليرة السورية وغيرها فهذا هو المثال الصحيح للرخص الفاحش الذي لم يدخل تحت الكساد أو الانقطاع المتفق على أنه تجب فيهما القيمة عند أبي يوسف رحمه الله. فتجب القيمة هنا أيضًا في هذه الأمثلة في هذا الترجيح، ولا تجب القيمة عند الشيخ الرهوني ومن تبعه بل يجب المثل. وهنا تحرير محل الخلاف. وعلى هذا؛ فالتغير اليسير الذي يعده خبراء التجار يسيرًا يوجب رد المثل فقط لأنه لا يمكن خلو التعامل عنه بحال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1349 2- الضابط الثاني: ربط النقد الاصطلاحي بالذهب أو بالفضة أو بعملة ثابتة نسبيًا كالدولار الأميركي والين الياباني، وذلك بأن ينص في العقد على هذا الضبط بالقيمة وتحدد هذه القيمة حتى ترد ذاتها عند الوفاء أو عند حلول أجل المداينة أو لتسليم الثمن في القرض في الصورة الأولى، وفي المداينة في الصورة الثانية، وفي العقود التعاملية كالبيع وغيره في الصورة الثالثة. إن هذا الربط في العقد شفويًا كان أو كتابيًا يخرجنا في رد القيمة حالة الرخص أو الغلاء من شبهة الربا لأن التعامل انصرف في جوهره إلى القيمة لا إلى الأوراق النقدية الاصطلاحية المعرضة للرخص الشديد أو الغلاء، وحالة الرخص الشديد أكثر فكأن المتعاقدين تعاقدا على القيمة لا على بديلها من هذه الأوراق النقدية الخطيرة، والقيمة ثابتة نسبيًا فصار التعاقد على ثابت لا على متغير. وصورة هذا الربط أن يلحظ الدائن والمدين أو المقرض والمستقرض أو البائع والمشتري في هذه الصور وأمثالها أن الثمن أو المال المستقرض هو القيمة من ذهب أو فضة أو دولار أو ين، أي قيمة هذا المبلغ لا صورته. فإذا استقرضت منك خمسين ألف ليرة سورية وجب أن يلحظ في القرض عند التسليم أن هذه الليرات تساوي في هذا اليوم كيلو غرام واحدًا من الذهب، فصار هذا الكيلو الذهبي هو المبلغ المستقرض ضمنًا وحكمًا فوجب أداء ما يماثله من الليرات السورية عند حلول أجل القرض، فلو انخفضت الليرة السورية إلى أن صار 70000 سبعون ألف ليرة توازي كيلو غرام واحدًا من الذهب وجب رد السبعين ألفًا لا الخمسين لأن المال المستقرض حكمًا هو الكيلو غرام الذهبي، والورق النقدي الذي قبضه المستقرض ما هو إلا صورة له وبديل شكلي لمنع الدول التعامل بالذهب بحكم القانون ولكنه بقي جائزًا في حكم الشرع. إن هذا اللحظ أو هذا الربط في العقد يبعد العقد عن شبهة الربا فضلًا عن حقيقة الربا، لأن المتعاقد عليه ثابت ينوب عنه في الصورة شيء متغير، فيرجع إلى الثابت لا إلى المتغير في الجوهر، وهو من مقصودات الشارع لأنه يحقق العدل ويبقي على المعروف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1350 توجيه هذا الترجيح بضوابطه: 1- الفلوس وما يلحق بها أثمان باصطلاح الناس فإذا تغير اصطلاحهم فينبغي مراعاة هذا التغير بحيث لا يترتب على طرف ضرر، وإلا لم يعد للاصطلاح قيمة ولا فائدة. 2- ثم إن الرخص والغلاء كالعيب اللاحق للفلوس فترتب عليه ظلم للدافع والرخص فيجبر بالقيمة ولا يبطل العقد كما لم يبطل في الكساد والانقطاع، وهو نظر أبي يوسف في أحوال التغير كلها في الكساد والانقطاع والرخص والغلاء. 3- والقياس الجلي في الرخص والغلاء يقتضي رد المثل في الفلوس لأنها قيست على الدراهم والدنانير التي يجب فيها بالإتفاق رد المثل، بجامع الثمنية في الإلحاق وهي العلة المتعدية. لكننا تركنا القياس الجلي إلى الاستحسان وهو القياس الخفي الذي يقتضي رد القيمة بدليل المصلحة والضرورة على رأي الحنفية. والعلة الخفية التي بني عليها الاستحسان هنا أن اجتماع الفلوس مع الدراهم والدنانير في علة الثمنية لا يمنع من حيث آثار كل أن يختلفا في قيمة هذه الثمنية، فالدراهم والدنانير لا تبطل ثمنيتها بحال، وهي في الخلقة ثمن ورخصها اليسير جدًا لا قيمة له، فلا يترتب ضرر محقق للعاقدين حتى يجب رفعه. بخلاف الفلوس والأوراق النقدية فقد تبطل ثمنيتها وقد ترخص كثيرًا، فينظر حينئذ إلى ما انبنى عليها من آثار شغل الذمم، فقد فارقت في هذا الحال مماثلة الدراهم والدنانير صورة برخص قيمتها، ولم تفارقه حقيقة في مقدار ما شغلت فيه الذمة مما اصطلح عليه حين العقد وإن لم يقبل هذا في مفارقة الفلوس والدراهم والدنانير، فيمكن اعتبار المفارقة استحسانًا للمصلحة أو للضرورة على رأي الحنفية، ويتخرج هذا الرأي على عنصر نظائر فقهية؛ فقال الفقهاء في بيع الفلوس: إذا حصل تخالف وفسخ وهي تالفة فتجب القيمة وكذلك استعارة الفلوس وتلفها قال بعضهم بالقيمة يوم التلف، ولو أخذت الفلوس على جهة السوم فتلفت ففيها القيمة. وكذلك قاعدة: (الحاجة تنزَّل منزلة الضرورة) و (دفع الضرر ورفع الحرج) و (الضرورات تبيح المحظورات وتقدر بقدرها) قواعد يمكن التخريج عليها هنا في هذا المضمار. والله تعالى أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1351 خاتمة تبين لنا من هذه الجولة العجلي أن قاعدة دفع الضرر ورفع الحرج والتيسير على الناس وقاعدة الضرورة والحاجة، والأخذ بروح النصوص يجعلنا نقف هذا الموقف من توجيه القول بالاستحسان في صورة القياس الخفي مع ضوابط تلجم المضي في القياس الخفي هذا إلى ما لا يراد منه، وذلك كله لتحقيق العدل الذي بنيت عليه مقاطع الحقوق، وما أحسن كلام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: (الشريعة عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل) . محمد عبد اللطيف صالح الفرفور أبرز مصادر البحث 1- رد المحتار على الدر المختار، العلامة ابن عابدين، ط الأميرية، 1333هـ. 2- مجموع رسائل ابن عابدين. جزءان في مجلد، للعلامة ابن عابدين، ط إستانبول. 3- العقود الدرية في تهذيب الفتاوى الحامدية، العلامة ابن عابدين. 4- حاشية الرهوني في فقه المالكية، العلامة الرهوني محمد فتحا. 5- المجموع شرح المذهب، العلامة ابن قدامة المقدسي، ط سجل العرب. 6- مجلة الأحكام الشرعية في فقه الحنابلة. 7- فتح القدير شرح الهداية، العلامة ابن الهمام، ط الأميرية. 8- الدرر شرح الغرر بحاشية الشرنبلالي، العلامة منلا خسرو. 9- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، العلامة الكاساني. 10- شرح الخرشي على خليل بحاشية العدوي، العلامة الخرشي. 11- مجموعة فتاوى العلامة ابن تيمية، العلامة ابن تيمية. 12- حاشية الدسوق على الشرح الكبير للدردير، العلامة الدسوقي محمد بن عرفة. 13- الفتاوى الهندية، مجموعة من علماء الهند. 14- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، للعلامة الرملي. 15- المبسوط شرح الكافي للحاكم الشهيد، للإمام السرخسي. 16- ابن عابدين وأثره في الفقه، الفرفور (محمد عبد اللطيف) . 17- الأوراق النقدية وتغير العملة، إعداد الدكتور عجيل جاسم النشمي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1352 تذبذب قيمة النقود الورقية وأثره على الحقوق والالتزامات على ضوء قواعد الفقه الإسلامي إعداد الدكتور على محيى الدين القره داغى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله ومن والاه وبعد: تصاحب العملات الورقية منذ ظهورها اضطرابات عديدة، وتهزها التقلبات الكثيرة والتذبذب من قيمتها الشرائية ولقد نالت قسطا كبيرا من التدهور والانهيار في بعض الأحايين، بل تكاد تفقد بعضها معياريتها للسلع، ومخزونيتها للقيم مما ترتبت على ذلك آثار خطيرة على مستوى الحقوق والالتزامات، وهضم كبير لحقوق الناس، ولا سيما لأولئك الذين أعطوا مبالغ معينة لفترة زمنية طويلة، فيعاد إليه المبلغ فكأنه قد اقتطع منه نصفه، أو ثلثاه نتيجة للتضخم الذي تعانى منه معظم الدول، فلو تصورنا أن أحدا اقرض آخر مبلغ مائة ألف ليرة لبنانية في سنة 1970، والمدين الآن يريد أن يوفي بدينه، ترى كم يرجع؟ هل يرجع المبلغ المذكور بالليرة اللبنانية؟ فلو قلنا نعم لوقع على الدائن ظلم كبير حيث كان المبلغ الذي دفعه في وقته يساوى حوالي خمسين ألف دولار والآن يساوى حوالي ثلاثمائة دولار، فكان المبلغ في وقته يشتري به بيتا ومطبعة والآن لا يكفي لتكاليف دعوة بضعة أشخاص وعلى عكس ذلك لو أخذ شخص الآن مائة ألف ليرة لبنانية التي تساوى حوالي ثلاثمائة دولار ثم بعد عشر سنوات يريد أن يرجعها وقد صعدت قيمة الليرة صعودا كبيرا ترى كم يرجع؟ والمسألة لا تخص الليرة اللبنانية، بل هي عامة في أكثر النقود مثل الليرة التركية، والسورية، بل حتى الجنية المصري والدينار العراقي، والجنيه السوداني وغيرها.. فالمسالة لم تعد تطاق لما يترتب عليها من نتائج خطيرة، ولذلك قمت بإثارتها على مستوى كلية الشريعة بجامعة قطر في ندوة علمية في 15/10/1987 وأثنى أغلب الحاضرين بمن فيهم فضيلة الأستاذ الدكتور / يوسف القرضاوي، والأستاذ الدكتور جمال الدين عطية - على النتائج التي توصلت إليها (1) والتي نلخصها هنا حتى نعرضها على المهتمين بالفقه والاقتصاد الإسلامي لإثرائها بالمناقشة والنقد والتحليل.   (1) ينشر البحث بالكامل في مجلة المسلم المعاصر في العدد القادم بإذن الله تعالى العدد (50) وما بعده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1353 سنتكلم في الخلاصة عن تعريف النقود بإيجاز، وعن نبذة تاريخية لها ثم عن بعض أحكام النقود المعدنية من الذهب والفضة وعن الفلوس ثم إن هذا الموضوع في الواقع يرتبط بقاعدة المثلي والقيمي في الفقه الإسلامي ولذلك نرى من الضروري أن نتحرى هذا الجانب ونوضح المعايير التي تتحكم فيها لنرى هل تدخل نقودنا الورقية في المثليات، وهي هي مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام؟ وقبل أن ندخل في الموضوع أحب أن أشير إلى عدة مبادئ أساسية يجب على كل باحث مراعاتها وهي: 1- أن ما ورد فيه النص من الكتاب والسنة الخالي من المعارض لا يجوز الاجتهاد بخلافه وإن كان ذلك لا يمنع من جواز الاجتهاد فيه. من هنا فالنقود الورقية حديثة العهد لا مطمع في وجود نص فيها، ولا قول للفقهاء السابقين ومن هنا تخضع للقواعد العامة التي تتحكم فيها العدالة وما يحقق المصلحة لجميع الأطراف. 2- رعاية المقاصد والمبادئ الأساسية والقواعد العامة الكلية للشريعة مقدمة على رعاية الجزئيات والفروع ولا سيما إذا كانت اجتهادية، ومن هذه المبادئ التي تتحكم في موضوعنا مبدأ العدل وعدم الظلم الذي جاء لأجله الإسلام: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (والأصل في العقود جميعها هو العدل فإنه بعثت به الرسل وأنزلت الكتب والشارع نهى عن الربا لما فيه من الظلم وعن الميسر لما فيه من الظلم) (1) فإذا كان القرآن الكريم قد قرر بخصوص المرابين {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} فكيف يرضى أن يظلم الدائن ويقتطع حقه في وقت يدعو فيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الإحسان إليه ويقرر ((إن خياركم أحسنكم قضاء)) (2) . ومن هذه المبادئ قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) ومبدأ رعاية المصلحة ودرء المفسدة ورعاية أن الاجتهادات الدينية على المصلحة تتغير بتغير مبناها كما أوضح ذلك ابن القيم في كتابه القيم (أعلام الموقعين) .   (1) مجموع الفتاوى 1/510 (2) حديث صحيح رواه البخاري في صحيحه مع الفتح 5/65-95 ومسلم في صحيحه 3/314وغيره 0 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1354 التعريف بالنقد: عرف فقهاؤنا الكرام النقد من خلال ذكر وظائفه الأساسية فقالوا: (إنها أثمان المبيعات وقيم المتلفات والديات ووسيط بين السلع وحاكم عليها وإنه من ملكه فكأنما ملك كل شيئ وهو التوسل من خلاله إلى سائر الأشياء وإن نسبته إلى سائر الأموال نسبة واحدة وإنه بمثابة المرآة التي يرى من خلالها الأشياء) (1) وقد شرح ذلك الإمام الغزالي شرحا وافيا (2) كما تناوله شيخ الإسلام فقال: (فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارًا للأموال يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال ولا يقصد الانتفاع بعينها) (3) . وقد عرفه علماء الاقتصاد الحديث بما يقرب مما ذكرناه فقالوا: (هو ما يستخدم وسيطًا للتبادل ومقياسا للقيم ومخزونا للثروة ومعيارا للمدفوعات الآجلة من الديون) . ومن الجدير بالتنبيه عليه هو أن هذه الوظائف الأربع مجتمعة ليست بمثابة الأركان التي لو تخلفت واحدة منها في نقد ما لفقد نقديته ولذلك نرى كثيرا من أنواع النقود في الاقتصاد الحديث مثل النقود السلعية والنقود المصرفية بل والنقود البلاستيكية مع أنها لا تتوفر فيها جميع العناصر السابقة يطلق عليها اسم النقود.   (1) انظر بداية المجتهد: 2/130 وإحياء علوم الدين:4/88 وإعلام الموقعين: 2/156 (2) راجع إحياء علوم الدين:4/88-89 (3) مجموع الفتاوى: 29/471-472 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1355 نبذة تاريخية عن النقود: لم يكن الإنسان في مجتمعه البدائي بحاجة كبيرة إلى وسيط للتداول إذا كان يكتفي ذاتيا بما وفر الله له من خيرات الأرض ثم لما تكونت المجتمعات احتاج إلى المقايضة ثم إلى استخدام النقود ولما جاء الإسلام كان النقد السائد هو الدنانير الذهبية والدراهم الفضية اللتين كانتا سائدتين في الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية ثم قام عمر (رضي الله عنه) بضرب دراهم على نفس الكسروية وكتب على بعضها " الحمد لله " وعلى بعضها " لا اله إلا الله " وكذلك قام عثمان بضرب دراهم ثم معاوية وابن الزبير لما استقر الأمر لعبد الملك وضع السكة الإسلامية وأمر الناس أن يضربوا عليها نقودهم وقد استقر الأمر على أن وزن الدينار هو مثقال من الذهب أي 40.25 غرامات والدرهم كل عشر منه يساوى سبعة مثاقيل ثم ظلت الخلافة الإسلامية تحافظ على النقود ولا تفرط فيها إلا في حالات يعم فيها الاضطراب وبتتبعنا لأحوال الحضارة الإسلامية نجد أنها لم تشهد أزمات تضخم حادة مثل ما حدث في عالمنا المعاصر نتيجة التزامها بالنقود الذهبية أو الفضية ولكنها قد شهدت بعض اضطرابات نتيجة سيادة الفلوس والغش في المعاملات كما ذكر ذلك العلامة المقريزي والحافظ المناوي وغيرهما (1)   (1) كتاب النقود للمقريزي ط استانه والنقود والمكاييل والموازين للحافظ المناوي ط دار الحرية بغداد والأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 174 والمقدمة لابن خلدون ط عبد السلام بن شقرون ص 29 والحضارة الإسلامية لآدم متر ط دار الكتاب العربي ببيروت: 2/320 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1356 ظهور النقود النقدية: ساعد على ظهورها (1) عدم الاستقرار والاضطراب اللذان سادا أوروبا مما حدا بالأغنياء أن يودعوا نقودهم الذهبية عند التجار الصيارفة الأمناء القادرين على حفظ الأموال في خزائنهم الحديدية الذين كانوا يعطون بدورهم سندات إيصال فتكونت على أثر ذلك فئة من التجار الصيارفة اعتنوا بالصيرفة فقط وحفظ الأمانات واخذ الفوائد عليها واصبحوا وسطاء في تبادل النقود بحيث إذا أراد رجال الأعمال الذين يتعاملون معهم إبرام عملية تبادل معينة أو تسديد ما عليه من ديون إلى الغير كان عليه أن يقدم إلى الصراف الذي يتعامل معه ما يحمله من إيصالات، ويسترجع منه سبائكه ثم يرسلها إلى دار سك النقود حيث يتم تحويلها إلى عملات ذهبية يستخدمها التاجر في عمليات الثراء وتسديد الديون (2) . ثم خطت الصيرفة خطوة أخرى نحو التيسير في التبادل وذلك بإعطاء المزيد من الثقة إلى الإيصال، بحيث إذا وقع على ظهره صاحبه وأعطاه لآخر أصبح خاصا بحامله ومن هنا أعطى بدل السبيكة الذهبية نفسها، ويجري به النقود ويتداول مع بقاء السبيكة عند الصراف. تلك هي بداية المخاض لورقة البنكنوت التي مهدت الطريق لولادة الأوراق النقدية، وهيأت الرأي العام لتقبلها، أدرك التجار فوائدها في تسهيل عمليات الدفع، فتطورت إلى إصدار فئات محدودة مثل عشرة جنيهات وخمسين جنيهًا ومائة جنيه ... ثم انتقلت هذه الفكرة إلى الحكومات وتبنتها وأعطتها الثقة وأفادت منها حيث احتفظت هي بالسبائك، وأصدرت في مقابلها الأوراق النقدية المطلوبة، وبذلك درجت الحكومات على طبع أوراق النقد بشرط توفر غطاء كاف من السبائك ثم أختفي الصيارفة من الصورة وحل نظام الشيكات المصرفية محل إيصالات الصيارفة تكونت البنوك الحديثة وقامت بإصدار النقود الورقية بكل أشكالها المتعددة، ثم خفف العطاء ليصل إلى 50 % فقط، ووجدت عدة أنظمة منها ما يعتمد على نظام النقد الواحد أو على غيره إلى أن تكون في عام 1945 م صندوق النقد الدولي وأصبحت معظم الأنظمة النقدية الحديثة تعتمد على النقد الورقية والمصرفية كوسيلة للدفع، وذلك بسبب المشاكل الاقتصادية وعدم قدرة الدول على توفير الغطاء الكافي ومن هنا فإن حجم المعروض من النقد لا يتوقف بتاتا على إمكانية الحصول على المعادن النقدية وإنما يتوقف على قرارات السلطات النقدية من البنك المركزي ووزارة المالية ومع ذلك فإن هناك بلا شك عوامل كثيرة لها تأثيرها الفعال على النقود الورقية وعلى رأسها نوعية الاقتصاد القائم درجة نموه وما حققه من تقدم أو ما يعانيه من تخلف اقتصادي اجتماعي وسياسي وما يصيب الدولة من مشاكل وحروب وغيرها (3) .   (1) وقد ذكر ابن بطوطة في رحلته ط المطبعة الخيرية الأولى: ص 196 أن أهل الصين كانوا يستعملون النقود الورقية (2) د. أحمد عبده / المصدر السابق ص 340 (3) المصادر السابقة وراجع أ. د مصطفى رشدي شيحه: النقود والبنوك ط الدار الجامعية ص 31 ود. عبد النعيم مبارك: النقود والصيرفة ط الدار الجامعية ص 19 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1357 قاعدة المثلي والقيمي في الفقه الإسلامي وعلاقتها بالنقد: وضع فقهاؤنا الكرام قاعدة عامة تتحكم في مسائل كثيرة وتضبط بها جزئيات لا تكاد تحصر في أبواب الحج والقرض والبيوع، والغصب، والضمانات، والجنايات، وغيرها ... حيث ترد المثليات بالمثل دون ملاحظة القيمة، في حين يرد ما هو قيمي بالقيمة - كقاعدة عامة -. والموضوع الذي نحن بصدد بحثه له علاقة وثيقة بهذه القاعدة، وذلك لأننا إذا استطعنا أن نوضح المعايير الدقيقة للقيمي والمثلي نستطيع حينئذ من خلالها الوصول إلى الحكم على نقودنا الورقية بالمثلية أو القيمية. فالمثلى نسبة إلى المثل، وهو لغة الشبه، والقيمي نسبة إلى القيمة وهي لغة ثمن الشيء بالتقويم (1) وقد ورد لفظ " مثل " ومشتقاته اكثر من مائة وخمسين مرة في القرآن الكريم منها قوله تعالى: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} (2) أي من حيث الخلقة والماهية والجنس، والنوع ولكنه ثار خلاف بين المفسرين في تفسير " مثل " في قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (3) حيث فسره بعضهم بشبهه في الخلقة الظاهرة ويكون مثله في المعنى (4) في حين فسره آخرون وعلى رأسهم الحنفية بالقيمة وجعلوها هي المعيار في عملية التقويم ودافع أبو بكر الجصاص عن هذا المعنى دفاعا كبيرا وأورد أدلة كثيرة لدعمه ودحض حجة المخالف.   (1) لسان العرب والقاموس مادة " مثل " (2) سورة إبراهيم: الآية 11 (3) سورة المائدة الآية 95 (4) أحكام القرآن لابن العربي:2/670 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1358 وفي اصطلاح الفقهاء اختلفت وجهات نظرهم في المثلية والقيمية حسب المراد بها في الأبواب المختلفة، ففي باب الحج تعتبر البقرة مثلا للناقة، وكذلك النعامة مثلا للناقة والبقرة، حيث إذا قتلها المحرم تجب إحداها مع أن الحيوانات جميعها ليست من المثليات في باب القرض عند من يقول باستقراضها (الجمهور) ونرى أن المثلية لا تتحقق في باب البيع حتى في جنس واحد ونوع واحد من الحيوانات إلا مع التماثل في الذكورة، أو الأنوثة، ويسمونه فوات الوصف المرغوب فيه، أو الجنس المرغوب (1) وغير ذلك من التفصيلات (2) ولكن أكثر الاتجاهات تسير نحو تعريف المثلى بما هو مقدر بكيل أو وزن فعلى ضوء ذلك فالمكيلات والموزونات هما المثليات وغيرهما قيميات في حين أضاف بعضهم إليهما المعدودات التي لا تفاوتَ بيِّنًا بين أفرادها (3) . ولو أستعرضنا ما ذكره فقهاؤنا الكرام في هذه الأبواب المختلفة لوصلنا إلى أن المعيار الذي اختاروه هو ما يحقق العدالة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عند كلامه عن عوض المثل: " وهو أمر لا بد منه في العدل الذي به تتم المصلحة الدنيا والآخرة فهو ركن من أركان الشريعة ومداره على القياس والاعتبار للشيء بمثله وهو نفس العدل وهو معنى القسط الذي أرسل الله له الرسل (4) .... " ولذلك نرى فقهاؤنا يحكمون على شيء بأنه يرد بالقيمة مع أنه على ضوء القاعدة العامة من المثليات مثل الذهب الذي دخلته الصنعة حيث يصبح من القيميات والماء الذي أتلفه شخص في وقت عَزة حيث يلاحظ فيه القيمة وغيرها كثير جدا (5) .   (1) يراجع مبدأ الرضا في العقود دراسة مقارنة 2/ 802 (2) يراجع المبسوط 13/ 12-13 وفتح القدير: 5/ 206 ومواهب الجليل:4/466 والوسيط بتحقيقنا: 3/ 803 والمغنى لابن قدامة: 7/ 135 وغيرها حيث فصلنا ذلك في البحث الذي سينشر في مجلة المسلم المعاصر إن شاء الله. (3) يراجع فتح القدير 11/269 (4) مجموع الفتاوى: 29/ 520 (5) الأشباه للسيوطي: ص 382 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1359 هل نقودنا الورقية مثل الدراهم الفضية والدنانير الذهبية في كل الأحكام؟ هذا هو السؤال الذي يفرض نفسه عند بحث أحكام النقود ولاشك أن الجواب عنه بالسلب أو بالإيجاب أو بالتفصيل يكون هو الأساس في أي حل يراد. فقد ذهب العلماء الذين عاصروا مولد النقود الورقية إلى أنها ليست مثل النقود المعدنية على الإطلاق ولذلك قال بعضهم بعدم وجوب الزكاة فيها ثم حينما اتضح الأمر بعض الشيء أفتى الكثيرون بوجوب الزكاة فيها (1) . ولو دققنا النظر في هذا الخلاف لوجدنا خلاف عصر وأوان لا خلاف حجة وبرهان، لذلك لم يعد للتكييف السابق باعتبارها سندات ديوان أي مبرر بعد ما صارت أثمانا بالعرف ونالت ثقة الناس، ولكنها مع ذلك لا يمكن القول بأن النقود الورقية أصبحت مثل النقود الذهبية في جميع الأحكام وذلك لأن كثيرا من الفقهاء لم يعطوا جميع أحكامها للنقود المغشوشة على الرغم من رواجها وكذلك لم يعاملوا الفلوس معاملة الذهب والفضة حتى وإن راجت (2) . وكذلك الأمر في نقودنا الورقية حيث تختلف النقود الذهبية والفضية فيما يأتي: 1- أن الدنانير والدراهم نقدان ذاتيان ضامنان للقيمة في حد ذاتهما في حين أن العملة الورقية نقد حسب العرف والاصطلاح. 2- أهما لا ينسأ مع نقديتهما باعتبار أن الزيادة في وزنهما زيادة في قيمتهما وقد أثار إلى ذلك الحديث الصحيح " وزنا بوزن " ولا يلاحظ ذلك في النقود الورقية. 3- أنهما لو ألغيت نقديتهما بقيت مثيلتهما وقيمتهما في حين أن العملات الورقية لو ألغيت لما بقيت فيها أي فائدة. 4- لا خلاف بين علمائنا المعاصرين في أن نقودنا الورقية تقوم بالذهب أو الفضة أو غيرهما لمعرفة نصاب الزكاة فيها , في حين أن نصاب الدراهم والدنانير ثابت ولا يحتاج منه إلى تقدير بآخر بل يقوم بهما غيرهما (3) . 5- أن المعاصرين جميعا متفقون على أن نقد كل بلد جنس بذاته ولذلك يجري فيه التفاضل فيها لو بيع بنقد بلد آخر وما ذلك إلا لرعاية القيمة في حين أن الدراهم والدنانير لا يلاحظ فيهما البنك الذي أصدرها. 6- أن النقود الورقية كانت مغطاة في أساسها بالذهب ولا يزال الاقتصاد الخاص بالدولة التي تصدرها له علاقة بقوتها وضعفها ولا يؤخذ هذا في الدراهم والدنانير. 7- حينما ألغى الفقهاء رعاية القيمة في المثليات مثل الذهب والفضة والحنطة والشعير نظروا إلى أنها تحقق الغرض المقصود سواء رخص سعرها أم غلا، أما النقود الورقية فقيمتها في قوتها الشرائية. 8- أن الاقتصاديين يكادون يتفقون على أن مشكلة التضخم التي يعانى منها ولدت في أحضان النقود الورقية ولم يحصل مثلها عند سيادة النقود المعدنية النفيسة.   (1) يراجع في تفصيل ذلك فتح العلي المالك للشيخ عليش:1/ 164-165 والفتح الرباني مع شرحه للساعاتي: 8/ 25 والفقه على المذاهب الأربعة:1 /15وفقه الزكاة للشيخ الدكتور القرضاوي 1/ 271 (2) يراجع الهداية مع شرح فتح القدير وشرح العناية: 7/ 152-153 وحاشية ابن عابدين 5/ 266 (3) راجع فقه الزكاة: 1/269 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1360 الترجيح: ولذلك فالراجح هو القول بنقدية هذه الأوراق المالية وبالتالي وجوب الزكاة فيها باعتبار قيمتها وكونها صالحة للثمنية والحقوق والالتزامات وعدم جواز الربا فيها لا نقدا ولا نسيئة، ولكن مع ملاحظة أنها لا تؤدي جميع الوظائف المطلوبة وبالتالي ملاحظة قيمتها عندما تحدث فجوة كبيرة بين قيمة النقد في وقت القبض وقيمته عند التسليم وهذا في نظري هو الرأي الذي يحقق العدل الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم ((قيمة عدل لا وكس ولا شطط)) (1) وهذا هو الواقع الذي تعيشه نقودنا الورقية حيث يعترف كثير من الاقتصاديين بأنها لا تؤدى اليوم جميع وظائفها (2) . وفي رأيي أن نظام النقود اليوم نظام خاص لا يمكن إجراء جميع الأحكام الخاصة بالنقود المعدنية – الذهب والفضة وحتى الفلوس عليها فهو نظام خاص جديد لا بد أن نتعامل معه على ضوء واقعه ونشأته وتطوره وعطائه وما جرى عليه ولذلك فما المانع من أن نقره كوسيط للتبادل التجاري ولكنه مع ذلك يلاحظ فيه قيمته ونربطه أما بالذهب أو بسلة السلع بعد أن فقد النقد الورقي كثيرا من وظائفه حتى في الدول الغربية حيث لم يعد مثل السابق مقياسا للقيم حتى في الغرب الذي نشأ فيه ولا مخزونا للثروة حيث تخزن في الغالب بالذهب أو بالعقار أو بنحوها فقيمة نقودنا الحالية في قدرتها الشرائية فإذا فقدتها أو اهتزت فما الفائدة في شكلها أو ما كتب عليها؟ فهي لا تؤكل ولا تلبس ولا يتحلى بها وإنما ليشتري بها السلع ولذلك فالتساوي والتماثل والتفاضل والتعامل والزكاة باعتبار قيمتها ولذلك فما دام سعر الريال الواحد - مثلا - في وقت واحد لدولة واحدة لا يتصور فيه الزيادة فلا يحتاج إلى رعاية القيمة وكذلك الأمر في وقتين لم تتغير فيهما قيمته بشكل يؤدي إلى الغبن الفاحش فعلا لا تصورا وتخمينا وحتى تكون أبعاد هذا الذي اخترناه واضحة المعالم، فلابد أن نذكر التأصيل الفقهي له والمعيار الذي نعتمد عليه عند التقويم ومتى نلجأ إليه؟ وزمن التقويم ومكانه.   (1) رواه مسلم في صحيحه: 2/1145 (2) يراجع د حمدي عبد العظيم: السياسات العالية والنقدية في الميزان ص342 د. محمد يحيى عويس مبادئ في علم الاقتصاد ص 281. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1361 التأصيل الفقهي: لا شك أن مسالة النقود الورقية لم تكن موجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة والفقهاء والمجتهدين وإنما ظهرت - كما سبق - في حدود القرنين الأخيرين ومن هنا فلا نطمع أن نحصل على نص خاص يعالج هذه المسالة بخصوصها ولكن لما كان الإسلام دينا خالدا شاملا لكل الأزمنه والأمكنة فإنه تضمن من المبادئ والقواعد العامة ما يمكن استنباط حكم كل قضية مهما كانت جديدة على ضوئها اذن فالقضية تحل من خلال المبادئ والمقاصد العامة للشريعة وبالإضافة إلى ذلك فإننا نرى بعض مسائل جزئية دقيقة أثارها فقهاؤنا الكرام تصلح لأن تكون أرضا صالحة للانطلاق منها إلى حل مسألتنا هذه ومن هنا فنحن نذكر بإيجاز بعض القواعد العامة والمبادئ الكلية , وبعض المسائل الجزئية ذات العلاقة بموضوعنا: أولاً: المبادئ العامة القاضية بشكل قاطع بتحقيق العدالة ورفع الظلم حيث أنزل الله تعالى الكتب والشرائع لتحقيق ذلك .... قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (1) . ولذلك يرشد القرآن الكريم إلى أن المرابي حينما يتوب يأخذ رأس ماله لا يظلم ولا يظلم إذن فكيف يسمح بأن ترجع إلى الدائن نقوده بعد أن فقدت جزءا كبيرا من قيمتها ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((خير الناس أحسنهم قضاء)) (2) ومن المبادئ العامة الكلية قول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) (3) . حيث جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من القطعيات التي تزاحمت عليها أدلة الشرع من الكتاب والسنة (4) .   (1) سورة الحديد الآية 25 (2) رواه البخاري في صحيحه مع فتح الباري 5/ 56 (3) رواه أحمد في مسنده 5/327 والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبى المستدرك 2/57 (4) الموافقات 3/9-10 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1362 ومن هذا المنطق فلا يمكن أن تكون الجزئيات مخالفة للقواعد العامة ولا القطعيات مناقضة للأصول العامة المقررة فعلى ضوء ذلك فلا يمكن أن نقول في نقودنا الورقية قولا يخالف هذه المبادئ يؤدي إلى الظلم والضرر بأصحاب الحقوق في وجهة نظرنا أن القول برد المثل في نقودنا الورقية يؤدي في كثير من الأحوال إلى الظلم بأصحاب الحقوق فمن دفع قبل خمسة عشر عاما مبلغ 100 ألف ليرة مثلا ثم لو رجعها المدين إلى الدائن بالمثل لأصاب الدائن خسارة كبيرة وضرر كبير لا يمكن أن يتفق مع هذه المبادئ السابقة. * ثانيا: بعض المسائل الفقهية التي ذكرها فقهاؤنا السابقون بخصوص الفلوس والدراهم والدنانير المغشوشة حيث ذهب الفقهاء إلى رعاية القيمة على أساس الذهب الخالص ورواجها في السوق وملاحظة الرخص أو الغلاء حيث ذهب أبو يوسف ومحمد في بعض الحالات وبعض فقهاء المالكية وبعض الحنابلة إلى رعاية القيمة يقول ابن عابدين (قال في الولواجية: رجل اشترى ثوبا بدراهم نقد البلدة فلم ينقدها حتى تغيرت فهذا على وجهين إن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق أصلا فسد البيع لأنه هلك الثمن وإن كانت تروج لكن انتقصت قيمتها لا يفسد ولانه لم يهلك وليس له إلا ذلك وإن انقطع بحيث لا يقدر عليها فعليه قيمتها ... ) ثم قال (يجب رد مثله) هذا كله قول أبي حنيفة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1363 ووقال أبو يوسف: تجب قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل وقال محمد يجب آخر ما انقطع من أيدى الناس قال القاضى الفتوى في المهر والقرض على قول أبي يوسف وفيما سوى ذلك على قول أبي حنيفة انتهي – قال التمرتاشي اعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها أو بالفلوس وكان كل منها نافعا حتى جاز البيع لقيام الاصطلاح على الثمنية، ولعدم الحاجة إلى الإشارة لالتحاقها بالثمن ولم يسلمها المشتري للبائع ثم كسدت بطل البيع والانقطاع عن أيدي الناس كالكساد حكم الدراهم كذلك فإذا اشترى بالدراهم ثم كسدت أو انقطعت بطل البيع ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائما مثله إن كان هالكا وكان مثليا وإلا فقيمته وإن لم يكن مقبوضا فلا حكم لهذا البيع أصلا وهذا عند الإمام الأعظم وقالا لا يبطل البيع، لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد، وذلك لا يوجب الفساد، لاحتمال الزوال بالرواج كما لو اشترى شيئا بالرطبة، ثم انقطع وإذا لم يبطل وتعذر تسليمه وجبت قيمته، لكن عند أبي يوسف يوم البيع، وعند محمد يوم الكساد وهو آخر ما تعامل الناس بها، وفي الذخيرة: الفتوى على قول أبي يوسف ... (1) وذكر ابن عابدين أن الظاهر من كلامهم هو أن هذا الخلاف في الفلوس، والدراهم التي غلب غشها، غير أن بعض الحنفية عمموه في المغشوشة وغيرها (2) ثم ذكر ابن عابدين مسألة وقعت في عصره رجح القول فيها بناء على العدالة، لا على الشكل والتقليد فقال: (أعلم أنه تردد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض النقود الرائحة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينا كما لو اشترى بمائة ريال أفرنجي، أو مائة ذهب عتيق، أو دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد إذا لم يعين المتبايعان نوعا والخيار فيه للدافع كما كان الخيار له وقت العقد، ولكن الأول ظاهر سواء كان بيعا أو قرضا بناء على ما قدمناه وأما الثاني فقد حصل بسبب ضرر ظاهر للبائعين فإن ما ورد الأمر برفضه متفاوت..) ثم قال: (وقد كنت تكلمت مع شيخي فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من الضرر، وإنما يفتي بالصلح..) ثم بين بأن القضية تدور مع علتها قائلا: (فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما يشاء وقت العقد وإن امتنع البائع لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، فإذا امتنع عما أراد المشتري يظهر تعنته أما في هذه الصورة فلا، لأنه ظهر أنه يمتنع عن قصد إضراره .... ) فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به من اختيار للأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط، والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها. فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصا، لا الأقل، ولا الأكثر، كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري (3) . وهذا ما نحن نؤكد عليه هنا أنه ما دامت النقود الورقية غير منصوص عليها فلابد إذن من رعاية ما يحقق العدالة، ويرفع الحيف والضرر والضرار دون النظر إلى الشكل.   (1) رسالة النقود: 2/60- 61، والهداية وفتح القدير: 7/155 (2) رسالة النقود: 2/62 (3) النقود: 2 /66 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1364 وقد أعطى العلامة الكاساني أهمية خاصة للقيمة حتى جعلها معيارا وأصلا فقال: (ألا ترى أنه لا يعرف الجيد، والوسط والرديء إلا باعتبار القيمة، فكانت القيمة هي المعرِّفة بهذه الصفات فكانت أصلا في الوجوب، فكانت أصلا في التسليم ... ) (1) . وفي المذهب المالكي نجد أن القاضي ابن عتاب، وابن دحون وغيرهما يقولون برعاية القيمة في بعض المسائل، حيث ورد في المعيار المعرب: (سئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة؟ أجاب ... وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك من قيمة السكة المقطعوعة من الذهب، ويأخذ صاحب الدين القيمة ومن الذهب ... ، وكان أبو محمد بن دحون رحمه الله يفتي بالقيمة يوم القرض، ويقول إنما أعطاها على العوض فله العوض..) (2) . وقيد الرهوني رد المثل بالمثل إذا لم يكن تغير السعر كبيرا، فقال: (وينبغي أن يفيد ذلك بما إذا لم يكثر جدا حتى يصير القابض بها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه، لوجود العلة التي علل بها المخالف، حيث إن الدائن قد دفع شيئا منتفعا به لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به) (3) . وقد راعى المالكية – كقاعدة عامة – القيمة في كثير من المسائل وأولها عناية فائقة حيث ذهبوا إلى أن عشرين دينارا من الذهب تجب فيها الزكاة حتى ولو كان فيها نقص من حيث الوزن ما دامت مثل الكاملة في الرواج، وعلل ذلك العلامة الدسوقي بقوله: (لا يخفى أن القيمة تابعة للجودة والرداءة فالالتفات لأحدهما التفات إلى الآخر) (4) خلافا للشافعية في رعاية الوزن (5) .   (1) بدائع الصنائع: 3/1442 (2) المعيار المعرب: 6 / 461 – 462 (3) نقلا عن د. شوقي أحمد دنيا في بحثه القيم عن النقود والأثمان في مجلة المسلم المعاصر العدد (41) (4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 1/455. (5) الروضة: 2/257، والمجموع: 6 / 1974. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1365 والقاعدة العامة لدى الشافعية وغيرهم أن المثلي إذا عدم، أو عز فلم يحصل إلا بزيادة لا يجب تحصيله كما صححه النووي، بل يرجع إلى القيمة (1) . والحنابلة يقولون بوجوب القيمة في حالة إلغاء السلطان الفلوس، أو الدراهم المكسرة، ولكن هل تجب القيمة عند الغلاء أو الرخص؟ المنصوص عن أحد وأصحابه هو عدم اعتبارها، وقد بين ابن قدامة السبب في هذه التفرقة بين الحالتين فقال معللا لوجود القيمة في حالة الكساد ودون حالة تغير القيمة: (إن تحريم السلطان لها منع إنفاقها، وأبطل ماليتها فأشبه كسرها، أو تلف أجزائها، وأما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء كان كثيرا أو قليلا، لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت، أو غلت) (2) . ولو دققنا النظر في التعليل الذي ذكره ابن قدامه لوجدناه قائما على ثلاثة أمور: الأمر الأول: الاعتماد على أن الكساد عيب ولكن الرخص الفاحش ليس بعيب ولو رجعنا إلى تعريف ابن قدامة نفسه للعيوب لدخل فيه الرخص الفاحش، حيث عرفها بأنها: النقائص الموجبة لنقص المالية، ثم ذكر عدة تطبيقات محللا فيها، (ولنا أن ذلك ينقص قيمته وماليته) . فعلى ضوء ذلك كان الأجدى رعاية القيمة أيضا في النقود الاصطلاحية لأن القيمة عنصر أساسي. * الأمر الثاني: الاعتماد على القياس على الحنطة إذا رخصت وهذا في نظرنا قياس مع الفارق، وذلك لأن قيمة الحنطة في ذاتها لو رخصت لما اختلف الأمر من حيث قيمتها الغذائية، وكذلك النقود الذهبية والفضية حيث لو رخصت لما أثرت في كونها سلعة لها قيمة ذاتية، أما النقود الورقية فقيمتها في قدرتها الشرائية فلو اهتزت اهتزازا كبيرا فلابد من مراعاتها.   (1) راجع المصدرين السابقين، وقطع المجادلة عند تغير المعاملة للسيوطي مخطوطة التونسي، ورقة (1) ، وذكر وجها للشافعية يقضي بأن الفلوس والدراهم المغشوشة من المتقومات فعلى هذا يكون الرد فيها بالقيمة. (2) المغني لابن قدامة: 4 / 460 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1366 * الأمر الثالث: القياس على كسر النقد، أو تلف بعض أجزائه، وهذا القياس لصالحنا حيث إن التضخم الذي أصاب معظم النقود فسره الباحثون الاقتصاديون بقطع العملة إلى نصفين أو أكثر، يبقى جزء منها في جيب الدولة، وجزؤها الآخر عند المستهلك، وذلك لأن الدولة تصدر من النقود الورقية أكثر مما لديها من وسائل نمو الاقتصاد والثروة. فعلى ضوء ذلك فالرخص الفاحش في النقود الورقية هو بمثابة الكسر وتلف بعض أجزاء النقود المعدنية، لأن العبرة بالقيمة والقدرة الشرائية وهي قد اهتزت. هذا وقد نقل صاحب الدرر السنية عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله: (بأن اختلاف الأسعار مانع من التماثل، وقاس مسألة تغير النقود على كسادها، بناء على أن كون الكساد عيبا يكمن في كونه نقصا في القيمة، لأنه ليس عيبا في ذات النقد من حيث النقص في عينه، حيث إن القدر لم يتغير، وإنما هو باعتبار أن الكساد يترتب عليه نقصان في القيمة لا غير) ، ثم عقب صاحب الدرر على ذلك بقوله: (إن كثيرا من الأصحاب تابعوا الشيخ تقي الدين – أي ابن تيمية – في الحاق سائر الديون بالقرض، وأما رخص الأسعار فكلام الشيخ صريح في أنه رد القيمة أيضا ووهو الأقوى) (1) . وهذا الرأي الذي اختاره شيخ الإسلام في عصره للنوازل الواقعية فيه جدير بالقبول، وحري بالترجيح في المسألة التي نحن بصدد بحثها، فعلى ضوء هذا الرأي، والآراء التي سبقته لأبي يوسف، وبعض علماء المالكية نكون قد وجدنا أرضية ثابتة، ومنطلقا جيدا للرأي الذي نرجحه وهو رعاية القيمة في نقودنا الورقية عند التغير الفاحش.   (1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية / ط. دار الافتاء بالرياض: 5/110 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1367 * ثالثا: رجوع الفقهاء في كثير من الأمور المثلية إلى القيمة حينما لا يحقق المثل العدالة، كما في حالة اقتراض الماء عند ندرته وفي حالة الحلي المصنوع من الذهب ولكن داخلته الصنعة وغير ذلك مما ذكرناه عند كلامنا على المثلي والقيمي. * رابعا: وحتى نختم هذا بختام المسك نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم، أشار إلى أهمية القيمة، حيث قال: ((من أعتق عبدا بين اثنين فإن كان موسراً قوم عليه، ثم يعتق)) وفي رواية صحيحة أخرى: ((من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قُوِّم العبد عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)) وفي رواية لمسلم: ((من ماله قيمه عدل لا وكس ولا شطط)) (1) يقول العلامة ابن القيم: (ومعلوم أن المماثلة مطلوبة حسب الإمكان، ثم نقل عن جمهور العلماء قولهم: الدليل على اعتبار القيمة في إتلاف الحيوان دون المثل: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضمن معتق الشخص إذا كان موسرا بقيمته، ولم يضمنه نصيب شريكه بمثله فدل على أن الأصل هو القيمة في غير المكيل والموزون) (2) . ثم إن قضية المثلي والقيمي ليست هي أيضا من المنصوص عليها بحيث لا يجوز مخالفتها، يقول الشوكاني: (إطلاقهم على الشيء الذي تساوت أجزاؤه أنه مثلي، وعلى ما اختلفت أجزاؤه أنه قيمي هو مجرد اصطلاح لهم، ثم وقوع القطع والبت منهم بأن المثلي يضمن بمثله، والقيمي بقيمته هو أيضا مجرد رأي عملوا عليه، وإلا فقد ثبت عن الشارع أنه يضمن المثلي بقيمته) .   (1) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب العتق: 5/150 – 151. ومسلم: 2/1140، وسنن أبي داود – مع العون -: 10/472، والترمذي – مع تحفة الأحوذي -: 4/281. والنسائي: 7/281. وابن ماجه: 4/844. (2) شرح سنن أبي داود لابن القيم: 12/727 – 274. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1368 على أي معيار نعتمد في التقويم: سبق أن ذكرنا أننا لا نلجأ إلى القيمة عند وجود الغبن الفاحش، وفي حالة رجوعنا إلى القيمة لا بد أن نضع موازين دقيقة ومعايير معقولة للتقويم حتى يتبين لنا الفرق بين قيمتي العملة الورقية في الورقتين: وقت القبض، ووقت إرادة الرد، ولنا لمعرفة ذلك معياران: المعيار الأول: الاعتماد على السلع الأساسية مثل الحنطة والشعير واللحم والأرز بحيث نقوم المبلغ المطلوب من النقود الورقية عند إنشاء العقد كمن كان يشتري به من هذه السلع الأساسية، ثم نأتي عند الرد أو الوفاء بالالتزام إلى القدر الذي يشترى به الآن من هذه السلع، فحينئذ يتضح الفرق، وهذا ما يسمى بسلة السلع والبضائع، وهي معتبر في كثير من الدول الغربية يعرفون من خلالها التضخم ونسبته، ويعالجون على ضوئها آثار التضخم ولا سيما في الرواتب والأجور. ويشهد على هذا الاعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل دية الإنسان – وهو أعلى ما في الوجود – الإبل، مع وجود النقدين – الدراهم والدنانير – في عصره. ولا يقال: إن السبب في ذلك هو أن الإبل كانت السلعة الغالبة لدى العرب. وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم، قومها عليهم بالذهب أو الفضة، كما ذكر العلماء أن الإبل قد عزت عندهم، ومع ذلك لم يجعل الذهب، أو الفضة أصلا في الدية، ومن هنا زادهما حسب قيمة الإبل، فقد روى أبو داود وغيره بسندهم عن عمرو وبن شعيب عن أبيه عن جده قال ((كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني مائة دينار، وثمانية آلاف درهم ... وكان ذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال: (ألا إن الإبل قد غلت) قال: ففرضها، على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا)) (1) . قال الخطابي: (وإنما قومها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل القرى لعزة الإبل عندهم فبلغت القيمة في زمانه من الذهب ثمانى مائة، ومن الورق ثمانية آلاف درهم فجرى الأمر كذلك إلى أن كان عمر، وعزت الإبل في زمانه، فبلغ بقيمتها من الذهب ألف دينار، ومن الورق اثنا عشر ألفا) (2) .   (1) سنن أبي داود مع العون – كتاب الديات: 12/284، ورواه مالك بلاغا في الموطأ: 2/530 (2) عون المعبود: 12/285 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1369 والواقع أن هناك روايات أخرى تدل على أن قيمة الإبل حتي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مستقرة استقرارا تاما، وإنما كانت تابعة لغلاء الإبل ورخصها، فقد روى أبو داود، والنسائي والترمذي بسندهم: ((أن رجلا من بني عدي قتل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا)) (1) كما روى الدارمى: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض على أهل الذهب ألف دينار)) (2) وروى النسائي: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومها على أهل الإبل إذا غلت رفع قيمتها واذا هانت نقص من قيمتها على نحو الزمان ما كان فبلغ قيمتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما بين 400 إلى 800 دينار أو عدلها من الورق)) (3) وروى البخاري بسنده في قصة شراء النبي صلى الله عليه وسلم ناقة جابر قال ابن جريح عن عطاء وغيره وعن جابر: (أخذته بأربعة دنانير) ، وهذا يكون أوقية على حساب الدينار بعشرة دارهم (4) . كل ما ذكرناه يدل بوضوح على أهمية اعتبار السلع الأساسية وجعلها معيارا يرجع إليها عند التقويم، ومن هذا المنطلق يمكن أن نضع سلة لهذه السلع ونقيس من خلالها قيمة النقود – كما ذكرنا – ولذلك نرى الأستاذ القرضاوي يثير تساؤلا حول ما إذا هبطت قيمة الذهب أيضا: فهل من سبيل إلى وضع معيار ثابت للغنى الشرعي؟ فيقول: (وهنا قد نجد من يتجه إلى تقدير نصاب النقود بالأنصبة الأخرى الثابتة بالنص، ثم ذكر عدة خيارات داخل السلع الأساسية مثل الإبل، والغنم والزروع والثمار، ثم رجح كون الإبل والغنم المعيار الثابت حيث أن لهما قيمة ذاتية لا ينازع فيها أحد) (5) .   (1) سنن ابن داود مع العون كتاب الديات: 12/290. والترمذي – مع التحفة – كتاب الديات: 4/646 قال الشوكاني في النيل: 8/271: (وكثرة طرقه تشهد لصحته) (2) سنسن الدرامي، كتاب الديات: 2/113. وراجع النيل: 8/271 (3) سنن النسائى، كتاب القسامة: 8 / 43 (4) صحيح البخاري – مع الفتح كتاب الشروط /: 5/314. (5) فقه الزكاة: 1/265 – 269 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1370 المعيار الثاني: الاعتماد على الذهب واعتباره في حالة نشأة العقد الموجب للنقود الورقية، وفي حالة القيام بالرد، وأداء هذا الالتزام، بحيث ننظر إلى المبلغ المذكور في العقد كم كان يشترى به من الذهب، فعند هبوط سعر النقد الورقي الحاد، أو ارتفاعه يلاحظ في الرد وفي جميع الحقوق والالتزمات – قوته الشرائية بالنسبة للذهب، فمثلا لو كان المبلغ المتفق عليه عشرة آلاف ريال ويشترى به مائتا غرام من الذهب فالواجب عند الرد والوفاء بالالتزام المبلغ الذي يشترى به هذا القدر من الذهب، وذلك لأن الذهب في الغالب قيمته أكثر ثباتا واستقرارا، وأنه لم يصبه التذبذب والاضطراب مثل ما أصاب غيره حتى الفضة (1) ولذلك رجح مجمع البحوث الإسلامية: الاقتصار في التقويم بخصوص النصاب في عروض التجارة والنقود الورقية - على معيار الذهب فقط لتميزه بدرجة ملحوظة من الثبات (2) ويشهد لاعتبار الذهب دون الفضة في التقويم أن الذهب لم يقوم بغيره، في حين أن الفضة قد قومت به في مسألة نصاب السرقة، يقول السيوطي: (الذهب والفضة قيم الأشياء إلا في باب السرقة، فإن الذهب أصل، والفضة عروض بالنسبة إليه نص عليه الشافعي في الأم، وقال: لا أعرف موضعا تنزل فيه الدراهم منزلة العروض إلا في السرقة) . ثم إذا حصل توافق وتراض بين الطرفين على القيمة، ففيها، وإلا فيرجع الأمر فيها إلى القضاء أو إلى التحكيم وتنطبق على هذه المسألة حينئذ جميع القواعد العامة في الدعوى والبينات والقضاء.   (1) فقه الزكاة: 1/262، حيث ذكر أن الاعتبار بالذهب في الزكاة هو ما قاله الشيوخ الأجلاء أبو زهرة، وخلاف وحسن رحمهم الله (2) مقررات مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمرهم الثاني سنة 1965 م القرار: 2 ص 2- 4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1371 الجمع بين المعيارين: ويمكن لقاضي الموضوع، أو المحكم أن يجمع بين المعيارين بأن يأخذ في اعتباره متوسط قيمة النقد بالنسبة للذهب والسلع الأساسية يوم إنشاء العقد. متى نلجأ إلى التقويم: لا شك أننا لا نلجأ إلى التقويم في كل الأحوال، ولا عند وجود التراضي بين الأطراف وإنما نلجأ إليه عند وجود الغبن الفاحش الذي يلحق بأحد العاقدين سواء كان في عقد القرض، أم البيع بالأجل، أم المهر، أو غير ذلك من العقود التي تتعلق بالذمة ويكون محلها نقدا آجلا ثم تتغير قيمته من خلال الفترتين – فترة الانشاء وفترة الرد والوفاء تغيرا فاحشا، ويشهد لذلك ما ذهب إليه جماعة من الفقهاء من اعتبار الغبن الفاحش حتى في البيوع التي مبناها على المساومة (1) كما ذكر بعض العلماء مثل الرهوني أن التغير الكثير لا بد من ملاحظته حتى في المثليات فيجعلها من القيميات، وكذلك قال الرافعي وغيره في مسائل كثيرة – كما سبق.   (1) الأشباه والنظائر: ص 389. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1372 معيار التغير الفاحش: قبل أن نذكر هذا المعيار نرى فقهاءنا الكرام قد وضعوا عدة معايير لمقدار الغبن الفاحش الذي يعطي الخيار في الفسخ عندما يقع في البيع ونحوه. يقول القاضي ابن العربي، والقرطبي وغيرهما: (استدل علماؤنا بقوله تعالى {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (1) على أنه لا يجوز الغبن في المعاملة في الدنيا، لأن الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة ... وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث واختاره البغداديون ... ، وأن الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع ... ، إذ هو من باب الخداع المحرم شرعا في كل ملة، لكن اليسير لا يمكن الاحتراز عنه لأحد، فمضى في البيوع ... ) . ثم إن العلماء قد ثار الخلاف بينهم في تحديد الغبن الفاحش، فمنهم من حدده بما زاد على قيمة الشيء بالثلث، وبعضهم بنصف العشر، وبعضهم بالسدس، وذهب جمهورهم إلى معيار مرن قائم على ما يعده عرف التجار غبنا، وهذا الأخير هو الذي رجحناه (2) ونرجحه هنا أيضا في باب تقويم النقود الورقية، فما يعده التجار في عرفهم غبنا فهو غبن هنا أيضا، وإذا اختلفوا فالقاضي يحكم بما يرتاح إليه حسب الأدلة والظروف والملابسات التي تحيط بالقضية بعينها.   (1) التغابن: 29. (2) يراجع: رسالتنا الدكتوراه بكلية الشريعة بالأزهر: مبدأ الرضا في العقود، ط دار البشائر الإسلامية: 1/735. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1373 زمن التقويم ومكانه: إذا كنا قد رجحنا اعتبار القيمة في النقود الورقية حينما يكون هناك فرق شاسع بين القوة الشرائية لها عند إنشاء العقد وثبوتها في ذمة المدين، وبين إرادة ردها، فأي وقت نعتبر؟ هل نعتبر قيمة النقد يوم إنشاء العقد؟ وهل نعتبر مكان العقد؟ أم مكان الرد؟ والذي نرجحه هو رعاية القيمة يوم إنشاء العقد وقبض المعقود عليه ومكانه، أي تقوم النقود الورقية يومئذ كم كانت تساوي من الذهب، أو كم يشتري بها من السلع الأساسية، ثم على أساسها يرجع الدين، أو يوفي بما التزم به من مهر، أو ثمن المبيع الآجل أو غير ذلك، فلو دفع رجل قبل عشر سنوات (أي في 1977) لآخر مائة جنيه أو باع له أرضا بها، أو كان مهر زوجته مثل هذا المبلغ فالآن يقوم المبلغ المذكور على أساس عام (1977) كم يشتري به من الذهب، أو من السلع على ضوء أحد المعيارين السابقين، أو متوسط ما يشترى به من الذهب والسلع الأساسية، فلو كان هذا المبلغ المذكور في وقته كان يشترى به بقرة مثلا، فجيب عليه أن يرد مبلغا يشترى به بقرة، أو كان يشترى به عشرون غراما من الذهب عيار (21) فيجب عليه أن يرد ما يشترى به هذا القدر – وهكذا – إلا إذا تراضيا بالمعروف. ويشهد لذلك أن جمهورا من العلماء ذهب إلى اعتبار القيمة في الفلوس، والنقود المغشوشة، حتى النقود الخالصة عند كسادها أو انقطاعها ذهبوا إلى أن المعتبر هو يوم إنشاء العقد والقبض، ومكانه، قال المرغيناني: (إذا اشترى سلعة وترك الناس التعامل بها ... قال أبو يوسف: عليه قيمتها يوم البيع، وقال محمد: قيمتها آخر ما تعامل الناس بها، ثم علل أبو يوسف ذلك بأن الضمان إنما تم بالبيع، وهو سببه فلابد إذن من اعتباره) (1) وقد رجح الكثيرون من الأحناف رأي أبي يوسف، قال المرغيناني: (وقول أبي يوسف أيسر) فعلق عليه ابن الهمام، والبابرتي فقالا: (لأن القيمة يوم القبض معلومة ظاهرة لا يختلف فيها بخلاف ضبط الانقطاع، فإنه عسر فكان قول أبي يوسف أيسر في ذلك) (2) قال ابن عابدين: (وفي المنتقى إذا غلت الفلوس قبل القبض، أو رخصت ... ، قال أبو يوسف عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض ... ، وعليه الفتوى، هكذا في الذخيرة والخلاصة.. فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء) (3)   (1) الهداية مع فتح القدير: 7/154. (2) فتح القدير، مع شرح العناية على الهداية: 7 /158 – 159 (3) رسالة النقود: 2/60 – 61 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1374 وكذلك الأمر عند القائلين بالقيمة عند المالكية مثل ابن عتاب وابن دحون حيث أفتيا برعاية القيمة – في مسألة إلغاء السكة – يوم القرض (1) . بل إن كثيرا من العلماء ذهبوا إلى اعتبار القيمة يوم العقد، ونشأة سبب الضمان في مسائل كثيرة، فقد ذكر لنا ابن نجيم منها: المقبوض على رسوم الشراء ... فالاعتبار لقيمته يوم القبض، أو التلف ومنها المغصوب القيمي إذا هلك، فالمعتبر قيمته يوم غصبه اتفاقا، كذلك المغصوب المثلي إذا انقطع عند أبي يوسف، ومنها المقبوض بعقد فاسد تعتبر قيمته يوم القبض، لأنه به دخل في ضمانه، ومنها العبد المجني عليه تعتبر قيمته يوم الجناية، ومنها: ما لو أخذ من الأرز والعدس ونحوهما وقد كان دفع إليه دينارا مثلا لينفق عليه ثم اختصما بعد ذلك في قيمة المأخوذ ... قال في التيمية: تعتبر قيمة يوم الأخذ ... (2) وقد صرح المالكية أن رد القيميات يكون برد قيمتها يوم العقد، قال خليل: (إن اختلف المتبايعان في جنس الثمن، أو مثمن، أو نوعه حلفا، وفسخ مطلقا ورد قيمتها في الفوات) قال الدردير: (وتعتبر القيمة يوم البيع، لا يوم الحكم، ولا يوم الفوات، وهذا إن كان مقوما ... ) وعلل الصاوي ذلك بقوله: (لأنه أول زمن تسلط المشتري على المبيع..) وذكروا أمثلة أخرى بهذا الخصوص (3) وذكر السيوطي أمثلة كثيرة جدا روعيت فيها القيمة يوم القبض، منها مسألة ماء التيمم في موضع عز فيه الماء حيث تراعى قيمته في ذلك الموضع في تلك الحالة على الصحيح عند جمهور الأصحاب، كذلك الطعام والشراب حالة المخمصة، ومنها مسألة المبيع إذا تخالفا، وفسخ وكان تالفا يرجع إلى قيمته يوم القبض على رأي، لأنه مورد الفسخ، ويوم القبض، على رأي آخر، لأنه وقت دخول المبيع في ضمانه، وما يعرض بعد ذلك من زيادة، أو نقصان فهو ملكه، ومنها المستعار إذا تلف تعتبر قيمته يوم القبض على وجه، وكذلك المقبوض على جهة السوم، إذا تلف ... (4)   (1) المعيار المعرب: 6 /461 – 462 (2) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 362 – 364. (3) حاشية العلامة الصاوي على شرح الدردير على مختصر خليل: 2/528- 536. (4) الأشتباه والنظائر للسيوطي: ص 368 – 377. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1375 قال النووي في مسألة رد القيمة في القرض بالقيمة: (يرد القيمة يوم القبض إن قلنا يملك به ... ) (1) وقال السيوطي: (وإذا قلنا: أنه يرد في المعدوم القيمة، فالمعتبر قيمة يوم القبض إن قلنا يملك به، وكذا إن قلنا يملك به، وكذا إن قلنا يملك بالتصرف في وجه) (2) . وقد نص الإمام أحمد في الدراهم المكسورة بعد كسادها على أنه يقومها: كم تساوي يوم أخذها (3) قال صاحب المطالب: (ويجب على المقترض رد قيمة غير المكيل والموزون يوم القبض) . (4) وقال ابن قدامة (تجب القيمة حين القرض، لأنها حينئذ ثبتت في ذمته) (5) . وقد نص إمام الحرمين والغزالي وغيرهما من فقهاء المذهب الشافعي على أن العبرة في حالة تغير النقد هو النقد الذي كان سائدا يوم العقد، ولا نظر لنقد يوم الحلول، وكذلك الثمن المؤجل إذا حل (6) وقال مالك: (لا بأس أن يضع الرجل عند الرجل درهما، ثم يأخذ منه بربع، أو ثلث، أو بكسر معلوم: سلعة فإذا لم يكن في ذلك سعر معلوم، وقال الرجل: آخذ منك بسعر كل يوم فهذا لا يحل لأنه ضرر يقل مرة، ويكثر مرة ولم يفترقا على بيع معلوم) (7) وهذا الكلام يدل على اعتبار سعر معلوم عند بداية التصرف. وبعد هذا العرض والتأصيل يظهر لنا رجحان ما ذهبنا إليه وهو اعتبار القيمة يوم العقد والقبض، وهو أدنى إلى تحقيق العدالة وأقرب إلى القسط، وأيسر، وذلك لأن المقرض، أو البائع قد خرج المال من عهدته في ذلك الوقت، ودخل في ذمة المدين والمشتري، وحينئذ يكون له الحق في أن يشتري به شيئا آخر، ولذلك قال أحد الفلاحين المصريين بفطرته: (دفعت لك ثمن جاموسة فرجع إلى ما أشتري به مثلها، ويكفي أنك استفدت به كل هذا الوقت) قال ذلك عندما جاء.. إليه شخص من أقاربه وطلب منه دينا، فباع الفلاح جاموسته بمبلغ ودفعه إليه بالكامل، ثم بعد عشر سنوات جاء الرجل ورد عليه المبلغ الذي ما كان يشتري به الآن ربع جاموسة فأنطقته فطرته السليمة هذا القول (8) .   (1) الروضة: 4/37. (2) الأشباه والنظائر: ص 371 (3) المغني لابن قدامة: 4/360 (4) مطالب أولي النهى (5) المغني: 4/353 (6) النهاية لإمام الحرمين، ملحوظة: 71/ 288، نقلا عن الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب في كتابه القيم: فقه إمام الحرمين: ص 42. وراجع الوسيط للغزالي مخطوطة طلعت: 2/148. (7) الموطأ: ص 403. (8) حكى لنا هذه القضية أستاذنا الدكتور القرضاوي حفظه الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1376 حل آخر: بالإضافة إلى هذا الحل الذي ذكرنا، فإنه يمكن للمتعاقد الذي ثبت له نقود في ذمة الآخر آجلا أن يشترط أن يكون الرد بما يساويه من أي نوع آخر. أو أية بضاعة، مثل أن يدفع أحمد مثلا عشرة آلاف جنيه قرضا لخالد، أو أن يبيع له أرضا بها، ثم يقدرونها بما يساويها من نقود أخرى ثابتة، أو سلع أساسية ليعرفوا القيمة الشرائية للدين حتى يرجعوا إليها عند التنازع فيأخذ الدائن حقه بدون بخس ولا شطط، أو أن يتفقا على تثبيت قيمة الدين عند التعاقد، وذلك بأن يتفقا على أن يكون المعول عليه عند الأداء هو القوة الشرائية الحالية للنقد الذي تم به العقد سواء كان قرضا، أو غيره، فإذا كانت قيمة النقد هي 800 وحدة شرائية فعند السداد يدفع المدين نفس هذه القيمة بغض النظر عما إذا كان مبلغ الدين عن السداد له هذه القيمة أو أقل أو أكثر (1) . وهذا الشرط ليس فيه – حسب نظري – أي مخالفة للشريعة الغراء، وذلك لأنه ليس شرطا جر منفعة للدائن، بل هو يحقق العدالة للطرفين، وليس ممنوعا في حد ذاته، بل كل ما يقتضيه هو رد المثلي بالقيمة – إذا قلنا: إن نقودنا الورقية مثلية، وإذا قلنا أنها قيمية فيكون هذا الشرط من الشروط الموافقة لمقتضى العقد. وهذا الشرط مهما دققنا النظر فيه لن يتجاوز اشتراط ما يضمن رد حقه بدون شطط ولا وكس، فهو مثل من يشترط رد قرضه في بلد آخر ضمانا له من مخاطر الطريق وهو ما يسمى بالسفتجة، وهو جائز عند جمهور الفقهاء، يقول شيخ الإسلام: (والصحيح الجواز، لأن المقترض رأى النفع بأن خطر الطريق إلى نقل دراهم المقرض فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهى عما ينفع الناس ويصلحهم، ويحتاجون إليه، وإنما ينهى عما يضرهم ويفسدهم ... ) (2) والشرط الذي معنا ليس فيه غرر، ولا يؤدي إلى جهالة، ولا ربا، ولام منازعة بل يؤدي إلى أداء الحقوق كاملة إلى أصحابها في وقت أصبحت التقلبات الكبيرة سمة عصرنا فحينئذ يكون كل واحد يعرف ما له وما عليه، بالإضافة إلى أن الأصل في الشروط هو الإباحة عند جمهور الفقهاء (3)   (1) د. شوقي دنيا: البحث السابق ص 70، وما بعدها. (2) مجموع الفتاوى: 29/455- 456. (3) يراجع مبدأ الرضا في العقود، ومصادره: 2/ 1186. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1377 باب التراضي مفتوح: كل ما قلناه إذا كان هناك عناد من أحد الطرفين، أما عند سداد الدين أو الوفاء بالثمن، أو المهر، أو نحو ذلك تراضيا بالمعروف على الزيادة أو النقصان، فإن أحدا من الفقهاء لا يمنع ذلك، بل هذا ما دعا إليه الإسلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، القدوة في ذلك، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم:أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه بعيرا، فقال: ((أعطوه)) فقالوا: لا نجد إلا سنا أفضل من سنه، فقال: ((أعطوه، فإن خياركم أحسنكم قضاء)) (1) . فعلى هذا إذا حل الأجل وجاء المدين ورأى أن المبلغ الذي يرده الآن لا يساوي شيئا بالنسبة لقيمة المبلغ الذي أخذه، وقدرته الشرائية، فطيب خاطر الدائن ونفسه بالزيادة في المقدار، أو بسلفة أخرى فقد فعل الحسن، طبق السنة، بل إنني أعتقد أنه لا تبرأ ذمته في حالات التغير الفاحش لقيمة العملة محل العقد إلا بإرضاء صاحب الحق، لأن مبنى الأموال وانتقالها في الإسلام على التراضي، وطيب النفس بنص القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) فكيف تطيب نفسه عندما يقع محتواه، صحيح أن مبنى القرض على التطوع والتبرع ولكنه تطوع وتبرع بالوقت الذي أشغله دون مقابل محتسبا أجره عند الله تعالى، أما أن ينقص ماليته فلا، ولذلك نرى الفقهاء يجيزون رد العين المستقرضة إلى المقرض ما دامت لم تتعيب بعيب ينقص من ماليته، إما إذا تعيبت فلا يصح ردها (3) ، فكذلك الأمر هنا. فلا شك أن مسألة التراضي تحل كثيرا من مشاكل مجتمع قائم على العدل والإحسان والإيثار مثل المجتمع الإسلامي الذي يقوم على معيار دقيق وهو (أن تحب لأخيك كما تحب لنفسك، وتكره لأخيك ما تكره لنفسك) (4) . فهل يرضى الإنسان أن يعود إليه دينه، أو يعطى لها مهرها، وقد أصبح لا قيمة له بعد أن كان ذا قيمة جيدة، فهل يرضى أحد أن تعود إليه ليراته اللبنانية، أو السورية، أو التركية الآن مع أنها حينما خرجت من يديه كانت لها قيمة وقدرة شرائية ممتازة؟ هذا السؤال موجه إلى كل مؤمن، وذلك لأن الإسلام لا يعتني بالجانب الظاهري القانوني فقط بل يعتني أيضاً بالجانب السلوكي، ولذلك فالعذاب ليس دنيويا فقط بل هو في الدنيا والآخرة، والأحكام لا تقتصر على الصحة والبطلان الظاهرين، بل هناك الحل والحرمة والذي يراقب الله تعالى يخاف من عذاب الله في الآخرة أكثر من العذاب الدنيوي.   (1) صحيح البخاري – مع الفتح –: 5/56 – 59 – ومسلم: 3/1224. (2) [سورة النساء: الآية 29, وراجع مبدأ الرضا في العقود، وراجع: الأستاذ الدكتور شوقي دنيا بحثه السابق: ص 68] (3) انظر الروضة: 4/35، والمغني لابن قدامة: 4/360. (4) فقد روى البخاري بسنده عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ورواه غيره بألفاظ وطرق كثيرة يراجع صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب الإيمان: 1/ 57، وأحمد: 2/ 310. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1378 اعتراضات ودفعها: * الاعتراض الأول: إن هذا القول يؤدي إلى زيادة في بعض الأموال وهي ربا وهو حرام بنص القرآن؟ مثل أن يقرض شخص قبل عشر سنوات آلاف ليرة، فلو قدرنا بالقيمة يكون الرد يساوي مائة ألف ليرة، وهذا عين الربا. الجواب عن ذلك أن ذلك ليس زيادة ولا ربا لما يأتي: أولا: أن الربا هو الزيادة دون مقابل، والزيادة الموجودة هنا ليست في الواقع إلا زيادة من حيث الشكل والعدد وهذا ليس له أثر، فالزيادة التي وقعت عند التقويم هي ليست زيادة، وإنما المبلغ المذكور أخيرا هو قيمة المبلغ السابق، وبالتالي فالمبلغان متساويان من حيث الواقع والحقيقة والقيمة. ثانيا: أن الربا هو الزيادة المشروطة، وهنا لم يشترط الدائن مثلا أية زيادة، وإنما اشترط قيمة ماله الذي دفع، ولذلك قد تنقص في حالة ما إذا ارتفع سعر النقد الذي أقرضه – مثلا – وأصبحت قوته الشرائية أكثر من وقت العقد والقبض. ثالثا: أنه يمكن أن نشترط مثلا أن يكون الرد بغير العملة التي تم بها العقد في حالة الزيادة، فمثلا لو كان محل العقد ليرة لبنانية فليكن الرد عند الزيادة أو النقص بالريال، أو بالدولار، أو بالجنية، وهكذا ... فاستيفاء الدراهم بدلا من الدنانير، وبالعكس أمر معترف به عند الجمهور. ثم إن هذه المسألة ليست بدعا في الأمر، ولا هي من المسائل التي لا نجد فيها نصا لفقهائنا السابقين في أشباهها، بل نجد لها مثيلات كثيرة في فقهنا الإسلامي نذكر بعضها هنا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1379 يقول الإمام الرافعي: فإذا أتلف حليا وزنه عشرة، وقيمته عشرون فقد نقل أصحابنا وجهين فيما يلزمه. أولها: أنه يضمن العين بوزنها من جنسها، والصنعة بقيمتها من غير جنسها سواء كان ذلك نقد البلد، أو لم يكن، لأننا لو ضمنا الكل بالجنس لقابلنا عشرة بعشرين وذلك ربا. وأصحهما عندهم: أنه يضمن الجميع بنقد البلد، وإن كان من جنسه (1) . ونجد أمثلة كثيرة في كل المذاهب الفقهية في باب ضمان المتلفات – كما سبق، ونجد كذلك في باب العقود عند مالك حيث أجاز أن يعطي الإنسان مثقالا وزيادة في مقابل دينار مضروب، وكذلك أجاز بدل الدينار الناقص بالوازن، أو بالدينارين، وروي مثل ذلك عن معاوية – رضي الله عنه – يقول ابن رشد: (وأجمع الجمهور على أن مسكوكه، وتبره ومصوغه سواء في منع بيع بعضه ببعض متفاضلا لعموم الأحاديث المتقدمة في ذلك إلا معاوية فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر، والمصوغ، لإمكان زيادة الصياغة، وإلا ما روي عن مالك أنه سئل عن الرجل يأتي دار الضرب بورقه فيعطيهم أجرة الضرب ويأخذ منهم دنانير ودراهم وزن ورقه، أو دراهمه، فقال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحو ذلك فأرجو أن لا يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم من أصحابه ... ) (2) . والمقصود بهذا النص أن الزيادة ما دام لها مقابل لا تعتبر ربا، لأن الربا هو: الفضل المستحق لأحد العاقدين في المعاوضة الخالي من عوض شرط فيه (3) . رابعا: كل هذا إذا قلنا بمثلية النقود الورقية، أما إذا قلنا: إنها قيمية فلا شك أن الرد يكون فيها بالقيمة – كما سبق – وحينئذ لا يلاحظ العدد، بل القيمة، ولذلك لم يجوز الفقهاء بيع درهم بدرهمين، ولكنهم أجازوا بيع حيوان بحيوانين وأكثر، لأن الحيوان مما يختلف حسب أوصافه قيمة، فقد روى البخاري في صحيحه تعليقا – بصيغة الجزم – أن ابن عمر اشترى راحلة بأربعة أبقرة مضمونة عليه يوفيها صاحبها بالربذة، وقال ابن عباس: قد يكون البعير خيرا من بعيرين، واشترى رافع بن خديج بعيرا ببعيرين، فأعطاه أحدهما، وقال: آتيك بالآخر غدا رهوا إن شاء الله وقال ابن المسيب: لا ربا في الحيوان: البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين إلى أجل، وقال ابن سيرين: لا بأس ببعيرين (4) وروى مالك روايات كثيرة في هذا الباب منها أن علي بن أبي طالب باع جملا له يدعى عصيفيرا بعشرين بعيرا إلى أجل (وعن ابن عمر أنه باع راحلة له بأربعة أبقرة) (5) وكذلك قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر أن يجهز جيشاً، فقال، ليس عندنا ظهر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ابتع لي ظهرا إلى خروج المصدق)) وروي نحو عن زيادة بن أبي مريم (6) قال ابن بطال: وهذا مذهب جمهور الفقهاء (7) . وروي ذلك عن مجاهد وحماد وغيرهما (8) ونحن لا نقصد بهذه النصوص أن يجوز بيع ريال قطري بريالين، فهذا لا يجوز، وإنما لمجرد بيان رعاية القيمة، والسبب في عدم جواز ريال قطري بريالين، وجواز بعير ببعيرين هو أن الريال لا يختلف جودة ورداءة في آن واحد ولذلك ففي حالة البيع النقدي وجدت زيادة بدون مقابل، أما البعير فهو مما يختلف جودة ورداءة ولذلك يتلاشى الفرق مع رعاية هذه الاعتبارات، ولذلك نحن نؤكد على أن النقود الورقية إن كان لها شبه بكثير من الأمور السابقة، لكن لها ميزة خاصة وتكييف خاص، وهو رعاية واقعها وقيمتها الحقيقة، ولذلك عند فقدها لا يظهر فرق، ولكن عندما يوجد فرق شاسع فلابد من رعايته والله أعلم..   (1) فتح العزيز: 11/279 – 280. (2) بداية المجتهد: 2/196. (3) فتح القدير: 7/8. (4) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع، باب بيع العبد والحيوان بالحيوان نسيئة: 4/419. (5) الموطأ، كتاب البيوع: ص404. (6) المصنف لعبد الرزاق: 8/22- 23. (7) فتح الباري: 4/419، وراجع: فتح القدير: 7/11. (8) مصنف ابن أبي شيبة: 7/120 ح ومصنف عبد الرزاق: 8/37. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1380 الاعتراض الثاني: أن القول برعاية القيمة يؤدي إلى تحطيم النقود كنقد وبالتالي تترتب عليه مشاكل لا عد لها ولا حصر. الجواب عن ذلك: أننا لا نسلم أن ذلك يؤدي إلى تحطيم النقود، وإنما يؤدي إلى أن يكون دورها محصورا بحيث لا تؤدي جميع وظائفها الأربع المعروفة، وهذا لا يضر، حيث اعترف كثير من الاقتصاديين أن نقودنا لا تؤدي هذه الوظائف جميعا، أو لا تؤديها على شكل مقبول، كما أنهم الآن وسعوا مفهوم النقد ليشمل أنواعا كثيرة لا يؤدي بعضها إلا وظيفة واحدة – كما سبق – مع أن ذلك لا يتعارض مع نقديتها، وسبق أن الفقهاء الذين قالوا بأن الفلوس ثمن ومع ذلك لم يثبتوا لها جميع الأحكام الخاصة بالذهب، أو الفضة. ومن جانب آخر أن ذلك إنما يحصل إذا لم توضع معايير دقيقة، لكننا ما دمنا نعترف بالنقود الورقية بأنها نقود وإن كانت لا تؤدي جميع الوظائف وتربط إما بمعيار الذهب أو معيار السلعة فإنه في الحقيقة لا تحدث أية مشكلة تذكر، بل هي تحقق العدالة، بالإضافة إلى أننا لا نلجأ إلى عملية التقويم دائما، فلا نلجأ إليه في جميع العقود التي يتم فيها قبض الثمن مباشرة، وكذلك لا نلجأ إلى التقويم في العقود التي يكون الثمن فيها مؤجلا إلا في حالة الغبن الفاحش، كما سبق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1381 الاعتراض الثالث: لماذا لا نعتد بالرخص والغلاء في الذهب والفضة، والحنطة والشعير ونحوهما في الوقت الذي نعتد بهما في النقود الورقية؟ الجواب عن ذلك: أن القضية تتعلق بالمثلي والقيمي، حيث لا ينظر في المثلي إلى القيمة، وأما القيمي فيلاحظ فيه القيمة – كما سبق –. ونحن قلنا: إن النقود الورقية لا يمكن اعتبارها مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام، ولا إلغاء نقديتها، وإنما الحل الوسط هو ما ذكرناه. ومن هنا فهي إما قيمية أو مثلية ولكنها عند وجود الفرق الشاسع يلاحظ فيها القيمة كالماء الذي أخذه الإنسان في الصحراء فلا يرجع له الماء، وإنما تجب عليه قيمته في ذلك المكان. وفي الختام هذا ما اطمأنت إليه نفسي، وأدى إليه اجتهادي المتواضع فإن كنت قد أصبت فمن الله، وإلا فعذري أنني بذلت ما في وسعي، ولم أرد به إلا وجه الله تعالى. ومع ذلك فما أقوله عرض لوجهة نظري، أرجة أن تنال من الباحثين الكرام النقد والتحليل للوصول إلى حل جذري أمام هذه المشكلة، وأن يتفضلوا بملاحظاتهم السديدة. وكلمة أخيرة أكررها أنه ليس هناك من محيص للخروج من هذه الأزمات الحادة إلا بالرجوع إلى النقدين الذاتيين، أو على الأقل ربط نقودنا الورقية بالغطاء الذهبي، وهذا ما يدعو إليه كثير من الاقتصاديين، بل بعض المؤتمرات – كما سبق –، فلا شك أن ربك النقد الورقي بالذهب إنما هو إعادة إلى أصله الذي تأصل عليه فإلى أن نعود إلى هذا النظام فلابد أن يلاحظ القيمة في نقودنا عندما تقتضيه الحاجة حتى نحقق العدالة " دون وكس ولا شطط ". والله الموفق وهو من وراء القصد، والهادي إلى سواء السبيل. الدكتور علي محيي الدين القره داغي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1382 تغيير قيمة العملة إعداد الشيخ محمد على التسخيري بسم الله الرحمن الرحيم توجد في هذا المجال بحوث متعددة – تذكر كمقدمة لهذه المسألة: منها: بحث حول تاريخ التبادل والدور الأصيل والطارئ للنقد. ومنها: تاريخ النقد وكيف تبدل إلى الأوراق النقدية. ومنها: التضخم النقدي وأسبابه وسبل تلافيه. وغير ذلك إلا أننا سوف نركز على خصوص ما ينفعنا مباشرة لمعرفة الحكم الشرعي في البين وهنا نقول: إن للمسألة فروضا ربما يتغير البحث بتغيرها. فتارة نفترض تغير القيمة بمستوى ضئيل وأخرى بمستوى فاحش وثالثة نفترض سقوطها تماما عن المالية. ومن جهة أخرى تارة يكون البحث عن موضوع القرض والوفاء به عند حدوث أنماط التغير المذكورة – ملاحظين عنصر التبرع الملحوظ فيه – وأخرى نبحث عن موضوع الوفاء بالثمن المؤجل أو المهر المؤجل وأمثالها. ثم إن البحث تارة يكون بنحو العناوين الأولية للأحكام وأخرى على سبيل العناوين الاستثنائية (الشاملة للعناوين الثانوية كالاضطرار والضرر والعناوين الولائية الحكومية القائمة على أساس المصلحة العامة التي يراها ولي الأمر) فإن هناك نوعا من الاختلاف بين الفرضين. وهناك بحث آخر مهم في البين وهو موضوع ضمان أولئك العاملين على تغير قيمة النقد من حكومة أو مؤسسة مالية أو غيرها. وربما حاول بعض الباحثين وضع فارق بين الحالات الفردية الجزئية والحالات الاجتماعية المهمة كمعاملة بين الدول تتناول قسطا اقتصاديا ضخما. وعلى هذا فيجب البحث عن هذه الفروض جميعا بما يتسنى والله الموفق للصواب. أما موضوع التغيير الضئيل في القيمة النقدية فهو أمر لا يأبه به العرف ولا يرى له أي تأثير في البين، وبالتالي فلا مجال للحديث عنه هنا فيجب رد المثل فيه. وأما عندما يكون التغير كبيرا أو فاحشا فإن الرأي السائد أن ذمة المدين مشغولة بمثل النقد (بلا فرق بين القرض، والثمن المؤجل، والمهر المؤجل) وما عليه إلا إرجاع المثل وهذا ما تؤكده النصوص وربما لا نجد رواية تدعو لرد القيمة ... ورد القيمة لا يتصور إلا في حالة ما إذا كانت الأوراق النقدية مجرد سندات على تملك قيمتها من الذهب والفضة وهو أمر قد فرغنا من بطلانه وأكدنا من قبل على أن هذه الأوراق وإن لم تكن تملك من قبل وبنفسها مالية تذكر وأنها اكتسبت اعتبارها المالي من المؤسسة أو الدولة التي أسندتها بمختلف أساليب الإسناد إلا أن المالية تنقل إليها عرفا حتى لتكاد تصبح في ذهن العرف ذات مالية قائمة بذاتها وعلى هذا الأساس لا يضمن البنك مالية الأوراق النقدية إذا تلفت فتلفها بالضبط يعني تلف ماليتها. وعلى هذا فالثابت في الذمة هو مثل هذه الأوراق المقترضة أو المجعولة ثمنا مؤجلا في عقد البيع، ولا يجب على المكلف إلا هذا المثل وهذا ما أكدته الآية الكريمة: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} والروايات الكثيرة، وإن لم تكن صريحة بذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1383 نماذج من الروايات: 1- موثقة موسى بن بكر قال: قال لي أبو الحسن (ع) : " من طلب هذا الرزق من حله ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله فإن غلب عليه فليستدن على الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقوت به عياله فإن مات ولم يقضه كان على الإمام قضاؤه" (1) 2- رواية إبراهيم بن محمد الأشعري في كنابه بإسناده عن أبي جعفر (ع) قال: " قبض علي (ع) وعليه دين ثمانمائة ألف درهم فباع الحسن (ع) ضيعة له بخمسمائة ألف فقضاها عنه، وباع ضيعة له بثلاثمائة ألف فقضاها عنه ... " (2) . 3- صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق (ع) : " إذا أقرضت الدراهم ثم أتاك بخير منها فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط (3) 4- صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: " سألت الإمام الصادق (ع) عن الرجل يقترض من الرجل الدراهم فيرد عليه المثقال، أو يستقرض المثقال فيرد عليه الدراهم فقال (ع) : إذا لم يكن شرط فلا بأس بذلك هو الفضل، إن أبي كان يستقرض الدراهم الفسولة فيدخل عليه الدراهم الجياد الجلال فيقول: يا بني ردها على الذي استقرضتها منه فأقول: يا أبي إن دراهمه كانت فسولة وهذا خير منها فيقول: يا بني إن هذا هو الفضل فأعطه إياها. (4) ومن هذه الروايات يعلم أن الرد بأزيد بغض النظر عن تغير القيمة إن كانت لازما كان القرض ربا وإلا كان فضلا مستحسنا. وهنا رواية أخرى تصرح بعدم اشتغال الذمة بالمالية وهي: (صحيحة معاوية بن سعيد عن رجل استقرض دراهم من رجل وسقطت تلك الدراهم أو تغيرت ولا يباع بها شيء ألصاحب الدراهم الدراهم الأولى أو الجائزة التي تجوز بين الناس؟ فقال (ع) لصاحب الدراهم الدراهم الأولى) (5) ومثلها رواية أخرى: عن محمد بن الحسن بإسناده، عن محمد بن الحسن الصفار، عن محمد بن عيسى، عن يونس قال: " كتبت إلى أبي الحسن الرضا (ع) أنه كان لي على رجل عشرة دراهم وأن السلطان أسقط تلك الدراهم وجاءت دراهم أعلى من تلك الدراهم الأولى ولها اليوم وضيعة فأي شيء لي عليه الأولى التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب لك الدراهم الأولى ".   (1) وسائل الشيعة: ج 13، الباب 2 من أبواب الدين، ح2 (2) وسائل الشيعة: ج 13، الباب 2 من أبواب الدين، ح11 (3) وسائل الشيعة: ج 12، الباب 12 من أبواب الصرف، ح3، وح 7. (4) وسائل الشيعة: ج12، الباب 20 من أبواب الصرف، ح1 (5) وسائل الشيعة: ج12، الباب 20 من أبواب الصرف، ح 1 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1384 وهاتان الروايتان صريحتان في عدم استحقاقه ما عدا ما ثبت في الذمة حتى ولو سقطت تلك الدراهم الثابتة في الذمة عن التعامل. نعم هناك رواية أخرى عن يونس نفسه يقول فيها: " كتب إلى الرضا (ع) أن لي على رجل ثلاثة آلاف درهم وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيام، وليست تنفق اليوم فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو ما ينفق اليوم بين الناس؟ قال: فكتب إلي لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس" وهذا الاختلاف بين الروايتين حله الشيخ محمد بن الحسن الصفار بقوله: " والحديثان متفقان غير مختلفين فمتى كان له عليه دراهم بنقد معروف فليس له إلا ذلك النقد ومتى كان عليه دراهم بوزن معلوم بغير نقد معروف فإنما له الدراهم التي تجوز بين الناس " (1) وربما كان يقصد أن الدراهم تارة يتعامل بها كنقد مستقل معروف لدى الناس وحينئذ فالثابت في الذمة هو هذه الدراهم بأمثالها أما إذا لم تكن معروفة بين الناس وإنما كانوا يتعاملون بها بما تحملها من قيمة فإن الثابت هو قيمتها في الذمة ولذا يستطيع صاحب الدين أن يأخذ ما يعادلها من الدراهم الجديدة. ورأى بعض العلماء أن التعارض مستحكم ولكنه رجح الروايتين الأوليتين لتوافقهما مع القواعد والفتاوى – كما يبدو. وهذا الترجيح في محله. ويستدل لهذا الرأي أيضا بدليل الأولوية المستخرجة من مسألة في الغصب أو الجحود هي ما لو غصب أحد من آخر مالا أو جحده ثم وقع بيد المجحود أو المغصوب منه مال الآخر فإن الحكم هناك يقتصر على أخذ المال المغصوب أو المجحود لا أكثر. وحينئذ فالأولوية ثابتة في مثل مسألتنا نحن. ففي رواية عن ابن مسكان، عن أبي بكر الحضرمي قال: قلت له للإمام الصادق (ع) : رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقي؟ قال: فقال: نعم ولكن لهذا كلام، قلت: وما هو؟ قال: تقول: اللهم إني لم آخذه ظلما ولا خيانة وإنما أخذته مكان مالي الذي أخذ مني لم أزدد عليه شيئا (2)   (1) وسائل الشيعة: ج12، الباب 20 من أبواب الصرف، ح 1 (2) وسائل الشيعة: ج 12، الباب 83 من أبواب ما يكتسب به، ح 4 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1385 وهناك أحاديث مشابهة لهذا الحديث في المضمون إلا أن في الاستدلال بالأولوية هنا إشكالا. ثم إن هذا الحكم أمر إجماعي قد لا يعتد بمخالفة من خالف فيه، وقد يقال بلزوم الغرر إن قلنا بلزوم أداء القيمة ذلك أن أسئلة كثيرة تطرح في البين فإن الدين أو القرض قد تطول مدته وتتخذ القيمة في هذه المدة سيرا بيانيا متفاوتا يصل إلى القمة وينزل إلى الحضيض فهل نأخذ القيمة العليا أو الدنيا أو المتوسط بينهما أو القيمة يوم القبض أو يوم الأداء، وهكذا تتابع الأسئلة مما يحول كل المعاملات التي يتدخل فيها الأجل مهما كان قليلا إلى معاملات غررية!! وربما أمكن القول هنا أن مسألة غررية المعاملة ومجهوليتها مع هذا القرض – هي التي دفعت القوانين الوضعية للتركيز على لزوم إرجاع المثل في القرض دون القيمة وذلك رغم أنها لا تأبه للمسألة الربوية بل هي مرجحة عندهما كما يبدو من ملاحظة الموارد المختلفة. ولكن قد يجاب عن إشكال الغرر هذا فيقال: إننا إذا لاحظنا المسألة بالنسبة للعوض المؤجل فقد يقال: إن القبول بتأجيل العوض يعني القبول بالحرمان من الاستفادة من النقود خلال الأجل كما يعني القبول بطروء متغيرات القيمة عليها وخصوصا إذا تمت المعاملة في جو تطرأ فيه المتغيرات بسرعة. أما في عملية القرض فإنه وإن لم يكن الأمر بمستوى عمليات المعاوضة المؤجلة إذ يستدعي أن المقرض أقرض المبلغ وله الحق بالمطالبة بإرجاعه كما يقتضيه الشرع ولربما اقتضى الشرع إرجاع القيمة (فهي مورد البحث) . ومن هنا فالصحيح فيها تحديد مورد القرض أهو مثل هذه النقود الورقية أو قيمتها وما يعادلها من الذهب أو الدولار؟ ويتم التسديد على أساس من المتفق عليه (ولا مانع شرعي من ذلك وهو بالضبط ما نقترحه لعمل البنوك لكي تضمن سحب رؤوس الأموال من خلال ضمان قيمها) . أما عند إطلاق الإقراض فالمنصرف إليه هو إرجاع المثل كما يظهر وعلى أي حال مجال لادعاء الغرر إذن. ثم إننا نجد المسألة واضحة عندما تتغير العملة إلى الزيادة وحينئذ فليس هناك أحد يحكم بلزوم ملاحظة هذه الزيادة في القيمة. ويضرب الأستاذ الدكتور السالوس على هذا مثلا برجل اقترض مائتي جنيه ليشتري كيس ذرة ثم انخفض كيس الذرة إلى خمسة وعشرين جنيها فهل بعد الانخفاض يحق له أن يرد كيس ذرة أو خمسة وعشرين جنيها؟ وهذا الوضوح في جانب الزيادة يرفع الغموض في جانب النقيصة لوحدات الملاك في الجانبين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1386 هذا كله بالعنوان الأولي؟ ثم إننا إذا لاحظنا الأضرار المترتبة على الحكم برد القيمة للنقود من قبيل الخلاف الذي سيحصل بشكل طبيعي حول ذلك. والتزلزل الذي سيصيب التعامل بالدين المؤجل من خلاله وخصوصا إذا لاحظنا المعاملات الدولية التي تتم بأرقام خيالية. وكذلك التزلزل الذي سيصيب عقود العمل والإيجار للعقارات والأعمال، وما يتركه ذلك من آثار على ودائع البنوك وهي قروض لا محالة معرضة لتفاوت القيمة، إذا لاحظنا ذلك وغيره وجدناه يوجه ضربة كبرى للاستقرار الاقتصادي النوعي، الأمر الذي يقطع معه المرء بأنه حكم ضرري منفي بقاعدة (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) وهو بذلك يكتسب هذا العنوان الثانوي حتى لو لم نقل به كعنوان أولي. كما أن هذه المفسدة الاجتماعية تشكل أساسا يصدر على ضوئه ولي الأمر الشرعي حكمه الموافق لرد المثل دون القيمة وذلك للحفاظ على النظام الاجتماعي فيدخل الموضوع تحت العنوان الولائي. هذا وربما حاول البعض التقليل من هذه الأضرار المتوقعة بطرح فكرة الصلح إذا انخفضت القيمة انخفاضا يتضرر منه أحد الطرفين إلا أن هذا الحل ليس بذي أثر بل يحمل تلك النتيجة السيئة ولو بشكل مخفف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1387 فالذي ننتهي إليه هو أن الرد الواجب سواء كان في القرض أو الثمن المؤجل أو المهر المؤجل وما إلى ذلك، وما يستقر عليه التعامل هو النقود بأمثالها دون أي إلزام بالقيمة. اللهم إلا إذا كان الإقراض منذ البدء إقراضا للقيمة والمعادل للنقد من الذهب أو العملة الصعبة. هذا في حالة تغير العملة أما في حالة انعدام قيمتها وعدم قيام ما يحل محلها عرفا فالاحتياط يقتضي اللجوء للصلح في البين. ثم إنه لا يختلف الحال فيه بين الحالات الفردية والحالات الدولية فكلها تسير وفق منوال وقانون واحد وليس هناك ما يميز بينهما في هذا المجال. * * * أما موضوع الضمان من قبل من عمل على نقص القيمة الشرائية للنقود الورقية فهو موضوع مهم نرى من الضروري فعلا التعرض له بالتفضيل، ولكننا نشير إلى أن مسألة ضمان الدولة للقيم التالفة إذا كان ذلك بفعل متعمد منها من خلال إصدار عملة دونما غطاء يذكر وإغراق الأسواق بها لتوفير سيولة نقدية ترفع بها ما تعانيه من مصاعب مما يمكن أن يدعى فيه انطباق عادة (الإتلاف) : (من أتلف مال الغير فهو له ضامن) ، وموضوع الضمان فيها وإن كان نفس المال إلا أن العقلاء لا يرون خصوصية للعين وإنما ينصب التركيز على المالية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1388 والحقيقة هي أن المتبع في الأمر هو الصدق العرفي لعملية الإتلاف ذلك أن هبوط القيمة تتصور له صور كثيرة. فقد يكون العامل فيه ما يتعارف في السوق مما تتركه قوانين العرض والطلب إذ عندما تقل سلعة ما ترتفع قيمتها، فإذا عمد مصنع أخر إلى إغراق السوق بمثل تلك السلعة فإن قيمتها ستهبط ولكن العرف لا يعد ذلك العمل إتلافا وإن كان أحيانا يطبق هنا قانون الأضرار الاجتماعي إذا فسرنا الضرر – كما يقول السيد الصدر – بسوء الحال الأمر الذي يحقق مصداقا لقاعدة لا ضرر إلا أنه على أي حال لا يعتبر العملية إتلافا تأتي معه قاعدة الضمان. وقد يكون العامل فيه صدور بعض القوانين الاجتماعية أو المالية أو الاقتصادية التي تترك أثرها بشكل بعيد وغير مباشر على قيمة السلع والظاهر هنا أيضا أن العرف لا يرى الإتلاف في أغلب هذه الحالات. ولكن إذا كان هبوط قيمة النقود وبفعل متعمد من الدولة ينزل بقيمة العملة مباشرة إلى النصف مثلا في قبال الذهب أو الدولار أو سلة العملات، أو بإصدار أوراق نقدية فائضة تترك آثارها على قيمة العملة فإن الظاهر أن العرف يرى العملية إتلافا بلا ريب وحينئذ تأتي قاعدة الضمان. وهنا يأتي بحث حول إمكان تصحيح مثل هذا العمل من قبل الحكومة دون أن تتحمل مسئولية الضمان. من قبيل ادعاء أن هذا العمل يتم برضى مجموع الشعب باعتباره رضي إجمالا بما تقوم به الحكومة المنتخبة وما تسنه من قوانين هذا مع افتراض صحة هذا المدعى أي مدعى تمثيلها للمجموع. وهذا أمر نقطع بعدم حصوله رغم الادعاء. أو من قبيل ما لو قلنا بأن ولي الأمر الشرعي يملك الولاية الكاملة على الأموال باعتباره أولى حتى من أصحابها فيها وباعتبارها إنما جعلها الله تعالى قِواما للحياة الاجتماعية فإذا رأى المصلحة الاجتماعية تقضي بالقيام بذلك العمل كان له الحق في ذلك. وربما يجعل المبرر لذلك حكم العقل بتقديم الأهم على المهم بتصوير أن حفظ النظام وسلامته هو من أهم الأمور فإذا تزاحم مع حفظ حق الملكية الفردية كان المقدم في البين هو الأول وولي الأمر الشرعي هو الذي يشخص موضوع التزاحم هذا وما يرفع به ذلك. وعلى أي حال فإن للموضوع مجالا آخر لا بد من دراسته بكل إمعان. ونشير هنا إلى أن العامل على هبوط القيمة إن كان مؤسسة مالية لا تمتلك صفة حكومية فإن سير البحث سيتبدل حتما. الشيخ محمد على التسخيري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1389 موقف الشريعة الإسلامية من ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار إعداد عبد الله بن سليمان بن منيع القاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على رسوله الأمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فإن الأزمات الاقتصادية الناتجة عن المشاكل الاجتماعية والمشاكل السياسية، وما صاحب ذلك من انحسار في الموارد الطبيعية نتيجة الجفاف والقحط في بعض من أرض الله هذه الأزمات هزت الاقتصاد العالمي فتأثرت بذلك قيم الأثمان الورقية بانخفاض أثر على أحجام الثروات تضرر منه الكثير ممن لهم حقوق والتزامات على الآخرين، فسارع أولئك إلى علماء الاقتصاد والقانون يستنجدونهم في تقرير حقوقهم ورأب ما انصدع من التزامات الآخرين لهم، وذلك بالمطالبة بتعويضهم من قبل الملتزمين لهم بما نقص من حقوقهم نتيجة انخفاض قيم الأثمان الورقية في كثير من دول العالم، فجاءت المطالبة بربط الالتزامات بمستوى الأسعار، وعقدت الندوات والحلقات الدراسية بالاشتراك مع المعهد العالي للاقتصاد الإسلامي في إسلام أباد ومع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية وذلك في مدينة جدة لمدة ثلاثة أيام من 27 شعبان عام 1407هـ، وقد دعي للاشتراك في هذه الندوة مجموعة مختارة من علماء الشريعة والاقتصاد وقد تشرفت بالاشتراك في أعمالها. فقدم المنادون بربط الالتزامات بمستوى الأسعار حججهم على الأخذ بذلك وتقرير مشروعية المطالبة به وكان ملخص هذه الحجج ما يلي: 1- دين الإسلام العادل يقيم بالعدل والإنصاف، والتضخم ينتهك هذه القاعدة، حيث إنه يمكن للناس أن يربحوا على حساب الآخرين، ويمنح الدولة أن تتعدى على أموال الناس بدون إذنهم. كما يمكن هذا النظام الأقوياء من استغلال الضعفاء. وربط التغيرات بمستوى الأسعار يخفض – على الأقل جزئيًّا – إثارة هذه الممارسات الاستغلالية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1390 2- " لا ضرر ولا ضرار " و " الضرر يزال " هاتان قاعدتان أساسيتان من القواعد العدلية الإسلامية ويسبب التضخم الضرر في القدر الحقيقي للمبالغ المستلمة، لذا يعد ربط التغيرات بمستوى الأسعار التعويض عن هذا الضرر. ومن المعلوم، أن المدين أو الدائن ليسا مسئولين عن هذا الضرر في القدر الحقيقي لأن الأسباب التي تنجم عن التضخم هي وراء سلطاته. وربط التغيرات بمستوى الأسعار يصون كليهما من الضرر. 3- وقال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} . (6: 152) وقد كرر القرآن الكريم هذا الأمر في الآيات العديدة وامتد إلى كل أنواع المعاملات المالية وليس لوزن أو كيل فحسب. والمعلوم أن المبالغ والقروض لن تتسلم قدرها الحقيقي. وربط التغيرات بمستوى الأسعار يزال هذا الضرر وهذا وفقا للشريعة الإسلامية. 4- كما أمرنا القرآن الكريم أن نوفي بعقودنا , قد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . (5: 1) دفع القرض يعتبر تعاقدًا بين الدائن والمدين. ولابد للمدين أن يدفع للدائن قدرًا حقيقيًّا وليس قدرًا نقيصًا، وربط التغيرات بمستوى الأسعار يمكن له إنجاز هذا الواجب. 5- وأجاز الفقهاء الأحناف أخذ الفرق بين قيمة النقد والدين وهذا يجعل من إمكانية ربط تغيرات بمستوى الأسعار أن يحدد هذا الفرق. 6- لا نجد أي نص (من القرآن الكريم أو السنة النبوية) يحرم أو على الأقل يكره هذا النظام. 7- لا يمنع الحديث النبوي الشريف الذي جاء فيه " مثل بمثل " من المساواة في القدر الحقيقي للأشياء والنقود والقروض، وربط التغيرات بمستوى الأسعار يحقق هذا. 8- يؤدي إلى إنكار هذا النظام منع القرض الحسن. 9- يعاون هذا النظام على حصول القروض الأجنبية للبلدان الإسلامية المختلفة. 10- ربط التغيرات بمستوى الأسعار يشابه الإضافة التي يحصل عليها البائع الذي يبيع بالدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1391 11- يحافظ هذا النظام على قيمة المهر المؤجل. 12- يسبب التضخم المشاكل المختلفة في معاملات القرض، نفترض أن البنك الإسلامي يساهم بـ 10 ملايين دولار لمساهمة في عقد القراض لمدة 10 سنوات مع المضارب على أساس 50: 50 إسهامًا في الربح الآن، خلال فترة التضخم، ينخفض قدر رأس المال بسرعة، إذ تبقى مدفوعات المضارب تقريبًا، كما كانت. على سبيل المثال، إن كان معدل التضخم 20 % وبعد 5 سنوات ينخفض القدر الحقيقي لرأس المال من 10 ملايين إلى 5 ملايين، حتى الآن، يحصل المضارب على 50 % من الربح. هذا ظلم على المضارب لأنه يحصل على السهم الأقل من الربح على الرغم من نشاطاته كما كانت. يمكن حل هذه المشكلة في صورتين، الصورة الأولى هي التعيين الجديد لأسهم الربح , الصورة الثانية هي إبقاء على رأس المال الحقيقي. ولا شك أن الصورة الأولى تسبب الجدال في أوساط العمليات الإنتاجية للمشروع وأما الصورة الثانية فيمكن حصولها بفضل ربط التغيرات بمستوى الأسعار. 13- يعتبر القرض الحسن في رأي الشريعة الإسلامية صدقة، لكن في أيام التضخم فإنه يصير صدقة مضاعفة وربما عبئًا ثقيلا على الشخص الكريم الذي يتقدم به، ولو يربط القرض الحسن التغيرات بمستوى الأسعار فحسن. 14- ربط التغيرات بمستوى الأسعار يعتبر أسهل الطرق لوجهة نظر الإدارة التي اختيرت لمعاملة قروض البنك تقدم حسب نظام الشركة في الأرباح والخسائر. كما أن هذا أسهل المناهج لإدارة البنوك بوجهة نظر إسلامية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1392 15- كما يمكن هذا النظام المعادلة بين أقدار النقود المختلفة، وهكذا دواليك. 16- وفقًا لمؤيدي هذا النظام، أنه يقوي سوق الرأسمالية ويشجع الادخار كما نرى في الأمريكية اللاتينية. وزيادة المدخرات تعني زيادة في تراكم رأس المال الذي يسبب زيادة في النمو الاقتصادي. 17- هذا ونرى أيضًا بأن ربط التغيرات بمستوى الأسعار يلعب دورًا هامًا لتسهيل التعامل بالعملة الأجنبية في الأسواق، لأن أسس أسعار التبادل بين العملات لا تتعين إلا بطريق صلاحيتها لشراء البضائع المختلفة التضخم، وتلعب قوة الشراء لعملة ما دورًا عاما إذ تعادلها بالعملات الأخرى حيث إنها تقلل قوة الشراء للمستخدمين بها لولا تساوى هذا التحويلات في سعر التبادل بطريق مناسب فهي تؤثر في تجارة العملة أثرًا سيئًا وبمثل هذا الطريق تصبح العملة أثرًا سيئًا وبمثل هذا الطريق تصبح العملة هدف التخمين في رأي وكلاء العملات ويساعد ربط التغيرات بمستوى الأسعار لتسوية قدر العملة في إطار قوة شرائها، وبهذا الطريق نحن نتمتع بثقة الذين يستثمرون (خاصة من الخارج) . 18- ونضيف إلى هذا نحن نقدم الدليل بأن ربط التغيرات بمستوى الأسعار المنتخب في خلا فترة التضخم تعطي الحكومة الجهاز القوي الذي يؤثر على تخصيص النقود في المناطق المختلفة حسب ضرورات اقتصادية. وخلال فترة أعمال هذه الندوة تتابعت البحوث وجرت المناقشات والمداولات والتعليقات ثم انتهت الندوة إلى إصدار التوصيات التالية: اجتمع عدد من العلماء الشرعيين والاقتصاديين في حلقة علمية لدراسة موضوع ربط الحقوق والالتزامات بغير الأسعار نظمها المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية بالتعاون مع المعهد العالمي للاقتصاد الإسلامي بإسلام أباد وذلك في الفترة من السبت 27 شعبان (25 نيسان) إلى الثلاثاء غرة رمضان المبارك عام 1407 هـ (28 نيسان 1987 م) في مبنى البنك الإسلامي للتنمية في جدة، وذلك في جلسات صباحية ومسائية قدمت فيها أوراق بحث اقتصادية وشرعية في موضوع الندوة، ودارت حولها مناقشات مثمرة وتبودلت فيها الآراء المفيدة وقد تمخض عن ذلك ونتج عنه التوصيات التالية. وإذ يصدر العلماء الحاضرون توصياتهم ليودون قبل كل شيء أن يعبروا عن خالص شكرهم للمعهدين الداعيين إلى هذه الحلقة العلمية وتقديرهم للجهود المكثفة التي قام بها منظموها كما يعبرون عن امتنانهم للحفاوة الكريمة التي تلقوها من البنك الإسلامي للتنمية ورئيسه الدكتور أحمد محمد علي، ويؤكدون أن مثل هذه الحلقات والندوات تسهم إسهامًا عظيمًا في إثراء البحث والنظر العلميين في جوانب الاقتصاد الإسلامي المتعددة وتكوين الفهم المشترك بين علماء الشريعة والاقتصاد لكثير من القضايا المعاصرة مما يساعد في إيجاد التصور الشرعي المناسب لها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1393 موقف الشريعة الإسلامية من ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه، وبعد: لا شك أن الالتزام بالحق – سواء كان التزاما بدين نقدي أم بمال عيني كديون السلم أم بعمل كعقود المقاولات والإجارات الخاصة أو المشتركة أم بتوثيق كعقود الكفالات والضمانات – أن الالتزام بالحق يعني تعلق ذلك الحق بذمة من التزم به سواء كان ذلك الملتزم شخصًا اعتباريًّا أو شخصًا طبيعيًا ولا شك أن الحق اللازم في الذمة قد تحدد بعقد الالتزام به قدره ونوعه وصفته وأجل الوفاء به إن كان له أجل وأن توثيق الالتزام به يعني عقدًا جرى التعهد بالالتزام به والوفاء بمقتضاه وبما نص عليه من شروط وقيود وتعهدات. وهذا يعني أن عقدًا جرى تعيين الالتزام بما فيه بمقدار معين وصفة معينة فإن مقتضى العقد يوجب أن هذا الحق لا يجوز أن يتغير بزيادة ولا نقصان إلا باتفاق طرفيه طبقًا للمقتضيات الشرعية إلا ما اقتضى إعطاؤه حكمًا شرعيًّا استثنائيًّا يتفق مع العدل ودفع الظلم وآثاره. وهذا هو الأصل في العقود طبقًا للنصوص الشرعية من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . (1) وقال تعالى {ييَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ .... وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ... وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ .... فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (2) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (3) وقال تعالى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (4)   (1) سورة المائدة: الآية 1 (2) سورة البقرة: الآيتان 282 , 283. (3) سورة المؤمنون: الآية 8. وسورة المعارج: الآية 32 (4) سورة الأنعام: الآية 152 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1394 وفي المنتقى عن عمرو بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حرامًا)) . قال الترمزي: هذا حديث صحيح. وفي كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كتبه إلى أبي موسى الأشعري: المسلمون عن شروطهم إلا شرطًا أحل حر أما أو حرم حلالا، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حراما أو حرم حلالا. ولا شك أن عقود الالتزام عقود تراض مشتملة على شروط اتفقت إرادتا طرفي العقد على الأخذ بها، وبما اشتملت عليه، من شروط وقيود وتعهدات فلا يجوز تغييرها بزيادة أو نقص من إرادة منفردة إلا بما يضر الطرف الآخر. بهذا يتضح أن الالتزام بالحق يعني ثباته نوعًا وقدرًا وصفة وأمدًا وأن محاولة التدخل في تغيير الالتزام بدون إرادة طرفيه يعني ترتيب مظالم على الذمم المختصة بهذا الالتزام. فالمنتفع بهذا التغيير ظالم والمتضرر به مظلوم ومحتوى الالتزام متغير إلى ما يمكن أن يعتبر من ضروب الربا أو من أكل المال بالباطل أو من القروض التي تجر نفعًا. توضيح ذلك أن الحق موضوع الالتزام إذا طرأ عليه من التقلبات الاقتصادية ما يعتبر جنسه مهيأ للزيادة أو النقص في وقت سداده مما يوجب الضرر لأحد طرفيه بذلك فإن هذا الضرر قد يكون أحد طرفي الالتزام سببًا في حصوله على الطرف الآخر كمماطلته في الوفاء بهذا الالتزام حتى تغيرت الأسعار وترتب عليها الضرر، وقد لا يكون لأحد طرفيه سبب في ذلك إلا أن هناك جائحة قضائية من الله، أو يكون الالتزام من طرف واحد لآخر كمن يغصب حقًّا لشخص طبيعي أو اعتباري فيتغير سعر مثل ذلك الحق بما يعتبر نقصًا على المغصوب في وقت تسليم ذلك الحق المغتصب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1395 هذه الحالات الثلاث للفقه الإسلامي نظر في ربط تغير الأسعار بالالتزام وسيأتي الحديث عن وجهة النظر في ذلك الربط. أما ما عدا الحالات الثلاث فمنذ زاول الإنسان نشاطه الاقتصادي فإنتاجه عرضة للزيادة والنقصان تزيد قيم السلع باختلال ميزان العرض على الطلب بالنقص وتنقص قيمها بعكس ذلك، ومن عوامل هذه التغيرات الاقتصادية تنشأ الأرباح والخسائر ويتحقق ما وصفه صلى الله عليه وسلم من أن التجارة غارات المؤمنين. وبالاجتهاد في الأخذ بأسباب الأرباح وتجنب الخسائر تزداد الحركة الاقتصادية وبالتالي تتوفر وسائل أكثر لتحصيل العمل وتقليل البطالة وتوفير وسائل الحياة الأفضل. ولهذا نجد الإسلام يضيق دائرة التعامل بالأثمان على سبيل المصارفة المتمثلة في بيع وشراء لما في حركتها والتحرك بها من حبس الأثمان التي هي وسيلة التقويم والتقدير عن وظيفتها وجعلها سلعًا تباع وتشترى فينتج من ذلك التقليل من الحركة الاقتصادية المتمثلة في الإنتاج والتسويق والاستهلاك. كما أن الإسلام يحرم المكاسب المضمونة والمبيعات غير المملوكة وتعين قدر معين من المضاربة في التجارة أو المغارسة أو المخابرة كما أنه يحرم الاحتكار وتلقي الركبان ويقف من قضايا الغش والتدليس والغرر والجهالة والغبن مواقف حازمة كمواقفه الحكيمة في إنكار المكاسب عن طريق الرهان والقمار والميسر، ويدعو الإسلام إلى السعي في الأرض والضرب في الأسواق. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (1) وقال تعالى: {وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (2) وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (3)   (1) سورة الملك: الآية 15 (2) سورة المزمل: الآية 20 (3) سورة الجمعة الآية 10 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1396 فالإسلام يعتبر المخاطرة في التجارة عنصرًا ذا أثر فعال في إنعاش الحركة الاقتصادية لما تستلزمه من المخاطرة من الحيطة والحذر والحرص والتدبر والمراقبة المستمرة للتقلبات الاقتصادية وبالتالي الأخذ بنتائج ذلك من بيع وشراء وإنتاج وتسويق، فإذا قلنا بربط الحقوق المؤجلة بمستوى الأسعار ولم يكن لمن ترتبت عليه هذه الالتزامات سبب في تغير الأسعار فإن هذا يعني معالجة الضرر بضرر ودفع خسارة طرف من أطراف الالتزمات بظلم طرفه الملتزم فضلا عما في ذلك من تشجيع الاستثمارات البنكية والتقليل من عنصر المخاطرة في التجارة، وحينما يعلم طرفا الالتزام أن العبرة بقيمة الحق موضوع الالتزام هو سعر يوم سداده، وما يترتب على ذلك من الجهالة في مقدار الحق، وبالرغم من تقديره وقت الالتزام بقدر معين، فملتزم بمليون دولار مثلا لزيد من الناس بعد عام، يحل أجل السداد في وقت تكون القيمة الشرائية للدولار قد انخفضت بمقدار 40 % في المائة مثلا، فربط الحق بسعر يوم سداده يعنى أم مليون الدولار تتحول إلى مليون وأربعمائة ألف دولار، فالملتزم بالحق يعرف أن التزامه بمليون دولار، ولكنه لا يعرف وقت سدادها ومقدار ما يسدده فقد يزيد مبلغ الالتزام وقد ينقص وهكذا في أموال عقود السلم ومضاربات البورصات وأجور العمال والالتزامات التوثيقية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1397 وبهذا يتضح لنا أن الأخذ بمبدأ ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار مصادم للمقتضيات الشرعية في الشريعة الإسلامية وللتوجيهات الإسلامية للاقتصاد الإسلامي الحر وللطمأنينة الموجبة للثقة في أن الحق الملتزم به هو الحق قدرًا ونوعًا وصفةً وأجلا، فلا يخشى صاحب الحق نقص حقه ولا يخشى الملتزم بعد تغيره عليه بزيادة. كما أن الأخذ بذلك موجب لظلم أحد طرفي العقد وأكل الظلم منهما مالا بدون حق فضلا عما في ذلك من الجهالة وتشجيع البنوك على مضاعفة نشاطاتها الربوية وتثبيط التجارة بما يسوق بضائعه عن ربحه أو خسارته بالرغم من معرفته مقدار قيمة شراء بضاعته ومقدار قيمة بيعها لأنه لا يعرف الزيادة المحتملة على ما التزم به طبقًا لربط هذا الالتزام بسعر يوم سداده فقد تأتي هذه الزيادة على ربح محسوس حققته صفقته التجارية. وقبل دخولي في نقاش القائلين بوجاهة ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار أرغب في إبداء ما عندي في وجود حالات استثنائية توجب ربط الالتزام بمستوى الأسعار حتى تكتمل الصورة ويتضح الاتجاه ويتحرر موضوع النقاش. أولى هذه الحالات: ما إذا كان الالتزام بالحق حال الأداء وكان الملتزم مليئًا غنيًّا إلا أنه صار يماطل صاحب الحق حتى تغيرت الأسعار سواء انخفضت القيمة الشرائية للنقد موضوع الالتزام انخفض سعر العين المالية موضوعة الالتزام كديون السلم فمماطلة من عليه الحق لمن له الحق ظلم وعدوان موجبة لحل عرضه وعقوبته كما قال صلى الله عليه وسلم: ((مطل الغني ظلم)) رواه الشيخان في صحيحهما، قال صلى الله عليه وسلم ((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)) . رواه أهل السنن. ومن العقوبة أن يربط الحق بسعر يوم سداده إذا كان فيه نقص على صاحبه فالزيادة على المماطل بأداء الحق عقوبة يستحقها بسبب ليه ومطله، وإعطاء صاحب الحق هذه الزيادة يعتبر من العدل والإنصاف لأن مماطلة خصمه أضرت به بمقدار هذه الزيادة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1398 ولقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في تقدير الحق المغتصب المماطل في أدائه بسعر يوم سداده، قال في منتهى الإرادات: ولا يضمن نقص سعر. اهـ (1) كما اختلفوا في تعيين العقوبة التي يستحقا فذهب جمهورهم إلى عدم الزيادة على الحق بشيء مطلقًا كما مر النقل من المنتهى وأن العقوبة المقصودة في الحديث: ((لي الواجد يحل عقوبته ... )) ما يوقعها ولي أو نائبه على المماطل بأداء الحق من عقوبة تعزيزية بحبس أو جلد أو بهما معًا. وذهب بعضهم إلى أن العقوبة هي تكليف المماطل بضمان ما خسره صاحب الحق في سبيل المطالبة بتحصيل حقه. قال شيخ الإسلام. ابن تيمية: " ومن مطل صاحب الحق حتى أحوجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المبطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد (2) وذهب بعض المحققين من أهل العلم إلى القول بضمان نقص السعر قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: قال الأصحاب: وما نقص بسعر لم يضمن أقول: وفي هذا نظر فإن الصحيح أنه يضمن نقص السعر وكيف يغصب شيئًا ويساوي ألفًا وكان مالكه يستطيع بيعه بالألف ثم نقص السعر نقصًا فاحشًا فصار يساوي خمسمائة أنه لا يضمن النقص فيرده كما هو؟ اهـ (3) . وهذا القول هو ما يقتضيه العدل الذي أمر الله به وهو في نفس الأمر عقوبة للظالم أقرها صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لي الواجد يحل عقوبته)) . ولا شك أن المماطل في حكم الغاصب بمماطلته أداء الحق الواجب عليه إلا أن تقدير الزيادة عليه يجب أن يراعى في تعيينها العدل، فلا يجوز دفع ظلم بظلم ولا ضرر بضرر، فمثلا زيد من الناس قد التزم لعمرو بمبلغ مائة ألف دولار مثلا يحل أجلها في غرة شهر محرم عام 1407 هـ وكان سعر الدولار بالين الياباني وقت الالتزام مائتين وأربعين ينًّا وفي أول يوم من شهر المحرم عام 1408هـ انخفض سعره إلى مائتين وعشرين ينًّا فطلب صاحب الحق حقه من الملتزم زيد فماطله إلى وقت انخفض سعر الدولار إلى مائة وخمسين ينًّا فما بين سعر الدولار وقت الالتزام بالحق وبين سعره وقت الاستعداد بالسداد نقص تسعون ينًّا في الدولار الواحد فإذا قلنا بضمان النقص للماطلة فإن الفرق بين سعره وقت الحلول ثم المماطلة وبين سعره وقت الاستعداد بالوفاء هو سبعون ينًّا فالعدل أن يقتصر الضمان على هذا المقدار سبعين ينًّا عن كل دولار.   (1) شرح منتهى الإرادات: 2/408 (2) انظر الاختيارات: ص 136 (3) الفتاوى السعدية: 429 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1399 الحالة الثانية: أن لا يكون الملتزم بالحق سببًا في خسارة صاحب الحق بنقص حقه وإنما يرجع ذلك إلى أسباب قهرية لا دخل لأي من طرفي العقد بها، فهذه الحال إن كانت الخسارة على أحد أطراف العقد تزيد عن الثلث، فقد تقاس على قاعدة وضع الحوائج، وإن كان القائلون بها يرون قصرها على الثمار على أصولها، مما تم بيعها ولم تقبض فأصابتها جائحة سماوية قضت عليها أو على بعضها، إلا أن المسألة محل نظر في اجتماع القضيتين في حصول خسارة فاحشة ليس لأحد طرفي العقد سبب في حصولها وتنفرد إحداهما عن الأخرى بأن قضيتنا حق تم الالتزام به وجرى تعيين موجبة في غالب ماله. وعلى أي حال فهذه المسألة تحتاج إلى إفرادها ببحث تستقصى فيه مبررات الحكم فيها. الحالة الثالثة: إذا كان الالتزام بدين نقدي من عملة ورقية معينة ثم انخفضت قيمة هذه العملة الورقية انخفاضًا فاحشًا ولم يحل أجل سدادها وتمثل بالليرة اللبنانية ونضرب مثلا لهذه الحال: خالد من الناس التزم لمحمد بمائة ألف ليرة قيمة بضاعة جرى قبضها في مجلس العقد وتم الاتفاق على تأجيل دفعها إلى عام، وكانت قيمة الليرة وقت الالتزام تعادل ريالا سعوديًّا وبعد حلول أجل الدفع انخفضت قيمة الليرة حيث صارت قيمة مائة ليرة ثلاثة ريالات سعودية، فهل يسلم خالد لمحمد مائة ليرة لبنانية بغض النظر عن انخفاض قيمتها وفي هذا خسارة بالغة على محمد أم يلزم خالد بقيمتها وقت الالتزام لأن الليرة الآن في حكم السكة المنقطعة؟ يمكننا أن نرجع في حكم هذه المسألة إلى ما ذكره الفقهاء رحمهم الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1400 فقد ذكر الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله عن الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر أن الدائن يرجع على مدينه بقيمة ما عليه من دين نقدي إذا أبطل السلطان التعامل به أما إذا زادت قيمته أو نقصت فليس له إلا ما في ذمة مدينه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال الأثرم:" سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل له على رجل دراهم مكسرة فسقطت المكسرة أو الفلوس قال: يكون عليه قيمتها من الذهب. " وقد نص في القرض على أن الدراهم المكسرة إذا منع التعامل بها فالواجب القيمة فيخرج من سائر المتلفات، وكذلك في الغصب والقرض فإنه معلوم أنه ليس المراد عيب الشيء المعين فإنه ليس هو المستحق، وإنما المراد عين النوع، والأنواع لا يعقل عيبها إلا بنقصان قيمتها فإذا أقرضته أو غصبته طعامًا فنقصت قيمته فهو نقص النوع فلا يجبر على أخذه ناقصًا فيرجع إلى القيمة وهذا هو العدل فإن المالين يتماثلان إذا تساوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل فعيب الدين إفلاس المدين وعيب العين المعينة خروجها عن الكمال بالنقص. اهـ (1) وقال ابن مفلح في الفروع: " وقيل إن رخصت فله القيمة كالمكان" (2) . وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: " قوله وكذلك المغشوشة وعندهم أنها مثلية فيكفي ردها لكن فيما إذا وجد نقصًا فإنه يلزمه المثل عندهم، وعلى أصل الشيخ الظاهر أنه يلزمه القيمة ثم هذا في القرض، ونص عليه أحمد واختار الشيخ أن هذا يجري في سائر الديون – قال الشيخ – وهذا هو الذي ينبغي لما على كل من النقص. اهـ (3) 2.   (1) الدرر السنية: 5/110-111 (2) الفرع: 4/203 (3) فتاوى ووسائل، للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: 7/205. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1401 وقال الرهوني: ظاهر كلام غير واحد من أهل المذهب وصريح كلام آخرين يفهم أن الخلاف السابق محل إذا قطع التعامل بالسكة القديمة جملة. أما إذا تغيرت بزيادة أو نقص فلا. وممن صرح بذلك أبو سعيد بن لب، قلت: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر جدًّا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه لوجود العلة التي علل بها المخالف. اهـ. (1) . وقال الشوكاني في كتابه نيل الأوطار: فائدة: قال في البحر: مسألة الإمام يحيى لو باع بنقد ثم حرم السلطان التعامل به قبل قبضه فوجهان يلزم ذلك النقد إذا عقد عليه. الثاني يلزم قيمته إذا صار لكساده كالعرض. انتهى. قال في المنار: وكذلك ولو صار كذلك يعني النقد لعارض آخر وكثيرًا ما وقع هذا في زماننا لإفساد الضربة لإهمال الولاة النظر في المصالح، والأظهر أن اللازم القيمة لما ذكره المصنف. اهـ (2) قوله: وكذلك لو صار لعارض آخر يفهم منه أن النقص الفاحش أو الزيادة الفاحشة موجبة للأخذ بالقيمة قياسًا على منع السلطان التعامل بالسكة موضوعة الالتزام.   (1) حاشية الرهوني: 5/121 (2) 2 نيل الأوطار: 5/236 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1402 بقي علينا أن نعرف ما مقدار الفحش في الزيادة أو النقص. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في تحديد ما يوجب اعتبار الجائحة ما نصه: ... فلا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها في أشهر الروايتين ... والثانية أن الجائحة الثالث فما زاد كقول مالك لأنه لا بد من تلف بعض الثمر في العادة فيحتاج إلى تقدير الجائحة فتقدر بالثلث كما قدرت به الوصية والنذر ومواضع في الجراح وغير ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((الثلث والثلث كثير)) . اهـ (1) . وخلاصة القول في هذه المسألة أن جمهور أهل العلم ذهبوا إلى وجوب قيمة عملة جرى الالتزام بها ثم أبطل السلطان التعامل بها قبل قبضها وأن جمهورهم ذهبوا إلى عدم اعتبار نقص العملة أو زيادتها وأن من التزم لآخر بنقد جرى فيه النقص أو الزيادة أنه لا يلزم غير مثله، وأن بعضهم ذهب إلى اعتبار النقص والزيادة كاعتبار منع السلطان التعامل بها في وجوب القيمة فيها، وبعضهم توسط فاعتبر النقص الفاحش والزيادة الفاحشة موجبة لأخذ القيمة ثم اختلفوا في تقدير الفحش في الزيادة والنقص فقال بعضهم إن ذلك يرجع إلى العرف والعادة وبعضهم قال إن ذلك مقدار بالثلث فما فوقه.   (1) مجموع الفتاوى الكبرى: 30/279 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1403 وما جرى استعرضه في الحالات الثلاث وما في أحكامها من أقوال لأهل العلم تدور بين الاعتبار وعدمه يعطي تصورًا واضحًا إلى أن القول بربط الحقوق والالتزامات الآجلة بالأسعار موضع تحفظ بالغ في الشريعة الإسلامية. فحتى إذا ظهرت المبررات للأخذ به فإن هناك من يرفضه أخذًا بمبدأ الالتزام والاحتفاظ بقدره ونوعه وأمده طالما أن لموضوع الالتزام قيمة معتبرة وإن نقصت عن قيمتها الحقيقية وقت الالتزام. وبعد هذا يمكن أن ننتقل إلى نقاش مبررات القول بربط الحقوق الآجلة بالأسعار فنقول وبالله التوفيق وعليه الاعتماد: * أولى هذه المبررات: القول بأن الإسلام دين العدل والإنصاف، والتضخم الاقتصادي يأتي على هذه القاعدة حيث إن التضخم سبب في تكدس الثروات بأيدي قلة من الناس وتبقى الكثرة الكاثرة وهم يعانون قلة ذات اليد، وربط الالتزامات الآجلة بمؤشرات الأسعار يحقق العدل ويقضي على التضخم. والإجابة على هذا هو التسليم بأن الإسلام دين العدل والإنصاف وأنه ضد التضخم وتجمع الثروات في أيدي قلة من الناس قال تعالى في تبرير الإنفاق على المحتاجين دون الأغنياء: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (1) وهو يهدف من تشريعاته الصائبة إلى إشاعة المال بطرق مشروعة ومختلفة وتفتيت الثروات وإعادة توزيعها على أكبر عدد ممكن. فهو يحض على الإنفاق في سبيل الله، وسبل الله غير محصورة في جهة معينة فكل طريق من طرق الخير يعتبر سبيلا لله. ويجب في الأموال حقوقًا معينة كالزكوات وحقوقًا غير معينة كالنفقات الواجبة، وفي الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في المال حقًّا سوى الزكاة.   (1) سورة الحشر: الآية رقم 7 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1404 والإسلام حينما يحارب التضخم الاقتصادي فهو يحاربه بتحريمه جملة من المعاملات التجارية كبيوع الغرر والغبن والجهالة والاسترسال وبيع ما لا يملك أو لم يقبض وبيوع الربا بنوعيه ربا الفضل وربا النسيئة وينهى عن تلقي الركبان وعن الاحتكار كما أنه ينهى عن التسعير ما لم توجد له أسباب تضبطه عن الظلم وينهى عن التصرف في سكة المسلمين بما يعود عليهم بالضرر فقد نهى صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس، ومما يعود على المجتمعات والدول بالتضخم المتاجرة بالأثمان – العملات النقدية – اتجه كثير من علماء الإسلام ومحققيهم إلى التحذير من ذلك فقد قال الإمام الغزالي في كتابه الإحياء ما نصه: من نعم الله تعالى خلف الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما – إلى أن قال – فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي ويكون حاكمين بين الأموال بالعدل ولحكمة أخرى ... هي التوسل بهما إلى سائر الأشياء – إلى أن قال – فهذه هي الحكمة الثانية وفيهما أيضًا حكم يطول ذكرها، فكل من عمل فيهما عملا لا يليق بالحكم بل يخالف الغرض المقصود للحكم فقد كفر بنعمة الله تعالى فيهما فإن من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم لسببه وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم لأنهما خلقا لغيرهما لا لأنفسهما إذا لا غرض في عينهما فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودًا على خلاف وضع الحكمة إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم. اهـ (1)   (1) انظر الورق النقدي، تأليف عبد الله بن منيع: ص 105 – 107 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1405 ويقول ابن القيم رحمه الله في كتابه أعلام الموقعين ما نصه: فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن لنعتبر به المبيعات بل الجميع سلع – ثم ذكر أسباب فساد المعاملات ومنها اتخاذ الأثمان سلعًا فقال: " كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم – إلى أن قال – فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل تقتصد للتوصل بها إلى السلع فإذا صارت في أنفسها سلعًا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات. اهـ (1) وجاءت المقتضيات الشرعية بتضييق دائرة التعامل بالأثمان متاجرة ومصارفة فحرمت الزيادة في الجنس الواحد وضرورة التقابض في مجلس العقد سواء اتفق الجنس أو اختلف. ولا يخفى أن في المتاجرة في النقود جملة سلبيات منها انصراف رجال الأعمال عن الإسهام في المشروعات التنموية وتجميد مدخراتهم النقدية في البنوك للمتاجرة بها فينتج عن ذلك ظهور بطالة سببها انكماش السوق الصناعية بانكماش الإنفاق عليها للمتاجرة بالنقد نفسه وصرفه عن وظيفته الأساسية: تقويم السلع وواسطة التبادل.   (1) الورق النقدي: ص 104 – 105 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1406 وبهذا يتضح موقف الإسلام من التضخم وأسباب التضخم , وأنه يحارب التضخم بتشريعات في الأخذ بها حماية للمجتمع من التضخم وصيانة للأسواق التجارية عن التضخم وليس من تشريعاته تغيير الالتزامات الآجلة بنقص أو بزيادة وذلك بربطها بمؤشرات الأسعار إذ لا شك أن في هذا أثرًا عكسيًّا في اعتباره أحد عوامل الكساد الاقتصادي فإن من يلتزم بحق ففي حال الأخذ بربط الالتزام بمؤشرات الأسعار فإنه لا يدري عن ميزان التزامه ولا عن مردود حركته الاقتصادية فقد يخطط لمشروع تنموي يظهر له من مخططه توفر الثقة لديه في نجاح مشروعه إلا أن الأخذ بربط الالتزام بالأسعار قد يأتي على ما يراه ربحًا محققًا في مشروعه وهذا في حد ذاته عامل قوي في إحجامه عن القيام بذلك المشروع الذي يرى ربحه محققًا فيه إلا أنه غير مطمئن إلى تغير التزامه بما يأتي على ذلك الربح. وأما وجه اعتباره عاملا من عوامل التضخم فإن التضخم معناه ظهور سوق نقدي لا يتناسب حجمه العام مع المثمنات المتاحة من سلع وخدمات، وتغير الالتزامات الآجلة وربطها بسعر أجل سدادها وفي ظروف تقلبات اقتصادية لا تحكمها قواعد واضحة ولا تصورات جلية يعطي المزيد من مضاعفة الالتزامات وبالتالي تتيح المجال لهروب النقد إلى ما فيه ضمان نمائه وهذا يعني ظهور فئات تتكدس في أيديها الثروات وقد تكون البنوك أوضح مثال لهذه الفئات يستوي في ذلك ما تملكه أو تستودع إياه للحفظ – أو الاستثمار. وبهذا يتضح أن ربط الالتزامات الآجلة بمؤشرات الأسعار يعتبر من عوامل التضخم المالي والانكماش الاقتصادي لا أنه عامل من عوامل محاربة التضخم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1407 * المبرر الثاني: لا ضرر ولا ضرار، الضرر يزال، قاعدتان شرعيتان والتضخم يوجب الضرر والإضرار، وليس للدائن أو المدين سبب في هذا الضرر إلى آخر التوجيه. والإجابة عن هذا أن الضرر لا يزال بالضرر وأن الظلم لا يزال بظلم، فطالما أن المدين لم يكن له سبب في انخفاض قيمة ما التزم به والمسعر هو الله سبحانه وتعالى. والالتزام بالحق طالما أن الحق مثلي وفي الذمة وهو معلوم القدر والصفة وأجل الوفاء به، فإن الزيادة في قدره وطبقًا لتغير الأسعار ظلم محقق في حق من التزم به، وضرر بالغ عليه، لم يكن السبب في حصول موجبة. وإن كان موجب تغير الأسعار النقص فإن الدائن مظلوم ومتضرر من تخفيض حقه الملتزم له به قدرًا وصفة وأمدًا. ولا يخفى أن الآثار الشرعية المعتبرة والمترتبة على تغير الالتزامات بزيادة أو نقص لا تتجاوز أسبابها أطراف الالتزام فإن كانت الأسباب خارجة عن مقدورهم فلا اعتبار لها في زيادة الالتزام أو نقصه إلا بما ذكرناه من الحالات الاستثنائية. والقول بأن ربط الالتزام بتغير الأسعار يصون طرفي الالتزام من الضرر غير صحيح فالضرر على أحدهما محقق والظلم من أحدهما على الآخر واقع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1408 * المبرر الثالث: الاستدلال على ذلك بقوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} (1) ، وإن من إيفاء الكيل والوزن بالقسط ربط الالتزامات بمؤشرات الأسعار. والإجابة على هذا أن الاستدلال بذلك ظاهر التعسف فيه، فليس في الآية دليل على ذلك ولو صح الاستدلال بها لكان الاستدلال بها على رفض هذا المبدأ أولى وأوضح لأن الحق إذا تعين مقداره كان من القيام بالقسط الوفاء به قدرًا ونوعًا وصفة وأجلا. قال تعالى في معرض مدح المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (2) وليس من الوفاء بالعهد والميثاق القول بتغير الالتزام طبقًا لغير الأسعار فإن الأسعار بيد الله وتغير الأسعار بالزيادة أو النقص من أسباب رزق الله الناس بعضهم ببعض، وفي الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ((دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) . وليس من التقسيط ولا من العدل أن يكون لي على إنسان مائة ألف ريال وعند حلول أجل سدادهما أطلب منه مائة وعشرين ألفًا لتغير القيمة الشرائية، بل إن هذه الزيادة قد لا نجد أحدًا من علماء الإسلام يعتبرها مشروعة وقد لا نجد أحدًا من علماء الإسلام لا يعتبر هذه الزيادة من الربا الصريح الجلي.   (1) سورة الأنعام: الآية 152 (2) سورة المؤمنون: الآية 8 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1409 * المبرر الرابع: الاستدلال على القول بمبدأ ربط الالتزام بتغير الأسعار بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . وهذا الاستدلال أكثر تطرفًا وبعدًا من الاستدلال السابق على ذلك بقوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} . فعقد جرى بين زيد وعمرو استلزم ذلك العقد حقًّا لأحدهما على الآخر هل يكون من الوفاء بهذا العقد أن يرتب على الملتزم بالحق للملتزم له به زيادة عليه أو العكس؟ لا شك أن الوفاء بالعقد يعني تأدية ما يقتضيه العقد دون زيادة أو نقص إلا فيما تراضيا عليه مما لا محذور في اعتباره شرعًا. * المبرر الخامس: إن الحنفية أجازوا أخذ الفرق بين قيمة النقد والدين وهذا هو ربط تغيرات الأسعار بالالتزامات. وكم يكون ناقل هذا القول مؤكدًا لقوله لو أورد نصوصًا عن الحنفية تؤيد قوله عنهم، فإن المنقول عنهم يخالف ذلك فلقد وجد الاختلاف بينهم فيما إذا كانت الفلوس ثمنًا في الذمة ثم كسدت بانقطاع التعامل بها. قال الكاساني: " لو اشترى بفلوس نافقة ثم كسدت قبل القبض انفسخ العقد عند أبي حنيفة رحمه الله وعلى المشتري رد المبيع إن كان قائمًا وقيمته أو مثله إن كان هالكًا، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يبطل البيع والبائع بالخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أخذ قيمة الفلوس كما إذا كان الثمن ربطًا فانقطع قبل القبض، ولأبي حنيفة أن الفلوس بالكساد خرجت عن كونها ثمنًا لأن ثمنيتها تثبت باصطلاح الناس فإذا ترك الناس التعامل بها عددًا فقد زال عنها صفة الثمن ولا بيع بلا ثمن فينفسخ العقد ضرورة. " اهـ (1)   (1) بدائع الصنائع: 5/242، الطبعة الثانية، دار الكتاب العربي، بيروت، 1394 هـ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1410 المبرر السادس: نفي وجود نص من الكتاب أو السنة يحرم هذا النظام، لا شك أن الدائن حينما يكون دينه مؤجلا بزمن ومعينًا بقدر فإن الزيادة على هذا المقدار بعد أن تعين تعتبر زيادة على الملتزم به بمعنى أن زيدًا من الناس له عند بكر مائة ألف ريال مدة عام وفي نهاية العام تغيرت القيمة الشرائية لمائة ألف إلى مائة وعشرين ألفًا وربط الالتزام بالأسعار يعني أن على بكر تسليم مئة وعشرين ألف ريال والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (1) ثم إن حقًّا مقداره في الذمة فإن الزيادة عليه تعتبر ظلمًا وعدوانًا على المدين، ولا شك أن النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في تحريم الظلم أكثر من أن تحصر والمطالبة بوجود نص من كتاب أو سنة على تحريم هذا النظام كالمطالبة بوجود نص على تحريم الظلم والعدوان.   (1) سورة البقرة: الآية 279 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1411 * المبرر السابع: القول بأن هذا النظام لا يتعارض مع قوله صلى الله عليه وسلم: ((مثلا بمثل)) فإن القيمة الحقيقية للالتزام وقت السداد هي القيمة الحقيقية وقت الالتزام. والجواب على هذا أن العبرة بما تعين مقداره لا بما اختلفت قيمته فطالما أن ما تم الالتزام به موجود مثله فلا يجوز تغييره بنقص أو بزيادة إذا كان مالا ربويًّا وإن لم يكن مالا ربويًّا فلا يجوز إلا بتوافق الطرفين ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن رب العالمين شرعه لعباده وله صلى الله عليه وسلم من الفصاحة والقدرة على البيان ما لا يعجزه البيان للأمة فيما يرونه عدلا وإنصافًا ومع ذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلا بمثل يدًا بيد سواء بسواء)) فجملة مثلا بمثل المؤكدة بكلمتي سواء بسواء تعني إرادة النص وإرادة مدلوله ولو كان من العدل والإنصاف الأخذ بطريقة الالتزام بقيمته وقت السداد لبينه صلى الله عليه وسلم ولكن أعطى نصًا صريحًا عاما شاملا في وجوب التماثل في الجنس ونصوصًا أخرى في تحريم مال المسلم وتحريم الظلم بين المسلمين. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والأمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدًا بي فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء)) . رواه أحمد والبخاري. ووجه الاستدلال بهذا أن كلا من طرفي عقد الالتزام قد وقعا في الربا. وجه ذلك أن المستقر في الذمة مثلا مائة ريال فإذا دفع الطرف الملتزم للطرف الملتزم له مائة وعشرين ريالا فقد خالف المماثلة والمساواة في المعين قدرًا وجنسًا، فالملتزم زاد الملتزم له استزاد وبالتالي وقعا في الربا كما قال صلى الله عليه وسلم ((فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1412 * المبرر الثامن: إن إنكار هذا النظام منع للقرض الحسن. والإجابة على هذا: إن الزيادة على القرض، قرض جر نفعًا وفي الأثر مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قرض جر منفعة. وروي موقوفًا على ابن مسعود وأبي بكر بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس وفضالة بن عبيد رضي الله عنهم. وفي صحيح البخاري عن أبي بردة بن أبي موسى، قال " قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: إنك بأرض الربا فيها فاش فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قش فلا تأخذه فإنه ربا. ومن هذا يتضح أن الذي يقرض ألف ريال مثلا ثم يأخذ بطريق الالتزام ممن أقرض ألفًا ومائتين سدادًا للألف التي أقرضه إياها فهو أولى بالإنكار واعتبار الزيادة ربا. وإن القول بأن المقرض قرضًا حسنا يتضرر من نقص القيمة الشرائية لما أقرضه عما كانت عليه وقت الإقراض فالإجابة عن هذا أن الغرض من القروض الحسنة التقرب إلى الله تعالى بتيسير أمور عباده وفي الإقراض من الأجر عند الله ما يهون هذا النقص. فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما من مسلم يقرض مسلمًا قرضا مرتين إلا كان كصدقتهما مرة)) . رواه ابن ماجه. أما إذا قضى المقترض من أقرضه بما هو أكثر مما اقترضه من غير طلب من المقرض ولا تشوف فلا بأس بذلك. ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان عليه دين فقضاني وزادني. وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل فقال: ((أعطوه)) )) فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سنًا فوقه فقال أعطوه. فقال: أوفيتني أوفاك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن خيركم أحسنكم قضاء ... )) . وبهذا يتضح أن إلزام الملتزم بزيادة على التزامه سواء كان قرضًا أو غيره من الربا، وأن الانتفاع من المقترض قبل سداد القرض من ذلك، وأن الوفاء بالقرض زيادة عنه من غير طلب من المقرض أو تلميح بذلك لا بأس به وأن القرض عمل إرفاقي تدعوا إليه مكارم الأخلاق واحتساب ما عند الله وبهذا يندفع القول بأن منع هذا النظام منع للقرض الحسن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1413 * المبرر التاسع: إن هذا النظام يساعد على حصول القروض الأجنبية للبلدان الإسلامية المختلفة. والإجابة عن هذا أن روح هذا النظام هو المحافظة على القيمة الشرائية بحق الملتزم به وقت سداده، بمعنى أن صاحب الحق لا يستفيد إلا ضمان حقه عن النقص عند سداده فكيف يكون في هذا النظام إغراء للمؤسسات المالية الأجنبية بإقراض الدول الإسلامية المتخلفة؟ بل إننا نستطيع القول بأن الأخذ بهذا النظام سيضاعف الالتزام على هذه الدول المقترضة من المؤسسات المالية الأجنبية بفوائد حينما تراعى القيمة الشرائية وقت السداد فيكون على الملتزم للبنوك الأجنبية الفوائد الربوية وفرق القيمة عند ربط الالتزام بمؤشرات الأسعار. وبهذا يتضح أن هذا التبرير غير ظاهر وأن التبرير به لرد هذا النظام متجه. * المبرر العاشر: ربط تغيرات الأسعار يشبه الإضافة التي يضيفها البائع على ما يبيعه بالدين. والإجابة عن هذا تتضح بمزيد من التأمل، فإن الفرق بين الصورتين واضح فالزيادة التي يحصل عليها من يبيع بالدين يحصل عليها قبل الالتزام، فإذا تم الالتزام بمائة ألف ريال مثلا فإن الدائن لا يستطيع الحصول على هللة واحدة زيادة عن حجم الالتزام الذي التزم به وما حصل عليه من زيادة هي في الواقع مع رأس ماله فيما باعه قيمة ما جرى عليه الاتفاق بين طرفي الالتزام قيمة للبضاعة، أما الزيادة في الالتزام بعد تمامه واستقراره في الذمة فإنها أبشع من الزيادة الربوية (أتقضي أم تربي) يوضح ذلك أن المعاملة الربوية (أتقضي أم تربي) تكمن الزيادة فيها في حال الاتفاق على تأجيل الدفع بعد حلوله وأما في صورة ربط الالتزام بتغير الأسعار فإن الزيادة على الملتزم حتمية في حال الاستعداد لسداد مقدار الالتزام، وبهذا يتضح أن الصورتين مختلفتان وأن الجمع بينهما جمع بين متباينين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1414 وبقية المبررات تكاد تكون مكررة للمبررات التي جرى التعليق عليها. وإذا كان لنا عمل في معالجة التضخم الاقتصادي ولنا قدرة في الإسهام في ذلك فينبغي تشخيص أسباب التضخم والتعرف على تلك الأسباب بما في ذلك زيادة الطلب على العرض والتساهل في التقيد بمؤشرات الاعتدال في إصدار النقود وإحجام رءوس الأموال عن الدخول في مشروعات تنموية وتقويم العملات النقدية وجعلها سلعًا تباع وتشترى وانكماش الإنفاق الحكومي على المرافق الحيوية في البلاد، ولو قلنا بربط الالتزامات الآجلة بمستوى الأسعار لكان الأخذ بذلك أحد أسباب التضخم في البلاد وقد مر فيما سبق ذكر توجهه. وحيث إنه يمكن أن يكون الملتزم بالحق سببًا في تضرر الملتزم له بالحق عند تغير أسعار الأثمان بالنقص وذلك بمطله وليه صاحب الحق وهو قادر على أداء الحق فإن هذه المسألة محل نظر واجتهاد وقد كتب فيها بحثًا هذا نصه: الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه، وبعد: لا شك أن مماطلة المدين دائنه في تسليمه ما وجب عليه أداؤه سواء كان ذلك ثمنًا من أي جنس من أجناس الأثمان أو كان عينًا من أي جنس من الأعيان أو السلع فإن ذلك ظلم وعدوان إن كان مستطيعًا السبيل في الأداء، أما إن كان ذو عسرة فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (سورة البقرة: الآية 280) . يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن ربه: ((ألا وإني حرمت الظلم وجعلته بينكم محرمًا ألا فلا تظالموا)) . ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} (سورة الفرقان: الآية 19) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1415 ولا شك أن الظلم باعتباره عدوانًا وبغيًا محرم وأن انتهاك المحرم موجب للعقوبة الزاجرة والرادعة. كما لا شك أن المسلم حرام ماله ودمه وعرضه إلا بحقه ومطل المدين القادر دائنه عن أداء حقه نوع من الاستيلاء على ماله بدون حق أشبه الغصب إن لم يكن من صوره. ويبنى على ذلك في الغالب بأن تعطيل الدائن من ماله مستلزم فوات منافع لهذا المال في حال تقليبه وإدارته وحيث إن هذا التعطيل مستلزم ذلك الفوات في الغالب فإن القول بضمانه وتغريمه المدين قول يتفق مع الأصول العامة والقواعد الشرعية في الحفاظ على حقوق المسلم وطغيان ما ينقصه بسبب الظلم والعدوان. ولهذا جاء النص الكريم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقوبة المماطل إذا كان غنيًّا. ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((مطل الغني ظلم)) وفي السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)) . فمن حل عرضه التشهير به في المجامع التجارية وغيرها بسوء معاملته والتحذير من الدخول معه في تعامل أو تداول لتحذير الناس ظلمه وعدوانه وليكون نفور الناس عنه سببًا في إلحاق الضرر بتجارته فيكون ذلك عقوبة له لاستحلاله مال أخيه بدون حق على سبيل الظلم والعدوان. ومن حل عقوبته التقدم لولاة الأمر بشكايته على مسلكه الذميم في اللي والمماطلة لإلزامه بدفع الحق الذي عليه وتقرير ما يستحقه من عقوبة رادعة وزاجرة بالحبس والجلد والغرامة المالية أو بواحدة منها على ما يقتضيه النظر المصلحي. ومن عقوبته التقدم للقضاء بطلب التعويض عن النقص الذي سببته المماطلة في أدائه الحق وضمان منفعة يغلب على الظن حصولها للدائن في حال استلامه حقه في وقته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1416 وقد بحث العلماء رحمهم الله حكم التعويض عن المنافع الفائتة وعن المنافع المتوقع فواتها فقالوا بضمان كل منفعة محقق ضياعها كمنافع الأعضاء في حال الجناية عليها كما قالوا بضمان ما غرمه محق يطالب بحقه الثابت ممن كان منه المماطلة في أدائه حتى أحرجه إلى الشكاية والتقاضي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات: ومن مطل صاحب الحق حقه حتى أحوجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المبطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد. اهـ، وقال في كتاب الإنصاف للمرداوي في باب الحجر " ولو مطل غريمه حتى أحوجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك يلزم المماطل وقال شيخ الإسلام بن تيمية لو غرم بسبب كذب عليه عند ولي الأمر رجع به على الكاذب. اهـ. وفي هذا فتوى لسماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله هذا نصها: موضوع الفتوى: هل نفقات المنتدبين للنظر في القضية على المفلوج مطلقًا؟ من محمد إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فعطفًا على المخابرة الجارية حول نفقات المنتدبين للنظر في قضية من القضايا هل تكون على المحكوم عليه تبذلها الجهة التي منها الانتداب وتكون سلفة حتى تقتص من المحكوم عليه؟ ولقد ذكرنا في كتاب سابق منا لسموكم أن في المسألة بحثًا من حيث الوجهة الشرعية، وذلك أن العلماء رحمهم الله نصوا على أن كل من غرم غرامة بسبب عدوان شخص آخر، أن ذلك الشخص هو الذي يحمل تلك الغرامة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1417 قال شيخ الإسلام في كتاب " الاختيارات ": ومن مطل صاحب الحق حقه حتى أحوجه إلى الشكاية فما غَرِمَه بسبب ذلك فهو على الظالم المبطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد. وقال في الإنصاف في باب الحجر قوله: الثانية: لو مطل غريمه حتى أحوجه للشكاية فما غَرِمَه بسبب ذلك يلزم المماطل. وقال شيخ الإسلام: لو غرم بسبب كذب عليه عند ولي الأمر رجع به على الكاذب. " وحيث كان الأمر ما ذكر فإن نفقات المنتدبين على من تبين أنه الظالم وهو العالم أن الحق في جانب خصمه ولكنه أقام الخصومة عليه مضارة لأخيه المسلم أو طمعًا في حقه. وحينئذ يتضح أن المفلوج في المخاصمة لا يلزم بذلك مطلقًا بل له حالتان، إحداهما: أن يتحقق علمه بظلمه وعدوانه فليزم بذلك المخاصمة مع علمه بأنه مبطل، الثانية: ألا يتضح علمه بظلمه في مخاصمته بل إنما خاصم ظانًّا أن الحق معه أو أنه يحتمل أن يكون محقًّا ويحتمل خلافه فهذه الاوجه شرعًا لإلزامه بتلك النفقات وبهذا يرتدع المخاصمون بالباطل عن خصوماتهم ويأمن أرباب الحقوق على حقوقهم غالبًا ويستريح القضاء من كثير من الخصومات. اهـ. الجزء الثالث عشر، ص 55. ومن كان له حق على آخر مستحق الأداء، فماطل المدين وهو قادر على الوفاء حتى تغير السعر بأن انخفض سعر الثمن أو العين موضوع الحق الواجب الأداء، فمن منطلق العدل وقاعدة ضمان النقص أو المنفعة أو العين على من تسبب في فواتها، القول بتضمين المماطل ما نقص على صاحب الحق من نقص سعر أو فوات منفعة. وعليه فمن عقوبة المماطل ربط الحق بسعر يوم سداده، إذا كان فيه نقص على صاحب الحق فإذا مطل المدين دائنه بعد استحقاق الوفاء وترتب على هذا المطل نقص فإنه مضمون لصاحب الحق على مدينه المماطل وهذا مقتضى العدل والإنصاف فالمدين يضمن هذا النقص بسبب ليه ومطله وصاحب الحق يستحق الزيادة على حقه لأن مدينه المماطل أضر به بمقدار هذه الزيادة وهي في الحقيقة ليست زيادة وإنما هي ضمان نقص سببه المماطلة. لقد اختلف العلماء رحمهم الله في تقدير حق المغتصب المماطل في أدائه بسعر يوم سداده قال في منتهى إرادات: ولا يضمن نقص سعر. اهـ كما اختلفوا في العقوبة التي يستحقها المماطل فذهب جمهورهم إلى عدم الزيادة على الحق مطلقًا كما مر النقل من شرح المنتهى وإن العقوبة المقصودة في الحديث: ((لي الواجد يحل عقوبته)) ما يوقعها ولي الأمر أو نائبه على المماطل من عقوبة تعزيزية بحبس وجلد ـ أو بواحدة منهما. وذهب بعضهم إلى أن العقوبة هي تكليف المماطل بضمان ما خسره صاحب الحق في سبيل المماطلة بتحصيل حقه. ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد سبق ذكر النص عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1418 وذهب بعض المحققين إلى القول بضمان نقص السعر، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله " قال الأصحاب وما نقص بسعر لم يضمن. أقول: وفي هذا نظر فإن الصحيح أن يضمن نقص السعر، وكيف يغصب شيئًا يساوي ألفًا وكان مالكه يستطيع بيعه بالألف ثم نقص السعر نقصًا فاحشًا فصار يساوي خمسمائة، إنه لا يضمن النقص فيرده كما هو؟ اهـ. وهذا القول هو ما يقتضيه العدل الذي أمر الله به، وهو في نفس الأمر عقوبة للظالم أقرها صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لي الواجد يحل عقوبته وعرضه)) ، ولا شك أن المماطل في حكم الغاصب بمماطلته أداء الحق الواجب عليه إلا أن تقدير الزيادة عليه يجب أن يراعى في تعيينها العدل فلا يجوز دفع ظلم بظلم ولا ضرر بضرر أفحش منه – ولنضرب مثلًا يتضح فيه طريق التقدير: زيد من الناس قد التزم لعمرو بمائة ألف دولار أمريكي مثلا يحل أجلها في غرة محرم عام 1407 هـ وكان سعر الدولار بالين الياباني وقت الالتزام مائتين وخمسين ينًا وفي أول يوم من شهر محرم عام 1407 هـ انخفض سعره إلى مائتين وعشرين ينًا فطلب صاحب الحق حقه من مدينه زيد فماطله إلى وقت انخفض سعر الدولار إلى مائة وخمسين ينًا فما بين سعر الدولار وقت الالتزام بالحق وبين سعره وقت حلول السداد ونقص مقداره ثلاثون ينًا في الدولار هذا النقص لا يجوز أحتسابه على المدين لأنه لم يكن سببًا فيه على الدائن وإنما النقص الذي يجب أن يضمنه المدين للدائن هو الفرق بين سعره وقت حلول السداد وبين سعره بعد المماطلة وهو سبعون ينًا لكل دولار وبهذا المثال يتضح وجه التقدير المبني على العدل وعدم مجاوزة الحد في العقوبة والضمان. ومما يؤكد كما ذكرنا من أن المنفعة مضمونة على من تسبب في ضياعها مسألة العربون ومسألة الشرط الجزائي. وكلا المسألتين ضمان لمنفعة مظنونة الوجود غير محققة ومع هذا فقد اعتبر الضمان لتلك المنفعة المظنونة. وإكتمالا للبحث أذكر أن الشرط الجظائي قد صار باعتباره قرار هيئة كبار العلماء بعدد 35 وتاريخ 21/8/1394 هـ أذكر نصه فيما يلي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1419 (قرار رقم 35 وتاريخ 21/8/1394 هـ) الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد: فبناء على ما تقرر في الدورة الرابعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة فيما بين 28/10 و 14/11 /93 هـ من الرغبة في دراسة موضوع الشرط الجزائي، فقد جرى إدراجه في جدول أعمال الهيئة في دورتها الخامسة المنعقدة فيما بين 5 و 22/8/1394 هـ في مدينة الطائف. ثم جرى دراسة الموضوع في هذه الدورة بعد الاطلاع على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. وبعد مداولة الرأي والمناقشة، واستعراض المسائل والإيراد عليه، وتأمل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، وما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله ((المسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حر أما أو حرم حلالا)) ولقول عمر رضي الله عنه: " مقاطع الحقوق عند الشروط "، والاعتماد على القول الصحيح من أن الأصل في الشروط الصحة، وأنه لا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصًّا وقياسًا، واستعرض ما ذكره أهل العلم من تقسيم الشروط في العقود إلى صحيحة وفاسدة، وتقسيم الصحيحة إلى ثلاثة أنواع: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1420 أحدهما: شرط يقتضيه العقد كاشتراط التقابض وحلول الثمن. الثاني: شرط من مصلحة العقد كاشتراط صفة في الثمن كالتأجيل أو الرهن أو الكفيل به أو صفة في الثمن ككون الأمة بكرًا. الثالث: شرط فيه منفعة معلومة وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته ولا منافيًا لمقتضاه كاشتراط البائع سكنى الدار شهرًا. وتقسيم الفاسدة إلى ثلاثة أنواع: أحدهما: اشتراط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقدًا آخر كبيع أو إجارة أو نحو ذلك. الثاني: اشتراط ما ينافي مقتضى العقد كأن يشترط في البيع ألا خسارة عليه أو ألا يبيع أو يهب ولا يعتق. الثالث: الشرط الذي يتعلق به العقد كقوله: بعتك إن جاء فلان، وبتطبيق الشرط الجزائي عليها وظهور أنه من الشروط التي تعتبر من مصلحة العقد إذ هو حافز لإكمال العقد في وقته المحدد له والاستئناس بما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين: أن رجلًا قال لكريه أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه، وقال أيوب عن ابن سيرين: أن رجلًا باع طعامه وقال: إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيعة. فلم يجئ فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت فقضى عليه. وفضلا عن ذلك فهو في مقابلة الإخلال بالالتزام حيث إن الإخلال به مظنة الضرر وتفويت المنافع، وفي القول بتصحيح الشرط الجزائي سد لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله وسبب من أسباب الحفز على الوفاء بالعهود والعقود تحقيقًا لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (سورة المائدة: الآية 1) لذلك كله فإن المجلس يقرر بالإجماع أن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر يجب الأخذ به ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له يعتبر شرعًا فيكون العذر مسقطًا لوجوبه حتى يزول. وإذا كان الشرط الجزائي كثيرًا عرفًا يراد به التهديد المالي ويكون بعيدًا عن مقتضى القواعد الشرعية فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف على حسب ما فات من منفعة أو لحق من ضرر ويرجع تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي عن طريق أهل الخبرة والنظر عملًا بقوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (سورة النساء: الآية 58) . وقوله سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (سورة المائدة: الآية 8) وبقوله صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) . وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء التوقيع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1421 وبتأمله يتضح أنه في مقابلة فوات منفعة غير محقق وقوعها، لكن نظرًا إلى المخالفة المترتبة على تفويت فرصة اكتساب المنفعة صارت أهم عائق لتفويتها اتجه القول بضمان هذه المنفعة. ومثل ذلك مسألة العربون فإن المشتري يبذل مبلغًا من المال مقدمًا عند تمام عقد الشراء على أن يكون له الخيار مدة معلومة فإن قرر الشراء صار العربون جزءًا من الثمن وإن قرر عدم الشراء صار العربون مستحقًا للبائع في مقابل عدم تكمنه من عرض بضاعته بعد ارتباطه مع المشتري بعقد البيع المعلق، ووجه استحقاق البائع للعربون في حال عدول المشتري عن الشراء أنه في مقابلة تفويت فرص بيع هذه السلعة بثمن أكبر من ثمن بيعها على المشتري بيعًا معلقًا يحتمل العدول عنه , وفيما يلي نص عن ابن قدامة من كتابه المغني فيما يتعلق بمسألة العربون واختلاف العلماء فيها. وانفرد الإمام أحمد رحمه الله بالقول بصحة العربون واستحقاق البائع إياه في حال العدول عن الشراء. قال رحمه الله ما نصه: " والعربون في البيع هو أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهمًا أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن وإن لم يأخذها فذلك للبائع يقال عربون وأربون وعربان وأربان، قال أحمد لا بأس به وفعله عمر رضي الله عنه." الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1422 وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أجازه، وقال ابن سيرين لا بأس به، وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئًا وقال أحمد: هذا في معناه واختار ابن الخطاب أنه لا يصح وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي. ويروى ذلك عن ابن عباس والحسن ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربون)) . رواه ابن ماجه ولأنه شرط للبائع شيئًا بغير عوض فلم يصح كما لو شرطه لأجنبي ولأنه بمنزلة الخيار المجهول فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح كما لو قال ولي الخيار متى شئت رددت السلعة معها درهمًا وهذا هو القياس وإنما صار أحمد فيه إلى ما روى نافع عن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا، قال الأثرم قلت لأحمد تذهب إليه قال أي شيء أقول هذا عمر رضي الله عنه وضعف الحديث المروي، روى هذه القصة الأثرم بإسناده. وقد لخص الدكتور عبد الرزاق السنهوري رحمه الله في كتابه مصادر الحق أدلة القولين ورد أدلة القائلين ببطلان بيع العربون، فقال بعد إيراده ما ذكره ابن قدامة رحمه الله ما نصه: ويمكن أن نستخلص من النص المتقدم ما يأتي: أولا: إن الذين يقولون ببطلان بيع العربون يستندون في ذلك إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي نهى عن بيع العربون، ولأن العربون اشترط للبائع بغير عوض، وهذا شرط فاسد، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول إذا اشترط المشتري خيار الرجوع في البيع من غير ذكر مدة كما يقول ولي الخيار: متى شئت رددت السلعة ومعها درهم. ثانيًا: إن أحمد يجيز بيع العربون ويستند في ذلك إلى الخبر المروي عن عمر وضعف الحديث المروي في النهي عن بيع العربون وإلى القياس على صورة متفق على صحتها هي أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها ويرد معها شيئًا قال أحمد هذا في معناه. ثالثًا: ونرى أنه يستطاع الرد على بقية حجج من يقولون ببطلان بيع العربون، فالعربون لم يشترط للبائع بغير عوض إذ العوض هو الانتظار بالمبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة وليس بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول، إذ المشتري إنما يشترط خيار الرجوع في البيع بذكر مدة إن لم يرجع فيها مضت الصفقة وانقطع الخيار) .اهـ. ومما تقدم يظهر لنا جواز الحكم على المماطل وهو قادر على الوفاء بضمان ما ينقص على الدائن بسبب مماطلته وليه وإن ضمن عقد الالتزام بالحق شرطًا جزائيًّا لقاء المماطلة واللي بقدر فوات المنفعة، فهو شرط محترم واجب الوفاء لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حرامًا)) ولما ورد في صحيح البخاري في باب (ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار والشروط التي يتعارفها الناس بينهم) . وقال ابن عون، عن ابن سيرين: قال رجل لكريه: أدخل ركابك، فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم، فلم يخرج، فقال شريح: من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه. وقال أيوب، عن ابن سيرين: ((أن رجلاً باع طعامًا وقال: إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع، فلم يجئ، فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت، فقضى عليه)) اهـ. وفي الجزء الرابع من بدائع الفوائد لابن القيم رحمه الله قوله: وقال في رواية الميمونى: ولا بأس بالعربون، وفي رواية الأثرم: وقد قيل له: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن العربان، فقال: ليس بشيء، واحتج بما روى نافع عن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دارًا بشجر، فإن رضي عمر وإلا له كذا وكذا، قال الأثرم: فقلت لأحمد: فقد يقال هذا، قال: أي شيء أقول هذا عمر رضي الله عنه. اهـ. ولا يقال بأن هذه الزيادة المترتبة على الدائن المماطل بدون حق سواء كانت عقوبة دل عليها حديث: ((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)) أو كانت مقتضى شرط جزائي اشتمله عقد الالتزام لا يقال بأن هذه هي الزيادة الربوية الجاهلية – أتربي أم تقضي. فهي تختلف اختلافًا ببعدها عنها وأهم وجوه الاختلاف ما يلي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1423 أولًا: أن الزيادة الربوية زيادة في غير مقابلة وهي اتفاق بين الدائن والمدين على تأجيل سداد الدين إلى أجل معين في مقابلة زيادة معينة لقاء الاتفاق على التأجيل. بينما الزيادة على الحق المستحق لقاء المماطلة بدون حق هي في مقابل تفويت منفعة على الدائن على سبيل الغصب والتعدي، وهي في نفس الأمر عقوبة مالية سببها الظلم والعدوان. ثانيًا: أن الزيادة الربوية اتفاق بين الدائن والمدين لقاء تأجيل السداد فهي زيادة في مقابلة الانتظار لزمن مستقبل وعلى سبيل التراضي فالمدين لا يسمى في هذه الحال مماطلًا ولا معتديًا ولا ظالمًا بسبب تأخيره سداد حق دائنه بينما الزيادة عل حق الدائن في مقابلة اللي والمطل بغير حق وضمان لمنفعة فائتة بسبب المماطلة. ويعتبر المماطل ظالمًا ومعتديًا ومفوتًا منفعة دائنة باحتباس حقه عنده بدون حق فهي زيادة لم تكن موضوع اتفاق على اعتبار التأخير في مقابلتها وإنما هي في مقابلة تفويت منفعة على سبيل الظلم والعدوان بالمماطلة وهي كذلك عقوبة اقتضاها اللي والمماطلة. ومما تقدم يتضح أن مسائل ضمان قيمة المنفعة على من تسبب في فواتها لها أحوال، منها: الحالة الأولى: من تسبب بجنايته على عضو إنسان ففاتت منفعة ذلك العضو فلا نعلم خلافًا بين أهل العلم في حال تعذر القصاص في ضمان دية هذه المنفعة. الحالة الثانية: من غصب عينًا فحبسها عن صاحبها حتى تغير سعرها بنقص فالذي عليه المحققون من أخل العلم ضمان هذا النقص على من تسبب في حصوله. وقد تقدم النص من بعضهم على هذه المسألة وهو الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله. الحالة الثالثة: من كان له حق على أخر فمطله أداء حقه بغير حق حتى أحوجه إلى شكايته وغرم بسبب ذلك غرمًا على وجه معتاد فالذي عليه المحققون من أهل العلم إلزام المماطل بضمان ما غرمه خصمه في سبيل المطالبة بحقه وقد نص على هذه المسألة أكثر من واحد من أهل العلم ومحققيهم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن إبراهيم وغيرهما. الحالة الرابعة: ضمان المنفعة الفائتة بسبب الإخلال بما جرى عليه التعاقد إذا كان في العقد نص على ذلك وهذه مسألة الشرط الجوائي وقد صدر باعتبار الشرط الجزائي قرار من مجلس هيئة كبار العلماء جرى ذكر نصه في هذا البحث. الحالة الخامسة: ضمان قيمة منفعة مظنونة الوقوع للتسبب في ضياع فرصة الانتفاع وهذه مسألة العربون ولا يخفى أنها من مفردات الإمام أحمد وقد أخذ بها مجموعة من أهل التحقيق قديمًا وحديثًا. الحالة السادسة: تضمين المماطل ما يترتب على الدائن من نقص في مقدار دينه بسبب تغير السعر أو بسبب الحرمان من إدارة هذا الدين وتقليبه في الأسواق التجارية وذلك بالحكم له بذلك النقص على مماطلة عقوبة له على ظلمه وعدوانه ومماطلته والحجة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)) وقوله صلى الله عليه وسلم ((مطل الغني ظلم)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1424 وقد يكون من عموم الاستدلال ما في تغريم السارق غرم ما سرقه مرتين للمسروق له مما لا تتوفر فيه شروط القطع وذلك على سبيل العقوبة بالمال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الجزء الثامن والعشرين من مجموع الفتاوى: (روى أبو داود وغيره من أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم ((فيمن سرق من الثمر المعلق قبل أو يؤويه إلى الجرين أن عليه جلدات نكال وغرمه مرتين , وفيمن سرق من الماشية قبل أن يؤدي إلى السراج أن عليه جلدات نكال وغرمه مرتين)) . وكذلك قضى عمر بن الخطاب في الضالة المكتومة أن يضعف غرمها وبذلك كله قال طائفة من العلماء مثل أحمد وغيره. وأضعف عمر وغيره الغرم في ناقة أعرابي أخذها مماليك جياع. فأضعف الغرم على سيدهم ودرأ عنهم القطع، وأضعف عثمان بن عفان في المسلم إذا قتل الذمي عمدًا أنه يضعف عليه الدية لأن دية الذمي نصف دية المسلم وأخذ بذلك أحمد بن حنبل) اهـ. وبهذا يتضح أن العقوبة بالمال أمر مشروع وأن تمليك المعتدى عليه بالسرقة ما زاد عن حقه المسروق معتبر ولا تعتبر هذه الزيادة من قبيل الربا وإنما هي عقوبة للجاني وتعويض عن منفعة تفوت بحرمان المجني عليه من الانتفاع بماله مدة بقائه في يد الجاني، وهكذا الأمر بالنسبة لمطل الغني ولي الواجد، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. عبد الله بن سليمان بن منيع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1425 مسألة تغير قيمة العملة وربطها بقائمة الأسعار إعداد الدكتور محمد تقي العثماني بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. عرض المسألة: إن مسألة تغير قيمة العملة، وربطها بقائمة الأسعار إنما نشأت نتيجة للنظام النقدي المعاصر. كانت العملة فيما سبق مرتبطة بعيار مخصوص من الأثمان، كالنقود الذهبية أو الفضية ترتفع قيمتها وتنخفض بالنسبة إلى ذلك العيار المخصوص. ولكن النقود الورقية اليوم ليست مرتبطة بثمن خلقي، وإنما هي تمثل قوة شراء مخصوصة باصطلاح من جهتها المصدرة. فلا تتفاوت قيمتها بالنسبة إلى عيار مخصوص من الأثمان، وإنما تتفاوت بغلاء الأشياء ورخصها. فكلما غلت البضائع في السوق انتقصت قوة شرائها، فكأنما انتقصت قيمتها، وكلما رخصت البضائع زادت قوة شرائها، فكأنما ارتفعت قيمتها. وبعبارة علم الاقتصاد المعاصر: إن قيمة النقود إنما تنبني اليوم على مقدار التضخم أو الانكماش الموجودين في البلاد، فكلما ازداد التضخم انتقصت قيمة النقود، وكلما ازداد الانكماش ارتفعت قيمتها. ودعوني، قبل أن أتقدم في الموضوع، أن أفسر التضخم والانكماش باختصار، ليسهل فهم الموضوع قبل الدخول فيه. إن التضخم (Inflation) في اصطلاح الاقتصاد المعاصر عبارة عن حالة اقتصادية في بلد مخصوص، يزداد فيها مقدار النقود السائلة على مقدار البضائع والخدمات التي يمكن شراؤها بالنقود. ومن النتائج اللازمة لهذه الحالة أن ترتفع أسعار البضائع والخدمات فيحدث الغلاء العام، لأن النقود السائلة في البلاد تمثل طلب المجتمع للبضائع والخدمات، والبضائع والخدمات الموجودة في البلاد تمثل عرضها للمجتمع، وحيثما ازداد الطلب على العرض، ازدادت الأسعار، كما هو معلوم من قواعد الاقتصاد الأساسية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1426 أما الانكماش (Deflatiom) فهو عبارة عن حالة اقتصادية ينتقص فيها مقدار النقود السائلة عن مقدار البضائع والخدمات المتوفرة في بلد مخصوص. ونتيجة هذه الحالة أن ينخفض مستوى أسعار البضائع والخدمات، فيحدث رخص عام. لأن العرض قد ازداد على الطلب، فانخفضت الأسعار. وإن النقود في حالة الانكماش تستطيع أن تشتري كمية كبيرة من البضائع، فنستطيع في هذه الحالة مثلا، أن نشتري بمائة ربية البضائع الآتية: الحنطة 20 كيلو الملح 20 كيلو الثوب 10 متر ولكن لا تستطيع النقود في حالة التضخم أن تشتري إلا كمية أقل مما كانت تشتري في حالة الانكماش، فإنما يمكن لنا في حالة التضخم مثلًا، أن نشتري بمائة ربية: الحنطة 10 كيلو الملح 10 كيلو الثوب 5 أمتار فالمائة ربية في الحالتين، هي المائة روبية، لكن كانت قوة شرائها في الحالة الأولى ضعف قوة شرائها في الحالة الثانية. وبما أن النقود الورقية اليوم لا تمثل إلا قوة شراء، وهي التي تعتبر قيمتها الحقيقية، فإن الاقتصاديين يعبرون عن هذا التفاوت بتفاوت قيمة النقود، وقد رأينا أن قوة شراء المائة ربية في المثال المذكور قد انتقصت في حالة التضخم بقدر الخمسين في المائة، لأنها إنما تستطيع أن تشتري بها في حال التضخم نصف ما كانت تشتري في حالة الانكماش، أو نقول: إن المائة روبية في حالة التضخم صارت مساوية للخمسين ربية في حالة الانكماش نظرًا إلى قوة شرائها. فالسؤال المطروح اليوم: هل تعتبر المائة ربية في حالة التضخم مثل المائة ربية في حالة الانكماش في أداء الحقوق والالتزمات؟ أو تعتبر أنها صارت خمسين؟ فمن استقرض من رجل مائة ربية في حالة الانكماش، هل يؤدي مائة ربية بالعدد في حالة التضخم؟ أو يؤدي مائتي ربية نظرًا إلى انخفاض قيمتها، وانتقاص قوة شرائها بقدر الخمسين في المائة؟ وقد يرى بعض الاقتصاديين أن أداء مائة ربية بالعدد في هذه الحالة ظلم على المقرض، لأن المستقرض إنما يرد عليه نصف القوة الشرائية التي دفعها إليه المقرض. وقد اقترح بعض الاقتصاديين لحل هذه المشكلة أن تستخدم قائمة الأسعار كمعيار لتقييم النقود، ويكون أداء الحقوق والالتزامات على أساس قيمة النقود المرتبطة بقائمة الأسعار. وإن قائمة الأسعار (Price index) قائمة تدرج فيها معظم البضائع والخدمات المتداولة في البلاد، ويذكر فيها سعرها الرائج في ابتداء السنة المالية مثلا، ثم يذكر سعرها الرائج عند انتهاء السنة، والفرق ما بين هذين السعرين يمثل نسبة تفاوت الأسعار بطريق حسابي مخصوص. وتعتبر هذه النسبة نسبة تغير قيمة النقود. فإذا كانت هذه النسبة زيادة عشرة في المائة مثلًا، فإن الحقوق الملتزم بها في ابتداء السنة تؤدي في نهايتها بزيادة عشرة في المائة، فمن استقرض مائة ربية في ابتداء العام يؤديها عند انتهاء العام مائة وعشر ربيات. وإن هذا الطريق يستخدم في بعض البلاد في أداء الأجور، وقضاء الديون، فنريد أن نبحث عن مدى جواز استخدام هذا الطريق من الناحية الشرعية، والله سبحانه هو الموفق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1427 ربط القروض والديون بقائمة الأسعار ما ربط القروض وسائر الديون بقائمة الأسعار، فالمقصود منه أن لا يرد المستقرض إلى المقرض مبلغ قرضه فحسب، بل يضيف إليه قدرًا زائدًا بنسبة الزيادة في قائمة الأسعار. فإن اقترض مثلًا ألف ربية، وازدادت قائمة الأسعار بنسبة العشرة في المائة عند الأداء، فإنه يرد إلى المقرض ألفًا ومائة ربية. ويحتج بعض الاقتصاديين على جواز هذا الربط بأن هذه الزيادة ليست زيادة حقيقية، وإنما هو رد لنفس المالية التي اقترضها المقترض، لأن مالية الألف ربية من حيث شرائها كانت أكثر عند الاقتراض، وانتقصت عند الأداء بنسبة 10 %، فلو رد المقترض ألف ربية كان ذلك ظلمًا على المقرض لأنه لم تعد إليه المالية الكاملة التي أقرضها. وإنما عادت إليه ناقصة , فلو ألزمنا المقترض أن يدفع إليه ألفًا ومائة، لم يكن ذلك إلا إكمال المالية المقترضة، لأن مالية الألف ومائة اليوم عين مالية الألف عند الاقتراض، فزيادة المائة جبر لنقصان قيمة النقد، وليس زيادة على المالية المقترضة، فينبغي أن لا تعتبر هذه الزيادة من الربا الحرام شرعًا. ولكن الحق أن هذا الدليل لا ينطبق على القواعد الشرعية بحال من الأحوال، لأن القروض يجب في الشريعة أن تقضى بأمثالها، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان، حتى القائلين بجواز ربط القروض بالأسعار، فبقي الآن تعيين معنى المثلية. فالسؤال الأساسي هنا: هل يجب أن تتحقق هذه المثلية في القدر (أي الكيل، والوزن، والعدد) أو في القيمة والمالية؟ والذي يتحقق من النظر في دلائل القرآن والسنة ومشاهدة معاملات الناس، أن المثلية المطلوبة في القرض هي المثلية في القدر والكمية، دون المثلية في القيمة والمالية. ويدل على ذلك دلائل: 1- لو اقترض الرجل صاعًا من الجنطة، قيمتها يومئذ خمس روبيات مثلا، فلم يؤدها إلى المقرض إلا بعد ما صارت قيمتها ربيتين فحسب، فإنه لا يرد إلى المقرض إلا صاعًا واحدًا، رغم أن مالية الصاع الواحد قد انتقصت من خمس ربيات إلى ربيتين، وهذا بإجماع الفقهاء قديمًا وحديثا، ولا يقول في ذلك أحد: إن رد الصاع الواحد فقط بعد انتقاص ماليته ظلم على المقرض، فينبغي أن تضاف إلى الصاع زيادة بنسبة نقصان قيمته، وهذا من أوضح الدلائل على أن المثلية المعتبرة في القرض إنما هي المثلية في المقدار، لا في القيمة والمالية. وربما يقال جوابًا عن هذا: إن الحنطة بضاعة لها مالية في حد ذاتها، فلا تقاس عليها النقود الورقية التي ليست لها قيمة أو مالية ذاتية، ولكن هذا الجواب خلط للبحث، لأن السؤال هنا عن تعيين معنى المثلية المطلوبة في القرض، فما دامت المثلية المطلوبة هي المثلية في المقدار دون القيمة والمالية، فليس هناك فرق جوهري بين الحنطة والنقود في هذا المجال، لأن لكل منهما مقدارًا، وقيمة، فإن كانت المثلية المكلوبة في الحنطة هي المثلية في المقدار، فلتكن المثلية المطلوبة في النقود مثلية المقدار كذلك. ولو اعتبر تفاوت القيمة والمالية هدرًا في الخطة ـ فليكن ذلك هدرًا في النقود سواء بسواء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1428 2- من المسلّم لدى الجميع أن التماثل مطلوب في القروض للاحتراز عن الربا، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا التماثل المطلوب في أحاديث ربا الفضل بكل صراحة ووضوح. أخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: كنا نرزق تمر الجمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الخلط من التمر، فكنا نبيع صاعين بصاع، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لا صاعين تمرًا بصاع، ولا صاعين حنطة بصاع، ولا درهمًا بدرهمين)) . (جامع الأصول، لابن الأثير: 1/546) ومعلوم أن ما يباع بصاعين كان أكثر قيمة ما يباع بصاع، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرض إلا بالتماثل في القدر والكيل، وجعل التفاوت في القيمة هدرًا. وكذلك أخرج الشيخان عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما ((: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاءهم بتمر جنيب، فقال: أكل خيبر هكذا؟ قال: إنا لنأخذ الصاع بالصاعين، والصاعين بالثلاث)) ، قال: ((لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا)) . (جامع الأصول: 1/550) . وهذه الرواية من أصرح الأدلة على التماثل المطلوب في الأموال الربوية هو التماثل في القدر، دون التماثل في القيمة، لأن الجنيب كان أغلى من الجمع بكثير، وأكثر قيمة، وأجود نوعًا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر الجودة والرداءة في مبادلة بعضها ببعض، وأوجب التماثل في الكيل. وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن، مثلًا بمثل، والفضة بالفضة وزنًا بوزن، مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا)) وأخرجه مالك بلفظ ((الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) . (كما في جامع الأصول: 1/552) . وأخرج مسلم وغيره من عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1429 وأخرج أبو داود عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها، والبر بالبر مدين بمدين، والشعير بالشعير مدين بمدين، والتمر بالتمر مدين بمدين، والملح بالملح مدين بمدين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) . (جامع الأصول: 1/554) وأخرج مسلم عن فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن)) وفي رواية أخرى: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن)) . فهذه الأحاديث كلها ناطقة بأن التماثل المعتبر في الشريعة إنما هو التماثل في القدر، ولا عبرة بالتفاوت في القيمة، ما دامت الأموال ربوية. وهذا في المبايعة نقدًا، فما بالك في القروض التي يجري فيها أصل الربا، والتي يحترز فيها عن كل زيادة وشبهتها. 3- وهناك حديث أخر يوضح معنى المثلية في الديون خاصة، وهو ما أخرجه أبو داود وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله: رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) . (سنن أبي داود، كتاب البيوع، رقم 3354، 3/ 250) ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لابن عمر رضي الله عنهما إذا وقع البيع على الدنانير أن تأخذ بدلها الدراهم بقيمة الدنانير يوم الأداء لا يوم ثبوتها في الذمة. يعني إذا وقع البيع على دينار مثلًا، وقيمته وقت البيع عشرة دراهم، ثم لما أراد المشتري الأداء لم يكن عنده إلا دراهم، وقيمة الدينار الواحد يوم الأداء أحد عشر درهمًا، فإنه يؤدي إليه أحد عشر درهمًا. ولذلك لما سأل بكر بن عبد الله المزني ومسروق العجلي عبد الله بن عمر عن كري لهما، له عليهما دراهم، وليس معهما إلا دنانير، أجاب ابن عمر: (أعطوه بسعر السوق) . فتبين أن القيمة إنما تعتبر يوم الأداء، لا يوم الثبوت في الذمة. ولئن كانت المثلية المعتبرة في الديون المثلية قي القيمة، لوجب قيمة الدنانير يوم الثبوت في الذمة. وهذا واضح جدًا. 4- من المسلم لدى جميع الفقهاء في ضوء القرآن والسنة أن الواجب في عقد القرض اشتراط أداء المثل الحقيقي في القدر، دون المثل المقدر بالجزاف والتخمين. حتى لو أقرض الرجل صاعًا من الحنطة، واشترط أن يرد إليه المستقرض صاعًا منها بالجزاف لا على أساس الكيل / لم يجز هذا العقد، لأن المجازفة في الأموال الربوية لا تجوز. وهنا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع المزابنة وهو بيع التمر على رؤوس النخل بتمر مجذوذ. وليس وجه الحرمة في هذا البيع إلا أن التمر المجذوذ يمكن معرفة قدره بالكيل، وأما التمر القائم على رؤوس النخل فلا يمكن معرفة قدره إلا بالمجازفة والتخمين. فحرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إطلاقًا، مهما كانت المجازفة دقيقة أو قريبة من الصواب. فالسبيل الوحيد في مبادلة الأموال الربوية بعضها ببعض، أن يقع التبادل على أساس التماثل الحقيقي، دون التماثل المقدر بالمجازفة. إذا ثبت هذا، فإن التماثل المقترح في ربط الديون بقائمة الأسعار، ليس تماثلًا فعليًّا، وإنما هو تماثل مقدار على أساس المجازفة والتخمين. لأن نسبة الزيادة والنقصان في الأسعار ليست إلا نسبة تقريبية إنما تقدر على أساس حساب مخصوص لا يرجع إلا إلى المجازفة والتخمين. ويجب لمعرفة هذه النقطة أن نعلم كيفية وضع قائمة الأسعار، وطريق استخدامها لتعين قيمة النقود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1430 كيفية وضع قائمة الأسعار واستخدامها في تقويم النقود ومن أجل الوقوف على الحكم الشرعي في هذا المجال، يجب أن نعرف كيفية وضع هذه القائمة وطريق استخدامها في تعيين قيمة النقود. فإليكم خلاصة ما يقصده الاقتصاديون من ربط الديون بقائمة الأسعار: من المعلوم أن النقود، سواء كانت نقودًا معدنية أو ورقية، لا يقصد بها ذاتها، فإنها بذاتها لا تسد جوعًا، ولا تستر جسمًا، ولا تدفع شهوة، ولا ترد ضررًا. وإنما المقصود من هذه النقود أن يشتري بها المرء ما يحتاج إليه في حياته من بضائع وخدمات. فمن هذه الجهة كل نقد له قيمتان: الأولى قيمتها الأسمية (Price Value) ، وهي المكتوبة عليها، والثانية: قيمتها الحقيقية (Real Value) ، وهي الفائدة العملية الحقيقية التي يحصل عليها المرء بصرفها في حاجاته، وبعبارة أخرى: هي مجموعة من البضائع والخدمات التي يمكن للمرء أن يشتريها بتلك النقود. وإن هذه المجموعة من البضائع يسميها الاقتصاديون اليوم " سلة البضائع " (basket of goods) ، فالقيمة الحقيقية للنقود هي سلة البضائع الممكن اشتراؤها بها. فإذا كان زيد راتبه كل شهر عشرة آلاف ربية مثلًا، فإن عشرة آلاف ربية هي القيمة الاسمية لدخله الشهري. ثم إنه يصرف هذه العشرة آلاف ربية في اشتراء ما يأتي مثلًا: الحنطة 40 كيلو الثوب 20 مترًا اللحم 20 كيلو الشاي 5 كيلو استئجار بيت للسكن يحتوى على غرفتين. تعليم ابنين في مدرسة. استئجار خدمات الدكتور مرة في الشهر. وإن مجموعة هذه البضائع والخدمات تسمى " سلة البضائع " (Basket of goods) وإذا كان راتب زيد يصرف في اشتراء هذه السلة كل شهر، فإن هذه السلة المخصوصة (بمقاديرها المذكورة في المثال) هي القيمة الحقيقية لراتبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1431 وإن هذه القيمة لعشرة آلاف ربية عرضة للتغير بتغير أسعار البضائع والخدمات المندرجة في السلة. وإن أسعار كل واحدة من هذه البضائع تختلف من حين لآخر بنسب مختلفة، ولكن الاقتصاديين إنما يقدرون نسبة التغير في أسعار السلة على أساس معدل وسط (Average) ثم إن البضائع والخدمات المندرجة في السلة ليست على مستوى واحد من الأهمية، فبعضها أهم من بعض، فالحنطة مثلًا أهم من الثوب، والثوب أهم من الشاي، ولا شك أن تغير السعر في ما هو أهم أكثر تأثيرًا على حياة المرء من تغيره فيما هو أقل أهمية، فلو ارتفعت قيمة الحنطة فأنه يحدث مشاكل أكثر مما يحدثه ارتفاع قيمة الشاي فلأجل الوقوف على التغير في قيمة النقود الحقيقية، يأخذ الاقتصاديون أهمية كل بضاعة موضوع اعتبار عند استخراج المعدل الوسط لتغير الأسعار، فيعطون كل بضاعة من هذه البضائع رقمًا على أساس أهميته، وإن هذا الرقم يسمى " وزن البضاعة " (Weight of comnodity) ، وإن هذا الوزن ربما يحسب على أساس نسبة الراتب المصروفة في شراء تلك البضاعة كل شهر، فإذا كان زيد يصرف الخمسين في المائة من راتبه في شراء الطعام لأسرته، فإن الطعام يكون له وزن صفر فاصل خمسين (0.50) وإن كان يصرف العشرين في المائة من راتبه في الثياب، فالثياب لها وزن صفر فاصل عشرين وهكذا. فمعدل تغير قيمة السعر في كل بضاعة يضرب في وزنها، والحاصل هو المعدل الموزون (Weighted Average) لكل بضاعة. ويتضح هذا بالجدول الآتي الذي فرضنا فيه أن سلة البضائع مشتملة على ثلاثة أشياء فقط، وهي الطعام، والثياب، والسكن: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1432 عمود 1 عمود 2 عمود 3 عمود 4 عمود 5 عمود 6 البضاعة وزن البضاعة قيمة البضاعة في سنة 1980 قيمة البضاعة في سنة 1987 م معدل تغير القيمة فيما بين 1980 م و 1987 م العمود الخامس مضروبًا في وزن البضاعة الطعام 0.50 -10=/50 روبية لثلاثين كيلو = /100ربية لثلاثين كيلو 20. 1.0 الثياب 0.20 = / 10لكل متر = / 30 لكل متر 3.0 0.6 السكن 0.30 = / 500 ربية لكل شهر = / 1500 ربية لكل شهر 3.0 0 2.5 فتقرر بهذا المثال أن سلة البضائع قد ارتفعت قيمتها فيما بين سنة 1980 م - و 1987 م بنسبة اثنين فاصل خمسة في المائة حسب المعدل الموزون الذي أخذ أهمية كل بضاعة بعين الاعتبار. وبما أن سلة البضائع هي القيمة الحقيقية للنقود، فإن قيمتها الحقيقية قد انتقصت بقدر 2.5 % ومعنى ذلك أن السلعة التي يشتريها الرجل في سنة 1980 م بمائة ربية، صارت تشترى في سنة 1987 م بمائتين وخمسين ربية. فلو فرضنا أن الرجل كان يأخذ خمسة آلاف ربية كراتب في سنة 1980 م وازداد رتبة في سنة 1987 م، حتى صار يأخذ عشرة آلاف ربية شهريًا، فإن قيمة رواتبه الشهرية تحسب كالآتي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1433 القيمة الحقيقية نسبة الزيادة في قائمة الأسعار القيمة الاسمية للراتب السنة = /5.000 ربية 1.0 =/ 5.000 ربية 1980 م = / 4.000 ربية 2.5 = / 10.000 ربية 1987م ونرى بهذا المثال أن راتب الرجل وإن زادت قيمته الاسمية إلى عشرة آلاف ربية، ولكن قيمته الحقيقية صارت أربعة آلاف ربية نظرًا إلى مستوى أسعار سنة 1980 م، لأن عشرة آلاف ربية في سنة 1987 م صارت تساوي أربعة آلاف ربية في سنة 1980م نظرًا إلى قيمتها الحقيقية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1434 فلو ربطنا الديون بقائمة الأسعار، وقررنا أن الديون تقضى على أساس القيمة الحقيقية، دون القيمة الاسمية، فإن ذلك يقتضي أن من اقترض أربعة آلاف ربية في سنة 1980 م فإنه يؤدي عشرة آلاف ربية في سنة 1987 م، لأن القيمة الحقيقية لكل واحدة. فلو نظرنا في هذا الطريق الحسابي الذي تعين به القيمة الحقيقية للنقود، اتضح لنا أن هذا الطريق مبني على الخرص والمجازفة في جميع مراحله، ويتبين بتجزئة هذا الطريق أنه يشتمل على الخرص والتخمين في الأمور الآتية: 1- تعيين البضائع التي تدرج في القائمة: من المعروف أن كل رجل له حاجات تخصه، فالبضائع المحتاج إليها تختلف باختلاف الرجل، فسلة البضائع لكل أحد تختلف عن سلة الآخر، ولكن السلة المندرجة في قائمة الأسعار واحدة، وإنما تدرج فيها البضائع على أساس كثرة من يستعملها، فربما تدرج فيها بضائع لا يحتاج إليها بعض الناس أبدًا، فالقائمة غير حقيقية بالنسبة إلى أولئك البعض. فإدراج بعض البضائع في القائمة ليس إلا مجازفة وخرصًا. 2- تعيين وزن البضائع: ثم المجازفة الثانية تأتي في تعيين وزن البضائع، وأهميتها بالنسبة للمستهلكين، ولا شك أن أهمية البضائع أمر إضافي يختلف باختلاف الأشخاص، فبينما البضاعة الواحدة مهمة جدًا لشخص واحد، فإنها لا أهمية لها إطلاقًا لشخص آخر. ولكن القائمة تفرض أن أهمية كل بضاعة واحدة بالنسبة إلى كل مستهلك، وذلك على أساس المعدل الوسط، وليس ذلك إلا خرصًا ومجازفة. 3- تعيين قيمة البضائع: والمجازفة الثالثة في تعيين قيمة البضائع في سنوات مختلفة، لأن من المعلوم أن البضاعة الواحدة تختلف قيمتها باختلاف الأمكنة أيضًا، ولا يمكن في القائمة إلا إدراج قيمة موضع واحد، ولو وضعت القائمة لدولة واحدة فلا يمكن ذلك إلا عن طريق معدل وسط، وهو مجازفة أيضًا. فتقرر بهذا أن قائمة الأسعار مبنية على الخرص والمجازفة في جميع مراحلها. ولو كان الحساب من الدقة بمكان، فإن غاية ما يصل إليه في ذلك هو التقريب دون التحقيق. وبما أن اشتراط أداء القروض والديون بالخرص والمجازفة لا يجوز شرعًا، فلا يجوز ربط الديون بهذه القائمة بحال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1435 مذاهب الأمام أبي يوسف في أداء قيمة الفلوس قد استدل بعض الاقتصاديين على ربط الديون بقائمة الأسعار بما روي من مذهب أبي يوسف رحمه الله تعالى في أداء قيمة الفلوس إذا تغيرت قيمتها عند أداء الديون يقول العلامة ابن عابدين رحمه الله تعالى: (وفي المنتقى: إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت، قال أبو يوسف: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء وليس له غيرها، ثم رجع أبو يوسف، وقال: عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض) ثم نقل عن التمرتاشي قوله: (وفي البزازية معزيًا إلى المنتقي، غلت الفلوس أو رخصت، فعند الإمام الأول (أي أبي حنيفة) والثاني (أي أبي يوسف) أولًا: ليس عليه غيرها، وقال الثاني (أي أبو يوسف) ثانيًا: عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض، وعليه الفتوى) . ثم قال ابن عابدين: " هكذا في الذخيرة والخلاصة بالعزو إلى المنتقى، وقد نقله شيخنا في بحره وأقره. فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء ". (رسائل ابن عابدين: 2/60) . فاستدل به بعض الاقتصاديين على أنه إذا وجب الدين في صورة الفلوس، فالواجب أداء قيمتها إذا طرأ عليها الغلاء والرخص، وهذا المذهب قريب جدًا من فكرة ربط الديون بقائمة الأسعار. ولكن هذا الاستدلال غير صحيح، والحقيقة أن مذهب أبي يوسف رحمه الله تعالى لا علاقة له بفكرة ربط الديون بقائمة الأسعار، لأن من المعلوم بالبداهة، أن التضخم والانكماش ووضع قائمة الأسعار، وتقويم النقود على أساس تلك القائمة، كل هذه الأمور أمور حادثة لم تكن متصورة في زمن الإمام أبي يوسف – رحمة الله تعالى – فحينما يقول أبو يوسف بأداء قيمة الفلوس، فإنه لا يمكن أن يريد به قيمتها المقدرة على أساس قائمة الأسعار، أو القيمة الحقيقية (Real Value) بالاصطلاح الاقتصادي المعاصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1436 والواقع أن الفلوس في الأزمنة المتقدمة كانت مرتبطة بنقود الذهب والفضة تقوم على أساسها (1) وتعتبر كالفكة للنقود الذهبية والفضية وكانت عشرة فلوس تعادل درهمًا واحدًا من الفضة، فكان الفلس الواحد يعتبر عشر الدرهم الفضي، ولكن قيمة الفلس هذه لم تكن مقدرة على أساس قيمتها الذاتية، وإنما كانت قيمة رمزية اصطلح عليها الناس، فكان من الممكن أن يتغير هذا الاصطلاح، بأن يصطلح الناس على أن الفلس الواحد الآن يعتبر نصف عشر الدرهم بعد ما كان يعتبر عشرة، فهذا هو المراد برخص الفلوس، كما يمكن أن يصطلح الناس على أن الفلس الواحد الآن يعتبر خمس الدرهم، وهذا هو المراد بغلائها. فإذا وقع غلاء الفلوس أو رخصها بهذه الصورة، فهل يؤدي المديون نفس عدد الفلوس الذي وجب في ذمته يوم العقد؟ أو يؤدي قيمة ذلك العدد يوم الأداء؟ قد وقع فيه خلاف العلماء. فقال أبو حنيفة: يؤدي نفس العدد الذي وجب في ذمته يوم العقد، ولا عبرة بالقيمة، وهو المشهور. من مذهب المالكية والشافعية والحنابلة (راجع تنبيه الرقود: 2/60، والزرقاني على خليل: 5/60، والحاوي للفتاوي للسيوطي: 1/97 – 99، والشرح الكبير على المقنع: 4 /358) فلو اقترض أحد مائة فلس في وقت يعتبر فيه الفلس الواحد عشر درهم واحد فاقترض فلوسًا تساوي عشرة دراهم في القيمة، ثم تغير الاصطلاح، حتى صار الفلس الواحد يعتبر نصف عشر درهم واحد، فذهب جمهور الفقهاء إلى أن المقترض لا يؤدي إلا مائة فلس، وإن كانت هذه المائة لا تساوي اليوم إلا خمسة دراهم. لكن خالفهم أبو يوسف رحمه الله، فقال: إنما يجب أداء قيمة الفلوس المقترضة على أساس الدرهم، فمن اقترض مائة فلس في المثال المذكور، إنما يؤدي الآن مائتي فلس، لأن الفلوس فكة للدراهم، فمن اقترض مائة فلس، فكأنه اقترض فكة عشرة دراهم، وإن فكة عشرة دراهم يوم الأداء هي مائتا فلس، فالواجب عليه أداء مائتي فلس.   (1) يقول ابن عابدين في مسألة أخرى: " ويدل عليه أيضًا تعبيرهم بالغلاء والرخص فإنه إنما يظهر إذا كانت غالبة الغش تقوم بغيرها ". رسائل ابن عابدين: 2/62. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1437 والذي يظهر لي – والله أعلم – أن أساس الخلاف بين أبي يوسف والجمهور مبني على اختلافهم في تكييف هذه الفلوس، فيبدو أن جمهور الفقهاء اعتبروا الفلوس أثمانًا اصطلاحية مستقلة غير مرتبطة بالدراهم والدنانير ارتباطًا دائمًا، فمن اقترض عددًا من الفلوس، فإنه يؤدي نفس العدد دون نظر إلى قيمتها بالنسبة للدرهم، وأما أبو يوسف رحمه الله فاعتبر الفلوس أجزاء اصطلاحية كالفكة للدرهم، فالمقصود بالاقتراض عنده ليس عدد الفلوس،وإنما المقصود اقتراض أجزاء للدرهم يمثلها ذلك العدد من الفلوس، فلذلك أوجب رد تلك الأجزاء للدراهم في صورة الفلوس، وإن اختلف عددها من العدد المقترض. ونظير الرخص والغلاء الذي يأتي فيه قول أبي يوسف هذا، أن الربية الباكستانية إلى أوائل الخمسينات كانت مقسمة على أربع وستين بيسة، (والبيسة نوع من الفلس) ثم اختارت الدولة النظام الأعشاري، فأعلنت أن الربية تكون مقسمة على مائة بيسة. فكانت البيسة قبل هذا الإعلان ثمن ثمن الربية، وصارت بعد هذا الإعلان عشر عشرها، فطرأ عليها الرخص بهذا القدر. فمن اقترض أربعًا وستين بيسة قبل الإعلان هل يؤدي بعد الإعلان نفس الأربع والستين بيسة؟ أو يؤدي مائة؟ (1) الظاهر أنه يؤدي مائة، لأنه اقترض فكة ربية واحدة، فليرد فكة ربية واحدة، وهي الآن مائة بيسة. فالحاصل أن قول الإمام أبي يوسف رحمه الله إنما يتأتي في فلوس مرتبطة بثمن آخر ارتباطًا دائمًا يجعلها كالأجزاء والفكة لذلك الثمن. أما النقود الورقية اليوم، فليست مرتبطة بثمن آخر، ولا معتبرة كالأجزاء والفكة له، وإنما هي أثمان اصطلاحية مستقلة. وبالتالي، إن الوقوف على قيمة الفلوس حسبما يراه الإمام أبو يوسف يمكن تحقيقها، لأنها مرتبطة بعيار مضبوط من الثمن، وهو الدرهم، بخلاف النقود الورقية، فإن الوقوف على قيمتها الحقيقية حسب الاصطلاح الاقتصادي المعاصر، لا يمكن تحقيقًا، وإنما تكون هذه القيمة مقدرة على أساس الخرص والمجازفة، كما أوضحنا فيما سبق، فلا يقاس هذا على ذاك.   (1) الواقع أن الدولة عند الإعلان صاغت " بيسات جديدة "، والبيسات الجديدة " هي التي كانت المائة منها تعادل ربية، وبقيت البيسات القديمة رائجة بقيمتها القديمة، فلا ينطبق واقع هذا المثال على ما نحن فيه، ولكن لنفرض أن الدولة لم تروج البيسات الجديدة، وإنما أعلنت بالتغير في قيمة البيسات القديمة نفسها، فحينئذ ينطبق هذا المثال على المسألة محل البحث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1438 اعتبار العرف في مثلية النقود: قد يستدل بعض الاقتصاديين على جواز ربط الدين بقائمة الأسعار، بأن الواجب في القروض أداء المثل، ولكن يجب أن يرجع في تعيين معنى المثلية إلى العرف، فما اعتبره العرف مثلًا، ينبغي أن يعتبره الشرع أيضًا كذلك. وبما أن قيمة النقد والمقدرة على أساس قائمة الأسعار تعتبر مثلًا للمبلغ المقترض في العرف الاقتصادي اليوم، فينبغي أن تعتبرها الشريعة مثلًا في أداء القروض. ولكن هذا الاستدلال باطل أيضًا. أما أولًا: فلأن العرف إنما يصار إليه عند عدم النص، وقد بينا فيما سبق أن النصوص التي حرمت الربا قد عينت معنى المثلية بكل صراحة ووضوح، وأن المعتبر هو التماثل في القدر، فلا مجال بعد ذلك للعرف في تعيين معنى المثل. وأما ثانيًا: فإن كون القيمة الحقيقية (باصطلاح الإقتصاد) مثلًا لم يصره عرفًا معتبرًا إلى الآن، حتى عند الأقتصاديين. فمن المعلوم بالبداهة أن معظم بلاد العالم لم توافق بعد على فكرة ربط الديون بقائمة الأسعار، وإنما طبقت هذه الفكرة في دول معدودة (مثل البرازيل، وأستراليا، وإسرائيل ... وما إليها) فنسبتها ضئيلة جدًا بالنظر إلى سائر دول العالم. ثم إن القلة من الدول لم تأخذ بهذه الفكرة بجميع نواحيها، ولا في سائر المداولات المالية، وإنما أخذت بها في شعب مخصوصة من شعبها الإقتصادية، لأن تطبيقها كأصل عام شامل لا يعتبر ممكنًا، حتى عند الاقتصاديين، يقول بين هورم، وإيجل ليوى: " إن استخدام قائمة الأسعار في جميع المعاملات المالية على وجه الشمول أمر لا يمكن حصولة فعلًا (1) ومن الأمور الواضحة جدًا، أنه لا تعرف على وجه الأرض دولة ربطت الحسابات الجارية في البنوك بقائمة الأسعار مهما كانت نسبة التضخم مرتفعة. وإن البرازيل أبرز دولة استخدمت قائمة الأسعار في كثير من معاملاتها المالية. ولعلها أكثر دول العالم استخدامًا لهذه القائمة، ولكنها لم تستخدمها في الحسابات الجارية في البنوك، فمن أودع في هذه الحسابات مبلغًا لا يستلم إلا ذلك المبلغ بنفس العدد المودع، كانت قائمة الأسعار قد ازدادت للضعف أو أكثر. وإن هذا واضح الدلائل على أن اعتبار التماثل بالقيمة الحقيقية ليس عرفًا سائدًا، حتى في الدول التي تمسك بالقيمة الحقيقية كسلاح لمدافعة أضرار التضخم.   (1) Ben Horim and H. Levy , Financial Management in an inflationary Evironment, p. 37 – 40 , as quoted by Umar Chaper, in his paper , “ Indexation theory , experience and issues from Islamic perspective” , p. 3. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1439 وقد رأينا أكثر الاقتصاديين الذي يؤيدون فكرة الأخذ بالقيمة الحقيقية في أداء الديون، يصرخون بأنهم لا يريدون الأخذ بهذه الفكرة في القروض الاستهلاكية، يعني: إن اقترض رجل ألف ربية لدفع حاجاته الشخصية من الطعام والشراب والسكن، فإن هذا القرض لا ينبغي أن يربط بقائمة الأسعار عندهم أيضًا، وإنما يقصدون أن يطبقوا فكرة القيمة الحقيقية في القروض الإنتاجية فحسب. أليس هذا اعتراف من أنفسهم بأن القيمة الحقيقية ليست مثلًا في القروض الاستهلاكية؟ فإن لم تكن مثلًا في القروض الاستهلاكية، فكيف تكون مثلًا في القروض الإنتاجية؟ فإن المثلية حقيقة واحدة لا تختلف باختلاف أقسام القروض؟ وكذلك نرى الاقتصاديين إنما يؤيدون فكرة القيمة الحقيقية في حالة التضخم، ولا يوجد أحد يأخذ بهذه الفكرة في حالة الانكماش. ومعنى ذلك أن القيمة الحقيقية المزعومة إنما تعتبر في حالة ارتفاع الأسعار، أما إذا انخفضت الأسعار بعد القرض، فلا يؤدي إلا المبلغ المقترض يوم العقد لأنه لا يرضي من أقرض ألف ربية أن يقبل بدلها ثمانمائة ربية نظرًا إلى انخفاض الأسعار، ولو طبقت فكرة القيمة الحقيقية في حالة انخفاض الأسعار، فإنه لا يوجد من يودع ماله في البنوك خشية النقصان العارض بسبب الانكماش. وهذا أيضًا دليل على أن فكرة القيمة الحقيقية ليست فكرة علمية قائمة على أسس متينة وإنما هي فكرة إنما ظهرت لمواجهة أضرار التضخم كعلاج وقتي دون نظر إلى لوازمها المنطقية وعواقبها الأخرى. وإن مثل هذه الفكرة لها مجال في النظام المالي الذي يقوم على أساس الربا، وأما في النظام الذي يريد الاحتزار عن الربا،فإن فكرة ربط الديون بالأسعار فكرة زائفة لا تقوم أمام الدلائل الشرعية والعقلية. وإن هذه المسألة قد عرضت أمام مجلس الفكر الإسلامي في باكستان، فاتفق أعضاء المجلس من العلماء والاقتصاديين جميعًا على أن ربط الديون بالأسعار لا مبرر له في الشرعية الإسلامية. وكذلك نوقش هذا الموضوع في ندوة مختصة لمداولته أقامها البنك الإسلامي للتنمية بجدة باشتراك المعهد العالمي للاقتصاد الإسلامي بإسلام أباد وذلك في شعبان سنة 1407 هـ، وقد حضر هذه الندوة جماعة من العلماء والاقتصاديين من بلاد مختلفة، والقرار الذي اتفق عليه مشاركو هذه الندوة كما يلي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1440 توصيات: 1- إن النقود الورقية تقوم مقام النقدين (الدنانير والدراهم) في جريان الربا ووجوب الزكاة فيها وكونها رأس مال سلم ومضاربة وحصة في شركة، وإن قول أبي يوسف بوجوب رد قيمة الفلوس في حالة الغلاء والرخص بالنسبة للنقدين لا يجري في الأوراق النقدية لأن هذه الأوراق النقدية تقوم مقام النقدين المتفق على عدم اعتبار الرخص والغلاء فيهما. 2- يؤكد العلماء الحاضرون في الندوة على أن المقصود بالمثل في أحاديث الربا والقروض، المثل في الجنس والقدر الشرعيين، أي الوزن والكيل والعدد، لا القيمة. وذلك تباعًا لما دلت عليه السنة من إلغاء اعتبار الجودة في تبادل الأصناف الربوية، وما انعقد عليه إجماع الأمة وجرى عليه عملها. 3- لا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيًا كان مصدرها بمستوى الأسعار، بأن يشترط العاقدان في العقد المنشئ للدين، كالبيع والقرض وغيرهما، ربط العملة التي وقع بها البيع أو القرض، بسلعة (أو مجموعة من السلع) أو العملة وقت حلول الأجل بالعملة التي وقع بها البيع والقرض. 4- الأصل في النفقات أن تقدر عينًا، ويحكم القضاء بقيمة الأعيان عند التنازع تأسيسًا على مستوى الأسعار، ومن ثم فلا حاجة لربطها بمستوى الأسعار على النحو السابق شرحه. ثم كل ما ذكرناه في هذا البحث الموجز كان يتجه نحو الناحية الشرعية لهذه المسألة، أما الناحية الاقتصادية، فلم أتعرض لها في هذا البحث، لكونها خارجة عن اختصاصي، غير أنه يجدر بالذكر هنا أن فكرة ربط الديون بالأسعار قد واجهت – ولا تزال تواجه – نقدًا عنيفًا من قبل الاقتصاديين أنفسهم، وإن معظم الاقتصاديين اليوم لا يعتبرونها علاجًا للتضخم، وما يعتبرونها إلا كدواء مخدر يستر المرض ولا يزيله، والحق أنها لا تداوي علة التضخم، وإنما تقرها وتسايرها. ولهذا الدواء المخدر أضرار مستقبلية على الحياة الاقتصادية، ومن أجل هذه الأضرار فقد تركته بعض الدول رأسًا كفرنسا. وبما أن هذه الناحية خارجة عن نطاق موضوعنا، فإني أضرب عنها صفحًا، ومن شاء راجع الكتب الاقتصادية المؤلفة في هذا الموضوع خاصة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1441 ربط الأجور بقائمة الأسعار: أما ربط الأجور بقائمة الأسعار فيختلف حكمه عن ربط الديون ما لم تصر الأجرة دينًا، فإن صارت دينًا فحكمها ربط الديون، وتفصيل ذلك أن ربط الأجور بقائمة الأسعار يمكن بثلاثة طرق: 1- أن يقع تعيين الأجور والمرتبات بالنقود عددًا، ويتعاهد العاقدان، أن هذه الأجور تتزايد كل سنة بنسبة الزيادة في قائمة الأسعار. مثاله: أن الحكومة عينت موظفا على راتب ثلاثة آلاف ربية شهريًا، وتعاهدت أن هذا المرتب يزداد عند ابتداء السنة الآتية بنسبة الزيادة في قائمة الأسعار، فإن هذا الموظف لا يزال يستلم ثلاثة آلاف ربية كل شهر، إلى أن تنتهي السنة، ولا ينظر إلى قائمة الأسعار أثناء السنة. فإذا جاءت السنة الجديدة وكانت نسبة الزيادة في قائمة الأسعار خمسًا في المائة، فإن مرتب الموظف سيزداد بهذه النسبة، فيصير راتبه ثلاثة آلاف ومائة وخمسين. إن هذا الطريق يعمل به في كثير من البلاد، ومنها باكستان. وإن مثل هذا الربط لا مانع منه شرعًا، لأن حاصله اتفاق الفريقين على تزايد الأجور والمرتبات كل سنة أو كل ستة أشهر بنسبة معينة وإن هذه النسبة، وإن لم تكن معلومة عند العقد، غير أن عيارها الذي تتعين النسبة على أساسه معلوم، فانتفت شبهة الجهالة في قدر الزيادة أو يقال: إن عقد الإجارة يتجدد كل سنة بأجرة متزايدة بنسبة الزيادة في الأسعار. وليس في ذلك أي مانع شرعي. 2- والطريق الثاني لربط الأجور بالأسعار: أن يقع تعيين الأجر على أساس مبلغ معلوم من النقود، ولكن يشترط في العقد أن هذا المبلغ المعلوم ليس هو المرتب الواجب في الذمة، وإنما الواجب في الذمة ما يساوي هذا المبلغ عند انتهاء كل شهر حسب قائمة الأسعار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1442 ومثاله: أن زيدًا استأجر عمرًا لشهر، وقرر أنه سيؤدي قيمة ألف ربية موجودة عند نهاية الشهر نظرًا إلى قائمة الأسعار، وقد ازدادت قائمة الأسعار خلال هذا الشهر بقدر اثنين في المائة مثلًا، فيؤديه في آخر الشهر ألفًا وعشرين ربية، لأنها تعادل قيمة ألف ربية في بداية الشهر، ولكن إذا تقرر في نهاية الشهر أن الراتب ألف وعشرون ربية مثلًا، فإنها تبقى ألفًا وعشرين إلى الأبد. فلو لم يستطيع المؤجر أداءها عند نهاية الشهر، حتى مضى على ذلك شهر آخر، أو سنة أخرى، فإن الواجب في الذمة ألف وعشرون لا غير، ولا يتغير قدرها بتغير قائمة الأسعار بعد ذلك، فلو ازدادت القائمة في هذه المدة بقدر العشرة في المائة مثلًا، فلا يستطيع الأجير أن يطالب المؤجر بزيادة العشرة في المائة على الألف والعشرين. لأن الراتب المتفق عليه عند بداية العقد هو ما يعادل الألف عند نهاية الشهر الأول، وكان الرجوع إلى قائمة الأسعار لمجرد تعيين ذلك، فإذا تعينت الأجرة على أساسها مرة، انتهت وظيفة قائمة الأسعار، وصارت الأجرة المعينة دينًا على المؤجر، فلا يزيد هذا الدين ولا ينقص، مهما وقعت التغيرات في القائمة. وحكمه الشرعي، فيما أرى، أنه يجوز أيضًا، بشرط أن تكون قائمة الأسعار وطريق حسابها معلومًا لدى الفريقين علمًا لا يفضي إلى النزاع. لأن الفريقين قد اتفقا منذ بداية العقد على أن الأجرة ليست ألف ربية، وإنما الواجب ما يعادلها من الروبيات عند انتهاء الشهر حسب قائمة الأسعار، وهي معلومة منضبطة بطريق حسابي معلوم لدى الفريقين، فلا تفضي جهالة قدر الأجرة إلى المنازعة، فصارت كما إذا استأجر رجل أجيرًا على ربيات تعادل عشرة جرامات من الذهب في اليوم الأخير من الشهر، فإذا تقرر في اليوم الأخير من الشهر أن ألفي ربية تعادل عشرة جرامات من الذهب اليوم ظهر أن الأجرة ألفا ربية، ولا تزيد بعد ذلك ولا تنقص، سواء انتقصت قيمة الذهب بعد ذلك أو ازدادت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1443 3- والطريق الثالث لربط الأجور بالأسعار أن يقع تعيين الأجرة بمبلغ معلوم من النقود، ويشترط العاقدان أن هذا المبلغ هو الواجب في الذمة، وعليه انعقدت الأجارة، ولكن يجب على المؤجر عند أداء الأجرة أن يزيد في هذا المبلغ بنسبة الزيادة في قائمة الأسعار يوم الأداء. ومثاله: رجل استأجر أجيرًا على ألف ربية، وتقرر بينهما أن الأجرة ألف ربية، ولكن يجب على المؤجر كلما أدى هذه الألف ربية أن يضيف إليها نسبة الزيادة في قائمة الأسعار يوم الأداء، فإن أدى آخر الشهر ونسبة الزيادة يومئذ اثنان في مائة، فإنه يضيف إلى الآلف عشرين، وإن أداها بعد سنة ونسبة الزيادة يومئذ عشرة في المائة، فإنه يضيف إلى الألف مائة، وهكذا. وحكمة الشرعي، فيما أرى، حكم ربط الديون بالأسعار وهو أنه لا يجوز شرعًا كما مر تفصيلًا ولله الحمد. والفرق بين هذه الصورة والصورة الثانية أن قائمة الأسعار إنما استخدمت في الصورة الثانية لتعيين الأجرة المتفق عليها، فإذا تعينت الأجرة على أساسها، انتهت وظيفة القائمة، وصارت الأجرة المعينة هي الواجبة في الذمة إلى الأبد. وأما في هذه الصورة الثالثة، فالأجرة المقررة هي الألف ربية، فصارت الألف ربية دينًا على المؤجر، وإن هذا الدين قد ارتبط بقائمة الأسعار، فحكمه حكم ربط الدين بالأسعار. ولا نستطيع هنا أن نقول: إن قائمة الأسعار، تؤدي دورها في تعيين الأجرة، لأن الأجرة يجب أن تكون معلومة عند العقد، أو في ثاني الحال، بحيث لا تقبل الزيادة والنقصان بعد ذلك. فإذا تعلقت الأجرة بشيء آخر إلى الأبد، بحيث تزيد بزيادته وتنقص بنقصانه، فإن ذلك أجرة مجهولة متراوحة لا تستقر على قدر معلوم، وإن هذه الجهالة تفسد عقد الإجارة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. القاضي محمد تقي العثماني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1444 المعاملات الإسلامية وتغيير العملة قيمة وعينًا إعداد الشيخ/ محمد الحاج الناصر بسم الله الرحمن الرحيم (1) المقدمة اللهم لك الحمد كفاء ما أنت أهله على ما أجزلت من نعمة الإسلام والهداية إليه ورحمة القرآن والشغف به وكرامة السنة النبوية والتعلق بها، وأنت المسؤول أن تتم علينا نعمتك بالتوفيق ورحمتك بالهداية وكرامتك بالعون وأن تعصمنا من الزلل في الفهم والخطأ في الاستدلال والخطأ في القول، وأن تجنبنا زيغ الهوى وضلالة التقليد وتحريف التعصب وانحراف من يؤثر كلام الرجال على نصوص كتابك الكريم وأحاديث نبيك المصطفى الحبيب ومن إنعامك وبإلهامك نصلي عليه وعلى آله وصحابته والتابعين لشريعته المعتصمين بسنته أفضل الصلوات ونسلم أزكي التسليم. وبعد، فهذه نظرات في "تغيير قيمة العملة " وحكمه وما يترتب عليه من آثار في الأحكام الشرعية ما كان منها من العبادات وما كان من المعاملات نتجاوب بها مع رغبة "مجمع الفقه" المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي، إذ جعل هذا الأمر من عنايته للبحث والدراسة وابتغاء الاهتداء إلى ما يتجلى له حكمًا سليمًا في دورته الخامسة خدمة للعلم وتعزيزًا للانبعاث الإسلامي الذي تهز المجتمع الإسلامي عوامله هذا يتزايد مع الأيام اشتدادًا واتساعًا وتعمقًا، ونرجو من ورائه خيرًا كثيرًا لعزة الإسلام وسعادة المسلمين. ومن قبل ومن بعد ابتغاء وجه الله الكريم بالإسهام في اجتلاء الحقائق من شريعته واكتشاف السرائر من أوامره ونواهيه واستبانة المقاصد من تنزيله وحديث نبيه التماسًا لأسباب التوفيق بينها وبين مبتغيات الحياة المعاصرة ومقتضياتها مما يتراءى أنه يستعصي على الاحتفاظ بالصيغة الإسلامية مع مواصلة سيره الطبيعي في مسيره المفروض عليه بتطور حياة الناس وتوالي تغير أوضاعهم الحضارية حتى لقد يلتبس على بعض الأغرار كيف يمكن تصور انبعاث إسلامي كامل شامل مع مواكبة هذه الأطوار والأوضاع. وسنلتزم - بحول الله - منهجنا الذي لن نحيد عليه فيما شاء الله أن يبقى من عمرنا وأن يوفقنا إليه من عمل علمي من الاعتماد على نصوص القرآن والحديث وإيثار الحديث الضعيف على القياس إلا أن تشهد للقياس شواهد ترجح به أو يتدنى ما نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرق ضعيفة إسنادًا ومتنًا إلى مرتبة يستريب معها القلب من إسناده إلى صاحب الرسالة النيرة أو يختلف جوهريًا مع ما اقتضته طبيعة التطور البشري اقتضاء فرضته سنة الكون لا مجرد شهوة أو رغبة في تقليد الغير ومجانسته أو الاتساق معه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1445 ولذلك سنسوق ما نعتمد عليه من الأحاديث والآثار التشريعية والتاريخية مسندة بنفس ألفاظ الإسناد الواردة في مصادرها التي سنذكرها مع تحديد أرقام الصفحات من النسخ المطبوعة التي صدرنا عنها. واحتياطًا لنا وللقارئ سنحرص على إيراد الطرق المتعددة - أو أغلبها - لكل حديث أو أثر نسوقه وإن تماثلت هي أو ألفاظها أو تقاربت بحيث يتراءى الاختلاف بينها كما لو أنه غير ذي بال، فالقاعدة التي تنطلق منها هي أن اللفظ الواحد أو الكلمة الواحدة أو الحرف وإن كان من غير حروف المعاني تختلف في شأنه طريقان من طرق الإسناد لا يخلو من أثر في المفاضلة بين الروايتين للحديث أو الأثر الواحد وأن الأسانيد الصحيحة تتقوى بتعدادها وإن تماثلت، وقل أن تتماثل، نظرًا لتفاوت أقدار الرجال، وإن كانوا جميعًا موثقين وأنما دونها من الأسانيد إذا تعددت طرقها وإن اختلفت في رجالها فحسب يتقوى بعضها ببعض تقوية ترجح اعتمادها ترجيحًا قد يبلغ درجة الطمأنينة واعتبارًا لهذه القاعدة فإن ما قد يجده القارئ من تكرار الرواية الواحدة - وأن تكن تاريخية - فحسب لم يأت سهوًا منا وإنما جاء عمدًا طلبًا للتأكد والاطمئنان أو للأسباب المؤهلة للترجيح مما يبرئ ذمتنا العلمية والدينية ويتيح له أن يشاركنا عن بينة فيما ذهبنا إليه أو ينقدنا عن بينة إذا اخطأنا الفهم أو التقدير أو الاستنباط وما برئ من الخطأ غير الأنبياء المعصومين. وقد نقدم النصوص بين يدي ما نعرضه من فهم أو رأي وقد نقحمها في ثنايا العرض إذا اقتضى ذلك منهج البيان والاستدلال. وقد نبين في صلب البحث معنى كلمة استعملت اصطلاحًا في تسمية شيء أو التعبير عنه كأسماء النقد والعملات، وقد نحيل إلى التعليق على الهامش بيانه إذا كان يستلزم تفصيلًا يخرج بالتعبير عن مساره ولكنه ضروري لتحديد أصل الكلمة وفقههًا. وقد نترجم لمن نرى ضرورة الترجمة له ممن يرد ذكرهم في صلب البحث من الرواة أو المجتهدين، لكن نحيل الترجمة على التعليق وستكون أرقام التعاليق متسلسلة من أولها إلى آخرها، وستتضمن إلى ما سبق تخريج بعض الأحاديث والآثار التي لا نرى حاجة ماسة إلى استيعاب طرقها أو أغلبها في صلب البحث، كما ستشتمل على ذكر بعض "المراجع" إذا رأينا من المفيد الإحالة عليها، وهي غير "المصادر" التي نعتمدها باعتبار ما ورد فيها "وثائق" نستمد منها ونستدل بها فهذه نذكرها ونحدد صفحاتها في صلب البحث. وقد يكون ما ننقله أكثر بكثير مما سنقوله، لأن ما سبقنا إليه أئمة الرواية والدراية لا يعد له عندنا ما قد يبدو لنا أو لغيرنا من فهم أو رأي، وهمنا الأول بيان التوافق بين مقتضيات الحاضر وظواهره وبين نصوص المأثور وأحكامه. ومن الله سبحانه وتعالى نأمل في التوفيق والهداية والعون والإرشاد وإليه نبرؤ من كل خطأ قد نقع فيه وما قصدنا إليه ونسأله الغفران له فهو العليم الخبير بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، الغفور الذي سبقت رحمته غضبه ووسعت رحمته كل شيء وقال لعباده: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الآية رقم (54) من سورة الأنعام] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1446 (2) بين يدي البحث التشريع الإلهي - كما يدل الاستقراء لأطواره وأحكامه - ليس "ابتداعًا" لحياة يقسر عليها الإنسان قسرًا وإنما هو "تكييف " بالتنظيم والتمحيص طبقًا لمقتضيات العدل والمصلحة العامة والخاصة للحياة البشرية الطبيعية التي درج عليها الإنسان منذ كينونته الأولى في الأرض، إذ أن قسر الإنسان على حياة لم يعرفها ولا ألف نمطها يعني اضطراره إلى الحرج والعسر وجوهر مناط التشريع إنما هو التيسير ونفي الحرج، وهما قاعدة العدل وهدفه، وقد لا يتجلى هذا المعنى فيما هو من العبادات إلا بتدبر عميق في جوهرها لا في طقوسها وشعائرها، بيد أنه جلي واضح أبدع ما يكون الجلاء والوضوح فيما هو من المعاملات وما هو مؤتلف من المعاملات والعبادات كالزكاة والحج. وهذه الحقيقة من الجلاء والوضوح بحيث لا نشعر معها وفيها بحاجة إلى الاستدلال لها، فهي جوهر جميع ما يتألف منه التشريع من قواعد وأحكام ومنها ما يتصل بالنقد: تطوره وأحكامه وأحواله المختلفة. وقد تعددت أوجه الرأي والتصور لدى المؤرخين والفقهاء ورواة الآثار فيما يتعلق بالأسباب والأحكام المصاحبة والضابطة لأطوار النقد في الأمة الإسلامية منذ نشأتها، ومرد هذا التعدد إلى أن طائفة منهم لم تجتمع لها العناصر الضرورية لاجتلاء مراحل النقد وتطوره وكانت معارفهم مشوشة لهذه المراحل، والأطوار قبل الإسلام فجاء رواياتهم وتصوراتهم لنشأة النقد الإسلامي ومصاحبته والأحكام التي يجب استنباطها من ذلك مضطربة متضاربة تبعًا لهذا التشويش. وطائفة أخرى - وهم جمهرة الفقهاء والمتفقهة - قصرت همها على محاولة استجلاء الحكم لما يعرض لها من واقع أو يتخيل من افتراضات واحتمالات من النصوص الواردة في الروايات المشوشة المشار إليها آنفًا عن ظهور النقد في الأمة الإسلامية ومصاحباته وأطواره. على حين أن الأمة الإسلامية لم تكن بدعًا من الأمم ولا بمعزل عنها رغم أن "المسافة" كانت في معظم العصور الإسلامية تتحكم في تكييف العلاقات بين الأمم والشعوب. ذلك بأن "الوسطية" الجغرافية لمهد الأمة الإسلامية " شبه الجزيرة العربية " جعلت نشأة الأمة الإسلامية استمرارًا حضاريا متمادى العروق عريقها تعمق أصوله وتترامى إلى عصور موغلة في القدم وأقطار شديدة التباين ما بين شرقية وغربية، ونتيجة لذلك كان التشريع الإسلامي إنما هو تكييف وضبط بالتمحيص والتقويم والتوجيه لطور متقدم من الحضارة الإنسانية كافة. والنقض ظاهرة حضارية لا تقل تأثيرًا في تكييف مسيرة الإنسان الحضارية عن أروع ما نشهده اليوم من المخترعات التي تتراءى لنا كما لو كانت بدعًا من اهتداء العبقريات الخارقة للعادة إلى ما لم يكن ممكنا تصوره بأبعد خيال وأنزعه في الإغراق والإغراب. فلولاه ما استيسرت التجارة للإنسان وأمكن تبادل المنتجات الطبيعية والمصنوعة التي تتمايز بها الأمم والشعوب لما هيأت الطبيعة لكل واحدة منها، وقد أبدع الدكتور جواد علي وأجاد في التعبير عن هذا الواقع أو هذه الحقيقة إذ قال (في المفصل في تاريخ العرب ما قبل الإسلام: 7/488) : والعملة تطور خطير من التطورات التي أثرت في الحياة الاقتصادية للبشر، أحدث اختراعها انقلابًا كبيرًا في النظم الاقتصادية والاجتماعية ويعد إيجادها من المخترعات الكبرى التي لعبت دورًا خطيرًا في حياة الإنسان ولا تزال تلعبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1447 قلصت أعمال المقايضة المرهقة المتعبة وقضت على التعامل بالوزن في تقدير الأثمان، أعني التعامل بوزن الذهب والفضة في تقدير قيم الأشياء بأن يعطي إنسان إنسانًا قيراطًا من ذهب أو نصف مثقال أو مثقالًا مقابل سلعة تم التساوم على سعرها أو وزن مثقال من فضة أو أقل من ذلك أو أكثر في مقابل سلعة يريدها المشتري وهو نظام سبق نظام النقد الذي ولدت منه فكرة العملة وهو نظام متقدم بالنسبة إلى نظم المقايضة التي سبقته قلص من صعوباتها كثيرًا وأراح التاجر في التعامل حتى وردت فكرة سك العملة فقلصت منه ومن تعقيداته لسهولة التعامل بالعملة ولاكتسابها صفة رسمية وسعرًا ثابتًا مقررًا ووزنًا معينًا حددته الحكومات. (3) نشأة النقد وتطوره من أقدم ما عرف الإنسان من ألوان النقد المسكوكات "الليدية" وقد لا تكون أقدمها، بيد أنها في تقديرنا من أبعدها أثرًا في رسم مسار نشأة النقد وتطوره في الشرق الأوسط، وعن هذه المسكوكات يقول ديورانت (قصة الحضارة: 2/306) : (وامتاز "كروسس" - أحد ملوك ليديا - عن غيره من الملوك بسك نقود ذهبية وفضية ذات شل بديع تضربها الدولة وتضمن قيمتها الاسمية، وليست هذه أول المسكوكات الرسمية التاريخية كما اعتقد المؤرخون زمنًا طويلًا، وليست هي - بلا جدال - بداية اختراع المسكوكات ولكنها مع هذا كانت مثالًا يحتذى، ساعد انتشار التجارة في بلاد البحر الأبيض المتوسط، لقد ظل الناس قرونًا طوالًا يستخدمون معادن مختلفة لتقدير قيم البضائع وتسهيل تبادلها، ولكنها - سواء كانت من النحاس أو البرونز أو الحديد أو الفضة أو الذهب - كانت في أغلب البلاد تقدر قيمتها في كل عمل تجاري حسب وزنها أو حسب غيره من الاعتبارات، لهذا كان استبدال عملة قومية معترف بها رسميًّا بهذه الوسائل المتبعة إصلاحًا عظيمَ القيمة في علم التجارة فقد يسرت هذه الوسيلة الجديدة انتقال السلع ممن يحسنون إنتاجها إلى من هم في أشد الحاجة إليها فزاد ذلك في ثروة العالم ومهد السبيل لقيام المدنيات التجارية كمدنية الأيونيين واليونان حيث استخدمت الثورة التي جاءت من طريق التجارة لتمويل الأعمال الأدبية والفنية) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1448 وعن ليديا أخذت فارس سك النقود، يقول ديورانت (قصة الحضارة: ص414) : (وكانت الأجور والقروض وفوائد الأموال تؤدى في بادئ الأمر سلفًا وكثيرًا ما كانت تؤدى به الماشية والحبوب ثم جاءتهم النقود من "ليديا" وسك "دارا" "الدارق" (1) من الذهب والفضة وطبع عليه صورته) . وظهرت العملة في الصين ولكن لا يبدو قريبًا من الاحتمال أن تكون محاكاة لما فعله الليديون أو الفرس، فالحضارة الصينية لبثت مستقلة بنشأتها وتطورها زمنًا طويلًا، بل إن العالم القديم والحديث تأثر بها قبل أن تتأثر به، وعن ظهورها يقول ديورانت (قصة الحضارة: 4/249، 250) : ومن الحكم الصينية المأثورة قولهم: "السارقون بالجملة ينشئون المصارف " وأقدم ما عرف من النقود ما كان يتخذ من الأصداف البحرية والمدى والحرير. ويرجع تاريخ أقدم عملة معدنية إلى القرن الخامس قبل الميلاد على الأقل، وجعلت الحكومة الذهب العملة الرسمية في عهد أسرة "شين" وكانت العملة الصغرى تصنع من خليط من النحاس والقصدير وما لبثت هذه أن طردت الذهب من التعامل ولما أخفقت التجربة التي قام بها"وودي" والتي أراد بها أن يضرب عملة مصنوعة من الفضة والقصدير لكثرة ما زين وقتئذ من النقود استعيض عنها بشرائح من الجلد بلغ طول الواحدة منها قدمًا وكانت هذه الشرائح مقدمةً لاستعمال النقود الورقية، ولما أن أضحى ما يستخرج من النحاس أقل من أن يفي بالأغراض التجارية لكثرة البضائع المتداولة أمر الأمبراطور "شين دوزونج" عام 807 أن تودع العملة النحاسية كلها في خزائن الحكومة وأن يصدر بدلًا منها شهادات مدينة - هكذا، ولعلها محرفة صوابها: مداينة أو مديونية أو ما يشبه هذا - أطلق عليها الصينيون اسم النقود الطائرة لأنهم كما يبدو تحملوا متاعبهم المالية بنفس الطمأنينة التي تحمل بها الأمريكيون متاعبهم في عام 1933م ولم تستمر هذه الطريقة إلا ريثما زالت الضائقة ولكن اختراع الطباعة بالقوالب أغرى الحكومة على أن تستخدم هذه الطريقة الجديدة في عمل النقود، فشرعت ولاية "سشوان" شبه المستقلة في عام 935 للميلاد والحكومة الوطنية في "شنجان" عام 1970م تصدران النقود الورقية وأسرفت الحكومة في عهد أسرة "سونج" في إصدار هذه النقود، فنشأ من ذلك تضخم شديد قضى على كثير من الثروات.   (1) أوضح المؤلف في تعليقه أن لفظ "الدارق" ليس له صلة ما باسم "دارا"، بل إن لفظ دارق" مشتق من كلمة "زارق" الفارسية. وهي قطعة من الذهب وكانت قيمة "الدارق" الذهبي الاسمية خمس ريالات أمريكية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1449 ويقول "ماركوبولو" عن مخازن "كوبلايخان": إن دار السك الإمبراطورية تقوم في مدينة "كمبوك - بيكين"، وأنت إذا شاهدت الطريقة التي تصدر بها النقود، قلت: إن فن الكيمياء أتقن إتقانًا لا إتقان بعده وكنت صادقًا فيما تقول. ذلك أنه يصنع نقوده بالطريقة الآنية، ثم أخذ يستثير سخرية مواطنيه وتشككهم فيما يقول وعدم تصديقهم إياه فوصف الطريقة التي يؤخذ بها لحاء شجر التوت فتصنع منه قطع من الورق يقبلها الشعب ويعدها في مقام الذهب، ذلك هو منشأ السيل الجارف من النقود الورقية الذي أخذ من ذلك الحين يدفع عجلة الحياة الاقتصادية في العالم مسرعة تارة ويهدد هذه الحياة بالحرب تارة أخرى. لكن لا سبيل إلى الشك في أن اليونان تأثروا بالليديين ثم بالفرس أو بأحدهما حين أخذوا في سك العملة تيسيرًا لنشاطهم التجاري، وفي ذلك يقول ديورانت (قصة الحضارة: 7/55، 56) - نقلًا عن يوناني لم يشأ أن يعرف اسمه: كان التجار في معظم المدن - أي اليونانية - قبل توحيد الدولة يضطرون أن ينقلوا على سفنهم بضائع وهم عائدون إلى مدنهم لأنهم لم يكن في وسعهم أن يحصلوا على نقود ذات نفع لهم أي في مكان آخر وكانت بعض المدن تسك نقودًا من خليط من الذهب والفضة وينافس بعضها بعضًا في إنقاص ما في هذا الخليط من الذهب، أما الحكومة الأثينية - منذ أيام "صولون" - فقد أخذت على نفسها تشجيع التجارة إلى أقصى حد لإيجاد عملة موثوق بها طبعت عليها "بومة" أثينا، وكان قولهم "يأخذ البومة إلى أثينا" هو المثل اليوناني المقابل لقول الإنجليز "يحمل الفحم إلى نيوكسل"، وإذا كانت "أثينا" قد أبت - خلال صروف الدهر - أن تخفض من قيمة "درخماتها" الفضية فقد كانت سائر بلاد البحر الأبيض المتوسط تقبل وهي راضية هذه "البومات" التي أخذت تحل شيئًا فشيئًا محل العملة المحلية في جزائر "إيجه" وكان الذهب في هذه المرحلة لا يزال سلعة تجارية تباع بالوزن ولم يكن وسيلة يستعان بها على الاتجار ولم تكن أثينا تسكه عملة إلا في حالات الضرورة النادرة وكانت النسبة المعتادة بينه وبين الفضة كنسبة 14 إلى 27، وكانت أصغر النقود الأثينية تسك من النحاس وكانت ثماني قطع منها تكون أبولة - وهي عملة من الحديد أو البرونز سميت بهذا الاسم لمشابهتها للأظافر أو السفود - وكانت ست أبولات تكون الدراخمة - أي الحفنة - والدراخمتان تكونان الستائر Stater وكانت الدراخمة في النصف الأول من القربن الخامس يبتاع بها بشل Buchel من الحبوب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1450 وطبيعي أن تتأثر روما بالأنظمة اليونانية حين أخذت في الازدهار لتحل محل أثينا تدريجيًّا في مختلف المجالات العالمية الإقليمية ومن أبرزها المجال التجاري وهذه المرحلة من التطور التجاري والمالي لروما يشرحها ديورانت (قصة الحضارة: 9/164، 166) بقوله: وكان لابد لتيسير هذه الحركة التجارية الداخلية والخارجية من وضع نظام للنقود والمقاييس والميكاييل والموازن مضمون من الدولة. لقد ظلت الماشية حتى القرن الرابع للميلاد تتخذ وسيلة للتبادل لما لها من قيمة عند جميع الناس ولأنها كان يسهل نقلها من مكان إلى مكان، فلما اتسع نطاق التجارة استخدمت قطع من النحاس خشنة الصنع غير مهذبة تسمى "الأيس" "Aes" بواسطة للتعامل (حوالي 330ق. م) . ثم قال: وكانت الوحدة المستعملة في تقويم الأشياء هي "الآس" "AS" (الواحد وكان وزنها رطلًا من النحاس ولما أن سكت الدولة عملة نحاسية عام 335 ق. م. كانت تطبع عليها في الغالب صورة ثور أو شاة أو خنزير ومن ثم سميت "بيكونيا" (Pecunia) من بيكس (Pecus) أي ماشية) . ويقول بلني أنه لما شبت الحرب "اليونية" ولم تجد الجمهورية من الأموال ما يفي بحاجتها خفضت وزن "الآس" إلى أوقيتين من النحاس وبهذه الوسيلة اقتصدت في قيمته وأفلحت في تصفية الدين العمومي. وما إن وافى عام 202 حتى كان وزن الآس قد نقص إلى وقية واحدة ثم خفض في عام 87 إلى نصف أوية لتستعين الدولة بذلك على تموين الحرب الاجتماعية وفي عام 269 سكت قطعتان من النقود الفضية أولهما "الديناريوس" "Denarius" وكان يساوي عشرة "آسات" أي قيمة "الدراخمة" الأثينية في صورتهما الهلينية المخفضة والأخرى "السترتيوس" ومقدارها آسان ونصف آس أو ربع ديناريوس. وفي عام 217 ظهرت أول عملة ذهبية رومانية "الأوري" Aurei وكانت قيمته عشرين أو أربعين أو ستين "سترتيوس". أما من حيث قيمة المعادن التي تحتويها كل قطعة من هذه النقود فقد كان في الآس ما قيمته 2 % و"الستر" 5 % و"الديناريوس" 20 % من الريال الأمريكي. وفي متابعة لتطور الأوضاع التجارية والمادية لدى الرومان تبعًا لأوضاعهم السياسية يقول: (قصة الحضارة: 10/235) : الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1451 ترى كيف كان الإنتاج والتجارة يمولان؟ لقد كانا يمولان قبل كل شيء بنقد محترم موثوق به في العالم إلى حد كبير ثم إن النقود الرومانية جميعها قد انحطت قيمتها شيئًا فشيئًا من أيام الحرب اليونية الأولى لأن الخزانة وجدت أنه يسهل عليها أن تؤدي ما استعانته الحكومة من المال بسبب الحروب بسماحها بالتضخم الذي ينشأ بطبعه من ازدياد النقود ونقص السلع من ذلك أن الآس وكان في الأصل رطلًا من النحاس انخفض وزنه إلى أوقيتين في عام 241 وإلى أوقية واحدة في عام 202 وإلى نصف أوقية عام 37 ق. م. وإلى ربع أوقية في عام 60م وفي المائة عام الأخيرة من عهد الجمهورية كان قواد الجنود، يسكون نقودهم وكانت هذه النقود في العادة من "الأوري" وهو نقد ذهبي كانت قيمته في الغالب مائة "ستريس" ومن هذه النقود الحربية جاءت نقود الأباطرة وقد جرى هؤلاء على سنة قيصر فطبعوا صورتهم على ما يسكونه من النقود رمزًا لضمان الحكومة إياها وسك "الستريس" وقتئذ من النحاس بدل الفضة وجعلت قيمته أربع آسات وأنقص "نيرون" ما كان يحتويه الدينار من الفضة إلى 90 % مما كان يحتويه منها قبل ثم أنقصه "تراجان" إلى 85 % و "أورليوس" إلى 75 % و "كمودس" إلي70 % و "سبتميوس سيفريس،Septimius Severus إلى 50 % وأنقص "نيرون" قيمة الأوريوس من 40/1 من الرطل من الذهب إلى 45/1 وأنقصها "كركلا" إلى 50/1. وصحب هذا التخفيض ارتفاع عام في أثمان السلع ولكن يلوح أن الدخل ارتفع بنسبة هذا التخفيض وظل يرتفع حتى زمن "أورليوس". ثم عرض ديورانت إلى تطور النقد - بعد انقسام الدولة الرومانية - في الدولة البيزنطية فقال: (قصة الحضارة: 12/241، 242) : الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1452 وكان من أكبر العوامل في هذا النشاط الاقتصادي الكبير النقد الإمبراطوري الذي كان عمله مقبولة في جميع أنحاء العالم لثباته وسلامته. وكان "قسطنطين" قد سك نقدًا جديدًا يحل محل الأوريوس" Aureus الذي سكه "قيصر" وكانت هذه القطعة النقدية الجديدة المعروفة باسم "صوليدوس" Solidus أو بيزنت Besant تزن 4.55 غرامات أو جزءًا من ستة أجزاء من الأوقية الإنجليزية من الذهب وتعادل قيمته 583 من الدولارات في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1946 وإن تدهور "الصولديوس" في قيمته المعدنية والاقتصادية حتى صار هو "الصولدي" ليدل أوضح الدلالة على ارتفاع الأثمان خلال عصور التاريخ المختلفة وعلى انحطاط قيمة النقد ويوحي بأن الادخار فضيلة تتطلب ممارستها كثيرًا من الدقة والحصافة. ونعتقد أن ما نقلناه عن ديورانت من صور لمعالم تطور النقد ومراحله يوضح لنا أن ما نواجه اليوم ليس بدعًا من عصرنا ولا من طورنا الحضاري، وإنما هو تكرار لما عرفته البشرية منذ أخذت تتعامل بالنقد على اختلاف أنواعه وإن اختلفت أشكاله اختلافًا شكليًّا، واختلفت كذلك بعض ظواهره ومظاهره إذ أن استكناه جوهر العوامل المؤثرة في ارتفاع النقد وانخفاضه والمؤدية إلى تغييره أحيانًا يجلو بما لا مجال معه للشك أنها هي هي في تلك العصور، وفي هذا العصر بصرف النظر عن الأشكال التي تتخذها والظواهر والمظاهر التي تصاحبها وتلابسها بل وإن العواقب والمعقبات هي هي لا تكاد تختلف في جوهرها من عصر إلى عصر وإن تراءى بعض التغاير بينها في ظواهر ومظاهر وأشكال. وهذه الحقيقة تفضي بنا إلى ضرورة اعتبارها في اجتلاء الأحكام الشرعية واستنباطها، وإن غابت عن بعض الفقهاء والمجتهدين في العصور السالفة ممن تراءى لهم أن ما يشهدونه من أحداث وأطوار بدع من عصورهم أو ظروفهم الحضارية على أن هذا لا يعني إلغاء الظرفية في اجتلاء الأحكام الشرعية للأوضاع والأحوال الناتجة عن تغيير قيمة العملة في هذا العصر، فلا مجال لنكران تأثير الظرفية في تحديدها واستنباطها، لكن قبل أن نصير إلى هذه النقطة يجب أن نقف أولًا على نشأة النقد عند العرب وتطوره. ففي بيئتهم نزل الإسلام ولظروفهم أثرها العميق في صياغة نصوصه وفي المفاهيم والاجتهادات المنبثقة عنها، وذلك ما سنحاول تبيانه في الفصل الآتي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1453 (4) نشأة النقد وتطوره عند العرب الروايات الإسلامية القديمة لا تعرض للمؤثرات الخارجية في نشأة النقد وتطوره عند العرب ويكاد المرء يعتقد - إن اقتصر على الصدور عنها - إن العرب حين قرروا سك النقد أو التعامل به كانوا يصدرون على نفوسهم غير متأثرين بأي سواهم لولا أسماء المسكوكات التي ينسبها أصحاب هذه الروايات إلى الفرس أو إلى الروم أو إليهما معًا وبذلك يشيرون إلى أن سك النقد ليس اختراعًا عربيًّا دون أن يفيضوا في ذلك أو يبينوا الزمن الذي وقع فيه الاتصال بين العرب والنقد المسكوك وبدأوا يتعاملون به. على أنهم لا يتفقون في نسبة هذا أو ذاك من النقود التي يتعامل بها العرب إلى هذه أو تلك من الأمم الأعجمية التي تصدر عنها. وهم يشيرون إلى أنها كانت قبل الإسلام وإلى أوائل عهده ذات موازين مختلفة بيد أنهم يختلفون أيضًا في نسبة هذا النقد الخفيف أو الثقيل إلى هذه الأمة أو تلك من الأمم التي يذكرون أنها صادرة عنها ولا يعللون سبب خفة هذا أو ذاك من النقود وزنًا ولا سبب ما يشيرون إليه أحيانًا من الغش في بعضها بل إنهم يختلفون في تحديد نسبة الخفيف أو الثقيل وتحديد نسبة الخفة أو الثقل وتعيين مصدر هذا أو ذاك. ثم إنهم يجمعون على أن عبد الملك بن مروان هو الذي أشاع النقد المسكوك في أقطار الدولة الإسلامية ما بين سنتي 74 و 76هـ. ولكنهم في ما عدا ذلك يختلفون في تعيين أول من سك النقد في الإسلام، وأحيانًا تأتي أقوايلهم بما يوهم أن وزن الوحدة النقدية إنما استقر على يد عبد الملك وأن المسلمين المعاصرين له من الصحابة والتابعين أهل الحل والعقد أجمعوا على إقرار ذلك الوزن واعتباره شرعيًّا يعتمد عليه تنفيذ الأحكام الإسلامية في الزكاة والأنكحة والديات والمعاملات وما إلى ذلك في حين أن بعضًا منهم يعود فيذكر أن تقرير الوزن - وهذا هو الحق - إنما تم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبتشريع منه ومعنى ذلك أن عبد الملك حين أشاع النقد لم يكن إلا مطبقًا للتشريع الصادر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن بعض الرواة يذكرون عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - باعتباره أول من فكر في سك النقد وسك وحدات منه ولكنه لم يشعه أو لم يعمل على إشاعته بحيث يحل محل النقد الموزون وتبعه في ذلك عبد الله بن الزبير ثم كانت إشاعة سكه والتعامل به على يد عبد الملك بنفس الوزن الذي التزم به من قبله تنفيذًا لما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما نطمئن إليه كل الأطمئنان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1454 ولهم اختلافات في تفاصيل غير هذه تأتي في المرتبة الثانية من الاعتبار وأهمها سبب تسمية بعض النقود المسكوكة في عهد عبد الملك بـ " المكروهة ". فمن قائل أن فقهاء معاصرين له كرهوها لأنه نقش عليها آيات قرآنية أو بعض أسماء الله أو بعض الصور ورأوا في ذلك تعريضًا للقرآن أو لأسماء الله أن يقع في يد من لا يجوز له حمله كالمشرك والحائض والجنب أو ممارسة لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم "عنه" من التصوير. ومن قائل أن السبب هو أن قيصر الروم كره نقود عبد الملك لما نقش فيها من ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنذره إن لم يكف عن ذلك أن ينقش في النقد الذي لم يصدره إليه ذكرًا سيئًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومع أن هذا القول قد يكون وجيهًا إلا أن ما يريب فيه هو أن القيصر قد أدرك من غير شك حين شرع عبد الملك في إصدار النقد الإسلامي أن اعتماد المسلمين على النقد المصدر إليهم من بيزنطة قد انتهى عهده، والأقرب إلى الاحتمال في هذه الحال أن لا يلجأ إلى التهديد ليبقي على إمكان استمرار النقد المصدر من بيزنطة إلى جانب التعامل بالنقد المسكوك في الدولة الإسلامية فذلك أجدى له اقتصاديًّا ولم يعرف البيزنطيون بشدة التشنج والانفعال كما عرف الأكاسرة بل كانوا ألين جانبًا وأدنى إلى تفهم مستلزمات التعايش بينهم وبين الدولة الناشئة لاعتبارات اقتصادية ولأن المسيحية ليس من خلقها التشنج والانفعال. على أن من المؤرخين المحدثين من كان أوسع أفقًا وأعمق بحثًا من نقلة الروايات الإسلامية القديمة في استجلاء العوامل التي حملت العرب في الجاهلية ثم في الإسلام إلى التعامل بالنقد ثم إلى سكه ومصادر النقد الذي تعاملوا به في الجاهلية وفي صدر الإسلام وأسباب اختلاف أوزانه وما إلى ذلك من الآثار الاقتصادية والسياسية المكيفة لمسار التعامل العربي بالنقد واردًا أو منتجًا محليًّا. وليتضح للقارئ ما أجملناه في هذه الحوصلة من الأقاويل والآراء ونتائج الدراسة والبحث نضع بين يديه ما اصطفيناه من الروايات إذا ارتأينا بمجموعه أنه يصور ما لناقليه القدماء والمحدثين في هذا الشأن. وقد يكون من الأنسب أن نقدم على الروايات القديمة تحريرين جليلين لمؤرخين متميزين من المحدثين فيهما ما نعتبره التحديد والتصوير الصحيحين لنشأة النقد وتطوره عند العرب والمؤرخان هما ديورانت وجواد علي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1455 قال ديورانت (قصة الحضارة: 12/240،241) : وراجت التجارة الداخلية أو الخارجية في الإمبراطورية البيزنطية من عهد "قسطنطين" إلى أواخر جستنيان" وكان ما فيها من الطرق والجسور الرومانية يتعهد ويصلح بانتظام ودفع الحرص الشديد على الكسب وما يبعثه من إيداع وإنشاء إلى بناء أساطيل بحرية ربطت العاصمة بمئات الثغور في الشرق والغرب وظلت القسطنطينية من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر أعظم الأسواق التجارية ومراكز النقل البحري في العالم كله، وانحطت الإسكندرية التي كانت لها السيادة في هذه الناحية منذ القرن الثالث ق. م فأصبحت منزلتها في التجارة بعد أنطاكيا وكانت سوريا كلها تعج بالمتاجر والمصانع ويرجع هذا إلى موقعها بين بلاد الفرس والقسطنطينية ومصر وإلى ما اتصف به تجارها من حذق وحب للمغامرة بحيث لم يكن ينافسهم في انتشار تجارتهم ودهائهم إلا اليونان الذين لا يجارونهم في المثابرة والجلد كما يرجع إلى انتشارهم هم أنفسهم في جميع البلاد الإمبراطورية فكانوا بذلك عاملًا في إيجاد ذلك الطابع الأخلاقي والفني الذي طبعت به الحضارة البيزنطية. وإذا كان الطريق التجاري القديم بين سوريا وأواسط آسيا يخترق بلاد الفرس المعادية للدولة البيزنطية فقد أراد "جستنيان" أن ينشئ طريقًا جديدًا بإقامة صلات ودية بينه وبين الحميريين المقيمين في الطرف الجنوبي الغربي من جزيرة العرب وملوك الحبشة وكان هؤلاء وأولئك يسيطرون على أبواب البحر الأحمر الجنوبية وكانت السفن التجارية البيزنطية تخترق هذه المضايق والمحيط الهندي في طريقها إلى الهند ولكن الفرس الذين كانوا يسيطرون على ثغور الهند كانوا يفرضون على هذه التجارة رسومًا عالية كأنها تمر ببلاد إيران نفسها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1456 وقال جواد علي (المفصل بتاريخ العرب ما قبل الإسلام: 7/487، 488) : وقد استعمل أهل العربية الجنوبية النقود في معاملاتهم فاستعملوا نقودًا سكت من فضة وأخرى سكت من نحاس ومن معادن أخرى وقد عثر على نماذج من كل من هذه الأنواع كما تعاملوا بالنقود الأجنبية كذلك مثل النقود اليونانية والرومانية والمصرية والحبشية والفارسية وقد عثر على نماذج من هذه النقود في مواضع متعددة من العربية الجنوبية في اليمن وفي حضرموت وفي مواضع أخرى، وقد زاد تعامل أهل اليمن بالنقود الحبشية والساسانية في أثناء احتلال الحبش والساسانيين لليمن ولاشك يوجد في بعض المتاحف ودور الآثار وعند بعض هواة جمع النقود والأشياء القديمة قطع من نقود جاهلية ضربت في العربية الجنوبية بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعض آخر من نحاس ومنها الكبير ومنها نقود صغيرة دون على بعضها اسم الملك الذي ضربت في أيامه أو الحرف الأول من اسمه وعلى بعض آخر رموز وصور ألف العرب والجنوبيون ضربها على النقود مثل صورة أثينا (1) أو البوم وهي من الطيور التي ألف العرب الجنوبيون إظهار صورتها على النقد وعلى الحجارة المكتوبة وعلى جبهات البيوت. ثم قال: - ص493/502: بعد أن أفاض في تفصيل ما عرف من نقود العربية الجنوبية وأشكالها وأسمائها وما رسم عليها من رموز ومواقع سكها: وقد عثر في بصرى في مواضع من المنطقة التي عرفت بـ: " المقاطعة الغربية " الكورة العربية" على نقود معظمها من نقود الرومان واليونان كما عثر على نقود نبطية ويذهب بعض الباحثين في النميات أن الملك "الحارث الثالث" - 87/ 62ق. م - هو أول ملك نبطي أمر بضرب النقود أخذ السكة من اليونان أثناء استيلائه على دمشق وقد عثر على نقد من فئة "دينار" طبع عليه رمز يمثل اتفاق الحارث و "سكاروس" وصورة جمل وشجرة وعثر على نقود أمر الحارث هذا بضربها تشبه النقود التي ضربها ديمتروس الثاني" و"الثالث" (Demetriuss Eukaross III) بمدينة دمشق شبهًا كبيرًا ولهذا يرى الباحثون أنها تقليد ومحاكاة لها، ولم يصل إلينا نقد من نقوده يحمل كتابه مدونة بالنبطية.   (1) أثينا عاصمة اليونان منذ القرن السابع قبل الميلاد تقريبًا، ومنها انطلق مجد اليونان التجاري والمالي ثم الفلسفي والعلمي الذي لا يزال يؤثر في الحياة الفكرية رغم تباعد أماد الأطوار الحضارية بين عصر نشأتها ثم عصر ازدهارها، وبين هذا العصر، وهذا ينهض حجة واقعية على الوحدة الجوهرية للفكر الإنساني مهما تعاقب في التطور وتعاقبت عليه الأطوار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1457 وجاد عبادة الثالث من ملوك النبط علينا بقطع من النقود يرى الملك على أحد وجهيها ومعه صورة امرأة يظن أنها صورة أمه وأنها تشير إلى مبدأ حكمه إذ كان قاصرًا فكانت أمه تدير الملك باسمه نيابةً عنه، وذلك بالنسبة إلى النقود التي ضربت في أوائل أيام الحكم وأما في النقود المتأخرة فإنها صورة زوجته التي كانت تساعده وتؤازره ونشاهد صورة نسر واقف قابض على جناحيه في الوجه الثاني من أحد النقود وعلى طرفي الصورة كتابة وصورة رجل في القطعتين المرقمتين "سبعة" و "ثمانية" يرى أنها رأس الملك وعلى طرفي الصورة كتابات نبطية وتاريخ الضرب. وتعد النقود التي ضربت في أيام الحارث الرابع من خير ما ضرب من النقود في أيام النبط ولم يعثر على نقد له ضرب في مدينة دمشق في المدة التي استولى فيها على تلك المدينة وقد ضرب بعضها باسم الملك وباسم زوجته "خَلد"، "خُلد" اسم زوجته الأولى وطبعت صورة زوجته هذه على النقد وضرب بعضها باسمه وباسم زوجته الأخرى "شقيلة" وطبعت صورتها على النقد كذلك وضرب بعض آخر باسم الملك وحده وهي مختلفة بعضها من الفضة، وبعض آخر من البرونز وعلى عدد منها تاريخ الضرب. وضرب اسم "شقيلة" الثانية ملكة النبط مع اسم الملك "ملك" "مالك" الثاني في نقد وصل إلينا وقد وصفت في النقود بأنها أخته أما القطع التي وصلت إلينا فبعضها مصنوع من الفضة وبعض آخر من البرونز وعلى نقوده شيء من التبديل والتغيير عن النقد الذي ضرب في أيام "الحارث الرابع". وتبورك في النقود مثل نقود "بصرى" بضرب صورة الآلهة أو نعوتها أو رموزها فقد ضرب نعت الإله "ذو شري" "ذو الشري" على نقد ضرب في "بصرى" كما أشير إلى هذا الإله في نقد ضرب بـ: "بصرى" بتصوير منظر من مناظر الاحتفالات السنوية التي كانت تقام في كل سنة إكرامًا له وتعرف بـ (Actia Dusaria) أما آلهة المدينة التي ضربت صورتها على ضرب النقود فتشبه صورتها صورة "عشتاروت" "عشتروت" المعروفة بفلسطين وفينقيا وسيظهر أنها "اللات" وتشبه في بعض النقود صورة " أثينا " وقد دعيت بـ: (Tyche) وأثينا" هي "اللات" عند أهل "حوران" وعثر في جزيرة "فيلكا" على نقود يونانية من بينها درهم ضرب في عهد الملك "انطونيوخس الثالث" من ملوك السلوقيين ويعود تاريخ هذا الدرهم إلى حوالي السنة 212 ق. م وتبين أن بعض الدراهم قد ضرب في "جرها" (Gerhha) "الجرعاء" كما عثر على نقود ضربت من النحاس تبين أن قطعة منها ضربت في عهد سلقيوس الأول ضربها باسم الملك الإسكندر الأكبر وأن قطعتين منها ضربتا في أيام أنطونيوخس الثالث" فهي تعاصر الدراهم المذكورة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1458 أما أهل الحجاز فقد تعاملوا بالنقود الرومية والساسانية وتعاملوا بالدنانير وتعاملوا بالدراهم وتعاملوا بالدانق وتعاملوا بنقود أهل اليمن ولعلهم كانوا يتعاملون بنقود أهل الحبشة، كذلك فقد كان أهل مكة خاصةً تجارًا يتاجرون مع اليمن ويتاجرون مع العراق وبلاد الشام والحبشة وتجارتهم هذه تجعلهم يستعملون مختلف النقود. ولم يرد في الأخبار ما يفيد قيام أهل العربية الغربية أو أي مكان آخر في جزيرة العرب بضرب النقود الجاهلية فيها لكن ذلك لا يمنع من احتمال عثور النقابيين في المستقبل على نقود محلية ضربت في مكة أو في الطائف أو في يثرب أو في مكان آخر ولو على نطاق ضيق محدود. وقد ذكر علماء اللغة أن لفظة الدرهم فارسية الأصل وقد عربت وقالوا في جمعها دراهم ودراهيم وهي نقد من الفضة وقد عرف بـ "دَرم" (Diram) في الفارسية وبـ "دراخمة" " دراخما" (Drachma) في اليونانية وظاهر أن العرب أخذوا بالتسمية الفارسية وقد استعملوا في التعامل دراهم الفرس ودراهم اليونان. ثم ساق ملخصًا للروايات التي نقلناها آنفًا من مختلف المصادر العربية الموثقة حول نشأة العملة الإسلامية وأوزانها والتعابير التي أطلقت على كل نوع منها. ثم قال - ص503: وقد ذكر علماء اللغة نقدًا دعوه "النمي" وقالوا: إنه الدرهم الذي فيه رصاص أو نحاس وقال بعض آخر: إنه "الفلس" من الرصاص بالرومية وكانت بالحيرة على عهد النعمان بن المنذر. ثم قال: والدانق (1) من الأوزان ومن النقد وهو "داناق" أيضًا من أصل فارسي هو "دانك" في الفهلوية ومن Dang "دانك" في الأرمية وهو يعادل سدس الدينار أو سدس درهم وكان معروفًا عند أهل مكة في الجاهلية. ثم (2) فلفظة لاتينية يونانية الأصل عربت من أصل (Follus) اللاتيني ويراد بها نقود مسكوكة من النحاس وقد استعملها العرب في تعاملهم واحتفظوا بالأصل الأجنبي وقد كان الفلس في أيام القيصر "أنستاس الأول" "أنستانيوس الأول" (491/518م) زهاء ثلاثين غرامًا ورسم بالحرف M وظهرت بعد ذلك فلوس لأوزان تقل عن هذه، ولما ضرب المسلمون النقد كانت الفلوس في جملة ما ضرب من النقد.   (1) سدس الدرهم الإسلامي فيكون وزنه تقريبًا 768 من الألف من الغرام، وهو أيضًا سدس الدينار (2) جمعة في القلة أفلس، وفي الكثرة فلوس، وكلمة فلس معربة عن اليونانية وهو نقد أثيني قيمته ما يقرب من ثلاث سنتيمات مغربية على أن قيمته غير مستقرة. فقد كانت عند اليونان تساوي ربع أوقية من الفضة وكان في نفس الوقت قطعة من معدن براق تزين بها الخوذات يتدلى منها على الخدين، ثم أطلق على الرصائع وما يزين بها اللوجان، وقد اضطربت قيمته في الإسلام أيضًا إذ كانت ترتفع وتنخفض طبقًا للكميات المسكوكة منه وحسب سعر النحاس مقابل الفضة والذهب وتبعًا لما يحدث من تضخم أو انحسار نقدي نتيجة لتغاير الأوضاع الاقتصادية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1459 وقال ابن سعد - الطبقات الكبرى: 5/229 - في ترجمته لعبد الملك بن مروان: أخبرنا محمد بن عمر حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه أن عبد الملك بن مروان ضرب الدنانير والدراهم سنة خمس وسبعين. أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا خالد بن ربيعة بن أبي هلال، عن أبيه، قال: كانت مثاقيل الجاهلية التي ضرب عليها عبد الملك بن مروان اثنتين وعشرين قيراطًا (1) إلا حبة بالشامي وكانت العشرة وزن سبعة. أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن ابن كعب بن مالك، قال: أجمع لعبد الملك على تلك الأوزان. وقال أبو عبيد - الأموال: ص700،702 - الأثر: 1622: سمعت شيخًا من أهل العلم بأمر الناس كان معنيًا بهذا الشأن - يعني بشأن النقد - يذكر قصة الدراهم وسبب ضربها في الإسلام، قال: إن الدراهم التي كانت نقد الناس على وجه الدهر لم تزل نوعين: هذه السود الوافية وهذه الطبرية (2) العتق (3) - أي الخيار أو القديمة - فجاء الإسلام وهي كذلك فلما كانت بنو أمية وأرادوا ضرب الدراهم نظروا في العواقب فقالوا - إن هذه تبقى مع الدهر وقد جاء فرض الزكاة أن في كل مائتين أو في كل خمس أواق خمسة دراهم والأوقية أربعون فأشفقوا إن جعلوها كلها على مثال السود ثم تناقشوا بعد لا يعرفون غيرها أن يجعلوا معنى الزكاة على أنها لا تجب حتى تبلغ تلك السود العظام مائتين عددًا فصاعدًا فيكون في هذا بخس للزكاة وأشفقوا إن جعلوها كلها على مثال الطبرية أن يجعلوا المعنى على أنها إذا بلغت مائتين عددًا حلت فيها الزكاة فيكون اشتطاطًا على رب المال فأرادوا منزلة بينهما يكون فيها كمال الزكاة من غير إضرار بالناس وأن يكون مع هذا موافقًا لما وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة.   (1) نصف عشر الدينار غالبًا، وقد يكون جزءًا من أربعة وعشرين منه، وليس له وزن قار، وهو في العصر الحاضر جزء من الذهب الإبريز يزن واحدًا من أربع وعشرين جزءًا من مجموع الثقل للمزيج الذهب المعدني، ولا يتخذ إلا لوزن الجواهر (2) مدينة فلسطينية ينسب إليها نوع من الدنانير، افتتحها شرحبيل ابن حسنة سنة 13 للهجرة، صلحًا، ثم نكثت العهد فسير أبو عبيدة إليها عمرو بن العاص وأعاد فتحها على مثل صلح شرحبيل (3) الدينار العتيق هو الدينار القديم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1460 قال: وإنما كانوا قبل ذلك يزكونها شطرين من الكبار والصغار فلما أجمعوا على ضرب الدراهم نظروا إلى درهم واف إذا هو ثمانية دوانيق - جمع دانق بفتح النون "فارسية" - وإلى درهم من الصغار فكان أربعة دوانيق فحملوا زيادة الأكبر على نقص الأصغر فجعلوهما درهمين متساويين كل واحد ستة دوانيق ثم اعتبروها بالمثاقيل ولم يزل المثقال في آباد الدهر مؤقتًا محدودًا فوجدوا عشرة من هذه الدراهم التي واحدها ستة دوانيق ثم اعتبروها بالمثاقيل تكون ميزان سبعة مثاقيل سواء فاجتمعت فيهم وجوه ثلاثة أنه وزن سبعة وأنه عدل بين الصغار والكبار وأنه موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة ولا وكس فيه ولا شطط. فمضت سنة الدرهم على هذا واجتمعت عليه الأمة فلم تختلف أن الدرهم التام ستة دوانيق فما زاد أو نقص قيل درهم زائد وناقص فالناس في زكاتهم بحمد الله ونعمته على الأصل الذي هو السنة والهدي لم يزيغوا عنه ولا التباس فيه. وكذلك المبايعات والديات على أهل الورق وكل ما يحتاج إلى ذكرها فيه. هذا كما بلغنا أو كلام هذا معناه. وكانت الدراهم هذا وزن ستة بذلك جاء ذكرها في بعض الحديث. حدث عن شريك، عن سعد بن طريف، عن الإصبغ بن نباتة، عن علي، قال: زوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة عليها السلام على أربع مائة وثمانين درهمًا وزن ستة. (1) .   (1) لم نقف على هذا الحديث عند غير أبي عبيد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1461 وقال الطبري - التاريخ: 6/256 - في آخر سنة ستة وسبع: وفي هذه السنة أمر عبد الملك بن مروان بنقش الدراهم والدنانير. ذكر الواقدي أن سعد بن راشد حدثه عن سعد بن كيسان بذلك، قال: وحدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه أن عبد الملك ضرب الدراهم والدنانير عامئذ وهو أول من أحدث ضربها. وحدثني خالد بن أبي ربيعة عن أبي هلال عن أبيه، قال: كانت مثاقيل الجاهلية التي ضرب عليها عبد الملك اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبة وكانت العشرة وزن سبعة. وحدثني عبد الرحمن بن جرير الضبي، عن هلال بن أسامة، قال: سألت سعيد بن المسيب في كم تجب الزكاة من الدنانير؟ قال: في كل عشرين مثقالًا بالشامي نصف مثقال قلت: ما بال الشامي من المصري؟ قال: هو الذي تضرب عليه الدنانير وكان ذلك وزن الدنانير قبل أن تضرب الدنانير كانت اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبة قال لسعيد: قد عرفته قد أرسلت بدنانير إلى دمشق فضربت على ذلك. وقال البلاذري - فتوح البلدان: ص651، 657: حدثنا الحسين بن الأسود، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثني الحسن بن صالح، قال: كانت الدراهم من ضرب الأعاجم مختلفة كبارًا وصغارًا فكانوا يضربون منها مثقالًا، وهو وزن عشرين قيراطًا، ويضربون منها وزن اثنى عشر قيراطًا، ويضربون عشرة قراريط وهي أنصاف المثاقيل، فلما جاء الله بالإسلام واحتيج في أداء الزكاة إلى الأمر الواسط فأخذوا عشرين قيراطًا واثني عشر قيراطًا وعشرة قراريط فوجدوا ذلك اثنين وأربعين قيراطًا فضربوا على وزن الثلث من ذلك وهو أربعة عشر قيراطًا فوزن الدرهم العربي أربعة عشر قيراطًا من قراريط الدينار العزيز فصار كل وزن عشرة دراهم سبعة مثاقيل وذلك مائة وأربعون قيراطًا وزن سبعة. وقال غير الحسن بن صالح: كانت دراهم الأعاجم ما العشرة منها وزن عشرة مثاقيل وما العشرة منها وزن ستة مثاقيل وما العشرة منها وزن خمسة مثاقيل فجمع ذلك فوجد إحدى وعشرين مثقالًا فأخذ ثلثه وهو سبعة مثاقيل فضربوا دراهم وزن العشرة منها سبعة مثاقيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1462 القولان يرجعان إلى شيء واحد: وحدثني محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر الأسلمي، قال: حدثنا عثمان بن عبد الله بن موهب، عن أبيه، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، قال: كانت دنانير هرقل ترد على أهل مكة في الجاهلية وترد عليهم دراهم الفرس البغلية (1) فكانوا لا يتبايعون إلا على أنها تبر وكان المثقال عندهم معروف الوزن وزنه اثنان وعشرون قيراطًا إلا كسرًا وزن العشرة دراهم سبعة مثاقيل فكان الرطل اثني عشر أوقية وكل أوقية أربعين درهمًا فأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وأقره أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فكان معاوية فأقر ذلك على حاله ثم ضرب مصعب بن الزبير في أيام عبد الله بن الزبير دراهم قليلة كسرت بعد فلما ولي عبد الملك بن مروان سأل وفحص عن أمر الدراهم والدنانير فكتب إلى الحجاج بن يوسف أن يضرب الدراهم على خمسة عشر قيراطًا من قراريط الدنانير وضرب هو الدنانير الدمشقية قال عثمان: قال أبي: فقدمت علينا المدينة وبها نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم من التابعين فلم ينكروا ذلك. قال محمد بن سعد: وزن الدرهم من دراهمنا هذه أربعة عشر قيراطًا وهو وزن خمسة عشر قيراطًا من أحد وعشرين قيراطًا وثلاثة أسباع. حدثني محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثنا إسحاق بن حازم، عن المطلب بن السائب، عن أبي وداعة السهمي أنه أراه وزن المثقال، قال: فوزنته فوجدته مثقال عبد الملك بن مروان، يقال: هذا كان عند أبي وداعة بن ضبيرة السهمي في الجاهلية. وحدثني محمد بن سعد، قال: حدثنا الواقدي، عن سعيد بن مسلم بن بابك، عن عبد الرحمن بن سابط الجمحي (2) ، قال: كانت لقريش أوزان في الجاهلية فدخل الإسلام فأقرت على ما كانت عليه. كانت قريش تزن الفضة بوزن تسميه درهمًا، وتزن الذهب بوزن تسمية دينارًا قيل عشرة من أوزان الدراهم سبعة أوزان الدنانير وكان لهم وزن الشعيرة (3) وهو واحد الستين من وزن الدرهم وكانت لهم الأوقية وزن أربعين درهمًا والنش (4) وزن عشرين درهمًا وكانت لهم النواة وهي وزن خمسة دراهم فكانوا يتبايعون بالتبر على هذه الأوزان فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة أقرهم على ذلك.   (1) لم أقف على أصل هذه النسبة إلا أن يكون اسم يهودي كان يسك النقود للحجاج كما تقول بعض الروايات، وفي النفس شيء من هذا. (2) عبد الرحمن بن سابط الجمحي، ويقال: عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط تابعي ثقة من الثالثة كثير الإرسال (3) واحد من الستين من وزن الدرهم (4) النش نصف الأوقية (عشرون درهمًا) ، ويكون من الذهب (وزن نواة) ، وقيل: خمسة دراهم، وقيل: ربع أوقية العرب يسمون الأربعين درهمًا أوقية والعشرين نشًا والخمسة نواة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1463 حدثنا محمد بن سعد، عن الواقدي، قال: حدثني ربيعة بن عثمان، عن وهب بن كيسان، قال: رأيت الدنانير والدراهم قبل أن ينقشها عبد الملك ممسوحة وهو وزن الدنانير التي ضربها عبد الملك. وحدثني محمد بن سعد، عن الواقدي، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن أبيه، قال: قلت لسعيد بن المسيب: من أول من ضرب الدنانير المنقوشة؟ قال: عبد الملك بن مروان وكانت الدنانير ترد رومية والدراهم كسروية وحميرية قليلة، قال سعيد: فأنا بعثت بتبر إلى دمشق فضرب لي على المثقال في الجاهلية. وحدثني محمد بن سعد، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، أن أول من ضرب وزن سبعة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي أيام ابن الزبير. وحدثني محمد بن سعد، قال: حدثني محمد بن عمر، قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، أن عبد الملك أول من ضرب الذهب عام المجاعة سنة 74هـ. قال أبو الحسن المدائني: ضرب الحجاج الدراهم آخر سنة 75هـ، ثم أمر بضربها في جميع النواحي سنة ست وسبعين. وحدثني داود الناقد قال: سمعت مشايخنا يتحدثون أن العباد من أهل الحيرة كانوا يتزوجون على مائة وزن ثمانية يريدون ثمانين مثقالًا دراهم وعلى مائة وزن خمسة يريدون خمسين مثقالًا دراهم وعلى مائة وزن مائة مثقال، قال الناقد: ورأيت درهمًا عليه ضرب هذه الدراهم بالكوفة سنة ثلاث وسبعين فأجمع النقاد أنه معمول وقال: رأيت درهمًا شاذًّا لم ير مثله عليه عبيد الله بن زياد فأنكر أيضًا. حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني الواقدي،عن يحيى بن النعمان الغيفاري،عن أبيه قال: ضرب مصعب الدراهم بأمر عبد الله بن الزبير سنة سبعين على ضرب الأكاسرة وعليها بركة،وعليها "الله" فلما كان الحجاج غيرها. وروي عن هشام بن الكلبي- لعل صوابه هشام بن السائب الكلبي - أنه قال: ضرب مصعب مع الدراهم دنانير أيضا. حدثني داود الناقد، قال: حدثني أبو الزبير الناقد، قال: ضرب عبد الملك شيئًا من الدنانير في سنة اثنين وسبعين ثم ضربها سنة خمس وسبعين، وأن الحجاج ضرب دراهم بغلية كتب عليها: بسم الله، الحجاج، ثم كتب عليها بعد سنة: الله أحد الله الصمد، فكره ذلك الفقهاء فسميت مكروهة، ويقال: إن الأعاجم كرهوا نقصانها فسميت مكروهة، قال: وسميت السميرية بأول من ضربها واسمه سمير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1464 حدثني عباس بن هشام الكلبي، عن أبيه، قال: حدثني عوانة بن الحكم، أن الحجاج سأل عما كانت الفرس تعمل به في ضرب الدراهم فاتخذ دار ضرب وجمع فيها الطباعين فكان يضرب المال للسلطان ما يتجمع له من التبر وخلاصة الزيوف والستوقة (1) والبهرجة (2) ثم أذن للتجار وغيرهم في أن تضرب لهم الأوراق واستغلها من فضول ما كان يؤخذ من فضول الأجرة للصناع والطباعين وختم أيدي الطباعين، فلما ولى عمر بن هبيرة العراق ليزيد بن عبد الملك خلص الفضة أبلغ من تخليص من قبله وزود الدراهم فاشتد في العيار ثم ولي خالد بن عبد الله البجلي ثم القسري العراق لهشام بن عبد الملك فاشتد في النقود أكثر من شدة ابن هبيرة حتى أحكم أمرها أبلغ من إحكامه، ثم ولي يوسف بن عمر بعده فأفرط في التشديد على الطباعين وأصحاب العيار وقطع الأيدي وضرب الأبشار فكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية غيرها فسميت الدراهم الأولى المكروهة. وقال قدامة بن جعفر (الخراج: ص59، 61) : قال أبو الفرج - يعني الأصبهاني -: لما أخذ أمر الفرس يضمحل ودولتهم تضعف وسلطانهم يهن وتدابيرهم تفسد وسياستهم تضطرب فسدت نقودهم، فقام الإسلام ونقودهم من العين والورق غير خالصة فما زال الأمر على ذلك إلى أن اتخذ الحجاج دار الضرب وجمع فيها الطباعين فكان المال يضرب للسلطان مما يجمع له من التبر وخلاصة الزيوف والبهرجة ثم أذن للتجار في أن تضرب لهم الأوراق وأشغل الدار من فضول ما كان يؤخذ من الأجور وختم على أيدي الصناع والطباعين وذلك في سنة خمس وسبعين ثم نقش على الدراهم (الله أحد الله الصمد) فسميت المكروهة لأن الفقهاء كرهوها ثم لما ولي عمر بن هبيرة العراق ليزيد بن عبد الملك خلص الفضة أبلغ تخليص وجود الدراهم واشتد في العيار ثم لما ولي خالد بن عبد الله القسري العراق لهشام بن عبد الملك اشتد في النقود أكثر من اشتداد ابن هبيرة حتى أحكم أمرها أبلغ من إحكامه على الطباعين وأصحاب العيار وقطع الأيدي وضرب الأبشار فكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية ولم يكن يقبل المنصور من نقودهم في الخراج غيرها فسميت الدراهم الأولى المكروهة ثم جود العيار في أيام الرشيد وأيام المأمون وأيام الواثق حتى كان الأئمة المعمول عليها في دور الضرب مال جمع عياره من ثلاثة دنانير مضروبة في تلك الأول الثلاثة وهي على هذا إلى الآن.   (1) الستوق بفتح السين المشددة وقد تضم وتشديد التاء ما يغلب عيه الغش من الدراهم وهو الزيف، والبهرج الذي لا خير فيه أو ما غلب عليه النحاس، وقيل: البهرجة إذاغلب فيها النحاس لا تؤخذ، وأما الستوقة فهي في حكم الفلوس، والستوق كلمة فارسية معربة قيل أنها مركبة من كلمتين معناهما ثلاثة وقوة فيكون معناها ذا ثلاثة قوى لأن هذا النوع من الدراهم مركب من ثلاثة معادن: الفضة والنحاس والحديد، أو ما يشبه الحديد من المعادن. (2) الستوق بفتح السين المشددة وقد تضم وتشديد التاء ما يغلب عيه الغش من الدراهم وهو الزيف، والبهرج الذي لا خير فيه أو ما غلب عليه النحا، وقيل: البهرجة إذاغلب فيها النحاس لا تؤخذ، وأما الستوفة فهي في حكم الفلوس، والستوق كلمة فارسية معربة قيل أنها مركبة من كلمتين معناهما ثلاثة وقوة فيكون معناها ذا ثلاثة قوى لأن هذا النوع من الدراهم مركب من ثلاثة معادن: الفضة والنحاس والحديد، أو ما يشبه الحديد من المعادن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1465 فأما الورق فإن الدراهم كانت في أيام الفرس مضروبة على ثلاثة أوزان، درهم منها على وزن المثقال وهو عشرون قيراطًا ودرهم وزنه اثنا عشر قيراطًا ودرهم وزنه عشرة قراريط فلما احتيج في الإسلام إلى الزكاة أخذ الوسط من مجموع ذلك وهو اثنان وأربعون قيراطًا فكانت أربعة عشر قيراطًا من قراريط الدينار وكانت الدراهم في أيام الفرس يسمى منها البعض مما وزن الدرهم فيه مساوٍ لوزن الدينار العشرة، ووزن عشرة، ومما الدرهم منه اثنا عشر قيراطًا العشرة ووزن ستة، ومما الدرهم منه عشرة قراريط العشرة وزن خمسة، فلما ضربت الدراهم الإسلامية على الوسط من هذه الثلاثة الأوزان قيل في عشرتها وزن سبعة لأنها كذلك. فلهذه العلة يفيد ذكر الأوزان في الصكاك بأن يقال: وزن سبعة جريًا على المذهب الأول الذي كان يحتاط فيه لوجود الأوزان الثلاثة في الدراهم في ذلك الوقت. وقال الماوردي - الأحكام السلطانية: (ص153 - 154) في معرض شرحه لما يتصل بالجزية وأحكامها: وأما الدرهم فيحتاج إلى معرفة وزنه ونقده، فأما وزنه فقد استقر الأمر في الإسلام على أن وزن الدرهم ستة دوانيق ووزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، واختلف في سبب استقراره على هذا الوزن، فذكر قوم أن الدراهم كانت في أيام الفرس مضروبة على ثلاثة أوزان، منها درهم على وزن مثقال عشرون قيراطًا، ودرهم وزنه اثنا عشر قيراطًا ودرهم وزنه عشرة قراريط فلما احتيج في الإسلام إلى تقديره في الزكاة أخذ الوسط من جميع الأوزان الثلاثة وهو اثنان وأربعون قيراطًا فكان أربعة عشر من قراريط المثقال فلما ضربت الدراهم الإسلامية على الوسط من هذه الأوزان الثلاثة قيل في عشرتها وزن سبعة مثاقيل لأنها كذلك، وذكر آخرون أن السبب في ذلك أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما رأى اختلاف الدراهم وأن منها البغلي وهو ثمانية دوانق، ومنها الطبري وهو أربعة دوانق ومنها المغربي وهو ثلاثة دوانق ومنها اليمني وهو دانق، قال: انظروا الأغلب مما يتعامل به الناس من أعلاها وأدناها فكان الدرهم البغلي والدرهم الطبري فجمع بينهما فكانا اثني عشر دانقًا فأخذ نصفها فكان ستة دوانق فجعل الدرهم الإسلامي في ستة دوانق ومتى زدت عليه ثلاثة أسباعه كان مثقالًا ومتى نقصت من المثقال ثلاثة أعشاره كان درهمًا فكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل وكل عشرة مثاقيل أربعة عشر درهمًا وسبعان. فأما النقص فمن خالص الفضة وليس للمغشوشة مدخل في حكمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1466 وقد كان الفرس عند فساد أمرهم فسدت نقودهم فجاء الإسلام ونقودهم من العين والورق والذهب غير خالصة إلا أنها كانت تقوم في المعاملات مقام الخالصة وكان غشها عفوًا لعدم تأثيره بينهم إلى أن ضربت الدراهم الإسلامية فتميز المغشوش من الخالص. واختلف في أول من ضربها في الإسلام فقال سعيد بن المسيب: إن أول من ضرب الدراهم المنقوشة عبد الملك بن مروان، وكانت الدنانير ترد رومية والدراهم ترد كسروية وسميرية قليلة، قال أبو الزناد: فأمر عبد الملك بن مروان الحجاج أن يضرب الدراهم بالعراق فضربها سنة أربع وسبعين وقال المدائني: بل ضربها الحجاج آخر سنة خمس وسبعين ثم أمر بضربها في النواحي سنة ست وسبعين وقيل إن الحجاج خلصها تخليصًا لم يستقصه وكتب عليها (الله أحد الله الصمد) وسميت مكروهة واختلف في تسميتها بذلك فقال قوم لأن الفقهاء كرهوها لما عليها من القرآن وقد يحملها الجنب والمحدث، وقال الآخرون: لأن الأعاجم كرهوا نقصانها فمسيت مكروهة ثم ولي بعد الحجاج عمر بن هبيرة في أيام يزيد بن عبد الملك فضربها أجود مما كانت ثم ولي بعده خالد بن عبد الله القسري فشدد في تجويدها وضرب بعدها يوسف بن عمر فأفرط في التشديد فيها والتجويد فكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية، وكان المنصور رضي الله عنه - هكذا يقول الماوردي غفر الله له - لا يأخذ في الخراج من نقودهم غيرها وحكى يحيى بن النعمان الغيفاري، عن أبيه، أن أول من ضرب الدراهم مصعب بن الزبير عن أمر أخيه عبد الله بن الزبير سنة سبع على ضرب الأكاسرة وعليها بركة في جانب و "الله" في الجانب الآخر ثم غيرها الحجاج بعد سنة وكتب عليها باسم الله في جانب والحجاج في جانب. وقال أبو يعلى الفراء الأحكام السلطانية: (ص174) : (وأما الدرهم فيحتاج فيه إلى معرفة وزنه ونقده. فأما وزنه فقد استقر في الإسلام على أن وزن الدرهم ستة دوانيق وزن كل عشرة منها سبعة مثاقيل. وقد نص على هذا في الزكاة في رواية الميموني، وقد سأله عمن عنده شيء وزنه درهم أسود وشيئ وزنه دانقين - لعل صوابه دانقان - وهي تخرج في مواضع: ذا مع نقصانه على الوزن سواء. فقال: يجمعهما ثم يخرجهما على وزن سبعة. وقال في رواية بكر بن محمد، عن أبيه - وقد سأله عن الدراهم السود ـ، فقال: إذا حلت الزكاة عن شيئين من دراهمنا هذه أوجبت فيها الزكاة، فأخذ بالاحتياط، فأما الدية فأخاف عليه، وأعجبه في الزكاة أن يؤدي من ميئين من هذه الدراهم، وإن كان على رجل دية أن يعطي السود الوفاية. وقال: هذا كلام لا يحتمله العامة. وظاهر هذا أنه إنما اعتبر وزن سبعة في الزكاة والخراج محمول عليها، واعتبر في الدية أولى من ذلك، وقال في رواية المروزي - وذكر دراهم اليمن صغارًا في الدرهم منها "دانقين" ونصف، فقال: ترد إلى المثاقيل كيف تزكي هذه؟ فقد نص على اعتبار كل عشرة منها سبعة مثاقيل. واختلف في سبب استقرارها على هذا الوزن) . ثم ساق خلاصة لما ذكره البلاذوري والماوردي ونقلناه عنهما. وقال محمد حامد الفقي في تعليقه على كلام الفراء: قال العلامة تقي الدين أحمد المقريزي الشافعي في رسالته النقود الإسلامية القديمة. (طبع الآستانة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1467 اعلم أن النقود التي كانت بأيدي الناس على وجه الدهر على نوعين: السوداء الوافية، والطبرية العتق، وهما غالب ما كان البشري يتعاملون به، فالوافية - وهي البغلية - هي دراهم فارس الدرهم وزنه زنة المثقال الذهب والدراهم "الجواز" تنقص من العشرة ثلاثة، فكل سبعة "بغلية" عشرة بـ "الجواز"، وكان لهن أيضًا دراهم تسمى جوارقية، وكانت نقود العرب التي تدور بينها الذهب والفضة، لا غير، ترد إليها من الممالك دنانير الذهب قيصرية من قبل الروم، ودراهم فضة على نوعين: سوداء وافية، وطبرية عتق، وكان وزن الدراهم والدنانير في الجاهلية مثل وزنها في الإسلام مرتين، ويسمى المثقال من الفضة درهمًا، ومن الذهب دينارًا، ولم يكن شيء من ذلك يتعامل به أهل مكة في الجاهلية، وكانوا يتبايعون بأوزان اصطلحوا عليها فيما بينهم وهو الرطل الذي هو اثنتا عشرة أوقية (1) ، والأوقية هي أربعون درهمًا فيكون الرطل ثمانين وأربع مائة درهم. والنص: هو نصف الأوقية حولت صادة شيئًا فقيل "النش" (2) ، وهو عشرون درهمًا، والنواة وهي خمسة دراهم، والدرهم الطبري ثمانية دوانق، والدرهم البغلي" أربعة دوانق وقيل: بالعكس، و"الدرهم الجوارقي" أربعة دوانق ونصف، والدانق ثمانية حبات وخمسًا حبة من حبات الشعير المتوسطة التي لم تقشر وقد تقطع من طرفيها ما امتد، وكان الدينار يسمى لوزنه دينارًا وإنما هو تبر، ويسمى الدرهم - لوزنه - درهمًا وإنما هو تبر، وكانت زنة كل عشرة دراهم ستة مثاقيل، والمثقال زنة اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبة. وهو أيضًا زنة اثنتين وسبعين حبة شعير مما تقدم ذكره، وقيل: إن المثقال - منذ وضع - لم يخفف في جاهلية ولا إسلام، ويقال: إن الذي اخترع الوزن في الدهر الأول بدأه بوضع المثقال أولا فجعله ستين حبة زنة الحبة مائة من حب الخردل البري المعتدل، ثم ضرب صنجة (3) بزنة مائة من حب الخردل، وجعل بوزنها مع المائة حبة صنجة ثانية، ثم صنجة ثالثة حتى بلغ مجموع الصنج خمس صنجات، فكانت صنجة نصف سدس مثقال ثم أضعف وزنها حتى صارت ثلث مثقال، فركب منها نصف المثقال ثم مثقالا وعشرة، وفوق ذلك فعلى هذا تكون زنة المثقال الواحد ستة آلاف حبة. ولما بعث الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أقر أهل مكة على ذلك كله، وقال: الميزان ميزان أهل مكة (4) ،وفي رواية ميزان المدينة (5) .   (1) قال عياض في (المشارق: 1/59، 60، مادة أوق) : جرى في غير حديث في الزكاة والنكاح والكتابة والبيوع ذكر الأوقية والأواقي وأحدها مضموم الهمزة مشدد الياء في الواحد والجمع، كذا أكثر رواياتنا في الكتب مثل أضحية وأضاحي وكراسي وهو المعروف في كل كلام العرب وكثير من الرواة من شيوخنا يقول فيها في الجمع أواق وأضاح وجوار، وبعضهم يروي في الواحد وقية وكذا في كتاب القاضي الشهيد في موضع من كتاب مسلم، وفي كتاب البخاري من جميعهم في الشروط وخطأه البخاري وجوازه ثابت كما قالوا: أثاف. وحكي الجبائي في الواحد وقية قال: ويجمع وقايا مثل ضحية وضحيا وبعض الرواة بمد ألف أواق وهو خطأ وقال ابن الأثير في (النهاية: 1/80) : الأواقي جمع أوقية بضم الهمزة وتشديد الياء، والجمع يشدد ويخفف مثل أثفية وأثافي وأثاف، وربما يجئ في الحديث وقية وليست بالعالية، وهمزتها زائدة وكانت الأوقية قديمًا عبارة عن أربعين درهمًا وهي في غير الحديث نصف سدس الرطل وهوجزء من اثني عشر جزءًا وتختلف باختلاف اصطلاح البلاد. ونقل الأبي (شرح صحيح مسلم: 3/109) عن المازري قوله: الأواقي بتشديد الياء وتخفيفها جمع أوقية بضم الهمزة وتشديد الياء وتخفيفها أيضًا على أواق. ونقل عن عياض قوله: أنكر غير واحد أن يقال في الفرد وقية بفتح الواو. وحكى الجبائي أنه يقال: ويجمع على وقايا (2) راجع التعليق رقم (3) في الصفحة 1892 (3) الصنجة: الميزان بفتح فسكون ما يوضع في الميزان مقابل ما يوزن لمعرفة قدره وقد تنطق بالسين بدل الصاد، وهي فارسية الأصل (4) سيأتي تخريجهما في موضعه من البحث (5) سيأتي تخريجهما في موضعه من البحث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1468 وفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الأموال، فجعل في خمس أواق من الفضة الخالصة التي لم تغش خمسة دراهم، وهي النواة، وفرض في كل عشرين دينارًا نصف دينار كما هو المعروف من سنته في كتب الحديث (1) . قال: فلما استخلف أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عمل في ذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يغير منه شيئًا حتى إذا استخلف أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وفتح الله على يديه مصر والشام والعراق لم يعترض بشيء من النقود - لعل صوابه. يتعرض - بل أقرها على حالها، فلما كانت سنة ثماني عشرة من الهجرة،وهي السنة الثامنة من خلافته أتته الوفود منهم وفد البصرة وفيهم الأحنف بن قيس، فكلم عمر بن الخطاب في مصالح البصرة فبعث معقل بن يسار فاحتفر نهر معقل الذي قيل فيه - إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل - ووضع الجريب والدرهمين في الشهر - فضرب حينئذ عمر - رضي الله عنه - الدراهم على نقش الكسروية وشكلها بأعيانها غير أنه زاد في بعضها "الحمد لله"، وفي بعضها "محمد رسول الله"، وفي بعضها "لا إله إلا الله وحده"، وفي آخر مدة عمر وزن كل عشرة دراهم ستة مثاقيل، فلما بويع أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ضرب في خلافته دراهم نقشها "الله أكبر" فلما اجتمع الأمر لمعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - وجمع لزياد بن أبيه الكوفة والبصرة قال: يا أمير المؤمنين إن العبد الصالح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صغر الدرهم وكبر القفيز، وصارت به يومئذ ضريبة أرزاق الجند ورزق عليه الدرية طلبًا للإحسان إلى الرعية، فلو جعلت أنت عيارًا دون ذلك العيار ازدادت الرعية به رفقًا، ومضت لك به السنة الصالحة فضرب معاوية - رضي الله عنه - تلك الدراهم السود الناقصة من ستة دوانيق فتكون خمسة عشر قيراطًا تنقص حبة أو حبتين، وضرب منها زياد وجاء وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل وكتب عليها، فكانت تجرى مجرى الدراهم وضرب معاوية أيضًا دنانير عليها تمثال مقلد سيفًا فوقع منها دينار ردئ في يد شيخ من الجند، فجاء به معاوية، فقال: يا معاوية إنا وجدنا ضربك غير ضرب، فقال له معاوية: لأحرمنك حقك ولأكسونك القطيفة.   (1) أنظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1469 فلما قام عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهماـ ضرب دراهم مدورة وكان أول من ضرب الدراهم المستديرة وكافة ما ضرب منها قبل ذلك ممسوحًا غليظًا قصيرًا، فغيرها عبد الله ونقش على أحد وجهي الدرهم "محمد رسول الله"، وعلى الآخر "أمر الله بالوفاء والعدل" وضرب أخوه مصعب بن الزبير دراهم بالعراق وجعل كل عشرة منها سبعة مثاقيل وأعطاها الناس في العطاء حتى قدم الحجاج بن يوسف للعراق من قبل أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فقال: ما نبقى من سنة الفاسق أو المنافق شيئًا فغيرها، فلما استوثق الأمر لعبد الملك بن مروان بعد قتل عبد الله ومصعب ابني الزبير فحص عن النقود والأوزان والمكاييل وضرب الدنانير والدراهم في سنة ستة وسبعين من الهجرة. فجعل وزن الدينار اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبة بالشام، وجعل وزن الدرهم خمسة عشر قيراطًا سوى، والقيراط أربع حبات، وكل دانق قيراطين ونصفًا، وكتب إلى الحجاج وهو بالعراق أن أضربها قبلك فضربها وقدمت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها بقايا الصحابة - رضي الله عنهم - فلم ينكروا منها سوى نقشها، فإن فيه صورة، وكان سعيد بن المسيب - رحمه الله - يبيع بها ويشتري ولا يعيب من أمرها شيئًا. وجعل عبد الملك الذهب الذي ضربه دنانير على المثقال الشامي وهي المكيالة الوازنة المسألة - هكذا في النسخة المطبوعة والظاهر المماثلة - دينارين. وكان سبب ضرب عبد الملك الدنانير والدراهم كذلك، أن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان قال له: يا أمير المؤمنين إن العلماء من أهل الكتاب الأول يذكرون أنهم يجدون في كتبهم أن أطول الخلفاء عمرًا من قدس الله تعالى في درهمه فعزم على ذلك ووضع السكة الإسلامية. وقيل: إن عبد الملك كتب في صدر كتابه إلى ملك الروم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر التاريخ، فأنكر ملك الروم ذلك وقال: إن لم تتركوا هذا وإلا ذكرنا نبيكم في دنانيرنا بما تكرهون فعظم ذلك على عبد الملك واستشار الناس فأشار عليه خالد بن يزيد بضرب السكة وترك دنانيرهم. وكان الذي ضرب الدراهم رجلا يهوديًا من تيماء (1)   (1) بلد في أطراف الشام كان فيها حصن للسموأل فسميت تيماء اليهودي. هكذا يزعم ياقوت الحموي، لكن نرجح أن هذه التسمية كانت لأن اليهود استوطنوها أيام الزحف البابلي الأشوري على شبه الجزيرة، ولما وطئ النبي صلى الله عليه وسلم وادي القرى أرسلوا إليه وصالحوه على الجزية ولبثوا فيها حتى أجلاهم عمر - رضي الله عنه - حين أجلى اليهود من جزيرة العرب، وقد ورد ذكرها في شعر الجاهليين والإسلاميين من ذلك قول المجنون: ونبأتماني أن تيماء منزل لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا وهذه شهور الصيف عنها قد انقضت فما للنوى ترمي بليلى المراميا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1470 يقال له سمير، نسبت الدراهم إذ ذاك إليه، وقيل لها: الدراهم السميرية. وبعث عبد الملك بالسكة إلى الحجاج، فسيرها الحجاج إلى الآفاق لتضرب الدراهم بها، وتقدم إلى الأمصار كلها أن يكتب إليه منها في كل شهر بما يجتمع قبلهم من المال كي يحصيه عنده، وأن تضرب الدراهم في الآفاق على السكة الإسلامية وتحمل إليه أولا فأولا. وقدر في كل مائة درهم درهمًا عن ثمن الخطب وأجر الضرائب. ونقش على أحد وجهي الدرهم "قل هو الله أحد"، وعلى الآخر " لا إله إلا الله" وطوق الدرهم على وجهيه بطوق، وكتب في الطوق الواحد "ضرب هذا الدرهم بمدينة كذا"، وفي الطوق الآخر (محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) . وقيل: الذي نقش فيها: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} هو الحجاج. وكان الذي دعا عبد الملك إلى ذلك أنه نظر للأمة وقال: هذه الدراهم السود الوافية والطبرية العتق تبقى مع الدهر، وقد جاء في الزكاة أن في كل مائتين وفي كل خمس أواق خمسة دراهم، واتفق أن يجعلها كلها على مثال السود العظام مائتي عدد يكون قد نقص من الزكاة وإن عملها كلها على مثال الطبرية - ويحمل المعنى على أنها إذا بلغت مائتي عدد وجبت الزكاة فيها - فإن فيه حيفًا وشططًا على أرباب الأموال، فاتخذ منزلةً بين منزلتين يجمع فيها كمال للزكاة من غير بخس ولا إضرار بالناس، مع موافقة ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده من ذلك، وكان الناس قبل عبد الملك يؤتون زكاة أموالهم شطرين من الكبار والصغار، فلما اجتمعوا مع عبد الملك على ما عزم عليه عهد إلى درهم وافٍ وزنه، فإذا هو ثمانية دوانيق، وإلى درهم من الصغار، فإذا هو أربعة دوانيق فجمعها وكمل زيادة الأكبر على نقص الأصغر وجعلهما درهمين متساويين زنة كل منهما ستة دوانيق سوى، واعتبر المثقال أيضًا، فإذا هو لم يبرج في آباد الدهر موفى محدودًا كل عشرة دراهم منها ستة دوانيق فإنها سبعة مثاقيل سوى، فأقر ذلك وأمضاه من غير أن يعرض لتغييره، فكان فيما صنع عبد الملك في الدراهم ثلاث فضائل، الأولى: أن كل سبعة مثاقيل زنة عشرة دراهم، والثانية: أنه عدل بين صغارها وكبارها حتى اعتدلت وصار الدرهم ستة دوانيق، والثالثة: أنه موافق لما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في فريضة الزكاة من غير وكس ولا شطط فخصت بذلك السنة واجتمعت عليها الأمة. وضبط هذا الدرهم الشرعي المجمع عليه أنه - كما مر - زنة العشرة منه سبعة مثاقيل، وزنة الدرهم الواحد خمسون حبة وخمسًا حبة من الشعير الذي تقدم ذكره، ومن هذا الدرهم تركب الرطل والقدح، والصاع وما فوقه، وإنما جعلت العشرة من الدراهم الفضة بوزن سبعة مثاقيل من الذهب، لأن الذهب أوزن من الفضة وأثقل، فأخذت حبة فضة وحبة ذهب ووزنتا فرجحت حبة الذهب على حبة الفضة ثلاثة أسباع فجعل من أجل ذلك كل عشرة دراهم زنة سبعة مثاقيل، فإن ثلاثة أسباع الدرهم إذا أضيفت عليه بلغت مثقالا، والمثقال إذا نقص منه ثلاثة أعشار بقى درهمًا، وكل عشرة مثاقيل تزن أربعة عشر درهمًا وسبعًا درهم، فلما ركب الرطل جعل الدرهم منه ستين حبة، لكن كل عشرة دراهم تعدل زنة سبعة مثاقيل فتكون زنة الحبة سبعين حبة من حب الخردل، ومن ذلك تركب الدرهم فركب الرطل ومن الرطل تركب المد ومن المد تركب الصاع وما فوقه، وفي ذلك طرق حسابية مبرهنة بأشكال هندسية ليس هذا موضعها، وكان مما ضرب الحجاج الدراهم البيض ونقش عليها "قل هو الله أحد"، فقال القراء: قاتل الله الحجاج، أي شيء صنع للناس الآن بأخذه الجنب والحائض فكره ناس من القراء مسها وهم على غير طهارة، وقيل لها: المكروهة فعرفت بذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1471 ثم ذكر المقريزي مذهب مالك في أنه كان لا يرى بها بأسًا، وأن عمر بن عبد العزيز قبل له: هذه الدراهم البيض فيها كتاب الله يقبلها اليهودي والنصراني والجنب والحائض فإن رأيت أن تأمر بمحوها؟ فقال: أردت أن تحتج علينا الأمم إن غير توحيد ربنا واسم نبينا، ومات عبد الملك والأمر على ذلك، فلم يزل من بعده في خلافة الوليد، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم عمر بن عبد العزيز إلى أن استخلف يزيد بن عبد الملك فضرب الهبيرية بالعراق عمر بن هبيرة على عيار ستة دوانق، فلما قام هشام بن عبد الملك - وكان جموعًا للمال - أمر خالد بن عبد الله القسري لسنة ست ومائة من الهجرة أن يعيد العيار على وزن سبعة، وأن يبطل السكك من كل بلد إلا واسط، فضرب الدراهم بواسط فقط وكبر السكة فضربت الدراهم على السكك الخالدية حتى عزل خالد في سنة عشرين ومائة، وتولى من بعده يوسف بن عمر الثقفي فصغر السكة وأجراها على وزن ستة وضربها بواسط وحدها حتى قتل الوليد بن يزيد في سنة ست وعشرين ومائة، فلما استخلف مروان بن محمد الجعدي آخر خلائف بني أمية ضرب الدراهم بالجزيرة على السكة بحران إلى أن قتل وأتت دولة بني العباس. وقال الذهبي (سير أعلام النبلاء: 4/248، ترجمة 89) في ترجمته لعبد الملك بن مروان: قال مالك: أول من ضرب الدنانير عبد الملك، وكتب عليها القرآن. وقال القلقشندي في (مآثر الأناقة: 3/245) في معرض ذكر أوليات عبد الملك بن مروان: وهو أول من ضرب الدراهم في الإسلام، وكتب في أولها "قل هو الله أحد" سنة خمس وسبعين، وجعل كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل، فاستمر هذا الوزن إلى الآن، وإنما كان قبل ذلك الدراهم المشخصة ثم ضربها الحجاج ونقش عليها "الله أحد الله الصمد" ونهى أن يطبع أحد غيره فطبع سهير اليهودي دراهمه السهيرية - لعله هو الذي سماه البلاذوري سمير - من فضة خالصة، وجعل فيها ذهبًا فأمر الحجاج بقتله، فقال: انظر فإن لم تكن أجود من دراهمك فاقتلني فوجدها أجود منها، فأمر بقتله لجرأته على ضربها: قال فإني أعرض عليك أمرًا فإن رأيته أصلح للمسلمين من قتلي فأعفني. قال: هاته، فوضع الوزن وزن ألف وخمس مائة، وثلاث مائة، إلى وزن ربع قيراط فجعلها حديدًا ونقشها وجاء بها إلى الحجاج فأعجبه وعفى عنه. وكان الناس قبل ذلك يأخذون الدرهم الوازن فيزنون به غيره وأكثر ذلك يؤخذ عددًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1472 (5) النقد كما يتمثل في الحديث الشريف ألمعنا في الفصل السابق إلى أن النقد ليس جديدًا على العرب، وأنهم لم يتعاملوا به فحسب بل من فيهم من سك منه وحدات بعضها بنفس الاسمين المعروف بهما نقد العهد الإسلامي الأول وما بعده إلى قريب من هذا العصر. وذلك ما يقرر قاعدة هامة سنعود إلى بيانها بالتفصيل في فصل لاحق وهي أن الإسلام لم يأت ولا غيره من الشرائع التي سبقته - بالتغيير الجذري لطبيعة وأعراف الناس وإنما لتنظيمها وتكييفها بمعيار من إقرار العدل والقسط وتحقيق التطور في إطار من الالتزام بالعدل التزامًا يعصم جميع أطوار الإنسان معاشًا وحضارة من الانحراف، وآية ذلك ما نسوقه فيما يلي من أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها المتفق على صحته، ومنها ما حاول البعض الغمز فيه لكن يتقوى بشواهد تعضده ولا نريد أن نتقصى جميع الأحاديث الشريفة التي ورد فيها تحديد النقد فضة كان أو ذهبًا، إنما نسوق نماذج منها وقد نعمد إلى استقصاء طرق بعض ما غمزوا فيه لبيان أنها ليست معلولة كما يفهم من غمزهم إما بتعدد طرقها فيظاهر بعضها بعضًا أو بما لها من شواهد تعتضد بها. قال مالك في (الموطأ: ص 197،ح1) : 1 - عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أنه قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس فيما دون خمس ذود)) (1) صدقة وليس فيها دون خمس أواق (2) ، صدقة (3) . 2 - عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري ثم الكوفي، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق)) . (4) صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة (5)   (1) سيأتي تخريجه في موضعه من البحث أيضًا (2) راجع التعليق رقم (1) في الصفحة 1897 (3) أنظر فصل "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف (4) قال العيني في (عمدة القارئ: 8/257) : الورق والورق والرقة دراهم وربما سميت الورقة فضة والرقة الفضة والمال، وعن ابن الأعرابي: وقيل الفضة والذهب، وعن ثعلب: وجمع الورق أوراق، وجمع الرقة رقوق ورقون، ذكر ابن سيده في الجامع، أعطاه ألف درهم رقة يعني لا يخالطها شيء من المال غيرها، وفي الغريبين الورق والرقة الدراهم خاصة، أما الورق فهو المال كله. وقال أبو بكر" الرقة معناها في كلامهم الورق وجمعها رقات، وفي المغرب الورق بكسر الراء المضروب من الفضة، والورق من المال. ورد النووي على صاحب البيان في قوله: الرقة هي الذهب والفضة، وقال: هذا غلط فهو مردود عليه كما ذكرنا عن ابن الأعرابي (5) انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1473 وأخرج الشافعي (الأم: 2/42،43) : عن طريق مالك هذين الحديثين بلفظ مالك وسنده. وقال البخاري (الصحيح: 2/121) حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، قال: سمعت أبا سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)) . (1) حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثني ابن سعيد قال: أخبرني عمرو سمع أباه، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بهذا. ثم قال: (ص133) : حدثنا مسدد، حدثنا يحيى حدثني مالك، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه ـ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس فيما أقل من خمسة أوسق صدقة ولا في أقل من خمسة من الإبل صدقة، ولا في أقل من خمسة أواق من الورق صدقة)) . (2) وقال مسلم (الصحيح: 2/673، ح979) : حدثني عمرو بن محمد بن بكير الناقد، حدثنا سفيان بن عيينة، قال: سألت عمرو بن يحيى بن عمارة، فأخبرني عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمس أواق صدقة)) (3) حدثنا محمد بن رمح بن المهاجر أخبرنا الليث: وحدثني عمرو الناقد، حدثنا عبد الله بن إدريس كلاهما عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن يحيى بهذا الإسناد مثله.   (1) انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف (2) انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف (3) أنظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1474 حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن يحيى بن عمارة، عن أبيه يحيى بن عمارة، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بكفه بخمس أصابعه ثم ذكر بمثل حديث ابن عيينة (1) حدثني أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، حدثنا بشر - يعني ابن مفضل ـ، حدثنا عمارة بن غزية، عن يحيى بن عمارة، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة)) . (2) ثم قال: حدثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي ـ، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن محمد بن يحيى بن حيان، عن يحيى بن عمارة، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمس أواق صدقة)) . (3) وحدثني عبد بن حميد، حدثني يحيى بن آدم، حدثنا سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أمية بهذا الإسناد مثل حديث ابن مهدي. وحدثني محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري ومعمر، عن إسماعيل بن أمية بهذا الإسناد مثل حديث ابن مهدي ويحيى بن آدم غير أنه قال: بدل التمر ثمر. 980 - حدثنا هارون بن معروف وهارون بن سعيد الأيلي قالا: حدثنا ابن وهب، أخبرني عياض بن عبد الله، عن ابن الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ولا فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة ولا فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة)) . (4)   (1) انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف (2) انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف (3) انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف (4) انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1475 وروى عبد الرزاق (المصنف: 4/89، ح7077) : عن الحسن بن عمارة، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن على قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا على إني عفوت عن صدقة الخيل والرقيق فأما الإبل والبقر والشاة فلا ولكن هاتوا ربع العشر من كل مائتي درهم خمسة دراهم ومن كل عشرين دينار نصف دينار وليس في مائتي درهم شيء حتى يحول عليها الحول فإذا حال عليها الحول ففيها خمسة دراهم فما زاد ففي كل أربعين درهمًا درهم)) (1) . ورواه عبد الرزاق موقوفًا أيضًا فقال (المرجع السابق: ص 88، الأثر 7074) : عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن على قال: في مائتي درهم خمسة دراهم فما زاد فبحساب ذلك قال: قلت: ما قوله: فما زاد فبحساب ذلك؟ قال: يقول بعضهم: إذا زادت على المائتين فكانت زيادته أربعين درهمًا ففيها درهم وقال آخرون: فما زاد فبحساب ذلك إذا كانت عشرة ففيها ربع درهم. وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 3/117،118) : حدثنا ابن نمير عن الأعمش، عن ابن إسحاق، عن عاصم، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس في أقل من مائتي درهم شيء)) . (2) حدثنا يحيى بن آدم قال: حدثني عمار، عن زريق، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس في أقل من مائتي درهم شيء)) . (3) قلت: لم يأت ذكر للذهبي في هذا الحديث في الإسنادين معًا لكن ورد ذكره في رواية عن على موقوفًا عند ابن أبي شيبة قال (ص119) :   (1) انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف (2) انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف (3) انظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1476 حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن على قال: ليس في أقل من عشرين دينارًا شيء وفي عشرين دينارًا نصف دينار وفي أربعين دينارًا دينار فما زاد فبالحساب. قال الترمذي (الجامع الصحيح: 3/16، ح 620) : حدثنا محمد بن عبد الله الملك بن أبي الشوارب، حدثنا أبو عوانة، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن على قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة عن كل أربعين درهمًا درهمًا وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم)) (1) . وتعقبه بقوله: روى هذا الحديث الأعمش وأبو عوانة وغيرهما، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة عن علي. وروى سفيان الثوري وابن عيينة وغير واحد، عن أبي إسحاق، عن الحارث - يعني الأعور - عن علي. قال: وسألت محمدًا - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: كلاهما عندي صحيح، عن أبي إسحاق يحتمل أن يكون روى عنهما جميعًا. وأخرجه أبو داود في (سننه: 2/101، ح 1574) فقال: حدثنا عمرو بن عون، أخبرنا أبو عوانة عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن على عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وقد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهمًا درهمًا وليس في تسعين ومائتين شيء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم)) . (2) . وتعقبه بقوله: وروى هذا الحديث الأعمش، عن أبي إسحاق كما قال أبو عوانة ورواه شيبان أبو معاوية وإبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وروى حديث النفيلي شعبة وسفيان وغيرهما، عن أبي إسحاق، عن على لم يرفعوه، أوقفوه على علي. ورواه ابن حزم في (المحلى: 6/60) فقال في معرض كلامه عن الأصل في تحديد نصاب الذهب والخلاف في ذلك: فوجدنا من حدود في ذلك عشرين دينارًا احتج بما رويناه عن طريق ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم وآخر عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور، عن على، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر كلامًا وفيه: وليس عليك حتى يكون - يعني في الذهب - لك عشرون دينارًا، فإن كان لك عشرون دينارًا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار فما زاد فبحساب ذلك قال: لا أدري أعلي يقول بحساب ذلك أو رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ساق الحديث عن طريق عبد الرزاق وقد نقلناه آنفًا.   (1) أنظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف (2) أنظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1477 وغمز فيه ابن حزم بمغامز يدفعها أن غيره رواه من طرق ليس فيها بعضها. وأخرجه ابن ماجه في (سننه: 1/570، ح1790) : فقال: حدثنا علي بن محمد، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن على قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني قد عفوت عنكم عن صدقة الخيل والرقيق ولكن هاتوا ربع العش من كل أربعين درهمًا درهم)) (1) وروى ابن ماجه حديثًا آخر في تقدير نصاب الذهب فقال (نفس المرجع: ص 571، ح 1791) : حدثنا بكر بن خلف ومحمد بن يحيى قالا: حدثنا عبيد الله بن موسى، أنبأنا إبراهيم بن إسماعيل، عن عبد الله بن واقد، عن ابن عمر وعائشة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارًا فصاعدًا نصف دينار ومن الأربعين دينارًا دينارًا)) . (2) . لكن تعقبه الكتاني في (الزوائد: 1/316، ح 647) : بقوله: هذا إسناد فيه إبراهيم بن إسماعيل وهو ضعيف، رواه الدارقطني في سننه من هذا الوجه. ورواية الدارقطني التي أشار إليها الكتاني وردت في (السنن: 2/92) : ولفظه: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا عباس بن محمد. وحدثنا الحسين بن إسماعيل، حدثنا يوسف بن موسى، وحدثنا عمر بن أحمد الجوهري، حدثنا سعيد بن مسعود قالوا: حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن عبد الله بن واقد، عن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر وعائشة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارًا نصف دينار ومن الأربعين دينارًا دينارًا)) . (3) . وروى حديث علي مرفوعًا فقال: حدثنا الحسين بن إسماعيل، حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، حدثنا الحجاج بن ارطأة، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن على بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس في تسعين ومائة درهم زكاة إلا أن يشاء صاحبها وإذا تمت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم فإذا زادت فعلى نحو ذلك)) (4) .   (1) انظر فصل: " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف ". (2) أنظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف (3) أنظر فصل: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف (4) انظر "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1478 حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الكاتب، حدثنا جعفر بن محمد الصائغ، حدثنا إسحاق بن منذر أبو يعقوب، حدثنا أيوب بن جابر الجعفي، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهمًا درهمًا وليس فيما دون المائتين شيء فإذا كان مائتين ففيها خمسة دراهم فما زاد فعلى حساب ذلك)) . (1) . وروى أحمد في (مسنده الساعاتي الفتح الرباني: 8/238، ح45) حديث علي فقال: حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا أبو عوانة، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد عفوت لكم عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهمًا درهمًا وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم)) . (2) . حدثنا ابن نمير، حدثنا الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قد عفوت لكم عن الخيل والرقيق وليس فيما دون المائتين زكاة)) . (3) . وقال النسائي (السنن: 5/36، 37) أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي، عن حميد قال: حدثنا يحيى وهو ابن سعيد، عن عمرو بن يحيي، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس فيما دون خمسة أواق صدقة ولا فيما دون خمس ذود صدقة ولا فيما دون خمس أوسق صدقة)) . (4) . أخبرنا محمد بن سلمة قال: أنبأنا ابن القاسم، عن مالك قال: حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس فيما دون خمس أوسق من التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة)) . (5) . أخبرنا هارون بن عبد الله قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عبد الرحمن أبي صعصعة، عن يحيى بن عمارة وعباد بن تميم، عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا صدقة فيما دون خمس أوساق من التمر ولا فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ولا فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة)) (6)   (1) انظر "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف. (2) انظر "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف. (3) انظر "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف. (4) انظر "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف. (5) انظر "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف. (6) أنظر: "من أحكام اضطراب اعملة في الحديث الشريف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1479 أخبرنا أحمد بن منصور الطوسي قال: حدثنا يعقوب، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن يحيى بن حبان ومحمد بن أبي عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة وكانا ثقةً عن يحيى عن عمارة بن أبي الحسن وعباد بن تميم وكان ثقة، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس فيما دون خمس من الإبل صدقة وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)) . (1) أخبرنا محمود بن غيلان قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد عفوت عن الخيل والورق فأدوا زكاة أموالكم من كل مائتين خمسة)) . (2) وأخبرنا حسين بن منصور قال: حدثنا ابن نمير قال: حدثنا الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد عفوت عن الخيل والورق وليس فيما دون مائتين زكاة)) . وقال ابن زنجويه (الأموال: 3/910،1039، ح 1610، 1915) : أخبرنا علي بن الحسن، عن ابن المبارك، عن معمر، حدثني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس فيما دون خمسة أوساق صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة)) . (3) وأخرجه أحمد في (مسنده: 2/420) فقال: حدثني علي بن إسحاق قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا معمر قال: حدثني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة ولا فيما دون خمس ذود صدقة)) . (4)   (1) أنظر: "من أحكام اضطراب اعملة في الحديث الشريف. (2) أنظر: "من أحكام اضطراب اعملة في الحديث الشريف. (3) أنظر: "من أحكام اضطراب اعملة في الحديث الشريف. (4) أنظر: "من أحكام اضطراب اعملة في الحديث الشريف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1480 ثم قال (ص403) : حدثنا عتاب قال: حدثنا عبد الله قال: أخبرنا معمر قال: حدثني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس فيما دون خمسة أوساق صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة)) (1) . ويتجلى الارتباط الوثيق بين المكيال والميزان في العهد النبوي وما سبقه من عهود تعامل العرب بهما فيما نقلنا بعضه في الفصل السابق من تحديد المكاييل بوزنها من الدراهم، وفيما جاء هنالك وما سيأتي بعد من تحديد ميزان الدرهم وغيره من القطع النقدية المتداولة حينئذ بعدد حبات الشعير المتوسطة المقطوعة الجوانب مما يثبت علاقة كل منهما بالآخر حتى ليتعذر التأكد من أيهما كان أسبق. ويتراءى لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه - والله أعلم - ضبط المكاييل على أساس من الموازين في الحديث الذي سنورده بعد قليل من عدة طرق وقرينتنا في ذلك ما رواه الطبري في (ج10 من تفسيره جامع البيان: ص 58) في تفسير سورة المطففين - فقال: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله عز وجل: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل) . وهذا الذي رواه الطبري وغيره من حال الكيل في المدينة قبل نزول سورة المطففين يوضح لماذا قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي سنورده من طرق مختلفة ضبط المكيال وضبط الميزان في حديث واحد كما أنه من مرجحات الرواية التي ورد فيها المكيال مكيال المدينة عن تلك التي جاء فيها المكيال مكيال أهل مكة. وها هو الحديث من عدة طرق:   (1) أنظر "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1481 قال عبد الرزاق (المصنف: 8/67، ح 14335) : أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المكيال على مكيال أهل مكة والوزن عي وزن أهل المدينة)) . (1) 14336 - أخبرنا معمر، عن أيوب، عن عطاء بن أبي رباح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المكيال مكيال أهل المدينة والميزان ميزان أهل مكة)) . (2) 14337 - عن الثوري، عن رجل، عن عطاء مثله. وقال أبو عبيد (الأموال: ص 696، الأثر 1606) "بتصرف": سمعت إسماعيل بن عمرو الواسطي يحدث عن سفيان، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن طاوس، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة)) . وبعضهم يرويه: ((الميزان ميزان المدينة والمكيال مكيال مكة)) (3) وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان علاء الدين الفارسي: 5/119، 120، ح3272) : أخبرنا عمر بن محمد الهمذاني، حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان، عن حنظلة عن أبي سفيان، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الوزن وزن مكة والمكيال مكيال أهل المدينة)) (4) 3273 - أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا محمد بن يحيى الذهلي، حدثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري. قال ابن خزيمة: وحدثنا محمد بن عبد الله الهاشمي، حدثنا أبو مروان العثماني حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: يا رسول الله صاعنا أصغر الصيعان ومدنا أصغر الأمداد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بارك لنا في صاعنا وبارك لنا في قليلنا وكثيرنا واجعل لنا مع البركة بركتين)) (5)   (1) أنظر: "من أحكام اضطراب اعملة في الحديث الشريف. (2) أنظر: "من أحكام اضطراب اعملة في الحديث الشريف. (3) أنظر: "من أحكام اضطراب العملةفي الحديث الشريف (4) أنظر: "من أحكام اضطراب اعملة في الحديث الشريف. (5) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من طرق مختلفة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، وعن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس، وعن عباد بن تميم، عن عبد الله بن يزيد، انظر المزي (تحفة الأشراف: 1/89، 294،295، و4/339، و12/124) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1482 وتعقبه بقوله: في ترك إنكار المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: صاعنا أصغر الصيعان بيان واضح أن صاع أهل المدينة أصغر الصيعان ولم يختلف أهل العلم من لدن الصحابة إلى يومنا هذا في الصاع وقدره إلا ما قاله الحجازيون والعراقيون فزعم الحجازيون أن الصاع خمسة أرطال وثلث. وقال العراقيون: الصاع ثمانية أرطال فلما لم نجد بين أهل العلم خلافًا في قدر الصاع إلا ما وصفنا صح أن صاع النبي صلى الله عليه وسلم كان خمسة أرطال وثلث إذ هو أصغر الصيعان وبطل قول مَنْ زعم أن الصاع ثمانية أرطال من غير دليل ثبت له على صحته. وقال أبو داود (السنن: 3/246، ح 3340) : حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا ابن دكين، حدثنا سفيان، عن حنظلة، عن طاوس عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة)) (1) وتعقبه بقوله: وكذا رواه الفريابي وأبو أحمد، عن سفيان وافقهما في المتن، وقال أبو أحمد، عن ابن عباس مكان ابن عمر ورواه الوليد بن مسلم، عن حنظلة قال:- وزن المدينة ومكيال مكة. قال أبو داود: واختلف في المتن في حديث مالك بن دينار، عن عطاء، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا. وقال النسائي (السنن: 5/549:) قال أبو عبيد وحدثنيه زياد بن أيوب، أخبرنا أحمد بن سليمان قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان عن حنظلة، عن طاوس، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المكيال مكيال أهل المدينة والوزن وزن مكة)) (2) ثم قال (نفس المرجع: 7/284) : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، عن الملائي عن سفيان.   (1) أنظر "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف (2) أنظر: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1483 وأنبأنا محمد بن إبراهيم قال: أنبأنا أبو نعيم، عن سفيان، عن حنظلة، عن طاوس، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المكيال على مكيال أهل المدينة والوزن على وزن أهل مكة)) واللفظ لإسحاق. (1) وأخرجه البيهقي في (السنن الكبرى: 6/31) فقال: أخبرنا أبو الحسن بن عبدان أنبأ سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، حدثنا على بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن طاوس، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المكيال مكيال أهل المدينة والوزن وزن أهل مكة)) . (2) أخبرنا علي , أنبأنا سليمان بن حنبل , حدثنا نصر بن علي أخبرنا سليمان بن محمد بن الوليد الترسي، حدثنا عمرو بن على قالا: حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان، عن حنظلة، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((المكيال مكيال أهل مكة والميزان ميزان أهل المدينة)) . قال سليمان: هكذا رواه أبو أحمد قال: عن ابن عباس فخالف أبا نعيم في لفظ الحديث والصواب ما رواه أبو نعيم بالإسناد واللفظ. قلت: لسنا بصدد تحرير أي الروايتين أصح فليس هذا من شأننا في هذا المجال لكن نلاحظ أن المدينة أشهر بالزراعة فهي الأكثر استعمالا للكيل والأولى بأن يكون مكيالها هو المعتمد وأن مكة أشهر بالتجارة ولا علاقة لها بالزراعة فهي أولى بأن يعتمد ميزانها ولئن كانت التجارة بحاجة إلى استعمال الكيل فهي إلى استعمال الوزن أحوج ثم إن تجارة أهل مكة غالبًا ما تكون في الأشياء غير المكيلة كالثياب والبز وما إليها والتعامل فيها بالنقد وليس بالمقايضة. أما تجارة أهل المدينة - وهي قليلة بالمقارنة مع تجارة أهل مكة - ففيها تصدير المنتجات الزراعية للمدينة وما حولها لاسيما التمر مما يحتمل أن تكون المقايضة من طرائقها كما قد يكون من طرائقها بيع صادراتها بالنقد وهو أمر يحتاج إلى استعمال الكيل ثم شراء ما تستورده بالنقد وهذا قد لا يكون بحاجة إلى استعمال الكيل. ثم إن الدرهم الذي استقر عليه العمل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقع سك النقود على أساسه فهو في أرجح الروايات ذلك الذي كان شائع الاستعمال في مكة فترجح لدينا بكل هذا أن رواية الميزان ميزان أهل.. الحديث. هي الأرجح والأقرب إلى التعبير عن الواقع التجاري والمالي في العهد النبوي الشريف. على أن تحديد الصاع والمد كان يعتمد على الميزان ربما كان اعتماده عليه بمقارنته معه حين احتاج الأمر إلى اعتماد معيار لكل منهما وقد تقدم شيء من ذلك في الفصل السابق، ونورد هنا بعض ما جاء عن مد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ربع الصاع في أرجح الروايات.   (1) أنظر: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف" (2) أنظر: "من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1484 قال عبد الرزاق (المرجع السابق: ص 67، 68، ح 14339) : أخبرنا معمر قال: رأيت مد النبي صلى الله عليه وسلم عند إسماعيل بن أمية أحسبه رطلًا ونصفًا ولا أعلمني إلا قد عيرته فوجدت ثلاثة أرباع من الربع. (1) ثم قال (14341) عن الثوري، عن سماك بن حرب، عن سويد بن قيس: (جلبت أنا ومخرقة العبدي بزًّا من هاجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ " منى " فساومنا بسراويل فابتاعها منا) . وقال البخاري (الصحيح: 3/22) : حدثنا وهيب، حدثنا عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم الأنصاري، عن عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة)) (2) حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في صاعهم ومدهم)) (3) ثم قال (نفس المرجع: 7/237) : حدنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا القاسم بن مالك المزني، حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن، عن السائب بن يزيد قال: كان الصاع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مدًا وثلثًا بمدكم اليوم فزيد فيه في عهد عمر بن عبد العزيز (4) حدثنا منذر بن الوليد الجارود، حدثنا أبو قتيبة - وهو سلم - حدثنا مالك، عن نافع، قال: كان ابن عمر يعطي زكاة رمضان بمد النبي صلى الله عليه وسلم المد الأول في كفارة اليمين بمد النبي صلى الله عليه وسلم: قال أبو قتيبة: قال لنا مالك: مدّنا أعظم من مدّكم ولا نرى الفضل إلا في مدّ النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لي مالك: لو جاءكم أمير فضرب مدًّا أصغر من مدّ النبي صلى الله عليه وسلم بأي شيء كنتم تعطون؟ قلت: كنا نعطي بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفلا ترون أن الأمر إذن يعود إلى مدّ النبي صلى الله عليه وسلم؟ حدثنا عبيد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم بارك لهم في صاعهم ومكيالهم ومدهم)) .   (1) العبارة غير واضحة , ولعل فيها خطأ أو خللا فلتحرر (2) انظر التعليق رقم (2) في الصفحة 1912. (3) أنظر التعليق رقم (2) في الصفحة 1912 (4) أخرجه البخاري أيضًا. انظر المزي (تحفة الأشراف: 3/) 258 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1485 وقال النسائي (السنن: 5/54) : أخبرنا عمر بن زرارة قال: أنبأنا القاسم وهو ابن مالك، عن الجعد، سمعت السائب بن يزيد قال: كان الصاع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مدًا وثلثًا بمدكم اليوم وقد زيد فيه. (1) ويتحصل من كل ما سبق أن ضبط معيار النقد إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ما ذكره الإخباريون وفقهاء السياسة مما نقلناه في الفصل السابق وما ذكره فقهاء التشريع مما سنذكر طائفة منه في الفصل الآتي عن ضبط موازين النقد وعمن ضبطه ومتى وقع إنما ينحصر بتاريخ صياغة النقد المسكوك طبقًا لما ضبطه رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما أساس الضبط فهو سنة نبوية وليس اجتهادًا من الصحابة أو التابعين والذي ذكر عن جمع عمر - رضي الله عنه - درهمًا أو فى ودرهمًا أنقص ودرهمًا وسطًا وسكه درهمًا من مجموعها مقسومًا على ثلاثة فإنما هو بيان من عمر - رضي الله عنه - لمعنى ضبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ميزان الدراهم إذ يبعد أن يكون عمر غير مستحضر لما ضبطه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضع معياره للدرهم المسكوك. (6) النقد كما تصوره فقهاء التشريع واللغة قال الفراء في (معاني القرآن: 2/40) في قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [الآية (20) من سورة يوسف] . وإنما قيل معدودة ليستدل به على القلة لأنهم كانوا لا يزنون الدرهم حتى تبلغ أوقية والأوقية كانت وزن أربعين درهمًا. وقال ابن حجر (الفتح: 3/245،246) : وقال عياض: قال أبو عبيد: إن الدرهم لم يكن معلوم القدر حتى جاء عبد الملك بن مروان فجمع العلماء فجعلوا كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، قال: وهذا يلزم منه أن يكون صلى الله عليه وسلم أحال بنصاب الزكاة على أمر مجهول وهو مشق، والصواب أن معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن شيء منها من ضرب الإسلام وكانت مختلفة الوزن بالنسبة إلى العدد فعشرة مثلًا وزن عشرة ووزن ثمانية فاتفق الرأي على أن ينقش بكتابة عربية ويصير وزنها وزنًا واحدا، وقال غيره: لم يتغير المثقال في جاهلية ولا إسلام وأما الدرهم فأجمعوا على أن كل سبعة مثاقيل عشرة دراهم، ولم يخالف في أن نصاب الزكاة مائة درهم يبلغ مائة وأربعين مثقالًا من الفضة الخالصة إلا ابن حبيب الأندلسي فقد انفرد بقوله: إن أهل كل بلد يتعاملون بدراهم. وذكر ابن عبد البر اختلافًا في الوزن بالنسبة إلى دراهم الأندلس وغيرهم من دراهم البلاد، وكذا خرق المريسي بالإجماع (2) ، فاعتبر النصاب العدد لا الوزن، وانفرد السرخسي من الشافعية (3) بحكاية وجه في المذهب أن الدراهم المغشوشة إذا بلغت قدرًا لو ضم إليه قيمة الغش من نحاس لبلغ نصابًا فإن الزكاة تجب فيه، كما نقل عن أبي حنيفة.   (1) أخرجه البخاري أيضًا. انظر المزي (تحفة الأشراف: 3/) 258 (2) لم أقف على قول أبي عبيد هذا في مظانه من كتاب "الأموال" (3) هذا وهم من الحافظ أو خطأ من الناسخ أو الطابع، فالذي نعلمه أن شمس الدين السرخسي من أئمة الحنفية، وهو شارح المبسوط لمحمد بن الحسن الشيباني، وهذا الشرح مشهور متداول وهو من أنفس التراث في الفقه الحنفي إن لم يكن خيرها على الإطلاق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1486 وقال العيني في (عمدة القاري 8/256) : وهي جمع أوقية - بضم الهمزة وتشديد الياء - ويجمع على أواقيّ - بتشديد الياء وتخفيفها - وأواق - بحذفها - قال ابن السكيت في (الإصلاح) : كل ما كان في هذا النوع واحدة مشدد جاز في جمعه التشديد والتخفيف كالأوقية والأواقي، والسرية والسراري، والبختية والعلية والأثفية ونظارها، وأنكر الجمهور أن يقال في الواحدة: وقية بحذف الهمزة، وحكى الجبائي جوازها بفتح الواو وتشديد الياء وجمعها وقايا مثل ضحية وضحايا. ثم قال (ص257) : وأجمع أهل الحديث والفقه وأئمة اللغة على أن الأوقية الشرعية أربعون درهمًا وهي أوقية الحجاز، وقال القاضي عياض: لا يصح أن تكون الأوقية والدرهم مجهولة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوجب الزكاة على أعداد منها وتقع بها البيانات والأنكحة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، وهذا يبين أن قول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة في زمان عبد الملك بن مروان وأنه جمعها برأي العلماء كل عشرة سبعة مثاقيل ووزن الدرهم ستة دوانيق قول باطل وإنما معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن منها شيء من ضرب الإسلام وعلى صفة لا تختلف، بل كانت مجموعات من ضرب فارس والروم صغارًا وكبارًا وقطع فضة غير مضروبة ولا منقوشة ويمنية ومغربية، فرأوا صرفها إلى ضرب الإسلام ونقشه وتصييرها وزنًا واحدًا لا يختلف وأعيانًا يستغنى فيها عن الموازن فجمعوا أكبرها وأصغرها وضربوه على وزنهم. قال القاضي: ولاشك أن الدراهم كانت حينئذ معلومة وإلا فكيف كان يتعلق بها حقوق الله في الزكاة وغيرها وحقوق العباد، وهذا كما كانت الأوقية معلومة. ثم قال: وذكر في كتب أصحابنا - يعني الحنفية - أن الدراهم كانت في الابتداء على ثلاثة أصناف: صنف منها كل عشرة منه عشرة مثاقيل كل درهم مثقال، وصنف منها كل عشرة منه ستة مثاقيل كل درهم ثلاثة أخماس مثقال، وصنف منها كل عشرة منه خمسة مثاقيل كل درهم نصف مثقال. وكان الناس يتصرفون فيها ويتعاملون بها فيما بينهم إلى أن استخلف عمر - رضي الله عنه - فأراد أن يستخرج الخراج بالأكبر، فالتمسوا منه التخفيف، فجمع حساب زمانه ليتوسطوا ويوفقوا بين الدراهم كلها وبين ما رامه عمر - رضي الله عنه - وبين ما رامه الرعية، فاستخرجوا له وزن السبعة بأن أخذوا من كل صنف ثلثه فيكون المجموع سبعة. وفي الذخيرة للقرافي أن الدرهم المصري أربعة وستون حبة، وهو أكبر من درهم الزكاة فإذا أسقطت الزائدة كان النصاب من دراهم - يظهر أنه سقطت كلمة مصر مضافة إلى دراهم، إذ بإثباتها تستقيم العبارة - مائة وثمانين درهم وحبتين وفي فتاوى الفضل تعتبر دنانير كل بلد ودراهمهم. ثم قال (ص258) : وزعم المرغيناني أن الدرهم كان شبه النواة ودُوِّر في عهد عمر - رضي الله عنه تعالى - فكتبوا عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم زاد ناصر الدولة ابن حمدان: "صلى الله عليه وسلم،" فكانت منقبة لآل حمدان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1487 وفي كتاب المكاييل، عن الواقدي، عن معبد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن سابط قال: كان لقريش أوزان في الجاهلية فلما جاء الإسلام أقرت على ما كانت عليه الأوقية أربعون درهمًا والرطل اثنا عشر أوقية فتلك أربعة مائة وثمانون درهمًا وكان لهم النش وهو عشرون درهمًا والنواة وهي خمسة دراهم وكان المثقال اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبة وكانت العشرة دراهم وزنها سبعة مثاقيل والدرهم خمسة عشر قيراطًا فلما قدم سيدنا صلى الله عليه وسلم كان يسمي الدينار لوزنه دينارًا وإنما هو تبر ويسمي الدرهم لوزنه درهمًا وإنما هو تبر فأقرت موازين المدينة على هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الميزان ميزان أهل المدينة)) راجع التعليق: (31) ، وعند الدارقطني بسند فيه زيد بن أبي أنيسة، عن أبي الزبير، عن جابر يرفعه " الوقية " أربعون درهمًا. (1) وقال أبو عمر: وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الدينار أربعة وعشرون قيراطًا)) . (2) . قال أبو عمر: هذا وإن لم يصح سنده ففي قول جماعة العلماء واجتماع الناس على معناه ما يغني عن الإسناد فيه.   (1) لا أدري ماذا يريد العيني ملاحظته في قوله , وفيه زيد بن أنيسة لأن زيدا أخرج له الجماعة وكان كثير الحديث فقيها راويا للعلم. ابن حجر (تهذيب التهذيب: 3/397, وترجمة 729) (2) لم نقف على الحديث في مظانه من المدونات والمعاجم والمسانيد ولا في الأجزاء المطبوعة من التمهيد لابن عبد البر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1488 قال الأبي في (شرح صحيح مسلم: 3/110) : ـ بعد أن ساق كلام أبي عبيد وعياض في وزن الأوقية والدرهم. فإذا كانت الأوقية أربعين درهمًا فالنصاب من الفضة مائة درهم شرعية ووزن الدرهم الشرعي خمسون حبة شعير وخمسًا حبة. ثم ساق كلام ابن حزم الذي نقلناه سابقًا عن المحلي حول تحقيقه لوزن الدرهم. ثم قال: وتبعه في ذلك عبد الحق وابن شاس وابن الحاجب وخطأهم في ذلك العزفي وشيخنا أبو عبد الله - يعني ابن عرفة - ومعرفة قدر نصاب الفضة من درهم كل بلد أن تضرب المائتين عدد النصاب الشرعي في عدد حبات الدرهم الشرعي وتقسيم الخارج وهو عشرة آلاف وثمانون حبة على عدد حبات الدرهم المجهول النصاب منه والخارج هو النصاب من دراهم ذلك البلد فالنصاب من الدرهم التونسي المسمى بالجديد - على ما اختاره بعض محققي المقادير بتونس سنة 686هـ - ثلاث مائة درهم وستة وثمانون درهمًا وستة أجزاء من ثلاثة عشرة جزءًا من درهم وهو - على ما اختبره شيخنا أبو عبد الله سنة ستين وسبعمائة - أربع مائة درهم وعشرون درهمًا وموجب الاختلاف بين هذين النقدين اختلاف عدد حبات الدرهم في التاريخين فقال الأول: وجدته ستة وعشرين من حبات الشعير الوسط المقطوع الذنب. وقال شيخنا: وجدت أربعة وعشرين. ونقل عن عياض قوله: ولم يذكر في الحديث نصاب الذهب لأن غالب تصرفهم كان من فضة والنصاب منه عشرون دينارًا والمعول على تحديده بذلك الإجماع وجاءت في تحديده بالعشرين أحاديث ضعيفة (1) ،ولكن المعول عليه الإجماع كما ذكرنا وشذ الحسن والزهري وقالا: لا زكاة في أقل من أربعين دينارًا (2) والمشهور عنهما تحديده بالعشرين.   (1) يغفر الله لعياض فالأحاديث الواردة في هذا الشأن ليست كلها ضعيفة، وقد سقنا بعضًا منها في فصل النقد كما يتمثل في الحديث الشريف مما أخرجه ابن أبي شيبة (موقوفًا عن علي) وابن ماجه والدارقطني وابن حزم مرفوعًا وغيره من رواة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم، وإذا أمكن بعض الشك في شيء مماأخرجه ابن ماجه أو الدارقطني فإن ما أخرجه ابن حزم يصعب الارتياب فيه لشدة تحرجه غالبًا، ونقول غالبًا لأننا لا نزكي على الله أحدًا وما من بشر معصوم من الخطأ" (2) وأخذ به بعض فقهاء بعض المذاهب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1489 وقال بعض السلف: إذا كانت قيمة الذهب مائة درهم ففيها الزكاة وإن لم تبلغ العشرين دينارًا قال: ولا زكاة في العشرين إلا أن تكون قيمتها مائتي درهم. قلت: القائل الأبي - ووزن الدينار الشرعي اثنان وسبعون حبة. ثم ساق كلام ابن حزم في وزنه وقد نقلناه من المحلى في الفصل السابق. ثم قال: قال العزفي: وذلك خلاف الإجماع ومعرفة نصاب الذهب من دينار كل بلد أن تضرب العشرين عدد النصاب الشرعي في عدد حبات الشرعي وتقسيم الخارج وذلك ألف وأربعمائة وأربعون على عدد حبات الدينار مجهول النصاب منه والخارج عدد نصاب دينار البلد المجهول النصاب منه فنصاب الذهب من الدينار التونسي على ما اختاره الأول ثمانية عشر وعلى ما أختبره شيخنا سبعة عشر وتسعة وعشرون جزءًا من ثلاثة وثمانين جزءا. وقال السرخسي (المبسوط: 18/4) : وأصل المسألة أن الأوزان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - كانت مختلفة، فمنها ما كان الدرهم عشرين قيراطًا ومنها ما كان عشرة قراريط وهو الذي يسمى وزن خمسة ومنها ما كان اثني عشر قيراطًا وهو الذي يسمى وزن ستة. فلما كان في زمن عمر طلبوا منه أن يجمع الناس على نقد واحد فأخذ من كل نوع من الأنواع الثلاثة درهمًا وكان الكل اثنين وأربعين درهمًا وأمر أن يضرب من ذلك ثلاثة دراهم متساوية فكل درهم أربعة عشر قيراطًا وهو وزن سبعة التي جمع عمر - رضي الله عنه - عليها الناس وبقي كذلك إلى يومنا هذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1490 وقال ابن رشد في (البيان والتحصيل: 2/402) : لا اختلاف بين أهل العلم في أن النصاب من الورق خمس أواق وهي مائتا درهم "كيلا" - هكذا في النسخة المطبوعة، ولم يعلق عليه المحققون بشيء، وهذا التعبير يحيك في النفس ولعل صوابه: "كملا" لأن كلمة "كيلا" لا تستعمل في الذهب في اصطلاح الفقهاء - تجئ بوزن زماننا مائتي درهم وثمانين درهمًا فإن نقصت من ذلك نقصانًا بينًا تتفق عليه الموازين لم تجب فيه الزكاة إلا أن يجري عددًا وهي تجوز بجواز الوازنة فتجب فيها الزكاة وإن كان النقصان كثيرًا وهو ظاهر ما في الموطأ. ثم قال: وأما إن كانت لا تجوز بجواز "الكيل" فلا تجب فيها الزكاة وإن كان النقصان يسيرًا قول واحد. وقال ابن قدامة في (المغنى: 3،2، 6) : والدراهم التي يعتبر بها النصاب هي الدراهم التي كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل بمثقال الذهب وكل درهم نصف مثقال وخمسة، وهي الدراهم الإسلامية التي تقدر بها نصب الزكاة ومقدار الجزية والديات ونصاب القطع في السرقة وغير ذلك. وكانت الدراهم في صدر الإسلام سوداء وطبرية وكانت السود ثمانية دوانيق والطبرية أربعة دوانيق، فجُمِعا في الإسلام وجُعِلا درهمين متساويين في كل درهم ستة دواني، فعلى ذلك بنو أمية فاجتمعت فيها ثلاثة أوجه: أحدها أن كل عشرة وزن سبعة، والثاني أنه عدل بين الصغير والكبير، والثالث أنه موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرهمه الذي قدر به المقادير الشرعية، ولا فرق في ذلك بين التبر والمضروب ومتى نقص النصاب من ذلك فلا زكاة فيه سواء كان كثيرًا أو يسيرًا. هذا ظاهر كلام الخرقي ومذهب الشافعي وإسحاق وابن المنذر لظاهر قوله عليه السلام: ((ليس فيما دون خمس أواق صدقة)) . والأوقية أربعون درهمًا بدون خلاف فيكون ذلك مائتي درهم. وقال غير الخرقي من أصحابنا - يعني الحنابلة -: إذا كان النقص يسيرًا كالحبة والحبتين وجبت الزكاة لأنه لا يضبط غالبًا فهو كنقص الحول ساعة أو ساعتين وإن كان نقصًا بينًا الدانق والدانقين فلا زكاة فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1491 وعن أحمد أن نصاب الذهب إذا نقص ثلث مثقال زكاة - هكذا في النسخة المطبوعة ولعل صوابه: أن في نصاب الذهب.. إلخ - وهو قول عمر بن العزيز وسفيان وإن نقص نصفًا لا زكاة فيه. وقال أحمد في موضع آخر: إن نقص ثمنًا لا زكاة فيه اختاره أبو بكر. وقال مالك: إذا نقص نقصًا يسيرًا يجوز جواز الوازنة وجبت الزكاة لأنها تجوز جواز الوازنة أشبهت الوازنة - هكذا في النسخة المطبوعة ولعل صوابه: فأشبهت الوازنة. ثم قال: ولو كان له نصاب من أحدهما - أي من الذهب أو الفضة - وأقل من نصاب من الآخر فقد توقف أحمد عن ضم أحدهما إلى الآخر في رواية الأثرم وجماعة، وقطع في رواية حنبل أنه لا زكاة عليه حتى يبلغ كل واحد منهما نصابًا، وذكر الخرقي: فيه روايتان في الباب قبله إحداهما لا يضم وهو قول ابن أبي ليلي والحسن بن صالح وشريك والشافعي وأبي عبيد وأبي ثور واختاره أبو بكر عبد العزيز لقوله عليه السلام: ليس فيما دون خمس أواق صدقة. ولأنهما مالان يختلف نصابهما فلا يضم أحدهما إلى الآخر كأجناس الماشية. والثانية يضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب وهو قول الحسن وقتادة ومالك والأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي لأن أحدهما يضم إلى ما يضم إليه الآخر فيضم إلى الآخر كأنواع الجنس، ولأن نفعهما واحد والأصول فيهما متحدة فإنهما قيم المتلفات وأروش الجنايات وأثمان البياعات وحلي لمن يريدهما لذلك فأشبه النوعين والحديث مخصوص بعرض التجارة فنقيس عليه. فإذا قلنا بالضم فإن أحدهما يضم إلى الآخر، يعني كل واحد منهما يحتسب بنصابه فإذا كملت أجزاؤهما نصابًا وجبت الزكاة مثل أن يكون عنده نصف نصاب من أحدهما ونصف نصاب أو أكثر من الآخر أو ثلث من أحدهما وثلثان أو أكثر من الآخر، فلو ملك مائة درهم وعشرة دنانير أو مائة وخمسين درهمًا وخمسة دنانير أو مائة وعشرين درهمًا وثمانية دنانير وجبت الزكاة فيهما وإن نقصت أجزاؤهما عن نصاب فلا زكاة فيهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1492 سئل أحمد عن رجل عنده ثمانية دنانير ومائة درهم فقال: إنما قال من قال: فيها الزكاة إذا كان عنده عشرة دنانير ومائة درهم وهذا قول مالك وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي، لأن كل واحد منهما لا تعتبر قيمته في وجوب الزكاة إذا كان منفردًا فلا تعتبر إذا كان عنده عشرة دراهم مضمومة كالحبوب والثمار وأنواع الأجناس كلها. قال أبو الخطاب ظاهر كلام أحمد رواية المروزي أنها تضم بالأحوط من الأجزاء والقيمة ومعناه أنه يقوم الغالي منها بقيمة الرخيص فإذا بلغت قيمة الرخيص منهما نصابًا وجبت الزكاة فيهما، فلو ملك مائة درهم وسبعة دنانير قيمتها مائة درهم أو عشرة دنانير وسبعين درهمًا قيمتها عشرة دنانير وجبت الزكاة فيها، وهذا قول أبي حنيفة في تقويم الدنانير بالفضة لأن كل نصاب وجب فيه ضم الذهب إلى الفضة ضم بالقيمة كنصاب قطع السرقة لأن أصل الضم لتحصيل حظ الفقراء فكذلك صفة الضم. والأول أصح لأن الأثمان تجب الزكاة في أعيانها فلا تعتبر قيمتها كما لو أفردت ويخالف نصاب القطع، فإن نصاب القطع فيه الورق خاصةً في إحدى الروايتين وفي الأخرى أنه لا يجب في الذهب حتى يبلغ ربع دينار ثم قال في نصاب الذهب: وأجمعوا على أنه إذا كان أقل من عشرين مثقالًا ولا يبلغ مائتي درهم فلا زكاة فيه، وقال عامة الفقهاء: نصاب الذهب عشرون مقالًا من غير اعتبار قيمتها إلا ما حكى عن عطاء وطاوس والزهري وسليمان بن حرب وأيوب السختياني أنهم قالوا: هو معتبر بالفضة فما كانت قيمته مائتي درهم ففيه الزكاة وإلا فلا، لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تقدير في نصابه فثبت أنه حمله على الفضة. ولنا ما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ليس في أقل من عشرين مثقالًا من الذهب، ولا في أقل من مائتي درهم صدقة)) . رواه أبو عبيد (1) وروى ابن ماجه عن عمر وعائشة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارًا نصف دينار ومن الأربعين، دينارًا)) . وروى سعيد والأثرم عن على في كل أربعين دينارًا دينار وفي كل عشرين دينارًا نصف دينار. ورواه غيرهما مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم (2) ، ولأنه مال تجب الزكاة في عينه فلا يعتبر في غيره كسائر الأموال الزكوية.   (1) أنظر الأموال لأبي عبيد (ص560، ح 1113) . (2) راجع فصل: النقد كما يتمثل في الحديث الشريف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1493 ثم قال (ص10، 11) : وهل يجوز إخراج أحد النقدين عن الآخر؟ فيه روايتان نص عليهما إحداهم: لا يجوز وهو اختيار أبي بكر، لأن أنواع الجنس لا يجوز إخراج أحدهما عن الآخر إذا كان أقل من المقدار فمع اختلاف الجنس أولى والثانية: يجوز وهو أصح إن شاء، لأن المقصود من أحدهما يحصل بإخراج الآخر فيجزئ كأنواع الجنس وذلك لأن المقصود منهما جميعًا الثمنية والتوصل بها إلى المقاصد وهما يشتركان فيه على السواء فأشبه إخراج المكسرة عن الصحاح بخلاف سائر الأجناس والأنواع مما تجب فيه الزكاة فإن لكل جنس مقصودًا مختصًا به لا يحصل من الجنس الآخر وكذلك أنواعها فلا يحصل بإخراج غير الواجب من الحكمة ما يحصل بإخراج الواجب، وها هنا المقصود حاصل فوجب إجزاؤه إذ لا فائدة باختصاص الإجزاء بعين مع مساواة غيرها لا في الحكمة وكون ذك أرفق بالمعطي والآخذ وأنفع لهما ويندفع به الضرر عنهما فإنه لو تعين إخراج زكاة الدنانير منها شق على من يملك أقل من أربعين دينارًا إخراج جزء من الدينار ويحتاج إلى التنقيص ومشاركة الفقير له في دينار من ماله أو بيع أحدهما نصيبه فيستضر المالك والفقير وإذا جاز إخراج الدراهم عنها دفع إلى الفقير من الدراهم بقدر الواجب فيسهل ذلك عليه وينتفع الفقير من غير كلفة ولا مضرة، ولأنه إذا دفع إلى الفقير قطعة من الذهب في موضع لا يتعامل بها فيه أو قطعة من درهم في موضع لا يتعامل بها فيه لم يقدر على قضاء حاجته بها، وإن أراد بيعها بحسب ما يتعامل بها احتاج إلى كلفة البيع وربما لا يقدر عليه ولا يفيده شيئًا، وإن أمكن بيعها احتاج إلى كلفة البيع والظاهر أنها تنقص عوضها عن قيمتها فقد دار بين ضررين وفي جواز إخراج أحدهما عن الآخر نفع محض ودفع لهذا الضرر وتحصيل لحكمة الزكاة على التمام والكمال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1494 قلت: ومن العجب ما جاء في (مجموع الفتاوى) لابن تيمية: (19/248، 251) ، وهو حنبل وواسع الاطلاع على فقه الصحابة والتابعين وفقهاء المذاهب الإسلامية الأخرى وإن كان قد يستقل برأيه عن الحنابلة - من قوله: وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس فيما دون مسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة)) وقال: ((لا شيء في الرقة حتى تبلغ مائتي درهم)) وقال في السارق: ((يقطع إذا سرق ما بلغ ثمن المجن)) (1) ، وقال: ((تقطع اليد في ربع دينار)) (2) والأوقية في لغته أربعون درهمًا ولم يذكر للدرهم ولا للدينار حدًا ولا ضرب هو درهمًا ولا كانت الدراهم تضرب في أرضه بل تجلب مضروبة من ضرب الكفار وفيها كبار وصغار، كانوا يتعاملون بها تارةً عددًا وتارة وزنًا كما قال: زن وارجع فإن خير الناس أحسنهم قضاء لا نعرف حديثًا بهذا اللفظ الذي رواه ابن قدامة، ولكن المعروف "زن وأرجح" طرفًا من حديث سويد بن قيس الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن طريق سماك بن حرب. انظر المزي (تحفة الأشراف: 4/134، ح4810) . وكذلك ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان لعلاء الدين الفارسي: 7/298، ح5125) . ولفظه من الترمذي (الجامع الصحيح: 3/598، ح 1305) : حدثنا هناد ومحمود بن غيلان قالا: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة (مخرقة) - على خلاف في الاسم - العبدي برًّا من هجر فجاءنا النبي صلى الله عليه وسلم فساومنا بسراويل وعندي وزان يزن بالأجر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للوزان: ((زن وارجح)) . وتعبقه الترمذي بقوله: وفي الباب عن جابر وأبي هريرة ثم قال: حديث سويد حديث حسن صحيح. وحديث جابر الذي أشار إليه الترمذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وفي بعض ألفاظه فزادني قيراطًا. لكن ليس فيه لفظ: "زن وأرجح" بصيغة الأمر.   (1) راجع فصل "النقد كما يتمثل في الحديث الشريف (2) أخرجه الجماعة من طريق الزهري، عن عمرة، عن عائشة، انظر المزي (تحفة الأشراف: 12/417) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1495 أما حديث أبي هريرة الذي أشار إليه الترمذي أيضا. فأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه. انظر المز (تحفة الأشراف: 10/461، ح 14963) ، وليس فيه زن وأرجح لأنه يتصل برد سول الله صلى الله عليه وسلم جملا أحسن من ذلك الذي اقترضه فلا مجال فيه للوزن لكن فيه ((خياركم أحسانكم)) - وفي رواية: ((أحسنكم قضاء)) - وأصل حديث أبي هريرة هذا حديث أبي رافع الي رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. انظر المزي (تحفة الأشراف: 9/202، ح 12025) ، عن طريق عطاء بن يسار، ولفظه عند مسلم (الصحيح: 3/1224، ح 1600) : حدثنا أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرج، أخبرنا ابن وهب، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي رافع ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرًا - البكر الفتى من الإبل - فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًّا فقال: أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء)) . وفي رواية لمسلم: ((فإن خير عباد الله أحسنهم قضاء)) . وقد ارتأينا أن حديث أبي رافع هو أصل حديث أبي هريرة لأن أبا رافع باشر القضية بنفسه.، وكان هنالك وزان يزن بالأجر ومعلوم أنهم إذا وزنوها فلابد لهم من صنجة يعرفون بها مقدار الدراهم لكن هذا لم يحده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقدره، وقد ذكروا أن الدراهم كانت ثلاثة أصناف ثمانية دوانيق وستة وأربعة فلعل البائع قد يسمى أحد تلك الأصناف فيعطيه المشتري من وزنها ثم هو مع هذا أطلق لفظ الدينار والدرهم ولم يحده فدل على أنه يتناول هذا كله وأن من ملك من الدراهم الصغار خمس أواق مائتي درهم فعليه الزكاة وكذلك من الوسطى وكذلك من الكبرى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1496 وعلى هذا فالناس في مقادير الدراهم والدنانير على عاداتهم فما اصطلحوا عليه وجعلوه درهمًا فهو درهم وما جعلوه دينارًا فهو دينار وخطاب الشارع يتناول ما اعتدوه سواء كان صغيرًا أو كبيرًا فإذا كانت الدراهم المعتادة بينهم كبارًا لا يعرفون غيرها لم تجب عليه الزكاة حتى يملك منها مائة درهم وإن كانت صغارًا لا يعرفون غيرها وجبت عليه إذا ملك منها مائتي درهم، إن كانت مختلفة فملك من المجموع ذلك وجبت عليه وسواء كانت خالصة أو مغشوشة ما دام يسمى درهمًا مطلقًا وهذا قول غير واحد من أهل العلم. فأما إذا لم يسم إلا مقيدًا مثل أن يكون أكثره نحاسًا فيقال له درهم أسود لا يدخل في مطلق الدرهم فهذا فيه نظر وعلى هذا فالصحيح قول من أوجب الزكاة في مائتي درهم مغشوشة كما هو قول أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد، وإذا سرق السارق ثلاثة دراهم من الكبار أو الصغار أو المختلفة قطعت يده. وأما الوسق فكان معروفًا عندهم أنه ستون صاعًا والصاع معروف عندهم وهو صاع واحد غير مختلف المقدار، وهم صنعوه لم يجلب إليهم فلما علق الشارع الوجوب بمقدار خمسة أوسق كان هذا تعليقًا بمقدار محدود يتساوى فيه الناس بخلاف الأواقي الخمسة فإنه لم يكن مقدارًا موحدًا يتساوى فيه الناس بل حده في عادة بعضهم أكثر من حده في عادة بعضهم كلفظ المسجد والبيت والدار والمدينة والقرية هو مما تختلف فيه عادات الناس في كبرها وصغرها ولفظ الشارع يتناولها كلها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1497 ولو قال قائل: إن الصاع والمد يرجع فيه إلى عادات الناس، واحتج بأن صاع عمر كان أكبر، وبه كان يأخذ الخراج وهو ثمانية أرطال كما يقوله أهل العراق لكان هذا يمكن فيما يكون لأهل البلد فيها مكيالان صغير وكبير، وتكون صدقة الفطر مقدرة بالكبير والوسق ستون مكيالًا من الكبير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدر نصاب الموسقات ومقدار صدقة الفطر بصاع ولم يقدر بالمد شيئًا من النصب والواجبات. لكن لم أعلم بهذا قائلًا، ولا يمكن أن يقال إلا ما قاله السلف قبلنا لأنهم علموا مراد الرسول قطعًا، فإن كان من الصحابة أو التابعين من جعل الصاع غير مقدر بالشرع صارت مسألة اجتهاد. وأما الدرهم والدينار، فقد عرفت تنازع الناس فيه واضطراب أكثرهم حيث لم يعتمدوا على دليل شرعي، بل جهلوا مقدار ما أراده الرسول هو مقدار الدراهم التي ضربها عبد الملك لكونه جمع الدراهم الكبار والصغار وجعل معدلها ستة دوانيق، فيقال لهم: هب أن الأمر كذلك لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خاطب أصحابه وأمته بلفظ الدرهم والدينار وعندهم أوزان مختلفة المقادير كما ذكر لم يحد لهم الدرهم بالقدر الوسط كما فعل عبد الملك بل أطلق لفظ الدرهم والدينار كما أطلق لفظ القميص والسراويل والإيزار والرداء والدار والقرية والمدينة والبيت وغير ذلك من مصنوعات الآدميين، فلو كان للمسمى عنده حد لحده مع علمه باختلاف المقادير، فاصطلاح الناس على مقدار درهم ودينار أمر عادي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1498 قلت: وقد كان يمكن أن ننقل أقواله هذه كما نقلنا أقوال غيره من الفقهاء من غير أن نقف عندها بالذات لولا أن أقواله هذه تخالف - ليس أقوال الحنابلة فحسب - ولكن ما جرى عليه جمهور الأمة من أن الدينار والدرهم اللذين كان أداة التعامل بين الناس في العصر النبوي وبهما تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانا معروفي الوزن وإن لم يكونا مسكوكين بسكة إسلامية استحدثت في العهد النبوي، وأن السكة التي استحدثت بعد ذلك سواء على يد عمر أو غيره من الصحابة - رضوان الله عليهم - أو على يد عبد الملك بن مروان وعامله الحجاج مما أوضعناه وسقنا الروايات المختلفة بشأنه في الفصل السابق إن كانت على المقدار المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تعامل به واعتبره المقدار القار لكل من الدينار والدرهم عندما سن - بيانًا أو ابتداءً - ما سن من الشعائر التعبدية أو الجنائية أو المتصلة بالمعاملات ذات العلاقة بالذهب والفضة، بل إن المكيال والوزن اللذين شرع اعتبارهما أساسًا للتعامل بين الناس، ولتقدير أنصبة الزكاة في الحديث الذي سقناه سابقًا ((المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة)) قد بينا في الفصل السابق أنهما قائمان على تقدير للأوقية والدينار والدرهم، وهذا لم يختلف فيه الحنابلة ولا غيرهم من فقهاء المذاهب ولا من كان قبلهم من فقهاء الصحابة والتابعين وأصحاب الحديث والإخباريين، وقد يكون من المفيد أن ننقل ما قاله ابن قدامة عن ذلك في المغنى (2/701) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1499 أما كون الوسق ستين صاعًا فلا خلاف فيه. قال ابن المنذر: هو قول كل من يحفظ عنه من أهل العلم، وقد روى الأثرم عن سلمة بن صخر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((الوسق ستون صاعًا)) (1) وروى أبو سعيد وجابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك رواه ابن ماجه (2) .   (1) لم نقف على هذا الحديث من طريق سلمة بن صخر، لكن وقفنا عليه مرفوعًا عن طريق البحتري، عن أبي سعيد الخدري، وفيه (والوسق ستون مختومًا) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وعن طريق عمرو بن مرة العجلي كلاهما عن أبي سعيد. وقال أبو داود: أبو البختري لم يسمع عن أبي سعيد. انظر المزي (تحفة الاشراف: 3/356، ح 4042) . وعند ابن ماجه أيضًا في (السنن: 1/557، ح 1833) ، حديث لجابر بن عبد الله، عن طريق عطاء بن أبي رباح وأبي الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوسق ستون صاعًا) لكن قال الكتاني في (الزوائد: 1/321، ح 659) : هذا إسناد ضعيف فيه محمد بن عبد الله العرزمي وهو متروك، وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري رواه الشيخان وغيرهما ورواه مالك عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن البصري وغيرهم ورواه أصحاب السنن خلا الترمذي عن أبي سعيد. قلت: يغفر الله لشهاب الدين. الذي رواه الشيخان عن أبي سعيد إنما هو الجزء الأول من الحديث. أما قوله صلى الله عليه وسلم في رواية أبي البختري وغيره. أما قوله صلى الله عليه وسلم (الوسق ستون صاعًا) فلم يخرجاه. (2) لم نقف على هذا الحديث من طريق سلمة بن صخر، لكن وقفنا عليه مرفوعًا عن طريق البحتري، عن أبي سعيد الخدري، وفيه (والوسق ستون مختومًا) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وعن طريق عمرو بن مرة العجلي كلاهما عن أبي سعيد. وقال أبو داود: أبو البختري لم يسمع عن أبي سعيد. انظر المزي (تحفة الاشراف: 3/356، ح 4042) . وعند ابن ماجه أيضًا في (السنن: 1/557، ح 1833) ، حديث لجابر بن عبد الله، عن طريق عطاء بن أبي رباح وأبي الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوسق ستون صاعًا) لكن قال الكتاني في (الزوائد: 1/321، ح 659) : هذا إسناد ضعيف فيه محمد بن عبد الله العرزمي وهو متروك، وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري رواه الشيخان وغيرهما ورواه مالك عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن البصري وغيرهم ورواه أصحاب السنن خلا الترمذي عن أبي سعيد. قلت: يغفر الله لشهاب الدين. الذي رواه الشيخان عن أبي سعيد إنما هو الجزء الأول من الحديث. أما قوله صلى الله عليه وسلم في رواية أبي البختري وغيره. أما قوله صلى الله عليه وسلم (الوسق ستون صاعًا) فلم يخرجاه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1500 وروى أبو سعيد وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك رواه ابن ماجه (1) وأما كون الصاع خمسة أرطال وثلثًا ففيه اختلاف ذكرناه في باب الطهارة وبينا أنه خمسة أرطال وثلث بالعراقي، فيكون مبلغ الخمسة أوسق ثلاث مائة صاع وهو ألف وست مائة رطل عراقي والرطل العراقي مائة وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم، ووزنه بالمثاقيل سبعون مثقالا ثم زيد في الرطل مثقال أخر وهو درهم وثلاثة أسباع فصار إحدى وتسعين مثقالا، كملت زينته بالدراهم مائة وثلاثين درهمًا، والاعتبار بالأول قبل الزيادة فيكون الصاع والرطل الدمشقي الذي هو ست مائة درهم رطلا وسبعًا وذلك أوقية وخمسة أسباع أوقية ومبلغ الخمسة أوسق بالرطل الدمشقي ثلاث مائة رطل وثلاث وأربعون رطلًا وعشر أواقي وسبع أوقية وذلك ستة أسباع رطل. والنصاب معتبر بالكيل فإن الأوساق مكيلة، وإنما نقلت إلى الوزن لتضبط وتنقل، ولذلك تعلق وجوب الزكاة بالمكيلات دون الموزونات والمكيلات تختلف في الوزن، فمنها الثقيل كالحنطة والعدس، ومنها الخفيف كالشعير والذرة، ومنه المتوسط. وقد نص أحمد على أن الصاع خمسة أرطال وثلث من الحنطة، وروى جماعة عنه أنه قال: الصاع وزنته فوجدته خمسة أرطال وثلثي رطل حنطة، وقال أحمد: قال حنبل: أخذت الصاع من أبي النضر وكان أبو النضر أخذه من ابن أبي ذئب وقال: هذا صاع النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعرف بالمدينة. قال أبو عبد الله: فأخذنا العدس فعيرنا به وهو أصلح ما يكال به لأنه لا يتجافى عن موضعه، فكلنا به، ووزنَّاه فإذا هو خمسة أرطال وثلث، وهذا أصح ما وقفنا عليه، وما بيّن لنا من صاع النبي صلى الله عليه وسلم. قال بعض أهل العلم: أجمع أهل الحرمين على أن مد النبي صلى الله عليه وسلم رطل وثلث قمحًا من أوسط القمح، فمتى بلغ القمح ألفًا وستمائة رطل ففيه الزكاة، وهذا يدل على أنهم قدروا الصاع بالثقيل، وأما الخفيف فتجب الزكاة إذا قارب هذا ولم يبلغه.   (1) لم نقف على هذا الحديث من طريق سلمة بن صخر، لكن وقفنا عليه مرفوعًا عن طريق البحتري، عن أبي سعيد الخدري، وفيه (والوسق ستون مختومًا) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وعن طريق عمرو بن مرة العجلي كلاهما عن أبي سعيد. وقال أبو داود: أبو البختري لم يسمع عن أبي سعيد. انظر المزي (تحفة الاشراف: 3/356، ح 4042) . وعند ابن ماجه أيضًا في (السنن: 1/557، ح 1833) ، حديث لجابر بن عبد الله، عن طريق عطاء بن أبي رباح وأبي الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوسق ستون صاعًا) لكن قال الكتاني في (الزوائد: 1/321، ح 659) : هذا إسناد ضعيف فيه محمد بن عبد الله العرزمي وهو متروك، وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري رواه الشيخان وغيرهما ورواه مالك عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن البصري وغيرهم ورواه أصحاب السنن خلا الترمذي عن أبي سعيد. قلت: يغفر الله لشهاب الدين. الذي رواه الشيخان عن أبي سعيد إنما هو الجزء الأول من الحديث. أما قوله صلى الله عليه وسلم في رواية أبي البختري وغيره. أما قوله صلى الله عليه وسلم (الوسق ستون صاعًا) فلم يخرجاه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1501 وما أشار إليه ابن قدامة من الاختلاف الذي ذكره في باب الطهارة من المغنى نصه (1/222، 223) : والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي والمد ربع ذلك وهو رطل وثلث، وهذا قول مالك والشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي يوسف. وقال أبو حنيفة: الصاع ثمانية أرطال لأن أنس ابن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد وهو رطلان ويغسل بالصاع (1) ولنا ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: ((أطعم ستة مساكين فرقًا من الطعام)) متفق عليه (2) . قال أبو عبيد: ولا اختلاف بين الناس أعلمه في أن الفرق ثلاثة آصع والفرق ستة عشر رطلا فثبت أن الصاع خمسة أرطال وثلث (3) . وروي أن أبا يوسف دخل المدينة فسألهم عن الصاع فقالوا: خمسة أرطال وثلث فطالبهم بالحجة فقالوا: غدا، فجاء من الغد سبعون شيخًا فكل أحد آخذ صاعًا تحت ردائه، فقال: صاعي ورثته عن أبي وورثه أبي عن جدي حتى انتهوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرجع أبو يوسف عن قوله (4) وهذا إسناد متواتر يفيد القطع.   (1) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي بألفاظ مختلفة. انظر المزي (تحفة الأشراف: 1/260، ح 963) . (2) وقال ابن الأثير في (النهاية: 3/437) الفرق بالتحريك مكيال يسع ستة عشر رطلا وهي اثنا عشر مدًّا أو ثلاث آصع عند أهل الحجاز، وقيل: الفرق خمسة أقساط والقسط نصف صاع، فأما الفرق بالسكون فمائة وعشرون رطلا (3) لم أقف على سند لهذا الأثر (4) لم أقف على سند لهذا الأثر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1502 ثم قال: والرطل العراقي مائة درهم وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم، وهو تسعون مثقالا، والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم، هكذا كان قديمًا. ثم إنهم زادوا فيه مثقالا فجعلوه إحدى وتسعين مثقالا وكمل به مائة وثلاثون درهمًا، وقصدوا بهذه الزيادة إزالة كسر الدرهم والعمل على الأول لأنه الذي كان موجودًا وقت تقدير العلماء للمد به فيكون المد عندئذ مائة درهم وإحدى وسبعين درهمًا وثلاثة أسباع الدرهم، وذلك بالرطل الدمشقي الذي وزنه ست مائة درهم ثلاثة أواق وثلاثة أسباع أوقية والصاع أربعة أمداد فيكون رطلا وأوقية وخمسة أسباع أوقية، وإن شئت قلت: هو رطل وسبع رطل. وليس الحنابلة ببدع من أمرهم في تقدير الكيل بالوزن تقديرًا يعتمد بداهة على أن مقدار الدرهم والدينار والمثقال والأوقية والرطل وما إلى ذلك كان متعارفًا لديهم تعارفًا لم يكن بحاجة إلى تنصيص عليه، ومعنى ذلك أن أنصبة الزكاة منضبطة بمقادير معينة وليست متأرجحة - كما ذهب ابن تيمية رحمه الله - فيما نقلناه عنه آنفًا " ولكل جواد كبوة "، وكما ذهب ممن شذ غيره عن الجمهور. ولو أننا واكبنا هؤلاء في اعتبار عدم انضباط وزن الدينار والدرهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبفعل مسنون منه لوقعنا في فوضى لا حدود لها، فلو أن بلدًا سك دينارًا أو درهمًا بدانق أو قيراط أو حبة لأصبح نصاب الزكاة بزعمهم ما مثاله مائتا دانق أو قيراط أو حبة من الفضة أو عشرين منها من الذهب وهذا لا يقول به عاقل، والقول بأن الدنانير والدراهم الصغار إذا تواضع عليها أهل بلد يعتبر فيها العدد وحده في النصاب كما أن الكبار يعتبر فيها العدد وحده يؤدي إلى إلغاء جميع الأحكام المرتكزة على اعتبار الوزن في العقول والحدود والأنكحة والمعاملات، وبذلك ينهار جانب كبير من الفقه وتضطرب أحكام شتى من أحكام الشرع، وما من أحد يسيغ ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1503 ولقد ارتأينا أن نقف هذه الوقفة من قول ابن تيمية وبعض من شذ غيره لأن عليها سيترتب ما قد نقف عليه في مناسبة من أحكام تتصل بتغيير العملة وما يترتب عنه من ضوابط المعاملات. وقال النووي في (المجموع: 6/14، 16) : قال الإمام أبو سليمان الخطابي في معالم السنن في أول كتاب البيع في باب ((المكيال ميكال أهل المدينة والميزان ميزان أهل مكة)) (راجع التعليق: 1) . قال معنى الحديث أن الوزن الذي يتعلق به حق الزكاة وزن أهل مكة، وهي دراهم الإسلام المعدلة منها العشرة بسبع مثاقيل، لأن الدراهم مختلفة الأوزان في البلدان، فمنها البغلي وهي ثمانية دوانيق، والطبري أربعة دوانيق، ومنها الخوازرمي وغيرها من الأنواع ودراهم الإسلام في جميع البلدان ستة دوانيق وهو وزن أهل مكة الجاري بينهم، وكان أهل المدينة يتعاملون بالدراهم عددًا ووقت قدوم النبي صلى الله عليه وسلم ويدل عليه قول عائشة - رضي الله عنها - في قصة شرائها بريرة " إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة فعلت " (1) تريد الدراهم فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوزن وجعل المعيار وزن أهل مكة.   (1) أخرجه الشيخان وغيرهما. انظر المزي (تحفة الأشراف: 12/133، ح 16813؛ والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي: ا. ي. و. ونسنك و. ي. ب. دي بروين: 4/145) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1504 قال - يعني الخطابي -: واختلفوا في حال الدرهم، فقال بعضهم: لم يزل الدرهم على هذا المعيار في الجاهلية والإسلام، وإنما غيروا السكك ونقشوها بسكة الإسلام الأوقية أربعون درهمًا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس فيما دون خمس أواق صدقة)) (1) ، وهي مائة درهم. قال: وهذا قول ابن عباس (2) وابن سريج (3) .   (1) انظر فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف". (2) يظهر أن في العبارة خطأ صوابه: وهي مئتا درهم على أساس أن الأوقية أربعون درهمًا. انظر في المأثور عن وزن الدرهم قبل الإسلام وقبل سك النقود في الإسلام ما سقناه في فصل " نشأة النقد وتطوره ". وابن سريج هو أحمد بن صباح النهشلي أبو جعفر الرازي ثقة حافظ من الطبقة العاشرة روى عنه البخاري وأبو داود والنسائي. انظر ابن حجر (التقريب: 1/14) . (3) يظهر أن في العبارة خطأ صوابه: وهي مئتا درهم على أساس أن الأوقية أربعون درهمًا. انظر في المأثور عن وزن الدرهم قبل الإسلام وقبل سك النقود في الإسلام ما سقناه في فصل " نشأة النقد وتطوره ". وابن سريج هو أحمد بن صباح النهشلي أبو جعفر الرازي ثقة حافظ من الطبقة العاشرة روى عنه البخاري وأبو داود والنسائي. انظر ابن حجر (التقريب: 1/14) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1505 ثم قال: وقال الرافعي وغيره من أصحابنا - يعني الشافعية -: أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن، وهو أن الدرهم ستة دوانيق كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، ولم يتغير المثقال في جاهلية ولا إسلام. هذا ما ذكره العلماء في ذلك، والصحيح الذي يتعين اعتماده أن الدراهم المطلقة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معلومة الوزن ومعروفة المقدار وهي السابقة إلى الأفهام عند الإطلاق، وبها تتعلق الزكاة وغيرها من الحقوق والمقادير الشرعية ولا يمنع من هذا كونه كان هناك دراهم أخرى أقل أو أكثر من هذا القدر، فإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم الدراهم محمول على المفهوم عند الإطلاق وهو كل درهم ستة دوانيق كل عشرة سبع مثاقيل، وأجمع أهل العصر الأول فمن بعدهم إلى يومنا على هذا ولا يجوز أن يجمعوا على خلاف ما كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين. والله أعلم. وأما مقدار الدرهم من الدينار، فقال الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الأزدي في كتابه الأحكام. وساق كلام ابن حزم في المحلى. ثم قال: فالرطل مائة درهم وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم وهو تسعون مثقالًا، وقيل: مائة وثلاثون درهمًا. وبه قطع الغزالي والرافعي: وهو غريب ضعيف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1506 وقال ابن حزم في (المحلى: 5/246) : بحثت أنا غاية البحث عند كل من وثقت بتمييزه، فكل اتفق لي أن دينار الذهب بمكة وزنه اثنان وثمانون حبة وثلاثة أعشار حبة بالحب من الشعير المطلق والدرهم سبعة أعشار مثقال فوزن الدرهم المكي سبع وخمسون حبة وعشر عشر حبة فالرطل مائلة درهم واحدة وثمانية وعشرون درهمًا بالدرهم المذكور. وقال ابن العربي في (عارضة الأحوذي: 2/104) عند شرحه لحديث علي الذي أخرجه الترمذي عن نصاب زكاة الفضة (1) : والحكمة في أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفضة والتنصيب وتقدير الواجب وترك ذكر الذهب أن تجارتهم إنما كانت في الفضة خاصة معظمها فوقع التنصيص على المعظم ليدل على الباقي لأن كلهم أفهم خلق وأعلمهم، وكانوا أفهم أمة وأعلمها، فلما جاء الحمير - كذا قال يغفر الله له - الذين يطلبون النص في كل صغير وكبير تمس عليهم باب الهدى وخرجوا عن زمرة من أستن بالسف واهتدى. والراجح أنه يقصد الظاهرية أصحاب ابن حزم. ثم قال (نفس المرجع: ص 104، 105) في وزن الوسق والصاع والرطل والدرهم: ... هذه المقادير كانت معروفة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأحال عليها بالبيان، ولما استأثر برسوله غيرت الشرائع شيئًا فشيئًا من الأذان إلى الصلاة إلى آخر الأزمنة حتى انتهى التغيير إلى الكيل، فغيره هشام والحجاج، فغلب المد الهاشمي والحجاجي على مد الإسلام وغيرت الدراهم والدنانير واختلف ضربها، ودخل عليها من الزيادة والنقصان واضطراب الأقوال ما لو سمعتموها لقلتم إنها لا تحصل أبدًا، والذي ننخل منها أن المثقال أربعة وعشرون قيراطًا، والقيراط ثلاث حبات، والدرهم نصفه وهو ستة دوانيق، والدانق ست حبات ضربته بنو أمية ليسهل الصرف. وكان الحسن يقول: لعن الله الدانق، ما كانت العرب تعرفه ولا أبناء الفرس. قال الخطابي: والأوقية اثنا عشر درهمًا من ذلك الوزن، والرطل اثنتا عشرة أوقية، فهذا هو المطابق لوزن الشريعة فدع غيره سودي فليس له آخر ولا مدى وركب على هذا الوزن الكيل فله أصل - لعل صواب العبارة: فهو له أصل - فالمد رطل وثلث والصاع أربعة أمداد والوسق ستون صاعًا وسائر الأكيال يفسرها أصحابها فإنه لا يتعلق بها حكم إذ ليست من ألفاظ الشرع.   (1) حديث علي هذا سقناه في الفصل السابق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1507 هذه صفوة من تصوراتهم للنقد لا نريد أن نناقشها لأن مرد الاختلاف بينها عند التأمل هو اختلاف البيئات ثم الأجيال، وكذلك تباين ما بلغهم من نصوص معتمدة، فواضح أن بعضهم لم يبلغه مثلا أن عمر - رضي الله عنه - سك بعض النقود فحسب أن الأمويين هم الذين أحدثوا سكها، وكذلك لم يبلغه فعل ابن الزبير، ومنهم من بلغه فعله ولم يبلغه فعل عمر بيد أنهم مجمعون - عدا ما نقلنا عن ابن تيمية وبعض من شذ غيره - على أن السكة المعتمدة في عصر التابعين وبقية الصحابة أيام بني أمية إنما اعتمدت لأنها التزمت وزنًا بما كان عليه التعامل في الذهب والفضة لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المقادير الموزنة التي بنى عليها التشريع في الزكاة والنكاح والديات والمعاملات وما إليها من الشئون ذات العلاقة بالتبادل المالي. وكذلك لم يقل أحد ممن يعتمد قولهم بأنه يمكن قبول كيل أو وزن غير اللذين اعتمدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذي يعنينا في هذا المجال ليس مناقشة بعض الآراء تاريخيًا أو فقهيًا، فهذا شأن له مجال آخر، وإنما تقديم صورة واضحة لوجود اضطراب في النقد منذ العصر الأول للهجرة ومن قبل الإسلام ترتبت عليه أحكام سنرى بيانها مفصلا في الفصل الآتي وما بعده، وهي الأحكام التي سنعتمد عليها وليس لأحد أن يعتمد غيرها في تبيان موقف الشريعة الإسلامية من تغيير العملة ومدى تأثر المعاملات بين المسلمين بها ما التزموا بضوابط الشرع الإسلامي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1508 (7) أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف عندما أخذ المجتمع الإسلامي ينشأ في المدينة المنورة نتيجة لهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها كانت أنماط من المعاملات سائدة فيها، وفيما حولها وجلها - إن لم نقل كلها - كان سائدًا في مختلف أنحاء العالم المتمدين، وخاصة الأقطار التي يتصل بها العرب بالتجارة تصديرًا واستيرادًا. أو بالأحرى نقلا للبضائع إليها ونقلا لها منها، وأبرزها فارس وبيزنطة. وكانت المقايضة هي الطريقة السائدة في أغلب حالات الاتجار عندهم، وإن أخذ التعامل بالنقد يحسر مداها ويحصر مجالها شيئًا فشيئًا، بيد أن التعامل بالنقد نفسه تأثر تصوره في عقولهم يومئذ بصورة المقايضة، ذلك بأن الذهب والفضة لم تستأثر إحداهما بالهيمنة على النقد المتعامل به باعتبارها المعيار الوحيد له، وإنما كانتا معًا تمثلان المعيار النقدي وتتناوبان السيطرة على سوقه بصورة تشبه إلى حد كبير قاعدة العرض والطلب، فأحيانًا تحكم الذهب في الفضة، وأخرى تحكم الفضة في الذهب. ومن أسباب ذلك - وليس السبب الوحيد - أن سك العملة الذهبية والفضية لم يتوافر بحيث تصبح الوحدة النقدية من الذهب أو الفضة هي أداة التعامل ولو توافر لكان للعملة الغالبة في السوق أن تهيمن على الأخرى الأقل رواجًا أو قبولا لدى المتعاملين، فكانت الوحدة النقدية تتمثل مسكوكة حينًا، ووزنًا حينًا آخر. وكانت المسكوكة تخضع في بعض الحالات للتزييف ونقص الوزن، فكان ذلك مما أرجح التعامل بالوحدة " الوزنية" وأشاعه على حساب الوحدة المسكوكة. وفي هذا الوضع المضطرب نشأت أنواع من التعامل الجائر تشملها كلمة " الربا"، ومن أبرزها: التعامل بأحد النقدين متفاضلًا نسيئة أو متفاضلًا ناجزًا أو نسيئة غير متفاضل، وكذلك التعامل بهما معًا بتفاضل ونسيئة أو بإحدى الحالتين. وعلى النهج الذي سار عليه التشريع الإسلامي من تنظيم وتوجيه عادات الناس وأعرافهم على أسس من العدل المطلق وإزالة كل ما من شأنه أن يكون من الظلم أو وسيلة إليه كان تنظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاملات المسلمين، ومنها ما يتصل بالنقد، وكان الضابط الذي يشكل جوهر هذا التنظيم إلغاء كل ما من شأنه تعريض مصلحة أحد المتعاملين إلى أن تكون ضحية لاستغلال المتعامل الثاني. وسيتبين القارئ ذلك جليًّا مما ندرجه فيما يلي من أحاديث شتى أسانيد أغلبها صحيحة، وما كان منها ضعيف السند فهو صحيح بشواهده ويجب اعتماده. وقد ارتأينا أن نطيل المدى بما يشبه الاستقراء للألفاظ والأسانيد، ولا يخلو في كثير من الأحيان من التكرار في إيراد هذه الأحاديث لأننا نرى أن اللفظة الواحدة ترد في الحديث ولا ترد في الآخر، أو تختلف في الحديث عن الآخر صيغة أو موقعًا لها تأثيرها إذا جمعت مع غيرها في تقديم البيان الجلي الصحيح الدقيق لمناط التشريع وعلته في التنظيم النبوي للمعاملات، وخاصة ما كان منها له صلة بالنقد ذهبًا أو فضة أو هما معًا. وفيما يلي ما ارتأينا إدراجه مما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1509 أحاديث في الصرف: عن أبي بكر الصديق: قال عبد الرزاق (المصنف: 8/124، ح 14569) : عن الثوري عن محمد بن السائب - يعني الكلبي وهو متروك - عن أبي سلمة، عن أبي رافع، قال: خرجت فلقيني أبو بكر الصديق بخلخالين فابتعتهما منه فوضعتهما في كفة الميزان، ووضعت ورقي - كلمة " ورقي" زادها المحقق لتوقف العبارة عليها - في كفة الميزان فرجح فقلت: أنا أحله لك قال: وإن أحللته لي فإن الله لم يحلله لي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الفضة بالفضة وزنًا بوزن، والذهب بالذهب وزنًا بوزن، الزائد والمستزيد في النار)) . قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/107، ح 2543) : حدثنا أبو يعلى عن الكلبي، عن أبي سلمة، عن أبي رافع، عن أبي بكر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن، والفضة بالفضة وزنًا بوزن، والزائد والمستزيد في النار)) . وعن عمر بن الخطاب: من طريق مالك بن الحدثان، وعبد الله بن عمر: قال عبد الرزاق (المصنف: 8/116، ح 14541) : أخبرنا معمر ومالك، عن الزهري، قال: أخبرنا مالك بن أوس بن الحدثان، قال: صرفت من طلحة بن عبيد الله ورقًا بذهب، فقال: أنظرنا حتى يأتينا خازننا من الغاب (1) فسمعها عمر، فقال: لا والله لا تفارقه حتى تستوفي منه صرفه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء)) .   (1) هكذا في بعض الروايات ويظهر أنه خطأ فالغاب آخره باء موحدة موضع باليمن كما يقول ياقوت في معجم البلدان: (4/182) . وصوابه كما في الروايات الأخرى. الغابة وهو موضع قرب المدينة من ناحية الشام فيه أموال لأهل المدينة وهو المذكور في حديث السياق من الغابة إلى موضع كذا ومن أثل الغابة وفي تركة الزبير اشتراها بمائة وسبعين ألفًا وبيعت في تركته بألف ألف وست مائة ألف. ثم قال ياقوت - المرجع السابق -: وقال الواقدي: الغابة بريد من المدينة على طريق الشام وصنع منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرفاء الغابة. وروى محمد بن الضحاك عن أبيه قال: كان العباس بن عبد المطلب يقف على سلع فينادي غلمانه وهم بالغابة فيسمعهم، وذلك من آخر الليل وبين سلع والغابة ثمانية أميال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1510 قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/99، 100، ح 2525) : حدثنا ابن عيينة، عن الزهري سمع مالك بن أوس بن الحدثان يقول: سمعت عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر إلا هاء وهاء)) . قلت: لعل في الرواية خطأ من الناسخ صوابه: الذهب بالذهب كما في روايات أخرى، ونقل المحقق عن الزيلعي أنه أخرج الحديث عن ابن أبي شيبة وفيها الذهب بالذهب. وقال مالك في (الموطأ: ص 531، 532، ح 36) : عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري، أنه أخبره أنه التمس صرفًا بمائة دينار. قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني، وأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال: حتى يأتيني خازني من الغابة وعمر بن الخطاب يسمع فقال عمر: لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء هاء)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1511 وقال الشافعي (ترتيب المسند للسندي: 2/155، 156، ح 538) : أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، أنه التمس صرفًا بمائة دينار، قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني، وأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى يأتيني خازني أو حتى تأتي خازنتي من الغابة. قال الشافعي - رضي الله عنه -: أنا شككت - وعمر يسمع، فقال عمر - رضي الله عنه -: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء هاء)) . قال الشافعي - رضي الله عنه -: قرأته على مالك - رضي الله عنه - صحيحًا لا شك فيه ثم طال على الزمان فلم أحفظه حفظًا، فشككت في "خازني" أو " خازنتي" وغيري يقول عنه: "خازني". 539 - أخبرنا ابن عيينة، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل معنى حديث مالك، وقال: ((حتى يأتي خازني)) . وقال: حفظت لا شك فيه. 540- أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء)) . وقال أحمد (الساعاتي؛ الفتح الرباني: 15/70، 71، ح 234) : حدثنا سفيان، عن الزهري، سمع مالك بن أوس بن الحدثان، سمع عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال سفيان مرة: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء)) . ثم قال (نفس المرجع: ص 75، ح 249) : حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهري، أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان، قال: صرفت عند طلحة بن عبيد الله ورقًا بذهب فقال: أنظرني حتى يأتينا خازننا من الغابة. قال: فسمعها عمر بن الخطاب فقال: لا والله لا تفارقه حتى تستوفي منه صرفه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء)) . وقال البخاري (الصحيح 3/30) : حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس، أخبر أنه التمس صرفًا بمائة دينار، فدعا أبي طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني فأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع ذلك، فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلى هاء وهاء)) . وقال مسلم (الصحيح: 3/1209، 1210، ح 1586) : حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث. وحدثنا محمد بن رمح، أخبرنا الليث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1512 عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان أنه قال: أقبلت أقول: من يصطرف الدراهم؟ فقال طلحة بن عبيد الله - وهو عند عمر بن الخطاب -: أرنا ذهبك ثم ائتنا إذا جاء خادمنا نعطك ورقة، فقال عمر بن الخطاب: كلا والله لتعطينه ورقه أو لتردن إليه ذهبه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الورق بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء)) . وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وإسحاق، عن ابن عيينة، عن الزهري بهاذ الإسناد. وقال أبو داود (السنن: 3/248، ح 3348) : حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس، عن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء)) . وقال الترمذي (الجامع الصحيح: 4/545، ح 1243) : حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان أنه قال: أقبلت أقول: من يصطرف الدراهم؟ فقال طلحة بن عبيد الله وهو عند عمر بن الخطاب: أرنا ذهبك ثم ائتنا إذا جاء خادمنا نعطك ورقك، فقال عمر: كلا والله لتعطينه ورقه أو لتردن إليه ذهبه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الورق بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1513 وتعقبه بقوله: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم. وقال ابن ماجه (السنن: 2/757، ح 2253) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلى بن محمد وهشام بن عمار ونصر بن على ومحمد بن الصباح، قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء)) . ثم قال (نفس المرجع: ص 759، ح 2259) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري سمع مالك بن أوس بن الحدثان يقول: سمعت عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((" الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء)) . قال أبو بكر بن أبي شيبة: سمعت سفيان يقول: الذهب بالورق احفظوا. 2260 - حدثنا محمد بن رمح، أنبأنا الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: أقبلت أقول: من يصطرف الدراهم؟ فقال طلحة بن عبيد الله وهو عند عمر بن الخطاب: أرنا ذهبك ثم ائتنا إذا جاء خازننا نعطيك ورقك، فقال عمر: كلا والله لتعطينه ورقه أو لتردن إليه ذهبه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الورق بالذهب ربًا إلا هاء وهاء)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1514 وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي 7/ 238، 239، ح 4992) : أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاري، قال: أخبرنا أحمد بن بكر، عن مالك، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، أنه أخبره أنه التمس صرفًا بمائة دينار. قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني، وأخذ الذهب يقلبها في يده، وقال: حتى يأتي خازني من الغابة وعمر بن الخطاب يسمع، فقال عمر: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. قال عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء)) . ثم قال (نفس المرجع ص 240، ح 4998) : أخبرنا عمران بن موسى بن مجاشع، قال: حدثنا عنبسة بن خالد، قال: حدثنا همام بن يحيى قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، أن ابن شهاب حدثه، أن مالك بن أوس بن الحدثان حدثه، قال: انطلقت بمائة دينار، فأتيت طلحة بن عبدي الله بظل جدار، فاستلمها مني إلى أن يأتيه خادمه من الغابة، فسمع ذلك عمر فسأل عنه، فقال: دنانير أردتها إلى أن يأتي خادمي من الغابة. قال عمر: لا تفارقه، لا تفارقه حتى تنفذه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهات، والبر بالبر ربًا إلى هاء وهات، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهات، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1515 وقال الدارمي (السنن 2/258) : أخبرنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالذهب هاء وهاء، والفضة بالفضة هاء وهاء، والتمر بالتمر هاء وهاء، والبر بالبر هاء وهاء، والشعير بالشعير هاء وهاء لا فضل بينهما)) . وقال الطبري (تهذيب الآثار، مسند عمر بن الخطاب، السفر: 2/227، ح 18، 23) : حدثني أحمد حماد الدولابي ويونس بن عبد الأعلى الصدفي، وسفيان بن وكيع بن الجراح قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: سمع الزهري مالك بن أوس بن الحدثان النصري يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء)) . حدثني على بن مسلم الطوسي، حدثنا عباد بن العوام، حدثنا سفيان بن الحسين، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالفضة ربا إلا هاء وهاء)) . حدثني العباس بن الوليد البيروتي، أخبرني أبي، حدثنا الأوزاعي، حدثني الزهري، حدثني مالك بن أوس بن الحدثان، قال: أقبلت بمائة دينار أصرفها، فوجدت عمر بن الخطاب عند دار ابن العجماء، فقال لي طلحة بن عبيد الله: يا مالك ما هذه؟ قلت: مائة دينار أصرفها. قال: قد أخذتها إلى أن يأتيني خازني من الغابة. قال: فقال عمر: لا والله لا تفارقه حتى تعطيه صرفها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهات، والحنطة بالحنطة ربًا إلا هاء وهات، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهات)) . حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن أبي إسحاق، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: خرجت بورق لي ابتعتها بالسوق، فبايعت بها طلحة بن عبيد الله وعمر بن الخطاب منا قريب، فلما استوفي ورقي مني قال: يأتي غلامي، فأرسل إليك ذهبك فسمعها عمر، فقال: إن استنظرك إلى أن يدخل بيته فلا تنظره، فقال له طلحة: وماذا تخاف علينا يا أمير المؤمنين؟ قال: أخاف عليكم الربا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الدينار بالدينار هاء وهاء، والدرهم بالدرهم هاء وهاء، والقمح بالقمح هاء وهاء، والتمر بالتمر هاء وهاء والشعير بالشعير هاء وهاء لا فضل بينهما)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1516 حدثني يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب، أخبرني ابن مالك، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، أنه أخبره أنه التمس صرفًا بمائة دينار، قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله إليه فتراوضنا حتى اصطرف مني وأخذ الذهب، فقلبها بيده ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة وعمر بن الخطاب يسمع، فقال عمر: والله لا تفارقه حتى تأخذ ثمنه. ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء)) . حدثنا الحسين بن يحيى وأحمد بن منصور - قال الحسين: أنبأ، وقال أحمد: حدثنا - عبد الرزاق، قال: أنبأ معمر، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: صارفت طلحة بن عبيد الله ورقًا بذهب، فقال: أنظرني حتى يأتينا خازننا من الغابة، فسمعها عمر، فقال: لا والله لا تفارقه حتى تستوفي منه صرفه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالزبيب ربًا إلا هاء وهاء)) . حدثنا الحسين بن يحيى وأحمد بن منصور - قال الحسين: أنبأ، وقال أحمد: حدثنا - عبد الرزاق، قال: أنبأ معمر، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: صارفت طلحة بن عبيد الله ورقًا بذهب، فقال: أنظرني حتى يأتينا خازننا من الغابة، فسمعها عمر، فقال: لا والله لا تفارقه حتى تستوفي منه صرفه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالزبيب ربًا إلا هاء وهاء)) . وتعقب الطبري هذه الأحاديث بقوله: وهذا خبر صحيح سنده لا علة فيه توهنه، ولا سبب يضعفه، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيمًا غير صحيح لعلتين. إحداهما: أنه خبر قد حدث بهذا الحديث عن عمر بن الخطاب من غير حديث مالك بن أوس بن الحدثان، فجعل هذا الكلام موقوفًا على عمر غير مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأخرى: أنه لا يعرف عن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام مرفوعًا من غير حديث مالك بن أوس، عن عمر، عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1517 وقال ابن عبد البر في (التمهيد: 6/282، 284) : - تعقيبًا على حديث مالك بن أوس بن الحدثان الذي أخرجه مالك في الموطأ كما أخرجه غيره، وسقنا آنفًا طائفة من طرقه -. لم يختلف عن مالك في هذا الحديث. حدثنا ابن القاسم، حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا معن بن عيسى وروح بن عبادة، وعبد الله بن نافع، قالوا: حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء)) . الحديث. هكذا قال مالك ومعمر والليث وابن عيينة في هذا الحديث، عن الزهري ((الذهب بالورق)) ولم يقولوا: ((الذهب بالذهب)) و ((الورق بالورق)) ، وهؤلاء هم الحجة الثابتة في ابن شهاب على كل من خالفهم. وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر، قالا: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا أبو وضاح قال: قال لنا أبو بكر بن أبي شيبة: أشهد على ابن عيينة أنه قال لنا: ((الذهب بالورق)) ولم يقل: ((الذهب بالذهب)) . يعني في هذا حديث ابن شهاب هذا، عن مالك بن أوس، عن عمر. ورواه محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر مثله، إلا أنه قال فيه: ((الذهب بالذهب مثلا بمثل هاء وهاء، والفضة بالفضة مثلا بمثل هاء وهاء، والبر بالبر مثلا بمثل هاء وهاء، والشعير بالشعير مثلا بمثل هاء وهاء، والتمر بالتمر مثلا بمثل هذا وهاء لا فضل بينهما)) . هكذا رواه يزيد بن هارون وغيره عن أبي إسحاق، ورواية أبي نعيم لهذا الحديث عن ابن عيينة في ((الذهب بالذهب)) مثل رواية ابن إسحاق، ولم يقله أحد على ابن عيينة غير أبي نعيم. وقد روى هذا الحديث بنحو ذلك همام بن يحيى، عن يحيى بن أبي كثير، عن الأوزاعي، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن مالك بن أوس، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة ربًا إلا هاء وهاء، من زاد أو ازداد فقد أربى)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1518 قلت: لكن سبق أن نقلنا رواية عن الشافعي وأخرى عن البخاري، وكلتاهما عن طريق مالك، وفيهما: ((الذهب بالذهب)) . كذلك نقلنا رواية عن الطبري من طريق ابن عيينة، وفيها: ((الذهب بالذهب)) وصحيح أن مالكًا حجة عن الزهري وعن غيره، ولكنه ليس بأرجح حجية في "الموطأ" عنه إذا روى عنه مثل الشافعي أو البخاري ممن لا مغمز في تثبتهما وحفظهما، كما أن رواية الطبري عن طريق ابن عيينة لا ترجح عنها الروايات المخالفة لها، فليس الطبري بأقل تثبتًا ولا بأدنى حفظًا من نقلة تلك الروايات. فتأمل. قال ابن الجارود في (المنتقى: ص 219، ح 651) : حدثنا محمود بن آدم، قال: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء)) . وقال الطبراني (المعجم الكبير: 1/72، ح 85) : حدثنا المقدام بن داود، حدثنا النضر بن عبد الجبار، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي النضر، عن عبد الله بن دينار، قال: قال رجل من أهل العراق لعبد الله بن عمر: قال ابن عباس وهو علينا أمير: من أعطى بدرهم مائة درهم فليأخذها، فقال ابن عمر: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: ((الذهب بالذهب ربًا إلا مثلا بمثل لا زيادة، فما زاد فهو ربا)) . قال ابن عمر فإن كنت في شك فاسأل أبا سعيد الخدري في ذلك، فانطلق فسأل أبا سعيد الخدري، فأخبره أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لابن عباس: ما قال ابن عمر وأبو سعيد الخدري، فاستغفر ابن عباس وقال: هذا رأي رأيته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1519 وعن عثمان بن عفان: قال الشافعي في (مسنده تهذيب السندي: 2/157، ح 543) : أخبرنا مالك أنه بلغه عن جده مالك بن أبي عامر، عن عثمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين)) . وقال مسلم في (الصحيح: ح 1585) : حدثنا أبو الطاهر وهارون بن سعيد الأبلي وأحمد بن عيسى، قالوا: حدثنا ابن وهب، أخبرني مخرمة، عن أبيه، قال: سمعت سليمان بن يسار يقول: إنه سمع مالك بن أبي عامر يحدث، عن عثمان بن عفان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين)) . وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/65، 66) : حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، قال: حدثنا مالك بن أنس، عن مولى لهم، عن مالك بن أبي عامر، عن عثمان بن عفان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين)) . وعن على بن أبي طالب: قال عبد الرزاق في (المصنف: 8/124، ح 14570) : أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عباس العامرين، عن مسلم بن نذير السعدي، قال: سمعت عليًا - وسأله رجل عن الدرهم بالدرهمين -، قال: ذلك الربا العجلان. 14571 - أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، أنه سئل عن درهم بدرهمين، فقال: ذلك الربا العجلان. وقال الطبري في (تهذيب الآثار، مسند عمر بن الخطاب، السفر: 2/736، ح 1066) : حدثنا أحمد بن الوليد الرملي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن العباس، حدثنا أبي، عن عمر بن محمد بن على بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، ومن كانت له حاجة بورق فليصطرفها بورق، والصرف هاء وهاء)) . وقال (نفس المرجع: ص 743، ح 1081) : حدثنا أحمد بن الوليد الرملي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن العباس، حدثنا أبي، عن عمر بن محمد بن على بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، ومن كانت له حاجة بورق فليصطرفها بذهب، ومن كانت له حاجة بذهب فليصطرفها بورق، والصرف هاء وهاء)) . 1082 - حدثنا صالح بن مسمار، حدثنا سفيان، عن وردان الرومي، قال: قال لنا ابن عمر: هذا عهد صاحبنا إلينا، وكذلك عهدنا إليكم. قال لنا صالح: يعني في الصرف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1520 وقال ابن ماجه (السنن 2/760، ح 2261) : حدثنا أبو إسحاق الشافعي إبراهيم بن محمد بن العباس، حدثنا أبي، عن أبيه العباس بن عثمان بن شانع، عن عمر بن محمد بن على بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، فمن كانت له حاجة بورق فليصطرفها بذهب، ومن كانت له حاجة بذهب فليصرفها بورق والصرف هاء وهاء)) . وقال الدارقطني (السنن: 2/25، ح 86) : أخبرنا أبو إسحاق نهشل بن دراهم التميمي، حدثنا على بن حرب، حدثنا إبراهيم بن محمد الشافعي، قال: سمعت أبي محمد بن العباس يحدث عن عمر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن على بن أبي طالب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما من كانت له حاجة بورق فليصرفها بذهب، وإن كانت له حاجة بذهب فليصرفها بورق، والصرف هاء وهاء)) . وعن أبي سعيد الخدري: قال عبد الرزاق (المصنف: 8/121، 122، ح 14563) : أخبرنا عبد الله بن عمر، عن نافع، قال: بلغ ابن عمر أن أبا سعيد الخدري، قال في الصرف عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال نافع: فذهب ابن عمر وأنا معه، فقال أبو سعيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذناي هاتين وأبصرت عيناي هاتين - لعل الصواب: هاتان - يقول: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) . 14564- أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع، قال: جاء رجل إلى ابن عمر، فقال: إن أبا سعيد أفتاني أن الذهب بالذهب، والورق بالورق لا زيادة بينهما، قال نافع: فأخذ عبد الله بن عمر بيد الرجل وأنا معهما حتى دخلنا على أبي سعيد، فقال ابن عمر: زعم هذا حدثته بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصرف، فقال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأذني هاتين، وأبصرت بعيني هاتين أنه قال: " الذهب بالذهب والورق بالورق، ولا تشفوا بعضه على بعض، ولا تبيعوا منه غائبا بناجز، فمن زاد واستزاد فقد أربى ". وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/101، 102، ح 2528) : حدثنا ابن أبي زائدة، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن أبي سعيد، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم ليس بينهما فضل، ولا يباع عاجل بآجل)) . 2529 - حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصلح درهم بدرهمين، ولا صاع بصاعين، الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم)) . 2530 - حدثنا ابن أبي زائدة، عن ابن عون، عن نافع، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. ثم قال (نفس المرجع: ص 104، 105، ح 2536) : حدثنا وكيع قال: حدثنا إسماعيل بن مسلم العبدي، قال: حدثنا أبو المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل يدًا بيد. فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1521 وقال مالك في الموطأ (ص 528، ح 27) : عن نافع، عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها عن بعض، ولا تبيعوا شيئًا منها غائبًا بناجز)) . وقال الشافعي في مسنده (ترتيب السندي: 2/156، 157، ح 541) : أخبرنا مالك، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل يدًا بيد، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)) . وقال أحمد (المسند الساعاتي؛ الفتح الرباني: 15 / 71، ح 236) : حدثنا روح، حدثنا سليمان بن علي حدثنا أبو المتوكل الناجي، حدثنا أبو سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال له رجل من القوم: أما بينك وبين الرسول صلى الله عليه وسلم غير أبي سعيد؟ قال: لا والله ما بيني وبين النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي سعيد. قال: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح كيلا بكيل وزنا بوزن، فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه الآخذ والمعطي فيه سواء " (1) ثم قال (نفس المرجع: ص 72، 73، ح 240) : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أيوب، عن نافع قال: قال ابن عمر: لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا شيئا منها غائبا بناجز، فإني أخاف عليكم الرماء، والرماء الربا، قال: فحدث رجل ابن عمر هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تم مقالته حتى دخل به على أبي سعيد وأنا معه، فقال: إن هذا حدثني عنك حديثا يزعم أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعته؟ قال: بصر عيني وسمع أذني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا شيئا منه غائبا بناجز ". وقال البخاري (الصحيح: 3/30، 31) : حدثنا عبيد الله بن سعد، حدثنا عمى، حدثنا ابن أخي الزهري، عن عمه، قال: حدثني سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن أبا سعيد الخدري حدثه مثل ذلك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيه عبد الله بن عمر، فقال: يا أبا سعيد ما هذا الذي تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو سعيد: في الصرف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالذهب مثلا بمثل، والورق بالورق مثلا بمثل)) .   (1) أبو المتوكل الناجي البصري علي بن داود أخرج له الجماعة عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس وجابر وعائشة وأم سلمة وربيعة الجرشي قال عنه أحمد: ما علمت إلا خيرا ووثقه ابن معين وأبو زرعة وابن المديني والنسائي وابن حبان والعجلي والبزار وابن حبان مات سنة 102 أو 108 هـ على خلاف بينهما. ابن حجر (تهذيب التهذيب:7/ 318، ترجمة 35) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1522 قلت: قول البخاري في هذا الإسناد مثل ذلك، ينبغي تحريره. قال ابن حجر (الفتح 4/317) ، تعقيبا عليه، فذكر الحديث، هكذا ساقه وفيه اختصار وتقديم وتأخير، وقد أخرجه الإسماعيلي من وجهين، عن يعقوب بن إبراهيم شيخ البخاري فيه بلفظ: أن أبا سعيد حدثه حديثا مثل حديث عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصرف، فقال أبو سعيد: فذكره فظهر بهذه الرواية معنى قوله مثل ذلك، أي مثل حديث عمر، أي حديث عمر الماضي قريبا في قصة طلحة بين عبيد الله، وتكلف الكرماني هنا فقال: قوله مثل ذلك، أي مثل حديث أبي بكرة في وجوب المساواة، ولو وقف على رواية الإسماعيلي لما عدل عنها. انتهى كلام الحافظ. ورجح العيني (عمدة القاري: 11/294) تأويل الكرماني لأن حديث أبي بكرة لم يفصل بينه وبين حديث ابن عمر هذا فاصل بخلاف حديث عمر. لكن سبق أن نقلنا عن أحمد هذا الحديث عن طريق أيوب عن نافع، وفيه ما يدل على أن ابن عمر كان يقول في الصرف كلاما هو نفس ما رواه أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن رجلا من ليث أخبره بذلك اصطحبه إلى أبي سعيد، فأكد أبو سعيد ما قال له الرجل الليثي ولم ينسب أحمد الرجل ولكن سيأتي ذكره باسمه ونسبه في روايات أخرى، وقد أشار إليه مسلم كما سيأتي بعد قليل ويتراءى لنا أن قول البخاري مثل ذلك يشير به إلى قصة الرجل الليثي. أما لماذا لم يذكرها فلعل الطرف المتصل بها من الحديث أو بعض ألفاظه لم يثبت لديه على شرطه فاكتفى بالإشارة إليه وهذا التأويل عندنا أرجح من تأويل ابن حجر والكرماني والعيني والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1523 ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز)) . حدثنا على بن عبد الله، حدثنا الضحاك بن مخلد، حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار أن أبا صالح الزيات، أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم فقلت له: فإن ابن عباس لا يقوله فقال أبو سعيد: سألته فقلت: سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم أو وجدته في كتاب الله تعالى قال: كل ذلك لا أقول وأنتم أعلم برسول الله مني ولكن أخبرني أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ربا إلا في النسيئة)) . قلت: آثرنا أن لا ندرج هنا من أمر ابن عباس وحديث أسامة إلا هذه الإشارة التي ذكرها البخاري وإن كان حديث ابن عباس وأسامة مثار خلاف لبعض الفقهاء عن الجمهور وذلك لأن أمر هذا الخلاف لا يعنينا في بحثنا هذا ولأنه خلاف لا نأبه له لأن من ذهب إليه تعلق بحديث واحد يمكن تأويله بيسر وحاول به أن يعارض أحاديث معناها متواتر وألفاظ بعضها بلغ حد التواتر أيضًا. ثم قال مسلم في (الصحيح: 3 /1208، 1209، ح 1584) . حدثني يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1524 حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث. وحدثنا محمد بن رمح، أخبرنا الليث عن نافع أن ابن عمر قال له رجل من بني ليث: إن أبا سعيد الخدري يأثر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية قتيبة فذهب عبد الله ونافع معا. وفي حديث ابن رمح قال نافع: فذهب عبد الله وأنا معه والليثي حتى دخل على أبي سعيد الخدري، فقال: إن هذا أخبرني أنك تخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الورق بالورق إلا مثلا بمثل وعن بيع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل فأشار أبو سعيد بأصبعه إلى عينيه وأذنيه، فقال: أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز إلا يدا بيد)) . حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا جرير - يعني ابن حازم -. وحدثنا محمد بن المثني حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد. وحدثنا محمد بن المثني، حدثنا ابن أبي عدي عن ابن عون. كلهم عن نافع بنحو حديث الليث عن نافع عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم وحدثنا قتيبة وسعيد، حدثنا يعقوب - يعني ابن عبد الرحمن القاري عن سهيل عن أبيه، عن أبي الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء)) . ثم قال (نفس المرجع: ص 1211، 1212، ح 1584 مكرر) (1) :   (1) يظهر أن محمد فؤاد عبد الباقي - رحمه الله - اعتبر حديث أبي المتوكل وحديث نافع حديثا واحدا فكرر الرقم الذي رقم به حديث نافع في حديث أبي المتوكل، لكن ترقيم الحديثين يرقم الكتاب لا بالرقم المسلسل لأحاديث الصحيح عامة لم يتكرر فرقم حديث نافع (75) ورقم حديث أبي المتوكل (82) ، وهذا يعني أنهما ليسا حديثا واحدا في اعتبار الراقم المصحح ولم نستطع فهم تكريره للرقم المسلسل لأحاديث الصحيح في الحديثين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1525 حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا إسماعيل بن مسلم العبدي، حدثنا أبو المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربي الآخذ والمعطي فيه سواء)) . حدثنا عمرو الناقد، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا سليمان الربعي حدثنا أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب مثلا بمثل فذكر مثله)) . وقال الترمذي (الجامع الصحيح: 4 /542، 543. ح 1241) : حدثنا أحمد بن منيع، أخبرنا حسين بن محمد، أخبرنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن نافع، قال: انطلقت أنا وابن عمر إلى أبي سعيد فحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: (سمعته أذناي هاتان) - يقول: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل لا يشف بعضه على بعض ولا تبيعوا منه غائبا بناجز)) . وتعقبه بقوله: وحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الربا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1526 وقال النسائي (السنن: 7/277) : أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدثنا خالد بن سليمان بن على أن أبا المتوكل مر بهم في السوق فقام إليه قوم أنا منهم قال: قلنا: أتيناك لنسألك عن الصرف قال: سمعت أبا سعيد الخدري - فقال له رجل: ما بينك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أبي سعيد الخدري؟ قال: ليس بيني وبينه غيره - قال: فإن الذهب بالذهب والورق بالورق - قال سليمان: أو قال: الفضة بالفضة - والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح سواء بسواء فمن زاد على ذلك أو ازداد فقد أربى والآخذ والمعطي فيه سواء. ثم قال (ص 278، 279) : أخبرنا قتيبة عن مالك، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجز)) . أخبرنا حميد بن مسعدة وإسماعيل بن مسعود قالا: حدثنا يزيد هو ابن زريع قال: حدثنا ابن عون، عن نافع، عن أبي سعيد، قال: بصر عيني وسمع أذني من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر النهي عن الذهب بالذهب والورق بالورق إلا سواء بسواء مثلا بمثل ولا تبيعوا غائبا بناجز ولا تشفوا أحدهما عن الآخر. وقال ابن ماجه (السنن: 2/ 758. ح 2256) : حدثنا أبو كريب، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرزقنا تمرا من تمر الجمع فنستبدل به تمرا هو أطيب منه ونزيد في السعر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصلح صاع تمر بصاعين ولا درهم بدرهمين والدرهم بالدرهم والدينار بالدينار ولا فضل بينهما إلا وزنا)) . وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي: 7/ 239، ح 4995) : أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاري، قال: أخبرنا أحمد بن أبي بكر، عن مالك، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا شيئا منها غائبا بناجز)) . 4996- أخبرنا محمد بن عبيد الله بن الفضل الكلاعي بحمص قال: حدثنا عمرو بن عثمان، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا شعيب بن أبي حمزة، عن نافع أن رجلا حدث ابن عمر أن أبا سعيد الخدري يحدث هذا الحديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثابت: فانطلق ابن عمر وذلك الرجل وأنا معه فقال: يا أبا سعيد هل حديث بلغني أنك حدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الذهب بالذهب والورق بالورق؟ فقال أبو سعيد: ((سمعت أذناي وأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، والورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجز)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1527 1071 - حدثني تميم عن المنتصر الواسطي أنبأنا عبد الله بن نمير أنبأنا عبيد الله عن نافع قال: سمعت أبا سعيد الخدري يحدث عبد الله بن عمر يقول: أبصرت عيناي وسمعت أذناي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره نحوه. 1072 - حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: سمعت نافعا يحدث أن عمرو بن ثابت العتواري أخبر عبد الله بن عمر أنه سمع أبا سعيد الخدري يحدث عن الصرف حديثا فانطلق عبد الله بن عمر إلى أبي سعيد الخدري ومعه نافع وعمرو بن ثابت فدخلوا على أبى سعيد فقال عبد الله لأبي سعيد: ما حديث حدثنيه؟ قال أبو سعيد: بصر عيني وسمع أذني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم ليس بينهما فضل ولا يباع عاجل بآجل)) . 1073 - حدثنا ابن بشار، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا يحيى أن نافعا، أخبره أن عمرو بن ثابت العتواري حدث ابن عمر أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم ثم ذكر نحوه)) . 1074 - حدثني واصل بن عبد الأعلى الأسدي حدثنا ابن فضيل عن ليث، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل أو وزنا بوزن ولا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل أو وزنا بوزن، ولا تبيعوا غائبا بشاهد ولا شاهدا بغائب إلا ناجزا بناجز إني أخاف عليكم الرماء)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1528 1075- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، أنبأنا حيوة، عن شريح، أنبأنا محمد بن العجلان، أن نافعا مولى بن عمر، أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري، يقول: رأي عيني وسمع أذني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائبا بناجز)) . 1076 - حدثنا الربيع بن سليمان المرادي، حدثنا أسيد، حدثنا الليث بن سعد، أخبرني نافع، أن عبد الله بن عمر قال له رجل من بني ليث: إن أبا سعيد الخدري يذكر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال نافع: فذهب عبد الله بن عمر وأنا معه والليثي حتى دخل على أبي سعيد الخدري، فقال: إن هذا أخبرني أنك تخبر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الورق بالورق إلا مثلا بمثل، وعن بيع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل)) فأشار أبو سعيد بأصبعه إلى عينيه وأذنيه، فقال: أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ثم ذكر نحوه ". 1077 - حدثنا ابن البرقي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة التِّنِّيسيُّ، حدثنا أبو معبد، عن سليمان بن موسى، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه أتي أبا سعيد الخدري فقال: يا أبا سعيد قد بلغنا انك تروي حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الربا فبينه لنا، قال أبو 1سعيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب مثلا بمثل لا زيادة ولا نظرة والفضة بالفضة لا زيادة ولا نظرة ولا تبيعوا ناجزا بآخر غائبا أبصرته عيناي وسمعته أذناي)) . 1078 - حدثني العباس بن الوليد البيروتي قال: أخبرني أبي، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني نافع مولى عبد الله بن عمرو، قال: حدثني أبو سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا غائبا بناجز)) . 1079 - حدثني يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. وقال ابن الجارود (المنتقي: ص 218، ح 648) : حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الله الزعفراني، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الفضة بالفضة والذهب بالذهب سواء بسواء، فمن زاد أو ازداد فقد أربى الآخذ والمعطي سواء)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1529 649 - أخبرني محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم، أن ابن وهب أخبرهم، قال: أخبرني رجال من أهل العلم، منهم مالك بن أنس، أن نافعا مولى ابن عمر حدثهم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز)) . وقال الطبراني (المعجم الكبير: 1/ 177، ح 458) : حدثنا على بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية، قال: قال أبو سعيد لابن عباس - رحمه الله -: تب إلى الله عز وجل فقال: أتوب إلى الله وأستغفر له ألم تعلم ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الذهب بالذهب، والفضة بالفضة)) وقال: ((إني أخاف عليكم الربا)) . قلت لعطاء: ما الربا؟ قلت: الزيادة والفضل بينهما. وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/67، 68) : حدثنا ابن يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن أن سهيل بن أبي صالح أخبره عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء)) . حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: حدثنا أبو عاصم، عن أبي داود، عن نافع، عن ابن عمر، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدرهم بالدرهم لا زيادة، والدينار بالدينار، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائبا منها بناجز)) . حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني رجال من أهل العلم منهم مالك بن أنس، أن نافعا مولى ابن عمر حدثهم عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. ثم قال: حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: دينار بدينار، ودرهم بدرهم، وصاع تمر بصاع تمر، وصاع بر بصاع بر، وصاع شعير بصاع شعير لا فضل بين شيء من ذلك)) . حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون قال: حدثنا الوليد عن الأوزاعي، عن يحيى، قال: حدثني عقبة بن عبد الغافر، قال: حدثني أبو سعيد الخدري، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا صاع تمر بصاعين، ولا حنطة بصاعين، ولا درهم بدرهمين)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1530 وعن أبي الدرداء: قال مالك في (الموطأ: ص 529، ح 30) : عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بهذا بأسا، فقال أبو الدرداء، من يعذرني من معاوية أنه أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه؟ لا أساكنك أرضا أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر إلى معاوية أن لا يبيع ذلك إلا مثلا بمثل ووزنا بوزن. وقال الشافعي في مسنده (تهذيب السندي: 2/ 158، ح 547) : أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا، فقال معاوية، ما أرى بهذا بأسا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض. وقال أحمد في (المسند الساعاتي، الفتح الرباني: 15/72، ح 238) : حدثنا يحيى بن سعيد بن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن معاوية اشترى سقاية من فضة بأقل من ثمنها أو أكثر قال: فقال أبو الدرداء: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا إلا مثلا بمثل. وقال النسائي (السنن: 7/279) : حدثنا مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1531 وعن عبادة بن الصامت: قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/ 100، 101، ح 2526) : حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، قال: كنا في غزاة، وعلينا معاوية فأصبنا ذهبا وفضة، فأمر معاوية رجلا يبيعها الناس - لا حاجة إلى زيادة " أن " كما فعل المحق نقلا عن السنن الكبرى، فالعبارة مستقيمة بدونها - في أغطياتهم فتسارع الناس فيها فقام عبادة فنهاهم فردوها، فأتى الرجل معاوية فشكى إليه، فقام معاوية خطيبا، فقال: ما بال رجال يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث يكذبون فيها - لا حاجة لزيادة " عليه " كما فعل المحقق نقلا عن السنن الكبرى - لم نسمعها فقام عبادة فقال: والله لنحدثن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كره معاوية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الفضة بالفضة، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح إلا مثلا بمثل، سواء بسواء، عينا بعين)) . ثم قال (نفس المرجع: ص 103، 104، ح 2534) : حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح مثلا بمثل، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كما شئتم يدا بيد)) 2535 - حدثنا وكيع، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن جابر، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب الذهب، والكفة بالكفة، والفضة بالفضة، والكفة بالكفة)) ، حتى خلص إلى الملح، فقال عبادة: إني والله ما أبالي أن لا أكون بأرض بها معاوية. وقال الشافعي في (الأم: 8/173) : اخبرني عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن مسلم بن يسار ورجل آخر، عن عبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، الورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر، يدًا بيد، كيف شئتم)) . قال: ونقص أحدهما - لم يعينه إن كان مسلم بن يسار أو رجل آخر – ((التمر بالتمر، والملح بالملح)) وزاد الآخر ((فمن زاد أو استزاد فقد أربى)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1532 وقال الشافعي في مسنده (تهذيب السندي: 2/157، 158، ح 545) : أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب بن أبي تميمية، عن محمد بن سيرين، عن مسلم بن يسار ورجل آخر، عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، كيف شئتم - ونقص أحدهما الملح أو التمر، وزاد أحدهما - من زاد أو ازداد فقد أربى)) . 546 - أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن مسلم بن يسار ورجل آخر، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر، يدًا بيد، كيف شئتم قال: ونقص أحدهما الملح والتمر)) . قال أبو العباس الأصم في كتابي (عن أيوب، عن أبي سيرين) ثم ضرب عليه ينظر في كتاب الشيخ، يعني الربيع. وقال أحمد (في المسند الساعاتي؛ الفتح الرباني: 15/72، ح 239) : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، كان أناس يبيعون الفضة من المغانم إلى العطاء، فقال عبادة بن الصامت: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح إلا سواء بسواء، مثلًا بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) . زاد في رواية: فإذا اختلفت فيه الأوصاف، فيبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1533 ثم قال (نفس المرجع: 73/241) : حدثنا يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، حدثنا حكيم بن جابر، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، مثلا بمثل، حتى خص الملح)) ، فقال معاوية: إن هذا لا يقول شيئًا - لعبادة - فقال عبادة: لا أبالي أن لا أكون بأرض يكون فيها معاوية أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. وقال مسلم (الصحيح: 3/12210، 1211، ح 1587) : حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري، حدثنا حماد بن زيد , عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث قال: قالوا: أبو الأشعث، أبو الأشعث فجلس فقلت له: حدث أخانا حديث عبادة بن الصامت، قال: نعم: غزونا غزاة وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة فكان فيما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلا يبيعها في أعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت، فقام فقال: إني سمعت رسول الله صلى ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى فرد الناس ما أخذوا فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبًا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه، فلم نسمعها منه، فقال عبادة بن الصامت، فأعاد القصة، ثم قال، لنحدث بما سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية - أو قال: وإن رغم - ما أبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء. حدثنا إسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر، عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب بهذا الإسناد نحوه. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم (واللفظ لابن أبي شيبة) - قال إسحاق: أخبرنا وقال الإخوان: حدثنا - وكيع، حدثنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأنصاف فبيعوا كيف شئتم يدًا بيد)) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1534 وقال أبو داود (السنن: 3/248، 249، ح 3349) : حدثنا الحسن بن علي، حدثنا بشر بن عمر، حدثنا همام، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن مسلم المكي، عن أبي الاشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب، تبرها وعينها، والفضة بالفضة، تبرها وعينها، والبر بالبر، مدي بمدي، والشعير بالشعيرمدي بمدي، والتمر بالتمر مدي بمدي، والملح بالملح مدي بمدي، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرهما يدًا بيد، وأما نسيئة فلا ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدًا بيد وأما نسيئة فلا)) . قال أبو داود: وروي هذا الحديث سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي، عن قتادة، عن مسلم بن يسار من إسناده. 3350 - حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سفيان، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث يزيد وينقص قال: فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد. وقال الترمذي (الجامع الصحيح: 3/541، 542، ح 1240) : حدثنا سويد بن نصر، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب، مثلا بمثل، والبر بالبر، مثلا بمثل، فمن زاد أو ازداد، فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة، كيف شئتم يدًا بيد وبيعوا الشعير بالتمر، كيف شئتم يدًا بيد)) . وتعقبه بقوله: حديث عبادة حديث حسن صحيح، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن خالد بهذا الإسناد، وقال: بيعوا البر بالشعير كيف شئتم يدًا بيد. وروى بعضهم هذا الحديث، عن خالد، عن أبي قلابة، عن الأشعث، عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم. الحديث. وزاد فيه: قال خالد: قال أبو قلابة: بيعوا البر بالشعير كيف شئتم. فذكر الحديث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1535 وقال النسائي (السنن: 7 /274، 278) : أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سلمة، وهو ابن علقمة، عن محمد بن سيرين، عن مسلم بن يسار، وعبد الله بن عتيك، قالا: جمع المنزل بين عبادة بن الصامت، ومعاوية حدثهم عبادة، قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب، والورق بالورق، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر - قال أحدهما: والملح بالملح، ولم يقله الآخر - إلا مثلا بمثل يدًا بيد، وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، يدًا بيد كيف شئنا)) قال أحدهما: ((فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) . أخبرنا المؤمل بن هشام قال: حدثنا إسماعيل - وهو ابن علية - عن سلمة بن علقمة، عن ابن سيرين، قال: حدثني مسلم بن يسار، وعبد الله بن عبيد، وقد كان يدعي ابن هرمز، قال: جمع المنزل بين عبادة بن الصامت وبين معاوية حدثهم عبادة، قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير - قال أحدهما: والملح بالملح، ولم يقله الآخر - إلا سواء بسواء، مثلا بمثل - قال أحدهما: من زاد أو ازداد فقد أربى ولم يقل الآخر - وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، يدًا بيد، كيف شئنا)) . أخبرنا إسماعيل بن مسعود قال: حدثنا بشر بن مفضل، قال: حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد، قال: حدثني مسلم بن يسار وعبد الله بن عبيد، قالا: جمع منزل بين عبادة بن الصامت وبين معاوية، فقال عبادة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيع الذهب بالذهب، والورق بالورق، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، (قال أحدهما: والملح بالملح ولم يقله الآخر) إلا سواء بسواء، مثلا بمثل، (قال أحدهما: من زاد أو ازداد فقد أربى ولم يقل الآخر) وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، يدا بيد، كيف شئنا. فبلغ هذا الحديث معاوية، فقال: ما بال رجال يحدثون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صحبناه ولم نسمعه منه فبلغ ذلك عبادة بن الصامت، فقام فأعاد الحديث , فقال: لنحدثن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن رُغِم معاوية. خالفه قتادة، رواه عن مسلم بن يسار، عن أبي الأشعث، عن عبادة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت، وكان بايع النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يخاف في الله لومة لائم أن عبادة قام خطيبًا فقال: أيها الناس إنكم قد أحدثتم بيوعًا لا أدري ما هي ألا إن الذهب بالذهب، وزنًا بوزن، تبرها وعينها، ولا بأس ببيع الفضة بالذهب، يدًا بيد والفضة أكثرهما ولا تصلح النسيئة، ألا إن البر بالبر، والشعير بالشعير، مُدْيًا بمُدْيٍ، ولا بأس ببيع الشعير بالحنطة يدًا بيد والشعير أكثرهما ولا يصلح نسيئة ألا وإن التمر بالتمر، مديًا بمُدْىٍ حتى ذكر الملح مدًّا بمدٍّ فمن زاد أو استزاد فقد أربى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1536 أخبرنا محمد بن المثنى ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا عمرو بن عاصم، قال: حدثنا همام، قال: حدثنا قتادة عن أبي الخليل عن مسلم المكي، عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، تبره وعينه، وزنًا بوزن والفضة بالفضة، تبره وعينه، وزنًا بوزن، والملح بالملح، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، سواء بسواء، مثلا بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) ، واللفظ لمحمد ولم يذكر يعقوب: الشعير بالشعير. ثم قال: أخبرني هارون بن عبد الله، قال: حدثني أبو أسامة، قال: قال إسماعيل: حدثنا حكيم بن جابر وأنبأنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى عن إسماعيل، قال: حدثنا حكيم بن جابر، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب الكفة بالكفة)) ، ولم يذكر يعقوب: الكفة بالكفة. فقال معاوية: إن هذا لا يقول شيئًا، قال عبادة: إني والله لا أبالي أن لا أكون بأرض يكون بها معاوية إني أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. قلت: لكن ينبغي تحرير ما رواه النسائي، عن إسماعيل بن مسعود من حديث عبادة، ففي أوله (جمع المنزل بين عبادة بن الصامت وبين معاوية فقال عبادة) الحديث. وفي وسطه (فبلغ هذا الحديث معاوية فقام فقال) الحديث. ذلك بأنه إذا كان المنزل جمع بين عبادة ومعاوية فإن معاوية سمع الحديث بنفسه من عبادة ولم يبلغه بلاغًا، والظاهر أن في هذه الرواية خلطًا بين قصتين أولاهما كانت بعد الثانية أعني أن عبادة كرر حديثه في منزل جمع بينه وبين معاوية بعدما كان من نكير معاوية عليه في بيت أو كنيسة أو مكان غيرهما شهده جمع من الناس بل لعل هذا التكرار كان بعد أن لحق عبادة بعمر، فرده إلى الشام وكتب إلى معاوية أن لا إمارة لك عليه، فأخذ عبادة يردد حديثه إصرارًا على النكير على معاوية وسنعود إلى هذا الموضوع بعد حين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1537 وقال ابن ماجه (السنن: 2/757، 758، ح 2254) : حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا يزيد بن زريع. وحدثنا محمد بن خالد بن خداش، حدثنا إسماعيل بن علية. قالا: حدثنا سلمة بن علقمة التميمي، حدثنا محمد بن سيرين، أن مسلم بن يسار وعبد الله بن عبيد حدثاه، قالا: جمع المنزل بين عبادة بن الصامت ومعاوية إما في كنيسة، وإما في بيعة فحدثهم عبادة بن الصامت، فقال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالورق، والذهب بالذهب، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر - قال أحدهما: والملح بالملح. ولم يقله الآخر - وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر، يدًا بيد كيف شئنا)) . وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي: 7/238، ح 4994) : أخبرنا أحمد بن على الصيرفي بالبصرة، قال: حدثنا أبو كامل الجحدري، قال: حدثنا ابن زريع، قال: حدثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن ابن الأشعث، قال: كان الناس يتبايعون آنية فضة في مغنم إلى العطاء، فقال عبادة: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى)) . ثم قال (نفس المرجع: ص 239، 240، ح 4997) : أخبرنا الحسن بن سفيان قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، مثلا بمثل، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأنصاف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) . وقال الدارمي (السنن: 2/258، 259) : أخبرنا عمرو بن عون، أنا خالد، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، قال: قام أناس في إمارة معاوية يبيعون آنية الذهب والفضة على العطاء، فقام عبادة بن الصامت، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، إلا مثلا بمثل، سواء بسواء، فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1538 وقال الدارقطني (السنن: 3/18، ح 58) : حدثنا أبو محمد بن صاعد ومحمد بن أحمد بن الحسين وآخرون، قالوا: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الربيع بن صبيح (1) ، عن الحسن، عن عبادة، وأنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعًا واحدًا ومكيل فمثل ذلك فإذا اختلف النوعان فلا بأس به)) . وتعقبه الدارقطني بقوله: لم يروه غير أبي بكر، عن الربيع هكذا وخالفه جماعة فرووه عن الربيع، عن ابن سيرين، عن عبادة وأنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ غير هذا اللفظ. 59- حدثنا محمد ابن أحمد بن الحسن، حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة وأبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن أبي الأشعث الصنعاني. قال قتادة: وحدثني صالح أبو الخليل , عن مسلم المكي، عن أبي الأشعث. أنه شهد خطبة عبادة بن الصامت، قال: سمعته يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع الذهب بالذهب، إلا وزنًا بوزن، والورق بالورق، إلا وزنًا بوزن، تبره وعينه، وذكر الشعير بالشعير، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والملح بالملح، ولا بأس بالشعير بالبر، يدًا بيد، والشعير أكثرهما يدًا بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) . قال عبد الله: فحدثت بهذا الحديث أبي فاستحسنه. ثم قال (نفس المرجع: ص 24،ح 8) : حدثنا سليمان بن النعمان، حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الجرجرائي - بجيمين بمفتوحتين ورائين الأولى ساكنة - حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأنصاف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) .   (1) الربيع بن صبيح البصري أخرج له الترمذي وابن ماجه والبخاري في التاريخ يروي عن الحسن ومجاهد، وثقه بعضهم وضعفه آخرون. كان القطان لا يرضاه، وقال الشافعي وحرملة: كان خزاء يريدان بذلك الغمز فيه كمحدث، وقال عفان بن مسلم: أحاديثه كلها مقلوبة، وقال أبو الوليد: كان لا يدلس. وروي عنه قوله: ما تكلم أحد فيه إلا والربيع فوقه، وعن أحمد لا بأس به رجل صالح وضعفه ابن معين، وفي رواية قال: لا بأس به. وقال عنه: ربما دلس، كذلك ضعفه ابن سعد والنسائي، قال أبو زرعة وأبو حاتم: صالح، وزاد أبو زرعة: صدوق، وقال شعبة: من سادات المسلمين، وقال يعقوب بن شيبة: رجل صالح ثقة ضعيف جدًا، وقال ابن عدي، له أحاديث صالحة مستقيمة ولم أر له حديثًا منكرًا جدًّا وأرجو أنه لا بأس به ولا برواياته. خرج غازيًا إلى السند فمات في البحر حوالي 160هـ للهجرة ودفن في جزيرة. انظر ابن حجر (تهذيب التهذيب: 3/247، ترجمة 474) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1539 وقال ابن الجارود (المنتقى: ص 218، 219، ح 650) : حدثنا محمود بن آدم، قال: حدثنا وكيع، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدًا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) . 652 - حدثنا محمود بن آدم، قال: حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن جابر الأحمسي، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -. وحدثنا محمود بن آدم، قال: حدثنا مروان - يعني ابن معاوية - عن إسماعيل وحكيم بن جابر، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -. وهذا حديثه عن وكيع، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالذهب، الكفة بالكفة، والفضة بالفضة، الكفة بالكفة، حتى خص إلى الملح)) . قال عبادة - رضي الله عنه -: إني والله لا أبالي أن لا أكون بأرض معاوية. وقال مروان: حتى خصاه أن أذكر الملح. وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/66) : حدثنا على بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا همام، قال: حدثنا قتادة، عن أبي الخليل، عن مسلم المكي، عن أبي الأشعث الصنعاني، أنه شهد خطبة عبادة، أنه حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الذهب بالذهب، وزنًا بوزن، والفضة بالفضة، وزنًا بوزن، والبر بالبر كيلا، والشعير بالشعير، ولا بأس ببيع: الشعير (بالتمر) - هكذا في النسخة المطبوعة وصوابه: (بالبر) كما عند غير الطحاوي - و (التمر) أكثرهما يدًا بيد، والتمر بالتمر، والملح بالملح، ومن زاد أو استزاد فقد أربى)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1540 ثم قال: (ص 67) : حدثنا على بن شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون: قال: أخبرنا إسماعيل بن خالد، عن حكيم بن جابر، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالذهب، مثلا بمثل، الكفة بالكفة، والفضة بالفضة، مثلًا بمثل، الكفة بالكفة، والبر بالبر، مثلا بمثل، يدًا بيد، والشعير بالشعير، مثلا بمثل، يدًا بيد، والتمر بالتمر، مثلا بمثل، يدًا بيد، حتى ذكر الملح)) . ثم قال (ص 76) : حدثنا يحيى المزني، قال: حدثنا محمد بن إدريس، قال: أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، قال: كنا في غزاة علينا معاوية فأصبنا ذهبًا وفضة، فأمر معاوية رجلا أن يبيعها الناس في أعطياتهم قال: فتسارع الناس فيها فقام عبادة فنهاهم فردوها فأتى الرجل معاوية فشكى إليه فقام معاوية خطيبًا فقال: ما بال رجال يحدثون عن رسول بالله صلى الله عليه وسلم أحاديث يكذبون فيها عليه لم نسمعها فقام عبادة فقال: والله لنحدثن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الفضة بالفضة، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، يدًا بيد، عينًا بعين)) . حدثنا إسماعيل بن يحيى، قال: حدثنا محمد بن إدريس، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، أنه قال: قدم ناس في إمارة معاوية يبيعون آنية الذهب والفضة إلى العطاء، فقام عبادة بن الصامت، فقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الذهب بالذهب , والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، إلا مثل بمثل سواء بسواء، فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1541 وقال ابن عبد البر (التمهيد: 4/76، 86) : وأما قصة معاوية مع عبادة، فحدثني أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا أصبغ بن قاسم، قال: حدثنا الحارث بن أسامة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن جابر، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالذهب، مثلا بمثل، الكفة بالكفة، والفضة بالفضة، مثلًا بمثل، الكفة بالكفة، والبر بالبر، مثلًا بمثل، يدًا بيد، والشعير بالشعير، مثلا بمثل، يدًا بيد، والتمر بالتمر، مثلًا بمثل، يدًا بيد)) ، قال معاوية: إن هذا لا يقول شيئًا، فقال لي عبادة: والله لا أبالي أن لا أكون بأرضكم هذه. حدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبيد الله بن عمر، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن إسماعيل قال: حدثني حكيم بن جابر، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه إلى قوله: الملح بالملح، فقال معاوية: إن هذا لا يقول شيئًا، فقال عبادة: إني والله لا أبالي أن لا أكون بأرض معاوية أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. وحدثنا عبد الوارث بن سفيان، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا بكر بن حماد، حدثنا مسدد بن مسرهد، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، عن خالد الحذاء، قال: أنبأنا أبو قلابة، عن أبي أسماء - أبو أسماء هو مُبَرْتَدُّ الرحَبي، بفتح الحاء المهملة الدمشقي - عن عبادة بن الصامت أنهم أرادوا بيع آنية من فضة إلى العطاء، فقال عبادة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر البر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلًا بمثل من زاد أو ازداد فقد أربى)) وتعقب هذا ابن عبد البر بقوله: هكذا قال المعتمر، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء وهو خطأ والصواب في الحديث ما قاله أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، وقول المعتمر، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء خطأ، وقد خالفه الثوري وغيره عن خالد وأخطأ أيضًا المعتمر في قوله: إن الآنية بيعت إلى العطاء، وإنما بيعت في أعطيات الناس وإنما الحديث لأبي قلابة، عن أبي أسماء فكذلك روي الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة. قلت: تخطئة أبي عمر - رحمه الله - للمعتمر في روايته عن أبي أسماء وفيها جاء فيها من قوله: (في أعطيات الناس) يبدو لنا أنه تسرع فيها ذلك أن كلا من أبي أسماء والأشعث من طبقة واحدة من التابعين وكلاهما روى عن نفر من الصحابة وإن ذكر عبادة فيمن روي عنهم أبو الأشعث ولم يذكر فيمن روي عنهم أبو أسماء، وذلك عندنا لا يغمز في روايته فكلاهما دمشقي سكنا، وكان عبادة في دمشق وقضية نزاعه مع معاوية ليست بالعابرة أو العارضة التي يجئ ذكرها مرة أو مرتين، ثم ينصرف الناس عنه أو ينصرف عنه ذاكرها وإنما هي قضية اتخذ منها عبادة قضية مبدأ واستمر ينافح عنها ويؤكد موقفه منها في مجالسه وكلما سنحت له الفرصة وكانت إلى ذلك قضية الناس عامة يتناقلون حديثها ويتداوله بمناسبة وبغير مناسبة، ليس ذلك لمجرد ما نتج عنها من نزاع بين عبادة ومعاوية وإن كان يكفي لأن يجعلها وحده قضية مجتمع ولأنها أيضًا تمس حاجتهم اليومية كانوا يغزون ويغنمون غنائمهم كثيرًا ما يكون فيها الذهب آنية أو حليًا فضلًا عن التبر والمسكوك، وليس كل الناس يترخص في استعمال آنية الذهب أو اكتسابها بل وليس كل الناس يستغنى عن قيمة إناء الذهب أو الفضة إذا جاء في نصيبه من الغنيمة بل إن الحاجة في قيمته والزهد في استعماله عاملان من شأنهما أن يشغلا المجتمع الدمشقي خاصة وغيره من المجتمعات الإسلامية بقضية عبادة ومعاوية ذلك إذا اعتبرناها منحصرة بينهما على أننا نراها ليست منحصرة بل نقل عن أبي الدرداء أيضًا كان نقله صحيحًا فكانت القضية أيضًا بين أبي الدرداء ومعاوية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1542 وهذه الحال التي رسمنا ملامحها تجعل من المعقول والطبيعي أن لا ينفرد أبو الأشعث برواية قصتها عن عبادة وأبو أسماء ليس بأدنى من أبي الأشعث مكانًا في التابعين ورواة الحديث بل إن كلا منهما روى عن الآخر وهما بدرجة واحدة لم يرو عنهما البخاري إلا في الأدب المفرد وروي عنهما مسلم والأربعة على أن أبا الأشعث وصموه بالتدليس ولم يصموا به أبا أسماء، وأبو قلابة أخرج له الجماعة ثم إن معتمرًا لم ينفرد برواية هذا الحديث عن أبي قلابة عن أبي أسماء بل رواه أيضًا قتادة عن أبي قلابة كما سبق أن نقلنا عن الدارقطني ولا سبيل إلى الغمز في كل من معتمر وقتادة ولا داعي إلى الإدعاء أن أبا أسماء رواه عن أبي الأشعث إذا يمكن أيضًا الإدعاء بأن بعض روايات أبي الأشعث له كانت عن أبي أسماء فهو لم يصرح في جميع رواياته مما يؤكد سماعه عن عبادة وقد تكون بعض رواياته عن طريق أبي أسماء، والذين رووا عن أبي الأشعث، لم يصرحوا جميعًا بأنهم شهدوه في مجلس، وهو يحدث بالقصة كما جاء في بعض الروايات، وقد ذكرنا آنفاٍ أنهم وصموا الأشعث بالتدليس، ولم يصموا به أبا أسماء. ثم إن كلمة " في أعطياتهم " أو " إلى أعطياتهم " لا تتغايران فمن المحتمل جدًا أن يكون معاوية قد أمر ببيع تلك الأواني قبل أن يقسم على الناس غنائمهم التي أطلق عليها البعض " أعطيات " وأطلق عليها آخر " عطاء " ليتيسر له أن يقسم بين الناس دون أن يضطر إلى تقويم تلك الأواني أو يجهد حرجًا من رغبة البعض فيها، ولم تكن من قسمتهم ورغبة آخرين عنها، وجاءت في أنصبتهم، وهو الحرص بدهائه السياسي على أن يتجنب مواجد النفوس ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وكلمة " في " لا تنافي كلمة " إلى " إذ معناهما معًا أن معاوية أمر ببيع تلك الأواني على أن يدفع المشترون ثمنها من أعطياتهم حين يتقاضونها وجلي أنهم لم يكونوا يصطحبون في الغزو نقدًا أو سكة للبيع والشراء، فهم واثقون بالنصر ونفقاتهم أثناء الغزو على بيت المال، وهم ينتظرون ما يصيبون من غنائم وبها قد يتعاملون عقب الحرب فكان طبيعيًّا أن يعتبر ذلك معاوية وأن يبايعهم على أن يدفعوا ثمن ما اشتروه مما ينالهم من الأعطيات وليست كلمة " العطاء " التي وردت في بعض الروايات تعني ما يصيب الواحد منهم آخر كل شهر أو مرتبه الشهري بالتعبير الحديث من بيت مال المسلمين وإنما تعني ما يعطى له باعتباره نصيبهم من الغنائم، ويصرفها إلى هذا المعنى ظرفها الذي هو القرينة الصالحة لتحديد معناها. على أن القصة في رأينا لم تكن محصورة في ظرف معين بل أحسبها تكررت فمنها ما كان عقب غزوة كما جاء في بعض الروايات ومنها ما كان بعد ذلك وربما مما كان نصيبًا لبيت مال المسلمين من الخمس وفيه كانت بعض هذه الآنية فكان معاوية يأمر ببيعها. ولذلك اشتد نكير عبادة - رضي الله عنه - إذا خشي أن يتخذ الناس اجتهاد معاوية لتكراره قاعدة يقيمون عليها تعاملهم العادي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1543 وآية ذلك أن حديث أبي الدرداء وقصته مع معاوية يختلفان عن حديث عبادة وقصته، وليس كما التبس على ابن عبد البر، ذلك بأن حديث أبي الدرداء، فيه أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، ذلك لما جاء في حديث مالك الذي رواه في موطأه ورواه عنه الشافعي والنسائي، على حين جاء في رواية أحمد عنه أن معاوية اشترى سقاية من فضة بأقل من ثمنها أو أكثر وكلتا الروايتين تتفقان على أن معاملة كانت في سقاية من ذهب أو ورق غير متعادلة الوزن أو الثمن بين ما كان منها بيعًا وما كان ثمنًا ولا أهمية كبرى للفرق بين كلمة " اشترى " الواردة في رواية أحمد وبين كلمة " باع " الواردة في الموطأ أو في مسند الشافعي وسنن النسائي، فقد يطلق العرب إحداهما على الأخرى وذلك مشهور عنهم وهذا الإطلاق أرجح عندنا من أن تكون القصة أيضًا قد تكررت لكن لا ريب عندنا في أن قصة أبي الدرداء هي غير قصة عبادة، وأن ما قاله عمر لأحدهما قاله للآخر وأن عمر نزع إمارة معاوية عنهما معًا وأن معاوية لم يزدجر بالأولى - ويظهر أنها قصة أبي الدرداء - فمضى في تطبيق اجتهاده، وتجاوز به التصرف فيما هو من خاصة أمره إلى ما هو من شئون عامة المسلمين وذلك عندنا - والله أعلم ما حمل عبادة - رضي الله عنه - على أن شدد النكير ويواصله ويتخذ منه قضية أمر بمعروف ونهي عن المنكر ووفاء بما بايع به رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة من أن لا يخاف في الله لومة لائم. وجلى أن مواصلة عبادة لحملته النكيرية هذه بأساليب مختلفة وفي مجالس ومناسبات متغايرة من شأنها أن تجعل الرواة عن عبادة لما يقوله في حملته أكثر من واحد وآية ذلك ما ساقه ابن عبد البر نفسه وساقه غيره ممن نقلنا عنهم من روايات لحديث عبادة، عن غير أبي الأشعث، وأبي أسماء مثل مسلم بن يسار وعبد الله بن عبيد اللذين روي عنهم هذا الحديث محمد بن سيرين (1) . ثم قال: ذكر وكيع وعبد الرزاق وعبد الملك بن الصباح الديناري، كلهم عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت، قال: كان معاوية يبيع الآنية من الفضة بأكثر من وزنها، فقال عبادة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن، والفضة بالفضة وزنًا بوزن، والبر بالبر مثلًا بمثل، والشعير بالشعير مثلًا بمثل، والتمر بالتمر مثلًا بمثل، والملح بالملح مثلًا بمثل، وبيعوا الذهب بالفضة يدًا بيد كيف شئتم، والبر بالشعير يدًا بيد كيف شئتم، والتمر بالملح يدًا بيد كيف شئتم. هذا لفظ حديث عبد الرزاق. وقال وكيع: إذا اختلفت الأنصاف فبيعوا كيف شئتم)) .   (1) قال ابن عبد البر (التمهيد 4/83) في تعقيبه على حديث زيد بن أسلم وفيه قصة أبي الدرداء وبعد أن ساق حديث عبادة بطرق مختلفة نقلناها عنه، فهذا ما بلغناه في قصة معاوية مع عبادة في بيع الآنية بأكثر من وزنها ذهبًا كانت أو فضة، وذلك عند العلماء معروفة لمعاوية مع عبادة لا مع أبي الدرداء، والله أعلم، وممكن أن يكون له مع أبي الدرداء مثل هذه القصة أو نحوها، ولكن الحديث في الصرف محفوظ لعبادة، وهو الأصل الذي عول عليه العلماء في باب الربا، ولم يختلفوا أن عمل معاوية غير جائز، وأن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة لا يجوز إلا مثلا بمثل تبرهما وعينهما ومصوغهما، وعلى أي وجه كانت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1544 وحدثنا سعيد بن نصر، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثهم قال: حدثنا ابن وضاح قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قالا: حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، قال: كنا في غزاة وعلينا معاوية، فأصبنا ذهبًا وفضة، فأمر معاوية رجلا ببيعها للناس في أعطياتهم، فتنازع الناس فيها فقام عبادة فنهاهم فردوها، فأتى الرجل معاوية فشكى إليه، فقام معاوية خطيبًا، فقال: ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث يكذبون فيها , لم نسمعها فقام عبادة فقال: والله لنحدثن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمعنا وإن كره معاوية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الفضة بالفضة , ولا التمر بالتمر، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا الملح بالملح إلا مثلا بمثل، سواء بسواء، عينًا بعين)) . وحدثنا عبد الوارث، حدثنا قاسم، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا عبد الله بن عمر، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: كنت في حلقة بالشام فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث: قالوا: أبو الأشعث، فجلس فقلت: حدث أخاك حديث عبادة بن الصامت. قال: نعم غزونا وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة، فكان ما غنمنا آنية من فضة، فأمر معاوية رجلا ببيعها في أعطيات الناس، فتنازع الناس في ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت ذلك، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية أو قال: رغم معاوية ما أبالي أن أصحبه في جنده ليلة سوداء. قال حماد: هذا أو نحوه. وروى هذا الحديث محمد بن سيرين، عن محمد بن يسار وعبد الله بن عبيد، عن عبادة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1545 حدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا محمد بن زهير، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: حدثني مسلم بن يسار وعبيد الله بن عبيد، وقد كان يدعي ابن هرمز، قال: جمع المنزل بين عبادة بن الصامت وبين معاوية إما في بيعة أو في كنيسة، فقام عبادة، فقال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذهب بالذهب)) ، فذكر نحو ما تقدم وزاد: ((وأمرنا أن نبيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر يدًا بيد كيف شئنا)) . وحدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا قاسم، قال: حدثنا محمد بن أبي العوام، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن رجلين - أحدهما مسلم بن يسار -، عن عبادة بن الصامت نحوه. وحدثنا سعيد بن نصر قراءة مني عليه، أن قاسم بن أصبغ حدثهم، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي، قال: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا ابن جدعان، عن محمد بن سيرين , عن مسلم بن يسار، عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب مثلا بمثل، والورق بالورق مثلا بمثل، والتمر بالتمر مثلا بمثل، والحنطة بالحنطة مثلا بمثل، والشعير بالشعير مثلا بمثل، حتى خص الملح بالملح مثلا بمثل، فمن زاد ازداد فقد أربى)) واللفظ لحديث الحميدي. وروى هذا الحديث بكر المزني، عن مسلم بن يسار، عن عبادة كما رواه محمد بن سيرين، حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا قاسم، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا مبارك بن فضالة، قال: حدثنا بكر بن عبد الله المزني، عن أبي عبد الله مسلم بن يسار، قال: خطب معاوية بالشام، فقال: ما بال أقوام يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصرف وقد شهدنا النبي عليه السلام ولم نسمعه نهى عنه، فقام عبادة بن الصامت، فقال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن يباع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، والورق بالورق إلا مثلا بمثل، وذكر ستة أشياء: البر والتمر والشعير والملح إلا مثلا بمثل)) لنحدثن بما سمعنا، وإن كرهت يا معاوية لندعك ولنلحقن بأمير المؤمنين. فقال: أيها الرجل أنت وما سمعت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1546 حدثنا أحمد بن القاسم، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة. وحدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا محمد بن الجهم السمري. قالا جميعًا: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرني سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن مسلم بن يسار، عن الأشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت، أنه قام فقال: يا أيها الناس إنكم قد أخذتم بيوعًا لا أدري ما هي، وإن الذهب بالذهب وزنًا بوزن تبره وعينه يدًا بيد، زاد محمد بن الجهم: والفضة بالفضة وزنًا بوزن يدًا بيد تبرها وعينها، ثم اتفقًا ولا باس ببيع الذهب بالفضة , والفضة أكثرهما يدًا بيد، ولا يصلح نساء، والبر بالبر مدى بمدي يدًا بيد، والشعير بالشعير مدى بمدى يدًا بيد، ولا بأس ببيع الشعير بالبر والشعير أكثرهما يدًا بيد، ولا يصلح نسيئة، والتمر بالتمر … حتى عد الملح بالملح مثلا بمثل من زاد أو ازداد فقد أربى. ثم قال ابن عبد البر: هكذا رواه ابنا أبي عروبة، عن قتادة، عن مسلم بن ياسر موقوفًا، فذكر الحديث وتابع هشام الدستوائي سعيد بن أبي عروبة على هذا الإسناد، عن مسلم بن يسار. ورواه همام عن قتادة عن أبي الخليل، عن مسلم المكي، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله بمعناه وسعيد وهشام عندهم أحفظ من همام. ثم قال: وحدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا محمد بن وضاح، قال: حدثنا موسى بن معاوية، قال: حدثنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدًا بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1547 ثم قال: حدثني خلف بن القاسم بن سهل الحافظ، قال: حدثنا أبو الميمون البجلي عبد الرحمن بن عمر بدمشق، قال: حدثنا أبو زرعة، قال: حدثنا محمد بن المبارك، عن يحيى بن حمزة، عن برد بن سنان، عن إسحاق بن قبيصة بن ذؤيب، عن أبيه، أن عبادة أنكر على معاوية شيئًا، فقال: لا أساكنك بأرض أنت بها، ورحل إلى المدينة، فقال له عمر: ما أقدمك؟ فأخبره، فقال: ارجع إلى مكانك قبح الله أرضًا لست فيها وأمثالك. وكتب إلى معاوية: لا إمارة لك عليه. وعن البراء بن عازب قال عبد الرزاق (المصنف: 8/118، ح 14547) : أخبرنا معمر، عن عمرو بن دينار، عن أبي المنهال، قال: باع رجل ذهبًا بورق إلى الموسم، فقيل له: هذا بيع لا يحل، فقال: بعته في سوق المسلمين فذكر له زيد بن أرقم والبراء بن عازب فسألهما، فقال: لا سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف وكنا تاجرين، فقال: ((إن كان يدًا بيد فلا بأس ولا نسيئة)) . وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/107، 108، ح 2544) . حدثنا عفان، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرنا حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف، وكلاهما يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالذهب دينًا)) . وقال أحمد (المسند الساعاتي الفتح الرباني: 15/74، 75، ح 245) : حدثنا عفان، حدثنا شعبة، اخبرني حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف، فهذا يقول: سل هذا فإنه خير مني وأعلم وهذا يقول سل هذا فهو خير مني وأعلم. قال: فسألتهما فكلاهما يقول: ((نهى سول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالذهب دينًا)) . 246- حدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا إبراهيم بن نافع، قال: سمعت عمرو بن دينار يذكر ((عن أبي المنهال أن زيد بن أرقم والبراء بن عازب كانا شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهما أن ما كان بنقد فأجيزوه وما كان نسيئة فردوه)) . وقال البخاري (الصحيح: 3/31) : حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، قال: أخبرني حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا المنهال قال: سمعت البراء بن عازب وزيد بن أرقم - رضي الله عنهم -، عن الصرف، فكل واحد منهما يقول: هذا خير مني، فكلاهما يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينًا)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1548 وقال مسلم (الصحيح: 3/1212، 1213، ح 1589) : حدثنا محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن أبي المنهال قال: باع شريك لي وراقًا بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج، فجاء إلى فأخبرني، فقلت: هذا أمر لا يصلح. قال: قد بعته في السوق فلم ينكر ذلك على أحد، فأتيت البراء بن عازب فسألته، فقلت: قدم النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ونحن نبيع هذا البيع، فقال: ((ما كان يدًا بيد فلا بأس به، وما كان نسيئة فهو ربا)) ، وائت زيد بن أرقم فإنه أعظم تجارة مني، فأتيته فسألته، فقال مثل ذلك ". حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا شعبة، عن حبيب أنه سمع أبا المنهال يقول سألت البراء بن عازب، عن الصرف فقال: سل زيد بن أرقم فهو أعلم فسألت زيدًا فقال: سل البراء فهو أعلم، ثم قالا: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينًا)) . وقال النسائي (السنن: 7/280) : اخبرنا محمد بن منصور، عن سفيان بن عمرو، عن أبي المنهال قال: باع شريك لي ورقًا بنسيئة فجاءني فأخبرني فقلت: هذا لا يصلح فقال: قد والله بعته في السوق وما عابه على أحد فأتيت البراء بن عازب فسألته فقال: قدم علينا النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ونحن نبيع هذا البيع فقال: ((ما كان يدًا بيد فلا بأس به وما كان نسيئة فهو ربا)) ثم قال لي: ((ائت زيد بن أرقم)) فأتيته فسأله فقال ذلك. أخبرني إبراهيم بن الحسن قال: حدثنا حجاج قال: قال ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار وعامر بن مصعب أنهما سمعا أبا المنهال يقول: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم فقالا: كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألنا نبي الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف فقال: ((إن كان يدًا بيد فلا بأس وإن كان نسيئة فلا يصلح)) . اخبرنا أحمد بن عبد الله بن الحكم، عن محمد، قال: حدثنا شعبة، عن حبيب قال: سمعت أبا المنهال قال: سألت البراء بن عازب عن الصرف فقال: سل زيد بن أرقم فهو خير مني وأعلم فسألت زيدًا فقال سل البراء فإنه خير مني وأعلم فقالا جميعًا: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الورق بالذهب دينًا)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1549 وقال الدارقطني (السنن: 2/16، 17، ح 52) : حدثنا أبو رَوْقٍ الهمداني- في النسخة المطبوعة الهراني وهو خطأ - بالبصرة حدثنا أحمد بن روح، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، سمع أبا المنهال عبد الرحمن بن مطعم يقول: باع شريك لي دراهم في السوق بنسيئة فقلت: لا يصلح هذا فقال: لقد بعتها في السوق فما عاب على ذلك أحد قال: فسألت البراء بن عازب فقال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونحن نتبايع هذا البيع فقال: ما كان نسيئة فلا يصلح والْقَ زيد بن أرقم فسأله فإنه كان أعلمنا تجارة فسألته فقال مثل ذلك. وقال الطبري (تهذيب الآثار مسند عمر بن الخطاب، السفر: 2/737، ح 1067) : حدثني محمد بن المثنى، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي المنهال قال: جاء رجل إلى زيد بن أرقم والبراء بن عازب فسألهما عن بيع الورق بالذهب، فقال كل واحد منهما: سل هذا فإنه خير مني وأعلم مني فقال أحدهما: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالذهب دينًا)) وقال الآخر: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق نساء)) . وقال ابن عبد البر (التمهيد: 6/284) : حدثنا عبد الوارث وسعيد بن نصر قالا: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا ابن وضاح قال: حدثنا أبو بكر قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا شعبة قال: أخبرني حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت أبا المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينًا)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1550 وعن أبي هريرة: قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/102، ح 2531) : حدثنا يعلى بن عبيد، عن فضيل بن غزوان، عن ابن أبي نعم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل والذهب بالذهب وزنا بوزن فما زاد فهو ربا ولا تباع ثمرة حتى يبدو صلاحها)) . وقال مالك (الموطأ: ص 528، ح 26) : عن موسى بن أبي تميم، عن أبي الحباب، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) . وقال الشافعي (المسند تهذيب السندي: 2/157، ح 544) : أخبرنا مالك، عن موسى بن أبي تميم، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) وقال أحمد (المسند الساعاتي الفتح الرباني: 15/71، 72، ح 237) : حدثنا يحيى قال: حدثنا فضيل بن غزوان قال: حدثني ابن أبي نعم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والورق بالورق مثلا بمثل يدًا بيد من زاد أو ازداد فقد أربى)) . حدثنا محمد بن إدريس، أنبأنا مالك، عن موسى بن أبي تميم، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) . وقال مسلم (الصحيح: 3/1212، ح 1588) : حدثنا أبو كريب وواصل بن عبد الأعلى قالا: حدثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن ابن أبي نعم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنًا بوزن مثلًا بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا)) . حدثنا عبد الله بن سلمة القعنبي، حدثنا سليمان - يعني ابن بلال - عن موسى بن أبي تميم، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدينار بالدينار لا فضل بينهما والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) . حدثنيه أبو الطاهر، أخبرنا عبد الله بن وهب قال: سمعت مالكًا بن أنس يقول: حدثني موسى بن أبي تميم بهذا الإسناد مثله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1551 وقال النسائي (السنن: 7/278) : أخبرنا قتيبة بن سعيد، عن مالك، عن موسى بن أبي تميم، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) . ثم قال: أخبرنا واصل بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن أبيه، عن ابن أبي نعم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنًا بوزن مثلا بمثل فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) . وقال ابن ماجه (السنن: 2/758، ح 2255) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا فضيل بن غزوان، عن ابن أبي نعم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الفضة بالفضة والذهب بالذهب والشعير بالشعير والحنطة بالحنطة مثلا بمثل)) . وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان علاء الدين الفارسي: 7/237، ح 4991) : أخبرنا عمر بن سعيد بن سنان بمنبج (1) قال: أخبرنا أحمد بن أبي بكر، عن مالك بن موسى بن أبي تميم، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) .   (1) منبج بفتح وسكون وباء موحدة مكسورة وجيم، وهو بلد قديم قال ياقوت في (معجم البلدان: 5/205) : ما أظنه إلا روميًّا إلا أن اشتقاقه في العربية يجوز أن يكون من أشياء يقال: نبج الرجل ينبج إذا قعد في النبجة وهي الأكمة والموضع منبج، ثم قال: وذكر بعضهم أن أول من بناها كسرى لما غلب على الشام وسماها " من بن " أي " أنا أجود " فعربت فقيل له: منبج وجعلها الرشيد عاصمة وأسكنها عبد الملك بن صالح بن على بن عبد الله بن عباس، ثم قال بعد أن ذكر وصف الجغرافيين لها وهي لصاحب حلب في وقتنا ذا ومنها البحتري وله بها أملاك، خرج منها جماعة من الشعراء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1552 وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/69) : حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: سمعت مالكًا يقول: حدثنا موسى بن أبي تميم، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدينار بالدينار، لا فضل بينهما والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) . حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: حدثنا أبو عامر قال: حدثنا زهير بن محمد، عن موسى بن أبي تميم فذكر بإسناده مثله. وعن عبد الله بن مسعود: قال عبد الرزاق (المصنف: 8/123/124، ح 14568) : أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن كنانة أن ابن مسعود صرف فضة بورق في بيت المال فلما أتى المدينة سأل، فقيل: إنه لا يصلح إلا مثل بمثل قال أبو إسحاق: فأخبرني أبو عمرو الشيباني أنه رأى ابن مسعود يطوف بها يردها ويمر على الصيارفة ويقول: لا يصلح الورق بالورق إلا مثلا بمثل. ثم قال (نفس المرجع: ص 127، ح 14582) : أخبرنا معمر، عن ابن أيوب، عن ابن سيرين قال: أمر ابن مسعود رجلا أن يسلف بني أخيه ذهبًا ثم اقتضى منهم ورقًا فأمرهم برده ويأخذ منهم ذهبًا. وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان علاء الدين الفارسي: 7/242، ح 5003) : أخبرنا أبو خليفة قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة، عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن ابن مسعود أنه قال: لا تحل صفقتان في صفة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1553 وعن عبد الله بن عمر: قال عبد الرزاق (المصنف: 8/119، ح 14550) : أخبرنا إسرائيل، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((أشتري الذهب بالفضة؟ فقال: إذا أخذت واحدًا منهما فلا يفارق صاحبك حتى لا يكن بينك وبينه لبس)) . وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/108، ح 2547) . حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: كنت أبيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته فقال: ((إذا بايعت صاحبك فلا تفارقه وبينك وبينه لبس)) . وقال أحمد في المسند (الساعاتي الفتح الرباني: 15/73، 74، ح 243) : حدثنا حسين بن محمد، حدثنا خلف يعني ابن خليفة، عن أبي جناب، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فإني أخاف عليكم الرماء، والرماء هو الربا فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل قال: لا بأس إذا كان يدًا بيدًا)) . ثم قال: (نفس المرجع: ص 75، 76، ح 250) : حدثنا حسين بن محمد قال: حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أشتري الذهب بالفضة أو الفضة بالذهب؟ قال: إذا أخذت واحدًا منهما بالآخر فلا يفارق صاحبك وبينك وبينه لبس. 251- حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يدخل حجرته - في لفظ فوجدته خارجًا من بيت حفصة - فأخذت بثوبه فسألته فقال: إذا أخذت واحدًا بالآخر فلا يفارقنك وبينك وبينه بيع في لفظ: فقال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء. وقال أبو داود (السنن: 3/250، ح 3354) : حدثنا موسى بن إسماعيل ومحمد بن محبوب - المعنى واحد - قالا: حدثنا حماد، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله أسألك: إني أبيع الإبل ببقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدراهم آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1554 وقال الترمذي (الجامع الصحيح: 4/544، ح 1242) : حدثنا الحسن بن علي الخلال، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير فآخذ مكانها الورق فأبيع بالورق فآخذ مكانها الدنانير، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته خارجًا من بيت حفصة فسألته عن ذلك فقال: ((لا بأس به بالقيمة)) . وتعقبه بقوله: هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر. وروي داود بن أبي هند هذا الحديث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر موقوفًا والعمل على هذا عند بعض أهل العلم أن لا بأس أن يقتضي الذهب من الورق الورق من الذهب وهو قول أحمد وإسحاق وقد كره بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم ذلك. وقال النسائي (السنن: 7/281، 282) : أخبرني أحمد بن يحيى، عن أبي نعيم قال: حدثنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أريد أن أسألك إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم فقال: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) . أخبرنا قتيبة قال: حدثنا الأحوص، عن سماك، عن ابن جبير، عن ابن عمر قال: كنت أبيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ((إذا بايعت صاحبك فلا تفارقه وبينك وبينه لبس)) . ثم قال (نفس المرجع: ص 283) : أخبرنا محمد بن عبد الله بن عمار قال: حدثنا المعافي عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: رويدك أسألك: إني أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير وآخذ الدراهم فقال: ((لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) . وقال ابن ماجه (السنن: 2/760، ح 2262) : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب وسفيان بن وكيع ومحمد بن عبيد بن ثعلبة الحماني قالوا: حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي، حدثنا عطاء بن السائب أو سماك (ولا أعلمه إلا سماكًا) عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل فكنت آخذ الذهب من الفضة والفضة من الذهب والدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إذا أخذت أحدهما وأعطيت الآخر فلا تفارق صاحبك وبينك وبينه لبس)) . حدثنا يحيى بن حكيم، حدثنا يعقوب بن إسحاق، أنبأنا حماد بن سلمة، عن سمالك بن حرب، عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان علاء الدين الفارسي: 7/208، ح 4899) : أخبرنا أبو حذيفة قال: حدثنا أبو الوليد، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل في البقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة فقلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس إن أخذتهما بسعر يومها فافترقتما وليس بينكما شيء)) . وقال الطبري (تهذيب الآثار مسند عمر بن الخطاب، السفر: 2/752، ح 1072) : حدثنا هناد بن السرى، حدثنا أبو الاحوص، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عمر قال: كنت أبيع الفضة بالذهب أو الذهب بالفضة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته فقال: ((إذا بايعت صاحبك فلا تفارقه وبينك وبينه لبس)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1555 وقال الدرامي (السنن: 2/259) : أخبرنا أبو الوليد، حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير - وربما قال: أقبض - أفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت: يا رسول الله ورويدك أسألك إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، قال: ((لا بأس أن تأخذ بسعر يومك ما لم تفترقا وبينكما شيء)) . وقال الدارقطني (السنن: 2/23، 24، ح 81) : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا عبد الواحد بن غياث، حدثنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب. وحدثنا محمد بن يحيى بن مرداس، حدثنا أبو داود السجستاني، حدثنا موسى بن إسماعيل ومحمد بن محبوب - المعنى واحد -. قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله رويدك أسألك إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) . وقال ابن منيع: فأعطى هذه من هذه. في الموضعين جميعًا والباقي مثله. وقال ابن الجارود (المنتقى: ص 128، ح 655) : حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة - رضي الله عنها -، فقلت: يا رسول الله رويدك أسألك إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، وقال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة - رضي الله عنهما -، فقلت: يا رسول الله، رويدك أسألك إني أبيع الإبل بالنقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، قال: ((لا بأس إذا أخذتها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكم شيء)) . وقال ابن عبد البر (التمهيد16/12,15) حدثنا خلف بن القاسم , قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عبيد بن آدم بن أبي إياس قال: حدثتي ثابت بن تميم , قال حدثنا آدم بن أبي إياس قال: حدثنا حماد بن سلمة , قال: حدثنا سماك بن حرب , عن سعيد بن جبير , عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فآخذ مكان الدراهم الدنانير ومكان الدنانير دراهم , فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "لا بأس به إذا افترقتما وليس بينكما شيء" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1556 وحدثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر، قالا: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا محمد بن زهير وجعفر بن محمد، قالا: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله رويدًا أسألك: أبيع الإبل بالدنانير، فآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم، فآخذ الدنانير وآخذ هذه عن هذه؟ قال: ((لا بأس أن تأخذه بسعر يومه)) . وحدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل ومحمد بن محبوب - المعنى واحد -، قالا: حدثنا حماد، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فذكره سواء بمعناه … إلخ. قال أبو داود: وحدثنا الحسين بن الأسود، قال: حدثنا عبيد الله، أخبرنا إسرائيل، عن سماك بإسناده، ومعناه والأول أتم لم يذكر بسعر يومكما. حدثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر، قالا: حدثنا القاسم بن أصبغ، قال: حدثنا جعفر بن محمد الصائغ، قال: حدثنا محمد السابق، قال: حدثنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل ببقيع الغرقد، فكنت أبيع البعير بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يدخل حجرته فأخذت بثوبه، فقلت: يا رسول الله إني أبيع ببقيع الغرقد البعير بالدناير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أخذت أحدهما بالآخر فلا تفارقه وبينك وبينه بيع)) . وتعقبه بقوله: لم يرو هذا الحديث أحد غير سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر مسندًا، وسماك ثقة عند قوم مضعف عند آخرين. كان ابن المبارك يقول: سماك بن حرب ضعيف الحديث وكان مذهب علي فيه نحو هذا روي أبو الأحوص هذا الحديث عن سماك فلم يقمه قال فيه: عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر: كنت أبيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((إذا بايعت صاحبك فلا تفارقه وبينك وبينه لبس)) . وكذلك رواه وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر كما قال أبو الأحوص ولم يقمه، فجوده إلا حماد بن سلمة وإسرائيل في غير رواية وكيع. وهذا الحديث مما فات شعبة عن سماك ولم يسمعه فعز عليه، وجرى بينه وبين حماد بن سلمة في ذلك كلام فيه بعض الخشونة، ثم سمعه منه بعد. ذكر علي بن المديني، قال: قال أبو داود الطيالسي: سمعت خالد بن طليق وأبا الربيع يسألان شعبة، وكان الذي يسأله خالد، قال: يا أبا بسطان حدثني حديث سماك في اقتضاء الذهب من الورق. حديث ابن عمر قال شعبة: أصلحك الله، هذا حديث ليس يرفعه أحد إلى - هكذا في النسخة المطبوعة ولعل صوابه -: إلا - سماك وقد حدثنيه قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر ولم يرفعه، وأخبرنيه أيوب، عن نافع، عن ابن عمر ولم يرفعه، ورفعه سماك وأنا أفرق منه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1557 عن فضالة بن عبيد: قال مسلم (الصحيح: 3/1214، ح 1591) . حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث بن أبي جعفر، عن الجلاح أبي كثير، حدثني حنش الصنعاني، عن فضالة بن عبيد، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود، الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن)) . وحدثني أبو الطاهر، أخبرنا ابن وهب، عن قرة بن عبد الرحمن المعافري وعمرو بن الحارث وغيرهما أن عامر بن يحيى المعافري أخبرهم، عن حنش، أنه قال: كنا مع فضالة بن عبيد في غزوة فطارت لي ولأصحابي قلادة فيها ذهب وورق وجوهر، فأردت أن أشتريها فسألت فضالة بن عبيد، فقال: انزع ذهبا فاجعله في كفة واجعل ذهبك في كفة، ثم لا تأخذ إلا مثلا بمثل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذون إلا مثلا بمثل)) . وقال أبو داود (السنن: 3/249، ح 3353) : حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن ابن أبي جعفر، عن الجلاح أبي كثير، حدثني حنش الصنعاني، عن فضالة بن عبيد، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود: الأوقية من الذهب بالدينار - قال غير قتيبة: بالدينارين والثلاثة ثم اتفقا - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن)) . وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/69) : حدثنا موسى قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن عامر بن يحيى وخالد بن عمران عن حنش بن عبد الله، عن فضالة بن عبيد، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود أوقية الذهب بالدينارين والثلاثة , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن)) وعن هشام بن عامر: قال عبد الرزاق (المصنف: 8/117، ح 14545) اخبرنا معمر، عن أيوب عن أبي قلابة، عن هشام بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الورق بالذهب ربًا إلا يدًا بيد)) . وقال أحمد في المسند (الساعاتي؛ الفتح الرباني: 15/75، ح 248) : حدثنا الحسن بن موسى، قال: حدثنا - حماد - يعني ابن زيد -، عن أن أيوب، عن أبي قلابة، قال: قدم هشام بن عامر البصرة، فوجدهم يتبايعون الذهب - يعني بالفضة في أعطياتهم، فقام فقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الذهب بالورق نسيئة، وأخبرنا - أو قال - إن ذلك هو الربا)) . وقال الطبري (تهذيب الآثار، مسند عمر بن الخطاب، السفر: 2/743، ح 1083) : حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، أنبأنا أيوب، عن أبي قلابة، قال: كان الناس يشترون الذهب بالورق - قال ابن علية: أحسبه قال: إلى العطاء - فأتى عليهم هشام بن عامر، فنهاهم وقال: ((إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهانا أن نبيع الذهب والورق نسيئة، وأنبأنا - أو قال: أخبرنا - أن ذلك هو الربا)) . 1084 - حدثني سعيد بن عمر السكوني، حدثنا بقية بن الوليد، عن شعبة قال: حدثنا أيوب بن تيمية، قال: سمعت أبا قلابة قال: كان الناس بالبصرة في زمان زياد يأخذون الدراهم بالدنانير نسيئة، فقام رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: هشام بن عامر الأنصاري، فقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيع الذهب بالورق نساء، وأنبأنا أن ذلك هو الربا)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1558 وعن رويفع بن ثابت: قال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/69) : حدثنا فهد، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: أخبرنا ربيعة بن سليمان مولى عبد الرحمن بن حسان التجيبي أنه سمع حنشًا الصنعاني يحدث عن رويفع بن ثابت في غزوة " أناس " (1) قبل المغرب يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر: ((بلغني أنكم تتبايعون المثقال بالنصف والثلثين، وأنه لا يصلح إلا المثقال بالمثقال والوزن)) . وعن أبي بكرة: قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/106، 107، ح 2542) : حدثنا ابن إسحاق، عن وهب، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نبيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئنا)) . وقال أحمد في المسند (الساعاتي، الفتح الرباني: 15/73، ح 242) : حدثنا إسماعيل، حدثنا يحيى بن أبي إسحاق، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: قال لنا ابن أبي بكرة، ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبتاع الفضة بالفضة، والذهب بالذهب إلا سواء، وأمرنا أن نبتاع الفضة في الذهب والذهب في الفضة كيف شئنا)) . قال له ثابت بن عبيد الله: يدًا بيد، قال: هكذا سمعت عن ابن عمر. وقال البخاري (الصحيح: 3/30، 31) : حدثنا صدقة بن الفضل، أخبرنا إسماعيل بن علية، قال: حدثني يحيى بن إسحاق قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: قال أبو بكرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء، والفضة بالفضة إلا سواء بسواء، وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم)) حدثنا عمران بن ميسرة، حدثنا عباد بن العوام، أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه - رضي الله عنه - قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة، كيف شئنا والفضة بالذهب كيف شئنا)) .   (1) أناس بضم أوله بلدة بكرمان من نواحي الروذان وهي على رأس الحد بين فارس وكرمان (ياقوت، معجم البلدان: 1/257) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1559 وقال مسلم (الصحيح: 3/1213، ح 1590) : حدثنا أبو الربيع العتكي، حدثنا عباد بن العوام، أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا، قال: فسأله رجل، قال: يدًا بيد؟ قال: هكذا سمعت. حدثني إسحاق بن منصور، أخبرني يحيى بن صالح، حدثني معاوية،عن يحيى، وهو ابن أبي كثير عن يحيى بن أبي إسحاق، أن عبد الرحمن بن أبي بكرة، أخبره أن أبا بكرة، قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله. وقال النسائي (السنن: 7/280، 281) : وفيما قرأ علينا أحمد بن منيع، قال: حدثنا عباد بن العوام، قال: حدثنا يحيى بن أبي إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، أنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا، والفضة بالذهب كيف شئنا)) . أخبرنا محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني، قال: حدثنا أبو ثوبة قال: حدثنا معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيع الفضة بالفضة، إلا عينًا بعين، سواء بسواء، ولا نبيع الذهب بالذهب إلا عينًا بعين، سواء بسواء)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تبايعوا الذهب بالفضة كيف شئتم، والفضة بالذهب كيف شئتم)) . وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي: 7/238، 4993) : أخبرنا الفضل بن الحباب، قال: حدثنا مسدد، عن إسماعيل، قال: حدثنا يحيى بن أبي إسحاق، قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: قال أبو بكرة: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع الفضة بالفضة، والذهب بالذهب إلا سواء بسواء، وأمر أن يباع الفضة بالذهب كيف شاء، والذهب بالفضة كيف شاء)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1560 وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/69) : حدثنا علي بن معبد، حدثنا المعلى بن منصور، قال: أخبرنا عبادة وعبد العزيز بن المختار، عن يحيى بن أبي إسحاق،عن عبد الرحمن بن أبي بكرة يعني عن أبيه - هذا " البيان " الذي أريد به تجنب الإرسال، لا ندري أهو من يحيى بن أبي إسحاق، أو من غيره من رجال السند أو من الطحاوي - قال: ((نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبيع الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، إلا مثلًا بمثل، وأمرنا أن نبيع الذهب في الفضة، والفضة في الذهب كيف شئنا)) . وعن يحيى بن سعيد: قال مالك في (الموطأ: ص 527، ح 25) عن يحيى بن سعيد، أنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين أن يبيعا آنية من المغانم من ذهب أو فضة، فباعاها كل ثلاثة أربعة عينًا , وكل أربعة بثلاثة عينًا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربيتما. فردا)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1561 وفي النكاح قال عبد الرزاق (المصنف: 6 /175، وما بعدها، ح 10399) : عن معمر عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي العجماء، أن عمر بن الخطاب، قال: لا تغالوا في صُدُق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله، كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ما أصدقت امرأة من نسائه، ولا من بناته أكثر من اثنتي عشر أوقية، فإن الرجل يغلي بالمرأة في صداقها، فيكون حسرة في صدره، فيقول: كلفت إليك علق القربة، قال: فكنت غلامًا مولدًا لم أدر ما هذه، قال: وأخرى ويقولن لمن قتل في مغازيكم هذه: قتل فلان شهيدًا أو مات شهيدًا ولعله يكون قد خرج، قد أوقر دف راحلته أو عجزها ورقًا يطلب التجارة، ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: من قتل في سبيل الله أو مات فله الجنة)) . قلت: الحديث أخرجه أحمد والحميدي وسعيد بن منصور، ولكن لسنا بصدد استقصاء طرقه في هذا المجال حسبنا عبد الرزاق. ثم قال - 10401 -: عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، قال عمر بن الخطاب: لا تغالوا في مهور النساء، فلو كان تقوى لله، كان أولاكم به بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نكح ولا أنكح إلا على اثنتي عشرة أوقية، قال نافع: فكان عمر يقول: مهور النساء لا يزدن على أربعمائة درهم إلا ما تراضوا عليه فيما دون ذلك، قال نافع: وزوج رجل من ولد [عمر] ابنة له على ستمائة درهم، قال: ولو علم بذلك نكله، قال: وكان إذا نهى عن الشيء، قال لأهله: إني قد نهيت كذا وكذا، والناس ينظرون إليكم كما تنظر الحداء - جمع حدأة طائر معروف - إلى اللحم فإياكم وإياه. 10402 - أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن صفوان بن سليم، أن عليا أصدق فاطمة ابنة النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة أوقية. 10404 - عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، قال: ما ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة من نسائه، ولا سيق إليه لشيء من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، فذلك أربعمائة وثمانون درهمًا. 10405 - عن معمر، عن الزهري، قال: كان صداق كل امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة أوقية ذهبًا فذلك أربعمائة وثمانون درهمًا. 10406 - عن داود بن قيس، عن موسى بن يسار، عن أبي هريرة، قال: كان صداقنا إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا عشرة أواق أربعمائة درهم. 10407 - عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، قال: أصدق النبي صلى الله عليه وسلم كل امرأة من نسائه اثنتا عشرة أوقية ونشًّا والنشُّ نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم. 10408 - عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد، قال: الأوقية أربعون درهمًا، والنش عشرون، والنواة خمسة دارهم. وقال مسلم (الصحيح: 2/1042، ح 1426) حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد العزيز بن محمد، حدثنا يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد. وحدثني محمد بن أبي عمر المكي (واللفظ له) ، حدثنا عبد العزيز، عن يزيد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أنه قال: سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشر أوقية ونشا، وقالت: أتدري ما النش؟ قال: قلت: لا، قالت: نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه. قلت: أخرجه أيضًا أبو داود والنسائي وابن ماجه. (انظر المزي؛ الأطراف: 12/356) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1562 وفي الديات قال عبد الرزاق (المصنف: 9/291، وما بعدها، ح 17255: ( عن معمر عن الزهري، قال: كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بعير لكل بعير أوقية، فذلك أربعة آلاف لما كان عمر قلت الإبل، ورخصت الورق فجعلها عمر وقية ونصفًا، ثم غلت الإبل، ورخصت الورق أيضًا , فجعلها عمر أوقيتين، فذلك ثمانية آلاف ثم لم تزل الإبل تغلو وترخص الورق، حتى جعلها اثني عشر ألفًا أو ألف دينار ومن البقر مائة بقرة، ومن الشاة ألف شاه. 17256- عن ابن جريج، قال عطاء: كانت الدية من الإبل حتى كان عمر بن الخطاب، فجعلها لما قلت الإبل عشرين ومائة لكل بعير، قال: قلت لعطاء: وإن شاء القروي أعطى مائة ناقة أو مائتي بقرة أو ألفي شاة، ولم يعط ذهبًا، قال: إن شاء أعطى إبلا ولم يعط ذهبًا وهو الأمر الأول. 17259 - عن معمر، عن قتادة، قال: على أهل الإبل الإبل، وعلى أهل الذهب الذهب، وعلى أهل الورق الورق، وعلى أهل الغنم الغنم، وعلى أهل البز الحلل. 17261 - عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: مائة بعير أو قيمة ذلك من غيره. 17263 - عن ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الدية من الإبل. 17263- عن الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن الشعبي، أن عمر قضى على أهل الورق عشرة آلاف، وعلى أهل الدنانير ألف دينار، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وعلى أهل البر مائتي بقرة، قال: وسمعنا أنها سنة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وسمعت أنها سنة، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل. 17268 - أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه، أنه كان يقول على الناس أجمعين أهل القرية أو البادية مائة من الإبل، فمن لم يكن عنده إبل، فعلى أهل الورق الورق، وعلى أهل البقر البقر، وعلى أهل الغنم الغنم، وعلى أهل البز البز، قال: يعطون من أي صنف كان بقيمة الإبل ما كانت إن ارتفعت أو انخفضت قيمتها يومئذ. 17270- عن ابن جريج، قال: قال عمر وابن شعيب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيم الإبل على أهل القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق، ويقيمها على أثمان الإبل، فإذا غلت رفع ثمنها، وإذا هانت نقص من قيمتها على أهل القرى على نحو الثمن ما كان. قال: وقضى أبو بكر في الدية على أهل القرى حين كثر المال وقلت الإبل فأقام مائة من الإبل ست مائة دينار إلى ثمانمائة، وقضى عمر في الدية على أهل القرى اثنى عشر ألفًا وقال: إني أرى الزمان تختلف فيه الدية تنخفض فيه من قيمة الإبل وترتفع فيه وأرى المال، وقد كثر وأنا أخشى عليكم الحكام بعدي وأن يصاب الرجل المسلم، فتهلك ديته بالباطل وأن ترتفع ديته بغير حق فتحمل على قوم مسلمين فتحتاجهم فليس على أهل القرى زيادة في تغليظ عقل ولا في الشهر الحرام ولا في الحرم، ولا على أهل القرى فيه تغليظ لا يزاد فيه على اثني عشر ألفًا، وعقل أهل البادية على أهل الإبل مائة من الإبل على أسنانها كما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل الشاة ألفا شاة، ولو أقيم - كذا ولعله " ولم أقم " - على أهل القرى إلا عقلهم يكون ذهبًا ورقًا فيقام عليهم، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى على أهل القرى في الذهب والورق عُقْلا مسمى لا زيادة فيه لاتبعنا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ولكنه كان يقيمه على أثمان الإبل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1563 وقال ابن أبي شيبة) الكتاب المصنف: 9/126، وما بعدها، ح 6776) : حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو، عن عكرمة، قال: قضى النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار قتله مولى بني عدي أثني عشر ألفًا وفيهم نزلت: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آية 74 من سورة التوبة] . 6777 - حدثنا وكيع، عن سفيان , عن أيوب بن موسى، عن مكحول، قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والدية ثمان مائة دينار فخشي عمر من بعده، فجعلها اثنى عشر ألفًا وألف دينار. 6778- حدثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن الشعبي، عن عبدة السلماني، قال: وضع عمر الديات فوضع على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة مسنة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. قلت: وليس من شأننا في هذا المجال ما هو من صميم الصداق أو الديات أو ما شاكلهما وإنما سقنا ما سقناه من الأحاديث ومما يتفرع عنها من آثار أبي بكر وعمر لما فيه من تصوير للموقف السائد في العهد النبوي وفي أيام الخلفاء الراشدين من تغير القيم سواء للأشياء أو للنقود نفسها، كما يتضح من تذبذب قيمة الإبل وقيمة الذهب والفضة أيضًا فيما سجلته هذه الآثار ولم ندرج آثار أبي بكر وعمر في فتاوى الصحابة التي أفردنا لها الفصل التالي لأنها أعلق بتطبيق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحكمه وليست مجرد استنباط وقد حرص الخلفاء الراشدون وعمر بن عبد العزيز من بعدهم على التزام قاعدة التطبيق المنضبط لما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقود والحدود إلا ما كان من اجتهاد عمر اعتبارًا لحالات طارئة أو حماية للمسلمين من تعسف بعض الحكام، على حين أنهم وغيرهم من الصحابة ومن بعدهم من أهل الفتيا والاجتهاد من التابعين وتابعيهم كانت لهم اجتهادات في غير العقول والحدود مما له علاقة بالشؤون المالية قد لا يلتزمون فيها الانضباط الدقيق بالقضاء النبوي أو المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من التشريع اعتبارًا للمناط واحتسابًا لتغير أحوال الناس ومناهج معايشهم، بما تأثرت به من أوضاع الشعوب والأقطار التي افتتحوها وانتشر فيها المسلمون ولها حضارات وأوضاع ومناهج معاشية تختلف عما عليه أهل الجزيرة العربية مهد الإسلام الأول الذي كان التشريع في العهد النبوي متسقًا وموجهًا لما يسود فيه من مناهج ونظم وعادات، وهذا ما يتضح من الآثار التي نسوقها في الفصلين التاليين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1564 (8) أحكام اضطراب العملة في آثار الصحابة قولًا وعملًا عن أبي بكر الصديق: قال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/70) حدثنا بحر بن نصر، عن شعيب بن الليث، عن موسى بن علي، حدثه عن أبيه، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص قال: كتب أبو بكر الصديق إلى أمراء الأجناد حين قدم الشام أما بعد فإنكم قد هبطتم أرض الربا فلا تتبايعوا الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن ولا الورق بالورق إلا وزنًا بوزن ولا الطعام بالطعام إلا كيلًا بكيل، قال أبو قيس: قرأت كتابه. وقال ابن عبد البر (التمهيد:4/84) : وقرأت على عبد الوارث أن قاسمًا حدثهم قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا أُمَيٌّ - بالتصغير - الصيرفي فقال: حدثنا أبو صالح سنة مائة. قال: كتب أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - إلى عماله أن لا تشتروا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل ولا الفضة بالفضة إلا مثلًا بمثل ولا الحنطة بالحنطة إلا مثلًا بمثل ولا الشعير بالشعير إلا مثلًا بمثل ولا التمر بالتمر إلا مثلًا بمثل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1565 وعن عمر بن الخاطب: قال عبد الرزاق (المصنف: 8/116، ح 14542) : أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: قال عمر: إذا صرف أحدكم من صاحبه فلا يفارقه حتى يأخذها وإن استنظره حتى يدخل بيته فلا ينظره فإني أخاف عليكم الربا. ثم قال (ص 121، ح 14562) : اخبرنا عبد الله بن عمر، عن نافع قال: قال عمر: لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا مثلًا بمثل ولا تفضلوا بعضه على بعض ولا تبيعوا منه غائبًا بناجز فإن استنظرك حتى يدخل بيته فلا تنظره فإني أخاف عليكم الربا. ثم قال (ص 123، ح 14567) : أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: نهى عمر بن الخطاب عن الورق بالورق إلا مثلًا بمثل فقال له عبد الرحمن بن عوف أو الزبير: إنها تزيف علينا الأوراق (1) فنعطي الخبيث ونأخذ الطيب فقال: لا تفعلوا ولكن انطلق إلى البقيع فبع ثوبك بورق أو عرض فإذا قبضته وكان لك بيعه فاهضم (2) ما شئت وخذ ورقًا إذا شئت. ثم قال (ص 125، ح 14572) : أخبرنا الثوري عن حماد، عن رجل، عن شريح قال عمر: الدرهم بالدرهم فضل ما بينهما ربا. 14575 - أخبرنا التيمي عمن سمع يحيى البكاء يحدث عن أبي رافع قال: قلت لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين إني أصوغ الذهب فأبيعه بالذهب بوزنه، وآخذ لعمله أجرًا، فقال: لا تبع الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن، والفضة بالفضة إلا وزنًا بوزن ولا تأخذ فضلًا.   (1) الأوراق جمع ورق بكسر الراء وهي الفضة. (2) قال ابن منظور في لسان العرب (11/613) : وهضمه حقه هضمًا نقصه، وهضم له من حقه يهضم هضمًا ترك منه شيئًا عن طيبة نفس. يقال: هضمت له من حظي طائفة، أي تركته. ويقال: هضم له من حظه إذا كسر له منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1566 ثم قال (ص 127، 128، ح 14581) : أخبرنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه كره الدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير قال أبو سلمة: فحدثني ابن عمر أن عمر قال: إذا باع أحدكم. الذهب بالورق فلا يفارق صاحبه وإن ذهب وراء الجدار. أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين أن امرأة ابن مسعود باعت جارية لهذا بذهب فأخذت ورقًا أو باعت بورق فأخذت ذهبًا فسألت عمر بن الخطاب فقال: لا تأخذي إلا الذي بعت به. 14584- أخبرنا الثوري عن السدي، عن عبد الله الرّي - لعل صوابه عبد الله البهي الذي يروي عنه السدي - عن يسار بن نمير أن عمر بن الخطاب قال في الرجل يسأل الرجل أيأخذ الدراهم؟ قال: إذا قامت على الثمن فأعطها إياه بالقيمة. وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/322، 323، الأثر 1250) : حدثنا وكيع، عن سفيان، عن السدي، عن البهي، عن يسار بن نمير، عن عمر أنه لم ير بأسًا باقتضاء الذهب من الورق والورق من الذهب. ثم قال (نفس المرجع: 7/106، ح 2541) : حدثنا ابن أبي ليلى (1) عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال عمر: لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإن ذلك هو الربا العجلان.   (1) أشكل على المحقق (ابن أبي ليلى عن الحكم) فقال: لا أراه صوابًا وليس في الأمر إشكال، فابن أبي ليلى كما يطلق على عبد الرحمن يطلق على ابنيه محمد وعيسى وابن ابنه عبد الله بن عيسى، والراجح عندنا أن الذي روي عنه ابن أبي شيبة هو عيسى، وقد أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه أيضًا لكن لم يعرف بالفقه وإن ذكر فيمن روي عنهم أبوه عبد الرحمن كما ذكر الحكم بن عتيبة. انظر ابن حجر (تهيب التهذيب: 8/219، ترجمة 405) ، والظاهر أنه الحكم بن عتيبة الكندي مولاهم أبو محمد أو أبو عبد الله أو أبو عمر أخرجه له الجماعة وروي عن طائفة من الصحابة وكبار التابعين وتابعيهم منهم ابن أبي ليلى الأب. وانظر ابن حجر (تهذيب التهذيب: 2/432، 433، ترجمة: 756. وإن كان من المحتمل أيضًا أن يكون ابن أبي ليلى الابن هو أخوه محمد وهو أشهر منه بالفقه وأوسع رواية وإن تكلم فيه أحمد وغيره وشهد له أحمد بالفقه. انظر ابن حجر) تهذيب التهذيب: 9/301، 302، ترجمة 501 (. لكن أخرجه له الأربعة ومهما يكن فالذي أشكل على المحقق ليس بمشكل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1567 ثم قال: (ص 109، 110، ح 2550) : حدثنا الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة أن طلحة اصطرف دنانير بوزن فنهاه عمر أن يفارقه حتى يستوفي. 2553 - حدثنا على بن مسهر، عن الشيباني، عن عقبة أبي الأخضر قال: سئل ابن عمر عن الذهب يباع بنسيئة قال: سمعت عمر بن الخطاب على هذا المنبر وسئل عنه فقال: كل ساعة اسْتَنْسَأَهُ فهو ربا. وقال مالك (الموطأ: ص 520، 530، ح 31) : عن نافع، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالذهب أحدهما غائب والآخر ناجز وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء والرماء هو الربا. 32- عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا شيئًا منها غائبًا بناجز وإذا استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء والرماء هو الربا. 33- قال مالك: بلغه عن القاسم بن محمد أنه قال: قال عمر بن الخطاب: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم والصاع بالصاع لا يباع كالئ بناجز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1568 وقال الشافعي في مسنده (تهذيب السندي: 2/158، ح 549) : عن نافع، عن ابن عمر أن عمر - رضي الله عنه - قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض. وقال النسائي (السنن: 7/28) : أخبرنا قتيبة بن سعيد، عن مالك، عن حميد بن قيس المكي، عن مجاهد قال: قال عمر: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا. وقال الطبري في (تهذيب الآثار مسند عمر بن الخطاب، السفر: 2/732، 736، ح 1054) : حدثنا محمد بن موسى الحرشي، حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو قال: سمعت ابن عمر يحدث قال: قال عمر: من صرف ذهبًا بورق فلا ينظرنه حلب ناقة. 1055 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، حدثنا المعتمر بن سليمان قال: سمعت عبد الله بن نافع، عن ابن عمر، عن عمر أنه قال: لا يباعن الذهب إلا مثلا بمثل ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا منها شيئًا غائبًا بناجز إني أخاف عليكم الرماء - والرماء الربا - وإن استنظركم أحد إلى أن يدخل بيته فلا تنظروه. 1056 - حدثنا ابن المثنى، حدثنا يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر بنحوه. 1057- حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البحتري قال: قال ابن عمر: نهى عمر عن الذهب بالورق نساء بناجز. 1058- حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن صالح بن كيسان قال: رأيت ابن عمر في مسجد الكوفة قال: فسأله رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن ما تقول في الصرف؟ قال عبد الله: قال عمر: إن قال: ألج البيت فلا يلج البيت. 1059 - حدثنا تميم بن المنتصر، حدثنا عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر مثله. 1060 - حدثني المثنى، حدثنا أبو عامر، حدثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة أن ابن عمر حدثه أن عمر قال: إذا بايع أحدكم الذهب بالورق فلا ينسئن صاحبه أن يذهب وراء جدار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1569 1061 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا أيوب، عن نافع قال: قال عمر: لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا شيئًا غائبًا بناجز إني أخاف عليكم الرماء - والرماء الربا - فحدث رجل ابن عمر مثل هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري فحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما قلته حتى دخل على أبي سعيد وأنا معه وقال: إن هذا حدثني عنك حديثًا يزعم أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفسمعته؟ فقال: بصر عيني وسمع أذني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا شيئًا غائبًا بناجز)) . 1062 - حدثنا ابن سيار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة أن طلحة اصطرف دنانير بورق فنهاه عمر بن الخطاب أن يفارقه حتى يستوفي. 1063 - حدثني يونس، أنبأني ابن وهب، حدثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب قال: لا تبيعوا الذهب الذهب - لعل صوابه: بالذهب كما في النصوص الأخرى - إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالذهب أحدهما غائب والآخر ناجز وإن استنظرك أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء والرماء الربا. 1064 - حدثني يونس، أنبأني ابن وهب، حدثني مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال: فذكره نحوه. 1065 - حدثنا يونس، أنبأنا ابن وهب، حدثني مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد قال: قال عمر بن الخطاب: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم والصاع بالصاع ولا يباع كالئ بناجز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1570 وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/69، 70) : حدثنا ابن مرزوق قال: أخبرنا وهب، قال: حدثنا شعبة، عن جبلة بن سحيم قال: سمعت ابن عمر يقول: خطب عمر فقال: " لا يشتري " - لعل صوابه " لا يشتر " بحذف الياء للنهي - أحدكم دينارًا بدينارين ولا درهمًا بدرهمين ولا قفيزًا بقفزين إني أخشى عليكم الرماء وإني لا أوتى فاعله إلا أوجعته عقوبة في نفسه وماله. حدثنا ابن مرزوق قال: حدثنا وهب، عن شعبة، عن الأشعث، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال عمر: لا يأخذ أحدكم درهمًا بدرهمين فإن أخشى عليكم الرماء. حدثنا ابن مرزوق قال: اخبرنا وهب قال: حدثنا أبي، قال: سمعت نافعًا قال: حدثني ابن عمر قال: خطب عمر فقال: لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض إني أخاف عليكم الرماء. حدثنا ابن مرزوق قال: حدثنا عارم قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر، عن عمر - رضي الله عنهما - مثله. ثم قال: حدثنا حسين بن نصر قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان، عن حماد، عن أبي صالح، عن شريح، عن عمر قال: الدرهم بالدرهم فضل ما بينهما ربا. حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: حدثنا هارون بن إسماعيل قال: حدثنا علي بن المبارك قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: كان عمر وعبد الله بن عمر ينهيان عن بيع الدرهمين بالدرهم يدًا بيد ويقولان الدرهم بالدرهم والدينار بالدينار. حدثنا يحيى بن نصر قال: قرأ علي شعيب، حدثنا موسى بن علي، عن يزيد بن أبي منصور، عن أبي رافع، قال: مر بي عمر بن الخطاب ومعه ورق فقال: اصنع لنا أوضاحًا - نوع من الحلي من فضة - لصبي لنا قلت: يا أمير المؤمنين، عندي أوضاح معمولة فإن شئت أخذت الورق وأخذت الأوضاح، قال عمر، مثلا بمثل؟ فقلت: نعم. فوضع الورق في كفة الميزان والأوضاح في الكفة الأخرى فلما استوى الميزان أخذ بإحدى يديه وأعطى بالأخرى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1571 وقال ابن حزم (المحلي: 8/504، 506) : ومن الطريق عبد الرزاق، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، أخبرني أبو المنهال عبد الرحمن بن مطعم أن عبد الله بن عمر قال له: نهانا أمير المؤمنين - يعني أباه - أن نبيع العين بالدين وهذا في غاية الصحة. وروينا المنع من ذلك عن طائفة من السلف، روينا من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: إن عمر بن الخطاب قال: لا تبيعوا الذهب بالورق أحدهما غائب والآخر ناجز - راجع الموطأ قلت: ولكن أين هذا من ذاك؟ فالمنع إنما هو بيع غائب يناجز أو ناجز بغائب والإباحة إنما هي في ناجزين –. وعن عثمان: قال مالك في (الموطأ: ص 528، 529، ح 29) أنه بلغه عن جده مالك بن أبي عامر أن عثمان بن عفان قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين)) . وعن علي: قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/105، ح 2538) : حدثنا وكيع قال: حدثنا، عن عباس العامري، عن مسلم بن نذير السعدي قال: سئل علي، عن الدرهم بالدرهمين فقال: الربا العجلان. وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/70) : حدثنا فهد قال: حدثنا الحسن بن الربيع قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن المغيرة بن مقسم، عن أبيه، عن أبي صالح السمان قال: كنت جالسًا عند علي بن أبي طالب فأتاه رجل فقال: تكون عندي الدراهم فلا تنفق عني في حاجة فأشتري بها دراهم تجوز عني وأخصم فيها قال: فقال علي: اشتر بدراهمك ذهبًا ثم اشتر بذهبك ورقًا ثم أنفقها فيما شئت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1572 وعن عبد الله بن مسعود: قال عبد الرزاق (المصنف: 8/127، 128، ح 14585) : قال الثوري: وأخبر الشيباني، عن المسيب بن رافع أن امرأة ابن مسعود باعت جارية لها بدراهم فأمرها عبد الله أن تأخذ دنانير بالقيمة. وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/334، 336، ح 1258) : حدثنا وكيع، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن ابن مسعود قال: كان يكره اقتضاء الذهب من الورق. حدثنا ابن علية، عن يونس، عن ابن سيرين قال: قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: لا تأخذ الذهب من الورق يكون لك على الرجل ولا تأخذن الورق من الذهب. 1265- حدثنا ابن معد أبي زائدة، عن ابن عون، عن ابن سيرين قال: بلغني أن ابن مسعود كرهه. 1266 - حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبد الله مثله. وقال ابن حزم (المحلي: 8/504، 505) . ومن طريق سفيان بن عيينة، عن سعد بن كدام قال: حلف لي معن - هو ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود - أنه وجد في كتاب أبيه بخطه، قال عبد الله بن مسعود: معاذ الله أن آخذ دراهم مكان دنانير أو دنانير مكان دراهم. ومن طريق حماد بن زيد، حدثنا أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين أن زينب امرأة ابن مسعود باعت جارية لها إما بذهب وإما بفضة فعرض عليها النوع الآخر فسئل عمر قال: لتأخذ النوع الذي باعت به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1573 وعن عبادة بن الصامت: قال الطبري (تهذيب الآثار مسند عمر بن الخطاب السفر: 2/746، ح 1087) : حدثنا مجاهد بن موسى، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا سعيد، عن قتادة، عن مسلم بن يسار، عن أبي الأشعث الصنعاني أن عبادة بن الصامت كان خطيبًا فقال: أيها الناس إنكم قد أحدثتم بيوعًا لا ندري ما هي؟ ألا وإن الذهب بالذهب مثلًا بمثل تبره وعينه، ألا وإن الفضة بالفضة مثلًا بمثل تبرها وعينها فلا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدًا بيد ولا يصلح نسيئة، ألا وإن البر بالبر يدًا بيد مدًا بمد، ألا وإن الشعير بالشعير يدًا بيد مدًا بمد ولا بأس ببيع الشعير بالحنطة والشعير أكثرهما يدًا بيد ولا يصلح نسيئة، ألا وإن التمر مديًا بمدي (1) يدًا بيد حتى كَرَّ الملح مثْلا بمثل.   (1) مكيال لأهل الشام يسع خمسة عشر مكوكًا والمكوك صاع ونصف صاع، وقيل أكثر من ذلك، وقيل المدي بضم الميم وسكون الدال مكيال ضخم لأهل الشام وأهل مصر والجمع أمداء، وقال ابن بري: المدي مكيال لأهل الشام يقال له الجريب يسع خمسة وأربعين رطلا وهو غير المد بالميم المضمومة والدال المشددة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1574 وعن أبي هريرة: قال الطبري (تهذيب الآثار مسند عمر بن الخطاب، السفر: 2/750، ح 1071) : حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا ابن علية قال: أخبرنا يونس، أنبأني عبيد بن باني - الأظهر أن فيه خطأ صوابه: عبيد بن باب وهو مولى أبو هريرة ترجم له البخاري وابن أبي حاتم وابن ماكولا وغيرهم - أنه باع من رجل ورقًا بذهب أو ذهبًا بورق فقبض سلعته قال: فانطلقت معه أريد منزله فلقينا أبو هريرة في بعض طرق المدينة فقال: أين تريدان أو أين تريدا؟ فقلت: بعت من هذا ورقًا بذهب وذهبًا بورق قال: فأين سلعتك؟ قلت: معه قال: اجلسا. فأخذ سلعته فردها إليه وقال: قولا: ليس بيننا بيع، ليس بيننا بيع، فقاما فقالا: ليس بيننا بيع، ليس بيننا بيع فقال: انطلق معه فإذا حضرت سلعتك فبعه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1575 وعن عبد الله بن عمر: قال عبد الرزاق (المصنف: 8/119، ح 14551) : أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت ابن عمر يقول: إذا استنظرك حلب ناقة فلا تنظره. ثم قال (نفس المرجع: ص 125، 126، ح 14574) : قال مالك: اخبرني حميد بن قيس، عن مجاهد أن صائغًا سأل ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أصوغ ثم أبيع الشيء بأكثر من وزنه وأستفضل من ذلك قدر عملي أو قال: عملتي، فنهاه عن ذلك فجعل الصائغ يرد عليه المسألة ويأبى ابن عمر حتى انتهى إلى بابه - أو قال: باب المسجد - فقال ابن عمر: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم وعهدنا إليكم. 14576 - أخبرنا إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن القاسم بن أبي بزة، عن يعقوب وكان ابن عمر ابتاع منه إلى الميسرة فأتاه بنقد ورقًا أفضل من ورقة فقال يعقوب: هذه أفضل من ورقي فقال ابن عمر: هو نبل من قبلي أتقبله؟ قلت: نعم. 14577 - عن الثوري، عن داود، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر كان لا يرى بأسا أن يأخذ الدراهم من الدنانير والدنانير من الدراهم، قال داود: وكان سعيد بن جبير يفتي به. 14579 - أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع أن ابن عمر قال: لا يأخذ الرجل الدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير - يريد نسيئة. وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/332) حدثنا ابن أبي زائدة، عن داود بن هند، عن سعيد بن جبير قال: رأيت ابن عمر يكون عليه الورق فيعطي بقيمته دنانير إذا قامت على سعر ويكون عليه الدنانير فيعطي الورق بقيمتها. ثم قال (نفس المرجع: ص 105، 109، ح 2537) : حدثنا على بن مسهر، عن الشيباني , عن جبلة بن سحيم، عن عبد الله بن عمر قال: أيها الناس لا تشتروا دينارًا بدينارين ولا درهمًا بدرهمين فإني أخاف عليكم الرماء قيل: وما الرماء؟ قال: الذي تدعونه الربا. 2540- حدثنا أبو الأحوص عن زيد بن جبير قال: سأل رجل ابن عمر عن الذهب والفضة فقال ابن عمر: الذهب بالذهب والفضة بالفضة وزنا بوزن. 2546 - حدثنا معتمر بن سليمان قال: سمعت عبد العزيز بن حكيم يقول: شهدت ابن عمر أتاه رجل من أهل البصرة فقال: جئت من عند قوم يصرفون الدراهم الصغار فيأخذون بها كبارًا قال: أيزدادون؟ قال: نعم، قال: لا إلا وزنًا بوزن. 2548 - حدثنا معتمر بن سليمان، عن عبد العزيز بن حكيم قال: سمعت ابن عمر يقول: إذا صرفت دينارًا فلا تقم حتى تأخذ ثمنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1576 وقال مالك (الموطأ: ص 52، ح 28) : عن حميد بن قيس المكي، عن مجاهد أنه قال: كنت مع عبد الله بن عمر فجاء صائغ فقال له: يا أبا عبد الرحمن إني أصوغ الذهب ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه فأستفضل من ذلك قدر عملي بيدي فنهاه عبد الله عن ذلك فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد الله ينهاه حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابة يريد أن يركبها ثم قال عبد الله بن عمر: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبيئنا إلينا ونبيئنا إليكم. وقال الشافعي (المسند، تهذيب السندي: 2/158، ح 548) : مالك عن حامد بن قيس، عن مجاهد، عن ابن عمر أنه قال: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا وعهدنا إليكم. وقال النسائي (السنن: 7/283) : أخبرنا محمد بن بشار قال: أنبأنا مؤمل قال: حدثنا سفيان، عن أبي هشام، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه كان لا يرى بأسًا يعني في قبض الدراهم من الدنانير والدنانير من الدراهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1577 وقال الطبري (تهذيب الآثار مسند عمر بن الخطاب، السفر: 2/742، 746، ح 1080) : حدثنا صالح بن مسمار المروزي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن صدقة سأل ابن عمر عن الذهب بالذهب والفضة بالفضة فقال: ضع ذا في كفة وذا في كفة فإذا اعتدلا فخذ وأعطه. 1085- حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا عبد المؤمن أنه سمع ابن عمر، وسأله رجل فقال: الذهب بالذهب فقال: نعم لا يحولن بينهما جدار. 1086 - حدثنا ابن حميد، حدثنا الحكم بن بشير، حدثنا كليب قال: سألني ابن عمر فقلت: اشترى الذهب؟ فقال: من يدك إلى يده - وصفق بإحدى يديه على الأخرى - وإن قال لك: إلى وراء هذه الاسطوانة فلا. وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/66) : حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني مالك أن حميد بن قيس حدثه عن مجاهد المكي أن صائغًا - هو عامل الحلي - سأل عبد الله بن عمر: إني أصوغ ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه فأستفضل من ذلك قدر عملي؟ فنهاه ابن عمر عن ذلك فجعل الصائغ يردد عليه المسألة ويأباه عليه عبد الله بن عمر حتى انتهى إلى دابته أو إلى باب المسجد فقال له عبد الله: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1578 وعن رافع بن خديج: قال الطحاوي (شرح معاني الآثار: 4/66، 67) : حدثنا أبو بكرة قال: حدثنا عمر بن يونس قال: حدثنا عاصم بن محمد قال: حدثني زيد بن محمد قال: حدثني ابن نافع قال: مشى ابن عمر إلى رافع بن خديج في حديث بلغه في شأن الصرف فأتاه فدخل عليه فسأله عنه فقال رافع: سمعته أذناي وأبصرته عيناني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تشفوا الدينار على الدينار ولا الدرهم على الدرهم ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز وإن استنظرك حتى يدخل عتبة بابه)) . حدثنا ابن مرزوق حدثنا عارم قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع قال: انطلقت مع عبد الله بن عمر إلى أبي سعيد فذكر مثله غير قوله: " وإن استنظرك إلى آخر الحديث فإنه لم يذكره. وعن ابن عباس: قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/335، الأثر 1259) : حدثنا ابن فضيل عن الشيباني، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كره أن يعطي الذهب من الورق والورق من الذهب. وقال الطبراني (المعجم الكبير: 1/176، 178، ح 454) : حدثنا على بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم وعبد السلام بن حرب عن مغيرة - يعني ابن مقسم - عن عبد الرحمن بن أبي نعم أن أبا سعيد الخدري لقي ابن عباس فشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلًا بمثل فمن زاد فقد أربى)) ، فقال ابن عباس: أتوب إلى الله عز وجل مما كنت أفتي به ثم رجع. 455- حدثنا على بن عبد العزيز، حدثنا الحجاج بن النهال، حدثنا الربيع بن صبيح، عن عقبة بن أبي ثابت الراسبي وغالب القطان، عن أبي الجوزاء قال: سألت ابن عباس عن الصرف عن الدرهم بالدرهمين يدًا بيد فقال: لا أرى بما كان يدًا بيد بأسًا ثم قدمت مكة من العام المقبل وقد نهى عنه. 456 - حدثنا موسى بن هارون حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا المثنى بن سعيد، حدثنا أبو الشعثاء قال: سمعت ابن عباس يقول: اللهم إني أثوب إليك من الصرف إنما هذا من رأيي وهذا أبو سعيد الخدري يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم. 457 - حدثنا محمد بن عمرو بن خالد الحراني، حدثنا أبي، حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا أبو غيفار المثنى بن سعيد قال: سمعت أبا الشعثاء يقول: سمعت ابن عباس يقول: استغفر الله وأتوب من الصرف. 459 - وحدثنا عبدان بن أحمد قال: حدثنا طالوط بن عباد الصيرفي - ولعل صوابها قال: أو أن الطبراني روي عن كل من عبدان وطالوط وإذن فيكون الصواب: وحدثنا طالوط - قالا: حدثنا سالم بن عبد الله أبو غياث العتكي قال: سمعت بكر بن عبد الله المزني يحدث أن ابن عباس جاء من المدينة إلى مكة وجئت معه فحمد الله واثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنه لا بأس بالصرف ما كان منه يدًا بيد إنما الربا في النسيئة فطارت كلمة في المشرق والمغرب حتى إذا أنقضى الموسم دخل عليه أبو سعيد الخدري فقال: يا ابن عباس أكلت الربا وطعمته قال: أو فعلت؟ قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن تبره وعينه فمن زاد أو استزاد فقد أربى والفضة بالفضة وزنًا بوزن تبرها وعينها فمن زاد أو استزاد فقد أربى والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل فمن زاد أو استزاد فقد أربى)) ، حتى إذا كان العام المقبل جاء ابن عباس وجئت معه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني تكلمت عام أول بكلمة من رأيي وإني استغفر منه وأتوب إليه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلًا بمثل تبره وعينه فمن زاد أو استزاد فقد أربى وأعاد إليهم هذه الأنواع الستة)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1579 وقال ابن حزم في (المحلى: 8/504) : ومن طريق سعيد بن منصور، حدثنا منصور، حدثنا هشيم، أنبأنا الشيباني - هو أبو إسحاق - عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كره اقتضاء الذهب من الورق والورق من الذهب. وتعقبه بقوله: وهذا صحيح. وعن شرحبيل: قال أحمد في المسند (الساعاتي الفتح الرباني: 15/74، ح 244) : حدثنا معتمر، عن عاصم، عن شرحبيل أن ابن عمر وأبا هريرة، وأبا سعيد حدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلًا بمثل عينًا بعين من زاد أو أزداد فقد أربى)) . قال شرحبيل: إن لم أكن سمعته فأدخلني الله النار. وعن عائشة: قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/108، ح 2545) : حدثنا وكيع قال: حدثنا نضر بن على الجهضمي، عن قيس بن رباح الحداني، عن ملكة ابنة هانئ قالت: دخلت على عائشة وعلى سواران من فضة فقلت: يا أم المؤمنين " أبيعها " - لعل الصواب: أبيعهما -: بدراهم؟ فقالت: الفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل. وعن مجاهد: قال عبد الرزاق (المصنف: 8/121، ح 14560) : عن الثوري، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد في الرجل يبيع الفضة بالفضة بينهما فضل قال: يأخذ بفضله ذهبًا. وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/38، ح 2299) : حدثنا سفيان عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد في الرجل يصرف عند الرجل الدينار فيفضل القيراط من ذهب قال: لا بأس أن يأخذ به كذا وكذا درهمًا. ثم قال (ص 106، ح 2539) : حدثنا ابن فضيل عن ليث، عن مجاهد، قال: أربعة عشر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم (1) قالوا: الذهب بالذهب والفضة بالفضة وأربو (2) الفضل منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وسعد وطلحة والزبير.   (1) كلمة أن هم موجودة في الأصل، وهي زيادة لا معنى لها (2) أي اعتبروه ربا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1580 (9) أحكام اضطراب العملة في آثار التابعين وتابعيهم عن سعيد بن المسيب: قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/336، ح 1264) : حدثنا مروان بن معاوية، عن موسى بن عبيدة قال: أخبرني عطاء مولى عمر بن عبد العزيز قال: ابتعت من برد مولى سعيد بن المسيب ناقة بأربعة دنانير فجاء يلتمس حقه مني فقلت: عندي دراهم ليس عندي دنانير قال: حتى أستأمر سعيد بن المسيب فاستأمره فقال له سعيد: خذ منه دنانير عينًا فإن أبي فدعه موعده الله. وقال مالك في (الموطأ: ص 532، ح 37) : عن يزيد بن عبد الله بن قسيط الليثي أنه رأى سعيد بن المسيب يراطل الذهب بالذهب فيفرغ ذهبه في كفة الميزان ويفرغ صاحبه الذي يراطله ذهبه في كفة الميزان الأخرى فإذا اعتدل لسان الميزان أخذ وأعطى. وقال ابن حزم (المحلى: 8/506) : وعن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا مروان بن معاوية - هو الفزاري - عن موسى بن عبيدة أخبرني عطاء مولى عمر بن عبد العزيز أنه ابتاع من برد مولى سعيد ناقة بأربعة دنانير فجاء يلتمس حقه فقلت: عندي دراهم ليس عندي دنانير فقال: حتى أستأمر سعيد بن المسيب فاستأمره فقال له سعيد: خذ منه دنانير عينًا فإن أبى فموعده الله دعه. وعن طاوس: قال عبد الرزاق (المصنف: 8/126، ح 14580) : اخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: لا بأس بأن يأخذ الذهب من الورق والورق من الذهب. ثم قال (ص 128، ح 14588) : قال سفيان: وأخبرني ليث عن طاوس أنه كرهه في البيع ولا يرى في الفرض بأسًا " يريد دفع الورق من الذهب بسعر يومه ". وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/333، ح 1252) : حدثنا معتمر، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه أنه لم ير به بأسًا. ثم قال (7/38، ح 2298) : حدثنا يزيد، عن موسى بن مسلم قال: سألت طاوسا قلت: دينار ثقيل بدينار أخف منه ودرهم قال: لا بأس به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1581 وعن سعيد بن جبير: قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/333، ح 1251) : حدثنا وكيع عن موسى بن نافع، قال: سألت سعيد بن جبير عن رجل اقتضى ذهبًا من ورق أو ورقًا من ذهب في القرض قال: لا بأس به. وقال النسائي (السنن: 7/282، 283) : أخبرنا محمد بن بشار قال: حدثنا وكيع قال: أنبأنا موسى بن نافع عن سعيد بن جبير أنه كان يكره أن يأخذ الدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير. ثم قال: حدثنا سفيان عن موسى بن شهاب، عن سعيد بن جبير أنه كان لا يرى بأسًا وإن كان من قرض. أخبرنا محمد بن بشار قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا موسى بن نافع عن سعيد بن جبير بمثله. قال أبو عبد الرحمن: هكذا وجدته في هذا الموضوع. قلت: لعل ما رواه عن طريق وكيع من كراهة سعيد أخذ الدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير كان مما ألزم به نفسه تورعًا، وما رواه عن طريقه بواسطة محمد بن بشار وعن طريق سفيان بواسطته أيضًا من أنه كان لا يرى في ذلك بأسًا إنما هو فتياه للناس عامتهم رفعًا للحرج عنهم وقد يأخذ العالم في نفسه ما لا يلزم به غيره. وقال ابن حزم (المحلي: 8/505، 506) : ومن طريق أحمد بن شعيب، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا وكيع، حدثنا موسى بن نافع، عن سعيد بن جبير أنه كره أن يأخذ الدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1582 وعن الحسن: قال عبد الرزاق (المصنف: 8/128، ح 14587) : قال الثوري: وأخبرني يونس، عن الحسن قال: لا بأس به بسعر السوق، وقال سفيان: لا بأس به إذا تراضيا. وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/333، 334، ح 1254) : حدثنا وكيع، عن الحسن قال: لا بأس لاقتضاء الذهب، الورق والورق من الذهب بقيمة السوق. 1255 - حدثنا ابن إدريس عن هشام، عن الحسن قال: لا بأس به. ثم قال (ص 590، ح 2141) : حدثنا يزيد بن هارون قال: حدثنا هشيم، عن الحسين أنه لم يكن يرى بأساس بالرجلين يشتركان فيجيء هذا بدنانير والآخر بدراهم وقال: الدنانير عين كله فإذا أراد أن يفترقا أخذ صاحب الدنانير دنانير وأخذ صاحب الدراهم دراهم ثم اقتسما الربح. قال هشام: وكان محمد يحب أن يكون دراهم ودراهم ودنانير ودنانير. ثم قال (7/25، ح 3002) : حدثنا شريك، عن سماك، عن الحسن قال: إذا قرضت عددًا فخذ عددًا وإذا قرضت وزنًا فخذ وزنًا. ثم قال (ص 26، ح 2257) : ثم قال حدثنا عبدة بن سليمان، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب والحسن أنهما كانا لا يريان بأسًا بقضاء الدراهم البيض من الدراهم السود ما لم يكن شرطًا. ثم قال (ص 38، ح 2300) : حدثنا ابن أبي زائدة، عن يزيد، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن في الرجل يشتري الذهب بالدراهم فيزن الدينار فيزيد فيأخذ بفضلها قال: لا بأس به، وكره ابن سيرين وقال: خذ به "جمع" ذهبًا وبنصفها فضة. 2301 - حدثنا ابن أبي زائدة، عن يزيد قال: كان ابن سيرين يكره الوازنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1583 وعن ابن سيرين: قال عبد الرزاق (المصنف: 8/14، ح14107) : أخبرنا الثوري، عن يونس،عن الحسن قال: إذا سلفت سلفًا فلا تصرفه في شيء حتى تقبضه. 14108 - أخبرنا إبراهيم بن عبد الرحمن، عن عبد الكريم , عن الحسن وابن سيرين مثله. 14110 - أخبرنا هشام بن حسان، عن محمد والحسن أنهما كرها إذا سلفت في وزن أن تأخذ كيلًا أو في كيل أن تأخذ وزنًا. وذكر الثوري عن هشام والحسن ومحمد مثله. ثم قال (ص 120، 121، ح 14556) : أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين في رجل كانت لي عليه مائة وازنة فأسلفني مائة دينار ناقصة فقال: لا بأس أن يسلف الدنانير النقص إذا كانت التي تسلف وازنة ولكن إذا كنت تسلفه ناقصة فسلفك وازنة كان ذلك مكروهًا. 14558 - أخبرنا معمر قال: سئل ابن سيرين عن مائة مثقال ذهب في مائة مثقال في أحدهما مثقال فضة هو تمام المائة مثقال يومئذ فكرهه. ثم قال (ص 129، ح 14590) : أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين أنه كره أن يشتري بدينار " إلا درهم " (1) نسيئة ولم يرد به بأسًا بالنقد.   (1) قال المحقق كذا في المواضع كلها، وهذا يعني أنه أشكل والواقع أنه غير مشكل فهو مجرور على البدلية كما رفعت " قليل " بعد إلا في قوله: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} . سورة النساء: الآية (176) ، أو على الوصفية وإلا بمنزلة غير كما ورد في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} . سورة الأنبياء: الآية (22) . ومثل قولهم عندي درهم إلا دانق إذ يجوز إلا دانقًا واضح أن اعتباره صفة هنا يتضمن أيضًا ملاحظته معنى البدلية إذ لو أغفل هذا المعنى لتعطل معنى الجملة، ولذلك قالوا: يمتنع عندي درهم إلا جيد لأن كلمة جيد لا يمكن أن يلحظ فيها معنى البدلية. انظر ابن هشام (المغني: ص 198، 202) ، وهكذا يتضح أنه لا إشكال فيما أشكل على المحقق لا سيما إذا لاحظنا تفسير البصريين لآية سورة النساء المذكورة آنفًا ومعلوم أن ابن سيرين بصري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1584 14592 - سألت معمر عن رجل باع ثوبًا بدينار " إلا درهم " - راجع التعليق: (1) في الصفحة ذاتها - إلى أجل فقال: هو مكروه قلت: فباعه بدينار " إلا درهم " قال: مكروه قال: كان ابن سيرين يكره هذا كله. وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/335، 336، ح 1263) : حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن هشام، عن محمد في رجل كانت له على رجل دراهم فأخذ منها ثم أراد أن يأخذ بقيمتها دنانير فكرهه. ثم قال (ج 7/ح 2252) : حدثنا الثقفي، عن أيوب، عن محمد أنه كان يكره أن يسلف عددًا ويأخذ وزنًا: 2254 - حدثنا عبد الأعلى، عن هشام عن الحسن ومحمد أنهما قالا في رجل اقترض من رجل دراهم عددًا بأرض فجازت وزنها أيقضيه وزنًا؟ فكرها ذلك وقالا: لا يقضيه إلا مثل دراهمه. ثم قال (ص 37، ح 2296) : حدثنا وكيع قال: حدثنا سفيان، عن معمر، عن رجل، عن ابن سيرين أنه سئل، عن مائة مثقال بمائة دينار وعشرة دراهم فكرهه. ثم قال: (ص 39، ح 2303) : حدثنا أزهر عن ابن عون قال: سألت محمدًا قلت: أشترى الدنانير اليسيرة وأقول: أنت بريء من وزنها قال: لا أعلم به بأسًا. ثم قال (ص 110، ح 2552) : حدثنا غندر، عن هشام، عن الحسن وابن سيرين قالا: إذا بعت ذهبًا بفضة فلا تفارقه وبينك وبينه شرط إلا هاء وهاء. وقال ابن حزم (المحلي: 8/506) : وعن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين فيمن كانت له على آخر دراهم فأخذ منها ثم أراد أن يأخذ بقيمتها دنانير فكرهه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1585 وعن أبي سلمة: قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/335، ح 1261) : حدثنا وكيع، عن ابن المبارك، عن يحيى، عن أبي سلمة قال: سألته عن الرجل يقرض الرجل الدراهم فيأخذ منه الدنانير فكرهه. 1262 - حدثنا معتمر، عن معمر، عن يحيى، عن أبي سلمة أنه كرهه. وقال الطبري (تهذيب الآثار مسند عمر بن الخطاب: السفر: 2/747، 748، ح 1089) : حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني طلحة بن أبي سعيد والليث بن سعد أن صخر بن أبي غليظ حدثهما أنه كان مع أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف فابتاع أبو سلمة ثوبًا بدينار إلا درهمًا - قال الليث: أو قيراطًا - فأعطاه أبو سلمة الدينار وقال: هلم الدرهم قال: ليس عندي درهم الآن حتى ترجع إلي فألقى إليه أبو سلمة الثوب وقبض الدينار منه وقال: لا بيع بيني وبينك. 1090 - حدثنا على بن سهل الرملي، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن جعفر بن برقان قال: قلت للزهري، الرجل يصرف الدرهم بالفلوس قال: هو صرف لا يفارقه حتى يستوفي. قال الطبري: وكذلك كان مالك بن أنس والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والشافعي يقولون ويرون أن المتصارفين إذا لم يتفارقا إلا عن تقابض إن صرفهما ماض جائز وإن لم يكن ما اصطرف عليه من الذهب والورق حاضرًا عند عقد البيع عليه يريانه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1586 وقال ابن حزم (المحلي: 8/505، 506) : ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع بن على بن المبارك، عن يحيى هو ابن أبي كثير، عن أبي سلمة - هو ابن عبد الرحمن بن عوف - أنه كره أن يكون لك عند آخر قرض دراهم فتأخذ منه دنانير. وعن أبي عبيدة بن عبد الله: قال ابن حزم (المحلي: 8/505، 506) : ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثني ابن علية، عن يونس - هو ابن عبيد - عن أنس بن سيرين قال: قال لي أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: لا تأخذ الذهب من الورق يكون لك على الرجل ولا تأخذ الورق من الذهب. وعن الثوري: قال عبد الرزاق (المصنف: 8/117، ح 14544) : قال الثوري: إذا صرفت بدينار عشرة دراهم ونصف فلا تأخذ بالنصف طعامًا ولا شيئًا إلا فضة فإن شرطت عشرة دراهم ومُدَّيْنِ فلا بأس به. ثم قال (ص 120، ح 14557) : قال الثوري في رجل له على رجل مائة دينار وازنة فقال: أسلفني مائة دينار ناقصة فقال: خذها من المائة الوازنة وأحسابك بالفضل وأقبضه منك قال: لا بأس به. ثم قال (ص 126، ح 14578) : قال الثوري في رجل أقرضه رجل دينارًا فأخذ منه دراهم يصرف يومئذ - يعني يأخذها بصرف يومئذ -. ثم قال (ص 128، ح 14589) : قال عبد الرزاق: سألت الثوري عن رجل كنت أسلفت له دينارًا فأخذت منه نصف دينارًا قال: " جابر " - خطأ واضح صوابه: جائز - إنما يبقى لك عليه نصف دينار " ذهب " - هكذا في النسخة المطبوعة ولم يعقب عليه المحقق ولعله صفة لنصف - وقال في رجل يبيع طعامًا بنصف دينار إلى أجل قال: " جابر "إنما هو نصف دينار ذهبًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1587 وعن قتادة: قال عبد الرزاق (المصنف: 8 /117، ح 14543) : أخبرنا معمر، عن قتادة قال: إذا صرفت دينارًا بورق والصرف ثلاثة عشر ونصف فأعطى أربعة عشر وقال: آتيك بنصف درهم لا بأس بهذا يقول: يأخذ منه النصف درهم إذا شاء قال: ولكن لو كان الصرف ثلاثة عشر ونصف فأعطاه ثلاثة عشر وقال: سوف آتيك بالنصف فإن هذا لا يصلح. وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6 /333، ح 1253) : حدثنا معتمر، عن معمر، عن الزهري وقتادة أنهما قالا: لا بأس بذلك " أي اقتضاء الذهب بالورق أو العكس ". وعن إبراهيم النخعي: قال عبد الرزاق (المصنف: 8/121، ح 14559) : عن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم أنه كره الدينار الشامي بالدينار الكوفي وبينهما فضل أن يأخذ فضل الشامي فضة. 14560- عن الثوري، عن عثمان بن الأسود عن مجاهد في الرجل يبيع الفضة بالفضة بينهما فضل فقال: يأخذ بفضله ذهبًا. ثم قال (ص 128، 129، ح 14586) : أخبرنا الثوري، عن مغيرة، عن إبراهيم أنه كره أن يبيع الذهب بالفضة ثم يأخذ دراهم ويقول: إن وجدت فيها عيبًا، قال الثوري: وأما منصور فأخبرني عن الحكم، قال: أمرني إبراهيم أن أعطي امرأته من صداقها دنانير من دراهم. وتعقبه عبد الرزاق بقوله: عجبًا " في " - هكذا في النسخة المطبوعة ولعله بلغة الكوفيين الذين ينيبون حروف الجر بعضها عن بعض - أهل البصرة والكوفة، أهل الكوفة يروون عن عمر وعبد الله الرخصة وأهل البصرة يروون عنهما التشديد - انظر ما نقلناه عنهما في الفصل السابق -. 14591 - أخبرنا الثوري، عن خالد بن دينار، عن الحارث، عن يزيد، عن إبراهيم أنه كان يكره البيع بدينار " إلا درهم " - راجع التعليق: (ص 2005) . وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/332، ح 1248) : حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم قال: كان لامرأة إبراهيم على إبراهيم شيء فأمرني أن أعطيها بقيمة الدراهم دنانير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1588 وفي مصنف عبد الرزاق (8/128، ح 14586) : أخبرنا الثوري عن مغيرة، عن إبراهيم أنه كره أن يبيع الذهب بالفضة ثم يأخذ دراهم ويقول: إن وجدت فيها عيبًا قال الثوري: وأما منصور فأخبرني عن الحكم قال: أمرني إبراهيم أن أعطي امرأته من صداقها دنانير من دراهم. ثم قال ابن أبي شيبة (7/26، ح 2258) : حدثنا عبدة، عن سعيد، عن أبي سعيد، عن إبراهيم أنه لم يكن يرى بذلك بأسا ما لم يكن شرطًا أو نية. ثم قال (ص 36، 37، ح 2295) : حدثنا وكيع قال: حدثنا سفيان، عن منصور قال: سألت إبراهيم عن الدينار الشامي بالدينار الكوفي وفضله فضة فكرهه. 2297 - حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: يكره دينار شامي بدينار كوفي ودرهم ولا بأس إذا كان لك على رجل دينار كوفي فتعطيه دينارًا شاميًا وتشتري الفضل منه بشيء ولا تفترقا إلا وقد تصرم ما بينهما - هكذا ولعل صوابه: ما بينكما -. 2302 - حدثنا غندر، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم أنه كان يكره أن يبيع الرجل الدينار فيأخذ بعضه ذهبًا وبعضه فضة قال: وكان الحكم لا يرى بذلك بأسًا. وقال النسائي (السنن: 7/282، 283) : أخبرنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان، عن أبي الهذيل عن إبراهيم في قبض الدنانير من الدراهم أنه كان يكرهها إذا كان من قرض. قلت: لعل ذلك تحرجًا من تغيير السعر واعتبارًا لكون ذمة المقترض عامرة بسعر ما أخذ يوم أخذه وهو رأي ذهب إليه نفر من التابعين والمجتهدين من الفقهاء كما سنراه بعد قليل. وقال ابن حزم (المحلي: 8/505، 506) : ومن طريق محمد بن المثنى، حدثنا مؤمل بن إسماعيل، حدثنا سفيان الثوري، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم النخعي أنه كره اقتضاء الدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1589 وعن القاسم: قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 6/334، ح 1256) : حدثنا أبو بكر النخعي عن أفلح، عن القاسم قال: لا بأس به. وعن مغيرة: قال: قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/110، ح 2554) : حدثنا هشيم، عن مغيرة قال: لا يفترقا إلا وقد تصرما ما بينهما. وعن شريح: قال ابن أبي شيبة 0 (الكتاب المصنف: 7/110، 111، ح 2555) : حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن مغيرة, عن شباك، عن إبراهيم، عن شريح قال: أحب إلي في الصرف أن يتصادرا وليس بينهما لبس. من استعراض هذه الآثار ومثيلاتها مما لم نسقه - إذا لم نقصد إلى الاستقراء - تتبين ملامح تصور التابعين وتابعيهم للنقد ومذاهبهم في استنباط الأحكام المتصلة به نتيجة لتصورهم له. ويمكن إيجاز هذه الملامح فيما يلي: 1- يرى أغلبهم شكلا " من الوحدة النقدية " بين الذهب والفضة ينعكس أثرها على " اقتضاء " أحدهما بالآخر و" الاقتضاء " - كما نفهمه من مجموع آثارهم - يقصدون به ما سوى الصرف من أنواع إبراء الذمة كالقرض، والقراض والبيع المؤجل. وقليل منهم من يبدو أنه يرى أن كلًّا من الذهب والفضة نقد مستقل بذاته وإن جمعت بينهما صفة " النقدية " وهذا الفريق أقل تحرجًا من الفريق الآخر في الأحكام التي استنبطها لصور الاقتضاء وإن كان الفريقان معًا يلتزمان في أحكامهما ملاحظة اجتناب شبهة الربا بيد أن التزامهما يتمايز بشدة التحرج عند الفريق الأول والآخذ ببعض السعة عند الفريق الثاني. 2- يكادون يجمعون على ملاحظة تذبذب أسعار النقدين ملاحظة مهيمنة على أحكامهم فهي على اختلافها ظروفًا وأشكالا تعكس اعتبار " التذبذب " وإن في أشكال بعضها تكون فيه أبرز منها في البعض الآخر وهذه الملاحظة هي التي تعنينا أساسًا، ذلك بأن تذبذب سوق الذهب والفضة ارتفاعًا وانخفاضًا ليس في عينهما فحسب , بل في النقدين المسكوكين منهما لايختلف في شكله ولا في الآثار المترتبة عنه اختلافا عما نعرف اليوم من تذبذب قيم العملات ارتفاعًا وانخفاضًا في الأسواق المالية، وإن كانت الأسباب تختلف فالعرض والطلب هما العَاملان الأساسيان - فيما يبدو لنا - في اضطراب أسعار الذهب والفضة مسكوكين أو غير مسكوكين في الأسواق أيامئذ، على حين أن عوامل أخرى أساسها المؤثرات في معايير قيم العملات هي أسباب تذبذبها اليوم أو ما نسميه تغيير قيمها وذلك ما سنعرض له بتوقف أطول في موقعه من هذا البحث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1590 3- وبما أن اعتبار الوزن في النقدين كان أساسيًا في تقويمها وفي تصورهم لمدلول النقدية فيهما حتى اعتبره البعض - كما سنبين في موقعه - علة تحريم تبادلهما متفاضلين وهو ما عرف بربا الفضل فإن آثاره وضحت في أحكامهم في أحوال متعددة مما يتصل بإبراء الذمة مثل أداء أثمان بيع المؤجل أو تسديد قرض أو إعادة قراض بعد انتهاء أجله أو ما إلى ذلك من الإبراء في حالات غير حالات التقابض والتناجز، ومرد ذلك إلى نمط من اضطراب العملات لم نعد نعرفه الآن وكان يومئذ شائعًا لو كان مما ورثوه من الأمم الأخرى وهو اختلاف الوزن بين الدينار والدينار أو الدرهم والدرهم تبعًا لاختلاف أماكن وظروف سكها بما في ذلك ما يعكس من اختلاف الأحوال الاقتصادية لهذا البلد أو ذاك ولهذه الولاية أو تلك من البلاد والولايات الإسلامية لما كان لكل بلد ولكل ولاية من استقلال مالي نسبي عن عاصمة الخلافة لعوامل ليس هذا مجال تفصيلها، والذي يعنينا من هذا الملمح الثالث هو ما يشاكله في عصرنا هذا من وجود عملات متفقة اسمًا مثل الفرنك الفرنسي والبلجيكي والسويسري والمارك لكل من ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية والدولار الأمريكي والدولار الكندي والدينار من الكويتي إلى الجزائري والدرهم من الإماراتي إلى المغربي والريال من الإيراني إلى السعودي وما إلى هذه من عملات متفقة اسمًا مختلفة قيمة اختلافًا قد تكون الواحدة منها لا تجاوز قيمتها واحدًا من ستة عشر من قيمة مثيلاتها في الاسم مع أن هذه العملات تخضع جميعًا لنظام واحد من الضوابط والمعايير في الإطار الدولي مما سنعرض له في موقعه من هذا البحث. والذي ألمعنا إليه في هذا التعليق على آثار التابعين وتابعيهم هو جوهر ما سنلاحظه فيما نسوقه في الفصل الآتي من أحكام مجتهدي المذاهب من أئمة وتابعين لهم وإن كان التصور الطبيعي للنقد ولما بين النقدين من علاقة ولما بينهما وما ستحدث بعهدهما من علاقة تتضح ملامحه وتختلف تبعًا لذلك الأحكام المستنبطة نتيجة له مع تطور العصور واختلاف بلدان وظروف المجتهدين بل قد تختلف ما بين إمام وآخر نتيجة لاختلاف ظروفهما وهذا ما سنتبينه مما سنسوقه في الفصل الآتي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1591 (10) الأحكام المترتبة على اضطراب النقد وتغييره واختلافه من آثار أيمة " السنة " ومجتهديها قال مالك (الموطأ: ص 530، 531) : لا بأس أن يشتري الرجل الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، جزافًا إذا كان تبرًا أو حليًا قد صيغ وأما الدراهم المعدودة والدنانير المعدودة، فلا ينبغي لأحد أن يشتري شيئًا من ذلك جزافًا حتى يعلم ويعد، فإن اشترى ذلك جزافًا فإنما يراد به الغرر حين يترك عده، ويشتري جزافًا وليس هذا من بيوع المسلمين، فأما ما كان يوزن من التبر والحلي، فلا بأس أن يباع ذلك جزافًا كهيئة الحنطة والتمر ونحوهما من الأطعمة التي تباع جزافًا ومثلها يكال فليس بابتياع ذلك جزافًا بأس. قال مالك، من اشترى مصحفًا أو سيفًا أو خاتمًا، وفي شيء من ذلك ذهب أو فضة بدنانير أو دراهم، فإن ما اشترى من ذلك وفيه ذهب بدنانير، فإنما ينظر إلى قيمته، فإن كانت قيمة ذلك الثلثين وقيمة ما فيه من الذهب الثلث، فذلك جائز لا بأس به إذا كان ذلك يدًا بيد، ولا يكون فيه تأخير وما اشترى من ذلك بالورق مما فيه نظر إلى قيمته فإن كان قيمة ذلك الثلثين وقيمة ما فيه الثلث، فذلك جائز لا بأس به إذا كان ذلك يدًا بيد، ولم يزل ذلك من أمر الناس عندنا. ثم قال (ص 531) : إذا اصطرف الرجل دراهم بدنانير، ثم وجد فيها درهمًا، فأراده رده انتقض صرف الدينار ورد إليه ورقه، وأخذ إليه ديناره وتفسير ما كره من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالورق إلا هاء وهاء)) . وقال عمر بن الخطاب: وإن استنظرك إلى أن يجد بيته فلا تنظره وهو إذا رد عليه درهمًا من صرف بعد أن يصارفه كان بمنزلة الدين أو الشيء المتأخر فلذلك كره ذلك وانتقض الصرف، وإنما أراد عمر بن الخطاب أن لا يباع الذهب بالورق والطعام كله عاجلًا بآجل، فإنه لا ينبغي أن يكون في شيء من ذلك ولا تنظره وإن كان من صنف واحد أو كان مختلفة أصنافه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1592 وقال سحنون (المدونة الكبرى؛ المجلد: 4، 9/318، 319) : وسئل مالك عن الرجل يبتاع من الرجل بعشرين درهمًا، فيعطيه إياها لا يعرف لها وزنًا، والدراهم تختلف، فرب درهم عريض يكون عريضًا خفيفًا في الوزن، ورب درهم صغير يكون صغيرًا أثقل في الوزن فيشتري بها على عددها بما كان فيها من الوزن فقال: ما هو بحسن بيع الدراهم جزافًا فكأنه رآه من وجه الجزاف قال ابن القاسم: قال الله جل ذكره: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [آية 35 من سورة الإسراء؛ وآية 282 من سورة الشعراء] ، فلا ينبغي لأحد أن يترك الوزن وذلك رأيي وسمعت مالكًا غير مرة يكره ذلك. قال ابن رشد: هذا بين على ما قال: إنه لا يجوز له أن يقتضي من عشرين درهمًا مجموعة موزونة عشرين درهمًا عددًا مجموعة لأنه غرر إذ لا يدري هل أخذ أقل من حقه أو أكثر إذ قد يكون الدرهم العريض خفيفًا والدرهم الصغير ثقيلًا، ولو اقتضى منها عشرين درهمًا عددًا مجموعة لا تجوز بأعيانها لا يشك أنها أكثر في الوزن من التي له أو أقل لجاز ذلك لأنه معروف من أحدهما إلى صاحبه، ولو اقتضى منه عشرين درهمًا عددًا تجوز بأعيانها لجاز إن كانت في الوزن أقل من التي له أنها إن كانت أكثر في الوزن من التي له فقد أخذ أكثر من حقه في الوزن وفي عيون الدراهم وإن كانت أقل في الوزن كان إنما ترك فضل الوزن لفضل عيون الدرهم فلم يجز وهذا كله قائم من قوله في المدونة إن القائمة تقتضي من المجموعة لأنها أكثر في الوزن وأفضل في العين ولا يقتضي منه الفراد لأنها أقل في الوزن، وأفضل في العين - انظر الونشريسي، المعيار: 6/275، 277 -. ثم قال (نفس المرجع: ص 319، 320) : وسئل مالك عن جواز الذهب أيشتري بها، ولا يبين لمن يدفعها إليه، قال: أما كل بلد مثل مكة التي يجوز فيها كل شيء فلا بأس وأما غير ذلك فلا أحبه حتى يسمي. قال ابن رشد: هذا بين على ما قال إن البلد الذي تجوز جميع السكك جوازًا واحدًا، لا فضل لبعضها على بعض ليس على المبتاع فيه شيء أن يبين بأي سكة يبتاع ويجبر البائع أن يأخذ أي سكة أعطاه كما أن البلد إذ كان يجري فيه سكة واحدة فليس عليه أن يبين بأي سكة يبتاع ويجبر على أن يقضيه السكة الجارية وأن البلد الذي يجري فيه جميع السكك ولا تجوز فيه بجواز واحد لا يجوز البيع فيه حتى يبين بأي سكة يبتاع فإن لم يفعل كان البيع فاسدًا. يبين بأي سكة يبتاع فإن لم يفعل كان البيع فاسدًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1593 وقال ابن عبد البر (التمهيد: 2/246) : وقد روي عن كثير من أصحاب مالك وبعضهم يرويه عن مالك في التاجر يحفزه الخروج وبه حاجة إلى دراهم مضروبة أو دنانير مضروبة، فيأتي دار الضرب بفضته أو ذهبه، فيقول للضراب، خذ فضتي هذه أو ذهبي، وخذ قدر عمل يدك وادفع إلي دنانير مضروبة في ذهبي أو دراهم مضروبة في فضتي هذه لأني محفوظ للخروج وأخاف أن يفوتني من أخرج معه أن ذلك جائز للضرورة وأنه قد عمل به بعض الناس. قال ابن عبد البر: هذا مما يرسله العالم من غير تدبر ولا روية وربما حكاه لمعنى قاده إلى حكايته فيتوهم السامع أنه مذهبه فيحمله عنه وهذا عين الربا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من زاد أو ازداد فقد أربى)) . وقال ابن عمر: لا في مثل هذه المسألة سواء بسواء ونهاه عنها، وقال: هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم وهذا قد باع فضة بفضة أكثر منها وأخذ في المضروب زيادة على غير المضروب وهو الربا المجتمع عليه لأنه لا يجوز مضروب الفضة ومصوغها بغيرها، ولا مضروب الذهب ومصوغه بغيره وعينه إلا وزنًا بوزن عند جميع الفقهاء، وعلى ذلك تواترت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم استدل بحديث عبادة بن الصامت. وقال ابن رشد (البيان والتحصيل: 6/429، 432) : أخبرني محمد بن عمرو بن لبابة، قال: اخبرني العتبي محمد بن أحمد، عن سحنون بن سعيد، قال: أخبرني ابن القاسم، عن مالك في رجل قال لرجل: ادفع إلى هذا نصف دينار فدفع إليه به دراهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1594 قال ابن القاسم: ليس عليه إلا عدة الدراهم التي دفع يومئذ لأنه نصف دينار وليس عليه أن يخرج دينارًا فيصرفه وإنما الاختلاف إذا أمره بقضاء دينار تام، قال سحنون: قال ابن القاسم: يريد إذا كان المأمور إنما دفع إليه الدراهم وأما إن كان إنما دفع إليه دينارًا فصرفه فله نصف دينار بالغًا ما بلغ. قال محمد بن رشد: كذا وقع في هذه المسالة قال ابن القاسم وليس له إلا عدة الدراهم التي دفع وصوابه: قال مالك فإن المسألة في قوله بدليل تفسير ابن القاسم له بقوله: يريد إذا كان المأمور إنما دفع إليه الدراهم. وأما قوله: إنما الاختلاف إذا أمره بقضاء دينار تام فأراه قول سحنون لأنه إنما أشار إلى قول ابن القاسم وغيره في ذلك الواقع في كتاب الكفالة والحوالة من المدونة وفي قوله: وإنما الاختلاف إذا أمره بقضاء دينار تام دليل على خلاف أنه إذا أمره بقضاء دينار تام دليل على خلال أنه إذا أمره بقضاء نصف دينار فقضاه دراهم إنما يرجع عليه بعدة الدراهم التي قضاه وذلك إنما يصح على القول بأن من وجب له على رجل جزء من دينار قائم يراعي في وجه المصارفة فيه ما يوجبه الحكم من أن يقضيه فيه دراهم بصرف يوم القضاء لأنه إذا قال له: أدفع عني إلى فلان نصف دينار، فكأنه إنما أمره أن يدفع إليه صرفه، إذ هو الذي يوجبه الحكم فوجب إذا دفع إليه صرفه أن يرجع بما دفع لأنه إذا أمر إلا أن يكون حابى المدفوع له في الصرف، فلا يرجع بالمحاباة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1595 وأما على القول بأن من وجب له على رجل جزء من دينار قائم يراعي فيوجه المصارفة فيه ما ترتب في الذمة من الذهب لا ما يوجبه الحكم في القضاء فدخل إذا أمره بقضاء نصف دينار تام، فقضاه دراهم فالأمر مخير بين أن يعطيه نصف دينار أو دراهمه وعلى هذا يأتي قول إصبغ في سماعه من كتاب الحبوب فيمن باع سلعة بنصف دينار فأحال على المشتري غريمًا له بنصف دينار وليس بالدراهم خلاف في قول ابن القاسم فيه، وفي رسم حبل الحبلة من سماع عيسى من كتاب جامع العيون. وتحصيل القول فيمن أمر رجلًا أن يقضي دينًا عليه لرجل آخر، فقضى عنه خلاف ما أمره به أن ذلك ينقسم على قسمين: أحدهما أن يقضي عنه خلافه مما تختلف فيه الأغراض، والثاني أن يقضي عنه أدنى منه في الصفة أو أقل منه في العدد أو ما يئول إلى ما هو أقل منه في العدد. فأما إذا قضاه خلافه مما تختلف فيه الأغراض، ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك جائز جملة من غير تفصيل، والثاني أن ذلك لا يجوز جملة من غير تفصيل، والثالث لا يجوز فيما لا تجوز فيه المبايعة إلا يدًا بيد مثل أن يأمره أن يقضي عنه دنانير، فيقضي عنه دراهم، أو يأمره أن يقضي عنه قمحًا من قرض، أو تمرًا، فيقضي عنه تمرًا وما أشبه ذلك. وأن ذلك لا يجوز فيما تجوز المبايعة فيه إلى أجل مثل أن يأمره أن يقضي عنه دنانير أو دراهم، فيقضي تمرًا أو حبًا أو كتانًا أو قطنًا وما أشبه ذلك، مما يكال أو يوزن فإن قلنا إن ذلك لا يجوز فيما لا يجوز من ذلك على القول بأن ذلك لا يجوز فينفسخ القضاء ويرجع المأمور بما دفع ويبقى الدين كما كان عليه، وإن قلنا إن ذلك يجوز فيما يجوز من ذلك، فيختلف بما يرجع به المأمور على الآمر على قولين: أحدهما أن المأمور يرجع على الآمر بما أمره أن يدفع عنه، والثاني يرجع عليه بما دفع عنه إلا أن يشاء الآمر أن يدفع إليه ما كان عليه يكون مخيرًا في ذلك، وهذا معنى قول مالك في كتاب المديان أنه لا يربح في السلف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1596 وأما إن قضاه ما أمره به في الصفة مثل أن يأمره أن يقضيه عنه دراهم محمدية، فيقضيه يزيدية، أو دنانير هاشمية، فيقضيه دمشقية، أو سمرًا، فيقضيه محمولة، أو أقل في العدد، أو ما يئول إلى ما هو أقل في العدة مثل أن يأمره أن يقضي عنه دنانير، فيقضي عنه عرضًا من العروض في بلد يبتاع فيه بالدنانير، أو يأمره أن يقضي عنه دراهم فيقضي عنه عرضًا في بلد يبتاع فيه بالدرهم، فهذا الوجه الثالث لا اختلاف فيه أن القضاء جائز، وأن المأمور يرجع على الآمر بما دفع إن كان الذي دفع أقل في العدد أو أدنى في الصفة أو بالأقل من قيمة العرض الذي دفع أو مما أمره الآمر أن يدفع عنه من الدنانير والدراهم وكذلك الحكم في الكفيل يدفع من عنده الذي تكفل له عن المكفول به خلاف ما تكفل به عنه وقد فرَّق ابن القاسم في أحد أقواله من كتاب الكفالة من المدونة بين المأمور والكفيل يقضيان الغريم خلاف ما له عندهما. ثم قال (ص 434، 437) : قال ابن القاسم: سمعت مالكًا قال في رجل ابتاع حنطة بدينار وازن، ثم إنه أعسر بدينار الوازن، فقال للذي باع منه الحنظة: خذ مني دينارًا ناقصًا شعيرة، وأورد عليكم فضل الحنطة، قال مالك: إذا ثبت البيع بالوازن فلا ينبغي ذلك لأنه قد ثبت عليه دينار وازن فأعطى مكانه ناقصًا وزيادة حنطة فذلك دينار بدينار وحنطة وإن ثبت بناقص فلا ينبغي له أن يعطي وازنًا ويأخذ فضل شيء من الأشياء فأما ما لم يثبت البيع إلا مراوضة منهما فلا بأس بذلك. قال ابن رشد: هذا بين على ما قال: إنه إن ثبت البيع بينهما بالدينار الوازن بإيجاب كل واحد منهما إياه لصاحبه فلا يجوز أن يأخذ منه ناقصًا ويأخذ من الحنطة ما وجب لنقصان الدينار، وقال ابن حبيب: إنه يدخله أربعة أوجه التفاضل بين الفضتين والتفاضل بين الطعامين، وبيع الطعام قبل أن يستوفى والأخذ من ثمن الطعام طعامًا، يريد إن كان الطعام قد قبضه المبتاع وافترقًا، وأما إن قبضه ولم يفترقا فلا يدخله الأخذ من ثمن الطعام طعامًا، ولا بيع الطعام قبل أن يستوفي، فالعلتان الثابتتان إنما هي التفاضل بين الذهبين، والتفاضل بين الطعامين، وأما الاقتضاء من ثمن الطعام طعامًا، والبيع قبل الاستيفاء فلا يجتمعان لأن الطعام إن كان قبض فلا يدخله البيع قبل الاستيفاء وإن كان لم يقبض فلم يدخله الاقتضاء من ثمن الطعام طعامًا، وإن كان قد قبض ولم يفترقا لم يدخله واحدة منهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1597 وكذلك لا يجوز له أن يأخذه في نقصان بالدينار فلوسًا ولا شيئًا من الأشياء، وقد فرق في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه بعد هذا في آخر السماع بين أن يأخذ منه في النقصان فلوسًا أو يحاسبه به في الطعام، فيأخذ منه لنفسه ما وجب له فمنع من ذلك بالفلوس، وأجازه بالطعام، وقال: إن ذلك بعد الوجوب ويحتمل ذلك وجهين، من التأويل أحدهما أن يكون إنما تكلم فيه على أن المبتاع قد أوجب البيع للبائع ولم يوجبه البائع له، وذلك مثل أن يقول المبتاع للبائع: كم تبيعني من طعامك بدينار وازن؟ فيقول: عشرة أراديب، فيقول المبتاع: قد أخذته بذلك، فيخرج الدينار فيجده ناقصًا قبل أن يقول البائع قد بعتك، والوجه في ذلك أن المبتاع لما أوجب على نفسه الدينار للبائع بعشرة أراديب وجب للبائع إن أراد أن يمضي له البيع به فلا يجوز له أن يبيعه منه بدينار ناقص وفلوس، ولما كان البائع لم يوجب على نفسه الطعام للمبتاع جاز للمبتاع أن يعطيه منه في نقصان الدينار ولم يكن ذلك بيعًا له قبل استيعابه إذا لم يجب له بعد ويكون معنى قوله في الرواية وإنما هو عندي بمنزلة رجل اشترى بدرهمين حنطة ثم قال له بعد ذلك: أعطني بدرهم وأقلني من درهم، أنه بمنزلة في الجواز لا في استواء العلة لأنه في الدرهم من الدرهمين إقالة جائزة بعد تمام البيع، وفي نقصان الدرهم فعل جائز إذا لم يتم البيع بينهما وهذا جائز أن يقال: هذا مثل هذه، وإن لم يكن مثله إلا في وجه من وجوهه. قال الله عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [آية 12 من سورة الطلاق] ، يريد مثلهن في العدد لا فيما سواه. وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [آية 38 من سورة الأنعام] ، يريد أمثالها في أنهم أمم لا فيما سوى ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1598 ويستدل على أنه إنما أراد بقوله فيها بعد الوجوب بعد أن أوجب المبتاع البيع للبائع ولم يوجبه له البائع بقوله: كأنما حمله على وجه المساومة وفيه تفسير من البيع يريد أنه أخذ بشبه من المساومة، إذ لم يتم البيع بينهما وأخذ بشبه من البيع، إذ قد لزم أحدهما والقياس أن يغلب أحد الوجهين أما الوجوب فلا يجوز أن يحاسبه بالنقصان بالطعام كما لا يجوز أن يأخذ به فلوسًا وأما المساومة إذا لم يجب البيع بينهما بإيجاب كل واحد منهما إياه لصاحبه فيجوز أن يحاسبه بالنقصان في الطعام وأن يأخذ به منه فلوسًا وأما إن كان في المراوضة قبل أن يوجب البيع واحد منهما لصاحبه فذلك جائز لا باس به كما قال لأن البيع إنما تم بما عقدا عليه آخرًا فلا إشكال في جواز ذلك فمسألة على هذا التأويل في الدينار الوازن الذي له فضل في عينه على الناقص، تنقسم على هذه الثلاثة أقسام، وهي أن يكون ذلك الفعل بعد أن أوجب كل واحد منهما البيع لصاحبه أو أن يكون قبل أن يوجبه واحد منهما لصاحبه، أو أن يكون قد أوجبه أحدهما ولم يجبه الآخر، وقد مضى تفسير ذلك والحكم فيه. والتأويل الثاني أن يكون تكلم في هذه المسألة، على أن للدينار الوازن فضلًا في عينه على الناقص، وتكلم في مسألة رسم المحرم على أن الدرهم الكيل الوازن للأفضل له في عينه على الناقص، فأجاز لما لم يكن له في عينه فضل على الناقص، ويحاسبه بقدر النقصان في الطعام وأشبه عنده من المشتري حنطة بدرهمين فأقاله من أحدهما ولم يقوَ عنده قوةَ الدرهمين إذ لا يجوز لمن كان له على رجل درهمان وازانان أن يأخذ نه أحد درهميه، وبالآخر فلوسًا ولا يجوز لمن له على رجل درهم وازن أن يأخذ منه نصف درهم وبالنصف الآخر فلوسًا إلا أنه أجازه مراعاة لقول من يرى الخيار من المتابعين ما لم يتقاضيا أو يتفارقا، وهو معنى قوله كأنه حمله على وجه المساومة وفيه تفسير من البيع. وهذا التأويل أظهر وأولى وأحسن من التأويل الأول والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1599 ولو اشترى من رجل حنطة بدينار من الذهب التي إنما تجري مجموعة مقطوعة بالميزان كالذهب العبادية، والشرقية لجاز إذا وجد عنده أقل من مثقال أن يأخذ بما نقص فلوسًا، أو بما شاء من العروض، وأن يحاسبه بالنقصان فيما له من الطعام. فقف على أن الدينار الوازن الذي له فضل في عينه على الناقص لا يجوز له بعد الوجوب أن يأخذ بنقصانه فلوسًا ويجوز أن يحاسبه به في الطعام، وأن الدينار الذي يجري بالميزان مجموعات مقطوعًا إذا لم يشترط أن يأخذه صحيحًا يجوز فيه الوجهان وبالله التوفيق. ثم قال (ص 439، 440) : وقال مالك في الشيء من الحلي يكون فيه الذهب والورق قد صيغ. قال: إن كان ما فيه من الفضة ثلث ذلك، أو أدنى بيع بالفضة، وإن كان الذهب هو الثلث في القيمة بيع بالذهب يدًا بيد، وإن كان على غير ذلك لم يبع إلا بعرض أو فلوس أو شيء غير الذهب والورق. قال ابن القاسم، ورجع مالك عن هذا، وقال: لا يباع كله إلا بعرض أو فلوس، وقوله الذي رجع إليه أحب ما فيه إليَّ. قال ابن رشد: قول مالك الأول هو قوله في المدونة، في رواية على بن زياد عنه، واختيار أشهب، وقوله الثاني هو قوله في المدونة، في رواية ابن القاسم عنه، واختيار ابن القاسم ها هنا وهو أقيس وأحوط لأن الذهب والورق لما كان كل واحد منهما أصلا في نفسه مضبوط القيمة إذ هما أصول الأشياء وقيم المتلفات لم يكن أحدهما تبعًا لصاحبه وإن كان أقل من الثلث من أجل أن قيمته مضبوطة والفرض فيهما جميعًا سواء إلا أن يكون الذي مع الفضة من الذهب، أو مع الذهب من الفضة الشيء اليسير لا يؤبه له، فحينئذ يكون تبعًا له روي ذلك زياد عن مالك، بخلاف السيف والمصلح وما أشبههما يحليان بالذهب والفضة فتكون حليتهما الثلث فأقل لأن الغرض حينئذ إنما يكون في شراء الأصل المحلي لا في شراء حليته فيجعل جميع الثمن له إذا ليست قيمته مضبوطة كقيمة الذهب والورق، وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أن القياس أن يكون كل واحد من الذهب أو الفضة، ملغى مع صاحبه إذا كان الثلث فأقل كما يكون ملغى مع العرض وقد بينا الفرق بين ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1600 وقوله: وإن كان على غير ذلك لم يبع إلا بعرض، أو فلوس أو شيء غير الذهب والورق بين أنه لا يجوز أن يباع بأقلها إذا كان بأقلها أكثر من الثلث على قول مالك الأول ومذهب أشهب. ثم قال (ص 487) : وسألته عمن له على رجل عشرة دراهم مكتوبة عليه من صرف عشرة دراهم بدينار، فقال: أرى أن يعطيه نصف دينار ما بلغ كان أقل من ذلك، وأكثر إذا كانت تلك العشرة دراهم أو الخمسة المكتوبة عليه من بيع باعه إياه فأما إن كانت من سلف أسلفه، فلا يأخذ منه إلا مثل ما أعطاه. فقيل له: أرأيت إن باعه ثوبًا بثلاثة دراهم، ولا يسمي له من صرف كذا وكذا، والصرف يومئذ تسعة دراهم بدينار. فقال: إذا لم يقل من صرف كذا وكذا، أخذ بالدراهم الكبار ثلاثة دراهم وإنما قال: ثلاثة دراهم من صرف كذا وكذا بدينار، فذلك جزء من الدينار ارتفع الصرف أو خفض، وقد كان بيعًا من بيوع أهل مصر يبيعون الثياب بكذا وكذا درهمًا من صرف كذا وكذا من دينار فيسألون عن ذلك كثيرًا فذلك كذا. قال ابن رشد: هذا كما ذكر وهو مما لا اختلاف فيه أنه إذا باع بكذا وكذا درهمًا , ولم يقل من صرف كذا فله عدد الدراهم التي سمى ارتفع الصرف أو اتضع، وإذا قال: بكذا وكذا درهمًا من صرف كذا وكذا، فلا تكون له الدراهم - خطأ صوابه: إلا الدراهم - التي سمى إذا لم يسمها إلا ليبين بها الجزء الذي أراد البيع به من الدينار فله ذلك الجزء وكذلك إذا قال: أبيعك بنصف دينار من ضرب عشرين درهمًا بدينار، فإنما له عشرة دراهم إذا لم يسم نصف الدينار إلا ليبين له الدراهم التي أراد البيع بها من الدينار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1601 ثم قال (نفس المرجع: 7/23) : قال يحيى بن يحيى: وسئل ابن القاسم عن الذي يقول: أبيعك ثوبي هذا بعشرة دراهم من صرف عشرين درهمًا بدينار، وهذا الثوب الآخر بنصف دينار من صرف عشرة دراهم بدينار أيجوز هذا؟ وما يلزم المشتري في الثوبين من الثمن؟ قال: أما الذي قال بعشرة دراهم من صرف الدينار بعشرين، فله نصف دينار تحول الصرف كيفما حال، وأما الذي قال بنصف دينار من صرف عشرة دراهم بدينار، فله خمسة دراهم تحول الصرف كيف حال، وذلك أن الذي باع بعشرة دراهم من صرف عشرين درهمًا بدينار، إنما أوجب له ثوبه بنصف دينار إذ جعل العشرة التي باع بها من صرف عشرين درهمًا بدينار، إنما أوجب له ثوبه بنصف دينار إذ جعل العشرة التي باع بها من صرف عشرين دينارًا، وأما الذي باع بنصف دينار من صرف عشرة بدينار، فإنما أوجب ثوبه بنصف العشرة التي جعلها صرف نصف دينار، وإنما يؤخذ في مثل هذا بالذي يقع به إيجاب البيع وإن سمح الكلام. ثم قال (ص 403، 414) : وسئل عن رجل باع من رجل سلعة بنصف دينار من صرف العشرين درهما بدينار، فقال: له عشرة دراهم غلا الصرف أو نقص، فإن قال: أبيعكما بعشرة دراهم من صرف عشرين درهما بدينار، قال: له نصف الدينار غلا الصرف أو نقص، وقد قال ابن القاسم في غير هذا الكتاب - يعني كتاب الوَلَه - إذا قال: أبيعك بعشرة دراهم من صرف عشرين درهما بدينار أن له نصف دينار ما بلغ كان أقل من ذلك أو أكثر إن كانت العشرة من بيع باعه، وأما إن كانت من سلف أسلفه، فلا يأخذ إلا مثل ما أعطى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1602 قال ابن رشد: هذا بين على ما قال وهو مما لا اختلاف فيه أنه إذا باع بنصف دينار من صرف عشرين درهما بدينار أنه ليس له نصف الدينار - هكذا في النسخة المطبوعة وصوابه قطعا: ليس له إلا نصف الدينار، إذ لا يستقيم المعنى بغير أداة الاستثناء - الذي سمى، إذ لم يسمه إلا ليبين له عدد الدراهم من صرف عشرين درهما بدينار أنه ليس له الدراهم - صوابه كالسابق: ليس إلا الدراهم - التي سمى إذ لم يسمها إلا ليبين بها الجزء الذي باع به من الدينار. وقال الباجي (المنتقي: 4/259) ، في شرحه لحديث أبي هريرة حول الدينار بالدينارين (بالموطأ) : (مسألة) : وأما المبادلة بالعدد فإنه يجوز ذلك، وإن كان بعضها أوزن من بعض في الدينار والدينارين على سبيل المعروف والتفضل وليس ذلك من التفاضل لأنهما لم يبنيا على الوزن، ولهذا النوع من المال تقديران: الوزن والعدد، فإن كان الوزن أخص به وأولى فيه إلا أن العدد معروف فإن كان - لعل صوابه: وإن كان، لتستقيم العبارة - لأن العدد معروف فإذا عمل فيه على العدد جوز يسير الوزن زيادة على سبيل المعروف ما لم يكن في ذلك وجه من المكايسة والمغابنة، فيمنع منه وهذا مبنى على مسألة العربة (1) وذلك أن العرية لما كان للتمر تقديران أحدهما الكيل، والآخر الخرص , والتعري جاز العدول عن أولهما إلى الثاني للضرورة على وجه المعروف، فكذلك الدنانير والدراهم.   (1) قال ابن الأثير (النهاية: 3/224) : اختلف في تفسيرها - أي العرية والعرايا - فقيل له - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما نهى عن المزابنة وهو بيع التمر في رءوس النخل بالتمر رخص في جملة المزابنة في العرايا وهو أن من لا نخل له من ذوي الحاجة يدرك الرطب ولا نقد بيده يشتري به الرطب لعياله ولا نخل له يطعمهم منه ويكون قد فضل له من قوته تمر فيجيء إلى صاحب النخل فيقول له بعني تمر نخلة أو نخلتين بخرصهما من التمر فيعطيه ذلك الفاضل من التمر بتمر تلك النخلات ليصيب من رطبها مع الناس فرخص فيه إذا كان دون خمسة أوسق، والعرية فعيلة بمعنى مفعولة من عراه يعروه إذا قصده ويحتمل أن تكون فعيلة بمعنى فاعلة من عري يعري إذا خلع ثوبه كأنها عريت من جملة التحريم فعريت أي خرجت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1603 وقال الونشريسي في (المعيار: 6/105، 106 |) : وسئل ابن رشد عن الدنانير والدراهم إذا قطعت وبدلت بغيرها فما الواجب في الديون والمعاملات المتقدمة وشبهها؟ فأجاب: المنصوص لأصحابنا وغيرهم من العلماء لا يحكم إلا بما وقعت به المعاملة، فقال السائل: بعض العلماء يقول: لا يحكم إلا بالمتأخرة لإبطال السلطان إياها فصارت كالعدم فأجاب: لا يلتفت لهذا إذا لم يقل عالم به ونقض لحكم الإسلام ومخالف للكتاب والسنة المنهي عن أكل المال بالباطل ويلزم عليه أن يبيع عرضا بعرض لا يجوز وللمبتاع فسخ العقد بعد ثبوته. ومن كان عليه فلوس فقطعها السلطان وجعل مكانها دنانير أو دراهم أن عليه أحد النوعين وتبطل الفلوس. وإن السلطان إن أبدل المكيال بأصغر أو أكبر والموازين كذلك وقد تعاملا بها أن يأخذ بالمكيال أو الميزان المحدث وإن كان أكبر أو أصغر وهذا مما لا خفاء ببطلانه. أبو حفص العطار ملك عليه دراهم فقطعت ولم توجد فقيمتها من الذهب بما تساوي يوم الحكم لو وجدت. وحكى ابن يونس عن بعض القرويين إذا أقرضه دراهم فلم يجدها في الموضع الذي هو به الآن أصلا فعليه قيمتها بموضع إقراضه إياها يوم الحكم لا يوم دفعها إليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1604 وفي كتاب ابن سحنون إذا أسقطت تتبعه بقيمة السلعة يوم قبضت لأن الفلوس لا ثمن لها. وفرع على هذا الأصل من تسلف دراهم فلوسا أو نقرة بالبلاد المشرقية ثم جاء مع المقرض إلى بلاد المغرب فوقع الحكم بأنه يلزمه قيمتها في بلدها يوم الحكم كما قال ابن يونس وأبو حفص مع ظاهر المدونة في الرهون وعلى القول الآخر تلزمه قيمتها يوم فقدت وقطعت وتكون حينئذ قيمتها يوم خروجه من البلد الذي هي جارية فيه إذ هو وقت فقدها وقطعها وعليه أيضًا إذا حالت السكة أو الفلوس بعد الوصول في تلك البلاد والفتوى فيها أيضًا أنه يعطى قيمة الفلوس أو الدراهم المقطوعة في تلك البلاد يوم الحكم فيها. ثم قال (ص 163، 164) : وسئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة فأجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه إشبيلية قال: نزلت هذه المسألة في قرطبة أيام نطري فيها في الأحكام ومحمد بن عتاب حي ومن معه من الفقهاء فانقطعت سكة ابن جهور بدخول ابن عباد سكة أخرى فأفتى الفقهاء أنه ليس لصاحب الدين إلا السكة القديمة وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب. قال: وأرسل إلي ابن عتاب فذهبت إليه فذكر المسألة وقال لي: الصواب فيها فتواي فاحكم بها ولا تخالفها أو نحو هذا الكلام وكان أبو محمد بن دحون - رحمه الله - يفتي بالقيمة يوم القرض ويقول: إنما أعطاها على العوض فله العوض أخبرني به الشيخ أو عبد الله بن فرج عنه وكان الفقيه أبو عمر بن عبد البر يفتي فيمن اكترى دارا أو حماما بدراهم موصوفة جارية بين الناس حين العقد ثم ضربت لدراهم ذلك البلد إلى أفضل منها أنه يلزم المكتري النقد الثاني الجاري حين القضاء دون النقد الجاري حين العقد. وقد نزل هنا بـ " بلنسية " حين عيرت دراهم السكة التي كان ضربها القيسي وبلغت ستة دنانير بمثقال - يظهر أن في العبارة خطأ صوابه: ستة دراهم بمثقال - ونقلت إلى سكة أخرى كان صرفها ثلاثة " دنانير " للمثقال فالتزم ابن عبد البر السكة الأخيرة وكانت حجته في ذلك أن السلطان منع مع إجرائها وحرم التعامل بها وهو خطأ من الفتوى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1605 وأفتى أبو الوليد الباجي أنه لا يلزمه إلا السكة الجارية حين العقد. ثم قال (ص 312، 313) : وأما سؤالك عن تصور الربا في هذه السكك المغشوشة فإنه يتصور فيها فأما على القول الذي يمنع من بيع الحلي المركب من ذهب وفضة بأحد النوعين الذي ركب " عنهما " - لعل صوابه: منهما - فلا خفاء في منعه للتفاضل بين السكك التي سميتها في سؤالك وأما المجيز لذلك وهو الذي ظننت به أنه يجيزها ها هنا التفاضل في هذه السكك على معنى إلغاء الأقل الذي هو الثلث فأدنى فإنه قد لا يلزم هذا ها هنا فأما في بعض السكك التي يكون ظاهرها وباطنها ما لا كبير ثمن له ولا منفعة فيه فإنه ها هنا يعتبر الذهب قل أو كثر لكون ما ركب معه لا ثمن له فالمقصود في المعارضة هذا الذهب المشار إليه فيجتنب فيه ما يجتنب في بيع الذهب بالذهب. وأما غير ذلك من السكك المستعملة على ذهب وفضة خاصة فإنهم يقولون ها هنا بأن المقصود عند الناس منها الذهب قل أو كثر لأنهم إنما يتبايعون على تسميتها ذهبا وأن الذهب هو المراد منها وأن النقش الذي ينقشه فيها ملك المدينة الذي يتبايع بذلك أهلها هو المطلوب والمشتري وبه يقع التعاوض ولو أبصروا تغيرا في ذلك النقش استرابوه ولما تبايعوا به فظهر أن المراد في هذا ما حصل في السكة من الذهب وهو المنقوش وباسمه تعرف السكة فيقال: دنانير بلد كذا وإن كانت الفضة فيها هي الأكثر وهذا المعنى أشير إليه في بعض الروايات عن مبادلة المغشوشة من الدراهم بالخالص وقد تقرر أن المقصود تغير أحكام العقود ولا شك أن القصد ها هنا على ما ذكرنا فلا يقال إن الذهب الذي أشرت إليه يلزم عليه ولا بد من إجازة الربا بين هذه السكة التي أشرت إليها وقد قدمنا لك قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فذروا الربا والريبة وبالله تعالى التوفيق. وأجاب أبو الفرج عن هذا أيضًا فقال: فأما الدنانير السفاقسية الربعية والثلثية فهل يجوز بيعها بالوزن لما فيه من الفضة أو بيعها بالذهب مراطلة ومفاضلة ففيها نظر والأمر فيها يحتمل والحكم متردد فيجوز أن يقال: لا تباع بشيء من الذهب والفضة قياسا على الحلي الذي فيه الذهب والفضية على مذهب ابن القاسم ويجوز أن يقال فيها إنها تباع بالأقل منهما فلتبع إذا كان الثلث فأدنى على قول على بن أبي زياد وغيره ويجوز أيضًا على مذهب أشهب في الدراهم المبهرجة أنها تباع مراطلة بالفضة على وجه البدل والصرف إذا أمن أن يغش بها قال: لأن الناس لا يقصدون بذلك التفاضل وإذا كان كذلك وكانت هذه السكة يعملها السلطان وللناس حاجة إلى التصرف بها وضرورة إلى التبايع بها جاز بيعها بالدراهم لأن الفضة فيها في حكم التبع قيمة وكذلك الذهب مراطلة وبهذا كان يفتي من أدركناه من أهل العلم المحققين وخالف في ذلك غيرهم وأما المفاضلة فالأظهر المنع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1606 ثم قال (ص 461، 462) : وسئل - يعني أبو الحسن الصغير - عن رجل باع سلعة بالناقص المتقدم بالحلول فتأخر الثمن إلى أن تحول الصرف وكان ذلك على جهة فبأيهما يقضي له؟ وعن رجل آخر باع بالدراهم المفلسة فتأخر إلى أن تبدل الثمن فبأيهما يقضي له؟ فأجاب: لا يجب للبائع قِبَلَ المشتري إلا ما انعقد البيع في وقته لئلا يظلم المشتري بإلزامه ما لم يدخل عليه في عقده فإن وجد المشتري ذلك قضاه إياه وإن لم يوجد رجع إلى القيمة ذهبا لتعذره. ومن باع بالدرهم المفلسة الوازنة فليس له غيرها إلا أن يتطوع المشتري بدفع وازنة غير مفلسة بعد المفلسة فضلا. وقال ابن قدامة (المغني: 4، 360) : وقد ذكرنا أن المستقرض يرد المثلى في المثليات سواء رخص سعره أو غلا أو كان بحاله. ولو كان ما أقرضه موجودا بعينه فرده من غير عيب يحدث فيه لزم قبوله سواء تغير سعره أو لم يتغير. وإن حدث به عيب لم يلزمه قبوله. وإن كان القرض فلوسا أو مكسرة فحرَّمها السلطان وتركت المعاملة بها كان للمقرض قيمتها ولم يلزمه قبولها سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها لأنها تعيبت في ملكه نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة وقال: يقومها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه سواء نقصت قيمتها قليلا أو كثيرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1607 قال القاضي: هذا إذا اتفق الناس على تركها فأما إن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزم أخذها. وقال مالك والليث بن سعد والشافعي: ليس له إلا مثل ما أقرضه لأن ذلك ليس بعيب حدث فيها فجرى مجرى نقص سعرها. ولنا أن تحريم السلطان لها منع إنفاقها وأبطل ماليتها، فأشبه كسرها أو تلف أجزائها. وأما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء كان كثيرا مثل إن كانت عشرة بدانق فصارت عشرين بدانق أو قليلا، لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت. وقال الشافعي (الأم: 2/42، 43) : بعد أن أخرج حديث أبي سعيد الذي نقلناه في الفصل السابق. وبهذا نأخذ فإذا بلغ الورق خمس أواقي وذلك مائتا درهم بدراهم الإسلام وكل عشرة دراهم من دراهم الإسلام وزن سبعة مثاقيل من ذهب بمثقال الإسلام ففي الورق الصدقة. وسواء كان الورق دراهم جيادا مصفاة غاية سعرها عشرة بدينار أو ورقا تبرا ثمن عشرين منه دينار. ولا أنظر إلى قيمته من غيره لأن الزكاة فيه لنفسه. ثم قال: وإن كانت لرجل مائتا درهم تنقص حبة أو أقل وتجوز جواز الوازنة أو لها فضل على الوازنة غيرها فلا زكاة فيها. ثم قال: وإذا كانت لرجل ورق رديئة وورق جيدة أخذ من كل واحد منهما بقدر الزكاة التي وجبت عليه من الجيد بقدره ومن الرديء بقدره وإن كانت له ورق محمول عليها نحاس أو غش أمرت بتصفيتها وأخذت زكاتها إذا صفت إذا بلغت ما تجب فيه الزكاة وإذا تطوع فأدى عنها ورقا غير محمول عليه الغش دونها قبل منه وأكره له الورق المغشوش لئلا يغر به أحدا أو يموت فيغر به وارثه أحدا. ويضم الورق التبر إلى الدراهم المضروبة. وإذا كانت لرجل فضة قد خلطها ذهبا كان عليه أن يدخلها النار حتى يميز بينهما فيخرج الصدقة من كل واحد مهما وإن أخرج الصدقة من كل واحد منهما على قدر ما أحاط به فلا بأس وكذلك إن لم يحط علمه فاحتاط حتى يستيقن أن قد أخرج من كل واحد منهما ما فيه أكثر فلا بأس. ثم قال: ولا أعلم اختلافا في أن ليس في الذهب صدقة حتى يبلغ عشرين مثقالا فإذا بلغت عشرين مثقالا ففيها الزكاة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1608 والقول في أنها لم تؤخذ منها الزكاة بوزن كان الذهب جيدا أو رديئا أو دنانير أو إناء أو تبرًا كهو في الورق وإن الدنانير إذا نقصت عن عشرين مثقالا حبة أو أقل من حبة وإن كانت تجوز كما تجوز الوازنة أو كان لها فضل على الوازنة لم تؤخذ منها الزكاة لأن الزكاة بوزن. وفيما خلط به الذهب وغاب منها وحضر كالقول في الورق لا يختلف في شيء منه. وإذا كانت لرجل عشرون مثقالا من ذهب إلا قيراطا أو خمس أواقي فضة إلا قيراطا لم يكن في واحد منهما زكاة ولا يجمع الذهب إلى الورق ولا الورق إلى الذهب ولا صنف مما فيه الصدقة إلى صنف. ثم قال: وكذلك الذهب ليس من جنس الفضة. ثم قال (نفس المرجع: ص 50، 51) : ولو اشترى عرضا للتجارة بدنانير أو بدراهم أو شيء تجب فيه الصدقة من الماشية وكان أفاد ما أشترى به ذلك العرض من يومه لم يقوم العرض حتى يحول الحول يوم أفاد ثمن العرض ثم يزكيه بعد الحول. ولو أقام هذا العرض في يده ستة أشهر ثم باعه بدراهم أو دنانير فأقامت في يده ستة أشهر زكاة وكانت كدنانير أو دراهم أقامت في يده ستة أشهر لأنه لا يجب في العرض زكاة إلا بشرائه على نية التجارة فكان حكمه حكم الذهب والورق التي حال عليها الحول في يده. ولو كانت في يده مائة درهم ستة أشهر ثم اشترى بها عرضا فأقام في يده حتى يحول عليه الحول من يوم ملك مائتي درهم التي حولها فيه لتجارة عرضا أو باعه بعرض لتجارة فحال عليه الحول يوم ملك مائتي درهم أو من يوم زكى المائتي درهم قومه بدراهم ثم زكاة ولا يقومه بدنانير إذا اشتراه بدراهم وإن كانت الدنانير الأغلب من نقد البلد وإنما يقومه بالأغلب إذا اشتراه بعرض للتجارة. ولو اشتراه بدراهم ثم باعه بدنانير قبل أن يحول الحول عليه من يوم ملك الدراهم التي صرفها فيه أو من يوم زكاة فعليه الزكاة من يوم ملك الدراهم التي اشتراه بها إذا كان مما يجب فيه الزكاة وذلك أن الزكاة تجوز في العرض بعينه فبأي شيء بيع العرض ففيه الزكاة وقوم الدنانير التي باعه بها دراهم ثم أخذ زكاة الدراهم ألا ترى أنه يباع بعرض فيقوم فتؤخذ منه الزكاة ويبقى عرضا فيقوم فتؤخذ منه الزكاة فإذا بيع بدنانير زكيت الدنانير بقيمة الدراهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1609 قال الربيع: وفيه قول آخر أن البائع إذا اشترى السلعة بدراهم فباعها بدنانير فالبيع جائز ولا يقومها بدراهم ولا يخرج لها زكاة من قبل أن في الدنانير بأعيانها زكاة فقد تحولت الدراهم دنانير فلا زكاة فيها وأصل قول الشافعي أنه لو باع بدراهم قد حال عليها الحول إلا يوم بدنانير لم يكن عليه في الدنانير زكاة حتى يبتدئ لها حولا كاملا كما لو باع بقرا أو غنما بإبل قد حال الحول على ما باع إلا يوم استقبل حولا بما اشترى إذا كانت سائمة. ثم قال: ولو اشترى دراهم بدنانير أو بعرض أو دنانير بدراهم أو بعرض يريد بها التجارة فلا زكاة فيما اشترى منها إلا بعد ما يحول عليه الحول من يوم ملكه كأنه ملك مائة دينار أحد عشر شهرا ثم اشترى بها مائة دينار أو ألف درهم فلا زكاة في الدنانير الأخيرة ولا الدراهم حتى يحول عليها الحول من يوم ملكها لأن الزكاة فيها بنفسها. ثم قال (نفس المرجع: 8/ 173، 174) : وإنما يكون الربا من وجهين أحدهما في النقد بالزيادة وفي الوزن والكيل والآخر يكون في الدين وزيادة الأجل. وإنما حرمنا غير ما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المأكول المكيل والموزون لأنه من معنى ما سمى ولم يجز أن نقيس الوزن على الوزن من الذهب والورق لأنهما غير مأكولين ومتباينان لما سواهما وهكذا قال ابن المسيب: لا ربا إلا في ذهب أو ورق أو ما يكال أو يوزن مما يؤكل أو يشرب (1) ، قال - يعني الشافعي -: ولو قسنا عليهما الوزن لزمنا أن لم نسلم دينارا في موزون من ورق ولا أعلم بين المسلمين اختلافا أن الدينار ولا درهم - هكذا في النسخة المطبوعة صوابه: والدرهم - يسلمان في كل شيء ولا يسلم أحدهما في الآخر. غير أن من الناس من كره أن يسلم دينارا أو درهما في فلوس وهو عندنا جائز لأنه لا زكاة " فيه " - كذا في النسخة المطبوعة والصواب: فيها - ولا في غيرها وأنها ليست بثمن الأشياء المتلفة وإنما انظر - كذلك في النسخة المطبوعة صوابه: نظر - في التبر إلى أصله والنحاس مما لا ربا فيه.   (1) قال عبد الرزاق (المصنف: 8 /35، ح 14199) : قال معمر والثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن ابن المسيب في قبطية بقبطيتين نسيئة كان لا يرى به بأسا وقال: إنما الربا فيما يكال أو يوزن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1610 وقد أجاز عدد منهم إبراهيم النخعي السلف في الفلوس وكيف يكون مضروب الذهب دنانير ومضروب الورق دراهم في معنى الذهب والورق غير مضروبين ولا يكون مضروب النحاس فلوسا في معنى النحاس غير مضروب. قلت: ذلك لأن النحاس المضروب فلوسا لا يتعامل به لعينه وإنما يتعامل به بيعا أو شراء أو سلفا أو قراضا أو غير ذلك - مما هو من مجالات الأثمان والقيم - لأنه أصبح ثمنا للأشياء وقيمة للمتلفات وهذان هما علة الربا في الذهب والورق عند الشافعي وهو الحق، لكن يظهر أنهما لم يكونا كذلك في تصوره وإن كانا كذلك في عهد وقبل عهد وسنزيد هذه النكته بيانا في الفصل المخصص للفلوس وحكمها. وقال الشيرازي في (المهذب، المجموع، التكملة الثانية: 13/ 174) : (فصل) ويجب على المستقرض رد المثل فيما له لأن مقتضى القرض رد المثل ولهذا يقال: الدنيا قروض ومكأفاة فوجب أن يرد المثل، وفيما لا مثل له وجهان: أحدهما يجب عليه القيمة لأن ما ضمن بالمثل إذا كان له مثل ضمن له بالقيمة إذا لم يكن له مثل كالمتلفات والثاني يجب عليه مثله في الخلقة والصورة لحديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقضي البكر بالبكر. (1) ، ولأن ما ثبت في الذمة بعقد السلم ثبت بعقد القرض قياسا على ما له مثل ويخالف كالمتلفات فإن المتلف متعدٍّ4 فلم يقبل منه إلا القيمة لأنها أحصر وهذا عقد أجيز لصاحبه فقبل فيه مثل ما قبض كما قبل في السلم مثل ما وصف.   (1) انظر التعليق رقم (3) من الصفحة 1925 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1611 وقال السيمري (المجموع، التكملة الثانية: 13/ 168) : لا يجوز قرض الدراهم المزيفة ولا الزرنيخية ولا المحمول عليها ولو تعامل به الناس فلو أقرضه دراهم أو دنانير ثم حرمت لم يكن له إلا ما أقرض وقيل قيمتها يوم حرمت. وقال النووي (المجموع: 9/ 329) : (فرع) إذا كان في البلد نقدان أو نقود لا غالب فيها لم يصح البيع هنالك حتى يعين نقدا منها وهذا لا خلاف فيه لأنه ليس بعضها أولى من بعض. (فرع) قال أصحابنا: وتقويم التلف يكون لغالب نقد البلد، فإن كان فيه نقدان فصاعدا ولا غالب فيها عين القاضي واحدا للتقويم بلا خلاف. ثم قال (ص 330) : (فرع) قال أصحابنا: كما ينصرف العقد عند الإطلاق للنقد الغالب من حيث النوع ينصرف إليه من حيث الصفة فإن باع بدينار أو دنانير والمعهود في البلد الدراهم الصحاح انصرف إليها وإن كان المعهود المكسورة انصرف إليها. كذا نقله السيمري وصاحب البيان قالا: إلا أن تتفاوت قيمة الكسر، قال الرافعي: وعلى هذا القياس لو كان المعهود أن يؤخذ نصف الثمن من هذا أو نصفه من ذاك أو أن يؤخذ على نسبة أخرى فالبيع صحيح محمول على ذلك المعهود وإن كان المعهود التعامل بهذه مرة وبهذه مرة لم يكن بينهما تفاوت صح البيع وسلم ما شاء منهما وإن كان بينهما تفاوت لم يصح البيع كما لو كان في البلد نقدان غالبان وأطلق ولو قال: بعتك بألف صحاح ومكسورة فوجهان أحدهما بطلان البيع لعدم بيان قدر الصحيح والمكسورة والثاني صحته ويحمل على النصف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1612 قال الرافعي: ويشبه أن يجيء هذا الوجه فيما إذا قال: بعتك بألف مثقال ذهبا وفضة. قلت - القائل النووي -: لا جريان له هناك والفرق كثرة التفاوت بين الذهب والفضة فيعظم الغرر وإن قال: بعتك بألف درهم مسلمة أو منقية لم يصح لأنه ليس لها عادة مضبوطة، قاله السيمري وصاحب البيان. ثم قال (ص 331، 332) : (فرع) لو باع بنقد قد انقطع من أيدي الناس فالعقد باطل لعلم القدرة على التسليم فإن كان لا يوجد في ذلك البلد ويوجد في غيره فإن كان الثمن حالا أو مؤجلا إلى أجل لا يمكن نقله فيه فالعقد باطل أيضًا وإن كان مؤجلا إلى مدة يمكن نقله فيها صح البيع ثم إن حل الأجل وقد أحضره فذلك وإلا فينبني على أن الاستبدال على الثمن هل يجوز إن قلنا لا فهو كانقطاع المسلم فيه وإن قلنا نعم استبدل ولا ينفسخ العقد على المذهب (أي الشافعي) وفيه وجه ضعيف أنه ينفسخ أما إذا كان وجد في البلد ولكنه عزيز فإن جوزنا الاستبدال صح العقد فإن وجد فذاك وإلا فيستبدل وإن لم نجوزه لم يصح، أما إذا كان النقد الذي جري به التعامل موجودا ثم انقطع فإن جوزنا الاستبدال استبدل وإلا فهو كانقطاع المسلم فيه. (فرع) لو باع بنقد معين أو مطلق وحملناه على نقد البلد فأبطل السلطان المعاملة بذلك النقد لم يكن للبائع إلا ذلك النقد. (فرع) قال صاحب البيان: قال السيمري: إذا باعه بنقد في بلد، ثم لقيه في بلد آخر، لا يتعامل الناس فيه بذلك النقد، فدفع إليه النقد المعقود عليه فامتنع فهل له الامتناع؟ فيه ثلاثة أوجه: الصحيح ليس له الامتناع بل يجبر على أخذه لأنه المعقود عليه كما لو باعه بحنطة لم يقبضها حتى رخصت. والثاني لا يجبر على أخذها وله الامتناع منه كما لو سلم إليه في موضع مخوف، والثالث: إن كان البلد الذي يدفعه فيه لا يتعامل الناس فيه بذلك النقد أيضًا لم يجبر عليه، وإن كانوا يتعاملون به بوكس لزمه أخذه وأجبره عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1613 ثم قال (نفس المرجع: 10/ 141، 142) : فرعان لهما تعلق بالاستبدال عن الثمن أحدهما قال القاضي حسين: إذا باع شيئا بدراهم برمكية، لا يجوز العقد لأنه عزيز الوجود، وقل ما يوجد في بلادنا هذه، ولو باعه بدراهم فتحية ينظر فيه فإن كان في بلد يعز وجوده هذا يبنى على أن الاستبدال عنه جائز أم لا إن قلنا جائز صح وإلا فلا يصح العقد، قال صاحب التهذيب إنه إذا باع بما يعز وجوده في البلد يبنى على الاستبدال عن الثمن هل يجوز؟ إن قلنا يجوز صح ثم إن وجد ذلك النقد وإلا لا يستبدل، وإن قلنا لم يصح كما لو أسلم فيما يعز وجوده وهذا الإطلاق الذي قاله صاحب التهذيب أولى من التفصيل الذي ذكره القاضي. الثاني: إذا باع بنقد البلد ثم انقطع من أيدي الناس، قال القاضي حسين: إذا قلنا يجوز الاستبدال، فلا يفسد العقد وإن قلنا لا يجوز الاستبدال، فقولان: أحدهما ينفسخ، والثاني يثبت له حق الفسخ، وهما كالقولين في المسلم فيه إذا انقطع. فأما إذا باع بنقد البلد ثم أن السلطان رفع ذلك لا غير سواء باعه بثمن معين أو بثمن مطلق، قال الرياني: وهكذا لو باع بفلوس ففسخها السلطان، وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه -: ينفسخ العقد هذا كلام القاضي حسين وقاسه البغوي على ما لو أسلم في صبطة (1) ، فرخصت ليس له إلا صبطه، وحكى مع ذلك وجها أن البائع يخير بين أن يجيز العقد فيأخذ النقد الأول وبين أن يفسخ فيسترد ما أعطى كما لو تعيب المبيع قبل القبض، قال الرياني: وهكذا لو باع بفلوس فنسخها السلطان.   (1) لم نعثر على معنى كلمة " صبطة " في أي معجم من المعاجم التي بين أيدينا ولعل فيها خطأ من الناسخ أو من الطابع أو أنها لشيء معروف في قطر ولم يشع ذكره بهذا الاسم فلم يتعرض له المعجميون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1614 قال الرياني: لو جاء بالنقد الثاني المحدث لا يلزمه قبوله فإن أراد قبوله كان على سبيل الاعتياض، وعن أبي حنيفة - رحمه الله -: أنه يلزمه قبوله. قال الرياني: لو حصل له على غير مائة درهم من نقد معروف فلفيه ببلد آخر لا يتعامل فيه به فقال: خذه لزمه أخذه , كما لو حرمه السلطان في بلده وقيل: لا يلزمه أخذه، وقيل: لا يتعامل به البتة لا يلزمه أخذه، وإن كان يتعامل به لكن ليس برائج يلزمه أخذه , وأصل هذه المسألة رجل يثبت له على آخر عشرة دراهم يلزمه أخذه أو يبرئه. (فصل) في مذاهب العلماء في هذه المسألة فقد تقدم في ذكر الأصح من مذهبنا أن له الإبدال فيما إذا خرج المقبوض عن الموصوف في القيمة معيبا بعد التفرق، وبذلك قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين، والأوزاعي والليث بن سعد والحسين بن حسين، حكاهم عنهم العبدري، وقال صاحب المحيط من الحنفية، في كتاب الصرف، في باب خيار الرد بالربا فيه، والاستحقاق ولو وجد أحد المتصارفين الدراهم المغشوشة زيوفا أو كاسدة، أو رائجة في بعض التجارات دون بعض وذلك عيب عندهم فله أن يردها ويستبدل غيرها أن العقد يقتضي سلامة البدل كما في بيع العين والكلام في صحة الاستبدال في مجلس الرد من باب السلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1615 وقال السرخسي (المبسوط: 14/2،3) : الصرف اسم لنوع بيع، وهو مبادلة الأثمان بعضها ببعض. والأموال أنواع ثلاثة: نوع منها في العقد ثمن على كل حال، وهو الدراهم والدنانير صحبها حرف الباء، أو لم يصحبها سواء كان ما يقابلها من جنسها أو من غير جنسها ونوع منها ما هو مبيع على كل حال وهو ما ليس من ذوات الأمثال من العروض كالثياب والدواب والمماليك، ونوع هو ثمن من وجه مبيع من وجه كالمكيل والموزون، فإنها إذا كانت معينة في العقد تكون مبيعة، وإن لم تكن معينة فإن صحبها حرف الباء وقابلها مبيع فهي ثمن وإن لم يصحبها حرف الباء وقابلها ثمن فهي مبيعة، وهذا لأن الثمن ما يثبت عينا في الذمة. قال الله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [آيه 20 من سورة يوسف] . قال الفراء في معناه: الثمن عند العرب ما يثبت دينا في الذمة والنقود لا تستحق بالعقد إلا دينا في الذمة، ولهذا قلنا إنها لا تعين بالتعيين وكان ثمنها على كل حال. والعروض لا تستحق بالعقد إلا عينا فكانت مبيعة، والسلم في بعضها رخصة شرعية لا تخرج عن أن تكون مبيعة والمكيل والموزون يستحق عينا بالعقد تارة ودينا أخرى فيكون ثمنا في حال مبيعا في حال. والثمن في العرف ما هو المعقود به وهو ما يصحبه حرف الباء، وكان دينا في الذمة وقابله مبيع عرفنا أنه ثمن وإذا كان عينا قابله ثمن كان مبيعا لأنه يجوز أن يكون مبيعا بحال بخلاف ما هو ثمن بكل حال. ومن حكم الثمن أن وجوده في ملك العاقد عند العقد ليس بشرط لصحة العقد، وإنما يشترط ذلك في البيع وكذلك فوات التسليم فيها هو ثمن لا يبطل العقد بخلاف المبيع والاستبدال بالثمن قبل القبض جائز بخلاف المبيع. والأصل فيه حديث ابن عمر حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أبيع الإبل بالنقيع فربما أبيعه بالدنانير وآخذ مكانه الدراهم أو على عكس ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس إذا افترقتما وليس بينكما عمل)) (1) .   (1) انظر فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف " الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1616 وإذا ثبت جواز الاستبدال بالثمن قبل القبض ثبت أن فوات التسليم فيه لا يبطل العقد لأن في الاستبدال تفويت التسليم فيما استحق بالعقد وبهذا ثبت أن ملكه عند العقد ليس بشرط لأن اشتراط الملك عند العقد إما لتمليك العين والثمن دين فيه الذمة أو للقدرة على التسليم ولا أثر للعجز عن تسليم الثمن في العقد. والحكم الذي يختص به الصرف بين سائر البيوع وجوب قبض البدلين في الجنس وأنه لا يكون فيه شرط خيار أو أجل وذلك ثابت بالحديث الذي رويناه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس إن افترقتما وليس بينكما عمل)) - راجع التعليق (1) .- أي مطالبة بالتسليم لوجود القبض قبل الافتراق. ثم قال (نفس المرجع: 18 /4، 5) : رجل قال لفلان: على مائة درهم عددا، ثم قال بعد ذلك: هي وزن خمسة أو ستة وكان الإقرار منه بالكوفة فعليه مائة درهم وزن سبعة ولا يصدق في النقصان إلا إن بين الوزن موصولا بكلامه لأن ذكر الدراهم عبارة عن ذكر الوزن فإنه لا طريق لمعرفة الوزن فيه إلا بذكر العدد من الدراهم، ومطلق ذكر الوزن ينصرف إلى المتعارف منه، فإذا كان إقراره بالكوفة، فالمتعارف فيها بالدراهم سبعة وكما ينصرف مطلق البيع والشراء بالدراهم إليه فكذلك مطلق الإقرار ينصرف إليه، فقوله وزن خمسة بيان معتبر لما اقتضاه مطلق إقراره فقد بينا بيانه والتعبير يصح موصولا بالكلام ولا يصح مفصولا، ومعنى قولنا وزن سبعة: أن كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل، وكل درهم أربعة عشر قيراطا، وإذا كان الدرهم أربعة عشر قيراطا تبنى عليه أحكام الزكاة ونصاب السرقة وغيرها.   (1) انظر فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف " الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1617 ثم قال: وإن كان في بلد يتبايعون على دراهم معروفة الوزن بينهم ينقص من وزن سبعة صدق في ذلك لأن تعيين وزن سبعة لم يكن نص من لفظه إنما كان بالعرف الظاهر في معاملة الناس به ذلك يختلف باختلاف البلدان والأوقات فيعتبر في كل موضع عرف ذلك الموضع كما في سائر التصرفات سوى الإقرار. وإن ادعي وزن دون المتعارف كما في تلك البلدة لم يصدق إلا إذا ذكره موصولا بكلامه وإن كان في البلد نقود مختلفة فإن كان الغالب منها نقد بعينه ينصرف الإقرار إليه، وإن لم يكن البعض غالبا على البعض ينصرف إقراره إلى الأقل لأن الأقل متيقن به وعند التعارض لا يقضي إلا بقدر المتيقن وهذا لأن المُقِرَّ بَيَّنَ الأول لا محالة، وهذا بيان التفسير حين استوت النقود في الرواج وبيان التفسير صحيح مفصولا كان أو موصولا كبيان الزوج في كتابات الطلاق. ولو قال بالكوفة: على مائة درهم بيض عددا، ثم قال: هي تنقص دانقا لم يصدق لأن مطلق لفظه انصرف إلى الإقرار بوزن سبعة فدعواه النقصان بمنزله الاستثناء لبعض ما أقر به والاستثناء لا يصح إلا موصولا ولو قال: علي مائة درهم " أسبهيدية" عددا، ثم قال: عنيت هذه الصغار فعليه مائة درهم وزن سبعة من " الأسبهيدية " لأن قول أسبهيدية يرجع إلى بيان النوع كقوله سود يرجع إلى بيان الصفة فلا يتغير به الوزن. ثم قال: وقوله: فأما إن كانت من سلف أسلفه، فلا يأخذ منه إلا مثل ما أعطى معناه فليس له أن يأخذ منه إلا مثل ما أسلفه إلا أنه لا يجوز له أن يأخذ منه دنانير إذا أسلفه دراهم أو دراهم إذا أسلفه دنانير بل ذلك جائز إذا حل الأجل ولم يكن في السلف شرط ذلك والسلف في هذا بخلاف البيع لا يجوز لمن خرجت من يده دنانير على سبيل البيع أن يأخذ بها دراهم ولا لمن خرجت من يده دراهم على سبيل البيع " إن لم يأخذ بها دنانير "، - هذا خلط من الطابع أو المحقق بين التحريف صوابه: أن يأخذ بها دنانير - والفرق بينهما أن السلف معروف لا يتهمان فيه على القصد إلى العمل بالربا والبيع على سبيل المكايسة فإنهما على القصد إلى ما آل إليه أمرها من الربا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1618 وقال ابن حزم (المحلي: 8/ 503، 504) : وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وأصحابنا - يعني أهل الظاهر - إلى جواز أخذ الذهب من الورق، والورق من الذهب، واحتجوا في ذلك بما رويناه عن قاسم بن أصبغ، حدثنا جعفر بن محمد، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: قلت يا رسول الله، أبيع الإبل بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه , فقال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها. وتعقبه بقوله - انتصار لرأيه من أن ذلك من الربا - هذا خبر لا حجة فيه لوجوه، أحدهما أن سماك بن حرب ضعيف يقبل التلقين شهد بذلك عليه شعبة وأنه كان يقول له حدثك فلان عن فلان؟ فيقول: نعم فيما سئل عنه، وثانيها أنه قد جاءه هذا الخبر بهذا السند ببيان ما ذكروا كما روينا من طريق أحمد بن شعيب، أخبرنا قتيبة، أخبرنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: كنت أبيع الذهب بالفضة، أو الفضة بالذهب، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال: ((إذا بايعت صاحبك فلا تفارقه وبينك وبينه لبس)) قال ابن حزم: وهذا معنى صحيح، وهو كله خبر واحد - قلت: هذه دعوى وسنحررها بعد قليل -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1619 قال ابن حزم: وثالثها أنه لو صح لهم كما يريدون لكانوا مخالفين له، لأن فيه اشتراط أخذها بسعر يومها وهم يجيزون أخذها بسعر يومها. ثم قال: وأيضًا فإن هذا الخبر إنما جاء في البيع فمن أين أجازوه في القرض؟ وقد فرق بعض القائلين به بين القرض والبيع في ذلك واحتجوا من فعل السلف في ذلك بما روينا عن طريق وكيع، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن سعيد مولي الحسن، وقال: أتيت ابن عمر أتقاضاه، فقال لي: إذا خرج خازننا أعطيناك فلما خرج بعثه معي إلى السوق، وقال: إذا قامت على ثمن فإن شاء أخذها بقيمتها أخذها. ومن طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا أبو عوانة، حدثنا إسماعيل السدي، عن عبد الله البهي، عن يسار بن نمير، كان لي على رجل دراهم، فعرض على دنانير، فقلت: لا آخذها حتى اسأل عمر فسألته، فقال: ائت بها الصيارفة فاعرضها فإذا قامت على سعر فإن شئت فخذها وإن شئت خذ مثل دراهمك. وصحت إباحة ذلك عن الحسن البصري، والحكم، وحماد، وسعيد بن جبير باختلاف عنه، وطاوس، والزهري، وقتادة، والقاسم بن محمد، واختلف فيه عن إبراهيم وعطاء. ثم قال (نفس المرجع: ص 504، 506) : وعن طريق سعيد بن منصور، حدثنا خالد بن عبد الله - هو الطحان - عن الشيباني - هو أبو إسحاق - عن محمد بن زيد، عن ابن عمر فيمن باع طعاما بدراهم أيأخذ بالدراهم طعاما؟ قال: لا، حتى تقبض دراهمك. وتعقبه بقوله: لم يقل ابن عمر بأَخْذٍ لك في غير الطعام. ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا على بن مسهر، عن أبي إسحاق الشيباني، عن محمد بن زيد، عن ابن عمر فيمن أقرض دراهم أيأخذ بثمنها طعاما فكرهه. ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن حرملة، قال: بعت جزورا بدراهم إلى الحصاد، فلما حل قضوني حنطة وشعيرا وسلتا، فسألت سعيد بن المسيب، فقال، لا يصلح لا تأخذ إلا الدراهم. وتعقب هذه الروايات بقوله: فهؤلاء عمر وابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر، والنخعي، وسعيد بن جبير، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وابن سيرين، وابن المسيب، وهذا مما تركوا فيه القرآن في تحريمه أكل المال بالباطل لخبر ساقط مضطرب، وهو أحد قولي الشافعي وقول ابن شبرمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1620 ثم قال (نفس المرجع: ص 512، 513) : ومن باع من آخر دراهم بدنانير فلما تم البيع بينهما بالتفرق أو التخيير، اشتري منه أو من غيره بتلك الدراهم دنانيره تلك أو غيرها أقل أو أكثر، فكل ذلك حلال ما لم يكن عن شرط لأن ذلك عقد صحيح وعمل منصوص على جوازه، وأما الشرط فحرام لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل. ومنع من هذا قوم، وقالوا: إنه باع منه دنانير بدنانير متفاضلة. ثم ساق في معرض الاحتجاج لرأيه من طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا يزيد بن إبراهيم - هو التستري - حدثنا محمد بن سيرين، قال: خطب عمر بن الخطاب، فقال: ألا إن الدرهم بالدرهم، والدينار بالدينار، عينا بعين، سواء بسواء، مثلا بمثل، فقال له عبد الرحمن بن عوف: تزيف علينا أرزاقنا فنعطي الخبيث، ونأخذ الطيب، فقال عمر: لا ولكن ابتع بها عرضا فإذا قبضته وكان لك فبعه، واهضم ما شئت، وخذ أي نقد شئت. وتعقبه بقوله: فهذا عمر بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - لا مخالف له منهم يأمر ببيع الدراهم أو الدنانير بسلعة، ثم ببيعها بما شاء من ذلك إثر ابتياعه العرض ولم يقل من غير ما تبتاع منه العرض. وروينا من طريق سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، عن سليمان بن بشير، قال: أعطاني الأسود بن يزيد دراهم، فقال لي: اشتر لي بها دنانير ثم اشتر بالدنانير دراهم كذا وكذا، قال: فبعتها من رجل فقبضت الدنانير، وطلبت في السوق حتى عرفت السعر فرجعت إلى بيعتي فبعتها منه بالدراهم التي أردت فذكرت ذلك للأسود بن يزيد، فلم ير به بأسا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1621 قال ابن حزم: وكرهه ابن سيرين، وروينا عن عمر بن الخطاب، أنه قال: إنما الربا على من أراد أن يربئ وينسئ، ورويناه من طريق عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن يونس بن عبيد، عن ابن سيرين، عن عمر. ثم قال (ص 514) : لا يحل بيع دينار إلا درهما فإن وقع فهو باطل مفسوخ لأنه إخراج لقيمة الدرهم من الدينار، فصار استثناء مجهولا إن باع بدينار إلا قيمة درهم منه، فإن كانت قيمة الدرهم معلومة عندهما فهو باطل أيضًا لأنهما شرطا إخراج الدرهم بعينه من الدينار، وهذا محال لأنه ليس هو بعضا للدينار فيخرج منه فهو باطل لكل حال. وقولنا هو قول عطاء والنخعي ومحمد بن سيرين وأجازه أبو سلمة بن عبد الرحمن. من هذه النصوص على اختلاف الوقائع والأحوال التي اقتضت اجتهادات أصحابها يتضح أن الازدواجية النقدية من حيث اعتبار الذهب والفضة كل منهما نقد مستقل بذاته من جهة بحكم اختلال مادته ومرتبط بالآخر أو مشاكل له من جهة أخرى بحكم اعتبار وظيفتهما. وكذلك الازدواجية " التعاملية " - إن صح هذا التعبير - من حيث اعتبار كل من التعامل بالوزن والتعامل بالعدد بذلا للثمن والقيمة في الأشياء والمتلفات. نشأ عنه نوع من الالتباس لدى الفقهاء الأُوَل من عهد الصحابة إلى عصور الاجتهاد في تحديد معالم صورة النقد أو العملة تحديدا لو تيسر لهم لأغناهم عن كثير من الجهد الفكري والتحرج الديني في تحديد أحكام مجموعة ضخمة من المعاملات كان الحرج فيها مجرد عدم تصور دقيق جلي لحقيقة النقد وهل هو مزاح من اعتبار العينية المادية والمثلية الوظيفية أم أن لكل تصور دقيق جلي لحقيقة النقد وهل هو مزاج من اعتبار العينية المادية والمثلية الوظيفية أم أن لكل من الاعتبارين حظ من الاستقلال له آثاره وانعكاساته في تقرير الأحكام وتقدير التبعات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1622 ومثل هذا الالتباس في تصور ماهية النقد ومتعلق الأحكام المتصلة به والمترتبة عنه سنواجهه في الفصل التالي إذ نستعرض طائفة أخرى من الاجتهادات لا تختلف في جوهرها عن مثيلاتها في هذا الفصل، وإن اختلفت في وقائعها ومتعلقها من حيث أنها في هذا الفصل التالي ترتبط أساسا بنقد ليس بالذهب، ولا بالفضة في مادته، وإنما هو من معدن آخر لكن يرتبط بالذهب والفضة من حيث أنهما أساس القيمة التي له والتي هيأته لأن يقوم بنفس الوظيفة الخاصة بهما قبل حدوثه وبعد حدوثه أيضًا. وهذا النقد هو الفلوس، وكانت تصنع يومئذ - في أغلبها - من النحاس وقد لجأ إلى سكها أولوا الأمر لشحة الذهب والفضة بالقياس إلى حاجة الناس إلى السيولة النقدية في الممارسة العادية لمعاملاتهم. لكن يضاف عنصر آخر من عناصر الإلباس لتصور ماهية النقد لدى أولئك المجتهدين، وهو انعدام القيمة العينية أو ضآلتها في مادة الفلوس بالقياس إلى القيمة العينية لمادة كل من الذهب والفضة، وهو انعدام العكس على تصرف أولى الأمر في تلك العصور بنمط من التذبذب زاد التباسا لتصور ماهية النقد فهم أحيانا يشرعون التعامل بالفلوس عددا وأخرى يشرعون التعامل بها وزنا كما كان الشأن في الذهب والفضة، وعدم تماثل القيمة العينية لمادة الفلوس مع مادة كل من الذهب والفضة، وعدم استقرار أولى الأمر في تلك العصور أو في بعضها على الأساس العددي أو الوزني في تشريع نقدية الفلوس انعكاسا في اعتبار المجتهدين لحقيقة وظيفة الفلوس ومدى تماثلها مع وظيفة الذهب والفضة في النقدية، وذلك لسبب بسيط هو أنهم لم يفصلوا بين كون الوظيفة نتيجة للقيمة فيكون الذهب والفضة أساسا لتقويم الفلوس ومهيمنين عليها وكون الذهب والفضة لهما قيمة ذاتية أهلتهما لأن يكونا الأساس لكل تقويم. ونتيجة لذلك لم يتأت لهم التمييز بين وظيفة النقد - أيا كان نوعه - باعتباره أداة للتعامل اليومي المستمر والوظيفة الثانية التي يمتاز بها ما هو أساس لتحديد تلك القيمة، ولتعيين الوظيفة الأولى والتي يمتاز بها الذهب والفضة باعتبارهما قيما لذاتهما وأساسا للتقويم. وهذه المجموعة من الألباس التي أوضحناها بإيجاز هي مرد التذبذب الماثل في الأحكام - وأحيانا حتى عند المجتهد الواحد - التي نستعرضها في الفصل التالي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1623 (11) أحكام تتصل بالفلوس عند أيمة المذهب وأشهر مجتهديها قال سحنون في (المدونة الكبرى المجلد 3، 8 /344، 345) : قلت: أرأيت إن استقرضت فلوسًا ففسدت الفلوس فما الذي أرد على صاحبي؟ قال: قال مالك: ترد عليه مثل تلك الفلوس التي استقرضت منه وإن كانت قد فسدت. قلت: فإن بعته سلعة بفلوس ففسدت الفلوس قبل أن أقبضها قال: قال مالك: لك مثل فلوسك التي بعت بها السلعة الجائزة بين الناس يومئذ وإن كان الفلوس قد فسدت فليس لك إلا ذلك قال: وقال مالك: في القرض والبيع بالفلوس إذا فسدت فليس له إلا الفلوس التي كانت لك اليوم إن كانت فاسدة. أرأيت لو أن رجلًا قال لرجل: أقرضني دينارًا دراهم أو نصف دراهم أو ثلث دينار دراهم فأعطاه الدراهم ما الذي يقضيه في قول ما لك؟ قال: يقضيه مثل دراهم التي أخذ منه رخصت أو غلت فليس عليه إلا مثل الذي أخذ. ابن وهب، عن ابن لهيعة أن بكير بن عبد الله بن الأشج حدثه أن سعيد بن المسيب أسلف عمرو بن عثمان دراهم فلم يقضه حتى ضربت دراهم أخرى غير ضربها فأبى ابن المسيب أن يقبلها حتى مات فقضاها ابنه من بعده. ابن لهيعة، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن سعيد بن المسيب أنه قال: إن أسلفت رجلًا دراهم ثم دخل فساد دراهم فليس لك عليه إلا مثل الذي أعطيت وإن كان قد أنفقها وجازت عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1624 قال ابن وهب: وقال يحيى بن سعيد وربيعة مثله. قال الليث: كتب إلي يحيى بن سعيد يقول: سألت عن رجل أسلف أخ له نصف دينار فانطلقا جميعًا إلى الصراف بدينار فدفعه إلى الصراف وأخذ منه عشرة دراهم ودفع خمسة إلى الذي استسلفه نصف دينار فحال الصرف برخص أو غلاء قال: فليس للذي دفع خمسة دراهم زيادة عليها ولا نقصان منها ولو أن رجلًا استسلف نصف دينار فدفع إليه الدينار فانطلق به فكسره فيأخذ نصف دينار ودفع إليه النصف الباقي كان عليه يوم يقبضه أن يدفع إليه دينارًا فيكسره فيأخذه نصفه ويرد إليه نصفه، وقال مالك: يرد إليه مثل ما أخذ لأنه لا ينبغي أن يسلف أربعة ويأخذ خمسة وليس الذي أعطاه ذهبًا إنما أعطاه ورقًا ولكن لو أعطاه دينارًا فصرفه المستسلف فأخذ نصف ورد نصفه كان عليه نصف دينار إن غلا الصرف أو رخص. قلت: أرأيت إن بعت بيعًا بدانق أو دانقين أو ثلاثة دوانق أو أربعة دوانق أو بخمسة دوانيق أو بنصف درهم أو بسدس درهم أو بثلث درهم على أي شيء يقع هذا على الفضة أم الفلوس في قول مالك؟ قال: يقع على الفضة هذا البيع. قلت: فأي شيء يعطيه بالفضة في قول مالك؟ قال: ما تراضيا عليه. قلت: فإن تشاحَّا فأي شيء يعطيه بذلك؟ قال: الفلوس في قول مالك في الموضع الذي فيه الفلوس. قلت: أرأيت إن اشتريت سلعة بدانق فلوس ورخصت الفلوس أو غلت كيف أقضيه أعلى ما كان من سعر الفلوس يوم يقع البيع؟ أم على سعر الفلوس يوم أقضيه في قوله مالك؟ قال: على سعر الفلوس يوم تقضي فيما قال مالك. قلت: فإن كان باع سلعته بدانق فلوسًا نقدًا أيصلح هذا في قول مالك أم لا؟ قال: إذا كان الدانق من الفلوس معروفًا كم هو في عدد الفلوس فلا بأس بذلك وإنما وقع البيع بينهما على الفلوس. قلت: فإن باع سلعة بدانق فلوس إلى أجل؟ قال: فلا بأس بذلك إذا كان الدانق قد سميتما من الفلوس أو كنتما عارفين بعدد الفلوس، وأن البيع إنما وقع بالفلوس إلى أجل وإن كانت مجهولة العدد أولا يعرفان ذلك فلا خير في ذلك لأنه غرر. قلت: فإن قال أبيعك هذا الثوب بنصف دينار على أن آخذ به منك دراهم عددًا يدًا بيد، قال مالك: إذا كان الصرف معروفًا يعرفانه جميعًا فلا بأس بذلك إذا شَرَطَا كم الدراهم من الدينار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1625 قلت: فإن بعت سلعة بنصف دينار أو ثلث دينار، أو بربع دينار، أو بخمس دينار على أي شيء يقع البيع أعلى الذهب، أم على عدد الدراهم من صرف الدينار؟ قال: قال مالك: إنما يقع على الذهب، ولا يقع على الدراهم من صرف الدينار. قلت: فما يأخذ منه بتلك الذهب التي وقع البيع عليها في قول مالك؟ قال: ما تراضيا عليه قلت: فإن تشاحَّا، قال: قال مالك: إذ تشاحَّا أخذا منه ما سميا من الدينار دراهم إن كان نصفا فنصفًا، وإن كان ثلثًا فثلثًا، قلت: فهل ينظر في صرف الدينار بينهما يوم وقع البيع بينهما أو يوم يزيد أن يأخذ منه حقه، قال: يوم يريد أن يأخذ منه حقه، كذلك قال مالك، وليس يوم وقع البيع، لأن البيع إنما وقع الذهب ولم يزل الذهب على صاحبه حتى يوم يقضيه إياه. قال مالك: وإن باعه بالذهب بسدس أو نصف إلى أجل وشرط أن يأخذ بذلك النصف الدينار، إذا حل الأجل دراهم فلا خير في ذلك، وهما إذ تشاحَّا إذا حل الأجل أنه يأخذ منه الدراهم يوم يطلبه بحقه على صرف يوم يأخذه بحقه، قلت: فلما كره مالك الشرط بينهما وهو إذا طلبه بحقه، وتشاحَّا أخذ الدراهم، قال: لأنه إذا وقع الشرك على أن يأخذ من نصف الدينار دراهم فكأنه إنما وقع البيع على الدراهم، وهو لا يعرف ما هي لأنه البيع إنما يقع على ما يكون من صرف نصف دينار بالدراهم يوم يحل الأجل فهذا لا يعرف ما باع له سلعته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1626 قال سحنون:قال أشهب: وإن كان إنما وجب له ذهب وشرط أن يأخذ فيه دراهم فذلك أحرم لأنه ذهب بورق إلى أجل وورق أيضًا لا يعرف عددها ولا وزنها وليس ما نزل به القضاء إذا حل الأجل بمنزلة ما يوجبان على أنفسهما، قال أشهب: ولو قال: أبيعك هذا الشيء بنصف دينار إلى شهر آخذ به منك ثمانية دراهم، كان بيعًا جائزًا، وكانت الثمانية لازمة لكما إلى الأجل ولم يكن هذا صرفاُ وكان ذكر النصف لغوًا وكان ثمن السلعة دراهم معدودة إلى أجل معلوم، قال مالك: ومن باع سلعة بنصف دينار إلى أجل أو بثلث دينار إلى أجل لم ينبغِ له أن يأخذ قبل محل الأجل في ذلك دراهم وليأخذ في ذلك عوضًا إن أحب قبل الأجل فإذا حل الأجل فليأخذ بما أحب. ثم قال (نفس المرجع: ص 395، 396) : قلت - يعني لعبد الرحمن بن القاسم -: أرأيت إن اشتريت فلوسًا بدراهم فافترقنا قبل أن يقبض كل واحد منا؟ قال: لا يصلح هذا في قول: مالك وهذا فاسد , قال لي مالك في الفلوس: لا خير فيها نظرة بالذهب ولا بالورق، ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والوزن نظرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1627 قلت: أرأيت إن اشتريت خاتم فضة أو خاتم ذهب، أو غير ذهب بفلوس، فافترقنا قبل أن نتقابض أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا يجوز هذا في قول مالك؛ لأن مالكًا قال: لا يجوز فلس بفلسين، ولا تجوز الفلوس بالذهب والفضة، ولا بالدنانير نظرة. ابن وهب، عن يونس بن زيد، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، أنه قال: الفلوس بالفلوس، بينهما فضل فهو لا يصلح في عاجل بآجل ولا عاجل بعاجل، ولا يصلح بعض ذلك ببعض إلا هاء وهات. ابن وهب، قال الليث بن سعد،عن يحيى بن سعيد، وربيعة، أنهما كرها الفلوس بالفلوس، بينهما فضل أو نظرة، وقالا: إنها صارت سكة الدنانير والدراهم. ابن وهب، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، وعبد الله بن أبي حبيب، وعبيد الله بني أبي جعفر، قال: وشيوخنا كلهم أنهم كانوا يكرهون صرف الفلوس بالدنانير والدراهم إلا يدًا بيد. قال ابن وهب: وقال يحي بن أيوب: قال يحيى بن سعيد: إذا صرفت درهمًا فلوسًا فلا تفارقه حتى تأخذها كلها. ثم قال (نفس المرجع، المجلد: 4، 9/115) : قال ابن القاسم: قال مالك: لا يصلح الفلوس بالفلوس جزافًا، ولا وزنًا مثلا بمثل، ولا كيلًا مثلًا بمثل، يدًا بيد، ولا إلى أجل، ولا بأس به عددًا فلسًا بفلس، ولا يصلح فلسان بفلس يدًا بيد , ولا إلى أجل والفلوس هاهنا في العدد بمنزلة الدراهم والدنانير في الورق، وقال مالك: أكره ذلك في الفلوس ولا أراه حرامًا كتحريم الدنانير والدراهم، قلت: أرأيت إن اشتريت فلسًا بفلسين، أيجوز هذا عند مالك؟ قال: لا يجوز فلسا بفلسين. قلت: فمراطلة الفلوس بالنحاس واحدًا باثنين يدًا بيد. قال: لا خير في ذلك , قال: لأن مالكًا، قال: الفلس بالفلسين لا خير فيه، لأن الفلوس لا تباع إلا عددًا فإذا باعها وزنًا كان من وجه المخاطرة، فلا يجوز بي الفلوس برطلين من النحاس قال: ولو اشترى رجل رطل فلوس بدرهم، لم يجز ذلك. قال: وقال مالك: كل شيء يجوز واحد باثنين من صنفه إذا كايله أو راطله أو عاده، فلا يجوز الجزاف بينهما لا منهما جميعًا ولا من أحدهما لأنه من المزابنة إلا أن يكون الذي يعطي أحدهما متفاوتًا يعلم أنه أكثر من الذي من ذلك الصنف بشيء كثير فلا بأس بذلك ولا يجوز أن يكون أحدهما كيلًا ولا وزنًا ولا عددًا، والآخر جزافًا وإن كان مما يصلح اثنان بواحد إلا أن يتفاوت ما بينهما تفاوتًا بعيدًا، فلا بأس بذلك وهو إذا تقاربا عند مالك ما بينهما كان من المزابنة وإن كان ترابًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1628 ثم قال (نفس المرجع، المجلد: 5، 12 /86، 87) : قال عبد الرحمن بن القاسم: قال مالك: لا تصلح المقارضة إلا بالدنانير والدراهم، قلت: فهل تصلح بالفلوس؟ قال: فما سمعت من مالك فيه شيئًا ولا أراه جائزًا لأنها تحول إلى الكساد والفساد فلا تنفق وليست الفلوس عند مالك بالسكة البينة حتى تكون عينًا بمنزلة الدنانير والدراهم، وقد أخبرني عبد الرحمن بن خالد، أن مالكًا كان يجيز شراءها بالدنانير والدراهم نظرة ثم رجع عنه منذ أدركناه، فقال: أكرهه ولا أراه حرامًا كتحريم الدراهم فمن هاهنا كرهت القراض بالفلوس. قال سحنون: وأخبرني عبد الله بن وهب، أن يونس بن يزيد، أخبره عن ربيعة بن عبد الرحمن، أنه قال: المقارضة التي عليها أصل المقارضة أن تقارض من قارضته مالا على أن رأس مالك الذي يدفع إليه عينًا ما دفعت إليه ووزن ذلك وضربه أن يبتغي فيه صاحبه ما ابتغي ويدير على ما أدار منه على ما يكون فيه من نفقة أو زكاة حتى إذا حضرت المحاسبة ونض القراض فما وجدت بيده أخذت منه رأس مالك وما كان فيه من ربح تقاسمتماه على ما تقارضتما عليه من أجزاء الربح شطرين كان أو غيره. وقال ابن رشد في (البيان والتحصيل: 6/473) : وسئل عن الرجل يشتري بدرهم كيل الشيء فيخرج درهمًا، فيدفعه إليه فيجده ينقص حبتين أو ثلاثًا، فيعطيه في نقصانه فلوسًا بقدر ما نقص. قال: لا خير في ذلك، قلت له: إنه يقول: أعطني ما فيه من وزنه وحاسبني بقدر ذلك، قال: لا بأس به عندي إنما هو عندي بمنزلة رجل اشترى بدرهمين حنطة ثم قال له بعد ذلك: أعطني بدرهم، وأقلني من درهم، فقلت له: بعد الوجوب؟ قال: نعم كأنه حمله على وجه المساومة وفيه تفسير من البيع. ثم قال (نفس المرجع: 7/18، 19) : وسائل عن الفلوس مراطلة، وفي العدد اختلاف، فقال: هذا حرام لا يحل ولا يُجَوِّزُ أحد هذا من أهل العلم لأن جواز الفلوس بعيونها وإن كان بعضها أثقل من بعض، فأحدهما يخاطر صاحبه ولو جاز أن يباع الفلوس بالفلوس مراطلة لجاز أن تباع الفلوس مراطلة بالدراهم والدنانير، ولا يدري ما يدخل في عددها فهو غرر وقد ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)) . وسئل عن الرجل يشتري رطل الفلوس بدرهم أو رطل دراهم بدينار لما لا يجيزه مالك بَيِّنْ لي؟ قال ابن القاسم: أما الفلوس فلا خير فيه، وأما الورق فإن كان الرطل وزنًا معرفًا بمنزلة هذه الحديدة التي قد ضربت وجعلت للناس معيارًا في وزنهم، فلا بأس به وإن كانوا يعرفون ما يدخل فيه من دراهم، ولم تجر معرفته بين الناس حتى تكون مثل هذه الحديدة فلا خير فيه فقاله أصبغ أيضًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1629 قال ابن رشد: هذه مسألة بينة في المعنى، مثل ما في المدونة، أما الفلوس فإنما تجوز عددًا وهو الصرف، فالانتقال عن المعروف فيها من العدد إلى الوزن لا يجوز لأنه غرر، كما أن ما العرف فيه أن يباع وزنًا من جميع الأشياء، فلا يجوز أن يباع كيلًا وما العرف فيه أن يباع كيلًا، فلا يجوز أن يباع وزنًا وهذا منصوص عليه في المدونة وغيرها، فلا تجوز المراطلة فيها ولا يسعها بالوزن، وأما بيع الدراهم بالرطل، فكما قال: إن كان الرطل يعلم كم فيه من درهم فهو جائز وإلا لم يجز. ثم قال (ص 23، من كتاب الأقضية) : وسئل ابن نافع، عن صرف الفلوس بالتأخير، يعجل الدينار والدرهم، ويقبض الفلوس إلى أجل، فقال: كان مالك يكره ذلك إذا صارت سكة تجري ثمنًا للأشياء ولست آخذ به ولا أراه وأنا أرى الفلوس عرضًا من العروض كالنحاس الذي لم يضرب فلوسًا، ولا أرى بأسًا بما تأخذ منه ولا عده صرفًا. قال ابن رشد: قول ابن نافع هذا مثل رواية عبد الرحيم، عن مالك، في كتاب القراض من المدونة، وإنما كره مالك - رحمه الله - في المشهور عنه التأخير في صرف الفلوس، لأن العلة عندهم في الربا في العين من الذهب والورق، هو أنه ثمن للأشياء وقيم للمتلفات، فرأى على هذا القول هذه العلة علة متعدية إلى الفلوس لما كانت موجودة فيها، إذا صارت سكة تجري بين الناس يتبايعون بها، ويقوِّمون كثيرًا من المتلفات بها ورآها على رواية عبد الرحمن عنه علة واقعة - لعل صوابها: واقفة - لا تتعدى إلى ما سوى الذهب والورق ولكلا القولين وجه من النظر وبالله التوفيق. ثم قال (ص 302) : وسئل مالك، عن الرجل يشتري النحاس المكسورة بالفلوس، فقال: لا خير فيه وأراه من وجه المزابنة، فقيل له: إن الرجل يشتري التور بدرهمين ونصف، لا يريد به وجه النحاس، إنما يريد به أن يتوضأ فيه، فقال: أرأيت لو كانت فلوسًا كلها؟ فقيل له: إنما يتوضأ فيه، وقال هو سواء لا خير فيه، وأراه من وجه المزابنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1630 قال ابن رشد: أما شراء النحاس المكسورة بالفلوس، فقوله أنه لا خير فيه، لأنه من وجه المزابنة، هو مثل منا في المدونة من قوله: ولا خير في الفلوس بالنحاس إلا أن يتباعد بينهما، لأن المزابنة إنما تدخله إذا لم يتبين الفضل بينهما، وهذا مما لا اختلاف فيه أعلمه. وأما شراء التور المصنوع من النحاس بالفلوس، فاختلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها أن الصنعة تخرجه إلى صنف آخر وترفع المزابنة عنه، فيجوز ذلك يدًا بيد أو إلى أجل، وهو قول مالك في روايتي ابن وهب عنه. والثاني أن ذلك يجوز نقدًا وإن لم تبين الفضل بينهما، ولا يجوز إلى أجل، وهو قوله في المدونة إلا أنه جعل ذلك فيها كالصوف بثوب الصوف والكتان بثوب الكتان، فقال: لا بأس بذلك نقدًا ولا بأس بالتور النحاس بالنحاس نقدًا، وإلى هذا رجع مالك في رواية ابن وهب عنه. والثالث أن ذلك لا يجوز نقدًا ولا إلى أجل يريد إلا أن يتبين الفضل بينهما في النقد، وعلى هذا حمل أبو إسحاق التويني ما في المدونة لابن القاسم وهو قول مالك في هذه الرواية، لأنه لم يجز فيها أن يشتري التور بدرهمين ونصف، فيعطي في جميعها فلوسًا ولا في النصف درهم منها، وإذا لم يجز ذلك في النقد، فالأحرى ألا يجيزه إلى أجل، وقد تأول بعض الناس من هذه الرواية، أن ذلك لا يجوز وإن تبين الفضل إذ منع فيها أن يعطي في النفس فلوسًا ولا شك في أن التور أكثر نحاسًا من الفلوس التي يعطي في نصف درهم وليس ذلك بصحيح، لأن التور مفضوض على قيمة الدرهمين والنصف درهم من الفلوس وإذا فض ذلك لم يدر أكان ما ينوب الفلوس من أكثر أو أقل فوجب ألا تجوز ولو أخذ في جميع الدرهمين والنصف فلوسا لا يشك أنها أكثر من التور أو أقل لكان ذلك جائزًا، والاختلاف في هذه المسألة موجود أيضًا في الصوف بثوب الصوف والكتان بثوب الكتان، وروى ذلك أشهب، عن مالك، أنه لا يجوز نقدًا ولا إلى أجل أيهما عجل، وروى ذلك أيضًا أصبغ، عن ابن القاسم، ثم رجع إلى أنه يجوز إذا كان الثوب هو المعجل، وأما مصنوع من النحاس أو منسوج بمنسوج من الصوف والكتان أو الكرسف، فلا اختلاف في جواز ذلك نقدًا، وإن لم يتبين الفضل بينهما، واعترض ذلك أبو إسحاق التونسي، فقال: لا فرق في القياس بين مصنوع بمصنوع أو مصنوع بغير مصنوع، لأن الصناعة إذا لم يكن لها تأثير في الجهة الواحدة، وجب أن لا يكون لها تأثير في الجهتين، فانظر في ذلك كله وتدبره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1631 وقال الشافعي في (الأم: 3/33) : ولا بأس بالسلف في الفلوس إلى أجل، لأن ذلك مما ليس فيه الربا ومن أسلف رجلًا دراهم على أنها بدينار بنصف دينار، فليس عليه إلا مثل دراهمه، وليس له عليه دينار ولا نصف دينار. وقال النووي في (المجموع: 9/395) : (فرع) ذكرنا أن علة الربا في الذهب والفضة عندنا كونها جنس الأثمان غالبًا، قال أصحابنا: وقولنا غالبًا احتراز من الفلوس إذا راجت رواج النقود، كما قدمناه، ويدخل فيه الأواني والتبر وغير ذلك، وهذه العبارة هي الصحيحة عند الأصحاب وهي التي نقلها الماوردي وغيره من نص الشافعي، قال الماوردي: ومن أصحابنا من يقول العلة كونها قيم المتلفات، قال: ومن أصحابنا من جمعهما، قال: وكله قريب، وجزم المصنف في " التنبيه " بأنها قيم الأشياء، وأنكره القاضي أبو الطيب وغيره على من قاله من أصحابنا، قالوا لأن الأواني والتبر والحلي يجري فيها الربا، وليس مما يقوم بها ولنا وجه ضعيف غريب أن تحريم الربا فيهما بعينهما لا لعلة، حكاة المتولي وغيره. (فرع) إذا راجت الفلوس رواج النقود، لم يحرم الربا فيها هذا هو الصحيح المنصوص وبه قطع المصنف والجمهور وفيه وجه شاذ أنه يحرم. حكاه الخراسانيون. وأما ما سواها من الموزونات كالحديد والنحاس والرصاص والقطن والكتان والصوف والغزل وغيرها، فلا ربا فيها عندنا، فيجوز بيع بعضها ببعض متفاضلًا ومؤجلًا، ولا خلاف في شيء من هذا عندنا إلا وجهًا حكاه المتولي والرافعي، عن أبي بكر الأولي من أصحابنا المتقدمين، أنه قال: لا يجوز بيع مال بجنسه متفاضلًا سواء كان مطعومًا أو نقدًا أو غيرهما، وهذا شاذ ضعيف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1632 وقال السيوطي في (الحاوي: 1/96، 98، " رسالة قطع المجادلة عند تغيير المعاملة ") : نقلت من خط شيخنا قاضي القضاة، شيخ الإسلام علم الدين البلقيني رحمه الله، قال: وفي فرائض الأخ شيخ الإسلام جلال الدين وتحريره، قال: اتفق في سنة إحدى وعشرين وثمان مائة عزة الفلوس بمصر، وعلى الناس ديون في مصر من الفلوس، وكان سعر الفضة قبل عزة الفلوس كل درهم بثمانية دراهم من الفلوس، ثم صار بتسعة، وكان الدينار الأفلوري بمائتين وستين درهمًا من الفلوس والهرجة بمائتين وثمانين، والناصري بمائتين وعشرة، وكان القنطار المصري بست مائة درهم، فعزت الفلوس، ونودي على الدرهم بسبعة دراهم، وعلى الدينار المصري بناقص خمسين، فوقع السؤال عمن لم يجد فلوسًا وقد طلب منه صاحب دينه الفلوس، فلم يجدها، فقال: أعطني عوضًا عنها ذهبًا أو فضة بسعر يوم المطالبة ما الذي يجب عليه؟ وظهر لي في ذلك أن هذه المسألة قريبة الشبه من مسألة إبل الدية، والمنقول في إبل الدية، أنها إذا فقدت فإنه يجب قيمتها بالغة ما بلغت على " الجديد "، قال الرافعي: فتقوم الإبل بغالب نقد البدل وتراعى صفتها في التغليظ فإن غلب نقدان في البلد تخير الجاني وتقوم الإبل التي لو كانت موجودة وجب تسليمها، فإن كان له إبل معيبة وجبت قيمة الصحاح من ذلك الصنف، وإن لم يكن هناك إبل فيقوم من صنف أقرب البلاد إليهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1633 وحكى صاحب التهذيب وجهين في أنه هل تعتبر قيمة مواضع الوجود أو قيمة بلد الإعواز، لو كانت الإبل موجودة فيها؟ والأشبه الثاني: ووقع في لفظ الشافعي، أنه يعتبر قيمة يوم الوجوب والمراد على ما يفهمه كلام الأصحاب يوم وجوب التسليم، ألا تراهم أنهم قالوا: إن الدية المؤجلة على العاقلة، تقوم كل نجم منها عند محله، وقال الرياني: إن وجبت الدية والإبل مفقودة، فتعتبر قيمته يوم الوجوب، أما إذا وجبت وهي موجودة فلم يتفق الأداء حتى أعوزت تجب قيمة يوم الإعواز؛ لأن الحق حينئذ تحول إلى القيمة. قال: فهذه تناظر مسألتنا؛ لأنه واجب عليه متقوم معلوم الوزن، وهو قنظار من الفلوس مثلًا فلم يجده، فإن جرينا على ظاهر النص الذي قاله الرافعي، فلا يلزمه الحاكم إلا بقيمة يوم الإقرار، فينظر في سعر الذهب والفضة يوم الإقرار، ويحكم عليه القاضي بذلك وإن قلنا بما قاله الرياني فتجب قيمتها يوم الإعواز، فإن الأقارير كانت يوم العزة - انتهى ما أجاب به البلقيني -. واعلم أنه نحا في جوابه إلى اعتبار قيمة الفلوس، وذلك لأنها عدمت أو عزت فلم تحصل إلا بزيادة، والمثل إذا عدم أو عز ولم يحصل إلا بزيادة، لم يجب تحصيله كما صححه النووي في الغصب، بل يرجع إلى قيمته. وإنما نبهت على هذا، لئلا يظن أن الفلوس من المتقومات، وإنما هي من المثليات في الأصح، والذهب والفضة المضروبان مثليان بلا خلاف إلا أن في المغشوش منها وجهًا أنه متقوم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1634 إذا تقرر هذا، فأقول: تترتب الفلوس في الذمة بأمور منها القرض، وقد تقرر أن القرض الصحيح يرد فيه المثل مطلقًا إذا اقترض منه رطلًا فلوسًا، فالواجب رد رطل من ذلك الجنس سواء زادت قيمته أم نقصت، أما في صورة الزيادة فلأن القرض كالسلم، وسيأتي النقل فيه، وأما في صورة النقص فقد قال في "الروضة " من زوائده، ولو أقرضهم نقدًا، فأبطل السلطان المعاملة به فليس له إلا النقد الذي أقرضه نص عليه الشافعي - رضي الله عنه - فإذا كان هذا مع إبطاله فمع نقص قيمته من باب أولى. ومن صورة الزيادة أن تكون المعاملة بالوزن ثم ينادى عليها بالعدد، ويكون العدد أقل وزنًا. وقولي: (فالواجب) إشارة إلى ما يحصل الإجبار عليه من الجانبين، هذا على دفعه، وهذا على قبوله, وبه يحكم الحاكم، أما لو تراضيا على زيادة أو نقص، فلا إشكال فإن رد أكثر من قدر القرض جائز إلى مندوب وأخذ أقل منه إبراء من الباقي. وقولي: (من ذلك الجنس) احتراز من غيره كأن يأخذ بدله عروضًا أو نقدًا ذهبًا أو فضة، وهذا مرجعه إلى التراضي أيضًا لأنه استبدال، وهو من أنواع البيع ولا يجبر فيه واحد منهما، فإن أراد أخذ بدله فلوسًا من الجدد المتعامل بها عددًا فهل هو من جنسه، لكون الكل نحاسًا أو لاختصاصه بوصف زائد وزيادة قيمة؟ محل نظر والظاهر الأول لكن لا إجبار فيها أيضًا لاختصاصها بما ذكر، فإن تراضيا على قدر فذاك وإلا فلا يجبر المدين على دفع رطل منها؛ لأنه أزيد قيمة، ولا يجبر الدائن على أخذ قدر حقه منها عددًا لأنه أنقص وزنًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1635 فإن عدمت الفلوس العتق، فلم توجد أصلًا رجع إلى قدر قيمتها من الذهب والفضة، ويعتبر ذلك يوم المطالبة، فيأخذ الآن لو قدر انعدامها في كل عشرة أرطال دينارًا، ولو اقترض منه فلوسًا عددًا كستة وثلاثين، ثم أبطل السلطان المعاملة بها عددًا، وجعلها وزنًا كل رطل بستة وثلاثين، كما وقع في بعض السنين، فإن كان الذي قبضه معلوم القدر بالوزن رجع بقدره وزنًا ولا تعتبر زيادة قيمته ولا نقصها، وإن لم يكن وزنه معلومًا فهو قرض فاسد؛ لأن شرط القرض أن يكون القرض معلوم القدر بالوزن أو الكيل، وقرض المجهول فاسد، والعدد لا يعبر به، والمقبوض بالقرض الفاسد يضمن بالمثل أو بالقيمة وهنا قد تعذر الرجوع إلى المثل للجهل بقدره، فيرجع إلى القيمة، وهل يعتبر قيمة ما أخذ يوم القبض أو يوم الصرف، الظاهر الأول، فقد أخذ ما قيمته يوم قبضه ستة وثلاثون، فيرد ما قيمته الآن كذلك وهو رطل أو مثله من الفضة والذهب. (فرع) فإن وقع مثل ذلك في الفضة فإن اقترض أنصافًا بالوزن، ثم نودي عليها بأنقص أو بأزيد أو بالعدد أو اقترض عددًا ثم نودي عليها بالوزن فلا يخفى قياسه على ما ذكرناه. (فصل) ومنها السلم والأصح جوازه في الدراهم والدنانير والفلوس بشرطه. ومعلوم أنه لا يتصور فيه قسم العدد لاشتراط الوزن فيه، فإذا حل الأجل لزمه القدر الذي أسلم فيه وزنًا سواء زادت قيمته عما كان وقت تسليمه السلم أم نقصت، ويجب تحصيله بالغًا ما بلغ فإن عدم فليس إلا الفسخ والرجوع برأس المال أو الصبر إلى الموجود ولا يجوز الاستبدال عنه فإن كان رأس المال فلوسًا وهي باقية بعينها أخذها وإن غلت رجع إلى مثلها وزنًا. (فصل) ومنها ثمن ما بيع به في الذمة، قال في " الروضة ": وأصلها لو باع بنقد معين أو مطلق وحملناه على نقد البلد، فأبطل السلطان ذلك النقد لم يكن للبائع إلا ذلك النقد. ثم قال: فأقول: هنا صور إحداها أن يبيع برطل فلوس فهذا ليس له إلا رطل زاد سعره أو نقص سواء كان عند البيع وزنًا، فجعل عددًا أم عكسه وكذا لو باع بأوقية فضة أو عشرة أنصاف، وهي خمسة دراهم أو دنانير ذهب، ثم تغير السعر فليس له إلا الوزن الذي سمى. الثانية: إن بيع بألف أو فضة أو ذهبًا ثم تغير السعر فظاهر عبارة " الروضة " المذكورة أن له ما يسمى ألفا عند البيع ولا عبرة بما ترى ويحتمل أن له ما يسمى ألفًا عند المطالبة وتكون عبارة الروضة محمولة على الجنس لا على القدر، وهذا الاحتمال وإن كان أوجه من حيث المعنى إلا أنه لا يأتي في صورة إبطال، إذا لا قيمة حينئذ إلا عند العقد عند المطالبة. ثم مضى في تطبيق رأيه هذا في مسائل أخرى من فقه المعاملات، كالأجرة والغصب والوقف والوصية والطلاق والنكاح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1636 وقال الرافعي (على هامش المجموع؛ شرح المهذب: 12 /5، 6، في معرض كلامه على القراض وأركانه) : الركن الأول منه رأس المال وله شروط، أحدها أن يكون نقدًا وهو الدراهم والدنانير المضروبة. وفيه معنيان: أحدهما أن القراض معاملة تشتمل على أغرار؛ إذ العمل غير مضبوط والربح غير موثوق به، وإنما جوزت للحاجة فتختص بما شهر التجارة عليه وتروج بكل حال، وأشهرهما، وهو المذكور في الكتاب - يعني الوجيز الذي يشرحه-: أن النقدين ثمنًا لا يختلفان بالأزمنة ولا أمكنة إلا قليلًا ولا يقومان بغيرهما. والعروض تختلف قيمتها، فلو جعل شيء منها رأس مال لزم أحد أمرين: إما أخذ المال في جميع الربح، أو أخذ العامل بعض رأس المال ووضع القراض على أن يشتركا في الربح، وينفرد المالك برأس المال. ووجه لزوم أحد الأمرين أنهما إذا جعلا رأس المال ثوبًا فإما أن يشترطا رد ثوب بتلك الصفات أو رد قيمته إن شرطا الأول فربما كان قيمة الثوب في الحال درهمًا ويبيعه ويتصرف فيه حتى إذا بلغ المال عشرة ثم ترفع قيمة الثياب، فلا يوجد مثل ذلك الثوب إلا بعشرة فيحتاج العامل إلى صرف جميع ما معه إلى تحصيل رأس المال، فيذهب الربح في رأس المال وربما كانت قيمته عشرة فباعه ولم يربح شيئا ثم صار يؤخذ مثله بشيء يسير فيشتريه ويطلب قيمة الباقي فحينئذ يفوز العامل ببعض رأس المال وإن شرطا رد القيمة فإما أن يشترطا قيمة حال المفاصلة أو قيمة حال الدفع الأول غير جائز؛ لأنها مجهولة، ولأنه قد تكون قيمته في الحال درهمًا وعند المفاصلة عشرة فيلزم المحذور الأول، والثاني غير جائز لأنه قد تكون قيمته في الحال عشرة. وتعود عند المفاصلة إلى درهم فيلزم المحذور الثاني. وفي النفس حسيكة من هذا الكلام؛ لأن لزوم أحد الأمرين مبني على أن رأس المال قيمة يوم العقد أو يوم المفاصلة، وبتقدير جواز القراض على العرض يجوز أن يكون رأس المال ذلك العرض بصفاته من غير نظر إلى القيمة، كما أنه المستحق في السلم، وحينئذ إن ارتفعت القيمة فهو كخسران حصل في أموال القراض، وإن انخفضت فهو كزيادة قيمة فيها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1637 وعن الشيخ أبي محمد، أنه كان يعول في اختصاص القراض بالنقدين على الإجماع، ولا يبعد أن يكون العدول إليه بهذا الإشكال ويترتب على اعتبار النقدية امتناع القراض على الحلي والتبر، وكل ما ليس بمضروب لأنها مختلفة القيمة كالعروض. وكذلك لا يجوز القراض على الفلوس، ولا على الدراهم والدنانير المغشوشة، لأنها نقد وعرض. وحكى الإمام وجهًا أنه يجوز القراض على المغشوش اعتبارًا برواجه، وادعى الوفاق على امتناع القراض في الفلوس. لكن صاحب التتمة ذكر فيها أيضًا الخلاف. وعن أبي حنيفة يجوز القراض عن المغشوش إذا لم يكن الغش أكثر. قال الرافعي في (المجموع - التكملة الثانية -: 14/357، 358 في معرض كلامه عن القراض) : ولا يصح إلا على الأثمان، وهي: الدراهم والدنانير. وأما ما سواها من العروض والنقار والسبائك والفلوس فلا يصح القراض عليها؛ لأن المقصود بالقراض رد رأس المال والاشتراك في الربح، ومتى عقد على غير الأثمان لم يحصل المقصود، ربما زادت قيمته فيحتاج أن يصرف العامل جميع ما اكتسبه في رد مثله إن كان له مثل، وفي قيمته إن لم يكن له مثل وفي هذا إضرار بالعمل وربما نقصت قيمته فيصرف جزءًا يسيرًا من الكسب في رد مثله أو رد قيمته ثم يشارك رب المال في الباقي، وفي إضرار برب المال لأن العامل يشاركه في أكثر رأس المال. وهذا لا يوجد في الأثمان؛ لأنها لا تقوم بغيرها ولا يجوز على المغشوش من الأثمان؛ لأنه تزيد قيمته وتنقص كالعروض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1638 وقال الونشريسي (المعيار: 6/461، 462) : وسئل - يعني: أبو الحسن الصغير - عن رجل باع سلعة بالناقص المتقدم بالحلول، فتأخر الثمن إلى أن تحول الصرف، وكان ذلك على جهة فبأيهما يقضي له؟ وعن رجل آخر باع بالدرهم المفلسة، فتأخر الثمن إلى أن تبدل فبأيهما يقضي له؟ فأجاب: لا يجب للبائع قبل المشتري إلا ما انعقد البيع في وقته لئلا يظلم المشتري بإلزامه ما لم يدخل عليه من عقده، فإن وجد المشتري ذلك قضاه إياه، وإن لم يوجد إلى القيمة ذهبًا لعذره، ومن باع بالدراهم المفلسة الوازنة فليس له غيرها إلا أن يتطوع المشتري بدفع وازنة غير مفلسة بعد المفلسة فضلًا منه. وقال خليل والدردير في (أقرب المسالك: 3/69، 70) : (وإن بطلت معاملة) من دنانير أو دراهم أو فلوس ترتبت لشخص على غيره من قرض أو بيع أو تغير التعامل بها بزيادة أو نقص (فالمثل) أي فالواجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته إن كانت موجودة في بلد المعاملة (وإن عدمت) في بلد المعاملة - وإن وجدت في غيرها (فالقيمة يوم الحكم) أي تعتبر يوم الحكم بأن يدفع له قيمتها عرضًا أو يقوم العرض بعين متجددة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1639 وتعقب الصاوي في حاشية قول الدردير (من قرض أو بيع) بقوله: ومثل ذلك ما كانت وديعة وتصرف فيها أو دفعها لمن يعمل فيها قراضًا. قوله - أي الشارح -: (أي فالواجب قضاء المثل) أي لو كان مائة بدرهم ثم صارت ألفا بدرهم أو بالعكس، وكذا لو كان (الريال) حين العقد بتسعين، ثم صار بمائة وسبعين وبالعكس وكذا إذا كان المحبوب بمائة وعشرين، ثم صار بمائة أو العكس وهكذا. قوله - أي الخليل -: (فالقيمة يوم الحكم) وهو متأخر عن يوم انعدامها، وعن يوم الاستحقاق، والظاهر أن طلبها بمنزلة التحاكم وحينئذ تعتبر القيمة يوم طلبها وظاهره ولو حصلت مماطلة من المدين حتى عدمت تلك الفلوس وبه قال بعضهم، وقال بعضهم: هذا مقيد بما إذا لم يكن من المدين مطل وإلا كان لربها " الأحظ " - معنى الكلمة غير واضح- من أخذ القيمة أو مما آل إليه من السكة الجديدة الزائدة على القديمة وهذا هو الأظهر لظلم المدين بمطله. وقال السرخسي (المبسوط 11/152، 153) : في معرض ذكره لاختلافهم حول وجوب اختلاط المالين وعدم وجوبه لقيام شركة العقد وبيان مذهب الحنفية في (أن موجب شركة العقد الوكالة على أن معنى كل واحد منهما يكون وكيل صاحبه في الشراء بالمال الذي عينه ولهذا شرطنا تعيين المال عند العقد أو عند الشراء) ... إلخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1640 (وعلى هذا الأصل لو كان رأس مال أحدهما دراهم والآخر دنانير تنعقد الشركة بينهما صحيحة عندنا خلافًا لزفر - وهو ثالث أصحاب أبي حنيفة لكن يرى الخلط كالشافعي - والشافعي رحمهما الله - وكذلك إن كان رأس مال أحدهما بيضًا - أي دراهم بيضًا - والآخر سودًا؛ لأن الشركة في الملك لا تثبت هنا حين كانا لا يختلطان وعلى الرواية التي شرط زفر الخلط جواب هذا الفصل ظاهر في مذهبه، وأما على الرواية التي لا يشترط ذلك نقول في هذين الفصلين ربما يظهر الربح لأحدهما دون الآخر بتغير سعر أحد النقدين وذلك تقتضيه الشركة وعندنا موجب هذا العقد للوكالة وذلك صحيح مع اختلاف النقدين فإنهما لو صرحا للوكالة بأن يشتري أحدهما بهذه الدراهم على أن يكون المشتري بينهما ويشتري الآخر بهذه الدنانير، على أن يكون المشترى بينهما كان صحيحًا فكذلك تصح الشركة بهذه الصفة) . ثم قال (ص 154، في معرض كلامه عن شركة المقارضة واختلافهم بشأنها) : وقد روى الحسن (1) ،عن أبي حنيفة - رحمه الله - أن هذه الشركة لا تجوز بمالين يختلطان؛ لأن المساواة شرط في هذا العقد والمساواة بين الدراهم والدنانير في المالية، إنما تكون بالتقويم وطريق ذلك الحزر والمساواة شرعًا لا تثبت بهذا الطريق كالمساواة التي تشترط في مبادلة الأموال الربوية بجنسها وإن كان رأس مال أحدهما بيضًا ورأس مال الآخر سودًا وبينهما تفاوت في الصرف لا يجوز هذا العقد في ظاهر الرواية لعدم المساواة، وذكر إسماعيل بن حماد (2) ، عن أبي يوسف - رحمهم الله - أنه يجوز لأنه لا قيمة للجودة في الأموال الربوية إذا قوبلت بجنسها وإنما تعتبر المساواة في الوزن. ثم قال (ص 159، 160) : (واعلم أن الشركة بالنقود من الدراهم والدنانير جائزة ولا تجوز الشركة بالتبر في ظاهر المذهب وقد ذكر –يعني محمد بن الحسن صاحب الأصل - في كتاب الصرف أن من اشترى بتبر بعينه شيئًا فهلك قبل القبض لا يبطل العقد فقد جعل التبر كالنقود حتى قال: لا يتعين بالتعيين.   (1) لعله الحسن بن زياد اللؤلؤي المتوفى سنة أربعين مائتين وهو أحد أصحاب أبي حنيفة. قال عنه يحيى بن آدم: ما رأيت أفقه من الحسن بن زياد ولي القضاء ثم استعفى عنه. انظر الشيرازي (طبقات الفقهاء: ص 76، 77) (2) حفيد أبي حنيفة كان فقيهًا ولي القضاء بالبصرة ثم عزل عنها يحيى بن أكتم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1641 فالحاصل أن هذا يختلف باختلاف العرف في كل موضع فإن كانت المبايعات بين الناس في بلدة بالتبر فهو كالنقود لا يتعين بالتعيين، ويجوز الشركة به وإن لم يكن في ذلك عرف ظاهر فهو كالعروض لا تجوز الشركة به فإن كان التعيين مفيدًا فيه، فهو معتبر وإن لم يكن مفيدًا لا يعتبر كتعيين الصنجان والقيمات. وأما الشركة بالفلوس إن كانت نافقة لا تجوز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهم الله - وتجوز في قول محمد وذكر الكرخي في كتابه أن قول أبي يوسف كقول محمد والأصح ما قلناه، وهو بناء على مسألة كتاب البيوع إذا باع قلنا تعيينه بفسلين بأعيانهما يجوز عند أبي حنيف وأبي يوسف وتعيين الفلوس بالتعيين بمنزلة الجوز والبيض. وعند محمد لا يجوز ولا تعين الفلوس الرائجة بالتعيين كالنقود فكذلك في حكم الشركة محمد، يقول: هي بمنزلة النقود ما دامت رائجة وهما يقولان الرواج في الفلوس عارض في اصطلاح الناس وذلك يتبدل ساعة فساعة، فلو جوزنا الشركة بها أدى إلى جهالة رأس المال عند قسمة الربح إذا كسدت الفلوس وأخذ الناس غيرها؛ لأن رأس المال عند قسمة الربح يحصل باعتبار المالية لا باعتبار العدد ومالية الفلوس تختلف بالرواج والكساد. وروى الحسن، عن أبي حنيفة، أن المضاربة بالفلوس الرائجة تصح. وقال أبو يوسف: لا تصح الشركة بها ولا تصح المضاربة وفرق بينهما، فقال في المضاربة يحصل رأس المال أو لا يظهر الربح والفلوس ربما تكسد فلا تعرف ماليتها بعد الكساد إلا بالحزر والظن ولا وجه لاعتبار العدد لما فيه من الإضرار لصاحب المال وأما في الشركة إذا كسدت الفلوس يمكن تحصيل رأس المال كل واحد منهما باعتبار العدد؛ لأن حلهما فيه سواء فلا يختص أحدهما بالضرر دون الآخر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1642 ثم قال (نفس المرجع: 12/113، 114) ، في معرض كلامه عن حديث الربا، وهل تنحصر دلالته على الأصناف الستة أم هي أصول يقاس عليها) : وفائدة تخصيص هذه الأشياء بالذكر، أن عامة المعاملات يومئذ كان بها على ما جاء في الحديث " كنا نتبايع في الأسواق بالأوساق (1) والمراد به ما يدخل تحت الوسق مما يكثر الحاجة إليه وهي الأشياء المذكورة. ثم اختلفوا بعد ذلك في المعنى الذي يتعدى الحكم به إلى سائر الأموال قال علماؤنا - رحمهم الله جميعًا -: الجنسية والقدر. عرفت الجنسية بقوله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والحنطة بالحنطة)) ، والقدر بقوله صلى الله عليه وسلم ((مثل بمثل)) ، ويعني بالقدر الكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن، وظن بعض أصحابنا - رحمهم الله تعالى - أن العلة مع الجنس الفضل على القدر وذلك محكي عن الكرخي، ولكنه ليس بقوي فإنه لا يجوز إسلام قفيز حنطة في قفيز شعير، ولا تثبت حرمة النساء إلا بوجود أحد الوصفين ولو كانت العلة هي الفضل لما حرمه النساء هنا لانعدام الفضل فعرفنا أن العلة نفس القدر.   (1) لفظه عند أحمد المسند: 4/6، و 280: حدثنا وكيع قال: حدثنا الأعمش، عن أبي وائل، عن قيس بن أبي غرزة قال: كنا نبتاع الأوساق بالمدينة، وكنا نسمي به أنفسنا السماسرة. قال: فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمانا باسم هو أحسن مما كنا نسمي به أنفسنا؛ فقال: يا معشر التجار، إن هذا البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة. حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن أبي وائل، عن قيس بن أبي غرزة قال: كنا نبتاع الأوساق بالمدينة، وكنا نسمي أنفسنا به فقال: يا معشر التجار، إن هذا البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1643 وقال مالك - رضي الله عنه -: العلة الاقتيات، والادخار مع الجنس (1) وقال ابن سرين: تفاوت المنفعة مع الجنس (2) وقال الشافعي في القديم: العلة في الأشياء الأربعة الكيل والطعم وقال في الجديد: العلة هي التطعم، وفي الذهب العلة الثمنية وهي أنها جوهر الأثمان والجنسية عنده شرط لا تعمل العلة إلا عند وجودها ولهذا لا يجعل الجنسية أثرًا في تحريم النساء (3) . فحاصل المسألة أن بيع كل مكيل أو موزون بجنسه لا يجوز عندنا إلا بعد وجود المخلص وهو المماثلة في القدر أن يكون عينًا بعين وعنده بيع كل مطعوم بجنسه وكل ثمن بجنسه حرام إلا عند وجود المخلص وهو المساواة في المعيار الشرعي أن يكون قبضًا بقبض في المجلس. والحاصل أن حرمة البيع في هذه الأموال أصل عنده والجواز يعارض المساواة في المعيار مع القبض في المجلس وعندنا إباحة البيع في هذه الأموال أصل كما في سائر هذه الأموال والفساد يعارض انعدام المماثلة بوجود الفضل الخالي من العوض متيقنًا به أو موهومًا احتياطًا والمقصود من التعليل عنده منع قياس المطعومات على المطعومات وغير الثمن على الثمن بناء على أصله أن التعليل صحيح لإثبات حكم الأصل والمنع من إلحاق غيره به وعندنا التعليل لتعدية حكم النص إلى غيره المنصوص فالحكم في المنصوص ثابت بالنص لا بالعلة؛ لأن الثابت بالنص مقطوع به والمنع بظاهر النص ثابت فالاشتغال بالتعليل يكون لغوًا عندنا.   (1) انظر تفصيلًا وافيًا لأقوال التابعين وأيمة المذاهب في علة الربا في (ج 7) من التمهيد لابن عبد البر (ص 292) وما بعدها. (2) انظر تفصيلًا وافيًا لأقوال التابعين وأيمة المذاهب في علة الربا في (ج 7) من التمهيد لابن عبد البر (ص 292) وما بعدها. (3) انظر تفصيلًا وافيًا لأقوال التابعين وأيمة المذاهب في علة الربا في (ج 7) من التمهيد لابن عبد البر (ص 292) وما بعدها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1644 وبعد أن أفاض في الاحتجاج لمذهبه ومناقشة آراء المذاهب الأخرى في تعيين علة أو علل الربا إفاضة بديعة لا نعرفها عند غيره رحمه الله قال: فالدليل على إثبات هذه القاعدة، أن الأموال، أنواع ثلاثة متفاوتة في نفسها كالثياب والدواب، فلا تجب المماثلة فيه للمبايعة وأمثال متقاربة كالسهام ولا تجب المماثلة فيها أيضًا لمبايعة وأمثال متساوية كالفلوس الرائجة وتجب المماثلة فيها حتى إذا باع فلسًا بغير عينه بفلسين بغير أعيانهما لا يجوز (للرسنة) - الكلمة لم نستطع فهمها - فإن بيع فلس بفلس جائز بل لوجوب المماثلة فإن أحد الفلسين يبقى بغير شيء لما كانت أمثالًا متساوية بصفة الرواج، فيكون ذلك ربا وإذا كان كل واحد منهما بعينه فكأن المتعاقدين أعرضا عن الاصطلاح على كونها أمثالًا متساوية ولهذا يتعين بالتعيين فتصير أمثالًا متقاربة كالجوز والبيض. إذا عرفنا هذا فنقول: الشرع هنا نص على اشتراط المماثلة في هذه الأموال - يعنى أموال الربا– فعرفنا أنها أمثال متساوية، وإنما تكون أمثالًا متساوية بالجنس والقدر؛ لأن كل حادث في الدنيا موجود بصورته ومعناه فإذا بطلت المماثلة من هذين الوجهين والمماثلة صورة باعتبار القدر؛ لأن المعيار في هذا المقدار كالطول والعرض، والمماثلة معنى باعتبار الجنسية ولكن هذه المماثلة لا تكون قطعًا إلا بشرط قيمة الجودة منها الجواز أن يكون أحدهما أجود من الآخر وإذا سقطت قيمة الجودة منها صارت أمثالًا متساوية قطعًا ... إلخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1645 ثم قال (نفس المرجع: 14/24) : وإذا اشترى الرجل فلوسًا بدراهم وعقد الثمن ولم تكن الفلوس عند البائع، فالبيع جائز؛ لأن الفلوس الرائجة ثمن كالنقود، وقد بينا أن حكم العقد في الثمن وجوبها ووجودها معًا ولا يشترط قيامها في ملك بائعها لصحة العقد كما لا يشترط ذك في الدراهم والدنانير. وإن استقرض الفلوس من رجل ودفع إليه قبل الافتراق أو بعده فهو جائز إذا كانا قد قبضا الدراهم في المجلس؛ لأنهما قد اقترقا عن عين بدين وذلك جائز في عين الصرف وإنما يجب التقابض في الصرف بمقتضى اسم العقد وبيع الفلوس بالدراهم ليس بصرف وكذلك لو افترقا بعد قبض الفلوس، قبل قبض الدراهم. وعلى ما ذكر ابن شجاع، عن زفر - رحمهما الله - لا يجوز هذا العقد أصلًا؛ لأن من أصل زفر، أن الفلوس الرائجة بمنزلة المكيل والموزون تتعين في العقد إذا عينت وإذا كان بغير عينها فإن لم يصحبها حرف الباء لا يجوز العقد؛ لأنه بيع ما ليس عند الإنسان،وإن صحبه حرف الباء وبمقابلها عوض يجوز العقد لأنها ثمن، وإن كان بمقابلها النقد لا يجوز العقد؛ لأنها تكون مبيعة إذا قابلها ما لا يكون إلا ثمنًا عندنا. فالفلوس الرائجة بمنزلة الأثمان لاصطلاح الناس على كونها ثمنًا للأشياء فإنما يتعلق العقد بالقدر المسمى منها في الذمة ويكون ثمنًا عين أو لم يعين كما أن الدراهم والدنانير إن لم يتقابضا حتى افترقا بطل العقد؛ لأنه دين بدين، والدين لا يكون عقدًا بعد الافتراق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1646 وذكر في الإملاء، عن محمد لو اشترى مائة فلس بدرهم على أنهما بالخيار وتفرقا بعد القبض فالبيع باطل؛ لأن العقد لا يتم مع اشتراط الخيار فكأنها تفرقا قبل التقابض وإذا كان الخيار مشروطًا لأحدهما فافترقا بعد التقابض، فالبيع جائز لأن التسليم يتم ممن لم يشترط الخيار في البدل الذي من جانبه وقبض أحد البدلين هنا يكفي بخلاف الصرف. لكن هذا التفريع إنما يستقيم على قول من يقول: المشروط له الخيار يملك عرض صاحبه، أما عند أبي حنيفة فالمشروط له الخيار كما لا يملك عليه البدل الذي من جانبه لا يملك البدل الذي من جانب صاحبه فاشتراط الخيار لأحدهما يمنع تمام القبض فيهما جميعًا. وإن اشترى خاتم فضة أو خاتم ذهب فيه فص، أو ليس فيه فص بكذا فلوسًا وليست الفلوس عنده فهو جائز إن تقابضا قبل التفرق أو لم يتقابضا؛ لأن هذا بيع وليس بصرف فإنما افترقا عن عين بدين، لأن الخاتم يتعين بالتعيين، بخلاف ما سبق فإن الدراهم والدنانير لا تعين بالتعيين فلذلك شرط هناك قبض أحد البدلين في المجلس ولم يشرط هنا. وكذلك ما اشترى من العروض بالفلوس لو اشترى بها فاكهة أو لحمًا أو غير ذلك بعد أن يكون المبيع بعينه؛ لأن الفلوس ثمن كالدراهم ولو اشترى عينًا بدرهم جاز العقد وإن تفرقا قبل القبض فهذا مثله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1647 وسواء قال: اشتريت مثل كذا فلسًا بدرهم أو درهما بكذا فلسًا؛ لأن الفلوس الرائجة ثمن كالنقد عندنا صحبها حرف الباء أو لو لم يصحبها، وقيام الملك في الثمن عند العقد ليس بشرط. وإن اشترى متاعًا بعشرة أفلس بعينها فله أن يعطي غيرها مما يجوز بين الناس وإن أعطاها بعينها فوجد فيها فلسًا لا ينفق استبدله كما يستبدل الزيف في الدراهم؛ لأنه ما دام ثمنًا قائمًا يثبت في الذمة فلا يتعين بالتعين. ثم قال (ص 26) : وإذا اشترى مائة فلس بدرهم فنقد الدرهم وقبض من الفلوس خمسين، وكسدت الفلوس بطل البيع في الخمسين النافقة؛ لأنها لو كسدت قبل أن يقبض منها شيئًا بطل العقد في الكل، فكذلك إذا كسدت قبل أن يقبض بعضها اعتبارًا للبعض في الكل، وعلى قول زفر إذا كانت معينة حتى جاز العقد لا يبطل العقد بالكساد؛ لأن العقد يتناول عينها والعين باقية بعد الكساد وهو مقدور التسليم ولكنا نقول: العقد تناولها بصفة الثمنية لما بينا أنها ما دامت رائجة فهي تثبت في الذمة ثمنًا وبالكساد تنعدم منها صفة الثمنية ففي حصة ما لم يقبض انعدم أحد العوضين، وذلك مفسد للعقد قبل القبض، وكان صفة الثمنية في الفلوس كصفة المالية في الأعيان، ولو انعدمت المالية لهلاك المبيع قبل القبض أو بتخمر العصير فسد العقد، ثم يرد البائع النصف درهم الذي قبضه ففساد العقد فيه وللمشتري أن يشتري منه بذلك نصف درهم ما أحب؛ لأنه دين له في ذمته وجب بسبب القبض فكان مثل بدل القرض. ولو لم تكسد ولكنها رخصت أو غلت لم يفسد البيع؛ لأن صفة الثمنية قائمة في الفلوس وإنما تعتبر رغائب الناس فيها بذلك لا يفوت البدل ولا يتعيب وللمشتري ما بقي من الفلوس ولا خيار له في ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1648 ثم قال (ص 28، 30) : وإن اشترى بدرهم فلوسًا وقبضها ولم ينقد الدرهم حتى كسدت الفلوس فالبيع جائز والدرهم دين عليه؛ لأن العقد في الفلوس: قد انتهى بالقبض وصفة الدرهم لم تتغير بكساد الفلوس فبقي دينًا على حاله وإن نقد الدرهم ولم يقبض الفلوس حتى كسدت في القياس هو جائز أيضًا؛ لأن بالكساد لا تتغير عينها ولا يتعذر تسليمها إلا بالعقد وفي الاستحسان بطل العقد لفوات صفة الثمنية في الفلوس قبل القبض وعليه أن يرد الدرهم؛ لأنه مقبوض في يده بسبب فاسد. ولو اشترى فاكهة بالفلوس وقبض ما اشترى ثم كسدت الفلوس قبل أن ينقدها فالبيع ينتقض استحسانًا؛ لأنها تبدلت معنى حين خرجت عن أن تكون ثمنًا وماليتها كانت بصفة الثمنية ما دامت رائجة فبفوتها تفوت المالية فلهذا يبطل العقد ويرد ما قبضه إن كان قائمًا أو قيمته إن كان هالكًا. وبعض المتأخرين - رحمهم الله - يقول: معنى قوله البيع ينتقض أنه يخرج من أن يكون لازمًا ويتخير البائع في نقضه لما عليه من الضرر عند كساد الفلوس وقد حصل ذلك قبل قبضه فيتخير. أما أصل المالية فلا ينعدم بالكساد فيبقى العقد كذلك والأول أصح؛ لأن انعقاد هذا العقد لم يكن باعتبار مالية قائمة بعين الفلوس وإنما كان باعتبار مالية قائمة بصفة الثمنية فيها وقد انعدم ذلك، وعن أبي يوسف أن هنا البيع لا ينتقض بخلاف ما إذا اشترى بدرهم فلوسًا؛ لأن هنالك بعد الكساد لا يجوز ابتداء ذلك العقد؛ لأنها بالكساد تصير " مبيعة " - كذا في النسخة المطبوعة التي بين أيدينا ولعل صوابه: " معيبة " - وبيع ما ليس عند الإنسان لا يجوز وهنا ابتداء البيع بعد الكساد يجوز؛ لأن ما يقابلها من الفاكهة مبيع بالفلوس الكاسدة بمقابلة البيع يجوز أن تجعل ثمنًا باعتبار أنه عددي متقارب كالجوز وغيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1649 وإن اشترى فاكهة بدانق فلس، والدانق عشرون فلسًا، فلم يرد الفلوس حتى غلت أو رخصت فعليه عشرون فلسًا لأن بالغلاء والرخص لا تنعدم صفة الثمنية وصار هو عند العقد بتسمية الدوانق مسميًا ما يوجد به من الفلوس وذلك عشرون ولو قد صرح بذلك القدر لم يتغير العدد بعد ذلك بغلاء السعر ورخصه وهذا مثله. وإن اشترى فلوسًا بدرهم فوجد فيها فلسًا لا ينفق وقد نقد الدرهم فإنه يستبدله؛ لأنه بمقتضى العقد استحق فلوسًا نافقة، وإن لم يستبدله حتى افترقا لم يبطل العقد فيه؛ لأن ما بإزائه من الدرهم مقبوض في الصرف لأنه لو اشترى دينارًا بعشرة دراهم، ثم وجد بعض الدراهم زيوفًا قبل الاقتراض كان له أن يستبدله وإن لم يستبدله حتى تفرق لم يبطل العقد فهذا قياسه وإن لم يكن نقد الدراهم استبدله أيضًا ما لم يتفرقا؛ لأن الدينية إلى آخر المجلس في البدلين عفو وإن كانا قد تفرقا، وهو فلس لا يجوز مع الفلوس رجع بحصته من الدراهم كما في الصرف وإن وجد بعض البدل ستوقًا بعد الافتراق ينتقض القبض فيه من الأصل وما بإزائه غير مقبوض فكان دينًا بدين بعد المجلس وإن كان يجوز معها في حال ولا يجوز في حال استبدله في المجلس قبل أن يتفرق؛ لأنه بمنزلة الزيوف في الدراهم، وقد بينا في الصرف والسلم أنه إذا وجد القليل زيوفًا فاستبدل به في مجلس الرد جاز العقد فجعل اجتماعهما في مجلس الرد كاجتماعهما في مجلس العقد فهذا قياسه وإن استحق منها شيء رجع بحصته من الدرهم بمعنى إذا كان نقد الدرهم بعد الافتراق؛ لأنه بالاستحقاق ينتقض القبض فيه من الأصل فتبين أن الافتراق في ذلك القدر كان عن دين بدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1650 وإن استقرض عشرة أفلس ثم كسدت تلك الفلوس لم يكن عليه إلا مثلها في قول أبي حنيفة قياسًا. وقال أبو يوسف ومحمد: قيمتها من الفضة استحسانًا؛ لأن الواجب عليه بالاستقراض مثل المقبوض والمقبوض فلوسًا هي ثمن وبعد الكساد يفوت صفة الثمنية بدليل البيع فيتحقق عجزه عن رد مثل ما التزم فيلزمه قيمته كما لو استقرض شيئًا من ذوات الأمثال فانقطع المثل من أيدي الناس بخلاف ما إذا غلت أو رخصت؛ لأن صفة الثمنية لا تنعدم بذلك ولكن تتغير رغائب الناس فيها وذلك غير معتبر كما في البيع، وأبو حنيفة يقول: الواجب في ذمته مثل ما قبض من الفلوس وهو قادر على تسليمه، فلا يلزمه رد شيء كما إذا غلت أو رخصت وهذا لأن جواز الاستقراض في الفلوس لم يكن باعتبار صفة الثمنية بل لكونها من ذوات الأمثال، ألا ترى أن الاستقراض جائز في كل مكيل أو موزون أو عددي متقارب كالجوز والبيض وبالكساد لم يخرج بأن يكون من ذوات الأمثال بخلاف البيع فقد بينا أن دخولها في العقد هناك باعتبار صفة الثمنية فقد فات ذلك بالكساد يوضحه أن بدل القرض في الحكم كأنه غير المقبوض، إذا لو لم يجعل كذلك كان مبادلة الشيء بجنسه نسيئة وبذلك لا يجوز فيصير من هذا الوجه كأنه غصب منه فلوسًا فكسدت وهنالك برئ برد عينها فهنا أيضًا يبرأ برد مثلها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1651 ثم عند أبي يوسف إذا وجبت القيمة فإنما تعتبر قيمتها من الفضة من وقت القبض، وعند محمد إذا وجبت القيمة فإنما تعتبر قيمتها بآخر يوم كانت فيه رائجة فكسدت وهذا بناء على ما إذا أتلف شيئًا من ذوات الأمثال فانقطع المثل على أيدي الناس، فهناك عن أبي يوسف يعتبر قيمته عند الإتلاف، وعند محمد بآخر يوم كان موجودًا فيه فانقطع فقد بينا هذا في كتاب الغصب. وإن استقرض دانقًا فلوسًا ورخصت أو غلت، لم يكن عليه إلا مثل عدد الذي أخذ؛ لأن الضمان يلزمه بالقبض والمقبوض على وجه القرض مضمون بمثله، وكذلك لو قال: أقرضني عشرة دراهم بدينار، فأعطاه عشرة دراهم عليه مثلها ولا ينظر إلى غلاء الدراهم ولا إلى رخصها. وقال ابن عابدين في رسائله:2/59، (رسالة تنبيه الرقود على مسائل النقود) بعد أن ساق أقوالًا عدة للحنفية في حكم البيع إذا انقطع النقد المشترى به أو تغير. والحاصل أنها إما أن لا تروج، وإما أن تنقطع، وإما أن تزيد قيمتها أو تنقص، فإن كان كاسدة لا تروج يفسد البيع وإن انقطعت فعليه قيمتها قبل الانقطاع وإن زادت فالبيع على حالة ولا يتخير المشتري كما سيأتي وكما إن انتقصت لا يفسد البيع وليس للبائع غيرها، وما ذكرناه من التفرقة بين الكساد والانقطاع هو المفهوم مما قدمناه. وذكر العلامة شيخ الإسلام محمد بن عبد الله الغزي التمرتاشاي، في رسالة سماها " بذل المجهود في مسألة تغير النقود "، اعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها أو بالفلوس، وكان كل منهما نافقًا حتى جاز البيع لقيام الاصطلاح على الثمنية ولعدم الحاجة إلى الإشارة لالتحاقها بالثمن ولم يسلمها المشتري للبائع ثم كسدت بطل البيع والانقطاع عن أيدي الناس بالكساد وحكم الدراهم كذلك فإذا اشترى بالدراهم ثم كسدت أو انقطعت بطل البيع ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائما ومثله إن كان هالكًا وكان مثليًّا وإلا فقيمته وإن لم يكن مقبوضًا، فلا حكم لهذا البيع أصلًا، وهذا عند الإمام الأعظم - يعني أبا حنيفة - وقالا - يعين أبا يوسف ومحمد بن الحسن -: لا يبطل البيع لأن المتعذر إما هو التسليم بعد الكساد وذلك لايوجب الفساد لاحتمال الزوال بالرواج كما لو اشترى شيئا بالرطبة- هكذا في النسخة المطبوعة ولعل صوابه: بالرطب - ثم انقطع، وإذا لم يبطل وتعذر تسليمه، وجبت قيمته لكن أبي يوسف عند البيع وعند محمد يوم الكساد وهو آخر ما تعامل الناس بها وفي " ذخيرة الفتوى " على قول أبي يوسف وفي " المحيط " و" التتمة " و " الحقائق " بقول محمد يفتي رفقًا بالناس ولأبي حنيفة الثمنية بالاصطلاح فيبطل الزوال الموجب فيبقى البيع بلا ثمن والعقد إنما يتناول عينها بصفة الثمنية، وقد انعدمت بخلاف الرطب فإنه يعود غالبًا في العالم القابل بخلاف النحاس - يشير إلى الفلوس المسكوكة منه - فإنه بالكساد رجع إلى أصله وكان الغالب عدم العود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1652 ثم قال (ص 60) : وفي (الذخيرة البرهانية) ... بعد كلام طويل: هذا إذا كسدت الدراهم أو الفلوس قبل القبض، فأما إذا غلت فإن ازدادت قيمتها فالبيع على حاله ولا يخير المشتري , وإذا انقضت قيمتها ورخصت فالبيع على حاله ويطالبه بالدراهم بذلك العيار الذي كان وقت البيع. وفي (المنتفى) : إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت قال أبو يوسف: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء وليس له غيرها.. ثم رجع أبو يوسف وقال: عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض والذي ذكرناه من الجواب في الكساد فهو الجواب في الانقطاع. انتهى. وقوله: يوم وقع البيع، أي في صورة البيع. وقوله: يوم وقع القبض، أي في صورة القبض كما نبه عليه في (النهر) . ثم قال: وقال العلامة الغزي عقب ما قدمناه عنه، هذا إذا كسدت أو انقطعت أما إذا غلت قيمتها أو " انقطعت " - الظاهر أن في هذا خطأ صوابه: " انتقضت " - فالبيع على حاله ولا يتخير المشتري ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع. كذا في (فتح القدير) . وبعد أن ساق نقولًا أخرى حول اختلاف فتوى أبي حنيفة وصاحبيه في هذا الشأن قال: (ص 61، 62) : ثم اعلم أن الظاهر من كلامهم أن جميع ما مر إنما هو في الفلوس والدراهم التي غلب غشها كما يظهر بالتأمل، ويدل عليه اقتصارهم في بعض المواضع على الفلوس، وفي بعضها ذكر العدالي معها، فإن العدالي كما في البحر عن البناية بفتح العين المهمة وتخفيف الدال وكسر اللام، الدراهم المنسوبة إلى العدل وكأنه اسم ملك ينسب إليه درهم فيه غش، وكذا رأيت التقييد بالغالبة الغش في غالبة البيان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1653 ثم قال: ويدل عليه تعليلهم قول أبي حنيفة بعد حكايتهم الخلاف بأن الثمنية بطلت بالكساد؛ لأن الدراهم التي غلب غشها إنما جعلت ثمنًا بالاصطلاح، فإذا ترك الناس المعاملة بها بطل الاصطلاح فلم تبق ثمنًا فبقي البيع بلا ثمن فبطل. ويدل عليه أيضًا تعبيرهم بالغلاء والرخص تقوم بغيرها، وكذا اختلافهم في الواجب رد المثل أو الثمنية، فإنه حيث كانت لا غش فيها لم يظهر للاختلاف معنى بل كان الواجب رد مثل بلا نزاع أصلًا. ثم نقل عن " الهداية " قول صاحبها: وإذا باع بالفلوس النافقة ثم كسدت بطل البيع عند أبي حنيفة خلافًا لهما- يعني أبا يوسف 3 ومحمد 3 -، وهو نظير الاختلاف الذي بيناه، ولو استقرض فلوسًا فكسدت عليه مثلها. قال في (غاية البيان) : قيد بالكساد احتزازًا عن الرخص والغلاء لأن الإمام الأسبيجابي في شرح الطحاوي قال: وأجمعوا أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت، فعليه مثل ما قبض من العدد. وقال أبو الحسن: لم تختلف الرواية عن أبي حنيفة في قرض الفلوس إذا كسدت أن عليه مثلها.قال أبو يوسف: على قيمتها من الذهب يوم وقع القرض في الدراهم التي ذكرت لك أصنافها - يعني النجارية والطبرية واليزيدية - وقال محمد: قيمتها في آخر نفاقها. قال القدري: وإذا ثبت من قول أبي حنيفة في قرض الفلوس ما ذكرنا، فالدراهم النجارية فلوس على صفة مخصوصة، والنجارية واليزيدية هي التي غلب الغش عليها فتجري مجرى الفلوس فلذلك قاسها أبو يوسف على الفلوس. انتهى ما في (غاية البيان) ملخصًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1654 وبعد إن ساق نقولًا حول الدراهم الخالصة والمغلوبة الغش قال: والذي يغلب على الظن ويميل إليه القلب أن الدراهم المغلوبة الغش أو الخالصة إذا غلت أو رخصت لا يفسد البيع قطعًا ولا يجب إلا ما وقع عليه العقد من النوع المذكور فيه، فإنها أثمان عرضا وخلقة، والغش المغلوب كالعدم، ولا يجري في ذلك خلاف أبي يوسف على أنه ذكر بعض الفضلاء أن خلاف أبي يوسف في مسألة ما إذا غلت أو رخصت إنما هو في الفلوس فقط، وأما الدراهم التي غلب غشها فلا خلاف له فيها. وبهذا يحصل التوفيق بين حكاية الخلاف تارة والإجماع تارة أخرى. ثم قال: (ص 65) : بقي شيء ينبغي التنبيه عليه: وهو أنهم اعتبروا العرف هنا حين أطلقت الدراهم وبعضها أروج فصرفوه إلى المتعارف ولم يفسدوا البيع، وهو تخصيص بالعرف القولي، وهو من أفراد ترك الحقيقة. قال المحقق ابن الهمام في (تحرير الأصول) : العرف العملي مخصص عند الحنفية خلافًا للشافعية كحرمت الطعام وعادتهم أكل البر انصرف إليه وهو - أي قول الحنفية - أوجه. أما التخصيص بالعرف القولي فاتفاق كالدابة على الحمار والدرهم على النقد الغالب. انتهى. قال شارحه ابن أمير حاج: العرف القولي هو أن يتعارف قوم إطلاق لفظ لمعنى بحيث لا يتبادر عند سماعه إلا ذلك المعنى. انتهى. وقد شاع في عرف أهل زماننا أنهم يتبايعون بالقروش وهي عبارة عن قطع معلومة من الفضة ومنها كبار كل واحد باثنين ومنها أنصاف وأرباع، والقرض الواحد عبارة عن أربعين مصرية، ولكن الآن غلبت - الظاهر أنه خطأ صوابه: غلت - تلك القطع وزادت قيمتها فصار القرش الواحد بخمسين مصرية، والكبير بمائة مصرية، وبقي عرفهم على إطلاق القرش الواحد ويريدون به أربعين مصرية كما كان في الأصل، ولكن لا يريدون عين المصاري بل يطلقون القروش وقت العقد ويدفعون بمقدار ما سموه في العقد تارة من المصاري وتارة من غيرها ذهبا أو فضة فصار القرش عندهم بيانا لمقدار الثمن من النقود الرائجة المختلفة المالية لا لبيان نوعه ولا لبيان جنسه، فيشتري أحدهم بمائة قرش ثوبا مثلا فيدفع مصاري كل قرش بأربعين، أو يدفع من القروش الصحاح أو من الريال، أو من الذهب على اختلاف أنواعه بقيمته المعلومة من المصاري. هذا شاع في عرفهم فلا يفهم أحد منهم أنه إذا اشترى بالقروش فالواجب عليه دفع عينها، فقد صار ذلك عندهم عرفًا قوليًّا فيخصص كما نقلناه من التحرير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1655 وقال ابن قدامة (المغني: 4/13) : وإذا باع شيئًا من مال الربا بغير جنسه وعلة ربا الفضل فيهما واحدة لم يجز التفرق قبل القبض، فإن فعلا بطل العقد وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يشترط التقابض فيهما كغير أموال الربا وكبيع ذلك بأحد النقدين. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل سواء بسواء يدًا بيد)) . رواه مسلم. وقال عليه السلام: ((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كما شئتم يدًا بيد)) . وروى مالك بن أوس بن الحدثان، أنه التمس صرفًا بمائة دينار، قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله، فتراوضنا حتى اصطرف مني فأخذ يقلبها في يديه، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة وعمر يسمع ذلك، فقال: لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء)) قال: متفق عليه (1) ،والمراد به القرض بدليل أن المراد به ذلك في الذهب والفضة، ولهذا فسره عمر به؛ ولأنهما مالان من أموال الربا علتهما واحدة فحرم التفرق فيهما قبل القبض كالذهب والفضة.   (1) انظر فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1656 ثم قال (ص 21، 22) : والمرجع في ذلك - أي في معرض المكيل والموزون - إلى العرف بالحجاز في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبهذا قال الشافعي، وحكي عن أبي حنيفة، أن الاعتبار في كل بلد بعادته. ولنا ما روى عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((المكيال مكيال المدينة، والميزان ميزان مكة)) . والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يحمل كلامه على بيان الأحكام؛ لأن ما كان مكيلًا بالحجاز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف التحريم في تفاضل الكيل إليه، ولا يجوز أن يتغير بعد ذلك وهكذا الموزون وما لا عرف له بالحجاز يحتمل وجهين، أحدهما: يرد على أقرب الأشياء شبهًا به بالحجاز كما أن الحوادث ترد إلى أشبه المنصوص عليه بها وهو القياس. والثاني: يصير عرفه في موضعه، فإن لم يكن له في الشرع حد كان المرجع فيه إلى العرف كالقبض والإحراز والتفرق، وهذا قول أبي حنيفة. وعلى هذا إن اختلفت البلاد فالاعتبار بالغالب فإن لمن يكن غالب بطل هذا الوجه وتعين الأول، ومذهب الشافعي على هذين الوجهين، فالبر والشعير مكيلان منصوص عليهما، بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((البر بالبر، وكيلًا بكيل، والشعير بالشعير، كيلًا بالكيل)) ، وكذلك سائر الحبوب والأبازيز والأشنان والجص والنورة وما أشبهها، والتمر مكيل هو من المنصوص عليه وكذلك سائر النخل من الرطب والبسر وغيرهما، وسائر ما تجب فيه الزكاة من الثمار مثل الزبيب والفستق والبندق والعناب والمشمش والبطم - أي الحبة الحمراء - والزيتون واللوز والملح مكيل، وهو من المنصوص عليه بقوله عليه السلام: ((الملح بالملح مدي بمدي، والذهب والفضة موزونان)) ،ثبت ذك بقوله عليه السلام: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن، والفضة بالفضة وزنًا بوزن)) ، وكذلك ما أشبههما من جواهر الأرض كالحديد والنحاس والصفر - وهو نوع من النحاس والصفر - والرصاص والزئبق والزجاج، ومنه الإبريسم والقطن والكتان والصوف وغير ذلك، وما أشبهه، ومنه الخبز واللحم والشحم والجبن والزبد والشمع، وما أشبهه، وكذلك الزعفران والمعصفر والورس، وما أشبه ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1657 ثم قال (ص 23) : وأما غير المكيل والموزون فما لم يكن أصل في الحجاز في كيل ولا وزن , ولا يشبه ما جرى فيه العرف بذلك، كالثياب والحيوان والمعدودات من الجوز والبيض والرمان والقثاء والخيار، وسائر الخضروات والبقول والسفرجل والتفاح والكمثرى ونحوها فهذه المعدودات أن اعتبرنا التماثل فيها، فإنه يعتبر التماثل في الوزن " أخسر " - لعل صوابه: أحسر بمهملة - ذكره القاضي في الفواكه الرطبة، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والآخر قالوا: يعتبر ما أمكن كيله بالكيل؛ لأن الأصل الأعيان الأربعة، وهي مكيلة ومن شأن الفرع أن يرد إلى أصله بحكمه، والأصل حكمه تحرير التفاضل بالكيل فكذلك يكون حكم فروعها. ولنا أن الوزن "أخسر" فوجب اعتباره في غير المكيل والموزون كالذي اعتبر كيله وإنما اعتبر الكيل في المنصوص عليه، فإنه يقدر به في العادة وهذا بخلافه. ثم قال (ص 57، 59) : وفي إنفاق المغشوش من النقود روايتان، أظهرهما الجواز نقل صالح عنه - أي عن أحمد - في دراهم، يقال لها المسيبية عامتها نحاس إلا شيئا فيها فضة، فقال: إذا كان شيئًا اصطلحوا عليه مثل الفلوس، واصطلحوا عليها فأرجو أن لا يكون بها بأس، والثانية التحريم، قال حنبل: في دراهم يخلط فيها مس ونحاس يشترى بها ويباع، فلا يجوز أن يبتاع بها أحد كلما وقع عليه اسم الغش فالشراء به والبيع حرام. وقال أصحاب الشافعي: إن كان الغش مما لا قيمة له، جاز الشراء بها وإن كان مما له قيمة ففي جواز إنفاقها وجهان. واحتج من منع إنفاق المغشوشة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من غشنا فليس منا)) (1) وأن عمر رضي الله عنه - نهى عن بيع نفاية بيت المال؛ ولأن المقصود فيه مجهول أشبه تراب الصاغة. والأولى أن يحمل كلام أحمد في الجواز على الخصوص فيما ظهر غشه واصطلح عليه، فإن المعاملة به جائزة؛ إذ ليس فيه أكثر من اشتماله على جنسين لا غرر فيهما، فلا يمنع من بيعهما كما لو كان متميزين؛ ولأن هذا االمستفيض في " الأعصار " - لعل صوابه في الأمصار بميم بدل العين - جار بينهم من غير نكير وفي تحريمه مشقة وضرر، وليس شراؤه بها غشًّا للمسلمين ولا غررًا لهم، والمقصود منها ظاهر مرئي معلوم بخلاف تراب الصاغة.   (1) الحديث بهذا اللفظ أخرجه مسلم (الصحيح 1/99، 1001) قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن القارئ، حدثنا أبو الأحوص محمد بن حيان، حدثنا ابن أبي حازم، كلاهما عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1658 ورواية المنع محمولة على ما يخفى غشه ويقع اللبس به، فإن ذلك يفضي إلى التغرير بالمسلمين، وقد أشار أحمد إلى هذا في رجل اجتمعت عنده دراهم زيوف ما يصنع بها؟ قال: يسبكها، قيل له: فيبيعها بدنانير؟ قال: لا قيل: يبيعها بفلوس؟ قال: لا قيل: فبسلعة؟ قال: لا، إني أخاف أن يغر به مسلمًا، قيل لأبي عبد الله: إني أخاف أن يغر بها مسلمًا، وقال: ما ينبغي له لأنه يغر به مسلمًا، ولا أقول: إنه حرام على تأويل وذلك إنما كرهته لأنه يغر بها مسلمًا فقد صرح بأنه إنما كرهه لما فيه من التغرير بالمسلمين فإن مشتريها خلطها بدراهم جيدة واشترى بها ممن لا يعرف حالها ولو كانت مما اصطلح على إنفاقه لم يكن نفاية. فإن قيل: فقد روي عن عمر، أنه قال: من زافت عليه دراهمه، فليخرج بها إلى البقيع فليشتر بها سحق الثياب (1) ، وهذا دليل على جواز إنفاق المغشوشة التي لم يصطلح عليها قلنا: قد قال أحمد معنى زافت عليه دراهمه - أي نفيت - ليس أنها زيوف فيتعين حمله على هذا جمعًا بين الروايتين ويحتمل أنه أراد ما ظهر غشه وبان زيفه بحيث لا يخفى على أحد، لا يحصل بها تغير. وإن تعذر تأويلها تعارضت الروايتان عنه ويرجع إلى ما ذكرنا من المعنى.   (1) قال عبد الرازق (المصنف: 8/225، ح 14983) : عن طريق ابن أبي ليلى ... أيما رجل زافت عليه ورقة فلا يخرج يحالف الناس عليها أنها طيوب ولكن ليقل: من يبعني بهذا الزيوف سحق ثوب. ورواه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف (7/216، ح 2945) : بمثل سند عبد الرازق ولفظه عنده: من زافت عليه ورقة فلا يحالف الناس أنها طيبة، ولكن ليخرج بها إلى السوق فليقل: من يبيعني هذه الدراهم الزيوف بنحو ثوب أو حاجة من حاجته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1659 ولا فرق بين ما كان غشه ذا بقاء وثبات كالرصاص والنحاس؛ وما لا ثبات فيه كالزرنيخية والأندرانية، وهو زرنيخ ونورة يطلى عليه فضة فإذا أدخل النار استهلك الغش وذهب. ثم قال (ص 59) : الصرف بيع الأثمان بعضها ببعض والقبض في المجلس شرط لصحته بغير خلاف. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنهم من أهل العلم على إن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا إن الصرف فاسد، والأصيل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء)) ، وقوله عليه السلام ((: بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدًا بيد)) . ((ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينًا، ونهى أن يباع غائب منها بناجز)) كلها أحاديث صحاح. ثم قال (217) : فإن اختلفت في صفة الثمن، رجع إلى نقد البلد نص عليه - أي أحمد - في رواية الأثرم لأن الظاهر أنهما لا يعقدان إلا به. وإن كان في البلد نقود رجع إلى أوسطها نص عليه في رواية جماعة فيحتمل أنه أراد إذا كان هو الأغلب والمعاملة به أكثر - لأن الظاهر وقوع المعاملة به، فهو كما لو كان في البلد نقد واحد، ويحتمل أنه ردهما إليه مع " التسوي " - لعل الأصح التساوي - لأن فيه توسطًا بينهما وتسوية بين حقيهما وفي العدول إلى غيره سبيل على أحدهما فكان التوسط أولى وعلى مدعي ذلك اليمين أن ما قاله خصمه محتمل فتجب اليمين لنفي ذلك الاحتمال كوجوبها على المنكر، وإذا لم يكن في البلد إلا النقدان متساويان، فينبغي أن يتحالفا؛ لأنهما اختلفا في الثمن على وجه، لم يترجح قول أحدهما فيتحالفان كما لو اختلفا في قدره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1660 ثم قال (ص 351) : وإذا اقترض دراهم أو دنانير غير معروفة الوزن، لم يجز؛ لأن القرض فيها يوجب رد المثل فإذا لم يعرف المثل لم يكن القضاء، وكذلك لو اقترض مكيلًا أو موزونًا جزافًا لم يجز كذلك ولو قدره بمكيال بعينه أو صنجة بعينها غير معروفين عند العامة لم يجز؛ لأنه لا يأمن تلف ذلك فيتعذر رد المثل. ثم قال (ص 354) : وكل قرض شرط فيه أن يزيده، فهو حرام بغير خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أم هدية، فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة على ذلك ربا، وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة قال عبد الرزاق (المصنف: 8/145، ح 14658) : أخبرنا معمر وابن عيينة، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: استقرض رجل خمسمائة دينار على أن يفقره ظهر فرسه، فقال ابن مسعود: ما أصبت من ظهر فرسه فهو ربا. وأخرجه البيهقي في (السنن الكبرى: 5/531) ، وتعقبه بقوله: ابن سيرين عن عبد الله منقطع. وقال أيضًا (نفس المرجع: ص 349، 350) : أخبرنا على بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد، حدثنا تمام بن غالب، حدثنا عباد بن موسى الأزرق، حدثنا سفيان، عن الأسود بن قيس، حدثني كلثوم بن الأقر، عن زر بن حبيش قال: قلت لأبي بن كعب، يا أبا المنذر إني أريد الجهاد فآتي العراق فأقرض، قال: إنك بأرض الربا فيها كثير فاش فإذا أقرضت رجلًا فأهدى إليك هدية فخذ قرضك واردد إليه هديته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1661 ثم قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن الوليد، أخبرني أبي، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه قال في رجل كان له على رجل عشرون درهمًا فجعل يهدي إليه وجعل كلما أهدى إليه هدية باعها حتى بلغ ثمنها ثلاثة عشر درهمًا، قال ابن عباس: لا تأخذ منه إلا سبعة دراهم. أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو عمرو بن مطر، حدثنا يحيى بن محمد، حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد، قال: كان لنا جار سماك عليه لرجل خمسون درهمًا، فكان يهدي إليه السمك، فأتى ابن عباس فسأله عن ذلك، فقال: قاصه بما أهدى إليك؛ ولأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه، ولا فرق بين الزيادة في القدر أو في الصفة مثل أن يقرضه مكسرة ليعطيه صحاحًا أو نقدًا - جاء في النسخة المطبوعة: أو بقدًا وهو خطأ - ليعطيه خيرًا منه وإن شرط أن يعطيه إياه في بلد آخر، وكان يحمله مؤونة لم يجز لأنه زيادة، وإن لم يكن لحمله مؤونة جاز، وحكاه ابن المنذر، عن علي وابن عباس والحسن بن على وابن الزبير وابن سيرين وعبد الرحمن بن الأسود وأيوب السختياني والثوري وأحمد وإسحاق وكرهه الحسن البصري وميمون بن أبي شبيب وعبدة بن أبي لبابة ومالك والأوزاعي والشافعي لأنه قد يكون في ذلك زيادة وقد نص أحمد على أن من شرط أن يكتب له بها سفتجة لم يجز ومعناها: اشتراط القضاء في بلد آخر وروى عنه جوازها لكونها مصلحة لهما جميعًا. وقال عطاء: كان ابن الزبير يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب لهم بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق فيأخذونها منه. فسئل عن ذلك ابن عباس؟ فلم ير به بأسًا. وروى عن علي رضي الله عنه: أنه سئل عن مثل هذا؟ فلم ير به بأسًا. وممن لم ير به بأسًا: ابن سيرن والنخعي، رواه كله سعيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1662 وقال علاء الدين المرداوي (الإنصاف: 5/127، 128. في معرض كلامه على رد المقترض ما اقترضه بالمثل أو بالقيمة) : تنبيه: ظاهر كلام المصنف أن له رده سواء رخص السعر أو غلا، وهو صحيح وهو المذهب وعليه أكثر الأصحاب. وقيل: يلزمه القيمة إن رخص السعر. قوله: (ما لم يتعيب أو يكون فلوسًا أو مكسرة وحرمها السلطان) ، فالصحيح من المذهب أن له القيمة أيضًا سواء اتفق الناس على تركها أو لا، وعليه أكثر الأصحاب وجزم به كثير منهم وقدمه في "المغني"، و "الشرح "، و "الفروع"، و " الرعايتين "، و "الحاويين". وقال القاضي: إن اتفق الناس على تركها فله القيمة، وإن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزمه أخذها. قوله: (فيكون له القيمة وقت القرض) ، هذا المذهب نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب وجزم به في "الإرشاد "، و " الهداية"، و "المذهب"، و " الخلاصة"، و " الكافي "، و" المحرر "، و "الوجيز "، و " شرح ابن رزين "، و " المنور "، و " تذكرة ابن عبدوس"، وغيرهم. وقدمه في " التلخيص "، و " الفروع "، و " الرعايتين " و " الحاويين "، و "المغني "، و " الشرح "، و " الفائق " وغيرهم. واختاره القاضي وغيره، وقيل له القيمة وقت تحريمها، قاله أبو بكر في " التنبيه "، وقال في " المستوعب "، وهو الصحيح عندي، قال في " الفروع " وغيره: والخلاف فيما إذا كانت ثمنًا، وقيل له القيمة وقت الخصومة. فائدتان: إحداهما، قوله: (فيكون له القيمة) ، اعلم أنه إذا كان مما يجري فيه ربا الفضل، فإنه يعطي مما لا يجري فيه الربا، فلو أقرضه دراهم مكسرة فحرمها السلطان أعطى قيمتها ذهبًا، وعكسه بعكسه صرح به في " الإرشاد " و "المبهج"، وهو واضح، قال في " الفروع ": فله القيمة من غير جنسه. والثانية ذكر ناظم المفردات هنا مسائل تشبه مسألة القرض، فأحببت أن أذكرها هنا لعظم نفعها وحاجة الناس إليها: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1663 والنقد في المبيع حيث عين وبعد ذا كساده تبين نحو الفلوس ثم لا يعامل بها فمنه عندنا لا يقبل بل قيمة الفلوس يوم العقد والقرض أيضًا هكذا في الرد ومثله من رمى عود الثمن برده المبيع خذ بالأحسن قد ذكر الأصحاب ذا في ذي الصور والنص في القرض عيانًا قد ظهر والنص في القيمة في بطلانها لا في ازدياد القدر أو نقصانها بل إن غلت فالمثل فيها أدرى كدانق صار عشرة والشيخ في زيادة أو نقص مثلًا كالقرض في الغلا والرخص وشيخ الإسلام فتى تيمية قال: قياس القرض من جلية الطرد في الديون كالصداق وعوض في الخلع والأعتاق والغصب والصلح عن القصاص ونحو ذا طرا بلا اختصاص قال: وفيه جاء نص المطلق حرره الأثرم إذ يحقق وقولهم إن الكساد نقصًا فذا كف نقص النوع عابت رخصا قال: ونقص النوع ليس يعقل فيما سوى القيمة ذا لا يجهل وخرج القيمة في المثلي بنقص نوع ليس بالخفي واختاره وقال عدل ماضي خوف انتظار العسر بالتقاضي لحاجة الناس إلى ذي المسألة نظمتها مبسوطة مطولة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1664 لعل هذه النماذج المختلفة من الاجتهادات والأحكام في عصور وبيئات، وللمجتهدين من مذاهب واتجاهات مختلفة، توضح ما ألمعنا إليه في الفصل السابق من التباس معالم ماهية النقد وعدم التمايز بين الماهية النقدية وعينية النقد، أو المادة التي تصنع منها النقود على اختلافها في مدارك الفقهاء التباسًا ترتبت عنه تلقائيًّا وطبيعيًّا اضطراب عجيب في فتواهم وأحكامهم المتصلة، بألوان من المعاملات، لا سيما ما كان منها تعاملًا بغير الذهب والفضة من النقود التي كانت حديثة نسبيًّا لدى العرب خاصة ولدى المسلمين المتأثرين عامة بالتصورات العربية عامة. ويتضح هذا الالتباس بأجلى مظاهره في تأثرهم وهم يصدرون أحكامهم تلك تأثرًا واضحًا بصيغة لفظية كان ينبغي أن لا يكون لها أي تأثير هي صيغة " اشترى" و " باع". ذلك بأن هذه الصيغة عرفها العرب واستعملها القرآن الكريم نفسه، وكذلك السنة النبوية في معناها اللغوي الأصيل، وهي التبادل أي مبادلة الشيء بالشيء، لذلك جاءت النصوص المتصلة بـ "الصرف"، في الحديث النبوي الشريف، وفي آثار الصحابة معبرًا فيها بـ " الشراء " و " البيع "، ولسنا بحاجة إلى أن نسوق أمثلة منها بحسبنا أن نحيل على الفصل " أحاديث في الصرف" (1) ، والفصل التالي له " أحكام اضطراب العملة في آثار الصحابة قولًا وعملًا "، بيد أننا نضيف هنا إلى ما في الفصلين المذكورين آنفًا أثرًا نحسبه يعكس طبيعة الالتباس الذي نحن بصدده، والذي حمل الكثير من الفقهاء والمتفقهة على الخلط بين ماهية النقد وعينية النقود، وعلى الاضطراب في إصدار الأحكام المتعلقة بالفلوس ذلكم هو أثر عبد الله بن الصامت الذي أخرجه كل من أحمد وابن سعد، ولفظه من أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن سعد بن أبي الحسن، عن عبد الله بن الصامت، أنه كان مع أبي ذر فخرج عطاؤه ومعه جارية له، فجعلت تقضي حوائجه، قال: ففضل معها سبع، قال: فأمرها أن تشتري به فلوسًا، قال: لو ادخرته لحاجة تنوبك أو لضيف ينزل بك، قال: إن خليلي عهد إلى أن أيما ذهب أو فضة أوكي عليه، فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله (2)   (1) انظر فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف ". (2) انظر طرق هذا البحث في بحثنا " الإسلام وانتزاع الملك للمصلحة العامة " في فصل (في المال حق سوى الزكاة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1665 والظاهر أن الفلوس في العهد الأول، لم تكن تستعمل إلا في العملة الصغيرة التي لا تبلغ نصاب الزكاة، ولا أن تكون ذات أهمية في تقويم المال، ونتيجة لذلك استقر الوهم لدى كثير من الفقهاء والمتفقهة بأنها وسيلة للتبادل، لا تبلغ أن كون لها حكم " النقد " في الصرف، ولا في غيره من المعاملات على حين أن يسيرًا من التدبر في الأوضاع المالية للعهد الأول والثاني والثالث من عهود الدولة الإسلامية حري بأن ينتهي إلى حقيقة حاسمة في هذا المجال هي أن القوة الاقتصادية ووفرة الموارد المالية للدولة، كانا عاملين أساسين في تحقيق وفرة الذهب والفضة بين أيدي الناس على اختلاف طبقاتهم، وفرة تغنيهم عن اعتبار الفلوس إلا أداة صغيرة لا تبلغ أن تكون لها قيمة مالية فعالة. بيد أن انعدام التدبر جعل بعض الفقهاء والمتفقهة يسقطون الزكاة عن الفلوس حتى وإن بلغت قيمتها نصاب الزكاة في النقدين الذهب والفضة، ويضطربون في اعتبار الصرف بها وفيها خاضعًا وغير خاضع لأحكام المثلية والتنجز وما إليها من الأحكام الحاجزة له عن المعاملات الربوية. وقد ارتأينا أن نقف هذه الوقفة القصيرة في نهاية هذا الفصل؛ لأنها في تقديرنا تمهيد ضروري لما سيأتي عند بحثنا لأحكام تغيير العملة. ولعل مما يزيد إيضاحًا لطبيعة تصورهم للنقد واضطرابهم في الأحكام التي يصدرونها نتيجة لهذا التصور ما سنسوقه في الفصل التالي من نماذج لأحكامهم في تزييف العملة، ففي هذه الأحكام صور أخرى لعدم التمييز بين الماهية النقدية وعينية النقود أو مادتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1666 (12) سك النقد ملك للمجتمع الإسلامي وحق السلطان في عقوبة التزييف قال البلاذري (فتوح البلدان: ص 657، 659) : حدثني محمد بن سعد، عن الواقدي، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، أن عبد الملك بن مروان أول من ضرب الذهب والورق بعد عام المجاعة، قال: قلت لأبي: أرأيت أن ابن مسعود كان يأمر بكسر الزيوف، قال: تلك الزيوف أنضربها الأعاجم فغشوا فيها. ثم قال: حدثني محمد بن سعد، عن الواقدي، عن قدامة بن موسى أن عمر وعثمان، كانا إذا وجدا الزيوف في بيت المال جعلاها فضة. حدثني الوليد بن صالح، عن الواقدي، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، أن عمر بن عبد العزيز أوتي برجل يضرب على غير سكة السلطان فعاقبه وسجنه، وأخذ حديده فطرحه بالنار. حدثني محمد بن سعد، عن الواقدي، عن كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، أن عبد الملك بن مروان، أخذ رجلًا يضرب على غير سكة المسلمين، فأراد قطع يده، ثم ترك ذلك فعاقبه، قال المطلب: فرأيت من بالمدينة من شيوخنا، حسنوا ذلك من فعله وحملوه، قال الواقدي: وأصحابنا يرون فيمن نقش على خاتم الخلافة في الأدب والشهرة، ولا يرون عليه قطعًا وذلك رأي أبي حنيفة، والثوري، وقال مالك وابن أبي ذئب وأصحابهما: نكره قطع الدراهم إذا كانت على الوفاء وننهى عنه لأنه من الفساد، وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بقطعها إذا لم يضر ذلك للإسلام وأهله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1667 حدثني عمرو الناقد، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن ابن عون، عن ابن سيرين، أن مروان بن الحكم أخذ رجلًا يقطع الدراهم، فقطع يده فبلغ ذلك زيد بن ثابت، فقال: لقد عاقبه، قال إسماعيل: يعني دراهم فارس. قال محمد بن سعد: وقال الواقدي: عاقب أبان بن عثمان، وهو على المدينة من يقطع الدراهم ضربه ثلاثين، وطاف به، وهذا عندنا فيمن قطعها ودس فيها المفرغة والزيوف. وحدثني محمد عن الواقدي، عن صالح بن جعفر، عن ابن كعب في قوله: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [آية 87 من سورة هود] . قال: قطع الدراهم. حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: ذكر لابن المسيب رجل يقطع الدراهم، فقال سعيد: هذا من الفساد في الأرض. حدثنا عمرو الناقد، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا يونس بن عبيد، عن الحسن، قال: كان الناس وهم أهل كفر قد عرفوا موضع هذا الدرهم من الناس فجردوه، وأخلصوه، فلما صار إليكم غششتموه وأفسدتموه، ولقد كان عمر بن الخطاب، قال: هممت أن أجعل الدراهم من جلود الإبل، فقيل له: إذن لا بعير فأمسك. وقال الماوردي (الأحكام السلطانية: ص 155، 156) : وإذا خلص العين والورق من غش، كان هو المعتبر في النقود المستحقة والمطبوع منها بالسكة السلطانية الموثوق بسلامة طبعه المأمون من تبديله وتلبيسه هو المستحق دون نقار الفضة وسبائك الذهب؛ لأنه لا يوثق بهما إلا بالسك والتصفية والمطبوع موثوق به، ولذلك كان هو الثابت في الذمم فيما يطلق من أثمان المبيعات وقيم المتلفات، ولو كانت المطبوعة مختلفة القيمة مع اتفاقها في الجودة، فطلب عامل الخارج بأغلاها قيمة نظر فإن كانت من ضرب سلطان الوقت أجيب إليه لأن في العدول عن ضربه مباينة له في الطاعة، وإن كان من ضرب غيره نظر فإن كان هو المأخوذ في خراج من تقدمه أجيب إليه استصحابًا لما تقدم، وإن لم يكن مأخوذًا فيما تقدم كانت المطالبة به غبنًا وحيفًا. وأما مكسور الدراهم والدنانير، فلا يلزم أخذه للالتباس وجواز اختلاطه، ولذلك نقصت قيمتها عن المضروب الصحيح، واختلف الفقهاء في كراهية كسرها فذهب مالك وأكثر فقهاء المدينة إلى أنه مكروه؛ لأنه من جملة الفساد في الأرض وينكر على فاعله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1668 وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجارية بينهم (1) . والسكة هي الحديدة التي يطبع عليها الدراهم ولذلك سميت الدراهم المضروبة سكة، وقد كان ينكر ذلك ولاة بني أمية حتى أسرفوا فيه، فحكي أن مروان بن الحكم أخذ رجلًا طبع درهمًا من دراهم الفرس فقطع يده، وهذا عدوان محض، وليس له في التأويل مساغ. وحكى الواقدي أن أبان بن عثمان كان على المدينة، فعاقب من قطع الدراهم وضربه ثلاثين سوطًا وطاف به، قال الواقدي: وهذا عندنا فيمن قطعها ودس فيها المفرغة والزيوف. فإن كان الأمر على ما قاله الواقدي، فما فعله أبان بن عثمان ليس بعدوان؛ لأنه ما خرج به عن حد التعزير، والتعزير على التدليس مستحق، وأما فعل مروان فظلم وعدوان، وذهب أبو حنيفة وفقهاء العراق إلى أن كسرها غير مكروه، وقد حكى صالح بن حفص - وفي نسخة صالح بن جعفر (2) - عن أبي بن كعب في قوله تعالى: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [آية 87 من سورة هود] . قال: كسر الدراهم.   (1) لفظ الحديث كما أخرجه كل من أبي داود (السنن: 3/71، ح 449) ، وابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/215، ح 2943) ، وابن ماجه (السنن: 2/761، ح 2363) ، عن طريق معتمر بن سليمان قال: سمعت محمد بن فضاء يحدث عن أبيه، عن علقمة، عن عبد الله، عن أبيه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس، وعند ابن أبي شيبة، وابن ماجه عن " كسر" بدل " أن تكسر " عند أبي داود. (2) لم أقف على ترجمة لراوٍ أو مفسر لمن يسمى صالح بن حفص أو صالح بن جعفر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1669 ومذهب الشافعي - رحمه الله - قال: إن كسرها لحاجة لم يكره له، وإن كسرها لغير حاجة كره له؛ لأن إدخال النقص على المال من غير حاجة سفه، وقال أحمد بن حنبل: إذا كان عليه اسم الله عز وجل كره كسرها وإن لم يكن عليها اسمه لم يكره. وأما الخبر المروي عن كسر السكة فكان محمد بن عبد الله الأنصاري قاضي البصرة يحمله على النهي عن كسرها، لتعاد تبرًا فتكون على حالها مرصدة للنفقة، وحمله آخرون على النهي عن أخذ أطرافها قرضًا بالمقاريض؛ لأنهم كانوا في صدر الإسلام يتعاملون بها عددًا، فصار أخذ أطرافها بخسًا وتطفيفًا. وقال الفراء (الأحكام السلطانية: ص 179، 184) : وأما النقد فمن خالص الفضة، وليس لمغشوشه مدخل في حكمه، وقد كان الفرس عند فساد أمورهم فسدت نقودهم فجاء الإسلام ونقودهم من العين والورق غير خالصة، إلا أنها كانت تقوم في المعاملات مقام الخالصة وكان غشها عفوًا لعدم تأثيره بينهم إلى أن ضربت الدراهم الإسلامية فتميز المغشوشة من الخالص. وقد قال أحمد، في رواية حنبل: ولو أن رجلًا له على رجل ألف درهم أعطاه من هذه الدراهم، كان قد قضاه؛ لأنها ليست على ما يعرف الناس من صحة السكة بينهم ونقاء الفضة، ثم هل رأيت لو اختلفا؟ فقال: هذا لم يقضني وقال هذا: قد قضيتك فرجع إلى اليمين، أكان يحلف أنه قد أوفاه؛ لأنها ليست بوافية إلا بالفضة التي يتعامل بها المسلمون بينهم، فينظر فإن كان غشها يخفى لم يجز إنفاقها رواية واحدة وإن كان عينًا ظاهرًا فعلى روايتين: إحداهما المنع أيضًا، قال في رواية محمد بن إبراهيم - وقد سأله عن المزيفة فقال - لا يحل وقيل له: إنه يراها ويدري أي شيء هي. قال: الغش حرام، وإن بين وكذلك قال في رواية أبي الحارث ويوسف بن موسى، وقد سأله عن إنفاق المزيفة فقال: لا، وكذلك قال في رواية جعفر بن محمد: لا تنفق المكحلة حتى يستلمها، ولا المزيفة والزيوف حتى يسبكها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1670 والرواية الثانية الجواز، قال في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث - في الرجل يبيع الدراهم فيها رديئة بدينار؟ قال - ما ينبغي له لأنه يغر بها المسلمين، فقال له الأثرم: ولا تقول: إنها حرام وإنما أكرهها لأنه يغر بها مسلمًا. وقال أيضًا في رواية صالح في دراهم بحاري يقال لها " المسيبية" عامتها نحاس إلا شيئًا يسيرًا منها فضة، فقال: وإن كان شيئًا قد اصطلحوا عليه فيما بينهم مثل الفلوس التي قد اصطلح الناس عليها أرجو أن لا يكون به بأس. فوجه المنع ما رواه أحمد بن حنبل، أن ابن مسعود باع نفاية بيت المال، فنهاه عمر فسبكها (1) ، ووجه الإباحة ما رواه أبو بكر بإسناده عن عمر، قال: ومن زافت عليه دراهم فليدخل السوق فليشتر سحق ثوب (2) . وقد أجاب أحمد عن هذا الحديث في رواية حنبل فقال: يقول عمر: من زافت عليه دراهم - يعني نفيت - ولم يكن عمر يأمر بإنفاق الرديئة، وهذا لم يكن في عهد عمر وإنما حدث بعده.   (1) قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف: 7/216، ح 2947) : حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم، قال: باع ابن مسعود نفاية بيت المال مرة ثم لقي عمر فلم يعد لذلك. وقد أخرجه أبو عبيد وابن زنجويه والبيهقي، والخبر عند بعضهم أطول من بعض لكن لا تتفاوت في المعنى. (2) انظر التعليق رقم: (1) في الصفحة 2063. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1671 قلت: يغفر الله للإمام أحمد، فقد كانت في عهد عمر دراهم زيوف، مما صار إليهم من غنائم الفرس ودنانير زيوف مما صار إليهم من غنائم الروم، ولم يكن قد شاع التعامل بالسكة الإسلامية التي شرع عمر في ضربها، لكان طبيعيًّا أن تجيء في أنصبة الغنائم أو فيما يتداوله الغانمون أو في أرزاق بيت المال دراهم ودنانير زيوف، ولست أدري كيف غفل أحمد عن هذا إن صحت عنه الرواية المذكورة آنفًا. ثم ساق الفراء ما نقلناه من قبل عن الماوردي من آثار فيما يتصل بالدراهم المكسورة، وكسرها والعقوبة على كسرها وتزييفها. ثم قال: وروى ابن منصور أنه قال لأحمد: أن ابن الزبير قدم مكة فوجد بها رجلًا يقرض الدراهم فقطع يده، وكانت الدراهم تؤخذ برؤوسها بغير وزن فعده سارقًا، قال - يعني أحمد -: هذا إفراط في التعزير. قلت: هذا تعليل صحيح - ورحم الله - أحمد فلسنا نراه إفراطًا في التعزيز كما رآه هو، وإنما هو العقاب الواجب على جناية التزييف، إما بقطع الدرهم إذا كان يتداول عدًّا، وإما بغشه إذا كان يتداول عينًا، ورحم الله الحسن فقد كان أبصر بشؤون المال وأقرب إلى تصور الحقيقة النقدية ووظيفتها فيما نلقناه عنه آنفًا عن طريق يونس بن عبيد من قوله: (غششتموه وأفسدتموه) ... إلخ. ذلك بأن التزييف القطع أو بالغش يتضمن معنى السرقة، وإن لم تتمثل فيه مواصفاتها وقد يبلغ التعزير القتل وما هو أشد من القتل كما فعل أبو بكر - رضي الله عنه - بمن سيقا إليه متلبسين بجريمة " الشذوذ الجنسي "، فالتعزيز عقوبة يرجع إلى الإمام تقديرها ويعتمد الإمام في تقديرها ليس على طبيعة الجريمة وحلها، ولكن أيضًا على مدى تأثيرها في حياة المجتمع الإسلامي أو في المصالح العامة للمسلمين وأي فساد بشؤون المسلمين وذممهم أشنع من تزييف النقد وتزويره وأبعد أثرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1672 وقال ابن رشد (البيان والتحصيل: 9/396، من سماعه محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم) : سألت محمد بن القاسم عن الوالي يلي بعد وال آخر كان قبله، فيزيد في المكاييل، فقال: فإن كان في ذلك للمسلمين نظر بموافقة حق لا يكره الناس على البيع به، فلا أرى به بأسًا. قال ابن رشد معقبًا: هذا " بين " - لعل صوابه: يبنى - على ما قاله، أنه إذا كان في ذلك نظر للمسلمين بموافقة حق كان له أن يفعله. وأما قوله: لا يكره الناس على البيع به، ففيه نظر لأن له أن يحمل الناس على التبايع به إذا رأى ذلك نظرًا للمسلمين، فمعنى قوله: لا يكره الناس على البيع به، أي لا يحجره جملة حتى لا يجوز لأحد بيعًا به. وقال ابن تيمية (مجموع الفتاوى: 29/469، 470) : ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوسًا تكون بقيمة العدل في معاملاتهم من غير ظلم لهم، ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلًا بأن يشتري نحاسًا، فيضربه فيتجر فيه ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم ويضرب لهم غيرها، بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه للمصلحة العامة، ويعطي أجرة الصناع من بيت المال، فإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل، فإنه إذا حرم المعاملة بها حتى صارت عرضًا وضرب له فلوسًا أخرى أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها فيظلمهم فيها، وظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها. وأيضًا فإذا اختلفت مقادير الفلوس، صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغارًا فيصرفونها وينقلونها إلى بلد آخر ويخرجون صغارها، فتفسد أموال الناس. وفي السنن ((عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس)) (1) ، فإذا كانت مستوية المقدار بسعر النحاس، ولم يشتر ولي الأمر النحاس والفلوس الكاسدة لضربها فلوسًا، ويتجر بذلك حصل بها المقصود من الثمنية.   (1) انظر التعليق رقم: (1) من الصفحة 2071. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1673 وقال الونشريسي (المعيار المعرب: 6 /407، 208) : ولا يغفل - أي السلطان - النظر إن ظهر في سوقهم - يعني المسلمين - دراهم مبهرجة أو مخلوطة بالنحاس بأن يشتد فيها ويبحث عمن أحدثها، فإذا ظفر به أناله من شدة العقوبة وأمر أن يطاف به الأسواق لينكله، ويشرد به من خلفه لعلهم يتقون عظيم ما نزل به من العقوبة ويحبسه بعد على قدر ما يرى ويأمر أوثق من يجد بتعاهد ذلك من السوق حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم، ويحرزوا نقودهم فإن هذا أفضل ما يحوط رعيته فيه ويعمهم نفعه في دينهم ودنياهم، ويرتجي لهم الزلفى عند ربهم والقربة إليه إن شاء الله. على أن أجلى مظهر لتصورهم للشؤون الاقتصادية عامة والنقدية خاصة، وعدم وضوح معالمها عندهم وضوحًا شاملًا دقيقًا، يمكن الاقتصار على اعتماده في هذا العصر إذ وضحت المعالم الاقتصادية عامة والنقدية خاصة، بحيث لا يمكن الاشتباه فيها أو التباسها بغيرها أو الالتباس بينها اختلافهم في تعليل تعيين الأصناف الستة المذكورة في حديث عبادة، والأصناف الخمسة المذكورة في حديث عمرو، هي نفس الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وغيره على اختلاف طرق هذه الأحاديث، وما شاكلها مما سبق أن سقنا طائفة صالحة منه في فصل " أحاديث في الصرف ". وقد رأينا أن نفيض فصلًا خاصًّا من هذا البحث نسوق فيه نصوصًا مختلفة من حيث صياغتها لآرائهم ومفاهمهم واحتاجها لها دفاعها عنها وتفريعها أحكامًا منها. وقصدنا في انتقائها، أن تمثل طوائفهم المتمايزة من مفسرين ومعنيين بالحديث، وفقهاء من مذاهب السنة المختلفة ومن عصور وبيئات مختلفة، وارتأينا أن نثبت هذه النصوص كاملة دون أن نقتصر على ما يتصل منها بالذهب والورق؛ لأن نظراتهم في تعليل الربا والتفريع عنه كانت أميل إلى التكامل وأعلق به مما يلمع إلى أن نمطًا من التصور الاقتصادي بالمعنى الحديث كان لهم في طور المخاض أو التكوين، ولو اقتصرنا في انتقائنا على مقولاتهم في الذهب والورق لجاءت تصوراتهم - وهي المبهمة في وضعها - ناقصة مبتورة يصعب استكناه مصادرها ومواردها ومضاعفاتها عند محاولة الاستئناس باجتهاداتهم فيما نحن بصدده من بحث لا يمكن فصله موضوعيًّا عن مجموع التصور الدقيق للاقتصاد العام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1674 (13) علة تحريم الربا وحكمته عند المفسرين: قال الرازي - رحمه الله - في (تفسير مفاتيح الغيب: ج 7، المجلد الرابع: ص 63، 6) وأما جمهور الفقهاء فقد اتفقوا على أن حرمة ربا النقد - أي الحاضر - غير مقصورة على هذه الأشياء الستة - أي التي وردت في حديث أبي سعيد وغيره- بل هي ثابتة في غيرها، ثم من المعلوم أنه لا يمكن تعدية الحكم عن محل النص إلى غير محل النص إلا بتعليل الحكم الثابت في محل النص بعلة حاصلة في غير محل النص، فبهذا المعنى اختلفوا في العلة على مذاهب. فالقول الأول وهو مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أن العلة في حرمة الربا الطعم في الأشياء الأربعة واشتراط اتحاد الجنس، وفي الذهب والفضة النقدية. والقول الثاني قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - أنه كل ما كان مقدرًا ففيه الربا فالعلة في الدراهم والدنانير الوزن وفي الأشياء الأربعة الكيل واتحاد الجنس. والقول الثالث قول مالك - رضي الله عنه - أن العلة هو القوت أو ما يصلح به القوت وهو الملح. القول الرابع وهو قول عبد المالك بن الماجشون (1) : إن كل ما ينتفع به ففيه الربا، فهذا ضبط مذهب الناس في حكم الربا.   (1) ترجم له ابن حجر كغيره من رجال الجرح والتعديل، فقال ما موجزه (تهذيب التهذيب: 6/407، 409، ترجمة 857) : عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون التيمي مولاهم أبو مروان المدني الفقيه، روى عن أبيه وخاله ومالك وآخرين، وعنه أبو الربيع المهري، وعمار بن طالوت، وعمرو بن علي الصيرفي، وعبد الملك بن حبيب الفقيه وغيرهم. قال مصعب الزبيري: كان مفتي أهل المدينة في زمنه، وقال الأجوري عن أبي داود: كان يعقل الحديث، وقال ابن البرقي مثل ذلك، ووثقه ابن حبان، وقال ابن عبد البر: كان فقيهًا فصيحًا دارت عليه الفتيا، وعلى أبيه قبله، وهو فقيه ابن فقيه، وكان ضرير البصر وكان مولعًا بسماع الغناء. وقال أحمد بن حنبل: قدم علينا ومعه من يغنيه، وضعفه الساجي ووصفه بأن صاحب رأي وبأنه حدث عن مالك بمناكير، وأنكر أحمد بأن يكون ممن يأخذ الحديث عنه أهل العلم، وزعم بعضهم أن مالكًا طرده لأنه كان يتهم برأي الجهم، وقال عنه يحيى بن أكثم: كان بحرًا لا تكد له الدلا، وقال أحمد بن معدل: كلما تذكرت بأن التراب يأكل لسان عبد الملك صغرت الدنيا في عيني، فقيل له: أين لسانك من لسانه؟ فقال: كان لسانه إذا تعايا أفصح من لساني إذا تحيا. اختلفوا في وفاته بين سنتين 213، 214 للهجرة. رحمه الله رحمة واسعة وقد توسعنا شيئًا في ترجمته؛ لأن له قولًا في علة تحريم الربا في الأنواع الستة الواردة في الحديث سبق عصره ولم يلحقه فيه غيره ممن جاء بعده، وهو أن العلة فيها هي " المالية "، وهي عبارة عما نسميه اليوم المؤشرات الاقتصادية أو مكونات الاقتصاد الوطني أو ما شاكل ذلك وهو قول بديع لا سبيل إلى الغمز فيه، وإن حاول ذلك بعض المتفقهة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1675 ثم قال: ذكروا في سبب تحريم الربا وجوهًا، أحدها: الربا يقتضي أخذ مال الناس من غير عوض؛ لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقدًا أو نسيئة فيحصل له زيادة درهم من غير عوض ومال الإنسان متعلق حاجته، وله حرمة عظيمة. قال صلى الله عليه وسلم: ((حرمة مال الإنسان كحرمة دمه)) (1) ، فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عضو حرامًا. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون البقاء رأس المال في يده مدة مديدة عوضًا عن الدرهم الزائد؛ وذلك لأن رأس المال لو بقي في يده هذه المدة لكان يمكن للمالك أن يتجر فيه ويستفيد بسبب تلك التجارة ربحًا، فلما تركه في يد المدينون وانتفع به المديون لم يبعد أن يدفع لرب المال ذلك الدرهم الزائد عوضًا عن انتفاعه بماله. قلنا: إن هذا الانتفاع الذي ذكرتم أمر موهوم قد يحصل وقد لا يحصل، وأخذ الدراهم الزائد أم متيقن، فتفويت المتيقن لأجل الأمر الموهوم لا ينفك عن نوع الضرر. وثانيها قال بعضهم: الله تعالى إنما حرم الربا من أجل أنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب؛ وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقدًا كان أو نسيئة خف عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارات والصناعات الشاقة، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق. ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تستقيم إلا بالتجارات والحرف والصناعات والعمارات. وثالثها قيل: إن السبب في تحريم عقد الربا أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض؛ لأن الربا إذا طابت النفوس بقرض الدرهم واسترجاع مثله، ولو حل الربا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدرهم بالدرهمين فيفضي ذلك إلى انقطاع المواساة والمعروف والإحسان.   (1) لم أقف على حديث بهذا اللفظ، لكن قد يكون الرازي رواه بالمعنى. والأحاديث في هذا المجال مستفيضة بعضها يبلغ حد التواتر، وأشهرها خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهورة في حجة الوداع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1676 ورابعها هو أن الغالب أن المقرض يكون غنيًّا والمستقرض يكون فقيرًا، فالقول بتجويز عقد الربا تمكن للغني من أن يأخذ من الفقير الضعيف مالًا زائدًا، وذلك غير جائز برحمة الرحيم. وخامسًا: أن حرمة الربا قد ثبتت بالنص، ولا يجب أن يكون حكم جميع التكاليف معلومة للخلق فوجب القطع بحرمة عقد الربا وإن كنا لا نعلم الوجه فيه. قال القرطبي - رحمه الله - في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن: 3/352، 353 (في شرحه لآية الربا من سورة البقرة واستنباطه الأحكام منها: اعلم - رحمك الله - أن مسائل هذا الباب - يعني باب الربا - كثيرة وفروعه منتشرة، والذي يربط لك ذلك أن تنظر إلى ما اعتبره كل واحد من العلماء في علة الربا، فقال أبو حنيفة: علة ذلك كونه مكيلًا أو موزونًا جنسًا فكل ما يدخله الكيل أو الوزن عنده جنس واحد، فإن بيع بعضه ببعض متفاضلًا أو نسيئًا لا يجوز فمنع بيع التراب بعضه ببعض متفاضلًا؛ لأنه يدخله الكيل، وأجاز الخبز قرصًا بقرصين لأنه لم يدخل عنده في الكيل الذي هو أصل فخرج من الجنس الذي يدخله الربا إلى ما عداه. وقال الشافعي: العلة كونه مطعومًا جنسًا (هذا قوله في الجديد) فلا يجوز عنده بيع الدقيق بالخبز ولا بيع الخبز متفاضلا ولا نسيئًا، وسواء أكان الخبز خميرا أو فطيرا ولا يجوز عنده بيضة لبيضتين، ولا رمانة برمانتين، ولا بطيخة ببطيختين لا يدًا بيد ولا نسيئة؛ لأن ذلك كله طعام مأكول، وقال في القديم كونه موزونًا. واختلف عبارات أصحابنا المالكية في ذلك، وأحسن ما في ذلك كونه مقتاتًا مدخرًا للعيش غالبًا جنسًا، كالحنطة والشعير والتمر والملح المنصوص عليه، وما في معناها كالأرز والذرة والدخن والسمسم، والقطاني كالفول والعدس واللوبياء والحمص وكذلك اللحوم والألبان والخلول والزيوت، والثمار كالعنب والزبيب والزيتون. واختلف في التين ويلحق بها العسل والسكر، فهذا كله يدخله الربا من جهة النساء وجائز فيه التفاضل لقوله عليه السلام: (إذا اختلف هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد) ، ولا ربا في رطب الفواكه التي لا تبقى كالتفاح والبطيخ والرمان والكمثرى والقثاء والخيار والباذنجان وغيرهم من الخضروات. قال مالك: " لا يجوز بيع البيض بالبيض متفاضلًا؛ لأنه مما يدخر ويجوز عنده مثلًا بمثل، وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: جائز بيضة ببيضتين وأكثر؛ لأنه مما يدخر وهو قول الأوزاعي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1678 وقال محمد الطاهر بن عاشور (في التحريم والتنوير: 3/84، 85) : بعد أن ساق أقوال طائفة من المفسرين في الحكمة في تحريم الربا والتفرقة بينه وبين البيع، ومنها ما سبق نقله هنا: والوجه عندي في التفرقة بين البيع والربا أن مرجعهما إلى التعليل بالمظنة مراعاة للفرق بين مالي المقترض والمشتري، فقد كان الاقتراض لدفع حاجة المقترض للإنفاق على نفسه وأهله؛ لأنهم كانوا يعدون التداين همًّا وكربًا وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، وحال التاجر حال المتفضل، وكذلك اختلاف حال المسلف والبائع فحال باذل ماله للمحتاجين ينتفع بما يدفعونه من الربا فيزيدهم ضيقًا؛ لأن المتسلف مظنة الحاجة ألا تراه ليس بيده مال، ومال بائع السلعة تجارة حال من تجشم مشقة لجلب ما يحتاجه المتفضلون وإعداده لهم عند إعداد حاجتهم إليه مع بذلهم له ما بيدهم من المال، فالتجارة مبادلة بين غنيين ألا ترى أن كلاهما باذل لما لا يحتاج إليه وآخذ ما يحتاج إليه فالمتسلف مظنة الفقر والمشتري مظنة الغناء، فلذلك حرم الربا؛ لأنه استغلال لحاجة الفقير، وأحل البيع؛ لأنه إعانة لطالب الحاجات فتبين أن الإقراض من نوع المواساة والمعروف، أنها التعين على المواسي وجوبًا أو ندبًا وأيًّا ما كان فلا يحل للمقرض أن يأخذ أجرًا على عمل معروف، فأما الذي يستقرض مالًا يتجر به أو ليوسع تجارة فليس مظنة الحاجة فلم يكن من أهل استحقاق مواساة المسلمين، فلذلك لا يجب على الغني إقراضه بحال، فإذا أقرضه فقد تطوع بمعروف وكفى بهذا تفرقة بين الحالين. ثم قال (ص 86، 87) : ثم اختلف علماء الإسلام - في أن لفظ - الربا في الآية باق على معناه الباقي في اللغة أو هو منقول إلى معنى جديد في اصطلاح الشرع فذهب ابن عباس وابن عمر ومعاوية إلى أنه باق على معناه المعروف وهو ربا الجاهلية أعني الزيادة لأجل التأخير وتمسك ابن عباس بحديث أسامة: ((إنما الربا في النسيئة)) (1) قلت: رحم الله أستاذنا شيخ الإسلام والمسلمين في القرن العشرين بلا منازع فما أحسبه إلا واهمًا في ذكر ابن عمر مع ابن عباس ومعاوية كما لو كان ذاهبًا مذهبهما في ربا النسيئة أو مذهب معاوية في ربا الفضل كما بينته قصته مع كل من أبي الدرداء وعبادة، في حين أن ما سبق أن سقناه من أحاديث رواها ابن عمر عن أبيه وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنهم - وعن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ومن فتاوى تنوقلت عنه يبين أنه لم يكن على مذهبهما ولا كان قريبًا منه ولسنا ندري من أين تطرق الوهم إلى شيخ الإسلام والمسلمين ولكنه بشر يصيب ويخطئ أجزل الله له الأجر على ما أصاب فيه وهو كثير وعلى ما أخطأ فيه أيضًا وقد اجتهد ولم يأل جهدًا.   (1) عرضنا له في أكثر من موضع في هذا البحث لا سيما في فصل " دحض شبه تعلقوا بها " الآتي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1679 ثم قال: وأما جمهور العلماء فذهبوا إلى أن الربا منقول في عرف الشرع إلى معنى جديد كما دلت عليه أحاديث كثيرة وإلى هذا نحا عمر بن الخطاب وعائشة وأبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت بل رأى عمر أن لفظ الربا نقل إلى معنى جديد ولم يبين جميع المراد منه فكأنه عنده مما يشبه المجمل فقد حكى عنه ابن رشد في المقدمات أنه كان من آخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفسرها وإنكم لتزعمون أننا نعلم أبواب الربا ولأن أكون أعلمها أحب إلى من أن يكون لي مثل مصر وكورها (1) قال ابن رشد: ولم يرد عمر بذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفسر آية الربا، وإنما أراد - والله أعلم - أنه لم يعم وجوه الربا بالنص عليها، وقال ابن العربي: بين رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الربا في ستة وخمسين حديثًا والوجه عندي أنه ليس مراد عمر أن لفظ الربا مجمل؛ لأنه قابله بالبيان وبالتفسير بل أراد أن تحقيق حكمه في صور البيوع الكثيرة خفي لم يعمه النبي صلى الله عليه وسلم بالتنصيص لأن المتقدمين لا يتوخون في عباراتهم ما يساوي المعاني الاصطلاحية فهؤلاء الحنفية سموا المخصصات بيان تغيير وذكر ابن العربي في العواصم أن أهل الحديث يتوسعون في معنى البيان وفي تفسير الفخر عند الشافعي أن قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [الآية 275 من سورة البقرة] ، ومن المجملات التي لا يجوز التمسك بها أي بعموميها: عموم البيع وعموم الربا؛ لأنه إن كان للمراد جنس البيع وجنس الزيادة لزم أي بيع وأي زيادة، وإن كان المراد أي بيع وأي زيادة فما من بيع إلا وفيه زيادة، فأول الآية أباح جميع البيوع وآخرها حرم الجميع فوجب الرجوع إلى بيان الرسول عليه السلام، والذي حمل الجمهور على اعتبار لفظ الربا مستعملًا في معنى جديد أحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل دلت على تفسير الربا بما هو أعم من ربا الجاهلية المعروف عندهم قبل الإسلام. ثم قال (نفس المرجع: 4/86، 87) : وحكمة تحريم الربا هي قصد الشريعة حمل الأمة على مواساة غنيها محتاجها احتياجًا عارضًا مؤقتًا بالقرض فهو مرتبة دون الصدقة وهو ضرب من المواساة إلا أن المواساة منها فرض كالزكاة، ومنها ندب كالصدقة والسلف فإن انتدب لها المكلف حرم عليه طلب عوض عنها وكذلك المعروف كله، وذلك أن العادة الماضية في الأمم وخاصة العرب أن المرء لا يتداين إلا لضرورة حياته، فلذلك كان حق الأمة مواساته، والمواساة يظهر أنها فرض كفاية على القادرين عليها فهو غير الذي جاء يريد المعاملة للربح كالمتبايعين والمتصارفين. الفرق الواضح في العرف بين التعامل وبين التداين إلا أن الشرع ميز هاته النواحي بعضها عن بعض بحقائقها الذاتية لا باختلاف أحوال التعاقدين فلذلك لم يسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الربا في السلف ولو كان المستسلف غير محتاج بل كان سعة وإثراء بتحريك المال الذي يتسلفه في وجوه الربح والتجارة ونحو ذلك وسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الشركة والتجارة ودين السلم ولو كان الربح في ذلك أكثر من مقدار الربا تفرقة بين المواهي الشرعية.   (1) رجح محمد ضياء الدين الريس في كتابه - الخراج والنظم المالية (ص 149) : ما ذكره البلاذري وابن قدامة من أن خراج مصر في عهد عمر بلغ ألفي ألف دينار، أي نحو تسعمائة بليون " مليار " درهم مغربي بالسعر الحاضر للذهب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1680 ويمكن أن يكون مقصد الشريعة من تحريم الربا البعد بالمسلمين عن الكسل في استثمار المال وإلجاءهم إلى التشارك والتعاون في شؤون الدنيا فيكون تحريم الربا ولو كان قليلًا مع تجويز الربح في التجارة والشركات ولو كان كثيرًا تحقيقًا لهذه المقاصد. وقد قضى المسلمون قرونًا طويلة لم يروا أنفسهم فيها محتاجين إلى التعامل بالربا ولم تكن ثروتهم أيامئذ قاصرة عن ثروة بقية الأمم في العالم أزمان كانت سيادة العالم بيدهم أو أزمان كانوا مستقلين بإدارة شؤونهم، فلما صارت سيادة العالم بيد أمم غير إسلامية وارتبط المسلمون بغيرهم في التجارة والمعاملات وانتظمت سوق الثروة العالمية على قواعد القوانين التي لا تتحاشى المراباة في المعاملات ولا تعرف أساليب مواساة المسلمين دهش المسلمون وهم اليوم يتساءلون، وتحريم الربا في الآية صريح وليس لما حرمه الله مبيح ولا مناص من هذا المضيق إلا أن تجعل الدول الإسلامية قوانين مالية تبنى على أصول الشريعة في المصارف والبيوع وعقود المعاملات المركبة من رؤوس الأموال وعمل العمال وحوالات الديون ومقاصتها وبيعها وهذا يقضي بإعمال أنظار علماء الشريعة والتدارس بينهم في مجمع يحوي طائفة من كل فرقة كما أمر الله تعالى. ثم قال (نفس المرجع: 6/28) في تفسير قوله تعالى في سورة النساء تنديدًا بمخالفة اليهود لما أمروا به: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [الآية 162] . وأخذهم الربا الذي نهوا عنه هو أن يأخذوه من قومهم خاصة ويسوغ لهم أخذه من غير الإسرائيليين كما في الإصحاح (23) من سفر التثنية: (لا تقرض أخاك بربا، ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء ما مما يقرض بربا. للأجنبي تقرض بربا) . والربا محرم عليهم بنص التوراة بنص التوراة في سفر الخروج في الإصحاح (22) : (إن أقرضت فضة لشعبي الفقير عندك فلا تكن له كالمرابي لا تضعوا عليه ربا) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1681 وعند المعنيين بالحديث والفقهاء: قال النووي في (المجموع: 10/20، 21) : (قاعدة) الأصل عندنا وعند المالكية في بيع الربويات بجنسها أو ما يشاركها في علة الربا التحريم إلا ما قام الدليل على إباحته وهذا الأصل مستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنًا بوزن مثلًا بمثل سواء بسواء)) ، لفظ مسلم - رحمه الله - في حديث أبي سعيد (1) وفي حديث عبادة: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينًا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) لفظ مسلم أيضًا. ومن قوله صلى الله عليه وسلم حديث الذي رواه عمر - رضي الله عنه -: ((الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء)) . الحديث متفق على صحته: لفظ البخاري (الذهب بالورق) ، ولفظ مسلم (الورق بالذهب) (2) . ومن قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا اختلف هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) لفظ مسلم في حديث عبادة. وجه الاستدلال أنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول صدره بالنهي ثم استثنى منه، وفي حديث عمر - رضي الله عنه - صدر بالحكم على ذلك في الربا ثم استثنى. وفي الحديث الآخر وهو بقية حديث عبادة علقه على شرط والمشروط عام عند الشرط والأصل عدمه وهذه قاعدة شريفة نافعة في باب الربا كمسألة بيع الحفنة بالحفنتين والجهل بالمماثلة وغير ذلك كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى. وفي مطاف الاشتباه وتعارض المأخذ إذا تساوت يجب الحكم بالتحريم عملًا بالأصل وقد صرح الشافعي - رحمه الله تعالى - في "الأم: بأن الأصل ذلك ويخالفنا في ذلك الحنفية؛ لأن الأصل عندهم في ذلك الجواز لاندراجه في جملة البيع ويجعلون عقود الربا وسائر ما نهى عنه مخرجًا من ذلك الأصل ويئول تحقيق بحثهم إلى أن عقد الربا اشتمل على وصف مفسد فهو كسائر البيوع التي اقترن بها ما يفسدها وممن صرح بهذين الأصلين عند المذهبين من أصحابنا الخلافيين الشريفي الراغي وأبو المظفر السمعاني ومحمد بن يحيى وغيرهم قالوا: واللفظي المراعي الأصل عندنا في الأموال الربوية التحريم والجواز ثبت على خلافه رخصة مقيدة بشروط، وعندهم الأصل الجواز والتحريم ثبت على خلافه عند المفاضلة. ونقل ابن العربي المالكي عن أبي المطهر خطيب أصفهان قال لنا المنذري: الأصل في الأموال الربوية حظر البيع حتى يتجمع تحقيق التماثل وعند أبي حنيفة - رحمه الله - الأصل إباحة البيع حتى يمنعه حقيقة التفاضل وما قلناه أصح وممن صرح بهذا الأصل من المالكية الطرطوشي رأيته في كلامه وقد رأيت ما هو منسوب إلى الحنفية في كتبهم وتحقيقه عندهم ما قدمته.   (1) انظر فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف (2) انظر فصل من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1682 وقال ابن عبد البر (التمهيد: 6/292، 295) عند تعقيبه على رواية مالك في الموطأ لحديث مالك بن أوس بن الحديثان مع طلحة بن عبيد الله وعمر. (انظر فصل " أحاديث في الصرف ") : واختلف الفقهاء في اعتبار المذكورات في هذا الحديث - يعني الأصناف الخمسة - وفي المعنى المقصود إليه بذكرها، فقال العراقيون: الذهب والورق المذكوران في هذا الحديث موزونان وهما أصل لكل موزون وكل موزون من جنس واحد لا يجوز فيه التفاضل ولا النساء بوجه من الوجوه قياسًا لما اجتمعت الأمة عليه من أن الذهب والورق لا يجوز التفاضل في الجنس الواحد منهما ولا النساء بعضه ببعض فإذا كان الموزون جنسين مختلفين فجائز التفاضل بينهما، ولا يجوز النساء بوجه من الوجوه قياسًا على الذهب بالورق المجتمع على إجازة التفاضل فيهما وتحريم النساء؛ لأنها جنسان مختلفان، قالوا: والعملة في البر والشعير والتمر الكيل فكل مكيل من جنس واحد فغير فيه التفاضل ولا النساء قياسًا على ما أجمعت الأمة عليه في أن البر بالبر بعضه ببعض والشعير والتمر لا يجوز في واحد منها بعضه ببعض التفاضل ولا النساء بحال، فإذا اختلف الجنسان جاز فيهما التفاضل ولم يجز النساء على حال وسواء كان المكيل أو الموزون مأكولًا أو غير مأكول كما لا يجوز ذلك في الذهب والورق. وقال الشافعي: أما الذهب والورق فلا يقاس عليهما غيرهما؛ لأن العلة التي فيهما ليست موجودة في شيء من الموزونات غيرهما فكيف ترد قياسًا عليهما، وذلك أن العلة في الذهب والورق أنهما أثمان للمبيعات وقيم للمتلفات وليس كذلك شيء من الموزونات؛ لأنه جائز أن تسلم ما شئت من الذهب والورق فيما عداها من سائر الموزونات ولا يسلم بعضها في بعض فبطل قياسها عليهما وردها إليهما. قال: وأما البر والتمر والشعير فالعلة عندي فيهما الأكل لا الكيل فكل مأكول أخضر كان أو يابسًا مما يدخر كان أو مما لا يدخر فغير جائز بيع الجنس منه بعضه ببعض متفاضلًا ولا نساء وحرام فيه التفاضل ولا النساء قياسًا على البر بعضه ببعض وعلى التمر بعضه ببعض لا يجوز ذلك في واحد منهما بالإجماع والسنة الثابتة. قال: وأما إذا اختلف الجنسان من المأكول فجائز حينئذ فيهما التفاضل وحرم فيهما النساء وحجته في ذلك نهي رسول الله عليه وسلم عن الطعام بالطعام إلا يدًا بيد. وما أصحابنا من عصر إسماعيل بن إسحاق إلى هلم جرّا ومن قبلهم من أصحاب مالك وأصحاب أصحابه، فالذي حصل عندي من تعليلهم لهذه المذكورات بعد اختلافهم في شيء من العبارات عن ذلك أن الذهب والورق القول فيهما عندهم كالقول عند الشافعي لا يرد إليهما شيء من الموزونات لأنهما قيم المتلفات وأثمان المبيعات ولا شيء غيرهما كذلك فارتفع القياس عنهما لارتفاع العلة إذ القياس لا يكون - عند جماعة القياسيين - إلا على العلل لا على الأسماء وعللوا البر والتمر والشعير بأنها مأكولات مدخرات أقوات، فكل ما كان قوتًا مدهرًا حرم التفاضل والنساء في الجنس الواحد منه وحرم النساء في الجنسين المختلفين دون التفاضل وما لم يكن مدخرًا قوتًا من المأكولات لم يحرم فيه التفاضل وحرم فيه النساء سواء كان جنسًا أو جنسين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1683 قال أبو عمر وهذا مجتمع عليه عند العلماء أن الطعام بالطعام لا يجوز إلا يدًا بيد مدخرًا كان أو غير مدخر إلا إسماعيل ابن علية (1) فإنه شذ وأجاز التفاضل في النساء في النساء في الجنسين إذا اختلفا من المكيل أو من الموزون قياسًا على إجماعهم في إجازة بيع الذهب أو الفضة بالرصاص والنحاس والحديد والزعفران والمسك وسائر الموزونات، وأجاز على هذا القياس نصًّا في "كتبه" - كذا في النسخة المطبوعة ونحسب فيه خطأ أو كلمة ساقطة ولم نهتد إلى تقويمه - بيع البر بالشعير والشعير بالتمر والتمر بالأرز وسائر ما اختلف اسمه ونوعه بما يخالفه من الكيل والموزون متفاضلًا نقدًا ونسيئة سواء كان مأكولًا أو غير مأكول ولم يجعل الوزن والكيل علة ولا الأكل والاقتيات وقاس ما احتلفوا على ما اجتمعوا عليه مما ذكرنا. وذكر عن ابن جريج، عن إسماعيل ابن علية وأيوب بن موسى - عن نافع، عن ابن عمر أنه باع صاعي تمر بالغابة بصاع حنطة بالمدينة.   (1) إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم ابن علية البصري أخرج له الجماعة، روى عن عبد العزيز بن صهيب وسليمان التيمي وعاصم الأحول وأيوب بن عون وغيرهم، وعنه شعبة وابن جريج وهما من شيوخه وبقية وحماد وهما من أقرانه وإبراهيم بن طهمان وهو أسن منه وابن وهب والشافعي وأحمد ويحيى وعلى وإسحاق وآخرون، وكان يحدث من حفظه حتى قال بعض الآخذين عنه أنهم لم يروا كتابًا عنده قط وكان قوامًا لليل. قيل: إنه لم ير ضاحكًا قط، وكان ممن يصل ابن المبارك، فلما ولي القضاء قطع عنه صلته فركب إليه فأعرض عنه فكتب إليه في ذلك فأجابه بأبيات يؤنبه فيها على ولاية القضاء فقام من مجلس القضاء فوطئ بساط الرشيد، فقال: الله الله ارحم شيبتي، فإني لا أصبر على القضاء، فقال الرشيد: لعل هذا المجنون - يعني عبد الله بن المبارك - أغراك ثم أعفاه فوجه إليه ابن المبارك صلته، وكانوا شنعوا عليه بأن يقول: القرآن مخلوق من ذلة لسان افتتت منه غلطًا، ومع أنه أعلن توبته منها بقي أحمد - رحمه الله - واجدًا عليه، ومات ابن علية من مرض أصيب به حين بلغه رأي أحمد فيه. رحمهم الله جميعًا وأجزل لأحمد الأجر فليس كل أحد في قوة إيمان أحمد وصلابته في الحق إنه من حجج الله في الأرض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1684 وإسماعيل ابن علية هذا له شذوذ كثير ومذاهب عند أهل السنة مهجورة وليس قوله عندهم مما يعد خلافًا ولا يعرج عليه لثبوت السنة بخلافه من حديث عبادة وغيره على ما قدمنا في هذا الباب ذكره من قوله صلى الله عليه وسلم ((فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدًا بيد وبيعوا البر بالشعير كيف شئتم يدًا بيد وبيعوا التمر كيف شئتم يدًا بيد)) (1) ثم أورد طريقًا لحديث عبادة هذا ثم قال: فهذه الأحاديث كلها ترد قول ابن علية في إجازته بيع الطعام بعضه ببعض نسيئة. وكان مالك - رحمه الله - يجعل البر والشعير والسلت صنفًا واحدًا فلا يجوز شيء من هذه الثلاثة بعضها ببعض عنده إلا مثلًا بمثل يدًا بيد كالجنس الواحد وحجته في ذلك حديث زيد بن عياش، عن سعد في البيضاء بالسلت أيها أكثر؟ فنهاه وحديثه عن سعد أنه فني علف حماره فأمر غلامه أن يأخذ من حنطة أهله فيبتاع بها شعيرًا ولا يأخذه إلا مثلًا بمثل ذكر ذلك كله في موطأه (2) وذكر عن معيقيب الدوسي (3) عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث (4) وسليمان بن يسار (5) مثل ذلك. وخالفه جمهور فقهاء الأمصار فجعل البر صنفًا والشعير صنفًا وأجازوا فيهما التفاضل يدًا بيد للأحاديث المذكورة في هذا الباب عن عبادة، وممن قال بذلك أبو حنيفة والثوري والشافعي وأحمد وأبو ثور.   (1) انظر أحاديث عبادة في فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف (2) رواية مالك لحديث سعد هذا لفظها في الموطأ برواية يحيى بن يحيى (ص 539، ح 46. أنه - أي مالك - بلغه أن سليمان بن يسار قال: فني علف حمار سعد بن أبي وقاص، فقال لغلامه: خذ من حنطة أهلك وابتع بها شعيرًا ولا تأخذ إلا مثله. وروى مثل هذا من فعل عبد الرحمن بن الأسودين بن عبد يغوث، ومعيقيب الدوسي. وانظر في نفس المرجع تفصيل رأي مالك في هذا الشأن وما تفرع منه فقد أطال فيه. (3) رواية مالك لحديث سعد هذا لفظها في الموطأ برواية يحيى بن يحيى (ص 539، ح 46.) أنه - أي مالك - بلغه أن سليمان بن يسار قال: فني علف حمار سعد بن أبي وقاص، فقال لغلامه: خذ من حنطة أهلك وابتع بها شعيرًا ولا تأخذ إلا مثله. وروى مثل هذا من فعل عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، ومعيقيب الدوسي. وانظر في نفس المرجع تفصيل رأي مالك في هذا الشأن وما تفرع منه فقد أطال فيه. (4) رواية مالك لحديث سعد هذا لفظها في الموطأ برواية يحيى بن يحيى (ص 539، ح 46) . أنه - أي مالك - بلغه أن سليمان بن يسار قال: فني علف حمار سعد بن أبي وقاص، فقال لغلامه: خذ من حنطة أهلك وابتع بها شعيرًا ولا تأخذ إلا مثله. وروى مثل هذا من فعل عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، ومعيقيب الدوسي. وانظر في نفس المرجع تفصيل رأي مالك في هذا الشأن وما تفرع منه فقد أطال فيه. (5) رواية مالك لحديث سعد هذا لفظها في الموطأ برواية يحيى بن يحيى (ص 539، ح 46) . أنه - أي مالك - بلغه أن سليمان بن يسار قال: فني علف حمار سعد بن أبي وقاص، فقال لغلامه: خذ من حنطة أهلك وابتع بها شعيرًا ولا تأخذ إلا مثله. وروى مثل هذا من فعل عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، ومعيقيب الدوسي. وانظر في نفس المرجع تفصيل رأي مالك في هذا الشأن وما تفرع منه فقد أطال فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1685 وكان داود بن على لا يجعل للمسميات علة ولا يتعد المذكورات إلى غيرها، فقوله: إن الربا والتحريم غير جائز في شيء من المبيعات لقول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [الآية 275 من سورة البقرة] إلا في الستة أشياء المنصوصات وهي الذهب والورق والبر والشعير والتمر المذكورات في حديث عمر هذا والملح المذكور معها في حديث عبادة بن الصامت وهي زيادة يجب قبولها قال: فهذه الستة أشياء لا يجوز بيع الواحد منها بعضه ببعض متفاضلًا ولا نساء للثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وهو حديث عمر وحديث عبادة ولإجماع الأمة أيضًا على ذلك إلا من شذ ممن لا يعد خلافه ولا يجوز النساء في الجنسين المختلفين منها لحديث عمر في الذهب ولحديث عبادة؛ لأن الأمة لا خلاف بينها في ذلك ويجوز فيهما الفاضل وما عدا هذه الأصناف الستة فجائز فيها الزيادة عنده والنسيئة وكيف شاء المتبايعان في الجنس وفي الجنسين. فهذا اختلاف العلماء في أصل الربا الجاري في المأكول والمشروب والمكيل والموزون مختصرًا وبالله التوفيق. قال الباجي في (المنقى: 4/258) : وعلة الربا في الذهب والفضة أنهما أصول الآثمان وقيم المتلفات، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: علتهما الوزن. والدليل على إبطال مذهبه في أن الحديد والكحل فيه الربا أن ما لا يثبت الربا في مصوغه لا يثبت في غير مصوغه كالتراب، والدليل على إبطال علتهم أنه لو كانت علة الربا في الورق والذهب الوزن لما جاز أن يسلم في موزون؛ لأن كل عينين جمعتهما علة واحدة في الربا لم تسلم إحداهما في الأخرى: كالذهب والفضة. ولما أجمعنا على أنه يجوز تسليم الذهب والفضة في الموزون علمنا أنه لم يجمعها علة الربا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1686 قال ابن تيمية في (مجموع الفتاوى: 19/283، 284) في معرض الرد على من يقول: إن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة، وبيان أنها تفي بجمهورها أو بها جميعًا: ومن هذا الباب لفظ الربا فإنه يتناول كل ما نهي عنه من ربا النساء وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله لكن يحتاج في معرفة دخول الأنواع والأحيان في النص إلى ما يستدل به على ذلك. وهذا الذي يسمى تحقيق المناط. ثم قال (نفس المرجع: 20/167، 169) : النزاع وإن كان مشهورًا في ذلك - يعني في تعليل الحكم الواحد بعلتين - فأكثر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم " يجوز " - كذا في النسخة المطبوعة ولعل صوابه: يجوزون - تعليل الحكم بعلتين، وكثير من الفقهاء والمتكلمين "يمنع ذلك، فالنزاع في ذلك يعود إلى نزاع تنوعي ونزاع في العبارة وليس بنزاع تناقضي، ونظير ذلك النزاع في تخصيص العلة، فإن هذا فيه خلاف مشهور بين الطوائف كلها من أصحابنا وغيرهم حتى يذكر ذلك " روايتان " - لعل صوابه: روايتين - عن أحمد. وأصل ذلك أن مسمى العلة قد يعنى به العلة الموجبة، وهي التامة التي يمتنع تخلف الحكم عنها فهذه لا يتصور تخصيصها ومتى انتقضت فسدت ويدخل فيها ما يسمى جزء العلة وشرط الحكم وعدم المانع، فسائر ما يتوقف الحكم عليه يدخل فيها. وقد يعني بالعلة ما كان مقتضيًا للحكم يعني أن فيه معنى يقتضي الحكم ويطلبه، وإن لم يكن موجبًا فيمتنع تخلف الحكم عنه، فهذه قد يقف حكمها على ثبوت شروط وانتفاء موانع، فإذا تخصصت فكان تخلف الحكم عنها لفقدان شرط أو وجود مانع لم يقبح فيها. وعلى هذا فينجبر النقص بالفرق، وإن كان التخلف عنها لا لفوات شرط ولا وجود مانع كان ذلك دليلًا على أنها ليست بعلة إذ هي بهذا التقدير علة تامة إذا قدر أنها جميعها بشروطها وعدم موانعها موجودة حكمًا. والعلة التامة يمتنع تخلف الحكم عنها فتخلفه يدل على أنها ليست علة تامة. والمقصود من التنظير أن سؤال النقض الوارد على العلة مبني على تخصيص العلة، وهو ثبوت الوصف بدون الحكم وسؤال عدم التأثير عكسه، وهو ثبوت الحكم بدون الوصف، وهو ينافي عكس العلة كما أن الأول ينافي طردها والعكس مبني على تعليل الحكم بعلتين. وجمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم، وإن كانوا لا يشترطون الانعكاس في العلل الشرعية، ويجوزون تعليل الحكم الواحد بعلتين، فهم مع ذلك يقولون: العلة تفسد بعدم التأثير؛ لأن ثبوت الحكم بدون هذا الوصف يبين أن هذا الوصف ليس علة، فإذا لم يخلف هذا الوصف وصفًا آخر يكون علة له فهم يوردون هذا السؤال في المواضع الذي ليست العلة فيه إلا علة واحدة: إما لقيام الدليل على ذلك وإما لتسليم المستدل لذلك. ثم قال (ص 170) : ولا يتنازع العقلاء أن العلتين إذا اجتمعتا لم يجز أن يقال: إن الحكم الواحد ثبت بكل منهما حال الاجتماع على سبيل الاستقلال، فإن استقلال العلة بالحكم هو ثبوته بها دون غيرها، فإذا قيل: ثبت بهذه دون غيرها وثبت بهذه دون غيرها كان ذلك جمعًا بين الناقضين، وكان التقدير بهذه ولم يثبت بها وثبت بها، فكان ذلك جمعًا بين إثبات التعليل بكل منها وبين نفي التعليل عن كل منهما. وهذا معنى ما يقال: إن التعليل بكل منهما على سبيل الاستقلال ينفي ثبوته بواحدة منهما وما أفضى إثباته إلى نفيه كان باطلًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1687 ثم قال: (ص 171، 172) : ومن يقول بتعليل الحكم الواحد بعلتين لا ينازع في أنه إذا اجتمع علتان كان الحكم أقوى وأوكد مما إذا انفردت إحداهما. ولهذا إذا جاء تعليل الحكم الواحد بعلتين في كلام الشارع أو الأيمة كان ذلك مذكورًا لبيان توكيد ثبوت الحكم وقوته. ثم قال: (ص 341) في معرض بيانه للحكمة من تحريم بعض المحرمات: وحرم الربا؛ لأنه متضمن للظلم، فإنه أخذ فضل بلا مقابل له وتحريم الربا أشد من تحريم الميسر الذي هو القمار؛ لأن المرابي قد أخذ فضلًا محققًا من محتاج. وأما المقامر فقد يحصل له فضل وقد لا يحصل له، وقد يقمر هذا هذا وقد يكون بالعكس. ثم قال: (ص346، 347) : وهذا يتبين بذكر الربا، فإن تحريم الربا أشد من تحريم القمار؛ لأنه ظلم محقق، والله سبحانه وتعالى لما جعل خلقه نوعين: غنيًّا وفقيرًا، أوجب على الأغنياء الزكاة حقًّا للفقراء، ومنع الأغنياء عن الربا الذي يضر الفقراء. وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [الآية 276 من سورة البقرة] . وقال تعالى: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الآية 39 من سورة الروم] . فالظالمون يمنعون الزكاة ويأكلون الربا. ثم قال: ومعلوم أن أهل المدينة حرموا الربا ومنعوا التحليل على استحلاله، وسدوا الذريعة المفضية إليه، فأين هذا ممن يسوغ الاحتيال على أخذه بل يدل الناس على ذلك. ثم قال (ص 349) : وأما آخذ الربا فإنما مقصوده أن يأخذ دراهم بدراهم إلى أجل، فيلزم الآخر أكثر مما أخذ بلا فائدة حصلت له لم يبع ولم يتجر، والمربي آكل مال بالباطل بظلمه، ولن ينفع الناس لا بتجارة ولا غيرها بل ينفق دراهمه بزيادة بلا منفعة حصلت له ولا للناس. فإذا كان هذا مقصودهما فبأي شيء توصلوا إليه حصل الفساد والظلم. ثم قال (نفس مرجع: 29/470، 474) : الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1688 وقد اختلفوا في كثير من مسائل الربا قديمًا وحديثًا، واختلفوا في تحريم التفاضل في الأصناف الستة الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والملح، هل هو التماثل أو هو الكيل والوزن، أو هو الثمنية والطعم، أو هو الثمنية والتماثل مع الطعم والقوت وما يصلحه، أو النهي غير معلل والحكم مقصور على مورد النص، على أقوال مشهورة. والأول: مذهب أبي حنيفة وأحمد في أشهر الروايات عنه، والثاني قول الشافعي، وأحمد في رواية ثالثة اختارها أبو محمد، وقول مالك قريب من هذا، وهذا القول أرجح من غيره، والرابع: قول داود وأصحابه، وروي عن قتادة، ورجح ابن عقيل هذا القول في مفرداته، وضعف الأقوال المتقدمة وفيها قول شاذ، أن العلة المالية وهو مخالف للنصوص ولإجماع السلف والاتحاد في الجنس شرط على كل قول من ربا الفضل، والمقصود هنا الكلام في علة تحريم الربا في الدنانير والدراهم، والأظهر أَن العلة في ذلك، هو الثمنية لا الوزن كما قال جمهور العلماء، ولا يحرم التفاضل في سائر الموزونات كالرصاص والحديد والحرير والقطن والكتان، ومما يدل على ذلك اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل، فلو كانت العلة الوزن لم يجز هذا، والمنازع يقول: جواز استحسان وهو نقيض العلة، ويقول: أنه جوز هذا للحاجة مع أن القياس تحريمه فليزمه أن يجعل العلة الربا بما ذكره - هكذا في النسخة المطبوعة وهو غير واضح - وذلك خلاف قوله، وتخصيص العلة الذي قد سمي استحسانًا إن لم يبين " دليل شرعي " - هكذا في النسخة ولعل صوابه: بدليل شرعي - يوجب تعليق الحكم للعلة المذكورة واختصاص صورة التخصيص بمعنى يمنع ثبوت الحكم من جهة الشرع والأحاديث وإلا كانت العلة فاسدة. والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب، فإن المقصود بالأثمان أن تكون معيارًا للأموال يتوصل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية، واشتراط الحلول والتقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوسل بها إلى تحصيل المطلب فإن ذلك إنما يحصل بقبضها لا بثبوتها في الذمة مع أنها ثمن من طرفين فنهى الشارع أن يباع ثمن إلى أجل، فإذا صارت الفلوس أثمانًا صار فيها المعنى فلا تباع بثمن إلى أجل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1689 كما ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ)) (1) وهو المؤخر بالمؤخر، ولم ينه عن بيع دين ثابت في الذمة يسقط فإن هذا القاضي يقتضي تفريغ كل واحدة من الذمتين ولهذا كان هذا جائزًا في أظهر قولي العلماء مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما بخلاف ما إذا باع دينًا يجب في الذمة ويشغلها بدين يجب في الذمة، كالمسلم إذا أسلم في سلعة ولم يقبضه رأس المال، فإنه يثبت في ذمة المستسلف دين السلم، وفي ذمة المسلف رأس مال ولم ينتفع واحد منهما بشيء ففيه شغل ذمة كل واحد منهما بالعقود التي هي وسائل إلى القبض، وهو المقصود بالعقد، كما أن السلع هي المقصودة بالأثمان، فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل، كما لا يباع كالئ بكالئ، لما في ذلك من الفساد والظلم المنافي لمقصود الثمنية ومقصود العقود بخلاف كون المال موزونًا ومكيلًا فإن هذا صفة لما به يقدر ويعلم قدره؛ ولأن في ذلك معنى يناسب تحري التفاضل فيه. فإن قيل: المكيلات والموزونات متماثلة وعلة التحريم نفي التماثل قيل: العاقل لا يبيع شيئًا بمثله إلى أجل ولكن يقرض الشيء ليأخذ مثله بعد حين، والقرض هو تبرع من جنس العارية كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، منيحة ذهب (2)   (1) هذا الحديث أخرجه البيهقي والدارقطني، ومحص البيهقي طرقه تمحيصًا جيدًا. قال في (السنن الكبرى: 5/290، 291) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأنا الربيع بن سليمان، حدثنا الخصيب بن ناصح. وأخبرنا الحسين بن بشران ببغداد، أخبرنا أبو الحسن بن على المصري، حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني، حدثنا الخصيب، حدثنا محمد بن عبد العزيز الدراوردي، عن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ) . قال البيهقي " موسى هذا هو ابن عبيدة الربذي وشيخنا أبو عبد الله قال لي في روايته عن موسى بن عقبة وهو خطأ، والعجيب من أبي الحسين الدارقطني شيخ عصره روى هذا الحديث في كتاب السنن عن أبي الحسن بن على المصري هذا، فقال عن موسى بن عقبة: وشيخنا أبو الحسن رواه لنا عن أبي الحسن المصري في الجزء الثالث من سنن المصري، فقال موسى: غير منسوب ثم أردفه المصري بما أخبرنا أبو الحسين، أخبرنا أبو الحسن، حدثنا أحمد بن داود، حدثنا عبد الأعلى بن حماد، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن أبي عدب العزيز الربذي، عن نافع، عن ابن عمر، (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ) . أبو عبد العزيز الربذي هو موسى بن عبيدة. أخبرنا أبو سعيد الماليني، أخبرنا أحمد بن عدي، حدثنا القاسم بن مهدي، حدثنا أبو مصعب بن عبد العزيز الدراوردي، عن موسى بن عبيدة فذكره بمثله. قال موسى: قال نافع: وذلك بيع الدين بالدين. قال أبو أحمد: وهذا معروف بموسى بن عبيدة عن نافع. قال الشيخ - رحمه الله - وقد رواه عبيد الله بن موسى وزيد بن الحباب وغيرهما عن موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. ثم ساق هذه الرواية من عدة طرق. (2) لم نقف على حديث بهذا اللفظ، لكن قال أحمد في (مسنده: 1/463) : حدثنا عفان، حدثنا شعبة، عن إبراهيم الهجري قال: سمعت أبا الأحوص، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون أي الصدقة أفضل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: المنيحة أن يمنح أحدكم أخاه الدرهم أو ظهر الدابة أو لبن الشاة أو لبن البقرة) . ولعل ابن تيمية - رحمه الله - أشار إليه بالمعنى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1690 فالمال إذا دفع إلى من يستوفي منفعته مدة ثم يعيده إلى صاحبه كان هذا تبرعًا من صاحبه بنفعه تلك المدة، وإن كان لكل نوع اسم خاص به فيقال في النخلة عارية، ويقال فيما يشرب لبنه منيحة، ثم قد يعيد إليه عين المال إن كان مقصودًا وإلا أعاد إليه مثله والدراهم لا تقصد عينها فإعادة المقترض نظيرها كما يعيد المضارب نظيرها وهو رأس المال، ولهذا سمي قرضًا ولهذا لم يستحق المقرض إلا نظير ماله وليس له أن يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال باتفاق العلماء والمقرض يستحق مثل قرضه في صفته، كما يستحق مثله في الغصب والإتلاف ومثل هذا لا يبيعه عاقل، وإنما يباع الشيء بمثله فيما إذا اختلفت الصفة. والشارع طلب إلغاء الصفة في الأثمان، فأراد أن تباع الدراهم بمثل وزنها ولا ينظر إلى اختلاف الصفات مع خفة وزن كل درهم كما يفعله من يطلب دراهم خفافًا، إما ليعطيها للظلمة، وإما ليقضي بها، وإما لغير ذلك فيبدل أقل منها عدداً وهو مثلها وزنًا فيريد المربي أن لا يعطيه ذلك إلا بزيادة في الوزن، فهذا إخراج الأثمان عن مقصودها وهذا مما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم بلا ريب بخلاف مواضع تنازع العلماء فيها ليس هذا موضوع تفصيلها والله أعلم. وقال ابن القيم (أعلام الموقعين: 2/135) : الربا نوعان: جلي وخفي. الجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم، والخفي حرم لأنه ذريعة للجلي، فتحريم الأول قصدًا وتحريم الثاني وسيلة. فأما الجلي فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال، وكلما أخره زاده في المال حتى تصير المائة آلافًا مؤلفة، وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج، فإذا رأى أن المستحق يؤخر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يزيدها له تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس، ويدافع من وقت إلى وقت فيشتد ضرره وتعظيم مصيبته ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه فيأكل مال أخيه بالباطل ويحصل أخوه على غاية الضرر، فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أنه حرم الربا ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره ولهذا كان من أكبر الكبائر. وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا شك فيه، فقال: هو أن يكون له دين فيقول له: أتقضي أم تربي؟ فإن لم يقضه زاده في المال وزاده هذا في الأجل وقد جعل الله سبحانه الربا ضد الصدقة، فالمرابي ضد المتصدق فقال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [الآية 276 من سورة البقرة] . وقال {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الآية 39 من سورة الروم] . وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [الآيتان 129 و 130 من سورة آل عمران] . ثم ذكر الجنة التي أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء وهؤلاء ضد المرابين فنهى سبحانه عن الربا، الذي هو ظلم الناس وأمر بالصدقة التي هي إحسان إليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1691 ثم قال (ص 136) : وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع، كما صرح به حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم ((لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين، فإني أخاف عليكن الرماء، والرماء هو الربا)) (1) فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة وذلك أنهم إذا باعوا درهمًا بدرهمين - ولا يفعل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعين إما في الجودة، وإما في السكة، وإما في الثقل والخفة وغير ذلك –تدرجوا بالربح المعجل فيها من الربح المؤخر وهو عين ربا النسيئة وهذه ذريعة قريبة جدًّا، فمن حكمة التشريع أن سد عليهم هذه الذريعة ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقدًا أو نسيئة فهذه حكمة معقولة مطابقة للعقول وهي تسد عليهم باب المفسدة. فإذا تبين هذا فنقول: الشارع نص على تحريم ربا الفضل في ستة أعيان وهي: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح. فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس وتنازعوا فيما عداها فطائفة قصرت التحريم عليها وأقدم من يروي هذا عنه قتادة، وهو مذهب أهل الظاهر واختيار ابن عقيل في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس، قال: لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة وإذا لم تظهر علة امتنع القياس، وطائفة حرمته في كل مكيل وموزون بجنسه، وهذا مذهب عمار وأحمد في ظاهر مذهبه وأبي حنيفة، وطائفة خصته بالطعام إذا كان مكيلًا أو موزونًا وهو قول الشافعي ورواية عن الإمام أحمد، وطائفة خصته بالطعام إذا كان مكيلًا أو موزونًا، وهو قول سعيد بن المسيب، ورواية عن أحمد وقول الشافعي، وطائفة خصته بالقوت وما يصلحه وهو قول مالك وهو أرجح هذه الأقوال كما ستراه. وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة: العلة فيهما كونهما موزونين، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه، ومذهب أبي حنيفة وطائفة، قالت: العلة فيهما الثمنية، وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى، وهذا هو الصحيح بل الصواب، فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما، فلو كان الحديد والنحاس ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدًا فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها. وأيضًا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية، فإن الدراهم والدنانير أثمان للمبيعات والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقوم الأموال فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات بل الجميع سلع وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره إذا يصير سلعة يرتفع وينخفض ثمنه، فتفسد معاملات الناس ويقع الخلف ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم ولو جعلت ثمنًا واحدًا لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به الأشياء ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس. فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير مثل أن يعطي صحاحًا ويأخذ مكسرة أو خفافًا ويأخذ ثقالًا أكثر منها لصارت متجرًا أو جر ذلك إلى ربا النسئة فيها ولا بد، فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل " يقصد التوصل بها إلى السلع " - هكذا في النسخة المطبوعة وهو خطأ صوابه: بل تقصد للتوصل بها إلى السلع - فإذا صارت في أنفسها سلعًا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات.   (1) الحديث بطريقه وألفاظه المختلفة في فصل: " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1692 وأما الأصناف الأربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من حاجتهم إلى غيرها؛ لأنها أقوات العالم وما يصلحها، فمن رعاية مصالح العباد أن منعوا من بيع بعضها ببعض إلى أجل سواء اتحد الجنس أو اختلف ومنعوا من بيع بعضها ببعض حالًا متفاضلًا، فإن اختلفت صفاتها جوز لهم التفاضل مع اختلاف أجناسها. ثم أفاض في تبيان هذا المعنى وتعليله، والتوضيح له، ثم قال: وإذا تأملت ما حرم فيه النساء رأيته إما صنفًا واحدًا أو صنفين، مقصودهما واحد أو تقارب كالدراهم والدنانير والبر والشعير والتمر والزبيب، فإذا تباعدت المقاصد لم يحرم النساء كالبر والثياب والحليب والزيت. ثم قال: وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان بجنسها؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان ومنعوا من التجارة في الأقوات بجنسها، لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات وهذا معنى بعينه موجود في بيع التبر والعين، لأن التبر ليس فيه صفة يقصد لأجلها فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع أن لا يفاضل بينهما ولهذا قال: " تبرها وعينها سواء "، فظهرت حكمة تحريم ربا النساء في الجنس والجنسين، وربا الفضل في الجنس الواحد، وأن تحرم هذا تحريم المقاصد وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع ولهذا لم يبح شيء من ربا النسيئة. ولابن رشد الحفيد تلخيص جيد لهذه الآراء المتواجهة مع إضافة سبق الإلماع إليها لكنه أوضحها بما يجلو مصادرها ومقاصدها، قال - رحمه الله - في (بداية المجتهد: 2/130، 133) : إن الذين قصروا صنف الربا على هذه الأصناف الستة فهم أحد صنفين: إما قوم نفوا القياس في الشرع أعني استباط العلل من الألفاظ وهم الظاهرية، وإما قوم نفوا قياس الشبه وذلك أن جميع من ألحق المسكوت ههنا بالمنطوق به فإنما ألحقه بقياس الشبه لا بقياس العلة إلا ما حكي عن ابن الماجشون أنه اعتبر في ذلك " المالية " وقال: علة منع الربا إنما هي حياطة الأموال يريد منع العين. وأما القاضي أبو بكر الباقلاني فلما كان قياس الشبه عنده ضعيفًا، وكان قياس المعنى عنده أقوى منه اعتبر في هذا الموضع قياس المعنى إذ لم يتأت له قياس علة، فألحق الزبيب فقط بهذه الأصناف الأربعة؛ لأنه زعم أنه في معنى التمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1693 ثم قال: - بعد أن استعرض أقوال أهل السنة وختم بالمالكية - ولكن إذا تؤمل الأمر من طريق المعنى - والله أعلم - أن علتهم- يعني المالكية - أولى العلل، وذلك أنه يظهر من الشرع أن المقصود من تحريم الربا إنما هو لمكان الغبن الكثير الذي فيه وأن العدل في المعاملات إنما هو مقاربة التساوي، ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة الذوات جعل الدرهم والدينار لتقويمها أعني تقديرها ولما كانت الأشياء المختلفة الذوات أعني غير الموزونة والمكيلة العدل فيها إنما هو في وجود النسبة، أعني أن لا تكون نسبة قيمة أحد الشيئين إلى جنسه نسبة قيمة الشيء الآخر إلى جنسه مثال ذلك أن العدل إذا باع إنسان فرسًا بثياب هو أن تكون نسبة قيمة ذلك الفرس إلى الأفراس هي نسبة قيمة ذلك الثوب إلى الثياب، فإن كان ذلك الفرس قيمته خمسون، فيجب أن تكون تلك الثياب قيمتها خمسون، فليكن مثلًا الذي يساوي هذا القدر عددها هو عشرة أثواب، فإذن اختلاف هذه المبيعات بعضها ببعض في العدد واجبة في المعاملة العدالة أعني أن يكون عديل فرس عشرة أثواب في المثل وأما الأشياء المكيلة والموزونة فلما كانت ليست تختلف كل الاختلاف وكانت منافعها متقاربة، ولكن حاجة ضرورية لمن كان عنده منها صنف أن يستبدله بذلك الصنف بعينه إلا على جهة السرف كان العدل في هذا إنما هو بوجود التساوي في الكيل أو الوزن، إذ كانت لا تتفاوت في المنافع وأيضًا فإن منع التفاضل في هذه الأشياء يوجب ألا يقع فيها تعامل لكون منافعها غير مختلفة، والتعامل إنما يضطر إليه في المنافع فإذا منع التفاضل في هذه الأشياء أعني المكيلة والموزونة علتان: إحداهما وجود العدل فيها، والثاني منع المعاملة إذ كانت المعاملة بها من باب السرف. وأما الدينار والدرهم فعلة المنع فيهما أظهر إذ كانت هذه ليس المقصود منها الربح وإنما المقصود بها تقدير الأشياء التي لها منافع ضرورية. ويروي مالك، عن سعيد بن المسيب، أنه كان يعتبر علة الربا في هذه الأصناف الكيل والطعم (1) ، وهو معنى جيد لكون الطعم ضروري في أقوات الناس فإنه يشبه أن يكون حفظ العين وحفظ السرف فيما هو قوت أهم منه فيما ليس هو قوتًا. وقد روي عن بعض التابعين أنه اعتبر في الربا الأجناس التي تجب فيها الزكاة، وعن بعضهم الانتفاع مطلقًا أعني المالية وهو مذهب ابن الماجشون. قلت: وهذا الاختلاف في تعيين علة تحريم الربا في الأصناف الستة، نتج عنه أمران: أحدهما سبقت الإسارة إليه فيما نقلناه من كلام ابن رشد الحفيد وغيره، وهو: هل يقاس على هذه الأصناف ما يشبهها أو لا يقاس؟ وليس هذا مجال مناقشته. أما الثاني، فهو ما ذهب إليه البعض من التمييز بين ربا النسيئة وربا الفضل في درجة التحريم وتقسيم الربا إلى الربا الجلي والربا الخفي، وأما في معنى ذلك من الأسماء مما اعتمده نفر من المعاصرين - وفيهم من وثق به الناس فقلدوه، أو احتجوا باجتهاداته وفتاويه - فقالوا في ربا الفضل وخاصة معاملات البنوك، أو بعضها كلامًا خلطوا ما شاء لهم عدم التقيد بالمناط في تمييز علل أحكام الشريعة وتحديدها وفي القياس على المنصوص عليه منها غير المنصوص. وهذا ما نسوق في الفصل التالي النماذج التي رأيناها منه خليقة بالاعتبار والمناقشة *   (1) انظر ابن عبد البر (التمهيد: 6/292 وما بعدها) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1694 (14) من مقولات بعض المعاصرين قال ابن القيم في (أعلام الموقعين: 2/140، 143) وأما ربا الفضل فأبيح لما تدعو إليه الحاجة كالعرايا فإن ما حرم سدًا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد. وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صياغته محرمة كالآنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه، وبيعه هذا هو الذي أنكره عبادة على معاوية فأنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان وهذا لا يجوز كالآت الملاهي، وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء وما أبيح من حلية السلاح وغيرها فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها فإنه سفه وإضاعة للصنعة والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك فالشريعة لا تأتي به ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه فلم يبق إلا أن يقال: لا يجوز بيعها بجنسها البتة بل يبيعها بجنس آخر وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تنفيه الشريعة، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر والحيل باطلة في الشرع. وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه؟ فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع فلو لم يجز بيعه بالدراهم لفسدت مصالح الناس. والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في المنع وغايتها أن تكون عامة ومطلقة، ولا ينكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة والجمهور يقولون: لم تدخل في ذلك الحلية ولا سيما في أن لفظ النصوص في الموضوعين قد ذكر تارة في لفظ الدراهم والدنانير كقوله: " الدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير " (1) ، وفي الزكاة قوله: " في الرقة ربه العشر " (2) ، والرقة هي الورق وهي الدراهم المضروبة، وتارة بلفظ الذهب والفضة، فإن حمل المطلق على المقيد كان نهيًا عن الربا في النقدين وإيجابًا للزكاة فيهما ولا يقتضي ذلك نفي الحكم عن جملة ما عداها بل فيه تفصيل، فيجب الزكاة ويجري الربا في بعض صوره لا في كلها وفي هذا توفية الأدلة حقها وليس فيه مخالفة بشيء لدليل منها. وبعد أن أفاض في الاحتجاج لإباحة بيع الحلي بالنقدين وهو أمر لا يعرف جدلًا جديًّا فيه فهو تقرير لمقرر.   (1) انظر فصل النقد كما يتمثل في الحديث الشريف (2) انظر فصل النقد كما يتمثل في الحديث الشريف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1695 قال: يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدًّا للذريعة كما تقدم بيانه، وما حرم سدًّا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب والعامل من جملة النظر المحرم وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال حرم لسد الذريعة على التشبه بالنساء الملعون فاعله وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك وتحريم التفاضل إنما كان سدًّا للذريعة فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع ولا تتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل والحيل باطلة في الشرع وغاية ما في ذلك جعل الزيادة مقابلة للصياغة المباحة المتقدمة بالأثمان في الغصوب وغيرها. ثم راح ينكر على متنفقهة زمانه ومن على شاكلتهم أحكامًا في بيوعات أقحموها في ربا الفضل وما هي منه وكأن ذلك هو الذي حمله على مقولته هذه. ونقل محمد رشيد رضا في (تفسير المنار: 3/107، 113) عن محمد عبده في تفسير الآية الكريمة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [الآية 275 من سورة البقرة] ما مثاله: مسألة الربا مسألة كبيرة اتفقت فيها الأديان ولكن اختلفت فيها الأمم فاليهود كانوا يرابون مع غيرهم والنصارى يرابي بعضهم بعضًا ويرابون سائر الناس وقد كان المسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة زمنًا طويلًا ثم قلدوا غيرهم، ومنذ نصف قرن فشت المراباة بينهم في أكثر الأقطار، وكانوا قبل ذلك يأكلون الربا بالحيلة التي يسمونها شرعية وقد أباحها بعض الفقهاء في استثمار مال اليتيم وطالب العلم المنقطع، ومنها مسألة " المسبحة " المشهورة وهي أن يتفق الدائن مع المدين على أن يعطيه مائة إلى سنة بمائة وعشرة مثلًا فيعطيه المائة نقدًا ويبيعه " مسبحة " بعشرة في الذمة فيشتريها ثم يهديها إليه. على أن الذين يأكلون الربا من المسلمين لا يزالون قليلين جدًّا، لكن الذين يؤكلونه غيرهم كثيرون جدًّا حتى لا تكاد تجد متمولًا في هذه البلاد سالمًا من الاستدانة بالربا إلا قليلًا والسبب في ذلك تقليد حكامهم في هذه السنة بل كثيرًا ما كان حكام هذه البلاد يلزمون الرعية بها إلزامًا لأداء ما يفرضونه عليهم من الضرائب والمصادرات. ومن هنا ترى أن الأحيان لم يمكنها أن تقاوم ميل جماهير الناس إلى أكل الربا حتى كأنه ضرورة يضطرون إليها، ومن حجتهم عليها أن البيع مثل الربا فكما يجوز أن بيع الإنسان السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدًا بعشرين درهمًا نسيئة يجوز أن يعطي المحتاج العشرة الدراهم على أن يرد إليه بعد سنة عشرين درهمًا؛ لأن السبب في كل من الزيادتين الأجل هكذا يحتج الناس في أنفسهم كما تحتج الحكومات بأنها لو لم تأخذ المال بالربا لاضطرت إلى تعطيل مصالحها أو خراب أرضها. والله تعالى قد أجاب عن دعوى مماثلة البيع للربا بالجواب ليس على طريقة أجوبة الخطباء المؤثرين ولا على طريقة أقيسة الفلاسفة والمنطقيين ولكنه على سنة هداية الدين وهو أن الله " أحل البيع وحرم الربا ". وقد جعل أكثر المفسرين هذا الجواب من قبيل إبطال القياس بالنص أي أنكم تقيسون في الدين والله تعالى لا يجيز هذا القياس ولكن المعهود في القرآن مقارعة الحجة بالحجة وقد كان الناس في زمن التنزيل يفهمون معنى الحجة في رد القرآن ذلك القول، إذ لم يكن عندهم من الاصطلاحات الفقهية المسلمة ما هو أصل عندهم في المسائل لا يفهمون الآية ولا ينظرون إليها إلا لتحويلها إليه وتطبيقها على آرائهم ومذاهبهم فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1696 والمعنى الصحيح أن زعمهم مساواة الربا للبيع في مصلحة التعامل بين الناس إنما يصح إذا أبيح للناس أن يكونوا في تعاملهم كالذئاب كل واحد ينتظر الفرصة التي تمكنه من افتراس الآخر وأكله، لكن ههنا إله رحيم يضع لعباده من الأحكام ما يربيهم على التراحم والتعاطف وأن يكون كل منهم عونًا للآخر لا سيما عند شدة الحاجة إليه ولذلك حرم عليهم الربا الذي هو استغلال ضرورة إخوانهم وأحل البيع الذي لا يختص الربح فيه بأكل الغني الواجد مال الفقير الفاقد فهذا وجه التباين بين الربا والبيع يقتضي فساد القياس، وهنالك وجه آخر وهو أن الله تعالى جعل طريق تعامل الناس في معايشهم أن يكون استفادة كل واحد من الآخر بعمل ولم يجعل لأحد منهم حقًّا على آخر بغير عمل؛ لأنه باطل لا مقابل له وبهذه السنة أحل البيع؛ لأن فيه عوضًا بقابل عوضًا وحرم الربا لأنه زيادة لا مقابل لها، والمعنى أن قياسكم فاسد لأن في البيع من الفائدة ما يقتضي حله وفي الربا من المفسدة ما يقتضي تحريمه ذلك بأن البيع يلاحظ فيه دائمًا انتفاع المشتري بالسلعة انتفاعًا حقيقيًّا؛ لأن من يشتري قمحًا مثلًا فإنما يشتريه ليتأكله أو ليبذره أو ليبيعه وهو في كل ذلك ينتفع به انتفاعًا حقيقيًّا (وأقول: والثمن في هذا مقابل للبيع مقابلة مرضية للبائع والمشتري باختيارهما) ، - يظهر أن هذه المقولة لرشيد رضا - وأما الربا وهو عبارة عن إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر فما يؤخذ منه زيادة عن رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل (أقول: وهي لا تعطى بالرضا والاختيار بل بالكره والاضطرار) . وثم وجه ثالث لتحريم الربا من دون البيع وهو أن النقدين إنما ليكون ميزانًا لتقدير قيم الأشياء التي ينتفع بها الناس في معايشهم، فإذا تحول هذا وصار النقد مقصودًا بالاستغلال فإن هذا يؤدي إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استغلال المال بالمال فينمو المال ويربو عندهم ويخزن في الصناديق والبيوت المالية المعروفة بالبنوك ويبخس العاملون قيم أعمالهم لأن الربح يكون معظمه من المال نفسه وبذلك يهلك الفقراء. ولو وقف الناس في استغلال المال عند حد الضرورة لما كان فيه مثل هذه المضرات ولكن أهواء الناس ليس لها حد تقف عنده بنفسها (أي فلا بد لها من الوازع الذي يوقفها بإقناع أو بالإلزام) لذلك حرم الله الربا وهو لا يشرع للناس الأحكام بحسب أهوائهم وشهواتهم كأصحاب القوانين ولكن بحسب المصلحة الحقيقية العامة الشاملة. وأما واضعو القوانين فإنهم يضعون للناس الأحكام بحسب حالهم الحاضرة التي يرونها موافقة لما يسمونه الرأي العام من غير نظر في عواقبها ولا في أثرها في تربية الفضائل والبعد عن الرذائل وإننا نرى البلاد التي أحلت في قوانينها الربا قد عفت فيها رسوم الدين وقل فيها التعاطف والتراحم وحلت القسوة محل الرحمة حتى أن الفقير فيها يموت جوعًا فلا يجد من يجود عليه بما يسد رمقه فمنيت من جراء ذلك بمصائب أعظمها ما يسمونه المسألة الاجتماعية وهي مسألة تألب الفعلة والعمال على أصحاب الأموال واعتصابهم المرة بعد المرة لترك العمل وتعطيل المعامل والمصانع؛ لأن أصحابها لا يقدرون عملهم قدره بل يعطونهم أقل مما يستحقون وهم يتوقعون من عاقبة ذلك انقلابًا كبيرًا في العالم، ولذلك قام كثير من فلاسفتهم وعلمائهم يكتبون الرسائل والأسفار في تلافي هذه المسألة، وقد صرح كثير منهم بأنه لا علاج لهذا الداء إلا رجوع الناس إلى ما دعاهم إليه الدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1697 وقد ألف تولستوي الفيلسوف الروسي كتابًا سماه (ما العمل؟) وفيه أمور يضطرب لفظاعتها القارئ، وقد قال آخره: إن أوروبا نجحت في تحرير الناس من الرق ولكنها غفلت عن رفع نير الدينار (الجنيه) من أعناق الناس الذين ربما استعبدهم المال يومًا ما. قال الأستاذ - رحمه الله تعالى -: وهذه بلادنا قد ضعف فيها التعاطف والتراحم وقل الإسعاد والتعاون منذ فشا فيها الربا، وإنني لأعي وأدرك ما مر بي منذ أربعين سنة كنت أرى الرجل يطلب من الآخر قرضًا فيأخذه صاحب المال إلى بيته ويوصد الباب عليه معه ويعطيه من طلب بعد أن يستوثق منه باليمين أنه لا يحدث الناس بأنه اقترض منه؛ لأنه يستحي أن يكون في نظرهم متفضلًا عليه قال: رأيت هذا من كثيرين في بلاد متعدد ورأيت من وفاء من يقترض أنه يغني المقرض على المطالبة بله المحاكمة ثم بعد خمسة وعشرين سنة رأيت بعض هؤلاء المحسنين لا يعطي ولده رضًا طلبه إلا بسند وشهود، فسألته: أما أنت الذي كنت تعطي الغرباء ما يطلبون والباب مقفل وتقسم عليهم أو تحلفهم أن لا يذكروا وذلك؟ قال: نعم قلت: فما بالك تستوثق من ولدك ولا تأمنه على مالك إلا بسند وشهود وما عملت عليه من سوء؟ قال: لا أعرف سبب ذلك إنني لا أجد الثقة التي كنت أعرفها في نفسي. ثم قال رشيد رضا: من تدبر ما قاله الإمامان - يعني محمد عبده والغزالي الذي استمد منه محمد عبده آراءه تلك كما ذكر رشيد رضا - علم أن تحريم الربا هو عين الحكمة والرحمة الموافق لمصلحة البشر المنطبق على قواعد الفلسفة وأن إباحته مفسدة من أكبر المفاسد للأخلاق وشؤون الاجتماع زادت في أطماع الناس وجعلتهم ماديين لا هم لهم إلا الاستكثار من المال وكادت تحصر ثروة البشر في أفراد منهم وتجعل بقية الناس عالة عليهم. فإذا كان المفتونون من المسلمين بهذه المدينة ينكرون من دينهم تحريم الربا بغير فهم ولا عقل، فسيجيء يوم يقر فيه المفترون بأن ما جاء به الإسلام هو النظام الذي لا تتم سعادة البشر في دنياهم فضلًا عن آخرتهم إلا به يوم يفوز الاشتراكيون في المماليك الأوروبية ويهدمون أكثر دعائم هذه الأثرة المادية ويرغمون أنوف المحتكرين إلى الأموال ويلزمونهم برعاية حقوق المساكين والعمال. قلت: هذا ما نقله محمد رشيد رضا عن محمد عبده أستاذه وإمامه وما تعقب به كلامه لكنه ما لبث أن أخذ ينقضه كما لو لم يكن هونًا عليه بما عقب وسبحان من بيده مقاليد القلوب والعقول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1698 ثم قال (نفس المرجع: 4/128، 130) : قال في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [الآية 130 من سورة آل عمران] ، وبعد أن نقل كلام محمد عبده وساق كلام ابن القيم في الربا الجلي والربا الخفي وفي ربا الفضل من " أعلام الموقعين " وقد سقناه منفصلًا. وإنما تعرضت هنا لربا الفضل وهو ليس مما تناولته الآية الكريمة للتفرقة؛ ولأن مسألة الربا قد قامت لها البلاد المصرية وقعدت في هذه الأيام واقترح كثيرون إنشاء بنك إسلامي وألقيت فيها خطب كثيرة في نادي دار العلوم بالقاهرة خالف فيها بعض الخطباء بعضًا، فمال بعضهم إلى منع كل ما عده الفقهاء من الربا وأنحى بعضهم على الفقهاء ولم يعتد بقولهم، ومال آخرون إلى عدم منع ربا الفضل أو ما دون المضاعف فغلا بعضهم وتوسط بعض ولم يأت أحد بتحرير البحث وإقناع الناس بشيء يستقر عليه الرأي - قلت: عجبًا كأن المسألة لا تعدو أن تكون مسألة رأي يستقر عليه الناس ومن هم هؤلاء الناس؟! - وفي الليلة التي ختم فيها هذا البحث ألقى كاتب هذا - يعني رشيد رضا نفسه - خطابًا وجيزًا في المسألة، قال رئيس النادي حنفي بك ناصف في خطبته الختامية: إنه فصل الخطاب ورغب إلينا هو (رئيس النادي) وغيره أن ندونه - وعجبًا مرة أخرى فمحمد رشيد رضا الذي حمل مع أستاذه لواء الإنكار للتقليد على المقلدين يستظهر أو يعتز أو يستأنس في موضوع خطير هو موضوع الربا بشهادة من؟ شهادة حنفي ناصف ومن حنفي؟ أما في الفقه والعلوم الشرعية فلا نعرف له ركزًا ولكنه رئيس نادي دار العلوم، ولعل هذا في نظر رشيد رضا مؤهلًا كافيًا للاستظهار والاعتزاز أو الاستئناس بشهادته: وهذا هو بالمعنى. إن الله حرم ربا النسيئة الذي كانت عليه الجاهلية تحريمًا صريحًا ونهى عنه نهيًا مؤكدًا، وورد في الأحاديث الصحيحة تحريم ربا الفضل والنهي عنه، فالبحث في هذه المسألة من وجهين: الوجه الأول النظر فيها من الوجهة النظرية المعقولة فنقول: إن كل ما جاء به الإسلام من الأحكام الثابتة المحكمة فهو خير وإصلاح للبشر وموافق لمصالحهم ما تمسكوا به ولكن من الناس من يظن اليوم أن إباحة الربا ركن من أركان المدينة لا تقوم بدونه، فالأمة التي لا تتعامل بالربا لا تلتقي مدنيتها ولا يحفظ كيانها وهذا باطل في نفسه إذ لو فرضنا أن تركت جميع الأمم أكل الربا فصار الواجدون فيها يقرضون العادمين قرضًا حسنًا ويتصدقون على البائسين والمعوزين ويكتفون بالكسب من مواردهم الطبيعية كالزراعة والتجارة والصناعة والشركات ومنها المضاربة، لما زادت مدنيهم إلا ارتقاء ببنائها على أساس الفضيلة والرحمة والتعاون الذي يحبب الغني إلى الفقير ولما وجد فيها الاشتراكيون الغالون والفوضويون المغتالون. وقد قامت للعرب مدينة إسلامية لم يكن الربا من أركانها فكانت خير مدين في زمنها كما شرعه الإسلام من منع الربا هو عبارة عن الجمع بين المدينة والفضيلة وهو أفضل هداية للبشر في حياتهم الدنيا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1699 الوجه الثاني: النظر فيها من الجهة العملية بحسب حال المسلمين الآن في هذه البلاد فإننا نرى كثيرين يوافقوننا على أنه لو وجد للإسلام دول قوية وأمم عزيزة تقيم الشرع وتهتدي بهدى القرآن لأمكنها الاستغناء عن الربا ولكانت مدنيتها بذلك أفضل فلا اعترض على الإسلام في تحريم الربا؛ لأن شرعه لا يمكن أن يبيح الربا وهو دين غرضه تهذيب النفوس وإصلاح حال المجتمع لا توفير بعض الأفراد من أهل الأثرة. ولكنهم يقولون: إننا نعيش في زمن ليس فيه أمم إسلامية ذات دول قوية تقيم الإسلام وتستغني عمن يخالفها في أحكامها وإنما زمام العالم في أيدي أمم مادية قد قبضت على أزمة الثروة في العالم حتى صارت سائر الأم والشعوب عيالًا عليها فمن جاراها منهم في طرق كسبها والربا من أركانه فهو الذي يمكن أن يحفظ وجوده معها، ومن لم يجارها في ذلك انتهى أمره بأن يكون مستعبدًا لها فعل يبيح الإسلام لشعب مسلم هذه حاله من الأوروبيين كالشعب المصري أن يتعامل بالربا ليحفظ ثروته وينميها فيكون أهلًا للاستقلال أم يحرم عليه ذلك - والحالة حالة ضرورة - ويوجب عليه أن يرضى باستنزاف الأجنبي لثروته وهي مادة حياته؟ هذا ما يقوله من مسلمي مصر الآن. فالجواب عنه - بعد تقرير قاعدة أن الإسلام يوافق مصالح الآخذين به في كل زمان ومكان - من وجهين يوجه كل واحد منهما إلى فريق من المسلمين. أما الأول فيوجه إلى فريق المقلدين وهم أكثر المسلمين في هذا العصر فيقال لهم: إن في مذاهبكم التي تقلدونها مخرجًا من هذه الضرورة التي تدعونها وذلك بالحيلة التي أجازها الإمام الشافعي الذي ينتمي إلى مذهبه أكثر أهل هذا القطر والإمام أبو حنيفة الذي يتحاكمون على مذهبه كافة، ومثلهم في ذلك مثل أهل المملكة العثمانية التي أنشأت فيها مصاريف (بنوك) للزراعة بأمر السلطان وهي تقرض بالربا المعتدل مع إجراء حيلة التي يسمونها المبايعة الشرعية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1700 وأما الثاني فيوجه إلى أهل البصيرة في الدين الذي يتبعون الدليل ويتحرون مقاصد الشرع، فلا يبيحون لأنفسهم الخروج عنها بحيلة ولا تأويل فيقال لهم: إن الإسلام كله مبني على قاعدة اليسر ودفع الحرج والعسر، الثابتة بنص قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الآية 185 من سورة البقرة] ، وقوله {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [الآية 6 من سورة المائدة] ، وإن المحرمات قسمان: الأول: ما هو محرم لذاته لما فيه من الضرر وهو لا يباح إلا لضرورة ومنه ربا النسيئة المتفق على تحريمه وهو مما لا تظهر الضرورة إلى أكله ماله أضعافًا مضاعفة كما تظهر في أكل الميتة وشرب الخمر أحيانًا، والثاني ما هو محرم لغيره كربا الفضل المحرم لئلا يكون ذريعة وسببًا لربا النسيئة وهو يباح للضرورة بل وللمصلحة كما قال الإمام ابن القيم وأورد له الأمثلة من الشرع فقسم الربا إلى جلي وخفي (وقد أورد ذكرنا عبارته آنفًا) فأما الأفراد من أهل البصيرة فيعرف كل من نفسه هل هو مضطر أو محتاج إلى أكل الربا وإيكاله غيره، فلا كلام لنا في الأفراد وإنما المشكل تحديد ضرورة الأمة أو حاجاتها فهو الذي فيه التنازع. وعندي - الكلام لرشيد رضا - أنه ليس الفرد من الأفراد أن يستقل بذلك وإنما يرد مثل هذا الأمر إلى أولي الأمر من الأمة إلى أصحاب الرأي والشأن فيها والعلم بمصالحها عملًا بقوله تعالى في مثله من الأمور العامة: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [الآية 83 من سورة النساء] ، فالرأي عندي أن يجتمع أولو الأمر من مسلمي هذه البلاد وهم كبار العلماء المدرسين والقضاة ورجال الشورى والمهندسين والأطباء وكبار المزارعين والتجار ويتشاوروا بينهم في المسألة ثم يكون العمل بما يقررون أنه قد مست إليه الضرورة أو ألجأت إليه حاجة الأمة. قلت: وعلى هذا النهج من التفكير وضع محمد رشيد رضا رسالته (الربا والمعاملات في الإسلام) التي كفانا التعقيب عنها عبد الرزاق أحمد السنهوري كما كفانا التعقيب عن غيرها من مقولات آخرين قلدوه أو ذهبوا مذهبه مما سننقله بنصه لنفاسته بعد قليل، لكن قبل ذلك نسوق كلام ابن القيم الذي اعتمد عليه محمد رشيد رضا ومن واكبه في دربه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1701 وتقسيم ابن القيم - ومن سار على نهجه أو سار هو على نهجهم مثل ابن رشد الحفيد - الربا إلى خفي وجلي وما إلى ذلك من التقسيمات التي يزعمونها يغفر الله لهم هي الأساس الذي ارتكز عليه من يحاولون اليوم تقويض تحريم الربا في الإسلام بمختلف الذرائع والتعلات وقد انتبه إلى ذلك السنهوري كما لم ينتبه إليه غيره من المعاصرين فحاج ابن القيم وغيره كما حاج من ارتكز على قوله من المعاصرين بهذا الحجاج الرائع الذي نورده كاملًا على طوله إذ لا نجد له مثيلًا ولا بديلًا، ونرى أن كل إيجاز له إخلال بما تضمنه من محاجة دامغة ما كان أحوجنا إليها في مواجهة من يحاولون باسم الصحوة الإسلامية والعمل على إعادة العزة للأمة الإسلامية تقويض الأسس الأولى للتشريع الإسلامي في المعاملات. قال - رحمه الله - في (مصادر الحق في الفقه الإسلامي: 3/218، 249) بعد أن ناقش مختلف أقوال الفقهاء في تعليل حكم الربا وتفصيله، وساق كلام ابن القيم وابن رشد (وجله قد نقلناه آنفًا) في تقسيم الربا إلى جلي وخفي: وابن القيم فيما رأينا قد ميز بين الربا الجلي والربا الخفي، فالربا الجلي هو كما يقول في (أعلام الموقعين: 2/99) ، (2/135 من النسخة التي بين أيدينا) : (ربا النسيئة هو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية على أن يؤخر دينه ويزيده في المال وكلما أخره زاده في المال حتى تصير المائة عنده آلافًا مؤلفة) ، فواضح إذن أن الربا الجلي عند ابن القيم هو ربا النسيئة الذي تعودوا عليه في الجاهلية وهو الربا الذي يقول فيه الدائن للمدين إما أن تقضي وإما أن تربي. أما الربا الخفي فهو ما حرم؛ لأنه ذريعة إلى الجلي، ولما كان ربا الفضل هو الربا الذي تحرمه من باب سد الذرائع (ص 100) (ص 136 من نسختنا) فالربا الخفي إذن هو ربا الفضل وحده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1702 فإذا كان الربا الجلي عند ابن القيم هو ربا الجاهلية، وهو النوع الأول، والربا الخفي هو ربا الفضل، وهو النوع الثالث، فأين يقع النوع الثاني من الربا وهو ربا النسيئة الوارد في الحديث الشريف، أهو ربا جلي يلحق بربا الجاهلية أم هو ربا خفي فيلحق بربا الفضل؟ الظاهر أن ابن القيم قد ألحقه دون أن يصرح بذلك - بربا الجاهلية - فجعله ربا جليًّا مثله، فهو عندما يتكلم عن ربا النسيئة باعتبار أنه هو الربا الجلي يقصد كلًّا من ربا الجاهلية وربا النسيئة الوارد في الحديث الشريف. ولا يسعنا إلا أن نقف عند ما ينطوي عليه التمييز الذي يقول به ابن القيم من التحكم فهو قد ألحق ربا النسيئة بربا الجاهلية وجعل للنوعين حكمًا واحدًا مع أن مصدر التحريم مختلف في ربا الجاهلية مصدر التحريم القرآن الكريم وفي ربا النسيئة مصدر التحريم الحديث الشريف. قلت: لكن السنهوري غفل عن حقيقة لا مراء فيها وهي أن الحديث الشريف - وإن كان آحاديًّا إلا عند ما لا يعمل بالآحادي، وهو شاذ لا يلتفت إليه - إذا جاء في حكم ورد في القرآن الكريم مجملًا أو بحاجة إلى مزيد من التفصيل فهو بيان لما تضمنه من قوة الحكم نفس ما للنص القرآني وهنا كان مزلق الكثير ممن لا يفرقون بين ما هو من السنة المجردة غير متصل بحكم منصوص عليه في القرآن وما هو بيان أو تفصيل أو تخصيص أو تقييد، أو ما إلى ذلك ورد فيه نص للقرآن الكريم، فالأول يمكن اعتباره أدنى درجة في قوة الحكم. أما الثاني فلا سبيل إلى التمييز بين درجته ودرجة النص المبين أو المفصل به من حيث قوة الحكم. أما الثاني فلا سبيل إلى التمييز بين درجة النص المبين أو المفصل به من حيث قوة الحكم وإن اعتبر اللفظ الحديثي من حيث العلم ظنيًّا لا يرقى إلى درجة النص القرآني من حيث القطعية بل وحتى إن كان اللفظ الحديثي متواترًا، والعلم به قطعي يقيني فإنه مع ذلك لا يسامت من حيث درجة العلم به النص القرآني وهذا التمايز يكاد يكون نظريًّا صرفًا وإن شئت فعقيديًّا صرفًا وليس له أثر يذكر في تقييم الأحكام وتصنيفها وهذا ملحظ دقيق قل أن ينتبه إليه الناظرون في شؤون التشريع الإسلامي مع أنه واجب الملاحظة والانتباه. ثم قال السنهوري - رحمه الله -: ثم هو في الوقت ذاته قد فصل ما بين ربا النسيئة وربا الفضل، فجعل الأول جليًّا، والثاني خفيًّا مع أن مصدر التحريم فيهما واحد وهو الحديث الشريف. ولا شك أن هذا الحكم لا مبرر له فإما أن يجعل للأنواع الثلاثة حكمًا واحدًا، ويعتبر أن درجة التحريم المستمدة من الحديث الشريف معادلة لدرجة التحريم المستمدة من القرآن الكريم، كما فعل فقهاء المذاهب كما قدمنا، وإما أن يميز بين درجة التحريم المستمدة من القرآن الكريم فيجعل ربا الجاهلية وحده هو الربا الجلي وبين درجة التحريم المستمدة من الحديث الشريف، فيجعل كلا من ربا النسيئة وربا الفضل ربًا خفيًّا ولا يقصر الربا الخفي على ربا الفضل وحده. قلت: ليت شعري ما الذي يميز بين ألوان الربا ويعطي لبعضها حكمًا يختلف عن بعض في حين أن ربا الفضل وردت فيه نصوص من الحديث النبوي لا سبيل إلى اعتبارها أدنى درجة في قوة الحكم من ربا النسيئة الذي اعتبره البعض غير معادل في درجة الحكم لربا الجاهلية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1703 ذلك أن النصوص المستفيضة لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤكد بقوله مشيرًا بيده إلى أذنه وعينيه (أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وفيه ((ولا تشفوا بعضها ببعض)) وفي بعضها من طرق صحيحة، ((فمن زاد أو استزاد فقد أربى)) ، وفيه " ((ولا تشفوا بعضها ببعض)) وفي بعضها من طرق صحيحة، ((فمن زاد أو استزاد فقد أربى)) ، وفي حديث أبي بكر - رضي الله عنه - من طريق أبي سلمة ((الزائد والمستزيد في النار)) ، وقد سقنا هذين الحديثين بطريقهما المختلفة في فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف "، ومن تتبعهما يتضح أن حديث أبي سعيد - على الأقل - أكثر من مجرد آحادي بل هو مستفيض وأحسبه حسب تحديد بعض الأصوليين للمتواتر يبلغ درجة الحديث المتواتر وهذا يعني أن منع الزيادة في التعامل بالجنس الواحد من الربويات وإن كان التعامل ناجزًا حرام بنص في مثل درجة منع النسيئة من حيث قوة الحكم، فماذا إذن ادعاء عدم التعامل في الحكم بينهما ادعاء جعل بعض " المتفقهة " من المحدثين يرتكز عليه في محاولة تقويض القواعد الأولى التشريع الإسلامي في المعاملات؟ !. ثم قال السنهوري - رحمه الله -: هذا الرأي الذي يقضي بفصل ربا الجاهلية الوارد في القرآن الكريم عن كل من ربا النسيئة وربا الفضل الواردين في الحديث الشريف هو الرأي الذي يقول به طائفة من الفقهاء المحدثين وعلى رأسهم الأستاذ السيد رشيد رضا. ذهب السيد رشيد رضا في رسالته في الربا - وقد أشرنا إليها آنفًا - إلى أن الربا المحرم هو ربا الجاهلية وحده فهو الربا الوارد في القرآن الكريم، وهو الربا الذي أدى إلى خراب المدين إذ المدين بين أن يقضي وأن يربي، ويعجز عن القضاء عادة فليس أمامه إلا أن يربي ولا يزال الدين يتضاعف حتى يؤوده، ثم يؤدي إلى إفلاسه فهذا النوع من الربا هو الربا الخبيث ويكون معقولًا ما ورد في القرآن الكريم في شأنه من وعيد شديد وهو الربا الجلي الذي حرم تحريم مقاصد لا تحريم وسائل فلا يجوز التعامل به إلا للضرورة الملحة، وهي الضرورة التي تصل في الإلحاح إلى إباحة الميتة والدم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1704 قلت: لكن هذه الضرورة لا يخلو إما أن تكون فردية أو جماعية، فإن كانت فردية حالة خاصة بفرد أو أفراد وهي لا تكون إلا مسغبة قاتلة أو تشردًا يعرض صاحبه أو أصحابه للفناء بالحر، أو القر أو عريًا، كذلك وإذن فليس للفرد أو الأفراد في هذه الحال وقت للمساومة ولا جهد له بحيث يتم الاتفاق على نوع من الربا بل إن ربا الجاهلية هذا بزعمهم إنما يكون بعد حلول الأجل الأول وعجز المدين عن الوفاء، ولسنا ندري كيف يستقيم هذا الوضع مع وضع الضرورة التي أبيح فيها أكل الميتة ولحم الخنزير على أن الشرع في هذه الحال أباح للمضطر أن يقاتل من منعه الوقوع عليها حتى وإن أدى الأمر إلى قتله فكيف بأن ينتزعها منه، وإن بحيلة الربا بادي الأمر ثم لا يؤدي له إلا بحقه بغير زيادة. وإن كانت جماعية وهي في عصرنا تتمثل في حال الدولة تضطر إلى الاستدانة من دولة أخرى، أو من مؤسسات مالية متخصصة وإذن فما هي درجة هذا الاضطرار، وما الذي أدى إليه، وما هي المبالغ التي تدفعها؟ أسئلة لا يجوز إصدار حكم دون الإجابة عنها؛ لأن بدون الإجابة عنها لا يقوم دليل الاضطرار. ولا نستطيع أن نتصور دولة - مهما تبلغ من الفقر - تكون من الاضطرار للحفاظ على وجودها في درجة لا تجد مناصًا من الالتجاء إلى الربا ذلك بأن قيام الدولة لا يتأتى إلا بشعب وأرض والعوامل التي تدفع الدولة إلى الفقر، إما أن تكون طبيعية كالقحط المتصل في الدولة الفلاحية، وإما أن تكون مصطنعة كسوء الإدارة المالية والتبذير في النفقات ومحاولة التشبه بالدول الغنية ذاتيًّا أو بواسطة الربا. وهذه الحالة الثانية لا يعتبرها الشرع ضرورة تبيح المحظور بل يأمر الشرع فيها بعقوبة المسؤولين عنها والعودة بالتسيير المالي والإداري إلى النهج الذي يضمن اكتفاء الدولة بمواردها الذاتية أو بموارد أخرى غير ربوية كالمساعدات الأجنبية والقروض على أساس شرعي كالمضاربة والسلم وما إليهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1705 أما الحالة الأولى فلا نتصور وقوعها بيسر اعتبارًا للعرف الدولي الراهن فمشارع الإغاثة الدولية وطرقها ترفع حالة الاضطرار الذي يلجئ الدولة المنكوبة إلى محاولة دفع المسغبة عن شعبها بابتغاء القوت الضروري وما إليه بالوسائل الربوية. فوضح من كلتا الحالتين أن دعوى الضرورة في إباحة الوسائل الربوية باطلة يدمغها الواقع الدولي، كما تدمغها الأحكام الشرعية الثابتة لمواجهة أحوال الاضطرار. ثم قال السنهوري - رحمه الله -: بقي إذن ربا النسيئة وربا الفضل الواردان في الحديث الشريف فما هو حكمهما؟ يذهب السيد رشيد رضا إلى أن النهي عنهما في الحديث إنما جاء سدًّا للذريعة للربا المحرم القطعي، وهو ربا الجاهلية وهي ذريعة مظنونة لا قطعية فهو يرى أن بيع الأصناف الستة بمثلها مع التناقض فضلًا أو نسيئة فضلًا عن تثمير الأموال بالشركات التجارية التي لا تلتزم شروط الفقهاء فيها كل هذا لا يدخل في الربا المحرم، وإنما يظهر - كما يقول - من سبب النهي عن هذه البيوع أنه سد لذريعة الربا المحرم القطعي وهذه الذريعة مظنونة لا قطعية ومن المنهيات في الأحاديث ما هو محرم وما هو مكروه، وما هو خلاف الأولى وما هو لمحض الإرشاد لا للتشريع الديني وإنما يكون التمييز بين هذه الأنواع بالأدلة الخاصة أو القواعد العامة أو التعارض بين النصوص وترجيح الأقوى، كالنهي عن أكل لحوم سباع الوحش والطير مع حصر نصوص القرآن لمحرمات الطعام في الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله له، وقد حققنا أن النهي فيه للكراهة وفاقًا لمذهب مالك جمعًا بينه وبين نصوص القرآن القطعية الرواية والدلالة بصيغتي الحصر وبينا فيه أن في التعبير في بعض الروايات بالتحريم قد يكون رواية بالمعنى بفهم الراوي أن المراد من النهي التحريم وكذلك يقال في النهي عن بيع النقدين وأصول الأغذية المذكورة في حديث عبادة إلا يدًا بيد أو مثلًا بمثل إذا اتحد الجنس والاكتفاء بالتقابض إذا اختلف ومما يدل على أن هذا المعنى غير مقصود بالذات ما صح في بيع العرايا وفي بيع الكثير من التمر الرديء بقليل من التمر الجيد بأنه يجعل العقد على بيع كل منهما بالثمن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1706 قلت: وأين ترك رشيد رضا - وهو يتحمل أمام الله والمسلمين تبعات هذا الزعم العجيب - حديث أبي سعيد وحديث أبي بكر، وفي الأول " ((فمن زاد أو استزاد فقد أربى)) ، وفي الثاني: ((الزائد والمستزيد في النار)) ، أيكون في النار من لم يقترف محرمًا؟! أليس هذان الحديثان حاسمين لكل ادعاء مانعين من كل وهم أو ظن. وحديث " الجنيب " (1) ، الذي حاول أن يستدل به دون أن يذكره، أليس دليلًا عليه لا له؟ فرسول الله صلى الله عليه وسلم أمَر عامله على خيبر أن يبيع التمر الرديء ويشتري به التمر الجيد وليس في لفظ الحديث ولا في قصته ما يدل على أن القضية قضية شكلية بأن يقدر هذا بالثمن والآخر بالثمن لمجرد عملية "تحليل" وحتى لو ثبت ذلك فإنه لا يتأتى إلا مع تاجر يتجر في أنواع مختلفة من التمر فالتاجر بدلًا من أن يعيد إلى العامل تمره ويستعيد من بائعه التمر الذي باعه، له أن يشتري التمر الذي بثمن السوق ويبيعه التمر الجيد بثمن السوق، وكل واحدة منهما صفقة منفصلة عن الأخرى، والقضية ليست قضية عقد قائم على حيلة كما توهم البعض ممن يحاولون العثور على أساس شرعي لتشريع " الحيلة " في نواحي شتى من العبادات والمعاملات الشرعية، ومنها الربا أنه قضية إبطال معاملة رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ربوية وتشريع أساس يمكن لمن وقع في مثل ما وقع فيه عامله على خبير أن يبلغ به مأربه دون أن يتجاوز الضوابط الشرعية فيمكن لأي أحد أن يدخل متجرًا يتجر في أصناف متفاوتة من جنس واحد ومعه صنف منها، ويريد غيره منها أن يبيع المتجر في أصناف متفاوتة من جنس واحد ومعه صنف منها، ويريد غيره منها أن يبيع المتجر الصنف الذي يريده سواء بالنقد الذي يأخذه ثمنًا لصنفه أو بنقد آخر قد يكون معه، فالعمليتان منفصلتان متغايرتان ليس بينهما أي ارتباط إلا في زعم رشيد رضا ومن نحا نحوه.   (1) الحديث رواه مالك في (الموطأ ص 520، 521، ح 18) من طريقين، فقال عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (التمر بالتمر مثلًا بمثل) ، فقيل له: إن عاملك على خيبر يأخذ الصاع بالصاعين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ادعوه لي) فدعي له، فقال له رسول الله صلى الله عليه (أتأخذ الصاع بالصاعين؟) فقال: يا رسول الله، لا يبيعونني الجنبيب بالجمع - هما نوعان من التمر جيد ورديء - صاعًا بصاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بِعِ الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا) . عن عبد الحميد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله يا رسول الله إننا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل، بِعِ الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا) . وحدثني أبو سعيد هذا أخرجه كل من البخاري ومسلم والنسائي. انظر المزي (تحفة الأشراف: 3/357، ح 4044) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1707 ثم قال السنهوري - رحمه الله -: وواضح من هذه العبارات الأخيرة أن السيد رشيد رضا بعد أن اعتبر ربا الجاهلية هو الربا الجلي، وهو الربا المحرم لذاته تحريم المقاصد، ولا يجوز إلا للضرورة الملحة التي تبيح الميتة والدم ينزل بعد ذلك بالنوعين الآخرين من الربا ربا النسيئة وربا الفضل الواردين في الحديث الشريف - إلى منزلة دنيا من الحظر؛ إذ إن الظاهر من عباراته أنه يعتبر أن النهي عنهما الوارد في الحديث الشريف إنما هو الكراهة لا للتحريم، كالنهي عن أكل سباع الوحش والطير وهذا ما يقرب كثيرًا من مذهب ابن عباس الذي سنبينه فيما يلي. قلت: وقد خالط رشيد رضا بين أمرين لا سبيل إلى دعوى المماثلة بينهما فيما يستدل لمذهبه فقضية لحوم سباع الوحش والطير أشبه ما تكون بقضية الحمر الأهلية، لكل منهما ظروفها وملابساتها، وليس هذا مجال بيانها ولذلك كان القول بأن النهي نهي كراهة فيهما أو في إحداهما قول وجيه له ما يسنده. أما قضية العرايا التي تعلق بها هو ومن على شاكلته، فهي رخصة جاءت من الشارع صلوات الله وسلامه عليه، لحكمة رآها ليس هذا مجال تفصيلها ولو أنها جاءت منه نصًّا لما أمكن لأي مجتهد أن يجرؤ على تشريعها لما فيها من تماثل يكاد يكون كاملًا مع غيرها من صيغ ربا الفضل لولا ما يميزها من الحكمة التي من أجلها رخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال السنهوري - رحمه الله:- وغني عن البيان أن القول بأن ربا النسيئة، وربا الفضل إنما نهي عنهما في الحديث الشريف، نهي كراهة لا نهي تحريم، لا يتفق مع ما أجمعت عليه المذاهب الفقهية منذ القديم، وقد اعترض الأستاذ زكي الدين البدوي بحق على هذا الرأي في مقاله المشهور في (مجلة القانون والاقتصاد، السنة الخامسة: ص 187) ، وما بعدها، فقال: فخلاصة رأي السيد رشيد المتقدم حصر الربا المحرم في ربا الجاهلية الذي لا يدخل في مفهومه لا القرض بفائدة تشترط عند العقد، ولا بيع الأصناف الستة الواردة في السنة، ولا المعاملات الأخرى التي ألحقها فقهاء المذاهب الأربعة بالأصناف الستة في التحريم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1708 وإنا نلاحظ على هذا الرأي أنه مع صحته فيما يتعلق بالقرض بفائدة وغيره من المعاملات التي عدى إليها الفقهاء حكم التحريم في بيع الأصناف الستة بجامع علل اختلفوا فيها اختلافًا كبيرًا مما يؤيد رأيه في أن تحديد الوسائل ودرجة إفضائها إلى المقاصد من أشق الأمور التي تختلف فيها الأفهام، فلا تطمئن النفس إلى أن يكون شيء كهذا مناطًا للقول بالتحريم الديني - أقول: مع التسليم بصحة رأيه في هذه الجزئية فإنه يتعذر التسليم به في جزئية أخرى وهي قوله بعدم دخول بيع الأصناف الستة في الربا المحرم؛ لأن بيع الأصناف وإن كان وسائل وذرائع إلى الربا، إلا أنها وسائل وذرائع منصوصة ودلالة الأحاديث عليها لا تختلف فيها الأفهام، أما قوله: إن النهي عن بيع هذه الأصناف كان تورعًا لإفادة أن بيعها خلاف الأولى أو كان للكراهية فقط لا للتحريم، فدعوى تتعارض مع ظواهر نصوص الأحاديث والمأثور عن الصحابة فظاهر الأحاديث يفيد التحريم إذ أطلق على هذه البيوع لفظ الربا ومعلوم إثمه وما خص به من شديد الوعيد، وإذا سلمنا أن إطلاق لفظ الربا هنا من قبيل المجاز؛ لأن هذه البيوع ذرائع إلى الربا فلا أقل من أن تكون للشارع حكمة في إلحاقها بالربا، وهي أن يكون لها حكمه وهو الحرمة، وإن كانت حرمتها أخف من حرمة الربا الحقيقي بحيث يتجاوز عنها فيما تدعو إليه الحاجة كما هو رأي ابن القيم. قلت: يغفر الله لزكي بدوي كان أولى به، وهو رجل القانون الضليع أن يجادل رشيد رضا في دعوى " الذرائعية "، في تحريم الربا في الأصناف الستة وأن يدمغه بأن المناط الجامع لتشريع التحريم هو أن التعامل بالمفاضلة فيها ظلم في حد ذاته آية ذلك أن كلمة الربا في القرآن الكريم لم يأت معها أو في سياقها ما يحدد دلالتها فكان الحديث النبوي الشريف هو الذي حدد مدلولها تمامًا كما حدد مدلول الصلاة والزكاة والحج وغيرها من شرائع العبادات والمعاملات التي لم يأت نص بيان جزئياتها أو مدلولات أسمائها والسنة النبوية مبينة بالإجماع ولو لم تكن مبينة لانبهم على المكلفين الكثير بل الأغلب من شرائع الله في العبادات والمعاملات، وإذن فالربا الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث وعين مجاله أو أمثلة لو في الأصناف الستة هو الربا الذي جاء في قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [الآية 279 من سورة البقرة] . بعد أن توعد آكل الربا بذلك الوعيد الشديد الذي لم يتوعد به فاعل أية فاحشة مهما عظم وزرها وليس في الشرع الإسلامي قرآنًا أو حديثًا، ما يدعو إلى التماس الفرق بين نوع وآخر من الأنواع الربوية التي كانت معروفة في العهد النبوي ولا مجال إلى الدعوى بأن بيع الأصناف الستة بالتفاضل في الجنس الواحد لم يكن معروفًا في العهد النبوي، فلو كان كذلك لما ورد في الحديث الشريف في صيغ مختلفة وحول وقائع مختلفة واستفاض لدى الصحابة حتى اشتد عمر في بعض صوره أو الصور القريبة منه تلك الشدة المستفيضة في حديث مالك بن أوس بن الحدثان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1709 وهذا النوع من الربا من المرجح أنه أيضًا كان معروفًا لدى اليهود الذين أنزل الله فيهم قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الآية: (161) ] . وفي كلتا الآيتين آيتي البقرة، وهي من آخر ما نزل في الأحكام أو آخرها، وآية النساء، وهي مدنية أيضًا ذكر للظلم مقرونًا بالربا أو باعتبار الربا من مشمولاته، ذلك بأن الظلم في آية النساء ورد في صدرها، ثم جاءت المعطوفات عليه تبيانًا لأنواعه لا ذكرًا لأشياء أخرى خارجة عنه، واختتام الآية بقوله تعالى: {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} ، تأكيد - والله أعلم - لمعنى الظلم في الصد عن سبيل الله وأخذ الربا المنهي عنه، فالظلم إذن هو المناط لتحريم الربا وجميع أنواع الربا محرمة لذاتها وليس منها ما هو محرم باعتباره وسيلة وما هو محرم باعتباره من المقاصد، وكما أن الإجحاف بالمدين العاجز بزيادة الفوائد الربوية عليه نفاد تأخير الأداء ظلم وتحريمه مقصود لذاته، فكذلك الإجحاف بمن تكون له الحاجة إلى نوع من جنس واحد إذا لم يتيسر له ويريد استبداله. وقد لا يتجلى هذا التماثل في الإجحاف لو حصرناه في الأصناف الأربعة، إذ يدعى اعتبار التفاضل بين أنواع الصنف الواحد - وهي دعوى لها وجاهتها لولا أن الشارع دفع هذا الاعتبار بقضية " الجنيب "، فبين أن بيع النوع غير المرغوب فيه هو الحل الذي يرفع الظلم عن الطرفين. وبذلك ينتفي كل غبن لأن الاحتكام إلى سعر السوق لا يتيح الفرصة لأي من الطرفين استغلال حاجة الآخر. لكن يتجلى الإجحاف بأجلى صوره في النقد فبيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة أو أي نقد حل محلها بجنسه متفاضلًا لا يخلو إما أن يكون نسيئة أم لا، والنسيئة ليس هذا مجال بحثها، أما المناجزة فلا بد من حافز إلى هذا النوع من التعامل والحافز، إما أن يكون الاختلاف في الجودة وهذا لا يتأتي إلا في النقد الذهبي أو في الفضي إذا أريد لعينه، وإذن فإضافة التفاضل إلى التباين في الجودة غبن مجحف بالذي تضطره حاجة ما إلى ابتغاء الأقل جودة أو الأحق وزنًا بأفضل منه أو أثقل، وإما أن يكون اضطراب السعر هذا يعني أن أحد الطرفين أدق ملاحقة لأسعار النقد من الطرف الآخر، والصورة التي يمكن تصورها لهذا النوع من المعاملة المستغلة تتأتى في حالة اختلاف النقدين سكًّا أو وزنًا بأن تكون لأحد المتبايعين عملة معينة من الذهب أو الفضة وتكون لدى الآخر عملة من نفس الجنس لكن ليست من نفس النوع، أعني أنها مسكوكة في مكان آخر وهو يعلم أن هذه التي لديه تباع في السوق بالنقد الفضي مثلًا أو بالنقد الذهبي، إن تلك العملة بالذات متفاضلة مع العملة التي لديه من نفس الجنس مراعيًا في سريرته ازدياد سعر عملته على عملة صاحبه في السوق بالنقد المختلف وبذلك يجحف بصاحبه؛ لأن الشرع الإسلامي لا يقوم على مراعاة السعر في الجنس الواحد، وإنما على مراعاة المماثلة في حين يفسح المجال لاعتبار السعر إذا اختلف الجنسان كما في حديث ابن عمر الذي أوردناه بطرقه في فصل " أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف "، إذا كان يسعر يومه وذلك ما سنزيده إيضاحًا في موقعه من هذا البحث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1710 وبهذا يتضح أن دعوى الذرائعية في ربا الفضل لا أساس لها، وأنه محرم لذاته وليس باعتباره وسيلة إلى الربا المحرم، وهو ربا الجاهلية بزعمهم بجامع وقوع الظلم به في كل منها وأن العلة الأساسية في تحريم الربا على اختلاف أنواعه هي منع الظلم لا سيما فيما هو أساسي معاش الناس أو لحياتهم الاقتصادية حسب التعبير الحديث وهذا ما غفل عنه الأستاذ زكي بدوي على ضلاعته دراية وفقهًا في التشريع. ثم قال السنهوري - رحمه الله -: ويبدو أنه يجب الذهاب إلى مدى أبعد مما ذهب إليه الأستاذ زكي الدين، والقول بأن ربا النسيئة وربا الفضل يقتصران على الأصناف الستة المذكورة في الحديث الشريف بل يتجاوزان إلى ما عداها مما أشار إليه المذاهب الفقهية من الأصناف الأخرى، وهذا هو الذي انعقد عليه الإجماع وأن كل ذلك محرم لا مكروه فحسب ولكنه محرم تحريم وسائل لا تحريم مقاصد فربا الفضل وسيلة إلى ربا النسيئة ما في ذلك شك وربا النسيئة وسيلة إلى رب الجاهلية؛ إذ يكفي أن ربا النسيئة عند حلول أجل الدين أن يزيد الدائن في الأجل مشترطًا أن يزداد في الفائدة ليصل من هذا الطريق إلى ربا الجاهلية فكل من ربا الفضل وربا النسيئة وسائل إلى ربا الجاهلية، وقد حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يتذرع بهما إلى هذا الربا الممقوت فتحريمهما إذن هو من تحريم الوسائل لا من تحريم المقاصد. قلت: كلا ليس كذلك بل تحريمها من ربا المقاصد تمامًا كتحريم ربا الجاهلية للمناط الذي أوضحناه آنفًا؛ ولأن ما التمس على كثير من الفقهاء والمتفقهة من تصور استبدال نوعين من الجنس الواحد متفاضلين ناجزًا قد أوضحه الحكم النبوي في قضية " الجنيب " بأنه يسير الاحتمال إذا تصورنا رغبة أحد الطرفين لديه نوع رديء أو أدنى منزلة من ذلك الجنس في نوع لدى الطرف الآخر واستغلال هذا الطرف تلك الرغبة من ذلك بأن يبيعه النوع الجيد أو المرغوب فيه بالنوع الرديء أو الأدنى منزلة المتيسرة له متفاضلًا تفاضلا لا تراعى فيه مماثلة الثمن لو أن كلًّا منهما وقع المبايعة فيه بالنقد على أساس سعر السوق وبذلك تنتفي شبهة استبعاد المبايعة في نوعين من جنس واحد بالتفاضل والمناط في تحريم ذلك المنع من استغلال حاجة المشتري بالفضل، ومن جشع البائع على أساس المفاضلة وإجحافه بالمشتري، وبما أن المناط هو منع الظلم فالتحريم إذن لهذا النوع مقصود لذاته وليس لمنع التوسل به إلى ربا النسيئة وتحريم ربا النسيئة مقصود لذاته وليس لمنع التوسل به إلى ربا الجاهلية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1711 والذي ألبس عليهم الأمر هو آية آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [الآية: (130) ] . إذ إنهم حاولوا أن يجعلوا الآيتين: آية البقرة، وآية آل عمران، تفسر إحداهما الأخرى واعتبروا آية آل عمران مع أنها أسبق نزولًا مفسرة لآية البقرة، وهذا خطأ فاحش، فالآية التي يمكن أن تكون مفسرة هي الآخر نزولًا ولو أننا مضينا معهم في منطقهم هذا لاعتبرنا آية البقرة في الخمر: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [الآية: (219) ] ، مفسرة لآية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [الآية:90] . وما من أحد يقول بذلك إنما آية آل عمران مرحلة سابقة ممهدة للحكم الحازم والوعيد الشديد واللذين نصت عليهما آية البقرة وبدون ذلك لا يستقيم التأويل؛ إذ لا يمكن أن يكون البيان سابقًا للإجمال. ثم قال - يغفر الله له -: ثالثًا الاتجاه الذي لا يحرم إلا ربا الجاهلية الوارد في القرآن الكريم: " ولا ربا إلا في النسيئة " - لا يعني أن هذا آية وإنما هو حديث يبنى عليه قوله الآتي - يستدل أصحاب هذا الاتجاه- وعلى رأسهم ابن عباس - بحديث رواه ابن عباس نفسه، عن أسامة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((لا ربا إلا في النسيئة)) . فهم لا يحرمون ربا الفضل، ولا يحرمون إلا ربا النسيئة. وقد قيل: إن ابن عباس لم يكن بلغه حديث الربا الذي رواه " أبو سعيد الخدري " - كذا وليس خطأ مطبعيًّا على ما يظهر وإنما هو من المؤلف نفسه إذ ستراه مكررًا مرات فيما سيأتي، وواضح أن صوابه " أن أبا سعيد الخدري " - نفسه، ذهب إلى ابن عباس وجرى بينها جدال عنيف في مسألة ربا الفضل " سعيد " يحرمه للحديث الذي رواه، وابن عباس يحلله لحديث أسامة " لا ربا إلا في النسيئة "، وينتهي هذا الحوار بأن يقول " سعيد ": لا آواني وإياك ظل بيت ما دمت على هذا القول. الظاهر هو ما قاله السبكي في " تكملة المجموع في شرح المذهب "، عن الشافعي أن رأي ابن عباس في عدم تحريم ربا الفضل هو رأي أهل مكة، ولعلهم كانوا يمارسون التجارة على نحو يضيق بربا الفضل وأن المكيين قد بلغهم دون شك، حديث ربا الفضل، ولكنهم كانوا يؤولونه على الكراهية لا على التحريم (تكملة المجموع: 10/38) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1712 قلت: لم أعثر على هذا الذي نقله السنهوري عن السبكي بهذا اللفظ وفي الصفحة التي حددها ولا في قريب منها وقد أفاض السبكي - رحمه الله - في قصة ابن عباس وأبي سعيد وما حولها من آثار وروايات عن بعض الصحابة والتابعين في حوالي عشرين صفحة من " المجموع: ج 10"، وعقد فصلًا خاصًّا فيما نقل عن رجوع من قال بذلك من الصدر الأول، يعني من قال: لا ربا إلا في النسيئة وذكر فيه اختلافهم في رجوعه وعدم رجوعه عن مقولته تلك وساق روايات مختلفة عن أبي سعيد وقصته معه فضلًا عن تلك التي ساقها في الفصل السابق ومن الروايات التي أضافها في هذا الفصل ما رواه عن حيان - بالحاء المهملة والحياء المثناة - بن عبيد الله - بالتصغير - العدوي، قال: ((سألت أبا مجلز عن الصرف، فقال: كان ابن عباس لا يرى به بأسًا زمانًا من عمره ما كان منه عينًا يعني يدًا بيد، وكان يقول: إنما الربا في النسيئة فلقيه أبو سعيد الخدري، فقال له: يا ابن عباس، ألا تتقي الله إلى متى تؤكل الناس الربا، أما بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم، وهو عند زوجته أم سلمة: إني لأشتهي تمر عجوة، فبعثت صاعين من تمر إلى رجل من الأنصار فجاء بدل صاعين صاع من تمر عجوة، فقالت: فقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه أعجبه فتناول تمرة ثم أمسك، فقال: ((من أين لكم هذا؟)) )) فقالت أم سلمة: بعثت بصاعين من تمر إلى رجل من الأنصار فأتى بدل صاعين هذا الصاع الواحد وها هو كل، فألقى التمرة بين يديه، وقال: ((ردوه لا حاجة لي فيه التمر بالتمر الحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يدًا بيد، عينًا بعين، مثلًا بمثل، فمن زاد فهو ربا)) . ثم قال: (( ((كذا ما يكال أو يوزن أيضًا)) . قال ابن عباس: جزاك الله يا أبا سعيد الجنة، فإنك ذكرتني أمرًا كنت نسيته أستغفر الله وأتوب إليه فكان ينهى عنه أشد النهي)) . رواه الحاكم في المستدرك حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة وفي الحكم عليه بالصحة نظر؛ فإن حيان بن عبيد الله المذكور، قال ابن عدي: عامة ما يرويه إفرادات ينفرد بها، وذكر ابن عدي في ترجمته حديثه في الصرف هذا بسياقه، ثم قال: وهذا الحديث من حديث أبي مجلز، عن ابن عباس تفرد به حيان. قال البيهقي: وحيان تكلموا فيه. واعلم أن هذا الحديث ينبغي الاعتناء بأمره وتبين صحته من سقمه لأمر غير ما نحن فيه، وهو قوله: وكذلك ما يوكل ويوزن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1713 وبعد أن أفاض في نفي ما ادعاه ابن حزم لإعلال هذا الحديث، وفي توثيق حيان بن عبيد الله، قال: وعن سليمان بن على الربعي، عن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي، قال: "سمعت" - لعل صوابه: سمعته - يأمر بالصرف يعني ابن عباس، و"تحدثت" ذلك - لعل صوابه بذلك - عنه ثم بلغني أنك رجعت، قال: نعم، إنما كان ذلك رأيًا مني وهذا أبو سعيد حديث عن رسول الله صلى الله عليه أنه نهى عن الصرف. رويناه في سنن ابن ماجه ومسند ابن ماجه ومسند الإمام أحمد بإسناد رجاله على " شرطه " - لعل صوابه: على شرط بدون هاء - الصحيحين إلى سليمان بن علي، وسليمان بن على روى له مسلم، وقال ابن حزم: إنه مجهول لا يدري من هو، وهو غير مقبول منه لما تبين. وعن أبي الجوزاء، قال: كنت أخدم ابن عباس - رضي الله عنهما - تسع سنين، إذ جاءه رجل فسأله عن درهم بدرهمين فصاح ابن عباس، فقال: إن هذا يأمرني أن أطعمه الربا قال ناس حوله: إنا كنا لنعمل بفتياك، فقال ابن عباس: قد كنت أفتي بذلك حتى حدثني أبو سعيد وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه فإني أنهاكم عنه. رواه البيهقي في السنن الكبير بإسناده وفيه أبو المبارك وهو مجهول. وروينا عن عبد الرحمن بن أبي نعم - بضم النون وإسكان العين – أن أبا سعيد الخدري أتي ابن عباس فشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، مثلًا بمثل، فمن زاد فقد أربى)) . فقال ابن عباس: أتوب إلى مما كنت أفتي به ثم رجع. رواه الطبراني بإسناد صحيح وعبد الرحمن بن أبي نعم تابعي ثقة متفق عليه معروف بالرواية عن أبي سعيد وابن عمر وغيرهما من الصحابة. وعن أبي الجوزاء، قال: سألت ابن عباس عن الصرف عن الدرهم بالدرهمين يدًا بيد، فقال: لا أدري ما كان يدًا بيد بأسًا - لعل صوابه: لا أرى فيما كان. الحديث -ثم قدمت مكة من العام المقبل وقد نهى عنه. رواه الطبراني بإسناد حسن. وعن أبي الشعثاء، قال: سمعت ابن عباس يقول: اللهم إني أتوب إليك من الصرف إنما هذا من رأيي، وهذا أبو سعيد الخدري يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وراه الطبراني ورجاله ثقات مشهورون مصرحون بالتحديث فيه من أولهم إلى آخرهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1714 وعن عطية وهو الصوفي - بإسكان الواو وكسر الفاء - قال: قال أبو سعيد لابن عباس: تب إلى الله تعالى، ثم قال: ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الذهب بالذهب، والفضة بالفضة؟ وقال: ((إني أخاف عليكم الربا)) قال فضيل بن مرزوق: فقلت لعطية: ما الربا؟ قال: الزيادة والفضل بينهما. رواه الطبراني بسند صحيح إلا عطية وعطية من رجال السنن، قال يحيى بن معين: صالح، وضعفه غيره فالإسناد بسببه ليس بالقوى. وعن بكر بن عبد الله المزني، أن ابن عباس جاء من المدينة إلى مكة وجئت معه فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس، إنه لا بأس بالصرف ما كان منه يدًا بيد، إنما الربا في النسيئة فطارت كلمته في أهل الشرق والغرب حتى إذا انقضى الموسم دخل عليه أبو سعيد الخدري، فقال له: يا ابن عباس أكلت الربا وأطعمته، قال: أو فعلت؟ قال: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلًا بمثل تبره وعينه، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، والفضة بالفضة وزنًا بوزن مثلًا بمثل تبره وعينه، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلًا بمثل، فمن زاد أو استزاد فقد أربى)) ، حتى إذا كان العام المقبل جاء ابن عباس وجئت معه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس إني تكلمت عام أول بكلمة من رأيي، وإني أستغفر الله وأتوب إليه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلًا بمثل تبره وعينه، فمن زاد واستزاد فقد أربى وأعاد عليهم هذه الأنواع الستة)) . رواه الطبراني بسند فيه مجهول وإنما ذكرناه متابعة لما تقدم وهكذا وقع في روايتنا، فمن زاد واستزاد بالواو لا بـ" أو". والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1715 وروى أبو جابر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي في كتاب معاني الآثار بإسناد حسن إلى أبي سعيد، قال: قلت لابن عابس: أرأيت الذي ((يقول: الدينار بالدينار)) - خطأ ظاهر صوابه من (معاني الآثار: 4/94) -:- أرأيت الذي تقول: الدينار بالدينارين والدرهم بالدرهمين - وذكر الحديث. ثم قال: قال أبو سعيد ونزع عنها ابن عباس. وروى الطحاوي أيضًا عن نصر بن مرزوق، بإسناد لا بأس به، عن أبي الصهباء، أن ابن عباس نزل عن الصرف. ثم قال: رواه الطحاوي عن أبي أمية بإسناد حسن إلى عبد الله بن حسين أن رجلًا من أهل العراق، قال لعبد الله بن عمر، إن ابن عباس، قال وهو علينا أمير: من أعطي بالدرهم مائة درهم فليأخذها وذكر حديثًا إلى أن قال: فقيل لابن عباس ما قال ابن عمر، قال: فاستغفر الله، وقال: إنما هو رأي مني. وبعد أن ساق آثارًا نقلًا عن ابن عبد البر في هذا الشأن، قال: فهذا ما بلغني مما يدل على رجوعه عن ذلك، وإذا تأملت الروايات المذكورة وجدتها أصلح إسنادًا قول أبي الصهباء الذي رواه مسلم، أنه سأل ابن عباس عنه فكرهه، لكن لفظ الكراهة ليس بصريح فجاز أن يكون كرهه لما وقع فيه من المناظرة الكبيرة شبهة تقتضي التوقف عنه أو التورع فإن ثبت عدم رجوع ابن عباس تعين حمل هذا اللفظ على ذلك فهو ظاهر في الرجوع، وقد روي عن طاوس، عن ابن عباس ما يدل على التوقف إلا أني قدمت من رواية الطحاوي عن أبي الصهباء ما ينفي هذا الاحتمال، ويبين أنه نزل عن الصرف صريحًا وإسناده جيد كما تقدم. والحديث الذي أخرجه الحاكم في المستدرك صريح، لكن سنده تقدم الكلام عليه ولا يقصر عن رتبة الحسن ويكفي في الاستدلال على ذلك أنه لم يعارضه ما هو أقوى منه. ثم ساق شواهد أخرى على رجوع ابن عباس. ثم قال: روى ابن حزم عن الإمام أحمد، قال: حدثنا هاشم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن ابن عباس أنه قال: ما كان الربا قط في ها وهات وحلف سعيد بن جبير بالله ما رجع عنه حتى مات وهذا إسناد متفق على صحته لكنها شهادة على نفي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1716 ثم نقل عن ابن عبد البر، عن ابن عيينة، عن فرات القزاز، قال: دخلنا على سعيد بن جبير نعوده، فقال له عبد الملك بن ميسرة الزراد: كان ابن عباس نزل عن الصرف، فقال سعيد: عهدي به قبل أن يموت بستة وثلاثين يومًا وهو يقوله وما رجع عنه. ذكره هكذا بغير إسناد إلى ابن عيينة، قال ابن عبد البر: رجع ابن عباس أو لم يرجع في السنة كفاية عن قول كل واحد ومن خالفها رد إليها، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه ـ: ردوا الجهالات إلى السنة. ثم قال: اعلم أن دعوى الإجماع في ذلك منحصرة في ثلاثة أوجه: إما أن يدعى إجماع العصر الأول من غير سبق خلاف استنادًا إلى أن ندرة المخالف لا تدور، وإما أن يسلم بسبق الخلاف المعتد به ويدعى رجوع المخالف وصيرورة المسألة إجماعية قبل إقراض ذلك العصر وإما أن يقال: انعقد إجماع متأخر بعد انقراض الماضين المختلفين. أما الأول فقد اقتضى كلام بعضهم دعواه وزعموا أن الصحابة أنكرت عن ابن عباس في ذلك لمخالفته الجماعة، وقد اختلف علماء الأصول في انعقاد الإجماع مع ندرة الخلاف، فالجماهير من جميع الطوائف على أنه لا ينعقد الإجماع مع مخالفة الواحد؛ لأن المجتمعين حينئذ ليسوا كل الأمة والعصمة في الإجماع إنما ثبتت لكل الأمة لا لبعضهم؛ ولأن أبا بكر - رضي الله عنه - خالف الصحابة وحده في قتال ما نعي الزكاة وكان الحق معه ورجعوا إليه وخالف ابن مسعود وابن عباس في عدة من مسائل الفرائض جميع الصحابة امتد خلافهم إلى خلافهم إلى اليوم. وهذا ظاهر على طريقة من يرى إسناد الإجماع إلى النصوص وهي طريقة الشافعي وكثير من أصحابه. وأما على طريقة من يرى إسناد الإجماع إلى جهة قضاء العادة باستحالة إجماع الخلق العظيم على الحكم الواحد إلا لدلالة أو أمارة وهو الذي عول عليه إمام الحرمين وابن الحاجب، فيصعب على هذا المسلك تقرير أن مخالفة الواحد للجم الغفير والخلق العظيم تقدح في إجماعهم فإنهم بالنظر إليهم دونه تقضي العادة باستحالة إجماعهم على ما لا دليل عليهم ولا أمارة فأي فائدة لوفاقه أو خلافه؟ وكذلك إذا فرضنا أن مجموع علماء الأمة لا يبلغون مبلغ تقضي العادة باستحالة اجتماعهم على ذلك ينبغي على هذا المسلك أن لا يكون قول كلهم حجة ولهذا قال إمام الحرمين إن إجماع المنحطين عن رتبة التواتر ليس بحجة بناء على أن مأخذ الإجماع يستند على اضطراد العادة ومع ذلك وافق على أن مخالفة الواحدة والاثنين يقدح في الإجماع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1717 والطريقة الصحيحة هي التي عول عليها الشافعي وأكثر الأصحاب وهي التمسك بدليل السمع فلذلك خلاف الواحد والاثنين قادح في الإجماع. وقد اشتهر الخلاف في ذلك عن ابن جرير الطبري، فقال: إنه يكون إجماع يجب على ذلك المخالف الرجوع إليه ووافقه أبو بكر أحمد على الرازي من الحنفية وأبو الحسن الخياط من المعتزلة وابن جرير بن منداد من المالكية. ثم قال: وأمام هذه المسألة فإن النصوص فيها صريحة غير قابلة للتأويل بوجه قريب ولا بعيد ولا للنسخ لما سيأتي إن شاء الله تعالى وهي مع ذلك المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أعني ما يدل على النهي عن ربا الفضل ولا تستعبدون دعوى التواتر فيها فمن تتبع الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له العلم بذلك أو كاد. قال الطحاوي - بعد ما ذكر ما رواه من الأحاديث - فثبت بهذه الآيات المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن بيع الفضة بالفضة، والذهب بالذهب متفاضلًا. ثم قال: وإذا كان في المسألة نصوص قطعية المتن قطعية الدلالة لم يكن مظان للاجتهاد بل الحق فيها واحد قطعًا. غاية الأمر أن المجتهد المخالف لم يطلع عليها والتواتر قد يحصل في حق شخص ولا يحصل في حق آخر، فإذا خالف مجتهد لعدم اطلاعه على مثل هذه النصوص يكون معذورًا في مخالفته إلى حيث يطلع على النص ولا يحل العمل بقوله ذلك ولا "يقلده" - خطأ ولعل صوابه: ولا يقلد بالمفعول - فيه وينقض الحكم به ولو لم تصل إلى حد التواتر مع صراحة دلالتها كان الحكم كذلك. والله أعلم. ثم مضى في بحث شيق في هذا الشأن لا يتسع له المجال فليراجع لنفاسته. قلت: لا أحسب حديث أبي سعيد وابن عباس ينزل عن درجة التواتر عند استقصاء طرقه، ولا أجد سبيلًا للتمسك من بعضهم بروايات تشكك في عدم رجوع ابن عباس عن فتواه، ذلك بأن الأمة أجمعت على توثيق وتصحيح أحاديث البخاري ومسلم وعند كليهما ما يثبت بلا مراء رجوع ابن عباس عن فتواه، وقد سبق أن سقنا رواية البخاري حديث أبي سعيد في فصل " أحاديث في الصرف " ونسوق الآن روايات مسلم معتمدين على روايتي الشيخين إذ فيها الغناء عن روايات غيرهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1718 قال مسلم في (صحيحه: 3/1216، ح 1594) : حدثني عمرو الناقد، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن سعيد الجرير، عن أبي نضرة، قال: سألت ابن عباس عن الصرف، فقال: أيدًا بيد؟ قلت: نعم قال: فلا بأس به. فأخبرت أبا سعيد فقلت: إني سألت ابن عباس عن الصرف، فقال: أيدًا بيد؟ قلت: نعم. قال: فلا بأس به. قال: أو قال ذلك؟ إنا سنكتب إليه فلا يفتكموه، قال: فو الله لقد جاء بعض فتيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر فأنكره، فقال: كأن هذا ليس من تمر أرضنا، قال: كان في تمر أرضنا أو في تمرنا العام بعض الشيء فأخذت هذا وزدت بعض الزيادة، فقال: أضعفت أربيت لا تقربن هذا، إذا رابك من تمرك شيء فبعه ثم اشتر الذي تريد من التمر. حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الأعلى، أخبرنا داود، عن أبي نضرة، قال: سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف، فلم يريا به بأسًا فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري، فسألته عن الصرف، فقال: ما زاد فهو ربا فأنكرت ذلك لقولهما، فقال: لا أحدثك إلا ما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ جاء صاحب نخلة بصاع من تمر طيب، وكان تمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللون، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنى لك هذا؟)) قال: انطلقت بصاعين، فاشتريت به هذا الصاع فإن سعر هذا في السوق كذا وسعر هذا كذا - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويلك أربيت! إذا أردت هذا فبع تمرك بسلعة، ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت)) . قال أبو سعيد: فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا أم الفضة بالفضة؟ قال: فأتيت ابن عمر بعد فنهاني ولم آت ابن عباس، قال: فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس عنه بمكة فكرهه. وبعد أن استعرض السنهوري حجج القائلين بحصر الربا المحرم في ربا الجاهلية أو ربا النسيئة، والداحضين لدعواهم هذه وقد أوردنا طائفة صالحة منها فيما نقلناه آنفًا عن السبكي من التكملة الثانية للمجموع، قال: أما ما ينبغي أن يكون عليه موقف الفقه الإسلامي من الربا في العصر الحاضر فقد تباينت الآراء في ذلك، وتعارضت الاتجاهات وبحسبنا أن نسجل هنا اتجاهين عصريين متعارضين في الربا أحدهما يستبقيه واسعًا، كما هو في المذاهب الفقهية، والآخر يضيق فيه حتى يكاد يغلقه، ثم ننتقل بعد ذلك إلى ما نعتقد أن يكون هو الموقف المعقول للفقه الإسلامي من الربا في العصر، ونختم البحث لبيان الموقف الفعلى الذي وقفته من الربا التقنيات المدنية الغربية. انعقد مؤتمر الفقه الإسلامي في باريس سنة 1951 م، وكان الربا من بين المسائل العامة التي تناولها بحث المؤتمر وقد ظهر أن هناك اتجاهين متعارضين في مسألة الربا في العصر الحاضر. اتجاه يستبقيه كما هو في المذاهب الفقهية لا يميز بين ربا وربًا، فجميع أنواع الربا محرمة تحريمًا قطعيًّا، وقد مثل هذا الاتجاه الأستاذ محمد عبد الله دراز في المحاضرة التي ألقاها في المؤتمر ومثل الاتجاه الآخر - وهو الاتجاه الذي يذهب إلى أن الظروف الاقتصادية التي حرم فيها الربا قد تحولت عما كان عليه من قبل تحولًا جوهريًّا وأن حكم الربا في العصر الحاضر ينبغي أن يختلف عما كانت عليه في العصور السابقة - الأستاذ معروف الدواليبي في محاضرة أخرى ألقاها في المؤتمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1719 يروي الأستاذ دراز حديث الربا المعروف ويشير إلى أن المذاهب الفقهية اعتبرت الأصناف الستة الواردة في الحديث - أحسبه يقصد حديث أبي سعيد الخدري - أمثلة من قاعدة عامة تنطبق على سائر الموارد التي تقوم عليها الحياة والتي مردها في الرأي الراجح عند الفقهاء إلى نوعين: الأثمان والمطعومات. ثم يقول: (ص 14، 15) من المحاضرة - والعهدة على السنهوري فالمحاضرة ليست بين أيدينا -: ومهما يكن من أمر في شأن هذا اختلاف الفرعي فإن هذه القاعدة تقضي بتقسيم الأشياء التي يراد تبادلها إلى ثلاثة أضرب: الضرب الأول: أن يكون البدلان من نوع واحد كالذهب بالذهب، فهاهنا يخضع التبادل لشرطين اثنين التساوي في الكم والفورية في التبادل أعني عدم تأجيل شيء من البدلين. الضرب الثاني: أن يكونا من نوعين مختلفين من جنس واحد كالذهب بالفضة وكالقمح بالشعير فهذا يشترط شرطًا واحدًا وهو الفورية فلا يضر احتلاف الكم. الضرب الثالث: أن يكون من جنسين مختلفين كالفضة والطعام، فلا يشترط في هذا شيء من القيدين المذكورين بل يكون التقايض فيهما حرًّا هكذا كلما كان البدلان من طبيعتين مختلفتين تمام الاختلاف بحيث لا توجد شبهة القصد إلى القرض بفائدة فإن الشريعة لا تضع أمام حرية التبادل حدًّا من الحدود، وهو تحري الصدق والأمانة فإذا ما أخذت طبيعة البدلين تتقارب بدون أن تتحد نرى عند الشرع شيئًا من الحذر المعقول المبني على احتمال أن يكون المتعاملان يقصدان إلى معاملات ربوية مع ترخيصه لهما بتفاوت البدلين في الكم يحظر عليهما تأجيل أحد العوضين سدًّا للطريق، أما فكرة القرض المحرم تحت ستار البيع، أما إذا اتحدت طبيعة البدلين - مع التفاوت في الأوصاف والقيم طبعًا وإلا لما كان هناك معنى التبادل - فإنه من السهل أن نفهم الحكمة التي من أجلها منع تأجيل البدل وذلك أن من شأن هذا التأجيل أن يحمل في طيه فكرة محظورة وإن يكون القصد هو القرض باسم البيع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1720 ويذهب الأستاذ دراز إلى أن هناك دعائم قوية يقوم عليها تحريم الربا في جميع صوره، فهناك الدعامة الأخلاقية التي إذا جوزت الربح من طريق المعاملة (أي البيع) فإنها لا تجوزه من طريق المجاملة (أي القرض) وهناك الدعامة الاجتماعية وهذه تقضي بأن مجرد تقرير ربح مضمون لرب المال بدون أن يكون في مقابل ذلك ضمان ربح للمقترض هذا الوضع فيه محاباة للمال وإيثار له على العمل وهذه الوسيلة تزيد في توسيع المسافة وتعميق الهوة بين طبقات الشعب بتحويل مجرى الثروة وتوجيهها إلى جهة واحدة معينة بدلًا من أن تشجع المساواة في الفرص بين الجميع وأن تقارب بين مستوى الأمة حتى يكون أميل إلى التجانس وأقرب إلى الوحدة، وأن اللمحة البارزة في التشريع القرآني وكذلك في كل تشريع اجتماعي جدير بهذا الاسم هي الحيلولة دون هذه المحاباة لرأس المال على حساب الجمهور الكادح والسعي لتحقيق نوع من التجانس والمساواة بين أفراد الأمة إنها لكلمات قصيرة ولكنها ذات مدى بعيد تلك التي يرسم فيها القرآن دستور هذه السياسة حيث يقول: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الآية 7 من سورة الحشر] (ص 20) . وهنالك أخيرًا الدعامة الاقتصادية فإنه بمجرد عقد القرض أصبح العمل ورأس المال في يد شخص واحد ولم يبق للمقرض علاقة ما بذلك المال، بل صار المقترض هو الذي يتولى تدبيره تحت مسؤوليته التامة لربحه أو لخسره حتى إن المال إذا هلك أو تلف فإنه يهلك أو يتلف على ملكه، فإذا أصررنا على إشراك المقرض في الربح الناشئ وجب علينا في الوقت نفسه أن نشركه في الخسارة النازلة إذ كل حق بقابله واجب أو كما تقول الحكمة النبوية: (الخراج بالضمان) (1) أما أن نجعل الميزان يتحرك من جانب واحد فذلك هو معاندة الطبيعة ... ومتى قبلنا اشتراك رب المال في الربح والخسر معًا، انتقلت المسألة من موضوع القرض إلى صورة معاملة أخرى وهي الشركة التضامنية الحقيقية بين رأس المال والعمل وهذه الشركة لم يغفلها القانون الإسلامي بل أساغها ونظمها تحت عنوان: المضاربة " أو " القراض " غير أنه لكي يقبل رب العمل - خطأ صوابه: رب المال - الخضوع لهذا النوع من التعامل يجب أن يكون لديه من الشجاعة الأدبية ما يواجه به المستقبل في كل احتمالاته وهذه فضيلة لا يملكها المرابون لأنهم يريدون ربحًا بغير مخاطرة وذلك ما يسمى تحريف قواعد الحياة ومحاولة تبديد نظمها هكذا إذا سرنا وفقًا للأصول والمبادئ الاقتصادية في أدق حدودها كانت لنا الخيرة بين نظامين اثنين لا ثالث لهما، فإما نظام يتضامن فيه رب المال والعامل في الربح والخسر، وإما نظام لا يشترك فيه معه في ربح ولا خسر ولا ثالث لهما إلا أن يكون تلفيقًا من الجور والمحاباة.   (1) أخرجه البيهقي من عدة طرق، وفيه قصة اختلف فيها. انظر (السنن الكبرى: 5/321، 322) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1721 ثم ينتقل الأستاذ دراز إلى المسألة العملية الهامة في محاضرته فيقول: وأما المسألة الثانية وهي حكم الربا في وقتنا هذا، فإنها ليست قضية مبدأ وإنما هي قضية تطبيق ... وهي فوق ذلك ليست فيما أرى من الشؤون التي يقضي فيها فرد أو بضعة أفراد بل ينبغي أن يتداعى لها طوائف من الخبراء في القانون والسياسة والاقتصاد من كل جانب وأن يدرسوها دراسة دقيقة مستفيضة من جميع نواحيها الحاضرة والمستقبلية وكل ما أريد أن أقول الآن يتلخص في جملتين أرجو أن يتخذا أساسًا للبحث في التفاصيل الأولى، هي أن الإسلام قد وضع إلى جانب كل قانون بل قانون قانونًا أعلى يقوم على الضرورة التي تبيح كل محظور {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الآية 119 من سورة الأنعام] . الثانية هي أنه لأجل أن يكون تطبيق قانون الضرورة على مسألة ما تطبيقًا مشروعًا لا يكفي أن يكون المرء عالمًا بقواعد الشريعة، بل يجب أن يكون المرء عالمًا بقواعد الشريعة، بل يجب أن يكون له من الورع والتقوى ما يحجزه عن التوسع أو عن التسرع في تطبيق الرخصة على غير موضعها، بل يجب أن يبدأ باستنفاد كل الحلول الممكنة المشروعة في الإسلام، فإنه إن فعل ذلك عسى ألا يجد حاجة للترخص ولا للاستثناء، كما هو سنة الله في أهل العزائم من المؤمنين {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الآيتان 2 و 3 من سورة الطلاق] (ص 21، 22) . ويبدو أن الأستاذ دراز يقرر كمبدأ عام تحريم الربا في جميع صوره وأشكاله دون تدرج في مرتبة التحريم بأن يكون من صور الربا ما هو محرم تحريم المقاصد وما هو محرم تحريم الوسائل وإذا تكلم عن الضرورة التي تبيح الربا، فإنما هي الضرورة الملحة التي يكون من شأنها أن تبيح أكل الميتة والدم، وذلك في جميع صور الربا دون استثناء وليست الضرورة عنده هي مجرد الحاجة، بل إنه أوصى في آخر عبارته بالهوادة والتأني قبل القول بقيام الضرورة ويتطلب ممن يقول بذلك فوق العلم لقواعد الشريعة الإسلامية ورعًا وتقوى يحجزانه عن التوسع أو عن التسوغ في تطبيق الرخصة على غير موضعها كما يجب أن يبدأ باستنفاد كل الحلول الممكنة المشروعة في الإسلام فإنه إن فعل عسى ألا يجد حاجة للترخص والاستثناء. على أننا نلاحظ أن الأستاذ دراز من جهة أخرى يسلم بأن هناك صورًا من الربا إنما حرمت سدًّا للذرائع، فتحريمها تحريم للوسائل لا للمقاصد فهو يقول (ص 15) : " ولذلك نجده (أي المشرع) مع ترخيصه لهما بتفاوت البدلين في الكم يحظر عليهما تأجيل أحد العوضين سدًّا للطريق أمام فكرة القرض المحرم تحت ستار البيع ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1722 ثم يقول (ص 17) : " وواضح أن تسمية الربح المجتلب من طريق هذا التبادل الذي تنقصه الصراحة والأمانة باسم الربا إنما هي تسمية مجازية قصد منها إلى إبراز ما فيه من مخالفة قانون الأخلاق ومجافاة لقواعد الرحمة الإنسانية وذلك بتشبيه بالربا الحقيقي الذي هو مثل من السحت وأكل المال بالباطل" إذن هنالك ربا حقيقي هو مقل في السحت وأكل المال بالباطل وهنالك ربًا مجازي سمي ربا لإبراز ما فيه من مخالفة لقانون الأخلاق ومجافاة لقواعد الرحمة الإنسانية وذلك بتشبيه بالبربا الحقيقي أليس الربا الحقيقي والربا المجازي في لغة الأستاذ دراز هو الربا الجلي والربا الخفي في لغة ابن القيم، بل إننا نرى الأستاذ دراز يساير ابن القيم فيما ذهب إليه من جواز بيع المصوغات الذهبية بأكثر من وزنها ذهبا فهو يقول (ص 61) : " فإذا صح ما ذهبنا إليه في تفهم مقاصد الشريعة من هذا الحكم لم يبق حرج قط - كما أوضحه ابن القيم في " أعلام الموقعين " - في أن تباع المصوغات الذهبية بأكثر من وزنها ذهبًا أو المصوغات الفضية بأكثر من وزنها فضة ذلك لأن قيمة الصنعة قد قدرت هنا بمعيارها الواضح الذي لا يدع مجالا لتزييف تراضي المتابعين " فهل يميز الأستاذ دراز في الحكم بين الربا الحقيقة والربا المجازي كما ميز ابن القيم في الحكم بين الربا الجلي والربا الخفي وهل هو يقر ابن القيم على أن الربا الحقيقي لا يجوز إلا للضرورة الملحة وأما الربا المجازي فيجوز لمجرد الحاجة؟ وهل أباح الأستاذ دراز كما أباح ابن القيم أن تباع المصوغات الذهبية بأكثر من وزنها ذهبًا لقيام الحاجة دون أن تقوم الضرورة؟ لا نظن ذلك فإن الأستاذ دراز يعلل الأمر في المصوغات الذهبية بأن للصنعة قيمة يقابلها شيء من الثمن فهو لا يتكلم هنا لا عن الضرورة ولا عن الحاجة ثم إن تمييزه بين الربا الحقيقي والربا المجازي لا يريد من ورائه تمييزا في الحكم بل مجرد البيان والإيضاح وإلا فهو قد جمع بين صور الربا كلها في حكم واحد وهو التحريم القطعي ولم يجز الربا في أية صورة إلا للضرورة الملحة ثم هو يريد من الناس أن تترفق قبل القول بقيام هذه الضرورة. ويستند الأستاذ دراز في تقرير رأيه إلى الاعتبار الاقتصادي ويشير إلى ضرورة أن يتقاسم رأس المال والعمل الربح والخسارة كما هو في المضاربة أو القرض ولكن في نظام اقتصادي يقوم على رأس المال أي في نظام رأس مالي كالنظم القائمة في كثير من البلاد، يصح أن يكون لرأس المال أجرة مكفولة كأجرة الأعيان والأمر يتعلق بالنظام الاقتصادي القائم، فإذا أريد إيثار العمل على رأس المال وتوحيد طبقات الشعب دون محاباة لرأس المال على حساب الجمهور الكادح - كما يقول الأستاذ دراز في الاعتبار الاجتماعي الذي أخذ به - فإن هذا يقتضي في نظرنا تحرير النظام الاقتصادي القائم من نظام رأس مالي إلى نظام اشتراكي وللنظام الاشتراكي مبررات لا تقل عن مبررات النظام الرأس مالي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1723 يذهب الأستاذ معروف الدواليبي في المحاضرة التي ألقاها في مؤتمر الفقه الإسلامي بباريس إلى أن الربا المحرم إنما يكون في القروض التي يقصد بها الاستهلاك لا إلى الإنتاج، ففي هذه المنطقة - منطقة الاستهلاك - يستغل المرابون حاجة المعوزين والفقراء ويرهقونهم بما يفرضون عليهم من ربا فاحش أما اليوم وقد تطورت النظم الاقتصادية وانتشرت الشركات وأصبحت القروض أكثرها قروض إنتاج لا قروض استهلاك، فإن من الواجب النظر فيما يقتضيه هذا التطور في الحضارة من تطور في الأحكام ويتضح ذلك بوجه خاص عندما تقترض الشركات الكبيرة والحكومات من جماهير وصغار المدخرين فإن الآية تنعكس والوضع ينقلب ويصبح المقترض - أي الشركات والحكومات - هو الجانب القوي المستغل ويصبح المقرض - أي صغار المدخرين - هو الجانب الضعيف الذي تجب له الحماية. فيجب إذن أن يكون لقروض الإنتاج حكمها في الفقه الإسلامي ويجب أن يتمشى هذا الحكم مع طبيعة هذه القروض وهي طبيعة تغاير مغايرة تامة طبيعة قروض الاستهلاك ولا تعدو الحال أحد أمرين إما أن تقوم الدولة بالإقراض للمنتجين وإما أن تباح قروض الإنتاج بقيود وفائدة معقولة والحل الثاني هو الحل الصحيح، ويرى الأستاذ الدواليبي إمكان تخريجه على فكرة الضرورة وعلى فكرة تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة كما لو تذرع العدو بمسلم فلا مناص من قتل المسلم حتى يمكن الوصول إلى العدو. ويؤخذ على هذا الرأي أمران: 1- يصعب كثيرا من الناحية العملية التمييز بين قروض الإنتاج وقروض الاستهلاك حتى تباح الفائدة المعقولة في الأولى وتحرم إطلاقا في الثانية قد يكون واضحا في بعض الحالات أن القروض قروض إنتاج يصح أن تباح فيها الفائدة المعقولة كما هو الأمر في القروض التي تعقدها الحكومات والشركات ولكن هنالك صورا أخرى من القروض أكثرها وقوعا القروض التي تعقدها الأفراد مع المصارف والمنظمات المالية هل هي قروض إنتاج تباح فيها الفائدة المعقولة أو هي قروض استهلاك لا تجوز فيها الفائدة أصلًا؟ وهل نستطيع التمييز في كل حالة على حدة فنبيح هنا ونحرم هناك؟ ظاهر أن هذا التمييز متعذر، فلا بد إذن من أحد أمرين ما أن تباح الفائدة المعقولة في جميع القروض وإما أن تحرم في جميعها، وإذا فرضنا جدلا أنه يمكن تمييز قروض الإنتاج فإن تخريج الفائدة المعقولة في هذه القروض على فكرة الضرورة لا يستقيم، فالضرورة بالمعنى الشرعي ليست قائمة وإنما هي الحاجة لا الضرورة وينبغي التمييز بين الأمرين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1724 قلت: ثم إن هذه الشبهة الدواليبية أغفلت أمرين أحدهما أن قروض الإنتاج تؤدي آخر الأمر إلى قروض استهلاك؛ إذ السلع المنتجة إنما أنتجت لتستهلك فمصيرها آخر الأمر إلى الاستهلاك داخل الدولة أو خارجها ولو أبيحت الفائدة عليها كان المستهلك هو الذي يؤديها؛ لأنها تضاف إلى سعر التكلفة باعتبارها جزءا منها، ثم تضاف الأرباح إلى المجموع المستهلك إذن يؤدي هذه الفائدة وربحًا عليها للمقترض المنتج. أما الثاني فما سمي بقروض الإنتاج لا يختلف كثيرا عن ربا الجاهلية الذي لم يجادل أحد في تحريمه فمعظمه كان ديونًا يستدينها التجار من المدخرين على أن يردوها بفائدة عند عودتهم من الرحلة التجارية وقد لا يربح التاجر المستدين فيؤجل ويزيد تماما كما تفعل المصارف والمؤسسات المالية وبعض الدول أيضا بالمقترض المنتج إذا عجز عن الأداء في الأجل لكن الشبهة الدواليبية أغفلت ذلك لسنا ندري أعن غفلة أم عن عمد وسبق إصرار. ثم قال السنهوري - رحمه الله -: لا نشك في أن الواجب في كل العصور وفي جميع الحضارات أن يحرم الربا كمبدأ عام، وقد تضافر القرآن الكريم والحديث الشريف على تقرير تحريم الربا كأصل عام من أصول التشريع الإسلامي. والفقه الإسلامي يحرم الربا ويرمي من وراء تطبيقه إلى تحقيق أغراض سامية جليلة ثم نقل نصوصًا عن ابن القيم وابن رشد كنا نقلناها سابقًا. ثم قال: يتبين مما قدمناه من النصوص أن هناك أغراضا ثلاثة يقصد إلى تحقيقها من وراء تحريم الربا: (أولا) منع احتكار أقوات الناس، (ثانيا) منع التلاعب في العملة حتى لا تتقلب أسعارها وحتى لا تصبح هي ذاتها سلعة من السلع، (ثالثا) منع الغبن والاستغلال عند التعامل في الجنس الواحد؛ لأن التفاضل في الكم لا يمكن حسابه بدقة تواجه التفاضل في الكيف، فلا بد من وقوع الغبن على أحد المتبايعين، ومن ثم قال: النبي صلى الله عليه وسلم لمن باع التمر صاعين بصاع ذلك من الربا ثم بيعوا تمرنا ثم اشتروا لنا من هذا (1) فأضبط معيار للتعادل ما بين مقدارين من جنس واحد هو النقود يباع أحد المقدارين بنقود ثم يشتري بالنقود المقدار الآخر، فإذا تعادل المقداران كمًّا وكيفًا فإن التبادل فيهما يكون من باب الصرف. ويعلق على هذا بقوله: ويقول الأستاذ محمد عبد الله دراز في محاضرته المشار إليها (ص 17) في الأغراض المقصود تحقيقها من طريق تحريم الربا ما يأتي: " ولكي نلخص فكرتنا عن القواعد التي وضعها التشريع النبوي في باب التبادل والتقايض، نقول: إن هذه القواعد تهدف إلى غرض مزدوج فهي من إحدى الجهتين تريد أن تحمي النقود والأطعمة وهي أهم حاجات الجماعة وأعظم مقومات حياتها وذلك بمنع وسائل احتكارها أو إخفائها من الأسواق أو تعريضها للتقلبات الثمينة المفاجئة وهي من الجهة الأخرى تحرص على حماية الفقراء والأغرار من طرق الغبن والاستغلال التي يتبعها بعض التجار الجشعين.   (1) يشير إلى حديثي العجوة والجنيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1725 ثم يضيف السنهوري قائلا: على أننا إذا استبقينا الحرمة كأصل عام للربا في جميع صوره فلا بد لنا مع ذلك من استبقاء التمييز بين ربا الجاهلية من جهة وكل من ربا النسيئة وربا الفضل من جهة أخرى فإن هذا التمييز من الوضوح والخطر بحيث لا وجه للمنازعة. فربا الجاهلية محرم لذاته تحريم المقاصد وكل من ربا النسيئة وربا الفضل محرم لا لذاته، بل باعتباره ذريعة إلى ربا الجاهلية فهو محرم تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد وذلك سدًّا للذرائع. قلت: لكن إذا نظرنا بعمق إلى الحكم التي أشار إليها السنهوري نفسه ونقلها موجزة على تعليقة الأستاذ عبد الله دراز - رحمه الله - نتبين أن هذا التمييز الذي أراد السنهوري أن يستبقيه لا حاجة إلى استبقائه، بل لا حاجة وله ولا وجود له في حقيقة الأمر والواقع، ذلك بأن ثبوت حكمة واحدة فضلا عن حكم متعددة في تشريع شريعة ما، أمرًا أو نهيا، يدل على أن تشريعها مقصود لذاته وليس وسيلة تسد بها ذريعة أو يتذرع بها إلى هدف أن ثبوت المناط ما لم يكن - إثباته وإثبات التوسل - ثبوت لكون التشريع تشريع مقاصد. ثم قال السنهوري: ولا نزال نستبقي النتيجة الهامة التي تترتب على هذا التمييز فربا الجاهلية لا تجيزه إلا ضرورة ملحة من شأنها أن تبيح أكل الميتة والدم، أما كل من ربا النسيئة وربا الفضل فيكفي لإجازته أن تقوم الحاجة إلى ذلك. قلت: هذا إذا سلمنا بوجود التمييز، أما عند انتفائه، كما أوضحنا آنفا، فإن النتيجة التي أراد أن يصل إليها السنهوري تنتفي تلقائيًّا. ثم قال السنهوري: وقد يكون غريبا أننا لم نعالج في صور الربا حتى الآن الصورة المألوفة التي تتكرر كل يوم، وهي صورة القرض بفائدة، فإن جميع أنواع الربا التي عرضنا لها - لاسيما الربا الوارد في الحديث الشريف - إنما هو بيوع لا قروض، فهل القرض يدخل في البيوع الربوية؟ يبدو أن هذا السؤال غريب فإن القرض هو أول عقد ربوي في الشرائع الحديثة، ولكن الواقع أن القرض في الفقه الإسلامي ليس أصلا من العقود الربوية إذ البيع هو الأصل كما رأينا ويقاس على البيع الربوي القرض الذي يجر منفعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1726 قلت: ذلك لو صح أن ربا الجاهلية لم يكن كله أو جانب منه قائما على القرض وهذا غير صحيح، بل قد يكون القرض هو أغلب ما عرفه الجاهليون من أنواع الربا، كان التجار يقترضون من أرباب الأموال أثمانا أو سلعا وهم يستعدون لرحلة تجارية على أن يعيدوا ما اقترضوه إلى المقرض بفائدة معلومة، فمن عجز منهم طلب التأجيل والتزم بالزيادة، وهل قرض المصارف اليوم إلا هكذا سواء كان لمؤسسات الإنتاج أو للأفراد المستهلكين. ثم قال: وهذا بعض ما جاء في كتب الفقه الإسلامي من النصوص في القرض الذي يجر منفعة جاء في (البدائع: 7/395، 396) : وأما الذي يرجع إلى نفس القرض فهو ألا يكون فيه جر منفعة، فإن كان لم يجز نحو ما إذا أقرض دراهم غلة على أن يرد عليه صحاحًا، أو أقرضه وشرط شرطًا له فيه منفعة لما روي ((عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قرض جر منفعة)) (1) ولأن الزيادة المشروطة تشبه الربا لأنها فضل لا يقابله عوض، والتحرز من حقيقة الربا ومن شبهة الربا واجب هذا إذا كانت الزيادة مشروطة في القرض، فأما إذا كانت غير مشروطة فيه ولكن المستقرض أعطاه أجودهما فلا بأس بذلك؛ لأن الربا اسم لزيادة مشروطة في العقد ولم توجد، بل هذا من باب حسن القضاء، ولأنه أمر مندوب إليه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خيار الناس أحسنهم قضاء)) (2) وقال النبي عليه الصلاة والسلام عند قضاء دين لزمه للوازن: زن وأرجح (3) ، وعلى هذا تخرج مسألة السفاتج التي يتعامل بها التجار ينتفع بها بإسقاط خطر الطريق فتشبه قرضا جر نفعًا، فإن قيل: أليس أنه روي عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان يستقرض بالمدينة على أن يرد بالكوفة، وهذا انتفاع بالقرض لإسقاط خطر الطريق فالجواب أن ذلك محمول على أن السفتجة لم تكن مشروطة في القرض مطلقًا ثم تكون السفتجة وذلك مما لا بأس به على ما بينا والله أعلم. وجاء في (الفتاوي الهندية: 3/202، 203) : وقال محمد - رحمه الله - في كتاب الصرف أن أبا حنيفة - رحمه الله - كان يكره كل قرض جر منفعة، قال الكرخي: هذا إذا كانت المنفعة مشروطة بأن يقرض غلة ليرد عليه صحاحًا أو ما أشبه ذلك، فإن لم تكن المنفعة مشروطة في العقد فأعطاه المستقرض أجود مما عليه فلا بأس به، كذلك إذا أقرض رجل دراهم أو دنانير ليشتري المستقرض من المقرض متاعا بثمن غال فهو مكروه، هذا إذا تقدم القرض على البيع، وأما إذا تقدم البيع على القرض وصورة ذلك رجل طلب من رجل أن يعامله بمائة دينار، فباع المطلوب منه المعاملة من الطالب ثوبا قيمته عشرون دينار بأربعين دينارا، ثم أقرض ستين دينار حتى صار للمقرض على المستقرض مائة دينار وحصل للمستقرض ثمانون دينارًا، فذاك الخصاف أن هذا جائز، وإذا جعل في بذل القرض لم يكن الرجحان مشروطًا به في القرض فلا بأس به، كذا في المحيط.   (1) انظر التعليق رقم: (1) في الصفحة: 2065 (2) و (3) انظر التعليم رقم: (3) في الصفة: 1925 (3) في الصفة: 1925 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1727 قلت: حكاية هذه المعاملة بيع ثوب بضعف ثمنه لمستقرض لا تخرج من نطاق الحيل التي منعها المحققون وعقد لها ابن القيم في " أعلام الموقعين " فصولا طوالًا والصفقة عندنا ربا وهى حرام مرتين: الأولى لأنها ربا، والثانية صيغت بصيغة يراد بها الاحتيال على الله. وجاء في الشرح الكبير للدردير (حاشية الدسوقي: 3/226، 227) - والعهدة على السنهوري. ولو جر منفعة كشروط قضاء عفن بسالم أو شرط دفع دقيق أو كعك ببلد غير بلد القرض ولو لحاج لما فيه من تخفيف مؤونة حمله ومفهومه الجواز مع عدم الشرط وهو كذلك ثم شبه في المنع قوله كسفتجة.. الكتاب الذي يرسله المقترض لوكيله ببلد ليدفع للمقرض نظير ما أخذه منه ببلده، ويحتمل أنه مثال لما جر منفعة، إلا أن يعم الخوف، أي يغلب سائر الطرق فلا حرمة، بل يندب للأمن على النفس أو المال، بل قد يجب. قلت: هذا كلام مزيج من كلام الشارح وصاحب الأصل (خليل) وكان الأولى أن يفصل بين كلامهما، ولبيان المعنى بأوضح وتمييز كلام خليل من غيره ننقل من (الشرح الصغير للدردير: 3/295) ما يأتي واضعين كلام خليل بين قوسين جاء فيه: (وفسد) القرض (إن جر منفعة) للمقرض (كعين) أي ذات - ذهبا وفضة أو غيرهما - (كرهت إقامتها) عنده لأمر من الأمور، إما لثقل حملها في سفر أو خوف سوسها أو قدمها أو عفنها أو تغير ذاتها بقامتها عنده، فيسلفها ليأخذ بدلها في بلد آخر أو جديدًا أو سالمًا، فيحرم ويرد على صاحبه ما لم يفت، فالقيمة كما هو مقتضى الفساد (إلا لضرورة) ، فيجوز (كعموم الخوف) على المال في الطرق، فيجوز أن يسلفه لمن علم أنه يسلم معه، وكذلك إن قام دليل على نفع المقترض فقط كمجاعة أو كان بيع المسوس الآن أحظ للمسلف لغلائه ورخص الجديد في إبانه فيجوز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1728 ثم قال السنهوري: وجاء في (المهذب: 1/304) - والعهدة عليه -: ولا يجوز قرض جر منفعة مثل أن يقرضه على أن يبيعه داره على أن يرد عيه أجود منه أو أكثر منه أو على أن يكتب له بها - لعل صوابه: به - سفتجة يربح فيها خطر الطريق، والدليل عليه ما روى عمر وابن شعيب عن أبيه، عن جده ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سلف وبيع)) (1)   (1) رواه البيهقي في (السنن الكبرى: 5/348) فقال: أخبرنا أبو طاهر الفقيه، وأبو عبد الله الحافظ وأبو زكرياء بن أبي إسحاق وأبو سعيد بن أبي عمر، وقالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا عبد الله بن نافع، حدثنا داود بن قيس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وسلف) . الحديث. ورواه البغوي بلفظ مختلف شيئا قال في (شرح السنة: 8/147) : وقد روي (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط..) وقال محقق الكتاب شعيب الأرناؤوط: أخرجه الطبراني في " الأوسط " كما في " نصب الراية - للزيعلى - (4/17) من حديث عبد الله بن أيوب المقري، عن محمد بن سليمان الذهلي، عن عبد الوارث بن سعيد، عن أبي حنيفة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع وشرط) . قلت: لم أجد في المسانيد المطبوعة لأبي حنيفة ولا وجدت فيه رواية مباشرة لأبي حنيفة عن عمرو بن شعيب على أنه أدركه في سن الرواية والتحمل فما في ذلك شك فقد توفي عمرو بن شعيب عام ثمانية عشر ومائة وأبو حنيفة يومئذ في الثلاثين من عمره أو تجاوزها لكن مضرب أبي حنيفة هو الكوفة وما وراءها من أرض العراق إلى بغداد على حين مضرب عمرو بن شعيب هو المدينة وما وراءها إلى الطائف فكان يسمى أحيانا المدني وأحيانا الطائفي وربما التقيا في مكة أو في المدينة في أحد المواسم. ثم إن عمرو بن شعيب أبدؤوا في القول فيه وأعادوا وجل مقولاتهم مردها إلى بعض الارتياب في أن أباه لقي جده الثاني " عبد الله بن عمرو " وسمع منه وهو ارتياب ينفيه ما نرجح من أن جده الأول توفي صغير فتربي أبوه " شعيب " في حجر جده " عبد الله ". ثم أنهم ارتابوا في أن جل ما رواه عن جده إنما رواه عن كتاب وليس عن سماع وكان للمحدثين الأول موقف من الرواية من الكتاب أو الصحيفة أساسه شدة التحرج منها وهو موقف لا يمكن قبوله على علته لكن ليس هذا مجال مناقشته على أن عمرو بن شعيب روى عنه أيمة موثقون واعتمده جلهم ولا نرى ما يحمل على اعتبار حرج من تحرجوا منه ما نظر في ترجمته (تهذيب التهذيب لابن حجر: 8/48، 55، ترجمة 80) ، وقد جمع الحافظ فيها ما تفرق عند غيره من أقاويلهم في عمرو بن شعيب.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1729 والسلف هو القرض في لغة أهل الحجاز، وروي عن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم - نهوا عن قرض جر مففعة (1) ولأنه عقد إرفاق، فذا شرط فيه منفعة خرج من موضوعه، فإن " بدأ المستقرض " - لعل الصواب: بدا للمستقرض، وأن كانت المبادأة محتملة ها هنا أيضا - فزاده أورد عليه ما هو أجود منه أو كتب له سفتجه أو باع منه داره، جاز لما روي أبو رافع - رضي الله عنه - قال: استلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل بكرًا، فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملًا خيارا رباعيًّا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اعطه، فإن خياركم أحسنكم قضاء)) . (2) وروى جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كان لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حق فقضاني وزادني (3) فإن عرف لرجل عادة أنه إذا استقرض زاد في القرض، ففي إقراضه وجهان أحدهما لا يجوز إقراضه إلا أن يشترط رد المثل، لن المتعارف كالمشروط ولو شرط الزيادة لم يجز، فكذلك إذا عرف بالعادة، والثاني أنه يجوز وهو المذهب؛ لأن الزيادة مندوب إليها، فلا يجوز أن يمنع ذلك صحة العقد. وجاء في (المغنى: 4/360، 361) : وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بلا خلاف.. وقد نص أحمد على أن من شرط أن يكتب له بها سفتجة، لم يجز، ومعناه اشتراط القضاء في بلد آخر وروي عنه جوازها لكونها مصلحة لهما جميعًا، وقال عطاء: كان ابن الزبير يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب لهم بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق فيأخذونها منه، فسئل عن ذلك ابن عباس فلم ير به بأسا (4) .   (1) انظر التعليق رقم: (1) في الصفحة 2065 (2) انظر التعليق رقم: (2) في الصفحة 1920 (3) هذا طرف من حديث البعير المشهور وهو حديث طويل ومنهم من اختصره. روي من عدة طرق منها طريق سالم بن أبي الجعد والشعبي وعطاء ويزيد بن أسلم وغيرهم وقد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. انظر المزي في (تحفة الأشراف: 2/175، ح 2243، ص 203 ح 2341) (4) هذا هو المشهور، وإن روي عن بعض الصحابة وبعض التابعين شيء من الحرج منه على أنه لم يعد اليوم مما ينبغي التحرج منه؛ لأن عمليات التحويل في النقود مختلفة أم من جنس واحد أصبحت مجرد إجراء شكلي لا يكلف أحد الطرفين مؤونة فدخل الخلاف الذي أشرنا إليه آنفا في نطاق تاريخ الفقه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1730 ، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه سئل عن مثل هذا فلم يرد به بأسًا (1) ، وممن لم ير به بأسا ابن سيرين والنخعي (2) فإن أقرضه مطلقا من غير شرط فقضاه خيرًا منه جاز في القدر أو الصفة أو دونه برضاهما جاز. قلت: لكن السنهوري - غفر الله له - لم ينقل عبارة المغني كاملة، ولعل النقطتين اللتين وضعهما بين فقرة وأخرى أراد بهما الإشارة إلى عملية " التلفيق " التي عمد إليها والعبارة كاملة (4/354، 355) : وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة " أم " - لعل صوابه: أو - هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا، وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة؛ ولأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه من موضعه ولا فرق بين الزيادة في القدر أو في الصفة مثل أن يقرضه مكسرة ليعطيه صحاحًا أو " بقدًا " - لعل صوابه نقدًا - ليعطيه خيرا منه وإن شرط أن يعطيه إياه في بلد آخر، وكان لحمله مؤونة لم يجز، لأنه زيادة وإن لم يكن لحملة مؤونة جاز وحكاه ابن المنذر عن علي وابن عباس والحسن بن على وابن الزبير وابن سيرين وعبد الرحمن بن الأسود وأيوب السختياني والثوري وأحمد وإسحاق وكرهه الحسن البصري وميمون بن أبي شبيب وعبدة بن أبي لبابة ومالك والأوزاعي والشافعي؛ لأنه قد يكون في ذلك زيادة، وقد نص أحمد على أن من شرط أن يكتب له بها سفتجة لم يجز ومعناه اشتراط القضاء في بلد آخر، وروي عنه جوازها لكونها مصلحة لهما جميعا وقال عطاء: كان ابن الزبير يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب لهم بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق، فيأخذها منه، فسئل عن ذلك ابن عباس فلم ير به بأسا، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه سئل عن مثل هذا فلم ير به بأسا، وممن لم ير به بأسا ابن سيرين والنخعي، رواه كله سعيد. وذكر القاضي أن للوصي قرض مال اليتيم في بلد أخرى ليربح خطر الطريق، والصحيح جوازه لأنه مصلحة من غير ضرر بواحد منهما، والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، بل بمشروعيتها؛ لأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص فوجب إبقاءه على الإباحة ... إلخ.   (1) هذا هو المشهور، وإن روي عن بعض الصحابة وبعض التابعين شيء من الحرج منه على أنه لم يعد اليوم مما ينبغي التحرج منه؛ لأن عمليات التحويل في النقود مختلفة أم من جنس واحد أصبحت مجرد إجراء شكلي لا يكلف أحد الطرفين مؤونة فدخل الخلاف الذي أشرنا إليه آنفا في نطاق تاريخ الفقه. (2) هذا هو المشهور، وإن روي عن بعض الصحابة وبعض التابعين شيء من الحرج منه على أنه لم يعد اليوم مما ينبغي التحرج منه؛ لأن عمليات التحويل في النقود مختلفة أم من جنس واحد أصبحت مجرد إجراء شكلي لا يكلف أحد الطرفين مؤونة فدخل الخلاف الذي أشرنا إليه آنفا في نطاق تاريخ الفقه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1731 ثم قال السنهوري: ويتعين مما قدمناه من النصوص أن القرض الذمي يتضمن فائدة ليس أصيلًا في العقود الربوية، بل هو يقاس عليها يجوز أولا أن يتضمن العقد فائدة غير مشروطة، فإذا رجح المستقرض في بدل القرض ولم يكن الرجحان مشروطًا فلا بأس به ويجوز ثانيا أن يستر القرض فائدة كمن يبيع الشيء غاليًا للمستقرض ثم يقرضه مبلغا من المال؛ إذ لا شك في أن الفرق بين الثمن الغالي والقيمة الحقيقية إنما هو فائدة القرض. قلت: القول بهذا مرجوح عند من يمنع الحيلة ولا يراها وسيلة مشروعة بحال من الأحوال مثل ابن القيم - رحمه الله - وهو الصحيح، بل الذي لا يجوز القول بغيره عند التحقيق، وقد ألمحنا آنفا إلى ما قاله ابن القيم في " أعلام الموقعين ". ثم قال: وأخيرا إذا تضمن العقد زيادة مشروطة ظاهرة - وهذه هي الفائدة بعينها - فإن هذا لا يجوز، ولكن لا؛ لأن الزيادة المشروطة ربا، بل لأنها تشبه الربا والتحرز عن حقيقة الربا وعن شبهة الربا واجب. قلت: ومن أين للسنهوري هذه الدعوى، فالفائدة المشروطة ربا ما في ذلك شك ولعل دعواه هذه التي أراد أن ينسبها إلى الفقهاء الأول هي التي حملته على أن يحذف، وهو ينقل من المغني كلام ابن المنذر الذي جاء فيه " أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة " أم " هدية، فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا " انتهى كلام ابن قدامة نقلا عن ابن المنذر، ومن عجب أن يجرؤ السنهوري على نسبة دعوى إلى الفقهاء الذين نقل عنهم وهى مخالفة لإجماعهم ولا نعرف جرأة على الله وعلى شريعته أوضح من هذه لولا أننا نريد أن نقنع أنفسنا بحسن الظن في السنهوري فنحتمل له أنه لم يفهم كلام الفقهاء، مع أن ذلك يتأتى لو لم يحذف كلام ابن المنذر مما نقله عن المغني حذفا لا شك فيه أنه عن عمد وسبق إصرار، إذ هو لا يكتفي بدعواه هذه، إذ يمضي في تدعيمها. فيقول: وإذا كانت الفائدة في القرض لا تعتبر ربا حقيقيًّا، بل يقتصر الأمر على أن فيها شبهة ربا فلا مناص من القول بأن ربا القرض يلحق بربا النسيئة وبربا الفضل ويجمع بين كل هذه الأنواع من الربا أنها جميعها محرمة ولكن التحريم فيها تحريم للوسائل لا تحريم للمقاصد ومن ثم يرتفع التحريم إذا قامت الحاجة. ثم يعلق على " مقولته " هذه يقول: على أن الصورة التي يرسمها الفقهاء عادة للقرض في العصور السالفة تجعله أقرب إلى الصدقة فتغاير ما بين طبيعته في تلك العصور وطبيعته اليوم حيث هو في أكثر صوره وسيلة مألوفة من وسائل تزويد المنتج بعنصر ضروري من عناصر الإنتاج هو رأس المال - جاء في (المغني: 4/353) (ص 347 في نسختنا) : والقرض مندوب إليه في حق المقرض مباح للمقترض لما روينا من الأحاديث ولما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)) . (1) .   (1) رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والدرامي في أكثر من موضع. انظر (أ. ي. ونسنك و. ي. ب منسنج) . (المعجم المفرس: 4/110) ، والمزي (تحفة الأشراف: 9/378 ح 12510) وهو طرف من حديث طويل ولفظه عند مسلم (الصحيح: 4/2074، ح 2699) : حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وأبو بكر بن أبي شبية ومحمد بن العلاء الهمداني واللفظ ليحيى، قال يحيى: أخبرنا وقال الآخران: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من نفّس عن مؤمن كربة من الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على مسلم يسر عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره في الدنيا والآخرة والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) ورواه بسند آخر أيضا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1732 وعن أبي الدرداء أنه قال: لأن أقرض دينارين ثم يردان ثم أقرضهما أحب إلى من أن أتصدق بهما (1) ؛ لأن فيه تفريجا عن أخيه المسلم وقضاء لحاجته وعونا له فكان مندوبا إليه كالصدقة عليه. قلت: وهذا زعم آخر من السنهوري تدحضه الوقائع فليس تيسير رأس المال للمنتج هو الجانب الغالب من القرض الممارس في العصر الحاضر، بل قد يكون الجانب الأغلب منه ما يغرى به المستهلك كالقرض العقاري لبناء المساكن والقرض لشراء السيارات والقرض لشراء الأثاث وما إلى ذلك، وأغلبه لا ييسر الحاجات فضلا عن الضرورات وإنما ييسر الكماليات، ثم إن التشريع الإسلامي يسر للمنتج العامل أسباب الحصول على رأس المال الذي يحتاج إليه في عمله الإنتاجي بما أباح له من أنواع الشركات، كالقراض والسلم وما شاكلهما، فليست الحاجة متعينة فضلا عن الضرورة لدى المنتج إلى ابتغاء قرض بفائدة ربوية محرمة اعتمادا على مقولة المصلحة التي ترجح المفسدة أو العرف الذي تؤول به بعد الأحكام. ثم إن المصلحة والعرف وما شاكلهما من المصادر التشريعية المختلف فيها، إنما أصلت عند من يقول بها لتيسير الاجتهاد فيما لا نص فيه، أما ما فيه نص قطعي لا سبيل إلى تأويله تأويلًا سليمًا لا تمحل فيه ولا افتعال كآيات الربا في القرآن والأحاديث القولية والفعلية المبينة لها في السنة، فلا سبيل إلى تحكيم العرف أو المصلحة فيه اجتهادا أو تمحلًا للتأويل؛ إذ ليس للبشر أن يغيروا حكم الله إذا ورد بنص قطعي، وإن لجئوا إلى التمحل في التأويل فضلا عن أن يلجئوا إلى تأصيل قواعد، إنما وضعها من وضعها للاهتداء بها فيما لا نص فيه لكن السنهوري يمضي في تأكيد مقولاته هذه العجيبة فيقول:   (1) قال البيهقي (السنن الكبرى: 5/353) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا هارون بن سليمان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان بن منصور، عن سالم، عن أبي الدرداء قال: لأن أقرض دينارين مرتين أحب إلى من أن أتصدق بهما لأني أقرضهما فيرجعان إلى فأتصدق بهما فيكون لي أجرهما مرتين. وروي بأسانيد مثل هذا القول عن ابن عباس وابن مسعود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1733 وقد آن أن نلخص ما وصلنا إليه من نتائج في هذا البحث: 1- الأصل في الربا التحريم، الربا في جميع صوره سواء كان ربا الجاهلية أو ربا النسيئة أو ربا الفضل أو ربا القرض، والاعتبارات التي تدعو إلى تحريمه هي التي قدمناها: وقاية الناس من احتكار أقواتهم وحمايتهم من التلاعب في أسعار العملة التي يستخدمونها ودفع الغبن والاستغلال عنهم. 2- على أن هناك صورة من الربا هي أشنع هذه الصور وأشدها استغلالا للمعوز والفقير، وهي الصورة التي نزل به القرآن منذرا متوعدًا صورة الربا الذي تعودته العرب في الجاهلية فيأتي الدائن مدينه عند حلول أجل الدين ويقول: إما أن تقضي وإما أن تربي، والإرباء معناه أن يزيد الدين على المستحق في مقابل إطالة الأجل وهذا أشبه بما نسميه اليوم بالفوائد على الفوائد أو الربح المركب وصورته أن يتقاضى الدائن فوائد مستقلة على ما تجمد من الفوائد فيقول للمدين، إما أن تقضي رأس المال وما تجمد عليه من الفوائد، وإما أن تربي بأن تضم المتجمد من الفوائد إلى رأس المال فيصبح المجموع رأس مال جديد بما ينتج من الفوائد عن المدة التي أطيل فيها أجل الدين. هذه الصورة من الربا في العصر الحاضر هي التي تقابل ربا الجاهلية، وهي محرمة تحريمًا قاطعًا لذاتها تحريم مقاصد لا تحريم وسائل فهي التي تجر الويل والخراب على المدين وتضاعف راس المال في سنوات قليلة فيأكل الدائن الربا أضعافا مضاعفة وهي الصور التي محقها الله تعالى في قرآنه الكريم، ومن ثم لا يجوز الربا في هذه الصورة أصلا، بل إن نظرية الضرورة ذاتها لا تتسع بهذا الجواز فإن الضرورة الملحة التي تلجئ كلًّا من المدين والدائن " على " - لعل صوابه: إلى - التعامل بالربا على هذا النحو - الضرورة التي يكون من شأنها أن تبيح الميتة والدم - لا يمكن تصورها وحتى إذا أمكن تصورها في حق المدين بأن كان في حاجة إلى المال لحفظ حياته، ولم يجد من يقرضه إياه إلا على هذا الشرط فإنه لا يمكن تصورها في حق الدائن، وإلا فما هذه الضرورة الملحقة التي تدفع الدائن إلى هذا الاستغلال إن لم يكن الطمع والجشع. قلت: لقد أكثر المختبطون في مسألة الربا من الالتجاء إلى مسألة الاضطرار إلى أكل الميتة والدم وأكل لحم الخنزير وإنقاذًا للحياة والقياس عليها التجاء وقياسا لا مسوغ لهما ولا أساس فالذي يضطر لإنقاذ حياته إلى أكل إحدى المحرمات الثلاث يجوز له قبل أن يلجأ إليها أن يقاتل، وحتى أن يقتل من يكون لديه ما ينقذ به حياته فيمنعه منه وإن بالثمن العادي. فكيف تتصور الضرورة إذن بحيث تبيح الالتجاء إلى أخذ المال بالربا؟ ! واضح أن القياس فاسد من أساسه فعلة الإباحة للمحرمات الثلاث عند الاضطرار لا يمكن تطبيقها على أية حال يراد فيها استباحة أخذ المال بالربا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1734 ثم قال السنهوري: 3- أما الصور الأخرى من الربا - الفائدة البسيطة للقرض وربا النسيئة وربا الفضل - هذه أيضا محرمة، ولكن التحريم هنا تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد بعض هذه الصور وهي الخاصة بالأصناف الستة وبفائدة القرض وردت بنصوص صريحة في الأحاديث الشريفة، وبعضها وهي الخاصة بالأصناف الأخرى التي ألحقها الفقهاء بالأصناف الستة كان من عمل الفقهاء وهي تقوم على صناعة فقهية لا شك في سلامتها وكلها وسائل لا مقاصد وقد حرمت سدًّا للذرائع، ومن ثم يكون الأصل فيها التحريم وتجوز استثناء إذا قامت الحاجة إليها، والحاجة هنا معناها كما يقول ابن القيم: مصلحة راجحة في صورة معينة من صور الربا تفوت إذا بقي التحريم على أصله، عند ذلك تجوز هذه الصورة استثناء من أصل التحريم وتجوز بقدر الحاجة القائمة فإذا ارتفعت الحاجة عاد التحريم. قلت: ليت شعري ما الذي حفز السنهوري إلى تحميل كلام ابن القيم أكثر من معناه، " فكلمة المصلحة الراجحة " وردت في سياق دفاع ابن القيم على جواز بيع المصوغ من الذهب بالنقد من جنسه، وقد أطنب في ذلك في عدة صفحات من " أعلام الموقعين " ابتداء من (ص 140، من الجزء 2) وساق له أدلة أجهد نفسه في ابتغائها وتجميعها وبنى فيه على أصله من أن ربا الفضل محرم تحريم وسائل وليس تحريم مقاصد، ومع ذلك فإن من يقرأ كلامه الطويل لا يجد فيه متعلقًا - وإن على أساس من التحمل - لما يريد مثل السنهوري أن يستند إليه في دعوى قياس ربا الفوائد البسيطة على بيع المصوغ استنادًا على دعوى المصلحة الراجحة، إلا أن يكون مثل هذا الاستناد يراد به مجرد التمويه على من لم يطلع على كلام ابن القيم من المقلدين و " الاستخفاء " أو التقنع فيما يهدفون إليه من مقولة إباحة عمليات المصارف التي تمارس في العصر الحاضر وهي محاولة ضالة قائمة على التضليل الذي لا ندري كيف يلقى أصحابه ربهم به يوم القيامة؟ {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [الآية 109 من سورة النساء] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1735 ثم قال السنهوري: 4- وتبدأ الحاجة أن تكون حاجة شخصية ذاتية تقوم بفرد بالذات، ففي بيع العرايا تقوم الحاجة ببيع المشتري فهو يبتاع بتمره الجاف ما على رؤوس النخل من الرطب إذا كان هو بالذات في حاجة إلى الرطب، وهذا ما ورد النص الصريح بجوازه وأجمعت الفقهاء على صحته ويقاس عليه بيع الدنانير والدراهم المسكوكة بأكثر من وزنها ذهبًا أو فضة إذا احتاج التاجر أو غير التاجر خوفا من فوات السوق أو من فوات الرفقة، أي أن الحاجة هنا أيضا شخصية ذاتية وهذا ما قال به مالك على النحو الذي بيناه فيما تقدم. قلت: سبق أن نقلنا قول مالك هذا في فصل " الأحكام المترتبة على اضطراب النقد وتغييره واختلافه من آثار أيمة السنة ومجتهديها" ونقلنا ارتياب أيمة الفقه المالكي مثل ابن عبد البر في نسبة هذا القول إلى مالك وإنكاره عليه إن ثبت على أننا لا ننكره على مالك، لكن ليس قبولنا على الأساس الذي يريده السنهوري وهو إباحة، بيع الذهب أو الفضة أو أي نوع من النقد بجنسه ونوعه متفاضلا للحاجة، بل لأننا نعلل القول المنسوب إلى مالك - رحمه الله - بأنه اعتبار الأجر الصناعة فهو أباح للمحتاج أن يدفع إلى الصائغ ذهبا غير مسكوك ويأخذ منه ذهبا مسكوكا بدل أن ينتظر سك ذهبه مخافة أن تفوته القافلة أو ما شكل ذلك، والقضية التي تبرز هنا هي هل يجوز دفع أجرة السك من نفس المادة التي يراد سكها، والجمهور حرم ذلك لحديث أبي سعيد وعبادة وغيرهم، ويفهم من كلام ابن القيم ومن نحا نحوه في اعتبار أجر الصناعة في المصوغ أنهم يقولون بجوازه وقد يكون لقولهم هذا وجه من الاعتبار لولا تضافر نصوص الحديث الصريحة بوجوب المراعاة الدقيقة للمثلية والعينية والوزن في النقدين، اللهم إلا إذا اعتبرنا ورود كلمة " مثل بمثل " مع " وزنًا بوزن وعينا بعين " يمكن أن تؤول المثلية فيها اعتبارًا للعطف الذي لا يعني التكرار بالمماثلة الشكلية، فيكون السك اعتبارًا لذلك مميزا للدينار أو الدرهم المسكوك عن غيره وتكون صنعة السك ملحوظة في المثلية، وهذا كل ما يمكن أن يتعلق به عند الأخذ برأي ابن القيم ومن نحا نحوه في مسألة بيع المصوغ بجنسه مع اعتبار أجرة الصنعة ونحن نكره ولا نحرمه. ثم قال السنهوري: ثم تنتهي الحاجة إلى تكون عامة شاملة لا تقوم بفرد بالذات دون غيره، بل تكون في طبيعة المعاملة نفسها فبيع المصوغ بأكثر من وزنه ذهبًا أو فضة دعت إليه حاجة العامة على أن تكون لصنعة الصياغة قيمة يقابلها شيء من الثمن، وإلا اندثرت هذه الصناعة مع قيام الحاجة إليها فما دامت هناك صياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء وما أبيح من حلية السلاح وغيرها والناس في حاجة إليها، فالحاجة تقوم عامة شاملة إلى شراء المصوغ بأكثر من وزنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1736 قلت: هذه الحاجة ليست قائمة في الواقعة ذلك بأن التعامل في العهد النبوي كان قائمًا على ازدواجية النقد، فإذا قلنا بمنع شراء المصوغ بنوعه متفاضلا، فإننا لا نقول بمنع شرائه بنوع آخر من جنس النقد نفسه، بل يباح إجماعًا شراء مصوغ الذهب بالفضة وشراء مصوغ الفضة بالذهب متفاضلا وزنا وعددا وثمنا اعتبار للصناعة واختلاف النوع، وإن اتفق الجنس باعتبار النقدية هي الجنس وقد نقلنا عن أبي بكر وعمر من عملهما ما يدل على ذلك. ثم قال السنهوري: وفي نظام اقتصادي رأسمالي كالنظام القائم في الوقت الحاضر في كثير من البلاد - ويتميز بأن رؤوس الأموال تكون مملوكة للأفراد والهيئات والمصارف وليست مملوكة للدولة - تدعو الحاجة العامة الشاملة إلى حصول العامل على رأس المال حتى يستغله بعمله وقد أصبحت شركات المضاربة والقراض - قلت: وهما واحد - ونحوها غير كافية للحصول على رأس المال اللازم. حقًّا أن شركات المساهمة وشركات التوصية تسمح في كثير من الأحوال بأن يستثمر صاحب رأس المال ماله في شراء أسهم هذه الشركات، فيشترك في الربح والخسارة ولكن القروض هي الوسيلة الأولى في النظام الاقتصادي الرأسمالي القائم للحصول على رؤوس الأموال، وحتى في الشركات المتقدم ذكرها توجد إلى جانب الأسهم - وهي حصص الشركاء الذين يساهمون في الربح والخسارة - السندات وهي القروض التي تقدم لهذه الشركات والمقترض هنا كما سبق القول هو الجانب القوي والمقرض هو الجانب الضعيف الذي تجب له الحماية فما دامت الحاجة قائمة للحصول على رؤوس الأموال من طريق القرض أو غيره، وما دام رأس المال ليس ملك الدولة، بل هو ملك الفرد ادخره بعمله وجهده فمن حقه أن لا يظلم فيه ولا يظلم ما دامت الحاجة قائمة، إلى كل ذلك فإن فائدة رأس المال في الحدود المذكورة تكون جائزة استنثاء من أصل التحريم. نقول في الحدود المذكورة ونقصد بذلك: (أولا) ألا يجوز بحال مهما كانت الحاجة قائمة أن تتقاضى فوائد على متجمد الفوائد فهذه هو ربا الجاهلية الممقوت، (ثانيا) وحتى بالنسبة للفائدة البسيطة يجب أن يرسم لها " المشروع " - لعل صوابه: المشرع حدودا لا تتعداها من حيث سعرها ومن حيث طريقة تقاضيها ومن حيث مجموع ما يتقاضى منها، ومن وجوه أخرى كثيرة ينبغي على المشرع أن يتحراها وذلك حتى تقدر الحاجة بقدرها. 5- وحتى بعد كل هذا، فإن الحاجة إلى الفائدة لا تقوم - كما قدمنا - إلا في نظام رأسمالي كالنظام القائم، فإذا تغير هذا النظام - ويبدو أنه في سبيله إلى التغير - وأصبح نظامًا اشتراكيًّا رؤوس الأموال فيه بيد الدولة لا بيد الأفراد، عند ذلك يعاد النظر في تقدير الحاجة فقد لا تقوم الحاجة في ظل النظام الاشتراكي فيعود الربا إلى أصله من التحريم. قلت: هذه الفتوى الحذرة بادية التحرج من السنهوري قائمة على أساس لا يمكن التسليم به، ويظهر أن تسليم السنهوري به مرده إلى أن علاقته بالفقه ليست أصيلة كعلاقته بالتشريع الوضعي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1737 ومدار الأساس الذي بنى عليه فتواه هذه المتحرجة هو: 1- التسليم بعدم جدوى نظام القراض، وما شاكله من النظم الإسلامية في مواجهة حاجات من يعمل في الإنتاج - تجارة أو صناعة أو فلاحة - إلى رأس المال الذي ييسر له ما يبتغيه. وهذا التسليم خطأ؛ لأن ما تراءى له من عجز هذه الأنظمة عن تلبية تلك الحاجات ليس مرده إلى عجز ذاتي فيها، وإنما مرده إلى انصراف الناس عن التعامل بها إما للجهل بمناهجها جهلا أدى بهم إلى الشك في جدواها، وإما لانعدام الثقة بين صاحب المال والراغب في العمل انعداما نتج عن افتقار الطرفين إلى الأخلاق الإسلامية السليمة التي تهيمن على مواجد المسلمين وتصرفاتهم هيمنة تجعل منها قوة متكاملة بحيث تطمئن المواجد إلى التصرفات وتكفل التصرفات أسباب الطمأنينة للمواجد، فليس النقص إذن في أنظمة الاستثمار في الإسلام وإنما النقص في التكوين النفسي للمنتسبين إلى الإسلام وهذا النقص لا يسوغ ما يريد السنهوري وأمثاله تسويغه من تحليل ما حرم الله بحجة الحاجة. 2- قضية الظرفية التي اعتمدها السنهوري إذ علل فتواه بقيام نظام رآه لا يستجيب لمقتضيات تطبيق الأنظمة الإسلامية، وهي قضية غير مسلمة له أيضا فمن حيث جوهرها لا يجوز استعمال الظرفية التي يضعها الإنسان اختيارا كوسيلة لوقف العمل بنص قرآني أو سني أو للتمحل في تأويله، ونقول التي يضعها الإنسان اختيارا تحرزًا من التي تحدث له اضطرارًا بقضاء وقدر مثل عام المجاعة (الرمادة) الذي أوقف فيه عمر قطع يد السارق، فهذه ليست من صنع البشر وإنما كانت قدرًا أحسن عمر تقدير ملابساتها ونتائجها فتبين أن موجبات القطع، بل مواصفات السرقة غير متوفرة فيما حدث يومئذ فهو في واقع الأمر لم يوقف العمل بنص قرآني، وإنما أحسن فهمه وتصرف طبقا لما وقر في نفسه أنه الحدود الضابطة لأحكام النص وغير المتوفرة فيما حدث يومئذ. وليس كذلك قيام وضع صنعه البشر وليس للقدر القاهر أي دخل في إقامته؛ إذ إن البشر الذين صنعوه يستطيعون تغييره، وإذا قيل: أنه من صنع قوة حاكمة متسلطة لا سبيل إلى إجبارها على تغييره، قلنا: كذلك كان استبعاد الشعوب الإسلامية من صنع قوى قاهرة، ومع ذلك استطاعت الشعوب تغييره أو هي بسبيل النجاح في تغييره ومن الوسائل المتاحة للفرد المسلم لتغيير أي نظام مالي أو اقتصادي لا يقوم على الأسس الإسلامية أو لا يستجيب لمقتضياتها أن يمسك عن كل عمل لا تقوم عليه ضرورة الحفاظ على حياته، وما من أحد يستطيع أن يزعم أن الاقتراض بالفائدة مهما تكن بسيطة تدعو إليه ضرورة المحافظة على الحياة كما تدعو الضرورة من أشرف على الموت جوعًا إلى إنقاذ حياته بأكل الميتة ولحم الخنزير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1738 سيقولون: إن الأمة الإسلامية بحاجة قد تبلغ درجة الضرورة الجماعية إلى النماء الاقتصادي لتدعيم كيانها والتحرر من استعباد القوى الأجنبية التي تتخذ من أسلحتها الهيمنة الاقتصادية المترتب عليها التقدم التقني والصناعي، وهذه شبهة حرية بأن تحرج الكثير من الأغرار لولا أن واقعا نعايشه الآن يدحضها دحضًا فادحًا. فقد عاش الاتحاد السوفياتي قرابة نصف قرن شبه منعزل تماما عن المعسكر الرأسمالي الغربي وجل عقود هذه الفترة كان فيها يواجه حصارا اقتصاديًّا مطبقًا، ومع ذلك استطاع - لا إنه يحتفظ بوجوده فحسب - بل أن يصبح إحدى القوتين العظميين المسيطرتين على العالم سيقولون: إنه لا يزال متخلفًا تقنيًّا وما يزال مستوى المعيشة فيه متدنيًا جدًّا بالقياس إلى مستوى المعيشة في المعسكر الرأسمالي، بيد أن الذي يدحض هذا القول هو أن الإسلام لا يجعل ارتفاع مستوى المعيشة عنصرًا يجب اعتباره عند ضبط قواعده التشريعية، أما التخلف التقني نسبيًّا فما من شك في أنه لم يتخلف به على أن يكون قوة قاهرة، ويوم أصبح هذه القوة أخذ مالكو التقدم التقني يتحايلون مع أنفسهم وأنظمتهم لامداده بما ينقصه من بعض أطوار التقنية وحتى لو أنهم دأبوا على الحيلولة بينه وبين الحصول على تلك الأطوار فإنه ما من شك سيلتحق بهم وإن بعد فترة طويلة. مهما يكن، فإن اعتبار الظرفية التي صنعها البشر مسوغًا لتحليل ما حرم الله اعتبار لا تبيحه قواعد التشريع الإسلامي. على أن الأنظمة الاشتراكية التي يعلق عليها السنهوري آماله في إمكان إعادة النظر في فتواه هذه يوم تهيمن على الأمة الإسلامية ليست في مجموعها بالقابلة للتجاوب الكامل مع ضوابط ومقتضيات التشريع الإسلامي، ذلك بأن الإسلام يضع ضوابط دقيقة منيعة لتدخل الدولة في ملك الأفراد وقد بسطنا هذه الضوابط وما يتصل بها بسطًا نرجو أن يكون وافيًا في بحثنا " الإسلام وانتزاع الملك للمصلحة العامة " لا سيما في الفصول الأخيرة منه ولا سبيل إلى الزعم بأن الإسلام نظام اشتراكي، كما حاول مصطفى السباعي ومن على شاكلته - يغفر الله له - أن يقرر فأجهد نفسه ولم يأت بطائل، وكذلك لا سبيل إلى الزعم بأن الإسلام نظام رأسمالي إنما السبيل هو إلى القول - بتأكيد مطمئن - أن النظام الإسلامي نظام وسط وليس رأسماليًّا بحتًا ولا هو اشتراكي بحت وعلى المسلم في هذه الفترة من انبعاثه أن يكافح لإقرار هذا النظام كفاحه لتحرير الأرض وتحرير الفرد والمجتمع، أما أن يصانع هذا النظام أو ذاك من الأنظمة المنحرفة عن ضوابط الشريعة الإسلامية بحجة هيمنتها على الأوضاع العامة ومقاليد السلطة مصانعة يتذرع إليها بالتمحل في تأويل النصوص الشرعية أو بالجرأة على وقف العمل بها بحجة " الحاجة " أو الضرورة، فذلك انحراف عن طبيعة الشريعة الإسلامية وعن صريح نصوصها مثل قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الآيتان 119 و 120 من سورة الأنعام] ، وقوله جل جلاله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الآيتان 116 و 117 من سورة النحل] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1739 3- على أن السنهوري أغفل في اعتباره - وهو يجترئ على الإفتاء بما أفتى به - الجانب الخلقي من تحريم الربا، كما أغفل الجانب العملي أيضا من تحريمه ومن تشريع الذين شرعوه، فالقول بإباحة الفائدة البسيطة للحاجة يقضي قضاء مبرمًا على الأساس الخلقي أو المناط الخلقي لتحريم الربا، وهو حمل القادر على مساعدة العاجز وهذا الأساس قد لا ينحصر في دائرة الندب وإنما يتعداه إلى دائرة الوجوب، وقد أوضحنا ذلك في بحثنا " الإسلام وانتزاع الملك للمصلحة العامة " في الفصل الذي بينا فيه معنى الكنز في قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الآية 34 من سورة التوبة] . وكيف أن الإنفاق المراد في هذه الآية ليس بالضرورة الصدقة، بل قد يكون ترويج المال بحيث يستفيد منه المجتمع الإسلامي وعدم ادخاره إذا كان ادخاره ضارًّا بالمصلحة العامة للمسلمين. وإباحة الفائدة البسيطة كما أراد السنهوري يبطل هذا المدلول من دلالة الآية الكريمة، ثم إن التجربة أثبتت أن ما يسميه السنهوري الفائدة البسيطة تتحول تدريجيًّا إلى كارثة ماحقة ولسنا بسبيل التأريخ لعمليات الربا وتطورها لكنا نشير فحسب إلى أن أسباب التضخم النقدي في كل من الصين واليونان والرومان، وكذلك أسباب نشأة النظام الطبقي مردها إلى شيوع العمليات الربوية التي كثيرا ما تبدأ بمثل ما يسميه السنهوري الفائدة الضعيفة، ثم تتطور حتى تصبح كارثة ماحقة ولعل ذلك بعض ما تشير إليه الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الآيات 130 و 131 و 132 من سورة آل عمران] ، فقوله جلاله: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} ، لا يعني تكرار المعنى باشتقاقين لكلمة واحدة وإنما يعني - والله أعلم بسرائر كتابه ولطائف تشريعه - الإشارة إلى التدرج الطبيعي للعمليات الربوية بحيث قد تبدأ يسيرة بيد أنها لا تلبث أن تتضاعف ثم تتضاعف تلك الأضعاف وجلي فارق الدلالة الزمنية بين الصيغة المصدرية في (أضعافًا) وصيغة المفاعلة في (مضاعفة) واختلاف الصيغ في القرآن لا يجيء لمجرد النظم التعبيري، وإنما يجيء لدلالات مقصودة لذاتها لا يتأتى التعبير عنها بدونه وذلك من مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم. ويتراءى لنا أن من أسباب انزلاق السنهوري وغيره ممن تجرؤوا على الإفتاء بما حرم الله، بدعوى تعين الحاجة أو الضرورة، أنهم لم يستطيعوا إدراك سرائر التعبير القرآني ولا إدراك خفايا مناط التشريع، وأنى لمن عجز عن ذلك أن يستقيم له فهم أو اجتهاد في حكم من أحكام الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1740 ثم مضى السنهوري بناء على أساسه الذي ناقشناه آنفا، أن يحاول الاعتذار أو التسويغ لتشريعات الدول العربية المبيحة للربا في الإطار الذي حدده في فتواه، زاعما بأن تلك التشريعات لم يغب عنها الملحظ الذي التزمه في هذه الفتوى غافلًا عن أن الأوضاع التي هيأت للمشرعين العرب - والإسلام هو الغالب في جميع البلاد العربية - أن يكون إليهم أمر التشريع في بلدهم تقطع عنهم كل عذر إذا هم لم يعتبروا الوجود الإسلامي في بلادهم باعتباره دين الأغلبية الغالبة، فيلتزم بضوابطه التشريعية، إن صيرورة أمر التشريع إليهم تحملهم جميع التبعات المترتبة عن عدم الالتزام الدقيق بأحكام الشريعة الإسلامية ولا سبيل إلى التماس الأعذار لهم في ذلك بدعوى ضرورة الاتساق مع الأوضاع السائدة في البلاد غير الإسلامية التي تلجئهم الحاجة إلى التعامل معها؛ لأن اعتبار هذا الاتساق قد يكون له وجه في التشريعات المتعلقة الداخلية الراجع أمرها إلى ما هو من مشمولات السيادة البحتة. على أن ما له علاقة بالتشريعات الخارجية نفسه يمكن تكييفه مع ضوابط التشريع الإسلامي، وذلك ما سنلمع إليه بعد قليل. ثم إن العالم قد عرف نوعين من التشريع الوضعي العلماني في المجالين الاقتصادي والمالي مسافة الخلف بينهما أحيانا أوسع من مسافة الخلف بين الواحد منهما وبين ضوابط التشريع الإسلامي، ومع ذلك تعايشا وتعاملا بمنافرة أحيانا ذلك ما لا ننكره وبمسالمة أحيانا أخرى وفي كلتا الحالتين أمكن لهما التعايش والتعامل وهما النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي، فلماذا يجفل المشرع المسلم أو المشرع في البلاد الإسلامية من أن يكون صاحب نظام ثالث يفرض نفسه على النظامين الآخرين أن يتعايشا معه وخاصة فيما هو من شؤونه الداخلية ولا علاقة له بغيره، ولا يؤثر بأية حال من الأحوال في تعامله مع الآخرين؟ إلا أن يكون السبب هو مجرد التحرج من أن يقول الآخرون: إنه مسلم ملتزم ومن أن يعاملوه بالجفاء والمناوشة من أجل التزامه بالإسلام وأحكامه. أليس هذا في ذاته مخجل مخز لما يجسمه من الذلة والخضوع. وكيف كان دعاة الاشتراكية والماركسية أجرأ في دعوتهم - وهم لا يرجون الله وقارًا إنما يرجونه لدنياهم فحسب - من المشرع المسلم أو المشرع للبلاد الإسلامية، فما من أحد ينكر ما أثبته التاريخ من أنهم واجهوا من سدنة النظم الرأسمالية أعنف مما يمكن أن يواجهوا وأقساه من جفاء وحصار ونذر متواصلة مختلفة اللهجات والأشكال، ورغم ذلك ثبتوا بصمود عجيب ليس في دعوتهم فحسب، بل في عملهم على التمكين لها وتركيزها وترسيخها نظامًا ثابت الدعائم ومنهاجا واضح المعالم وإجبار العالم كله على اعتبارها واحتسابها فيما يحتسب من النظم والمناهج وهو يرسم مساره ويعين مصيره ويكيف مسيرته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1741 وقد وقفنا هذه الوقفة الطويلة مع السنهوري، فيما أحسن فيه وفيما أساء؛ لأن إحسانه أكثر من إساءته ولأن الموضوع يجديه بيان ما أحسن فيه، وما أساء جدوى لا غناء له عنها، ولأن ما أساء فيه كان فيه أفضل من غيره وأحسن عرضا وأوجه حجاجًا بل كان فيه الرائد أو من الرواد لغيره ممن يتبجحون اليوم بالنزوع إلى منزعه ذاك وكأنهم اكتشفوه باجتهادهم وما هم في الواقع غير مجرورين مجترين غاية أمرهم ترجيع ما سبقوا إليه في لهواتهم وادعاء تبعاته على أنهم لم يحسنوا حتى ترجيعه، بل تنزلوا به إلى مستوى من السذاجة والسماجة غير جدير بأي التفات أو اعتبار، ولما كان لا مناص من مناقشة هذا المنزع كانت مناقشة السنهوري هي التصرف السليم. وقد وقف من هؤلاء " المرجعين " المجترين موقف الداحض الدامغ نفر من " الراجعين إلى الفقه السليم " إذ يعالجون ما يتصل بهذا الموضوع من قريب أو بعيد، ولعل من أجودهم حجاجًا وأجلاهم بصيرة عبد الله عبد الرحيم العبادي في أطروحته " موقف الشريعة من المصارف الإسلامية المعاصرة " (ص 130 - 132) وفيما يلى صفوة من كلامه الرشيد: " إنه مما لا يغيب عن الأذهان أن الذين كانوا يستدينون أموالا نظير زيادة (ربا) تتراكم عليهم في كل عام أو في كل شهر في العهد الجاهلي، لم يكن الدافع إلى ذلك سوى الحاجة وقد تلجئه الضرورة ولم يكن سوى ذلك. قلت: اقتبس هذا القول مما نقله السنهوري من كلام الدواليبي، ونقلناه عنه فيما مضى، ولسنا ندري كيف لم يقنع الدواليبي نفسه بهذه القاعدة التي أصلها بنفسه فنزع منزعه ذاك؟!. ثم قال العبادي: قال الإمام ابن تيمية - حرمه الله - نقله عن القواعد النورانية وأحال على: ص 117، على عهدته: إن ما يتعامل به (الربا) المحتاج وإلا فالموسر به لا يأخذ ألفا حالة بألف ومائتين مؤجلة إذا لم يكن له حاجة بتلك الألف وإنما يأخذ المال بمثله وزيادة إلى أجل من هو محتاج إليه فتقع تلك الزيادة ظلمًا للمحتاج. وقال الإمام ابن القيم - وأحال على - (أعلام الموقعين: 2/54) ، - ص 135، من نسختنا وقد سبق أن نقلنا كلامه - بعد أن ذكر صفة الربا الجاهلي وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1742 ومع ذلك فإن القرآن الكريم قد حرم الربا تحريما قاطعًا، وحذر نبي الإسلام من تعاطي الربا وسد أبوابه كلها، ولعن آكله ومؤكله وشاهدين وكاتبه، وقال: هم سواء (1) أما بالنسبة إلى المصارف اليوم فلا يمكن أن نتصور الحاجة أو الضرورة ذلك أن الموعد الذي يأخذ الفائدة على وديعته من المصرف ليس في حاجة إلى أن يأخذ على ماله فائدة ولا هناك ضرورة تلجئه إلى مثل ذلك لأنه يملك المال وكذلك لا نتصور الضرورة في المقترض من المصرف لكي يباح له ذلك؛ لأنه لا يقترض ما يسد به رمقه كالحالة التي تلجئه للاضطرار وإنما المقترض من المصرف يأخذ الآلاف بل الملايين وكذلك لا نتصور الحاجة والاضطرار من المصرف المعطي للربا؛ لأنه يملك الملايين. إن ذلك كلام تافه لأنه لا يستند إلى وقاع ولا إلى دليل ولا عقل وإنما هو خروج عن دائرة الحق. قلت: الراجح أن هذا الكلام رد من العبادي على السنهوري وهو رد دامغ بلا ريب. ثم قال العبادي: وقد أفتى المرحوم الشيخ شلتوت شيخ الجامع الأزهر الأسبق بأن أخذ الربا من المصارف يجوز للحاجة والضرورة وهذا نص كلامه - نقله من فتاوى شلتوت وأحال على صفحة 251، 252 - على عهدته طبعًا: لا شك في أن القرآن حرم على المؤمنين التعامل بالربا والربا حدد بالعرف الذي نزل فيه القرآن بالدين يكون لرجل على آخر فيطالبه به عند حلول أجله فيقول له الآخر: أخر دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك وهو الربا أضعافا مضاعفة فنهاهم الله عنه في الإسلام. قلت: شبهة وقع فيها " المتفقهون " فضلوا وأضلوا، وبيانها أنه لا قرينة تصرف لفظ الربا في القرآن الكريم إلى هذا النوع وحده من المعاملات التي كانت يومئذ جارية بين الناس وورود الآثار بأن هذا النوع هو سبب نزول الآية لا ينهض وحدة قرينة التخصيص بجعل " ال " في لفظ الربا للعهد وليس للجنس وسنوضح ذلك بعد قليل.   (1) الحديث مشهور مستفيضة رواياته في كتب السنن وننقله من عبد الرازق قال في (المصنف: 8/314، ح 15343) : أخبرنا معمر، عن ابن المسيب قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله والشاهد عليه وكاتبه) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1743 ثم استطرد قائلا عن شلتوت: وأضاف أن هذا الصنيع لا يجري عادة إلا بين معدم غير واجد وموسر يستغل حاجة الناس غير مكترث بشيء من معاني الرحمة التي يبني مجتمعة عليها والتي لو عدمت في المجتمعات لأصبحت كغابات الحيوانات المفترسة وهذا النوع من التعامل لا تقبل إنسانية فاضلة الحكم بإباحته. إلى أن قال: وقد صرح بذلك بعض الفقهاء، فقالوا: يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح إن كان للأفراد ضرورة أو حاجة تبيح لهم هذه المعاملة وكان تقديرها مما يرجع إليهم وحدهم وهم مؤمنون بصيرون بدينهم فإن للأمة أيضا ضرورة أو حاجة كثيرا ما تدعو للاقتراض بالربح فالمزارعون كما نعلم تشتد حاجتهم في زراعاتهم وإنتاجهم إلى ما يهيؤون به الأرض والزراعة والحكومة كما نعلم تشتد حاجاتها إلى مصالح الأمة العامة وإلى ما تعد به العدة ... والتجار تشتد حاجاتهم إلى ما يستوردون به البضائع ... ولا ريب أن الإسلام الذي يبني أحكامه على قاعدة اليسر ودفع الضرر ... يعطي الأمة في شخص هيآتها وأفرادها في قلة أن تقترض بالربح تحقيقا لتلك المصالح التي بها قوام الأمة وحفظ كيانها. وبعد ذلك تناول الأرباح التي يعطيها صندوق التوفير فقال: والذي نراه تطبيقا للأحكام الشرعية والقواعد الفقهية السابقة أنه حلال ولا حرمة فيه. قلت: بعض هذا الذي قاله شلتوت سبق أن رددناه على السنهوري ودمغنا ما جاء من كلامه، لكن دعوى شلتوت أن بعض الفقهاء، قالوا: يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح ... إلخ دعوى لا نعرف لها دليلًا فمن هم هؤلاء الفقهاء؟ ولماذا لم يذكرهم ولم يحل على مصادره عنهم إلا إن كان يقصد رشيد ومن نراه ممن يحتج بقوله بعد أن رضي لنفسه ولفتواه الاستظهار بحفني ناصف وهو لا يعدو أن يكون شاعرًا أديبًا ثم كيف يبيح شلتوت لنفسه تقليد غيره خاصة من كان في مستوى رشيد رضا، وهو الذي يبدو في مجموع مؤلفاته يأنس من نفسه أنه فوق درجة التقليد والمقلدين وله اجتهادات موفقة، إن الذي يبدو لنا هو أن هذه الفتوى كانت لها ظروف خاصة مؤقتة ألجأته إلى ما يشبه " التقية " التي يأخذ بها الشيعة وهي ليست الوحيدة من نوعها في فتاويه ولا نقصد فتاويه المطبوعة فله غيرها مما نشرته الصحف له في أواخر أيامه يغفر الله له، لقد كان عالمًا جليلًا لكن لعله كان ضعيفًا لا يستمسك الامتحان. وآية ذلك ما يضيفه العبادي بعد أن أوجز فتواه تلك فيما سبق حيث يقول: وقد ثبت أن الشيخ - رحمه الله تعالى - قد رجع عن هذه الفتوى عندما دخل غرفة العمليات الجراحية وأجريت له العملية ولم يقدر له الشفاء، وقال الشيخ نور الدين عتر - أحال على كتابة " المعاملات المصرفية وعلاجها في الإسلام " ص 65 " تعليق " - لكن وقفت على سند يدل على رجوعه قبل ذلك بزمن أخبرني من يوثق به من أهل العلم - كان ينبغي أن يذكره لتكون الشهادة ثابتة الأركان إن كان من العدول، فالمسألة هنا من الخطر بحيث لا تنزل عن رتبة الشهادة إلى رتبة الرواية أو الخبر - أنه قال له ولبعض الزوار في البيت: لا تأخذوا بفتواي في الربا والتأمين. وذكر نحو هذين أيضا وإخراجه كتاب التفسير بعد الفتوى يدل على ذلك لما فيه من إبطال ما اشتمل عليه كتاب الفتوى في هذه المسألة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1744 قلت: بحث شلتوت - رحمه الله وغفر له (في تفسيره: ص 47، 160) موضوع الربا بدقة وشمول وبيان بحثا لا أعرف له مثيلا لدى نظرائه ممن اضطربت مواقفهم من أمر الربا وبعد أن استعرض تاريخ الربا عند العرب وأقوال الفقهاء في ربا الفضل ومناط التشريع خلقيًّا واقتصاديًّا في تحريم الربا، قال: تحت عنوان: (شبهات " العصريين " في استباحة الربا) : يرى بعض الناس، أن الربا أصبح في عصرنا الحاضر معاملة عامة وأساسا من أسس الاقتصاد فإن المصارف المالية والشركات المختلفة التي لا غنى للأمة عنها تعتمد عليه في سائر معاملاتها وليس من الرأي ولا من مصلحة الأمة أن نشير عليها بهدم ذلك كله وأن تنفرد من بين الأمم بمعاملة خالية من الربا وأن نترك البيوت المالية الأجنبية تفيد من ثمرات هذا التعامل المالي دوننا وقد ارتبطت الدول والأمم بعضها ببعض، فلم يعد من الممكن أن تستقل أمة بنوع من المعاملة لا تعرفه غيرها وأن أساليب الإصلاح والعمران تستدعي رصد الأموال وتجميعها من الأفراد لتستغل فيما ينفع الأمة وتستدعي في كثير من الأحيان أن تقترض الحكومات من غيرها أو من الشعوب أموالا تضمنها بسندات ذات ربح مقدر فتمتص بذلك الأموال المدخرة المعطلة وتحولها إلى منافع ومصالح ترقى بها الأمة وتسعد. يقولون هذا ويرون أن تحريم الإسلام للربا عائق عن بلوغ الأمة شأن أهل المدينة الحديثة مفض بها إلى الضعف المادي فالضعف الأدبي فالاستعمار ومن الناس من يقول: إن اقتراض المحتاج قدرا من المال بفائدة ربوية " قانونية " - أحسبه يشير إلى السنهوري يمكنه من سد حاجته ويدرأ عنه الإفلاس والضياع، فلا يعقل أن يكون هذا ضررا أو فسادا وإنما هو نفع وصلاح ونحن نجد من المعاملات التي أباحتها الشريعة الإسلامية ما يعتمد على دفع الأقل عاجلا للحصول على الأكثر آجلا كالسلم فحيث أجاز الشرع معاملة السلم فيجر معاملة الربا فإن المعنى واحد. وهذا موضوع قد أثير كثيرًا، وأشغل الأفكار منذ أنشبت المدنية الحديثة أظفارها في أعناق المسلمين - قلت: ما أبلغ هذا التعبير وأدق دلالته - وعمل أهل التشكيك في صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان عملهم المتواصل في الفتنة وزلزلة القلوب عن دين الله والقضية في الحقيقة ليست قضية الربا أو غيره من المعاملات المالية وإنما هي قضية الشريعة الإسلامية كلها وقد انصرف عنها أهلها وتعلقوا بأهداب غيرها من قوانين الأمم الغالبة المسيطرة عليهم ومن شأن المغلوب أن يولع بتقليد الغالب ويرى أكثر ما يفعله خيرا وصلاحًا ويزين له الشيطان أن نجاحه إنما يرجع إلى عدم تمسكه بما يتمسك به هو من القواعد والأصول والآداب والتقاليد. لو كان للإسلام دولة وقوة لكان تشريعه هو المتبع، ولكان للأمم والشعوب من الوسائل الاقتصادية العملية ما يغنيهم عن الربا وغير الربا مما حرمه الإسلام، وإن للكسب لموارد طبيعية هي الأساس والفطرة، كالزراعة والصناعة والتجارة والشركات المساهمة والتعاونية ولا يستطيع أحد أن يقول: إن الشعوب لا تستطيع أن تقيم مدنيتها على أساس التعاون والتراحم ومساعدة الفقير والمحتاج وإقراضه قرضا حسنا على نظام يكفل لأصحاب الحقوق حقوقهم ولا يؤدي إلى إثقال كواهل المدينين واستلاب أموالهم بالباطل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1745 إن هذه النظم الاقتصادية التي يتشدقون بها، ويأخذون على الإسلام عدم مجاراته لها قد صارت الآن في موضع الشك والتزلزل عند أهليها والمتعاملين بها، وأصبح العالم يميل إلى نظام اشتراكي يحول بين أن يوجد في الشعب طائفة قليلة العدد مستحوذة على المال منتفعة بما يدره عليها من الربح والجاه والنفوذ وطائفة هي الكثرة العاملة الناصبة لا هم لها إلا أن تكدح لهؤلاء وتجد في تنمية ثرواتهم ثم لا ينالها من هذا الكدح والنصب إلا أدنى القوت وأحط الملابس والمساكن وما الربا إلا الاعتراف بحق أصحاب الأموال في الامتياز على العاملين فهو مناقض لروح التيقظ مصادم لها، فإذا كان أهل هذه النظم قد بدءوا يفقدون إيمانهم بها بل فقدوا هذا الإيمان فعلا وأخذوا يلتمسون سبيلا آخر تستقيم به الحياة السعيدة للأمم أفلا يجدر بنا معشر المسلمين أن نخفف من حماستنا لها ومن ثقتنا بها؟ أترى لو كانت الجمهورية العربية المتحدة - جمهورية مصر العربية الآن - مثلا قادرة على أن تعمل بالتشريع الإسلامي فتلزم جميع ساكنيها بمنع الربا وتضع لهم أسلوبًا من التعامل يتفق ودينها أكان ذلك يضرها أو يعطل مرافق إصلاحها؟. إننا لا نتردد في الإجابة عن هذا السؤال بالنفي، ولسنا في ذلك متجاهلين للحقائق ولا جاهلين سنن الاجتماع فإن الأمم تألف ما يوضع لها من النظم وتطمئن إليه وإذا عرف أفرادها أنه لا سبيل إلى نوع من التعامل لتحريمه التمسوا غيره ووطنوا أنفسهم على الاكتفاء بما أبيح لهم. بهذا يتبين أن ما يزعمه الزاعمون من عدم إمكان التخلص من الربا ووجوب مجاراة الأمم في التعامل به ليس صحيحًا وأنه يمكنه تدبير الأمر على نحو يتفق مع ما تبيحه الشريعة لو أراد الناس ذلك مخلصين. أما ما اعترضوا به من إباحة السلم فإن السلم بيع فيه ثمن ومثمن، وليس النقد هو كل شيء فيه وليس المشتري فيه دائما كاسبا فقد ترخص السلعة عند حلول الأجل وقد تغلو فالمخاطرة التي تكون في التجارة موجودة فيه على أن الربح في السلم ليس من شأنه أن يكون أضعافًا مضاعفة كالربح في النسيئة، وإذا فرضنا أن المشتري غبن صاحبه في صفقة السلم استغلالا لحاجته فإن الشريعة تحرم هذا وبعض المذاهب يجعل الغبن الظاهر من مفسدات العقد أيا كان. وبقى علينا أن ننبه في هذا الشأن لأمر خطير، هو أن بعض الباحثين المولعين بتصحيح التصرفات الحديثة وتخريجها على أساس فقهي إسلامي ليعرفوا بالتجديد وعمق التفكير يحاولون أن يجدوا تخريجها للمعاملات الربوية التي يقع التعامل بها في المصارف أو صناديق التوفير أو السندات الحكومية أو نحوها ويلتمسون السبيل إلى ذلك، فمنهم من يزعم أن القرآن إنما حرم الربا الفاحش بدليل قوله: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} ، فهذا قيد في التحريم لا بد أن يكون له فائدة وإلا كان الإتيان به عبثا تعالى الله عن ذلك وما فائدته في زعمهم إلا أن يؤخذ في مفهومه وهو إباحة ما لم يكن أضعافا مضاعفة من الربا. وهذا قول باطل فإن الله سبحانه وتعالى أتى بقوله: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} ، توبيخًا لهم على ما كانوا يفعلون وإبرازًا لفعلهم السيء وتشهيرا به، وقد جاء مثل هذا الأسلوب في قوله تعالى {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الآية 33 منه سورة النور] ، فليس الغرض أن يحرم عليهم إكراه الفتيات على البغاء في حالة إرادتهن التحصن وأن يبيحه لهم إذا لم يردن التحصن ولكنه يبشع ما يفعلونه ويشهر به ويقول لهم: لقد بلغ بكم الأمر أنكم تكرهون فتياتكم على البغاء وهن يردن التحصن وهذا أفظع ما يصل إليه مولى مع مولاه، فكذلك الأمر في آية الربا يقول الله لهم: لقد بلغ بكم الأمر في استحلال أكل الربا إنكم تأكلونه أضعافًا مضاعفة فلا تفعلوا ذلك. وقد جاء النهي في غير هذه المواضع مطلقا صريحا ووعد الله بمحق الربا قل أو كثر، ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه كما جاء في الآثار وآذن من لم يدعه بحرب الله وحرب رسوله واعتبره من الظلم الممقوت وكل ذلك ذكر فيه الربا على الإطلاق دون تقييد بقليل أو بكثير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1746 ومنهم من يميل إلى اعتباره ضرورة من الضرورات بالنسبة للأمة، ويقول: ما دام صلاح الأمة في الناحية الاقتصادية متوقفًا على أن نتعامل بالربا وإلا اضطربت أحوالها بين الأمم فقد دخلت بذلك في قاعدة " الضرورات تبيح المحظورات ".: وهذا أيضا مغالطة فقد بينا أن صلاح الأمة لا يتوقف على هذا التعامل وأن الأمر فيه إنما هو وهم من الأوهام وضعف أمام النظم التي يسير عليها الغالبون الأقوياء. وخلاصة القول أن كل محاولة يراد بها إباحة ما حرم الله أو تبرير ارتكابه بأي نوع من أنواع التبرير بدافع المجاراة للأوضاع الحديثة أو الغربية والانخلاع عن الشخصية الإسلامية، إنما هي جرأة على الله وقول عليه بغير علم وضعف في الدين وتزلزل في اليقين وقد سمعنا من يدعو إلى البغاء العلني ويجيزه ويطالب بالعودة إليه ويرى أنه إنقاذ من شر أعظم يصيب الأمة من انتشار البغاء السري وبمثل هذا يتحلل المسلمون من أحكام دينهم حكمًا بعد حكم حتى لا يبقى لديهم ما يحفظ شخصيتهم الإسلامية نعوذ بالله من الخذلان ونسأله العصمة من الفتن. قلت: قائل هذا القول هو نفس قائل ما ورد في الفتاوى فإن لم تكن ظروف خاصة حملته على ابتغاء " التقية " حيث قال مقولته في الفتاوى، فإنها زلة مجتهد على شاكلة مقولة ابن عباس - رضي الله عنهما - في ربا الفضل والأعمال بخواتيمها ويرحم الله شلتوت لقد حاج فدحض الباطل ودمغه وأخزى أهله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [الآية 114 من سورة هود] . وقد نقل هذا الذي نقلناه عن شلتوت من تفسيره نور الدين عتر بشيء من تصرفه في كتابه القيم (المعاملات المصرفية والربوية وعلاجها في الإسلام) وتعقبه بقوله: ص 71: بقيت شبهة لم يتعرض لها مقال الشيخ شلتوت؛ لأنها حدثت بعد كتابته وهي شبهة من يزعم إباحة الربا مع المصرف المتأمم فهذه الشبهة أغرب وأعجب مما سبق لأن صاحبها قد عكس القول وقلب الأمر على غير وجهه، فكأنما الدولة في نظرهم غير مسؤولة عن سد ثغرات المجتمع ولا يفترض عليها الرفق بالأمة ورعايتها وإنما وظيفتها جمع الأموال فقط. والذى نفهمه في أن حاجة المجتمع للإقراض ثغرة يجب على الدولة أن تساهم - خطأ صوابه: أن تسهم - في سدها يدلنا على ذلك الحديث الشريف الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الآية 6 من سورة الأحزاب] ، فأيما مؤمن مات فترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دينًا أو ضياعًا فليأتني فأنا مولاه)) . فالرسول صلى الله عليه وسلم التزم سداد دين المسلمين والأداء عنهم وذلك تقرير منه لمسؤولية الحاكم عن سد هذا الثغر من ثغور المجتمع الإسلامي فإن كان بعض الناس قد ينازعن فيما فهمنا واستلهمنا من هذا الحديث ويدعي أن التصرف من النبي صلى الله عليه وسلم تطوع شخصي ليس من باب مسؤولية الحاكم؟ فالجواب أن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله تشريع باتفاق الحكماء ما لم ينهض الدليل الجازم على تصرف ما بأنه من باب الخصوصية له صلى الله عليه سلم وليس هاهنا دليل أبدًا، بل إن الدليل يثبت أن هذا التشريع عام للأمة بحيث جاء الخلفاء الراشدون وتبعوا هذه الخطة وأصبح من المقرر إثبات مسؤولية الدولة عن سد ثغرات المجتمع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1747 (15) دحض شبه تعلقوا بها الذين يحاولون - عن دخل في الفهم أو في الدين - بألوان مختلفة من التعلات والمزاعم والتمويهات تحليل الربا المصرفي، وما شاكله من أوضاع المعاملات المالية في هذا العصر يتعلقون بشبهات بعضها نقلنا دحضها في الفصل السابق وبعضها لم نقف على دحض دقيق حاسم لها على النهج الذي نؤثره، فارتأينا أن نتتبعها قبل أن ننتهي إلى الغاية من هذا البحث. وأول هذه الشبهات زعمهم بأن الربا المحرم تحريمًا قطعيًّا هو ربا الجاهلية، أو الذي سموه كذلك تبعًا لظاهر عبارات جمهرة من الفقهاء. وتلك ضلة انزلقوا فيها، ذلك بأن ألفاظ الشرع العزيز لا يمكن تخصيصها أو تقييدها إلا بقرينة أو دليل إن لم يكن في مستواها من القطع أو الظن، فلا أقل من أن يكون في مستوى أقره المحدثون والأصوليون باعتباره مقبولًا بكيان أو مخصص أو مقيد للفظ المراد بيانه أو تخصيصه أو تقييده، ولا نعرف - وما نظن - أن أحدًا يعرف قرينة أو دليلًا لتخصيص الربا الوارد في القرآن الكريم بما سموه ربا الجاهلية كما لو أنه يختلف جوهريًّا عن الربا الذي يريدون تحليله من معاملات العصر الحاضر. ذلك بأن الربا الذي ورد تحريمه في آيات سورة البقرة، وسورة آل عمران، وورد التمهيد له في آية سورة الروم - وإن بلفظ منكر فيها - كان في آيات التحريم الصريحة في سورتي البقرة وآل عمران معرفًا بأل ولم يرد قبل هذه الآيات في السورتين، ولا ورد بعدها ما يمكن اعتباره قرينة على أن "ال" التعريفية للعهد الذكري، أو الذهني. وما ورد في الأخبار من أن سبب نزول آيات البقرة ربا ثقيف مثلًا لا ينهض دليلًا على تقييد لفظ الربا فيها أو في سورة آل عمران بنوع معين من أنواع الربا ولا على تخصيصه بذلك الذي قيل: إنه سبب نزول آيات سورة البقرة وبربا أهل مكة الذي قيل: إنه سبب نزول آية آل عمران، فمن المسلم به - ولا سبيل فيه إلى جدل أو مراء - أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومن المسلم به أيضًا أن رتبة الظن في أخبار أسباب النزول لا تبلغ في أغلبها رتبته في الأحاديث المبينة أو المفصلة لما ورد في الكتاب العزيز من آيات الأحكام، بل إن كثيرًا من أخبار أسباب النزول يتعارض بعضها مع بعض، فقد يدعى لنزول آية واحدة أكثر من سبب، فلا سبيل إذن إلى اعتبار هذه الأخبار من حيث قوة الاستدلال بها في مستوى الآيات أو الأحاديث المتعلقة بأحكام الربا، ولم يزعم أحد أن "أل" التعريفية في الربا ليست لاستغراق الجنس. وفي ما يلي نصان في تحديد معنى كلمة الربا الأول تنقله عن ابن منظور الذي اعتمد فيه على كل من الزجاج والجوهري وثلاثتهم أيمة في اللغة ليس لأحد أن يغمز في إمامتهم. قال ابن منظور في (لسان العرب: 14/304، 305) : ربا الشيء يربو ربوًا ورباءً زاد ونمى وأربيته نميته، وفي التنزيل العزيز: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [الآية 276 من سورة البقرة] ، ومنه أخذ الربا الحرام. قال الله تعالى: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الآية 39 من سورة الروم] . قال أبو إسحاق - يعني الزجاج - يعني به دفع الإنسان الشيء ليعوض ما هو أكثر منه، وذلك في أكثر التفسير ليس بحرام، لكن لا ثواب لمن زاد على ما أخذ، قال: والربا ربوان: الحرام كل قرض يؤخذ به أكثر منه أو يجر منفعة، فحرام، والذي ليس بحرام أن يهبه الإنسان يستدعي به ما هو أكثر أو يهدي الهدية ليهدي له ما أكثر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1748 ثم قال: والأصل فيه الزيادة، من ربا المال إذا زاد وارتفع، والاسم الربا مقصور، وهو في الشرع الزيادة على أصل المال من غير عقد تبايع. ثم قال: وأربى عن الخمسين ونحوها زاد، وفي حديث الأنصار يوم أحد: لئن أصبنا منهم يومًا مثل هذا لنربين عليهم في التمثيل، أي لنزيدنه ولا نضاعفن. الجوهري الربا في البيع، وقد أربى الرجل. وفي الحديث: من أجبى فقد أربى. وفي حديث الصدقة: وتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل. وربا السويق ونحوه يربو صب عليه الماء فانتفخ، وقوله عز وجل في صفة الأرض: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الآية 5 من سورة الحج] . قيل: معناه عظمت وانتفضت، وقرأ فربأت فمن قرأ وربت فهو ربا يربو إذا زاد على أي الجهات زاد ومن قرأ وربأت بالهمزة فمعناه ارتفعت. وساب فلان فلانًا فأربى عليه في السباب إذا زاد عليه. أما الثاني فننقله عن إمام اللغة في العصر الحاضر بلا منازع ولا مثيل: محمد الطاهر بن عاشور - رحمه الله - وما من أحد يستطيع أن يشتبه في ضلاعته في العربية لغة وأدوات. قال في (التحرير والتنوير: 3/79، 81) : والربا اسم على وزن فعل بكسر الفاء وفتح العين لعلهم خففوه من الرباء - بالمد - فصيروه اسم مصدر لفعل ربا الشيء يربو ربوًا - بكسر الباء على القياس كما في الصحاح، وبضم الراء والباء كعلوا - ورباء بكسر الراء وبالمد مثل الرماء إذا زاد، قال تعالى: {فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الآية 39 من سورة الروم] وقال: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الآية 5 من سورة الحج] ، ولكونه من ذوات الواو وثني ربوان. ثم قال: والربا يقع على وجهين، أحدهما: السلف بزيادة على ما يعطيه المسلف. والثاني: بزيادة إلى أجل يعني، فإذا لم يوف المستسلف أداء عند الأجل كان عليه أن يزيد زيادة يتفقان عليها عند حلول كل أجل. ثم إن الحديث الذي تعلقوا به في دعواهم أن الربا المحرم تحريمًا قطعيًّا هو ما سموه ربا الجاهلية، وهو حديث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم لربا الجاهلية كله، ومنه ربا عمه العباس - رضي الله عنه - في خطبته المشهورة في حجة الوداع لا دليل لهم فيه لسببين، الأول: ما جاء في لفظ الحديث على اختلاف طرقه - وسنورد طائفة منها بعد قليل - من التعبير بكلمة "كل" فيما جاء في بعض طرقه ((ألا وإن كل ربا في الجاهلية ... )) الحديث. ولا يغمز في هذا ما جاء في رواية مسلم من قوله:" وربا الجاهلية " "الحديث عار عن لفظة "كل" لأن الإسلام في عهده صلى الله عليه وسلم قد قضى على جميع المعاملات الربوية بين المسلمين إن لم يكن منذ نزلت آية سورة الروم، فمنذ نزلت آية سورة آل عمران وزيادة كلمة "كل" زيادة من ثقة وهي مقبولة بلا مراء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1749 أما الثاني فهو أن ربا العباس الذي نسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وإلى بني هاشم عامة كانت نتيجة إقراض ولم يكن نتيجة مبايعة، وآية ذلك ما قاله جواد علي في كتابه (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 7/440، 441) : وكان العباس بن عبد المطلب من أثرياء قريش كانت له ثروة واسعة من نقود ومن ذهب وفضة وقد استغل ماله بالتجارة وإقراضه بالربا قيل عنه: إنه كان ذا مال كثير متفرق في قومه كان يقرضهم ويسلفهم ويشاركهم في تجارتهم. ثم قال: وكانت أم العباس غنية على ما يظهر، ذكر أنه ضاع وهو صغير نذرت إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فوجدته فكست البيت الحرير، فهي أول من كساه كذلك، وكان له مال في الطائف، فإذا كان الموسم جيء إليه بالزبيب ينتبذه للحجاج، فقد كان المتولي لأمر السقاية بمكة، وذكر أنه كان يملك (مكوكًا) (1) مصوغًا من فضة مموهًا بالذهب يشرب به. فالعباس إذن كان أشهر بالإقراض منه بغيره من عمليات الاستثمار وتاريخ أهل مكة التجاري لا يسجل للعباس تنقلات كثيرة على حين يسجل له تاريخ أصحاب المال من أهل مكة أنماطًا من الحياة المترفة التي لا تتأتى إلا مع الاستقرار. ولا سبيل إلى الاشتباه بأن العباس كان يقرض أموالًا بدون فائدة فإذا عجز المقترض عن الأداء أجل له وزاد؛ لأن عملية الاقراض هي من الأسس الرئيسية لديه لاستثمار أمواله بل لعلها كانت أنشط في تصرفاته من التجارة التي كان يسهم فيها بالاشتراك في القوافل ببضائعه وأمواله وليس بنفسه في أغلب الأحوال كذلك كان يفعل غيره من أغنياء مكة مثل عبد الله بن جدعان. بل إن أصل مال العباس - على ما يظهر- ليست تجارة، وإنما هو مال واسع كان لوالدته، فهو إذن قد نشأ في بيت دعة ورفاء، ولم يكن بحاجة إلى أن يعنت نفسه بالأسفار لتنمية ثروته، ومثل هذا النوع من الرجال يكون أميل إلى معاملات القرض التي هي أقل خطرًا باعتبار اختيار المقترضين منه إلى الأعمال التجارية، التي كثيرًا ما تكون عرضة للضياع، ليس فحسب لما يعتريها من الخسارة ولكن أيضًا لما يعترضها من سطو الصعاليك وقطاع الطرق.   (1) المكوك اسم لمكيال ويختلف باختلاف اصطلاح الناس عليه في البلاد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1750 وأكبر الظن - والله ورسوله أعلم بأسرار التشريع - أن هذا أحد السببين اللذين من أجلهما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ربا العباس مع رأس ماله على حين وضع ربا غيره بإلغاء الفوائد مع الإبقاء على رؤوس الأموال، أما السبب الثاني فهو أن العباس كان مسلمًا يسر إسلامه إلى أن التحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة قبيل فتح مكة، ومع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل دعواه الإسلام حين أسر في بدر، فألزمه بفداء نفسه اعتمادًا على ظاهر أمره، فإنه اعتبر دعواه الإسلام ملزمة له ولذلك عامله على أساس هذا الاعتبار فوضع عن المقترضين منه جميع ما يدينون له به من فائدة ورأس مال لشبهة أن يكون رأس المال نفسه من الفوائد الربوية التي أخذها في فترة إسلامه وهو بمكة أو عقابًا له على أساس تغليظ العقاب لاستمراره على التعامل بالربا مع إقراره بالإسلام. ومهما يكن فليس في حديث حجة الوداع ما يدل من قريب أو بعيد على أن ربا الجاهلية، وخاصة ربا العباس الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندئذ يختلف كله - إن ثبت أن بعضه يختلف - عن أنماط الربا التي يريد هؤلاء المشبوهون أو المشتبهون تحليلها وفيما يلي بعض طرق هذا الحديث. قال أحمد (المسند: 5/72، 73) : حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة. أخبرنا على بن زيد، عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه قال: كنت آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق أذود عنه الناس فقال: ((أيها الناس، أتدرون في أي شهر أنتم وفي أي يوم أنتم؟)) قالوا: في يوم حرام وشهر حرام وبلد حرام، وقال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه)) ثم قال: ((اسمعوا مني تعيشوا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنه لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه، ألا وإن كل دم ومال ومؤثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة، وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعًا في بني ليث، فقتلته هذيل ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوع وأن الله عز وجل قضى أن أول ربا وضع ربا العباس بن عبد المطلب لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ... )) الحديث. قال مسلم في (الصحيح: 2/889، ح1218) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعًا عن حاتم، قال أبو بكر: حدثنا حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن القوم حتى انتهى إلي فقلت: أنا محمد بن علي بن الحسين، فأهوى بيده على رأسي فنزع زري الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثديي وأنا يومئذ غلام شاب، فقال: مرحبًا بكل يا ابن أخي سل عما شئت (1) فسألته وهو أعمى وحضر وقت الصلاة، فقام في نساجه متلحفًا بها كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها ورداؤه إلى جنبه على المشجب، فصلى بنا، فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.   (1) هكذا كان السلف رضي الله عنهم يعاملون الأقربين من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من كان من أهل الأهواء الذين ضلوا وأضلوا عصمنا الله منهم وولاهم ما تولوا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1751 وساق حديث جابر عن حجة الوداع بطوله وفيه: فخطب الناس وقال: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث- كان مسترضعًا في بني أسد فقتلته هذيل- وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله ... الحديث. وقال الطبري في (تاريخ الرسل والملوك: 3/150) : حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح قال - أي في معرض حديث حجة الوداع -: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه، فأرى الناس مناسكهم وأعلمهم سنن حجهم، وخطب خطبته التي بين للناس فيها ما بين فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلنى لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وحرمة شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وإن كل ربا موضوع ولكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله. ثم ساق الحديث بطوله. وقال الترمذي في (الجامع الصحيح: 5/279، ح3087) : حدثنا الحسن بن علي الخلال، حدثنا حسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن شبيب، عن غرقدة، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، حدثنا أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ، ثم قال: أي يوم أحرم عليكم، أي يوم أحرم، أي يوم أحرم؟ قال: فقال الناس: يوم الحج الأكبر يا رسول الله قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا يجنى جان إلا على نفسه، ولا يجني والد على ولده ولا ولد على والده، ألا إن المسلم أخو المسلم فليس يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه، ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، غير ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله ... الحديث. وتعقبه الترمذي بقوله: هذا حديث حسن صحيح. وقال أبو داود في (السنن: 2/182، ح1905) : حدثنا محمد بن عبد الله النفيلي وعثمان بن أبي شيبة وهشام بن عمار وسفيان بن عبد الرحمن الدمشقيان، وربما زاد بعضهم على بعض الكلمة والشيء، قالوا: حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد الله، وساق شبه حديث مسلم الذي اقتبسنا منه آنفا يزيد عليه وينقص، وفيه فخطب الناس فقال: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضعه دماؤنا دم- قال عثمان: دم ابن ربيعة، وقال سليمان: دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وقال بعض هؤلاء: كان مسترضعًا في سعد فقتلته هذيل- وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله ... الحديث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1752 وقال ابن ماجه في (السنن: 2/1022، 1027، ح3074) : حدثنا هشام بن عمار، حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد الله وساق حديث حجة الوداع بقوله وفيه: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، ألا وإن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، ودماء الجاهلية موضوع، وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث (كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل) ، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله ... الحديث. وقال الدرامي في: (السنن: 2/246) : حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن زيد، عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه، قال: كنت بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق أذود الناس عنه، فقال: ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع، ألا وإن الله قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. أم الشبهة الثانية فهي زعمهم بأنه لا يوجد نص يحرم الزيادة البسيطة فهي زعمهم؛ إذ إنه لا يوجد اجتهاد أساسه القياس أو المصلحة المرسلة. ومرد هذا الزعم إلى أنهم قصروا عن إدراك فقه كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كلمات الصحابة الذين رووا عنه - إن قال قائلهم: إنه لا دليل على أن الرواية كانت باللفظ فقد تكون بالمعنى - أو قصروا في تفهمها واستقصاء مقاصدها ومعانيها وهذا ما يستوضحه بالحجة الدامغة التي لا تبقي لهم عذرًا ولا تعلة. ففي حديث أبي سعيد الخدري الذي أوردنا طائفة صالحة من طرقه في فصل "أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف" وردت عبارة "ولا تشفوا بعضها على بعض" أو "ولا يشف بعضها على بعض" وما شاكل ذلك ومهما اختلفت الصيغة، فإن كلمة "شف" أو "أشف" وردت في هذا الحديث الشريف الذي رواه كل من عبد الرازق ومالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن حبان والطبري وابن الجارود والطحاوي من طريق نافع وبعضهم عنه، عن ابن عمر، عن أبي سعيد مباشرة - وهذا لا تغاير فيه، فقد صحب نافع أباه إلى أبي سعيد حين سمع الحديث منه كما جاء في بعض طرقه في الفصل المذكور آنفًا - وهو عند جلهم بأكثر من سند واحد. بل إن عمر يستعمل نفس العبارة في خطاب له عن الربا فيما أخرج الشافعي والطبري والطحاوي عن طريق نافع، عن ابن عمر، وجلي أن عمر كان في هذا الخطاب وهو يحذر من الربا متعمدًا أن يستعمل لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يرفعه وذلك على سبيل الاقتباس وأحسبه اكتفى عن رفعه بأن الصحابة الذين كانوا يستمعون إليه - رضوان الله عليهم جميعًا - بلغهم مباشرة أو بواسطة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى في اقتباسه تذكيرًا لهم به دون حاجة إلى الرفع أو الإسناد وهم يومئذ أعظم ثقة ببعضهم بعضًا من أن يحتاجوا إلى التصريح بالرفع، لا سيما إذا كان الراوي أو المقتبس أمير المؤمنين عمر. والتعبير النبوي الشريف واقتباس عمر له بمادة "شف"، ومضارعها ثلاثيًّا أو رباعيًّا كان عن فقه دقيق لمعناها وقصد إليه بالذات، وهو من روائع البلاغة النبوية وآية ذلك ما ننقله الآن عن رجال اللغة من فقهاء وغيرهم مما يتصل بمعاني هذه الكلمة، وهي على تعددها لا تخرج من مدار واحد، وهو القلة والرقة وما إليهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1753 قال النووي في (تهذيب الأسماء واللغات: 3/164، 165) : "شففت" قال أهل اللغة: الشف بفتح الشين ستر رقيق، قال الجوهري: قال أبو نصر: هو ستر أحمر رقيق من صوف يستشف ما وراءه. الشف بكسرها، الفضل والربح تقول منه شف يشف شفًا بكسرها في المضارع والمصدر، قال ابن السكيت: والشف أيضًا نقصان وهو من الأضداد وشف عليه ثوبه يشف شفوفًا وشففًا، أي رق حتى يرى ما خلفه، وثوب شف وشف، أي رقيق وشف جسمه يشف شفوفًا، أي نحل وأشففت بعض ولدي على بعض فضلتهم، والشفيف لذيع البرد. وقال عياض في (مشارق الأنوار: 2/256) : (شفف) قوله: ألا يشف فإنه يصف بفتح الياء مشدد، أي بيدي ما وراءه من الجسم ويظهره لرقته - قلت: يشير بذلك الأثر روي عن عمر - رضي الله عنه - وهو قوله: لا تدرعوا نساءكم القباطي، فإنه إن لم يشف، فإنه يصف ولم أقف لهذا الأثر عن سند ولكن الدكتور محمد رواس قلعه جي فى كتابه "موسوعة فقه عمر"، وهو الثامن من موسوعات فقه السلف أحال به على (تاريخ المدينة المنورة: 3/773) والعهدة عليه - وقد استشهد به ابن منظور أيضًا في لسان العرب. ثم قال عياض: والشف الثوب الرقيق بفتح الشين وكسرها معًا وقوله: "ولا تشفوا بعضها على بعض"، بضم التاء، أي ولا تفضلوا ولا تزيدوا والشف بالكسر الزيادة والنقصان أيضًا وهو من الأضداد والشف بالفتح اسم الفعل من ذلك شف هذا على هذا، أي زاد وقوله: "إذا شرب اشتف" - يشير إلى حديث أم زرع- على رواية من رواه استقصى ولم يبق شيئًا. وقال الفيروز آبادي في (القاموس المحيط: 3/159، 160) : (الشف) ويكسر: الثوب الرقيق جمعه شفوف وشف الثوب يشف شفوفًا وشفيفًا رق، فحكى ما تحته، والشف ويكسر الربح والفضل والنقصان ضد وشف يشف شفًا زاد ونقص وتحرك، وجسمه شفوفًا نحل، وشفه الهم هزله، وكأمير لذع البرد، ومطر فيه برد أو الريح الباردة كالشفشاف وشدة حر الشمس ضد، والقليل كالشفف محركة وثوب شفشاف لم يحكم عمله، والشفافة ككناسة بقية الماء في الإناء، والشفاشف شدة العطش، وغداة ذات شفان برد، وريح وأشففتهم فضلتهم، واشتف البعير الحزام كله ملأه واستوفاه وما في الإناء كله شربه كله كتشاف، وتشاففته ذهبت بشفه، أي بفضله، والشفشفة الارتعاد والاختلاط والنضح بالبول ونحوه، وتشويط السقيع نبت الأرض فيحرقة وذر الدواء على الجرح وتجفيف الحر والبرد والشيء، والشفشف بالفتح والكسر السخيف السيء الخلق ومن به رعدة واختلاط غيره وإشفاقًا على حرمه، واستشفه نظر ما وراءه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1754 وقال ابن الأثير في (النهاية: 2/446، 447) : " شفف" فيه أنه نهى عن شف ما لم يضمن الشف الربح والزيادة وهو كقوله: نهى عن ربح ما لم يضمن وقد تقدم، ومنه الحديث "فمثله كمثل ما لا شف له"، ومنه حديث الربا " لا تشفوا أحدهما على الآخر"، أي لا تفضلوا، والشف النقصان أيضًا فهو من الأضداد ويقال: شف الدرهم يشف إذا زاد أو نقص، وأشفه غيره يشفه، ومنه الحديث "فشف الخلخالان نحوًا من دانق فقربه"، وفي حديث أنس - رضي الله عنه - "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه يومًا وقد كادت الشمس تغرب ولم يبق منها إلا شف أي شيء قليل. الشف والشفا والشفافة بقية النهار، وفي حديث أم زرع "وإن شرب اشتف"، أي شرب جميع الإناء، والشفافة الفضلة التي تبقى في الإناء". ثم قال: ومنه حديث رد السلام قال: إنه تشافها أي استقصاها، وهو تفاعل منه وفي حديث عمر لا تلبسوا نساءكم القباطي إلا يشف، فإنه يصف يقال: شف الثوب يشف شفوفًا إذا بدى ما وراءه ولم يستره، أي أن القباطي ثياب رقاق ضعيفة النسج، فإذا لبستها المرأة لصقت بأردافها فوصفتها فنهى عن لبسها وأحب أن يكسين اتحاد الغلاظ، ومنه حديث عائشة وعليها ثوب يكاد يشف، ومنه حديث كعب يؤمر برجلين إلى الجنة، ففتحت الأبواب ورفعت الشفوف هي جمع شف بالكسر والفتح، وهو ضرب من الستور يستشف ما وراءه وقيل: شتر أحمر رقيق الصوف، وفي حديث الطفيل: في ليلة ذات ظلمة وشفاف؛ والشفاف جمع شفيف وهو نوع من البرد ويقال: لا يكون إلا برد ريح مع نداوة ويقال له الشفان أيضًا. وقد أفاض ابن منظور في معاني كلمة شفف ومشتقاتها والاستشهاد لكل معنى كعادته إفاضة استغرقت قرابة أربع صفحات في (لسان العرب: 9/179ن 183) : وجل ما ساقه وتبسط فيه أوجزه غيره ممن نقلنا عنهم آنفًا. ويتضح من كل هذا أن مدار كلمة " شفف " - كما ذكرنا آنفًا - التعبير عن الرقة والقلة سواء كانت في مجال الزيادة أو النقص أو غيرهما. وفيما يتصل بالربا بالذات يوضحه إيضاحًا لا خفاء معه قول ابن الأثير الذي سقناه آنفا " ويقال: شف الدرهم إذا زاد أو نقص " فزيادة الدرهم أو نقصه لا تكون إلا قليلة في كل مرة، ذلك بأن قوله: شف الدرهم هو من تعابير رجال المال في الأسواق ومن على شاكلتهم ممن يعنون بأسعار العملة والشفاف زيادة كان أو نقصًا لا يكون إلا تدريجيًّا، وقد يسرع في التدرج ولكن لا يتجاوز في المرة الواحدة أو في المرحلة الواحدة من تدرجه الانتقال بالقليل من سعر إلى سعر وإلا كان انقلابًا في الأسعار مما لم يكن معروفًا يومئذ ولا هو بالمعتاد الآن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1755 حاصل هذا كله أن النهي النبوي الشريف عن إشفاف بعض الدرهم أو الدينار ببعض وهو نهي صريح ونص دقيق حاسم في النهي - نهي تحريم لعدم وجود قرينة تصرفه إلى غير التحريم، بل ولأن القرائن كلها تحصره في التحريم - عن مطلق الزيادة ابتداء من البسيطة، لأن استعماله صلى الله عليه وسلم عبارة " شفف " ومشتقاتها كان مقصودًا لذاته لتحريم الزيادة البسيطة، أما ما فوق البسيطة فهو محرم بالطبع نتيجة لتحريم البسيطة، إذ لا يعقل أن تباح الزيادة الكثيرة وتحضر البسيطة، فثبت أنه صلى الله عليه وسلم نص في حديثه الذي رواه أبو سعيد - وهو وإن كان آحاديًّا يكاد يبلغ من استفاضته ولما يعضده من أحاديث في معناه لحديث عبادة وحديث أبي هريرة وحديث أبي بكرة وغيرها حد التواتر المعنوي الذي لا يوجب العمل فحسب، وإنما يوجب العلم أيضا - نهى عن كل زيادة مهما تكن ضئيلة وتوضيحًا لهذا المعنى استعمل كلمة " شف ". وبما أنه لا سبيل إلى الغمز في هذا الحديث وفي أنه نص يجب اعتماده، وبما أن لفظه يمنع كل تأويل محتمل يخرج به عن دلالته اللغوية ولا توجد أية قرينة تسمح بالزعم بأنه تجوز به عن حقيقته اللغوية إلى معنى آخر، وبما أنه ورد في هذا الحديث وغيره ما يعضده من قوله صلى الله عليه وسلم: ((فمن زاد أو ازداد)) ، وقوله: ((فمن زاد أو استزاد فقد أربى)) وفي هذا الحديث إطلاق الزيادة دون تحديدها بالكثرة أو القلة، فكان حديث: ((لا تشفوا بعضها ببعض)) بمثابة البيان لحديث فمن زاد، فإن تحريم الزيادة مهما تكن بسيطة وارد بالنص الذي إن حاول البعض أن ينزل به عن درجة القطع الموجب للعلم فلا سبيل له إلى محاولة النزول به عن درجة الظن الراجح الموجب للعمل وكل زعم أو تأويل محتمل يراد به التشكيك في دلالة النص أو التماس مخرج منه فهو رفض له، وقد يبلغ درجة الكفر به ولا أقل من أنه تجاوز له عن عمد وسبق إصرار. وأما الشبهة الثالثة فهي تعلق بعضهم بكلمة " الرماء " في قول عمر: " فإني أخاف عليكم الرماء " وبكلمة: " إنى أخاف عليكم " أيضًا، فزعموا أن تحريم التفاضل وهذا الزعم أيضًا ناشئ عن قصور أو تقصير في فهم العبارة التي تعلقوا بها، وعبارة: إني أخاف عليكم الرماء " وردت من كلام ابن عمر وقد سقنا طرقها في فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف " وفي طريق حديث أبي سعيد: " فإني أخاف عليكم الربا " والحديث عن أحمد والطبراني في الكبير ولفظه عند أحمد (المسند، بتحقيق أحمد شاكر، المجلد 4، 8/141، ح 5885) : حدثنا حسين بن محمد، حدثنا خلف، يعني ابن خليفة، عن أبي جناب، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرماء)) والرماء؛ هو الربا، فقام إليه رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجبية بالإبل؟ قال: ((لا بأس إن كان يدًا بيد)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1756 وإذا صرفنا النظر عن تضعيفهم لأبي جنب، وقد أشار إليه شاكر في تعليقه على الحديث وتعقبه وقال عنه الهيثمي في (مجمع الزوائد: 4/1059) : وفيه أبو جنب الكلبي وهو مدلس ثقة، فإن لفظ الحديث نفسه لا يستقيم متعلقًا لهم وذلك أولًا: لأن كلمة الرماء لا نعرفها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في هذا الحديث والمعروف من حديث ابن عمر في هذا الشأن - وقد سقناه بطرق عدة في فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف " أن جملة " فإني أخاف عليكم الرماء " من كلامه هو وأنه لم يسمع حديث الربا مباشرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعه من حديث أبي سعيد وثانيا: حتى وإن ثبت أن حديث ابن عمر هذا كما رواه أحمد والطبراني سمعه مباشرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: ((فإني أخاف عليكم الرماء)) أو كما ورد في بعض الطرق فإني أخاف عليكم الربا، فإن النهي عن بيع الدينار بالدينارين والدرهم بالدرهمين والصاع بالصاعين فهي عن أية معاملة فيها تفاضل أو تؤدي إلى تفاضل وكلمة " فإني أخاف "، لا تعني أنه سد للذريعة، وإنما تعني في فقهها أنه تبيان لا محيص عنه، وهو أن معاملة من هذا القبيل لا يمكن أن تتم بين عقلاء إلا بناء على اعتبار لنوع من المفاضلة بين السلعتين المتبادلتين وفي حالة الدراهم والدنانير، إما أن تكون المفاضلة في الوزن أو في الخلوص أو في مصدر السك، فالمفاضلة إذن ثابتة وأما في حالة الصاع بالصاعين وهي إما في التمر أو في البر أو في الشعير، فلا بد أن تكون لجودة أحدهما ورداءة الآخر أو لجدة أحدهما وقدم الآخر وإن كانا من نوع واحد جودة ورداءة، وفي جميع هذه الأحوال لو بيع كل شيء منها بثمن واشتري مقابله بالثمن لكان أحدهما أغلى من الآخر ما في ذلك شك، ولذلك حرمت هذه المعاملة أما التعبير بـ " فإني أخاف " فإنما هو لدرء احتمال ممكن الوقوع ولكنه نادر ذلك في حالة أن يكون أحد المتبايعين بحاجة إلى النوع الذي يشتريه بأكثر منه من جنسه سبب يخرج عن التفاضل النوعي، كأن يشتري تاجر مسافر إلى الشام عملة رومية بعملة فارسية ولحاجته إلى العملة الرومية يدفع ضعفها مقابلها من العملة الفارسية أو أن يشتري عملة مسكوكة بضعفها من جنسها موزونة لحاجته إلى المسكوكة، ومثل هذه الحالة يحتمل وقوعها في المكيلات لاعتباره مشاكل لهذا الذي تصورناه في النقد، وفي هذه الأحوال لا مجال لاعتبار التفاضل، ولكن جرأة الناس عليه والفهم لها مما قد يحوله إلى عادة حمل ابن عمر على التعبير بالخوف " فإني أخاف " أما كلمة الرماء ودلالتها على الربا فإنها من المترادفات التي تزخر بها اللغة العربية فلا سبيل إلى التعلق بها كما لو كانت عبارة تختلف عن عبارة الربا وإن قربت منها. يتجلى مما سبق أن قول ابن عمر هذا أو روايته هذه لا متعلق فيها إلا لمن حرم الفقه في الدين لاعتبار أن تحريم ربا الفضل مناجزة، إنما هو سد للذريعة إلى الربا فهو تحريم من درجة أدنى يمكن التحلل منه إذا تعينت المصلحة أو الضرورة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1757 وأما الشبهة الرابعة فهي حصرهم دلالة كلمة " درهم " وكلمة " دينار " على النقد المتعامل به مسكوكًا أو موزونًا من الذهب والفضة على التوالي. ألبس عليهم ذلك أن التعامل الأغلب في العهد النبوي وما بعده من أيام الصحابة والتابعين وفترتي الازدهار الاقتصادي من العهدين الأموي والعباسي كان بالذهب والفضة، وما كان منه بالنحاس " الفلوس " كان نادرًا وزهيدًا لا يكون قيمة جديرة بالاعتبار في حياتهم المالية، فخيل إليهم أن كلمتي " درهم " و " دينار " تنحصر دلالتهما على ما كان من النقد ذهبًا أو فضة ولم يصب هذا اللبس متفقهة المقلدين من المشبوهين أو المشتبه عليهم في عصرنا فحسب، وإنما التقطوه من كلام عامة المفسرين والفقهاء الذين غلب عليهم اعتبار المتعارف من لغة التعامل في العصر الإسلامي الأول فاعتمدوه كما لو كان هو المعنى الوحيد لكلمتي " الدرهم: و " الدينار " وساقهم الوهم إلى تفسير الآيتين الكريمتين قوله تعالى في سورة آل عمران، الآية 75: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} الآية وقوله تعالى في سورة يوسف، الآية 20: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} بأن المقصود بكلمة " دينار " وكلمة " دراهم " العملة الذهبية والعملة الفضية ولو أنهم تأملوا قليلًا لاستبانوا أن المقصود بكلمة دينار في آية سورة آل عمران هو المقدار من الوزن وليس نوع العملة بدليل قوله تعالى في نفس الآية {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} فجاءت كلمة " دينار " تعبيرًا عن الحد الأدنى من الوزن مقابل كلمة " قنطار " المعبر عن الحد الأعلى، وليس المراد مقدارًا من الوزن معين في الحدين وإنما المراد بيان أنهم يخونون الأمانة سواء كانت كثيرًا أو قليلًا، أما في آية سورة يوسف فكلمة " دراهم " تعني عملة لكن ليست فضية بالضرورة، بل الظروف التاريخية ترجح أنها ليست فضية وتتبين هذه الظروف من قول محمد الطاهر بن عاشور في (التحرير والتنوير: 12/205، 206) . والتقطته سيارة من العرب الإسماعيليين كانوا سائرين في طريقهم إلى مصر وباعوه كرقيق في سوق عاصمة مصر السفلى التي كانت يؤمنذ في حكم أمة من الكنديين يعرفون بالعمالقة أو (الهكصوص) ، وذلك في زمن الملك (أبو قيس) أو (أبيبي) ويقرب أن يكون ذلك في حدود سنة تسع وعشرين وسبعمائة وألف قبل المسيح - عليه السلام - فاشتراه (فوطيفار) رئيس شرطة فرعون الملقب في القرآن بالعزيز أو رئيس المدينة. ثم قال: وفي مدة حكمه - يعني يوسف - جلب أباه وأقاربه من البرية إلى أرض مصر، وتوفي بمصر في حدود سنة خمس وثلاثين وستمائة وألف قبل ميلاد عيسى - عليه السلام –. وإنما اعتمدنا كلام ابن عاشور هذا؛ لأن من عادته - رحمه الله - في مثل هذه الشئون الرجوع إلى العهد القديم أو العقد الجديد أو الأسفار الملحقة بهما وعدم اعتماد كلام الأخباريين وذلك ما يجعل ما يقرره فيها أوثق مما قرره غيره من جميع المفسرين بدون استثناء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1758 ويعضد ما قاله - رحمه الله - ما ضبطه ديورانت في قصه الحضارة. (المجلد 1، 2/6) ، من أن سيطرة الهكصوص على مصر كانت ما بين 1800-1600 قبل الميلاد ومن أن عهدهم كان عهد تدهور اقتصادي نقدي (انظر نفس المرجع، ص 73 وما بعدها) ، فلم تكن نقودهم فضية خالصة أو ذهبًا خالصًا، وإنما كانت زيوفًا وفيها ما كان من نحاس وغيره، ولعل قوله سبحانه وتعالى في الآية: {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} إشارة إلى أنهم لم يشتروه بعملة ذات بال، وأن الدراهم المعدودة هي في ذاتها ليست بذات قيمة، ولذلك جاء التعبير - والله أعلم بأسرار كتابه - {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} ولو كان الغرض من تبيان أن الثمن ليس مناسبًا هو قلة الدراهم التي بيع بها فحسب لأمكن الاقتصار على قوله تعالى: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} فكلمة " بخس " تعني أكثر من قلة الدراهم وباعتبار الظروف التي كانت سائدة في مصر يومئذ فرجح أنها تعني أن العملة التي بيع بها يوسف - عليه السلام - ليست فضية، وأن كلمة " دراهم " في هذه الآية سيقت لدلالتها على غير النقد الفضي المزيف ما تعورف عليه حتى في اليونان نفسها أيام تدهورها الاقتصادي وهي صاحبة ابتكار عملة الدرهم من اعتبار الدرهم يعني العملة المتداولة أيا كانت مادتها، وليس بالضرورة العملة الفضية وما قلناه في الدرهم نقوله أيضًا في الدينار، فلم يكن الدينار أو الديناريوس عند الرومان خالصًا دائما العملة الذهبية الخالصة، فقد خضع لتقلبات العملة وتدهورها نتيجة لتدهورهم الاقتصادي حتى خلصت عملتهم إلى النحاس وعدم منها الذهب، ثم تدهور حجمها النحاسي تدهورًا مطردًا وإن لم تستمر تسميتها بالديناريوس، وإنما أخذت أسماء أخرى وقد سبقت الإشارة إلى شيء من ذلك في فصل " نشأة النقد وتطوره " كما سبقت فيه الإشارة إلى تدهور العملة عند غير الروم كفارس، بل والصين التي كانت المبتكرة الأولى للعملة الورقية لا كما وهم بعض متفقهة هذا العصر. ولبيان أن العرب لم يتعارفوا على اعتبار الدرهم كلمة تعني العملة الفضية فحسب نورد ما قاله ابن منظور في (لسان العرب: 12/199) : والدِّرهم والدَّرهم لغتان فارسي معرب ملحق ببناء كلامهم، ثم قال: ورجل مدرهم ولا فعل له كثير الدراهم حكاه أبو زيد ولم يقولوا: درهم، قال ابن جني: لكنه إذا وجد اسم مفعول فالفعل حاصل. وواضح أن العرب لم يكونوا يتصورون تصورًا دقيقًا الماهية النقدية للدرهم أو لغيره من أن ابن منظور وهو الحريص على الإحاطة بكل ما عرف عن العرب في كل كلمة في معجمه لم ينقل عنهم إلا هذا القدر اليسير الذي لا يوضح بقدر ما يلبس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1759 كما أن الفيروزأبادي لم يقل شيئا مذكورًا في قاموسه عن الدرهم والدينار على تحريه الدقة والتقصي ما استطاع بل إنه مثل ابن منظور التبس عليهما مصدر كلمة " الدينار " فزعما أنها كلمة فارسية وواضح أنهما زعما ذلك اعتمادًا على الرواية المنقولة إليهما وآية ذلك ما قالاه مما لا نرى عناء في نقله حول بنية كلمة " دينار " وطريقة تعريبها (انظر لسان العرب: 4/292) ، واشتقاقها وقد تواطأ الأخباريون العرب على القول بأن الدرهم والدينار من أصل فارسي وهو ما في " لسان العرب " و" القاموس المحيط " ويظهر أن هذا ناشئ من أن الفرس عرفوا العملتين معا عن طريق الإسكندر المقدوني أيام غزوه الأقطار الشرق وهيمنته على بعضها ولا مراء في أن الفرس عرفوا سك الدرهم والدينار وكانت أغلب مسكوكاته زيوفًا بيد أن العملتين لم تظهرًا في فارس إلا في عهد متأخر نسبيًّا كما أنه لا مراء في أن العملتين عرفهما العرب من الروم واليونان كما عرفوهما من الفرس ونرجح أن معرفتهم لهما من الروم واليونان أسبق من معرفتهم لهما من الفرس، كما نرجح أنهم عرفوا الزيوف في نفس الوقت الذي عرفوا فيه النقد الخالص أو بعد ذلك بقليل وهذا هو الذي يعنينا من هذا الاستطراد. ويعضد ما ذهبنا إليه بحث قيم لجواد في كتابه (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 7/416- 419) ، عالج فيه تطور المالية والمال عند العرب وأطوار تعاملهم بالذهب والفضة وغيرهما نقتبس منه ما يلي: والذهب والفضة هما مقياس الثراء عند الحضر، ويكون ذلك بحيازتهم سبائك من ذهب أو فضة أو مصوغات أو دنانير ودراهم. ثم قال: وكان الذهب والفضة مقياس الثراء عند الإنسان قبل أن تضرب النقود وتسك السكك بل بقي على ذلك حتى بعد ضرب النقود بسبب ندرة الدنانير وقلة الدراهم وتفضيل البعض الذهب على الدينار والفضة على الدرهم، لهذا نجد أهل الجاهلية يتعاملون بالذهب والفضة وزنا في تعيين الأسعار وفي شراء الحاجات وفي المهور مع وجود الدنانير والدراهم، بل بقي التعامل بهما في الإسلام أيضا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1760 ثم قال: ونظرًا لوجود أناس كانوا يتلاعبون في نوعية الذهب والفضة بغش المعدنين ومزج معادن خسيسة فيهما فقد ظهر أناس تخصصوا بفحص الذهب والفضة وبتعيين درجتهما من حيث الجودة والنقاوة وبتعيين سعر السبائك وما يباع منها وفقًا لذلك، ثم تخصص هؤلاء بدراسة النقود وتعيين درجة نقاوتها وتثبيت وزنها وذلك بوجود الغش فيها بالنسبة لذلك العهد فإذا اشتروا نقدًا أو باعوه أو صرفوه بنقد آخر فحصوه فحصًا دقيقًا وتأكدوا منه قبل الشراء أو التصرف لكي لا يكون مغشوشًا فصار هؤلاء هم صيارفة النقود وخبراء السكة في ذلك العهد، وقد كان الصيارفة يجلسون في باب (الهيكل) في القدس يبيعون ويشترون ويصرفون النقود وقد أشير إليهم في الإنجيل ووبخهم المسيح وقلب موائد صيرفتهم (أحال على إنجيل متى الإصحاح 21: الآية 12) ، وكانوا يصرفون الدنانير بالدراهم والدراهم بنقود نحاس والعملات الأجنبية بالعملة الرومانية الدارجة في فلسطين تمامًا كما يفعل صيارفة هذا اليوم في بلاد الشرق الأدنى. ويظهر من الأناجيل أن أولئك الصيارفة كانوا يجلسون عند موائدهم التي يصرفون عليها النقود أما كبارهم أي الأغنياء منهم من أصحاب المال، فقد كانوا يتعاملون بالقروض يقرضون المال للمحتاج إليه في مقابل دفع فوائد عنها هي الربا وفي تشغيل أموالهم في مشاريع تعود عليهم بالأرباح. وقد تاجر أهل الجاهلية في الصرف وهو بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة أو أحدهما بالآخر. وبعد أن أشار إلى أقوال اللغويين في مصدر لفظ الصيرفي وما شاكله قال: وقد جاءت لفظة الصرف والصيرفة في رأيي من الصرف أي الفضة فالصرف الفضة في لغة الجنوبيين. ثم قال: وذلك أنه كانوا يتعاملون بالفضة في الغالب كثرتها بالنسبة إلى الذهب حتى غلب اسمها على هذا التعامل، فقيل: الصرف والصيرفة والصراف وهو الذي يتعامل بالصرف فصارت كلمة " الصرف " التي تعني الفضة مرادفة للنقود، كما صارت لفظة " الفلوس " التي هي جمع " فلس " أصغر عملة من العمل وهي من النحاس مرادفة للنقود وهي العبرانية شبه لذلك فالنقود أي العملة هي في العبرانية الفضة وقد استعملها العبرانيون في معنى العملة؛ لأنهم كانوا يتعاملون بها في حياتهم اليومية، فكانت مشترياتهم وأجورهم ومعاملاتهم بالفضة وبالعملة المعمولة منها حتى صارت في معنى النقود. ومن تعامل الصيارفة شراء الدنانير بالدراهم والدراهم بالدنانير أن يساوم رجل رجلًا على بيع دينار بدراهم فيتراوض الطرفان على ذلك ويتساوما حتى يتفقا على عدد ما يدفع من الدراهم وذلك لاختلاف نوع الدراهم وأوزانها وجودة فضيتها، ويكون العكس بأن يبيع شخص دراهم في مقابل دنانير وقد يتبايعون على بيع الذهب بالذهب مضروبًا كان أو غير مضروب، أو بيع الفضة بالفضة وكانوا يتلاعبون في تصريف النقود ويتحكمون في أسعار صرفها لاحتكارهم الصرافة في الأسواق ويربحون خاصة من تصريف العملة الأجنبية بالعملة الرائجة في السوق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1761 وقد عرف الصراف بالحيلة والخداع والغش في الصرف، ولهذا السبب لعنوا في الأناجيل وقلب المسيح موائد صيرفتهم والصيرفي المحتال المتصرف في الأمور والمجرب لها كالصيرف. ثم قال: ومن مصطلحات الصيارفة المذكورة في كتب اللغة الشوقل يقال: شوقل الدينار إذا عايره وصححه ووزنه واستعملوا الشاقل أيضا في المعايير ويظهر من مراجعة كتب اللغة أن علماء اللغة لم يكونوا على علم واضح بأصل لفظة " شقل " فاكتفوا بقولهم: شقل الدينار ووزنه. وترد هذه اللفظة في " الأرمية " كذلك بمعنى الوزن أو وزن الدنانير والدراهم، وترد بهذا المعنى أيضا في العبرانية وقد أخذ هذا الوزن من الأوزان البابلية وقد كانت الأوزان البابلية أساسًا لجميع الأوزان التي استعملت في الشرق الأدنى، بل وفي أوروبا أيضا و" الشقل " هو جزء من ستين جزءًا من (المن) (Mann) فمن هذا الوزن ورد اصطلاح شقل وشوقل بمعنى وزن العملة بالميزان في لغات أهل الشرق الأدنى لأنهم كانوا يصححون العملة ويعايرونها بوزنها بالميزان لتظهر صحة وزنها فيتبين به الزائف منها من الصحيح. وقد برع قوم من (الصيارفة) بتنقاد الدراهم أي بتمييز الدراهم وإخراج الزائف منها، وقد برع في ذلك نفر من أهل مكة؛ لأنهم تجار يتعاملون في الأسواق ويتعاطون الربا والصيرفة وتبديل العملة. وكان اليهود من الصيارفة يتعاملون ببيع الذهب والفضة وتبديل النقود والربا (1) . وإتمام للفائدة ننقل عن ابن منظور ما قاله في (لسان العرب: 9/190، 191) ، عن دلالة كلمة " الصرف " ومشتقاتها على الفضة وعلى أنماط التعامل بالنقدين: والصرف فضل الدرهم والدينار على الدينار؛ لأن كل واحد منهما يصرف عن قيمة صاحبه والصرف بيع الذهب بالفضة وهو من ذلك؛ لأنه ينصرف به من جوهر إلى جوهر والتصريف في جميع البياعات إنفاق الدراهم والصراف والصيرف والصيرفي النقاد من المصارفة وهو من التصرف والجمع صيارف والهاء للنسبة.   (1) وقد أفاض في بيان الربا وأنواعه في الجاهلية ومن كانوا يتعاملون به إفاضة استغرقت (35) صفحة وقليل نظيرها إن لم يكن غير موجود فلتراجع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1762 ثم قال: ويقال: أصرفت الدراهم بالدنانير وبين الدرهمين صرف أي فضل لجودة فضة أحدهما ورجل صيرف متصرف في الأمور. ثم قال أبو الهيثم: الصيرف والصيرفي المحتال المتقلب في الأمور المجرب لها. ثم قال: والصرف التقلب والحيلة يقال: فلان يصرف ويتصرف ويصطرف لعياله أي يكتسب لهم وقولهم: لا يقبل الله صرفًا ولا عدلًا الصرف الحيلة ومنه التصرف في الأمور يقال: إنه يتصرف في الأمور وصرفت الرجل في أمري تصريفًا فتصرف فيه واصطرف في طلب الكسب ثم قال: والعدل الفداء ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} [الآية 70 من سورة الأنعام] ، وقيل: الصرف المتطوع والعدل، وقيل: الصرف التوبة والعدل الفدية، وقيل: الصرف الوزن والعدل الكيل، وقيل: الصرف القيمة والعدل المثل وأصله في الفدية، يقال: لم يقبلوا منهم صرفًا ولا عدلًا أي لم يأخذوا منهم دية ولم يقتلوا بقتيلهم رجلًا واحدًا. ثم قال: وفي حديث أبي إدريس الخولاني أنه قال: من طلب صرف الحديث يبتغي به إقبال وجوه الناس إليه أخذ من صرف الدراهم والصرف الفضل، ويقال: لهذا صرف على هذا أي فضل، قال ابن الأثير: أراد بصرف الحديث ما يتكلف الإنسان من الزيادة فيه على قدر الحاجة وإنما كره لما يدخله من الرياء والتصنع ولما يخالطه من الكذب والتزيد والحديث مرفوع من رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه سلم في سنن أبي داود (1) ، ويقال: فلان لا يحسن صرف الكلام أي فضل بعضه على بعض وهو من صرف الدراهم (ابن الأثير، النهاية: 3/24) ، وقيل: لمن يميز صيرف وصيرفي وصرف لأهله واصطرف كسب وطلب واحتال، عن اللحياني. وتحرير كلمات " الدرهم " و " الدينار " و" الصرف " يصير بنا تلقائيًّا إلى لبس آخر أصاب متفقهة التقليد القدماء والتقطه منهم بعض متفقهة العصر من المشبوهين والمشتبه عليهم وهو يمثل الشبهة الخامسة التي تعلقوا بها بعضهم عن قصور وآخرون عن تقصير وهي عدم تحريم لدلالات كلمة " دين " وخلطهم نتيجة لذلك في الاستنباط منها.   (1) أخرجه أبو داود في (السنن: 4/302، ح 5006) : قال حدثنا ابن السرح، حدثنا ابن وهب، عن عبد الله بن المسيب، عن الضحاك بن شرحبيل، عن أبي هريرة قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال) أو الناس (لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1763 ومن الطريف الذي يعكس مدى ضلالة المقلدين وانحرافهم في الفهم وتعصبهم في التقليد أن بعضهم جبهته كلمة " عينا بعين " في حديث عبادة وابن عمر وغيرهما في الصرف - انظر فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف " - فيما كان ينتصر لرأي إمامه في تعليل حرمة الربا في النقدين، فعز عليه أن يتقبلها بمعناها اللغوي المتعارف عليه في كثير من أبواب الفقه الإسلامي نفسه من إطلاق العين على الذهب والفضة فتأولها إلى أن المراد بها تعيين طريقة التقابض وهو صحة التقابض بالإشارة بالعين إشارة تدل على القبول بتبادلها المتصارفان وهو تأويل يكفي بنفسه للدلالة المضحكة المؤلمة على ما يدفع عليه التعصب المذهبي والإصرار على التقليد ومحاولة تسخير النصوص الشرعية لخدمتها من الغرائب والأعاجيب. وجاء متفقهة هذا العصر - وأغلبهم لا يكلف نفسه مهمة الرجوع إلى فقه اللغة وهو يتأمل الكلمات في النصوص الشرعية - فلم يفكروا في أن كلمة " عينا بعين " لها دلالة إن خفيت على بعض المتفقهة المقلدين القدماء، فما كان ينبغي أن تخفى على ما ينتسب إلى الفقه من المعاصرين، وذلك بأنها تعني ماهية الشيء من بين ما تعنيه كلمة " عين " من معانيها المختلفة إذ هي كلمة مشتركة والذي يصرفها إلى معنى من معانيها القرينة بمختلف أنواعها وهي في الذهب والفضة وفي الحديث الشريف بالذات لها معنى خاصًّا مقصودًا لذاته كان النقدان في العصر النبوي لهما ماهية مزدوجة هي الذات والاعتبار أو بالأحرى المادة والوظيفة، ولذلك جاء في الحديث الشريف: " مثلًا بمثل وزنًا بوزن عينًا بعين "، فتعني المثلية الوحدة النوعية من حيث درجة الصفاء وشكل المادة بياضًا أو سوادًا أو حمرة أو صفرة وتعني كلمة " الوزن " التماثل في الوزن وعدم رجحان أحد الذهبين أو الفضتين عند المبادلة أما كلمة " العين " فتعني - والله ورسوله أعلم بأسرار التشريع - الطبيعة النقدية للمسكوك من الذهب أو الفضة من حظر بيع الدينار بالدينارين والدرهم بالدرهمين وإن مناجزة، فالعينية في حديث عبادة وابن عمر وغيرهما نص صريح على تماثل القطع النقدية المسكوكة عند التبادل. سيقولون: وما جدوى تبادل قطعتين متماثلتين من نقد واحد وجوابنا أن هذا النوع من التبادل يحدث - حسب ما نتصور - إذا كان تاجر مسافر إلى الشام مثلًا حيث ينحصر أو يفضل التعامل بالدينار البيزنطي ولديه دنانير غير بيزنطية فارسية أو يونانية مثلًا، فأراد أن يستبدلها بالبيزنطية وهنا تتعين العينية أكثر مما يتعين الوزن أو التماثل من حيث النقاوة والخلوص؛ لأن الطرفين يتعاملان في هذه الحال بالنقدين أو أحدهما اعتبارًا للوظيفة النقدية وليس اعتبارًا لمادة السكة المراد تبادلهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1764 وإذا أمكن التماس العذر للفقهاء الأقدمين، إذا لم يكونوا قد تصوروا انفصال الماهية أو الوظيفة النقدية عن ذات العملة أو مادتها؛ إذ كانت النقدية في الغالب لعهودهم مزدوجة لم ينفصل فيها النقد الاعتباري عن مادة العملة نتيجة تواضعهم على اعتبار النقد أساسًا هو المسبوك أو الموزون من الذهب أو الفضة فإنا لا نعرف عذرًا لمتفقهة المعاصرين إذا لم يتصوروا هذا الانفصال، وقد اختفى اعتبار مادة العملة في تقدير النقدية وحل محلها اعتبار الوظيفة النقدية وحدها وعدم تصورهم لهذا الواقع المعاش وهم يمارسون ساعة بعد أخرى هو الذي ألبس عليهم معنى كلمة " عينا بعين " في الحديث الشريف وما نراها إلا من اللفظ النبوي الشريف ومن إعجاز السنة النبوية فقد جرت على لسانه صلى الله عليه وسلم، وإن لم تكن دلالاتها واضحة في عهده لتقطع السبيل على من قد يحاولون ابتغاء الذرائع إلى تعطيل أحكام الشريعة في المعاملات المالية فهي تعبير عن استقلال الوظيفة النقدية عن مادة العملة بدليل أنها عطفت على الوزنية والمثلية وما كان عطفها مجرد تكرار بصيغ مترادفة وحاشا أن يكون كلام رسول الله عليه السلام شيئا يشبه اللغو. ولبيان أصالة معرفة العرب لدلالة كلمة عين على النقدين كما كانوا يتصورونهما في ذلك العهد نسوق ما قاله ابن منظور في (لسان العرب: 13/305ن 306) . والعين الذهب عامة، قال سيبويه: وقالوا عليه مائة عينًا، ثم قال الأزهري: والعين الدينار، والعين في الميزان الميل هو أن ترجح إحدى كفتيه عن الأخرى وهي أنثى، قال: ما في الميزان عين، والعرب تقول: في هذا الميزان عين أي ميل قليل أو لم يكن مستويا، ويقول: هذا دينار عين إذا كان ميالًا أرجح بمقدار ما يميل به لسان الميزان قال الأزهري: وعين سبعة دنانير نصف دانق والعين عند العرب حقيقة الشيء، ويقال: جاء بالأمر من عين صافية أي من فصه وحقيقته وجاء بالحق بعينه أي خالصًا واضحًا وعين كل شيء خياره وعين المتاع والمال وعينته خياره وقد اعتانه وخرج في عينة ثيابه أي خيارها، قال الجوهري: وعينة المال خياره مثل العينة، وهذا ثوب عينة إذا كان حسنا في مرآة العين واعتان فلان الشيء إذا أخذ عينته وخياره والعينة خيار الشيء جمعها عين. قال الراجز: فآعتان منها عينة فاختارها حتى يشتري بعينه خيارها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1765 ثم قال: وعين الشيء نفسه وشخصه وأصله والجمع أعيان وعين كل شيء نفسه وحاضره وشاهده، وفي الحديث: أوه عين الربا أي ذاته ونفسه، ويقال: هو هو عينًا وهو هو بعينه، وهذه أعيان دراهمك ودراهمك بأعيانها. ثم قال: ويقال: لا أقبل إلا درهمي بعينه. وهذا الذي نقلنا عن ابن منظور يقطع كل سبيل على كل من يريدون أن يصلوا إلى هدفهم من تحليل بعض أنواع الربا اعتمادًا على أن النقد المتداول الآن في جميع الأقطار لم يعد ذهبًا ولا فضة، وإنما هو ورق أو ما يشبه الورق في كونه غير ذي قيمة لذاته، لحجة أن المنصوص على تحريم فيه هو الذهب والفضة، وأن النقد الورقي وما شاكله لا يشمله النص فهو خاضع للاجتهاد ولاعتبارت المصلحة المرسلة أو مقتضيات رفع الضرورة واجتناب الحرج؛ إذ إن كلمة " عينًا بعين " تعني شيئا غير الطبيعة الذاتية للمسكوكات من الذهب والفضة هو الطبيعة الوظيفية لها وهذه الطبيعة الوظيفية انتقلت منها إلى النقد المتداول في العصر الحاضر وحتى إلى ما كان متداولًا في عصور سالفة من أنواع الفلوس. واعتبار كلمة " عينًا بعين: في الحديث الشريف نصًّا في تحريم الربا في النقود أيا كانت مادتها يقضي على رغم القائلين كون الذهب والفضة أثمانًا للمبيعات وقيمًا للمتلفات لا يصلح اعتباره علة لتحريم الربا فيهما؛ لأنها علة قاصرة لا تتجاوزهما إلى غيرهما ولذلك فعلة تحريم الربا فيهما هو كونهما من الموزونات. ذلك بأن اعتبار العينية في الحديث الشريف تعني الطبيعة الوظيفية للنقد يجعل من هذه العلة في الجانب النقدي من الذهب والفضة على الأقل علة غير قاصرة، ويعضد ذلك أن مناط تحريم الربا في جميع الربويات هو منع الظلم؛ إذ جاء في آيات سورة البقرة: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} ، وجاء في سورة النساء في معرض التنديد باليهود وبيان أسباب العقاب الذي أنزله الله بهم قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [الآيتان 160، و 161] وفي هذه الآيات مضافا إليها تحريم أكل أموال الناس بالباطل في عدة آيات أخرى دليل على أن لتحريم الربا في الأشياء الربوية ما كان منها منصوصًا عليه، وما كان مقاسًا عليها مناطا جامعا منصوصا عليه نصًّا صريحًا، فهو أقوى من العلة المستنبطة استنباطًا ظنيًّا وهذا يعنى أن انطباق هذا المناط على كل معاملة في شيء من الأشياء يشبه في وظيفته أحد الأجناس الربوية المنصوص عليها ينهض دليلًا على شمول التحريم لها باعتبار أن الأشياء المنصوص عليها لا يعتبر النص عليها حصرًا خاصًّا بها دون غيرها وإنما كان النص عليها؛ لأنها يومئذ هي أساس الحياة العامة والخاصة للإنسان من حيث الاقتيات واقتناء ما يحتاج إليه من الأشياء غير المقتات بها وعلى هذا الاعتبار يتجلى أن تحريم الربا أريد به منع حرمان الناس من جميع أنواع الاستغلال الذي قد يسلطه بعضهم على بعض لما فيها جميعًا من المفسدة الشاملة الراجحة على كل مصلحة قد تتراءى للبعض خاصة كانت أو عامة معارضة لها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1766 وهنا ينتهي بنا المسار إلى الشبهة السادسة التي تعلق بها تحليل الربا في هذا العصر وهي شبهة المصلحة العامة بزعمهم التي تضطر المسلمين إلى التعامل مع المؤسسات الربوية؛ لأن طبيعة التنمية التي تفتقر إليها الأمة الإسلامية تبرز ضرورة البحث عن المال اللازم لها كما تبرز أن المصلحة العامة للمسلمين استنادًا إلى هذا الضرورة تبيح ما حرمه الشرع من ربا الفضل إذا لم يتأت اعتبار النقد المتداول في العصر الحاضر قد انفصمت علائقه تقريبا مع الذهب والفضة خارجًا عن نطاق التحريم المنصوص عليه في القرآن الكريم والحديث الشريف؛ لأن النقد الورقي لم تعد له أية علاقة بالذهب والفضة. وهذه الشبهة تتفرع إلى فرعين الأول مسألة الضرورة وتوسعهم فيها حتى شملت ما يعتبره الشرع من الحاجات بل وتجاوزتها إلى ما يعتبره من التحسينات والضرورة التي تبيح المحظورات هي تلك التي يكون بها الإنسان على شفا الهلاك والموت على أنهم اختلفوا في هذه هل ينحصر أثرها في إباحة الحد الأدنى مما ينجيه من الهلاك المحقق أن يتوسعوا شيئا فيرخص له فيما يؤمنه من الوقوع في هلاك مماثل إلى أن يتيسر له الأمن المطلق من الهلاك مثال ذلك المضطر إلى أكل الميتة أو لحم الخنزير لإنقاذ نفسه من الموت جوعًا، هل تنحصر إباحة الأكل له في الحد الأدنى ما ينقذه من الموت جوعًا أو يجوز له أن يشبع أو يجوز له أيضا أن يصحب معه أو يدخر ما يأمن به خطر الوقوع في مثل ذلك الجوع الذي أشرف به على الموت إلى أن يدرك مأمنه بأن يبلغ الأماكن المأهولة وما شاكل ذلك. وجلي أنه لا سبيل إلى دعوى أن مثل هذه الضرورة هي التي تحمل على الالتجاء إلى الربا، فما من مؤسسة يمكن أن تقرض أحدًا على مثل هذه الحال من الفقر وليس له أي ضمان فضلًا عن أن له الحق في أن يقاتل وأن يقتل من يمنعه البلغة ليحصل على ما ينقذ حياته، وقد سبق أن ألمحنا إلى ذلك. ثم إنه لا سبيل إلى الدعوى بأن حالة الضعف الاقتصادي التي تسم أغلب الشعوب الإسلامية يمكن اعتبارها هذا النوع من الضرورات إذ إنه ما من شعب من هذه الشعوب اكتفى بالحد الأدنى من أسباب المعيشة ولم يتطلع إلى ما فوق ذلك من ألوان الترف والبذخ والرفاهة، يمكن أن يفقد الوسيلة ليس إلى ضمان استمراره حيًّا فحسب بل إلى تحقيق نوع من النماء قد لا يكون سريعًا، بيد أنه يمكن أن يكون متصلًا مطردًا وآية ذلك أن الاتحاد السوفياتي استطاع أن يصبح قوة عظمى رغم حصار دام أكثر من جيل كامل أطبقه عليه خصوم نظامه فاضطر إلى الاعتماد على نفسه واستطاع أن يضمن لشعوبه الاكتفاء الذاتي، وإن كان مع حرمان بدأ شديد القسوة ثم أخذ ينفرج تدريجيًّا من وسائل الرفاه والنعيم. ولو أن جميع الشعوب الإسلامية الفقيرة أخذت بمبدأ عدم الالتجاء إلى الغير والاعتماد على النفس والاستفادة من كل ما تيسر لها ذاتيًّا من إمكانات طبيعية وبشرية، ولاستطاعت أن تضمن لنفسها البقاء والنماء والنجاة من هذه الديون المتضخمة مع الأيام والناتجة عن التعامل مع الأمم الأخرى بالطرق الربوية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1767 أما دعوى المصلحة العامة المتمثلة في وجوب لحاق الأمة الإسلامية بالأمم الأخرى في موكب الحضارة والقوة بإنها قائمة على مغالطة صحيح أن المسلمين مأمورون بأن يبذلوا غاية الجهد في أن لا يكونوا أضعف من غيرهم إن لم يكونوا أقوى وذلك حفظًا لهيبة الأمة الإسلامية وتشخيصًا لعزتها، بيد أن هذا الأمر ينحصر في إيجاب اعتمادها على إمكاناتها الذاتية أو ما تيسر لها من طرق مشروعة غير مفضية إلى مفسدة، ولا يتجاوز ذلك إلى تعطيل حكم شرعي مقطوع به مثل حكم الربا أو التحايل عليه والانحراف في ابتغاء التأويلات المتحملة له؛ لأنه ما من اعتبار - غير الضرورة في النطاق الذي أوضحناه آنفًا وما شاكله - يمكن أن يكون له أي تأثير على النصوص القطعية والظنية وما ورد فيها من أحكام وما جاءت به من تشريع. على أن المصلحة التي يحاول البعض أن يتشبثوا بها لا تعدو أن تكون كأداة يمكن للمجتهد اللجوء إليها قاعدة ظنية، ومع أن الأيمة الأول لم يتفقوا على اعتماد هذه القاعدة فإن جمهورهم اعتمدها، وإن كان مالك - رحمه الله - هو الذي أطلق عليها لفظ المصلحة المرسلة ولبيان حدودها والمجالات التي يمكن اللجوء فيها إليها والضوابط التي يجب اعتبارها عند اللجوء إليها ننقل عن الشاطبي - رحمه الله- وهو أفقه الناس فيها - هذه الفقرات. قال رحمه الله في (الموافقات: 2/25) ، وما بعدها: المصالح المبتوتة في هذه الدار ينظر فيها من جهتين من جهة مواقع الوجود ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي. فأما النظر الأول فإن المصالح الدنيوية - من حيث هي موجودة هنا - لا يتخلص كونها مصالح محضة وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان وتمام عيشه ونيله ما تقضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق حتى يكون منعمًا على الإطلاق وهذا في مجرد الاعتياد لا يكون؛ لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق قلت أو كثرت تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها كالأكل والشرب واللبس والسكنى والركوب والنكاح وغير ذلك فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب. كما أن المفاسد الدنيوية ليست مفاسد محضة من حيث مواقع الوجود إذ ما من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات كثيرًا. ثم قال: فإذا كان كذلك، فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب، فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفًا، وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفًا، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبًا إلى الجهة الراجحة، فإن رجحت المصلحة فمطلوب، ويقال فيه: إنه مصلحة وإذا غلبت جهة المفسدة فمهرب عنه، ويقال: إنه مفسدة - على ما جرت به العادات في مثله - فإن خرج من مقتضى العادات فله نسبة أخرى وقسمة غير هذه القسمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1768 ثم قال: وأما النظر الثاني فيها من حيث تعلق الخطاب شرعًا، فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد فهي المقصودة شرعًا. ثم قال: وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد فرفعها هو المقصود شرعًا ولأجله وقع النهي ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي في مثلها حسب ما يشهد له كل سليم فإن تبعتها مصلحة أو لذة، فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل بل المقصود ما غلب في المحل وما سوى ذلك ملغى في مقتضى النهي، كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر. فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعًا والمفاسد المعتبرة شرعًا هي خالصة غير مشوبة بشيء، من المفاسد لا قليلًا ولا كثيرًا، وإن توهم أنها مشوبة فليست في الحقيقة الشرعية كذلك لأن المصلحة المغلوبة أو المفسدة المغلوبة، إنما المراد بها ما يجري في الاعتياد الكسبي من غير خروج إلى زيادة تقتضي التفات الشارع إليها على الجملة، وهذا المقدار - يعني الخارج الزائد عن حالة الاعتبار الكسبي - هو الذي قيل: إنه غير مقصود الشارع في شرعية اعتبار الأحكام. ثم قال: إذا ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية وذلك على وجه لا يختل لها به نظام لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات؛ فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تخل أحكامها لم يكن التشريع موضوعًا لها إذا ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد لكن الشارع قصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديًّا وكليًّا وهذا في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال. ثم قال: المصالح المجتلبة شرعًا والمفاسد المستدفعة، إنما تعبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية. ثم قال: وإذا ثبت هذا تبنى عليه قواعد منها، أن لا يستمر إطلاق القول بأن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع كما قرره الفخر الرازي إذ لا يكاد يوجد انتفاع حقيقي ولا ضرر حقيقي وإنما عامتها أن تكون إضافية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1769 ثم قال: ومنها أن بعض الناس، قال: إن مصالح الدار الآخرة ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع، وأما الدنيوية فتعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرة، قال: ومن أراد أن يعرف المناسبات في المصالح والمفاسد راجحها من مرجوحها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشارع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج من ذلك إلا التعبديات التي لم يوقف على مصالحها أو مفاسدها، هذا قوله وفيه بحسب ما تقدم نظر، أما أن ما يتعلق بالآخرة لا يعرف إلا بالشرع، فكما قال، وأما ما قال في الدنيوية فليس كما قال من كل وجه بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض، وذلك لما جاء الشرع بعد زمان فترة تبين به ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الاستقامة وخروجهم عن مقتضى العدل في الأحكام، ولو كان الأمر على ما قال بإطلاق لم يحتج في الشرع إلا إلى بث المصالح في الدار الآخرة خاصة وذلك لم يكن إنما جاء بما يقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة معًا، وإن كان قصده إقامة الدنيا للآخرة فليس بخارج عن كونه قاصدًا لإقامة مصالح الدنيا حتى يتأتى فيها سلوك طريق الآخرة. ثم قال: مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة لا تخص بباب دون باب ولا بمحل دون محل، ولا لمحل وفاق دون محل خلاف. وبالجملة الأمر في المصالح مطرد مطلقًا في كليات الشريعة وجزئياتها. ثم قال: كما أنه إذا ثبت قاعدة كلية في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات فلا ترفعها آحاد الجزئيات كذلك نقول: إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة أو في آحادها فلا بد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي وذلك الجزئيات فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي، ألا يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع. ثم قال (نفس المرجع: ص 3169) . ... يقول كثير من العلماء: إن النهي يقتضي الفساد بإطلاق، علمت مفسدة النهي أم لا، انتفى السبب الذي لأجله نهي عن العمل أو لا، وقوفًا مع نهي الناهي؛ لأنه حقه والانتهاء هو القصد الشرعي في النهي، فإذا لم يحصل فالعمل باطل بإطلاق فقد ثبت أن كل تكليف لا يخلو من التعبد وإذا لم يخل فهو مما يفتقر إلى نية كالطهارة وسائر العبادات. إلا أن التكاليف التي فيها حق العبد منها ما يصح بدون نية وهي التي فهمنا من الشارع فيها تغليب جانب العبد كرد الودائع والمغصوب والنفقات الواجبة ومنها ما لا يصح إلا بنية وذلك ما فهمنا فيه تغليب حق الله، كالزكاة والذبائح والصيد. وقد أبدع محمد سعيد رمضان البوطي، وأجاد كما لم يجد كثير من المعنيين بأسرار الشريعة الموفقين من السلف فضلًا عن المعاصرين في ضبط مجال المصلحة ومسوغات الالتجاء إليها في كتابه (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: ص 61، 62) ومن روائعه قوله: ... لا يجوز بناء حكم على مصلحة إذا كان في ذلك مخالفة نص كتاب أو سنة أو قياس تم الدليل على صحته أو إجماع إلا إجماعًا تأسس أمره على مصلحة دنيوية غير ثابتة، فيجوز أن يتغير حينئذ ذلك الإجماع بمثله إذا تغيرت المصلحة وقامت مصلحة غيرها مثل ذلك ما لو أجمع المسلمون في وقت ما على ضرورة قتل الأسرى أو استرقاقهم نظرًا تستدعي ذلك كالمعاملة بالمثل، ثم أجمعوا في وقت آخر على خلاف ذلك نظرًا لزوال الحالة السابقة، ومثاله أيضا ما لو أجمع المسلمون في عصر ما على عقد الصلح بينهم وبين الكافرين لمصلحة تستدعي ذلك، ثم رأى من بعدهم وأجمعوا على عدم الصلح لزوال تلك المصلحة غير أن مثل هذه الأحكام قائمة على أساس ما يعبر عنه بحق الإمامة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1770 ثم حصر ضوابط المصلحة في خمسة ضوابط: ص:118،321. فقال: الضابط الأول: اندماجها في مقاصد الشارع، الضابط الثاني: عدم معارضتها للكتاب، الضابط الثالث: عدم معارضتها للسنة، الضابط الرابع: عدم معارضتها للقياس، الضابط الخامس: عدم تفويتها مصلحة أهم منها. ثم انتهى إلى دحض إحدى شبه كثيرًا ما تعلق بها من يحاولون التحلل من أحكام الشريعة الإسلامية وهي شبهة (المشقة تجلب التيسير أو رفع الحرج عن العباد فيما شرع لهم) وهذه هي الشبهة السابعة التي تعلق بها دعاة إباحة الربا فقال - حفظه الله - ص 276، 277: المشقة تجلب التيسير وهي إحدى القواعد الخمس المعروفة: " الأمور بمقاصدها "، " اليقين لا يزول بالشك "، " المشقة تجلب التيسير "، " الضرر يزال "، " العادة محكمة " التي قال الفقهاء: إن جميع مسائل الفقه راجع إليها ومصدرها في الاعتبار، قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الآية 185 من سورة البقرة] ، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الآية 78 من سورة الحج] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت بالحنيفية السمحة)) (1) ، وأحاديث أخرى كثيرة وردت بهذا المعنى. ومعناها أن المشقة التي قد يجدها المكلف في تنفيذ الحكم الشرعي سبب شرعي صحيح للتخفيف منه بوجه ما ولكن لا ينبغي أن نفهم هذه القاعدة على وجه يتناقض مع الضوابط التي ذكرناها للمصلحة المعتبرة فلا بد للتخفيف أن لا يكون مخالفا لكتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا مصلحة راجحة، وبيان ذلك أن جملة المصالح الشرعية تنقسم إلى قسمين: إحداهما مصالح نص على حكمها الكتاب أو السنة كالعبادات والعقود والمعاملات، والثاني مصالح عرفت بالاجتهاد والقياس كتلك المصالح التي تجد بتطور الزمن والأحقاب.   (1) قال أحمد في (مسنده: 5/266) : حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان بن رفاعة، حدثني على بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه قال: فمر رجل بغار فيه شيء من ماء قال: فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا ثم قال: لو أني أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل، وأتاه فقال: يا نبي الله إني مررت بغار وفيه ما يقوتني من الماء والبقل فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى عن الدنيا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكن بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة وروحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة) . وقال (نفس المرجع: 6/116) : حدثنا سليمان بن داود قال: حدثنا عبد الرحمن، عن أبيه قال: قال لي عروة: إن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: (لتعلم أن في ديننا فسحة إني أرسلت بالحنيفية السمحة) ورواه بسند آخر (نفس المرجع: ص233) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1771 فالأول لم يقتصر نص الشارع فيه على العزائم فقط بل ما من حكم من أحكام العبادات والمعاملات إلا وشرع إلى جانبه سبل التيسير فيه. ثم ساق أمثلة لما شرع الله من التيسير، فيما قد يكون فيه بعض المشقة على بعض الناس من العبادات وغيرها. وفيما يتصل بالمعاملات، قال: وحرم الربا وشرع الترخيص فيما يشق الاحتزاز منه من ذلك كالعرايا وحرم عقود الغرر وأرخص فيما يعسر التخلص منه كالسلم والإجارة والبيع في الذمة وحرم أخذ مال الغير وأرخص للمضطر أخذ قدر ضرورته منه. قلت: لكن يبدو أن الدكتور البوطي غفل كما غفل كثير غيره عن مدلول كلمة الحرج في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الآية 78 من سورة الحج] ، وهي من الآيات التي استدل بها وكذلك في قوله تعالى في آيه الوضوء: [الآية 6 من سورة المائدة] {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} ، وعن مدلول كلمة اليسر والعسر في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الآية 185 من سورة البقرة] ، ومن عجب أن جمهرة المفسرين والأصوليين وقفوا عند ظاهر اللفظ من العسر واليسر والحرج في القرآن والحديث وقفة كثيرًا ما أحرجتهم فذهبوا يلتمسون المنافذ من حرجها، ولو أنهم تجاوزوا بتدبرهم لمعاني هذه الكلمات ظواهرها المتبادرة إلى الأفهام إلى ما يدل عليه السياق ويقتضيه المناط لما شعروا بالحاجة إلى منافذ من حرج موقفهم؛ لأنهم ما كانوا ليجدوا حرجًا. ونبدأ بكلمتي اليسر والعسر، فما من شك ولا سبيل إلى المراء في أن في الصوم مشقة قل من لا يجد من الناس، وقد اعتبرها الشارع الحكيم الخبير فرخص للمريض والمسافر والمطيق. - أى من تبلغ مشقة الصيام عليه حدًّا يتجاوز الاستطاعة المعتادة - أن يفرطوا على أن يعوض المريض والمسافر عن الأيام التي أفطرها بصيام مثلها عددًا بعد زوال علة الترخيص في الإفطار من المرض أو السفر وأن يعوض المطيق - إذ لا أمل في أن يستطيع الصوم يومًا ما؛ لأن إطاقته من الكبر وليس من المرض أو السفر - بإطعام مسكين عوضًا عن كل يوم يفطر فيه، وفي ما عدا هذه الحالات - والحيض والنفاس في حكمها - فاليسر الذي يريد الله بشرع الصيام - والله أعلم بأسرار كتابه - هو المناط من شرعه المتمثل فيما يعود به الصيام على الصائم من منافع مادية وروحية مثل آثاره في تقويم الصحة وفي تهذيب الأخلاق وفي صقل القلوب والأرواح فضلًا عما يستحقه الصائم في الآخرة من الأجر ورضوان الله، والعسر المرفوع بتشريع الصيام هو في حقيقته الحرمان من هذه العوائد التي يعود بها على الصائمين، فالآية الكريمة التي جاءت في آخر آيات فرض الصيام وقبل آية الندب إلى الدعاء وضعها الله في موضع يضبط سياقها بما قبلها وبما بعدها ما تنطوي عليه من بيان حكمة الله ولطفه بما شرعه وأوجبه على عباده المسلمين فهو بشريعته يريد بهم اليسر الذي يهيء لهم الخير في الدنيا والآخرة ولا يريد بهم العسر، وإن بدا لهم في شيء منه بعض المشقة؛ لأن ذلك الذي بدا لهم فحسبوه عسرًا إنما هو باعتبار ما ينتج عنه يسر؛ لأنه سبيل إلى اليسر ووسيلة للحصول عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1772 أما الحرج الوارد ذكره في آيتي سورتي المائدة والحج، فقد جاء التباس معناه على جمهرة المفسرين والأصوليين والفقهاء من اعتبارهم كلمة "من" صلة زائدة أو ما إلى ذلك على حين أنها لما يسميه ابن هشام في (المغني: ص124) ، "التنصيص على العموم"، و"توكيد العموم"، وهما معنيان من معاني من فصل بينهما ابن هشام ولعل الفصل بينهما لا مسوغ له عند التأمل والتحرير فَـ "من" في هاتين الآيتين تنص مؤكدة على نفي عموم الحرج وما من شك ولا سبيل إلى المرء في أن إيجاب الوضوء على من يريد الصلاة وفي أن الصلاة نفسها بشعائرها وطقوسها، وفي أن الجهاد لما فيه من مخاطرة بالروح والمال فضلًا عما يلبسه من عنت ووهن لا يخلو من بعض المضايقة لمن لم يبلغ من الإيمان درجة الشعور بالابتهاج والسعادة عند أداء الشعائر الدينية وخاصة عند الصلاة التي هي الفرصة المهيأة للمؤمن لأن ينعم بمناجاة الله وهذه درجة قل من يبلغها من صفوة المؤمنين فضلًا عن عامتهم؛ ولذلك جاء تعليل فرض الوضوء بعد قوله سبحانه وتعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} ، صريحًا بقوله: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} ، ثم طولب المؤمن ليس بعدم استشعار الحرج من الوضوء فحسب ولكن بإدراك ما فيه من النعمة والتعبير عنه بشكر الله، وذلك بقوله تعالى في آخر الآية: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . أما في آية سورة الحج فكان سر نفي الحرج عن تشريع الصلاة والجهاد فيها أدق وأبعد عن الأفهام العادية إلا تلك التي رزقها الله من قوة الإيمان ما يهيئ استشراف ألطافه الخفية ولذلك جاء نفي الحرج فيها بأسلوب يختلف عنه في آية الوضوء؛ إذ الحرج باعتبار جانبه المادي قائم لا سبيل إلى ادعاء عدم قيامه لا سيما في الجهاد، بيد أن نفيه كان باعتباره مصدره ومآله فالصلاة والجهاد اللذين جاء بهما الإسلام استمرار لملة إبراهيم أبي العرب الذين نزل القرآن بلسانهم لحًّا وأبي المسلمين الذين أمروا بالإيمان به واتباعه روحًا والإنسان مطبوع على حب الاستمرار فيما كان عليه آباؤه وأسلافه، ثم إن هذا الحرج يؤهل المؤمنين لأمرين عظيمين يهون بالمقارنة بهما، الأول: أنهم به يكونون شهداء على الناس، ويكون الرسول عليهم شهيدًا، والثاني: أنه يؤهلهم لولاية الله ونصرته، {هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} ، وكل واحد من هذين الأمرين عند تدبره بإيمان وبصيرة يهون في سبيل الحصول عليه كل حرج فكيف بهما معًا. يتبين فيما سبق أن فهم المشبوهين والمشتبه عليهم من متفقهة هذا العصر لمعنى رفع الحرج عن المسلمين فهم منحرف انحرافًا جوهريًّا عن دلالة نفي الحرج الذي جاء في القرآن الكريم وعن دلالة إرادة اليسر، ونفي إرادة العسر اللذين جاءا فيه أيضًا. وإذا تبين بطلان فهمهم المنحرف هذا تبين بالضرورة بطلان كل ما بنوا على هذا الفهم المنحرف من مقدمات ونتائج يحاولون الوصول بها إلى تحليل ما حرم الله. ولعلنا بما وقفنا عند شبههم هذه - وليست هي كل شبههم وإنما هي أبرزها في تقديرنا - قد خلصنا إلى إيضاح أن ما استهدفوه بادعائهم أن النقود الورقية وما شاكلها مما يتعامل به في العصر الحاضر محليًّا أو دوليًّا لا تنطبق عليها المواصفات الواجب توفرها لتطبيق شريعة الربا عليها وما فرعوا عن ذلك من التلبيس على العامة والأغرار حول اضطراب العملة ونتائجها على بعض الشعائر والأحكام التي جاء بها الإسلام بنصوص صريحة حاسمة من الكتاب والسنة قائم على غير أساس إلا التعلق العامد بالشبهات ليلبسوا على المسلمين أمر دينهم وهذا ما سنجلوه في الفصل التالي بحول الله وتوفيقه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1773 (16) الشريعة وتغيير العملة في الفصول السابقة مر الكثير من الأحاديث والآثار المتصلة بما يترتب عن تغيير العملة من الأحكام، وقد كان حريًّا بنا أن نرى فيه الغناء كل الغناء، لولا أن تلك الأحكام كانت مبثوثة حيث قد يتعذر على القارئ المسرع" تحصيل" القواعد العامة المبتغاة منها ليستطيع تطبيقها، فيما يواجه من أحداث وأطوار، ثم إن متفقهة هذا العصر تواطئوا على الزعم بأن تغيير العملة من مستحدثات الطور الحضاري الذي نعايشه وغفلوا أو تجاهلوا، أن النقد منذ كان دأب يتعرض للتغير والاضطراب تمامًا كما يتعرض له الآن ولأسباب لا تختلف في جوهرها عن هذه التي تعرضه اليوم لما نشهد من التغير والاضطراب. وما نزيد أن نتتبع أطوار الاضطراب والتغير التي عرفها النقد منذ كان بالتلخيص والإبراز بعد أن أوضحناها بشيء قد يكون مسرفًا من البسط وما يقرب من الاستقراء، بل إنما نريد أن نقف عند بعض معالم نرى الوقوف عندها ضروريًّا لاجتلاء الأحكام المبتغاة من بحث هذه المسألة في هذه الآوانة. المعلم الأول هو أن ازدواجية النقد ازدواجية مضاعفة في العهد النبوي والعهود القليلة التالية له، لم تكن "عينية" صرفة أى خالية من الاعتبارية وبيان ذلك أن اعتبار الورق والفضة نقدين بذاتهما كان مصحوبًا بملاحظة القيمة أيضًا، بل إن الازدواجية بين الذهب والفضة ليست بالصورة التي تتبادر إلى الأفهام، فقد كانت الفضة أكثر شيوعًا في شبه الجزيرة العربية وخاصة في الحجاز في العهد النبوي، فكانت هي المعتمدة أساسًا في"النقدية" لكن يهمنا أن العرب ألفوا التعامل أيضًا بالنقد الذهبي، فقد أقر هذا العرف، بيد أنه عندما تبرز الحاجة إلى المقارنة كانت الفضة أساس التقويم. وقد مضى من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك، ومنها حديث عمرو بن شعيب حول تقويم رسول الله صلى الله عليه وسلم نصاب الزكاة في الذهب على أساس نصابها في الفضة ونضيف إلى هذا وإلى غيره مما سبق أن سقناه في فصل " من أحكام اضطراب العملة في الحديث الشريف " حديث أبي بكر بن حزم، عن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له حين بعثه إلى اليمن وهذه بعض طرقه ونقتبس منه ما يتصل بموضوعنا فهو حديث طويل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1774 قال ابن زنجوية في (الأموال: 3/939، ح1638) : أخبرنا ابن أبي أويس حدثني أبي عن عبد الله ومحمد ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيهما، عن جدهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: ((فإذا بلغت قيمة مائتي درهم ففي قيمة كل أربعين درهمًا درهم حتى تبلغ أربعين دينارًا، فإذا بلغت أربعين دينارًا ففيها دينار)) . وأخرجه ابن حزم في (المحلى: 6/13) في معرض نقاشه للحنفية حول نصاب الزكاة، فقال: ... كما حدثنا حمام بن أحمد، قال: حدثنا عباس بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن، حدثنا أحمد بن زهير بن حرب، حدثنا الحكم بن موسى حدثنا يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود الجزري، حدثنا الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم وهذه نسخته فذكر الكتاب وفيه: وفي كل خمسة أواق من الورق خمسة دراهم فما زاد ففي كل أربعين درهمًا درهم وفي كل أربعين دينارًا دينار. حدثنا حمام، قال: حدثنا عباس بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أصبغ حدثنا أبو عبد الله الكابلي ببغداد، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني أبي عن عبد الله ومحمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيهما، عن جدها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كتب هذا الكتاب لعمرو بن حزم حين أمره على اليمن وفيه الزكاة: ((ليس فيها صدقة حتى تبلغ مائتى درهم ففيها خمسة دراهم وفي كل أربعين درهمًا درهم، وليس فيما دون الأربعين صدقة، فإذا بلغت الذهب قيمة مائتي درهم، ففي قيمة كل أربعين درهما درهم حتى تبلغ أربعون دينارًا، فإذا بلغت أربعين دينارًا ففيها دينار ... )) ثم قال (ص37) - ودائمًا في معرض نقاشه لخصومه وخاصة في مسألة التقويم -: ... وأيضًا فإننا قد أوجدناهم ما حدثناه حمام، قال: حدثنا عباس بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن، أخبرنا أبو عبد الله الكابلي، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثنا أبي عن عبد الله ومحمد ابني أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيهما، عن جدهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كتب هذا الكتاب لعمرو بن حزم حين أمره على اليمن وفيه الزكاة، فذكره وفيه: فإذا بلغت الذهب قيمة مائتي درهم ففي قيمة كل أربعين درهما درهم حتى تبلغ أربعين دينارًا وعلى هذا الأساس من اعتبار الفضة أساسًا لتقويم النقد والذهب تبعًا لها كان العمل في عهد الصحابة ليس فيما يتصل في الزكاة فحسب، بل في جميع المجالات ذات العلاقة بالمعاملات النقدية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1775 ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما جرى عليه عمر من تحديد قيمة الدية لمن ليست له إبل، فقد حددها بادئ الأمر بثماني مئة دينار، ثم رفعها إلى ألف، ثم إلى ألف ومائتي دينار بناء على اعتبارين: أحدهما ارتفاع قيمة الذهب بالنسبة إلى الفضة، والثاني - وهذا أمر هام جدًا- اعتبار قيمة الإبل بالنسبة إلى الذهب والفضة فكان عمر بذلك السابق إلى إشراك غير النقدين في تحديد قيمتهما وهو ما يطلق عليه اليوم بـ "الطاقة الشرائية" المعتبرة مع غيرها في تحديد قيم العملات. ثم إنه - رضي الله عنه - لم يقف عند وضع الأساس لهذا المبدأ، وإنما أتبعه بوضع أساس مبدأ آخر وهو عدم إخضاع الأحكام الشرعية لاستمرار الاضطراب في قيمة العملة فعندما جعل قيمة مائة من الإبل في الدية ألفًا ومائتي دينار أو اثني عشر ألف درهم ومنع الزيادة عن ذلك في غير حالات "التغليط" علل هذا التحليل بالخوف من أن يرهق الناس في حالة الارتفاع الفاحش لأسعار الإبل فيكلفوا ما لا يطيقون وهذا أساس لأحكام كثيرة من أبرزها "التسعير" عند الضرورة واعتبار الاحتكام إلى الطاقة الشرائية في سعر العملة ليس مطلقًا وليست لها الهيمنة على تقديره، وإنما هي واحدة من المؤشرات التي يستدل بها عند التقدير. ومع أن النقد كان في العهود الإسلامية الأولى يتمثل في الازدواجية بين العينية والاعتبار في العملة أي في أن الذهب والفضة في ذاتها قيم وأثمان وأن المسكوك منهما يضيف عند التثمين والتقييم إلى وضعهما الذاتي اعتبار السك يعني الاعتماد الرسمي للقطعة المسكوكة بأنها أداة معتمدة في التثمين والتقييم. ومع أن الفلوس كانت موجودة في تلك العهود ولكن كرديف للذهب والفضة يتعامل بها في المعاملات الصغيرة التي لا تمثل قيمة مؤثرة في التمول، فإن المجتهدين الأول من التابعين وأئمة المذاهب كانت لهم اجتهادات تبرز في أحيان شتى مرحلة ابتدائية من تصور الاعتبارية في النقد من حيث إنها مؤثرة بذاتها في تكييف الأحكام الشرعية المتصلة بالمعاملات، فكانت اجتهاداتهم في مبادلة الفلس بالفلسين واعتبارها من الربا وتحرج بعضهم منها وإن لم يعتبرها كذلك بداية تطور في فقه النقود إن صح هذا التعبير، وكان اعتبارهم للعرف في تصور حقيقة النقدية مصدر هذه الاجتهادات وهو اعتبار لازم اجتهادات الفقهاء خلال العصور الستة الأولى للهجرة وتلقاه بعد ذلك المقلدة فالتزموا به في تفريعاتهم لاجتهادات أيمتهم، ولعل من أوضح ما يصور اعتبار العرف عندهم قول الباجي - رحمه الله - في (المنتقى: 2/95) ، في معرض الاستدلال لأن النصاب في زكاة الذهب عشرون دينارًا-: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1776 ودليلنا من جهة المعنى أن المائتي درهم نصاب الورق ولا خلاف في ذلك، والدينار كان صرفه في وقت فرض الزكاة عشرة دراهم فوزان المئتي درهم عشرون مثقالًا فكان ذلك نصاب الذهب. وأحسب قول الباجي هذا ملحوظًا فيه قول مالك - رحمه الله - فيما روى عنه ابن القاسم وسبق أن نقلناه عن ابن رشد في فصل "أحكام تتصل بالفلوس عند أيمة المذاهب وأشهر مجتهديها" وحاصلة ما يلي: ثم قال (نفس المرجع: ص395، 396) : قلت - يعنى لعبد الرحمن بن القاسم -: أرأيت إن اشتريت فلوسًا بدراهم فافترقنا قبل أن يقبض كل واحد منا؟ قال: لا يصلح هذا في قول مالك وهذا فاسد، قال لي مالك في الفلوس: لا خير فيها نظرة بالذهب ولا بالورق ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكراهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة. ولا يختلف هذا عما اعتبره أحمد من اصطلاح الناس وأثره في اعتبار النقد، مما سبق أن نقلناه في الفصل المذكور آنفًا عن ابن قدامة، وكذلك ما نقله السرخسي عن محمد بن الحسن وغيره من أصحاب أبي حنيفة من اعتبار العرف في التعيين عند العقد باعتبار ما عين في العقد نقدًا وإن كان تبرًا غير مسكوك. ونتيجة للاعتراف بالعرف أو الاصطلاح أساسًا لإضفاء الصبغة الشرعية على النقد المتداول جاءت فتاويهم في الأحوال المترتبة عن ابطال العملة المتعاقد بها أو إرتفاع سعرها أو انخفاضه إذا كان العقد ينطوي على التأجيل في المعاملات التي يجوز فيها التأجيل، فقال بعضهم بالمثلية عند الانقطاع إذا وجد المثل وبالقيمة عند انعدامه، وقال آخرون بالقيمة في الحالتين، لأن المثل المتعاقد عليه لم يعد له وجود في الحقيقة وإن كان عينه موجودًا كالسكة من الفلوس النحاسية إذا أبطل التعامل بها أو تغير سعرها ارتفاعًا أو إنخفاضًا، على أنهم اختلفوا في حالة تغير السعر فاعتبر بعضهم القيمة عند التعاقد واعتبر آخرون القيمة عند الأداء، واعتبر فريق ثالث الفرق بين حالة المماطلة وحالة عدمها فألزم عند المماطلة القيمة يوم الأداء، وألزم عند عدم المماطلة القيمة عند التعاقد وكأن هذا الفريق أخذ بمبدأ تغليظ العقوبة في بعض الأحوال واعتبر المماطلة من تلك الأحوال. وهذا التطور في تصور النقدية في العملة المسكوكة لا يختلف في جوهرة عن تصورنا في العصر الحاضر لها في العملة الورقية. ومع أن الذهب لم يعد المؤشر الوحيد المعتبر في تعيين قيمة العملة الورقية المتداولة، فإنه لا يزال من بين المؤشرات المعتبرة على أن اعتباره أو عدم اعتباره ليس بذي بال في الحكم الشرعي الذي يعتمد العرف وما شاكله كاعتماد أولي الأمر مثلًا في تحديد الأحكام المتصلة بالمعاملات. وتبرز أمامنا أحوال مختلفة يتعين بيان الحكم الشرعي في كل واحدة منها على أنها في جوهرها ليست بدعًا مما سبق أن عرفه الأولون من المجتهدين وفقهاء المذاهب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1777 الحالة الأولى نصاب الزكاة، فكيف يتم تحديده بالعملة الورقية، بل هل العملة الورقية مما تجب فيه الزكاة؟ لقد حاول البعض التشكيك في وجوبها فيها إذ اعتبروا أن الزكاة إنما وجبت في الذهب والفضة لذاتهما فحسب، وهو اعتبار يضطرب بين القصور في الفهم والاشتباه في الوعي الدينى، ذلك بأن الزكاة في الذهب والفضة فرضت فيهما على حالين: حالة العينية وهي ما جاء التعبير في الحديث الشريف عنها بالموازين (الأواق) والحالة النقدية وهو ما جاء فيه التعبير عنها بالعدد (الدراهم) و (الدنانير) ، فلو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد إبراز الملحظ النقدي لكان التعبير بـ "الأواق" كافيًا في الفضة على الأقل وعندئذ يمكن القول بأن " الدنانير" إنما أريد بها تعيين الوزن المقابل للأواق الفضية، لكن تحديده صلى الله عليه وسلم لكلمة الدراهم وكلمة التقويم الواردة في حديث عمرو بن شعيب في كتابه لعمرو بن حزم عند تحديد نصاب الذهب في الزكاة كلاهما دليل صريح على أن اعتبار النقدية له كيان متميز في تشريع الزكاة عن اعتبار العينية في الذهب والفضة. ينتج عن هذا تلقائيًا أن كل ما وجد فيه اعتبار النقدية تجب فيه الزكاة. أما أساس تحديد النصاب في أية عملة غير ذهبية أو فضية فهو قيمتها من الذهب والفضة مجتمعين، فإذا تساوت بالقياس إليهما فتلك هي القيمة، وإذا اختلفت عند المقارنة مع كل واحد منهما فالراجح عندنا اعتبار القيمة بالنسبة إلى الذهب على أساس تحكيم الفرق في التقويم والعرف قد أسقط الفضة من التقويم لكن اعتبارها على أساس المقارنة بالفضة له وجاهته من حيث الأساس الذي اعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أسقطنا أن الاعتبار النبوي لهذا الأساس قائم على ملاحظة العرف السائد يومئذ وملاحظته هو المرجح له عندنا على الدلالة اللفظية لنص الحديث. أما الحالة الثانية فهي العقوبات المالية مثل الديات والقصاص، وفي هذه نرجح أن تحديدها يتم على أساس قيمة العملة المتداولة من كل من الذهب والإبل عند وقوع ما استحقت من أجله، ذلك بأن الأساس الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم للعقوبات الجنائية والجنحية كالديات والقصاص هو تحديدها بالإبل لكن انحسار دور الإبل في الحياة الاقتصادية المعاصرة وارتفاع سعرها، ثم تحديد عمر لما يقابل قيمتها من الذهب جعلنا نرجح تقويم العملة المتداولة في كل عصر إذا لم تكن من الذهب أو الفضة على أساس اعتبار قيمة الذهب والإبل معًا أى على أساس مزدوج وملحظنا في هذا هو أن العقوبة تقتضي الزجر وأن حقوق المستحق للتعويض يتعذر استيفاؤها استيفاء يطمأن إليه بدون تقويم العملة على الأساسين معًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1778 أما في حالة الجنايات غير البدنية كالسرقة والغضب فلا لبس ولا غموض، إذ الواجب رد المثل إن وجد والقيمة عند السرقة أو الغصب إن لم يوجد المثل كأن تكون العملة قد وقع تغييرها، أما في حالة انخفاضها أو ارتفاعها فلا تأثير للانخفاض والارتفاع، بل الواجب رد المثل. وأما الحالة الثالثة وهي حالات المعاملات التعاقدية، فالراجح فيها عندنا ما ذهب إليه من فرق بين المماطلة وعدم المماطلة، ففي حالة الأداء عند الأجل المحدد يكون بالعملة المتعاقد عليها سواء ارتفعت أو انخفضت، فإن انقطعت فبقيمتها يوم التعاقد من العملة التي حلت محلها، أما في حالة المماطلة فبالعملة المتعاقد عليها إن وجدت عند الأداء سواء ارتفعت أو انخفضت قيمتها أما إن انقطعت فبقيمتها عند الأداء وليس عند التعاقد. ذلك بأن الثابت في الذمة بالتعاقد هو العملة المعينة في العقد وأداؤها هو الواجب، لكن عند التفريط إلى أن انقطعت فتعيين العوض يعتبر العوض يوم الأداء لأن التفريط حمل المفرط ما ترتب عن التفريط من تبعات. ولا فرق في هذا بين أن يكون المتعاقدان من بلد أو منطقة يقع التعامل فيها بنقد معين واحد أو من بلدين أو منطقتين التعامل في كل واحدة منهما بنقد يختلف عن الذي يتعامل به في الأخرى ويتجلى ذلك في أحوال الاستيراد أو التصدير بين دولة وأخرى لكل واحدة منهما نقدها الخاص، وفي هذه الصورة لا يخلو إما أن يكون التعاقد منصوصًا فيه على نقد أحد البلدين دون معادلته بإحدى العملات المتداولة دوليًا في تحديد السعر وإن وقعت المعادلة لمجرد تيسير إجراءات الدفع وفي هذه الصورة يكون الأداء بقيمة نقد البلد المؤدى إليه ارتفع سعره أم انخفض بالمقارنة بالعملة المتفق على الأداء بها لأن تعيين عملة التعاقد هو المترتب في الذمة أما تعيين عملة الأداء فلمجرد تيسير الإجراءات. وإما أن يكون التعاقد مبنيًا على أساس اعتبار العملتين معًا العملة المتداولة في البلد المستحق وعملة الأداء بحيث يعتبر "التعيين" في العقد شاملًا لهما معًا وينص على ذلك، ففي هذه الحال يكون الاعتبار لأعلاهما قيمة إذا تغيرت قيمتهما أو قيمة إحداهما قبل الأداء لأن التعاقد عندئذ يكون على أساس ما يسمى اليوم "سلة العملات" ويكون تعيين النقدين متعلقًا بالقيمة المتمثلة بهما وليس متعلقًا بقيمة إحداهما والقيمة المتمثلة بهما لا تتحقق عند تغير قيمة إحداهما إلا بأعلى القيمتين. وهذه الحالة تشمل صورًا مختلفة كالبيوع على اختلاف أنواعه والقرض والقراض والسلم وما إلى ذلك من المعاملات المباحة شرعًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1779 أما الحالة الرابعة فهي أنواع "التحويلات" إذا تغيرت قيمة العملة المحولة ما بين يوم التحويل ويوم الاستلام على اعتبار أن أنواع التحويل جائزة شرعًا لأن ما كان يخشى من استفادة أحد الطرفين في السفتجة أو في الحوالة بتجنب أخطار الطريق وما شاكل ذلك لم يعد له وجود ولا اعتبار في وسائل التحويل الحديثة. وفي هذه الحالة إن كان المبلغ المعين في التحويل محددًا بعملة معينة، كأن يكون التحويل بين بلدان دولة واحدة، فإن الأداء يكون بنفس العملة ارتفعت أو انخفضت ولا سبيل إلى الاشتباه بذلك، وإن كان التحويل بين دولتين مختلفتين بعملة دولية غير منصوص عليها في العقد، فإنه يتم طبقًا للعملة المنصوص عليها في العقد سواء ثبتت العملة المحول بها على حالها أم تغيرت ارتفاعًا أو انخفاضًا وإن كانت العملة المنصوص عليها في العقد مزدوجة إذا اعتبرت فيه العملتان معًا العملة المحلية والعملة الدولية وكان ذكرهما ليس لتعيين إحداهما ولكن لتعيين القيمة المتمثلة بهما، فإن على المدين الأداء بأعلى القيمتين بأن يحول الفارق إن انخفضت قيمة النقد المحول به. على أننا نرى للخروج من هذه الشبهات أن يتفق المتعاقدان إن كانا مسلمين معًا على اعتماد قيمة العملة المعينة في العقد إذا كانا من دولتين مختلفتين بما يماثلها من الذهب يوم التعاقد، ذلك بأننا نرى أن اعتبار الذهب والفضة أساسًا للنقد أمرًا أرشد إليه العمل النبوى كأسلم الأسس لاجتناب الحيف بين المتعاملين. أما إذا كان أحد المتعاقدين غير مسلم ولم يقبل بالالتزام بالأساس الذهبي، فلا مناص من أن يتم التعاقد على أساس التراضي بين المتعاقدين. مهما يكن من شيء فإن ما حاول البعض أن يتعلل به متذرعا بالحاجة إلى عدم غبن المقرض إذا انخفضت قيمة العملة التي أقرض بها من وجوب تحديد فائدة على القرض تجنبه هذا الغبن لا اعتبار له شرعا لأنه ربا بنص وليس بالاجتهاد كما أوضحنا في النص السابق ولا اعتبار عقلا لأن الغبن محتمل حتى مع إباحة هذا النوع من الربا، فقد يحدث انهيار اقتصادي ومالي يؤدى إلى انخفاض حاد في سعر النقد المعين في عقد الإقراض، بحيث يصبح المبلغ المقترض يوم أدائه مع الفوائد الربوية عليه أقل قيمة في الحقيقة منه يوم القرض بغير فوائد ربوية، فالغبن الذي يزعمون تجنبه بإباحة هذه الفوائد لا يؤمن اجتنابه بإباحتها ويقاس على دحضنا لهذه الشبهة ما يشاكلها من الشبهات الأخرى من تأثر أصحاب العقارات المؤجرة بانخفاض قيمة المبلغ المعين في الإيجار وما شاكل ذلك، وفي هذه الصورة بالذات نسائل من يتخذون منها شبهة فيما إذا ارتفعت قيمة العملة في الإيجار هل ينخفض مبلغ الإيجار تلقائيًّا لإنصاف المستأجر أم يتشبثون عندئذ بمبدأ "التعيين" المترتب في الذمة عند التعاقد. على أن المخرج في رأينا من هذه المشاكل والشبهات التي يثيرها اضطراب العملات في هذا العصر اضطرابًا يكاد يفقد دلالتها القيمية هو في أن تجتمع الدول الإسلامية على عملة بينها تكون المؤشر المعتمد لعملاتها المحلية وتتخذ الذهب أساسًا لها ومعيارًا، وتبرم جميع التعاقدات بين كل واحدة منهما والأخرى أفرادًا ومؤسسات ودولًا على أساس هذه العملة المقترح إنشاؤها كما تكون المعيار الذي تحدد على أساسه أنصبة الزكاة وقيم العقوبات الجنائية، وما إلى ذلك مما يتصل بالنقد في مختلف المجالات الشرعية، ولعل ذلك لو حدث يكون أساسًا للتوحيد المالي ثم الاقتصادي ثم السياسي بينها، وهو المصير الذي لا مناص من أن تصير إليه لكن ربما تأخر تحقيقه لعدة أجيال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1780 وإذا تعذر الأخذ بالذهب أساسًا لتقويم العملة الدولية الإسلامية لسبب قد يكون الرغبة في الاتساق مع ما يجري عليه العرف الدولي العام، فلا أقل من أن تنشئ الدولة الإسلامية فيما بينها نمطًا من " حقوق السحب الخاصة "، كما فعل صندوق النقد الدولي، وكما فعلت دول السوق الأوروبية المشتركة ويمكن لهذا الوحدة أن تعتمد مرجعًا لتحديد قيمتها ما يسمى "سلة العملات "، مكونة إما من مجموع عملاتها المحلية وإما من مجموع العملات الدولية المتعامل بها، باعتبارها عملات عالمية، لأن اعتماد هذا النوع من المرجع لتحديد القيمة يجنب الوحدة المقترح إنشاؤها اغلب عوامل الاهتزاز والاضطراب التي تتعرض لها العملات في الأسواق المالية نتيجة لتقلبات الأوضاع الاقتصادية المحلية والعالمية. بقي أمر آخر لا سبيل إلى إغفاله وهو التعامل بين الدول الإسلامية والدول الأخرى، وقد يشتبه البعض في المعقبات التي تنتج فيه بسبب اضطراب قيم العملات وما يتسبب فيه من خسارة للدول الإسلامية أحيانًا إذا اضطرت إلى دفع ديونها أو المستحقات في ذمتها بعملة ارتفعت قيمتها ارتفاعًا فاحشًا عند الأداء عما كانت عليه عند التعاقد، وقد يتعلل البعض بهذا الاحتمال وبعكسه أيضًا بالدعوة إلى الأخذ بفتوى بعض المذاهب الإسلامية بإباحة الربا من غير المسلمين من أهل الحرب، وهي دعوة نتحرج من الأخذ بها، لأن تحديد أمر دار الحرب قد لا يكون ميسورًا في هذا العصر بالصورة التي يريدونها، فمن هو المحارب للمسلمين الذي ينطبق عليه اعتبار الحر؟ لقد شرع الإسلام احترام المواثقة إلى درجة أنه لم يوجب مناصرة الأقليات الإسلامية المقيمة في غير دار المسلمين ممن بيننا وبينهم ميثاق، قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الآية 72 من سورة الأنفال] ، وواضح أن المواثقة لا تعني الاستسلام الذي يترتب عنه الدخول في الذمة والخضوع لأحكام خاصة لكن المواثقة تعني التعامل على أساس المماثلة (لا غالب ولا مغلوب) ، بل قد تعني حتى نوعًا من "المداراة" يضطر إليه المسلمون في حالة ضعفهم، كما شأننا الآن مع أغلب الدول غير الإسلامية ولو أننا أغفلنا "مبدأ" المواثقة لكان علينا أن نتحمل كثيرًا من التبعات من اعتبار جميع الدول غير الإسلامية وغير الداخلة في ذمة المسلمين دولا محاربة، وهذا لا يقول به عاقل على أن القول بإباحة الربا مع المحارب خارج دار الإسلام أعرض عنه جمهور الفقهاء المجتهدين وذلك هو الحق، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع ربا الجاهلية في حجة الوداع، وما من أحد يزعم بأن جميع العرب كانوا في وضعه له على أنه وضع ما بين العرب، وإنما وضع ربا الجاهلية عامة، ولم تكن معاملة العرب منحصرة فيما بينهم فقد كانت لهم معاملات مع الشام وهي يومئذ خاضعة للبيزنطيين، ومع فارس ولم تكن قد أسلمت ومع أثيوبيا (الحبشة) ، ولم يكن أهلها جميعًا مسلمين، ولا ثبت أن الأحكام الإسلامية كانت تطبق فيها وإن كان النجاشي قد أسلم على أنه - رحمه الله - توفي قبل حجة الوداع، فالقول بإباحة الربا مع أهل الحرب خارج دار الإسلام قول لا ينبغى اعتماده إلا في حالات اضطرارية شاذة مثل أن تضطر دولة إسلامية إلى التعامل التجاري مع دولة غير إسلامية أنظمتها في التعامل لا مناص في أن تمر من خلال قنوات ربوية كما هو الوضع السائد الآن، وفي هذه الحال يتعين على الدولة الإسلامية أن تتحرى ما أمكنها التحري أن يكون ما تأخذ لا يربو عما تعطي، وبذلك تتجنب أخذ الربا بموازنتها بين الأخذ والعطاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1781 على أن من الصعب التمييز بين الدول الإسلامية وغير الإسلامية في الأوضاع الراهنة، إذا التزمنا بالضوابط الإسلامية لدار الإسلام عن دار الحرب، فليس دار الإسلام هي تلك التي يحكمها حاكم ينتسب إلى الإسلام، وإنما هي التي تحكم بالشريعة الإسلامية وتطبق فيها أحكامها - أو على الأقل - لا يجوز فيها بمناهضة أحكامها، وإن لم يلتزم بتطبيقها عمليًا، وقليل اليوم هذا النمط بين الدول المحسوبة على الإسلام، فالإسلام ليس هوية نسبية، بل هوية سلوك. وهذه الأحكام التي قررناها في هذا الفصل لم نأت فيها ببدع من اجتهاد أو فتوى، وإنما سلكنا فيها مسلك من قبلنا من الفقهاء والمجتهدين، غاية عملنا أننا أبرزناها على أساس من التصور الواقعي العميق لحقيقة "النقدية" ولما يميزها وظيفيا عنها ماديًا أى ما يميز "النقدية عن الشيء أو العين المعين لأدائها، فسواء كان هذا الشيء أو العين ذا قيمة في ذاته، كالذهب والفضة أم ليست له قيمة كقصاصة الورق، فإن اعتماده عرفًا أو قانونًا لاداء الوظيفة النقدية (ثمنًا للأشياء وقيمة للمتلفات) ، يجعله الأداة التي تترتب عليها وتتعلق بها جميع الأحكام الشرعية المتصلة بالشئون المالية، سواء كان منها من المعاملات الصرفة وما كان مزاجًا من حقوق العبد وحقوق الله لما فيه من معنى التعبد، كالزكاة والكفارات وبعض العقوبات. ولذلك دأبنا منذ بداية مراحل هذا البحث وفيها جميعًا نعبر بكلمة "تصور" عما نعرضه من مقولات الفقهاء المتصلة بالنقد اجتهادية كانت أم فتاوى، ونحسب أننا قد أوضحنا إيضاحًا كافيًا تأثير "التصور" في مقولاتهم تلك من حيث تباينه في مداركهم واعتباراتهم تباينًا لولاه لما وجدنا فيها هذا الاضطراب العجيب الذي قد يبدو لمن يعايش السلف وظروفهم المعاشية والحضارية موغلًا في الغرابة، ونعتقد أن هذا هو الذي حمل متفقهة المعاصرين من صادقين ومشبوهين ومؤهلين ومتقحمين على الظن، بل الجهر بأن "تغيير العملة"، وما يترتب عنه لم يكن معروفًا في القديم ولم ترد فيه اجتهادات أو آراء يمكن اعتمادها أو اعتبارها، ذلك بأنهم حسبوا أن كلام السلف عن "الزيوف" و"الفلوس" - وفيه ما فيه من الاضطراب حتى في كلام الواحد منهم أحيانًا - شيء يختلف عما يمكن أن يقال اليوم أو يحكم به في تغيير العملة وما يترتب عنه، وهو وهم منشؤه أنهم حسبوا أن زوال الذهب - مرجعًا للعملات في هذا العصر - أَحْدَثَ حَالَةً ليس لها شبيه في عصور السلف ولو أنهم تدبروا لادركوا أن تحديد مرجع لتقويم العملة لم يكن دقيقًا في العصر النبوي، فقد كان قائمًا يومئذ على اعتبار نمط من الازدواجية وكان مضطربًا بين اعتبار الفضة مرجعًا، واعتبار الذهب إلى جانبها وبين اعتبار الوزن معيارًا، واعتبار العدد إلى جانبه، ومع ذلك فقد ورد عن عمر - رضي الله عنه - أنه فكر في أن يتخذ عملة من جلود الإبل، ولعل هذه الفكرة هي التي ألهمت مالكًا - رحمه الله - مقولته - التي نقلناها في الفصل السابق حول اعتماد العملة ولو كانت من جلود الإبل، بل لعل كليهما كانا قد بلغه أن الصينين فكروا في اتخاذها من هذه الجلود قبل أن يتخذوها من الورق. ويتجلى من هذا أن اتخاذ مرجع لتقويم العملة عمل اجتهادي أيضًا، وليس تابعًا لنص وإن كان اتخاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضة ثم الذهب معًا مرجعًا للتقويم ينبغي اعتباره إرشادًا منه عليه الصلاة والسلام لما يحسن بالأمة الإسلامية أن تفعله كما ألمحنا آنفًا، بل إن ما نلحظه من الإزدواجية في اعتبار مرجع قيمة النقد في العهد النبوي قد يكون إرشادًا للأمة الإسلامية إلى اعتماد مبدأ سلة العملات. ولكن متفقهة العصر يتناولون النصوص التشريعية الإسلامية والمقولات الاجتهادية بعقول القانونيين وليس بمدارك الفقهاء وشتان بين من يقف عند ظواهر ألفاظ النصوص ومن يستشرف مواقع العلل ومكامن المناطات. اللهم ألهم الجمع رشدهم وأمدنا بالتوفيق. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الآية 108 من سورة يوسف] الشيخ محمد الحاج الناصر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1782 تغير قيمة العملة إعداد الشيخ محمد علي عبد الله وكيل الجمهورية بمحكمة تاوا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم، سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد، فمن المعروف لدى علماء الاقتصاد أن مسألة تغير قيمة العملة كانت ولا زالت من الأبحاث الحساسة التي تشمل حياة الإنسان اليومية، وعلاقاته الفردية أو الاجتماعية، ومع تطور هيكل الأسرة، ازدادت رغبة الفرد في اقتناء ما يعوزه من بضائع وماشية، المنعدمة الوجود لديه، فلجأ إلى فكرة تبادل بضاعة ببضاعة أخرى كالجلد إلى آخره، وقد مر التعامل بل التبادل بين الأفراد لفترات عديدة قبل أن يرتكز التبادل على المعادن الثمينة كالذهب والفضة كقوة شرائية لما لهاته المعادن من خصائص كعدم التغير عند الاستعمال. وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت النقود الرائجة هي الذهب والفضة، حيث لم ينافسهما أي معدن آخر، وبالتالي كانت الدنانير الذهبية والدراهم الفضية معيارًا اتخذه خاتم النبيين والمرسلين لتنظيم تعامل المسلمين في حياتهم الاقتصادية فقد أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يتم التبادل والصرف بدون ربا، وأن يكون التعامل بغير زيادة أو نقصان في الاشتغال بالذهب أو دينارًا بدينار أو فضة بفضة أو تبادل درهم، وذلك مما ورد عن الإمام مسلم، عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) (1) . والجدير بالملاحظة في مثل هذا التبادل المسموح به أن شرط التماثل بغير زيادة يسقط إذا تم بيع الذهب أو الدينار بالفضة أو الدرهم أو العكس، وهذا يعني أنه يحرم التفاضل في الجنس الواحد من النقدين بجنسه سواء كانت الزيادة من جنسه أو من الجنس الآخر أو من غير ذلك، كأن يقع بيع ذهب بذهب أكثر منه، أو بذهب مثله ويزيد بينهما فضة، أو بذهب مثله ويزيد بينهما عرضًا وطعامًا، ويعتبر هذا حراما.   (1) راجع صحيح مسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1783 ومن الشروط المفروضة في الصرف الإسلامي أن يتم قبض الثمن في المجلس قبل الافتراق فلا يباع غائب بحاضر ولا يتأخر القبض كما جاء في الحديث الشريف عن عبادة، عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((سواء بسواء يدًا بيد ... )) ، أي يجب أن يتم البيع والشراء في مكان واحد، ويتم الأخذ والعطاء في نفس المكان إلا أننا نشاهد في بعض الأحيان أن البيع قد يتم بين المتعاقدين ويتحصل المشتري على البضائع، إلا أنه قد يتفق الطرفان على أن يقع تسليم الثمن في الأسبوع الثاني أو بعد شهر، وهو ما يسمى بالبيع المؤجل من حيث تسديد ثمن البيع، والمشكل الذي قد يتطرق إلى الأذهان هو كيف يكون التسديد لذلك الثمن المتفق عليه بين المتبايعين في صورة انخفاض أو ارتفاع قيمة الدنانير الذهبية، ويا ترى كيف يكون موقف البائع يوم قبض الثمن في صورة تغير سعر الصرف يوم الأداء. فهل يطالب المشتري بدفع قيمة البضاعة يوم ثبوت الدين أو يوم الأداء؟ فقد عرضت هاته المشكلة على الرسول عليه الصلاة والسلام فأرشدنا كعادته لما هو صلاح الأمة، فعن ابن عمر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع الدراهم وآخذ الدنانير، فقال لا بأس أن تأخذ: سعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعتبر في هذه الحالة بأن الديون تؤدى بمثلها ولو بقيمتها، أي عملا بسعر الصرف يوم الأداء لا يوم الثبوت لذلك الدين. إذا فالعبرة بالسوق وبتغير القدرة الشرائية للمواطن، فتطبيقًا لسنة سيد المرسلين إذا باع زيد لصالح بمبلغ خمسين دينار، واتفق الطرفان على أن يقع تسديد هذا المبلغ مثلًا " وفقًا للطاقة الشرائية للطرف المشتري " بعد شهر مثلًا، علمًا بأن المبلغ المتفق عليه يوم البيع كانت قيمته عشرة أو أحد عشرة غرامات من الذهب إلا أنه في يوم الدفع أصبح المبلغ المذكور لا يمكنه من الاقتتاء سواء سبعة أو ثمانية غرامات ذهب، وذلك جراء انخفاض قيمة تلك الدنانير يوم السوق، إلا أنه عملًا بالسنة الشريفة يجب اعتبار أن أصل الدين يؤدى بمثله لا بقيمته، أي أداء سعر الصرف يوم الأداء لا يوم ثبوت الدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1784 هذا ما كان جاريًا في عهد الرسول وفيما بعده في عهد الصحابة رضي الله عنهم، إلا أننا نلاحظ مع مرور الزمن أن الأوراق النقدية قد حلت محل الدنانير الذهبية والدراهم الفضية، وببروز الفلوس شاع الغش والتزييف مما أدى ببعض الفقهاء إلى اعتبار القيمة في مثل هاته الحالة، أي أداء القروض حسب قيمتها. إلا أننا نلاحظ خلال القرون التالية وإلى عصرنا الحاضر خاصة عندما بدأت الدول الصناعية تسعى جاهدة لفرض كيانها الاقتصادي والعسكري على الدول النامية بانتشالها للثروات الاقتصادية للدول النامية، مما أدى إلى تضييق مواردها الإنمائية وإلى كساد اقتصادها الداخلي، وذلك بأن سعت الدول الكبرى إلى تقسيم العالم إلى مناطق مالية كل منطقة تابعة من حيث قوة شرائها إلى إحدى الدول الكبرى كمنطقة الفرنك التابع للفرنك الفرنسي، أو منطقة الدولار لتبعيتها لأمريكا.. إلى آخره. زيادة على ذلك، قامت هاته الدول الكبرى بتتبع سياسة ما يسمى بفرق تسد بإشعال الفتن في هاته الدول التابعة حتى تصدها عن استغلال الثروات الباطنية حتى أصبحت اليوم تعتبر كأسواق للشراء فقط للبيع تقتني موارد الدول الكبرى بأسعار تفوق طاقتهم الشرائية بدون أن تتمكن من ناحيتها من رواج منشآتها الاقتصادية، مما أدى بها إلى الوقوع في التضخم المالي المعروف بزيادة مقدار النقود السائلة وانخفاض القيمة الشرائية للأفراد بسبب تأثير هذه الزيادة على ارتفاع الأسعار، ولمقاومة التضخم عمدت بعض الدول النامية بإصدار قائمة الأسعار للرفع من قيمة الأجور قياسًا بارتفاع تلك الأسعار. وقد تطرق بعض الاقتصاديين إلى فكرة ربط القرض بقائمة الأسعار، وهذا لا يخلو حسب رأيي من مخاطر، كما نلاحظ قبل اختتام كلمتنا عن تغير قيمة العملة أن هنالك من الاختصاصيين في علم الاقتصاد من يطالب برد القرض بقيمته اعتبارًا لانخفاض الأسعار، وهذا أيضًا لا يخلو من مجازفة وعلينا بالتمسك بالسنة الحنيفة وتجنب الأخذ بما يرد إلينا من الدول الربوية، الذي زين لهم الشيطان أعمالهم، ولنخشَ ذلك اليوم الموعود الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون، وعلى الله التوفيق. الشيخ محمد علي عبد الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1785 تغير قيمة العملة والأحكام المتعلقة فيها في فقه الشريعة الإسلامية إعداد الشيخ محمد عبده عمر عضو مجمع الفقه الإسلامي نائب المدير العام للشئون الدينية بسم الله الرحمن الرحيم فبل الدخول في لب الموضوع، يجدر بنا أن نشير على بعض أبعاد الموضوع المطروح للبحث والدارسة، وبالتالي بناء الأحكام الشرعية عليه من قبل مجمعنا الموقر، لربما كانت تلك الأبعاد أو بعضها يلتبس أمرها، خاصة وأن المتتبع لمسائل الخلاف النظري في المذاهب الفقهية يجد الكثير من المسائل الفقهية، بل ومن أحكام القضايا والنوازل المستجدة يظهر الخلاف فيها بعد استنباط الحكم الشرعي لها بين الفقهاء. ويكون مرجع خلافهم في الغالب الأعم ليس لخفيِّ مسالك الاجتهاد وطرقه وضوابطه الموصلة على استنباط الحكم الشرعي عند المجتهد، ولا إلى النص الشرعي، سواء أكان قطعي أم ظني الثبوت والدلالة ولا إلى قواعد القياس الأصولي أو الفقهي ... إلخ. بل إن مرجع ذلك الخلاف غالبًا ما يكون نتيجة لعدم رؤية أبعاد النازلة أو الحادثة الفرضية أو المستجدة، وعدم استيعاب علاقة تلك النازلة أو القضية بالنصوص الشرعية على اختلاف مراتبها فضلًا عن علل النصوص التي ربط الشارع بها الأحكام الشرعية وجودًا أو عدمًا. إن عدم وضوح التصور الصحيح لهذه القضية أو تلك في ذهن المجتهد يعكس نفسه في ذهن المجتهد على حكم تلك النازلة أو القضية الذي سوغ الاجتهاد من أجلها فضلًا عن المؤثرات الذهنية والنفسية الأخرى، والتي لا تعود إلى ذاتية النصوص الشرعية ولا إلى الأصول التابعة لها ولا إلى مسالك الاجتهاد وطرقه المتفق عليها بين جمهرة علماء الإسلام لمن اضطر الخلافات على روح الشريعة الإسلامية، إذ ليس لتلك الخلافات من مرجع سوى المؤثرات الذهنية المسبقة وقصور الرؤية العقلية الاجتهادية عن استيعاب أسباب النازلة ومسبباتها ونتائج أبعادها بالحكم الشرعي الاجتهادي صحة وفسادًا. ومن هنا وضع بعض فقهائنا قاعدتهم المشهورة " الحكم على الشيء فرع عن تصوره " ومعلوم بأن معنى التصور الذي تعنيه القاعدة الفقهية الآنفة الذكر ليس مجرد التصور الذهني لهذه القضية أو تلك، بل إنها تعني التصور العلمي الذي يضبط الذهن والفكر عن أي خطأ في النظر الموضوعية للقضية أو النازلة المطروحة أمام حكم الله وشريعته الخالدة التي لها في كل فعل من أفعال العباد حكم من حل وحرمة وصحة وفساد وإباحة وكراهية إلخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1786 فما من فعل من أفعال المكلفين إلا وشريعة الإسلام الخالدة توصف ذلك الفعل وتحكمه من وجوب وحرمة وندب وكراهة وإباحة. فالتصور المقصود هنا بطبيعة الملكة الفقيهة لعلمائنا رضي الله عنهم ليس مجرد التصور العقلي والنفسي ولكنه التصور الذي يعصم الذهن عن الخطأ في التفكير عند استنباط الأحكام الشرعية من أصولها. لأن التصور في اللغة: تفعل من الصورة فكأن صورة القضية أو النازلة قد انطبعت في ذهن المجتهد لكي يدرك المجتهد المتصور لها معناها الحقيقي، لأن معنى الإدراك: وصول نفس المجتهد وعقليته إلى معنى القضية المطروحة بتمامها. ومن هنا كان اجتهاد الفقيهة في القضايا والنوازل المستجدة لا يكفي فيها معرفة الحكم الشرعي من دليله، بل لا بد من تشخيص صورة تلك القضية أو النازلة في ذهن المجتهد وسبر أغوارها والإحاطة بشمولية البواعث والأسباب التي أدت إلى ظهورها، وبالتالي موازنة نتائج الحكم الشرعي بعين مقاصد الشريعة صحة وفسادًا وترجيح درء المفاسد على جلب المصالح عند التعارض، ومن هنا أيضًا ما أحوجنا على ضوء هذه القاعدة الفقهية الشهيرة إلى النظرة الموضوعية المجردة لكافة القضايا والنوازل المستجدة أمام مجمعنا الموقر، وإلى التأصيل العلمي الدقيق لتلك المسائل المستجدة والبعد عن التفريعات الجزئية على غرار الاجتهاد الفردي المذهبي وتلفيق الأحكام إيمانًا منا جميعًا بأن رسالة المجمع ليست فقط في مجال النظر في القضايا المطروحة والبحث عن حلول شرعية لها فحسب، بل إن رسالته في هذا المجال هو العمل على إخراج ثروة فقهية للأمة الإسلامية مؤصلة تبرز من خلالها صلاحية الإسلام وعظمة الشريعة الإسلامية ومعينها الخالد الذي لا ينصب إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وإن من أخطر المشكلات التي تحتاج إلى النظرة الشمولية والاستيعاب الأمثل والنظرة الموضوعية وعدم تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه الموضوعية، والتي كانت محل عناية جهابذة علماء الإسلام في كافة ظروف الأمة الإسلامية وتحقيق مصالحها من ينابيع دينها الإسلامي الحنيف من أخطر هذه المشكلات التي تعتمل اليوم في حياة أمتنا الإسلامية منطقة الفراغ في التشريع الاقتصادي وتبريد الواقع المؤلم التي تعيشه الأمة الإسلامية، واتخاذ بعض من يدعون حرصهم على الشريعة موقفًا معينًا بصورة مسبقة تجاه النصوص الشرعية أو الأصول التشريعية الأخرى التابعة لها منطلقين من خداع الواقع التطبيقي متجاهلين نظرة الإسلام الاقتصادية في الإطار العام للاقتصاد الإسلامي وحكمة التشريع الإسلامي ونظرته إلى العدالة الاجتماعية بصورة شمولية لا تقبل التجزئة ولا التزوير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1787 وما القضية المطروحة أمام مجمعنا اليوم إلا جزءًا لا يتجزأ عن فراغ التشريع الإسلامي في الحياة الاقتصادية للأمة الإسلامية. وبالتالي عدم استغلاليتها في صنع القرار أو التشريع الاقتصادي العادل والنابع من عقيدتها وإسلامها. ومن هنا نعتقد بأن النظرة الموضوعية والشمولية للقضية المطروحة، وبالتالي الوصول إلى الحكم الشرعي المجمعي لا يمكن أن يكون بمعزل عن الأسباب والمسببات والبواعث الظاهرة والمبطنة التي أدت إلى بروز هذه المشكلة بصورتها الحادة في عالمنا الإسلامي بدون استثناء. إن بحث تغير قيمة العملة والأحكام المتعلقة بها في الشريعة الإسلامية مسألة عالمية في عالمنا المعاصر، ومناط الحكم الشرعي فيها يقترض من وجه نظرنا كما تقدمت الإشارة إليه وضعها في صورتها المتكاملة والواضحة، والإلمام الدقيق بكل أبعادها وأسبابها ومسبباتها كقضية إسلامية عالمية عميقة الجذور ومتشعبة الجوانب لا يقتصر تأثيرها على شعب أو مجتمع بمعزل عما يدور في عالم البشرية اليوم نظرًا لترابط المجتمعات والشعوب التي لم يسد فيها ميزان العدالة الدولية حيث عمل الاستعمار ولا زال يعمل على نهب خيرات الشعوب، وعلى زرع الفتن بينها حتى لا تتفرغ لاستثمار ما أودعه الله في خزائن الأرض وأعماق البحار، كما عمل من جانب آخر على رفع ثمن السلع الاستهلاكية، وطلب قيمتها بالعملات الصعبة، والتي من خلالها يتم تحكمها على القيمة المالية للاقتصاد العالمي من خلال بنوكها ومصارفها العالمية، والذي يديرها اليوم كثير من يهود العالم والصهيونية العالمية بعد أن تمكنوا منذ قرون من جمع العملة النقدية، أي الذهب والفضة. وبالتالي فرضها على كافة شعوب العالم بما فيها شعوب أمتنا الإسلامية، وجعلها مقياسًا للقوة الشعوب الاقتصادية، والتي لا تملك منها الشعوب الفقيرة والنامية إلا نسبة ضئيلة لا تفي بجعل عملتها الورقية ولا حتى بقوة اقتصادها بأن تقف على قدم المساواة فضلًا عن ميزان العدالة في تقويم السلع المصدرة والمستوردة في القيمة المالية الحقيقة لما تصدره هذه الشعوب، حتى لا تملك الرصيد الذهبي الكافي لما تستورده، إضافة إلى هذا وذاك العمل على امتصاص العملة الصعبة إذا ما قدر لها الدخول بكميات ضئيلة إلى هذه الشعوب الفقيرة، منها على سبيل المثال بخس أثمان منتوجاتها، والتحايل عليها من عدم الحصول على العملة الذهبية بخلق الفتن ببن شعوبها، ومحاولة زعزعة الأمن في شئونها الداخلية، وبالتالي تصدير الأسلحة إلى هذه الشعوب التي قد لا تكون بحاجتها، وبالتالي أيضًا المقايضة غير المتكافئة. إن هذه العوامل والأسباب المؤثرة تأثيرًا مباشرًا على قيمة العملة في شعوبنا الإسلامية محليًا وعالميًا يجب أن تدرس بعناية وأن يؤخذ كل سبب يمت إلى تغير قيمة العملة بعين الاعتبار عند النظر في تأصيل الحكم الاجتهادي ذات الصبغة الإسلامية العالمية، وليس حكمًا اجتهاديًا بمعزل عما يعتمل في عالم الأمة الإسلامية ومن حولها وهذا ما قصدت الإشارة إليه في هذه المقدمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1788 لقد أصبحت المشكلة الاقتصادية في عصرنا الراهن من الخطورة أنها تمس حياة الأفراد والجماعات والدول، وعلى وجه العموم ما ينتج عن ذلك من التضخم وتدهور القيمة الشرائية حيث تضعف القوة الشرائية النقدية، وبنفس الوقت ترتفع قيمة السلع الاستهلاكية والمنافع والخدمات التي تبذل عوضًا عنها حيث تقيم تلك العملة النقدية التي رخصت قيمتها في المجمع والتي لا تقف عند حدود المجتمع الذي أصدرها كعملة رسمية له. بل إن سياسة الاقتصاد العالمي تفرض نفسها على هذه الدولة أو تلك خفض قيمة عملتها النقدية بما يتناسب مع وضعها الاقتصادي، وبالتالي مع رصيدها الذهبي لتلك العملة هبوطًا أو صعودًا والتي تتحكم به صهيونية رأس المال العالمي. ولقد حاولت تلك الدول الفقيرة اتباع سياسة اقتصادية معينة للحفاظ على قيمة عملتها النقدية فاتخذت إجراءات معينة منها منع خروج عملتها خارج حدود سيادتها الوطنية إلا بصورة شرعية وضمن قوانين اقتصادية محددة وشرعت قوانين اقتصادية خاصة بالعملة الأجنبية التي تدخل أراضيها سواء كانت تلك العملة ذهبًا أو فضة أو عملة ورقية أو معدنية أو من أي شكل من أشكال العملة الأجنبية، فمنعت تلك القوانين التعامل بتلك العملة الأجنبية داخل حدود سيادتها واعتبرت تلك القوانين جزءًا لا يتجزأ من النظام العام ومن السياسة الاقتصادية الحكيمة التي لا يجوز مخالفتها أو الإخلال بها لما ذلك من تأثير سلبي أو إيجابي على الوضع الاقتصادية لهذا النظام أو ذاك هذا ما يعتمل في عالم السياسة الاقتصادية الدولية في عالم اليوم. وخشية الإطالة في هذا المجال واختصارا للموضوع فإنني أحيل كل من يتفضل بالاطلاع على هذا البحث إلى الاطلاع على مقدمة بحثي المقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي الموقر في دوره الثالثة المنعقدة في 11 أكتوبر 1986 بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية، والتي أطلت فيها نفس القلم وعلى وجه الخصوص المخاطر التي تهدد الاقتصاد العالمي وخاصة دول العالم الثالث التي لم تتخلص بعد برغم نضال بعضها الجسور من سيطرة النفوذ الاقتصادي، بل واستغلالها لاقتصاد وخيرات أغلب دول العالم الثالث تحت أقنعة وأساليب متنوعة وعديدة، وبعضها بالأسلوب الابتزازي المكشوف وخاصة من قبل الدول الرأسمالية وفي مقدمتها الصهيونية العالمية التي تمتلك أغلب احتياط الذهب في عالمنا المعاصر، وعالجت فيها بعض ما يعتمل اليوم من وضع اقتصادي مترد للدول النامية من وجهة نظر الشريعة الإسلامية لنظام اقتصادي يساعد المجتمع الدولي بوجه عام، والعالم الإسلامي بوجه خاص على اجتثاث النظام الاقتصادي الاستغلالي في عالم اليوم ويضع الأسس العادلة لنظام اقتصادي عالمي خالٍ من الاستغلال والابتزاز الذي قد يؤدي في الأخير إلى الإضرار بالسيادة الوطنية كما هو الحال الذي وصل إليه عالمنا العربي والإسلامي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1789 هذا فيما يتعلق بالسياسة الاقتصادية للدول، والتي لا يمكن بحث السياسة الاقتصادية للأفراد بمعزل عن السياسة الاقتصادية الدولية في مجال المعاملات الفردية، وبالتالي لا يمكن أن تظهر هذه القضية من وجهة نظر الشريعة الإسلامية في مجال المعاملات الفردية بعيدًا عن أسبابها ومسبباتها الدولية والتي أصبحت تؤثر تأثيرًا مباشرًا على تصرفات الأفراد، وبالتالي أيضًا، فإن الحكم الاجتهادي المعجمي لا يمكن أن يحيط بوجهة النظر الفقهية في الشريعة الإسلامية دون التصور العلمي الصحيح الذي يعصم الذهن عن الخطأ في التفكير عند النظر إلى مقاصد الشرعية وأسرارها الإلهية الحكمية، وهذا ما عنيت به هذه المقدمة من التصور الشمولي وعدم جريد النص الشرعي أو الأصول الاجتهادية التابعة للنصوص من ظروفه وشروطه وتعليل مقاصد الشارع الحكيم. بعد هذه المقدمة: نجد من الضروري في المسألة المطروحة الإشارة إلى العلة الشرعية التي قصدها الشارع عند تشريعه أحكام العملة من النقدين الذهب والفضة وإلى أسباب اختلاف الفقهاء في تلك العلة لما لمعرفة تلك العلة وأسباب الاختلاف في تحقيق مناطها من أهمية خاصة على تأصيل النظرة الفقهية الاجتهادية وعلى وجه الخصوص محل النظر في الحكم الشرعي الاجتهادي. فقد روى الإمام مسلم – رضي الله عنه – في صحيحه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر وبالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلًا بمثل سواء بسواء يدًا بيد،فإذا اختلت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيدًا)) وفي بعض الروايات: ((فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء)) لقد بحث جمهور الأصوليين عن العلة الشرعية التي هي مناط أحكام الشارع حيث ذهب البعض منهم وهم الأحناف على أن العلة الشرعية التي هي مناط أحكام الشارع في النقدين الذهب والفضة هي: الوزن: أي أن تحريم الشارع للتفاضل إنما هي علة الوزن: أي كون الذهب والفضة من الموزونات، وبالتالي فإن تحقيق مناط العلة في الوزن عند الأحناف يلحق بها كافة الأشياء التي توزن كل ما يوزن يعطى نفس الحكم بجامع العلة بين الأصل والفرع. مثل النحاس والحديد والرصاص ... إلخ. كما ذهب الإمام الشافعي والإمام مالك ورواية عن الإمام أحمد – رضي الله عنهم – إلى أن علة تحريم التفاضل بين الذهب بجنسه والفضة بجنسها: إنما هي الثمنية، أي كون هذين الصنفين أثمانا للأشياء بمعني أن أثمان الأشياء تقوم بهما، ولأنهما أيضًا أثمان بالخلقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1790 تحرير محل الخلاف في مناط العلة الشرعية في النقدين الذهب والفضة لسنا بحاجة إلى الحديث عن العلة في الأصناف الأربعة الأخرى التي تناولها الحديث المذكور التزامًا للموضوعية وخشية التطويل. ولكننا بالمقابل نرى ضرورة تحرير محل الخلاف في تحقيق المناط في علة تحريم التفاضل بين النقدين الذهب والفضة بجنسيهما لما لهذا التحقيق من فائدة في إعطاء المسألة المطروحة حقها في النظرة الأصولية، ولما في تحقيق المناط من إظهار خصوصيات التعامل بين الناس، ولما في عدم فهم تلك الخصوصيات من خطورة الوقوع في الربا، ونذكر هنا وجهة نظر الأصوليين في تحقيق مناط العلة ونعقب بذكر المختار من طرقهم ونعترض على ما يتطرق الاعتراض إليه أن تحقيق المناط الأصولي ليس من مسالك العلة باتفاق الأصوليين، بل هو دليل تثبت به الأحكام الشرعية، وبالتالي فلا خلاف بين جمهور الأصوليين في وجوب العمل به على اختلاف مذاهبهم الفقهية، إذ لا يمكن التكليف إلا به في الأحكام الاجتهادية وتحقيق المناط وإلحاق الفرع بها في الحكم الاجتهادي إنما يكون بعد الاتفاق على تحقيق تلك العلة في الأصل. ومما لا شك فيه بأن النصوص الشرعية في الكتاب والسنة متلقيان بالقبول والتسليم وكذا الإجماع لكونه ملحقا بهما: أي بالكتاب والسنة. أما القياس وهو الأصل الرابع من الأصول الشرعية، فإنه مستند في حقيقته إلى الأصل الثالث: أي الإجماع وبالتالي ـ، فإن حكمه يعتمد على أصل متفق عليه وهو الإجماع. وأما الاستدلال وهو الذي يتوصل إليه المجتهد باجتهاده فليس له أصل في الأصول الثلاثة يشهد له وليس يدل لعينه دلالة أدلة العقول على مدلولاتها، وبالتالي، فإن انتفاء الدليل على العمل بالاستدلال دليل انتفاء العمل به. وهذا المنطق الأصولي هو الذي حرر عقول المجتهدين من التقليد والالتزام بما توصل إليه المجتهد باجتهاده عن طريق الاستدلال لكون استدلال المجتهد لا دليل عليه يدل على الالتزام به عند من له ملكة الاجتهاد والاستدلال للوصول إلى الحكم الفقهي الاجتهادي. ومن هنا اتسعت نظرة المجتهدين فجالت وصالت واعتصرت العقول في أدلة الشريعة الإسلامية المطهرة وأنتجت تلك الثروات العلمية العظيمة التي زخرت بها مكتبات العالم ودور العلم ولا زالت تلك الينابيع تفيض من معينها الصافي العذب الذي لا ينصب ولا شك بأن هناك نصوصًا شرعية حصرت معانيها الأصول وضبطتها النصوص فهي منحصرة ومنضبطة بضبط الشارع لها.وهناك نصوص لم تحصر معانيها تلك الأصول، وبالتالي لا يمكن أن تضبطها نصوص الشرع، وبالتالي يتسع الأمر للاجتهاد واتباع وجوه الرأي واختلاف تلك النظرة الاجتهادية تبعًا لاختلاف الزمان والمكان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1791 وهذا منطلق وجهة نظر الإمام الشافعي – رضي الله عنه – حيث توصل إلى أن العلة في تحريم التفاضل في النقدين الذهب والفضة بجنسيهما إنما هو مطلق الثمنية. وهي وإن كانت علة قاصرة لا تتعدى محل النص ولا تتعدى معلولها لكونها محل الحكم أو وصفًا لا زمًا له. على الرغم من مناقشة الأحناف للإمام الشافعي أصوليًا في إثبات العلة القاصرة وتحديد وظيفتها وعلاقتها بالمسألة المطروحة؛ حيث احتج الأحناف للإمام الشافعي بأن علة الثمنية في النقدين: الذهب والفضة علة قاصرة لا تتعدى معلولها، أي نص الشارع: على الذهب والفضة. وبالتالي فما قيمة هذه العلة القاصرة ما دام الحكم قد أخذ من النص مع أن العلة في نظر الأحناف. إنما هي لإلحاق شيء بشيء، والعلة القاصرة على مذهب الإمام الشافعي ليس فيها إلحاق شيء بشيء ورد الشافعية على الأحناف بأن العلة القاصرة لها فائدتان: أحدهما نعلم من خلال العلة القاصرة بأن النقدين أي: الذهب والفضة لا يقاس عليها غيرهما، وبالتالي لا نطمع أن نقيس عليهما شيئًا آخر من أنواع النقود، والثانية أنه قد يحدث شيء يشترك مع هذه الأشياء بجامع العلة في الأصل فيلحق بها. وهنا نجد سلامة تحقيق مناط العلة الشرعية عند الإمام الشافعي وهذا الترجيح في نظرنا ينسجم مع القرار الذي توصل إليه المجمع في دورته الثالثة بعمان بشأن أحكام النقود وتغير قيمة العملة حيث جاء فيه: (فقد قرر المجمع أنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامها) . فقد قال الإمام الشافعي – رضي الله عنه – انطلاقًا من أن العلة في الذهب والفضة هي الثمنية قال: في 3 / 33 من كتاب الأم، ما نصه: (ومن سلف فلوسًا أو دراهم أو باع بها ثم أبطلها السلطان فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي سلف أو باع بها) . وقال أيضًا: (وإن أبطلت السلطة المصدرة لهذه العملة التعامل بها فإنه لا يلزم المدين سواها وفاء بالعقد إذ هي المعقود عليها دون غيرها) ، وهو القول المشهور من مذهب المالكية رضي الله عنهم أجمعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1792 وقال أيضًا: (وحتى لو زادت الجهة المصدرة لهذه العملة أو أنقصته فلا يلزم المدين إلا ما جرى عليه العقد، فإذا ما تغيرت قيمة النقد غلاء أو رخصًا بعد ثبوته في ذمة المدين سواء أكان قرضًا أو دينًا أو مهرًا أو ثمن مبيع أو غيره، فليس يجب في ذلك إلا ما جرى عليه العقد، لأنه هو الذي جرى عليه التعاقد لا غيره) ، وهذا هو القول المشهور للأحناف والمالكية، وهو أيضًا قول الإمام الشافعي والحنابلة كما نقله عنهم صاحب كتاب (بدائع الصنائع 7 / 3245) . فقد قالوا جميعًا رضي الله عنهم (إنما يجب على المدين أداؤه إنما هو نفس النقد المحدد في العقد والثابت دينًا في الذمة دون زيادة أو نقصان وليس للدائن سواه) . وقال ابن قدامة في المغني: (وأما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء أكان كثيرًا مثل إن كانت عشرة دوانق فصارت عشرين دانقا أو قليلا، لأنه لم يحدث فيها شيء وإنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت) . وكلام الإمام الشافعي ومن وافقه من الأئمة رضي الله عنهم هذا إنما هو في الديون والمهور والعقود التجارية وغيرها التي لا ارتباط لها عند وجوبها بالقوة الشرائية للنقد، أما الديون التي روعي في تحديدها قوة النقد الشرائية وقت الوجوب، ثم طرأ التضخم المالي وانخفضت تلك القوة الشرائية، فإنها تتغير بحسب نسبة التضخم الحادث كما في دين النفقة إذا أقدره وفرضه على من تجب عليه بالنظر إلى أسعار الأشياء التي يحتاجها مستحق النفقة وقت التقدير من قبل جهات الاختصاص كالمحاكم وغيرها، ثم ارتفعت أسعار هذه الحاجيات في السوق ففي هذه الحالة يحكم بتغير الدين تبعًا لتغير الوضع المالي للنفقة، لأن القاعدة التي يبني عليها تقدير النفقة، إنما هو تحقيق الكفاية للمنفق عليه، وهذا المبلغ المقرر بعد طروء التضخم أصبح غير كافٍ للوفاء بالغرض المناط به، فلهذا يتغير الدين تبعًا لتغير مناطه ويزاد مقداره وفقًا لنسبة التضخم الحادث. إن المجتهد في مسألتنا هذه من وجهة نظري عندما ينظر إلى العقود وما اشتملت عليه من معاملات بما في ذلك القروض والديون الثابتة في الذمة وكذا عقود التجارة والمهور إلى غير ذلك لا يجد مجالًا للاجتهاد إذا كان ما اشتمل عليه أي عقد من العقود عملة محددة مسماة سواء غلت أو رخصت عند حلول وقت الأداء، فلا يلزم شرعًا من عليه الأداء أن يؤدي غير ما اشتمل عليه ذلك العقد وهذا هو ما تعورف عليه بني سلف الأمة وخلفها، لأن تضخم العملة وانكماشها بعد وجوبها في الذمة تجاه السلع والمنافع والخدمات التي تبذل عوضًا عنه لا دخل فيه ولا حيلة لمن وجب ذلك في ذمته. إن المجتهد أول ما ينظر في معاملات الناس وتصرفاتهم إلى صيغ تلك العقود وما تشتمل عليه تلك الصيغ من صحة أو بطلان انطلاقًا من قاعدة العقود في الشريعة الإسلامية من أن كل عقد ملزم للمتعاقدين عند توفر شروط العقد الصحيح وانتفاء موانعه. وهذه القاعدة هي ما عبر عنها في القانون المدني الوضعي: العقد شريعة المتعاقدين، مع احتفاظ القاعدة الشرعية بتوافر الشروط وانتفاء الموانع. فالمجتهد عندما ينظر في نزاع المتعاقدين، بفتوى أو بحكم قضائي ملزم لا ينظر إلى زيادة سعر العملة في السوق أو نقصانها وإنما ينظر أول ما ينظر إلى صفة العقد وصيغته وما اشتمل عليه، فإذا وجد صفة العقد وصيغته سليمة من العيوب المبطلة أو المفسدة شرعًا، فإنه ولا شك يفتي أو يحكم على المتعاقدين الوفاء بما التزما به طالما كان التزامهما صحيحًا شرعيًّا، فإذا كانت صيغة العقد تنص على مبلغ مائة دينار يمني أو كويتي على فلان من الناس لآخر وتوافرت شروط ذلك العقد وانتفت موانعه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1793 وكان الدينار المنصوص عليه في صيغة العقد قائم الاعتبار القانوني في التعامل به بين الناس – فإن من عليه المبلغ المذكور في صيغة العقد وقت حلول الأجل سواء ارتفع ذلك المبلغ بعملة أخرى أو نزل، ذلك لأن تحديده وتعيينه في صيغة العقد الشرعية قد قطع كل ما يؤدي إلى النزاع بين المتعاقدين. والقول هنا بدفع ما يعدل ذلك السعر الذي كان عليه يوم البيع أو العقد، أي وقت ثبوته في الذمة قول مخالف لصيغة العقد الشرعي نفسها ومخالفة صريحة لما تم عليه التعاقد، وكل ما أدى إلى بطلان العقد الشرعي الصحيح، فهو باطل وهذا أمر في غاية الخطورة، إذا لا يقف الأمر فيه عند التلاعب بالعقود وبطلانها، بل إنه يؤدي أيضًا إلى جهالة الثمن، لأن الثمن ما اشتمل عليه ذلك العقد قد يحسب بحسب صرف قيمة العملة التي اشتملت عليها صيغة العقد وقت الأداء والذي لم يكن مذكورًا في العقد، وبالتالي لا شك أنه يؤدي إلى عدم حسم النزاع. علمًا بأن مقاصد الشريعة في أحكامها الثابت في تصرفات الناس ومعاملاتهم وقطع النزاع وسد الذرائع التي تؤدي إلى إثارة أي خلاف. ولا شك بأن تجاهل ما اشتمل عليه العقد، وبالتالي عدم ثبات قيمة العملة في عالم اليوم كفيل بفتح أبواب النزاع والخلاف , وبالتالي عدم الثبات القانوني في معاملات الناس وما لهذا شرعت العقود في شريعة الإسلام. ومن هنا نعلم دقة المفاهيم الفقهية لعلمائنا عند وصفهم شروط معرفة الثمن وقدره وصفته، كل ذلك لم يكن إلا مخافة النزاع وحرصهم على تحقيق مقاصد الشريعة مع احترام عقود الناس وثبات معاملاتهم. وهنا أيضًا كيف للمجتهد تجاهل تلك الأركان والشروط التي نص عليها فقهاؤنا والتي شددوا على توافرها وانتقاء موانعها. وبالتالي يجتهد في حكم سعر تلك العملة والتي هي أصلا خارجة عن نطاق صيغة العقد الشرعي الملزم، فعندما يقرض إنسان آخر مبلغًا من المال إلى أجل معين رفقًا به وتفريجًا لكربته ودفعًا لحاجته، فإذا ما حان أجل الوفاء، فإن المقرض قد يجد بأن هذا المبلغ الذي عاد إليه أقل أو أكثر من المبلغ الذي دفعه للمقترض سواء من حيث قوته الشرائية أو من حيث قيمة العملة الذهنية أو العملات الأخرى يوم أن أقرضه وإن كان مماثلًا له في الجنس والعدد. إن زيادة القيمة الشرائية للنقد أو نقصانها وكذا زيادة صرف العملة النقدية أو هبوطها، هو ما درجت عليه معاملات الناس منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا، فكثيرًا ما يشترى التجار بضائع بنقد محدود مؤجل الوفاء إلى أجل محدد متفق عليه وعندما يحل الأجل ويحين وقت الأداء يجد كل واحد من المتعاقدين أن المبلغ المتفق عليه والذي تم عليه التعاقد قد اختلف حاله من حيث القوة الشرائية أو من حيث القيمة بالنسبة للعملات الأخرى عن الوضع الذي كان عليه وقت وجوبه في الذمة (وقت العقد) . كما جرى عرف المسلمين على جعل مهر الزوجة أو بعضه مؤجلا في الذمة لا يحل أداؤه إلا بالموت أو الفرقة، وكثيرًا ما يدخل علي تغير قيمة العملة وقد يكون النقص فاحشًا عند حلوله بالنظر إلى يوم ثبوته في الذمة، وأما لو انقطع التعامل بهذه العملة، وهو ما يسمى بعرف الفقهاء بكساد العملة بأن حل محل الدينار اليمني أو الكويتي أو الجنيه المصري أو الإسترليني ... إلخ عملة أخرى فإن الحكم هنا يختلف في هذا الحال، إذ ليس لصاحب الحق إلا بما يعادل تلك القيمة المالية بحسب الصرف يوم حلول أجل الأداء من أي نوع من العملة القائمة الاعتبار القانوني بين الناس. والله أسأل أن يوفق مجمعنا إلى استلهام الحق وتقرير الحكم الشرعي لهذه المسألة الهامة في حياة الأمة الإسلامية بما يتفق ومقاصد الشريعة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الشيخ محمد عبده عمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1794 مناقشة البحوث بسم الله الرحمن الرحيم الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينًا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. في جلستنا هذه لدينا موضوع " تغير قيمة العملة " وقد أعد فيه نحو عشرين بحثًا سبق وأن وصلكم منها إحدى عشر بحثًا، وهو من الموضوعات المؤجلة من الدورة الرابعة. والمقرر لهذه الدورة هو فضيلة الشيخ محمد بن سليمان الأشقر والعارض هو فضيلة الشيخ محمد تقي العثماني. وقبل أن يعرض الشيخ تقي، أحب أن أذكر إلى أنه قد أضيف إلى لجنة الوعد والمرابحة فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي. فليتفضل الشيخ تقي عثماني بالعرض عن موضوع " تغير قيمة العملة". القاضي محمد تقي العثماني: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد. فأريد أن أقسم عرضي هذا على ثلاثة أقسام: الأول شرح المسألة المطروحة في هذا الموضوع، والثاني تقديم وجهات النظر المختلفة التي رأيناها في البحوث المقدمة من السادة الباحثين الذين كتبوا في هذا الموضوع، وثالثًا تقديم رأيي في هذا الموضوع. فأما عرض المسألة فهو إن مسألة تغير قيمة العملة، وربطها بقائمة الأسعار إنما نشأت للنظام النقدي المعاصر. كانت العملة فيما سبق مرتبطة بعيار مخصوص من الأثمان، كالنقود الذهبية أو الفضية، ترتفع قيمتها وتنخفض بالنسبة إلى ذلك العيار المخصوص. ولكن النقود الورقية اليوم ليست مرتبطة بثمن خلقي، وإنما هي تمثل قوة شراء مخصوصة باصطلاح من جهتها المصدرة. فلا تتفاوت قيمتها بالنسبة إلى عيار مخصوص من الأثمان، وإنما تتفاوت بغلاء الأشياء ورخصها. فكلما غلت البضائع في السوق انتقصت قوة شرائها، فكأنما انتقصت قيمتها، وكلما رخصت البضائع زادت قوة شرائها، فكأنما ارتفعت قيمتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1795 وبعبارة علم الاقتصاد المعاصر: إن قيمة النقود إنما تنبني اليوم على مقدار التضخم أو الانكماش الموجودين في البلاد. فكلما ازداد التضخم انتقصت قيمة النقود، وكلما ازداد الانكماش ارتفعت قيمتها. ونتيجة هذه الحالة: أن ينخفض مستوى أسعار البضائع والخدمات فيحدث رخص عام في حالة الانكماش لأن العرض قد ازداد على الطلب فانخفضت الأسعار. وإن النقود في حالة الانكماش تستطيع أن تشتري كمية كبيرة من البضائع. ولكن لا تستطيع هذه النقود في حالة التضخم أن تشتري إلا كمية أقل مما كانت تشتري في حالة الانكماش. فالسؤال المطروح اليوم: هل تعتبر المائة روبية في حالة تضخم مثل المائة روبية في حالة الانكماش في أداء الحقوق والالتزامات؟ أو تعتبر أنها صارت خمسين إذا كانت نسبة التضخم خمسين في المئة مثلًا؟ فمن استقرض من رجل مائة روبية في حالة الانكماش، هل يؤدي مائة روبية بالعدد في حالة التضخم؟ أو يؤدي مائتي روبية نظرًا إلى انخفاض قيمتها، وانتقاص قوة شرائها بقدر الخمسين في المائة؟ وقد يرى بعض الاقتصاديين أن أداء مائة روبية بالعدد في هذه الحالة ظلم على المقرض لأن المستقرض إنما يرد عليه نصف القوة الشرائية التي دفعتها إليه المقرض. وقد اقترح بعض الاقتصاديين لحل هذه المشكلة أن تستخدم قائمة الأسعار كمعيار لتقويم النقود، ويكون أداء الحقوق والالتزامات على أساس قيمة النقود المرتبطة بقائمة الأسعار. وإن قائمة الأسعار، قائمة تدرج فيها معظم البضائع والخدمات المتداولة في البلاد، ويذكر فيها سعرها الرائج في ابتداء السنة المالية مثلًا، ثم يذكر سعرها الرائج عند انتهاء السنة، والفرق بين هذين السعرين يمثل نسبة تفاوت الأسعار بطريق حسابي مخصوص. وتعتبر هذه النسبة نسبة تغير قيمة النقود. فإذا كانت هذه النسبة زيادة العشرة في المائة، مثلًا، فإن الحقوق الملتزم بها في ابتداء السنة تؤدي في نهايتها بزيادة العشرة في المائة، فمن استقرض مائة روبية في ابتداء العام يؤديها عند انتهاء العام مائة وعشر روبيات. وإن هذا الطريق يستخدم في بعض البلاد في أداء الأجور، وقضاء الدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1796 فالمسألة المطروحة أمامنا اليوم هو أن نبحث عن مدى جواز استخدام هذا الطريق من الناحية الشرعية. ونبحث عن الحلول لما يقال من الظلم في أداء مثل ما اقترضه المستقرض عددًا. والبحوث التي كتبت في هذا الموضوع نحو أحد عشر بحثًا وقد رأيت أن الذي تحدثوا عن هذه المسألة منقسمون إلى خمس وجهات للنظر. فالوجهة الأولى هي القائلة بأن القرض يدفع بالمثل والعدد لا بالقيمة ولا تعتبر القيمة في حال من الأحوال مهما كانت نسبة التغير، نسبة التضخم قليلة أو كثيرة ومنهم فضيلة الشيخ الصديق الضرير وفضيلة الشيخ محمد علي التسخيري والأستاذ علي أحمد السالوس ومحمد علي عبد الله. والوجهة الثانية التي تقول إن القيمة هي المعتبرة في أداء الديون والقروض ولا يعتبر المثلية في العدد والوكيل والوزن، ومنهم فضيلة الشيخ عبد اللطيف الفرفور والأستاذ عجيل جاسم النشمي حفظهم الله تعالى. وهناك وجهة نظر أخرى وهي التي تقول: إننا نأخذ بالمثل في الأحوال العامة ولكن إذا كان التغير فاحشًا بما يدخله في الغبن الفاحش فحين ذلك نرجع إلى القيمة وهو رأي الأستاذ علي محيي الدين القره داغي. وهناك رأي رابع وهو أن المدين إذا وفى بوعده وأدى القرض في موعده المحدد فعند ذلك لا يطالب إلا بالمثل. وأما إذا لم يف بوعده ولم يؤد الدين في وقته المحدد عند عقد الاقتراض فحين ذلك يطالب بالقيمة لا بالمثل فقط. وهذا الرأي الرابع يبدو أنه رأي فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع والدكتور يوسف محمود قاسم. وهناك رأي خامس ذكره الأستاذ محمد سليمان الأشقر في بحثه وهو أن للحكومة أن تحكم بنسبة مئوية تضاف على القرض كلما وقع عقد القرض فإن تلك النسبة المئوية تضاف إلى مبلغ ذلك القرض. هذه آراء خمسة التقطتها من هذه البحوث المعروضة لدينا، وأما رأيي فهو كالتالي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1797 أما ربط القروض وسائر الديون بقائمة الأسعار، فإنني قد قسمت المسألة إلى قسمين: الأول مسألة الديون، والثاني مسألة الأجور، وأفردت لكل واحد منهما بحثًا. أما ربط القروض وسائر الديون بقائمة الأسعار، فالمقصود منه أن لا يرد المستقرض إلى المقرض مبلغ قرضه فحسب، بل يضيف إليه قدرًا زائدًا بنسبة الزيادة في قائمة الأسعار. ويحتج بعض الاقتصاديين على جواز هذا الربط بأن هذه الزيادة ليست زيادة حقيقية، وإنما هو رد لنفس المالية التي اقتراضها لأن مالية الألف روبية مثلًا من حيث قوة شرائها كانت أكثر عند الاقتراض، وانتقصت عند الأداء بنسبة 10، فلو رد المقترض ألف روبية كان ذلك ظلمًا على المقرض، لأن لم تعد إليه المالية الكاملة التي أقرضها. ولكن الحق، إن هذا الدليل لا ينطبق على القواعد الشرعية بحال من الأحوال، لأن القروض يجب في الشريعة الإسلامية أن تقضى بأمثالها، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان، حتى القائلون بجواز ربط القروض بالأسعار، فبقي الآن تعيين معنى المثلية. فالسؤال الأساسي هنا: هل يجب أن تتحقق هذه المثلية في القدر – أي الكيل والوزن، والعدد – أو المثلية في القيمة والمالية؟ والذي يتحقق من النظر في دلائل القرآن والسنة ومشاهدة معاملات الناس، أن المثلية المطلوبة في القرض هي المثلية في المقدار والكمية، دون المثلية في القيمة والمالية. ويدل على ذلك دلائل: 1 – لو اقترض الرجل صاعًا من الحنطة، وقيمتها يومئذ خمس روبيات مثلًا، فلم يودها إلى المقرض إلا بعدما صارت قيمتها روبيتين فحسب، فإنه لا يرد إلى المقرض إلا صاعًا واحدًا، رغم أن مالية الصاع الواحد قد انتقصت من خمس روبيات إلى روبيتين وهذا بإجماع الفقهاء قديمًا حديثًا، ولا يقول في ذلك أحد إن رد الصاع الواحد بعد انتقاص ماليته ظلم على المقرض، فينبغي أن تضاف إلى الصاع زيادة بنسبة نقصان قيمته، وهذا من أوضح الدلائل على أن المثلية المعتبرة في القرض إنما هي المثلية في المقدار، لا في القيمة المالية. وربما يقال جوابًا عن هذا: إن الحنطة بضاعة لها مالية في حد ذاتها، فلا تقاس عليه النقود الورقية التي ليست لها قيمة أو مالية ذاتية. ولكن هذا الجواب – فيما يبدو لي – خلط للمبحث، لأن السؤال هنا عن تعيين معنى المثلية المطلوبة في القرض، فما دامت المثلية المطلوبة هي المثلية في المقدار دون القيمة والمالية، فليس هناك فرق جوهري بين الحنطة والنقود في هذا المجال، لأن لكل منهما مقدارًا، وقيمة، فإن كانت المثلية المطلوبة في الحنطة هي المثلية في المقدار، فلتكن المثلية المطلوبة في النقود مثلية المقدار كذلك. ولو اعتبر تفاوت القيمة والمالية هدرًا في الحنطة، فليكن ذلك هدرًا في النقود سواء بسواء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1798 2 – من المسلم لدى الجميع أن التماثل مطلوب في القروض للاحتراز عن الربا، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا التماثل المطلوب في أحاديث ربا الفضل بكل صراحة ووضوح. وقد ذكرت أحاديث ربا الفضل وهي معروفة لدى كل صاحب علم فلا أريد أن أقرأها بنصوصها. وإن هذه الأحاديث كلها ناطقة بأن التماثل المعتبر في الشريعة إنما هو التماثل في القدر، ولا عبرة بالتفاضل في القيمة ما دامت الأموال ربوية. وهذا في المبايعة نقدًا – وهذه نقطة مهمة جدًّا- فما بالك في القروض التي يجري فيها أصل الربا والتي يحترز فيها عن كل زيادة وشبهتها. وهناك حديث آخر يوضح معنى المثلية في الديون خاصة وهو ما أخذه أبو داود وغيره عن عبد الله بن عمر – رضي الله تعالي عنهما – قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة – رضي الله عنها – فقلت: يا رسول الله، رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالنقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفرقا وبينكما شيء)) . (سنن أبي داود، كتاب البيوع، رقم 3354، 3 / 250) ، ووجهة الاستدلال بهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لابن عمر – رضي الله عنهما - إذا وقع البيع على الدنانير أن يأخذ بدلها الدراهم بقيمة الدنانير يوم الأداء لا يوم ثبوتها في الذمة , يعني إذا وقع البيع على دينار مثلًا، وقيمته وقت البيع عشرة دراهم , ثم لما أراد المشتري الأداء لم يكن عنده إلا دراهم وقيمة الدينار الواحد يوم الأداء أحد عشر درهمًا، فإنه يؤدي إليه أحد عشر درهمًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1799 ولذلك لما سأل بكر بن عبد الله المزني ومسروق العجلي عبد الله بن عمر، - رضي الله عنهما – عن كري لهما، له عليهما دراهم، وليس معهما إلا دنانير، أجاب ابن عمر – رضي الله عنهما-: اعطوه بسعر السوق. فتبين أن القيمة إنما تعتبر يوم الأداء، لا يوم الثبوت في الذمة. ولئن كانت المثلية المعتبرة في الديون المثلية في القيمة، لوجبت قيمة الدنانير يوم الثبوت في الذمة وهذا واضح جدًا. 3 – من المسلم لدى جميع الفقهاء في ضوء القرآن والسنة أن الواجب في عقد القرض اشتراط أداء المثل الحقيقي في القدر، دون المثل المقدر بالجزاف والتخمين، حتى لو أقرض الرجل صاعًا من الحنطة، واشترط أن يرد إليه المستقرض صاعًا منها بالجزاف، لا على أساس الكيل، لم يجز هذا العقد، لأن المجازفة في الأموال الربوية لا تجوز وهنا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع المزابنة وهو بيع التمر على رئوس النخل بتمر مجذوذ. وليس وجه الحرمة في هذا البيع إلا أن التمر المجذوذ يمكن معرفة قدرة بالكيل، وأما التمر القائم على رءوس النخل فلا يمكن معرفة فدره إلا بالمجازفة والتخمين، فحرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إطلاقًا، مهما كانت المجازفة دقيقة أو قريبة من الصواب. فالسبيل الوحيد في مبادلة الأموال الربوية بعضها ببعض، أن يقع التبادل على أساس التماثل الحقيقي دون التماثل المقدر بالمجازفة. إذا ثبت هذا، فإن التماثل المقترح في ربط الديون بقائمة الأسعار، ليس تماثلًا فعليًّا، وإنما هو تماثل مقدر على أساس المجازفة والتخمين. لأن نسبة الزيادة والنقصان في الأسعار ليست إلا نسبة تقريبية إنما تقدر على أساس حساب مخصوص لا يرجع إلا إلى المجازفة والتخمين. ويجب لمعرفة هذه النقطة أن نعلم كيفية وضع قائمة الأسعار، وطريق استخدامها لتعيين قيمة النقود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1800 من المعلوم أن النقود، سواء كانت نقودًا معدنية أو ورقية، لا يقصد بها ذاتها، فإنها بذاتها لا تسد جوعًا، ولا تستر جسمًا، ولا تدفع شهوة، ولا ترد ضررًا. وإنما المقصود من هذه النقود أن يشتري بها المرء ما يحتاج إليه في حياته من بضائع وخدمات. فمن هذه الجهة كل نقد له قيمتان: الأولى: قيمته الاسمية وهي المكتوبة عليها، والثانية: قيمته الحقيقية وهي الفائدة العملية الحقيقة التي يحصل عليها المرء بصرفها في حاجاته، وبعبارة أخرى: هي مجموعة من البضائع والخدمات التي يمكن للمرء أن يشتريها بتلك النقود. وإن هذه المجموعة من البضائع يسميها الاقتصاديون اليوم " سلة البضائع ". فالقيمة الحقيقية للنقود هي سلة البضائع الممكن اشتراؤها بها. ثم إن البضائع والخدمات المندرجة في السلة ليست على مستوى واحد من الأهمية، فبعضها أهم من بعض. فالحنطة مثلًا أهم من الثوب والثوب أهم من الشاي. ولا شك أن تغير السعر فيما هو أهم أكثر تأثيرًا على حياة المرء من تغيره فيما هو أقل أهمية. فلو ارتفعت قيمة الحنطة فإنه يحدث مشاكل أكثر مما يحدثه ارتفاع قيمة الشاي. فلأجل الوقوف على التغير في قيمة النقود الحقيقية يأخذ الاقتصاديون أهمية كل بضاعة من هذه البضائع رقمًا على أساس أهميته وإن هذا الرقم يسمى وزن البضاعة، وإن هذا الوزن ربما يحاسب على أساس نسبة الرواتب المصروفة في شراء تلك البضاعة كل شهر. فمعدل تغير قيمة السعر في كل بضاعة يضرب في وزنها والحاصل هو المعدل الموزون لكل بضاعة. وقد أعطيت لذلك أمثلة فعلية ولكن المقصود هنا أننا لو نظرنا في هذا الطريق الحسابي الذي تعين به القيمة الحقيقية للنقود اتضح لنا أن هذا الطريق مبني على الخرص والمجازفة في جميع مراحله. ويتبين بالتجزئة في هذا الطريق أنه يستولي على الخرص والتخمين في الأمور الآتية: الأول: من المعروف أن كل رجل له حاجات تخصه فالبضائع المحتاج إليها تختلف باختلاف الرجال، فسلة البضائع لكل أحد تختلف عن سلة الآخر، ولكن السلة المندرجة في قائمة الأسعار واحدة. وإنما تدرج فيها البضائع على أساس كثرة من يستعملها. فربما تدرج فيها بضائع لا يحتاج إليها بعض الناس أبدًا. فالقائمة غير حقيقية بالنسبة إلى أولئك البعض. فإدارج بعض البضائع في القائمة ليس إلا مجازفة وخرصًا. ثانيًا: ثم المجازفة الثانية تأتي في تعيين وزن البضائع،وأهميتها بالنسبة للمستهلكين، ولا شك أن أهمية البضائع أمر إضافي يختلف باختلاف الأشخاص، فبينما البضاعة الواحدة مهمة جدًا لشخص واحد، فإنها لا أهمية لها إطلاقًا لشخص آخر. ولكن القائمة تفرض أن أهمية كل بضاعة واحدة بالنسبة إلى كل مستهلك، وذلك على أساس المعدل الوسط، وليس ذلك إلا خرصًا ومجازفة. والمجازفة الثالثة في تعيين قيمة البضائع في سنوات مختلفة، لأن من المعلوم أن البضاعة الواحدة تختلف قيمتها باختلاف الأمكنة أيضًا، ولا يمكن في القائمة إلا إدراج قيمة موضع واحد، ولو وضعت القائمة لدولة واحدة فلا يمكن ذلك إلا عن طريق استخراج معدل وسط وهو مجازفة أيضًا. فتقرر بهذا أن قائمة الأسعار مبنية على الخرص والمجازفة في جميع مراحلها، ولو كان الحساب من الدقة بمكان، فإن غاية ما يصل إليه في ذلك هو التقريب دون التحقيق. وبما أن اشتراط أداء القروض والديون بالخرص والمجازفة لا يجوز شرعًا، فلا يجوز ربط الديون بهذه القائمة بحال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1801 مذهب الإمام أبي يوسف في أداء قيمة الفلوس: وقد استدل بعض الباحثين على ربط الديون بقائمة الأسعار بما روي عن مذهب أبي يوسف – رحمه الله تعالى – في أداء قيمة الفلوس إذا تغيرت قيمتها عند أداء الديون. وقد ذكره العلامة ابن عابدين – رحمه الله – في رد المحتار وفي رسائل ابن عابدين. وقد ذكر أن الفتوى عند الحنفية على قول أبي يوسف وهو يقول: إن المقترض عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض، وعليه الفتوى. فاستدل به بعض الاقتصاديين على أنه إذا وجب الدين في صورة الفلوس، فالواجب أداء قيمتها إذا طرأ عليها الغلاء والرخص، وهذا المذهب – كما يقولون – قريب جدًّا من فكرة ربط الديون بقائمة الأسعار. ولكن هذا الاستدلال عندي غير صحيح، والحقيقة إن مذهب أبي يوسف – رحمه الله تعالى – لا علاقة له بفكرة ربط الديون بقائمة الأسعار، لأن من المعلوم بالبداهة أن التضخم والانكماش ووضع قائمة الأسعار، وتقويم النقود على أساس تلك القائمة، كل هذه الأمور أمور حادثة لم تكن متصورة في زمن الإمام أبي يوسف – رحمه الله تعالى -، فحينما يقول أبو يوسف بأداء قيمة الفلوس، فإنه لا يمكن أن يريد به قيمتا المقدرة على أساس قائمة الأسعار، أو القيمة الحقيقية بالاصطلاح الاقتصادي المعاصر. والواقع أن الفلوس في الأزمنة المتقدمة كانت مرتبطة بنقود الذهب والفضة تقوم على أساسهما، وتعتبر كالفكة للنقود الذهبية والفضة. وكانت عشرة فلوس مثلا تعادل درهمًا واحدًا من الفضة، فكان الفلس الواحد يعتبر عشر الدرهم الفضي، ولكن قيمة الفلس هذه لم تكن مقدرة على أساس قيمتها الذاتية، وإنما كانت قيمة رمزية اصطلح عليها الناس، فكان من الممكن أن يتغير هذا الاصطلاح، بأن يصطلح الناس على أن الفلس الواحد الآن يعتبر نصف عشر الدرهم بعدما كان يعتبر عشره، فهذا هو المراد برخص الفلوس كما يمكن أن يصطلح الناس على أن الفلس الواحد الآن يعتبر خمس الدرهم، وهذا هو المراد بغلائها. فإذا وقع غلاء الفلوس أو رخصها بهذه الصورة، فهل يؤدي المديون نفس عدد الفلوس الذي وجب في ذمته يوم العقد؟ أو يؤدي قيمة ذلك العدد يوم الأداء؟ قد وقع فيه خلاف العلماء. فقال أبو حنيفة – رحمه الله -: يؤدي نفس العدد الذي وجب في ذمته يوم العقد، ولا عبرة بالقيمة وهو المشهور من مذهب المالكية والشافعية والحنابلة. فلو اقترض أحد مائة فلس في وقت يعتبر فيه الفلس الواحد عشر درهم واحد فاقترض فلوسًا تساوى عشرة دراهم في القيمة، ثم تغير الاصطلاح، حتى صار الفلس الواحد يعتبر نصف عشر درهم واحد. فذهب جمهور الفقهاء إلى أن المقترض لا يؤدي إلا مائة فلس، وإن كانت هذه المائة لا تساوي اليوم إلا خمسة دراهم. لكن خالفهم أبو يوسف – رحمه الله -، فقال: إنما يجب أداء قيمة الفلوس المقترضة على أساس الدرهم، فمن اقترض مائة فلس في المثال المذكور إنما يؤدي الآن مائتي فلس، لأن الفلوس فكة للدراهم، فمن اقترض مائة فلس، فكأنه اقترض فكة عشرة دراهم، وإن فكة عشرة دراهم يوم الأداء هي مائتان فلس، فالواجب عليه أداء مائتي فلس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1802 والذي يظهر لي – والله أعلم – أن أساس الخلاف بين أبي يوسف والجمهور مبني على اختلافهم في تكييف هذه الفلوس، فيبدو أن جمهور الفقهاء اعتبروا الفلوس أثمانًا اصطلاحية مستقلة غير مرتبطة بدراهم والدنانير ارتباطًا دائمًا، فمن اقترض عددًا من الفلوس؛ فإنه يؤدي نفس العدد دون نظر إلى قيمتها بالنسبة للدراهم، وأما أبو يوسف – رحمه الله – فاعتبر الفلوس أجزاء اصطلاحية كالفكة للدراهم، فالمقصود بالاقتراض عنده ليس عدد الفلوس وإنما المقصود اقترض أجزاء للدرهم يمثلها ذلك العدد من الفلوس، فلذلك أوجب رد تلك الأجزاء للدرهم في صورة الفلوس، وإن اختلف عددها من العدد المقترض. ونظير الرخص الغلاء الذي يأتي قيه قول أبي يوسف هذا، إن الروبية الباكستانية إلى أوائل الخمسينات كانت مقسمة على أربع وستين بيسة، (والبيسة نوع من الفلس في باكستان) ، ثم اختارت الدولة النظام الإعشاري، فأعلنت أن الروبية تكون الآن مقسمة على مائة بيسة،فكانت البيسة قبل هذا الإعلان ربع سدس الروبية، وصارت بعد هذا الإعلان عشر عشرها، فطرأ عليها الرخص بهذا القدر، فمن اقترض أربعًا وستين بيسة قبل الإعلان هل يؤدي بعد ذلك الإعلان نفس الأربع والستين بيسة. أو يؤدي مائة؟ الظاهر أنه يؤدي مائة، لأنه اقترض فكة روبية واحدة، فليؤد فكة روبية واحدة، وهي الآن مائة بيسة. فالحاصل أن قول الإمام أبي يوسف – رحمه الله – إنما يتأتى في فلوس مرتبطة بثمن آخر ارتبطًا دائمًا يجعلها كالأجزاء والفكة له، وإنما هي أثمان اصطلاحية مستقلة. وبالتالي إن الوقوف على قيمة الفلوس حسبما يراه الإمام أبو يوسف ممكن تحقيقًا لأنها مرتبطة بعيار مضبوط من الثمن، وهو الدرهم، بخلاف النقود الورقية، فإن الوقوف على قيمتها الحقيقية حسب الاصطلاح الاقتصادي المعاصر، لا يمكن تحقيقًا، وإنما تكون هذه القيمة مقدرة على أساس الخرص والمجازفة، كما أوضحته فيما سبق، فلا يقاس هذا على ذاك وقد يستدل بعض الباحثين عل جواز ربط الديون بقائمة الأسعار، بأن الواجب في القروض أداء المثل، ولكن يجب أن يرجع في تعيين معنى المثلية إلى العرف، فما اعتبره العلاف مثلًا، ينبغي أن يعتبره الشرع أيضًا كذلك. وبما أن قيمة النقود المقدرة على أساس قائمة الأسعار تعتبر مثلًا للمبلغ المقترض في العرف الاقتصادي اليوم، فينبغي أن تعتبرها الشريعة مثلًا في أداء القروض. ولكن هذا الاستدلال غير صحيح أيضًا. أما أولًا، فلأن العرف إنما يصار إليه عند عدم النص، وقد بينا فيما سبق أن النصوص التي حرمت الربا قد عينت معنى المثلية بكل صراحة ووضوح، وإن المعتبر هو التماثل في القدر، فلا مجال بعد ذلك للعرف في تعيين معنى المثل. وأما ثانيًا: فإن كون القيمة الحقيقية " باصطلاح الاقتصاد " مثلا لم يصر عرفًا معتبرًا إلى الآن، حتى عند الاقتصاديين، فمن المعلوم بالبداهة أن معظم بلاد العالم لم توافق بعد على فكرة ربط الديون بقائمة الأسعار، وإنما طبقت هذه الفكرة في دول معدودة فحسب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1803 هذا بالنسبة لأداء الديون. وأما بالنسبة لربط الأجور بقائمة الأسعار فقد رأيت أن الباحثين الذين كتبوا في هذا الموضوع بعضهم لم يتعرض لمسألة الأجور وبعضهم تعرضوا فقالوا: إن أداء الأجور على حسب قائمة الأسعار يختلف حكمه عن ربط الديون ما لم تصر الأجرة دينًا، فإن صارت دينًا فحكمها ربط الديون، وأنه لا يجوز وتفصيل ذلك أن ربط الأجور بقائمة الأسعار يمكن بثلاثة طرق. الأول: أن يقع تعيين الأجور والمرتبات بالنقود عددًا، ويتعاهد العاقدان أن هذه الأجور تتزايد كل سنة بنسبة الزيادة في قائمة الأسعار وإن هذا الطريق يعمل به في كثير من البلاد، وإن مثل هذا الربط لا مانع منه شرعًا، لأن حاصله اتفاق الفريقين على تزايد الأجور والمرتبات كل سنة أو كل ستة أشهر لسنة معينة وإن هذه النسبة وإن لم تكن معلومة عند العقد، غير أن عيارها الذي تتعين النسبة على أساسه، معلوم، فانتفت شبهة الجهالة في قدر الزيادة. والطريقة الثاني لربط الأجور بالأسعار: أن يقع تعيين الأجرة على أساس مبلغ معلوم من النقود، ولكن يشترط في العقد أن هذا المبلغ المعلوم ليس هو المرتب الواجب في الذمة، وإنما الواجب في الذمة ما يساوي هذا المبلغ عند انتهاء كل شهر حسب قائمة الأسعار. وحكمه الشرعي، فيما أرى، أنه يجوز أيضًا، بشرط أن تكون قائمة الأسعار، وطريق حسابها معلومًا لدى الفريقين علمًا لا يفضي إلى النزاع، لأن الفريقين قد اتفقا منذ بداية العقد على أن الأجرة ليست ألف روبية، وإنما الواجب ما يعادلها من الروبيات عند انتهاء الشهر حسب قائمة الأسعار، وهي معلومة منضبطة بطريق حسابي معلوم لدى الفريقين، فلا تقضي جهالة قدر الأجرة إلى المنازعة. الطريق الثالث لربط الأجور بالأسعار: أن يقع تعيين الأجرة بمبلغ معلوم من النقود، ويشترط العاقدان أن هذا المبلغ هو الواجب في الذمة، وعليه انعقد الإجارة، ولكن يجب على المؤجر عند أداء الأجرة أن يزيد في هذا المبلغ بنسبة الزيادة في قائمة الأسعار يوم الأداء. وحكمه الشرعي، فيما أرى، حكم ربط الديون بالأسعار، وأنه لا يجوز شرعًا كما مر تفصيلًا، ولله الحمد. والفرق بين هذه الصورة والصورة الثانية أن قائمة الأسعار إنما استخدمت في الصورة الثانية لتعيين الأجرة المتفق عليها، فإذا تعينت الأجرة على أساسها،انتهت وظيفة القائمة، وصارت الأجرة المعينة هي الواجب في الذمة إلى الأبد. وأما في الصورة الثالثة، فالأجرة المقررة هي الألف روبية، فصارت الألف روبية دينًا على المؤجر، وإن هذا الدين قد ارتبط بقائمة الأسعار، فحكمه حكم ربط الدين بالأسعار، ولا نستطيع هنا أن نقول: إن قائمة الأسعار تؤدي دورها في تعيين الأجرة، لأن الأجرة يجب أن تكون معلومة عند العقد، أو في ثاني الحال، بحيث لا تقبل الزيادة والنقصان بعد ذلك. فإذا تعلقت الأجرة بشيء آخر إلى الأبد، بحيث تزيد بزيادته وتنقص بنقصانه، فإن ذلك أجرة مجهولة متراوحة لا تستقر على قدر معلوم، وإن هذه الجهالة تفسد عقد الإجارة، وهذا آخر ما أردت إيراده في هذا البحث. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1804 حجة الإسلام محمد علي التسخيري: بسم الله الرحمن الرحيم بكل اختصار: من خلال بحثي لهذا الموضوع، لاحظت بعض النقاط أطرحها بشكل سريع: أولًا: يجب أن نحذف من مجال بحثنا مسألة التغير القليل أو الضئيل في القيمة لأنه لا مجال فيه للبحث ومتسامح فيه عرفًا. الشيء الآخر لاحظت أن رد القيمة إنما يتصور – طبعًا حديثي عن الأوراق المالية وأعتقد أن البحث يجب أن يقتصر على الأوراق المالية لأنها هي المبتدأ بها – في بعض الصور فقط. هناك صورة قد رفضها مجمعنا، ما لو جعلنا الأوراق المالية سندات لما يملكه صاحبها من قيمة من الذهب والفضة، ولم نجعلها مالًا قائمًا برأسه، وهذا ما رفضناه وهو الصحيح. وإلا فلو جعلنا سندات لكان تلفها غير مضر بما يملكه صاحبها من قيمتها على البنك مثلًا. الصورة الثانية التي يجب فيها رد القيمة – وأطرح هذه الصورة وأرجو أن يفيدنا العلماء بمدى إمكان العمل بها – وهي ما لو كان المسدد للبنك صاحب الحساب الجاري إذا كنا قد صورناه على أساس القرض، يسلم هذا المبلغ ويتسلمه البنك منه بقيمته، إما رأسًا أو على أساس تحويله إلى قيمته بالعملة الصعبة لا بقائمة الأسعار، العملة الصعبة التي يندر تغيرها. فعندما أدفع له المائة دينار كويتي مثلًا، أنا في الواقع أقرضه ثلاثمائة دولا بهذا الشكل، إذا كان الاتفاق بهذا الشكل الرد يجب أن يكون بالدولار، يعني تقريبًا بالقيمة. هذا المقترح يقترح بالنسبة للبنوك وخصوصًا في حالات التغير السريع في قيم العملات، كما يحدث في بعض الدول وأذكر لذلك مثلًا لبنان في قضية الليرة اللبنانية التي هبطت من مقدار 5 و2 في مقابل الدولار إلى 620 في مقابل الدولار. المصارف يمكنها أو حتى أي مقترض عادي يمكنه أن يقترض أو المقرض يقرض القيمة، فيما عدا ذلك هناك إجماع على مسألة رد المثل، وهو الظاهر ولا أقول النص من النصوص في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف، وأيضًا لدينا روايات عن أئمة أهل البيت تصرح بهذا المعنى، أذكر رواية واحدة، رواية عن الإمام الرضي، يقول: سألته، كان لي على رجل دراهم وإن السلطان أسقط تلك الدراهم وجاءت دراهم أعلى من تلك الدراهم الأولى، وهي اليوم وضيعة، فأي شيء لي عليه الأولى التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب له: لك الدراهم الأولى. وهناك روايات من هذا القبيل. مناقش: هل يسمى السلطان في ذلك الوقت؟ حجة الإسلام محمد علي التسخيري: نعم يسمى سلطانًا. الحاكم يسمى سلطانًا نعم كثير من الروايات في هذا المعني. الحاكم يعبر عنه بالسلطان في رواياتنا الكثيرة، عندنا في رواياتنا كثير من هذا التعبير موجود. أريد أن قول إن الظاهر من الروايات هذا المعنى إنه المثل الذي يرد. هذه النقطة الأولى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1805 النقطة الثانية: لاحظت أن البعض من العلماء يستدل بلزوم الضرر عند رد المثل. عندما أرد المثل في حالة تغير القيمة بشكل فاحش يلزم الضرر، أعتقد أنا لو قسمنا الأمر إلى حالتين: إلى حالة الثمن المؤجل وإلى حالة القرض. في حال الثمن المؤجل: الحقيقة من مؤجل ثمنه وخصوصًا في جو تتغير فيه الأسعار وهو يتوقع هذه التغيرات، والضرر إنما يتفادى إذا لم يكن متوقعًا من الأول، فلا يمكننا في مثل هذا الحالة أن نستدل بـ " لا ضرر ولا ضرار " في الإسلام، لإرجاع قيمة النقود إلى صاحبها بعد أن كان يتوقع هذا التغير في مسألة الثمن المؤجل، طبعًا هذا الجواب يمكن أن يطرح في مسألة القرض أيضًا، ويمكن أن يجاب عليه بجواب، يعني فيه مناقشة فيه كلام في مسألة القرض بل قد يقال بالعكس , قد يقال إننا لو قلنا بلزوم رد القيمة للزم الضرر، الضرر الاجتماعي العام تزلزل المعاملات. عقود الاستخدام، العقود الدولية القائمة، هذه كلها تعيش في حيص بيص عندما ندخل عنصر القيمة، وهذا التزلزل في المعاملات ضرره كبير. قد يقال على العكس يعني يطرح الضرر للإلزام بمسألة رد المثل. فكرة الصلح التي طرحت هنا لا تحسم الخلاف. النقطة الثالثة – وأعتذر إذا كنت قد أطلت – التي أراها ضرورية في مسألة البحث موضوع الضمان من قبل من عمل على نقص القيمة الشرائية للنقود الورقية. هذا الموضوع مهم. هذا تفصيل لكن نشير إلى أن مسألة ضمان الدولة للقيم التالفة إذا كان بفعل متعمد منها من خلال إصدار عملة دونما غطاء يذكر وإغراق الأسواق بها لتوفير سيولة نقدية ترفع بها ما تعانيه من مصاعب مما يمكن أن يدعى فيه انطباق مادة الإتلاف، من اتلف مال الغير فهو له ضامن. وموضوع الضمان صحيح هو نفس المال إلا أن العرف يتعدى، والعرف هنا له لمسألة التعدي، إلا أن العرف قد لا يرى خصوصية للعين وإنما يركز على المالية. والحقيقة المتبع في الأمر هو الصدق العرفي لعملية الإتلاف. هل يرى العرف أن الإتلاف هنا قد حصل أم لا؟ فقد يكون العامل فيه ما يتعارف في السوق مما تتركه قوانين العرض والطلب، إذ عندما تقل سلعة ما ترفع قيمتها. فإذا عمد مصنع إلى إغراق السوق بتمثيل تلك السلعة فإن قيمتها ستهبط، ولكن العرف لا يعد ذلك العمل إتلافًا، وإن كان أحيانًا يطبق هنا قانون الإضرار الاجتماعي إذا فسرنا الضرر أيضًا بالضرر الفردي والضرر الاجتماعي، وعبرنا عن الضرر بسوء الحال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1806 ومن هنا يمكننا أن نوقف صاحب معمل كبير يدخل إلى السوق ويؤثر على أصحاب المعامل الصغيرة بما ينتجه من سلع رخيصة، بمقتضى لا ضرر، إن قلنا بالتوسعة في لا ضرر.وقد يكون العامل فيه صدور بعض القوانين الاجتماعية أو المالية أو الاقتصادية التي تترك أثرها على القيمة. والظاهر أن العرف هنا أيضًا لا يرى الإتلاف ولكن إذا كان هبوط قيمة النقود بفعل متعمد من الدولة ينزل بقيمة العملة مباشرة أي النصف مثلًا، في قبال الذهب أو الدولار أو سلة العملات أو بإصدار أوراق نقدية فائضة تترك آثارها على قيمة العملة فإن الظاهر أن العرف لا يرى العملية إتلافًا بلا ريب وحينئذ تأتي قاعدة الضمان. هناك من يحاول تصحيح تدخل الدولة في مثل هذه الأمور بادعاء أن الدولة تمثل الشعب وأن الشعب رضي بكل ما تفعل وهو بالتالي رضي بقوانينها ورضي بإتلاف ماله أو من خلال ادعاء ما يملكه ولي الأمر من ولاية على النفوس والأموال. هناك تصحيحات لكن لا أراها تنهض بمسألة رفع ما تضمنه الدولة من الإتلاف إذا كان تدخلها مباشرة ومباشرًا ... هناك كلمة أشار لها أخي العزيز الشيخ العثماني، عندما أراد أن يرد على من استدل بالعرف على تحول المثالية إلى ما يعادل القيمة، قال: العرف إنما يصار إليه بعد فقد النص المستدل. أراد أن يقول حتى ولو كان لدينا نص بالمثالية، يعني حتى ولو كان لدينا نص يقول: " يجب إرجاع المثل " فإن العرف يرى مصداقًا مثليًا اليوم الرد بالقيمة فلا يمكن الرد عليه بالقول بأن العرف لا يأتي إلا إذا عدم النص. وشكرًا. الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور: بسم الله الرحمن الرحيم كنت تمنيت لو أن أخي وزميلي الأستاذ الشيخ تقي الدين العثماني حفظه الله – بالرغم من عرضه القيم ودفاعه الجليل – لو أنه جشم نفسه قليلًا عناء المراجعة للبحثين، بحثي المتواضع وبحث أخي وزميلي الأستاذ الدكتور عديل النشمي حفظه الله ولكنه كان على عجل من أمره، فجعلني وجعل زميلي الدكتور النشمي في عداد من يقول بالربط بالقيمة. ولكن هذا القول ليس على إطلاقه بالنسبة لي وبالنسبة لفضيلة الدكتور النشمي. أترك لزميلي الدكتور النشمي أن يدافع عن نفسه وأنا أدافع عن نفسي. بما قدمت من بحث متواضع بمجمعنا الموقر: فإن الربط بالقيمة ليس على إطلاقه، فقد تحدث إلي سماحة الأستاذ الرئيس وكنت بمعيته في بعض الندوات الفقهية في بعض العواصم العربية، وقال لي: إننا نحتاج إلى ضوابط في قضية ربط العملات الورقية بالقيمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1807 والواقع إني مع الزميل الدكتور النشمي اجتمع في قضية الاستحسان، فإن وجه الأخذ بالقيمة أو الربط بالقيمة بالنسبة للعملات الورقية إنما هو الاستحسان، والاستحسان يؤخذ به بالعلة الخفية إذا جار الأمر بالأخذ بالعلة الظاهرة، ومال الأمر إلى الجور. فأخذنا بالعلة الخفية وقلنا: إنه لا بد من الربط بالقيمة بضابطين اثنين: الضابط الأول: كما تفضل زميلي فضيلة الشيخ التسخيري حفظه الله، من أن التغير ينبغي أن يكون فاحشًا لا يسيرًا، لأن اليسير مما يتسامح فيه. ورأى أن هذا موضع اتفاق. لكنني ضبطت التغير الفاحش بعرف التجار، وربط زميلي الدكتور النشمي ذلك بما قاله الرهوني، وجعل كلام الرهوني لازمًا لقول أبي يوسف ولكل وجهة. الضابط الثاني: هو أن نلحظ – وهذا شيء تطرق إليه فضيلة الشيخ التسخيري – أنه يجب عند العقد ربط العملة الورقية بالعملة الصعبة، إذا لم نستطع أن نربطها بالذهب والفضة، لأن المجمع الكريم استبعد هذا الربط فإننا نربطها بالعملة الصعبة التي قد تتغير ولكنه تغير نسبي ضئيل جدًّا لا يلتفت إليه، كالدولار والين الياباني، والمارك الألماني الغربي، والفرنك الفرنسي وغير ذلك. إذا لحظنا عند التعاقد أو عند الإقراض هذا الربط فإننا نكون بمنجاة من النزول في متاهات تغير العملة وما يؤدي ذلك إلى إضرار بكلا المتعاقدين أو بكلا المتعاملين بالقرض والمداينة أو بغير ذلك. هذا خلاصة ما ذكرت في بحثي، ولن استطرد فأدافع أن ألخص البحث، إنما أقول: إنني وزميلي الدكتور النشمي قريبان من الأخ الدكتور القره داغي وكأنني في زمرة واحدة تقريبًا. قد تختلف الضوابط ولكننا نتفق في موضوع واحد هو أننا نذهب إلى الاستحسان، ونذهب إلى ضبط الاستحسان ولجمه. فالقسمة رباعية وليست خماسية كما تفضل فضيلة الأستاذ الجليل تقي الدين العثماني، وأنا أشكر له عرضه القيم وتفصيله الكريم وجرأته في الدفاع عن رأيه، علمًا بأن الأخذ للمثل يؤدي بنا إلى ورطات كثيرة. أقول ردًا على ما تفضل به زميلي وأخي الأكبر طبعًا الشيخ التسخيري حفظه الله وأخي الأكبر الشيخ تقي الدين العثماني – فأنا أصغركم سنًّا وقدرًا – أقول: إننا أحيانًا إذا جار القياس ولجأنا إلى الاستحسان فإنه إذا – أيضًا جار الاستحسان – نرجع إلى القياس. أي أن الأخذ بالقيمة ليس على إطلاقه أيضًا، فهنالك حالات كما تفضل الشيخ التسخيري فيها جور وظلم وضرر إذا ربطنا العملات الورقية بالقيمة وهذه الحالات ينبغي أن ينص عليها في القرار المجعي الموقر وأن تبحث فنرجع إلى الأخذ بالمثل، أي الأصل أن نأخذ بالمثل فيما ذهبنا إليه وقد يؤخذ بالقيمة استثناء من القاعدة. هذا ما أدى فهمي المتواضع وبحثي المتواضع أيضًا. وشكر الله لكم وجزاكم الله كل خير، والله تعالى أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1808 الدكتور علي محي الدين القره داغي: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه. أشكر السيد الرئيس على إتاحة الفرصة لنا كما أشكر الأستاذ الكريم تقي الدين العثماني على بحثه القيم وعرضه الرائع واستخلاصه الآراء الخمسة من الأبحاث، وكذلك أشكر الأخ الكريم الأستاذ الدكتور محمد الفرفور حيث إنني فعلًا شعرت بأنني منفرد بهذا الرأي فحمدت الله الآن أن معي هؤلاء الإخوة الأعزاء. ثم بعد ذلك استسمحكم جميعًا عذرًا لأشرح رأيي ووجهة نظري في هذه المسألة باختصار. ومنطلق وجهة نظري ومبادئها وضوابطها وذلك لأن رأيي ما دام مختلفًا عن رأي الأستاذ العارض، أرجو من السيد الرئيس أن يتيح الفرصة لي. فأقول وبالله التوفيق. بدأت بحث هذه المسألة منذ عدة سنوات حينما سألني أحد الإخوة فقال: لقد دفعت إلى أحد الإخوة الكرام في لبنان مبلغ مائة ألف ليرة لبنانية في سنة 1970، وكان هذا المبلغ يساوي خمسين ألف دولار، فاشترى به الأخ الكريم اللبناني مطبعة وسيارة ومحلا، ثم قبل ثلاث سنوات رد لي هذا المبلغ مبلغ مائة ألف ليرة في سنة 1986. وكانت تساوي حوالي ثلاثمائة دولار أمريكي فقط، فأنا حينما سألني عن ذلك استوقفني هذا السؤال كثيرا، ولم أفت إلى الآن بهذا البحث رغم أنني حقيقة عايشته منذ ذلك الحين. فقلت في نفسي ودون أن أفتي إذا كان رب العالمين يقول بخصوص المرابين: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} ، فكيف يكون موقفنا بالمثالية في مثل هذا الرجل الذي أقرض حسنًا فكان جزاء حسنته أن يأخذ بدل خمسين ألف دولار أمريكي ثلاثمائة دولار التي لا يمكن أن تشبع خمسة أو ستة أشخاص، مع أن المدين المفروض منه الإحسان ((خياركم أحاسنكم أو أحسنكم قضاء)) ، فانطلقت في بحثي هذا من عدة مبادئ من أهمها: أولًا: إن ما ورد فيه نص من كتاب الله وسنة رسوله يجب اتباعه، ولكن النقود الورقية حديثة العهد ولذلك لا مطمع في وجود نص خاص فيها ولا قول للمتقدمين. ثانيًا: رعاية المقاصد والمبادئ الأساسية والقواعد الكلية، فالفروع متفرعة من الكليات، فلا ينبغي لنا في فتاوانا أن نضحي بالمبادئ والقواعد الكلية، في سبيل الجزئيات ما دام لا يوجد نص على ذلك، بالإضافة إلى القواعد، قاعدة ((لا ضرر ولا ضرار)) ، بالإضافة إلى مبدأ العدل الذي أكده شيخ الإسلام، فقال: إن المعاملات بل إن الإسلام كله مبني على العدالة وتحقيق العدالة، كما ورد في ذلك: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} . قضية القسط هي الأساس والعدالة هي الأساس في الإسلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1809 ثم بعد ذلك نظرت إلى أن أصل هذه المسألة عند الإخوة الفضلاء يعود إلى قضية المثلي والقيمي. وهذه المسألة – مسألة المثلي والقيمي – قد بحثها فقهاؤنا الكرام في باب الحج، في باب القرض، في باب البيع، في باب الجنايات،في عدة أبواب فقهية. فجمعت جذور كل هذه المسائل بالإضافة إلى الاستشهاد بالآيات القرآنية التي وردت فيها كلمة المثل والأحاديث الشريفة التي وردت فيها كلمة المثل، فوصلت من خلال هذا العرض في بحث يتجاوز المائتي صفحة وهذا الذي بين أيديكم خلاصتها، وصلت إلى أن المثلية في جميع الأبواب فيها اختلاف كبير في الموازين الجزئية التي تضبطها، ولكنها تنفق وتصل وترتبط بشيء واحد وهو تحقيق العدالة. ولذلك العلماء في باب القرض الذي أشار إليه الأستاذ العثماني، حينما يقرون بأن الشيء الفلاني مثلي بالاتفاق ولكنه حينما يكون الرد بالمثل لا يحقق المثلية يعودون فيقولون يجب فيه القيمة على سبيل المثال، وأوردت في ذلك مسائل حقيقية كثيرة في جميع المذاهب، على سبيل المثال: الماء الذي يغصب أو يقرض في الصحراء لما نأتي إلى المدينة لا يجب على الشخص بل لا يجوز له أن يرد الماء وإنما ينظر فيه إلى قيمة الماء في الصحراء، كذلك الذهب وهو من المثليات بالإجماع مع ذلك حينما تدخل فيه الصنعة تزيده قيمة هائلة حينئذ لو أتلفها شخص لا ينبغي له أن يرد المثل وإنما تلاحظ فيه القيمة. ولا أريد أن أطيل عليكم. هذا بالمناسبة أيضًا أستاذنا تقي الدين العثماني وفضيلته أستاذنا الجليل وقد استفدنا من أبحاثه القيمة حقيقة كثيرًا وكثيرًا، قال فضيلته: بأنه يجب الرد بالمثل بلا خلاف. هذا الكلام ليس على إطلاقه وإنما في المثليات أما هؤلاء الفقهاء الذين أجازوا القرض في القيميات مثل الإمام أحمد والإمام الشافعي وجماعة كثيرة من الفقهاء أجازوا قرض الحيوان وما أشبه ذلك، فأوجبوا رد القيمة وأجازوا رد حيوانين فرسين مكان فرس واحد ما دامت قيمتهما تساوي قيمته. ثم بعد ذلك نعود إلى مسألة أخرى، إلا أن هذه المسألة أيضًا تعود إلى قضية هل نقودنا الورقية بغض النظر عن حقيقتها كانت حيلة قانونية للوصول إلى النقود الورقية؟ وكما لا يخفى على الاقتصاديين فإن الدولة نظرًا لعدم وجود الذهب والفضة عندها وصلت إلى النقود الورقية بحيلة قانونية، في الأول كان هناك غطاء 100 %، ثم انخفض إلى 50 %، ثم ألغي الغطاء الذهبي حينما طلب في سنة 1972م الرئيس الفرنسي أن يكون البديل عن الدولارات التي لهم على أمريكا ذهبًا، فطلب منهم الذهب ولم تستطيع الخزائن الأميركية ذلك،وبالتالي ألغت أميركا الغطاء الذهبي وحينئذ زادت الأمور اضطرابًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1810 ومن هنا نسأل، هل نقودنا الورقية مثل النقود الذهبية والفضية أم لا؟ في الإجابة عن ذلك نقول: أولًا: إن الدنانير والدراهم نقدان ذاتيان ضامنان للقيمة في حد ذاتها، في حين أن العملة الورقية نقد حسب العرف والاصطلاح. ثانيًا: أنهما لا ينسى مع نقدييتهما وزنهما بالإجماع باعتبار أن الزيادة عند الجميع – لا أدعي الإجماع – كما قال الإمام أحمد، أنهما لا ينسى مع نقديتهما وزنهما عند من اطلعت على آرائهم باعتبار أن الزيادة في وزنهما زيادة في قيمتهما. وقد أشار إلى ذلك الحديث الصحيح ((وزنًا بوزن)) ولا يلاحظ ذلك – أي الوزنية – في نقودنا الورقية. ثالثًا: إنهما – أي الدنانير والدراهم – لو ألغيت نقديتهما بقيت مثليتهما وقيمتهما في حين أن العملات الورقية لو ألغيت لما بقيت فيها أية فائدة. رابعًا: لا خلاف بين علمائنا المعاصرين في أن نقودنا الورقية تقوم بالذهب أو الفضة أو غيرهما لمعرفة نصاب الزكاة فيها، في حين أن نصاب الدراهم والدنانير ثابت ولا نحتاج فيه إلى تقدير بآخر بل يقوم بهما غيرهما. خامسًا: إن المعاصرين جميعًا متفقون على أن نقد كل بلد جنس بذاته، ولذلك يجري فيه التفاضل فيما لو بيع بنقد بلد آخر. الريال السعودي بالريال القطري يجوز فيه الزيادة باتفاق المعاصرين، وما ذلك إلا لرعاية القيمة. في حين أن الدراهم والدنانير لا نلاحظ فيهما هذه القيمة أو هذه الإقليمية. سادسًا: إن النقود الورقية كانت مغطاة في أساسها بالذهب ولا يزال الاقتصاد الخاص بالدولة التي تصدر هذه العملة له علاقة بقوتها، وضعفها ولا يؤخذ هذا في الدراهم والدنانير. سابعًا: حينما ألغى الفقهاء رعاية القيمة في المثليات مثل الذهب والفضة والحنطة والشعير نظروا إلى أنها تحقق الغرض المقصود سواء رخص سعرها أم غلا. يعني الحنطة حنطة وغذاء سواء كانت قيمتها ألف ريال أو ريال واحد. أما النقود الورقية قيمتها وأساسها في كونها تساوي مبلغًا معينًا وما يشترى بها من السلع. إذن ما تفضل به أستاذنا الكريم من قياس النقود الورقية على الحنطة – في نظري القاصر – أنه قياس مع الفارق. ثامنًا: أن الاقتصاديين يكادون يتفقون على أن مشكلة التضخم التي نعاني منها ولدت في أحضان النقود الورقية ولم يحصل مثلها عند سيادة النقود المعدنية. ولذلك فالراجع هو القول بنقدية هذه الأوراق المالية – أقول إنها نقد – وبالتالي وجوب الزكاة فيها باعتبار قيمتها، وكونها صالحة للثمنية والحقوق والالتزامات عدم جواز الربا فيها لا نقدًا ولا نسيئة، ولكن مع ملاحظة أنها لا تؤدي جميع الوظائف المطلوبة، وبالتالي ملاحظة قيمتها عندما تحدث فجوة كبيرة بين قيمة النقد في وقت القرض وقيمته عند التسليم. وهذا في نظري هو الرأي الذي يحقق العدل الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه مسلم في صحيحه، قال: ((قيمة عدل لا وكس ولا شطط)) . وهذا هو الواقع الذي تعيشه نقودنا الورقية حيث يعترف كثير من الاقتصاديين بأنها لا تؤدي اليوم جميع وظائفها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1811 الرئيس: الشيخ علي، هذا أمر قد فرغ منه خاصة في المجمع. والوقت بقي منه خمس دقائق. الدكتور علي محي الدين القره داغي: التأصيل الفقهي: التأصيل الفقهي مبني على هذه القواعد التي ذكرتها. ثانيًا: على بعض المسائل الفقهية التي ذكرها فقهاؤنا السابقون بخصوص الفلوس والدراهم والدنانير المغشوشة حيث ذهب بعض الفقهاء إلى رعاية القيمة على أساس الذهب الخالص ورواجها في السوق وملاحظة الرخص أو الغلاء، حيث ذهب أبو يوسف ومحمد في بعض الحالات وبعض فقهاء المالكية وبعض الحنابلة إلى رعاية القيمة. وهذه النصوص أيضًا موجودة أمام حضراتكم من صفحة 11 إلى صفحة 12 وصفحة 13، كذلك نجد نصوصًا كثيرة للفقهاء في هذا الموضوع، لا يتسع المجال – كما يأمرنا السيد الرئيس – لعرضها. ولو دققنا النظر فيما ذكره بعض الفقهاء، يعني الإمام ابن قدامة في المسألة التي ذكرها والحنابلة يقولون بوجوب القيمة في حالة إلغاء السلطان الفلوس أو الدراهم المكسرة، ولكن هل تجب القيمة عند الغلاء أو الرخص؟ المنصوص عن أحمد وأصحابه هو عدم اعتبارها. وقد بين ابن قدامة السبب في هذه التفرقة بين الحالتين، فقال معللا لوجوب القيمة حالة الكساد ودون حالة تغير القيمة: إن تحريم السلطان لها منع إنفاقها وأبطل ماليتها فأشبه كسرها أو تلف أجزاء منها أو تلف أجزائها، وأما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء كان كثيرًا أو قليلا. لو دققنا النظر في هذا التعليل لوجدنا فيه ثلاثة أمور. الأمر الأول: الاعتماد على أن الكساد ... الرئيس: في الواقع – مع المعذرة إن قاطعتكم يا شيخ – أنا، إذا رأيتم أن نجري على العادة، العارض هو الذي يقرأ خلاصة ما في الأبحاث، أما المناقشون سواء كانوا من أصحاب الأبحاث أو غيرها فإنهم ليس المطلوب أن يقرأوا لأن بحوثكم بين أيدينا وقد قرأها الإخوان أو اطلعوا عليها ووصلت إليهم. المراد أن يبدي الإنسان المدرك الفقهي لما يراه في هذه المسألة، أما قضية القراءة، فما أظن أننا بحاجة إليها. واسمح لي أن أقول إن كثيرًا من هذه الفقرات لا تستوعب. يعني كثير من القراءات لا يكون هناك استيعاب لها، لأن كل إنسان يقرأ بنفسه هو أولى. فالبحوث مقدمة ومكتوبة – الحمد لله – ومرسلة للأعضاء قبل شهرين أو قبل ثلاثة أشهر. فالمراد – أرجو من أصحاب الفضيلة – أنه في حال المناقشة سواء أكان من الباحثين أو غيرهم أن يناقش خلاصة ما لديه، أما القراءة، قد يقرأ الإنسان سطرين أو ثلاثة لضرورة يراها، أما الكل فهذا شيء متعذر يا شيخ. الدكتور علي محي الدين القره داغي: حقيقة، أريد من هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما ربط الدية، لم يربطها بالذهب أو الفضة وإنما ربط الدية بالجمال وهي السلعة، هذا يمكن أن يكون أصلًا لاعتبار السلع كسلة للعملات كما أن الذهب والفضة ولا سيما الذهب، كما قال الإمام الشافعي، قال: في كل شيء ممكن الاعتماد على الذهب والفضة، لكن في حالة واحدة نرجع إلى الذهب. ممكن اعتماد الذهب أيضًا معيارًا آخر لتقويم العملات، بالإضافة، بالإضافة كما قال الأستاذ الفاضل في بيان الرأي بأنه إنما نلجأ إلى ذلك في حالات الغبن الفاحش والفجوة الواسعة. هذا باختصار , والبحث أمامكم وحقيقةً أنا أحب أن أسمع فعلا الردود من حضراتكم ولا أحب أن أقرأها، أنا شخصيًّا لا أحب أن أقرأ بحثي وإنما أحب أن أسمع وأنتم تناقشون هذا البحث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1812 الجلسة الصباحية الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: نواصل في هذه الجلسة بقية المناقشة عن موضوع " تغير قيمة العملة " ويستمر البحث فيها إن شاء الله تعالى إلى التاسعة والنصف فقط، لأن المفترض أن يكون موضوع هذه الجلسة هو موضوع " الحقوق المعنوية ". ولهذا فإن تغير قيمة العملة يستمر إلى التاسعة والنصف ثم ينهى ويكون الدخول في موضوع الحقوق المعنوية إن شاء الله تعالى. وأعطي الكلمة للشيخ العاني. الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. السيد رئيس المؤتمر، في تصوري أن الخوض في إخضاع الوفاء في الديون لتغير القيمة أمر خطير ينبغي التبصر عند تكوين رأي فقهي فيه. لقد تبلور في ذهني من خلال ما اطلعت عليه من البحوث المقدمة من الإخوة في هذا الموضوع أن فقهاء الشريعة لا يختلفون في وجوب الوفاء بالمثل في الدنانير والدراهم الذهبية والفضية، مع استثناء حالتي تغيير العملة من قبل ولي الأمر أو انقطاعها. أما ارتفاع القيمة وانخفاضها غلاء ورخصًا، فلا أثر له في الوفاء إلا ما قيل في الفلوس من فتوى أبي يوسف ومحمد وما ذكر عن الرهوني من المالكية رحمهم الله. ومرد هذا كما يظهر لي أن الفلوس لا ترقى إلى مرتبة العملة الذهبية والفضية هن فينظر إليها وكأنها سلعة، وقد ظهر من بحوث بعض إخواننا أن هناك اتجاهًا للقول بجواز تغيير الوفاء إذا كان الدين الثابت عملة ورقية من عملاتنا بناء على نظرهم أن هذه العملة الورقية تأخذ حكم الفلوس. ثم دعموا رأيهم بقاعدة رفع الضرر عمن تغيرت قيمة العملة على حسابه. والذي يبدو لي – والله أعلم -. أولًا: إن إعطاء حكم الفلوس للعملة الورقية لا يستقيم، حتى وإن لم يكن هناك من الغطاء الذهبي ما يرتقي بها، وذلك لأن عملتنا الورقية اليوم قائمة مقام الذهب والفضة في معاملاتنا اليومية والتجارية، وعليها العرف جار. ثانيًا: ربط الوفاء بتغير القيمة يعني أنه قد اقترن في العقد شرط ضمني بهذا المعنى، وهو يعني جهالة ما سيتملك مستحق الزيادة، وتصرفات التمليك تأبى الجهالة. هذا فضلًا عن شائبة الربا المتولدة عن مثل هذا الشرط. ثالثًا: إخضاع الوفاء لتغير العملة يجرنا إلى اضطراب شديد في ميدان التعامل وذلك لعدم انضباط الأمر بسبب اضطراب أسواقنا وأثمان السلع فيها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1813 رابعًا: إن الأصل في القروض وتأجيل الثمن في البيع أنها تبرع من الدائن إرفاقًا بالمدين. وهذا المعنى حرصت الشريعة الإسلامية على شيوعه بين المسلمين لكونه يشكل قاعدة أخلاقية رصينة في سوق التعامل، فهو ضرب من التعاون بين أفراد الأمة، لذلك جاء قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} ، مؤكدًا لهذا المعنى. وبناء عليه، فإن ربط الوفاء بتغير القيمة يذيب هذا المعنى ويجنح بنا إلى المادية التي يمقتها الإسلام أساسًا للتعامل. خامسًا: ماذا نقول لأصحاب الدخل المحدود إذا أجزنا تغير الوفاء مع غير القيمة. فمرتباتهم ثابتة والسلع متغيرة الأثمان إلى الزيادة غالبًا. أليس من الظلم أن نطالبهم بأكثر مما اقترض بعضهم، أو بأن يدفع أكثر مما ثبت في ذمته؟ سادسًا: إذا كان بعض فقهائنا الأقدمين رحمهم الله أفتوا بتأثير الرخص والغلاء في قيمة الفلوس عند الوفاء، فذلك لأن هذه الفلوس لم ترتق في نظرهم إلى مصاف الأثمان، فضلًا عن أنه مخالف لرأي جماهير العلماء. كما أن أبا يوسف أجرى هذا المعنى في القرض والمهر دون سواهما، وأختار النقد يوم العقد وخالفه محمد في اعتباره يوم وجوب الوفاء. وهذا كما يلاحظ، يوهن من القول بربط الوفاء بتغير قيمة العملة الورقية. كما أن الرهوني اعتبر تغير القيمة الفاحش. ومن أين لنا هذا الضابط في أسواقنا المتأرجحة في تعاملها؟ هذا فضلًا عن أن رأي أبي يوسف وغيره ينبغي أن يفسر على أنه قيل في ظل مجتمع تسوده القيم والأخلاق في التعامل. ولم يقله في ظل أسواق تتلاعب بها الأهواء والنظريات والمد والجزر. لذلك، فإن ما أراه أن لا يفتح مثل هذا الباب لما له من آثار اجتماعية ونفسية خطيرة، وحماية لروح الشريعة في التعاون والإحسان، فقد فضل النبي صلى الله عليه وسلم القرض على الصدقة، كما أن رأي الجمهور ليس من اليسير تجاوزه بدليل ضعيف لا يقوى على دفع رأيهم والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الدكتور على أحمد السالوس: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. لا أريد أن أتحدث عن بحثي الذي قدمته، فقد قدم في العام الماضي وهو موجود في هذه الجلسة كذلك. ولكن أريد أن أعقب على بعض الأبحاث والأقوال التي ذكرت، وأن أبين بعض المحاذير لو أننا أخذنا بمثل هذه الأقوال. وأبدأ أيضًا بالتذكير بكلمة الأستاذ الدكتور عبد السلام العبادي بالأمس، حيث قال: إنه يجب على المجمع أن لا يعود فينقض ما أقره من قبل. وسنلاحظ أن بعض هذه الأقوال لا تنقض قرارًا واحدًا فحسب، بل تنقض أكثر من قرار. أبدأ أولًا بالنظر في النصوص. موضوعنا هل فيه نص أم ليس فيه نص؟ وإن كنا نتحدث عن النقود الورقية – وقطعًا لم تكن النقود الورقية في عصر التشريع - - موضوعنا فيه أكثر من نص، فيه حديث ابن عمر " كنت أبيع الإبل بالنقيع "، بالنقيع كما صحح هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، - وإن جاز الآخر – وهو يبين نصًّا أن الأخذ بالقيمة يوم الأداء لا يوم لزوم الدين، لا بأس إذا كان بسعر يومها. وهذا الحديث صحيح ورد من طرق متعددة. وأخذ به أكثر من إمام ووجدنا فتاوى في كثير من الكتب تبنى على هذا الحديث الشريف. ويضاف إلى هذا الحديث الشريف، فتوى ابن عمر، السائل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهم منه عندما سئل عن كري له دنانير وليس معه هذه الدنانير، فقال: أعطوه بسعر السوق. كذلك حديث تمر خيبر، الذي يبين أن الأموال الربوية لا ينظر فيها إلى القيمة وإنما ينظر فيها إلى المثلية، المثلية في الكيل، لأن تمر خبير كما هو معروف إنه يمكن فعلًا أن ننتهي إلى نفس النتيجة، الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة، ولكن لا تفعل إنه عين الربا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1814 بيان: هنا لا بد أن ننظر إلى القدر لا إلى القيمة. ثم حديث الأصناف الستة، ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة)) . والأحاديث الأخرى (الدينار بالدينار لا فضل بينهما , الدرهم بالدرهم لا فضل بينهما) هذه الأحاديث تخرج النقود الورقية؟ لا لا تخرج النقود الورقية، لأنه من المعلوم في أصول الفقه أنه لا يؤخذ بمفهوم المخالفة عند اللقب، بل قيل إن هذا شرعًا وعقلًا لا يؤخذ به – بمفهوم اللقب - فإذا قيل الذهب والفضة فإن هذا لا يقتصر على الذهب ولا الفضة، وإنما غير الذهب والفضة يحتاج إلى دليل آخر. لا نقول إن هذا دليل على أن الأموال الربوية، بالنسبة للأثمان الذهب والفضة، أو للأوزان الذهب والفضة. هذا لا يقال لأنه هنا لا يؤخذ بمفهوم المخالفة. ثم نقول إن حديث الأصناف الستة، وحديث الدينار بالدينار والدراهم بالدرهم. هذه الأحاديث تدخل النقود الورقية بمفهوم الموافقة بدلالة الدلالة. لأنا إذا قلنا بأن الدينار هو ما كان في عصر التشريع من أية ناحية؟ من ناحية الوظيفة أم الوصف؟ إذا قلنا من ناحية الوصف وقعنا في خطأ شديد. لم؟ فالدينار الذهبي كان عليه الصليب والدرهم الفضي كان عليه رمز عبدة النار، فهل هذا هو الدينار الشرعي؟ وهل هو الدرهم الشرعي؟ بالطبع لا يمكن أن يقول أحد بهذا. وأجاز الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين أن يتعاملوا بدينار عليه صليب، وبدرهم عليه ما يخالف العقيدة، لم؟ لأن النقود مردها إلى الاصطلاح. كما يقول شيخ الإسلام: ما تعارف الناس على أنه درهم فهو درهم، وما تعارف الناس على أنه دينار فهو دينار. ولذلك النقود تعرف تعريفًا وظيفيًّا لا وصفيًّا. يقال عن النقود: هي أي شيء، ذهب، فضة، غير هذا، أي شيء يكون مقياسًا للقيمة ووسيلة للتبادل ويحظى بالقبول العام، أي شيء. إنما إذا قلنا بأن حديث الأصناف الستة وحديث الدينار وحديث الدرهم يقف عند نقود عصر التشريع، إذن فالدينار الشرعي هو الدينار الذي عليه صليب ومن الذهب. فإذا قلنا من الذهب وحذفنا الصليب , لِمَ؟ كان الأولى أن يحذف الصليب لأنه يتعارض مع العقيدة كان الأولى أن يحذف ما يبين عبدة النار، لأنه يتعارض مع العقيدة. ومع هذا حتى بعد أن ضربت النقود في البلاد الإسلامية بدأ المسلمون خطوة خطوة، بكسر عارضة الصليب، وبطمس بعض معالم النار، لِمَ؟ لأنه لو أن المسلمين أخذوا دينارًا بغير صليب وذهبوا إلى الشام أو إلى اليمن لا يقبل، لأنه لا بد أن يحظى بالقبول العام. ولذلك نذكر هنا في عهد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – عندما كثر التزييف في الدراهم فأراد أن يجعل الدراهم من الجلود، كيف فكر أن يجعل الدراهم من الجلود؟ لو أن الدرهم الشرعي من الفضة، ثم عندما استشار، ماذا قالوا له؟ لم يقولوا له يا أمير المؤمنين هذا مخالف للشرع، كيف تترك الفضة وتأخذ الجلود؟ وإنما قالوا له: إذن لا بعير فأمسك. ولعل هذا هو الذي أوحى للإمام مالك بقوله الشهير: لو أن الناس اتخذوا الجلود.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1815 إذن هنا النقود مردها إلى الاصطلاح، ليس لها حد شرعي وإنما ما اصطلح الناس على أنه نقود، والنقود تعرف تعريفًا وظيفيًّا لا وصفيًّا، فلا يقال النقود من الذهب ولا النقود من الفضة ولا النقود ما كان لونه كذا أو شكله كذا، وإنما كما قلنا التعريف تعريف وظيفي. إذن موضوعنا فيه بيان من السنة، وفيه فتوى صاحبي، وموضوعنا يمكن أن يدخل من باب دلالة الدلالة في حديث الأصناف الستة، وفي حديث الدينار وفي حديث الدرهم. نرى هنا من يقول: لأن الفلوس استعملت في عصر التشريع ولم تأخذ حكم الذهب والفضة، ثم هذا القائل يقول أيضًا: نلحق النقود الورقية بالفلوس. أمر عجيب! الفلوس كانت في عصر التشريع نعم ولم تلحق بالذهب والفضة، نعم هذا صحيح ولكن ما معنى هذا؟ الفلوس في عصر التشريع كانت ليست من وعاء الزكاة، ما كانت تزكى. أفنقول في يومنا، النقود الورقية نلحقها بالفلوس نلحقها بالفلوس في عصر التشريع فلا تزكى؟ ! أحكام النقود لا نأتي فيها إلى حكم ونترك باقي الأحكام، أحكام النقود لا بد أن ننظر إليها متكاملة، الأحكام الخاصة بالنقدين. فإذا قلنا بأن النقود الورقية لا تلحق بالذهب ولا تلحق بالفضة وإنما تلحق بالفلوس في عصر التشريع وبعد عصر التشريع،إذن نقول هنا: إذن لا زكاة. ونرى باحثًا أيضًا يقول: يجوز الفلس بالفلسين، نقدًا ونساء عند أكثر أهل العلم. ثم يقول أيضًا نلحق النقود الورقية بالفلوس، أمر خطير للغاية، الفلس بالفلسين نقدًا ونساء ونلحق النقود الورقية؟ ولذلك أنتهي إلى النتيجة الخطيرة أنه يجوز، ألف دينار اليوم أو ألف جنيه اليوم بألف ومائتين بعد سنة! فأين الربا إذن إذا اعتبرنا أن هذه النقود الورقية ليست أموالًا ربوية لأن الأموال الربوية مثلية؟ يعني إذا قلنا بأنها قيمية فليست أموالًا ربوية، لأن الأموال الربوية مثلية، فإذا قلنا هذه ليست مثلية وإنما هي قيمية ونأخذ بالقيمة ويجوز الزيادة يدًا بيد ٍ، ونساء، إذن أي صور الربا تكون في عصرنا؟ معنى ذلك أنه لا ربا في عصرنا، كل الربا في عصرنا حلال، لأن مشكلة الربا في عصرنا ليست في زيادة قمح بقمح ولا شعير بشعير، وإنما مشكلة الربا في عصرنا في النقود الورقية. فإن قلنا: بأن النقود الورقية، لأن النقود الورقية تلحق بالفلوس وأن أكثر أهل العلم يرون جواز الفلس بالفلسين نقدًا ونساء، إذن ننتهي إلى أننا نقول: نحل الربا في النقود الورقية، لأن النقود الورقية ليست من الأموال الربوية. ثم أنلحق بالأصل أم بالفرع؟ هل نلحق النقود بأصل متفق عليه وبنص وبحكم منصوص عليه، أم بفرع؟ كيف يأتي هذا؟ . من الناحية الفقهية الأصولية النقود الورقية تلحق بماذا؟ ثم إن الفلوس كانت في المحقرات، كانت كما بين فضيلة الشيخ تقي الدين حفظه الله، كانت مثل الفكة وهي ما تسمى في عصرنا بالنقود المساعدة كأجزاء الدينار والريال وهكذا. إنما لم تكن هي النقود. وفي عصرنا الآن لا يوجد إلا هذه النقود،أفنصبح في عصر بغير نقود؟ لو قلنا بالقيمة إذا أصبحنا في عصر بغير نقود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1816 ولذلك أرى فعلًا أن هذا الموضوع خطير للغاية، لو أننا لا قدر الله أقررنا الأخذ بالقيمة، إذن يترتب على هذا محاذير كثيرة، أولها: أنه لا زكاة في النقود الورقية. ولذلك بعض الباحثين عندما أراد أن لا يتناقض مع نفسه قال: أيضًا يمكن أن تكون الزكاة بالنسبة للصرافين وغيرهم الذين يتاجرون في النقود الورقية. ومعنى ذلك أن من عنده مليارات ولا يتاجر فيها فلا تجب فيها الزكاة، لأنها ليست عروض تجارة وليست من النقدين، ليست من الذهب وليست من الفضة. الذهب نفسه: نحن في عصرنا نعرف أن شركات أفلست وبعض الشركات خسرت عشرات الملايين بسبب انخفاض قيمة الذهب، عندما انخفضت قيمة الذهب فجأة، شركات أفلست وبعض الشركات – فعلًا – خسرت عشرات الملايين. معنى هذا أن الذهب انخفض، أما النقود الورقية ارتفعت، انخفاض الذهب معناه أن النقود الورقية ارتفعت. إذن في هذه الحالة لو أن أحدًا اقترض ذهبًا أو فضة، ماذا يؤدي؟ لو أن الذهب كان بألف فأصبح بخمسمائة هل نطالبه بضعف الذهب؟ بماذا نطالبه؟ وإذا قلنا لا، الذهب المثل، ولِمَ في النقود الورقية لا نقول المثل؟ إذن لو أخذنا بالقيمة، زكاة النقدين تنتهي. ثم فتوى المجتمع السابقة بأن النقود الورقية نقد قائم بذاته له ما للذهب والفضة من الأحكام يلغى، الذي أقره المجمع هنا وأقرته المجامع الأخرى وأقر واستقر خلال ربع قرن هذا يلغي. ثم الحساب الجاري في البنك، كيف إذن يؤدى بمثله؟ معنى ذلك أننا علينا أن نلزم البنوك بأنها تؤدي زيادة عن المثل، القيمة، ثم يخرج من هذا إلى عدالة البنوك الربوية وظلم البنوك الإسلامية. لو أقررنا القيمة فالبنوك الربوية عادلة، والبنوك الإسلامية ظالمة، لِمَ؟ البنوك الربوية عادلة لأنها تقول بأنها تدفع شيئًا تعويضًا عن التضخم، فهي تحاول أن تدفع. والبنوك الإسلامية تكون ظالمة، لِمَ.؟ لأنها تحسب رأس مال المضاربة بالمثل لا بالقيمة. نعطيها النقود الآن وتأتي في العام القادم فتقول الألف زاد عشرة، زاد مائة. أي ألف؟ لو نظرنا إلى القيمة فالألف أصبحت قيمته الآن سبعمائة أو ثمانمائة، إذن مفروض أنه كعامل مضاربة ألا يأخذ إلا بعد سلامة رأس المال. فالبنوك الإسلامية أرباحها لا تساوي التضخم. إذن هي تأخذ من رأس المال وهذا مرفوض شرعًا، لأن المضارب لا يأخذ إلا بعد سلامة رأس المال. ومعنى ذلك فتوى المجمع السابقة الخاصة بالبنوك التي تتعامل بالفوائد وبالبنوك الإسلامية، هذه الفتوى أيضًا يجب أن تنقض وأن نخرج للناس قانونًا جديدًا بأن هذه البنوك الربوية لا نسميها ربوية، أنه حتى نفس الأوراق النقدية ليست من الربا. إذن الأمر لا شك خطير للغاية، ويجب أن نتريث فيه قبل أن نقدم عليه وأن ننظر إلى هذه المحاذير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1817 بعض الأخوة قال: ننظر إذا كانت الزيادة فاحشة فهي التي لا تقبل،أما إذا كانت الزيادة ليست فاحشة فمثل الغرر اليسير، فليكن مثلا في الثلث. والواقع أعجب أن مالكيًّا يقول هذا وهو متمسك بمالكيته، لأن الإمام مالكا نفسه قال عندما سئل: لو أن المثل كان بمائة فأصبح بمئتين، فماذا يؤدي؟ قال: يؤدي المثل والصاوي يقول: فالواجب قضاء المثل، أي ولو كان مائة بدرهم ثم صارت ألفا بدرهم أو بالعكس. وننظر هنا إلى العبارة في وقت وجود النقود الذهبية والنقود الفضية، لو كان المثل بمائة فصار ألفا أو العكس، يعني التضخم ألف، من مائة إلى ألف أو العكس، قال: لما وجب إلا المثل. فعلى أي أساس نقول إذن بأننا ننظر إلى الزيادة أو النقصان في النقود، هل هذا النقصان غرر يسير أم غرر فاحش؟ لا أريد أن أضيف بالنسبة إلى الجهالة ما ذكره الإخوة الأجلاء، ولكن أقول هنا بأن الذي أثر على هذه الأبحاث في الآونة الأخيرة هو ما حدث لليرة اللبنانية في أيامنا ومثل هذا يمكن أن ينظر إليه نظرة خاصة. مسألة الكساد والانقطاع التي عالجها الأئمة من قبل أن ينظر هنا حتى في تعريف النقود. أي شيء يكون مقياسًا للقيمة ووسيلة للتبادل ويحظى بالقبول العام. قد نجد نقودًا – الآن – لا تحظى بالقبول العام. قد نجد في الدولة ذاتها نقودها لا يقبلها الناس ويتعاملون وهم في نفس الدولة بنقود أخرى. هذه قضية فرعية يمكن أن تبحث كقضية فرعية،أما أن نأتي بحكم عام على النقود الورقية ونقول ليست نقودًا ولا تلحق بالذهب ولا تلحق بالفضة، فهذا أمر خطير أردت أن أشير إليه. والله أعلم بالصواب. والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1818 الدكتور محمد سليمان الأشقر: بسم الله الرحمن الرحيم. كان في تقديري – الترتيب الطبيعي – أن تكون كلمتي قبل كلمة الشيخ على السالوس لأجل أن يرد على كلامي، لأنه هو في الحقيقة يرد على كلامي وأنا قلت ما قلته في بحثي المقدم للندوة السابقة للمجمع، ولم أتمكن من الحضور لعرضه. وقلت في بحثي أن هذا رأي مقدم لمجرد استكمال الآراء وطرح البحث، ولعله تخرج من المجمع فتوى تتوسط بين الآراء وتأخذ من كل رأي بنوع من الاعتبار حتى نتلافى الأخطار الواردة من الجهتين:الجهة التي أخذ بها الشيخ السالوس، وبين الأضرار أي تنبني على القول بعدم ربوية الفلوس، وأيضًا الأخطار التي تنبني بعدم ربوية الأوراق النقدية. والقول بربوية الأوراق النقدية، كذلك فيها أخطار هائلة جدًّا وكل منا الآن يحس بها. فإذن ليس قولي بعدم ربوية الأوراق النقدية ليس قولًا نهائيًّا ولا أفتيت به ولا دعوت الناس إلى الأخذ به وقلت في بحثي أنه لا يحل لأحد أن يأخذ بهذا القول ما لم يقره المجمع. وللأسف،إن بعض الإخوة سرب إلى بعض الصحف في بيروت، صحفية تدعي أنها محترمة مجلة وتتبع جهة محترمة ومع ذلك لم تبال بأن تنشر هذا البحث قبل موعده وتحذف منه التحفظات التي فيه للأسف. أولًا: أعتب أيضًا على الأخ الشيخ تقي الدين العثماني أنه ما ذكر هذا القول أصلًا في الأقوال الخمسة أي سردها بالأمس. أنا لي قول ذكره، وهذا قول آخر أيضًا مطروح للبحث، فكانت الأقوال ستة في الحقيقة وهو القول بعدم ربوية الفلوس. تئول الأقوال الستة في نظري إلى ثلاثة أقوال: القول الأول: بأن الأوراق النقدية أصناف روبية كالذهب والفضة تمامًا وتأخذ أحكامها من جميع النواحي، ولا يجوز الزيادة ولا التعويض ولا أي شيء، وتعامل كالذهب والفضة مئة بالمائة. القول الثاني: إن هذه الأصناف ربوية ولكنها يمكن التعويض فيها بطريق من الطرق التي ذكرت بالأمس، منها اعتبار سلة الأسعار أو التوكيل إلى جهة، أو بالذهب كما ذهب غليه بعض الأخوان، يعين تقديرها بالذهب ارتفاعًا وانخفاضًا، أو الطريقة التي أشرت إليه في القول الذي ذكره عني الأستاذ تقي الدين أمس، وهو أن تتولى جهة حكومية تحديد الارتفاع أو الانخفاض في التضخم حتى يكون السداد على أساس ذلك، وتكفل العدالة للمقرض والمستقرض أخذًا بقوله تبارك وتعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1819 القول الجديد الذي لم يذكر بالأمس: وهو في الحقيقة مطروح في نادي العلماء في العالم الإسلامي هو أن النقود الورقية غير ربوية. وأعرف والشيخ علي يعرف والإخوان جميعًا أو أكثرهم أن الشيخ حسن أيوب كان هذا رأيه، وكان يدافع عنه، وكتاب فيه ورد عليه الشيخ عل السالوس، ولا أدري لِمَ لَمْ يتيسر حضوره في مثل هذا البحث الذي ينبغي أن يطرح من جميع النواحي ويستقصي البحث فيه ليكون الاجتهاد سليمًا ومستوفيًّا ومنظورًا فيه إلى الأقوال المطروحة. وكذلك فيما أتذكر إن لم أكن واهمًا عليه الشيخ عبد المنعم النمر، أظن أنه قال بشيء من هذا. فالقول مطروح في النادي العلمي الإسلامي بمعناه الواسع وليس قولًا مجهولًا، وليس قولًا يستحى من ذكره إن كان الشيخ تقي الدين استحى أن يذكره أو رآه ليس بالقدر الذي يمكن أن يذكر. وقد يكون عذره أنه ما رآه، لأنه في تضاعيف البحث. فهذا القول الذي هو عدم ربوية الفلوس منظور فيه إلى أن عدم ربوية الأوراق النقدية، أقصد إلى أن النصوص الواردة حددت الأصناف الستة تحديدًا لا يمكن لأحد من أهل العلم أن ينقضه، لأنه ثابت بالإجماع وبالأحاديث الصحيحة أن الأصناف الستة ربوية، وأنها لم تتعرض للأوراق النقدية، سكتت عنها.فإذا قلنا بأنها ربوية مئة بالمائة قطعًا فهذا فيه نظر، لأنها إنما ألحقت الأوراق النقدية في هذه المسألة بالذهب والفضة إلحاقًا، أي على طريق القياس، وليس هو على سبيل مفهوم الموافقة كما قال الشيخ علي السالوس، لأن مفهوم الموافقة يقتضي التوافق من جميع النواحي وعدم وجود فروق بين الملحق والملحق به، فيكون قياسًا جليًّا ويكون بدرجة النص. لكن لا شك أن بين الذهب والفضة وبين الأوراق النقدية فروق شاسعة وكبيرة كما لا يخفى أن الإلحاق يكون بعلة وهذه العلة التي ثبتت في الربويات الستة، العلماء اختلفوا فيها اختلافًا كبيرًا، ولا يخفى ذلك , يعني هي من أكثر المسائل الخلافية في الفقه الإسلامي علة الربا كما لا يخفى هل هي الطعم، هل هي الوزن أو الوكيل أو الاقتيات أو غير ذلك، هذه علل مختلفة. كل مذهب من المذاهب الأربعة ذهب إلى وجهة نظر وقد تكون هناك آراء في الفقه الإسلامي سوى هذا فلم يتفقوا على علة معينة، ولا شك أن هذا العلل غير متوفرة كلها في الأوراق النقدية حتى نقول إنها ملحقة إلحاقًا قطعيًّا أو إلحاقًا يجزم به، وأنه لا يكون ظنيًّا، بل هو إلحاق ظني بلا شك في ذلك لأنها علة ظنية، وهذا أمر مجزوم به ولا يخفى. وأيضًا الذهب والفضة كنقود تتأدى بهما، أو إذا ألحقنا النقود الورقية بالذهب والفضة، فإنما نلحقها إذا توافرت على القول بأن العلة هي النقدية في الذهب والفضة. فالنقود لها أربع وظائف: الوظيفة الأولى: هي وسيط للتبادل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1820 الرئيس: أخ محمد، الوقت ما بقي منه إلا عشرون دقيقة فلو تكرمت بالاختصار. الدكتور محمد سليمان الأشقر: الأخطار بربوية النقود الورقية واضحة جدًّا. أثبت أن الذهب والفضة من عهد النبوة إلى هذا الوقت لم تتغير قيمتها، قوتها الشرائية ثابتة من عهد النبوة إلى الآن 1400 سنة. أنا أقول بهذا. أنا أثبته بدليل لم تتغير حقيقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي رجلًا دينارًا – هناك بعض المناقشين تدخلوا ولم أفهم كلامهم -. سأبين الخطر في الاستمرار على هذا القول دون تعديل. أنا أقبل التعديل الثاني، وقلت في بحثي إنني أقبل التعديل الثاني التعويض بالقيمة التي يضمن بها الإنسان أنه حصل على حقه. أقبل بهذا القول، لكن أعرض هذا ليكون أساسًا. في عهد الني صلى الله عليه وسلم أعطى رجلًا دينارًا ليشتري شاة، فاشترى شاتين وباع إحداهما بدينار، الآن الدينار الذهبي الإسلامي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يساوي سبعة عشر دينارًا كويتيًا تقريبًا، سبعة عشر دينارًا تشتري شاة، الإبل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، عشرة دنانير ذهبية تأتي بجمل أو بعير الآن يساوي هذه القيمة. القيمة لم تختلف من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن. القوة الشرائية للذهب ثابتة، وهذا معنى قول العلماء " الذهب نقد خلقة ". وأما النقود الورقية، ففي ستين سنة فقط منذ أن دخلت البلاد الإسلامي إلى الآن، في النقد التركي كمثال أضربه كانت الليرة الذهبية تساوي ليرة ورقية،الآن حوالي خمسين ألف ليرة ورقية تركية تساوي ليرة تركيبة ذهبية. خمسين ألف من ستين سنة. معناه كل سنة ألف مرة يسقط. نقود المسلمين والمتمسكين بالإسلام الآن تتهاوى قيمتها وتآكل في البنوك الأجنبية، وتكسب البنوك الأجنبية أصولًا وتثبت أصولًا وتبني أصولًا، ثم تعيد إلينا ورقًا خاليًا. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1821 الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. ربنا هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا. إن قضية تغير العملة وآثار ذلك وأحكامه، أريد أن نقرر فيها قواعد: القاعدة الأولى: أنها قضية اجتهادية، فالحق فيها ظن لا يقين. ولذلك يعذر بكل من رأى رأيًا وهو مأجور. الأمر الثاني: هو أن كثيرًا مما كنت أريد أن أتحدث به، تفضل به الشيخ السالوس فلا أعيد. الأمر الثالث الذي أردت أن أضيفه: هو أن التصور للعملة في عهدنا هو أمر ضروري. كانت العملة ذهبًا وفضة، وكان للذهب قيمته الخلقية كما هو معلوم. أما اليوم أصبحت العملة هي عبارة عن ناتج مقابلة بين استهلاك الأمة وبين إنتاجها، فما تنتجه الأمة وما لها من ثروات يقابله استهلاك الأمة. فإذا فاق الاستهلاك القدرة على الإنتاج وعلى إضافة الخيرات تضخمت الأموال وسقطت العملة أو نقصت حسب ذلك. وهذه المعادلة التي هي معادلة ثابتة لم تختل إلا في الولايات المتحدة الأمريكية نظرًا لأن الولايات المتحدة الأمريكية عقب الحرب العالمية الأولى انكمشت على نفسها ولم تستفد من نصرها، أما بعد الحرب العالمية الثانية فأرادت أن تستفيد بكل ما جاءها من نصر عقب الحرب العالمية الثانية، وبذلك جعلت ورقتها الدولار هي العملة التي تقوم بها كل العملات، وأصبحت تطبع في الأوراق بدون حساب وتستفيد من ذلك إلى أن بدت من أواخر الستينات إلى السبعينات للعالم هذه النواحي السلبية وقام العالم يطالب بتصحيح الأوضاع ولم يستطيع بعد ذلك. فالذي يهمنا هنا هو أنه عندما نقول أن العملة الورقية نقصت قيمتها أو زادت قيمتها، فذلك حاصل عن إنتاج قومي عام. وعندنا الناس أرباب القضية المبحوث فيها منهم دائن ومدين، فالدائن أعطى مالًا له قيمته. والحجة الكبرى التي يعتمدها من يقول بأن من أعطى قيمة مالية يجب أن ترجع له وأن ترد نفس القيمة المالية، التي هي من قبل المدين، حجته الظاهرة هي العدالة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1822 هذا رجل أعطاك مائة ليرة تساوي عشرة كيلو من اللحم لا بد أن ترد له عشرة كيلو من اللحم أو ما يساويها، وهذا خطأ، لماذا؟ وذلك لأنه عندما تنقص القيمة إنما هي تنقص نقصًا عامًّا على الجميع، بمعنى أن الأمة كلها القوي فيها والضعيف، اختزل من قيمته، من قيمة العملة التي يملكها ذلك المقدار، فإذا حَصَّنَّا الدائن وأعطيناه الحق في أن يسترد القيمة يوم أعطى المال، فمعنى ذلك أننا قد أعطينا قوة للقوي وزدنا ضعف الضعيف، وجعلنا الخسارة يتحملها الضعيف وهو المدين، وجعلنا الدائن دائمًا هو في الصف القوى، فتقوية الدائن على المدين هذه هي الثغرة التي هي موجودة في المعادلة عند من يقول إنه يرغب العدالة،ولكنها عدالة زائفة وليست حقيقية، بل العدالة حقيقة أن تبقى النقود. من أعطى مئة يأخذ مئة ويخسر في ذلك الضعيف والقوي على حد سواء، وكل على حسب قدرته. هذا وأود تأكيد ما ذكره الدكتور السالوس من أن الحديث هو " كنت أبيع الإبل بالنقيع "، والنقيع هو الحمى الذي كانت تجمع فيه إبل الصدقة، وليس البقيع الذي كان مقبرة للمسلمين بجانب المدينة. ثم إن ما جاء في الأمس من كلام فضيلة الشيخ الصديق الضرير من أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ونحو ذلك، هو من العام المراد به الخاص، فهذا ليس من العام المراد به الخاص. فالعام المراد به الخاص هو غير هذا، ومثاله قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، عندما فسروها بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتعبير بكلمة عامة عن الخاص، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو من العام المراد به الخاص. أما. أما {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، فهو عام قد خص وفرق بينهما كبير. فأردت تأكيد هذا. وشكرًا لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1823 الدكتور إبراهيم فاضل الدبو: بسم الله الرحمن الرحيم. إن الكلام عن تغير قيمة العملة يدعونا لمعرفة حكم العملة الورقية كما ذكر الإخوة الأفضل. وأظن بأن المجمع الموقر وغيره من المجامع الفقهية قد أكد على أن العملة الورقية تقوم الآن مقام الذهب والفضة، ولا يمكن أن نعتبرها كالفلوس التي تكلم عنها فقهاؤنا الأقدمون رحمهم الله تعالى، لما بينها وبين الفلوس من تفاوت. فالفلوس أعدت لشراء المحقرات كما ورد ذلك في تعبير الفقهاء، في حين أن العملة الورقية الآن هي الأثمان الرائجة في الأسواق. فإذا عرفنا بأنها تقوم مقام الذهب والفضة تبين لنا ما يأتي: أولًا: إن الديون تؤدى بمثلها لا بقيمتها، أي عملًا بسعر صرف يوم الأداء لا يوم ثبوت الدين، عملًا بالأحاديث الواردة بهذا الشأن ومن ذلك حديث ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما -. ثانيًا: ما احتج به بعض الباحثين بقول أبي يوسف رحمه الله في الفلوس الكاسدة غير وارد كما ذكرت آنفًا، لأن هناك فرقًا بينها وبين العملة اليوم، وأود أن أبين بأن الخلاف بين أبي يوسف وبين غيره من فقهاء الحنفية رحمهم الله تعالى إنما هو في الكساد لا في الرخص. فها هو الطحاوي - رحمه الله - تعالى ينقل عن ابن شابي قوله: وأجمعوا أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت، فعليه مثل ما قبض من العدد. ثالثًا: حكى ابن عابدين عن بعض كتب المذهب ما هو أولى بالاحتجاج في هذا الموضوع. فقد نقل عن بعض كتب المذهب ما يلي: رجل اشترى ثوبًا بدراهم نقد البلدة فلم ينقدها حتى تغيرت فهذا على وجهين، إن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق أصلًا فسد البيع لأنه هلك الثمن، وإن كانت تروج لكن انتقصت قيمتها لا يفسد، لأنه لم يهلك وليس له إلا ذلك. وإن انقطع بحيث لا يقدر عليها فعليه قيمتها في آخر يوم انقطع من الذهب والفضة وهو المختار. وأود أن أقول لأخي الشيخ علي القره داغي بأن مطلق الثمنية هو العلة في تحريم الزيادة في الأثمان، وهذا هو رأي أكثر الفقهاء رحمهم الله تعالى، وليس الوزن بل هو قول للحنفية وعندما اعترض عليهم كيف تجيزون السلم بها في أشياء الموزونة مثل الزعفراني وغيره؟ أجابوا عن ذلك بأن الوزن يختلف في كل منهما، فالذهب والفضة توزن بالصنجات، والزعفران وغيره يوزن بالأواني. لذلك أني أرى وأذهب إلى ما ذهب إليه الإخوة الأفاضل من أن العملة الورقية تقوم الآن مقام الذهب والفضة وبالتالي ينبغي ألا ننجر إلى تغيير قيمة العملة لما ذكر البعض الآخر. وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1824 الدكتور عجيل جاسم النشمي: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وبعد: فيبدو أن القائلين بالقيمة قد هضم حقهم إلى حد كبير سواء في بيان وجهة نظرهم بالأمس أو في إبداء حججهم وإعطاء الفرص الكاملة. فضيلة الشيخ تقي الدين حفظه الله بالأمس نسب إلى القول بالقيمة مطلقًا، وأنا لم أقل بالقيمة مطلقًا في بحثي ولا أظن الزملاء قالوا بذلك كلهم. كما أن بعض الإخوة خرج عن الموضوع وخرج عن محل النزاع، وادعى بأننا لو أخذنا بالقول بالقيمة نبطل فتاوانا السابقة، وبين الموضوعين فارق كبير جدًا. الآراء التي لخصها فضيلة الشيخ تقي الدين واعتبر رأي القائلين بالمثل رأيًا واحدًا، وبقية الآراء عدها خمسة، وهي في الحقيقة لا تخرج عن رأيين قول بالقيمة، وقول بالمثل. لكن هناك تفصيل في كلا الرأيين. كما أن فضيلة الشيخ تقي الدين ذكر أن القائلين بالقيمة من الأبحاث هما أنا والدكتور عبد اللطيف الفرفور بينما يبدو لي أن هناك ستة أبحاث يقول أصحابها بالقيمة، أذكر منهم الدكتور نزيه والدكتور ابن بيه على ما أظن، وكذلك الدكتور القرضاوي والدكتور على القره داغي والشيخ محمد الأشقر أيضًا ربما غيرهم. كما أن العرض اقتصر على وجهة نظر واحدة، هذا من حيث إطار الموضوع. أما الموضوع فكثير من الزملاء الذين تكملوا فيه صوروا موضوع القول بالقيمة كأنه قول شاذ، وأنه لا قائل به وأنه أمر مستحدث. والحقيقة أن القول بالقيمة جملة في هذا الموضوع كل المذاهب قالت به، في حالة الكساد قال به الحنابلة والمالكية في مقابل المشهور وأبو يوسف ومحمد. وفي حال الانقطاع قال به جمهور الفقهاء والمالكية والشافعية والحنابلة ومحمد بن الحسن وأبو يوسف، والفتوى عليه عند الحنفية. وليس معنى هذا أن هناك تطابقًا بين القول بحالتي الكساد والانقطاع وحالة الرخص والغلاء وبينما فارق كبير، لكن قصدي أن أقول إنه قدرك مشترك بالتقدير برد القيمة. جمهور الفقهاء في حالة الرخص والغلاء كما علمنا يقولون إنه يرد ذات النقد الثابت في الذمة،ورأي آخر وهو كما أشار الشيخ تقي الدين وغيره هو رأي الإمام أبي يوسف. البعض حاول أن يشكك في قول أبي يوسف هذا القول ليس قولًا مغمورًا، هو القول المفتى به عند الحنفية. وهذه الواقعة لم تكن في حالات العملة البسيطة كما ذكر البعض بالفلوس، وإنما كان حالات كوارث اقتصادية نزلت بالعالم الإسلامي تكررت حوالي سبع مرات في القرون من القرن الخامس حتى القرن الحادي عشر. فيمكن القول بالقيمة قولًا مغمورًا، أو قولًا ضعيفًا عند الحنفية خاصة بل هو القول المفتى به. وهذا ثابت بنصوصهم ولا نذكرها. ثم إننا حينما نأخذ بقول أبي يوسف ونعمل به قيدناه بقيود. القيد الأول وهو ما ذكره الرهوني بأن يكثر الغلاء جدا ويكون الغلاء فاحشًا. وتعليله بهذا تعليل معقول، لأن التغير الفاحش يدخل على الدافع، سواء كان في القرض أو في بيع الأجل الظلم. ولذلك يقول الرهوني: إن البائع إنما بذل سلعته في مقابلة منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينفع به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1825 وهذا كلام سليم كذلك الظلم يترتب حتى في القروض. ولو قلنا إنه يعطى المثل لربما سد باب التيسير على الناس، فيحجم الناس عن إعطاء القروض. ثم إننا نقيده أيضًا بقيد وهو أن الذي يقرر حالة الغلاء ليس الأفراد فيما بينهم وإنما هي الدولة، لأنها حالة اقتصادية نادرة الحدوث، فينبغي أن تكون بيد الدولة، وهي التي تقرر إن كان هناك تغير فاحش، أم لا، وتقدر نسبة التغير كما هو معمول به في الدول. وفي حالة التضخم الدولة هي التي تقدر هذا التضخم. وبذلك لا يكون الأمر فوضى كما قد يتصور البعض. الزميل على القرة داغي بالأمس ذكر عشر حجج قوية في إسناد هذا الرأي ولا أعيدها حفاظًا على الوقت. وإنما إضافة إلى ما ذكر: إن هذا الرأي له نظائر وتسنده قواعد شرعية معتبرة فنظائره: الفقهاء تكلموا في بيع الفلوس إذا حصل تخالف وفسخ وهي تالفة فقالوا: تجب القيمة. واعتبروا القيمة يوم التلف، على خلاف وتفصيل بينهم. كذلك تكلموا عن استعارة الفلوس، ففي تلقيها حال الاستعارة قال بعضهم بالقيمة يوم التلف. وأيضًا قالوا: لو أخذت الفلوس على جهة السوم فتلفت ففيها القيمة يوم القبض أو يوم التلف على خلاف بينهم. أما القواعد التي تندرج تحتها هذه المسألة فهي قواعد كثيرة وبيان الصلة بينها وبين كل قاعدة يطول. هذه القواعد كقاعدة الضرورة والضرر لا يزال بالضرر، والضرورة تقدر بقدرها، والحاجة تنزل منزلة الضرورة، والميسور لا يسقط بالمعسور، والمشقة تجلب التيسير، ورفع الحرج، وغير ذلك وبسط هذا كما قلت يطول. أقول قولي هذا واستغفر الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1826 الشيخ خليل محيي الدين الميس: بسم الله الرحمن الرحيم. عودًا على بدء ما ذكرناه في العام الماضي: إن القضاء اليوم في لبنان أمام مشكلة حيث إذا طلقت امرأة تزوجت منذ عشر سنوات وكان مؤخر صداقها عشرة آلاف ليرة لبنانية نرى القاضي يفرض نفقة ثلاثة أشهر أكثر من مؤخر صداقها نفقة العدة أكثر من مؤخر صداقها، ومؤخر صداقها يكفيها فقط لتستأجر سيارة وتحضر أمام مجلس القضاء لتسمع الحكم وتعود إلى بيتها بمؤخر صداقها. هذه حالة تحصل في لبنان. أمر آخر: في الحقيقة المشكلة ليست فردية. البنوك في لبنان شبه متوقفة عن وفاء الديون للعملة لأنها تراجعت ثلاثمائة مرة. وفعلا تحولت العملة إلى فلوس. أمر آخر: إن المشكلة باعتبارها قائمة في لبنان تتوقف جميع القضايا العالقة في المحاكم على قرار مجلسكم الكريم، لأنهم لم يتوصلوا إلى حل. والآن ينتظرون من مجمع الفقه الإسلامي، ماذا سيقول حتى يحقوا الحق. أمر آخر: في الحقيقة كل من تكلم – وجزاه الله خيرًا – تكلم عن نصف الآية ووقف أمام النصف الثاني. قال تعالى – والكل يعلم – {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ} ووقف، نعم وقف {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} . الحقيقة الآية ذكرت أمرين: رفع الظلم عن المدين، ورفع الظلم عن الدائن. صحيح إننا بتأخر قيمة العملة أنصفنا كما قالوا المدين بالعملة الضعيفة ولكننا ظلمنا الدائن، والآية الكريمة ذكرت هذه المعادلة {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} . أمام كل هذه الاجتهادات يخطر في البال أمر وهو – الكل يعلم – أن الماء إذا تنجس – ماء البئر– قال الفقهاء ينزح كذا، وينزح كذا، وينزح كذا وطهر، كما قالوا استحسانًا لا قياسًا. والقياس: أن الماء لا يزال نجسا , لو أردنا تطهيره لاستأصلناه. فإذا لم يفن الماء ولم تزل النجاسة بالكلية. الحقيقة أمام كل ما تقدم كنا أمام الفلوس هي فكة وأصبحنا أمام عملة قائمة بذاتها، وثروات قائمة بذاتها. فلذلك لو تحول الدين إلى ذهب أظننا لا نكون ظلمنا ولا ظلمنا، وفي ذلك مندوحة. والله أعلم والسلام عليكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1827 الدكتور إبراهيم زيد الكيلاني: بسم الله الرحمن الرحيم. أحب أن أعقب أولًا على اقتراح بعض الإخوان في اعتبار العملات الأجنبية كالدولار مثلًا مقياسًا وأقول: الذين رأوا هذا الرأي لم ينظروا إلى آثاره السياسية والاجتماعية ومخاطره حين نجعل العملة الأجنبية أساسًا كأننا أقررنا بمجمعنا الكبير الكريم أن ننافس العملة الوطنية. وفي هذا خطورة على اقتصادنا وخطورة على مجتمعاتنا. أحب أن أبين نقطة وهي: كان ينبغي أن نفكر كمجمع في إيجاد الدينار الإسلامي أو الدينار العربي كخطوة أولى حتى نستطيع أن نقاوم ما استطعنا سياسيات التغيير المفاجئة التي يفرضها التقسيم السياسي والضعف الاقتصادي ولو جعلنا مثل هذه الوحدة لحللنا كثيرًا من هذه المشاكل. الأمر الآخر: هو أن هذه الأمور في الغالب مستجدة لم تكن في عهد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الأئمة السابقين بسبب هذا التواصل وهذه الحركة والتطور الاجتماعي والاقتصادي في العالم. ولذلك ينبغي أن نعالجها بصبر وأناة. وقد وجدت في بعض الجوانب عند رجال القانون معالجة فيها كثير من العدالة في أمور تشبه ما نحن بصدده، مثلًا، عندما يطلب من متعهد وينزل عليه عطاء بأن يقدم لجهة من الجهات آلات أو أطعمة أو بضائع ثم تهبط الأسعار أو تغلو غلوًّا فاحشًا فينزل رجال القانون على نظرية الظروف الطارئة. ونظرية الظروف الطارئة. ونظرية الظروف الطارئة فيها من العدالة ما فيها، لأن الدولة هنا تنظر إلى المجتمع كله نظرة شمولية وتقسم الخسارة على الطرفين، على الدائن وعلى المستدين، أو على المتعهد وعلى صاحب العمل. وذلك تحقيقًا لشيء من العدالة. إنه أمر نزل بالأمة فينبغي أن يتحمله الطرفان.وقد يعطي هذا الرأي شيئًا مع ما تفضل به فضيلة الشيخ مفتي تونس وهو أن المصيبة حين تنزل عل الأمة كلها ينبغي أن تحملها الأمة كلها. فإذا حملناها للمدين وحده فلم ننصف، أما إذا حملناها للجهتين فيكون شيئًا من العدالة. والأمر الآخر الذي أحب أن أقوله حين لا ترتبط الأحكام الشرعية بمقاصد الشريعة نقع في أخطاء فاحشة. فالإسلام عندما حرم الربا بالذهب والفضة لأنها كانت هي العملة المتداولة، وعندما تصبح العملة الورقية هي المتداولة فالثمنية بها، نشتري بها الذهب ونشتري بها الفضة. فإذا اعتبرنا قيمتها فقط فنكون قد ابتعدنا عن فقه الشريعة وربط الأحكام بمقاصدها ووقعنا في محظور ترك الزكاة وهدم أركان الدين وإحلال الربا إلى غير ذلك. ولكن نظرية الظروف الطارئة التي تجعل الحاكم في مثل هذه الأمور ينظر نظرة شمولية ليتحمل الدائن والمدين مثل هذا الفرق الشاسع يحقق شيئًا من العدالة. وشكرًا للإخوة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1828 الدكتور منذر قحف: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد. الحقيقة كنت أود أن أذكر بعض النقاط التي قد تؤثر على مجرى المناقشة بحيث تستبعد بعض الأمور التي لا علاقة كثيرة لها. أولًا: التضخم في عرف الاقتصاديين أن تغير سعر العملة هو ارتفاع أسعار جميع السلع والخدمات وليس واحدة منها أو بعضها،ويعبر عنه بشيئين إما الارتفاع العام للأسعار، أسعار كل شيء ترتفع، على العموم بنفس النسبة أو – وهو الكلام المماثل – انخفاض قيمة العملة بالنسبة لجميع هذه الأسعار. ثانيًا: التضخم حصل في الماضي مرات كثيرة، بمعنى أنه ليس السبب الوحيد للتضخم هو العملة الورقية، فقد حصل بالعملات المعدنية، ولكن حصوله بالعملات الورقية المعاصرة أكثر بكثير لسهولة إنتاج العملات الورقية لأنها لا تتضمن كلفة تقريبًا لمنتجها، الدولة. ثالثًا: التضخم يؤثر ليس فقط على بعض الناس، لا يؤثر على كل الناس في الحقيقة ولا يؤثر على كل الناس بالتساوي، التضخم يؤثر على زمرة من الناس أو على زمرة من الحقوق والثروات والدخول هي تلك فقط التي تحدد أو تحسب بوحدات نقدية. فإن هناك كثيرًا من الثروات كما هو واضح لا تحسب بوحدات نقدية وكثيرًا من الحقوق لا تحسب بوحدات نقدية وكذلك من الدخول ما لا يحسب بوحدات نقدية. فهذه لا تؤثر عليها، وبالتالي التأثير على الناس ليس متساويًا فيؤثر على بعضهم أكثر من تأثيره على غيرهم. نقطة أخرى أيضًا: حصل كلام عن الظلم والعدالة بين البنوك الربوية وغيرها، الحقيقة الكلام، يعني يصعب قبوله، لأنه حصل تاريخيًا وفي العشرين سنة الأخيرة في دول كثيرة أن كان معدل الفائدة – سعر الفائدة الربوية – أقل من معدل ارتفاع الأسعار وبالتالي البنوك الربوية فعلًا دفعت أقل من أو أعادت لأصحاب الودائع عندها أقل من ودائعهم الأصلية بالقيمة الحقيقية. وأما بالنسبة للبنوك الإسلامية فالأصل أنها تحسب الربح على أساس استثماراتها. والربح يتضمن ارتفاع الأسعار، فما استثمرته بسعر اشترته بسعر عندما باعته، باعته بسعر يتضمن في العادة التضخم. فمقدار الظلم هنا أقل بكثير من البنوك الربوية، بل إنه أنحى إلى العدالة، لأن البيع بسعر حقيقي والشراء بسعر حقيقي والتضخم حصل بين البيع والشراء. فما حسب من قيمة اسمية لأصل المبلغ، لأصل الاستثمار الذي وضع البنك الإسلامي أضيف إليه نسبة من الأرباح أكثر. وهذا واضح من الأمثلة الفعلية للبنوك الإسلامية في تركيا، البنكان الإسلاميان، في تركيا، يعين معلوم من حساباتهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1829 نقطة أخرى: لو تصورنا إنسانًا تبين الفرق بين تأثير ارتفاع الأسعار، تأثير التضخم – لو تصورنا إنسانًا عليه دين وعزل جزءًا من نقوده لوفاء هذا الدين، عليه دين ألف ليرة، فعزل جزءًا لوفاء هذا الدين ألف ليرة، ثم قلنا بالدفع بالقيمة، ماذا يحصل لهذا الإنسان الذي عزل هذا الجزء، ألف ليرة وضعها في صندوقه من أجل دفع ذلك الدين؟ لن تكفي لدفع هذا الدين وهذا أمر بديهي. نقطة أخرى أيضًا:صار حديث عن ارتباط التضخم بالربا وإن الربا سبب للتضخم. الحقيقة لا يوجد أي دليل إحصائي أو علمي على هذا. هناك آثار متبادلة بين التضخم والربا، نسبة الربا ولكن لا يود دليل على أيها يؤثر على الآخر. يمكن نظريًا أن يقال إنه الربا لأنه يفصل بين عمليات التمويل بصيغها النقدية عن الواقع الحقيقي عن مقدار السلعة والخدمات في المجتمع، فيمكن بالتالي أن تتزايد الديون من الناحية النقدية بسبب وجود الربا دون أن تتزايد بنفس النسبة كمية السلع والخدمات المتداولة. فهذا يمكن أن يكون نظريًا دون إثبات إحصائي يمكن أن يكون سببًا في زيادة التضخم. الحقيقة الكلام هنا أكثر عن التضخم المفرط وليس كل تضخم، بتعريف الاقتصاديين كل ارتفاع في الأسعار عام يعتبر تضخمًا أو هو انخفاض في قيمة العملة ولكن ما يتحدث عنه هو الارتفاع المفرط وليس الارتفاع بمعنى ما يعتبره الاقتصاديون ضررًا وأذى، والارتفاع المفرط وليس كل ارتفاع ولو كان صغيرًا. نقطة أخرى أيضًا: ينبغي أن نميز وهذا أمر ضروري، الحقيقة بين تعريف التضخم أو ارتفاع الأسعار بالمعنى الذي ذكرت وبين اختلاف سعر العملة المحلية بالنسبة لبعض أو كل أسعار العملات الأخرى من الدول الأخرى؛ هذا ليس تضخمًا هذا تغير في سعر القطع الأجنبي وليس تضخمًا. هناك ترابط وتأثيرات متبادلة بين الأسعار المحلية ارتفاعًا وانخفاضًا، وبين سعر التبادل بين العملة المحلية والعملات الأخرى. التبادل بطريقتين، يعني مؤثر على العملة المحلية وتأثيرات من العملة المحلية على السوق، على سعرها الخارجي. ولكن هذا غير التضخم، هذا أمر آخر ومقياسه بالعملات الأجنبية. التضخم لا يقاس بالعملات الأجنبية بل يقاس بالأسعار المحلية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1830 ثلاث نقاط أريد أن أطرحها لعلها يصدر بها رأي أو يفكر بها بشكل موضوعي. إذا قلنا بأنه لا بد من القيمة في قضية التضخم من اعتبار القيمة، فمن الذي يعوض أصحاب الحقوق والثروات والدخول التي تتأثر بسبب التضخم؟ هل الدولة التي صنعت التضخم؟ أم المدينون وأناس آخرون؟ وإذا عوض المدينون، فالمدينون لا يستطيعون أن يعوضوا كل من طرأت عليه خسارة، فالذي يملك مثلًا ثروته بصيغة نقود في جيبه أو صندوقه، من الذي سيعوض على هذا الإنسان نتيجة لتغير قيمة ثروته بسبب التضخم؟ هذا أمر ينبغي أن ينظر في الحقيقة. والدولة هي المتسببة الآن بالتضخم على العموم. نقطة ثانية: لو أن العقود حصلت تراضيًا بمجموعة أو بوحدة غير موجودة واقعيًا ولكنها نظريًا، فقلنا إن القرض يقع مثلًا: كيلو من القمح وثلاثة كيلو من التمر وأربعة كيلو من سلعة أخرى وغير ذلك،فجمعنا عشر سلع مثلًا أو مجموعة من السلع أو من العملات أيضًا وقلنا بأن هذا المجموعة بوحدات ثابتة منها مجموعها يشكل وحدة حسابية واحدة. فلو حصل القرض يوم القرض بعدد من وحدات هذه الوحدة الحسابية ثم تم القبض للقرض بما يعادله من أي عملة أو من أي سلعة من هذه السلع العشر مثلًا، فهل يجوز مثل هذا؟ وأن يتم عند الدفع حساب نفس عدد الوحدات الحسابية التي أقرضت أو التي كانت موضوع الدين وعند السداد يكون بنفس العدد ولكن بأي سلعة أو بأي عملة من العملات التي تشكل هذه السلة؟ هذه نقطة. نقطة ثانية: هل للدولة أن تفرض سداد الديون بهذه الطريقة؟ وهل يمكن أن يكون هذا من باب حسن الأداء الذي تقرضه الدولة؟ ولو فعلته الدولة فهل هذا يلزم ديانة أم أنه لا يجوز ديانة؟ كما لو غيرت الدولة كما حصل في بعض الدول طريقة توزيع الميراث بأن ساوت بين المرأة والرجل، فلا يجوز للأخ أن يأخذ أو الأخت ما ليس لها. النقطة الأخيرة: هي كأنها عود على بدء، يعني أرجو أن ينظر بأنه هل يجوز للدولة أصلًا أن تصدر من النقود الورقية ما يؤدي إلى التضخم؟ أم أن ذلك بنفسه من الأمور غير المقبولة؟ والحمد لله رب العالمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1831 الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم. أولًا رأيي في هذا الموضوع هو متفق مع رأي مقدم الموضوع وهو أنه لا يجوز ربط الديون مهما كان مصدرها سواء كان مصدرها قرضًا أو بيعا، لا يجوز ربطها بمستوى الأسعار، لأن في هذا شبهة الربا. وقد تحدث عنه كثير من الإخوان. ولحديث ابن عمر الذي تناوله أيضًا بعض الإخوان، وفيه غرر أيضًا وهذا لم يتطرق إليه أحد، فيه غرر في حالة البيع بأجل. لأن المشتري لا يدري ما هو الثمن الذي سيدفعه لو أن شخصًا اشترى سلعة قبل عشر سنوات مثلًا في السودان بعشرة جنيهات إلى أجل عشر سنوات فيطالب الآن بمئات الجنيهات، ولاتفاق المتقدمين من الفقهاء على وجوب قضاء الدين بمثله، وأقول وأؤكد اتفاق المتقدمين جميعًا بما فيهم فقهاء المالكية وبما فيهم الرهوني وأحب أن أؤكد على هذه النقطة وقد كتبت عنها في بحثي رادًّا على الذين يقولون بأن الرهوني في حديثه عن الغبن اليسير والغبن الفاحش اعتبر القيمة في حالة الغبن الفاحش، وهذا غير صحيح بالنسبة لمذهب المالكية بعامة وبالنسبة للرهوني خاصة أيضا. ليس عند الرهوني قول بهذا , وليس في مذهب المالكية قول يخالفه، إنه لا خلاف بينهم في رد المثل، ما نقل عن الرهوني هذا جاء في بطلان الفلوس، وأحد الإخوان قرأ علينا عبارة ترد علي، العبارة التي قرأها ههنا الرهوني يقول: بذل سلعته فيما ينتفع به فلا يعطي ما لا ينتفع به. فهل إذا كان هناك غبن فاحش وأعطى ينتفع؟ الكلام دقيق العبارة: هذه تصدق في حالة البطلان وهي المجال الذي كان يتحدث عنه الرهوني. فالأئمة الأربعة متفقون على هذا الرأي. ثم إن ربط الديون بمستوى الأسعار فيه قلب للأوضاع بتقويم الأثمان بالسلع، وهذا هو الاتجاه الاقتصادي الحديث لكنه خطأ من أصله. الأثمان هي التي يقاس بها ولا تقاس على غيرها، وهذا هو ما قرره فقهاؤنا منهم الغزالي وابن تيمية وابن القيم، وكلهم قرروا هذا وقالوا إن الأثمان هي المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال ولا يقوم هو بغيره، إذ يصير سلعة كبقية السلع، وهذه هي مصيبتنا الآن حين جعلنا النقود سلعًا، فالخطأ في أصل الاقتصاد الحاضر هذا هو الذي جاءنا بالبلوى، ثم إنه ليست هناك حاجة إلى ربط الديون بمستوى الأسعار لأن عندنا في المعاملات الشرعية ما يغني عن كل هذا. فمثلًا في القرض نحن نأخذ الأحوال الحاضرة الآن مع ما فيها من سوء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1832 القرض الأصل فيه أن يكون لنفع المقترض في الدنيا ونفع المقرض في الآخرة، لا ينتظر منه ربحًا، لكن مع ذلك العلاج سهل، مثلًا في السودان الشخص الذي يريد أن يقرض آخر ولا يريد أن يتعرض لمخاطر التضخم يستطيع أن يقرض من أول الأمر بالدولار أو بأي عملة يراها تكون ثابتة فيتفادى ضرر التضخم، في حالة القروض الاستثمارية، أيضًا الحل موجود وهو التعامل بالصيغ الإسلامية وليس بالقرض. البنوك الربوية تعطي قرضًا ولذلك تنتظر أن تأخذ ما يقابل التضخم. البنوك الإسلامية لا تعطي قرضًا وإنما تدخل شريكًا مع من يريد أن يستثمر مالًا، أو تعطيه له مضاربة. وهذا أكثر فائدة له وللمجتمع. لأن الشخص الذي يأخذ من البنك الربوي مائة جنية ليتاجر بها، البنك يأخذ منه عشرة في مائة ربحًا،مضطر لأن يبيع السلعة التي اشتراها بمائة بأن يبيعها بمائة وخمسة عشر، لكي يربح خمسة في المائة. أما الذي يشارك في البنك الإسلامي فإنه يستطيع أن يبيع السلعة التي اشتراها بمائة وعشرة فقط، ويربح هو خمسة والبنك خمسة، فهذا أفضل للمجتمع من طريقتهم الربوية. كذلك في حالة البيع المؤجل، البديل موجود، والبيع المؤجل، يجوز أن يكون بأكثر من الثمن، يستطيع البائع أن يعمل حساب التضخم في المستقبل. ومع كل هذا، فإن ربط الدينون بمستوى الأسعار لا يحل مشكلة التضخم كما اعترف بذلك الاقتصاديون أنفسهم. بقيت نقطة أو نقطتان أريد أن أشير إليهما: بعض الإخوة المتحدثين تحدثوا عن النقود الورقية وهل هي أموال ربوية أو ليست أموالًا ربوية، وربطوا هذا بالقرض، وأود أن أقول إن القرض لا يشرط فيه أن تكون الأموال ربوية، لا يجوز في حالة القروض أن يدفع الإنسان زيادة عما دفع، أن يدفع المقترض زيادة عما اقترض سواء كانت هذه الأموال ربوية أو غير ربوية حتى لو اقترض حجارة لا يستطيع أن يرد أكثر منها، هذا اعتبار الأموال ربوية أو غير ربوية هذا في ربا البيوع فقط، وليس في ربا الديون، ربا الديون كلها لا يشترط فيها أن يكون المال ربويًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1833 نقطة الآخرة: وهي ردي على الأستاذ الفاضل الشيخ المختار، صحيح أنني قلت بالأمس أن الآيات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فكلمة التجارة والبيع والعقود هذه من قبيل العام الذي أريد به الخاص وليست - وإن كنت لم أقل هذا ولكني أقوله الآن - ليست من قبيل العام الذي دخله التخصيص كما يقول الشيخ المختار، لأن الفرق بين العام الذي أريد به الخاص هو الذي جاء من أول الأمر مرادًا به، ليس مرادًا به العام، وهذا موجود وكثير وكل هذه الألفاظ " التجارة " البيع، العقود ". هي من هذا القبيل. أما العام الذي خصص فهو عام ورد عامًا ووقع العمل به عامًا، ثم جاء دليل التخصيص فيما بعد. فمسألتنا هذه كلمة عقود وربا وتجارة هي في نظري من العام الذي أريد به الخاص من أول الأمر حتى بدليل في الآية الأولى، دليل التخصيص معها مقارنًا لها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . فهل كل تجارة عن تراض ولو كان فيها أكل مال بالباطل؟ لا. هل كان عقد قي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . كل عقد يجب الوفاء به ولو كان مخالفًا لأحكام الشرع؟ قطعًا لا. وهذه موجودة قبل نزل الآية، بعد تحريم بعض العقود. فالآيات هذه كلها في رأيي هي من العام الذي أريد به الخاص. الرئيس: نظرًا لأن المناقشات أخذت من الوقت الكثير، فأقترح أن تؤلف لجنة لصياغة القرار من الشيخ تقي، الشيخ الضرير، الشيخ البسام، الشيخ السالوس، الشيخ عجيل النشمي، الشيخ نزيه حماد، الشيخ ابن بيه، والمقرر الشيخ محمد الأشقر. ترون هذا مناسبًا. وبه ترفع الجلسة لمدة خمس عشرة دقيقة فقط. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1834 مناقشة القرار بسم الله الرحمن الرحيم الدكتور عبد الستار أبو غدة: قرار رقم (4) بشأن قيمة العملة بعد اطلاعه – أي مجلس المجمع – على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تغير قيمة العملة) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. وبعد الاطلاع على المجمع رقم (9) في الدورة الثالثة بأن العملاء الورقية نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامها. قرر ما يلي: لا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة كان مصدرها بمستوى الأسعار بأن يشترط العاقدان في العقد المنشئ للدين كالبيع والقرض وغيرهما ربط العملة التي وقع بها البيع أو القرض بسلعة أو مجموعة من السلع أو عملة أخرى معينة أو مجموعة من العملات بحيث يلتزم المدين بأن يوفي للدائن قيمة هذه السلعة أو هذه العملة الأخرى وقت حلول الأجل بالعملة التي وقع بها البيع أو القرض. التسخيري: سيدي الرئيس: كيف يكون المعنى؟ البسام: العبارة هذه ما هي صحيحة أبدًا.. التسخيري: كيف يكون المعني؟ ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1835 الرئيس: والله أنا في الحقيقة ... البسام: ما تصلح العبارة ربط الديون الثابتة بالذمة؟ بيع الدين بدين؟ هذا ما يصلح. التسخيري: سيدي الرئيس: الآن أنا أبيع سلعة بما حاضر أو أبيعها بقيمتها وأضع في عهدة الطرف الآخر فيمتها بالعملة، ما المانع من ذلك؟ من الأول أنا أضع في ... أبيعها بهذه القيمة من العملة الأخرى، ما المانع من ذك؟ الرئيس: الحقيقة الذي لدي: طالما قال إن العنوان هو (تغير قيمة العملة) : القرار لماذا لا يأتي في هذه العبارة حتى يكون فيه ربط بين الحكم وعنوان الموضوع الفقهي الذي درس ... ؟ التسخيري: لا يؤثر تغير العملة على الديون الثابتة في الذمة. الرئيس: هنا مكتوب (لا يجوز ربط الديون الثابتة) . البسام: (الثابتة في الذمة) قد تثبت في الذمة نحن نريد أن ننشئ دينًا جديدًا، أود أن أتعاقد مع واحد لا يصح بأن أشترط عليه أن يوفيني بالعملة الفلانية. أبو غدة: حتى الدين القديم أيضًا. البسام: أي شيء ثبت في الذمة، ومستقر في الذمة، هذا معناه لو بيعت عليه بعملة أخرى: معناه بيع دين بدين، هذه معروفة عند العلماء كلهم (لا يجوز) . أبو غدة: ولذلك لا يجوز. البسام: العبارة تحتاج إلى تعديل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1836 الدكتور عجيل النشمي: بسم الله الرحمن الرحيم. أيًّا ما كان الصيغة التي سينتهي إيه، فإن كانت في منع صورة مطروحة وهو إعطاء القيمة عند التغير فأنا بودي أن أسجل رأيي في هذا الموضوع، فالمقترض في قرارتنا أنها تحل مشكلة قائمة في ذات الموضوع المسئول عنه، وهذا القرار لا يحل مشكلة ولكنه يعقد المشكلة، وليس السكوت عن هذا كتما للعلم ذلك أن الناس لا يتعاملون ... أقول إن السكوت عن هذه المسألة ليس كتمًا للعلم، ذلك أن الناس لا يتعاملون في هذه النازلة الواقعة حاليًا بدفع القيمة حتى يقال: إن دفع القيمة حرام غير جائز،هذا من جانب، ومن جانب آخر: فإن المسألة ليست صورة التحريم فيها قطعية بوجود الربا ما علل الزملاء في حيثيات هذه الفتوى، ولو كان كذلك ما اختلف الرأي فيها البتة، فالقول بالحرمة أو المنع – في تقديري – فيه شائبة عدم الحرمة أو المنع، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من أن يسأل المسلم عن قضية فتحرم من اجل مسألته، فموضوعنا هذا أولى بالسكوت من إصدار هذه الفتوى، لهذا أدعو المجمع إلى التريث وعدم الاستعجال في هذه القضية بمبرر وضغط أننا أجلنا هذا الموضوع من جلسة سابقة، هذا الموضوع لو عقدت له جلسات متوالية فإنه يستحق أن تعقد له هذه الجلسات، فرجائي أن نتريث في إصدار هذا الحكم خصوصًا وأن هذه القضية ليست فردية وإنما هي على مستوى الدول الإسلامية كلها. أقول فقط كلمتي وهي هذا التحفظ، فإن رأيتم اتخاذ القرار فأرجو تسجيل تحفظي وشكرًا. الرئيس: شكرًا، في الواقع أنتم تعلمون أنه في أثناء المداولات وأثناء البحوث تبين أن العدد الكبير من البحوث ومن مناقشات المشايخ علي التوجه إلى المثل، لكن أنا أقول إن الفقرة هذه النتيجة القرار، تحتاج إلى أن تصدر بالحكم ذاته وهو حالة الجواز ثم تبين حالة عدم الجواز، فإن رأيتم أن تصدر المادة القرار بما يلي، قرر ما يلي: (العبرة بوفاء الديون بعملة ما هي المثل لا القيمة) . ثم بعد ذلك يأتي: المثل حتى نصرح ولا نقول القيمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1837 الأمين العام: يعني أنا إذا كان علي دين والدين عشرة آلاف دينار – مثلًا – وعملة الدينار ذهبت، أو الليرة اللبنانية راحت كلها. (فالذي يضمن ديني) العملة الثانية وهي الدولار. هذا فيه حفاظ على الدين. الرئيس: أنا أقصد من وراء هذا أن نقرر الحكم أولًا – لحظة يا شيخ أنا أتكلم وأعطيك الكلمة – أنا أقول القصد من هذا أن نقرر الحكم أولًا ثم بعد ذلك نأتي إلى حالة عدم الجواز. الدكتور الصديق الضرير: يعني يمكن أن تكون العبارة بهذه الكيفية (الديون توفى بمثلها أو بأمثالها فلا يجوز ربطها بمستوى الأسعار إلى آخره) . الرئيس: هذا هو قصدي. الدكتور عبد اللطيف الفرفور: لسنا مختلفين علي الصياغة، نحن مختلفون على المبدأ، وإنني في هذه الجلسة أرفع احتجاجي إلى الترافع وأقول: أنتم مسئولون كلكم أمام الله عز وجل بضمائركم، بدينكم عن هذا الفقه، عن هذا الإسلام، أنا داينتك – مثلًا – من عشر سنوات ألف ورقة سوري كانت توازي ربع كيلو ذهبًا، تعطيني الآن ألف ورقة سوري لا توازي غرامين من الذهب، هل هذا دين الإسلام؟ هل هذا هو الذي يرضي الله؟ لا تفعلوا شيئًا تتراجعون عنه أما الناس وأما الله. الرئيس: يا شيخ عبد اللطيف ... الفرفور: يا شيخنا اسمعني. أنا سكت كثيرًا، والآن أريد أن أتكلم بالحق ولو أني تكلمت شيئا من الغضب إنما هو غضب لله وليس لذاتي. الرئيس: جزاك الله خيرًا، هذا طيب ... الفرفور: نحن مختلفون علي المبدأ. فهذا المبدأ: يجب إما أن يكون رأي الأكثرية وإما أن يكون الرأي الأقلية، فإن كان رأي الأكثرية فاطرحوه على التصويت، وإن كان رأي الأقلية فاكتبوا التحفظ. الرئيس: هو هذا. هذا هو يا شيخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1838 الشيخ عبد الله البسام: أرى أن مثل ما ذكر هنا، وأنا أقول إن هذه الأشياء التي صارت في سوريا أو في لبنان أو في غيرها، هذه أشياء فردية لا يصح أبدًا أن نبني عليها حكمًا. وهذه يمكن أن تدخل في وضع الجوائح، الإسلام ما تركها ما أهملها يا شيخ عبد اللطيف. الرئيس: أنا مع تقدير لكلام فضيلتكم لكلام الشيخ عبد اللطيف، أنا أحب أن تأخذوا بالاعتبار على أننا لسنا بحاجة إلى التوسع في المناقشات في هذه الأمور لأن هذا أمر قد فرغ منه، لكن نحن نقول: أمامنا هذا القرار، هل هو بحاجة إلى تعديل؟ فإذا انتهينا إلى الشيء الذي سنصوت عليه، فليتحفظ المتحفظ ويقدم تحفظه، وإذا أقرت صيغة انتهى الأمر، سواء على رأي الشيخ عبد اللطيف أو على رأي الإخوان أو كذا، ما فيها شيء، لكن أنا أقول: ما رأيكم فيما اقترحه الشيخ محمد الصديق الضرير أن يقال: "العبرة بوفاء الديون بعملة ما: هي المثل " ولا يجوز ربط الديون إلى آخره ... دكتور عمر جاه: هذا جيد يا فضيلة الشيخ. الشيخ التسخيري: رجاء ما اقترحه جيد، لكن هذه العبارة متهافتة، أنتم تقولون (ديون ثابتة في ذمة) ثم تقولون (بأن يشترط العاقدان في العقد المنشئ للدين) يعني الآن يراد ... الرئيس: يا شيخ لو تفضلتم الشيخ عبد الستار عنده ما قد يكون يلبي الرغبات ... دكتور الصديق الضرير: حذفت الثابتة في الذمة. الرئيس: اسمع يا شيخ الصديق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1839 الدكتور عبد الستار أبو غدة: قرر ما يلي: العبرة في وفاء الديون بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيًّا كان مصدرها بمستوى الأسعار بحيث تراعى قيمة العملة في حال تغير القيمة بدلًا من مراعاة ... الرئيس: مهلًا يا شيخ: بحيث ... دكتور أبو غدة: بحيث تراعى قيمة العملة في حالة تغيرها بدلًا من مراعاة مثل العملة التي ثبت في ذمة المدين. الشيخ التسخيري: هذا لا بأس به. أبو غدة: ولا يصح أن يشترط العاقدان في العقد المنشئ للدين كالبيع والقرض وغيرهما ربط العملة التي وقع بها البيع أو القرض بعملة أخرى معينة أو مجموعة من العملات بحيث يلتزم المدين بأن يوفي للدائن وقت حلول الأجل قيمة العملة التي وقع بها البيع أو القرض بدلًا من مثلها. الشيخ التسخيري: سيدي الرئيس لي مناقشة في الحكم نفسه، أرجو أن. (لا يصح أن يشترط العاقدان في العقد المنشئ) ، عندما أريد أن أنشئ دينًا أنا أسلمه مائة ريال سعودي وأقول أقرضك فيمتها، الآن أقرضك قيمتها، ما المانع في ذلك؟ الآن أوكلك في تبديلها وأقرضك ما بدلته، ما المانع في ذلك؟ لماذا تمنع شيئًا واضح الحكم؟ مناقش: أنا أثني علي مقترح زميلنا الأستاذ الدكتور عجيل على تأجيل هذا الموضوع لخطورته. الشيخ خليل الميس: سيدي الرئيس، ذكرنا لكن أن هنالك مليارات الليرات اللبنانية مجمدة الآن في بنوكنا الناس لا يوفونها لهبوط العملة، ثانيًا: والبنوك لا تقل أن تأخذ بالعملة أبدًا، والناس كلهم يتصالحون في الديون ولا يأخذون الأرقام، ثالثًا: بلغنا أن في أواخر الدولة العثمانية تغيرت قيمة العملة فتدخلت الدولة وسعرت لأصحاب العملة الورقية قيمتها في الذهب، ثم هنا قضيتان: قضية مطروحة وهي الديون الناشئة ماذا نفعل؟ وقضية أخرى أظن لن تدخل معنا أصلًا في المناقشات: وهو كيف ننشئ دينًا جديدًا الآن؟ . إذن القضية خطيرة جدًا وليست نظرية، مليارات الليرات وهي بصراحة للدول العربية، الدول العربية لها في هذا مصلحة، لا نقول هنا لأنها عربية أو غير عربية، لأن العملة في لبنان هبطت، والذين خسروا تسعون بالمئة منهم مسلمون لأن الآخرين احتفظوا بالدولار من أول الحرب وكانوا يعرفون نتيجة العملة. فلذلك نرجو أن نتريث كثيرًا لأن الأمر خطير جدًا وينتظرون فتواكم لحل مشاكلهم. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1840 الشيخ سيد طنطاوي: في الحقيقة أنا أرى بالنسبة للفقرة الأولي الحكم فيها واضح جدًا، هو الكلام في الفقرات التي تلي الفقرة الأولى، لكن أنا شخصيًا أرى بأن مسألة العبرة بدفع الديون بالمثل مسألة واضحة جدًا فقط في الكلام الذي يأتي بعد ذلك هو ... الرئيس: المهم إذا أقر القرار، الباقي يمشي، يتيسر. الشيخ تقي الدين العثماني: شكرًا سيدي الرئيس. أقترح أن نفصل قضية الليرة اللبنانية من قضية إقرار المبدأ، فالمبدأ هو الأداء بالمثل، نقره، أما القضية اللبنانية فهي غير عادية استثنائية يمكن أن تبحث في جلسة قادمة. الرئيس: الليرة اللبنانية والسورية. الشيخ تقي الدين العثماني: والسورية، فهل نستطيع أن نلحقها بالكساد أو الانقطاع؟ أو نجد لها حلًا آخر؟ يبحث في جلسة قادمة ممكن أن نؤجل هذه المسألة إلى جلسة قادمة كما تفضلتم. الرئيس: طيب ما هي الصياغة التي تقترحونها؟ الصياغة التي ذكرناها مناسبة؟ تقي العثماني: نعم. الرئيس: مهلًا يا شيخ. (العبرة بوفاء الديون بعملة ما: هي المثل لا القيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيا كان مصدرها بمستوى الأسعار) . تقي الدين العثماني: يكفي هذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1841 الدكتور طه العلواني: لو سمحتم، بالنسبة لتراضي العاقدين عند إنشاء عقد الدين، هل هناك مانع شرعي من أن يتفقا علي أن يكون الوفاء بالقيمة؟ يعني لو أن العاقدين تعاقدًا عند إبرام الدين علي أن يكون الرد بالقيمة؟ الدكتور محمد الصديق الضرير: أولا: نحن ما دمنا قد اتفقنا على أن قضاء الديون يكون بالمثل فالنتيجة الطبيعية هي أنه لا يجوز ربطها ... هذه نتيجة طبيعية ... الرئيس: يا مشايخ، مهلًا يا شيخ. الصديق الضرير: الاقتراح أو الحل الذي اقترحه الشيخ التسخيري غير مقبول، لأن القصد يكون مجهولًا، لو قال أقرضتك قيمتها، قيمتها من أي شيء؟ مم؟ إذا كان من الدولارات يأتي بدولارات فورًا ويقرضها. البسام: كلام الشيخ التسخيري وكلام الشيخ طه هذا مقبول وصحيح ولكن هذه مصارفة. أنا جئت مثلًا معي ريالات سعودية أريد أن أربطها بدولار، أنا لما اتفقت معك صارفتك بمعين في الذمة. هذه ما فيها شيء جائزة هذه جائزة ولكن على أساس أنها مصارفة ... هذه مصارفة. الدكتور طه العلواني: إذا كانت جائزة سيادة الرئيس يمكن أن تسمح لي فأقترح صيغة: الصيغة تكون هكذا: (العبرة بوفاء الديون بعملة ما هي بالمثل لا بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها إلا إذا تعاقد العاقدان ... ) أبو غدة: لا ... أبدًا لا يجوز. الرئيس: لا يا شيخ: يا مشايخ، على كل: العبارة التي الآن اتُّجِهَ لها سنصوت عليها بعد أن تسمعوها. قرر ما يلي: (العبرة في وفاء الديون بعملة ما، هي بالمثل لا بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيًا كان مصدرها بمستوى الأسعار) الذي يرى هذا يرفع يده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1842 الأمين العام: لا يجوز أن نقف عند هذا لأن هذا لا يحل المشكلة. الرئيس: لا. يحل يا شيخ. الذي يرى هذا يرفع يده. أبو غدة: (يعد الأيدي المرفوعة) : واحد وعشرون. الرئيس: واحد وعشرون. مناقش: إن الاستثناء الذي ذكره الشيخ تقي. الرئيس: المهم انتهينا والسلام. الشيخ عبد الله: الاستثناء الذي ذكره الشيخ تقي لو نضيف إلا في حالة الضرورة. الرئيس: المهم انتهينا وجزاك الله خيرًا يا شيخ عبد الله ودعونا ننتهي، المهم العبارة: (العبرة) أقرأها تمامًا يا شيخ. الدكتور عبد الستار أبو غدة: قرر ما يلي: العبرة في وفاء الديون بعملة ما ... الرئيس: الوفاء في الديون الثابتة بعملة ما. أبو غدة: العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1843 الشيخ المختار: معروف نحن نتحدث عن الديون الخيالية؟ أم نتحدث عن الديون الثابتة؟ مناقش: هذه أكبر خسارة يقع فيها المجمع. أبو غدة: العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل. الرئيس: لا بالقيمة. أبو غدة: (وليس) أحسن ... وليس بالقيمة. الرئيس: لا بالقيمة يا شيخ. الشيخ المختار: لا: هنا زائدة ... العبرة بوفاء الديون هي بالمثل. أبو غدة: لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون. الدكتور طه العلواني: سيادة الرئيس هذا موضوع آخر (فلا يجوز ربطها) هذا يتعلق بموضوع آخر غير الموضوع الأول. الرئيس: لا: هو امتداد له ... أبدًا ... هو امتداد يا شيخ (فلا يجوز) . أبو غدة: ربط الديون الثابتة في الذمة. الرئيس: أيًا كان مصدرها بمستوى الأسعار ... الذي بعده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1844 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، ,الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (4) بشأن تغيُّر قيمة العملة إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/ 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1998م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تغير قيمة العملة) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم (9) في الدورة الثالثة بأن العملات الورقية نقود اعتبارية فيها صفة الثمينة كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامهما. قرر ما يلي: - العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيًا كان مصدرها بمستوى الأسعار. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1845 بيع الاسم التجاري إعداد الدكتور عجيل جاسم النشمي جامعة الكويت – كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (3) . أما بعد: فإن بيع الاسم التجاري من القضايا التي استجد التعامل بها والتعارف عليها. مما استلزم تنظيمها ووضع الضوابط لها منعًا للنزاع أو تقليلًا له. ولما كانت هذه المسألة قد نشأت ضمن تعامل المجتمعات المعاصرة، فقد كانت مسئولية تنظيمها راجعة إلى نظم وقوانين البلاد التي نشأت فيها. فنظمها القانون التجاري في البلاد الأوروبية منذ مطلع القرن التاسع عشر. ثم انتقل التعامل بالاسم التجاري والرخصة التجارية إلى بعض البلاد الإسلامية في أوائل القرن العشرين على شكل عرف تجاري استلزم التنظيم ووضع الضوابط، وفي غيبة الشريعة الإسلامية استوردت هذه الدول القوانين الغربية لتنظيم ما يتعلق بهذا الموضوع من أحوال وأحكام.   (1) [سورة آل عمران: الآية 102] . (2) [سورة النساء: الآية 1] . (3) [سورة الأحزاب: الآية 70] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1846 ولما عم عرف التعامل بذلك وشاع في كثير من البلاد الإسلامية، وكانت الشريعة الإسلامية قد نحيت من حياة المجتمع الإسلامي جملة، ولم يجد الناس منظمًا سوى القوانين الوضعية استوردوا ضمن ما استوردوه تنظيم مسألة الاسم التجاري، والعلامات التجارية وما إلى ذلك. ثم وقع مؤخرًا السؤال عن حكم الشريعة الإسلامية في هذه المسألة، فكان لا بد والحال هذه أن يبين الفقهاء المسلمون حكم هذا لمسألة حتى يطمئن المتعاملون إلى سلامة تصرفاتهم وشرعيتها، ولكي تجد الدول الإسلامية التشريع البديل لهذه المسألة وفق أحكام الشريعة الإسلامية. ولا يخفى أن الشريعة الإسلامية لا يند عن أصولها وقواعدها أمر يتعلق بأفعال المكلفين ينشأ من تعاملهم داخل المجتمع الإسلامي، فكل حادث لا بد له من حكم شرعي من الوجوب أو الندب أو الحرمة أو الكراهة أو الإباحة. وإن الكشف عن الحكم الشرعي في هذه المسألة يستدعي الوقوف على حقيقة موضوعه من جوانبه المختلفة، حتى يمكن تصوره، ثم معرفته، ثم ترتيب الوصف أو الحكم الشرعي له. ولما كان موضوع "الاسم التجاري" موضوعًا قد نظمته القوانين الوضعية، وجرى تعامل الناس فيه على وفق هذه القوانين، فإنه من اللازم الوقوف على نظر القانون الوضعي في هذا الموضوع وما إليه مما هو من بابه وحكمه. حتى نستوضح الواقعة المسئول عنها والمطلوب الحكم فيها، من جوانبها كلها سواء في تكييف المسألة أو الأحكام المقررة فيها من وجهة نظر القانون. ثم نعرض ذلك كله على الفقه الإسلامي ليقرر حكمه في أصل الموضوع وآثاره وأحكامه وهذا يستلزم أن نعرض للمواضيع الرئيسية التالية الفصل الأول: نتناول فيه الكلام على "المحل التجاري" باعتبار أن الاسم التجاري عنصر من عناصره. ثم نعرف الاسم التجاري ونستقصي ما يتعلق به من أحكام في القانون. الفصل الثاني: نتكلم فيه عن الحق في القانون من حيث تعريفه وأقسامه. الفصل الثالث: نتكلم فيه عن الملكية الصناعية والتجارية وحق المنفعة والفرق بين الشيء والمال. الفصل الرابع: ونعقده للكلام على الحق في الفقه الإسلامي من حيث تعريفه وأقسامه، ثم نختتم الفصل بالكلام على الحقوق المعنوية. الفصل الخامس: ونتكلم فيه عن المال ومعنى المالية والتقوم. الفصل السادس: نتكلم فيه عن المنفعة فنعرفها ونبين الفرق بينها وبين الانتفاع، ثم أدلة الجمهور على أن المنفعة مال، وكذا أدلة المخالفين ثم نتكلم على غصب المنفعة والمذاهب فيها. ثم نقارن بين المال والمنفعة وأسباب ملك المنفعة، وتوريث المنفعة، ونختم هذا الفصل بالكلام على حقوق الارتفاق. الفصل السابع: ونتناول الكلام فيه عن البيع من حيث تعريفه وشروطه. الفصل الثامن: ونتكلم فيه عن الملك فنعرفه ونبين الفرق بينه وبين المنفعة والاختصاص والإباحة. الفصل التاسع: ونختم فيه البحث بالكلام على التكييف الشرعي للاسم التجاري وهو ثمرة البحث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1847 الفصل الأول المحل التجاري مبحث تعريف المحل التجاري وعناصره تمهيد: كان حق الملكية في القوانين الوضعية قاصرًا عل الحقوق المادية أي الحقوق التي تردد على أشياء مادية (1) ولم تكن هذه القوانين تعترف بغير الحق المادي، وبعد فترة من تطورها عرفت ما يسمي بحق الملكية غير المادية، أو بمعنى أدق الحقوق التي ترد على أشياء غير مادية، كحق الملكية الأدبية، ويقصد به الإنتاج الذهني للإنسان، وحق الملكية الفنية، ويقصد به الإنتاج الإبداعي الفني، وحق الملكية الصناعية ويقصد به الإنتاج الصناعي المبتكر، وحق الملكية التجارية، ويقصد به الإنتاج التجاري وما يلحق به من حقوق راجعة إليه وهو موضوع بحثنا. والاسم التجاري مصطلح يدخل ضمن ما يسمى عند القانونيين بـ"المحل التجاري" (2) . ويراد منه: مجموع ما يخصص لعمل تجاري من أموال مادية ومعنوية. وحق التاجر الذي يرد على المحل التجاري بذاته أو ما نتج عنه وارتبط به يسمى "الملكية التجارية". ويشمل ذلك سمعة المحل، واشتهاره، وجودة سلعته. والاسم التجاري أحد أهم عناصر المحل التجاري، فالكشف عن حقيقته – في هذه الحال – يستلزم الوقوف على معنى المحل التجاري، وطبيعته، مع شرح معاني العناصر الأخرى المكونة للمحل التجاري بغرض أن يعرف معنى وموقع الاسم التجاري من هذه العناصر.   (1) يقول الأستاذ السنهوري مخطئًا القول بتعبير الحقوق المادية أو غير المادية: "يقال في بعض الأحيان إن الحق إما مادي أو غير مادي، وهذا القول لا أساس له، ذلك لأن الحق يكون دائمًا غير مادي، والمادي هو الشيء محل الحق. أما الحق فهو معنوي"، وينسب الخلط بين الحق ومحله إلى القانون الروماني. وهذا قول صحيح، ولا يخفي أن الفقه الإسلامي يفرق بين الحق ومحله. ينظر قول السنهوري في كتابه الوسيط شرح القانون المدني، للدكتور عبد الرزاق السنهوري 8/274 الطبعة الثانية، دار النهضة العربية 1964بمصر. (2) فكرة"المحل التجاري" بمفهومها الحالي لم تظهر إلى حيز الوجود إلا في أواخر القرن التاسع عشر. انظر: القانون التجاري، للدكتور علي حسن يونس ص 442، طبع دار الحيامي بمصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1848 تعريف المحل التجاري: هو منقول معنوي قوامه الاتصال بالعملاء الذين اعتادوا التردد على المتجر نتيجة اتحاد عناصر الاستغلال التجاري (1) . أو هو "مجموع أموال مادية ومعنوية تخصص لمزاولة مهنة تجارية " (2) .. فالعناصر المعنوية للمحل هي: الاتصال بالعملاء، والسمعة والشهرة التجارية، والعلامات التجارية، والسمة، والاسم التجاري، والعنوان التجاري، والحق في إجارة المكان، وبراءات الاختراع، والرسوم والنماذج الصناعية، والرخص والإجازات. وأما العناصر المادية فهي الآلات والبضائع. ولا شك أن قيمة المحل التجاري إنما هي بتوافر العناصر المعنوية فيثبت المحل التجاري ويستمر نتيجة تردد العملاء عليه، وتزداد أهميته أو تقل من هذه الناحية فلا وجود للمحل التجاري دون وجود العملاء: "فالاتصال بالعملاء هو المصدر المنشئ لملكية المحل التجاري، ومتى وجد العملاء نشأت للتاجر ملكية معنوية يطلق عليها المحل التجاري" (3) .   (1) التشريع الصناعي، للدكتور محمد حسني عباس ص293، دار النهضة العربية 1967م بمصر. (2) مبادئ القانون التجاري، للدكتور مصطفى كمال طه 1/403، الطبعة الأولى دار المعارف 1962 بمصر. (3) التشريع الصناعى، ص 304. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1849 الطبيعة القانونية للمحال التجارية: اختلفت آراء رجال القانون حول طبيعة المحل التجاري. فذهب البعض: إلى أن المحل التجاري هو مجموع قانوني أو ذمة مالية مخصصة. وذهب البعض منهم: إلى القول بنظرية المجموع الواقعي ويعني بها: وجود رابطة فعلية أو واقعية بين مختلف عناصر المحل التجاري، وبهذا المجموع يكون المحل التجاري محلًا للتصرفات القانونية من بيع وغيره. فالتصرف فيه يرد على مجموع هذه العناصر. وذهب آخرون: إلى القول بنظرية "الملكية المعنوية" وهو أن التاجر له حق ملكية معنوية أي ترد على أشياء غير مادية، وهي التي يطلق عليها "الملكية التجارية" (1) . عناصر المحل التجاري: ذكرنا آنفًا أن المحل التجاري يتكون من عناصر معنوية وعناصر مادية، والعناصر الأهم هي العناصر المعنوية فقد يتصور المحل التجاري دون العناصر المادية في الجملة كمكتب سمسرة مثلًا، لكن لا يوجد المحل التجاري بمفهومه الذي ذكرنا دون توافر العناصر المعنوية. والذي يخص موضوعنا ها هنا هو بيان العناصر المعنوية، وصولًا إلى مرادنا من تحرير معنى الاسم التجاري وما يدخل في دائرته ومعناه من مصطلحات أخرى فتتناول أهم هذه العناصر فيما يلي: الاسم التجاري والسمعة التجارية: الاسم التجاري: هو تسمية يستخدمها التاجر علامة تميز منشأته التجارية عن نظائرها. وليعرف المتعاملون معه نوعًا خاصًا من السلع وحسن المعاملة والخدمة. السمعة التجارية: هي الشهرة والذكر الحسن الذي اكتسبه المحل من خلال قدرة التاجر على اجتذاب العملاء. ولهذا، فإن هناك ارتباطًا بين الاسم التجاري والسمعة التجارية، فمتى اكتسب المحل سمعة تجارية، فإن السمعة التجارية تلازم الاسم التجاري للمتجر، فيختلط بأذهان العملاء الاسم التجاري بذات المحل التجاري، كما يختلط تمامًا اسم الشخص بذات الشخص لدى الناس، وتبعًا لهذه الصلة الوثيقة بين المحل التجاري والاسم التجاري، تزداد قيمة الاسم التجاري كلما ازدادت السمعة التجارية للمتجر، كما أن المصادر والأسباب التي تنشأ عنها السمعة التجارية مثل: موقع المحل، وجودة المنتجات أو الخدمات وحسن المعاملة هي نفس الأسباب التي تنشأ وتزداد بها قيمة الاسم التجاري (2) .   (1) مبادئ القانون التجاري ص 411 وما بعدها، والتشريع الصناعي ص 306 وما بعدها. وانظر استيفاء الموضوع في: القانون التجاري، للدكتور علي حسن يونس ص 479 وما بعدها. (2) التشريع الصناعي ص 165، ومبادئ القانون التجاري، للدكتور مصطفى طه 1/469؛ والقانون التجاري، للدكتور علي حسن يونس ص 453. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1850 وظائف الاسم التجاري: 1- قد يستعمل الاسم التجاري لتمييز المنشأة التجارية بوضعه على لافتة المحل التجاري واستعمال الاسم التجاري في هذه الحال هو "العنوان التجاري" فيكون حينئذ للاسم التجاري هذه الوظيفة. 2- ويستعمل الاسم التجاري للدلالة على المنشأة التجارية بوضعه على الأوراق، والأدوات الخاصة بالمتجر. 3- وقد يستعمل التاجر الاسم التجاري علامة تجارية أو صناعية لتمييز منتجات المتجر أو المصنع، وبذلك تستعمل نفس العبارة التي يتكون منها الاسم التجاري استعمالًا مزدوجًا. 4- وقد يستعمل الاسم التجاري للتوقيع على التعهدات التجارية (1) . الاسم التجاري والعلامة التجارية: تجب التفرقة بين الاسم التجاري والعلامة التجارية، فالعلامة التجارية: هي كل شارة مميزة تستخدم لتمييز البضائع للدلالة على مصدرها، أو نوعها، أو مرتبتها، أو ضمانها، أو طريقة تحضيرها، أما الاسم التجاري فهو الاسم الذي يستخدمه التاجر الفرد، أو الشركة التجارية لتمييز المنشأة التجارية التي يباشر استغلالها. فالعلامة التجارية تستخدم لتمييز المنتجات، أما الاسم التجاري فإنه اسم يميز المنشأة التجارية ذاتها عن نظائرها. وقد يستخدم التاجر الاسم التجاري للمنشأة في تكوين العلامة التجارية التي يضعها على المنتجات، وبذلك يقوم الاسم التجاري بوظيفة في تكوين العلامة التجارية (2) . الاسم التجاري والاسم المدني واسم الشركة: يختلف الاسم المدني عن الاسم التجاري من حيث إن الاسم المدني هو خصيصة مميزة لشخصية الفرد، فهو حق غير مادي، ولذا لا يعد من الأموال غير قابل حينئذ للتعامل. وقد يتخذ التاجر من اسمه اسمًا تجاريًا، وينبغي ها هنا التفرقة بين اسم التاجر بصفته دالًا عليه، واسمه بصفته دالًا على الاسم التجاري، وبالتالي التفرقة بين حق التاجر في الحالين. فإذا بيع المحل التجاري انتقل حق الاستئثار باستعمال الاسم التجاري. وهذا لا يعني انتقال الاسم المدني من حيث التوقيع به وما إليه من خصوصيات التاجر البائع مثلًا. ومن هنا يتضح الفارق بين الاسم التجاري واسم الشركة، فاسم الشركة إحدى خصائص الشخصية الاعتبارية للشركة. "ويقع الخلط عادة بين الاسم التجاري الذي يميز به الشركة محلاتها التجارية، وبين اسم الشركة، لأن نفس العبارة التي يتكون منها اسم الشركة تستعمل عادة اسمًا تجاريًا، لذلك يتعين الفصل بين الاسم التجاري فهو مال قابل للتعامل، وبين اسم الشركة فهو اسم شخص وغير قابل للتعامل" (3) . التصرف في الاسم التجاري: اتجه القانون إلى منع التصرف في الاسم التجاري تصرفًا مستقلًا عن التصرف في المحل التجاري المخصص له (4) . ويهدف القانون من ذلك إلى حماية الجمهور من التضلل، لئلا يظن عند البيع أن المحل الجديد هو ذات المحل الأول. الطبيعة القانونية للاسم التجاري: يعتبر الاسم التجاري حقًّا للتاجر من حيث إنه يعطي التاجر حق الاستعمال والاستئثار لتمييز منشأته، ويمنع الآخرين من تقليده، أو تزييفه، أو الاعتداء عليه بأية صورة كانت، تمامًا كالحق العيني غاية ما هنالك أنه لا يرد على شيء مادي. والاسم التجاري في ذات الوقت يعتبر من المنقولات المعنوية وأحد أهم عناصر المحل التجاري. وأما عن كيفية قياس قيمة الاسم التجاري: فإنه يقاس "بمقدار ما يحققه التاجر من أرباح نتيجة استغلال المحل التجاري، ذلك أن الاسم التجاري هو العلامة المميزة للمحل ووسيلة اتصال العملاء بالمتجر" (5) . وقد يكون الاسم التجاري واجبًا إذا كان القانون يلزم به.   (1) انظر للتفصيل: التشريع الصناعى 166 وما بعدها (2) التشريع الصناعي، ص 168؛ ومبادئ القانون التجاري 1/470. (3) التشريع الصناعي، ص 171. (4) مبادئ القانون التجاري 1/475، ولا يخفي هنا أن التصرف في الاسم التجاري في البيع مثلًا غير التصرف في المحل باعتبار قيمة موقعه وهو المسمى بالخلو وهو: المبلغ المدفوع ثمنًا لموقع عقار مباع أو مؤجر. لكنهما يجتمعان في أن كلا منهما بيع منفعة. (5) التشريع الصناعي، ص 172. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1851 مستند الاسم التجاري: يستند الاسم التجاري من حيث نشأته إلى العرف التجاري. والعرف عامة: هو القواعد التي تنشأ من درج الناس عليها، يتوارثونها جيلًا عن جيل. والتي لها جزاء قانوني كالقانون المسنون سواء بسواء (1) . والعرف في القانون هو المصدر الثاني بعد النص القانوني يرجع إليه القاضي عند عدم النص في الواقعة. والقانون التجاري بصفة خاصة مبني في أغلب مسائله على العرف، حيث يبدأ أولًا في مرحلة ما يسمى بـ "العادة الاتفاقية" وهي الشروط التي إذا تكررت بين الأفراد، وتواتر استعمالها في العقود أصبحت معروفة ضمنًا دون حاجة إلى ذكرها. ثم تتحول هذه العادة الاتفاقية إلى عرف ملزم ما دام الناس يتوارثون ذلك، فترتقي العادة إلى أن تصبح عرفًا مستندًا إلى إرادة الجماعة فتصبح قاعدة قانونية عرفية. ثم تتحول القواعد العرفية إلى نصوص قانونية. فالعرف التجاري: "عبارة عن مجموع ما تعارف عليه التجار فيما بينهم على وفق طريقة معينة، وبشروط معينة قد تكتب أحيانًا، وتصبح مع مرور الأيام مفترضة ضمن التعامل، وفي العقود بينهم دون حاجة إلى النص عليها، وتتواتر الأحكام القضائية على افتراض وجودها، وعندئذ يقال: إنها قد أصبحت عرفًا" (2) . ثم يأتي القانون التجاري فيقنن هذه الأعراف بشروطها وينظمها، وتصبح بعد ذلك ملزمة كالنص القانوني. وإذا اجتمع العرف الخاص والعام، يقدم العرف الخاص، ويقصد بالعرف الخاص ما تعارف عليه التجار في جهة معينة من البلد، وأما العرف العام فيقصد به ما تعارف عليه التجار في البلاد بأجمعها (3) .   (1) القانون التجاري، للدكتور محمد حسني عباس ص 53، دار النهضة العربية 1966م بمصر (2) الموجز في شرح قانون التجارة الكويتي، للدكتور عزيز العكيلي – الطبعة الأولى 1398 هـ = 1978م الكويت – عن كتاب الموجز في القانون التجاري، للدكتور محسن شفيق ص 21. (3) الموجز في شرح قانون التجارة الكويتي ص 20. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1852 العلامة التجارية والصناعية: هي رمز يتخذه التاجر أو الصانع شعارًا لمنتجاته، أو بضائعه تمييزًا لها عن غيرها، ويقصد تيسير التعرف على مصدرها، وهي من أهم الوسائل التي يتبعها التاجر أو الصانع لتعريف العميل بسلعته وخدماته. وهذا يدفعه إلى تحسين منتجاته ليضمن إقبالًا جيدًا. ولقد ترتب على انتشار المنتجات الكثيرة وشدة التنافس الاهتمام بالعلامة التجارية للحفاظ على التميز المطلوب، حتى غدا لها قيمة ذاتية. أشكال العلامات التجارية والصناعية: قد تأخذ العلامة التجارية والصناعية أشكالًا متعددة مختلفة كالأسماء المتخذة شكلًا مميزًا، والكلمات والإمضاءات والحروف والأرقام والرسوم والرموز، وعنوانات المحال والدمغات والأختام والتصاوير، والنقوش البارزة، وأي علامات أخرى أو أي مجموع منها يستخدم أو يراد به أن يستخدم إما في تمييز منتجات عمل صناعي، أو أية بضاعة، أو للدلالة على مصدر المنتجات أو البضائع أو نوعها، أو مرتبتها أو ضمانها، أو للدلالة على تأدية خدمة من الخدمات (1) . ويتضح من تعريف العلامات التجارية والصناعية وأشكاله، وظيفة هذه العلامات فهي وسيلة لتيسير تعرف المستهلك على البضائع، وهي في ذات الوقت وسيلة دعائية لضمان العملاء وجودة المنتجات. العلامة التجارية والاسم التجاري: تختلف العلامة التجارية عن الاسم التجاري من حيث إن "العلامة التجارية شارة مميزة للمنتجات، بينما الاسم التجاري تسمية للمنشأة التجارية، وقد تشتق العلامة التجارية من الاسم التجاري، أو من العنوان التجاري، ويحميها القانون بوصفها علامة تجارية متى اتخذت علامة مميزة للمنتجات" (2) . ولكن ينبغي القول هنا أنه رغم وجود الفوارق بين العلامة التجارية، والاسم التجاري، والعنوان التجاري، إلا أن بينها تشابهًا من حيث طبيعة كل باعتبار أنها علامات مميزة لها ارتباط وثيق بالمحل التجاري. ولذلك أوجبت القوانين "عدم التصرف في العلامة التجارية أو الاسم التجاري تصرفًا مستقلا عن المتجر بقصد تنظيم المنافسة بين المنتجين وحماية المستهلك" (3) . وبالنظر إلى هذا التداخل بين الاسم التجاري وهو الأصل، وبين العلامة التجارية، والعنوان التجاري، وكذلك السمة التجارية، فإننا سنستخدم الاسم التجاري بالمعنى الأعم الشامل لغيره فيما هو من طبيعته، فما يجري عليه يجري على غيره جملة. التصرف بالعلامة التجارية: لا تعتبر العلامة التجارية مالًا مستقلًا بذاته، بل هي تابعة لملكية المحل، فلا تنتقل ملكية العلامة مستقلة في أي تصرف كرهن وبيع وما إليه. ذلك أن العلامة التجارية قد يكون لها اعتبار هام إذا كانت العلامة هي التي تجذب عملاء المحل، وتميزه عن غيره. فتكون – والحال هذه – من مستلزمات المحل التجاري. وعلى ذلك فالأصل أن العلامة التجارية تابعة للمحل التجاري فيما يجري عليه من تصرفات، لكن "يجوز لأطراف العقد الاتفاق على خلاف هذا المبدأ، فيجوز الاتفاق في عقد بيع المتجر على أن البيع لا يشتمل العلامات التجارية" (4) . وهذا لا يعني أنه يجوز التصرف بالعلامة التجارية منفردة، لكن يجوز أن تستخدم هذه العلامة لمنشأة جديدة أخرى. ومبدأ منع التصرف في العلامة التجارية مستقلة عن المحل، مختلف فيه عند القانونيين، ومختلف في تطبيقه بين الدول. ويرى بعض المانعين من التصرف في العلامة التجارية مستقلة عن المحل أن هذا المبدأ يسري "على رهن العلامة والحجز عليها، ولكن يجوز تقرير حق انتفاع على العلامة مستقلة عن المتجر" (5) ، وهذا يعني أن المراد بالمنع القانوني هو منع التصرفات الناقلة للملكية. أما غير الناقلة لها فيجوز.   (1) مبادئ القانون التجاري، للدكتور مصطفى كمال طه 1/456. (2) التشريع الصناعي، ص 199. (3) التشريع الصناعي، ص 200. (4) التشريع الصناعي، ص 233. (5) التشريع الصناعي ص 238؛ ومبادئ القانون التجاري، للدكتور مصطفى طه 1/462. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1853 رخصة المحل: وهي التي تجيز استغلال المحل فيما خصص له. وهي عنصر أساسي قد تكون له قيمة كبيرة تبعًا لأهمية المحل من حيث نوع تجارته، وموقعه، وما إلى ذلك، وتعتبر عنصرًا من عناصر المحل التجاري. إلا إذا استبعدها الطرفان أو إذا كانت الرخصة ذات صبغة شخصية إذا روعي في منحها صفات معينة (1) . العنوان التجاري: هو تسمية مبتكرة أو رمز يختاره التاجر كشعار خارجي لتمييز محله التجاري عن نظائره، واجتذاب العملاء (2) . السمعة التجارية: وهي تسمية مبتكرة تدخل عادة في الاسم التجاري قصد الدعاية، ولفت أنظار المستهلكين. والشركات المساهمة عادة تتخذ لها سمة تجارية، لأن ذكر غرض الشركة صناعيًا، أو زراعيًا، أو غير ذلك لا يكفي لتمييزها عن غيرها من الشركات المماثلة، فيقال مثلًا: "شركة صناعة الأنابيب (المتانة) . الاتصال بالعملاء: وهم الأشخاص الذين اعتادوا على الشراء من المحل، ولذا كان هذا من عناصر المحل الجوهرية. وقد يختلط هذا العنصر بعنصر السمعة التجارية إلى حد كبير. ويعتبر الاتصال بالعملاء والسمعة التجارية من أهم العناصر التي يتكون منها المحل التجاري "حتى إن من الفقهاء من يعتبر هذا العنصر كافيًا بذاته لوجود المحل التجاري بصرف النظر عن وجود عناصر أخرى" (3) . ويلحظ بعد هذا: أن العقار ليس داخلًا في عناصر المحل التجاري على الراجح، "لأن المحل مال منقول فلا يسوغ إدخال العقار عنصرًا فيه إلا إذا تقرر أن العقار يتحول إلى مال منقول أو يصبح منقولًا بالتخصيص (4) .   (1) القانون التجاري، للدكتور علي حسن يونس ص 461؛ ومبادئ القانون التجاري 1/408. (2) مبادئ القانون التجاري، للدكتور مصطفى طه 1/408, 476 (3) القانون التجاري، للدكتور علي حسن يونس ص 451. (4) القانون التجاري، للدكتور علي حسن يونس ص 466 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1854 الفصل الثاني الحق في القانون المبحث الأول تعريف الحق تمهيد: سبقت الإشارة إلى أن القانون يعتبر الاسم التجاري من جملة الحقوق، وأن هذه هي طبيعته، ولذا رتب القانون عليه ما يترتب على سائر الحقوق في الجملة وأعطى التاجر حق الملك والاستئثار به، ومنع الغير من الاعتداء على هذه الملكية بأي صورة من صور الاعتداء. ولما كان ذلك كذلك، لزم أن نعرف الحق وأقسامه وشيئًا من متعلقاته، ولنعرف موقع الاسم التجاري من هذه الحقوق، كيما تصح المناظرة بعد ذلك عند عرض الاسم التجاري على أصول وقواعد الفقه الإسلامي، ووزنه بميزانه. تعريف الحق: تباينت تعاريف القانونيين للحق تبعًا لمدارسهم التاريخية والموضوعية. فعرفه بعضهم بأنه: قدرة أو سلطة إرادية، يخولها القانون شخص معين (1) . وعرفه بعضهم بأنه: "ثبوت قيمة معينة لشخص بمقتضى القانون"، فيكون لهذا الشخص أن يمارس سلطات معينة يكفلها له القانون، بغية تحقيق مصلحة جديرة بالرعاية (2) . وعرفه السنهوري بخصوص المعاملات بأنه: "مصلحة ذات قيمة مالية يقرها القانون للفرد" (3) . وعرفه مطلقًا فقال بأنه: "مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون "، فلا يدخل إذن لا الحقوق العامة ولا الحقوق المتعلقة بالأحوال الشخصية؛ لأنها وإن كانت حقوقًا، فليست ذات قيمة مالية. وعلى ذلك فالتعريف يشمل الحقوق الشخصية والعينية (4) . ومراد الذين عرَّفوا الحق بأنه مصلحة – وهو تعريف بالموضوع – يقتضي أن كل منفعة حق؛ لأن المصلحة هي المنفعة التي تتوجه إرادة صاحبها إلى تحقيقها بحماية وإقرار القانون، سواء أكانت منفعة مادية أم معنوية. وعرَّفه آخرون بأنه: "استئثار شخص بمزية يقررها القانون له، ويخوله بموجبها أن يتصرف في قيمة معينة باعتبارها مملوكة أو مستحقة له" (5) .   (1) الملكية في الشريعة الإسلامية، للدكتور عبد السلام العبادي: 1/103، طبع وزارة الأوقاف عمان الطبعة الأولى 1394 هـ - 1974م. الأردن. عن محاضرات في النظرية العامة للحق الشيخ أحمد أبو سنة، ونظرية الحق، للدكتور جميل الشرقاوي: ص 12-27، وغيرهما. (2) حق الملكية، للدكتور عبد المنعم الصده: ص4، الطبعة الثالثة، مطبعة مصطفى الحلبي 1967م بمصر. (3) الوسيط، للدكتور عبد الرزاق السنهوري: 1/103، وانظر اختلافهم في تعاريف الحق في كتاب الحق، ومدى سلطان الدولة، للدكتور فتحي الدريني: ص 61؛ والملكية، للدكتور عبد السلام العبادي: ص 103. (4) مصادر الحق في الفقه الإسلامي، للدكتور عبد الرزاق السنهوري: 1/5، مطبعة دار المعارف 1967م بمصر. (5) الملكية، للدكتور عبد السلام العبادي: 1/105، عن نظرية الحق، للدكتور جميل الشرقاوي: ص 26. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1855 المبحث الثاني أقسام الحق يقسم رجال القانون الحقوق إلى عدة أقسام: - حقوق سياسية ومدنية: فالحقوق السياسية: هي الحقوق المتقررة للأفراد باعتبار دورهم في النظام السياسي في الدولة. كحق الانتخاب والترشيح. والحقوق المدنية: هي المصالح المتقررة للأفراد بصفة مباشرة. - وهذه الحقوق تنقسم بدورها إلى: حقوق عامة وحقوق خاصة. - والحقوق العامة: هي المتعلقة بكرامة الإنسان وسلامة جسده وحرمة مسكنه وحقه في التملك والتنقل وما إلى غير ذلك. وأما الحقوق الخاصة: فهي التي تنشأ نتيجة العلاقات والروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع. - وهذه تنقسم إلى: حقوق الأسرة وهذه تنظمها قوانين الأحوال الشخصية. - والحقوق المالية: وهي التي يمكن تقويم محل الحق فيها بالنقود. وقد قسمت هذه الحقوق إلى: حقوق عينية، وحقوق شخصية، وحقوق معنوية أو ذهنية. - والحق العيني: هو سلطة لشخص تنصب مباشرة على شيء مادي معين، كحق الملكية، ومن ثم يستطيع صاحبه أن يباشره دون واسطة شخص آخر. فهذا الحق ينطوي على عنصرين: صاحب الحق ومحل الحق. والحق الشخصي أو الالتزام: فهو حق يتمثل في رابطة قانونية بين شخصين بمقتضاها يقوم أحدهما وهو المدين قبل الآخر وهو الدائن بأداء مالي معين. كحق مشتري العقار قبل الذي يلتزم بنقل الملكية، وحق المستأجر قبل المؤجر الذي يلتزم بالتمكين من الانتفاع بالعين المؤجرة (1) . وهذه التفرقة بين الحق العيني والحق الشخصي تفرقة أساسية في القانون المدني. والحق والحق المعنوي: سلطة لشخص على شيء غير مادي، كالأفكار والمخترعات فهي سلطة على شيء معنوي غير مادي يكون ثمرة فكر صاحب الحق أو نشاطه. - وتقسيم الحقوق العينية إلى: حقوق عينية أصلية، وحقوق عينية تبعية. فالحقوق العينية الأصلية: هي التي تقوم بذاتها مستقلة بحيث لا تستند في جودها إلى حق آخر تتبعه، وهي تشمل: حق الملكية، والحقوق المتفرعة عن الملكية، وحق الانتفاع، وحق الاستعمال، وحق السكنى، وحق الحكر، وحقوق الارتفاق. أما الحقوق العينية التبعية فهي: التي لا توجد مستقلة، وإنما تكون تابعة لحق شخصي تضمن الوفاء به، وهي تشمل الرهن الرسمي، والرهن الحيازي، وحق الاختصاص، وحق الامتياز (2) . ويعنينا ههنا التركيز على الحق المعنوي لصلة موضوع الاسم التجاري به، فيناسبه مزيد بيان وتوضيح.   (1) انظر: نقد هذا التعريف في مصادر الالتزام في قانون التجارة الكويتي مقارنًا بالفقه الإسلامي، وأحكام المجلة، للدكتور عبد الفتاح عبد الباقي: 1/4 وما بعدها. وانظر تقسيم الحقوق أيضًا في الوسيط للسنهوري: 8/8. (2) حق الملكية، للدكتور عبد المعنم الصده: ص 4 وما بعدها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1856 الفصل الثالث الحقوق المعنوية المبحث الأول تعريف الحقوق المعنوية وطبيعتها تعريف الحق المعنوي - كما سبق القول – حق يرد على شيء غير مادي، سواء أكان نتاجًا ذهنيًا كحق المؤلف في المصنفات العملية أو الأجنبية، أم في المخترعات الصناعية. أم كان ثمرة لنشاط يجلب له العملاء، أي أن الحق يرد ها هنا على قيمة من القيم، كحق التاجر في الاسم التجاري، والعلامة التجارية، ويترتب على هذا حق احتكار واستغلال هذه الثمرة أو هذا النشاط أو النتاج. ويقول الدكتور السنهوري: "إن أكثر الحقوق المعنوية حقوق ذهنية، والحقوق الذهنية حق المؤلف وهو ما اصطلح على تسميته بالملكية الأدبية والفنيّة، والحقوق المتعلقة بالرسالة وهي ما اصطلح على تسميتها بملكية الرسائل، وحق المخترع وهو ما اصطلح على تسميته بالملكية الصناعية. والحقوق التي ترد على ما يتكون منه المتجر والتي اصطلح على تسميتها هي وسندات التداول التجارية بالملكية التجارية. ويجمع ما بين هذه الحقوق جميعًا أنها حقوق ذهنية (1) .   (1) الوسيط، للسنهوري: 8/276 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1857 طبيعة الحقوق المعنوية: اختلف رجال القانون في تكييف الحقوق المعنوية، وتوزعت أقوالهم في ذلك إلى مذاهب متعددة. فذهب بعضهم إلى أن الحق المعنوي لا يعتبر نوعًا من أنواع الحقوق بالإضافة إلى الحقين الآخرين وهما: الحق العيني، والحق الشخصي، بل هو حق داخل ضمن الحقوق العينية ذلك أن الحق العيني يشمل الشيء ماديًا كان أو معنويًا. ثم اختلفوا حول طبيعة هذا الحق المعنوي، هل هو حق ملكية أم لا؟ وأطلق على هذه الحقوق عدة تسميات: فأطلق عليها اسم "الملكية الأدبية والفنية والصناعية" باعتبار أن حق الشخص على إنتاجه الذهني حق الملكية. وقد نوقش هذا الرأي من ناحية أن الحقوق المعنوية، يرد الحق فيها على شيء غير مادي. أي لا يدخل في عالم الحسيات، ولا يدرك إلا بالفكر المجرد، فهو حتمًا يختلف عن الشيء المادي الذي يدرك بالحس. ومن جانب آخر فإن "المادة تؤتي ثمارها بالاستحواذ عليها، والاستئثار بها أما الفكر فعلى النقيض من ذلك، يؤتي ثماره بالانتشار لا بالاستئثار. فطبيعة الملكية تتنافى مع طبيعة الفكر من ناحيتين: الأولى: أن الفكر لصيق بالشخصية. والثانية: أن الفكر حياته في انتشاره لا في الاستئثار به، ونخلص من ذلك إلى أن حق المؤلف أو المخترع ليس حق ملكية، بل هو حق عيني أصلي، يستقل عن حق الملكية بمقوماته الخاصة، وترجع هذه المقومات إلى أنه يقع على شيء غير مادي" (1) . ومن ناحية أخرى: فإن حق الملكية حق مؤبد، في حين أن الحق المعنوي حق مؤقت بطبيعته وذهب آخرون إلى إطلاق عنوان " الحقوق الذهنية " على هذه الحقوق تحاشيًا للملاحظات التي أبديت لمفارقة حق الملكية عن الملكية المعنوية. وقد ورد هذا بأن "هناك إلى جانب الأشياء المادية التي ترد عليها الملكية العادية أشياء غير مادية للتملك بحيث إن الحقوق التي ترد عليها لا تعدو أن تكون صورًا خاصة للملكية يمكن أن يقال عنها أنها ملكية غير عادية" (2) . وذهب آخرون إلى إطلاق عنوان "الحقوق التي ترد على أموال غير مادية". وقد رد هذا: "بأنه لم يعن ببيان الخصائص الأساسية لهذه الحقوق في المجال المالي لإظهار الفارق بينها وبين الحقوق العينية والشخصية، إذ أن تلك الحقوق كما هو الشأن في الأموال المادية، يمكن الانتفاع بها والتصرف فيها بمقتضى عقد" (3) . وذهب آخرون إلى إطلاق عبارة"الحقوق المتعلقة بالعملاء"، وذلك نظرًا إلى موضوع هذه الحقوق وهو الأشياء التي من إبداع الذهن أو القيمة التجارية، وأن هذين الأمرين تتحدد قيمتهما جميعًا بحسب ما يجتذب إليها من العملاء. وقد أخذ على هذا الإطلاق، أنه قد يصدق على الحقوق التي ترد على قيم تجارية، كالاسم التجاري مثلًا، لكنه لا يصدق على حقوق المؤلفين بذات الدرجة، لأنها قد تكون إنتاجًا ذهنيًا مستقلًا كحق المؤلف الأدبي المتميز عن الحق المالي. ورجح آخرون أن طبيعة الحق المعنوي أنه "صورة خاصة من الملكية" باعتبار أن عناصر الملكية موجودة في هذا النوع من الحقوق، "فلا مفر من التسليم بأننا بصدد حق ملكية، وكل ما هنالك أن الملكية هنا تعتبر صورة خاصة للملكية، حيث إنها ترد على شيء غير مادي. ومقتضى هذا الفارق أن تختص الملكية المعنوية بأحكام تختلف عن أحكام الملكية العادية، ولا يقدح في هذا النظر أن يقال: إن الحق المعنوي في أغلب صوره ليس مؤبدًا، لأن التأييد ليس خاصة جوهرية لحق الملكية" (4) .   (1) الوسيط، للسنهوري: 8/279. (2) حق الملكية، للدكتور عبد المنعم الصده: ص 295. (3) حق الملكية، للدكتور عبد المنعم الصده: ص 295. (4) حق الملكية، للدكتور عبد المنعم الصده: ص 297؛ والوسيط: 8/281. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1858 المبحث الثاني حقوق الملكية الصناعية (الابتكار والاسم التجاري) تعريف حقوق الملكية الصناعية: هي حقوق استئثار صناعي، أي هي حقوق تخول صاحبها أن يستأثر قبل الكافة باستغلال ابتكار جديد أو استغلال علامة مميزة. وتهدف حقوق الملكية الصناعية إلى الاتصال بالعملاء عن طريق استئثار المنتج باستغلال ابتكار جديد، أو تمييز منتجٍ له، أو متجره بعلامات مميزة. وعلى هذا "فتشمل حقوق الملكية الصناعية براءات الاختراع والعلامات التجارية المميزة والرسوم والنماذج الصناعية" (1) . فحقوق الملكية الصناعية نوعان رئيسيان: حقوق الاختراع والابتكار؛ وحقوق العلامات التجارية والرسوم. أولا – حق الاختراع والابتكار: وهو الحق فيما يسمي "براءة الاختراع وهي من أقدم إسناد الملكية الصناعية" (2) . وهي جهد ذهني أدى إلى إيجاد شيء أو نظرية لم يكن معروفًا. واصطلح على تسمية ذلك حقوق الملكية الفنية والأدبية، وهذه الحقوق تنشأ في البيئة العلمية والأدبية والفنية. وقد يمتد استغلال تلك الحقوق إلى البيئة التجارية. وحقوق الملكية الصناعية التي تقوم على ابتكارات جديدة قد تتعلق بابتكار من حيث موضوع المنتجات. وهي براءة الاختراع، وقد تتعلق بابتكار جديد من حيث شكل المنتجات، وتلك هي الرسوم والنماذج الصناعية. وعلى هذا فموضوع الحق في براءة الاختراع غير موضوع الحق في حق الرسوم، والنماذج الصناعية. فالحق في الأول: ينصب على ابتكار جديد من حيث الموضوع، فيستأثر صاحبه برخصة صناعية جديدة فيحتكر إنتاجًا صناعيًا جديدًا. وأما في الثاني: فعنصر الابتكار يرد على الشكل الذي تصب فيه المنتجات كرقم أولون مبتكر في ثوب، أو زخرفة أو نماذج جديدة لتصميم سيارة وما إلى ذلك من المظاهر الخارجية.   (1) القانون التجاري، علي حسن يونس: ص 457. (2) الوجيز في الملكية الصناعية والتجارية، للدكتور صلاح الدين الناهي: ص 60، الطبعة الأولى دار الفرقان 1403 هـ - 1983م الأردن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1859 ثانيًا – العلامات التجارية والرسوم: حق الملكية الصناعية والتجارية يتضمن حق المنتج في احتكار استعمال علامة تميز منتجاته، أو تميز متجره أو تميز بلد الإنتاج. فحق المنتج في احتكار علامة تميز منتجاته عن مثيلاتها هو الحق في العلامات التجارية والصناعية، وحق المنتج في احتكار علامة تميز المصنع أو المتجر هو الحق في الاسم التجاري. أما الرسوم والنماذج الصناعية: فيقصد بها تلك اللمسات الفنية، والرسوم والألوان والشكل المنتج، والتي من شأنها أن تستجلب نظر واهتمام العملاء، وحرصهم بعد ذلك على هذا النوع من البضاعة. وهي بهذه الصفة تجمع بين أمرين: النموذج الصناعي: وهي هذه الرسوم والنماذج أو القوالب الصناعية التي تتميز بها هذه البضاعة، والنموذج الفني وهي الناحية الجمالية والذوقية التي تحملها وتمثلها هذه الرسوم والأرقام وما إلى ذلك. والرسوم والنماذج الصناعية ترتبط بمظهر المنتج الخارجي، ولا علاقة لها بموضوع المنتج. ومن هنا يتضح الفرق بين الابتكار والرسوم أو النماذج الصناعية. فالابتكار هو اكتشاف منتج جديد على غير سابق مثيل، بينما إخراج هذا المنتج بشكل وطابع وتصميم فني وجمالي هو النموذج الصناعي. ولهذا فقد يكون الارتباط بين الابتكار أو الاختراع، وبين الرسوم والنماذج الصناعية وثيقًا لا يمكن فك الارتباط بينهما فيكون الحق في الرسوم والنماذج تابعًا لحق الاختراع لأنه الأصل. وقد لا يكون بينهما مثل هذا الترابط، فيكون لكل منهما صفته وما يتبعها من حقوق (1) .   (1) التشريع الصناعي: ص 136 وما بعدها؛ والوجيز في الملكية الصناعية والتجارية، للدكتور صلاح الدين الناهي: ص 211 بتصرف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1860 التكييف القانوني لحقوق الملكية الصناعية: جرى الفقه القانوني على تقسيم الحقوق المالية – كما سبقت الإشارة – إلى حقوق عينية وحقوق شخصية، والحق العيني أرادوا منه: سلطة مباشرة لشخص معين , والحق الشخصي: هو رابطة قانونية بين شخصين. أحدهما دائن والآخر مدين، ولقد اتجه الفقه بادئ الأمر إلى إدخال هذه الحقوق في دائرة الحقوق العينية، لما لمسوه من تشابه بين حق الملكية وحق الملكية الصناعية من حيث إن كلًّا منهما يعطي صاحبه سلطة احتكار واستغلال الشيء موضوع الحق (1) . لكنهم رأوا فيما بعد ذلك أن هذا التشابه لا يكفي في إلحاق الحقوق الصناعية بالحق العيني، ذلك أن الحق العيني سلطة لصاحب الحق على شيء معين بذاته، أما حقوق الملكية الصناعية كبراءة الاختراع فيرد على شيء غير مادي له قيمة اقتصادية، أما ملكيته للآلة فهي حق ملكية على شيء مادي. وهذا فارق جوهري بين طبيعة كل من الحقين، ومتى اختلف الموضوع بين أمرين لم يعد من اللائق الجمع بينهما في طبيعة واحدة. ومن جانب آخر ذهب فقهاء القانون إلى أن حقوق الملكية الصناعية تختلف عن الحقوق الشخصية: باعتبارها تمثل علاقة أو رابطة قانونية بين دائن ومدين بينما حقوق الملكية الصناعية تمثل سلطة استئثار باستغلال ابتكار جديد أو علامة مميزة. ونظرًا لهذا الاختلاف بين حق الملكية الصناعية من حيث طبيعتها وبين الحقوق العينية والحقوق الشخصية ناسب إضافة قسم ثالث يمكن أن يندرج تحته حق الملكية الصناعية وحق الملكية الأدبية والفنية واصطلح على تسميته "حقوق الملكية المعنوية" – كما سبقت الإشارة-. ولكن وجد أنه حتى هذه التسمية فيها قصور عن التعبير عن طبيعة هذه الحقوق من حيث إن حق الملكية يتضمن عناصر ثلاثة: هي الاستعمال والاستغلال والتصرف. وهذه لا تتوافر جميعها في حقوق الملكية الصناعية، فالحق في براءة الاختراع لا يتضمن عنصر الاستعمال لأنه غير مادي حتى يمكن استعماله لخاصة نفسه. ومن ناحية ثانية وجد أن الحق في براءة الاختراع، والحق في الرسوم والنماذج الصناعية وحقوق الملكية الأدبية والفنية كلها حقوق مؤقتة. ولذا رأى بعض القانونيين وضع اصطلاح آخر لهذ الحقوق سمي "الحقوق الخاصة بالإنتاج الذهني" باعتبار أن جوهر وموضوع هذه الحقوق هو الابتكار الذهني. وقد رد هذا الرأي أيضًا لأنه لا يطابق الواقع في كل الحالات، فإن الابتكار ليس هو العنصر الجوهري في العلامات المميزة التي تكون محلًا للحق في العلامة التجارية أو الصناعية أو الاسم التجاري، بل إن جوهر الحق هنا إنما يدور حول مجرد "العلامة المميزة" للمتجر أو المنتجات. ورأى آخرون أن حقوق الملكية الصناعية ما دامت استئثار صاحب الحق باستغلال حقه قبل العملاء والاتصال بهم، فهذا موضوع هذه الحقوق، ولذا أطلقوا على هذه الحقوق "حقوق الاتصال بالعملاء". وقد رد هذا الرأي أيضًا في تكييف هذه الحقوق بأن "حقوق الاتصال بالعملاء" هو عنصر من عناصر المتجر، وأن هذا الاصطلاح يقتصر على حقوق الملكية الصناعية دون حقوق الملكية الأدبية والفنية فهو اصطلاح قاصر (2) . ويرى البعض أن التكييف القانوني الصحيح لهذه الحقوق هي: " أنها من قبيل: الحقوق التي ترد على أشياء غير مادية " (3) . وقد أخذ على هذا الاتجاه أنه لم يعن ببيان الخصائص الأساسية لهذه الحقوق في المجال المالي لإظهار الفارق بينها وبين الحقوق العينية والشخصية. وعلى هذا فالحقوق المعنوية مهما اختلف في طبيعتها إلا أن عناصرها التي لا خلاف في وجودها في هذه الحقوق ثلاثة يشير مجموعها إلى أن هذه الحقوق هي حقوق ملكية خاصة لأنها ترد على شيء غير مادي. وهذه العناصر الثلاثة هي: الأول: أنها ترد على شيء معنوي أو غير مادي. والثاني: أن هذا الشيء يكون ثمرة لعمل صاحب الحق الذهني أو لنشاطه، فهو إما أن يكون نتاجًا ذهنيًا أو قيمة من القيم التجارية، والثالث: أنها تخول صاحبها احتكار واستغلال ذلك النتاج أو هذه القيمة سواء بالانتفاع أو بالتصرف (4) .   (1) التشريع الصناعي، للدكتور محمد حسني عباس: ص 13 وما بعدها؛ وحق الملكية، للدكتور عبد المنعم الصده: ص 294؛ والوجيز في الملكية الصناعية والتجارية، للدكتور صلاح الدين الناهي: ص 17. (2) التشريع الصناعي: ص 17 وما بعدها؛ والملكية، للدكتور عبد المنعم الصده: ص 295. بتصرف. (3) الملكية، للدكتور عبد المنعم الصده: ص 296؛ والتشريع الصناعي: ص 22. (4) الملكية، للدكتور عبد المنعم الصده: ص 297. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1861 المبحث الثالث حق المنفعة يعتبر موضوع "المنفعة" موضوعًا وثيق الصلة بموضوع الاسم التجاري وما في حكمه، بل هو صلب الموضوع، ذلك أنه إذا ثبت أن الاسم التجاري منفعة، فسينطبق عليه أحكام "حق المنفعة" ومن هنا لزم معرفة المنفعة بتحرير معناها كحق وبيان أحوالها وأحكامها. تعريف حق المنفعة: حق المنفعة هو حق استغلال أشياء يملكها شخص آخر، كما يستغلها المالك نفسه، لكن بشرط المحافظة على كيانها، ويعرف أيضًا بأنه: الحق العيني في الانتفاع بشيء مملوك للغير، بشرط الاحتفاظ بذات الشيء لرده إلى صاحبه عند نهاية حق الانتفاع، الذي يجب أن ينتهي حتمًا بموت المنتفع (1) . ويترتب على حق المنفعة أمور: أولًا: أنه حق عيني، ولذلك عالجه القانون ضمن الحقوق المتفرعة عن حق الملكية، ويترتب على اعتباره حقًا عينيًا جواز الاحتجاج به على الناس كافة (2) . وثانيًا: أنه حق ينتهي بموت المنتفع، فإذا مات المنتفع يرجع حق الانتفاع إلى مالك الرقبة، فإن حدد حق المنفعة بأجل، انتهى حق المنفعة بانتهاء الأجل. فإن مات المنتفع قبل انقضاء الأجل فإن حق المنفعة ينتهي بالرغم من عدم انقضاء الأجل. وثالثًا: أنه حق يقع على شيء غير قابل للاستهلاك؛ لأن الشيء محل الانتفاع يجب رده إلى المالك عند انتهاء حق الانتفاع.   (1) الوسيط للسنهوري: ص 9/1201. (2) ورغم أن حق المنفعة كحق الإيجار حق في الانتفاع إلا أنه بينهما الفروق التالية: أولًا: أن المنتفع له حق عيني يقع مباشرة على الشيء المنتفع به ولا يتوسط بينهما مالك الشيء، ويترتب على ذلك أن المالك ليس ملزمًا قبل المنتفع بتمكينه من الانتفاع، بل إن كل ما عليه هو ألا يتعرض للمنتفع في مباشرته لحقه. أما حق المستأجر فإنه حق ينصب في ذمة المؤجر، ولهذا يتوجب على الأخير (أي المؤجر) ، أن يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة. ثانيًا: لما كان حق المنفعة عينيًا لذلك فهو يعتبر حجة على الناس كافة. في حين أن حق المستأجر لا يكون حجة إلا على المؤجر وخلفه العام لأنه حق شخصي. ثالثًا: أن حق المنفعة قد يكون عقاريًا أو منقولًا بحسب العين التي ينصب عليها هذا الحق. وإذا كان عقاريًا جاز للمنتفع رهنه تأمينًا. في حين أن حق المستأجر لا يجوز رهنه رهنًا تأمينًا، ولو كانت العين المؤجرة عقارًا؛ لأن هذا الحق شخصي ولا يعتبر مالًا عقاريًا بل مالًا منقولًا. انظر محاضرات في الحقوق العينية الأصلية، للدكتور سعيد عبد الكريم مبارك: ص 270، طبع دار الطباعة الحديثة 1969م-1970م البصرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1862 أسباب كسب حق المنفعة: يكسب حق المنفعة بالعقد والوصية والتقادم. فالعقد يعتبر سببًا لكسب حق المنفعة. ويلزم تجديد مدة حق المنفعة في العقد، فإن لم تجدد عد مقررًا مدى حياة المنتفع، وهو ينتهي على كل حال بموت المنتفع حتى قبل انقضاء المدة المحددة له. والوصية: ويكون كسب حق المنفعة بطريق الوصية، بأن يوصي مالك العين بالرقبة لشخص معين، فيبقى حق الانتفاع للورثة. وأما التقادم: فيصلح أن يكون سببًا لكسب حق المنفعة لأنه في حكم الحيازة الواردة على حق المنفعة دون العين، فإذا كانت الحيازة منصبة على العين فإنها تكون في هذه الحالة سببًا لكسب ملكية العين بما فيها حق المنفعة (1) حقوق المنتفع: تتلخص حقوق المنتفع في الآتي: 1- حق الاستعمال: ويشمل حينئذ الشيء المنتفع به وتوابعه. كالأرض المنتفع بها مع حقوق الارتفاق. 2- حق الاستغلال: وهو الحصول على ثمار الشيء وغلته مدة انتفاعه به. 3- حق التصرف: فللمنتفع أن يتصرف في حقه بمقابل أو بدون مقابل، فله أن ينقل حقه إلى الغير بالبيع أو التنازل، وله أن يؤجر العين محل الانتفاع (2)   (1) ورغم أن حق المنفعة كحق الإيجار حق في الانتفاع إلا أنه بينهما الفروق التالية: أولًا: أن المنتفع له حق عيني يقع مباشرة على الشيء المنتفع به ولا يتوسط بينهما مالك الشيء، ويترتب على ذلك أن المالك ليس ملزمًا قبل المنتفع بتمكينه من الانتفاع، بل إن كل ما عليه هو ألا يتعرض للمنتفع في مباشرته لحقه. أما حق المستأجر فإنه حق ينصب في ذمة المؤجر، ولهذا يتوجب على الأخير (أي المؤجر) ، أن يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة. ثانيًا: لما كان حق المنفعة عينيًا لذلك فهو يعتبر حجة على الناس كافة. في حين أن حق المستأجر لا يكون حجة إلا على المؤجر وخلفه العام لأنه حق شخصي. ثالثًا: أن حق المنفعة قد يكون عقاريًا أو منقولًا بحسب العين التي ينصب عليها هذا الحق. وإذا كان عقاريًا جاز للمنتفع رهنه تأمينًا. في حين أن حق المستأجر لا يجوز رهنه رهنًا تأمينًا، ولو كانت العين المؤجرة عقارًا؛ لأن هذا الحق شخصي ولا يعتبر مالًا عقاريًا بل مالًا منقولًا. انظر محاضرات في الحقوق العينية الأصلية، للدكتور سعيد عبد الكريم مبارك: ص 270، طبع دار الطباعة الحديثة 1969م-1970م البصرة. ص 270 -274 وحق الملكية للدكتور عبد المنعم الصده:ص796 بتصرف (2) محاضرات في الحقوق العينية الأصلية، للدكتور سعيد عبد الكريم مبارك: ص 275 بتصرف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1863 المبحث الرابع المال والشيء المال: هو الحق ذو القيمة سواء أكان عينيًا، أم شخصيًا، أم حقًا من حقوق الملكية الأدبية والفنية والصناعية. والشيء هو محل الحق سواء أكان ماديًا، أم غير مادي (1) . فالشيء محل الحق – والحال هذه – متنوع كالحقوق العينية الأصلية والتبعية، والحقوق الشخصية وحقوق الملكية الأدبية والفنية، والصناعية والتجارية. وقد قسم القانونيون الأشياء إلى: أشياء قابلة للتعامل، وأشياء غير قابلة للتعامل. وهذا القسم الأخير، وإن سمي شيئًا إلا أنه لا تترتب عليه حقوق مالية. ويتنوع الشيء غير القابل للتعامل إلى نوعين: الأول: الأشياء الخارجية عن التعامل بطبيعتها، وهي التي لا يستطيع أحد أن يستأثر بحيازتها، فيمكن أن ينتفع بها كل الناس، من غير أن يحول انتفاع بعضهم دون انتفاع بعضهم الآخر، كالهواء وماء البحر. والثاني: الأشياء الخارجة عن التعامل بحكم القانون، وذلك إما لأغراض صحية، أو اجتماعية كالمنع من التعامل بالمحظور من الحشيش والأفيون، وإما لتعلق المنافع المشتركة لجميع الناس ببعض الأشياء، كالمنع من التعامل بالأموال العامة، كالطرق والحدائق (2) .   (1) الوسيط، للسنهوري: 8/8. (2) الملكية، للدكتور عبد السلام العبادي: 1/194، عن الأعمال التحضيرية، للدكتور عبد الرزاق السنهوري: 1/460. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1864 الفصل الرابع الحق في الفقه الإسلامي تمهيد: هذا هو القسم الثاني في الموضوع، وهو الجانب الشرعي منه بعد أن اتضح موضوع الاسم التجاري وما في حكمه من جميع جوانبه القانونية حتى أصبح تكييفه ووزنه بميزان الشرع أمرًا صحيحًا علميًا لابتنائه على تصور قانوني شامل لموضوعه ما دام المطلوب بيان الحكم الشرعي لما عليه الاسم التجاري في القانون الوضعي. المبحث الأول تعريف الحق تعريف الحق لغة: ذكر اللغويون للحق معاني كثيرة أخصها أنه: خلاف للباطل، والموجود الثابت، يقال: حققت الأمر أحقه إذا أوجبته أو جعلته ثابتًا أو تيقنته (1) . وفي الاصطلاح: عرفه عبد العزيز البخاري بما لا يخرج عن المعنى اللغوي، فقال: "الموجود من كل وجه الذي لا ريب فيه في وجوده، ومنه السحر حق والعين حق أي موجود بأثره"، ثم قال: "وحق العبد ما يتعلق به مصلحة خاصة" (2) . وقال الدسوقي: "الحق جنس يتناول المال وغيره" (3) . وعرفه القاضي حسين بقوله: "الحق: اختصاص مظهر فيما يقصد له شرعًا" (4) . وعرفه الشيخ علي الخفيف بأنه: "ما ثبت لإنسان بمقتضى الشرع من أجل صالحه" (5) . وعرفه الشيخ مصطفى الزرقا بأنه: "اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفًا" (6) . وهذه التعاريف تلتقي في بيان حقيقة الحق، غاية ما هنالك أن بعضها راعى موضوع الحق وأنه مصلحة، وبعضها راعى صاحب المصلحة من حيث اختصاصه وتصرفه بموضوع الحق. والذي نراه في تعريفه أنه: "مصلحة شرعية تُخَوِّل صاحبها الاختصاص أو ترتيب التكليف". والرضى بهذا التعريف لما تضمنه لموضوع الحق وهو المصلحة، وما يترتب على ذلك من علاقة أو اختصاص لصاحب المصلحة فردًا كان أو جماعة تخوله سلطة ومنعًا للغير من الاعتداء على هذا الحق سواء أكان سلطة أو ولاية على شخص أو على شيء أو هي تكليف من الله على عباده أو فيما بين العباد أنفسهم.   (1) لسان العرب، لابن المنظور؛ والمصباح المنير، مادة: حق (2) كشف الأسرار عن أصول البرزدوي للإمام عبد العزيز البخاري: 4/134، طبعة 1394 هـ - 1974م بمصر – والبحر الرائق، شرح كنز الدقائق، للإمام زين الدين بن نجيم: 6/148، الطبعة الثانية بمصر. (3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/457. (4) الملكية في الشريعة الإسلامية، للدكتور عبد السلام العبادي: ص 96، عن كتاب طريقة الخلاف بين الشافعية والحنفية، للقاضي أبي علي الحسين بن محمد المروزي، مخطوط بدار الكتب المصرية رقم 1523. وقال الدكتور عبد السلام عن هذا التعريف: إن له وزنه وقيمته العلمية من عدة نواح: الأولى: أنه عرف الحق بأنه اختصاص، وهو تعريف يبرز ماهية الحق بشكل يميزه عن غيره، الثانية: أن تعريف الحق بأنه اختصاص يتفق مع آخر ما وصل إليه البحث القانوني. الثالثة: أن وصف هذا الاختصاص بأنه "مظهر ... " يبين أن طبيعة هذا الاختصاص تقوم على وجود آثار وثمار يختص بها صاحب الحق دون غيره في الأشياء التي شرع الحق فيها، وهي قد تكون مادية أو معنوية. الرابعة: أنه تعريف أحد فقهاء القرن الخامس الهجري مما يدل على أن فقهاء الشريعة القدامى عرفوا الحق تعريفًا صحيحًا. (5) أحكام المعاملات الشرعية، للدكتور علي الخفيف: ص 28. الطبعة الثانية 1363هـ- 1944م بمصر. (6) المدخل إلى نظرية الالتزام العامة، للشيخ مصطفى الزرقا:2/11، الطبعة الثالثة مطبعة الجامعة 1377 هـ - 1958م دمشق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1865 المبحث الثاني أقسام الحقوق عند الأصوليين والفقهاء قسم الأصوليون الحقوق بالنظر إلى مستحقها إلى أقسام: أولها: حق الله، وهو: "ما يتعلق به النفع العام لجميع العالم، فلا يختص به واحد دون واحد"، وإضافته إلى الله تعالى لتعظيم خطره وشمول نفعه لا للملك والاختصاص لاستواء العالم فيه، ولا للنفع والضرر لتعاليه. ثانيها: حق العبد: "ما يتعلق به مصلحة خاصة" كحرمة مال الغير، ولهذا ويباح ماله بإباحة المالك، ولا يباح الزنا بإباحة المرأة. ثالثها: اجتماع الحقين، فقد يجتمع الحقان، وحق الله غالب، وقد يجتمعان وحق العبد هو الغالب (1) . ويرى الإمام القرافي وغيره – وهو الصواب – أن حق العبد متضمن في حق الله، لأن الحقوق جميعًا مرجعها إلى الله تبارك وتعالى، فيقول: "ما من حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى". فيوجد حق الله تعالى دون حق العبد، ولا يوجد حق العبد إلا وفيه حق الله (2) . أي فبينهما عموم وخصوص مطلق. ثم بيَّن علامة التفريق بين الحقين، بقوله: "وإنما يعرف ذلك بصحة الإسقاط، فكل ما للعبد إسقاطه فهو الذي نعني به حق العبد (3) . وقال الشاطبي: "إنَّ كل حكم شرعي ليس بخال عن حق الله تعالى وهو جهة التعبد ... فإن جاء ما ظاهره أنه حق للعبد مجردًا، فليس كذلك بإطلاق، بل جاء على تغليب حق العبد في الأحكام الدنيوية" (4) .   (1) شرح المنار وحواشيه من علم الأصول، للإمام عبد العزيز بن ملك على متن المنار، للإمام عبد الله حافظ الدين النسفي وعليه حاشيتا الإمامين: عزمي زاده وابن الحلبي: ص 886، طبع دار سعادة 1315هـ استانبول. والبحر الرائق؛ شرح كنز الدقائق للإمام زين الدين بن نجيم: 6 / 148، الطبعة الثانية:0 وكشف الأسرار، للبرزدوي: 4 / 134. وحقوق الله تعالى ثمانية أنواع: عبادات خالصة كالإيمان وفروعه، وعقوبات كاملة كالحدود، وعقوبات قاصرة مثل حرمان الميراث، وحقوق دائرة بين العبادة والعقوبة كالكفارات، وعبادة فيها معنى المؤنة كصدقة الفطر، ومؤنة فيها معنى العبادة كالعشر، ومؤنة فيها معنى العقوبة كالخراج، وحق قائم بنفسه كخمس الغنائم والمعادن. انظر: المرجع ذاته. (2) الفروق، للإمام شهاب الدين القرافي: 1/141، مطبعة دار إحياء الكتب العربية الطبعة الأولى 1346 هـ بمصر. (3) الفروق، للإمام شهاب الدين القرافي: 1/141، مطبعة دار إحياء الكتب العربية الطبعة الأولى 1346 هـ بمصر. (4) الموافقات في أصول الأحكام، للإمام أبي إسحاق إبراهيم اللخمي الشاطبي: 2/333، مطبعة المدني بمصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1866 وعلى هذا ينقسم الحق بالنظر إلى التكاليف الشرعية أقسامًا: أولهما: ما كان حق الله تعالى فيه خالصًا كالإيمان. وثانيهما: ما كان حق العبد فيه خالصًا كالديون. وثالثها: ما اجتمع فيه الحقان، وحق الله غالب كحد القذف. ورابعها: ما اجتمع فيه الحقان، وحق العبد غالب كالقصاص (1) . ويقسم الفقهاء الحقوق باعتبار مضمونها: إلى حقوق مالية، وحقوق غير مالية. فالحقوق المالية: هي المتعلقة بالأموال ومنافعها، وهذه تشمل الحقوق الواردة على الأعيان والمنافع والديون. والحق قد يكون حقًا ماليًا شخصيًا إذا كان حقًا شرعيًا لشخص على آخر، كحق المشتري في تسلم المبيع، وحق البائع في تسلم الثمن. وقد يكون الحق ماليًا عينيًا إذا كان حقًا شرعيًا لشخص على شيء، "فإذا اغتصب شخص شيئًا من آخر، فإن حق المغصوب منه المتعلق بهذا الشيء حق عيني، أما حق المغصوب منه قِبَلَ الغاصب في أن يرد الشيء المغصوب، فهو حق شخصي" (2) .   (1) المنار وشروحه: 886، والفروق: 1/140، و141 مع مراعاة أن الفقهاء مختلفون في تغليب أي الحقين في بعض الفروع. كما في حد القذف. (2) الشريعة الإسلامية تاريخها ونظرية الملكية والعقود، للدكتور بدران أبو العينين بدران: ص 301 نشر مؤسسة شباب الجامعة بمصر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1867 والحقوق غير المالية: هي التي لا تعلق لها بالمال كحق ولي المقتول في القصاص والعفو. وهذا التقسيم مأخوذ من جملة تقسيمات الفقهاء للحقوق. وقد قسم ابن رجب: الحقوق إلى خمسة أنواع: أحدها: حق ملك، كحق السيد في مال المكاتب. والثاني: حق تملك، كحق الأب في مال والده. والثالث: حق الانتفاع، كوضع الجار خشبه على جدار جاره إذا لم يضره به. والرابع: حق الاختصاص: وهو عبارة عما يختص بالانتفاع به، كمرافق الأسواق المتسعة التي يجوز البيع والشراء فيها، كالدكاكين المباحة ونحوها، فالسابق إليها أحق بها. والخامس: حق التعلق لاستيفاء الحق، كتعلق حق المرتهن بالرهن، وتعلق حق الغرماء بالتركة (1) . وقال ابن قدامة: "الحقوق على ضربين: أحدهما: ما هو حق لآدمي، والثاني: ما هو حق لله تعالى. فحق الآدمي ينقسم قسمين: أحدهما: ما هو مال أو المقصود منه المال. الثاني: ما ليس بمال ولا المقصود منه المال، وهو كل ما لا يثبت إلا بشاهدين، كالقصاص وحد القذف والنكاح والطلاق ... والضرب الثاني: حقوق الله تعالى، وهي نوعان: أحدهما: الحدود. الثاني: الحقوق كدعوى الساعي الزكاة على رب المال، وأن الحول قد تم وكمل النصاب (2) .   (1) القواعد في الفقه الإسلامي، للإمام عبد الرحمن بن رجب الحنبلي: ص 1200، القاعدة الخامسة والثمانون بتصرف الطبعة الأولى 1392 هـ - 1973م بمصر. (2) المغني: 10/213، و214. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1868 ويقسم الفقهاء الحقوق إلى حق مجرد وحق غير مجرد أو متقرر، فالحق المجرد: ما كان غير متقرر في محله أي لم يقم بمحل ولم يتقرر في ذات، كحق الشفعة، فإنه نوع من الولاية أعطيت للشفيع في أن يتملك العقار بعد أن يتملكه المشتري، ومثله حق المرور بالنسبة للطريق ... وغير المجرد: هو مالَهُ تعلق بمحله تعلق استقرار، بمعنى أن لتعلقه أثرًا أو حكمًا قائمًا يزول بالتنازل عنه، وذلك كحق القصاص، فإنه يتعلق برقبة القاتل ودمه، ومع قيامه يكون غير معصوم بالنسبة لولي القصاص، ولكن بالتنازل عنه يصير معصوم الدم (1) . والحقوق المجردة عند الحنفية لا يجوز الاعتياض عنها، ولذا قالوا: لا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة عن الملك كحق الشفعة، وقال في البدائع الحقوق المفردة لا تحتمل التمليك. ولا يجوز الصلح عنها، وأضاف ابن عابدين قوله، وكذا لا تضمن بالإتلاف. قال في شرح الزيادات للسرخسي: وإتلاف مجرد الحق لا يوجب الضمان، وعلل لذلك بأن الاعتياض عن مجرد الحق باطل إلا إذا فوت حقًا مؤكدًا. فإنه يلحق بتفويت حقيقة الملك في حق الضمان. وهذا القيد يقرب مذهب الحنفية هنا إلى رأي من قال بجواز الاعتياض دون تفصيل بين الحقوق. وألحق الزيلعي وابن نجيم بعدم جواز الاعتياض عن حق الشفعة، الاعتياض عن الوظائف في الأوقاف واستثنى من قاعدة عدم جواز الاعتياض عن الحقوق المجردة حق القصاص، وملك النكاح، وحق الرق، فإنه يجوز الاعتياض عنها. وتنازع الحنفية في عدم قبول الاعتياض عن الوظائف، نظرًا لاعتبار كثير منهم للعرف الخاص، وهذا منه، وعليه أفتوا بجواز النزول عن الوظائف بمال (2) . وهذا يشير إلى أن ما كان عرفًا عامًا، أو كان عرفًا خاصًا يتضمن منفعة مشروعة فإنه يجوز الاعتياض عنه بالمال. ومن جنس ما استثنى حقوق الارتفاق كحق العلو والشرب والمسيل – كما سيأتي بيانه -.   (1) أحكام المعاملات، للشيخ علي الخفيف: ص 29 بتصرف. وقد قسم الشيخ مصطفى الزرقا الحقوق العينية في الفقه الإسلامي وما أسماه بالحقوق شبه العينية بناء على التمييز بين الحق العيني والشخصي – كما سيأتي الإشارة إليه – إلى أنواع: حق الملكية وحق الانتفاع، وحقوق الارتفاق، وحق الارتهان، وحق الاحتباس، وحق الرقبة، وحقوق القرار على الأوقاف. انظر: مصادر الالتزام: 2/38 وما بعدها. (2) حاشية رد المحتار على الدر المختار، وشرح تنوير الأبصار، للعلامة محمد أمين الشهير بابن عابدين: 4/518، و519 بتصرف – الطبعة الثانية مصطفى الحلبي: 1386هـ - 1966م بمصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1869 المبحث الثالث الحق الشخصي والعيني في الفقه الإسلامي تقسيم الفقهاء: لم يقسم الفقهاء المسلمون الحقوق قسمة القانون الروماني والقوانين الغربية إلى حق شخصي وحق عيني، واستعاضوا عن ذلك بتقسيم آخر. ولذلك لا تظهر التفرقة بين الحق الشخصي والعيني في الفقه الإسلامي. يقول الدكتور السنهوري: "إن التفرقة بينهما لا تظهر في الفقه الإسلامي، وإنما يتكلم الفقهاء عن التمييز بين الدَّين والعين، وهو غير التمييز بين الحق الشخصي والحق العيني، فالدَّين ليس كل الحق الشخصي، بل هو صورة من صوره والعين تستغرق الحق العيني وبعضًا من الحق الشخصي هو الالتزام بالعين، ومن ثم فالدين أضيق من الحق الشخصي، والعين أوسع من الحق العيني. ثم قال: ولا حاجة إطلاقًا للقول بأن الفقه الإسلامي يعرف التمييز بين الحق الشخصي والحق العيني، بل يجب على النقيض من ذلك إبراز أن التمييز بين الدين والعين وهو التمييز الذي يعرفه الفقه الإسلامي هو غير التمييز بين الحق الشخصي والحق العيني في الفقه الغربي المشتق من القانون الروماني فلكل فقه صناعته التي يتميز بها (1) . ويقول الدكتور عبد الفتاح عبد الباقي: "إن الفقه الإسلامي لا يعرف تقسيم الحقوق المالية إلى حقوق عينية، وحقوق شخصية أو التزامات، أو هو على الأقل لا يعرف هذا التقسيم بالمفهوم والأبعاد التي يتضمنها هذا التقسيم عند المعاصرين من رجال القانون، وغني عن البيان أنه لا يوجد في ذلك أي تقليل من شأن الفقه الإسلامي، أو تفضيل للفقه الغربي عليه، فلكل نظام فنه وأساليب صناعته، وطرق صياغته" (2) .   (1) مصادر الحق، للسنهوري: 1/18-19، وبعد عبارته تلك قال: "وفي هذا دليل واضح على أن الفقه الإسلامي لا تربطه بالقانون الروماني صلة". (2) مصادر الالتزام، للدكتور عبد الفتاح عبد الباقي: 1/18. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1870 وقال الأستاذ الزرقا: إن الفقهاء المسلمين لم يصوغوا نظرية ممهدة مستقلة للتمييز بين الحق الشخصي والحق العيني، وهذا راجع إلى اختلاف مبني الترتيب والصياغة بين الفقه الإسلامي، والفقه الأجنبي (1) . ثم قال: "والواقع أنه فقهاءنا قد ميزوا بين الحقين في جميع المسائل التي يقتضي هذا التمييز فيها اختلاف الأحكام ... " (2) . وقال الشيخ علي الخفيف بعد تقسيم الحق عند القانونيين: "إن الفقه الإسلامي لا يتنكر لهذه القسمة، وإن لم يولِها عناية أوجبت الإشارة إليها منه ... وإذا كان الفقه الإسلامي لم يُشِرْ إلى هذه الأنواع ولم يعرض لهذه القسمة فإنه عرف هذه الأنواع بأسماء أخرى" (3) . ويقول الشيخ أبو سنة بعد ذكر أقسام الحقوق في القانون: "والشريعة لا تعارض في هذا الاصطلاح، لأنه مجرد تنظيم ما دام يفصل في كل حق بحكم الله. غير أن الأقسام التي ذكرها علماء الشريعة مبنية على اختلاف الخصائص والأحكام الشرعية لكل قسم، وهي وافية بالأغراض القضائية والديانية" (4) . وذكر الشيخ أبو سنة أن الفقه الإسلامي حين قسم الحقوق إلى حقوق متعلقة بالعين وحقوق ثابتة في الذمة اعتبرها حقوقًا مالية أحيانًا وغير مالية أحيانًا أخرى. فالحق قد يكون ماليًا أو غير مالي، كحق الأب في الولاية على أولاده، وحق الأم في حضانة طفلها، فهما حقان غير ماليين وما متعلقان بالعين، وحق الله تعالى في وجوب الصلاة على المكلف حق غير مالي وهو ثابت في الذمة (5) . وعلى هذا يمكن القول: إن الفقه الإسلامي لم يجد حاجة إلى تقسيم الحقوق إلى حق شخصي وحق عيني، واستعاض عن هذا التقسيم بتقسيم الحقوق إلى حق متعلق بالعين، وهو المسمى الحق العيني، وحق متعلق بالذمة وهو المسمى بالدين، وإن كلام الفقهاء في العين والدين يختلف عن كلام القانونيين في الحق الشخصي والحق العيني. وإن مرادهم بالعين ما هو أوسع من مراد القانون من الحق العيني، "فهي تشمل الحق العيني وبعضًا من الحقوق الشخصية، وهي الالتزام بالعين، مثل الالتزام بتسليم عين معينة وحفظها، وهذا راجع إلى أن العين محلها كل حق ذات محددة، سواء أكان ذلك لتمليكها، أم تمليك منفعتها، أم تسليمها أم حفظها. وأما الدين: فهو كل حق محله مبلغ من النقود أو جملة من الأشياء المثلية، فهو أضيق من مفهوم الحق الشخصي الذي هو رابطة بين شخصين تُخَوِّلُ أحدهما مطالبة الآخر بالقيام بعمل، أو الامتناع عن عمل، أو إعطاء شيء مثليًا كان أم غير مثلي، فالدين في الفقه الإسلامي صورة من صور الحق الشخصي (6) .   (1) المدخل إلى نظرية الالتزام، للشيخ مصطفى الزرقا: 2/34-35. (2) المدخل إلى نظرية الالتزام، للشيخ مصطفى الزرقا: 2/34-35. (3) الملكية في الشريعة الإسلامية: 1/13-14. (4) الملكية، للدكتور عبد السلام العبادي: ص 117، عن النظريات العامة، للشيخ أحمد أبو سنة: ص 77. (5) الملكية، للدكتور عبد السلام العبادي: ص 117، عن النظريات العامة، للشيخ أحمد أبو سنة: ص 73. (6) بين الشريعة والقانون الروماني، د. صوفي أبو طالب: ص 163 وما بعدها. طبع مكتبة نهضة مصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1871 المبحث الرابع الحقوق المعنوية لم يكن القانون الوضعي يعرف الحقوق المعنوية – كما سبق البيان – وإنما هي حقوق من نتاج التطور الحضاري خصوصًا في المجال الثقافي والصناعي. وقد رأينا كيف أن القانونيين قد اختلفوا في تحديد طبيعة الحقوق المعنوية. فقد اعتبرها البعض من الحقوق العينية اعتبار أن الحقوق العينية تشمل ما كان ماديًا أو معنويًا، واختلفوا بعد ذلك في اعتبار هذا الحق من حقوق الملكية فيسري عليه ما يسري على حق الملكية أم أن طبيعته تجعله حق ملكية خاصا. وذهب بعضهم إلى أن الحقوق المعنوية حق عيني أصلي مستقل عن حق الملكية لما له من مواصفات وطبيعة تختلف عن طبيعة حق الملكية. والفقه الإسلامي لم يعرف هذا النوع من الحقوق المسماة بـ"الحقوق المعنوية" و"الحقوق الأدبية والصناعية والتجارية" (1) . إذا لم يكن له وقائع أحوال تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي في مسائله، أو أصل موضوعه. ولكن الفقه الإسلامي بأصوله وقواعده ومقاصده يستوعب هذا النوع من الحقوق. وجهة استيعاب الفقه لهذه الحقوق المعنوية راجع إلى نظرة الفقه الإسلامي إلى معنى المال والحق والملك. فقد تبين أن المال شمل معظم الحقوق، وأن كل ما يجري فيه الملك فهو مال، والحقوق مما يجري فيها الملك فهي أموال باستثناء ما لا يقبل التبعيض، فهذه الحقوق المعنوية سواء أكانت حقوقًا أدبيةً أو فنيةً أو حقوقًا صناعيةً أو تجارية فإنها مال في مفهوم الفقهاء وخاصة المالكية الذين يرون أن المال: "كل ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك"، كما يرون أن الحقوق كلها أموال إذ الحق "جنس يتناول المال وغيره كالخيار والفقه والقصاص والولاء والولاية ... (2) . فيشمل المال حينئذ الأعيان والمنافع والحقوق. وليس في الفقه الإسلامي ما يمنع من اعتبار هذه الحقوق من الحقوق العينية، لأن "الحق العيني في الفقه الإسلامي لا يشترط فيه أن يكون محله عينًا مادية، بل يجوز أن يكون منفعة أو معنى، إذ المنظور في الحق العيني هو العلاقة المباشرة التي يقرها الشرع بين صاحب الحق ومحله، خلافًا لما استقر عليه الفقه الوضعي: من اشتراط كون محل الحق ماديًّا حتى يعتبر عينيًا، وبذلك يشمل الحق العيني في الشريعة الحقوق المالية وغير المالية" (3) ، وجمهور الفقهاء يرون – كما سيأتي البيان – أن الملك علاقة اختصاص مقرة من الشارع تنشأ بين المالك ومحل الملك. ومحل الملك أعم من أن يكون ماديًا أو غير مادي، فيصح – والحال هذه – أن نعتبر الحقوق المعنوية مالًا، فيكون الحق المعنوي من مشتملات المال، فيصح أن يكون محلًا مادامت علاقة الاختصاص قائمة وهو منتفع به شرعًا إذ الانتفاع من كل شيء حسب طبيعته، والناس يعتبرون فيه القيمة. فقد تكاملت له عناصر الملك.   (1) يرجح الشيخ مصطفى الزرقا، تسميتها "حقوق الابتكار" لأن اسم "الحقوق الأدبية" ضيق لا يتلاءم مع كثير من أفراد هذا النوع، كالاختصاص بالعلامات الفارقة التجارية، والأدوات الصناعية المبتكرة، وعناوين المحال التجارية، مما لا صلة له بالأدب، والنتاج الفكرى، أما اسم "حق الابتكار" فيشمل الحقوق الأدبية كحق المؤلف في استغلال كتابه، والصحفي في امتياز صحيفته، والفنان في أثره الفني من الفنون الجميلة، كما يشمل الحقوق الصناعية والتجارية مما يسمونه اليوم "الملكية الصناعية" كحق مخترع الآلة، ومبتدع العلامة الفارقة التي نالت الثقة، ومبتكر العنوان التجاري الذي أحرز الشهرة. انظر: المدخل إلى نظرية الالتزام: 2/26. وقد يقال في هذا الرأي: بأنه أخص من الدعوى فإن عبارة "حق الابتكار" توحي بتخصيص هذه الحقوق فيما هو ابتكار وإبداع فحسب في حين أن الحق ههنا قد يترتب ولا ابتكار فيه يذكر. سواء أكان في الأدبيات أو الأسماء التجارية، أو العملات التجارية أو الصناعية. (2) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير: 4/457. (3) حق الابتكار في الفقه الإسلامي المقارن، للدكتور فتحي الدريني: ص 79. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1872 ومن ناحية أخرى فإن "الاستئثار المقصود في الملك في الفقه الإسلامي، ليس معناه احتواء الشيء من قبل المالك، إنما معناه أن يختص به دون غيره، فلا يعترضه في التصرف فيه أحد ... والشريعة أيضًا لا تشترط التأبيد لتحقيق معنى الملك، بل إن طبيعة ملك المنفعة مثلًا تقتضي أن يكون مؤقتًا، كما في ملك منفعة العين المستأجرة" (1) . وعدم اشتراط الشريعة التأبيد لتحقيق الملك، يجعل دخول الحقوق المعنوية وقبولها في إطار الشريعة وقواعدها ومقاصدها دخولًا طبيعيًا لا حرج فيه، بخلاف الحرج الواقع في القانون (2) .   (1) الملكية، للدكتور عبد السلام العبادي: ص 198. (2) يقول الدكتور السنهوري مبينًا منافاة الحقوق المعنوية لحق الملكية من حيث طبيعة كل: في معرض كلامه عن حق المؤلف باعتباره حقًا معنويًا: "تتنافى طبيعة الملكية مع طبيعة الفكر من ناحيتين: " (الناحية الأولى) : أن الفكر لصيق بالشخصية بل هو جزء منها، ومن ثم فقد وجب تقييد نتاج الفكر بهذا الاعتبار الأساسي، فيوجد إلى جانب الحق المالي للمؤلف الحق الأدبي. وهذا الحق من شأنه أن يمكن المؤلف، - حتى بعد أن يبيع حقه المالي للناشر – أن يعيد النظر في فكره. وقد يبدو له أن يسترد من التداول ما سبق نشره، بل وله أن يتلفه بعد أن يعوض الناشر – وبذلك يستطيع أن يرجع بإرادته وحده فيما سبق له إجراؤه من التصرف. أما من يتصرف في شيء مادي تصرفًا باتًا، فليس له بإرادته وحده أن يرجع هذا التصرف، ولوفي مقابل تعويض. (والناحية الثانية) أن الفكر حياته في انتشاره لا في الاستئثار به، وإذا كان صاحب الفكر هو الذي ابتدع نتاج فكره، فالإنسانية شريكة له من وجهين. وجه تقتضي به المصلحة العامة، إذ لا تتقدم الإنسانية إلا بفضل انتشار الفكر. ووجه آخر يرجع إلى أن صاحب الفكر مدين على نحو ما للإنسانية، ففكره ليس إلا حلقة في سلسلة، تسبقها حلقات وتتلوها حلقات. فهو إذا كان قد أعان من لحقه، فقد استعان بمن سبقه. ومقتضى ذلك ألا يكون حق المؤلف أو المخترع حقًا مؤبدًا كما هو شأن الملكية المادية. وإذا كانت الملكية المادية لا تستعصي على التأبيد بل هي تقتضيه، فإن الحق في نتاج الفكر لا يجوز أن يكون مؤبدًا بل لا بد فيه من التوقيت". من أجل ذلك يجب أن ننفي عن حق المؤلف أو المخترع صفة الملكية، فالملكية حق استئثار مؤبد، في حين أن حق المؤلف أو المخترع حق استغلال مؤقت. ثم يبدي رأيه في طبيعة هذه الحقوق، فيقول: ويخلص من ذلك أن حق المؤلف أو المخترع ليس حق ملكية، بل هو حق عيني أصلي يستقل عن حق الملكية بمقوماته الخاصة، وترجع هذه المقومات إلى أنه يقع على شيء غير مادي. انظر: الوسيط: 8/279-281. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1873 الفصل الخامس المال إن الوقوف على معرفة المال وكذا المنفعة من وجهة الفقه الإسلامي يعتبر مدخلًا طبيعيًا وتمهيدًا علميًا سليمًا لترتيب الحكم الشرعي للاسم التجاري. فالمال والمنفعة لهما مفهوم وحقيقة شرعية وللفقهاء فيهما دراسات ومباحث استقر رأيهم فيها واتضح. لذا يرِدُ ههنا مدى انطباق معنى المال والمنفعة على الاسم التجاري. حتى يمكن إلحاق الحكم والآثار منهما إليه، أو لا يمكن. وقد عرفنا طبيعة المال والمنفعة في القانون، والمطلوب هنا الوقوف على معناهما في الفقه الإسلامي؛ لنتوصل به إلى معرفة مدى قرب أو بعد الاسم التجاري منهما تمهيدًا لإلحاق الوصف أو الحكم الشرعي به وهو مطلوب البحث. مبحث تعريف المال اتفق الفقهاء على أن الأعيان أموال متى أمكن حيازتها، وتملكها، والانتفاع بها على وجه ما، كما اتفقوا على أن الحقوق المجردة وهي التي لا تدرج بالحس، ولا تعلق لها بالمال، كحق الحضانة والولايات والوظيفة ليست مالًا. واختلفوا في الحقوق المتعلقة بالمال والمنافع. تعريف المال لغة: هو "كل ما ملكته من جميع الأشياء" (1) . وهذا الإطلاق في اللغة يشمل كل ما يتملكه الإنسان، سواء أكان شيئًا ماديًا أم منفعة وينبغي أن يمل أيضًا الحق، وإن كان أمرًا معنويًا إلا أنه يملك سواءً أطلق على عين أو منفعة أو مباح. تعريف المال اصطلاحًا: اتفق جمهور الفقهاء على مفهوم المال من حيث الجملة وإن اختلفت عباراتهم في تعريف وبيان حقيقته. فاعتبروا "كل ما فيه نفع مالًا"، وما لا نفع فيه فليس بمال، فلا تجوز المعاوضة به" (2) . وعرفه المالكية كما قال الشاطبي بأنه: "ما يقع عليه الملك، ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه ((3) ، ولذا اشترط المالكية في المبيع النفع وعبروا عنه "بالانتفاع" (4) فاعتبروا من شروط المبيع "النفع". وعرفه الشافعية – بما نسبة السيوطي للشافعي – في قوله: (لا يقع اسم المال إلا على ما له قيمة يباع بها وتلزم متلفه) (5) .   (1) لسان العرب مادة: "مول". (2) حاشيتي الإمامين شهاب الدين القليوبي وعميرة على منهاج الطالبين، للإمام محيي الدين النووي بشرح العلامة جلال الدين المحلي: 1/157 طبع دار إحياء الكتب العربية بمصر. (3) الموافقات، للإمام إبراهيم بن موسى الشاطبي: 2/17، الطبعة الثانية 1395 هـ = 1975م.) (4) حاشية العلامة محمد عرفة الدسوقي على الشرح الكبير، للإمام أحمد الدردير: 3/10، طبع دار إحياء الكتب العربية بمصر (5) الأشباه والنظائر في قواعد فروع فقه الشافعية، للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي: ص 237، الطبعة الأخيرة مطبعة مصطفى الحلبي 1378 هـ = 1959م بمصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1874 وعرفه الحنابلة في معرض كلامهم عن شروط المبيع فقالوا: (هو ما فيه منفعة مباحة لغير حاجة أو ضرورة) (1) . وعرفوه أيضًا بأنه: (ما يباح نفعه مطلقًا، أي في كل الأحوال، أو يباح اقتناؤه بلا حاجة) (2) . وعلى تعريفهم هذا يخرج ما لا نفع فيه أصلًا كالحشرات، وما فيه منفعة محرمة كالخمر، وما فيه منفعة مباحة للحاجة كالكلب، وما فيه منفعة مباحة للضرورة كالميتة (3) . أما الحنفية فوقع الخلاف في تعريف المال بينهم وبين الجمهور من جهة، وفيما بين المتقدمين منهم والمتأخرين من جهة ثانية، فعرف المتقدمون المال بما يفيد أنه (كل ما يمكن حيازته وإحرازه والانتفاع به في العادة) (4) . فمدار كون الشيء مالًا إمكان حيازته والانتفاع به في حكم العادة، وإن لم يكن محرزًا ومنتفعًا به فعلًا. وما لا يمكن حيازته كالعفة والشجاعة والذكاء فلا يعد مالًا، وكذا ما لا ينتفع به في حكم العرف والعادة، كقطرة من ماء وحبة شعير، فإنه لا يعد مالًا وإن أحرز. ومراد الحنفية بالانتفاع في العادة، أن الشارع يجيز الانتفاع في حال الاختيار، أما إذا كان الانتفاع بالشيء في حال الاضطرار فلا يدخل حينئذٍ في حكم المنتفع به في العادة. فالخمر كانت حرامًا إلا أنها مال لجواز أن ينتفع بها بوجه ما حال الاختيار، فالخمر وكذا الخنزير مال متقوم في حق الذميين – على خلاف وتفصيل عند الفقهاء – لكن الميتة والدم المسفوح ليسا بمال، لأن الشارع لم يجوز الانتفاع بهما بحال حال الاختيار (5) . ويقول السرخسي: (المال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به ولكن باعتبار صفة التمول والإحراز) (6) . ويقول صاحب الدرر: (والمال ما يميل إليه الطبع ويجري فيه البذل والمنع) أو (هو موجود يميل إليه الطبع ... ) (7) . وقال ابن عابدين: (المال عين يمكن إحرازها وإمساكها) (8) . وفي مجمع الأنهر: المال (عين يجري فيه التنافس والابتذال) (9) .أي بذل العوض. وعرفه سعد الدين التفتازاني بأنه: (ما يميل إليه الطبع ويدخر لوقت الحاجة، أو ما خلق لصالح الآدمي ويجري فيه الشح والضنة) (10) . وقال الشيخ أبو زهرة: (أحسن تعريف في نظري ما نقله صاحب البحر عن الحاوي وهو أن المال اسم لغير الآدمي خلق لصالح الآدمي، وأمكن إحرازه والتصرف فيه على وجه الاختيار) (11) . وأما متأخروا الحنفية فقد عرفوا المال فقالوا: (يطلق المال على القيمة، وهي ما يدخل تحت تقويم مقوم من الدراهم والدنانير) (12) . فشمل هذا التعريف الأعيان والمنافع والحقوق، فمناط المالية عندهم هو القيمة التي تقدر بالنقد، فكل ما له قيمة هو مال؛ لأن كل ما فيه قيمة هو منفعة، والناس لا يتعارفون على تقويم ما ليس فيه منفعة، إذ لا يجري التعامل فيها أصلًا.   (1) الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل للإمام شرف الدين المقدسي: 2/59 المطبعة المصرية بالأزهر. (2) شرح منتهى الإرادات، للإمام منصور بن يونس البهوتي: 2/142 نشر عالم الفكر بيروت. (3) الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل للإمام شرف الدين المقدسي: 2/59 المطبعة المصرية بالأزهر. شرح منتهى الإرادات، للإمام منصور بن يونس البهوتي: 2/142 نشر عالم الفكر بيروت. (4) أحكام المعاملات للشيخ على الخفيف ص 26؛ الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد موسى، الطبعة الأولى 1372 هـ = 1952م. (5) وعند الفقهاء خلاف في جواز الانتفاع ببعض أعضاء الميتة كالعظم والصوف قالوا في الجواز: لإمكان تطهرها. وذهب آخرون إلى أن الميتة نجسة لا يطهر شيء منها. (6) المبسوط، للإمام شمس الدين السرخسي: 11/79، الطبعة الأولى، مطبعة السعادة بمصر. (7) حاشية ابن عابدين: 5/10-51. (8) حاشية ابن عابدين: 5/52. (9) مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر:2/3، الطبعة الأميرة بمصر. (10) التلويح على التوضيح شرح التنقيح لصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود، والشرح لسعد الدين التفتازاني: 2/230. (11) الملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية، للشيخ محمد أبو زهرة: ص 52، دار الفكر العربي بمصر. (12) حاشية ابن عابدين: 1/11. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1875 المالية والتقوُّم: وقد بين ابن عابدين معنى المالية والتقوم، فقال: والمالية تثبت بتمويل الناس كافة أو بعضهم. والتقوم يثبت بها وبإباحة الانتفاع به شرعًا، فما يباح بلا تمول لا يكون مالًا، كحبة حنطة، وما يتمول بلا إباحة انتفاع لا يكون متقومًا كالخمر، وإذا عدم الأمران لم يثبت واحد منهما، كالدم، ثم قال: (وحاصله أن المال أعم من المتقوم؛ لأن المال ما يمكن ادخاره ولو غير مباح كالخمر، والمتقوم ما يمكن ادخاره مع الإباحة، فالخمر مال متقوم، فلذا فسد البيع بجعلها ثمنًا، وإنما لم ينعقد أصلًا بجعلها مبيعًا، لأن الثمن غير مقصود، بل وسيلة إلى المقصود، إذ الانتفاع بالأعيان لا بالأثمان ولهذا اشترط وجود المبيع دون الثمن. فبهذا الاعتبار صار الثمن من جملة الشروط بمنزلة آلات الصناع) (1) . وعرف سعد الدين التفتازاني التقوم فقال: (المتقوم ما يجب إبقاؤه بعينه أو بمثله أو بقيمته، ثم قال عن الخمر: والخمر واجب اجتنابها بالنص لعدم تقومها، لكنها تصلح للثمن، لأنها مال) (2) . وهذا متسق مع تعريفه للمال السابق. ونقل السيوطي أن للمتمول ضابطين: أحدهما: أن كل ما يقدر له أثر في النفع فهو متمول، وكل ما لا يظهر له أثر في الانتفاع فهو لقلته خارج عما يتمول. الثاني: أن المتمول هو الذي يعرض له قيمة عند غلاء الأسعار، والخارج عن التمول: هو الذي لا يعرض فيه ذلك تعليق: الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 326. ويقسم الفقهاء المال إلى أقسام عدة أهمها: أولًا: ينقسم بحسب الضمان وعدمه إلى: مال متقوم، ومال غير متقوم. فالمتقوم: ما يباح الانتفاع به في حال السعة والاختيار، وهو الذي له قيمة في نظر الشارع، ويشترط فيه أن يكون قد حيز بالفعل، كالدور والنقود المملوكة. وغير المتقوم: ما لا يباح الانتفاع به في حالة الاختيار، ولم يحز بالفعل، أو حيز ولكن حرم الشارع الانتفاع به. وهو بهذا يشمل مثل المعادن والسمك قبل حيازته كما يشمل ما حيز فعلًا وحرم الانتفاع به في حالة السعة والاختيار، كالخمر بالنسبة للمسلم، فإنه لا يجوز الانتفاع به إلا في حال الضرورة. أما بالنسبة لغير المسلم، فإنه يعتبر مالًا متقومًا عند الحنفية خلافًا للجمهور. ويترتب على هذا التقسيم أمور أهمها:   (1) حاشية ابن عابدين: 5/51. (2) التلويح على التوضيح: 2/230. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1876 1- أن المال المتقوم يضمن متلفه عند تعديه عليه. وغير المتقوم لا ضمان على متلفه، ولذا لو أتلف مسلم خمرًا لمسلم لم يضمن شيئًا؛ لأنه غير متقوم في حق المسلم. ولو أنه أتلفه لذمي ضمن له قيمته عند الحنفية، لأنه مال متقوم في حقه. 2- المال المتقوم يصلح أن يكون محلًا لمعاوضة مالية كالبيع، والهبة وما إلى ذلك من التصرفات وغير المتقوم لا يصلح أن يكون مبيعًا، وإذا بيع كان العقد باطلًا، كما لا يصح أن يكون ثمنًا، وإذا جعل ثمنًا كان العقد فاسدًا عند الحنفية، وعلى ذلك لا يصح بيع الخمر من مسلم، ويصح من ذمي لمثله، ولا يصح بيع الأموال المباحة ولا هبتها ولا الوصية بها لعدم توقيمها. ثانيًا: ينقسم المال باعتبار الثابت وعدمه إلى عقار ومنقول: فالعقار: هو كل ما لا يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر، وهو خاص بالأرض عند الحنفية سواء كانت الأرض مبنية أو مجردة عن البناء. وقال الإمام مالك: العقار هو ما لا يمكن نقله بدون أن تتغير صورته، فيدخل فيه عنده البناء والأشجار، وكلُّ ما وضع على الأرض على سبيل القرار كالآلات الرافعة المثبتة. والمنقول: هو ما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر سواء تغيرت صورته بالنقل أو لا، وسواءً انتقل بنفسه أو بوساطة غيره، فيدخل فيه البناء والشجر لإمكان نقله بدون أن تتغير صورته. ثالثًا: ينقسم المال من حيث التماثل وعدمه إلى مثلي وقيمي، وهو تقسيم للمنقول. فالمثلي: هو ما لا تتفاوت آحاده تفاوتًا يعتد به، وله نظير في المحال التجارية. ويشمل الأنواع التالية: المكيلات كالبر، والموزونات المتحدة في النوع، والعدديات التي تتقارب آحادها كالبيض والجوز ... والقيمي: هو ما تتفاوت آحاده تفاوتًا يعتد به، أو لا تتفاوت ولكن لا نظير له في المحال التجارية. ويشمل الأنواع الستة الآتية: وهي الحيوانات ولو كانت متحدة الجنس، والبناء، والأِشجار، وعروض التجارة المختلفة الجنس، والعدديات المتفاوتة تفاوتًا يعتد به كالبطيخ والمثليات التي لا نظير لها في المحال التجارية بأن انقطعت من الأسواق وتعذر الحصول عليها. يراجع تفصيل ذلك في أحكام المعاملات، للشيخ علي الخفيف: ص 32؛ والمعاملات الشرعية، للشيخ أحمد إبراهيم: ص 4 وما بعدها. الطبعة الثانية – لجنة التأليف والترجمة 1363 هـ = 1944م بمصر؛ والمعاملات في الشريعة الإسلامية، للشيخ أحمد أبو الفتوح: 1/27؛ والشريعة الإسلامية، للدكتور بدران أبو العينين: ص 287، نشر مؤسسة شباب الجامعة بمصر. وفي مجلة الأحكام العدلية: المال المتقوم يستعمل في معنيين: الأول بمعنى ما يباح الانتفاع به، والثاني بمعنى المال المحرز، فالسمك في البحر غير متقوم، وإذا اصطيد صار متقومًا بالأحراز (1) . ويفهم من كلام الفقهاء في المالية والتقوم، أنهما مترابطان ترابطًا قد ينفك من جهة بإطلاق. فكل ما هو متقوم فيه مالية، لكن ليس كل ما فيه مالية متقومًا، وذلك إذا لم يكن المال محترمًا شرعًا، فما لا يحترمه الشارع ويعتبره فلا قيمة له.   (1) مجلة الأحكام العدلية: مادة 127، الطبعة الخامسة 1388 هـ = 1986م. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1877 المال والاسم التجاري: وإذا علم هذا فإن الاسم التجاري عند التحقيق هو مال على مفهوم الجمهور ومتأخري الحنفية. فمن حيث اشتراط النفع في المال، فإن الاسم التجاري يتضمن نفعًا ومصلحته خاصة لمالكه – ومصلحة عامة لأفراد المجتمع. وهو وإن كان حقًا معنويًّا إلا أن فائدته الخاصة مادية، وكذا العامة أيضًا. ومن جانب آخر فإن المالك يمكنه التصرف فيه ما دام مالًا ونفعًا، والحيازة لا يشترط لتحققها أن يكون محلها ماديًا. والاسم التجاري وإن لم يمكن استيفاؤه بذاته لأنه لا يدرك بالحس إلا أن أثره ومنفعته وقيمته يمكن إدراكها وإنما تستوفى المنافع بملك الأعيان. ومن حيث اشتراط القيمة، فإن الاسم التجاري قد تعارف الناس على أنه له قيمة يعتاض عنها بما يقابلها من نقد، فيمكن تقويمه كما تقوم الأعيان. ولو اعتدى عليه أجنبي بالتزييف والتقليد فإنه يعرض نفسه للمساءلة والضمان. ومن جانب آخر إذا اعتبرنا الحقوق أموالًا – كما رأينا تصريح المالكية في ذلك – سواء أكانت مالية أم غير مالية فلا تردد في اعتبار الاسم التجاري مالًا، لأنه حق مالي متقرر كما سبق البيان، فيجري فيه الملك، وكل ما يجري فيه الملك هو مال ما لم يكن من الحقوق التي لا تقبل التجزيء كولاية النكاح والوظيفة وحق الحضانة وحق التطليق (1) .وسيأتي لذلك مزيد بيان عند الكلام على التكييف الشرعي للاسم التجاري.   (1) حاشية الدسوقي: 4/407. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1878 الفصل السادس المنفعة المبحث الأول تعريف وأدلة اعتبارها مالًا أو عدم اعتبارها تعريف المنفعة: هي في اللغة اسم ما انتفع به، يقال: نفعه بكذا فانتفع به (1) . وفي الاصطلاح: كل ما يقوم بالأعيان من أعراض، وما ينتج عنها من غلة كسكن الدار وأجرتها وثمرة البستان ولبن الدابة (2) . وملك المنفعة قد يكون بملك العين، وقد يكون ملك المنفعة دون العين، كالإجارة والإعارة والوصية بالمنفعة والوقف، وقد يكون الملك للانتفاع لا للمنفعة – على ما سيأتي بيانه عند الكلام على "الملك" ولقد انبنى على خلاف الفقهاء في معنى المال وتعريفه الخلاف في المنفعة من حيث: حقيقتها وما إذا كانت تندرج تحت مسمى المال، فتملك كما يملك المال، ويجري عليها ما يجري عليه من التصرفات. وإن الوقوف على حقيقة المنفعة والخلاف فيها بين الفقهاء، يخدم موضوع الاسم التجاري، بل هو صلب موضوعه، كما سيتبين: ملك المنفعة وحق الانتفاع: قد يظن أن ملك المنفعة وحق الانتفاع شيء واحد، وهما مختلفان. فجمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة يفرقون بينهما: قال القرافي: تمليك الانتفاع نريد به أن يباشر هو بنفسه فقط، وتمليك المنفعة هو أعم وأشمل، فيباشر بنفسه، ويُمكََّنُ غيره من الانتفاع بعوض كالإجارة، وبغير عوض كالعارية. ومثَّل لملك الانتفاع بسكن المدارس والرباط والمجالس في الجوامع والمساجد والأسواق ونحو ذلك، فله أن ينتفع بنفسه فقط، ولو حاول أن يؤاجر بيت المدرسة أو يسكن غيره، أو يعارض عليه بطريق من طرق المعاوضات امتنع ذلك. ومثَّل لملك المنفعة بمن استأجر دارًا أو استعارها، فله أن يؤاجرها من غيره أو يسكنه بغير عوض، ويتصرف في هذه المنفعة تصرف الملاك في أملاكهم على جَرْي العادة على الوجه الذي ملكه، فهو تمليك مطلق في زمن خاص حسبما تناوله عقد الإجارة، أو شهدت به العادة في العارية. ثم قال: "ويكون تمليك هذه المنفعة كتمليك الرقاب" (3) ، وبمثل هذه التفرقة قال العدوي المالكي: "مالك الانتفاع ينتفع بنفسه، ولا يؤجَّر ولا يهب ولا يعير، ومالك المنفعة له تلك الثلاثة مع انتفاعه بنفسه" (4) .   (1) لسان العرب، لابن منظور، مادة: نفع. (2) الميراث والوصية، للشيخ محمد زكريا البرديسي: ص 117، طبع الدار القومية للطباعة والنشر 1383 هـ - 1964م بمصر. (3) الفروق، للإمام شهاب الدين القرافي: 1/232، الطبعة الأولى دار إحياء الكتب العربية 1346 هـ بمصر، والأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 143. (4) حاشية العدوي على الخرشي: 7/79، وللفرق بينهما إشارة في حاشية عميرة: 3/18، 92. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1879 ويفهم من كلام الفقهاء هذا التفرقة بين المنفعة والانتفاع من حيث المنشأ والمفهوم والآثار، وخلاصة ما قيل في الفرق بينهما وجهان: الأول: أن سبب حق الانتفاع أعم من سبب ملك المنفعة، لأنه كما يثبت ببعض العقود كالإجارة والإعارة مثلًا، كذلك يثبت بالإباحة الأصلية كالانتفاع من الطرف العاقد والمساجد ومواقع النسك، ويثبت أيضًا بالإذن من مالك خاص، كما لو أباح شخص لآخر أكل طعام مملوك له، أو استعمال بعض ما يملك. أما المنفعة فلا تملك إلا بأسباب خاصة، هي: الإجارة والإعارة والوصية بالمنفعة والوقف. وعلى ذلك، فكل من يملك المنفعة يسوغ له الانتفاع، ولا عكس، فليس كل من له الانتفاع يملك المنفعة، كما في الإباحة مثلًا. الثاني: أن الانتفاع المحض حق ضعيف بالنسبة لملك المنفعة، لأن صاحب المنفعة يملكها ويتصرف فيها تصرف الملاك في الحدود الشرعية، بخلاف حق الانتفاع المجرد، لأن رخصته لا يتجاوز شخص المنتفع (1) . وعلى هذا فإن ملك المنفعة أعم وأقوى من حق الانتفاع، فمن ملك شيئًا تصرف فيه لخاصته نفسه، أو تصرف فيه لغيره بأي صورة من صور التصرف، ومن له حق الانتفاع لا يحق له التصرف فيه لغيره. أما الحنفية فلا تظهر لهم تفرقة بين المنفعة وحق الانتفاع.   (1) الموسوعة الفقهية: 6/299، مصطلح "انتفاع" مطبعة الموسوعة الفقهية 1405 هـ - 1985م دولة الكويت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1880 أدلة الجمهور في اعتبار المنفعة مالًا: استدل الجمهور على مذهبهم في اعتبار المنفعة مالًا بأدلة: الأول – أن المنافع كالأعيان: قاس الجمهور المنافع على الأعيان بجامع أن كُلًّا منهما مال، فيجب الضمان كما في الغصب والإتلاف. وبيان ذلك: "أن المال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به مما هو عندنا، والمنافع منا أو من غيرنا بهذه الصفة، وإنما تعرف مالية الشيء بالتمول، والناس يعتادون تمول المنفعة بالتجارة فيها، فإن أعظم الناس تجارة الباعة، ورأس مالهم المنفعة، ومنه يتبين أن المنافع في المالية مثل الأعيان" (1) . وقال المالكية: "المنافع متمولة يعاوض عليها" (2) ، " والقياس أن تجري المنافع والأعيان مجرى واحدًا" (3) . ومن جانب آخر فإن المنفعة تصلح أن تكون صداقًا، وهذا دليل اعتبارها مالًا؛ لأن صحة الصداق أن يكون المسمى مالًا. ويجوز أخذ العوض عنها في الإجارة، وكذا منافع الحر مال يضمن بالإتلاف إلا أنه إذا حبس حرًا مجرد الحبس لا يضمن منافعه، لأنه لم يوجد من الحابس إتلاف منافعه، ولا إثبات يده عليه، بل منافع المحبوس في يده (4) . ويتبين أيضًا مثلية المنافع للأعيان بجامع المالية في كل في العقد الفاسد لأن الضمان بالعقد الفاسد يتقدر بالمثل شرعًا كما بالإتلاف، وهذا بخلاف رائحة المسك، فإن من اشتم مسك غيره لا يضمن شيئًا؛ لأن الرائحة ليست بمنفعة، ولكنها بخار يفوح من العين كدخان الحطب، ولهذا لا يملك بعقد الإجارة، حتى لو استأجر مسكًا ليشمه لا يجوز، ولا يضمن بالعقد أيضًا صحيحًا كان أو فاسدًا (5) .   (1) نهاية المحتاج: 5/169؛ والمبسوط: 11/78؛ والبدائع: 7/146، وقد استدل السرخسي لمذهب الشافعية وهو مذهب الجمهور بأدلة وتفصيل لم نعثر على مثله في كتب الشافعية. (2) حاشية الدسوقي: 3/442. (3) بداية المجتهد، للإمام محمد بن أحمد رشد القرطبي: 2/322، الطبعة الثانية، مطبعة مصطفى الحلبي 1370 هـ - 1950م بمصر. (4) نهاية المحتاج: 5/169؛ والمبسوط: 11/78؛ والبدائع: 7/146. (5) المبسوط: 11/79، وقد رد السرخسي على هذا بتفصيل في الموضوع المذكور فليراجع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1881 الثانى – أن المنفعة متقومة: قال الجمهور: إن المنفعة متقومة، وكل متقوم فهو مضمون بقيمته، بل إن المنفعة تقوَّم بها الأعيان، "فيستحيل أن لا تكون متقومة بنفسها، ولأنها تملك بالعقد، ويضمن به صحيحًا كان العقد أو فاسدًا، وإنما يملك بالعقد ما هو متقوم، فيضمن بالإتلاف وإن لم يكن مالًا كالنفوس والأبضاع " (1) . الثالث: أن الطبع يمثل إليها، ويسعى في ابتغائها وطلبها، وتنفق في سبيلها الأموال، ويقدم في سبيلها نفيس الأشياء ورخيصها. وأن المصلحة في التحقيق تقوم بمنافع الأشياء لا بذواتها، فالذوات لا تصير أموالًا إلا بمنافعها، فلا تقدم إلا بمقدار ما فيها من منفعة، إذ كل شيء لا منفعة فيه لا يكون مالًا. الرابع: أن العرف العام في الأسواق والمعاملات المالية يجعل المنافع غرضًا ماليًا ومتجرًا يتجر فيه. الخامس: أن الشارع اعتبر المنافع أموالًا، لأنه أجاز أن تكون مهرًا في الزواج، ولا يكون مهرًا في الزواج إلا المال، قال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} . السادس: أن العقد قد ورد على المنافع فتكون مضمونة به حينئذ سواء أكان العقد صحيحًا أم فاسدًا، وضمانها دليل على أنها تكون مالًا بالعقد عليها. ولو لم تكن أموالًا في ذاتها ما قبلها العقد مالًا، لأن العقود لا تقلب حقائق الأشياء، بل تقرر خواصها (2) .   (1) المبسوط: 11/78. (2) الأدلة من الثالث حتى السادس مختصرة من الملكية، ونظرية العقد، للشيخ محمد أبو زهرة: ص 57. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1882 أدلة الحنفية: وقد استدل الحنفية لمذهبهم بأدلة عديدة، سنذكر أهمها مع مناقشتنا لما يمكن أن يتوجه للدليل من إيراد: أولًا – أن المنفعة ليست مالًا متقومًا: قال الحنفية: إن المنفعة ليست بمال متقوم، لذا لا تضمن بالإتلاف كالخمر والميتة، وبيان ذلك: أن صفة المالية للشيء إنما تثبت بالتمول والتمول صيانة الشيء وادِّخاره لوقت الحاجة، والمنافع لا تبقى وقتين، ولكنها أعراض كما تخرج من حيز العدم إلى حيز الوجود تتلاشى، فلا يتصور فيها التمول، وعلل لذلك، بأن المتقوم لا يسبق الوجود فإن المعدوم لا يوصف بأنه متقوم، إذ المعدوم ليس بشيء. وبعد الوجود التقوم لا يسبق الإحراز، والإحراز بعد الوجود لا يتحقق فيما لا يبقى وقتين، فكيف يكون متقومًا. وعلى هذا قالوا: "الإتلاف لا يتصور في المنفعة" (1) . وقال صدر الشريعة: " لا تضمن المنافع بالمال المتقوم، لأنها غير متقومة، إذ لا تقوم بلا إحراز، ولا إحراز بلا بقاء، ولا بقاء للأعراض" (2) . وقد يرد على كلام السرخسي وصدر الشريعة: بأن المنفعة متمول، ودليل تمولها اعتياد الناس واعتبارهم لها في تجاراتهم ومعايشهم. والمنفعة باقية ما بقيت العين، وتجددها مستمر لبقاء العين، وأيضًا فإن الإتلاف متصور في المنافع، وقد أقر بذلك الحنفية أنفسهم في قولهم: "إن إتلاف المنافع لا يضمن ما لم يكن بعقد أو شبهة عقد" (3) . وعدم ضمانها عندهم لا لعدم تصورها وإنما لإهمالها، وكلامهم في فروع المسألة دليل على اعتبار وجودها.   (1) المبسوط: 11/79؛ والبدائع: 7/146. (2) التنقيح وشروحه: 2/98. (3) المبسوط: 11/79؛ والبدائع: 7/146. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1883 ثانيًا – أن المنفعة لا تماثل العين: قال السرخسي: "لئن سلمنا أن المنفعة مال متقوم، فهو دون الأعيان في المالية، وضمان العدوان مقدر بالمثل بالنص. ألا ترى أن المال لا يضمن بالنسبة والدين لا يضمن بالعين؛ لأنه فوقه فكذلك المنفعة لا تضمن بالعين؟ ثم فصل دليله فقال: إن المنفعة عرض يقوم بالعين، والعين جوهر يقوم به العرض، ولا يخفى على أحد التفاوت بينهما، والمنافع لا تبقى وقتين والعين تبقى أوقاتًا وبين ما يبقى وما لا يبقى تفاوت عظيم، والعين لا تضمن بالمنفعة قط، ومن ضرورة كون الشيء مثلًا لغيره أن يكون ذلك الغير مثلًا له أيضًا، والمنفعة لا تضمن بالمنفعة عند الإتلاف، والمماثلة بين المنفعة والمنفعة أظهر من المماثلة بين العين والمنفعة. وبهذا فارق ضمان العقد فإنه غير مبنى على المماثلة باعتبار الأصل. بل على المراضاة وكيف ينبني على المماثلة والمقصود بالعقد طلب الربح (1) . وقد يرد على السرخسي بأنه لا يلزم من كون المنفعة دون الأعيان وأنها ليست مثلًا لها، وأنها عرض من أن تكون مالًا ومتقومة، ثم إنَّ محل النزاع ليس في مماثلتها للأعيان أو عدمه، وإنما هو في ماليتها وتقومها. وأيضًا لا يسلم للسرخسي أن المنافع دون الأعيان مطلقًا، إذ الأعيان تقوّم بالمنفعة، وإنما يتوصل بالأعيان إلى المنافع، فالمقصود منافع الأعيان لا ذاتها. ثم أراد أن يرتب الظلم عند عدم إسقاط التفاوت بين العين والمنفعة. ففال السرخسي في معرض الكلام على الغصب: "ضمان العقد مشروع وفي المشروع يعتبر الوسع والإمكان، ولهذا يجب الضمان باعتبار التراضي فاسدًا كان العقد أو جائزًا فيسقط اعتبار التفاوت الذي ليس فيوسعنا الاحتزار عنه في ضمان العقد. فأما الإتلاف فمحظور غير مشروع وضمانه مقدر بالمثل بالنص فلا يجوز إيجاب الزيادة على قدر المتلف بسبب الإتلاف (2) . ويتبادر إلى الذهن اعتراض على كلام السرخسي هذا، وقد ذكر السرخسي نفسه. فإن قيل يسقط اعتبار هذا التفاوت لدفع الظلم والزجر عن إتلاف منافع أموال الناس ولأن المتلف عليه مظلوم يسقط حقه إذا اعتبر هذا التفاوت، ومراعاة جانب المظلوم أولى من مراعاة جانب الظالم. مع أن هذا التفاوت بزيادة وصف لو لم نعتبره سقط به حق المتلف عن الصفة ولو اعتبرناه أسقطنا حق المتلف عليه عن أصل المالية وإذا لم يكن بد من إهدار أحدهما فإهدار الصفة أولى من إهدار الأصل (3) .   (1) المبسوط: 11/8. (2) المبسوط: 11/78. (3) المبسوط: 11/78. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1884 ثم رد السرخسي على هذا الإيراد – ولم يوفق في رأينا في هذا الرد – حين قال: قد أوجبنا للزجر التعزيز والحبس، فأما وجوب الضمان للجبران فيتقدر بالمثل على وجه لا يجوز الزيادة عليه. والظالم لا يظلم بل ينتصف منه مع قيام حرمة مال، ولو أوجبنا عليه زيادة على ما أتلف كان ذلك ظلمًا مضافًا إلى الشرع، لأن الموجب هو الشرع وذلك لا يجوز، وإذا لم يوجب الضمان لتعذُّر إيجاب المثل كان ذلك لضرورة ثابتة في حقنا وهو أنا لا نقدر على القضاء بالمثل وذلك مستقيم مع أن حق المظلوم لا يهدر بل يتأخر إلى الآخرة. ولو أوجبنا الزيادة صارت تلك الزيادة هدرًا في حق المتلف فيبطل حقه عنه أصلًا فكان ما قلناه من اعتبار المماثلة والكف عن القضاء بالضمان بدون اعتبار المماثلة أعدل من هذا الوجه (1) . وقد يرد على كلام السرخسي: بأنه لا يكفي في تحقيق العدل الزجر والعزيز مادام الغاصب قد استفاد يقينًا بغير وجه حق من منفعة مملوكة للغير ويمكن تقديرها بمال، فيؤخذ منه بقدر ما أخذ، ثم إنَّ ما يؤخذ منه ليس انتهاكًا لحرمة ماله، إذ لم يؤخذ منه زيادة على ما أخذ، وليس في هذا ظلم على الغاصب، بل خلافه هو ظلم على المالك لا ينبغي نسبته إلى الشرع، وما دام القضاء بأجر المثل أو غيره، مقدورًا غير معسور فإنه لا يسقط حفظًا للحقوق.   (1) المبسوط: 11/78. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1885 ثالثًا – أن المنفعة قبل كسبها معدومة والمعدوم ليس مالًا: قال السرخسي: "إن الإتلاف لا يحل المعدوم، وبعد الوجود لا يبقى لحله فعل الإتلاف"، فكأنه يرى أن المنفعة معدومة غير موجودة فلا يمكن أن يوجد السبب، ولذا قال: "وإثبات الحكم بدون تحقيق السبب لا يجوز" (1) . ولما كان الحنفية قد اشترطوا لجواز المنفعة أن تكون بعقد، وهذا في حد ذاته استشكال وجيه على رأيهم. قال السرخسي محاولًا رفع هذا الإشكال: "بالعقد يثبت للمنفعة حكم الإحراز والتقوم شرعًا، بخلاف القياس، وكان ذلك باعتبار إقامة العين المنتفع به مقام المنفعة لأجل الضرورة والحاجة، ولا تتحقق مثل هذه الحاجة في العدوان فتبقى الحقيقة معتبرة، وباعتبارها ينعدم التقوم والإتلاف " (2) . وقد يقال للحنفية أنكم قلتم بخلاف ذلك في الصداق واستئجار الولي، فاعتبرتموه ولا عدوان فيه. وقد رد السرخسي هذا بقوله: "في الصداق واستئجار الولي إما يظهر حكم الإحراز والتقوم بالعقد للحاجة، والمال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به، ولكن باعتبار صفة التمول والإحراز " (3) . وقد يقال له: إننا لا نسلم أن المال معتبر بالتمويل والإحراز فحسب بل هو أعم ليشمل ما يمكن إحرازه كالمنفعة.   (1) المبسوط: 11/78. (2) المبسوط: 11/78. (3) المبسوط: 11/78. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1886 المبحث الثاني غصب المنفعة مذهب الجمهور: ذهب جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة – تبعًا لرأيهم في اعتبار المنفعة مالًا – إلى أن غصب المنافع يوجب الضمان على الغاصب سواء استعمل المغصوب، أو منع استعماله، أو أتلفه أو أتلف المنفعة على تفصيل يظهر من استعراض مذاهبهم: * ذهب المالكية: إلى أن الغاصب يضمن الشيء المغصوب بمجرد الاستيلاء. قال عبد السميع الآبي: (وضمن الغاصب الشيء بمجرد الاستيلاء عليه وحوزه، ولو تلف بسماوي، أو جناية غيره) (1) . وبناءً على هذا الضمان فإن منافع المغصوب المستعمل تكون ملكًا للمالك. قال في الجواهر: " (وللمالك غلة مغصوب مستعمل من رقيق ودابة ودار وغيرها، سواء استعمله الغاصب أو أكراه على المشهور) (2) . فإن كان المستفيد من المنفعة غير الغاصب، فإن المالك مخير بأخذ قيمة المنفعة من أيهما شاء، قال في المواهب: (من غصب منفعة دار أو استأجر منه رجل تلك المنفعة، فلربها أخذ المنفعة من الغاصب أو من المستأجر، عالمًا كان أو جاهلًا، كما لو غصب طعامًا وباعه واستهلكه المشتري، فلرب الطعام أن يضمن من شاء منهما) . لكن عند المالكية لو قصد الغاصب باستيلائه على الشيء استيفاء المنفعة لا تمَلُّكَ الذات، فتلف الذات المستوفى منها منفعتها فلا يضمن المعتدي وعلى ذلك "فمن سكن دارًا غاصبًا للسكن فانهدمت من غير فعله فلا يضمن إلا قيمة السكن، إلا أن تنهدم من فعله" (3) . * ومذهب الشافعية: ضمان منفعة الدار والعبد ونحوههما من كل منفعة يستأجر عليها بالتفويت بالاستعمال، والتفويت عندهم يكون بضياع المنفعة من غير انتفاع، كإغلاق الدار في يد عادية. لمن كان من أهل الضمان. قالوا: إن غصب منفعة تستباح بالإجارة، فأقام في يده مدة لمثلها أجر ضمن الأجرة. أما غصب منفعة البضع فإنها لا تضمن عندهم إلا بتفويت الوطء لا فواته. فيضمن حينئذ بمهر المثل – على تفصيل في ذلك – وعلة عدم الضمان بالفوات هو انتفاء ثبوت اليد على البضع. ومثل هذا في الأصح من مذهبهم: منفعة بدن الحر فإنها لا تضمن إلا بالتفويت دون الفوات، تبعًا لقاعدة: أن الحر لا يدخل تحت اليد (4) .   (1) جواهر الإكليل، شرح مختصر خليل، للإمام صالح عبد السميع الآبي: 2/148، الطبعة الثانية مطبعة مصطفى الحلبي 1366 هـ - 1947م بمصر. (2) جواهر الإكليل، شرح مختصر خليل، للإمام صالح عبد السميع الآبي: 2/148، الطبعة الثانية مطبعة مصطفى الحلبي 1366 هـ - 1947م بمصر. ومواهب الجليل: 5/274. وقد ذهب ابن القاسم إلى التفريق بين ضمان منافع الدور والأرضين وبين منافع الحيوان. مع اتفاق المالكية جميعًا على عدم ضمان المنافع غير المستوفاة. انظر: مواهب الجليل: 5/285. (3) جواهر الإكليل: 2/151 (4) نهاية المحتاج: 5/169؛ والمجموع شرح المهذب، للإمام أبي زكريا النووي: 14/59. بتصرف يسير – مطبعة الإمام بمصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1887 * ومذهب الحنابلة: الغاصب أجرة المغصوب مدة بقائه بيده إذا كانت للشيء المغصوب منفعة تصح إجارتها، ويوجبون حينئذ أجرة المثل مدة مقامة في يده، سواء استوفى المنافع أو ترك +ها تذهب. فإن تلف المغصوب ضمنه الغاصب، أو من تلف بيده المثلي بمثله، فإن أعوز المثل فقيمة مثله يوم إعوازه (1) . "وما ليس بمال لا يغصب كغصب الحر، فلا يضمن بالغصب، وإنما يضمن بالإتلاف. فإن استعمل حرًا مكرهًا لزمه أجر مثله، وإن حبسه مدة لمثلها أجر ففي وجوب أجرها قولان، ولو منعه العمل من غير حبس لم يضمن منافعه" (2) . وقال المرداوي: "وإن كان للمغصوب أجرة فعلى الغاصب أجرة مثله مدة مقامة في يده، يعني إذا كانت تصح إجارته، ثم قال: منافع المقبوض بالعقد الفاسد كمنافع المغصوب تضمن بالفوات والتفويت" (3) . وأما عند الحنفية، فقالوا في ضمان منافع المغصوب: "ومنافع الغصب غير مضمونة استوفاها أو عطلها، أو استغل" وعللوا لذلك – بما سبقت الإشارة – بعدم ورود الغصب عليها، ولأن لا مماثلة بينها وبين الأعيان، وهي لا تبقى زمانين، ولأنها غير متقومة (4) . والمتأخرون فرقوا بين المعد للاستغلال ومال اليتيم والوقف وبين غيرها فأوجبوا الضمان فيها دون سواها. وفيما يلي تفصيل رأيهم: قال السرخسي: لو غصب عبدًا أو دابة فآجره وأصاب من غلته، فالغلة للغاصب، لأن وجوبها بعقده؛ ولأن المنافع لا تتقوم إلا بالعقد، والعاقد هو الغاصب، فإذا هو الذي جعل منافع العبد بعقده مالًا فكان بدله له. وقد يقال هنا: ولم لا يكون لصاحب العبد؟ فيجاب بأنه كان في ضمان غيره. قال السرخسي: وفي هذا إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((الخراج بالضمان)) (5) . فحين كان في ضمان الغاصب فهو الذي التزم تسليمه بالعقد دون المالك فكان الأجر له دون المالك، ويؤمر أن يتصدق بها لأنها حصلت له بكسب خبيث (6) .   (1) نيل المآرب: 1/446. (2) المغني: 5/448. (3) الإنصاف في الراجح من الخلاف: 6/201. (4) الاختيار لتعليل المختار، للعلامة عبد الله بن محمود الموصلي: 2/3، الطبعة الثالثة 1395 هـ - 1975م بمصر. (5) الخراج: ما يحصل من غلة العين المبتاعة. والحديث أدرجه أبو داود، انظر: عون المعبود، شرح سنن أبي داود، للحافظ ابن قيم الجوزية: 9/415، باب رقم 38، الطبعة الثانية 1388 هـ - 1969 م المدينة المنورة. وأخرجه الترمذي وابن خزيمة وابن الجارود، وابن حبان، والحاكم، وابن القطان، وضعفه البخاري وأبو داود. انظر: تحفة الأحوذي بشرح جامعة الترمذي، للحافظ محمد المباركفوري: 4/507. الطبعة الثانية دار الاتحاد العربي للطباعة 1385 هـ - 1965 م بمصر، وانظر أيضًا: النسائي، كتاب البيوع، باب رقم 53، وابن ماجه كتاب التجارات، رقم 43؛ ومسند أحمد: 6/49، 208، 237. (6) المبسوط: 11/77. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1888 وينبني على عدم اعتبار المنافع أموالًا عند الحنفية أنه ليس على الغاصب في سكنى الدار وركوب الدابة أجر. وعللوا لذلك: بأن الغاصب كان ضامنًا، ومعنى هذا أن ضمان العين باعتبار صفة المالية والتقوم، والمالية والتقوم في العين باعتبار منافعه، ولهذا تختلف قيمة العين باختلاف منفعته، فإذا اعتبرت المنفعة لإيجاب ضمان العين لا يمكن اعتبارها لإيجاب ضمانها مقصودًا. وقد قاس الحنفية ههنا المنفعة على الكسب، وينطبق على الكسب عندهم حكم حديث ((الخراج بالضمان)) فكذلك المنفعة. لكن هذا مما لا يقول به أبو حنفية وأبو يوسف، "فإن الساكن غير ضامن للدار عندهما" (1) . ولا يخفى أن صدر الاحتجاج والتعليل الذي ذكره السرخسي يمكن أن يكون حجة على مسلك الحنفية في المنفعة لا لهم، ولعل ذلك دعا السرخسي للقول: " والأصح بناء هذه المسألة على الأصل المتقدم ويعني به قوله: إن المنافع زوائد تحدث في العين شيئًا فشيئًا، وزوائد المغصوب لا يكون مضمونًا على الغاصب، فكذلك المنفعة" (2) . وأما اعتبار العلة في الخراج، هي الضمان وهو فهم الإمام أبي حنيفة من الحديث لذا قال: "إن الغاصب لا يضمن منافع المغصوب". فقد ناقش السيوطي هذا الاحتجاج: فقال: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بذلك في ضمان الملك، وجعل الخراج لمن هو مالكه إذا تلف تلف على ملكه، وهو المشتري، والغاصب لا يملك المغصوب)) (3) . وقال السيوطي أيضًا: "بأن الخراج، هو المنافع، جعلها لمن عليه الضمان، ولا خلاف أن الغاصب لا يملك المغصوب. بل إذا أتلفها فالخلاف في ضمانها عليه، فلا يتناول موضوع الخلاف" (4) . وعلل الكاساني لعدم الضمان في غصب العبد أو الدابة بأنه "لم يوجد تفويت يد المالك عن المنافع؛ لأنها أعراض تحدث شيئًا فشيئًا على حسب حدوث الزمان، فالمنفعة الحادثة على يد الغاصب لم تكن موجودة في يد المالك فلم يوجد تفويت يد المالك عنها، فلم يوجد الغصب " (5) . ولكن يشكل على رأي الحنفية هذا ما ينبغي أن يتخرج على أصلهم، فيما إذا غصب دارًا أو عقارًا فانهدم شيء من البناء، فإنه لا ضمان عليه؛ لأن الغصب لا يتم إلا بالنقل والتحويل، فإن كان مما لا ينقل كالدور والعقار لم يصح غصبه، ولم يضمن، استدلالًا: بأن غير المنقول مختص بالمنع دون التصرف، فصار كحبس الإنسان عن ملكه، لا يكون موجبًا لغصب ماله، ولأن المسروق لا يكون مسروقًا إلا بالنقل عن الحرز فكذا المغصوب (6) . جاء في الدُّرِ وشرحه قوله: "والغصب إنما يتحقق فيما ينتقل، فلو أخذ عقارًا وهلك في يده بآفة سماوية لم يضمن" (7) .   (1) المبسوط: 11/78. (2) المبسوط: 11/78. (3) الأشباه والنظائر: ص 136. (4) الأشباه والنظائر: ص 136 (5) البدائع: 7/145. (6) المجموع: 14/64. (7) الدر المختار، شرح تنوير الأبصار على هامش حاشية ابن عابدين: 5/118. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1889 وقد اختلف رأي الحنفية في ذلك، قال السرخسي: لا ضمان عليه في قول أبي حنيفة، وأبى يوسف الآخر، وعند محمد وفي قول أبي يوسف الأول يضمن، وهو قول الشافعي، أما الشافعي فقد سار على أصله في تحديد الغصب بأنه إثبات اليد على مال الغير بغير إذن مالكه، وهذا يوجد في العقار كما يوجد في المنقول، وأما محمد فقد سار على أصله في حد الغصب: أنه إزالة يد المالك عن ماله، والفعل في المال ليس بشرط، وقد وجد تفويت يد المالك عن العقار، لأن ذلك عبارة عن إخراج المال من أن يكون منتفعًا به في حق المالك، أو إعجاز المالك عن الانتفاع به، وهذا كما يوجد في المنقول يوجد في العقار، فيتحقق الغصب ... وأما أبو حنيفة وأبو يوسف فسارا على أصلهما: أن الغصب إزالة يد المالك عن ماله بفعل في المال، ولو يوجد في العقار. والدليل على أن هذا شرط تحقيق الغصب الاستدلال بضمان الغصب، فإن أَخْذَ الضمان من الغاصب تفويت يده عنه بفعل في الضمان، فيستدعي وجود مثله منه في المغصوب، ليكون اعتداء بالمثل وعلى أنهما إن سلَّما تحقق الغصب في العقار، فالأصل في الغصب أن لا يكون سببًا لوجوب الضمان، لأن أخذ الضمان من الغاصب ماله عليه (1) . لكن العقار يضمن عندهم في الأصح في حالات ثلاث في البيع والتسليم والحجور. قال في الدر المختار وشرحه: "والأصح أن العقار يضمن بالبيع والتسليم وكذلك بالحجور إذا كان العقار وديعة" (2) . واستثنى الحنفية من قاعدتهم في الغصب ثلاثة أمور؛ فقالوا بوجوب الضمان فيها ويكون بأجر المثل، وهذا اختيار المتأخرين منهم وهذه الثلاثة هي: أولًا: إذا كان المغصوب وقفًا للسكن أو للاستغلال أو لغيرهما كالمسجد. ثانيًا: إذا كان المغصوب مال يتيم. قال في البزازية: "والفتوى في غصب دور الوقف وعقاره على الضمان كما في منافعه، وكذا اليتيم، والإمام ظهير الدين أفتى بأجر المثل في الوقف لا في اليتيم، ومن المشايخ من قال: إذا كان ضمانُ النقصان خيرًا لليتيم من أجر المثل يلزم على الغاصب، وإلا أجرَ المثل" (3) . وقال ابن عابدين في شأن اليتيم: "لا تردد في مال اليتيم، لأن منافعه تضمن بالغصب" (4) . ثالثًا: "إذا كان البناء معدًا للاستغلال بأن بناه صاحبه لذلك أو اشتراه لذلك. ويشترط عندهم علم المستعمل بكونه معدًا حتى يجب الأجر، وأن لا يكون المستعمل مشهورًا بالغصب " (5) .   (1) انظر تفصيله في البدائع: 7/146، 147. (2) الدار المختار وشرحه: 5/119. (3) الفتاوى البزازية، للإمام محمد بن محمد البزاز بهامش كتاب الفتاوى الهندية: 5/403، الطبعة الثانية الأميرية 1310 هـ بمصر، وحاشية ابن عابدين: 6/206. (4) حاشية ابن عابدين: 5/118. (5) حاشية ابن عابدين: 5/118.131، 132، بتصرف.1 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1890 مبنى الخلاف بين الجمهور والحنفية: إن مبنى الخلاف في غصب المنفعة يرجع عند التحقيق إلى الخلاف في مفهوم المنفعة. وفي مفهوم الغصب، والثاني هو الذي يعنينا بيانه ههنا. * فالجمهور يرون أن الغصب هو: "الاستيلاء على حق الغير عدوانًا"، وكما قال الماوردي: هو منع الإنسان من ملكه والتصرف فيه بغير استحقاق فيكمل الغصب بالمنع والتصرف، فإن منع ولم يتصرف كان تعديًّا، وتعلق به ضمان، لأنه تعدٍّ على المالك دون الملك، وإن تصرف ولم يمنع كان تعديًّا، وتعلق به ضمان، لأنه تعد على الملك دون المالك، فإذا جمع بين المنع والتصرف تم الغصب، ولزم الضمان سواء نقل المغصوب عن محله أم لا (1) . * وعند الحنفية هو: "أخذ مال متقوم محتوم من يد مالكه بلا إذنه لا خفية" (2) . فلا يتم الغصب عند أبي حنيفة إلا بالنقل والتحويل – كما سبقت الإشارة – فإن كان مما لا ينتقل كالدور والعقار لم يصح غصبه، ولم يضمن، وكذا المنفعة ليست مالًا متقومًا حتى يمكن نقلها. ويفهم من قيد الحنفية في تعريف الغصب في قولهم: "من يد مالكه بلا إذنه". "أن إزالة يد المالك معتبرة في الغصب، وتبعًا لتعريف الشافعية إزالة يد العدوان". "وعلى هذا فإن ثمرة الخلاف تظهر في زوائد المغصوب كولد المغصوبة وثمرة البستان فإنها ليست بمضمونة عند الحنفية لعدم إزالة اليد، وعند الشافعية مضمونة لإثبات اليد، فالمعتبر في الغصب عند الحنفية إزالة اليد المحقة وإثبات اليد المبطلة، وعند الشافعية المعتبر إثبات اليد المبطلة" (3) . وعلى هذا فإن مفهوم الغصب أعم وأشمل عند الجمهور عنه عند الحنفية، ومقتضى تعريف الجمهور شموله"سائر الحقوق والاختصاصات" (4) ، والمنفعة عند الجمهور مال لا يجوز الاعتداء عليه فبغصبها يتقرر الضمان.   (1) نهاية المحتاج: 5/142؛ وحاشية الدسوقي: 3/442؛ وجواهر الإكليل: 2/148؛ ومواهب الجليل: 5/274؛ والمغني: 5/374. (2) درر الحكام في شرح غرر الأحكام، للإمام محمد بن فراموز الشهير بمنلا خسرو: 2/262، طبع نور عثمانية 1970م استانبول. (3) درر الحكام: 2/262. (4) نهاية المحتاج: 5/142. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1891 المبحث الثالث المال والمنفعة الجمهور والحنفية: يعلم من تعاريف الجمهور السابقة للمال أنه يشمل الأعيان والمنافع والحقوق، والمالكية اعتبروا كل ما يمكن أن يجري فيه الملك مالًا يستوي في ذلك الأعيان والمنافع والحقوق التي تقبل التجزيء – كما سبق الإشارة -. والشافعية والحنابلة يوافقون في هذا الشمول، ويوافقونهم جملة فيما ينبني عليه من فروع. وإنما اعتبر الجمهور المنافع أعيانًا، لأنهم لم يشترطوا في المال أن يكون محازًا بذاته بل يكفي إمكان حيازته، وحيازة المنافع إنما يكون بحيازة أصولها، إذ الأعيان مقصودة لمنافعها. وأما الحنفية فيعلم من تعاريفهم للمال أن المنفعة ليست مالًا؛ لأنهم اشترطوا في المال أن يكون موجودًا ممكن الادخار، فتخرج المنفعة حينئذ من مسمى المال فهي ملك لا مال كما صرح ابن عابدين نقلًا عن صاحب التلويح، قال: "والتحقيق أن المنفعة ملك لا مال؛ لأن الملك ما من شأنه أن يُتصرف فيه بوصف الاختصاص، والمال ما من شأنه أن يُدخر للانتفاع وقت الحاجة" (1) .   (1) حاشية ابن عابدين: ص 51، 205. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1892 المبحث الرابع أسباب ملك والمنفعة يستفاد ملك المنفعة بأسباب أربعة: الوصية والإجارة والإعارة والوقف. أولًا – الوصية: اتفق الفقهاء الأربعة على جواز الوصية بالمنافع، وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة والظاهرية ببطلان الوصية بالمنافع. قال ابن رشد: "اختلفوا في المنافع، فقال جمهور فقهاء الأمصار: ذلك جائز ". وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأهل الظاهر: الوصية بالمنافع باطلة، ثم ذكر مبنى الخلاف في أن عمدة الجمهور: أن المنافع في معنى الأمول، وإن لم تكن مالًا عند الحنفية إلا أنه يجوز تمليك المنفعة في حال الحياة بطريق الإجارة والإعارة فيكون جائزًا الوصية بها. وعمدة الطائفة الثانية: أن المنافع منتقلة إلى ملك الوارث؛ لأن الميت لا ملك له فلا تصح له وصية بما يوجد في ملك غيره، فالمنافع معدومة ولا تصح الوصية بمعدوم، وإلى هذا القول ذهب أبو عمر بن عبد البر " (1) . مذاهب الفقهاء: ذهب الحنفية إلى جواز الوصية بالمنفعة، وتنتهي بموت الموصى له، ثم تنتقل إلى ورثة الموصي، وقد بنى الحنفية رأيهم في المنفعة ههنا على أصلهم من أن ملك المنفعة ثبت مؤقتًا لا مطلقًا، وعليه فصلوا: فإن كانت الوصية مؤقتة إلى مدة تنتهي بانتهاء المدة، ويعود ملك المنفعة إلى الموصى له بالرقبة إن كان قد أوصى بالرقبة إلى إنسان آخر، وإن لم يكن قد أوصى بالرقبة إلى آخر يعود إلى ورثة الموصى. وإن كانت مطلقة تثبت إلى وقت موت الموصى له بالمنفعة، ثم ينتقل إلى الموصى له بالرقبة إن كان هنا موصى له بالرقبة، وإن لم يكن ينتقل إلى ورثة الموصي. جاء في الدر وحاشيته: "صحت الوصية بخدمة عبده وسكنى داره مدة معلومة وأبدًا، ويكون محبوسًا على ملك الميت في حق المنفعة. كما في الوقف حيث يستوفى منافع الوقف على حكم ملك الواقف، فإن خرجت رقبة العبد والدار في الوصية بالخدمة والسكنى، سلمت إلى الموصى له، وإلا تقسم الدار أثلاثًا (2) . ثم قال: "وبموت الموصى له في حياة الموصي بطلت الوصية، وبعد موته يعود خدمة العبد وسكنى الدار إلى ورثة الموصي بحكم الملك، ولا يعود إلى ورثة الموصى له" (3) .   (1) بداية المجتهد: 2/333؛ والمغني، والشرح الكبير: 6/127. (2) حاشية ابن عابدين: 5/443، بتصرف؛ والبدائع: 10/4961، مطبعة الإمام. (3) حاشية ابن عابدين: 5/442، بتصرف؛ والبدائع: 10/4961، مطبعة الإمام. أما بالنسبة لتصرف الموصى له فيقول ابن عابدين: "وليس للموصى له الخدمة والسكن أن يؤجر العبد أو الدار، لأن المنفعة ليست بمال، إنما صح للمالك أن يؤجر ببدل لأنه ملكها تبعًا لملك العين، والمستأجر إنما ملك أن يؤجر مع أنه لا يملك إلا المنفعة، لأنه لما ملكها بعقد معاوضة كانت مالًا بخلاف ملكها بعقد تبرع. فعلى أصل الحنفية إذا ملكها بعوض كان مملكًا أكثر مما ملكه وهو لا يجوز. انظر حاشية ابن عابدين: 5/443. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1893 * وذهب المالكية: إلى جواز الوصية بالمنفعة، فإذا أوصى لشخص معين بمنفعة شيء معين مدة معينة، كأن يوصي بخدمة عبده فلان، أو سكن داره المعينة بالإشارة أو الوصف، أو بركوب دابته الفلانية لزيد مدة سنة مثلًا، وحمل الثلث قيمة ذلك تعين تسليم الموصى به (1) . وقالوا أيضًا: إذا أوصى بخدمة عبد من عبيده لفلان ولم يحددها بزمن، بل حددها بحياة العبد أو أطلق، فإنه يخدمه طول حياته، وإن مات الموصى له فإن ورثته يرثونها بعده؛ لأن الموصي لما لم يحددها علم أنه أراد خدمته حياة العبد (2) . * وقال صالح الآبي: وإن أوصى لشخص بمنافع عبد معين، ولم يقيد بحياة الموصى له، فلوارثه خدمة العبد ما بقي حيًا، وإن حدد الموصي المنافع الموصي بها بزمن كشهر أو سنة، فالموصى له كالمستأجر في ملك المنفعة في تلك المدة، وجواز إجارته فيها لغيره، وانتقالها لوارثه إن مات قبل تمامها. فإن قتل العبد الموصى بخدمته عمدًا عدوانًا من عبد أو ذمي فللوارث للموصي القصاص أو القيمة (3) .   (1) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير: 4/445. (2) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير: 4/448. (3) جواهر الإكليل: 2/324. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1894 * وقال الشافعية: بصحة الوصية بمنافع نحو عبد ودار وغلة، ويملك الموصى له بالمنفعة، وكذا بالغلة إن قامت قرينة على أن المراد بها مطلق المنفعة، أو أطرد العرف بذلك فيما يظهر، وتوجيههم لهذا القول راجع إلى أن الوصية ليست إباحة عندهم ولا عارية للزومها بالقبول، ومن ثم جاز له أن يسافر بها عند الأمن، ويد يد أمانة (1) . * وقال الحنابلة: إن أوصى بخدمة عبد صح، سواء وصى بذلك لمدة معلومة أو للأبد ويعتبر خروج المنفعة من ثلث المال، فإن لم تخرج من الثلث أجيز منها بقدر الثلث. فإن أريد تقويمها، فإن كانت الوصية مقيدة بمدة قوم الموصى بمنفعته مسلوب المنفعة تلك المدة، ثم يقوَّم بمنفعته في تلك المدة فينظر كم قيمتها. وإن كانت الوصية مطلقة في الزمان كله فقد قيل: تقوَّم الرقبة بمنفعته جميعًا، ويعتبر خروجهما من الثلث، لأنه عبدًا لا منفعة له لا قيمة له غالبًا، وقيل: تقوَّم الرقبة على الورثة، والمنفعة على الموصى له (2) . ويفهم من كلام الفقهاء في الوصية بالمنافع أنها على صور أو أنواع متعددة. فإما أن تكون الوصية مقيدة بمدة محدَّدة، وإما أن تكون مؤبدة، وإما أن تكون مطلقة عن التقيد بمدة، ولكل حكمه مع اختلاف بين الفقهاء في هذه الصور، ينظر تفصيله في أبواب الوصية من كتب الفقه.   (1) نهاية المحتاج: 6/83؛ وحاشية قليوبي وعميرة: 3/84. (2) المغني، والشرح الكبير: 6/478. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1895 ثانيًا – الإجارة: عقد الإجارة هو عقد على منفعة كما يعرفه الفقهاء "عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض" (1) . والمنفعة من أركان عقد الإجارة عند الجمهور، وهي محل الإجارة عند الحنفية والحنابلة (2) . وعند المالكية والشافعية محل الإجارة منافع أعيان، أو منافع مضمونة في ذمة المؤجر (3) . واشترط الفقهاء لانعقاد الإجارة على المنفعة شروطًا: أولًا: أن تقع الإجارة على المنفعة لا على العين. ثانيًا: أن تكون المنفعة متقومة ومعلومة علمًا ينفي الجهالة. ثالثًا: أن تكون المنفعة مباحة لا معصية ولا طاعة مطلوب أداؤها. رابعًا: أن تكون المنفعة مقدورًا على استيفائها. وأما تحديد المنفعة: فقد اعتبر جمهور الفقهاء العرف في تعيين ما تقع عليه الإجارة من منفعة وقد تتعين بتحديد مدة الإجارة أو تحديد العمل ذاته أو العمل والمدة معًا (4) . وتنفسخ الإجارة عند الفقهاء بانتهاء مدة الإجارة أو بهلاك العين المؤجرة أو بالإقالة. واختلفوا في انقضائها بموت أحد العاقدين، فذهب الجمهور إلى أن الإجارة لا تنفسخ بموت أحد المتعاقدين؛ لأنها عقد لازم (5) . وذهب الحنفية إلى أن الإجارة تنفسخ "بموت أحد العاقدين لو عقدها لنفسه كما تنفسخ بموت أحد المستأجرين أو المؤجرين في حصته فقط (6) . وعند الشافعية: تنفسخ بموت المؤجر في إجارة الوقف، جاء في شرح المحلى على المنهاج: "ولا تنفسخ الإجارة بموت العاقدين أو أحدهما، ويخلف المستأجر وارثه في استيفاء المنفعة، ولا تنفسخ بموت مُتَوَلِّي الوقف إلا في صورة ما إذا آجر البطن الأول من الموقوف عليهم الوقف مدة، ومات قبل تمامها فالأصح انفساخها" (7) .   (1) المبسوط: 15/74؛ والمغني: ص 316؛ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/2؛ وحاشية قليوبي وعميرة: 3/67. (2) البدائع: 5/2557؛ والمغني: 6/3. (3) حاشية الدسوقي والشرح الكبير: 4/33؛ وحاشية قليوبي وعميرة: 3/68. (4) الفتاوى الهندية: 4/411؛ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/12، 23؛ والمغني: 5/324؛ والمهذب: 1/396. (5) حاشية الدسوقي والشرح الكبير: 4/32؛ وحاشية قليوبي وعميرة: 3/84؛ ونهاية المحتاج: 5/314؛ والمغني: 5/431. (6) البدائع: 4/200؛ وشرح الدرر: 2/299. (7) المحلى على المنهاج بشرح قليوبي وعميرة: 3/84. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1896 ثالثًا – العارية: إذا كانت المنفعة بسبب العارية فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن العارية – إضافة إلى أنها لا تورث – لا يجوز للمستعير أن يؤجر المستعار للغير خلافًا للمالكية. قال في الاختيار: "وللمستعير أن يعيرها إن لم يختلف باختلاف المستعملين، وليس له إجارتها، فإن آجرها فهلكت ضمن " (1) . وقال السيوطي: لا يجوز للمستعير أن يؤجر للغير، بل يستوفي المنفعة بنفسه أو وكيله، فإن أعاره فللمالك أن يرجع عليه بأجر المثل (2) . ثم قال: "كل من مالك المنفعة فله الإجارة والإعارة. ومن ملك الانتفاع فليس له الإجارة قطعًا، ولا الإعارة في الأصح " (3) . وعلق ابن نجيم على عبارة السيوطي، فقال: وهذا يتخرج على قول الكرخي من أن الإعارة إباحة المنافع لا تملكيها، ثم قال: والمذهب عندنا أنها تمليك المنافع بغير عوض، فهي كالإجارة تمليك المنافع. وإنما لا يملك المستعير الإجارة لأنه ملك المنفعة بغير عوض فلا يملك أن يملكه ما بعوض، ولأنه لو ملك الإجارة لملك أكثر مما ملك ... (4) . وقال ابن رجب: "المستعير لا يملك نقل حقه من الانتفاع " (5) . وعللوا لذلك بأن العارية إباحة انتفاع فلا تنتقل إلى الغير، وهي عقد غير لازم ينفسخ بموت أحد المتعاقدين، أو جنونه، أو إغمائه (6) . وقال المالكية: "يصح ويندب إعارة شخص رشيد مالك للمنفعة وإن كان مستعيرًا" (7) . وقال أيضًا: "يصح أن يعير مالك المنفعة (المستعير) عينًا لأجل استيفاء منفعتها، ومحل الصحة ما لم يمنعه المالك" (8) . رابعًا – الوقف: إذا وقف شخص عينًا فإن الذي يُمَلَّكُ هو المنفعة ويكون ذلك بالاستغلال أو الاستعمال. وإن نص في الوقف على أحد الأمرين، فلا ينتفع إلا بما نص عليه نظرًا لشرط الواقف لأنه كنص الشارع. والفقهاء مختلفون في ملك المنفعة والانتفاع. فالمالكية قالوا في الوقف إذا كان على سكنى الدار: "وإذا وقف وقفًا على أن يُسْكَنَ أو على السكنى، ولم يزد على ذلك، فظاهر اللفظ يقتضي أن الواقف إنما يُمَلِّكُ الموقوف عليه الانتفاع بالسكن دون المنفعة، فليس له أن يؤجره غيره، ولا يُسِكنَه" (9) . وإن كانت الصيغة محتملة لتمليك الانتفاع أو تمليك المنفعة بأن قال: "ينتفع بالعين الموقوفة بجميع أنواع الانتفاع، فهذا تصريح بتمليك المنفعة، أو يحصل من القرائن ما يقوم مقام هذا التصريح ... فإنا نقضي بمقتضى تلك القرائن ... " (10) . وذهب الشافعي وأحمد إلى أن المنتفع يملك في الوقف – كما في الوصية – المنفعة لا حق الانتفاع إلا إذا نص على أن المراد حق الانتفاع، أو دلت القرائن على ذلك" (11) .   (1) الاختيار لتعليل المختار: 3/56. (2) نهاية المحتاج: 5/118. (3) الأشباه والنظائر: ص 326. (4) الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 353. (5) القواعد، لابن رجب: ص 211. (6) القواعد، لابن رجب: 5/130؛ والمغني: 6/361؛ والأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 143. (7) جواهر الإكليل: 2/145. (8) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/433، 434. (9) الفروق، للقرافي الفرق الثلاثون. (10) الفروق، للقرافي الفرق الثلاثون. (11) مغني المحتاج، للإمام محمد الخطيب الشربيني على متن منهاج الطالبين، للإمام يحيى بن شرف النووي: 2/389، مطبعة الاستقامة 1374 هـ - 1955م بمصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1897 المبحث الخامس توريث المنفعة مذهب الفقهاء: تكلم الفقهاء عن حكم توريث المنفعة، يجوز أن تنتقل منفعة العين إلى ورثة المستفيد واتفق رأي جمهورهم في بعض الصور واختلف في بعضها الآخر، تبعًا لموضوعها، فإن المنفعة قد تكون عن إجارة أو وصية أو عارية وهذه أهم صورها. فإن كانت المنفعة بعقد إجارة أو وصية: فقد ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى جواز توريثها قياسًا على الأعيان؛ ولأن الإجارة لا تنفسخ "بموت العاقدين أو أحدهما للزومها كالبيع، فتبقى العين بعد موت المكرى عند المكتري أو وارثه ليستوفي منها المنفعة " (1) . فيحل الوارث محل المورث إلى أن تنتهي المدة المحددة. أو أن تنفسخ الإجارة لسبب آخر، والوصية بالمنفعة كذلك لا تنتهي بموت الموصى له، لأنها تمليك، فتنتقل إلى ورثة الموصي المدة الباقية (2) . أما الحنفية فعلى أصلهم في أن المنفعة ليست مالًا فإن المنفعة أو حق الانتفاع لا يورث لأنه لا بقاء للمنفعة عندهم، ونقلها من شخص إلى آخر يستلزم بقاءها، والمعدوم لا ينتقل فلا يملك. فتنتهي المنفعة بموت مالكها. واستثنوا من توريث المنفعة حقوق الارتفاق لحق المرور والشرب والمسيل والتعلي. فإنها تورث عندهم. وعللوا ذلك: بأن حقوق الارتفاق حقوق مالية فيجري فيها الإرث كسائر الأموال (3) .   (1) نهاية المحتاج: 5/314؛ والمغني: 6/42. (2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/445؛ ونهاية المحتاج: 6/83؛ والمغني: 6/478. (3) مجمع الأنهر: 3/567. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1898 المبحث السادس حقوق الارتفاق حق الارتفاق: هو "حق مقرر على عقار لمنفعة عقار لشخص آخر" (1) ، "مالكه غير مالك العقار الأول" (2) . أو هو "حق الانتفاع العيني الثابت لعقار على عقار آخر بقطع النظر عن شخص المالك" (3) . وذلك كحق المرور إلى أرض من طريق هو جزء من أرض مملوكة للغير، وكذا حق الشرب والمجرى والمسيل وحق التعلي. فهذه الحقوق تعتبر عند الجمهور مالًا، فيجوز بيعها، وهبتها، وتورث. وذلك على أصلهم في معنى الأموال. وذهب الحنفية إلى أن هذه الحقوق ليست أموالًا فلا يجوز بيعها أو هبتها مستقلة عما هي تابعة له من أرض أو غيرها. قال ابن عابدين: "حق التعلي ليس بمال؛ لأن المال عين يمكن إحرازها وإمساكها، ولا هو حق متعلق بالمال، بل هو حق متعلق بالهواء، وليس الهواء مالًا يباع، والمبيع لا بد أن يكون أحدهما" (4) ، ومع أن الحنفية منعوا بيعها مستقلة إلا أنهم أجازوا بيعها تبعًا لما تتعلق به من أموال، كبيع الأرض مع ما عليها من حقوق مسيل أو شرب أو مرور. قال الكاساني: "ولو باع الأرض مع الشرب جاز تبعًا للأرض، ويجوز أن يجعل الشيء تبعًا لغيره، وإن كان لا يجعله مقصودًا بنفسه" (5) . وقد اعتبر الحنفية هذه الحقوق مالية، وإن كانت ليست أموالًا في ذاتها، قال الكاساني: "الشرب ليس بعين مال بل هو حق مالي" (6) . وعلى هذا فكل حق تعلق بمال يجوز بيعه أو هبته تبعًا لهذا المال.   (1) مرشد الحيران: مادة 37. (2) الملكية ونظرية العقد، للشيخ محمد أبو زهرة: ص 86. (3) الأموال ونظرية العقد: ص 171. وعرفه المالكية بأنه: إعطاء منافع تتعلق بالعقار. انظر البهجة في شرح التحفة، للإمام أبي الحسن علي بن عبد السلام التسولي وهامشه، للإمام محمد التاودي: 2/251، الطبعة الثانية مطبعة مصطفى الحلبي 1370 هـ - 1951م بمصر. (4) شرح فتح القدير للإمام كمال الدين بن الهام على الهداية، للمرغنانى: 5/204، المطبعة التجارية بمصر. (5) البدائع: 6/89؛ للإمام علاء الدين بن مسعود الكاساني، مطبعة الجمالية بمصر 1328 هـ - 1910م. (6) البدائع: 6/190؛ للإمام علاء الدين بن مسعود الكاساني، مطبعة الجمالية بمصر 1328 هـ - 1910م. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1899 الفصل السابع البيع مبحث في تعريف البيع وشروطه تعريف البيع لغة: مبادلة مال بمال، أو مطلق المبادلة، أي سواء كان في مال أو غيره (1) . تعريف البيع اصطلاحًا: عرفه الحنفية: بأنه مبادلة مال بمال، بالتراضي (2) ، وعرفه منلا خسرو من الحنفية بأنه: مبادلة مال بمال بطريق الاكتساب أي التجارة، فخرج به المبادلة بطريق التبرع أو الهبة بشرط العوض، ولم يقل على سبيل التراضي، ليتناول بيع المكره، فإنه بيع منعقد وإن لم يلزم (3) . وعرفه الموصلي بتعريف أجمع وأحق فقال: هو مبادلة المال المتقوم بالمال المتقوم تمليكًا وتملكًا، ثم قال: فإن وجد تمليك المال بالمنافع فهو إجارة أو نكاح (4) . وعرف المالكية بأنه: عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة، ذو مكايسة أحد عوضية غير ذهب ولا فضة معين غير العين فيه (5) . فقوله: (على غير) ، أي على ذوات غير منافع. و (غير تمتع) ، أي انتفاع بلذة، فتخرج الإجارة والكراء والنكاح و (ذو مكايسة) وهي المغالبة وخرج بها هبة الثواب، وقوله: (أحد عوضيه غير ذهب ولا فضة) خرج به الصرف والمراطلة فإنه ليس أحد العوضين فيهما غير ذهب ولا فضة بل العوضان ذهب أو فضة في المراطلة، أو أحدهما ذهب والآخر فضة في الصرف. وقوله: (معين غير العين فيه) خرج السلم، فإن غير العين فيه ليس معينًا، بل في الذمة، والمراد بالعين ما ليس في الذمة فيشمل الغائب، فبيع الغائب ليس سلمًا (6) . وعرفه الشافعية بما عرفه القيلوبي وهو أفضل تعاريفهم: "عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين أو منفعة على التأبيد لا على وجه القربة". فخرج بقوله: (عقد) المعاطاة، وبـ (المعاوضة) نحو الهدية، وبـ (المالية) نحو النكاح، وبـ (إفادة ملك عين) الإجارة، و (بغير وجه القربة القرض) . والمراد بالمنفعة في هذا التعريف بيع نحو حق الممر، وأما التقييد بالتأبيد فلإخراج الإجارة (7) . وعرفه الحنابلة بأنه: "مبادلة عين مالية أو منفعة مباحة مطلقًا بأحدهما. أو بمال في الذمة للتملك على التأبيد غير ربا وقرض" (8) . فقولهم: (مبادلة عين مالية) مرادهم كل جسم أبيح نفعه واقتناؤه مطلقًا فخرج الخنزير والخمر والميتة النجسة ... وقولهم: (منفعة مباحة مطلقًا) ، أي لا تختص إباحتها بحال دون آخر، كممر دار أو بقعة تحفر بئرًا. وقولهم: (بأحدهما) أي عين مالية أو منفعة مباحة مطلقًا، نحو بيع كتاب بكتاب أو بممر في دار أو العكس. وقولهم: (أو بمال في الذمة) ، أي مبادلة عين مالية أو منفعة مباحة مطلقًا بمال في الذمة من نقد وغيره. وقولهم: (للتملك) احتراز عن الإعارة. وقولهم (على التأبيد) أي بأن لم تقيد مبادلة المنفعة بمدة أو عمل فتخرج الإجارة (9) .   (1) لسان العرب مادة: بيع، والاختيار لتعليل المختار: 2/3. (2) فتح القدير: 5/455. (3) درر الحكام في شرح غرر الأحكام: 2/142. (4) الاختيار: 2/3. (5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/2 والفواكه الدواني للشيخ أحمد غنيم النفراوي شرح رسالة أبي محمد القيرواني: 2/109 – الطبعة الثالثة – مطبعة مصطفى الحلبي 1374 هـ - 1955م بمصر. (6) حاشية الدسوقي في الشرح الكبير: 3/3 و4. (7) حاشية قليوبي: 2/152. (8) شرح منتهى الإرادات: 2/140. (9) شرح منتهى الإرادات: 2/140. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1900 شروط البيع: اشترط الفقهاء لصحة البيع شروطًا منها ما يتعلق بالصيغة، ومنها ما يتعلق بالمتعاقدين، ومنها ما يتعلق بالمعقود عليه ثمنًا كان أو مثمنًا. وهذا الأخير هو محل اهتمامنا ههنا. فقد اتفق الفقهاء وفي الجملة على اعتبار الشروط التالية في المعقود عليه سواء كان ثمنًا أو مثمنًا: فاشترطوا: 1- أن يكون المبيع طاهرًا، فلا يصح بيع نجس لا يمكن تطهيره سواء كان مبيعًا أو ثمنًا ونص على ذلك المالكية والشافعية. 2- وأن يكون المبيع مالًا منتفعًا به انتفاعًا شرعيًا. وما لا نفع فيه فليس بمال فلا يصح. فلا يصح بيع الحشرات التي لا نفع فيها، كما لا يصح بيع ما فيه منفعة محرمة كالخمر. واشترطوا في المبيع أن يكون مالًا متقومًا شرعًا، فلا ينعقد بيع الخمر ونحوه كما لا ينعقد بيع اليسير من المال، كحبة من حنطة؛ لأنها ليست مالًا متقومًا، وهذا الشرط متفق عليه. 3- وأن يكون مملوكًا للبائع ملكًا تامًا وقت البيع، وهو شرط انعقاد عند الحنفية، ونص على هذا الشرط الحنفية والشافعية والحنابلة. واستثني من ذلك السلم. 4- وأن يكون مقدورًا على تسليمه، وهو شرط انعقاد عند الحنفية، فلا يصح بيع السمك في الماء أو الطير في الهواء، كما لا ينعقد بيع المغصوب لعدم القدرة على تسليمه وهذا الشرط متفق عليه. 5- وأن يكون المبيع معلومًا لكل من العاقدين علمًا يمنع المنازعة والخلاف وهو شرط صحة عند الحنفية، فلا يصح بيع مجهول جهالة تفضي إلى منازعة كبيع شاة من قطيع. وهذا الشرط متفق عليه. وقد اشترط الحنفية شرطًا آخر وهو أن يكون المبيع مما يتعلق به الملك فلا ينعقد بيع العشب المباح ولو نبت في أرض مملوكة. وفي هذه الشروط تفصيل ينظر في مظانه (1) .   (1) انظر التفصيل: فتح القدير: 1/50؛ وحاشية ابن عابدين: 4/6 والاختيار: 2/5 وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/10 و15 و157 وجواهر الإكليل: 2/4؛ والمجموع: 9/157؛ وحاشية قليوبي وعميرة: 2/57 و157 و160 و180 وشرح منتهى الإرادات: 2/142 و145 والمغني: 4/276 والموسوعة الفقهية مصطلح بيع فقرة 27، طبع الكويت؛ والفقه على المذاهب الأربعة: 2/163. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1901 الفصل الثامن المُلك المبحث الأول تعريف الملك تعريف الملك في اللغة: قال ابن سيدة: المَلْك والمُلْك والمِلْك احتواءُ الشيء والقدرة على الاستبداد به (1) والمالكية هي العلاقة بين المال والإنسان، بالنظر إلى الإنسان، والمملوكية هي العلاقة بينهما لكن بالنظر إلى المال. تعريف الملك اصطلاحًا: تعدد تعاريف الفقهاء له (2) . فعرفه ابن السبكي بقوله: هو حكم شرعي يقدر في عين أو منفعة، يقتضي تمكن من ينسب إليه من انتفاعه، والعوض عنه من حيث هو كذلك (3) . وعرفه القرافي بقوله: هو حكم شرعي يقدر في العين أو المنفعة، يقتضي تمكن من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك، والعوض عنه من حيث هو كذلك (4) وعرفه قاسم بن عبد الله بن الشاط بقوله: هو تمكن الإنسان شرعًا بنفسه أو بنيابة من الانتفاع بالعين أو المنفعة، ومن أخذ العوض، وتمكنه من الانتفاع خاصة (5) . وعرفه صدر الشريعة بأنه: (اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقًا لتصرفه فيه وحاجزًا عن تصرف الغير) (6) . وقال الغزي من الحنفية: (الملك عبارة عن المطلق الحاجز) (7) . وعرفه الكمال بن الهمام بقوله: (هو قدرة يثبتها الشرع ابتداءً على التصرف) (8) . وعرفه أكمل الدين البابرتي بأنه (القدرة على التصرف في المحل شرعًا) (9) . قال ابن نجيم: وينبغي أن يقال: إلا لمانع، وهذا القيد لازم، لأنه قد يكون الشخص مالكًا ولا قدرة له على التصرف، كالمحجور عليه. والمبيع المنقول مملوك للمشتري ولا قدرة له على بيعه قبل قبضه. وعرفه الحاوي القدسي بأنه: الاختصاص الحاجز، وأنه حكم الاستيلاء؛ لأنه به يثبت لا غير، إذ المملوك لا يملك كالمكسور لا ينكسر؛ لأن اجتماع الملكية في محل واحد محال فلا بد أن يكون المحل الذي ثبت الملك فيه خاليًا عن الملك، والخالي عن الملك هو المباح، والمثبت للملك في المال المباح الاستيلاء لا غير (10) . وعرفه الزركشي بقوله: (هو القدرة على التصرفات التي لا تتعلق بها تبعة ولا غرامة دينار ولا آخرة. وقيل هو معنى مقدر في المحل يعتمد المكنة من التصرف على وجه ينفي التبعة والغرامة) (11) . وعرفه سعد الدين التفتازاني بقوله: (الملك: ما من شأنه أن يتصرف فيه بوصف الاختصاص) . (12) .   (1) لسان العرب مادة: ملك. (2) المبسوط: 13/122 و 4/116؛ الأشباه والنظائر لابن السبكي: ص 141؛ التلويح والتوضيح: 2/94، و98. (3) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 316. (4) الفروق: 3/208 وقد اعترض على هذا التعريف ابن نجيم فليراجع في الموضوع المذكور. (5) الفروق: 3/209 وقد اعترض على هذا التعريف ابن نجيم فليراجع في الموضوع المذكور. (6) شرح الوقاية في مسائل الهداية: 2/196. (7) حاشية الغزي على التلويح شرح التوضيح: 1/210. (8) فتح القدير: 5/74. (9) هامش فتح القدير: 5/73. (10) الأشباه والنظائر، لابن نجيم ص 346. (11) المنثور في القواعد، للإمام بدر الدين بن بهار الزركشي: 3/223، تحقيق د. تيسير فائق – الطبعة الأولى مطبعة الفليج 1402هـ - 1982م الكويت. (12) التلويح: 2/98؛ وحاشية ابن عابدين: 4/502 – الطبعة الثانية – مطبعة مصطفى الحلبي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1902 وعرفه ابن تيمية بأنه (القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة بمنزلة القدرة الحسية) (1) . وقد جمع الأستاذ مصطفى الزرقا بين هذه التعارف بتعريف جامع مانع وهو المختار بقوله: الملك: هو اختصاص حاجز شرعًا يسوغ صاحبه التصرف إلا لمانع (2) . وعرفه الشيخ محمد أبو زهرة بأنه: (اختصاص بالأشياء، الحاجز للغير عنها شرعًا الذي تكون القدرة على التصرف في الأشياء ابتداءً إلا لمانع يتعلق بأهلية الشخص) (3) . ومن تعاريف الفقهاء السابقة يتضح الفرق بين الملك والمال، فالملك أعم من المال بشموله للمال والمنفعة (4) . حتى على تعريف الحنفية للملك، ولكن لا يلزم عندهم من كون المنفعة قسيمة للمال أن تكون مالًا. فقالوا: (إن المنفعة ملك لا مال) . وذلك راجع إلى كون المنفعة يمكن التصرف فيها بوصف الاختصاص فساغ أن تكون مملوكة، لكن لما لم يكن ادخارها لحين الحاجة فارقت المال، لأن من شأنه عندهم أن يدخر للانتفاع به وقت الحاجة. أما الجمهور فلم يفرقوا هذه التفرقة، بل صرحوا كما في تعريف ابن السبكي والقرافي، بأن الملك يتناول العين والمنفعة. والتعريف المختار حينئذٍ يتناول الأعيان والمنافع والديون. فيكون الملك والحال هذه ليس أمرًا ماديًا له وجود في الخارج، بل هو حق يرد على الأعيان والمنافع والديون، أو هو علاقة تنشأ بين المالك والشيء المملوك فتكون العلاقة المالكية. ويترتب على هذه العلاقة أن يكتسب صاحب الملك حق التصرف ما لم يمنعه مانع من كونه ناقص الأهلية. أو كان المال مشتركًا أو مرهونًا أو غير ذلك، فالمنع هنا عن التصرف فحسب، وهذا لا ينافي الملكية لأنه منع عارض. ويلاحظ عند التدقيق أن اختلاف تعاريف الفقهاء للملك يرجع إلى اختلافهم في جهة النظر إلى الملك باعتبارات مختلفة، فمنهم من ينظر إلى كون الملك أمرًا شرعيًا اعتبره الشارع ومنع من الاعتداء عليه. ومنهم من نظر إلى تعريف الملك باعتبار العلاقة والرابطة بين صاحب الملك والشيء أو المال المملوك. ولعل أقرب هذه التعاريف إلى بيان حقيقة الملك وعناصره تعريف الإمام صدر الشريعة، لولا طوله فنختار عليه تعريف الأستاذ مصطفى الزرقا وهو أن الملك: (اختصاص حاجز شرعًا يسوغ صاحبه التصرف إلا لمانع) (5) . وتَوَصُّلًا إلى ما يساعد على تحديد ملكية الاسم التجاري ومعرفة طبيعته يحتاج إلى معرفة علاقة الملك بغيره فنتناول المفردات التالية: الملك والمنفعة، والملك والاختصاص، والملك والإباحة.   (1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: 29/178، الطبعة الأولى 1383هـ، مطابع الرياض. وقد فرق القرافي بين الملك والتصرف فقال: إن الملك عام يترتب على أسباب مختلفة: البيع، والهبة، والصدقة، والإرث، وغير ذلك فهو غيرها، ولا يمكن أن يقال: هو التصرف؛ لأن المحجور عليه يملك ولا يتصرف، فهو حينئذٍ غير التصرف، فالتصرف والملك كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه، فقد يوجد التصرف بدون الملك، كالوصي، والوكيل، والحاكم، وغيرهم يتصرفون ولا ملك لهم، ويوجد الملك بدون التصرف. كالصبيان، والمجانين، وغيرهم، يملكون ولا يتصرفون. ويجتمع الملك والتصرف في حق البالغين الراشدين النافذين للكلمة الكاملين الأوصاف، وهذا هو حقيقة الأعم من وجه والأخص من وجه أن يجتمعا في صورة وينفرد كل واحد منهما بنفسه في صورة كالحيوان والأبيض. انظر الفروق: 3/208. (2) المدخل الفقهي العام، للشيخ مصطفى الزرقا: 1/257. (3) الملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية، للشيخ محمد أبو زهرة: ص 61. (4) حاشية قليوبي وعميرة: 3/247. (5) والملك في القانون كما عرفه السنهوري: (أن حق ملكية الشيء هو حق الاستئثار باستعماله وباستغلاله وبالتصرف فيه على وجه دائم وكل ذلك في حدود القانون) . الوسيط: 8/493. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1903 المبحث الثاني الملك والمنفعة والاختصاص والإباحة (أ) الملك والمنفعة: العلاقة بين الملك والمنفعة علاقة من حيث المحل، وقد اصطلح الفقهاء على تقسيم الملكية من حيث المحل إلى ملكية تامة، وملكية ناقصة (1) . والملكية التامة: هي ملكية العين والمنفعة، فيتمتع المالك حينئذٍ بجميع الحقوق والتصرفات التي يمكنه الشارع منها، فيتصرف في العين والمنفعة. وفي مرشد الحيران: (الملك التام من شأنه أن يتصرف به المالك تصرفًا مطلقًا فيما يملكه، عينًا ومنفعة واستغلالًا، فينتفع بالعين المملوكة وبغلَّتها وثمارها ونتاجها، ويتصرف في عينها بجميع التصرفات الجائزة) (2) . والملكية الناقصة: هي ملكية المنفعة دون العين. أو العين دون المنفعة. وعلى هذا فالملكية التامة نوع واحد هو ملكية العين والمنفعة. وأما الملكية الناقصة فهي على أنواع: ملكية العين فقط، أو المنفعة فقط، أو الدين. على البيان التالي: أما ملك العين والمنفعة: فهذا هو الأصل في الممتلكات على جهة العموم فيما يملك بسببه كالبيع والهبة. قال ابن رجب في هذا النوع: هو (عامة الأملاك الواردة على الأعيان المملوكة بالأسباب المقتضية لها) (3) . وأما ملك العين: ويتحقق عند تملك الرقبة دون المنفعة، فتكون الرقبة مملوكة لشخص والعين لآخر. فلا يحق حينئذٍ لمالك العين أن يتصرف في المنفعة أو ينتفع بها، كما لا يجوز أن يتسبب في الإضرار بمالك المنفعة بتصرف في العين تصرفًا ضارًّا. ومثل له ابن رجب والسيوطي وغيرهما: (بالعبد الموصي بمنفعة أبدًا رقبته ملك للوارث) (4) ، (أو بالوصية بالمنافع لواحد وبالرقبة لآخر) (5) . وأما ملك المنفعة: ويتحقق عند تملك الإنسان حق الانتفاع كاستئجار دار للسكنى، قال ابن رجب: (ملك المنفعة بدون عين له ضربان: أحدهما ملك مؤبد ويندرج تحته صور عدة، منها: الوصية بالمنافع كما سبق، وهذه الصور تشمل جميع أنواعها إلا منفعة البضع ففيه خلاف، ومنها الوقف) . والضرب الثاني ملك غير مؤبد ومن هذا النوع الإجارة ومنافع المبيع المستثناة في العقد مدة معلومة، ومنه ما هو غير موقت لكنه غير لازم كالعارية على وجه، وإقطاع الاستغلال.   (1) حاشية قليوبي وعميرة: 3/247. (2) مرشد الحيران مادة: 11. (3) القواعد، لابن رجب ص 208، القاعدة السادسة والثمانون؛ والأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 326. (4) الأشباه والنظائر، للسيوطي: 326. (5) القواعد، لابن رجب: ص 209؛ ومرشد الحيران مادة 18. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1904 وأما ملك الانتفاع المجرد: فهو أن يملك الانتفاع دون المنفعة، وله صور منها: ملك المستعير، فإنه يملك الانتفاع لا المنفعة: ومنها المنتفع يملك جاره من وضع خشبة وممر في دار ونحو … (1) . وقال السيوطي: (كل من ملك المنفعة فله الإجارة والإعارة، ومن ملك الانتفاع فليس له الإجارة قطعًا، ولا الإعارة في الأصح) (2) . وأما ملك الدين: بأن يكون لشخص دين في ذمة آخر بسبب ما (كثمن مبيع على مشتريه، وبدل قرض على مقترضه، وقيمة مال متلف على من أتلفه ونحو ذلك، ولا يسمى دينًا إلا إذا كان المبلغ التزامًا في الذمة) (3) ، وعلى هذا فالوديعة إذا كانت نقودًا مثلًا هي من قبيل ملك العين لأنها أمانة، ولو تصرف بها عُدَّ غاصبًا فيضمن؛ لأن مبلغ الوديعة أصبح دينًا في ذمته. والجمهور على رأيهم في مضمون المال فيعتبرون الديون أموالًا لعدم اشتراطهم كون المال عينًا يمكن إحرازها – كما سبقت الإشارة – والحنفية كما هو أصل مذهبهم في مضمون المال لم يعتبروا الديون أموالًا حقيقة بحيث يتصور قبضها فقالوا: (الدين مال حكمًا لا حقيقةً، ولذا كانت البراءة منه تصح بلا قبول لعدم المالية الحقيقية) (4) ، (فهم يعتبرون الدين مالًا حكمًا لا حقيقةً، لكونه معدومًا، وإنما جعل مالًا لحاجة الناس إليه في المعاملات، فهو ليس بشيء حقيقة، ولكنه وصف حكمي يلحق بالأموال باعتبار أنه يصير مالًا بالقبض) (5) . لكن الراجح عند جمهورهم كما هو اتفاق الفقهاء: على أن الديون محل للملك وخالف في ذلك بعض الحنفية، وقالوا: إنها لا تملك، لأنها وصف شرعي. وفي حاشية ابن عابدين: (والحق ما ذكروا من ملكه) . وكذلك في فتح القدير (6) .   (1) القواعد، لابن رجب: ص 209؛ والأشباه والنظائر للسيوطي: ص326 (2) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص326. (3) المدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى الزرقا: 1/275. (4) فتح القدير: 5/250. (5) الملكية في الشريعة الإسلامية، للدكتور عبد السلام العبادي: 1/186. (6) حاشية ابن عابدين 4/299؛ وفتح القدير: 5/3، أفاد ذلك الدكتور عبد السلام العبادي في كتابه الملكية: 1/186. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1905 أسباب الملك الناقص: يثبت ملك المنفعة دون العين بأسباب متعددة: 1- الإجارة: فيملك المستأجر منفعة العين خلال مدة الإجارة، وله استيفاء المنفعة المقررة بنفسه. كما أن له أن ينقلها إلى غيره كأن يملكها لآخر بعوض أو بغير عوض بشرط ألا تختلف المنفعة باختلاف المستفيدين، فإن اختلفت احتاج إلى إذن المؤجر. 2- الإعارة: مذهب الحنفية – عدا الكرخي – ومذهب المالكية – وهو وجه للحنابلة – أن الإعارة تفيد تمليك المنفعة؛ لأن المعير سلط المستعير على تحصيل المنافع، وصرفها إلى نفسه على وجه زالت يده عنها، والتسليط على هذا الوجه يكون تمليكًا لا إباحة، كما في الأعيان. وعرفت بأنها: تمليك المنفعة بلا عوض (1) . ومذهب الشافعية والحنابلة والكرخي من الحنفية: أنها تفيد إباحة المنفعة؛ وذلك لجواز العقد من غير أجل، ولو كان تمليك المنفعة لما جاز من غير أجل بالإجارة. والإعارة تصح بلفظ الإباحة أيضًا. والتمليك لا ينعقد بلفظ الإباحة وعرفت بأنها: إباحة الانتفاع بملك الغير (2) . 3- الوصية: تملك منافع الأعيان بالوصية، ويجوز للموصى له أن يستوفي المنفعة بنفسه، أو يملكها غيره إذا لم تكن الوصية مفيدة. 4- الوقف: وتملك منافع الأعيان بالوقف لشخص أو مجموعة من الأشخاص، وتستوفي المنفعة بالنفس أو بالغير حسب شروط الواقف.   (1) الموسوعة الفقهية مصطلح (إعارة) : 5/188، مطبعة الموسوعة الفقهية 1405 هـ - 1984م الكويت. وانظر: مجمع الأنهر: 3/452؛ والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 353؛ وحاشية الدسوقي والشرح الكبير: 3/433؛ والفروق للقرافي: 1/193؛ والمغني: 5/227. (2) الموسوعة الفقهية: 5/188، وانظر حاشية قليوبي وعميرة: 3/17؛ وكشاف القناع: 2/334؛ والاختيار: 3/55. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1906 (ب) الملك والاختصاص: ينبغي التفرقة بين الملك والاختصاص كما فرق جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة. * فالاختصاص عند الجمهور: هو حق التصرف الناقص، ويكون للمنافع. فالمالكية حصروا الاختصاص بالمنافع، كإقطاع الإمام أرضًا من موات والسبق إلى المباحات، ومقاعد الأسواق والمساجد وما إلى ذلك (1) . * وقال الشافعية: (إن الملك يتعلق بالأعيان والمنافع، والاختصاص إنما يكون في المنافع، وقالوا: إن الاختصاص أوسع، ولهذا شواهد منها: أنه يثبت فيها لا يملك من النجاسات كالكلب، والزيت النجس، وجلد الميتة، ونحوه، ومنها: من قعد بنحو مسجد أو شارع، فإنه لا يزعج عنه) (2) * وذكر العز بن عبد السلام: أن (الاختصاص بالمنافع على أنواع وعد منها: الاختصاص بإحياء الموات بالتحجر والإقطاع، والاختصاص بالسبق إلى المباحات والاختصاص بالسبق إلى مقاعد الأسواق، والمساجد، والربط، والمدارس، ومواقع النسك) (3) . * قال الحنابلة: إن حق الاختصاص هو عبارة عما يختص مستحقه بالانتفاع به، ولا يملك أحد مزاحمته فيه، وهو غير قابل للشمول – أي شمول كل صور الانتفاع – والمعاوضات، ويدخل تحت ذلك صور – عدّوا منها: الكلب المباح اقتناؤه كالمعلم لمن يصطاد فيه، ومنها: الأدهان المتنجسة المنتفع بها بالإيقاد، وغيره على القول بالجواز، فأما نجسة العين كدهن الميتة، فالمنصوص أنه لا يجوز الانتفاع به، ومنها مرافق الأملاك كالطريق والأفنية، ومسيل الماء ونحوها، هل هي مملوكة، أو ثبت فيها حق الاختصاص؟ وفي المسألة وجهان: أحدهما: ثبوت حق الاختصاص فيها من غير ملك. والثاني: الملك، ومنها الإقطاع وهو ضربان، إقطاع إرفاق كإقطاع مقاعد السوق ورحاب المساجد، فهذه يجوز للإمام إقطاعها ولا يملكها المقطع، وإقطاع موات من الأرض لمن يحييها، ولا يملكه بل يصير أحق به (4) .   (1) حاشية الدسوقي: 4/68. (2) قواعد الزركشي: 3/234، وحاشية قليوبي وعميرة: 3/160؛ ونهاية المحتاج: 5/145 وراجع كلام الشافعية في بيع الاختصاص في حاشية قليوبي وعميرة: 3/92 و3/180 وعدم جريان الهبة فيه 3/110. (3) قواعد الأحكام: 2/86. (4) القواعد، لابن رجب ص 204 بتصرف يسير؛ والمغني: 6/166؛ وشرح منتهى الإرادات 2/327. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1907 * وأما الحنفية: فإنهم يعبرون عن (الاختصاص) بـ (الحق) أو (الاستحقاق) لكن مفهومه واحد عندهم كما هو عند الجمهور، والاختلاف في الفروع. ولا مشاحة في الاصطلاح. يقول الكاساني: (لو حجر الأرض لا يملكها بالإجماع، لأن الموات يملك بالإحياء، ولكن صار أحق بها من غيره حتى لم يكن لغيره أن يزعجه. لأنه سبقت يده إليه، وإذا نزل بأرض مباحة أو رباط، صار أحق بها، ولم يكن لمن يجيء بعده أن يزعجه عنها) (1) . وعلى هذا فيختلف الملك عن الاختصاص من حيث الموضوع ومن حيث ما يترتب على كل منهما من آثار. فالملك موضوعه ومحله كل ما أجاز الشارع الانتفاع به، ويترتب عليه حق الملك التام وحرية التصرف الكاملة. وأما الاختصاص فموضوعه ومحله المنافع أو المرافق العامة كالأسواق والطرق والأراضي الموات التي يقوم الشخص بتحديدها ووضع العلامات عليها، ومحله أيضًا ما حرمه الشارع ابتداء، وأجاز الانتفاع به في ظروف وحدود معينة كالانتفاع بجلد الميتة وكلب الصيد والحراسة – على خلاف بين الفقهاء في هذه الفروع. 5- الملك والإباحة: عرف الجرجاني الإباحة بأنها: الإذن بإتيان الفعل كيف شاء الفاعل في حدود الإذن (2) . وعرفها الزركشي بأنها: تسليط من المالك على استهلاك عين أو منفعة ولا تمليك فيها (3) . وعرفها الشيخ علي الخفيف بأنها: حق يُثْْبِتُ للإنسان أثرًا لإذنه بأن ينتفع (4) . والإباحة قد تكون خاصة بأن يأذن المالك بالانتفاع من العين سواء كان مالكًا للعين أو المنفعة. إما باستهلاكها، كأن يأذن له أن يأكل طعامه أو أن يأذن له بمنفعة العين، كأن يأذن له أن يستخدم دابته. ويترتب على الإباحة جواز التصرف بالعين أو المنفعة في حدود الإذن، دون أن يتعدى الجواز إلى التصرف بالانتفاع إلى العين تصرفًا مشعرًا بالملكية كأن يبيع أو يهب أو يؤجر. ولا يجوز الانتفاع لغير المأذون له، كما لا يجوز له أن يَكِلَ أو ينيب آخر، بل ينتفع بنفسه. وقد تكون الإباحة عامة وتكون حينئذٍ من الشارع إما للانتفاع كما في استخدام الطرق العامة والمصالح العامة. وإما للتمليك كإباحة الصيد وإحياء الموات. وعلى هذا فإن الأثر المترتب على الإباحة يختلف فيما إذا كان الإذن من الشارع أو من العباد، فإذن الشارع يفيد الملك أو الاختصاص. وإذن العباد فيه الخلاف بين الفقهاء، هل تناول المباح على ملك المبيح أو على ملك المباح له، وهل يرتفع الضمان مطلقًا. وخلافهم أيضًا في حكم المباح المستهلك، وفي المال المنثور على وجه الإباحة. والذي نميل إليه أن الإباحة لا تفيد في ذاتها تمليكًا، وإنما هي طريق إليه، والذي يملك تمليك المباح صاحبه مالك العين أو المنفعة ومجرد الإذن له ليس تمليكًا. (ولكنه بانتفاعه واستيفائه ما أذن فيه يتملك ما استوفاه، فالضيف يتملك الطعام بوضعه في فيه، ومن نثرت عليهم النقود في الأفراح والمحافل – حسبما جرت العادة – يملكونها بالتقاطها) (5) .   (1) البدائع: 6/195، كما استخدم الكاساني لفظ: (الاختصاص) في استدلاله على اعتبار الكلب مالًا، فقال: (والدليل على أنه منتفع به حقيقة مباح الانتفاع به شرعًا) ، والدليل على أنه مباح الانتفاع به شرعًا على الإطلاق أن الانتفاع به بجهة الحراسة والاصطياد مطلق شرعًا.. لأن شرعه يقع سببًا ووسيلة للاختصاص القاطع للمنازعة (البدائع: 6/3006، طبع مطبعة الإمام) . (2) التعريفات 2، بتصرف للإمام الشريف على بن محمد الجرجاني، الطبعة الأولى 1403 هـ 1983م بيروت. (3) قواعد الزركشي: 1/73. (4) أحكام المعاملات، للشيخ علي الخفيف: ص 42. (5) أحكام المعاملات، للشيخ علي الخفيف: ص 44، وتراجع المسألة وتفصيل خلاف الفقهاء في كتاب: "الإباحة عند الأصوليين والفقهاء" للدكتور محمد سلام مدكور ص 253 وما بعدها، الطبعة الثانية المطبعة العالمية 1965م بمصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1908 الفصل التاسع التكييف الشرعي للاسم التجاري إن معرفة طبيعة الاسم التجاري هي أساس الحكم الشرعي ومبناه ومبرره وكلما تحددت صفة وطبيعة الموضوع أمكن إلحاق الحكم الشرعي المناسب له. ولقد عرفت مفاصل الاسم التجاري – وما في حكمه – على وجه التفصيل، وجرى بحث الموضوع في الأطر التي تحكمه، أو التي يدخل هو مفرد في موضوعها، سواء في ذلك الجانب القانوني باعتباره المنظم للواقعة، أو الفقه الإسلامي باعتباره الجهة المطلوب منها الحكم الشرعي ليكون البديل المشروع في الواقعة محل البحث. وسوف نوضح طبيعة الاسم التجاري في أمرين يئول إليهما غيرهما، وينبني الحكم الشرعي على وفقهما: الأول: هو إثبات أن الاسم التجاري في مفهوم الفقه الإسلامي يعتبر حقًا. والثاني: أنه يعتبر منفعة. الأول: الاسم التجاري حق: يفهم من تعريف الاسم التجاري – السابق – من أنه "الاسم الذي ارتضى التاجر التعامل بوساطته ليميز منشأته عن نظائرها"، أنه في حقيقته عبارة عن علاقة تنشأ بين هذا الاسم التجاري المتضمن لسلع معينة وبين الجمهور، جسد هذه العلاقة جهد التاجر واجتهاده في تمييز سلعته وتجويدها بحيث اكتسب الاسم التجاري سمعة وشهرة جعل الإقبال عليه كبيرًا وتعارف جمهور الناس أو جمهور منه على صلاحيته، وجودة ما يشير إليه هذا الاسم دون غيره. ولا ريب أن صاحب الاسم التجاري لم يكتف بإطلاق اسم مجرد لسلعته أو بضائعه، وإنما ضمن هذا الاسم صفات ميزته عن غيره من الأسماء والسلع، ولا يتحقق ذلك إلا بنوع إتقان يعرف به، ويتفرد عما سواه، أو ينافس به غيره من الأسماء الجيدة السمعة، ولولا ذلك الإتقان ما كان لهذا الاسم مزية على غيره، ولكان اسمًا مجردًا لا قيمة له، فلا سمعة وشهرة حقيقية يخشى عليها حتى تطلب حمايتها. بل إن الاسم التجاري رديء السمعة يهبط بسعر السلعة عند إرادة بيعه وقد يكون ذلك سببًا في خسارة كبيرة. ولذلك يعمد راغب الشراء في اتخاذ اسم تجاري جديد، وفي هذا إشارة إلى أن الاسم التجاري طيب السمعة له قيمة ذاتية. ومن جانب آخر فإن التاجر الذي نجح في إيجاد اسم تجاري له سمعة وشهرة قد بذل جهدًا ذهنيًا وأموالًا ووقتًا ليس بالقليل حتى بنى هذا الاسم، وأنزله منزلة مقبولة لدى الكافة أو جمهور الناس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1909 ولا شك أن جهده هذا قد ساعده فيه استشاريون ومختصون ليضمن أحسن المواصفات لسلعه، وأفضل طرق ترويج هذه السلع وتسويقها، وهذا لا ريب كلفه أموالًا طائلة أخصها وأهمها ما بذله من دعاية لازمة لترويج الاسم التجاري. وقد أصبحت الدعاية اليوم من مستلزمات العمل الناجح لتزاحم الأصناف المتماثلة والمتشابهة إلى حد كبير يكاد يصل حد التطابق في المواصفات. فما لم يصاحب الاسم التجاري بيان وترغيب بأساليب متعددة، فإن السلع الجيدة تبور وتضيع قيمتها في غمرة الدعايات المؤازرة لأسماء تجارية أخرى مشابهة، أو قد تقل عنها جودة. فالدعاية للاسم التجاري ضرورية لإيجاد السمعة والشهرة، ولحماية هذه السمعة بعد تحققها، ولذا فإن التاجر محتاج إلى الاستمرار في الدعاية والإعلان بين الفينة والأخرى كي يأمن استمرار اسمه التجاري في الأذهان حيًا ومرغوبًا، بعيدًا عن المنافسة التي قد تستبدل به غيره. ولا ريب أن هذا بذل مادي ضخم، موضوعه وسببه الاسم التجاري، أو بمعنى أصح موضوعه السمعة والشهرة التي يمثل الاسم التجاري وعاءها وعنوانها. ولا يخفى أن الدعاية والإعلان لا تعني بالضرورة واقعًا حقيقيًا يمثل الاسم التجاري بالمواصفات التي تحملها عنه هذه الدعاية، فقد تكون دعاوى ليس لها في الواقع وجود، وهذا غش وتدليس لا ينفي المصلحة ولا يرفعها، ولكنه يشوب هذه المصلحة بنوع غش وخداع ينبغي كشفه، وحماية أصحاب المصالح المشروعة الجادين في أسمائهم التجارية منه، وحماية جمهور الناس من مثل هذه الدعايات الموهمة غير الواقع. وعلى كل الأحوال فإن العرف الجاري والتجربة المتكررة بين الناس تجعل للاسم التجاري الذي يعبر عن واقع وحقيقة إذا صحبته دعاية كافية رجحانًا على الاسم التجاري الذي يعبر عن زيف وخداع، وإن ضخمت دعايته فالبقاء للأصلح في أسواق الناس. فالاسم التجاري – والحال هذه – له واقع ملموس، كما أن له قيمة ذاتية مستقلة عن السلع التي يمثلها ويحتويها. وإلى جانب ذلك فإن للاسم التجاري أيضًا أهدافًا وأغراضًا يحققها، أخصها وأهمها أنه يحفظ السلع من التقليد والتزييف، ويوجد ارتباطًا وصلة وانطباعًا معينًا بينه وبين الجمهور، هذا الارتباط الذي ينتج ما نسميه السمعة والشهرة التجارية. ولا شك البتة أن هذه السمعة في حقيقتها وواقعها مصلحة فعلية بالنسبة للتاجر من جانب، ولعامة الناس المتعاملين من جانب آخر. فأما مصلحة التاجر: فإنه قد بذل من جهده وفكره وأمواله الشيء الكثير في سبيل هذا الاسم ليضمن لبضائعه رواجًا وسمعة ونجاحًا، فمن مصلحته الخاصة أن يتحقق له ذلك، وبالتالي فمن مصلحته أو من حقه أن يحمي جهده وفكره وأمواله، أو بمعنى آخر أن تحفظ قيمة اسمه التجاري، فلا يتعرض للتقليد أو التزييف، كما تحفظ سمعته من التشويه. والمصلحة ههنا هي عنوان الحق والدالة عليه، أو هي في الحقيقة الحق ذاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1910 وأما مصلحة العامة: فإن من مصلحة أفراد المجتمع عامة ومن حقهم أن يحصلوا على البضائع التي تحمل مواصفات جيدة يحتاجونها ويرغبون فيها. فمن حقهم – والحال هذه – أن يُحمى هذا الاسم التجاري المرغوب دفعًا للغش والتزييف، وهذا كله مرجعه عند التحقيق إلى مصلحة المجتمع ذاته، إذ من المصلحة الاجتماعية أن تخلو أسواق الناس من السلع الرديئة والمغشوشة، وتسوده السلع الجيدة، ويُمَكَّن أفراده من الحصول على البضائع ذات السمعة والشهرة التي تعبر حقيقة عن الجودة والصلاحية. ومن هذه الناحية يجب على الدولة أن تقر هذا الواقع وتحميه، فهو يمثل مصلحة اجتماعية عامة، ولا يكون لها ذلك إلا بحماية مصلحة التاجر صاحب الاسم التجاري المقبول، فهو السبب الفعلي في وجود هذه المصلحة، وهو بالتالي المُمَكَّن شرعًا من التصرف، فهو في كل ذلك صاحب حق ولا شك. فإذا كان هذا كله من شأن الاسم التجاري. فإنه لا ريب يعتبر في قواعد الشرع ومقاصده حقًا شرعيًا تجب حمايته، ومنع الاعتداء عليه، وترتيب الآثار الشرعية لصاحبه كاملة شأنه شأن الأعيان المملوكة. وقد أثبتنا سابقًا أن الحقوق أموال وهي من هذا الجانب يجري فيها الملك والاختصاص ما دام محلها مالًا أو له تعلق بالمال وكان قابلًا للتجزيء. فالاسم التجاري من هذا الوجه مال يجري فيه الاختصاص والملك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1911 الثاني – الاسم التجاري منفعة: تبين من تفصيل الموضوع سابقًا بما لا مجال للتردد فيه أن للاسم التجاري منفعة يشكل الاسم التجاري عنوانها ووعاءها، وتنسب المنافع حينئذ للاسم التجاري، وهذه المنافع أشبه بمنافع الأعيان ولكنها منافع إيجابية نامية، وقد تستمر في نموها وتوسيع رصيد عملائها، وقد يضمر ذلك تبعًا لعوامل خارجية وذاتية: من قوة الدعاية لها، وتطوير سلعتها، وإجادة تصنيعها وإتقانها، وتحسين الخدمات المقدمة، وما إلى ذلك. فنمو منافع الاسم التجاري يعتمد على مدى الجهد الذهني المبتكر، والجهد المالي، والنشاط العملي المبذول. وكلما كانت الجهود المبذولة مركزة وفعالة كلما كان ثبات الاسم التجاري ورسوخه ونماؤه وانتشاره كبيرًا. ولذا فإن مجال التنافس فيه كبير في سبيل تقديم الأفضل في جانبي الإبداع الفكري والحضاري. وهذا يشير إلى حقيقة أن الاسم التجاري إنما هو منفعة في مفهوم الفقه الإسلامي فيسري عليه ما يسري على منافع الأعيان سواء بسواء. لكن مع ملاحظة أن منافع الأعيان محدودة ثابتة مرتبطة بأعيانها لا تستوفي دونها. في حين أن منافع الاسم التجاري منفصلة عن مصدرها وهو صاحب إنتاجها وإبداعها بدلالة تصور إمكان بيع الاسم التجاري منفردًا عما يمثله من بضائع، وقد يستخدم لترويج نوع آخر من السلع وينفصل عن صاحبه ومبدعه لينتقل إلى آخر ويرتبط به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1912 ومن جانب آخر: فإن الاسم التجاري بما له من شهرة وسمعة لا يمثل في حقيقته المادة المصنعة أي لا يمثل محل الاتجار وعينه، فهذه المادة المصنعة هي بمثابة مصدر هذه الشهرة ومنبعها، ولا يبعد القول بأن الشهر والسمعة ثمرة هذه العين، وهي ثمرة غير محسوسة، أو بمعنى أصح منفعة غير محسوسة. وتأخذ هذه الثمرة قيمتها باعتبار مواصفات متميزة ومميزة لهذه العين عن غيرها. وعلى هذا فإن الاسم التجاري صفة معنوية مستقلة نتجت عن عين هي مادة تجارية بذل التاجر في سبيل إتقانها وتسويقها جهده فكريًا وماديًا، فهي والحال هذه ثمرة منفصلة ومستقلة عن مصدرها استقلالًا ماديًا، وهي وإن كانت ثمرة ومنفعة، إلا أنها تختلف عن منافع الأعيان التابعة والمرتبطة بمثل العقارات والمنقولات، من حيث إنّ مصدر منافع الأعيان، هي ذات الأعيان فحسب، في حين أن مصدر منافع الاسم التجاري الجهد الذهني والمادي المبذول في هذه الأعيان. ولما كان الاسم التجاري مصدره الجهد الذهني والمادي المنسوب لصاحبه، كان وجوده نسبيًا في السلع من النوع الواحد، وكان ذلك أدعى للتنافس والإبداع، مما يكسب الاسم التجاري المتميز شهرة وسمعة حقيقية. وهذا مما يحقق مقاصد الشارع في توفير الأصلح لمعايش الناس، وهذه مصلحة معتبرة شرعًا، فإذا تعارف الناس وتوافقوا على تفضيل اسم تجاري على آخر، كان هذا بمثابة مصلحة مستندها العرف. ولما كانت المصلحة منفعة – كما قررنا سابقًا – والمنفعة مال متقوم على رأي جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة ومتأخري الحنفية، وهي كذلك أموال متقومة على رأي متقدمي الحنفية إذا ورد العقد عليها تحقيقًا لمصلحة الناس، فإذا كان ذلك كذلك فيمكن القول إن الاسم التجاري يعتبر مالًا في الفقه الإسلامي لا ريب. وإذا كان الاسم التجاري منفعة ومالًا متقومًا صلح أن يكون محلًا للملك. لأن الناس تعارفوا على تموله وتقويمه واعتباره حتى جرى العرف بالاعتياض عنه بمقياس مدى ما فيه من منفعة متحصلة من استخدام مصدره. فعين الاسم التجاري ليس مقصودًا لذاته بقدر ما هو مقصود من تحصيل منافعه كما قال العز بن عبد السلام: "إن المنافع هي المقصود الأظهر من جميع الأموال" (1) ، إذ لا يمكن أن تحاز المنافع إلا بطريق حيازة أعيانها، وما دام العرف قد جرى بين الناس بالاعتياض عن الاسم التجاري فهو – والحال هذه – يمثل قيمة مادية، لأن الناس لا يعتاضون ما لا قيمة له، وما له قيمة هو مال؛ لأنه كما قال الشافعي – وسبقت الإشارة إليه -: "لا يقع اسم مال إلا على ما له قيمة يباع بها وتلزم متلفه، وإن قلت، وما لا يطرحه الناس" (2) ، فما يتموله الناس ولا يطرحونه فهذا منهم دليل على ماليته ومنفعته، ولذا رأينا قولهم: "إن مالا منفعة فيه ليس بمال فلا يقابل به" (3) . فكل ما فيه منفعة فيه قيمة، وبقدر المنفعة تكون القيمة أي المالية، فالمنفعة مناط القيمة، سواء في ذلك الأعيان أو المنافع أو الأمور المعنوية.   (1) قواعد الأحكام: 2/17. (2) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 327. (3) حاشية قليوبي وعميرة: 1/157. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1913 ومن جانب آخر فإن الجمهور كما رأينا يرى أن الملك علاقة معتبرة شرعًا بين المالك والمملوك وهذه العلاقة علاقة اختصاص، أو هو صفة شرعية يمنحها الشارع من يستحقها. والمال وصف شرعي كما قال الشاطبي: "المال ما يقع عليه الملك، ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه" (1) . فالمال هاهنا وصف شرعي، أو اعتبار من الشارع بوجود هذه العلاقة، وما تستتبعه من حق التصرف ومنع الغير من الاعتداء عليه. ويترتب على ذلك أن هذا الاعتبار الشرعي له دور في مالية الشيء، بل لولاه ما اعتبر الشيء مالًا، فكل ما يعتبره الشارع من هذا الوجه هو مال سواء أكان عينًا أم منفعة أم حقًا (2) . فمدار المالية على المنفعة عند فقهائنا لا على كون الشيء من الأعيان، قال البهوتي: "إن المال ما فيه منفعة مباحة " (3) . فقد يكون عينًا لا منفعة فيه فليس هو بمال حينئذ، وقد يكون غير عين تصحبه منفعة فيعتبر مالًا، إذا كانت المنفعة محترمة شرعًا، ومتقومة عرفًا، ويمكن إحرازها، ولا يحتم الفقهاء في تحقق ملك المنفعة ملك العين، وإنما يعتبرون إمكان الحيازة كافيًا في تحقق الملك. فإذا جرى الملك في الأعيان أو المنافع اعتبر المحل مالًا: "فإن جريان الملك في الأعيان يستلزم ماليتها ما دام الانتفاع به مباحًا شرعًا. وجريان الملك في المنافع يستلزم ماليتها شرعًا أيضًا على الراجح في الفقه الإسلامي المقارن والمعاوضة أساسها الملك " (4) ، وهي جارية عرفًا في الاسم التجاري وما في حكمه كالابتكار الذهني، وقد بين الشيخ علي الخفيف صفة المالية ومناطها، فقال: "ومن الفقهاء من صرح بأن (المالية) ليست إلا صفة للأشياء، بناء على تمول الناس، واتخاذهم إياها مالًا، ومحلًا لتعاملهم، ولذلك لا يكون إلا إذا دعتهم حاجتهم إلى ذلك، فمالت إليه طباعهم، وكان في الإمكان التسلط عليه، والاستئثار به، ومنعه من الناس، وليس يلزم لذلك أن يكون مادة مدخرة لوقت الحاجة، بل يكفي أن يكون الحصول عليها ميسورًا عند الحاجة إليها غير متعذر، وذلك متحقق في المنافع، فإذا ما تحقق ذلك فيها، عدت من الأموال، بناء على عرف الناس وتعاملهم" (5) ، "فالمنفعة تعتبر أساسًا للقيمة والمالية، ولو كانت ترفيهية يسيرة الشأن، كما في تغريد بلبل أو تصويت ببغاء" (6) . وعلى هذا كله يمكن القول مع الاطمئنان: أن الاسم التجاري منفعة ومال من جانب وهو حق في ذات الوقت من جانب آخر، ولما كانت الحقوق أموالًا يجري فيها الاختصاص والملك ما دام محلها مالًا، أو له تعلق بالمال، ويقبل التجزيء، فإن الاسم التجاري من هذا الوجه مال ومنفعة وحق.   (1) الموافقات: 2/17. (2) الحقوق أموال عند المالكية، انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/457، وسيأتي لذلك ذكر لاحقًا. (3) الإقناع: 2/59. (4) حق الابتكار، الدكتور فتحي الدريني: ص 30. (5) الملكية: 1/13. (6) حق الابتكار، الدكتور فتحي الدريني: ص 33 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1914 التصرف بالاسم التجاري: إن التصرف بالاسم التجاري – وما في حكمه – ينبني على الكلام في التكييف الفقهي الشرعي له، وقد استقر الرأي واطمأنت النفس تمامًا إلى القول بأن: الاسم التجاري حق ومنفعة ومال يجري فيه الملك … وما دام ذلك كذلك فإن الأصل أن تسري فيه، وتجري عليه جميع التصرفات الجارية في الأعيان. لكن لما كان موضوع الاسم التجاري والحكم الشرعي فيه مستجدًا، احتاج توثيق الحكم فيه إلى أمرين: تأصيله وتكييفه أو بيان طبيعته من جهة، وإثبات إمكان تطبيق هذا التأصيل على فروع المسألة من جهة أخرى، فإذا التقيا وتضافرا تأكد الاطمئنان في سلامة الحكم في أصل المسألة. ومن هنا كانت الحاجة إلى بيان مدى قبول الاسم التجاري لإجراء التصرفات عليه. بعد أن عرفنا تكييفه أمرًا ملحًا. فبناء على التكييف السابق نستطيع القول: إن جمهور الفقهاء على جواز بيع الاسم التجاري، وإجراء التصرفات عليه بمثل ما تجري على الأعيان سواء بسواء مع ملاحظة أمرين: الأول: اختلاف طبيعة الأعيان عن المنافع والحقوق. الثاني: أن يكون الاسم التجاري يعبر عن واقع حقيقي لا صوري، خاليًا عن الكذب والتزييف. وبيان ذلك يتضح في جانبين أساسين يجمعان شتات الموضوع ويسوغان القول بجواز إجراء التصرفات على الاسم التجاري. وهذا الجانبان هما: كون الاسم التجاري حقًا، وكونه مالًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1915 الجانب الأول - الاسم التجاري حق: فقد أثبتنا فيما سبق أن الاسم التجاري في حقيقته مصلحة وحق، وقد رأينا اتجاه جمهور الفقهاء إلى اعتبار العلاقة الاختصاصية المباشرة بين التاجر والاسم التجاري بحيث يكون مسئولًا مسئولية كاملة عن هذا الاسم التجاري تجاه الآخرين، وفي ذات الوقت يمتنع على الآخرين الاعتداء على هذا الاسم، حتى يكون الاعتداء عليه اعتداء على حق مالي متقرر ما دام الاسم التجاري يمثل منفعة ذات قيمة في عرف الناس، والعلاقة إذا كانت على هذا الوجه تكون في فقه الشرع علاقة حق عيني، فيكون الاسم التجاري حقًا عينيًا وماليًا إذ الحقوق أموال كما نص عليه المالكية سواء أكانت مالية أو غير مالية (1) مع استثناء الحقوق التي لا تقبل التجزيء – كما سبق التنويه -. الجانب الثاني - الاسم التجاري مال: إن الاسم التجاري مال لما فيه من منفعة كبرى، هي أهم منافع المتجر، بل إن المتجر دون هذا الاسم والشهرة والسمعة التي تجلب الجمهور لا معنى له، ولا قيمة تجارية حقيقية فيه. ولقد ثبتت هذه المنفعة وتأكدت من تعارف الناس والتجار منهم على سبيل الخصوص على اعتبار القيمة والمنفعة في هذا الاسم التجاري، فقبلوا التعارض فيه. والمعاوضة أساس الملك، والملك مال عند المالكية، ونظرًا لما فيه من قيمة فهو مال عند الشافعية والحنابلة – كما سبق بيانه -. وبالنظر إلى كل من هذين الجانبين سواء كانا مجتمعين أو منفردين تصلح كلها أن تكون محلًا للملك فيجري فيها – في خصوص الاسم التجاري – جريانه في غيرها من الأعيان، فالملك يتحقق دون نظر إلى كون محله عينًا أو منفعة أو أمرًا معنويًا ما دام بالإمكان حيازته واستيفاؤه أو الاختصاص به إذ الاختصاص يقوم مقام الحيازة فيما لا تقبل طبيعته الحيازة المادية كالديون. وإذا كان ذلك كذلك فإن الاسم التجاري يجري فيه الملك والاختصاص فيجوز التصرف فيه بالبيع والهبة والوصية وما إلى ذلك. كما يجري فيه الإرث ويلزم، كما يلزم ضمانه عند التلف، وفي الجملة يجزي فيه ما يجزي في الأعيان، إذ حاله من حالها فحكمه حكمها. مع مراعاة طبيعة كل منهما. هذا هو الحكم في أصل الموضوع، أما فروعه وتطبيقاته فينبغي أن يراعى فيها ما يشترط لصحة التصرف فيها من شروط. فيراعى في بيع الاسم التجاري أن لا يترتب على هذا البيع غرر من شأنه إبطال العقد وإفساده فبيع الاسم التجاري يلزمه بيع مضمونه فيما يدل عليه من جودة وإتقان ومواصفات للسلع المشمولة في وعائه. فإن انفصلت الجودة والإتقان عن ذات الاسم التجاري كان ذلك تدليسًا وغشًا لا يوقعه من توهم الجودة، ولما يوقعه من تغرير وتدليس للناس في إقبالهم على ذات السلع بناء على معهودهم في هذا الاسم التجاري الذي يستوعبها. فإن البيع في هذه الحال عقد باطل لما فيه من غرر في المثمن وهو الاسم التجاري. أما إذا انتقل الاسم التجاري مع ما يدل عليه من جودة بضائعه وثبات صفاته المعهودة لدى المتعاملين معه، فإن تغير صاحب الاسم التجاري لا يغير من الأمر شيئًا فقد انفصل الاسم بمزاياه وشهرته إلى غيره، فلا يترتب على هذا تدليس أو تغرير. يستوي في ذلك أن يكون محل البيع الاسم التجاري وما يستوعبه من سلع وملحقاتها، أو بيع الاسم التجاري منفردًا مع اشتراط أن ينشئ المشتري مضمونًا جديدًا من السلع لهذا الاسم بذات المواصفات والجودة المعهودة من ذي قبل. فإن لم يكن ذلك فيجب أن يعلن التاجر أو الجهة المسئولة للناس كافة: أن الاسم التجاري المعهود لم يعد يمثل ما كان داخلًا في مشتملاته ووعائه، وأن المشتملات قد تغيرت من حيث المواصفات والأنواع. فإن فعل ذلك ارتفع اللبس والغرر.   (1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/457. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1916 شبهة وردها: قد يقال: إنه ما دام الاسم التجاري كما تقرر هو حق عيني مالي متقرر، فينبغي ليصح أن يُمَكَّن صاحبه من سلطات الملك الثلاث وهي: الاستعمال والاستغلال والتصرف. ولا شك أن الاسم التجاري لا يمكن لصاحبه من أن يستعمله استعمالًا شخصيًا، فإذا تخلف عنصر من عناصر سلطة الملك، فلا يصح اعتباره محلًا للملك. فيرد على هذا: بأن "الملك في جوهره علاقة اختصاصية، أو حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة كما يقول الإمام القرافي في فروقه، والإمام السيوطي في نظائره، ذلك هو مناط الملك، وأما السلطات فآثار الملك لا عينه، والشأن في الملك أن تكون له هذه الآثار، لكن ثبوت هذه الآثار جميعها ليس مناطًا لثبوت الملك نفسه، فالملك يثبت بإحداها ما دام قد تحقق مناطه وهو الاختصاص. ألا ترى إلى حق المرور، هو حق متقرر لمنفعة عقار على عقار آخر، يثبت لصاحبه سلطة الاستعمال فقط دون الاستغلال؟ والموقوف عليهم للسكنى يثبت لهم حق الاستعمال كذلك دون الاستغلال؟ وهذا لا ينفي أن يكون لهم حق في ملك المنفعة على هذا الوجه " (1) . "فلا أثر إذن لتخلف ثمرة من ثمرات الملك على ثبوت معنى الملك نفسه، فإذا كان الشأن في الملك أن تثبت سلطاته الثلاث جميعًا، لكن ذلك ليس من مستلزماته" (2) ، وعلى هذا فلا ريب أن الاسم التجاري يثبت فيه حق الملك فيما له من سمعة وشهرة وقيمة وإن تخلف أحد سلطات الملك فيه ما دام تخلفها راجعًا إلى طبيعتها، وهذا لا يهدم الملك ولا ينقصه. الدكتور عجيل جاسم النشمي   (1) حق الابتكار، للدكتور فتحي الدريني: ص 48، وقد ساق ذلك في معرض كلامه على "حق الابتكار"، وحق الابتكار قسيم الاسم التجاري في مقسم الحقوق المعنوية، فما يجري على حق الابتكار من حيث الجملة يجري على الاسم التجاري من حيث طبيعة كل منهما. وقد أفدت منه في هذا الجانب، فلينظر المرجع المذكور: ص 41-48. (2) الملكية، للشيخ علي الخفيف: 1/99، عن المرجع السابق ذكره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1917 المراجع مُرتبة على حروف المعجم 1- الإباحة عند الأصوليين والفقهاء، للدكتور محمد سلام مدكور – الطبعة الثانية – المطبعة العالمية – 1965م بمصر. 2- الاختيار لتعليل المختار، للإمام عبد الله الموصلي – الطبعة الثالثة – 1395 هـ - 1975م بمصر. 3- أحكام المعاملات الشرعية، للشيخ علي الخفيف – الطبعة الثانية 1363 هـ - 1944م بمصر. 4- الأشباه والنظائر في قواعد فروع الشافعية، للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي – الطبعة الأخيرة – مطبعة مصطفى الحلبي 1378 هـ - 1959م بمصر. 5- الأشباه والنظائر لابن نجيم 6- الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، للإمام شرف الدين المقدسي – المطبعة المصرية بالأزهر. 7- الأموال ونظرية العقد، للدكتور محمد موسى – الطبعة الأولى 1372 هـ - 1990م. 8- الإنصاف في الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، للعلامة علاء الدين علي بن سليمان المرداوي – الطبعة الأولى – مطبعة السنة المحمدية 1376 هـ - 1956م. 9- البحر الرائق شرح كنز الدقائق، للإمام زين الدين بن نجيم – الطبعة الثانية بمصر. 10- بدائع الصنائع، للإمام علاء الدين زين الدين بن مسعود الكاساني – مطبعة الجمالية 1328 هـ 1910م بمصر. 11- بداية المجتهد ونهاية المقتصد، للإمام محمد بن أحمد بن رشد القرطبي – الطبعة الثانية – مطبعة مصطفى الحلبي 1370 هـ - 1951م بمصر. 12- البهجة شرح التحفة، للإمام أبي الحسن علي بن عبد السلام التسولي – الطبعة الثانية – مطبعة مصطفى الحلبي 1370 هـ - 1951م بمصر. 13- بين الشريعة والقانون الروماني، للدكتور صوفي أبو طالب – طبع مكتبة نهضة مصر. 14- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، للحافظ المباركفوري – الطبعة الثانية، دار الاتحاد العربي للطباعة 1385 هـ - 1965م بمصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1918 15- تحفة المحتاج بشرح المنهاج، للإمام شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي بحاشية الشيخ عبد الحميد الشرواني والشيخ أحمد بن قاسم العبادي – طبع بولاق بمصر. 16- التشريع الصناعي، للدكتور محمد حسني عباس – دار النهضة العربية 1967 م بمصر. 17- التعريفات، للإمام الشريف علي بن محمد محمد الجرحاني – الطبعة الأولى 1403 هـ - 1983م بيروت. 18- التلويح على التوضيح شرح التنقيح، للإمام صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود، والشرح للإمام سعد الدين التفتازاني. 19- جواهر الإكليل شرح مختصر الإمام خليل، للشيخ صالح عبد السميع الآبي – الطبعة الثانية – مصطفى الحلبي 1366 هـ -1947م بمصر. 20- حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، للعلامة محمد أمين الشهير بابن عابدين – الطبعة الخامسة – مصطفى الحلبي 1386 هـ -1966م بمصر. 21- حاشية العلامة محمد عرفة الدسوقي على الشرح الكبير، للإمام أحمد الدردير – طبع دار إحياء الكتب العربية بمصر. 22- حاشية العدوي على شرح عبد الباقي الزرقاني لمتن خليل – الطبعة الأولى – المطبعة الأميرية بولاق 1306 بمصر. 23- حاشية الإمامين شهاب الدين القليوبي وعميرة على منهاج الطالبين، للإمام محيي الدين النووي بشرح العلامة جلال الدين المحَلَّي – طبع دار إحياء الكتب العربية بمصر. 24- حق الابتكار في الفقه الإسلامي المقارن، للدكتور فتحي الدريني، طبع مؤسسة الرسالة – الطبعة الثالثة 1404 هـ - 1984 م بيروت. 25- حق الملكية، للدكتور عبد المنعم فرج الصده – الطبعة الثالثة – مطبعة مصطفى الحلبي 1967م بمصر. 26- درر الحكام شرح غرر الأحكام، للعلامة منلا خسرو وبهامشه حاشية العلامة الشرنبلالي. 27- رد المحتار على الدر المختار، للعلامة محمد أمين المعروف بابن عابدين طبع الأميرية 1323 هـ بمصر. 28- شرح فتح القدير، للإمام كمال الدين بن الهمام على الهداية، للمرغناني – المطبعة التجارية بمصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1919 29- شرح المنار وحواشيه من علم الأصول، للإمام عبد العزيز بن ملك على متن المنار، للإمام عبد الله حافظ الدين النسفي وعليه حاشيتا الإمامين عزمي زاده وابن الحلبي – طبع دار سعادة 1315 هـ استانبول. 30- شرح منتهى الإرادات، للإمام منصور بن يونس البهوتي – نشر عالم الفكر. 31- الشريعة الإسلامية تاريخها ونظرية الملكية والعقود، للدكتور بدران أبو العينين بدران – نشر مؤسسة شباب الجامعة بمصر. 32- عون المعبود شرح سنن أبي داود، للحافظ ابن قيم الجوزية – الطبعة الثانية 1388 هـ - 1969 م المدينة المنورة. 33- الفتاوى البزازية، للإمام محمد بن محمد البزاز بهامش الفتاوى الهندية – الطبعة الثانية الأميرية 1310 هـ بمصر. 34- فتاوى شيخ الإمام أحمد بن تيمية – الطبعة الأولى – مطابع الرياض 1383 هـ الرياض. 35- الفروق، للإمام شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي – مطبعة إحياء الكتب العربية – الطبعة الأولى 1346 هـ بمصر. 36- الفقه على المذاهب الأربعة، للشيخ عبد الرحمن الجزيري – الطبعة السادس بمصر. 37- الفواكه الدواني، للشيخ أحمد غنيم النفراوي شرح رسالة أبي محمد القيرواني – الطبعة الثالثة – مصطفى الحلبي 1374 هـ - 1955 م بمصر. 38- القانون التجاري، للدكتور علي حسن يونس. 39- القانون التجاري، للدكتور محمد حسني عباس – دار النهضة العربية 1966م مصر. 40- قواعد الأحكام، للإمام العز بن عبد السلام. 41- القواعد في الفقه الإسلامي، للإمام عبد الرحمن بن رجب الحنبلي – الطبعة الأولى 1392 هـ 1973م بمصر. 42- كشف الأسرار عن أصول البزدوي، للإمام عبد العزيز البخاري. 43- لسان العرب، لابن منظور. 44- مبادئ القانون التجاري، للدكتور مصطفى كمال طه – الطبعة الأولى – دار المعارف 1962م بمصر. 45- المبسوط للإمام شمس الدين السرخسي – الطبعة الأولى – مطبعة السعادة بمصر. 46- مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر – الطبعة الأميرية بمصر. 47- المجموع شرح المهذب، لأبي زكريا النووي – مطبعة الإمام بمصر. 48- مجلة الأحكام العدلية – الطبعة الخامسة 1388 هـ - 1968 م. 49- محاضرات في الحقوق العينية الأصلية، للدكتور سعيد عبد الكريم مبارك – دار الطباعة الحديثة 1970م البصرة. 50- المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي، للشيخ مصطفى أحمد الزرقا – الطبعة الثالثة – مطبعة الجامعة 1377 هـ - 1958م دمشق. 51- مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان، للعلامة محمد قدري باشا – الطبعة الأولى 1338 هـ بمصر. 52- مصادر الالتزام في قانون التجارة الكويتي مقارنًا بالفقه الإسلامي والمجلة، للدكتور عبد الفتاح عبد الباقي. 53- مصادر الحق في الفقه الإسلامي، للدكتور عبد الرزاق السنهوري – مطبعة دار المعارف 1967م بمصر. 54- المصباح المنير، للعلامة الرافعي. 55- مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، للعلامة مصطفى السيوطي الرحيباني – منشورات المكتب الإسلامي – بيروت. 56- المعاملات الشرعية، للشيخ أحمد أبو الفتوح. 57- المعاملات الشرعية، للشيخ أحمد إبراهيم – الطبعة الثانية – لجنة التأليف والترجمة 1363 هـ - 1944 بمصر. 58- مغني المحتاج، للإمام الخطيب الشربيني على متن منهاج الطالبين، للإمام محيي الدين حيي بن شرف النووي – مطبعة الاستقامة 1374 هـ - 1955 م بمصر. 59- المغني، لابن قدامة المقدسي – طبع سجل العرب 1389 هـ - 1969م وطبع المنار 1347 هـ بمصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1920 60- الملكية في الشريعة الإسلامية، للدكتور عبد السلام داود العبادي – طبع وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – الطبعة الأولى 1394 هـ - 1974م الأردن. 61- الملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية، للشيخ محمد أبو زهرة – دار الفكر العربي بمصر. 62- المنثور في القواعد، للإمام بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي – تحقيق د. تيسير فائق- الطبعة الأولى – مطبعة الفليج 1402 هـ 1982م الكويت. 63- الموجز في شرح قانون التجارة الكويتي، للدكتور عبد العزيز العكيلي – الطبعة الأولى 1398 هـ -1978 م الكويت. 64- الموافقات في أصول الأحكام، للإمام أبي إسحاق إبراهيم اللخمي الشاطبي – مطبعة المدني – الطبعة الثانية 1395 هـ - 1975م بمصر. 65- الموسوعة الفقهية – مطبعة الموسوعة الفقهية – دولة الكويت. 66- الميراث والوصية، للشيخ محمد زكريا البرديسي – طبع الدار القومية للطباعة والنشر 1383 هـ - 1964 م بمصر. 67- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، للإمام محمد بن أبي العباس الرملي – نشر المكتب الإسلامية بمصر. 68- نيل المآرب بشرح دليل الطالب، للشيخ عبد القادر بن عمر الشيباني، تحقيق الدكتور محمد الأشقر – الطبعة الأولى نشر مكتبة الفلاح 1403 هـ - 1983 م الكويت. 69- الوجيز في الملكية الصناعية والتجارية، للدكتور صلاح الدين الناهي – الطبعة الأولى – دار الفرقان 1409 هـ - 1984م الأردن. 70- الوسيط في شرح القانون المدني للدكتور عبد الرزاق السنهوري – الطبعة الثانية دار النهضة العربية 1964م بمصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1921 بيع الحقوق المجردة إعداد الشيخ محمد تقي العثماني بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين ورحمة العالمين، وعلى آله وأصحابه الذين رفعوا معالم الدين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فقد ظهرت اليوم أنواع من الحقوق الشخصية التي ليست أعيانًا في نفسها، ولكن شاع تداولها في الأسواق عن طريق البيع، وقد أقرت القوانين الوضعية بجواز بعضها، ومنعت من تداول بعضها، ولكن الأسواق مكتثة بمثل هذه المعاملات. وهي على سبيل المثال: خلو الدور والحوانيت، وحق استعمال اسم تجاري مخصوص أو علامة تجارية خاصة (Trade Mark) أو الترخيص التجاري (License) وما يسمى في اللغة المعاصرة: حقوق الملكية الذهنية، أو الأدبية والفنية (Intellectual Property) مثل حق التأليف والنشر، وحق الابتكار، وحق الرسام في لوحاته المبتكرة. وجميع هذه الحقوق تعتبر في العرف التجاري المعاصر مملوكة تجري عليها أحكام الأموال والأملاك الشخصية، فإنها تباع وتشترى، وتؤجر وتوهب وتورث، شأن الأعيان والأموال المادية سواء بسواء. فالمسألة المطروحة أمامنا: هل يجوز في الشريعة الإسلامية أن تعتبر هذه الحقوق أموالًا يصح بيعها وشراؤها، أو الاعتياض عنها بصورة من الصور المشروعة، أم لا يجوز ذلك؟ ولم تكن المسألة في عهد الفقهاء القدامى بهذا الشكل الواسع، فمن الطبيعي أن لا يوجد في كتبهم جواب خاص عن جزئياتها الموجودة في عصرنا، غير أنهم تحدثوا عن كثير من الحقوق ومسألة الاعتياض عنها حسب ما كان موجودًا أو متصورًا في عصرهم، فمنهم من منع الاعتياض عن الحقوق المجردة، ومنهم من أجاز بعض الأنواع منها. ولو استقصينا ما كتبه الفقهاء في هذا الباب لوجدنا أن أنواع الحقوق كثيرة، وعبارات الفقهاء فيها مختلفة، ولم أظفر بعد بكلمة جامعة تشمل جميع أنواع الحقوق، ويوضح الضابط الذي يمكن أن تبنى عليه المسائل في الموضوع، فنحتاج أن نستخرج الضوابط في هذا الباب من دلائل القرآن والسنة، والجزئيات المبعثرة في كتب الفقه التي يمكن أن تصير نظائر لما نحن بصدده، ونسأل الله تعالى أن يسدد خطانا ويشرح صدورنا بما فيه حق وصواب حسب ما يرضاه سبحانه وتعالى، وهو الموفق والمعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1922 والذي يتحصل من استقراء الحقوق التي تحدث الفقهاء عن الاعتياض عنها، أنها تنقسم إلى نوعين: 1- الحقوق الشرعية، وهي التي ثبتت من قبل الشارع، ولا مدخل في ثبوتها للقياس. 2- الحقوق العرفية، وهي التي ثبتت بحكم العرف، وأقره الشرع. ثم كل واحد من هذين النوعين ينقسم إلى قسمين: الأول: الحقوق التي شرعت لدفع الضرر عن أصحابها. الثاني: الحقوق التي شرعت أصالة. والحقوق الثابتة أصالة تنقسم إلى أقسام: 1- الحقوق التي هي عبارة عن منافع مؤبدة في ذوات الأشياء، مثل حق المرور وحق الشرب، وحق التسييل وغيره. 2- الحقوق التي تثبت بسبق يد الرجل إلى شيء مباح، وتسمى حق الأسبقية أو حق الاختصاص. 3- الحقوق التي هي عبارة عن حق إحداث عقد مع آخر أو إبقائه، مثل حق استئجار الأرض، أو الدار، أو الحانوت، أو حق البقاء في وظيفة من وظائف الوقف. ثم إن الاعتياض عن الحقوق يمكن بطريقين: الأول: الاعتياض عن طريق البيع،وحقيقته نقل ما كان يملكه البائع إلى المشتري بجميع مقتضيات النقل. الثاني: الاعتياض عن طريق الصلح والتنازل، وحقيقته أن التنازل يسقط حقه، ولكن لا ينتقل الحق إلى المنزول له بمجرد نزوله، ولكن يزول مزاحمة النازل بمقابلة المنزول له. وقد ذكر الإمام القرافي رحمه الله الفرق بين الطريقين، حيث قال: " اعلم أن الحقوق والأملاك ينقسم التصرف فيها إلى نقل وإسقاط، فالنقل ينقسم إلى ما هو بعوض في الأعيان، كالبيع والقرض … وإلى ما هو بغير عوض كالهدايا والوصايا … فإن ذلك كله نقل ملك في أعيان بغير عوض. وأما الإسقاط فهو إما بعوض كالخلع، والعفو على مال … فجميع هذه الصور يسقط فيها الثابت، ولا ينتقل إلى الباذل ما كان يملكه المبذول له من العصمة وبيع العبد ونحوهما " (1) . فنريد أولًا أن مذكر هذه الأنواع من الحقوق التي ذكرها الفقهاء في كتبهم، ونتكلم على كل منها على حدة، بذكر ما قال فيه الفقهاء رحمهم الله تعالى، فنستخلص من كلامهم ما يدلنا على الحكم الشرعي في هذه الحقوق التي شاع تداولها بين الناس، والتي نريد أن نعرف حكم الاعتياض عنها والله سبحانه وتعالى هو الموفق والمعين.   (1) الفروق للقرافي: 3/110، - الفرق التاسع والسبعون -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1923 الحقوق الشرعية: والذي نقصد باصطلاح " الحقوق الشرعية " أنها حقوق ثبتت من قبل الشارع، ولا مدخل فيها للقياس، بمعنى أنها لم تثبت لأصحابها إلا بنص جلي أو خفي من قبل الشارع، ولولا ذلك النص ما ثبتت. مثل حق الشفعة، وحق الولاء، وحق الوراثة، وحق النسب، وحق القصاص، وحق التمتع بالزوجة، وحق الطلاق، وحق الحضانة والولاية، وحق المرأة في قسم زوجها لها. وإن هذه الحقوق على قسمين: الأول: حقوق ليست ثابتة أصالة، وإنما أثبتها الشارع لدفع الضرر عن أصحابها ونستطيع أن نسميها " الحقوق الضرورية ". الثاني: حقوق ثبتت لأصحابها أصالة، لا على وجه دفع الضرر، ونستطيع أن نسميها: " الحقوق الأصلية ". الحقوق الضرورية: فأما القسم الأول من هذه الحقوق وهي الحقوق الضرورية، فمثاله حق الشفعة، فإنه ليس حقا ثابتًا بالأصالة، لأن الأصل أن المتبايعين إذا عقدا بيعًا عن تراض منهما، فلا حق للثالث أن يتدخل بينهما، ولكن الشريعة إنما أثبتت حق الشفعة للشريك والخليط والجار لدفع الضرر عنهم. وكذلك حق المرأة في قسم زوجها لها، إنما شرع لدفع الضرر عنها، وإلا فالزوج له الخيار في أن يتمتع بزوجته ويبيت عندها متى شاء. ويدخل فيه حق الحضانة، وولاية اليتيم، وخيار المخيرة. وحكم هذا النوع من الحقوق أنه لا يجوز الاعتياض عنها، لا عن طريق البيع، ولا عن طريق الصلح والتنازل بمال. والدليل عليه عقلا: أن الحق لم يكن ثابتًا لصاحبه أصالة، وإنما ثبت له لدفع الضرر عنه، فإن رضي بإعطائه لغيره، أو تنازل عنه لآخر، ظهر أنه لا ضرر له عند عدمه، فيرجع الأمر إلى الأصل، وهو عدم ثبوت الحق له، فلا يجوز له أن يطالب على ذلك بعوض، كالشفعة إذا تنازل عنها الشفيع، ظهر أنه لا ضرر له في البيع الذي كان سببًا لثبوت حقه فانتفى حقه في نقض ذلك البيع، ولا يجوز إذن أن يأخذ على ذلك مالًا. وكذلك حق القسم للمرأة كان لدفع الضرر عنها، فلما تنازلت عنه ظهر أنها لا تتضرر بترك القسم، فلا يجوز لها أخذ العوض على هذا التنازل. ومثله المرأة المخيرة من قبل زوجها بقوله " اختاري " لها الخيار في فسخ نكاحها منه دفعًا للضرر عنها، فلو قالت: أختار زوجي وأبطل هذا الخيار بمال يعطيني، ظهر أنه لا ضرر لها في بقائها مع زوجها، فلا تستحق أخذ العوض على ذلك. وكذلك زوجة العنين لها أن تفسخ نكاحها من زوجها العنين لدفع الضررعن نفسها فإن رضيت البقاء معه بمال، ظهر أنها لا تتضرر ببقاء النكاح، فلا يجوز أخذ العوض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1924 الحقوق الأصلية: وأما النوع الثاني من الحقوق الشرعية، فهي الحقوق التي ثبتت لأصحابها أصالة، لا على وجه دفع الضرر فقط، ومثل حق القصاص، وحق تمتع الزوج بزوجته بقاء نكاحها معه، وحق الإرث، وما إلى ذلك. وحكم هذا النوع من الحقوق أنه لا يجوز الاعتياض عنها بطريق البيع، بأن ينتقل به الحق إلى المشتري، فيستحق به ما كان يستحقه البائع، فلا يجوز لولي قتيل أن يبيع حق الاقتصاص إلى رجل آخر، بأن يستحق ذلك الرجل استيفاء القصاص بدله، وكذلك لا يجوز لرجل أن يبيع حق تمتعه بالزوجة إلى غيره ليتمتع هو بها، ولا يجوز لوارث أن يبيع حق إرثه إلى رجل آخر، بحيث يرث هو عوضًا عن الوارث الحقيقي. لأن هذه لحقوق إنما أثبتها الشارع لرجل مخصوص بصفة مخصوصة، مهما تنتفِ هذه الصفة تنعدم الحقوق، فحق القصاص إنما أثبته الشارع لولي المقتول بصفة كونه وليًا له، فإذا انتفت الولاية انتفى الحق. وبعبارة أخرى، إن هذه الحقوق لا تقبل الانتقال من واحد إلى آخر شرعًا، فلا تباع ولا توهب، ولا تورث، ووراثة حق القصاص ليس وراثة حقيقة، وإنما هو حق يثبت للوارث أصالة عند عدم الولي الأقرب، لا من حيث إنه ينتقل من الولي الأقرب إلى وارثه. فبما أن الشريعة لا تأذن بنقل هذه الحقوق من واحد إلى آخر، فلا يجوز الاعتياض عنها بطريق البيع والمبادلة، ومأخذ هذا الحكم حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته)) (1) . ولكن هذه الحقوق يجوز الاعتياض عنها بطريق الصلح والتنازل بمال، بمعنى أن المستحق في هذه الحقوق يمسك عن استعمال حقه بمال يطالب به من يتضرر باستعمال ذلك الحق. مثل ولي القتيل إذا استحق القصاص، فإنه يباح له أن يصالح القاتل على مال، وإن هذا المال بدل لإمساك صاحب الحق عن استيفاء حقه، وإنما يبذله القاتل دفعًا لضرر الموت عن نفسه، وهذا جائز بنص القرآن والسنة وبإجماع أهل العلم. وكذلك الزوج له الحق في أن يتمتع بزوجته ببقاء نكاحها معه، ولكنه يمسك عن استعمال هذا الحق بمال تفتدي به المرأة، وهو الخلع والطلاق على مال، وذلك جائز بنص القرآن، وعلى ذلك انعقد الإجماع. وإن هذا الفرق بين الحقوق الضرورية والحقوق الأصلية قد ذكره البيري من الفقهاء الحنفية في شرحه على الأشباه والنظائر (2) وحكاه ابن عابدين رحمه الله ولخصه بقوله: " وحاصله أن ثبوت حق الشفعة للشفيع، وحق القسم للزوجة، وكذلك حق الخيار في النكاح للمخيرة إنما هو لدفع الضرر عن الشفيع والمرأة، وما ثبت لذلك لا يصح الصلح عنه، لأن صاحب الحق لما رضي علم أنه لا يتضرر بذلك، فلا يستحق شيئًا. أما حق الموصى له بالخدمة، فليس كذلك، بل ثبت له على وجه البر والصلة، فيكون ثابتًا له أصالة، فيصح الصلح عنه إذا نزل عنه لغيره، ومثله ما مر عن الأشباه من حق القصاص والنكاح والرق، حيث صح الاعتياض عنه، لأنه ثابت لصاحبه أصالة، لا على وجه دفع الضرر عن صاحبه " (3) . ولكن جواز هذا الاعتياض على وجه الصلح إنما يجوز إذا كان هناك حق ثابت قائم كما في حق القصاص وحق بقاء النكاح والرق. أما إذا كان حقا متوقعًا في المستقبل، غير ثابت في الحال، فإن ذلك لا يجوز الاعتياض عنه، لا عن طريق البيع، ولا عن طريق الصلح. وذلك مثل حق الوراثة في حياة المورث، لا يجوز التنازل عنه بمال، لأن حق الوراثة في حياة المورث ليس حقًا ثابتًا، بل هو حق متوقع يحتمل الثبوت وعدمه، وإنما يتقرر بموت المورث، وكذلك حق الولاء في حياة المولي حق غير متقرر، وإنما يتأكد بموته فلا يصح التنازل عنه. وأما بعد موت المورث أو الولي، فإن ذلك الحق ينتقل إلى ملك مادي في تركته، فيصح بيعه أو التنازل عنه بطريق التخارج بشروطه المعروفة.   (1) أخرجه البخاري في العتق، باب بيع الولاء وهبته، وفي الفرائض، باب إثم من تبرأ من مواليه، وأخرجه مسلم في العتق، باب بيع الولاء وهبته. وهذا لفظ مسلم. (2) شرح الأشباه والنظائر، للبيري (مخطوط) : ص 62، و63. (3) رد المحتار، لابن عابدين: 4/16. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1925 الحقوق العرفية: والنوع الثاني من الحقوق نستطيع أن نسميها بالحقوق العرفية. ونقصد بذلك الحقوق المشروعة التي ثبتت لأصحابها بحكم العرف والعادة، وإنها حقوق مشروعة من حيث إن الشريعة الإسلامية أقرتها عن طريق إقرارها للعرف والتعامل، ولكن مأخذها الأصيل هو العرف دون الشرع، وذلك مثل حق المرور في الطريق وحق الشرب، وحق التسييل وما إلى ذلك. وإن هذه الحقوق العرفية تنقسم إلى أقسام: 1- حق الانتفاع بذوات الأشياء: وإن هذا القسم من الحقوق عبارة عن الاستفادة بالمنافع المتعلقة بذوات الأعيان المادية، فإن كان هذا الانتفاع لمدة معلومة فإن الاعتياض عنه مشروع بطريق الإجارة، وتجري عليها أحكامها، مثل الانتفاع بسكنى الدار لمدة معينة، يجوز للمالك الاعتياض عنه بأن يؤجرها لشخص لمدة معلومة بأجرة معلومة. وأما إذا كان المالك ينقل هذه المنفعة إلى آخر على سبيل التأبيد، فإنه بيع لتلك المنفعة، وذكره الفقهاء الحنفية باسم بيع الحقوق المجردة أيضًا. وقد اختلفت أنظار الفقهاء في جواز هذا البيع، فمنهم من أجازه مطلقًا، ومنهم من منعه مطلقًا، ومنهم من أجازه في بعض الحقوق، ومنعه فبعضها، ونريد أولًا أن نذكر الصور التي ذكرها الفقهاء لهذا القسم من الحقوق، واحدة بعد أخرى، مع ما قال فيها الفقهاء، ثم نصل إلى القول الفصل في الباب إن شاء الله تعالى، والله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب. والصور التي ذكرها الفقهاء من هذا القسم هي: حق المرور، حق التعلي، حق التسييل، حق الشرب، حق وضع الخشب على الجدار، وحق فتح الباب. فالمشهور عند الحنفية أن هذه الحقوق حقوق مجردة لا يجوز بيعها، والمعروف في كتب الأئمة الثلاثة جواز الاعتياض عن أكثر هذه الحقوق. وعمدة الخلاف في هذا الباب تعريف البيع، فمن عرف البيع بمبادلة المال بالمال وخص المال بالأعيان، منع بيع الحقوق المجردة، لأنها ليست أعيانًا، ومن عمم تعريف البيع بما يشمل المنافع أجاز بيعها. فأما الشافعية فتعريف البيع عندهم شامل لبيع المنفعة على سبيل التأبيد، فقد عرفه ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى بقوله: عقد يتضمن مقابلة مال بمال بشرطه الآتي لاستفادة ملك عين أو منفعة مؤبدة ". وقال الشرواني تحته: " قوله (مؤبدة) كحق الممر إذا عقد عليه بلفظ البيع " (1) . وقال الشربيني الخطيب رحمه الله: " وحدَّه بعضهم بأنه عقد معاوضة مالية يفيد ملك عين أو منفعة على التأبيد، فدخل بيع حق الممر ونحوه، وخرجت الإجارة بقيد التأقيت فإنها ليست بيعًا " (2) . وقال ابن القاسم الغزي في شرحه على متن أبي شجاع: " فأحسن ما قيل في تعريفه أنه تمليك عين مالية بمعاوضة بإذن شرعي، أو تمليك منفعة مباحة على التأبيد بثمن مالي ... ودخل في منفعة تمليك حق البناء ". وقال الباجوري تحته: " قوله ودخل في منفعة إلخ، إنما قال: دخل إلخ، لأن المنفعة تشتمل حق الممر، ووضع الأخشاب على الجدار ... ولابد من تقدير مضاف في كلامه بأن يقال: ودخل في تمليك منفعة، ليناسب قوله (تمليك حق البناء) . وصورة ذلك أن يقول له: بعتك حق البناء على هذا السطح مثلًا بكذا، والمراد بالحق الاستحقاق " (3) . ولخصه الشاطري في الياقوت بقوله: " البيع لغةً: مقابلة شيء بشيء، وشرعًا: عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين، أو منفعة على التأبيد، كما في بيع حق الممر، ووضع الأخشاب على الجدار، وحق البناء على السطح " (4) .   (1) حواشي الشرواني على تحفة المحتاج: 4/215، وبمثله عرف الرملي في نهاية المحتاج: 3/361. (2) مغني المحتاج، للشربيني: 2/3. (3) حاشية الباجوري على شرح الغزي: 1/340. (4) الياقوت النفيس في مذهب ابن إدريس: ص74، وراجع أيضًا الغاية القصوى للبيضاوي: 1/1460، وفتح الجواد على متن الإرشاد لابن حجر: 1/373. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1926 فظهر بهذه النصوص الفقهية أن المنفعة المباحة المؤبدة مال عند الشافعية يجوز بيعه وشراؤه، وكذلك الأمر عند الحنابلة فتعريف البيع عندهم على ما ذكره البهوتي، أنه: " مبادلة عين مالية ... أو منفعة مباحة مطلقًا، بأن لا تختص إباحتها بحال دون آخر كممر دار أو بقعة تحفر بئرًا، بأحدهما، أي عين مالية أو منفعة مباحة مطلقًا ... فيشمل نحو بيع كتاب بكتاب أو بممر دار، أو بيع نحو ممر في دار بكتاب، أو ممر في دار أخرى " (1) . وقال المرداوي رحمه الله في الإنصاف بعد ما ذكر عدة تعريفات للبيع، واعترض على أكثرها: " وقال في الوجيز: هو عبارة عن تمليك عين مالية، أو منفعة مباحة على التأبيد بعوض مالي ". ويرد عليه أيضًا: الربا والقرض، وبالجملة: قل أن يسلم حد. قلت: لو قيل: " هو مبادلة عين أو منفعة مباحة مطلقًا، بأحدهما كذلك على التأبيد فيهما، بغير ربا ولا قرض "، لسلم (2) . وجاء في كشاف القناع للبهوتي: (ويصح أن يشتري ممرًا في ملك غيره دارًا كان أو غيرها وأن يشتري موضعًا في حائط يفتحه بابًا وأن يشتري بقعة في أرض يحفرها بئرًا، بشرط كون ذلك معلومًا، لأن ذلك نفع مقصود، فجاز بيعه كالدور ويصح أيضًا أن يشتري علو بيت يبني عليه بنيانًا موصوفًا، أو ليضع عليه خشبًا موصوفًا، لأنه ملك البائع، فجاز بيعه كالأرض، معنى " موصوفًا " أي معلومًا ... وكذا لو كان البيت الذي اشترى علوه غير مبني إذا وصف العلو والسفل ليكون معلومًا، وإنما صح لأنه ملك للبائع، فكان له الاعتياض عنه ويصح فعل ذلك أي ما ذكر من اتخاذ ممر في ملك غيره، أو موضوع في حائطه يفتحه بابًا، أو بقعة في أرضه يحفرها بئرًا، أو علو بيت يبني عليه بنيانًا، أو يضع عليه خشبًا معلومين صلحًا أبدًا أي مؤبدًا، وهو في معنى البيع ... ومتى زال البنيان أو الخشب (فله إعادته) لأنه استحق إبقاءه بعوض (سواء زال لسقوطه) أي سقوط البنيان أو الخشب (أو) زال (لسقوط الحائط) الذي استأجره لذلك أو زال لغير ذلك كهدمه إياه ... وله أي لرب البيت الصلح على زواله أي إزالة العلو عن بيته أو الصلح بعد انهدامه على عدم عوده سواء كان ما صالحه به مثل العوض الذي صولح به على وضعه أو أقل أو أكثر، لأن هذا عوض عن المنفعة المستحقة له، فيصح بما اتفقا عليه) (3) .   (1) شرح منتهى الإرادات: 2/140، ومثله في كشاف القناع: 3/135. (2) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي: 4/260. (3) كشاف القناع للبهوتي: 3/391، و 392، طبع مكة المكرمة 1394هـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1927 وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى: " ولا يجوز أن يبني دكانًا، ولا يخرج روشنًا ولا ساباطًا على درب غير نافذ إلا بإذن أهله ... وإن صالح أهل الدرب من ذلك على عوض معلوم جاز. وقال القاضي وأصحاب الشافعي: لايجوز، لأنه بيع للهواء دون القرار، ولنا أنه يبني فيه بإذنهم، فجاز، كما لو أذنوا له بغير عوض، ولأنه ملك لهم، فجاز لهم أخذ عوضه كالقرار. إذا ثبت هذا، فإنما يجوز بشرط كون ما يخرجه معلوم المقدار في الخروج والعلو. وهكذا الحكم فيما إذا أخرجه إلى ملك إنسان معين لا يجوز بغير إذنه، ويجوز بإذنه بعوض وبغيره إذا كان معلوم المقدار " (1) . وقال أيضًا: " ولا يجوز أن يفتح في حائط المشترك طاقًا ولا بابًا إلا بإذن شريكه، لأن ذلك انتفاع بملك غيره، وتصرف فيه بما يضر به، ولا يجوز أن يغرز فيه وتدًا، ولا يحدث عليه حائطًا، ولا يستره، ولا يتصرف فيه نوع تصرف، لأنه تصرف في الحائط بما يضر به، فلم يجز كنقضه، ولا يجوز له فعل شيء من ذلك في حائط جاره بطريق الأولى، لأنه إذا لم يجز فيما فيه حق، ففيما لا حق له فيه أولى، وإن صالحه عن ذلك بعوض جاز" (2) . وقال أيضًا: " ولا يجوز أن يحفر في الطريق النافذة بئرًا لنفسه، سواء جعلها لماء المطر أو ليستخرج منها ما ينتفع به ولا غير ذلك ... ولو صالح أهل الدرب عن ذلك بعوض جاز. (3) .   (1) المغني مع الشرح الكبير، لابن قدامة: 5/35. (2) المغني، لابن قدامة: 5/36. (3) المغنى، لابن قدامة: 5/35. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1928 وأما المالكية، فالتعريف المشهور للبيع عندهم، ماينسب إلى ابن عرفة، وهو مايلي: " عقد معاوضة على غير منافع، ولا متعة لذة " (1) . فتخرج الإجارة والكراء لكونهما عقدًا على منافع، ويخرج النكاح لأنه عقد على متعة لذة، وظاهر هذا التعريف أن البيع يقتصر عندهم على الأعيان المادية، ولا يقع على المنافع والحقوق. ولكن يوجد عندهم – على الرغم من ذلك – جواز بعض البيوع التي ترجع إلى بيع الحقوق والمنافع، فيجوز عندهم بيع حق التعلي، وحق غرز الخشب على الجدار. يقول الدردير رحمه الله في شرحه الكبير. " (وجاز) بيع (هواء) بالمد، أي فضاء، (فوق هواء) بأن يقول شخص لصاحب أرض: بعني عشرة أذرع مثلًا ما تبينه بأرضك (إن وصف البناء) الأسفل والأعلى لفظًا أو عادة، لخروج من الجهالة والغرر، ويملك الأعلى جميع الهواء الذي فوق بناء الأسفل، ولكن ليس له أن يبني ما دخل عليه إلا برضا الأسفل ... (و) جاز عقد على (غرز جذع) أي جنسيه فيشمل المتعدد (في حائط) لآخر بيعًا أو إجارة. وخرق موضوع الجذع على المشتري أو المكتري " (2) . وقال الحطاب بعد ذكر هذه المسألة: " ولا يجوز لمبتاع الهواء بيع ما على سقفه إلا بإذن البائع لأن الثقل على حائطه ... ويفهم منه أنه ملك ما فوق بنائه من الهواء، إلا أنه لا يتصرف فيه لحق البائع في الثقل " (3) . وزاد المواق رحمه الله: " يجوز في قول مالك شراء طريق في دار رجل، وموضع جذوع من حائط يحملها عليه إذا وصفها " (4) .   (1) الدسوقى على الشرح الكبير، للدردير: 3/2؛ والزرقاني على مختصر خليل: 3/12؛ والخرشي على مختصر خليل: 5/14؛ ومواهب الجليل، للحطاب: 4/225؛ ومنح الجليل، للشيخ محمد عليش: 2/465. (2) الدسوقي على الشرح الكبير: 3/14؛ والمسألة في شروح خليل وحواشيه وفي المدونة: 10/51. (3) مواهب الجليل: 4/276. (4) التاج والإكليل للمواق، بهامش الحطاب: 4/275، وراجع المدونة: 10/50. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1929 ويظهر من مدونة الإمام مالك أنه يجوز عندهم بيع الشرب أيضًا، وجاء في المدونة الكبرى: " قلت: فإن بعت حظي. بعت شرب يوم، أيجوز هذا أم لا؟ قال: مالك: هو جائز. قلت: فإن بعت حظي بعت أصله من الشرب، وإنما لي فيه يوم من اثني عشر يومًا، أيجوز في قول مالك؟ قال: نعم، قلت: فإن لم أبع أصله، ولكن جعلت أبيع منه السقي، إذا جاء يومي بعت ما صار لي من الماء ممن يسقى به، أيجوز هذا في قول مالك، قال: نعم " (1) . فالظاهر من هذه النصوص أن المالكية يجوز عندهم بيع هذه الحقوق، ولا يمكن أن تحمل هذه النصوص على بيع الأعيان التي تتعلق بها هذه الحقوق، لأن بيع الحظ من الشرب قد أفرد في هذه المسألة عن بيع الماء، وحكم بجواز كل منهما على حدة، وبيع الحظ من الشرب ليس إلا حقًا مجردًا. ولأن بيع الهواء بمجرده لا يجوز عندهم، إلا إذا كان لغرض البناء، لما جاء في المدونة الكبرى: " قلت: أرأيت إن باع عشرة أذرع من فوق عشرة أذرع من هواء هو له، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا يجوز هذا عندي، ولم أسمع من مالك فيه شيئًا، إلا أن يشترط له بناء يبنيه؛ لأن يبني هذا فوقه، فلا بأس بذلك " (2) . ثم إن الزرقاني رحمه الله ذكر بيع المنفعة من جملة أقسام البيوع، حيث قال: " البيوع جمع بيع، وجمع لاختلاف أنواعه، كبيع العين، وبيع الدين، وبيع المنفعة " (3) . فالذي يظهر من مجموع هذه النصوص أن المنافع التي أخرجها ابن عرفة من تعريف البيع، هي المنافع المؤقتة التي يقع عليها عقد الإجارة أو الكراء. أما المنافع المؤبدة فيجوز بيعها عند المالكية أيضًا، والله سبحانه أعلم.   (1) المدونة الكبرى: 10/121. (2) المدونة الكبرى: 5/1. (3) شرح الزرقاني على الموطأ: 3/250. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1930 مذهب الحنفية: وأما الحنفية، فتعريف البيع المشهور عندهم: " مبادلة المال بالمال " (1) . وعرفه بعض العلماء بقولهم: " مبادلة شيء مرغوب بشيء مرغوب " (2) ، ولكن المراد من الشيء المرغوب عندهم هو المال، فإن الكاساني الذي عرف البيع بهذا، ذكر في موضع آخر أن البيع مبادلة المال بالمال (3) . وكذلك صاحب الدر المختار قد صرح في شرح ملتقى الأبحر أن المراد من الشيء المرغوب هو المال. وأما تعريف المال، فقد اضطربت فيه عبارات القوم، فقال ابن عابدين: " المراد بالمال ما يميل إليه الطبع، ويمكن ادخاره لوقت الحاجة، والمالية تثبت بتمول الناس كافة أو بعضهم، والتقوم يثبت بها، وبإباحة الانتفاع به شرعًا " (4) . وحكى بعد ذلك عن الحاوي القدسي: " المال اسم لغير الآدمي خلق لمصالح الآدمي، وأمكن إحرازه والتصرف فيه على وجه الاختيار " (5) . وليس في أحد من هذين التعريفيين ما يقصر المال على الأعيان، ويخرج الحقوق أو المنافع المؤبدة من تعريفه صراحة ولكن عرفه علاء الدين الحصكفي رحمه الله، صاحب الدر المختار، في شرحه على ملتقى الأبحر بما يقصره على الأعيان، فقال: " والمراد بالمال عين يجري فيه التنافس والابتذال " (6) . وإن هذا التصريح في تعريف المال بكونه من الأعيان، وإن كان لا يوجد عند غيره بهذا الوضوح، ولكن الذي يستنبط من كلام الفقهاء المتأخرين من الحنفية وتعريفاتهم أنه ملحوظ عندهم في تعريف المال. ولذا فإن الأستاذ مصطفى الزرقاء انتقد هذه التعريفات، واستبدل بها تعريفًا آخر، وهو: " المال: هو كل عين ذات قيمة مادية بين الناس " (7) . ومقتضى هذين التعريفين أن المال مقصور على الأعيان المادية، فلا يشمل المنافع والحقوق المجردة، ولذلك صرح الفقهاء الحنفية بعدم جواز بيع المنافع والحقوق المجردة، وقد صرحوا بأن بيع حق التعلي لا يجوز. قال الكاساني: " سفل وعلو بين رجلين انهدما، فباع صاحب العلو علوه لم يجز، لأن الهواء ليس بمال " (8) . وقال صاحب الهداية: "لأن حق التعلي ليس بمال، لأن المال ما يمكن إحرازه" (9) . وكذلك حق التسييل، قد صرح فقهاء الحنفية بعدم جوازه، ولم أر أحدًا منهم حكم بجواز حق التعلي، وحق التسييل (10) . ولكن أجاز بعضهم بيع حق المرور وحق الشرب، ولنبين ما ذكره الحنفية في هذا الصدد.   (1) البحر الرائق: 5/256؛ وفتح القدير: 5/73؛ ومجمع الأنهر: 2/3؛ وشرح المجلة، لخالد الأتاسي: 1/5، رقم المادة: 105. (2) بدائع الصنائع: 5/133؛ والدر المختار: 4/4. (3) بدائع الصنائع: 5/140، شرائط صحة البيع. (4) رد المختار: 4/3. (5) المرجع السابق؛ والبحر الرائق: 5/257. (6) الدر المنتقى، بهامش مجمع الأنهر: 2/3. (7) حكاه عنه أخونا الدكتور وهبه الزحيلي في " الفقه الإسلامي وأدلته ": 4/345. (8) بدائع الصنائع: 5/145. (9) فتح القدير:5/204 (10) راجع رد المحتار: 4/132؛ وشرح المجلة للأتاسي: 1/117. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1931 بيع حق المرور عند الحنفية: للحنفية في بيع حق المرور روايتان: إحداهما رواية الزيادات، وهي عدم جواز، والأخرى رواية كتاب القسمة، وهي الجواز. قال صاحب الهداية: " (وبيع الطريق وهبته جائز، وبيع مسيل الماء وهبته باطل) والمسألة تحتمل وجهتين: بيع رقبة الطريق والمسيل، وبيع حق المرور والتسييل، فإن كان الأول فوجه الفرق بين المسألتين أن الطريق معلوم، لأن له طولًا وعرضًا معلومًا وأما المسيل فمجهول، لأنه لا يدرى قدر ما يشغله من الماء. وإن كان الثاني، ففي بيع حق المرور روايتان، ووجه الفرق على إحداهما بينه وبين حق المسيل أن حق المرور معلوم، لتعلقه بمحل معلوم، وهو الطريق. أما المسيل على السطح فهو نظير حق التعلي، وعلى الأرض مجهولة لجهالة محله، ووجه الفرق بين حق المرور وحق التعلي على إحدى الروايتين أن حق التعلي يتعلق بعين، وهو البناء، فأشبه المنافع. أما حق المرور يتعلق بعين تبقى، وهو الأرض، فأشبه الأعيان " (1) . واعترض ابن همام على هذا الفرق بأن البيع كما يرد على عين تبقى، ربما يرد على عين لا تبقى، فلا يظهر الفرق بين الأعيان الباقية وغير الباقية. وبيَّن وجهًا آخر للفرق، وهو: " أن حق المرور حق يتعلق برقبة الأرض، وهي مال هو عين، فما يتعلق به يكون له حكم العين. أما حق التعلي فحق يتعلق بالهواء، وهو ليس بعين مال " (2) . ثم ذكر أن الفقيه أبا الليث صحح رواية الزيادات، وهي عدم الجواز لأن بيع الحقوق المجردة لا يجوز. لكن ذكر في الدر المختار أن رواية الجواز أخذ بها عامة المشايخ. وقال ابن عابدين تحته: " قوله: وبه أخذ عامة المشايخ "، قال السائحاني: " وهو الصحيح وعليه الفتوى، (مضمرات) . والفرق بينه وبين حق التعلي حيث لا يجوز، هو أن حق المرور حق يتعلق برقبة الأرض، وهي مال هو عين، فما يتعلق به له حكم العين، أما حق التعلي فمتعلق بالهواء، وهو ليس بعين مال " (3) . وبه يظهر أن المختار عند المتأخرين من الحنفية جواز بيع حق المرور، لكونه حقًّا يتعلق بالعين فأخذ حكم العين في جواز البيع. وكان ينبغي على هذا الأصل أن يجوز بيع حق التسييل على الأرض أيضًا، لكونه حقًا يتعلق بعين، وهي الأرض، غير أنهم منعوه لجهالة محل التسييل، لا لكونه حقًا مجردًا، كما يظهر من تعليل صاحب الهداية، ومقتضى هذا التعليل أن يجوز هذا البيع أيضًا إذا ارتفعت الجهالة بتعيين محل التسييل بأن لا يتجاوز الماء ذلك المحل.   (1) فتح القدير: 5/205، و206. (2) المرجع السابق: 5/206. (3) رد المحتار: 4/132. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1932 بيع حق الشرب: واختلفت أقوال الفقهاء في بيع حق الشرب أيضًا، فظاهر الرواية في مذهب الأحناف أنه لا يجوز بيع الشرب، ثم جوزه كثير من المشايخ بناء على العرف والمذكور في رد المحتار وغيره أن الفتوى على عدم الجواز، ولكن الذي يظهر بالنظر الدقيق أن الذين منعوا من جواز هذا البيع، مع جريان العرف بذلك، إنما منعوه للغرر والجهالة، لا لكونه ليس مالًا يقول الإمام السرخسي رحمه الله تعالى: " بيع الشرب فاسد، فإنه من حقوق المبيع بمنزلة الأوصاف، فلا يفرد بالبيع ثم هو مجهول في نفسه غير مقدور التسليم، لأن البائع لا يدري أيجري الماء أم لا؟ وليس في وسعه إجراؤه. قال " وكان شيخنا الإمام يحكي عن أستاذه أنه كان يفتي بجواز بيع الشرب بدون الأرض، ويقول: فيه عرف ظاهر في ديارنا بنَسَف، فإنهم يبيعون الماء " فللعرف الظاهر كان يفتي بجوازه، ولكن العرف إنما يعتبر فيما لا نص بخلافه، والنهي عن بيع الغرر نص بخلاف هذا العرف، فلا يعتبر " (1) . فعلل السرخسي رحمه الله عدم الجواز بأمرين: أنه من حقوق المبيع، فلا يفرد بالبيع، والثاني: أن فيه غررًا وجهالة. ولما استدل المجوزون بالعرف الظاهر عارضه بالأمر الثاني فحسب، وذكر أن العرف لا يصلح أن يجوز به الغرر المنهي عنه بالنص، ولم يقل إن العرف لا يصلح أن يجوز به بيع الحقوق. وقد صرح بذلك ابن همام رحمه الله حيث قال: " ثم بتقدير أنه حظ من الماء فهو مجهول المقدار، فلا يجوز بيعه، وهذا وجه منع مشايخ بخارى بيعه مفردًا " (2) . وعبارة البابرتي أصرح، حيث يقول: " وإنما لم يجز بيع الشرب وحده في ظاهر الرواية للجهالة، لا باعتبار أنه ليس بمال " (3) . ثم إن السرخسي رحمه الله ذكر هذه المسألة مرة أخرى في كتاب المزارعة بأبسط مما ههنا، وذكر في الأخير قول المشايخ المتأخرين الذين أجازوا بيع الشرب للعرف، ولم ينتقد قولهم بشيء، فقال: " وبعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله أفتى أن يبيع الشرب وإن لم يكن معه أرض للعادة الظاهرة فيه في بعض البلدان، وهذه عادة معروفة بنسف، قالوا: المأجور الاستصناع للتعامل وإن كان القياس يأباه، فكذلك بيع الشرب بدون الأرض " (4) .   (1) مبسوط السرخسي:14/135، و136. (2) فتح القدير: 5/205. (3) العناية بهامش الفتح: 5/204. (4) مبسوط السرخسي: 23/171. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1933 وما قاله الحنفية في بيع الشرب يتحصل منه في مسألة بيع الحقوق عين ما تحصل من مسألة بيع حق المرور وحق التسييل، وذلك أن الحق إن كان متعلقًا بعين من الأعيان يجوز بيعه إذا لم يكن هناك مانع آخر كالجهالة والغرر وغيرهما. ثم ذكر بعض المتأخرين من الحنفية أن الحقوق التي لا يجوز بيعها، مثل حق التعلي وحق التسييل، وحق الشرب، إنما لا يجوز الاعتياض عنها بطريق البيع، ولكن يجوز الاعتياض عنها بطريق الصلح، يقول العلامة خالد الأتاسي رحمه الله بعد ذكر مسألة النزول عن الوظائف بمال: " أقول: وعلى ما ذكروه من جواز الاعتياض عن الحقوق المجردة بمال ينبغي أن يجوز الاعتياض عن حق التعلي، وعن حق الشرب، وعن حق المسيل بمال، لأن هذه الحقوق لم تثبت لأصحابها لأجل دفع الضرر عنهم، بل ثبتت لهم ابتداء بحق شرعي. فصاحب حق العلو إذا انهدم علوه، قالوا: إن له حق إعادته كما كان جبرًا عن صاحب السفل. فإذا نزل عنه لغيره بمال معلوم ينبغي أن يجوز ذلك على وجه الفراغ والصلح، لا على وجه البيع، كما جاز النزول عن الوظائف ونحوها، لا سيما إذا كان صاحب حق العلو فقيرًا قد عجز عن إعادة علوه، فلو لم يجز ذلك له على الوجه الذي ذكرناه، يتضرر. فليتأمل وليحمد، والله سبحانه أعلم " (1) . فهذا محصل ما وجدته من كلام الحنفية في مسألة بيع المنافع والحقوق المتعلقة بالأعيان.   (1) شرح المجلة للأتاسي: 2/121، قبيل المادة 217. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1934 خلاصة حكم هذا النوع من الحقوق: ومن المناسب قبل أن نتقدم أن نحرر ما تحصل مما سبق من النصوص الفقهية، وهي أمور: 1- إن تعريف البيع أمر اختلف فه الفقهاء، فالشافعية والحنابلة لا يشترطون في المبيع أن يكون عينًا، بل يجوزون بيع المنافع المؤبدة. وكذلك يظهر من بعض فروع المالكية. 2- إن الحنفية وإن اشترطوا في البيع أن يكون المبيع عينًا، ولكنهم أجازوا بيع حق المرور، وعللوا ذلك بأنه حق يتعلق بعين، فأخذ حكمه في جواز البيع. 3- ويظهر من ذلك أن الحقوق المتعلقة بالأعيان حكمها عند الحنفية حكم الأعيان، فيجوز بيعها ما لم يكن هناك مانع آخر من البيع، مثل الغرر أو الجهالة. 4- إن الحقوق التي لا تتعلق بالأعيان، مثل حق التعلي، لا يجوز بيعها عند الحنفية، ولكن يجوز الاعتياض عنها بطريق الصلح على ما ذكره بعضهم. وفي ضوء هذه النقاط الأربعة نستطيع أن نقول: إن بيع هذا النوع من الحقوق العرفية، وهو حق الانتفاع بالأعيان جائز عند الأئمة الثلاثة الحجازيين، وإنما منه الحنفية، فقالوا: لا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة، ولكن هذا الحكم عندهم ليس بهذا العموم الذي يتوهم من لفظه، بل استثنى منه الفقهاء بعض الحقوق التي تتعلق بالأعيان. وإن للعرف مجالًا في إدراج بعض الأشياء في الأموال، فإن المالية كما يقول ابن عابدين رحمه الله، تثبت بتمول الناس. فلو كانت بعض الحقوق تعتبر في العرف أموالًا متقومة، وتعامل بها الناس تعامل الأموال، ينبغي أن يجوز بيعها عندهم أيضًا بشروط آتية: 1- أن يكون الحق ثابتًا في الحال، لا متوقعًا في المستقبل. 2- أن يكون الحق ثابتًا لصاحبه أصالة، لا لدفع الضرر عنه فقط. 3- أن يكون الحق قابلا للانتقال من واحد إلى آخر. 4- أن يكون الحق منضبطًا بالضبط، ولا يستلزم غررًا أو جهالة. 5- أن يكون في عرف التجار يسلك به مسلك الأعيان والأموال في تداولها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1935 حق الأسبقية: والنوع الثاني من الحقوق العرفية نستطيع أن نلقبه بحق الأسبقية، وهو عبارة عن حق التملك أو الاختصاص الذي يحصل للإنسان بسبب سبق يده إلى شيء مباح، مثل حق التملك بإحياء الأرض. وقد ذكر بعض الفقهاء الشافعية والحنابلة مسألة بيع هذا الحق. وقد أجمع الفقهاء على أن الأرض الموات لا يملكها الإنسان إلا بإحيائها. وأما التحجير، فلا يثبت به حق التملك بالإحياء، فمن حجر أرضًا فإنه أحق بإحيائها، وقد اختلف الفقهاء الشافعية في أنه يجوز له بيع هذا الحق، أو لا يجوز. وجاء في نهاية المحتاج للرملي: " ومن شرع في عمل إحياء ولم يتمه، كحفر الأساس أو علم على بقعة بنصب أحجار، أو غرز خشبًا، أو جمع ترابًا، أو خط خطوطًا، فمتحجر عليه، أي مانع لغيره منه بما فعله، بشرط كونه بقدر كفايته وقادرًا على عمارته حالًا، وحينئذ هو أحق به من غيره اختصاصًا لا ملكًا ... لكن الأصح أنه لا يصح بيعه ولا هبته، كما قاله الماوردي، خلافًا للدارمي، لما مر من أنه غير مالك، وحق التملك لا يباع كحق الشفعة. والثاني: يصح بيعه، وكأنه باع حق الاختصاص " (1) . وجاء في المجموع شرح المهذب: " وإن تحجر رجل مواتًا، وهو أن يشرع في إحيائه ولم يتمم، صار أحق به من غيره ... وإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به ... وإن مات انتقل ذلك إلى وارثه، لأنه حق تملك ثبت له، فانتقل إلى وارثه كالشفعة. وإن باعه ففيه وجهان: أحدهما، وهو قول أبي إسحاق، أنه يصح، لأنه صار أحق به فملك بيعه، والثاني: أنه لايصح، وهو المذهب، لأنه لم يملك بعد، فلم يملك بيعه كالشفيع قبل الأخذ " (2) . وقد ذكر الخطيب الشربيني رحمه الله أن أبا إسحاق حينما أجاز بيع هذا الحق علله بكونه بيع حق الاختصاص، كبيع علو البيت للبناء والسكنى دون أسفله (3) . وكذلك ذكر الفقهاء الحنابلة في هذه المسألة قولين: أحدهما الجواز، والثاني عدمه. يقول الموفق ابن قدامة رحمه الله: ومن تحجر مواتًا وشرع في إحيائه ولم يتم، فهو أحق به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به)) ، رواه أبو داود. فإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به، لأن صاحب الحق آثره به، فإن مات انتقل إلى وارثه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك حقًا أو مالًا فهو لورثته)) ، وإن باعه لم يصح، لأنه لم يملكه، فلم يصح بيعه كحق الشفعة، ويحتمل جواز بيعه، لأنه صار أحق به " (4) . وقال المرداوي: " ومن تحجر مواتًا لم يملكه ... وهو أحق به، ووارثه بعده ومن ينقله إليه بلا نزاع، وليس له بيعه. هو المذهب، وعليه الأصحاب، وجزم به في الوجيز وغيره، وقدمه في المغني، والشرح، وشرح الحاثي، وابن منجا، والفروع، والفائق وغيرهم ". وقيل يجوز له بيعه، وهو احتمال لأبي الخطاب، وأطلقهما في المحرر، والرعايتين، والحاوي الصغير " (5) . والراجح في كلا المذهبين أنه لا يجوز بيع هذا الحق، ولكن ذكر البهوتي رحمه الله من الحنابلة أن عدم الجواز إنما هو في البيع، ولكن يجوز الاعتياض عنه بطريق التنازل والصلح. يقول البهوتي رحمه الله: " وليس له أي لمن قلنا إنه أحق بشيء من ذلك السابق (بيعه) لأنه لم يملكه كحق الشفعة قبل الأخذ، وكمن سبق إلى مباح. لكن النزول عنه بعوض لا على وجه البيع جائز، كما ذكره ابن نصر الله قياسًا على الخلع " (6) . ومن حق الأسبقية ما ذكره الفقهاء من أن من سبق إلى مكان في المسجد فهو أحق بذلك المكان، وله أن يؤثر به غيره، ولكن لايجوز أن يبيع هذا الحق، نعم: ذكر البهوتي أنه يجوز له التنازل عنه بعوض (7) . ولم أر في كتب الحنفية والمالكية من تعرض لمسألة بيع حق الأسبقية، وقد ذكروا أن التحجير يثبت به الأحقية في إحياء الأرض وتملكها، ولكن لم أجد بيع هذا الحق عندهم، وقياس قولهم إنه لا يجوز عندهم أيضًا إلا أن يكون بطريق التنازل. فخلاصة الحكم في بيع حق الأسبقية أنه وإن كان بعض الفقهاء يجوزون هذا البيع، ولكن معظمهم على عدم جوازه، ولكن يجوز عندهم النزول عنه بمال على وجه الصلح والله سبحانه أعلم.   (1) نهاية المحتاج، للرملي: 5/336؛ ومثله في زاد المحتاج، للكوهجي: 2/404؛ وتحفة المحتاج مع الشرواني: 6/213. (2) تكملة المجموع شرح المهذب، للمطيعي: 14/471. (3) راجع مغني المحتاج: 2/367. (4) الكافي، لابن قدامة: 2/439. (5) الإنصاف، للمرداوي: 6/373، و374. (6) شرح منتهى الإرادات، للبهوتي: 2/464. (7) شرح منتهى الإرادات، للبهوتي: 2/464. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1936 حق العقد: والنوع الثالث من هذه الحقوق ما نستطيع أن نسميه " بحق العقد " ونقصد بذلك حق إنشاء عقد مع آخر أو إبقائه، مثل خلو الدور والحوانيت، فإنه حق لإنشاء عقد الإجارة مع صاحب الدار أو الحانوت أو إبقائه، ومثل حق الوظائف السلطانية أو الوقفية، فإنه حق لإبقاء عقد الإجارة مع الحكومة أو ناظر الوقف. وقد تحدث الفقهاء عن مسألة الاعتياض عن هذين الحقين، ونذكر فيما يلي خلاصة ما قاله الفقهاء في هذا الباب، والله سبحانه هو الموفق. مسألة النزول عن الوظائف بمال: إذا كانت لرجل وظيفة قائمة في الوقف يحصل منها على راتب، كإمام المسجد أو المؤذن أو موظف آخر، وكانت هذه الوظيفة دائمة بحكم شرائط الوقف مثلًا، فإن الموظف يملك حق البقاء على هذه والوظيفة وإبقاء عقد إجارته طول حياته، وقد تحدث الفقهاء عن الاعتياض عن هذا الحق. فأما الاعتياض عنه بطريق البيع فلم يجوزه أحد. وأما الاعتياض عنه بطريق التنازل والصلح، فقد اختلفت فيه أقوال الفقهاء. فمنهم من منعه بحجة أنه حق مجرد لا يجوز الاعتياض عنه، ومنهم من أجازه. أما الحنفية، فقد صرحت جماعة من متأخريهم بجواز النزول عن الوظائف بمال. جاء في الدر المحتار: وفي الأشباه: " لا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة كحق الشفعة، على هذا لا يجوز الاعتياض عن الوظائف بالأوقاف ". وفيها في آخر بحث تعارض العرف مع اللغة: " المذهب عدم اعتبار العرف الخاص. لكن أفتى كثير باعتباره، وعليه فيفتي بجواز النزول عن الوظائف بمال ". وأطال ابن عابدين تحته في تحقيق المسألة، وحقق أن جوازه ليس مبنيًا على العرف الخاص، وإنما هو مبني على نظائر فقهية. أما قياسه على حق الشفعة فقياس مع الفارق، وهو ما قدمنا في أوائل البحث عن البيري وغيره من أن حق الشفعة إنما شرع لدفع الضرر، والحقوق المشروعة لدفع الضرر لا يجوز الاعتياض عنها. أما حق الوظيفة فحق ثبت لصاحبه أصالة، فلا يحرم الاعتياض عنه، كما في حق القصاص وغيره. وعلى هذا الأساس ذكر ابن عابدين رحمه الله أن عدم جواز الاعتياض عن الحق ليس على إطلاقه، ثم ختم كلامه بقوله: " ورأيت بخط بعض العلماء عن المفتي أبي السعود أنه أفتى بجواز أخذ العوض في حق القرار والتصرف وعدم الرجوع. وبالجملة فالمسألة ظنية، والنظائر المتشابهة للبحث فيها مجال، وإن كان الأظهر فيه ما قلنا، فالأولى ما قاله في البحر من أنه ينبغي الإبراء العام بعده " (1) .   (1) رد المحتار: 4/520. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1937 وكذلك الشافعية، أفتى المتأخرون منهم بجواز النزول عن الوظائف بمال، يقول العلامة الرملي رحمه الله تعالى: " وأفتى الوالد رحمه الله تعالى بحل النزول عن الوظائف بالمال، أي لأنه من أقسام الجعالة فيستحقه النازل ويسقط حقه " (1) . وأقره الشبراملسي في حاشيته، بل فرَّع عليه جواز النزول عن الجوامك بمال أيضًا (2) ، ولكنه ذكر أن هذا الحكم إنما يجري في وظائف الأوقاف الدائمة. وأما الوظائف الحكومية التي لا دوام فيها، فلا يجوز الاعتياض عنها، يقول الشبراملسي: " وأما المناصب الديوانية، كالكتبة الذين يقررون من جهة الباشا فيها، فالظاهر أنهم إنما يتصرفون فيها بالنيابة عن صاحب الدولة، في ضبط ما يتعلق به من المصالح فهو مخير بين إبقائهم وعزلهم ولو بلا حجة فليس لهم يد حقيقة على شيء ينزلون عنه، بل متى عزلوا أنفسهم انعزلوا، وإذا أسقطوا حقهم عن شيء لغيرهم، فليس لهم العود إلا بتولية جديدة ممن له الولاية، ولا يجوز لهم أخذ عوض على نزولهم " (3) . وكذلك يبدو الحكم في مذهب الحنابلة، فإنهم ذكروا أن من حاز وظيفة في الوقف صار أحق بها، ويجوز له أن ينزل عنها لغيره، ولا يجوز له بيع هذا الحق (4) ولكن ذكر البهوتي أنه يجوز النزول عنها بعوض لا على وجه البيع، يقول البهوتي بعد ذكر عدة مسائل من هذا القبيل. " (وليس له) ، أي لمن قلنا إنه أحق بشيء من ذلك السابق (بيعه) ، لأنه لم يملكه كحق الشفعة قبل الأخذ، وكمن سبق إلى مباح، لكن النزول عنه بعوض على وجه البيع جائزة، كما ذكره ابن نصر الله قياسًا على الخلع " (5) أما المالكية، فلم أجد عندهم في تتبعى القاصر شيئًا صريحًا في باب النزول عن الوظائف، ولكنهم يجيزون بيع الجامكية " (6) ، فربما يقاس عليه النزول عن الوظائف، والله سبحانه أعلم. وربما يستدل على جواز النزول عن الوظائف بمال بنزول سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه، فإنه صالحه على مال. ويقول العلامة بدر الدين العيني رحمه الله تحت هذا الحديث: " وفيه جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأى في ذلك صلاحًا للمسلمين، جواز أخذ المال على ذلك وإعطائه بعد استيفاء شرائطه بأن يكون المنزول له أولى من النازل، وأن يكون المبذول من مال الباذل " (7) . والذى يتلخص من كلام الفقهاء في هذا الباب أن بيع حق الوظيفة لا يجوز عندهم، ولكنه يجوز عند جمهور الفقهاء المتأخرين أن يتنازل صاحب الوظيفة عن حقه، ويأخذ على ذلك مالًا من الذي تنازل في حقه.   (1) نهاية المحتاج: 5/478. (2) جمع الجامكية، وهي مبلغ معلوم يقرر لرجل كعطاء من بيت المال، ولا يجوز بيعه عند الحنفية لكونه بيع الدَّين من غير من عليه الدَّين، وراجع له رد المحتار. (3) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج: 6/478. (4) الإنصاف للمرداوي: 6/376؛ وكشاف القناع: 4/216، (5) شرح منتهى الإرادات: 2/464. (6) مواهب الجليل للحطاب: 4/224 (7) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، أبواب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن ابني هذا السيد: 24/208، من طبع المنيرية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1938 ثم اختلف الفقهاء: هل يتعين المنزول له للوظيفة بعد ما تنازل عنه الأول، فقالت جماعة: لا يتعين المنزول له، بل للناظر الخيار في تعيينه أو تعيين غيره، ولو لم يعينه الناظر، فإن المنزول له لا يسترد من النازل ما أعطاه، لأن النازل فعل ما في استطاعته، وهو النزول، فاستحق المال. وهذا ما صرح به الرملي والشبراملسي من الشافعية (1) ، والحموي وأبو السعود من الحنفية (2) . ولكن قال ابن عابدين رحمه الله: " ثم إذا فرغ عنه لغيره، ولم يوجهه السلطان للمفروغ له، بل أبقاه على الفارغ أو وجهه لغيرهما، فينبغي أن يثبت الرجوع للمفروغ له على الفارغ ببذل الفراغ، لأنه لم يرض بدفعه إلا بمقابلة ثبوت ذلك الحق له، لا بمجرد الفراغ وإن حصل لغيره. وبهذا أفتى في الإسماعيلية والحامدية وغيرهما، خلافًا لما أفتى به بعضهم من عدم الرجوع، لأن الفارغ فعل ما في وسعة وقدرته، إذا لا يخفى أنه غير مقصود من الطرفين، ولا سيما إذا أبقى السلطان والقاضي التيمار أو الوظيفة على الفارغ، فإنه يلزم اجتماع العوضين في تصرفه، وهو خلاف قواعد الشرع فافهم " (3) . والذي يظهر لهذا العبد الضعيف – عفا الله عنه – أن جواز الرجوع ظاهر فيما إذا أبقى السلطان والقاضي التيمار أو الوظيفة على الفارغ، لما ذكر ابن عابدين رحمه الله من أن ذلك يستلزم اجتماع العوضين في تصرفه، لأنه إنما استحق المال عوضًا عن النزول والفراغ، ولا يتأتى ذلك إلا بأن يحصل الفراغ فعلًا، ولم يحصل، فلم يستحق المال، ووجب عليه أن يرد ما أخذ. أما إذا أمضى القاضي أو الناظر نزوله، وفرغ عن وظيفته فعلًا، ولكن القاضي أو الناظر لم يقرر المنزول في مكانه، بل قرر رجلًا ثالثًا، فالقواعد تقتضي أن لا يستحق المنزول له الرجوع على النازل. وذلك لأن الفقهاء لم يجوزوا الاعتياض عن حق الوظيفة عن طريق البيع، وإنما جوزوه عن طريق الصلح والتنازل. ولا فرق بين بيع الحق والتنازل عنه بمال، إلا أن البيع ينقل إلى المشتري ما كان يملكه البائع، والتنازل لا ينقل الملك إلى المنزول له، وإنما يسقط النازل حقه، وليست فائدته في حق المنزول له إلا لزوال المزاحمة من قبل النازل.   (1) راجع نهاية المحتاج وحاشيته: 6/478. (2) شرح الأشباه والنظائر، للحموي: 1/139. (3) رد المحتار، لابن عابدين: 2/1110. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1939 وقد تحدث الإمام القرافي عن الفرق بين قاعدة النقل وقاعدة الإسقاط بوضوح، قال رحمه الله تعالى: " اعلم أن الحقوق والأملاك ينقسم التصرف فيها إلى نقل وإسقاط، فالنقل ينقسم إلى ما هو بعوض في الأعيان، كالبيع والقرض؛ وإلى ما هو المنافع، كالإجارة والمساقاة والمزارعة والقراض والجعالة؛ وإلى ما هو بغير عوض، كالهدايا والوصايا والعمرى والوقف والهبات والصدقات والكفارات والزكاة والمسروق من أموال الكفار والغنيمة في الجهاد، فإن ذلك كله نقل ملك في أعيان بغير عوض. وأما الإسقاط فهو إما بعوض كالخلع، والعفو على مال والكتابة وبيع العبد من نفسه والصلح على الدَّين والتعزيز، فجميع هذه الصور يسقط فيها الثابت، ولا ينتقل إلى الباذل ما كان يملكه المبذول له من العصمة وبيع العبد ونحوهما " (1) . ولما ثبت عن الفقهاء أنهم إنما جوزوا الاعتياض عن حق الوظيفة على وجه النزول والإسقاط، لا على وجه البيع والنقل، وكما تقدم عن شرح منتهى الإرادات للبهوتي، فلابد أن يلاحظ الفرق بين البيع والإسقاط، وذلك بما قلنا من أن النازل يستحق العوض بمجرد نزوله، ولا ينتقل به الحق إلى المنزول له. والله سبحانه أعلم بالصواب.   (1) الفروق للقرافي: 2/110، الفرق التاسع والسبعون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1940 خلو الدور والحوانيت: ومن هذا النوع ما راج في كثير من البلدان من بيع خلو الدور والحوانيت. والخلو (1) عبارة عن حق القرار في دار أو حانوت، فربما يؤجر صاحب البناء بناءه لمدة طويلة، فيأخذ من المستأجر مبلغًا مقطوعًا عند عقد الإجارة زيادة على أجرته الشهرية أو السنوية، وبدفع هذا المبلغ يستحق المستأجر أن يبقى على إجارته مدة طويلة. ثم ربما ينقل المستأجر حقه هذا إلى غيره، فيأخذ منه مبلغًا يستحق به عقد الإجارة مع صاحب البناء، وإذا أراد المالك استرداد بنائه من المستأجر لزمه أن يؤدي إليه مبلغًا يتراضى عليه الطرفان. وإن هذه المبالغ كلها تسمى "خلو" أو "جلسة" في شتى البلاد العربية، و"بكرى" و"سلامي" في ديارنا. وأصل الحكم في هذا الخلو عدم الجواز، لكونه رشوة أو عوضًا عن حق مجرد. ولكن أفتى بعض الفقهاء بجوازه. وأول من عرف بتجويز الخلو العلامة ناصر الدين اللقاني رحمه الله تعالى، من علماء المالكية في القرن العاشر، ثم تبعه جماعة. قال ابن عابدين رحمه الله: " وقد اشتهر نسبه مسألة الخلو إلى مذهب الإمام مالك، والحال أنه ليس فيه نص عنه، ولا عن أحد من أصحابه، حتى قال البدر القرافي من المالكية: إنه لم يقع في كلام الفقهاء التعرض لهذه المسألة، وإنما فيها فتيا للعلامة ناصر الدين اللقاني المالكي، بناها على العرف وخرجها عليه، وهو من أهل الترجيح، فيعتبر تخريجه وإن نُوزع فيه، وقد انتشر فتياه في المشارق والمغارب وتلقاها علماء عصره بالقبول " (2) . وأما الحنفية، فقد استدل بعضهم على جواز الخلو بمسألة في الفتاوى الخانية، وهي: " رجل باع سكنى له في حانوت لغيره، فأخبر المشتري أن أجرة الحانوت كذا، فظهر أنها أكثر من ذلك، قالوا: ليس له أن يرد السكنى بهذا العيب ". فزعم المستدلون أن المراد بالسكنى في هذه المسألة هو عين الخلو، ولكن حقق الشرنبلالي أن المراد بالسكنى عين مركبة في الحانوت، وهى غير الخلو، فلا يصحح أن يستدل به على جواز الخلو عند الحنفية، فشراء السكنى شراء للعين لا للخلو. ثم ذكر ابن عابدين رحمه الله عن الفتاوى الخيرية أنه قضى مالكي بلزوم الخلو صح ولزم. وقال في نهاية البحث: " وممن أفتى بلزوم الخلو الذي يكون بمقابلة دراهم يدفعها للمتولي أو المالك العلامة المحقق عبد الرحمن أفندي العمادي صاحب هدية ابن العماد، وقال: فلا يملك صاحب الحانوت إخراجه وإجارتها لغيره، ما لم يدفع له المبلغ المرقوم، فيفتى بجواز ذلك للضرورة ".   (1) الخلو كلمة مولدة لم أجدها بهذا المعنى في المعاجم المعروفة، حتى في المعاجم الحديثة التي تعنى ببيان الاستعمالات الجديدة للكلمات القديمة، ولم أطلع على ضبطها الدقيق، ولكن المعروف " الخلو " بضم الخاء واللام وتشديد الواو، ويحتمل أن يكون "الخلو" بكسر الخاء وإسكان اللام وتخفيف الواو، بمعنى المكان الخالي، والله أعلم. (2) رد المحتار: 4/521، كتاب البيوع، مطلب في خلو الحوانيت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1941 وقد يفهم من كلام ابن عابدين رحمه الله أنه مائل إلى جواز هذا الخلو المتعارف في عصرنا، ولكن الذي ظهر لي بعد مراجعة كتب المالكية الذين ينسب إليهم جواز الخلو، أن ما أفتوا بجوازه ليس هو الخلو المتعارف في عصرنا، والذي هو عبارة عن حق الاستئجار المجرد، بدون أن يكون للمستأجر في الدار أو الحانوت عين قائمة. ولم أر عندهم جواز ذلك، بل وجدت خلافه. وإنما الخلو الذي أجاز المالكية أخذ العوض عنه له صور أخرى، للمستأجر في جميعها أعيان قائمة مستقلة في الدار أو الحانوت. وأنقل ههنا نصين من فقهاء المالكية، يتضح بهما الموضوع كل الوضوح. قال العدوي في شرحه على الخرشي: " اعلم أن الخلو يصور بصور: منها أن يكون الوقف آيلًا للخراب، فيكريه ناظر الوقف لمن يعمره، بحيث يصير الحانوت مثلا يكرى بثلاثين نصف فضة، ويجعل عليه لجهة الوقف خمسة عشر، فصارت المنفعة مشتركة بينهما، فما قابل الدراهم المصروفة من المنفعة هو الخلو، فيتعلق به البيع والوقف والإرث والهبة وغير ذلك ويقضي منه الدين وغير ذلك، ولا يسوغ للناظر إخراجه من الحانوت ولو وقع عقد الإيجار على سنين معينة كتسعين سنة، ولكن شرط ذلك أن لا يكون ريع يعمر به. الثانية: أن يكون لمسجد مثلًا حوانيت موقوفة عليه، واحتاج المسجد للتكميل أو العمارة، ويكون الدكان يكرى مثلًا الشهر بثلاثين صفًّا، ولا يكون هناك ريع يكمل به المسجد أو يعمره به، فيعمد الناظر إلى الساكن في الحوانيت فيأخذ منه قدرًا من المال يعمر به المسجد، ويجعل عليه خمسة عشر مثلًا في كل شهر. والحاصل أن منفعة الحانوت المذكورة شركة بين صاحب الخلو والوقف بحسب ما يتفق عليه صاحب الخلو والناظر على وجه المصلحة، كما يؤخذ مما أفتى به الناصر كما أفاده (عج) . الثالثة: أن تكون أرض مجلسة، فيستأجرها من الناظر ويبني فيها دارًا مثلًا، على أن عليه في كل شهر لجهة الوقف ثلاثين نصف فضة، ولكن الدار تكرى بستين نصف فضة مثلًا، فالمنفعة التي تقابل الثلاثين الأخرى، يقال لها (خلو) (1) . وكذلك الشيخ محمد أحمد عليش رحمه الله، نقل فتوى العلامة ناصر اللقانى، ثم ذكر صور الخلو المختلفة، وهى عين ما حكيناه عن العدوي، ثم ذكر فصلا في شروط صحة الخلو، وقال فيه: فصل في شروط صحة الخلو. منها أن تكون الدراهم المرفوعة عائدة على جهة الوقف يصرفها في مصالحه، فما يفعل الآن من صرف الناظر الدراهم في مصالح نفسه بحيث لا يعود على الوقف منها شيء فهو غير صحيح، ويرجع دافع الدراهم بها على الناظر. ومنها أن لا يكون للوقف ريع يعمر به، فإن كان له ريع يفي بعمارته مثل أوقاف الملوك، فلا يصح فيه خلو، ويرجع دافع الدراهم بها على الناظر. منها ثبوت الصرف في منافع الوقف بالوجه الشرعي ... وفائدة الخلو أنه يصير كالملك ويجري عليه البيع والإجارة والهبة والرهن ووفاء الدين والإرث كما يؤخذ من فتوى الناصر اللقاني " (2) .   (1) حاشية العدوي على الخرشي: 7/79. (2) فتح العلي المالك، للشيخ محمد عليش: 2/251. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1942 فاتضح بهذه النصوص الفقهية أن الخلو الذي أفتى به العلامة اللقاني، وأقره كثير من علماء المالكية، بمعزل بعيد عن هذا الخلو المتعارف في عصرنا، فإن الخلو الذي أجازه يحدث بعمارة يحدثها المستأجر في الوقف، ويصير به شريكًا في منفعة الحانوت بقدر ما صرفه فيه، فينتقص له إكراء الحانوت بقدرها،ويصير له حق القرار فيه، فإذا باعه من آخر فإنه ليس بيعًا لحق مجرد، وإنما هو بيع لمنفعة متعلقة بأعيان في الحانوت، وهذه المنفعة مملوكة له، وإنما أجازه المالكية لضرورة عمارة الوقف،ولذلك اشترطوا أن لا يكون للوقف ريع يعمر به، فإن كان له ريع لم يجز هذا العقد. ولا شك أن بعض المالكية حكموا بجواز مثل هذا الخلو في أراض مملوكة غير موقوفة أيضًا، ولكن بشرط أن يكون المستأجر بنى فيها بناء، أو أحدث أعيانًا مستقلة أخرى، وهي التي تسمى "الجدك". يقول الشيخ محمد عليش رحمه الله: " ثم إن الخلو ربما يقاس عليه الجدك المتعارف في حوانيت مصر، فإن قال قائل: الخلو إنما هو في الوقف لمصلحة، وهكذا يكون في الملك، قيل له: إذا صح في وقف فالملك أولى، لأن المالك يفعل في ملكه ما يشاء. نعم: بعض الجدكات بناء أو إصلاح أخشاب في الحانوت مثلًا بإذن، وهذا قياسه على الخلو ظاهر ... وبعض الجدكات وضع أمور مستقلة في المكان غير مستمرة فيه، كما يقع في الحمامات وحوانيت القهوة بمصر، فهذه بعيدة عن الخلوات، فالظاهر أن للمالك إخراجها " (1) . فتبين بهذا أن المالكية لا يقولون بجواز هذا الخلو المتعارف في عصرنا، الذي لا يكون معه شيء من البناء أو الأعيان الثابتة في الدار أو الحانوت، ويئول الأمر إلى ماحكيناه في أول البحث عن الشرنبلالي أن بيع مجرد الخلو لا يجوز، وإنما يجوز إذا كان معه عين مركبة في الحانوت، الذي يعبر عنه بالسكنى تارة، وبالجدك أخرى. والحاصل ما ذكره العلامة ابن عابدين رحمه الله في تنقيح الحامدية حيث قال بعد ذكر السكنى. " وهو غير الخلو الذي هو عبارة عن القدمية ووضع اليد، خلافًا لمن زعم أنه هو، واستدل بذلك على جواز بيع الخلو، فإنه استدلال فاسد، لما علمت من أن السكنى أعيان قائمة مملوكة، كما أوضحه العلامة الشرنبلالي في رسالة خاصة، لكن إذا كان هذا الجدك المسمى بالسكنى قائمًا في أرض وقف فهو من قبيل مسألة البناء أو الغرس في الأرض المحتكرة، لصاحبه الاستبقاء بأجرة مثل الأرض، حيث لا ضرر على الوقف، وإن أبى الناظر، نظرًا للجانبين على ما مشى عليه في متن التنوير ... ولا ينافيه ما في التجنيس من أن لصاحب الحانوت أن يكلفه رفعه، لأن ذلك في الحانوت الملك، بقرينة ما في الفصولين: والفرق أن المالك قد يمتنع صاحبه عن إيجاره، ويريد أن يسكنه بنفسه، أو بيعه، أو يعطله، بخلاف الموقوف المعد للإيجار، فإنه ليس للناظر إلا أن يؤجره، فإيجاره من ذي اليد بأجرة مثله أولى من إيجاره من أجنبي لما فيه من النظر للوقف ولذي اليد " (2) .   (1) المرجع نفسه: 2/252. (2) تنقيح الفتاوى الحامدية، لابن عابدين: 2/200. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1943 بديل الخلو المتعارف: تحقق مما ذكرنا أن بدل الخلو المتعارف الذي يأخذه المؤجر من مستأجره لا يجوز، ولا ينطبق هذا المبلغ المأخوذ على قاعدة من القواعد الشرعية، وليس ذلك إلا رشوة حرامًا. نعم: يمكن تعديل النظام الرائج للخلو إلى ما يلي: 1- يجوز للمؤجر أن يأخذ من المستأجر مقدارًا مقطوعًا من المال، يعتبر كأجرة مقدمة لسنين معلومة، وهذا بالإضافة إلى الأجرة السنوية أو الشهرية. وتجري على هذا المبلغ المأخوذ أحكام الأجرة بأسرها، فلو انفسخت الإجارة قبل أمدها المتفق عليه لسبب من الأسباب، وجب على المالك أن يرد على المستأجر مبلغًا يقع مقابل المدة الباقية من الإجارة. 2- إذا كانت الإجارة لمدة معلومة استحق المستأجر البقاء عليها إلى تلك المدة، فلو أراد رجل آخر أن يتنازل المستأجر عن حقه، ويصير هو المستأجر بدله، يجوز للمستأجر الأول أن يطالب بعوض، ويكون ذلك نزولًا عن حق الاستئجار بعوض، ويجوز ذلك قياسًا على النزول عن الوظائف بمال. ولكن يشترط لذلك أن تكون الإجارة الأصلية إلى مدة معلومة كعشر سنين مثلًا، ويتنازل المستأجر في أثنائها. 3- إذا كانت الإجارة لمدة معلومة، لا يجوز للمؤجر أن يفسخها إلا بمبرر شرعي، فإن أراد أن يفسخها دون مبرر شرعي، جاز للمستأجر أن يطالبه بعوض، ويكون ذلك نزولًا عن حقه بعوض، وهذا بالإضافة إلى ما يستحقه من استرداد جزء باقٍ من المبلغ المقطوع الذي دفعه المستأجر كأجرة مقدمة في بداية العقد. وهذا هو الذي قرره مجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته الرابعة المنعقدة في سنة 1408هـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1944 خلاصة الحكم في الاعتياض عن الحقوق: إلى هنا قد ذكرت ما ظفرت به من الأنواع المختلفة للحقوق التي تحدث الفقهاء عنها وعن عقد المعاوضة عليها. ويتحصل من مجموع ما سبق من أبحاث الفقهاء القواعد التالية: 1- إن الحقوق التي شرعت لدفع الضرر، لا على وجه الأصالة، لا يجوز الاعتياض عنها بصورة من الصور، لا عن طريق البيع ولا عن طريق الصلح والتنازل، مثل حق الشفعة، وحق القسم للمرأة، وخيار المخيرة. 2- إن الحقوق التي ليست ثابتة الآن، وإنما هي متوقعة في المستقبل، لا يجوز الاعتياض عنها بصورة من الصور، كحق الوراثة في حياة المورث، وحق الولاء في حياة المولي. 3- إن الحقوق الشرعية التي ثبتت لأصحابها أصالة، ولكنها لا تقبل الانتقال من واحد إلى آخر، لا يجوز الاعتياض عنها عن طريق البيع، ولكن يجوز عن طريق الصلح والتنازل بمال، مثل حق القصاص، وحق الزوج في بقاء نكاحه مع زوجته، (يجوز الصلح عنه بالخلع والطلاق على مال) . 4- وإن الحقوق العرفية التي هي عبارة عن منافع دائمة من مرافق الأعيان، مثل حق المرور في الطريق، وحق الشرب والتسييل وغيره، يجوز بيعها عند الشافعية والحنابلة مطلقًا، وكذلك يبدو من بعض فروع المالكية. والقول المختار عند المتأخرين من الحنفية أن ما كان من هذه الحقوق متعلقًا بالأعيان الثابتة، فهو مال حكمًا، يجوز بيعه وشراؤه، مثل حق المرور، وحق الشرب، وحق التسييل، بشرط أن لا يكون هناك مانع آخر من جواز البيع، كالغرر والجهالة. ولا يجوز بيع حق التعلي عندهم، لأنه ليس متعلقًا بعين ثابتة. ولكنه يجوز التنازل عنه بمال عن طريق الصلح، كما صرح به الأتاسي. 5- إن للعرف مجالًا في إدراج بعض الحقوق في الأموال، فإن المالية تثبت بتمول الناس، كما يقول ابن عابدين رحمه الله. 6- إن حق الأسبقية، مثل حق الإحياء بعد التحجير، لا يجوز بيعه في القول المختار عند الشافعية والحنابلة، ولكنه يجوز عندهم النزول عنه بمال. 7- المختار عند الحنفية أن حق الوظيفة، وإن كان لا يجوز بيعه، ولكن يجوز النزول عنه بمال، وكذلك حق استئجار الدار أو الحانوت، لا يجوز بيعه، ولكن يجوز التنازل عنه بعوض مالي. وبعد هذا التنقيح نرجع إلى الحقوق المعاصرة التي شاع تداولها اليوم، والتي نقصد بهذا البحث تحقيق حكمها، والله سبحانه هو الموفق للصواب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1945 بيع الاسم التجاري والعلامة التجارية: نشأت مسألة الاسم التجاري والعلامة التجارية منذ أن ازدادت التجارات حجمًا وضخامة، وصار التاجر الواحد أو الشركة الواحدة ينتج ويصدر أمواله الضخمة إلى عدد كبير من الناس والبلاد، وتنوعت المنتجات من جنس واحد باختلاف أوصافها، وصارت هذه الأوصاف تعرف باسم المنتج. فكلما رأى المستهلك أن البضاعة أنتجتها الشركة الفلانية التي عرفت بسمعتها الحسنة في السوق، اشتراها بمجرد سماع الشركة، أو وجود علامتها التجارية على وجه البضاعة. وهكذا صار الاسم التجاري أو العلامة التجارية سببًا لكثرة إقبال المشترين على المنتجات وقلته، فصار الاسم التجاري أو العلامة التجارية لهما قيمة في أنظار التجار، فكل اسم حاز سمعة بين الناس يمثل كثرة رغبة المشترين بضاعة واردة في السوق بذلك الاسم، ويسبب كثرة الأرباح لتاجر يرد السوق بذلك الاسم. ولما ظهر أن بعض الناس شرعوا يستعملون أسماء المنتجين الذين لهم شهرة حسنة فيما بين المستهلكين لتروج بضاعتهم بهذا الاسم، وخيف التباس الأمر على عامة الناس، ظهرت قوانين من قبل الحكومات لتسجيل الأسماء التجارية والعلامات التجارية عند الحكومة، ومنع التجار من استعمال الأسماء والعلامات التي سجلها غيرهم. فصارت هذه الأسماء والعلامات بعد التسجيل لها قيمة مادية في عرف التجار. وشرع التجار يبيعون هذه الأسماء ويشترونها بأثمان غالية وأموال طائلة، لما يرجون من شهرتها كثرة إقبال الناس ورغبتهم في شراء ما ينتجونه. فالسؤال الآن: هل يجوز بيع الاسم التجاري؟ أو العلامة التجارية؟ وظاهر أن الاسم أو العلامة ليس عينًا ماديًا، وإنما هو عبارة عن حق استعمال هذا الاسم أو العلامة، وهذا الحق ثبت لصاحبه أصالة بحكم الأسبقية والتسجيل الحكومي، وهو حق ثابت في الحال، وليس متوقعًا في المستقبل، وهو حق يقبل الانتقال إلى آخر، ولكنه ليس حقًا ثابتًا في عين قائمة فعلى ضوء القواعد التي استخلصناها من كلام الفقهاء، ينبغي أن يجوز الاعتياض عنه على طريق التنازل، دون البيع لأنه ليس حقًا ثابتًا، أو منفعة مستقرة في عين قائمة. وبهذا أفتى شيخ مشايخنا العلامة أشرف علي التهاوني رحمه الله، وقاسه على مسألة النزول عن الوظائف بمال، وحكى فيه عبارة ابن عابدين رحمه الله التي نقلناها في مسألة النزول عن الوظائف، ثم قال: "اوركار خانه كابهي مشابه حق وظائف كي بي. كه ثابت على وجه الأصالة بي، نه كه دفع ضرر كيلى، اور دونون بالفعل أمور إضافية سي يى، اور مستقبل ميى دونون ذريعة يي تحصيل مال كي، يس إس بناير إس كي عوض جيني ميى كنجائش معلوم هوتى هي، كولينى والى كيلئى خلاف تقوى هي، مكر ضرورت مين سي إس كي بهى اجازت هو جائيكى " (1) . " وإن اسم المصنع مشابه لحق الوظائف في أنه ثابت على وجه الأصالة، دون دفع الضرر، وكلاهما أمور إضافية بالفعل، وكلاهما ذريعة لتحصيل المال في المستقبل، فيبدو أن في تعويضه سعة، وإن كان ذلك خلاف التقوى للآخذ، ولكن يؤذن له أيضًا عند الضرورة ".   (1) حوادث الفتاوى، للشيخ أشرف علي التهانوي: 4/71، وإن هذه الفتوى غير موجودة في مجموعة فتاواه المطبوعة باسم "إمداد الفتاوى" في ست مجلدات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1946 ويبدو لهذا العبد الضعيف، عفا الله عنه أن حق الاسم التجاري والعلامات التجارية وإن كان في الأصل حقًا مجردًا غير ثابت في عين قائمة، ولكنه بعد التسجيل الحكومي الذي يتطلب جهدًا كبيرًا، وبذل أمور جمة، والذي تحصل له بعد ذلك صفة قانونية تمثلها شهادات مكتوبة بيد الحامل، وفي دفاتر الحكومة، أشبه الحق المستقر في العين، والتحق في عرف التجار بالأعيان، فينبغي أن يجوز الاعتياض عنه على وجه البيع أيضًا، ولا شك أن للعرف مجالًا في إدراج بعض الأشياء في الأعيان، لأن المالية، كما يقول ابن عابدين رحمه الله، تثبت بتمول الناس. وهذا مثل القوة الكهربائية أو الغاز التي لم تكن في الأزمان السالفة تعد من الأموال والأعيان المتقومة، لأنها ليست عينًا قائمة بذاته، ولم يكن إحرازها في الوسعة البشرية، ولكنها صارت الآن من أعز الأموال المتقومة التي لا شبهة في جواز بيعها وشرائها، وذلك لنفعها البالغ، ولإمكان إحرازها، ولتعارف الناس بماليتها وتقومها. فكذلك الاسم التجاري أو العلامة التجارية أصبحت بعد التسجيل الحكومي ذات قيمة بالغة في عرف التجار، ويصدق عليها أنها تحرز بإحراز شهادتها المكتوبة من قبل الحكومة، وإحراز كل شيء بما يلائمه، ويصدق عليها أيضًا أنها تدخر لوقت الحاجة، فالعناصر اللازمة التي تمنح الشيء صفة المالية متوفرة فيها، سوى أنها ليست عينًا قائمة بنفسها، فيبدو أنه لا مانع شرعًا من أن يسلك بها مسلك الأموال في جواز بيعها وشرائها. وذلك بشرطين: الأول: أن يكون الاسم أو العلامة مسجلة عند الحكومة بصفة قانونية، لأن ما ليس بمسجل لا يعد مالًا في عرف التجار. والثانى: أن لا يستلزم هذا البيع الالتباس أو الخديعة في حق المستهلكين، وذلك بأن يقع الإعلان من قبل المشتري أن منتج هذه البضاعة غير المنتج السابق، وإنما يستعمل هذا الاسم أو العلامة بعد شرائهما بنية أنه سيحاول بقدر الإمكان أن يكون إنتاجه بمستوى الإنتاج السابق أو أحسن منه. وأما بغير هذا الإعلان، فإن انتقال الاسم أو العلامة التجارية إلى منتج آخر سبب اللبس والخديعة للمستهلكين، واللبس والخديعة حرام لا يجوز بحال. والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1947 الترخيص التجاري: وماقلنا في حكم الاسم التجاري والعلامة التجارية من جواز الاعتياض عنهما يصدق على الترخيص التجاري. وحقيقة هذا الترخيص أن معظم الحكومات اليوم لا تسمح بإيراد البضاعة من الخارج أو إصدارها إليه إلا برخصة تمنحها الحكومة، والذي يظهر أن هذا النوع من الحجر على التجار، ولا تستحسنه الشريعة الإسلامية إلا بضرورة ملحة. ولكن الواقع في معظم البلاد هكذا. فالسؤال الذي ينشأ في الظروف الحاضرة: هل يجوز لحامل رخصة الإيراد أو الإصدار أن يبيع هذه الرخصة إلى تاجر آخر؟ والواقع في هذه الرخصة أنها ليست عينًا مادية، ولكنها عبارة عن حق بيع البضاعة في الخارج أو شرائها منه، فيتأتى فيه ما ذكرنا في الاسم التجاري من أن هذا الحق ثابت أصالة فيجوز النزول عنه بمال، وبما أن الحصول على هذه الرخصة من الحكومة يتطلب كلا من الجهد والوقت والمال، ويمنح حاملها صفة قانونية تمثلها الشهادات المكتوبة، ويستحق بها التاجر تسهيلات توفرها الحكومة لحاملها، وصارت هذه الرخصة في عرف التجار ذات قيمة كبيرة يسلك بها مسلك الأموال، فلا يبعد أن تلتحق بالأعيان في جواز بيعها وشرائها، ولكن كل ذلك إنما يتأتى إذا كان في الحكومة قانون يسمح بنقل هذه الرخصة إلى رجل آخر، أما إذا كانت الرخصة باسم رجل مخصوص أو شركة مخصوصة، ولا يسمح القانون بنقلها إلى رجل آخر أو شركة أخرى، فلا شبهة في عدم جواز بيعها، لأن بيعه يؤدي حينئذ إلى الكذب والخديعة، فإن مشتري الرخصة يستعملها باسم البائع، ولا باسم نفسه، فلا يحل ذلك إلا بأن يوكل حامل الرخصة بالبيع والشراء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1948 حق الابتكار وحق الطباعة: إن حق الابتكار حق يحصل بحكم العرف والقانون لمن ابتكر مخترعًا جديدًا أو شكلًا جديدًا لشيء. والمراد من حق الابتكار أن هذا الرجل ينفرد بحق إنتاج ما ابتكره وعرضه للتجارة. ثم ربما يبيع هذا الحق إلى غيره، فيتصرف فيه تصرف المبتكر الأول من إنتاجه للتجارة. وكذلك من صنف كتابًا أو ألفه فله حق طباعة ذلك الكتاب ونشره والحصول على أرباح التجارة. وربما يبيع هذا الحق إلى غيره، فيستحق بذلك ما كان يستحقه المؤلف من طباعته ونشره. فالسؤال: هل يجوز بيع حق الابتكار أو حق الطباعة والتأليف أم لا يجوز؟ وقد اختلفت في هذه المسألة آراء الفقهاء والمعاصرين، فمنهم من جوز ذلك، ومنهم من منع. والمسألة. الأساسية في هذا الصدد: هل حق الابتكار أو حق الطباعة حق معترف به شرعًا؟ والجواب على هذا السؤال أن من سبق إلى ابتكار شيء جديد سواء كان ماديًا أو معنويًا، فلا شك أنه أحق من غيره بإنتاجه لانتفاعه بنفسه، وإخراجه إلى السوق من أجل اكتساب الأرباح، وذلك لما روى أبو داود عن أسمر بن مضرس رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته فقال: ((من سبق إلى ما لم يسبقه مسلم فهو له)) (1) . وإن كان العلامة المناوي رحمه الله رجح أن هذا الحديث وارد في سياق إحياء الموات، ولكنه نقل عن بعض العلماء أنه يشمل كل عين وبئر ومعدن، ومن سبق لشيء منها فهي له (2) ، ولا شك أن العبرة لعموم اللفظ لا الخصوص السبب.   (1) أخرجه أبو داود في الخراج قبيل إحياء الموات. وسكت عليه هو والمنذري:4/264، رقم 2947. (2) فيض القدير: 6/138. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1949 ولما ثبت أن حق الابتكار حق تقره الشريعة الإسلامية بفضل أسبقية إلى ابتكار ذلك الشيء، فينطبق عليه ما ذكرنا في حق الأسبقية من أحكام، وحققنا هنا أن بعض الشافعية والحنابلة أجازوا بيع هذا الحق، ولكن المختار عندهم عدم جواز البيع، ولكن يجوز عندهم النزول عنه بمال، ونقلنا نص البهوتي عن " شرح منتهى الإرادات " في جواز النزول عن حق التحجير وحق الجلوس في المسجد، وما إلى ذلك من حقوق الأسبقية والاختصاص، ومقتضى ذلك أن يجوز النزول عن حق الابتكار أو حق الطباعة لرجل آخر بعوض يأخذه النازل، ولكن هذا إنما يأتي في أصل حق الابتكار وحق الطباعة، أما إذا قرن هذا الحق بالتسجيل الحكومي الذي يبذل المبتكر من أجله جهده وماله ووقته والذي يعطي هذا الحق مكانة قانونية تمثلها شهادة مكتوبة بيد المبتكر وفي دفاتر الحكومة، وصارت تعتبر في عرف التجار مالًا متقومًا فلا يبعد أن يصير هذا الحق المسجل ملحقًا بالأعيان والأموال بحكم هذا العرف السائر، وقد أسلفنا أن للعرف مجالًا في إدراج بعض الأشياء في حكم الأموال والأعيان، لأن المالية كما حكينا عن ابن عابدين رحمه الله تثبت بتمول الناس، وإن هذا الحق بعد التسجيل يحرز إحراز الأعيان، ويدخر لوقت الحاجة ادخار الأموال، وليس في اعتبار هذا العرف مخالفة لأي نص شرعي من الكتاب أو السنة، وغايته أن يكون مخالفًا للقياس، والقياس يترك للعرف، كما تقرر في موضعه. ونظرًا إلى هذه النواحي أفتى جمع العلماء المعاصرين بجواز بيع حق، أذكر منهم من علماء القارة الهندية: مولانا الشيخ فتح محمد اللكنوي رحمه الله (تلميذ الإمام عبد الحي اللكنوي رحمه الله) (1) والعلامة الشيخ المفتي محمد كفاية الله (2) والعلامة الشيخ نظام الدين، مفتي دار العلوم بديوبند (3) وفضيلة الشيخ المفتي عبد الرحيم اللاجبوري (4) . وأما المانعون فتمسكوا أولًا بأن حق الابتكار حق، وليس عينًا ولا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة، ولكن يتضح مما سبق من كلام الفقهاء أن عدم جواز الاعتياض عن الحقوق ليس على إطلاقه. بل فيه تفصيل بسطناه عند الكلام على شتى أنواع الحقوق وتمسكوا ثانيًا بأن من باع كتابًا إلى آخر، فقد ملك المشتري ذلك الكتاب بجميع أجزائه، ويجوز للمشتري أن يتصرف فيه كيف شاء، فيجوز له أن يقوم بطباعته، وليس للبائع أن يحجر عليه في هذا الصدد. ولكن ممكن الجواب عنه بأن التصرف في الشيء شيء، وإنتاج مثله شيء آخر، وإن الذي يملكه المشتري بشراء الكتاب هو الأول، فيجوز له أن يتصرف في الكتاب بما شاء قراءة وانتفاعا، وبيعا، وإعارة، وهبة وما إلى ذلك من التصرفات الأخرى، وأما طباعة مثل هذا الكتاب، فليس من منافع المبيع، يستلزم ملكه ملكًا لحق الطباعة، وهذا مثل الفلوس المسكوكة من قبل الحكومة، إذا اشتراها رجل جاز له أن يتصرف فيها ما شاء من بيع وهبة وعارية واستبدال، وما إلى ذلك من التصرفات الفردية، ولكن لا يجوز له بحكم هذا الشراء أن يسك فلوسًا أخرى على منواله، فظهر بهذا أن ملك الشيء لا يستلزم حق المالك في إنتاج مثله. وتمسكوا ثالثًا بأن الذي ينتج هذا الشيء المبتكر أو يطبع ذلك الكتاب المؤلف، فإنه لا يسبب خسارة للمنتج أو المؤلف، وغاية ما في الباب أنه يقلل من ربح المنتج أو المؤلف، وقلة الربح شيء، والخسارة شيء آخر.   (1) عطر الهداية: ص 192 إلى 194. (2) عطر الهداية: ص 192 إلى 194. (3) نظام الفتاوى: ص 128 إلى 133. (4) فتاوى رحيمية: 3/142. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1950 ويمكن الجواب هذا بأن قلة الربح وإن لم يكن خسارة، ولكنه ضرر، وبين الخسارة والضرر فرق واضح، ولا شك أن الذي تحمل المتاعب والمشاق الجسيمة والفكرية وبذل الأموال الجمة والأوقاف الغالية في إيجاد شيء أو تأليف كتاب، وسهر من أجل ذلك ليالي، وتنازل عن الراحة، أحق بالاسترباح بما ابتكره من الرجل الذي اشتراه بمال بسيط في لحظة واحدة، ثم جعل يسد السوق أمام المبتكر الأول. وربما يقال: إن الاعتراف بحق الطباعة لفرد واحد يسبب كتمانًا للعلم، ولكن كتمان العلم إنما يكون إذا منع المؤلف الناس من الاستفادة بما ألفه قراءةً وتبليغًا، ولكن الذي يحتفظ بحق الطباعة لا يمنع أحدًا من قراءة الكتاب ولا دراسته ولا تعليمه ولا تبليغ ما فيه، حتى إنه لا يمنع من بيعه والتجارة فيه، ولكنه يمنع من أن يطبعه الآخر بغير إذن منه، ليكسب بذلك الأرباح، فليس ذلك من كتمان العلم في شيء. والدليل الأخير للمانعين هو: أن الاحتفاظ بحقوق الطباعة يضيق دائرة انتشار الكتاب، ولو كان لكل أحد حق في طبع الكتاب ونشره، لكان انتشاره أوسع، وإفادته أعم وأشمل. وهذا أمر واقع لا مجال لإنكاره، ولكن الدليل ينقلب إذا نظرنا من ناحية أخرى، وهي أن المبتكرين لو منعوا حق أسبقيتهم بالاسترباح مما ابتكروه لفشلت هممهم عن اقتحام المشاريع الكبيرة من أجل الاختراعات الجديدة حينما يرون أن ذلك لا يدر إلا ربحًا بسيطًا، وإن مثل هذه الأمور التي تحتمل وجهين لا تفصل القضايا الفقهية ما دام الشيء ليس فيه محظور شرعي، فإن جميع المباحات فيها ما يضر وينفع. والله سبحانه وتعالى أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الشيخ محمد تقي العثماني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1951 بيع الاسم التجاري والترخيص إعداد الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي رئيس قسم الشريعة الإسلامية بجامعة الإمارات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد: فقد أقرت القوانين الوضعية الحديثة مايسمى بحق الملكية الأدبية والفنية والصناعية، مثل حقوق التأليف، وحق الرسام في لوحاته المبتكرة، وبراءة الاختراع، والعلامات التجارية الفارقة، والاسم التجاري والترخيص. فلا يجوز لأحد المساس بهذا الحق أو الاعتداء عليه، ويجوز لصاحبه أن يتنازل عنه في مقابل عوض مالي أو نقدي، بسبب الشهرة التي أحدثها صاحبه في محل الحق، وحق الرواج في الأسواق للأشياء التي تحمل اسمه، بناءً على ترخيص من الدولة، وحمايةً منه لهذه الحقوق. والسؤال الآن، هل يجوز بيع هذا الحق؟ وخصوصًا بيع الاسم التجاري والترخيص الممنوح من الدولة بإقامة مصنع أو فتح متجر مثلًا. يمكن الإجابة عن هذا السؤال من خلال ما أبانه فقهاؤنا في تعريف المال والملك، وضوابط التمول، والاعتياض عن الحق. للفقهاء في هذا اتجاهان: الأول لمتقدمي الحنفية،والثاني لمتأخري الحنفية وجمهور الفقهاء. أما الاتجاه الأول لمتقدمي الحنفية: فهو أن الشيء لايعد مالًا إلا بتوافر عنصرين فيه، وهما: إمكان الحيازة والإحراز، وإمكان الانتفاع به أو عرفًا، فلا يعد مالًا ما لا يمكن حيازته وإحرازه كالأمور المعنوية كالعلم والصحة والشرف، وكذا كل ما لا يمكن الانتفاع به إما لضرره وفساده كلحم الميتة والطعام المسموم أو الفاسد، وإما لتفاهته كحبة حنطة أو قطرة ماء، وهذا يعني أن المال عند هؤلاء يقتصر على ما له صفة مادية محسوسة، أما المنافع والحقوق فليست أموالًا وإنما هي ملك، لا مال؛ لعدم إمكان حيازتها بذاتها، وإذا وجدت فلا بقاء ولا استمرار لها؛ لأنها معنوية، وتنتهي شيئًا فشيئًا تدريجيًا إذا لم تستوف المنفعة مع مرور الزمان المتجدد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1952 ويمكن أخذ العوض عن المنفعة إذا ورد العقد عليها، كعقد الإيجار،وأما الحقوق المجردة كحق الشفعة، وحق الحضانة والولاية والوكالة وحق المدعي في تحليف خصمه اليمين،وحق المرأة في قسم زوجها لها كما يقسم لضرتها، فلا يجوز الاعتياض عنها (1) ، لأنها حقوق أثبتها الشرع لأصحابها لدفع الضرر عنهم، وماثبت لدفع الضرر لايصح الصلح عليه أو التنازل عنه بعوض. وهناك حقوق ثبتت لأصحابها أصالة لا على وجه رفع الضرر، كحق ولي المقتول بالقصاص من القاتل، وحق الزوج في بقاء عقد الزواج قائمًا أي استمرار الزوجية، وهذه الحقوق يجوز أخذ البدل عنها والمعاوضة عليها بالمال، فيجوز لولي الدم (المقتول) أن يعفو عن حقه بالقصاص مقابل مال من القاتل، وللزوج أن يأخذ من زوجته مالًا (عوض الخلع) ، مقابل التنازل عن حقه في فسخ الزواج. ومن هذه الحقوق حقوق الارتفاق، كحق التعلي وحق الشرب وحق المسيل، يجوز المعاوضة عنها؛ لأنها ثبتت لأصحابها ابتداءً بحق شرعي، ولتعارف الناس التنازل عنها بالمال (2) . وحق الملكية الأدبية والفنية والصناعية ومنه بيع الاسم التجاري والترخيص من هذا النوع الثاني؛ لأن هذا الحق يثبت لصاحبه دفعًا للضرر عنه فقط، وإنما ثبت له ابتداء، فلم توجد الشهرة التجارية ورواج السلعة إلا بجهد صاحب الاسم التجاري وتعبه وعنائه وإتقانه العمل، فصار حقه أصيلًا ملازمًا له، يجوز له الاعتياض عنه بالمال، وبخاصة أن الاعتياض عن حقه بالمال أصبح عرفًا عامًا مقررًا، وممنوحًا من قوانين الدول المعاصرة، ثم إن الاسم التجاري والترخيص عنصر من عناصر المحل التجاري. كما أن الترخيص ذا قيمة مالية في عرف الناس، إذ لا يمكن الحصول عليه إلا بجهود متواصلة وكبيرة، وبعد دفع رسوم كثيرة للدولة، فصار ملكًا لمن منح له الترخيص وكل ما يجري فيه الملك يجري فيه المعاوضة فيما عدا الحقوق المقررة في النوع الأول عند الحنفية.   (1) الدر المختار ورد المحتار: 4/3؛ والبحر الرائق: 2/227؛ والأشباه والنظائر، لابن نجيم، باب الملك: ص 346. (2) شرح المجلة (م 36-37) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1953 أما متأخرو الحنفية: فلم يجعلوا إمكان الحيازة والإحراز أو العينية المادية من مقومات المال، جاء في الدر المنتقى شرح الملتقى في تعريف المال: " ويطلق المال على القيمة، وهي ما يدخل تحت تقويم مقوم من الدراهم والدنانير " (1) . وهذا يدل على أن كل ما له قيمة بين الناس فهو مال شرعًا؛ لأن القيمة المالية تتضمن وتستلزم المنفعة، ولا يتعارف الناس تقويم ما ليس له منفعة، ولا يجري فيه التعامل. ثم إن متأخري الحنفية أفتوا بضمان منافع المغصوب في ثلاثة أشياء، منها المال المعد للاستغلال. والشيئان الآخران: المال الموقوف ومال اليتيم. وأما الاتجاه الثاني لجمهور الفقهاء (من المالكية والشافعية والحنابلة) (2) ، فيلتقي مع رأي متأخري الحنفية، فهم يعرفون المال بأنه: كل ما له قيمة مالية عرفًا يلزم متلفه بضمانه. وهذا يلتقي مع القوانين الوضعية في تعريف المال، ويشمل الأعيان والمنافع وسائر الأمور المعنوية كالحقوق من كل ما يدخل تحت الملك؛ لأن الحقوق كلها تقوم على أساس الملك، إذ الحق جوهره الاختصاص، والاختصاص جوهر الملك وحقيقته، وإلا لما كانت حقوقًا، بل مجرد إباحات، وإذا كانت الحقوق من قبيل الملك فالحقوق أموال، إذ المال مرادف للملك في رأي الفقهاء الذين عرفوا الملك: بأنه اختصاص حاجز شرعًا يخول صاحبه التصرف فيه إلا لمانع. وحق الملكية يمنح صاحبه سلطات أو صلاحيات ثلاثًا هي الاستعمال والاستغلال والتصرف، وبتعبير فقهائنا: " التمكين من الانتفاع ". والتصرف يجيز التنازل عن محل الحق بعوض أو بغير عوض. وهذا يعني أن المعوضة أثر الملك وثمرته، وأن لصاحبه عليه حقًا عينيًا بدليل اعتراف القوانين به، وعرف الناس عليه. والعرف الحالي هو الذي جعل للاسم التجاري والترخيص صفة المالية، ومستند هذا العرف الاستصلاح أو المصلحة المرسلة المتعلقة بالحقوق الخاصة والعامة، ولا يتعارض هذا العرف مع نص شرعي، وإنما يتعارض عند متقدمي الحنفية مع القياس، والقياس يترك بالعرف العام باتفاق العلماء. والعلاقة بين الاسم التجاري والترخيص وبين صاحبه علاقة اختصاصية ومباشرة، كسائر الحقوق الأدبية، فهو إذا حق عيني لا شخصي، كأي حق ملكية آخر، والحق العيني كما هو معروف: سلطة مباشرة بين شخص وشيء معين بذاته. والخلاصة: أن بيع الاسم التجاري والترخيص في الأعراف السائدة اليوم أمر جائز فقهًا؛ لأنه أصبح مالًا، وذا قيمة مالية، ودلالة تجارية معينة، يحقق رواج الشيء الذي يحمل الاسم التجاري، والذي منح صاحبه ترخيصًا بممارسة العمل، وهو مملوك لصاحبه، والملك يفيد الاختصاص أو الاستبداد أو التمكن من الانتفاع بالشيء المملوك، والعلاقة بين الشخص واسمه التجاري علاقة حق عيني، إذ هي علاقة اختصاصية ومباشرة، ومستند كون الاسم التجاري متمولًا هو العرف المستند إلى مصلحة معتبرة شرعية تتضمن جلب المنفعة ودفع المضرة. ولا يصادم ذلك نصًا شرعيًا. وهذا ينطبق على كل " إنتاج فكري " أدبي أو فني أو صناعي، لما له من قيمة مالية بين الناس عرفًا، وخصائص الملك شرعًا تثبت فيه وهي الاختصاص الذي هو جوهر حق الملكية، والمنع، أي منع الغير من الاعتداء عليه إلا بإذن صاحبه، وجريان التعامل فيه، والمعاوضة عنه عرفًا. الدكتور وهبة الزحيلي   (1) الدر المختار ورد المحتار: 4/11. (2) الموافقات: 2/17؛ والفروق: 3/208؛ وبداية المجتهد: 2/240؛ والشرح الكبير للدردير: 4/257؛ والأشباه والنظائر للسيوطي: ص258؛ والمغني مع الشرح الكبير 5/439؛ والإقناع: 2/59. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1954 الحقوق المعنوية: حق الإبداع العلمي وحق الاسم التجاري طبيعتهما وحكم شرائهما إعداد الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي أستاذ بكلية الشريعة – جامعة دمشق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن هذا الموضوع يتناول بعض الاختصاصات الحاجزة التي تدخل في مضمون الحق لنتبين طبيعة الحق فيها: أهو حق معنوي مجرد لا ينحط على عين مادية ولا يسري ضمن - أو إلى - منفعة مالية متقومة؟ أم هو حق مالي متقرر، يتعلق بمنافع مالية متقومة؟ ثم لنتبين على ضوء ذلك حكم بيع هذه الحقوق وشرائها، وما يترتب على ذلك. وقد تناولت في هذا البحث حقين من هذه الحقوق: أولهما: حق الابتكار أو الإبداع العلمي (التأليف) . ثانيهما: حق الاسم التجاري. وأعني بالاسم التجاري الشعار الذي يتخذ عنوانًا لبضاعة ما ذات صناعة متميزة، وهو ما يطلق عليه " الماركة " كما أعني به أيضًا، الاسم الذي يتخذ لقبًا علي محل تجاري بقطع النظر عما فيه من الأصناف. ويدور الحديث في بحثنا هذا إذن، عن معنى الحق وطبيعته في كل من هذه الحقوق الثلاثة (إذا اعتبرنا الاسم التجاري نوعين) ، ثم عن حكم شراء هذه الحقوق والاعتياض عنها ما يترتب على ذلك. والله ولي الهداية والتوفيق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1955 مقدمة الحقوق المعنوية بدأنا بحثنا بهذا العنوان التمهيدي، انسجامًا مع أصل العنوان المقترح للبحث، والذي يهمنا بيانه، هو الاطلاع على مدى علاقة " الحقوق المعنوية " بحق الابتكار، وما يسمى بالاسم التجاري ونحوه.. حتى إذا تبين أن هذه الحقوق الجزئية التي قد ينظر إليها من حيث هي منافع متقومة، داخلة تحت هذا العنوان: " الحقوق المعنوية " أدخلناها تحت سلطان الأحكام المترتبة عليه، تلك الأحكام المعروفة والمفصلة في أماكنها من كتب الفقه. أما إن رأينا أن هذه الحقوق الجزئية التي نريد الحديث عنها، بمعزل عن مضمون هذا العنوان، فلا مناص عندئذ من إبعاده عن خطة البحث، حتى لا نقع في أي متاهة أو لبس. كلمة " الحقوق المعنوية " يراد بها في المصطلح الفقهي ما يقابل الحقوق المالية سواء منها ما يتعلق بالأعيان المتقومة أو بالمنافع العارضة.. كحق البائع في الثمن وحق المشتري في المبيع، وحق الشفيع في الشفعة، وكحقوق الارتفاع وحق المستأجر في السكنى (1) فكل حق لم يتعلق بمال عيني ولا بشيء من منافعه العارضة، فهو حق معنوي.. مثل حق القصاص وحق رفع الدعاوى وحق الطلاق والولاية، وسائر الحقوق المتعلقة بالكرامة الإنسانية وعموم ما يدخل في معني " العرض " (2) . ذلك لأن الاختصاص الذي يقضي به الشارع لصاحب هذا الحق، أمر تقديري لا ينحط على عين مادية، ولا يسري ضمن منفعة متقومة، فكان هذا الاختصاص من جراء ذلك (وهو معنى الحق في الجملة) شيئًا معنويًا أو متعلقًا بأمر معنوي. ولا يغير من واقع هذا الاصطلاح ومعناه، إمكان الاستعاضة عن بعض الحقوق المعنوية بالمال، كالقصاص مثلًا، ذلك لأن مشروعية الاستعاضة فيه ليست آتية من كون ذلك الحق متقومًا بذاته، بل بموجب نص من الشارع في ذلك الحق بعينه، بحيث لو لم ينص الشارع على مشروعية الدية، لما ظهر أي جسر بينه وبين القصاص يتمثل في المنفعة المتقومة. على أن حديثنا لن يتناول شيئًا مما يدخل تحت اسم الاستعاضة عن الحق المعنوي بالمعني الفقهي المحدد، وإنما يتناول البحث في مدى سريان معني المال ضمن حقوق معينة، قضى العرف التجاري بها أو بكثير منها اليوم حتى إذا علمنا أنها تنطوي شرعًا، وبحد ذاتها، على قيمة مالية ثابتة، بنينا على ذلك الأحكام الملائمة، من إمكان البيع والرهن والإيجار وعقد الشركات، والحوالة بها وعليها ونحو ذلك. ونظرًا إلى هذا كله، فإن بوسعنا أن نقرر بأن " الحقوق المعنوية " لا علاقة لها بكل من حق الابتكار والاسم التجاري. وستزداد هذه الحقيقة وضوحًا خلال دراستنا لكل من هذين الحقين وما يتعلق بكل منهما، لا سيما عصرنا هذا.   (1) وبذلك تشمل كلمة الحقوق المالية ما يتعلق بالأعيان التي يمكن حيازتها، وهو المعني بالمال في اصطلاح الحنفية، وما يتعلق بالمنافع، وهو داخل في معنى المال عند غيرهم من جمهور الفقهاء. (2) انظر أقسام الحق وأنواع الاختصاصات في كتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعزبن عبد السلام: 2 / 573. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1956 حق الابتكار أو الإبداع لعل هذا الاصطلاح فيه من الاتساع ما يشمل سائر الصور والجزئيات المطروحة في هذا البحث من حق التأليف وإبداع الصنعة ومدلول " الماركة " وعموم ما يسمى اليوم بالاسم التجاري. ذلك لأن مصدر الحق في هذه الصورة الجزئية وأمثالها، هو الجهد الإبداعي الذي استقل به شخص دون غيره، أو أشخاص محددون. سواء تعلق هذا الحق بمعان ومدركات ذهنية مجردة، أو تعلق بمصنوع مادي أورث اهتمامًا وفائدة للآخرين. غير أن حديثنا تحت هذا العنوان الجزئي إنما يتناول التأليف دون غيره من المبتكرات الأخرى، وهي كثيرة ومتنوعة. والمفروض أن المراد بالتأليف في هذا المقام، ما ينطوي على عمل إبداعي أيًا كانت درجته من الأهمية. فأما التأليف الذي يطلق في بعض الأحيان، تبعًا، علي عملية نقل مجردة، أو تجميع عار عن أي تركيب إبداعي يبرز فائدة جديدة لم تكن معروفة ولا واضحة، فهو وإن اندرج تبعًا تحت اسم التأليف، لا يمكن أن يدخل في معني الإبداع أو الابتكار الذي هو مناط ما سننتهي إليه من الأحكام. إذا تحدد المضمون المراد من هذا العنوان، فلنبدأ بعرض السؤال التالي: هل الجهد الفكري في التأليف، يورث صاحبه – في ميزان الشرع – أي اختصاص حاجز يتضمن معنى الحق؟ (1) . والجواب نعم، بل لا نعلم في هذا القدر أي خلاف.. ومن أبرز ما يدل على ذلك ما هو ثابت من حرمة انتحال الرجل قولًا لغيره، أو إسناده إلى غير من صدر عنه بل كانت الشريعة الإسلامية قاضية ولا تزال بنسبة الكلمة والفكرة إلى صاحبها.. لينال هو دون غيره أجر ما قد تنطوي عليه من خير، ويتحمل وزر ما قد تجره من شر. بل وقد ذهب الإمام أحمد في تحديد هذا الاختصاص وتفسيره مذهبًا جعله يمنع من الإقدام علي الاستفادة بالنقل والكتابة عن مقال أو مؤلف عرف صاحبه، إلا بعد الاستئذان منه. فقد روى الغزالي أن الإمام أحمد سئل عمن سقطت منه ورقة كتب فيها أحاديث أو نحوها، أيجوز لمن وجدها أن يكتب منها ثم يردها؟ فقال: لا، بل يستأذن، ثم يكتب (2) .   (1) عرف صاحب كشف الأسرار الحق الخاص بأنه: موجود من كل وجه تتعلق به مصلحة خاصة عائدة لمن ينسب إليه. وهذا التعريف ينطوي على الاختصاص الحاجز كما هو واضح. (كشف الأسرار على أصول البزدوي: 4 / 134 و 135) . (2) الإحياء، للإمام الغزالي: 1 / 96 طبعة مصطفى محمد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1957 وسواء أكان مصدر هذا الحكم أخلاقيًا مجردًا يتعلق بآداب التعامل والسلوك، أو اقتصاديًا يتمثل في منفعة مالية متقومة، فإنه في كل الأحوال ينطوي على اختصاص ما، يعطي صاحبه حق التسلط على ما اختص به، وذلك هو معنى الحق. إذن، فالتأليف يورث صاحبه حقًا يتعلق بمحله الذي هو ثمرة جهده الفكري أو العلمي. ولكن ما هي طبيعة هذا الحق؟ أهو حق مادي مالي، أم هو حق معنوي خال عن شوائب النفع المادي أو المالي؟ ونقول في الجوانب: في العصور الغابرة، حيث كانت الإبداعات الفكرية والعلمية تنشأ داخل أفكار أصحابها، ثم لا تستقر إلا بكتابتها على أيدي النساخ الذين كانوا يبذلون جهودًا شاقة في عملية النسخ والكتابة: لم يكن يتجلى لهذا الحق أي معنى أو قيمة، أكثر من مجرد اختصاص نسبة، تكسب صاحبها، كما أوضحنا، المثوبة والثناء، فيما هو مقبول ومستحسن، وتعرضه للقدح والعقاب فيما هو مرفوض ومستهجن. أما القيمة المالية، فلم يكن ليبدو شيء منها، منوطًا بتلك الإبداعات العلمية. من حيث هي إبداع علمي، أي بقطع النظر عن أعطيات الحكام والأمراء ونحوهم.. ومن ثم لم تطرح فكرة الحق المالي في التأليف في أي من تلك العهود الغابرة، وربما لم تكن تخطر من أحدهم على بال وعلى هذا فبوسعنا أن نقول: إن هذا الحق كان حينئذ حقًا معنويًا. ولكن، فما السبب في ذلك؟ إن السبب يتمثل فيما يلي: إن القيمة المالية في الشيء إنما يبرزها، بل يوجدها، العرف الاجتماعي، سواء أعرفنا المال بأنه كل ما يمكن حيازته مما يمكن الانتفاع به كما هو رأي الحنفية، أو عرفناه بأنه مطلق ما كانت له قيمة يعتد بها عرفًا كما هو رأي الجمهور. ذلك لأن إقبال الناس على الشيء بالاستفادة منه أو إعراضهم عنه، هو الذي يلعب الدور في إعطاء ذلك الشيء أو عدم إعطائه القيمة ... ومن أبرز الأمثلة على ذلك دود القز. فقد مر عهد طويل في بعض البلاد، والناس لا يرون لدود القز أي جدوى، إذا لم يكونوا يقبلون عليه بأي محاولة استفادة، إما لجهلهم بما فيه من المزية المعروفة، وإما لجهلهم بسبل الوصول إلى هذه المزية فيه.. ومن ثم فلم يكن التعامل به مشروعًا، حتى إذا تبدلت الأحوال وتنبه الناس إلى ما فيه من مزية، وتمرسوا بسبل استخراج الحرير منه، تغير الحكم فأصبح التعامل به مشروعًا، بل أصبح مصدرًا من مصادر الثروة والتجارة (1) .   (1) انظر ما كتبه الإمام النووي موسعًا في أثر العرف في المنافع والأموال، وحكم بيع دود القز. في المجموع: 9 / 227 و240 وما بعد. وانظر مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 / 125. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1958 ولم يكن في مألوف الناس وعرفهم السائد أن جهدًا فكريًا أو عمليًا ظهر من خلال كتابة مرقومة على صفحات، يقوم بأي قيمة مالية، ما عدا قيمة الورق والحبر والجهد الذي بذله الناسخ في الكتابة. نعم، ربما كان ينظر إليه من خلال قيمة معنوية قد تكون أهم وأخطر، كخدمة الدين وإزالة كثير من الغواشي التي قد تغشي عليه، وكاللذة التي يجدها القارئ في الاطلاع على حقيقة علمية كانت محجوبة أو غائبة، أو في حل مشكلة فكرية مستحكمة. والمفروض أن فائدة عظيمة كهذه يتسابق إليها الناس ويتنافسون عليها، من شأنها أن تتحول إلى قيمة مالية ومنفعة متقومة، بمقتضى ما يفرزه قانون العرض والطلب. غير أن الذي كان يحول دون ذلك أن هذه الفائدة – على الرغم من أهميتها – كانت تستهلك في جهد الناسخ وعمله الصبور الدائب، وذلك نظرًا لما كانت الكتابة تتطلبه من صبر وجهد آنذاك. وهكذا، فإن الكتاب مهما عظمت الفائدته المعنوية ومهما كان محل رغبة عالية من جماهير الناس، فإن القيمة المالية التي يمكن أن تقدر تلك الفائدة بها، تذوب وتختفي إزاء قيمة الجهد الكبير الذي كان النساخ يبذلونه في سبيل رصد هذه الفائدة وتسجيلا، بحيث تبدو قيمة النسخ مساوية أو أغلى من قيمة المضمون العلمي أو الفكري للكتاب. ولمزيد من الإيضاح نقول: إن جهد الناسخ لكتاب ما عندما يقدر بعشرة دنانير مثلا، فإن القيمة الاسمية له لن تزيد في السوق على هذا المبلغ. ذلك لأن الناسخ هو الذي يقرر الثمن، وإنما الثمن من وجهة نظره قيمة جهده اليدوي وتكاليف الكتابة، إن كان من وجهة نظر المشتري قيمة ما يتضمنه الكتاب من علم وإبداع فكري إذ هو لا ينظر إلى الجهد الكتابي – مستقلًا – بأي اعتبار ذاتي! ... ويمكن أن يقال عندئذ إن هذا المؤلف له قيمة مالية في نظر القراء المقبلين عليه، ولكن يجب أن لا يغيب عن البال أن هذه القيمة استهلكت داخل القيمة التي اقتضاها جهد الكتابة وتكاليفه. وهكذا فإن المؤلف لم يكن يخطر بباله قط أن يجعل من أعماله العلمية مصدر رزق، لأن وصولها إلى أعين القراء وأفكارهم كان يتطلب دائمًا جهدًا أغلى أو مساويًا لقيمة أعماله العلمية تلك. ولهذه المسألة نظير معروف في حياتنا اليوم، وهو أننا كثيرًا ما نتأكد من وجود معادن ثمينة داخل بقعة ما من الأرض التي في جوزتنا. غير أن السعي إلى استخراج هذه المعادن وتصفيتها يتطلب من الجهد والتكاليف ما قد يربو ثمنه على القيمة تلك المعادن، ووجوه الاستفاده منها.. لا ريب أن قيمة تلك المعادن تضمحل وتذوب إزاء الجهود والصعوبات التي تقف في طريق استخراجها. وعندئذ يصح أن يقال إن هذه المعادن لا تنطوي – حكمًا – علي أي قيمة مالية حية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1959 أما اليوم، وقد ظهرت الآلات الطباعة التي تقذف الواحدة منها عشرات النسخ من الكتاب في الدقيقة الواحدة، فقد اختلفت موازين الأمر!.. إن إخراج النسخة الواحدة مطبوعة مجلدة جاهزة للقراءة، لم يعد يكلف إلا مبلغًا زهيدًا من المال، هو في مجموعة قيمة الورق والغلاف ونفقات الآلة، يتبين لك ذلك عندما تقسم مجموع النفقات على عشرين ألف نسخة مثلًا.. وأمام ضمور كلفة استخراج النسخة الواحدة تبرز قيمة المضمون العلمي له، تلك القيمة التي ظلت خفية أو ضامرة ضمن ضخامة القيمة التي كان يستحقها إخراج النسخة الواحدة منه. وهذا هو السبب في تسابق الناشرين وأصحاب المطابع إلى طبع آلاف النسخ من مؤلف أو ابتكار علمي، يشعرون أن له قيمة مالية، وراء تكاليف الطباعة والإخراج. فقد تحولت عملية الإنفاق على ذلك إلى أداة اقتناص لقيمة مالية، كان يعوزها أن تحبس في وعاء صالح، ليتسنى بذلك بيعها وتسليمها لآلاف الراغبين. ولكن فمن الذي يستحق هذه القيمة المالية التي برزت لمضمون هذا الكتاب، بفضل ظهور وسائل الطباعة الحديثة؟ والجواب المضمون العلمي للكتاب إذا كان حقًا لمؤلفه الذي أبدعه، كما سبق أن أوضحنا، طبقًا للأدلة التي لا خلاف فيها، فلا ريب أن كل ما قد يبرز فيه من قيمة مالية، لا بد أن يكون عائدًا بالضرورة لصاحب الحق بذاته. غير أن الذي يقوم بدور الطباعة والإخراج، يستحق على ذلك أجره كاملًا غير منقوص. ويعود الأمر ليشبه، مرة ثانية، تلك الأرض الغنية بالمعادن، عندما قامت الوسائل الحديثة باستخلاصها وتحضيرها، ومن ثم أبرزت القيمة الذاتية لها.. إذا لما هبطت قيمة تلك التكاليف والجهود هبوطًا كبيرًا، صعدت من خلال ذلك قيمة تلك المعادن وأمكن التعامل بها على هذا الأساس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1960 ولكن كيف يمكن للمؤلف صاحب هذا الحق، أن يستوفي من الناس قيمته وعلى أي أساس؟ ومن الواضح أن الجواب على هذا السؤال يتوقف على الجواب عن سؤال أسبق منه، وهو: كيف يتسنى للراغب في الاستفادة من هذا الإبداع العلمي أن يستوفي لنفسه الفائدة منه؟ والجواب أن إمكان هذا الاستيفاء متوقف على إمكان تسليم المؤلف ابتكاراته العلمية هذه للآخرين.. وإنما سبيل ذلك تسجيلها عن طريق الطباعة والنشر. فبذلك يمكن التسليم، ويمكن للآخرين أن يستوفوا الفائدة التي هي مناط القيمة المالية. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الحكم الذي يتكفل باستيفاء كل من الطرفين للقيمة التي يطمح إليها، إنما هو البيع. ويتسنى تكييف هذا الحكم بإحدى طريقتين: الأولى: اعتبار الطابع أو الناشر هو المشتري لحق الابتكار، ثم إنه يبيعه للناس بدوره في وعائه المادي الذي هو الكتاب، ولكن لا بد أن يكون عقد الشراء بين المؤلف والناشر واقعًا على وعاء مادي يتمثل في النسخة المخطوطة التي يتقدم بها المؤلف، على أن يصحب ذلك اشتراط رفع المؤلف يده عن حقه هذا كليًا، أو جزئيًا، أي إلى أمد محدود. الثانية: اعتبار المستهلكين " آحاد الناس " هم المشترين من المؤلف، ولكن عن طريق الطابع أن الناشر. وإنما يستحق كل منهما عندئذ الأجر المتفق عليه من المؤلف. أي إن الطابع أو الناشر في هذه الحالة مجرد وسيط بين البائع والمشتري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1961 غير أن العقدة التي تخضع للمناقشة والبحث هي الوجه الشرعي الذي يمكن أن يجاب به على السؤال التالي: ألم يصبح المشتري، أيًا كان، للكتاب، مالكًا له؟ ومن ثم ألم يعد من حقه أن يتصرف بكاتبه هذا كما يشاء؟ كأن يصور منه آلاف النسخ ثم يبيعها للناس كما يشاء؟ لكي نتصور الجواب العلمي عن هذا السؤال، ينبغي أن نتذكر أن عقد البيع كان ينبغي أن يقع على المنفعة العلمية المقدرة التي ابتكرها المؤلف، إذ هي المقصود دون غيرها. غير أن المنفعة لما لم يمكن تسليمها، ومن ثمن لم يمكن استيفاؤها، إلا ضمن وعاء مادي يتمثل في كتاب، فقد كان لا بد أن يقع عقد البيع على هذا الوعاء. وإذن فلا شك أن قدرًا محددًا من تلك المنفعة العلمية تم بيعه تبعًا للوعاء الذي هو مناط العقد. وهذا القدر المحدد يحدده فعلًا الوعاء المادي المتمثل في عدد النسخ التي يتم الاتفاق على طبعها إن تصورنا أن الناشر هو المشتري، أو في عدد النسخ التي تم الاتفاق على شرائها إن فرضنا أنه المستهلك. ويترتب على هذا التصور أن الناشر لا يملك حق طبع عدد أكثر مما تم الاتفاق عليه. كما أن المستهلك أيضًا لا يملك – اعتمادًا على امتلاكه للكتاب – أن يطبع أي عدد منه قل أو كثر، لأن كلًا من الناشر والمستهلك إنما يستلُّ بهذا العمل الذي يقدم عليه من حوزة المؤلف حقًا متقومًا منسوبًا إليه خارج حدود الوعاء الذي وقع البيع عليه. ومن ثم فهو تصرف غير شرعي. غير أن هذا الكلام يناقش من بعض الناس بحجة ما هو مقرر من أن المالك يحق له أن يتصرف بملكه كما يشاء، ما لم يكن في تصرفه إضرار بالآخرين، على ما هو معروف من النهي عن التعسف في استعمال الحق. ثم يقولون: إن استنساخ مالك الكتاب نسخًا أخرى منه عن طريق الكتابة أو الطباعة، إنما هو تصرف بملكه، وليس فيه أي تعسف أو إضرار بالآخرين، فيما قد يتصوره هؤلاء المناقشون. والجواب عن هذا الوهم أن عقد الشراء لم يقع على جوهر الحق الذي هو في الأصل ملك المؤلف، وإنما وقع العقد على كتاب.. وهو ما نعبر عنه بالوعاء المادي الذي يحوي صورة عن ذلك الحق المتقوم. إذن فالمشتري قد امتلك الوعاء المادي أصالة، وما قد تضمنه تبعًا، وبناء على ذلك، فهو لا يستطيع أن يزعم أنه بهذا الشراء قد انتزع حق تلك الأفكار من مبدعها الذي لا تزال تنسب إليه شرعًا، وأنه قد جعل نفسه بذلك المالك لهذا الحق من حيث هو، بدلًا من المؤلف أو المبتكر. وإذا كان هذا الكلام محل اتفاق، وأعتقد أنه كذلك، فلا ريب أن استباحة مشتري الكتاب تصوير آلاف أخرى منه واستقلاله ببيعها والحصول على أرباحها، إنما هي ثمرة نقيض هذا الكلام المتفق عليه. إذ إن هذا العلم لا يعدو أن يكون اقتناصًا لحق تم الاتفاق على أنه لا يزال منسوبًا إلى صاحبه المؤلف أو المبتكر، ومن ثم فهو لا يزال مالكًا لأي فائدة مادية تتفرع عنه، ولا يعدو أن يكون اعتصابا أو سرقة لحق مالي متقوم من صاحبه. فقد تبين إذن، أن مالك الكتاب بالهبة أو الشراء أو نحوهما، إنما يحق له أن يتصرف بالعين المادية التي اشتراها، إذ هي التي وقع عليها العقد، كما أنه يملك أن يعبر عن الأفكار التي في الكتاب وأن يناقشها ويرفضها أو يرويها، ولكن على أن لا ينتحلها لنفسه، كما مر بيانه والدليل عليه، بل يغزوها إلى من لا تزال حقه المنسوب إليه. ثم إنه لا يملك من باب أولى – كما هو واضح – أن يبيع هذا الحق المنسوب إلى غيره ويستقل هو بثمنه، اعتمادًا على مجرد أنه قد امتلك نسخة من كتاب تحوي صورة لهذا الحق. لا شك أن هذه النسخة تغدو عندئذ في يده أشبه بكوة فتحت في جدار لتتسرب اليد الأجنبية منها إلى الداخل، ثم لتقتنص كل ما قد يوجد فيه بدون حق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1962 حق الاسم التجاري ما المراد بالاسم التجاري؟ الاسم التجاري اصطلاح يمكن أن يستعمل في التعبير عن أحد المضامين الثلاثة التالية: الأول: الشعار التجاري للسلعة، وهو ما قد يسمى اليوم بـ " الماركة " المسجلة. إذ يصح هذا الشعار تعبيرًا عن الصنف المتميز عن غيره في كثير من الخصائص والسمات. الثاني: الاسم الذي إذ غدا عنوانًا على محل تجاري نال شهرة مع الزمن، بحيث تتجسد هذه الشهرة في الاسم المعلن عليه. وقد يكون هذا الاسم هو اسم التاجر ذاته أو لقبه، وقد يكون اسمًا أو وصفًا اصطلاحيًا لقَّب به المحل، وربما أطلقت على هذا المضمون الثاني كلمة " الشهرة التجارية". الثالث: الوصف الذي يتمتع به المحل التجاري بحد ذاته، أي من حيث إنه موقع ومكان، لا من حيث الجهد أو الشهرة التي نسجها لها عمل صاحب المحل. فأما الحديث عن هذا المضمون الثالث، فليس داخلًا فيما نحن بصدده، بل هو راجع إلى ما يسمى اليوم بالفراغ أو الخلو وهو اصطلاح على المال الذي يدفع علاوة على قيمة العقار أو أجرته، مقابل ما يمتاز به من أهمية ذاتية أو موقع تجاري. وأما المضمون الأول والثاني، فهما اللذان يمكن أن يرادا بالاسم التجاري في هذا البحث وإذن فإن ما يتناوله حديثنا هو: بيان حكم الشريعة الإسلامية في بيع التاجر الشعار التجاري الذي كان قد اتخذه عنوانًا لسلعة تجارية له حتى عرفت به، أو بيع التاجر للاسم الذي اتخذه عنوانًا ولقبًا لمحله التجاري الذي عرف واشتهر به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1963 ويقتضي بلوغ معرفة هذا الحكم أن نقطع إليه المراحل التي تتمثل في بيان المسائل التالية: المسألة الأولى: هل الاسم التجاري ينطوي على حق يعطي صاحبه مزية الاختصاص؟ المسألة الثانية: هل يستتبع هذا الحق – على فرض وجوده – منفعة قيمية أو ثمرة مالية تنفصل عن الشخص صاحب الحق وتتمثل في عين مستقلة عنه، بحيث يصبح هذا الحق حقًا ماليًا متقررًا، لا حقًّا مجردًا؟ المسألة الثالثة: على اقتراض وجود هذه المنفعة المالية، هل يدخل هذا الحق بذلك في المملكات، بحيث تسري عليه أحكامها من حق التصرف بها والمعاوضة عنها؟ المسألة الرابعة: إذا ثبت دخول هذه المنفعة في حكم الممتلكات، فهل ثمة ما يمنع من بيعها أو شرائها، بحيث يسبب البطلان أو الحرمة، وما هو هذا السبب؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1964 المسألة الأولى - هل الاسم التجاري ينطوي على حق شرعي؟ ونحن نعني الآن بالاسم التجاري الشعار الذي يتخذ اسمًا لنوع البضاعة. أما اسم الملح التجاري فنذكره فيما بعد. ولعل أخصر وأجمع تعريف للحق ما ذكره الأستاذ الجليل مصطفى الزرقاء في كتابه المدخل الفقهي مستخلصًا من عدة تعاريف ذكرها الفقهاء، وهو: " اختصاص حاجز شرعًا يسوغ صاحبه التصرف إلا لمانع " (1) . إلا أن الأستاذ الزرقاء ساق هذا العريف وارتضاه للملك لا للحق. ونحن نرى أن تعريف الحق الذي هو أعم من الملك داخل فيه، وهو " اختصاص حاجز شرعًا " إذ الحق بمعناه العام ما أورث صاحبه الاختصاص، بقطع النظر عن تسويغه التصرف به والاعتياض عنه أو عدم تسويغه ذلك. فيشمل هذا التعريف العام حقوق الله وحقوق العباد والحقوق المعنوية والمالية والعقدية ... إلخ. إذا علمنا هذا، فهل ينطبق تعريف الحق على العلاقة السارية ما بين التاجر والشعار الذي اتخذه عنوانًا على بضاعته. أي هل للتاجر أن يستأثر بهذه العلاقة من دون الناس، باسم الشرع وحكمه، بحيث لا يجوز شرعًا أن ينسب غيره هذا الشعار إلى بضاعته على نحو ما هو مقرر من نسبة حق التأليف إلى صاحبه؟ تتوقف معرفة الإجابة عن هذا السؤال على إدراك المغزى الذي يعبر عنه الشعار التجاري الدارج إن هذا الشعار أو الاسم لا يراد من إطلاقه أكثر من التعريف بالبضاعة التي انفرد صاحبها بصنعها أو ابتكارها، وإخراجها على الوجه المتميز الذي أتيح له وحده، اقتراضًا، أن يخرجها فيه. ولما كان من حق صاحب هذه الصنعة المتقنة أن يحيط صنعته بذاتية مستقلة تحجزها عن الضياع والالتباس، فقد كان أيسر سبيل إلى هذا الحجز والتمييز أن يَسِمَهَا بشعار خاص يكسبها الذاتية المستقلة بين السلع والبضائع الأخرى.   (1) المدخل الفقهي العام: 1 / 241؛ وانظر المدخل إلى نظرية الالتزام، للأستاذ الزرقا أيضًا: 2 / 39. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1965 ومن هنا يتبين أن العلاقة القائمة بين تلك الصنعة المتميزة واسمها الذي اختير لها، إنما هي في الحقيقة تحصين للعلاقة القائمة فعلًا بين تلك البضاعة والصانع أو التاجر الذي استقل بإبداعها أو بإخراجها بصفاتها المتميزة. وهذه العلاقة في الحقيقة من نوع العلاقة التي بين المؤلف والأفكار العلمية التي استقل بإبداعها، على نحو ما سبق بيانه. فكما أن نسبة تلك الأفكار إلى صاحبها حق شرعي لا يجوز إنكاره ولا التطاول عليه، فكذلك ثمرة الجهد العضلي أو الصناعي حق شرعي لصاحبه لا يجوز إنكاره أو العدوان عليه. إلا أن المؤلفات العلمية تكون محصنة في العادة ضد أي انتحال، بكتابة أسماء مؤلفيها عليها. في حين أن البضائع المصنعة تنقطع نسبتها إلى المعمل الذي تم تصنيعها فيه، بمجرد طرحها في السوق فكان الشعار التجاري أو " الماركة " المسجلة عليها كالبديل عن ذكر اسم المؤلف وتسجيه على الكتاب. ونظرًا إلى الاسم التجاري كان رمزًا لهذا الحق الذي يعود إلى صاحب الصنعة والإبداع، فقد اقتضى العرف التجاري أن يكون الشعار الذي يعتمده لبضاعته حقًا مكتسبًا له، لا مجال للازدواج أو التنافس فيه، لا مجرد تسمية وتعريف لذات السلعة من حيث هي عين مادي. وقد علمنا آنفًا أن الحق كما يتعلق بالأعيان المادية من سلع وغيرها، على وجه التملك والاختصاص، فهو يتعلق أيضًا بالجهد المعنوي والطاقة الإبداعية التي تتعلق بالأفكار أو الصناعات. وتعود فائدة هذا الاختصاص إلى جهتين اثنتين: الجهة الأولى: التاجر، وتتمثل الفائدة التي ينالها في مزيد من الإقبال إلى بضاعته ومن نتائج ذلك تحقق المزيد من أرباحه وفاعليته التجارية. الجهة الثانية: المستفيد أو المستهلك، وتتمثل فائدته في تيسير الطريق أمامه إلى الوصول لما قد يبحث عنه من الجودة والإتقان. ولا شك أننا نقرض في هذا كله الصدق في مساعي التاجر وجهوده ودعوى سعيه إلى الإتقان. وإذا كان هذا هو العرف التجاري السائد، فإن ذلك يكون بدوره مصدرًا لثبوت معنى الحق الشرعي الذي عرفه صاحب كشف الأسرار بأنه " موجود من كل وجه تتعلق به مصلحة خاصة عائدة لمن ينسب إليه " (1) ، وقد علمنا فيما مضى أن العرف مرجع أساسي في تثبيت الحقوق الشرعية. وبناء على ذلك نقول: إن الاسم التجاري حق تتعلق به مصلحة خاصة عائدة لصاحب السلعة ومن ثم فهو يعطي صاحبه مزية الحصر والاختصاص.   (1) كشف الأسرار على أصول البزدوي: 4 / 134، و 135. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1966 المسألة الثانية – هل ينطوي هذا الحق على منفعة قيمية أو ثمرة مالية؟ : وبتعبير آخر: أيعد حق الاسم التجاري – بعد ثبوته – من الحقوق المالية المتقررة، أم من الحقوق المجردة غير المالية؟ ونقول في الجواب: لا ريب أن مصدر هذا الحق هو الجهد الذهني مضافًا إليه النشاط الحركي والعضلي، وهو شيء ثابت ومستقر في كيان صاحب الحق ذاته؛ غير أن لهذا الجهد الذهني ثمارًا تنفصل عنه لتستقر في سلعة أو بضاعة منفصلة عنه، بحيث يمكن استيفاؤها والانتفاع بها وتقديرها. وبذلك تصح هذه الثمار ذات كيان ووجود مستقل، وأثر ظاهر في المصلحة العامة. ومن ثم نشأت عنها قيمتها المالية التي أخضعتها لقانون التداول (1) . وكما أن السلع والبضائع تعد بحد ذاتها أموالًا متقومة خاضعة للمعاوضة والتداول، فإن الأجهزة والأدوات التي تستخدم في إنتاجها تعد هي الأخرى أموالًا متقومة. وإذا ثبت هذا، فلا فرق بين أن تكون هذه الأجهزة والأدوات وسائل وأسبابًا مادية، وأن تكون جهودًا وابتكارات ذهنية، أي فكما تكون الأجهزة المادية ملكًا لأصحابها فكذلك جهودهم الفكرية وطاقتهم الإبداعية، ينبغي أن تكون هي أيضًا ملكًا لأصحابها، على نحو ما مر بيانه في مسألة حق التأليف؛ ونظرًا إلى أن هذه الطاقات الإبداعية أمور معنوية بحد ذاتها، فقد اقتضت الضرورة إحرازها وحصرها عن طريق تحصينها في الاسم التجاري. وهكذا يتضح أن حق الاسم التجاري كناية عن السياج الذي يحصر سائر الفوائد المالية والاعتبارية التي جاءت ثمرة المزايا التي استقل بها التاجر في بضاعته، عن طريق ما بذل من الجهد الفكري والنشاط الحركي، كي لا تتبدد أو تتحول إلى غيره. أي أن الاسم التجاري عنوان على السر الذي تمتاز بها به بضاعة ما، إذ يعطيها ذلك مزيدًا من القيمة ويضمن مزيدًا من الإقبال عليها والرغبة فيها. فهو في الحقيقة كناية عن منفعة مالية متقومة، داخلة تحت سلطان المعاوضة وخاضعة لقانون الاختصاص.   (1) انظر " حق الابتكار في الفقه الإسلامي "، للدكتور فتحي الدريني وفئة من العلماء: ص 60، و61. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1967 المسألة الثالثة: هل يدخل إذن هذا الحق في دائرة الممتلكات بحيث تسري عليه أحكامها؟ إذا كان تعريف الملك: " الاختصاص الذي يسوغ صاحبه حق التصرف إلا لمانع" كما سبق أن أوضحنا، فلا شك أنه ينطبق على حق الاسم التجاري. فقد علمنا أنه اختصاص حاجز ... ثم علمنا أنه تعبير عن ثمرة جهد فكري ونشاط حركي، يتمثل في صنعة مبتكرة أو درجة ممتازة من الإتقان ثم علمنا أنها ثمرة مالية متقومة، هو وليها، وهو صاحب الاختصاص فيها ونظرًا إلى أنها منفصلة عن كيانه الإنساني متمثلة في قيمة متداولة، فله عليها سلطان التصرف عن طريق السلعة التي تلبس بها هذا الحق وتمثل فيها معنى الابتكار أو الإتقان وهذا هو تحليل معنى الملك وواقعه. وينبغي أن نعيد هنا إلى الذهن الفرق بين الحق في هذه المسألة وهو أمر معنوي نعبر عنه بالإتقان أو الابتكار وبين جوهر السلعة ذاتها التي هي مظهر لذلك الحق. إننا إذ نقرر أن هذا الحق مالي متقرر، وأنه بذلك داخل في الممتلكات، فإنا لا نعني بالممتلكات هنا السلعة ذاتها، فإن امتلاك صاحبها لها أمر بدهي ليس محل بحث. وإنما نعني بالمملوك هنا هذه الصفحة المعنوية التي نسميها الابتكار أو الإتقان. صحيح أن حق التصرف إنما ينصب على العين المادية،ولكن سبب ذلك أن المنفعة التي هي الأساس وهي مصدر التقوم والتمويل لا يمكن أن تقوم بنفسها ومن ثم فلا يمكن استيفاؤها، إلا عن طريق العين القائمة بها ومن هنا كان لا بد من حيازتها عند امتلاك منفعتها (1) . فمن هنا، نقول: إن التاجر يملك العين بالحيازة أو الصنعة. ثم يملك المنفعة المالية الإضافية التي نتكلم عنها بما بذله من جهد الإتقان أو الابتكار. وكل منهما مستقل – في الاعتبار – عن الآخر.   (1) انظر كشاف القناع: 3 / 308 و 309. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1968 المسألة الرابعة – هل ثمة ما يمنع من شراء الاسم التجاري من صاحبه؟ وهذه المسألة هي لب هذا الموضوع الثاني ومحوره. وقبل أن نجيب عنها ينبغي أن نعود إلى تحرير المعنى المراد، فنقول: لقد تبين مما قلناه في المسائل السابقة أن الاسم التجاري كناية عما يفترض اتصاف السلعة به من مزايا الجودة والإتقان التي قد لا توجد في أمثالها. وعلى هذا فالمراد بشراء الاسم التجاري شراء هذه المزايا مجسدة ومحددة في مظهر ذلك الشعار الدال عليه، بحيث تتحول هذه المزايا فتصبح من صفات بضاعة التاجر المشتري، ولولا هذا الهدف لما كان لهذا التبايع أي معني. فهل يصح هذا العقد؟ هناك طريقتان يعرفهما التجار لعملية شراء الاسم التجاري. الطريقة الأولى: تتم في الغالب بين شركة عربية وأخرى أجنبية، تشتري الأولى من الثانية الاسم التجاري لبضاعة ما. ويتضمن عقد الشراء هذا، تكفل الطرف البائع بتقديم خبراء ومهندسين في تصنيع البضاعة المعروفة بذلك الاسم والكشف عن مصدر المزايا التي فيها، حيث يقوم هؤلاء الخبراء بدور التدريب والإرشاد، لتصنيع البضاعة على مستوى الجودة والمزايا التي ارتبطت مع الزمن بذلك الشعار أو الاسم. كما يلتزم الطرف البائع الاستمرار في التدريبات والقيام بالتجارب العلمية، ريثما تترسخ لدى الطرف المشتري عوامل الإتقان ذاتها. إن عملية الشراء في هذه الحالة، إنما تنصب في الحقيقة على نقل الخبرة وشرائها، وإنما يدخل الاسم الجاري في الصفقة تباعًا. فمن الطبيعي لمن يشتري خبرة في صناعة سلعة ما أن ينال معها أطرها ومظاهرها المادية، وفي مقدمتها شعارها العالمي المسجل. ولست أرى أي إشكال في مثل هذا العقد، فهو عقد سائغ صحيح، سواء صيغ صياغة بيع وشراء أو صياغة جعالة أو استئجار. أما صيغة الشراء، فلما علمنا من أن حق التاجر في الاسم التجاري ظل لحقه في الخبرة المنفصلة عن ذاته وكيانه والمتجلية في العين المادية المتقومة، وهو حق مالي خاضع للتصرف به والاعتياض عنه، وإنما سبيل نقل هذا الحق واستيفائه نقل الخبرة بالتعليم والتدريب مقابل ثمن يتفق عليه، وإنما ينتقل الاسم التجاري تبعًا لانتقال الخبرة، نظرًا لما هو قائم بينهما من التلازم المستمر. ثم إن هذا الاسم التجاري، شأنه كشأن الكتاب، ليس إلا وعاء لتحصين تلك الخبرة وحصرها لمستحقها الجديد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1969 وأما صيغة الاستئجار فالشأن فيه كأي عقد استئجار على التعليم من العلوم الدينية أو الدنيوية، بأجر معين. وإنما يملك المتعلم الصنعة التي تعلمها تحت سلطان هذا الاستئجار الشرعي. أما نقل الاسم التجاري في هذه الحالة، فينبغي أن يكون خاضعًا للاتفاق الذي يتم بين الطرفين إذ الاستئجار عقد على منفعة لا على عين، والمنفعة هنا يمكن انفكاكها عن العين، إذ هي لا تعدو أن تكون تعليمًا أو تدريبًا على عمل. ولكن إذا تم الاتفاق على تنازل صاحب الحق عن الاسم التجاري للطرف الآخر، ضمن عقد الاستئجار أو ضمن اتفاق مستقل، فلا أرى ما يمنع من ذلك. الطريقة الثانية: ما يجري عادة بين بعض التجار أو الشركات التجارية، من شراء الاسم التجارية للسلعة دون أي التزام من البائع بتقديم خبرة أو الكشف عن أسرار الصنعة. وإنما يكون هذا الشراء تنازل البائع عن الاسم الذي كان مسجلًا لسلعته والذي كان من حقه هو، بحيث يتمكن المشتري من جعله شعارًا لسلعته المشابهة، وتكون الفائدة المرجوة للمشتري من ذلك رواج سلعة تحت هذا الاسم، إذ كان الاسم التجاري الذي اشتراه ذا شهرة وثقة في الوسط التجاري أو لدى عامة الناس. فما حكم هذا العقد؟ من الثابت يقينًا أن هذا الشراء لا يتحقق له أي مضمون. ذلك لأن المزايا التي عرفت بها السلعة والتي هي المضمون المراد من الشعار الجاري، ستظل ثابتة للسلعة الأصلية ذاتها، وستظل وثيقة الارتباط بها، مهما انفصل عنها اسمها أو شعارها التجاري ليلتصق بسلعة أخرى مشابهة. إذ إن هذه المزايا إنما هي ثمرة جهود صاحبها ونشاطه الفكري أو الصناعي الممتاز، فهي متعلقة به من حيث الجهد، متجلية في صناعته من حيث الصورة والمظهر. وهيهات أن تنفك هذه العلاقة عنه وعنها مهما باع أو تصرف في رمزها التجاري. كل ما يمكن أن يحدثه نقل هذا الرمز التجاري من تاجر إلى آخر، بعقد كهذا، هو التغرير والتدليس! ... أي إن هذا العقد منطو على غرر بالغ فيما يتعلق بالصلة بين المشتري والبائع، ومنطو على التدليس والخداع فيما يتعلق بالصلة ما بين المشتري وعامة الناس الذين سيتحولون إليه، بحثًا عن الجودة التي آل إليه شعارها. والقاسم المشترك في التعريفات المتعددة والمتنوعة للغرر أنه كل عقد لا يوثق بحصول العوض فيه (1) وتعبير آخر: هو ما شك في حصول أحد عوضيه أو المقصود منه غالبًا (2) ، وهو منطبق على موضوع بحثنا هذا بهذه الطريقة الثانية كما ترى. والمعروف أن مرد الغرر إلى الجهالة بأحد طرفي العقد: الثمن أو المثمن. والجهالة تتفاوت في درجات كثيرة حصرها الإمام القرافي في سبع درجات. ومن المتفق عليه أن أفحشها وأخطرها ما يسمى بالغرر في الوجود والغرر في الحصول. وأشدهما الغرر في الوجود. ويمثلون له بالبعير الشارد الذي يشك في وجوده، ويليه الغرر في الحصول، ويمثلون له ببيع الطير في الهواء والسمك في الماء، أي في الماء غير المحصور في الأحواض ونحوها. ولا نعلم خلافًا في بطلان العقد المنطوي على أي من هذين الغررين (3) .   (1) انظر حاشية قليوبي وعميرة على المحلى على شرح المنهاج: 2 / 58. (2) مواهب الجليل: 4 / 362. (3) انظر الفرق، للقرافي: 3 / 25؛ وبدائع الصنائع: 5 / 157 و 163. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1970 ومن الثابت يقينًا أن شراء الاسم التجاري على هذه الطريقة الثانية، إن خلا من الغرر في الوجود فإنه لا يخلو من الغرر في الحصول. بل إن احتمال عدم الحصول هنا أقوى بكثير من احتمال الحصول. إذا من الواضح هنا لكل من المتعاقدين أن الذي سيناله المشتري هو الشعار والاسم المجرد. أما الجودة التي تكونت منها قيمة ذلك الشعار، فهي باقية في تضاعيف جهود البائع وخبرته، هذا إن استمر في إنتاج تلك السلعة، وهي منتهية وآيلة إلى زوال إن توقف صاحبها عن مواصلة العمل والانتاج. ومن ثم فإن الغرر هنا أقرب إلى الغرر الوجودي منه إلى الغرر الحصولي. ولا وجه للقول بأن الحق المتعلق بالاسم التجاري، حق مستقل بذاته وأنه من الحقوق المجردة، كحق الشورى والوظيفة والمنصب والولاية، وأن العرف قد جرى بالتنازل عنه على عوض، فأصبح كالتنازل بعوض عن الوظائف والمناصب المستحقة، وهو شيء أجازه وسوغه كثير من الفقهاء، ومنهم متأخرو الأحناف (1) . نقول: لا وجه لهذا القول، لأن الاسم التجاري لا وجود له، أو لا معنى لوجوده بمعزل عن الشهرة التي اكتسبتها السلعة المقرونة به. وإنما نالت السلعة الشهرة بالجودة والإتقان، فغدا شعارها من طول الاقتران بها بمثابة الظل الملازم لها والمعبر عنها. فهو إذن ليس حقًا مجردًا، بل هو حق مالي متقرر، ولكنه يتمثل في القيمة التي تقابل الجودة أو تقابل حق الابتكار. ونحن هنا لا نسقط عن الاعتبار احتمال أن تكون الجودة وهمية نسجتها في الأذهان الدعاية المجردة ومن ثم تكون قيمتها أيضًا وهمية مجردة ... ولكنا لسنا مخولين هنا أن نبني الأحكام الفقهية على ظنون سيئة قائمة على احتمالات خفية من هذا القبيل. بل القاعدة الفقهية العامة تلزمنا ببناء الأحكام على الظواهر، مع إحالة البواطن إلى الله عز وجل. إذن، فإن بوسعنا أن ننتهي إلى شراء الاسم التجاري المتمثل فيما يسمى اليوم " الماركة المسجلة" بهذه الطريقة الثانية التي أوضحناها، عقد باطل، لا يوجد أي وجه لصحته، بسبب أنه مغرق في الغرر بأنواعه. هذا إلى جانب أنه ذريعة جلية وغالبة إلى التلبيس والخداع في المعاوضات الجارية. فإن التاجر الواثق من جودة بضاعته أغني ما يكون عن أن يغطيها بشعار ينسج لها الشهرة من جهود غيره ولولا أن بضاعته يعوزها البرهان على الجودة والإتقان، لما سعى إلى القفز بها على صعيد الشهرة، اعتمادًا على مثل هذا الشعار. والذرائع التي يغلب أن يتسبب عنا الضرر بالصالح العام أو المعارض لحكم شرعي ثابت، محل اتفاق من الفقهاء وعلماء الأصول على حرمتها ووجوب سدها (2) .   (1) انظر حاشية ابن عابدين: 4 / 14، و 15. (2) الفروق للقرافي: 2 / 32 و 33؛ و" سد الذرائع في الشريعة الإسلامية "، للأستاذ هشام البرهاني: ص 615؛ وضوابط المصلحة، لكاتب هذا البحث: ص 273. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1971 الاسم التجاري بمعنى اللقب المعلن على المحل التجاري: بقي أن نتكلم على اللقب الذي يطلق على محل تجاري، أيجوز شراؤه، وهل يكون هو الآخر مناط حق لمالك المحل؟ ومن المعلوم أن عوامل شهرة متجر ما كثيرًا ما تتمركز في الاسم المعروف لمحله، بحيث يستقل هذا الاسم في كثير من الأحيان بجذب المستهلكين، ويحملهم على تقديم الثقة المطلقة بصاحبه. ومما لا ريب فيه أن هذا الاسم يشكل بذلك حقًا ماليًا لصاحبه، فله أن يستأثر به من دون الناس لا من حيث إن التاجر سبق الآخرين في اختيار هذا الاسم، فكان له أولوية السبق إليه والاختصاص به، كما قد فهمه بعض الباحثين، ذلك لأنه لا تزاحم في اختيار اسم واحد لأكثر من مسمى. بل من الممكن أن يستوعب الاسم الواحد مسميات شتى، بخلاف السبق إلى الأماكن وإحراز الأموال المباحة، فإن التزاحم فيها قائم، والحل أن يستقر الحق للسابق. وإنما تتكون علاقة الاختصاص بين اللقب التجاري للمحل وبين صاحبه، من الدلالة التي يحملها ذلك اللقب على ما يمتاز به ذلك المحل من خصائص ومزايا يفترض أنها قد لا توجد في غيره. إذ من الواضح أن أي شهرة تجارية ينالها محل تجاري ما، إنما تنصب وتتمركز في اسم ذلك المحل ومن هنا تنشأ شرعية اختصاص الاسم به أو بصاحبه بتعبير أصح. ومن ثم يدخل استلاب هذا الاسم في معنى الغصب والعدوان، ذلك لأن الاستلاب لم يكن في الحقيقة لاسم مجرد يحمل دلالة لغوية على معنى ... وإنما هو استلاب لرصيد شهرة يفترض أنها تكونت من مجموعة مزايا وصفات تجارية حميدة لصاحب المحل، وحملت في داخلها من جراء ذلك بذور نفع مادي لصاحب ذلك الرصيد. فهو في الحقيقة عدوان على الوعاء الذي حوى بذور نفع مادي مستمر لا على اسم من حيث هو اسم ذو دلالة لغوية مجردة. وهذا يعني أن الحق الكامن في لقب المحل التجاري حق مالي متقرر، يتعلق بمنفعة مالية متقومة. والشأن فيه كالشأن في المنفعة المالية الثابتة في الاسم التجاري للبضاعة، طبقًا لما أوضحناه. ولكن هل يصح شراء اللقب المعلن على المحل التجاري؟ يرد في الجواب عن هذا السؤال الكلام ذاته الذي قلناه في شراء الاسم التجاري للبضاعة فهو شراء لما لا سبيل للحصول عليه. ومن ثم فهو عقد يتضمن غررًا وجوديًا أو حصوليًا. وقد أوضحنا أن مثل هذا العقد باطل بالاتفاق. هذا عدا أنه يستلزم انتشار الغرر والتلبيس على عامة الناس من المتسهلكين، إذ يخدعهم العنوان قبل أن يفاجأوا بأنه عنوان قديم ولكن على بضاعة وصناعة أخرى حديثة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1972 ولا بد أن نلفت النظر إلى أن موضوع البحث محصور فيما درج عليه عرف كثير من التجار المحدثين الذين لم تتحقق لهم شهرة كافية، من الإقدام على شراء أسماء ذائعة لمحال تجارية مشهورة، كي يغطوا أنفسهم تحتها؛ ومعنى هذا أن اللقب الذي يتم شراؤه يبقى كما هو دون أي تعديل أو تقييد أو بيان لصاحب المحل الجديد؛ ذلك لأن أي تعديل فيه يذهب بجدوى عملية الشراء كلها. إن من الواضح أن شراء هذا اللقب على هذا النحو ينطوي على غرر وتدليس واضحين. ومن ثم فإن القواعد الفقهية تقتضي بطلان هذا العقد. ولكن ينبغي أن يقال إن عملية الشراء هذه تصبح نافذة، فيما إذا أمكن أن تكون تعبيرًا عن عملية نقل للخبرة والمزايا التجارية إلى المحل الجديد أو الإدارة الجدية، إن العقد عندئذ يصبح نافذًا دون أن يكون ثمة ما يمنع من صحته، سواء كان التكييف الفقهي لذلك شراء للخبرة والمزايا الخاصة، أو استئجارًا على عملية تدريب وتعليم. ويتحصل مما قلناه أن لقب المحل التجاري، عندما لا يكون أكثر من عنوان تقليدي على المحل للدلالة عليه، أي لم يتحول بعد إلى وعاء يحمل مزاياه وشهرته، فإنه لا يشكل عندئذ أي حق لصاحب المحل لا حقًا ماليًا متقررًا ولا حقًا شخصيًا مجردًا. وقد علمنا أن اختيار اسم ما لشيء، لا يجري فيه تزاحم ولا تنطبق عليه قاعدة؛ من سبق إلى مباح فهو أحق به. وبناء على ذلك فإن لمن شاء أن يختار أي اسم رآه لمحل تجاري اسمًا لمحله هو أيضًا، أو اسمًا لأي شيء في حوزته، ما دام أنه لم يتحول إلى وعاء شهرة، ولم يصبح دالًا على مزايا وصفات معينة قد يختص بها ذلك المحل وحده. ولكن الأمر يختلف عندما تتجسد شهرة المحل بسبب مزاياه التي اختص بها، في الاسم الذي عرف به. إذا يغدو أخذ هذا الاسم عندئذ مضارة واضحة لا يقرها العدل، ومن ثم لا يقرها الشرع. وشراء هذا الاسم صحيح، إذا تحقق فيه شرط الإقباض، ولما كان محط العقد في حقيقته على مصدر الشهرة الذي هو الجودة والإتقان لا على مجرد لوحة كتب عليها اسم، فإن عملية الإقباض يجب أن تتجه إلى هذه الجودة وأسرارها، لا إلى عنوانها الكلامي المجرد. فإن لم يتحقق هذا الإقباض فالعقد غرر وتلبيس، غرر بين المتبايعين، وتلبيس على الناس والمستهلكين، فهو لذلك عقد باطل. والله تعالى أعلم بالصواب،والحمد لله رب العالمين. الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1973 بيع الأصل التجاري وحكمه في الشريعة الإسلامية إعداد الشيخ مصطفى كمال التارزي أستاذ بالجامعة الزيتونية بسم الله الرحمن الرحيم الأصل التجاري: هو مجموع أموال مادية ومعنوية تخصص لمزاولة مهنة تجارية (1) وهو المعروف عند رجال القانون في مصر بالمحل التجاري (2) . أما الملكية التجارية: فهي ما للتاجر من حق المحل التجاري (3) وهي الاستقرار بالمحل التجاري بعد انتهاء المدة وحماية حقوق التاجر المادية والمعنوية التي تقررت له عليه. فبعد أن كان حق الملكية مقتصرًا على الأشياء المادية امتد إلى الأشياء المعنوية واعتبر القانون الوضعي أن لكل إنسان حق التصرف في نتاج عمله وحمايته مهما كان نوع العمل وانبثق عن هذا المبدأ حق الملكية الأدبية لحماية الإنتاج الذهني وحق الملكية الفنية لحماية الإنتاج الفني وحق الملكية الصناعية لحماية الاهتراء وحق الملكية التجارية لحماية مجهود التاجر في تكوين الحرفاء والسمعة التجارية وترويج التجارة (4) . وفكرة الملكية التجارية والمحل التجاري بمفهوميهما الجديدين فكرة أقرتها القوانين الأوروبية في القرن التاسع عشر وتبنتها في هذا القرن بعض الدول الإسلامية في قوانينها التجارية، فقد أقرها التشريع التونسي مثلًا في أكتوبر 1926م (5) ، كما أقرها التشريع المصري سنة 1940م (6) .   (1) الدكتور مصطفى كمال طه، القانون التجاري 1/751. (2) الملكية التجارية: رشيد الصباغ ص 8. (3) الدكتور مصطفى كمال طه، القانون التجاري 1/751. (4) الملكية التجارية: رشيد الصباغ ص 8. (5) الملكية التجارية، رشيد الصباغ: ص 11. (6) القانون التجاري، مصطفى كمال طه: 1/752. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1974 أنواع الملكية: والملك في الفقه الإسلامي ينقسم حسب وروده على العين أو المنفعة إلى أنواع: 1- ملك عين ومنفعة: وهي الأملاك الواردة على الأعيان. 2- ملك عين بدون منفعة: كالوصية بالرقبة لجهة وبالمنفعة لأخرى. 3- ملك منفعة بدون عين: وهو على نوعين: ملك مؤبد كالوصية بالمنافع: وملك غير مؤبد ومنه الإجارة (1) . كما ذكر الفقهاء أن من خصائص الملك: أن العين لا تقبل التوقيت أما ملكية المنفعة فالأصل فيها التوقيت ومثلوا لها بالإجارة والإعارة (2) . واعتبر الفقهاء الإجارة من أسباب الملك الناقص، لأن المستأجر مالك لمنفعة العين الموجودة خلال مدة الإجارة فقط، ولهذا اقتضت القواعد العامة الضابطة للإجارة أن هذا العقد ينتهي بمجرد انتهاء المدة المشروطة بين المتعاقدين، وعلى المستأجر أن يتخلى عن العين المؤجرة لانقضاء حقه فيها ولا حق له في البقاء في المحل إلا بعقد جديد وهو نتيجة لحق المالك في العقار وتطبيق للشروط التي تضمنها عقد الإجارة. ولكن ظروفًا خاصة وأسبابًا جديدة قد طرأت في بعض المجتمعات وبخاصة في المدن الكبرى استوجبت إدخال بعض التعديلات في القواعد العامة وإصدار أحكام جديدة مناسبة لها وأمكن بها ضمان حقوق الطرفين المؤجر والمستأجر. أهم الأسباب الطارئة: 1- تزايد عدد السكان وبروز ظاهرة النزوح إلى المدن. 2- توفير مواطن الشغل فيها أكثر من غيرها. 3- تخلف حركة البناء فيها عن تلبية الطلب المتزايد على المحلات التجارية. 4- اشتداد المنافسة في اقتناء المحلات. 5- ارتفاع أسعار الكراء أضعافًا مضاعفة. 6- بروز فكرة أصحاب اكتساح القوي للضعيف. 7- تردد أصحاب الأملاك في التزاماتهم للمستأجرين بالمدد التي يرغبون فيها. 8- خوف المستأجرين من ضياع حقوقهم أمام تكالب الراغبين في محلات تجاراتهم وتقديم عروض مشطة في ذلك (3) . الأصل التجاري: زد على ذلك أن مفهوم الملكية الذي كان مقصورا على الأشياء المادية والذي امتد في هذا الزمان إلى الأشياء المعنوية وظهر به حق الملكية الصناعية والأدبية والفنية والتجارية قد اكتسب به المستأجر الذي كان لا يملك إلا حق الانتفاع بمقتضى عقد الإيجار حقا جديدا بموجب الملكية التجارية، وهو مسمى الأصل التجاري أو المحل التجاري أقرته القوانين التجارية المصرية وفتاوى شرعية كثيرة من جهات متعددة من العالم الإسلامي، وهذا الحق يمكنه من البقاء في متجره رغم إرادة المالك، بل مكنه كذلك من التصرف في هذا الحق وبيعه.   (1) الأشباه والنظائر: ص 351. (2) المدخل الفقهي العام ص272 و 273، للدكتور مصطفى الزرقاء. (3) الملكية التجارية، رشيد الصباغ: ص 8. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1975 عناصر الأصل التجاري: الأصل التجاري يتكون من جملة عناصر مادية ومعنوية: فالعناصر المادية هي: 1- البضائع: وهي المنقولات المعدة للبيع سواء كانت مصنوعة أو مواد أولية معدة للتصنيع. 2- المعدات أو المهمات: وهي المنقولات التي تستعمل في استغلال المحل من الآلات التي تستعمل في صنع المنتجات وإصلاحها وسيارات النقل والمكاتب والمقاعد والخزائن والآلات الكاتبة. أما العناصر المعنوية فهي: 1- الاتصال بالحرفاء: وهم مجموع الأشخاص الذين يعتادون التعامل مع التاجر ومستوى العملاء (الحرفاء) وعددهم وهو يمثل جانبًا كبيرًا من قيمته، إذ كثرة الحرفاء ناتجة غالبًا عن جهد يبذله المستأجر في حسن المعاملة، وتفهم حاجة الحرفاء. 2- السمعة التجارية: اشتهار المحل بجودة منتجاته مما يسكبه شهرة بين الجمهور. 3- الاسم التجاري / هذا الاسم الذي يستخدمه التاجر فردًا كان أو شركة في مزاولة تجارته لتمييز محله التجاري من نظائره فالأمر يقتضي إحاطته بضمانات تكفل حمايته ومنع الغير من استعماله منعًا من وقوع الالتباس الذي ينتج عنه تذليل الجمهور والإضرار بسمعة التاجر. 4- العنوان الجاري: وهو رمز يختاره التاجر كشعر خارجي لتمييز المنتجات فيه تجارته. 5- الحق في الإجارة: في الحالات التي يكون فيها التاجر مستأجرا للمحل الذي يزاول فيه تجارته. 6- حق الملكية الصناعية: وهو ما يهم براءات الاختراع والرسوم والنماذج الصناعية والعلامات التجارية والاسم التجاري. 7- الرخص والإجازات: ما تصدره الإدارة العامة من حق استغلال مقهى أو مشروب أو تبغ: وتعد هذه الرخص والإجازات عنصرًا من عناصر المحل التجاري (1) . وهذه هي جملة العناصر المكونة للأصل التجاري عادة ولكن العناصر الأساسية للمحل التجاري لا يتعين أن تكون جميعها، فالعنوان التجاري والاسم التجاري والحق في الإجارة والاتصال بالعملاء (الحرفاء) والسمعة التجارية قد تكفي لتكوين محل تجارى على أنه من النادر أن تجتمع هذه العناصر كلها في محل تجاري معين، فأهمية هذه العناصر تختلف باختلاف طبيعة الاستغلال فقد تعد الحقوق الفنية في مؤسسة نشر هي العنصر الهام في الأصل التجاري، كما يكون المهم في مشروع صناعي هي المهمات والآلات (2) . وأهم هذه العناصر في الاعتبار هي الحق في العملاء (الحرفاء) والسمعة التجارية، لأن المحل التجاري لا يمكن أن يكون قابلًا للحياة بدون اتصال بالعملاء أو سمعة تجارية. وعلى كل فلا أستطيع أن أبين كل التفاصيل الواردة في هذا الموضوع إذ أفردت له تأليف متعددة تدرس في كليات الحقوق والتجارة من الجهة القانونية ولكن أردت أن أبرز الجوانب التي يتكون منها الأصل التجاري في العصر الحديث حتى يتضح للجميع ما هو المراد بالأصل التجاري الذي قصدنا أن نبين حكمه من الوجهة الفقهية الشرعية.   (1) القانون التجاري، مصطفى كمال طه: 1/753، 754 وما بعدها 763. (2) القانون التجاري، مصطفى كمال طه: 1/753، 754 وما بعدها 763. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1976 الإجارة في الشريعة الإسلامية: إن القاعدة العامة الضابطة للإجارة في الشريعة لا تحتلف عن مفهوم الإجارة العام الذي يقتضي بأن ينتهي العقد بانتهاء المدة المشروطة بين المتعاقدين، وعلى المستأجر أن يتخل عن العين المؤجرة لانقضاء حقه فيها ولا حق له في البقاء في المحل إلا بعقد جديد. ولأجل ذلك فلا يجوز للمستأجر بعد انتهاء المدة أن يتصرف في العقار بأي وجه من الوجوه وما يأخذه من مال بعقد أو بغيره لا يحل له شرعًا. أما ما يأخذه المستأجر مقابل تنازله عن اختصاصه بمنفعة العقار المؤجر لشخص آخر يحل محله قبل انتهاء المدة فهو جائز شرعًا؛ لأنه في حقيقته بيع للمدة الباقية من المنفعة المستحقة بعقد الإجارة وقد أجاز هذا البيع الشيخ عليش في فتواه حيث إنه قال: الذي يدور عليه الجواب في ذلك أن الساكن الذي أخذ الخلو إن كان يملك منفعة الحانوت مدة فأسكنها غيره وأخذ على ذلك مالًا، فإن كان الآخذ بيده إجارة صحيحة من الناظر أو الوكيل بشروطها فهو سائغ له الأخذ على تلك المنفعة التي يملكها (1) ، والعين ليست مملوكة بالإجارة كالمبيع لأن المعقود عليه هو المنفعة وبه قال مالك وأبو حنيفة (2) . أما إذا أراد المستأجر الاستقرار بالمحل فله أمران؛ إما أن يجدد عقد الإجارة عند انتهاء المدة، وإما أن يدفع للمالك أو ناظر الوقف عوضًا معجلًا ويلتزم له بمقدار كراء سنوي أو شهري مقابل استمراره بالمحل ويتصرف بعد ذلك في منفعته بشتى وجوه التصرف من كراء وهبة وإعارة، ونحو ذلك فلا يبقى لصاحب الحانوت أو الدار من منفعتهما إلا بمقدار ذلك الكراء السنوي أو الشهري وما زاد على ذلك فهو ملك لدافع العوض فيكون المستأجر قد اشترى حق الاستمرار في المحل من المالك، وهو مسمى بيع الخلو عند من أجاز هذا النوع من البيع، ومن أنواع الخلو الذي يثبت فيه للمستأجر حق الاستمرار. خلو المفتاح بتونس: وهو المعروف بمصر بخلو الحوانيت وهو عبارة عن أن يتسلم الإنسان من مالك أو ناظر وقف عقارًا على أن يدفع له مقدارًا من المال معجلًا، ويكون ما صرفه خلوا له ويلتزم به بقدر من الكراء سنوي أو شهري ويتصرف به بعد ذلك في منفعته بشتى وجوه التصرف من كراء وهبة وإعارة، لأنه أصبح شريكًا لصاحب الرقبة في المنفعة ويبقى لصاحب الحانوت الكراء السنوي أو الشهري، وما زاد فهو مالك لدافع العوض ويجري العرف باستحقاق المستأجر حق القرار أبدًا ولو لم ينص في العقد على المدة وهذا جاز به العرف في بعض البلدان الإسلامية كتونس ومصر والمغرب الأقصى.   (1) فتح العلي المالك، الشيخ محمد عليش: 2/146 طبعة بولاق 1301هـ. (2) روضة الطالب، للإمام النووي: 5/208. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1977 وهذا النوع من التعامل أقره متأخرو المالكية وأفتى به الشيخ ناصر الدين اللقاني على مانقله الشيخ عليش في فتاويه ونصها: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في خلوات الحوانيت التي صارت عرفًا بين الناس في هذه البلدة وغيرها، وبذل الناس في ذلك مالًا كثيرًا حتى وصل الحانوت في بعض الأسواق أربعمائة دينار ذهبًا، فهل إذا مات شخص وعليه دين ولم يخلف ما يفي بدينه يوفى ذلك من خلو حانوته؟ فأجاب: " نعم، إذا مات شخص وله وارث شرعي يستحق خلو حانوته عملًا بما عليه الناس. وإذا مات من لا وارث له يستحق ذلك بيت المال، وإذا مات شخص وعليه دين ولم يخلف ما يفي بدينه، فإنه يوفى من خلو حانوته والله سبحانه أعلم بذلك " (1) ، ولم تكن إباحة حق الخلو خاصة بالمذهب المالكي، فقد قال الحموي في شرح الأشباه والنظائر: " وقد اشتهرت نسبة مسألة الخلو إلى مذهب عالم المدينة مالك بن أنس والحال أنه ليس فيها نص عنه ولا عن أحد من أصحابه حتى قال البدر العراقي: إنه لم يقع في كلام الفقهاء التعرض لمسألة الخلو فيما أعلم، وإنما فيها فتيا للعلامة ناصر الدين اللقاني المالكي بناها على العرف وخرجها عليه وهو من أهل التخريج فيعتبر تخريجه وإن نوزع فيه وقد اشتهرت فتياه في المشارق والمغارب وتلقاها علماء عصر بالقبول وهبت عليها نسميات الصبا والقبول " (2) . ويقول الشيخ ابن عابدين: نقلًا من فتاوى العلامة عبد الرحمن العبادي " ولكن لا ينبغي أن يفتى باعتبار العرف مطلقًا خوفًا من أن ينفتح باب القياس عليه في كثير من المنكرات والبدع، نعم يفتى به فيما دعت إليه الحاجة وجرت به في المدد المديدة العادة وتعارفه الأعيان بلا نكير كالخلو المتعارف في الحوانيت، وهو أن يجعل الواقف أو المتولي أو المالك على الحانوت قدرًا معينًا يؤخذ من الساكن ويعطيه به تمسكًا شرعيًا، فلا يملك صاحب الحانوت بعد ذلك إخراج الساكن الذي ثبت له الخلو ولا إجارتها لغيره مالم يدفع له المبلغ المرقوم فيفتى بجواز ذلك قياسًا على بيع الوفاء الذي تعارفه المتأخرون احتيالًا عن الربا "، ثم قال: " في مجموع النوازل: اتفق مشايخنا في هذا الزمان على صحته بيعًا لاضطرار الناس إلى ذلك، ومن القواعد الكلية: إذا ضاق الأمر اتسع حكمه فيندرج تحتها أمثال ذلك مما دعت إليه الضرورة " (3) . وموضوع الأصل التجاري أو المحل الجاري الذي هو موضوع بحثنا وصدرت فيه قوانين وضعية ضبطت عناصره وحدوده ليس بالموضوع الجديد على المجتمعات الإسلامية لأنه موضوع بحث كذلك عند علماء الفقه بحثًا مستفيضًا بغير هذه المصطلحات الجديدة. فالقانون الوضعي أمام رغبة مالك العقار الذي يطالب بحرية التصرف والانتفاع بعقاره حسب البنود التي وقع الاتفاق عليها في العقد الذي يوجب انتهاء تصرف المستأجر بانتهاء المدة وبموجب ذلك فلا حق له في البقاء في المحل في أي حال من الأحوال. وبين رغبة المستأجر الذي استكملت عنده عناصر الأصل التجاري الأصلية المادية والمعنوية والذي يدعي أن إخراجه من المحل عند انتهاء المدة يلحق به ضررًا فادحًا لأن المحل الذي استأجره جهزه تجهيزًا يتناسب مع سمعته وطاقة استيعابه وهذا التجهيز لا يصلح لغير هذا المحل وأنه من ناحية أخرى أكسب المحل شيئًا جديدًا له قيمة تجارية معتبرة تفوت بفوات هذا المحل، وهي السمعة التجارية والاسم التجاري والملكية الصناعية والرخص والإجازات وأن خروجه يضيع عليه كل هذه الحقوق التي اكستبها بعد جهود وأتعاب ونفقات باهظة زيادة على ما يعتبره رجال القانون التجاري من أن استقرار التاجر في عمله ضمان لحلقات النمو التجاري في البلاد وأن إخراجه تفويت لهذه المصلحة العامة.   (1) فتاوى الشيخ عليش فتح العلي المالك: 2/166. (2) الأشباه والنظائر: ص 197 لابن نجيم. (3) 4/17 من خاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1978 وأمام هذا النزاع القديم بين الملكية العقارية والملكية التجارية حاول القانون الوضعي إيجاد حلول وسط تضمن التوازن وعدم الإجحاف بأي جانب حتى يتحقق التعايش والتكافل بين كل القطاعات، فقد مكن من جهة المستأجر من الاستقرار في المحل ضمانًا لبقاء الأصل التجاري واكتمال حقه في الملكية التجارية (1) . ومكن المالك من جهة أخرى من عقاره بعد تعويض الخسائر كافة التي تنجر للمستأجر من إنهاء العقد وهو إخلاء العقار ويسمى هذا عندهم بغرامة الحرمان تفاديًا من إجبار المالك على قبول الإجارة المؤبدة رغم إرادته إذا تحقق الأصل التجاري للمستأجر لأن البقاء يتعارض مع حق الملكية العقارية الذي يفرض عليه قيدًا لا يتحمله. وإذا امتنع المالك من دفع الغرامة مكن المستأجر من الاستمرار في المحل كما مكن من بيع الأصل التجاري. والواقع أنه ليس في هذا القانون الوضعي الجديد شيء زائد عما هو معروف عند بعض فقهاء الشريعة الإسلامية سوى غرامة الحرمان، وإلا فإن مسألة استمرارية المستأجر في المحل بدون عوض وبدون إذن المالك بحثت بحثًا مستفيضًا في كتب الفقه وصدرت فيها فتاوى بالجواز من بعض العلماء. واصطلح أهل المغرب على تسمية هذا النوع من العقود التي تثبت للمستأجر حق التبقية (الجلسة) وهي عقد كراء على شرك متعارف " والشرط هو التبقية وهي كراء الجلوس والإقامة بدكانه على الدوام والاستمرار ويوضح الشيح التماق (2) المصلحة في إجازة الجلسة في كتابه إزالة الدلسة عن وجه الجلسة: بأن العقد في مصلحة الوقف حتى يعمر في وقت الرواج والكساد فيستفيد الواقف ويطمئن المكتري على نفسه ولا يتعرض للخروج إن غلا السوق وارتفعت الأكرية حتى أصبحت الحوانيت لا تعرف إلا بإضافتها إلى معمرها وتصير له يد فيها يقدم بها على غيره فإذا بدا له الخروج منها تخلى عنها لغيره وأخذ منه بدلًا على ذلك وليس لصاحب المحل إلا الكراء أو أجر المثل.   (1) الملكية التجارية، رشيد الصباغ ص9. (2) هو الشيخ العالم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن التماق الغرناطي الفاسي، المتوفى سنة 1151هـ، وهو صاحب رسالة إزالة الدلسة عن وجه الجلسة وهي مخطوطة ضمن مجموع للعالم الشيخ محمد المنوني بالمغرب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1979 أما أهل تونس فقد اصطلحوا على تسمية هذا النوع من العقود المؤبدة بالنصبة أو الراغلة أو العدة، ويذكر الشيخ محمد السنوسي في كتابه مطلع الدراري (1) سبب نشوء خلو النصبة أن " الأصل فيه أن الغرباء الوافدين على البلاد كانوا إذا اكترى أحدهم حانوتًا بغير عمارة وأنفق عليها ما يحتاجه من الخزائن وآلة الصناعة والموازين وأراد المالك أو ناظر الأوقاف إخراجه بعد انقضاء أمد الكراء شكا من خسارة ما استكمل به عمارة المحل، وحيث إن المالكين وناظري الأوقاف لم يجعلوا لحوانيتهم ما يلزم للصناعة المعد لها الحانوت مع كونهم أكروه لإقامة تلك الصنائع وتحمل المكترون وحدهم مصاريف ذلك وقع الحكم بأن المكتري إذا كان على تلك الصفة ووضع ما يلزم من العمارة بإذن المالك فلا يصح إخراجه إلا أن يقبل المالك تلك الموضوعات بدون خسارة وإلا فيبقى المكتري بكرائه متمتعًا بخلوه. ولما عجز المالكون عن تعويض مصاريف الموضوعات اضطروا لإيفائهم فتصرف المكترون بأنفسهم وأكروا لغيرهم وباعوا مكانهم على أن لا يأخذ المالك إلا مقدار الكراء وما زاد عليه يبقى لمستأجر العمارة " (2) . وما قيل في النصبة يقال في الكدك وهو ما يزيده المستأجر في الحوانيت بماله سواء كان مثبتًا كالبناء أو غير مثبت كالرفوف وآلات الصناعة، ويقال كذلك في الكردار وهي الزيادة في المزارع كالسواقي والقناطر والمباني التي للزارع وحكم كل من الكدك والكردار أنهما مملوكان لصاحبهما أي المستأجر ويثبتان له حق القرار، فلا يجوز انتزاع العين المستأجرة منه وتأجيرها لغيره بعد انتهاء المدة ما دام يدفع أجر المثل، يقول الشيخ التماق في حكم الجلسة في كتابه المتقدم الذكر مصرحًا بإباحته وبأنه ليس في ذلك ما يقتضي المنع والتحريم إذا اعتبر بيع الجلسة من قبيل العرف المصطلح عليه بالمغرب " والأمر إذا اتخذه عرفًا وعادة أهل المروءات والجمهور من الناس لا ينبغي أن يكون حرامًا والعرف في الجلسة من هذا النوع سيما وقد أطبق على هذا العرف أهل العلم والدين من قضاة ومفتين ومدرسين وغيرهم وعلى هذا لم يبق إلا التسليم بجوازها وحليتها " (3) .   (1) كتاب جليل للشيخ العلامة محمد السنوسي سماه كتاب مطلع الدراري بتوجيه النظر الشرعي على القانون العقاري فيه مقارنة قيمة بين القانون العقاري الوضعى والفقه الإسلامي. (2) مطلع الدراري: ص 162. (3) العرف والعمل في المذهب المالكي، لمؤلفه الدكتور عمر الحيدي: ص 47. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1980 وقد اعتبر الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة جواز إبقاء المستأجر من الضرورة العامة المؤقتة " وذلك أن يعرض الأضطرار للأمة أو طائفة عظيمة منها تستدعي الإقدام على الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي، من سلامة الأمة وإبقاء قوتها أو نحو ذلك.. ولا شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة الخاصة. وأنها تقتضي تغييرًا للأحكام الشرعية المقررة للأحوال التي طرأت عليها تلك الضرورة ". ومن أمثلة هذه الرخصة الكراء المؤبد الذي جرت فتوى علماء الأندلس كابن سراج وابن منظور في أواخر القرن التاسع في أرض الوقف حين زهد الناس في كرائها للزرع لما تحتاجه الأرض من قوة الخدمة ووفرة المصاريف لطول تبويرها. وزهدوا في كرائها للغرس والبناء لقصر المدة التي تكترى أرض الوقف لها ولإباية الباني أو الغارس أن يبني أو يغرس، ثم يقلع ما أحدثه في الأرض فأفتى ابن سراج وابن منظور بكرائها على التأبيد ورأيا أن التأبيد لا ضرر فيه لأنها باقية غير زائلة (1) . ثم تبعهما على ذلك أهل مصر في القرن العاشر بفتوى ناصر الدين اللقاني في أحكام الوقف، وجرى العمل بذلك في المغرب في فاس وتونس في العقد المسمى في تونس بالنصبة والخلو وفي فاس بالجلسة والجزاء. ومنها فتوى علماء بخارى من الحنفية ببيع الوفاء في الكروم لحاجة غارسيها إلى النفقات عليها قبل إثمارها كل سنة فاحتاجوا إلى اقتراض ما ينفقونه عليها (2) . وإذا كانت المصلحة أو الضرورة أو الرخصة هي التي من أجلها مكن المستأجر من التمتع بحق التبقية في الماضي، ومن أجل ذلك صدرت فتاوى في تغليب العرف الخاص على العرف العام وحرمان المالك من التصرف في عقاره بموجب انتهاء مدة العقد، فإن هذه المصلحة أو الضرورة أو الرخصة تبدو أقوى وأظهر في هذا الزمان بعد أن أصبح المستأجر مقيدًا غالبًا في كل الخطوات التي يخطوها بإجراءات معينة كما هو ملزم بالتحصيل على رخصة أو رخص تمكنه من ترويج تجارته أو صنعته والرضوخ إلى إجراءات إدارية قد تكون معقدة وتتطلب مددًا متباينة يبذل في سبيلها جهدًا كبيرًا زيادة عما يبذله من مال لتجهيز المحل التجاري بطريقة فنية وإبرازه بمظهر جذاب يغري الحرفاء وتهيئة كل المعدات اللازمة لضمان تجارة رابحة. وعلى كل فقوانين الملكية التجارية التونسية وإن استمدت بعض أحكامها من القوانين الوضعية الغربية، فإن جانبًا كبيرًا منها كان يتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية ومقاصدها وأصبحت الملكية التجارية بمفهومها العام تمثل عرفًا خاصًا في تونس وغيرها من البلاد الإسلامية التي وضعت قوانين تجارية ضبطت فيها أصول التعامل في الأصل التجاري، لا سيما وأن ما أثبتته القوانين الجاري بها العمل في تونس أو في بعض بلدان العالم الإسلامي من اعتبار الأصل التجاري موجبًا لاستمرارية التاجر في المحل لا يختلف في موضوعه أو نتيجته عما جرى به العمل في السابق بناء على فتاوى صادرة من علماء أجلاء، وما أقره بعض علماء الإسلام من تمكين المالك في هذه الصورة إذا لم يرض بالأجر المنصوص عليه في العقد هو ما أقره القانون الحديث من تمكين المالك من المطالبة بتعديل حق الكراء إلى أجر المثل، واشترط العلامة بدر الدين القرافي في رسالته الدرة المنيفة أن المستأجر لا يتمتع بحق الخلو إلا إذا كان مالكًا لمنفعة الحانوت مدة، وأما إذا لم يكن مالكًا للمنفعة بإجارة فلا عبرة بذلك الخلو (3) ، وهذا من الشروط التي يقرها قانون الملكية التجارية في ثبوت الأصل التجاري.   (1) ذكرت فتواها في المعيار للنونشريسي. (2) مقاصد الشريعة، الطاهر بن عاشور: ص 134. (3) الدرة المنيفة في الفراغ عن الوظيفة نشرت في مجلة الحياة الثقافية التونسية عدد 14 – 15 سنة 1981م. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1981 حكم الأصل التجاري: وبناء على كل ما تقدم يمكن أن نقول إن ثبوت الأصل التجاري يمكن المستأجر من الاستقرار في المحل رغم إرادة المالك اعتبارًا للمصلحة أو الرخصة أو الضرورة. مع العلم أن رأي فقهاء المسلمين في هذه القضية وأمثالها ليس متحدًا، فإذا تعرضنا في بحثنا هذا إلى من أجاز إبقاء المستأجر في المحل نظرًا لما ترتب له من حقوق في الزيادات المادية والمعنوية التي قام بها في المحل التجاري ... فليس معنى ذلك أن القول بالجواز هو المشهور، بل هو تخريج لمعاملات المسلمين على ما جرى عليه العرف الخاص في بعض البلدان الإسلامية بفتاوى من علماء أجلاء من المغرب والمشرق. المانعون للعمل بالأعراف الخاصة: أما المانعون لهذا النوع من المعاملة، فإنهم يقررون بأنه لا حق للمستأجر في البقاء في المحل بعد انتهاء المدة إلا برضا المالك، بل إن منهم من يشجب الاستناد إلى الأعراف الخاصة التي تخالف القواعد الشرعية ويندد بأصحابها. والقائمين عليها، بل يعتبرها بعضهم من التحاكم إلى الطاغوت الذي أمرنا أن نكفر به (1) . ويقررون أن أموال بدل الخلوات لا تحل لأصحابها، وأن أكلها حرام، إذ هو ناشئ عن الإضرار بالأوقاف وأصحاب العقارات. وأن الذين يتعاملون بالأعراف الخاصة المخالفة لقواعد الشريعة الإسلامية ولما تعورف عند فقهاء المسلمين على اختلاف مذاهبهم هو خروج عن الجادة. وأن الشيخ ميارة من علماء المغرب، لما سئل عن الجلسة المتعارفة في المغرب قال: " أما مسألة الجلسة فلم أقف على نص فيها ولا أظنه يوجد لأنها محض اصطلاح من المتأخرين ولأنها اشتملت على أمور مخالفة للشريعة الإسلامية ". وبمثل هذا أجاب الشيخ عبد الواحد بن عاشر، إذ صرح بأن مسألة الجلسة التي حدثت لا أصل لها في الشرع. وأشار الجلالي إلى أن الجلسة " أحدثها أهل الغصوبات من أنواع الجور وقد وقع التشكي بظلمها أيام حياة العلماء حفاظ المذهب، كالحميدي والسراج، ووقع الاهتمام بقطعها فلم الجور معينًا ولا ناصرًا من أهل الدولة، وتعصب أصحابها بذوي الجور والظلم، وبقي أمرها كذلك إلى أن قدم السلطان أحمد المنصور فرفع إليه أمرها فقطعها، واستبد أرباب الأصول بمنفعة رباعهم واضمحل ذلك الباطل وهكذا كان الحال عام 1013هـ ". وعلى نفس الرأي عبر المسناوي فقد جاء في كلامه " وبالجملة فأمر الجلسة مما غص به الناس قديمًا وحديثًا لتحكم العوائد على القواعد وغلبة العامة على الخاصة مع الجهل منهم " (2) . وذكر الشيخ محمد السنوسي الحفيد أن محمد باي بتونس حاول إبطال العمل بالنصبات بعاصمة تونس استنادًا لكلام أبي الفداء الشيخ إسماعيل التميمي، فلم يتيسر ذلك له لما يطرأ على ذلك من ضرر كبير على مالكي النصبات، وهم جم غفير (3) . إن من أجازها من علماء الحنفية قاسها على من أجاز بيع الوفاء أو عدها من باب جواز تقليد آراء المذاهب تحقيقًا للرخصة والضرورة، وهم يقررون أن حكم الزيادة التي أحدثها المستأجر في المحل: إن كانت برضا المالك مما لا يجوز قلعه فله الرجوع على المالك بما بذل من مال. وإذا كانت الزيادة مما تنقل أو تحول فله أخذ ما أضافه أو مطالبة المالك بدفع قيمة ما أضاف والمالك مخير. يقول الشيخ عليش في فتاويه (4) : " فإن أذن المالك للساكن في وضع شيء من خشبه أو نحوه كان باقيًا على ملك الساكن وللمالك إخراجه ويأخذ قيمته أو شيئه بعد إخراجه ". أما إذا كانت الزيادة التي قام بها المستأجر بلا إذن المالك فلا رجوع عليه بشيء ويخير صاحب العقار بين أن يدفع له ما زاد أو قيمته مقلوعًا، يقول الشيخ عليش: " أما العمارة بلا إذن المالك فلا يحاسب بها وله أخذ عين شيئه أو قيمته بعد قلعه " (5) . وبهذا يتبين أن لا حق للمستأجر في جميع الحالات من البقاء في المحل، ويرى بعض العلماء أن العمل بهذه الأحكام العرفية هو الذي شجع التجار على الاستقرار بالمحلات بعد انقضاء الأجل ولو لم تكن هناك ضرورة ملحة ونفر أصحاب رؤوس الأموال من التمادي في البناء. ولو أخذت الدولة على عاتقها تكوين الأسواق أو شجعت رؤوس الأموال على بناء محلات تفي بحاجة التجار لانحل المشكل من الأساس. والحل السريع في هذا الموضوع، هو أن يقع التعاقد على مدة يراها المستأجر كافية للتحصيل على الرخص اللازمة لجبر المصاريف الكافية لإعداد المحل التجاري مع ما يؤمله من أرباح بالتراضي مع المالك ولو طالت المدة، وإذا انتهى لأمد المتفق عليه استرجع المالك عقاره أو جدد الكراء.   (1) عمر بن عبد الكريم الحيدي: العرف والعمل في المذهب المالكي: ص 256. (2) عمر بن عبد الكريم الحيدي: ص 471. (3) محمد السنوسي الحفيد، مطلع الدراري ص: 158. (4) الشيخ عليش، فتح العلي المالك: 2/146. (5) الشيخ عليش، فتح العلي المالك: 2/146. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1982 الأصل التجاري بين الجواز والمنع: إن المانعين للعمل بالأعراف الخاصة إنما منعوها لأنها لا تقوم في الغالب على دعائم الدين ولاتستند إلى نصوص واضحة معترف بها بين عامة الفقهاء، بل تقوم على خرافات وأباطيل، وأن الإسلام لما جاء أقر كثيرًا من أعراف الجاهلية ورفض ما كان رجسًا من عمل الشيطان، وهذا القدر هو محل اتفاق بين علماء المسلمين. ويبدو أن رفض عدد كبير من العلماء للفتاوى التي جوزت بيع الخلو وأقرت المستأجر في مقر عمله بعد انقضاء مدة الإجارة هو تغافل عن قيمة هؤلاء العلماء الذين بلغ عددهم منهم مرتبة الاجتهاد وجميعهم يعلم أنه لا يجوز في مجال القضاء والفتيا اعتماد أعراف تخالف أصلًا من أصول الشريعة كما لا يجوز اعتماد عرف يبطل واجبًا أو يبيح حرامًا، ونسوا أن المفتي أو القاضي أو العالم كثيرًا ما يعتمد قواعد أخرى كالتي تقرر وأن الضروريات تبيح المحظورات وأن الضرورة تقدر بقدرها وإذا ضاق الأمر اتسع حكمه وأن العادة محكمة. وقد تقدم لنا أثناء البحث أن الشيخ الطاهر بن عاشور وغيره ممن تقدم ذكرهم أجازوا أنواع الخلوات اعتمادًا على الضرورة أو الرخصة أو غير ذلك. ومسألة تخلي المستأجر عن الخلو ببدل وثبوت حق البقاء له في العقار بدون إذن المالك لو صدرت فيها فتوى واحدة في عصر من العصور في بلد واحد من بلاد الإسلام، لقلنا: إنه يجوز لهؤلاء أن يقولوا إن هذه المسألة وليدة عرف خاص لا يعتد به في الفقه عامة. ولكن الواقع أن هذه المسألة انقلبت إلى حاجة اجتماعية عاشت أربعة قرون أو خمسة، وتناولها بالدرس عدد كبير من العلماء من جهات متعددة من العالم الإسلامي – غير الشيخ القاني الذي اعتمدت فتواه – ولقيت القبول من أهل الذكر أمثال الشيخ شهاب الدين القرافي والعلامة الشيخ الأجهوري، والشيخ سالم السنهوري، والشيخ عليش، والشيخ باش مفتي إسماعيل التميمي، والشيخ باش مفتي إبراهيم الرياحي، وشيخ الإسلام محمد بيرم الرابع، والشيخ باش مفتي الشاذلي بن صالح، والشيخ أحمد الغرقاوي المصري، والشيخ محمد المهدى الوزاني فلجميع هؤلاء وغيرهم فتاوى مدونة في كتب الفقه مع بيان طرق الاستنباط وهي كلها لاتبقي حجة للمانعين للعمل بالعرف الخاص ولاتدع لهم مجالًا لإنكار هذا النوع من الاجتهاد الذي حظى من العلماء بالقبول وتلقته الأمة الإسلامية بالتأييد والارتياح. واعتقادي أنه لا يمكن أن ينظر إلى موضوع الأصل التجاري بمنظار ضيق على أنه لا يزيد على أن يكون عقد كراء عقار تجري عليه أحكام الإجارة العامة ككل عقار من العقارات بدون أن ينظر إلى ما يحيط بهذا العقد من اعتبارات خاصة لايصح أن يتغافل عنها أهل الإدراك والذكر، لأن المستأجر قد ينفق على بعض المحلات أكثر من قيمة المحل في تهيئة كمالات قد لانعطيها القيمة التي تستحقها، ولكنها على كل حال باهظة الثمن وهي التأثيث والزينة والتنسيق والأضواء ووسائل الدعاية ووسائل الراحة، وكل ذلك لجلب الحرفاء وكسب السمعة التجارية ومنافسة بقية التجار، ولا يؤمل عادة أن يكون للمحل مردود كامل إلا بعد مضي ست أو سبع سنوات. فإخراج المكتري من المحل عند انتهاء مدة الكراء وهي سنتان في المحلات التجارية وهو لم يتحصل بعد على السمعة التي يعمل لتحقيقها، ولم يتمكن من إرجاع ريع المصاريف التي قام بها عادة، فإخراجه بدون اعتبار الأصل التجاري معناه إفلاسه وتحطيم كل ما شرع في بنائه وإفلاس المصارف التجارية التي تقوم وراء التجار. وإذا لم تظهر المصلحة بصفة جلية في منح صاحب الجلسة أو النصبة أو الحانوت حق البقاء عند العلماء الرافضين العمل بالعرف الخاص، فهل يترددون في إعطاء صاحب الأصل التجاري هذا الحق الذي مكن منه مقابل الجهود الكبيرة التي بذلها للتحصيل على الرخص والمصاريف الباهظة التي أنفقها في تحقيق عناصر الأصل التجاري، والتي بدونها لا يستطيع أن يحقق المتجر المناسب، ولا التغلب على منافسيه، ولأن في منعه من التمتع بحق الأصل التجاري إضرارًا به، بل هو في عرف التجارة إلقاء به إلى التهلكة. مع أن الرافضين العمل بالعرف الخاص يعتبرون من القواعد الشرعية المعترف بها بين الجميع أن الضرر يزال؟. ومن جانب آخر، فإن عقد الإجارة هذا وإن لم ينص فيه على التبقية فهي معتبرة لأنها مفهومة ضمنا من المتعاقدين استنادا للعرف السائد بين التجار والذي أقرته القوانين التجارية. وفي اعتقادي أننا لو نتمكن من تمديد مدة العقد إلى أجل لا يتغير فيه المحل غالبًا ويتمكن فيه المستأجر من تعويض مصاريفه لكنا أقرب إلى التوفيق بين من يرفض ومن يجيز، لا سيما وأن تحديد مدة الإجازة مبينة على اجتهادات وأعراف والإمام مالك يجيز كراء المسيل إلى سنين كثيرة أو إلى الأبد.. وهذا رأي اتجه إليه رجال القانون في تونس أخيرًا وقدموا فيه لائحة قانون للمصادقة عليها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1983 غرامة الحرمان: لقد تقدم لنا أن قلنا أن القانون التجاري أثبت أن صاحب الأصل التجاري إذا كان مستأجرًا للعقار الذي أعده للتجارة يثبت له حق البقاء في المحل، وهذا الحكم يوافق ما ذهب إليه الفقهاء من حق إبقاء التاجر في المحل وتمكينه من بيع خلو النصبة والجلسة والحوانيت وغيرها اعتمادًا على العرف، وفي كل هذه الحالات لا أمل للمالك في التحصيل على عقاره إلا بالتراضي مع المستأجر فإذا لم يرض المستأجر لا يمكن المالك من عقاره. ولكن القانون التجاري المعاصر أعطى جديدًا للمالك في استرجاع العقار رغم إرادة المستأجر، وذلك بعد أن يدفع المالك غرامة حرمان المستأجر عن حقوقه المادية والمعنوية التي يقدرها أهل الذكر في ميدان التجارة. وهذه الغرامة تمثل مجموع ما أنفقه التاجر على المحل وتعويض ما اكتسبه من حقوق الرخص والإجازات مع أن ضمان المالك للتاجر فيما زاده في المحل تقره القواعد الفقهية وتحديده موضوع اجتهادي. ويمكن المالك بعد دفع الغرامة من أصله الذي كان محرومًا منه بدون توقف على رضا المستأجر، وفي نظري أن الغرامة بإعطاء هذا الحق الجديد للمال كانت أخف وطأة على المالك من أن يحرم من عقاره إلى الأبد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1984 تطور الأصل التجاري: اعتاد الناس في المعاملات التجارية على أن المستأجر هو الذي يثبت له حق الخلو وهو الذي يثبت له الأصل التجاري وهو الذي يتمسك بالمحل بموجب هذا الأصل ولا يبقى للمالك إلا أجرة الكراء ويعطى التاجر حق التصرف في منفعة العقار أو إجارته أو رهنه أو بيعه وغير ذلك ... أما إذا كان التاجر مالكًا لمحله فيثبت له كذلك الأصل التجاري إذا توافرت عناصره، كما يملك بيع خلو عقاره المعد للتجارة، كما جرت العادة أن المالك يكتفي بإجارة المحل، والتاجر هو الذي يتمسك بهذه الحقوق، وأمام القوانين التي صدرت وضمنت بصفة واضحة حقوق التاجر التجأ المالك إلى بيع محله المعد للتجارة وهو المسمى في تونس (بالهبوط) (1) . وقد عرف عند الفقهاء بأنه بيع جزء من المنفعة مجردًا وهو جائز: قال الشيخ عليش في فتاويه إن الخلو إذا صح في الوقف ففي الملك أولى لأن المالك يجعل في ملكه ما يشاء. (2) . ولقد عبر الفقهاء عن كل هذه البيوع بالخلو، أما رجال القانون فلا يطلقون الأصل التجاري إلا على ما توافرت عناصره. كما التجأ بعض أصحاب العقارات إلى طريقة أخرى وهي مطالبة المستأجر بجعل توثقة مالية معتبرة تحت يد المالك تضاهي قيمة خلو هذا المحل ترجع إلى صاحبها عند تسليم المحل بانتهاء مدة العقد وهذه طريقة أخرى يتخلص بها المالك من تمسك التاجر بالمحل، أو من دفع غرامة الحرمان. وهذا كله استمرار للصراع والتنازع بين المالك والمستأجر في ضمان أكثر ما يمكن من المنافع أو دفع أكثر ما يمكن من الأضرار. والله أعلم. الشيخ مصطفى كمال التارزي   (1) يسميه رجال القانون في تونس: " الخلو " ويعبر عنه القانون الفرنسى "Pas-De-Porte"، وهو غير الأصل التجاري المعروف عند رجال القانون بـ " الخلو " أيضًا، والذي يعرف عند رجال القانون الفرنسي باسم "Fonds De Commerce". (2) الشيخ عليش، فتح العلي المالك: 2/16. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1985 الأصل التجاري إعداد الدكتور – محمود شمام الرئيس الشرفي لمحكمة التعقيب الأستاذ المحاضر بالجامعة الزيتونية عضو المجلس الإسلامي الأعلى بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحابه والتابعين. الأصل التجاري في الدورة الرابعة للمجمع الفقهي الإسلامي صدر القرار رقم 7 في شأن الاسم التجاري، والترخيص بتأجيل النظر فيه إلى الدورة الخامسة. وجاء في المذكرة الموجهة إلينا من الأمانة العامة الإشارة إلى إدراج هذا الموضوع تحت عنوان عام يشمل الحقوق كافة مع إمكانية التركيز على فقرة بعينها من مشمولات العنوان العام. وتبعا لذلك ونظرا لما درجت عليه غالب البلاد الإسلامية والعربية في شأن محلات التجارة بها من نظام خاص بطرح مشكلة التصرف في المحلات المستأجرة وحقوق التبقية بها رغم إرادة المالك ورغم العقد والشروط. واستجابة للرغبة الملحة في كشف الغطاء عن هذا الموضوع وإجلاء أثره وبيان فروعه فقد خصصت دراستي هذه المختصرة لجانب واضح مستقل يشمله العنوان العام وهو فرع من فروعه، وفي شرحه وإيضاحه وبيان حقيقته إمكان لتصور صحيح، ثم للحكم طبق أصول ديننا الحنيف ومقاصد شريعتنا الإسلامية السمحة. متى ظهرت فكرة الملكية التجارية؟ تتفق كل القوانين المدنية على أن الإيجار لأي محل ينتهي بمجرد انتهاء مدته الاتفاقية المعينة في العقد من طرفيه. يقول الفصل 791 من المدونة التونسية: " ينتهي الكراء بمجرد انتهاء مدته المشروطة بين المتعاقدين وبدون احتياج إلى تنبيه من أحدهما على الأخر ". وهذه القاعدة هي نتيجة حتمية لاحترام حق الملكية واحترام حرية التعاقد، فالمالك حر في كراء عقاره لمن شاء وبأي ثمن أراد ولأية مدة يوافق عليها وتنال رضاه وهو حر في استرجاع محله عند انتهاء المدة المتفق عليها وهو حر في استعماله لفائدته الخاصة أو بإيجاره للغير وهو غير مكلف وغير مطالب برعاية مصالح المستأجر الخارج وما قد يلحقه من ضرر وخسارة بسبب تركه للمكري وخروجه منه. ثم إنه حر في تجديد الإيجار لهذا المكتري الخارج وإعادة التعاقد معه بمعين جديد ومدة أخرى معينة ومحددة ينتهي الإيجار بانتهائها. كل ذلك لأن حرية الملكية الفردية وواجب الوفاء بالعقود واحترام الشروط من المبادئ الأساسية والأخلاقية التي يجب احترامها والوقوف عند حدودها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1986 ونظرا لتفاقم الأزمة المتعلقة بالمحلات وتبلور حق الملكية التجارية لحماية مجهود التاجر الذي استأجر محلا وأعطاه من ماله وعرق جبينه ومجهوده الشيء الكثير فأنشأ به أشياء مادية كالأثاث والمواعين والموازين والثلاجات والمقاعد وكون به أمورا معنوية كالدعاية والإشهار وجلب الحرفاء وترسيخ اللون التجاري المميز والسمعة الطيبة الحسنة. وما كونه التاجر هكذا وصرفه من أموال ومجهودات لا يمكن هدره والقضاء عليه بمجرد انتهاء مدة الإيجار الاتفاقي وإصرار المالك على التمسك بحقه كاملا اعتمادا على أنما يتفق عليه الطرفان يقوم مقام القانون بينهما ويجب الوفاء به وتنفيذه. ولزم حينئذ حماية للتاجر وحفظا لما كونه إصدار قانون يحميه ويقيه ويحفظ عليه حقوقه بأن يخول له حق البقاء بالمحل والتصرف فيه مقابل كراء مناسب اتفاقي أو معين من طرف القاضي خاصة، وإن غالب التجار لا يملكون المحلات التي يمارسون بها تجارتهم، بل يستأجرونها من مالكيها ويضعون بها بضاعتهم ولوازم عملهم التجاري، والتاجر يفضل أن يضم رأس ماله في شراء البضائع وإعداد محل تجارية إعدادا لائقا على أن يشتري العقار بما يملك من مال. وقد عرف التاريخ القديم كثيرا من الشعوب اشتهرت بالتجارة بحرية وبرية فكانوا وسطاء بين الشرق والغرب لنقل البضائع والاتجار فيها. ومن بين هذه الشعوب الفينيقيون واليونانيون والقرطاجنيون وأهل رودس والإسكندرية ومرسيليا. وقد تأثرت القوانين بذلك كما فعل حمورابي في القانون المعروف باسمه والذي وضعه سنة 2083 قبل الميلاد. وأما الرومان فلم يكترثوا بأمور التجارة لأنهم ينظرون إليها نظرة احتقار، ومع ذلك فقد توجد عندهم بعض القوانين المتعلقة بالتجارة بأنواعها كافة على نطاق واسع وقد اتصلوا بالأمم المجاورة وتكونت عندهم أعراف تجارية خاصة كانت بمثابة القانون. يقول الأستاذ رزق الله أنطاكي في كتابة " الحقوق التجارية البرية ". " والتجارة لم تتقدم تقدما محسوسا إلا مع الحروب الصليبية التي أفادت في توسيع وتوحيد العلاقات التجارية بين الشرق والغرب خاصة بين سكان المدن الإيطالية كالبندقية وجنوه وفلورانس والبلاد العربية، فنشأت عن هذه العلاقات قواعد اعتبرت سنة لمحترفي التجارة ودخلت فيما بعد في تشريع معظم الدول. ومما تجدر ملاحظته شبه احتكار الأعمال التجارية في القرون الوسطى من قبل اليهود لاعتبارات شتي أهمها محاربة تعاليم الكنيسة المسيحية لهذه الأعمال لما تضمنته من فكرة الربح الزائد الشبيه بالربا وحرمان اليهود من تملك غير المنقول ومن تسلم الوظائف العامة ". (انتهى) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1987 والبلاد التونسية مارست في أوائل القرن الثاني عشر الهجري نوعا من هذا التصرف الجبري المعبر عنه بوجوب تجديد الكراء أو حتى التبقية في محلات التجارة وذلك من خلال ما عرف بخلو النصبة التي يتحدث عنها ويصفها العالم الفقيه الشيخ محمد السنوسي الحفيد قائلا (1) . " وأما خلو النصبة فهو ملك الخلو بوضع الآلة والموازين والطواحين مما تم به عمارة الربع وتبقى به يد المكتري بالكراء الدائم. والأصل فيه أن غرباء الوافدين على البلاد كانوا إذا اكترى أحدهم حانوتا بغير عمارة وأنفق عليه ما يحتاجه من الخزائن وآلة الصناعة والموازين وأراد المالك أو ناظر الوقف إخراجه بعد انقضاء أمد الكراء تشكي من خسارة ما استكمل به عمارة المحل، حيث إن المالكين وناظري الأوقاف لم يجعلوا لحوانيتهم ما يلزم للصناعة المعد لها الحانوت مع كونهم أكروه لإقامة تلك الصنائع وتحمل المكترون مصاريف ذلك، ووقع الحكم بأن المكتري إذا كان على تلك الصفة ووضع ما يلزم للعمارة بإذن المالك فلا يصح إخراجه إلا أن يقبل المالك بتلك الموضوعات بدون خسارة وإلا فيبقى المكتري بكرائه متمتعا بخلوه، وبما يجحف بالمالكين من تعويض مصاريف الموضوعات اضطروا لإبقائهم فتصرف المكترون بأنفسهم وأكروا لغيرهم وباعوا مكانهم على أن لا يأخذ المالك إلا مقدار الكراء وما زاد عليه يبقى لصاحب العمارة. وتسمى هذه العمارة في مثل حوانيت العطارين بتونس - نصبة – وفي مثل حوانيت السوقة من باعة الزيت والخبز والصابون – راغلة – وفي مثل الطواحين – عدة -. وبتطاول الأعصار وارتفاع الأسعار جرى عمل البلاد على ذلك وتقررت به أملاك لها بال في سائر أنحاء البلاد حيث تعتبر فيها التبقية.   (1) كتاب مطالع الدارري بتوجيه النظر الشرعي على القانون العقاري: ص 162. طبع المطبعة التونسية الرسمية. سنة 1305 هـ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1988 وقد كان بعض الحكام التونسيين من ذوى الفتوى أراد إلزام المتملكين بالنصبة أن يؤدوا كراء المثل بعد تغير الأعصار وارتفاع الأسعار ومس الدولة من ذلك نصب بشغب المتملكين للنصبة ملكا دخلوا عليه وعلى بقائه على حالته، ودفعوا فيه أموالا على نسبة ذلك. وافضى الحال إلى أخذ المسألة بطريق سياسي ودخلت للمجالس العدلية مدة انتصابها بتونس وصدر حكم المجلس الأكبر بإبقاء المالكين على ما ملكوا نظرا لكونهم في الحالة الراهنة اشتروا النصبة بمال لا يدفع مثله في مثلها لو كانت خارج المحل وغاية ما بقى للمالكين الأصليين هو أن بعضهم ينتظرون خروج النصبة من الحانوت حتى ينتهزوا فرصة طلب رفع اليد عن خالص ملكهم ".انتهى. وقد عالج المقنن التونسي هذه الحالة وتعرض لها منذ قرن بالمادة 991 من المدونة المدنية فقال: " النصبة حق الاستقرار بدكان ونحوه مما هو معد لصناعة أو تجارة يلتزم المكتري بأن تؤدي للمالك في مقابلته كراء معينا لا يتغير ويستقر هذا الحق للمكتري بإدخال الألة ومواعين خدمته للمحل ويدوم ما دامت تلك الأدوات والمواعين ". لكن لشدة هذا الحق وقسوته فقد جعله القانون قاصرا على العقود السابقة والإيجارات المتقدمة عنه وحذفه وأبطله فيما يعقد بعدها فقال في المادة 994. " الفصول السابقة لا تنطبق إلا على النصب المتقدم تاريخها على عام 1280هـ/1863م ". ومن هنا يمكن أن نقول أن خلو النصبة هي عين الأصل التجاري الذي مارسته فيما بعد البلاد الأوروبية وضبطته بقوانينها وعنها أخذنا ما وضعناه من قوانين حاليا في هذا الموضوع. وذلك لأن شذاذا من طائفة معروفة بالتجارة نزحت إلى تكلم البلاد الأوروبية والأمريكية وعمرت محلات تجارتها بالمواعين والآلات والدعايات وهي لا تملك العقارات، وإنما تصرفت فيها على وجه الكراء فسعت إلى وضع قوانين تحمي أعمالها وتكون لها حقوقا تقف في وجه المالكين من سكان البلاد وتحد من تصرفهم المطلق في منافع أملاكهم. وحينئذ فالمشكل الذي يطرح نفسه للنقد والفحص والدرس ثم الحل هو أن ما عبر عنه بخلو النصبة قديما – وجرى به العمل مدة ما بتونس وبعد حذفه وإلغائه رجع العمل به تحت عنوان الأصل التجاري – هل هو حلال يستقيم أمره ويتماشى مع قواعد الشرع العزيز ومقاصده السامية؟ وهل يمكن للمستأجر الذي التزم بأن يبارح المحل في تاريخ معين أن يتمسك اعتمادا على القانون بحق التجديد والتمديد الوجوبي ويبقى بالمكري رغم إرادة المالك الذي عاقده وعاهده واتفق معه على شروط التزم كل منهما بالوفاء بها والوقوف عند حدها. مع العلم بأن القوانين الوضعية المعمول بها في غالب البلاد تلغي كل شرط مخالف وتمكن صاحب الأصل التجاري من حق البقاء والتبقية بالمكرى وتخضع الطرفين المتعاقدين إلى العمل بما جاء به وحدده القانون في هذا الشأن عوضا عما اتفقا عليه والتزما به من شروط وآجال. ومن الأفضل حينئذ إعطاء بسطة وجيزة تشرح الموضوع كما نسقه ووضعه المقننون حتى نتصوره تصورا واضحا ثم نحكم عليه بعد ذلك، والحكم على الشيء فرع عن تصوره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1989 ما هو الأصل التجاري؟ الأصل التجاري هو أداة عمل التجار مثلما أن الآلات أداة عمل المصانع. وهو من الماديات الملموسة المحسوسة تكون ووجد وتطور مع الزمن ليصبح فكرة قانونية موضوعية تبلورت فيها وجود العناصر المعنوية وضخامة أمرها وأهميتها. فالسمعة التجارية والحرفاء هما جوهر فكرة الأصل التجاري وأهم أركانه ومقوماته ومميزاته. وكل عنصر من العناصر المادية أو المعنوية المختلفة التي يتركب منها الأصل التجاري له قيمته الذاتية. وعند اجتماع العناصر كافة وتألفها، فإنه تتألف وتتكون منها مجموعة موحدة متجانسة هي الأصل التجاري الذي تفوق قيمته الاقتصادية مجموعة القيم الذاتية للعناصر المختلفة. ولذا، فهو ينعت بأنه مجموعة من الأموال المنقولة المادية والمعنوية تألفت ورتبت بقصد استغلال مشروع تجاري. والأصل التجاري وحدة قائمة بذاتها لها كيان مستقل عن المقومات التي تتكون منها عناصره. وهو لا يكون إلا مع توفر الصفة التجارية للنشاط المباشر كما أن صفة التاجر لا تكتسب إلا مع ممارسة النشاط التجاري على وجه الاحتراف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1990 يقول بعض شراح القانون في الموضوع (1) . " والمحل التجاري هو المجموعة القانونية لمقومات متجر أو مصنع، وهذه المقومات منها ما هو غير مادي ومنها ما هو مادي، والمقومات المادية هي: العنوان والاسم التجاري والحق في الإجارة والاتصال بالعملاء والسمعة التجارية والرخص وبراءات الاختراع والعلامات التجارية والرسوم والنماذج الصناعية، وعلى وجه العموم كافة حقوق الملكية الصناعية والأدبية والفنية المرتبطة بالمحل التجاري. والمقومات المادية هي المهمات والبضائع، ويقصد بالمهمات الأثاث التجاري والآلات وجميع المنقولات المادية التي تستعمل في استغلال المحل. ويقصد بالبضائع جميع المنقولات المادية المعدة للبيع. وفكرة اعتبار المحل التجاري مجموعة أو وحدة قائمة بذاتها لها كيان مستقل عن المقومات التي يتكون منها إنما هي فكرة حديثة أوحت بها الحاجة إلى إيجاد الوسيلة التشريعية التي يمكن بها أن يكون المحل التجاري بجميع مقوماته محلا للتصرفات القانونية كالبيع والرهن ".انتهى. هذا وقد سبق التشيع الفرنسي بقية التشريعات الأوروبية في التكييف الحديث لفكرة الأصل التجاري وهو – تقريبا – أول تنظيم قانوني شامل لأهم العمليات التي ترد على الأصل التجاري (2) . فالقانون الفرنسي المؤرخ في 17 مارس 1909 م الذي أدخلت عليه عدة تعديلات ومنه استمد المقنن التونسي أحكام الملكية التجارية 26 أكتوبر 1926 م وعدة قوانين أخرى، آخرها قانون ماي 1977 م، وقد نص فصلاه الأول والثاني على اكتساب المستأجر لحق تجديد الإيجار وجوبا بشرط وجود عقدة كراء واستعمال المكري في استغلال أصل تجاري وتواصل هذا الاستغلال مدة عامين اثنين بدون انقطاع.   (1) د. علي حسن يونس: في كتابه المحل التجاري: ص 341 (2) أول قانون أصدره المقنن الفرنسي هو القانون الصادر في 28 فيفري 1872 م الذي فرض ضريبة على بيع المحال التجارية. كذلك صدر قانون غرة مارس 1898 م، وقد أضاف إلى المادة 2075 من القانون المدني فقرة جديدة توجب أن يقيد رهن المحل التجاري في سجل عمومي. ثم صدر قانون 17مارس 1909م الذي وقع تنقيحه عدة مرات. وقد تأثر المقنن المصري بذلك فأصدر القانون رقم 1940 م الذي تكلم على بيع المحل التجاري ورهنه وذكر العناصر التي تدخل في تكوين المحل التجاري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1991 طبيعة الأصل التجاري بما أن الفكرة نشأت عن التعامل بين التجار فمختلف العناصر التي من شأنها جلب الحرفاء يجب تجميعها للحصول على قيمة تفوق مجموع القيم الذاتية لكل عنصر من العناصر على حدة، ورغم ذلك لا يتكون من هذا المجموع وحدة قانونية قائمة الذات لأن المقنن لم يعدد العناصر ولم يحصها، ولأن مالك الأصل غير ملزم بالإبقاء على وحدة العناصر المتركبة منها فله أن يفرقها عن بعضها بعضا وأن يبيع كل عنصر على حدة لأشخاص متباينين ومختلفين. وعليه يجب بيان أن تكون مجموعة من العناصر المختلفة المادية المعنوية يمكن أن يشكل شيئا معينا قائما بذاته. ومجرد كون هذه العناصر يجمع بينها عمل مشترك هو الاستغلال التجاري، وغاية معينة هي تكوين حرفاء دائمين وجلب الوفرة الوافرة منهم لا يكفي في حد ذاته لاستخلاص الطبيعة القانونية لهذا المجموع الواحد الذي هو المحل التجاري أو الأصل التجاري. وقد اختلفت الآراء وتباينت النظريات بحثا عن التكييف القانوني، فانقسم أصحاب الرأي إلى قسمين اثنين: قسم يهتم باجتماع العناصر المتألف منها الأصل التجاري ويعتبره مجموعا واحدا، والقسم الآخر يعتمد طبيعة العناصر المتكون منها الأصل التجاري لاعتباره حق ملكية معنوية ومنقولة. ونفس القسم الأول ينقسم على نفسه إلى فرعين: أحدهما يرى في الأصل التجاري مجموعا قانونيا تتكون منه ذمة مالية مخصصة للاستغلال التجاري ومنفصلة عن ذمة التاجر صاحب الأصل التجاري، ولا وجود لشخصية قانونية يقوم عليا هذا المجموع القانوني، واجتماع العناصر المتباينة لهدف واحد يكون في حد ذاته وفي داخله ذمة مالية باعتبار التخصيص الموحد. ويترتب على ذلك أن مالك الأصل التجاري مخصص لدفع ما عليه من الديون بحيث إن أصحاب هذه الديون يقدمون على الدائنين الشخصيين للتاجر صاحب الأصل التجاري. لكن هذه النظرية منتقدة لأنها عمليا وتطبيقا تتعارض مع بعض المبادئ الأساسية، ومن ذلك أن إحالة الأصل التجاري لا تقتضي حتما إحالة الحقوق والديون، كما أن انتقال ملكية الأصل التجاري بسبب الإرث تكون صبرة واحدة من مجموع المخلف من التركة. وإذا كان الأصل التجاري مكونا في نطاق شركة، فإنه يصبح من مقومات الذمة المالية للشركة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1992 والمدونة المدنية التونسية بفصلها 1623، جعلت للمدين دفعة واحدة فمكسبه ضمان لغرمائه ليتحاصصوا ثمنها مع اعتبار الأسباب القانونية في تقديم بعضهم على بعض. أما الفرع الثاني، فهو يعتبر الأصل التجاري مجموعا واقعيا من الأموال، أي وجود تلاحم وتآلف فعليين بين عناصر يشد بعضها بعضا رباط اقتصادي ناتج عن الهدف المشترك. وكل عنصر يحتفظ بذاتيته ولا يندمج في ذمة مالية خاصة وبذلك تستبعد فكرة الحقوق والديون الخاصة بالأصل التجاري وضمانها يكون عاما متفقا مع نظرية المادة 1623 السابق ذكرها، أي أن مكاسب المدين ضمان لغرمائه ليتحاصصوا ثمنها بينهم مع اعتبار الأسباب القانونية في تقدم بعضهم على بعض. كما أن مشتري الًاصل التجاري لا ينتفع بما للأصل التجاري من ديون على الغير ولا يتحمل بما عليه من الديون. وإذا اعتبرنا أن العناصر يمكن تفكيكها وبيعها على انفراد حسب إرادة مالك الأصل التجاري، فلا وجه حينئذ لمإذا لا يكون الأصل التجاري موضوع عمليات قانونية على أساس نظرية الفرع الثاني. أما القسم الثاني الذي يعتمد طبيعة العناصر المتكون منها الأصل التجاري لاعتباره حق ملكية معنوية من طبيعة منقولة فهو يقرر: تستعمل كلمة: ملكية الأصل التجاري، للدلالة على ما اكسبه التاجر من حق على التجارة التي يمارسها أي النشاط الذي يقوم به في ميدان التجارة إذ لا يكون هناك أصل تجاري إلا مع ممارسة الأعمال التجارية. فإذا كان هناك حق ملكية، فلها طبيعة خاصة لأنها نتيجة نشاط أِشبه ما يكون بالابتكار الذهني والإبداع الفني كالاختراع تماما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1993 وهذا النشاط الخلاق الذي يبذله التاجر ويجتهد في وضع أسسه يفضي إلى تكوين مختلف عناصر الاستغلال التجاري، ثم ربطها ببعضها وتكوين لحملة جامعة بينها تدفع إلى الأنصار في ذاتية أو مجموعة قائمة الذات. وهذه الخصائص تكسب الأصل التجاري طبيعة معنوية شبيهة بالملكية الأدبية والفنية أو ببراءات الاختراع التي لا ترتكز على أساس مادي وهي ثمرة نشاط ذهني فكري يوجهه العقل والإلهام والعطاء الفطري. فإذا استغلت هذه الخصائص أصبحت لها قيمة رائجة ورابحة بفضل ما لها من قدرة على جلب الحرفاء والإبقاء عليهم ودفعهم إلى الشراء والتعامل شأنها في ذلك شأن الأصل التجاري مع فارق، وهي أن هذا يتكون من مجموع عناصر تتضافر قدراتها على جلب الحرفاء وشدهم برباط أخلاقي رفيع إلى المتجر والمقصود به والتزود بما يقدمه من بضاعة، واجتناب غيره من المتاجر حتى ولو كانت تقدم بضاعة أفضل منه. ومثل جميع الملكيات المعنوية، فإن الأصل التجاري لا يختص بصورة عامة جميلة بالحق في الحرفاء، ولكن يشمل مجموعة من مختلف الحقوق ألف بينها التاجر الذي كونها وأنشأها واحتفظ بها بفضل ممارسة واستغلال تجاري يقوم على أسس متينة صحيحة باعتبار أن الأصل التجاري هو ملكية معنوية متفقة مع الطبيعة المعنوية للعناصر الجوهرية التي يتأتى مها وتتركب من مجموعها دعائمه وأسسه. وهذه الملكية المعنوية ينبغي اعتبارها من طبيعة منقولة وبالتالي فإن الأصل التجاري يخضع للنظام القانوني الخاص بالأموال المنقولة. فإذا أوصى شخص بكل أمواله المنقولة فإن الأصل التجاري يدخل في الوصية ويحسب في الثلث من المخلف. ولما كان هذا المنقول معنويا فإن قاعدة الحيازة سند الملكية لا تنطبق عليه لأنها تتعلق بالمنقولات المادية. وكذلك إذا حصل بيع الأصل التجاري مرتين لشخصين على التعاقب فإن حيازته لا تصلح للاحتجاج بنقل الملكية وربما كانت الأفضلية لصاحب العقد الأسبق تاريخا ثابتا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1994 عناصر الأصل التجاري يتركب الأصل التجاري من عدة عناصر مادية وأخرى معنوية تختلف كما وكيفا لطبيعة أهميتها وتأثيرها على جلب الحرفاء ودفعهم للشراء والاقتناء باستعمال طرق مختلفة مركزة على حسن المعاملات ورفعة الاستقبال، الأمر الذي تتكون معه السمعة التجارية للمحل التجاري. وقد جاء القانون التونسي، وهو لا يختلف عن غيره من القوانين ناصا على عناصر الأصل التجاري المعنوية والمادية، وهي الحرفاء والسمعة التجارية وعنوان المحل والاسم التجاري والحق في الإجارة، وحقوق الملكية الصناعية، وحقوق الملكية الأدبية، والفنية. الحرفاء والسمعة التجارية: عنصر الاتصال بالحرفاء عنصر جوهري يتوقف على وجوده أو زواله وجود الأصل التجاري. فعنصر الحرفاء أو ما يطلق عليه السمعة التجارية لا يعتبر جزءا من الأصل التجاري، بل كاد أن يكون هو الأصل التجاري نفسه. فالمتجر والأصل يضمحل إذا كانت مجموعة الأمور تشتمل على عناصر مادية ومعنوية مهما كثرت عددا وقيمة إذا لم تتضمن عنصر الاتصال بالحرفاء وشدهم إلى المحل وإنشاء السمعة التجارية لدى العملاء. وعنصر الحرفاء أو العملاء، هو استقرار بعض الناس وارتباطهم في معاملاتهم مع تاجر معين، لما تبعثه صفاته الشخصية ومعاملاته الذاتية من ثقة واطمئنان وشعور بالفرح. أما السمعة التجارية، فهي صفة ملتصقة بذات المتجر الذي قد يكتسب سمعة تجارية حسنة وجالبة ومغرية بسبب موقعه مثلا أو بسبب ما يوفره لقصاده من إمكانيات. ولقد جمع المقنن التونسي العبارتين في فقرة واحدة ملاحظا بذلك الرابطة الوثيقة بين الأمرين. وفعلا فإنه يصعب من الجهة القانونية فصلهما عن بعضهما لأنهما يتضمنان مجموع الحرفاء الدائمين والعابرين ومواصفات المحل ومميزاته، كل ذلك يقدر بالإضافة إلى رقم الأعمال وتقدم إحالته عند البيع. فهذا العنصر يمكن أن يعبر عنه بالحق في الحرفاء، وهؤلاء غير ملزمين طبعا بالتعامل مع محل تجاري بعينه ولا يكون تاجر حق على أي حريف في التعامل معه. ولكن ما نشأ من ترابط واستمرار التردد على المحل للشراء والاقتناء والتعود تلقائيا على ذلك التعامل جعل كل ذلك عنصرا مهما عند البيع والإحالة والتقدير، ودفع بالمقنن لحماية هذا العنصر حماية قانونية نظرا لتأثره الكبير من الناحية الاقتصادية على التجارة والتجار وحسن المعاملة بين التاجر والحريف وارتباط كل واحد بصاحبه بل وحتى على استقرار الأسعار وجودة السلع وإتقان الصناعة. وكل سعي للانحراف بالحريف عن مساره الطبيعي ومحاولة جلبه إلى محل آخر غير المحل الذي تعود عليه وتحويله عنه قد يكون مزاحمة غير مشروعة ومحرمة وقد يترتب عن ذلك التعويض طبق أحكام القانون المدني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1995 الحق في الإجارة: هذا العنصر الذي دفع بنا إلى دراسة هذا الموضوع بكامله موضوع الأصل التجاري أو المحل التجاري، ومحاولة إماطة اللثام عنه وشرحه حتى يمكن الحكم عليه في ضوء معطيات واضحة وجلية. إن التاجر الذي يملك الأصل التجاري، إما أن يكون مالكا للمحل الذي يتعاطى به تجارته ويدعو إليه الحرفاء ويسعى لجلبهم للشراء من عنده في ذلك المحل، إما أن يكون يتعاطى تجارته في غير دكان ولا عقار، ولا إشكال في الصورتين لأنهما خارجتان عن موضوعنا. وإما أن يكون قد استأجر محلا لتعاطي التجارة به من مالك أجنبي عنه بموجب عقد كراء لمدة معينة وبشروط متفق عليها مقدما. وعقد الإيجار يحدد الطرفان مدته ابتداء وانتهاء حسب كتب الاتفاق. تقول المادة 791 من القانون المدني التونسي: " ينتهي الكراء بمجرد انتهاء مدته المشروطة بين المتعاقدين ". إلا أن قانون الملك التجاري التونسي جاء مخصصا لأحكام القانون المدني العام في شأن إيجار المحلات التجارية وتمديد مدة هذا الإيجار وتجددها بشروط وقيود عينها ألغت إرادة الطرفين وجعلت اشتراط خروج المستأجر عند انتهاء المدة شرطا لا به يعمل ولا عليه يعول ولا ينفذ. فقد جعل القانون أن بيع المحل التجاري أو إحالته يشمل وجوبا الإيجار كعنصر من العناصر رضي بذلك المالك أم أبى. أحب أم كره وجعل أن تمديد مدة الإيجار موكول للقضاء بعد الاختبار بوساطة أهل المعرفة وبشروط معينة لتقدير المعين المناسب. والمالك إذا أصر على رفض تمديد الإيجار فالقانون يوجب عليه دفع غرامة باهظة، فقد تفوق ثمن العقار نفسه. وهذه الغرامة تعرف بغرامة الحرمان يقع تقديرها بإجراءات خاصة لا فائدة من التبسط في شأنها هنا. وما يوجد بالقانون التونسي – الذي جعلناه مثلا – له نظير في القوانين الأخرى المعمول بها الآن والتي وضعت لحماية حقوق التجار وصونها. وما يوجد بهذه القوانين جاء متحديا لاحترام الشروط وواجب الوفاء بالعقود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1996 الخلاصة والخلاصة بعد هذه البسطة التي قدمناها يمكن لنا استخلاص ما يلي: 1- وجود حق لصاحب العقار يقابله حق لمن استأجر منه محله بعنوان الاتجار فيه ثم وجود عقد يحدد علاقة الطرفين ويضع لها شروطا. 2- وجود إشكال حول إنهاء مدة العقد بإرادة الطرفين نظرا لأن المستأجر أدخل على المحل عناصر جديدة بحكم عرف تجارته ودواعي عمله ودافع المزاحمة التجارية وعوامل الربح. وقد تكونت عادات وأعراف في هذا الموضوع، كان من الواجب احترامها والالتفات إليها عند تحديد علاقة الطرفين واجتناب خسارة أي واحد منهما. واتضح أن بعض فقهائنا استند إلى العرف في جواز الإبقاء على المستأجر بمحل التجارة الذي كونه رغم انتهاء المدة باعتبار أن المتعاقدين دخلا على هذا التمديد بحكم العرف الجاري به العمل. 3- لكن بقيت مشكلة أخرى، وهي إذا ألغى الطرفان صراحة ما اقتضاه العرف وجاءت به العادة وعينا لأنفسهما أجلا لانتهاء الإجارة واتفقا على إنهاء العقد بالخلو له وخرج المستأجر من المحل وتسليمه إلى صاحبه. فالقاعدة الفقهية تجعل الناس عند شروطهم، ولا يوجد فقيه واحد يخالف في ذلك، ولا يوجد فقيه يقول بأن العرف يبطل الشرط الصريح، فالعرف لا يعمل إلا إذا حمل الطرفان على أنهما اتبعاه وارتضياه وإلا فلا عمل له. والقوانين الوضعية تجعل هذا الشرط لاغيا لا نفاذ له، وتحكم بحق البقاء للمستأجر بالمحل رغم وجود الشرط. 4- وعليه فالمقترح هو ما يلي: (أ) إعمال العرف التجاري، وتنفيذ القانون عند عدم وجود شرط صريح فاسخ ينهي ويجبر التاجر على مبارحة المكري. (ب) السماح لصاحب العقار بأن يجهزه ويعده، كما يجب للتجارة، ثم يؤجر الأصل التجاري لأية مدة يتفق عليها مع المستأجر وبأي معين يحدداه وعند انتهاء المدة يكون المالك مخيرا بين تجديد العقد أو إنهائه. والقانون مع سماحة بكراء الأصل التجاري، فإنه لا يسمح بذلك إلا بعد تكونه ومضي مدة معينة على ذلك. (ج) السماح للطرفين بالإجارة لمدة معينة ينتهي العقد بانتهائها، ويبارح المستأجر المكون دون أخذ أية غرامة، ولو كان هو الذي أعد المحل للتجارة وهيأه وجهزه لذلك. لكن على شرط أن تكون مدة العقد طويلة بحيث يمكن للمستأجر أن يستغل ما أنفقه في التجهيز والدعاية وجلب الحرفاء، واستفاد من رأس ماله الذي قدمه ويستحب أن لا تقل المدة عن عشرة أعوام مثلا، ومعلوم أن دفع المضرة يسمح بمثل هذه الشروط. هذه بسطة في هذا الموضوع المعقد. ومعذرة عن الحرج الذي قد تلحقه بالمطالع هذه اللغة القانونية الجافة وصعوبة أدائها للمقصود. وفقنا الله لما فيه الصواب والسلام عليكم. الدكتور محمود شمام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1997 الحقوق المعنوية بيع الاسم التجاري والترخيص إعداد الدكتور عبد الحليم محمود الجندي والشيخ عبد العزيز محمد عيسى بسم الله الرحمن الرحيم - 1 - المقدمة: التجارة في جملة أمرها تداول الأموال أو الأشياء بقصد الربح، حيث يوجد المتعاقدان في مجلس العقد، أو يوجد المبيع في " حانوت " التاجر، أو في " السوق " حيث "تساق" العروض والسلع. والفقه الإسلامي حريص على التزام التجار جادة الدين في التعامل التجاري لما يكتنفه من سرعة التراضي أو فورية الأداء مع خلق التاجر واقتداره على ترويج السلعة أو تزيينها ليقبل عليها المشترون، ومنهم من قد ينخدع أو تخفي عليه العيوب. ويروى عن الإمام محمد بن الحسن قوله: (على كل تاجر يحتاط لدينه أن يستصحب فقيها يشاوره في معاملاته) . وعن الإمام أبي الليث قوله: (لا يحل للرجل أن يشتغل بالبيع والشراء ما لم يحفظ كتاب البيوع) (1) . وكان الإمام أبو حنيفة ينهى العامل في حانوته عن أن يزين السلعة بأقواله. ولئن كانت الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات عناصر النشاط الاقتصادي في العالم المعاصر، فإن التجارة ترد على جميع هذه العناصر في عصرنا الحاضر، ومواردها في ازدياد، قدر ما يسبغ الله على عباده من نعم ظاهرة وباطنة وأموال مستحدثة مثل " الحقوق المعنوية " أو الفكرية أو الخدمات التي لا يقف تقديرها عند حد وتتجاوز تجاراتها القارات. ومن الشركات التجارية ما تمتد فروعها إلى دول العالم إلا قليلا … وينطبق على نشاطها قوانين التجارة. وخلعت القوانين وصف "التاجر" على من يتخذ التجارة "حرفة"، كما اعتبرت " العمل التجاري " كل عمل يتم لمزاولة حرفة تجارية، لتتيح سرعة المبادلات وحرية النشاط التجاري واليسر في أدائه واقتضائه، وتتابعت الاتفاقيات الدولية منذ أواخر القرن التاسع عشر للميلاد لتجعل العالم سوقا تجاريا واحدة تسري عليها أحكامها لحماية الحقوق على مستوى العالم (مثل اتفاقيات بيرن لحماية الملكية الفنية، واتفاقية باريس لحماية الملكية الصناعية والتجارية، واتفاقية وارسو للنقل الجوي) . وحظى " المتجر " بحظ وافر من عناية واضعي القوانين ورجال الفقه المحلي والعالمي وأحكام القضاء، وتجلى في صدده إقرار الفكر المعاصر بما سبق به الفقه الإسلامي من إقرار الملكية الفنية. وأصبح المتجر يتكون من " مجموع حقوق معنوية " وإن كان معها عناصر مادية تدخل في " ملكية التاجر". وجرى العرف العالمي على التسليم " بماليتها "، ولم يبلغ الفقه هذا الطور إلا بعد تاريخ طويل شغل الفقه الإسلامي أغلب أطواره. وقد بينا في مقال سابق للمجلة، الحق المعنوي في الملكية الأدبية لحقوق التأليف ونشأتها وتطورها حتى العصور الحديثة، فنحيل عليه، ونخص الحقوق المعنوية التجارية فيما عدا الحقوق الأدبية كما يلي:   (1) شرح القانون التجاري في القانون المصري والشريعة الإسلامية: د. محمد بك صالح. مطبعة جامعة فؤاد الأول، القاهرة 1368هـ – 1949م، ص 24. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1998 - 2- كان الإغريق شعبا من التجار آل إلينا من أنباء متاجرهم مرافعة أعظم خطبائهم (ديموستين) في قضية غش في بيع " محل تجاري " للعطور، وفي قضية أخرى لقاصر ورث " محلا تجاريا " عن أبيه، وثالثة لدائن له تأمينات على " محل تجاري ". ومن الحماية التجارية نظم الإغريق بيع المتجر ورهنه (1) . ولم يحتفل الرومان بالتجارة احتفال غيرهم من الأمم، لكن العرب كانوا تجارا. فالتاريخ يحدثنا على لسان المؤرخ الروماني سترابون (ولد سنة 58 قبل الميلاد) أن من القوافل التجارية العربية ما بلغت عدة عيره ألفا وخمسمائة، ومن القوافل ما كان يتجه إلى اليمن لتبلغ التجارة غرضها في الحبشة، وأخرى إلى فارس في الشرق، وغيرها إلى الروم في الشمال. كما يتحدث تاريخ العرب قبل الإسلام عن تجاراتهم الداخلية في أسواق " دومة الجندل " (وهي ملتقى طرق شبه الجزيرة من مكة إلى الشمال والشرق والجنوب) " وهجر "، تتخصص في بيع اللؤلؤ والسلع إلى فارس والهند، يديرها أمراء البحرين وسوق " عمان " وسوق " دبي ". واستمر ذلك النشاط في العرب بعد أن أشرقت شمس الإسلام. فمن عظماء الصحابة من اشتغل بالتجارة، ومن أئمة الفقه من كانت التجارة حرفة له ومن كان لحانوته مكانة في التاريخ، فالإمام أبو حنيفة (150هـ) كان من كبار تجار الكوفة ودكانه في دار الصحابي الجليل عمرو بن حريث. والإمام مالك كان يعيش من مضاربة بمال له. وكذلك عاش شيخ هذين الإمامين   (1) المحل التجاري، بحث للدكتور محسن شفيق، بمجلة القانون والاقتصاد (جامعة القاهرة، السنة العاشرة، 1970 م، العددان الثالث والرابع وما بعدهما) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1999 : الإمام جعفر الصادق. ومن الفقهاء، من برزت من أسمائهم أوصاف الصناعة والتجارة: كالجصاص، والخصاف، والقفال، والكرابيس (بيع الثياب الخام) ، والبقالي، والنعالي، والحلواني، والعطار، والتمار، والصيدلاني (بيع العطر) . ومنهم الصيرفي، ومنهم بائع اللؤلؤ. ولم يعرف للمتجر شخصية معنوية، فالحقوق المعنوية برزت للوجود في الفقه الإسلامي ابتداء من " الوقف " وملكية " المنافع ". وفي القرن الثاني للهجرة تقررت الملكية الأدبية في الفقه المالكي في صدد " المجموعة الفقهية " المسماة بالأسدية وهي أساس " المدونة " وكان تقريرها بفتوى عبد الرحمن بن القاسم وفقهه، عن مالك، أساس ما ورد بالأسدية وبالمدونة. ثم تقررت في الفقه الإسلامي نظرية الحقوق المجردة أو المعنوية كما سنرى فيما بعد. وكان للتجارة الخارجية شأنها منذ قامت الدولة الإسلامية، وفرض أمير المؤمنين (عمر) المكوس عليها مثلما كانت الروم تفرض المكوس على تجارة العرب. وفي القرنين السادس والسابع (الثاني عشر الميلادي والثالث عشر الميلادي) ، ازدهرت التجارة الخارجية بين أمم المشرق الإسلامي والأمم الغربية عن طريق البندقية وجنوه (في إيطاليا) مع قيام أوروبا بالحروب الصليبية في مصر والشام، إذ المسلمون لا يعتبرون محاربا لهم إلا من حمل السلاح عليهم. وفي إبان هذه التجارة انتقلت إلى لغات أوروبا حتى اليوم التعبيرات العربية عن الملاحة والتجارة وما تزال متداولة في لغات العالم بعد أن كشف الأوروبيون العالم الجديد بينما كانوا يبحثون عن طريق إلى الهند ليبعدوا من طريق المسلمين , وفي ذلك العهد نشأت قواعد وأعراف تجارية بين شاطئي البحر المتوسط، دونها الفرنسيون وجمعوها في عصر لويس الرابع عشر (1643م – 1715 م) ، وعملوا بها حتى صدرت مجموعة القوانين الفرنسية، ومنها قانون التجارة الفرنسي في سنة 1807 م (1) . ولما صدر القانون المدني المصري في سنة 1883م أقرَّ الملكية الصناعية (2) ، وكرر الإقرار بذلك القانون المدني الصادر سنة 1948م (3) ، واستمر القضاء في حماية الحقوق المعنوية واطردت أحكامه في ذلك الباب.   (1) ليون كان ورينو: القانون التجاري، طبعة باريس 1894م، ص 5 وما بعدها. (2) مادة (12) : (يكون الحكم فيما يتعلق بحقوق المؤلف في مؤلفاته وحقوق الصانع في ملكية مصنوعاته على حسب القانون المخصوص في ذلك) . (3) مادة (86) : (الحقوق التي ترد على شيء غير مادي تنظمها قوانين خاصة) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2000 - 3 – الحقوق المعنوية (البراءة – التصريح) والفقه الإسلامي في مجموعة يقوم " المنافع " بمال، ولم تعد " ماليتها " محل جدال. ومن الحقوق العينية: الحقوق الفكرية على الرأي الراجح كحق التأليف والصناعة، فإنها أموال ذات مميزات خاصة ولها قيمة في العرف، وقد اختص بها صاحبها دون غيره (1) . وأصبح فقهاء الحنفية يذهبون إلى ذلك كما يظهر من الدر المختار، ص 13، حيث قوله عن بعض الحقوق المعنوية في (بيع البراءات التي يكتبها الديوان على العمال: لا يصح، بخلاف حظوظ الأئمة) . وقول رد المحتار: ( … . قوله بيع حظوظ الأئمة … . بيع حظ بمعنى النصيب المرتب له من الموقف، أي فإنه يجوز بيعه … ..) . وجاء في ص 5 قوله: (وعليه فيفتى بجواز النزول عن الوظائف بمال) (2) . قال العلامة العيني في فتاواه: ليس للنزول شيء يعتمد عليه، ولكن العلماء والحكام مشوا ذلك للضرورة واشترطوا إمضاء الناظر لئلا يقع فيه نزاع. اهـ. ملخصا من حاشية الأشباه للسيد أبو السعود. وذكر الحموي أن العيني ذكر في شرح نظم درر البحار في باب القسم بين الزوجات أنه سمع من بعض شيوخه الكبار أنه يمكن أن يحكم بصحة النزول عن الوظائف الدينية قياسا على ترك المرأة قسمها لصاحبتها لأن هذا مجرد إسقاط اهـ. وقلت: وقدمنا عن البحر أن للمتولي عزل نفسه عند القاضي وأن من العزل الفراغ لغيره عن وظيفة النظر أو غيره وأنه لا ينعزل بمجرد عزل نفسه، خلافا للعلامة قاسم. بل لا بد من تقرير القاضي المفروغ له، لو أهلا، وأنه لا يلزم القاضي تقريره، ولو أهلا، وأنه جرى العرف بالفراغ بالدراهم، ولا يخفى ما فيه فينبغي الإبراء العام بعده. اهـ. أي لما فيه من شبهة الاعتياض عن مجرد الحق وقد مر أنه لا يجوز. وليس فيما ذكر عن العيني جوازه. قال الحموي: وقد استخرج شيخ مشايخنا نور الدين علي المقدسي صحة الاعتياض عن ذلك في شرحه على نظم الكنز من فرع في مبسوط السرخسي، وهو أن العبد الموصى برقبته لشخص وبخدمته لآخر، لو قطع طرفه أو شج " موضحة "، فأدى الأرش، فإن كانت الجناية تنقص بخدمته يشتري عبدا آخر يخدمه أو يضم إليه ثمن العبد فيشتري به عبدا يقوم مقام الأول. فإن اختلفا في بيعه لم يبع، وإن اصطلحا على قسمة الأرش بينهما نصفين فلهما ذلك. ولا يكون ما يستوفيه الموصى له بالخدمة من الأرش بدل الخدمة؛ لأنه لا يملك الاعتياض عنها ولكنه إسقاط لحقه به كما لو صالح موصى له بالرقبة على مال دفعه للموصى له بالخدمة ليسلم العبد له. اهـ.   (1) بحث في نظرية الحق، للدكتور أحمد فهمي أبو سنة: كتاب (الفقه الإسلامي أساس التشريع) ، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، مطبوعات لجنة تجلية مبادئ الشريعة الإسلامية (2) رد المحتار على الدر المختار: ابن عابدين. الجزء الرابع، الطبعة الثالثة بالمطبعة الأميرية، بولاق – مصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2001 قال: فربما يشهد هذا للنزول عن الوظائف. قال الحموي: فليحفظ هذا، فإنه نفيس جدا. اهـ. وذكر نحوه البيري عند قول الأشباه: ينبغي أنه لو نزل وقبض المبلغ ثم أراد الرجوع عليه لا يملك ذلك. واستطرد في الاحتجاج لرأيه حتى قال، ص 16: (وبه اندفع ما ذكره بعض محشي الأشباه من أن المال الذي يأخذه النازل عن الوظيفة رشوة، وهي حرام بالنص. والعرف لا يعارض النص … . واستدل بعضهم للجواز بنزول سيدنا الحسن ابن سيدنا علي رضي الله تعالى عنه عن الخلافة لمعاوية على عوض. وهو ظاهر أيضًا … .) . واستطرد فقال: (قول ويلزم خلو الحوانيت) . (عبارة الأشباه أقول على اعتباره، أي اعتبار العرف الخاص ينبغي أن يفتي بأن ما يقع في بعض أسواق القاهرة من خلو الحوانيت لازم. ويصير الخلو في الحانوت حقا له. فلا يملك صاحب الحانوت إخراجه منها ولا إجارتها لغيره … .) . وإجازة العرف: التنازل بمال مشروطة بأن يكون العرف عاما، مستطردا أو غالبا، قائما عند إنشاء التصرف، لا يعارضه تصريح بخلافة، ولا يخالف نصا شرعيا من كتاب أو سنة، ويشهد للعرف قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)) ، وابن نجيم يقول في الأشباه والنظائر: (وإنما العرف غير معتبر في المنصوص عليه) بين العاقدين، إذ ليس لهم أن يخالفوه (1) . وليست الوظائف ملكا للموظفين ليتنازلوا عنها، ولا هي كذلك للدولة، بل هي بعض وسائل من سلطانها تهيؤها للموظفين ليقوموا بخدمتها، وهي بالنسبة لهم أدنى إلى الترخيص منها إلى الملك. والتصريح لهم بالنزول عنها لقاء مال ليس إلا تصريحا بالنزول عن حق معنوي، وإقرار القاضي يدل على أن الحق المعنوي مقيد بقيود من طبيعة ذلك الحق في حالة تنازل الناظر. ولذلك وجب إقرار القاضي لمن ولاه الإمام وظيفته، ويجب التزام طبيعة الوظيفة عند الاتفاق على ولاية الغير لها، ومثل ذلك كل تصريح يصدر عن السلطة يجب التزام شروطه، ومنها جواز النزول للغير أو عدم جوازه. ولا يعتبر العرف ضرورة وإنما هو كالنص في إباحة العمل القانوني. بل هو – في القانون التجاري – يخصص العام، والقياس على تصرف الإمام الحسن لمعاوية رضي الله عنهما، غير صحيح. فالصحيح في تصرفه أن الذين بايعوه أقروا عمله ضمنا فكانت ولاية معاوية ببيعه مفروضة.   (1) أثر العرف في التشريع الإسلامي: رسالة د. السيد صالح عوض، عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، ص 189 وما بعدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2002 - 4 – مضت قرون على العصر الذي تحدث فيه ابن عابدين عن الفقه الإسلامي، ثم رأينا بعض الوظائف العامة تباع في فرنسا، وبإقرار الملك (1) في مقابل مبلغ محدد تتلقاه خزائنه، بل أصبحت هذا الوظائف محلا للتوارث ابتداء من القرن الميلادي السادس عشر (العاشر الهجري) . وتفاقم الأمر في عصور الملكية (عصر لويس الرابع عشر الملك الشمس 1643م – 1715 م) ، وازدهرت في ظلال هذا النظام بعض الأسر التي توارثت ولاية القضاء فحفظت له استقلاله. والتاريخ يروي أن وظيفة النائب العام بيعت وفق ذلك النظام ذات يوم بمبلغ مليون ومائتي ألف ليرة! ويروى السخرية التي واجه بها قائلها لويس الرابع عشر نفسه: (مولاي كلما أنشأت وظيفة خلق الله غبيا يشتريها) . وفي سنة 1789 م ألغت الثورة الفرنسية هذا النظام وقررت التعويض عن إلغائه. ولما استؤنف النظام الملكي في فرنسا أعادت نظام بيع الوظائف معدلا في بعض المرافق ابتداء من سنة 1816م، ولم يكن من بينها القضاء. وأصبحت الجبايات التي تجبي منها توزع على عمال المرفق أو تنفق على حاجاته، وإذا ألغت الحكومة الوظيفة عوض المرفق صاحبها أو ورثته.   (1) بلا نيول: القانون المدني. جزء أول، طبعة 1928 م، فقرة (2529) ، ص 838 وما بعدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2003 - 5 – ومن الحقوق المعنوية حقوق المخترعين كان لها نظام خاص أحكمته التشريعات الحديثة، فالشارع الفرنسي يحمي حقوق صاحب الاختراع مددا محدودة إذا سجل الاختراع لقاء رسوم يدفعها فيبقى احتكاره لاختراعه تلك المدة، وحذا القانون المصري حذو الفرنسيين في ذلك. وبهذا يظهر أن حماية الحق المعنوي في الاختراعات أقل منه في المؤلفات، فحق التأليف إحدى حريات المؤلف. أما حق المخترع فأقرب إلى أن يكون أحد ممتلكاته وإن شاركه عصره في الوصول إليه، فلقد يحدث أن يفكر غيره في بعضه أو في مثله كله، والتاريخ يحفظ أن (جراهام بل) و (جراي) تقدما لتسجيل اختراعهما للهاتف (التلفون) في يوم واحد، بينهما ساعتان من النهار! ومن الشواهد المعاصرة على إقرار الحقوق المعنوية والملكية الصناعية في الإسلام قرار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي (من دورته الأولى لعام 1398 هـ إلى الثامنة عام 1405هـ) ، بتاريخ السبت 28 ربيع الآخرة 1400 هـ الموافق 19 يناير سنة 1985م، وفيه: (كل أداة حديثة وصل إليها الإنسان بما علمه الله وسخر له من وسائل إذا كانت تخدم غرضًا شرعيًا أو واجبًا من واجبات الإسلام وتحقق فيما لا يتحقق من دونها تصبح مطلوبة بقدر درجة الأمر الذي تخدمه وتحققه من المطالب الشرعية وفقًا للقاعدة الأصولية المعروفة، وهي أن ما يتوقف عليه الواجب فهو واجب) . ولا جرم أن الإقرار بالحقوق المعنوية واحتكار الاختراعات لمدة بعض هذه الوسائل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2004 - 6 – بيع المتجر في السنة التاسعة للثورة الفرنسية أصدرت محكمة استئناف باريس حكمًا بأن (بيع المتجر – fond de commerce) ، يشمل (الملكية المادية لمعدات المحل، والملكية المعنوية وهي الشهرة وثقة الجمهور) . وأطرد بذلك القضاء دون أن يعضده تشريع حتى صدر قانون من قوانين الضرائب سنة 1872 م بفرض ضريبة تمغة على بيع " المتجر " فنص على شمول الضريبة للعناصر التالية (المادة المعدة للاستغلال، وسمعة المحل، ودرجة إقبال الزبن " العملاء ") ، ومنذئذ استقر في الفقه والقضاء أن المتجر يتألف من تلك العناصر، وأن للمعنوي منها قيمة معنوية، وأنه " منقول معنوي "، ولو كان حقًا على عقار كالإجارة، وأن المتجر بتمامه " منقول معنوية " يتألف من كتلة الأموال المعنوية والمادية (السلع) (1) وفي سنة 1898 م اضطر المشرع الفرنسي لتعديل المادة (2075) في القانوني المدني الفرنسي ليجيز رهن " المتجر " دون نقل حيازته للمرتهن – كالمنقول المادي – وفي سنة 1909م صدر قانون ببيع المتجر ورهنه على الأساس ذاته. وعلى غرار القانون الفرنسي صدر القانون المصري رقم (11) لسنة 1940 م الخاص ببيع المتجر ورهنه. وأعقبته في المنهج ذاته نصوص قانون التجارة الكويتي. ومع ذكر القانون المصري للمقومات التي يشملها البيع إن سكت العقد عن ذكر المقومات، فإنه اقتصر على ذكر بعض ما تعارف عليه منها الفقه والقضاء دون أن يحصرها أو يعرف المتجر ذاته، حتى لا يسد الطريق أمام المستحدث من مقومات معنوية يستجدها النشاط الاقتصادي، والمتجر من أعظم أوعية المستحدثات فيه، إن في داخل الدولة وإن في خارجها. والنشاط الاقتصادي لم يعد محليًا بل أمسى عالميًا تضع حدوده المعاهدات وتعديلاتها، ومنها اتفاقية باريس سنة 1883 م، ومدريد سنة 1891 م، ولندن سنة 1934 م، ولاهاي سنة 1938 م. وقد انضمت مصر لهذه الاتفاقيات بقانون سنة 1950 م. وهذه المعاهدات تتجه إلى التنسيق بين أوضاع النظام العام الذي ينظم التجارة العالمية وطريقة ذلك بالتنسيق بين وسائل حماية مقومات " المتجر " في الخارج مثل حمايتها في الداخل. ومن أجل ذلك نصت اتفاقية باريس منذ سنة 1883 م على أن يتمتع رعايا كل دولة في كل الدول الأخرى بكل المزايا المقررة في دولة عضو فيها، أو التي ستقرر، شرط اتباع الإجراءات المقررة فيها، والاتفاقيتان الأخريان تكفلان حماية العلامات والبراءات وما يتدرج في ذلك كافة. وكذلك أطلقت الاتفاقية الحماية لكل ما يمكن إدخاله تحت أبواب السلع زراعية أو صناعية أو تجارية أو أداء خدمات، حيث يقول: (تؤخذ عبارة " الملكية الصناعية " بأوسع معانيها، فلا يقتصر تطبيقها على الصناعات والتجارة " بالمعنى الدقيق " بل تشمل الشؤون المتعلقة بالصناعة الزراعية والاستخراجية وجميع " المنتجات " المصنوعة أو الطبيعية .... ) .   (1) محمد بك صالح: شرح القانون التجاري في القانون المصري والشريعة الإسلامية، ص 158 وما بعدها؛ د. علي يونس، الملكية الصناعية، ص 74 وما بعدها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2005 - 7 - مقومات المتجر تتراءى مقومات المتجر في نشاطه العادي: ذلك أن كل عمل متصل باسمه أو بخدمته عمل تجاري بالتبعية، كبناء التاجر عقارا ليكون محلا له، وإلحاق المنقولات على وجه التخصيص بعقار المتجر، فيعتبر عندئذ عقارا بالتخصيص لخدمة المتجر ويلتحق بموجوداته، وإذا بيع العقار مع المتجر، كان جزءا من البيع تسرى عليه أحكامه وإن لزمه التسجيل لنقل الملكية إذا أوجبت القوانين التسجيل لنقل الملكية. أولا – الاسم التجاري اسم المتجر: وهو ليس اسما شخصيا، فالمتجر ليس شخصا، ولذلك يباع اسم المتجر ويرهن على نقيض اسم الإنسان. وقد بدأ المشروع بالاسم التجاري في القانون رقم (11) لسنة 1940 م الخاص ببيع المحل التجاري أو رهنه، فنص في المادة الرابعة على أنه: (إذا لم يبين ما يتناوله الامتياز لم يقع إلا على عنوان المحل التجاري واسمه، والحق في الإجارة، والاتصال بالعملاء، والسمعة التجارية) . فالاسم علم على المتجر. وهو الذي يقيد في السجل التجاري وفقا للقانون ليحميه قانون تسجيل الأسماء بالعقوبات، وقد يدخله صاحب المتجر في العلامة التجارية فتتقرر له الحماية المقررة لها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2006 - 8 – 1- ويظهر من نص المادة (4) من القانون رقم (11) لسنة 1940م، أن المقومات التي يتكون منها المتجر منفصلة عن بعضها، وأن كلا منها منقول معنوي يمكن بيعه أو رهنه مستقلا أو مع غيره. 2- ويظهر أيضًا أن ثمة مقومات أخرى ليست أقل أهمية مما ذكر، ومنها العلامة التجارية والترخيص والبراءات والنماذج وغيرها مما يحميه القانون الخاص بذلك. 3- وأن المنقولات والسلع الموجودة في المحل ليست عنصرا مستقرا في المصنع والمتجر … . فهي تنتج أو تستحضر لتباع أو تستخدم، وقد لا توجد بالمتجر سلع ومع ذلك يباع كاملا، ومثل ذلك محال الوكالة بالعمولة أو السمسرة أو محال أداء الخدمات أو شركاتها. فالشركات التجارية متاجر كبيرة. حتى متاجر بيع أشياء بذاتها قد تباع وترهن دون الأشياء فالعقد يرد على المقومات المعنوية التي ترد فيه. 4- وأن التعاقد قد يرد على المقومات المذكورة في المادة وقد لا يرد عليها كاملة، أو يرد على بعضها وقد يستثنى منها بعضها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2007 - 9 – ثانيا – المقومات الأخرى: (أ) من الملاحظ أن التصرف في المتجر ينصب على ما هو طبيعي لاستقلاله، مثل ذلك أن بيع المطعم يشمل بيع الاسم التجاري والحق في الإجارة (من أجل صقعه) ، وأدوات المحل والطعام القائم، كما يشمل بيع المصنع الاسم التجاري وحق الإجارة والآلات والرخص والبراءات والنماذج. (ب) أما حقوق المتجر لدى الغير أو ديونه فلا تدخل في التصرف وفق القانون المصري. والقوانين العالمية في ذلك ضربان: ضرب يدخلها كالقانون الفرنسي. وآخر لا يدخلها. والمرجع في ذلك كله إلى نصوص التعاقد. (ج) وإذا اشتمل العقد على نص يتعلق بأشخاص العاملين، كالممثلين في المسرح أو الرؤساء الذين يشتهر من أجلهم المطعم، فهؤلاء تبقى لهم الخيرة في أن يعملوا أو لا يعملوا طبقا للعقد، فهذه حرية العامل، فإذا قبلوا التزموا. (د) وإذا تم التصرف في مقوم من المقومات على استقلال كان التصرف شاملا لما لا يصلح هذا المقوم إلا به، فإذا بيعت السمعة التجارية شملت المتجر، وإذا بيع حق الإجارة شمل المتجر إذا ظهر أن سمعة المحل مرتبطة بمكان وجوده، كأن يكون على شاطئ يتميز به أو في جوار نابه الذكر. ذلك أن الطابع المعنوي القائم على الاستغلال هو الذي يحكم في القانون التجاري والمتجر كبرى مؤسساته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2008 - 10 – العلامة التجارية 1- وليس الصقع (لحق الإجارة أو العقار المخصص لها) ولا السمعة التجارية التي يشتهر المحل بها هي في الأغلب أهم المقومات، فالعلامة التجارية إذا خص بها التاجر بضاعته تزاحمهما وقد تزاحمهما لارتباطها بالمنتج ذاته مثلما يرتبط باسم المتجر بذات التاجر. ومن مكانه العلامة التجارية وأثرها في الأسواق عامة وخطرها على الناس كافة، مصريين وغير مصريين، إذا قلدت أو زروت أو استعملت علامة الغير بالغش، أصدرت مصر قانون حماية العلامات الصناعية، فنص القانون (57) لسنة 1939 م على أن لكل مصري أو غير مصري في مصر ولكل مصلحة حق المطالبة بما تقرره المعاهدات الدولية من حماية للملكية الصناعية … وقررت ذلك قبل أن تنضم للمعاهدات المشار إليها ببضعة عشر عاما. 2- والعلامة الصناعية شارة على المنتج عندما يضع، أما العلامة التجارية فشارة يطبعها التاجر إذ يبيع ذلك المنتج لتشهد لسلعته لدى الجمهور على مزاياها، ولتحمي السلع من أن يقلدها غيره أو يُزَوِّر علامتها أو يستعمل غيرها في محلها. والقوانين تحمي العلامتين إذا اجتمعتا لدى علامة التاجر. وقد تكون العلامة صورة عظيم من العظماء أو هلالا أو مئذنة أو رمزا أو رسما أو حرفا أو غير ذلك وإنما يمتنع وضع علامات الدولة أو الصليب الأحمر أو العلامات الموهمة. 3- ومن أهمية العلامة (الماركة) للمتجر نص القانون على أنه لا يجوز نقل ملكية العلامة أو رهنها إلا مع المحل التجاري أو مع مشروع الاستغلال الذي تستخدم لتمييز منتجاته. ومن أهميتها كذلك في حياة التاجر أجاز نقل ملكية المتجر مع النص على الاحتفاظ بالعلامة للبائع فقد يعود إلى التجارة من بعد فيستعملها لنفسه. ولمن شاء أن يستعمل ما شاء من علامات على تجارته ومن شروطها أن تكون ظاهرة على المنتجات وأن تكون وقت استعمالها طريفة تستلفت النظر، لا مبتذلة شائعة، أو مستعملة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2009 - 11 – والقانون يوجب تسجيل العلامات في الداخل لتبدأ حمايتها بقانون العقوبات من تاريخ القيد ونشره مثلما صنع في قيد الأسماء. وكذلك توجب اتفاقية باريس تسجيل العلامات في دولتها لتنعم العلامة بحماية قوانين سائر الدول المنضمة للاتفاقية وبهذا تصبح التجارة آمنة حيث توجد قوانين تسبغ عليها الأمان، ومع ذلك فالعلامة والاسم محميان بالقانون المدني العام من دون تسجيل بدعوى المنافسة غير المشروعة أو بها وبقانون العقوبات (1) . ولا يحمي القانون الاسم أو العلامة إذا هجر التاجر اسمه التجاري أو تخلى عن علامته، فالأسماء والعلامات تسقط بالترك، وتكتسب بالاستعمال. وهما إذا كانا ملكا لأول من يستعملهما في الناس، فإن بقاء الملك يستوجب الحفاظ عليه وظهور ذلك. وإذا اختلف أصحاب اسمين وعلامتين تدخل القضاء بينهما بالتعويض أو التصحيح، فقد يأمر بحذف شيء أو إضافة بيان أو بالمصادرة إذا اقتضى الأمر ذلك. ومما تقدم يتبين أن تقوم مقومات المتجر يتجارى مع نشاطه وأهمية كل منها في تحقيق غرض التاجر وأن أولوية كل منها لا تتبع ترتيبا محددا، وإنما يحدد ترتيبها أثرها في نجاحه، وقد تكون للعلامة الصدارة على الاسم أو السمعة في سوق دون أخرى أو دون دولة وقد تكون القدرة على اجتذاب العملاء هي الأسبق أو يكون الصقع هو الأهم. وللقضاء في ذلك سلطة تقدير الواقع في كل حالة. - 12 – ويجب لبيع المتجر في بعض الدول – كمصر – عقد رسمي أو عرفي مقرون بالتصديق على التوقيع كما يحتفظ البائع بامتيازه على مقومات المتجر المعنوية، وكما يقيد في السجلات ليحتفظ به قبل الغير. ولكن الرسمية أو التصديق ليسا شرط انعقاد فالعقد من دونهما صحيح يجوز إثباته طبقا للقواعد العامة، ويحدث آثاره كاملة. وبالله التوفيق الدكتور عبد الحليم محمود الجندي والشيخ عبد العزيز محمد عيسى   (1) د. محمد حسني عباس (جامعة عين شمس) : الملكية الصناعية والتجارية. ص 314 وما بعدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2010 الفقه الإسلامي والحقوق المعنوية إعداد الدكتور عبد السلام داود العبادي ممثل المملكة الأردنية الهاشمية في المجمع ونائب رئيس المجمع بسم الله الرحمن الرحيم تقديم الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن اقتدى به إلى يوم الدين … أما بعد. فإن الحقوق المالية المعنوية من القضايا المستجدة التي برزت بشكل واضح نتيجة تطور الحياة المدنية والاقتصادية والثقافية والعلمية … فكثرت الأمور المعنوية ذات القيمة المالية التي بات موضوع اختصاص أصحابها ومدى سلطاتهم عليها محل بحث ومناقشة … وقد انتهت كثير من القوانين الوضعية على اختلاف بينها إلى تقرير هذا الاختصاص وتحديد سلطان أصحابها عليها … . وقد أوجب ذلك ضرورات تشجيع النشاط الإنساني المبدع بكل صوره وحماية مكتسباته، ومنع صور التلاعب والتحايل والاستغلال لجهود الآخرين وأي إثراء غير مشروع على حسابهم. وقد درس فقهاء الشريعة الإسلامية المحدثون هذا الموضوع، وبينوا استيعاب قواعد الفقه الإسلامي له، وأوضحوا حرص الشريعة على حماية هذه الحقوق وتنظيم أوضاعها بما يكفل تحقيق المصالح المشروعة وصيانة قواعد العدالة وحماية مسيرة التقدم الإنساني من كل مظاهر الاستغلال والتلاعب. وأعرض فيما يلي للمقصود بالحقوق المعنوية، ثم أبين موقف القوانين الوضعية منها … وبعد ذلك أعرض لموقف الفقه الإسلامي منها مبينا القواعد الشرعية التي تحميها وتصونها وتنظم أمورها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2011 أولا: المقصود بالحقوق المعنوية: يستعمل القانونيون اصطلاحات متعددة في وصف الاختصاصات التي تقوم للأشخاص على الأشياء المعنوية ذات القيمة المالية بحيث يخولهم ذلك سلطات معينة عليها … ..وبعض الاصطلاحات شامل لكل أنواعها أو لكثير منها، وبعضها يطلق على نوع منها دون غيره، ومن هذه الاصطلاحات: الحقوق المعنوية، الحقوق الذهنية، الحقوق الأدبية، الحقوق الفكرية، حقوق الابتكار، الملكية الأدبية والفنية والصناعية، الاسم التجاري، حق الاختراع، حقوق التأليف. وقد عرف القانونيون الحق المعنوي بأنه سلطة لشخص على شيء غير مادي هو ثمرة فكره أو خياله أو نشاطه كحق المؤلف في مؤلفاته العلمية وحق الفنان في مبتكراته الفنية وحق المخترع في مخترعاته وحق التاجر في الاسم التجاري والعلامة التجارية وثقة العملاء (1) . والحق المعنوي نوع من أنواع الحق المالي، وهو الحق الذي يمكن تقويمه بالمال فهو يخول صاحبه قيمة مادية تقدر بالمال أو النقود والحق في نظر فقهاء الشريعة: اختصاص ثابت في الشرع يقتضي سلطة أو تكليفا لله على عباده أو لشخص على غيره (2) . ويطلق فقهاء الشريعة لفظ الحقوق المالية على كل حق هو مال، أو المقصود منه المال، مثل حق الملك، وحق التملك وحق الانتفاع (3) . لذا فإن قواعد الفقه الإسلامي تغطي هذا النوع من الحقوق كما سنرى تفصيلا فيما بعد. ويتجه الأستاذ مصطفى الزرقا في كتابه المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي إلى ترجيح تسمية هذا النوع من الحقوق بحقوق الابتكار، لأن اسم الحقوق الأدبية – أحد التسميات المشهورة لهذا النوع من الحقوق كما بين – ضيق لا يتلاءم مع كثير من أفراد هذا النوع كالاختصاص بالعلامات الفارقة التجارية والأدوات الصناعية المبتكرة، وعناوين المحال التجارية مما لا صلة له بالأدب والنتاج الفكري (أما اسم حق الابتكار فيشمل الحقوق الأدبية كحق المؤلف في استغلال كتابه، والصحفي في امتياز صحيفته، والفنان في أثره الفني من الفنون الجميلة كما يشمل الحقوق الصناعية والتجارية مما يسمونه اليوم بالملكية الصناعية كحق مخترع الآلة ومبتدع العلامة الفارقة التي نالت الثقة، ومبتكر العنوان التجاري) (4) .   (1) الملكية في قوانين البلاد العربية، د. عبد النعم فرج الصدة: 1/9 (2) انظر: مباحث هذا التعريف وشرحه في: الملكية في الشريعة الإسلامية، د. عبد السلام عبادي: 1/93 وما بعدها (3) انظر: الملكية في الشريعة الإسلامية، د. العبادي: 1/107-111 (4) نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي: ص 26 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2012 ثانيا – موقف القوانين الوضعية من هذه الحقوق: اتفق القانونيون على اعتبار الحقوق المعنوية من الحقوق المالية التي يقسمونها إلى حقوق عينية وحقوق شخصية ولكنهم مختلفون بعد ذلك … هل تعتبر هذه الحقوق من الحقوق المالية العينية أم أنها حقوق مالية مستقلة بالإضافة إلى الحقوق العينية والشخصية، فذهب بعض القانونيين إلى أن الحقوق المالية تقسم إلى: حقوق عينية، وحقوق شخصية، وحقوق معنوية، فالحق المعنوي قسم للحق العيني والحق الشخصي. وكان ذلك نتيجة أن معنى الحق العيني عندهم عبارة عن سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شيء معين. وهذا الشيء المعين لا بد أن يكون شيئا ماديا متعينا بذاته في الوجود الخارجي، فتنصب سلطة صاحب الحق عليه مباشرة. ولما ظهرت الحقوق المعنوية، نتيجة لتطور الحياة، وأقرتها القوانين العصرية اعتبرها هؤلاء القانونيون نوعا مستقلا من أنواع الحقوق المالية لما تتصف به من خصائص تميزها عن الحقوق العينية والشخصية نتجت من كون محلها غير مادي (1) . وذهب قانونيون آخرون إلى أن الحق المعنوي لا يعتبر نوعا من أنواع الحق المالي بالإضافة إلى الحق العيني والحق الشخصي إنما هو حق من الحقوق العينية، وإن الشيء الذي تنصب عليه السلطة في الحق العيني أعم من أن يكون ماديا أو معنويا. ثم إن هؤلاء اختلفوا فيما بينهم حول طبيعة هذا الحق المعنوي، بعد أن قرروا أنه عبارة عن حق عيني. فمنهم من اعتبر الحق المعنوي حق ملكية أو نوعا خاصا من الملكية (2) ، لذلك فهم يطلقون على هذا الحق تسمية: الملكية الأدبية والفنية والصناعية. ومنهم من اعتبره حقا عينيا أصليا مستقلا عن حق الملكية بمقوماته الخاصة (3) . وقد احتج المانعون أن يكون الحق المعنوي حق ملكية، بأن حق الملكية ينصب على شيء ويخول صاحبه سلطة استعمال الشيء واستغلاله والتصرف فيه، والاستعمال لا يتصور بالنسبة للحق المعنوي، لأن الاستفادة منه لا تكون إلا باستغلاله والتصرف فيه، فلا يمكن أن يستفاد منه إذا قصر صاحبه استعماله على نفسه، فعنصر الاستعمال الذي هو أقوى عناصر الملكية غير موجود في هذا الحق، لذلك يسميه بعض القانونيين بأنه حق احتكار الاستغلال، وليس حق ملكية. كما أن حق الملكية بطبيعته حق مؤبد، في حين أن هذا الحق بطبيعته حق مؤقت (4) . وقد أجاب الآخرون عن هذه الحجج بأنها لا تمنع من أن يكون الحق المعنوي نوعا خاصا من الملكية، وذلك أن الحق المعنوي يتفق مع الملكية العادية في نواح، ويختلف عنها في أخرى، فهو عبارة عن سلطة تنصب على الشيء المعنوي مباشرة دون وساطة وتخول صاحبه حق الاستغلال والتصرف، في حين أنه، بحكم طبيعته، وهو كونه يقع على شيء غير مادي، لا يقبل الاستئثار، ولا يصح أن يكون مؤبدا (5) . وقد كان القانون المدني المصري القديم الصادر سنة 1883م يتضمن في المادة (12) منه: أن الحكم فيما يتعلق بحقوق المؤلف في ملكية مؤلفاته وحقوق الصانع في ملكية مصنوعاته يكون حسب القانون الخاص بذلك … . مما يدل على أن القانون القديم يذهب إلى اعتبار هذه الحقوق ملكية، ولكن لم يصدر القانون الخاص الموعود حتى صدور القانون الجديد سنة 1948م، الذي أشار في المادة (86) منه إلى أن تنظيم هذه الحقوق متروك لقانون خاص يصدر به. ولكنه لم يسم هذه الحقوق بالملكية، كما فعل القانون السابق، بل سماها الحقوق التي ترد على شيء غير مادي مما يدل على أن القانون المصري لم يرد الخوض في الخلاف حول طبيعة هذه الحقوق، وحسمه بشكل ما (6) . يقول الأستاذ عطا الله إسماعيل: (ويتضح مما ذكر عن مختلف النظريات في شأن هذا الحق أن جوهره ما زال موضع التقصي والبحث … .) ، ثم يقول: (وحسنا فعل المشرع المصري إذ لم يتقيد بنظرية بعينها فيما وضع من حلول لمختلف الفروض والمسائل التي عرض لها في تقنينه لحقوق التأليف) (7) .   (1) انظر: نظرية الحق، د. محمد سامي مذكور: ص 31-32 (2) محاضرات في النظرية العامة للحق، د. إسماعيل غانم: ص 74، وحق الملكية، د. الصدة ص 281 - 282 (3) الوسيط، للسنهوري: 8/280 – 281، وانظر: هناك عرضا تفصيليا لهذه الآراء، ومن قال بها من الشراح المصريين والأجانب. (4) محاضرات في النظرية العامة للحق، د. إسماعيل غانم: ص 82، فهذه الحقوق وإن ظلت لصحابها طول حياته، لكنها لا تبقى لورثته إلا لوقت محدد يتفاوت تحديده في القوانين المختلفة، وهي في القانون المصري خمسون سنة من وفاة المؤلف، بعد مضيها يصير الإنتاج الذهني نهبا لكل من يريد الاستفادة منه وكما يريد. انظر نظرية الحق، د. الشرقاوي: ص 58 (5) الملكية في القوانين العربية، د. الصدة: 1/9، وحق الملكية، د. الصدة: ص 280-282 (6) انظر نظرية الحق، د. الشرقاوي: ص 59-61 (7) القانون والعلوم السياسية، الحلقة الدراسية الأولى: ص 72 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2013 ثالثا: موقف الفقه الإسلامي من الحقوق المعنوية: أما الأمر في الفقه الإسلامي فيختلف، ذلك أن دائرة الملك في الشريعة أوسع منها في القانون، فلا تشترط الشريعة أن يكون محل الملك شيئا ماديا معينا بذاته في الوجود الخارجي، إنما هو كل ما يدخل في معنى المال من أعيان ومنافع على الراجح من أقوال الفقهاء، والذي معياره أن يكون له قيمة بين الناس، ويباح الانتفاع به شرعا وهو ما تقرر وفق اصطلاح جمهور الفقهاء كما سنرى. وعلى ذلك … فمحل الحق المعنوي والذي سماه القانون بالشيء غير المادي، داخل في مسمى المال في الشريعة، ذلك أن له قيمة بين الناس، ويباح الانتفاع به شرعا … بحسب طبيعته، فإذا قام الاختصاص به تكون حقيقة الملك قد وجدت (1) . كما أن الاستئثار المقصود في الملك في الفقه الإسلامي، ليس معناه احتواء الشيء من قبل المالك، إنما معناه أن يختص به دون غيره … فلا يعترضه في التصرف فيه أحد. والتصرف يكون في الأِشياء حسب طبيعتها، لذلك يختلف مدى التصرف في أنواع الملك في الشريعة من نوع إلى أخر. والشريعة، أيضا، لا تشترط التأبيد لتحقق معنى الملك … بل إن طبيعة ملك المنفعة مثلا، تقتضي أن يكون مؤقتا … كما في ملك منفعة العين المستأجرة، وملك منفعة العين الموصى بمنفعتها دون رقبتها (2) . فإذا كان لا بد أن يتأقت الحق المعنوي بمدة معينة بحجة أن صاحب الحق المعنوي قد استفاد من جهد غيره، فهو ليس جهدا خالصا له، كما أن جهده ضروري لتقدم البشرية ورقيها، ومقتضى ذلك ألا يكون حقه حقا مؤبدا (3) … . فإن هذا التأقيت لا يخرجه عن دائرة الملك في الشريعة. ويبدو أن هذه الحقوق لم تقم في المجتمع الإسلامي رغم نشاط حركة التأليف – مثلا – فيه من القديم، لأن الإسلام يدعو إلى كل ما فيه نفع للأمة، بل إن ما لا تستغني عنه الأمة يعتبر من فروض الكفاية التي تأثم الأمة جميعا بتركها، كما أن العلم، وخاصة العلم الشرعي، لا يحل كتمه … .فالتأليف مثلا كان عبارة عن شعور بالواجب ورغبة في الثواب والأجر، بل كان المؤلف يحرص على نشره بكافة الطرق، لأن في ذلك مزيدا من الأجر والثواب. وعليه لم تبرز فكرة استحقاق الشخص لما ينتجه من أشياء غير مادية. وإن كانوا حريصين على نسبة الآراء إلى أصحابها. ولكن إذا تصرف الناس عن إنتاج ما هو نافع من الأشياء غير المادية، وأخذ بعض الناس يستغلون ما ينتجه غيرهم من هذه الأمور … . ما يؤدي إلى الإضرار بهم، ومن ثم امتناعهم عن إنتاج ونشر مثل هذه الأمور، فإنه يمكن أن توضع القواعد التي تكفل تنظيم هذا الأمر بالشكل الذي تتحقق به مصلحة الأمة. ولما كانت الأشياء غير المادية تدخل في مسمى المال في الشريعة، لأن لها قيمة بين الناس ومباح الانتفاع بها شرعا، وقد قام الاختصاص بها، فعلى هذا الأساس يمكن أن تنظم باعتبارها نوعا من أنواع الملك. وقد اهتم بعض القانونيين بالحقوق المعنوية في الشريعة، وحاولوا تلمس أسس حمايتها وتنظيمها فيها … . يقول الدكتور محمد صادق فهمي: " ونعتقد أن الروح التي تهيمن على التشريع الإسلامي تأبى إلا أن تعترف بحقوق المؤلفين، لأن التشريع يأبى على الشخص أن يضر بغيره، كما أن اغتيال مؤلف إن هو إلا سلوك إجرامي تأباه الشريعة الإسلامية، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) ما يكفي لحماية حقوق المؤلفين (4) . وواضح أن فيما عرضناه بيانا شافيا للأسس التي يمكن أن نعتمد عليها بسهولة لحماية هذه الحقوق وتنظيمها. ولنزيد هذا الأمر إيضاحا لا بد من التعرف بإيجاز بحقيقة كل من المال والملك في الفقه الإسلامي.   (1) وهذا يدل على أن مسمى المال في الشريعة الإسلامية يسع الأشياء غير المادية التي ينتفع بها انتفاعا مشروعا، ذلك أن محل الملك في الحق المعنوي عند التدقيق ليس المنفعة، إنما هو شيء غير مادي تحصل منه منافع لصاحبه (2) إلا أنه قد يكون لملك المنفعة، في بعض أنواع الملك، شكل التأبيد، كما يظهر في حقوق الإرتفاق، فإن المنفعة تملك لمالك العقار المرتفق ما دام مالكا له (3) انظر الوسيط: 8/279-280 (4) القانون والعلوم السياسية، الحلقة الدراسية الأولى: ص 12 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2014 1- حقيقة المال في الفقه الإسلامي: الذي يؤخذ من المعاجم والقواميس اللغوية، أن المال في اللغة العربية يطلق على كل ما تملكه الإنسان وحازه بالفعل، من كل شيء، سواء أكان عينا أم منفعة … أما ما لم يتملكه الإنسان ولم يدخل في حيازته بالفعل، فلا يعد مالا في اللغة كالطير في الهواء والسمك في الماء، والأشجار في الغابات. ففي القاموس المحيط: " المال ما ملكته من كل شيء " (1) وفي لسان العرب: " المال – معروف – ما ملكته من جميع الأشياء " (2) . والمال في الإصطلاح لم يرد له تعريف عن الشارع يحدد معناه تحديدا دقيقا، بل ترك لما يتعارف الناس عليه منه.. فالعربي الذي نزل القرآن بلغته حينما يسمع لفظة المال يفهم المراد منها، كما يفهم ما يراد بلفظ السماء والأرض (3) … .. ولذلك نجد بعض أصحاب المعاجم اللغوية يقولون: " المال معروف " (4) ، فالكتاب الكريم، والسنة الشريفة جاءت فيهما كلمة المال مرات كثيرة (5) .، وترك للناس فهمها بما يعرفون ويألفون … ولم يحدد الشارع له حقيقة اصطلاحية بحيث إذا أطلق تبادرت إلى الأذهان، كما هو الحال في الصلاة والصيام … فإذا قرأ العربي أو سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) ، فهم المراد من المال بالطريقة التي يفهم بها كلمة العرض، وكلمة النفس، من غير رجوع إلى اصطلاح خاص (6) . وعندما قامت المذاهب الفقهية، واستعمل لفظ المال مرادا به معان اصطلاحية، انشغل الفقهاء بوضع تعاريف له … وقد اختلفت تعريفاتهم على ضوء اختلافهم في المعاني الاصطلاحية المرادة منه، وقد قام بهذا الصدد اصطلاحان رئيسان هما: اصطلاح الحنفية، واصطلاح الجمهور.   (1) القاموس المحيط:4/52 (2) لسان العرب: 11/632 (3) يقول ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر: 4/373، المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق عند العرب على الإبل، لأنها كانت أكثر أموالهم (4) انظر: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: 2/288 (5) ورد ذكر المال في القرآن الكريم في أكثر من تسعين أية، وفي أحاديث نبوية أكثر من أن تحصى (6) انظر: الملكية ونظرية العقد، أبو زهرة: ص 44، والأموال، محمد يوسف موسى: ص 161والحديث أخرجه مسلم وأحمد وابن ماجة وغيرهم ومختصر صحيح مسلم، المنذزي 2/233 سنن ابن ماجة 2/1298هـ والفتح الكبير 3/316 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2015 (أ) اصطلاح الحنفية: عرف فقهاء المذهب الحنفي المال بتعريفات كثيرة، مختلفة في ألفاظها، متقاربة في مفهومها ومعناها، والاختلاف بينها ليس ناشئا عن اختلاف في فهم حقيقة المال في المذهب الحنفي، بل هو اختلاف في العبارات، ومدى دقتها في بيان اصطلاح الحنفية في معنى المال (1) . وفقهاء الحنفية يوجبون لتحقيق مالية الشيء اجتماع أمرين: أولهما: أن يكون شيئا ماديا يمكن إحرازه وحيازته، فيخرجون عن معنى المالية كل ما لا يتحقق فيه هذا الشرط كالمنافع والديون والحقوق المحضة مثل حق التعلي، وحق الأخذ بالشفعة، وحق الشرب والمسيل (2) ، كما يخرجون منه أمثال حرارة الشمس وضوء القمر، وكل الأمور المعنوية كالشرف والصحة. ومن هنا يظهر أن فقهاء الحنفية لا يشترطون أن يكون الشيء مملوكا بالفعل ليعتبر مالا، كما هو مقرر في اللغة، إنما يكتفون بإمكان تملكه، فالصيد في الفلاة، وكذلك الطير في السماء يعتبر عندهم مالا، لإمكان إحرازه وتملكه. ثانيهما: أن يكون الشيء منتفعا به انتفاعا معتادا، فلحم الميتة والطعام الفاسد ليسا بمال لأنهما لا ينتفع بهما أصلا، وحبة القمح وقطرة الماء ليستا بمال، لأنهما لا ينتفع بهما انتفاعا معتادا … . فهذه الأمور لا تعد مالا، وإن أمكن حيازتها، وذلك لعدم تحقق العنصر الثاني من عناصر المالية. والمراد بالانتفاع، الانتفاع المشروع في حال السعة والاختيار دون حال الضرورة، فجواز الانتفاع بلحم الميتة في حال الضرورة لا يجعل منه مالا، فيقتصر على جواز الانتفاع ولا حاجة للقول بالمالية، لأن الضرورة تقدر بقدرها. وليس المقصود بالانتفاع هنا، انتفاع الناس كافة، بل يكفي فيه انتفاع بعضهم فلا تزول مالية الشيء إلا إذا ترك الناس كلهم تموله، لم تكن له منفعة أصلا، أما إذا ترك بعض الناس تموله وبقي منتفعا به عند بعضهم، فلا تزول ماليته، كالملابس القديمة التي يستعملها بعض الناس دون بعضهم الآخر (3) . وواضح أن هذين العنصرين قد نص عليهما بوضوح في تعريف من عرف المال من فقهاء الحنفية، بأنه: ما يمكن حيازته، وإحرازه، والانتفاع به انتفاعا معتادا (4) . وقد عرف بعض الفقهاء المال باصطلاح الحنفية بأنه: كل عين ذات قيمة مادية بين الناس، فصاحبه نظر فيه إلى أن اعتياد تمول عين، وصيانتها، والانتفاع بها يستلزم القيمة إذ لا يعتاد الناس هذا في الشيء … . بحيث يحمى تارة ويبذل أخرى إلا لمنفعة مادية أو معنوية يقدرونها فيه، فتتجه إلية الرغبات. والرغبات يبذل في سبيل تحقيقها والحصول عليها أعواض مادية … لذلك استغنى عن النص في التعريف على الانتفاع المعتاد، ووضع بدله أن تكون العين ذات قيمة مادية بين الناس، مشيرا إلى أن هذه القيمة هي القيمة بالمعنى الاقتصادي العام، والتي خرج بها ما لا قيمة له من الأعيان بين الناس إما لحرمته على جميع الناس كالميتة، أو لتفاهته كحبة القمح (5) .   (1) انظر في استعراض هذه التعاريف ومناقشتها، الملكية في الشريعة الإسلامية، د. عبد السلام العبادي: 1/172، وما بعدها (2) انظر التفصيل: الملكية، د. العبادي 1/186-189، وفي حاشية ابن عابدين: 5/52، حق التعلي ليس بمال، لأن المال عين يمكن إحرازها وإمساكها (3) المدخل – عيسوي: ص 304، والمدخل – شلبي: ص 286 (4) ذكر الشيخ الخفيف إنه إذا وسعنا معنى الحيازة والإحراز، فجعلناه أعم من أن يكون مباشرة أو بالواسطة، كان التعريف شاملا للمنافع، لأنها ممكنة الحيازة بإحراز أصلها، وكذلك ينتفع بها، أحكام المعاملات: ص 27 (5) المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي، الأستاذ مصطفى الزرقاء: ص 135-136 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2016 (ب) اصطلاح الجمهور: أصطلح جمهور الفقهاء على معنى معين للمال هو أوسع من اصطلاح الحنفية (1) . والناظر في تعاريف الجمهور ونصوصهم الفقهية، بهذا الصدد، يستطيع أن يستخلص أن أساس المالية في نظرهم هو: 1- أن يكون الشيء له قيمة بين الناس. 2- أن تكون هذه القيمة ناتجة من أنه ينتفع به انتفاعا مشروعا، فلا قيمة في نظر الشريعة لأية منفعة اعتبرتها غير مشروعة. وعلى هذا الأساس يمكننا تعريف المال في اصطلاح الجمهور بأنه: " ما كان له قيمة مادية بين الناس، وجاز شرعا الانتفاع به في حال السعة والاختيار ". وفيما يلي شرح لألفاظ هذا التعريف: ما: جنس يشمل أي شيء سواء أكان عينا أم منفعة، وسواء أكان شيئا ماديا أم معنويا، له قيمة مادية بين الناس: قيد لإخراج الأعيان والمنافع التي لا قيمة لها بين الناس لتفاهتها كحبة قمح أو قطرة ماء، وكمنفعة شم تفاحة … . وجاز الانتفاع به شرعا: قيد لإخراج الأعيان والمنافع التي لها قيمة بين الناس، ولكن الشريعة أهدرت قيمتها، ومنعت الانتفاع بها، كالخمر والخنزير ولحم الميتة، ومنفعة آلات اللهو المحرمة. في حال السعة والاختيار: قيد جيء به لبيان أن المراد بالانتفاع الانتفاع المشروع في حال السعة والاختيار، دون حال الضرورة فجواز الانتفاع بلحم الميتة، أو الخمر أو غيرها من الأعيان المحرمة، لا يجعلها مالا في نظر الشريعة، فيقتصر الأمر على جواز الانتفاع، فلا تصبح هذه الأعيان أموالا، لأن الضرورة تقدر بقدرها. والواقع أن مسلك الجمهور أولى بالأخذ والاعتبار … . ذلك أن عدم اعتبار المنافع أموالا محل نقد شديد، وهو ما بيناه تفصيلا في كتاب الملكية … كما أن هذا المسلك في بنائه مالية الشيء على كونه منتفعا به انتفاعا مشروعا، وله قيمة بين الناس يسمح بتوسيع دائرة الأموال في هذا العنصر لتشمل أشياء لم تكن معروفة فيما سبق ما دام قد تحقق فيها أساس المالية، وذلك مثل الأشياء المعنوية فيما يعرف بالحقوق الذهنية وحقوق الابتكار، ويمكن أن يقال مثل هذا الكلام في الدم البشري الذي يؤخذ من الإنسان ليحتفظ به – في بنوك الدم – من أجل الانتفاع به انتفاعا مشروعا في العمليات الجراحية، ويكون له قيمة بين الناس. وكذلك الجراثيم التي يتم تصنيعها في معامل الأدوية إلى أمصال لمقاومة الأمراض … وغيرها.   (1) انظر: في تعاريف مختارة للجمهور، والملكية في الشريعة الإسلامية، د. عبد السلام العبادي ص 176 وما بعدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2017 2- حقيقة الملك في الفقه الإسلامي: ذكرت قواميس اللغة أن معنى الملك: احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به والتصرف بانفراد (1) . أما في الاصطلاح فقد تعددت تعاريف العلماء له، أذكر منها: 1- تعريف صدر الشريعة عبيد الله بن سعود بأنه: (اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقا لتصرفه فيه وحاجزا عن تصرف الغير) (2) . 2- تعريف القرافي بأنه: (إباحة شرعية في عين أو منفعة تقتضي تمكن صاحبها من الانتفاع بتلك العين أو المنفعة أو أخذ العوض منها من حيث هي كذلك) (3) . 3- تعريف القاضي حسين بأنه: (اختصاص يقتضي إطلاق الانتفاع والتصرف) (4) . 4- تعريف ابن تيمية بأنه: (القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة) (5) . وقد كنت قدمت دراسة مستقضية عن حقيقة الملك في الشريعة الإسلامية استعرضت فيها هذه التعاريف وغيرها وناقشتها، وانتهيت إلى أن تعريف الملك حتى يكون جامعا مانعا لا بد أن تبرز فيها الأمور التالية: 1- أن الملك اختصاص أو علاقة يختص بها الإنسان بشيء. 2- أن موضوع هذا الاختصاص القدرة على الانتفاع والتصرف بهذا الشيء. 3- أن هذا الانتفاع والتصرف قد يمنع منهما كما في المحجورين للصغر أو الجنون. 4- أن هذا الانتفاع والتصرف قد يتم أصالة أو وكالة، ويهمنا هنا ما يتم أصالة. 5- وكل هذا مقررة أحكامه في الشرع جملة وتفصيلا. وعلى ذلك فقد عرفت الملك بأنه: (اختصاص إنسان بشيء يخوله شرعا الانتفاع والتصرف فيه وحدة ابتداء إلا لمانع) (6) .   (1) القاموس المحيط: 3/320-321، والمصباح المنير: 2/279 (2) شرح الوقاية في مسائل الهداية: 2/196 (3) الفروق: 3/216 (4) طريقة الخلاف، القاضي حسين مخطوط: ص 134 (5) القواعد النورانية الفقهية، ابن تيمية: ص 218 (6) انظر: الملكية في الشريعة الإسلامية، العبادي: 1/128- 152 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2018 الخلاصة ويعد هذا البيان الموجز لحقيقة كل من المال والملك في الفقه الإسلامي يظهر لنا جليا انطباق حقيقة كل منهما على هذا النوع من الحقوق. المال وفق ما استقر من اصطلاح لجمهور الفقهاء، والملك وفق ما اتفق عليه الفقهاء … وإن هذا التخريج الفقهي مضطرد لا إشكال عليه ولا مانع منه … . بل إن قواعد الشريعة ومبادئها العامة تؤكد هذا وتؤيده … ذلك أن محور هذه الحقوق أمران: الأول: الحق في الاحتفاظ بنسبة محل هذا الحق لصاحبه … وهو جانب معنوي بحت … .فإن الأمانة والصدق يقتضيان نسبة كل لصاحبه، والشريعة تبني على تقرير هذه النسبة أشياء كثيرة منها الحساب والأجر والثواب، والتحري والدقة والتثبت وبخاصة في المجالات العلمية بخصوص تفسير القرآن الكريم ونقل الحديث النبوي وشرحه وفي الشهادة وإثبات الحقوق وغيرها. الثاني: الحق في الاختصاص بالمنفعة المالية التي تعود على صاحبه من استغلاله أو نشره ضمن ما هو مقرر شرعا وقانونا. والشريعة وإن كانت تدعو إلى تعميم المنفعة ونشر ما فيه مصالح الناس وخيرهم لكن ذلك في نظرها لا يبرر الاعتداء على حقوقهم فيما هو نافع ومفيد … بل إن تعميم المنفعة بما يبتكره الأفراد له قواعده وأصوله ومن أهم هذه القواعد التي تحقق المصلحة وتمنع الضرر الاعتراف بهذه الحقوق وتنظيم نشرها والاستفادة منها بأحكام تنسجم مع طبيعتها وظروف التعامل معها، وقد استقرت الأعراف الإنسانية في كثير من الدول على ذلك، والمالية يقررها العرف، ما دام الأمر غير ممنوع في الشرع ... وإن تطور الحياة الإنسانية يملى بذلك حماية لهذا التصور ودفعا لمزيد من العطاء والبذل. وقد يقال إن من أبرز الحقوق المعنوية حقوق التأليف، وقد وجد التأليف في وقت مبكر في التاريخ الإسلامي، فلمإذا لم يقل فقهاؤنا السابقون بمالية هذه الحقوق وجواز بيعها؟.والجواب على هذا يعود بالإضافة لما سبقت الإشارة إليه إلى أن جهود النساخ للكتب قبل اختراع الطباعة كان يقضي على جهد المؤلفين وبخاصة مع حرص المؤلفين على نشر العلم وكسب الأجر. وهكذا يتبين لنا أن الشريعة الإسلامية تعترف بالحقوق المعنوية وتدعو إلى تنظيم كل ما يتعلق بها وبخاصة في مجال استغلالها والتصرف بأحكام تفصيلية تحقق المصالح المشروعة لأصحابها وللمجتمع، وهو ما قد يختلف من حق إلى آخر ومما يترك للدراسات الخاصة بكل حق على حدة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الدكتور عبد السلام داود العبادي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2019 حول الحقوق المعنوية وإمكان بيعها إعداد الشيخ محمد علي التسخيري بسم الله الرحمن الرحيم نجد من الضروري قبل البت في هذا الموضوع أن نتحدث – بشيء من الإسهاب – حول الحق في الإٍسلام لأن ذلك يلقي أضواء نافعة على الموقف في مسألتنا (بيع الحقوق المعنوية) . الحق في اللغة هو الثبوت ولذا يطلق على الباري جل وعلا، فهو تعالى الحق المطلق، ويطلق على الخبر المطابق للواقع. والكون كله يقوم بالحق أي بمقتضى الرحمة الإلهية، والحاجة الواقعية له. وعلى غرار هذا المعنى الواقعي انتزع مفهوم اعتباري وثبوت اعتباري وذلك لتنظيم العلاقات الاجتماعية ويمكن القول بأن الحق يجب أن يمتلك بعدين: (أ) النشوء من حالة واقعية (تركيب تكويني، مصلحة واقعية) . (ب) اعتبار شرعي أو عقلاني. وهنا بحث مفصل عن مناشيء الحق الواقعية يرجعها إلى الفطرة من جهة والمصالح الاجتماعية الواقعية للإنسان وعن معايير تشخيص كون الحق واقعيا وإنسانيا واجتماعيا، وعن أصول الحق الإنسانية لا داعي للتعرض لها هنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2020 أما مناشئ الحق الفقهية فيمكننا أن نقرر باختصار، أن المناشيء التي تقررها الشريعة للحق متعددة وأهمها: 1- العقد كالبيع. 2- الإرادة المنفردة كالوصية إن لم نقل بلزوم القبول فيها. 3- العمل غير الشرعي كأنماط الجنايات. 4- الشريعة مباشرة كحقوق النفقة والقسمة والتحجير وأمثالها. 5- القانون الصادر من قبل الحاكم الشرعي وفق المصلحة العامة. 6- العرف. ولكن يتوضح المقصود نقول إن هذا المناشيء وغيرها (كالإثراء بدون سبب مثلا حيث يثبت حق لمن عمر بيتا آيلا للسقوط على أصحابه لا بقصد التبرع – لو قلنا بثبوت الحق بذلك) ، تصدر من الشريعة نفسها فهي تارة تتدخل مباشرة لتقرير الحق، وأخرى تجعل الحق متوقفا على منشأ معين، ولكن الأمر الذي يجب التركيز عليه هو الحق العرفي. فلو تعارف الناس على حق ما فهل يمكن تصحيحه كحق شرعي مقرر عبر عمومات شرعية. ولن نبحث الآن في الموضوع وإنما نتركه لبحث ما هو الأصل عند الاختلاف في الحق ولكننا نشير إلى أن الحقوق العرفية على نوعين: الأول: ما يمتد بشكل طبيعي إلى حياة المعصوم عليه السلام، ولا نجده ينهى عنه من جهة فيكون مقررا من قبله. وتشمله من جهة أخرى عمومات (أوفوا بالعقود) أو (المؤمنون عند شروطهم) ، لو قلنا بشمولها للمرتكزات العرفية بين الناس ولم نقصرها على الشروط ضمن العقد، و (أحل الله البيع) ، وأمثال ذلك، فهذا لا كلام فيه. الثاني: ما تعورف عليه في العصور المتأخرة، وهو الذي يجب التركيز عليه إذ لا معنى للاستدلال بالتقرير عليه ويبقى البحث عن شمول العمومات له، وهو ما سيأتي إن شاء الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2021 الحكم والحق: الحكم هو الجعل التكليفي أو الوضعي ويتعلق بفعل الإنسان منعا أو رخصة أو ترتيب أثر وهو لا يسقط بالإسقاط ولا معنى لنقله، فأمره بيد الشارع، نعم يستطيع المكلف أن يخرج عن موضوع الحكم فيسقط الحكم حينئذ بهذا الخروج بالإسقاط كما هو واضح. أما الحق فيطلق تارة في قبال الملك وأخرى بما يرادفه وهو بمعنييه سلطنة مجعولة للإنسان من حيث هو على غيره ولو بالاعتبار من مال أو شخص أوهما معا. واعتبر أحيانا مرتبة ضعيفة من الملكية. وله طرفان. ذو السلطنة والمسلط عليه، وقد يكون مستقلا بنفسه كحق التحجير، وقد يتقوم بغيره كحق المجني عليه على الجاني، وحق القصاص. وقد يتحد ذو السلطنة والمسلط عليه كملكية النفس (والفرق اعتباري) ، في قوله تعالى حكاية عن موسى: {إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} الحق والملكية والسلطنة: اختلفت المواقف حول العلاقة بين هذه المصطلحات فنقل عن بعض العلماء أنه كان يقول بوحدتها، وعن عدة من المحققين أن الحق مرتبة ضعيفة من الملكية وله ما هية منفصلة عنها. وذكر السيد الطباطبائي في تعليقته على كتاب (المكاسب) ، للشيخ العلامة الأنصاري أن الحق نوع من السلطنة والملكية. وذكر المحقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني، أن الحق يختلف باختلاف الموارد ولذا تختلف آثاره فحق الولاية والوصاية والتولية المعتبر فيه، هو نفس الولاية والوصاية وإضافة الحق إليها إضافة بيانية. وحق التحجير عبارة عن كون صاحبه أولى بالأرض وحق القصاص والشفعة والخيار عبارة عن السلطنة. وركز الإمام الخميني على كون الحق واحدا في الجميع مستشهدا بالارتكاز العرفي واعتبر الحق غير الملك والسلطنة، ذلك أن الحق قد يصدق في مورد لا تصدق فيه السلطنة والملك كحق السبق إلى الوقف، وحق التحجير، ولو انتقل حق التحجير بالإرث إلى طفل فإنه لن تكون هناك ملكية ولا سلطنة، كما أن السلطنة قد تعتبر وليس هناك حق أو ملك كالسلطنة على النفس. ويفرق المرحوم آية الله الصدر بينها أيضا. والظاهر أن الملكية تعني الحق المطلق للسلطنة إلا في موارد التحديد الشرعي فكأنها سلطنة نشأت مطلقة. أما الحق فبطبيعته نشأ محدودا وهذا ما يفسر قول المحقق الأصفهاني الأنف. ثم أنه لوحظت في الحق جهتان (من له ومن عليه) في الغالب، وليست الملكية كذلك ومن هنا ندرك أن نزاعهم في الأرض المحياة في محله. حيث دار النزاع عما تؤدي إليه أدلة الإحياء وهل هو الملكية أو الحق الخاص؟ فمن قال بأنه حق ذكر أن الأرض تبقى على ملكية الإمام وإن اكتسب الفرد فيها حقا يستطيع معه استثمارها ومنع غيره منها ما دام قائما بها، ولكن هذا لا يمنع الإمام من فرض الطسق عليه، وهو رأي الشيخ الطوسي والسيد بحر العلوم، وتؤيده نصوص منها قول الإمام (عليه السلام) : " من أحيا أرضا، من المؤمنين فهي له وعليه طسقها ". ويميل السيد الصدر لهذا الرأي لأن التعارض المستحكم بين الطائفتين من النصوص الدالة على ذلك يحل بالرجوع إلى كتاب الله حيث جعل طريق نقل الملكية (التجارة) . ولم يذكر الإحياء فلا مناص من جعله مؤديا للاختصاص فقط والتفصيل في الأمر يذكر في محله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2022 المصاديق المشتبهة بين الحق والحكم: هناك مصاديق مشتبهة بين كونها حقوقها أو أحكاما. من قبيل حق الرجوع في المطلقة الرجعية، إذ قال المحقق القمي ومن تأخر عنه إنه حق لا يجوز الصلح عليه، وقال آخرون إنه حكم باعتبار بقاء العلقة الزوجية بضعف وتزلزل، فهو من قبيل جواز الرجوع في الأحكام الجائزة، أما إذا لم نقل ببقاء العلقة الزوجية كان حقا وهو خلاف ظاهر قوله تعالى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} وهناك موارد مختلفة أخرى كثيرة من قبيل: الاختلاف في الخيارات وهل هي حقوق. والأولوية بالسبق إلى الأوقاف فهل هي حكم بتحريم مزاحمة السابقين، أم هي حق، وكذلك جواز الصلح على حق إقامة الدعوى، وحق اليمين، وحق الغيبة وغيرها، وكذلك في النفقات يوجد خلاف بل وتمييز بين نفقة الزوجة لإطلاق الحق عليها في النصوص ونفقة الأقارب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2023 الاستعمالات العامة والفرق بين الحق والحكم: إن كلا من الحق والحكم قد يستعمل استعمالات فيشمل أحدهما الآخر، فالحق يعني الثبوت وربما أريد به ثبوت الاعتبار فيشمل الحكم، وربما عني بالحكم الحكم الوضعي وآثاره، فشمل الحق. أما لو جعلنا أحدهما في قبال الآخر فإننا نلاحظ: أولا: أن مفهوم الحق من المفاهيم ذات الإضافة فهو لأحد على أحد ويضاف إلى الشيء. أما مفهوم الحكم فهو مفهوم نفسي لا نسبة فيه إلا للفاعل. ثانيا: أنه أخذ في الحق وجود سلطنة لصاحبه على ما عداه بعكس الحكم. ثالثا: أن الحكم لا يقبل الإسقاط والنقل والانتقال بعكس الحق في كثير من مصاديقه. ثبوت الحق دون الملكية بالمعنى المطلق: كثيرا ما يثبت الحق دون الملكية بالمعنىالمطلق: فهناك حق الاختصاص في الموارد التي لا مالية فها شرعا أو عرفا كاقتناء الأعيان النجسة، فيوجد فيها حق إما للحيازة أو لامتلاك الأصل، كما لو مات الحيوان المملوك، وربما كان ثبوت هذا الحق باعتبار ما هناك من منافع متبقية. وهناك حق التحجير وهو عمل مُقَدميّ لتشخيص المساحة التي يراد إحياؤها، ويتم بالنسبة للأرض بتحجيرها وللبئر بحفرها (قبل الوصول للمعدن) ، والقناة قبل وصلها بالنهر، ويعتبر في هذا الحق ما يمكنه إحياؤه إذ جاء في تذكره الفقهاء: 2/420، (ولا ينبغي أن يزيد المحجر على قدر كفايته ويضيق على الناس، ولا أن يحجر ما يمكنه القيام بعمارته، فإن فعل ألزمه الحاكم بالعمارة، والتخلي عن الزيادة، فيسلمها إلى من يقوم بعمارتها) ، وهذا الحق ينتقل بالإرث واختلف في إمكان نقله بالبيع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2024 الإسقاط والنقل والانتقال: تختلف الحقوق – بما هي – من حيث القبول للإسقاط والنقل والانتقال. فمنها: ما لا يجوز فيها أي من ذلك كحق الولاية وحق الأبوة وحق استمتاع الزوج، وحق الجار وحق المؤمن. ومنها: ما يجوز فيه كل ذلك – على المشهور – كحق الخيار والقصاص والرهانة والتحجير والشرط المطلق. ومنها: ما يسقط بالإسقاط ولا ينتقل كحق الغيبة، والإيذاء بالضرب والشتم – إن كان من الحقوق – لأنه يجب يه الاستحلال فقط. ومنها: ما يسقط بالإسقاط وينتقل بالإرث – على قول – ولا ينقل بالنوافل، كحق الشفعة للشريك. ومنها: ما ينقل مجانا لا بعوض كحق القسم بين الزوجات، لو قلنا بعدم إمكان مقابلته بعوض. وهناك اختلاف شديد حول كون بعضها حقوقا أصلا وحول آثارها من الإسقاط والنقل والانتقال. منشأ الاختلاف: ذكر أن منشأ الاختلاف يتلخص في كون الموجب للحق علة تامة، وحينئذ لا تنفك عن المعلول بسقوط أو نقل كولاية الأب أو يكون كالمقتضي فيمكن فيه التخلف. والواقع أن الأمر راجع لكيفية الاستفادة من النصوص الشرعية التي تقرر الحق، ونوع الارتكاز العرفي له إن كان عرفيا ممضي من قبل الشارع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2025 ما هو الأصل في البين: ذكر الإمام الخميني والسيد بحر العلوم في (بلغة الفقيه) ، أنه لا أصل معين في البين ولذلك يجب الرجوع إلى الأصول العملية عند التردد بين الحقية والحكمية. ومقتضى الأصول العملية نفي الآثار الشرعية لانتقال الملكية وذلك لأنها مبتنية على التيقن بكونها حقوقا. أما عند الشك في قابلية الحق للإسقاط والنقل فيقال: إن الحقوق كما مر قد تذكرها النصوص مباشرة وقد تستقى من العرف، أما الحقوق من النوع الأول فيتبع فيها النص الذي يذكرها وعند الشك لا مجال إلا للرجوع للأصول العملية، وقد رأينا أنها تقتضي عدم ترتيب الآثار الشرعية لأن الموضوع يجب تحققه أولا والتأكد عن كونه مؤديا للأثر الشرعي. وأما الحقوق من النوع الثاني وهي ما يمكن تسميته بالحقوق العرفية فنقول فيها: إن الحقوق العرفية تارة تكون سيرة عقلائية ممتدة إلى عصر المعصوم، فإذا لم يرد فيها نهي اطمأننا إلى كونها مقرة شرعا، بالإضافة إلى شمول العمومات لها قطعا، وأخرى تكون أعرافا مخترعة بعد عصر المعصوم وهذه بدورها يمكن تقسيمها إلى حقوق عرفية نجد لها ما يشابهها من الشرع وأخرى لا مشابه لها، كما يمكن تقسيمها إلى أعراف لها سابقة مضادة لها وأخرى مخترعة تماما. والقاعدة في كل هذه الموارد ملاحظة مدى انطباق الخطابات العامة من قبيل (أوفوا بالعقود) ، وقد فسرت بالعهود وهي تشمل العهود والعقود العرفية ولا تنحصر بخصوص العقود في عصر المعصوم، وإنما تتجاوزها إلى كل ما يمكن أن يدعى لدى العرف عقدا وعهدا ومن هنا فتح الفقهاء بابا للعقود الجديدة، ولم يدعوا الأمر ينحصر بالعقود المتعارفة في صدر الإسلام وبذلك صححوا عقود العمل، والتقاعد، والتامين وغيرها. وعندما يعود العقد متعارفا يصدق عليه العموم مهما كانت سابقته، فإذا كان له مشابه شرعي كان أقرب للدخول في موضوعات العمومات الشرعية، وهذا المعنى سوف نتعرض إليه عند تطبيق هذا المعنى على الحقوق المعنوية فإن لها ما يشابهما من العقود الشرعية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2026 هل يقبل الحق العوضية والمعوضية أم لا؟ ربما نجد من يرفض أن يكون الحق عوضا أو معوضا في عملية البيع باعتبار أن البيع يعرف بأنه (عملية تمليك للعوضين) ، وهو تعريف لا يأتي بالنسبة للحقوق لأنها غير الملك والسلطنة. إلا أن الحقيقة هي أن الحقوق هي مراتب ضعيفة من الملكية كما قلنا، ومن جهة أخرى نقول بأنه لا يعتبر التمليك في ماهية البيع فالوقوف العام في بعض الحالات يباع إلا أنه ثمنه لا يدخل في ملك أحد وكذلك في بيع الغلات الزكوية – على قول – فإنه رغم عدم وجود التملك يصدق البيع بلا ريب. وإذا أمكن أن يكون الشيء عوضا أمكن أن يكون معوضا ولا معنى للتفصيل بينهما. ثم أنه هل يصح أخذ العوض في قبال الإسقاط ويصدق معه البيع؟ الظاهر أنه لا إشكال في جعل الإسقاط بالمعنى المصدري عوضا بل معوضا بمعنى جعل عمل صاحب الحق ملكا للطرف الأخر على عهدته، كجعل الخياطة والكتابة بالمعنى المصدري على عهدة الخياط والكاتب. ويمكن أن نؤيد هذا المعنى بملاحظة مسألة إسقاط الشرط بعوض، وربما يمكن القول بأن يجعل نفس السقوط عوضا أو معوضا لأنه يكفي في طرف العوض كل ما يصلح للعوضية، وإن لم يكن هناك نقل – كما يقول الإمام – فإنه لا إشكال في صحة أن يؤجر الشخص عمل شخص آخر ليعمل عملا لشخص ثالث أو لكنس المسجد حيث لا ينتقل العمل للمستأجر. ومهما كان الأمر فإن هناك أسلوبا آخر للتعويض هو أسلوب (الصلح) ، بناء على كون الصلح ممكنا إجراؤه في كل مجال ولا يختص بحالات الخلاف – وهو ما نقوله به -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2027 بيع الحقوق المعنوية: والأسئلة التي تطرح في البين هنا يمكن تلخيصها بما يلي: 1- هل هي حقوق شرعية أو عرفيه أم لا؟ 2- هل هناك فرق بين هذه الحقوق أم لا؟ 3- هل يمكن تصحيح بيعها بالعناوين الأولية للأحكام أم نحن بحاجة للجوء للعناوين الاستثنائية أي العناوين الثانوية أو العناوين الولائية؟ فلنلاحظ الجواب على هذه الأسئلة على ضوء ما تقدم: هل الحقوق المعنوية المعروفة اليوم هي حقوق مشمولة للعمومات أم لا؟ هناك رأيان متعاكسان في البين: أحدهما: وهو الرأي النافي يؤكد على عدم كونه حقا مشمولا للعمومات باعتبار أن العرف لا يراه حالة طبيعية وحقا صحيحا، وإنما يراه أسلوبا من أساليب الاحتكار الذي لا مسوغ له، وبالعكس فإن العرف درج – بتأثير من إمكاناته الفطرية – على التقليد – وملاحظة ما انتهى إليه الآخرون، ثم العمل على تقليده وبالتالي العمل على تطويره، وهذه حالة عامة سارية في شتى المجالات الإنسانية وبها تتكامل شخصية الإنسان الحضارية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشخص إذا ملك الكتاب أو الآلة المخترعة كان له الحق في التصرف فيها بما يشاء بمقتضى السلطنة التي حصلت له وإن منعه من استعمال هذا الحق لا مجوز له شرعا. وإذا استعرضنا كل منابع الحق التي أشرنا لها فيما سبق نجد أنه لا يأتي أي منها في هذا المورد ولذا فلا معنى للقول بوجود هذه الحقوق. والرأي الأخر: - وهو الرأي المثبت – يؤكد من جهته أن هذه الأمور أصبحت حقوقا عرفية معترفا بها بين الشعوب والدول، وقام لها نظام ثابت معترف به رسميا بل وعاد إنكارها أمرا مستغربا – أما ادعاء كونها أعرافا جديدة فلا يضر بكونها مصاديق جديدة للعهود والشروط الشرعية والعمومات الواردة فيها، وفي لزوم الوفاء بها. ويؤيد هذا الجانب رأيه بذكر أمثلة من الحقوق الشبيهة بالحقوق المعنوية من قبيل حقوق المؤمن، وحقوق الجوار وأمثالها، بل ربما يمكن القول بأن الحقوق في أغلبها حقوق معنوية بمعنى أنها ترجع إلى شخصية صاحب الحق وكرامته وامتيازاته وتوابعه والحقوق التي نبحث عنها داخلة في هذا الباب، فحق التأليف يعني أن يتمتع الإنسان بسلطة على ما أنتجه، حق العلامة التجارية، يعني أن تتمتع الشركة بسلطة على تلك العلامة التي خدمتها وقوتها، فهي بالتالي من توابع الملكية والسلطنة، تماما كما يقال من أن الإنسان يملك نتيجة عمله باعتبارها امتدادا لشخصيته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2028 وعلى أي حال، فإن قلنا بتحقق هذه المصداقية جاءت تلك العمومات الأنفة وإلا كان علينا أن نبحث عن سبيل آخر لتقرير الموقف النهائي وهذا ما يدعونا للجوء للعناوين الاستثنائية. هل هناك فرق بين هذه الحقوق؟ الظاهر أنه لا فرق بين هذه الحقوق فكلها أمور مخترعة لا سابقة لها عرفا وليس بينها ما يميزها من بعضها من هذا الجانب، ولذا فإن النزاع يأتي فيها جميعا على حد سواء. هل يمكن التصحيح بالعناوين الأولية أم أن علينا اللجوء للعناوين الاستثنائية؟ قلنا سابقا إن تصحيحها وفقا للعناوين الأولية للأحكام متوقف على مصداقيتها لعنوان (الحق العرفي) ، مما يؤهلها للدخول كموضوعات للعمومات الشرعية وهو ما رأينا فيه من اختلاف. ومن هنا فنحن نعتقد ولو على سبيل الاحتياط باللجوء إلى العناوين الاستثنائية وهي العناوين الثانوية، والعناوين الحكومية الولائية. أما بالنسبة للعناوين الثانوية فيمكن أن يقال إنه في الموارد التي تنقض فيها هذه الحقوق يحدث ضرر نوعي بلا ريب، مما يجعل المورد من موارد وقاعدة (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) ، الأمر الذي لا يسمح بهذا النقض. ويمكن لأحد أن يناقش في هذا بالقول بأن المورد قد يكون من موارد منع الاستغلال والاحتكار والربح الكثير لا غير وحينئذ فلا ملزم لعدم القيام به. ومن هنا فأسلم الطرق هو سبيل العنوان الحكومي. ذلك أن ولي الأمر بعد أن يلحظ المصلحة الاجتماعية في حماية حقوق التأليف والاختراع والعلائم التجارية وأمثال ذلك، ويرى غلبتها على المصالح الناتجة من عدم وجود هذه الحقوق، فإنه يحكم بشرعيتها ويعمم حكمه على الجميع، ويصدر بشكل قانون مصوب من المجالس التقنينية ولا ريب في نفوذ حكمه في مثل هذه الموارد على مختلف الآراء في مدى صلاحية الحاكم الشرعي في تعميم أحكامه الولائية ونفوذها. والله أعلم. الشيخ محمد علي التسخيري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2029 بيع الاسم التجاري والترخيص إعداد الدكتور حسن عبد الله الأمين بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة جرى العرف التجاري ببيع الشهرة التجارية – الاسم التجاري – وتضمنت ذلك نصوص القانون المدني الوضعي، وأصبح عرفا يسنده التشريع القانوني واكتسب وضعا مستقرا ضمن الأنشطة التجارية والاقتصادية فعلام تم ذلك؟ وهل يتفق ذلك مع الأحكام المتعلقة بأركان البيع وشروط صحته في الفقه التشريعي والقانوني؟ ومن جهة أخرى وفي ضوء التوجه الإسلامي المعاصر والتلمس والبحث المطرد لإضفاء الصفة الإسلامية على أنشطة الحياة الاقتصادية والمالية والتجارية وإجرائها وفق أحكام الشريعة الإسلامية وقواعدها، فقد انبثق السؤال التالي: هل تقبل قواعد الشريعة الإسلامية وأحكامها هذا النوع من النشاط التجاري؟ وهل بيع الاسم التجاري بناء على شهرته منفردا، أو مع المحل التجاري يصح في الفقه والشريعة الإسلامية كما صح عرفا وقانونا؟ باعتبار أن ذلك أمر واقع أنتجته الحياة المعاصرة وتعقيداتها المختلفة، وأصبح ذا أثر اقتصادي له وزنه في المحيط التجاري، ولم يعد من الممكن إغفاله واطراحه جانبا من دائرة الدراسة والبحث، خاصة وأن هناك كثيرا من العاملين في الحقل التجاري قد طرحوا تساؤلاتهم عنه وعن مدى مشروعيته لأهميته الاقتصادية في مجال نشاطاتهم التجارية. أما مجمع الفقه الإسلامي بجدة، والذي اهتم بها غاية الاهتمام ووضعها ضمن برامج بحوثه المستقبلية توطئة لإصدار قراراته بشأنها. ولهذه الأهمية للموضوع، واهتمام مجمع الفقه الإسلامي بجدة به، وبناء على رغبة كريمة من فضيلة الأمين العام للمجمع، رأيت أن أقوم بدراسته وبحثه من الوجهتين القانونية والشرعية في ضوء قواعد الفقه الإسلامي المرنة وأحكام الشريعة الإسلامية السمحاء خدمة لهذا القطاع الاقتصادي العام – القطاع التجاري – بصفة خاصة وخدمة لعامة المسلمين الذين يهمهم بيان الوجه الشرعي في كل ما تجرى به حياتهم ويتناوله نشاطهم. ومما يلحق بيع الاسم التجاري، بيع الترخيص أيضا، وهو أمر ذو أهمية لأنه تفشى بين الناس خاصة في الدول والأقطار التي تقيد عمليات الإيراد والتصدير للبضائع والمصنوعات، فهل يصح بيعه ممن حصل عليه من الجهات المختصة بإصداره لشخص أو جهة ثانية، وما هي علاقة صاحب الترخيص بالجهة المرخصة؟ والشخص أو الجهة المستفيدة منه في النهاية؟ وفي الصفحات التالية نناقش هذه القضايا ونثبت ما يتمخض عنها من نتائج، ونسأل الله التوفيق والسداد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2030 معنى الاسم التجاري الاسم التجاري يطلق ويراد به أحد أمرين: أولا: يطلق الاسم التجاري ويراد به الاسم المتخذ أمارة على منتوجات صناعية معينة – وهو ما يعرف (بالماركة المسجلة) . ثانيا: يطلق الاسم التجاري على اللقب المخصص لمحل تجاري اكتسب شهرة بهذا اللقب. وقد نص القانون على الاسم التجاري بالمعنى الأول، المعروف (بالماركة المسجلة) ووضح معالمه كما بين شروط اعتباره وحماية حرمته. جاء في الوسيط للسنهوري: إن العلامات التجارية هي " الأسماء المتخذة شكلا مميزا، والكلمات والإمضاءات والحروف والأرقام والرسوم وعنوانات المحال والدمغات والأختام والتصاوير، والنقوش البارزة وأي علامات أخرى أو أي مجموع منها يستخدم أو يراد به أن يستخدم إما في تمييز منتجات عمل صناعي … أو أية بضاعة، أو للدلالة على مصدر المنتجات أو البضائع أو نوعها، أو مرتبتها أو ضمانها. فالعلامة التجارية إذن تميز المنتجات والبضائع بحيث يكون معروفا في الأسواق أن البضائع التي تحمل هذه العلامة هي بضاعة معينة فلا تختلط بغيرها من البضائع ويستطيع طالب هذه البضاعة بالذات أن يطمئن إذا ما وجد العلامة موضوعة على البضاعة التي تتعامل بها. هذا وعرفت المادة الأولى من نظام المعاملات التجارية السعودية العلامة التجارية بالأتي: مادة (1) تعتبر علامة تجارية في تطبيق أحكام هذا النظام الأسماء المتخذة شكلا مميزا والإمضاءات والكلمات والحروف والأرقام والرسوم والرموز والأختام والنقوش البارزة، وأية إشارة أخرى أو أي مجموع منها، تكون صالحة لتمييز منتجات صناعية، أو تجارية أو حرفية، أو زراعية … إلخ، كما نصت المادتان (3) و (25) من هذا النظام على تنظيم تسجيل الاسم التجاري بهذا المعنى وإثبات ملكيته لصاحبه وحمايته. أما الاسم التجاري بالمعنى الثاني – الخاص بالقلب المخصص لمحل تجاري اكتسب شهرة بهذا اللقب، فقد جاءت الإشارة إليه (بعنوانات المحال) كما في النص المنقول عن السنهوري أنفا وهو أمر شائع ومعروف في العرف التجاري. الاسم التجاري والحقوق المعنوية، والمالية: بعد تحديد معنى الاسم التجاري في العرف والقانون ننتقل إلى بيان موقعه من الحقوق المعنوية والمالية، وقد عرفنا فيما تقدم معنى الاسم التجاري بنوعيه، الماركة المسجلة، واللقب المخصص للمحل التجاري الذي اكتسب شهرة بهذا اللقب، وبقي أن نعلم ما هو موقف هذا الاسم التجاري من الحقوق المعنوية، والحقوق المالية، لا شك أن الاسم التجاري بكلا المعنيين ثمرة لجهد صاحبه الفكري والمادي ومعنى ذلك أن يختص به صاحبه دون غيره، وهو حق يعترف به القانون. بل ويحميه كما جاء في المادة (25) من نظام العلامات التجارية الفارقة السعودي لسنة 1409هـ. وقبل أن نصل لمعرفة هذا الموقف لا بد أن نعرف ما هو الحق كما عرفنا ما هو الاسم التجاري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2031 الحق المجرد والشيء والمال في العرف والقانون يفرق القانون بين المال والشيء المطلق، فالمال في العرف القانوني هو الحق ذو القيمة المالية، أيا كان ذلك الحق، سواء أكان عينيا أم شخصيا أم حقا من حقوق الملكية الأدبية والفنية والصناعية. أما الشيء سواء كان ماديا أم غير مادي، فهو محل ذلك الحق (1) .، والحقوق المالية التي يكون الشيء محلا لها كثيرة التنوع: منها الحقوق العينية الأصلية والتبعية، ومنها الحقوق الشخصية، كحق المشتري في تسلم المبيع، ومنها الحقوق التي تقع على شيء غير مادي، كحقوق المؤلف فيما يسمى بالحقوق المادية والأدبية والفنية، والحقوق التي تسمى بالملكية الصناعية والملكية التجارية (2) . والحق يكون دائما غير مادي، المادي هو الشيء محل الحق، أما الحق فهو معنوي – أي يقوم في الفكر مجردا غير محسوس – فحق الملكية معنوي يقع على شيء مادي وكذلك الحقوق العينية الأخرى أصلية كانت أم تبعية، كحق الانتفاع وحق الارتفاق وحق الرهن وحق الامتياز والحقوق الشخصية جميعها – سواء أكان محلها نقل حق عيني، أو كان عملا، أو امتناعا عن عمل- معنوية لا مادية وإن كانت تتعلق بأشياء مادية (3) . وهنا نلاحظ أن العرف القانوني يجعل الحقوق نوعين: حقوقا مجردة وحقوقا متعلقة بالمال، وهذه الأخيرة قد تقع على شيء مادي كالحقوق العينية الأصلية والتبعية، والحقوق الشخصية كحق المشتري في تسليم المبيع، وقد تقع على شيء غير مادي – كالحقوق المادية والأدبية والفنية للمؤلفين، والحقوق التي تسمى بالملكية الصناعية وبالملكية التجارية – تسميته بالعلامات التجارية فما هي إذن العلامات التجارية؟   (1) بتصرف من مجموعة الأعمال التحضيرية للسنهوري: 1/457 (2) الوسيط للسنهوري: 8/8 (3) المرجع السابق فقرة 164، ص 274 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2032 الاسم التجاري والحق فالعلامات المشار إليها جميعها فيما سبق ومنها الأسماء المتخذة شكلا مميزا بحيث تكون صالحة لتمييز منتجات صناعية أو تجارية – وهي ما يطلق عليه الماركة المسجلة أو الاسم التجاري، وكذلك اللقب المخصص لمحل تجاري اكتسب شهرة بهذا اللقب، وهو ما يطلق عليه الاسم التجاري، عرفا وقانونا أيضا، وهي والحال هذه قابلة للتصرف فيها ونقلها كليا أو جزئيا من أصحابها لاخرين بكل طرق التصرف الناقل للملكية وكذلك رهنها. وقد نصت المادة (33) من نظام العلامات التجارية السعودي على التصرف بنقل الملكية والرهن فقالت: (يجوز أن تنتقل ملكية العلامة التجارية إلى الآخرين بأية واقعة أو تصرف ناقل للملكية، ويشترط في التصرف أن يكون كتابة، وألا يكون الغرض منه تضليل الجمهور، وخاصة بالنسبة لطبيعة أو مصدر المنتجات أو الخدمات أو مميزاتها أو أدائها) . كما نصت على ذلك المادة 21 من اللائحة التنفيذية لنظام العلامات التجارية السعودي حيث قالت: (يجوز التصرف في العلامات بأي تصرف ناقل للملكية، كما يجوز رهنها، وذلك وفقا للقواعد المحددة نظاما، على أن يتم إشهار هذه التصرفات والتأشير بها في السجل وفقا للإجراءات والأوضاع المبينة في المواد التالية) ، وقد نظمت المواد من 22-26 كيفية هذه الإجراءات. كما نصت المادة (37) من نظام العلامات التجارية على جواز التصرفات الأخرى، فقالت: (يجوز لمالك العلامة أن يرخص لأي شخص طبيعي أو معنوي باستعمالها عن كل أو بعض المنتجات أو الخدمات المسجلة عنها العلامة ويكون لمالك العلامة الحق في أن يرخص لأشخاص آخرين باستعمال نفس العلامة، كما يكون له أن يستعملها بنفسه ما لم يتفق على غير ذلك ولا يجوز أن تزيد مدة الترخيص عن مدة حماية العلامة. ومن مواد لائحة نظام العلامات التجارية السعودي نتبين أن هناك عدة حالات للتصرف في العلامات التجارية: 1- الحالة الأولى: التصرف بالتنازل الكامل عن العلامة التجارية للغير بطريق البيع أو الهبة. 2- الحالة الثانية: التفويض للغير باستعمال العلامة التجارية بعوض أو بدونه مع الاحتفاظ بملكية العلامة التجارية لاستعمالها من المالك بنفسه أو تفويض آخرين باستعمالها أيضا، ويعتبر التصرف من هذا النوع من قبيل الإجارة المؤقتة أو الدائمة. 3- الحالة الثالثة: التصرف فيها كأداة توثيق بالرهن لدى الغير. وهذه الأحوال الثلاثة جائزة بنصوص القوانين والأنظمة، ومطبقة في واقع التعامل التجاري العالمي باعتبار ذلك تصرفا في حقوق مالية بصرف النظر عن كونها متعلقة بشيء مادي أو معنوي لأن الحق المالي لا يشترط فيه قانونا كما سبق بيانه أن يكون عينا أو منفعة متعلقة بالعين، وإنما يصح اعتبار بناء على مجرى العرف به، سواء أكان ماديا أو معنويا مجردا. وهذا الحق المالي يقبل التصرف فيه ونقله للآخرين بعوض أو بغيره وسواء أسمينا هذا العوض في مقابل نقل هذا الحق ثمنا لمبيع أو جعلا أو أجرة، لا فرق بين ذلك، وما دام العرف قد أضفى على هذا الحق صفة المالية، فقد أصبح محلا صحيحا للعقد، ينتقل به من شخص لأخر بعوض أو بدونه وتجرى عليه أركان وشروط صحة العقد كأي شيء مبيع أو مستأجر – في القانون إذا توافر فيه الرضا بين الطرفين – لأن العقد شريعة المتعاقدين قانونا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2033 الحق في الفقة الإسلامي الذي دعانا للكلام والإطالة عن الاسم التجاري في العرف والقانون هو نشأته في حضنهما واكتسابه الثبات والاستقرار من خلالهما، فكان ذلك مدخلا لتصوره والوقوف على أوضاعه المختلفة ليكون ذلك منطلقا لفهمه وإدراكه في صورته ووضعه الحقيقي، وبالتالي يسهل علينا عرضه على قواعد ومفهومات الفقه الإسلامي، ومن ثم الوصول إلى حكمه الشرعي، من حيث البيع والتصرف به بعوض مالي. وقد علمنا مما تقدم عرضه أن الاسم التجاري يعتبر حقا يختص به صاحبه لأنه ثمرة جهده ونتاج فكره، وهو كغيره من الحقوق المعنوية حق مالي عرفا وقانونا يملك صاحبه الاستعاضة عنه بالمال، كما يملك التصرف فيه التصرفات الناقلة للملكية كالهبة وغيرها. وننتقل الآن لنبحث هذا الحق المتقرر عرفا وقانونا في الفقه الإسلامي لنرى ما يحكم به عليه وهو مقصود هذا البحث. 1- الحق المجرد والحق المتعلق بالمال: الحقوق في الفقه الإسلامي كما في القانون نوعان حقوق مجردة وحقوق متعلقة بالمال، جاء في حاشية رد المحتار لابن عابدين وفي الأشباه: لا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة كحق الشفعة ولا الصلح بما مع المخيرة لتختاره، وكذا لو صالح إحدى زوجتيه بمال لتترك نوبتها لم يلزم ولا شيء لها (1) . وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير: (قوله حق) هذا جنس يتناول المال وغيره كالخيار والشفعة والقصاص والولاء والولاية (2) . أما الحق المتعلق بالمال، فهو ما يمثل منفعة في العرف العام مطلقا، أو في العرف الخاص، ولم يخالف نصا، لأنه لا يصلح ناسخا للنص ولا مقيدا له، وإلا (بأن لم يخالف نصا) فقد اعتبروه في مواضع كثيرة، منها: مسائل الإيمان، وكل عاقد وواقف، وحالف، يحمل كلامه على عرفه. وأفاد ما مر أن العرف العام يصلح مقيدا (للنص) (3) . ومعنى ذلك أن الحق إذا مثل منفعة في عرف الناس العام أو الخاص الذي لا يعارض أو يخالف نصا فهو مال، يصلح الاستيعاض عنه بالمال، لأنه في هذه الحالة يمثل منفعة مشروعة. ولعل النص التالي للسرخسي في المبسوط يجلي هذه القضية بطريقة أوضح. قال: (إن المال هو اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به مما هو عندنا والمنافع منا أو من غيرنا بهذه الصفة، وإنما تعرف مالية الشيء بالتمول، والناس يعتادون تمول المنفعة بالتجارة فيها، فإن أعظم الناس تجارة الباعة، ورأس مالهم المنفعة … . والمنفعة تصلح أن تكون صداقا، وشرط صحة التسمية، أن يكون المسمى مالا) (4) .   (1) حاشية رد المحتار لابن عابدين 4/ 518 (2) 4/ 457 (3) رد المختار، مرجع سابق 4/ 519 (4) المبسوط للسرخسي 11/ 78 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2034 بيع الاسم التجاري في ضوء ما تقدم بعد أن عرفنا معنى الحق في القانون والفقه يجمل بنا أن نوضح معنى البيع والمبيع في ضوء بيان معنى الحق آنف الذكر ومن ثم ندلف إلى بيان ما إذا كان الاسم التجاري يمكن أن يصبح مما يصح بيعه كما في القانون أم لا، وهذا يقتضينا أن نستعرض معنى البيع والمبيع في مذاهب الفقه الإسلامي المعتبرة، لنخلص من ذلك إلى النتيجة المرتجاة والتي يقررها الفقه الإسلامي، فما هو معنى البيع وما معنى المبيع في الفقه الإسلامي؟. أولا: معنى البيع عند المالكية، جاء في الشرح الكبير للدردير (البيع: كما يقول ابن عرفة: هو عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة، فتخرج الإجارة والكراء والنكاح، وتدخل هبة الثواب والصرف والمراطلة والسلم) وعلق الدسوقي في حاشيته على قول الدردير (على غير منافع) بقوله: أي على ذوات غير منافع وركز صاحب جواهر الإكليل على إبراز كون البيع يقع على ذوات فقال: (البيع هو إخراج ذات عن الملك بعوض، والشراء إدخالها في الملك) . وهذه التعريفات الثلاثة للبيع منقولة عن فقهاء المالكية ونلاحظ منها أنه من اللازم في المبيع أن يكون ذاتا معينة، ولا يصح أن يكون منفعة فقط هذا مع اعتبارهم المنافع بأنها أموال يصح أخذ العوض في مقابلها – ولكن لا يطلقون البيع على هذه المعاملة. * الحنفية: والحنفية يتفقون مع المالكية في أن يكون المبيع عينا – أي ذاتا لها وجود في الخارج، بل إنهم لا يعتبرون المنافع أموالا بذاتها، جاء في حاشية ابن عابدين (وركن البيع مبادلة المال بالمال) وفي تنوير الأبصار (وبطل بيع ما ليس بمال) ، وعن تعريف المال قال ابن عابدين: (وقدمنا في أول البيوع تعريف المال بما يميل إليه الطبع ويمكن إدخاره لوقت الحاجة وإنه خرج بالإدخار المنفعة فهي ملك لا مال) ، وفي مكان آخر قال: (والتحقيق أن المنفعة ملك لا مال لأن الملك ما من شأنه أن ينصرف فيه بوصف الاختصاص) (1) .   (1) حاشية رد المحتار، لابن عابدين: 4/ 50، و 51 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2035 * الشافعية: ولكن الشافعية توسعوا في معنى البيع بما يشمل المؤبدة، كحق المرور المقرر على أرض الغير، فاعتبروا ذلك بيعا رغم أنه منفعة، قال الخطيب الشربيني في تعريف البيع: (وحده بعضهم بأنه عقد معاوضة مالية يفيد ملك العين أو منفعة على التأبيد. فيدخل بيع حق المرور ونحوه وخرجت الإجارة بقيد التأقيت فإنها ليست بيعا) . ولعل السبب في اشتراط أن يكون المبيع ذاتا معينة هو أن البيع يفيد دوام ملك العوض المتمثل في المبيع، ولا كذلك الإجارة التي من طبيعتها التأقيت، ولذلك أجاز الشافعية إطلاق لفظ البيع على المنفعة المؤبدة، كما في بيع حق المرور على أرض الغير، لمصلحة أرض أخرى. ولكن عند التأمل يبدو للناظر أن المقابل المدفوع في حق المرور المقرر لمصلحة عقار آخر يصعب اعتباره ثمنا حتى تكون هذه المعاملة بيعا، لأنه مقابل الانتفاع بذات لا يمكن التصرف فيها تصرفا ناقلا للملكية، كما هو شأن المبيع وإنما يشبه إلى حد كبير الأجرة المقررة للانتفاع بالمرور على أرض الغير فيدل على ذلك أن هذا المقابل كما يمكن تحديده منذ البداية ودفعه مرة واحدة أو مقسطا، يمكن أيضًا تحديده في فترات متتابعة بنفس المقادير السابقة أو بخلافها، مما يؤكد شبهه بالأجرة، لذلك يصعب في نظري قبوله ثمنا في بيع، وإن جرى التجاوز بإطلاق لفظ البيع عليه في عبارات بعض الفقهاء. ومن تعريفات الفقهاء للبيع المنقولة عنهم في النماذج السابقة، نلاحظ أيضًا أنهم يشترطون لإطلاق لفظ البيع أن يكون العوض ماليا، ولذلك لم يطلقوا على عقد النكاح لفظ البيع مع توفر شرط أن المعقود عليه ذاتا معينة تستوفى منها منفعة غير مالية. المبيع: ما هو المبيع؟ المبيع هو المحل في عقد البيع – أي الشيء الذي يقع عليه التعاقد وليس هو ركنا هاما من أركان عقد البيع فحسب وإنما هو المقصود الأساسي في هذا العقد، يقول الكاساني في بيان مكانة المبيع وأهميته في عقد البيع: إن الثمن غير مقصود في عقد البيع بل وسيلة إلى المقصود، إذ الانتفاع بالأعيان لا بالأثمان، ولهذا اشترط وجود المبيع دون الثمن، فبهذا الاعتبار صار الثمن من جملة الشروط بمنزلة آلات الصناع، ومن هذا قال في البحر: ثم اعلم أن البيع وإن كان مبناه على البدلين، لكن الأصل فيه المبيع دون الثمن، ولذا تشترط القدرة على المبيع دون الثمن وينفسخ بهلاك المبيع دون الثمن (1) . ومن تعريفات الفقهاء المتقدمة للمبيع، نلاحظ أنهم يشترطون فيه: أن يكون عينا معينة (ذاتا) وهذا واضح وصريح عند المالكية والأحناف، ولكن ما نقلناه عن الخطيب الشربيني يفيد أن الشافعية يعتبرون بيع حق المرور من نوع بيع المنفعة – المؤبدة – وهي غير ذات معينة، لكن أن الشافعية يعتبرون بيع حق المرور من نوع بيع المنفعة – المؤبدة – وهي غير ذات معينة، لكن لما كان حقا مؤبدا صار في نظرهم أشبه ببيع العين الدائم، والحنابلة أوضح من الشافعية في اعتبار بيع المنفعة وعدم التقيد بكون المبيع ذاتا معينة، فقد جاء في كشاف القناع قوله تنبيه: ظاهر كلامه هنا كغيره، أن النفع لا يصح بيعه. مع أنه ذكر في حد البيع صحته فكان ينبغي أن يقال هنا: كون المبيع مالا أو نفعا مباحا مطلقا، أو يعرف المال- بما يشمل الأعيان والمنافع (2) .   (1) بدائع الصنائع: 5/ 501 و 502 (2) المبسوط، للسرخسي: 11/ 78 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2036 2- المال والمالية: لاحظنا أن الفقهاء يذهبون إلى أن يكون المبيع شيئا ماديا، وإن كان هناك بعض التعبيرات التي وردت لدى بعض فقهاء الشافعية والحنابلة لا تتمسك بهذا الشرط وإنما تكتفي بأن يكون المبيع شيئا مؤيدا كما جاء التعبير عنه بحق المرور لدى الشافعية، أو نفعا مباحثا مطلقا كما ورد التعبير عنه عند الحنابلة. ومما تقدم في القانون والفقه الإسلامي تبين لنا أن الحق ذو القيمة المالية في العرف العام أو الخاص الذي لا يعارض نصا شرعيا، يصلح لأخذ العوض عنه لأنه يمثل منفعة مشروعة، كما يوضح ذلك النص السابق وسواء اعتبرنا ذلك العوض ثمنا في بيع أو أجرة في إجارة أم غير ذلك، ولا يمنع من ذلك في حالة اعتباره بيعا أنه لم يقع على عين أو ذات لها وجود في الخارج كما تشترط ذلك بعض المذاهب الفقهية، لأننا وجدنا الشافعية يتساهلون في هذا الشرط ولا يتمسك به الحنابلة. ومع ذلك فهذا الشرط ليس منصوصا ولا مبنيا على قاعدة عامة فيما يبدو لنا، وربما كان مصدره الواقع والمشاهدة وقد جرى العرف العام العالمي وليس الخاص فحسب ببيع الاسم التجاري، والعرف العام يقيد النص كما مر ولا نص هنا ولا قاعدة عامة يتعارض معها هذا العرف العام. ومن جهة أخرى فيمكن اعتبار ذلك معاملة حديثة اقتضتها ظروف العصر وتمثل عقدا جديدا، وليس بالضرورة أن يكون داخلا في العقود المسماة والمعروفة كعقد البيع، لأن هناك اتجاها للكثير من الفقهاء بصحة إنشاء عقود غير العقود المعروفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2037 بيع المحل مع الاسم التجاري انتهينا فيما مر إلى جواز بيع الاسم التجاري منفردا ويبدو لنا أن بيعه مع المحل يجوز من باب أولى، لأن المحل يمثل عينا تقبل البيع أو الإجارة مستقلا أو منفردا، وضمه للاسم في البيع لا يغير من قابليته للبيع بل إن ضمه هذا ربما يمثل أرضيه صالحة لتعضيد بيع الاسم التجاري أكثر مما لو كان منفردا وعلى هذا فكلما يصح بيع الاسم التجاري منفردا يصح بيعه مع المحل، وربما كان ذلك من باب أولى. الإعلان وبيع الاسم التجاري: لجواز بيع العلامة التجارية – الاسم التجاري – اشترط القانون في التصرف الناقل للملكية أن يكون كتابة، وألا يكون الغرض منه تضليل الجمهور، وخاصة بالنسبة لطبيعة أو مصدر المنتجات والخدمات أو مميزاتها أو أدائها مادة 33، من نظام العلامات التجارية السعودي، وهذا قيد هام جدا يتفق مع توجه الفقه الإسلامي لسلامة هذا التصرف حتى لا يكون مجال استغلال لمبدأ جواز التصرف الناقل للملكية بعوض، ينفذ من خلاله إلى خداع الجمهور بالغش والتدليس عليه، وحتى لا يصبح بيع الاسم التجاري أشبه بالإعلان لصالح المنتفع الجديد به. فقد عيب على الإعلان التجاري أنه يمثل خداعا للمشتري بخلق الانطباع النفسي لديه بتميز الشيء المعلن عنه على غيره، وإقناعه باختياره وشرائه دون غيره، بالرغم من أن ذلك ربما يخالف الحقيقة كلها أو بعضها، الأمر الذي دعا أغلب علماء القانون بوصفه بإثم ومجافاة الأخلاق. وبهذا القيد أو الشرط الوارد في القانون يؤمن بيع الاسم التجاري من أن يصبح في المال أشبه بالإعلان التجاري ويتفادى مثالبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2038 بيع الترخيص: مما يلحق أو يرتبط بالاسم التجاري الترخيص الذي يكون في الغالب تجاريا، وقد يكون لأمر آخر يتعلق بالصناعة أو الزراعة، فقد غدا هو الآخر من الأمور التي يجري بيعها في أواسط بعض رجال الأعمال التجارية، والأفراد الذين ينتفعون منه، وخاصة بين مواطني الأقطار التي تفيد فيها تجارة الصادر والوارد نتيجة للتعقيدات الاقتصادية المعاصرة، وقد اقتضى ذلك أن يبحث وضعه من وجهة النظر الشرعية الإسلامية مثلما جرى في أمر بيع الاسم التجاري، ومن هنا كان اهتمام مجمع الفقه الإٍسلامي به ودرجة مع بيع الاسم التجاري في ورقة واحدة – فما هو (الترخيص) وما هي وجهة نظر الشريعة الإسلامية في بيعه أو نقله للآخرين بعوض؟ معنى الترخيص: لم يرد تفسير أو توضيح لمعنى الترخيص المطلوب دراسته وبيان الوجه الشرعي في بيعه في ورقة الموضوعات المطلوب دراستها وبحثها والتي أعدت من قبل المجمع، كما أني لم أقف على تعريف له من جهة علمية، ولكن من الممكن لنا أن نقول إن (الترخيص) هو (إذن تمنحه جهة مختصة بإصداره لفرد أو جماعة للانتفاع بمقتضاه) . أنواعه: يبدو لنا أن الترخيص على نوعين نوع تجاري يتعلق بإذن كتابي لإقامة منشأة صناعية أو زراعية من جهة تملك إصدار هذا الحق. والنوع الثاني: هو إذن كتابي أيضًا من جهة مختصة إلى شخص أو مجموعة أشخاص بتصدير منتجات محلية صناعية أو زراعية أو غيرها، أو استيراد بضائع أو منتجات زراعية أو صناعية من جهات خارجية. والنوع الأول: لا يجري بيعه مباشرة في المعتاد، ما لم يتم الشروع في إقامة البنيات الأساسية للمنشأة أو يكتمل إنشاؤها. وحينئذ إن جرى بيع فإنما يكون ذلك على عين المنشأة، وليس على مجرد الترخيص، ومن ثم فلا يدخل هذا النوع من التراخيص فيما نحن بصدده. أما النوع الثاني: وهو الترخيص التجاري البحت المتعلق بالتصدير أو الاستيراد للبضائع والمنتجات فهو الذي يلزم بحث بيعه وبيان الوجه الشرعي فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2039 طبيعة الترخيص: فما هي طبيعة هذا النوع الأخير من التراخيص، النوع التجاري؟. يبدو أنه من المتفق عليه أن هذا النوع من التراخيص لا يتعلق بعين محددة قابلة لنقل ملكيتها مقابل عوض، آيا كان ذلك العوض وإنما هو أمر غير ذلك تماما. وننتقل فنسأل مرة أخرى: هل هو منفعة عين قائمة فيصح نقلها والتصرف فيها، التصرف المشروع على رأي الجمهور؟. والإجابة على ذلك بالنفي فليس الترخيص منفعة قائمة بعين أو ذات محددة وإذن فما هي طبيعته؟ الذي يظهر لنا أن الترخيص التجاري هو من نوع حقوق الانتفاع، لأنه إذن بالانتفاع، وهذه هي طبيعة الرخصة في الفقه الإسلامي – والرخصة إباحة، فهل يصح أخذ عوض عنها بطريق البيع أو الجعالة أو الإجارة مثلا؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال، واستكمالا للبحث عن تحديد طبيعة الترخيص لا بد أن نشير إلى أن الترخيص في حد ذاته رجوع بالأمور إلى وضعها الطبيعي، ذلك أن الأصل أن يكون لكل فرد أو جماعة الحق في أن تمارس العمليات التجارية تصديرا أو استيرادا دون قيود أو موانع، ولكن تعقيدات الحياة الاقتصادية المعاصرة كما أشرت سابقا هي التي اقتضت وضع القيود على حرية ممارسة عمليات التجارة تصديرا واستيراد، فنشأت التراخيص لهذه الممارسة بناء على توفر ظروف وشروط معينة تتعلق بالجهة المرخص لها. العلاقة بين مانح الترخيص والمرخص له: ومعنى ذلك أن بيع الترخيص قد يؤدي إلى خلل بتوفر الظروف والشروط الممنوح بها الترخيص أصلا، وإلا لحصل عليه هذا المشتري من الجهة المرخصة دون مقابل، فهل هذا الخلل في العلاقة بين الجهة المانحة للترخيص وبين الممنوح له يعد أمرا محظورا ويترتب عليه حكم شرعي على هذه العلاقة، الشيء المؤكد أن ذلك لا يصح نظاما وقانونا، ولكنه من حيث الصحة أو البطلان الشرعيين، فإنه راجع إلى تدبيرات نظامية تستهدف تحقيق المصلحة العامة وهي أمور نسبية غير مقطوع بها فلا يترتب عليها أثر شرعي فيما يبدو لنا. العلاقة بين صاحبي الترخيص والمنقول إليه: أما من ناحية العلاقة بين بائع الترخيص ومشتريه فهذه هي التي يلزم البحث فيها شرعا للوقوف على الحكم الشرعي فيها، لأنها علاقة معاوضة مالية، فهل تصح هذه المعاملة شرعا بين بائع الترخيص التجاري ومشتريه؟ لقد ذكرنا فيما مضي أن بيع الترخيص لا يمثل معاملة تقع على عين مالية ولا على منفعة متعلقة بالعين، ولكنها نوع من حق الانتفاع، ولكن وجدنا العرف قد جرى باعتبارها وأصبحت ممارستها شائعة بين الناس، ومعنى ذلك أن العرف قد جعلها منفعة معتبرة بعد أن كانت حق انتفاع فقط، والعرف حكم في مالية الأشياء، وهي كما هو مشاهد قد أصبحت تمثل منفعة ومصلحة حقيقية عرفا وليست موهومة كما يبدو. حكم بيع الترخيص: وبما أن الترخيص حق خاص بصاحبه، وأن الحق ذا القيمة المالية عرفا يصلح لأخذ العوض عنه، لأنه منفعة مشروعة ولا يتعارض مع نص شرعي كما جاء في هذا البحث فإني أرى صحة بيع أو نقل ملكية الترخيص – باعتباره حقا خاصا بصاحبه – بعوض أيا كان ذلك العوض، أو بدونه. والله أعلم بالصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل الدكتور حسن عبد الله الأمين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2040 مناقشة البحوث الحقوق المعنية: بيع الاسم التجاري والترخيص الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الموضوع الذي لدينا هو موضوع الحقوق المعنوية ومنه بيع الاسم التجاري والترخيص، وبعث لكم فيه عدة أبحاث وسبق أن عرض في الدورة الرابعة، وأجل لبحث إطاره العام وهو موضوع الحقوق المعنوية، ثم يأتي بيان الحكم في قضاياه التفصيلية كبيع الاسم التجاري والترخيص. والعارض هو فضيلة الشيخ وهبة الزحيلي، والمقرر هو الشيخ حسن عبد الله الأمين. الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد الله، وأصلى وأسلم على سيدنا رسول الله، وبعد. في هذا الموضوع عشرة بحوث كاملة كاملة، والتزاما مع توجيهات مقام الرئاسة أوجز البحوث التسعة قبل بحثي إنجازا سريعا، ثم أوجز الكلام عن بحثي أيضًا تكملة للموضوع. فأول هذه البحوث، ولم أرتبها إلا ترتيبا بالصدفة: بحث أخينا الدكتور سعيد رمضان البوطي، الذي لم يتمكن من الحضور، أبان فيه أن الحقوق الأدبية مصطلح يشمل حق الإبداع أو الابتكار وحق التاجر في الاسم التجاري، ثم أوضح أن حق المؤلف المبتكر حق خاص به عملا بالعرف، لا يجوز للآخرين سلبه أو اغتصابه وسرقته، فيكون الاعتداء عليه سرقة لحق متقوم من صاحبه، وأوضح أيضًا في الموضوع الذي هو محل البحث أن للتاجر الحق الخاص في الاسم التجاري وأن له الحق في منافعه المالية وفي دائرة الممتلكات، كما أجاز أيضًا شراء الاسم التجاري بين شركة عربية وأجنبية، واعتبر ذلك شراء للخبرة ومنها الاسم التجاري، أما ما يتعلق بالتنازل عن الاسم التجاري، بين تاجر وآخر، فإنه منع ذلك بسبب وجود الغرر والتدليس، الغرر في المحل والغرر في الأوصاف. الغرر في المحل والغرر في الحصول، كما أن فيه تدليسا وغشا للناس، وأدى وجود التغرير أو الغرر والتدليس إلى قوله بأن هذا التنازل عن الاسم التجاري بين تاجر وآخر يعد باطلا، والحقيقة أريد أن أنبه هنا أن علماء القانون من بداية الأمر لا يتصورون تنازلا عن الاسم التجاري وحده بقطع النظر عن المحل التجاري، فعادة الأصل التجاري يشمل المحل ويشمل الاسم ويشمل الأدوات ويشمل المقومات وكل شيء في هذا المحل، حتى القانونيين لم يقولوا بالتنازل عن الاسم التجاري وحده، ومن هنا نريد أن نثبت في الحكم على الموضوع وألا نكون ملكيين أكثر من ملك. لذلك كان هذا البحث محل تقدير في ضمن هذه الحدود المتعامل بها عرفًا. هذا هو البحث الأول. والبحث الثاني: للشيخ مصطفى كمال التارزي، أبان فيه جواز التنازل عن الاسم التجاري والترخيص، لأنه تنازل عن الاختصاص أو الخلو والتنازل عن الاختصاص أجازه المالكية والحنفية في مجال الإجارات، وأفاد بقوله: ولكن الواقع أن هذه المسألة انقلبت إلى حاجة اجتماعية، مؤكدًا أنه لا مانع من جواز التنازل عن الاسم التجاري بعوض ما دام أصبح ذلك من الحوائج الاجتماعية المتعارف عليها والمعمول بها في الأسواق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2041 البحث الثالث: بحث الدكتور حسن الأمين، بعد أن عرف البيع والمبيع والمال والحقوق المجردة وبيع العلامة التجارية ذكر أن المالكية والحنفية يشترطون أن يكون المبيع ذاتًا معينة لا منفعة، وأن الشافعية أجازوا بيع المنفعة المؤبدة كحق الشرب، لكن الذي اعتمد عليه اعتمادًا شاملًا هو رأي الحنابلة الذين أجازوا بيع العين والمنفعة معًا، بعد هذا البيان الذي أوضحه الأخ الدكتور الأمين انتهى إلى أن الحق الأدبي أو المعنوي يشمل كل حقوق ما يسمى في القوانين التجارية الحالية حق الملكية الأدبية والفنية والصناعية والتجارية، ومنها العلامات الفارقة أو الماركات والاسم التجاري والترخيص، واعتبر أن هذا الحق ذو قيمة مالية عرفًا يصلح أخذ العوض عنه، وبناء على هذا فهو أيضًا مؤيد للبحثين السابقين بجواز بيع الاسم التجاري منفردًا، وبيعه مع المحل التجاري، ولكني نبهت منذ البداية إلى أن المعمول به هو أن الاسم التجاري لا يباع وحده منعزلًا عن المحل. البحث الرابع: بحث الدكتور محمود شمام، أوضح أن الاسم التجاري هو خلو الوصية، أي حق الاستقرار بدكان ونحوه، وخلو الوصية هو ملك الخلو بوضع الآلة من الموازين والطواحين مما تم به عمارة الربع، وهذا الحق – طبعًا الدكتور تونسي متأثر بمذهبه – أوضح أنه يجوز التنازل عنه، وأيد ذلك بما قررته المدونة التونسية، لأن الأصل التجاري الشامل للسمعة التجارية والخصائص التي يتمتع بها أصبح لها قيمة رائجة ورابحة بفضل ما لها من قدرة على جلب الحرفاء، يظهر المقصود به العملاء، والإبقاء عليهم ودفعهم إلى الشراء ومستندهم في ذلك – يعني في جواز التنازل عن هذا الاسم – هو عرف الناس الجاري به العمل ورأي المالكية في جواز التنازل عن الاسم التجاري واضح بطريق الإجارة. البحث الخامس: بحث الشيخ محمد تقي العثماني، بحث فيه شيء من الإيضاح النسبي، قسم الحقوق إلى حقوق شرعية وعرفية وأبان أن كل نوع من هذه الحقوق قسمان: حقوق شرعت لدفع الضرر عن أصحابها، وحقوق شرعت أصالة، وأوضح بكل دقة آراء المذاهب الأربعة في جواز التنازل عن أغلب الحقوق، وانتهى إلى بيت القصيد إلى أنه يجوز الاعتياض عن الاسم التجاري والعلامة التجارية في المذهب الحنفي من طريق التنازل دون البيع، لأنه ليس حقًّا ثابتًا أو منفعة مستقرة في عين قائمة، ثم رجح الشيخ أيضًا بالرغم من حنفيته أنه يجوز الاعتياض عن الاسم التجاري على وجه البيع أيضًا، فهو قرر المذهب أولًا، ثم رجح أنه مع ذلك يجوز المعاوضة عن الاسم التجاري بطريق البيع، لأن الحصول على الرخصة في زمننا يتطلب جهدًا كبيرًا ورسومًا باهظة وبذل أموال جمة، فصار الاسم التجاري ذا قيمة بالغة في عرف التجار. البحث السادس: بحث مشترك بين الدكتور عبد الحميد الجندي والشيخ عبد العزيز عيسى، أبانا فيه صراحة جواز التنازل عن الحقوق المعنوية كلها، وقالا: والفقه الإسلامي في مجموعه يقوم المنافع بمال ولم تعد ماليتها محل جدل، ومن الحقوق العينية الحقوق الفكرية على الرأي الراجح كحق التأليف والصناعة، فإنها ذات مميزات خاصة ولها قيمة في العرف. البحث السابع: بحث الشيخ علي التسخيري، أبان فيه أنه يجوز التنازل عن الحقوق، وأجاز التعويض عن الحقوق المعنوية ولكن بطريق الصلح، بناء على كون الصلح ممكنًا في كل حال ولا يختص بحالات الخلاف على حد تعبيره، وهو ما قال به، ورفض أن يطبق على هذا التنازل وسيلة عقد البيع لأنه عملية تمليك للعوضين، أي البيع، وهو لا يتأتى بالنسبة للحقوق، لأنها غير الملك والسلطنة، ولا شك وإن قلنا أن التنازل يتم عن طريق الصلح فمن المعروف أن الصلح من عقود المعاوضات فهو لا يختلف في النتيجة عن عقد البيع، سواء قلنا بالتنازل عن طريق البيع أو عن طريق الصلح، الصلح هو عقد معاوضة وخصوصًا إذا كان صلحًا عن إقرار فيطبق على جانبيه أحكام عقود المعاوضات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2042 البحث الثامن: وهو بحث الدكتور عبد السلام العبادي، أوضح فيه أن الشريعة الإسلامية تعترف بالحقوق المعنوية، لأن الشريعة لا تشترط أن يكون محل الملك شيئًا ماديًّا معنويًّا بذاته، أو معنويًّا بذاته في الوجود الخارجي، إنما يشمل كل ما يدخل في معنى المال من أعيان ومنافع على الراجح من أقوال الفقهاء، ولأن محور هذه الحقوق – كما قال – أمران، الأول: الحق في الاحتفاظ بنسبة محل هذا الحق لصاحبه، والأمر الثاني: الحق في الاختصاص بالمنفعة المالية الذي يعود على صاحبه من استغلاله أو نشره ضمن ما هو مقرر شرعًا وقانونًا. وكلا الأمرين يدلان على مالية الحقوق المعنوية أو الأدبية. البحث التاسع، وهو أشمل هذه البحوث وأوسعها: بحث الدكتور عجيل جاسم النشمي، من تسعين صفحة - عدا المراجع - وفصول تسعة، استعرض فيه آراء القانونيين في المحل التجاري وعناصره، والحق في القانون وأقسامه وفي الفقه الإسلامي، وأبان معنى المال والمالية والتقوم، ومعنى المنفعة والفرق بينها وبين الانتفاع، وانتهى إلى أن المنفعة مال وأوضح مبدأ بيع المنافع، وانتهى إلى الموضوع الذي نحن بصدده إلى أن الاسم التجاري حق ومنفعة ومال يجري فيه الملك وتجري عليه جميع التصرفات الجارية في الأعيان، وقرر أن جمهور الفقهاء على جواز بيع الاسم التجاري وإجراء التصرفات عليه، بمثل ما تجري في الأعيان سواء بسواء، بشرط أن يكون الاسم التجاري يعبر عن واقع حقيقي لا صوري، خاليًا من الكذب والتزييف، وذلك لأن الاسم التجاري حق ومصلحة ومال، أما كونه حقًّا فيمنع الاعتداء عليه، والاعتداء عليه اعتداء على حق مالي مقرر، أما كونه مالًا فلما فيه من منفعة كبرى هي أهم منافع المتجر، بل إن المتجر دون هذا الاسم والشهرة والسمعة التي تجلب الجمهور لا معنى له ولا قيمة تجارية حقيقية فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2043 هذه هي البحوث التسعة، وهي كما لاحظتم بالإضافة إلى ما أقرره في بحثي كلها مجمعة وربما كان هذا من حسن حظي، أن كل البحوث في الموضوع الذي أوجز الكلام فيه مجمعة على جواز بيع الاسم التجاري والترخيص، وهذا ما لم يحظ به موضوع آخر لشدة الخلاف بين أطراف المعارضة والمؤيدين، ونسأل الله أن يوفق الجميع لما يحقق الخير لسمعة هذا المجمع ورسالته وألا نكون متشددين بكامل التشدد ولا متسامحين كامل التسامح، وإلا لو كنا متشددين في الحقيقة لما كان هناك داع لوجودنا، فمجمعنا الهدف منه إيجاد الحلول للمشكلات المعاصرة، والتفتح على معطيات الحياة الحاضرة والتجاوب مع مقتضيات الضرورة والحاجة الملحة، وإلا لو كنا ننقل الآراء دون أن نحاول الترجيح بينها وبما يحقق المصلحة - صحيح أن ناحية الورع والاحتياط تقضي بالإفتاء بالرأي الراجح أو رأي الجمهور - لكن أيضًا لنا رسالة ومهمة، وهو أن نعالج مشكلات طارئة وإلا إذا رددنا ما في الكتب فأظن أن مهمتنا تنتهي. بحثي أيضًا في الحقيقة لا يعارض البحوث السابقة، وقد أبنت فيه أن فقهاء الحنفية سواء المتقدمين منهم أو المتأخرين يجيزون التنازل عن الاسم التجاري والترخيص وهو داخل تحت الحقوق التي تثبت لأصحابها أصالة لا على وجه رفع الضرر، كحق ولي المقتول بالقصاص وحق الزوج في أخذ العوض من زوجته عن طريق الخلع، فهذا أيضًا حق الملكية الأدبية والفنية والصناعية والتجارية، ومنه بيع الاسم التجاري، يعتبر من هذه الفئة من الحقوق، وبالتالي لأن هذا الحق لم يثبت لصاحبه دفعًا للضرر عنه فقط كما يتبادر لأول وهلة وإنما ثبت له ابتداء، فلم توجد الشهرة التجارية ورواج السلعة إلا بجهد صاحب الاسم التجاري وتعبه وعنائه وإتقانه العمل، فصار حقه أصيلًا ملازما له، يجوز له الاعتياض عنه بالمال وبخاصة أن الاعتياض عن حقه بالمال أصبح عرفًا عامًّا مقررًا في الأوساط الإسلامية والعربية المختلفة وممنوحًا، وهذا الحق ممنوح أيضًا من قبل الدولة ممثلة بجميع قوانينها التجارية المعاصرة، المعمول بها في مختلف الدول العربية والإسلامية. ثم أيضًا يعد الاسم التجاري عنصرًا أساسيًّا من عناصر المحل التجاري، كما أن الترخيص أصبح ذا قيمة مالية في عرف الناس، إذ لا يمكن الحصول عليه إلا بجهود متواصلة، وتوضع العقبات الكثيرة في متابعة إما وزارة الصناعة أو وزارة التجارة أو الغرفة التجارية في بعض البلدان، وتأشيرات الأمن وغيرها، يعني دون ذلك خرط القتاد، وقد تشدد الأمور على الوافدين أحيانًا أشد من الموطنين في دول البترول مثلًا. فكل هذا يجعل الحصول على الترخيص وفتح المحل التجاري وإيداع الكفالات صعبًا، فلا بد من كفيل مواطن للوافد، وكل هذا يجعل الحصول على هذه الرخصة عسيرًا ويبذل فيه صاحبه أموالًا، ويعطل وقتًا ويتابع الشهرين والثلاثة، وأحيانًا قد يمتد الأمر إلى ستة أشهر إذا كان المراد بفتح المحل يؤدي إلى نشاط وترويج صناعة معينة، فالدولة لا تتسرع عادة في مثل هذه المشاريع الضخمة، وإنما تعرضها على مؤسساتها القانونية ومجالسها البرلمانية وغير ذلك، فيأخذ الأمر وقتًا طويلًا، لهذا إذا حصل على الترخيص في النهاية أصبح ملكًا له وكل ما يجري الملك فيه تجري المعاوضة فيه، فيما عدا الحقوق المقررة عند الحنفية في النوع الأول مما يعد حقوقًا مجردة كحق الشفعة وحق الحضانة والولاية والوكالة وحق المدعي في تحليف خصمه، وحق المرأة في قسم زوجها لها كما يقسم لضرتها، كل هذه الأمور لا تجوز المعاوضة عنها لأنها شرعت لرفع الضرر، وما شرعه الإسلام لرفع الضرر أيضًا كحق الخيار، لا أن يكون سبيلًا إلى أخذ المعاوضة عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2044 فنظرة الشريعة في هذا كما صورها الحنفية نظرة رحمة ونظرة إنقاذ ونظرة تسامح، لهذا كله فإن مثل هذه الحقوق لا تجوز المعاوضة عنها: لكن يجوز فيما نحن بصدده حتى على رأي متقدمي الحنفية، أما متأخرو الحنفية الذين لم يجعلوا من مقومات المالية إمكان الحيازة والإحراز أو العينية المادية وإنما أطلقوا المال على كل ما له قيمة مالية يدخل تحت تقويم المقومين من الناس، في الحقيقة بناء على هذا الاتجاه لمتأخري الحنفية أصبح كل ما له قيمة بين الناس يعد مالًا شرعًا، لأن القيمة المالية تتضمن وتستلزم المنفعة ولم يتعارف الناس على تقويم ما ليس له منفعة ولا يجري فيه التعامل، ثم أيضًا يؤكد هذا، أن متأخري الحنفية أفتوا بضمان المنافع في ثلاثة أمور، - منافع المغصوب في ثلاثة أمور - منها: المال المعد للاستغلال، والمال الموقوف، ومال اليتيم. ويلتقي جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة من رأي متأخري الحنفية، فهم يعرفون المال بأنه: كل ما له قيمة مالية عرفًا يلزم متلفه بضمانه، وهذا يشمل الأعيان والمنافع وسائر الأمور المعنوية، كالحقوق من كل ما يدخل تحت الملك، لأن الحقوق تقوم على أساس الملك، وإذا كانت الحقوق من قبيل الملك، فالحقوق أموال. وحق الملكية لدى الجميع يمنح صاحبه سلطات ثلاثًا: حق الاستعمال، وحق الاستغلال أي الاستثمار - ومنه التنازل عنه والمعاوضة عنه - وحق التصرف فيه. كل هذه سلطات الحق الثلاث المعروفة ويعد تملك هذه الأشياء من الملكيات التامة، ويؤيد كل هذا أيضًا ما أبانه أصحاب البحوث الأخرى من أن حق الملكية الأدبية والحقوق المعنوية أصبحت في عرف الناس وتعاملهم ذات قيمة مالية، ثم بينت مستند هذا العرف من الناحية الأصولية، ومستنده هو الاستصلاح أو المصلحة المرسلة المتعلقة بالحقوق الخاصة والعامة، علمًا بأن هذه المصلحة لا تتعارض مع نص شرعي وإنما تتعارض عند متقدمي الحنفية مع القياس، والقياس يدرك بالعرف العام في رأي أغلب الفقهاء، أو باتفاقهم، ثم إن العلاقة التجارية بين مالك هذا المحل وبين الاسم التجاري والترخيص أبنت فيها - ما لم أجد ذلك في الأبحاث الأخرى - أبنت أن هذا الحق يعد حقًّا عينيًّا، لا حقًّا شخصيًّا، والحق العيني كما يعرفه القانونيون هو سلطة مباشرة بين مالك شيء وشيء معين بذاته، وأما الحق الشخصي فهو علاقة قائمة بين شخصين أحدهما مكلف بعمل والآخر بالامتناع عن عمل، يعني العلاقة كالعلاقة القائمة بين الدائن والمدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2045 والخلاصة أن بيع الاسم التجاري والترخيص في الأعراف السائدة اليوم أمر جائز فقهًا، لأنه أصبح مالًا، وذا قيمة مالية، ودلالة تجارية معينة، يحقق رواج الشيء الذي يحمل الاسم التجاري، والذي منح صاحبه ترخيصًا بممارسة العمل، وهو مملوك لصاحبه، والملك يفيد الاختصاص أو الاستبداد أو التمكن من الانتفاع بالشيء المملوك والعلاقة بين الشخص واسمه التجاري علاقة حق عيني، إذ هي علاقة اختصاصية ومباشرة، ومستند كون الاسم التجاري متمولًا هو العرف المستند إلى مصلحة معتبرة شرعية تتضمن جلب المنفعة ودفع المضرة، ولا يصادم ذلك نصًّا شرعيًّا. وهذا ينطبق على كل " إنتاج فكري " أدبي كحق المؤلف في تأليفه، أو فني كالرسامين وغير ذلك والمبدعين في حقل الرسوم، أو صناعي كالمسجلات في اختراعات وبراءات الاختراعات الصناعية، لما لكل ذلك من قيمة مالية بين الناس عرفًا، وخصائص الملك شرعًا تثبت فيه وهي الاختصاص الذي هو جوهر حق الملكية، والمنع أي منع الغير من الاعتداء عليه إلا بإذن صاحبه، وجريان التعامل فيه، والمعاوضة عنه عرفًا. تبين كما سمعتم أن البحوث العشرة من بعض الفوارق الجزئية تقر من حيث المبدأ وتجمع على جواز التنازل عن الاسم التجاري والترخيص، ويمكن أن يعدى هذا إلى كل ما هو معروف في عالمنا الحاضر من الحقوق المعنوية والأدبية والفنية والصناعية. والسلام عليكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2046 الرئيس: وعليكم السلام. الشيخ وهبة، ألا يضاف في مسألة بيع الاسم التجاري والترخيص: (المحترم شرعًا) ؟ الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي: طبعًا، هذا مفروغ منه لأن المال لا يسمى مالًا إلا إذا كان متقومًا شرعًا والمتقوم هو المحترم. الرئيس: هكذا حتى يكون فيه التحوط الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي. ما فيه مانع الرئيس: لأنه قد يكون الاسم التجاري يعني الترخيص لأشياء محرمة إلى آخره. الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي: نعم … .. نعم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2047 الشيخ محمد علي التسخيري: بسم الله الرحمن الرحيم. لا أريد أن أكرر ما تفضل به أخي الباحث العلامة الشيخ وهبة، وإنما أشير فقط لما يمكن أن يفيدنا في مسير البحث، هناك بحوث مفيدة جدًّا للفقهاء حول الفرق بين الحق والحكم، وبين الحق والملكية والسلطنة، وأن الحق مما قد يقبل الإسقاط، وأقول قد يقبل الإسقاط والنقل والانتقال بعكس الحكم فلا يقبل ذلك، اللهم إلا أن يخرج الإنسان عن موضوع الحكم، وبحث حول الحق والملكية والسلطنة بهذا البحث مهم جدًّا ومؤثر في النتيجة. الذي انتهيت إليه في بحث هو أن الحق سلطنة تنشأ يعني تولد محدودة، وأن الملكية سلطنة تولد مطلقة وتقيدها الحدود الشرعية، ومن هنا فأعتبر الخلاف الجاري بين العلماء حول ما تنتجه عملية الإحياء " إحياء الموات " - وهل هو الملكية الخاصة أو الحق الخاص؟ - بحثًا مهما وفي محله، فهناك فروق بين هذا المعنى، وهذه إشارات ربما تنفع في مسير البحث. أيضًا هناك الكثير من المصاديق المشتبهة أنها من الحق أو من الحكم، مسألة حق الرجوع في العدة، الكثيرون قالوا: إنها حق، والكثيرون قالوا: إنها حكم تكليفي وجواز الرجوع فقط، والخيارات أيضًا اختلفوا في كونها أحكامًا أو حقوقًا، حتى حق السبق للوقف اختلفوا فيه، هل هو في الواقع حق أم أنه حرمة لمزاحمة السابق لهذا الحق؟ ثم هناك بحوث مهمة حول قبول الحقوق للإسقاط والنقل والانتقال، أقولها بشكل مفهرس، هذا المعنى، منشأ هذا القبول وعدم القبول كون العلة الموجبة للحق علة تامة، وحينئذ لا يقبل الانفكاك كحق ولاية ولي الأمر مثلًا، أو حق الأبوة، إذا قلنا إنه يدخل في هذا المعنى لا يمكن التنازل عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2048 حق الحرية للإنسان لا يمكن التنازل عنه ويجعل نفسه عبدًا مثلًا، أو إن موجب الحق هو مقتضاه وحينئذ يمكن الانفكاك، طبعًا هذا المعنى يستفاد من الدليل الذي طرح هذا الحق وشرع هذا الحق، نوع الاستفادة يختلف من دليل إلى آخر وعند الشك في القابلية، الأصل هو عدم ترتب الآثار الشرعية، عندما نشك في قابلية هذا المعنى أو قابلية الحق للسقوط وعدمه، أو للنقل والانتقال وعدمه، الأصل هو عدم ترتب الآثار الشرعية للنقل، لأن الحكم يجب أن نتأكد من موضوعه أولًا حتى يترتب الحكم عليه، أما الحقوق العرفية الممضاة، أعتقد أن علينا أن نلاحظ مدى انطباق الأدلة العامة على هذه الحقوق، أدلة {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} { ... تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} البيع، وما إلى ذلك. مدى انطباق هذه الأدلة على هذه الموضوعات، هنا ينفتح باب للبحث عن قبول الحقوق العوضية، باب واسع باعتبار أنهم عرفوا البيع بأنه عملية تمليك العوضين، كيف يمكن أن يكون الحق عوضًا؟ لا أريد أن أدخل في هذا البحث، رجحت في نهاية بحثي الصلح، خروجًا عن خلاف من خالف وإن كنت أوافق حتى على بيع الحقوق التي تقبل في نفسها هذا البيع، الحقوق المعنوية أمور مقبولة عرفًا أو لا؟ هذا بحث، عندما أقول عرفًا أنا أريد أن أؤكد وشيخنا التميمي كان يقول: العرف عندك سيد الأدلة – أنا لا اعتبر العرف دليلًا مطلقًا – العرف ليس دليلًا أبدًا، العرف يحقق مصداقًا وسوف ندخل في بحث العرف إن شاء الله، يحقق موضوع الدليل، موضوع النص، هو الذي يحقق لي المراد من عملية الإتلاف، إذا فرضنا أن هناك نصًّا يركز على الإتلاف كموضوع للضمان، هو الذي يقول تحقق الإتلاف أم لا، هو يحقق لي الموضوع فقط وليس دليلًا بنفسه قائمًا كما سوف نتحدث عنه إن شاء الله. فأقول الحقوق المعنوية: هل هي حقوق يقبلها العرف ثم يمضيها الشرع أم هي أصلًا ليست حقوقًا في نظر العرف؟ هناك رأيان، الرأيان متصارعان وبشكل عملي الآن قائم في هذا المعنى، هناك رأي يرى أن الحقوق المعنوية – في الواقع – أمور يرفضها العرف وخلاف الطبيعة العربية، العرف يقوم على التقليد، الحضارة الإنسانية إنما سارت لتقليد الآخرين لأعمال ابتكرها الآخرون. العرف يقوم على التقليد وعلى عدم القول بحقوق من ابتكر شيئًا أو ألف شيئًا وما إلى ذلك، وطبيعة مسيرتنا إذن قائمة، كان الرجل يؤلف كتابًا والآخرون يستنسخون هذا الكتاب دونما استجازة منه بشكل طبيعي. الرأي الثاني يؤكد أن العرف رغم أنه لم يكن سابقًا قد وافق على مثل هذه الحقائق لكنه اليوم قبل ذلك، وما دام أنه قد قبل فاعتبر هذه الأمور من لواحق الملكية ووسع في السلطنة والملكية إلى لواحقها وتوابعها أن حينئذ يمكننا أن نطبق العموميات الأخرى على هذه الحقوق، والحقيقة رغم أن الدكتور الأستاذ وهبة جعلني من الموافقين على بيع الحقوق المعنوية، أنا وافقت على الصلح على الحقوق عمومًا، الحقوق التي تثبت أنها حقوق والتي تقبل في نفسها ذلك، أما بيع الحقوق المعنوية أو الصلح عليها فقد توقفت في ذلك؛ لوجود هذين الرأيين وأوكلت الأمر احتياطًا إلى الحاكم الشرعي الذي يرى المصلحة، إذا رأى المصلحة ملزمة في هذه الأمور لتنظيم الأمور ولعدم الاعتداء أو لما تقتضيه – طبعًا – طبيعة الإدارة العامة والسير المتوازن للمجتمع، فإذا قرر ذلك فهو في محله، وإلا فقد توقفت حتى في مسألة الضرر، الضرر الذي يدعى هنا ضرر في مقابله، يعني إذا ادعي ضرر المؤلف في تأليفه يدعى ضرر اجتماعي أكبر في احتكار المؤلف لكتابه وفي احتكار المبتكر لما ابتكره، وما إلى ذلك، فحتى قاعدة الضرر لا يمكنها أن تبرر لنا القول بهذا وحينئذ فقد أوكلت هذا المعنى إلى الحاكم الشرعي طبقًا لما يراه من مصلحة بعد الشورى. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2049 الرئيس: قبل أن أعطي الكلمة للشيخ مصطفى، في الواقع هناك مسألة بسيطة وإن كان يراد بحث بيع الحقوق المعنوية من حيث الأصل، هل يجوز بيع الحقوق المعنوية كالاسم التجاري والترخيص، أو لا يجوز؟ فهذا شيء، أما إذا أردنا الدخول في التفاصيل والقضايا التي تنطلق من الحقوق المعنوية كحق التأليف، كالترخيص، كالاسم التجاري وغيرها من الحقوق المعنوية، فلا شك أن في بعض هذه المفردات أحكامًا تنفرد بها عن بعضها، فحقوق التأليف لها أحكام في داخلها تنفرد عن المبدأ العام للحقوق المعنوية، هذا الذي يظهر لي وأحب أن أطرح الشيء هذا لإثارته ومعرفة توجهات المشايخ حول هذا الشيء، وأنه فرق بين ما المبدأ، الأصل أو العام؟ وفرق بين القضايا الأعيان التي تدخل في هذا كحق التأليف وبيع الاسم التجاري والترخيص وما جرى مجرى ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2050 الشيخ مصطفى كمال التارزي: بسم الله الرحمن الرحيم. سيدي الرئيس، أشكر فضيلة الشيخ وهبة الزحيلي على الجهد الذي تكبده في تلخيص كل البحوث المعروضة في بيع الاسم التجاري أو الأصل التجاري، كما أشكره على الإشارة إلى أن الاسم التجاري قليلًا ما يباع بمفرده؛ لأنه ضمن الأصل التجاري أو المحل التجاري، وعلماء القانون بينوا أن المحل التجاري أو الأصل التجاري وهو مرتبط بفروع سبعة من جملتها الاسم التجاري. أريد أن أتعرض إلى شيء هو أن الشيخ وهبة الزحيلي بين، أني بينت المذهب الحنفي والمذهب المالكي في من أباح من هؤلاء العلماء قضية بيع الأصل التجاري مع أني ذكرت أيضًا عددًا كبيرًا من العلماء ممن منعوا، وعنونت هذا الموضوع بعنوان خاص " المانعون العمل بالأعراف الخاصة والذين لا يجيزون هذا البيع "، وذكرت أسماءهم وحججهم في هذا الموضوع وهو مبين بين أيديكم. ثم في النهاية نسب إلى أني أنا ممن أقر مبدأ بيع الأصل التجاري أو مبدأ الاسم التجاري، في الواقع العبارات التي كتبتها هي في اعتقادي أنه لا يمكن أن ينظر إلى موضوع الأصل التجاري بمنظار ضيق على أنه لا يزيد على أن يكون عقد كراء عقاري تجري عليه أحكام الإجارة العامة ككل عقار من العقارات بدون أن ينظر إلى ما يحيط بهذا العقد من اعتبارات خاصة لا يصح أن يتغافل عنها أهل الإدراك؛ وذكر لأن المستأجر قد ينفق على بعض المحلات أكثر من قيمة المحل في تهيئة كماليات قد لا نعطيها القيمة التي تستحقها، ولكنها على كل حال باهظة الثمن وهي التأثيث والزينة والتزويق والأضواء ووسائل الدعاية ووسائل الراحة، كل ذلك لجذب الحرفاء وكسب السمعة التجارية ومنافسة بقية التجار ولو أنه عادة لا يكون للمحل مردود كامل إلا بعد مضي ست أو سبع سنوات، فأنا عندي اقتراح: هو أن لا أجيز البيع ولكني ما زلت أطالب بأن يبقى عقد الكراء على أصله وألا يباع الأصل التجاري لكن يمدد في مدة الكراء؛ لأنه في القانون التونسي الآن، القانون التجاري يبيح للمؤجر أن يكون مالكًا للأصل التجاري بعد مضي سنتين، في الواقع هذا إجحاف بحق المستأجر الذي دفع الكراء، والذي دفع بعد ذلك نفقات باهظة جدًّا لجعل هذا المحل صالحًا للبيع والشراء، ثم للتحصيل على الرخص وقد تطول هذه الرخص، يكتري الإنسان المحل للتجارة ويبقى مغلقًا إلى أن تصل إليه الرخص بفتح المحل، وبعض الأشياء التي لا بد من إحضاراها، فإذا ذهبنا إلى ما يذهب إليه بمعنى أن نقول القاعدة في الإجارة إنه بانتهاء المدة لا بد أن يرجع المحل، هذا فيه خسارة، لكن لو مددنا في هذه المدة وقلنا: إن الكراء عوضٌ عن أن يكون لمدة سنتين يكون لمدة ست سنوات أو ثماني سنوات، في هذه المدة يستطيع الذي استأجر المحل أن يسترجع الكراء وأن يسترجع النفقات وأن يكون أرباحًا، وهذه هي فكرتي في الموضوع ولم أكن ممن يدعو إلى أن قضية بيع الأصل التجاري هي جائزة؛ لأن قضية الكراء يمكن أن تحل محل هذا الموضوع. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2051 الرئيس: الشيء المهم الذي ذكره الشيخ مصطفى أنه يعني بيان وجهة نظر المانعين. الدكتور إبراهيم كافي دونمز: بسم الله الرحمن الرحيم. السيد الرئيس المحترم والعلماء الأفاضل، ليس لي بحث مقدم في هذا الموضوع، ولذا سيكون تدخلي عبارة عن استرعاء الانتباه إلى بعض النقاط الواردة في بحث الأستاذ الفاضل محمد سعيد رمضان البوطي، مع أن الأستاذ الفاضل الدكتور وهبة الزحيلي قام بتلخيص البحوث المقدمة بشكل رائع، وأشكره على ذلك، فإن هناك نقاطًا لفتت نظري يجب الانتباه إليها في بحث الدكتور سعيد رمضان البوطي المحترم. * النقطة الأولى: تتعلق بمسألة اصطلاحية، يقول الدكتور البوطي: كلمة الحقوق المعنوية يراد بها في المصطلح الفقهي ما يقابل الحقوق المالية سواء منها ما يتعلق بالأعيان المتقومة أو المنافع العارضة كحق … إلخ، ثم يقول: فكل حق لم يتعلق بمال عيني ولا بشيء من المنافع العارضة فهو حق معنوي، مثل حق القصاص وحق رفع الدعاوى وحق الطلاق والولاية … إلخ. وفي الأخير يقول: ونظرًا إلى هذا كله فإنه يؤسفنا أن نقرر بأن الحقوق المعنوية لا علاقة لها بكل من حق الابتكار والاسم التجاري وستزداد هذه الحقيقة وضوحًا خلال دراستنا لكل من هذين الحقين وما يتعلق بكل منهما … .. إلخ. طبعًا: الأستاذ البوطي ينبه إلى ضرورة التفريق بين مصطلحي الحقوق المعنوية والحقوق المالية، وأردت أن أسترعي الانتباه إلى هذه النقطة، ولا شك أن مجمعكم الموقر هو الذي يقدر ويقرر درجة أهمية هذه المسألة، يعني مسألة الاصطلاح مع أن الدكتور وهبة الزحيلي نبهنا إلى ضرورة التمييز بين الحقوق الشخصية والحقوق العينية. * النقطة الثانية: بيع وشراء الاسم التجاري، الدكتور البوطي يقول: هناك طريقتان يعرفهما التجار لعملية شراء الاسم التجاري. الطريقة الأولى: تتم في الغالب بين شركة عربية. وأخرى أجنبية، تشتري الأولى من الثانية الاسم التجاري لبضاعة ما، ويتضمن عقد الشراء هذا تكفل الطرف البائع بتقديم خبراء ومهندسين في تصنيع البضاعة المعروفة بذلك الاسم والكشف عن مصدر المزايا التي فيها … إلخ. وفي آخر هذا البحث يجوز الدكتور البوطي هذا الشكل أو هذه الطريقة من بيع الاسم التجاري، ولكن الطريقة الثانية: ما يجري عادة بين بعض التجار والشركات التجارية من شراء الاسم التجاري للسلعة دون أي التزام من البائع بتقديم خبرات أو الكشف عن أسرار الصنعة … الخ. وفي النتيجة يتوصل الدكتور البوطي إلى نتيجة أن هذا الشكل لا يجوز، وهذا الشكل عبارة عن الغرر والتدليس، ويقول: إذن فإنه يؤسفنا أن ننتهي إلى القرار بأن شراء الاسم التجاري المتمثل فيما يسمى اليوم الماركة المسجلة بهذه الطريقة الثانية التي أوضحناها، عقد باطل لا يوجد أي وجه لصحته بسبب أنه وفرة في الغرر بأنواعه. * وبالنقطة الثالثة: التي تتعلق بالأساس والاسم التجاري بمعنى اللقب المعلق على المحل التجاري، وفي هذه المسألة أيضًا يتوصل الدكتور البوطي إلى نتيجة أن هذا الشكل أيضًا عبارة عن الغرر ولا يجوز أبدًا بشكل من الأشكال. وأحببت أن أسترعي انتباهكم إلى هذه النقاط ولا شك أن مجمعكم الموقر هو الذي يقرر. وشكرًا … والسلام عليكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2052 الدكتور محمد عبد الغفار الشريف: بسم الله الرحمن الرحيم. أحب أن أشير إلى ملاحظة واحدة، وهي أن نفرق بين بيع الاسم التجاري والرخصة التجارية، يعني بالنسبة للرخصة التجارية قد لا تكون حقًّا معنويًّا مائة في المائة، بل هي أشبه ما يكون بما قاله علماء الحنفية أو أكثرهم من جواز بيع حق الوظيفة؛ لأنه إذا – مثلًا الحاكم أو السلطان – أجاز لأحد أو أعطاه حقًّا في وظيفة معينة يمكن أن يبيع هذه الوظيفة عند الحنفية، وكذلك هنا فيه تشابه لأن هذا الحق له قيمة معروفة في السوق أيضًا، فرخصة البقالة قيمتها كذا، ورخصة المصنع كذا، بينما الاسم التجاري قد يدخل في تقويمه غرر، يعني قد يكون كبيرًا أو صغيرًا، يعني حسب ما ترونه فيم جمعكم الموقر. وجزاكم الله خيرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2053 الدكتور علي أحمد السالوس: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. الواقع لم أقرأ كل الأبحاث، وإن كان تفضل الأستاذ الدكتور وعرض علينا هذه الأبحاث بشكل عام ولكن لي ملاحظات قليلة. مسألة أن الاسم التجاري لا ينفصل عن المحل التجاري، أعتقد كما ظهر من بحث الأستاذ الدكتور البوطي والذي أشار إليه الأستاذ إبراهيم أنه يمكن أن ينفصل الاسم التجاري عن المحل التجاري، مثل الماركة، فهل يمكن أن ينفصل عن المحل وهل الماركة تباع أم لا؟ ثم السجل التجاري المتصل بالمحل يباع أم لا؟ فلنفرق بين هذا وذاك ويمكن أن ينضم الاثنان، الماركة إذا بيعت كحق وقلنا: إنها متقومة بمال، إذا بيعت كحق هذا قد يكون صحيحًا وقد يكون باطلًا. قد يكون صحيحًا لو أن من اشترى فعلًا سينتج مثل الإنتاج الذي يحمل هذه الماركة، إنما إذا كان لا ينتج مثل هذا الإنتاج، فهذا غش وتدليس، فكيف يجوز أن يباع؟ كذلك بالنسبة لترخيص المحل، إذا كان المحل أخذ اسمًا تجاريًّا وسمعة معينة؛ لأنه يقدم أشياء معينة، بدقة معينة، وتعود الناس على هذا، ثم صاحبه الذي جعل هذه الخبرة باعه لغيره، وغيره لم يقم بما كان يقوم به الأول، أيضًا هذه يؤدي إلى الغش والتدليس والغرر، لذلك لا نقول بأن البيع على إطلاقه، وإنما لا بد أن نفرق بين بيع اسم تجاري أو سجل تجاري بكل خبرته وبكل ما ينتجه وبأسرار الصناعة إذا كانت أسرار صناعة، كما يحدث مثلًا بالنسبة للسيارات أو الأودية أو غير هذا، وبين أن يستغل هذا الاسم لخداع الآخرين بأنه سيقدم مثل ما قدم الصاحب الأول. أمر آخر، ما ذكره فضيلة الأستاذ وهبة، من فتح المحل قد يحتاج إلى كفيل، وهذه نقطة الحقيقة أرجو أن نتنبه لها؛ لأن هذا أمر قائم، إن المحل التجاري قد يحتاج إلى كفيل، والكفيل هذا الذي يأتي باسمه المحل، ليس له خبرة سابقة ولا اسم مشهور سابق ولا أي شيء، والكفيل نفسه لم يفعل شيئًا سوى أنه أخذ اسمه حتى يسمح لغيره بأن يفتح هذا المحل، أفيجوز لهذا الذي أخذ اسمه في الكفالة أيجوز له أن يبيع هذا أو أن يؤجره؟ إن هذا أمر واقع، والمسلمون ينتظرون فتوى المجمع؛ لأن هذا كثيرًا ما نسأل عنه، السجل التجاري باسم فلان وهذا الكفيل يأخذ كذا، أيجوز هذا أم لا يجوز؟ عندنا فتوى سابقة من المجمع، فقد أردت أن أشير إلى هذا وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2054 الدكتور إبراهيم بشير الغويل: بسم الله الرحمن الرحيم. الحقيقة بقراءة البحوث: إن هناك أربعة آراء وليس مجرد رأيين، والنقطة الأساسية في البحوث أنها جميعًا لا يقول أحد منها بالنظر في العرف الخاص. فالرأي الأول: يرى أن هذا من أساليب الاحتكار وأنه لا مسوغ له، وبالعكس إن العرف درج على التقليد كما أشار الشيخ علي التسخيري. الرأي الآخر: يرى أن هذا العرف من الممكن أن يترك لأولي الأمر أن ينظروا فيه بإقراره أو بمنعه. الرأي الثاني: يرى أنه يمكن بيع الاسم التجاري أو المحل التجاري أيضًا ولكن بشروط معينة، وهو أن يتضمن مضمونا من جودة وإتقان ومواصفات للسلع المشمولة في وعائه، كما قال الدكتور عجيل النشمي، وكذلك الأستاذ سعيد البوطي أيضًا، تضمن عقد الشراء، وتكفل الطرف البائع بتقديم الخبراء والمهندسين وتصنيع البضاعة المعروفة بذلك الاسم، أما إن لم يكن ذلك فهذا نوع من التدليس ونوع من التغرير بالناس. الرأي الرابع: الذي بدا كأنه هو الذي خلاصة هذه البحوث كما قدمه الدكتور وهبة الزحيلي أنه جائز، هكذا على إطلاقه. إذن هذه القضية أعود لكي ننظر فيها باعتبارها عرفًا خاصًّا، والذين أفتوا فيها في السابق نظروا فيها في أمور ليست هي القضية المطروحة على المسلمين في عالم اليوم، المطروح على المسلمين في عالم اليوم، أن هناك احتكارًا للمعرفة العلمية أو " النوهاو " اتخذ له الغرب وسيلة باحتكار العلامات التجارية تريد ماركس (TRADE MARKS) وبراءات الاختراع (الباترنس Patrense) والأمر جوهري بالنسبة للعالم الإسلامي؛ لأنه قضية نقل المعرفة ومحاربة هذا الاحتكار في نقل المعرفة. فالأولى: إذا لم نمل للرأي الأول وهو الذي يقول: إن هذا احتكار ولا يجوز حمايته، فعلى الأقل نميل إلى الرأي الثاني الذي أوضحه الدكتور البوطي والدكتور عجيل النشمي، أنه أن يكون هناك تكفل بنقل الخبرة وتقديم الخبراء ونقل المعرفة وأسرار المعرفة حتى يمكن التعامل في الاسم التجاري، إن لم يكن ذلك يعني الأمر يصبح في الحقيقة نوعًا من وضع المسلمين في حالة تسهل أن تباع لهم أسماء لا مضمون لها ولا خبرة وراءها ولا أسرار لها، وتسهل للجهات المسيطرة على المعرفة التكنولوجية في عالم اليوم من احتكارها وحماية هذا الاحتكار. هذه النقاط التي وددت أن ينظر إليها، يعني أن هناك رأيا يقول: إنه على الأقل أو من الممكن الدمج بين الآراء الثلاثة الأولى وهي أن هذا الاحتكار للمعرفة لا بد أن ينظر فيه أولو الأمر من المسلمين ولا يجاز على إطلاقه بل ينظر فيه أن يكون بمضمون نقل الخبرة والمعرفة وإفادة العالم الإسلامي منه، فإن كان كذلك صح التصالح فيه من هذه الجهات، إنما أن يطلق الأمر على إطلاقه وينظر إليه كأنه أمر محلي فليس ذلك هو موضع البحث، وأعتقد أن بحث الدكتور البوطي في هذا الجانب وبحث الدكتور عجيل النشمي في هذا الجانب وبحث الشيخ علي التسخيري: حقيقة يضعون الصورة متكاملة بشكل آخر أمام الإخوة والسادة الأعضاء في هذا المجمع لكي يتدبروا في الأمر، هناك احتكار للمعرفة في عالم اليوم، هناك خطر يتهدد العالم الإسلامي باستمرار احتكار هذه المعرفة، فإذا أردنا أن ننظر وأن ننزل الأعراف الخاصة فيجب أن ننظر أنه في عالم اليوم هذا العرف الخاص وضعته جهات معينة تحتكر المعرفة، فعلى العالم الإسلامي – في أقل أموره إن سمح بالبيع والتعامل في هذه الأمور – أن يشترطها بخبرتها وتدريبها ومهندسيها وعلمائها الذين يساعدون على انتقال هذه المعرفة وأن يكون لأولي الأمر ألا يصدروا هذه القوانين إلا بعد أن يتأكدوا من أنها تحمي حقوق المسلمين. هذا ما أردت أن أقوله وأذكر نفسي به والإخوة الأعضاء. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2055 الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني: بسم الله الرحمن الرحيم. شكرًا سيدي الرئيس، الحقيقة أن أكثر البحوث التي اطلعت عليها ودققت فيها والذي وصلني هو بحث الدكتور البوطي، وهذا البحث الحقيقة لا يخلو من دقة فقهية عميقة حينما أبرز الحق كحق مجرد عن كل المعاني الأخرى، وهو الذي يطرح: هل يمكن أن يتنازل عنه أم لا؟ فيقول: إن حق المخترع وحق المؤلف قد اكتسبه من هذه الصنعة التي أوجدها أو الأمر الذي اخترعه أو الفكرة التي ألفها. فهل يمكن نزعها منه؟ هل يمكن أن تنزع؟ يتوصل إلى أنه لا يمكن أن تنزع؛ لأن هذه الفكرة طالما هو الذي ابتدأ بإصدارها فلا يمكن أن يتجرد عنها مهما انتقلت إلى غيره ستبقى باسمه، وكذلك بالنسبة للاختراع، وهذا في الحقيقة فكر دقيق، وقد توصل إلى أنه لا يمكن بيعه، وحكم على العقد بالبطلان، ولكن في الواقع يمكن لنا أن نخرج من هذا البطلان بتعريف المال عند الإمام الشافعي رحمه الله، فإنه يقول: لا يقع اسم المال إلا على ما له قيمة يباع بها، وتلزم متلفه وإن قلت، وما لا يطرحه الناس مثل الفلس وما أشبه ذلك، فإذا رجعنا إلى لفظ ما في اصطلاح الأصوليين فإنها من ألفاظ العموم، وهي تشمل الأعيان، المنافع والحقوق، وأي شيء يمكن أن يعاوض بقيمة، أو له قيمة في الواقع يباع بها، فإذا كان الأمر كذلك فإن هذا الحق يمكن أن يباع وفق هذا النظر الشافعي، ثم قد وضعوا أيضًا لتمول الشيء – الشافعية أقصد – من ضوابطهم في تمول الشيء أن كل ما يقدر له أثر في النفع فهو متمول، وكل ما لا يظهر له أثر في الانتفاع فهو لقلته خارج عما يتمول. ثم لي ملاحظة على تخريج الحق على المنافع، الواقع أن المنفعة شيء آخر، المنفعة مال في نظر جماهير الفقهاء ما عدا الحنفية فإنهم نظروا إليها بمنظار آخر. ملاحظة على الدكتور الزحيلي حفظه الله، يقول: إن الحق المعنوي حق عيني والواقع أن أهل القانون الذي أثاروا المسألة وسموه بالحق المعنوي لم يسموه بالعيني، وإنما جعلوه صنفًا آخر ليس من الحقوق الشخصية، وليس من الحقوق العينية، بل أعطوه اعتبارًا خاصًّا بالنظر لطبيعته. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2056 القاضي محمد تقي العثماني: بسم الله الرحمن الرحيم. شكرًا سيدي الرئيس، عندي ملاحظتان: الأولى: أن الموضوع لما طرح في هذا المجمع في البداية كان يختص بالاسم التجاري ثم في الدورة السابقة عدلناها إلى الحقوق المعنوية ليكون البحث بصفة عامة، وما تفضل به الدكتور وهبة حفظه الله يختص بالاسم التجاري، فلو كان القرار الصادر من المجمع باسم الحقوق المعنوية، فكما رأينا من بعض الإخوة أنهم قد ضمنوا هذه الحقوق مسألة الخلو، ومسألة الخلو قد فرغ منها في الدورة السابقة وقد ذكرت في بحثي أيضًا أنه لا يجوز بيعه عندي، وكما قصدنا به قرار المجمع أيضًا في الدورة السابقة. فالذي ينبغي إذا تحدثنا عن الحقوق المعنوية أن تحدث عنها بدقة لئلا يفهم منها أن مثل مسألة الخلو داخل فيها. الملاحظة الثانية: سبقني بها الدكتور السالوس حفظه الله: أن معظم البحوث التي قدمت لم تقل بجواز بيع الاسم التجاري إطلاقًا، وإنما قيدته بشروط. وكذلك أنا في بحثي قد ذكرت أن بيع الاسم التجاري يمكن أن يجوز بشرطين: الأول: أن يكون الاسم أو العلامة مسجلة عند الحكومة بصفة قانونية؛ لأن ما ليس بمسجل لا يعد مالًا في عرف التجار. والثاني: ألا يستلزم هذا البيع الالتباس أو الخديعة في حق المستهلكين، وذلك إما بأن تقدم الخبرة مع الاسم التجاري إلى المشتري وإما بأن يقع الإعلام من قبل المشتري أن منتج هذه البضاعة غير المنتج السابق، وأما بغير هذا الإعلان وبغير تقديم الخبرة فإن انتقال الاسم أو العلامة إلى منتج آخر يسبب اللبس والخديعة للمستهلكين وذلك لا يجوز بحال. فأرجو التنبه لهذا في حين إصدار القرار. والسلام عليكم ورحمة الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2057 الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين: بسم الله الرحمن الرحيم ملاحظات قصيرة جدًّا أبتدئها بملاحظة عامة، هو أنه من حسن الحظ أن الاجتهاد بالأمس كان اجتهاد عالم واحد؛ إذ لم يثبت تاريخيًّا أن علماء المسلمين اجتمعوا أو جلهم في مختلف المذاهب من أجل اتخاذ اجتهاد في نازلة حدثت مشاكلها للأمة نتيجة التطور المطرد، ومع ذلك فقد بقي الاجتهاد من المصادر المسلم بها لدى علماء المسلمين من مختلف المذاهب، فهذه واقعة لا أظن أن أحدًا يجادل فيها؛ ولذا يكون أفضل اجتهاد – في نظري – يمكن أن يترك للأجيال، أجيال المسلمين، أو يمكن أن يعتمد عليه الحاضرون هو اجتهاد يصدر عن مثل هذا الجمع الذي استقطب كثيرًا من علماء المسلمين من مختلف مذاهبهم، ومن هنا فمسؤولية علماء هذا المجمع ليست في تلخيص النظريات وتجميع أقوال الفقهاء، وإنما هي في إيجاد القواعد الجديدة للمشاكل المتجددة. ومن هنا فإرجاء المواضيع أو تركها للخلاف أو التعصب فيها للآراء التفسيرية أو الاجتهادية، تكون تقصيرًا في الأحوال التي لم تستند أحكامها الماضية على نص صريح من الكتاب أو السنة، وقد سمعت من بعض الباحثين أنه يقترح ترك تقرير بيع أو عدم بيع الحقوق التجارية إلى الحاكم والحاكم لا يمكن أن يستند إلا على فتوى العلماء، والعلماء في أي قطر من الأقطار الإسلامية لا يمكن أن يجدوا فتوى استقطبت كل النظريات الفقهية، وراعت المصالح العامة للمسلمين أكثر من هذا الذي يمكن أن نخرج به من هذا المجمع الموقر. هذه ملاحظة عامة: أسوقها لأقول بأنني أتفق مع الأستاذ الباحث وهبة الزحيلي، فيما قاله وما لخصه من فتاوى الإخوة الذين تكلموا في الموضوع أو الذين كتبوا عنه، إلا أنني أريد أن أبين أن الحقوق حسب تعريف القوانين الوضعية انقسمت إلى ثلاثة: حق عيني، وهو الذي يبيح سلطة لمالكه تخوله سلطة التصرف والاستغلال والتفويض، والسلطة الشخصية هي التي يعبر عنها بالالتزام بين شخصين أحدهما دائن، والآخر مدين. والسلطة الثالثة هي التي نتكلم عنها وهي الحقوق المعنوية، لقد بقيت هذه الحقوق مثار جدل عند علماء الغرب، ربطوها بالناحية الدينية تارة وجعلوها من الأشياء التي لا يباح التعامل فيها، غير أنها بعد مرور الزمن وبعد تراكم الأوضاع التجارية وغيرها وجدوا أن عدم تقويمها ماديًّا يضر بالناس، فقوموها بحسب المنفعة التي تجرها على صاحبها، ومن هنا أصبح تقويمها جائزًا؛ لذا فإن بيع الحق التجاري سواء تعلق بملك أو تعلق بعقد إيجار يكون في نظرنا لا يصطدم مع نص في الشريعة الإسلامية على مختلف أقوال المذاهب حسب ما أعلم في رأيي المتواضع، وإذا كان هناك قول ضعيف، فينبغي للمجمع أن يستخرج النظرية ويقرر بيع هذه الحقوق حتى لا يخرج التجار وحتى لا يخرج المتعاملون في هذا الشيء عن الإسلام، لا أقول عن الإسلام كعقيدة ولكن عن أحكام الإسلام في هذه القضية ويلتجئوا إلى تنظيمها وفق القوانين الغربية ونحن باستطاعتنا أن نستخرج لهم اجتهادًا مرتكزا على عدم تصادم بيعها مع الكتاب والسنة وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2058 الدكتور علي محيي الدين القره داغي: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعاملين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أشكر الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي على بحثه وعلى تلخيصه القيم، ولي هنا حقيقة من الناحية الشكلية ملاحظة أو طلب نتيجة لما عرضه الأستاذ الفاضل الدكتور وهبة الزحيلي، ومع كل ما قدمه لم يكن ما عرضه معبرًا عن آمال بقية الإخوة الزملاء الذين قدموا هذه الأبحاث حيث وصلت الآراء إلى أربعة آراء، مع أن فضيلته قال: إنه لا يوجد إلا رأي واحد وقد فرحنا لذلك كثيرًا، ومن هنا أقترح وأعرض هذا الاقتراح على السيد الرئيس، أن يعطي وقتًا محدودًا لكل صاحب بحث خاصة إذا كان له رأي خاص، وحتى يتاح له المجال فيما يريد أن يعرضه على ذلك، ولا نكتفي بالعارض حتى وإن كان لخص، نحن اعترضنا على الإخوة الفضلاء سابقًا بأنهم لم يعرضوا ما لدى غيرهم، وها هو أستاذنا الفاضل أتى بالتلخيص ومع ذلك لم يرض الجميع ولا البعض، هذا اقتراح أو طلب – يعني – من فضيلتكم. هذا جانب الجانب الثاني: في هذه المسألة أرى ألا يلاحظ فيها الجانب المادي فقط – وأن يلاحظ فيها – وأن يدرس هذا الموضوع من جميع جوانبه، جوانبه السياسية وجوانبه الأخلاقية وجوانبه النفعية المادية، فنحن في مثل هذه الأمور ولا سيما في القضية التي تثار الآن وهي الحقوق الخاصة بالتأليف والابتكار والاسم التجاري، أمام مجتمع إسلامي مظلوم كما يقول الجارودي: قد أخذ الاستعمار كل حقوقه وبنى على ما لديه حضارته، فما حضارة الغرب إلا بناية عبارة عما أخذه الغرب أو الشرق من هذه الدول الإسلامية، فمن هنا حقيقة فرضوا علينا من منطلق القوة والغلبة أمورًا كثيرة، فلو احتجنا إلى أن نفتح حتى شركة لصناعة بيبسي كولا لا بد أن نأخذ هذا الاسم بعدة آلاف من الدنانير أو الدولارات كما قال الأستاذ الفاضل الدكتور إبراهيم، دون أن يكون وراء هذا الحق أية منفعة فلا بد من إعادة النظر على ضوء هذه المقتضيات كلها، لأن إسلامنا حقيقة إسلام شامل وينظر إلى هذه الجوانب، وأنا لا أريد تغمط كذلك حقوق المؤلفين، أيضًا لا بد أن تراعى ولا سيما إذا كانت هذه الحقوق قد أصبحت كتابًا أو أصبحت مؤلفات، حينئذ يكون الحق قد تعلق بشيء مادي أو بشيء لم يكن معنويًّا. فمن هنا لا بد أن ننظر إلى هذه المسألة نظرة عميقة من جميع جوانبها من السياسة العليا ومن ناحية رعاية المصالح ومن حقوق الأفراد، وما جرى علينا من ظلم من قبل الغرب. هذه الملاحظة وربما تكون ملاحظة معنوية. هناك أيضًا ملاحظة شكلية على أستاذنا الفاضل الدكتور وهبة الزحيلي، وهو أن فضيلته قال: إن حقوق الملكية ثلاثة: الاستعمال، الاستغلال، والتصرف، في حين أن التصرف في نظري يشمل الاستعمال والاستغلال، فالتصرف حقيقة لفظ شامل للاستعمال والاستغلال، ولذلك كان سلفنا الصالح وكان العلماء الصالحون يقولون: إن هناك ملكية الرقبة وملكية الانتفاع، فأعتقد أن هذا التعبير أولى وأجدر من هذا التعبير المطول مع أن هذا التعبير – أيضًا – لا يحقق الرغبة. أيضًا لي ملاحظة على أخي الكريم الأستاذ العاني أنه أسند إلى القانونيين رأيا لم يقولوه حسب علمي، والأستاذ الدكتور عبد الستار وهناك قانونيون كذلك يعرفون أن القانونيين متفقون على أن الحقوق نوعان: الحق العيني، والحق الشخصي، أما أستاذنا الدكتور السنهوري هو الذي ذكر بأن في الإسلام حقًّا بين حق العين وحق الدين، عندنا في المصطلح الإسلامي عندنا حق الدين وحق العين، ولكن أوجد الأستاذ السنهوري حقًّا بين الدين والعين، وطبعًا هذه وجهة النظر التي وصل إليها الأستاذ السنهوري لم يرض بها الكثير منهم الأستاذ الزرقا ومنهم كثيرون، فهذا ما أردت الإشارة إليه والله سبحانه وتعالى أعلم. والسلام عليكم ورحمة الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2059 حجة الإسلام محمد علي التسخيري: بسم الله الرحمن الرحيم شكرًا سيدي الرئيس، الحمد لله، هناك نوع من الاتفاق بشكل إجمالي ولكن هناك بعض النقاط. الرئيس: هناك نوع من الاختلاف يا شيخ. حجة الإسلام محمد علي التسخيري: قلت بشكل إجمالي: هناك اختلاف في الحدود والتقييدات. بالنسبة للشيخ البوطي حفظه الله أينما كان، هو أجاز هذا المعنى " بيع الاسم التجاري " بشرط نقل الخبرات، وهذا الشرط لكي يرفع الغرر المدعى والتدليس الذي سوف يحصل بعد ذلك، أعتقد كقاعدة عامة إذا كان هناك عقد يلازم كل أفراده الغرر أو أكثرية أفراده الغرر يمكننا أن نرفض هذا العقد، أما إذا كان الغرر في بعض أفراده حينئذ يجاز ذلك العقد ويقيد الجواز بعدم الغرر، بالنسبة لما اقترحه الأستاذ الدكتور البوطي في الواقع يرفع الغرر بلا ريب، ولكن هذا لا يعني بأننا لو افترضنا عقد بيع ليس فيه نقل خبرات فيجب أن يكون هذا البيع غرريًّا، لا يمكننا أن نفترض شركة تشتري اسمًا تجاريًّا لبضاعتها وبضاعتها بنفس المستوى الذي تحمله بضاعة الاسم التجاري، ولكنها غير معروفة الاسم، فيمكن أن تستفيد من هذا الاسم، تشتري وهي تحمل نفس الخصائص، هنا لا يوجد غرر ولا تدليس ولا أي شيء آخر. ونؤيد هنا موضوع نقل الخبرات. فإذن إذا أردنا أن نجيز هذا المعنى نجيز ونقول شريطة أن يكون هناك ما يرفع التدليس أو الغرر وما إلى ذلك. شيء آخر، ومع سماحة أخي الشيخ العثماني، الشيخ العثماني اشترط مسألة التسجيل لدى الحكومة، وقال: لولا ذلك لم يعتبر التجار الأمر مالًا، ما أكثر العلامات والأسماء التي لم تسجل لدى الحكومة لكنها اشتهرت بين الناس والناس يقبلون عليها دون تسجيل، فإذا افترضنا وقوع ذلك حتى لو لم يسجل هذا المعرض لدى الحكومة يكفي أن يحمل ذلك المعنى نوعًا من المالية، والتسجيل لدى الحكومة لا أراه ضروريًّا، ثم إن أخي – الذي لا أركز على اسمه مع الأسف – تفضل بأنه كيف يمكن لمجمع علمي أن يحيل القضية إلى ولي الأمر أو إلى الحكومات، وكأن ذلك نوعًا من الخروج عن احترام المجمع العلمي؟ المسألة مسألة إفتاء من العلماء بإيكال هذا المعنى إلى الحاكم الشرعي، يعني المسألة مسألة إفتاء علمي لإيكال هذا الأمر إلى السياسة الشرعية التي يقوم بها الحاكم الشرعي وليس فيه أي إنقاص من قدر المجمع العلمي. نقطة أخيرة أشير إليها وأرجو أن يركز عليها الإخوة، مسألة أن هذا العمل ما دام صدر مني فلي الحق فيه – هذا إذا أردنا أن نطور – إذن نقول لك قارئ للقرآن إذا تلا تلاوة جيدة أن يشترط على من استمع هذه التلاوة شيئًا ما باعتبار القراءة في قبالها استماع، لا نستطيع أن نعمم هذا المعنى نطرحه كمبدأ عام، كل ما يصدر مني ابتكارًا والقراءة، - قراءة القرآن الكريم أحيانًا تكون أروع ابتكار – هذا أمر مشكوك فيه شرعًا أن يقال: كل ما يصدر مني ابتكارًا فلي الحق فيه، ويمكننا أن نمشي حتى نصل إلى مستوى الابتكار أيضًا، ومستوى التأليف أيضًا ونشكك في كون وجود حق عرفي في البيع وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2060 الشيخ توفيق الواعي: بسم الله الرحمن الرحيم. في الحقيقة أحببت أن أبين نقاطًا معدودة، وأن هذا البيع لا بد أن يكون له ضوابط معينة حتى لا تدخل فيه الحيلة أو الاستغلال والغرر والخداع والتدليس. فإن كان هذا البيع سيكون فيه سر صنعة وجهد وتعب وعمل، فلا بأس إن كان بيع الشهرة والدعاية التي انفق فيها جهدًا أو مالًا حتى صار هذا الاسم، وأخذ الناس السلعة ووجدوها جيدة وكان له في ذلك جهد فلا بأس، أما إن كان هناك شيء، من أن يبيع جاهًا وفرصًا، وأن يكون هذا البيع أو أن يكون هذا الجاه مخصوصًا به هو، فيجب أن تكون فرص متاحة للجميع، تكون الفرصة متاحة للجميع حتى لا يكون هناك استغلال أو تكون هناك أمور من هذه الاستغلالات التي نراها وتبتعد عن النواحي الخلقية. فيجب ألا يقتصر الأمر على الحل أو الحرمة أو الجواز بدون أن يكون هناك ضوابط ضابطة لهذه الأمور، حتى لا يدخل فيها الاستغلال ويدخل فيها الغش ويدخل فيها التدليس، وهذه الضوابط يجب أن توضع لكل أمر بحسبه حتى لا تكون ضوابط هشة ينفذ منها إلى ما يريده أصحاب الحيل. وأما عن بيع الاختراع فلا بد أن يكون له ضوابط لأن العلم عندنا مشاع، والعلم عندنا لا يكتم، لكن إذا كان هناك إنفاق في سبيل هذا الاختراع من المال ومن الجهد ومن كذا ومن كذا، فإنه يقدر بهذا القدر الذي أنفق فيه والذي كان في سبيل إظهاره، ولكن أن تترك هذه الأمور مشاعة وبدون ضوابط، فهذا أمر لا يجب أن يكون من مجمع علمي يقرر شيئًا للمسلمين ويضبطه ويخرجه للناس. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2061 الدكتور درويش جستينية: بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، في الحقيقة لفت نظري موضوع " الغرر " في مسألة بيع الحق أو الاسم التجاري هناك نقطتان أود أن أذكرهما، وهما: * النقطة الأولى: هناك حق في الاسم التجاري، أو حق معنوي، وهناك أيضًا حقوق أخرى تتعلق بمسائل فيها نوع من الاختراع أو حق التركيب في مواد معينة، وهناك حقوق الترخيص، يعني المسألة فيها أكثر من حق واحد، فيما يتعلق بالغرر في بيع الاسم التجاري أعتقد أن ما ذهب إليه الإخوان عكسه هو الصحيح من الناحية الاقتصادية لو تصورنا أن شركات كبيرة تنتج سلعة معينة بمواصفات محترمة في بلدها، سواء كانت في بلاد إسلامية أو أجنبية، ويريد تاجر في دولة أخرى أن يستعمل نفس الماركة التجارية أو تركيبها، من يبيعه هذا الحق؟ هي الشركة التي ملكت هذا الحق في بلادها والتي تصنع هذا، فهي لا تريد أن تنزل بمواصفاتها في دولة أخرى، فهي أول من يحمي هذا الحق، فلا يكون هناك غرر، بل الغرر أن نترك هذه المسألة دون تحديد، بحيث يستطيع من يفكر أن يأخذ هذا الاسم بدون أي ارتباطات خارجية أن يفعل ما يشاء بالإضرار بالمستهلكين، فهنا فيه فائدة في عملية بيع هذا الحق من هذه الناحية لأن هذه الشركة تحرص على سمعتها الدولية وبالتالي من مصلحة المستهلك أن يكون هناك نوع من الارتباط بهذا الحق. * والشيء الآخر، أن كل دولة لديها إدارة خاصة بالمواصفات والمقاييس والمعايير لكل سلعة سواء تنتج محليًّا أو تنتج في الخراج وتورد إلى الدولة. وفي هذه الحالة أصبح من حق الحكومة أن تسجل أو تقبل تسجيل علامة قابلة للبيع في بلادها أم لا، وهذا التنظيم معمول به وقائم حقيقة في البلاد الإسلامية مجموعها، معظمها عندها إدارات للمقاييس والمعايير. فهنا أرى أن بيع الحق أو الاسم التجاري الذي تم تطويره وأخذ سنوات عديدة – حتى إن الإنسان استطاع بالدعاية والجهد الخاص أن يبنيه – أن لا يترك هباء وسدى، يأتي أي إنسان ويأخذه ويسيء استخدامه لمجرد أن العملية متروكة. شكرًا جزيلًا، والسلام عليكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2062 الشيخ علي المغربي: بسم الله الرحمن الرحيم. شكرًا سيادة الرئيس، سمعنا من التقارير والبحوث التي قدمت حول قضية بيع الاسم التجاري أن الأغلبية الساحقة من الباحثين قرروا الجواز، جواز بيع الاسم التجاري نظرًا لما يقوم به التاجر من أعمال في متجره، غير أن هناك مشاكل كثيرًا ما تحدث بين المالك وبين التاجر، نرجو أن ننظر إلى هذه المشاكل، ولعل مجمعنا الموقر ينظر إليها بعين الاعتبار فكثيرًا ما تكون هناك شروط مسبقة يوم عقد الكراء بين المالك وبين التاجر، ولكن تلك الشروط قد تكون تحدد المدة التي يبقى فيها التاجر في محل التجارة، غير أن القوانين الجاري بها العمل في كثير من البلدان الإسلامية، تبعًا لبلدان غربية، لا تعطي الحق لصاحب الملك أن يخرج التاجر من محل تجارته، بل يبقى له الحق في البقاء، وكذلك في البيع بعد ذلك، مع أن الإسلام يقول دائمًا: القاعدة ((المسلمون على شروطهم)) ولكن تلك الشروط التي تحدد المدة لا تعتبر، وهنا يحدث ضرر كبير للمالك حتى إذا طلب إخلاء محله ليستغله بنفسه، فإن القانون وإن أعطاه الحق، لكنه يعطيه له بعد أن يقوم ذلك الملك وحق التاجر وما يقوم به في تجارته، وقد تفوق القيمة التي يعطيها القانون للتاجر عن قيمة الملك نفسه لو بيع، ومن هنا جاء ضرر كبير، نرى أنه في بعض الأحيان وبالأخص في الأملاك التي اكتريت قديمًا قد يبقى التاجر في الملك عشرين سنة ولكن عندما يقوم ما أخذه لإخلاء الملك يفوق قيمة ما دفعه طوال تلك المدة، ولهذا فهذه القضية فيها ضرر على المالك كثير، نرجو أن ينظر بعين الاعتبار إلى الشروط التي تقع بين المالك وبين المكتري " التاجر ". ناحية ثانية، الإخوان تكلموا على القضية التي تكلم عليها الأستاذ البوطي وهي بيع الاسم التجاري فقط، ومن دون أن يكون هناك محل تجاري وهو ما يعبر عنه بالماركة المسجلة فقط، وذكر الأستاذ البوطي أن القضية فيها غرر، وكثير من الإخوان ذكروا أيضًا مسألة الغرر، ولكن لو نظرنا إلى الحقيقة، إن هناك عقدًا وهناك ما يؤول إليه العقد من غرر أو عدم الغرر، فإنه عندما يقع العقد، العقد لا يشترط فيه غرر، فمن أول مرة العقود جائزة بين البائع والمشتري، وقد تكون العلامة المسجلة لها قيمتها واعتبارها في الأسواق العالمية، فهو عندما يبيع تلك العلامة المسجلة لا يشترط عليه أنه يغش أو أنه يخدع أو أنه يوقع الناس في الغش، وإنما إذا وقع الغش بعد ذلك فهذا أمر موكول للغيب وموكول لصاحبه، ولهذا فلسنا من أول مرة نقول: إن هذا العقد ممنوع ما دامت ليس فيه شروط تمنع العقد. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2063 الشيخ عبد الله بن بيه: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. سعادة الرئيس، سمعنا بالأمس كلمات مهمة تتحدث عن القيم الإسلامية وعن حق المسلمين وواجب المسلمين في أن تكون قوانينهم مستمدة من الخلق الإسلامي، عندما كنا نتحدث عن قضية الأمر بالشراء، أين هذه القيم اليوم ونحن نتحدث عن الحقوق المعنوية؟ هذه الحقوق في الأصل يجب أن تكون مشاعة بين الناس وأن تكون نوعًا من الإحسان، نحن نعرف أن القرض لا تجوز الزيادة فيه لأنه من الإحسان، ونعرف في الضمان أنه لا يجوز أن يأخذ الضامن مالًا بسبب أن الضمان من الإحسان، ونعرف أيضًا أن الجاه لا يجوز أخذ شيء عليه عند الجمهور، لأن ثمن الجاه هو من السحت، أين هذه المبادئ مما نبحث فيه الآن؟ وخصوصًا مسألة أخرى أردت أن أثيرها بهذه المناسبة وهي من هذه الحقوق ما يسمى بحقوق الطبع المحفوظة للمؤلف، وقد يكون الكتاب كتابًا إسلاميًّا يتضمن فقهًا أو يتضمن تفسيرًا لكتاب الله، أي حق لهذا المؤلف في حبس بهذا الكتاب؟ رحم الله مالكًا لو بعث اليوم وقيل له:حقوق طبعك محفوظة على الموطأ، وأحمد لو قيل له:حقوق طبعك محفوظة على المسند، لأنكر ذلك إنكارًا شديدًا وقال: أي حق لي على هذا الكتاب؟؟ إن ما ألفته للمسلمين. هذه قضية في غاية الأهمية، استوردناها من الغرب وأخذناها على علاتها بدون تمحيص وبدون أي وازع، أي أزمة ضمير؟ فيجب علينا أن نأخذ منها موقفًا – لأنها تعني ربما بعض الإخوان الذين يوجودون معنا في هذه القاعة – قد يجوز أن أكتب كتابًا بيدي بذلت فيه جهدًا وأن أبيعه لشخص بسبب الجهد الذي بذلته في كتابة الكتاب، أما أن أبقي حقًّا لي على هذا الكتاب وهو يتضمن علومًا شرعية يجب بثها للناس ويجب إعطاؤها لمن يستحقها فهذا ما لا أرى له سندًا، وكأنه قريب أعاذنا الله سبحانه وتعالى من قوله جل وعلا: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} هذه المسألة في الحقيقة تحز في نفسي وأنا شخصيًّا أود أن أجد مبيحًا لها أود أن أجد ذلك، ربما أستفيد، أأكتم شيئًا – لا أدري – أستفيد منه، فإذا كان لدى الإخوان ما يبيح هذا فسأكون شاكرًا لهم على تقديمه. مسألة أخرى هي مسألة الاسم التجاري، أعتقد أن من الأفضل ومن الأحوط أن نلزم بائع هذا الاسم أن يبيع معه شيئًا متمولًا ولو قل حتى لا يبيع شيئًا مجردًا، وهذه هي القيم التي كنا نتحدث عنها بالأمس، يجب أن نتحدث عنها اليوم أيضًا، هذه ملاحظة عابرة وشكرًا والسلام عليكم. الرئيس: ترفع الجلسة لأداء صلاة الظهر ثم نعود إن شاء الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2064 [بعد الصلاة] الرئيس: نستأنف الجلسة. الدكتور منذر قحف: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد. الحقيقة نقطة واحدة أردت أن ألفت إليه اهتمام الأنظار لعلها تكون في موطن البحث عند الوصول إلى موقف في هذا الموضوع، وهو الدور الكبير الذي كان لحماية الحقوق المعنوية في تطور الصناعة والزراعة والحياة الاقتصادية كلها. في الغرب حماية هذه الحقوق كانت من أهم ما أدى إلى بذل أموال كثيرة في البحث العلمي في الاختراع والابتكار، وهذه الحماية أدت إلى اختراعات كثيرة وتحسينات كثيرة في الحياة الاقتصادية بعمومها، بل إنها أهم ما هو مسؤول عن التطور الاقتصادي الكبير الذي عرفه الغرب، هذا أمر يختلف عن كتمان العلم، القضية هي الحق باستغلال النتائج المادية لما حصل عليه الإنسان أو لما حصله إنسان، وليست كتمان علم أو عدم كتمانه، العلم سائد، لكن هل من حق أي إنسان أن يستغل ماديًّا ما حصله آخر بجهده وعمله وماله الذي بذله؟ القضية هي هكذا، حماية هذا الحق من الاستغلال والحمد لله رب العالمين. الشيخ عبد الله بن منيع: بسم الله الرحمن الرحيم. شكرا سماحة الرئيس. وفي الواقع تعليقي يشتمل على ثلاث نقاط، وهي نقاط بسيطة. المسألة الأولى: فيما يتعلق بالإحراج الذي ألاحظه على إخواني عارضي البحوث، فهو حينما يجتهد، ويجتهد ما وسعه الاجتهاد في إبراز بحوث إخوانه، هو في الواقع يجد ملاحظات أو انتقادات من الباحثين أنفسهم، في أن كل واحد منهم يقول: ما أعطيت بحثي حقه أو كذا، فأنا اقترح، أو في الواقع على كل حال أؤكد على ما جاء في اللائحة من أن يكون في ختام كل بحث خلاصة مختصرة جدًّا لبحث الباحث، فينقلها العارض نقلًا حتى لا يقع في إحراج مع إخوانه، هذه ملاحظة أرجو من سماحة الرئيس ومن الأمانة العامة التكرم بالتأكيد عليها. المسألة الثانية: ذكر فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه جزاه الله خيرًا أن القيم الأخلاقية والقيم المعتبرة ينبغي أن يكون لها مجال، وينبغي أن يكون لها اعتبار، وهذه حقيقة، وصحيح أن هذا ينبغي أن يكون، لكن إذا لم يوجد فماذا نقول؟ المسألة الآن مسائل هي في الواقع على كل حال ما جاز فيه المعاوضات أو التبرعات يجوز فيه كذلك المعاوضات التي هي في الواقع عن طريق البيع والشراء، في الواقع لا شك أن الاسم التجاري أو أي حق من الحقوق المكتسبة عن طريق الجهد سواء كان ذلك آل إلى طريق التملك أو آل إلى طريق الاختصاص لا شك أن صاحبه بذل في سبيله الشيء الكثير من المال حتى صار حقًّا معتبرًا ومطمعًا ورغبة للغير في تملكه أو الاختصاص به. المسألة الثالثة: يظهر لي أنه لا مانع من البيع أو التنازل أو المناقلة أو الصلح على هذا الحق، لكن بشرط ألا يترتب على هذا مخالفة لتوجيهات ولي الأمر سواء كان ذلك تنظيمًا أو تقريرًا أو نحو ذلك. الأمر الثاني، ألا يترتب عليه تغرير للأمة: وألا يترتب عليه انتقال هذه السمعة الكريمة لهذا الاسم الكريم إلى من ليس له أهل فتقع الأمة ويقع الناس في إحراج وفي تغرير وفي انقياد إلى من ليس له أهل. الأمر الثالث، ألا يترتب عليه أمور محظورة كتحليل حرام أو إهدار مصلحة من المصالح. هذا ما أحببت التعليق عليه. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2065 الرئيس: شكرًا، في الواقع أنا أرجو من أصحاب الفضيلة الباحثين وفي نفس الوقت من أمانة المجمع ملاحظة أن أي بحث لابد له من خلاصة مختصرة في حدود صفحة أو صفحة ونصف على الأكثر، والأمانة بوسعها أن تكتب إلى صاحب البحث إذا لم يلخصه أن تعيد له صورة من بحثه ليلخصه، حتى تكون ملخصات البحوث موجودة بين أيدينا نستريح من عناء قراءة بعض المشايخ لصفحات معدودة مطولة من بحثوهم، لأن الذي اعتاد في العلم على أنه لا يقرأ لا يفهم كثيرًا من القراءة، أما في المناقشة فيستطيع أن يلتقط مدارك الأحكام ومنازع الخلاف يستطيع أن يدركها أكثر، أما أن يقرأ علينا عشر صفحات وخمس صفحات أو يلخص بعض الإخوان البحوث في ظرف عشر دقائق وفي ظرف ساعة هذا يعني أظنه إلى الارتجال أقرب، ثم إن صاحب البحث هو أدرى ببحثه وبالنقاط المهمة فيه وبالخلاصة التي ينبغي أن تكون، فنرجو التزام بالشيء هذا، ونسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2066 الدكتور عجيل جاسم النشمي: بسم الله الرحمن الرحيم. سأتكلم في أمرين باختصار: الأمر الأول: الشبهة التي أثارها فضيلة الشيخ ابن بيه، فأقول: نحن لا نتكلم عن الجاه وأحكامه في الفقه الإسلامي، وإنما نتكلم عن أمر هو الاسم التجاري باعتباره أصبح حقًّا ومنفعة ومالًا والذي رأيناه من خلال تفصيل هذا الموضوع وبيان تكييفه الفقهي أن مقتضى كلام الفقهاء جميعًا هو أنه يدخل في الحقوق وفي الأموال على تفصيل في حكم الحقوق والأموال حيث التصرفات. الأمر الثاني الذي أود أن أوضحه باختصار أيضًا، أن الذي توصلت إليه – كزيادة بيان لما عرضه الزميل الدكتور وهبة الزحيلي – أن الاسم التجاري حق ومنفقة ومال، وبالتالي يجري عليه الملك فتجري عليه التصرفات، هذه هي النتيجة التي توصلت إليها، لكن هناك بعض القيود على إباحة التصرف فرأيت أن بيع الاسم التجاري ينبغي ألا يترتب عليه غرر من شأنه إبطال العقد وإفساده، فبيع الاسم التجاري يلزمه بيع مضمونه فيما يدل عليه من جودة وإتقان مواصفات للسلع المشمولة في وعاء هذا الاسم التجاري، فأبني على ذلك أنه إذ انفصلت الجودة والإتقان عن ذات الاسم التجاري، كان ذلك تدليسًا وغشًّا لما يوقعه من توهم الجودة في سلعة ليست هي كذلك، ثم رأيت أنه إذا انتقل الاسم التجاري مع ما يدل عليه من جودة بضائعه وثبات صفاته المعهودة لدى المتعاملين معه، - الشيء الذي أضيفه هنا ولم يذكر – فإن تغير صاحب الاسم التجاري لا يغير من الأمر شيئًا في هذه الحالة، فقد انفصل الاسم بمزاياه وشهرته إلى غيره، فلا يترتب على هذا تدليس أو تغرير، يستوي في ذلك - وهذا ربما اختلف فيه مع الدكتور البوطي - يستوى في ذلك أن يكون محل البيع " الاسم التجاري " وما يستوعبه من سلع وملحقات، أو بيع الاسم التجاري منفردًا مع اشتراط أن ينشئ المشتري مضمومنًا جديدًا، هذا الشرط الجديد هو أن ينشئ المشتري مضمومنًا جديدًا من السلع لهذا الاسم بذات المواصفات والجودة المعهودة، فإن لم يكن ذلك فيجب أن يعلن التاجر أو الجهة المسؤولة للكافة، أن الاسم التجارية المعهود لم يعد يمثل ما كان داخلًا في مشتملاته ووعائه، وأن المشتملات قد تغيرت من حيث المواصفات والأنواع، فإن فعل ذلك ارتفع اللبس والغرر، فالجواز ليس مطلقًا وإنما هو مقيد بهذه القيود التي ذكرتها والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2067 الشيخ خليل محيي الدين الميس: بسم الله الرحمن الرحيم استطرادًا لموضوع حقوق التأليف، نرجو أن يعالج مجلسنا الكريم قضية ربما نعيشها في لبنان وهي تراثنا الإسلامي، حق من؟ إن عشرات دور النشر إنما أقامت مجدها على تراثنا الإسلامي، وكل مؤلف له حقوقه، فهذا التراث هو حق من؟ الذي يصدر والذي يطبع، ألا ينبغي أن يصدر شيء ما, فتوى ما، قرار ما؟ إن للأمة حقًّا في هذا وينبغي أن تطالب دور النشر بمثل هذا الحق، لأننا نرى - لا أقول سرقة إن صح هذا التعبير - كم من الدور أصحابها كانوا لا يعنون شيئًا وأصبحوا قد جمعوا الملايين من الدولارات من وراء تصوير تراثنا الإسلامي الذي صار مشاعًا والناس تدفع ثمن هذا الكتاب وكأن لا حقوق للمؤلف، فهل ينبغي أن يبقى هذا الأمر هكذا أم لا؟ وشكرًا. الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. لما استمعت إلى فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه في تدخله وجدت نفسي ملزمًا بأن أعلق على ما جاء في كلامه، إنه ذكر ثلاثة أشياء: القرض والضمان والجاه، ولا يوجد غيرها في الفقه الإسلامي، ثلاثة تمنع أن تُرى إلا لله: القرض والضمان والجاه. معروفة هذه ثلاثة وليس لها رابع، وهذا مرتبط بالأخلاق - للإنسان أن يتنازل - ولكن لا يمكن أن يكون حقًّا واجبًا على كل شخص فمن أراد أن يتنازل عن حقوقه له ذلك، والذي أريد أن أبينه في هذا المجمع هو أن - أو أذكر به وكلكم تعلمونه - أن الكتاب بعد أن كان عبارة عن خط على ورق أو على رق أصبح هناك طباعة، والطباعة معناها أن طابع الكتاب يربح في الكتاب ويأتي الناشر فيربح من الكتاب، ثم يأتي الذي يبيع الكتاب صاحب المكتبة ويربح في الكتاب 30 % مثلًا، فهذه هي المراحل التي يمر بها الكتاب، والكتاب لا يمكن أن يوجد إلا بها. وقيمة الكتاب التي من أجلها دفع المشتري، ليست في الورق ولا في أي شيء إلا فيما يحويه، فعندما نجعل الأصل لاغيًا لا قيمة له، وأن البقية لها قيمتها أظن أن هذا غير صحيح، وأنه قلب للأوضاع، وأنه إرادة تسليط الأحكام كما كان الأمر يوم كان الكتاب نسخة واحدة على حالة جديدة لا تتفق مع الماضي. هذه واحدة. الأمر الثاني: وهو أن الدكتور عبد الله بن بيه يقول: لو كان مالك وحقوق مالك في التأليف وحقوق أبي حنيفة وحقوق الشافعي في الأم إلى آخره: أعتقد أن مالكًا رضي الله تعالى عنه وبقية الأئمة رضي الله عنهم ما كان واحد منهم يتصدى للتدريس ويأخذ راتبًا، فما كانت رواتب لهم، فهل معنى هذا أن الجماعة اليوم وهم المدرسون عندما يأخذون رواتب أنهم انفصلوا عن هدي الإسلام؟ أعتقد أن القضية يجب أن لا تطرح على هذا النحو، وأن المؤلف له حق في تأليفه باعتبار أنه قد أسهم في إيجاد شيء له قيمة والقيمة الحقيقية هي له، هذا ما أردت أن أقوله. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2068 الشيخ محمد سالم بن عبد الودود: بسم الله الرحمن الرحيم. شكرًا سيدي الرئيس، الحقيقة أنا ما أدركت إلا آخر كلام الأخ المختار السلامي ولعله كان يعبر عما كان يختلج في ذهني، هذه الأمور التي ليست لها قيمة مادية بالأصل وإنما تكتسبها بالتعارف، يكثر في المذهب المالكي جواز التعامل عليه لكن لا يسمونه بالبيع بالمعنى الأخص وإنما يدخل في البيع بالمعنى الأعم ويسمونه في الكثير التنازل بعوض، كشراء ليلة الضرة منها ولا نزول عن الوظائف بعوض وقول المساوم لتجار السلعة أو لبعضهم: كف عني ولك دينار، إلى آخره، مسائل كثيرة من هذا النوع موجودة في المذهب المالكي، وأما ما يتعلق بالحقوق - حقوق التأليف هذه وحقوق المؤلفين - فهذه تقرب من أخذ الأجر على التحديث، وهذا معروف أن الإمام أحمد وإسحاق والرازي لم يجيزوا هذا، جرحوا به من يأخذ عليه أجرًا، ولكن بعض الباحثين من الفقهاء وفقهاء الحديث أخذ الأجر كأبي نعيم الفضل بن دكيم، والذي استقر عليه الرأي هو أن الشخص إذا تفرغ للتحديث أو التأليف جاز له أن يأخذ أجرًا على ذلك حتى يكسب رزقه وقوت عياله، والذي يؤخذ من الدولة يسمى باصطلاح فقهاء المذهب المالكي رزقًا ولا يسمى أجرًا، ولذلك يجوز، وهذا ركز عليه القرافي في فروقه، الفرق بين الإجارة والأرزاق، وفي أخذ المحدث على تحديثه أجرًا يقول الحافظ زين الدين العراقي عبد الرحيم بن حسين في ألفية المصطلح: ومن روى بأجرة لم يقبل به إسحاق والرازي وابن حنبل وهو شبيه أجرة القرآن يخرم من مروءة الإنسان لكن أبو نعيم الفضل أخذ وغيره ترخصًا فإن بذل شغلًا به الكسب أجز قال: أفتى به الشيخ وأبو إسحاق، حاصل ما كنت أريد أن أقوله إن هذا النوع من التعامل موجود في الفقه المالكي، ويدخلونه في المعاوضة بالمعنى الأوسع لا في بيع المكايسة بالمعنى الأخص، وأن الحقوق: حقوق التأليف واحتكارها بالمعنى المادي البحت يجافي أخلاق المسلمين، وأن الذي يأخذ عوضًا عن انتفاع الناس بتأليفه إذا احتاج إلى ذلك لا يبعد عن أخذ المحدث أجرًا على تحديثه وشكرًا. الرئيس: شكرًا، ربما أن المناقشات بدأت تأخذ شكلًا فرعيًّا، يعني نكون عكسنا القضية التي من أجلها أجلت الجلسة الدورة الماضية، لأنه في الدورة الماضية عرض الاسم التجاري والترخيص وأجلت حتى يبحث الموضوع من أصله بالحقوق المعنوية، فإن رأيتم أن يكون التركيز في بقية المداولات على الأصل وهو الوعاء العام لهذه القضايا من حقوق التأليف والترخيص وغيرها؟! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2069 الدكتور محيي الدين قادي: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم شكرًا لكم سيادة الرئيس على تمكيني من الكلمة، كثر الحديث في هذه المسألة وأرى أن كثرة الحديث جاءت من نواحي أهمها: أن هذه الحقوق المعنوية وبخاصة الاسم التجاري والترخيص التجاري والمحل التجاري هي مصطلحات معناها مستورد من القانون الوضعي، وأريد بحثها في الفقه الإسلامي، والتصور لها - كما يبدو - ليس واضحًا، يعني كل الوضوح لأن الأمر يقتضي رجل قانون يوضح هذه المصطلحات، لكن كما قال العلامة الوزير: يعني هي الحقوق المعنوية بصورة عامة، وهي مبسوطة في كتب المالكية بما فيه ربما الإضاءة والنور الذي يلقى على هذه المسائل، ومن ذلك ما نقله الدسوقي في شرحه على العاصمية حيث نقل فرعين من فروع المالكية. الفرع الأول: من له بركة ماء بها ما يصطاد، قال: فله الحق في أن يبيع حق الصيد لآخر، لا يبيعه الأسماك ولا يبيعه الماء وإنما يبيعه حق الصيد، انتفاع الصيد - ولا أقول منفعة هنا - أن يبيع حق الانتفاع. الفرع الثاني: هو أنه قال: في حق من له مكان قد شغله مدة من الزمن، يعني أنه يكتسب حقًّا ويستطيع أن يبيعه، كذلك نلاحظ أنه فيما روي عن مالك أن حق المسيل يمكن أن يكرى كراء مؤبدًا، ويمكن أن يورث كذلك نجد فروعًا كثيرة ولا أريد عرضها كلها، لكن بالنسبة إلى حق التأليف وهي قضية فرعية، بالنسبة إلى قضية التأليف يمكن أن تقنن على حسب ما قيل في الإمامة، وما قيل في تعليم الفقه، وما قيل في رواية الحديث - وقد تعرض لها العلامة الوزير - كما قلت - وما قيل في غير ذلك من الأشياء، فالفقه المالكي يقيد المسألة بمن تعينت فيه، وبمن لم تتعين، من تعينت فيه لا يجوز له أخذ الأجرة لأنه يصبح في حقها فرض عين، ومن لم تتعين فيه يجوز له أخذ الأجرة عليها، وبذلك عمل العلامة ابن عرفة حيث أخذ الأجرة على إمامة جامع الأعظم بتونس " جامع الزيتونة "، يعني لأنها لم تتعين فيه، فهنالك من يصلح للإمامة سواه، إلى غير ذلك من الفروع التي تبسط، ونحن قصدنا بهذا أننا أمام مشاكل، لكن بقيت قضية واحدة وهي الماركة المسجلة التي سميت بالماركة المسجلة أو الاسم التجاري، في باب السمسرة، عند كلامهم عن السمسار أحفوه بضوابط منها ألا يكذب وألا يزيف ونحن نرى في هذه الماركة المسجلة أو الاسم التجاري أنها تخرج عناوين وتعاونها على ذلك وسائل الإعلام ويدخلها الكذب ويدخلها الزيف ويدخلها ما ينافي الخلق الإسلامي الكريم. ومن هنا يأتي المنع لهذه القضية ولا يجوز أن نتسامح فيها بناء على ما نراه ونشاهده، إن كان هذا صوابًا فمن فضل الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2070 الدكتور محمد عمر الزبير: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. نبحث عن موضوع التكييف الشرعي بالنسبة لمحل البيع، هل هو الاسم فقط؟ اسم الشهرة غير متصل أو مقارن به نوع من الخبرة والمعارف التي يجب أن تنقل مع البيع، هناك بعض الصور التي يمكن أن نتصور فيها البيع المجرد للاسم، والمشتري لا يشتري أي شيء مصاحبًا به معرفة أو خبرة وإنما الاسم فقط، ونحن نعرف أن الإعلام وتكرير الإعلان قد يخلق شهرة معينة وقد يشتري الشخص هذا الاسم وينتج سلعة بعيدة كل البعد عن المنتج الأصلي، فيشتري الاسم فقط، فأرى في هذا النوع من البيع أنه بيع صورته صورة بيع جاه فقط وليس بيعًا بالنسبة لتجربة أو خبرة منقولة أو معارف، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2071 الشيخ زكي الدين محمد قاسم: بسم الله الرحمن الرحيم شكرًا لكم سيدي الرئيس لإتاحة هذه الفرصة الكريمة للتحدث في هذا المجمع العظيم، وفيما علمته من مدار المناقشات، ولا شك أن السادة الباحثين والعارضين أقدر على تكييف الموضوع من حيث الوجهة الشرعية، وإن كان لا بد للمناقشات من إثراء للموضوع يضفي جوانب متعددة تحدد معالم لا بد منها عند اتخاذ القرار أو إصدار الفتوى، وفي ظني أن الموضوع فيما يتعلق بالحقوق يتشعب إلى جوانب متعددة، من هذه الحقوق ما لا يقبل النقل ولا البيع، وهو ما يجري للأسف الشديد في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية على صورة غير مشروعة من الناحية الشرعية، ولا من الناحية القانونية، كمثل حق النسب، وهو أن يبيع شخص ما اسمه لشخص آخر ليستفيد بهذا النسب لمبررات معينة قد يراها في ذاته أنها مسوغ لهذا التصرف، ومن هذه الحقوق أيضًا، حقوق الجنسية كأن يشتري شخص ما حق النسبة إلى جنسية معينة ليستفيد من هذه النسبة، ومنها أيضًا ما يجري في مجال التأليف بالذات، كأن يؤلف شخص ما كتابًا أو رسالة، ثم ينسبها إلى شخص آخر ليستفيد بها، أو ليجتر من ورائها شيئًا آخر، كشهادة أو مسوغ آخر من المسوغات المادية، فهذه ولا شك من الحقوق التي لا تقبل النقل، لأنها تعتبر من التزوير في الحقائق، لكن يأتي في هذا المجال أيضًا ما يمكن أن يكون طريقة الاستفادة المادية، لو أن مؤلفًا ما ألف كتابًا وجاء شخص ما ونقل عن المؤلف من كتابه ما نقل، ما كان في ذلك مانع ولا يجوز لأحد أن يمنعه لكن أن يسرق كتابه فينشره ويستفيد به ويتاجر فيه، فأظن أن هذه من الحقوق التي ينبغي أن تحفظ بمقومات العصر، وبمقتضى ما جرى عليه العرف، يأتي إلى جانب ذلك حقوق أخرى ترتبط بجودة المنتج ودقة الصناعة، عندما تباع هذه الحقوق في ظني أنه لا باس من بيع هذا الحق مشترط فيه شروط الجودة، وشروط المتانة التي في هذه الصناعة أو هذا المنتج الذي يباع لكن يأتي إلى جانب هذا نوع آخر من الحقوق ما يتعلق بجانب الشهرة، وهذا ما يتعلق بالعلامة التجارية ونحوها، فلا بأس من بيعها إذا ما اتخذت فيها الضمانات التي تحمي من الغش والغرر. بقى نوع آخر في نظري من هذه الحقوق، وهو ما يعتبر كمسوغ قانوني فقط، كمثل بيع السجل التجاري، وهو أمر لا يبذل فيه البائع شيئًا أكثر مما نسميه بحقوق الوفاء وبحقوق المروءة، ولكن قوانين المجتمعات الإسلامية الآن تسمح أن تحظر إنسان ما هذا الحق، أو تعسر عليه الوصول إلى الحق، ولعلنا سمعنا من المناقشات الكثيرة من يجيزه ومن يمنعه، فلا بد له من الشروط التي تحمي في هذه الحالة المقومات الخلقية في المجتمع الإسلامي وقيمه، بالإضافة إلى تيسير حقوق المتعاملين وتيسير معاشهم. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2072 الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم حين سمعت فضيلة الأخ الشيخ عبد الله بن بيه أثر فِيَّ كلامه لأنه قاله بإخلاص وتجرد وحرارة، ولكن كاد هذا ينسيني الأمر فقهًا، فلا شك أنه من الأولى والأورع والأفضل ألا يأخذ الإنسان أي مقابل بالنسبة لحقوق التأليف، ولكن هذا شيء - مرتبة الفضل شيء ومرتبة العدل شيء آخر - صحيح أن أئمتنا السابقين ما كانوا ليجيزوا مثل هذا أو بعضهم لأنهم اختلفوا في كثير من الأمور أيضًا، يعني بعضهم قبل جوائز السلطان وبعضهم لم يقبل، وبعضهم عاش حياة مرفهة وبعضهم عاش حياة خشنة، فهم يتفاوتون في هذا الأمر كذلك، ولكن نحن الآن في وضع مغاير للوضع السابق، الآن الأمر لم تعد عملية الكتاب مجرد تأليف - شخص يؤلف كتابًا - إنما هي صناعة يشترك فيها كما قال فضيلة الشيخ المختار - المؤلف والناشر والطابع والموزع، ومن هنا يعني أنا أوافق الحقيقة وقد سبقني الإخوة بقياس هذا الأمر على ما اختلف فيه من قضية الأذان والإمامة والخطابة والوعظ والتدليس فهذه قد اختلف فيها من قليل وكثير ممن منعوها قديمًا أجازوها في العصور المتأخرة منهم الحنفية، فأئمة المذهب ومشايخه السابقون منعوها ثم جاء المتأخرون فأجازوها حفظًا لمصلحة المسلمين، وهذه شبيهة بها، هي أشبه شيء بها تمامًا، وكما قال الإخوة: إننا نحن الآن نعمل في الجامعات ونعلم أبناء المسلمين العلوم الشرعي ونتقاضى على ذلك رواتب وأجورًا فهذه من هذه، وأذكر ههنا كلمة للإمام أبي محمد بن أبي زيد القيرواني صاحب الرسالة، حينما اتخذ في بيته - كان في الأطراف على ما يبدو - كلبًا للحراسة، فقيل له: أتتخذ كلبًا وقد كرهه مالك؟ فقال: لو كان مالك في زماننا لاتخذ أسدًا ضاريًا، فنحن في زمن غير زمن مالك رضي الله عنه، وغير زمن ابن حنبل، والذين قالوا: كيف تأخذون حقوق التأليف وذهبوا وأخذو كتبنا وربحوا فيها واستفادوا منها، لو كانوا يوزعونها مجانًا فهذا معقول؟ وأنا فعلًا إذا كان هناك جمعية خيرية أو إنسان يريد أن يتبرع بطبع كتاب ونشره، فأرى أنه لا يجوز لإنسان أن يأخذ حقًّا عليه في هذه الحالة، أما وقد دخل دائرة التجارة فهنا للمؤلف حق، خصوصًا أن كثيرا من الناس يعيشون على مثل هذا الأمر، يعني ليس كل الناس موظفين، هناك أناس يعيشون للعلم، وهو يتعيش مما يرد عليه من تأليف كتبه، لأن الكتاب هو نتيجة جهد مختزن لعدة سنين، فهذا الجهد يأخذ عليه مقابلًا وهو من العدل، هو تشجيع لأهل العلم أن يبذلوا، والإنسان قد يتكلف في التأليف، التأليف ليس مجرد فكرة تخطر، قد يتكلف في هذا أنه يكون مكتبة تتكلف كذا، وأن يكون له سكرتارية، أن يطبع هذا على الآلة الكاتبة، كل هذه تتكلف تكاليف، أليس من حقه أن يأخذ مقابلًا على ذلك؟ كان الأقدمون يمكن أن يقدم الكتاب للأمير أو السلطان فيعطيه وزنه ذهبًا أو نحو ذلك، فالآن الأمور تغيرت، صحيح أن الذي يجب أن نقف ضده ونحذر منه هو الاستغلال لهذه المؤلفات، هناك المذكرات الجامعية للطلاب بأضعاف قيمتها مستغلين حاجتهم إلى ذلك باسم حقوق التأليف. مثل هذا ينبغي أن يمنع ويحرم، أما إذا كان أمر التأليف على ما هو عليه وعلى ما جرى عليه، يعني علماء عصر من غير نكير كما يقول علماؤنا، يعني هذا أمر جرى عليه الجميع تقريبًا، لا أكاد أجد من يقول لا آخذ شيئًا جرى عليه هذا دون نكير فأصبح عرفًا عامًّا. ولذلك هذه القضية الحقيقة أنها من القضايا التي تثار دائمًا باسم من سئل عن علم فكتمه وإلى آخره، ولكن ليس هذا من كتمان العلم ولا من السؤال لأنه ليس هناك من يسأل فيمنع الجواب. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2073 الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور: بسم الله الرحمن الرحيم شكرًا أيها السيد الرئيس، يبدو لي - بعد تقديري للعرض وللبحوث والمناقشات ولأصحابها الأفاضل - أن المسألة ذات تأسيس ثم ذات تفريغ، أما التأسيس فهو أننا نعيش اليوم في عصر غير العصور المتقدمة، في عصر صار فيه طباعة، وصار فيه نشر، وصار فيه توزيع، وصار فيه أمور تجارية وسجلات وماركات، هذا شيء لم يكن من قبل، فهذه نوازل ووقائع، ولم تكن في عهد أئمتنا السابقين رضي الله عنهم، فيجب أن نبحث فيها من جديد لا باس أن نقيس، لا بأس أن نستحسن، ولكن لا بد أن نوجد حكمًا جديدًا على ضوء الأحاديث الجديدة والإسلام بفقهه العظيم عظيم كما تعلمون أيها السادة وسط المثالية والواقعية، فلا هو واقعي كل الواقعية يتناسى المثالية، ولا هو مثالي يتحاشى الواقعية، وهذه ميزته الأولى بل خصيصته الأولى، بهذا التوازن وهذا الاعتدال ينبغي أن نفكر نحن في هذه الأمور فنفرعها إلى فرعين اثنين: فرع يختص بالأمور التجارية كالماركات والسجل التجاري وما شابه ذلك، والذي يبدو لي من معاشرتي للتجار، وكان أبو حنيفة تاجرًا وكان يدخل الأسواق، لذلك عظم فقه الماركات والسجلات التجارية والأسماء، هذه الأشياء التي نذكرها نحن الآن إنما هي ذرائع فساد، وتؤدي دائمًا إلى فساد إلا ما رحم ربك، فكم من إنسان جاهل استأجر شهادة صيدلاني، وهو لا يعرف أن يضرب حقنة في وريد، أو في عرق أو في عضل، فأمات الناس، وكم من إنسان اشترى ماركة جيدة فأفسدها، بهذا: أرى أن يكون الأصل في هذا المنع سدًا للذريعة، ولكن لا بأس أن نكون أيضًا واقعيين، فأرى أن تتكرم الأمانة العامة والرئاسة الرشيدة بالنسبة للأمور التجارية لتخصص لها مستشارين من الفقهاء الأجلاء من التجار ومن رجال القانون، أن يكون مثلًا فقيهان وأن يكون تاجران ومحاميان، إذا رأى ذلك أولو الأمر منا، جزاهم الله كل خير فيبيحوا بالضوابط والشروط ما لا يوصل إلى ذريعة فساد، هذه ناحية، أما أن نعمل نحن في الفقه والتجارة والصناعة والزراعة والصيدلة وكل شيء فلا ندعي أننا نفهم كل شيء، نحن نفهم بالفقه فقط وأصوله، ورحم الله امرءًا عرف قدره فوقف عنده ولم يتعده. الناحية الثانية: هي قضية حقوق التأليف، حقوق التأليف لا شك أنها أمر جديد كل الجدة، ولم يكن من قبل، أنا أفهم أن التأليف مباح فيها إذا أخذ إنسان - كما تفضل بعض الأستاذة - فكرة أو أفكارًا، أو لمعت في نفسه خواطر لمعت في رأس غيره، أو استفاد حكمة أو مثلًا، أما قضية الكتابات تأليفًا وطباعة نشرًا وتوزيعًا فهذا شيء جديد، ويقاس على ما تفضل به الإخوة، يمكن قياسه على أخذ الأجر ولكن، لي هنا رأي هو أن علماء الدين الإسلامي وأنا خادمهم يجب أن يكونوا فوق الناس، أن يكونوا في مثالياتهم، في تضحيتهم، ما الفرق بين عالم الدين ورجل القانون إذا كان عالم الدين يشفط من حقوق التأليف ما يشفطه رجل القانون بل يزيد؟ إنني أمشي في خطة - واعذروني إذا تكلمت بشفط بالعامية يعني لتدركوا مدى اللهف لا سيما من كبار الأساتذة المشهورين لا مثلي المغمورين - لذلك أرى أن علماء الدين لا يجوز أن يتقاضوا على كتبهم الإسلامية شيئًا إلا هدايا، ليكونوا قدوة حسنة للناس أما إذا كتبوا في العربية، أو كتبوا في الشعر، أو كتبوا في التراجم والأعلام، أو كتبوا في أمر دنيوي، فلا مانع أن يماكسو ويبيعوا دنيا بدنيا، أما أن يبيعوا دينًا بدنيا فلا، هذا رأيي ولا ألزم به أحدًا وإني ولله الحمد ماض عليه وشكرًا. الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم أنا في الحقيقة أحب أن أركز على الاسم التجاري والشهرة، وهما في الحقيقة نقطتان، شهرة مجردة، وشهرة مضاف إليها عمل وخبرة - ما في حاجة ثالثة - الشهرة المجردة أنا في رأيي لا تباع، لأنه يدخل فيها الغرر والجهالة والوهم وربما التدليس، أما الشهرة المضاف إليها عمل وإدارة فهذه تقدر بقدرها، عندي بالنسبة لتغير أوراق النقدية أرجو أن تأذنوا لي - الورقة التي عندي - أسلمها للجنة، فيها رأيي وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2074 الرئيس: شكرًا، انتهى طلب الكلمات: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. من واقع البحوث والمداولات يتضح أن كثيرًا من المداولات أخذت شكلًا غير شكل البحوث، لأن البحوث كانت في الاسم التجاري والترخيص، وكان عدد منها في الوعاء العام لها وهو الحقوق المعنوية، التي يدخل فيها كذلك حقوق التأليف وما جرى مجرى ذلك، ونظرًا لوجود نوع من التفاوت في وجهات النظر، وفي الآراء التي بدت حول هذه المسائل، سواء كان على سبيل التأصيل لها، أو على سبيل مفرداتها، فقد ترون مناسبًا أن تؤلف لجنة لها تجمع الاتجاهات المختلفة بها، بالمقرر الشيخ حسن الأمين، وعضوية كل من أصحاب الفضيلة المشايخ: الشيخ وهبة، الشيخ تقي العثماني، والشيخ عجيل، والشيخ مصطفى التارزي، والأستاذ منذر، هذا ناسب؟ شكرًا. يبقى بعد هذا: اللجنة العامة للصياغة، والتي تتألف من المقرر العام الشيخ عبد الستار ومن المقررين: الأستاذ: حسن علي الشاذلي، ومحمد رضا عبد الجبار العاني، سامي حمود، محمد سليمان الأشقر، حسن عبد الله الأمين، عبد الله محمد عبد الله، عبد الله بن منيع، محمد عطا السيد، عمر سليمان الأشقر، مصطفى الغزالي، والمطلوب أن يكون الاجتماع في هذا المساء اليوم في الساعة الثامنة والنصف إن شاء الله تعالى في قاعة الروضة في مدخل هذا الفندق وشكرًا، وبه ترفع الجلسة وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2075 مناقشة القرار الدكتور عبد الستار أبو غدة: قرار رقم (5) بشأن الحقوق المعنوية بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (الحقوق المعنوية) ، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله قرر: أولا: الحقوق المعنوية والاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية وحق الترخيص وحق التأليف هي ملك خاص لأصحابها وقد أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس بها وعنيت القوانين بتنظيمها وبيان طرق التصرف فيها، وهذه الحقوق يعتد بها شرعا. ثانيا: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العلامة التجارة أو العنوان التجاري ونقله بعوض مالي إذا انتفى التغرير أو التدليس أو الغش باعتبار أن الاسم التجاري أصبح حقا ماليا في النظر الشرعي. ثالثا: للترخيص التجاري صورتان، إحداهما: أن يباع مع المحل التجاري كجزء منه، فهذا جائز شرعا بالشروط المعتبرة في العقود إذا لم يعارض ما يقرره ولي الأمر لمصلحة معتبرة شرعا، الصورة الثانية: بيع الترخيص وحده دون المحل التجاري وفي هذه الصورة حالتان: الحالة الأولى: بيع الترخيص مع بقائه باسم البائع، فهذا في الحقيقة ليس بيعا بل هو بمعنى الكفالة، وهي كفالة البائع للمشتري دون أن يشارك البائع بمال أو عمل فلا يصح أخذ العوض مقابل ذلك التنازل عن الترخيص لمزاولة المهنة لأن الأصل في الكفالة أنها تبرع ومعروف، لا يجوز أخذ العوض عنها، ومنع البيع لا يستلزم منع الشراء ممن دفعته الحاجة إلى ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2076 الحالة الثانية: التنازل عن الترخيص لممارسة المتنازل له مهنة معينة وذلك دون مقابل أو بمقابل مكافئ لعمل معين يؤديه المتنازل للتمكين من تلك الممارسة فهذا جائز شرعا ما لم يعارض ما يقرره أو جائز ما لم يقرره ولي الأمر لمصلحة معتبرة شرعا (حتى لا تكرر شرعا) . رابعا: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها أو تصرف الغير فيها تصرفا ينتقص من الحقوق المالية لأصحابها الذين يتمسكون بهذه الحقوق. الدكتور عجيل النشمي: نقطة نظام لو سمحت … . الرئيس: تفضل يا شيخ عجيل … . الشيخ عجيل: بسم الله الرحمن الرحيم. نقطة نظام على هذا القرار: باعتباري أحد أعضاء اللجنة التي صاغت وسجلت تحفظي، اعتراضي في نقطة النظام على فقرة ثالثا وما يليها مما يتعلق بالرخصة وحق التأليف والاختراع: فإن مجمعنا الكريم ما عودنا أن يسلك في قراراته هذا الاتجاه، ذلك أن موضوع (الرخصة) ، وموضوع (التأليف) ، و (الاختراع) ، لم يكتب فيه كتابة وافية. هذا أولا، الشيء الثاني: كل البحوث التي كتبت إنما كتبت في الاسم التجاري وجاءت نبذة مقدمة بسيطة في بحثين أو بحث واحد للشيخ البوطي في موضوع (الاختراع) ، الشيء الثالث: أن الصور التي ذكرت هنا تفصيليا لم ترد - الأخ الرئيس كن معي في هذه النقطة - الصور التفصيلية التي ذكرت هنا لم ترد لا في البحوث، ولا في المداولات، فهي في حكم إفتاءات من اللجنة، وأعتقد أن هذه نقطة نظام تجعلنا نتحفظ تحفظا شديدا على هذا القرار. وشكرا. الرئيس: شكرا، اقرأ القرار من أولا يا شيخ. الفقرة الأولى، قرر أولا. أبو غدة: قرر: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2077 أولا: الحقوق المعنوية. الرئيس: نحن نأخذها فقرة فقرة ونستوقف. أبو غدة: الحقوق المعنوية والاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية وحق الترخيص. البسام: عند هذا الكلام من الحقوق المعنوية: الحقوق المعنوية، هذه كلمة عامة جدا جدا تشمل حتى حقوق: حد القذف والولايات على النكاح والوظائف، والأشياء وكذا، ونحن نتكلم عن أشياء مالية … . نحن نتكلم عن أشياء مالية. الرئيس: يا شيخ لو أضفنا وقلنا: من الحقوق المعنوية من الاسم التجاري والعنوان التجاري إلى آخره. الدكتور طه العلواني: ربما الاعتبارية تزيل الإشكال يا شيخ. الرئيس: عفوا: لو أضفنا (من) بعد الحقوق المعنوية حتى ما عادت تنصرف لغير هذه الأشياء المذكورة بعدها. دكتور طه العلواني: أو الاعتبارية بدل المعنوية. البسام: يعني يجوز مثلا أن يتنازل عن ولاية النكاح؟ ولاية النكاح يجوز أن يتنازل عنها ويبيعها وهي مخصوصة بشخصه؟ الرئيس: لماذا لا نبدأ فنحذف العبارة كلها (الحقوق المعنوية) ؟ نقول: أولا: الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية، إلى آخره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2078 الشيخ رجب التميمي: الاسم التجاري حق معنوي لصاحبه، هذا الاسم التجاري إنما حصل عليه صاحبه بالخبرة والعمل وبذل الجهد، فإذا ما بيع هذا الاسم من صاحبه لغيره، قد يكون الشخص الآخر غير أهل للتعامل بهذا الاسم التجاري، الاسم التجاري حق معنوي لكن هذا الحق المعنوي لا يجوز أن ينتقل من شخص له اسمه المعروف في السوق لشخص مجهول غير أهل للسير بهذه الصفة، وبذلك فإني أرى أن الاسم التجاري المعنوي، ليس من ملك لصاحبه لكن بيعه فيه ضرر للمصلحة العامة، بيع الاسم التجاري من صاحبه لغيره ضرر وفيه غش وتزوير، لأننا نقول للمجتمع إن هذا الاسم الذي اكتسب صفة خاصة يباع لشخص ويثق الناس بهذا الاسم، مع أن البيع للجهة التي تشتريه قد لا تحافظ عليه، وفي هذا غش وتزوير وبيع لشيء معنوي انتقل من شخص له الصفة إلى شخص دفع مالًا لكنه لا يستطيع أن يحافظ على الصفة المعنوية للاسم التجاري الذي بيع له من غيره، ولذلك فإني أرى أن الحقوق المعنوية التي وردت في هذا القرار يجب أن تمحص تمحيصا دقيقا فيه ضبط حتى تظهر في هذا القرار قيمة الشيء المعنوي الذي سيباع، وهل هذه القيمة المعنوية التي سيدفع ثمنها لها فائدة للمجتمع للمصالح العامة؟ أم هي أشياء فقط تؤول من صاحبها لغيره وهو المستفيد والمصلحة العامة غير مستفيدة؟ الدكتور عجيل النشمي: أقول عرفا ولائحيا لا بد أن يجاب على نقطة النظام قبل أن ندخل في التفاصيل. الرئيس: لا: سنقول إذا وصلنا إليها، نحن الآن سنبدأ بالفقرة الأولى فإذا وصلنا إليها نبحثها إن شاء الله. البسام: سماحة الرئيس: قوله: " وعنيت القوانين بتنظيمها، أنا أرى يعني كأننا نستعد أو نتكئ أو نستدل بالقوانين الوضعية على ما نحن فيه، هذه إشارة، وأرى أن هذه الكلمة لا معنى لها، نستأنس بالقوانين الوضعية؟ الرئيس: أصلا هي لا تؤدي إلى حكم شرعي. كلمة (وعنيت القوانين) أقول ليست من لازم الحكم الشرعي. البسام: لكن كأننا (مستأنسون) . الرئيس: لا، أقول: طالما أنها ليست من لازم الحكم الشرعي فلا داعي لوجودها. ما في ضرورة لوجودها. الضرير: وصلنا إلى ثانيا. الرئيس: لا، لا، نحن ما زلنا في أولا. هل نحذف كلمة الحقوق المعنوية؟ وتبدأ العبارة (الاسم) . طيب اقرأ أولا يا شيخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2079 دكتور أبو غدة: أولا: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، وحق الترخيص، وحق التأليف، هي ملك خاص لأصحابها وقد أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتمدة لتمول الناس بها وعنيت القوانين بتنظيمها وبيان طرق التصرف فيها، وهذه الحقوق يعتد بها شرعا. ثانيا: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العلامة التجارية أو العنوان التجاري، ونقله بعوض مالي إذا انتفى التغرير أو التدليس أو الغش باعتبار أن الاسم التجاري أصبح حقا ماليا في النظر الشرعي. الشيخ التسخيري: قبل أن ندخل في ثانيا يا سيدي الرئيس: الشيخ المختار: ثانيا أنا عندي فيها شيء. (ونقل ذلك) : لأننا تحدثنا عن الاسم التجاري والعلامة التجارية والعنوان التجاري (ونقله ايش يكون؟) إما نقلها … أو نقل ذلك. أبو غدة: ونقلها … . الشيخ التسخيري: سيدي الرئيس. أعتقد العبارة الأولى يعني أولا، هي ملك خاص لأصحابها بعد أن أصبح لها في العرف المعاصر قيمة، وعبارة (عنيت القوانين) تحذف. الرئيس: مهلا. (وقد أصبح لها في العرف المعاصر هي ملك خاص لأصحابها) . التسخيري: بعد أن أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية. الرئيس: بعد أن أصبح لها في العرف قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها. التسخيري: لأنها سابقا ما كانت كذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2080 الرئيس: كلمة (وعنيت) تحذف التسخيري: (وعنيت) تحذف وهذه الحقوق يعتد بها شرعا. الرئيس: اقرأ أولا يا شيخ. أبو غدة: أولا: الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية وحق الترخيص وحق التأليف هي ملك خاص لأصحابها بعد أن أصبح لها في العرف المعاصر قيمة معتبرة لتمول الناس. الشيخ المختار: إذن قد أصبح … أبو غدة: لتمول الناس لها. الرئيس: بعد أن أصبح لها، إذ أصبح لها، مناسب، (إذ أصبح لها في العرف المعاصر) . أبو غدة: هي ملك خاص لأصحابها إذ أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها. الشيخ المختار: لتمول أو يتمول؟ هي لكمالة المعنى: يتمول. هناك خطأ مطبعي. الرئيس: ماذا فيها: "لتمول الناس بها"؟ التسخيري: معتبرة كاف. الرئيس: لكن إذا بقيت ماذا فيها؟ زيادة وإيضاح. ما فيها شيء. أبو غدة: وهذه الحقوق يعتد بها شرعا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2081 الرئيس: طيب، المادة هذه موافقون عليها؟ موافقون؟ من الذي له ملاحظة؟ الدكتور عجيل النشمي: لي ملاحظة عليها، ملاحظة فقط. الرئيس: الشيخ عجيل؟ تحفظ يعني؟ دكتور عجيل النشمي: أي نعم، هو تحفظ يعني عبارة حق الترخيص وحق التأليف. الرئيس: نرجع لها. دكتور عجيل النشمي: مرتبطة بما يلي إن شاء الله، (ثم) علميا العبارة ليست صحيحة، لا يقال حق الترخيص ملك خاص. الرئيس: هل - يا مشايخ - هل يقال هي ملك خاص أو يقال حق خاص لأصحابها؟ مناقش: الترخيص والتأليف … الرئيس: يقال الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والترخيص والتأليف هي حقوق لأصحابها. أبو غدة: تكون هي أملاكا خاصة. الرئيس: هي حقوق خاصة لأن العبارة الجارية حقوق. مناقش: تحتل العبارة حينئذ لأننا نقول: هي حقوق خاصة لأصحابها إذ أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية. التسخيري: سيدي الرئيس لأن هناك فرقا بين … . الرئيس: لا لا، هناك نقطة: أنتم في آخر ما قلتم (وهذه الحقوق يعتد بها شرعا) فأنا أقول: لو قيل مثلا الصياغة كالآتي: " الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والترخيص والتأليف هي حقوق خاصة لأصحابها وهذه الحقوق معتد بها شرعا ". أبو غدة: صحيح … . صحيح. التسخيري: صحيح لأن هناك فرقا بين الملكية والحق. الشيخ المختار: التأليف هو حق لأصحابه. الرئيس: نعم: " هي حقوق خاصة لأصحابها ". الأمين العام: التأليف ملك وليس حقا. الشيخ المختار: حق … التأليف حق لصاحبه. مناقش: والترخيص لا يقال حق الترخيص. الترخيص يعطى، ولا يقال له حق. الشيخ التسخيري: وليس ملكا، ملك ماذا؟ الملك شيء آخر. هناك فرق بين الملكية والحق. مناقش: الملك نتيجة. مناقش آخر: لا تنسجم العبارة حينئذ. مناقش: سيادة الرئيس: نستطيع أن نقول كما هو وارد في القوانين (الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية وحق الترخيص وحق التأليف هي حقوق أدبية لأصحابها لها قيمة مالية معتبرة عرفا) . الرئيس: الذي ترون فيه البركة، لكن أنا في نظري يبقى على هذا (هي حقوق لأصحابها وهذه الحقوق معتد بها شرعا) وانتهينا. فقط جوامع الكلم أحسن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2082 دكتور الصديق الضرير: يا سيدي الرئيس، هل هي حقوق مالية أو لا؟ نحن سنرتب عليها فيما بعد البيع فأنا رأيي أن يكون بعد حق التأليف (هي حق خاص لأصحابها لها في العرف المعاصر قيمة مالية) بدل إذ … ما في تعليل (هي حقوق خاصة لأصحابها أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة وهذه الحقوق يعتد بها شرعا) ، نريد أن نثبت لها القيمة حتى يجوز بيعها. الرئيس: هذا طيب. مناسب هذا يا مشايخ؟ أبو غدة: مناسب … مناسب. الأمين العام: إذن أعطنا الصيغة. الرئيس: الصيغة (الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والترخيص والتأليف هي حقوق مالية لأصحابها - هي حقوق خاصة لأصحابها - أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس بها وهذه الحقوق معتد بها شرعا) . الأمين العام: إذن نبقيها: (لتمول الناس بها) ؟ الرئيس: نعم … موجودة. الدكتور طه العلواني: لا داعي لها (لتمول الناس) معتبرة فقط. الرئيس: تحذف؟ أبو غدة: لا … . والله مفيدة. الشيخ رجب التميمي: … . ذلك أن الشخص صاحب العلامة التجارية أو الاسم التجاري قد يمر على موته مائة عام واسمه يستعمل في السوق ويباع ويشترى. الرئيس: يا شيخ رجب أنتم أبديتم الشيء هذا، ما دمتم أبديتموه كفى، نحن سمعنا كلامكم، أقول سمعنا كلامكم لكن المشايخ مجمعون على ما هو موجود هنا والذي له تحفظ يعطينا إياه تفضل اقرأ يا شيخ. أبو غدة: ثانيًا: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العلامة التجارية أو العنوان التجاري ونقلها بعوض مالي إذا انتفى التغرير أو التدليس. الرئيس: ونقله. يعني نقل أي واحد من هذه الأنواع. لا (ونقله بعوض مالي) يعني نقل الاسم التجاري، نقل العلامة، نقل كذا بعوض مالي. الشيخ خليل الميس: ونقل أي منها. أبو غدة: ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى التغرير أو التدليس أو الغش باعتبار أن الاسم التجاري أصبح حقًّا. الشيخ المختار: باعتبار أن ذلك. أبو غدة: باعتبار أن ذلك أصبح حقًّا ماليًّا في النظر الشرعي الرئيس: (أصبح حقًّا ماليًّا) يكفي. يعني أنها اجتهاد. يعني اتركوها … . الله يعفو. الدكتور الضرير: هذا نتيجة طبيعية لأنها أصبحت حقًّا ماليًّا ما دام قلنا في أولًا، لكن ملاحظاتي (يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العلامة التجارية) ، الأولى هنا أن يقال (في الاسم التجاري) تأتي بعده (أو العنوان التجاري) حسب الترتيب السابق هذه حاجة شكلية (أو العلامة التجارية ونقله بعوض مالي) . هنا نقول (إذا انتفى التغرير أو التدليس أو الغش) العطف بالواو هنا وليس بـ (أو) الرئيس: هذا صحيح إذا انتفى (التغرير والتدليس والغش) . الضرير: نعم. الرئيس: تحذف الهمزة. لا تهمزوها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2083 الضرير: ثم كلمة (التغرير) هنا ما المراد بها؟ هو في عرف المحدثين تعني (التدليس) ولعل المراد هنا (الغرر) ، إذا انتفى الغرر والتدليس لتحصل المغايرة والغش بدل التغرير. الشيخ التسخيري: ليس المراد الغرر في العقد، التغرير دكتور الضرير: إذا كان المراد التغرير فلا داعي له لأن التغرير هو التدليس وإن كان من الناحية اللغوية كلمة (التغرير) غير سليمة لا تعني التدليس لكن المراد الغرر يكون له معنى آخر. الرئيس: التدليس يشمل التغرير … يشمل التغرير. دكتور الضرير: لكن الشيء يبدو لي مما قرأته من المقدم في هذه المسألة، وهو استعمل كلمة (التغرير) بمعنى الغرر، يريد منها الغرر. مناقش: لكن الغرر لا علاقة له هنا. دكتور الضرير: هو المصدر تغرير مصدر من غرر بنفسه إذا أوقعها في الغرر، وغر غيره غرورا إذا دلس عليه وغشه. مناقش: سيادة الرئيس الفقرة الثانية لماذا لا ترتبط بالفقرة الأولى؟ دكتور الضرير: فإما أن نضع كلمة الغرر بدل التغرير أو نحذفها. مناقش: فيجوز التصرف فيها، وتنتهي التسخيري: مسألة الحق غير التصرف مناقش: لحقوق مالية. الرئيس: يعني تربط بالأولى. مناقش: طبعًا … . ما النتيجة التي … التسخيري: سيدي الرئيس. هناك حقوق لا يجوز التصرف بها يا سيادة الرئيس ولذلك فلتبق مستقلة، يعني ذلك أمر وهذا أمر آخر. هناك حق المؤمن، حق الجار لا يمكن التصرف فيهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2084 الرئيس: هو - سلمك الله - الفقرة الأولى أثبتت التكييف الشرعي، أثبتت التكييف، أما الفقرة الثانية فهي أثبتت الحكم، لأنها تناولت الاسم التجاري، والعنوان التجاري والعلامة التجارية والترخيص يأتي، والتأليف يأتي. . . الأمين العام: إذن الغرر وإلا التغرير وإلا … ؟ الرئيس: لا: الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك أصبح حقًّا ماليًّا. فقط أبو غدة: ثالثًا: للترخيص التجاري صورتان: إحداهما أن يباع مع المحل التجاري كجزء منه فهذا جائز شرعًا بالشروط المعتبرة في العقود إذا لم يعارض ما يقرره ولي الأمر لمصلحة معتبرة شرعًا. الرئيس: يكفي. ما رأيكم؟ الشيخ عجيل لا شك متحفظ، الشيخ عجيل هو متحفظ ويرى ألا تبتوا بهذا لأن هذا الموضوع لم تحصل مداولة فيه - ولا البحوث فيه - في أثناء الجلسة، والشيخ عبد اللطيف معه والشيخ خليل والشيخ إبراهيم. يا شيخ أحمد يعني إذن تحذف كلمة: الترخيص والتأليف من الفقرة الأولى؟ . التسخيري: يحذف من أولًا … من أولًا يحذف. الرئيس: الترخيص والتأليف؟ التسخيري: لا … الترخيص، التأليف دعوه، حق الترخيص احذفوه حتى لا … ونحذف ثالثا. الرئيس: طيب … إذا رأيتم يحذف؟ مناقش: الواقع المقصود كما فهمته من الأستاذ عجيل هو أننا لم نناقش الصور المختلفة للترخيص، أما بيع الترخيص كحق مالي فهذا مما قررناه في الفقرة الأولى، وأما الصور المختلفة للترخيص ما بحثناها ولا درسناها. الرئيس: أنا أقول طالما أن الرجوع إلى الحق خير - طالما أننا نحن اتخذنا قاعدة أن لا نبت بحكم بمسألة إلا بعد أن نستوعبها بقدر الإمكان والوسع - فإذا رأيتم أن الفقرة الأولى أولًا: (الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والتأليف) يعني وحق التأليف، وتحذف كلمة الترخيص، ثم ثالثًا تحذف. ترون هذا مناسبًا؟ مناقش: مناسب … .. نعم. الرئيس: الذين يرون حذفه يرفعون أيديهم، انتهى يحذف … يحذف الترخيص من أولا. الدكتور طه العلواني: يعني يؤجل أو بالمرة … ؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2085 الرئيس: لا، يؤجل، يؤجل فقط المهم أن يحذف الحكم من القرار هذا، وثالثا هذه كلها تحذف، يبقى على عبارة في أولا هل هي مناسبة؟ (الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والتأليف كذا) … الشيخ أحمد؟ … . الشيخ الخليلي؟ مناقش: حق التأليف يحذف ما استوعب بحثا. الرئيس: نعم؟ مناقش: حتى يستوعب بحثا. الرئيس: أكثر مناقشات الإخوان عليها، لا لا، بحثت يا شيخ وأمرها الحمد لله واضح. مناقش: بحثت ولكن ما استقر رأي عليها. الرئيس: لا، أنا أذكر تماما وأنتم تذكرون على أنها بحثت وجاءت مداولة فيها ولا أعرف فيها رأيا معارضا إلا الشيخ عبد الله بن بيه، قال من باب الورع أو شيء من هذا القبيل. مناقش: طيب وهذا بجانب الشيخ عبد الله بن بيه … هذا بجانبه. الرئيس: جزاك الله خيرا، أنا لي بحث وأنا بجانب ابن بيه، ولكن الحقيقة يعني أصبح الآن: النقطة مهمة ولا أحب أن افتح باب النقاش، أصبحت المؤلفات الآن بعد ما حصلت مسألة لبنان، أصبحت جوادا رابحا لغير المسلمين يطبعونها ويوصرونها ويربحون بها أموالا طائلة، فالآن مؤلفات المسلمين ما سلمت وعليها حقوق التأليف محفوظة، فكيف إذا أفلتنا؟ فهذه نقطة مهمة، وأنا لا أكتمكم أن دارا من دور النشر لغير مسلم أصبحت الآن عملاقا في المال بسبب تصوير هذا الكتب، والحمد لله: يعني الواقع الآن يثبت على أن قضية الاحتفاظ بحقوق التأليف ليست معوقا عن العلم ولا عن طلب العلم ولا عن انتشار الكتب، هذا شيء أصبح يقينيا، فإذن الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والتأليف. فقط أنا قصدي هل العبارة مناسبة كذا (والتأليف) ؟ . مناقش: حق التأليف. الرئيس: طيب، رابعا الذي هو ثالثا. الأمين العام: لا … لا … . ثالثا ألغيناها. الرئيس: نعم كلها. أبو غدة: رابعا صارت ثالثا. ثالثا: حقوق التأليف والاختراع والابتكار مصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها أو تصرف الغير فيها تصرفا ينتقص من الحقوق المالية لأصحابها الذين يتمسكون بهذه الحقوق. الرئيس: هذه عندي فيها وقفة، هل يجوز أن يتصرف الغير فيها تصرفا ينقص من حقوقها الأدبية؟ الشيخ التسخيري: أصلا هذه العبارة لا داعي لنا فيها. الرئيس: فأنا إذا رأيتم أن تكون (حقوق التأليف والاختراع والابتكار مصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها أو تصرف الغير) فقط، وانتهينا. الشيخ التسخيري: هذا أمر قلناه في أولا سابقا، قلنا إنها حقوق بعد، واضح المعنى أنها تصير حقوقا، حقوق التأليف طرحناه في أولا، إذا أردنا فلنضف حقوق الاختراع هنا في أولا وتنتهي المسألة، لماذا نفرد لها مادة مستقلة؟ لا: هناك ذكرنا التأليف وحق الابتكار، وتتنهي المسألة. مناقش: لا، ولكن ما ذكر فيما قبله حكم بيع الحقوق، بيع حق الاختراع … .. الرئيس: يا مشايخ يكون في أولا في آخرها لما قلنا (وهذه الحقوق يعتد بها شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها) وتنتهي. دكتور الضرير: نحن نريد أن نبين حكم التصرف فيه بالمعاوضات. مناقش: يضاف إليها حق التأليف. دكتور الضرير: ما ورد. الشيخ التسخيري: هذا في ثانيا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2086 الشيخ المختار: سيدي الرئيس القضية: يمكن الاستعاضة بما تفضلتم به، لكن لا بد من التنصيص على هذه الحقوق … فهذا أمر جديد. الرئيس: فأما أنا أرى الفقرة جميلة جدا التي هي ثالثا. الشيخ المختار: لكن … . " ولا يجوز الاعتداء عليها أو التصرف فيها بغير إذن صاحبها " أزيلوا كلمة (الغير) لأن كلمة (الغير) فيها خلاف كبير. الرئيس: هكذا يكفي … وتنتهي. الشيخ المختار: أي نعم: " أو التصرف فيها بغير إذن صاحبها ". الرئيس: أو التصرف فيها بغير إذن صاحبها. لكن الحقيقة ما معناها؟ هو التصرف بغير إذن أليس اعتداء؟ الأمين العام: هو اعتداء. الرئيس: هي … لا داعي له (ولا يجوز الاعتداء عليها) وانتهينا. مناقش: ولكن لم يذكر فيه حكم بيع هذا الحق. الرئيس: نعم. مناقش: لم يذكر هنا حكم بيع هذا الحق والاعتياض عنه والتنازل عنه بعوض. التسخيري: ثانيا … ثانيا مولانا … يجوز التصرف. مناقش: لا … لا … ما جاء هناك حق البيع. التسخيري: نقلها بعوض مالي … يجوز التصرف … ثانيا: يجوز التصرف. الشيخ المختار: إذن ماذا صنعتم بالاختراع؟ الأمين العام: والابتكار … . مصونة شرعا. يجوز بيعها ولا يجوز الاعتداء عليها … لا بد من قضية. كيف يستطيع … ؟ الشيخ التسخيري: سيدي الرئيس: يضاف إلى أولا حقوق الابتكار. الرئيس: هذا واضح. التسخيري: ويضاف: ولا يجوز الاعتداء عليها. الرئيس: مهلا (الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والتأليف والابتكار) هكذا؟ التسخيري: هذا صحيح … وأما النقل بعوض فقد ذكر في ثانيا. مناقش: لا، هنا حق الاسم التجاري مشروط بانتفاء الغرر والتدليس ولا علاقة بالغرر والتدليس مع بيع حق التأليف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2087 الرئيس: على كل في الواقع الذي يظهر في: ثالثا بقاؤها بعد حذف عجزها الأخير، ما فيه محظور ثالثا: " حقوق التأليف والاختراع والابتكار مصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها " فقط وانتهينا. مناقش: ويجوز بيعها … . الرئيس: نعم؟ مناقش: ويجوز الاعتياض عنها أو التنازل عنها بعوض. الرئيس: طالما نحن قررنا في أولا يا شيخ التقعيد العام … مناقش: لا يعني لا بد من النص عليه. مناقش: سيادة الرئيس فلا يجوز الاعتداء عليها وليس (ولا يجوز الاعتداء عليها) . الرئيس: ماذا؟؟ مناقش: فلا يجوز الاعتداء عليها. الرئيس: نعم صحيح. مناقش: من الغير. الأمين العام: هذه نزيدها في ثانيا … هي ألصق بالموضوع. الرئيس: وهذه الحقوق يعتد بها شرعا. الأمين العام: لا، يجوز التصرف في الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية ونقلها بعوض مالي، ننحن قلناها، ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر. أبو غدة: فقط ويلزم أن نضيف فيها التأليف والابتكار. الأمين العام: نعم … أضفها … أضفها. الشيخ التسخيري: يضاف في أولا وثانيا وتنتهي المسألة، يعني ما الداعي لإفراد مادة مستقلة لحق الابتكار؟ أضيفوا الابتكار إلى أولا وثانيا، تتحقق الأحقية ويتحقق عنصر النقل. الرئيس: ونحذف ثالثا؟ الشيخ التسخيري: ونحذف ثالثا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2088 الأمين العام: نعود نقرأ أولا وثانيا. الرئيس: اقرأ أولا. أبو غدة: أولا: الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والتأليف والاختراع والابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها وهذه الحقوق يعتد بها شرعا. ثانيا: يجوز … . الرئيس: لا: وهذه الحقوق يعتد بها شرعا، ولا يجوز الاعتداء عليها. أبو غدة: فلا يجوز الاعتداء … . الرئيس: فلا يجوز الاعتداء عليها. أبو غدة: فلا يجوز الاعتداء. الشيخ المختار: يا سيدي من فضلك الكل على نسق واحد. ثانيا: يجوز التصرف في الاسم التجاري والعنوان التجاري. ثالثا: يجوز التصرف في حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار وهي مصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها إلا بإذن صاحبها … أو الـ … . الرئيس: أنا أقول لو يقال هنا في ثانيا … . الشيخ المختار: أنا أحب أن تسمح، للواقع بأنها واقعة جديدة لا بد من النص عليها واضحة في فقرة كما تحدثنا عن الاسم التجاري، الاسم التجاري تحدثنا عنه في فقرة خاصة، حقوق التأليف التي بالغنا في الحديث عنها لا بد من أن تستقل بفقرة. الرئيس: هي استقلت الآن. هي مستقلة ستأتي … اقرأ ثانيا. أبو غدة: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك أصبح حقا ماليا في النظر الشرعي. الأمين العام: لماذا في النظر الشرعي؟ الرئيس: لا … لا داعي لها … أصبح هو الحل. الشيخ المختار: هنا ثالثا يجوز التصرف في حقوق التأليف. أبو غدة: ثالثا: يجوز التصرف … الرئيس: لا، حقوق التأليف والاختراع … . أبو غدة: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعا فلا يجوز الاعتداء عليها أو التصرف فيها بغير إذن أصحابها. الرئيس: فقط … انتهينا … مناسب. مناقش: يا سماحة الرئيس: أسأل عن التصرف ولا يجوز تصرف الغير فيها، فمثل شرح الكتاب شرح التأليف أو التعليق عليه أو عمل حاشية له أليس هذا من التصرف؟ هل كل ذلك يحجر إلا بعوض مالي؟ الشيخ المختار: إلا بإذن صاحبه قلنا، وليس بعوض مالي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2089 الرئيس: يا شيخ هي قضية يعني حتى قضية الترجمة، مسألة الترجمة يخصونها بحكم، لأنها أصبحت كعمل جديد. الأمين العام: وهذا يخضع للتعاقد بين صاحب الأصل والمترجم. التسخيري: فإن المترجمون عليهم أن يشتروا هذا الحق وهذا أمر غير متعارف عليه، الآن المترجمون لا يستجيبون. الأمين العام: الإذن في الترجمة موجود سيدي. التسخيري: موجود لكن عادة ما يتعارض، وهو ماض. الأمين العام: قد يكون بمال وقد لا يكون بمال. التسخيري: إذن يجب علينا أن نذهب للغربيين لنترجم كتبهم ونأخذ منهم إجازة ونعطيهم فلوسا لأنهم لهم الحق. دكتور طه العلواني: لأنهم يقاضون عليه … . الرئيس: نحذف التأليف: هل يتأتى إضافة حق التأليف في ثانيا؟ الدكتور طه العلواني: يمكن وينهي الإشكالات. الرئيس: التأليف والابتكار هل يضاف في ثانيا؟ دكتور طه العلواني: يمكن إضافتهما. الشيخ المختار: أنا دائما ألح على أن يكون في فترة خاصة للتوازي ولأنه حق جديد، حق ما وقع التعود عليه من قبل فلا يدمج هكذا بدون أن ينظر إليه نظرة خاصة واضحة في فقرة كما تحدثنا عن الحق. الرئيس: وأنا أقول إذا رأيتم أن تكون العبارة كالآتي: ثالثا: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعا فلا يجوز الاعتداء عليها ونقف. دكتور الضرير: السكوت هنا عن حكم بيعها قد يفهم منه أنه لا يجوز بيعها والاتجاه على أن بيعها جائز، وخاصة نحن نصصنا على بعض الحقوق بأنه يجوز بيعها، فإذا سكتنا عن جواز البيع في حق التأليف والاختراع لا يفهم منه، وأنا رأيي أنه يمكن أن تدمج كلها وتكون فقرتين فقط، الفقرة الأولى ذكرنا فيها كل هذه الحقوق، الفقرة الثانية نبدأها بـ: يجوز التصرف في الحقوق المذكورة في أولا ونقلها بعوض مالي ويشترط في نقل - التي نريد فيها الشروط هذه - الاسم التجاري والعلامة التجارية والعنوان التجاري أن ينتفي الغرر والتدليس والغش. الرئيس: طيب … . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2090 الشيخ المختار: عندي اقتراح تسمعونه أيضًا: يجوز التصرف في حقوق التأليف والاختراع - وإذا قلنا التصرف معناه بالهبة وبالصدقة وبالبيع وبالتنازل تصرف بالكامل - يجوز التصرف في حقوق التأليف والاختراع والابتكار المصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها وانتهينا " فلا يجوز الاعتداء عليها، أو ولا يجوز الاعتداء عليها ". الرئيس: يعني حقوق الابتكار تجوز وقفيتها يا شيخ؟ المختار: نعم سيدي؟ الرئيس: حقوق الابتكار تجوز وقفيتها؟ المختار: نعم؟ الرئيس: مهلا يا شيخ: إذا قلنا التصرف: فمثلا حقوق الابتكار أو الاختراع هل تجوز وقفيتها والوصية بها؟ المختار: قطعا. الرئيس: ووقفيتها تصح؟ المختار السلامي. قطعا، وقعت الوقفية في الخلو وهو حق اعتباري وكانت سوق كاملة في مصر في القرن الحادي عشر كلها موقوفة خلوا. الرئيس: الآن النقطة يعني المسألة مهمة في حقوق التأليف، وهي لم يتعرض لها بالأمس، قضية ما أطبقت عليه القوانين من التحديد بثلاثين سنة أو بأربعين سنة أو بخمسين سنة أو بسبعين سنة، النقطة هذه لم تناقش في الواقع. الشيخ المختار: لم نتفق على أن ما كان قانونا هو إحقاق للحق، هل يسقط الحق بمرور الزمن ثلاثين سنة؟ هذا رأي القانونيين. الرئيس: ما قصدوا قضية التقادم ومرور الزمن. الشيخ المختار: هذه قضية قانونية وما هي بحكم إسلامي. الرئيس: أنا عارف أنا أعرف، لكنها ما نوقشت.. ما مدى ملائمتها للحكم الشرعي؟ ما نوقشت إطلاقا. الشيخ المختار: ما تحدثنا عنها. الرئيس: نعم؟ الشيخ المختار: نحن ما تحدثنا هنا على أنه ينتهي حق التأليف أو حق الابتكار في أمد معين بل قلنا: يجوز التصرف في حقوق التأليف والاختراع والابتكار المصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها إلا بإذن صاحبها، أو لا يجوز الاعتداء عليها. الرئيس: هل ترون حذف ما يتعلق بالتأليف؟ دكتور عجيل النشمي: الحقيقة لم يستوف: يعني من قراءتي للبحوث حق التأليف لم يستوف. الرئيس: هو لم يستوف: أنا معك لم يستوف في البحوث، استوفي في المناقشة والمناقشة استهلكت أكثر ما في الموضوع، استهلكت حقوق التأليف، لكن أقول: مسألة حقوق التأليف أصبحت - والله أعلم - أمرا بحكم المفروغ منه. أصبحت يا شيخ حقا عينيا لا يتجادل فيه اثنان. أبو غدة: والله فيه جدل، فيه جدل. الرئيس: جدل ضئيل. الأمين العام: يا سيدي القضية هي إثبات هذا الحق فقط، ولا نبحث قضية اقتضاء الحق بعد خمسين سنة، هذا لم يبحث حقيقة لكن إثبات الحق بحث. الرئيس: المهم السؤال الآتي، هل ترون أن نحذفه مع الترخيص أو يبقى؟ فقط. مناقش: يبقى. الرئيس: يبقى، من الذي يقول يبقى يرفع يده؟ انتهى، طيب الذين يقولون يبقى يصوغون العبارة. دكتور عجيل النشمي: الذين قالوا يبقى كم عددهم؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2091 الشيخ التسخيري: هذه عبارة الشيخ الضرير - ما دام يبقى - جيدة. عبارة الشيخ الضرير تؤخذ من جديد وتدرج، شيء جيد هذه العبارة يعني تجمع الاثنين في فقرتين. الأمين العام: أنا إذا سمحتم مادام الاتفاق بصورة عامة وفي الغالب قد حصل حول جمع ما يتعلق بحقوق التأليف وما يتعلق بالاسم التجاري والعلامة، وأن فضيلة الشيخ قد أعد صيغة فليتفضل بتقديمها إلينا لعرضها عليكم. أعطنا الصيغة التي تقترحونها. دكتور الضرير: طيب أنا ما أعددتها لكن هذا المعنى، فسوف تكون عبارة عن فقرتين فقط تبدأ بـ (يجوز التصرف في الحقوق المذكورة في أولا) . الشيخ المختار: يلزم أن نسمع الفقرة كاملة. الأمين العام: يا سيدي نكتبها وبعد ذلك نناقشها، تفضل يا سيدي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2092 دكتور الضرير: يجوز التصرف في الحقوق المذكورة في أولا ونقلها بعوض مالي. إلى هنا، ويشترط في نقل الاسم التجاري أو في الاعتياض عن الاسم التجاري أو العلامة التجارية أو العنوان التجاري - نعكس - أن ينتفي الغرر والتدليس والغش باعتبار - هذه حاجة تقدم أولا - باعتبار أن هذه الحقوق أصبحت حقوقا مالية في النظر الشرعي تأتي أولا: أقراها مرة أخرى: (يجوز التصرف في الحقوق المذكورة في أولا ونقلها بعوض مالي باعتبار أن هذه الحقوق أصبحت حقوقا مالية في النظر الشرعي ويشترط في الاعتياض عن الاسم التجاري والعنوان التجاري أو العلامة التجارية أن ينتفي الغرر والتدليس والغش) . الأمين العام: والبقية؟ دكتور الضرير: إلى هنا … ثم قالوا: لا يأتي فيها الغرر والتدليس والغش. الأمين العام: طيب ولكن عندنا … دكتور الضرير: بالنسبة لحق التأليف. الأمين العام: طيب طيب، إذن ممكن نستأذن من المشايخ في استملاء هذا النص حتى نقرأه ويكون واضحا نكتبه يا سيدي من فضلك (يجوز التصرف في الحقوق المذكورة في أولا ونقلها بعوض مالي ويشترط في الاسم التجاري … ) . دكتور الضرير: إذن انتفى … نضيف بعد، لأن هذه الحقوق أصبحت حقوقا مالية في النظر الشرعي هذه تكون مقدما ويأتي بعدها (ويشترط) . الأمين العام: طيب إذن الدكتور تفضل … اقرأ. أبو غدة: يجوز التصرف في الحقوق المذكورة في الفقرة الأولى ونقلها بعوض مالي باعتبارها أصبحت حقوقا مالية في النظر الشرعي. الشيخ المختار: ونقلها - من فضلك - ونقلها بغير حق مالي، بغير عوض مالي ما هو حكمه؟ أبو غدة: ونقلها مجانا أو بعوض مالي. الشيخ المختار: وإذا نقلت بالهبة لا تنقل؟ أبو غدة: مجانا أو بعوض مالي. ونقلها بعوض أو بدونه. الشيخ المختار: وأكثر دلالة من هذه العبارة … الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2093 دكتور الضرير: تنقل بالهبة وبالوصية وبكل التصرفات الناقلة للملكية، لكن المقصود النص هذا بالذات هو … المختار: نقول التصرف يؤدي … . وما أدري ما الموجب لهذا التحوير والتحوير المرتجل؟ الرئيس: يا مشايخ لعل اقتراح الشيخ الضرير يحل الموضوع. المختار: ما حل يا سيدي: (يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية ونقلها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك أصبح حقا ماليا في النظر الشرعي) انتهى أخذ الحق التجاري كامل حقه ثم ننتقل إلى حقوق التأليف فنقول ثالثا: يجوز التصرف في حقوق التأليف والاختراع والابتكار المصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها، وانتهينا، والكلام واضح وانتهينا منه، وقد استوفى كل المعاني التي تحدثنا عنها في هذه الجلسة. مناقش: سيادة الرئيس أعود إلى مقترحي الأول، إذا كنا نريد أن تكون الصياغة علمية، الفقرة الثانية والأولى ندمجهما لأنه المهم أعطينا الصفة المالية لهذه الحقوق فينتج عنها أنه يجوز التصرف فيها. وتنتهي المشكلة: الفقرة الأولى والثانية عبارة عن سطرين أو سطر ونصف. حقوق، والأولى لا يقال الحقوق الخاصة لأن في القانون حقوقا خاصة لها مدلولات معينة، حقوق طبيعية وحقوق خاصة مدنية حق شخصي وعيني وحق أدبي، يلزم أن نقول: حقوق خاصة أدبية لها قيمة مالية في عرفنا المعاصر فيجوز التصرف فيها. المختار: في فقرتي … اقرأ الفقرة كما هي … اقرأ الفقرة أولا. أبو غدة: ثالثا: يجوز التصرف في حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار المصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها. الرئيس: الذي يوافق يرفع يده على هذه الصيغة … . الشيخ الصديق؟ الشيخ المختار: يا شيخ أنت لست بموافق؟ الرئيس: ماذا؟ الشيخ الصديق: لا، لا تعد، الأكثيرة ما فيه إشكال. أبو غدة: حذفنا التصرف. الرئيس: لا لا، صدر العبارة - يجوز تصرف الغير وإلا منه - صحيح كلام الشيخ البرهاني وارد يعني يجوز تصرف الغير؟ أبو غدة: إذن دعنا نؤخر ونقول: حقوق التأليف والاختراع. الرئيس: العبارة التي اقترحتموها (يجوز التصرف في حقوق التأليف) يعني يجوز تصرف الغير؟ الشيخ المختار: التصرف معناه التصرف بالبيع والشراء. الرئيس: نعم، لكن هل يجوز تصرف الغير؟ أو تصرف صاحبها؟ أبو غدة: هكذا تصير ونقول: حقوق التأليف والاختراع. مناقش: حقوق لأصحابها. أبو غدة: مصونة شرعا ويجوز تصرف أصحابها فيها ولا يجوز الاعتداء عليها. الشيخ المختار: يجوز التصرف في حقوق التأليف والاختراع والابتكار المصونة شرعا لأصحابها ولا يجوز الاعتداء عليها. الرئيس: شوفوا العبارة يا مشايخ (حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعا لأصحابها حق التصرف فيها ولا يجوز الاعتداء عليها) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2094 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين , الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (5) بشأن الحقوق المعنوية إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/ 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (الحقوق المعنوية) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. قرر: أولًا: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف والاختراع أو الابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها. وهذه الحقوق يعتد بها شرعًا فلا يجوز الاعتداء عليها. ثانيًا: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك اصبح حقًا ماليًا. ثالثًا: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعًا ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2095 التأجير المنتهي بالتمليك والصور المشروعة فيه إعداد الدكتور عبد الله محمد عبد الله بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة وتمهيد: الحمدُ للهِ وصلى الله وسلم على محمد عبد الله ورسوله.. أما بعد. فقد خلق الله الإنسان وسنَّ له سبيل الهداية والرشاد، فلم يتركه يضرب في الأرض على غير هدى وإنما رسم له معالم الطريق التي توصله إلى السعادة في الدنيا والآخرة، وفطره على خلتين هما العجز والحاجة، فاضطر تحت وطأتهما إلى الانضمام إلى غيره والتعاون مع بني جنسه حتى يتم العمران وتقوم الحضارات ويتحقق الاستخلاف الذي أراده سبحانه، وقد مهد لذلك بتحقيق هذه الركائز الثلاثة: الأولى: وجود المادة ويقصد بها جميع الموارد الطبيعية التي أوجدها الله سبحانه، كما قال: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} . [الآية 10 من سورة فصلت] . الثانية: تطويع هذه المادة واستصلاحها لتكون مهيئة ونافعة فكان ذلك بتزويد الإنسان بالفكر واليدين وعن طريقهما يترقى في فنون الصناعات سواء منها ما كان خاصا بعمل الفكر أو بعمل اليد أو كان مشتركًا بينهما. الثالثة: الشريعة المهيمنة الضابطة المنظمة لأنه لو ترك الناس وشأنهم لتنازعت بهم الأهواء وتباينت المصالح وشاعت الفوضى، كما قال سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} . [الآية 71 من سورة المؤمنون] . وقد تمكن الإنسان في ظل هذه الركائز من تحقيق معنى الاستخلاف الذي هو تنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي كما قال سبحانه: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [الآية 61 من سورة هود] . وعن هذه الخلافة والاستخلاف قال سبحانه: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} . [الآية 129 من سورة الأعراف] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2096 وبيَّن سبحانه أن الغاية من قبل ومن بعد هي عبادة الله والوقوف على شرائعه وهديه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . [الآية 56 من سورة الذاريات] . ولقد استطاع الإنسان بالميزات التي خصه الباري بها أن يكون غير محدود الاستعداد ولا محدود الرغائب ولا محدود العلم ولا محدود العمل، فهو على ضعف أفراده يتصرف بمجموعه في الكون تصرفًا لا حد له بإذن الله وتصريفه، وكما أعطاه الله تعالى هذه المواهب والأحكام الطبيعية ليظهر بها أسرار خليقته، وملكه الأرض وسخر له عوالمها وأعطاه أحكامًا وشرائع حد فيها لأعماله وأخلاقه حدًّا يحول دون بغي أفراده وطوائفه بعضهم على بعض. وظهرت آثار الإنسان في هذه الخلافة على الأرض في المعدن والنبات وفي البر والبحر والهواء، فهو يتفنن ويبتدع ويكتشف ويخترع ويَجِد ويعمل حتى غير شكل الأرض، فجعل الحزن سهلًا والماحل خصبًا والخراب عمرانًا والبراري بحارًا أو خلجانًا، وولد بالتلقيح أزواجًا من النبات لم تكن، وتصرف في أبناء جنسه من أنواع الحيوان كما يشاء بضروب التربية والتغذية والتوليد. فمن حكمة الله أن جعل الإنسان بهذه المواهب خليفته في الأرض يقيم سننه ويظهر عجائب صنعه وأسرار خليقته وبدائع حكمه ومنافع أحكامه. وقد قال بعض العلماء: إن من لم يصلح لخلافة الله تعالى ولا لعبادته ولا لاستعمار أرضه فالبهيمة خير منه. وإذا كان نفع العباد ودرء الضرر عنهم من أهم المقاصد التي استهدفت الشرائع الإلهية تحقيقه، فإن الشريعة الإسلامية لها الهيمنة الكاملة والقول الفصل في ذلك كله، فإن جلب المصالح ودرء المفاسد هما اللذان تدور عليهما أحكامه كما يقرر ذلك الشاطبي بقوله: (إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا واعتمدنا في ذلك على استقراء الأحكام الشرعية) ، وإن المصالح التي استهدفت الشريعة الغراء المحافظة عليها هي الكليات الخمس التي لا يمكن لأية حضارة إلا أن تأخذ بها، وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وكانت وسيلة المحافظة عليها حسب الأهمية والخطورة، فكانت المحافظة على الضروريات التي يتوقف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية في المقام الأول، ثم تأتي المرتبة الثانية وهي الحاجيات التي هي تؤدي إلى رفع الحرج ودفع المشاق أقرب بحيث يقع الناس عند فقدها في ضيق لا تختل معها أمورهم، ثم تأتي مرتبة التحسينات وهي بمنزلة المحاسن للعادات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2097 ووجدنا من علماء الشريعة في كل فن من الفنون من كرس عنايته لتلمس مقاصد الإسلام والوقوف على أسرار التشريع واستنباط الأحكام ومعرفة العلل وحصر الكليات واستقراء الجزئيات لبناء النظريات العلمية القائمة على الفهم الصائب واجتهاد السوي. ووضعوا فيها المؤلفات الخاصة التي ضمنوها ملك الأسرار، وأماطوا بها اللثام عن وجوه المحاسن في التكاليف. ومن لطائف ما نبهنا إليه أبو عبد الله البخاري في كتابه محاسن الإسلام عن البيع والإيجار ما نلخصه في هذه السطور، قال رحمه الله: (البيع معاوضة مال بمال وهو أليق بأحوال الخلق إذ المعطي والآخذ محتاج واللائق بمال المحتاج أن يتصرف على حسب حاجته، فلا يليق به الإعطاء بلا عوض، إنما يليق هذا بمن يكون الغنى له وهو الله، فالمعاوضة أحسن وجوه المعاملة، فإنه فيه صيانة أخيه عن أعباء منته، والإعطاء بلا عوض إدخال حر مثله تحت رق إحسانه، فالبيع اشتمل على مصلحة، وهي أن من احتاج إلى شيء ربما احتاج إلى الأسفار والقوافل وتحمَّل الأخطار ومتى وجده بالبيع قريبًا منه سقط عنه مؤونة الأسفار، وحصل على ما يريد بأهون طريق) . ولكن ليس كل إنسان بقادر على تملك ما يحتاجه أو ليس دائمًا يرغب في تملك ما يحتاجه، وإن كان قادرًا على تملكه فكانت الحكمة في شرعة الإيجار. فمصلحة الآجر الحصول على المال مع بقاء العين على ملكه، والمستأجر مصلحته بالوصول إلى المقصود من غير أن يتحمل ما هو فوق طاقته، ولعل هذا هو أهم ما يميز عقد البيع عن عقد الإيجار، ففي عقد الإجارات يبقى الملك لصاحبه مع انتفاع الغير به، أما في عقد البيع فإن الملكية تنتقل إلى الآخر، ويتمحض حقه في البدل وهو الثمن. ولهذا عبر الفقهاء عن ذلك بقولهم: إن البياعات شرعت على حظ الأغنياء، والإجارات شرعت على حظ الفقراء. فإذا تقرر هذا فإننا سنتناول الموضوع من زوايا ثلاث وهي: الأولى: حكمه من حيث الوجهة الشرعية وآراء الأئمة والفقهاء. الثانية: من حيث القانون باعتباره المرجع النهائي عند اختلاف المتعاقدين ومقارنته بآراء الفقهاء. الثالثة: من حيث الآثار العملية والنتائج المادية المترتبة على هذا النوع من التعامل سواءً أكانوا مستهلكين أم تجارًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2098 التأجير المنتهي بالتمليك من حيث نظر الفقهاء نتناول الموضوع في ظل هذه النظرية من وجهات ثلاث هي: أولًا: من وجهة أن الاعتبار في العقود هل هو بظواهرها أم بمعانيها. ثانيًا: من وجهة اشتمال العقد على شرط وأثره عليه. ثالثًا: من وجهة نظرية الحيل في الفقه الإسلامي ومدى جواز الأخذ بها. أولًا- التأجير المنتهي بالتمليك من وجهة النظر الأولى: وهي هل العبرة في العقود بظواهرها أم بمعانيها. هذه القاعدة بحثها فقهاء الأحناف في الأشباه والنظائر لابن نجيم. وأخذت بها مجلة الأحكام العدلية. وبحثها الإمامان النووي والسيوطي الشافعي في المجموع والأشباه والنظائر وغيرهما وبحثها من أئمة الحنابلة ابن رجب في القواعد وابن القيم في إعلام الموقعين. واختلفت آراؤهم، فمنهم من غلب جانب اللفظ على المعنى، فيأخذ بظاهر اللفظ تاركًا المعنى، وقصد المتعاقدين، ومنهم من غلب جانب المعنى وقصد المتعاقدين على ظواهر الألفاظ ومع هذا، فإنهم لا يهملون جانب اللفظ متى أمكن الجمع بينه وبين المعنى جاء في شرح المجلة لمحمد سعيد المحاسني عند كلامه على المادة الثالثة من المجلة: (إن أي عقد من العقود- سواء كان للمعاوضة- أولًا إنما تتعلق به الأحكام باعتبار ما قصد العاقدان من معناه الذي اتفقا على إيجاده بذلك العقد وإيضاح ذلك أن كلًا من المفردات والجمل الموضوعة لها معانٍ حقيقية تدل عليها بالوضع وتدل أيضًا على معانٍ مجازية لها علاقة بالمعاني الحقيقية، فإن قصد معنى المفردات والجمل الوضعية يكون قد اتحدَّ المعنى الوضعي مع قصد المتعاقدين. وإن قصدت غير معانيها الحقيقية فالأحكام تترتب على تلك العقود باعتبار تلك المعاني المقصودة ولو لم تكن حقيقية. ودليل هذه القاعدة الإجماع المنعقد من سائر البشر؛ لأن المتعاقدين يستخرجان نتائج عقدهما إما عن طريق الحقيقة وإما عن طريق لمجاز؛ فالمتكلم بصيغ العقود، إما أن يقصد التكلم بها أولًا فإن لم يقصد كالمكره والنائم والمجنون والسكران فلا يترتب عليها حكم، وإن قصد التكلم بها وهو يعلم معناها ومدلولها والقصد منها ترتبت أحكامها في حقه ولزمته، وإن لم يقصد معناها ولا غيره يكون هازلًا، وإن قصد غير معناها، فإن قصد ما يجوز له قصده كأن يقصد بقوله هي طالق من زوج كان قبله لا تلزمه أحكام الطلاق ديانة، أما قضاء فإن وجدت قرينة تدل على صدقه صدق وإلا فلا، وإن قصد بها ما لا يجوز قصده من المعاني المحظورة في الشر0ع فلا يعتبر ذلك القصد لأنه ممنوع بذاته، والتوسل به بالألفاظ الموضوعة لمعانٍ مشروعة لا يبطل كونه محظورًا) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2099 وقبل المحاسني بسط الإمام ابن القيم تلك العبارات في مؤلفه (أعلام الموقعين: 3/33) بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. صورة مسألة التأجير المنتهي بالتمليك: وصورة المسألة هو أن يتفق المستهلك مع التاجر على شراء سلعة بثمن محدد يتفقان على تقسيطه على أقساط شهرية، وقد يمتد أمد السداد سنتين أو ثلاثًا أو أكثر ويلبسان هذا العقد ثوب الإيجار، وربما نصا في العقد على أنه بعد انتهاء تلك المدة يملك المستأجر العين محل العقد، فقصد المتعاقدين هو البيع لا الإجارة وإلى هذا أشار الإمام النووي في المجموع ذاكرًا الرأيين وأدلة كل رأي، وهذا نص عبارته: (قال المتولي لو قال وهبت لك هذا بألف أو هذا لك هبة بألف فقبل، هل ينعقد هذا العقد؟ فيه خلاف مبني على قاعدة وهي أن الاعتبار في العقود بظواهرها أم بمعانيها؟ وفيه وجهان: أحدهما: الاعتبار بظواهرها، لأن هذه الصيغ موضوعة لإفادة المعاني وتفهيم المراد منها عند إطلاقها فلا تترك ظواهرها، ولهذا لو استعمل لفظ الطلاق وأراد به الظهار أو عكسه تعلق باللفظ دون المعنى، ولأن اعتبار المعنى يؤدي إلى ترك اللفظ، ولأنا أجمعنا على ألفاظ اللغة فلا يعدل بها عما وضعت له في اللغة، فيطلق اللفظ لغة على ما وضع له، فكذا ألفاظ العقود، ولأن العقود تفسر باقتران شرط مفسر ففسادها بتغيير مقتضاها أولى. والوجه الثاني: أن الاعتبار بمعانيها لأن الأصل في الأمر الوجوب، فإذا تعذر حمله عليه حملناه على الاستحباب، وأصل النهي التحريم فإذا تعذر حمله عليه حملناه على الاستحباب، وأصل النهي التحريم فإذا تعذر حمله عليه حملناه على كراهة التنزيه، وكذا هنا إذا تعذر حمل اللفظ على مقتضاه يحمل على معناه، ولأن لفظ العقد إذا أمكن حمله على وجه صحيح لا يجوز تعطيله، ولهذا لو باعه بعشرة دراهم وفي البلد نقود أحدها غالب حملناه على الغالب طلبًا للصحة. قال المتولي: ويتفرع على هذه القاعدة مسائل، منها: المسألة الأولى: وهي إذا قال وهبته لك بألف، فإن اعتبرنا المعنى انعقد بيعًا، وإن اعتبرنا اللفظ فسد العقد، فإذا حصل المال في يده كان مقبوضًا بحكم عقد فاسد. المسألة الثانية: لو قال بعتكه ولم يذكر ثمنًا، فإن اعتبرنا المعنى انعقد هبة وإلا فهو بيع فاسد. المسألة الثالثة: لو قال أسلمت هذا الدينار أو دينارًا في هذا الثوب، فإن اعتبرنا المعنى انعقد بيع عيني وإلا فهو سلم فاسد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2100 وقد خصص الإمام ابن القيم مساحة كبيرة في الجزء الثالث من كتابه أعلام الموقعين لبحث مسألة العلاقة بين اللفظ والمعنى ومتى يحمل كلام المتعاقدين على واحد منهما، وبعد أن استرسل في بيان ذلك بين محل النزاع بين العلماء، فقال في (ص121) : (وإنما النزاع في الحمل على الظاهر حكمًا بعد ظهور مراد المتكلم والفاعل بخلاف ما أظهره، فهذا هو الذي وقع فيه النزاع وهو: هل الاعتبار بظواهر الألفاظ والعقود وإن ظهرت المقاصد والنيات بخلافها أم للمقصود والنيات تأثير يوجب الالتفات إليها ومراعاة جانبها؟ وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن المقصود في العقود معتبرة وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده وفي حله وفي حرمته، بل أبلغ من ذلك وهي أنها تؤثر في العقد الذي ليس بعقد تحليلًا وتحريمًا فيما هو حلال تارة وحرام تارة باختلاف النية والقصد كما يصير صحيحًا تارة وفاسدًا تارة باختلافها. وهذا كالذبح، فإن الحيوان يحل إذا ذبح لأجل الأكل ويحرم إذا ذبح لغير الله، وكذلك الحلال يصيد الصيد للمحرم فيحرم عليه ويصيده للحلال فلا يحرم على المحرم، فكذلك الرجل يشتري الجارية فينوي أن تكون لموكله فتحرم على المشتري وينوي أنها له فتحل له وصورة العقد واحدة، وإنما اختلفت النية والقصد) . وهكذا يسترسل في سوق الأمثلة والتطبيق إلى أن قال: (فالنية روح العمل ولبه وقوامه، وهو تابع لها، يصح بصحتها ويفسد بفسادها. والنبي (صلى الله عليه وسلم) قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم وهما قوله: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) ، فبين في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية وبهذا لا يكون عمل إلا بنية، ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس من عمله إلا ما نواه، وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال، وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا ولا يعصمه من ذلك صورة البيع، وإن من نوى بعقد النكاح التحليل كان محللًا، ولا يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح؛ لأنه قد نوى ذلك، وإنما لامرئ ما نوى فالمقدمة الأولى معلومة بالوجدان والثانية معلومة بالنص) . ويقرر ابن رجب في القاعدة الثامنة والثلاثين: (فيما إذا وصل بألفاظ العقود ما يخرجها عن موضوعها فهل يفسد العقد، بذلك أو يجعل كناية عما يمكن صحته على ذلك الوجه فيه خلاف: يلتفت إلى أن المغلب هل هو اللفظ أو المعنى) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2101 وصرح ابن نجيم في (الأشباه والنظائر: ص207) أن الاعتبار للمعنى لا للألفاظ كما أورد القاعدة السيوطي في (الأشباه والنظائر: ص166) ، فقال: القاعدة الخامسة: (هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها) وساق عدة أمثلة منها قوله في (ص167) : لو عقد الإجارة بلفظ البيع، فقال: بعتك منفعة هذه الدار شهرًا فالأصح لا ينعقد نظرًا إلى اللفظ، وقيل: ينعقد نظرًا إلى المعنى. أما مجلة الأحكام العدلية، فقد أدخلت هذه المادة ضمن موادها المائة الواردة في مقدمتها ونصها: العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني ولذا يجري حكم الرهن في البيع بالوفاء) . ومن هذا العرض يظهر أن بعض المذاهب يجعل العبرة للمعاني وهم الأحناف، كما ذكر ابن نجيم والمجلة ومنهم من يجعل التغليب للفظ على المعنى وهم الشافعية، وأما الحنابلة، فإن الذي يفهم من قواعد ابن رجب جريان الخلف في المذهب، أما ابن القيم، فإنه يقطع بأن العبرة للقصد، أما المالكية فإن ابن القيم نقل عنهم في الجزء الثالث من (أعلام الموقعين: ص212) بأن القصود عندهم في العقود معتبرة. ثانيًا: التأجير المنتهي بالتمليك من وجهة النظر الثانية وهي اشتمال العقد على شرط: أما من حيث النظر إلى الشروط على اعتبار أن أصل العقد بمقتضى هذا النظر مبناه أن الطرفين تعاقدا أصلًا على عقد البيع بالتقسيط مشروطًا بعدم انتقال الملك للمشتري إلا بعد سداد جميع الأقساط. وهو ما يعبر عنه في القانون بالشرط الواقف ونظيره في الفقه الإسلامي العقد المعلق على الشرط طبقًا لنص المادة 82 من مجلة الأحكام العدلية: (المعلق بالشرط يجب ثبوته عند ثبوت الشرط أو جعل العقد مفسوخًا إذا لم يقم المشتري بسداد كامل الثمن المتفق على دفعه أقساطًا، وهو ما يعبر عنه بالشرط الفاسخ في القانون ونظيره في الفقه الإسلامي خيار النقد) . وللشروط أهمية في دنيا التعامل إذ قلما تخلو المعاملات منها خاصة في ميدان التجارة والصناعة، ولشدة حرص أرباب الأموال على حفظ حقوقهم قبل المتعاملين معهم، فلم يجدوا في عقود التوثيق من كتابة وشهادة وضمان ما يكفي لاطمئنانهم وحماية حقوهم، فلجأوا إلى الشروط يستوثقون بها في معاملاتهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2102 وقد فطن واضعوا مجلة الأحكام العدلية إلى أهمية الشروط في دائرة التعامل فضمنوه تقريرهم المرفوع إلى الصدر الأعظم في غرة محرم سنة 1386 هـ ونصه: (ثم إن الأخذ والعطاء الجاري في زماننا أكثره مربوط بالشروط، وهذا مذهب الحنفية. إن الشروط الواقعة في جانب العقد أكثرها مفسد للعقد، ومن ثم كان أهم المباحث في كتاب البيوع فصل البيع بالشرط) ، ثم أورد خلاصة لنظرية الشروط في المذاهب الفقهية وآراء الأئمة ما نكتفي بإيراد هذه العبارات التي تلقي ضوءًا على هذه النظرية، وذلك لاستخلاص وجهة النظر في المسألة المطروحة من واقع ذلك النظر الفقهي، قالوا: (إن أقوال أكثر المجتهدين في حكم البيع بالشرط يخالف بعضها بعضًا، ففي مذهب المالكية إذا كانت المدة جزئية، وفي مذهب الحنابلة على الإطلاق يكون للبائع وحده أن يشرط لنفسه منفعة مخصوصة في البيع … أما ابن أبي ليلى وابن شبرمة ممن عاصروا الإمام الأعظم رضي الله عنهم وانقرضت أتباعهم، فكل منهما رأى في هذا الشأن رأيا يخالف رأي الآخر، فابن أبي ليلى يرى أن البيع إذا دخله شرط أي شرط كان فقد فسد البيع والشرط كلاهما، وعند ابن شبرمة الشرط والبيع جائزان على الإطلاق، فمذهب ابن أبي ليلى يرى مباينًا لحديث ((المسلمون عند شروطهم)) ، ومذهب ابن شبرمة موافق لهذا الحديث موافقة تامة، لكن المتبايعين ربما يشرطان أي شرط كان جائزًا أو غير جائز قابل الإجراء أو غير قابل، ومن الأمور المسلمة عند الفقهاء أن رعاية الشرط إنما تكون بقدر الإمكان، فمسألة رعاية الشرط قاعدة تقبل التخصيص والاستثناء، وبعد أن ساقوا رأي الأحناف في الشروط قالوا إنهم اتخذوا طريقًا وسطًا ومن ثم جوزوا البيع مع الشرط المتعارف على الإطلاق؛ لأن العرف والعادة قاطعان للمنازعة، وإن ما مست الحاجة إليه في تيسير المعاملات يختار لها قول ابن شبرمة. ثالثًا: التأجير المنتهي بالتمليك من وجهة النظر الأخيرة: أما بالنسبة للنظر إلى المسألة باعتبارها قصد الطرفين، هو التبايع لا الإيجار، وإنما اتخذ الإيجار وسيلة يتوصل بها البائع إلى صون حقه في العين حتى لا يتصرف فيها المشتري للغير أو يتمكن دائنوه الآخرون من التنفيذ على هذه العين محل التعاقد، فالحيلة كما عرفها ابن نجيم في الأشباه وابن القيم في أعلام الموقعين بأنها نوع مخصوص من التصرف والعمل الذي يتحول به فاعله من حال إلى حال، ثم غلب عليها بالعرف استعمالها في سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل إلى حصول غرضه بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة. وقد بسط ابن القيم في الحيل وأنواعها، وذكر أنها تتوارد عليها الأحكام الخمسة، فإن مباشرة الأسباب الواجبة حيلة على حصول مسبباتها، فالأكل والشرب واللبس والسفر الواجب حيلة على المقصود منه، والعقود الشرعية واجبها ومستحبها ومباحها كلها حيلة على حصول المقصود عليه، والأسباب المحرمة كلها حيلة على حصول مقاصدها منها. فالحيلة جنس تحته التوصل إلى فعل الواجب أو ترك المحرم، وتخليص الحق، ونصر المظلوم، وقهر الظالم، وعقوبة المعتدي، وتحته التوصل إلى استحلال المحرم، وإبطال الحقوق وإسقاط الواجبات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2103 ولكن غلب استعمال الحيل في عرف الفقهاء على النوع المذموم، كما جاء في الحديث: ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)) ، وقسم الحيل إلى قسمين رئيسين: أحدهما: أن تكون الحيلة في ذاتها حرامًا لكونها كذبًا وزورًا، وحرامًا من جهة المقصود بها وهو إبطال حق وإثبات باطل. (346) وقسم هذا القسم إلى ثلاثة أقسام: (أ) أن تكون الحيلة محرمة ويقصد بها المحرم. (ب) أن تكون مباحة في نفسها، ويقصد بها المحرم فيصير حرامًا كالسفر لقطع الطريق وقتل النفس المعصومة. (ج) أن تكون الطريق لم توضع للإفضاء إلى المحرم، وإنما وضعت مفضية إلى المشروع كالإقرار والبيع والنكاح والهبة ونحو ذلك، فيتخذها المتحيل سلمًا وطريقًا إلى الحرام. وقال: هو أهم الأقسام وبه ينحصر الكلام. وثانيهما: أن يقصد بالحيلة أخذا حق أو دفع باطل، وهو على ثلاثة أقسام: (أ) أن يكون الطريق محرمًا في نفسه، وإن كان المقصود به حقًا مثل أن يكون له على رجل حق فيجحده، ولا بينة له فيقيم صاحبه شاهدي زور يشهدان به ولا يعلمان ثبوت ذلك الحق ومثل أن يطلق الرجل امرأته ثلاثًا ويجحد الطلاق ولا بينة لها، فيقيم شاهدين يشهدان أنه طلقها ولم يسمعا الطلاق منه. ومثل أن يكون عليه لرجل دين، وله عنده وديعة فيجحد الوديعة فيجحد هو الدين أو بالعكس، ويحلف ما له عندي حق أو ما أودعني شيئًا … فهذا يأثم على الوسيلة دون المقصود. (ب) أن يكون الطريق مشروعًا وما يقضي إليه مشروع، وهذه هي الأسباب التي نصبها الشارع مفضية إلى مسبباتها كالبيع والإجارة. (ج) أن يحتال على التوصل إلى الحق أو على دفع الظلم بطريق مباحة لم توضع موصلة إلى ذلك، بل وضعت لغيره فيتخذ هو طريقًا إلى هذا المقصود الصحيح وله أمثلة: المثال الأول: إذا استأجر منه دارًا مدة سنتين بأجرة معلومة فخاف أن يغدر به المكرى في آخر المدة، ويتسبب إلى فسخ الإجارة بأن يظهر أنه لم تكن له ولاية الإيجار وأن المؤجر ملك لابنه أو امرأته، أو أنه كان مؤجرًا قبل إيجاره، ويبين أن المقبوض أجرة المثل لما استوفاه من المدة وينتزع المؤجر له منه، فالحيلة في التخلص من هذه الحيلة أن يضمنه المستأجر درك العين المؤجرة له أو لغيره، فإذا استحقت أو ظهرت الإجارة فاسدة رجع عليه بما قبضه منه. المثال الثاني: أن يخاف رب الدار غيبة المستأجر ويحتاج إلى داره، فلا يسلمها أهله إليه، فالحيلة في التخلص من ذلك أن يؤجرها ربها من امرأة المستأجر ويضمن الزوج أن ترد إليه المرأة الدار وتفرغها متى انقضت المدة أو تضمن المرأة ذلك إذا استأجر الزوج. المثال الثالث: أن يأذن رب الدار للمستأجر أن يكون في الدار ما يحتاج إليه أو يعلف الدابة بقدر حاجتها، وخاف أن لا يحتسب له ذلك من الأجرة، فالحيلة في اعتداده به عليه أن يقدر ما تحتاج إليه الدابة أو الدار، ويسمى له قدرًا معلوما ويحسبه من الأجرة ويشهد على المؤجر أنه قد وكله في صرف ذلك القدر فيما تحتاج إليه الدار أو الدابة. أما وقد انتهينا من بسط الموضوع من الوجهة الشرعية من حيث النظريات الثلاث فنشرع في بيان حكم المسألة من وجهة النظر القانونية: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2104 نظر القانون إلى التأجير المنتهي بالتمليك يطلق القانونيون على التأجير المنتهي بالتمليك اسم الإيجار الساتر للبيع أو في إيجار المقترن بوعد البيع ويعدونه مرحلة تالية لصورة البيع بالتقسيط تدرج إلى صورة الإيجار الساتر للبيع، ثم تدرج إلى صورة ثالثة هي الإيجار المقترن بوعد بالبيع. والغاية التي يهدف البائع إليها من وراء ذلك هو أولًا أن يأمن من تصرف المشتري بالمبيع، أنه لو تصرف في الصورتين السابقتين لكان مبددًا باعتباره مستأجرًا لا مالكًا ولا مشتريًا. وأما الأمر الثاني فهو أن يأمن مزاحمة الدائنين الآخرين في حالة إفلاس المشتري لأنه لو أفلس، وهو لا يزال مستأجرًا فإن البائع لا يزال مالكًا للمبيع فيستطيع أن يسترده. الصورة الأولى في القانون أن يتفق المتعاقدان على وصف عقد البيع بأنه إيجار ويصفان أقساط الثمن بأنها أجرة، ويتفقان على أنه إذا وفَّى المشتري بهذه الأقساط انقلب الإيجار بيعًا وانتقلت ملكية المبيع إلى المشتري. الصورة الثانية: وفي هذه الصورة لا يتحدث العاقدان عن البيع أصلًا في عقد الإيجار، ولكنه مقترن بوعد بالبيع إذا أبدى المستأجر رغبته في الشراء خلال مدة الإيجار، وهذه الصورة تحتها فرضان: أولهما: أن يكون المتعاقدان يريدان في الحقيقة بيعي بالتقسيط منذ البداية ويعد البائع المشتري البيع على شرط وفاء المستأجر بأقساط الإيجار في مواعيدها، وأن يجعل الثمن في حالة ظهور رغبة المستأجر في الشراء هو أقساط الإيجار، وقد يضاف إليها مبلغ رمزي في هذا الغرض يكون العقد بيعًا بالتقسيط لا إيجارًا. الثاني: أن يعقد المتعاقدان إيجارًا جديًّا يقترن به وعد البيع ولكن بثمن جدي مستقل عن أقساط الأجرة ويتناسب هذا الثمن مع قيمة العقد، وتكون الأقساط المدفوعة هي أقساط الأجرة، وليس بأقساط الثمن وفي هذه الحالة يكون العقد السابق إيجارًا لا بيعًا بالتقسيط. وقد نص القانون المدني المصري الجديد في المادة 430 فقرة 4 على أنه تسري أحكام الفقرات الثلاث السابقة ولو سمى المتعاقدان البيع إيجارًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2105 أما القانون المدني الكويتي فإنه لم يرد فيه نص خاص ولكن يفهم من المادتين193، و194 في شأن تفسير العقد وتحديد مضمونه أن العبرة بالنية المشتركة للمتعاقدين من مجموع وقائعه وظروف إبرامه دون الوقوف عند مجرد معاني ألفاظه وعباراته. مقارنة بين النظريتين الفقهية والقانونية: يظهر مما سبق أن القانون من الرأي الراجح في مذهب الأحناف الذي يغلب الإرادة الباطنة على الإرادة الظاهرة أو الصيغة التي يتعامل المتعاقدان بها. الآثار العملية والنتائج المترتبة على هذا النوع من التعامل بينَّا فيما سبق، قصد التاجر من التعامل بهذا النوع من المعاملات هو الحصول على قدر أكبر من الحماية والاستيثاق، فلم يعد كافيًا في نظره ما يخوله القانون من ضروب عقود الاستيثاق سوى منها تلك التي تتعلق بتوثيق العقد وإثباته عن طريق الكتابة أو الشهادة أو تلك العقود التي توفر الضمان للدائن كعقود الرهن والكفالة أو تلك التي تتعلق بالتنفيذ على أموال المدين أو شخصه عن طريق بيع أمواله أو تهديده بالحبس، فلجأ إلى هذا الأسلوب الذي لم يعد أيضًا كافيًا لاطمئنان التاجر إذ هو أيضًا يخضع لجملة عوامل عند نشوب الخلاف بين المتعاملين، فهو يخضع أولًا للقانون الذي نشأ في ظله العقد، فقد ذهبت بعض القوانين إلى النص صراحة على جعل مثل هذا العقد صورة من صور البيع بالتقسيط وبالتالي جريان أحكام البيع على هذا النوع من العقود. وتركت بعضها الآخر الرأي للقضاء عن طريق التفسير والتكييف مع تغليب جانب القصد والنية على ظواهر الألفاظ في العقود، ثم إنه فرض تغليب ظاهر اللفظ على النية المشتركة فإنه عند هلاك المبيع يكون الهلاك على ضمان البائع إذا لم يكن للمستأجرين تسبب في عطب المبيع. من هذا كله نرى أن يكون التعاقد من أول الأمر مبناه الوضوح والصدق، إذ هو أقرب إلى الحق وأدنى إلى ما يهدف إليه الإسلام في ميدان التعامل. والله ولي التوفيق. الدكتور عبد الله محمد عبد الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2106 الإيجار المنتهي بالتمليك إعداد الدكتور حسن علي الشاذلي أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن كلية الشريعة والقانون – جامعة الأزهر بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن نهج نهجهم بإحسان إلى يوم الدين. أولًا – تقديم لقد منَّ الله تعالى على الأمة الإسلامية بأفضال كثيرة ومنح عظيمة، فقد مَنَّ عليها بنعمة التوحيد … ومنَّ عليها برسالة محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وسيد ولد آدم أجمعين … ومنَّ عليها بشريعته التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، لأنها تنزيل من حكيم حميد … ومنَّ عليها بأن جعل شريعته محيطة وشاملة لكل ما يسعد خلق الله أجمعين … قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، [سورة الأنعام: الآية 38] . وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، [سورة النحل: الآية 89] . ومنَّ عليها بأن نظم لها أمور دينها وأمور دنياها، بأن شرع لها ما يصلح عقيدتها، وما ينمي ويرقق أخلاقها، وما ينظم مسيرة حياتها بإرساء الأحكام العقائدية والأخلاقية والعلمية (الفقهية) . ومنَّ عليها بأن حدد لها المرجع الذي ترجع إليه في استقاء هذه الأحكام ومعرفتها … قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، [سورة النساء: الآية 59] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2107 وقال صلى الله عليه وسلم: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا كتاب الله وسنتي)) . ومنَّ عليها بأن جعل هذه الشريعة هي خاتمة الشرائع، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم المرسلين، وأنها تحكم أمور الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومنَّ عليها بأن فتح باب الاجتهاد لعلماء هذه الأمة وصفوتها الذين وهبوا أنفسهم ووجهوا عقولهم وأفكارهم إلى خدمة هذه الشريعة والامتثال لأوامرها فتسلحوا بالإيمان، وعرفوا حقه، وتسلحوا بمعرفة ما في كتاب الله تعالى، وما في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فانبثقت عن هذه المعرفة اجتهاداتهم التي غمرت أمة الإسلام منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم حتى الآن، ما قصر عهد من عهودها، ولا نكص عالم من علمائها، وما أغلق باب للرحمة فتحه الله تعالى، وطبقه رسوله صلى الله عليه وسلم، وسار على هديه صحابته من بعده رضوان الله عليهم، ثم تابعوهم وأتباع تابعيهم … وهكذا إلى يومنا هذا … ومنَّ عليها بأن ظلت رايات الاجتهاد مرفوعة، والقواد الأعلام المجتهدون يتلقفونها جيلًا بعد جيل، وعصرًا بعد عصر بأمانة وإخلاص، وحكمة وروية، ونظر ثاقب وشمول واعٍ … فما من عصر إلا وتناديك أعلامه، وما من جيل إلا وتهتف بك أقلامه وكتبه وآثاره … وما من معرفة في شرع الله تعالى إلا وذخرت تحت ظل إيمانهم العميق وأينعت تحت ظل فهمهم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم … وصدق الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، [الآية 9 من سورة الحجر] . ومنَّ عليها بأن جعل عوادي الزمن، وضربات الأعداء، وكيد الكافرين يرتد مندحرًا ويتحطم موليا على صخرة الإيمان بالله تعالى والعمل بكتابه، وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فشلت كل غايات الغزاة، واندحرت كل غارات الأعداء على مر التاريخ، وظل الإسلام-دين الحق- دين الدنيا ودين الآخرة يمتد بنوره المبين، وعقيدته الحقة الخالصة وشريعته السمحه الشاملة المستوعبة. ومنَّ الله عليها بأن جعل من أبنائها، ورجالاتها من يضيئون الطريق دائمًا وسط ما قد يكون من ظلام حل بجانب من جوانب الأمور، وغطى بعض التصرفات في حقل من الحقول، فكان منهم من ثابر على إزاحة كل ظل دخيل على عقيدة الإسلام وشريعته، وإزالة كل تصرف لا ينبع من معين الإسلام الصافي، ولا يمتد نسبه إلى أصول هذا الدين الحنيف، في كل مجال من مجالات العلم والمعرفة. وفي كل بلد من بلاده وفي كل عصر من عصوره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2108 ومنَّ عليها بأن جعل أمة الإسلام تبحث دائمًا وأبدًا عما يحل ويحرم، وتبحث دائمًا وأبدًا عن حكم الإسلام في كل أمورها، من خلال الإطار الذي قدمه الإسلام، وطبقًا للمنهج الذي وضعه وأقره، مؤمنة بأن ما حرم فالمصلحة في تحريمه لكل الناس، وما أحل فالمصلحة في حله لكل الخلق، وما تشابه وأشكل فالمصلحة أيضًا في تركه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما – صحيح مسلم، واللفظ له. (5/ 50-51) 596، المختصر. ومنَّ عليها بهذه الصحوة الشاملة بعد الغفوة العارضة، والتي كان من ثمراتها تدفق المؤتمرات والندوات بغية البحث والدراسة، والتنقيب والاهتداء إلى الحكم الشرعي في أمورها الاقتصادية، ومعاملاتها المالية … ومن هذه المؤتمرات مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي الذي عقد عدة موضوعات يحتاج المجتمع الإسلامي إلى بيان موقف الفقه الإسلامي من التعامل بها وهي غاية كريمة، وهدف كبير، ومبادرة مأجورة بإذن الله تعالى وتوفيقه. ولئن كان لنا من جهد نقدمه في هذا البحث (الإيجار المنتهي بالتمليك) فهو جهد المقل، وهو محاولة نرجو الله تعالى أن تكون مصحوبة بالاهتداء إلى الصواب، ومقرونة بالتوفيق إلى ما فيه رضا الله تعالى، ومشمولة بالعفو والمغفرة منه عز شأنه إذا جانبنا الصواب. {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . [الآية 286 من سورة البقرة] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2109 ثانيًا_ موضوع البحث (التأجير المنتهي بالتمليك والصور المشروعة فيه) . دراسة لإحدى وسائل التمويل المتاحة عن طريق تمليك المنفعة، ثم تمليك العين نفسها في آخر المدة، وشرعية ذلك. وحل ما هناك من تداخل بين طبيعة عقدي الإجارة، ثم البيع والوسيلة الصحيحة للارتباط بين هذين العقدين. وهو موضوع دقيق تناوله فقهاء القانون – منذ عرفت صيغة (البيع الإيجاري) سنة 1846م حتى الآن- بالدراسة والبحث، وتناولوا صوره مبينين آراءهم في تكييف هذا العقد على ضوء ما اتفق عليه أطراف التعاقد، وما احتوته صيغته من شروط، وما أحاط به من قرائن. ونجد لزامًا على الباحث في هذا الموضوع أن يعرض صور هذا التعاقد التي توافرت لديه حتى الآن، ومن واقع ما عرضه رجال القانون الوضعي عند شرحهم لأحكام البيوع الائتمانية، وما نصت عليه القوانين الوضعية في هذا الشأن بإيجاز بالغ، تمهيد لتناول الموضوع على ضوء أحكام الفقه الإسلامي، وقواعده … الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2110 صور (الإيجار المنتهي بالتمليك) في الفقه الوضعي: (أ) للإيجار المنتهي بالتمليك عدة صور تدور حول ما اتفق عليه المتعاقدان، وما أراداه بهذا التعاقد، من إجارة أو بيع، أو إجارة ووعد بالبيع، وما حدداه أجرة في الإجارة، وثمنًا في البيع … والوقت الذي تنتقل فيه الملكية … ونأخذ هذه الصورة من واقع ما تناوله فقهاء القانون (1) . ونوضح فيما يلي بعض هذه الصور: الصورة الأولى: أن يصاغ العقد على أنه عقد إجارة ينتهي بتمليك الشيء المؤجر- إذا رغب المستأجر في ذلك- مقابل ثمن يتمثل في المبالغ التي دفعت فعلًا كأقساط إيجار لهذا الشيء المؤجر خلال المدة المحددة، ويصبح المستأجر مالكًا (أي مشتريا) للشيء المؤجر تلقائيًّا بمجرد سداد القسط الأخير، دون حاجة إلى إبرام عقد جديد. ويمكن أن نتصور صياغة هذا العقد على الوضع التالي: أجرتك هذه السلعة بأجرة في كل شهر –أو عام- هي كذا لمدة خمس سنوات مثلًا، على أنك إذ وفيت بهذه الأقساط جميعها في السنوات الخمس كان الشيء المؤجر ملك لك مقابل ما دفعته من أقساط الأجرة في هذه السنوات – وقال الآخر: قبلت.   (1) وقد تناوله فقهاء القانون تحت مسميات (الإيجار الساتر للبيع) أو (البيع الإيجاري) أو (الإيجار المملك) وهي ترجمة الاصطلاح الفرنسي (Locatio-Verte) لهذا النوع من التعاقد أو الإيجار المقترن بوعد بالبيع في بعض صوره، وذلك عند شرحهم لما نص عليه بشأن هذا التعاقد في القانون: المدني المصري م430، والمدني السوري م398، والليبي م419، والعراقي 534، والكويتي المادة 140 من قانون التجارة، أما الأردني فالمادة 487 لم تصرح بحكم البيع الإيجاري … المراجع القانونية: 1- البيع بالتقسيط والبيوع الائتمانية الأخرى للدكتور إبراهيم دسوقي أبو الليل، وقد أفاض في تحليل صور هذا التعاقد (مطبوعات جامعة الكويت سنة 1984م) ص303. 2- الوسيط في شرح القانون المدني للدكتور عبد الرازق أحمد السنهوري، (المجلد الأول) البيع 4/177، مطابع دار النشر للجامعات المصرية. 3- شرح عقد البيع للدكتور سليمان مرقس ص80، الناشر عالم الكتب سنة 1980م. 4- شرح أحكام عقد البيع للدكتور محمد لبيب شنب والدكتور مجدي صبحي ص16، دار النهضة العربية. 5- عقد البيع للدكتور عبد العزيز عامر ص11، الناشر دار النهضة العربية. - شرح العقود المدنية البيع والمقايضة للدكتور جميل الشرقاوي ص19، الناشر دار النهضة العربية. - شرح عقد الإيجار للدكتور سليمان مرقس ص 74، طبعة سنة 1984م. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2111 الصورة الثانية: (أن يصاغ العقد على أنه عقد إجارة يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة في مقابل أجرة محددة في مدة محددة للإجارة على أن يكون للمستأجر الحق في تملك العين المؤجرة في نهاية مدة الإجارة مقابل دفع مبلغ هو كذا. ويمكن أن نتصور صيغة هذا العقد على النحو التالي: (أجرتك هذه السلعة لمدة كذا بأجرة هي كذا –على أنك إذا وفيت بسداد هذه الأقساط خلال هذه المدة بعتك هذه السلعة –إذا رغبت في ذلك بثمن هو كذا، ويقول الآخر: قبلت". وهذه الصورة يمكن تفريغها إلى صورتين: إحداهما يكون الثمن فيها المحدد لبيع السلعة ثمنًا رمزيًّا، والثانية: يكون ثمنًا حقيقيًّا. الصورة الثالثة: أن يصاغ العقد على أنه عقد إجارة طبقًا للصورة الثانية إلا أنه في نهاية مدة الإجارة يكون للمستأجر الحق في ثلاثة أمور: الأول: تملك هذه الأعيان المؤجرة مقابل ثمن يراعى في تحديده المبالغ التي سبق له دفعها كأقساط إيجار، وهذا الثمن محدد عند بداية التعاقد، أو بأسعار السوق عند نهاية العقد. الثاني: مد مدة الإجارة لفترة –أو لفترات- أخرى. الثالث: إعادة الأعيان المؤجرة إلى المؤسسة المالكة والمؤجرة لها. وهذا النوع من التعاقد هو تطور حديث الإيجار المنتهي بالتمليك، وهو ما يسمى بعقد (الليزنج Leasing) أو (عقد تمويل المشروعات) ومن خلاله يمكن أن يوكل المصرف العميل في شراء هذه السلعة من الجهة المسجلة لها طبقًا للمواصفات المتفق عليها – كمًّا وكيفًا وسعرًا. (1) (ب) التحليل والدراسة لما يؤدي إليه (الإيجار المنتهي بالتمليك) من خلال هذه الصور: إن المتتبع لهذا النوع من التعاقد – من واقع صوره التي تناولها فقهاء القانون الوضعي - يجد أنه أمام عدة أمور يجب أن نبينها، ثم نتبعها ببيان أحكامها في الفقه الإسلامي. أولها: أن السلعة التي يجري بشأنها هذا الاتفاق هل هي موجودة في ملك المصرف (أي المؤجر أو البائع) وقت إبرام هذا العقد، أو ليست ملكه؟ بل إنه سيشتريها فيما بعد، ثم تتتابع أحكام هذا الاتفاق وآثاره، حينئذ يكون قد باع أو أجّر شيئًا غير مملوك له وقت إبرام العقد. الثاني: أن هذه السلعة إذا كانت مملوكة للبائع أو المؤجر هل قبضها ممن اشتراها منه أو لم يقبضها؟.   (1) البيع بالتقسيط والبيوع الائتمانية الأخرى للدكتور أبو الليل – مرجع سابق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2112 الثالث: أن العقد الذي يجريه المتعاقدان (عقد إجارة) في بدايته، يتفقان على أنه في نهايته –أي في نهاية المدة التي حددها الطرفان نهاية لعقد الإجارة –يصبح عقد بيع (أي عقد تمليك للعين مع منفعتها) أي أنه بدأ بتمليك المنفعة بعوض (روعي في تقديره ما يؤول إليه هذا العقد) ثم انتهى بتمليك العين ومنفعتها … كما رأينا في بعض الصور المتقدمة. الرابع: أن تمليك العين ومنفعتها (في نهاية مدة الإجارة المحددة) في صور هذا العقد هي عقد بيع –حدد للشيء المبيع فيه ثمنا معينا، وجاء ذلك على عدة صور: الصورة الأولى: أن يكون ثمن المبيع هو الأقساط الإيجارية المتفق على سدادها خلال المدة المحددة للإجارة، دون أن يدفع المستأجر (المشتري) شيئًا آخر، وتنتقل الملكية تلقائيًّا بسداد آخر قسط من هذه الأقساط. وبناءً على هذا يكون ثمن الشيء المبيع دفع مقدمًا على أقساط هي هذه الأقساط الإيجارية المتفق عليها … وفي الصورة الثانية: يحدد الطرفان في هذا الاتفاق ثمنًا رمزيًّا للشيء المؤجر يدفعه المستأجر في نهاية المدة المتفق على أنها مدة الإجارة، فإذا دفعه كان الشيء المؤجر ملكًا له. وإنما كان هذا الثمن رمزيًّا، لأنه روعي عند الاتفاق على الأقساط الإيجارية أنها تعادل في مجموعها ثمن السلعة الحقيقي مع ما أضيف إليه من ربح … وإنما وضع هذا الثمن الرمزي بغية تحقيق هدفين: أولهما: إظهار الاتفاق بأنه في البداية كان عقد إجارة. ثانيهما: أنه في النهاية عقد بيع، ولما كان لكل عقد خصائصه وأحكامه وآثاره، وهما يريدانه في صورة إجارة في أول الأمر ضمان لحقوق المؤجر التي يريدها من وراء شراء هذه السلعة لمصلحة المستأجر … . ويريدانها بيع في نهاية الأمر، لأن المستأجر يكون في حاجة إليها، وأن المؤجر استوفى حقه وتحقق مقصده، إذ ليس هدفه اقتناء هذه السلعة، وإنما هدفه تنمية أمواله بصورة تضمن له حقوقه … ولا شك أن هذه الصورة في ظاهرها – عقد إجارة ابتداء، وعقد بيع انتهاء – أي أن هذا الاتفاق احتوى على عقدين: (عقد ناجز هو عقد الإجارة –اقترن به شرط فاسخ يبدأ بعده عقد البيع. وعقد معلق على شرط، وهو عقد البيع … وإنما كان معلقًا على شرط، لأن التصور لهذه الصورة هو أن يقول: (أجرتك هذه السلعة بأجره هي كذا، ولمدة هي كذا، على أنك إذا سددت هذه الأقساط الإيجارية حتى نهاية المدة (المحددة) بعتك هذه السلعة بثمن هو كذا، وهو المبلغ الرمزي الذي سبق الإشارة إليه) . (1) وهذا الأمر يستدعي نظره في الفقه الإسلامي البحث عن حكم تعليق عقد البيع على شرط.   (1) وهذا البيع لا يعتبر عقدًا مضافًا، لأن الإضافة إلى زمن معين اقترن بها هنا استمراره في السداد أو عدم استمراره في هذه المدة فإن استمر في السداد حتى نهاية المدة باعه، وإن لم يستمر … لم يبعه، ومن ثم فهو تعليق على شرط، وليس إضافة إلى أجل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2113 وفي الصورة الثالثة: يحدد الطرفان في هذا الاتفاق ثمنًا حقيقيًّا لهذه السلعة المؤجرة، إذا دفعه المستأجر في نهاية المدة المتفق على أنها مدة الإجارة كان الشيء المؤجر ملك له. وهذه الصورة تجمع أيضًا بين عقدين: 1- عقد إجارة، وهو عقد ناجز – اقترن به شرط فاسخ يبدأ بعده عقد البيع. 2- عقد بيع، وهو عقد معلق على شرط –كما سبق إيضاحه-. ولكنها تختلف عن الصورة السابقة (الثانية) في أن الثمن المحدد للشيء المبيع (والذي كان مؤجرًا) يعادل قيمة الثمن الحقيقي لهذه السلعة، بعكس الصورة السابقة، إذ هو ثمن رمزي، وقد أثر بدوره على الأقساط الإيجارية إذ جعلها مرتفعة ارتفاعًا كبيرًا عن أجرة المثل … وفي هذه الصورة فإن عقد الإجارة المتفق عليه تطبق أحكامه على الفترة المحددة للإجارة، وبنهايتها يصبح الشيء المؤجر مبيعًا إذا ما دفع ثمنه المحدد له … بناء على هذا الاتفاق … وما قلناه آنفًا من أن تعليق عقد البيع على شرط يحتاج إلى بحثه في الفقه الإسلامي لمعرفة جوازه أو عدم جوازه نقوله هنا بجانب ما يحتاجه الأمر من إيضاح. وفي الصورة الرابعة: قد يتم الاتفاق على إجارة السلعة، مع وعد بالبيع في نهاية المدة إذا تم السداد حتى نهاية المدة: سواء كان ذلك في مقابل مبلغ يدفعه بعد انتهاء عقد الإجارة –رمزيًّا أو حقيقيًّا- وسداد جميع الأقساط الإيجارية المتفق على سدادها خلال هذه المدة، أو كانت هذه الأقساط الإيجارية هي ثمن السلعة ولم يتفق على دفع شيء آخر، لا رمزيًّا ولا حقيقيًّا. وفي هذه الصورة يكون الوعد ناشئًا من الصيغة نفسها … بأن وعده بالبيع في نهاية المدة، والآخر قبل هذا الوعد، أو بأن وعده بالبيع في نهاية المدة – بوعد منفرد لم يقترن بوعد من الطرف الآخر بالشراء. وبناءً على ذلك تكون الإجارة منعقدة فورًا، وأما الوعد بالبيع فيبحث هل هو ملزم أو غير ملزم في الفقه الإسلامي؟ وهذه الصور جميعها تستدعي أن نتناولها بالحث والدراسة في الفقه الإسلامي على النهج التالي: 1- بيان حكم بيع ما ليس مملوكًا للبائع وقت البيع. 2- بيان حكم بيع الشيء قبل قبضه. 3- بيان حكم اشتراط عقد في عقد. 4- بيان حكم اشتراط شرط أو أكثر في عقد من عقود المعاوضات المالية. 5- تكييف عقد (الإيجار المنتهي بالتمليك) في الفقه الإسلامي. الصورة الأولى: إجارة تنتهي بالتمليك دون دفع ثمن سوى الأقساط الإيجارية. الصورة الثانية: (اقتران الإجارة ببيع الشيء المؤجر بثمن رمزي) . حكم تعليق عقود المعاوضات المالية على شرط. الصورة الثالثة: اقتران الإجارة ببيع الشيء المؤجر بثمن حقيقي. الصورة الرابعة: اقتران الإجارة بوعد بالبيع. الوعد وأثره في الفقه الإسلامي. الوعد من الجانبين (المؤجر والمستأجر) . الوعد من المالك (المؤجر) فقط. الوعد من المستأجر فقط. الصورة الخامسة: اقتران الإجارة بوعد البيع، أو مد مدة الإجارة، أو انتهاء الإجارة ورد العين المستأجرة إلى المالك في نهاية مدة الإجارة. وفيما يلي نتائج هذه الدراسة: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2114 المبحث الأول حكم بيع شيئ غير مملوك لبائعه وقت التعاقد إذا كان عقد البيع أو الإجارة الذي عقد بين المصرف والعميل قد ورد على عين غير مملوكة للمصرف وقت التعاقد، فإنه يكون حينئذ بيعًا أو إجارة لسلعة غير مملوكة للبائع أو للمؤجر … وذلك لأن المصرف حينما يتفق مع العميل على هذه الإجارة المنتهية بالتمليك قد لا تكون السلعة مملوكة للمصرف، فإذا كانت السلعة أو العين سيتم شراؤها بعد هذا الاتفاق، ثم بعد ذلك تبدأ الإجارة أو البيع، فحين انعقاد عقد البيع أو الإجارة لا تكون هناك سلعة مملوكة له تباع أو تؤجر. وبيع شيء غير مملوك للبائع وقت التعاقد لا يصح، وكذا إجارته … لأن من شروط صحة البيع وجود المبيع في ملك البائع وقت البيع، ومن شروط صحة الإجارة وجود العين المؤجرة في ملك المؤجر أيضًا وقت الإجارة … وذلك استناد إلى الأحاديث الصحيحة … فقد روى أنه عليه الصلاة والسلام: ((نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخَّص في السلم)) . (1) . وروي عن حكيم بن حزام، قال: قلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق، فقال: ((لا تبع ما ليس عندك)) (2) ,رواه الخمسة (أحمد، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه) ، قال الصنعاني: (فدل على أنه لا يحل بيع الشيء قبل أن يملكه) .   (1) السلم: هو بيع آجل موصوف في الذمة بعاجل، وقد رخص فيه بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم) رواه الجماعة، وهو حجة في السلم في منقطع الجنس حالة العقد … يراجع (باب السلم) في كتب الفقه وكتب الحديث … (2) قال الترمذي: حديث حسن صحيح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2115 وروي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده – عن أبي داود والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك)) (1) ، أي ما ليس ملكك وقدرتك. جاء في نيل الأوطار: 5 /155، في شرحه لـ ((لا تبع ما ليس عندك)) : قال البغوي: النهي في هذا الحديث عن بيع الأعيان التي لا يملكها. أما بيع موصوف في ذمته فيجوز فيه السلم بشروطه، فلو باع شيئًا موصوفًا في ذمته عام الوجود عن المحل المشروط في البيع جاز، وإن لم يكن المبيع موجودًا في ملكه حالة العقد كالسلم. قال: وفي معنى ((ما ليس عندك)) في الفساد بيع الطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه إلى محله … ثم قال الشوكاني: (وظاهر النهي تحريم بيع ما لم يكن في ملك الإنسان ولا داخلًا تحت مقدرته، وقد استثنى من ذلك السلم فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم، وكذلك إذا كان المبيع في ذمة المشتري إذ هو كالحاضر المقبوض) . وقال الصنعاني في سبله: 2/334، دل حديث حكيم بن حزام على أنه لا يحل بيع الشيء قبل أن يملكه –كما ذكرنا آنفًا-. النتيجة: ومن هذا يتبين لنا أنه لا يصح أن يبيع الإنسان شيئًا لا يدخل في ملكه وقدرته وقت التعاقد. وهذا يوضح لنا أنه إذا باع المصرف شيئًا للعميل، وكان هذا الشيء غير داخل في ملك المصرف، أو غير مملوك له، كان بيعه غير صحيح استنادًا إلى هذه الأحاديث الصحيحة، وهذا الحكم متفق عليه، واستثنى السلم إذا توافرت شروط صحته، والموضوع الذي معنا ليس من السلم … وكذلك لا يجوز إجارة عين غير مملوكة للمؤجر، وذلك لأن الإجارة تمليك لمنافع العين بعوض، وهذا التمليك يستدعي أن تكون العين مملوكة لمن يملك منفعتها بعوض، فإذا كان مالك لها صح تأجيرها، أي بيع منفعتها، وإلا لم يصح له تأجيرها، فحكمها حكم البيع (2) .   (1) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم، وأخرجه الحاكم في علوم الحديث من رواية أبي حنيفة، عن عمرو المذكور بلفظ: نهي عن بيع وشرط، ومن هذا الوجه الذي أخرجه الحاكم، أخرجه الطبراني في الأوسط وهو غريب. وقد رواه جماعة واستغربه النووي. سبل السلام: 2/334. (2) الحنفية: (قال شمس الأئمة السرخسي إنما يشترط الملك والوجود للقدرة على التسليم، وهذا لا يتحقق في المنافع، لأنها عرض لا تبقى زمانين، فلا معنى للاشتراط، فأقمنا العين المنتفع بها مقام المنفعة في حق إضافة العقد إليها ليترتب القبول على الإيجاب … ، ويبدأ بتسليم المعقود عليه ليتمكن من الانتفاع … ) الاختيار: 1/222. الشافعية: جاء في مغني المحتاج: 2/222: (ويشترط في المنفعة كون المؤجر قادرًا على تسليمها حسًّا أو شرعًا ليتمكن المستأجر منها، والقدرة على التسليم تشمل ملك الأصل، وملك المنفعة) . الحنابلة: جاء في كشاف القناع: 2 /11 في شروط صحة عقد البيع الشرط الرابع أن يكون المبيع مملوكًا لبائعه –وقت التعاقد، وكذا الثمن- ملكًا تامًّا لقوله عليه السلام، لحكيم بن حزام: (لاتبع ما ليس عندك) رواه ابن ماجه والترمذي وصححه. أو مأذونًا له في بيعه وقت إيجاب وقبول … (ولا يصح بيع شيء معين لا يملكه ليشتريه ويسلمه، لحديث حكيم السابق، بل يصح بيع موصوف مما يكفي في السلم غير معين، ولو لم يجد في مثله بشرط قبضه – أي الموصوف، أو قبض ثمنه – في مجلس العقد، وإلا لم يصح لأنه بيع الدين بالدين. والشرط الخامس أن يكون المبيع ومثله الثمن مقدورًا على تسليمه حال العقد، لأن ما لا يقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم، والمعدوم لا يصح بيعه، فكذا ما أشبهه. الزيدية: جاء في شرح الأزهار: 3/247:) وحقيقة أجرة المنافع: عقد على تحصيل منفعة معلومة في عين موجودة معلومة بأجرة معلومة … فمن شروط صحتها تعيين العين المؤجرة كالمبيع … وكون المؤجر مالكًا للشيء المؤجر أو وليًّا من قبل المالك له) . الإمامية: جاء في المختصر النافع: ص176: (ويشترط لصحة الإجارة … وأن تكون المنفعة مملوكة للمؤجر، أو لمن يؤجر عنه … ) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2116 المبحث الثاني حكم بيع الشيء قبل قبضه اختلف العلماء في حكم بيع الشيء قبل قبضه إلى عدة آراء، نظرًا لأن الأحاديث الواردة في النهي عن بيع الشيء قبل قبضه بعضها أطلق الحكم في كل مبيع، وبعضها صرح بالطعام، وبعضها بالمكيل والموزون … وأرى أن أورد بعضًا من هذه الأحاديث، ثم أتبعها ببيان رأي الفقهاء، ثم الترجيح فالنتيجة … أول- الأحاديث التي وردت في هذا الموضوع: (أ) الأحاديث التي ورد فيها النهي عن بيع الطعام قبل قبضه جزافًا أو غير جزاف: 1- روي عن جابر، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ابتعت طعامًا فلا تبعه حتى تستوفيه)) رواه أحمد ومسلم. 2- وروي عن أبي هريرة أنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشترى الطعام، ثم يباع حتى يستوفى)) رواه أحمد ومسلم، ولمسلم بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من اشترى طعامًا فلا يبيعه حتى يكتاله)) . 3- وروي عن ابن عمر، قال: ((كانوا يتبايعون الطعام جزافًا بأعلى السوق، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه)) رواه الجماعة (البخاري ومسلم وأحمد، وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه) ، وفي لفظ في الصحيحين (البخاري ومسلم) ((حتى يحولوه)) . 4- وللجماعة إلا الترمذي: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه)) . 5- ولأحمد: ((من اشترى طعامًا بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه)) . 6- ولأبي داود والنسائي: ((نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه)) . 7- وروي عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) . قال ابن عباس: ((ولا أحسب كل شيء إلا مثله)) رواه الجماعة إلا الترمذي. 8- وفي لفظ الصحيحين: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2117 (ب) الأحاديث التي عمت جميع السلع: 9- روي عن حكيم بن حزام، قال: قلت يا رسول الله: إني أشتري بيوعًا فما يحل لي منها، وما يحرم عليَّ؟ قال: ((إذا اشتريت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه)) . رواه أحمد. 10- وعن زيد بن ثابت، أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم)) رواه أبو داود والدارقطني. ثانيا: وعلى ضوء ما نصت عليه هذه الأحاديث يمكننا أن نعرض آراء الفقهاء في بيع الشيء قبل قبضه: - إذا كان سلعة مطلقًا. - إذا كان طعامًا مطلقًا. - إذا كان طعامًا مكيلًا أو موزونًا. - إذا كان مكيلًا أو موزونًا –أو معدودًا- طعامًا أو غيره. - إذا كان منقولًا، أو عقارًا. - إذا كان جزافًا (أي لا يعلم قدره على التفصيل) . الرأي الأول- القبض شرط في كل مبيع مطلقًا: وهو رأي الشافعية ومحمد بن الحسن من الحنفية، وبه قال الثوري، وهو مروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس، والأحاديث التي تؤيده، هي: حديث حكيم بن حزام (9) ، وحديث زيد بن ثابت (10) ، وحديث ابن عباس (7) ، وقد تقدم نص هذه الأحاديث. وأيضًا فإن بيع الشيء قبل قبضه هو بيع ما لم يضمن، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل سلف وبيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) ، وهذا مع باب بيع ما لم يضمن، وهذا مبني على أن الشافعية يرون أن القبض شرط في دخول المبيع في ضمان المشتري … ، كما أن بيع ما لم يقبض يتطرق منه إلى الربا أو الغرر. الرأي الثاني – القبض شرط في الطعام فقط، ربويًّا أو غير ربوي: وأدلته الأحاديث التي صرحت بالطعان (حديث جابر (1) ، وحديث أبي هريرة (2) ، وحديث ابن عمر (3) ، ورواياته (4، 5، 6) ، وحديث ابن عباس (7) . وبناء على هذا الرأي يصح بيع كل سلعة –غير الطعام، ولو كانت عقارًا قبل قبضها. الرأي الثالث – القبض شرط في الطعام الربوي فقط: وهو رأي مالك (المشهور عنه) ، أي الطعام الذي تتوافر فيه علة الربا، وهي: (الاقتيات والادخار) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2118 وبناء على هذا الرأي يصح بيع كل سلعة – غير الطعام الربوي- ولو كانت عقارًا قبل قبضها … الرأي الرابع- القبض شرط في الطعام المكيل والموزون، وأما ما لا يكال ولا يوزن منه فلا بأس ببيعه قبل قبضهن وكذا العقار. ويمكن أن يستدل لهذا الرأي بالأحاديث التي ورد فيها ذكر الطعام المكيل أو الموزون، وهي في روايات حديث عبد الله بن عمر (9، 10) ، وقد تقدم نصها. وأن هؤلاء الفقهاء اتفقوا على أن المكيل والموزون لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يضمن. الرأي الخامس – القبض شرط في كل ما يكال ويوزن طعامًا أو غيره، وأما غير ذلك، فالقبض ليس شرطًا فيه: وهو قول أبي عبيد وإسحاق وأدلتهم هي أدلة الرأي الرابع، مع أعمال الأحاديث الواردة في عموم السلع ما كان طعامًا أو غيره. الرأي السادس- القبض شرط في كل ما يكال وما يوزن، وكذا ما يعد (المعدود) ، وما يذرع- قياسًا على المكيل والموزون- طعامًا أو غيره، أي أنه يجري في المثليات وكذا المزروعات- لا في القيميات: وبه قال ابن حبيب من المالكية وعبد العزيز بن أبي سلمة، وربيعة، والحنابلة، فهؤلاء الفقهاء يتفقون مع أصحاب الرأي الخامس في المكيل والموزون، ويستدلون بأدلتهم إلا أنهم يقيسون على المكيل والموزون المعدود والمزروع. (وكأنهم يعملون الأحاديث جميعها ما ورد منها في الطعام، وما ورد في كل شيء، وما ورد في المكيل والموزون، باعتبار أن الكيل أو الوزن قيد إطلاق الأحاديث التي عمت المكيل والموزون وغيرهما من القيميات، إلا أن المعدود والمزروع يأخذ حكم المكيل والموزون لأنهم جميع مثليات فما اختص به أحدهما من حكم يسري على الآخرين) . الرأي السابع –القبض شرط فيما ينقل ويحول (المنقول) ، وليس شرطًًا في كل ما لا يقل ولا يحول كالدور والعقار: وهو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف وذلك لأن ما لا ينقل ولا يحول القبض فيه عندهم بالتخلية. فلا يجوز بيع المنقول قبل قبضه ويجوز بيع العقار قبل قبضه عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، لأن المبيع هو العرصة (1) ، وهي مأمونة الهلاك غالبًا، فلا يتعلق بها غرر الانفساخ، حتى لو كانت على شاطيء بحر، أو كان المبيع علوا لا يجوز بيعه قبل القبض، والمراد بالحديث النقلي، لأن القبض الحقيقي إنما يتصور فيه، وعملًا بدلائل الجواز …   (1) جاء في كشاف القناع: 2/79 ولم يصح من المشتري تصرفه فيما اشتراه بكيل أو وزن أو عد أو زرع قبل قبضه، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه متفق عليه. وكان الطعام يومئذ مستعمل غالب فيما يكال ويوزن وقيس عليها المعدود والمزروع لاحتياجهما لحق توفية، ولا يصح التصرف فيه ببيع ولا إجارة ولا هبة ولو بلا عوض ولا رهن ولو بعد قبض ثمنه. جاء في مختار الصحاح: العرصة- بفتح العين وسكون الراء وفتح الصاد- بوزن الضربة – كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء، والجمع العِراص-بكسر العين- والعَرَصَات بفتح العين والراء والصاد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2119 الرأي الثامن –القبض ليس شرطًا في بيع أي شيء، سواء كان طعام أو غير طعام، مثليًّا أو غير مثلي، منقولًا أو عقارًا: وهو رأي عثمان البتي، وهو رأي مردود، لأن الأحاديث الصحيحة تنقض هذا الرأي، فهو رأي في مقابل النص (ولا اجتهاد مع نص) ، ولعله لم تبلغه هذه الأحاديث، وقد روي عن أبي حنيفة- ومثله جميع الفقهاء- وقوله: (ليس لأحد أن يقول برأيه مع نص من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله، أو إجماع الأمة) . وقد ثبت النص، فلا محيص من الأخذ به. بيع الجزاف: وقبل أن نبين الراجح من هذه الآراء نورد فيما يلي آراء الفقهاء فيما إذا بيع الشيء جزاف (وهو ما لم يعلم قدره على التفصيل) قبل قبضه: يرى الإمام مالك، أنه يجوز بيع الطعام –إذا بيع جزافًا- قبل قبضه- وأما غير الجزاف فلا يجوز- وبه قال الأوزاعي وإسحاق. واحتجوا بأن الجزاف يرى، فيكفي فيه التخلية، والاستقباض إنما يكون شرط في المكيل والموزون بدليل الأحاديث التي صرحت بذلك، ومنها حديث ابن عمر فيما رواه أحمد: (من اشترى طعام بكيل أو وزن فلا يبيعه حتى يقبضه) (وتقدم رقم9) . وما رواه الدارقطني من حديث جابر ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري)) ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة، قال في الفتح بإسناد حسن. قالوا وفي ذلك دليل على أن القبض إنما يكون شرطًا في المكيل والموزون دون الجزاف. ويرى جمهور الفقهاء، أنه لا يجوز بيع الطعام قبل قبضه جزافًا كان أو غيره وهو رأي الحنفية، والشافعية، والحنابلة. واحتجوا بما يأتي: 1- إطلاق أحاديث الباب، والتي أوردناها فيما تقدم فلم تفصل في الحكم بين الجزاف وغيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2120 2- وخصوص حديث ابن عمر (سبق نصه تحت رقم3 من الأحاديث) وفيه (أنهم كانوا يتباعون جزافًا بأعلى السوق، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه) . 3- وحديث حكيم بن حزام (سبق تحت رقم9) ، لأنه يعم كل مبيع. كما أجابوا عن الحديثين اللذين استدل بهما أصحاب الرأي الأول، وهما حديث ابن عمر، وحديث جابر بأن التنصيص على كون الطعام المنهي عن بيعه مكيلًا أو موزونًا لا يستلزم عدم ثبوت الحكم في غيره. نعم لو لم يوجد في الباب إلا الأحاديث التي فيها إطلاق لفظ الطعام لأمكن أن يقال: إنه يحمل المطلق على المقيد بالكيل والوزن، وأما بعد التصريح بالنهي عن بيع الجزاف قبل قبضه، كما في حديث ابن عمر، فيتحتم المصير إلى أن حكم الطعام متحد من غير فرق بين الجزاف وغيره. الترجيح: والراجح هو اشتراط قبض المبيع قبل بيعه- سواء كان – طعامًا أو غير طعام- مثليًّا أو قيميًّا، ربويًّا أو غير ربوي، منقولًا أو عقارًا. وذلك لأن الأحاديث الواردة جاء بعضها عام في كل السلع مثل حديث حكيم بن حزام (رقم9 المتقدم) ، وحديث زيد بن ثابت (رقم10 المتقدم) ، وما صرحت به بعض الأحاديث من ذكر الطعام، لا يدل على نفي الحكم عما عدا الطعام، فهو بعض أفراد العام الوارد في الأحاديث الأخرى، فهو تقرير لنفس الحكم الثابت فيها، نص عليه عناية به، ولعل ذلك لأن أكثر البيوع تكون في هذا المجال … كذلك فإن التصريح بالمكيل والموزون لا يدل على نفي الحكم عما عداهما، فهو ذكر لبعض أفراد ما أفادته الأحاديث التي أثبتت أنه يشترط القبض في بيع ما اشتراه الإنسان … فهو ذكر لبعض أفراد العام، وذكر بعض أفراده في بعض الأحاديث لا ينفي الحكم عما عداه لأنه ثابت بالأحاديث التي أفادت عموم الحكم، وهو أنه يشترط قبض المبيع قبل بيعه. وقد فهم هذا ابن عباس رضي الله عنه، فقال: بعد أن روي حديث: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه، ولا أحسب كل شيء إلا مثله)) . وأيضًا فإنه قد علل النهي عن بيع الشيء قبل قبضه بجانب ثبوت ذلك في الأحاديث بما أخرجه البخاري عن طاوس، قال: قلت لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: (دراهم بدراهم، والطعام مرجأ) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2121 استفهم طاوس من ابن عباس عن سبب النهي فأجابه بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض، وتأخر المبيع في يد البائع، فكأنه باع دراهم بدراهم. ويبين ذلك ما أخرجه مسلم عن ابن عباس، أنه قال –لما سأله طاوس-: (ألا تراهم يبتاعون بالذهب والطعام مرجأ) ، وذلك لأنه إذا اشترى طعام بمائة دينار، ودفعها للبائع، ولم يقبض منه الطعام، ثم باع الطعام إلى آخر بمائة وعشرين –مثلًا- فكأنه اشترى بذهبه ذهبًا أكثر منه. يقول الشوكاني: وهذا التعليل أجود ما علل به، لأن الصحابة أعرف بما قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويرى الفقهاء أن هذا الحكم – الذي ورد في عقد البيع – يقاس عليه باقي عقود المعاوضات المالية الأخرى (البيوع والإجارات) ، وهو الرأي الذي أرجحه، لأن ضوابط هذه العقود وأسسها متوافقة- أو أنها في معنى البيع المنهي عنه فتأخذ حكمه. كيفية قبض المبيع: المبيع إما عقار أو منقول: أما العقار- وما في حكمه وهو كل شيء يؤمن فيه الهلاك غالبًا، كما صرح الحنفية في تعليلهم له- وهو الأرض والنخل والضياع، والأبنية، وكذا السفن الكبيرة، كما صرح الشافعية ويمكن أن يقاس على ذلك ما في حكمها من الأموال التي يؤمن فيها الهلاك غالبًا، فإن العقار وما في حكمه اتفق الفقهاء على أن قبضه يكون بالتخلية بين البائع والمشتري بحيث يتمكن من الانتفاع به، والتصرف فيه. وأما المنقول- وهو كل ما عدا العقار، وما في حكمه- مما ينقل ويحول- فقد اختلف في كيفية قبضه: فيفرق بعض الفقهاء بين المكيل والموزون والمعدود والمزروع وبين غيرها من باقي المنقولات. أما المكيل والموزون والمعدود، فقبضه يكون بكيله أو وزنه أو عد لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل)) رواه أحمد عن عثمان رضي الله عنه، وفي الصحيحين: ((ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله)) ، ومثل المكيل والموزون، المعدود والمزروع لأنها مثليات وهو رأي الشافعية والحنابلة. وأما غير المكيل والموزون والمعدود والمزروع فقبضه يكون حسبما يقضي به العرف - كما صرح المالكية والحنابلة (1) .   (1) كشاف القناع: 2 /83. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2122 ويرى الحنفية والشافعية أن قبض المنقول مطلقًا تحويله من مكان إلى مكان، لما روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: ((كنا نشتري الطعام جزافًا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه)) وقيس بالطعام غيره، ويكفي في قبض الثوب ونحوه مما يتناول باليد التناول، فإن جرى البيع بموضع لا يختص بالبائع كفى نقله إلى حيز … كما صرح الشافعية – والحنابلة. النتيجة: من هذا المبحث يتضح لنا أنه إذا باع المشتري السلعة التي اشتراها قبل أن يقبضها –على الوجه الذي بيَّناه- كان البيع غير صحيح، لأنه بيع منهي عنه بصريح الأحاديث النبوية، ومثل البيع غيره من عقود المعاوضات المالية، ومنها الإجارة، فلو أنه أجَّر شيئًا اشتراه قبل أن يقبضه كانت إجارته غير صحيحة أيضًا. وهذا النوع من التصرف المعروضة صورته إذا كان بيعًا أو إجارة لسلعة لم يتم شراؤها، أو تم شراؤها ولم يتم قبضها (1) على الوجه المتقدم كان غير صحيح، أما إذا كانت السلعة قد اشتراها المصرف وقبضها ثم باعها للعميل أو أجَّرها … فإن البيع أو الإجارة يكون صحيحًا ما لم يقترن بشرط يؤدي إلى عدم صحته أو يعلق على شرط غير صحيح … وهذا ما سنبحثه في الفقرات التالية.   (1) ويستثنى من ذلك ما إذا كانت السلعة تحت يد (العميل) المشتري من (المصرف) البائع فإنها تكون في حكم المبيع الحاضر المقبوض … (الشوكاني كما ذكرنا آنفًا … ) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2123 المبحث الثالث حكم اشتراط عقد في عقد في الفقه الإسلامي إذا كانت السلعة المتعاقد عليها مملوكة للمصرف (المؤجر أو البائع) ومقبوضة على الوجه الذي بيناه في المبحث السابق، فإن هذا الاتفاق الذي معنا، وهو (الإيجار المنتهي بالتمليك) قد يؤدي في بعض صوره إلى اجتماع عقدين في عقدن أو صفقتين في صفقة، ونظرًا إلى أن الفقهاء قد اختلفوا في صحة العقد الذي يؤدي إلى ذلك، فإننا نبين رأيهم، ثم نرجح ما نرى رجحانه: حكم اشتراط عقد في عقد، أو اجتماع عقدين في عقد: لقد اختلف الفقهاء في حكم اشتراط عقد في عقد اختلافًا كبيرًا، ومرجع هذا الاختلاف هو تفسير لبعض الأحاديث الواردة في هذا الموضوع، أو التي يوحي ظاهرها بأنها واردة في بيان حكمه، وأورد فيما يلي بإيجاز خلاصة الرأيين: أولًا: يرى جمهور الفقهاء (الحنفية والشافعية والظاهرية والزيدية) عدم جواز اشتراط عقد في عقد، كما يرى المالكية (غير أشهب) والحنابلة ذلك إلا أنهم يجيزون اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة –أي اجتماعهما في عقد واحد. ثانيًا: يرى أشهب من علماء المالكية، والإمامية جواز اشتراط عقد في عقد ما دام ذلك يحقق غرضًا مشروعًا وكذلك يرى ابن تيمية جواز اشتراط عقد جديد يتعلق بالمعقود عليه يحقق هذا الغرض. كما يرى المالكية والشافعية والحنابلة، جواز اجتماع عقد البيع من عقد الإجارة لتوافق أحكام البيع مع أحكام الإجارة في الأركان والشروط غالب. ونورد هنا بعض النصوص الفقهية في هذا: (أ) جاء في (الشرح الكبير، للدسوقي 4/5) : (ولا تفسد الإجارة مع بيع صفقة واحدة، ولا يفسد البيع أيضًا، لعدم منافاتهما، سواء كانت الإجازة في نفس المبيع كشرائه ثوبًا بدراهم معلومة – على أن يخيطه البائع- بعضها في مقابلة الثوب- وذلك بيع- وبعضها في مقابلة الخياطة- وذلك إجارة-، أو جلدًا على أن يخرزه نعالًا أو غيرها، أو في غير المبيع كشرائه ثوبًا بدراهم معلومة على أن ينسج له آخر، ويشترط في الصورة الأولى (وهي ما إذا كانت الإجارة في نفس المبيع) شروعه في العمل، كالخياطة والخرز، وضرب أجل الإجارة، ومعرفة خروجه (على أي وجه كان من كونه رديئًا أو جيدًا، بأن كان الرجل متقنًا في صنعته فيخرج جيدا، أولا فيخرج رديئًا) . عين عامله أم لا، أو إمكان إعادته (أي أو لم يعرف وجه خروجه لكن يمكن إعادته) كالنحاس على أن يصنعه قدحًا، فإن انتفى الأمران (أي معرفة وجه خروجه وإمكان إعادته إن لم يعجبه) كالزيتون على أن يعصره فلا يجوز، وأما إن كانت الإجارة في غير نفس المبيع فتجوز من غير شرط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2124 (ولا يجوز اجتماع عقد البيع مع عقد الشركة والصرف والجعل والنكاح والمساقاة والقراض، خلافًا لأشهب حيث قال بجواز اجتماع هذه العقود مع عقد البيع) . (الشرح الكبير: 4/5؛ والشرح الصغير: 2/235؛ والإتقان والأحكام، لابن ميارة الفاسي؛ شرح تحفة الأحكام لابن عاصم: 1/282 والبهجة شرح التحفه، لأبي الحسن التسولي: 2/10) . (ب) ما جاء عند الشافعية حول اجتماع عقدين في عقد في صفقة واحدة: أجاز الشافعية اجتماع عقدين مختلفي الحكم كالإجارة والبيع أو السلم هو صفقة واحدة جاء في (مغني المحتاج: 2/41) : (ولو جمع في صفقة مختلفي الحكم كإجارة وبيع، كأن يقول: أجرتك داري شهرًا، وبعتك ثوبي هذا بدينار، أو إجارة وسلم كأن يقول: أجرتك داري شهرًا، وبعتك صاع قمح في ذمتي سلمًا بكذا- صحا في الأظهر، ويوزع المسمى على قيمتهما، أي قيمة المؤجر من حيث الأجرة، وقيمة المبيع أو المسلم فيه. - ووجه الاختلاف بين البيع والإجارة اشتراط قبض العوض في المجلس في السلم دونها. - والرأي الثاني: يبطلان، لأنه قد يعرض لاختلاف حكمها باختلاف أسباب الفسخ والانفساخ ما يقتضي فسخ أحدهما، فيحتاج إلى التوزيع، ويلزم الجهل عند العقد بما يخص كلًّا منهما من العوض، وذلك محذور. - وأجاب الأول بأنه لا محذور في ذلك، ألا ترى أنه يجوز بيع ثوب وشفعة من دار في صفقة، وإن اختلفا في حكم الشفعة واحتيج إلى التوزيع بسببها. - ويؤخذ مما مثل به أن محل الخلاف أن يكون العقدان لازمين، فلو جمع بين لازم وجائز كبيع وجعالة لم يصح قطعًا. كما ذكره الرافعي في المسابقة. أو كان العقدان جائزين كشركة وقراض صح قطع، لأن العقود الجائزة بابها واسع. - وإنما قال مختلفي الحكم، ولم يقل عقدين مختلفي الحكم –كما عبر به في المحرر- ليشمل بيع عبدين بشرط الخيار في أحدهما أكثر من الآخر، فإنه على القولين مع أن الحكم مختلف والعقد واحد … ) . واضح من هذا النص الفقهي أن الشافعية يقولون أن اجتماع عقدين في صفقة واحدة، بشرط أن يكونا مختلفي الحكم كإجارة وبيع، أو إجارة وسلم.. يصحان في الأظهر ويوزع المسمى على قيمتها … الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2125 فهل اجتماع عقد إجارة على عين مع عقد بيع على هذه العين الواحدة المؤجرة بعد انتهاء مدة الإجارة يصح قياسًا على ذلك، أم لا يصح لأن الصورة التي ذكرها المذهب هنا هي إجارة باتة ناجزة، وبيع بات ناجز ليس معلقًا على شرط أو مضافًا إلى أجل على محلين مختلفين، ومن ثم فلا يصح القياس على ذلك وهو رأي المذهب؛ لأن هذه العقود لا تقبل عندهم التعليق على شرط ولا الإضافة إلى أجل. ولنا أن نقول: إن السلعة هنا مقبوضة في يد المستأجر- تحت ظل عقد الإجارة وملك المستأجر منفعتها- فإذا ما علق بيعها له على انتهاء عقد الإجارة كان مقتضى القول بصحة هذا البيع أن ينضم حق التصرف في هذه العين المؤجرة (المبيعة) إلى حق المنفعة التي ملكها المستأجر (المشتري) ، وبذلك يكون المعلق فيها –هو حق التصرف- لأن صيغة العقد واحدة جمعت بين إجارة وبيع- إجارة ملك بها أحد شقي الملكية، وبيع بعد الإجارة ملك به الشق الآخر … فلا يكون تعليقًا للعقد وإنما هو تعليق لحق التصرف إلى ما بعد انتهاء عقد الإجارة … والله أعلم. كما في حديث جابر وما صرح به الحنابلة في رأي لهم. جاء في (الروض المربع: 2/169) : (أو جمع بين بيع وصرف، أو إجارة، أو خلع أو نكاح بعوض واحد صح البيع وما جمع إليه، ويقسط العوض على المبيع وما جمع إليه بالقيم، ومثله كشاف القناع: 2/29، ومنتهى الإرادات: ص17) . (ج) وأجاز الإمامية اشتراط عقد في عقد: وقد أوردوا عدة أمثلة لذلك فقالوا: إن الشرط الذي لا يقتضيه العقد ولا ينافي مقتضى العقد، ولا يكون له تعلق بمصلحة المتعاقدين من حيث كونهما متعاقدين، (كاشتراط منفعة البائع كخياطة الثوب وصياغة الفضة، أو اشتراط عقد في عقد كأن يبيعه شيئًا بشرط أن يشتري منهن أو يبيعه شيئا آخر، أو يزوجه، أو يسلفه، أو يقرضه، أو يستقرض منه، أو يؤجره، أو يستأجر منه، أو يشترط ما بنى على التغلب والسراية كشرط عتق العبد، فهذه الشروط كلها سائغة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2126 ومنها أيضًا: (ما إذا باعه شيئًا بشرط أن يبيعه لفلان..) جاز ذلك. وهذا النوع من الشرط قالوا عنه: (أ) أنه شرط لا يقتضيه العقد، لأنه لا يجب بنفس العقد، وليس مما رتبه الشارع على العقد. (ب) وأنه شرط لا يتعلق بمصلحة المتعاقدين من حيث كونهما متعاقدين، فلا تعلق له بالعقد، ولا محل العقد - ثمنًا كان أو مثمنًا- وإنما هو اشتراط أمر خارج عن العقد، أو أحد العوضين. (ج) وأنه شرط لا ينافي مقتضى العقد، لأنه لا تعارض بينه وبين ما يرتبه الشارع على العقد من أحكام وآثار. (د) وأنه شرط لا يخالف الكتاب والسنة أي أنه (سائغ) . (هـ) وأنه شرط مقدور عليه. (و) وأنه شرط يقتضي حصول تصرف في المستقبل، كان هذا التصرف عملًا من الأعمال في محل العقد أو في غيره، أو كان عقدًا آخر. (ز) وأنه شرط يحقق منفعة. (ح) وأنه يصح لأي من المتعاقدين اشتراط هذا النوع من الشرط على الآخر. النتيجة: أرى أنه لا مانع من اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة سواء أكان العقدان واردين على محل واحد – كما هو الحال في الصور التي معنا- أو كانا واردين على محلين مختلفين، طالما توافرت أركان كل عقد منهما وشروط صحته. وأما حديث (النهي عن بيعتين في بيعة) وعن (صفقتين في صفقة) ، فقد فسره بعض العلماء بأن المراد به (النهي عن إيجاب البيع في سلعة بثمنين مختلفين إلى أجلين..، أو إيجاب البيع في سلعتين بثمنين مختلفين، ثم يقبل الطرف الآخر، ثم يفترقان على هذا دون تحديد لثمن معين، وأجل معين، أو سلعة معينة) (1) . فهذان الحديثان يتعلقان بصيغة العقد، إذ إنه بهذه الصيغة لا ينعقد العقد، لأنه لم يحدد ثمن معين، وأجل معين عند قوله قبلت- أو سلعة معينة- لأن من شروط صحة الصيغة أن يصدر القبول على وفق الإيجاب، والإيجاب هنا ليس باتًّا في صفقة واحدة، وإنما هو متردد بين بيعتين، أو صفقتين … ، فيلزم لصحة البيع أن يقول المشتري قبلت في كذا بكذا، وحينئذ يكون قبوله إيجابًا جديدًا يلزم لكي يتم البيع به أن يقول الآخر قبلت، وتكون الصيغة الأولى استدعاء للبيع وليست إيجابًا للبيع …   (1) فسره بهذا سماك راوي الحديث، والشوكاني، والشافعي، وأبو عبيد بن القاسم والمالكية والحنابلة، والزيدية والإباضية في أحد التفسيرين. وأما التفسير الآخر للحديث عندهم فهو عام يشمل كل شرط يؤدي إلى اجتماع عقد في عقد، أو اجتماع عقد البيع مع عقد آخر، وقد رجحت في كتابي (الشروط في العقد) الرأي الأول ص499-548، إلا أني رجحت أنه لا يصح اجتماع سلف وبيع- لصحة الحديث الوارد في ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2127 وإذا رجحنا صحة اشتراط عقد في عقد، فإنه من الضروري لصحة كل من هذين العقدين أن يكون كل عقد منهما مستوفيًا أركانه وشروط صحته. سواء من حيث الصيغة الدالة على الرضا … أو من حيث أهلية المتعاقدين.. أو من حيث المعقود عليه – ثمنًا مثمنًا أو أجرة ومنفعة- وتحديدهما تحديدًا نافيا لكل جهالة أو غرر. أو من حيث ما اقترن به من أوصاف- كالأجل- أو الشرط. فإذا توافر ذلك كله بأن كان المؤجر أو المبيع مملوكًا مقبوضًا، وكان الاتفاق يقضي أو يؤدي إلى اجتماع عقدي الإجارة والبيع في عقد واحد، فإنا نقول بصحته إذا توافرت شروط صحة كل منهما، ولم يقترن بما يؤدي إلى بطلانه من شرط باطل، أو غرر … وهنا أيضًا يجب أن نبين حكم اشتراط بعض الشروط في هذا العقد، وحكم هذا العقد مع هذه الشروط صحيحها وفاسدها، إذ أن الفقه الإسلامي له رأي في الشروط التي تقترن بالعقد- حقيقتها – وعددها- وأثرها. ونرى أن نوضح هذا الرأي في المبحث التالي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2128 المبحث الرابع حكم اشتراط شرط أو أكثر في عقود المعاوضات المالية أوضحنا آنفًا أن هذا العقد قد تم على سلعة مملوكة مقبوضة للمصرف وهو عقد إجارة … اشترط فيه بعض الشروط مثل: - أن يتحمل المستأجر لهذه السلعة نفقات الصيانة والحفظ والتأمين. - وألا يتصرف المؤجر في هذه السلعة طوال مدة الإجارة المتفق عليها … بأي تصرف يضر بمصلحة المستأجر، أو يخرج السلعة من تحت يده. - وأن يبيع المؤجر الشيء المؤجر إلى المستأجر إذا وفى بالأقساط المتفق عليها في المدة المحددة لهذه الإجارة.. - أو أن يجعل المؤجر للمستأجر الحق في أن يتملك الشيء المؤجر في مقابل ثمن معين، أو مد مدة الإجارة، أو ورد الشيء إلى المؤجر في نهاية مدة الإجارة. إذا رغب في ذلك. كل هذه الشروط أو بعضها إذا اشترطت في عقد الإجارة - على القول بأن العقد هو عقد إجارة- هل يكون عقد الإجارة صحيحًا؟ وللإجابة على ذلك نوجز آراء الفقهاء في حكم اشتراط شرط أو أكثر في عقد من عقود المعاوضات المالية: (أ) حكم اقتران عقود المعاوضة بشرط واحد: إن بيان آراء الفقهاء في حكم اشتراط شرط في عقود المعاوضات المالية لا يمكن أن تحتويه هذه العجالة التي نوضح فيها حكم الشروط المقترنة بعقد الإيجار المنتهي بالتمليك، ولكن يكفي أن ننص على أن الراجح في هذا هو: أن الشرط الذي يقتضيه العقد- كاشتراط تسليك الشيء المؤجر أو المبيع- وتسليم الأجرة أو الثمن- أو الشرط الذي يؤكد مقتضاه- كاشتراط الرهن أو الكفيل أو الحوالة أو الشهادة - أو الشرط الذي يحقق منفعة لأي من المتعاقدين- كل ذلك يكون شرطًا صحيحًا يلزم الوفاء به.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2129 أما الشروط التي تخالف الشرع فهي باطلة ولا تصح ومنها: - كل شرط يناقض المقصود الأصلي من العقد- فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره، وشرط فيه ما ينافي هذا المقصود، فقد جمع بين المتناقضين، بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء، ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق. - وكل شرط يؤدي إلى مخالفة نص شرعي من كتاب أو سنة. - وكل شرط مستحيل- أي يستحيل الوفاء به-. وكل شرط يؤدي إلى محظور شرعي. - وكل شرط يؤدي إلى غرر. والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا)) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أبو داود، وابن ماجه، وصححه ابن حبان. فإذا عرضنا الشروط المشترطة في عقد الإجارة على ما رجحنا الأخذ به لتبين لنا أنها شروط لا تناقض المقصود الأصلي من عقد الإجارة - إذ المقصود الأصلي من هذا العقد هو انتفاع المستأجر بالعين المؤجرة طوال فترة الإجارة المتفق عليها … ، وليس في هذه الشروط ما يناقض ذلك. إلا أنه إذا كانت الشروط تفرغ العقد من مضمونه الأصلي الذي شرع له، فإنها حينئذ تكون باطلة، كما سبق أن ذكرنا. (ب) حكم اشتراط أكثر من شرط في عقود المعاوضات المالية: 1- تناول الفقهاء بالبيان أيضًا حكم اشتراط شرطين في البيع، وذلك لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((النهي عن شرطين في بيع)) وقد سبق نص الحديث، وهو ما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) (1) ، وهو حديث حسن صحيح وروي عن ابن عمر رضي الله عنه مثله (2) . 2- آراء الفقهاء في مدلول (النهي عن شرطين في بيع) .   (1) رواه الخمسة وصححه الترمذي، وابن خزيمة والحاكم. (2) رواه الخمسة إلا ابن ماجه، قال الترمذي: حديث حسن صحيح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2130 فسر الفقهاء هذا الحديث بتفسيرات ثلاثة: التفسير الأول: وهو (التردد بين النقد والنسيئة في صيغة واحدة) : كأن يقول بعتك بكذا نقدًا، وبكذا نسيئة- فيقبل الآخر- على الإبهام. أي لم يحدد أي الصفقتين قبل- نقل ابن الرفعة عن القاضي ذلك. وهذا التفسير للحديث عليه جمهور من الفقهاء (الحنفية والمالكية والزيدية، والإباضية، والبغوي والخطابي..) . وبناءً على هذا التفسير يكون هذا الحديث متفقًا في تفسيره مع تفسير حديث النهي عن بيعتين في بيعة، ويكون الحديثان بعيدين عن اشتراط شرط في العقد، وإنما يرجعان إلى صيغة العقد، وما احتوت عليه في إفادتها ودلالتها وتعبيرها عن الرضا بعقد معين، أو عدم إفادتها ذلك..، فهو أمر يتصل بالبحث في صيغة العقد وليس في الشروط المقترنة به. التفسير الثاني: وهو اشتراط عقد في عقد: كما لو قال: بعتك هذه السلعة بكذا على أن تبيعني تلك السلعة بكذا، أو باعه هذه السلعة على أن يبيعه بالثمن أشياء أخرى: (ووجهه أن كلًّا من المتعاقدين يصبح طالبًا لسلعة الآخر، فكان كل منهما قد اشترط على الآخر بيعًا) . وقد فسره بذلك الزيدية، والإباضية، وواضح أن هذا التفسير بعيد عن ظاهر الحديث، فإن هذا البيع قد اقترن بشرط واحد، وهو أن يبيعه كذا بكذا، وليس فيه شرطان، وإنما يوجد العقد، ويوجد شرط فيه، فالأول يطالب بمقتضى العقد، والثاني بمقتضى الشرط، فلا يوجد شرطان في العقد. التفسير الثالث: اشتراط شرطين فاسدين في العقد: صرح بهذا التفسير الحنابلة، والأرجح عندهم أن اشتراط شرطين فاسدين يبطل العقد، أما اشتراط شرطين صحيحين أو أكثر فإنه يصح ويصح العقد. قال ابن قدامة (مسألة) قال: ويبطل البيع إذا كان فيه شرطان، ولا يبطله شرط واحد، ثبت عن أحمد رحمه الله أنه قال: (الشرط الواحد لا بأس به، إنما نهى عن الشرطين في البيع، ذهب أحمد إلى ما روى عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك … )) قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: (إن هؤلاء يكرهون الشرط في البيع، فنفض يده، وقال: الشرط الواحد لا بأس به في البيع، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرطين في بيع، وحديث جابر رضي الله عنه يدل على إباحة الشرط حين باعه جمله وشرط ظهره إلى المدينة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2131 تفسير الشرطين المنهي عنهما وحكم اشتراطهما- عند الحنابلة-: اختلف في تفسير الشرطين المنهي عنهما- عند الحنابلة- نظرًا لاختلاف ما روي عن الإمام أحمد، والأرجح في المذهب أن الشرطين المنهي عنهما، هما الشرطان الفاسدان، أي ما كنا منافيين لمقتضى العقد. أما الشروط الصحيحة التي تكون من مقتضى العقد، أو من مصلحته، أو فيها منفعة ولا تخالف الشرع، فإن اشتراط شرطين أو أكثر منها صحيح لا يفسد العقد، لأنه لما كانت هذه الشروط لا تؤثر في صحة العقد وهي منفردة فيلزم ألا تؤثر فيه وهي مجتمعة. وبناء على هذا التفسير يفسد العقد إذا اشترط فيه شرطان فاسدان، ولا يفسد إذا كان الشرطان صحيحين، ويكون الفرق بين اشتراط شرط فاسد واحد، واشتراط شرطين فاسدين هو عدم فساد العقد في الأول – مع فساد الشرط - وفساد العقد في الثاني.. مع شروطه. أما الرأي المرجوح في مذهب الحنابلة فهو ما قاله القاضي في المحرر: (من أن ظاهر كلام أحمد أنه متى شرط في العقد شرطين بطل، سواء كانا صحيحين أو فاسدين، لمصلحة العقد، أو لغير مصلحته، أخذ من ظاهر الحديث وعملًا بعمومه) . إلا أن ابن قدامة رد عليه بقوله: (وقول القاضي أن النهي يبقي على عمومه في كل شرطين بعيد أيضًا، فإن شرط ما يقتضيه العقد لا يؤثر فيه بغير خلاف، وشرط ما هو من مصلحة العقد كالأجل والخيار والرهن والضمين..، وشرط صفة في المبيع كالكتابة والصناعة، فيه مصلحة العقد فلا ينبغي أن تؤثر في بطلانه قلت أو كثرت، ولم يذكر أحمد في هذه المسألة شيئًا من هذا القسم، فالظاهر أنه غير مراد له) . وبناءً على هذا التفسير لحديث النهي عن شرطين في بيع، يكون المراد بالشرطين المنهي عن اشتراطهما في البيع الشرطين الفاسدين فأكثر، فاشتراط مثل هذه الشروط يفسد العقد. أما الشروط الصحيحة- شرطًا واحدًا أو أكثر- فإنها تصح ويصح العقد معها. وهذا ما أرجحه في تفسير حديث النهي عن شرطين في بيع (1) . النتيجة: وإذا قلنا بصحة اشتراط شرط أو أكثر في عقد الإجارة، أو غيره من عقود المعاوضات، فهل يمكن تحت ظل هذه الشروط وعلى ضوء ما تفصح عنه أن يكيف عقد الإجارة بأنه عقد بيع، أو العكس..، أو بعبارة أخرى: هل يمكن أن نكيف العقد طبقًا لما توحي به صيغته وما اقترن بها من شروط، وإن كان ما نطلق به المتعاقدان أو صرح به يدل على غير ذلك. وهنا في (الإيجار المنتهي بالتمليك) يوجد صور لا يتأتى فيها اختلاف في التكييف، وهي صورة ما إذا كان للمبيع ثمن معقول في نهاية مدة عقد الإجارة، حدده المتعاقدان أو أحالاه إلى سعر السوق في هذا الوقت.. أما إذا لم يكن هناك ثمن سوى الأقساط الإيجارية التي تم دفعها خلال المدة المحددة للإجارة، فإنه يمكن النظر حينئذ في هذه الصورة، هل تكيف على أنها عقد بيع فيجب أن تتوافر فيه عند التعاقد أركانه وشروطه، أو تكيف على أنها عقد إجارة، اقترن به عقد هبة بالعين المؤجرة إذا تم سداد الأقساط الإيجارية، ونبحث ذلك فيما يلى..   (1) وقد تناولت وجه الترجيح بإفاضة في (نظرية الشرط) ، للباحث: ص531. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2132 المبحث الخامس تكييف عقد الإيجار المنتهي بالتمليك، في الفقه الإسلامي. وبعد أن بيَّنا أنه يصح التعاقد على عين معينة مملوكة للمؤجر أو للبائع، مقبوضة، (على الوجه الذي رجحنا الأخذ به) وأنه لا مانع من أن يحتوي عقد واحد على عقدين من عقود المعاوضات المالية، وبخاصة البيع والإجارة، وأنه يجوز أن يقترن العقد بشرط أو أكثر يقتضيه العقد، أو يؤكد مقتضاه، أو يحقق مصلحة مشروعة لأي من المتعاقدين، ولا ينافي المقصود الأصلي من العقد، ولا يخالف نصًّا في الكتاب أو السنة ولا يؤدي إلى الوقوع في محظور، أو غرر، أو أن الشرط يكون أمرًا مستحيلًا. يلزمنا أن نتوقف هنا لبيان التكييف الفقهي لصور عقد (الإيجار المنتهي بالتمليك) على ضوء ما وضع فيه من شروط ونتناول كل صورة على حدة، مع بيان حكمها في الفقه الإسلامي: الصورة الأولى: وقد سبق بيانها: وفيها تنتقل الملكية إلى المستأجر بمجرد سداد القسط الإيجاري الأخير- تلقائيًّا- ودون حاجة إلى إبرام عقد جديد- ودون ثمن، سوى ما فعه من المبالغ التي تم سدادها كأقساط إيجارية لهذه السلعة المؤجرة خلال المدة المحددة، والتي هي في الحقيقة ثمن هذه السلعة. وفي هذه الصورة يتضح لنا: - إنه وإن صيغ العقد على أنه إجارة في بدايته، وأنه بيع في نهايته وذلك للانتفاع بخصائص عقد الإجارة في المدة المحددة، ثم الانتفاع بخصائص عقد البيع في النهاية- إلا أن هذه الصياغة لا يمكن اعتمادها بهذه الصورة لأمور متعددة منها: أن كل مبيع لا بُدَّ له من ثمن، وهنا لا يوجد ثمن وقت تمام البيع- أي في نهاية مدة الإجارة - إذ أن ما دفع كان أجرة. إن الأجرة المقدرة لسلعة في المدة المحددة ليست أجرة المثل، بل روعي فيها أنها هي ثمن السلعة مع إضافة ما قد يكون من ربح متفق عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2133 إن إرادة المتعاقدين متجهة- دون ما شك- إلى بيع هذه السلعة وليس إجارتها، وقد دفع إلى ذلك خوف البائع (المؤجر) من عدم الحصول على ضمان السلعة إذا كان الثمن مؤجلًا أو منجمًا لأي سبب كان … لأن البيع يترتب عليه نقل الملكية إلى المشتري (المستأجر) حال، ورغبة المشتري- الذي لا توجد لديه إمكانات شرائها بالنقد- في الحصول على هذه السلعة والانتفاع بها، (أو عدم تجميد أمواله في سلعة واحدة كي يتمكن من تحريك أمواله في مجالات متعددة … ) مع عدم حاجة البائع غالبًا إلى اقتناء هذه السلعة، إذ هو إنما يلبي حاجة المشتري (المستأجر) بالضوابط والقيود التي وضعاها والصياغة التي صاغها بها العقد. أمام هذه الجوانب المتعددة لهذه الصورة كيفها فقهاء القانون بأنها بيع بالتقسيط، ولم يعتدوا بعقد الإجارة الذي صرح به العاقدان نظرًا للقرائن التي تظهر أنه عقد بيع، وإنما ظهر في صورة عقد إجارة في بدايته للانتفاع بخصائص العقدين كما بينا آنف. تكييفها في الفقه الإسلامي ونحن في رحاب الفقه الإسلامي هل يمكن أن نكيفها بذلك؟ للإجابة على ذلك نقول عن الذي يقف أمام هذا التكييف هو أن عقد الإجارة عقد صريح ناجز، لأن صيغته وهي (أجرت – واستأجرت) دالة على الإجارة قطعًا، وإن الشروط التي صاحبت هذا العقد واقترنت به يجب بحثها هل هي شروط صحيحة أو غير صحيحة؟ فإن كانت صحيحة وجب الوفاء بها، وإن لم تكن صحيحة بطلت (وبطل العقد أو فسد أو صح على الخلاف فيها وفي طبيعتها) ، وهذه الشروط لا يمكن أن يقال أنها حولت العقد من إجارة إلى بيع، لأنهما أراداه الآن إجارة، لا بيعًا، فكان القول بذلك عكس إرادتهما الظاهرة والمعلنة. وأما تمليك الشيء المؤجر الذي علق على سداد جميع هذه الأقساط الإيجارية، فهل يمكن أن يكون بيعًا معلقًا والثمن فيه هو هذه الأقساط التي قام المستأجر بسدادها؟ أن الذي يحول دون ذلك هو أن هذه الأقساط دفعت على أنها أجرة للعين المؤجرة، فكيف تتحول إلى ثمن للعين المؤجرة في نهاية المدة. والمعلوم أن الثمن يكون حالًا أو مؤجلًا عند تمام عقد البيع، وما أخذ هنا تحت ظل عقد الإجارة هو ثمن هذه المنفعة التي استوفاها المستأجر، فكان تكييفها في ظل العقد الذي أوجبها أنها أجرة، فتحويلها بعد ذلك إلى ثمن للعين المؤجرة بعقد لاحق لا يتمشى ولا يسير مع القواعد التي تحدد لكل عقد أحكامه وآثاره فور انعقاده صحيحًا منتجًا واجب الوفاء بما يقضي به، إذًا تكييف هذه الصورة بأنها عقد بيع بثمن مقسط تكتنفه في الفقه الإسلامي صعوبات كثيرة تحول دون القول بذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2134 وإزاء ذلك يمكن أن نتساءل هل يوافق الفقه الإسلامي على إجراء عقد بيع مع اشتراط عدم نقل الملكية (عدم التصرف في البيع) إلا بعد سداد جميع الثمن المؤجل، باعتبار أن هذه الصورة قد تحقق الهدف المقصود من (الإيجار المنتهي بتمليك) وهو اطمئنان البائع إلى الوصول إلى حقه قبل إباحة التصرف للمشتري في الشيء المبيع فإن لم يوف انفسخ العقد؟ للإجابة على ذلك نقول: إن بعض الفقهاء أجازوا ذلك ألا وهو (بيع شيء مع اشتراط منع المشتري من التصرف في العين المبيعه بأي نوع من أنواع التصرفات- معاوضة أو تبرعًا- حتى يؤدي المشتري الثمن كاملًا، وإلا انفسخ العقد. فقد نص المالكية على أنه يجوز أن يبيع المالك السلعة بشرط ألا يتصرف فيها المشتري ببيع ولا هبة ولا عتق حتى يعطي الثمن، فهذا بمنزلة الرهن وكان الثمن مؤجل) (1) .وأيضًا يصح بناء على رأي ابن شبرمة، وكذلك رأي ابن تيمية، ورأي الإمامية، الذين يجيزون اشتراط كل ما لا يخالف الكتاب والسنة، ولا يناقض المقصود الأصلي من العقد … (وقد سبق أن وضحنا ذلك) . وبناءً على هذا الرأي الذي أرجح الأخذ به أرى أنه يمكن أن يصاغ بديل ل عقد الإيجار المنتهي بالتمليك، وهو عقد بيع يشترط فيه عدم تصرف المشتري في الشيء المبيع بأي نوع من أنواع التصرف - معاوضة أو تبرعًا- إلا بعد سداد جميع الثمن، وإلا انفسخ العقد. وما يدفع من أقساط إيجارية- تكون أقساط ثمن السلعة المنجمة، فإذا وفى بها أصبح له حق التصرف فيها، وإذا لم يوف كان للمشتري الحق في أخذ السلعة منه، وأما ما دفع من أقساط خلال المدة السابقة على امتناعه عن الوفاء بباقي الأقساط المحددة، فهذه يمكن معالجتها على أساس خصم القيمة الإيجارية الحقيقية من هذه الأقساط التي دفعها خلال هذه المدة، مع إضافة تعويض ملائم عن الأضرار التي لحقت بالبائع نتيجة هذا الإخلال كشرط جزائي (2) .   (1) نظرية الشرط، للمؤلف: ص217، وص365. (2) الشرط الجزائي يمكن القول بصحته على أساس ما ورد في بعض المذاهب الفقهية فإن الشرط الجزائي إذا لم يكن محله مبلغ من النقود يصرح بصحته بعض الفقهاء، ومنهم المالكية وكذلك القائلون بصحة كل شرط حلال لا يحرم حلال، ولا يحل حرام، وهم ابن تيمية وابن القيم والشيعة الإمامية (راجع نظرية الشرط، للمؤلف: ص624) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2135 وهنا يثور تساؤل آخر وهو: هل يمكن أن يعتبر تمليك العين في نهاية المدة (في هذه الصورة) هبة للشخص الذي أدى الأقساط الإيجارية المحددة خلال المدة المتفق عليها؟ قد أورد الفقهاء في باب الهبة: (هبة الثواب) . وأجازوها ولكنهم أعطوها حكم البيع: ومن أقوالهم ما أورده الحطاب (1) حيث قال: إذا قال (وإن أعطيتني … دارك … فقد التزمت لك بكذا، أو فلك علي كذا ... فهذا من باب هبة الثواب، وقد صرحوا بأنه إذا سمى فيها الثواب أنها جائزة، ولم يوجد في ذلك خلافًا، وأنها حينئذٍ بيع من البيوع، فيشترط في كل من الملتزم به والملتزم عليه ما يشترط في الثمن والمثمون من انتفاء الجهل والغرر – إلا ما يجوز في هبة الثواب- ويشترط فيه أيضًا كون كل منهما طاهرًا منتفعًا به، مقدورًا على تسليمه … وأن يكون كل من الملتزم والملتزم له مميزًا، ويشترط في لزوم ذلك أن يكون طائعًا رشيدًا) . ومثله ما أورده الموصلي (2) والهبة بشرط العوض يراعى فيها حكم الهبة قبل القبض، فلا يصح المشاع، وحكم البيع بعده، رعاية للفظ والمعنى، ( … ولا يصح الرجوع إلا بتراضيهما أو حكم الحاكم … ) . ومثله أورده الشربيني (3) حيث قال: (ولو وهب شخصًا شيئًا بثواب معلوم عليه، كوهبتك هذا على أن تثيبني كذا، فالأظهر صحة هذا العقد، نظرًا للمعنى، فإنه معاوضة بمال معلوم، فصح كما لو قال بعتك - والثاني بطلانه نظرًا إلى اللفظ لتناقضه، فإن لفظ الهبة يقتضي التبرع- ويكون بيع على الصحيح نظرًا إلى المعنى، فعلى هذا تثبت فيه أحكام البيع … ) . ومثله أورده البهوتي (4) حيث قال: (وإن شرط العاقد في الهبة عوضًا معلومًا، فهي بيع لأنه تمليك بعوض معلوم … فتثبت أحكامه … ) . وهنا يثور تساؤل آخر: هو هل يجوز أن يجعل عقد الهبة معلقًا على شرط هو سداد جميع الأقساط التي اتفق على دفعها خلال هذه المدة؟ أي أن تكون الهبة معلقة على شرط هو (سداد جميع الأقساط الإيجارية خلال المدة المحددة، وعدم الإخلال بما اشترط عليه فيها) وتكون الصيغة هي "إذا سددت إلى الأقساط المتفق عليها خلال هذه المدة (المتفق عليها) وهبتك هذه السلعة وقبل الطرف الآخر" فيكون عقد الهبة عقدًا معلقًا على شرط، يجري عليه ما يجري على العقود المعلقة على شرط في الفقه الإسلامي. وللإجابة على ذلك أقول: إن تعليق الهبة على شرط في الفقه الإسلامي اختلف فيه الفقهاء إلى رأيين: الرأي الأول (5) يرى عدم صحة تعليقها على الشرط (وهو رأي الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية) . وذلك لأن عقود التمليكات تثبت آثارها في الحال، فتعليقها على الشرط ينافي ما يقتضيه العقد، فلا يصح لما فيه من معنى القمار، والهبة عقد من هذه العقود، إذ هي تقتضي التمليك في الحال، ولم تبنِ على التغلب والسراية، والتعليق ينافي هذا، لأنه يعلق التمليك على حدوث أمر محتمل الوقوع في المستقبل، فالأمر المعلق عليه قد يحدث وقد لا يحدث، وهذا ينافي كون هذه العقود تقتضي التمليك في الحال فضلًا عما يترتب عليه من غرر. الرأي الثاني: يرى جواز تعليقها على الشرط، (وهو قول في مذهب الحنفية) أجاز تعليقها على الشرط الملائم أو المتعارف، وهو رأي المالكية (6) ، والظاهر في مذهب الإباضية. وقد رجحت في (نظرية الشرط) هذا الرأي لما يأتي: 1- أن المتبرع متفضل، والمتفضل يقبل تبرعه على الصورة التي أرادها ما دام لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا لقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ، [الآية 91 من سورة التوبة] . 2- أنه روي عن أم كلثوم بنت أبي سلمة قالت: ((لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال لها: إني قد أهديت للنجاشي حلة، وأواقي من مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة، فإن ردت عليَّ فهي لكِ، قالت: وكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وردت هديته، فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية مسك، وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة)) رواه أحمد … وهو حديث لا يقل مرتبة عن الحسن، لأن رجاله رجال الصحيح ,وقد علم من بعض روايات الحديث ما يفيد أن الذي علق رسول الله صلى الله عليه وسلم إعطاءه لأم سلمة هو الحلة، وقد أعطاها لها حينما تحقق الشرط، وهو رد الهدية بعد موت النجاشي (7) . وأيضًا يثور تساءل آخر وأخير، وهو هل يجوز أن يعد المؤجر المستأجر بأن يهبه السلعة في نهاية المدة التي حددت لعقد الإجارة، وبعد سداد جميع الأقساط الإيجارية المتفق عليها خلال هذه المدة؟   (1) الالتزامات، للحطاب: ص 211. (2) الاختيار، للموصلي: 2/116. (3) مغني المحتاج: 2/404. (4) الروض المربع: ص241. (5) مغني المحتاج: 2/369؛ كشاف القناع: 2/274؛ التاج المذهب: 2/30 (6) الالتزامات، للحطاب: 1/180؛ وشرح النيل: 6/10؛ يراجع نظرية الشرط في الفقه الإسلامي: ص135. (7) تحقيق ذلك والإفاضة فيه مبين بـ (نظرية الشرط) للمؤلف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2136 وللإجابة عن ذلك أقول: إن للفقهاء رأيين في كون الوعد ملزمًا أو غير ملزم، فيرى جمهور الفقهاء أنه غير ملزم، ويرى المالكية في أحد أقوالهم، وابن شبرمة أنه ملزم، وسيأتي بيان ذلك في نهاية البحث، وقد رجحت الأخذ بالرأي المشهور في مذهب المالكية، وهو أن الوعد يكون ملزمًا إذا دخل الموعود بسبب هذه العدة في شيء) وهو قول مالك وابن القاسم وقول سحنون. وإذا قلنا بجواز أن يعده بهبة السلعة في نهاية المدة على الوجه الذي ذكرناه، وبالشروط التي اتفق عليها، ويكون الوعد ملزمًا بالوفاء بوعده عند تحقق الشرط، فإن ظروفًا كثيرة تحتاج إلى نظر. منها أن الإجارة المدفوعة ليست في حقيقة الأمر ثمنًا للمنفعة، ينطبق عليها أجرة المثل إذا حدث خلل في عقد الإجارة وإنما هي أقساط ثمن السلعة، حيث قسط ثمنها على هذه المدة المتفق عليها، وهي قطعًا تكون مرتفعة أو منخفضة، بمقدار قصر المدة أو طولها وعادة ما تكون المدة قصيرة- فإذا حدث الخلل المشار إليه، أو العجز عن الوفاء، فإن المستأجر يكون مظلومًا بدفعه ما زاد عن أجرة المثل، وما يدفع زيادة عن ذلك هل يعادل تعويض المؤجر عن الأضرار التي لحقت به، مع مراعاة أن تقدير الضرر، ثم التعويض عنه، لا يمكن أن يكون مقدمًا على وقوعه، وتبين أبعاده، كل ذلك يحتاج إلى مزيد نظر. الصورة الثانية- (حدد فيها ثمن رمزي للمبيع بيع إيجاري) : وقد سبق إيضاحها (ص8) وهي نفس الصورة السابقة إلا أنه قد حدد هنا في هذه الصورة ثمن رمزي للسلعة المؤجرة يدفعه المستأجر إذا رغب في شرائها بعد انتهاء سداد الأقساط الإيجارية المتفق عليها. ومن الواضح في هذه الصورة أن هذا العقد قد احتوى على: 1- عقد إجارة - ناجز- حددت فيه الأجرة، ومدة الإجارة - فإذا انتهت المدة انفسخ عقد الإجارة - أو إذا امتنع عن سداد الأقساط الإيجارية المتفق عليها-. 2- عقد بيع - يتم في نهاية مدة الإجارة - إذا رغب المستأجر في ذلك- ودفع الثمن الذي اتفقا عليه- (الثمن الرمزي) . هذا العقد (البيع) عقد معلق على شرط، وهو سداد جميع الأقساط الإيجارية المتفق على سدادها خلال مدة محددة. وهذا البيع حدد فيه ثمن معين (رمزي) للسلعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2137 رأي الفقه الإسلامي: لكن نبين رأي الفقه الإسلامي في تكييف مثل هذا العقد، فإنه يلزمنا أن نوضح ثلاثة أمور: أولها: هل يصح في الفقه الإسلامي اجتماع عقدين في عقد؟ ولقد أجبنا على ذلك فيما مضى، وبينا أنه جائز - على ما رجحنا الأخذ به في ذلك. الثاني: هل يصح تعليق عقد البيع على شرط؟ - وهذا نحتاج إلى إيضاحه-. والثالث: هل يصح أن يكون ثمن المبيع رمزيًّا، وذلك لأنه قد روعي أن ما اتفق على أنه أقساط إيجارية، هو في حقيقته جزء من ثمن هذه السلعة. حكم تعليق عقود المعاوضات على شرط يرى جمهور الفقهاء (الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية، والإباضية) أنه لا يصح تعليق عقود المعاوضات المالية على شرط مطلق، وقد أفاضوا في ذكر الأدلة المانعة من صحة تعليق هذه العقود، والتي منها (أنها عقود تمليكات، وهذه تثبت آثارها في الحال، فتعليقها ينافي ما يقتضيه العقد، فلا يصح، لما فيه من معنى القمار … أو المخاطرة … حيث يتردد العقد بين الوجود إذ تحقق الشرط، أو العدم إذا لم يتحقق الشرط … - أو أنها مثل بيع الملامسة أو المنابذة، وهما منهي عنهما بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رأي مرجوح عند الحنابلة – حكته كتب المذهب رأيًّا للإمام أحمد – أنه يجوز تعليق عقود المعاوضات المالية على شرط، فقال ابن تيمية: (وذكرنا عن أحمد نفسه جواز تعليق البيع بشرط، ولم أجد عنه ولا عن أصحابه نص بخلاف ذلك، بل ذكر من ذكر من المتأخرين أن هذا لا يجوز..) . ثم أخذ يفند رأي المانعين، مرجِّحًا هذا الرأي (1) وقد تناولت ذلك في كتابي (نظرية الشرط) ورجحت صحة تعليق عقود المعاوضات على شرط ملائم للعقد يحقق غرض مشروع، وأن ذلك يرتكز على الآيات والأحاديث التي تأمر بالوفاء بالعقود والعهود، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [أول سورة المائدة] ، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الآية 34 من سورة الإسراء] ، وغيرها كثير- وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق أربع … )) وعد منها ((وإذا وعد أخلف)) –نص الحديث ص48- وإن التعليق لا يؤدي إلى غرر أو مخاطرة أو أكل أموال الناس بالباطل، وأنه ليس من قبيل بيع الملامسة أو المنابذة المنهي عنهما.   (1) نظرية الشرط، للمؤلف: ص132. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2138 وبناء على هذا الرأي يمكن القول بأن تعليق عقد البيع على شرط ملائم له ويحقق غرضًا مشروعًا جائزًا، ويصح هذا التعليق ما دام الطرفان قد اتفقا عليه وصدرت الصيغة باتة في مدلوها (أجرتك هذه السلعة بأجرة هي كذا، على أنك إذا سددت الأجرة بانتظام حتى نهاية سنة كذا أو شهر كذا بعتك هذه السلعة المؤجرة بثمن هو كذا، ويقول الآخر: قبلت ذلك) فيجتمع عقدان: عقد إجارة ناجز- وعقد بيع معلق على شرط هو (الانتظام في سداد الأجرة وهي كذا في مدة هي كذا) وهو تعليق وليس إضافة إلى أجل، لأن الأجل المتفق عليه قد وضع في قالب شرط وهي سداد الأجرة في خلال هذه المدة. هل يصح أن يكون ثمن المبيع رمزيًّا؟ أولًا: أن ثمن المبيع في الفقه الإسلامي لا بد أن يكون مقاربًا لقيمة السلعة الحقيقي، وذلك لأن البيع هو معاوضة مال بمال، ومعاوضة المال بالمال معناها أن يأخذ البائع من المشتري عوض هذه السلعة وهو الثمن- أو بلفظ آخر- قيمتها، أو ما يقارب ذلك في الأسواق- وأن يأخذ المشتري السلعة من البائع عوض ما دفعه من ثمن - أو ما يقارب ذلك- حيث يغتفر في الفقه الإسلامي التفاوت اليسير، ولكن المطلوب هو تحقيق العدل بين العوضين، والعدل أن تكون السلعة معادلة للثمن الذي حدد لها، وأن يكون الثمن معادلًا للسلعة التي عينت له. يقول ابن رشد في تحقيق هذا المعنى وتحريره: (إن العدل في المعاملات إنما هو مقاربة التساوي، ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة جعل الدينار والدرهم لتقويمها –أعني تقديرها- ولما كانت الأشياء المختلفة الذوات- أعني غير الموزونة والمكيلة- العدل فيها إنما هو في وجود النسبة- أعني أن تكون نسبة قيمة أحد الشيئين إلى جنسه نسبة قيمة الشيء الآخر إلى جنسه، مثال ذلك أن العدل إذا باع إنسان فرس بثياب هو أن تكون نسبة قيمة ذلك الفرس إلى الأفراس هي نسبة قيمة ذلك الثوب إلى الثياب، فإن كان ذلك الفرس قيمته خمسون فيجب أن تكون تلك الثياب قيمتها خمسون، فليكن مثلًا الذي يساوي هذا القدر عددها هو عشرة أثواب، فإذًا اختلاف هذه المبيعات بعضها ببعض في العدد واجب في المعاملة العدلة، أعني أن يكون عديل فرس عشرة أثواب في المثل) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2139 ويقول الغزالي عند الحديث عن بيع التعاطي (للبائع أن يتملك الثمن الذي قبضه إن ساوى قيمة ما دفعه، لأنه مستحق ظفر بمثل حقه) . ويدل على هذا أيضًا: ما شرع من خيارات – فإنها أجيزت للاطمئنان على أنه لم يحدث غبن ولا ظلم في ميزان العدل الواجب تطبيقه في المعاوضات. فخيار الشرط، وخيار الرؤية، وخيار العيب، وغير ذلك من الخيارات التي وضعها المشرع الحكيم لنا أمارة على أنه يجب أن يكون العدل أساسًا في انتقال الأموال معاوضة بجانب ما قرره من ضرورة وقوع التراضي على نقلها من ذمة إلى ذمة … ولا يأتي في هذه الصورة البحث حول أن المتعاقدين لهما الحرية التامة في أن يحددا الثمن الذي يريانه، وإن كان قليلًا جدًّا، لأن اقتران عقد الإجارة - مع تحديد الأجرة المرتفعة كثيرًا عن أجرة المثل خلال المدة التي اشترط استمرار الإجارة فيها بهذه الأجرة- بعقد البيع في نهاية هذه المدة وبعد سداد هذه الأقساط الإيجارية – وجعل ثمن المبيع رمزيًّا يفصح بصورة واضحة عن أن المقصود هو عقد بيع من أول الأمر، وليس عقد إجارة ثم عقد بيع، وأن كل ما دفع هو لثمن الرمزي المشار إليه-. وقد يؤيد هذا أن العبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، ويقول الفقهاء تطبيقًا لهذه القاعدة: (إن الكفالة بشرط براءة الأصل حوالة، والحوالة بشرط عدم براءة الأصل كفالة، ولو قال: أعتق عبدك عني بألف كان بيعًا للمعنى … وينعقد البيع بلفظ الهبة مع ذكر البدل … وتنعقد الإجارة بلفظ الهبة والتمليك … (1) كما في الخانية، وينعقد السلم بلفظ لبيع كعكسه) … ولو شرط رب المال للمضارب كل الربح كان المال قرضًا، ولو شرط لرب المال كان بضاعة.   (1) الأشباه، لابن نجيم: ص207. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2140 وبناءً على هذا لا يعتبر الثمن الرمزي- الذي حدده المتعاقدان في هذه الصورة التي معنا – ثمنًا حقيقيًّا للسلعة- حتى يمكن القول بأنه قد اجتمع في هذا العقد عقدان: عقد إجارة - وعقد بيع - ولكن هذا الثمن الرمزي هو جزء من الثمن وباقي الثمن هو ما يدفعه أو دفعه المستأجر (المشتري) من أقساط ظهرت في صورة أجرة عن كل فترة من الفترات المحددة لانتهاء عقد الإجارة. ولذلك كيَّفه فقهاء القانون الوضعي بأنه عقد بيع بثمن مقسط، إلا أن تكييفه بذلك في الفقه الإسلامي يحول دونه صراحة الصيغة في أنه عقد إجارة، أريدت أحكامه وآثاره خلال هذه المدة ولم يرد عقد البيع بآثاره وأحكامه إلا بعد انتهاء مدة الإجارة والقيام بالالتزامات التي أوجبها العقد ومنها دفع جميع الأقساط الإيجارية. لذلك فإن هذا العقد يمكن أن يصاغ بديل له على الوجه الذي بيناه في الصورة المتقدمة وهي (عقد بيع يشترط فيه عدم التصرف في المبيع بأي نوع من أنواع التصرفات- معاوضة أو تبرعًا- حتى يتم سداد جميع الأقساط (الثمن) على الوجه المتفق عليه) . الصورة الثالثة- حدد فيها ثمنًا حقيقيًّا للمبيع بيعًا إيجاريًّا: وقد سبق إيضاحها، وهي نفس الصورة الثانية إلا أنه قد حدد هنا- في هذه الصورة – ثمن حقيقي للسلعة المؤجرة يدفعه المستأجر- إذا رغب في شرائها- بعد انتهاء سداد جميع الأقساط الإيجارية المتفق عليها. وصيغتها: (أجرتك هذه السلعة بأجرة هي كذا لمدة هي كذا، على أنك إذا سددت جميع هذه الأقساط الإيجارية خلال هذه المدة بعتك هذه السلعة بثمن هو كذا … ويقول الآخر: قبلت الإيجار على هذا … ) . تكييف هذا العقد: هذا العقد أيضًا هو عقد احتوى على عقد الإجارة، وعقد البيع. على النهج الذي سبق إيضاحه في الصورة الثانية فهو عقد إجارة ناجز مقترن بشرط فاسخ … وعقد بيع معلق على شرط هو سداد هذه الأقساط الإيجارية خلال المدة المحددة لعقد الإجارة. وهذا البيع قد حدد فيه ثمن حقيقي للمبيع يدفعه المستأجر (المشتري) بعد انتهاء مدة الإجارة، وبذلك تصبح السلعة المؤجرة (مبيعة) ومملوكة للمستأجر (المشتري) منفعة وذاتًا، وله عليها حق المالك على ملكه من الانتفاع بها والتصرف فيها بالتصرفات المشروعة عند سداد هذا الثمن المتفق عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2141 أما اجتماع عقدين عقد البيع على هذا الشرط يمكن القول بجوازه –كما أشرنا آنفًا-. وأما تكييف هذا الاتفاق فلا شك أنه هنا يعتبر في بدايته عقد إجازة تترتب عليه كل أحكام هذا العقد وآثاره التي قررها الشرع الحكيم. وأنه بعد انتهاء عقد الإجارة يبدأ عقد البيع المعلق على تحقق الشرط الذي اقترن بعقد الإجارة، وهو هنا في هذه الصورة لا يحتاج إلى صيغة جديدة ما دام قد تم بقوله (بعت) ، وقول الآخر: (قبلت) وما في معناهما مما يدل على الجزم، ولم يرد في الصيغة ما يدل على أنه وعد بالبيع أو وعد بالشراء أو وعد بهما من الطرفين. وهذه الصورة يمكن بناء على ذلك القول بصحتها في الفقه الإسلامي. جاء في كشاف القناع 2/29: (فإن قال بعتك داري هذه وأجرتكها شهرًا بألف فالكل باطل، لأن من ملك الرقبة ملك المنافع، فلا يصح أن يؤاجر منفعة ملكها عليه) . قلت: وللصحة وجه بأن تكون مستثناة من البيع. قاله الشيخ التقي في شرح المحرر. الصورة الرابعة – اقتران الإجارة بوعد بالبيع: الصورتان السابقتان كانت الصيغة فيهما تحتوي على صيغة بيع بات، (بعت واشتريت) ولكن قد تقترن الإجارة بوعد بالبيع أو بالشراء، أو وعد بهما من الطرفين (وعد تبادلي) . وصيغتها: (أجرتك هذه السلعة بأجرة هي كذا لمدة هي كذا، على أنك إذا سددت جميع هذه الأقساط الإيجارية خلال هذه المدة أبيعك أو سأبيعك، أو أعدك ببيعها لك بثمن هو كذا إذا رغبت … وقال الآخر قبلت) . والذي يختلف معنا هنا عما سبق إيضاحه، هو أنه قد اقترن في هذه الصورة مع عقد الإجارة وعد بالبيع، أو الشراء أو وعد بهما من الطرفين … ونظرًا لأن الفقهاء قد اختلفوا في آثار الوعد، هل هو ملزم أو غير ملزم؟ فإننا نوضح آراءهم فيما يلي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2142 الوعد وأثره (1) اختلف الفقهاء في كون الوعد ملزمًا أو غير ملزم إلى رأيين؟: الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء (الحنفية، والشافعية والحنابلة، والظاهرية وجمهور من الصحابة والتابعين) أن الوعد غير ملزم قضاء في جميع الأحوال، وإن كان مأمورًا بالوفاء به ديانة، لأنه تفضل وإحسان، ويقول الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ، [الآية 91 من سورة التوبة] . • الرأي الثاني: وهو رأي المالكية، ولهم في إلزام الوعد وعدم إلزامه أقوال أربعة؟ القول الأول: أن الوعد يكون ملزمًا إذا دخل الموعود بسبب هذه العدة في شيء، وهو قول مالك وابن القاسم وقول سحنون (وهذا هو المشهور) . القول الثاني: أن الوعد يكون ملزمًا إذا كان على سبب، وإن لم يدخل الموعود فيه فعلًا، وإذا لم يكن على سبب فلا يكون ملزمًا- وهو قول لمالك، وأصبغ من علماء المالكية. القول الثالث: لا يقضي بالعدة مطلقًا على أية حال وهو الرأي الأول الذي ذكرناه آنفًا، وهو من سماع أشهب من علماء المالكية. القول الرابع: قال بعض المالكية يقضي بالوعد مطلقًا، وإلى هذا ذهب ابن شبرمة (2) ,وصححه القرافي في فروقه: 4/24. وذكر الحطاب أن القولين الأخيرين ضعيفان جدًّا عند المالكية. وقد استدل من قال بالقضاء بالعدة مطلقًا (أي أنها ملزمة) بقول الله تبارك وتعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} ، [الآية 3 من سورة الصف] . وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أربع من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)) ، رواه مسلم من طريق عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.   (1) العدة والوعد- هو إخبار عن إنشاء المخبر معروفًا في المستقبل. والالتزام هو إلزام الشخص نفسه شيئًا من المعروف مطلقًا، أو معلقًا على شيء. ويعرف الفرق بين الالتزام والوعد بما يفهم من سياق الكلام، وقرائن الأحوال، فحيث دل الكلام على الالتزام أو على الوعد حمل على ذلك، فصيغة الفعل الماضي تدل على الالتزام وإنقاذ ما التزم به، والظاهر في صيغة المضارع أنها تدل على (الوعد) إلا أنه إذا وجدت قرينة على أنها للالتزام كانت للالتزام، وإذا لم توجد قرينة كانت وعد، لا التزامًا. الالتزامات، للحطاب: ص 61 ,164. (2) أورده المحلى لابن حزم: 8/28 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2143 وروي عن أبي هريرة بلفظ: ((آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) ، رواه مسلم أيضًا. النتيجة: إن الذي يرجح لدينا هو الرأي الأول الذي يقضي بأن الوعد ملزم إذا دخل الموعود بسبب العدة في شيء، ومن ثم فإنه يقضي به أو يجب الوفاء به قضاء وديانة، للأدلة التي استدل بها من الكتاب والسنة. والله أعلم. وبناء على هذا الرأي يكون الوعد الصادر من المالك (المؤجر) ببيع هذه السلعة (المؤجرة) للمستأجر- إذا رغب في ذلك، ودفع ثمنًا لها هو كذا- يكون وعدًا ملزمًا للمالك (المؤجر) ببيعها للمستأجر لها، بعد تحقق الشرط، وهو استيفاء جميع الأقساط الإيجارية (المتفق عليها) وإبداء رغبته في شرائها وتقديم الثمن الذي اتفق عليه. وهنا تحتاج إلى صيغة جديدة في هذا الوقت الذي تحقق فيه كل ذلك من شرط، وإبداء رغبة، وتقديم الثمن المحدد. وهذا إذا كان الوعد صادر من المالك. أما إذا كان قد صدر منهما بأن وعد المالك (المؤجر) ببيع السلعة للمستأجر ووعد المستأجر المالك (المؤجر) بشراء هذه السلعة إذا تحقق الشرط وهو الوفاء بكل الأقساط الإيجارية المتفق عليها خلال المدة المحددة، وحدد الثمن. فحينئذٍ يكون كل منهما ملزمًا بإجراء هذا البيع على الوضع الذي اتفق عليه. ولا بد من صيغة جديدة هنا أيضًا، لأن العقد لا ينعقد في الفقه الإسلامي إلا بصيغة باتة دالة على أنه أراد البيع في الحال، والآخر أراد الشراء في الحال، ولذلك كانت صيغة الماضي أوكد صيغة في الدلالة على إرادة العقد في الحال- ومثلها الجملة الاسمية-، أما صيغة المضارع المترددة بين الحال والاستقبال فتحتاج إلى قرينة تخلصها للحال فقط، وإلا كانت استدعاء للعقد، وتمهيد له، أو وعدًا- كما أنها لا تصلح إطلاقًا لإبرام العقد إذا اقترن بالمضارع السين وسوف، لأنها تمحضت للاستقبال، ونحن نريد البيع في الحال. فلا تصلح لإبرام العقد بها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2144 والصيغة التي معنا هي وعد بالبيع ووعد بالشراء فلا بد لإتمام هذا البيع من صيغة لعقد البيع تصدر عند الانتهاء من تحقيق الشرط المعلق عليه الوعد بالبيع وذلك لعدم وجود صيغة له من قبل، وإنما الموجود هو وعد به فقط … وأرى أنه عند اقتران عقد الإجارة بوعد بعقد البيع يجب التفرقة بين الوعد الملزم للمشتري بالشراء، والوعد الملزم للبائع بالبيع، أو الملزم لهما؟. فإنه في حالة ما إذا كان الوعد (تبادليًّا) ملزمًا لهما بإجراء عقد البيع، فإنه في هذه الحالة يجب أن نعود إلى معرفة هل الثمن حقيقي أو رمزي، ومن ثم نقضي بأن العقد بيع وليس إيجار مقترنًا بوعد بالبيع، لأنه ما دام كل منهما قد ألزم بإجراء البيع بمقتضى هذا الوعد، فيكون مثله كمثل ما إذا كان قد اقترن عقد الإجارة بعقد بيع معلق على شرط وهو سداد الأقساط الإيجارية في المدة المحددة، ومن ثم فما قلناه هناك على هذا العقد نقوله هنا. وأما إذا كان الوعد صادرًا من المستأجر بشراء هذه السلعة المؤجرة له بعد سداد هذه الأقساط الإيجارية في المدة المحددة بعد دفع ثمن معين، ولم يصدر وعد من المؤجر (المالك) ببيعها له (وعد من أحد الطرفين دون الآخر) فمقتضى هذا الوعد أن يكون المالك (المؤجر) مخير في نهاية المدة بين أن يطالبه بالشراء أو لا يطالبه، فالنظر إلى الثمن في هذه الحالة والبحث في أنه صوري أو حقيقي لا يؤثر في أن العقد هو عقد إيجار مقترن بوعد انتهاء الإجارة ولا شك أن الثمن- في الوعد بالبيع- إذا كان رمزيًّا فإن المؤجر (المالك) لا يفكر غالبًا- إن لم نقل قطعًا- في مطالبة المستأجر بالوفاء بوعده (بالشراء) ، لأن الثمن الحقيقي أربح له، والناس يحرصون غالبًا على ما فيه نفعهم. ومن هنا كانت القرينة دالة على أنهما أرادا الإجارة. وإن كان الثمن حقيقيًّا، فحينئذ يكون عقد إجارة أيضًا، مدفوعًا بوعد بعقد بيع، والثمن حقيقي فلا أثر له على عقد الإجارة. أما إذا كان الوعد صادرًا فقط من المؤجر ببيع السلعة المؤجرة بثمن، فإنه يبحث في الثمن المحدد لها أيضا، فإن كان الثمن رمزيًّا، فحينئذٍ سيطالب المستأجر المؤجر ببيع السلعة له قطعًا وفاءً بوعده، لأن ترك ذلك لا يقع فيه إلا من سفه تصرفه وقصر نظره … ، ومن ثم نلزم المؤجر ببيعها له بهذا الثمن. وأرى أن هذه الصورة تأخذ حكم اقتران الإجارة بعقد بيع بثمن رمزي- وقد سبق بيانه. وإن كان الثمن حقيقيًّا – أو بسعر السوق - فحينئذٍ تأخذ هذه الصورة حكم اقتران عقد الإجارة بعقد بيع بثمن حقيقي- وقد سبق بيانه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2145 الصورة الخامسة- اقتران عقد الإجارة بوعد من المؤجر للمستأجر بعد انتهاء مدة الإجارة: (بأن يبيع له السلعة المؤجرة له بثمن – محدد أو حسب سعر السوق - أو مدة الإجارة لمدة أخرى، أو إعادة العين المؤجرة إلى المالك- أي أن المستأجر يكون بالخيار بين هذه الأمور الثلاثة، أيها يختار يجاب له) (1) . ولقد بين فقهاء القانون أن هذا العقد يحتوي على: 1- عقد توريد: طرفاه: الشركة المنتجة للسلعة (المورد) وشركة الليزنج المشترية لهذه السلعة منها التي تصبح مالكة لها. 2- عقد التأجير: طرفاه: العميل (المستأجر) لهذه السلعة، والمالك: وهو شركة الليزنج. 3- وعد من مؤسسة الليزنج للعميل (المستأجر) بأنه في نهاية مدة الإجارة يكون له الحق في اختيار واحد من ثلاثة أمور: - شراء السلعة بثمن يراعى في تحديده المبالغ التي سبق أن دفعها أقساط إيجارية. - مد مدة الإجارة لفترة أو فترات أخرى. - إعادة السلعة (المؤجرة) إلى مالكها (مؤسسة الليزنج) . ويلاحظ أنه في هذا العقد تكون مدة الإجارة طويلة نسبي حتى تتمكن المؤسسة المالية من حصولها على المبالغ التي أنفقتها على التمويل.   (1) وهي صورة متطورة للإيجار المنتهي بالتمليك أطلق عليها فقهاء القانون عقد الليزنج (Leasing) ويعرب (عقد تمويل المشروعات) أو (عقد التمويل الائتماني) ، لأن هذا العقد يظهر كوسيلة لتمويل التجهيزات التي تحتاجها المشروعات الصناعية والتجارية، دون أن تجمد رأس مالها أو جزء منه. راجع (البيع بالتقسيط، والبيوع الائتمانية الأخرى) ، للدكتور إبراهيم دسوقي أبو الليل: ص31، 317. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2146 كما أن ثمن المبيع في نهاية المدة- إذا اختار المستأجر الشراء - يمكن أن يحدد في بداية عقد الإجارة أو بأسعار السوق السائدة عند نهاية العقد - مع مراعاة القيمة الاستردادية للشيء المؤجر. كما يلاحظ أن مؤسسة الليزنج قد توكل العميل في شراء الأشياء التي يرغب في استئجارها من الشركة الموردة طبقًا للمواصفات التي تم الاتفاق عليها نوعًا وكمًّا وصفة. كما يلاحظ أن مؤسسة الليزنج تظل مالكة للسلعة المؤجرة، وأن المستأجر يلتزم بعدم التصرف فيها كما يتحمل أيضًا بموجب هذا العقد، تكاليف الصيانة والإصلاح والتأمين وغيرها. النظر في هذا العقد على ضوء قواعد الفقه الإسلامي: هذا العقد تصاحبه الأمور التالية: أولًا: أنه تعاقد على سلعة غير مملوكة للمؤسسة التي تؤجرها للعميل- وقت التعاقد-. وقد سبق أن بينا أن هذا التصرف لا يصح في الفقه الإسلامي، ومن ثم يجب أن تكون السلعة مملوكة للمؤسسة وقت إبرام عقد التأجير مع العميل، ومقبوضة على الوجه الذي رجحنا الأخذ به. ثانيا: أن هذا العقد قد اشتمل على أكثر من عقد بصورته التي بينها فقهاء القانون. وعد بالتأجير- عقد توكيل- عقد توريد - عقد تأجير- وعد بالبيع أو مد مدة الإجارة … ثم عقد بيع - أو إجارة أخرى … في النهاية. أو بالاختصار (وعد بالتأجير - عقد إجارة - وعد بالبيع أو مد مدة الإجارة … ، ثم عقد بيع، أو إجارة أخرى بمقتضى هذا الوعد) . وإن اجتماع مثل هذه العقود وهذه الوعود قد تؤثر على الوفاء بمتطلبات أو موجبات هذه التصرفات التي اتفق عليها. ولكن إذا أخذنا برأي الفقه الإسلامي في أن تكون السلعة مملوكة مقبوضة للمؤسسة وقت التعاقد فإننا بذلك نطوي ونختصر بعض من التصرفات التي تجتمع في هذا العقد حسب صورته القانونية، وهي: (عقد التوكيل، وعقد التوريد، والوعد بالإجارة … ) . ونصبح حينئذٍ أمام عقد إجارة مقترنة بوعد بالبيع بثمن محدد أو حسب سعر السوق، أو مد مدة الإجارة، أو إعادة السلعة إلى المؤسسة على الوجه الذي بيناه آنفًا. وبناءً على ذلك لا يكون هناك محظور في هذا التصرف لأنه يتساوى مع صورة الإجارة المقترنة بوعد بالبيع بثمن حقيقي … ، بل إنها هنا تكون أكثر مرونة بالنسبة للمستأجر، إذ تعطيه الحق في اختيار واحد من أمور ثلاثة بعد انتهاء مدة الإجارة: (شراء السلعة … مد مدة الإجارة … إعادة السلعة إلى المال (المؤسسة) . ومن ثم فلا مانع من صحة هذه الصورة إذا ما تم تملك السلعة (المراد تأجيرها) للمؤسسة قبل إبرام هذا العقد، وقبضها على الوجه الذي سبق أن رجحنا الأخذ به في موضعه من البحث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2147 النتائج ونجعل هذه النتائج في قسمين: القسم الأول القواعد العامة التي تحكم مسيرة هذا النوع من التعاقد: أولًا: أنه يجب أن تكون السلعة المتفق على إجارتها أو بيعها مملوكة للمؤجر أو للبائع وقت التعاقد. ثانيًا: أنه يجب أن تكون مقبوضة- ويكفي في مثل هذه السلع التي تأخذ حكم العقار في % % % كونها يؤمن فيها الهلاك غالبًا- أن يكون قبضها بالتخلية بين المبيع والمشتري بحيث يتمكن من الانتفاع به والتصرف فيه. ثالثًا: أنه يجوز أن يجتمع عقد الإجارة مع عقد البيع على رأي المالكية والحنابلة والشافعية (إذا كانا صفقة واحدة) وابن تيمية والإمامية وحينئذٍ يراعى تطبيق أحكام كل عقد عليه. رابعًا: أنه يجوز اشتراط شرط صحيح أو أكثر في العقد، والشرط الصحيح هو الذي يحقق مصلحة العقد أو مصلحة المتعاقدين، وألا يناقض المقصود الأصلي من العقد، ولا يخالف نص شرعيًّا من كتاب أو سنة، ولا يؤدي إلى محظور شرعي، ولا إلى غرر، ولا إلى ما يستحيل الوفاء به. خامسًا: أنه يجوز تعليق عقود المعاوضات المالية على شرط ملائم للعقد أخذًا برأي للإمام أحمد، وابن تيمية وعقود التبرعات أخذًا برأي المالكية وبعض الحنفية: إذا كان الشرط ملائم (متعارف) ، … سادسًا: أن الوعد بالبيع أو الإجارة أو غيرهما من العقود والتصرفات يكون ملزمًا لمن صدر منه، إذا كان الموعود قد دخل بسبب هذا الوعد في شيء، أخذ بالرأي المشهور عند المالكية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2148 القسم الثاني ما نرجح الأخذ به في صورة الإيجار المنتهي بالتمليك: الصورة الأولى: (إجارة تنتهي بالتمليك دون ثمن للسعة عند تملكها سوى الأقساط الإيجارية) . وأرى أنه يمكن أن يؤخذ بصورة بديلة لها تحقق الغرض المطلوب، وهي أن يعقد العقد بيع بشرط ألا يتصرف المشتري بأي تصرف ناقل للملكية- معاوضة أو تبرع- حتى يتم سداد جميع الثمن المؤجل. أو أن تشتمل صيغة الإجارة على هبة السلعة بعد انتهاء مدة الإجارة وسداد الأجرة المتفق عليها، ويقبل الطرف الآخر، فتكون هبة معلقة على شرط- على القول بجواز تعليقها- أو أن يعد المالك المستأجر بأن يهبه السلعة بعد انتهاء مدة الإجارة وسداد الأقساط الإيجارية المستحقة –على القول بأن الوعد ملزم-. الصورة الثانية: (اقتران الإجارة ببيع الشيء المؤجر بثمن رمزي بعد الانتهاء من سداد الأقساط الإيجارية) ويمكن أيضا أن يوضع لها الصورة البديلة للصورة الأولى. الصورة الثالثة: اقتران الإجارة ببيع الشيء المؤجر بثمن حقيقي بعد الانتهاء من سداد جميع الأقساط الإيجارية في المدة المحددة لها. وهذه الصورة أرجح القول بصحتها. الصورة الرابعة: اقتران الإجارة بوعد البيع … فإن كان الوعد صادرًا من الجانبين أخذت هذه الصورة حكم الصورة الثانية، إذا حدد للمبيع ثمن رمزي وحكم الصورة الثالثة إذا حدد للبيع ثمن حقيقي. وإن كان الوعد صادرًا من المستأجر فقط- دون المؤجر- بشراء السلعة بثمن معين رمزي أو حقيقي فإنني أرى أن عقد الإجارة صحيح، وأن الوعد ملزم للمستأجر بالشراء إذا رغب المؤجر، والبحث في الثمن هنا- رمزيًّا أو حقيقيًّا لا يؤثر على ذلك كما أوضحنا في موطنه- لأن الخيار للمالك وهو أدرى بما ينفعه. وإن كان الوعد صادر من المؤجر ببيع السلعة المؤجرة للمستأجر بثمن محدد، فإن كان الثمن رمزيًّا، فإن هذه الصورة تأخذ حكم اقتران الإجارة بعقد بيع بثمن رمزي- المبينة آنفًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2149 وإن كان الثمن حقيقيًّا- أو بسعر السوق - فإنها تأخذ حكم اقتران الإجارة بعقد بيع بثمن حقيقي في الصورة المبينة آنفًا. الصورة الخامسة: اقتران الإجارة بوعد من المؤجر للمستأجر ببيع السلعة المؤجرة له بعد انتهاء مدة الإجارة أو مد مدة الإجارة لفترة أخرى أو إعادة العين إلى مالكها. هذه الصورة أرجح القول بصحتها. هذا وفي كل الصيغ التي تحتوي على وعد بالبيع أو الشراء أو بهما معًا، لا بد من صيغة جديدة عند انتهاء مدة الإجارة المتفق عليها؛ لأن الوعد لا يصلح أن يكون إيجابًا أو قبولًًا، بل لا بد من صيغة جازمة للعقد الموعود به. فإذا تخلف الشخص عن إبرام العقد باشره القاضي، أنه ملزم بمقتضى وعده. وختامًا: أرجو الله تعالى أن تكون هذه الدراسة مشمولة برضا الله تعالى وأن يغفر لنا ما قد نكون وقعنا فيه من زلل أو خطأ أو قصور، ونسأله جل شأنه أن يعيننا جميعًا على ما حملنا، وأن يلهمنا الصواب … إنه نعم المسؤول ونعم المجيب، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن نهج نهجهم بإحسان إلى يوم الدين. أ. د حسن علي الشاذلي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2150 الإيجار الذي ينتهي بالتمليك إعداد الشيخ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه أستاذ بكلية الآداب بجامعة الملك عبد العزيز – بجدة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي يخلق ما يشاء ويختار، يتصرف في خلقه بغالبات الأقدار بدون وزير ولا معين ولا مستشار، ألزم بشريعته تنفيذًا لحكمته في الابتلاء والاختيار، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي المختار وعلى آله وصحبه الأخيار. وبعد فهذا بحث يتعلق بإيجار البيع وبيع الإيجار، مسألة عمت بها البلوى في الأقطار، فراجعت هذه المسألة على اشتغال وركوب أسفار، إلا أني سلكت في البحث عنها الأنجاد والأغوار قصد إخراجها عن قاعدة الغرر والخطار، ونفي الضرر والضرار عن طريق إجارة مع بيع بخيار، أو وعد لاحق ببيع أو هبة بعد تمام عقد الإيجار، على صعوبة في الإيراد ووعورة في الإصدار، آثرت في بحثي هذا الاختصار ومحاولة القرب من أقوال ذوي الاستبصار معترف بالقصور عن شأو الاجتهاد والاختيار. سائل الله جل وعلا وهو الكريم الغفار أن يوفقنا فيما أردنا ويسلمنا من العثار، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2151 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العاملين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه وأزواجه أجمعين، وبعد: استجابة لطلب الأمين العام لمجمع الفقه أردت أن أقدم بحثا مختصرا حول ما يسمى بالإيجار الذي ينتهي بالتمليك، وهو العنوان الذي اقترحه فضيلته لهذا البحث، وهذا الموضوع كما يستشف من العنوان هو موضوع جديد وعقد حديث نشأ وترعرع في ظل القانون الوضعي، ومن المعلوم أن سنة التطور في هذا الزمان قد جرت، بأن أقطارنا الإسلامية أصبحت تستورد السلع المصنوعة من العالم الآخر، وقد تستورد معها التكنولوجيا لتصنيع هذه السلع محليا وهو أمر مرغوب فيه، إلا أنها قد تستورد مع هذه السلع أحيانا كثيرة الأنظمة وطرق التعامل والتبادل ووسائل التقاضي والتراضي حيث تكون إرادة الطرفين قانونا للعقد ورضاؤهما أساس الحكم الذي تصدر عنه القوانين والذي يرجع إليه القضاة دون نظر إلى أصول خلقية، وقواعد ضابطة لا يمكن الخروج عنها، فحادوا بذلك عن الصراط المستقيم واختلت لديهم موازين العدل التي لا تقوم إلا على الأنظمة الإلهية التي لا يطمع في الاستلهام بمنهجها والاقتباس من نورها إلا من سلك سبيل سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وأخذ من الكتاب والسنة بقسط وافر، وأقام ميزان على هديهما عن طريق القياس الصحيح طبقا لأصوله ومقاييسه التي وضعها وتواضع عليها سلف هذه الأمة، وهناك شرط آخر يغفله الكثيرون ألا وهو أن يكون القائس عامل بما علم متبع للسنة النبوية إذ لا يقوم على هذا الميزان من حاد عن السبل وجارت به الطرق وارتضى دينا غير دين الإسلام، وقانونا يخالف شريعة سيد الأنام، فعميت عليه الأنباء، ولعبت بعقله الأهواء، لهذا فإن مسألتنا من هذه المسائل الموجودة في غير بيئة هذا الميزان وليس معنى هذا أن نرفضها سلفا ونصدف عن جوهرها ونتخذه صدفا قبل أن نعرضه على ميزان الصدق الذي أشرنا إليه آنفًا، وعليه فسنفصل البحث فيها أولا إلى مقدمة في تعريف هذا العقد تعريف يشمل الجنس والفصل والخاصة وتكييفه من الناحية القانونية معتمدين في هذا على نقل أهل هذا الفن تاركين لهم الكلمة في تعريفه وتكييفه وتصنيفه، ثم نصنف بحثنا في مسائل تنبني على الفروض المختلفة تبين وجهة النظر الفقهية باختصار غير متوسعين في غرض القضية، ثم نختم بخاتمة نقترح فيها ما يمكن أن يكون بديلا أو أن يكون صيغة مقبولة من الناحية الشرعية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2152 مقدمة في تكييف العقد (الإيجار الذي ينتهي بالتمليك) : أحد الأسماء الذي أطلقه المترجمون والقانونيون العرب على العقد المعروف في القانون الفرنسي باسم Vente Location، ومعناها الحرفي-كما هو واضح- إيجار بيعي لأنه اسم مركب من كلمتين، وقد تطور هذا العقد وتعددت الأسماء طبقا لهذا التطور، فقد كان أولا يعرف باسم البيع بالتقسيط والاحتفاظ بالملكية حتى استيفاء الثمن Vente Atem? Cement، ثم تطور إلى إيجار ساتر للبيع، ثم تطور إلى ما سموه بالإيجار المقترن بوعد بالبيع، وهذه الأسماء التي كان موضوعها في الأصل متحد، إلا أنها ليست اعتباطي وليست من باب المترادفات التي لا تخدم أي غرض، بل تعدد الأسماء كما يشير إليه القانوني السنهوري في شرحه للقانون المدني ناشئ عن تدرج نظرة المشرع لهذا العقد في محاولة لترجمة الهدف الذي يرمي إليه، والمصلحة التي يحرص على حمايتها وهي مصلحة البائع كما هو واضح فهو يرمي إلى الاستيثاق من أن المشتري سيفي بالثمن كاملا في الوقت المحدد. وفي مقابل ذلك يشترط البائع أن تبقى ملكيته قائمة بشكل ما حتى وفاء المشتري بالتزامه بحيث يكون له الحق أولًا: في منع المشتري من تفويت الذات موضع العقد، ثانيا: أن يكون له الحق في استرجاع الذات عند عدم الوفاء في الوقت المحدد، ثالثا: أن يكون له الحق في الحصول على مقابل انتفاع المشتري بالذات في حالة عدم البيع، ونقتطف المقتطفات التالية بنصها من كتاب السنهوري الوسيط: ص173، 182. البيع بالتقسيط مع الاحتفاظ بالملكية حتى استيفاء الثمن، أو الإيجار الساتر للبيع النصوص القانونية: تنص المادة (430) من التقنين المدني على ما يأتي: 1- إذا كان البيع مؤجل الثمن، جاز للبائع أن يشترط أن يكون نقل الملكية إلى المشتري موقوف على استيفاء الثمن كله ولو تم تسليم المبيع. 2- فإذا كان الثمن يدفع أقساطا، جاز للمتعاقدين أن يتفقا على أن يستبقي البائع جزءا منه تعويضا له عن فسخ البيع إذا لم توفَّ جميع الأقساط، ومع ذلك يجوز للقاضي تبعا للظروف أن يخفض التعويض المتفق عليه وفقا للفقرة الثانية من المادة (224) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2153 3- فإذا ما وفيت الأقساط جميعا، فإن انتقال الملكية إلى المشتري يعتبر مستندا إلى وقت البيع. 4- وتسري أحكام الفقرات الثلاث السابقة ولو سمى المتعاقدان البيع إيجارا. وأول صورة لهذا البيع كانت هي البيع بالتقسيط، ثم تدرج التعامل من هذه الصورة إلى صورة الإيجار الساتر للبيع، وهو الآن في سبيله إلى التدرج نحو صورة ثالثة في الإيجار المقترن بوعد بالبيع. ونستعرض هذه الصور الثلاث التي وقف منها التقنين المدني الجديد عند الصورتين الأوليين لأنهما هما الصورتان، الأكثر انتشار. البيع بالتقسيط: عرضت الفقرات الثلاث الأولى من المادة (430) مدني، كما رأينا، لحالة البيع بالتقسيط فإذا باع تاجر عين سيارة أو آلة كاتبة أو راديو أو غير ذلك بثمن مؤجل واجب الدفع في ميعاد معين، أو بثمن مقسط أقساط متساوية على النحو الذي قدمناه، واشترط البائع على المشتري أن يكون البيع معلقا على شرط واقف هو وفاء المشتري بالثمن المؤجل في الميعاد المحدد، أو وفاؤه بالأقساط جميعا في المواعيد المتفق عليها، فإن البيع بهذا الشرط يكون صحيحا. ويجب إعمال الشرط حتى لو سلم البائع المبيع للمشتري قبل استيفاء الثمن أو قبل استيفاء أي قسط من أقساطه. في هذه الحالة تنتقل ملكية المبيع معلقة على شرط واقف إلى المشتري، ويستبقي البائع ملكية المبيع معلقة على شرط فاسخ. وكل من الشرط الواقف والشرط الفاسخ هنا حادث واحد، هو أن يوفي المشتري بالثمن أو بأقساطه في الميعاد المحدد. فإذا فعل تحقق الشرط الواقف وانتقلت الملكية باتة بأثر رجعي إلى المشتري، وتحقق في الوقت ذاته الشرط الفاسخ وزالت الملكية عن البائع بأثر رجعي أيضا، ومن ذلك نرى أن البيع بالتقسيط هو صورة معكوسة لبيع الوفاء، إذ في بيع الوفاء يكون البائع هو المالك تحت شرط واقف والمشتري مالك تحت شرط فاسخ. وقبل تحقق الشرط يكون المشتري، كما قدمنا مالكا للمبيع تحت شرط واقف. ولا يمنع من وقف ملكيته أن يكون قد تسلم المبيع، فالذي انتقل إليه بالتسليم هو حيازة المبيع، أما الملكية فانتقلت إليه بالبيع موقوفة. ولكن ذلك لا يمنع المشتري من أن يتصرف في هذه الملكية الموقوفة، ويكون تصرفه هو أيضا معلقا على شرط واقف، وإذا كان المبيع منقولا – كما هو الغالب- وتصرف فيه المشتري تصرفا باتًّا لمشتر حسن النية لا يعلم أن ملكية المشتري معلقة على شرط واقف، فقد تملكه المشتري من المشترى تملكا باتًّا بموجب الحيازة. ولا يعتبر المشتري في هذه الحالة مبددًا، فالتبديد يقتضي قيام عقد معين بالإيجار أو العارية أو الوديعة أو الرهن – وليس البيع بالتقسيط من بين هذه العقود. ولو أفلس المشتري، والشرط لا يزال معلقا، كان الباقي من الثمن دين في التفليسة ولا يستطيع البائع من جهة أخرى أن يسترد المبيع من التفليسة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2154 فهذان أمران يجريان على غير ما يشتهي البائع: عدم اعتبار المشتري مبددا إذا تصرف في المبيع، وعدم استطاعة البائع استرداد المبيع عينًا من التفليسة. وإذا تحقق الشرط، ووفى المشتري بالثمن، فقد صار مالك للمبيع هو وثمراته منذ البداية وزال عن البائع ملكيته للمبيع بأثر رجعي. أما إذا تخلف الشرط، وتأخر المشتري عن دفع الثمن، فإن ملكية المشتري التي كانت معلقة على شرط واقف تزول بأثر رجعي لعدم تحقق الشرط، وتعود الملكية باتة إلى البائع منذ البداية إذ أن البيع يعتبر كأن لم يكن. ولا يحتاج البائع في ذلك إلى حكم بزوال البيع، فإن تخلف الشرط الواقف وحده كاف في ذلك وفقًا للقواعد المقررة في الشرط. وللبائع في هذه الحالة أن يطالب المشتري بتعويض، ويغلب أن يكون قد اشترط في عقد البيع أن يكون التعويض هو احتفاظه بكل أو بعض الأقساط التي يكون قد استوفاها، ويعتبر هذا الشرط شرطًا جزائيًّا تسري عليه أحكام الشرط الجزائي، وأهم هذه الأحكام- وهو ما تشير إليه الفقرة الثانية من المادة (430) مدني- أنه يجوز للقاضي تخفيضه إذا كان مبالغًا فيه. ويكون مبالغ فيه إذا كان المشتري قد وفى عددًا كبيرًا من الأقساط بحيث يكون احتفاظ البائع بها يزيد كثيرا على الضرر الذي لحقه من جراء عدم استيفائه الباقي من الثمن. ففي هذه الحالة يحكم القاضي بإرجاع بعض هذه الأقساط إلى المشتري، ويحتفظ البائع من الأقساط التي استوفاها بما يكفي لتعويضه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2155 الإيجار الساتر للبيع: وحتى يتجنب البائع المحظورين اللذين أشرنا إليهما- عدم اعتبار المشتري مبددًا إذا تصرف في المبيع قبل الوفاء بالثمن، وعدم استطاعة البائع استرداد العين من تفليسة المشتري، يعمد في كثير من الأحيان أن يخفي البيع بالتقسيط تحت ستار عقد الإيجار، فيسمى البيع إيجارًا، وغرضه من ذلك ألا تنتقل ملكية المبيع إلى المشتري بمجرد العقد، حتى هذه الملكية المعلقة على شرط واقف والتي كانت هي المانعة من اعتبار المشتري مبددًا ومن استرداد البائع للمبيع من التفليسة، فيصف المتعاقدان العقد بأنه إيجار، ويصفان أقساط الثمن بأنها هي الأجرة مقسطة ثم يتفقان على أنه إذا وفَّى المشتري بهذه الأقساط انقلب الإيجار بيعًا وانتقلت ملكية البيع باتة إلى المشتري، وحتى يحكما ستر البائع يتفقان في بعض الحالات على أن يزيد الثمن قليلًا على مجموع الأقساط فتكون الأقساط التي يدفعها المشتري هي أقساط الأجرة لا أقساط الثمن، فإذا وفاها جميعًا ووفى فوق ذلك مبلغا إضافيًّا يمثل الثمن انقلب الإيجار بيعا باتًّا. ويحسب البائع بذلك أنه قد حصن نفسه: فهو أولًا وصف البيع بأنه إيجار، وسلم العين للمشتري على اعتبار أنه مستأجر، فإذا تصرف المشتري فيها وهو لا يزال مستأجرًا أي قبل الوفاء بالثمن، فقد ارتكب جريمة التبديد ومن ضمن عقودها الإيجار. وهو ثانيًا قد أمن شر إفلاس المشتري، إذ لو أفلس وهو لا يزال مستأجرًا، فإن البائع لا يزال مالكًا للمبيع ملكية باتة فيستطيع أن يسترده من تفليسة المشتري. ولكن بالرغم من تذرع المتعاقدين بعقد الإيجار يستران به البيع، فإن الغرض الذي يرميان إلى تحقيقه واضح، فقد قصدا أن يكون الإيجار عقدًا صوريًّا يستر العقد الحقيقي وهو البيع بالتقسيط، والمبلغ الإضافي الذي جعله المتعاقدان ثمنًا ليس إلا ثمن رمزي والثمن الحقيقي إنما هو هذه الأقساط التي يسميانها أجرة. ومن ثم قضت الفقرة الرابعة من المادة (430) مدني، بأن أحكام البيع بالتقسيط تسري على العقد، ولو سمى المتعاقدان البيع إيجارًا، ويترتب على ذلك أن الإيجار الساتر للبيع يعتبر بيعًا محضًا، وتسري عليه أحكام البيع بالتقسيط التي تقدم ذكرها. وأهمها أن تنتقل ملكية المبيع إلى المشتري معلقة على شرط إلى آخره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2156 وبعد أن رأينا تكييف المسألة من الناحية القانونية والفروض التي افترضها القانونيون والعروض التي أرسوها عليها، يجدر بنا أن نفصل الموضوع إلى عدة مسائل طبقًا للمقدمة التي كرسناها للتكييف القانوني لهذا العقد. المسألة الأولى: المسألة الأولى: بيع بالتقسيط لا تنتقل فيه الملكية إلا بعد الوفاء بالأقساط: هذه المسألة مسألة مختلف فيها لوجود شرط غير ملائم للعقد، لأن الأصل في البيع أن يكون باتًّا، فتعليق البيع على هذا الشرط لا يوافق عليه أكثر العلماء لأنه منافٍ لتمام الملكية التي ينبني عليها البيع وفيه جهالة بالمال، وهو يتخرج على الخلاف في الشروط، فيكون فيه ثلاثة أقوال: قول ببطلان البيع والشرط، وقول بصحة البيع وبطلان الشرط، وقول بصحة البيع وصحة الشرط، وهذه القوال كما هو معروف مبنية على اختلاف مواقف العلماء من أحاديث الشروط المعروفة، وهي: أولًا: حديث جابر المتفق عليه وفيه ((اشترى مني النبي (صلى الله عليه وسلم) بعيرًا واشترط ظهره إلى المدينة)) وهو حديث صحيح أدعي فيه الاضطراب، وهو غير مؤثر هنا لأنه يشترط لتأثير الاضطراب تكافؤ سندي الطرق المختلفة، أما إذا لم تتكافأ فيسار إلى الترجيح كما حققه العلامة ابن دقيق العيد. ثانيا: حديث بريرة وهو متفق عليه أيضًا كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولو كان مائة شرط. ثالثًا: حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه، قال: ((نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة)) ، قال أحدهما (أي الراويين) بيع السنين هو المعاومة، وعن الثنيا ورخص في العرايا رابعا: حديث أبي داود، عن أبي هريرة (بعد سنده) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)) . خامسا: الحديث الذي أخرجه الخمسة، وصححه الترمذي والحاكم وابن خزيمة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا بيع ما ليس عندك)) . سادسا: الحديث الذي رواه أبو حنيفة في مسنده بالسند السابق. ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط)) ، أخرجه الطبراني في الأوسط بصيغة ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، البيع باطل والشرط باطل)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2157 ولاختلاف العلماء في كيفية الأخذ بهذه الأحاديث نشأ الخلاف في مسألة الشروط فمنهم من أخذ ببعضها ومنهم من أول الجمع بينها، فذهب أبو حنيفة والشافعي إلى بطلان البيع والشرط، وأجاز ابن شبرمة البيع والشرط جميعًا، وأجاز ابن أبي ليلى البيع والشرط، وأجاز أحمد الشرط الواحد. هذه مذاهبهم باختصار شديد. أما مالك ففصل تفصيلًا وحاول الجمع بين الأخبار، ذكرها ابن رشد في البيان والتحصيل وذكر بعضها حفيده في بداية المجتهد مؤداه أن الشرط الذي لا يناقض المقصود من العقد لا يبطله إلا أنه مرة يكون مكروهًا، ومرة يكون جائزا ً، والشرط الذي يناقض المقصود تارة يلغيه دون العقد وتارة يلغي العقد والشرط، وذلك بحسب مناقضة الشرط للعقد فمرة يناقض أصل العقد مناقضة تامة وتارة يناقض حكمًا من أحكام العقد أو شرطًا من شروطه لا يدخل في ماهيته فلا يكون مبطلًا للعقد. وتفاصيل ذلك معروفة سترى بعضها في كلامنا على هذه المسألة وهي المعروفة عند المالكية بمسألة البيع على أنه إن لم يأتِ بالثمن لكذا فلا بيع، والمشهور في مذهب مالك إلغاء الشرط وصحة العقد، قال خليل في مختصره في سرد نظائر يصح فيها العقد ويبطل الشرط (كمشترط زكاة ما لم يطب وإن لا عهدة ولا مواضعة، أو لا جائحة أو إن لم يأتِ بالثمن لكذا فلا بيع) ، ففي هذه المسائل يصح العقد ويبطل الشرط، إلا أن مسألتنا هي المسألة الأخيرة أي إن لم يأت بالثمن لكذا فلا بيع فيها ثلاثة أقوال عن مالك متخرجة على قاعدة الشروط السالفة الذكر نقلها خليل في توضيحه عن ابن لبابة قائلًا: ذكر ابن لبابة عن مالك في هذه المسألة ثلاثة أقوال: صحة البيع وبطلان الشرط وصحتهما وفسخ البيع، ولكن المدونة التي اتبعها المصنف في المختصر اقتصرت على الأول وهو بطلان الشرط وصحة البيع، ونصها في آخر البيوع الفاسدة (ومن اشترى سلعة على أنه إأن لم ينقد ثمنها إلى ثلاثة أيام) ، وفي موضع آخر إلى عشرة أيام فلا بيع بينهما لا يعجبني أن يعقد على هذا فإن نزل ذلك صح البيع وبطل الشرط وغرم الثمن. انتهى. راجع الدسوقي في حاشيته على الدردير الجزء الثالث: ص175، 176. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2158 وذكر الحطاب في التزاماته في هذه المسألة سبعة أقوال: حصلها من كلام المدونة وشروحها كشرح الشيخ أبي إسحاق التونسي، وابن يونس، واللخمي، والرجراجي، وفي كلام ابن بشير وصاحب التوضيح وابن عرفة وغيرهم، أعرضنا عن هذه النقول لطولها واقتصرنا على الأقوال الثلاثة السالفة الذكر لانبنائها على قاعدة الشروط- راجع ص366 من تحريم الكلام في مسائل الالتزام. إلا أن خليل في باب النكاح مشى على شطر آخر من قاعدة الشروط، فحكم بفسخ العقد قبل الدخول فقال في سرد النظائر التي يكون الشرط فيها موجبًا لفسخ النكاح قبل الدخول: (وقبل الدخول وجوبًا في ألا تأتيه إلا نهارًا أو بخيار لأحدهما أو غيره على إن لم يأت بالصداق لكذا فلا نكاح وجاء به، وما فسد لصداقه أو على شرط يناقض كأن لا يقسم لها أو يؤثر عليها أو ألغى) ، ذكرنا نص خليل على طوله لأنه يشير إلى نوعين من الشروط: شروط لا تلائم العقد لأن الحكم يوجب خلافها وهي المشار إليها في الفقرات الأولى، وشروط تناقض العقد وهي المشار إليها في الفقرة الأخيرة ليتضح الأمر لا بد من الإشارة إلى القاعدة التي أصلوها، والتي تفرق بين الشرط الذي يوجب الحكم خلافه إلا أنه لا يناقض العقد مشيرة إلى الخلاف في هذا النوع من الشروط بخلاف ما يناقض العقد أن يهدم ركن من ماهيته، فإنه إما أن يبطل العقد أو يلغى دونه وإلى هذه القاعدة أشار الزقاق في المنهج بقوله: هل شرط ما لا يقتضي الفساد إن خالف الحكم اعتبارا فادا كرجعة نفي رجوع واعتصار ونفيه ضمان رهن ومعار ونفيه وشهروا لا في الذي خالف سنة العقود فاحتذي كمودع ضمن واكتراء وشبه دين وابن زرب رائي خلا تبرع بعيد العقد وألزم القراض بعد القيد به ولابن بشر التزامه تلميذه نصره حسامه وغيره أنكره ومنعا ولكلا الرأيين مبنًا سمعا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2159 أشار المنهج إلى جملة من المسائل، وذكر قول ابن زرب في أن لقيد اللاحق بالعقد لا يبطله كتطوع عامل القراض بضمانه وكذلك ابن بشر شيخ بن عتاب، وصحح تلميذه في مال القاصر يدفعه الوصي قراضًا بجزء من الربح، ويتطوع العامل بضمان المال وغرمه إذا تلف قائلًا أن ذلك شرط جائز وخالفه غيره لمخالفة ذلك لسنة هذه العقود انظر المنثور في شرحه على الزقاق: ص87، و88 مخطوطات الشنقيطي. إلا أن مسألتنا هذه لا تقتصر على كونها بيع لا يتم نقل الملكية فيه إلا باستيفاء الثمن ليكون داخلا في الخلاف المشار إليه، فهو زيادة على ذلك بيع يتضمن غرر ويخالف سنة العقد في كل وجه، لأن المشتري إذا دفع الأقساط ولم يأتِ بآخر قسط منها ضاع عليه ما أدى وضاعت عليه السلعة محل البيع، ومعلوم أن البيع الفاسد يفوز فيه المشتري بالغلة في مقابل ضمان، فلو فسخ العقد كان للبائع أن يستزيد بالأقساط التي حصل عليها في مقابل الاستغلال؛لأن الغلة في مقابل الضمان كما ورد في الحديث الذي أصبح بعد قاعدة (الخرج بالضمان) ، فقد أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والإمام أحمد. قال في المنهج الخرج لضمان أصل قد ورد في مستحق شفعة بيع فسد … إلخ. فهذه المسألة الأولى أو الفرض الأول لا يمكن أن تصح بوجه من الوجوه والأهداف التي يحددها القانون لا يوصل إليها ومنها استرداد السلعة عند فلس المشتري ألا يخالفه للحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني، ورواه مالك عن الزهري، وهو (أيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل أفلس ولم يكن قد قبض من ثمنها شيئًا فهي له، وإن كان قد قبض من ثمنها شيئًا فهو أسوة الغرماء) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2160 المسألة الثانية: أما المسألة الثانية، وهي عقد إيجار ساتر للبيع، وهذه الصورة كما تبدو إنما هي بيع سمي إيجارًا لئلا تترتب عليه آثار البيع، فمن جهة البائع هو يحتفظ بملكيته، ومن جهة المشتري فهو لا يستطيع التصرف، فكأنه إيجار بهذا المعنى لتلبية مطلب البائع، إلا أنه بيع من حيث أن الأقساط إذا وفّى بها نشأت عن الوفاء بها نقل الملكية بأثر رجعي، وهو من آثار البيع وليس من آثار الإجارة نقل ملكية الذات فهذا العقد بهذه الخصائص هو عقد غرر ومجازفة، لأن المشتري قد يعسر في آخر قسط، وقد دفع أقساط لا تناسب الإجارة لأنها تتجاوز قيمة المنافع وهي في الأصل قيمة للرقبة، فقد خسر الثمن والمثمون اللذين ربحهما البائع، ويكون بذلك البائع قد حصل على العوض والمعوض خلافًا للقاعدة الشرعية المشهورة التي ذكرها المقري وغيره، فقال القاضي أبو عبد الله المقري: (قاعدة الأصل ألا يجتمع العوضان لشخص واحد لأنه بمعنى العبث وأكل أموال الناس بالباطل) ، قال في المنهج في سرد نظائر من القواعد التي تعتبر أصول: والإذن للعداء وألا يجمع الشخص بين عوضين فاسمعا وليس كل عقد يتردد صاحبه في نتيجته ممنوع، بل هناك من العقود ما تحصل مصلحته عاجلًا كالبيع والإجارة والهبة، كما يقول المقري، وهناك مالا تحصل مصلحته عاجل كالقراض لأن المقصود الربح، وقد لا يحصل فيضيع تعب العامل، بل قد يضيع رأس المال، وهذا جائز نفي للضرر عن المتعاقدين. (انظر المنثور: ص135 و 136) . ومن المسائل التي أجازوا فيها الغرر مع التردد في مآل الأمر مسألة بيع كتابة المكاتب، والمشتري لا يدري هل يفي المكاتب بما عليه فيحصل على دراهم أو لا يحصل عليها فيحصل على عبد، ولكن لما كان البائع قد أحل المشتري محله، فهو أي البائع مهما كانت النتيجة لا يحصل على أكثر من الثمن الذي دفعه له المشتري سلفًا، أجازوا هذه المعاملة استحسانًا مخالفة للقياس. قال ابن رشد في البيان والتحصيل: 18/83، قال: (حدثني ابن القاسم، عن مالك، عن ربيعة بن عبد الرحمن، أنه كره أن تباع كتابة المكاتب، ويقول هو خطار أن عجز كان عبدًا له وإن أدى أربعة آلاف درهم) ، قال محمد بن رشد: (الغرر في هذا بين كما قال وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة، إلا أن مالكًا وأصحابه أجازوا ذلك استحسانًا واتباعا على غير قياس، وله وجه، وهو أن المشتري للكتابة يحل فيها محل سيده والذي كاتبه في الغرر، لأنه إذا كاتبه لا يدرى هل يؤدي ما كاتبه عليه أو يعجز فيرجع رقيقًا له، وذلك جائز بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [الآية 33 من سورة النور] ، وقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : ((المكاتب عبد ما بقي عليه درهم من مكاتبته)) . هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ، وهو في سنن أبي داود والترمذي ولكن قضيتنا هذه لا يدري المشتري فيها هل يعجز، فيكون قد دفع أكثر الثمن وخسر المثمن، أما البائع فهو دائمًا بأفضل الخيارين، فهذا خطار وغرر شديد يجعل هذه المسألة أيضًا تدخل في العقود الممنوعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2161 قال الحطاب في التزاماته (ما يؤول إلى الإخلال بشرط من الشروط المشترطة في صحة البيع) كشرط ما يؤدي إلى جهل وغرر في العقد، في الثمن أو في المثمن أو إلى الوقوع في ربا الفضل، أو في ربا النساء كشرط مشورة شخص بعيد أو شرط الخيار إلى مدة مجهولة أو إلى مدة زائدة عما قرره الشرع في السلعة المبيعة، أو شرط تأجيل الثمن إلى أجل مجهول، أو شرط زيادة شيء مجهول في الثمن، أو في المثمون، فهذا النوع يوجب فسخ البيع على كل حال فاتت السلعة أو لم تفت ولا خيار لأحد المتبايعين في إمضائه، فإن كانت السلعة المبيعة قائمة ردت بعينها وإن فاتت ردت قيمتها بالغة ما بلغت، ويستثنى من هذا النوع مسألة وهي البيع بشرط أن يسلف المشتري البائع أو العكس، فإنه لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى الجهل بالثمن، فإن وقع ذلك فالمشهور أنه يفسخ ما دام مشترط السلف متمسكًا به، فإن أسقط مشترط السلف شرطه صح البيع، وسواء أخذ مشترط السلف سلفه وغاب عليه أم لا على المشهور. وقال سحنون: (إنما يصح إسقاط مشترط إذا لم يأخذ مشترط السلف ما اشترطه) ، وأما إن أخذه وغاب عليه فلا بد من فسخ ذلك ورد السلعة؛ لأنه قد تم ما أراده من السلف، وهذا إذا كانت السلعة قائمة بيد المشتري، فأما إن فاتت فلا يفيد الإسقاط؛ لأن القيمة قد وجبت عليه حينئذ، فلا بد من فسخه فإن كان السلف من البائع فله الأقل من الثمن أو القيمة يوم القبض ورد عليه السلف، هذا مذهب المدونة وهو المشهور وقاله المازري وظاهر إطلاق ابن الحاجب وغيره لأنه لا فرق بين أن يكون الإقساط قبل فوات السلعة أو بعد فواته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2162 المسألة الثالثة: أما المسألة الثالثة، وهي الإجارة مع وعد بالتمليك بهبة أو بيع فهي مسألة يجب أن ينظر إليها من عدة وجوه أولها: هل هذه الإجارة إجارة جادة بمعنى أن الأقساط المدفوعة تناسب قدر الإيجار فتكون إجارة حقيقية مصحوبة بوعد، ثانيًا: وهل الوعد حصل في صلب العقد بحيث يؤثر على الثمن أو كان تطوعًا بعد العقد، وهل كان وعدًا بالهبة أو وعدًا بالبيع؟ كل هذه الأوجه تترتب عليها أحكام تخص كلًّا منها فلنبدأ بأقرب هذه الأوجه للصحة والقبول وهو أن يكون الطرفان قد عقدا بينهما إجارة وبعد العقد وعد البائع المشتري بأن يهبه تلك العين إذا هو وفّى بأقساط الإيجار في وقته المحدد برغبته في الوفاء، فهذه الصورة تعتبر وعدًا بهبة، وهو وعد ملزم على أصل مالك في الوعد المعلق على سبب على ما استظهره بعض الشيوخ من الخلاف في مسألة الإلزام بالوعد، فمعلوم أن مذهب مالك فيه أربعة أقوال فيما يتعلق بالإلزام بالوعد، القول الأول: أن الوعد لا يلزم به شيء، وأن الوفاء به إنما هو من مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، وهذا موافق للمذاهب الأخرى، (راجع المغني لابن قدامة في مسألة تعليق الهبة: 5/658) ، والقول الثاني: عن مالك، هو معلوم هو لزوم الوعد الواقع مطلقًا، وهو كما رأيت مخالف للمذاهب الأخرى، وقول بالتفصيل عن مالك بين الوعد الواقع على سبب فيلزم، وقول رابع هو المشهور أنه إذا أدخل الموعود به في ورطة فإنه يلزم، وقد أجمل صاحب المنهج هذه الأقوال الأربعة بقوله: هل يلزم الوفاء بالوعد نعم أولا نعم لسبب وإن لزم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2163 فالمسألة هنا تدخل في قاعدة أن من التزم شيئًا بسبب عمل الملتزم له الإتيان بما يلزمه إذا كان الملتزم- بكسر الزاي- يعلم بوجوب ذلك العمل على الملتزم له بدون مقابل، وأسسوا على ذلك كما قال الحطاب في التزاماته: ص 189، نقلًا عن ابن رشد في البيان والتحصيل، بعد أن نقل عدم لزوم الوعد على الواجب على الملتزم له- بفتح الزاي- قائلًا ما نصه: (قال محمد بن رشد: قال ابن القاسم في رواية ابن جعفر الدمياطي عنه وذلك إذا لم تعلم (أي زوجته أنه كان يلزمه أن يأذن لها (أي في الحج) ، وأما إذا علمت، فذلك لازم لها لأنها أعطته مالها طيبة بذلك نفسها، وقوله هذا مفسر لهذه الرواية وأطال الكلام في هذه المسألة إلى أن قال الحطاب: تنبيه: فعلى ما قاله ابن رشد إذا كان الملتزم يعلم أن ذلك الفعل يجب على الملتزم له، ثم علق الالتزام عليه فإنه يلزمه ويحمل على أنه أراد ترغيبه في الإتيان بذلك الفعل كقوله إن صليت الظهر اليوم فلك عندي كذا وكذا. والله أعلم. وذكر كثيرًا من المسائل من هذا النوع من أعطى لزوجته دارًا على أن تسلم، ومن ذلك أيضًا من يقول لعبده إن تركت شرب الخمر أو الزنا، فأنت حر فهذا لازم. أما الوعد بالهبة في صلب العقد إذا كان من شأنه أن يؤثر على الثمن، فهذا لا يجوز وهو من باب الجعل والجعل لا يجوز جمعه مع الإجارة فكأنه قال له: إن فعلت كذا فلك كذا، قال خليل في الإجارة (وفسدت إن انتفى عرف تعجيل معين كمع جعل) . قال الزرقاني لتنافي الأحكام فيهما، فهذا الوعد بالهبة كما ترى فهو جهة جعل لا يجوز جمعه مع الإجارة ومن جهة أخرى قد يؤثر في الثمن أي في قدر الإيجار فلا يدري ما أعطى مقابل الوعد بالهبة أي هي هبة ثواب، وما أعطى مقابل الإيجار حقيقة. والوعد بالهبة في صلب العقد بالإجارة أو بالمساقاة أو غيرهما، لا يوجد فيه نص صريح ما عرف عن مالك وابن القاسم وسحنون من وجوب الوفاء بالوعد إذا أدخل الموعود في ورطة، إلا أنهم إنما افترضوا هذه المسألة في عقود أخرى كالخلع قال خليل (وبالوعد أن ورطها) . أما في عقد البيع مثلًا، فظاهر كلام مالك يدل على المنع إذا كان الأمر معلقًا على شيء لا يدري هل يقع أم لا؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2164 قال الحطاب في التزاماته: (قال في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من جامع البيوع: سمعت مالكًا يقول لا أحب البيع على أنه إذا وجد ثمنًا قضاه وإن هلك ولا شيء عنده لا شيء عليه. قال ابن القاسم: فإن وقع هذا الشرط وفات لزم المشتري قيمتها يوم قبضها. قال محمد بن رشد: هذا الشرط من الشروط التي يفسد بها البيع لأنه غرر فالحكم فيه الفسخ مع قيام السلعة شاءً أو أبيًّا، ويصبح في فواتها بالقيمة بالغة ما بلغت، وهو ظاهر قول ابن القاسم وتفسير لقول مالك؛ إذ قد يقول كثيرًا فيما يجب فيه الفسخ لا أحب هذا، أو أكرهه أو شبهه من الألفاظ فيكتفي بذلك من قوله. ونقله في النوادر وزاد فيه: قال ابن القاسم: هذا حرام ويرد فإن فات فعليه قيمتها يوم قبضها. أما الوعد بالبيع فهو مؤثر على الثمن ومخل بهن وسبب للجهالة وأكثر افتراضات نصوص المذهب وشروحه إنما هي في إيجاب الوفاء بالوعد في مسائل التبرعات كالهبة لأنها تملك بالقول عند مالك، وهذا من أسرار مذهب مالك في مسألة الوعد، وكذلك الصدقة والعتق والطلاق. أما البيع فإنه لا ينعقد إلا بالصيغ المشار إليها بقول خليل، ينعقد البيع بما يدل على الرضا إلى آخره، فالتزامه بالوعد إلزام بالبيع والنظر في العقود غالب إلى المآل كما أشار إليه الزرقاني في مسائل الثنيا. وعليه فهذه الصيغة تعتبر تلفيقية في غاية الضعف. أما الوعد بالبيع بعد عقد الإجارة فيخرج على المسألة المشهورة عند المالكية، وهي إذا قال البائع للمشتري بعد عقد البيع إذا أنا أتيتك بالثمن رددت إلى المبيع، فقبل المشتري بذلك، فإن ذلك يلزمه، قال الحطاب في التزاماته. مسألة: قال في معين الحكام، ويجوز للمشتري أن يتطوع للبائع بعد العقد بأنه إن جاء بالثمن إلى أجل كذا فالمبيع له، ويلزم المشتري متى جاءه بالثمن في خلال الأجل، أو عند انقضائه أو بعده على القرب منه، ولا يكون للمشتري تفويت في خلال الأجل فإن فعل ببيع أو هبة أو شبه ذلك نقض أن أراده البائع ورد إليه، وإن لم يأتِ بالثمن إلا بعد انقضاء الأجل فلا سبيل له إليه، وإن لم يضربا لذلك أجلًا فللبائع أخذه متى جاءه بالثمن في قرب الزمان أو بعده ما لم يفوته المبتاع،فإن فوته فلا سبيل له إليه، فإن قام عليه حين أراده التفويت فله منعه بالسطان إذا كان ماله حاضرا فإن باعه بعد منع السلطان له رد البيع وإن باعه قبل أن يمنعه السلطان نفذ بيعه. ويتخرج أيضًا قاعدة الشروط اللاحقة لا يبطل بها العقد، كما نقلناه عن ابن زرب من المالكية وابن بشر وتلميذه ابن عتاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2165 خلاصة القول: إن هذا العقد المسمى بالإيجار الذي ينتهي بالتمليك في شكله القانوني والعرفي الحالي لا يشبه العقود الجائزة ولا يمكن أن يكون جائزًا على بعض أقوال العلماء إلا إذا أخذ إحدى الصيغ الخمسة التالية: أولًا: أن يكون إيجارًا حقيقيًّا ومعه بيع خيار عند من يجيز الخيار المؤجل إلى أجل طويل كالإمام أحمد ومحمد بن الحسن، وأبي يوسف وابن المنذر، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأبي ثور يشترط أن تكون المدة معلومة محدودة، واجتماع البيع مع الإجارة جائز في عقد واحد بشرط أن يكون لكل منهما موضوع خاص به في رأي كثير من العلماء، كالشافعية والحنابلة والمالكية، قال خليل عاطفًا عطف مغايرة: (كمع جعل لا بيع) ، قال الزرقاني بعقد واحد فلا يفسد كاشترائه ثوبًا بدراهم معلومة على أن يخيطه البائع. وإننا فرقنا بين هذا وبين الوعد المؤثر بالثمن بالجهالة؛ لأنه هنا إجارة حقيقية وبيع بالخيار، بشرط أن يعقدا على ثمن خاص للبيع يشبه مثله. ثانيا: وعد ببيع لاحق بعد الإيجار، وقد علمت تخريجه على مسألة الإقالة السابقة، وهذه الصيغة ضعيفة لا تجد سندًا إلا في أصل وجوب الوفاء بالوعد، وهو في البيوع غير مفرع عليه في المذهب كما أسلفنا، إلا أنها لما كانت بعد العقد كانت أخف من شرط البيع الواقع في العقد فأمكن تخريجه على الوعد الواقع على سبب وقد تقدم ما فيه. ثالثًا: وهو أن يبيعه بشرط ألا يمضي البيع إلا بدفع الثمن وهذه ليست من باب البيع، فيكون البيع معلقًا على دفع آخر الثمن، وحسبما يفيده الزرقاني عن ابن الحسن على المدونة، هذه الصيغة جائزة معمول بها وسلمه البناني مع كلمة (ألا يمضي) بدل من كلمة (أن لا ينعقد) فتكون الذات كالمحبوسة للثمن أو للإشهاد. كما أشار إليه خليل بقوله (وضمن بالقبض إلا المحبوسة للثمن أو للإشهاد فكالرهن) . فالبيع منعقد غير نافذ، فإذا دفع بعض الثمن وأراد البائع استرجاع السلعة يرد ما أخذ من الثمن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2166 وصورة رابعة: وهي أن يبيعه بيعًا باتًّا على أن لا يتصرف له في المبيع حتى يفي بالثمن فيلزمه الوفاء بذلك، وتصير كالمرهونة فلا يتصرف فيها، وهي مستثناة من قول خليل: (وكبيع وشرط يناقض المقصود (قال الدردير: (كأن يشترط البائع على المشتري أن لا يبيع أولا يجلب أو لا يتخذها أم ولد) . ونقل عليش في شرحه ما يلي: في سماع عن ابن زياد، سئل مالك –رضي الله عنه- عمن باع عبدًا أو غيره وشرطه على المبتاع أن لا يبيعهن ولا يهبه، ولا يعتقه حتى يعطيه ثمنه فلا بأس بهذا لأنه بمنزلة الرهن إذا كان إعطاء الثمن لأجل مسمى. خامسًا: وعد بهبة لاحق بعقد الإيجار جار على سبب، وهذا أجدر هذه الأوجه بالجواز وأولاها بالصواب، وهذا ما نراه في هذه المسألة باختصار، نسأل الله السلامة من العثار، والله سبحانه وتعالى أعلم. الشيخ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2167 الإجارة بشرط التمليك - والوفاء بالوعد إعداد الشيخ محمد علي التسخيري بسم الله الرحمن الرحيم قبل الدخول في مسألة مشروعية مثل هذا العقد نجد من الضروري ملاحظة طبيعة عقد الإجارة وامتلاك تصور عن قاعدة ((المؤمنون عند شروطهم)) وحكم الوعد الابتدائي تمهيدا للوصول إلى الرأي المختار في الموضوع. حول عقد الإجارة: عرف عقد الإجارة بأنه (تمليك عمل أو منفعة بعوض) أو (تمليك منفعة عمل أو عين بعوض) ، والإجارة لذلك شاملة لعقود كثيرة كعقود إجراء المشاريع (المقاولات) وعقود استخدام الموظفين، والخدمات الطبية والترفيهية والحمل والنقل وغيرها. وربما جعلت الإجارة أحد الأركان للحياة الاقتصادية في النصوص الإسلامية، فقد ورد عن الإمام علي (عليه السلام) قوله: (إن معايش الخلق خمسة: الإمارة والعمارة والتجارة والإجارة والصدقات، ولو كان الرجل منا يضطر إلى أن يكون بنَّاءً لنفسه أو نجارًا أو صانعًا في شيء من جميع الصنائع لنفسه ويتولى جميع ما يحتاج إليه من إصلاح الثياب وما يحتاج إليه من الملك، فمن دونه فما استقامت أحوال العالم بتلك ولا اتسعوا له ولعجزوا عنه، ولكنه أتقن تدبيره لمخالفته بين هممهم وكلما يطلب مما تنصرف إليه همته مما يقوم به بعضهم لبعض) (1) . وتمتاز الإجارة على البيع أنها تمليك منفعة وهو تمليك عيني، كما تمتاز على عقود المزارعة والمساقاة والمضاربة بعموميتها أولاً وهي عقود لها موارد خاصة وبأنها عقد تبادلي معلوم العوض دونها، كما تمتاز على الجعالة بعموميتها أيضًا في حين تختص الجعالة بالمنافع ولا تشمل الأدوات، وكذلك تفترقان في مسألة اللزوم لأن الإجارة عقد لازم دون الجعالة وهناك بحوث مفصلة عن أقسامها وشرائطها بالنسبة للمتعاقدين والعوضين وأحكام الإجارة وإمكان شرط الضمان فيها أو عدمه، والإجارات المحرمة ولكننا نكتفي بما أشرنا إليه.   (1) وسائل الشيعة، ج13، كتاب المزارعة، باب2، حديث 10 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2168 قاعدة ((المؤمنون عند شروطهم)) : وهي قاعدة ثابتة بأدلة كثيرة: فقد جاء في كتاب (دعائم الإسلام) عنه (صلى الله عليه وسلم) قوله: ((المسلمون عند شروطهم إلا كل شرط خالف كتاب الله)) . وفي كتاب غوالي اللآلي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ((المؤمنون عند شروطهم)) . وفي صحيح البخاري وغيره من الصحاح: ((والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرَّمَ حلالًا)) . وكذلك جاءت روايات عن أهل البيت بهذا المضمون. منها ما روي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله فلا يجوز له ولا يجوز على الذي اشترط عليه، والمسلمون عند شروطهم مما وافق كتاب الله عز وجل. فالروايات بملاحظة كثرتها وعمل المسلمين بها في غاية الوثوق ودلالتهما أيضاً واضحة تماماً وهي – على سبيل الإجمال – تلزم كل مسلم بالثبوت عند التزاماته، والمراد من الثبوت ترتيب الأثر على الشرط. ولما كان الشرط هو الإلزام والالتزام صح أن يطلق على الأحكام الإلزامية أنها شروط الله، ولذلك أطلق (صلى الله عليه وسلم) الشرط على كون الولاء للمعتق لا للبائع في قصة شراء السيدة عائشة لبريرة حين قال: ((إن شرط الله أحق وأوثق)) ، ولكن المعني به في هذه القاعدة هو الالتزام والوفاء به. والمراد من القاعدة حكم وضعي كمفاد قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، وهو ثبوت ما التزم به واستقراره عليه ولا يقتصر المفاد على الإلزام التكليفي فقط. ثم إن هنا بحثاً عن شمول مفهوم القاعدة للشروط والوعود الابتدائية وعدمه نؤجله إلى موضعه من هذا المقال. وننتقل إلى بيان شرائط صحة الشروط الواقعة ضمن العقود وهي أمور: 1- أن يكون مقدوراً. 2- أن يكون له غرض معتد عقلائي. 3- أن لا يكون مخالفاً للكتاب والسنة أي يحل حراماً أو يحرم حلالاً. والضابط أن لا يكون نافيًّا لما أثبته الشارع أو مثبتًا لما نفاه، فلو شرط ارتكاب محرم أو ترك واجب خالف الكتاب والسنة قطعاً. بخلاف ما لو شرط عليه فعل مباح (بالمعنى الأعم) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2169 وفي موضوع الشرط الذي يحرم حلالاً وقع الاختلاف والبحث، فإن دائرة المباحات هي التي تشملها الشروط فتلزم بها، فأين إذن مجال (تحريم الحلال) ، وقد قيل في ذلك إنه إذا اشترط ترك نوع من المباح لا فرد مصداق من مصاديقه، وذلك بشكل دائم فهو يؤدي لشرط ترك الطبيعة المباحة من الحكم وهو مخالف للحكم المباح ويحوله إلى حكم محرم باعتبار أن الحرمة تتعلق بطبيعة العمل في جميع الأزمان. وربما أمكن القول بأن هناك أموراً أصرَّ الشارع على إباحتها كالتمتع بالزوجات وأصل الزواج والطلاق والحرية نفسها، فلا يجوز إلغاؤها عبر شرط متضمن في عقد. وما ذكروه من مجال لتحريم الحلال يدخل كمصداق من مصاديق هذه القاعدة. 4- أن لا يكون الشرط منافيًّا لمقتضى العقد فلا معنى لاشتراط عدم التملك من قبل البائع في عقد البيع لأنه خلاف مقتضى العقد. بل أن لا يكون الشرط منافيًّا للأثر الرئيس للعقد كاشتراط عدم الاستمتاع بالزوجة، وربما كاشتراط عدم بيع السلعة مطلقاً مرة أخرى من قبل البائع الأول، وكذلك أن لا يتنافى مع الأثر الشرعي المجعول للعقد كاشتراط الضمان في عقد الإجارة رغم أن أثرها الشرعي هو عدم الضمان – كما يدعى-. 5- أن لا يكون الشرط مجهولاً في معاملة تضر الجهالة بها، كالبيع دون الصلح وربما يقال بهذا الشرط في مطلق المعاملات بناء على تعميم النهي لكل المعاملات باعتباره أنه (صلى الله عليه وسلم) نهى عن مطلق الضرر، وهذا أمر لم يثبت. 6- أن لا يستلزم الشرط المحال كقوله: بعتك شريطة أن يكون مبيعًا مني بنحو شرط النتيجة. 7- التنجيز- على قول. وهناك شروط أخرى ربما اعتبرها البعض إلا أن العمدة هو ما ذكرناه، ثم إن الشروط على ثلاثة أقسام: شرط الصفة، وشرط الغاية، وشرط الفعل. فإذا كان الاشتراط يتعلق بصفة في المبيع مثلاً كان شرط صفة. وإذا كان الاشتراط يتعلق بنتيجة العقود والإيقاعات كاشتراط الملكية أو اشتراط كون الزوجة مطلقة سمي هذا شرط نتيجة أو شرط غلبة. وهنا يقع الكلام في إمكان وقوع هذا الشرط شرعًا وعدم ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2170 وهذه الأمور قد تكون لها أسباب خاصة في نظر العرف، وقد أمضاها الشارع والكلام هنا في إمكان حصولها بالشرط، وقد تكون أسبابها مفتوحة في نظر العرف بشكل يسع الاشتراط، أي أن يكون الاشتراط سببًا لحصولها. ولا ريب في أنها إذا كانت لا تحصل إلا بأسبابها الخاصة لم تقبل باشتراطها بالعقد بنحو شرط النتيجة، وإن كانت تقبل الانفتاح على مثل الاشتراط فلا مانع من كونها بهذا النحو. والكلام في الموارد المشكوكة في دخولها في أي من القسمين، فهل يمكن التمسك بعموم ((المؤمنون عند شروطهم)) ، أو عموم {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} بناء على كون الشرط جزءًا للعقد الظاهر أنه من التمسك بالعمومات في الشبهات المصداقية وهو باطل، وما قيل من أننا نحقق مصداقية هذه الموارد لتلك العمومات بعد إجراء استصحاب عدم كون الشرط مخالفاً لكتاب الله أمر غير صحيح لأن مثل هذا الاستصحاب إما لا يجري إذا كان بالمعنى النعتي لعدم الحالة السابقة، أو يجري ولكنه من الأصل المثبت وليس الاستصحاب حجة فيه. وعلى أي حال، فإن قاعدة الاشتراط ((المؤمنون عند شروطهم)) ، لا تثبت لنا أن هذه النتيجة مشروعة الحصول بسبب الاشتراط، وإنما غاية ما تؤكده هو أن الشرط صالح لأن تنشأ به المضامين المشروعة في نفسها. وهناك محاولات جرت لحل هذا الإشكال. أما شرط الفعل فالمراد به تعلق الشرط بفعل اختياري مقدور للمكلف جامع للشرائط السابقة، وقد اختلفوا حينئذٍ في وجوب إتيانه بالفعل أو قدرته على التخلف وثبوت الخيار للمشروط له تبعًا لذلك. قيل هنا بأن معنى الثبوت عند الشرط هو وجوب العمل وِفق الالتزامات كما أن وجود فعل الأمر في بعض الروايات يؤكد ذلك من قبيل قول الإمام (عليه السلام) في رواية إسحاق بن عمار (من شرط لامرأته شرطًا فليفِ لها به) والأمر ظاهر في الوجوب. وقد عبر المرحوم المرزا النائيني عن ذلك بأن وجوب الوفاء بالشرط تكليفًا لم ينكره أحد، وإنما الخلاف والبحث في أمر آخر وهو أنه هل الشرط يوجب ويثبت حقًّا للمشروط له على المشروط عليه كي يكون وجوب الوفاء من آثار ذلك الحق أم لا يوجب ذلك، بل أثر الشرط وفائدته هو قلب العقد اللازم جائزًا وذلك لإناطة اللزوم بالوفاء بالشرط وإيجاد الفعل الملتزم به، فإن لم يفِ به فلا لزوم، وهذا ما ذهب إليه الشهيد (قد) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2171 وعلى أي حال فالظاهر هو لزوم الوفاء بهذا الشرط وإمكان الإجبار عليه من قِبل الدولة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا ينافي هذا إمكان الإسقاط من قبل من له الحق، فإن الإجبار هي الحالة الطبيعية، أما التنازل عن الحق فهو ينفي موضوع الإجبار. وهناك أحكام أخرى للشرط لا نرى فعلاً ضرورة للتعرض لها. حكم الوعد الابتدائي: هناك حالات متصورة للوعد تتلخص بما يلي: أولاً: الوعد العادي الذي يعد به المسلم المسلم الآخر. ثانياً: الوعد الذي يعقده على نفسه ويلتزم به بقوة دون أن يترتب على نقضه أثر. ثالثاً: هذا الوعد مع ترتب أثر من نوع ما على نقضه. رابعاً: الوعد المعطى كشرط ضمن عقد من العقود. فهل الوعد في كل هذه الحالات ملزم أو يختص الإلزام ببعضها دون الآخر؟ ما يمكن أن يطرح هنا من أدلة هو: أولاً: أدلة الوفاء بالوعد وهي كثيرة واضحة ولا داعي لذكرها إلا أنه يقال في قبالها: إن اللزوم فيها أخلاقي محض وليس فيها إلزام تكليفي أو وضعي. ثانيًا: قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} بناء على تفسير العقود بالعهود إلا أن الظاهر فيها أنها تركز على العهود العقدية أو العهود التي فيها التزامات قوية، فلا تشمل النوع الأول قطعًا كما تشمل النوع الرابع الممضى شرعًا وعرفًا قطعًا وفي شمولها للنوعين الوسطيين كلام. وقد قيل إن العقد عهد موثق- كما حكي عن الكشاف- ورأى آخرون أن التوثيق ليس من جملة معناه فيكفي الربط بأي نحو كان. وفسروا العقد بالمعنى الاستعاري بأنه مطلق المعاملة بلحاظ الربط الاعتباري المتبادل. وقد يشكل على عموم آية الوفاء بالعقود بأن المراد منها العقود المعهودة آنذاك وليس كل عقد أو عهد إلا أن الإشكال في غير محله لعموم اللفظ وليس هناك ما يصلح للقرينة الصارفة عن العموم ويتوضح العموم بملاحظة طبيعة الخطاب القرآني الشامل للبشرية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2172 الظاهر من الآية الشمول للنوعين الوسطيين وإن ادعي الإجماع على خروجهما من دائرة شمول الآية باعتبار عدم الإلزام الشرعي فيهما، ولما كان خروج هذه الأنواع الثلاثة يعني تخصيص الأكثر وهو مستهجن عرفًا، فإن ذلك يوضح أن الآية لم تشمل من الأول إلا النوع الرابع، ولكن قد يقال في قبال ذلك أننا لو سلمنا الإجماع المدعى لا نسلم بأن خروج الكثير من أفراد قاعدة ما مع بقاء كثير من الأفراد أمر مستهجن لغويًّا. ولذلك نبقى مع هذا الظهور. ومثل هذا الإجماع لم يثبت لدينا. ثالثًا: قاعدة المؤمنون عند شروطهم. وقد فسرت الشروط هنا بالوعود والعهود، ولما كانت الكلمة هنا مطلقة غير مقيدة أمكننا تعميمها لكل الأنواع ولا أقل من شمولها لما عدا الأول باعتبار أن الشرط أيضًا فيه صفة التوثيق. وقد ادعي أن لفظ الشرط نفسه يستدعي اقترانه بعقد ومعاملة أو أمر آخر لأن المشارطة هي المقارنة، ولأنه لو شمل كل هذه الأنواع لاستلزم تخصيص الأكثر بعد الإجماع القائم على عدم وجوب الالتزام بالشروط غير الواردة ضمن العقود، وتخصيص الأكثر مستهجن. ولكننا قلنا إن مثل هذا التخصيص-لو تم- مع بقاء كثير من الأفراد تحت العام ليس مستهجنًا على أننا يجب أن نحقق معقد الإجماع المدعى وهل هو النوع الأول أم يشمل كل وعد وشرط لا يقترن بعقد؟ ولا دليل على هذا الشمول ولا أقل من الشك والاقتصار على القدر المتيقن، هذا بالإضافة لعدم تأكدنا من تحقق هذا الإجماع خصوصًا إذا لاحظنا مخالفة للبعض له وخصوصًا بالنسبة للنوع الثالث. ويشهد لعموم معنى الشرط ما رأيناه من استعماله في كل عهد حتى في عهد الله حيث سمي حكم الله بالشرط، وسمي الخيار شرطًا كما في قول الإمام (الشرط في الحيوان ثلاثة أيام) (1) ، وقوله في رواية منصور بن يونس: (فليفِ للمرأة بشرطها) (2) ، وأطلق الشرط على النذر أو العهد.   (1) وسائل الشيعة، كتاب التجارة، الباب الرابع من أبواب الخيار. (2) وسائل الشيعة، كتاب النكاح، الباب 20 من أبواب المهور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2173 إلا أن الإنصاف أن معقد الإجماع يتناول النوع الثاني أيضًا فالعرف يعهده وعدًا ابتدائيًّا لا فرق بينه وبين أي وعد آخر إلا بشيء من التوثيق في حين يرى النوع الثالث عهدًا وشرطًا كاملًا، ومن هنا نقول بلزوم الوفاء به ولو على سبيل الاحتياط- إلا أن يكون شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا. الإجارة بشرط التمليك: يمكن تصوير العملية – على ضوء الواقع القائم- بصورتين: الأولى: أن تقوم شركة أو بنك ببناء مساكن ثم تأجيرها للأفراد بشرط أن يملكوها بعد دفع مبالغ الإجارة في المدة المعينة. الثانية: أن يقوم الأشخاص المحتاجون لإكمال بناء بيوتهم مثلاً ببيعها للبنك، ثم يقوم البنك بتأجيرها لهم إلى مدة معينة شريطة أن يملكوها بعد انتهاء مدة الإيجار. والصورة الأولى مؤداها عقد واحد للإيجار متضمن لشرط التمليك في حين تؤدي الصورة الثانية إلى ما يلي: 1- بيع الفرد بيته للبنك. 2- وعد الفرد للبنك بأنه سيستأجر البيت طبق المبلغ والمدة المعينة بشرط التمليك. 3- وعد البنك للفرد بأنه سيؤجر البيت طبق المبلغ والمدة المعينة بشرط التمليك. 4- تأجير البنك للشخص إلى مدة معينة بمبلغ معين شريطة التمليك عند انتهاء المدة. والصورة الأولى كما هو واضح أقل إشكالًا من الصورة الثانية- وهي المتداولة – وسوف نبحثها أولًا ثم نبحث الأخرى. وهي لأول وهلة لا يبدو فيها إشكال إلا أن الكلام فيها في مجالين: الأول: كيف يتم اشتراط التمليك وهل ذلك بنحو شرط لفعل (التمليك) أو هو بنحو شرط النتيجة (التملك) . الثاني: هذه المعاملة هل تدخل تحت عنوان عقدين في صفقة أم لا؟ وما حكمها لو كانت كذلك؟ أما للبحث الأول فقد ذكرنا من قبل شرائط صحة الشرط ونحن نرى أنها متوفرة هنا جميعًا ولا مانع من اشتراط التمليك سواء كان ذلك بنحو شرط النتيجة أو شرط الفعل. فإذا كان الاشتراط بنحو شرط النتيجة من باب أن التمليك وإن كانت له أسباب خاصة في نظر الشارع إلا أنه من المتعارف بشكل واسع أن يحصل من خلال الاشتراط ضمن عقد، بل أن العرف يرى حصوله بالمعاطاة الخالية من أي صيغة، وهذا عرف ممضى من قبل الشارع وليس التمليك كالطلاق والعتق وأمثالهما مما يحتاج إلى صيغة خاصة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2174 أما لو شك أحد في قبول مسألة التمليك لمثل هذا التسبيب وعدمه، فلا يمكن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وتصحيح هذا الاشتراط وحينئذٍ فليس هنا إلا الرجوع لاشتراط الفعل، واشتراط الفعل أي قيام المالك بالتمليك مما لا إشكال فيه إلا ما مرَّ من الخلاف في كون هذا الاشتراط موجبًا للزوم الوفاء بالشرط أو أنه يؤدي فقط إلى حصول الخيار للمشروط له عند عدم وفاء الملتزم بالشرط به، وقد اخترنا وجوب الوفاء تبعًا لظاهر النصوص وحينئذٍ يضمن المشروط له قيام البنك بتمليكه عند انتهاء مدة الإيجار، ولو امتنع أجبره الحاكم الشرعي على ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما البحث الثاني، فنقول فيه: أولًا: لم تثبت لدينا النصوص المانعة عن اجتماع عقدين في صفقة واحدة كما لم نتأكد من أن المراد منها ما هو؟ ثانيًا: أن المورد لا يدخل تحت العنوان الآنف باعتبار أنه عقد واحد لا غير وإلا كانت أغلب العقود المتضمنة لشروط ما من هذا القبيل باطلة. هذا كله بالنسبة للصورة الأولى. أما بالنسبة للصورة الثانية فإن فيها البحوث التالية: أولًا: بحوث الصورة الأولى. ثانيًا: بحث حول مسألة الإلزام بالوعد. ثالثًا: بحث حول ما إذا كانت المسألة تدخل ملاكًا تحت عنوان إيجاب البيع قبل استيجابه. رابعًا: بحث حول ما إذا كانت العملية كلها غطاء لعملية ربوية. أما بحوث الصورة الأولى فقد ذكرناها والكلام واحد في الصورتين. وأما مسألة الإلزام بالوعد، فإنه لا ريب في دخول المورد في النوع الثالث من الوعود أي في الوعد الموثق مع ترتب أثر ما على نقضه، كما يمكن دخوله في النوع الرابع وهو الوعد المعطى كشرط ضمن عقد من العقود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2175 فحتى لو كان مجرد وعد من قبل البنك مقارن لشراء البيت من الفرد، فإنه كما قررنا من قبل ملزم باعتبار شمول عمومات الوفاء له لأنه يترتب عليه أثر ولا إجماع متيقن يشمله ولو كان مشترطًا في البيع كان ملزمًا بلا ريب أيضًا إلا أنه يرد فيهما الإشكال الثالث الآنف وهو إيجاب البيع قبل استجابة ذلك أن البنك لم يملك البيت بعد وحينئذٍ فلا يمكنه أن يعد مطلقًا أو ضمن عقد وعدًا لازمًا بالإيجار بشرط التمليك، كما لا يمكن للفرد أيضاً أن يعد بالاستيجار بنفس الشرط وعداً ملزماً. فقد روى محمد بن الحسن بإسناده إلى يحيي بن الحجاج قال: (سألت أبا عبد الله - يعني الصادق (عليه السلام) عن رجل قال لي: اشتر هذا الثوب وهذه الدابة وبعنيها أربحك فيها كذا وكذا: قال لا بأس بذلك: اشترها ولا تواجبه البيع قبل أن تستوجبها أو تشتريها) ، وبمعنى الرواية روايات أخرى تؤكد على ضرورة عدم الإلزام لكي يصح البيع. وهي تدل على ما ذكرناه شريطة أن نعمم موردها وهو البيع إلى العقود الأخرى وحينئذٍ فيجب حذف عنصر الإلزام في البين والاعتماد على ما هو المتعارف من جريان المعاملة بشكل طبيعي والتزام طرفيها بالاستمرار فيها إلى النهاية، أما البحث الرابع والأخير، فقد يقال فيه: إن هذه العملية المطولة هي في الواقع غطاء لعملية ربوية لا غير. أما بلحاظ الصغرى باعتبار أن المراد الجدي للمتعاملين بتحكيم الارتكاز العرفي هو القرض الربوي وليس هذا التطويل إلا تغييرًا للألفاظ رعاية للشرع. أو بلحاظ الكبرى باعتبار أن العرف يوسع دائرة القرض- بلحاظ الارتكاز العرفي لتشمل هذه المعاملة المطولة. والحقيقة أن المراد الجدي تارة يراد منه- كما يقول السيد الصدر- الغرض الشخصي للمتعاملين وهذا لا أثر له- وأخرى يراد منه المراد المنشأ بشكل جدي في المعاملة فهو أمر سهل المؤونة والاعتبار خصوصًا في هذه المعاملة. وأما الكبرى (باعتبار أن العرف يرى القرض عملية تبديل للحال المثلي الخارجي بمثله في الذمة وأن ما جرى هنا لا يخرج عن هذا الإطار) ، فنقول فيها أن الفهم العرفي بعد أن يلحظ: أولاً: ما قلناه من عدم الإلزام بالوعد في هذه المعاملة لإخراجها من تحت إيجاب البيع قبل استيجابه. ثانياً: أن أحكام الملكية وتلفها تترتب للبنك وعليه أثناء مدة الإيجار فلو تلف البيت تلف من مال البنك وأمثال ذلك. نعم بعد أن يلحظ ذلك لا يشك في كون المعاملة غير داخلة تحت عنوان القرض حتى بعد توسيعه المدعى. وعليه فلا يرد الإشكال الآنف (إشكال التغطية لمعاملة ربوية) والنتيجة التي نخرج بها تتلخص بما يلي: إن الإيجار بشرط التمليك عملية جائزة شريطة أن لا يكون هناك إلزام بالربط بين المعاملتين وترتب أحكام كل حالة بشكل كامل. والله أعلم. الشيخ محمد علي التسخيري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2176 التأجير المنتهي بالتمليك إعداد الدكتور عبد الله إبراهيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. 1- مقدمة: من وسائل التمويل الخاص لمساعدة ذوي الدخل المحدود من أفراد المجتمع للحصول على حاجة من حاجاتها الأساسية كالمسكن والسيارة وأدوات الزراعة ومكائن الصناعة هو التأجير المنتهي بالتمليك. وقد مارسته البنوك الربوية طبقًا لنظامها القائم على الفائدة الربوية. فلا تخرج هذه المعاملة عن دائرة القروض الربوية وإن كان التمويل يتم باسم التأجير، وانتهى الأمر بعد انتهاء المدة المتفق عليها، وتم فيها دفع الأقساط الشهرية وهي تمثل القرض المقدم للعميل مع فائدته المقررة، انتهى الأمر بعد ذلك إلى انتقال ملك السلعة أوتوماتيكيًّا إلى العميل وما عليه إلا أن يستحصل من البنك الممول شهادة بإتمامه دفع جميع الأقساط المطلوبة منه ويذهب بها إلى الجهة الخاصة لإبطال حق طلب البنك على السلعة بختم رسمي وتوقيع من المسؤول المختص بالمصلحة المعينة لذلك من قبل الحكومة. قلنا آنفًا: إن هذه العملية لا تخرج عن دائرة القروض الربوية وذلك لأن البنك الذي يقوم بتمويل شراء حاجة العميل من سيارة ونحوها- كما هو معروف- إنما يقدم له قرضاً بفائدة معينة في السنة مضروبة في عدد السنوات المتفق عليه بين الطرفين يدفع العميل خلال أشهرها جملة القرض بفائدته المذكورة على أقساط معينة. 2- تطبيق العملية بما يتفق والشريعة الإسلامية: فقد أخذ البنك الإسلامي للتنمية بجدة هذه المعاملة وجعلها بيعًا تأجيرياً، وتتضمن العملية الإجارة ثم البيع منا تبين من الاستفسارات التي وجهها البنك إلى مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2177 وقد ناقش المجمع هذه المسألة وانتهت المناقشات إلى قبول هذه العملية على أن تتضمن الإجارة على وعد بالبيع من قبل البنك صاحب السلعة المؤجر ووعد بالشراء من قبل العميل المستأجر. وقرر المجمع أن هذا الوعد مقبول شرعًا وذلك في دورته الثالثة المنعقدة بعمان، المملكة الأردنية الهاشمية. 3- جوانب تستحق المناقشة: على أن الموضوع وإن كان قد سبق اتخاذ قرارات بشأنه إلا أنه لا يزال في حاجة إلى استمرار المناقشة في شأنه في جانب أو جوانب لم يسبق بحثها ولا مناقشتها ولا اتخاذ القرار بشأنها من قبل، من بينها صورة الممارسة بالكيفية التي لا شبهة فيها بالعملية الربوية (القرض الربوي) وكون الوعد المقترن بالعقد على هو من قبيل الشروط المنافية لمقتضى العقد أم لا؟ وهناك نقطة أخرى مهمة يجب ألا يترك الموضوع دون مناقشتها والبت في شأنها ألا وهي مسألة تحديد مقدار الربح، أن العملية ستنتهي بتمليك المستأجر للسلعة المؤجرة له. وهذا التمليك إنما يكون عن طريق الهبة الموعود بها أو البيع الموعود به أيضًا. وعلى أي تقدير فإن المؤجر صاحب السلعة لا يتنازل عن بضاعته دون أن يحصل على الربح المناسب. فحينما يؤجر فلا يؤجرها بالإيجار المجرد مثل أي إجارة عادية بل لا بد أنه يضع ثمن الإيجار بما يتضمن قيمة التكلفة مضافاً إليه الربح ليتسنى له التنازل عن بضاعته بعد انتهاء المدة وإتمام دفع الأقساط بدون أن يخسر. فإنه هنا- وخاصة البنوك وأمثالها- إنما يتاجر وليس يقدم تبرعًا أو مساعدة من أجل الخير والبر، بل تجارة يقبض من ورائها الربح بأعلى مقدار ممكن. الجانب الأول: قد ذكرت من قبل أن صورة الممارسة لدى البنوك الربوية لا تخرج في الواقع عن دائرة القروض الربوية فعليه يجب علينا أن نقدم صورة جديدة للممارسة والتطبيق يصح أن تكون بديلة ومنزهة عن أية شبهة بالربا ويقتنع المسلم وهو يدخل في المعاملة ويثق بأنه قد تخلص من الربا وتحر من الظلم الذي طالما يبحث عن منفذ للخروج منه. وهذه الصورة كما يتراءى لي يجب أن تتكون من العناصر الآتية: 1- أن يتم العقد على عقد الإجارة العادية. 2- أن تكون مدة الإجارة محددة ومعلومة. 3- أن يكون ثمن الإيجار مناسبًا للسلعة (سكن أو سيارة أو ماكينة زراعية أو صناعية مثلًا) طبقًا لنظام العرض والطلب في المكان والزمان اللذين تم فيهما العقد ومناسبًا لحجمها ودرجة المنفعة التي يمكن الانتفاع منها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2178 4- أن يتحمل الطرفان تبعات ومسؤوليات تخص كلاً منهما كما هو مقرر في بابه. 5- أن يقترن بالعقد وعد بالهبة أو بالبيع بعد انتهاء مدة الإجارة بالثمن المناسب لذلك كله أيضًا ووعد بالشراء. 6- في حالة البيع يتفق الطرفان على اعتبار الإيجار المدفوع في المدة التي انتهت أو جزء معين منه قسمًا من قيمة البيع، سواء كان هذا مبنيًّا على وعد سابق يشتمل عليه الوعد بالبيع أو مبنيًّا على اتفاق جديد بينهما تم بعد المساومة الحرة بينهما. 7- أن يعقد عقد جديد للبيع مستقل عن عقد الإجارة ويكون هذا العقد بعد انتهاء مدة الإجارة وبعد الاتفاق على ثمن البيع، وكيفية دفعه عاجلًا أو آجلًا في أقساط، ومدة التقسيط. 8- أن تحدد مدة معلومة جديدة لدفع القيمة أو بقية القيمة المتفق عليها بين الطرفين وعلى أقساط أخرى. 9- يكون لأحد الطرفين الحق في عدم تنفيذ الوعد بالبيع أو بالشراء بموافقة الآخر، لأنهما كانا متواعدين على ذلك، والمسلمون على شروطهم ما لم تحل حراماً أو تحرم حلالاً. 10- تسجل السلعة باسم المشتري كما يسجل حق الطلب على السلعة للبائع على أنها رهن للدين (القيمة أو بقية القيمة المتفق على أنها رهن للدين، القيمة أو بقية القيمة المتفق على دفعها في أقساط في مدة محددة معلومة) . 11- في حالة الوعد بالهبة بعد انتهاء مدة الإجارة تنتقل ملكية السلعة بعقد جديد للهبة. تلك هي الصورة للممارسة والتطبيق التي ظهر لي أنها تنقذ الطرفين من الظلم والاستبداد الذين اقترن بهما نظام التأجير الربوي المطبق في البنوك الربوية. وبهذا نطبق المبدأ الإسلامي (لا تظلمون ولا تظلمون) . الجانب الثاني: وهذا الجانب يتعلق بالوعد بالهبة أو بالبيع المقترن بعقد الإجارة في الصورة المقترحة للتطبيق كبديلة للصورة المطبقة في نظام التأجير الربوي لدى البنوك الربوية، هل هو من قبيل الشروط المقترنة بالعقود أي عقد إجارة بشرط الهبة وعقد إجارة بشرط البيع؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2179 وفي حالة اعتباره بمنزلة الشرط المقترن بالعقد هل هو من قبيل الشروط المنافية لمقتضى العقود فيفسد العقد أو يبطل هو في نفسه فقط دون أي مساس بالعقد بأي خلل؟ على خلاف بين الفقهاء في المذاهب المختلفة في ذلك ولكل وجهته وأدلته، وموقفي بالنسبة لهذا الخلاف أني أميل إلى الثاني، أخذًا بما يدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها في قضية بريرة المشهورة في باب البيوع في كتب الحديث، حيث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يحكم بفساد عقد بيع بريرة وإن اقترن به شرط باطل، وهو أن يكون ولاؤها لسيدها الذي باعها لعائشة. وإنما أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) عائشة رضي الله عنها أن تستمر في عقدها وشرائها دون مبالاة بالشرط المذكور، وأعلن الرسول (صلى الله عليه وسلم) في استنكار لهذا الشرط الباطل لأنه ليس في كتاب الله وكل شرط ليس في كتاب الله (أي مخالف لما قرره الله وهو المخالف المنافي لمقتضى العقد) فهو باطل ولو كان مائة شرط. وشرط الله أحق وقضاؤه أوثق. والشرط الصحيح المقبول والذي هو كتاب الله بالنسبة لهذه القضية هو ((إنما الولاء لمن أعتق)) . ومهما كان الأمر وعلى أن هذا الوعد بالهبة أو بالبيع المقترن بعقد الإجارة في مسألتنا هذه – كما هو ظاهر من قبيل الشروط المقترنة بالعقود إلا أنه ليس من قبيل الشروط المنافية لمقتضى العقد فلا يأتي هنا الخلاف في بطلان العقد وفساده ولا بطلان الشرط أو فساده في نفسه، بل هو من قبيل الشروط الجائزة المقبولة (وعد مقبول شرعًا) ولكلا الطرفين الحق في عدم تنفيذه لأنه وعد في المعاوضات. وبهذا أكتفي دون الإطالة في هذا الجانب، خاصة، وقد قرر مجمعنا في دورته الثالثة المنعقدة بعمان، الأردن بقبوله واعتباره وعدًا مقبولًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2180 الجانب الثالث: وهذا يتعلق بمسألة تحديد الربح فإن المؤجر كما قلت آنفًا (بنكًا كان أو مؤسسة من مؤسسات التمويل العامة أو الخاصة) لا يقوم بالتأجير إجارة عادية وبالإيجار المجرد، بل إنه لا بد يضع ويحدد ثمن الإيجار بما يتضمن قيمة التكلفة مضافًا إليها الربح ليتسنى له التنازل بسهولة عن بضاعة بعد انتهاء مدة الإجارة وإتمام رفع الأقساط بدون أية خسارة تنزل وهو يتاجر ببضاعته بهذه الكيفية. وبهذا أصبح الأمر واضحًا أمامنا أنه في حالة البيع يكون هناك ثمن الإيجار مضافًا إليه جزء من قيمة البيع الموعود به. وفي حالة الهبة يكون هناك ثمن الإيجار مضافًا إليه مقدار زائد عليه في مقابل الهبة الموعود بها. ففي الحالة الأولى سيصبح الأمر بمنزلة اجتماع بين عقدي الإجارة والبيع وإن لم يتم البيع بعد. ومعلوم أن اجتماعهما لا يجوز لأنهما من العقود المتبانية وإن كانا من النوع الواحد حيث أن الإجارة نوع من البيوع لأن فيهما بيعًا. ففي البيع بيع أعيان وفي الإجارة بيع منافع. ولهما أثر واحد يتفقان فيه وهو انتقال ملكية العقود عليه بصفة التأبيد للطرف الآخر. وتباينهما يأتي من حيث أن البيع يقصد به العين ومنفعتها معًا. بينما الإجارة يقصد بها منفعة العين فقط وملكية العين في الإجارة لا تزال لصاحبها وعليه تبعات ومسؤوليات خاصة تجاه العين حتى تبقى صالحة للانتفاع بها لا يجوز وليس من العدل أن تلقى على عاتق المستأجر، إلى آخر ما هنالك من فوارق بينهما معروفة مفصلة في بابها وليس هنا محل تفصيلها. 4- تساؤل وحل للمسألة: وإذا كان الأمر كما وضحت فهنا يقفز أمامي تساؤل وهو هل يجوز إضافة مقدار معين إلى ثمن الإيجار في مقابل البيع الموعود به وإن كان المشتري قد وعد بالشراء؟ إلى جانب أن الواضح للجميع أن الغرض من تقديم هذه الخدمة هو مساعدة ذوي الدخل المحدود للحصول على حاجة من حاجاتهم الأساسية؟ والحق أني أميل إلى أنه من الإنصاف بل من العدل أيضًا وللطرفين معًا لا للطرف الواحد فقط هو ألا يسمح بهذه الإضافة، خاصة أن هذا الوعد- كما هو اتجاه الأكثر- غير ملزم. وإذا كان هذا هو المأخوذ به في حالة البيع فكذلك يجب أن يكون في حالة الهبة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2181 وبقي الأمر بعد ذلك بالنسبة لموقف المؤجر هل يرضى بذلك وهو- كما هو معروف- ليس يتبرع ولكن يتاجر، وكل ما يهدف إليه الحصول على الربح بأعلى قدر ممكن؟ فهنا أميل إلى أن يسمح للطرفين بالاتفاق على أن يضع المستأجر قدرًا معينًا مستقلًا عن ثمن الإيجار، في حساب الودائع الاستثمارية في البنك الإسلامي كضمان للبائع يستفيد منه ومن أرباحه المتجمعة في آخر المدة بمجرد أن تم عقد البيع على أنه جزء من القيمة أو بقية القيمة ويتسلمه كله عاجلاً ويتسلم بقية القيمة في أقساط في خلال المدة المتفق عليها بين الطرفين، وفي حالة الهبة أميل إلى ألا يكون هناك أية إضافة على ثمن الإيجار وأميل إلى أن يكون هناك وعد بالبيع فقط، ولا يكون وعد بالهبة إلا ممن أراد أن يتبرع خالصًا لوجه الله لا تحايلًا إلى تحليل الربا أو إلى ارتكاب شبهة الربا باسم الهبة ثم يضع في مقابلها، وهي في مرحلة الوعد بها، مقدارًا معيناً زائداً على ثمن الإيجار على اعتبار أن الجميع هو ثمن الإيجار مع أن ثمن الإيجار المناسب العادل أقل من ذلك. وبهذا- كما ظهر لي- نطهر العملية- عملية التأجير المنتهي بالتمليك - من أية شبهة بالربا ونطبق في آنٍ واحد المبدأ القرآني العادل المنصف (لا تظلمون ولا تظلمون) والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الدكتور عبد الله إبراهيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2182 الوثائق توصيات وفتاوي الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي المنعقدة في الكويت 7 – 11 رجب 1407 هـ 7 – 11 آذار (مارس) 1987 م مع نبذة عن وقائع الندوة وقائمة بالأساتذة المشاركين فيها بسم الله الرحمن الرحيم أولًا- الفتاوي والتوصيات الفقهية بشأن خيار الشرط وتطبيقه في معاملات المصارف الإسلامية 1- أحكام مختارة في خيار الشرط: (أ) خيار الشريط حق يثبت باشتراط المتعاقدين لهما أو لأحدهما أو لغيرهما، يخول من يشترط له إمضاء العقد أو فسخه خلال مدة معلومة. (ب) اشتراط الخير كما يكون عند التعاقد يكون بعده باتفاق العاقدين. (ج) يتم اشتراط الخيار بكل ما يدل عليه. (د) يمكن اشتراط الخيار في جميع العقود اللازمة القابلة للفسخ مما لا يشترط القبض لصحته، فيمكن اشتراطه في البيع والإجارة مثلاً، ولا يسوغ اشتراطه في الصرف والسلم وبيع المال الربوي بجنسه. (هـ) لا يجب تسليم البدلين (المبيع أو الثمن) في عقد البيع بشرط الخيار، ولكن يجوز قيام أحد العاقدين أو كليهما بالتسليم طواعية لا سيما بهدف التجربة والاختبار. (ز) نماء المبيع في مدة الخيار يتوقف فيه إلى إمضاء البيع أو فسخه، فإن أمضي كان النماء للمشتري (المصرف) وإن فسخ كان للبائع. (ح) إذا كان الخيار للمشتري وحده (المصرف) فإن تصرفاته، من بيع وإجارة ونحو ذلك، تصرفات صحيحة ناقلة للملك مسقطة للخيار ولو لم يسبق ذلك التصرف قبض المصرف الإسلامي للسلعة ما لم تكن قوتًا. (ط) يسقط الخيار ويصبح العقد باتاًّ بمجرد انقضاء مدة الخيار إذا لم يصدر من المشتري (المصرف) فسخ العقد أو التصرف في السلعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2183 (ي) لا يشترط قيام المشتري (المصرف) بإعلام البائع بإبرامه للعقد أو فسخه له، لأن البائع بموافقته على جعل الخيار للمشتري خوله صلاحية اختيار الإمضاء أو الفسخ خلال المدة المعينة. (ك) يضمن المشتري (المصرف) المبيع إذا قبضه وتلف مدة الخيار. 2- تقديم صورتين لخيار الشرط للمارسة: يمكن تطبيق إحدى الصورتين التاليتين: الأولى – بناء على رغبة ووعد بالشراء: (أ) يتلقى المصرف الإسلامي رغبة من عميله مع وعد بالشراء، وهو وإن كان لا يبالي –في الواقع- بمصير هذا الوعد، فإن من الضروري الإبقاء على جدية الوعد، تفاديًا للدخول في الصفقة بدءًا ثم إلغائها انتهاء، مما إذا تكرر يخل بسمعة المصرف كمستورد. (ب) يشتري المصرف السلعة الموعود بشرائها مع اشتراط الخيار له (حق الفسخ) خلال مدة معلومة تكفي عادة للتوثق من تصميم الواعد على الشراء وصدور إرادته بذلك. (ج) يطالب المصرف الواعد بتنفيذ وعده بالشراء، فإذا اشترى السلعة باعه المصرف إياها، وبمجرد موافقته على البيع يسقط الخيار. الثانية- المبادرة لتوفير سلع مرغوبة في السوق: (أ) يشتري المصرف الإسلامي سلعة من الأسواق المحلية أو العالية مع اشتراطه الخيار (حق الفسخ) خلال مدة معلومة تكفي عادة للتوثق من وجود راغبين يبرم معهم عقودًا على تلك الصفقة. (ب) يحق للمشتري (المصرف) أن يبرم عقودًا على تلك الصفقة مع الراغبين في شرائها وبمجرد إتمام العقد ينتهي الخيار. ثانيا- الفتاوي والتوصيات الفقهية بشأن (التأمين وإعادة التأمين) 1- ضرورة التعاون بين مؤسسات التأمين الإسلامية القائمة، ودعمها والحث على التعامل معها. 2- بذل الجهد لإنشاء مؤسسات تأمين إسلامية تفي بحاجة السوق الإسلامية في مجالات التأمين أو إعادته. 3- دعوة المصارف والمؤسسات الإسلامية إلى التعاون والإسهام في هذه المؤسسات ودعمها انطلاقًا من رسالتها الإسلامية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2184 4- حث مؤسسات التأمين الإسلامية على أن تكون إعادة التأمين منها لدى المؤسسات الإسلامية لإعادة التأمين ما أمكن ذلك. 5- تأكيد ما انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي بجدة من عدم إباحة التأمين التجاري بصورته الحالية، وأن البديل المشروع المتفق على جوازه هو التأمين التعاوني. 6- ضرورة تكوين لجنة فقهية- بمعرفة بيت التمويل الكويتي، أو غيره- للقيام بوضع صيغة نموذجية لكل من عقد تأسيس ونظام أساسي ووثيقة تأمين، لمؤسسة تأمين إسلامية ومؤسسة إعادة تأمين إسلامية وعرض ذلك على أول ندوة لاحقة. ثالثاً- الفتاوي والتوصيات الفقهية بشأن المخارج الشرعية (الحيل الجائزة) 1- المخارج الشرعية: كل ما يحصل به التخلص من المآثم والحرام، والخروج إلى الحلال. 2- تبين من الأبحاث التي اشتملت عليها الندوة في موضوع (المخارج الشرعية) ما بذله فقهاء المسلمين من جهود كبيرة في التأليف في هذا الموضوع، بقصد التيسير على المسلمين في معاملاتهم. والذين يوردون مخارج شرعية في أمر ما يقتربون أو يبتعدون من إصابة الحق بمقدار أخذهم وتقيدهم بالضوابط الشرعية المستمدة من الكتاب والسنة. 3- إن من المتفق عليه أن الشرعية الإسلامية منهج حياة للناس في كل زمان ومكان، فكان لزامًا على كل باحث أن ينظر في نصوص الكتاب والسنة ليتوصل عن طريق الأدلة والقواعد والمقاصد إلى الأحكام الشرعية، وينبغي أن يستفيد من المخارج الشرعية، ولا سيما في التطبيقات العملية في المصارف الإسلامية مع مراعاة الضوابط والمناهج التي سلكها الأئمة الأعلام الذين كتبوا في ذلك. 4- إن المخارج أو الحيل في مجال المعاملات وغيرها تنقسم إلى نوعين: مخارج شرعية (مقبولة) ، ومخارج غير شرعية (مردودة) . فالأخيرة- وهي الباطلة الذميمة المنهي عنها هي ما هدم أصلاً شرعيًّا، أو ناقض مصلحة شرعية معتبرة، بحيث تكون وسيلة إلى العبث بمقاصد الشارع من إسقاط الواجبات وتحليل المحرمات، وقلب الحق باطلاً والباطل حقًّا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2185 وأما المخارج المقبولة شرعًا فهي التي لم تهدم أصلاً شرعيًّا ولم تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها ويترتب على سلوكها تحقيق مقاصد الشرع، من فعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه، وإحياء الحقوق ونصر المظلوم، والانتصاف من الظالم. 5- ينبغي الحذر من التوسع في استخدام باب المخارج حتى لا يكون ذريعة لاستحلال الحرام أو ترك الواجب. ولا بد أن يعتمد من هيئات الفتوى والرقابة الشرعية أي مخرج يلجأ إليه في أي تطبيق لدى المصارف الإسلامية. رابعًا – الفتاوي والتوصيات الفقهية بشأن (خطابات الضمان المصرفية) 1- الأجر الذي يأخذه المصرف الإسلامي عن إصدار خطابات الضمان يكون مقابل الأعمال التي يقوم بها المصرف لإصدار الخطاب وليس مقابل الضمان الذي يوفره هذا الخطاب لعميل المصرف. 2- الأعمال التي يقوم بها المصرف عند إصدار خطابات الضمان منها ما هو عام يتكرر في كل خطاب، ومنها أعمال إضافية يقوم بها المصرف في بعض حالات إصدار خطابات الضمان وتختلف أنواع الضمانات وأحكامها على النحو المبين فيما يلي: 3- خطابات الضمان للأنشطة غير التجارية: مثل خطابات الضمان المطلوب تقديمها من الطلاب لبعض المعاهد العلمية، أو خطابات الضمان لنوادي السيارات بمناسبة مغادرتها البلاد، أو الخطابات المقدمة لوزارة المواصلات لتركيب هاتف مثلاً، ويقوم المصرف بالنسبة لها بالأعمال الموضحة في (خطابات الضمان الابتدائية) الآتي بيانها. وينبغي للمصرف في مثل هذه الحالات أن يأخذ أقل أجر ممكن لمقابلة التكلفة. ويفضل عمل ذلك مجانًا من قبيل البر. 4- (خطابات الضمان الابتدائية) المطلوبة للتقدم لبعض العطاءات: للمصرف أن يستوفي أجرًا مقابل الأعمال التالية: (أ) دراسة حالة العميل المالية وسمعته وإمكاناته. (ب) الجهد والوقت اللذين يبذلهما الموظفون الذين بناط بهم إعداد الخطاب وإجراء القيود الحسابية وما يستهلك من الأوراق والآلات. (ج) مراجعة الخطاب من مدققي الحسابات والتوقيع باعتماده من المسؤولين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2186 (د) متابعة الخطاب مع الجهة المستفيدة إلى حين انتهاء مدته أو إعادته، وإجراء القيود اللازمة في هذا الشأن. 5- (خطابات الضمان النهائية) المطلوبة لضمان حسن التنفيذ أو الدفعات المقدمة: يستحق المصرف الأجر على الأعمال السابقة في (خطابات الضمان الابتدائية) بالإضافة إلى أجر عن الأعمال التالية: (أ) دراسة العطاء من جانب الجهات الفنية للاطمئنان إلى مناسبة الأسعار التي تحقق لطالب الخطاب نسبة معقولة من الربح. (ب) دراسة حالة ومركز المستفيد من خطاب الضمان. (ج) إجراء حوالة حق وإعلانها للجهة المحال عليها إذا دعت الحاجة إلى الحوالة. (د) تحصيل الدفعات مقابل المستخلصات التي يتم صرفها من الجهة صاحبة العمل. (هـ) متابعة تنفيذ عقد المقاولة في مختلف مراحله مع الجهة المستفيدة من خطابات الضمان حتى إعادة الخطابات إلى مصدرها. 6- تمديد خطاب الضمان: في حالة تمديد خطاب الضمان يقوم المصرف بالاتصال بالمستفيد من الخطاب ودراسة أسباب التمديد وتحرير خطاب بالتمديد يمر بالمراحل المشار إليها في (خطابات الضمان الابتدائية) وفي هذه الحالة يستوفي المصرف أجرًا بتناسب وجهده فيما قام به من أعمال. خامسًا – الفتاوي والتوصيات الفقهية بشأن (الأوراق النقدية وعلاقتها بالذهب) 1- تأكيد ما انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي بجدة من أن هذه الأوراق قامت مقام الذهب والفضة في التعامل بيعًا وشراء وإبراء وإصداقًا، وبها تقدر الثروات وتدفع المرتبات. ولذا تأخذ كل أحكام الذهب والفضة ولا سيما وجوب التناجز في مبادلة بعضها ببعض، وتحريم النساء (التأخير) فيها. 2- كل عملة من العملات جنس قائم بذاته.. فلا يجوز ربا الفضل فيها عند العقد أو في نهايته، سواء كانت معدنًا أو ورقًا إذا بيعت بمثلها، أما إذا بيعت عملة بعملة أخرى فلا يشترط في ذلك إلا التقابض. 3- لا يجوز بيع الذهب بالعملات الورقية، ولا شراء الذهب بها، إلا يدًّا بيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2187 سادسًا- الفتاوي والتوصيات الفقهية بشأن (التأجير المنتهي بالتمليك) إذا وقع التعاقد بين مالك ومستأجر على أن ينتفع المستأجر بمحل العقد بأجرة محددة بأقساط موزعة على مدد معلومة، على أن ينتهي هذا العقد بملك المستأجر للمحل، فإن هذا العقد يصح إذا روعي فيه ما يأتي: (أ) ضبط مدة الإجارة، وتطبيق أحكامها طيلة تلك المدة. (ب) تحديد مبلغ كل قسط من أقساط الأجرة. (ج) نقل الملكية إلى المستأجر في نهاية المدة بواسطة هبتها إليه، تنفيذًا لوعد سابق بذلك بين المالك والمستأجر. هذا.. والندوة تؤكد ما صدر عن مجمع الفقه الإسلامي في هذا الموضوع ضمن (استفسارات البنك الإسلامي للتنمية) . قائمة مرتبة ألفبائيًّا بالأستاذة المشاركين في الندوة الفقهية لبيت التمويل الكويتي 7-11 (رجب، ومارس) 1407 هـ – 1987م الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2188 الاسم الوظيفة الأصلية والمهمة المصرفية إن وجدت العنوان البريدي والهواتف الشيخ إبراهيم فاضل الدبو أستاذ مساعد في كلية الشريعة كلية الشريعة. بغداد - باب المعظم، الجمهورية العراقية الشيخ إبراهيم محمد آل محمود قاضٍ بالمحكمة الشرعية الكبرى- عضو بهيئة الرقابة الشرعية لبنك البحرين الإسلامي وشركة البحرين الإسلامية للاستثمار وزارة العدل والشئون الإسلامية المنامة – دولة البحرين السيد أحمد بزيع الياسين رئيس مجلس إدارة بيت التمويل الكويتي بيت التمويل الكويتي – الكويت الشيخ بدر المتولي عبد الباسط هيئة الفتوى والرقابة الشرعية- بيت التمويل الكويتي بيت التمويل الكويتي الشيخ جاسم محمد مهلهل الياسين عضو الهيئة العامة للفتوى بوزارة الأوقاف بيان- الكويت ص. ب: 66520- الرمز البريدي: 4375 د. حسن عبد الله الأمين المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية صندوق بريد رقم 5925 جدة- جدة - المملكة العربية السعودية د. حسن علي الشاذلي أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن كلية الشريعة والقانون- جامعة الأزهر- القاهرة- جمهورية مصر العربية د. خالد عبد الله المذكور مدرس بكلية الشريعة- هيئة الفتوى والرقابة الشرعية لبيت التمويل الكويتي كلية الشريعة – جامعة الكويت د. الصديق محمد الأمين الضرير أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الخرطوم كلية القانون – رئيس هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي السوداني والمستشار الشرعي لبنك البركة السوداني وعضو هيئة الرقابة الشرعية لدار المال الإسلامي جامعة الخرطوم - كلية القانون السودان: 70268- 225379 الشيخ عبد الحميد عبد الحليم محمد السائح رئيس المجلس الوطني الفلسطيني- المستشار الشرعي للبنك الإسلامي الأردني للتنمية والاستثمار عمان - جبل الزبيدة- ص. ب: 910244- هاتف المنزل: 618813- هاتف المكتب: 679891- تلكس الأقصى: 21411. د. عبد الستار أبو غدة خبير ومقرر الموسوعة الفقهية- هيئة الفتوى والرقابة الشرعية ببيت التمويل الكويتي ص. ب. 3719 الصفاة: 13038 كويت - ت. عمل: 2468113 تلفاكس: 2468249- منزل: 5714288- تلكس: 44735 أوقاف السيد عبد العزيز أبو الخير مدير مصرف فيصل الإسلامي - بالبحرين المنامة ص. ب 20493- ت: 275040- تلكس: 9270/ 9411مكاتب سمو الأمير محمد الفيصل الخاصة. السيد عبد الله أحمد عبد الرحيم مدير عام شركة البحرين الإسلامية للاستثمار صندوق بريد رقم 5571 البحرين - هاتف رقم 271296 د. عبد الله محمد عبد الله مستشار بمحكمة الاستئناف العليا- الكويت وزارة العدل – محكمة الاستئناف العليا – دولة الكويت السيد عبد اللطيف عبد الرحيم جناحي العضو المنتدب لبنك البحرين د. عبد المنعم أحمد النمر وزير أوقاف سابق- وعضو مجمع البحوث مجلس الشورى 40 شارع صالح حقي الحي الثاني مصر الجديدة منزل: 2453197- 2441468 د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان أستاذ الفقه المقارن بقسم الدراسات العليا الشرعية- كلية الشريعة- جامعة أم القرى- المملكة العربية السعودية صندوق بريد رقم 496 مكة المكرمة تليفون رقم 5561169- 5584300 د. أحمد السالوس كلية الشريعة – جامعة قطر صندوق بريد رقم 2713 الدوحة - قطر د. عجيل جاسم النشمي أستاذ مساعد بكلية الشريعة- جامعة الكويت جامعة الكويت- كلية الشريعة د. عمر سليمان الأشقر أستاذ في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية- جامعة الكويت الكويت - حولي. ص. ب: 6609- الرمز البريدي: 32041- هاتف رقم 2640800 السيد فيصل عبد العزيز الزامل مساعد المدير العام لشؤون التخطيط والمتابعة ورئيس تحرير مجلة النور بيت التمويل الكويتي السيد قاسم محمد قاسم مدير عام مصرف قطر الإسلامي صندوق بريد رقم 559 الدوحة - قطر د. محمد الحبيب بن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي- جدة المملكة العربية السعودية صندوق بريد 13719 جدة- الرمز البريدي: 21414 مكتب: 6674488 جدة الشيخ محمد عبد الحكيم زهير مراقب شرعي بنك دبي الإسلامي ورئيس بحوث الاقتصاد الإسلامي دبي- صندوق بريد رقم 1080 دبرة- تليفون رقم 214888 دبي- دبرة د. محمد فوزي فيض الله أستاذ بكلية الشريعة بجامعة الكويت- عضو الهيئة العامة للفتوى بالأوقاف كلية الشريعة- جامعة الكويت الشيخ محمد المختار السلامي مفتي الجمهورية التونسية الوزارة الأولى- ساحة القصبة تونس- أو 23 بهج محمود الماطري تونس المكتب: 263939- هاتف المنزل: 286135 د. يوسف محمود قاسم أستاذ ورئيس قسم الشريعة الإسلامية كلية الحقوق- جامعة القاهرة الجيزة- جمهورية مصر العربية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2189 مطبوعات بيت التمويل الكويتي أولاً- سلسلة (الفتاوي) : 1- الفتاوي الشرعية في المسائل الاقتصادية جزء1. 2- الفتاوي الشرعية في المسائل الاقتصادية جزء 2. ثانيًا- سلسلة (في ميدان الشريعة) : 1- بيع المرابحة. 2- بيع الأجل. 3- الفوائد الربوية. ثالثاً- سلسلة المؤتمرات والندوات: 1- أعمال مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني. رابعًا- مطبوعات أخرى: 1- النظام الأساسي. 2- العقود. 3- شروط الحسابات. قيد الطبع - أعمال الندوة الفقهية الأولى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2190 مناقشة البحوث التأجير المنتهي بالتمليك الرئيس: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الموضوع الذي لدينا في هذه الجلسة الصباحية – المباركة بمشيئة الله تعالى- هو (الإيجار المنتهي بالتمليك) ، وقد جرى فيه عدد من البحوث وزرعت على أصحاب الفضيلة أعضاء وخبراء وباحثي هذا المجمع، والعارض هو فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه، والمقرر وهو الشيخ عبد الله محمد. فالشيخ عبد الله بن بيه: تفضل. الشيخ عبد الله بن بيه: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. سيدي الرئيس: إن هذا الموضوع، وهو موضوع الإيجار المنتهي بالتمليك، قدمت فيه ثلاثة بحوث، بعضها قديم وبعدها حديث، وقد كتب فيه سعادة الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي، وسعادة الدكتور عبد الله محمد عبد الله، وعبد الله العارض، وليس فيما كتبوا كبير تناقض أو تعارض، بل أفكارهم يكمل بعضها بعضًا، وتتماثل بعض الصور، وتختلف بسبب فهم خاص وتقدير في الموضوع يراه أحد الباحثين بينما لا يرى الآخر الإلحاح عليه، وبعد اجتماع بأصحاب البحوث، رأينا أن يقدم العارض بحثه وأن يكمل الباحثان بما تيسر لهما هذا البحث الذي أقدمه لأنه من المجدي أن يستمع مجلسكم الموقر إلى الآراء الفقهية التي وردت في هذه البحوث، وهذا البحث سيكون خلاصة قصيرة، أدخل عليه من التغيير والتحويل ما جعله موافقًا، أو قريبًا من الموافقة لبحوث الإخوان بعد مراجعة معهم وبعد تراجع وتفاوض مع أخي العلامة محمد سالم، فقد أحدثت تغييرًا في الفقرات الأخيرة، فيه نوع من التسهيل ونوع من التخفيف، بعد تشديد في بادئ الأمر والرجوع إلى الحق أولى من التمادي على الباطل. الحمد لله الذي يخلق ما يشاء ويختار، يتصرف في خلقه بغالبات الأقدار، بدون وزير ولا معين ولا مستشار، ألزم بشريعته تنفيذًا لحكمته في الابتلاء والاختبار، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي المختار وعلى آله وصحبه الأخيار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2191 وبعد: فهذا بحث يتعلق بإيجار البيع وبيع الإيجار، مسألة عمت بها البلوى في سائر الأقطار، فراجعة هذه المسألة على اشتغال وركوب أسفار، إلا أني سلكت في البحث عنها الأنجاد والأغوار، قصد إخارجها عن قاعدة الغرر والخطار، ونفي الضرر والضرار، عن طريق إجارة مع بيع بخيار، أو بيع لاحق ببيع أو هبة بعد تمام عقد الإيجار، على صعوبة في الإيراد ووعورة في الإصدار، آثرت في بحث هذا الاختصار ومحاولة القرب من أقوال ذوي الاستبصار، معترفًا بالقصور عن شأو الاجتهاد والاختيار. سائلًا الله جل وعلا وهو الكريم الغفار أن يوفقنا فيما أردنا ويسلمنا من العثار وهو حسبنا ونعم الوكيل. وهذا البحث وهذا الموضوع: كما يتبين من العنوان هو موضوع جديد، وعقد حديث نشأ وترعرع في ظل القانون الوضعي، ومن المعلوم أن سنة التطور في هذا الزمان قد جرت بأن أقطارنا الإسلامية أصبحت تستورد السلع المصنوعة من العالم الآخر، وقد تستورد معها التكنولوجيا لتصنع هذه السلع محليًّا وهو أمر مرغوب فيه، إلا أنها قد تستورد مع هذه السلع أحيانًا كثيرة الأنظمة وطرق التعامل والتبادل ووسائل التقاضي والتراضي، حيث تكون إرادة الطرفين قانونًا للعقد، ورضاؤهما أساسًا للحكم الذي تصدر عنه القوانين، والذي يرجع إليه القضاة دون النظر إلى أصول خلقية، وقواعد ضابطة لا يمكن الخروج عنها، فحادوا بذلك عن الصراط المستقيم، واختلت لديهم موازين العدل التي لا تقوم إلا على الأنظمة الإلهية، التي لا يطمع في الاستلهام بمنهجها والاقتباس من نورها إلا من سلك سبيل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأخذ من الكتاب والسنة بقسط وافر، وأقام ميزانا على هديهما عن طريق القياس الصحيح، طبقًا لأصوله ومقاييسه التي وضعها وتواضع عليها سلف هذه الأمة، وهناك شرط آخر يغفله الكثيرون، ألا وهو أن يكون القائس عاملًا بما علم متبعًا للسنة النبوية، ولا يقوم على هذا الميزان من حاد عن السبل وجارت به الطرق وارتضى دينًا غير دين الإسلام، وقانونًا يخالف شريعة سيد الأنام، فعميت عليه الأنباء، ولعبت بعقله الأهواء، لهذا فإن مسألتنا من هذه المسائل الموجودة في غير بيئة هذا الميزان، وليس معنى هذا أن نرفضها سلفا ونصدف عن جوهرها ونتخذه صدفًا، قبل أن نعرضه على ميزان الصدق الذي أشرنا إًليه آنفًا، وعليه فسنفصل البحث فيها أولًا إلى مقدمة في تعريف العقد تعريفًا يشمل الجنس والفصل والخاصةـ وتكييفه من الناحية القانونية معتمدين في هذا على نقل أهل هذا الفن تاركين لهم الكلمة في تعريفه وتكييفه وتصنيفه، ثم نصنف بحثنا في مسائل تنبني على الفروض المختلفة تبين وجهة النظر الفقية باختصار غير متوسعين في عرض القضية، ثم نختم بخاتمة نقترح فيها ما يمكن أن يكون بديلًا أو أن يكون صيغة مقبولة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2192 (الإيجار الذي ينتهي بالتمليك) : أحد الأسماء الذي أطلقه المترجمون والقانونيون العرب على العقد المعروف في القانون الفرنسي Vente Location ومعناها الحرفي كما هو واضح إيجار بيعي لأنه اسم مركب من كلمتين، وقد تطور هذا العقد وتعددت الأسماء طبقًا لهذا التطور، فقد كان أولًا يعرف باسم البيع بالتقسيط مع الاحتفاظ بالملكية حتى استيفاء الثمن ثم تطور إلى إيجار ساتر للبيع، ثم تطور إلى ما سموه بالإيجار المقترن بوعد بالبيع، وهذه الأسماء التي كان موضوعها في الأصل متحدًا، إلا أن الأسماء ليست اعتباطية، وليست من باب المترادفات التي لا تخدم أي غرض، بل تعدد الأسماء كما يشير إليه القانوني السنهوري، في شرحه للقانون المدني، ناشئ عن تدرج نظرة المشرع لهذا العقد، في محاولة لترجمة هدف المشرع – يعني في اصطلاح أهل القانون – أما المشرع والشارع في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم يطلق عليه الشارع، لأنه يبلِّغ عن الله جل وعلا – لترجمة الهدف الذي يرمي إليه، والمصلحة التي يحرص على حمايتها، وهي مصلحة البائع، كما هو واضح، فهو يرمي إلى الاستيثاق من أن المشتري سيفي بالثمن كاملًا في الوقت المحدد، وفي مقابل ذلك يشترط البائع أن تبقى ملكيته قائمة بشكل ما حتى وفاء المشتري بالتزامه، بحيث يكون له الحق أولًا في منع المشتري من تفويت الذات موضوع العقد، ثانيًا أن يكون له الحق في استرجاع الذات عند عدم الوفاء في الوقت المحدد. الرئيس: يا شيخ عبد الله، أحب أن تعرف – تفضل – أن الوقت عشرون دقيقة، وأننا نريد الموضوع ذاته، أما المقدمات هذه معلومة لدينا لأن بحثكم بين يدي الإخوان، نريد فقط ذات الموضوع. الشيخ عبد الله بن بيه: البحث يبدو ليس موزعًا بالقدر الذي فيه الكفاية. الرئيس: لا، موزع. أبدًا، موزع على الإخوان، بل وزع عليهم مرتين بعض الإخوان. الشيخ عبد الله بن بيه: حور تحويرًا كبيرًا. المهم أعفيك من المقدمة. هذه المقدمة الصغيرة لا بد منها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2193 وثالثًا: أن يكون له الحق في الحصول على مقابل انتفاع المشتري بالذات في حالة عدم البيع ونقتطف المقتطفات التالية نصها من السنهوري، هذه المقتصفات أعفيك منها. هذه المسائل الفقهية: المسألة الأولى: بيع بالتقسيط لا تنتقل فيه الملكية إلا بعد الوفاء بالأقساط، هذه المسألة مسألة مختلف فيها لوجود شرط غير ملائم للعقد، لأن الأصل في البيع أن يكون باتًّا، فتعليق البيع على هذا الشرط لا يوافق عليه أكثر العلماء، لأنه منافٍ لتمام الملكية التي ينبني عليها البيع، وفيه جهالة بالمال وهو يتخرج على الخلاف في الشروط، فتكون فيه ثلاثة أقوال: قول ببطلان البيع والشرط، وقول بصحة البيع وبطلان الشرط، وقول بصحة البيع وصحة الشرط، وهذه الأقوال كما هو معروف مبنية على اختلاف مواقف العلماء من أحاديث الشروط المعروفة: حديث جابر، حديث بريرة، حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه مرة أخرى، حديث أبي هريرة: ((من باع بيعتين … )) ، الحديث الذي أخرجه الخمسة وفيه: ((لايحل سلف وبيع … )) ، الحديث الذي رواه أبو حنيفة في مسنده ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط)) ، ورواه الطبراني مع زيادة: ((البيع باطل والشرط باطل)) . ولاختلاف العلماء في كيفية الأخذ بهذه الأحاديث نشأ الخلاف في مسألة الشروط، فمنهم من أخذ ببعضها، ومنهم من حاول الجمع بينها، فذهب أبو حنيفة والشافعي إلى بطلان البيع والشرط، وأجاز ابن شبرمة البيع والشرط جميعًا، وأجاز ابن أبي ليلي البيع والشرط، وأجاز أحمد الشرط الواعد، هذه مذاهب باختصار شديد، أما مالك ففصل تفصيلًا وحاول الجمع بين الأخبار، ذكر ذلك ابن رشد في البيان والتحصيل، وذكر بعضه حفيده في بداية المجتهد، مؤداه أن الشرط الذي لا يناقض المقصود من العقد لا يبطله، إلا أنه مرة يكون مكروهًا ومرة يكون جائزًا، والشرط الذي يناقض المقصود تارة يلغيه دون العقد، وتارة يلغي العقد والشرط، وذلك بحسب مناقضة الشرط للعقد، فمرة يناقض أصل العقد مناقضة تامة، وتارة يناقض حكمًا من أحكام العقد أو شرطًا من شروطه لا يدخل في ماهيته، فلا يكون مبطلصا للعقد، وتفاصيل ذلك معروفة سترى بعضها في كلامنا على هذه المسألة وهي المعروفة عند المالكية بمسألة البيع على أنه إن لم يأتِ بالثمن لكذا فلا بيع، والمشهور في مذهب مالك إلغاء الشرط وصحة العقد، قال خليل في مختصره في سرد النظائر يصح فيه العقد ويبطل الشرط (كمشترط زكاة ما لم يطب وأن لا عهدة ولا مواضعة أو لا جائحة أو إن لم يأتِ بالثمن لكذا فلا بيع) ففي هذه المسائل يصح العقد ويبطل الشرط، إلا أن مسألتنا هي المسألة الأخيرة، وإن لم يأتِ بالثمن لكذا فلا بيع، فيها ثلاثة أقوال عن مالك، متخرجة على قاعدة الشروط السالفة الذكر، التي نقلها خليل في توضيحه عن ابن لبابة قائلًا: ذكر ابن لبابة عن مالك في هذه المسألة ثلاثة أقوال، إلى آخر الأقوال، وذكر الحطاب في التزاماته في هذه المسألة سبعة أقوال حصلها من كلام المدونة وشروحها … إلا أن خليلًا في باب النكاح مشى على شطر آخر من قاعدة الشروط فحكم بفسخ العقد قبل الدخول، فقال في سرد النظائر، التي يكون الشرط فيها موجبًا لفسخ النكاح قبل الدخول: (وقبل الدخول وجوبًا على ألا تأتية إلا نهارًا وبخيار لأحدهما أو غيره وعلى أن لم يأتِ بالصداق لكذا فلا نكاح، وجاء به، وما فسد لصداقة أو على شرط يناقض، كأن لا يقسم لها أو يؤثر عليها أو ألغي) ذكر نص خليل على طوله، لأنه يشير إلى نوعين من الشروط: شروط لا تلائم العقد لأن الحكم يوجب خلافها، وهي المشار إليها في الفقرات الأولى، وشروط تناقض العقد وهي المشار إليها في الفقرة الأخيرة، ليتضح الأمر لا بد من الإشارة إلى القاعدة التي أصلوها، والتي تفرق بين الشرط الذي يوجب الحكم خلافه، إلا أنه لا ينقاض العقد، مشيرة إلى الخلاف في هذا النوع من الشروط، بخلاف ما يناقض العقد، بأن يهدم ركنًا من ماهيته، فإنه إما أن يبطل العقد أو يلغى دونه، وإلى هذه القاعدة أشار الزقاق في المنهج بقوله: هل الشرط ما لا يقتضي الفسادا إن خالف الحكم اعتبارًا فادا إلى آخر كلام الزقاق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2194 إلا أن مسألتنا هذه لا تقتصر على كونها بيعًا لا يتم نقل الملكية فيه إلا باستيفاء الثمن ليكون داخلًا في الخلاف المشار إليه، فهي – زيادة على ذلك – بيع يتضمن غررًا ويخالف سنة العقد غي كل وجه، لأن المشتري إذا دفع الأقساط ولم يأت بآخر قسط منها ضاع عليه ما أدى وضاعت عليه السلعة محل البيع، ومعلوم أن البيع الفاسد يفوت فيه المشتري بالغلة في مقابل الضمان، فلو وثق العقد كان على البائع أن يرد الأقساط التي حصل عليها في مقابل الاستغلال، لأن الغلة في مقابل الضمان، كما ورد في الحديث الصحيح الذي أصبح فيما بعد قاعدة ((الخراج بالضمان)) أخرجه أبو دواد والترمذي والنسائي والإمام أحمد. قال في المنهج: ((الخراج بالضمان)) أصل قد ورد في مستحق شفعة بيع فسد. الخرج بالضمان أصل قد ورد في مستحق شفعه بيع فسد فهذه المسألة الأولى أو الفرض الأول لا يمكن أن تصح بوجه من الوجوه، يعني لا تصح بالوضع القانوني، أما إذا حورناها إلى صيغة أخرى كما سنرى في الصيغ التي اقترحها في الخلاصة فيمكن أن تصح، إلا بمخالفة الحديث الذي رواه أبو دواد وابن ماجه والدارقطني ورواه مالك عن الزهري وهو ((أيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل أفلس ولم يكن قد قبض من ثمنها شيئًا فهي له وإن كان قد قبض من ثمنها شيئًا فهو أسوة الغرماء)) . المسألة الثانية: وهي عقد إيجار ساتر للبيع وهذه الصورة كما يبدو إنما هي بيع مع إيجار – سمي إيجارًا – لئلا تترتب عليه أثار البيع، فمن جهته البائع يحتفظ بملكيته ومن جهة المشتري فهو لا يستطيع التصرف، فكأنه إيجار بهذا المعنى لتلبية مطلب البائع، إلا أنه بيع من حيث أن الأقساط إذا وفَّى بها نشأ عن الوفاء بها نقل الملكية بأثر رجعي، وهو من آثار البيع وليس من لآثار الإجارة نقل ملكية الذات فهذا العقد بهذه الخصائص هو عقد غرر ومجازفة، لأن المشتري قد يعسر في آخر قسط وقد دفع أقساطًا لا تناسب الإجارة، لأنها تتجاوز قيمة المنافع، وهي في الأصل قيمة للرقبة، فقد خسر الثمن والثمون اللذين ربحهما البائع، ويكون بذلك البائع قد حصل على العوض والمعوض خلافًا للقاعدة الشرعية المشهورة التي ذكرها المقري وغيره، فقال أبو عبد الله المقري: (قاعدة الأصل ألا يجتمع العوضان لشخص واحد، لأنه بمعنى البعث وأمل أموال الناس بالباطل) ، قالوا في المنهج في سرد النظائر من القواعد التي تعتبر أصولًا. والإذن لا العَدا وألا يجمعا لشخص بين العوضين فاسمعا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2195 وليس كل عقد يتردد، ومن المسائل التي أجازوا فيها الغرر، أعفيكم أيضًا من هذا. المسألة الثالثة: وهي الإجارة مع وعد بالتمليك بهبة أو بيع، وهي مسألة يجب أن ينظر إليها من عدة وجوه، أولها: هل هذه الإجارة إجارة جادة؟ بمعنى أن الأقساط المدفوعة تناسب قدر الإيجار فتكون إجارة حقيقية مصحوبة بوعد، ثانيًا: هل الوعد حصل في صلب العقد بحيث يؤثر على الثمن أو كان تطوعًا بعد العقد؟ وهل كان وعدًا بالهبة أو وعدًا بالبيع؟ كل هذه الأوجه تترتب عليها أحكام تخص كلًّا منها فنلبدأ بأقرب هذه الأوجه للصحة والقبول، وهو أن يكون الطرفان قد عقدا بيعهما إجارة – أرجوكم أن تصحِّحوا، فيه بعض الخطأ – وبعد العقد وعد البائع المشتري بأن يهبه تلك العين، إذ هو وفَّى بأقساط الإيجار في وقته المحدد يرغبه في الوفاء، فهذه الصورة تعتبر وعدًا بهبة، وهو وعد ملزم على أصل مالك في الوعد المعلق على سبب على ما استظهره بعض الشيوخ من الخلاف في مسألة الإلزام بالوعد، فمعلوم أن مذهب مالك فيه أربعة أقوال فيما يتعلق بالإلزام بالوعد، القول الأول: أن الوعد لا يلزم به شيء وأن الوفاء به إنما هو من مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال وهذا موافق للمذاهب الأخرى، (راجع المغني لابن قدامة) ، والقول الثاني: عن مالك هو لزوم الوعد مطلقًا، وهو كما رأيت مخالف للمذاهب الأخرى، وقول بالتفصيل: عن مالك بالوعد الواقع على سبب فيلزم، وقول رابع: وهو المشهور أنه إذا أدخل الموعود في ورطة فإنه يلزم، وقد أجمل صاحب المنهج هذه الأقوال الأربعة بقوله: هل يلزم الوفاء بالوعد نعم أولًا نعم لسب وإن لزم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2196 فالمسألة هنا تدخل في قاعدة أن من التزم شيئًا بسبب عمل يجب على الملتزم له الإتيان به يلزمه إذا كان الملتزم بكسر الزاي يعلم بوجوب ذلك العمل على الملتزم له بدون مقابل، وأسوأ على ذلك كما قال الخطاب في التزاماته. النقل الذي أمامكم يمكن أن تراجعوه. أفترض أنكم قرأتم كلام الحطاب في مسألة الزوجة التي تلتزم لزوجها إذا أذن لها بالحج. تنبيه: فعلى ما قاله ابن رشد إذا كان الملتزم يعلم أن ذلك الفعل يجب على المتلزم له ثم علَّق الالتزام عليه فإنه يلزمه، ويحمل على أنه أراد ترغيبه في الإتيان بذلك الفعل، كقوله إن صليت الظهر اليوم فلك عندي كذا وكذا. والله أعلم. وذكر كثيرًا من المسائل من هذا النوع. أما الوعد بالهبة في صلب العقد إذا كان من شأنه أن يؤثر على الثمن فهذا لا يجوز وهو من باب الجعل، والجعل لا يجوز جمعه مع الإجارة، فكأنه قال له: أن فعلت كذا فلك كذا، قال خليل في الإجارة: (وفسدت أن انتفى عرف تعجيل معين كمع جعل) قال الزرقاني لتنافي الأحكام فيهما، فهذا الوعد بالهبة كما ترى فهو من جهة جعل لا يجوز جمعه مع الإجارة، ومن جهة أخرى قد يؤثر في الثمن، أي في قدر الإيجار فلا يدري ما أعطى مقابل الوعد بالهبة، وهي هبة ثواب، وما أعطى مقابل الإيجار حقيقة. والوعد بالهبة في صلب العقد بالإجارة أو بالمساقاة أو غيرها، لا يوجد فيه نص صريح مع ما عرف عن مالك وابن القاسم وسحنون من وجوب الوفاء بالوعد إذا أدخل الموعود في ورطة، إلا أنهم إنما افترضوا هذه المسألة في عقود أخرى كالخلع، قال خليل (أو الوعد إن ورطها) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2197 أما في عقد البيع مثلًا فظاهر كلام مالك يدل على المنع إذا كان الأمر معلقًا على شيء لا يدري هل يقع أولًا. قال الحطاب في التزاماته: (قال في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من جامع البيوع: سمعت مالكًا يقول: لا أحب البيع على أنه إذا وجد شيئًا قضاه وإن هلك ولا شيء عنده فلا شي عليه) . قال ابن القاسم: فإن وقع هذا الشرط وفات لزم المشتري قيمتها يوم قبضها. قال محمد بن رشد: هذا الشرط من الشروط التي يفسد بها البيع لأنه غرر، فالحكم فيه الفسخ مع قيام السلعة شاءً أو أبياًًّ ويصح في فواتها بالقيمة بالغة ما بلغت، وهو ظاهر قول ابن القاسم وتفسيره لقول مالك، وقد يقول كثيرًا فيما يجب فيه الفسخ لا أحب هذا، أو أكرهه أو شبهه من الألفاظ فيكتفي بذلك من قوله، ونقله في النوادر وزاد فيه، قال ابن القاسم: هذا حرام ويرد فإن فات فعليه قيمتها يوم قبضها. أما الوعد بالبيع فهو مؤثر على الثمن ومخل به، وسبب للجهالة، وأكثر التزامات نصوص المذهب وشروحه إنما هي في إيجاب الوعد في مسائل التبرعات كالهبة لأنها تملك بالقول عند مالك، وهذا من أسرار مذهب مالك في مسألة الوعد، وكذلك الصدقة والعتق والطلاق، أما البيع فإنه لا ينعقد إلا بالصيغ المشار إليها بقول خليل، ينعقد البيع بما يدل على الرضا إلى آخره، فالتزامه بالواعد إلزام بالبيع والنظر في العقود غالبًا إلى المال كما أشار إليه الزرقاني في مسائل الثنيا، وعليه فهذه الصيغة تعتبر تلفيقية في غاية الضعف. أما الوعد بالبيع بعد عقد الإجارة فيخرج على المسألة المشهورة عند المالكية وهي إذا قال البائع للمشتري بعد عقد البيع: إذا أنا أتيتك بالثمن رددت إلي المبيع، فقبل المشتري بذلك، فإن ذلك يلزمه، قال الحطاب في التزاماته مسألة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2198 قال في معين الحكام: ويجوز للمشتري أن يتطوع للبائع بعد العقد بأنه إن جاء بالثمن إلى أجل كذا فالمبيع له ويلزمه المشتري متى جاءه بالثمن في خلال الأجل، أو عند انقضائه أو بعده على القرب منه، ولا يكون للمشتري تفويت في خلال الأجل، فإن فعل ببيع أو هبة أو شبه ذلك نقض إن أراده البائع ورد إليه وإن لم يأتِ بالثمن الأعلى إلا بعد انقضاء الأجل فلا سبيل له إليه، وإن لم يضربا لذلك أجلًا فللبائع أخذه متى جاءه بالثمن في قرب الزمان أو بعده ما لم يفوته المبتاع فإن فوته فلا سبيل إليه، فإن قام عليه حين أراد التفويت فله منعه بالسلطان إذا كان ما له حاضرًا، فإن باعه يعد منع السلطان له رد البيع وإن باعه قبل أن يمنعه السلطان نفذ بيعه. وتتخرج أيضًا قاعدة الشروط اللاحقة لا يبطل بها العقد، كما نقلنا عن ابن زرب من المالكية وابن بشر وتلميذه ابن عتاب. خلاصة القول: (وهنا انتبهوا لأن الذي أقرأه ليس مكتوبًا عندكم) إن هذا العقد المسمى بالإيجار الذي ينتهي بالتمليك في شكله القانوني والعرفي الحالي لا يشبه العقود الجائزة ولا يمكن أن يكون جائزًا على بعض أقوال العلماء إلا إذا أخذ إحدى الصيغ الخمس التالية: أولًا: أن يكون إيجارًا حقيقيًّا ومعه بيع خيار عند من يجيز الخيار المؤجل إلى أجل طويل كالإمام أحمد ومحمد بن الحسن وأبي يوسف وابن المنذر وابن أبي ليلي وإسحاق وأبي ثور، يشترط أن تكون المدة محدودة، واجتماع البيع مع الإجارة جائز في عقد واحد بشرط أن يكون لكل منهما موضوع خاص به في رأي كثير من العلماء كالشافعية والحنابلة والمالكية، قال خليل عاطفًا عطف مغايرة (كمع جعل لا بيع) ، قال الزرقاني، بعقد واحد، فلا يفسد كاشترائه ثوبًا بدارهم معلومة على أن يخيطه البائع. وإننا فرقنا بين هذا وبين الوعد المؤثر في الثمن للجهالة لأنه هنا إجارة حقيقية وبيع بالخيار بشرط أن يعقدا على ثمن خاص للبيع يشبه مثله، كما يمكن أن يبت البيع من غير تعليق، - وهذه صورة زائدة – بحيث لا يقع القبض إلا بعد زمن لا تتغير فيه السلعة كما يمكن أن يكون البيع باتًّا مع تأخير القبض في أمد لا يتجاوز سنتين على قول ابن حبيب في الدار المبيعة مع استثناء السكنى، ذكر ذلك شروح عند قول خليل في باب الإجارة وبيع دار لتقبض بعد عام أو أرض لعشر – أي بعد عشر سنوات – يجوز البيع فيما لا يتغير بشرط ألا يقبض إلا متأخرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2199 المسألة الثانية: وعد ببيع لاحق بعد الإيجار، وقد علمت تخريجه على مسألة الإقالة السابقة وهذه الصيغة ضعيفة لا تجد سندًا إلا في أصل وجوب الوفاء بالوعد، وهو في البيوع غير مفرع عليه في المذهب كما أسلفنا، إلا أنها لما كانت بعد العقد كانت أخف من شرط البيع الواقع في العقد، فأمكن تخريجه على الوعد الواقع على سبب وقد تقدم ما فيه. ثالثًا: وهو أن يبيعه بشرط ألا يمضي البيع إلا بدفع الثمن، وهذه ليست من باب البيع، على إن لم يأتِ بثمن النكاية فلا بيع، هذا بيع انعقد إلا أنه لا يمضي. وهناك فرق بين الانعقاد والمضي نبه عليه البناني، ألا يمضي البيع إلا بدفع الثمن فيكون المبيع معلقًا على دفع آخر الثمن. وحسب ما يفيده الزرقاني عن أبي الحسن على المدونة هذه الصيغة جائزة معمول بها وسلمه البناني ومع كلمة (ألا يمضي) بدلًا من (ألا ينعقد) ، فتكون الذات كالمحبوسة للثمن أو للإشهاد، كما أشار إليه خليل بقوله (وضمن بالقبض إلا المحوبسة للثمن أو للإشهاد كالرهن. فالبيع منعقد غير نافذ – أرجو أن تضربوا على كل ما تضمنته هذه المسألة الثالثة وأن تضعوا مكانه ما أقوله الآن فالبيع منعقد غير نافذ – فإذا دفع بعض الثمن وأراد البائع استرجاع السلعة رد ما أخذه. صورة رابعة: وهي أن يبيعه بيعًا باتًّا على أن لا يتصرف في المبيع حتى يفي بالثمن فيلزمه الوفاء بذلك، وتصير كالمرهونة فلا يتصرف فيها إلا إذا وفي بالثمن وهي مستثناة من قول خليل: (وكبيع وشرط يناقض المقصود كأن لا بيع ".) قال الدردير: كأن يشترط البائع على المشتري أن لا يبيع أولا يهب أو لا يتخذها أم ولد) . وفي سماع علي بن زياد، سئل مالك – رضي الله عنه – عمن باع عبدًا أو غيره وشرطه على المبتاع أن لا يبيعه، ولا يهبه، ولا يعتقه، حتى يعطيه ثمنه قال: لا بأس بهذا، لأنه بمنزلة الرهن إذا كان إعطاء الثمن لأجل مسمى. هذه صيغة أخرى جديدة – الصيغة الخامسة والأخيرة. وعد بهبة لاحق بعقد الإيجار جار على سبب، وهذا أجدر هذه الأوجه بالجواز وأولاها بالصواب، وهذا ما نراه في هذه المسألة. والله أعلم. كلمة أخيرة: السمة المشتركة بين هذه البحوث هي أنها لا تجيز هذا العقد في بنيته، ومع نيته، لا بد من تغيير البنية وتغيير النية، حتى يجوز هذا العقد. إذا كان في بنيته يرد الأقساط، فلا شيء للمشتري، يكون المشتري دائمًا هو الطرف الأضعف، والبائع هو الطرف الأقوى، الذي يأخذ كل شيء ثمنه مذهبًا. وشكرًا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2200 الدكتور حسن علي الشاذلي: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. هذا الموضوع الذي أحاط به الأخ الشيخ عبد الله إحاطة طيبة، وددت أن أضع التصور بشيء من التفصيل الموجز في النقاط التالية: أولًا: من ناحية الصور التي احتوى عليها القانون، ثم بعد ذلك أفضل الحديث عنها في الفقه الإسلامي ما أمكن وما لم يمكن منها. أما النقطة الأولى، فباستقصاء الصور وجدناها صورًا متعددة، أول صورة منها هي أن يعقد عقد إيجار على أنه في نهاية المدة وبعد سداد الأقساط المحددة تكون السلعة ملكًا لهذا الشخص، هذه صورة. الصورة الثانية: أن يعقد عقد إجارة على أنه بعد نهاية المدة وسداد هذه الأقساط يكون هناك ثمن للسلعة إما رمزي وإما حقيقي. وبذلك تكون ثلاث صور. ثم بعد ذلك صور أخرى، أن يعده – في الصورة المتقدمة – ببيع السلعة بعد انتهاء عقد الإيجار أن يبيعه هذه السلعة، فإذا وعده بالبيع، هذا الوعد إما أن يكون أيضًا البيع له ثمن رمزي أو ثمن حقيقي، وعد من جهة واحدة أو وعد من طرفين. ثم بعد ذلك آخر الصور، هي صورة يعقد فيها عقد إجارة ثم بعد نهاية المدة – وعادة ما تكون طويلة – يخيره بين ثلاثة أمور، الأمر الأول: هو أن يمد مدة الإجارة والخيار هنا للشخص المستأجر، وإما أن يأخذ السلعة بيعًا وهنا لازم يكون الثمن بثمن السوق في هذا الوقت أو ثمن مقدر فيه ما مضى على السلعة من زمن وما انتفع به فيها في خلال هذه المدة، أو بأن يردَّ السلعة إلى صاحبها. هذه هي الصور التي وجدت في القانون، حينما عرضناها على الفقه الإسلامي تبين ما يأتي: أولًا: إن الفقه الإسلامي يرفض أن يتم التعاقد على سلعة غير مملوكة للشخص الذي يبيع أو يؤجر. وهذا أمر منتهى منه عرضناه في البحث، ثم بعد ذلك. ثانيًا: لا بد من أن تكون هذه السلعة مقبوضة تحت يده حتى يمكن أن يتصرف فيها، وهذا ما رجحته في البحث. ثالثًا: عرضت قضية اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة، وهذا الموضوع شائك ودقيق بالنسبة لأن جمهور الفقهاء يجعلون أن اشتراط عقد في عقد هو المنهي عنه بحكم النهي عن بيعتين في بيعة. وإن كان الفقهاء قد أجازوا، اجتماع – بعض الفقهاء – أجاز اجتماع عقد مع عقد صفقة واحدة. وبعضهم أجاز اشتراط عقد في عقد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2201 رابعًا: عرضت أيضًا لاجتماع كثير من الشروط في هذا العقد بالذات ضمانًا لحق المؤسسة التي تعطي هذه العين. فهل اجتماع أكثر من شرط في هذا العقد لا يصح بناء على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ينهى عن بيع وسلف وعن شرطين في عقد. رجحت ما ذهب إليه الحنابلة من أن المقصود بالشرطين هنا الشرطان الفاسدان. ثم بعد ذلك بدأت أعرض الصور، الصورة الأولى في القانون وهي إيجار ينتهي بالتمليك بمجرد الانتهاء من سداد هذه الأقساط. هذه الصورة- كما هو واضح لنا- تكتنفها عدة أمور. أولًا: هي إجارة لفظًا، ولفظ صريح وفي نهايتها بيع، والبيع الذي في نهايتها بمجرد الانتهاء من الأقساط. فماذا نصنع؟ بهذه الكيفية لا تصير هذه الصورة ولكن يمكن أن تحور ضمانًا لحق المؤسسة وأيضًا لنمكن الشخص المنتفع من أن ينتفع بهذه السلعة. وبناء على ذلك عرضت حلولًا. أما الحل الأول هو ما أشار إليه الأخ الزميل الأستاذ عبد الله، وهو أن يبيعه هذه السلعة على ألا يتصرف فيها لا ببيع ولا بشراء ولا تبرع، ولا، ولا، من كل التصرفات إلا بعد نهاية الثمن. وحينئذٍ لا تكون الصيغة هنا لا تكون الصيغة هنا لا تكون صورة عقد إجارة وإنما عقد بيع، وهذا البيع تحفظنا فيه أو حبسنا فيه السلعة عن الخروج من تحت يد المستأجر وجعلناها لازالت في يد المالك، وبالتالي في نهاية المدة إذا تم سداد الأقساط جميعها ينطلق حق الملكية ليضاف إلى حق المنفعة الذي هو موجود عند المستأجرت وبذلك يتم هذا العقد، وهناك حل ثانٍ: وهو إذا ما جعلنا البيع الذي في النهاية جعلناه هبة، وإذا جلعناه هبة إما أن يكون ذلك شرطًا في العقد، إذا كان حينئذٍ شرط في العقد فيؤدي إلى أن يكون اجتماع عقد الإجارة مع عقد الهبة على أنه أدى هذه الأقساط كانت له هبة، يبقى تعليقًا، علقنا عقد الهبة على سداد هذه الأقساط، وتعليق عقود التمليكات في الفقه الإسلامي ممنوع، ولكن يوجد بالنسبة لعقد الهبة بالذات، يوجد خلاف للمالكية، رأيان في عقود التبرعات أنه يمكن تعليقها على الشرط، وإذا أمكن تعليق عقد الهبة على الشرط، حينئذٍ يصاغ العقد على أنه عقد إجارة وأنه في نهاية المدة، تكون هذه العين هبة لهذا الشخص. إذن هذا من حيث أننا نحن جعلنا عقدًا بالهبة معلقًا، نقطة أخرى ممكن أن نعده بأنه عند سداد الأقساط تكون العين هبة له، وحينئذٍ نرجع إلى رأي المالكية في القول بالإلزام في عقد الهبة ويحل لنا المشكل، وبناء على ذلك تكون هناك في الصورة الأولي ثلاثة حلول كما رأينا فيها، الصورة الثانية، وهي أن يحدد إما ثمنًا رمزيًا أو ثمنًا حقيقيًّا. الصورة نفس الأولى بس غاية ما هنالك وضع في الصيغة ثمن رمزي وفي الصورة الثانية ثمن حقيقي. أما من حيث الثمن الرمزي ممكن في الفقه الإسلامي للإنسان يعني هناك خلاف بين الفقهاء، هل يجوز أن يبيع الإنسان ملكه ولو بقليل من المال لا يتعادل مع السلعة؟ أو أنه لا بد له من معيار؟ هناك خلاف فقهي. إذا أخذنا بأن للإنسان أن يتصرف كما يشاء في سلعته، حينئذٍ يمكن أن يطبق على هذه الصورة ما طبق على الصورة الماضية، وبالتالي الصورة الثانية التي فيها ثمن حقيقي يصبح أمام عقد اجتمع فيه عقد إجارة مع عقد بيع وهذا عقد البيع محدد فيه ثمن السلعة. وهذا سوف يخضع للكلام حول اجتماع عقدين في عقد كما سبق وأن أشرت، أما الصورة التي تلي هذا، فهي أن يعده بالبيع، أن يعد أحد الطرفين الآخر – واحدا منهما –مثلًا المستأجر يعد بالشراء، والآخر يعد بالبيع إما وعدًا منفردًا وإما متلازمان. فإذا كان الوعد منفردًا وعد بالبيع فهنا أتساءل على رأي من قال من المالكية: إن هذا ينحصر في التبرعات حول الوعد الملزم، وإن كنت أبديت وجهة نظري أنه إذا جاز أن يلزم في التبرعات وهي مال يخرج لا إلى بدل فلأن نجيزه في المعارضات وهو مال يخرج إلى بدل يكون بالأول. ولعلي أستفيد من علماء المالكية في هذا الجانب. فإذا قلنا: إنه ملزم أو على القول بأنه يجري في المعاوضات والتبرعات إذا قلنا ذلك، إذن نحن لازم ما قلناه في الوعد هنا أو نقوله في الوعد هنا، ويصبح بناء على ذلك العقد يسير بهذه الكيفية. الصورة الأخيرة وهي صورة ما إذا كان عقد إجارة وفي نهايته يخير المستأجر بين ثلاثة أمور: الأمر الأول: مد مدة الإجارة، الأمر الثاني: أن يبيعه السلعة بثمن يراعى فيه ما استهلك في خلال هذه المدة من الاستعمال أو كذا، أو كذا، أو بسعر السوق. والأمر الثالث أنه هو يرد السلعة إليه، وهذه الصورة واضح منها أنه أيضًا وعد بأن أعطى هذا الشخص الخيار في أن يختار ما يشاء ولا ضير في ذلك. وهذا ما أردت أن ألخصه بإيجاز وهو موجود بين حضراتكم في المبحث المقدم، علمًا بأن ما عرضته هنا هو عبارة عن رأي والرأي يؤخذ منه أو يرد. ونرجو أن يوفقنا الله إلى ما فيه الخير. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2202 الشيخ عبد الله محمد عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم: سيادة الرئيس. تبين أن هناك بحوثًا لم توزع إلا الآن، ولهذا لم نقرأها ولم يتم تلخيصها. بقيت مسألة أخرى كنت فيما مضى في جلسة سابقة تكلمت في مذهب المالكية عن مسألة العدة مع حضور أئمة هذا المذهب من المشرق والمغرب، ولكني لم أكن في الواقع – يعنى – متجرئًا على حضراتهم في التعرض لمذهب درسناه من حيث المقارنة وفي كتب أحاديث الأحكام وآيات الأحكام، ولكن الإنسان قد ينقل ثم يفوته شيء في النقل. وتصحيحًا للوضع أريد أن أبين أن الصحيح في مذهب الإمام مالك أن العدة في التبرعات تدور بين أقوال أربعة بل خمسة، فقائل بلزوم الوعد مطلقًا، وقائل بعدم اللزوم، وقائل باللزوم إذا كان على سبب، والرأي الرابع يقول: إذا دخل في السبب، وقال ابن العربي في الأحكام عند الكلام على قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} ، أن الوعد بالتبرعات يكون لازمًا إلا لعذر، أما في المعاوضات فيدور حكمه بين ثلاثة أحكام، بين الجواز وبين الحرمة وبين الكراهة، كما في بيع الطعام قبل قبضه وبيع الصور والصرف. واطلعت في كتاب (تحرير الكلام في مصادر الالتزام) في مسائل الالتزام والفرق بين الالتزام وبين العدة، والكتاب الآن بين يدي شيخنا الجليل الشيخ الضرير، ونص في هذا الكتاب أيضًا: (إذا وعد ولي المرأة على تزويج ابنته فإنه يجبر على تزويجها إلا إذا زوجها بآخر) هذا كلامه، هذا كلام الحطاب في تحليل الكلام، وأتى لنا بصورة في مسألة البيع والشراء، لن أتعرض لها اختصارًا للوقت. ثم أدخل في الموضوع (موضوع التأجير المنتهي بالتمليك) ، الذي يبدو لأول نظرة أن هذا العقد يعتبر عقدًا جديدًا الآن، ولكن المتأمل والقارئ لكتب الفقه يجد أن هذه الصورة لها نظائر ولها أشباه في كتب الفقه، ولها حلول، فذكروا – مثلًا – إذا أجر الإنسان شيئًا لآخر ثم أراد بيعه. فهذه الصورة منصوص على حكمها، واختلف العلماء في صحة البيع في هذه الحالة، فبين قائل بالجواز وهم الحنابلة وقول الشافعية، ومن قائل بالمنع، وأما الأحناف فقالوا: إن البيع موقوف، فإن أجازه المستأجر مضى، وإن منعه رد. فهذه صورة ولكن ليست مطلوبة أو ليست مطروحة في هذا الموضوع لأن الذين يتكلمون عن التأجير المنتهي بالتمليك يقصدون شيئًا آخر، يريد إنشاء البيع بداية ولكنه يأتي بضمانات لنفسه، يريد أن يضمن حقه في المستقبل من أن يتصرف المستأجر أو المشتري بهذه العين لغيره أو يزاحمه عند إفلاسه دائنون آخرون. فيلبس البيع ثوب الإجارة، وحتى يضمن حق الطرف الآخر يعده بالبيع أو يعده بالهبة عند نهاية الأجرة، وقد يأتيان بشروط منها أنه إذا لم يوفِ بقسط انتهى البيع أو استرد المبيع. فهذه شروط لها حلول بسيطة سهلة، إنما هذا النوع من التعاقد أيضًا له في الفقه حل، أنا عرضت لهذا الموضوع في المرة السابقة أو في الجزء الأول من البحث، بأن ناقشت هذا الموضوع من ثلاث جهات: من جهة العبرة باللفظ أو المعنى، ومن جهة الشروط، ومن جهة الحيل. فمن جهة اللفظ والمعنى هناك فريقان أو اتجاهان في الفقه الإسلامي؛ اتجاه يغلب المعنى على اللفظ طبقًا للقاعدة الفقهية المعروفة (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني) ، فيعتبر العقد عقد بيع منذ البداية، وتجري أحكام عقد البيع على هذا النوع من التعاقد، فإذا كان هناك تضمن شرطًا فاسدًا، فهناك من الفقهاء من قال إن الشرط الفاسد يلغى ويصح العقد. ففي هذه الحالة نكون أمام عقد بيع ونجري أحكام عقد البيع. هذه الصورة لها حل آخر أو نظرة أخرى من جهة أخرى. هذا الحل أخذت به القوانين العربية والإسلامية، كثير من الدول أخذت بأن العبرة للفظ وأجرت على الإيجار الساتر للبيع عقد البيع، بيع بالتقسيط. وهذه سائر الأحكام منذ البداية وانتهت من مشكلة الحيلة أو التحايل أو التلاعب، من هذه القوانين قانون مصر المعمول به الآن، القانون المدني المصري والقانون التجاري الكويتي والقانون المدني الكويتي أيضًا، فهذه القوانين قضت على فكرة التأجير المنتهي بالتمليك، واعتبرت العقد منذ البداية عقد بيع. هنا مسألة فقهية في الواقع أريد أن أعرضها باختصار، اسمحوا لي يا سيادة الرئيس لو قرأت سطورًا قليلة في مسألة الاختلاف الفقهي. المعروف أن أي مسألة تعددت فيها الأراء الفقهية أصبحت مسألة خلافية، والمسألة الخلافية تنتهي إذا اتصل بها حكم الحاكم أو أمر السلطان، فهنا القوانين التي جعلت هذا النوع من التعاقد عقد بيع، هذا ينهي المشكلة ويعتبر المسألة منتهية، والرأي الراجح فيها هو الرأي الذي نصت عليه هذه القوانين، ولهذا ذكروا أن القضاء يتقيد ويتخصص بصوره خمس، بالزمان والمكان وببعض الخصومات وباستثناء بعض الأشخاص والعمل بقول مجتهد في المسائل الخلافية، وكانت مجلة الأحكام العدلية تنص على هذه الأحكام في المادة (1801) ، ويقول الشيخ علي حيدر في شرحه لهذه المادة: إن من الواجب العمل بأمر إمام المسلمين بالعمل بأحد القولين في المسائل المجتهد فيها. وتكلم ابن نجيم عند المادة – الكلام على المادة الخامسة – في قولِه: تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة، ويختصر قول البشتاوي في كتابه (جواهر الروايات ودور الدرايات في الدعاوى والبينات) قوله: وحاصل ما ذكره علماؤنا أن كل مسألة اختلف فيها الفقهاء فإنها تصير محل اجتهاد. فإذا قضى قاضٍ أو أمر سلطان بقول ارتفع الخلاف، وهذا إذا لم يخالف الكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع أو يكون قولًا لا دليل عليه، فإن خالف واحدًا منها لا ينفذ لكونه ليس في محل الاجتهاد الصحيح وهو خلاف لا اختلاف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2203 وهذا الموقف وقفه ولاة قرطبة في قضائهم فكانوا يلزمون القضاة العمل بمذهب ابن القاسم. قال الشاطبي: ومن هنا شرطوا في الحاكم بلوغ درجة الاجتهاد. وحين فقد لم يكن بد من الانضباط إلى أمر واحد كما فعل ولاة قرطبة حين شرطوا على الحاكم أن لا يحكم إلا بمذهب فلان ما وجده – يعني مذهب ابن القاسم – ثم بمذهب فلان. فانضبطت الأحكام، وبذلك ارتفعت المفاسد المتوقعة، فهذه القوانين في الواقع في كثير من حالاتها تجهز على الخلافات وعلى التلاعب في الأسواق وبين المتعاملين. أما الرأي الذي يقول: العبرة بالألفاظ. هو في اتجاه أيضًا له أنصاره في مختلف المذاهب، في المذهب الحنفي والشافعي، ويراجع في المذهب الشافعي وكذلك في المذهبين المالكي والحنبلي. فالذي يأخذ بالألفاظ وصيغ الألفاظ، العلماء الأحناف وجدوا حلًّا لهذه المعضلة، لهذه المشكلة. المشكلة حلت في زمنهم وهي أشبه بمشاكل الكساد الاقتصادي أو البوار الاقتصادي التي تحل بين حين وآخر في العالم الإسلامي ومختلف أنحاء العالم. فعندما هبط الكساد في سمرقند، وحلت بالناس كوارث اقتصادية، وأفلس كثير من التجار، لجأوا إلى بيع الوفاء وبيع الاستقلال. واختلف الرأي الفقهي عند أئمة المذهب الحنفي وذلك بالنسبة إلى تغليب اللفظ أو المعنى. فمن غلَّب المعنى اعتبر هذا البيع رهنًا منذ البداية وأجرى عليه كل أحكام الرهن، ومن نظر إلى اللفظ قال: لا، إننا نستعمل عقد بيع. فهذا البائع والمشتري يبيع أنه باع داره لهذا، وهو المدين غالبًا يبيع داره لدائنه، بدون ذكر شروط في هذا العقد، فيصبح العقد عقد بيع صحيح. ثم يلحق هذا العقد بعقد آخر، بشرط أنه متى أتى بالثمن أقاله من العقد. فهنا اشترطوا الإقالة أو الفسخ، ثم ألزموا الناس بالمواعدة، وقالوا: إن هذه المواعدة نقضي بلزومها لحاجة الناس، وبذلك قضوا على كثير من المفاسد وكثير من الأضرار التي حلت بهم. وأكتفي بهذا القدر وشكرًا. الرئيس: شكرًا. قبل أن أعطي الكلمة للشيخ علي، ما ذكر في بعض الولاة على أنه ألا يقضي إلا بقول ابن القاسم ما وجده، فأنا أذكر تعليقات لبعض المالكية ولغيرهم والشيخ الأمير رحمه الله تعالى صاحب (أضواء البيان) ذكر جملة منها في مذكرة له قدمت لهيئة كبار العلماء في عام 1393هـ. وكانت النقود المعلقة من بعض المالكية ومن غيرهم على هذه يقولون: يا ليته قال: إلا الدليل ما وجده. تفضل يا شيخ علي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2204 الشيخ محمد علي التسخيري: بسم الله الرحمن الرحيم. بكل اختصار هناك مقدمتان أطرحهما أولًا، ثم أتحدث عن موضوع بحثنا وأعطي الرأي فيه. وأسأل الله فيه الصواب. أعتقد أننا يجب أن نلحظ أولًا ما طرحه العلماء من بحوث حول قاعدة ((المؤمنون عند شروطهم إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرم حلالًا)) ، هذه القاعدة ثابتة بلا ريب يستفاد من القادة ليس الحكم التكليفي أي الالتزام التكليفي بالشرط ضمن العقد وإنما الحكم الوضعي أيضًا. وكذلك من ظهور ألفاظ دليل القاعدة يستفاد الشمول، فلا يختص بالشروط الواردة ضمن عقد، لأن النص هنا عام عند شروطهم، ويمكن أن يقول أحد بشمول الشروط للوعود الابتدائية الموثقة، لا الوعود العادية، وإنما الوعود الموثقة التي تعطى ابتداء يمكن أن يستدل للزومها بقاعدة (المؤمنون عند شروطهم) والشرط هو التزام مهما كان الشيء الآخر، ذكرت شروطًا لصحته الشرط في العقد. شروط كثيرة كالمقدورية، الغرض المعتد به، عدم المخالفة للكتاب والسنة بتحليل حرام أو تحريم حلال. وهنا بحث مفيد وشريف جدًّا ما معناه تحريم الحلال وكل اشتراط فيه تحريم لحلال. الرأي الذي انتهيت إليه هو أن تحريم الحلال يتحقق عندما يحرم جنس الحلال وبشكل دائم. عندما يحرم جنس الحلال، بحيث ينقطع أمام الطرف الآخر الإتيان بهذا الحلال دائمًا، هذا أمر يخالف مقصد الشريعة في حلِّيَّةِ هذا الموضوع ولذلك يبطل مثل هذا الشرط. أيضًا، ذكروا بالنسبة لصحة الشرط ألا ينافي مقتضى العقد، وذكروا أيضًا ألا يكون فيه جهالة. وهناك قول عند الإمامية باشتراط التنجيز وعدم التعليق، وقول آخر بعدمه، على أي حال هناك شروط ذكرت لقاعدة ((المؤمنون عند شروطهم)) حتى يمكن القبول بالشرط. هذا شيء. الشيء الآخر، كيفية الاشتراط ذكرت لها صورًا ثلاثة. يعنى، تارة يشترط الإنسان صفة في مورد العقد، وأخرى يشترط ما يسميه بعض الفقهاء بنتيجة العقد، بنتيجة الفعل، وأخرى يشترط الفعل. واضح، اشتراط الصفة واضح، اشتراط نتيجة الفعل. مثلًا في عقد إجارة وكما في موردنا نحن أؤجر له الدار شريطة أن يكون مالكًا بشكل طبيعي، يعنى يملك النتيجة في النهاية بنحو المصدر نتيجة الفعل أن يكون مالكًا عند انتهاء آخر قسط. هذا شرط النتيجة. وهناك شرط فعل شريطة أن يملكه في انتهاء آخر قسط. يقوم هو بإنشاء السبب وتحقيق التمليك. بالنسبة لشرط النتيجة يتوقف صحة هذا الشرط لدى العلماء على كون الأسباب التي تحقق هذه النتيجة أسبابًا غير منحصر بها. يعني النتيجة يمكن تحقيقها بهذه الأسباب وبأسباب عرفية أخرى كمسألة الملكية. الملكية تتحقق تارة بألفاظ العقد، وقد تتحقق بالمعاطاة بلا ألفاظ، ومن جملة ما يحققها بشكل عرفي ممضي من قبل الشارع الاشتراط ضمن عقد، وحينئذٍ تحل مشكلتنا إذا قبلنا باشتراط النتيجة، ولا يتوقف هذا المعنى على مسائل الوفاء بالوعد وأمثال ذلك. بعد اتضاح هاتين المقدمتين: أرى أن عقد الإيجار بشرط التمليك سواء كان بنحو شرط النتيجة أو شرط الفعل صحيح، فإن كان بنحو شرط النتيجة قلنا: إن العرف يقبل أن يكون سبب التملك هو هذا الاشتراط في هذا العقد. وهذه عملية جارية لدى العرف إلى زمان الشارع، ولا نرى نهيًا عنها فهو ممضي. أما شرط الفعل فواضح الصحة ولا مانع من ذلك أن يشترط عليه القيام بالتمليك بعد انتهاء الإجارة. هناك صورة ذكرتها في بحثي وهي آخر كلامي، هذه الصورة هي المتعارفة أحيانًا إما لدى البنوك أو بشكل عادي أن يأتي صاحب بيت إلى البنك ويطلب من البنك أن يشتري منه بيته ثم يؤجره عليه بشرط التمليك، هذه الصورة إذا أريدت دراستها يأتي فيها البحث السابق في مسألة الأمر بالشراء في بيع المرابحة وأمثال ذلك، والبحوث هناك مرت على السادة الكرام ولا تخفى. حياكم الله وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2205 الدكتور سامي حسن حمود: بسم الله الرحمن الرحيم بالنسبة لهذا الموضوع: الواقع أريد أن أوضح بعض النقاط التطبيقية فيما يجري عليه العمل، لتكون الصورة واضحة بأمانة العلم أمام الأخوة أعضاء المجمع، ففي بيع الإيجار المنتهي بالتملك أو بالبيع، المأجور أحيانًا في الصورة التطبيقية لا يكون مما ينتفع بعينة كوحدة. فالإجارة هي بدل منفعة في دار أو سفينة مثلًا، ولكن أحيانًا يتم التعاقد على مأجور، حديد تسليح يدخل في منبى، أو محرك كجزء من طائرة نفاثة، فمثل هذه الأجزاء التي لا ينتفع بعينها كوحدة منفصلة، أرجو أن يكون واضحًا أنها لا تصلح أن تكون محلًا للتعاقد في إجارة تنتهي بالتمليك. ثم بالنسبة للأجرة التي هي بدل المنفعة، الأصل في الأجرة أنها الأجرة التي تعادل بدل المثل، ولكن الواقع لأن النية متجهة إلى البيع فتكون الأجرة أعلى بكثير من بدل البيع، فهي تصبح جزءًا من الثمن وتسمى أجرة، الشيء يأخذ حكمه المخالف هنا عندما يتم الفسخ، حيث يعتبر ما دفع كله إيجارًا مع أنه حقيقة جزء من الثمن، ولذلك عند الفسخ يحسب أو يخصم من هذه الأجرة – يعني ينص على ذلك – جزء من بدل الانتفاع والجزء الباقي يجب أن يعاد لصاحبه وإلا يكون أكلاً للمال بالباطل. استكمالًا للنقاط التي كنت أتحدث فيها من الصور التطبيقية فيما اطّلعت عليه في بعض الأعمال لدى بعض البنوك الإسلامية دون تسمية، بالنسبة لهذا النوع من البيوع (الإيجار المنتهي بالتمليك) فأقول وصلنا إلى النقطة الثالثة: التي هي تأتي إلى شروط يتخلص فيها المؤجر رغم أنه مالك من تبعات الملك، فهناك حالات يلغى فيها تبعة هلاك المأجور التي هي في ملك المؤجر على المستأجر، وكذلك الضرائب المفروضة على الأملاك مما يتحمله صاحب الملك عادة، تنتقل تبعاتها بكاملها على عاتق المستأجر، ويقال: إن هذه من جملة الشروط. فأرجو أن تكون هذه واردة في التمحيص لتتضح حقيقة الصورة الشرعية التي يطمئن إليها مجمعكم الموقر، كذلك عند فسخ العقد، هناك نوع من الشروط التي تصادر حقوق المستأجر مصادرة كاملة، فرغم أنه يدفع الأجرة أعلى من بدل المثل، وهي تتضمن بدل الانتفاع جزئيًّا وجزءًا من الثمن الذي سيؤول إليه الملك بعد ذلك من أجله، إلا أنه ينص على خسارته لجميع ما دفع، باعتبار ذلك أحيانًا شرطًا جزائيًّا، أو باعتباره من المصادرة، الصورة الوحيدة المريحة التي اطلعت عليها في التطبيق في أحد البنوك الإسلامية، وأعرضها للاعتبار، هو أن المستأجر يعتبر مستأجرًا مع وعد قائم بالتمليك التدريجي، بحيث إنه في كل سنة يتملك بمقدار ما دفع، مقدار الأجرة بعد أن يخصم منها بدل الانتفاع، فيكون المتبقي جزءًا من الثمن، ويأخذ حصصًا شائعة في الملك بمقدار هذا الثمن المدفوع، بحيث أنه إذا فسخ العقد في أي مرحلة من المراحل، فيكون له فيه ملك بمقدار الجزء الذي دفعه، وتصفى الحقوق على هذا الأساس، أما بالنسبة لتبعات الملك من هلاك وضرائب وصيانة، فإنها تكون بنسبة الملك في الوقت الذي تقع فيه هذه التبعة، وهذه هي الصورة التي أقدر – والله أعلم – بأنها أقرب إلى تطبيق صور العقد الإسلامي والتعاقد الشرعي، وأشكركم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2206 الدكتور إبراهيم فاضل الدبو: بسم الله الرحمن الرحيم السيد رئيس الجلسة المحترمة أساتذتى الأفاضل: الذي يظهر لي والله أعلم في هذه المسألة مسألة (الإيجار المنتهي بالتمليك) في شكله القانوني والعرف الحالي لا يشبه العقود الجائزة، لأنه من المعلوم لدى العلماء أن الإجارة تعني تمليك المنفعة، في حين أن البيع يعني تمليك العين والمنفعة، واشتراط التمليك في مثل هذا العقد ينافي مقتضاه، وفي هذه الحالة أرى بطلان الشرط وصحة العقد، ويمكن أن نستعيض عن هذه الصورة من البيع بصور متعددة، أذكر منها اثنين على سبيل المثال لا الحصر. أن يكون بيعًا بالتقسيط بأن ينفق المالك مع الطرف الآخر على بيع العقار بالأقساط، وفي حالة عجز المستأجر عن دفع الأقساط يكون ما دفعه عوضًا عن المدة التي انتفع بها بشرط أن تكون تلك الأقساط متناسبة مع بدل الإيجار السنوي لهذا العقار. وفي هذه الحالة ينبغي تعديل صورة العقد من إيجار إلى بيع، ثانيًا، أن يعقد الطرفان عقد إجارة على هذا العقار، ثم يعد صاحب العقار المستأجر بعقد لاحق بأن يهبه العقار المذكور. ويلزم الواعد بالوفاء بوعده على رأي من يرى ذلك، في هذه الحالة لا يجوز للمستأجر أن ينقل ملكية العقار عنه إلى جهة أخرى إلا بعد تسديد جميع الثمن. والله أعلم، وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2207 الدكتور إبراهيم كافي دونمز: بسم الله الرحمن الرحيم أحمد الله تعالى على نعمه الفاضلة وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. بعد أداء شكر الواجب للباحثين على بحوثهم القيمة، أود أن أشير إلى أننى لم أقدم بحثًا خاصًا في هذا الموضوع، ولذا ستكون ملاحظاتي منصبة على المنهج الذي يجب اتباعه – في رأيي المتواضع – في تناول هذا الموضوع أكثر من أن تكون متعلقة بمضمون الموضوع. في رأيي المتواضع، ينبغي للعلماء بدل أن يتطرقوا إلى مسائل جزئية وموضوعات جانبية، ينبغى لهم أن يتناولوا هذا الموضوع انطلاقًا من القيام بتثبيت موقف الفقه الإسلامي إزاء تقسيم العقود إلى العقود المسماه وإلى العقود غير المسماه. كما هو معلوم فإن القانون الروماني كان يولي اهتمامًا كبيرًا وأهمية قصوى لهذا التقسيم، لأن هذا القانون كان يتسم بالسمة الشكلية. أما اليوم في الغرب، هذا الموقف قد ترك ولم يبق أي أهمية كبيرة لهذا التقسيم، ويمكن للطرفين إحداث عقد جديد بشرط ألا يخالف النظام العام والآداب العامة. أما في الفقه الإسلامي فيكاد يتفق علماؤنا المعاصرون على أن الفقه الإسلامي لا يولي اهتمامًا كبيرًا لهذا التقسيم، العقود المسماه وغير المسماه. ويمكن إحداث عقد جديد لا يحتل مكانًا في الكتب الفقهية، بيد أن الفقه الإسلامي يختلف عن الفقه الغربي في نقطة واحدة، وهي أن التحديدات والتقييدات هي أكثر من الفقه الغربي، لأن هناك نواهي تتعلق بالربا والغرر والجهالة، إذن العمل الذي يجب القيام به هو البحث عن وجود أو عدم وجود مخالفة هذا العقد وأمثاله. ليس عقد الإيجار المنتهي بالتمليك فقط، العقد وأمثاله. هل العقد يتضمن عناصر تخالف مباديء الشريعة الإسلامية أم لا يتضمن؟ لا شك أن العلماء لا يمكن أن يستغنوا عن اجتهادات أئمتنا السابقين. ويجب علينا مراجعتهم، ولكن هذا لا يمنعهم عن البحث عن الحلول المناسبة للحوادث الجديدة. كما أشار الأستاذ العارض، فإن هذا العقد لا تنطبق عليه الأحكام التي توجد في كتب الفقه الإسلامي تمام الانطباق، إذن هذا يمكن أن يعتبر عقدًا جديدًا، ويمكن أن يوجد بعض الأشباه والنظائر كما أشار إليه أستاذنا، ولكن يبدو أن هذا العقد لا يوجد مثله ولا تنطبق عليه الأحكام كلها الموجودة في الكتب الفقهية، إذن يجب فحص أركان هذا العقد وأمثاله مع أن هناك خلافًا في مصطلح الركن بين الأحناف وغيرهم، بغض النظر عن هذا الخلاف، لا بد أن ينظر إلى الصيغة والعاقدين ومحل العقد وموضوع العقد، يمكن أن يوجد هناك ملاحظات متعلقة بالصيغة والعاقدين لا يهم كثيرًا، محل العقد كذا. موضوع العقد، أي الغاية النوعية من العقد، هذه النقطة لازم أن يوقف عندها بجدية. هناك أثار ومؤلفات كثيرة، تدرس فيها نظرة الفقه الإسلامي إلى مبادئ الالتزام والموجبات، مثل نظرية الأجل، نظرية الشرط، الشكل، الربا، الغرر … … … الخ. إذن في نظري المتواضع، المهم فحص هذه الأركان، هل فيها خلل من ناحية المبادئ الشرعية؟ كما أشار إلى قسم منها فضيلة الدكتور سامي حمود؟ وأعتقد أن هذا العقد ليس العقد الوحيد الذي جاء أمام المجمع الموقر، والذي لم يحتل مكانًا خاصًا في الكتب الفقهية، ولم يظل عقدًا وحيدًا ينصف بهذه الصفة. إذن المنطلق دائمًا لازم يكون ذلك المنطلق الذي أشرت إليه، وأخيرًا أود الإشارة إلى نقطة وردت في كلام بعض الباحثين، وكذلك في كلام سيادة الرئيس المحترم – يوم الأحد – وهي قياس عقد النكاح على عقد البيع وأمثاله، والسيد الرئيس وجه سؤالًا إلى الأستاذ الفاضل القرضاوي – يوم الأحد – وحاول أن يقوم بالمقارنة، أو القياس، بين عقد النكاح وعقد البيع في مسألة الوعد، والوعد – طبعًا – متعلق بموضوعنا أيضًا، بينما الرئيس المحترم، لم يسمح لباحث – يوم السبت – أن يقوم بالقياس بين مسؤولية الدولة في مجال الفلاحة وفي مجال التربية والأسرة، إذن عقد النكاح له خاصية تتميز عن العقود الأخرى، ونحن نفتخر بأن الفقه الإسلامي هو متقدم جدًّا في إعطاء وتحقيق الحقوق الإنسانية، بينما اليوم حتى في الفقه الغربي الذي لم يعترف بهذه الحقوق على مر العصور، في الفقه الغربي يميز بين عقد في مجال الأسرة وفي عقد مجال الالتزامات، والفقه الإسلامي يمتاز بخاصية التمييز بين الولايةعلى النفس والولاية على المال، هذه نقطة هامة جدًا. والنقطة الأخيرة، القرآن الكريم هو الذي يصف بعقد النكاح ميثاقًا غليظًا، إذن عقد النكاح يترتب عليه نتائج وعقد البيع وأمثاله يترتب عليها أحكام مالية غير الأحكام التي تترتب على عقد البيع، لا شك أن هناك نقاطًا مشتركة بين جميع العقود، ولكن من ناحية النتائج لازم التمييز بين هذين العقدين. أشكركم على حسن انتباهكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2208 الدكتور طه جابر العلواني: بسم الله الرحمن الرحيم هناك صورة متعامل بها أشار إليها ربما الدكتور عبد الله من الباحثين، وودت عرضها قد تكون مما ييسر على المجمع الموقر، أن يصل إلى تصور في المسألة، هذه الصورة التي جرى العمل بها في بعض البلدان، أن يكون العقد عقد بيع بالتقسيط، وتقدر الأقساط بقدر الإيجار الذي يستحقه المبنى المباع، ويمكن المشتري فيه من المنفعة. فإذا استمر في استعمال العين والانتفاع بها ودفع الأقساط حتى تسديد الثمن المقدر للبيع، أصبح ملكًا خالصًا تتعلق به سائر التصرفات، وإن عجز خلال الفترة لعدة أقساط – تقيد في بعض العقود بقسطين وفي بعضها بثلاثة أو أكثر أو أقل بحسب التفاهم – يعود المبيع إلى المالك من غير إضرار بأي من الطرفين، فالمالك مضمون حقه والعين التي باع والمبتاع غير متضرر لأن الأقساط التي قد دفعها هي بمثابة الإيجار، لا تزيد عنه كثيرًا. فكأنه بيع فيه شرط بعدم التصرف في المبيع، بأكثر من حق الانتفاع به إلا بعد فترة معلومة، أو تسديد الثمن المقسط، وإذا أراد أي من الطرفين نقض هذا العقد، فهناك شروط أخرى ملحقة تضمن لكل من العاقدين حقهما، ربما تكون هذه الصورة إذا أخذت من الصورة التي يمكن للأخوة الفقهاء النظر فيها والحصول على مخرج شرعي فيها إن شاء الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2209 الدكتور محمد سيد طنطاوى: بسم الله الرحمن الرحيم في الحقيقية الذي نعلمه جميعًا أن شريعة الإسلام مبنية على التيسير وعلى رفع الحرج. وبناء على هذه القاعدة التي نعلمها جميعًا، أرى أن مسالة التأجير المنتهي بالتمليك، من المسائل التي يجب أن ننظر إليها من زاوية الحكمة، التي من أجلها نؤيد هذا اللون من العقود، في تصوري أن بعض الحكومات لجأت إلى هذا اللون من العقود حماية للعين أو للعقار أو ما إلى ذلك، عندنا على سبيل المثال في مصر، بعض الشركات تشتري سيارات ثم تؤجرها لبعض السائقين، والحكمة من ذلك الاستفادة – طبعًا – المادية، ولكن لكي تحافظ على السيارة مثلًا تعقد مع السائقين عقدًا بأنه بعد عشرين سنة أو بعد ثلاثين سنة، تصبح هه السيارة ملكًا لهذا السائق مثلًا، تبين أن مثل هذا العقد يجعل السائق يحافظ على هذه السيارة، لأنه سيرى أنه بعد مدة معينة ستصبح ملكًا له، هذه الملكية تدفعه إلى أن يصونها، إلى أن يحافظ عليها. الدولة كذلك رأت بأن عندما تؤجر للأفراد المساكن التي بنتها، رأت أن كثيرًا من الأفراد لا يحافظون على هذه المساكن. فلجأت إلى لون من المحافظة على هذه العين، أو على تلك المساكن بأن تقول لهم: ادفعوا الإيجار لمدة قد تصل إلى عشرين سنة أوثلاثين سنة، أو إألى أكثر أو إلى أقل برضا الطرفين وباختيارهما، وتصبح هذه المساكن ملكًا لكم، وفي هذه الحالة يبدأ السكان يحافظون على تلك العين المؤجرة، أكثر من محافظتهم على شعورهم بأنهم أجراء، فعندما ننظر إلى عقد كهذا، وننظر إلى الحكمة التي من أجلها شرع، يجب علينا عندما تتوافر فيه الشروط، القواعد الشرعية ((والمؤمنون عند شروطهم)) يجب علينا أن نوسِّع دائرته وأن نشجعها مادامت لا تؤدى إلى ضرر لا بالمصلحة العامة ولا بالأفراد، أنا في تصوري أنَّ أمثال هذه العقود أو أمثال هذه المعاملات التي تنتهي بالتمليك، لا شيء فيها إطلاقًا مادام هناك رضا بين الطرفين، ومادام هناك لا توجد فيها شروط تتنافى مع القواعد الشرعية التي أحلها الله سبحانه وتعالى، ومادامت الحكمة منها المحافظة على العين أو على العقار أو على أي شيىء، نعتبر أن المحافظة عليه يعود بالمنفعة العامة على الأفراد وعلى الجماعات وعلى الأمة كلها. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2210 الشيخ عبد الله بن بيه: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. سيدي الرئيس: يبدو لي أنه من المستحسن، أن تحدد نقاط الاتفاق بين الباحثين التي يمكن أن يتفق عليها المجمع، ونقاط الاختلاف ليرى المجمع فيها رأيه. هذا يدعوني إلى إبراز جملة من النقاط بصفة مبسطة، وغير مفرعة ولا مشذبة تشذيبًا قانونيًّا كبيرًا، هذه النقاط: أولًا: متفق عليها الوعد بالهبة اللاحق، وعد بهبة لاحق مبني على سبب وعلى التزام، يبدو أن هذه الصيغة هي أسهل الصيغ وأقربها للقبول وهي مقبولة من الباحثين جميعًا، الصيغة الثانية: إجارة مع بيع لاحق بخيار يحدد له ثمن معين، بشرط أن تكون الأقساط مناسبة للإجارة. هذه أيضًا صيغة ينبغى أن يتفق عليها لما ذكرت، وإن كان بعض الباحثين لم يتعرض لها لما ذكرته عن الإمام أحمد وغيره، من جواز البيع بالخيار إلى أمد قد يكون بعيدًا إلا أنه محدود، هذه الصيغة ينبغي أن يتفق عليها أيضًا. الصيغة الثالثة: بيع بات يمنع فيه البائع من التصرف في السلعة حتى يقضي الثمن. وهذه الصورة قد ذكرنا قول مالك فيها والرواية التي رويت عن مالك في هذه المسألة، وقال فيها مالك لا بأس بذلك، لأنها بمنزلة الرهن. لم يقل لأنها رهن؛ لأن الرهن يكون بيد البائع، ولكنه قال لأنهما بمنزلة الرهن، ففي هذه الصيغة البيع بات، ولا يجوز للبائع أن يطلب فسخ البيع، إذا لم يفِ المبتاع، ولكنه يجوز له أن يطلب الوفاء، وأن يلزم المبتاع بالوفاء، ولكنه من جهة أخرى يلزمه بعدم التصرف في العين، في هذه الصيغة لا يسترجع البائع مطلقاَ شيئًا من الأقساط، وإنما عليه أن ينتظر كبقية الغرماء أن يفي المشتري بما يجب عليه وله رهن هو أن هذه العين لا يجوز للمشتري أن يبدد حسب العبارات القانونية، أو أن يفوت حسب العبارات الفقهية - هذه الصيغة أيضًا صيغة متفق عليها، مع أن النتائج قد يختلف فيها، الصيغة الرابعة: بيع منعقد غير ماض – أي غير نافذ – حتى يأتي المشتري بالثمن، وهي تختلف عن التي قبلها، فإن البائع إذا لم يوفِ المشتري بما تعهد به يجوز له أن يفسخ البيع، وهذه الصورة أيضًا مروية عن مالك، وقد ذكرنا أدلتها عن أبي الحسن في المدونة وغيره، والبناني سلمها للزرقاني، وقال إنها معمول بها، فهذه الصيغة تختلف عن التي قبلها بأن البائع يملك استرجاع العين، ولكنه إذا استرجع العين في النتائج قد يوجد خلاف أيضًا، فالذي عندي أنه إذا استرجع العين، يجب أن يرد إلى المشتري الأقساط التي أخذها، لأن ذلك في مقابل الضمان، لأن انتفاعه بالعين كان في مقابل الضمان، هذه العين هي محبوسة للثمن وانتفاعه بها كان في مقابل الضمان، كما ورد في الحديث الصحيح وهو الخراج بالضمان وسببه أن رجلًا باع عبدًا لآخر بيعًا فاسدًا، فلما حكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يرد العبد لصاحبه، قال له: فليرد إليَّ الغلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا الخراج بالضمان)) ، أي الغلة ليست لك، أن هذه الغلة في مقابل الضمان الذي كان على المشتري اشتراءً فاسدًا، الضمان الذي كان يتحمله، فالخراج وهو الغلة في مقابل هذا الضمان، هذه النتيجة قد لا يتفق الباحثان معي فيها، ولكني على كل حال أرى أنها نتيجة مقبولة، إذن هذه الصيغ الأربع هي صيغ متفق عليها، أما الصور المختلف فيها فهي الوعد بالهبة في صلب العقد. الوعد بالهبة في صلب العقد في الحقيقة الذي ظهر لي ولا أقول أستظهر لأن الاستظهار نحن في المالكية نقول وبظهور لابن رشد كذلك كما يقول خليل، الاستظهار يدل على أن شخصًا بلغ درجة من درجات الترجيح في المذهب، فالذي يظهر من النصوص التي عرضتها أن هذه الصورة غير جائزة، لأنها تؤثر على الثمن. لأن هذا الوعد بالهبة في صلب العقد يؤثر على الثمن. فلا ندري الذي أعطى مقابل الإجارة ولا الذي أعطى مقابل الوعد بالهبة. وقد ذكرت بعض المسائل التي تشبه هذه المسألة والتي منعها المالكية، وإن كانت صيغة اعترف بأنه بالإمكان تخريجها بمشقة على بعض العقود أو على صفقتين في صفقة. الصيغة الثانية التي تختلف فيها أيضًا إلى حد ما هي الوعد بالبيع في صلب العقد. الوعد ليس ملزمًا في المعاوضات حسب ما ذكرته، لا أقول حسب رأيي، ولكن حسب رأيي العلماء الذي أشرنا إليه، فهذه صيغة مختلف فيها أيضًا. أخيرًا اعتقد أن الباحثين أو الباحِثَيْنِ يتفقان معي على أن البائع لا يجوز أن يفوز بالأقساط وأن يفوز بعين السلعة، لأنه من اجتماع العوض والمعوض، وهذا لا يجوز شرعًا، وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2211 الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. الإيجار الذي ينتهي بالتمليك، هو صيغة لا بد أن ننظر في المقوم أو الغاية الأساسية أو ما يمكن أن نعتمد عليه في إخراج الحكم الشرعي. القضية الأولى في نظري هو أنه: هل المخارج الشرعية أو ما يعبر عنه بالحيل أو الخروج من المضائق هو أمر مقبول أم لا؟ فإذا اتفقنا على أنه يمكن وأنا نأخذ بهذه المخارج حتى نيسر على الناس حياتهم فإنه يقع النظر في هذا. وإن قلنا إنه لا بد أن ننظر إلى المعاني والمباني فكل هذه العقود ترد. فهي عقود جديدة نتجت عن التطور الاقتصادي، وزاد هذا التطور مضيًّا ما تقوم به البنوك الإسلامية من طرق الاستثمار في العالم الإسلامي، فالإيجار المنتهي بالتمليك قصد البنك، وقصد المتعامل معه. القصد هو البيع، فلو طبقنا أحكام البيع على هذا فإننا لا نجد مخرجًا، فوجد الفقهاء في البنوك الإسلامية من جملة المخارج الإيجار المنتهي بالتلمليك، هذا الإيجار المنتهي بالتمليك يعطي للبنك ضمانات في بقاء العين تابعة له لا يتصرف فيها المستأجر بالتفويت، ومن ناحية أخرى فإن المستأجر يطمئن إلى أنه عند نهاية المدة تنقلب تلك العين ملكًا له، بل الأكثر من هذا هو أن المؤجر – أي المالك –لا يريد بحال من الأحوال أن تعود له العين المملوكة في بعض الصور له، وهذا كما يقع بين بنك التنمية الإسلامي وبين الدول التي يؤجرها معدات تركز في معامل تكون قد استهلك كثير من أجزائها ومن صلاحيتها، وتفكيك تلك المعدات وإرجاعها إلى البنك يكلف البنك أكثر من قيمتها. فالنظر إذن لا بد أن يكون على أساس إيجاد مخارج تتناسب مع الوضع الاقتصادي الذي عليه العالم الإسلامي. من هذه المخارج الإيجار المنتهي بالتمليك، كيف نتصوره؟ تصوره البعض على هذه النحاة من أنه بيع وأنه إجارة في آنٍ واحد. وجعله بيعًا وإجارة في أن واحد هو غير سليم، ذلك أن ضمان العين أو ما يترتب على ملك العين لا يجوز أن يتحمله المستأجر، فإصلاح العين لبقاء الإيجار مثلًا، هو لا يصح أن يكون على المستأجر وإنما هو على المالك، فلا بد من التفرقة بينهما. الأحكام مختلفة كثيرًا بين واجبات المالك وبين واجبات المستأجر، ولهذا ما جاء من سؤال الأخ سامي حمود عن الشروط التي تتحول من موجبات الملكية إلى المكتري هي شروط غير مقبولة، ولا بد أن يبقى المالك مالكًا يتحمل كل ما يترتب على الملك مما بينه الفقهاء، وأن يكون المستأجر مستأجرًا يتحمل كل ما يترتب على الإيجار فِقْهًا. فهذه هي إذن عندما نجعل المالك مالكًا والمستأجر مستأجرًا إلى نهاية العقد. كيف يستطيع المستأجر أن يعود له الملك وأن يصبح الملك ملكًا له؟ إذا قلنا ذلك بثمن فهذا ما لا أستطيع أن أقول إنه حلال، لأن وضع المبيع بعد عشرين سنة أو بعد عشر سنوات ومواصفاته وحالته هي تختلف اختلافًا جدًّا من عشرة إلى خمسين في المائة. فقد تستهلك العين بالاستعمال في المدة فتصبح في نهاية مدة الأجل لا تساوي إلا خمسة في المائة أو عشرة في المائة من قيمة رأس المال. وتارة لا تستهلك استهلاكًا كبيرًا، فإذا بقيمتها خمسون أو ستون في المائة، كذلك نوعية الاستعمال والمحافظة على المعدات هي تختلف من شخص إلى آخر، ومن مؤسسة إلى مؤسسة أخرى، فلذلك لا يجوز أن يحدد ثمن للمثمن غير معلوم، فعلم العوضين هو شرط أساسي. ولذلك لا يوجد في نظري إلا مخرج واحد، وهو أن يعده بالهبة في نهاية عقد الإجارة، فإذا انتهت الإجارة إلى أجلها، عندها تنتهي القضية وتصبح ملكًا للمستأجر، بقي أمر، وهو ما تفضل به سيادة مفتي الجمهورية المصرية في إيجار السيارات، إيجار السيارات أمرها بسيط نظرًا لأن الملك يبقى ويستطيع أن يبيعها بالأقساط، والملك هو يبقى في بطاقة الملكية لا يجوز له أن يبيعها ولا أن يهبها، معروف هذا، والمسألة لا تستحق أن تكون كراء بالإيجار وإنما هو بيع مقسط من الأول، وهي ملك له، يحافظ عليها من أول الأمر ولا تنتهي رفع الحصانة عليها إلا عندما يتم الأقساط بتمامها وكمالها. فهذا ما اعتقده، وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2212 الشيخ محمد علي عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم شكرًا سيادة الرئيس الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين في الحقيقة مسألة الإيجار المنتهي بالتمليك هي مسألة كثر انتشارها في هذا العصر قد نجد في عامة الناس معوزين، أو بعض الموظفين الذين تعتبر شهريتهم يومية قليلة، لا تسمح لهم بالحصول على مساكن أو منازل. فوجد هذا الحل مساعدتهم من ناحية، وقامت الحكومات بتشجيع هذا. وبالتالي كان التأجير المنتهي بالتمليك الحل الوحيد لهؤلاء الناس للاقتناء والحصول على العقارات، والمشكل في الحقيقة يتعقد في صورة إذا ما كان البائع والمكتري لم يصل إلى حل يؤخر من قيمة الإيجار، أو بالأحرى إذا ما كان الشخص الكاري، لا يقدر على دفع بقية المال بصورة كاملة بطلب من الكاري. ونعرف أن الالتزامات الأصل هو أن يكون الالتزام شريعة الطرفين. فإذا كان هذا الشخص لا يقدر تلقائيًّا أو لأسباب معينة طارئة لدفع أقساطه في هذا الكراء، هل يمكن أن نجبر هذا الشخص على الدفع؟ أو نطلب من المالك أن يصبر؟ ونحن نعلم أن ديننا الحنيف دين كريم وهو دين يسر. أو يكون السبب في عدم إتمام هذا الاتفاق وهو ناتج عن عمل من صاحب المحل، يقول صاحب المحل إن هذا الشخص الآن لا يساعدني، وجدت أحسن منك أفضل أن أعطيه ما كان قد قررت أو جعلته خاصًا لي. هنا يقع نوع من الغيرة، وبالتالي المشكل المعروض علينا هو في هذا الحل فقط. في صورة عدم إتمام هذا الالتزام في صورة عدم انتهاء هذا العقد لمن يقع السبب. وأرى حسب عقود الالتزامات ألا نحكم مسبقًا بعدم العمل بهذا العمل بهذا النوع من العقود، لأنه كما قلت أولًا: إن العالم أو الفقير المحتاج بشدة إلى مثل هذا الإيجار المنتهي بالتمليك، وإذا كان قام المجمع الآن بإخراج فتوى لمساعدة كل ضعفاء العالم نستطيع أن نقول هو الأحرى ما نرويه فيه ولهذا أرجو من الجميع أن يقر بمثل هذا، وأعرف أن هنالك شروط العقد، وهناك شروط الإيجار، ولكن هذا النوع من المعاملات قد فرضته وهو موجود الآن ولا نستطيع أن نقوم نحن بمفردنا بالحكم بعدمها. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2213 الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني: بسم الله الرحمن الرحيم لي وجهة نظر، أرجو أن يتدارسها المؤتمر إذا بدا له ذلك، ومعلوم أن الأعيان تتكون من الرقبة والمنفعة. وفصل المنفعة عن العين وارد في الفقه ويمكن. وهذا في الوصايا في المنافع وفي الوقف. من هنا يمكن القول إنه يمكن أن نبيع المنفعة ابتداء بثمن قد يكون موازيًّا لسعر المنفعة مع الرقبة، لما قاله العلماء بإجماعهم أن الأصل في الأعيان منافعها. وأن الأعيان على الحقيقة هي ملك الله. فبيع المنافع في حقيقته بيع لكل العين بمنفعتها. ولكي نخلص إلى الصورة التي تراها المصارف أن المشتري للمنافع هنا يتصرف في منافعه كمالك. أما العين فهي باقية على ملك المالك، ثم يثبت إلحاق العين بالمنفعة بعد سداد ثمن المنفعة على أقساط تحدد لها مدة، إذا انتهى من الدفع ألحقت الرقبة بمنافعها. وبذلك نكون قد وصلنا إلى المبتغى، وفي نظري أن هذه الصورة يمكن أن تنجينا من كل الذي قيل من الشروط، ومن مخالفة مقتضى العقود. فإذا بدا للمؤتمر أن يتدارس هذه المسألة، فليكن ذلك وإن شاء الله يتوصل إلى نتيجة وشكرًا. الدكتور محمد عمر الزبير: بسم الله الرحمن الرحيم وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. هذا العقد هو من العقود المستحدثة الجديدة، وهو عقد مركب شكلًا لا قصدًا من إجارة وبيع، والقصد الحقيقي هو البيع، فالمشتري والبائع يقصدان من هذا العقد البيع في نهاية الأمر وليس الإجارة فهو عقد مركب – في نفس الوقت – من بيع وإجارة. الأقساط التي تدفع تختلط فيها القيمة الإيجارية مع قيمة البيع، وتعرف في الأصل القيمة الأساسية للإجارة أو القيمة الحقيقية للبيع. ثم إن القسط الأخير كما فهم أنه لا يصح إطلاقًا أن تحدد قيمة البيع قبل أن يعرف الثمن الحقيقي أو قبل التقويم الحقيقي، ففي نهاية العقد لا يتم تقويم للممتلكات هذه لأجل أن يتم البيع. فهذا الاختلاط بين القيمة الإيجارية وبين القيمة الحقيقية للبيع يثير بعض النقاط التي يجب على المؤتمر والمجمع أن ينظر إليها. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2214 الدكتور حسن علي الشاذلي: بسم الله الرحمن الرحيم في الحقيقة أنا أريد أن أتعرض إلى نقطة وهي مسألة الشروط التي تقترن بالعقد، وحدث فيها الكلام حول الحديث الشريف: (( ((المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا)) )) . وأنه قد يكون الحلال والحرام باعتبار أن العقد نفسه يرد على الشرط فيحرمه أو يجيزه. الواقع أن الفقهاء ومنهم الإمام ابن تيمية بيَّن أن ما يراد بالحلال أو الحرام هو ما كان حرامًا في ذاته أو حلالًا في ذاته قبل ورود العقد، ومن ثم حينئذٍ إذا كان حرامًا في ذاته لا يصح أن نحلله أو العكس. ومن ثم انحصرت دائرة الشروط التي يمكن أن نقول إنها تبطل العقد، في الشرط الذي ينافي المقصود الأصلي من العقد. كبيع ويشترط فيه ألا يملك، أو نكاح وفيه طلاق أو ما إلى ذلك من الشروط التي تنافي المقصود الأصلي من العقد، وأيضًا الشرط الذي يخالف نصًّا عن الشارع، فإذا ورد نص عن الشارع فلا يجوز اشتراط ما يخالف هذا النص، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. ثالثًا: تكرر الشروط الفاسدة – كما رجحت – وهو إذا كان هناك أكثر من شرط فاسد يؤدي إلى إبطال العقد. لكن إذا كان هناك شرط فاسد واحد، فيمكن أن يبطل الشرط ويصح العقد، ومن ثم فما قاله الدكتور سامي بعد ذلك من مسألة الشروط. أولًا: غير وراد علينا في هذا الموضوع – الإيجار المنتهي بالتمليك – أن تكون السلعة نفسها قد استهلكت، دخلت في مباني، إسمنت بني به، حديد دخل في … ، لا. نحن نريدها سلعة منفصلة، يمكن أن يستولي عليها المالك في اللحظة التي يختل فيها التوازن بين المؤجر والمستأجر ثانيًا: الأجرة كونها أكثر من ثمن المثل، في الصورة التي اقترحها من قبل، قلت إنها تعود إلى ثمن المثل، وحينئذ فإذا ما انتقض نعود إلى ثمن المثل، وما زاد عن ذلك حينئذٍ ليس من حق المالك، كونه يتخلص من التبعات بشروط أو بأخرى، أو بشروط، أو ما إلى ذلك، هذه الشروط إن كانت – والله – مما لا يتناقض مقتضى العقد فحينئذ نجيزها، وإن كانت تناقض حينئذٍ نرفضها والعقد يسير سليمًا في ذاته. الاقتراح بأن يكون هناك وعد بالتمليك التدريجي، والله أنا هذه أخشى منها، يعني لي خشية من التجزئة، وقد لا يقدم صاحب السلعة على مثل ذلك، الذي هو المؤسسة، يعني هل تقدم على أنه يتحول المستأجر إلى أن يملك جزءًا من السلعة؟ وقد يؤدي هذا إلى إحجام صاحب الملك عن الإقدام على ذلك، أما موضوع البيع بالتقسيط، فهذا أمره معروف يعني خارج عن دائرتنا، فهو بيع وهو بالتقسيط، وهذا أشير إليه في أثناء الأبحاث، وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2215 الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم الهدف من أو الدافع إلى هذه المعاملة: هو أن أحد الطرفين يريد أن يمتلك السلعة ولا يريد الإجارة، هذا هو هدفه الأساسي وغرضه، هو التملك وليس الإجارة. ولكنه لا يملك الثمن ليدفعه في الحال. فماذا يفعل؟ أمامه طريقان، أن يشتري السلعة بالتقسيط وهذا واضح، ولكن قد لا يرغب – صاحب السلعة – في أن تخرج السلعة من ملكه، إذا باعها بالتقسيط فقد خرجت من ملكه من أول الأمر، ودخلت في ملك الطرف الآخر، وله أن يتصرف فيها كما يشاء. وقد عرض حل لهذه الحالة من ضمن الحلول التي ذكرها الشيخ بن بيه، والتي هي بيع بات يمنع فيه المشتري من التصرف، وخرجه على مذهب المالكية، وهذه الصيغة معمول بها في بعض البنوك، لكن لا عن طريق اشتراط عدم التصرف، وإنما عن طريق تسجيل –وهذا في الغالب يكون رد في المساكن أو في العربات مثلًا – تسجيل المسكن تسجيله باسم البائع ضمانًا للسداد. وهذا تسجيل يمنع المشتري من التصرف، لا يستطيع أن يتصرف إلا بإذن ممن سجل العقار باسمه أو لمن سجلت العربة باسمه، وهذا معمول به في كثير من البنوك، وهو يغني عن اشتراط التصرف، الذي قد يكون فيه شيء من المخالفة في بعض المذاهب. أيضًا قد يكون المشتري هو الذي لا يريد أن تدخل السلعة في ملكه، ولذلك لا يشتريها بالأقساط وإنما يلجأ إلى التأجير، هنا لكي يتفادى غرامات وضرائب قد تترتب على انتقال الملكية له إذا اشترى بالتقسيط، وهذا يزيد من عبء الثمن عليه، هو سوف يدفع الأقساط وهو لم يمتلك السلعة ملكًا كاملًا ويدفع ما يترتب عليه من مطالبات تطلبها منه الدولة، فيلجأ إلى الإجارة المنتهية بالتمليك، والشيخ ابن بيه عرض عدة حلول أو صور، قال إن بعضها جائز وبعضها غير جائز، والشيخ المختار اقتصر على صيغة واحدة، هي الوعد بالهبة في صلب العقد، الوعد بالهبة في صلب العقد، هذا هو تعبير الشيخ ابن بيه وقال إنه غير جائز، حسب ما فهمت أن الشيخ المختار يقول إنه جائز وأنا معه في هذا، وأظن أن هنالك فتوى- فيما أذكر- صدرت من بعض العلماء للبنك الإسلامي للتنمية. الصورة التي ذكرها الشيخ ابن بيه منها وعد بهبة لاحقة، هذا غير عملي، هي حصلت الإجارة ولن يدخل معه، مثلًا إذا كان البنك يود أن يتعامل الشخص المستأجر هذا لن يدخل إلا إذا ضمن أنها ستوهب له. فكون الهبة لاحقة لا يمكن تطبيقه، أما الصورة الثانية وهي الإجارة من بيع لاحق بخيار، ويبدو أنه أيضًا يريد هنا أن يقول ما موجود في صلب العقد. يعني حصلت الإجارة مجردة، ثم بعد سنة أو سنتين أعطى صاحبة السلعة. المستأجر أعطاه الخيار، هذا أيضًا غير عملي، وإنما العملي هو أن يكون في نفس العقد في عقد الإجارة، ومعها البيع على أن يكون للمستأجر الخيار يشتري من السلعة كما شاء وحيث ما شاء، وهذه هي الصورة التي ذكرها الدكتور سامي وهي معمول بها أيضًا في بعض البنوك، ويطلقون عليها اسم (الإجارة والاقتناء) . المستأجر هذا يدفع جزءًا كإجارة وجزءًا قد يتفق عليه من أول الأمر، على أنه من الثمن وبقدر ما دفع يتملك، وينبغى أيضًا أن تنقص الأجرة تدريجيًّا، لأن هذا المستأجر سيمتلك في كل سنة جزءًا من العقار الذي استأجره، ويبقى الباقى على ملك صحابه فيكون هو المستأجر، وهذه الصورة لا أرى بها بأسًا، أما فسخ البيع إذا لم يفِ بالثمن بالصورة التي ذكرها الشيخ بن بيه، فلا أظن أن مالك العقار سيرضى بها، وستشجع المستأجرين على استغلال الأملاك، أجرت المنزل ودفعت الأجرة عشر سنوات ثم توقفت، فقال لي الشيخ بن بيه: افسخ البيع، ورد أجرة العشر سنوات التي أخذتها وخذ أرضك، من يقبل بهذا؟ لا يمكن أن يطبق هذا، ولذلك أرى أن الصور الممكن الأخذ بها هي الوعد بالهبة في صلب العقد، أو الصور الأخرى التي ذكرتها، وهي المعمول بها في بعض البنوك، هو بأن الإجارة مع إعطاء المستأجر الحق في أن يشتري من الشيء المستأجر ما يريد وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2216 الشيخ عبد الله بن منيع: في الواقع لقد سمعت كثيرًا من تعليق الإخوان وكانت تعليقات مختلفة، وسبب الاختلاف فيها هو أن الصورة لا تزال غامضة، فلو أن أحدًا من إخواننا صورها التصوير الجيد لأمكن أن يتجه إليها الحكم الواضح، وبصفتي أحد أعضاء هيئة الرقابة في بعض المصارف الإسلامية، ففي الواقع هذه المعاملة نحن في الواقع لنا فيها معاناة ويمكن، وعلى كل حال، أرجو أن يسعفني اللسان بتصويرها، التصوير الذي يمكن أن تتضح به الصورة ويتضح به الحكم هو في الواقع التأجير المنتهي بالتمليك يفهم من عنوانه: والطريق المتبع هو أن يتفق المصرف مع طالب العين سواء كانت عقارًا أو كانت تجهيز مصنع، أو تجهيز مزرعة، أو أي شيء من الأشياء التي لها في الواقع قيمة اقتصادية، يحصل الاتفاق بين البنك أو بين المصرف الإسلامي وبين العميل، على أن يهيئ له هذه البضاعة، أو هذه السلعة، ثم يؤجرها له على اعتبار أن المصرف هو مالكها، يؤجرها له مدة معينة وقد تكون وقد لا تكون معينة. هذه المدة حينما يقوم بالتأجير فيها، أو حينما يقوم بتأجير هذه الاشياء لها هي في الواقع يتفق معه على أساس أن الأجرة هي كذا وكذا من المبلغ، ومتى وجدت عنده القدرة على شراء هذه العين أو شراء بعضها سواء كان هذا البعض قليلًا أو كثيرًا فله وعد بذلك، وتكون القيمة من واقع تكاليف هذه السلعة، يحسم منها ما أخذه أجرة لسنة أو سنتين أو ثلاث سنوات، هذا نوع، نوع ثان، هو ممكن في الواقع على كل حال أن نعرف بأنه قد يكون هناك اتفاق فيما بينهما على أساس أن تكون الأجرة أو الإيجار المنتهي بالتمليك لمدة عشر سنوات، كل سنة يمتلك عشرة في المائة قبلًا، ومعروف قيمة ما يمتلكه في السنة الأولى، أو السنة الثانية أو السنة الثالثة، وهكذا معه رأس المال محسوم منه الإيجار للسنوات التي أخذها المصرف، وقد تكون المسألة مفتوحة للعميل، على أساس متى وجدت القدرة عنده على الامتلاك، في الواقع البنك لديه الاستعداد في أن يبيعه ما يقدر على شرائه من هذه الحصص، هذه في الواقع نوع، نوع ثانٍ هو في الواقع أن يشترك العميل مع البنك، ليس للعميل قدرة على الشراء أو على تملك هذه السلعة التملك الكامل، فيأتي البنك أو المصرف ويمول هذه السلعة بالتمويل الكامل ثم بعد هذا يأخذ العميل أو يعطيه العميل حصته بقدر قدرته، ممكن أن يكون عشرة في المائة، خمسًا وعشرين في المائة، عشرين في المائة، على قدر قدرته، فيكون العميل مالكًا لهذه السلعة بقدر حصته، ويكون المصرف مالكًا للسلعة بقدر ماله من حصة، يأتي التأجير تأجيرها على العميل، ما يؤجر المصرف على العميل إلا ما يملكه المصرف، نفترض أنه يملك خمسًا وسبعين في المائة، إذن لو قلنا أنه يؤجر هذه السلعة بمائة ألف معنى ذلك ليس للبنك أو للمصرف الإسلامي إلا خمسا وسبعين في المائة من هذه الأجرة، وهكذا يستمر كما وجدت في الصورة الأولى، أعتقد في الواقع أن هذا هو غالب ما عليه البنوك الإسلامية فيما يتعلق بالتأجير المنتهي بالتمليك، وإذا نظرنا إلى التكييف الفقهي لهذه العملية وجدنا أنه في الواقع يشتمل على تأجير ووعد بالبيع، تأجير حال لبضاعة قائمة بذاتها معروفة سلمت بيد العميل وفي نفس الأمر كذلك وعد ببيع لبضاعة يملكها المصرف، أعتقد هذا في الواقع تصويرها وطالما أن البضاعة مملوكة للمصرف، وهو في الواقع يريد أن يؤجرها، أو يريد أن يبيعها، فله حرية ذلك ولا يرد عليه ما يقال بأن في هذا بيعتين في بيعة أو أنه باع مالا يملك، أو ما أورد على ما يتعلق بالمرابحة فيما قبل أن يمتلكها البنك وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2217 الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: في الحقيقة، التأجير المنتهي بالتمليك عندما يقرأ الإنسان هذا العنوان يجد فيه قلقًا لغويًّا: ومدار بحث فقهي، العين المؤجرة لا نستطيع أن نقول العين الفلانية إنما هناك أنواع كثيرة. هناك الطائرة، السيارة، الباخرة، العقار، القطاع، الأرض البور، الأرض الزراعية، مولدات الكهرباء، الدواب، الأنعام، الأثاث، وكل نوع من هذه الأنواع له خصوصية، فما أظن أننا نستطيع أن نأتي بحكم عام على هذه الأنواع المتعددة المختلفة في خصوصياتها، الذي ترتاح له النفس وتطمئن أن يكون إيجارًا منفصلًا بعقد، وبعد ذلك للمالك أن يبيع، أن يهب أن يجدد الإجارة مرة ثانية. إذا قلنا نجري عقد الإيجار للمحافظة على العين الحقيقية الذي لا يحافظ على العين وهو يملكها في البيع، وهو مدين في ثمنها، لا يحافظ عليها وهو مستأجر لها. فعلى البنك أن يختار من يبيع عليه، وأن يختار من يؤجر عليه، يجب أن يؤجر على الشخصية المحترمة التي تلتزم في الأمانة وتلتزم في الأداء سواء كان مستأجرًا أو كان مشتريًّا. هذا ما وردت بيانه. وشكرًا. الشيخ محمد عبد الغفار الشريف: بسم الله الرحمن الرحيم أشكر جميع من تقدمني من المشايخ الفضلاء، لكن وإن كان ما تفضل به البعض منهم بأن نعتبر هذا العقد عقد إيجار متضمنًا لوعد الهبة، كأحسن حل هو يمكن أن يكون أحسن حل، لكن يرد عليه إشكال، أن هذا الوعد بالهبة غير لازم، لا يلزم البنك وممكن أن يتحلل منه في أي وقت شاء، فإذن يكون المستأجر قد دخل على غرر، بحيث أنه قدم في النهاية هذا الإنسان يتحلل من وعده ولا يهبه هذه العين التي اتفقوا على هبتها له، ثم يفضي إلى التنازع، ولايحق في أي حال لا يحق لهذا المستأجر، أن يقاضي هذا الإنسان الذي وعده بالهبة، لأن الهبة بذاتها ليست لازمة إن لم تقبض، فكيف بالوعد؟ جزاكم الله خير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2218 الدكتور درويش جستنية: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. في الحقيقة أريد في الموضوع هنا أنه ينبغى فيه أن نفرق بين نوعين من السلع التي يمكن أن تباع، نوع تتجه أسعاره وأثمانه إلى الانخفاض بالاستعمال، وعرفًا دائمًا الآلات في المصانع والسيارات وكثير من الأشياء كلما زادت فترة الاستعمال كلما انخفض الثمن، فهذا نوع من السلع، وهناك نوع آخر، تتحسن قيمته بزيادة الاستعمال، كما في العقارات والأشياء المماثلة، فهنا ينبغي أن نفرق بين أنواع السلع، وقبل أن ندخل في هذه التفرقة بين أنواع السلع نقول: لو كانت هذه السلع التي يريد البنك أن يؤجرها، هو في الحقيقة إما أن تكون في الداخل أو الخارج لو كانت الصورة تتعلق ببنوك مثل بنك التنمية الإسلامي الذي يشتري معدات ومصانع لدول معينة، ففي هذه الحالة هذه حقيقة الأمر فيها الفكرة فيها أنها للتمليك وليست للتأجير، وكون الدولة تلتزم بدفع الأقساط – يعني – أو أنها تلتزم بدفع إجارة، في الحقيقة المسألة لا تختلف كثيرًا، لكننا نبحث عن أصل الملكية، هل كانت هذه الأدوات والمصانع أساسًا متوفرة لدى البنك الممول؟ هي ليست موجودة ولكن يشتريها بمواصفات معينة تضعها الدولة المعينة، أو يضعها الإنسان الذي يريد أن يستفيد من هذه الآلات، فعقد شرائها، هناك عقد لشرائها بمواصفات معينة، وهناك عقد لتأجيرها ووعد ببيعها، فصارت عقودًا متشابكة في عملية واحدة، الحقيقة هذه المسألة لا بد من بحثها بالتفصيل، كيف يشتري؟ وكيف يؤجر؟ وهذه المسألة لا يمكن أن تحسم بدون دراسة مستوفية لهذا الموضوع الآخر وهو كثير مما يمس حياة الناس، وهو تملك البيوت، الحقيقة أن تملك البيوت هذا تتدخل فيها مسألة لها علاقة بالزمن – يعنى – على مدى عشرين أو خمسة وعشرين سنة يتم التملك والنتيجة النهائية هي التملك لأن أسعار الأراضى والبيوت ترتفع في خلال هذه المدة مع الانتفاع بها. وهناك بعض الإخوة الأساتذة عرضوا فكرة أن يتم البيع من الأول على أساس أنه بيع بأقساط محددة، وأنه كل قسط يعتبر بيعًا من جزء هذا الأصل، وهذه طبعًا يمكن حسابها عمليًّا في التكلفة، بحيث أنه يخير، لو كانت مدة العقد عشرين سنة – مثلًا – فلو استطاع أن يدفع في عشر سنوات، يمكن له أن يدفع مع خصم معين، هذا مسموح به في الشريعة، لأنه عبارة عن تنازل عن القيمة، وهذا لا يمكن الاعتراض عليه، وتفعله كثير من الدول أيضًا في موضوعات الإسكان، ويمكن أن تفعله الشركات والبنوك. وأما إذا كان لم يدفع بعد انتهاء المدة، أو تقريبًا قبل انتهاء المدة بشيء قصير، فهذا معناه أنه يمكن بيع الجزء الذي تبقى، يعني الجزء الذي تم ودفع ثمنه يعتبر مباعًا إلى المشتري أو الساكن، والجزء الآخر يباع، وبذلك تتحقق مصلحة للبائع – الذي هو البنك – وتتحقق مصلحة لصاحب العقار إذا لم يرغب في استمرار هذا العقد، أما إذا أتم العقد فهذه ليست مشكلة، ويعتبر عقد بيع، ويمكن أن نستعيض بكلمة الهبة، أو التأجير والتمليك في النهاية، بما نسميه التنازل عن المنفعة، فإذا كان البنك يملك العين، فيستطيع أن يتنازل عن منفعتها بدون أجرة، وبدون أي شيء في إطار هذه الأقساط التي يحصلها، وعلى كل حال، فالمسألة تحتاج حقيقة قبل البت فيها – في رأيي – في هذه الندوة إلى مزيد من الدراسة التفصيلية للموضوعات حسب تقسيمها، وحتى يمكن أن ننتهي – ربما في جلسة قادمة – إن شاء الله – إلى قرار حاسم في هذا الموضوع، خاصة وأنه سبق للمجمع أن نظر في بعض العقود التي ينفذها بنك التنمية الإسلامي. وشكرًا لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2219 الشيخ محمد علي عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم استفسار من العارض الآن، تفضلتم في مقدمة كلامكم وقلتم وتكلمتم عن بعض الأسعار التي ترتفع، وبعض الأسعار التي تنخفض، أريد أن أعرف هل الانخفاض والارتفاع يكون معتبرًا في العقد أم لا؟ أو يكون يقع الاعتبار في الآخر عند الهبة. الدكتور درويش جستنية: هو في الحقيقة أن الارتفاع أو الانخفاض شيء يطرأ، وليس له علاقة في داخل العقد، إنما لو انخفضت الأسعار فهذا من مسئولية المشتري، ولو ارتفعت الأسعار فهذا أيضًا من حظ المشتري، ولكن عندما يحصل خلاف في النهاية قبل التسديد، فالبيع يتم، بيع شرعي وبالسعر الحاضر، فيعتبر ما تم دفعه جزءًا من الثمن، وأما الباقي فينتفع به البائع والمشتري، وفي هذه الحالة لا يستطيع أحد أن يغرم دون الآخر، وإنما هما مشتركان في الربح ومشتركان في الخسارة. وشكرًا. الدكتور عبد الله إبراهيم: بسم الله الرحمن الرحيم شكرًا يا فضيلة الرئيس: أريد أولًا أن أستجيب لبعض ما أثاره بعض الخبراء وهو الدكتور الجبير، فإنه ذكر أن العملية عملية التأجير المنتهي بالتمليك مركبة من بيع وإجارة. فلهذا يتكون الإيجار من ثمن الإيجار وجزء من قيمة البيع، الذي يظهر لي، أن البيع المقصود هنا لم يتم بعد وإنما هو موعود به، وينبغى أن يعقد له عقد مستقل عن عقد الإجارة، وذلك لأن ما بين البيع والإجارة تباين من حيث المعقود عليه، فإن الإجارة يقصد منها المنافع، بينما البيع مقصود به عين ومنفعتها، ولا يجوز – في رأيي – أن يعقدا في وقت واحد لهذا التباين. وبالتالي فإن إضافة جزء من القيمة، من قيمة البيع وهو لم يتم بعد، ونظرًا لهذا التباين فإن هذه الإضافة – فيما يتراءى لي – أنه أيضًا غير مناسب، ولكن يمكن أن نلجأ إلى طريقة أخرى لهذه الإضافة، وهي أن يتفق الطرفان بإضافة مبلغ فوق ثمن الإيجار المناسب للسلعة، ويودع هذا المبلغ المضاف في الودائع الاستثمارية في البنك الإسلامي على أنه ضمان أو تأمين للمول ولا يسفتيد منه في الحال وإنما يستفيد به بعد إتمام عقد البيع، بعد انتهاء مدة الإجارة، على أنه جزء من القيمة، ويتسلم في الحال هذا المبلغ بأرباحه ويتسلم بقية القيمة على أقساط … إلخ، وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2220 الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين: بسم الله الرحمن الرحيم سيدى الرئيس: الحقيقة أن الموضوع الذي هو بين أيدينا اليوم هو موضوع يتعلق بما يطلق عليه في القوانين الوضعية الصورية، وقد ذكره السنهوري وحلله في كتابه (الوسيط) في ضوء القوانين العربية بمقارنات وإن كانت قليلة مع الشريعة الإسلامية، ثم تعرض له القانون الكويتي في المادة 193 ,194. وتعرض له القانون المغربي في المادة 22، وقد أعددت عليها رسالة ماجستير في الصورية بين الشريعة والقانون. والخلاف يدور بين الحكم الشرعي الذي تعرض إليه الإخوان في مدار العقد بين الألفاظ والمباني، أو المقاصد والمعاني، فالمالكية في بعض آرائهم رجحوا الالتجاء إلى العقد الخفي، والحنفية ذهبوا إلى ذلك أيضًا. وقد شرح السنهورى- رحمه الله – هذا في كتابه الحقوق العينية والضمانات، أو مصادر الحق في الشريعة الإسلامية والقانون. والبحوث التي قدمت الآن، الدكتور عبد الله أعجبنى استنباطه في كتاب (الدرر) حيث نص على أن الخلاف وقع في الموضوع وعلى أن الخلاف إذا وقع حسب الرأي الذي استند إليه كان مدعاة للاجتهاد. لهذا فإن المجمع منذ البداية مزج الباحثون بين شيئين مختلفين، بيع العقار وبيع ماعدا العقار، ففي العقار المسألة واضحة وقد حلتها بلاد المغرب باتخاذ طريقة توافق الشريعة الإسلامية ويستفيد منها الضعفاء. ذلك أن الشركة أو البنك أو الجهة الممولة تبنى دورًا للسكنى فتحدد ثمنها، وتعرضه على الناس من أراد أن يشتري فليشترِ، يدفع قسطًا ضئيلًا جدًا في الأول، ويدخل المبنى على أنه ملك له وتبقى ما يسمى بوثيقة المحافظة العقارية التسجيل العقاري في الدفتر العقاري والذي هو إجراء لا يتعلق بالمسطرة الإسلامية، يبقى مؤجلًا حتى تنتهي الأقساط. أما صاحب العقار الذي يدخله فيصبح مالكًا لعقاره، لكنه مدين لصاحب المشروع بذلك المبلغ، وإن عجز عن أدائه تتبع في سبيله مسطرة أداء الدين في الشريعة الإسلامية بقي شيء هو الرهن الرسمي. ففي الشريعة الإسلامية الرهن – حسب ما لدي من معلومات متواضعة – الرهن وعد واحد، الرهن الحيازي وليس هناك رهن رسمي، بينما في الغرب نجد الرهن الحيازي والرهن الرسمي أي أن الشخص يكتب على صك الملكية أنها مرهونة وأنه لا يستطيع التصرف فيها إلا بعد أن تطهر من الدين الذي أصبح لاحقًا بها، فكان في نظري من اللائق أن يدرس المجمع الموقر شرعية أو عدم شرعية الرهن الرسمي فإذا توصلنا إلى جوازها فالمسألة محلولة؛ لأن المسطرة الموجودة هي مسطرة تسهل على الضعفاء. وأظن على أن جمعنا الموقر يريد إيجاد السبل التي تسهل على ضعفاء المسلمين الانتفاع بما بيدي أغبيائهم عن طريق تغاير الربا، أما إذا نحن نسقنا مع نظريات البنوك التي تهيؤها من أجل أن تضمن لنفسها الربح فإننا سنسد كل سبيل على الضعيف يمكن أن ينتفع به من مال الأغنياء، إذن فالمسألة في نظري ينبغى أن يفرق فيهما فيما بين تأجير الطائرات والسيارات، وهذا شيء لا أرى أنه يجوز إلى الدرجة التي يقول الجميع هنا لأنه عين تندثر، فإذا بيعت يمكن أن يبقى دين ممتاز أو دين ليسدد من ما بيد المدين. أما أن يأخذ شيئًا يمكن أن يندثر في يوم أو في يومين ويؤجره في شهر أو شهرين أو ثلاثة، وتأخذ الشركة أقساطًا من التأجير وعندما يهلك تصبح تطالبه بالدين كله، أو عندما يصبح لا فائدة فيه بعد عشر سنين يصبح ملكًا له، فهذا فيه مضرة للضغيف. ولكنني لا أتدخل هنا لأن المسألة أظن أنها ينبغى أن تدرس شرعيًّا فيما يرجع إلى الأشياء التي تندثر والأشياء غير العقار. أما العقار فينبغى أن يكون عقد تمليك من اللحظة الأولى، وأن تكون جهة التمويل تطالب الشخص فقط بذلك المبلغ على أنه دين مقسط. والدين المقسط جائز في الشريعة الإسلامية. وشكرًا لكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2221 الدكتور يوسف محمود قاسم: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وتمسك ومسك بشرعه إلى يوم الدين. الذي دعاني إلى طلب الكلمة في خلال دقائق معدودة مجموع ما سمعته وتعلمته من العلماء الأفاضل جزاهم الله خيرًا، استنتجت مما سمعت أن الصورة لا تزال يكتنفها الغموض، وأن هذا المجمع الموقر له كلمته المسموعة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، والعالم الإسلامي ينتظر منه كلمة في أي موضوع، فإذا قال كلمته صارت حجة ملزمة. بالنسبة للموضوع الذي يكتنفه الغموض، فإنى أرى التريث في إصدار القرار حتى تصوروه على بينة، وحتى نصل إلى الحق الذي يرضي الله عز وجل ويرضيه عنا. وهنالك فارق كبير بين بحث فردي، باحث يجتهد ويبحث في رسالته أو بحثه أو موضوعه جزاه الله خيرًا، أيضًا هيئة شرعية في مصرف أو في بنك إسلامي وعملهما في الواقع لا يخرج عن كونه عملًا فرديًّا، أما هذا المجمع الموقَّر فله إجلاله وله منزلته في قلوب المسلمين جميعًا. ولذلك أرى أن هذا الموضوع لا بد أن نبحثه من جميع جوانبه وحتى نصل إلى الحق الذي يوفقنا الله إليه. شكرًا لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. في تدخلي نسيت أن أتحدث عن قضية هامة – تفضل بعرضها الدكتور سامى حمود – هي التمليك التدريجي والتي عقب عليها كثير من الأخوان على أنه صورة من العقد يمكن قبوله، وهذا العقد في نظري هو لا يمكن قبوله شرعيًّا، ذلك أن التمليك التدريجي معنى ذلك أنه عند العقد إنما بيع جزء من العقار أو من الشيء المكتري، ثم إنه بعد ذلك يباع قسط آخر فهو قسط آخر وزعه عند البيع حالته هي غير معلومة، فبيعه من الآن بثمن معلوم ومحدد يترتب عليه أن يكون الثمن معلومًا وأن يكون المثمن غير معلوم، وكون المثمن غير معلوم لا يصح شرعًا، فأرى هذه الناحية لو نظرنا بالنظرة الأولي لنجد فيه خللًا. أما إذا تدققنا في النظر فلن نجد فيه هذا الخلل إلى يمنع منه. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2222 الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. في الواقع أن الإيجار من خلال البحوث التي جرت في المناقشات أن الإيجار المنتهي بالتمليك هو عنوان لا يمكن في الظاهر ترتيب حكم عليه بصفته عنوانًا لما ينطوِ عليه من عدة صور سواء كانت الصور القانونية المعمول بها قانونًا، أو الصور المعدلة أو الصور المقترحة ابتداءً. وفي الواقع قد تنتهون أو ترون أحد اتجاهين: إما أن يؤلف لجنة جريًّا على ما جرينا عليه، وننظر ماذا تنتهي إليه في صورة من الصور، أو في عدد من الصور، أو أنه يكون من الآن يقترح تأليف لجنة على الأمانة العامة، ويؤجل إلى الدورة اللاحقة، ويؤلف له ندوة من اقتصاديين متخصصين ومن شرعيين حتى تجمع الصور، لأن الصور التي أثيرت هنا لم تمر في أي بحث من هذه البحوث، وعدد من الصور كذلك مع مرورها في البحوث لم تتطرق لها المناقشة. فعلى كل الأمر متروك إليكم، فهل ترون أن نؤلف لجنة، وتدرس الموضوع فإن انتهت إلى شيء بعينه من هذه الصور وكان محل اتفاق أو أغلبية فذلك المطلوب، أو أن يقترح تأليف ندوة ويؤجل الموضوع بكليته إلى الدورة القادمة. الشيخ محمد المختار السلامي: نظرًا لأن الحل الأول هو سينتهي إلى الحل الثاني: الأمين العام: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم: يا سيدى من فضلك، إن هذا الموضوع قد وقع بحثه في الدورة السابقة، وأجل النظر فيه إلى هذه الدورة والموضوعات التي أرجئت أربعة، هذا رابعها. ولذلك أنا أرى أن الاقتراحين اللذين تقدما بهما – فضيلة الرئيس – ممكن الجمع بينهما. الجوانب التي بحثت وأخذت حظها من النظر تشكل اللجنة لتقديم الاقتراح المتعلق بالقرار المطلوب فيها، والجوانب الجديدة وهي كثيرة وتحتاج حقيقة إلى درس هي التي نعقد لها الندوة ويكون عرض نتائج هذه الندوة على المؤتمر القادم بإذن الله للتعرف على وجهة النظر فيما يخصها. وشكرًا. الرئيس: شكرًا. ممكن قد تكون اللجنة تنتهي إن شاء الله إلى الجمع بين الرأيين. اللجنة هي: الشيخ عبد الله بن بيه، الشيخ حسن الشاذلي، الشيخ محمد الصديق، الشيخ محمد المختار، الشيخ عبد الله محمد علي، الشيخ عبد الله محمد عبد الله مقررًا. موافقون. وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2223 مناقشة القرار الدكتور عبد الستار أبو غدة: قرار رقم (6) بشأن الإيجار المنتهي بالتمليك بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (الإيجار المنتهي بالتمليك) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. قرر: أولًا: إذا كانت الحاجة إلى هذا النوع من التصرف تحصل بالبيع بالأقساط مع الحصول على الضمانات الكافية فالأفضل الاكتفاء به عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك المبينة فيما بعد. ثانيًا: للإيجار المنتهي بالتمليك عدة صور جائزة شرعًا منها. (أ) عقد إجارة … الرئيس: بدل فالأفضل، فالأولى. أبو غدة: للإيجار المنتهي بالتمليك عدة صور جائزة شرعًا منها: (أ) عقد إجارة مع الوعد بهبة العين المستأجرة عند الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية على أن تكون الهبة بعقد منفصل. (ب) عقد إجارة يحتوي على عقد هبة معلق على شرط هو سداد جميع الأقساط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2224 (ج) عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد انتهاء العقد وسداد جميع الأقساط الإيجارية المستحقة خلال هذه المدة في واحد من الأمور التالية: - مد مدة الإجارة. - إنهاء عقد الإجارة ورد العين المأجورة إلى صاحبها. - شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة. ثالثًا: هناك صور أخرى يطلب من المصارف الإسلامية تقديم نماذج لعقودها وبيان ما يحيط بها من ملابسات وقيود سواء بالنسبة للعميل. مناقش: أو المصرف دكتور أبو غدة: أم المصرف لعرضه في دورة قادمة وبحثها وبيان حكمها في ضوء ما يقدم بِشأنها من بيانات. الرئيس: يكفي. اقرأ أولًا. دكتور أبو غدة: أولًا: إذا كانت الحاجة إلى هذا النوع من التصرف تحصل بالبيع بالأقساط مع الحصول على الضمانات الكافية فالأولى الاكتفاء به عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك المبينة فيما بعد.. الرئيس هذه مناسبة أظن أنه ما هي محل أخذ ورد. دكتور أبو غدة: ثانيًا: للإيجار المنتهي بالتمليك عدة صور جائزة شرعًا منها. (أ) عقد إجارة مع الوعد بهبة العين المستأجرة عند الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية على أن تكون الهبة بعقد منفصل. الرئيس: أرى الإخوان خرجوا … لماذا؟ سيعودن وإلا؟ مناقش: هنا يا سيدي في النقطة (أ) هل يكون الوعد بالهبة هذا لازمًا أو غير لازم غير مدكور في هذا القرار؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2225 الرئيس: عقد إجارة مع الوعد بهبة العين المستأجرة عند الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية على أن تكون الهبة بعقد منفصل. مناقش: يعني إذا كانت هذه الهبة، الوعد بالهبة لازمًا، فهنا إذن لي ملاحظة عليها لأنه يخرج هذا العقد من طبيعة الإجارة إذا كان الوعد بالهبة لازمًا. الرئيس: صحيح مناقش: أما أن نحذف (أ) ونكتفي بـ (ج) فقط، وكذلك (ب) ما فهمت ما المقصود من هذا عقد إجارة يحتوى على عقد هبة معلق على شرط هو سداد جميع الأقساط. فهناك يعني … الرئيس أنا أرى أننا نحن نترك هذه لا نثبتها ولا ننفيها حتي نمشي للتي بعدها نشوف ماذا يثبت في أيدينا من هذه الصور. نشوف حتى تتبلور أكثر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2226 الشيخ المختار: أعتقد أنه في المناقشة اتفقنا على هاتين الصورتين: الصورة الأولي وهي عقد الإجارة مع الوعد بهبة العين، وأن يكتب هذا أن تكتب الهبة في عقد منفصل وهذا الأصل وهذا الأفضل ثم إنها كذلك يجوز أن تكتب في نفس العقد، الهبة في نفس العقد، وعندنا الهبة هي تلزم بالنطق، بمقتضى العقد انتهت. هي ليست لازمة هي تلزم ولكن نطالب بالحوز والحوز هو تحت يده، فالهبة تلزم بمجرد انتهاء الأجل، لكن الذي أتوقف فيه هو هذا العقد الثالث، لأننا نحن نتحدث عن الإيجار المنتهي بالتمليك فإذا بالصورة الثالثة تأتينا على أنها تنتهي بمد مدة الإجارة أو إنهاء عقد الإيجار ورد العين المأجورة إلى صاحبها، أصبحنا نتحدث عن أشياء ليست داخلة في الموضوع الذي نتحدث فيه وما تحدثنا عن هذه الصور أيضًا فيما أذكر في المناقشات. الرئيس: لا، أما الصورة الثالثة فهي التي تحدثنا عنها بكثرة يا شيخ. الصورة الثالثة خاصة. مناقش: وهي السليمة. الرئيس: وهي السليمة وأذكر أن عددًا من الإخوان ركزوا عليها. هذه هي الصورة الثالثة. الشيخ المختار: الصورة الثالثة ليس فيها إيجار منتهي بالتمليك. الرئيس: لا، المهم أننا تحدثنا عنها، هذا يقين. الشيخ المختار: هي خارج الموضوع. الرئيس: لا لا، أقول قصدي أنها دخلت في المناقشة ما فيها إشكال، أما هي فالذي يظهر – والله أعلم – أنها هي أسلم الصور كلها ما فيها إشكال بالنسبة لي. الشيخ المختار: ليست من الإجارة المنتهية بالتمليك هي شيء آخر، نحن نتحدث عن الإيجار المنتهي بالتمليك، عندما تقول عند نهاية الأجل يتمدد أجل الكراء أو عند انتهاء الأجل يعود الملك لصاحبه ليس هذه هي الإجارة المنتهية بالتمليك المعروضة هو أمر آخر فهو حديث خارج الموضوع. الرئيس: طيب، لو يعني طالما أن أولًا إذا كانت الحاجة إلى هذا النوع من التصرف تحصل بالبيع بالأقساط، هذا بديل أم لا؟ مناقش: بديل. الرئيس: هذا بديل. نفس فقرة (ج) كذلك بديل. هي بديل للإيجار المنتهي بالتمليك. أليس كذلك؟ مناقش: صحيح. نعم، بديل. الشيخ المختار: إذا وضعناها كبديل مقترح ما فيه مانع، لكن لا بد من أمر خاص وهو شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة. هذا البيع على سعر السوق بعد عشرين سنة. أنا في الواقع عندي فيه توقف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2227 دكتور الضرير: الصورة الأولى: المقصود بها تفضيل هذه الصورة على الإجارة المنهية بالتمليك. الرئيس: هذا واضح دكتور الضرير.. وإذا لم يمكن نعم، وهذا هو القصد الذي من أجله وضعت لأنه الغرض من هذه العملية كلها المعاملة هو التمليك، فإذا كان ممكن أن تتم عن طريق البيع بالتقسيط فهو الأفضل إذا حصل ما يوجد عدم الصيرورة إلى هذه الصيغة التي هي البيع بالتقسيط فهذه الصور الثلاثة هذه، هي كانت محل اتفاق. الصورة الثالثة: التي أشكلت على الشيخ المختار، هي داخلة في الموضوع، أولًا من حيث الجواز ما أظن أن أحدًا يختلف في جوازها، ومن حيث دخولها وعدمه هي داخلة لكن كل ما هناك أنها أعطت المستأجر الخيار في أن يتملك أو لا يتملك. تباع العين المأجورة بسعر السوق. الفرق بينها وبين الصور السابقة أنه في هذه الصورة الثالثة الإيجار يكون بأجر المثل الحقيقي لأن المستأجر في الآخر سيشتري بسعر السوق، لكن في الصور التي قبلها تنتهي بالهبة في الغالب الإيجار يكون بحيث عندما ينتهي آخر قسط يكون استوفي الثمن كله فتكون هبة. الرئيس: لكن في الصورة الأولى عقد إجارة مع الوعد، يعنى وعدًا ملزمًا أو غير ملزم هنا؟ لأننا إذا قلنا عقد إجارة مع الوعد بهبة ملزمة.. دكتور الضرير وعد ملزم.. التصرف واحد الرئيس: فإذا صار ملزمًا فالصورة صورة إيجار والحقيقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2228 مناقش: تمليك. والحقيقة يخرج عن طبيعة الإيجار. الرئيس: أي نعم، ما رأيكم لو يعني طالما أن ثالثًا قيل هناك صور أخرى أنه بمسألة الإيجار المنتهي بالتمليك أنها تطرح البدائل التي هي أولًا بيع التقسيط والعقد (حـ) الذي فيه الخيارات الثلاثة. مناقش: هذا أحسن. الرئيس: ويكتفي عن (أ) و (ب) مناقش: هذا أحسن يكفي هذا أحسن.. هذا أحسن الرئيس: ما رأيكم؟ شوف يا شيخ مختار نحن نكتفي بأولًا الذي فيه بديل بعقد التقسيط ونكتفي بـ (حـ) الذي فيه الخيار بين أمور ثلاثة. الشيخ المختار: بمعنى أننا لم نحل شيئًا من المشكلة في القضية المطروحة علينا. الرئيس: لأن ثالثًا توحي بالدراسة مستقبلًا. ثالثًا آخر القرار عندك الشيخ المختار: أيه شفته شفته أنا قرأته ما أتحدث إلا وقد استوعبت القرار، الموضوع المقترح المعروض علينا: هو الإيجار المنتهي بالتمليك، هذا إما أن نقول إنه حرام وهذه هي البدائل، وإما أن نقول إن الإيجار المنتهي بالتمليك هو عقد يمكن أن يسوغ على الطرق التي يمكن أن يسوغ بها. الشيخ التسخيري: نقول – لأن فيه إشكالات- الأفضل الآن الاتجاه إلى البدائل حتى تدرس العقود من جديد. الرئيس: هذا هو، ما فيها شيء هذا طيب. الشيخ المختار: حين انتهينا إلى أن الإيجار مع الهبة وهذا ما وقع والتسجيلات موجودة على أن الإيجار المنتهي بالهبة هو جائز شرعًا وهو أفضل الوجود ووافق عليه كل الناس. الرئيس: لا أبدًا، لا أبدًا الاتفاق ما حصل سلمك الله، أما البحث فهو نعم بحث أما الاتفاق فلا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2229 الشيخ المختار: أذكر أظن أن الشيخ الضرير يذكر وقال هذه صورة نتفق عليها، وأظن أن الشيخ الضرير تدخل بمثل هذا التدخل. الشيخ الشريف: عفوًا أولًا، التعبير أولًا فيه خطأ واضح، لأنه ما يمكن أن نقول إذا كانت الحاجة تحصل، سد الحاجة أو قضاء الحاجة يحصل ولكن العبارة تكون الأفضل بالشكل التالي: إذا كان البيع بالأقساط مغنيًّا عن هذا النوع من التصرف فالأفضل الاكتفاء به عن صور الإيجار إلى آخر، يعني الحاجة لا تحصل بالبيع وإنما نقضي الحاجة، نسد الحاجة بالبيع بالأقساط. الرئيس: الحقيقة البيع بالتقسيط مع الرهن يعني واضح أنه الشيخ الشريف: يعني إذا كان البيع. الرئيس: لا، لأنه يكون مع حصول الضمانات الكافية الشريف: لكن العبارة تبدل يعني العبارة غير صحيحة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2230 الشيخ تقي الدين العثماني: لو اكتفينا بالبدائل. لو جعلنا القرار أن المقصود من عقد الإجارة المنتهي بالتمليك يمكن أن يحصل عليه بصورتين، الأولى: البيع بالتقسيط. والثانية: ما ذكرناه في (حـ) فيعني نقول أن المقصود من الإجارة المنتهية بالتمليك يحصل بهاتين الصورتين شرعًا. الرئيس: هو المهم إذا رأيتم لأن هذا فيه احتياط وفيه ترك للخلاف في الصور التي يعني هي.. الشيخ المختار: بالله يا سيادة الرئيس الواقع أن الحقيقة لأنه لما عرض علينا هذا التعامل من المصارف الإسلامية هو أن البيع بالتقسيط لا يوفي بالغرض لأن البيع بالتقسيط ينتقل ضمانه وتنتقل الملكية إلى المشتري من أول يوم، بينما الإيجار هو صورة يريد منها المالك أن يبقى الملك له، ولا تنتقل عنه الملكية إلى أن يستوفي ثمن المبيع، هذه هي الصورة التي من أجلها وقع التعليل، إما أن يقول إنه يريد البيع بالتقسيط، فهذه قضية عرفها حتى صغار العلماء، ما هي القضية التي نحن نعطيها بديلًا ونقول هذا بديل، القضية هو أن الشخص يريد أن يبيع وأن يبقى الملك تحت تصرفه في البيع والشراء والتفويت ولا ينتقل التصرف إلى المستأجر. الشيخ تقي الدين العثماني: وهناك يختار الصورة الثالثة وهي مذكورة في (حـ) الشيخ المختار: عند انتهاء المدة قد دفع الثمن كاملًا، نعطيه مثلًا وهذا بينته، قلت إنه إذا كان شركة تريد أن تشتري محركين لطائرة فتأتي إلى المصرف الإسلامي فيشتري لها المحركين ويبقى المحركان أو الطائرة تحت ذمته هو المسؤول عنها وهو المالك لها إلى أن يقع الخلاص، ففي اليوم الذي يقع الخلاص بمجرد انتهاء الخلاص تنتقل إلى ملك المشتري أو المستأجر. هذه الصورة التي تقع في الواقع يريدون لها حلًا فنقول لهم نحن بيعوا بالتقسيط، يقولون: ما هذا الذي يريدون، هذا نوع من الأنواع الذي تعرض له البنك الإسلامي للتنمية وغيره. مناقش: ووقع الاتفاق عليه. الرئيس: طيب … لا ما وقع الاتفاق صدر بالأكثرية في عمان عقد إجارة مع الوعد بهبة ملزمة مع وعد ملزم أو غير ملزم؟ أنا أسأل الشيخ المختار. الشيخ المختار: الوعد ملزم لا شك فيه يا شيخ الرئيس: مهلًا يا شيخ، مع وعد ملزم؟ الشيخ المختار: ملزم لا شك فيه الرئيس: طيب، هل يتلاقى مع ما قرر في المرابحة على اشتراطكم أن يكون الوعد الملزم، ما كان ... الشيخ المختار: الهبة … الهبة … الهبة … عندما تحدثنا في الآخر هو في عقد المعاوضة، وهنا نتحدث عن عقد هبة، وعقد الهبة يجوز عند المالكية بكامل الوضوح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2231 الرئيس: أن يلزم الناس ... الشيخ المختار: لأنه على سبب. الرئيس: يجوز أن يلزم الناس بأن يهبوا؟ يجوز الإلزام بأن يهب فلان؟ المختار: أنا لا ألزمه هو وحده، هو التزام أنا ما ألزمت أحدًا. أنا قلت على كذا فإذا وهب تفضل فإذا يريد ألا يقع هذا العقد فلا يقع. ما ألزمت أحدًا. دكتور الضرير: في رأيي أن هذه الصيغة مقبولة هو كما قال الشيخ المختار، وأنا كنت معه في هذا الاجتماع وأجزنا هذه الصيغة ولا أرى فيها إشكالًا، هو عقد إجارة هذه ما فيها كلام مع الوعد بهبة، ونحن كنا قررنا أن هذا الوعد وعد من جانب واحد، وعد بمعروف. فنحن قررنا أن الوعد من جانب واحد ملزم ديانة وملزم قضاء إذا أدخل دخل الموعود في إفساد، وهنا واضح أنه الشخص هذا جاء دخل في هذه الإجارة وأجر لأن هذا وعده بأن يهبه في آخر الأمر هذه السلعة، فالقواعد منطبقة على هذه الصورة فيما أرى وهي التي تحل المشكلة في الواقع التي عرضت علينا في وقتها وهي مشكلة البنك الإسلامي للتنمية، ويعتقد أن كل ما شابه موقف البنك الإسلامي يمكن أن تنطبق عليه هذه الصورة ولا أرى فيها مخالفة شرعية. الرئيس: طيب وإذا كان الأمر كذلك ما هو السر في أن تكون بعقد منفصل لولا وجود التواطؤ المسبق؟ دكتور الضرير: هذه كانت وعدًا فقط، وعد ملزم. هو ما قال له وهبتك، هو جائز حتى لو وهبه وعلقها التي هي الصيغة الثانية: عقد إجارة على عقد هبة معلق على شرط الوفاء. الصورتان جائزتان عندي، لكن الحالة الأولي لا بد من إنشاء الهبة لأن الوعد وحده لا ينشئ الهبة، فإذا انتهت المدة يقول له: وهبتك. وحسب مذهب المالكية الذي نأخذ به على أنه حتى بالصيغة تصبح الهبة لازمة. الشيخ المختار: عندنا: وحيث ما شرط على الطبع جعل، فالأحسن كتبه بعقد منفصل هوأي صورة ولا مانع أن نكتبها في نفس العقد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2232 مناقش: بالنسبة للهبة الموعود بها، فإن هذا يأتي بمشكلة أخرى، فإن المؤجر نظرًا لوعده الهبة فإنه سيضع مقابلًا لهذه الهبة الموعود بها مبلغًا آخر فوق الإيجار المناسب، هل يجوز أن يوضع مبلغ للهبة الموعود بها والهبة لم تقع بعقد؟ هذه هي مشكلتي. مناقش: أنا أقول بأن الأن الصورة (ج) أعتقد بأنها هذه محل اتفاق بيننا جميعًا. الرئيس: نعم، هذا مناسب. مناقش: طيب، باقية الصورة (أ) والصورة (ب) ، الآن إذا أحببت فضيلتك أنك تأخذ الأصوات على بقائهما أو عدم بقائهما، لا يوجد لدينا مانع، لأنها هي يبدو أنها مسألة خلافية، لكن في الوقت نفسه. مناقش: لا نسمع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2233 الرئيس: لا، لا، واضح. كلام الشيخ كما جرى البحث فيه الآن على أن عندنا بيع التقسيط، وعندنا عقد الإجارة مع الوعد بالهبة وعندنا عقد الإجارة يحتوي على عقد هبة معلق على شرط، وعندنا عقد الإجارة الذي فيه واحد من ثلاث خيارات. والاتفاق هذا لا إشكال فيه واقع عن الصيغة الأولى وهو عقد التقسيط كبديل، وعلى فقرة (ج) كبديل آخر، يبقى هذان الموضوعان فقرة (أ) وفقرة (ب) ، هل ترون إبقاء هاتين الفقرتين أو حذفهما؟ ويبقى في القرار البديل. مناقش: حذفهما. الرئيس: أما أنا فأرى الحذف. والذي يرى الحذف يرفع يده. الشيخ المختار الاسلامي: بالبديل لا من فضلك لا، أما بالبديل غير ممكن، أما يبقى البديل وحده، هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن المجلس أنه يقول: الإيجار المنتهي بالتمليك ثم نقول بالبديل فقط، بمعنى أنه لا يجوز. الرئيس: لا، لا ما هو كذا يا شيخ مختار. نحن سنقول في الفقرة الثالثة، سنصوغ العبارة من جديد، سنقول: أن صور عقد الإيجار المنتهي بالتمليك تحتاج إلى مزيد من تقديم هذه العقود وبيان ما يحيط بها من ملابسات وقيود سواء بالنسبة للعميل أو المصرف لعرضها في دورة قادمة، والمجلس يرى بديلًا أي يرى كحل مؤقت أو كحل. يرى أن التعامل الآتي يعني حلًّا مؤقتًا كذا وكذا. المختار السلامي: سيدى.. سيدي الرئيس: الواقع الحقيقة أن هذا الحل ليس حلًّا، وإنه ليس الذي يطلبه التعامل المصرفي حاضرًا. الرئيس: هو دلالة. المختار: تقول له كحل وليس حلًّا، فلتبق القضية كلها للدورة القادمة. أما أن تقدم الحلول هذه التي ليست حلولًا؟! الرئيس: إذا رأيتهم تبقى كلها تبقى. المختار: أنا أرى أن تبقى أن يكون (أ) و (ب) تبقى. إذا رأيتهم حذف الكل حذف الكل، أما البديل فقط ليس بديلًا، لأن البديل بمعنى أنه شيء يمكن تحقيقه يحقق الغرض، وهذا لا يحقق الغرض. مناقش: هو (حـ) باقي بطبيعته محل اتفاق (حـ) … محل اتفاق الرئيس: (حـ) محل اتفاق. مناقش: يبقى الخلاف هو فقط، في (أ) و (ب) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2234 مناقش: عفوًا فقرة (حـ) أنا أخالف فقرة (حـ) حقيقة لأنها فعلًا تحقق مصلحة الضعيف، لأن لا مصلحة للمستأجر هنا ما أعطيناه أي شيء، بالعكس أعطيناه ثلاث خيارات، والخيارات كلها تمثل الضعف، ونحن علينا أن نحمي الجانب الضعيف. أليس كذلك؟ الرئيس: هل ترون تأجيل الموضوع؟ مناقش: نعم. الرئيس: هل ترون تأجيله بالكامل. الدكتور الصديق الضرير: أنا أرى أنه إذا كان مجرد تأجيل لـ (2) و (39) ، لا، ما نعمل بهذا. التأجيل للتي بها البحث، لكن إذا كنا سنبت فيها بأنه جواز أو عدمه لا. مجرد تأجيل تدخل مع ثالثًا، تدخل في الصور التي ستقدم وتشرح فيما بعد شرحًا وافيًا ونكتفي بالاثنين. الرئيس: أي الاثنين؟ الصديق: الأول البيع بالتقسيط و (ج) ، نثبت البيع بالتقسيط ونثبت (حـ) على أن هي فيها بديل ونرجئ ... الرئيس: ونرجئ الموضوع. الضرير: هذا ممكن في الحقيقة إذا رأيتموه مناسبًا؟ الذي يرى أن تبقى مسألة بيع التقسيط وفقرة (حـ) ، ويرجأ موضوع الإيجار المنتهي بالتمليك إلى الدورة القادمة.. يرفع يده. الأمين العام: يا سيدي أنا أقترح اقتراحًا: بالنسبة للدراسات التي قدمت في الموضوع لم تقدم إلا دراسة واحدة، والدراسة الواحدة لا يمكن أن نبني عليها أحكامًا مفصلة، وإذا كنا بالنسبة لشطر هذا الموضوع قد اقترحنا التأجيل فليؤجل الموضوع كله، وتأتي الدراسات وبعد ذلك ننظر انتهى الأمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2235 الرئيس: الدراسة فيها أربع خمس دراسات يا شيخ. أبو وغدة: صغيرة الرئيس: فيها خمس دراسات. على كل نحن اتخذنا قرارًا بالتأجيل ونرى للدلالة على حل في هذا الموضوع مؤقت يراه العلماء لا محظور فيه (البيع بالتقسيط) وما ورد في فقرة (حـ) من التخيير وليس فيها محظور. المختار السلامي: سيدي الرئيس.. كلامنا مثلما يقول شخص أنا جائع وأريد أن آكل ونقول: تفضل أنا أعطيك جبة ألبسها، هذا أمر مناسب، رجل يطلب منك شيئًا … فالبديل هو أن يكون من الموضوع. الرئيس: على كل نحن بين أمرين: إما أن يؤجل الموضوع بكليته. الشيخ المختار: بكليته … إما كليته أو … الرئيس: أو نذكر … لأن – حقيقة – هاتين الفقرتين تعب عليهما وجرى حولهما مناقشات كبيرة فكونهما تقران فيها دلالة وإرشاد للناس. مناقش: تبقى هاتان الفقرتان، ونؤجل الفقرة (أ) و (ب) ألف وباء نؤجلهما … الضرير: إذا أجلنا كل الموضوع لم نكن فعلنا شيئًا. الرئيس: إذن أنا أري في الواقع ويرى عدد من الإخوان الاكتفاء ببيع التقسيط وفقرة (حـ) ويصاغ القرار من جديد ويكون الإيجار المنتهي بالتمليك يؤجل. المختار الإسلامي: عجيب، مجمع الفقه الإسلامي يجتمع لكي يقول: إنه يجوز البيع بالتقسيط، لأن مجمع الفقه الإسلامي يريد أن يقول: أن تبيع الإيجار عندما تنتهي الإجارة يجوز ذلك أن تبيع بالتقسيط … الرئيس: ما قلنا يجوز … . ما قلنا يجوز بيع التقسيط.. لا ما قلناه، إنما قلنا دلالة. أظن قلتها أكثر من عشر مرات دلالة على أن هذا كبديل مؤقت. المهم الذي يرى هذا يرفع يده انتهى يصاغ يا شيخ عبد الستار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2236 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم المرسلين وعلى آله وصحبه قرار رقم (6) بشأن الإيجار المنتهي بالتمليك إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409هـ/10 إلى 15 كانون الأول) ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع) الإيجار المنتهي بالتمليك) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم (1) في الدورة الثالثة بشأن الإجابة عن استفسارات البنك الإسلامى للتنمية فقرة (ب) بخصوص عمليات الإيجار. قرر أولاً: الأولى الاكتفاء عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك ببدائل أخرى منها البديلان التاليان. (الأول) : البيع بالأقساط مع الحصول على الضمانات الكافية (الثاني) : عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية المستحقة خلال المدة في واحد من الأمور التالية: - مد مدة الإجارة. - إنهاء عقد الإجارة ورد العين المأجورة إلى صاحبها. - شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة. ثانياً: هناك صور مختلفة للإيجار المنتهي بالتمليك تقرر تأجيل النظر فيها إلى دورة قادمة بعد تقديم نماذج لعقودها وبيان ما يحيط بها من ملابسات وقيود بالتعاون مع المصارف الإسلامية لدراسته وإصدار القرار في شأنها. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2237 تحديد أرباح التجار إعداد الشيخ محمد المختار السلامي مفتي الجمهورية التونسية ورئيس المجلس الأعلى الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. (تحديد أرباح التجار) يدخل تحت هذا العنوان: أولًا: تحديد أرباح التجار من الشارع على معنى هل قدرت الشريعة الإسلامية للتجار ربحًا لا يتجاوزونه، بحيث لو تعدى التاجر تلك النسبة يكون آثمًا أو ملومًا. ثانيًا: مقدار الربح الذي للتاجر أن يربحه في بيع الاستئمان. ثالثًا: تدخل السلطة لتحديد أرباح التجار. النوع الأول: لم أجد فيما اطلعت عليه من نصوص الكتاب والسنة وما أثر من أقوال الفقهاء ما يفيد أن الشريعة حددت للتجار ربحًا هو السقف الذي ليس لهم تجاوزه بل المأثور عن الصحابة والتابعين أن للتاجر أن يربح الضعف وأكثر منه، وقد أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك كما يفيده الحديث الذي جاء فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلف أحد أصحابه أن يشتري له شاة أضحيه بدينار. فرجع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدينار وشاه. وقال له: يا رسول الله اشتريت شاتين بدينار، ثم بعت إحداهما بدينار. فهذه شاتكم وهذا ديناركم. فرضي صلى الله عليه وسلم ما فعله صاحبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2238 النوع الثاني: بيع الاستئمان، وهذا النوع من البيوع هو البيع الذي يكون فيه المشترى جاهلًا بالثمن، ويقول للتاجر بعني بالثمن الذي تبيع به للناس فهذا قد صرح بوثوقه في أمانته فلا يجوز للتاجر أن يزيد على ثمن السوق. ولكن لم تحد له الشريعة حدًّا في الربح لا يجوز له أن يتجاوزه، فلو اشترى السلعة بعشرة وكان ثمنها في السوق مائة وباع للمستأمن بمائة فليس له حق القيام عليه وما تحصل عليه من الربح حلال له. النوع الثالث: تدخل السلطة لتحديد أرباح التجار. وهذا هو المعبر عنه بالتسعير ورأي أنه المقصود الأعظم من العنوان. التسعير لغة: الاتفاق على سعر – أسعروا وتسعروا تسعيرًا، بمعنى واحد، اتفقوا على سعر وقال الصاغاني أسعره وسعره بينه. والتسعير تقدير السعر، قاله ابن الأثير (1) التسعير اصطلاحًا: (أ) تقدير السلطان أو نائبه للناس سعرًا وإجبارهم على التبايع بما قدره. (ب) أن يأمر الوالي الناس بسعر لا يجاوزونه (2) (ج) أن يأمر الوالي السوقة أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بكذا (3) . (د) تحديد حاكم السوق لبائع المأكول فيه قدرًا للمبيع بدرهم معلوم (4) (هـ) تحديد حاكم السوق المبيع المأكول فيه قدرًا للجميع بدرهم معلوم (5) . هذه التعريفات الخمسة تتفق أولًا على أن التسعير المبحوث فيه إنما هو تدخل صاحب السلطة في تحديد الثمن، سواء أكان الحاكم العام، أو صاحب السوق المفوض له من الوالي متابعة ما يجري في الأسواق وإقامة العدل بينهم – وثانيًا على أن هذا التدخل إنما هو في تقدير ثمن المبيع دون غيره من المصالح التي يحتاج إليها الناس كالإجارة والكراء، والحمل والتطيب والتعليم … إلخ. وتتفاوت في محتواها ذلك أولًا. إن التعريف الأول والثاني أعم من البقية؛ لأن التعريف الأول لا يجعل التسعير خاصًّا بالسوق، بل يجري التسعير على السوقة وعلى غيرهم لقولهما (للناس) بينما هو على التعريفات الثلاثة الأخرى يختص بالسوق. ثانيًا: أن حد ابن عرفة وتلميذه ابن ناجي أخص من الثلاثة الأولى إذ يربط التسعير بالمأكول وحده بينما يطلق أصحاب التعريفات الأخرى فيتناول التسعير عندهم المأكول وغيره.   (1) تاج العروس: 12/28 (2) مطالب أولي النهي: 3/62 أسنى المطالب: 2/38 الموسوعة الفقهية: 11/301. (3) زاد المحتاج: 2/38 مغني المحتاج: 2/38 (4) شرح حدود ابن عرفة: ص 258 (5) ابن ناجى: ط 120 حاشية الجلاب: 2/168 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2239 حكم التسعير: لا شك أن التسعير تقييد لحرية البائع وعدم اعتبار لرضاه أو سخطه بالقيمة التي يحددها صاحب السلطة. وعنصر الرضا شرط أساسي لسلامة العقود. والضغط على إرادة البائع لبيع سلعته بثمن محدد من إرادة صاحب السلطة إكراه. وأمر السلطان إكراه بالإجماع. إلا أن هذا الإكراه هل هو إكراه بحق فلا إثم فيه أو هو إكراه بغير حق، فالحاكم المسعر آثم. أو المقام مقام تفصيل. للإجابة على هذا لا غنى عن الرجوع إلى القرآن والسنة: أولًا القرآن أما القرآن فلا نجد فيه في التسعير إلا الآية العامة التي هي قاعدة من قواعد التعامل يقول الله تعالى ++ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ (1) . يروي الطبري بسنده إلى السدي ما يلى: (نهى عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل وبالربا والقمار، والنجش والظلم إلا أن تكون تجارة ليربح في الدرهم ألفًا أن استطاع (2) . ويقول الشيخ ابن عاشور: ومعنى أكل الأموال بالباطل أكلها بدون وجه، وهذا الأكل مراتب (3) . المرتبة الأولى: ما أجمع عليه جميع السامعين مما هو صريح في كونه باطلًا كالغصب والسرقة والحيلة. المرتبة الثانية: ما ألحقه الشرع بالباطل فبين أنه من الباطل، وقد كان خفيًّا عنهم. وهذا مثل الربا فإنهم قالوا إنما البيع مثل الربا – ومثل رشوة الحكام – ومثل بيع الثمرة قبل بدو صلاحها – ففي الحديث ((أرايت إن منع الله الثمرة بمَ يأخذ أحدكم مال أخيه)) . والأحاديث في ذلك كثيرة قال ابن العربي هي خمسون حديثًا. المرتبة الثالثة: ما استنبطه العلماء في ذلك مما يتحقق فيه وصف الباطل بالنظر. وهذا مجال للاجتهاد في تحقيق معنى الباطل. والعلماء فيه بين موسع ومضيق مثل ابن القاسم وأشهب من المالكية وتفصيله في الفقه (4) فالنهي عن أكل المال بالباطل واشتراط الرضا في التعامل من القواعد العامة التي تتتنزل على الوقائع بالاجتهاد.   (1) سورة النساء: الآية 29 (2) الطبري: 8/30 (3) الطبري: 8/30 (4) التحرير والتنوير: 2/190 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2240 ثانيًا: السنة: 1- الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله سعر لنا. فقال: ((أن الله هو المسعر القباض الباسط الرازق وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال)) أخرجه أبو عيسى الترمذي وقال حسن صحيح (1) 2- الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري، قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: لو قومت لنا سعرنا قال: ((إن الله هو المقوم أو المسعر، إنى لأرجو أن أفارقكم وليس أحد منكم يطلبنى بمظلمة في مال ولا نفس)) (علَّق عليه أحمد البنا بقوله رجاله رجال الصحيح وحسَّنه الحافظ) (2) . 3- الحديث الذي رواه أبو هريرة - أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سعِّر لنا، فقال: ((إن الله يرفع ويخفض، ولكنى لأرجو أن ألقى الله عز وجل وليس لأحد عندي مظلمة)) (3) فالأحاديث المتصلة عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك تتفق كلها (1) على أن الأسعار ارتفعت، (2) أن الصحابة طلبوا تدخل النبي صلى الله عليه وسلم لتحديد السعر (3) أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من التسعير (4) أنه لم يستجب لطلبهم معللًا رفضه يكون التسعير مظلمة يخشى أن يطلبه أحد بها يوم القيامة، وأن الظلم حرام. فظاهر الأحاديث تقتضي المنع من التسعير أيضًا كما أن ظاهر القرآن يقتضى المنع أيضًا. ولذلك فإنه بالرجوع إلى كلام فقهاء المذاهب الأربعة نجدهم يجمعون على أن الأصل في التسعير هو التحريم. مذهب الحنفية: في الفتاوى الهندية – ولا يسعر بإجماع (4) ويقول الحصكفي: ولا يسعر حاكم لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تسعروا، فإن الله هو المسعر القابض الباسط)) . يقول ابن عابدين: لا يسعر أي يكره (5)   (1) عارضة الأحوذي: 6 /53 وأخرجه أحمد: 3/156 – 286 وابن ماجه كتاب التجارات: 2/741 والدارمي: 2/249 (2) رواه أحمد: 3/58 ورواه ابن ماجه ونقد سند: 2/741 (3) رواه أحمد: 2/337-372 (4) الفتاوى الهندية: 3/214 (5) رد المحتار: 5/256. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2241 مذهب المالكية: سُئِلَ ابن القاسم عن قول مالك ينبغي للحاكم إذا غلا السعر واحتاج الناس أن يبيع ما عندهم من فضل الطعام أن يبيعوا! قال: إنما يريد مالك طعام التجار الذين خزنوا للبيع من طعام جميع الناس إذا اشتدت السنة واحتاج الناس إلى ذلك ولم يقل المالك يباع عليهم ولكن قال: يأمر بإخراجه وإظهاره للناس، ثم يبيعون ما عندهم مما فضل عن قوت عيالهم كيف شاؤوا ولا يسعر عليهم، قيل: فإن سألوا الناس مالا يحتمل من الثمن؟ هو مالهم يفعلون فيه ما أحبوا ولا يجبرون على بيعه بسعر يوقت لهم – هم أحق بأموالهم – ولا أرى أن يسعر عليهم، وما أراهم إذا رغبوا وأعطوا ما يشتهون أن لا يبيعوا – وأما التسعير فظلم لا يعمل به من أراد العدل (1) . وقال ابن وهب سمعت مالكًا وسئل عن صاحب السوق بسعر، فيقول: إما بعتهم بكذا، وإما أخرجتم السوق، فقال: قال مالك: لا خير في هذا (2) . مذهب الشافعية: يحرم التسعير ولو في وقت الغلاء بأن يأمر الوالي السوقة أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بكذا للتضييق على الناس في أموالهم، وقضية كلامهم أن ذلك لا يختص بالأطعمة (3) . مذهب أحمد: قال ابن حامد ليس للإمام أن يسعر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون وهذا مذهب الشافعي – وكان مالك يقول: يقال لمن يريد أن يبيع أقل مما يبيع به الناس بِعْ كما يبيع الناس أو أخرج عنا – وناقش مالكًا واستدل بحديث أنس - وعلق عليه بقوله إنه علل بكونه مظلمة والظلم حرام (4) . وكما استدل أصحاب المذاهب على أن الأصل في التسعير المنع بالقرآن والسنة، كذلك استدلوا على المنع بالمصلحة التي يجب مراعاتها – وبالعدل الذي هو المعيار الذي يجب أن يضبط تدخل صاحب السلطة. يقول الشوكاني وجه المنع من التسعير أن الناس يسلطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين. وليس نظره في مصلحة المشتري يرخص الثمن أولى من النظر في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم (5)   (1) المعيار: 6/425 (2) المعيار: 6/425 (3) مغني المحتاج: 2/38 (4) المغني: 4/239 – 240 (5) نيل الأوطار: 3/335. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2242 ونقل صاحب المغني عن بعض الحنابلة أن التسعير سبب الغلاء لأن الجاليين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعهم بلدًا يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون. ومن عنده البضاعة يمتنع من بيعها، ويكتمها ويطلبها أهل الحاجة إليها فلا يجدونها إلا قليلًا، فيرفعون في ثمنها ليصلوا إليها، فتغلو الأسعار ويحصل الإضرار بالجانبين، جانب الملَّاك في منعهم من بيع أملاكهم وجانب المشترى في منعه من الوصول إلى غرضه فيكون حرامًا (1) فالشوكاني يثير قاعدة مقطوع بها: إن الحاكم ليس له أن يحابي طرفًا ليستفيد طرف آخر. ولما كانت مصلحة البائع أن يبيع سلعته بالثمن الذي يرغب فيه دون أن يلزم أحدًا بالشراء منه، وكانت مصلحة المشتري أن يحصل على مرغوبه بأقل ثمن ممكن، ولما تعارضت المصلحتان وجب على الحاكم أن يعتزل عن التدخل، وأن يترك لكل من المتبايعين الاجتهاد لمصلحة نفسه شأن البيع الذي هو باتفاق مبني على المكايسة والمماكسة. فهذه النظرية يدافع عنها الشوكاني هي نظرية العرض والطلب في تحديد الأسعار، وقبول كل طرف بالنتائج المترتبة على ذلك، فكما يعجز الحاكم عند رخص الأسعار وخسارة التجار أن يفرض على المشترين سعرًا أرفع، فكذلك ليس له إذا غلت الأسعار أن يخفض منها لفائدة المشترين. وهذه النظرية هي نظرية سليمة في بادئ الرأي، لو كانت الحياة تجري على نسق وفرة العرض وقلته، ووفرة الطلب وضآلته. ولكن التجار قد يتدخلون لإعطاء صورة مفتعلة ليوفروا لأنفسهم أرباحًا أكثر كما سنبينه فيما بعد. وأما صاحب المغني فإنه يبني تعليله في منع التسعير على أن التسعير ضرر محض لا صلاح فيه لا للمشتري ولا للبائع. فهو مفسدة وتصور خاطئ ناتج عن قصر في النظر. ذلك أن التسعير يؤول إلى الضرر بالمشتري (المستهلك) لأن تدخل السلطة يترتب عليه انقطاع العرض، لأن الجالبين إذا عرفوا أن السلطة تتدخل في تحديد الأثمان امتنعوا من جلب السلع للأسواق فيتضرر الباعة بتعطيل نشاطهم ويتضرر المشتري (المستهلك) بانقطاع ما هو في حاجة إليه ويغلو الثمن ولا بد.   (1) المغني 7/340. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2243 وجه آخر من النظر إن هذه النصوص التي ذكرناها والأدلة المستندة للقواعد التي حللناها يعارضها من ناحية أخرى أدلة وقواعد يمكن الاستناد إليها. فمن ذلك الاحتكار فقد ورد في الاحتكار أحاديث كثيرة رويت بطرق متعددة تدل على تحريم الاحتكار، فقد روى مسلم قال: كان سعيد بن المسيب يحدث أن عمر بن عبد الله العدوي قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من احتكر فهو خاطئ)) (1) . ورواه أحمد وأبو داود والترمذي كما روي النهي عن الاحتكار بأسانيد مختلفة يقوي بعضها بعضًا وأصحها هو ما رواه مسلم (2) . ومعنى خاطئ أي آثم فالاحتكار - حسب ظاهر حديث مسلم - حرام، مع أن المحتكر إنما تصرف في ماله تصرفًا مشروعًا في أوله، إذ أن صاحبه قد اشترى ما يحل له شراؤه بعقد صحيح، لا ظلم فيه. وبين الإنسان ما دخل في ملكه بعقد صحيح لا يكون إلا برضا المالك عملًا بالآية: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ونظرًا لهذا التعارض اختلفت أقوال العلماء في الاحتكار: الحنفية: ذهب أبو حنيفة ومحمد أن الاحتكار المحرم هو في قوت البشر وعن أبي يوسف كل ما أضر بالعامة حبسه. وروى عن محمد أنه في قوت البشر وثيابهم. والمحتكر يأمره القاضي ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله ويزجره، فإذا امتنع أوقف، فإن تمادى حبسه وعززه، وهذا كله إذا كان قد اشترى ذلك من السوق، أما إذا كان من غلة أرضه، أو جلبه من بلد آخر بعيد، فإنه لا يعتبر محتكرًا لعدم تعلق حق العامة (3) . المالكية: يقول ابن رشد قد اختلف قول المالكية على أربعة أقوال ـ أحدها: إجارة احتكار الأطعمة كلها القمح والشعير وغير ذلك في الأوقات التي لا تضر الحكرة بالناس. والثاني: المنع من احتكارها كلها جملة ـ والثالث: إجازة احتكارها كلها ما عدا القمح والشعير، والرابع: المنع من احتكارها كلها ما عدا الأدم والفواكه والسمن والعسل والتين والزيت. وتأول ابن أبي زيد ما ذهب إليه مطرف وابن الماجشون من تحريم احتكار شيء من الأطعمة بأن ذلك في المدينة المنورة لقلة الطعام بها. ثم يقول ابن رشد: فعلى قوله هم متفقون على أن علة المنع من الاحتكار هو تغلية الأسعار. وإنما اختلفوا في جوازه لاختلافهم باجتهادهم في وجود العلة وعدمها.   (1) إكمال الإكمال: 4/304 (2) نيل الأوطار: 5/ 335، 336 (3) رد المحتار: 5/265 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2244 ولا اختلاف بينهم إن ما عدا الأطعمة من العصفر والكتان والحناء وشبهها من السلع يجوز احتكارها إذا لم يضر ذلك بالناس. وهذا الذي ذكره ابن رشد زاده عياض تحديدًا، فقال: والممنوع هو فيما اشترى من السوق، وأما من جلب شيئًا من بلد فله ادخاره إلا أن ينزل بالناس حاجة ولا يوجد عند غيره فيؤمر ببيعه لدفع الضرر عن الناس. وكذلك ما اشتراه لقوت عياله، لادخاره صلى الله عليه وسلم قوت عياله سنة، (وزاد القرطبي فقال: وكذلك له ادِّخار ما تحل من كسبه. فإذا باعه الناس لحاجتهم فإنما يبيعه بسعر الوقت. بل إنه رجح أن احتكار ما لا يضر مصلحة وترك احتكاره مفسدة، لأن ذلك الشيء قد يقل أو ينعدم من المستقبل فيوجد عنده. مستدلًا بكلام ابن العربي إذا كثر الجالب ولم يشترِ منهم وردوا. فالاحتكار حينئذ جائز بل مستحب (1) . الشافعية: قال النووي: قال أصحابنا: الاحتكار المحرم هو الاحتكار في الأقوات خاصةً. وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء للتجارة ـ ولا يبيعه في الحال بل يدخره ليغلو ثمنه. فأما إذا كان من قريته أو اشتراه في وقت الرخص وادخره أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إي أكله أو ابتاعه ليبيعه في وقته فليس باحتكار ولا يحرم فيه. وأما غير الأقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال هذا تفصيل مذهبنا. قال العلماء والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس ـ كما أجمع العلماء على أن لو كان عند إنسان طعام واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره، أجبر على بيعه دفعًا للضرر على الناس ـ وما روي أن سعيد بن المسيب ومعمرًا كانا يحتكران، قال ابن عبد البر وآخرون: إنما كانا يحتكران الزيت وحملا الحديث على احتكار القوت عند الحاجة إليه والغلاء. (2) الحنابلة: قالوا الاحتكار حرام والاحتكار المحرم هو ما اجتمع فيه ثلاثة شروط: أحدها: أن يشتري، فلو جلب شيئًا أو أدخل من غلته شيئًا فادخره لم يكن محتكرًا لأن الجالب لم يضيق على أحد ولا يضربه، بل ينفع. الثاني: أن يكون المشتري قوتًا. فأما الإدام، والحلواء، والعسل، والزيت، وأعلاف البهائم، فليس فيه احتكار محرم.   (1) إكمال الإكمال: 4/305 (2) شرح مسلم: 11/43 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2245 الثالث: أن يضيق على الناس بشرائه ولا يحصل ذلك إلا بأمرين: أحدهما: يكون في بلد يشق بأهله الاحتكار كالحرمين والثغور فالبلاد الواسعة الكبيرة المرافق والجلب كبغداد والبصرة ومصر لا يحرم فيها الاحتكار؛ لأن ذلك لا يؤثر فيها غالبًا. ثانيهما: أن يكون في حال الضيق كأن يدخل البلد قافلة فيتبادر ذوو الأموال فيشترونها ويضيقون على الناس، فأما إذا اشتروه في حال الاتساع والرخص على وجه لا يضيق على أحد فليس بمحرم. (1) أن تتبع المذاهب في الاحتكار يدل على اتفاق المذاهب في الحقيقة وإن ظهر اختلاف بينها في بادئ الرأي، ذلك أن المذاهب الأربعة تتفق على أن الاحتكار المحرم هو ما كان طريق التحصيل عليه الشراء من السوق ـ وإن المنتج والجالب للسلعة من مكان بعيد حر التصرف في سلعته له بيعها وادخارها، ثانيًا: إن الادخار في الوقت الذي يكثر فيه العرض كثرة تفوق الطلب لا حرمة فيه، بل هو مستحب حتى لا تهبط الأسعار هبوطًا يعزف معه المنتج عن الإنتاج، ثالثًا: إن العلة التي تظهر بين الحين والآخر مؤثرة في التحريم (تعلق حق العامة) (إذا لم يضر ذلك بالناس) ، والضرر كما صرح به ابن العربي: (هو غلاء الأسعار) ، ومن هذه النقطة يظهر وجه ربط الاحتكار بالتسعير، فالمذاهب الأربعة تحرم الاحتكار وتعطي المحتسب الحق في التدخل حفاظًا على استقرار الأسعار ـ فهم جميعًا يعتبرون أن استقرار الأسعار مصلحة عامة. وأن الحرية مصلحة خاصة تهدر في مقابل المصلحة العامة ـ وأما التفرقة بين الطعام وغيره واختلافهم في تحديد الأطعمة وإدخال اللباس وعدم إدخاله، إنما هو اختلاف في التدقيق في النظر. فمن تعمَّق في تقدير الحاجات الإنسانية التي لا بد منها لم يقصر تحريم الاحتكار على القمح والشعير، ومن رأيي أن ذلك هو الضروري لبقاء الحياة قصر التحريم. والذي يظهر أن الاحتكار على مستويين، المستوى الأول: ما تستطيع المجموعة مقاومته بالامتناع عن الشراء حتى يضطر المحتكرون إلى النزول بسلعهم للسوق وهو مستوى من التوكل عند المؤمن والرضا بالمقدور، وعند غير المؤمن مستوى مدني ـ وعلى كلٍّ فإن تهافت البشر على ما ليس ضروريًّا لحياتهم يتحملون بتهافتهم قسطًا من اندفاع المحتكرين للاحتكار فالمسؤولية موزعة ولذا رأى أكثر الفقهاء أنه لا حرمة فيه. والمستوى الثاني: أن لا تستطيع المجموعة التأثير على المحتكرين لكون الاحتكار في عيش البشر وما لا يبصرون على اقتنائه. وهنا فالاحتكار طلبًا للغلاء حرام. إذ ترضخ الجماعة للأسعار التي يفرضها المحتكرون. فمن راعى هذه الدقة قصر التحريم على الضروري ومن راعى أن المستوى العام للمجموعات البشرية أنها لا تصبر على المفقود في تحريم الاحتكار.   (1) المغني: 4/244، 245 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2246 وعلى كل، فإن التأثير في غلاء الأسعار هو الذي أباح للمحتسب التدخل وحرم الاحتكار على المحتكر. وبجانب الاحتكاك أيضًا، فقد ورد في الشريعة ما يبيح انتقال الملك بقيمة المثل إلى غير صاحبه وبدون رضاه. فمن ذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم ومالك عن عبد الله بن عمر من أعتق شركًا له في عبد، فكان له ما يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عيه العبد، وإلا فقد عتق عنه ما عتق (1) . فالحديث نص على أن المعتق لنصيبه من العبد المشترك يجب عليه أن كان واجدًا أن يدفع إلى شركائه قيمة حصصهم بعد أن يقوم العبد بقيمة المثل. يقول ابن القيم صار هذا الحديث أصلًا أن من وجبت عليه المعاوضة أجبر على أن يعاوض بثمن المثل لا بما يزيد عن الثمن (2) ومن ذلك أيضًا الحديث الذي رواه البخاري وأحمد، عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم)) . فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. (3) أجمع العلماء على جواز الأخذ بالشفعة وهي في حقيقتها إجبار المشتري على تمكين الشريك من الحصة التي اشتراها بنفس الثمن الذي اشتراها به، فهي تتضمن خروج الملك عن مالكه بغير رضاه، وأن القيمة المحددة، هي ثمن الشراء ليس له أي أدنى حظ من الربح. فإذا كان الشارع قد أباح انتزاع ملكية العبد من سيده جبرًا وبسعر محدد هو سعر المثل ليتحقق العتق الذي يتسوفِ له الشارع، وإذا كان الشارع قد أجبر المشتري للشقص على بيع شقصه بالثمن الذي اشتراه به دفع الضرر عن الشريك، وهي مصلحة جزئية لا أفضلية للشريك إلا بالسبق الزمني في التملك، فالتسعير أولى بالقبول. ولذا فإن العلماء بعد اتفاقهم على منع التسعير أخذوا ينظرون في القضية نظرة جديدة. ومن ذلك ما ذكره ابن العربي في العارضة وقال سائر العلماء بظاهر الحديث أي بمنع التسعير والحق التسعير وضبط الأمر على قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد من الطائفتين، وذلك قانون لا يعرف إلا بالضبط للأوقات ومقادير الأحوال. وحال الرجال والله الموفق للصواب وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق وما فعله حكم، لكن على قوم صح ثباتهم واستسلموا إلى ربهم، وأما قوم قصدوا أكل أموال الناس والتضييق عليهم فباب الله أوسع وحكمه أمضي (4)   (1) إرواء الغليل: 5/357 (2) الطرق الحكمية: ص 304 (3) نيل الأوطار: 6/20 (4) العارضة: 6/54 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2247 فابن العربي نظر إلى القواعد الشرعية فرأى أنها جاءت بالعدل، وأن لا يمكن المهرة من الإثراء بوساطة التلاعب في الأسواق وإغلاء الأسعار، وأن الحاكم قد نصب لإقامة العدل ين الناس ـ وأن سياسة البشر الذين يغلب عليهم تقوى الله والإيثار تخالف سياسة البشر الذين همهم ملء خزائنهم والاستئثار، وطغيان حب الذات والأنانية، ولو بالتضييق على الناس، فما حكم به صلى الله عليه وسلم حق في الوقت الذي حكم به. معنى ذلك أن هذه قضية عين لا عموم لها هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن نص الحديث لا يدل عي أن الغلاء كان نتيجة عبث بالسوق، وإنما ارتفع الثمن في سوق المدينة تبعًا لعوامل موضوعية لا دخل للتجار فيها. ولذلك ابتدأ صلى الله عليه وسلم بالكشف عن الفاعل في الغلاء بقوله ((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق)) ، فارتفاع الأسعار في عهده كانت متسببة عن تصرف إلهي حكيم في الكون تعرف آثاره، ولله الحجة البالغة وهو ما يفهم عنه الرواية الأخرى بل ادعو الله. إذن هما اتجاهان: الأول لأصحاب المذاهب لا يتدخل السلطان ولا نائبه في التسعير أصلًا. الاتجاه الثاني أن للسلطان أو نائبه حق التدخل في التسعير، إلا أن هذا التدخل في التسعير للمصلحة قد اختلف فيه الفقهاء تبعًا لتحديدهم للمصلحة المسوغة لذلك، كما أن ميادين التدخل قد تكون في السلع المعروضة في السوق عند التجار، وقد تكون في السلع المجلوبة، وقد تكون في الخدمات البشرية، وقد تكون في الانتفاع بالمباني والآلات. القسم الأول ـ تدخل السلطة في أثمان المبيعات: الحنفية: يقول الطوري: إن الثمن حق البائع وإليه تقديره، فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا كان أرباب الطعام يحتكرون على المسلمين ويتعدون تعديًّا فاحشًا، وعجز السلطان عن منعه إلا بالتسعير والتعدي الفاحش هو تضعيف القيمة. يقول في الدر المختار وأفاد أن التسعير في القوتين (أي قوت البشر والأنعام) ثم قال: لكن إذا تعدى أرباب غير القوتين وظلموا العامة فيسعر عليهم الحاكم بناء على قول أبي يوسف فالحصكفي جعل القول بتسعير الحاكم في غير القوتين إذا أضر بالعامة غير منصوص لأئمة المذهب، ولكنه مخرج على قول أبي يوسف أن كل ما أضر حبسه بالناس فهو احتكاره (1)   (1) رد المختار: 5/257 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2248 فحاصل مذهب الحنفية أن الإمام أو نائبه لا يتدخل في تسعير قيم المبيعات إلا في القوت إذا تلاعب التجار بالسوق حتى بلغ الضعف نصًّا في المذهب، وفي غير القوت قياسًا على القوت. المالكية: سئل القاضي أبو عمر بن منظور عن التسعير فكان مما أجاب به: (أهل الأسواق والحوانيت الذين يشترون من الجلاب وغيرهم جملًا ويبيعون ذلك على أيديهم) . قيل هم كالجلاب الحكم واحد في كل ما مضى لا فرق، قاله عبد الله بن محمد، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وقيل إنهم بخلاف الجلاب، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا غلبوا على الناس، وإن على صاحب السوق أن يعرف ما اشتروا ويجعل لهم من الربح ما يشبه وينهي عن الزيادة، ويتفقد السوق، فيمنع من الزيادة على ما حد. ومن خالف أمره عوقب بما يراه من الأدب أو الإخراج من السوق أن كان البائع معتادًا لذلك مشتهرًا به، وهو قول مالك في سماع أشهب، وإليه ذهب ابن حبيب، وقال به من السلف جماعة. ولا يجوز عند واحد من العلماء أن يقول لهم بيعوا بكذا وكذا ربحتم أو خسرتم من غير نظر إلى ما يشترون به، ولا أن يقول لهم فيما اشتروه لا تبيعوه إلا بكذا وكذا مما هو مثل الثمن الذي اشتروه به أو أقل، وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون، فلا يتركهم أن يغلوا في الشراء، ولو لم يزيدوا في الربح إذ قد يفعلون ذلك لأمر ما، مما يكون نتيجته ما فيه ضرر (1) فابن منظور يرى أن على صاحب السوق أن يتدخل بتحديد الثمن كلما تعسف أهل السوق من التجار في مقتضى الحرية، وظلموا الناس دون أن يربط مجال التسعير بقوت أو غيره، والذي ذهب إليه ابن عرفة أن التسعير إنما يكون في القوت خاصةً لقوله في تعريفه (تحديد حاكم السوق لبائع المأكول فيه) علق الرصاع على هذا بقوله: أخرج به غير المأكول، لأنه لا يسعر (2)   (1) المعيار: 5/84ـ85 (2) شرح حدود ابن عرفة: ص 295 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2249 وما ذهب إليه ابن منظور من أن الحاكم يسعر على أهل السوق بعد أن ينظر في شرائهم ويترك لهم من الربح ما لا ضرر فيه على العامة، وأنه لا يحل له أن يحدد ثمنًا دون نظر إلى معطيات موضوعية للتسعير، وأن هذا أمر متفق عليه، يؤكد ذلك ما في سماع أشهب لصاحب السوق: بيعوا على ثلث رطل من الضأن ونصف رطل من الإبل (يعني أن الدرهم يشتري به ثلث رطل أو نصف رطل) ، قال مالك: ما أرى به بأسًا إذا سعر عليهم شيئًا يكون فيه ربح يقوم لهم من غير اشتطاط (1) الشافعية: اقتصر صاحب تكملة المجموع على نقل كلام ابن القيم (2) الحنابلة الذي أفاض القول في التسعير هو شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. يقول ابن القيم: وأما التسعير فمنه ما هو ظلم محرم ومنه ما هو عدل جائز. فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه أو منعهم مما أباح الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ومنعتهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل فهو جائز بل واجب. وابن القيم يلتقي مع ابن العربي في أن التسعير لا يحكم عليه حكم مطلق، ولكن ينطبق في الظروف التي أدت إليه، فما كان منه ظلمًا للناس فهو حرام، وما كان منه حماية للناس من الظلم، فهو واجب. وبهذا يصبح الخلاف هو في تحقيق المناط أي في بيان الأحوال التي تحقق فيها الظلم لصاحب السلعة، فيكون تصرف صاحب السوق حرامًا. وفي الأحوال التي ظلم فيها أرباب السلع غيرهم فيكون رفع ظلمهم واجبًا.   (1) المعيار 6/409، الطرق الحكمية ص: 302 (2) المجموع: 13/29 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2250 أنواع صاحب السلعة: الجالب: قد يكون صاحب السلعة جالبًا للسلعة، والرأي الغالب أن الجالب لا يسعر عليه، أصله ما رواه مالك في موطئه أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: لا حكرة في سوقنا.. لا يعمد رجال بأيديهم فضول من إذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف، فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء الله وليمسك كيف شاء الله (1) . فهذا الحديث يدل على حرية الجالب في التسعير لا يتسلط عليه. وكذا المنتج يبيع سلعته بالثمن الذي يرغب فيه لا يتسلط عليه الحاكم فيحدد له الثمن، إلا أنه إذا كان أهل السوق قد جرى بينهم سعر فجاء الجالب ليرفع في الثمن أو ليخفض فيه فإنه لا يتعرض له في تحديد الثمن، ولكن هل يرفع من السوق أو لا؟ خلاف، فمالك اعتمد على ما رواه من حديث عمر رضي الله عنه مع حاطب بن أبي بلتعة ـ فعن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر على حاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع له زبيبًا بالسوق فقال له عمر بن الخطاب: إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا (2) ، فهم بعضهم أن حاطبًا كان يبيع بالدرهم أقل مما يبيع غيره فنهاه عمر عن ذلك ليحط من الثمن ويسير مع ثمن أهل السوق، وقيل بل إن حاطبًا كان يبيع بالدرهم أكثر مما يبيع غيره. وهذا مفضٍ للخصام بين من يخفض في الثمن وأهل السوق. ولذا لم يفرق كثير من العلماء في الخروج عن الثمن بين الزيادة والنقص، قال ابن القصار: اختلف أصحابنا في قول مالك ولكن من حطَّ سعرًا، فقال البغداديون: أراد أن يباع خمسة بدرهم والناس يبيعون ثمانية بدرهم، وقال قوم من البصريين: أراد من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة، فيفسد على أهل السوق بيعهم وربما أدى إلى الشغب والخصومة. قال ابن القصار، وعنه أن الأمرين جميعًا ممنوعان (3) ، ورأي ابن رشد هذا غلط ظاهر إذ لا يلام أحد على المسامحة في البيع والحطيطة فيه، بل يشكر على ذلك إن فعله لوجه الناس ويؤجر إن فعله لوجه الله (4) .   (1) الزرقاني: 3/126 (2) الزرقاني على الموطأ: 3/127 (3) الطرق الحكمية: ص301 (4) الطرق الحكمية: ص301 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2251 تدخل صاحب السلطة في الشراء: إذا تمالأ التجار على الزيادة في ثمن الشراء طلبًا لإغلاء الأسعار فإن صاحب السلطة يتدخل لرفع الظلم، يقول ابن القيم: فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعا من السلع أو تبيعها قد تواطؤوا على أن يهضموا ما يشترونه فيشترونه بدون ثمن المثل ويبيعوا ما يبعدونه بأكثر من ثمن المثل ويقتسموا ما يشتركون فيه من الزيادة كان إقرارهم على ذلك معاونة لهم على الظلم والعدوان، وقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، [الآية 12 من سورة المائدة] ، ولا ريب أن هذا عظم إثمًا وعدوانًا من تلقي السلع وبيع الحاضر للبادي ومن النجش (1) طريقةُ تدخُّلِ صاحبِ السُّلْطَةِ: إن الزيادة في السعر أو التنقيص منه قد تكون من جملة التجار في السوق وقد تكون من عدد محدود. فإذا كانت من عدد محدود فإن لم تتحدد صفة المبيع واختلفت جودة ورداءة، فلا يتدخل صاحب السلطة (2) وإن اتحدَّ المبيع صفة فكما تبين من النصوص السابقة يؤمر من زاد في الثمن إما بمتابعة أهل السوق وإما أن يتحول عنه ولا يبقى يبيع ويشتري به. وإن نقص فقد رأينا الخلاف في ذلك، غير أن ابن رشد يرى أنه لا فرق بين رفع الأثمان وخفضها، ويرى ابن رشد أن من خفض في الثمن لأوجه لمنعه من ذلك، لأن خفض الثمن من المسامحة التي يستحق صاحبها الشكر في الدنيا، والمثوبة عند الله إذا قصد به وجه الله وما قاله ابن رشد فيه نظر ذلك أن التخفيض يكون من الجلابين فلا يتعرض لهم، أما من أرباب السوق فإنها من الطرق التي يعمد لها بعض التجار ليفسد على أهل السوق بيعتهم ويستأثر هو بالحرقاء، حتى إذا ما ألفه الناس استطاع أن يرفع في الأثمان فهو من الطرق الماكرة للاستئثار. وأما إذا كان التنقيص من جملة التجار فلا يتدخل صاحب السلطة، وأما إذا كانت الزيادة من جملة التجار فهنا يتدخل صاحب السلطة ويجب أن يكون تدخله بالعدل فلا يظلم الباعة، ولا يظلم المشتري، وصفة ذلك يقول ابن حبيب: ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق في ذلك الشيء، ويحضر غيرهم استظهارًا على صدقهم، فيسألهم كيف يشترون وكيف يبيعون؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد، حتى يرضوا به، ولا يجبرهم على التسعير، ولكن عن رضا (3) .   (1) الطرق الحكمية: ص289 (2) التيسير في أحكام التسعير: ص6. (3) التيسير في أحكام التسعير: ص 49 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2252 قال أبو الوليد بن رشد: ووجه هذا أن به يتوصل إلى معرفة مصالح البائعين والمشترين، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم، ولا يكون فيه إجحاف بالناس، وإذا سعر عليهم من غير رضا ما لا ربح لهم فيه، أدى ذلك إلى فساد الأسعار، وإخفاء الأقوات، وإتلاف أموال الناس (1) وهو نص ما جاء في جواب ابن منظور. يتبين مما سبق أن التسعير لا يعطي لصاحب السلطة الحق في التعسف في الحكم وفرض التسعير حسب تقديره الخاص، ولا يمكنه التسعير بالاعتماد على رأي المشترين وإنما يجمع هيئة تتآلف من التجار والخبراء، ويعتمد المعطيات الحقيقية من ثمن الشراء، وما يرغب التجار في الاستمرار على القيام بدورهم من إيصال السلع إلى الراغبين فيها، وعلى هذا فالسعر غير ثابت وإنما هو تابع لتقلب السوق واختلاف القيم ـ يقول أحمد سعيد المجيلدي: يجب على صاحب السوق الموكل لمصلحته أن يجعل لهم من الربح ما يشبه ويمنعهم من الزيادة عليه ويتفقدهم في ذلك ويلزمهم إياه كيفما يتقل بالسعر زيادة أو نقصانًا (2) . تدخل صاحب السلطة في قيمة الانتفاع بالمباني والآلات: يقول ابن القيم إذا قدر أن قومًا اضطروا إلى السكنى في بيت إنسان لا يجدون سواه أو النزول في خان مملوك، أو استعارة ثياب يستدفئون بها، أو رحى للطحن، أو دلو لنزع الماء، أو قدر، أو فأس، أو غير ذلك، وجب على صاحبه بذله بلا نزاع لكن هل له أن يأخذ أجرًا؟ فيه قولان للعلماء. ومن جوز له الأجرة حرم عليه الزيادة على أجر المثل (3) . فالتسعير بقيمة المثل في هذه إنما تكون عند الاضطرار بتوفر ركني الحاجة وعدم وجود سواه. تدخل صاحب السلطة في قيمة الانتفاع بالخدمات: يقول ابن تمية: أن ولي الأمر أن أجبر أهل الصناعات على ما يحتاج إليه الناس من صناعاتهم كالفلاحة والحياكة والبناية فإنه يقدر أجرة المثل، فلا يمكن المستعمل من نقص أجرة الصانع عن ذلك ولا يمكن الصانع من المطالبة بأكثر من ذلك حيث تعين عليه العمل، وهذا من التسعير الواجب وكذلك إذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد من سلاح وجسر للحرب وغير ذلك، فيستعمل بأجرة المثل ولا يمكن المستعملون من ظلمهم ولا العمال من مطالبتهم بزيادة على حقهم، مع الحاجة إليها فهذا تسعير العمال (4) .   (1) الطرق الحكمية: ص 303، والفتاوى: 28/92 (2) التيسير في أحكام التسعير: ص: 49 (3) الطرق الحكمية: 305 ـ 308 (4) الفتاوى 28/86 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2253 هذا وجه من التدخل فصله شيخ الإسلام أن ولي الأمر يقدر قيمة العمل المحتاج إليه ويلزم صاحب المال بدفع أجر العمل كاملًا حسبما قدره مراعاة للظروف العامة ويلزم العامل بالعمل بتلك القيمة إذا تعينت فيه ولم يجد صاحب العمل عاملًا آخر. ونوع آخر من التدخل فصله ابن القيم: وهو اشتراك أهل صناعة أو حرفة فيما بينهم اشتراكًا يوقع الناس في حرج، بإلزامهم الرضا بما يسعرون به فقال: منع غير واحد من العلماء كأبي حنيفة وأصحابه القسامين الذين يسقمون العقار وغيره بالأجرة أن يشتركوا، فإنهم إذا اشتركوا والناس يحتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجرة. قلت: وكذلك ينبغي لوالي الحسبة أن يمنع مغسلي الموتى والحمالين لهم من الاشتراك لما في ذلك من إغلاء الأجرة عليهم وكذلك اشتراك كل طائفة يحتاج الناس إلى منافعهم كالشهود والدلالين وغيرهم. (1) ونقل المجيلدي عن المالقي: لا احتساب على جالب الطعام ولا لمن يبيع بغير دكان ولا حانوت يعرض للخاص والعام، ولا على الفواكه والخضر، إلا لغلاء مفرط ولا على السكري ولا على الدباغ والسمسار والخراز والبناء والكاتب والصاغة والشراط والنكاز والحواز والخياط والبرام ـ والصفار ـ والقواس ـ والخراط ـ والفخار ـ والحائك والنجار والرماح والحداد وجميع أهل الحرف والصنائع والمنتسبين من حمال أو سواه ودلال وسمسار وغيرهم (2) فالمالقي يخرج كل الصناعات من دائرة التسعير وإنما يفرض على المحتسب أن يقيم لكل صناعة أمينًا يتفقد الإنتاج والخدمات هل راعى أصحابها الأصول الفنية أو لا؟ وله أن يؤدب من لم يحترم الأصول بإفساده من أنتج (3) . إنه بالموازنة بين رأي ابن القيم والمجيلدي يتبين بوضوح أن ابن القيم أبعد نظرًا بتقسيمه أرباب الصناعات إلى قسمين: قسم تعسف في استعمال حقه ومكر للإضرار بغيره، وهذا تنطبق عليه القاعدة لا ضرر ولا ضرار. وما وضع الحاكم إلا ليقيم العدل ويمنع الظلم الظاهر والمقنع. وقسم جرى على سنة التفاضل حسب القدرة على التجويد بدون حيلة ولا مكر، وهذا لا يتدخل فيه الحاكم ولا يسعر عليه. مخالفة التسعير: إذا تدخل صاحب السلطة وسعر على الناس فإنه يجب أن يطاع لأن القضية محل خلاف وحكم الحاكم برفع الخلاف، ويلزم كل الناس احترام حكمه ما دام غير مناقض لأصل يقيني. وإذا خالف البائع وباع أكثر من القيمة فالمبيع صحيح. ففي الفتاوى الهندية فإن سعر فباع الخباز بأكثر مما سعر جاز بيعه (4) ، ويقول الشربيني: فلو سعر الإمام عزر مخالفة بأن باع بأزيد مما سعر لما فيه من مجاهرة الإمام بالمخافة وصح البيع. إذ لم يعهد الحجر على المختص في ملكه أن يبيع بثمن معين (5) . والتعزيز عند الحنفية لا يكون إلا إذا تكرر من التاجر المخالفة. يقول الطوري وينبغي للقاضي والسلطان أن لا يعجل بعقوبة من باع فوق ما سعر بل يعظه ويزجره وإن رفع إليه ثانيًا فعل به كذلك وهدده وإن رفع إليه ثالثًا حبسه وعزره حتى يمتنع عنه ويمتنع الضرر عن الناس (6) . حكم الشراء بالسعر المحدد: يقول الطوري: ومن باع منهم بما قدَّره الإمام صح لأنه غير مكره على البيع. كذا في الهداية، وفي المحيط: أن كان البائع يخاف إذا زاد في الثمن على ما قدره أنقص في البيع يضربه الإمام أو من يقوم مقامه ولا يحل للمشتري ذلك؛ لأنه في معنى المكره، والحيلة في ذلك أن يقول له تبيعني بما تحب (7) . وعند الحنابلة يبطل البيع إن هدد المشتري البائع (ويكره الشراء بالتسعير، وإن هدد من خالفه حرم البيع بطل لأن الوعيد إكراه) (8) . وفيما قاله الحنابلة نظر ذلك أن الإكراه المؤثر في العقد هو الإكراه التعسف الذي يتسلط فيه القوي على الضعيف فيخضعه لإرادته، أما إذا كان الإكراه تطبيقًا لمقتضيات الشرع فلا حرمة فيه ولا بطلان ـ كما يكره الشفيع المشتري للشخص على تحويل له بثمنه، وكما يكره الشريك شريكه على البيع فيما لا يقبل القسمة، وكما تكره الزوجة زوجها على تنفيذ قضاء القاضي بالنفقة عليها حسبما قدره.   (1) الطرق الحكمية: ص 287 (2) التيسير في أحكام التسعير: ص 55 (3) التيسير في أحكام التسعير: ص 55 (4) كذا في فتاوى قاضيان: 3/214 (5) مغنى المحتاج: 2/38 (6) تكملة البحر: 8/230 (7) تكملة البحر: 8/230 (8) شرح منتهى الإرادات: 2 /159 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2254 التسعير في عصرنا الحاضر: إن التسعير في عصرنا الحاضر يختلف عن التسعير في العصور السابقة كما أنه يختلف أمره من بلد إلى بلد ومن بضاعة إلى بضاعة أخرى، ويتبين ذلك مما يأتي: أولًا: جرت بعض البلدان التي لها قوة مالية تغطي احتياجاتها أو تفوقها أنها لا تتدخل في التوريد، ذلك أن عملتها لها من الغطاء ما يضمن رواجها بقيمتها، وهذه الدول تبني اقتصادها على قاعدة العرض والطلب، فترتفع الأثمان أو تنخفض تبعًا لهذه القاعدة ولا يرى الحاكم أنه في حاجة إلى التدخل، وإن عدم تدخله يضمن تدفق السلع للأسواق والمزاحمة، خاصةً وقد غدت وسائل النقل وإيصال السلع تشمل البر والبحر والجو وأصبح التجار في هذه البلدان يعتمدون لتحقيق الأرباح دوران رأس المال. وقلما يلجأون إلى الاحتكار. ثانيًا: جرت بعض البلدان ذات الاقتصاد الضعيف أن تتدخل في الحركة الاقتصادية من عدة نواح: (أ) لما كانت عملتها لا قيمة لها خارج حدودها وهي غير ملزمة بمقايضتها، كان التوريد خاضعًا لتمكين المورد من العملة التي يقبلها البائع خارج الحدود الوطنية، وهذه العملة ليست من مجهود المورد ولكنها مجهود الأمة. وبهذا الاعتبار فالمورد يملك رأس مال ناقص تكمله له الدولة من ثروة الأمة، وتنظيم شؤون الدولة حصر قائمة الموردين حسب شروط وتنظيمات، وبهذا فإنه يحق للدولة أن تحدد سعر البيع كما تراقب سعر الشراء وهو ما نص عليه ابن القيم أن يلزم الناس أن لا يبيع الطعام أو غيره من الأصناف إلا ناس معروفون فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون وهؤلاء يجب التسعير عليهم والا يبيعوا إلا بقيمة المثل ولا يشتروا إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء، لأنه إذا منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاؤوا أو يشتروا بما شاؤوا كان ذلك ظلمًا للناس. (ب) إن الدولة تجد نفسها ملزمة لظروفها الاقتصادية والاجتماعية أن توقف غلاء المعيشة وتيسر على ذوي الدخل المحدود اقتناء بعض الضروريات بثمن أخفض من قيمتها الحقيقية وتعوض من صندوق الخزينة الفارق بين القيمتين، وهنا لا بد لها من أن تحدد ثمن البيع، لأنها في حقيقة الأمر أسهمت في رأس المال ـ فهي شريكة ومن يشاركها قد دخل على أنه لا يزيد على الثمن الذي حددته. فيظهر أن تدخل الدولة في التسعير هو نتيجة ضعف في الاقتصاد الوطني وأنه كلما كان الاقتصاد قويًّا كانت الدولة في غنى عن ذلك. والله أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الشيخ محمد المختار السلامي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2255 تحديد أرباح التجار إعداد الدكتور يوسف القرضاوي بسم الله الرحمن الرحيم تحرير موضوع البحث: قبل البدء في الموضوع ينبغي أن نحرر المراد منه، فبعض الباحثين في الموضوع قد يفهم أن المراد تحديد الربح للتجار من قبل ولي الأمر. وأعتقد أن هذا ليس مرادًا هنا، إذ لو كان هو المراد لبحث تحت عنوان آخر أخص به، وهو عنوان (التسعير) . على أن التسعير لا يقتصر على التجار، بل يشمل المنتجين من زراع وصناع، ونحوهم.. كما أن بعض الباحثين يشتبه عليه موضوع الربح ونسبته، بموضوع (الغبن) ، وقد اشتهر عند بعض الفقهاء أن الغبن يتسامح فيه في حدود الثلث وما عدا ذلك يعتبر غبنًا فاحشًا، لا يجوز، أخذًا بالحديث المتفق عليه في شأن الوصية ((الثلث والثلث كثير)) . ولكن الغبن شيء والربح شيء آخر، ولا تلازم بينهما، فقد يربح التاجر 50 % أو 100 %، ولا يكون غابنًا للمشتري، لأن السلعة في السوق تساوي ذلك، أو أكثر، بل قد يكون مع الربح الكبير متساهلًا مع المشتري. وقد يبيع للمشتري بربح قليل، بل بغير ربح، بل ربما مع خسارة تقل أو تكثر، وهو مع هذا قد غبن المشتري. وهنا يلزم معرفة المراد من التجارة والربح ... التجارة والربح: التجارة هي: شراء السلع وبيعها بقصد الربح منها. والتاجر هو: من يشتري السلعة ليبيعها بقصد الربح، وقد تسمى السلعة: البضاعة أو العرض، وتجمع على عروض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2256 والربح هو: الفرق الزائد بين ثمن بيع السلعة وثمن شرائها مضافًا إليه المصاريف التجارية. وفي القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [سورة النساء: الآية 29] . وفي آية المداينة التي أمرت بكتابة الدين: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [سورة البقرة: الآية 282] . كما عرض القرآن للتجارة المعنوية، كما في قوله تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [سورة فاطر: الآية 29] . وقوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الصف: الآية 10] . ووصف تعالى المنافقين بقوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [سورة البقرة: الآية 16] . فدل هذا على أن الأصل في التجارة أن تربح، ومن لم تربح تجارته فلا بد أنه لم يحسن اختيار ما يتجر فيه، أو من يتعامل معه. وقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك)) وقال: حسن غريب (1) وهذا، لأن المقصود من التجارة الربح، فإذا دعا عليه المؤمنون ألا يربح الله تجارته، فقد ضاع مقصوده وذهب تعبه سدى. وقد ذكر القرآن التجار المؤمنين بقوله: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [سورة النور: الآية 37] . وإذا كانت التجارة بيعًا وشراء، فقد ذكر القرآن البيع في رده على المرابين المتلاعبين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275] . وذكر القرآن البيع في معرض الحث على السعي إلى الجمعة: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [سورة الجمعة: الآية 9] . وذكر القرآن فعل (يشري) بمعنى (يبيع) ، وذلك في مجال المعنويات: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [سورة البقرة: الآية 207] . ومثله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ} [سورة النساء: الآية 74] .   (1) رواه في البيوع، باب النهي عن البيع في المسجد، حديث (1321) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2257 كما ورد فعل (شرى) في الماديات في قصة يوسف الصديق: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [سورة يوسف: الآية 20] . وفي جملة آيات يطلق القرآن الكريم على التجارة وصفًا أو عنوانًا يوحي بالرضا عنها، وهو – الابتغاء من فضل الله – وذلك في مثل قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [سورة الجمعة: الآية 10] . وقوله: {وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [سورة المزمل: الآية 20] . والقرآن لا يمنع ابتغاء هذا الفضل، ولو في موسم الحج، وقصد النسك والعبادة، فيقول سبحانه {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة البقرة: الآية 198] . كما نوه برحلتي قريش الشهيرتين بين اليمن والشام بقوله: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [سورة قريش: الآيات 1-3] . ابتغاء الربح لإيتاء الحقوق والمحافظة على أصل المال: وقد روى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا من ولي يتيما له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة)) (1) . وهذا الحديث إن كان فيه مقال، فقد روى الطبراني في الأوسط من حديث أنس مرفوعًا: ((اتجروا في أموال اليتامى، لا تأكلها الزكاة)) (2) . وصح نحو هذا مرسلًا، من حديث يوسف بن ماهك مرفوعًا، كما صح هذا المعنى موقوفًا على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه (3) . وكل هذه الأحاديث تشير إلى أمر هام في ميدان الاقتصاد والتجارة، وهي أن الحد الأدنى الذي ينبغي أن تحققه التجارة الناجحة، هو: أن يفي الربح بما يجب في المال من زكاة، إلى جوار النفقة أيضا أي النفقة المطلوبة لرب المال ومن يعوله.   (1) رواه في أبواب الزكاة، حديث (641) ، ط. حمص. وفي سنده مقال. (2) قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: أخبرني سيدي وشيخي (يعني الحافظ العراقي) : أن إسناده صحيح (حـ 3/67) ، وحسنه الحافظ ابن حجر والسيوطي، كما في فيض القدير (1/108) . (3) انظر: كتابنا فقه الزكاة (حـ 1/122، 123) ط. وهبة بالقاهرة، السادسة عشرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2258 فإن المال كما ينقص ظاهرًا بإخراج الزكاة منه، بحيث تصبح المائة 97.5، فإنه لا شك ينقص بمقدار ما ينفق منه على حاجات مالكه. وهذا يحتم على ذي المال القليل أن يربح أكثر، إما بإدارة المال مرات أكثر، أو بزيادة نسبة الربح، حتى يمكن لربحه أن يغطي نفقاته المتجددة، وإلا أكلت النفقة رأس ماله. وهذا بخلاف ذي المال الكثير، فقد يكفيه القليل من الربح كل ما يحتاج إليه، وزيادة. هل حددت النصوص نسبة للربح؟ ولكن، إذا كانت السنة قد رغبت في الاتجار بالمال، ليحقق ربحًا ينفق منه، ويبقى رأس المال سالمًا، فهل أشارت السنة إلى تحديد نسبة معينة للربح، يفرضها التاجر على نفسه، أو يفرضها عليه المجتمع، لا يجوز له أن يتعداها؟ الواقع أن المتتبع للسنة النبوية، والسنة الراشدية، وقبل ذلك للقرآن الكريم، لا يجد أي نص يوجب، أو يستحب، نسبة معينة للربح، ثلثًا أو ربعًا أو خُمسًا أو عشرًا، مثلًا يتقيد بها ولا يزاد عليها. ولعل السر في ذلك أن تحديد نسبة معينة لجميع السلع، في جميع البيئات وفي جميع الأوقات، وفي جميع الأحوال، ولجميع الفئات، أمر لا يحقق العدالة دائما. فهناك فرق بين المال الذي يدور بسرعة بطبيعته كالأطعمة ونحوها، بحيث يدور في السنة عدة مرات، وبين المال البطيء الدوران الذي لا يدور في السنة إلا مرة، وقد تمضي أكثر من سنة، دون أن يتحرك، فالربح في الأول ينبغي أن يكون أقل من الربح في الأخير. وهناك فرق بين من يبيع قليلًا ومن يبيع كثيرًا، وكذلك بين رأس المال القليل التافه ورأس المال الكثير الوافر، فإن ربح القليل في المال الكثير كثير. وثمة فرق كذلك من يبيع حالًا، ومن يبيع بالأجل، فالمعروف أن البيع الحال المقبوض يكون الربح فيه أقل، على حين تكون نسبة الربح في البيع المؤجل أعلى، نظرًا لما فيه من احتمال إعسار المشتري أو مطله، أو تلف ماله بوجه من الوجوه، وبهذا يهلك مال البائع، فضلًا عن تعطيل ماله، هذه المدة، وقد أجاز جمهور العلماء الزيادة في الثمن إذا زيد في الأجل، إذا عرف ذلك من أول الأمر، وتحدد بوضوح وهو مقابل بيع السلم الذي تباع فيه السلعة بأقل من الثمن المعتاد. وأيضًا يوجد فرق بين السلع الضرورية، أو الحاجية، التي يفتقر إليها جمهور الناس، وبخاصة الضعفاء والفقراء منهم، والسلع الكمالية التي لا يشتريها إلا الأثرياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2259 ففي الأولى ينبغي أن يقلل الربح رفقًا بذوي الضعف والحاجة، وفي الثانية يمكن أن يكون أكثر، إذ من الميسور الاستغناء عنها. ولهذا شدد الشارع في احتكار الأقوات والأطعمة خاصة، أكثر من غيرها لاشتداد حاجة الناس – بل ضرورتهم – إليها، ولهذا أيضا حرم احتكارها بالإجماع، وجرى الربا فيها بالإجماع، ووجبت الزكاة فيها بالإجماع. وكذلك ينبغي التفريق بين من يحصل على السلعة بسهولة، ومن يجهد ويتعب في جلبها من مصادرها، وكذلك بين من يبيع السلعة كما هي، ومن يدخل عليها تحويلات تكاد تجعلها سلعة أخرى. كما أن ثمة فرقًا بين من اشترى برخص، كأن اشترى السلعة من منتجها بلا وسائط بسعر نازل، ومن اشتراها بعد تداول عدة وسائط لها، بسعر مرتفع، فشأن الأول أن يربح أكثر من الآخر. والمقصود أنه لا يوجد في نصوص القرآن الكريم، ولا في السنة ما يجعل للربح حدًّا معينًا، أو نسبة معلومة، والظاهر أن ذلك ترك لضمير الفرد المسلم، وعرف المجتمع من حوله، مع مراعاة قواعد العدل والإحسان، ومنع الضرر والضرار، التي تحكم تصرفات المسلم، وعلاقاته كلها ... فالإسلام لا يفصل بين الاقتصاد والأخلاق، خلافًا لفلسفة النظام الرأسمالي، الذي يجعل (الربح) المادي الفردي، هو الهدف الأول، والمحرك الأكبر، للنشاط الاقتصادي، الذي لا يتقيد بكثير من القيود التي يقيده بها الإسلام فلا حرج في ابتغاء الربح عن طريق الربا أو الاحتكار، أو بيع المسكرات، أو غيرها مما يضر بالجماعة، ويدر الربح على الأفراد. أما الإسلام فله قيود وضوابط دينية وأخلاقية وتنظيمية، يوجب على كل تاجر رعايتها والوقوف عندها، وإلا كان ربحه حرامًا أو مشوبًا بالحرام. هذا، ولم أجد في كلام الفقهاء – في حدود ما أتيح لي الاطِّلاع عليه، ولم أبحث كل البحث – ما يدل على نسبة معينة للربح يلتزمها التاجر في تجارته. إلا ما ذكره العلامة الزيلعي من علماء الحنفية في تعريف ما ذكره صاحب الهداية وغيره من شرعية التسعير إذا تعدى أصحاب الطعام تعديًّا فاحشًا. فقد عرف الزيعلي التعدي الفاحش بأنه البيع بضعف القيمة (1) ولكنه لم يبين المراد بالقيمة: هل هي ثمن المثل في السوق في مثل هذا الوقت؟ حينئذٍ لا تلازم بين القيمة والربح أو قيمة ثمن الشراء الذي اشتريت به السلعة، وهنا يكون الربح محددًا بألا يزيد على مائة في المائة؟   (1) الزيلعي (6/28) ، انظر: ابن عابدين (5/256) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2260 وقد شاع لدى كثيرين أن في علماء المالكية من يحدد نسبة الربح بالثلث ولم أعثر على مصدر لهذه الدعوى وأخشى أن يكون ثمة خلط بين الربح والغبن، ولا تلازم بينهما كما ذكرت في أول البحث. ولعل الإخوة الأجلاء من علماء المذهب المالكي، وهم متوافرون والحمد لله يفيدونني بما لديهم من علم في هذه المسألة. لكنني – بتوفيق من الله تبارك وتعالى – وجدت في صحيح السنة المشرفة، وفي عمل الصحابة رضي الله عنهم، ما يدل على أن الربح إذا سلم من كل أسباب الحرام وملابساته، فهو جائز ومشروع، إلى حد يمكن لصاحب السلعة أن يربح فيها ضعف رأسماله، مائة في المائة (100 %) بل أضعاف رأس ماله، مئات في المائة، وهاكم الدليل. مشروعية الربح إلى مائة (100 %) : قد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما يدل على مشروعية الربح إلى مائة في المائة (100 %) . وهذا في الحديث الذي أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عروة بن الجعد – أو ابن أبي الجعد – البارقي رضي الله عنه. روى الإمام أحمد في مسنده عن عروة، قال: عرض النبي صلى الله عليه وسلم جلب، فأعطاني دينار، وقال: ((أي عروة، ائت الجلب فاشترِ لنا شاة)) فأتيت الجلب، فساومت صاحبه، فاشتريت منه شاتين بدينار فجئت أسوقهما – أو قال: أقودهما – فلقيني رجل فساومني، فأبيعه شاة بدينار، فجئت بالدينار، وجئت بالشاة، فقلت: يا رسول الله، هذا ديناركم، وهذه شاتكم! قال: ((وصنعت كيف؟!)) قال: فحدثته الحديث فقال: ((اللهمَّ بارك له في صفقة يمينه)) فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة، فأربح أربعين ألفا قبل أن أصل إلى أهلي. (1) . ورواه الترمذي بنحوه (2) .   (1) مسند أحمد (ج 4 /376) ط المكتب الإسلامي. (2) رواه في البيوع – حديث (1258) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2261 وروى الإمام البخاري في (كتاب المناقب) من صحيحه عن عروة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه! (1) . ورواه أبو داود في كتاب البيوع من سننه – باب في المضارب يخالف – بنحو ما رواه البخاري (2) ، وذكره المنذري في مختصر السنن (3) قال: وأخرجه الترمذي وابن ماجه (4) .   (1) انظر: الحديث (3642) فتح الباري (6/ 632) دار الفكر – بتصحيح وتحقيق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز والحديث من طريق شبيب بن غرقدة، قال: سمعت الحي يتحدثون عن عروة و (الحي) وإن جهل حالهم يمتنع تواطؤهم على الكذب، كما قال الحافظ، بالإضافة إلى ورود الحديث من الطريق الأخرى التي هي الشاهد لصحته، ورواها أحمد وغيره (الفتح: 6/635) ، فما قاله الإمام الخطابي في ترجيح مذهب الشافعي في عدم إجازة بيع الفضولي، ورده خبر عروة (إن الحي حدثوه) وما كان هذا سبيله من الرواية لم تقم بالحجة (معالم السنن: 5/49) لا وجه له بعد أن أخرج البخاري الحديث، فقد جاز القنطرة، فضلًا عن الطرق الأخرى. (2) انظر: الحديث (3384) ط. حمص _ إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس (3) الحديث (3244) من مختصر السنن مع معالم السنن للخطابي، وتهذيب السنن لابن القيم بتحقيق محمد حامد الفقي، ط. السنة المحمدية، مصر. (4) أخرجه الترمذي في البيوع، حديث (1258) ، وابن ماجه في الصدقات، حديث (2402) ، باب الأمين يتجر فيه فيربح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2262 وروى أبو داود أيضا عن حكيم بن حزام رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث معه بدينار يشتري له أضحية، فاشتراها بدينار، وباعها بدينارين، فرجع فاشترى له أضحية بدينار، وجاء بدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتصدق به النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا له أن يبارك له في تجارته (1) . ورواه الترمذي من حديث حبيب بن أبي ثابت، عن حكيم بن حزام قال: وحبيب لم يسمع – عندي – من حكيم (2) . مشروعية الربح أكثر من ذلك: ومن الأدلة على مشروعية الربح بغير حد – إذا لم يأتِ عن طريق غش ولا احتكار ولا غبن ولا ظلم بوجه ما – ما صح أن الزبير بن العوام رضي الله عنه – وهو أحد المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته – اشترى أرض الغابة، وهي أرض عظيمة شهيرة من عوالي المدينة بمائة وسبعين ألفًا (170000) فباعها ابنه عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما بألف ألف وستمائة ألف، أي مليون وستمائة ألف (160000) أي أنه باعها بأكثر من تسعة أضعافها! ويحسن بي أن أسواق الحديث من الجامع الصحيح للإمام البخاري، كما رواه بسنده عن عبد الله بن الزبير، وقد ساقه في كتاب فرض الخمس – باب بركة الغازي في ماله حيًّا وميتًّا (حديث 3129) . قال عبد الله بن الزبير: (لما وقف الزبير يوم الجمل دعاني فقمت إلى جنبه، فقال: يا بني إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل اليوم مظلومًا، وإن من أكبر همي لديني، أفترى يبقي ديننا من مالنا شئنا؟ فقال: يا بني، بع مالنا فاقض ديني. وأوصى بالثلث وثلثه لبنيه – يعني عبد الله بن الزبير يقول ثلث الثلث -، فإن فضل مالنا فضل بعد قضاء الدين فثلثه لولدك، قال هشام: وكان بعض ولد عبد الله قد وازى بعض بني الزبير – خبيب وعباد – وله يومئذ تسعة بنين وتسع بنات.   (1) رواه في البيوع، حديث (3386) ، عن طريق سفيان، عن أبي حصين، عن شيخ من أهل المدينة، وهو مجهول، فالحديث ضعيف بذلك. (2) الترمذي في البيوع، حديث (1257) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2263 قال عبد الله: فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بني إن عجزت عنه،في شيء فاستعن عليه مولاي، قال: فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت يا أبت من مولاك؟ قال: الله، قال والله ما وقعت في كربة من دينه، إلا قلت يا مولى الزبير اقضِ عنه دينه فيقضيه، فقتل الزبير رضي الله عنه ولم يدع دينارًا ولا درهمًا إلا أرضين منها الغابة وإحدى عشرة دارًا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارًا بالكوفة، ودارًا بمصر. قال: وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف، فإني أخشى عليه الضيعة. وما ولي إمارة قط، ولا جباية خراج، ولا شيئا إلا أن يكون في غزوة، مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو مع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. قال عبد الله بن الزبير: فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف، قال فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير، فقال يا ابن أخي: كم على أخي من الدين؟ فكتمه فقال: مائة ألف، فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع لهذه! فقال له عبد الله: أرأيتك إن كانت ألفي ألف ومائتي ألف؟ قال ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه، فاستعينوا بي، قال وكان الزبير اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف، ثم قام فقال، من كان له على الزبير حق، فليوافنا بالغابة، فأتاه عبد الله بن جعفر، وكان له على الزبير أربعمائة ألف، فقال لعبد الله: إن شئتم تركتها لكم، قال عبد الله: لا، قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن أخرتم، فقال عبد الله: لا قال: قال: فاقطعوا لي قطعة، قال عبد الله: لك من ههنا إلى ههنا، قال: فباع منها فقضى دينه فأوفاه، وبقي منها أربعة أسهم ونصف، فقدم على معاوية وعنده عمرو بن عثمان والمنذر بن الزبير وابن زمعة، فقال له معاوية: كم قومت الغابة؟ قال: كل سهم مائة ألف، قال: كم بقي؟ قال: أربعة أسهم ونصف، فقال المنذر بن الزبير: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، وقال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهمًا بمائة ألف. وقال ابن زمعة: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، فقال معاوية: كم بقي؟ فقال: سهم ونصف، أخذته بخمسين ومائة ألف. قال: وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستمائة ألف ... ) . والحديث موقوف، ولكن عبد الله بن الزبير، وهو صاحبي، باع ما باعه من الغابة لعبد الله بن جعفر، وهو صحابي، ولمعاوية، وهو صحابي، وكثير من الصحابة أحياء متوافرون، إذا تم ذلك في عهد علي رضي الله عنه، ولم ينكر ذلك أحد منهم، مع اشتهار الواقعة واتصالها بحقوق كثير من الصحابة وأبنائهم، فدل ذلك على إجماعهم على الجواز. وأحب أن أنبه هنا على أن دلالة الوقائع التي ذكرناها من العصر النبوي والعصر الراشدي، على جواز بلوغ الربح في بعض الأحيان إلى ضعف رأس المال، أو إضعافه، لا تعني أن كل صفقة يجوز فيها الربح إلى هذا الحد، فإن الوقائع التي ذكرناها من حديث عروة، وحديث حكيم بن حزام ـ إن صح ـ وحديث عبد الله بن الزبير، هي في الحقيقة وقائع أعيان أو أحوال لا عموم لها. ولا يمكن أن يؤخذ منها حكم عام دائم مطرد، لكل تجار الأمة في كل زمان ومكان، وفي كل الأحوال، وكل السلع. ولا سيما الذين يتاجرون في السلع الضرورية لجماهير الناس. كما أن الواقعات المذكورة لم تقترن بأية محاولة من محاولات إغلاء السعر على الناس، أو أي لون من احتكار السلعة، أو غبن المشتري، أو استغلال غفلته أو حاجته أو التدليس عليه، أو ظلمه بأي وجه من الوجوه. فهذا لو وقع، يجعل الربح الحاصل من الصفقة حرامًا. إذ كل ربح يأتي ثمره لتعامل يحظره الشرع، فإنه لا يطيب لكاسبه ولا يحل بحال من الأحوال. والمسلم لا يرضى أن يربح الدنيا، ويخسر الآخرة. وهذا ما نحاول أن نبينه بإيجاز في الصفحة التالية، إن شاء الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2264 الربح المحرم من المعلوم أن من ربح التجارة ما هو محرم بلا نزاع. وذلك له جملة صور وأسباب ... منها: الربح بالاتجار في المحرمات: ما جاء عن طريق الاتجار في أعيان محرمة شرعًا، مثل الاتجار في المسكرات، والمخدرات، وبيع الميتة والأصنام، ومنها: التماثيل المحرمة، وكل ما يضر بالناس، مثل الأغذية الفاسدة، والأشربة الملوثة، والمواد الضارة، والأدوية المحظورة، ونحوها ... وقد جاء في عدد من الأحاديث النهي عن بيع الأعيان المحرمة، والانتفاع بثمنها. فعن جابر: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الله حرَّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام)) ... وفيه: ((قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه (أي أذابوه) ثم باعوه وأكلوا ثمنه)) [رواه الجماعة] (1) . وعن ابن عباس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه)) [رواه أحمد وأبو داود] (2) . قال أبو البركات ابن تيمية: وهو حجة في تحريم بيع الدهن النجس. وعن ابن عباس أيضا قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وقال: إن جاءك يطلب ثمن الكلب، فاملأ كفه ترابا)) [رواه أحمد وأبو داود] (3) .   (1) انظر: الحديث 2777، من منتقى الأخبار، لأبي البركات ابن تيمية، بتحقيق محمد حامد الفقي، ط. دار المعرفة، بيروت، الثانية. وانظر: إرواء الغليل للألباني، ص 1290، ط. المكتب الإسلامي، بيروت (2) انظر: الحديث 2778، من المنتقى السابق وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته برقم 5107. (3) انظر: الحديث 2781، من المنتقى المذكور، وانظر الحديث 3488، من سنن أبي داود، ط. حمص الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2265 وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حرمت التجارة في الخمر)) [رواه الشيخان وأبو داود وابن ماجه] (1) . وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله الخمر، وشاربها وساقيها ,وبائعها ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه)) [رواه أبو داود وابن ماجه] ، وزاد: ((وآكل ثمنها)) (2) . ذكره المجد ابن تيمية في (المنتقى) في باب تحريم بيع العصير لمن يتخذه خمرًا، وكل بيع أعان على معصية (3) . ومن هذه الأحاديث يتبين أن الربح الذي يتحقق من هذا اللون من التجارة في المحرمات، ربح خبيث محرم، قلت نسبته أو كثرت. الربح عن طريق الغش والتدليس: ومثل ذلك الربح عن طريق الغش والتدليس التجاري، بإخفاء عيوب السلعة، أو إظهارها بصورة خادعة، تغاير حقيقتها، تلبيسًا على المشتري وقد يدخل في ذلك الدعاية الإعلانية المبالغ فيها، التي تضلل المشتري عن واقع السلعة. وقد برئ النبي صلى الله عليه وسلم، ممن غش، وقال: ((من غشنا فليس منا)) [رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي] (4) . وعن عطية بن عامر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا وفيه عيب، إلا بينه له)) [رواه أحمد وابن ماجه] (5) . وكان الصحابة والسلف رضي الله عنهم يرون إظهار عيوب السلعة من النصيحة التي بها يصح دين المسلم ويستقيم وكان جرير بن عبد الله إذا قام إلى السلعة يبيعها، بصر المشتري بعيوبها، ثم خيره، وقال: إن شئت فخذ، وإن شئت فاترك فقيل له: إنك إذا فعلت هذا لم ينفذ لك بيع فقال: (إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم) (6) .   (1) رواه البخاري في المساجد والبيوع والتفسير، ومسلم في المساقاة حديث 1580، وأبو داود في البيوع: 759، وابن ماجه في التجارات: رقم 2167. (2) رواه أبو داود في الأشربة، حديث 3674، وابن ماجه في الأشربة أيضًا، حديث 3380، وأوله: (لعنت الخمر على عشرة أوجه ... ) (3) انظر المنتقى: 2/321. (4) انظر: المنتقى: 2/2937. (5) وقال الحافظ في الفتح: إسناده حسن، انظر الحديث 2935 من المنتقى، تعليق المحقق عليه. (6) ذكر ذلك الغزالي في الإحياء: 2/76، وقوله: بايعنا رسول الله ... إلخ، ثابت في الصحيحين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2266 وكان واثلة بن الأسقع واقفًا، فباع رجل ناقة له بثلاثمائة درهم، فغفل واثلة وقد ذهب الرجل بالناقة، فسعى وراءَه وجعل يصيح به: يا هذا، اشتريتها للحم أو للظهر؟ فقال: بل للظهر، فقال: إن بخفها نقبا قد رأيته، وإنها لا تتابع السير، فعاد فردها فنقصها البائع مائة درهم، وقال لواثلة: رحمك الله أفسدت علي بيعي، فقال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى النصح لكل مسلم، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يحل لأحد يبيع بيعًا إلا أن يبين ما فيه، ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا بينه)) (1) . قال الإمام الغزالي معقبًا على هذه الواقعة: (فقد فهموا من النصح أن لا يرضى لأخيه إلا ما يرضاه لنفسه، ولم يعتقدوا أن ذلك من الفضائل وزيادة المقامات، بل اعتقدوا أنه من شروط الإسلام الداخلة تحت بيعتهم، وهذا أمر يشق على أكثر الخلق فلذلك يختارون التخلي للعبادة والاعتزال عن الناس لأن القيام بحقوق الله مع المخالطة والمعاملة ومجاهدة لا يقوم بها إلا الصديقون) (2) . التدليس بإخفاء سعر الوقت: ويدخل في ذلك، أو يقرب منه: التدليس في سعر الوقت، فالواجب – كما ذكر الغزالي – أن يصدق في سعر الوقت ولا يخفي منه شيئًا، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان (3) .   (1) قال الحافظ العراقي: حديث واثلة (2) إحياء علوم الدين: ج 2، كتاب أدب الكسب والمعاش: ص 76، ط. دار المعرفة، بيروت. (3) حديث النهي عن تلقي الركبان: متفق عليه من حديث ابن عباس، وأبي هريرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2267 ونهى عن النجش (1) أما تلقي الركبان، فهو أن يستقبل الرفقة ويتلقى المتاع ويكذب في سعر البدل، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تتلقوا الركبان ومن تلقاها فصاحب السلعة بالخيار بعد أن يقدم السوق)) (2) ، وهذا الشراء منعقد، ولكنه إن ظهر كذبه ثبت للبائع الخيار، وإن كان صادقًا ففي الخيار خلاف لتعارض عموم الخبر مع زوال التلبيس (3) . ونهى أيضًا أن يبيع حاضر لباد (4) : وهو أن يقدم البدوي البلد ومعه قوت يريد أن يتسارع إلى بيعه، فيقول له الحضري: اتركه عندي حتى أغالي في ثمنه، وأنتظر ارتفاع سعره، وهذا في القوت محرم وفي سائر السلع خلاف، والأظهر تحريمه لعموم النهي، ولأنه تأخير للتضييق على الناس على الجملة، من غير فائدة للفضولي المضيق. ((ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش)) وهو أن يتقدم إلى البائع بين يدي الراغب المشتري، ويطلب السلعة بزيادة، وهو لا يريدها، وإنما يريد تحريك رغبة المشتري فيها، فهذا إن لم تجر مواطأة مع البائع، فهو فعل حرام من صاحبه، والبيع منعقد، وإن جرى مواطأة ففي ثبوت الخيار خلاف، والأولى إثبات الخيار لأنه تغرير بفعل يضاهي التغرير في المصراة وتلقي الركبان.   (1) حديث النهي عن النجش: متفق عليه من حديث ابن عمر، وأبي هريرة. (2) متفق عليه من حديث ابن عباس، وأبي هريرة، وأنس. (3) أقول: واتباع الخبر أولى. (4) رواه البخاري وغيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2268 قال الإمام الغزالي: فهذه المناهي تدل على أنه لا يجوز أن يلبس على البائع والمشتري في سعر الوقت ويكتم منه أمرًا لو علمه لما أقدم على العقد، ففعل هذا من الغش الحرام المضاد للنصح الواجب، فقد حكي عن رجل من التابعين أنه كان بالبصرة وله غلام بالسوس يجهز إليه السكر، فكتب إليه غلامه، أن قصب السكر قد أصابته آفة في هذه السنة، فاشتر السكر، قال: فاشترى سكرًا كثيرًا، فلما جاء وقته ربح فيه ثلاثين ألفًا، فانصرف إلى منزله فأفكر ليلته وقال: ربحت ثلاثين ألفًا وخسرت نصح رجل من المسلمين، فلما أصبح غدا إلى بائع السكر فدفع إليه ثلاثين ألفًا، وقال: بارك الله لك فيها، فقال: ومن أين صارت لي؟ فقال: إني كتمتك حقيقة الحال وكان السكر قد غلا في ذلك الوقت، فقال: رحمك الله قد أعلمتنى الآن، وقد طيبتها لك، قال: فرجع بها إلى منزله وتفكر وبات ساهرًا، وقال: ما نصحته فلعله استحيا مني فتركها لي فبكر إليه من الغد، وقال: عافاك الله خذ مالك إليك فهو أطيب لقلبي، فأخذ منه ثلاثين ألفًا!. فهذه الأخبار في المناهي والحكايات تدل على أنه ليس له أن يغتنم فرصة وينتهز غفلة صاحب المتاع، ويخفي من البائع غلاء السعر أو من المشتري تراجع الأسعار، فإن فعل ذلك كان ظالمًا تاركًا للعدل والنصح للمسلمين، ومهما باع مرابحة بأن يقول: بعت بما قام على أو بما اشتريته، فعليه أن يصدق، ثم يجب عليه أن يخبر بما حدث بعد العقد من عيب أو نقصان، ولو اشترى إلى أجل وجب ذكره، ولو اشترى مسامحة من صديقه أو ولده يجب ذكره، لأن المعامل يعول على عادته في الاستقصاء أنه لا يترك النظر لنفسه، فإذا تركه بسبب من الأسباب فيجب إخباره، إذ الاعتماد فيه على أمانته (1) . الربح عن طريق الغبن الفاحش: فينبغي أن لا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به في العادة، فأما أصل المغابنة فمأذون فيه: لأن البيع للربح ولا يمكن ذلك إلا بغبن ما، ولكن يراعى فيه التقريب، فإن بذل المشتري زيادة على الربح المعتاد إما لشدة رغبته أو لشدة حاجته في الحال إليه، فينبغي أن يمتنع من قبوله، فذلك من الإحسان، ومهما لم يكن تلبيس لم يكن أخذ الزيادة ظلمًا، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الغبن بما يزيد على الثلث يوجب الخيار ولسنا نرى ذلك، ولكن من الإحسان أن يحط ذلك الغبن. ويروى أنه كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان: ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة، وضرب كل حلة قيمتها مائتان، فمر إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة، فعرض عليه من حلل المائتين، فاستحسنها ورضيها فاشتراها فمضى بها وهي على يديه، فاستقبله يونس فعرف حلته، فقال للأعرابي: بكم اشتريت؟ فقال: بأربعمائة، فقال: لا تساوي أكثر من مائتين، فارجع حتى تردها، فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها، فقال له يونس فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها، ثم رده إلى الدكان، ورد عليه مائتي درهم، وخاصم ابن أخيه، في ذلك وقاتله وقال: أما استحييت، أما اتقيت الله، تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين؟ فقال: والله ما أخذها إلا وهو راض بها قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك، وهذا إن كان فيه إخفاء سعر وتلبيس، فهو من باب الظلم وقد سبق (يعني أنه محرم) وفي الحديث: غبن المسترسل حرام (2) ، وكان الزبير بن عدي، يقول: أدركت ثمانية عشر من الصحابة ما منهم أحد يحسن يشتري لحمًا بدرهم، فغبن مثل هؤلاء المسترسلين ظلم، وإن كان من غير تلبيس فهو من ترك الإحسان وقلما يتم هذا إلا بنوع تلبيس وإخفاء سعر الوقت. ثم ضرب الغزالي مثلًا للإحسان المحض في المعاملة، وهو أمر فوق العدل الواجب، بما روي عن محمد بن المنكدر أنه كان له شقق بعضها بخمسة وبعضها بعشرة، فباع غلامه في غيبته شقة من الخمسينات بعشرة فلما عرف لم يزل يطلب ذلك الأعرابي المشتري طول النهار حتى وجده، فقال له: إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة، فقال: يا هذا قد رضيت، فقال: وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث خصال: إما أن تأخذ شقة من العشريات بدراهمك، وإما أن ترد عليك خمسة، وإما أن ترد شقتنا وتأخذ دراهمك، فقال: أعطني خمسة، فرد عليه خمسة وانصرف الأعرابي.   (1) إحياء علوم الدين: 2 / 72. (2) قال الحافظ العراقي: حديث (غبن المسترسل حرام) أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة بسند ضعيف، والبيهقي من حديث جابر بسند جيد، وقال: (ربا بدل) حرام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2269 قال الغزالي: فهذا إحسان في أن لا يربح على العشرة إلا نصفًا أو واحدًا على ما جرت به العادة في ذلك المتاع في ذلك المكان، ومن قنع بربح قليل كثرت معاملاته واستفاد من تكررها ربحًا كثيرًا، وبه تظهر البركة. كان علي رضي الله عنه، يدور في سوق الكوفة بالدرة ويقول: معاشر التجار، خذوا الحق تسلموًا، لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيرة. قيل لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ما سبب يسارك؟ قال: ثلاث، وما رددت ربحًا قط، ولا طلب مني حيوان فأخرت بيعه، ولا بعت بنسيئة، ويقال: إنه باع ألف ناقة فما ربح إلا عقلها باع كل عقال بدرهم، فربح فيها ألفا وربح من نفقته عليها ليومه ألفًا. الربح عن طريق الاحتكار: ومن الربح الذي لا يحل لتاجر مسلم: ما جاء عن طريق الاحتكار الذي نهى عنه الشرع. فقد روى الإمام مسلم في صحيحه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يحتكر إلا خاطئ)) (1) . والخاطئ هو الآثم، وقد وصف الله أكثر الطغاة المستكبرين بهذا الوصف حين قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [سورة القصص: الآية 8] . وروى أحمد والحاكم من حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم: ((من احتكر الطعام أربعين يومًا فقد برئ من الله، وبرئ الله منه)) (2) . وعن علي رضي الله عنه: من احتكر الطعام أربعين يومًا نسا قلبه!. وعنه أيضا: أنه أحرق طعام محتكر بالنار (3) . وقيل في قوله تعالى في شأن المسجد الحرام: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الحج: الآية 25] .   (1) رواه في كتاب المساقاة من صحيحه. (2) قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث (الإحياء) : رواه أحمد والحاكم بسند جيد وحسنه الحافظ في (الفتح) وقواه في (القول المسدد في اللب عن المسند) ردًّا على ابن الجوزي الذي ذكره في (الموضوعات) وعضده بجملة شواهد وأيده السيوطي ونقل ذلك عنه في اللآلئ المصنوعة: 2/147، 148 (3) نقل ذلك الغزالي في الإحياء: 2/72، 73 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2270 إنَّ الاحتكار من الظلم، وداخل تحته في الوعيد. والاحتكار أن يحبس التاجر السلعة، ينتظر بها غلاء الأسعار. وهو يدل على نزعة أنانية، لا يبالي صاحبها بما يقع من أذى وضرر على جمهور الناس، ما دام هو يجني من وراء ذلك أرباحًا طائلة. ويتفاقم الضرر إذا كان التاجر هو البائع الوحيد السلعة، أو تواطأ مجموعة التجار الذين يبيعون السلعة على إخفائها وحبسها، حتى يشتد الطلب عليها، فيغلو سعرها، ويفرضوا فيها الثمن الذي يريدون وهذا هو شأن النظام الرأسمالي الذي يقوم على دعامتين رئيسيتين هما: الربا والاحتكار. وللفقهاء هنا خلاف حول أمرين: الجنس الذي يحرم احتكاره من السلع ما هو؟.. والوقت الذي يحرم فيه الاحتكار. فمن الفقهاء من قصر الاحتكار على (الأقوات) لا يتجاوزها قال الغزالي: أما ما ليس بقوت ولا هو معين على القوت، كالأدوية والعقاقير، والزعفران وأمثاله، فلا يتعدى النهي إليه، وإن كان مطعومًا، وأما ما يعين على القوت كاللحم والفواكه وما يسد سدًّا يغني عن القوت في بعض الأحوال، وإن كان لا يمكن المرادفة عليه، فهذا في محل النظر، فمن العلماء من طرد التحريم في السمن والعسل والشيرج والجبن والزيت، وما يجري مجراه (1) . ويفهم من كلام الغزالي هنا أنهم يعتبرون (القوت) محصورًا في الطعام الجاف مثل الخبز والأرز بلا سمن ودون أدام، حتى الجبن والزيت والسمسم ونحوها اعتبرت خارج دائرة القوت. وهذا الذي ذكروه من القوت، لا يكتفي به الطب الحديث غذاء صحيحًا للإنسان، إذ لا بد أن تتوافر في الغذاء الجيد جملة عناصر ضرورية منها البروتينات والدهنيات والفيتامينات وإلا أصبح الآن عرضة لأمراض سوء التغذية، ومن هنا فإن كل ما تشتد حاجة الناس إليه يكون احتكاره أشد إثمًا، وفي مقدمة ذلك الطعام، وفي مقدمة الطعام القوت الضروري. كما أن الأدوية في عصرنا أصبحت أمرًا ضروريا للناس، وكذلك الملبوسات ونحوها. وحاجات الناس تتطور بتطور أنماط حياتهم، وكم من أمر تحسيني أو كمالي، أصبح حاجيًّا، وكم من حاجي غدا ضروريًّا. والأرجح في رأيي تحريم الاحتكار لكل ما يحتاج إليه الناس، طعامًا كان أو دواء، أو لباسًا، أو أدوات مدرسية أو منزلية، أو مهنية، أو غير ذلك.   (1) الإحياء: 2/73، ط. دار المعرفة – بيروت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2271 والدليل على ذلك عموم الحديث ((لا يحتكر إلا خاطئ)) أو ((من احتكر فهو خاطئ)) والوعيد عليه خاصة، لا ينفي ذلك العموم. وعلة النهي أيضًا تؤكد ذلك، وهي الإضرار بعموم الناس، نتيجة حبس السلعة وحاجة الناس ليست إلى الطعام وحده، وخصوصًا في عصرنا، فهو في حاجة إلى أن يطعم ويشرب، ويلبس ويسكن، ويتعلم، ويتداوى، وينتقل، ويتواصل مع غيره بشتى الوسائل. ومن هنا أرجح قول الإمام أبي يوسف في (الخراج) : كل ما أضر بالناس حبسه فهو احتكار (1) . وكل ما تشتد حاجة الناس إليه يكون احتكاره أشد إثمًا، وفي مقدمة ذلك الطعام، وفي مقدمة الطعام القوت الضروري. وكذلك الخلاف في الوقت الذي يحرم فيه الاحتكار، فمن العلماء من طرد النهي في جميع الأوقات، ولم يفرق بين وقت الضيق ووقت السعة أخذًا بعموم النهي، وعليه عمل الورعين من السلف. قال الغزالي: (ويحتمل أن يخصص بوقت قلة الطعام، وحاجة الناس إليه حتى يكون في تأخير بيعه ضر ما، فأما إذا اتسعت الأطعمة، وكثرت واستغنى الناس عنها، ولم يرغبوا فيها إلا بقيمة قليلة، فانتظر صاحب الطعام ذلك، ولم ينتظر قحطًا، فليس في هذا إضرار،وإذا كان الزمان زمان قحط، كان في ادخار العسل والسمن والشيرج وأمثالها أضرار، فينبغي أن يقضي بتحريمه ويعول في نفي التحريم وإثباته على الضرار، فإنه مفهوم قطعًا من تخصيص الطعام، وإذا لم يكن ضرار فلا يخلو احتكار الأقوات عن كراهية، فإنه ينتظر مبادئ الضرار وهو ارتفاع الأسعار وانتظار مبادئ الضرار، محذور كانتظار عين الضرار، ولكنه دونه، وانتظار عين الضرار أيضًا هو دون الإضرار، فبقدر درجات الإضرار تتفاوت درجات الكراهية والتحريم (2) . وعن بعض السلف: أنه كان بواسط، فجهز سفينة حنطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بع هذا الطعام يوم يدخل البصرة، ولا تؤخره إلى غد فوافق سعة في السعر فقال له التجار: لو أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، وكتب إلى صاحبه بذلك فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا، إن كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وإنك قد خالفت وما نحب أن نربح أضعافه بذهاب شيء من الدين، فقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال كله، فتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من إثم الاحتكار كفافًا لا علي ولا لي (3) . خاتمة: وإذا كان الأصل جواز الربح بغير نسبة محددة للتاجر الملتزم بأحكام الإسلام وتوجيهاته في البيع والشراء، وترك السوق للعوامل الطبيعية، وهو ما يعبر عنه اليوم بقوانين العرض والطلب – دون تلاعب أو تدليس، أو تدخل مفتعل، لإغلاء الأسعار على عموم الناس ... فهذا لا يمنع ولي الأمر المسلم – عندما يوجد شيء من ذلك – أن يتدخل بمقتضى عموم ولايته ومسئوليته، لتحديد أرباح التجار، بنسب معينة، قد تتفاوت بتفاوت السلع وبمشورة أهل الرأي والبصيرة، كما عبر علماؤنا السابقون رحمهم الله تعالى، وهذا هو موضوع (التسعير) ومتى يجوز، ومتى لا يجوز، وما شروطه، إلخ ... وهو لا يخص التجار وحدهم، بل يشمل المنتجين أيضًا، وهو جدير ببحث مستقل بعنوانه الخاص.   (1) الخراج، لأبي يوسف. (2) الإحياء: 2/73. (3) الإحياء: 2/73. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2272 الخلاصة والخلاصة التي تخرج بها من هذا البحث تتمثل فيما يلي: 1- أن ابتغاء الربح في التجارة أمر جائز ومشروع، بل هو مأمور به لمن لا يحسنون الاتجار لأنفسهم كاليتامى. 2- أن النصوص لم تحدد نسبة معينة للربح، بحيث لا يجوز تعديها، بل وجد في السنة ما يدل على جواز بلوغ الربح إلى ضعف رأس المال أو أضعافه. 3- أن جواز الربح الكثير لا يعني أنه مرغوب فيه دائمًا، بل القناعة بالربح القليل أقرب إلى هدي السلف وأبعد عن الشبهات. 4- أن الربح لا يحل للتاجر المسلم، إلا إذا سلمت معاملاته التجارية من الحرام فأما إذا اشتملت على محرم كالاتِّجار في الأعيان المحرمة، أو التعامل بالربا أو الاحتكار أو الغش والتدليس، أو إخفاء سعر الوقت أو التطفيف ونحوهما فإن ما ترتب عليها من ربح يكون حرامًا. 5- أن القول بأن للتجار أن يربحوا بالحلال ما شاؤوا، في حدود القيم والضوابط التي ذكرناها، لا ينفي حق ولي الأمر المسلم في تحديد مقدار الربح أو نسبته، وخصوصًا في السلع التي يحتاج عموم الناس إليها. الدكتور يوسف القرضاوي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2273 مسألة تحديد الأسعار إعداد الشيخ محمد علي التسخيري بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد البشر محمد وآله الطيبين وصحبه المنتخبين. رغم أن الموضوع المطلوب بحثه هو مسألة تحديد أرباح التجار ولكننا نقصر البحث هنا على موضوع تحديد الأسعار لأن الموضوع الأول واسع الأبعاد يشمل مساحات مختلفة كتحديد الأجور والرواتب وتحديد موارد الاستثمار الصناعي والزراعي والتجاري وتحديد الأسعار، وتحديد الدخل بشكل عام ومن الطبيعي عدم إمكان البحث في كل هذه الأمور اللهم إلا أن يقال بوحدة الملاك فيها جميعًا ويتم التركيز على هذا الملاك ليعرف الجواب في الجميع ومن هنا فقد ركزنا على موضوع تحديد الأسعار للأمور التالية: أولًا: لتحديد محل البحث. ثانيا: لأنه أكثر من غيره محل الخلاف والبحث من قبل علمائنا. وثالثا: لأن الموقف فيه إذا عرف عرفت أغلب المواقف في الموارد الأخرى، وعلى أي حال، فإن الأصل في البين هو حرية البائعين والمشترين في التعامل بأي سعر كان، أما التحديد فيجب أن يتم طبق حركة استثنائية وعلى أساس من سلطة حكومية ولائية أو قواعد ثانوية تنفي الضرر والحرج وغيرها وسنلاحظ اختلاف المواقف فيما يلي: أقوال العلماء: ذكر العالم الكبير المنتظري في رسالته (التسعير) بعض هذه الأقوال وأكد على أن كلماتهم مختلفة في ذلك والأكثر على المنع، بل في كتاب مفتاح الكرامة: (إجماعًا وأخبارًا متواترة كما في السرائر وبلا خلاف كما في المبسوط وعندنا كما في التذكرة للعلامة) (1) . وجاء في نهاية الشيخ الطوسي (ولا يجوز له أن يجبره على سعر بعينه، بل يبيعه بما يرزقه الله – تعالى – ولا يمكنه من حبسه أكثر من ذلك) (2) .   (1) مفتاح الكرامة ج 4، كتاب المتاجر: ص 109 (2) النهاية للشيخ الطوسي: ص 374. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2274 وفي المبسوط للشيخ الطوسي: (لا يجوز للإمام ولا النائب عنه أن يسعر على أهل الأسواق متاعهم من الطعام وغيره سواء كان في حال الغلاء أو في حال الرخص بلا خلاف ... فإذا ثبت ذلك فإذا خالف إنسان من أهل السوق بزيادة سعر أو نقصانه فلا اعتراض لأحد عليه) (1) . وفي كتاب الغنية لابن زهرة: (ولا يجوز إكراه الناس على سعر مخصوص) (2) . وفي كتاب الشرائع: (ولا يسعر عليه، وقيل: يسعر: والأول أظهر) (3) . وفي المختصر للمحقق الحلي: (وهل يسعر عليه؟ الأصح، لا) (4) . وفي المقنعة: (وله أن يسعرها على ما يراه من المصلحة ولا يسعرها بما يخسر أربابها فيها) (5) . وفي الدروس للشهيد الأول: (ولا يسعر عليه إلا مع التشدد) (6) . وفي مفتاح الكرامة: (وفي الوسيلة والمختلف والإيضاح والدروس واللمعة والمقتصر، والتنقيح أنه يسعر عليه إن أجحف في الثمن لما فيه من الإضرار المنفي) (7) . وقال العلامة في المنتهى: (على الإمام أن يجبر المحتكرين على البيع وليس له أن يجبرهم على التسعير، بل يتركهم يبيعون كيف شاؤوا به قال أكثر علمائنا وهو مذهب الشافعي، وقال المفيد وسلار (ره) للإمام أن يسعر عليهم فيسعر بسعر البلد وبه قال مالك) (8) . وجاء في موسوعة الفقه الإسلامي: (نص المالكية على أن من اشترى الطعام من الأسواق واحتكر وأضرَّ بالناس، فإن الناس يشتركون فيه بالثمن الذي اشتراه به) (9) . وجاء في نفس الموسوعة: صرح الحنابلة بأن لولي الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه مثل من عنده طعام يحتاج إليه الناس في مخمصة، فإن من اضطر إلى طعام غيره أخذه منه بغير اختياره بقيمة المثل ولو امتنع عن بيعه إلا بأكثر من سعره أخذه منه بقيمة المثل) (10) .   (1) المبسوط: 2 /195. (2) الجوامع الفقهية: ص 590. (3) الجزء الثاني: ص 21. (4) المختصر النافع: ص 120. (5) المقنعة: ص 96. (6) الدروس: ص 332. (7) مفتاح الكرامة: 4/ 109. (8) المنتهى: 2/ 1007. (9) موسوعة الفقه الإسلامي: 3/198. (10) موسوعة الفقه الإسلامي: 3 /198. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2275 وهكذا نجد العلماء بين موافق ومخالف في هذا الموضوع. أدلة الطرفين: أما النافون للجواز فقد استندوا إلى أدلة أهمها: أولا: كل الأدلة العامة التي تدعو إلى احترام الملكية الخاصة، والسطلنة على المال وعدم التدخل في ذلك، وأن الأصل هو تحريم نقل مال الغير عنه بغير إذنه وأن البيع معاملة وقعت عن تراضٍ فما المجوز للتدخل وأمثال ذلك. ثانيا: الروايات الخاصة الواردة في هذا الموضوع ومنها: 1- ما رواه محمد بن يعقوب بسنده عن حذيفة بن منصور عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، قال: نفذ الطعام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه المسلمون فقالوا يا رسول الله قد نفذ الطعام ولم يبق منه شيء إلا عند فلان فمره ببيعه، قال: ((فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا فلان إن المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفذ إلا شيء عندك فأخرجه وبعه كيف شئت ولا تحبسه)) (1) ورواه الشيخ الطوسي بسنده إلا أنه قال (فقد) مكان (نفذ) وقال سماحة الشيخ المنتظري في سنده أنه لا كلام في رجاله إلا في حذيفة ومحمد بن سنان والظاهر أن الأمر فيهما سهل. 2- ما رواه الشيخ بسنده عن الحسين بن عبيد الله بن حمزة، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، أنه قال: رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مر بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق وحيث تنظر الأبصار إليها فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قومت عليهم! فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف الغضب في وجهه، فقال: ((أنا أقوم عليهم إنما السعر إلى الله يرفعه إذا شاء ويخفضه إذا شاء)) (2) . ورواه الصدوق أيضا في (من لا يحضره الفقيه) مرسلًا، وفي التوحيد بسند موثوق به (3) .   (1) وسائل الشيعة ج 12 الباب 29 من أبواب آداب التجارة الحديث 1 (2) وسائل الشيعة ج 12 الباب 30 من آداب التجارة الحديث 1 (3) التوحيد للصدوق: ص 388. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2276 3- ما رواه الصدوق في الفقيه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لو سعرت لنا سعرًا فإن الأسعار تزيد وتنقص، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما كنت لألقى الله ببدعة لم يحدث إلى فيها شيء فدعوا عباد الله يأكل بعضهم من بعض وإذا استنصحتم فانصحوا)) ، ورواه في التوحيد أيضا (1) . 4- وفي سنن أبي داود بسنده عن أبي هريرة أن رجلًا جاء فقال: يا رسول الله سعر فقال: ((بل أدعو)) ، ثم جاء رجل فقال يا رسول الله: سعر، فقال: ((بل الله يخفض ويرفع وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة)) (2) . 5- وفيه أيضا بسنده عن أنس بن مالك قال: قال الناس: يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال)) (3) ، وأحمد في المسند (4) . 6- وهناك روايات أخرى رواها ابن ماجه وعبد الرزاق في المصنف وروى بعضها أبو يوسف في (الخراج) والشوكاني في نيل الأوطار وغيرهم. وأما المجيزون للتسعير فهم يستندون إلى أدلة منها: أولا: مسألة الولاية التي يملكها الحاكم الشرعي على الأوضاع العامة لتحقيق العدالة الاجتماعية فله حق التدخل لتعديل الأسعار كما أن له حق التدخل في مختلف المجالات المباحة ومن الطبيعي أن الحكومة والقدرة على الإدارة العامة تتطلبان بلا ريب هذه الولاية لملء منطقة الفراغ التنظيمي. أما الأساس الذي يقوم عليه تدخله في الأمور فقد يكون هو الضرورة وقد لا تكون هناك ضرورة وإنما تقتضي المصلحة العامة أي تقتضي مسألة السير الاجتماعي المتوازن أن يتدخل في هذه المنطقة ومن الواضح أن التسعير لا يعني الإجبار على البيع إذا كان هناك ما يتطلب ذلك ويقوم أصل الولاية هذا على أساس من أمر الشريعة بإطاعة ولي الأمر فيما رآه. ثانيًا: وجود الضرر وهو منفي في الإسلام والمقصود به هنا أن المنع من التسعير أو عدم التسعير يؤدي إلى ضرر العامة وهم محتاجون إلى المتاع ويتأكد هذا الموضوع إذا قلنا إن الضرر يفسر بسوء الحال فيشمل الضرر الاجتماعي العام.   (1) وسائل الشيعة ج 12 الباب 30 من أبواب آداب التجارة الحديث 2. (2) سنن أبي داود: 3/272، كتاب الإجارة باب التسعير. (3) سنن ابن ماجه: ج 2 الحديث 2200 كتاب التجارات. (4) مسند الإمام أحمد بن حنبل: 2/156. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2277 ثالثا: كما استند في ذلك إلى سد الذريعة إلى الحرام، والمصالح المرسلة باعتبارها أصولًا قائمة برأسها ونحن لا نقول بذلك. وعلى ضوء هذه الأدلة التي نقلناها وما نفهمه من طبيعة الإسلام والنظام الإداري فيه نستطيع طرح النقاط التالية والتي تساهم في تفهم الموقف الصحيح. أولا: رغم أن الإسلام اعترف تمامًا بالملكية الخاصة والحرية الاقتصادية في مجالات ترشيد الثروة والتملك والاستهلاك وأعطاها دورها الخاص الأصيل في الحياة الاقتصادية تمامًا إلى جانب الاعتراف بالملكية العامة والمصالح العامة، ولكنه أكد من جهة بعض المفاهيم التي تبعد هذا الاعتراف عن صورته الرأسمالية الجشعة وتلك من قبيل مفهوم الخلافة الإلهية على المال وأن الإنسان إنما خول التصرف في المال بما يريده المالك الحقيقي له. {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [سورة الحديد: الآية 7] . {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [سورة الأنعام: الآية 94] . وإن الأموال إنما أعطيت ونظم لها نظام ملكية معين باعتبار مالها من وظيفة اجتماعية عامة ألا وهي قيام المجتمع بها ولذا يمنع السفهاء من التلاعب بها واستغلال ملكيتهم الخاصة في هذا الصدد. {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [سورة النساء: الآية 5] . وتلاحظ هنا عبارة (لكم) مع أن المراد هو أموال السفهاء. وربما جاءت نصوص تذكر حقيقة الملكية الإلهية والهدف منها، ثم تعقب على ذلك بأحكام تحدد فيها هذه الملكية. مما يوضح لنا أن الملكية في الإسلام، ليست حقًّا مطلقًا وإنما هي حق تستتبعه مسئولية. وعلى ضوء هذا، فإذا أريد استغلال الملكية لصالح جشع المالك واستفادته من حاجة الناس إليها للتضييق عليهم والوصول إلى الربح المضاعف، فإن ذلك مما يتنافى وطبيعة المسئولية التي أشرنا إليها. والذي يشخص الضرورة الاجتماعية أو المصلحة الاجتماعية العليا هو ولي الأمر العادل عبر تشاوره مع ذوي الخبرة. وعبر هذا المعنى يملك ولي الأمر القدرة على توجيه الاقتصاد السياسي المطبق الوجهة التي يريدها الإسلام فيمنع من انحصار الأموال بيد طبقة خاصة: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [سورة الحشر: الآية 7] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2278 ويحقق للتداول طبيعته الاقتصادية المنسجمة مع المسئولية الاجتماعية مبعدًا إياه عن دوره الاستثنائي الرأسمالي المنحرف والمؤدي لتضخم القيمة وإهدار الطاقات، ويوفر التوازن الاجتماعي المطلوب. وعملية التسعير إذا نظر إليها في هذا الإطار كانت عملية طبيعية بلا ريب. ثانيا: إذا أردنا أن نوضح موقف الإسلام من حرية قوانين العرض والطلب في السوق الإسلامية نستطيع الوصول إلى نتيجة ملخصها: 1- أن هذه القوانين لا محل لها في مرحلة ما قيل الإنتاج البشري أي مرحلة الطبيعة الخام فالمؤثر في هذه المرحلة هو العمل على الطبيعة وبدونه لا يحصل أي اختصاص أو توزيع. 2- أما في مرحلة ما بعد الإنتاج البشري، فإن هذه القوانين تعمل عملها ولكن في أطر معينة يرضاها الإسلام للسوق الإسلامية السليمة والتي تذكرها لنا النصوص الإسلامية الكثيرة. إذ لا يوجد في هذه السوق (احتكار) ولا (إجحاف) ولا (غش) ولا تبان لرفع القيم (حتى التباني الرسمي) ، ولا ندرة مصطنعة كما يتوفر فيها ما يحتاجه المجتمع حيث يجب كفاية توفر ذلك، وهكذا نصل إلى منع أي معاملة محرمة وسيادة روح التعاون والخدمة وغير ذلك من أحكام السوق الإسلامية السليمة، وفي مثل هذه الحالة الطبيعية لا معنى لتدخل الدولة في عملية العرض والطلب حيث الأصل حريتهما وربما يحمل على ذلك ما جاء في الأخبار: ((إنما السعر إلى الله يرفعه إذا شاء ويخفضه إذا شاء)) أو (إن غلاء السعر ورخصه بيد الله) وأمثال ذلك. وإذا رأيناه صلى الله عليه وسلم يغضب ممن طلب منه التدخل فهو – على الظاهر – لأنه طلب إليه التدخل في حالة عادية. وقد روى عبد الرزاق في المصنف بسنده عن سالم بن أبي الجعد، قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم سعر لنا الطعام، فقال: ((إن غلاء السعر ورخصه بيد الله وإني إن ألقى الله لا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في مال ولا دم)) (1) .   (1) مصنف عبد الرزاق الجزء الثامن الحديث 14897 باب هل يسعر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2279 فليس غلاء السعر، أو كون الطعام غير مسعر وأمثال ذلك سببًا للتدخل، أما إذا حصل إجحاف في البين أو احتكار وما إلى ذلك مما يتنافى والشكل الإسلامي للسوق، فإن لولي الأمر التدخل لإرجاع الحالة إلى الوضع الطبيعي بلا ريب. قال الصدوق في كتاب التوحيد: (فما كان من الرخص والغلاء عن سعة الأشياء وقلتها، فإن ذلك من الله – عز وجل – ويجب الرضا بذلك والتسليم له وما كان من الغلاء والرخص بما يؤخذ الناس به لغير قلة الأشياء وكثرتها من غير رضى منهم به أو كان من جهة شراء واحد من الناس جميع طعام بلد فيغلوا الطعام، فذلك من المسعر والمعتدي بشراء طعام المصر كله كما فعله حكيم بن حزام كان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله فمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا حكيم بن حزام إياك أن تحتكر)) ) (1) . وقد روي عن الإمام على بن أبي طالب أنه كتب إلى مالك الأشتر عامله على مصر يقول: (فامنع من الاحتكار فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع منه وليكن البيع بيعًا سمحًا بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع) (2) . ويقول الشهيد الثاني: (ولا يجوز التسعير في الرخص مع عدم الحاجة قطعًا والأقوى أنه مع الإجحاف حيث يؤمر به لا يسعر عليه أيضًا، بل يؤمر بالنزول عن المجحف وإن كان بمعنى التسعير إلا أنه لا ينحصر في قدر خاص) (3) . والظاهر أن النصوص تؤكد على حرية التسعير، ما لم يتطلب الموقف غير ذلك، وحتى لو أمكن تلافي الحاجة بالأمر بتقليل السعر دون تحديد لتعين ذلك فهي حالة استثنائية لا يصار إليها إلا عند الضرورة أو اقتضاء المصلحة العامة الملزمة لذلك. وإننا إذا تأملنا الخلاف بين العلماء ونصوصهم واستدلالاتهم وجدنا أن هذا يشير إلى الحالة الطبيعية فيحرم وذاك يشير للحالة الثانوية فيجيز، فهم في الواقع متفقون – كما يظهر-. الخلاصة: من ملاحظة الأدلة والنصوص والفتاوي يتلخص ما يلي: 1- إن الأسعار متروكة للمالكين يسيرون بها حسب العرض والطلب وفي الجو الطبيعي لهما دونما صيرورة إلى ندرة كاذبة واحتكار مذموم. 2- في الحالات التي تتطلب الضرورة أو المصلحة الاجتماعية تدخل ولي الأمر، فإن له بمقتضى ولايته التدخل. والله أعلم. الشيخ محمد علي التسخيري   (1) التوحيد للصدوق: ص 389. (2) نهج البلاغة شرح الإمام محمد عبده: 3/92. (3) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: 3/ 299. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2280 بحث تحديد أرباح التجار إعداد الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد بسم الله الرحمن الرحيم يقصد بتحديد أرباح التجار التسعير وهو تحديد أسعار معينة تباع بها سلع معينة في الأسواق. والهدف من تحديد أرباح التجار أو التسعير لهم هو حماية المشتري حتى لا يظلم في شراء ضرورياته ومستلزماته. والهدف من ذلك أيضًا هو محاربة الاحتكار والسوق السوداء وقد تسببا في معاناة شديدة وحرج كبير لكثير من شعوبنا. ولا شك أن هذه أهدافًا جميلة تتمشى مع ما تهدف إليه الشريعة الغراء من الرحمة بين الناس والعدل والرضا والطمأنينة في البيع. ولكن قد يثار أن تحديد أرباح التجار أو التسعير لهم فيه مخالفة لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) . وفي تحديد السعر الذي بيبع به التاجر وهو تحديد لربحه قد يكون إجبارًا له على البيع بغير ما يرضى أو يريد من الربح. كما أن هذا التحديد قد يحد من حرية المالك مما تكفله له الشريعة الإسلامية من حرية التصرف فيملكه كيف يشاء من غير إتلاف لماله أو مساس بحقوق الآخرين، كما أن مبدأ حرية التجارة وارتزاق الناس بعضهم من بعض التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبع حاضر لباد، ودعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) (2) . ولكي نصل إلى الرأي الفقهي في هذه المسألة لا بد من الرجوع إلى أصولها في الفقه ومصادره. أولًا: الأصل في هذه المسألة قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (اعلم أن كل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض، إلا أن قوله (بالباطل) أخر منها كل عوض لا يجوز شرعًا من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير وغير ذلك. وخرج منها أيضًا كل عقد جائز لا عوض فيه، كالقرض والصدقة والهبة. وجازت عقود التبرعات بأدلة أخرى مذكورة في مواضعها. فهذان طرفان متفق عليهما) (3) .   (1) سورة النساء: الآية29. (2) الحديث صحيح وقد رواه كثير من المتحدثين تارة باللفظ وتارة بالمعنى. أخرجه مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه، والترمذي في جامعه، والنسائي في صحيحه. وفي أخرى للبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي عن أنس (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حاضر لباد وإن كان أخاه لأبيه وأمه) ، وفي أخرى لأبي داودوالنسائي (وإن كان أخاه أو أباه) إلى غير ذلك. (3) الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله القرطبي: 5/152، دار إحياء التراث العربي، لبنان، 1965م. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2281 ويقول: " والجمهور على جواز الغبن في التجارة مثل أن يبيع رجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة فذلك جائز، وإن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه اليسير وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك، كما تجوز الهبة لو وهب. واختلفوا فيه إذا لم يعرف قدر ذلك، فقال قوم: عرف قدر ذلك أم لم يعرف فهو جائز إذا كان رشيدا حرًا بالغًا. وقالت فرقة: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات، وأما المتفاحش الفادح فلا، وقال ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله: والأول أصح لقوله عليه السلام في حديث الأمة الزانية: "فليبعها ولو بضفير"، وقوله عليه السلام لعمر ((لا تبتعه – يعني الفرس – ولو أعطاكه بدرهم واحد)) . وقوله عليه السلام ((دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) . وقوله عليه السلام: ((لا يبع حاضر لباد)) . وليس فيها تفصيل بين القليل والكثير من ثلث ولا غيره". (1) . ثانيًا: ما روي في الحديث من رفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يسعر للناس، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال: سعر لنا يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنما يرفع الله ويخفض، إني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة)) . قال له آخر: سعر، قال: ((أدعو الله)) . قال الإمام البغوي في الجزء الثامن من شرح السنة أن إسناد الحديث أعلاه صحيح، وأخرجه أبو داود في البيوع: باب في التسعير. وأخرجه ابن ماجه في التجارات: باب من كره أن يسعر بلفظ، قال الناس: يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد منكم يطالبني بمظلمة من دم ولا مال)) . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وفي الباب أيضًا عن أبي جحيفة وابن عباس وأبي سعيد الخدري عند الطبراني في معاجمه الثلاثة (2) . ويأتي هنا أيضًا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم المذكور سابقًا ((لا يبع حاضر لباد)) , ((ودعوا الناس يرزق الله بعضهم بعضًا)) ، وقد بينا صحة إسناده سابقًا، والمنهي عنه هنا أن يأتى البدوي البلدة ومعه قوت يبغي التسارع إلى بيعه رخيصًا، فيقول له الحضري: اتركه عندي لأغالي في بيعه. فهذا الصنيع محرم لما فيه من الاضرار بالغير. والبيع إذا جرى مع المغالاة متعقد. وسئل ابن عباس عن معنى الحديث فقال: لا يكون له سمسارًا. (عن ابن الأثير) (3) .   (1) الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله القرطبي: 5/152، دار إحياء التراث العربي، لبنان، 1965م. ص152، 153. (2) انظر شرح السنة للإمام البغوي: 8/177، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1983م. (3) انظر الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله القرطبي: 5/153، مطبعة دار إحياء التراث العربي، لبنان، 1965م. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2282 وروى الإمام مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب قال: لا حكرة في سوقنا لا يعمد رجال بأيديهم فضول من إذهاب إلى رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف، فليبع كيف شاء، وليمسك كيف شاء الله (1) . ويبدو أن تغير أحوال الناس وظهور عنصر الجشع وفقدان الأمانة والتقوى في معاملاتهم وكذلك اتساع الأوضاع التجارية دفع الفقهاء إلى البحث عن حكم البيع بالزيادة المتفاحشة على الثمن المعتاد. ويبدو أن هناك اتفاقًا ظاهرًا في أنه متى علم البائع والمشتري قيمة السلعة التي تباع بها في الأسواق، وحصل الغبن بزيادة في الثمن غير معتادة، أو نقص فيه كذلك، فالبيع صحيح لا حرمة فيه، ولو كان البيع فوق فائدة الربا بكثير، وما مثل هذا إلا كزارع وضع قليلًا من الحب في أرضه فأنبتت عشرة من الأرادب، فالطريق مشروع، والكسب حلال ورزق ساقه الله إلى التاجر والزارع. أما إذا جهلت قيمة السلعة، فإن استسلم أحدهما لصاحبه بأن أخبره بجهله وائتمنه فيما يخبره به وما يحدده من الثمن، فقال البائع للمشتري: قيمتها في السوق عشرون، فإذا هي عشرة، أو قال المشتري للبائع: قيمتها في السوق عشرة، فإذا هي عشرون، فللمغبون الرد، وعلى صابحه المؤتمن الكذوب الحرمة. فإن لم يستسلم لصاحبه مع جهل القيمة، بل باع أو اشترى على المغالبة والمشاحة فحصل الغبن المتفاحش، فالبيع صحيح لا رد فيه ولا حرمة على المشهور. وقال بعضهم: إن وصل الغبن الثلث فأكثر من قيمة السلعة، فسخ البيع أن قام المغبون برد السلعة في أثناء السنة من يوم البيع. وقد أفتى به ابن عرفة والماذري والبرزلي. ومشى عليه ابن عاصم في التحفة، لكن رده ابن رشد بقوله: إنه غير صحيح لحديث: ((لا يبع حاضر لباد)) ((ودعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) .   (1) الموطأ: 2/651. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2283 قال في أقرب المسالك وشرحه: ولا رد بغبن ولو خالف العادة في القلة أو الكثرة، كأن يشتري ما يساوي درهمًا بعشرة أو عكسه، إلا أن يستسلم أحد المتابيعين لصاحبه بأن يخبره بجهله، كأن يقول المشتري: أنا لا أعلم قيمة هذه السلعة فبعني كما تبيع الناس، فقال البائع: هي في العرف بعشرة، فإذا هي بأقل. أو يقول البائع: أنا لا أعلم قيمتها فاشترِ مني كما تشتري من الناس، فقال: هي في عرفهم بعشرة، فإذا هي بأكثر، فللمغبون الرد على المعتمد (بل باتفاق، ولم يخالف فيه أحد) . وإنما الخلاف في الغبن من غير استسلام إذا كان المغبون جاهلًا، فإن كان عارفًا فلا رجوع له اتفاقًا، فإن استسلم الجاهل فالرد متفق عليه" (1) . والذي يتضح من هذا كله أن الرأي الراجح هو ترك البضائع بغير تحديد سعر أو تحديد أرباح للتجار على أن تقوم الدولة بواجبها في توفير البضائع وأنواعها محاربة للغلاء أو الاحتكار أو السوق السوداء كما عليها إقامة الدين بين الناس وإحياء ضمائرهم بالتقوى والبعد عن إجحاف الناس وظلمهم أو استغلال حاجتهم للشراء وجلهم بالأسعار. فعلى الدولة ترك تحديد الأسعار أو تحديد أرباح التجار مع نشر الوعي الديني وحث الناس على تقوى الله في هذا المجال ومخافته في معاملة عباده ولا سيما قول الرسول صلى الله عليه وسلم. ((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)) (2) . إلا أنني أرى أن الأمر إذا استشرى جدًا وصارت طبقة من الناس لا تخشى الله ولا ترحم الناس كما يحصل فيما يسمونه اليوم بالسوق السوداء، فعلى الدولة واجب محاربة هذه الطبقة ومحاربة ما يفعلونه، بخلق التنافس الصالح في التجارة وتوفير البضائع وأنواعها وتوعية الناس بكل الوسائل بالأسعار المعقولة للبضائع جملة وتجزئة. ولا شك أن هذا من أهم مهام الدولة الإسلامية والمحتسبين في محاربة أي عامل يؤدي إلى الغلاء في الأسواق وسن اللوائح اللازمة لتحقيق ذلك وعلى الناس طاعتها لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3) . وللحكومة الحق في تعزير من يخالف تلك اللوائح. الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد.   (1) جاء هذا في فتوى للشيخ يوسف الرجوي المالكي من هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف – انظر مجلة الأزهر، مجلد 5، ص244. انظر أيضًا الفقه على المذاهب الأربعة، كتاب البيع: بحث البيع بالغبن الفاحش. (2) أخرجه الترمذي: (1209) ؛ والدارمي: 2/247؛ والحاكم: 2/6. (3) سورة النساء: الآية 59. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2284 تحديد أرباح التجار إعداد الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على أفضل الأنبياء والمرسلين المقدمة: لا شك أنَّ اختلاط المسلمين اليوم بغيرهم، وتطور الحريات العامة، واحترام الإنسان لأخيه الإنسان بقطع النظر عن الجنس، أو الدين أو اللغة، أو الإقليم، إضافة إلى سهولة المواصلات وسرعتها وتنوع وسائل الإنتاج، وتصاعد حاجات الإنسان، كلها مؤثرات بالغة الأهمية في نمو ربح التاجر، وتنوع مصادره، فإذا ما تضافرت كلها وترك لها الباب مفتوحًا، فإن تفاحش الربح والبحث عنه لا محالة سيؤدي إلى فوضى اجتماعية، وانتهاكات دينية تخل بسلامة المجتمع الإنساني بصفة عامة، كما ستهدر قيم المجتمع الإسلامي بصفة خاصة. ويثبت ذلك ما يشاهد اليوم في النظام الرأسمالي الغربي، الذي أصبحت الشركات الكبرى هي التي تتحكم في مصيره مكرسة كل طاقات الدول لخدمة ربحها المتنامي بصرف النظر عن كل شيء يخدم الربح على أبشع صور الاستغلال، والاستنزاف. وبموازاة ذلك تعيش مراكز البيروقراطية في المعسكر الاشتراكي جاعلة من طاقات الإنسان وسيلة لرفاهية مدراء المكاتب، والمؤسسات العسكرية على حساب حرية الفرد واختياره وتنمية جهوده، ليصبح عبد التوجيه الذي لا يرحم، ولا يسمن ولا يغني، ولعل ما يلاحظ اليوم من عجز النظامين عن حل أبسط المشاكل اليومية للإنسان يحتم علينا نحن المسلمين أن نرجع لنظريات الإسلام، بإبرازها للعالم كبديل قادر على تجنب كثير من مساوئ التجارب البشرية، التي أعطيت لها كل الفرصة الزمنية فعجزت عن حل أبسط مشاكل الفرد والجماعة، إذ في الوقت الذي يبحث خبراء العالم عن البدائل يجدر بنا نحن المسلمين أن نقدم لهم البديل جاهزًا، وقد أتت جل قواعده من الله لصالح عباده، ثم إن تلك التعاليم قد خضعت لمحك التجربة فأعطت أنها صالحة أيام ازدهار دولة الإسلام. كما أن جُلَّ النظريات الصالحة في سجل الفكر البشري لعالم اليوم، إذا لم تكن مقتبسة في جلها من تعاليم الإسلام، فإنها أتت شديدة التأثر به، ونعني كل القوانين، سواء كانت في إطار نظريات اقتصادية أو قواعد مدنية، مما يحتم علينا نحن أصحاب تلك الشريعة الإسلامية الخالدة أن نعيد تجاربنا في الحياة استنادًا إليها وتطبيقًا لنصوصها، كما يجب علينا أن نتعرف على نصوصها، ونقدم أسسها لأبناء اليوم بأسلوب يحافظ على تعاليمها، وينسجم مع أساليبهم الدراسية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2285 لذا، فإن جهود المجمع الفقهي الإسلامي بجدة بفضل الخبرة والحنكة، والاطلاع الواسع الذي يتميز به أمينه العام، العالم الجامع، والمجرب الغيور على وطنه الإسلامي، وعلى عقيدته الإسلامية الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة، قد أحسن صنعًا بتنظيم هذه الندوات التي تقرب بعيد الفقه الإسلامي وتجمع شتاته من حنايا ذلك الزخم العظيم من المؤلفات الفقهية التي أصبحت تعج بها المكتبات ويلفها النسيان في طياته، بحيث أوشكت أن تدخل في عداد الرصيد التاريخي الذي يعتز به اليوم، ولا سبيل إلى تطبيقه، وليس لذلك من سبب سوى قصور الهمم والارتماء في أحضان المستورد من الغرب أو الشرق، والحكم بأنه الوسيلة الوحيدة للخروج من أزمات كان ذلك المستورد هو السبب فيها. وللمساهمة في هذا اللقاء المبارك سندرس الموضوع من خلال النقاط التالية: 1- التعريف بالتجارة. 2- بيع المرابحة. 3- التسعير. 4- سلامة الربح من العيوب الشرعية. 5- تحريم الاحتكار. 6- مبررات تدخل الدولة لتنظيم الربح. 7- الخاتمة. 1- التعريف بالتجارة: لقد تمَّ تعريف التجارة في كتب التفسير وكتب الفقه حكمًا، كما ورد تعريفها في المعاجم لغة، وأيضًا ورد ذكر التجارة في كتاب الله العزيز عدة مرات، منها ما يدل على المعاوضة ومنها ومنها ما يدل على الربح الذي يناله العبد ثوابًا من ربه جزاء على فعله للصالحات، واجتنابه للمنهيات ففي موضوع المعاوضة، قال الله عز وجل في الآية 29 من سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلاَّ أن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} قال القرطبي في تفسيره: التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ومنه الأجر الذي يعطيه الباري سبحانه وتعالى لعبده عوضًا عن الأعمال الصالحة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2286 والتجارة نوعان: تقلب في الحضر من غير نقله ولا سعر، وهذا تربص واحتكار وذكر أنه غير حسن. والثاني: تقلب المال بالأسفار ونقله إلى الأمصار، فهذا أليق بأهل المروءة وأعم جدوى ومنفعه غير أنه أكثر خطرًا وأعظم خوفًا، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن المسافر لعلى "قلت" (1) . إلا ما وقى الله "قيل في التوارة" يا ابن آدم أحدث سفرًا أحدث لك رزقًا)) . فكل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض، غير أن قول الآية الكريمة "بالباطل" أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعًا "عندنا نحن المسلمين" من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد، كالخمر والخنزير، وغير ذلك، وخرج منها كل عقد جائز لا عوض فيه مثل الهبة والوقف. هذا تعريف القرطبي للتجارة عند تفسيره للآية السالفة. وأثناء تفسير المرجع المذكور لقول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [الآية 275 من سورة البقرة] ، والتركيز على أن الله حذر من أكل أموال الناس بالباطل قال بأن الغبن اليسير لا يثير شبهة، وغايته من ذلك الربح العادي، فقال: إلا أن تكون أموال تجارة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقد ورد ذكر التجارة في القرآن الكريم عدة مرات نذكر منها ما يلي: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الآية 282 من سورة البقرة] . ثم الآية: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} [من الآية 24 من سورة التوبة] . ومن الآية 37 من سورة النور، وهي: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الآية، ووردت التجارة بمعنى الأجر عند الله في الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [الآية 29 من سورة فاطر] . ووردت بنفس هذا المعنى في الآية 10 من سورة الصف، وهي: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ … } الآية، وورد لفظ التجارة يرمي لنفس المعاوضة المادية عند قول الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الآية 11 من سورة الجمعة] .   (1) لخطر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2287 وفي اللغة قال القاموس: التاجر الذي يبيع ويشتري، وبائع الخمر، الجمع تجار وتجار وتجر وتجر كرجال وعمال، وصحب وكتب، والحاذق بالأمر والناقة النافقة في التجارة وفي السوق كالتجارة، وأرض متجرة يتجر فيها، وإليها، وقد تجر تجرًا وتجارة وهو على أكر تاجرة على أكرم خيل عتاق. وفي الحديث الشريف: ((التاجر الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة)) ، وعن أبي داود قال: حدثنا مسدد، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن قيس بن أبي غرة، قال: كنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم نسمي السماسرة، فمر بنا النبي صلى الله عليه وسلم فسمانا باسم هو أحسن منه، فقال: ((يا معاشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة)) . قال شمس الحق العظيم أبادي في كتابه عون المعبود على سنن أبي داود: البيع لغة مبادلة المال بالمال، وكذا في الشرع لكن زيد فيه قيد التراضي، وإنما جمعه دلالة على اختلاف أنواعه، والحكمة في شرعية البيع أن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه غالبًا، وصاحبه لا يبذله ففي شرعية البيع وسيلة إلى بلوغ الغرض من غير حرج (1) . وما دمنا غير مطالبين بالحديث عن التجارة إلا في حدود تبيين الأساليب التي رسمها الفقه الإسلامي لمراقبة أرباح التاجر، فإننا نكتفي بهذا القدر اليسير من التعريف للتعرض بصفة وجيزة أيضًا لنماذج من المعاوضات التي يجني منها التاجر ربحًا، جاعلين الأساس هو تفسير القرطبي للآية الكريمة رقم 29 من سورة النساء حيث قال: إن الربح جائز بإجماع، وهو تفاوت الثمن الذي حصل التاجر بوساطته على بضاعة ما، والقدر الذي باعها به فيكون الربح هو الفرق الحاصل بين رأس المال، وبين قيمة الشراء الجديد، ولم يرَ القرطبي بأسًا في حصول التاجر على ربح يغبن غير فاحش على أن يكون الثمن الأصلي معروفًا، والشاري لم يغرر به ولم يكن جاهلًا لحال السوق غير أنه إذا وصل الثلث أصبح غبنًا فاحشًا يمكن مراجعة العقد بسببه، واستدل للتفاوت بعدة أحاديث منها حديث الأمة الزانية والقائل: ((فليبعها ولو بضفير)) وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في الحديث الشريف: ((لا تبعه)) يعني الفرس ولو أعطاكه بدرهم واحد وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعو الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) ، وقوله عليه السلام: ((لا يبعْ حاضر لباد)) .   (1) عون المعبود على سنن أبي داود: 9/173. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2288 قال ابن وهب من المالكية، فيها تفصيل بين القليل والكثير، كالثلث ولا غيره، ومن المعلوم أن الشريعة الإسلامية كانت سباقة إلى سن مبدأ التراضي، الذي يجعل كل واحد من الطرفين يمحص ماله وما عليه، ومن الأفضل احترام إرادتهما إذا أنشأت عقدًا تمت فيه استفادة كل واحد منهما بما في يد صاحبه، مما يحسبه ربحًا ساعة إبرام العقد. على أن الربح لكي يكون عادلًا ينبغي أن يتميز بالعدل فلا يستنزف البطاقة المادية للشاري، ولا يبخس بضاعة ومجهود البائع، وهذا ما دعي إليه الحديث الشريف المتقدم ذكره ((التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة)) . ويكره للتاجر الحلف من أجل ترويج بضاعته، وعليه أن لا تشغله عن ذكر الله وعن الصلاة. ولا يكون الربح مباحًا وسليمًا إلا إذا سلم من الغبن، والتدليس والنجش وجملة البيوع المنهي عنها كبيع الأشياء المحرمة من خمر وقمار، ولحم خنزير، وجملة أنواع بيوع الربا، فإذا سلم العقد من هذه الشوائب وحصل التاجر على ربح ولو كثيرًا فصرفه في أوجه البر فأعطي منه في النائبات وأدى زكاته، وأعان منه المسلمين في المجهود العام لفائدة نشر الإسلام والحفاظ عليه، واستثمره في الرواج الاقتصادي للتخفيف من البطالة، وتطوير وسائل الإنتاج العام لدولة الإسلام بصفة عامة كان من الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، والذين قال فيهم الله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [الآية 261 من سورة البقرة] . فإن أنفق التاجر على الضعفاء والأيتام وأدى الزكاة وأعطى في النائبات كان من الذين عيَّنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالحديث الشريف: ((ذهب أهل الدثور بالأجر)) من الوعيد النازل في المكتنزين بحكم قول الله عز وجل: {والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وجُنُوبُهُمْ وظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [الآيتان 34، 35 من سورة التوبة] . فإذا ما تجنب التاجر المنهيات ولم يتعاط المحرمات، ولم يتخلف عن الجوانب في النائبات استحق شكر الناس في الدنيا ورحمة الخالق في الآخرة، ومن هنا نتبين أن مراقبة أرباح التاجر في الشريعة الإسلامية هدفها هو أن تنمو طبقة الموسرين وهم محبون عند الله وعند الناس يغبطهم المصلحون، ولا يضرهم حسد المسيئين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2289 وإذا كان الفقه الإسلامي يفضل ترك الحرية للمتابعين ليحني كل واحد منهما منفعة أثناء تعاقده مع الآخر، فإنه إضافة إلى ذلك وضع الإطار الشامل لمراقبة الربح، حيث سن قواعد ونصوصًا تمكن من رقابة البيع، وما يحصل عنه مِنْ رِبْحٍ، ولم تترك القواعد مجالًا يمكن أن يمر منه التاجر إلى الربح، إلا ونظمته، فالمبدأ هو أن الإنسان يمكن أن يبيع ما له بما شاء بأقل مما كلفه، أو بأكثر منه، أو بنفس المبلغ. غير أن تلك الحرية تفرض عليها قيود تهدف إلى تحقيق الصالح العام للجماعة، فإذا خفض المالك ثمن بضاعته، وتبين أن ذلك التخفيض من شأنه أن يضر ببقية التجار مما يمكن أن يحملهم على ترك تزويد السوق بما يحتاج إليه العامة، يؤمر المخفض بأن يبيع بمثل بيع السوق، وإلا فلينتقل عنه، وهذا المبدأ يجعلنا نقول بأن الربح في بعض صوره يتعلق بالنظام العام للجماعة، ولولي أمرها أن يراقبه، محافظة على المصالح العامة. وإذا كان التاجر غير ملزم ببيان كل جزئيات بضاعته، فإنه إذا سئل أو تبرع بالإخبار تحتم عليه أن يقول الحقيقة رفعًا لكل لبس، وإذا أصاب البضاعة عيب مؤثر وجب عليه أن يبينه، قال خليل في مختصره "وجب تبيين ما يكره". ويحرم النجش والاحتكار والغبن بالتغرير، ويحرم أن يدخل على سوم أخيه، ويحرم أن يبيع حاضر لباد وعليه مراعاة أحوال التسعير التي يفرضها الحاكم على السوق. هذه إشارات لما يجب أن يتحلى به التاجر في سوق الأمة الإسلامية، فإذا طبقت بنزاهة أصبحنا أمام وضع اقتصادي يجعل الأمة الإسلامية كما هي نموذجًا في معتقدها وسلوكها، تكون كذلك نموذجًا في مبادلاتها التجارية، فتتحكم الروح الإنسانية، وتنتفي الطبقية، ويسود التآلف والتآخي بين مختلف طبقات المجتمع، وتعريف الفقه الإسلامي للبيع هو تعريفه للتجارة، ومن خلال دراسة أنواع البيوع نتعرف على الربح الجائز أو المنهي عنه، كما نتعرف على أنواع النهي، إذ بعض النهي يتعلق بعقاب الآخرة، وتبقى الرقابة فيه لضمير المسلم فيما بينه وبين ربه، بينما تبقى أنواع أخرى من الرقابة للحاكم التدخل في شأنها رعيًا لمصالح الناس. قال صاحب التحفة الحكام: ما يستجاز بيعه أقسام أصول أو عروض أو طعام أو ذهب أو فضة أو ثمر أو حيوان والجميع يذكر قال عبد السلام التسولي في شرح بيتي محمد بن عاصم هذين، ما ملخصه: البيع لغة مصدر باع الشيء إذا خرجه من ملكه بعوض، أو أدخله فيه فهو من أسماء الأضداد يطلق على البيع والشراء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2290 وهو إما بيع عين بعين، أو عرض بعرض، فإن بيع بالميزان يسمى مراطلة، وإن بيع بالعدد سمي مبادلة وإن عينا شرط فيه التناجز وسمي صرفًا ويجب على متعاطي البيع أن يعلم حكم الله فيه، وإن بيع بناجز في أحد العوضين ومؤجلًا في الثاني سمي سلمًا (1) . قال ابن العربي في القبس على موطأ الإمام مالك: البيع والنكاح عقدان يتعلق بهما قوام العالم. 2- المرابحة: قال ابن رشد في بداية المجتهد: "أجمع جمهور الفقهاء على أن البيع صنفان مساومة ومرابحة، وأن المرابحة هي أن يذكر البائع للمشتري الثمن الذي اشترى به السلعة ويشترط عليه ربحًا ما للدينار أو الدرهم". ثم تعرض خلافهم حول ما يصح للبائع أن يضمه إلى ثمن السلعة من المصاريف التي تحملها عليها، أي ما يمكن أن يحسب من رأس المال، وما لا يمكن أن يحسب منه ولخص مذهب مالك في الزوائد التي تطرأ من بعد رأس المال في ثلاث حالات: هي قسم يعد من الثمن ويكون له حظ من الربح وهو ما كان مؤثرًا في عين المحل " محل العقد " كالخياطة والصبغ. وقسم بعد من أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح، وهو ذلك الذي يمكن للبائع أن يتولاه بنفسه، ولا يؤثر في السلع ككراء البيوت التي توضع فيها ونقلها من مكان قريب. وإن تطور الكراء والنقل اليوم ليعترضان على التسليم بإمكانية تطبيق هذا الحكم بدون خسارة التاجر. وأما ما لا يحسب فيه التاجر الأمرين معًا فهو ما ليس له تأثير في حال المبيع، كالسمسرة، والطي والشد، فلا يحسب على عين السلعة ولا على الربح (2) . وقد عزى ابن رشد لأبي حنيفة القول الآتي وأنه أقرب إلى الإنصاف وعدم تعرض أي من الطرفين لأي حيف والقول المنسوب لأبي حنيفة هو: أن البائع يحسب على رأس مال السلعة كلما نابه عليها من مصاريف النقل والإصلاح ثم يطلب ربحه من بعد ذلك كله. قال أبو ثور، لا تجوز المرابحة إلا بالثمن الذي يشتري به البضاعة فقط، واختلف ابن القاسم، وأشهب فيمن اشترى سلعة بعروض هل يجوز له أن يبيعها بعروض، أو بنقود فقط؟   (1) البهجة على شرح التحفة: 1/2. (2) بداية المجتهد:2/214. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2291 فابن القاسم أجاز بيعها بالعروض أو بالنقود، بينما أشهب لم يجز بيعها بالعروض مثلما شريت بها. واختلفوا أيضًا في حكم من ابتاع سلعة مرابحة بثمن ذكره، ثم ظهر بعد ذلك، إما بإقراره وإما بالبينة أن الثمن كان أقل مما ذكر، والسلعة مازالت قائمة، فمالك وجماعة أعطوه الخيار بأخذها بالثمن الذي أعطاه فيها أو ردها إذا كانت موجودة، وفسخ البيع، بينما أبو حنيفة وزفر قال بأن المشتري على الخيار دائمًا، نظرًا لاكتشاف كذب البائع، وإعطائه أوصافًا تناقض الواقع، والفرق هو أن مالكًا الزم الشاري بأخذ السلعة الموجودة بنفس الثمن الصحيح، وأبو حنيفة منح الشاري الخيار على الإطلاق ولا يلزمه الأخذ بالثمن أن الزمه البائع به، وقال الثوري وابن أبي ليلى وأحمد وجماعة، بل يبقى البيع لازمًا لهما بعد حط الزيادة، وعن الشافعي القولان: القول بالخيار مطلقًا والقول باللزوم بعد الحط. إن نفس الاتجاه الذي تناول به ابن رشد المرابحة بمختلف أساليبها لهو نفس الأسلوب الذي اتبعه الرافعي أثناء شرحه للمهذب، وأيضًا نفس الحالات التي تناولها السرخسي، وكتاب الأم للشافعي، إذ كل واحد منهم تناول مختلف أوجه الخلاف على حدة، وبما أننا نحاول من خلال هذا البحث أن نبين مختلف أوجه رقابة الفقه الإسلامي لأرباح التاجر ينبغي لنا أن نمر بسرعة على بعض أقوالهم في الموضوع من خلال ما يلي: يجوز أن يبيع السلعة مرابحة، وهو: أن يقول رأسمالها مائة وقد بعتها برأس مالها درهم في كل عشرة، لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان لا يرى بأسًا بده، وبازده، وده وزاده (1) ، ولأنه ثمن معلوم فجاز البيع به كما لو قال بعتك بمائة إلا عشرة، ويجوز بيع بعضه مرابحة، فإن كان لا تختلف أجزاؤه كالطعام والعبد والواحد قسم الثمن على أجزائه، وباعه ما يريد منه بحصته. وإن كان مما يمكن أن يقسم، وزع الثمن على أجزائه بحسب حصة كل واحد منهما في المبيع، والأصل في هذا هو حديث الذهب الذهب. يدرك من هذا أن المرابحة بأحكامها جائزة. ولكن كره بعض صورها ابن عباس وابن عمر ولم يجوزها إسحاق بن راهويه، واتفقوا على أنه إذا اشتري بثمن مؤجل لم يجز بمطلق بل يجب البيان، وقال الأوزاعي: يلزم العقد إذا أطلق، ويثبت الثمن في ذمته مؤجلًا، وقال أبو حنيفة، ومالك والشافعي وأحمد يثبت للمشتري الخيار إذا لم يعلم بالتأجيل.   (1) ده عشرة بالفارسية، وبازده أحد عشر وده وازده اثنا عشر. انظر تفصيل هذا في فتح العزيز للرافعي شارحًا فيه المهذب للنووي 13/3. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2292 ووجه هذه المسائل بواعث مختلفة بينهم، بين متشدد ومخفف على البائع، أو على المشتري بحسب مداركهم، فالشافعي يجيز بيع السلعة برأس مالها أو أقل أو أكثر من البائع وغيره قبل نقد الثمن أو بعده. وأحمد وأبو حنيفة ومالك لا يجوز عندهم بيعها بأقل من الثمن الذي ابتاعها به قبل نقد الثمن في المبيع الأول، ويجوز أن يبيع ما اشتراه مرابحة بالاتفاق، وهو أن يبين رأس المال وقدر الربح. قال في مجمع الأبحر: المرابحة بيع ما شراه بما شراه به، وزيادة، والتولية بيعه بلا زيادة والوضيعة بيعه بأنقص منه، قال الرافعي عند استعراضه لهذه الآراء بأنه يرى أن تضاف نفقات الصناعة، والطراز والنقل إلى رأس المال مع بيانها (1) ، وهذا رأي أرى أنه صادف الصواب وإن اتفقا على ثمن حط عنه منه شيء، فإن كان ذلك قبل إمضاء البيع عد من رأس المال، وإن كان من بعد إمضاء البيع عد تبرعًا وأصبح غير مطالب بإضافته إلى رأس المال. وأجاز النووي في بعض أوجه الخلاف أن يقول رأس ماله عشرة مثلًا ويكون اشتراه بثمانية، وطرزه باثنين؛ لأن رأس المال هو كل ما وزن فيه في بعض الروايات، مع أن آخرين خالفوا وقالوا لا يقول إلا قام علي وقد أتينا بتفصيل ذلك عند السرخسي في مكان آخر من هذا البحث. وأصل مسألة المرابحة أحاديث عدة، أهمها الحديث الذي أخرجه مسلم والنسائي، وابن ماجه، عن عبادة بن الصامت باللفظ المشهور، وهو: ((الذهب الذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل سواء بسواء، يدًا بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إن كان يدًا بيدا)) . وروى أبو داود بنحوه، وفي آخره ((وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر يدًا بيد كيف شئنا)) . قال النووي ما معناه: يمكن أن يضيف إلى رأس المال نفقات للصناعة والعمل والنقل، مع بيانها وإيضاحها لمن ابتاعها (2) وآداب تلك الإضافة قال فيها النووي: وعند إضافة شيء إلى الثمن فلا يقول اشتريته، أي المحل بكذا، ولكن يقول: قام علي بكذا، مثل ذلك أن يشتري ثوبًا بخمسة دراهم ثم يقصره بدرهم، ويطرزه بدرهم فلا يقول: اشتريته بستة، ولكن يقول: قام على بستة فيصح له الربح بعد ذلك، ويكون قد احترز من الكذب، يمزج المصاريف مع رأس المال وهو غير مباح عند الجمهور (3) .   (1) فتح العزيز نفس المرجع. (2) قد لخصت هذه الأقوال من فتح العزيز 13 /1-5. (3) المبسوط للسرخسي 13 /81. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2293 وإذا ذكر الثمن فيحرم عليه الكذب، ولكن إذا قال: قامت علي بكذا جاز له إدخال كل التكاليف إلا أن إفصاحه عن مبلغ ما كلفته يلزم أن يقول الحقيقة بأمانة، وإذا لم يسأل، أو لم يرد ذكر رأس المال، فليس مطالبًا، إلا في بيع المرابحة فإنه يجب عليه ذكر الحقيقة مفصلة. وإذا اشترى سلعة بها عيب عليه أن يبينه، وإذا أصابها عيب ثان عنده، كان عليه أن يميز بينهما، لأن الأول من رأس المال والثاني من التكاليف. وتنظر الشريعة إلى بيع المرابحة بدقة متميزة، ذلك أن الإنسان إذا سكت وباع متاعه بدون استعمال وسائل الغش أو التدليس أو الغبن، فإن ربحه يكون حلالًا، ولا يلزم بأن يعطي تفاصيل جزئيات لا تضر بالثمن ولم يسأل عنها للحديث الشريف ((دعو الناس في غفلاتهم يرزق الله بعضهم من بعض)) أو كما قال. أما إذا تعرض هو من تلقاء نفسه للتعريف بالثمن أو سأله عن الشاري، فعندما يحرم الكذب ويلزم بأن يميز بين رأس المال والتكاليف، وبين ما جنى من المحل عما كان مرتبطًا به كولد الدابة وثمار الأشجار وما إلى ذلك. فلابن مسعود وأبي حنيفة أن البائع لسلعةٍ ما عند ضم التكاليف إلى ثمنها فلا يقول رأسمالها، بل يقول قامت على بكذا لأن قوله اشتريت بكذا أكثر من الثمن الحقيقي فيه كذب. وحديث ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحل الخلابة لمسلم)) ، والخلابة بأنواعها معروفة، ومنها الكذب والتدليس والغش، وكتمان العيب. وعلى هذا يقول أبو حنيفة: "لا يقول شريته بكذا، وإنما يقول قام على بكذا". وإذا أضاف النفقات الأخرى لثمن الشراء ثم ظهرت الحقيقة، للشاري الخيار في أخذه بكل ثمنه أو تركه. قال في المهذب: فإن ظهر للمشتري خيانة المرابحة خير في أخذه بكل ثمنه، وعند أبي يوسف يحط من الثمن قدر الخيانة مع حصتها من الربح وعند محمد يخير (1) . ومنهم من أبطل العقد مثل شيخ الإسلام ابن تميمة في فتاويه، وللنووي عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)) رواه الدارمي والحاكم، والترمذي وحسنه. ثم قال المهذب بالحرف: "قوله: ولا يضم ما خسر فيه إلى الثمن". كذا هو مقرر في المذهب أنه لا يرابح إلا على الثمن الأخير، وعند أبي حنيفة تمتنع المرابحة إذا شراه ثانية بأقل مما باعه أولًا، وعند الصاحبين محمد وأبي يوسف موافقة المصنف من جواز المرابحة على الثمن الأخير (2) .   (1) المجموع13 /6 للنووي، وبهامشة فتح العزيز للرافعي والكلام له. (2) المبسوط للسرخسي 13 /87 وما بعدها إلى نهاية باب المرابحة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2294 وعند أبي حنيفة لا يلزم البائع بتبين بعض العيوب الظاهرة التي طرأت للمحل عنده مثل حرق النار أو قرض الفأرة، أي لا يجب عليه أن يقول: اشتريته سليمًا فأصابه هذا العيب عندي، وعلة هذا عنده أن ظهور العيب كافٍ لنزع مقابله من الثمن "لأن الفائت وصف بلا صنع أحد" هذا فيما يتعلق ببيان الثمن قبل العيب. أما العيب نفسه فيجب بيانه بالكتاب والسنة والإجماع لحديث العداء بن خالد الذي روته الجماعة، وهو: كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا ما باع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم للعداء بن خالد بيع المسلم للمسلم لا داء ولا خبيئة ولا غائلة)) (1) . هذا إذا كان البيع مرابحة والعيب خفيف، أما إذا وصل العيب إلى درجة تسوق إلى الغبن فإن التساهلات المنسوبة إلى أبي حنيفة قبل سياق لفظ الحديث، لا بد من عدم التمسك بها. وإلا يكون الحكم الذي أعطاه لهذه المسألة غير معلل. قال الإمام الباجي في المنتقى ما ملخصه: قال مالك في الأمر المجتمع عليه: عندنا في البز يشتريه الرجل ببلد ثم يقدم به بلدًا آخر فيبيعه مرابحة، إنه لا يحسب فيه أجر السماسرة ولا أجر الطي ولا الشد ولا النفقة ولا كراء البيت، فأما كراء البز في حملانه فإنه يحسب في أصل الثمن ولا يحسب فيه ربح إلا أن يعلم البائع من يساومه بذلك فإن ربحه على ذلك بعد العلم به فلا بأس به. وأما القصارة والصبغ والخياطة وما أشبه ذلك فعند مالك، فإنه يحسب فيه الربح كما يحسب في البز. وكراء البز في حمله فهو يحسب في أصل الثمن ولا يحسب فيه ربح، إلا أن يعلم البائع من يساومه بذلك كله. وأما الثمار، وكراء الرقيق والدواب، فقد قال ابن القاسم في المدونة: من اكترى ذلك كله زمانًا إذا لم تحل الأسواق فلا بأس أن يبيع مرابحة بلا تبيين إلا أن يطول الحال فإن عليه آنذاك التبيين، لإمكانية تغير حال السوق؛ وعزي لابن القاسم عن مالك أن من اشترى سلعة فحالت أسواقها، فلا يبيع مرابحة حتى يبين، وإن زادت الأسواق، لأن الناس في الطريق أرغب وظاهر المذهب المنع من ذلك".   (1) المجموع شرح المهذب13 /6. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2295 وإنما جاز أن يراعى اختلاف الأسواق دون زيادة العين أو نقصها، ووجه آخر هو أن بقاء السلعة مدة طويلة يدل على غلاء شرائها، وعلى زهد الناس في عينها ولذا لم يجز (1) . كتم حالها فعليه أن لا يبيع مرابحة حتى يبين جميع أحوالها وأوصافها. قال ابن حبيب: ليس عليه أن يبين، وقال ابن القاسم: في الزيادة أعجب لي أن لا يبيع حتى يبين ولم يفصل بين قرب المدة وطولها، وهذا في زيادة العين والقيمة، فأما النقص من ذلك فمانع من البيع، إلا أن يبين. استطرد أبو الوليد مواقف الإمام مالك في هذه المسألة إلى أن قال: "ولو اشترى سلعًا فباع بعضها مرابحة، فلا يخلو أن تكون غير مكيلة أو موزونة، كالثياب والحيوان، فإن كانت معينة لم يجز أن يبيع بعضها مرابحة حتى يبين، قاله ابن القاسم وزاد ابن عبدوس كذلك الرجلان يشتريان البز فيقسِّمانه، لا يبيع أحدهما مرابحة حتى يبين حاله، ووجه ذلك إذا شملهما عقد بيع، فلا يختص بعضها بحصة من الثمن إلا بعد التقويم، والتقويم قد تدخله الزيادة، والنقصان. فلا يلزم ذلك المشتري حتى يبين له، فإن لم يبين فللمشتري الرد إن شاء ما لم تفت، فإن فاتت فالقيمة يوم القبض". ومن الصور المهمة التي تعرض لها أبو الوليد في شرحه للموطأ مسألة بيع "سلعة مرابحة قامت عليه بمائة للعشرة أحد عشر، ثم جاء بعد ذلك أنا قامت عليه بتسعين يحتمل أن يكون البائع غلط، وظن أنها قامت عليه بمائة فباع، ثم جاء العلم أنها قامت عليه بتسعين أو أن البائع زاد في الثمن عمدًا، فإذا أحب عند اتضاح الأمر أن يأخذها بجميع الثمن فله ذلك أو يردها، ولا يلزم البائع بالثمن الأول إلا إذا رضي، أي لا يلزم بتفويتها له بتسعين إلا برضى للبائع وفي المسألة خلاف أخذنا هنا بشطره، وأما أيهما له الخيار، فإذا لم تفت السلعة فالخيار للبائع بين أن يرد، أو يحبس بجميع الثمن، فإن رد خير البائع بين أن يرد أو يحط، الكذب وربحه فيتم البيع". قال مالك: وإن باع رجل سلعة مرابحة، فقال: قامت على بمائة دينار ثم جاء بعد ذلك أنها قامت بمائة وعشرين دينارًا خير المبتاع، فإن شاء أعطى البائع قيمة السلعة يوم قبضها، وإن شاء أعطى الثمن الذي ابتاع به على حساب ما ربحه بالغًا ما بلغ، إلا أن يكون ذلك أقل من الثمن الذي ابتاع به السلعة فليس له أن ينقص رب السلعة من الثمن الذي ابتاعها به، لأنه قد كان رضي بذلك، وإنما جاء رب السلعة يطلب الفضل فليس للمبتاع في هذا حجة على البائع، بأن يضع من الثمن الذي ابتاع به على البرنامج (2) .   (1) المنتقى 5 /47. (2) المدونة الكبرى ص32. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2296 وهذا ما ذهب إليه ابن رشد في البيان والتحصيل حيث أكد أن أقدمية الشيء عند البائع تحول بينه، وبين بيعه مرابحة، إلا إذا بيَّن حالها يوم الشراء، ثم يوضح الأوصاف التي طرأت عليها عنده، فإن باع مرابحة أو مساومة، وقد طال مكث المبتاع عنده ولم يبين فهو بيع غش وخديعة، وإن فعل وظهر للشاري عكس الأوصاف التي أخذها عليها كان له الخيار، بين الرد والإمساك، ويرد في الفوات إلى القيمة إذا كانت أقل من الثمن على حكم الغش والخديعة، في البيع. وفى حكم آخر أنه يحكم له بحكم من باع وزاد في الثمن وكذب به، وتكون القيمة في ذلك يوم القبض للمبيع كالثمن الصحيح في بيع الكذب، فتكون فيه القيمة إذا فات يوم القبض إلا أن تكون أقل من قيمتها يوم البيع فلا ينقص من ذلك شيئًا، وإن كانت أكثر من الذي باع به فلا يزاد عليه وهو مذهب سنحون (1) . ويمكن أن نلخص جميع أقوال المالكية في أن المدونة تعرضت لنحو اثنين وعشرين نموذجًا من الحالات التي يمكن أن يتم عليها بيع المرابحة، فشددت على مراقبة الربح فيها حتى لا يتم شراء لشيء مجهول، ثم دفع فيه ربح غير عادل، قال خليل في المختصر: جاز مرابحة والأحب خلافه، ولو على مقوم، وهل مطلقًا أو إن كان عند المشتري؟ تأويلان وحسب ربح ماله عين قائمة كصبغ وطرز وخياطة وفتل وكعهد وتطرية، وأصل ما زاد في الثمن كحمولة وشد، وطي أعيد أجرتهما وكراء بيت لسلعة إلى آخر الفصل. لقد تعرض المختصر في هذا الفصل لكل أنواع المرابحة التي رأينا الخلاف في شأنها فبين مواقف المالكية منها. قال شارحه الرهوني لابن المواز عن محمد بن رشد:"يضم إلى رأس المال منها ماله عين قائمة في المتاع، ويكون له قسطه من الربح، ولا يضم إليه ما لا تأثير له في عين المتاع مما يمكن توليه بنفسه لا في رأس المال ولا في ربحه، وما لا يمكن توليه بنفسه، مثل كراء المتاع ونقله من بلد والسمسرة فيما جرت العادة فيه بأن لا يباع إلا بواسطة فيضم ما ألزمه عليه إلى رأس المال ولا يكون له قسط من الربح" (2) .   (1) البيان والتحصيل 8 /373. (2) انتهى بلفظه من حاشية الإمام الرهوني5 /206. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2297 ولا أستطيع فهم هذا الموقف بسهولة لأن التاجر عليه أن يحسب الربح بعد كل الخسارة وأجرة هذه الأشياء هي من تكاليفه التي إذا لم تحسب في الربح تعرض الخسارة. وهذه الحالات طالبوا البائع فيها بالإخبار عند البيع فكالزيادة، فإن أراد أن يبيع مرابحة أخبر بالثمن، ولكن يمكنه أن يخبر أيضًا بالتكاليف، وإذا أخذ الفوائد – أو الربح أو الناتج – لم يلزمه تبين مقدار ما جنى، ولابن المنذر عن أحمد أنه يلزمه تبيين ذلك، وعند ابن قدامة أنه إذا صدق في الأوصاف من غير تغرير جاز عدم التعرض لما سلف في المنافع. ومن المراقبة على أرباح التاجر مواقفهم من التولية، وهي: أن يقول: ولني ما اشتريته بالثمن، فقال: وليتك. صح إذا كان الثمن معلومًا لهما، فإن جهله أحدهما لم يصح. ولو اشترى ثوبين بخمسة دراهم فلا يجوز أن يبيع أحدهما بخمسة بلا بيان. وإذا أخبر أن رأس المال مائة مثلًا، وعلي أنه يبيع المحل برأس المال وربح 10 % جاز، وفيه أقوال بالكراهة نجمل أقوال المجموع فيها في الفقرات التالية: متى باع شيئًا برأس مال وربح عشرة ثم علم بتبيينه أو إقراره أن رأس ماله تسعون فالبيع صحيح، لأنه زيادة في "الثمن" فلم يمنع صحة العقد كالعيب، وللمشتري الرجوع على البائع بما زاد في رأس المال، وهو عشرة وحطها من الربح (1) . فإذا رفع المال ليزيد من الربح الذي هو عشرة في المائة، فأمام هذه الحالة أبو حنيفة منح الشاري الخيار بين الأخذ بكل الثمن أو الترك قياسًا على الموقف من المحل المعيب. وعند الشافعي في أحد قولين عنه يخير بين الأخذ بكل الثمن، أو الترك، ونفس الحكم عند أحمد بن حنبل حسب رأي ابن قدامة، وخالفه الخرقي، إذ لم يمنح الشاري الخيار، إذ يرى أن الشاري رضي بالمحل ولزم البيع، وهذا القول يوافق القول الثاني للشافعي، فقد حصل البيع برأس مال وحصة من الربح، فهو موافق للمعاملات الشرعية، وعليه فيلزم، هذا على شرط السلامة، أما مع وجود العيب فيجب التبيين، وعند ظهوره بدون علم، فإن الشاري له أن يمسك بالمحل إذا رغب فيه بنفس الثمن، أو يرده، ومنهم من قال بأن أرش العيب يعتبر هبة من الشاري للبائع إذا علم ولم يطالب بالرد أو أخذ الأرش ومنهم من قال بانتقاض العقد، ومنهم من قال بالرد، وهذه كلها أقوال مشروحة في العيوب، إذ لا يهمنا منها هنا إلا ما يتعلق بثبوت المواقف الفقهية في شأن مراقبة أرباح التاجر، إذ لا بأس بناء على ذلك من استطراد نماذج موجزة جدًا من أقوال المذاهب في الموضوع.   (1) المبسوط 13 /86. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2298 قال أبو الخطاب من الحنابلة: يحط أرش العيب من الثمن ويخير بالباقى. قال الشافعي يحطه من الثمن ويقول تقول علي بكذا، وعقب النووي أن المبيع إذا جنى فقداه المشتري لم يلحق ذلك بالثمن، ولم يخبره في المرابحة؟ لأن هذا الأرش لم يزد به المبيع قيمة، يتضح من كل ما سبق أن المرابحة تصرف جائز، وأن الخلافات المسجلة في شأنها ليست جوهرية، كما يتضح أن مراقبة أرباح التاجر فيها منصوص عليها بما فيه الكفاية، وأنها تهدف إلى تحقيق الأساسيات العامة، التي تبنى عليها سلامة الربح في الشريعة الإسلامية، وهي: - التوازن بين مجهود التاجر، وضرورة احترام ملكيته الخاصة، وبين مصالح الأمة، بعدم استنزاف طاقاتها المادية بأرباح استغلالية. - سلامة الربح المحصل عليه من بيع المرابحة من العيوب الشرعية التي تعلق بالعقد فتجعله إما باطلًا أو قابلًا للإبطال، أو ساري المفعول، ولكن أحد طرفيه ارتكب إثمًا، وأصبح ما جناه من ربح بواسطته من قبيل أكل أموال الناس بالباطل، أن بيع المرابحة اليوم يزداد أهمية لكونه الصورة الرائجة أكثر من غيرها في المعاملات التجارية المعاصرة. ذلك أن دور الصناعة، والمتاجر الكبيرة، ودور النشر، والمؤسسات المالية بصفة عامة كثيرًا ما تعلن أنها تبيع بضائعها بربح لا يتجاوز مبلغًا معينًا في المائة، غير أن الصور الفقهية التي عالج بها علماء الشريعة المشكل حفاظًا على سلامة الربح من الشوائب، وعلى المشتري تبقى معرفة المؤسسات التجارية اليوم، إذ قليلًا ما نجد مؤسسة تذكر رأس مال بضاعتها بصدق. لعدم تحرز الإنسان اليوم من الكذب في غالب الأحوال من جهة ومن جهة ثانية، لأن المعاملات في الفقه الإسلامي ظلت مرتبطة بالشعور الديني مما جعل الإنسان ينظر من خلالها إلى رقابة الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ومن هنا تتضح خطورة بيع المرابحة اليوم ودوره في أرباح التاجر كما يدرك من خلال النصوص الإسلامية التي تعرضت إليه مدى صلاحيتها لتطبق على المؤسسات التي تتناول هذا النوع من البيوعات. علمًا بأن كثيرًا منها يطالب بأرباح تبلغ نسبة معينة بعد تحصيل رأس المال مثل 30 % أو 40 %، فإذا لم تراع أحكام ذلك اتسمت كل تلك البيوع بالغرر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2299 3- التسعير: التعريف: قال في القاموس: السعر بالكسر: الذي يقوم عليه الثمن الجمع أسعار وأسعر وسعر وتسعيرًا اتفقوا على سعر معين. سعر الشيء قدر له سعرًا، والجمع أسعار كما رأينا، أما تعريفة حكمًا فلا يبعد عن هذا، قال النووي في المجموع شرح المهذب، التسعير: هو جعل سعر معلوم ينتهي إليه ثمن الشيء، وأسعرته بالألف لغة، ويقال سعر إذا زادت قيمته وليس له سعر إذا رخص، والجمع أسعار مثل حمل وأحمال (1) . والتسعير من بين الوسائل التي تتأتى عن طريقها مراقبة أرباح التاجر، ولا شك أنه من أهمها في هذا العصر، على أن النصوص الواردة فيه بالخصوص جعلت العلماء ينظرون إلى مسطرة ضربة على السلع بحذر شديد. لأن الحرية التي منح الله للتجار أثناء تبادلهم في بيع المعاوضة، وامتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن التسعير لأهل المدينة كلها مبادئ أصلية ثابتة، فالله قال في كتابه العزيز: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ... } الآية. وحديث أنس من القادم يكرس نفس مبادئ حرية التبادل، وعدم التدخل. غير أن تطور الأوضاع واختلاط المسلمين بغيرهم، إضافة إلى ضعف روح الإيمان في النفوس كانت عوامل مؤثرة في أن تجعل نوعًا من الرقابة على السوق، وإلا لشاعت فوضى البيع، وفشى الاستغلال وحصل بعض الناس على أرباح غير عادلة، إما لضخامتها، وإما لعدم جواز العقود التي كانت سببًا فيها. لقد بقي إعطاء الحرية للمتبايعين هو الأصل استنادًا إلى مبدأ الرضائية الذي هو من ابتكارات الشريعة الإسلامية مع أن حالات عدة عرفت في الصدر الأول من دولة الإسلام جعلت الفقهاء يفتون بجواز التسعير في بعض الحالات كما يحرمونه في حالات أخرى، فما هي الحالات التي يجوز فيها التسعير، وما هي تلك التي لا يجوز فيها؟ وما هي المواقف المتباينة لفقهاء المذاهب في التسعير؟   (1) المجموع وشرحه فتح العزيز 13 /21. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2300 لا شك أن ضعف الرقابة الدينية على إنسان اليوم من داخل نفسه تجعل طمعه ليس له حد، وفي كثير من الحالات يجره إلى انتهاك تعاليم شريعه الله، الشيء الذي يحتم على العلماء البحث عن قيود تمكن المجتمع الإسلامي من تفادي تلاعب المتلاعبين، سواء تعلق الأمر بحرية التصرف، وما ينتج عنها من ربح يجنيه التجار لقاء مخاطرتهم بأنفسهم أحيانًا، ولقاء مجهودهم الدائم أحيانًا أخرى، وسواء تعلق بالحيلولة بين هؤلاء التجار، وبين استنزاف زبائهم بطريق الاستغلال. لقد أصبح هذا باعثًا على تنظيم حال السوق ومراقبة أرباح التاجر، غير أن تلك المراقبة ليست مبتكرة في أسسها، وأهدافها العامة، وإن كانت بسبب تنوع مستجدات الحياة تتعرف كل يوم على وضع جديد لا تنظم أحواله إلا عن طريق القياس، واستخلاص الأحكام من المبادئ العامة، على أن تبقى الرضائية وعدم الإضرار بالناس مبدآن خالدان، ومن خلال تباين هاتين الوضعيتين الرضائية، وعدم الإضرار بالناس، رأى بعض العلماء أن مبدأ حرية التملك والتصرف في الإسلام لا تسمح بالتدخل، معتمدين على حديث أنس القادم عندما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسعر لهم. ومنهم من بنى على تدخل عمر في بعض الحالات لتنظيم حال السوق حذرًا من كساد المواد، وفقدها بعدم استجلابها وأيضًا عدم ترك الباب مفتوحًا على مصراعيه للمستغلين فيمتصون شرايين الأمة بأرباح ظالمة وغير منظمة. سنحاول تبيين نماذج من تلك المواقف في الفقرات القادمة، ومنها ندرك أن الشريعة الإسلامية جعلت هدفها هو رعاية المصالح المتبادلة لكل أطراف المعامل، إذ لا يجب أن يترك المستغلون يتلاعبون بأموالهم الناس لفائدة حساباتهم الخاصة، كما يجب عدم التحجير على التجار بترك أية رقابة تمنعهم من الربح وتجعلهم يتركونه، فتشتد حاجة الناس إلى السلع، ولن تجد من يمتهن توريدها إليهم. فعلى فكرة خلق التوازن بين ربح التاجر من جهة وعدم مضرة الناس من جهة ثانية تمحورت أحكام أرباح التاجر في الفقه الإسلامي، كما سنشاهد في الفقرات القادمة بحول الله. - السعر في المدينة، على ساكنها أفضل السلام: غلا السعر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: يا رسول الله سعر لنا فقال عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: ((إن الله هو القابض والباسط والرازق والمسعر وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطالبني بمظلمة في نفس ولا مال)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2301 قال ابن القيم: "وأما التسعير فمنه ما هو ظلم محرم، ومنه ما هو عدل جائز، فيكون ظلمًا وحرامًا إذا أريد به منع الناس من الربح المباح الذي أحله الله لهم بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275] ، كإرغام على بيع الأشياء المحرمة، أو تعديل صور البيع إلى أوضاع تخالف صورتها الشرعية، فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المألوف، أرباح معتادة تؤخذ بدون غش ولا خديعة، ولا غبن، ولا تغرير، فإن حديث أنس بن مالك السابق نهي عن التدخل في مثل هذه الحالة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأرجو أن ألقى الله … )) . أما إذا كان التسعير يرمي إلى العدل بين الناس كتدخل الحاكم لإرغام التجار على إخراج بضاعة اختزنوها برغم شدة حاجة الناس إليها لهدف بيعها بأثمان باهظة أو لتسويقها إلى جهات أخرى لمزيد الربح، فإن التسعير هنا حتى تباع بثمن المثل يكون أقرب إلى عدل الله وإلى سنة نبيه الكريم، الذي سنبين في موضوع آخر أحكامها من الاحتكار فتدخل السلطة الحاكمة لإحقاق الحق، رعيًا لمصالح عامة الناس هو خدمة للعدل وإجراء التسعير أمر واجب (1) . لقد حرمت الشريعة الإسلامية إجراءات الحصر "المونويول" وهو أن تقوم سلطة ما يمنع غير طائفة معينة من بيع مادة بذاتها، أو مواد، وكل من شاركهم في بيعها تعاقبه، فهذا ظلم، وتسعير مخالف لشرع الله وتجب مراقبة الربح الحاصل منه، لأنه ينافي غاية الشريعة في حرية البيع، قال ابن القيم:" ومِنْ ذلك أنْ يلزم بأن لا يبيع الطعام أو غيره من الأصناف إلا أناس يخصون بذلك فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون فلو باع غيرهم ذلك منع وعوقب. فهذا من البغي في الأرض والفساد، والظلم الذي يحبس به قطر السماء وهؤلاء يجب التسعير عليهم وألا يبيعوا إلا بقيمة المثل، ولا يشتروا إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء، لأنه إذا منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاؤوا أو يشتروا بما شاؤوا، كان ذلك ظلمًا للناس ظلمًا للبائعين الذين يريدون بيع تلك السلع، وظلمًا للمشترين منهم (2) . وعند المالكية تناول الباجي التسعير من خلال أوجه عدة تستهدف كلها قيام توازن تحميه السلطة الإسلامية بين احترام الإرادة وضمان الربح للتجار من جهة، وبين توفير حاجات الناس بتزويد السوق بما يحتاج إليه من جهة ثانية، وأهم ما يمكن أن تستشهد به من ذلك في موضوعنا هذا ما يلى: المعتبر في ذلك ما عليه جمهور الناس فإذا انفرد عنهم الواحد أو العدد اليسير بحط السعر أمر من حطه باللحاق بهم، وإن زاد واحد، أو عدد قليل لم يؤمر الجمهور باللحاق بهم، والمقصود بهذا هم أهل السوق، أما الجالب فلا يمنع من أن يبيع بأقل من ثمن السوق.   (1) ابن القيم في الطرق الحكمية: ص244، دون التقيد بالألفاظ. (2) نقلت هذه الجملة بالحرف لأهميتها من نفس المرجع السابق: ص30، وهي منقولة أيضًا في كلام ابن القيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2302 والذي تطبق عليه هذه الأقوال هو ما يكال أو يوزن، وأما غيرهما فلا يحمل الناس فيه على سعر معين. ومنع مالك من أن يحد لأهل السوق سعر لا يتجاوزونه، وبمنعه قال عمر وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وأرخص فيه سعيد بن المسيب، وربيعة بن عبد الرحمن ويحيي بن سعيد الأنصاري، وروى أشهب عن مالك أن صاحب السوق يمكن أن يسعر للجزارين بأثمان لا تنفرهم من السوق، على أن لا يكون في ذلك إجبار لهم ببيع أموالهم بثمن معين خشية الوقوع فيما تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث ((بل إن الله يرفع ويخفض وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة … )) . وإذا تقرر التسعير قال ابن حبيب يجمع الإمام وجوه أهل السوق ثم يتشاور معهم ليتم القرار مستجيبًا لمصالح الكل، وفي هذا المضمار لا يسعر على الجانب وحتى إن رضي فالحبوب التي بها قوت أهل البلد، فإنه يمنع تسعيرها (1) وعندنا في المغرب اليوم تطبق الدولة هذه القاعدة فتشتري الحبوب من عند من يرغب في البيع من الفلاحين بأثمان مرتفعة تشجيعًا لهم على مواصلة حراثتها، وإذا كان المبدأ هو عدم إلزام الإنسان ببيع ماله، فإن استثناءات ترد على هذه القاعدة فتشتري الحبوب من عند من يرغب في البيع من الفلاحين بأثمان مرتفعة تشجيعًا لهم على مواصلة حراثتها، وإذا كان المبدأ هو عدم إلزام الإنسان ببيع ماله، فإن استثناءات ترد على هذا المبدأ منها إضافة إلى إلزام أصحاب الحصر بيع المواد التي انفردوا باستيرادها لأهل البلد، أن يلزم الإنسان ببيع ماله لأداء الحقوق المرتبة عليه، كالنفقة وقضاء الدين، ومثل البناء والغرس في أرض الغير فإن لرب الأرض أخذه بثمن المثل ويرغم الباني أو الغارس على أخذ ذلك الثمن، ومن ذلك الأخذ بالشفعة فإن صاحب الشقص المشفوع فيه يلزم بأخذ نفس الثمن الذي خرج من يده، ومن عليه كفَّارة يعتق رقبة أو إطعام فإنه يجبر على شرائها بثمن المثل ويجبر على ذلك الشاري ولا يسمح له بأن يمتنع من أداء ما أخذ بحجة أنه رأى فيه ربحًا. كما منع كثير من الفقهاء على المحترفين لتعاطي عمل معين يحتاج إليه السكان باستمرار، من أن يشتركوا فيما بينهم لأنهم إذا فعلوا أغلوا عليهم الأجرة، وقال ابن القيم إنه ينبغي لوالي الحسبة أن يمنع مغسلي الموتى، والحمالين كلهم من الاشتراك لما في ذلك من إغلاء الأجرة عليهم، وكذلك اشتراك كل طائفة يحتاج الناس إلى منافعهم كالدلالين وغيرهم بخلاف الصنائع فإن اشتراك أصحابها مباح، لعلة تسهيل العمل عليهم، حتى يزودوا السوق بما يحتاج إليه الناس.   (1) أورد هذه الأقوال بإسهاب أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي في كتابه المنتقى شرح موطأ الإمام مالك رحمه الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2303 وكذلك على والي الحسبة أن يمنع المشترين من الاشتراك في شيء لا يشتريه غيرهم لما في ذلك من ظلم البائع، ويمنع أولئك الذين يتواطؤون على شراء سلعة معينة مشتركين ثم يبيعونها فيما بينهم ويقتسمون الربح، لأن إقرارهم على ذلك من الظلم والعدوان الوارد النهي عنه صريحًا؛ يقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، [الآية 2 من سورة المائدة] . قال ابن القيم وهذا أعظم إثمًا من تلقي الركبان، وبيع الحاضر للبادي، ومن النجش ثم عقد ابن القيم فصلًا لتسعير الأجور وأفتى بأن لولي الأمر أن يلزم أصحاب الحرف بأجل المثل لحاجة الناس إلى عملهم، وتضررها من تواطئهم على رفع الأجور وحسب نظري أنها هي علة منعهم من الاتفاق على ذلك. وكذلك لمن بيده الأمر أن يتدخل لدى أصحاب المصانع ليلزمهم ببيع السلاح للمجاهدين بثمن المثل، فالله أوجب الجهاد بالنفس والمال، يقول ابن القيم: فكيف لا يوجب على أرباب السلاح بذله بقيمته، أي بثمن المثل وعدم استغلال الحاجة. وعلق ابن القيم تعليقًا جيدًا محللًا فيه أسباب عدم التسعير في المدينة أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "وإنما لم يقع التسعير في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة لأنهم لم يكن عندهم من يطحن ويخبز ولا من يبيع طحينًا ولا خبزًا"، فكانوا يخدمون أنفسهم، وكان من يقدم بالحبوب لا يجد من يتلقاه ويحاول الشراء من عنده ليرفع السعر على أهل البلد، ويشتري من عند البادي بأقل ثمن فيعرض مصالح الطرفين للضرر، ولهذا الحديث: "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون"، ولم يكن كذلك في المدينة أصحاب حرف أخرى كأصحاب النسيج، حيث كانت تستورد الثياب من اليمن، والشام وغيرهما، وقد تابع الرافعي ابن القيم على أقواله في التسعير وقد تناول العلماء التسعير من وجهين: 1- إذا كان سعر غالبًا على سوق البلد فأراد إنسان أن ينزل عن ذلك السعر عند مالك يمنع، وحجة مالك الحديث الذي رواه في الموطأ ونصه: (عن يونس بن سيف، عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له بالسوق فقال له عمر: "إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا") . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2304 ولمالك أن الإنسان إذا خالف السعر الغالب في السوق وحط منه لم يجز ترك ذلك، وذكر قولة عمر بن عبد العزيز المستند على الحديث السابق فإنما السعر بيد الله. 2- قال ابن رشد في البيان والتحصيل، أما الجلابون فلا خلاف أنه لا يسعر عليهم شيء مما جلبوا، وإنما حمل الشاذ منهم على أن يبيع بمثل أهل السوق أو يرتحل عنهم تطبيقًا لقول عمر السابق (1) . وتمسك مالك بنظرية عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله فعندهم أن الجلابين إذا باعوا لأهل السوق بأكثر من الربح المعتاد، فإنهم يمنعون من ذلك وقيل أيضًا إذا اشتري من عندهم أصحاب الدكاكين بالجملة ثم أرادوا البيع بالتقسيط بأثمان مرتفعة، قيل أنهم كالجلابون فلا يتركون على اختيارهم إذا أغلوا على الناس، ولم يقتنعوا بأرباح معقولة، وعلى صاحب السوق أن يطلع على ما كلفتهم تلك البضائع ثم يجعل لهم ربحًا لائقًا، وينهاهم عن الزيادة عليه، ويستمر في تفقد السوق لمنعهم من الزيادة على الربح المعتاد، وينزل العقاب بمن خالف، وهذا القول الأخير منسوب أيضًا من طريق أشهب، وإليه ذهب ابن حبيب، وقال به ابن المسيب، ويحيى بن سعيد والليث وربيعة (2) ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقال للتجار لا تبيعوا إلا بكذا بما هو أقل من الثمن، وإذا ضرب لهم الربح، فلا يجوز لهم أن يصعدوا الثمن عنه استنزافًا لأموال الناس بغير حق، قال ابن رشد هذا عند مالك، أما عند الشافعي فيستند إلى قصة عمر مع حاطب بن بلتعة حيث لقيه يحمل عدلين من الزبيب ثم قال بكم تبيع؟ قال حاطب مدين لكل درهم، فقال عمر قد قدمت عير من الطائف وهم يغترون بسعرك فإما أن تبيع بسعر أرفع، وإما أن تدخل السوق ثم تبيع كيف شئت، إلا أن عمر قدم على حاطب بعد قليل وقال له: إنما قلت لك آنفًا ليس عزمة، ولكن نصيحة فبع كيف شئت وأين شئت فإنما أردت الخير لأهل البلد. قال الشافعي: "وهذا الحديث ليس بخلاف لما رواه مالك ولكنه روي بعض الحديث أو رواه عنه من رواه فأتي بأول الحديث، وترك آخره، وبآخره أخذنا، قال الشافعي: لأن الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها أو شيئًا منها بغير طيب خاطر، إلا في الحالات التي تلزمهم وهذا ليس منها" (3) .   (1) البيان والتحصيل لابن رشد: 9 /313، وما بعدها من باب التسعير فقد أورد مختلف أقوال مالك وأصحابه من التسعير. (2) نفسه (3) الأم، للشافعي: ج4. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2305 وقال الباجي بأن السعر الذي يلزم البائع باللحاق به هو السعر الذي عليه جمهور الناس، فإذا انفرد منهم الواحد أو العدد اليسير بحط السعر لم يؤمروا باللحاق بسعرهم، لأن الذي يجب أن تراعى أحواله هو الجمهور (1) . وقال القصار من المالكية بأن البغداديين فهموا من قول مالك عدم السماح بمخالفة أسعار الجمهور سواء بالنقص أو بالزيادة. وعند الحنفية قال محمد بن الحسن: يمكن للجالب أن يبيع بسعر أرخص من سعر السوق. ولهم خلافات أخرى في مسألة أن يحد لأهل السوق حدًّا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب، فهذا منع منه الجمهور حتى مالك نفسه، ولأشهب أن صاحب السوق يباح له أن يسعر للجزارين أنواع اللحوم وإن خالفوا تسعيره أخرجوا من السوق، على ألا يكون ذلك شأنه أن يحملهم على مغادرة السوق، وعلة هذا هو عدم السماح للتجار برفع الأسعار على الناس رفعًا غير مناسب لأرباح عادلة، وبأثمان مناسبة. قال أبو الوليد الباجي ووجه هذا أن به يتوصل إلى معرفة مصالح البائعين والمشترين ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم ولا يكون فيه إجحاف بالناس، وإذا سعر عليهم من غير رضا بما لا ربح لهم فيه أدى ذلك إلى فساد الأسعار وإخفاء الأقوات وإتلاف أموال الناس (2) . قال ابن تيمية: "وأما إذا امتنع التجار من بيع ما عندهم مما يحتاج الناس إليه فإنهم يؤمرون بالواجب ويعاقبون على الامتناع، وكذلك من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع" (3) . وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: منع من الزيادة على ثمن المثل، فأصبح هذا قاعدة على أن من وجبت عليه المعاوضة ألزم بإعطاء ثمن المثل، فتدخل الدولة هنا لمنع العارض من استغلال الحاجة والحصول على ربح فاحش هو الموافق لروح الشريعة، وغايتها، وتذهب النصوص الإسلامية إلى أبعد من ذلك فنجعل بيع ما بيد التاجر واجبًا، وأن لا يعطي له غير ثمن مثل، من ذلك الأدوات التي يحتاج إليها الحاج فيجب أن تفوت له بثمن المثل، وكذلك بيع السلاح للمجاهدين ناهيك عن بيع أقوات الناس فإن تفاحش الثمن فيها من الضرر الذي يجب إزالته.   (1) المنتقى:5 /18. (2) في فتح العزيز:13 /37، يروى عن الباجي. (3) 9 /254. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2306 وعزى الرافعي لابن القيم الجوزية موقفًا رائعًا يتناسب وما ينبغي أن تقوم به المصالح الإسلامية اليوم لفائدة المسلمين، ذلك أنه أوجب على مالك الدار التي اضطر ناس إلى السكنى فيها، وهم لا يجدون سواها، أو النزول في خان مملوك، أو استعارة ثياب يستدفئون بها، أو رحى للطحن أو دلو لنزع الماء، أو قدر، أو فأس، أو غير ذلك، أوجب على صاحبه أن يبذله بلا نزاع، والخلاف الحاصل هل يحل له أن يأخذ ثمنه أم لا؟ إلا أنهم أجمعوا أيضًا على أنه إذا أخذ ذلك الثمن فلا يمكن أن يعطى أكثر من ثمن المثل، وأفتى كثيرون بوجوب بذل ذلك مجانًا استنادًا إلى قول الله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} ، [الآيات 4-7 من سورة الماعون] . قال ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة هو إعارة القدر والفأس والدلو وغيرها من الأدوات الضرورية. إلى أن قال ابن القيم: (وحاجة الناس إلى الطعام واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة ليس الحق فيها لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع ولأن كل الناس يحتاجون إليها، فلو مكن من هي بيده من الاختيار في الثمن لرفع ثمنها إلى درجة المضرة الفادحة بهم) . وأبعد العلماء عن التدخل في بيع المعاوضة هو الشافعي، ومع ذلك فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن يبذله له بثمن المثل فإذا رفع للقاضي أمر المحتكر بيع ما زاد على قوته وقوت أهله بثمن المثل، فإن أبى حبسه (1) ، فإن أصر تجار المواد الغذائية على مواصلة البيع بما فوق الثمن المعتاد جاز للقاضي أن يستشير أهل البلد ثم يسعر مراعيًا المصالح العامة في تصرفاته. وعن خلافهم حول بيع ما بيد المحتكر: فإن أبا حنيفة يلحقه بالمحجور عليهم بسبب الدين ثم يبيع عليه البضائع التي دعت الحاجة إليها، وقال أصحاب أبو حنيفة: لا ينبغي للسلطان أن يسعر إلا إذا تعلق به – أي السعر – حق العامة. ولمالك وأحمد أن كل مسترسل بمنزلة الجالب الجاهل لحال السوق إذ يجب على الحاضر أن لا يبيع من هؤلاء.   (1) نفس المرجع: ص41. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2307 وقال: إن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر عليهم تسعير عدل، وورد عن مالك أنه لا يجوز للإمام التسعير، وأحاديث الباب ترد عليه، وللشافعية جواز التسعير (1) . إذا دعت إليه الضرورة، ولبى حاجة الجماعة، وسيبقى في طليعة البحوث الجيدة التي تكلمت عن التسعير بصفته إحدى وسائل تحديد أرباح التاجر ما كتبه العلامة ابن القيم الجوزية في كتابه: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، وقد سبقت إشارات إليه، ولأهميته فسنحاول تلخيص بعض أحكامه فيما يلي: 1- من التسعير ما هو ظلم أو حرام وذلك إذا اتبع لإكراه الناس على بيع أموالهم بثمن لا يرضيهم، أو منعهم مما أباح الله لهم. 2- ويكون جائزًا إذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم من الزيادة على عوض المثل فيكون هنا جائزًا بل واجبًا. وأساس حكم الأول هو حديث أنس عن غلاء السعر بالمدينة وعرض طلب السعر على النبي صلى الله عليه وسلم وامتناعه عن التسعير خشية المضرة بأحد، لقد روينا الحديث في مكان آخر من هذه النقطة. ومن ظلم التسعير تأجير محل تجاري على واجهة الطريق، أو في القرية على ألا يبيع أحد غيره تلك البضائع التي تباع به، فهذا ظلم وإضرار بالناس، ومثل ذلك حصر نوع من الأطعمة والسلع على ناس معينين ومنحهم امتياز بيعها، فهذا إجراء جائز، وظلم تبع، من أن هؤلاء يجب التسعير عليهم، وإلزامهم البيع بثمن المثل ففي هذه الحالة التسعير واجب بلا نزاع. وخشية استغلال الحاجة وطلب أثمان غير لائقة، منع أبو حنيفة وأصحابه: القسامين الذين يقسمون العقار وغيره بالأجرة من أن يكونوا شركة بينهم لأنهم إذا فعلوا أغلوا على الناس وقت الحاجة إليهم، ولوالي الحسبة أن يراقب كل أصحاب حرفة حتى لا يكونوا شركة هدفها رفع الأسعار على الناس عند الحاجة إلى شيء من الأشياء التي ينتجونها أو يتعاطونها، خصوصًا مما تدعو الحاجة إليه باستمرار.   (1) فتح العزيز: 13 /44، من تحليل لابن القيم الجوزية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2308 بخلاف الصنائع فإن الشركة فيها محمودة من أجل توفير حاجات توفير حاجات الناس وخفض الأثمنة وضمان تزويد السوق بما يطلبه الجمهور، فكل من ينتج شيئًا، أو يحس حرفة إنجاز ذلك واجبًا عليه، إذا احتاج الناس إلى عمله، وعليه أن يفوته لهم بثمن المثل ولا يستغل حاجتهم، فيطلب ربحًا خياليًا، ولا يستغلون ضعفه، ويفرضون عليه البيع بثمن أقل من ثمن المثل حسب تقلب أحوال السوق. وأثناء تحليل أحوال السوق، وأنواع سبل حكم التسعير تعرض ابن القيم لقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ابن اللتبية المشهورة، وملخصها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كلف ابن اللتبية بجمع صدقات بني سليم، فلما قدم حاسبه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الرجل يقول: هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وخطب في الناس وقال: ((إني لأستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي)) إلى آخر الحديث الذي رواه الشيخان، والموضوع الذي من أجله سيق هنا هو التذكير بأن لولي الأمر نزع أي ملك استحوذ عليه الإنسان من طريق غير مشروع سواء بعوض أو بغير عوض، وأحرى إذا كان ربحًا أتاه من قبل نفوذه أثناء قيامه بالولاية لبعض أمور المسلمين. ومن خلال الحديث عن أمور التسعير تعرض ابن القيم الجوزية لمراقبة الربح عن طريق المزارعة فقال: ومنهم من احتج ((بأن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن المخابرة)) ، ولكن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم هو الظلم، فإنهم كانوا يشترطون ما على المذيانات وإقبال الجداول وشيئًا من التبن يختص به صاحب الأرض ويقتسمون الباقي. وهذا الشرط باطل بالنص والإجماع فإن المعاملة مبناها العدل من الجانبين وهذه المعاملة من جنس المشاركة لا من باب المعاوضة، وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المشاركة العادلة هي أن يكون لكل واحد من الشريكين جزء شائع، فإذا جعل لأحدهما شيء مقدر كان ظلمًا، وإن صدق التاجر رزقه الله من حيث لا يحتسب، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للتاجر الصدوق بنزول البركة، وما قصة عروة بن أبي الجعد إلا تكريس لنظرة الإسلام المشجعة للتجارة الصادقة، ففي الموطأ عن عروة بن أبي الجعد، قال عرض للنبي صلى الله عليه وسلم، جلب فأعطانى دينارًا فقال: ((أي عروة إيت الجلب فاشتري لنا شاة)) فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت منه شاتين بدينار فجئت أسوقهما - أو قال: أقودهما - فلقينى رجل فساومنى فبعت شاة بدينار، فجئت بالدينار وجئت بالشاة فقلت: يا رسول الله، هذا ديناركم وهذه شاتكم، وقال: ((وصنعت كيف؟)) فحدثته الحديث فقال: ((اللهم بارك له في صفقة يمينه)) ، فلقد رأيتنى أقف بكناسة الكوفة، فأربح أربعين ألفًا قبل أن أصل إلى أهلي، وكان يشتري الجواري ويبيع ويهم هذا البحث أن نبين أن كل ربح نتج عن إذعان أو اشتراط شرط ظالم مهما كان مصدره الشركة … أو بيع البراءة، أو النجش أو الغش، أو التدليس، أو الغبن، أو بيع المحرمات، فإن الفقه الإسلامي لا يقره كربح، ولا نرى أن في ذكرنا لهذه الأشياء مرة ثانية هنا تكرار مشينًا لأنها تتعلق دائمًا بالثمن الذي هو محل التسعير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2309 وعلى ما تقدم فإن على دولة الإسلام التدخل الفعلي حسب نظرنا لتضرب السعر المناسب على الضروريات التي بدون شك أنها أصبحت كثيرة ومتنوعة، ويساهم تعدد مصادر إنتاجها وعدم معرفتها عند الجميع في رفع الأثمان على الناس، ولذا فحسب نظري تكون مراقبتها اليوم أقرب إلى روح ما يهدف إليه الفقه الإسلامي. وقد حرم التملك بوساطة التلاعب بالأسعار، والأصل فيه حديث معقل بن يسار قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقًّا على الله تبارك وتعالى أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة)) ، رواه أحمد والطبراني. ويدخل في الربح غير المشروع استيلاء جهة واحدة على سلعة معينة، والاستبداد ببيعها بحسب الثمن الذي يضمن لها أرباحًا خيالية سواء كانت تلك الجهة شخصًا طبيعيًّا أو اعتباريًّا. ومن مراقبة الريح عدم ترك الأشياء الكبرى ذات النفع العام يتصرف فيها غير الدولة كالبترول، والفوسفات، وما يطلق عليه الركاز بصفة عامة. والأصل في هذا اجتهاد عمر رضي الله عنه حين قدم اثنان على أبي بكر، وقالا بأنهما كان يستغلان سبخة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكتب لهما خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ملكيتها، وكتب في الصك إشهاد عمر على ذلك، فذهب الرجلان بالصك إلى عمر فلما رأه مزقه، ومنع من تنفيذ هذا التمليك بحجة أن تلك السبخة من المال العام، الذي يجب أن تبقى ملكيته للدولة، ثم أخذ سيدنا أبو بكر الصديق بهذا الاجتهاد لما فيه من المصلحة العامة للمسلمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2310 وقد ذهب المالكية: إلى أن ما يستخرج من الأرض إذا كان له نفع عام كبير فهو ملك للدولة، وذهب الحنابلة إلى أن ما يستخرج من باطن الأرض فيه الزكاة، إذا كان مستخرجه ممن تلزمهم الزكاة وذهب الحنفية إلى أن في الركاز الخمس قياسًا على الغنيمة، ولا يعتبر البترول داخلًا في تعريف الركاز (1) . يبدو من هذا أن الفقه الإسلامي وقف مواقف متطورة جدًّا من تنظيم الملكية العامة والخاصة قبل أن تتعرض إليها النظم الأخرى شرقية كانت أو غربية، وبهذا نرى أن التسعير من أهم الوسائل التي طبقها الفقه الإسلامي لتنظيم ربح التاجر المسلم، أو الذي يبيع في دار الإسلام. 4- سلامة الربح من العيوب الشرعية: يتميز الفقه الإسلامي أصولًا وفروعًا بسن كثير من القواعد التي يمكن أن يراقب عن طريقها ربح التاجر حتى يسلم من كل شائبة عملية، أو شرعية ليصل إلى صاحبه، وليست عليه فيه تبعة، أمام الله والناس. فهناك رقابة اجتماعية تصاحب التاجر وهذه تشكل قاسمًا مشتركًا بين أبناء البشرية كلهم، إذ تراهم ناقمين على البائع الغشاش والكذاب والمدلس، والمتعاطي لجميع صنوف الخديعة، وإن مرد هذا إضافة إلى سجايا الإنسان هو أن الكتب السماوية استمرت في تحريم مثل هذه الرذائل، جاعلة منها جرائم يعاقب الله عليها الإنسان في آخرته. ثم أتت القوانين الوضعية فحرمت هي بدورها القدر الفادح من تلك العيوب، وللاهتمام البالغ الذي خصها به الفقه الإسلامي فإننا سنقدم نماذج من أحكامه تجاهها فيما يلى: بيع النجش: بيع النجش وصورته أن يأتي شخص من غير المتبايعين، قبل إنهاء البيع يساوم بثمن أكثر من أجل أن يحمل الشاري على الزيادة في الثمن الحقيقي، ولم تكن نيته الحقيقية أن يشتري. والدليل على حرمته الحديث الشريف، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التناجش، وذلك من حديث عمر وهو:" لا يَبِعْ أحدكم على بيع أخيه"، حتى يبتاع أو يذر وهي رواية البخاري. وروى أحمد عن ابن عمر: ((لا يبع أحدكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته إلا أن يأذن له)) ، قال النووي رحمه الله في المهذب ما نصه: "ويحرم أن يدخل على سوم أخيه وهو أن يجيء إلى رجل أنعم لغيره في سلعة بثمن فيزيده ليبيع منه أو يجيء إلى المشتري فيعرض عليه مثل السلعة، بدون ثمنها أو أجود منها بذلك الثمن، لما روي أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يخطب الرجل على خطبة أخيه)) الحديث لأن في ذلك إفسادًا وإنجاشًا. فلم يحل" (2) .   (1) سعيد حوري في كتابه الإسلام: ص426. (2) المجموع لشرح المهذب، للنووي: م13 ,ص16. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2311 إن بيع النجش متفق عليه على إثم صاحبه الذي قام به، والخلاف الحاصل يعني بالخيار أو عدمه ومن أوجه خلافاتهم: فأهل الظاهر قالوا: فاسد، وقال مالك: هو كالعيب، والمشتري بالخيار، إن شاء أن يرد رد، وإن شاء أن يمسك أمسك، وقال الشافعي، وأبو حنيفة، إن وقع إثم وجاز البيع. وسبب اختلافهم يرجع إلى خلافهم حول الحكم الذي يترتب على النهي فهل يتضمن فساد المنهي عنه؟ والجمهور على أن النهي إذا ورد لمعنى في المنهي أنه يتضمن الفساد مثل النهي عن الربا والغرر، وإذا ورد الأمر من خارج لم يتضمن الفساد (1) . وهذا هو المرتكز الذي اعتمد عليه، الذين قالو بسريان البيع في هذه الحالة سواء أعطي الخيار في الرد، أو لم يعط. وللباجي في شرحه المنتقي أنواع المبيعات التي نُهي عنها خشية حصول ربح بطريق غير مشروعه فعن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبيع بعضكم على بيع بعض)) وقال مالك أيضًا، عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تلقوا الركبان للبيع ولا يبيع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبيع حاضر لباد)) . والمقصود هو عدم جواز التدخل بين المتابعين ليفسد على أحدهما صفقته من الآخر ليشتريها هو لنفسه بغية الحصول على ربح يستغل فيه الجهل أو الخديعة. وعن تلقي الركبان الغاية منه التلقي لمن يجلب السلع إلى الحضر، ومن فعل ينهى فإن تمادى أدب. والبوادي المنهي عن البيع لهم في القول الراجح عند مالك هو أهل العمود لئلا يرخص ما بأيديهم خصوصًا وإنهم لا يعرفون بكم طلع عليهم نتاج ما تحت أيديهم فمنع الحضري من البيع للبدوي قبل أن يدخل السوق متفق عليه.   (1) بداية المجتهد: 2 /165. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2312 الخلابة: وقد ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخلابة)) وهي الخديعة ككتم العيوب، أو قوله إنها تساوي أكثر من قيمتها، وأعطي فيها أكثر مما أعطي، وقد روى حكيم بن حزام، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)) ، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش لأنه من باب الخديعة في البيع وإظهار الناجش للمبتاع أن البضاعة تساوي أكثر مما اشتراها به. هذا وقد حذرت الشريعة أثناء وضع الإطار العام لترويج التجارة للتاجر من محاولة ربح عن طريق نوع آخر من الغش، وهو عدم وفاء المكيال والميزان، فعن مالك، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول إذا جئت أرضًا يوفون المكيال والميزان فأطل المقام عندهم، وإذا جئت أرضًا ينقصون المكيال الميزان فأقلل المقام عندهم بها. وقد نهى عن بيع المجازفة مما يعد عدًّا، وأجاز أبو الوليد بيع الجزاف فيما يكال، والذي يحتاط منه مالك حسبما تشير إليه أمهات كتب المذهب هو عدم قيام توازن بين ربح التاجر وبين ضرورة تزويد السوق بما يحتاج إليه المسلمون، والكل ينبغي أن تراعى فيه أحكام الله في سلامة المبيع من العيوب، وعدم استعمال وسائل احتيالية. ويمنع جميع فقهاء المذاهب الإسلامية استغلال الجهل، أو عدم معرفة حال السوق، أو الحاجة الماسة، أو الكتمان، أو استعمال وسائل احتيالية تدفع الشاري إلى إنهاء صفقة ما كان ليقدم عليها لو علم بحقيقة الأمور. ومع ذلك فإنهما متفقون على وجوب احترام إرادة المتبايعين، لأن احترامهما هو الكفيل بأن يمحص كل واحد من أفراد العلاقة، ماله وما عليه بطريقة تفرض توازنًا يكفل للتاجر ربحًا يشجعه على تزويد السوق بما يحتاج إليه، فلا تفرض رقابة عمياء تبتز أموال الناس، وتحول بينهم وبين الغفلة التي ورد النص على أن الله يرزق بعضهم من بعض من خلالها، لكن لا يكون ذلك بطمع جشع يستنزف طاقة الشاري، ويدر ربحًا على التاجر، يمكن أن يقال عنه بأنه ربح استغلالي، ولا بد من سلامة الربح – حتى يسلم به الفقه الإسلامي للتاجر – من تلقي الركبان، والغش والتدليس، وبيع البادي للحاضر، والأنواع المنهي عنها في بيع المرابحة، وقد تقدمت إشارات إليها، كما سبقت عدة إشارات إلى هذه العيوب ويحرم أن يبيع الإنسان على بيع أخيه ومثاله أن يجيء شخص إلى آخر في مدة الخيار فيقول له افسخ العقد وأنا أبيعك أجود منه بهذا الثمن، أو مثله بأقل من هذا الثمن، فإن قبل وفسخ البيع الأول وباع له صح البيع الأخير، وأتم البائع والمشترى الأخير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2313 ومستند النهي عن هذا النوع من البيع الحديث الشريف: ((لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له)) ، متفق عليه ورواه أحمد، عن ابن عمر وعند الشيخين عن أبي هريرة في البخاري، عن عقبة بن عامر عن مسلم. ويحرم أن يدخل على سوم أخية، وهو أن يجد اثنين اتفقا على بيع سلعة معينة بثمن، ثم يزيد في ثمنها ليفسد على الأول شراءه (1) . وعند بعض الشافعية على أن البيع والسوم على السوم لا يحرم إلا إذا لحق البائع غبنًا، أما إذا لم يحصل الغبن فلا يحرم البيع على البيع أو السوم على السوم (2) . وللشوكاني رأي في هذا الشأن إذ يقسم الأحاديث الواردة في السوم على السوم أو البيع، على البيع إلى: أحاديث نصيحة وهي أعم مطلقًا من الأحاديث القاضية بتحريم أنواع من البيع فيبنى العام على الخاص. وهذا غير مسلم في نظري، لأن النهي تلو النهي تقوية لضرورة تجنب الفعل المنهي عنه. وقد استندت جماعة على جواز السوم على السوم بحديث أنس، الذي رواه أحمد والترمذي، وحسنه وقال لا نعرفه إلا من حديث الأخضر بن عجلان عن أبي بكر الحنفي عنه، وأخرجه أيضًا أبو داود والنسائي، وأعله ابن القطان بجهل حال أبي بكر الحنفي، ونقل عن البخاري أنه قال لم يصح حديثه، ولفظ الحديث عن أبي داوود وأحمد، أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى على قدح وحلس لبعض أصحابه فقال رجل هما عليَّ بدرهم، ثم قال آخر: هما عليَّ بدرهمين … إلخ. ولعلهم هنا لم ينتبهوا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقبل بالإيجاب الذي وجهه الأول وقبل بالزيادة التي أعطاها الآخر والمسألة مشهورة لأنها أصل من أصول تحريم المسألة. ولم يرَ البخاري بأسًا في بيع المغانم بالمزايدة، وسوى ابن العربي بين البيع بالمزايدة في شتى الأصناف ولذا لا يضر كره التخطي لعمل ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه بنى كراهته للمسألة على قضية عين، وهي بيع المدبر، ولا نرى أن يقاس عليها غيرهما من المبايعات الأخرى.   (1) هذه الأقوال كلها أوردها النووي في المجموع، والسرخسي في المبسوط وبداية المجتهد لابن رشد. (2) نفسه: ص18. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2314 تلقي الركبان: ولجهل أهل البادية بالسوق، ولئلا يستغل جهلهم المرابون، ثم يشترون من عندهم فيرفعون السعر على السوق، أو يحسبونهم على البيع بالتقسيط بسعر مرتفع فقد نهى الحديث عن ذلك، وهذا مجمل قول الفقهاء في الموضوع، فأصل المسألة هو حديث ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس في غفلاتهم يرزق الله بعضهم من بعض)) ، رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الترمذي بلفظ لا يبيع حاضر لباد. وقد رواه أحمد بسند آخر، عن أبي زيد، عن أبيه بلفظ آخر، هو: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح الرجل فلينصح له. لم ير الشافعي في الأم أن الحديثين يقتضيان المنع، وقالت الحنفية بأن المنع هنا يختص بزمن الغلاء، وقال ابن حجر في فتح الباري أن المنع انيط بالبادي، لظنة جهله بحال السوق، وإمكانية غبنه. وقال مالك: لا يلحق أهل القرى المترددون على السوق بالباد، لأنهم يعرفون أحوال السوق. والجمهور على منع المسألة إذا كان المبيع مما تدعو الحاجة إليه. ولم يعرضه البدوي على الحضري، وهذه التخصيصات هنا كلها استنباطية. ووردت أقوال عن عطاء ومجاهد وأبي حنيفة، أنه يجوز بيع الحاضر للبادي مطلقًا، وتمسكوا بحديث النصيحة، وقال بعضهم أن حديث بيع الباد للحاضر منسوخ. والشوكاني يعترض على النسخ ويتمسك هنا بحمل العام على الخاص ويدخل المسألة في بيع المسلم للمسلم بدون غش ولا تدليس، ولا غبن ولا ربا، ويؤيد عدم النسخ موقف الشافعي من المسألة لأنه صحيح البيع، ولم ينفِ الإثم، فأي حاضر باع لباد فهو عاص، إذا علم بالحديث، والبيع لازم غير مفسوخ. ويحرم تلقي الركبان ويخبرهم بكساد ما معهم من المتاع لغبنهم فيه، لأن عمر نهى عنه، ولأنه تدليس، وإن فعل ودخلوا البلد وتبين لهم الغبن كان لهم الخيار لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تلقوا الجلب فمن تلقاها واشترى منهم فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق)) ، وهذا الحديث رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر، وهو نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان، وبهذا اللفظ رواه الجماعة إلا البخاري. وأورد الشافعي في الأم، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تلقوا السلع، فمن تلقى فصاحب السلعة بالخيار بعد أن يقدم السوق)) (1) .   (1) الأم:3 /93. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2315 ومن هنا جوز الشافعي البيع وحكم بإثم المتلقي، واعتبر ابن القيم الجوزية تلقي الركبان من المنكرات للنهي الحاصل فيه (1) ، لكون الباد لا يعرض ثمن السلع فيشتري منه الحضري بثمن بخس، كما أنه لا يجوز لأهل السوق أن يبيعوا للقادم من خارج البلد بثمن يغاير ما يبيعون به لأهل البلد، ولوالي الحسبة مراقبة ذلك. قال ابن القيم الجوزية في كتابه الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: " ومن المنكرات تلقي السلع قبل أن تجيء إلى السوق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، لما فيه من تغرير البائع، فإنه لا يعرف السعر، فيشتري من المشتري بدون القيمة، ولذلك أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار، إذا دخل السوق، ولا نزاع في ثبوت الخيار له مع الغبن". ولابن حجر أن التلقي يكره عند من لا يقول بتحريمه لسببين: الأول: أن يضر بأهل البلد بأن يشتري السلعة بثمن بخس، ثم يبيعها لهم بثمن مرتفع. الثاني: أن يلبس السعر على الواردين (2) . وحول النهي الوارد في حديث تلقي الركبان اختلف أصحاب المذاهب على الأقوال التالية: الشافعية، والحنابلة عندهم يثبت الخيار بمجرد تلقي الركبان رحمة عندهم بالباد، لئلا يقع في شرك الحاضر لصيانة القادم من الخديعة، وعن ابن المنذر أن مالكًا حمل النهي على مراعاة منفعة أهل السوق لا على نفع رب السلعة، وإلى رأي مالك جنح الكوفيون والأوزاعي، إلا أن ثبوت الخيار لصاحب السلعة لا لأهل البلد دليل على قوة حجة الشافعية في هذه المسألة. وشرط إمام الحرمين في النهي أن يكذب المتلقي على صاحب السلعة حتى يشتري منه بأقل من الثمن المثل (3) ، وأطلق الشوكاني المسألة على عمومها في النهي.   (1) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ص242. (2) المجموع، للنووي وشرحه؛ فتح العزيز، للرافعي: 13 /24، وما بعدها إلى نهاية الباب. (3) المجموع، للنووي وشرحه؛ فتح العزيز، للرافعي: 13 /24، وما بعدها إلى نهاية الباب: ص26. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2316 يمكن أن نخرج من هذه الأقوال بنتيجة أساسية، وهي أن الفقه الإسلامي أثناء تحديده لمسطرة سلامة الربح من العيوب الشرعية، بين جميع الصور التي إن تم البيع عليها يكون مباحًا، والربح منه من أكثر أنواع الرزق شرفًا لأن المهنة الوحيدة التي تعاطاها نبينا عليه الصلاة والسلام وهي التجارة، فيجب أن تبقى لها حرمتها سلامة ما يجني منها من أي عيب يحرمه على صاحبه، أو يكون له نقدًا في عرضه عند الناس. ومن ثم أتت العيوب التي أشرنا إلى بعضها، وتركنا تلك المألوفة، مثل الغبن والتدليس والإكراه، لأنها معلومة، وكتبت فيها مواضيع خاصة بها، من مختلف فقهاء المذاهب، ولأن موضوعنا ليس في عيوب الرضا. الاحتكار: الحكرة: التعريف: قال في القاموس: الحكر الظلم وإساءة المعاشرة، والفعل كضرب، والسمن بالعسل يلعقهما الصبي والقعب الصغير، والشيء القليل وبضمان، وبالتحريك ما احتكر أي احتبس انتظارًا لغلائه، كالحكر كصرد، وفاعله حكر واللجاجة والاستبداد بالشيء، حكر كفرح فهو حكر، والماء المجتمع، والتحكر الاحتكار، والتحصر والمحاكرة الملاحة، والحكرة بالضم اسم من الاحتكار ومخلاف بالطائف. الاحتكار حكمًا: يحرم الاحتكار في الأقوات، وهو أن يشتري البضائع في وقت الغلاء، ويمسكها رغم حاجة الناس إليها حتى يرتفع ثمنها، ومن الحنابلة من قال يكره ولا يحرم، ولا يمكن أن ينظر إلى المحتكر بالسلامة بعد حديث عمر: الجالب مرزوق والمحتكر ملعون، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يحتكر إلا خاطئ)) . وعلى هذا الحديث استند أصحاب الكراهة، لأن لفظة الخطأ لا تدل على التحريم علمًا بأن المخطئ هو المذنب والعاصي. وقد روى أحمد والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ)) . وزادوا في إسناده "أبو معشر"، وهو ضعيف وقد وثقه بعضهم. وفي حديث آخر عن عبد الله بن عمر: ((من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه)) ، رواه أحمد والبزار وابن أبي شيبة. المهم هو أن هذه الأحاديث بعضها يقوي بعضًا فتشكل حجة كافية على عدم جواز الاحتكار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2317 ويرى الشافعية أن المحرم، هو احتكار الأقوات خاصة لا غيرها، وذهب الشوكاني إلى أن الاحتكار حرام من غير فرق بين الأقوات وغيرها. ويقصد بالاحتكار المنهي عنه ذلك الذي يشتري البضاعة القليلة في السوق ويمتنع من بيعها حتى يرتفع ثمنها، أما إذا كان اليسر، وجمع بضاعة حتى قلت ثم أخذ يبيعها بثمنها المعتاد أي ثمن المثل فهذا مستحسن ويثاب عليه، كما سيأتي عن ابن مسعود. وللنووي في شرحه لمسلم عند حديث معمر بن عبد الله مرفوعًا من احتكر فهو خاطئ. قال النووي: الخاطئ بالهمزة هو العاصي الآثم، وهذا الحديث صريح في تحريم الاحتكار في الأقوات خاصة، وهو أن يشتري الطعام وقت الغلاء للتجارة ولا يبيعه في الحال بل يدخره حتى يرتفع ثمنه. وأخرج ابن ماجه والحاكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((الجالب مرزوق والمحتكر ملعون)) . وعن الحاكم من رواية ابن إسحاق، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمة الله)) ، وإن صح هذا الحديث فيكون أشنع وعد. وقد اختلف العلماء في النوع الذي يعني بالاحتكار، فطائفة ترى على أنه خاص بما يقتات به، ومنهم من عممه على كل ما يقتات به، أو غيره من أنواع المكتسبات التي تدعو الضروريات إليها، وفي المنتقى قال عمر بن الخطاب: لا حكرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من إذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيما جالب على عمود كبده في الشتاء والصيف فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء وليمسك كيف شاء الله. قال أبو الوليد قصد أمير المؤمنين من هذا الحكم أن يمنع الناس من الاحتكار في سوق المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، لأن غالب أحوالها غلاء الأسعار وقلة الأقوات. وعرف أبو الوليد في شرحه لكلام عمر في الموطأ الاحتكار، فقال: الاحتكار هو الادخار للبيع وطلب الربح بتقلب الأسواق، فأما الادخار للقوت، فليس من باب الاحتكار. والإجماع على أن صاحب السلعة يمنع من الاحتكار، وفي أيام عدم الشدة والحاجة فروى ابن القاسم عن مالك أنه لا بأس به، لإمكانية حصول الناس على شدة حاجتهم من عند غيره. وروى ابن الماجشون، عن مالك أن احتكار الطعام يمنع منه في كل وقت. وأما غير الطعام فلا يمنع من احتكار إلا في وقت الشدة، وسوى ابن المواز، وابن القاسم بين الطعام وبين الكتان، إذ يمنع من احتكار ما أضر بالنسا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2318 وقد استثنى من التدخل في الملك لمنع الاحتكار، المزارع الذي يدخل محصوله الزراعي سواء في اليسر أو العسر أو نتاج كسبه فإنهما لا يمنعان. أما الفئة الثانية، وهي التي تجب مراقبتها لمنعها من الاحتكار، فهم من صار إليهم الطعام بابتياعه من سوق البلد، فإن منع الاحتكار يجوز في حقهم، وفي وقتين: أحدهما أن يبتاعه في وقت الضرورة، ثم يحصل على أكثر من حاجته ويمتنع من البيع للناس حتى يحصل على أرباح أكثر من اللازم. والثاني أن يشتري وقت اليسر كثيرًا من المواد التي لا يجوز احتكارها، ثم يدخرها حتى تشتد حاجة الناس لها، فلا يبيعها لهم إلا بأثمان عالية، أو لا يبيعها، علمًا بأن من عنده طعام مخزون عليه أن يخرجه للناس في ساعة الشدة، وسيأتي مزيد من بيان حكم ذلك، وتابع أبو الوليد في المنتقى كلامه عن حديث عمر، فقال بأن قولة أمير المؤمنين: فذلك ضيف عمر معناه عدم التدخل في شؤونه في السوق إذ لا يمكن أن يرغمه أحد على البيع أو عدم البيع، أو إرغامه على البيع بأقل من الثمن. ثم أورد قصة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مع حاطب ابن أبي بلتعة في بيع الزبيب وهي مذكورة في مكان آخر من هذا البحث. وقد استخلص كثير من العلماء عدم جواز أي ربح يجنى من الاحتكار تطبيقًا للأحاديث الشريفة التي روينا بعضها في بداية هذه النقطة من هذا البحث. وأيضًا استندوا على الحديث الذي رواه الموطأ، عن عمر بن الخطاب، وهو الحديث المتقدم " لا يعمد رجال … " (1) . قال الباجي قصد منع الاحتكار في المدينة، ونحن نرى استنادًا إلى مواقف عمر أنه يحرم الاحتكار قياسًا على ذلك في كل بلد إسلامي، ولنرجع إلى التفريعات التي استخرجها أبو الوليد من الآثار التي رواها عن الاحتكار إذ قسم دراسته إلى أربعة أبواب هي: 1- بيان معنى الاحتكار. 2- الوقت الذي يمنع فيه الاحتكار. 3- ما يمنع من احتكاره. 4- ما يمنع من الاحتكار. 1- قال في النقطة الأولى بأن الاحتكار هو الادخار للمبيع وطلب الربح بتقلب الأسواق.   (1) المنتقى على الموطأ، لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفي: سنة 494هـ: 5 /17. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2319 ولا يكون ممنوعًا عنده إلا إذا تم الشراء زمن قلة السلع، وشدة الحاجة إليها، أما إن اشتراها زمن الرخاء وادخرها حتى يرتفع السوق، ويكثر الطلب وباعها فلا شيء عليه، ويتعلق المنع بمن يشتري كما قلنا وقت الغلاء أكثر من قوته فيدخره لطلب الربح الفاحش، فإما أن يبيعه لأهل البلد، أو ينقله إلى مكان آخر ليبيعه أيضًا بربح مرتفع كما سبقت إشارة إلى ذلك. 2- أما عن الوقت الذي يمنع فيه الادخار فذلك المنع تراعى فيه حالتان: (أ) حالة الضرورة والضيق ففي هذا الظرف يجب أن يمنع الاحتكار وقال الباجي: إنه لا خلاف في ذلك، ولقد وجدنا جل كتب المذاهب متفقة على هذا الحكم. (ب) الثانية ورد فيها خلاف داخل المذهب المالكي، فعند ابن القاسم عن مالك أنه لا يمنع في ساعة الرخاء، وروى ابن حبيب عن مطرف، وابن الماجشون عن مالك أن احتكار الطعام يمنع في كل وقت، أما غير الطعام فلا يمنع احتكاره إلا فيوقت الضرورة إليه ومن طرف الأغلبية. 3- والذي يمنع احتكاره فعن ابن القاسم عن مالك: أن الطعام وغيره من الكتان والقطن، وجميع ما يحتاج إليه ذلك سواء فيمنع من احتكاره، ما أضر بالناس، ووجه ذلك أن هذا مما تدعو الحاجة إليه لمصالح الناس، فوجب أن يمنع من إدخال المضرة عليهم باحتكاره كالطعام. 4- أما الذي يمنع من الاحتكار فهم الناس الذين صارت إليهم المواد التي يريدون احتكارها بالشراء، فأما من اكتسبها كنتاج كسب، أو ثمار زراعة فليس بمحتكر إذا ادخرها. إلا أن مالكًا أفتى بأنه إذا كانت الحاجة وفي البلد طعام مخزون أمر خازنه بإخراجه، فإن امتنع أخرج عليه، ثم أمر ببيعه بثمنه، فإن لم يعلم ثمنه فبسعره يوم احتكاره (1) . واتفقت أقوال المجموع على شرح المهذب للنووي، مع ما قاله الباجي، وخصوصًا في الحكم على الشراء وقت الرخاء وادخاره إلى زمن الغلاء، وبيعه بثمن المثل يوم تفويته، قال النووي: "ومن أصحابنا من قال بأن الاحتكار يكره ولا يحرم"، ثم رد بأن تلك الأقوال لا يلتفت إليها لمخالفتها للفظ أحاديث متعددة، دلت كلها على أن الاحتكار حرام. وقد استدل النووي على جواز شراء السلع أيام الرخاء، وادخارها إلى وقت الشدة بالآثار التالية:   (1) الباجي في المنتقى: 5 /15 و16و17. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2320 "روى أبو الزناد قال: قلت: لسعيد بن المسيب بلغني عنك أنك قلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحتكر بالمدينة إلا خاطئ)) (1) ، وأنت تحتكر قال: ليس هذا الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي الرجل السلعة عند غلائها فيغالي بها، فأما أن يأتي الشيء وقد اتضع فيشتريه فيضعه، فإن احتاج الناس إليه أخرجه، فذلك خير، وأما غير الأقوات فيجوز احتكاره (2) ، واستدل على أن النهي الوارد في احتكار الطعام، والسكوت عن غيره جعل ادخاره مباحًا وفي شرحه المسمى فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي، أورد حديثًا عن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس)) (3) . واستدل الرافعي أيضًا للنهي عن الاحتكار: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقًّا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة" رواه أحمد، الطبراني في المعجم الكبير. وقد روى أيضًا: "أيما أهل قرية أصبح فيهم أمرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله". قال الرافعي: هذه الأحاديث كلها لا شك أنها تستنهض الهمم للاستدلال على عدم جواز الاحتكار. وللشافعية أن المحرم هو احتكار الأقوات خاصة، ووافقتهم الزيدية، وكذلك الإمامية من فرق الشيعة حيث رأى فقهاؤهم أن المحرم من الاحتكار هو احتكار الأطعمة، وأخذ الشوكاني بحرمة الاحتكار بناء على الأحاديث المروية أعلاه. وفرق العلماء بين الاحتكار والادخار، فالاحتكار خزن السلعة وحبسها عن طلابها حتى يتحكم المختزن في حال السوق فيبيعه بأثمان عالية، وهذا حرام، قال الرافعي بالإجماع، وكل سلعة – أضاف الرافعي – يصيب الناس ضرر من احتكارها تلحق باحتكار الطعام. أما اشتراء الإنسان لما يمكن أن يحتاج إليه وقت اليسر، وادخاره لوقت الحاجة، أو شراء كثير من السلع وقت الرخاء، وادخارها إلى وقت الشدة وإخراجها للناس وبيعها لهم بأثمان معتادة فهذا محبوب، واستدل لجواز هذا النوع الأخير بما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم: من إعطائه لكل واحدة من زوجاته رضي الله عنهن مائة وسق من خيبر للنفقة   (1) زاد هنا لفظ "المدينة". (2) المجموع شرح المهذب، للنووي: 13 /44. (3) الحديث رواه ابن ماجه، وفي إسناده الهيثم بن رافع، وقد روي حديثًا منكرًا، وفي إسناده أيضًا أبو يحيى المكي وهو مجهول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2321 وأرى شخصيًّا أن ما ورد في الآية 47 من سورة يوسف لخير دليل على جواز هذا الإجراء أي إجراء شراء السلع أيام الرخاء، وإخراجها عند الشدة وبيعها بأثمان مناسبة، فقد قال الله عز وجل: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} . فالآية وردت على سبيل الإخبار ولكن لم ترد بصيغة التحذير مما فعله أصحاب العزيز خصوصًا وأن الأمر صادر إليهم من نبي، ولم يرد نسخ لهذا الإجراء. قال ابن أرسلان في شرح السنن: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخر لأهله قوت سنة، واتفقت مواقف الطائفة الإمامية من الشيعة مع أهل السنة والجماعة على تعريف الاحتكار، وجملة الأحكام التي تنطبق على المحتكر، والأحوال التي يجوز لولي الأمر التدخل فيها لجعل حد لاحتكار المحتكر. فهذا الطوسي شيخ الإمامية ووجههم في عصره قال ما ملخصه: الاحتكار هو حبس الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن من البيع، ولا يكون الاحتكار في شيء سوى هذه الأجناس، وإنما يكون الاحتكار إذا كان بالناس حاجة شديدة إلى شيء منها. ولا يوجد في البلد غيره، فأما مع وجود أمثاله فلا بأس أن يحبسه صاحبه ويطلب بذلك الفضل (1) . وقد أوضح بأنه إذا ضاق بالناس الحال كان على السلطان أن يلزم المحتكرين ببيع ما عندهم، ولكنه لا يلزمهم على البيع بثمن معين، وأيضًا قال بأن غير الأشياء التي ذكرها فلا احتكار فيها. إن أقوال الإمامية هذه هي نفس الأقوال التي مرت معنا عند فقهاء مذاهب السنة، وحتى الخلاف الحاصل في الأنواع التي يحصل فيها الاحتكار، سبق أن رأيناه عندهم بأسلوب مقارب لهذا، إذن فتحريم الربح عن طريق الاحتكار هو المربح فلا مجال للتردد في أن الربح المحصل عليه من قبل بيع غير مشروع اعتبر غير مشروع، مثل الربح الحاصل عن طريق الغبن، أو التدليس، أو الغش أو التناجش، أو أي نوع من أنواع الخلابة. وكذلك عن طريق الاحتكار الذي وردت فيه أحاديث عدة منها: روى ابن عساكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من احتكر على أمتي أربعين يومًا وتصدق به لم يقبل منه ويرى ابن قدامة في المغني أن الاحتكار لا يتم إلا إذا استكمل ثلاثة شروط هي:   (1) النهاية في مجرد الفقه والفتاوي لشيخ الطائفة أبي محمد بن الحسن بن علي الطوسي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2322 1- أن يكون المحتكر حصل عليه من احتكره بواسطة الشراء، فلا يكون من جلبة ولا من غلة ممتلكاته، واتفق مع المالكية في أن ادخار غلة ملك الإنسان لا يعد احتكارًا. 2- الثاني أن يكون قوتًا، ما عدا الزيت والعسل والبهائم، فادخارها لا يعد احتكارًا. 3- أن يضيق على الناس بشرائه … ويستنتج من هذه الأقوال عدم جواز الاحتكار، وضرورة مراقبة أرباح التجار حتى لا يتم جنيها من هذا المورد، ومن تتحكم فيه منهم الروح الدينية فلتكن وازعًا له حتى لا يحرم أمواله بجني ربح من مورد حرام كهذا. 6- مبررات التدخل في تنظيم أرباح التاجر: يمكن أن نخرج من كل ما سبق بملاحظات أساسية وهي أن مراقبة أرباح التاجر لها أكثر من أصل في الشريعة الإسلامية، وذلك في كل ربح يجنيه التاجر، سواء نتج عن عقد مساومة، أو عقد مرابحة، إذ من حيث التنظيم وضمان مصلحة الطرفين ضبطت القواعد المنظمة لكل عقد على حدة، فأصبح كل طرف يجد السند الشرعي، والذي يحمي حقوقه من الضياع، والموئل الذي يرجع إليه عند الخلاف فيحميه من الظلم، ويمكنه من جني آثار معاملاته بعيدًا عن الاحتكار، أو الاستغلال أو استنزاف الغير. فمبررات تدخل السلطة في أرباح التاجر ضيقة، بسبب حديث أنس حول سعر المدينة واستنادًا إلى الآية الكريمة: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وحديث: (دعوا الناس في غفلاتهم يرزق الله بعضهم من بعض .... ) . أمام هذه النصوص التي تسير في المبدأ الرباني الخالد والقائل: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [الآية 71 من سورة النحل] . وقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الآية 32 من سورة الزخرف] . وجد الحاكم سلطته ضيقة جدًّا، تجاه حرية التبادل التجاري، إذ ليس لأية سلطة مهما كانت تشريعية أو تنظيمية، الحق المطلق في تقرير نزع ملكية الأفراد، أو الجماعة، أو الحد من تصرفاتهم في المعاوضات، دون رضاهم. غير أن حكمة الشارع من منظور الوسطية التي تدعو إلى الاعتدال في كل شيء، ولم تترك الأمر فوضى، يتحكم فيه التجار في رقاب الناس، باستغلال فرصة الحاجة ليستنزفوا كل إمكانياتهم وبذا أتت تحذيرات الكتاب والسنة واضعة الإطار المنظم لكل المعاملات فلا إفراط، ولا تفريط، ومن خلال ذلك جعلت الرقابة على التاجر ذات وجهين: أحدهما يصاحب ضميره وخلجات فكره، لأنه يتعلق بالإيمان الداخلي، فينبهه أن هناك معاملات محرمة يمكن أن يجني من ورائها ربحًا، إلا أنه إن فعل وسلم من عقاب السلطات الحاكمة، فلن يسلم من عقاب الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2323 وقد ينجم هذا عن ارتكاب الغش أو التدليس بصورة تنطلي على زبونه، فينفذ العقد، ويحصل الربح، لكن الغشاش أو المدلس، أو المرتكب لعيب من صنوف الخلابة، سينال عذاب الآخرة. كما يمكن أن يقال إنه خارج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم بحكم الحديث الشريف: ((من غشنا فليس منا)) وقصة الحديث معروفة، وهي شاهد على ضرورة مراقبة أرباح التاجر أثناء تحصيله لها. فقد وقف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على رجل يبيع طعامًا في المدينة فأدخل فيه يده فوجد بداخله بللًا فقال الحديث: ((من غشنا فليس منا)) ، ومن المعلوم أن هذه الصفات أي الغش والكذب والخيانة والغبن وما مثلها من وسائل الخداع تعتبر من الباطل الذي قال الله فيه: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . ومن خلال هذه النصوص وما مثلها مما أشرنا إليه في النقط المكونة لهذا البحث، وبالخصوص اجتهاد عمر بن الخطاب: "لا يعمد رجال بأيديهم فضل" الحديث المتقدم، وأصرح من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الجالب مرزوق والمحتكر ملعون)) ، وفي رواية: خاطئ ((ومن دخل في شيء من أسعار المسلمين ليلغيه عليهم)) الحديث، كل هذه الآثار تمكن من القول بأن على حكام المسلمين اليوم واجب التدخل لتنظيم السوق وتحديد أرباح التجار، وتكريسها لخدمة الأمة أولًا ولضمان مصالح التجار غير المستغلين ثانيًا. ومما يبرر ضرورة هذا التدخل هو كون السوق لم تبق إسلامية محضه، فسيطرة غير المسلمين على كثير من وسائل الإنتاج في الدول الإسلامية، واختلاط الباعة من مختلف الجنسيات والعقائد نرى أنه كافٍ لتبرير وجوب تدخل السلطات في كل بلد إسلامي لضبط حالة السوق، وتنظيم أرباح التجار، والحرص على سلامتها من الشوائب. وهل هناك تبرير أكثر من تفشي ظاهرة تعاطي الربا في جل المجتمعات الإسلامية، حتى أن كثيرًا من شباب الأمة الإسلامية يوشك أن يأتي اليوم الذي يصبح جاهلًا لما يعرف بالربا، لشيوع تعاطيه داخل الأقطار الإسلامية. وأيضًا بعض من صور البيوعات المنهي عنها هي أيضًا تكاد تكون مجهولة كذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2324 الخاتمة: إن أهم ما يمكن أن تهتم به المؤسسات الإسلامية في نظرنا انطلاقًا من توصيات المجمع الفقهي، لهو القيام بمجهود علمي وتنظيمي لسن قانون تجاري إسلامي موحد، إذ من خلاله يستطيع المسلم معرفة سبل التعامل مع المؤسسات المصرفية سواء داخل العالم الإسلامي أو خارجه، وما هي المعاملات الربوية التي من تعاطاها، قد أذن بحرب من الله ورسوله؟ وما هي الصبغ التي وجد لها العلماء طرقًا أدخلتها في دائرة المباح؟ لأن المسألة ليست حديثة على الساحة الإسلامية، وقد كان الرعيل الأول من المسلمين حائرًا في جواز أو عدم جواز بعض المعاملات مما حدا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى قولته المشهورة ثلاثًا: وودت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى يبين لنا الحكم فيها، الجد والكلالة وأبواب من الربا، هذا معنى كلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وإذا كان هو لم يتضح له الحكم الراجح فيها فما بالك بأبناء اليوم ومدرستهم ليست إسلامية إلى حد تعريف الأجيال بكل دراسات الحرام والحلال، وشارعهم ليس إسلاميًّا إلى حيث لا يبيع فيه غير المسلمين، بل إن الاختلاط في المدرسة والشارع، وحتى البيوت والمصانع والمتاجر، وعدم تحكم الروح الإسلامية في كثير من النفوس تحتم سن قواعد تنظيمية وزجرية تستبعد تعامل المسلمين مع كل بيع وشراء لا يرضي الله. أما من يدعي أن حياة اليوم والاختلاط بالعالم، والمصالح المتبادلة أصبحت تفرض نوعًا من التعامل في ظل تجاهل أحكام الشريعة، إذ من يقول بذلك أو يقبله لهو مخرب لبناء هذه الأمة التي لم يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، ولا يستطيع أي مكابر يقول بأن المسلمين حسب لهم أي حساب، أو طلعت شمس عظمتهم أو تحكمت دولتهم في أهم مصادر اقتصاد العالم، وأصبحت لا تغرب شمسها، ما عدا في الفترة التي تحكمت فيهم شريعة الله، بجعلهم القرآن دستورهم والسنة النبوية المطهرة تشريعاتهم التنظيمية، ونبراسهم الذي يهتدون به. بقيت إشارة أخرى: وهي أن من ادعى بأن قوانين الغرب أو الشرق اليوم، قد احتوت على جميع التطلعات الإنسانية بصفة أكثر شمولية من نظريات الفقه الإسلامي، يعتبر جاهلًا لهذا الفقه، الذي بدون شك، ومن منطلق تجربة طويلة، وممارسة ميدانية اهتمت بمقارنة الفقه الإسلامي بغيره من القوانين الغربية، نستطيع الحكم بأن نظريات وآراء وفتاوي فقهاء الإسلام، أكثر استجابة في جوهرها مما وصلت إليه القوانين الوضعية على مختلف اتجاهاتها، وكذلك الاجتهادات القضائية على مختلف مراكز إصدارها. علمًا بأن الشريعة وسعت دائرة المباح، مما أكسبها مرونة تستجيب لتطورات كل عصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2325 إلا أن عدم جمع وتنظيمه، وتقديمه بأسلوب مقبول يبقى مسئولية علماء اليوم، ومن بين تلك النظريات الشمولية ومراقبتها لأحوال جميع أصناف المعاملات هادفة إلى خلق توازن اجتماعي، عن طريق التربية والتوجيه والتشريع، ولم تقتصر الشريعة على مراقبة ربح التاجر في هذه الحالات التي رأينا في النقط التي تعرضنا إليها أعلاه، بل إن الشريعة ذهبت إلى بعد من ذلك في تنظيم المعاملات، ومراقبة جميع صنوف الحياة العامة، حتى لا يطغى جانب تحت أية طائلة على مصالح الجانب الآخر. وكأمثلة على ذلك نسوق الحالات الآتية: لولي الأمر أن يلزم أصحاب الصناعات إلى إنتاج البضائع، التي تنتجها معاملهم وليس لهم أن يطالبوا بغير أجور المثل للعمال، وثمن المثل للبضائع، ولهذا السبب رأى بعض أصحاب أحمد، والشافعي بأن تعليم هذه الصناعات فرض كفاية، ومحاسبة ولاة الأمر المشرفين على تنظيم تلك الأمور واجب على ولي الأمر أيضًا بحكم حديث أبي اللتبية (1) . المهم أن الأعمال التي تنفع العموم، إذا انفرد شخص واحد بصنعها تصبح فرض عين عليه. وإن تخصص في صناعتها عدة أفراد أصبحت فرض كفاية عليهم جميعًا، يمكن أن يقوم به واحد منهم وأثموا جميعًا إن لم يقم به أحدهم، ويلزمون بالقيام به، إذا لم يفعلوا أو أحدهم من تلقاء نفسه. وهكذا نظمت نظريات الفقه الإسلامي كل معاملة يمكن أن يجني منها التاجر ربحًا، وأعطت لكل صورة اسمها وبينت أحكامها، حتى لا يقع الناس في الحرام، وحتى لا يتعرض أحد أطراف المعاملة لحيف من الطرف الآخر. وإذا ما رجعنا لأصول المبيعات المنهي عن الربح عن طريقها، نرى أنها قليلة جدًّا، إذا ما قيست بتلك التي ترك الربح فيها مباحًا إذا سلم من الشوائب، أما المنهي عنها فقد قال ابن رشد في بداية المجتهد في شأنها ما نصه. "وإذا اعتبرت الأسباب التي من قبلها ورد النهي الشرعي في البيوع، وهي أسباب الفساد العامة وجدت أربعة: أحدها تحريم عين البيع، والثاني الربا، والثالث الغرر، والرابع الشروط التي تؤول إلى واحد من هذه أو لمجموعتها". وهذه الأربعة هي في الحقيقة الفساد، وذلك أن النهي تعلق فيها بالبيع من جهة ما هو مبيع لا لأمر من خارج، وأما التي ورد النهي فيها لأسباب من خارج فمنها الغش، ومنها الضرر، ومنها ما هو لمكان الوقت المستحق بما هو أهم منه، ومنها لأنها محرمة البيع" (2) ، مثل النجاسات.   (1) في قضية توليته على صدقات بني سليم فلما أتى قال: "هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم الحديث المشهور" (إني لأستعمل الرجل على العمل منكم) الحديث … (2) بداية المجتهد:2 /125. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2326 وإذا كان لا يهمنا هنا أن نستقصي كل حال على حدة، فيمكن أن نستخرج من هذه الإشارات عند ابن رشد الحفيد أن دائرة المبيعات التي يمكن أن يجني منها التاجر أرباحًا كثيرة، ومتنوعة، وربحه فيها إذا سلم من أي عيب يجعله مع النبيين؛ الحديث السابق، وتعاطيه للتجارة الشريفة من أشرف وسائل التكسب للرزق. والاستنتاج الثاني: هو أن الربح ليس متروكًا للفوضى، أو التصرفات العمياء، وإنما هو مدروس في الشريعة الإسلامية بكيفية تضمن قيام مجتمع متكافل تنظم معاملاته قواعد وسطية الشريعة السمحة، فلا ضرر ولا ضرار. وفي ختام هذه الكلام فلا بد من التأكيد على شكر الجهات الحكومية في كثير من الأقطار الإسلامية التي جعلت الشريعة الإسلامية هي الأصل لكل تشريع واحترام قواعدها هو الشرط، لتطبيق أي قانون استهدف تقريب المعارف من الحاكمين والمحكومين. غير أن كثرة النظريات الفقهية ومسطرة تأليفها، والأسلوب الذي ألفت عليه أصبحت عوائق في وجه من أراد الاستفادة منها، هو أمر لا مجال لتذليله إلا عن طريق مجهود الدول بتكريس أهم الطاقات العلمية والمادية لخدمة تلك المؤلفات واستخلاص نصوص منها تلائم مناهج الدراسة اليوم، وتوضح للشباب بأن العيب ليس من تقصير نصوص الشريعة ولكن من عدم فهم أهلها لها. وإننا لنتفاءل خيرًا بوجود بعض المؤسسات المهتمة على مستوى العالم الإسلامي كالمجمع الفقهي فيما يرجع للتشريع، ومحاولة تقريبه من أجيال الغد، وإذا ما وجدت معه مؤسسات أخرى مهتمة، فإن هذا كله يبشر بالخير، غير أن الإطار وحده لا يكفي والأسماء لا تخدم الأهداف، ولا توصل للغايات إلا إذا صاحبها وترجمها رصد الوسائل المالية الكافية، حتى يتم التنظيم والإنتاج، ومن ثم تتأتى إمكانية التطبيق والله يلهمنا سبل الرشاد إنه ولي التوفيق وبيده الخير إنه سميع مجيب. الدكتور حمداتي شهبينا ماء العينين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2327 مناقشة البحوث تحديد أرباح التجار الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. في هذه الجلسة موضوع " تحديد أرباح التجار "، والعارض هو فضيلة الشيح محمد المختار السلامي، والمقرر هو الشيخ محمد عطا السيد. وكتب في هذا أبحاث خمسة وهي بحث الشيخ المختار، وبحث الشيخ عطا، وبحث الشيخ علي التسخيري والشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين والدكتور يوسف القرضاوي. ونرجو الاختصار ما أمكن في العرض والمناقشة، لأن بعد انتهاء هذه الجلسة الصباحية الأولى ستكون – بإذن الله – فترة استراحة ثم نستأنف الجلسة للموضوع الثاني وهو موضوع " العرف ". الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. الموضوع كما تفضل السيد الرئيس هو مسألة " تحديد الأسعار "، وهذه المسألة " تحديد الأسعار ": اتصلت بأربعة عروض وسأرتبها حسب الترتيب الحرفي لأصحابها. فأقدم أولًا: بحث فضيلة الشيخ علي التسخيري، ثم بحث فضيلة الشيخ عطا السيد، ثم بحث فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، ثم ملخص بحث الشيخ حمداتي ماء العينين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2328 الشيخ علي التسخيري: كتب بحثه وبعد أن قدم له بمقدمة قال: فإن الأصل البينة هو حرية البائعين والمشترين في التعامل بأي سعر كان أما التحديد فيجب أن يتم طبق حركة استثنائية، وعلى أساس من سلطة حكومية ولائية، أو قواعد ثانوية تنفي الضرر والحرج وغيرها، وستلاحظ اختلاف المواقف فيما يلي، ثم ذكر أقوال العلماء، فذكر رأي العالم الكبير المنتظري وما جاء في نهاية الشيخ الطوسي، واستخلص وقال في المبسوط الشيخ الطوسي: لا يجوز للإمام ولا النائب عنه أن يسعر على أهل الأسواق متاعهم من الطعام وغيره سواء كان في حال الغلاء أو في حال الرخص بلا خلاف فإذا ثبت ذلك فإذا خالف إنسان من أهل السوق بزيادة سعر أو نقصانه فلا اعتراض لأحد عليه. ثم أخذ نصوص التسعير، ففي مفتاح الكرامة " وفي الوسيلة والمختلف والإيضاح ... إلخ ". وقال العلامة في المنتهى: " على الإمام أن يجبر المحتكرين على البيع وليس له أن يجبرهم على التسعير بل يتركهم يبيعون كيف شاؤوا ". ثم نقل بعض الأقوال عن المذاهب: عن المذهب المالكي، وكذلك المذهب الشافعي، ثم أخذ يحتج ويبين أدلة الطرفين، فبين أن دليل النافين هو احترام الملكية العامة، هذا كدليل عام، والدليل الثاني هو الحديث المروي الذي رواه محمد بن يعقوب بسنده عن حذيفة بن منصور عن الإمام الصادق أنه نفذ الطعام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث بين أن في سنده ضعفًا، لأنه قال: إلا في حذيفة ومحمد بن سنان، وقال سماحة الشيخ المنتظري في سنده: إنه لا كلام في رجاله إلا في حذيفة ومحمد بن سنان والظاهر أن الأمر فيهما سهل. وما رواه الشيخ بسنده عن الحسين بن عبيد أيضًا، وهو في نفس المعنى ثم أخذ يستدل للمجيزين. فاستدل أولا بمسألة الولاية التي يملكها الحاكم الشرعي على الأوضاع العامة لتحقيق العدالة الاجتماعية، فله حق التدخل لتعديل الأسعار، كما أن له حق التدخل في مختلف المجالات المباحة ومن الطبيعي أن الحكومة والقدرة على الإدارة العامة تتطلبان بلا ريب هذه الولاية لملء منطقة الفراغ التنظيمي. ثانيا: وجود الضرر: ثالثا: استند إلى سد الذريعة، والمصالح المرسلة قال: باعتبارها أصولا قائمة برأسها ونحن لا نقول بذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2329 على ضوء هذه الأدلة انتقل الشيخ التسخيري فيقول: رغم أن الإسلام اعترف تمامًا بالملكية الخاصة والحرية الاقتصادية إلا أن الإنسان مستخلف في المال، ثم بين وظيفة المال الاجتماعية، وانتهى إلى أنه مما يوضح لنا أن الملكية في الإسلام ليست حقا مطلقًا وإنما هي حق تتبعه مسئولية وعلى ضوء هذا فإذا أريد استغلال الملكية لصالح جشع المالك واستفادته من حاجة الناس إليها للتضييق عليهم والوصول إلى الربح المضاعف فإن ذلك مما يتنافى وطبيعة المسئولية التي أشرنا إليها. والذي يشخص الضرورة الاجتماعية أو المصلحة الاجتماعية العليا هو ولي الأمر العادل عبر تشاوره مع ذوي الخبرة. ثم يقول: وعملية التسعير إذا نظر إليها في هذا الإطار كانت عملية طبيعية بلا ريب. ثم تحدث على مرحلتين مرحلة ما قبل الإنتاج ومرحلة ما بعد الإنتاج – بمعنى أن ما تنتجه الأرض والمواد الخام هو لا دخل فيها، أما مرحلة ما بعد الإنتاج البشري فإن القوانين تعمل عملها ولكن في أطر معينة يرضاها الإسلام للسوق الإسلامية السليمة والتي تذكرها لنا النصوص الإسلامية الكثيرة، إذ لا يوجد في هذه السوق احتكار ولا إجحاف ولا غش ولا تبان لرفع القيم حتى التباني الرسمي، ولا ندرة مصطنعة، كما يتوفر فيها ما يحتاجه المجتمع حيث يجب كفاية توفير ذلك. واستخلص إلى أنه ليس غلاء السعر أو كون الطعام غير مسعر، وأمثال ذلك سببًا للتدخل، أما إذا حصل إجحاف في البين أو الاحتكار وما إلى ذلك مما يتنافى والشكل الإسلامي للسوق فإن لولي الأمر التدخل لإرجاع الحالة إلى الوضع الطبيعي بلا ريب. وانتهى إلى أن الظاهر أن النصوص تؤكد على حرية التسعير ما لم يتطلب الموقف ذلك وحتى لو أمكن تلافي الحاجة بالأمر بتقليل السعر دون تحديد لتعيين ذلك، فهي حالة استثنائية لا يصار إليها إلا عند الضرورة أو اقتضاء المصلحة العامة الملزمة لذلك. وإننا إذا تأملنا الخلاف بين العلماء ونصوصهم واستدلالاتهم وجدنا أن هذا يشير إلى الحالة الطبيعية فيحرم، وذلك يشير للحالة الثانوية فيجيز، فهم في الواقع متفقون كما يظهر. والخلاصة من ملاحظة الأدلة والنصوص والفتاوي يتلخص ما يلي: أولا: إن الأسعار متروكة للمالكين يسيرون بها حسب العرض والطلب وفي الجو الطبيعي لهما دونما صيرورة إلى ندرة كاذبة واحتكار مذموم. ثانيا: في الحالات التي تتطلب الضرورة أو المصلحة الاجتماعية تدخل ولي الأمر فإن له بمقتضى ولايته التدخل، والله أعلم هذه هي الأولى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2330 البحث الثاني: هو مقدم من إعداد الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد بين الهدف من تحديد أرباح التجار، هو حماية المشتري حتى لا يظلم في شراء ضرورياته ومستلزماته ثم ذهب إلى الهدف من ذلك أيضا هو محاربة الاحتكار والسوق السوداء وقال: لا شك أن هذه أهداف جميلة تتمشى مع ما تهدف إليه الشريعة الغراء من الرحمة بين الناس والعدل والرضا والطمأنينة في البيع ثم بين ما يمكن أن يعترض على هذا بالحرية التي جاءت في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وأن الأصل في المسألة هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . ثم ذكر ما يقوله القرطبي حول هذه الآية، فأخذ منه على أن الجمهور على جواز الغبن في التجارة، إذا عرف قدر ذلك ما تجوز الهبة لو وهب. واختلفوا إذا لم يعرف قدر ذلك، فقال قوم: عرف قدر ذلك أم لم يعرف فهو جائز، بمعنى الغبن، إذا كان رشيدًا حرًّا بالغًا. وقالت فرقة – القول الثاني -: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود وقال ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله: والأول أصح – أي عدد القول بالغبن – لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الأمة الزانية: ((فليبعها ولو بضفير)) ، وقوله عليه الصلاة والسلام لعمر: ((لا تبتعه – يعني الفرس – ولو أعطاكه بدرهم واحد)) (فرس الصدقة) . ثانيا: ما روي في الحديث من رفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يسعر للناس، فقد روى أبو هريرة – رضي الله عنه – أن رجلًا قال: سعر لنا يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنما يرفع الله ويخفض، إني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة)) قال له آخر: سعر، قال: ((أدعو الله)) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2331 ثم بعد أن علق على ذلك وتتبع الروايات، قال: ويبدو أن تغير أحوال الناس وظهور عنصر الجشع وفقدان الأمانة والتقوى في معاملاتهم، وكذلك اتساع الأوضاع التجارية دفع الفقهاء إلى البحث عن حكم البيع بالزيادة المتفاحشة على الثمن المعتاد، ويبدو أن هناك اتفاقًا ظاهرًا في أنه متى علم البائع والمشتري قيمة السلعة التي تباع بها في الأسواق وحصل الغبن بزيادة في الثمن غير معتادة، أو نقص فيه كذلك فالبيع صحيح ولا حرمة فيه، ولو كان البيع فوق فائدة الربا بكثير، وما مثل هذا إلا كزارع وضع قليلا من الحب في أرضه فأنبتت عشرة من الأرادب، فالطريق مشروع والكسب حلال ورزق ساقه الله إلى التاجر والزارع، أما إذا جهلت قيمة السلعة فإن استسلم أحدهما لصاحبه بأن أخبره بجهله وتحدث عن بيع الاستئمان، ثم تحدث عن الغبن وحكمه، لأنه إذا بلغ الثلث يرد. واستخلص إلى أن الذي يتضح من هذا كله: أن الرأي الراجح هو ترك البضائع بغير تحديد سعر، أو تحديد أرباح للتجار على أن تقوم الدولة بواجبها في توفير البضائع وأنواعها، محاربة للغلاء أو الاحتكار أو السوق السوداء كما عليها إقامة الدين بين الناس، وإحياء ضمائرهم بالتقوى، والبعد عن إجحاف الناس وظلمهم أو استغلال حاجتهم للشراء وجهلهم بالأسعار، فعلى الدولة ترك تحديد الأسعار، أو تحديد أرباح التجار مع نشر الوعي الديني وحث الناس على تقوى الله في هذا المجال ومخافته. ثم ذكر رأيه، فقال: إلا أنني أرى أن الأمر إذا استشرى جدًّا وصارت طبقة من الناس لا تخشى الله ولا ترحم الناس كما يحصل فيما يسمونه اليوم بالسوق السوداء، فعلى الدولة واجب محاربة هذه الطبقة، ومحاربة ما يفعلونه بخلق التنافس الصالح في التجارة وتوفير البضائع وأنواعها، وتوعية الناس بكل الوسائل بالأسعار المعقولة للبضائع جملة، جملة. ولا شك أن هذا من أهم مهام الدولة. فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي: أولًا ابتدأ بحثه بتحديد الموضوع فقال: قبل البدء في الموضوع ينبغي أن نحرر المراد منه، فبعض الباحثين في الموضوع قد يفهم أن المراد تحديد الربح للتجار من قبل ولي الأمر. وأعتقد أن هذا ليس مرادًا هنا، إذ لو كان هو المارد لبحث تحت عنوان آخر أخص به، وهو عنوان (التسعير) . على أن التسعير لا يقتصر على التجار، بل يشمل المنتجين من زراع وصناع ونحوهم ... وكذلك هذا الموضوع لا يشمل (الغبن) ، لأن (الغبن) شيء آخر وتحدث بعض الأمر عن الغبن، ثم انتقل لبيان معنى التجارة ومعنى الربح، وتتبع الآيات القرآنية التي وردت فيها كلمة التجارة، ثم ذكر عنوانًا هو: " ابتغاء الربح لإيتاء الحقوق والمحافظة على أصل المال ". وذكر حديث الترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا من ولي يتيمًا له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة)) وبعد أن تتبع النصوص من هذا النحو استخلص سؤالا، وهو: هل حددت النصوص نسبة للربح؟ فيقول: ولكن إذا كانت السنة قد رغبت في الاتجار بالمال، ليحقق ربحًا ينفق منه، ويبقى رأس المال سالمًا. فهل أشارت السنة إلى تحديد نسبة معينة للربح، يفرضها التاجر على نفسه، أو يفرضها عليه المجتمع، لا يجوز له أن يتعداها؟ الواقع أن المتتبع للسنة النبوية، والسنة الرشيدة، وقبل ذلك القرآن الكريم، لا يجد أي نص يوجب، أو يستحب، نسبة معينة للربح، ثلثًا أو ربعًا أو خمسًا، أو عشرًا، مثلا، يتقيد بها ولا يزاد عليها. ولعل السر في ذلك أن تحديد نسبة معينة لجميع السلع، في جميع البيئات وفي جميع الأوقات، وفي جميع الأحوال، ولجميع الفئات، أمر لا يحقق العدالة، ثم أخذ يستدل على هذا المعنى ويؤكده، وانتهى إلى أن المقصود أنه لا يوجد في نصوص القرآن الكريم، ولا في السنة ما يجعل للربح حدًّا معينًا، أو نسبة معلومة، والظاهر أن ذلك ترك لضمير الفرد المسلم، وعرف المجتمع من حوله، مع مراعاة قواعد العل والإحسان، ومنع الضرر والضرار، التي تحكم تصرفات المسلم، وعلاقاته كلها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2332 وأكد بعد ذلك هذا ولم أجد في كلام الفقهاء – في حدود ما أتيح لي الاطلاع عليه ولم أبحث كل البحث – ما يدل على تحديد نسبة معينة للربح يلتزمها التاجر في تجارته. ثم يشتم من كلام الزيلعي أن التعدي الفاحش بأنه البيع بضعف القيمة، فقد عرف الزيلعي التعدي الفاحش بأنه البيع بضعف القيمة، ولكنه لم يبين المراد بالقيمة، وهل هي ثمن المثل؟ أو القيمة هي ثمن الشراء؟ ثم بين مشروعية الربح إلى مائة بالمائة وأورد الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وقعت في حياته وأقرها كحديث حكيم بن حزام: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بدينار يشتري له أضحية، فاشتراها بدينار وباعها بدينارين، فرجع فاشترى له أضحية بدينار، وجاء بدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتصدق به النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له أن يبارك له في تجارته. ثم انتقل إلى أكثر من هذا وهو مشروعية الربح أكثر من ذلك. ومن الأدلة على مشروعية الربح بغير حد – إذا لم يأتِ عن طريق غش ولا احتكار ولا غبن ولا ظلم بوجه ما – ما صح أن الزبير بن العوام رضي الله عنه، أنه اشترى أرض الغابة بمائة وسبعين ألفًا وباعها بمليون وستمائة ألف. ثم قال، وأحب أن أنبه على أن دلالة الوقائع التي ذكرناها – وقد بين عدة وقائع والحديث والواقعة – ثم قال: وأحب أن أنبه هنا على أن دلالة الوقائع التي ذكرناها في العصر النبوي والعصر الراشدي، على جواز بلوغ الربح في بعض الأحيان إلى ضعف رأس المال، أو أضعافه، لا تعني أن كل صفقة يجوز فيها الربح إلى هذا الحد، فإن الوقائع التي ذكرناها من حديث عروة، وحديث حكيم بن حزام – إن صح – وحديث عبد الله بن الزبير، هي في الحقيقة وقائع أعيان أو أحوال لا عموم لها، ولا يمكن أن يؤخذ منها حكم عام دائم مطرد، لكل تجار الأمة في كل زمان ومكان، وفي كل الأحوال، وكل السلع، ولا سيما الذين يتاجرون في السلع الضرورية لجماهير الناس. ثم بين الربح المحرم، وربح الاتجار بالمحرمات، ثم الربح عن طريق الغش والتدليس، ثم التدليس بإخفاء سعر الوقت في بيع الاستئمان، وما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من البيوع وأسباب ذلك ثم قال: فهذه الأخبار في المناهي والحكايات تدل على أنه ليس له أن يغتنم – أي التاجر – فرصة وينتهز غفلة صاحب المتاع، ويخفي من البائع غلاء السعر أو من المشتري تراجع الأسعار، فإن فعل ذلك كان ظالمًا تاركًا للعدل والنصح للمسلمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2333 وبين الربح عن طريق الغبن الفاحش فقال: ينبغي أن لا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به في العادة، فأما أصل المغابنة فمأذون فيه لأن البيع للربح ولا يمكن ذلك إلا بغبن ما، ولكن يراعى فيه التقريب وأتى بنصوص تؤكد ذلك، ثم تحدث عن الاحتكار، وعن المواد التي يدخلها الاحتكار، وترجيحه أن كل ما يحتاج إليه الإنسان يدخله الاحتكار. وختم الحديث بهذه الخاتمة التي تعبر عن رأيه. وإذا كان الأصل جواز الربح بغير نسبة محددة للتاجر الملتزم بأحكام الإسلام وتوجيهاته في البيع والشراء، وترك السوق للعوامل الطبيعية، وهو ما يعبر عنه اليوم بقوانين العرض والطلب، دون تلاعب أو تدليس أو تدخل مفتعل، لإغلاء الأسعار على عموم الناس ... فهذا لا يمنع ولي الأمر المسلم عندما يوجد شيء من ذلك – أن يتدخل بمقتضى عموم ولايته ومسئوليته، لتحديد أرباح التجار بنسب معينة، قد تتفاوت بتفاوت السلع، وبمشورة أهل الرأي والبصيرة، كما عبر علماؤنا السابقون رحمهم الله تعالى. وهذا هو موضوع (التسعير) ومتى يجوز، ومتى لا يجوز، وما شروطه ... إلخ، وهو لا يخص التجار وحدهم، بل يشمل المنتجين أيضًا، وهو جدير ببحث مستقل بعنوانه الخاص والخلاصة التي نخرج بها من هذا البحث تتمثل فيما يلي: 1- أن ابتغاء الربح في التجارة أمر جائز ومشروع، بل هو مأمور به لمن لا يحسنون الاتجار لأنفسهم كاليتامى. 2- أن النصوص لم تحدد نسبة معينة للربح، بحيث لا يجوز تعديلها، بل وجد في السنة ما يدل على جواز بلوغ الربح إلى ضعف رأس المال أو أضعافه. 3- أن جواز الربح الكثير لا يعني أنه مرغوب فيه دائمًا، بل القناعة بالربح القليل أقرب إلى هدي السلف وأبعد عن الشبهات. 4- أن الربح لا يحل للتاجر المسلم، إلا إذا سلمت معاملاته التجارية من الحرام، فأما إذا اشتلمت على محرم كالاتجار في الأعيان المحرمة أو التعامل بالربا أو الاحتكار أو الغش والتدليس، أو إخفاء سعر الوقت أو التطفيف ونحوها فإن ما ترتب عليها من ربح يكون حرامًا. 5- أن القول بأن التجار أن يربحوا بالحلال ما شاؤوا، في حدود القيم والضوابط التي ذكرناها، لا ينفي حق ولي الأمر المسلم في تحديد مقدار الربح أو نسبته، وخصوصًا في السلع التي يحتاج عموم الناس إليها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2334 البحث الرابع، هو بحث الشيخ حمداتي ماء العينين: هو افتتحه بمقدمة حول تحديد الأرباح ثم عرف التجارة من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تعرضت لذكر التجارة، وفي المبحث الثاني عرف بيع المرابحة المتعارف عليه، واستخلص ضرورة مراقبة أرباح التجار من هذا النوع، وأن وجوب مزيد أحكام في التنظيم وفي المبحث الثالث حلل أحكام التسعير، بعد تعريفه يبين أن الأساس هو الحديث الشريف، والقائل أن الله هو القابض، الباسط، والرازق، والمسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطالبني بمظلمة في نفس ولا مال، غير أن تبدل الأحوال واختلاط المسلمين بغيرهم حمل عمر على التدخل في شأن أحوال السوق، واستعرض أقوال أمهات الكتب، وفي المبحث الرابع استعرض بعض الشواذ التي يجب أن يسلم منها البيع، حتى يكون الربح الذي يجنيه منه التاجر ملكًا حلالًا، مبينًا من خلال هذه النقطة جملة من البيع المنهي عنها كالخلابة بجميع صورها، وتلقي الركبان، وغيرها من البيوع الفاسدة بحكم القرآن والحديث وفي النقطة الخامسة تكلم عن الاحتكار بصفته إحدى الوسائل التي تمكن التاجر " من أرباح يجب أن يحال بينهم وبينها، لما فيه من مضرة للمسلمين، ومخالفة للنصوص الصريحة في السنة. أما النقطة السادسة، فقد خصصها لما سماه " بمبررات تدخل الدولة في أرباح التجار " مبينًا أنها ترتكز على عدم تمكن روح الإسلام من الناس، وعدم تحرج الإنسان اليوم من الكذب، وقال بالحرف: يمكن أن نخرج من كل ما سبق بملاحظات أساسية هي أن مراقبة وتحديد أرباح التاجر لها أكثر من أصل في الشريعة الإسلامية، سواء أكان الربح عن طريق عقد مساومة أو عقد بيع. فقد نظمت كتب الفقه الإسلامي ذلك تنظيمًا محكمًا، وبعد أن عدد الصور التي اعتمدها لمبررات التدخل لتحديد ربح التجار ومراقبتهم، أنهى بخاتمة هذا مجملها: إن أهم ما يمكن أن تهتم به المؤسسات الإسلامية – في نظرنا – انطلاقًا من توصيات المجمع الفقهي هو سن قانون إسلامي تجاري، يستطيع المسلم بوساطته التعامل مع المصارف داخل العالم الإسلامي وخارجه بعيدًا عن الربا، فقال بأن التجربة أعطت على أن الشريعة الإسلامية أكثر استجابة لتلبية جميع المستجدات بإيجاد الحلول الصالحات لها، ولكنها مهمشة مع الأسف من أبنائها قبل غيرهم، وألح على أن الشعارات والتوصيات وفتاوى العلماء وحدها لا تكفي، ما لم تقم الجهات الرسمية في العالم الإسلامي بتبني الشريعة تطبيقًا لا ادعاء، هذا هو ملخص البحث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2335 البحث الخامس، هو البحث الذي تقدمت به وسأختصر على بعضه، هو – في نظري – أن هذا العنوان يحتمل: أولًا: تحديد مقدار نسبة الربح من رأس المال من قبل الشارع، والتزام المؤمن بتطبيق حكم الشريعة، وهذا أمر لم أجد فيما وقفت عليه نصًا، لا في القرآن ولا في السنة ولا في كتب الفقهاء، يحدد الربح بنسبة لا يجوز تجاوزها، خاصة وأن التاجر معرض للخسارة والربح على حد سواء، فلما كانت خسارته لا تضمن، وكساد سلعه لا يضمن فكذلك ربحه ينبغي أن يكون فيه ما يغطي نفقاته، واحتمال خسارته التي ربما تصل إلى رأس المال كله. ثانيا: يحتمل هذا العنوان تحديد النسبة التي إذا تجاوزها غدا التاجر غابنًا للمشتري، وهذه قضية أخرى هي قضية " الغبن " واختلاف الفقهاء فيها. الثالث: وهو الذي أرى أنه هو المقصود بالعنوان، هو تدخل السلطة لتحديد ربح التجار، وهو " التسعير " والتسعير: أوسع تعريف وجدته للتسعير هو الذي جاء في (مطالب أولي النهى) ، هو تقدير السلطان أو نائبه للناس سعرًا، وإجبارهم على التبايع بما قدره. وحكم التسعير: لا شك أن التسعير تقييد لحرية البائع، وعدم اعتبار لرضاه أو سخطه بالقيمة التي يحددها صاحب السلطة، وعنصر الرضا شرط أساسي لسلامة العقود، والضغط على إرادة البائع لبيع سلعته بثمن محدد من إرادة صاحب السلطة هو إكراه، وأمر السلطان إكراه بالإجماع، إلا أن هذا الإكراه، هل هو إكراه بحق فلا إثم فيه، أو هو إكراه بغير حق، فالحاكم المسعر آثم، أو المقام مقام تفصيل؟ للإجابة عن هذا لا غنى عن الرجوع إلى القرآن والسنة، أما القرآن فلا نجد فيه في التسعير إلا الآية العامة التي هي قاعدة من قواعد التعامل، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . فالنهي عن أكل المال بالباطل، واشتراط الرضا في التعامل من القواعد العامة التي تتنزل على الوقائع بالاجتهاد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2336 ثانيا: السنة: فمن ذلك الحديث الذي رواه أنس بن مالك، قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله سعر لنا، فقال: ((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال)) ، أخرجه أبو عيسى الترمذي، وقال: حسن صحيح وكذلك الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري، والحديث الذي رواه أبو هريرة فالأحاديث متصلة عن أبي هريرة، وعن أبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك تتفق كلها: أولًا: على أن الأسعار ارتفعت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثانيا: أن الصحابة طلبوا تدخل النبي صلى الله عليه وسلم لتحديد السعر. ثالثا: أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من التسعير. رابعًا: أنه لم يستجب لطلبهم، معللًا رفضه بكون التسعير مظلمة، يخشى أن يطلبه أحد بها يوم القيامة، وإن الظلم حرام.فظاهر الأحاديث تقتضي المنع من التسعير أيضا، كما أن ظاهر القرآن يقضي بالمنع أيضًا، ولذلك فإن بالرجوع إلى كلام فقهاء الأئمة الأربعة نجدهم يجمعون على أن الأصل في التسعير هو التحريم، فمذهب الحنفية: فقد جاء في الفتاوي الهندية: (ولا يسعر بإجماع) ، ومذهب المالكية، سئل ابن القاسم عن قول مالك: " ينبغي للحاكم إذا غلا السعر واحتاج الناس أن يبيعوا ما عندهم من فضل الطعام أن يبيعوا؟ قال: إنما ما يريد مالك طعام التجار الذين خزنوا للبيع من طعام جميع الناس، إذا اشتدت السنة واحتاج الناس إلى ذلك "، ولم يقل مالك: يباع عليهم، ولكن قال: يأمر أي السلطان بإخراجه، وإظهاره للناس، ثم يبيعون ما عندهم مما فضل عن قوت عيالهم كيف شاؤوا، ولا يسعر عليهم. قيل: فإن سألوا الناس ما لا يحتمل من الثمن قال: هو ما لهم يفعلون فيه ما أحبوا، لا يجبرون على بيعه بسعر يوقت لهم. هم أحق بأموالهم، ولا أرى أن يسعر عليهم. وما أراهم إذا رغبوا وأعطوا ما يشتهون إلا يبيعوا، وأما التسعير فظلم لا يعمل به من أراد العدل. ومذهب الشافعية، هو يحرم التسعير ولو في وقت الغلاء، بأن يأمر الوالي السوقة بألا يبيعوا أمتعتهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2337 ومذهب أحمد، قال ابن حامد: ليس للإمام أن يسعر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون، وهذا هو مذهب الشافعي، وكما استدل أصحاب المذاهب على أن الأصل في التسعير المنع بالقرآن والسنة. وكذلك استدلوا المنع بالمصلحة التي يجب مراعاتها وبالعدل الذي هو المعيار الذي يجب أن يضبط تدخل صاحب السلطة يقول الشوكاني: ووجه المنع من التسعير أن الناس مسلطون على أموالهم، والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من النظر إلى مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، فالشوكاني يثير قاعدة مقطوعًا بها، إن الحاكم ليس له أن يحابي طرفًا ليستفيد طرف آخر، ولما كانت مصلحة البائع أن يبيع سلعته بالثمن الذي يرغب فيه، دون أن يلزم أحدًا بالشراء منه، وكانت مصلحة المشتري أن يحصل على مرغوبه بأقل ثمن ممكن، ولما تعارضت المصلحتان وجب على الحاكم أن يعتزل عن التدخل، وأن يترك لكل من المتبايعين الاجتهاد لمصلحة نفسه، ذلك هو شأن البيع الذي هو باتفاق مبني على المكايسة، والمماسكة. فهذه النظرية التي يدافع عنها الشوكاني هي نظرية العرض والطلب في تحديد الأسعار، وقبول كل طرف بالنتائج المترتبة على ذلك، فكما يعجز الحاكم عند رخص الأسعار وخسارة التجار أن يفرض على المشترين سعرًا أرفع، فكذلك ليس له إذا غلت الأسعار أن يخفض منها لفائدة المشترين، وهذه النظرية هي نظرية سليمة في بادئ الرأي لو كانت الحياة تجري على نسق وفرة العرض وقلته، ووفرة الطلب وضآلته، ولكن التجار قد يتدخلون لإعطاء صورة مفتعلة ليوفروا لأنفسهم أرباحًا أكثر، كما سنبينه. فهذه النصوص التي ذكرناها، والأدلة المستندة للقواعد التي حللناها، يعارضها من ناحية أخرى أدلة وقواعد يمكن الاستناد إليها، فمن ذلك الاحتكار فقد ورد في الاحتكار أحاديث كثيرة رويت بطرق متعددة تدل على تحريمه، فقد روى مسلم قال: كان سعيد بن المسيب يحدث أن عمر بن عبد الله العدوي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من احتكر فهو خاطئ)) . إن تتبع المذاهب في الاحتكار يدل على اتفاق المذاهب في الحقيقة وإن ظهر اختلاف بينها – بعد أن بينت كل المذاهب في الاحتكار في بادئ الرأي – ذلك أن المذاهب الأربعة تتفق على أن الاحتكار المحرم هو ما كان طريق التحصيل عليه الشراء من السوق، وإن المنتج والجالب للسلعة من مكان بعيد حر التصرف في سلعته، له بيعها وادخارها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2338 ثانيا: إن الادخار في الوقت الذي يكثر فيه العرض كثرة تفوق الطلب لا حرمة فيه، بل هو مستحب حتى لا تهبط الأسعار هبوطًا يعزف معه المنتج عن الإنتاج. ثالثا: أن العلة التي يظهر بين الحين والآخر مؤثرة في الترحيم هو قولهم: تعلق حق العامة إذا لم يضر ذلك بالناس. والضرر – كما صرح به ابن العربي – هو غلاء الأسعار، ومن هذه النقطة يظهر وجه ربط الاحتكار بالتسعير، لماذا أتيت به؟ فالمذاهب الأربعة تحرم الاحتكار، وتعطي المحتسب الحق في التدخل حفاظًا على استقرار الأسعار، فهم جميعًا يعتبرون أن استقرار الأسعار مصلحة عامة، وأن الحرية مصلحة خاصة تهدر في مقابلة المصلحة العامة. وأما التفرقة بين الطعام وغيره واختلافهم في تحديد الأطعمة، وإدخال اللباس وعدم إدخاله، إنما هو اختلاف في التدقيق في النظر، فمن تعمق في تقدير الحاجات الإنسانية التي لا بد منها لم يقصر تحريم الاحتكار على القمح والشعير، ومن رأى أن ذلك هو الضروري لبقاء الحياة قصر التحريم، والذي يظهر أن الاحتكار على مستويين المستوى الأول: ما تستطيع المجموعة مقاومته بالامتناع عن الشراء حتى يضطر المحتكرون إلى النزول بسلعهم للسوق. وهو مستوى من التوكل عند المؤمن ورضا بالمقدور، وعند غير المؤمن مستوى متدنٍ، وعلى كل فإن تهافت البشر على ما ليس ضروريًّا لحياتهم يتحملون بتهافتهم قسطًا من اندفاع المحتكر للاحتكار، فالمسئولية موزعة ولذا رأى أكثر الفقهاء أنه لا حرمة فيه والمستوى الثاني: هو أن لا تستطيع المجموعة التأثير على المحتكرين لكون الاحتكار في عيش البشر وما لا يصبرون على اقتنائه، وهنا فالاحتكار طلبًا للغلاء حرام إذ ترضخ الجماعة للأسعار التي يفرضها المحتكرون، فمن راعى هذه الدقة قصر التحريم على الضروري، ومن راعى أن المستوى العام للمجموعات البشرية أنها لا تصبر على المفقود عمم في تحريم الاحتكار. وعلى كل فإن التأثير في غلاء الأسعار هو الذي أباح للمحتسب التدخل وحرم الاحتكار على المحتكر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2339 وبجانب الاحتكار أيضًا – ما يدل على تدخل الحاكم للتسعير – فقد ورد في الشريعة ما يبيح انتقال الملك بقيمة المثل إلى غير صاحبه وبدون رضاه، فمن ذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم ومالك عن عبد الله بن عمر من أعتق شركًا له في عبد فكان له ما يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق عنه ما عتق. فالحديث نص على أن المعتق لنصيبه من العبد المشترك عليه إن كان واجدًا أن يدفع إلى شركائه قيمة حصصهم بعد أن يقوم العبد بقيمة المثل، ومن ذلك أيضا الحديث الذي رواه البخاري وأحمد، عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة)) ، أجمع العلماء على جواز الأخذ بالشفعة وهي في حقيقتها إجبار المشتري على تمكين الشريك من الحصة التي اشتراها بنفس الثمن الذي اشتراها به، فهي تتضمن خروج الملك عن مالكه بغير رضاه، وأن القيمة محددة هي ثمن الشراء ليس له أي أدنى حظ من الربح. فإذا كان الشارع قد أباح انتزاع ملكية العبد من سيده جبرًا وبسعر محدد هو سعر المثل لتحقق العتق الذي يتشوف له الشارع، وإذا كان الشارع قد أجبر المشتري للشقص على بيع شقصه بالثمن الذي اشتراه به الدفع الضرر عن الشريك وهي مصلحة جزئية لا أفضلية للشريك إلا بالسبق الزمني في التملك، فالتسعير أولى بالقبول، ولذا فإن العلماء بعد اتفاقهم على منع التسعير، أخذوا ينظرون في القضية نظرة جديدة، ومن ذلك ما ذكره ابن العربي في العارضة، وقال سائر العلماء بظاهر الحديث أي بمنع التسعير، ثم قال: والحق التسعير وضبط الأمر على قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد من الطائفتين، وذلك قانون لا يعرف إلا بالضبط للأوقات ومقادير الأحوال وحال الرجال والله الموفق للصواب وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق وما فعله حكم، لكن على قوم صح ثباتهم واستلموا إلى ربهم وأما قوم قصدوا أكل أموال الناس والتضييق عليهم فباب الله أوسع وحكمه أمضى. فابن العربي نظر إلى القواعد الشرعية فرأى أنها جاءت بالعدل وأن لا يمكن المهرة من الإثراء بوساطة التلاعب في الأسواق وإغلاء الأسعار وأن الحاكم قد نصب لإقامة العدل بين الناس، وأن سياسة البشر الذين يغلب عليهم تقوى الله والإيثار تخالف سياسة البشر الذين همهم ملء خزائنهم والاستئثار وطغيان حب الذات والأنانية ولو بالتضييق على الناس فما حكم به صلى الله عليه وسلم حق في الوقت الذي حكم به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2340 معنى ذلك أن هذه قضية عين لا عموم لها، هذه من ناحية ومن ناحية أخرى فإن نص الحديث لا يدل على أن الغلاء كان نتيجة عبث بالسوق وإنما ارتفع الثمن في سوق المدينة تبعا لعوامل موضوعية لا دخل للتجار فيها، ولذلك ابتدأ صلى الله عليه وسلم بالكشف عن الفاعل في الغلاء بقوله: ((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق)) فارتفاع الأسعار عهده كانت متسببة عن تصرف إلهي حكيم في الكون تعرف آثاره ولله الحجة البالغة وهو ما يفهم عنه الرواية الأخرى بل أدعو الله. إذن هما اتجاهان الأول لأصحاب المذاهب لا يتدخل السلطان ولا نائبه في التسعير أصلًا. الاتجاه الثاني أن للسلطان أو نائبه حق التدخل في التسعير إلا أن هذا التدخل في التسعير للمصلحة قد اختلف فيه الفقهاء تبعًا لتحديدهم للمصلحة المسوغة لذلك كما أن ميادين التدخل قد تكون في السلع المعروضة في السوق عند التجار وقد تكون في السلع المجلوبة وقد تكون في الخدمات البشرية، وقد تكون في الانتفاع بالمباني والآلات. القسم الأول – تدخل السلطة في أثمان المبيعات: الحنفية يقول الطوري، إن الثمن حق البائع وإليه تقديره فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا كان أرباب الطعام يحتكرون على المسلمين ويتعدون تعديًّا فاحشًا وعجز السلطان عن منعه إلا بالتسعير، والتعدي الفاحش هو تضعيف القيمة، يقول في الدر المختار وأفاد أن التسعير في القوتين (أي قوت البشر والأنعام) ثم قال لكن إذا تعدى أرباب غير القوتين وظلموا العامة فيسعر عليهم الحاكم بناء على قول أبي يوسف، فالحصكفي جعل القول بتسعير الحاكم في غير القوتين إذا أضر بالعامة غير منصوص لأئمة المذهب، ولكنه مخرج على قول أبي يوسف أن كل ما أضر حبسه بالناس فهو احتكار في أصل مذهب الحنفية أن الإمام أو نائبه لا يتدخل في تسعير قيم المبيعات إلا في القوت إذا تلاعب التجار بالسوق حتى بلغ الضعف نصًّا في المذهب وغير القوت قياسًا على القوت. المالكية: سئل القاضي أبو عمر بن منظور عن التسعير، فكان مما أجاب به أهل الأسواق والحوانيت الذين يشترون من الجلاب وغيرهم جملًا، ويبيعون ذلك على أيديهم قيل هم كالجلاب الحكم واحد في كل ما مضى لا فرق قاله عبد الله بن محمد والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله، وقيل إنهم بخلاف الجلاب، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا غلبوا على الناس، وأن على صاحب السوق أن يعرف ما اشتروا ويجعل لهم من الربح ما يشبه وينهى عن الزيادة ويتفقد السوق فيمنع من الزيادة على ما حد، ومن خالف أمره عوقب بما يراه من الأدب أو الإخراج من السوق إن كان البائع معتادًا لذلك مشتهرًا به، وهو قول مالك في سماع أشهب، وإليه ذهب ابن حبيب، وقال به من السلف جماعة، ولا يجوز عند واحد من العلماء أن يقول لهم بيعوا بكذا وكذا ربحتم أو خسرتم من غير نظر ما يشترون به وإلا أن يقول لهم فيما اشتروه لا تبيعوه إلا بكذا وكذا مما هو مثل الثمن الذي اشتروه به أو أقل. وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون، فلا يتركهم أن يغلوا في الشراء، ولو لم يزيدوا في الربح إذ قد يفعلون ذلك لأمر ما، مما يكون نتيجته ما فيه ضرر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2341 فابن منظور يرى أن على صاحب السوق أن يتدخل بتحديد الثمن كلما تعسف أهل السوق من التجار في مقتضى الحرية، وظلموا الناس دون أن يربط مجال التسعير بقوت أو غيره، والذي ذهب إليه ابن عرفه أن التسعير إنما يكون في القوت خاصة لقوله في تعريفه (تحديد حاكم السوق لبائع المأكول فيه) ، علق الرصاع على هذا بقوله: أخرج به غير المأكول لأنه لا يسعر. وما ذهب إليه منظور من أن الحاكم يسعر على أهل السوق بعد أن ينظر في شرائهم ويترك لهم من الربح ما لا ضرر فيه على العامة وأنه لا يحل له أن يحدد ثمنًا دون نظر إلى معطيات موضوعية للتسعير، وإن هذا أمر متفق عليه يؤكد ذلك ما في سماع أشهب إذ قال صاحب السوق: بيعوا على ثلث رطل من الضان ونصف رطل من الإبل (يعني أن الدرهم يشتري به ثلث رطل أو نصف رطل) ، قال مالك: ما أرى به بأسًا إذا سعر عليهم شيئًا يكون فيه ربح يقول لهم من غير اشتطاط. الشافعية: اقتصر صاحب تكملة المجموع على نقل كلام ابن القيم. الحنابلة: الذي أفاض القول في التسعير هو شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، يقول ابن القيم: وأما التسعير فمنه ما هو ظلم محرم ومنه ما هو عدل جائز. فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه أو منعهم مما أباح الله فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعارضة بثمن المثل ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عرض المثل فهو جائز بل واجب. وابن القيم يلتقي مع ابن العربي، في أن التسعير لا يحكم عليه حكم مطلق ولكن ينظر الظلم فهو واجب، وبهذا يصبح الخلاف هو في تحقيق المناط أي في بيان الأحوال التي تحقق فيها الظلم لصاحب السلعة، فيكون تصرف صاحب السوق حرامًا، وفي الأحوال التي ظلم فيها أرباب السلع غيرهم فيكون رفع ظلمهم واجبا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2342 أنواع صاحب السلعة: الجالب والمنتج: قد يكون صاحب السلعة جالبًا للسلعة والرأي الغالب أن الجالب لا يسعر عليه، أصله ما رواه مالك في موطئه أن بلغه، أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- قال لا حكرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من إذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء أو الصيف، فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء الله وليمسك كيف شاء الله، فهذا الحديث يدل على حرية الجالب في التسعير لا يتسلط عليه، وكذلك المنتج يبيع سلعته بالثمن الذي يرغب فيه لا يتسلط عليه الحاكم فيحدد له الثمن إلا أنه إذا كان أهل السوق قد جرى بينهم سعر فجاء الجالب ليرفع في الثمن أو ليخفض فيه فإنه لا يتعرض له في تحديد الثمن، ولكن هل يرفع من السوق أولًا؟ خلاف، فمالك اعتمد ما رواه من حديث عمر رضي الله تعالى عنه مع حاطب بن أبي بلتعة فعن سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه أن عمر بن الخطاب مر على حاطب بن أبي بلعة، وهو يبيع له زبيبًا بالسوق فقال له عمر بن الخطاب: إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا، فهم بعضهم أن حاطبًا كان يبيع بالدرهم أقل مما يبيع غيره، فنهاه عمر عن ذلك ليحط من الثمن ويسير مع ثمن أهل السوق، وقيل بل إن حاطبًا كان يبيع بالدرهم أكثر مما يبيع به غيره وهذا مفضٍ للخصام بين من يخفض في الثمن وأهل السوق، ولذلك لم يفرق كثير من العلماء في الخروج عن الثمن بين الزيادة والنقص، قال ابن القصار: اختلف أصحابنا في قول مالك ولكن من حط سعرًا، فقال البغداديون أراد: باع خمسة بدرهم والناس يبيعون ثمانية بدرهم، وقال قوم من البصريين أراد من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة فيفسد على أهل السوق بيعهم وربما أدى إلى الشغب والخصومة، قال ابن القصار وعنه أن الأمرين جميعًا ممنوعان ورأي ابن رشد هذا – الذي أيده – هو غلط ظاهر إذ لا يلام أحد على المسامحة في البيع والحطيطة فيه، بل يشكر على ذلك فعله لوجه الناس، ويؤجر إن فعله لوجه الله بهذا عقب صاحب الطرق الحكيمة. يتبين مما سبق أن التسعير لا يعطي لصاحب السلطة الحق في التعسف في الحكم وفرض السعر على الناس حسب تقديره الخاص ولا يمكنه من التسعير بالاعتماد على رأي المشترين وإنما يجمع هيئة تتألف من التجار والخبراء، ويعتمد المعطيات الحقيقية من ثمن الشراء وما يرغب التجار في الاستمرار على القيام بدورهم من إيصال السلع إلى الراغبين فيها، وعلى هذا فالسعر غير ثابت وإنما هو تابع لتقلب السوق واختلاف القيم، يقول صاحب التيسير في أحكام التسعير: يجب على صاحب السوق الموكل لمصلحته أن يجعل لهم من الربح ما يشبه ويمنعهم من الزيادة عليه ويتفقدهم في ذلك ويلزمهم إياه كيفما يتقلب السعر زيادة أو نقصانًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2343 مخالفة التسعير: إذا تدخل صاحب السلطة وسعر على الناس فإنه يجب أن يطاع، لأن القضية محل خلاف وحكم الحاكم يرفع الخلاف، ويلزم كل الناس احترام حكمه ما دام غير مناقض لأصل يقيني. وإذا خالف البائع وباع أكثر من القيمة فالبيع صحيح، ففي الفتاوي الهندية إن سعر فباع الخباز بأكثر مما سعر جاز بيعه، ويقول الشربيني: فلو سعر الإمام عزر مخالفه بأن باع بأزيد مما سعر لما فيه من مجاهرة الإمام بالمخالفة وصح البيع إذا لم يعهد الحجر على المختص في ملكه أن يبيع بثمن معين، والتعزيز عند الحنفية لا يكون إلا إذا تكرر من التاجر المخالفة، يقول الطوري: وينبغي للقاضي والسلطان أن لا يجعل بعقوبة من باع فوق ما سعر به بل يعظه ويزجره، وإن رفع إليه ثانيًا فعل به كذلك وهدده وإن رفع إليه ثالثًا حبسه وغرره حتى يمتنع عنه ويمتنع الضرر عن الناس. أما حكم الشراء بالسعر المحدد: يقول الطوري: ومن باع منهم بما قدره الإمام صح لأنه غير مكره على البيع، كذا في الهداية وفي المحيط إن كان البائع يخاف إذا زاد في الثمن على ما قدره أو نقص في البيع يضربه الإمام، أو من يقوم مقامه، لا يحل للمشتري ذلك لأنه في معنى نقص في البيع يضربه الإمام، أو من يقوم مقامه، لا يحل للمشتري ذلك لأنه في معنى المكره والحيلة في ذلك أن يقول له – أن يقول المشتري للبائع – تبيعني بما تحب وعند الحنابلة يبطل البيع إذا هدد المشتري البائع ويكره الشراء بالتسعير وإن هدد من خالفه حرم البيع وبطل، لأن الوعيد إكراه. وفيما قاله الحنابلة نظر، ذلك أن الإكراه المؤثر في العقد هو الإكراه التعسفي الذي تسلط فيه القوي على الضعيف فيخضعه لإرادته، أما إذا كان الإكراه تطبيقًا لمقتضيات الشرع فلا حرمة فيه ولا بطلان، كما يكره الشفيع المشتري للشقص على تحويله له بثمنه، وكما يكره الشريك شريكه على البيع فيما لا يقبل القسمة، وكما تكره الزوجة زوجها على تنفيذ قضاء القاضي بالنفقة عليها حسبما قدره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2344 أما التسعير في عصرنا الحاضر: أن التسعير في عصرنا الحاضر يختلف عن التسعير في العصور السابقة، كما أنه يختلف أمره من بلد ومن بضاعة إلى بضاعة أخرى ويتبين ذلك مما يأتي: أولًا: جرت بعض البلدان التي لها قوة مالية تغطي احتياجاتها أو تفوقها أنها لا تتدخل في التوريد ذلك أن عملتها لها من الغطاء ما يضمن رواجها بقيمتها، وهذه الدول تبني اقتصادها على قاعدة العرض والطلب، فترفع الأثمان أو تنخفض تبعًا لهذه القاعدة ولا يرى الحاكم أنه في حاجة إلى التدخل وأن عدم تدخله يضمن تدفق السلع للأسواق والمزاحمة، خاصة وقد غدت وسائل النقل وإيصال السلع تشمل البر والبحر والجو، وأصبح التجار في هذه البلدان يعتمدون لتحقيق الأرباح دوران رأس المال، قلما يلجأون إلى الاحتكار. ثانيا: جرت بعض البلدان ذات الاقتصاد الضعيف أن تتدخل في الحركة الاقتصادية من عدة نواح: (أ) لما كانت عملتها لا قيمة لها خارج حدودها، وهي غير ملزمة بمقايضتها لما كانت كذلك كان التوريد خاضعًا لتمكين المورد من العملة التي يقبلها البائع خارج الحدود الوطنية، وهذه العملة ليست من مجهود المورد ولكنها مجهود الأمة، وبهذا الاعتبار، فالمورد يملك رأس مال ناقص تكمله له الدولة من ثروة الأمة، وتنظيم شئون الدولة حصر قائمة الموردين حسب شروط وتنظيمات، وبهذا فإنه يحق للدولة أن تحدد سعر البيع كما تراقب سعر الشراء وهو ما نص عليه ابن القيم لما قال: أن يلزم – أي الحاكم – الناس أن لا يبيع الطعام أو غيره إلا ناس معروفون – إذا وقع هذا – فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون، وهؤلاء يجب التسعير عليهم وألا يبيعوا إلا بقيمة المثل وألا يشتروا إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد العلماء، لأنه إذا منع غيرهم من أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاؤوا أو يشتروا بما شاؤوًا كان ذلك ظلمًا للناس. (ب) إن الدولة تجد نفسها ملزمة لظروفها الاقتصادية والاجتماعية أن توقف غلاء المعيشة وتيسر على ذوي الدخل المحدود اقتناء بعض الضروريات بثمن أخفض من قيمتها الحقيقية، وتعوض ذلك من صندوق الخزينة الفارق بين القيمتين، وهنا لا بد لها من أن تحدد ثمن البيع لأنها في حقيقة الأمر أسهمت في رأس المال، فهي شريكة ومن يشاركها قد دخل على أنه لا يزيد على الثمن الذي حددته. فيظهر أن تدخل الدولة في التسعير هو نتيجة ضعف في الاقتصاد الوطني وأنه كلما كان الاقتصاد قويًّا كانت الدولة في غنى عن ذلك. والله أعلم وهو حسبنا ونعم والوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2345 الدكتور محمد عطا السيد: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك. أود أن أقدم فأقول إن هذه المسألة – أيضًا – من المسائل التي تعاني منها كثير من شعوبنا الإسلامية، بالذات الشعوب ذات الاقتصاد الضعيف، فقد هيمن في هذه الشعوب فئة معينة من التجار ممن ينتسبون إلى التجارة وفرضوا أساليب معينة، وإجراءات معينة، واتجاهات معينة جعلت من أسعار البضائع – يعني – جعلت فيها غلاء سبب معاناة شديدة وحرجًا كبيرًا لهذه الشعوب، والذي يزور الآن كثيرًا من هذه البلاد الإسلامية يجد أن هذه الشعوب: توجد البضائع قي الأسواق، وبضائع أساسية وضرورية لقوتهم وقوت عيالهم يرونها بأعينهم ولا يستطيعون شراء هذه البضائع نسبة للغلاء المتفاحش الذي تباع به هذه السلع، ولذلك أرى – أسأل الله سبحانه وتعالى – أن يوفق هذا المجمع، أن يخرج أيضا بقرار حازم، وفقهي واضح للفئات الثلاثة، وهو ما يبين حدود وحقوق التجار وأيضًا حدود وحقوق التجار وأيضا حدود وحقوق ولاة الأمور في هذه المسألة، وكذلك أيضًا حقوق وحدود عامة المسلمين – فهذه المسألة – هذه المعاناة التي ذكرت ليس فقط هو أنهم يعانون في عدم شراء مستلزماتهم، ولكن تسببت في كثير جدًّا من المفاسد، بأن لجأ عدد كبير من هؤلاء إلى أن يستعملوا وسائل فاسدة لكي يزيدوا من دخولهم ويقابلوا هذا الغلاء، لأنهم وجدوا أنهم لا يستطيعون أن يعالجوا أطفالهم أو يشتروا لهم من المستلزمات الضرورية التي تكفل لهم العيش الصالح، ولذلك تسببت أيضا في مفاسد عديدة في مجتمعنا حتى يحصل الناس على ما يكفل لهم المعيشة لهم ولأطفالهم، فإذن هي مسألة مهمة، وأود – إن شاء الله – أن يوفق اللجنة والمجمع في الخروج فيها برأي واضح، كما ذكر فضيلة المقدم جزاه الله كل خير، أن هذه المسألة يدور فيها – في رأيي، وباختصار – أن الله سبحانه وتعالى كفل في هذه المسألة حقها، وهي حرية الرضا التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2346 فهذا الحق كفله الله عز وجل في كتابه وهو الرضا لكل من يملك، من حقه إذا كان يملك سلعة ويريد أن يبيعها بمطلق رضاه، وله مطلق التصرف، وهذا ما كفلته الشريعة للمالك الحقيقي لأي سلعة، بينت السنة هذا الحق، عندما قال الناس للنبي صلى الله عليه وسلم غلا السعر يا رسول الله فسعر لنا، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسعر، وقال: ((إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد منكم يطالبني بمظلمة من دم ولا مال)) . والنبي صلى الله عليه وسلم هو أرأف الناس بالمسلمين، ولو كان هنالك أي حرج يشكو منه المسلمون، وكانت فيه وسيلة معينة لأن يحدد السعر لفعل، ولكنه بما أوتي من مجامع الكلم ذكر أن هذه مظلمة، وهي في الحقيقة مظلمة، لأنها تنفي حقًّا مؤكدًا في كتاب الله تعالى، وهي هذا الرضا الذي كفله الله تعالى للمتبايعين، لأنهما يملكان هذه السلعة من حقهما. النبي صلى الله عليه وسلم أكد أن هذه المسألة مظلمة وفي رأيي في كل العصور تظل مظلمة أن يتدخل الوالي لتحديد السعر، وقد أبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، لكن هل وقف الشارع الكريم عند هذا الحد، وجلس يترك هذه الفئة تهيمن على الناس وتأكل أموالهم؟ أبدًا هنالك حديث مهم جدًّا أوردته في البحث وما أظن عددًا من البحوث الأخرى أورد هذا الحديث، وهو حديث صحيح بيَّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم - بينما رفض أن يحدد الأسعار، أو أن يأتي بهذه المظلمة، لكن بين فيه قاعدة مهمة جدًا – والحديث هو حديث صحيح رواه مسلم والبخاري وغيرهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يبع حاضر لباد، ودعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) فالمتأمل لهذا الحديث يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أكد فيه حرية التجارة، وحرية التجارة هذه من المسائل – اليوم – التي تعرف فيها الاتفاقيات والمبادلات بين الدول، وبين الأشخاص، وتراقب الدول بعضها بعضًا مراقبة شديدة، في مدى ما تكفله هذه الدولة من حرية وما تكفله لبضائعها، وما تكفله الدولة الأخرى، فأصبح هذا مبدأ هامًّا للنشاط التجاري الصحي بين الدول وبين الأفراد، وأكده النبي صلى الله عليه وسلم منذ زمن بعيد ورفض التسعير لأنه مظلمة ولكنه قال: ((لا يبع حاضر لباد)) ومعنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه المسألة كما ذكر شراح الحديث ((لا يبع حاضر لباد)) هي أن يأتي البدوي بسلعة يريد التسارع في بيعها، مثل الخضار، اللحم، الفواكه، من هذه الأشياء يأتي بها، يريد أن يبيعها سريعًا ويرجع، فيأتي إليه الحضري ويقول له: دعني أغالي لك في بيعها، وكما ذكر ابن عباس في شرح هذا الحديث قال: أن يكون له سمسارًا، فقال: منع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، لأن في ذلك إضرارًا بالغير، فإذن هذا الحديث فيه مبدأ مهم جدًّا في المسألة التي نناقشها الآن وهي أنه بينما أكد النبي صلى الله عليه وسلم أن التسعير مظلمة وسلب الحق أكده الله عز وجل في كتابه الكريم، بين أن لولاة الأمور – وقد بدأ ذلك الفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولنا فيه أسوة – أن لهم التدخل بكل الوسائل الممكنة، وبكل الطرق الممكنة للحد من الغلاء، فتصرفه بأن منع أن لا يبيع حاضر لباد، هذا تصرف واضح، والحكمة منه واضحة، وإذن لولاة الأمور أن يقفوا ويمتنعوا عن هذه المظلمة، وهي في الحقيقة ليست مظلمة فقط، بل تكفل للناس حرية الرضا وحرية التجارة وحسن التعامل بين الناس، لكن في نفس الوقت للدولة إذا تحرت ووجدت أن هنالك أي عوامل أو أي عناصر أو أي مجموعة من الناس تعمل وتخطط أو تجهد لكي ترفع لأسعار وتغنى – كما هذه الفئة من الناس التي ذكرها فضيلة الشيخ المقدم – على الدولة أن تحاربها بكل الوسائل للدولة أن تسن من اللوائح ما يكفل سوقًا صالحة، ورخاء في الأسواق، وعلى الناس طاعة هذه الدولة في هذه المسألة، والمسائل التي – أيضا – تقوم بها الدولة هي على الدولة وعلى ولاة الأمور في الدول الإسلامية مهام عظيمة وهي توفير البضائع للناس، وهذه مسألة – طبعًا- حسب ما يفتح الله عز وجل إذا توفرت هذه البضائع صارت السوق سوقًا حرة وللناس حرية التعامل فيها وحرية والتداول، وكذلك في رأيي أن على الدولة الصالحة التي تقتدي أو تشعر بواجبها في هذا الدين أن تحيي ضمائر الناس بالتقوى، النبي صلى الله عليه وسلم مدح التاجر الصدوق الأمين، وقال: إنه مع النبيين والصديقين والشهداء، وبين الخيارات المختلفة حتى تكفل هذا الرضا، وهذا التسامح في البيع، فإذن الدولة يجب زيادة على ما يجب تكفله من وفرة البضائع حتى تحارب السوق السوداء وغيرها من الأشياء، وما تكفله الدولة أيضًا من إحياء الضمائر بالتقوى والعمل الصالح والنزاع بين الناس في هذه الأمور، أنا في رأيي هذه مهمة كبيرة جدًّا على ولاة الأمور، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحق في التدخل، وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2347 الدكتور منذر قحف: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. أنا في الحقيقة عندي بضعة نقاط وأرجو أن أدعو أيضًا إخواني الاقتصاديين الحاضرين لأن يتكلموا في هذا الموضوع، أحب أن أبدأ بالنقطة الأخيرة التي انتهى إليها الأخ الدكتور حمد عطا السيد، الحقيقة واضع المسلمين وواقع دولهم أن الدولة كانت المتسبب الأول والأكبر، وفي معظم الأحيان الوحيد في ما نسيمه من جشع التجار، واحتكار التجار، وانتفاعهم، والحقيقة أن الدولة هي المنتفعة أيضًا، الدولة بمعنى موظفيها، بمعنى من يتدخل، من يضع هذه اللوائح، من ينفذ هذه اللوائح، من يعطي التراخيص، ومن يمنع التراخيص، هي كانت المتسببة وهي المنتفعة وهؤلاء كما هو مألوف وملحوظ ومرئي هم شركاء ما يسمى بفئة التجار الجشعة، هذا واقع المسلمين، وهذا تدل عليه تجربة الدول الإسلامية والدول غير الإسلامية خلال نصف قرن من الزمان، ليست فئة التجار هي المشكلة بل أن تنظيمات الدولة وتراخيصها وفئة البيروقراطية التي في الدولة هي التي سببت وعملت وانتفعت من هذه التدخلات، التسعير: أظن ينبغي أن نميز تمييزًا مهمًّا بين تسعير على فرد كما ورد في المثال الذي " أعتق عبدًا له فيه شرك " هذا تسعير على فرد، والتسعير هنا بسعر المثل بسعر السوق بمعنى آخر، بالسعر الذي يتكون بحرية التداول بالسوق، وبين التسعير على الأمة كلها، التسعير على الأمة أمر يمنع السلع، يمنع تداولها، يمنع الإنتاج، يؤثر على كفاءة الإنتاج إلى حدود بعيدة، وهذا أمر مجرب، لا شك أن هناك بعض الظروف التي تقتضي نوعًا من تدخل الدولة، الظروف الاستثنائية، ظروف عدم وجود المواد أصلًا، عدم توفرها، ظروف بطبيعتها استثنائية جدًا، فإذا جعل من هذا الاستثناء القليل النادر، إذا جعل منه قاعدة أدى ذلك إلى هبوط عام في الاقتصاد وفي كفاءة الإنتاج وكفاءة التوزيع، وأدى إلى تسلط فئات هي أكثرها من الفئات التي تصنع هذه الأنظمة وتضع هذه اللوائح، بعض السلع بطبيعتها تتضمن معنى الاحتكار، سلعة لا تنتج إلا باستعمال أموال كبيرة ولا يمكن توزيعها بطريقة تنافسية، مثل الكهرباء مثلا، إنتاج الكهرباء، هذا قد يأتي به موضوع أن تحدد الدولة أو أن تشترك الدولة في تحديد نوع ما من الأسعار على الناس بحيث تتوازن مصالح المستهلك والمنتج، وحتى في هذه السلع يلاحظ أن تدخل الدولة بالتسعير يؤدي في معظم الأحيان إلى عدم موافقة المنتجين لهذه السلع للتطورات الفنية الحديثة، بأن يتخلف الإنتاج عندهم وأن تبقى طريقة الإنتاج بطرق قديمة غير متطورة، وهذا أيضًا أمر ينبغي أن يلحظ كثيرًا عند التسعير حتى في مثل هذه الأحوال، كنت أود أن يركز الموضوع على مسألة تحديد أرباح التجار التي أشار إليها الدكتور القرضاوي، وهي موضوع مختلف عن مسألة التسعير، أحب أن أستمع من السادة العلماء إلى رأي في ما هي العناصر التي يلحظها التاجر المسلم؟ الضمير المسلم، عندما يحدد سعره، عندما يحدد ربحه دون تدخل الدولة، دون أي شيء، ما هي العناصر؟ ما هي المؤثرات التي تجعله يقبل بربح ما ولا يقبل بربح آخر؟ وهل يختلف الإنسان المسلم في هذا عن غيره من غير المسلمين؟ وهل يؤثر الإسلام بأن يجعل في نفس الإنسان عناصر واتجاهات تؤثر وتحدد له منحاه في ما يقبله من ربح، وما لا يقبل به؟ هذا غير تدخل الدولة أيضًا في تحديد الأسعار وهي نقطة مهمة جدًّا في دراسة نفسية الإنسان المسلم مقارنة مع غيرها في سلوكه الاقتصادي أكتفي بهذا والحمد لله رب العالمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2348 الشيخ محمد علي التسخيري: شكرًا سيدي الرئيس. أولًا: أود أن أشكر أستاذنا السيخ السلامي على هذا العرض الجيد الجامع فحياه الله، ولم يبقَ لي أي كلام يرتبط بمقالي، وإنما أردت أن أؤيد ما تفضل به الأخ الدكتور المتحدث قبلي الدكتور منذر، من أن الحكومات اليوم أحيانا يكون لها دورها المؤثر في رفع الأسعار، وفي إيجاد هذه الأزمات التي نلاحظها وأعتقد أن هناك عوامل في هذا المعنى منها وجود اتجاهات – واقعًا – اشتراكية جافة جدًّا حتى عند من ينتسبون إلى الإسلام ويؤمنون –واقعًا- بالإسلام ولكنهم متأثرون تماما بالتخطيط المركزي القوي، الحديدي للأسعار، فهؤلاء يتدخلون وفق هذه الاتجاهات، وبالتالي يخلقون نوعًا من التضييق لا مبرر له، وربما دلتنا التجارب الواقعة اليوم على أنهم إذا فسحوا المجال فإنهم يرفعون التضييق عن الشعب من جهة، ويرجع السعر إلى حالته الطبيعية من جهة أخرى هذه التجارب عشناها عملًا في كثير من التطبيقات، الشيء الآخر، هؤلاء يعمدون إلى رفع أسعار خدماتهم التي يقدمونها للشعب، أو الضرائب التي يأخذونها على التراخيص وأمثال ذلك، وهي بالتالي تعطي مبررًا طبيعيًّا لأصحاب السلع لرفع الأسعار، هذه الأمور يجب أن تلحظ عندما يريد ولي الأمر أن يتدخل لتحديد الأسعار فلعله هو أو عماله هم السبب في رفع هذه الأسعار، الشيء الآخر الذي أشير إليه أننا لو غضضنا النظر عن التطبيقات الحالية، ولي الأمر يستطيع – اليوم – من خلال تقديمه الخدمات والتسهيلات والعملة الصعبة وأمثال ذلك، وهذا ما أشار إليه أستاذنا السلامي أيضا، من خلال تقديم هذه الخدمات يستطيع أن يشترط على التجار أن يدخلوا في إطار التحديدات العامة للأسعار، والقوانين العامة للسوق، يعني يستطيع الاشتراط من خلال تقديمه لهذه الخدمات (الماء، والأمن وما إلى ذلك) كل هذه الأمور تقدم على شرط أن يلتزم التجار بما يحقق العدالة في السوق الإسلامية، لا أرى مانعًا بهذا الاشتراط، وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2349 الدكتور يوسف محمود قاسم: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أقدم خالص شكري إلى فضيلة الأستاذ الشيخ المفتي محمد المختار السلامي، على هذا العرض الوافي بالنسبة للأبحاث، وبالنسبة لبحث فضيلته بالذات، الذي أشار فيه إلى آراء مجموعة كبيرة من السلف الصالح، ثم إلى بعض الآراء المعاصرة التي اختار هو ترجيحها، في الواقع من هذا العرض الذي سمعناه يبدو أن هنالك أصلًا قاعدة أصلية متفق عليها مسلمة في الكتاب والسنة وهو أن (التسعير حرام) " إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق، وإني أرجو أن ألقى الله وليس لأحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال " فهو صلى الله عليه وسلم رفض أن يسعر؛ لأنه مظلمة، كما قرر ذلك علماء السنة، لكن وكما وضح العلامة ابن القيم أن هنالك استثناء، إذا تعنت التجار على أن يضروا بمصالح الناس وأن يرفعوا السعر عليهم ظلمًا وعدوانًا، فهنا يجوز لولي الأمر أن يتدخل لرفع الظلم، وعبارة ابن القيم: " يجوز بل يجب عليه لأن من اختصاصه ولاية المظالم، ورفع الظلم عن الناس " في الحقيقة أيضا، الدول المعاصرة في الدول النامية، الدولة النامية في الواقع هذه الدولة واقعة في ورطة، نتيجة عدم توضيح الأمور من الناحية الفقهية لها، لأننا كثيرًا ما قرأنا وسمعنا في الستينيات فتاوى كثيرة تبرر للدول المتسلطة أن تحدد السعر، والتسعير جائز، والتسعير والمصلحة، وهكذا، والكل يفتي، هذا أوقع الدولة الآن في ورطة لماذا؟ لأنه في الواقع التسعير من غير ضوابط يؤدي إلى ظلم ظاهر، كما أكد ذلك الحديث التسعير الذي تكلم عنه ابن القيم وابن تيميه وغيرهم، هو لرفع الظلم إذن تدخل استثنائي ولفترة محددة فيرفع الظلم، تتدخل الدولة لترفع الظلم عن الناس حتى يعود السعر إلى المجرى الطبيعي إلى العرض والطلب، ولذلك عبارة ابن القيم لا زالت في ذهني، أما إذا كان ارتفاع السعر راجعًا إلى قلة الشيء أو إلى كثرة الخلق، فهذا إلى الله، ولا يجوز التدخل، هذا مذهب ابن القيم، إذن القاعدة ما هي؟ القاعدة هي العرض والطلب، هذا هو الأساس متى يجوز التدخل استثناء؟ لرفع الظلم، على الدولة أن تتدخل لترفع الظلم، ثم ترفع يدها بعد ذلك عندما تعود الأسعار إلى مجراها إلى العرض والطلب، فضيلة الشيخ السلامي – جزاه الله خيرًا – أشار إلى عبارة، يقول: وعلى الدولة أن تعوض التجار من الخزانة العامة، هذه هي الكارثة الواقعة فيها كل الدول النامية الآن، موضوع الدعم، لِمَ الدعم؟ الدعم نتيجة عدم تبصير الدولة بأن التسعير حرام، فغالت مغالاة لا حد لها في التسعير، بطبيعة الحال يصرخ التجار، لأن التسعير يصادر كل أرباحهم، فتأتي الدولة سرًّا وتعوضهم الربح المعقول من خزينة الدولة، خزينة الدولة الآن تتحمل في سلعة واحدة في بعض الدول مليارين من أجل سلعة واحدة فيقول لك: الدعم ويأتي صندوق النقد الدولي ليتدخل، والدنيا تصرخ، والمشاكل التي لا حد لها، هذا من عدم ضبط قاعدة التسعير وبحمد الله حينما أثير هذا الموضوع أمام المجمع الموقر والذي له الكلمة العليا بين علماء المسلمين، والمسلمون ينتظرون كلمة الحق، التسعير حرام إلا إذا كان هنالك ظلم من التجار فتتدخل الدولة لرفع الظلم فقط، ثم ترفع يدها ليعود المجرى الطبيعي، مجرى العرض والطلب، وأكرر عبارة ابن القيم: " أما إذا كان ارتفاع السعر راجعًا إلى كثرة الخلق أو إلى قلة الشيء فهذا إلى الله " وشكرًا لكم. والسلام عليكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2350 الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم ورد في تعليق الأخ منذر قحف أنه يرى أن هذا الموضوع ما كان ينبغي أن يبسط على هذا النحو، وأن الذي كان يأمله هو أن يعرف هل الإسلام يحدد للمؤمن نفسية خاصة في تحديد أرباحه، أو لا؟ ولست أدري هل كان معنا الأستاذ منذر قحف من الأول أو لا؟ لكن هذا أول ما ابتدأت به حديثي، فقد قلت: إنني لم أجد أي نص، لا في القرآن ولا في السنة ولا في أقوال العلماء، يوجب على المؤمن أن لا يبيع إلا بربح محدد، بل الواقع الذي وجدناه في تعاليق الصحابة والتابعين، أنهم باعوا بخسارة، وباعوا بربح متوسط، وباعوا بربح يبلغ أضعاف الأضعاف فالقضية هي قضية سوق، ثم إن الإسلام يدخل في قلب المؤمن تارة فيجعله قنوعًا راضيًّا، وتارة يدخل قلب المؤمن ولكن لا يصل به إلى هذا الحد، فهي ليست قضية واجب، لكن هي قضية تأديب سلوك، ونحن هنا لا نبين – لسنا في مقام التبيين – القضايا السلوكية الخاصة التي يرغب فيها، ولكن في مقام الحقوق، فالموضوع يوضع لبيان ما يجب، وما يحرم، ومن باع ولو بأضعاف لا شيء عليه وشكرًا. الشيخ خليل محيي الدين الميس: بسم الله الرحمن الرحيم كنا ننتظر من سماحة العلامة أن يبدأ بعنوانين بارزين وهما: التسعير والاحتكار، كل منهما تسلط مرفوض مبدئيًّا، فالتسعير تسلط الحاكم على الفرد، والاحتكار تحكم الفرد في الجماعة كل منهما من حيث المبدأ مرفوض إلا للضرورة، ولكن ماذا نقول إذا اجتمع كل من التسعير والاحتكار في يد واحدة، كما عليه الأمر في كثير من دول ذات نظام معين في الحكم؟ فهي المحتكرة، وهي المسعرة، وهي المضيقة على عباد الله في كلا الأمرين، كما أن هنالك تسعيرًا فيه توسعة، وهذا واضح في دول معينة، عندما تسعر إنتاجًا معينًا للتشجيع وتسعر للمواطنين أسعارًا معينة لمحاصيلهم الزراعية، فهي تعطي ربما فوق ما يستحقون، بينما دول أخرى تظلمهم في كلا الأمرين، ومن هنا فالاحتكار بالجملة والتسعير للتضييق كلاهما قيد على الحرية، هذا من حيث المبدأ ولكن لهذا المبدأ استثناءات إذا خرج المواطن عن أخلاقيته تدخل الحاكم ليرده إلى صوابه، وشكرًا والسلام عليكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2351 الدكتور محمد عمر الزبير: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. طبيعة السوق اختلفت اختلافًا كبيرًا وجوهريًّا عن طبيعة السوق في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت القوى تتوازن لتحقق السعر العادل بين أطراف المتعاملين في تلك السوق، أما وقد تغيرت تلك الآلية في هذه الأسواق الحاضرة، فيجب أن تتنزل الأحكام على قضايا الواقع ودراسة واقع هذه الأسواق، فالتعارض والتنافر بين مصالح الأفراد في هذه السوق، هذا التعرض هو الظاهرة السائدة في هذه الأسواق، ولا بد من تدخل فئة من الفئات المعنية بتحقيق هذا التعادل والتوازن، الدولة لا بد أن تتدخل في تلك الأحوال، وأقول ليست هذه أحوالًا استثنائية، وإنما ظاهرة الاحتكار في هذه الأسواق هي الظاهرة العامة، فلا توجد تلك الأسواق السائدة في العصور السابقة، أختلف مع زميلي الدكتور منذر في هذه القضية، فإذا كانت الدولة هي المسببة في إثارة هذا التعارض وهذا الارتفاع في هذه الأسواق، إلا أن الدولة أيضًا لها دور كبير جدًّا في القيام بالتوازن بين هذه المصالح، وأعتقد أن التدخل واجب لإقامة العدل بين أفراد المجتمع وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2352 الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين: بسم الله الرحمن الرحيم أقدم الشكر الجزيل للشيخ المختار السلامي، على تلخيصه الجيد، واهتدائه إلى النقاط المهمة في كل بحث من البحوث التي أسند إليه تلخيصها. والحقيقة أن الموضوع اليوم هو موضوع شامل، وحيوي لأنه يهم السوق الإسلامية، والمواطن الإسلامي، فتحديد أرباح التاجر تتمحور تحتها عدة محاور، البيع – كما نعلم – هو بيع مساومة أو مرابحة، والمرابحة خطيرة في عصرنا لأنها أصبحت هي البيع الذي يكاد يشمل جل الساحة الإسلامية، فلا بد من النظر الإسلامي إليه، ولا بد من تنبيه حتى إذا لم نقل التدخل المباشر، لا بد من يقظة أولي الأمر لتتبع حال السوق، والحال أن الذين يبيعون في الأسواق لم يتلقوا أثناء دراستهم الدراسات الكاملة التي تبين لهم الحلال والحرام في البيع، والتي تعرفهم على مواطن الغبن الفاحش المحرم في الشريعة، وتبين لهم المواد التي يحرم بيعها للمسلمين، وتبين لهم غير ذلك من الأشياء التي يجب أن يتجنبها المسلمون في سوقهم، ففي هذه الحالة، تدخل السلطة هنا لا يقول به باحث من الباحثين الزملاء الذين تكلموا في الموضوع والذين لخص الشيخ المختار كلامهم، لا في المرابحة، ولا في التسعير، ولا في تحريم الاحتكار ومراقبته ومنعه، لا نقول بأن يكون التدخل أعمى يوكل إلى سلطة ظالمة تربت في أحضان الغرب وسياسته، والتي تفرض على المسلمين ما درسته في الغرب، وما تلقته، وما ارتبطت به مصالحها فيه، ولكن نقول تدخل السلطة الشرعية المسلمة التي تريد أن تعيد للإسلام توازنه الذي كان يهدف إليه الرسول صلى الله عليه وسلم والذي قام به خلفاؤه من بعده، وأكرر هنا قضية عمر بن الخطاب مع حاطب بن أبي بلتعة، حيث قال له: " إما أن تبيع بمثل ما باعت به العير التي قدمت من الطائف، وإما أن تنتقل عن السوق "، ثم أكرر الحديث الذي قال: ((من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغلي عليهم، كان حقًّا على الله أن يقعده على عظم من النار)) حقيقة أنه بين الآية الكريمة: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، وما ورد في القرآن الكريم مما يؤكد أن القرآن يريد أن يعطي الحرية للمسلمين في تبايعهم وما ورد من أحاديث في ذلك، وبين اختلاط المسلمين بغيرهم، وبين احتكار التجار، وبين رغبتهم في الأرباح التي تستنزف كل طاقة المسلم، وبين حتى أولئك الذين يقدمون بتجارتهم من أجل أن يحطموا السوق حتى يتنحى عنه الناس، وهي ظاهرة ألح عليها الإمام مالك، كل هذه الأوضاع يجد فيها الحاكم سلطته ضيقة للتدخل، ولكن لا يمنع هذا أن يتدخل الحاكم لحماية المسلمين من استغلال التجار استغلالًا بشعًا، كما لا يمنع الحاكم من أن يتدخل، حتى لا تفرض على التجار قيود تمنعهم من استجلاب السلع إلى المسلمين، لهذا فأنا لا أريد أن أتدخل هنا لأسرد الحجج لأني أكون كجالب تمر لخيبر، ولكن أقول بأن البحوث هي بين أيديكم، وقد حللنا فيها أقوال العلماء، وأخذنا بأقوال الخلاف العالي أي المذاهب الأربعة، وحتى مذاهب الشيعة ولكن الشيء الذي ينبغي أن نخرج به أوضاعنا اليوم كمسلمين تفرض علينا فرضًا أن تتضافر جهود العلماء والحاكمين تنظم أحوال السوق لتصبح سوقًا إسلامية، وشكرًا لكم والسلام عليكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2353 الدكتور يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم حينما تلقيت التكليف من الأمانة العامة للمجمع حول موضوع " تحديد أرباح التجار"، في الحقيقة كان الذي في ذهني أن الموضوع هو ليس موضوع " التسعير " وإلا طلب الحديث عن موضوع التسعير، ولذلك انصرف همي وذهني من أول الأمر إلى البحث عن هذا الموضوع – موضوع تحديد الربح _ وهو لم يحظَ بالبحث من قبل ذلك، وأحمد الله أنه بالبحث لم أجد من العلماء من حدد نسبة معينة إلا ما نقلته عن الزيلعي الحنفي من تفسيره وتعريفه للتعدي الفاحش في قول صاحب الهداية وغيره: " إذا تعدى أرباب الطعام تعديًّا فاحشا جاز للسلطان أو نائبه أن يتدخل للتسعير مشورة أهل الرأي والبصيرة "، فهو قال: إن التعدي الفاحش أن يبيع بضعف القيمة، ولكن لم أفهم ولم أعرف بالضبط ما الذي يريده من ضعف القيمة، هل قيمة المثل – وهذا يتعلق بموضوع الغبن وغيره – أو قيمة الثمن الذي اشترى به؟ هنا يدخل مسألة الربح، لم يحدد بالضبط، وكنت سمعت من بعض الإخوة أن المالكية يقولون أو قال بعضهم – بعضهم قال: إن هذا في حاشية الدسوقي، ولم أستطع أن أعثر على نص في هذا – إنهم يقولون بالثلث، بتحديد الربح بالثلث، وأنه يستحب أن لا يزيد على ذلك، ولعل الإخوة من علماء المذهب المالكي وهم متوافرون هنا أقدر على تحديد هذا الكلام ومصدره، ولكني – كما ذكر فضيلة الأخ الشيخ السلامي وقد أحسن في تلخيصه للبحوث – حفظه الله- وجدت في السنة المشرفة ما يدل على أن يكون الربح مائة في المائة كما في حديث عروة بن الجعد الباقي وهو في البخاري وعند أبي داوود والترمذي وعند الإمام أحمد، وهو الذي اشترى الشاتين بدينار حينما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم دينارًا ليشتري به شاة، فاشترى به شاتين، ثم باع في الطريق إحداهما بدينار وجاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتك، قال: ((وصنعت كيف؟)) فحدثه الحديث، فقال: ((اللهم بارك له صفقة يمينه)) قالوا: فكان لو تاجر في التراب لربح فيه، وقال عن نفسه كنت أقف في كناسة الكوفة – سوق هناك – فأربح أربعين ألفًا قبل أن أصل إلى أهلي ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالشاهد أنه ربح مائة في المائة في دقائق، يعني في مشوار واحد، وذكرت قصة الزبير والغابة، وكيف باعها عبد الله بن الزبير – وقد اشترى بمائة وسبعين ألفًا – بمليون وستمائة ألف، أي بحوالي تسعة أضعاف، فليس إذن هناك ما يدل على تحديد نسبة معينة للربح، لأننا لا نستطيع أن نأخذ من هذا حكمًا عامًا مطردًا، لأن هذه كما يقول الأصوليون: وقائع أعيان، وإنما تعطينا المبدأ، إنه ليس هناك تحريم لربح معين، ولكن كيف نحدد النسبة للربح لو أدرنا؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفعل هذا، كما أشرت إلى أن هناك اعتبارات عددية تتدخل في تحديد نسبة الربح، من يبيع حالًا غير من يبيع آجلاء، ومن يبيع قليلًا غير من يبيع كثيرًا، وصاحب رأس المال القليل التافه غير صاحب رأس المال الكبير، ومن يبيع سلعًا تتداول بسرعة بطبيعتها غير من يبيع السلع المعمرة كما يقولون أو يبيع أرضًا تبقى سنين حتى يبيعها التاجر المدير أو التاجر المتربص كما يعبر المذهب المالكي، هذه كلها تختلف، فلا يمكن تحديد ربح معين، ولكن هنا في الحقيقة الشيء المهم: أنه لو أن التاجر المسلم التزم بأحكام الإسلام وبتوجيهاته في البيع والشراء، فإنه لا يمكن في أغلب الأحوال إلا أن يربح قليلًا، لأن مسألة منع الاحتكار، ومنع الربا، ومنع التدليس، ومنع الحلف، وأن يجعل الله بضاعته أو ينفق سلعته بالحلف الكاذب، أو إذا باع مدح وإذا اشترى يذم، إلى آخره، كل هذه الأشياء حتى تزيين السلعة كما قال الإمام الغزالي بالكلام – وهذا يدخل فيه معظم الدعايات التجارية والإعلانات التجارية– فالتاجر لو التزم بهذه التعليمات كلها قلما يربح إلا القليل وخاصة من يبيع السلع اليومية والضرورية للناس، أما إذا اعتمد التلاعب وتدخل بعوامل مفتعلة وأصبح هناك احتكار، فلا بد من التسعير، لا ينبغي أن نصدر فتوى كما توجه بعض الإخوة أن التسعير حرام، لا، الأصل هو عدم التسعير، إنما إذا وجدت عوامل مختلفة كما توجد في كثير من بلاد المسلمين الآن، لا بد أن يسعر ولي الأمر حفظًا لمصالح عموم الناس، وبعض الإخوة بتباكون على التجار، والواقع أننا يجب أن نتباكى على المستهلكين، التجار يكسبون الملايين، ولكن الآن المستهلكون هم الضحية، ثم إن التسعير ليس على التجار فقط، التسعير على المنتجين أيضا، لأن الزارع والصانع وصاحب السلعة (منتج السلعة) يجب أن يسعر عليه، هنا شيء آخر – يعني الحقيقة أحببت تصحيح بعض الأشياء – كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحاطب بن أبي بلتعة: " إما أن ترفع السعر أو ترفع من سوقنا "، وبعض الإخوة يرى أن عمر لا يمكن أن يقول هذا وأن الإنسان ممكن أن يتسامح ويبيع بأقل من السعر، ولكن هذا أحيانًا يكون خطرًا على المجموع، وهذه حيلة يفعلها بعض التجار الرأسماليين، وهي من صنع اليهود الآن قد يتدخل في السوق ويغرقه بسلعة معينة في أول الأمر ويبيع بأرخص ليضرب التجار الآخرين ويضرب السلعة، ثم يحتكر بعد ذلك، فأحيانًا إذا وجد هذا، هذا لا يكون لوجه الله ولا لوجه الناس إنما لوجه صاحبه ولمنفعته، وعمر كان خبيرًا وبصيرًا وملهمًا، فأراد أن يكون العدل هو الحاكم، كثير من الإخوة ينقلون عن ابن القيم كل الكلام الذي نقل عن ابن القيم، إن هذا لقلة الشيء أو لكثرة الخلق، وإنه إلزام بالعدل الذي ألزم الله الناس به، وإن التسعير منه ما هو ظلم ومنه ما ... كله كلام ابن تيمية، يعني ابن القيم نقل كلام شيخه – شيخ الإسلام ابن تيمية – في رسالة الحسبة، وأفرغه في الطرق الحكيمة، فمن العدل ومن الأمانة العلمية أن ينسب هذا إلى الإمام ابن تيمية، كذلك ما قاله الشوكاني في "نيل الأوطار " هو كلام الصنعاني في " سبل السلام " وهو سابق عليه فينبغي أن ينسب إليه. أكتفي بهذا القدر وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2354 الدكتور عبد الله إبراهيم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. شكرًا لفضيلة الرئيس. أحب أن أشارك في هذا البحث، وخاصة استجابة لما أثاره أحد الخبراء وهو الدكتور منذر قحف، حول العناصر المعتبرة في تحديد السعر، لأني لم أسمع أحدًا من الحاضرين تناولها بالمناقشة أو بالتفصيل هنا، الواقع أن التاجر حينما يتاجر إنما يطلب الربح، فهو إذن إنما يبيع بسعر يتضمن قيمة التكلفة مضافًا إليها مبلغًا آخر كالربح، وقيمة التكلفة وما يعتبر من الأمور التي يضاف، هناك قيمة التكلفة، قد بينها وتناولها الفقهاء بالتفصيل، كذلك تناولها الباحثون المعاصرون، بينما مسألة الربح المضاف إلى قيمة التكلفة، لم يتناولها إلا قليل منهم كما استمعنا إلى فضيلة الدكتور القرضاوي قبل قليل، وقد ذكرت – أيضًا – هذه المسألة من حيث قلة تناول الباحثين لها في بحثي المطروح أمامكم في (التأجير المنتهي بالتمليك) وكذلك (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) فإنهم لم يتناولوا الربح المضاف إلى قيمة التكلفة إلا قليل منهم، لعلهم اكتفوا بذلك إلى معالجة سعر السوق، وبالنسبة للأمور المعتبرة في تحديد قيمة التكلفة كما قلت إنه قد تناولها الفقهاء من قبل بالتفصيل، فإنهم قد ذكروا أمورًا عديدة يمكن اعتبارها من تكاليف الإنتاج، فيوضع لكل منها قيمته فتجمع هذه القيم كلها لتكون قيمة التكلفة، وبعد ذلك يضاف إليها ربح معين لتكون سعر البيع أو قيمته، ومن الأمور المعتبرة بتحديد قيمة التكلفة – كما ذكر الفقهاء – ثمن الشراء الأول على حسب الاصطلاح الحالي، ومنها أيضا ثمن العلف إذا كان هناك حيوان، ومن ذلك أيضًا ثمن النقل إلى غير ذلك من الأمور المبسطة وإن كانوا يتكلمون في هذه المسألة بالمرابحة، إلا أن مسألة تحديد قيمة التكلفة واحدة، سواء كانت في المرابحة أو في البيوع العادية، هذا ما أرى أنه من العناصر المعتبرة في تحديد السعر استجابة لما أثاره الدكتور منذر، وأما بالنسبة للربح المضاف إلى قيمة التكلفة الذي يندر تناوله من العلماء إلا عدد قليل منهم، ومنهم فضيلة الشيخ الدكتور القرضاوي في بحثه المطروح أمامنا الآن، فإنه قد ذكر كما استمعنا لكلامه أنه يمكن أن يصل إلى مائة في المائة وأكثر منه، ومن العلماء أو الباحثين الذين تناولوا هذه المسألة – كما اطلعت – الدكتور شوقي إسماعيل شحاته، ومنهم أيضا الدكتور محمد عبد الحليم عمر في بحثيهما المقدمين إلى المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي المنعقد في الأردن في يونيو 1987 م، فإنهما مع ذلك لم يتناولا هذه المسألة بالتفصيل، مثلًا الدكتور شوقي شحاته فإنه ذكر بصفة عامة عندما ذكر في بحثه المقدم للمؤتمر المذكور – وهو مؤتمر يعقد بالتعاون باسم ندوة بين المجمع الملكي والبنك الإسلامي للتنمية بجدة – ذكر الدكتور شحاته عن الربحية أمرين: أولا: ملاءمة الربحية لذات السلعة أو النشاط في ضوء أسعار السوق أو العمليات السابقة. وثانيا: مدى الالتزام بالقرارات الخاصة بنسب تحديد نسب الربح، وقوانين الاستيراد، واللوائح التنفيذية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2355 هذا ما ذكره الدكتور شحاته حول الربح المضاف إلى قيمة التكلفة. وأما ما تناوله الدكتور محمد عبد الحليم عمر، فقد تناوله بشيء من التفصيل، فإنه قال في بحثه حول عنصر الربح كأحد عناصر الثمن الثلاثة، الثمن الأساسي أو الأول ثم الربح، فقال: إن هذا العنصر هو المقصود بالعملية وقال: والعلم به ذكره بالعقد شرط من شروط المرابحة، وإن كان ذكر هذا في المرابحة ونحن في المسألة عامة في المرابحة وغيرها، وذكر عن بعض البنوك الإسلامية، فإن بعض البنوك تذكره، والبعض الآخر لا يذكره بل يذكر ثمنًا إجماليًّا متضمنا الربح دون إشارة إلى ذلك، فقال عن هذا: وهذا أمر يجب تعديله بضرورة ذكر الربح في عقد البيع حتى يحقق الشرط العيني بالربح كأحد شروط المرابحة، وقال: ولا يكتفي في ذلك بذكره في عقد الوعد، حتى ولو أشير صراحة في عقد البيع على هذه الحالة. أولًا: لأن عقد الوعد لا ينعقد بيعًا. وثانيا: لأنه ربما يتم تغيير الربح بين مرحلة المواعدة ومرحلة البيع، لأية ظروف، مثل صدور قوانين أو قرارات من الدولة تنظم ذلك، ثم تناول كيفية حساب الربح المضاف إلى قيمة التكلفة وذكر: أولا: اختلاف البنوك الإسلامية في كيفية حسابه، فقال: يحسب الربح كنسبة مئوية من ثمن الشراء، وجميع المصروفات في بعض البنوك ومصروفات محددة في بنوك أخرى، ويلفت النظر بعد ذلك إلى أن نسبة الربح يجب أن تختلف بحسب نوع البضاعة وعدم السداد بما يؤثر على إجمالي الثمن الذي يزيد في البيع الآجل عنه بالبيع النقدي، مع ضرورة الإشارة إلى أن ذلك يجب أن يكون محددًا بصفة قاطعة عند إبرام عقد البيع، ولا يقال مثلا ً إن نسبة الربح لسلعة ما 5 % إذا كان السداد على شهرين، و7 % إذا كان السداد على أربعة شهور، وقال: فإذا كان يجوز أن يكون هذا واضحًا قبل التعاقد فإنه إذا تم العقد على نسبة 5 % مثلًا، والسداد في مدة شهرين ثم تأخر المشتري عن السداد في الموعد المحدد، ألا تزاد نسبة الربح مقابل الأجل في هذه المرة، بل يعالج الموقف بأخذ الإجراءات المقررة للتوقف عن الدفع على أن بعض البنوك تلتزم بتحديد الربح بالنسبة المقررة من الدولة عندما تحدد الدولة بقرارات نسب الربح لكل سلعة مستوردة أو محلية لكل من المستورد أو تاجر الجملة والتجزئة وذكر أن بعض البنوك تحدد الربح بنسب ثابتة على جميع أنواع السلع: 18 % مسترشدة في ذلك بسعر فائدها الربوي السائد في السوق، هذا بعض ما تناوله العلماء والباحثون المعاصرون في مسألة الربح المقدم أو المضاف إلى قيمة التكلفة، ونحن كما أرى أننا في بحث تحديد السعر لا بد أن نناقش ونتخذ قرارًا بالنسبة للربح المضاف إلى قيمة التكلفة هذه، وليس فقط بالنسبة لقيمة التكلفة، وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2356 الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد: الحقيقة في تحديد الأسعار تبرز سوق تسمى " السوق السوداء " وتختفي السلع، وتزيد المشاكل: تخفيض الأسعار والتأثير في تخفيض الأسعار ينتج بزيادة الإنتاج، وسوقنا في البلاد الإسلامية مع الأسف الشديد سوق تابعة للأسواق العالمية المحتكرة، وهناك موجود عصابات منتشرة في العالم تحتكر السلع، وتحد الأسعار لمصالحهم لتهديد الدول غير المنتجة، تهددهم سياسيًّا، وثقافيًّا، واجتماعيًّا، هناك عوامل أرغب في أن أبينها وألقي الضوء عليها، أيضا يتدخل في ارتفاع الأسعار، انخفاض العملة المحلية: انخفاض العملة المحلية أيضا أسبابها كثيرة وكلكم تعرفونها، ثم هناك سبب الاحتكار الناتج عن الجشع، ثم جمع السلطة مع التجارة، يعني لا يجوز أن يكون وزير تاجر أو أمير وتاجر، يعني لا يجوز الجمع بين الإمارة والتجارة، الأمر الثاني، عدم إعطاء رخص الاستيراد، ثم هنالك نقطة مهمة جدًا في الحقيقة وأنا أنادي من هذا المجمع المجتمع الإسلامي يجب عليه أن يكون مجتمعًا إنتاجيا، مع الأسف اليوم المجتمع الإسلامي مجتمع استهلاكي، فيجب أن يطالب في هذا جميع الأمة الإسلامية يجب عليها أن تتحول إلى أمة إنتاجية، البنوك الإسلامية ندعوها –الآن وبعد أن مضى على تأسيسها قرابة الخمسة عشر عامًا، أعتقد أنها نجحت في الخطوة الأولى، الخطوات التي يجب أن تتبع الخطوة الأولى، ونحن بدأنا فيها في بيت التمويل الكويتي – أن تسوق وتنسق بين البلاد العربية والإسلامية في منتجاتها الزراعية والصناعية لأن في التسويق والتنسيق في ما بين الدول العربية والبلاد الإسلامية في منتجاتها الزراعية والصناعية لأن في التسويق والتنسيق في ما بين الدول العربية والبلاد الإسلامية تأثيرًا بالغًا في تخفيض الأسعار، وتشغيل اليد العاملة الصانعة والزراعة، ونحن إن شاء الله قريبًا سوف نجتمع في جدة مع البنك الإسلامي للتنمية لتأسيس شركة في هذا الصدد هذا ما وددت أن أبينه في هذا المجال وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2357 الشيخ علي المغربي: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله الصادق الأمين. شكرًا سيدى الرئيس. قد كان للحديث والبحث القيم الذي قدمه الأستاذ مختار السلامي، أثر مستوفٍ لجميع المسائل التي تتعلق بالبحث هذا، وتعرض فيه لقضية حرية البيع وهي الأصل، يعني أن التاجر يكون له الحرية المطلقة في أن يبيع بما شاء، ربح الكثير أو القليل، وهذا له الحق فيه، وعدم التدخل من طرف الحاكم، وذكر الأستاذ في الأخير تدخل الحاكم في التسعير، وذكر أن هناك أمما قوية، وأممًا ضعيفة وهو حق، فالأمم القوية لها نظامها ولها تراتيبها في أسواقها، والأمم الضعيفة هي دائما في حاجة إلى من يعيلها، وهي في حاجة أيضا إلى الأمم القوية لتكون لها سندًا في الغالب، ومن هنا أصبح تدخل الحكام في كثير من الحالات في بعض البلاد الإسلامية، وقد لا تكون جميعها، هناك قوي أن لم يكن كليًّا فهو في الغالب، وهذا التدخل قد يراد منه في أول الأمر أن المتدخل لتحديد السعر وتنظيم التجارة وتسييرها واستيرادها وتوزيعها قد يكون المراد منه إدخال كثرة البضاعة في السوق أو رخصها في السوق، ولكننا في كثير من الأحيان نجد القضية عكس هذين الأمرين، فكثيرًا ما يكون التدخل سببًا لفقدان السلعة، أو لزيادة قيمها في السوق، وهذا عائد إلى أن الذين يقومون بالمسئوليات هم الحكام، والحاكم أصلًا لا يجمع بين التجارة وبين الحكم، فإذا دخل الحاكم في التجارة فكثيرًا ما يكون سببًا لفسادها، وكثيرًا ما يكون هذا التدخل أيضا سببًا لفقدان السلعة سواء السلع المنتجة في البلاد أو السلع المستوردة، فالسلع المنتجة في البلاد كثيرًا ما يكون تحديد السعر لها سببًا لفقدها، لأن المنتج إذا رأى نفسه ينتج السلعة أو البضاعة أو إنتاج الفواكه أو الحبوب أو غيرها، ورأى نفسه إذا أراد البيع لا يبيع بما تكلفت عليه به السلع وتكلفت به عليه البضاعة، هناك يتأخر وربما ذلك التأخر يؤدي إلى نقصان السلعة في السوق، فيكون ذلك التحديد سببًا للضرر، هذه ناحية موجودة في كثير من البلدان، كذلك قضية تحديد الربح، قلنا هذا في السوق، الحقيقة هي أن التحديد هذا، تحديد ربح التاجر، وقد تعرض الأساتذة إلى أن هذا التحديد غير جائز لأنه لم يرد به نص في الشارع، وهذا صحيح، ولكن عندما ننظر إلى الذمم بين العصر القديم الذي كان في العهد الماضي عهد الصحابة وعهد السابقين الأولين وبين الذمم في العصر الحاضر، فهذه الذمم الموجودة الآن عند كثير من التجار أنهم لا يخافون الله، وإنما لا يريدون إلا شيئًا واحدًا وهو الربح الفاحش، والاستغلال الكثير في الأمم، فإذا كان المجمع ترك هذه القضية من دون أن يضع لها بحثًا، ومن دون أن يضع لها حلًا، فإن التاجر الذي يربح المرة والمرتين ضعف ما تكلفت عليه البضاعة، ونقول له: إن هذا حلال لك ومباح، لأن الشارع لم يضع لك حدا، فهو يقول: أنا أتصرف تصرفًا شرعيًّا مباحًا، لا حق لأحد أن يعارضني في هذا، ولهذا فالقضية هي قضية نظر إلى الضعفاء، إلى المستضعفين من أفراد الأمة، وإذا نظرنا إلى أن الربا حرمه الله؛ لأن فيه فائدة عن المال، وقد تكون قليلة، ولكن نظرًا إلى أنه أخذ شيئًا ليس من حقه ثم بعد ذلك نأتي إلى التاجر فنقول له: لك أن تربح الضعف أو الضعفين، وهو حلال لك، فهنا لا بد وأن ننظر أيضًا إلى قضية الأمة، خصوصًا الكثرة الكثيرة من أفراد الأمة هم في حاجة إلى العون، وفي حاجة إلى النظر إليهم في هذه القضية، ولهذا فإن القضية هذه نرجو من المجمع الموقر أن ينظر فيها، وكثير من التجار من لهم إيمان، يسألون هذا السؤال ويقولون، ما هو المقدار الذي يمكن لنا أن نقف عنده؟ هل هو الثلث، أو النصف، أو المقدار؟ أعطونا مقدارًا، ولكن المسئول غالبًا ما دام ليس هناك نص محدد، لا يستطيع أن يقول له: قف عند هذا المقدار، وإنما نقول له: كن مؤمنا صالحًا، والإسلام يقول: " لا ضرر ولا ضرار " فلا تضر نفسك، ولا تضر بغيرك وشكرًا لكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2358 الشيخ محمد المختار السلامي: بسم الله الرحمن الرحيم عندي أمران أردت الحديث فيهما إتمامًا – هو طول البحث قد يتسبب عنه أن الإنسان يشرد ذهنه، وشرود الذهن هذا عارض لكل منا – فلما تحدثت عن الاحتكار والتسعير، قلت: إن الأصل في الاحتكار والتسعير هو التحريم ولكن قد يعرض لهما ما يوجب الاحتكار، وقد رأى بعض العلماء وجوب الاحتكار، كما إذا وردت سلع كثيرة من المنتجين، فلولا الاحتكار لها عزف الناس عن الإنتاج الوافر، فالاحتكار يكون ضمنيًّا لسلامة الاقتصاد، فجعل عالم لبنان فضيلة الشيخ خليل الميس: من أن الاحتكار والتسعير كلاهما ظلم، هذا كلام لا يصح على عمومه، ثم إنه ما جاء من كثرة ما دار على كثير من الألسنة: الدولة وهي المسئولة، واتهام الدول، نحن لسنا ضد الدول ولا مدافعين عن الدول ولكن الدول قد تكون لها من الظروف ما يفرض عليها، وواجبها أن تتدخل كلما كان في ذلك مصلحة للشعب، وإذا وقع الظلم في مرة من المرات أو الانحراف عن الحق، فليس معنى ذلك أن الدولة ليس لها أن تتدخل، وليس كل ما تتدخل فيه الدولة هو فساد، قضية ما جاء من أن الكلام هو لابن تيمية وليس لابن القيم، أنا قلت في كلامي بالضبط: الذي أفاض القول في التسعير هو شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وقد قابلت بين كلاميهما، ثم نقلت كلام ابن القيم باعتبار أن ابن القيم إنما تتلمذ على ابن تيمية، ثم أضاف ما أضاف، وابن تيمية لم يرد كلامه هذا فقط في رسالته بل إنما أيضًا ورد في الفتاوى، فهو قد ورد في الفتاوى، وأما في رسالته في أحكام السوق ورد في كلام ابن القيم والذي نقلت منه هو كلام ابن القيم فلما نقلت ابن القيم كنت أمينًا عندما أسندت الكلام لابن القيم أما كلام الشوكاني فإني أشكر فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، وحكم باطلاعه أن أصله للصنعاني، ولكن أقول: أنا عشت مع كتاب الله والحمد لله أكثر من خمسة عشر سنه أدرسه، وفي تدريسي لكتاب الله كنت أجد دائما نفس الكلام منقولًا عمن سبق، هذا أجده في كتاب آخر بنفس اللفظ، فهل يستطيع الإنسان أن يعرف المنبع الأساسي؟ في الواقع أنا عجزت عن إدراك المنبع الأساسي، ولذلك أنسب دائما الكلام لصاحبه الذي نقلت عنه، إذا كان ثقة عندي مطمئنا بلغ من العلم درجة، الأمر الثالث: هو ما تفضل به فضيلة الشيخ على المغربي: أن تحديد السعر لم يرد بالنص ولكن الذمة اليوم خربت فإذا ترك التجار وما يشاؤون ... هذا ما بينته في كلامي، هذا متفقون عليه قدر ما هو متفق عليه، وقد بينت ما قاله ابن العربي وهو الأصل، وهذا كلام ابن العربي زاده بيانًا من عنده فشكرًا له، وأما أن يربح التاجر الضعف أو الضعفين: - اليوم بسرعة وهذا ما انتهيت إليه وأريد أن أؤكده لعله قد وقعت الغفلة عنه – الذي أريد أن أؤكده هو أن سرعة الانتقال وسهولة تحول السلعة من أمكنة إلى أمكنة وكثرة البشر الراغبين في التجارة، هو لا يجعل الحالة اليوم كحالتنا في القرون الماضية، وأنه إذا تركت الحرية للتجار للبيع، فإنه لا تغلي الأثمان، بل هي تنزل، لأن كل شخص يريد أن يشتري ويريد أن يربح ولو القليل، ويقع التنافس بين التجار وهنا يجعل الأرباح تنزل وشكرًا والسلام عليكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2359 دكتور محمد عثمان شبير: بسم الله الرحمن الرحيم بالنسبة لموضوع تحديد أرباح التجار من الموضوعات التي التبس الأمر فيها على الباحثين، فبعضهم تناول الموضوع من حيث السياسة الإسلامية للسوق الإسلامي، فبين الآداب الإسلامية التي ينبغي أن يراعيها التاجر في تجارته، ونظرية العرض والطلب، وغير ذلك، وبعضهم تناول موضوع " التسعير " وبعضهم تناول موضوع " المرابحة " وهكذا، فلذلك ينبغي على المجمع الموقر قبل أن يكلف الباحثين بكتابة موضوع في الموضوعات أن يضع خطة عمل أو خطة بحث للموضوع فإذا كان الموضوع من الناحية الاقتصادية فينبغي أن يشترك في هذه الخطة باحث اقتصادي وباحث شرعي. الرئيس: أعطونا ذات الموضوع يا شيخ، أما توجيه المجمع فالمجمع هو أدرى بأموره، فقط أعطونا ذات الموضوع، عندكم شيء أعطونا إياه. دكتور محمد عثمان شبير: هذه بعض الملاحظات، الملاحظات التي تتعلق بالموضوع، بالنسبة للتسعير إذا أردنا بالتسعير أو إذا أردنا بأرباح التجار أو تحديد أرباح التجار التسعير، فإن هذه القضية فرع عن أصل، والأصل هو الذي تكلمنا عنه بالأمس وهو تطبيق الشريعة الإسلامية، فالمشاكل الاقتصادية التي يقع فيها المسلمون اليوم هي نتيجة الهيمنة الاقتصادية الغربية الرأسمالية على السوق الإسلامية العربية، فالتجار ليس لهم إلا أن يتبعوا تلك السياسة الرأسمالية، والسياسة الرأسمالية سياسة احتكارية تقوم على المنافسة غير الأخلاقية، وغير ذلك، ولذلك ليس للتاجر العربي أو المسلم إلا اتباع تلك السياسة والسير في ركاب هذه السياسة، فينبغي أن تكون دراسة الموضوع من الأصل ومن الأساس، والتسعير الذي تكلم عنه الفقهاء في زمانهم هو تسعير في مجتمع إسلامي، وفي دولة إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية، وتطبق الآداب الإسلامية، والأحكام الشرعية والعقيدة الإسلامية، وغير ذلك، والتسعير عند فقهاء المسلمين معدود من السياسة الشرعية، فالسياسة الشرعية يختلف حكمها تبعًا لاختلاف الأزمان والأمكنة والأعصار، فالنبي صلى الله عليه وسلم حرمه أو منعه؛ لأن الوقت أو لأن الظرف في ذلك الوقت لا يقتضي وجوب التسعير، لكن في بعض الأوقات اقتضى وجوب التسعير، فلا مانع، فالتسعير ليس أصلًا عامًّا نقول فيه بالحرمة أو بالجواز، وإنما هو حكم يتغير بتغير الزمان والمكان، وإذا أردنا بتحديد أرباح التجار وضع سياسة اقتصادية يتبعها التاجر المسلم، فأقول: إن التاجر المسلم عمله في التجارة رسالة ودعوة كالمعلم في المدرسة وفي الجامعة، فالمعلم يلتزم بأخلاقيات الإسلام في عمله، والتاجر يلتزم بأخلاقيات الإسلام في تجارته، ولذلك كثير من الدول فتحت بالتجار ولم تفتح بالسيف فتحت بالأخلاقيات، وأخلاقيات التاجر المسلم كما هو معروف لديكم ولذلك إذا أردنا أن نضع قواعد تتعلق بأخلاقيات التاجر المسلم وما ينبغي أن يراعيه في هذا الموضوع فأرى أن يوسع هذا البحث، وأن يقارن بين المنافسة غير الأخلاقية الموجودة في المجتمع الحالي، ويبين زيفها، وعوارها، وغير ذلك، وأن يطرح الموضوع من باب أوسع، وسبحانك اللهمَّ وبحمدك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2360 الرئيس: شكرًا، الوقت انتهى فهل ترون أن تختتم المناقشة؟ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبة أجمعين. من مجموع الأبحاث والمداولات التي جرت يتبين أن الأصل الشرعي هو حرية التعامل في العرض والطلب، وينتج عن ذلك الأصل الشرعي وبدلالة النص، منع التسعير، وأنه لا يكون التدخل في التسعير إلا إذا توفرت المقتضيات الشرعية له، في أحوال: سمعتم التفصيل في بعضها، وقد ترون مناسبًا أن تتألف لجنة لهذا من أصحاب الفضيلة المشايخ: الشيخ المختار، الشيخ يوسف، الشيخ خليل، الأستاذ منذر، والمقرر الشيخ عطا. مناسب؟ وبهذا ترفع الجلسة للاستراحة لربع ساعة، ثم نعود لبحث مسألة العرف. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2361 مناقشة القرار الدكتور عبد الستار أبو غدة: قرار رقم (8) بشأن تحديد أرباح التجار قرر: أولًا: الأصل الذي تقرر النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحرارًا في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها عملًا بمطلق قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلاَّ أن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} ثانيًا: ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة وظروف التاجر والسلع، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير. ثالثا: أكدت الشريعة الإسلامية وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته كالغش، والخديعة، والتدليس والاستغفال، وتزييف حقيقة الربح، والاحتكار الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة. رابعا: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللًا واضحًا في السوق والأسعار ناشئًا عن عوامل مصطنعة، فإن لولي الأمر حينئذٍ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش. الرئيس: والله أعلم. أبو غدة: والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2362 الرئيس: ما شاء الله جزاكم الله كل خير، هل ترونه مناسبًا، نمشي؟ أبو غدة: قرار رقم (8) . الشيخ المختار السلامي: فيه (ثالثًا: أكدت الشريعة الإسلامية وجوب) ، تمشي؟ أين الشيخ المختار (أكدت الشريعة الإسلامية وجوب سلامة) . الرئيس: (سلامة التعامل من أسباب الحرام) . المختار السلامي: لا. بمعنى أكدت بنفسها.. تصبح أفضل. الرئيس: أكدت وجوب، يعنى. المختار السلامي: نعم. الأمين العام: أكدت كذا. المختار السلامي: (أكدت الشريعة) قلت لك: تمشي، لكن. الرئيس: هو إذا أردتم إما عبارة ... ، أما العبارة المألوفة، فهو يعني ... الشيخ المختار: أكد على كذا أكثر ... الرئيس: تضافرت نصوص الشرع أو شيء من هذا القبيل، يعني .... الشيخ المختار أحمد السلامي: نعم، لهذا أنا قلت لك عندي توقف بسيط لا مشكل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2363 الرئيس: عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} لأنه قيل هنا: عملًا بمطلق قول الله تعالى، لو قيل: وما في معنى من نصوص الكتاب والسنة. أبو غدة: نقول: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب .... الرئيس: إيه، نعم. تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل. الرئيس: كذا يا شيخ، (تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل) . الشيخ إبراهيم: سيدي. أنا عندي على هذه الصياغة ثلاث ملاحظات، الأول: في أولًا أنا اشعر أن هذا لا يتماشى مع موضع الاستدلال ويدخلنا في شبهة الموافقة على أن يفعل الناس في أموالهم ما يشاؤون. أن نفعل في أموالنا ما نشاء. الرئيس: في إطار أحكام الشريعة يا شيخ، السطر الثاني. الشيخ إبراهيم: ثانيًا: أن الاستدلال بالآية الكريمة إنما هو يؤكد أن {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلاَّ أن تَكُونَ تِجَارَةً} فالتجارة هنا جاء: {عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} ، فهي ليست الأصل بل هي استثناء ولا يتوسع فيه ولا يقاس عليه. ثالثًا: أن في الفقرة الرابعة تعبير (ولي الأمر) ، وكان أولى أن يستعمل (أولو الأمر) ، وهو التعبير القرآني. هذه ملاحظات ثلاث لا بد أن أبديها. وشكرًا. الرئيس: على كل هل ترون هذا أو نمشي؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2364 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (8) بشأن تحديد أرباح التجار إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي لمنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ / 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تحديد أرباح التجار) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. قرر: أولا: الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحرارا في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها عملًا بمطلق قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . ثانيًا: ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة وظروف التجار والسلع، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير. ثالثًا: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته كالغش، والخديعة، والتدليس، والاستغفال، وتزييف حقيقة الربح، والاحتكار الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة. رابعًا: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللًا واضحًا في السوق والأسعار ناشئًا من عوامل مصطنعة، فإن لولي الأمر حينئذٍ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش. والله اعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2365 العرف إعداد الشيخ خليل محيى الدين الميس عضو المجمع مفتي زحلة والبقاع الغربي – لبنان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد المصطفى وعلى آله وصحبه. وبعد: فالعرف من مباحث الأصول والفقه، لذا عرض له كل من الأصوليين والفقهاء بوصفه دليلًا تناط به الأحكام الشرعية، ومسائل هذا الباب مبثوثة في كثير من أبواب الفقه وبخاصة في باب الإيمان والتي للعرف فيها مجال واسع وكذلك الشأن في أبواب النذور والمعاملات. أما الأصوليون فقد عرض بعضهم لمبحث العرف تحت عنوان مستقل كالقرافي في تنقيح الفصول والفروق. وأما بقية الأصوليين فقد عرضوا لمسألة العرف تحت عنوان (ما يترك به الحقيقة) أو تخصيص العام وعدوا منها العرف وخرجوا عليها أحكام المسائل الفرعية. ومن الحقائق المسلَّمة أن العرف لا يرتفع من المجتمع البشري مطلقًا، لأنه من صنعهم.. لذا كان متعددًا فمرة يكون عامًّا، ومرة يكون خاصًّا ومختلفًا باختلاف الأعصار والأمصار لذا تقرر أن نبقي على كل مِنَ المفتي والقاضي أن يكون محيطًا بعادات الناس وتقاليدهم لإناطة الحكم في بعض الوجوه بالعرف والعادة. وقد أفرد الفقهاء في السلف والخلف مصنفات ضمنوها آداب القاضي والمفتي يرسمون فيها المنهج لكل منهما وعرضوا من خلالها إلى أحكام العرف كما في تبصرة الحكام، لابن فرحون المالكي، وعين الحكام، للطرابلسي.. ومن كتب القواعد الفقهية: الفروق للقرافي، والأشباه والنظائر لكل من ابن نجيم الحنفي والإمام السيوطي الشافعي، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام. وأما كتب الأصول فقد أفرده بالبحث القرافي في الفصول، وأبو إسحاق الشاطبي في كتابه الموافقات والاعتصام. وممن أفرده بالبحث: العلامة ابن عابدين في رسالته نشر العرف. كما أفاض الزركشي الشافعي في تقسيمات العرف في كتابه المرسوم: (المنثور في القواعد) ومن المعاصرين الفضلاء من صنف رسائل علمية في موضوع العرف، كما سبق وعرض له بشيء من التفصيل العلامة الكوثري (رحمه الله) في مقالاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2366 ويلاحظ أن آراء المتأخرين كانت متعارضة من حيث الظاهر في حكم العرف. فالعلامة أبو سنة لم يعتبره دليلًا آخذًا برأي العلامة الكوثري في المقالات. ولكن الباحث مصطفى عبد الرحيم أبو عجيلة رجح اعتباره دليلًا شرعيًّا. واستدل لهذه الدعوة بأدلة نقلية وعقلية كما أورد في الشواهد المستفيضة في الفقه والأصول ما يؤيد صحة دعواه تلك.. لكن العلامة خاتمة المحققين ابن عابدين رحمه الله يميل إلى القول بحجية العرف حيث قال، من نظمه: والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار ولا غرو أن استمرار النظر في هذا الموضوع له ما يبرره؛ لأنه مسألة خلافية كما وأنها حياتية، والقوانين الوضعية لها اهتمام بارز به وعلى اختلافها، والعرف والعادات إلى اليوم تُعد في نظر الحقوقيين مصدرًا من أهم المصادر للقوانين الوضعية ذاتها، فيستمد منه واضعوها كثيرًا من الأحكام المتعارفة، ويبرزونها في صورة نصوص قانونية يزال بها الغموض والإبهام الذي لا يجليه العرف في بعض الحالات. هذا ومن الحكمة طرح الموضوع في المجمع.. لمزيد من الدراسة والبحث واستقصاء المذاهب والأدلة وترجيح ما ينبغي ترجيحه وتكون عليه الفتوى حسب الأصول. العرف (لمحة تاريخية) : جاء للإسلام وللعرب عادات وتقاليد ساروا عليها واحتكموا إليها مئات السنين: عادات اختلطت فيها بقية من الشرائع السابقة بقواعد أحكمتها تجاربهم، فيها الصالح والفاسد تنازعتها العقول والأهواء، فكانت الغلبة للعقل مرة، وللهوى مرات. ولما جاء الإسلام – وهو دين الصلاح والإصلاح – أقر طائفة منها على ما كانت عليه، وألغى أخرى.. وأبقى على ثالثة وعدَّل رسمها.. كما ابتكر نظما لم يسبق لهم عهد بها. فما ألغاه من عاداتهم وتقاليدهم: بيع المخاطرة والغرر، كبيع الملامسة والمنابذة وإلقاء الحصاة وغيرها.. وأقر من الزواج صنفًا وألغى سواه، فقد أخرج البخاري وأبو داود بسندهما عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: قالت: إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء، فلما بعث الله محمدًا بالحق هدم نكاح الجاهلية إلاَّ نكاح الناس اليوم (1) - أقر أصل الطلاق ونظم طريقته. - وأبقى نظام القصاص في القتل العمد – بعد أن أذهب عنه عنت الجاهلية. - وأقر الرق بشروط معروفة –..   (1) نيل الأوطار: 6/135، باب: أنكحة الكفار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2367 وهكذا اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم العرف القائم عند بعثته، بيد أنه لم يغيره، لأنه مجرد أمر متعارف معمول به من قديم الزمن، وإلا لاعتبر كل ما تعارفوه. وبذلك كان موقف رسول الإسلام من أعراف العرب: إقرار وتنظيم، ووحي السماء ينزل عليه بقرآن وسنة.. وما أقره لم يبق على ما كان عليه عادة وعرفًا، بل أصبح تشريعًا إسلاميًّا واجب الاتباع، ودينًا يتعبد به (1) الصحابة والعرف: سار الصحابة رضوان الله عليهم، على هدي رسول الله بما كان عند العرب من عادات. فأقروا الصالح منها، وأهدروا فاسدها، وهذبوا ما احتاج إلى تهذيب بعد وزنها بميزان الشريعة وتقدير ما فيها من مصلحة. أقر عمر تدوين الدواوين الذي كان معمولًا به عند فارس والروم، وأمر بضرب الدراهم وهو أول من ضربها في الإسلام سنة 18 هـ. وكذلك طبق نظام الخراج والجزية الذي كان يعمل به كسرى. ومع إقرار الصحابة ما أقروه من عادتهم التي لا تتنافى مع مبادئ الإسلام رفضوا منها ما يخالف تعاليمه كعادات القوم في الأعياد وغيرها. العرف عند التابعين: أورد الإمام البخاري في صحيحه بابًا خاصًا بالعرف، ذكر تحته أحاديث تتضمن عمل التابعين بالعرف والعادة، منها: - إحالة شريح الغزَّالين على عرفهم، وجواز كراء الدواب على العرف. وقال البدر العيني: حاصل الكلام أن البخاري قصد بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف (2) قال شريح القاضي: إن أناسا من الغزالين اختصموا إلى شريح في شيء كان بينهم، فقالوا: إن سنتنا بيننا كذا وكذا، فقال شريح سنتكم بينكم، يعني عادتكم وطريقتكم بينكم معتبرة (3)   (1) شلبي، الفقه الإسلامي: ص 88. (2) عمدة القاري: 12 /16. (3) عمدة القاري: 12 /16. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2368 وذكر أن الحسن البصري اكترى حمارًا فقال: بكم؟ قال صاحبه بدانقين، فركبه. ثم جاء مرة أخرى فقال: الحمار الحمار.. فركبه ولم يشارطه. قوله ولم يشارطه يعني الأجرة اعتمادًا على الأجرة المتقدمة المعتادة. التقسيمات الحصرية للعرف باستقراء المسائل المبنية على العرف ومواطن بحثه في الفقه والأصول نجد أن للعرف غير تقسيم وذلك لغير اعتبار، وتعدد منشأ هذا التقسيم. 1- ينقسم العرف إلى قولي وفعلي. 2- وينقسم إلى عام وخاص. 3- وينقسم كل العام والخاص إلى عرف مطلق للاسم وإلى عرف مقيد له. 4- وينقسم العرف القولي: إلى عرف عادي، وعرف شرعي وهو أحد تقسيمات العرف القولي. 5- وهنالك عرف اللفظ وعرف اللافظ. 6- وهنالك العرف الذي كان سائدًا قبل الإسلام وإبان نزول القرآن الكريم. والعرف الطارئ بعد نزول القرآن الكريم وبأقسامه التي ذكرنا. بيان أقسام العرف 1- العرف القولي: هو أن يتعارف الناس على إطلاق لفظ لمعنى بحيث إذا أطلق انصرف إليه من غير قرينة، ولا علاقة عقلية، ولا يتبادر عند سماعه إلاَّ ذاك المعنى (1) وهذا يشمل الاتفاق على إرادة بعض المدلول، وإرادة غير المدلول. فالأول: كإرادة بعض أفراد العام منه بعد أن كان دالًّا على كل أفراده. أما إرادة بعض المدلول كالدراهم، الدرهم: بعد أن كان يطلق على كل أفراد الدرهم صار مقصورًا على النقد الغالب. وأما إرادة غير المدلول: كالاتفاق على إرادة فرد معين من المطلق بعد أن كان دالًّا على فرد شائع والاتفاق على إرادة معنى آخر للمركب غير معناه الأصلي.   (1) التقرير والتحبير: 1 /282.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2369 - فمثال المطلق: لفظ المرأة في قول الموكل: وكَّلتك بتزويجي امرأة. - فإن اللغة تطلقها على الأنثى من بنات آدم. - والعرْف قيدها بالحرة كما هو رأي أبي يوسف ومحمد. ومثال المركب: قول الحالف: لا يضع قدمه في دار فلان، وقول الحالف أيضًا: على المشي. فإن العرف، استعمل الأول في دخول الدار على أي حال. واستعمل الثاني في إيجاب أحد النسكين الحج أو العمرة (1) وهذه الأساليب الفنية في طرائق التعبير هي من صور المجاز في البيان. لأنها تقوم على أساس وجود القرينة أو العلاقة، وليست في شيء من العرف اللفظي الذي يعتبر كلغة وصفية خاصة تصبح معانيها حقائق عرفية تستفاد من مجرد اللفظ (2) العرف العملي: هو اعتياد الناس على شيء من الأفعال العادية أو المعاملات المدنية. والمراد بالمعاملات المدنية: التصرفات التي يقصد منها إنشاء الحقوق بين الناس، أو تصفيتها وإسقاطها، سواء كانت تلك التصرفات عقودًا أم غيرها، كالنكاح والبيع والإبراء، وكالغصب والقبض والأداء (ر. ف 413/حـ1) . من أمثلة العرف في الأفعال: اعتياد الناس في بعض الأماكن أكل نوع خاص من اللحوم كالضأن والمعزى والبقر. ومن أمثلتهم في المعاملات: اعتياد الناس تقسيط الأجور السنوية للعقارات إلى أقساط معدودة. وتعجيلهم في الأنكحة تعجيل جانب معين من المهور كالنصف والثلثين، وتأجيل الباقي إلى الطلاق أو ما بعد الوفاة (3) وقسم ابن عابدين العرف باعتبار من يصدر عنه إلى: (عام) و (خاص) و (شرعي) .   (1) أبو البقاء، الكليات: 3 /215؛ والتقرير والتحبير: 1 /282؛ وأبو سنة، العرف والعادة. (2) الزرقاء، المدخل: 3 /846. (3) الزرقاء، المدخل: 2 /847. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2370 فالعرف العام: هو ما تعامله أهل البلاد الإسلامية سواء أكان قديمًا أي في عصر الرسالة والاجتهاد أو حديثًا أي في عصر التقليد. مثاله: استعمال لفظ الطلاق في إزالة الزوجية، وتعارف أن دخول المساجد بالأحذية تحقير لها. والعرف الخاص: هو ما لم يتعامله أهل البلاد جميعا، كتعامل أهل بلد أو حرفة أو دين.. كتعارف أهل العراق لفظ الدابة على الفرس. وكتعارف أهل بلخ وخوارزم جواز دفع الغزل إلى حائك لينسجه بذلة. ومنه الاصطلاحات الفقهية وكذا اصطلاحات سائر العلوم كالرفع للنحاة، والفرق والجمع والنقض للنظار. العرف الشرعي: وهو اللفظ الذي استعمله الشرع مريدًا منه يعني خاصًّا مثل المنقولات الشرعية كالصلاة: نقلت عن الدعاء إلى العبادة المخصوصة. والناقل في هذا القسم هو الشارع، وهكذا تركت معانيها اللغوية بمعانيها الشرعية (1) الفرق بين العرف العام والعرف الخاص من حيث الحكم: إن كلًّا من العرف العام والخاص: إنما يعتبر إذا كان شائعًا بين أهله يعرفه جميعهم. 1- العرف العام: يثبت به الحكم العام. 2- العرف الخاص: يثبت به الحكم الخاص. وحكما لعرف يثبت على أهله عامًّا أو خاصًّا. فالعرف العام في سائر البلاد: يثبت حكمه على سائر البلاد. والعرف الخاص في بلدة واحدة: يثبت حكمه على تلك البلدة فقط. والحكم العام لا يثبت بالعرف خاصة إذا عارض النص الشرعي، فلا يترك به القياس ولا يخص به الأثر، بخلاف العرف العام. العرف العادي – والعرف الاستعمالي: المراد من الاستعمال: نقل اللفظ من موضوعه الأصلي إلى معناه المجازي شرعًا وغلبة استعماله فيه كالصلاة والزكاة حتى صار بمنزلة الحقيقية ويسمى إذ ذاك: حقيقة شرعية. والمراد من العرف العادي: نقل اللفظ إلى معناه المجازي عرفًا واستفاضته فيه. مثاله: وضع القدم في قوله: لا أضع قدمي في دار فلان ويسمى: حقيقة عرفية (2)   (1) ابن عابدين، الرسائل: 2 /114؛ ورسم المفتي: 1 /47؛ وابن عابدين الرسائل: 2 /133.. (2) البزدوي، كشف الأسرار: 2 /95. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2371 عرف اللفظ وعرف اللافظ موضوع الكلام في اعتبار عرف اللفظ وعرف اللافظ. 1- هو في اللفظ العربي: يعتبر وضعه عند أهله. 2- أما الأعجمي: فيعتبر عرف اللافظ، إذ لا وضع هناك يحمل عليه. ولهذا قال القفال الشاشي: فيما إذا حلف على البيت بالفارسية لا يحنث بيت الشعر وغيره إذا لم يثبت شمول اللفظ له في غرف الفارسية. ومنع الإمام الفرق بينهما (1) وفي تقسيمات العرف يقول صاحب المسودَّة: العرف في اللغة ينقسم إلى عام وخاص: وكل منهما ينقسم إلى عرف مطلق للاسم، وعرف مقيّد له مثل عرف الفقهاء إذا قالوا (الولد) في باب الفرائض عنوا به الولد وولد الابن. وإذا قالوه في باب النكاح عنوا به كل من ولده. وكذلك (المفرد والمركب) للنحاة في عدة مواضع، وكذلك لفظ (المحلل) للفقهاء في باب النكاح وباب السبق. ويكون تخصيص العام بالعرف: تارةً من جهة المتكلم.. وتارة من جهة المتكلم فيه (2) أوجه عرف الاستعمال إنّ عرف الاستعمال يكون من ثلاثة أوجه: أحدها، من جهة اللغة: نحو استعمالنا الدابة لذوات الأربع وما أشبه ذلك. الثاني، من جهة الشرع: نحو استعمالنا الصلاة والصوم والحج والزكاة على حسب ما ورد به الشرع.   (1) الزركشي: المنثور: 3 /388. (2) المسودة: ص224.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2372 الثالث: من جهة الصناعة: نحو استعمال أهل النظر متكلمًا في من يناظر في أصول الديانات. واستعمال أهل الدواوين الزمّام في الكتاب الجامع لما يجمعه، واستعمال أهل الإبل الزمّام لخطام الناقة. وغير ذلك مما لأهل كل صناعة عرف وعادة فيه. فيحمل لفظ كل طائفة على عرفها وعادتها (1) فصل في بيان الأسماء العرفية قال الباجي: الأسماء العرفية: أن تكون اللفظة موضوعة لجنس في أصل اللغة ثم يغلب عليها عرف الاستعمال في نوع من ذلك الجنس. مثاله: قولنا دابة: فهو اسم كان موضوعًا في الأصل لكل ما دب ودرج. ثم غلب عليه الاستعمال لمطلق في البهيمة المخصوصة ذات الأربع. وكذلك قولنا: صلاة، هي في أصل اللغة موضوعة في الدعاء، ثم استعملت في الشرع في الدعاء بقرائن ومعان مخصوصة. وكذلك الصوم: هو الإمساك ثمَّ استعمل في إمساك عن معنى مخصوص في وقت مخصوص. وكذلك الحج: هو القصد في أصل اللغة، ثم غلب عليه عرف الاستعمال بالقصد إلى موضع مخصوص في وقت مخصوص على وجه مخصوص. وأما البيع: فإنه باقٍ على أصله ومستعمل على الوجه الذي وضع به. وكذلك الربا، إلاَّ أنه يدخل التخصيص على حسب ما يدخل ألفاظ العموم، ولم يستعمل في بعض ما يقع عليه في أصل اللغة دون بعض. الحقيقة العرفية الشرعية والحقيقة اللغوية من الثابت أن لكل تشريع عرفًا خاصًا في استعماله لكثير من الألفاظ يخالف به عن حقائقها اللغوية فيجب حمل تلك الألفاظ على معانيها العرفية في لسان الشرع. وهي التي تسمى (بالمصطلحات؛ فالصلاة والصوم والزكاة، والحج، والطلاق) مثلًا: ذات مفاهيم وحقائق شرعية قصدها المشرع كعرف خاص له في الاستعمال وجب أن تعرف هذه الألفاظ عند إطلاقها إلى تلك المعاني العرفية الشرعية تحقيقًا لمراد الشارع منها. ومن ذلك اليمين الواردة في القرآن والسنة.   (1) الباجي، أحكام الفصول: ص 286. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2373 الأمثلة: قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [الآية 89 من سورة المائدة] ، فإنه مستعمل في معنى الحلف بالله تعالى في عرف الشرع لا الحلف بالطلاق، لأن الحلف بالطلاق لم يكن معودًا أثر نزول الآية الكريمة. ومن شرط العرف المخصص أن يكون مقارنًا ولهذا فإن اللغو في الأيمان بالله غير مؤاخذ به دون الطلاق. قال الفقهاء: كل ما ورد به الشرع مطلقًا ولا ضابط له فيه ولا في اللغة يحكم فيه بالعرف. ومثاله: الحرز في السرقة، والتفرق في البيع، والقبض، ووقت الحيض وقدره. ومرادهم: أنه يختلف حاله باختلاف الأحوال والأزمنة، ويختلف الحرز باختلاف عدل السلطان وجوره، وبحالة من الأمن والخوف (1) أوجه استعمال العرف للعرف استعمالات مختلفة كان في كل منها مبنى لحكم من أحكامها على نحو خاص يمكن إجمالها في الصور التالية: 1- استعماله بمنزلة الدليل على تشريع الحكم، أو الدليل المخصص للنص والمقيد له. مثاله: الاستدلال على جواز المضاربة بالعرف، والاستدلال على جواز وقف المنقول – عند بعض الفقهاء – بالعرف. والاستدلال على استصناع الحلي والأثاث وغيرهما بالعرف. واستدلال مالك على عدم جواز خيار الشرط بعرف أهل المدينة. 2- أن يكون استعمال العرف معيارًا يرجع إليه المفتي والقاضي في تطبيق الأحكام المطلقة. بيان ذلك: أن الشريعة توجد بها أحكام مطلقة تختلف باختلاف عادات الناس ومصالحهم. والشارع إنما ينص على حكم شامل، والقضاة والمفتون يطبقونه بحسب العرف. مثاله: عقوبة التعزير فقد أجملها الشارع، فقال الفقهاء: هي كل ما يحصل به التأديب والزجر، وهذا ما يختلف باختلاف الناس وعاداتهم وأحوالهم. ويردع الخسيس بما لا يردعه التغريم بالمال، وقد يكون الكيّ، وقد يكون النفي، والضرب هو العقاب الرادع. ولهذا فوض الشارع تحديد العقاب إلى ولاة الأمر.   (1) الزركشي، المنثور في القواعد: 2 /390. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2374 الاستعمال الثالث: أن يقوم العرف مقام النطق بالأمر المتعارف في الدلالة على الإذن، أو المنع، أو الالتزام، أو الشهادة أمام القضاء أو غيرها. بيانه: أن الأصل في التعبير عن المعاني التي تقوم بالنفس هو اللفظ لوفائه بتفهم الغرض من غير صعوبة، وقد يستغنى عن اللفظ بالعادات الجارية بين الناس الدالة على شيء من غير صعوبة، فهذه العادات تجري مجرى النطق بالعبارات الدالة على مضمونها في اعتبار الشارع، وهي القاعدة المشهورة بين الفقهاء: (المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا) فإن المرد بالشرط ما هو أعم من اللفظ الدال على الإذن، أو صيغة العقد، أو بيان النوع أو القدر في الأغراض الواقعة في العقود إلى غير ذلك. فمثال العرف الدال على الإذن: إيداع المال عند إنسان فإنه يكون إذنا بدفع الوديعة إلى من جرت العادة بدفعها إليه كالزوجة والأولاد. ومثال ما يدل على المنع: تسييج الأرض المملوكة فإنه يكون منعًا من استعمال الغير لها. ومثال ما يدل على ذكر النوع بعد النص على الجنس: كاستئجار الدور والحوانيت بلا بيان ما يعمل فيها، فإنه يكون كالتصريح بالسكنى بالنسبة إلى الدول، وبالتجارة ونحوها بالنسبة إلى الحوانيت، لأن هذا هو المتعارف. ومثال ما يكون كالتصريح بالقدر استئجار الظئر: بطعامها وكسوتها عند أبي حنيفة، ومالك: حيث يكون التصريح بالقدر الذي به الكفاية في عرف المتعاقدين. ومثال ما يكون التصريح بالالتزام عقدًا أو بيعًا أو شرطًا، البيع بالمعاطاة: فإنها في العادة تكون دالة على الرضى من الجانبين، فتكون كالتصريح بالإيجاب والقبول. من ذلك العرف الذي يبين للقاضي من يكون القول قوله من المتداعيين: كما إذا اختلف الزوجان في متاع البيت ولا بينة لواحد منهما، حيث يأخذ القاضي بقول كل واحد منهما فيما تعورف أن يكون له كالكتب وأدوات الزينة وغير ذلك. الاستعمال الرابع: هو الاستعمال العرفي للألفاظ اللغوية، وهو العرف القولي. فكل متكلم يحمل كلامه على عرف، سواء كان ذلك في خطاب الشارع أم تصرفات الناس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2375 فلفظ الصلاة: تطلقه اللغة على الدعاء، ويطلقه الشارع على الأقوال والأفعال المخصوصة فقول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) يحمل على عرف الشرع لا على المعنى اللغوي. وكذلك للعرف القولي أثره في جعل الكتابة صريحة، إذا غلب استعمال اللفظ في أحد المعنيين بعد أن كان محتملًا لها: كقول الرجل لزوجته: أنت بائن مني، أنت عليَّ حرام – إذا غلب استعماله في الطلاق فيقع الطلاق بهما بلا نية، وكذلك في قول وكيل المرأة: جوزتك فلانة بل زوجتك.. فإنه ينعقد العقد.. الاستعمال الخامس: أن يكون العرف الجاري بين الناس مرجحًا لبعض المذاهب الفقهية على بعض، بشرط أن يكون كل من المذاهب التي جرى بينها الترجيح له دليل مقبول إلا أن دليل أحد المذاهب أقوى فيترجح المرجوح بالعرف، لأنه إمارة على حاجة الناس، أما المذهب الباطل فلا يرجحه العرف بحال. مثاله: ترجيح مذهب المالكية والحنابلة القائل: إن المفقود يحكم بموته بعد أربع سنين، لأن هذا المذهب هو الذي يتناسب وفساد الزمان وتداعي الأخلاق. الاستعمال السادس: أن يكون العرف مفيدًا لتمويل الأشياء وتقومها بعد أن لم تكن كذلك. مثاله: النحل والنبات الذي يثبت الطب فائدته، وفضلات الدواب التي اعتاد الناس تسميد الزروع بها، فإن اعتياد الناس تقوّم هذه الأشياء لحاجتهم إليها جعلتها أولًا تباع وتشترى بعد أن لم تكن كذلك. الاستعمال السابع: تأثير العادة في الحكم الشرعي، لأن الظروف التي وجد فيها تغيرت يحتاج إلى احتياط أكثر، أو إلى تخفيف، وهذا يسمى بفساد الزمان. مثاله: أن عدالة الشهود لا تثبت الآن إلا بالتزكية لفشو الكذب، وضعف الإيمان بعد أن كان يكتفي بمجرد إسلام الشاهد. ومثاله: خروج النساء إلى المساجد، فإنه كان يسمح بها في الليل والنهار، لأن القلوب كانت محصنة بقوة التدين. أما الآن فقد تغير حال النساء والرجال، قالت عائشة رضي الله عنها: لو يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل (1)   (1) المدخل، أبو سنة: ص 180. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2376 مستند العرف ولابد للعرف من مستند يقره الشرع، وأغلب ما يكون العرف مستندًا إلى (مصلحة مرسلة مفيدة ومعقولة بذاتها) كانت هي السبب في انتشاره واضطراده، أو غلبته والنزول عند حكمه. والمخصص في الواقع مستند العرف لا العرف ذاته. وعليه يشترط أن تكون (المصلحة) معقولة في ذاتها والتي انعقد الإجماع السكوتي العرفي على شرعيتها. هذا: والتخصيص ليس إلا إعمالًا للدليلين معًا، بما يحقق التوفيق ويزيل التعارض الظاهر بين النص العام والعرف القائم. يقول ابن العربي: العادة دليل أصولي بنى الله عليها الأحكام وربط به الحلال والحرام (1) من له حق الحكم أو الفتوى بالعرف قال بعض العلماء والمحققين: لا بد للحاكم من فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس يميز به بين الصادق والكاذب، والمحق والمبطل، ثم يطابق بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفًا للواقع. وكذا المفتي الذي يفتي بالعرف: لا بد له من معرفة الزمان وأحوال أهله ومعرفة أن هذا العرف خاص أو عام، وأنه مخالف للنص أو لا. ولابد له من التخرج مع أستاذ ماهر، ولا يكفيه مجرد حفظ المسائل والدلائل، فإن المجتهد لا بد له من معرفة عادات الناس، فكذا المفتي. وقالوا: لو أن الرجل حفظ جميع كتب أصحابنا لا بد أن يتلمذ للفتوى حتى يهتدي إليها، لأن كثيرًا من المسائل يجاب عنه على عادات أهل الزمان فيما لا يخالف الشريعة. وقالوا: إن المفتي في الوقائع لا بد له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس (2)   (1) أحكام القرآن: 3 /1830. (2) ابن عابدين، الرسائل: 3 /130. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2377 ما يحكم به العرف ما ورد به الشرع مطلقًاً ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة قال الفقهاء: كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة. يحكم في العرف. مثاله: الحرز في السرقة، والتفرق في البيع والقبض، ووقت الحيض وقدره. ومرادهم: أنه يختلف حاله باختلاف الأحوال والأزمنة، ويختلف الحرز باختلاف عدل السلطان وجوره، وبحالة الأمن والخوف. وهذه الأشياء لا تكاد تنضبط، وكل موضع في كل شيء من ذلك يرجع فيه إلى أهل ناحيته. فما عدوه حرزًا فالمال محرز، وما لا فلا. أما كلام الأصوليين: فإنهم يقدمون العرف للعرف الشرعي، ثم العرفي، ثم اللغوي. الجواب: إن كلام الأصوليين، إنما هو في الحقائق والأدلة التي تستنبط منها الأحكام فيقدم فيها الشرعي على العرفي. كبيع الهازل وطلاقه، فإنه نافذ، وإن كان أهل العرف لا ينفذونه. ويقدم العرفي فيهما على اللغوي عند التقاضي، لأن العرف طارئ على اللغة فهو كالناسخ (1) تغير العرف قال ابن عابدين: فإن قلت: العرف يتغير مرة بعد مرة، فلو حدث عرف آخر جديد لم يقع في الزمان السابق، فهل يسوغ للمفتي مخالفة المنصوص واتباع العرف الحادث؟ قلت نعم، فإن المتأخرين خالفوا المنصوص في مسائل لم يخالفوه إلا لحدوث عرف بعد زمن الإمام. من له حق النظر والفتوى في هذه المسائل ونظائره: فللمفتى اتباع عرفه الحادث في الألفاظ العرفية، وكذا في الأحكام التي بناها المجتهد على ما كان في عرف زمانه وتغير عرفه إلى عرف آخر اقتداء بهم، بعد أن يكون المفتي ممن له رأي ونظر صحيح ومعرفة بقواعد الشرع والشروط المرعية حتى يميز بين العرف الذي يجوز بناء الأحكام عليه، وبين غيره. قلت: لأن الاستدلال بالعرف ضرب من الاجتهاد والاستنباط وإنزال الدليل منزلته بحيث لا يتقدم على غيره، ولا يقضي به على النص إنما يفسر به النص وذاك إنما هو من اختصاص الفقيه (2)   (1) الزركشي. المنثور: 2 /391. (2) ابن عابدين. الرسائل: 1 /45.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2378 مخالفة العرف ظاهر الرواية إذا كانت المسائل الفقهية ثابتة بضرب اجتهاد ورأي، وكثير منها ما بينه المجتهد على ما كان في عرف زمانه، - بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولًا – قالوا في شروط الاجتهاد أنه لا بد فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكيم على ما كان عليه أولًا للزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام. ولهذا: ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذًا من قواعد مذهبه. فمن ذلك: إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه لانقطاع عطايا المسلمين التي كانت في الصدر الأول، ولو اشتغل المعلمون بالتعليم بلا أجرة يلزم ضياعهم وضياع عيالهم فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم. وكذا أخذ الأجرة على الإمامة وآذان كذلك – مع أن ذلك مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة وأبو يوسف من عدم جواز الاستئجار، وأخذ الأجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم والصلاة والحج وقراءة ونحو ذلك. ومن ذلك: قول الإمامين بعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادات مع مخالفته لما نص عليه أبو حنيفة بناء على ما كان في زمنه من غلبة العدالة، لأنه كان في الزمن الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وهما أدركا الزمن الذي فشي فيه الكذب. وقد نص العلماء على أن هذا الاختلاف: اختلاف عصر وأوان لاختلاف حجة وبرهان. ومن ذلك تضمين الساعي مع مخالفته لقاعدة المذهب، من أن الضمان على المباشر دون المتسبب، ولكن أفتوا بضمانه زجرًا بسبب كثرة السعاة المفسرين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2379 وكذا قولهم: المختار في زماننا قول الإمامين في المزارعة والمعاملة والوقف لمكان الضرورة والبلوى ... ودخول الحمام بلا بيان مدة المكث وقدر الماء ونحو ذلك من المسائل التي اختلف حكمها لاختلاف عادات أهل الزمان وأحوالهم، التي لا بد للمجتهد من معرفتها وهي كثيرة جدًا (1) الاصطلاح الخاص هل يرفع الاصطلاح العام ويعبر عنها بأنه: هل يجوز تغيير اللغة بالاصطلاح. وهل يجوز للمصطلحين نقل اللفظ عن معناه بالكلية. أو يشترط بقاء أصل المعنى، ولا يتصرف فيه بأكثر من تخصيصه فيه. قولان للأصوليين وغيرهم، والمختار الثاني. ومن فروعها: لو اتفق الزوجان على ألف واصطلحوا على أن يغيروا عن الألف في العلانية بألفين. فالأظهر: وجوب ألفين لجريان اللفظ الصريح به. والثاني: الواجب ألف عملًا باصطلاحهما. قال الإمام: وعلى هذه القاعدة تجري الأحكام المتلقاة من الألفاظ. فلو قال الزوج لزوجته: إذا قلت أنت طالق ثلاثًا، لم أرد به الطلاق، وإنما غرضي أن تقومي وتقعدي. أو أريد بالثلاث واحدة. فالمذهب: أنه لا عبرة بذلك. وقيل: الاعتبار بما توافق عليه. حكاه الرافعي في باب الصداق. وذكر الإمام في باب الإقرار: أنه لو عمّ في ناحية استعمال الطلاق مخاطبته زوجته على معنى التخلص وحل الوثاق لم يقبل ذلك منه. والعرف: إنما يعبر في إزالة الإيهام، لا في تغيير مقتضى الصرائح. اهـ (2) مسألة: تعارض العرف العام والخاص: إن كان الخصوص محصورًا لم يؤثر، مثاله: لو كان عادة امرأة الحيض أقل ما استقر من عادة النساء، ردت إلى الغالب في الأصح، وقيل تعتبر عادتها. وإن كان الخصوص غير محصور. مثاله: لو جرت عادة قوم بحفظ زروعهم ليلًا ومواشيهم نهارًا، فهل ينزل ذلك منزلة العرف العام. في العكس وجهان أصحهما: نعم (3)   (1) ابن عابدين. الرسائل: 2 /126 – 127. (2) الزركشي. المنثور في القواعد: 1/180. (3) الزركشي. المنثور في القواعد: 2 /389.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2380 تعارض اللغة والعرف العام قال الزركشي في المنثور: 2 /383: وإذا تعارض اللغة والعرف العام: قال صاحب الكافي في كتاب الطلاق: إذا اجتمع في اليمين الحقيقة اللفظية، والدلالة العرفية، فأيهما أولى بالاعتبار، فيه وجهان: أحدهما: وإليه ذهب القاضي حسين – الحقيقة اللفظية أولى، واللفظ متى كان مطلقًا وجب العمل بإطلاقه عملًا بالوضع اللغوي. والثاني: - وإليه ذهب محيى السنة – الدلالة العرفية. لأن العرف محكم في التصرفات سيما في الأيمان. قال: فلو دخل دار صديقه، فقدم إليه طعامًا فامتنع، فقال: إن لم تأكل فامرأتي طالق، فخرج ولم يأكل، ثم قدم اليوم الثاني فقدم إليه ذلك الطعام فأكل. فعلى القول الأول: لا يحنث. وعلى القول الثاني: يحنث. قال المصنف: أقول: اللغة تارة يعم استعمالها في لسان العرب. وتارة يخص استعمالها. وتارة يقيد في إطلاقهم. فإن عمت اللغة: قدمت على العرف، هذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله. كما نقله الرافعي في كتاب الأيمان: فيما لو حلف لا يأكل الروس. قال في كتاب الطلاق: إن تطابق العرف والوضع فذاك. وإن اختلفا، فكلام الأصحاب يميل إلى الوضع. والإمام، والإمام الغزالي يريان اعتبار العرف. وينبني على هذا قاعدة، وهي: إذا عارض اللغة المستعملة عرف خاص، هل يعتبر عرف اللفظ أو عرف اللافظ. أو أن الاصطلاح العام، هل يرفع العام؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2381 ومن أمثلة هذا: ما لو حلف لا يشرب الماء أو ماء. حنث بالعذب والملح. وإنما حنث بالملح، وإن لم يعتد شربه اعتبارًا بالإطلاق والاستعمال اللغوي. والضابط أنه: إن كان الخاص ليس له في اللغة وجه ألبتة، فالمعتبر اللغة. وإن كان الخاص له فيه استعمال، ففيه خلاف في صور: منها: لو حلف لا يدخل بيتًا أو لا يسكنه، فاسم البيت يقع على المبني بالطين، والحجر والمدر سُمِّي بيتًا لأنه يبات فيه، كما قاله الزجاج في تفسيره. ثم إن كان الحالف بدويًّا حنث بكل منها. لأنه قد تظاهر فيه العرف واللغة، لأن الكل يسمونه بيتًا. وإذا ثبت هذا العرف عندهم ثبت عند سائر الناس. لأنهم أهل اللسان فرده على التعميم عملًا باللغة المستعملة. وهذا أيضًا مما اتفقت عليه اللغة والشرع. قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} [سورة النحل: الآية 80] . وفي الحديث: ((لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخله الإسلام)) . ومنها: حلف ألا يأكل الخبز حنث فيما يتخذ من الأرز، وإن كان الحالف من قوم لا يتعارفون أكل خبز الأرز، كما إذا كان بغير طبرستان. لأن خبز الأرز يطلق عليه هذا الاسم لغة في سائر البلاد. وإن تخصصت اللغة في استعمالهم وهجر استعمال بعضها، فلا يستعمل إلا نادرًا، أو صارت نسيًا منسيًّا. فالمقدم العرف كما إذا حلف لا يأكل البيض فإنه يحمل على ما يزايل بائضة، أي: يفارقه في الحياة كبيض الدجاج والأوز والحمام والعصفور ولا يحنث ببيض السمك والجراد. ومن هذا القسم لو قال: زوجتي طالق، لم تطلق زوجاته عملًا بالعرف. وإن كان وضع اللغة يقتضي الطلاق، لأن الجنس إذا أضيف عم. ومنها: لو وصى للفقهاء فهل يدخل الخلافيون المناظرون. ومنها: ويحتمل وجهين لتعارض العرف والحقيقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2382 حكم تعارض العرف مع الشرع. إذا تعارض عرف الاستعمال مع عرف الشرع، فهو نوعان: النوع الأول: أن لا يتعلق بالعرف الشرعي حكم، فيقدم عليه عرف الاستعمال، كما قرره الصيدلاني في شرح المختصر. مثاله: 1- حلف ألا يأكل لحمًا. فلا يحنث لحم السمك وإن سماه الله تعالى لحمًا. 2- أو حلف ألا يجلس على بساط، لا يحنث بالجلوس على الأرض، وإن سماها الله تعالى بساطًا. 3- ولو حلف لا يقعد في سراج، لم يحنث بالقعود في الشمس، وإن سماها الله تعالى سراجًا. 4- ولو حلف لا يضع يده على وتد فوضعها على جبل، لم يحنث، وإن سمى الله الجبال أوتادًا. ووجه في الكل من وجهين: أحدهما: أن أهل العرف لا يسمونها بذلك، فقدم عرف الاستعمال على عرف الشرع، لأنها فيه تسمية لم يتعلق بها تكليف. والثاني: أن الإنسان إنما يؤاخذ بما نواه وفعله، قال تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [سورة المائدة: الآية 89] أي قصدتم. وعقد القلب قصده وتصميمه (1) النوع الثاني: أن يتعلق بعرف الشرع حكم، فيقدم على عرف الاستعمال. مثاله: 1- إذا حلف لا يصلي لم يحنث إلاَّ بذات الركوع والسجود دون التسبيح. 2- وكذا لو حلف لا يصوم، لا يحنث إلاَّ بالإمساك بالنية في زمن قابل للصوم، ولا يحنث بمطلق الإمساك، وإن كان صومًا لغة. 3- ولو حلف لا ينكح، فالنكاح حقيقة في العقد في الأصح، وفي العرف لا يعني به غير الوطء. ومن ذلك: لو باع أو اشترى أو نكح أو راجع أو طلق هازلًا نفذت وصحت، وإن كان أهل العرف لا يعدونها بيعا وشراء ونكاحًا وطلاقًا.   (1) الزركشي. المنثور: 2 /378. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2383 لكن الشرع حكم عليها بالصحة، ففي الحديث: ((ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة)) (1) ونبَّه النبي صلى الله عليه وسلم بالثلاث على ما في معناها وأولى منه كما قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [سورة التوبة: الآية 65] ، وقال سبحانه: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة التوبة: الآية 66] . فمن تكلم بكلمة الكفر هازلًا ولم يقصد الكفر كفر.. (2) ملاحظة: وقال الزركشي: قالوا في كتاب الإيمان: أنها تبنى أولًا على اللغة ثم على العرف. وهذا مخالف لكلام الأصوليين: أنه يقدم العرف الشرعي، ثم الاستعمالي، ثم اللغوي. وكلام الأصوليين إنما هو في الحقائق والأدلة التي تستنبط منها الأحكام فيقدم فيها الشرعي على العرفي. مثاله: بيع الهازل وطلاقه، فإنه نافذ وإن كان أهل العرف لا ينفذونه. ويقدم العرفي فيهما على اللغوي عند التعارض، لأن العرف طارئ على اللغة فهو كالناسخ (3) حجية العرف عند الأصوليين قال علماء الأصول: تحت عنوان فصل: في بيان ما تترك به الحقيقة. وهي خمسة أنواع. وعدَّ منها: دلالة الاستعمال عرفًا بيانه: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال عرفًا، لأن الكلام موضوع للإفهام، والمطلوب به ما يسبق إليه الأوهام.   (1) أخرجه الترمذي: 5 /156، 157؛ وأبو داود: 1 /507؛ والدارقطني: 3 /256؛ والحاكم المستدرك: 2 /197، 198.. (2) الزركشي: المنثور في القواعد: 2 /380 – 391. (3) الزركشي: المنثور في القواعد: 2 /380 – 391. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2384 فإذا تعارف الناس استعماله لشيء عينًا كان ذلك بحكم الاستعمال كالحقيقة فيه. لوجود إمارة الحقيقة وهي: المبادرة إلى الفهم. وما سوى ذلك – لانعدام العرف – كالمهجور لا يتناوله إلاَّ بقرينة. ومثل السرخسي لذلك: بالدرهم. فقال: ألا ترى أن اسم الدرهم عند الإطلاق يتناول نقد البلد لوجود العرف الظاهر في التعامل به. ولا يتناول غيره إلاَّ بقرينة لترك التعامل به ظاهرًا في ذلك الموضع، وإن لم يكن بين النوعين فرق فيما وضع الاسم له حقيقة (1) بيان هذا في اسم الصلاة: فإنها للدعاء حقيقة قال القائل: وصلى على دنها وارتسم. والصلاة مجاز للعبادة المشروعة بأركانها: سميت به لأنها شرعت للذكر، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وفي الدعاء ذكر وإن كان يثوبه سؤال. ثم عند الإطلاق – صلاة – ينصرف هذا اللفظ إلى العبادة المعلومة بأركانها سواء كان فيها دعاء أو لم يكن كصلاة الأخرس. وإنما تركت الحقيقة للاستعمال عرفًا. وكذلك الحج: فإن اللفظ للقصد حقيقة، ثم سميت العبادة بها لما فيها من العزيمة والقصد للزيارة. فعند الإطلاق: الاسم يتناول العبادة للاستعمال عرفًا (2) . وقال (عبد العزيز البخاري) ..، ومن العادة نقله إلى معناه المجازي عرفًا واستفاضته فيه كوضع القدم في قوله: لا أضع قدمي في دار فلان. ويسمى حقيقة عرفية. ويجوز أن يكون الاستعمال راجعا إلى القول، يعني أنهم يطلقون في هذا اللفظ معناه المجازي في الشرع والعرف دون موضوعه الأصلي كالصلاة والدابة: فإنهما لا تستعملان في الشرع والعرف إلاَّ في الأركان المعهودة والفرس. إلى أن قال: وإنما صار استعمال اللفظ في معناه المجازي واستفاضته فيه دلالة على ترك الحقيقة، لأن الكلام موضوع للإفهام، والمطلوب به ما يسبق إليه الأوهام، فإذا تعارف الناس استعماله لشيء عينًا كان بحكم الاستعمال كالحقيقة فيه وما سواه لعدم العرف كالمجاز لا يتناوله الكلام إلاَّ بقرينة. وقال: الحقيقة تترك بالتعارف .... وقال: والحقيقة تترك بنية غيرها أو بالعرف (3)   (1) السرخسي: 1 /2189؛ وكشف الأسرار على المنار: 1 /231. (2) ابن أمير حج. التقرير والتحبير: 1 / 283؛ والسرخسي: 1/ 190 (3) كشف الأسرار: 2 /95، 96 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2385 وقال ابن الهمام معقبًا: إن فخر الإسلام أراد بما ذكر هذا المعنى، فهو مجاز لغوي مهجور الحقيقة، فصار حقيقة عرفية (1) ثم فرع على هذا الأصل مسائل فقال: ومن التخصيص بالعادة: 1- فيمن نذر المشي إلى بيت الله: لزمه حجة أو عمرة والخيار إليه استحسانًا. وفى القياس لا يلزمه شيء، لأن الإلزام بالنذر إنما يصح إذا كان من جنسه واجب عليه شرعًا، وليس من جنس المشي إلى بيت الله واجب عليه شرعًا فلا يصح التزامه بالنذر. ولكنا تركنا القياس بالعرف الظاهر بين الناس، أنهم يذكرون هذا اللفظ ويريدون به التزام النسك وتعارفوا ذلك، والعرف مختص بلفظ المشي المضاف إلى الكعبة أو إلى بيت الله الحرام أو إلى مكة فبقي وراءها على القياس (2) 2- مسألة: لو قال: لله على أن أضرب بثوبي حطيم الكعبة. فعليه أن يهديه استحسانًا وفي القياس لا شيء عليه: وجه القياس: لأن ما صرح به في كلامه لا يلزمه لأنه (ضرب الثوب) ليس بقربة فلأن لا يلزمه غيره أولى. وجه الاستحسان: أنه إنما يراد بهذا اللفظ الإمراء به فصار عبارة عما يراد به عرفًا، فكأنه التزم أن يهديه (3) 3- حلف لا يأكل رأسًا: أنه يقع على المتعارف – رؤوس البقر والغنم – استحسانًا.. لأنا نعلم أنه إنما يراد به رأس كل شيء.. فإن رأس الجراد والعصفور لا يدخلان تحته وهو رأس حقيقية، فإذا علمنا أنه لم يرد به الحقيقة وجب اعتبار العرف وهو: الرأس ما يكبس في التنانير ويباع مشويًّا. وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولًا: يدخل فيه رأس الإبل والبقر والغنم لما رأى من عادة أهل الكوفة أنهم يفعلون ذلك في هذه الرؤوس الثلاثة، ثم تركوا هذه العادة في الإبل فرجع وقال: يحنث في رأس البقر والغنم خاصة. ثم إن أبا يوسف ومحمدًا رحمهما الله شاهدا عادة أهل بغداد وسائر البلدان أنهم لا يفعلون ذلك إلاَّ في رؤوس الغنم فقالا: لا يحنث إلاَّ في رأس الغنم فعلم: - أن الاختلاف اختلاف عرف وزمان لا اختلاف حكم وبرهان. - ثم قال: والعرف الظاهر أصل في مسائل الأيمان.   (1) الكمال بن الهمام – تيسير التحرير. (2) ابن أمير حاج التقرير والتحبير: 1 /283. (3) أصول السرخسي: 1 /189. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2386 وخرج على الأصل مسائل: منها: - لو حلف لا يأكل بيضًا فإنه يختص ببيض الإوز والدجاجة استحسانًا. ومنها: - لو حلف لا يأكل طبيخًا فهو على اللحم خاصة ما لم ينوِ غيره استحسانًا، وفي القياس يحنث في اللحم وغيره.. لكن الأخذ بالقياس ههنا يفحش فحملناه على أخص الخصوص وهو اللحم لأنه هو الذي يطبخ في العادات الظاهرة (1) وقلنا: إن هذه العمومات خصصت بالعرف العادي لا بالعرف الاستعمالي: لأن لفظ الرأس كما يستعمل في رأس الغنم يستعمل في رأس العصفور والحمام وسائر الحيوانات على السواء، إلاَّ أن العادة في الأكل مختصة برأس الغنم. - وكذا إطلاق لفظ البيض على بيض العصفور والحمام شائع كما شاع في بيض الدجاج والإوز لكن العادة الظاهرة في الأكل اختصت بأكل بيض الدجاج والإوز دون غيرهما. وقال الكمال بن الهمام: كما يقدم المعنى الشرعي في خطاب أهل الشرع على المعنى اللغوي، كذا يقدم المعنى العرفي على اللغوي في لسان أهل العرف خاصًّا كان أو عامًّا. وضرب لذلك مثلًا فقال: فلو حلف لا يأكل بيضًا كان المحمول عليه ذا القشر.. ولا يدخل فيه بيض السمك إلاَّ أن ينويه، ويدخل بيض النعام – فيحمل على ما ينطلق عليه اسم البيض ويؤكل عادة.. فعلم أن المراد دخوله فيما إذا كانت عرف خطاب الحالف بحسب معتادهم في الإطلاقات ما يعمّ بيض النعام. وأما إذا كان العرف ما هو أخص من ذلك فلا يدخل فيه فيدور ذلك مع التعارف وهكذا في مسألة الطبيخ والشواء: فتركت الحقيقة وهي العموم بالعادة بخلاف ما تقدم؛ فإن الحقيقة تركت فيه بغلبة استعمال اللفظ في تلك المعاني كما بينا لا بالعادة لأن الناس كما اعتادوا فعل الصلاة اعتادوا الدعاء أيضًا (2) العرف في أقوال الفقهاء اتفقت كلمة الفقهاء على الاستدلال بالعرف إما باستنباط الأحكام بناء على العرف أو التصريح بحجة العرف سواء كان ذلك في كتب القواعد الفقهية أو من خلال عرض المسائل التي اعتمد في تخريجها على العرف. ومن ذلك قولهم. اتباع العرف أمر مجمع عليه حكاه القرافي ونقله التسولي في (البهجة: 2 /89) ، وقال صاحب المغنى في مفهوم إحياء الموات – الإحياء ما تعارفه الناس إحياء: 2 /435، وقال التادي في هامش (البهجة: 2/94) : إذا جرى العرف بشيء صار هو الأصل، وقال صاحب المهذب في الإذن (إطلاق الإذن يحمل على العرف) ونقل التسولي في الالتزام في عقد النكاح يكون باللفظ والعادة. وقال ألفاظ الوقف تجري على العرف. (البهجة: 1 /230) واعتبر القاضي حسين أن الرجوع إلى العرف أحد القواعد الخمس التي يبنى عليها الفقه حكاه ابن حجر في (الفتح: 4 /406) ، هذا ومن المالكية محمد بن سحنون قال: أن كان للقوم عادة وعرف متقدم بينهم حملوا على عرفهم وعاداتهم. (ملتقى ابن عرفة: ص 370) . وأما السرخسي الفقيه والأصولي الحنفي فذكر في غير موضع من المبسوط حجية العرف قال: الأيمان مبنية على العرف.. وتعامل الناس – من غير نكير منكر – أصل في الشرع، والتعيين في العرف كالتعيين بالنص، والثابت بالعرف كالثابت بالنص، جوزنا العقود بالعرف وإن كان القياس يأباه. (المبسوط: 3 /14) . ويقول البدر العيني: العرف عند الفقهاء أمر معمول به. وقال: حمل الناس على أعرافهم ومقاصدهم واجب. (عمدة القاري: 12 /16) ، وقال الجصاص الحنفي اعتبار الوسع مبني على العادة. (الأحكام: 1 /479) ، بل ونقل عن ابن الهمام قوله: العرف بمنزلة الإجماع عند عدم النص. (الفتح: 7 /15) ، ويقول ابن العربي المالكي: العرف والعادة أصل من أصول الشريعة وقد جمع الأستاذ أبو عجيلة في كتابه العرف حكاية أقوال الفقهاء (فقهاء المذاهب) في (حجية العرف: ص 247 – 258) . العرف المخصص للعام نوعان: 1- العرف القولي، أو العادة القولية. 2- العرف العملي، أو العادة الفعلية. حجية كل من العرف القولي والعرف العملي في حاكميته على النص تقييدًا وتخصيصًا عند الأصوليين. - لا نزاع بين الأصوليين أن العرف القولي يقضي على النص فيقيده إن كان مطلقًا ويخصصه أن كان عامًا. ونص عليه الغزالي وصاحب المعتمد والآمدي ومن تبعه (3)   (1) عبد العزيز البخاري: 2 /98؛ وأصول السرخسي: 1 /191؛ وكشف الأسرار على المنار: 1 /269؛ والتحرير: 2 /20. (2) البزدوي، كشف الأسرار: 2 /99؛ وكشف الأسرار على المنار: 1 /271. (3) نهاية السول: 2 /470. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2387 واتفقوا كذلك على أن العرف العملي يقيد المطلق. لكنهم اختلفوا في: تخصيص العام بالعرف العملي. والمراد به تعامل الناس ببعض أفراد العام. فذهب الحنفية والمالكية: إلى أنه لا فرق بين العرف القولي والعرف العملي – فكلاهما يخصص العام. وخالفهم في ذلك الشافعية، فذهبوا إلى أن العرف العملي لا يقوى على التخصيص وهنالك قاعدتان في هذا الصدد: الأولى: إنه يجب إجراء الكلام على حقيقته المتبادرة ولا يحمل على المجاز إلاَّ بدليل الثانية: العادة محكمة (1) ومن هنا قرر الأصوليون أن مطلق الكلام فيما بين الناس ينصرف إلى المتعارف. القائلون بحجية العرف: قال صاحب الأشباه: واعلم أن اعتبار العرف والعادة يرجع إليه في مسائل كثيرة. حتى جعلوا ذلك أصلا (أي دليلًا) ، فقالوا في الأصول في باب ما يترك به الحقيقة.. تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة (2) وفي القنية للزاهدى (685هـ) ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما بظاهر المذهب ويتركا العرف. قال ابن عابدين: والعرف في الشرع له اعتبار؛ لذا عليه الحكم قد يدار (3) وفي شرح الأشباه للبيري: والثابت بالعرف كالثابت بالنص (4) وفي المبسوط: الثابت بالعرف كالثابت بالنص (5)   (1) ابن عابدين، نشر العرف: 2 /116. (2) ابن نجيم، الأشباه: ص 93. (3) ابن نجيم، الأشباه: ص 93. (4) ابن عادين، الرسائل: 1 /46. (5) الحموي، غمز عيون الأبصار: 1/ 295. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2388 وقال القرافي في التنقيح: وأما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها (1) وقال ابن الفرس: فالعرف متردد بين أن يراد به أفعال الخير، وبين أن يراد به الأفعال الجارية بين الناس مما لا يرده الشرع، واللفظ مشترك بينهما. ونقل ابن رحال قول ابن يونس: فالعرف فاصل يقضى به. وقال أبو الحسن: والعرف عندنا دليل من أدلة الشرع، فيقيد المطلق ويخصص العام ويكون شاهدًا لمدعيه (2) وقال الإسنوي: إن ما ليس ضابط في الشرع ولا في اللغة يرجع إلى العرف (3) حجية العرف يقول القرافي في مختصر التنقيح: تنبيه: ينقل عن مذهبنا أن من خواصه اعتبار العادات، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع. وليس كذلك. أما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها (4) وابن العربي في تفسير قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} يقول: المسألة الرابعة في تقدير الإنفاق: قد بينا أنه ليس له تقدير شرعي وإنما أحاله الله سبحانه على العادة، وهي دليل أصولي بنى الله عليه الأحكام وربط به الحلال والحرام (5) والسرخسي من الحنفية يقول في المبسوط: إن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، ولأن في النزع عن العادة الظاهرة حرجًا بينًا (6) وقال أيضًاً في موضع آخر من مبسوطه: وأقرب ما قيل في حق المجتهد أن يكون قد حوى علم الكتاب ووجوه معانيه، وعلم السنة بطرقها ومنزلتها ووجوه معانيها. وأن يكون مصيبًا في القياس عالمًا بعرف الناس (7) ثم عمم ابن عابدين ذلك حيث قال: ولهذا قالوا: من شروط الاجتهاد أنه لا بد فيه من معرفة عادات الناس (8)   (1) القرافي، تنقيح الفعول: ص 198. (2) حاشية ابن رحال، على مبارة للعاصمية: 1 /191. (3) التمهيد: ص 224. (4) التنقيح: ص 76. (5) أحكام القرآن: 2 /270. (6) المبسوط: 13 /24. (7) المبسوط: 16 /62. (8) الرسائل: 2/ 125 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2389 أدلة القائلين بحجية العرف استدل القائلون بحجية العرف من الكتاب والسنة. 1- أما الكتاب: فقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . قال السيوطي في تفسير الآية: قال ابن الفرس: اقضِ بكل ما عرفته النفوس مما لا يردّه الشرع. ثم عقَّب السيوطي قائلًا: وهذا أصل القاعدة الفقهية في اعتبار العرف، وتحتها مسائل لا تحصى. واستدل بهذه الآية على حجية العرف غير واحد من فقهاء المذاهب وبخاصة المالكية منهم ابن يونس وأبو الحسن وابن الفاكهان والقاضي عبد الوهاب (1) وغيره خلق كثير.. وعلاء الدين الطرابلسي في معين الحكام – الباب الثامن والعشرون –. كما استدل بهذه الآية القرافي في (الفروق) مرتين: الأولى: في الفرق (190) وهو يتحدث عن اختلاف الزوجين في متاع البيت. والثانية: في الفرق (231) وهو يتحدث عن الحيازة. وقال ابن الكلبي: وقيل العرف الجاري بين الناس من العوائد واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعوائد (2) 2- قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة البقرة: الآية 233] . قال الرازي الجصاص: وقوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} يدل على أن الواجب من النفقة، والكسوة هو على قدر حال الرجل في إعساره ويساره، إذ ليس من المعروف إلزام المعسر أكثر مما يقدر عليه ويمكنه، ولا إلزام الموسر الشيء الطفيف.. إلى أن قال: فإذا اشترطت المرأة وطلبت من النفقة أكثر من المعتاد المتعارف لمثلها لم تعط. وكذلك إذا قصَّر الزوج عن مقدار نفقة مثلها في العرف والعادة لم يحل له ذلك واجبر على نفقة مثلها. واستطرد قائلًا.. واعتبار الوسع مبني على العادة. اهـ.   (1) ابن رحال في الحاشية: 2/191-249. (2) التسهيل: 2 /106. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2390 وقال: إذ لا توصل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلاَّ من جهة غالب الظن واكثر الرأي إذ كان ذلك معتبرًا بالعادة وكل ما كان مبنيًّا على العادة فسبيله الاجتهاد (1) وقال ابن العربي: وحمل على العرف والعادة في مثل ذلك العمل، ولولا أنه معروف ما ادخله الله في المعروف (2) وقال أبو حيان التوحيدي: ومعنى بالمعروف: ما جرى به العرف. وقال ابن كثير: أي ما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن (3) ومن الآيات الكريمة التي فيها تلميح بليغ إلى اعتبار العرف دليلًا قوله تعالى {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة البقرة: الآية 228] . وقوله سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة النساء: الآية 19] . قال القرطبي: العرف والمعروف والعارفة: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمئن إليها النفوس (4) وجه الاستدلال: أرشد الله تعالى الزوجين في عشرتهما وأداء حق كل منهما إلى الآخر إلى العرف المعتاد والعادة، الذي يرتضيه العقل، ويطمئن إليه القلب، ولا شك أن ذلك متغير حسب الاختلاف بين المناطق وأحوال الناس. ومن هذا القبيل ما جاء في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [سورة المائدة: الآية 89] . قال الإمام الطبري: وأول الأقوال في تأويل قوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ، عندنا قول من قال: أوسط ما تطعمون أهليكم في القلة والكثرة، وذلك أن أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم – في الكفارات كلها وردت بذلك، وذلك كحكمه صلى الله عليه وسلم – في كفارة الحلق من الأذى بفرق من طعام بين ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع (5)   (1) أحكام القرآن: 1 /404. (2) أحكام القرآن: ص 203. (3) ابن كثير: 1 /305. (4) تفسير القرطبي: 7 /346. (5) جامع البيان: 10 /543. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2391 وقال الإمام ابن تيمية: أمر الله تعالى بإطعام المساكين من أوسط ما يطعم الناس أهليهم. وقد تنازع العلماء في ذلك، هل ذلك مقدَّر بالشرع أو يرجع فيه إلى العرف..، وتنازعوا كذلك في النفقة، نفقة الزوجة. والراجح في هذا كله أن يرجع فيه إلى العرف، فيطعم كل قوم مما يطعمون أهليهم. ولما كان كعب بن عجرة ونحوه يقتاتون التمر، أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقًا من التمر بين ستة مساكين (1) ومن شواهد القاعدة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [سورة النور: الآية 58] . قال العلائي: فأمر الله بالاستئذان في هذه الأوقات التي جرت العادة فيها بالابتذال ووضع الثياب، فانبنى الحكم الشرعي على ما كانوا يعتادونه (2) قال القرطبي: أدب الله تعالى عباده في هذه الآية: يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة، هي الأوقات التي تقضي عادة الناس الانكشاف (3) . ومن السنَّة: ومن الأدلة الواردة في السنَّة المطهرة على تحكيم العادة والعرف في بعض الأحكام قوله صلى الله عليه وسلم: ((الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة)) (4) قال الإمام العلائي في قواعده: وجه الدلالة منه أن أهل المدينة لما كانوا أهل نخيل وزرع، فاعتبرت عادتهم في مقدار الكيل.   (1) مجموعة الفتاوى: 26 /113 - 114. (2) المجموع المذهب: ص 42، الوجه الثاني. (3) تفسير القرطبي: 2 / 304 (4) رواه أبو داود، معالم السنن: 5 /12. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2392 وأهل مكة كانوا أهل متاجر فاعتبرت عادتهم في الوزن (1) والمراد بذلك فيما يتقدر شرعًا، كنصب الزكاة ومقدار الديات، وزكاة الفطر، والكفارات ونحو ذلك. فهذا المبدأ عام قرره النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتداد بالعرف الجاري بين الناس. وليس المراد بالحديث تعديل الموازين والأرطال والمكاييل وجعل عيارها أوزان أهل مكة ومكاييل أهل المدينة عند التنازع حكمًا بين الناس يحملون عليها إذا تداعوا إلى أن قال: فإذا جاء باب المعاملات حملنا العراقي على الصاع المتعارف المشهور عند أهل بلاده. والحجازي على الصاع المعروف ببلاد الحجاز، وكذلك كل أهل بلد على عرف أهله (2) قال العيني: كل شيء لم ينص عليه الشارع أنه كيلي أو وزني، فيعتبر في عادة أهل كل بلدة على ما بينهم من العرف فيه، لأن العرف جملة من القواعد الفقهية (3) ومن السنة: قضاء النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه حرام بن محيصة، عن أبيه: أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته ((فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل)) وفي رواية: فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية على أهلها وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل (4)   (1) المجموع المذهب: ص 42 الوجه الثاني. (2) المعالم: 5 /15. (3) عمدة القاري: 16 /102. (4) سنن أبي داود بشرح عون المعبود: 9 /483. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2393 قال الخطابي: ويشبه أن يكون إنما فرق بين الليل والنهار في هذا: لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار. ويوكلون بها الحفاظ والنواطير. ومن عادة أصحاب المواشي أن يسرحونها بالنهار، ويردوها مع الليل إلى المراح. فمن خالف هذه العادة كان به خارجًا عن رسم الحفظ إلى حدود التقصير والتضييع، فكان كمن ألقى متاعه في طريق شارع، أو تركه في غير موضع حرز، فلا يكون على آخذه قطع (1) ومن السنَّة أيضًا: أحوال النساء وعوارضهن. قال صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش: ((فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام)) وذلك لما شكت، إليه بأنها تستحاض حيضة كثيرة. وفيه تنبيه على الرجوع إلى الأمر الغالب والعادة. قال الخطابي في المعالم: فردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها إلى العرف الظاهر والأمر الغالب من أحوال النساء، كما حمل أمرها في تحييضها كل شهر مرة واحدة على الغالب من عدتهن، ويدل على ذلك قوله: كما تحيض النساء ويطهرن ميقات حيضهن وطهرهن. وهذا أصل في قياس أمر النساء بعضهن على بعض في باب الحيض والحمل والبلوغ وما أشبه هذا من أمورهن (2) وفي ضوء هذه النصوص ونظائرها اهتدى الأئمة إلى وضع هذه القاعدة واحتكموا إليها في كثير من المسائل والقضايا، وهذا ما يرمز إليه قول الإمام القاضي شريح في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه للغزَّالين: (سنتكم بينكم) ، قال العيني في شرح البخاري: يعني عادتكم وطريقتكم بينكم معتبرة (3) أدلة المجيزين لتخصيص العموم بالعادات وعمدة من ذهب إلى أن العموم يخص بالعادات: 1- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يخاطب الناس بلغتهم فيما عرفوا في تحاورهم. وكذلك أمر الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل من الآية 44] . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [سورة إبراهيم من الآية 4] وجه الاستدلال: لو لم يكن خطاب الشرع منزلًا على مقتضى العادة خرج عن أن يكون مفهمًا وبطلت فائدة الرسالة، فلا بد من حمله على مقتضى العادة ليتحقق معنى الإفادة (4) وقال أبو الوليد الباجي المالكي: مسألة: يجوز تخصيص العموم بعادة المخاطبين: وبه قال ابن خويز منداد. وجه هذا القول: أن اللفظ إذا ورد حمل على عرف التخاطب في الجهة التي ورد منها. وقال القاضي أبو محمد: إن كان العرف من جهة الفعل لم يقع به التخصيص، مثل أن يقول: حرّمت عليكم اللحم، وعادتهم أكل لحم الضأن.   (1) معالم السنن: 5 /202. (2) جامع الترمذي: 2 /222 و 223؛ والمعالم: 1 /183. (3) عمدة القاري: 12 /16. (4) ابن برهان البغدادي. الوصول إلى الأصول: 1 /306. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2394 وإن كان العرف من جهة التخاطب: وقع به التخصيص، مثل أن يقول: حرمت عليكم ركوب الدواب، فيختص بما يستعمل فيه هذا اللفظ دون ما وضع له (1) قال القرافي (المالكي) : تحت باب: في جمع أدلة المجتهدين وتصرفات المكلفين. في الأدلة: وعدَّ منها: العوائد. ثم قال: العوائد، العادة: غلبة معنى من المعاني على الناس، وقد تكون هذه الغلبة في سائر الأقاليم كالحاجة للغذاء والتنفس في الهواء. وقد تكون خاصة ببعض البلاد كالنقود والعيوب. وقد تكون خاصة ببعض الفرق كالآذان للإسلام، والناقوس للنصارى. حكمها: فهذه العادة يقضى بها عندنا – المالكية (2) مذهب الحنابلة: لا يجوز تخصيص العموم بالعادات عندنا.. وقال أبو الخطاب: وهذا فيه تفصيل: 1- فإن العادات في الفعل – مثل أن يكون عادة الناس شرب بعض الدماء ثم تحرّم الدماء بكلام يعمها – فهذا الذي لا يجوز تخصيص العموم به. 2- وأما إن كانت العادة في استعمال العموم – مثل أن يحرم أكل الدواب، والدواب في اللغة اسم لكل ما دبَّ – ويكون عادة الناس تخصيص الدواب بالخيل مثلًا – فإنا نحمل الدواب على الخيل. قال أبو الخطاب: وليس هذا بتخصيص على الحقيقة وإنما هو تخصيص بالنسبة إلى اللغة (3) قال ابن القيم: ومما تتغير به الفتوى لتغير العرف والعادة. موجبات الأيمان، والإقرار، والنذور وغيرها..   (1) الباجي أحكام الفصول: ص 269. (2) القرافي. التنقيح: ص 448. (3) المسودة: ص 124. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2395 فمن ذلك: أن الحالف إذا حلف: لا ركبت دابة – وكان في بلد عرفهم في لفظ (الدابة) الحمار خاصة – اختصت يمينه به، ولا يحنث بركوب الفرس ولا الجمل. وإن كان عرفهم في لفظ (الدابة) الفرس خاصة، حملت يمينه عليها دون الحمار. وكذلك إن كان الحالف ممن عادته ركوب نوع خاص من الدواب. كالأمراء ومن جرى مجراهم حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدواب. فيفتى في كل بلد بحسب عرف أهله، ويفتي كل أحد بحسب عادته. وكذلك إذا حلف (لا أكلت رأسا) في بلد عادتهم أكل رؤوس الضأن خاصة. لم يحنث بأكل رؤوس الطير والسمك ونحوها. وإن كان عادتهم أكل رؤوس السمك، حنث بأكل رؤوسها. وكذلك إذا حلف (لا اشتريت كذا) ولا بعته ولا حرثت هذه الأرض ولا زرعتها ونحو ذلك: وعادته أن لا يباشر ذلك بنفسه كالملوك وحنث قطعًا بالإذن والتوكيل فيه، فإنه نفس ما حلف عليه. وإن كان عادته مباشرة ذلك بنفسه كآحاد الناس، فإن قصد منع نفسه من المباشرة لم يحنث بالتوكيل. وإن قصد عدم الفعل والمنع منه جملة حنث بالتوكيل. وإن أطلق اعتبر سبب اليمين. وعلى هذا: إذا أقرَّ الملك أو أغنى أهل البلد لرجل بمال كثير، لم يقبل تفسير بالدرهم والرغيف ونحوه مما يتمول. فإن أقرَّ به فقير يعدُّ عنده الدرهم والرغيف كثيرًا قبل منه (1) أما العرف الخاص: قوليًّا كان أو عمليًّا. فالمالكية: يجيزون تخصيص النص العام بالعرف الخاص. أما الحنفية: فلا يرون ذلك في الراجح من مذهبهم. والمدار في ذلك على تحقق مناط التخصيص، فحيثما تحقق المناط وجب القول بوجوب التخصيص، ولا فرق إذ ذاك بين عام وخاص أو قولي وعملي.   (1) ابن القيم: إعلام الموقعين: 2 /62 و 33. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2396 وأما مذهب الحنابلة: فقد نصَّ عليه صاحب المسودَّة، فقال: وقال الغزالي في المستصفى: الثامن عادة المخاطبين: فإذا قال لجماعة من أمته: حرمت عليكم الطعام والشراب مثلًا، وكانت عادتهم تناولهم جنسًا من الطعام، فلا يقتصر النهي على معتادهم بل يدخل فيه لحم السمك والطير وما لا يعتاد في أرضهم. وجه القول: لأن الحجة في لفظه وهو عام، وألفاظه غير مبنية على عادات الناس في معاملاتهم حتى يدخل فيه شرب البول وأكل التراب وابتلاع الحصاة والنواة. وهذا بخلاف لفظ الدابة، فإنها تحمل على ذوات الأربع خاصة لعرف أهل اللسان في تخصيص اللفظ. وأما أكل النواة والحصاة يسمى أكلًا في العادة، وإن كان لا يعتاد فعله، ففرق بين أن لا يعتاد الفعل وبين أن يعتاد إطلاق الاسم على الشيء. وعلى الجملة: فعادة الناس تؤثر في تعريف مرادهم من ألفاظهم حتى إن الجالس على المائدة يطلب الماء يفهم منه العذب البارد، لكن لا تؤثر في خطاب الشارع إياهم (2 /111) . استدل المانعون به من وجوه. أولًا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث لتبديل العادات وتغييرها. ولو خص العموم بالعادة الواردة بطلت فائدة الألفاظ الواردة على صاحب الشرع. ثانيا: إن العادة فعل يصدر من المكلفين، وأفعال المكلفين ليست بحجة. والعموم: قول الله تعالى وقول رسوله وهو حجة، فكيف تخص الحجة بما ليس بحجة. والعموم: قول الله تعالى وقول رسوله وهو حجة، فكيف تخص الحجة بما ليس بحجة. ثالثًا: أن العادة ليست بأمر مشروع، وقول صاحب الشرع يشرع من جهة الله تعالى فلا يجوز أن يترك الشرع الوارد لما ليس بشرع ثابت (1) مذهب الشافعية في المسألة قال الزركشي: والعرف الفعلي (العملي) غير معتبر في تخصيص الألفاظ، أما عن ابن برهان: العادات الراجعة إلى الأفعال فلا يجوز أن تكون مخصصة للألفاظ الشرعية.   (1) ابن برهان البغدادي. الوصول إلى الأصول: 1 /306. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2397 وجه القول: إن العمل ليس عرفًا للأقوال، فلا يكون له سلطان عليها. بل سلطانه على الأفعال. أو نقول: إن ذلك يقضي إلى تقديمها على ألفاظ صاحب الشرع فلا بد أن يقضى على العادات بالألفاظ الشرعية. بيان ذلك: إن قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275] ، لو كان مخصوصًا بغير الربا الذي اعتادوه فيما بينهم بطلت فائدة الآية. إنما نزلت لصدهم عن العادة الذميمة ومنعهم منها. فأجرى ما كان اللفظ متناولًا له ودالًا عليه على ما كان شائعًا معتادًا، ولأن الحاجة إنما تدعو إلى بيان ما يتم به البلوى دون ما كان نادرًا، فهذا النوع من العادات لا يجوز أن يخصَّ به الألفاظ. أما العرف القولي: فسلطانه على الأقوال لأنه عرف لها فيخصصها ولا سلطان له على الأفعال لأنه ليس عرفًا لها. ثمرة الخلاف: لو حلف السلطان لا يلبس ثوبًا، أو لا يأكل خبزًا، فأكل خبز الشعير أو لبس الكرباس يحنث، وإن كانت عادته عدم تناوله. وإن حلف هو أو غيره أن لا يأكل رؤوسا، فأكل رؤوس السمك لم يحنث، لأن العرف خصص الرءوس بذوات الأربع. وفي هذا المقام لا بد من البناء على أصل وهو: أنه إذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب كل أمة بلغتهم وبما يتعارفونه جاز التخصيص بهذه الألفاظ لأنها أقرب إلى البيان. وإن ثبت أنه يخاطب الناس باللغة الأصلية – دون العادة واللغة العرفية – فلا يجوز تخصيص ألفاظه صلى الله عليه وسلم بالعادة المطردة (1) رأي الكوثري في حجية العرف - وأما تحكيم العرف على النصوص فلم يقع من مسلم ولن يقع. والتعامل بين المسلمين بالمعدنين المسكوكين – من غير وزن – إنما هو للعلم بوزنهما من قيام رقابة ساهرة عليه جد السهر وليس ذلك من تحكيم العرف من شيء (2) ، وقال: وأحكام الشرع هي: ما فهمه الصحابة والتابعون وتابعوهم من كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم على موجب اللسان العربي المبين.   (1) الزركشي. المنثور في القواعد: 2 /393؛ وابن برهان البغدادي. الوصول إلى الأصول: 1 /360. (2) الكوثري. المقالات: ص 111. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2398 وعمل الفقهاء إنما هو الفهم من الكتاب والسنة، وليس لأحد سوى صاحب الشرع دخل في التشريع مطلقًا. وأما المتأخرون من الفقهاء فليس لهم إلا أن يتكلموا في نوازل جديدة لا أن يبدوا آراء في الشرع على خلاف ما فهمه من النصوص رجال الصدر الأول الذين هم أهل اللسان، المطلعون على لغة التخاطب بين الصحابة قبل أن يعتورها تغيير وتحرير، والمتلقون للعلم عن الذين شهدوا الوحي. فما فهموه من الشرع فهو المفهوم. وما أبعدوه عن أن يكون دليلًا بعيد أن يتمسك به. وإنما يكون الكلام فيما لم يتكلموا فيه، أو اختلفوا في حكمه. ثم يبدي تخوفه من هذا المسلك فيقول: يأسف المسلم كل الأسف من وجود أناس في أزياء العلماء تحملهم شهوة الظهور على التظاهر بمظهر المستدرك على فقهاء الصدر الأول، وعلى محاولة ابتداع أساليب بها يحرفون الكلم عن مواضعه، ويجعلون الشرع الواضح الصريح الأحكام يتقلب مع الزمن وذلك لأجل التقرب إلى الذين لا يضمرون للإسلام خيرًا. تراهم يقولون: عندنا العرف، وعندنا المصلحة بهما تتغير الأحكام ... يريدون بذلك أن يجعلوا شرع الله متقلبًا مع الزمن ومع الظروف. إلى أن قال: وليس للعرف في الشرع إلا ما بينه علماء المذاهب في كتب القواعد وكتب الأصول والفروع. من مثل: حمل الدرهم في العقود على المتعارف في البلد، وكذا الرطل، وكون المشروط عرفًا كالمشروط لفظًا، وزوال خيار الرؤية برؤية المشتري إحدى غرف الدار عندما كان العرف جاريًا بين الناس ببناء دورهم متساوية الغرف (1) . وعدم زوال الخيار المذكور عند تغير (الغرف) العرف المذكور. واعتبار اللفظ صريحًا في معنى تعورف فيه بخلاف ما إذا نقل إلى معنى آخر وتنسي المعنى الأول. وحمل الطعام واللحم على البر ولحم الضأن في بلد تعورف تخصيصهما بهما إلى غير ذلك مما هو مفصل في التحقيق الباهر في شرح الأشباه والنظائر (لهبة الله التاجي) والمجموع المذهب في قواعد المذهب (للصلاح العلائي) وغيرهما من الكتب المؤلفة في قواعد المذاهب وهي الواسطة بين الفروع والأصول ...   (1) الكوثري المقالات: ص 327. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2399 وقال: وليس في شيء منها عد عرف طائفة شرعًا مشروعًا حتى يظن أن عمل أهل المدينة في عهد الفقهاء السبعة ليس بالعمل المتوارث طبقته عن طبقة عن النبي صلى الله عليه وسلم اغترارًا بتقولات بعض الماجنين. فليتقِ الله المرجفون في محاولاتهم تغيير الشرع باسم العرف (1) . وقال في موضع آخر: ليس العرف في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، [سورة الأعراف: الآية 199] بمعنى العادة الجارية هنا وهناك. بل هو الحكم المعروف الذي لا ينكره الشرع، ولا يستقبحه العقل بل يقره الشرع ويستحسنه العقل. يوصي الله سبحانه في الآية المذكورة بالتسامح مع الناس في المعاملة الشخصية معهم والمجاهرة بحكم الله في غير هوادة، وترك الالتفات إلى من يحاول إيصال الأذى في هذا السبيل. فمن فسر العرف هنا بالعادة فقد فسر الرأي بدونه مدرك لا في الرواية ولا في الدراية وإنما عرف العرف بمعنى العادة بعد زمن الوحي، كما لا يجهل ذلك أهل العلم بأطوار اللغة (2) . تخصيص العرف للقياس والأثر: لا يصلح العرف عند أهل العلم أن يكون للقياس أو الأثر إلا إذا كان عامًّا متوارثًا – فضلًا عن أن يكون قاضيًا على النص. وأما الخاص فإنما يثبت به الحكم الخاص ما لم يخالف القياس والأثر فلا يصح أن يكون مخصصًا لهما. شروط اعتبار العرف والعادة: إن اعتبار العرف والعادة مشروط بشروط. منها ما هو عام في جميع الاستعمالات، ومنها ما هو خاص ببعضها. ويمكن إيجازها فيما يأتي: الشرط الأول: أن يكون كل من العرف والعادة مطردًا أو غالبًا. ومعنى الاطراد: أن يكون العرف شائعًا مستفيضًا بمعنى: أنه لا يختلف عند أحد من أهل العرف سواء أكان عامًا أم خاصًا. ومعنى الغلبة: أن يكون العرف أكثريًّا بمعنى أنه لا يختلف إلا عند قلة من الناس وهذا لأن العرف بين الناس وتمكنه من نفوسهم بحيث ينسب إليهم جميعًا لا يتم إلا بالاطراد والغلبة وهو المراد، من قول الفقهاء (إن العبرة بالشائع لا بالنادر) ، أي المعتبر في العرف الذي هو مبنى الأحكام: الاعتياد الغالب الذي لا يتخلف إلا عند القليل، فالاعتياد المطرد أدخل في الاعتبار. وهذا الشرط عام في جميع استعمالات العرف والعادة (3) .   (1) الكوثري المقالات: ص:117، 188. (2) ص 319. (3) أبو سنة محاضرات. المدخل: ص 181. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2400 اطراد العرف مسألة: إذا اطرد العرف في ناحية هل يطرد في سائر النواحي. مثاله: حلف لا يدخل بيتًا فدخل بيت الشعر حنث وإن كان قرويًّا. وجهة: لأنه ثابت في عرف البادية. وكذا: لو حلف لا يأكل الخبز، فأكل خبز الأرز – بغير طبرستان – حنث. وقيل: إنما يحنث به بطبرستان لاعتيادهم أكله. ولو حلف: لا يأكل الرؤوس – وعادة بلده بيع رؤوس الحيتان والصيود منفردة حنت بأكلها هناك وفي غيرها من البلاد وجهان: أصحهما الحنث (1) . الشرط الثاني: أن يكون العرف عامًا في جميع بلاد الإسلام، وهو بالعرف الذي يكون دليلًا على الحكم - في الظاهر – كاشفًا على دليل حقيقي كالإجماع والمصلحة المرسلة. كالعرف الذي أجاز الاستصناع، ووقف المنقول. ذلك: لأن الإجماع لا يتم إلا من عادة المجتهدين في جميع البلاد. - والمصلحة المرسلة خلاصتها: تأثير الحاجة العامة في التيسير. - والعلة الضابطة لهذه الحاجة هو: العرف العام (2) . الشرط الثالث: أن لا يكون العرف مخالفًا. بأن تكون عادات الناس لا يعارضها حكم من الأحكام التي أفادته الأدلة فلو خالفها بطل اعتباره. كتعارف الناس شرب الخمر، ولعب الميسر وكشف بعض العورة من البدع العرفية التي بعد الناس عن الإسلام (3) . الشرط الرابع: أن يكون العرف الذي يحمل عليه صيغ المتصرفين وإعجابهم ونصوص الشارع موجودًا وقت ورودها.   (1) الزركشي المنثور: 2 /389 (2) ابن عابدين: 2 /124. (3) ابن عابدين الرسائل: 2 /116. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2401 فخرج بهذا أمران: الأول: ما إذا كان العرف طارئًا على التصرف أو النص وحادثًا بعدهما وإن قارن العمل بمقتضاهما. الثاني: ما إذا كان العرف سابقًا على التصرف وتغير قبل إنشائه فإنه لا يحمل على كل منهما. لو أن شخصًا وقف ضيعة على العلماء سنة ألف، وكان المتعارف من هذا اللفظ علماء الدين واللغة. تم تعورف الآن هذا اللفظ فيما يشمل هؤلاء والعاملين في الكيمياء والطبيعة، وأريد توزيع الريع الآن ... فسر كتاب الوقف بالعرف الموجود وقت إنشاء الوقف لا بالعرف الحادث. كذلك الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة تفسر بما كان عليه العرب في أقوالهم وأفعالهم وقت نزول الوحي لا بما استحدثه الفقهاء وعامة الناس من عرف جديد. الشرط الخامس: أن يكون العرف ملزمًا: أي يتحتم العمل بمقتضاه في نظر الناس، وهو خاص بالعرف المثبت لحق من الحقوق لقيامه مقام العقد أو الشرط. مثاله: الهدايا في الأعياد والأعراس. هل اعتاد الناس المكافأة عليها في مثل هذه المناسبات أو هي عادة بعض البلاد دون البعض. يرجع إلى العرف في كل ذلك فمتى كان العرف المكافأة لزم ذلك في الفتيا والقضاء (1) .   (1) أبو سنة، المدخل: ص 184. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2402 أهم القواعد الفقهية في العرف وسلطانه أثبت الفقهاء قواعد في العرف والعادة كانت أسسًا وضوابط لكثير من الأحكام الفرعية القائمة على العرف، وذكرت المجلة طائفة منها في المواد: 336 و 39 و 60 - 45. ومن أهم هذه القواعد الفقهية المتعلقة بالعرف القواعد التالية: 1- العادة محكمة: المجلة 40. 2- الحقيقة تترك بدلالة العادة: م 40. 3- استعمال الناس حجة يجب العمل بها: م 37. 4- المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا: م 43. 5- التعيين بالعرف كالتعيين بالنص: م45. 6- لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان: م 39. وقد خرج الفقهاء على هذه القواعد ما لا يحصى من فروع الأحكام وفي مختلف الأبواب الفقهية والمعاملات. منها: 1- تقسيم مهر المرأة إلى معجل ومؤجل في الزواج، ومقدار كل منهما إذا لم يبين في عقد النكاح يرجع فيه إلى العرف. 2- تقسيم ثمن المبيع وأجرة المأجور إذا لم يصرح به العاقدان وكان فيه عرف جار في بلد العقد، يلزم فيه الطرفان بحكم العرف. 3- ما يعد في المبيع عيبًا مسوغًا لفسخ البيع أو لا يعد عيبًا إنما يحكم فيه العرف. 4- تجاوز المستأجر الحدود الجائزة له في استيفاء منفعة المأجور حتى يعتبر متعديًّا ضامنًا قيمته إذا تلف إنما ميزانه العرف. 5- كيفية حفظ الوديعة مما يعد به الوديع مقصرًا في حفظها فيضمن إن ضاعت أو غير مقصر فلا يضمن، إنما يعتبر أيضًا فيه العرف. 6- اختلاف المعلم مع التلميذ العامل في الصناعات أيهما يستحق على الآخر أجرًا يرجع فيه إلى عرف البلدة، المجلة (596) . 7- وكذا في باب (الإجارة) كل ما كان من توابع العمل ولم يشترط على الأجير يعتبر فيه عرف البلدة، المجلة (574) (1) .   (1) الزرقاء المدخل: 2 /136. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2403 فصل: في تنزيل دلالة العادات وقرائن الأحوال منزلة صريح الأقوال في تخصيص العموم وتقييد المطلق وغيرهما وله أمثلة: المثال الثالث: استصناع الصناع الذين جرت عادتهم بأن لا يعملوا إلا بالأجرة إذا استصنعهم مستصنع من غير تسمية كالدلال والحلاق والفاصد والحجام والنجار والحمال والقصار ... فالأصح: أنهم يستحقون من الأجرة ما جرت به العادة. لدلالة العرف على ذلك: المثال التاسع: تقديم الضيفان إذا أكمل وضعه بين أيديهم ودخل الوقت الذي جرت به العادة بأكلهم فيه، فإنه يباح الإقدام عليه ... تنزيلا للدلالة العرفية منزلة الدلالة اللفظية. ولا يجوز للأراذل أن يأكلوا مما بين أيدي الأماثل من الأطعمة النفسية المخصوصة بالأماثل، إذ لا دلالة عن ذلك بلفظ ولا عرف بل للعرف زاجر عن ذلك. المثال العاشر: دخول الحمامات والقياصير والحانات إذا فتحت أبوابها في الأوقات التي جرت العادة في الارتفاق بها فيها، فإنه جائز إقامة للعرف المطرد مقام الإذن الصريح. ولا يجوز لداخل الحمام أن يقيم فيه أكثر مما جرت به العادة، ولا أن يستعمل من الماء أكثر مما جرت به العادة؛ إذ ليس فيه إذن لفظي ولا عرفي.. المثال الحادي عشر: الدخول إلى دور القضاة والولاة في الأوقات التي جرت العادة بالدخول فيها بعد فتح أبوابها للحكومات والخصومات. المثال الرابع عشر: التقاط كل مال حقير جرت العادة أن مالكه لا يعرج عليه ولا يلتفت إليه. فإنه يجوز تملكه والارتقاق به لاطراد العادات ببذله: المثال الخامس عشر: الشرب وسقي الدواب من الجداول والأنهار المملوكة إذا كان السقي لا يضر بمالكها جائز، إقامة للإذن العرفي مقام الإذن اللفظي، فلو أورد ألفًا من الإبل إلى جدول ضعيف فيه ماء يسير، فلا أرى جواز ذلك على المعتاد؛ لأنه لا يقتضيه إذن لفظي ولا عرفي.. المثال السادس عشر: حمل الألفاظ الحقيقية العربية على مجازها كلفظ الصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة ... وحمل ألفاظ الأخبار على الإنشاء، واستعمال الماضي في ألفاظ المعاملات: كبعت وأجرت وضمنت ووكلت ووهبت وأقرضت وتصدقت.. وحمل المستقبل على إنشاء الشهادات كأشهد بكذا.. وكذلك الدعوى في قوله: أدعي عليه بكذا – لأن أشهد مردد بين الحال والاستقبال، وهو منصرف إلى الحال بعرف الاستعمال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2404 وكذلك قوله أنت حر وأنت طالق، وضعه أن يكون خبرًا عن أمر محقق ثابت من غير اللفظ. فصار بالعرف إنشاء للحرية والطلاق ... المثال الثامن عشر: وجوب الإثابة في سباب الأراذل للأماثل على العرف الغالب فيه. المثال التاسع عشر: اندراج الأبنية والاستئجار في بيع الدار، وإن لم يصرح البائع بذلك بناء على العرف الغالب فيه. المثال العشرون: دخول ثياب العبد والأمة في بيعها عند من رآه لاطراد العرف بذلك. لمثال الحادي والعشرون: التوكيل في أداء الديون يجب على الوكيل الإشهاد على الأداء بحكم العرف. المثال الثالث والعشرون: أذن الإمام للجلاد في جلد الحدود والتعزيرات فإنه يحمل على حزب بين حزبين لسقوط بين سقوطين في زمن بين زمانين. وإذا أمر الإمام بالرجم تعين الرجم بالأحجار المعتادة فلا يجوز بالصخور ولا بالحصيات الصغار، ولا يجلد عريانًا، لأنه صار بعرف الاستعمال محمولًا على الحائل (1) . وجهة نظر الشاطبي في تقسيم العرف والعادة أقسام العرف: قال الشاطبي: العوائد المستمرة ضربان: أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها.. والثاني: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي. وهذا القسم هو موضوع بحثنا ... وفيه، قال فيه الشاطبي: وقد تكون العوائد ثابتة، وقد تتبدل ومع ذلك فهي أسباب لأحكام تترتب عليها.   (1) العز بن عبد السلام الأحكام: 2 /105 – 107. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2405 إلى أن قال: والمتبدلة: منها ما يكون متبدلًا من حسن إلى قبح، وبالعكس، مثل كشف الرأس: فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد الشرقية، وغير قبيح في البلاد الغربية. فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح بالعدالة. ومنها ما يختلف في التعبير عند المقاصد: فتنصرف العبارة عن معنى إلى معنى عبارة أخرى. إما بالنسبة إلى اختلاف الأمم كالعرب مع غيرهم. أو بالنسبة إلى الأمة الواحدة، كاختلاف العبارات بحسب اصطلاح أرباب الصنائع في صنائعهم مع اصطلاح الجمهور. أو بالنسبة إلى غلبة الاستعمال في بعض المعاني حتى صار ذلك اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنى ما، وقد كان يفهم منه قبل ذلك شيء آخر أو كان مشتركًا فاختص، وما أشبه ذلك. والحكم أيضًا يتنزل على ما هو معتاد فيه بالنسبة إلى من اعتاده فيه بالنسبة إلى من اعتاده دون من لم يعتده وهذا المعنى يجري كثيرًا في الأيمان والعقود والطلاق كناية وتصريحًا. ومنها ما يختلف في الأفعال في المعاملات ونحوهما كما إذا كانت العادة في النكاح قبض الصداق قبل الدخول، أو في البيع الفلاني أن يكون بالنقد لا بالنسيئة، أو بالعكس، أو إلى أجل كذا دون غيره. فالحكم أيضًا جار على ذلك حسبما هو مسطور في كتب الفقه. وقال العز بن عبد السلام: فصل: في حمل الألفاظ على ظنون مستفادة من العادات لمسيس الحاجة إلى ذلك، وله أمثلة: أحدهما: زفاف العروس إلى زوجها مع كونه لا يعرفها، فإنه يجوز له وطؤها؛ لأن زفافها شاهد على أنها امرأته لبعد التدليس في ذلك في العادات. المثال الثاني: الأكل من الهدي المنحور المشعر بالفلاة جائز على المختار لدلالة النحر والإشعار القائمين مقام صريح اللفظ على البذل والإطلاق. المثال الثالث: الدخول إلى الأزقة والدروب المشتركة جائز للإذن العرفي المطرد فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2406 المثال الرابع: طرق باب الدار والإيقاد من السرج والمصابيح كل ذلك جائز للإذن العرفي. المثال السادس: المعاطاة في المحقرات قائمة مقام الإيجاب والقبول لمن جلس في الأسواق للبيع والشراء، لأنها دالة على الرضى بالمعاوضة دلالة صريح الألفاظ. المثال التاسع: الاعتماد في المعاملات والضيافات والتبرعات على بذلك الباذل، لأن دلالتها على ملكه واختصاصه ظاهرة في العرف المطرد. المثال الحادي عشر: الاعتماد على قول المقومين العارفين بالصفات النفسية الموجبة لارتفاع القيمة، والصفات الخسيسة الموجبة لانحطاط القيمة لغلبة الإصابة على تقويمهم. وكذلك الاعتماد على قول الخارصين لغلبة إصابتهم في ذلك، حتى لا يكادون يخطئون. اهـ باختصار قواعد الأحكام: 2 /138. هل الخلاف في حجية العرف حقيقي أو ظاهري من المسلم به بين المخالفين والموافقين أن هنالك تصرفات كثيرة للمكلفين للعرف فيها مدخل ... ولكن لا بد من التوسط ما بين التفريط والإفراط ... خاصة بالنسبة لنفاة حجية العرف فحيث نفوه دليلًا ... وصفوه كاشفًا للحكم لا مثبتًا له ... وهل القياس، وهو المصدر الرابع من مصادر التشريع المجمع عليها، إلا دليل كاشف على ما قال أهل العلم ... باعتبار أن الكتاب والسنة والإجماع مثبتة للأحكام ... وهي من المصادر الأصلية وما سواها من المصادر – أو الأدلة – هي مصادر تبعية. والعرف مصدر من المصادر الاجتهادية ... ولا اجتهاد في مورد النص ... ولم يقل مثبتو حجية العرف بأن العرف يعارض النص بوجه من الوجوه.. وإن قالوا إنه مخصص بذلك يكون تابعا لا أصلا ... ويقول صاحب المسودة: وتخصيص العموم بالعادة – بمعنى قصره على العمل المعتاد كثير المنفعة وكذا قصره على الأعيان التي كان الفعل معتادًا فيها زمن المتكلم (1) . كلمة ختامية المتتبع للمسائل التي بنيت على العرف – في الفقه والأصول – يتبين له أمور، وهي: 1- أن العرف يقوى على إنشاء أحكام الحوادث التي لا نص فيها. 2- يترك القياس بالعرف. 3- إذا تعارض العرف مع النص خصصه. 4- الأحكام المبنية على العرف تتغير تبعًا له. 5- أن منشأ دلالة العرف ليس مجرد كونه تعارفًا بل ما أنبأ عنه من المصلحة لذا قيل: العادة محكمة عامة كانت أو خاصة.   (1) المسودة: ص 125. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2407 وإذا كان العرف – يرجع في غالب صوره إلى المصلحة التي دعت إليها الحاجة فتكون مرتبته بين الأدلة مرتبة المصلحة. ولا شك في أن هذه المصلحة التي دعت إليها الحاجة – عامة كانت أو خاصة – دليل من الأدلة التي يستند إليها في إثبات الأحكام، وهي ليست مجرد رأي، بل حجيتها ثابتة بالنصوص الكثيرة النافية للحرج والداعية إلى التيسير وعدم التعسير (1) . وأن التخوف من اعتبار العرف دليلًا فإذا عارض النص نسخه، ولا نسخ بعد الرسالة بالإجماع. فالجواب إنما يصدق هذا إذا كانت المعارضة كلية، وذلك لم يقل به أحد ولكن ينحصر أثر العرف في المعارضة الجزئية، وهذه لا تلغي النص ولا تبطله، بل تخصصه ويبقى العمل بالنص فيما عدا موضع العرف، فلا يكون العمل به في هذه الحالة نسخًا.. وأقصى ما فيه أن يكون تخصيصًا ... والتخصيص للنص مشروع وباقٍ بعد عصر الرسالة، فكما كان التخصيص في عصر الوحي بالنص، يكون بعده بالقياس والمصلحة والاستحسان.. وهي أنواع من الاجتهاد المأذون فيها إلى قيام الساعة، وعندئذ يكون العرف المخصص عملًا مشروعًا، والعرف الناسخ غير مشروع فافترقا. وما العرف المخصص إلا عملية استثناء بعض أفراد النص العام وإخراجها من حكمه، فيدخل تحت مبدأ الاستثناء المقرر صراحة في القرآن الكريم. ونخلص مما تقدم إلى القول بأن العرف في تخصيصه لبعض النصوص أو تفسيره للبعض الآخر والاستناد إليه باعتباره قرينه مرجحة عند التنازع أو إنشائه لبعضها، حيث لا نص – في كل ذلك لم يقف العرف وراء أسوار النصوص بل دخلها، أو أدخلها ليعمل معها بقدر ما أعطي من سلطان. فهو يعتبر بحق نافذة من نوافذ الفقه الإسلامي التي يطل منها على حياة الناس الواقعية، فيسلط عليها الأضواء لتنير الطريق للسائرين كي لا تلتوي بهم السبل عن الجادة، وليميز الخبيث من الطيب فإذا ما انكشفت الحقائق أقر منها النافع وألغي الفاسد الضار. وكم من أصولي لم يقل بالعرف في أصوله ولكن على صعيد التطبيق لا يسعه إلا القول به، حتى قال ابن القيم في أمثال هؤلاء: (فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا يمكنهم العمل إلا به) (2) . أو مما قال القرطبي: ينكرونه لفظًا ويعملون به معنى، والصحيح أن الشريعة الإسلامية راعت العرف وجعلته أصلًا من أصولها – وكان أثر إقرار هذا المبدأ – اعتبار العرف – وغيره أن زخر الفقه الإسلامي على مر العصور بشتى الحلول لما استجد ويستجد من القضايا بين الناس. وما من شك في أن العمل بالعرف أحد مظاهر السماحة والتيسير في هذه الشريعة الغراء، والتي قال فيها تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ... وقال صلى الله عليه وسلم: ((يسِّروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا)) . والله من وراء القصد ... الشيخ خليل محيي الدين الميس.   (1) بتصرف من الفقه الإسلامي، لشلبي: ص 107، وما بعدها. (2) إعلام الموقعين: 2 /414. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2408 العرف إعداد الشيخ كمال الدين جعيط خطة البحث بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. حصرنا الموضوع في مقدمة وبحث وخاتمة: أشرنا في المقدمة إلى مصادر الشريعة الأساسية المجمع عليها وما ألحق بها على خلاف فيه، وإلى مجموعة أخرى من المصادر اعتبرها جمهور العلماء مصادر متفرعة عن المصادر الأصلية كالاستحسان عن أبي حنيفة والمصالح المرسلة وسد الذرائع وعمل أهل المدينة عند مالك والاستصحاب عند الشافعي والإباحة الأصلية عند أحمد بن حنبل، ومن بين هذه المصادر العرف، فقد اعتمده الفقهاء بشروط اختلفوا فيها توسعة وتضييقًا، واعتمده رجال القانون حتى اعتدت الدول واعتبرته أصلًا ومرجعًا وأطلق بعضهم اعتباره وقدمه على النصوص اعتبارًا لسابقيته على الأديان، وهنا بينا الفرق بين العرف ... ونظر الشرع والعرف في نظر القانون فهو في نظر الشرع يكون العرف في كل العلاقات الاجتماعية الأسرية والمعاملات المالية قولية أو فعلية، وهو في نظر القانون علاقة قانونية قائمة بين الأشخاص والدول ودائرة معاملاتهم فلا دخل للعرف قانونًا في المجاملات كالهدايا وتبادل الزيارات، وقد تأثر بعض رجال القانون بالفقه الإسلامي بحمل حقيقته على ما حرره الفقهاء. وقد أوضحنا في المقدمة أن للعرف مزايا كما له مساوئ فمن محاسنه أنه يصور العادات ويعبر عما ترتضيه الشعوب بما اصطبغت به نفوسهم وألفته قلوبهم، كما أن من مساويه كونه حجر عثر في وجوه المصلحين، إذ يجد رائد الاصطلاح من التعنت والممانعة فيما تعودت به نفوس الناس وإن كانت فاسدة منكرة. وقد أشرنا في عجالة إلى باعث القوة فيه وهل هي ناشئة عن أحكام القضاء وهي نظرية بعض أهل القانون أو أن مستند قوته من الضرورات الاجتماعية إذ هي التي ترضي مصالحهم وتتجاوب مع غرائزهم وهي نظرية بعض أهل القانون الآخرين. أما عند علماء الشريعة فقوته مستمدة من المصلحة مما لا نص فيه إذ هي معتمد الأحكام الاجتهادية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2409 وقد أشرنا إلى أن بعض البلدان الإسلامية اعتمدت العرف بإطلاق كما اعتمده أهل الغرب ففي بعض المواد في القانون المصري تقليد للقانون الفرنسي بما انتقده العلامة السنهوري في كتابه الوسيط، وهنا أشرنا إلى أن الأردن اشترطت في قانونها أن يكون جاريًّا على مقتضى الفقه الإسلامي عند عدم النص وحيث أن القانون المدني الأردني مرتكز على الشريعة وأصولها ومستمد من قواعدها وآخذ بكل ما يتطلبه النمو الحضاري والتقدم البشري ونظم المعاملات حتى صار جامعًا بين أصالة الماضي وجدة الحاضر اقترحت جامعة الدول العربية على خبرائها أن يكون القانون الذي سيرفع إلى الأمانة العامة لوزراء العدل للدول العربية، وقد تابعه في ذكر القانون الذي سيرفع إلى الأمانة العامة لوزراء العدل للدول العربية، وقد تابعه في ذلك القانون المدنى الكويتي الذي ابتدئ العمل به في25 فبراير سنة 1981. وينحصر موضوع البحث في عشر موضوعات: الموضوع الأول: في ورود تكرر العرف والمعروف في القرآن والحديث، وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة وتقرب لله وإحسان إلى الناس، وقد قيد سبحانه طاعته وطاعة رسوله به فقال: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} ، تعدد ذكره في القرآن والحديث في صفة الأمة وحكومتها والأحوال الشخصية والمالية والآداب الإسلامية بما يجعلنا نجزم بأن المعروف هو المعهود بين الناس في معاملاتهم وعاداتهم وهو يختلف نوعًا وقدرًا وصفة باعتبارات مختلفة ويشمل كل معروف في الشرع في العادات والمعاملات ومن هنا كان ركنًا من أركان الدين وأصلًا من أصول الشريعة. الموضوع الثانى: كون مرجع العبادات النصوص من الكتاب والسنة ومرجع العادات والمعاملات المعاني والمصالح، وقد تعرضنا هنا للمصالح المرسلة وأخذ المذاهب بها وفرقنا بينها وبين البدع بما أطال به الشاطبي في ذلك موفيًا بالغرض، وعلقنا على مبالغات الطوخي فيأخذه بالمصالح وتقديمه لها على النص والإجماع واعتماده في ذلك على حديث ((لا ضرر ولا ضرار)) وتعليله له بأن العبادات حق الشارع وخاصة به فلا تعرف إلا منه كمًّا وكيفًا وزمانًا ومكانًا بخلاف حقوق المكلفين فقد وضعت لصالح العباد. وقد أبرزنا أن أدلة الأحكام الدنيوية فيما يعرض للناس كافة قد تثبت بنص محكم قطعي أو بنص صحيح بعمومه أو تعليله أو مفهومه أو بنص تكليفي ظني أو بنص غير وارد مورد التكليف أو بما سكت عنه الشرع وكان مرجعه العرف والمعروف مما تستقر به الأمور وتنتظم به الحياة. الموضوع الثالث: موقف الإسلام من العادات والتقاليد وقد قسمناها إلى ثلاثة أقسام، أولًا ما أقره الإسلام هو صلاح. ثانيًا ما قيده بما هو في حاجة إلى الإصلاح. ثالثًا من أبطله مما كان فسادًا يشهد لذلك ما ورد في الآيات والأحاديث في رفع الحرج والمشقة والتيسير وعدم التعسير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2410 وقد تعرضنا لذلك بالشرح والبيان موضحين أن هذه الشريعة جاءت لتكون رحمةً لا لتكون نكاية ونقمة والإسلام ما جاء إلا لإصلاح ما فسد من أحوال الناس، فليس له غاية في هدم ما اعتاده الناس من العادات الصالحة التي تعارفوها قرنًا بعد قرن وجيلًا بعد جيل، وهنا تعرضنا لموقف الرسول والخلفاء الراشدين والصاحبة والتابعين والأئمة المجتهدين من عادات الناس وأعرافهم، فقد نظم الخلفاء الراشدون على هدى الكتاب العزيز والسنة النبوية والمقاصد الشرعية عادات البلدان التي فتحوها حتى دخلت هذه العادات في التشريع الإسلامي. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدون الدواوين وينظم الجيش ويقرر الخراج والجبايات، وقد أبقاها على ما كانت عليه بالفارسية في العراق والرومية في الشام ولم تدون بالعربية إلا في عهد عبد الملك بن مروان كما نص عليه ابن خلدون. وزاد التابعون في الأخذ بالعرف وتحكيمه لكثرة الفتوحات وتوسع رقعة الإسلام واعتناق كثير من البلدان لهذا الدين ودخولها تحت لوائه، فأقر التابعون ما كان صالحًا من العادات وأبطلوا الفاسد وهذبوا ما كان فيه عوج، وأثروا بذلك الأحكام الفقهية. ولم يبعد موقف أئمة المذاهب عن سابقيهم فقد اعتمد أبو حنيفة العرف حتى جرى على ألسنة الناس أن أكثر المذاهب اعتبارًا له واعتمادًا عليه، وألف ابن عابدين رسالة خاصة أسماها " نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف" وضمنها كثيرًا من الفروع الفقهية التي كان اختلاف الحنفية فيها لاختلاف أعراف البلدان الآخذة بالمذهب الحنفي ومثله الشافعي فقد تأثر بأعراف الناس وتجلى ذلك في اختلاف قوليه القديم والجديد والمذهب الحنبلي الذي اشتهر بالتمسك بالنصوص هو أيضًا حكم العرف في كثير من الفروع وقد نقلنا منها الكثير عن ابن قدامة وابن رجب وابن القيم وقد صرح هذا الأخير في إعلام الموقعين أن إهمال قصد المتكلم ونيته وعرفه جناية على الإنسان وعلى الشريعة ومثلهم الأوزاعي والشيعة فقد حكموا العرف في بعض القضايا. أما المذهب المالكي فهو أكثر المذاهب اعتبارًا للعرف حتى جعله أصلًا من أصوله وهو عند المالكية من أعظم المرجحات قد استندوا إليه في معرفة أسباب الأحكام عند عدم النص واعتبروه اعتبار العلة مع المعلول ولم يلبسوه لباس الديمومة، إذ تتغير الأعراف والعوائد ويتغير الحكم بتغيرها، قال ابن العربي: "إن العادة دليل أصلي بنى الله عليه الأحكام وربط بها الحلال والحرام ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2411 الموضوع الرابع: في تقسيمات العرف، قسمناه إلى صحيح معتبر وفساد ملغى والصحيح إلى قولي وفعلي، وهنا تعرضنا لأنواع الحقائق وللفرق بين الحقيقة والمجاز كما تعرضنا لأنواع الوضع ثم قسمناه إلى عام وخاص، ونبهنا إلى التفرقة بين العرف اللغوي والاصطلاحي وإلى الشروط المستلزمة لاعتباره حتى تصبح له قوة الإلزام، كما نبهنا إلى تقديمه على الأصل والعادة لقصورهما عنه، كما ذكرنا اختلاف الفقهاء في اعتبار العادة قائمة مقام شاهد أو شاهدين، وذكرنا أمثلة كثيرة اختلف فيها الفقهاء لاختلافهم في العادة من أنها تقوم مقام الشاهد أو الشاهدين. ثم نبهنا إلى أن اطراد العرف غير عمومه كما نبهنا إلى ما زاده رجال القانون من الشروط لاعتبار العرف، وألمعنا إلى أن ما زيد من الشروط هو مأخوذ في مفهوم العرف الصحيح في الشرع. الموضوع الخامس: في سلطان العرف وهو سلطان واسع في استنباط الأحكام وتجددها وتعديلها وتحديدها وتقييدها، وفي تقعيد القواعد وتقريرها، وقد كان سلطانه قبل الإسلام مطلقًا غير مقيد بقيد ولا مشروط بشرط، له حرمة وقداسة حيث هو جزء من كيان الأمة ومميز من مميزاتها، ولهذا راعت الشريعة عوائد الأمم ولم يتعرض التشريع إلى تعيين الأزياء والمساكن والمراكب فلا ندب لركوب الإبل ولا مانع من ركوب الحمير أو الحمل على البقر كما هو الشأن في الهند، ولم تلزم قومًا باتباع غيرهم في اتباع عاداتهم وتقاليدهم، بل تركت كل قوم على ما هم عليه مما لا يناقضها أو يخالف مبادئها، وذلك لمرونتها وعمومها وشمولها لكل أحوال البشر في كل العصور وهو معنى صلاحيتها لكل زمان ومكان، فهي بأصولها وكليتها قبالة للانطباق على مختلف أحوال العرف في الفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصينيين والأتراك وغيرهم من غير أن يجدوا في ذلك حرجًا ولا عسرًا في الإقلاع عما تركوه من قديم عاداتهم الفاسدة دون انسلاخ بالكلية عما اعتادوه وتعارفوه مما هو مقبول ذلك أن أحكام الشريعة غالبًا كليات مشتملة على حكم ومصالح تتفرع عنها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد تتلاءم مع كل عصر، وذلك من سماحة الإسلام إذ هي رحمة وليست بنكاية ولا نقمة كما قدمنا. ومن سلطان العرف تخصيصه للعمومات وتقييده للمطلقات بحملهما على ما يقتضيه: وإن اختلفت المذاهب في ذلك إذ جعل بعضهم ذلك للعرف القولي دون الفعلي وعاكس بعضهم ذلك، وأطلق بعضهم فجعله لكل عرف ومنعه بعضهم مطلقًا ولكنه اعتمده في تقسيم الدليل الشرعي اللازم حمله على المعنى العرفي كما هو مذهب الجعفرية، وقد ذكرنا أمثلة كثيرة موضحة لهذا الاختلاف، ولفتنا النظر إلى أن الفقهاء أولوا عناية خاصة لما جرى به العرف والعمل وألفوا كتبًا في ذلك أوردنا منها جزئيات كثيرة وأجرينا مقارنة في كثير منها بين ما جرى به العمل في تونس وما جرى به العمل في فاس وقرطبة قصد التيقن من قوة العرف وسلطانه في إنشاء الأحكام وتأثيره في اختلاف الفقهاء والحكام وهنا نبهنا إلى ما يجب على الفقيه من اتصاله بالناس حتى يتعرف على عاداتهم وتقاليدهم ويقف على معاملاتهم، إذ بذلك يصادف الحق في أحكامه وفتاويه ويكون أرفق بالناس على ما تقتضيه قواعد الشريعة من التيسير، ولذلك قال القرافي " الجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسف الصالحين ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2412 الموضوع السادس: في بيان أن الأحكام المبنية على العرف والعادة تتغير بتغير العادات والأحوال وهي قاعدة قررها علماء الاجتماع وتنبه إليها من قبل علماؤنا، يشهد لذلك كلام ابن خلدون في مقدمة كتابه العبر، وهذا ما جعل المتأخرين من الفقهاء يفتون في كثير من المسائل بخلاف ما أفتى به المتقدمون، وقد حصرنا دوافع هذا الاختلاف في ثلاث: تبدل الزمان وتباعد البلدان واختلاف الجهات والتقدم واختلاف الحضارات، وقد أوضحنا كل قسم بأمثلة تبرز مقام كل سبب من هذه الأسباب من عهد الرسول والصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إلى هذا الزمان، فقد ورد النهي عن التقاط ضالة الإبل، وأمر عثمان بالتقاطها وورد الحكم بقطع اليد في السرقة وأفتى عمر بعدم القطع في الغزو وفي السرقة من الغنيمة على تفصيل في ذلك، وورد الإعطاء من مال الزكاة للمؤلفة قلوبهم ومنع من ذلك عمر، وقد مثلنا لتغير الأحكام نتيجة تطور الحياة ووسائلها بمثل تسجيل العقارات والأراضي، إذ بها ينضبط الملك بطريقة لا يخشى معها ضياع حق أو تلاشيه. وأنهينا فوائد ذلك إلى اثني عشر فائدة. ومما اقتضاه التطور والتقدم في الحياة المدنية تسجيل عقود الزواج بدفاتر الحالة المدنية بالمجالس البلدية نظرًا لضعف الإيمان وخراب الذمم وانعدام تقوى الأزواج أحيانًا كثيرة في الزوجات والبنين، وقد ضربنا أمثلة كثيرة موضحة للمقام ولا شك أن التطور العالمي في مختلف الميادين التقنية والعلمية والتنمية الاقتصادية أوجب وضع قوانين مختلفة وتضمينات إدارية متعددة نتج عنها أوضاع وأشكال أوجب علاقة غيرت العادات وأوجبت نوعًا من الاعتراف ترتبت عليها أحكام كإلزام الحكومات لأفراد شعوبهم بجواز سفر للتمكن من الخروج والانتقال إلى الأقطار وإلزام الناس ببطاقة تعريف قومية تكشف عن هوية صاحبها وجبر السواق بحمل بطاقة جواز سياقة، كل هذه استلزمتها تطور المجتمعات وهي توجب على العلماء أن يبحثوا في كثير من الجزئيات التي اقتضتها الحضارة وتقدم الصناعة ووسائل المعيشة واتساع المدن وتكاثف السكان واجتماعهم بعمارات ذات شقق كثيرة وتشابك المصالح، كل هذا فرض تقاليد جديدة في الحياة وأعرافًا وعادات اقتضتها المصالح، كإنشاء المؤسسات الاجتماعية لحضانة الرضع ورياض الأطفال الذين تعمل أمهاتهم بالمعامل والإدارات وإنشاء دور الأيتام والعجز والمتخلفين ذهنيًّا والمعاقين وغيرها وغيرها. كل ذلك أدى إلى حياة جديدة وعادات مستحدثة استلزمت أحكامًا. الموضوع السابع: منزلة العرف بين الأدلة، لقد اتفق الفقهاء على اعتبار العرف دليلًا من الأدلة التي انبنى عليه كثير من الأحكام عند عدم النص، كما انبنى عليه كثير من القواعد كقاعدة الثابت بالعرف كثابت النص، وقاعدة العادة محكمة، وقاعدة الممتنع عادةً كالممتنع حقيقة وقاعدة الحقيقة تترك بدلالة العرف، والعرف بين التجار كالمشروطة بينهم إلى غيرها من القواعد التي أحصيناها وكلها مرجعها إلى تقرير مصالح العباد في معاشهم وهو العدل والرحمة والمصلحة بحيث كل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ومن الرحمة إلى النكاية ومن المصلحة إلى العبث ليست من الشريعة في شيء، لأن شريعة الله هي عدله بين عباده ورحمته بخلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2413 العرف يساعد كثيرًا في الاجتهاد لأن النصوص لا تستوعب جميع التفصيلات، فالعرف يعين على تفهم الوقائع وتطبيق الأحكام عليها سواء أكان ذلك في معاني الكلمات وعبارات الناس أو معاملاتهم وعقودهم. والعرف يقتضى تأليف النفوس ويقوي الوحدة ويجمع كلمة الأمة ويربط بين الناس، ولذا كانت مخالفته هدمًا لهذه الآثار، وبهذا ندرك أن مرتبته تأتي بعد مرتبة الكتاب والسنة حيث هو راجع إلى المصلحة وليس بعد الكتاب والسنة إلا المصلحة، ولقد اعتبره العلامة محمد الطاهر بن عاشور مصدرًا فطريًّا ولهذا لم يكتفِ به في بناء الأحكام العملية عليه، بل انبنت عليه قواعد أصولية، فإن كثيرًا من الاستحسان ومن الاستصحاب ومن المصالح المرسلة كان منشؤها العرف والعادة، وقد قال ابن العربي: " يترك الدليل العام لسبب من أسباب أربعة، المصلحة ورفع الحرج والإجماع والعرف " وقد مثلنا بفروع كثيرة ترك فيها الدليل العام لهذه الأسباب ومعلوم أن المصلحة تبنى على اختلاف أوضاع الناس وأعرافهم وهذه المصلحة المبنية على العرف. الموضوع الثامن: ارتباط العرف بالقرائن والأمارات، أن القرينة تقوى فتبلغ إلى درجة اليقين وتضعف فتنزل إلى مجرد الاحتمال، وهنا أوضحنا علاقة القضاء بقرائن الأحوال وقسمناها إلى قرائن عقلية وعرفية وإلى قرينة شرعية قانونية وقرائن قضائية، وما كان من القرائن أسبابًا في بعض الأحكام وما كان منها دليلًا في تمحيص الوقائع وإثباتها عند الحكام، وفصلنا القول في القرائن اليقينية من القرائن الظنية ونقلنا عن ابن فرحون أحكامًا انبنت على القرائن وقد أنهاها إلى خمسين مسألة، ثم أوضحنا على أساس اعتبار القرائن، قرر الفقهاء حلولًا كثيرة في شتى الحوادث كما اعتبروها من المرجحات الأولية التي يعتمدها القضاء. وتعرضنا بالمناسبة لمن يصلح للقضاء بين الناس وما يشترط فيه من الشروط التي من بينها معرفته للعرف الصحيح المعتبر من العرف الفاسد الملغى- كما تعرضنا إلى متى يجب اتباعه لمن سبقه ومتى له أن يخالفه، وتطرقنا هنا إلى الكلام على بعض ما جرى عند بعض القبائل البربرية بالمغرب الأقصى من تطرف وابتعاد في عقود الأنكحة ومن مغالاة في اليمين بتشريك أقارب المتهم في تأدية القسم وفي أخذ الولي صداق ابنته لنفسه، ولاحظنا اختلاف أنظار علماء المغرب على طرائق ثلاث منهم من حمل على هذه الأعراف البربرية واعتبرها مروقًا من الدين وواجب محاربتها والقضاء عليها، ومنهم من سايرها ورأى أن مصلحة القوم لا تتحقق إلا بها فحبذها وآثر العمل بها ودافع عنها، ومنهم من توسط فأخذ بما يوافق الشرع ولا يناقضه وأنكر ورد وحارب ما يخالفه؛ وهذا ما اختاره الدكتور عمر بن عبد الكريم الجبيدي، ولقد أصاب في اختياره لأن معيار الأخذ بالأعراف بربرية كانت أو رومية أو فارسية أو مصرية فرعونية هو معيار الشرع وميزانه فما وافق مقاصده ولم يتعارض مع نصوصه ومبادئه أخذناه واعتمدناه وما خالفهما نبذناه وطرحناه ذلك أن المصلحة لا تتحقق بالأحكام الجائرة فلا وجه لحرمان المرأة من ميراث أبيها ولا في تنزيل العقاب بغير الجاني ولا مصلحة في إفساد المال وإحراقه، والحق أن كل ما ناقض كلية من كليات الشريعة التي هي الدين والنفس والعقل والعرض والمال هو مردود لأنه محض جور وفجور وفسوق وعصيان لا ينتج عنه إلا الخراب والدمار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2414 الموضوع التاسع: تحقيق معنى عمل أهل المدينة وما جرى به العمل في الأقطار ومعنى العادة والفرق بين هذه الثلاث وبيان علاقتها بالعرف، وقد نبهنا إلى خطأ بعض أهل الأصول في تخليطهم بين عمل أهل المدينة والإجماع، ثم قسمنا عمل أهل المدينة إلى ما يرجع إلى النقل المحض وما يرجع إلى الاجتهاد وأشرنا إلى مذاهب الأئمة في العمل به وأجريناه مجرى العرف، بل هو أقوى لأن مستنده فعل الرسول وتقريره وأهل المدينة أقرب عهد بالرسول وأصحابه، ثم نبهنا إلى الفرق بين عمل أهل المدينة والعرف، والفرق بينه وبين ما جرى به العمل، ثم أشرنا إلى أن العرف قد يوافق القول المشهور في المذهب، وقد يجري على القول الضعيف، ومنه ما جرى على نص فيه وما جرى على شبه دليل أو جرى على وفق دليل المخالف، وقد ضربنا أمثلة موضحة لكل هذه الأقسام والأنواع. الموضوع العاشر: علاقة العرف بالحقوق، ذكرنا علاقته بالمال إذ العرف هو الذي يحدد ما هو مال مما ليس بمال، كما يحدد ما هو مقوم منه وما كان مثاليًّا، وهنا أشرنا إلى الفرق بين المال والملك، ثم أشرنا إلى أنواع الحقوق: حق الملك، وحق الانتفاع وحق الارتفاق ودور العرف فيها، كما تعرضنا إلى حق الشرب وحق المجرى وحق السير وحق المرور وحق الجوار، وأشرنا إلى حقوق الانتفاع وما كان ممنوعًا في الأصل ورخص فيه لرفع الحرج والمشقة، وأوردنا أمثلة بالعقود المستثناة من أصل ممنوح كالإجازة والمزارعة والمساقاة وتحكيم العرف فيها بين العامل وصاحب العقار. ثم أشرنا إلى حقوق الخيار وارتباط العرف بها، إذ هو الذي يحددها من مثل خيار الرؤية وخيار العيب وخيار النقد وخيار التعيين وخيار الكمية وخيار كشف الحال، وأوضحنا حقيقة كل منها ثم أشرنا إلى علاقة العرف بالعقوبات والتعزير كما أشرنا إلى الشهادة العرفية كشهادة اللفيف والصبيان، ثم نبهنا أخيرًا إلى أن مستند الحكم لا يخرج عن أن يكون يمينا أو إقرارًا أو إبراءً أو إسقاطًا أو التزامًا أو شهادةً. وأوضحنا أنه جرى العمل عندنا بتونس بتوجيه يمين التهمة عند وجود الخلطة. ثم ختمنا الموضوع بالإشارة إلى العرف الدولي وفرقنا بين ما كان قانونًا دوليًّا وما كان عادة، فالأول يشكل مجرد سلوك اجتماعي بخلاف العرف الدولي، فهو يشكل قاعدة شرعية إلزامية بين الدول كمبدأ حرية الملاحة في المنطقة الدولية، فإنه ينشأ عن مخالفته وعدم احترامه جزاء ومطالبة بجبر الضرر تحكم به المحكمة الدولية المنتصبة بلاهاي. أما الخاتمة: فقد أشرنا فيها إلى صلاحية التشريع الإسلامي لكل زمان ومكان في كل أمور الدين والدنيا حيث أصَّلت الشريعة كل الأحوال وقررت كل المقاصد وأوضحت كل المبادئ وتركت في الغالب التفاصيل والجزئيات للقائمين على تنفيذها ويستلهمون من روحها ويستنبطون من قواعدها وأصولها ما ليس في نصوصها مما تستلزمه المستحدثات وما يعرضه التقدم والحضارات، وهكذا كانت الشريعة صالحة لعلاج كل مشاكل الحياة وكانت مستغنية الاستغناء المطلق عن تحكيم القوانين الأجنبية الغربية بما فيها من مرونة، وبقابليتها للأعراف والعادات التي تتفق مع ملابسات الناس ومقتضيات الحضارة ولا تتعارض مع قواعدها ومقاصدها بهذا المنهج، وبهذه المرونة مدت الفقهاء والحكام بالأحكام المناسبة لعصورهم الملائمة لمقتضيات تصرفاتهم حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة. ولعل فيما قدمنا عن العرف ومدلوله وعما انبثق عنه من قواعد وأحكام بما يتماشى ومصالح الأنام، وعن منزلته من بين الأدلة لها ما فيه كفاية لإنارة السبيل للعلماء والباحثين، ولعلَّ فيما أوضحت أكون قد شاركت قدر المستطاع في تجلية نظرية العرف وتوضيح آثاره في الشريعة والقانون بين الأفراد والجماعات والدول. نسأل الله العلي القدير أن يرشد الأمة الإسلامية وحكوماتها إلى أن تعود إلى شريعتها وأحكام دينها فتستغنى بذلك عن القوانين الغربية الدخيلة، إذ في شريعتنا الكفاية إلى تحقيق كل غاية فهي شريعة الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها إلا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. * * * الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2415 بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة: الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد السيد السند وعلى آله وصحابته وتابعيهم بإحسان على طول الأمد. وبعد: فإن علماء الأمة أجمعوا على اعتبار الكتاب والسنة المصدرين الأساسيين للتشريع الإسلامي، كما اتفق جمهورهم على إلحاق الإجماع والقياس بهذين المصدرين، فكانت هذه الأربعة هي الأسس الأصلية للتشريع الإسلامي، ولقد اختلف المجتهدون في مجموعة أخرى اعتبرها جميعهم فرعية كالاستحسان عند أبي حنيفة والمصالح المرسلة وعمل أهل المدينة عند مالك، والاستصحاب عند الشافعي، والإباحة الأصلية عند ابن حنبل. والعرف هو المصدر من المصادر الفرعية لاستقناء الأحكام واستنباطها ضمن شروط اختلف الفقهاء في بعضها توسعة وتضييقًا، ولقد اعتبره بعض الدول مصدرًا أساسيًّا في بناء الأحكام وتقنينها، وقدمته على الدين معتبرة أن العرف هو أقدم من الدين، وهو واضح خطؤه لأن الدين وحي من الله عز وجل، وهو الخالق لكل شيء، والدين أزلي والأعراف حادثة، ولا يشك عاقل في أن الحادث طارئ متأخر في الوجود بالإضافة إلى الدين. ولما كان العرف هو عادة مستحكمة في الناس وسلوك معين في تنظيم ناحية من نواحي الحياة كان في نظر القانون مصدرًا لقاعدة قانونية أو هو القاعدة ذاتها، أما عند أهل الشريعة فاعتباره مقيد بعدم معارضته لنصوص الشريعة، وأن يكون مطردا غالبًا سابقًا أو مقارنًا على ما سيأتي بيانه في شروط الاعتداد به حيث يكون عرفًا صحيحًا، أما ما اختل منه بشرط أو أكثر، فهو عرف فاسد لا يعتمد عليه ولا يعول عليه في نظر أهل الشريعة. لقد اعتبر علماء الشريعة العرف في كل شيء فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية الأسرية كالخطبة والزواج والهدايا، وفي الفراق والطلاق حسب العرف القولي، وفي المعاملات المالية ونحوها، بينما أهل القانون يقصرون العمل به على ما كان علاقة قانونية قائمة بين الأشخاص في دائرة معاملاتهم، أما ما يتعلق بالمجاملات والمظاهر كتبادل الهدايا والزيارات ونحوها، فلا يعتبرون العرف فيها غير أن المشرعين الفرنسيين تأثروا بالفقه الإسلامي وعلم الأصول فقيدوا العرف بالقيود التي قيده بها فقهاء الإسلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2416 وللعرف مزايا كما له عيوب، فمن مزاياه ومحاسنه أنه يعبر تعبيرًا واضحًا عما يرتضيه الشعب وجمهوره، حيث هو يعطي صورة صحيحة عن عاداتهم وتقاليدهم في منهجهم في الحياة. وهو من جهة أخرى قابل للتطور ومواكب للتغييرات التي تحدث في المجتمعات بينما النصوص القانونية المكتوبة تجمد في كثير من الأحيان، فتحتاج إلى التعديل والتغيير والتبديل كلما دعت الحاجة إلى ذلك، ومن مساوئ العرف عند بعضهم أنه قد يقف حجر عثرة عن التقدم في وجوه رائدي الإصلاح خصوصًا إذا كانت الأعراف فاسدة وألفها الناس رغم فسادها، وقد استقر كثير من الأعراف الفاسدة عند جمهور المسلمين حتى فيما ينسب إلى الدين، وهو منها براء بحيث إذا قام المصلون بالدعوة إلى العودة إلى جوهر الدين في لبه وصفائه والتقيد بتعاليمه السامية ومقاصده الرائدة كانت هذه الأعراف حاجزة مانعة من قبول الإصلاح حيث يتركز المانعون للإصلاح على العرف، ويستندون إليه وبذلك يكون سدًّا منيعًا في وجه الإصلاح وهكذا يضطر الناس إلى ممارسة الازدواجية في مسالكهم، فهم من جهة متقيدون بهذه الأعراف، ومن أخرى يريدون التقدم والإصلاح وفق الآراء الجديدة والنظريات الصحيحة والنظم المتقدمة المستحدثة. وهكذا يضطر الناس إلى إظهار خلاف ما يبطنون ويعملون بغير ما يريدون. والعرف في نظر الشريعة لا تكون له القوة الفعالة قوة الإلزام إلا إذا كان عرفًا صحيحًا مستندًا إلى أصل شرعي أو غير متعارض مع نص شرعى ومقصد من مقاصد الشريعة، وإذا كان كذلك فلا يكون مانعًا من التقدم كما ادعاه بعضهم، وإذا كان العرف صحيحًا وجب العمل به ووجب تحكميه وتطبيقه، وهو بهذا المعنى أشد من العادة؛ لأن العادة غير ملزمة. لذلك فلا تثبت الحقوق بمثل عادات التهادي والمناسبات والأعياد وما يبذله التجار لعملائهم من التسهيلات والهدايا لترغيبهم في الشراء، وما يجري بين الجيران على سبيل التسامح، فكل هذه الأمور لو ادعاها مدع أمام المحاكم لا تسمع دعواه، ولا يقضى له بها؛ لأنها وإن جرت بها العادة، فإنها لم تبلغ مبلغ العرف حتى تصير لها القوة الإلزامية التي له، وهل قوة العرف ناشئة من أحكام القضاء فلا اعتداد بها قبل تدخل القضاء وإقراره وقضائه بذلك العرف بحيث لا اعتداد به قبل القضاء به، وهذا ما ذهب إليه جماعة من أهل القانون وعلى رأسهم الحقوقي الفرنسي لامبير معتمدًا في ذلك على أن معظم العرف خرجه الكهنة والقضاة، وذهب آخرون إلى أن العرف تستند قوته الملزمة من الضرورات الاجتماعية لا من إرادة المشرع ولا من أحكام القضاء، وهذا أظهر النظريات باعتبار قوتها الحاجة الاجتماعية، واعتبار أن العرف يحكم العلاقات بين الناس في كثير من شؤونهم. ولكنه يرضي مصالحهم ويتجاوب مع غرائزهم، ونحن إذا نظرنا إلى الشريعة الإسلامية نراها لم تأخذ بأي النظريتين، وإنما اعتمدت العرف فيما لا نص فيه حيث لا مجال للاجتهاد مع النص، وقد كان اعتماد الشريعة الإسلامية على العرف ناشئًا من إقرار الأحوال المعتمدة في التشريع الإسلامي، وهي تأخذ به وتعتمد عليه في استنباط الأحكام الاجتهادية التي لا نص فيها، أو فيها نص ظني مطلق قابل للتقييد، أو عام قابل للتخصيص بالعرف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2417 إنه لمن الغريب أن كثيرًا من القوانين المدنية لبعض البلاد الإسلامية قد أخذت العرف، واعتبرته مصدرًا أصليًّا من مصادرها وقدمته على نصوص الشريعة، فإنا نجد في القانون المدني المصري والعراقي والسوري في كثير من مواده، قد جرى على ما هو ثابت في القانون الفرنسي بحيث قلدته تقيلدًا أعمى لما جاء فيه، والقانون الفرنسي يعتمد العرف بإطلاق، والقانون المصري، والعراقي، والسوري، وإن استمدت قانونها من الفقه الإسلامي في بعض أحكامها، إلا أنها كانت في مجموعها وغالبها أجنبية حيث هي مستنقاة من القانون الفرنسي، وهي تقدم العرف بإطلاق، وإن خالف النص وأول من تفطن لرتق الفتق وإصلاح الوضع المشرع الأردني، فرفض القانون المدني المأخوذ من القوانين الوضعية والتي فيها تقديم العرف على الشريعة، فوضعت قانونًا مدنيًّا مستمدًا من الشريعة الإسلامية واعتمدت العرف في مادته الثانية منه ونصها: 1- تسري نصوص هذا القانون على المسائل التي تتناولها هذه النصوص بألفاظها ومعانيها ولا مساغ للاجتهاد في مورد النص. 2- فإذا لم تجد المحكمة نصًّا في هذا القانون حكمت بأحكام الفقه الإسلامي الأكثر موافقة لنصوص هذا القانون، فإن لم توجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية. 3- فإن لم توجد حكمت بمقتضى العرف، فإن لم توجد حكمت بمقتضى قواعد العدالة، ويشترط في العرف أن يكون عامًا وقديمًا ثابتًا مطردًا، ولا يتعارض مع أحكام القانون أو النظام العام أو الآداب، أما إذا كان العرف خاصًّا ببلد معين فيسري حكمه على ذلك البلد. 4- ويسترشد في ذلك كله بما أقره القضاء والفقه على أن لا يتعارض مع ما ذكره وكذلك القانون المدني التونسي، فقد نصت المادة 543، العادة والعرف لا يخالفان النص الصريح والمادة 544 من استند إلى عرف كان عليه إثباته ولا يحتج به إلا إذا كان عامًّا أو غالبًا غير مناف للنظام العمومي والأخلاق الحميدة. وقد جاءت نصوص كثيرة تتعلق بالالتزامات والعقود نصت موادها على الاعتماد فيها على العرف عند عدم النص إذ المادة 516 نصت على أن المعمول به عادة بمحل الكتب كالمشروط نصًّا، وكذلك ما هو في طبيعة الأمر المقصود، وكذلك نصت المادة 526 على ما يتعلق بالمكاييل والموازين والمقادير من أن مرجعها إلى العرف والعادة بالمكان، وقد ذكر العرف في أكثر من خمسة عشر مادة من مواد القانون التونسي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2418 وللعرف في القانون المدني دوران مهمان أولهما: أنه يرجع إليه في المسائل التي لا يجد القاضي نصا فيها من القانون المدني المستمد من الشريعة أو في الاجتهادات الفقهية المبثوثة في كتب الفقه. ثانيهما: الرجوع إليه بمقتضى الشريعة الإسلامية، وقد تقرر ذلك في القواعد الشرعية المعتبرة في مثل العرف كالنص ومثل استعمال الناس حجة والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا ومثل العادة محكمة وبهذا يظهر الدور الثاني للعرف في كونه مرجعًا مساعدًا في التشريع اعتمادًا على ما ذهب إليه جمهرة من الفقهاء من أن العرف يخصص العام ويقيد المطلق، ذلك أن الشارع إنما يخاطب الناس بما يفهمون وبما يتعارفون، وهذا هو العرف القولي ومثله العرف العملي عند جمهور الفقهاء وهذا هو سلطان العرف وتأثيره في استنباط الأحكام الشرعية عند عدم النص أو عدم المعارض لأنه لا قدرة له على إلغاء النص القانوني أو الشرعي سواء أكان عرفًا إيجابيًّا أو عرفًا سلبيًّا والإيجابي هو ما قدم على رضا الجماعة والضرورات الاجتماعية، ولو خالف التشريع، والعرف السلبي هو العرف الملغى بمقتضى عرف آخر، وليس للحجج التي يوردها أنصار مخالفي هذا الرأي مقتنع لأنها قائمة على أساس أن العرف أصدق تعبيرا من القانون عما في نفوس المجتمع، وأن المصلحة تقتضي الاستجابة للناس في اعتبار العرف وعدم إدخال الحرج والتضييق عليهم وذلك لأنهم أغفلوا منشأ العرف في المجتمعات السليمة، وهو إنما ينشأ من أصل مباح أو تجربة صادقة، كما غفلوا على المقياس الصحيح الذي به يؤخذ العرف أو يرد والذي يقع التمييز بين العرف الصحيح والفاسد، ولهذا لم يعتد بالأعراف التي كانت مخالفة للنصوص القانونية أو النصوص الشرعية من باب أول؛ لأن تشريعه وتشريع سماوي، وقواعده ثابتة ومسالكه سليمة، ولهذا نرى من القانونيين من مذهب إلى أن العرف لا يستطيع إلغاء نص قانوني ولاسيما القواعد الآمرة التي تتعلق بنظام المجتمع العام ومصالحه العليا. وعلى أن العلامة الدكتور عبد الرزاق السنهوري، قد صرح بوضوح مثالب القانون المصري موضحًا أنه مأخوذ من القانون الفرنسي، فقد جاء في كتابه الوسيط في نظرية العقد ما يلي: إنني جعلت الفقه والقضاء الفرنسيين هما من بين سائر النظم القانونية والأجنبية التي رجعت إليها لم أفعل ذلك دراية للقضاء الفرنسي، فهو القضاء الذي نزلنا ضيوفًا في ساحته الواسعة، ولكن آن للضيف أن يعود إلى بيته ويقول أيضًا: علينا أن نمصر الفقه فنجعله فقهًا مصريًّا خالصًا نرى فيه طابع قوميتنا، ونحس أثر عقليتنا، ففقهنا حتى اليوم لا يزال يحتله الأجنبي، والاحتلال هنا فرنسي وهو احتلال ليس بأخف وطأة ولا بأقل عنتًا من أي احتلال آخر، ويقول أيضا: لا يزال الفقه المصري يتلمس في الفقه الفرنسي الهادي، والمرشد لا يكاد يتزحزح من فقهه أو ينحرف من مسراه، فهو ظله اللاصق وتابعة الأمين، فإذا قدر لنا أن نستقل بفقهنا، وأن نفرغه في جو مصري يشب فيه على قدم مصرية، وينمو بمقومات ذاتية بقي علينا أن نخطو الخطوة الأخيرة، فنخرج من الدائرة القومية إلى الدائرة العالمية، ومن جملة قوله: يمكن القول إن تقنيننا المدني فيه نقص ثم فيه فضول هو غامض حيث يجب البيان، مقتضب حيث تجب الإفاضة، ثم هو يتوسل في التافه من الأمر فيعتني به عناية لا تتفق مع أهميته المحدودة يقلد التقنين الفرنسي تقليدًا أعمى فينقل كثيرًا من عيوبه، وهو به متناقض في نواح مختلفة ويضم إلى هذا التناقض أخطاء معيبة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2419 كانت هذه هي الدوافع التي دفعت الأردن لوضع مشروع قانون مدني أردني مستند في مأخذه من الفقه الإسلامي ومستند إلى الأحكام الشرعية الإسلامية غير مأخوذ من مشاريع أجنبية، كالقانون الفرنسي أو الإيطالي، أو غيرهما، بل هو مستمد من تراثنا وعقيدتنا وفقهنا وشريعتنا ولما في هذا القانون المدني الأردني من الميزات اتفقت جامعة الدول العربية على أن تجعله منطلق تقنين القانون لمجموعة الدول العربية وذلك لما تحض عليه من الأخذ بكل ما يتطلبه النمو الحضاري والتقدم البشري مركزًا على دعائم ثابته في تشريعاته، ينتظم المعاملات ويجمع بين أصالة الماضي وجدة الحاضر، ويرعى الاتجاهات المختلفة في الحفاظ على التراث الخالد الذي ساد البشرية قرونًا طويلة على اختلاف عقائد من خضعوا لأحكامه دون أن يروا فيه ما ينبوا عن حاجات المجتمع، ويبعد عن قواعد الحق والعدل والإنصاف، وذلك لأن القانون لا يبلغ القمة إلا إذ واصل بين الحاضر والماضي، وأنار السبيل للمستقبل وكان وسيلة للوصول إلى حفظ المجتمع وتثبيت دعائمه وتحقيق حياة يسودها العدل والنظام والاستقرار، ولا يخفى أن اتجاهات النظم القانونية في العالم لا تخرج عن أحد النظامين، النظام المادي والنظام الشخصي، والأول: يرعى الإرادة الظاهرة في العقد ويضع لذلك المقاييس المادية التي تحلل كثيرًا بالعرف الجاري. والثاني: وهو النظام الشخصي وينظر إلى الإرادة الباطنة دون الظاهرة، ولا يخفى أن النزعة المادية الموضوعية، أو الواقعية في القانون دليل على تقدمه، إذ يهدف بهذه النزعة إلى إثبات المعاملات واستقرارها، وهي نزعة الشريعة الإسلامية بوجه عام فهي وإن كانت العبرة فيهما بالمعاني لا بالألفاظ، لكن ليس ذلك على إبطال الدلالة الظاهرة ولهذا نرى حرص الفقهاء على تفسير معاني الألفاظ حسب قواعد اللغة وأصولها، وفرقوا بين الكنايات الظاهرة والكنايات الخفية، وبين ما كان صريحًا، وما كان ظاهرًا، وما كان مجملًا، وما ينوي فيه صاحبه مما لا ينوي فيه، وبين ما كان من ذلك في باب القضاء وما كان في باب الفتوى بحيث وقفوا عند الإرادة الظاهرة التي يكشف عنها اللفظ، كل ذلك حرصًا على ثبات التعامل واستقراره، كما أن هذه الشريعة الغراء راعت المألوف في التعامل والمتعارف بين الناس والمتبادر إلى الأذهان حسب العادات والتقاليد والاستعمال حيث كان ذلك هو المعيار الموضوعي الذي يبدو في أحكام العقود على اختلافها، وفي كثير من الأبواب والمسائل التي يلعب العرف دورًا عظيمًا في استنباط أحكامه على ما سيأتي بيانه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2420 العرف المعروف في اللغة: ضد المنكر والعرف ضد النكر: يقال أولاه عرفًا أي معروفًا، والمعروف كالعرف وقوله تعالى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} أي مصاحبًا معروفًا، قال الزجاج هنا يحسن من الأفعال وقوله تعالى: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [سورة الطلاق: الآية6] . وقال {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [سورة المرسلات: الآية1] . قيل الملائكة أرسلوا للمعروف والإحسان. والعرف والعارفة، والمعروف واحد، ضد النكر وهو كل ما تعرفه النفس من الخير، وتأنس به، وتطمئن إليه، وفي الحديث تكرر لفظ المعروف وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس وكل ما ندب إليه الشرع من المحسنات، ونهى عنه من المقبحات، وهو من الصفات الغالبة أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه (1) . وقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} ، والمعروف الشيء المتعارف المألوف الذي لا ينكر فهو الشيء الحسن انتصب على أنه مصدر وصف لمصدر محذوف أي صاحبهما صحابا معروفا لأمثالهما، وفهم منه اجتناب ما ينكر في مصاحبتهما، فشمل ذلك معاملة الابن أبويه بالشكر، وشمل ذلك أن يدعو الوالد إلى ترك ما ينكره الله ولا يرضى به، ولذلك لا يطاعون إذا أمروا بمعصية، والأمر بمعاشرتهم بالمعروف شامل لحالة كون الأبوين مشركين، فإن على الابن معاشرتهما بالمعروف كالإحسان إليهما وصلتهما، وفي الحديث أن أسماء بنت أبي بكر قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمي جاءت راغبة أفأصلها، فقال: ((نعم صلي أمك)) وكانت مشركة (وهي قتيلة بنت عبد العزى) ، وشمل المعروف ما هو لهما أن يفعلاه في أنفسهما وإن كان منكرًا للمسلم، فلذلك قال فقهاؤنا: إذا أنفق الولد على أبويه الكافرين الفقيرين وكان عادتهما شرب الخمر اشترى لهما الخمر، لأن شرب الخمر ليس بمنكر للكافر، فإن كان الفعل منكرًا في الدينين، فلا يحل للمسلم أن يشايع أحد أبويه عليه (2) .   (1) لسان العرب لابن المنظور: 9 /239، وما بعدها (2) التحرير والتنوير: 21 /161 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2421 والعرف والمعروف من أصول التشريع الإسلامي فقد قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [سورة الأعراف: الآية 199] فالعرف اسم مرادف للمعروف من الأعمال، فهو الفعل الذي تعرفه النفوس أي لا تنكره إذا خليت وشأنها بدون غرض لها في ضده وقد دل على مرادفته للمعروف قول النابغة: فلا النكر معروف ولا العرف ضائع. فقابل النكر بالعرف. فالمعروف إذن هو ما يعرف وهو مجاز في المقبول المرصي به لأن الشيء إذا كان معروفًا كان مألوفًا مقبولًا مرضيًّا به، وهو في الآية ما يقبل عند أهل العقول وفي الشرائع وهو الحق والصلاح لأن هذا مقبول عند انتفاء العوارض والمنكر ضده وهو مجاز في المكروه، والكره ملازم للإنكار لأن النكر في أصل اللسان هو الجهل ومنه تسمية غير المألوف نكرة، وأريد به في الآية الباطل والفساد لأنهما من المكروه في الجبلية عند انتفاء العوارض (1) . والقول الجامع أن العرب تطلق المعروف على ضد المنكر وعلى ضد المجهول، والمنكر هو المستقبح عند الذي ينفرون منه لقبحه أو ضرره، أو يذمونه، ويذمون مرتكبيه، وسورة الأعراف مكية، وهي قد نزلت في أصول الدين وكليات الشريعة وآية: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} تثبت لنا أن العرف والمعروف أحد الأركان للآداب الدينية، ومما انبنى عليه التشريع الإسلامي اعتبار عادات الأمة الحسنة، وما تواطأت عليه من الأمور النافعة والأفعال الخيرة مما يحقق لها المصالح ويدرأ عنها المفاسد في مجاري العادات حتى إن كتاب الله عز وجل قد قيد طاعته وطاعة رسوله بالمعروف في عقد مبايعته للنساء حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} [سورة الممتحنة: الآية 12] . ومعلوم أن عقد المبايعة أعظم العقود في الأمم والدول فتقيد طاعته صلى الله عليه وسلم فيه بالمعروف التزام، والمعروف من أعظم أركان الدين روى البخاري عن أم عطية، قالت: بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا: ((أن لا تشركن بالله شيئًا)) ، وفي البخاري، عن ابن عباس، قال: شاهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الخطبة فنزل نبي الله، فكأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ} حتى فرغ من الآية كلها، ثم قال حين فرغ: ((أنتن على ذلك)) فقالت امرأة منهن واحدة لم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله، قال: ((فتصدقن)) .   (1) التحرير والتنوير: 4 /40 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2422 وأجرى هذه المبايعة على الرجال أيضا، فعن عبادة بن الصامت، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((أتبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تزنوا ولا تسرقوا)) وقرأ آية النساء (أي النازلة بخطاب النساء في سورة الممتحنة) ((فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب منها شيئًا فستره الله، فهو إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له)) ، واستمر العمل بهذه المبايعة إلى يوم فتح مكة وقد أسلم أهلها رجالًا ونساء. وجلس ثاني يوم الفتح على الصفا يأخذ البيعة من الرجال على ما في هذه الآية، وجلس عمر بن الخطاب يأخذ البيعة على النساء على ذلك، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الطاعة في معروف)) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد، عن علي أي لا تجوز طاعة السلطان، أو نائبه في معصية، ولذا لما قام من أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية؟ ألم تعلموا أنه يجب عليكم طاعتي؟ فقالوا: نعم ,فقال: ائتوا بحطب وأوقدوه وادخلوا فيه، فلما تأججت النار، وصاروا يقربون منها صار بعضهم ينظر إلى بعض، ثم قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث لإنقاذ الناس من النار فكيف تأمرنا بالدخول فيها فخمدت النار وذهب غضب الأمير، فلما رجع أخبر النبي بذلك، فقال: ((لو دخولها ما خرجوا أحياء)) ، أي ماتوا فيها، وذكر الحديث ((إنما الطاعة في معروف)) (1) ولقد تكرر ذكر المعروف في السور المدنية، وكان أكثرها في بيان الأحكام الشرعية العملية وذلك في عشرات من الآيات بعضها في صفة الأمة الإسلامية، وحكومتها وأكثرها في الأحوال الشخصية والأحكام المالية، ومن الأول قوله تعالى في تعليل الإذن للمؤمنين بالقتال في سورة الحج: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) . ومنه قوله تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) أي بما هو معروف في الشرع غير منكر، وينهون عما هو منكر في الدين غير معروف. وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (4) .   (1) حاشية الحنفي على الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير: 1 /320 (2) سورة الحج الآيات 39، و 40 ,و41 (3) سورة آل عمران: الآية 104 (4) سورة آل عمران: الآية 110 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2423 وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) وقد وصفهم الله تعالى بعد ذلك بقوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} (2) ، أي القائمون بأمر الناس بما هو معروف والشريعة، والقائمون بإنكار كل فعل أنكره الشرع – فكل هذه الآيات أصول لا مندوحة للأمة من التزامها في آدابها وتشريعاتها. ومن النوع الثاني، وهو ما ورد في الأحكام الفرعية العملية، ففي الحقوق الزوجية، كما في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} ، أي ما تعرفه العقول السليمة المجردة عن الانحياز إلى الأهواء والعادات الضالة، وذلك هو الحسن وما جاء به الشرع نصًا أو قياسًا واقتضته المقاصد الشرعية، والمصالح العامة التي ليس في الشرع ما يعراضها وتحتها تفاصيل كبيرة تؤخذ من الشريعة، وهي مجال للمجتهدين في مختلف العصور وتعدد الأقطار يشهد لذلك اختلاف الفقهاء في جبر البنت البكر من أبيها دون الابن مصداقًا لقوله وللرجال عليهن درجة. ومن منعها من التبرع بما زاد على الثلث إلا بإذن زوجها عملًا بقوله وللرجال عليهن درجة: إلى غير ذلك من الجزئيات، التي اختلفت فيها الأنظار بين المماثلة بين الذكر والأنثى وبين جعل درجة للرجل عليها وكل ينظر إلى أن ذلك من المعروف أو من المنكر، ففي هذه الآية الكريمة احتباك والتقدير: ولهن مثل ما على الرجال، مثل الذي للرجال عليهن، فحذف من الأول لدلالة الآخر وبالعكس، وكان الاعتناء بذكر ما للنساء من الحقوق على الرجال وتشبيهه بما للرجال على النساء لأن حقوق الرجال على النساء مشهورة مسلمة من أقدم عصور البشر، أما حقوق النساء فلم تكن مما يلتفت إليه، أو كانت ولكنها متهاون بها وموكولة إلى مقدار حظوة المرأة عند الزوج، فلما جاء الإسلام أقامها وكانت هذه الآية أعظم ما أسست به، وكانت هذه الآية ركنًا من أركان حقوق الزوجية، بما يفضل الإسلام جميع الشرائع والقوانين والأديان في العدل والإنصاف، والمصلحة مما لم تنل النساء مثله في أمة من الأمم ومنها قوله تعالى في أحكام الطلاق: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (3)   (1) سورة التوبة: الآية 71. (2) سورة التوبة: الآية 112 (3) سورة البقرة: الآية 229. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2424 فقد روى مالك في جامع الطلاق من الموطأ، عن هشام بن عروة عن أبيه، أنه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته، ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان له ذلك، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها راجعها، ثم طلقها، ثم قال: والله لا آويك ولا تحلين أبدًا فأنزل الله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، فاستقبل الناس الطلاق جديدًا من يومئذ من كان طلق منهم أو لم يطلق، وقد جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت قول الله تعالى الطلاق مرتان، فأين الثالثة؟ فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)) ، والمقصود من الجملة هو الإمساك أو التسريح المطلق قيد الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان إذ ما جاء للوصية والإرشاد في أثناء التشريع وإيماء إلى أنه الأهم المرغب فيه في نظر الشرع والإمساك بالمعروف أي على ما عرفه الناس في معاملاتهم من الحقوق التي قررها الإسلام أو قررتها العادات التي لا تنافي أحكام الإسلام وهو مناسب للإمساك إذ يشتمل على أحكام العصمة كلها من إحسان المعاشرة وغيرها؛ إذ المعروف أعم من الإحسان والتسريح بإحسان هو الفراق ومعروفه منحصر في الإحسان إلى المفارقة بالقول الحسن والبذل بالمتعة، كما قال تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} . وقد كان الأزواج يظلمون المطلقات ويمتعوهن من حليهن ورياشهن ويكثرون الطعن فيهن (1) . ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة الطلاق: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (أي أمسكوهن بحسن معاشرة ورغبة فيهن من غير قصد إلى مضارة لهن) {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (2) ومنها قوله تعالى في المطلقات الرجعيات: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} (3) . وهو شرط للنهي لأن الولي إذا علم عدم التراضي بين الزوجين ورأى أن المراجعة ستعود إلى دخل وفساد فله أن يمنع مولاته نصحًا لها وخوفًا عليها، ولا يحق له بحال إذا تراضى الزوجان بعود المعاشرة أن يمنعها إذ ليس هو بأدرى من ميلها لزوجها منها فهو على حد قولهم رضي الخصمان ولم يرض القاضي.   (1) التحرير والتنوير: 2 /403- 407 (2) سورة الطلاق: الآية 2. (3) سورة البقرة: الآية 232 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2425 ومنها قوله تعالى في المطلقات: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (1) متاعًا بالمعروف وهو ما عرف في الشرع والعادة الموافقة له فالاعتبار في ذلك بحال الزوج وهي من الغنى فوق المتعة من الفقير إذ ليس الموسع وهو من اتسعت حاله كالمقل المقتر، وهو من عسرت حاله، فالمعروف ما تعورف في الشرع والعادة (2) ومنها قوله تعالى في معاشرة الأزواج: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (3) . والمعاشرة المخالطة مفاعلة من العشرة، والمعروف ضد المنكر وسمي الأمر المكره منكرًا لأن النفوس لا تأنس به، فكأنه مجهول عندها نكرة، إذ الشأن أن المجهول يكون مكروهًا، ثم أطلقوا اسم المنكر على المكروه وأطلقوا ضده على المحبوب لأنه تألفه النفوس والمعروف هنا ما حدده الشرع ووصفه العرف (4) ومما جاء في العفو عن القصاص قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (5) . فالاتساع مستعمل في القبول والإرضاء، أي فليرض بما بذل له من الصلح المتيسر وليؤدِّ باذل الصلح ما بذله دون مماطلة ولا نقص ومقصد الآية إبطال ما كان في الجاهلية من اعتبار أن أخذ الصلح في القتل العمد هو بيع لدم صاحبهم، قال مرة الفقعسي: فلا تأخذوا عقلا من القوم إنني أرى العار يبقى والمعاقل تذهب فجاء القرآن وأطلق وصف الأخ على المماثل في دين الإسلام وجعل التوافق في العقيدة أشد من التوافق في النسب ذلك أن التوافق في الدين آصرة نفسانية والتوافق في النسب آصرة جسدية، والروح كما هو معلوم أشرف من الجسد، وقوله تعالى {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وصف أي الرضا بما هو معروف تألفه النفوس وتستحسنه من كل ما تسر به النفوس ولا تشمئز منه ولا تنكره ومنها ما في الوصية للوالدين والأقربين، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (6)   (1) سورة البقرة: الآية 236 (2) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، للشوكاني: 1 /226. (3) سورة النساء: الآية 19 (4) التحرير والتنوير: 4 /286. (5) سورة البقرة: الآية 178 (6) سورة البقرة: الآية 180 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2426 والمعنى: كتب عليكم ما هو معروف عندكم بالوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ما ألفته العقول ولم تنكره النفوس وهو الشيء المحبوب المرضي سمي معروفًا لكثرة تداوله والتأنس به حتى صار معروفًا بين الناس وهو العدل الذي لا يحصل منه تحاسد بين الأقارب ولا تباغض وتدابر، ومن المعروف في الوصية ألا تكون للإضرار بوارث أو زوج أو قريب وقد قال طرفة: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند وقد كانوا في الجاهلية يمنعون القريب من الإرث بتوهم أنه يتمنى موت قريبه ليرثه وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض، وكان هذا مما يفضي إلى الإحن، الأمر الذي يتسبب في اختلال الحالة الاجتماعية بإلقاء العدواة بين الأقارب ومنها في أكل الموصى من مال اليتيم، فقد قال الله تعالى {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ، ففي قوله بالمعروف حوالة على ما يناسب حال الوصى ويتيمه بحسب الأزمان والأماكن، ولقد أرشد إلى ذلك حديث أبي دواد في سننه أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير وليس لي شيء، قال: ((كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مباذر ولا متأثل)) ، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت نزلت هذه الآية فيولي اليتيم إذا كان محتاجًا أن يأكل منه بالمعروف، ولهذا قالت المالكية: يأخذ الوصي بقدر أجرة مثله، وقد قال عمر رضي الله عنه: إني نزلت نفسي من مال الله منزلة الوصي من مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت أكلت بالمعروف فإذا أيسرت قضيت. قال عطاء وإبراهيم النخعي: لا قضاء عليه أن أيسر وهو مذهب الجمهور وروي عن ابن عباس من كان من الأوصياء غنيًّا فليستعفف بماله، ولا يتوسع بمال محجوره ومن كان فقيرًا فإنه يقتر على نفسه لئلا يمد يده إلى مال يتيمه، وقد استحسنه النحاس وعلي بن على الطبري المعروف مالكيًّا الطبري نسبة إلى طبرستان قرب الري (1) قال الإمام الشافعي: وجماع المعروف إتيان ذلك بما يحسن لك ثوابه، وكف المكروه (2) . إننا بما نقلنا نرى أن المعروف في هذه الآيات المتعددة معتبر في هذه الأحكام المهمة كما ندرك أن المعروف فيها هو المعهود بين الناس في المعاملات وفي العادات، ومن المعلوم بالضرورة أن العادات والتقاليد تختلف باختلاف الشعوب والبيوت والبلاد، والأوقات، وأن تحديد الأحكام وتعيينها من دون مراعاة عرف الناس يكون مخالفًا لنص كتاب الله (3) ولشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من فقهاء الحديث أقوال حكيمة في المعروف فقد ذكر في أحكام الطلاق (4) وما ورد فيه من الآيات المقيدة للإمساك بالمعروف والتراضي بالمعروف والمعاشرة بالمعروف وفي أن لهن وعليهن بالمعروف ورزقهن وكسوتهن بالمعروف قال: هذا المعروف المذكور في القرآن هو الواجب العدل في جميع ما يتعلق بالنكاح من أمور النكاح وحقوق الزوجين.   (1) التحرير والتنوير: 4 /245، إلكيما بهمزة مكسورة في أوله فكاف مكسورة معناه الكبير بالفارسية. (2) أحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204هـ: 1 /203 (3) تفسير المنار، للشيخ رشيد رضا: 9 /534 (4) مجموع الفتاوي لابن تيمية: 34 /84 إلى 91 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2427 والمعروف هو الذي يعرفه الناس في حالهما نوعًا وقدرًا وصفة وهو يتنوع بتنوع حالهما من اليسار والإعسار، والزمان كالشتاء والصيف والليل والنهار، والمكان فيضعهما في كل بلد مما هو عادة أهل البلد وهو العرف بينهم وكذلك ما يجب عليه من المتعة والعشرة، فعليه أن يبيت عندها ويمسها بالمعروف، وكل هذا يختلف بحاله وحالها، كذلك النفقة تقدر بالمعروف فتنوع بتنوع حال الزوجين عند جمهور المسلمين وقد قال بعضهم هي مقدرة بالشرع نوهًا وقدرًا مدًّا من حنطة أو مدًّا ونصفًا، أو مدين قياسا على الإطعام والواجب في الكفارة على أصل القياس والصواب المقطوع به ما عليه الأمة علمًا وعملًا قديمًا وحديثًا. فإن القرآن قد دل على ذلك وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لهند امرأة أبي سفيان، لما قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف فأمرها أن تأخذ بالمعروف ولم يقدر لها نوعًا ولا قدرًا)) ، ولو تقدر ذلك بشرع أو غيره لبين لها القدر والنوع، كما بين فرائض الزكاة والديات. وفي صحيح مسلم ,عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته العظيمة بعرفات: ((لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) وكل ذلك يرجع للعرف والعادة، فإذا كان عادتهم أكل التمر والشعير أعطاها ذلك وإن كان أكل الخبز والإيدام أعطاها ذلك، وإن كان يطحن في الطاحون ويخبز في البيت، فعل ذلك، وإن كانت عادتهم يشتري الخبز من السوق فعل ذلك، كل ذلك على ما هو معروف عندهم، وكذلك القدر لا يتعين مقدار مطرد بل تتنوع حتى تتنوع المقادير- والمعروف فيما له ولها هو موجب العقد المطلق، فإن العقد المطلق يرجع في موجبه إلى العرف، كما يوجب العقد المطلق في البيع النقد المعروف فإن شرط أحدهما على صاحبه شرطًا لا يحرم حلالا ولا يحلل حرامًا فالمسلمون عند شروطهم إذ موجبات العقود تتلقى من اللفظ تارة ومن العرف تارية أخرى لكن كلاهما مقيد بما لم يحرمه الله ورسوله. واللفظ في العرف والمعروف عام، يشمل كل معروف في الشرع وفي العادات والمعاملات، فلا بد من الاعتماد على العرف والاعتداد به إذا لم يكن هناك نص من الشارع، أما إذا كان هناك نص صار هو نفسه من جملة المعروف الذي هو ضد المجهول كما يكون بالضرورة من المعروف الذي هو ضد المنكر. والعقائد والعبادات مرجعها إلى النصوص من الكتاب والسنة فلا يجوز بحال من الأحوال إحداث عبادة جديدة أو الإتيان بها على غير الوجه الذي كان أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ولا ينفع في ذلك اجتهاد ولا قياس ولا إجماع من بعد الرسول وأصحابه، كما لا ينفع فيها علل ولا نظريات حيث أن الله قد أكمل الدين، وقال سبحانه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1)   (1) سورة المائدة: الآية 3. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2428 وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ما سكت عنه، فهو معفو عنه فمن زاد على ذلك شيئًا كان مراغمًا لنص القرآن أو طاعنًا في بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو زاعمًا أنه هو أكمل منه علمًا بالدين، وقد قال مالك رضي الله عنه لمن أراد أن يحرم بالحج من المسجد النبوي: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة فقال الرجل وأي فتنة في هذا؟ إنما هي أميال أزيدها قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك قد سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) . ومن أجل كلامه رضي الله عنه في ذلك قوله من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين (2) / قال الشاطبي: ولذلك التزم مالك في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني وإن ظهرت لبادئ الرأي وقوفًا مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه (3) ولم يلتفت رضي الله عنه في إزالة الأحداث ورفعها إلى مطلق النظافة التي اعتبرها غيره حتى اشترط في رفعها النية، ولم يجعل غير الماء المطلق الذي لم يتغير لونه ولا طعمه ولا ريحه. وكذلك امتنع من إقامة التكبير والتسليم في القراءة بغير العربية، ولم يجعل غيرها يقوم مقامها في التحليل والتحريم والإجزاء، وكذلك منع من إخراج القيم في الزكاة واقتصر في الكفارات على مراعاة العدد وما أشبه ذلك ومسلكه في هذا كله دائر على ما حده الشرع دون ما يقتضيه معنى من المعاني مناسب، وذلك لقلة وجوده في التعبديات وندوره في الديانات وهو رضي الله عنه بخلافه في العادات الذي هو جار على المعنى المناسب، الظاهر للعقول فقد استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم معاني المصالح مع مراعاة مقصود الشارع وعدم مناقضة تلك المصلحة لأصل من أصوله التي قسمها العلماء إلى ثلاثة: مناسب علم اعتباره الشارع له، ومناسب علم إلغاؤه له ومناسب لم يعلم إلغاؤه ولا اعتباره، وهو الذي لم يشهد له أصل معين بالاعتبار بل أخذ من مقاصد الشريعة العامة وهو المسمى بالمصالح المرسلة (4) .   (1) سورة النور: الآية 63 (2) الاعتصام ,للشاطبي: 1 /167- 2 /198 (3) الشاطبي: 3/ 300 (4) ارشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ,للشوكاني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2429 وقد اشتهر انفراد المالكية به، قال الزركشي: وليس كذلك فإن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة، ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك، ولقد أطنب أبو إسحاق الشاطبي المتوفى سنة 790 هـ في بحث البدع والحث على التزام السنة من كتابه الاعتصام بما لم يسبق إلى مثله وفرق بين البدع والمصالح المرسلة تفرقة واضحة بينه، وأثبت فيها أن مالك بن أنس كان يقول بها على تشدده في نصرة السنة ومبالغته في مقابلة البدع حتى قال فيه أحمد بن حنبل إذا رأيت الرجل يبغض مالكًا فاعلم أنه مبتدع، وقال فيه عبد الرحمن بن مهدي: إذا رأيت الحجازي يحب مالكًا بن أنس فاعلم أنه صاحب سنة، كما أنه ممن أطنب غاية الإطناب في بحث المصالح من المشارقة نجم الدين الطوبي الحنبلي المتوفى سنة 716 حتى بلغ به الأمر إلى أن قدم المصلحة على النص والإجماع، وقد ركز كلامه على حديث أبي سعيد الخدري: ((لا ضرر ولا ضرار)) ، الذي رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مرسلًا، ورواه مالك كذلك مرسلًا، وقال: إنه يقتضي رعاية المصالح إثباتًا ونفيًا والمفاسد نفيا، ثم استدل على المسألة بعد أدلة من الكتاب والسنة تفصيلًا وإجمالًا وجعل مدار تعليل الأحكام الشرعية عليها ودعم ما ذهب إليه بالاستدلال بالنظر العقلي ولم يكتفِ بكل هذا حتى جعل رعاية المصالح مقدمًا على النص والإجماع عند التعارض فقال: وإن خالفها وجب تقديم رعاية المصالح عليها بطريق التخصيص والبيان لهما لا بطريق الافتيات عليهما والتعطيل لهما، ثم قال بعدها: واعلم أن هذه الطريقة التي قررناها مستفيدين لها من حديث ((لا ضرر ولا إضرار)) ثم قال: وليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام، ثم علل ذلك بأن العبادات وشبهما حق للشارع خاصة به، ولا يمكن معرفتها ومعرفة حقه كمًّا وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا من جهته، فيأتي بها العبد على ما رسم له، ولهذا لما تعبدت الفلاسفة بعقولهم ورفضوا الشرائع أسخطوا الله وضلوا وأضلوا، قال: وهذا بخلاف حقوق المكلفين، فإن أحكامها سياسية شرعية وضعت لمصالحهم، فعلينا أن نأخذها من أدلته، فإذا رأينا الشرع متقاعدًا عن إفادتها علمنا أنا أحلنا فيتحصيلها على رعايتها (1) ونحن إذا نظرنا الأمور الدنيوية من حيث الحلال والحرام ومن حيث القضاء والسياسة والآداب وجدناها تنقسم بحسب الأدلة إلى ستة أقسام: الأول: ما فيه نص محكم قطعي الدلالة قطعي الثبوت، وهذا واجب العمل به ولا مجال للاجتهاد فيه ما لم يعارضه ما هو أرجح منه من النصوص الخاصة لموضعه أو العامة كنفي الحرج ونفي الضرر والضرار وكون الضرورات تبيح المحظورات كما قال تعالى {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2)   (1) رسالة نجم الدين الطوفي، المصلحة المرسلة. (2) سورة الأنعام: الآية 119. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2430 والإضطرار الوقوع في الضرورة ويغلب فعله البناء للمجهول وهي حالة توجب على الإنسان أن لا يقدم على المحرمات إذا كان رائمًا بذلك تناولها مع ضعف الاحتياج إليها، وتوجب عليه أن لا يحجم من تناولها إذا خشي أن يتناول ما في أيدي الناس بالغصب والسرقة ونحوها يدل على ما ذكرنا قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1) أي غير باغ، ولا عاد على الناس ولا على أحكام الدين فهي تقدر بقدرها وتزول بزوال مقتضياتها. القسم الثاني: ما دل عليه نص صحيح بعمومه أو تعليله أو مفهومه دلالة واضحة أجمع عليها أهل الصدر الأول، أو عمل بها جمهورهم وعرف شذوذ من خالفهم، فالواجب في هذا عين الواجب في الأول بشرطه عند من عرفه. القسم الثالث: ما ورد فيه نص تكليفي ظني الدلالة، أو حديث لا هو واهٍ ولا هو صحيح، وقد اختلف فيه الصحابة أو من بعدهم من علماء السلف والأئمة المجتهدون للاختلاف في صحة روايته، أو للاختلاف في صراحة دلالته، فمثل هذا يعمل فيه كل مكلف حسب اجتهاده ويعذر فيه كل من خالفه فيها ظهر له أنه الحق وليس أن يعيب على أحد ولا له أن ينتقده كاختلاف السلف في بعض أحكام الطهارة والنجاسة، فلم يعب أحدهم مخالفه فيه ولم يمتنع من الصلاة معه لا إمامًا ولا مأمومًا، وكما فهم بعض الصحابة من آية البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (2) وقد نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل متلفة للمال فنزلت الآية، قال في الكشاف: " فترك الخمر قوم وشربها آخرون حيث اختلف فهمهم في تحريمها وعدم تحريمها عمل كل ما ظهر له، ولم يعترض على غيره ومثله ما يستنبطه بعض العلماء من الكتاب والسنة في كل زمان، فمن ظهر له أن ذلك من الدين وأن كلام الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم دالة عليه عمل به، ومن لم يظهر له ذلك فلا يكلف تقليد من استنبطه، وقد نقل عن أشهر المجتهدين من الأئمة أنه لا يجوز لأحد أن يقلدهم وأن يأخذ بشيء من أقوالهم إلا إذا عرف مأخذه وظهر له صحته وترجح له دليله وعند ذلك يكون متبعًا لما أنزل الله لا لما رآه غيره، وبذلك لا يكون مخالفًا لقول الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (3) .   (1) سورة البقرة: 173. (2) سورة البقرة: الآية 219. (3) سورة الأعراف: الآية 3 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2431 وأما ما يتعلق بالأمور العامة من هذا القسم كالأحكام القضائية والسياسية، فينبغي أن ينظر أولو المر وأن يتشاوروا فيه من حيث تصحيح النقل، ومن حيث طريق الدلالة على الحكم، فإذا ظهر لهم ما يقتضي؛ إلحاقه بأحد الأقسام السابقة ألحقوه به فكان له حكمه وإلا كان كالمسكوت عنه. القسم الرابع: ما ورد فيه نص غير وارد مورد التكليف كالأحاديث المتعلقة بالعادات من الأكل والشرب والطب ونحوها مما يسميه العلماء إرشادًا لا تشريعًا، وكذا ما كان من قبيل الفتاوي الشخصية فلم يعمل به الجمهور لعدم الأمر بتبليغه، فالأولى والأفضل للمسلم أن يعمل بها ما لم يمنعه من ذلك مانع من الشرع، والمصلحة أو المنفعة العامة أو الخاصة ذلك أن المبالغة في الاتباع حتى في العادات والتقاليد مما يقوي وحدة الأمة ويثبت الرابطة بين المسلمين ويقوي شوكتهم في أعين أعدائهم. نعم، لا ينبغي لحكام المسلمين في مثل هذا أن يجبروا أحدًا على الفعل أو الترك وإنما يحسن أن يكونوا قدوة صالحة في مثله. القسم الخامس: ما سكت عنه الشرع فلم يرد عنه فيه ما يقتضي فعلًا، ولا ما يقتضي تركًا، وهذا هو الذي عفا الله عنه رحمة منه وتخفيفًا على عباده وليس لأحد أن يكلف أحدًا من عبيد الله يفعل شيئًا لم يأذن الله فيه وإن ما أمرنا الله به من طاعة الأمراء وأولي الأمر منا خاص بأمور الدنيا ومصالحها ومشروط بأن لا يكون في معصية الله كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان في الصحيحين وأبو دواد والنسائي عن على كرم الله وجهه: ولا طاعة لمخلوق في معصية الله، إنما الطاعة في معروف أما أمر الدين فقد تم واكتمل، فليس لأولي الأمر من المسلمين سلطان على أحد في أمر الدين المحض لا بزيادة على مدلل النص ولا بنقصان منها قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (1) . ومن زاد أو نقص فقد جعل نفسه أو جعل شريكًا لله أو اتخذ ربًا من دون الله، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (2) . ولما كانت طاعة أولي الأمر خاصة بأمور الدنيا ومصالحها كان حتمًا تحكيم العرف والمعروف فيما لا نص فيه إذ لا يستقيم نظام الأمة إلا على أساس ثابت.   (1) سورة الشورى: الآية 13. (2) سورة الشورى: الآية 21 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2432 فإذا كانت فوضى غير مقيدة بأصول وأحكام وفضائل ثابتة، ولا بد من شيء ثابت لا تختلف فيه المصالح والمنافع، ولهذا جاء الشرع العزيز بالعرف والمعروف. ولو اختلف الناس فيما يعرفون وما ينكرون فالناس على عاداتهم وتقاليدهم، وقد أحسن الجصاص إذ عرف العرف فقال: هو ما يستحسن في العقل فعله، ولا تنكره العقول الصحيحة وقد ذهب جماعة إلى أنه العرف والعادة مترادفان، فالعرف عندهم هو العادة، وهي غلبة معنى من المعاني على جميع البلاد، أو على بعضه وعرفها بعضهم بأنها الأمر المكرر من غير علاقة عقلية كتكرار حدوث الأثر مع المؤثر وتكرار المعلول عند وجود علته كسرعة البلوغ في البلاد الحارة وبطئه في البلاد الباردة، قال القرافي في تعريف العادة: إنها غلبة معنى من المعاني على الناس، وهو غير جامع لعدم اشتماله عادة الفرد، وقد عرفها بعضهم وقصرها على العادة العملية ولا وجه لما ذهب إليه لأن الفقهاء عمموا العادة في الأقوال والأعمال، وأدى تعريف لها ما عرف به ابن فرحون، حيث قال في تعريفها: غلبة معنى من المعاني على جميع البلاد أو بعضها، وقد عرف العرف بما استمر الناس عليه على حكم العقول، وعادوا إليه مرة بعد مرة وبتعريفه للعادة وتعريفه للعرف ندرك أنهما مترادفان، وهذا يؤيده وجه نظر أغلب الفقهاء والأصوليين لكن منهم من فرق بينهما، وجعلوا العادة أعم من العرف باعتبار أنها جنس يندرج تحته أنواع كثيرة من جملتها العرف، إذ العادة تشمل ما كان ناشئًا عن عامل طبيعي أو عن عادة فردية شخصية، أو عن عادة عامة بين الجمهور، وهو العرف، فكل عرف عادة وليس كل عادة عرفًا، وذهب بعضهم إلى أن العادة تختص بالأفعال، والعرف بالأقوال وفيه متكلم. أما أهل القانون، فيفرقون بين العرف والعادة بأمور أولها: أن أحكام العرف تلزم الطرفين ولو كانا جاهلين في حين أن العادة لا تلزمهما إلا إذا قصد الإحالة عليها صراحة أو دلالة. ثانيهما: أن من يريد التمسك بالعادة فعليه أن يثبتها بخلاف العرف فلا يحتاج للإثبات لأنه مفروض فرضا ولهذا يتعين على القاضي معرفة ذلك حتى يميز بين الطالب والمطلوب. ثالثها: أنه لا يعتد بحكم الحاكم إذا خالف العرف التي نصت عليها القوانين العرفية، واصطلحت على تسمية الركن المعنوي بالعرف، وبركن الاعتقاد بلزوم العادة وهو ما يميز العادات التي أصبحت عرفًا من العادات التي لم تبلغ هذه المرتبة وما تزال في طور الاستعمال المتوارث دون التزام (1) .   (1) الإحكام في أصول الأحكام: 2 /759؛ مقاصد الشريعة، لعلال الفاسي: ص 152: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2433 يقول الإمام الشاطبي: اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها كما في البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف، فسقوط التكليف قبل البلوغ ثم ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب، وإنما وقع الاختلاف في العوائد أو في الشواهد ثم يقول في المسألة التالية العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعًا كانت شرعية في أصلها أو غير شرعية أي سواء كانت مقررة بالدليل شرعًا أمرًا ونهيًّا ,أو إذنًا أم لا، أما المقررة بالدليل فأمرها ظاهر، وأما غيرها فلا يستقيم إقامة التكليف إلا بذلك، ثم يقول بعد كلام ولما قطعنا بأن الشارع جاء باعتبار المصالح لزم القطع بأنه لا بد من اعتباره العوائد لأنه إذا كان التشريع على وزن واحد دل على جريان المصالح على ذلك لأن أصل التشريع سبب المصالح، وهو معنى اعتباره للعادات في التشريع (1) ، وقد قسم الشاطبي العوائد إلى عوائد عامة، لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال، والثاني: العوائد التي تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأحوال كهيئات اللباس والمسكن ونحوها. والأول: يقضي به على أهل الأعصار للقطع بأن مجاري سنة الله تعالى في خلقه على هذه السنن لا تتخلف بما يجري منها في الزمان الحاضر محكومًا به على الزمان الماضي والمستقبل أكانت العادة وجودية أو شرعية، والثاني: لا يصح أن يقضي به على ما تقدم حتى يقوم الدليل على الموافقة من الخارج فإذ ذاك يكون قضاء على ما مضى بذلك الدليل لا بمجرى العادة، وكذلك في المستقبل. والنوع الأول: راجع إلى عادة كلية أبدية وضعت عليها الدنيا وبها قامت مصالحها في الخلق وهذه العادة معلومة. أما النوع الثاني: فعادة جزئية داخلة تحت العادة الكلية، وهي التي يتعلق بها الظن لا العلم وهذه لا يصح أن يحكم بها لاحتمال التبدل والتخلف بخلاف الأولى، وهذه القاعدة محتاج إليها في القضاء فيجب على القاضي أن يكون عالمًا بما كان عليه الأولون لتكون حجة للآخرين، وهذه القاعدة يستعملها الأصوليين في البناء عليها ورد القضاء بالعلمية إليها (2) . ولشدة الارتباط بين العرف والعادة وتداخلهما جرت المالكية على الرأي الأول من أن العرف والعادة لفظان مترادفان (3) .   (1) الموافقات للشاطبي: 2 /180-184. (2) الموافقات، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبى: 2 /180- 184- 188 (3) انظر العيار: 3 /238-257؛ مقاصد الشريعة، لعلال الفاسي: ص 151 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2434 ولقد استدل العلماء على الاحتجاج بالعرف من السنة بما أخرجه الإمام أحمد ومسنده. قال: حدثنا عبد الله حدثني أبي، حدثنا أبو بكر، حدثنا عاصم، عن زيد بن حبيش ,عن عبد الله بن مسعود قال: إن الله نظر في قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دنيه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيء (1) وجه الاستدلال أن ما رآه المسلمون مستحسنًا قد حكم بحسنة عند الله، فهو حق لا باطل فيه لأن الله لا يحكم بحسن ما هو باطل، فإذا كان العرف مما استحسنه المسلمون كان محكوما باعتباره، وقد انتقد هذا الدليل من حيث الثبوت والدلالة، أما من حيث الثبوت فقد نقل عن العلائي أنه لم يجده مرفوعًا في شيء من كتب الحديث أصلًا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا عليه، قال: وأخرجه أحمد في مسنده وصرح الزيلعي بأن الحديث غريب مرفوع (2) وجزم ابن حزم بأن لا وجود للحديث في مسند صحيح، وإنما يعرف عن ابن مسعود (3) ، وذكر الشيخ عبد الحي الكتاني أن هذا الحديث لا يصلح مبينًا أن ابن نجيم أخطأ في نسبته لأحمد في مسنده وإنما هو في كتاب السنة له، كما نص عليه السخاوي في المقاصد ثانيًا أن سياق كلام ابن مسعود يفيد أن المراد بالمسلمين الصحابة والمجتهدين، فالمراد بالمسلمين في الحديث المجتهدون لا عموم الناس يشده لذلك فعل ما رآه في الحديث لأن الرأي في عرف الصحابة هو ما يراه القلب بعد فكر وتأمل واجتهاد لوجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات ويدخل في ذلك ما يستنبط بطريق القياس والمصالح المرسلة وسد الذرائع، وهذا لا يمكن أن يكون إلا ممن بلغ درجة الاجتهاد وهو خواص الخواص وعلى تقدير أن " أل " في المسلمين للعموم، فهي تشمل جميع المسلمين أي المسلمين من أهل الحل والعقد إذ ما أجمعوا عليه يجب اتباعه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة ولا تجتمع على خطأ)) فقوله: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) بهذا المعنى، وهذا ما صرح به علماء الأصول كالآمدي وغيره (4) فقد قال الآمدي: وما رآه المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن إشارة إلى إجماع المسلمين، والإجماع حجة ولا يكون إلا عن دليل، وليس في الحديث دلالة على أن ما رآه آحاد المسلمين حسنًا، فهو حسن عند الله تعالى، ومثل هذا الكلام قال الشاطبي في كتابه الاعتصام على ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه إلى أن قال: وأما الدليل الثاني فلا حجة فيه من أوجه أحدها: أن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسنًا، فهو حسن والأمة لا تجتمع على باطل فاجتماعهم على حسنه شرعًا، لأن الإجماع يتضمن دليلًا شرعيًّا، فالحديث دليل عليكم لا لكم، والثاني: أنه خبر واحد في مسألة قطعية فلا يسمع، والثالث: أنه إذا لم يرد به أهل الإجماع، وأريد بعضهم فيلزم عليه استحسان العامة، وهو باطل بإجماع (5) .   (1) مسند الإمام أحمد 1 / 379، ط. الميمنة. (2) الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 93؛ الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 63، نشر العرف في بناء الأحكام على العرف ,لابن عابدين ,مجموع رسائل ابن عابدين: 2 /115. (3) الإحكام في أصول الأحكام: 2 /759؛ الزيلعي: 4 /133، وفي تمييز الطيب من الخبيث: ص141، لابن الديبع أن الحديث رواه أحمد في كتاب السنة مصرحًا بحسنه، وقال ابن الديبع: إن الحديث أخرجه البراز والطيالسي وأبو نعيم في الحلية في ترجمة أبن مسعود (4) انظر الأحكام، لسيف الدين الآمدي: 3 /138 (5) الاعتصام، لابن إسحاق الشاطبي: 2 /130-131 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2435 وإذا أمعنا النظر في شريعتنا الغراء، وجدناها شريعة مستكملة الأحكام صالحة لكل زمان ومكان مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد في هذا العمران متسعة المجال صالحة لجميع الأقاليم والأجيال عقيدة حكم بصحتها العقل والنقل، وأن في اختلاف علمائها مما تختلف فيه الأقطار بما تقتضيه الأطوار في اختلاف الأمصار والأعصار لدليل على كمال توسعها وصلاحها، ومعلوم أن المأخذ متحد يعتمده كل معتمد فكالوادي إذا جرى إلى أراضٍ مختلفة فاختلف نباتها باختلاف جهاتها، فليس من اختلاف المياه، فالوارد من أواخر جداوله يستوي مع من ورد من منبعه ومصبه والماء واحد وإن اختلفت الموارد وهكذا شريعتنا، فهي متحدة الأصول وإن اختلفت في جزئياتها الفحول على أنها قد حافظت على ما لا يخالف أصولها من أحكام الشرائع السابقة حتى كان شرع من قبلنا شرعًا لنا ما لم يرد ناسخ، وصانت أيضًا ما لا ينقص أحكامها مما جرى به العرف والعوائد على أنه إن ذهبنا إلى أن آية الأعراف {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . وحديث: ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن لا يقوم بهما الاستدلال صراحة بخصوصهما، فمن الآيات والأدلة ما يقوي جانبهما مما لا يترك مجالًا إلى اعتبار العمل والعرف وأنهما أصل من الأصول التي انبنت عليه كثير من الأحكام. فمن الآيات قوله تعالى فيما يجب للزوجات على الأزواج من النفقات: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1) . فقد قيدت الإنفاق بما تعارفه الناس واعتادوه، وقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) . فقد صرحت الآية بأن الكسوة والرزق والإنفاق مرجعه إلى ما اعتاده الناس، وقوله تعالى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (3) أي أمسكوهن بما عرف بين الناس من حسن المعاشرة من غير مضارة. وقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي بعيشة حسنة رضية استقر عرف الناس عليها، وقوله تعالى في المطلقات: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} (4) وهو ما عرف في الشرع والعادة الموافقة له والاعتماد في ذلك على حال الزوج من الغنى والفقر والسعة والضيق، ومنها قوله تعالى في معاشرة الأزواج {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (5) .   (1) سورة البقرة: الآية 228 (2) سورة البقرة: الآية 232 (3) سورة الطلاق: الآية 2 (4) سورة البقرة: الآية 236 (5) سورة النساء: الآية 19 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2436 فالمعروف هنا ما حدده الشرع ووصفه العرف وتألفه النفوس ولا تستنكره، ومنها قوله تعالى في العفو من القصاص {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (1) . فاتباع بمعروف أي بما تألفه النفوس وتستحسنه في مجاري العادات ولا تشمئز منه وتستنكره، ومنها قوله تعالى: في الوصية للوالدين {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (2) ، أي بما ألفته العقول ولم تنكره النفوس وهو المحبوب المرضي سمي بذلك لكثرة تداوله بين الناس والتأنس به حتى صار معروفًا بين الناس معتادًا وهو العدل الذي لا يحصل منه تحاسد ولا تباغض بين الأقارب. ومن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) . والجلباب ثوب أصفر من الرداء وأكبر من الخمار والقناع تضعه المرأة على رأسها، فيتدلى جانباه على ذراعها وينسدل سائره على كتفيها وظهرها تلبسه المرأة عند الخروج، ولا شك أن لباسه يختلف باختلاف أحوال النساء التي تبينها العادات والتقاليد، وما استشهدنا به من الآيات أوردناها لتؤكد على أن معناها يدور كله على العرف الذي يقضي به في المعاملات والعادات ما لم تكن مخالفة لنص من نصوص الشريعة والله عز وجل إنما يخاطب عباده بما يفقهونه إما بطريق النص مما جاء في الكتاب والسنة وما لم يرد فيه نص فيجري على ما تعارفه الناس واعتادوه، وكل هذه الآيات لتعزز آية الأعراف التي استدل بها الفقهاء على اعتبار العرف وهي حجة على ما أنكر الاستدلال به. وأما من السنة فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحكيم بن حزام: ((لا تبع ما ليس عندك)) ، فلما قدم المدينة وجد الناس يتعاملون بالسلم، وهو بيع ما ليس عند الإنسان، فأقرهم عليه بعد أن نظمه لهم مراعيًا في ذلك العرف ورفع الحرج فقال صلى الله عليه وسلم كما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس: ((من أسلف فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم)) ، والأصل أن لا يصح التعاقد على معدوم كبيع قبل ظهوره لاحتمال عدم نباته، ولا على ماله خطر العدم، أي احتمال عدم الوجود كبيع الحمل في بطن أمه وكبيع اللبن في الضرع لاحتمال عدمه بكونه انتفاخًا وكبيع اللؤلؤ في الصدف، ولهذا ورد النهي عن بيع حبل الحلبة وهي المضامين ما في أصلاب الإبل والملاقيح، وهو ما في بطون النوق.   (1) سورة البقرة الآية 178 (2) سورة البقرة الآية 180 (3) سورة الأحزاب: الآية 59 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2437 وقد استثنى الفقهاء من هذه القاعدة العامة في منبع التصرف بالمعدوم عقود السلم والإجارة والمساقاة والاستصناع مع عدم وجود المحل المعقود عليه حين إنشاء العقد استحسانًا ومراعاة للحاجة ورفعًا للحرج عن الناس لتعارفهم عليها وإقرار الشرع صحة السلم والإجارة والمساقاة نحوها، وإنما صحح الشرع بيع المعدوم وبعض المواضع وإن كان الأصل عدم ذلك، فذلك تخفيفًا ورفعًا للحرج واحتياج الناس لذلك، فلهذا أجاز بيع الثمر بعد بدو صلاحه والحب بعد اشتداده والعقد في هذه الحالة ورد على الموجود المعدوم الذي لم يخلق بعد ومما يدل على اعتبار العرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: ((إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا لمعروف)) ، فقال العباس: إلا الإذخر وهو نبت طيب الرائحة، فإنه لا بد لهم منه فإنه للقبور والبيوت فقال صلى الله عليه وسلم: ((إلا الإذخر)) فاستثناؤه صلى الله عليه وسلم الإذخر ما هو إلا مراعاة لعادة ألفوها ويعسر عليهم ترك عادتهم فرخص لهم في ذلك دفعًا للحرج. ومما يدل على مراعاة عرف الناس وعادتهم ما اتخذه الشرع من وضع الدية على العاقلة واشتراط الكفاءة في الزواج وبنائه على العصبية ومثله الإرث ومنه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة: ((خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)) (1) ، أي حسب العادة والتقاليد كذلك ما في الصحيحين والموطأ من قوله صلى الله عليه وسلم: ((لقد هممت أن أحرم الغيلة والرضاع لولا أن قومًا من فارس يفعلونها ولا تضر أطفالهم)) . ومن رحمة هذه الشريعة الغراء أن أبقت للأمم معتادها وأحوالها الخاصة بها إذا لم يكن فيها استرسال على فساد يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم ((أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية وأيما دار، أو أرض أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام)) ، وفي صحيح البخاري باب ما أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيع والإجارة والمكيال والوزن، وسنتهم على نياتهم ومذاهبهم المشورة، قال ابن حجر: مقصود البخاري بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف وأنه يقضي به على ظواهر الألفاظ حتى أنه لو وكل رجل غيره في بيع سلعة فباع بغير النقد الذي عرف الناس لم يجز، وكذا لو باع موزونًا أو مكيلًا بغير الكيل، أو الوزن المعتاد (2) . ثم أضاف ابن حجر إن الرجوع إليه في كثير من الأشياء، كمقادير الأيام والحيض والطهر وأكثر مدة الحمل ومقدار سن اليأس، وإحياء الموات والإذن في الضيافة، ودخول بيت قريب، والأيمان، والوصايا، ومقادير المكائيل والموازين، فكل هذه المسائل مرجعها إلى العرف والعادة. وكل ما لم ينص الشارع عليه فيحمل على ما تعارفه الناس وتعامل به أهل تلك البلدة، قال ابن حجر: وهذا ما قصده البخاري من الترجمة، أي من إثبات الاعتماد على العرف والعادة (3) .   (1) أخرجه البخاري في صحيحه: 7 / 65 (2) فتح الباري، شرح صحيح البخاري: 4 /276 (3) فتح الباري، شرح صحيح البخاري: 4 /277 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2438 وقال بدر الدين العيني في شرحه لهذا الباب: أي هذا باب يذكر من أجرى أمرها إلى الأمصار على ما يتعارفون بينهم أي على عرفهم وعوائدهم في أبواب البيوع والإجارات والمكيال، ثم قال: كل شيء لم ينص عليه الشارع أنه كيلي، أو وزني، يعمل في ذلك على ما تعارفه أهل تلك البلدة مثلا الأرز فإنه لم يأتِ فيه نص من الشارع أنه كيلي، أو وزني، فيعتبر في عادة أهل كل بلد على ما بينهم من العرف فيه فإنه في البلاد المصرية يكال، وفي البلاد الشامية يوزن ونحو ذلك من الأشياء لأن الرجوع إلى العرف جملة من القواعد الفقهية. وقوله: وسننهم عطف على ما يتعارفون بينهم، أي على طريقتهم الثابتة على حسب مقاصدهم وعاداتهم المشهورة وحاصل الكلام أن البخاري قصد بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف والعادة (1) . ومما يدل على اعتبار العادة الحسنة ما أخرجه أبو داود في سننه من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال للسائب بن أبي السائب: ((كنت شريكي فنعم الشريك، كنت لا تداري ولا تماري)) (2) ، وفي رواية ((ولا تداريني ولا تماريني)) ، والمداراة الملاطفة، والمير الإيتاء بالميرة، وهو الطعام، وكانت السيدة خديجة رضي الله عنها في الجاهلية تستأجر الرجال في مالها بشيء تجعله، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجدهم يسلفون في التمر السنة والسنتين، فقال الحديث المشهور الذي أخرجه البخاري: ((من أسلف فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم)) ، فلقد أبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من العادات مما كان عليه العرب في الجاهلية ومعاملاتهم وأحوالهم الشخصية، وأبقى حتى بعض الشعائر الدينية التي تتماشى مع الفطرة البشرية، والتي تسربت لهم من الديانة اليهودية أو النصرانية، ولم يبطل منها إلا ما كان فاسدًا كربا الفضل والنسيئة وبيوع الغرر والجهالة كبيع الملامسة والمنابذة والحصاة، وما نعت من أنكحتها ما كان فاسدًا، كنكاح الاستبضاع والبغاء والسفاح والمخادنة، ونحوها، وأبقت ما هو صلاح متعارف تألفه الطباع وتستحنه العقول النيرة وهو ما عليه الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها (3) . وقد أبقى الإسلام ما كان عليه العرب في الجاهلية من حججهم واعتمادهم، أخرج البخاري عن عاصم بن سليمان، قال: سألت إنسانًا على الصفا والمروة، قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ونظام القسامة في الإسلام، هو الذي كان في الجاهلية، فقد روى مسلم، عن أبي سلمة وسليمان بن يسار، عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمصار أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية (4) .   (1) عمدة القاري، في شرح صحيح البخاري: 12 /16 (2) سنن أبي داود. (3) صحيح البخاري: 7 /15. (4) صحيح مسلم: 4 /68. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2439 وفي باب الصيام روى البخاري ومسلم، عن ابن عباس، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ((ما هذا؟)) ، قالوا: هذا يوم صالح نجى الله تعالى موسى عليه السلام، وبني إسرائيل من عدوهم فصامه وأمر بصومه (1) وكذلك كان الاعتكاف في الجاهلية من القربات، فجاء الإسلام به فقد أخرج البخاري ومسلم، عن ابن عمر أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال صلى الله عليه وسلم: ((فأوفِ بنذرك)) (2) ، إن ما نقلناه يعطينا صورة واضحة جلية وموقف الإسلام من العادات، وإنه ليتضح من ورائها أن الشرع أقر كثيرًا مما كان عليه الناس في العهد الجاهلي مما هو صلاح وقيد بعضها وهذبها بما هي في حاجة إليه، وأبطل منها ما كان فاسدًا فلم تهدم الشريعة كل ما كان متعارفًا عند العرب في الجاهلية، بل أقر ما كان مسايرًا لمبادئ الإسلام ومقاصده مهتمًا اهتمامًا عظيمًا بالعادات والتقاليد مراعيًا العرف الصالح فيما يشرع من أحكام حتى يتقبلها الناس بصدر رحب والإنسان ابن ما تعود. ومن مبادئ هذه الشريعة رفع الحرج، إذ هو أساس من أسسها الثلاث التي بنيت عليه، وهو رفع الحرج وقلة التكليف والتدريج في التشريع، ولقد أوضح العلامة المقدس المبرور محمد الطاهر بن عاشور هذا المعنى في كتابه مقاصد الشريعة، بعد ما بين أن ليست الشريعة بنكاية فذكر أن مقصد الشريعة من التشريع تغيير وتقرير، فبين أن للتشريع مقامين: الأول: تغيير الأحوال الفاسدة وإعلان فسادها، وهذا المقام هو المشار إليه بقوله تعالى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [سورة البقرة: الآية 257] . وقوله: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة المائدة: الآية 16] . والتغيير قد يكون إلى أشد رعيًا لصالح العباد، وقد يكون إلى تخفيف إبطالًا لغلوهم كتغيير اعتداد المرأة المتوفى عنها زوجها من تربص سنة إلى تربص أربعة أشهر وعشر وكتغيير الحداد بتهذيبه من لبس المرأة شر الثياب ومكثها في الحفس (بيت صغير) وعدم التنظيف والتطبيب مدة سنة، فأبدل ذلك بعدم لبسها للمصبوغ إلا الأسود وعدم التطيب والاكتحال مدة أربعة أشهر وعشر. أما المقام الثاني: فهو تقرير ما كانوا عليه في الجاهلية من الأحوال الصالحة التي اتبعها الناس والمعبر عنها بالمعروف، ولقد توارث الناس من القدم كثيرًا من المصالح التي كانت من نصائح الآباء والمعلمين والمربين والأنبياء والمرسلين والحكام العادلين حتى رسخت في النفوس واستحسنها العقول كإغاثة الملهوف ودفع الصائل وحراسة القبيلة والمدينة، والتجمع في الأعياد واتخاذ الزوجة وكفالة الصغار وغيرها، مما فيه صلاح البشر قديمًا وحديثًا، ثم إن التقرير لا يحتاج إلى القول إلا إذا كان عن سبب دعا إلى القول من إبطال وهم أو جواب سؤال أو تحريض على فعل وما عدا ذلك يعتبر سكوت الشارع تقريرًا لما عليه الناس ولذلك كانت الإباحة أكثر أحكام الشريعة لأن أنواع متعلقها لا تنحصر ومن رحمة الشريعة أنها أبقت للأمم معتادها وأحوالها الخاصة إذا لم يكن فيها استرسال على الفساد (3) ، وما جاء الإسلام إلا لإصلاح ما فسد من أحوال الناس، ولم يكن غايته هدم ما اعتاده الناس من العادات الصالحة التي تعارفوها قرنًا بعد قرن، وجيلًا بعد جيل باحترام الشريعة للعرف، والعادة يكون قد شرعه للناس وأصبح مصدرًا من مصادر تشريعه.   (1) صحيح البخاري: 8 /44. (2) صحيح البخاري: 3 /48 (3) مقاصد الشريعة الإسلامية ص 102 – 104، ط. 1. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2440 موقف الصحابة من العرف: لقد أخذ به الصحابة وحكموه في كل ما لا يصادم نصًّا، ولا يتعارض مع مقصد من مقاصد الشريعة ومبادئها، ولقد أقرت الصحابة في فتوحاتهم لمصر، والشام، ورومان البربر أقروهم على عوائدهم الصالحة وألغوا ما كان فاسدًا، وقد أثبت التاريخ أن لهذه الأمم من العادات والتقاليد ما يمثل مظهرًا من مظاهر حياتهم فدخلت هذه الأعراف، والعادات والتقاليد وأصبحت من العادات الإسلامية كما أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد العربية، وأصبحت بعد ذلك من العادات الإسلامية المبنية على السنة النبوية، ولقد اهتدى الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون على عادات لم يعرفوها من قبل فنظموها على هدي الكتاب العزيز والسنة النبوية والمقاصد الإسلامية حتى دخلت في التشريع الإسلامي من إجماع المجتهدين أو من بقية الأدلة، كالاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع، وقد فعلوا ذلك تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا دوَّنَ عمر رضي الله عنه الدواوين، وهي عادة فارسية ونظَّم ديوان الجيش وقرَّر الخراج والجبايات، وأبقاها على ما كانت عليه قبل الإسلام بالفارسية في العراق، وبالرومية في الشام ولم يغير من ذلك شيئًا ولم يتغير ذلك إلا بعد ما جاءت دولة الأمويين وذلك في عهد عبد الملك بن مروان، واستحالت الخلافة إلى ملك، وانتقل القوم من غضاضه البداوة إلى رونق الحضارة ومن سذاجة الأمية إلى حذق الكتابة وظهر في العرب ومواليهم مهرة في الكتاب والحسبان، فأمر عبد الملك بن سلمان بن سعد والي الأردن لعهده أنه ينقل ديوان الشام إلى العربية فأكمله لسنة من يوم ابتدائه، ووقف عليه سرحون كاتب عبد الملك فقال لكاتب الروم: اطلبوا العيش وغيره هذه الصناعة، فقد قطعها الله عليكم. أما ديوان العراق فأمر الحجاج كاتبه صالح بن عبد الرحمن، وكان يكتب بالعربية والفارسية، ولقن ذلك عن زيدان فروخ كاتب الحجاج قبله، ولما قتل زيدان في حرب عبد الرحمن بن الأشعث استخلف الحجاج صالحًا هذا مكانه، وأمره أن ينقل الديوان من الفارسية إلى العربية (1) .   (1) المقدمة، لابن خلدون من كتاب العبر، وديوان المتبدأ والخبر في أيام العرب والعجم: 1 /205 – 206. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2441 موقف التابعين من العرف: ولقد توسع التابعون في الأخذ بالعرف وتحكيمه وبناء الأحكام عليه حيث وجدوا لأنفسهم في الاعتماد عليه سندا من عمل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده، فلقد أدركوا في زمانهم أشياء لم تكن زمن الصحابة، واعترضتهم حوادث لم تحدث زمن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، حيث كثرت الفتوحات في عهدهم وتوسعت رقعة الإسلام ودخلت أقطار كثيرة تحت رايته. ودخل في دين الله كثير من الناس من بلدان متعددة وأقطار متباعدة لكل عادتهم وتقاليدهم وأعرافهم جعل التابعين يعيرون اهتمامًا زائدًا بما تعارفه الناس في أقطارهم، وجرت عليه عاداتهم، وقد بلغت الفتوحات الإسلامية إلى أقصى البلاد شرقًا وغربًا، وبلغت السلطة الإسلامية أوجها في اتساع رقعتها التي شملت أقطارًا كثيرة وبلدانًا متقاصية اختلفت قوانينها وأخلاقها وعاداتها، ولما نزل التابعون بهذه البلدان قضاة وحكامًا ومفتين وواجهوا هذه العادات على تباينها وجهلهم بها فكان لزامًا أن يعلموا بما تقتضيه قواعد الشريعة ومقاصدها حتى لا يعطوا هذه العادات أحكامها ويثبتوا ما هو صالح منها فيبقوه ويقروه، وما كان فيه عوج فيهذبوه، وما كان فسادًا فيبطله اقتداء بسيرته صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه، لقد تأثر التابعون بالوسط الذي حلوا فيه ونظروا إلى عادات الناس التي كانت تكتفهم وتحيط بهم، وعلموا أن الأحكام التي أنزل الله إنما هي لمصالح عبادة إذ هو غني عن العالمين، وأدركوا المرونة التي في هذه الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وتفهموا مدى تأثر الأحكام المبنية على العادات المتأصلة في الناس وتأثر المبيئات بها. فلو لم تجرِ الأحكام على مقتضاها مما لا تخالف نصًّا، ولا مبدأ من مباديها، ولا مقصدا لأصاب الناس الضيق والحرج ولصارت الشريعة معاكسة للغرض الذي بنيت عليه، وقد ذكرنا فيما سبق أنها بنيت على أسس ثلاث من بينها رفع الحرج، وهو مقصد قطعي من مقاصد الشريعة يثبت قطعية، ما ورد من الآيات القرآنية في إثبات التيسير وعدم التعسير كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) . فهذا التأكيد الحاصل بقوله: {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} بعد قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} ، قد جعل دلالة الآية قريب من النص، ويضم إليه قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2)   (1) سورة البقرة: الآية 185 (2) سورة الحج: الآية 78. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2442 وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (1) وقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} (2) . وقوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (3) ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم ((بعثت بالحنيفية السمحة)) ، وقوله: ((عليكم من الأعمال ما تطيقون)) . وفي المبسوط للسرخسي أن في النزع عن العادة الظاهرة حرجًا بينا ذكر هذا حين الكلام على أن الشرط في البيع على أوجه (4) . وقد شاع على السنة العلماء الفقهاء أن المذهب الحنفي يعتبر من أكثر المذاهب الإسلامية اعتبارًا للعرف واعتمادا على العادات، يشهد لذلك الرسالة التي ألفها ابن عابدين نشر العرف في بيان بعض الأحكام على العرف، وذكر عدة مسائل مما تبين على العرف، مما اختلف فيه لاختلاف الأمصار ولاختلاف الأعراف في الأقطار بين الديار الشامية وغيرها، فذكر من مسائل الوقف واعتماد الخطوط والتوثيق وأحكام السياسة، وما يأخذونه من الغرامات وعشر الأراضي المستأجرة وبيع الثمار على الأشجار عند ظهور بعضها، كما ذكر مسائل في النكاح مما انبنى على العرف إلى غيرها من المسائل التي تبرز مدى اعتبار المذهب الحنفي للعرف. أما الإمام الشافعي فمن أبرز ما يظهر اعتماده على العرف ما نجده من الفرق بين أقواله القديمة وأقواله الجديدة بعدما نزل مصر، ولا شك للأعراف والعادات الأثر الفعال في هذا التجديد والتغيير، ولقد ذكر أبو علي الحسن بن محمد المردودي الشهير بقاضي حسين وهو من كبار فقهاء الشافعية أن مذهب الشافعي بني على قواعد خمس هي اليقين لا يرفع بالشك، والضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير، والأمور بمقاصدها، والعرف. وقد صرح الرافعي من كبار أئمة الشافعية أن الأصح فيما جعل من كيل ووزن مراعاة العرف كما صرح بأن العادة تؤثر في المعاملات لكثرة وقوعها ورغبة الناس فيها يروح في النفقة ولقد عقد السيوطي فصلا في كتابه الأشباه والنظائر فصل فيه القول وذكر فيه كثيرا من الفروع الفقهية التي بنيت في المذهب الشافعي على العرف والعادة، واستعرض أمثلة كثيرة أحال فيها فقهاء الشافعية على العرف كسن الحيض والبلوغ والإنزال وأقل مدة الحيض والنفاس والأفعال المنافية للصلاة التي تبطل بها والنجاسات المعفو عن قليلها والرد بالعيب وعمل الصناع واستئجار الدواب ودخول الحمام وغيرها من الأمثلة الكثيرة (5) .   (1) سورة البقرة: الآية 286. (2) سورة البقرة: الآية 187. (3) سورة النساء: الآية 28. (4) المبسوط، للسرخسي: 13/ 14، 15 (5) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 63 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2443 وفي كتاب نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج من الفروع الفقهية في المذهب الشافعى ما يوضح كثرة الفروع الفقهية التي بنيت على العرف ومذهب الشافعية (1) . وحتى الحنابلة الذين عرف عنهم التشبث بالنصوص، فقد حكموا العرف في كثير من الفروع، وقد استدل ابن قدامه بالعرف في قضايا عديدة كتقدير النفقات الواردة في قوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} . قال ابن قدامة: وهذا قد أطعمهم من أوسط ما يطعم أهله، فوجب أن يجزئه، روى الإمام أحمد في كتاب التفسير بإسناده عن ابن عمر ليس أوسط ما تطعمون أهليكم، قال: الخبز واللبن، وفي رواية عنه الخبز والتمر، والخبز والزيت، والخبز والسمن، وقال أبو رزين: من أوسط ما تطعمون خبز وزيت، وقال الأسود بن يزيد: الخبز والتمر، ثم نقل عن ابن سيرين، قال: كانوا يقولون أفضله الخبز واللحم، وأوسطه الخبز والسمن، وأخسه الخبز والتمر (2) . وذكر ابن رجب الحنبلي في قواعده القاعدة الثانية والعشرون بعد المائة إلى أن قال: ومنها لو استأجر أجيرًا يعمل له مدة معينة حمل على ما جرت العادة بالعمل فيه من الزمان دون غيره بغير خلاف، ومنها لو حلف لا يأكل من هذه الشجرة اختصت يمينه بما يؤكل منها عادة، وهو التمر دون ما لا يؤكل عادة كالورق والخشب (3) . وقد بين ابن القيم الجوزية في كتابه إعلام الموقعين، أن الشرط العرفي كالشرط اللفظي، وأن الفتوى تتغير بتغير الأزمنة والأحوال، ولقد ندد ابن القيم بإهمال قصد المتكلم ونيته وعرفه، واعتبر أن ذلك جناية على الإنسان وعلى الشريعة (4) . ومثل هؤلاء الأئمة الإمام الأوزاعي، اعتبر العرف مرجعًا لبناء الأحكام، فمن تتبع الفروع الفقهية لمذهبه يدرك أنه كان فيما يعتمد عليه من الأدلة المختلف فيها العرف فقد اعتمد عليه في مسألة أقل الحيض حيث لم يرد دليل على تقدير أقله لا شرعًا ولا لغة (5) ، بل حتى الشيعة حكموه في بعض القضايا، فقد نصوا على أن العرف يحتاج إليه وتقويم المسروق إن لم يكن من النقود فما رآه العرف يساوي ربع دينار، فما زاد يجب فيه القطع، وما لا فلا يكون معه القطع والمذهب الجعفري، وإن لم يعتبر العرف من الأدلة الشرعية لكنه اعتبره في تفسير الدليل اللازم حمله على المعنى العرفي وهم لم يختلفوا في الأخذ به، وإن اختلفوا في العدد الذي تحصل به العادة أهو اثنان أو ثلاثة (6)   (1) نهاية المحتاج: 7 / 40 – 109 – 134 – 156- 176 – 190 (2) المغني، لابن قدامة: 8 /736 – 737 (3) القواعد، لابن رجب الحنبلي: ص 277 (4) إعلام الموقعين عن رب العالمين: 3 / إلى 50. (5) الإمام الأوزاعي ومنهجه كما يبدو في فقهه: ص 327 (6) التشريع الجنائي الإسلامي: ص 124، و 309، و 310. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2444 وقوله: إن هذا الدين يسر وليس بالعسر، وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن: ((يسرا ولا تعسرا)) ، وقوله صلى الله عليه وسلم ((وإنما بعثتم مبشرين)) ، فمثل هذا الاستقراء يخول للباحث عن مقاصد الشريعة أن يقول: إن مقاصد الشريعة التيسير، لأن الأدلة المستنبطة في ذلك كلها عمومات متكررة وكلها قطعية النسبة إلى الشارع لأنها من القرآن وهو قطعي المتن ومثلها المقاصد الظنية القريبة من القطعي على ما قاله الشاطبي في المسألة الثانية من الطرف الأول من كتاب الأدلة (الدليل الظني) إما أن يرجع إلى أصل قطعي مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى فإن الضرر والضرار مثبوت منعه في الشريعة كلها في وقائع وجزئيات وقواعد كليات كقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [سورة البقرة: الآية 231] . وقوله: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [سورة الطلاق: الآية 6] . وقوله {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [سورة البقرة: الآية 233] ومنها النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض وعن الغصب والظلم، وكل ما هو في المعنى إضرار وضرار، ويدخل تحته الجناية على النفس أو العقل، أو النسل، أو المال، فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك (1) . وبوجه عام، فالتابعون اتبعوا ما ترمي إليه الشريعة وتقصده من تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وجروا على ما تقتضيه الشريعة من رفع الحرج والتيسير وعدم التعسير الذي يستلزم اعتماد العادات والتقاليد التي لا تتضارب ومقاصد هذه الشريعة، وهكذا أصبح العرف في الفقه الإسلامي معتبرًا تبنى عليه الأحكام بل أصبح في نظر الفقهاء دليلًا شرعيًّا كافيا في ثبوت الأحكام الإلزامية إذا لم يكن دليل سوها. موقف أئمة المذاهب من العادة والعرف لقد تأثر أئمة المذاهب بما تأثر به من قبلهم من الصحابة والتابعين، فكان لوسطهم الذي عاشوا فيه تأثير عميق لا ستنباطهم للأحكام وارتباط واضح في تأثرهم بعادات مجتمعهم وتقاليده، وقد زاد المعنى وضوحا بالنسبة للفقهاء المقلدين، حيث كانوا أكثر تحكيمهًا للعرف والعادة ممن سبقهم لما شهدوا من الحوادث والنوازل الطارئة ما لم يشهده السابقون، فما من مذهب من المذاهب إلا وقد حكم العرف وجعله مصدرًا للتشريع، يقول القرافي: نقل عن مذهبنا أن من خواصه اعتبار العادات والمصالح المرسلة وسد الذرائع، وليس كذلك أما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك (2) . ويؤيد كلام القرافي النظر في كتب المذاهب الفقهية، فالحنفية اعتبروا العرف وجعلوه أصلًا من الأصول يرجع إليه عند فقد غيره، قال ابن نجيم: واعلم أن العادة والعرف يرجع إليه الفقه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا، فقالوا في الأصول، في باب ما تترك به الحقيقة، تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة (3)   (1) مقاصد الشريعة الإسلامية، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور: ص 40 – 42 (2) شرح تنقيح الفصول: ص 76 (3) الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 93 (تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل) ط. الحبلي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2445 وفي شرح الأشباه للبيري، قال المشرع: الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي. وفي المبسوط الثابت بالعرف كالثابت بالنص ومن ابن عابدين والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار. قال ابن عابدين: لما شرحت أرجوزتي التي أسميتها عقود رسم المفتي ووصلت في شرحها إلى هذا البيت أردت إفراد الكلام على البيت برسالة مستقلة تظهر المقصود إلى العيان لأني لم أرَ من أعطى هذا المقام حقه ولا من بذلك له في البيان مستحقه. وسميت هذه الرسالة نشر العرف في بيان بعض الأحكام على العرف. ومما يوضح هذه الحقيقة فتوى محمد بن الحسن الشيباني في جواز بيع النحل ودود القز حيث وجد الناس يتعاملون بذلك بيعا وشراء، وكان يذهب إلى الصباغين يسأل عن معاملاتهم وما تعورف بينهم وما جرت عليه عاداتهم، ليلاحظ ذلك في فتاويه ومما يحدث بينهم. وقد ذهب أبو يوسف صاحب أبي حنيفة إلى أن الحكم الشرعي الذي يثبت بالنص بناء على عرف الناس يتغير بتغير العرف كوجوب المماثلة كيلًا في بيع القمح بالقمح، ولقد صحح الحنفية ما تعارف عليه الناس مما ورد النهي عنه كبيع وشرط فصححوا الشروط مبينين بأن النهي لم يكن إلا لأن الشرط في عقد البيع يفضي إلى النزاع غالبًا والعرف يقضي على هذا النزاع، ويقول شمس الأئمة السرخسي: أن الثابت بالعرف ثابت بدليل والرأي الذي يرى أن العرف يتحقق بتكرره مرتين يوافق مذهب المالكية في ثبوت العادة (1) . والرأي الثاني أي من يرى أن العادة لا تثبت إلا بتكرر الأمر ثلاثًا يوافق ما ذهب إليه بعض الشافعية، وقد حكى جلال الدين السيوطي الخلاف بين فقهاء الشافعية في أن العادة تتحقق بتكرر الفعل مرتين أو ثلاث ورجح أبو حامد الغزالي من الشافعية القول الثاني (2) .   (1) مواهب الجيل: إن واظب على ترك المسنون وعلى فعل المكروه فهو الذي يؤدب ويجرح ومن كان منه ذلك مرة لم يؤدب: 6 /320. (2) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 64 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2446 ولقد أخرنا القول عن العرف عند المالكية لأن مالكًا رحمه الله اعتبره نوعًا من المصلحة وتوسعت المالكية في الأخذ به حتى جعلوه مخصصا لنصوص وقد فاق المذهب المالكي غيره من المذاهب في الاعتماد عليه والأخذ بمقتضاه واعتبره أصلًا من أصوله الفقهية، وقد ذكر الإمام الفقيه ابن رشد، عن شيخه ابن محمد صالح أنه قال: الأدلة التي بنى عليها الإمام مالك مذهبه ستة عشر، نص الكتاب، وظاهره وهو العموم، ودليل الكتاب وهو مفهوم المخالفة، ودليل الكتاب، وهو باب أحرى، وتنبيه الكتاب، وهو التنبيه على العلة كقوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا} ، ومن السنة أيضًا مثل ذلك فهذه عشرة، والحادي عشر: الإجماع، والثاني عشر: الاستصحاب، والثالث عشر: عمل أهل المدينة والرابع عشر: قول الصحابي، والخامس عشر: الاستحسان، والسادس عشر: الحكم بالذرائع، واختلف قوله في السابع عشر وهو مراعاة الخلاف فمرة يراعيه ومرة لا يراعيه. من شرح التسولس على التحفة (1) . ولقد اعتبرت المالكية العرف نوعًا من المصلحة وتوسعوا فيه كثيرًا حتى خصصوا به بعض النصوص، قال القرافي في تنقيحه: والعوائد عندنا مخصصة للعموم إن قارنت الخطاب أو تقدمته وكل من له عرف وعادة في لفظ إنما يحمل لفظه على عرفه فإن قارنت العوائد نصًّا شرعيًّا خصصته وإن قارنت ألفاظ الإيمان والعقود خصصتها، إلا إذا دل دليل على أن العموم جاء لشمول تلك الألفاظ بالحكم كما في قوله صلى الله عليه وسلم كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، بعد تعودهم اشتراط الولاء لمن أعتق. ولقد فاق المذهب المالكي غيره من المذاهب في الاعتماد على العرف واعتباره أصلًا من الأصول الفقهية فيما لا يكون فيه نص قطعي واعتبروه ضربًا من ضروب المصلحة التي لا يمكن إغفالها يدل لذلك قول ابن العربي: إن العادة دليل أصلي بنى الله عليه الأحكام وربط به الحلال والحرام (2) . وفي قواعد المقري أصل مالك اعتماد العرف الخاص والعام (3) والعرف والعادة من الأدلة المشروعة في المذهب المالكي، قال ابن عاصم في منظومته الأصولية.   (1) منهج التحقيق والتوضيح، لحل غوامض التنقيح: 1 /277 (2) أحكام القرآن لابن العربي:4/ 1842 (3) قواعد المقري: ص 164 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2447 والعرف ما يعرف بين الناس: ومثله العادة دون بأس ومقتضاهما معًا مشروع: في غير ما خالفه مشروع. ومما خصصوا بالعرف قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (1) فقد ذكر القرطبي في المسألة الثالثة من تفسير الآية قال: اختلف الناس في الرضاع، هل هو حق للأم أم هو حق عليها، واللفظ محتمل لأنه لو أراد التصريح بكونه عليها لقال: وعلى الوالدات رضاع أولادهن، كما قال تعالى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} ، ولكن هو عليها في حال الزوجية وهو عرف يلزم إذ قد صار كالشرط إلا أن تكون شريفة ذات ترفه فعرفها أن لا ترضع وذلك كالشرط وعليها إن لم يقبل الولد غيرها واجب وهو عليها إذا عدم لاختصاصها به وقد ذكر الونشريسي أن من أصول الشريعة عند مالك تنزيل العقود المطلقة على العوائد المتعارفة وهذا يتماشى مع ما كنا نقلناه عن المقري في قواعده من أن العادة عند مالك كالشرط تقيد المطلق، وتخصص العام ولقد رجحوا به الأقوال الضعيفة والشاذة، وهو عند المحققين من المالكية من أعظم المرجحات، وقد نقل الشيخ المهدي أن ابن عتاب، وابن رشد وابن سهل، وابن زرب، وابن العربي، واللخمي ونظراءهم لهم اختيارات وتصحيحات لبعض الروايات والأقوال عدلوا فيها عن المشهور وجرى فيها باختيارهم عمل الحكام تطبيقًا لقاعدة العادة محكمة ومثل ذلك الفتوى وذلك لما تقتضيه المصلحة وجرى به العرف (2) . قال الأغلالي في منظومته: ورجحوا بالعرف وهو أقوى من سائر المرجحات (3) والأحكام تحرر مع العرف والعادة، قاله القرافي في قواعده وابن رشيد في رحلته وغيرهما من الشيوخ حتى إنه لا يعتبر من أحكام القضاة في هذا الزمان إلا ما وافق المشهور، أو الراجح، أو ما به العمل على ما ذكره الشيخ التاودي بن سودة المزي في شرحه على تحفة ابن عاصم (4) ، حيث يقول: وهو الحق الذي لا شك فيه، ونحوه قوله في أجوبته: وهو الحق المتعين الذي لا محيد فيه، ومثله للشيخ السنوسي، والعقباني، والبرزلي، وابن عرفة، وغيرهم نقل هذا الشيخ الرهوني في حاشيته على الزرقاني.   (1) سورة البقرة: الآية 233 (2) حاشية المهدي على التحفة، للتاودي: 1 /69 (3) منظومة الأغلالي فيما تجب به الفتوى – مخطوط - (4) شرح التاودي بحاشية المهدي 1 /68 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2448 الفرق بين القول الراجح والمشهور والشاذ: والفرق بين القول الراجح والمشهور، أن الراجح ما قوي دليله والمشهور ما كثر قائله، وإذا تعارض الراجح والمشهور قدم الراجح ومقابل المشهور هو الشاذ، وقد ذكر الشيخ عبد القادر الفاسي أن القاضي إذا حكم بالشاذ لا يلتفت لحكمه ولا يعتد به وحمل حكمه على سبيل الغلط والجهالة معللًا ذلك بأنه لا يفعل ذلك إلا من كان له غرض فاسد من اتباع الهوى والميل إلى المحكوم له إلا إذا جرى به العمل فإن ما جرى به العمل مقدم على المشهور لأن وجوب العمل بالمشهور مقيد بما لم يجر عمل بمقابله، وإلا فهو المقدم وقد نظم ذلك أبو زيد الفاسي، فقال: وما به العمل دون المشهور مقدم في الأخذ غير مهجور الفرق بين ما جرى به العمل وبين العرف: معنى قولهم به العمل أو العمل به، معناه أن القول حكمت به الأئمة واستمر حكمهم به، أما جريان العرف بالشيء فمعناه عمل العامة من غير استناد لحكم من قول أو فعل ولقد اعترض الشيخ علي الأجهوري في باب الفلس على التاتائي إذا اقتضى كلامه أن رجحان العمل بالشيء هو جريان العرف به، قال العلامة السجستاني في نوازله: بعد أن وجه العمل في مسألة ذكرها، فإذا اتضح لك توجيه ما جرى به العمل لزم إجراء الأحكام عليه لأن مخالفة ما جرى فتنة وفساد كبير حتى قال بعض العلماء: إن خروج القاضي عن عمل بلده ريبة قادحة في حكمه فيجب حينئذ أن يقتصر من العمل على ما ثبت ويسلك المشهور فيما سواه (1) . ولقد نبه الشيخ ميارة في شرحه على لامية الزقاق أنه لا بد لجريان العمل من أمور ثلاثة: أن يكون العمل صدر من العلماء المقتدي بهم، ثانيًا: أن يكون جاريًا على قوانين الشرع ولو كان شاذا. ثالثًا: أن يثبت بشهادة العدول المتثبتين. ولقد راعوا عرف المتكلم في جميع الأحوال سواء تعلق الأمر بالأفعال الشرعية من معاملات وإقرارات أو الأفعال العادية من ألفاظ وغيرها من سائر التصرفات حتى قال القرافي في تنقيحه في الكلام على تخصيص العموم بالعادة، فكل من له عرف وعادة في لفظ، إنما يحمل لفظه في عرفه. فإن قارنت العوائد نصًا شرعيًّا خصصتهما وإن قارنت ألفاظ الأيمان والعقود خصصتهما إلا إذا دجل دليل على أن العموم جاء لشمول تلك الألفاظ بالحكم كما في قوله صلى الله عليه وسلم: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل بعد تعودهم اشتراط الولاء لمن اعتق (2) .   (1) حاشية الشيخ المهدي: 1 / 68 (2) التنقيح، للقرافي بحاشية ابن عاشور: ص 248. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2449 ويقول المقري: كل متكلم له عرف فإن لفظه يحمل على عرفه في الشرعيات والمعاملات والإقرارات وسائر التصرفات (1) .ويقول أيضا: من تقررت له عادة عمل عليها (2) ولهذه الاعتبارات استحبوا في القاضي أن يكون بلديًا عالمًا بأعراف الناس مطلعًا على أحوال المتقاضين وعاداتهم حتى يقضي بين الناس طبقا لما جرت عليه عاداتهم وتصرفاتهم التي اعتادوها في حياتهم اليومية وفي أسواقهم ومجتمعاتهم، حتى يكون أقرب إلى الحق في أحكامه مطابقًا لمصلحتهم جاريًا على أعرافهم. نقل الونشريسي في المعيار عن ابن منظور القيسي الإشبيلي قال ينبغى عندي للمشاور (أي المستشار) في المسألة أن يحضر عند ذلك أمورًا يبني عليها فتواه ويجعلها أصلًا يرجع إليه أبدًا فيما يستحضره في ذلك منها مراعاة العوائد في أحوال الناس وأقوالهم وأزمانهم لتجري الأحكام عليها من النصوص المنقولة عن الأئمة. ولهذه المراعاة جرى على ألسنة العلماء وكثير من المواضع المنقول فيها اختلافهم أن يقولوا هذا خلاف في حال لا في مقال، وقد نقل بعض الناس الإجماع على مراعاة ذلك، وأن الفتاوي تختلف عند اختلاف العوائد ولا يجوز طرحها مع اختلافها، ومنها مراعاة قول بعض أئمة السلف لو أدركت الناس إلى الكوعين وأنا أقرؤها إلى المرفقين لتوضأت إلى الكوعين. يشير بذلك إلى الحث على الاقتداء بمن تقدم في فعله وطريقته (3) ولقد قيل للشيخ ابن عبد السلام قاضي الجماعة بتونس إن القوم امتنعوا من توليتك القضاء لأنك شديد في الحكم قال لهم: أنا أعرف العوائد وأمشيها (4) ولا شك أن القاضي كلما تمكن من معرفة عادة البلد الذي يحكمه كلما سهل عليه تطبيق الأحكام ويحق ما تعارفه الناس واعتادوه، لأن معرفته لعاداتهم وتقاليده يمكنه من معرفة مشاكلهم ودوافع نوازلها وهذا ما أوضحه الشاطبي في موافقاته من أن على القاضي أن يلاحظ العرف الجاري بين الناس وأن لا يجمد مع الروايات ويقطع النظر عن العادات؛ إذ أن الجمود على النصوص لا يليق بالقاضي وأن عليه أن يعتبر العوائد وإن ذلك من الضرورات (5) ذلك أن العرف والعادة أحد الدعائم الخمسة التي بني عليها الفقه والتي هي: اليقين لا يرفع بالشك، والضرر يزال، والأمور بمقاصدها، والمشقة تجلب التيسير، والعرف فهو من الدعائم التي استندوا إليها في معرفة أسباب الأحكام من الصفات الإضافية كالصغر والكبر والكثرة والقلة في الأقوال والأفعال والصلاة، وثمن المثل في البيع والتعدي ومهر المثل والكفء في النكاح وتعيين الفروض من المؤونة والكسوة والسكن في النفقات كما استندوا إلى العرف في مقادير الحيض والطهر والصلاة والعدد وأقصى أمد الحمل في النسب واستندوا إليه في فهم الألفاظ في الأيمان والوقف والوصية والطلاق إلى غير ذلك (6) .   (1) قواعد المقري، القاعدة: 459. (2) قواعد المقري، القاعدة: 117 (3) المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل أفريقية والأندلس والمغرب، للعلامة الونشريسي: 8 / 287. (4) شرح الزرقانية، لسيدي عمر الفاسي: ص 248. (5) الموافقات، للشاطبي: 2 / 287 (6) شرح المنجور للمنهج المنتخب: ص 90 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2450 وبما نقلنا ندرك كيف توسع المذهب المالكي في الأخذ بالعرف واعتباره له أصلًا أصيلًا في بناء الأحكام عليه وتطبيقها على الحوادث والجزئيات كلما لم يوجد نص من الشارع، بل قد غالى بعضهم في اعتباره حتى قال: إن قطع العوائد المباحة قد يوقع في المحرمات سنن المهتدين: ص 48. الأحكام تدور مع العوائد: ولقد نبه العلماء الأجلاء إلى وجوب الاعتماد على العوائد عند عدم النقل والى وجوب أن تدور الأحكام مع العوائد وليس من المعقول أن يلبس العرف لباس الديمومة أو القداسة، بل الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها حيثما دارت وتبطل معها إذا بطلت، ذلك أن الأقضية والفتاوى تتبع العوائد حسب عرف ذلك الزمان والمكان وأهله قال القرافي: إن كل ما هو في الشريعة يتبع الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة والجمود على ما كان في الكتب ضلال وإضلال (1) ، وقد نظم الإغلالى هذه القاعدة فقال: وكل ما يبنى على العرف يدور معه وجودًا وعدمًا دور البذور فما اقتضته عادة تجددت، تعين الحكم به إذا بدت، وفي لامية الزقاق: وكن ذا تأنٍّ عارفًا بعوائد وأحدث قضاء للبجود كما ترى. وفي قواعد المقري: كل حكم رتب على عادة فإنه ينتقل بانتقالها إجماعًا (2) ، فالمذهب المالكي توسع كثيرًا في الاعتماد عليه وبناء الأحكام حسب مقتضاه، بل هو أصل يرجع إليه الفقيه والقاضي والمفتي في معرفة الأحكام الشريعة التي لا نص فيها، بل هو طريق لمعرفة المدعي من المدعى عليه، فقد ذكر الشيخ الوالد رحمه الله محمد العزيز جعيط في كتابه الطريقة المرضية والإجراءات الشرعية وما جرى به العمل في الأقطار التونسية على مذهب السادة المالكية في الفصل الثالث في المدعي والمدعى عليه في التفرقة بينهما وتمييز المدعى من المدعى عليه إلى أن قال بعد كلام وأقربها أن المدعي من تجرد قوله من أصل أو عرف والمدعى عليه من أعضده، أحدهما، فإن شهد لأحدهما الأصل وللآخر العرف كان من شهد له العرف هو المدعى عليه، ثم قال ولدقة تحقيق المناطق وتطبيق القواعد جزئيتها صعب أمر القضاء وكان علم القضاء أخص من فقه القضاء، ولقد استعرض الفقهاء جملة من الأصول في بعض الأشياء واختلفت الفتاوى والأحكام لاختلاف الأعراف المبنية عليها وساق جملة مما ذكروه ومثل لها حتى تكسب الناظر بصيرة، فقال: قالوا: الأصل براءة الذمة قبل تحقق عمارتها، فإذا تحققت عمارتها فالأصل الاستصحاب، إن استصحاب تلك الحالة حتى يتحقق الرافع والأصل الصحة وزاعم المرض مدع خلاف الأصل فعلية البينة، لأنها مدعية خلاف الأصل والأصل عدم العداء، فلو ادعى على الطبيب العمد فيما زاد على المأذون فيه وادعى الطبيب الخطأ.   (1) الأحكام، للعراقي: ص 27؛ والتبصرة: 2 /67 (2) القاعدة رقم 1037 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2451 فالقول قول الطبيب لأن الأصل الخطأ لا العمد قال خليل: والقول للسيد ونفي العمد، واضطرب قول سحنون في الزوج والسيد يفقأ عين زوجته أو عبده: فقالا فعل بنا ذلك عمدًا، وقال السيد والزوج أدبتهما فأخطأت، أنه لا شيء على السيد ولا على الزوج أدبتهما فأخطأت أنه لا شيء على السيد ولا على الزوج حتى يظهر العداء والقول قول السيد والزوج (1) ، واستظهر ابن رشد حمل أمر السيد على الخطأ إلا أن يعلم أنه قصد به التمثيل واستظهر عدم حمل الزوج على الخطأ إلا أن يعلم أنه قصد به التمثيل واستظهر عدم حمل الزوج على الخطاب مع زوجته وإنما يحمل على شبه العمد، ومعنى ذلك أن تكون الدية على الجاني ولو حمل على الخطأ لكانت على العاقلة ولو حمل على العمد لوجب القصاص – وزاد ابن رشد ولو طلبت المرأة فراقه وقالت: أخافه على نفسى طلقت عليه طلقة بائنة. اهـ -. والأصل فيمن ادعى عليه العلم بالشرع الجهل حتى يثبت العلم فإذا أقام الشريك على مشتري حصة شريكه بالشفعة بعد سنة مدعيًا عدم العلم بالبيع إلا وقت قيامه وادعى المشتري علمه بالبيع فالقول للشفيع بيمينه لأنه مدعى عليه، والأصل في الإنسان الفقر لسبقه، ولكن الناس محمولون على الملأ لغلبته وهذا من باب تعارض الأصل والغالب، ولهذا كان زاعم الإعسار وإن وافقه الأصل الذي هو الفقر مدعيًا فهو المطلوب بالبينة على الإعسار فلو ادعي على الزوجة الطالبة للنفقة أنها عالمة بعدمه توجهت عليها اليمين، والأصل في العقود الصحة فمن ادعى الفساد فهو المدعى عليه ويكون من قبيل ما تعارض فيه الأصل والغالب (2) . ومن الفروع التي كان حكمها مبنيًّا على شهادة اعرف تمزيق رسم الدين أو قطع طرقه أو سطر بسملته فإنه يدل عادة على البراءة من الدين فلا يفيد المستظهر به شيئًا بخلاف محو ظاهر باطني به عقد ونحوه فإنه يستظهر على من قام به بيمين، بناء على عدم حصول عادة في هذه الصورة كحصولها فيما مر، وإنما ذلك ريبة وشبهة يجب رفعها باليمين كما ترفع ريبة التزوير فيمن قام بعقد ظهرت فيه تلك الريبة وشهدت بينه أن الشهادات التي فيه من وضع شهوده وشهدت أخرى أنها ليست من وضعهم وإنما هي مزورة عليهم فطلبت يمين القائم به لمكان البينة، والشهادة المثبتة هي المقدمة قاله الشيخ عظوم في الدكانة (3) .   (1) من شرح المواق من كتابه تاج الإكليل لمختصر خليل بهامش مواهب الجليل، للحطاب 6 /335 (2) شرح المنجور على المنهج المنتخب: ص 119 (3) هو محمد بن أحمد بن عيسى بن فندار القيرواني المعروف عظوم من تلامذة البرزلي والرعيني وغيرهما من مؤلفاته: مواهب العرفان والمباني اليمينية ورعاية الأمانة والدكانة وكان حيا سنة 889 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2452 ومن الفروع التي وقع استناد القضاء فيها للعادة ما حكم به أحمد القلشاني قاضي الجماعة بتونس في ساقية أحدثت مدار بأبي عائشة واتصلت إلى شارع باب المنارة الذي تمر فيه فضلات مراحض دوره إلى أن تصل إلى الخندق المعد لذلك، وقد امتنع من الموافقة على أحداثها من تمر عليه وترافعا في ذلك فحكم بتمكين المحدث مما أحدثه بعد أن تذاكر في النازلة مع الشيخ عظوم فاستظهر الحكم بذلك معللًا بأن وضع الشوارع بتونس قد علم حين وضعها وتخطيط دورها عدم حفر آبار لفضلات أهلها، ووضعوا السواقي في شوارعهم لذلك، واستمروا على ذلك على تعدد الأزمنة والأعصر، وأهل كل زقاق قد دخلوا على ما وجدوا عليه من تقدمهم في ذلك والحادث عهده تبع لمن سبقه إلى زمن الواضع وعلى هذا مشت أحوالهم واستمرت قصودهم وأفعالهم وإذا دخل على ذلك المتقدم وجب إلحاق حكم الطارئ به إذ لا يملك الطارئ من الشارع إلا ما يملكه من خلفه هو فيه (1) . ومن الفروع المبنية على العادة القضاء بشهادة الحيازة على الملك والحيازة لا تنقل الملك، ولكن تدل عليه وما ذكره القلشاني عن المازري من الشروط فمنشؤه تحقيق الحال التي تكون فيها الحيازة شاهدة للحاز بالملكية حيث ذكر لها شروطا سبعة هي وضع اليد على الشيء المجاز وأن ينسب إليه وأن يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه وأن تطول المدة وأن لا ينازع في تلك المدة وأن يكون المدعى للملكية على الحائز حاضرا عالمًا بالغًا رشيدا وأن لا يمنعه من القيام مانع، ولهذا لا تنفع الحيازة إلا مع ادعاء الحائز الملكية وجهل أصل مدخله أما إذا تحققنا أن مدخله كان بوجه لا يقتضي الملكية كالعارية والإسكان ونحوهما فلا تنفعه الحيازة ولو طالبت حيازته جدًا. ولتحقيق حال الشهادة عرفًا للحائز قسم فقهاء المالكية الحائز إلى أجنبي وقريب غير شديد القرابة، وقريب جدا وإصهار وجعلوا مدة الحيازة في الأجنبي عشر سنين وفصلوا بين أن يكون شريكًا فاشترطوا فيه أن يكون التصرف يشمل الهدم والبناء الكثير والغرس في الدار والأرض والاستغلال في غيرهما واكتفوا في التصرف بمثل السكنى وزرع الأرض إذا كان غير شريك، وإذا كان قريبًا غير شديد القرابة كالإخوان والأعمام والأخوال وأبنائهم وفي معناهم الأصهار والموالي، فإذا كان التصرف ضعيفًا كسكنى الدار وزراعة الأرض وعمارة الحانوت فلا تقبل دعوى الحائز للملكية لما حاز إلا مع طول المدة جدًا وهو ما زاد على أربعين سنة إن لم تكن بينهم عداوة وإلا كفى في حيازتهم عشر سنين كالأبعدين وإذا كان التصرف قويًا جدًا كالتفويت بالبيع والهبة والصدقة لم تشترط مدة، بل السكوت يوجب انقطاع الحق بانقضاء المجلس وإذا كان الحائز قريبًا جدًا كالأب مع أبنه أو العكس فلا يعتبر التصرف بمثل السكنى والازدراع ويعتبر بمثل التفويت بالبيع ونحوه واختلف هل يجوز كل منهما على صاحبه بالهدم والبنيان والغرس على قولين: قيل لا يجوز عليه بذلك إن ادعاه ملكًا لنفسه قال عليه في حياته أو بعد وفاته وهو قول مالك وقيل يجوز إن طال الأمد جدًا إلى ما تهلك فيه البينات وينقطع فيه العلم وهو قول ابن رشد والاختلاف في مقدار المدة المؤثرة ونوع التصرف المعتبر باختلاف صفة الحائز ودرجة قرابته، لأن العادة قاضية بالتسامح مع الأقارب ووصل رحمهم بمثل سكنى الدار والزرع للأرض والاعتمار للحانوت بخلاف التصرف بما هو أقوى من ذلك ولو قال القائم على الحائز ما علمت حتى الآن فقيل: لا يقبل قوله، وهو ما أفتى به ابن عرفة وأبو مهدي عيسى الغبريني وبفتواهما جرى العمل على ما حكاه الرصاع ونقله عظوم في البرنامج، وقيل يقبل قوله بيمينه وهو قول ابن سهل وغيره، وبه أفتى الرزلي فأدخل مشقة عظيمة على أهل القيروان إذ كثير من الناس يزهد في عقود أشرية البائع فيقوم على المشتري بعد طول، ويقول لا علم عندي إلا الآن وربما يضيع عقد الأصل. وفي الوثائق المجوعة لو قال: علمت بحقي ولم أجد ما أقوم به إلا الآن، قال العبريني: يقبل قوله سواء كانت البينة استرعاء أو غيره، وقال ابن ناجى: الصواب عندي أنه لا يقبل منه، لأنه كالمعترف بأن لا حق له مدعٍ رفعه، وإذا كان لا يقبل قوله في عدم علمه بحقه بأحرى أن لا يقبل مع اعترافه بعلمه وادعائه أنه لم يجد ما يقوم به.   (1) قال الشيخ عظوم في الدكانة، الورقة 48 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2453 وفي مطالبة الحائز بوجه ملكه ثلاثة أقوال، الأول يطالب إذا أثبت المدعي الملكية أو أقر لها بها قال ابن فرحون في التبصرة نقلا عن ابن رشد: الذي مضى عليه العمل فيما أدركنا، وبه أفتى شيوخنا فيما علمنا أن من ادعى عقارًا بيد غيره رغم أنه صار إليه فيمن ورثه عنه أن المطلوب لا يسأل عن شيء حتى يثبت الطالب موت مورثه الذي ادعى أنه ورث ذلك العقار عنه فإذا ثبت ذلك وقف المطلوب حينئذ على الإقرار والإنكار خاصة. ولمن يسأل من أين صار إليه فإن أنكر وقال: المال مالي والملك ملكي ودعواك فيه باطلة اكتفي منه بذلك ولم يلزمه أكثر من ذلك، وكلف الطالب إثبات المالك الذي زعم أنه ورثه وإثبات موته ووراثته له، فإن أثبت ذلك على ما يجب سئل المطلوب حينئذ من أين صار إليه وكلف الجواب عن ذلك، فإن ادعى أنه صار إليه من غير مورث الطالب الذي ثبت له الملك لم يلتفت إليه ولا ينفعه إثباته أن أثبته، وإن ادعى أنه صار إليه من قبل موروث الطالب بوجه ذكره، كلف إثبات ذلك، فإن أثبته وعجز الطالب عن الدفع في ذلك بطلت دعواه، وإن عجز عن إثبات ذلك قضي عليه للطالب، هذا مذهب ابن القاسم رواه عن مالك في المدينة – القول الثاني يطالب ببيان وجه الملك – الثالث لا يكلف ببيان وجه ملكه مطلقا وهذا ما اقتصر عليه ابن سلمون وغيره وجرى به عمل فاس وهو الموافق لما يفعله القضاة عندنا بتونس إذ أن المنكر دعوى القائم إذا أجاب بملكيته للمحوز وحيازته لذلك المدة القاطعة، يكلف المجيب بإثبات الحيازة التي ادعاها لأن في إثباتها اختصارًا لمسافة الخصام، لأن الحيازة متى ثبتت عجز القائم عن الطعن فيها، يحكم باستحقاق الحائز للمدعي فيه، وبطلان دعوى القائم، ولا فائدة في تكليف القائم بإثبات بينة لا تسمح لثبوت الحيازة، أما عجز المطلوب المجيب بالإنكار عن إثبات الحيازة التي يدعيها فيعجز ويطلب القائم بالبينة المثبتة للتملك ويجري بعد ذلك ما نقل عن ابن رشد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2454 أنواع العرف ينقسم العرف إلى صحيح وفاسد، فالفاسد لا يقول به أحد ولا يعتمد عليه، والعرف الصحيح ينقسم إلى ما يتعلق بالألفاظ أو يتعلق بالأفعال فالمتعلق بالألفاظ هو ما تعارف الناس على استعماله بحيث إذا نطق الإنسان باللفظ انصرف أولًا إلى هذه الحقيقة العرفية وابتعد عن الحقيقة اللغوية حيث صار منقولًا من المعنى الذي وضع له لغة إلى المعنى الثاني المصطلح عليه عرفًا بحيث يصبح هذا المعنى الثاني هو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق والتجرد عن القرائن. ويتكون هذا العرف من اتفاق الناس على هجران المعنى الأصلي وينتقل إلى المعنى الذي ينصرف إليه اللفظ بكثرة الاستعمال الشائع بينهم من غير قرينة حتى إن هذا الاستعمال يعتبر وضعًا جديدًا، وحقيقة عرفية حيث هو مستعمل فيما وضع له في عرف التخاطب وهذا ما عناه القرافي في فروقه في الفرق الثامن والعشرين بين العرف القولي والفعلي حيث يقول: العرف القولي أن تكون عادة أهل العرف يستعملون اللفظ في معنى معين ولم يكن ذلك لغة ونحن نرى أن لفظ الدينار كان يطلق في الأصل على عملة ذهبية مسكوكة بقيمة معينة محددة ووزن معين (وهو 3.60 جرامات وقد حدده بنك فيصل الإسلامي في السودان 6.457 جراما وهو الوسط المعقول ولا فرق بين الدينار والمثقال لكن الحنابلة ترى أن الدينار أصغر من المثقال) لكن هذا اللفظ هو الدينار إذا أطلق اليوم فإنما ينصرف إلى العملة الرائجة في البلد مهما كان نوعها ومهما كانت قيمتها وهي اليوم أوراق نقدية بعيدة كل البعد عن حقيقة الدينار الذهبي الأصلي. وهذا معنى حقيقة عرفية أي جعله كثرة الاستعمال إذا أطلق اللفظ لا ينصرف إلا إليه، أما العرف العملي فهو الفعل الذي استمر الناس عليه بحسب الفطرة أو الاختصاص كاختصاص الرجل بالسلاح والمرأة بأدوات الزينة ونحوها، ثم كل من العرف القولي والعملي منه ما كان صحيحًا مقبولًا ومنه ما كان فاسدا مردودًا فأهل العرف إذا استعملوا قولًا في معنى من المعاني واشتهر ذلك بينهم بحيث إذا ذكر لا ينصرف إلا للمعنى المتعارف لديهم ككثير من مصطلحات أهل الصناعات – ومن العرف القولي ما هو عام كإطلاق لفظ الدينار، فإنه لا ينصرف إلا للعملة المتداولة بيننا، وهذا المعنى هو المتبادر للأذهان- أما ما كان في الأصل مما هو نقد ذهبي مسكوك موزون بوزن خاص لهذا المعنى قد تنوسي بكثرة الاستعمال في المتداول بين العموم وقد مثل له القرافي في الفرق الثامن والعشرين بالدابة التي وضعت لغة لكل ما يدب على الأرض ووقع نقلها للحمار بكثرة الاستعمال حتى صارت حقيقة عرفية عامة وبلفظ الغائط للنجو، ثم جعله قسمين ما يكون في المفردات كالدابة وما يكون في المركبات وهو أدق في الفهم وأبعد عن التفطن وضابطها أن يكون شأن الوضع العرفي تركيب لفظ مع لفظ يشتهر في العرف تركيبة مع غيره ومثل له بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} وقوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2455 إذ التحليل والتحريم ينصبان على الأفعال لا على الذوات كالأكل وفي الميتة والدم ولحم الخنزير والشرب للخمر والاستمتاع للأمهات والبنات. وخرج على هذا قوله صلى الله عليه وسلم ((ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)) ، ومعلوم أن الأعراض والأموال لا تحرم وإنما يحرم ما يضاف إليها كسفك الدماء وأكل الأموال وثلب الأعراض، وخرج على هذا جميع الأحكام التي أضيفت إلى الذوات أي كانت من باب المجاز العقلي وهو إسناد الفعل إلى غير من هو له يتول، قال: إن كثرة الاستعمال صيرته موضوعًا في العرف للتعبير عن تحريم الأفعال المضافة إلى هذه الذوات، ثم عطف على هذا القسم أفعالًا هي ليست بأحكام وإنما هي أخبار قد خصصها العرف كقولهم: أكلت رأسًا فقد صار لا يطلق إلا على رأس الأغنام وهو لغة يشمل كل رأس قال: ومن هذا القبيل ما اشتهر في مصر من قولهم: قتل زيد عمرًا يريدون ضربه، وفلان يعصر خمرًا وهي لا تعصر وإنما العنب الذي يعصر، فهذا ونحوه مجاز في التركيب بالنسبة للغة وحقيقة عرفية منقولة للمعنى الخاص بالعرف والعادة ومنه أيضًا طحن الدقيق وقتل فتيلًا، لأن المقتول لا يقتل المطحون لا يطحن إذ تحصيل الحاصل من المحال ولكنه كلام صحيح في العرف والعادة إذ لا يتصور إلا لقتل الحي وطحن الحب، وهذا ما يعبر عنه بالحقائق العرفية في المفردات والمركبات وبهذا يفرق بين المجاز في المفرد والمركب بين الحقيقة العرفية فيهما، ثم بين القرافي أن النقل العرفي مقدم على الموضوع اللغوي، لأنه نساخ له والناسخ مقدم على المنسوخ وهذا ما يعنونه قولهم: الحقائق العرفية مقدمة على الحقائق اللغوية. ثم تكلم القرافي على العرف الفعلي مبينا أنه وضع اللفظ لمعنى يكثر استعمال أهل العرف لبعض أنواع ذلك المسمى دون بقية أنواعه كلفظ الثوب صادق على ما كان من الكتان أو القطن أو الحرير أو الوبر أو الشعر لكن أهل العرف استعملوه فيما كان من الأنواع الثلاثة الأول دون الأخيرين، فهذا عرف فعلي وكذلك لفظ الخبز يصدق لغة على خبز الفول والحمص والبر والشعير وغيرهما إلا أن العرف استعمله في البر لا غير من أغذيتهم فوقوع الفعل في نوع وانصراف المعنى إليه بخصوصه هو الحقيقة العرفية ولهذا قلنا ترك مباشرة المسميات لا يخل بالوضع اللغوي وغلبه استعمال لفظ المسمى في غيره ونقله يخل، وهذا هو تحرير العرف القولي وتحرير العرف الفعلي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2456 وأن العرف القولي يؤثر في اللفظ اللغوي تخصيصًا وتقييدًا وإبطالًا وأن العرف الفعلي لا يؤثر في اللفظ اللغوي تخصيصًا ولا تقييدًا ولا إبطالًا لعدم معارضة الفعل وعدمه للوضع اللغوي.. ومعارضة غلبة استعمال اللفظ في العرف للوضع اللغوي، وقد حكى جماعة من العلماء الإجماع في أن العرف الفعلي لا يؤثر في وضع اللفظ للجنس بخلاف العرف القولي، قال القرافي: ورأيت المازري في شرح البرهان نقل خلافًا في ذلك، قال القرافي: وفيه نظر والظاهر حصول الإجماع فيه، قال القرافي: ولم أر أحدًا جزم بحصول الخلاف فيه. وما ذكره بعضهم مما أوجب شكا وترددًا فهو على التأويل وأنه لا تناقض بين نقل الإجماع في المسألة وبين هذه المثل التي أدخلت الشك والتردد، ولقد أوضح الفرق بين العرف القولي والفعلي بأربعة مسائل؛ الأولى إذا فرضنا ملكا أعجمًا يتكلم بالعجمة وهو يعرف اللغة العربية غير أنه لا يتكلم بها لثقلها عليه فحلف لا يلبس ثوبًا ولا يأكل خبزًا وكان حلفه بهذه الألفاظ العربية التي تجري عادته باستعمالها وعادته في غذائه لا يأكل إلا خبز الشعير ولا يلبس إلا ثياب القطن، فإنا نخنثه بأي ثوب لبسه وبأي خبز أكله، سواء كان من معتاده في فعله أم لا وهذا إذا لم تجر له عادة باستعمال اللغة العربية لأنه لو كانت له عادته استعمال اللغة العربية لكان طوال أيامه يقول أكلت خبزًا أو ائتوني بخبز وعجلوا بالخبز والخبز على المائدة قليل ونحو ذلك ولا يريد في هذا المنطق كله إلا خبز الشعير الذي جرت عادته به فيصير له في لفظ الخبز عرف قولي ناسخ اللغة فلا نحنثه بغير خبز الشعير وكذلك القول في ثوب القطن بخلاف إذا كان لا ينطق بلفظ الخبز والثوب إلا على الندرة فإنه لا يكون له في اللفظ اللغوي عرف مخصص يقدم على اللغة فيحنث بعموم المسميات اللغوية من غير تخصيص ولا تقييد. اهـ. وتعقبه ابن الشاط فوافق على تقرير القاعدة وخالفه في حكم المثال، وقال: لا تسلم تحنيثه، بل اقتصاره على أكل خبز الشعير ولبس ثياب القطن مقيد لمطلق اللفظ ويكون هذا من قبيل بساط الحال، إذ الأيمان إنما تعتبر بالنية، فإن لم تكن نية فببساط الحال، فإذا عندما حينئذ اعتبرت بالعرف، فإن لم يكن عرفًا فباللغة. المسألة الثانية التي ذكرها القرافي: إذا حلف لا يأكل رؤوسًا يحنث بجميع الرؤوس عند ابن القاسم ولايحنث إلا برؤوس الغنم عند أشهب، والقولان مبنيان على أن أهل العرف قد نقلوا هذا اللفظ المركب أكلت رؤوسا لأكل رؤوس الأنعام دون غيرها بسبب كثرة الاستعمال لهذا المركب في هذا النوع خاصة دون بقية أنواع الرؤوس، فهذا مدرك أشهب فيقدم العرفي على الوضع اللغوي وابن القاسم يسلم استعمال أهل العرف لذلك، لكن لم يصل الاستعمال عنده إلى هذه الغاية الموجبة للنقل، فإن الغلبة قد تقصر عن النقل ألا ترى أن أهل العرف يستعلمون لفظ الأسد في الرجل الشجاع استعمالًا كثيرًا، ولم يصل ذلك إلى حد النقل، فإنه لا يفهم منه الرجل الشجاع إلا بقرينة، وضابط النقل أن يصير المنقول إليه هو المتبادر الأول من غير قرينة وغيره هو المفتقر إلى القرينة، فهذا هو مدرك القولين فاتفق أشهب وابن القاسم على أن النقل العرفي مقدم على اللغة إذا وجد واختلفا في وجوده هنا فالكلام بينهما فيتحقيق المناط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2457 المسألة الثالثة: إذا حلف بأيمان المسلمين تلزمه فحنث فمشهور فتاوى الأصحاب على أنه يلزمه كفارة يمين وعتق رقبة إن كان عنده وأن كثروا، وصوم شهرين متتابعين والمشي إلى بيت الله في حج أو عمرة وطلاق أمراه، واختلفوا هل هي واحد أو ثلاث والتصدق بثلث ماله ولم يلزموه اعتكاف عشرة أيام ولا المشي إلى مسجد الرسول ولا لبيت المقدس ولا الرباط في الثغور الإسلامية ولا تربية اليتامى ولا كسوة العرايا ولا إطعام الجياع ولا شيء من القربات غير ما تقدم ذكره، وسبب ذلك أنهم لاحظوا ما غلب الحلف به في العرف فيقدم على المسمى اللغوي ويختص حلفه بهذه المذكورات دون غيرها لأنها المشتهرة – ولفظ الحلف والأيمان إنما تستعمل فيها دون غيرها. وليس المدرك أن عادتهم يفعلون مسمياتها وإنما يصومون شهرين أو يحجون أو غير ذلك من الأفعال، بل لغلبة استعمال الألفاظ في هذه المعاني دون غيرها ولأجل ذلك صرحوا بأن من جرت عادته بالحلف بصوم لزمه صوم سنة، فجعلوا المدرك الحلف اللفظى دون العرف الفعلي، فهذا هو مدرك هذه المسألة على التحرير والتحقيق. قال القرافي وبناء على هذا لو اتفق في وقت آخر اشتهار حلفهم ونذرهم للاعتكاف والرباط وإطعام الجيعان وكسوة العريان دون ما تقدم لكان اللازم لهذا الحالف إذا حنث الاعتكاف وما ذكر معه دون ما هو مذكور قبله لأن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها وجودًا وعدمًا تدور كيف دارت وتبطل معها إذا بطلت كالنقود في المعاملات والعيوب في الأعراض في البياعات، فلو تغيرت العادة في النقد والسكة التي تحددت العادة بها دون ما قبلها، وكذلك إذا كان الشيء عيبا في الثياب في مادة رددنا به المبيع فإذا تغيرت العادة وصار ذلك المكروه محبوبًا موجبًا لزيادة الثمن لم ترد به، قال القرافي: وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه، نعم قد يقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا؟ وعلى هذا القانون يجب أن تراعى الفتاوى، فمهما تجدد العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه وبين أنه لا يلزم العالم أن يجمد على المسطور في الكتب وأنه إذا جاءك ممن ليس من أهل البلد يستفتيك لا تفته على عرف بلدك، بل اسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك. والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح الذي يجب اتباعه والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، قال القرافي: وعلى هذا تتخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات فقد يصير ما كان صريحًا كناية وما كان كناية صريحًا مستغنيًا عن النية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2458 المسألة الرابعة: إذا قال أيمان البيعة تلزمني فتخرج ما يلزمه على هذه القاعدة وما جرت به العادة في الحلف عند الملوك المعاصرة إذا لم تكن له نية، فأي شي جرت به عادة ملوك الوقت في التحليف به وبيعتهم، واشتهر ذلك عند الناس بحيث صار عرفًا ومنقولًا متبادرًا للذهن من غير قرينة على القانون المتقدم حمل يمينه عليه، فإن لم يكن كذلك اعتبرت نيته أو بساط يمينه، فإن لم يكن شيء من ذلك فلا شيء عليه (1) . وتعقبه سراج الدين أبو القاسم قاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط في حمل اليمين على العرف، ثم على النية، ثم على البساط، وقال فيه نظر لأنه لا يخلو أن يترتب على يمينه تلك حكم أو لا يترتب، فإن لم يترتب عليها حكم فالمعتبر النية، ثم السبب أو البساط، ثم العرف، ثم اللغة وإن ترتب عليها حكم فالمعتبر العرف، ثم اللغة لا غير، والله أعلم (2) قال القرافي القاعدة أن كل متكلم له عرف في لفظه فإنما يحمل لفظه على عرفه، فإذا صدر اللفظ من حالف أو واقف أو موص أو مقر، فإنما يحمل لفظه على عرفه الذي عاد فيه التكلم به فهو خاصة أو أهل بلده عامة بناء على القاعدة أن من له عرف، فإنه يتبع في حقه وكذلك إذا اختلفت العوائد الناقلة للغة حمل لفظ أهل كل عادة على عادتهم دون عادة غيرهم – ثم قال: وإنما يحمل لفظ صاحب الشرعي على العرفي دون اللغوي إذا علم مقارنته تلك العادة لزمن الخطاب، أما لو تأخرت فلا، بل تتعين اللغة، فإن الصارف عنها منتف حالة التكلم، وكذلك القول في كل متكلم يشترط في حمل لفظه على العادة مقارنة تلك العادة كتلفظه. اهـ (3) . ولما للعادة والعرف من أثر في الأحكام جاء في كتاب العمليات الفاسية في المقدمة من المعلوم عند الخاصة والجمهور أن أقوال المذهب منها المأخوذ به ومنها المهجور وأن جريان العمل بالقول موجب تقديمه على المشهور وجب أن يكون البحث عن القول المعمول به من أجل الأمور التي فيها مزيد الثواب وكثرة الجور وأن وجوده من أعظم الفوائد وتوقيف القضاء عليه يعدل الإتحاف بسني الفرائد وقد مكثت زمانًا أبحث عن ذلك جهدي وأستخرج من غضون الدفاتر ما قرب به عهدي كلما وجدت ذكر العمل بالقول في مسألة أصبتها قيدتها في صحف معدة لذلك وكتبتها ولم أزل على ذلك مدة مديدة حتى جمعت مسائل عديدة كانت الرغبة مني في جمعها شديدة، ثم صارت الحاجة إلى نظمها بعد الجمع أكيدة لكون النظم على صونها أعون وعلى دوائم حفظها أهون، ثم شرحها وزاد عليها قدر شطرها (4) .   (1) الفروق للقرافي الفرق الثامن والعشرين بين قاعدة العرف القولي والعرف الفعلي: 1 /217 – 225 (2) إدراك الشروق على أنواء الفروق بهامش الفروق: 1 /224 (3) المسألة الرابعة من الباب السابع من نفائس الأصول وشرح المحصول للقرافي خط: 1 /488. (4) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد المشتهر بالعمليات الفاسية، لابن عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن عبد الجليل الفلالي السجلماسي، ط1 سنة 1290هـ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2459 بين الحقيقة العرفية والمجاز: إن العرف القولي هو في الحقيقة من قبيل المجاز اللغوي إذا احتاج فهم المعنى المقصود إلى قرينة أو علاقة عقلية، فإذا استغنى عن هذه الملاحظة وعلى هذه العلاقة العقلية بكثرة الاستعمال حتى صار يتبادر المعنى الثاني إلى الذهن وصار المعنى اللغوي كالمهجور كان ذلك من قبيل الحقيقة العرفية وإلا فهو مجاز لغوي أن كان في المفردات أو مجاز عقلي أن كان في المركبات فمن رأيته يجري وراء غيره وبيده عصا وهو يصيح لأقتلنك فلا شك إنه يفهم من هذه القرينة الحالية أن مراده الضرب المؤلم. ولو وقفت أمام متعاقدين وسمعت أحدهما يقول وهبتك هذا الثوب بعشرة دنانير، فلا شك أنك تفهم من ذلك البيع لا الهبة ذلك أن الهبة تكون بغير مقابل فقوله بعشرة دنانير قرينة مانعة من حمل اللفظ على حقيقته وحمله على مجازه وهو البيع، وكما لو قال الحاكم حكمت المحكمة على فلان بكذا، فإن المحكمة وهي البناية لا تحكم، وإنما الذي يحكم هو الحاكم فنسبة الحكم إليها من باب إسناد الفعل إلى غير من هوله وذلك هو المجاز العقلي، ومثله فتح الأمير البلاد وإنما الفاتح جنده، فهذه الاستعمالات كلها من قبيل المجاز إذ هي قائمة على قرائن لفظية أو حالية مانعة من حمل اللفظ على ظاهره وليست من الحقائق العرفية في شيء. أما العرف الفعلي وهو ما يعبر عنه بالعرف المعنوي فهو ما اعتاده الناس في حياتهم وتعودت به أنفسهم وقد عرفها القرافي في تنقيحه فقال: العادة غلبة معنى من المعاني على الذهن، وقد تعم جميع الأقاليم كحاجة الناس إلى الغذاء والتنفس في الهواء، وقد تكون خاصة ببعض البلاد كالنقود والعيوب وقد تكون خاصة ببعض الفرق كالآذان للمسلمين والناقوس للنصارى فهذه العادة يقضي بها عندنا. اهـ (1) ومن هذا الوادي اختلاف الزوجين في متاع البيت مما جرت العادة أن يملكه الزوج كالرمح والسيف قضي به له وما اختص بالزوجة كالفرش والوسائد وأدوات التجميل قضي به لها (2) .   (1) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد المشتهر بالعمليات الفاسية، لابن عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن عبد الجليل الفلالي السجلماسي، ط1 سنة 1290هـ. (2) تبصرة القضاء والاخوان في وضع اليد وما يشهد له من البرهان، للشيخ حسن العدوي: 181 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2460 فالعرف العملي هو اعتياد الناس أفعالًا في حياتهم وجريان معاملاتهم المدنية عليها في حياتهم اليومية وتبادلهم المصالح وتصرفاتهم في عقودهم وبيوعاتهم وأنكحتهم ويدخل في ذلك عطلهم وأعيادهم وكل ما جرى عليه عملهم على حسب جهاتهم وعاداتهم فلو اعتادت جهة من الجهات أو البائع هو الذي يوصل البضاعة إلى بيت المشتري، كان ذلك على البائع، ولو أعتادوا أن الصداق يدفع شطرة عاجلًا وشطره آجلًا أو أن أجر العمال يدفع أقساطًا على رأس كل شهر، وكانت هذه العقود مطلقة قيدها العرف لأن المعروف كالمشروط وأعراف الناس العملية كثيرة لا تحصى والعمل فيها على ما جرى به العرف والعادة (1) . وينقسم العرف القولي والعملي إلى عام وخاص. فالعرف العام هو الذي يكون عامًا فاشيًا في جميع البلاد الإسلامية بين غالب الناس في أي أمر من الأمور وقد عرفه ابن عابدين بقوله: هو ما تعارفه عامة أهل البلد سواء كان قديمًا أو حديثا (2) ، وعرفه ابن فرحون بقوله غلبة معنى من المعاني على جميع البلاد (3) . وهذا النوع من العرف ينتظم كثيرًا من الظواهر الاجتماعية المنتشرة في العالم كالاستصناع، فإن الناس محتاجون إليه في كل زمان لا يخلو يوم من التعامل به في كل مكان حتى أصبح جاريًا في كل الحاجيات كالبيع بالمعاطاة وتأجيل جانب من المهر ونكاح التعويض في بعض الجهات وتقسيم الصداق إلى معجل ومؤجل واعتبار الأدوات الضرورية للسيارات والدراجات، وكألفاظ تعارف الناس على أنها لإزالة العصمة في المنكوحات وتحديد الركاب في الطيارات واستهلاك الماء المجهول في الحمامات واعتبار وضع اليد دليلًا على الملكية في الحيازات إلى غيرها مما لا يحد ولا يحصى كثرة مما هو معلوم لدى الخاصة والعامة. وبخلافه العرف الخاص، ببلد أو فرقة أو جماعة أو من فئة من أهل الاختصاصات، فهذا العرف متنوع متعدد لا تحصى صوره لأن مصالح الناس واحتياجاتهم وعلاقاتهم متجددة متنوعة حسب نوع الاختصاص، فللتجار أعرافهم وللمحامين أعرافهم وللأطباء أعرافهم وهكذا فيما هو عيب مما ليس بعيب عند التجار وتقدير الأجور عند المحامين والعدول وتعليقها على نجاح الأمور، ومعلوم توصيل الركاب ونقلهم من محطة إلى محطة ومن جهة إلى جهة وتعارف التقسيط في نوع من البيوع وتأجير الغرف في السناد وألفاظ الواقفين وعباراتهم والوصايا والأيمان وما إليها، كل هذا من قبيل العرف الخاص.   (1) المدخل الفقهي العام: 2 /847 (2) نشر العرف، بناء بعض الأحكام على العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /139. (3) التبصرة: 2 /57 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2461 وقد قسم محمد بن يحيى الولاتي الشنقيطي العرف إلى قسيمن الأول: عرف الشارع القولي كغلبة استعمال الصلاة في الأركان المخصوصة في العرف الشرعي، حيث نقل الشرع لفظ الصلاة من مطلق الدعاء إلى العبادة التي تفتتح بتكبيرة الإحرام وتختم بالسلام، وقد صار لفظ الصلاة إذا أطلق لا ينصرف إلا للمعنى الثاني وأصبح المعنى اللغوي مهجورًا. القسم الثاني: عرف الشارع الفعلي كالأذان حيث صار علامة عرفية على دخول وقت الصلاة في عرف الشرع ذلك أن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه، كما يقوله تقي الدين ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام شرح عمدة الحكام (1) ، ولا شك أن الشارع حينما يخاطب يتعين حمل كلامه على المعاني الشرعية إذ ذلك هو عرفه وإن كان قد مانع بعضهم في العرف الشرعي واعتبره داخلًا ضمن العرف الخاص لكن المحققين من الأصوليين أثبتوا الحقائق الشرعية، فقد نقل القرافي في تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الفصل السابع في الفرق بين الحقيقة والمجاز (2) : أن للحقيقة الشرعية تفسيرين، الأول: أن يقال إن حملة الشرع غلب استعمالهم للفظ الصلاة في الأفعال المخصوصة حتى بقي اللفظ لا يفهم منه إلا هذه العبادة المخصوصة وهذا لا نزاع فيه، والثاني: أن يقال أن صاحب الشرع وضع هذه الألفاظ لهذه العبادات وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال: قال القاضي أبو بكر الباقلاني لم يضع صاحب الشرع شيئًا، وإنما استعمل الألفاظ في مسمياتها اللغوية ودلت الأدلة على أن تلك المسميات اللغوية لا بد معها من قيود زائدة حتى تصير شرعية، وقالت المعتزلة: بل تجددت هذه العبادات كمولود جديد يتجدد فلا بد له من لفظ يدل عليه، وقال الإمام فخر الدين وطائفة معه ما استعمل في المسمى اللغوي ولا نقل، بل استعمل اللفظ في خصوص هذه العبادات على سبيل المجاز، لأن الدعاء الذي هو أصل الصلاة لغة جزء الصلاة الشرعية، لأن فيها دعاء الفاتحة ويبعد غاية البعد أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) أن يكون مراده الدعاء من حيث هو دعاء. وزاد في نفائس الأصول في شرح المحصول يبين أن الوضع له ثلاثة معان جعل اللفظ دليلًا على المعنى كتسمية الولد زيدًا ومنه تسمية اللغات ووضعها ويقال الوضع على غلبة الاستعمال للفظ في المعنى حتى يصير أشهر من غيره، وهذا هو وضع الحقائق الثلاث الشرعية كالصلاة للفعل المخصوص والعرفية العامة كالدابة للحمار والعرفية الخاصة كالجوهر والعرض عند المتكلمين، ويقال الوضع على مطلق الاستعمال ولو مرة واحدة وهو قولهم من شرط المجاز الوضع أي سمع منهم مرة واحدة التجوز لذلك النوع من المجاز ولم يسموا مطلق الاستعمال وضعًا إلا في هذا الوضع (3) ,   (1) أحكام الأحكام: 1 /177 (2) تنقيح الفصول بهامش حاشية ابن عاشور: ص 46 (3) نفائس الأصول في شرح المحصول، للقرافي- خط: 1 /340 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2462 العرف المعتبر في اصطلاح الفقهاء: إن العرف المعتبر في الاصطلاح هو ما استقر في النفوس من جهة العقل وتلقته الطباع السليمة بالقبول ولم يعارضه نص شرعي فخرج بقيد ما استقر في النفوس ما حصل ندرة ولم يجر في عادة الناس، فهذا لا يعد عرفًا، وبقيد من جهة العقول خرج ما استقر في النفوس من جهة الأهواء والميولات والشهوات فمن اعتاد شرب المسكرات واللعب بالأوراق وارتكاب أنواع الفجور والموبقات لا يعد ذلك من العرف في شيء، كذلك ما استقر في النفوس لسبب خاص كاللكنة الخاصة بسبب اختلاط العجم بالعرب وكتفاؤل قوم أو تطيرهم من بعض الأعمال لاقترانها مصادفة بنفع أو ضر كما تعارف ذلك عند العرب في الجاهلية فهذا لا يعد عرفًا أيضًا في الاصطلاح (1) وهذا التعريف يفارق التعريف اللغوي للعرف، لأنه في اللغة يطلق على كل ما تتابع الناس فيه بعضهم ببعض لا فرق بين أن يكون مصدره العقل أو الغريزة أو مجرد الصدفة والاتفاق. وأما القيد الأخير وهو أن لا يعارض بنص شرعي، فذلك لأن العقل يخطئ ويصيب وليس كل ما حسنه العقل هو حسن ولا كل ما قبحه العقل قبيح خلافًا للمعتزلة إذ الحسن عند أهل السنة ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع، ومسألة التحسين والتقبيح العقليين مسألة تداخلت فيها الأنظار واختلف فيها أهل المعرفة الذين إليهم يشار ومنهم من سلك فيها مسلك الإفراط ومنهم من اتبع طريق التفريط، وقد سلك الشيخ محمد جعيط مسلكًا وسطًا بين الطريقتين في رسالة ألفها سماها زبدة التحصيل والتنقيح في مسألة التحسين والتقبيح (2) . ولكي يصبح للعرف قوة الالتزام والاعتبار اشترط الفقهاء شروطًا لا بد من توافرها فيه، إذ ليس كل عرف يصلح أن تبنى عليه الأحكام الشرعية كما قدمنا، وليس كل عرف لغوي دليلًا يرجع إليه الفقيه كلما أعوزه النص من الكتاب والسنة، وهذه الشروط هي أولًا الاطراد والغلبة ومعناه أن يكون العمل به جاريًا بين متعارفيه في جميع الحوادث، ولذلك قالوا: لا تعتبر العادة إلا إذا اطردت أو غلبت وانبنى على هذا الشرط أن لو باع أحد بنقود (بعشرين) ولم ينص على النقد، فإن العقد ينصرف إلى النقد المتعارف في ذلك البلد، فإذا تعدد النقد انصرف إلى الأغلب لأن الأغلب هو المتعارف فينصرف المطلق إليه ويلغي في هذه الحالة العرف المشترك ولا يعمل به ولا تبنى عليه الأحكام، جاء في الأشباه والنظائر للسيوطي إنما تعتبر العادة إذا اطردت فإن اضطربت فلا، وإن تعارضت الظنون في اعتبارها فخلاف، وكذلك لو غلبت المعاملة بجنس من العروض أو نوع منه انصرف الثمن إليه عند الإطلاق في الأصح (3) .   (1) العرف والعادة، للشيخ أحمد فهمي أبي ستة: ص9 (2) ضمن هذه الرسالة حاشية المسماة منهج التحقيق والتوضيح لحل غوامض التنقيح: 1 /313-348. (3) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 65. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2463 فإذا تساوت العادات أهملت ولا يعمل بواحدة منها فلو جرى ببلد أن الأب يجهز ابنته من ماله الخاص، كما جرت العادة بأن ما يجهز ابنته به يعتبر عارية وبعد أن زفت الزوجة بهذا الجهاز إلى بيت الزوجية اختلفا فادعى الأب أنها عارية، وادعى المنازع أنه تمليك والعادة في البلد واقعة بهما، ولم تكن بينة تثبت ما ادعاه أحدهما فلا يكون هذا العرف المشترك دليلًا ولا حجة لأحد الخصمين نظرًا لتعارضهما ولو أخذ بأحد العادتين لكان ترجيحًا بلا مجرح وهو تحكم (1) ، فلذا لا يبنى الحكم على هذا العرف ويرجع إلى الأصل، والأصل يشهد للأب لأنه المعطي وهو أدرى بحقيقة ما أعطاه، وإنما يقدم العرف على الأصل إذا تعارض الأصل والعرف، أما إذا سقط العرف لمعارضته بما يماثله رجعنا إلى الأصل، فكان الأب مدعى عليه لأن من شهد له أصل أو عرف كان مدعى عليه فإن شهد لأحدهما الأصل وللآخر العرف كان من شهد له العرف هو المدعى عليه ولدقة تحقيق المناط وتطبيق القواعد على جزئياتها صعب أمر القضاء، وكان علم القضاء أخص من فقه القضاء (2) وإنما قدم العرف على العادة لأنها قاصرة عن العرف إذ يلزم لقيامه توافر الركنين المادي والمعنوي في حين أن العادة يكفي فيها توفر الركن المادي والعادة وإن كانت معتبرة لكنها لم تصل إلى العرف الذي بلغ إلى درجة الإلزام والعادات لا تلزم الأفراد إلا إذا اتفقوا عليها وانصرفت إرادتهم إلى التقيد بها صراحة أو ضمنًا (3) . وندرك أنه لا يلزم من العمل بالعرف المخالف للنص ترك النص؛ فالعمل بالمتعارضين أولى من ... واختلف في العادة هل هي كشاهدين فلا يمين معها أو كشاهد يحتاج معها إلى يمين والمشهور توجيه اليمين إن كان للمدعى فيه نزاع غير من احتج بالعادة فتجب اليمين على المحتج بها، فإن لم يكن منازع فلا يمين قاله صاحب الدكانة عظوم وانتزعه من تعليل القرطبي (4) وابن عرفة عدم توجه اليمين على صاحب اللقطة بعدم منازع له فيها، قال الشيخ الوالد رحمه الله: وما ذكره عظوم غير مطرد ينتقض بمسألة ما إذا زوج ابنه البالغ وهو ساكت حتى إذا فرغ أنكر بحدثان ذلك، فإنه يستحلف أنه لم يرضَ فإن نكل لزمه النكاح وكان عليه نصف الصداق (5) والخلاف في لزوم النكاح للناكل مبني على الخلاف في أن العادة هل هي كالشاهد أو كالشاهدين، فإن قلنا كالشاهدين لزم النكاح بنكوله وعليه نصف الصداق، وإن قلنا كالشاهد لم يلزمه وقد بسط المسألة شراح العمليات الفاسية عند قول الناظم ومن تحمل عن ابنه النكاح (6)   (1) سلم الأصول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: ص 247 (2) الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية، للشيخ محمد العزيز جعيط: ص 44 (3) مقاصد الشريعة الإسلامية، لعلال الفاسي: ص 153 (4) هو أحمد بن عمر الأنصاري الأندلسي القرطبي يعرف بابن المزين وممن أخذ عنه القرطبي صاحب التفسير والتذكرة. (5) الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية وما جرى به العمل في الأقطار التونسية على مذهب السادة المالكية: ص 51. (6) العمليات الفاسية: 1 /11. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2464 ولا يلزم من اطراد العرف أو غلبته أن يكون عامًا بين جميع الناس، لأن عموم العرف غير اطراده (1) ، فقد يكون العرف منتشرًا عامًا في جميع البلاد وقد يكون خاصًا ببلد معين أو خاصًا بأهل مهنة معينة أو أهل حرفة مخصوصة دون سواها فيكون معروفًا من جميع أهل تلك الحرفة غير مقتصر على عدد منهم وهذا ما يسمى بالعرف الخاص فهو عام بين أهل تلك الصناعة معروف لدى الأغلبية الساحقة من أهل تلك الصناعة كأهل التجارة أو الزراعة وأي مهنة من المهن ويطلق عليه عرف مهني أو طائفي أو إقليمي (2) ، والعرف أعم من أن يكون عامًا أو خاصًا فيشترط لاعتباره وتحكيمه في المعاملات المطلقة أن يكون في محيطه مطردًا أو غالبًا على أعمال أهله (3) . وندرك من وراء ذلك أن المراد من العموم إنما هو عمومه في المكان الذي يقع فيه أو عمومه في الأشخاص الذي صدر عنهم العمل بمقتضاه كالعرف الصناعي والعرف المهني، فإن اختل هذا الشرط سقط عن الاعتبار فلا يكون ملزمًا وينزل عن درجة العرف الملزم إلى درجة العادة التي لا تلزم إلا إذا اشترطها المتعاقدان إذ لا تصلح أن يكون مستندًا أو دليلًا للرجوع إليها في تحديد الحقوق والواجبات المطلقة، كما فصلناه سابقًا، وقد قال القرافي في الأحكام: لا يكفي في الاشتهار كون المفتي يعتقد ذلك لأن ذلك نشأ من دراسة المذهب وقراءته والمناظرة عنه، بل الاشتهار أن يكون أهل ذلك لا يفهمون عند الإطلاق إلا ذلك المعنى (4) ولهذا اعتبرنا من شرط العادة أن تكون عرفًا الاطراد والغلبة فلا يكون عرفًا إذا كان لا يعرفه إلا الخواص من أهل المعرفة. الشرط الثاني لاعتبار العرف دليلًا يصار إليه أن لا يكون مخالفا لنص شرعي إذ هو لا يقوى قوة النص وقد جاء في المبسوط كل عرف ورد النص بخلافه فهو غير معتبر (5) . قال ابن عابدين في نشر العرف: لأن العرف قد يكون عن باطل بخلاف النص، كما قال ابن الهمام، وقد قال في الأشباه: العرف غير معتبر في المنصوص عليه، قال في الظهيرة من الصلاة وكان محمد بن الفضل يقول: السرة إلى موضع نبات الشعر من العانة ليس بعورة لتعامل العمال في الإبداء عن ذلك الموضع عند الاتزار وفي النزع عن العادة الظاهرة نوع حرج وهذا ضعيف وبعيد لأن التعامل بخلاف النص لا يعتبر. انتهى بلفظه (6) .   (1) المدخل الفقهي العام: 2 /875 (2) المدخل للعلوم القانونية، لتوفيق فرج: ص 132 (3) المدخل الفقهي العام: 2 /875 (4) الأحكام في تمييز الفتاوى والأحكام: ص 71 (5) المبسوط، للسرخسي: 12 /196 (6) نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف – مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /115 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2465 وهذا يعني أنه إذا أثبت العرف حكمًا مخالفًا لما أثبته النص يعمل بالنص ويترك العرف المخالف ولا يعتد به، لأن النص أقوى من العرف ولا يترك الأقوى بالأضعف، فإذا كان العرف مخالفًا للنص من كل وجه حيث لو عمل به لزم منه ترك النص وعدم العمل به؛ مثل تعارف الناس كثيرًا من المحرمات شرعًا كتعاملهم بالربا واعتيادهم لعب القمار وتناول المسكرات وغير ذلك من كل المحرمات بالنص، فإن ما جرى به العرف واعتاده الناس لا ينقل الحكم الشرعي من الحرمة إلى الحلية، نعم إذا لم يكن العرف مخالفًا للنص من كل وجه ولا مبطلًا للحكم الذي أثبته النص، كما إذا كان النص الشرعي عامًا والعرف خاصًا كأن يخالفه في بعض أفراده، فإذا يعمل بهما ويكون العرف مخصصًا لذلك الحكم العام الذي ورد به النص وتخصيص العام وتقييد المطلق ليس نسخًا لحكم الأصل ومن أمثلة ذلك أن الفقهاء اشترطوا في محل العقد أن يكون المعقود عليه موجودًا وقت التعاقد، فقالوا بعدم صحة التعاقد على معدوم كبيع الزرع قبل ظهوره لاحتمال عدم نباته ولاحتمال عدم الوجود كبيع الحمل في بطن أمه وبيع اللبن في الضرع وبيع اللؤلؤ في الصدق أو العقد على مستحيل الوجود في المستقبل كالتعاقد مع طبيب على علاج مريض توفي، فهذه العقود كلها باطلة، وذلك لما ورد من نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة، والمضامين في أصلاب الإبل والملاقيح، ونهي ما في بطون النوق ونهيه عن بيع ما ليس عندك لأن البيع فيها وقت التعاقد معدوم وقد استثنى الفقهاء من هذه القاعدة العامة في منع التصرف بالمعدوم عقود السلم والإجارة والمساقاة والاستصناع مع عدم وجود المحل المعقود عليه حين إنشاء العقد، وذلك استحسانًا ومراعاة لحاجة الناس وتعارفهم على ذلك وإقرار الشرع لهذه العقود، فقد ثبت في السنة تشريع المساقاة والمزارعات والإجارات وقرر الاستصناع مع أنه مستثنى من بيع المعدوم، وندرك أنه لا يلزم من العمل بالعرف المخالف للنص ترك النص؛ فالعمل بالمتعارضين أولى من إلغاء أحدهما، فيبقى النص عاملًا في عمومه ومستثني منه ما وقع استثناؤه وذلك معنى تخصيص العام، أما إذا تعارض العرف مع النص من كل الوجوه تعين ترك العرف والعمل بالنص؛ لأن العرف لا يقوى على إلغاء النص وإهداره، ولهذا لما جاء الإسلام ألغى كثيرًا مما كان متعارفًا عند العرب وجرت عليه عاداتهم في حرمان النساء من الميراث واعتبار الظهار طلاقًا ونحوها مما جرت عليه عاداتهم في الجاهلية (1) . وقد استثنى بعضهم العرف التجاري باعتبار أن العرف التجاري هو تقنين للعادات التي اصطلح عليها التجار فيما بينهم، ورد ذلك بأنه لا يخرجه عما تعارفه الناس فيلزم أن لا يتعارض مع النصوص الشرعية.   (1) فلسفة التشريع، لصبحي محمصاني: ص 269، ومبادئ الثقافة الإسلامية، لفاروق النبهان: ص 272 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2466 وخلاصة القول: إن الأعراف المعتبرة هي التي توافق الدلة الأصولية المعتبرة، أما ما ورد على خلافها وجاء معاكسًا لمقاصد الشريعة وغاياتها فهو مردود لا يعتد به ولا يعوَّل عليه، وقد ذكر القرافي في تنقيحه في الفصل الثالث في مخصصات العام، قال: وعندنا العوائد مخصصة للعموم، قال الإمام: إن علم وجودها في زمن الخطاب وهو متجه، قال شيخنا محمد الطاهر بن عاشور: المراد بالعوائد العامة وهي ما غلب على الناس من قول أو فعل أو ترك وهي تخصص ما قارنته، فإن قارنت نصًّا شرعيًّا خصصته وإن قارنت ألفاظ الأيمان والعقود خصصتها ومثل للعمل بالنص والعرف معًا عند المالكية بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [سورة البقرة: الآية 233] . فخصت المالكية ذوات القدر والشرف من عموم الوالدات وكذلك من كل رجلًا على أن يشتري له ثوبًا فاشترى له ما ليس من لباس أمثاله، فإنه لا يلزمه ما اشتراه (1) . قال ابن عابدين: اعلم أن العرف نوعان خاص وعام، وكل منهما إما أن يوافق الدليل الشرعي والمنصوص عليه في كتب ظاهر الرواية أو لا، فإن وافقهما فلا كلام، وإلا فإما أن يخالف الدليل الشرعي أو المنصوص عليه في المذهب فنذكر ذلك في بابين: الباب الأول إذا خالف العرف الدليل الشرعي، فإن خالفه من كل جهة بأن لزم منه ترك النص فلا شك في رده كتعارف الناس كثيرًا من المحرمات من الربا وشرب الخمر ولبس الحرير والذهب وغير ذلك مما ورد تحرميه نصًّا، وإن لم يخالفه من كل وجه بأن ورد الدليل عامًا والعرف خالفه في بعض أفراده أو كان الدليل قياسًا والعرف خاصًا، فإنه لا يعتبر وهو المذهب كما ذكره في الأشباه، حيث قال: فالحاصل أن المذهب عدم اعتبار العرف الخاص ولكن أفتى كثير من المشائخ باعتباره، وقال في الذخيرة البرهانية في الفصل الثامن من الإجارات فيما لو دفع إلى حائك غزلًا على أن ينسجه بالثلث، قال: ومشائخ بلخ كنصير بن يحيى ومحمد بن سلمة وغيرهما كانوا يجيزون هذه الإجارة في الثياب لتعامل أهل بلدهم والتعامل حجة يترك به القياس ويخص به الأثر، قال ابن عابدين: وتجويز هذه الإجارة في الثياب للتعامل بمعنى تخصيص النص الذي ورد في قفيز الطحان لأبي الحائك، إلا أن الحائك نظيره يكون واردًا فيه دلالة، فمتى تركنا العمل بدلالة هذا النص في قفيز الطحان كان تخصيصًا لا تركًا أصلًا وتخصيص النص بالتعامل جائز، ألا ترى أنا جوزنا الاستصناع للتعامل، والاستصناع بيع ما ليس عنده وإنه منهي عنه وتجويز الاستصناع بالتعامل تخصيص منا للنص الذي ورد في النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان لا ترك للنص أصلًا، لأن عملنا بالنص في غير الاستصناع قالوا بخلاف ما لو تعامل أهل بلدة بقفيز الطحان، فإنه لا يجوز ولا تكون معاملتهم معتبرة؛ لأنا لو اعتبرنا معاملتهم كان تركًا للنص بالتعامل ولا يجوز ترك النص أصلًا وإنما يجوز تخصيصه.   (1) التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح: 248 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2467 قال ابن عابدين: ولكن مشائخنا لم يجيزوا هذا التخصيص، لأن ذلك تعامل أهل بلدة واحدة، وتعامل أهل بلدة واحدة لا يخص الأثر لأن تعامل أهل بلدة إن اقتضى أن يجوز التخصيص فترك التعامل من أهل بلدة أخرى يمنع التخصيص فلا يثبت التخصيص بالشك، بخلاف التعامل في الاستصناع فإنه وجد في البلد كلها. وفي الأشباه والنظائر لابن نجيم: تنبيه هل يعتبر في بناء الأحكام العرف العام أو مطلق العرف ولو كان خاصًا؟ المذهب الأول قال في البزازية معزيًا إلى الإمام البخاري الذي ختم به الفقه: الحكم العام لا يثبت بالعرف الخاص وقيل يثبت. انتهى (1) الشرط الثالث: عدم معارضة العرف بتصريح يخالفه، فإذا اشترط أحد المتعاقدين شرطًا يخالف ما جرى به العرف ولايتناقض العقد وجب العمل بمقتضاه لأن الناس على شروطهم ولا عبرة للعرف حينئذ، وإنما يعتد بالعرف ويرجع إليه عند الإطلاق فمثلًا جرى العرف أن مصاريف كتب العقد وتسجيله يكون على المشتري فلو اشترط المشتري على البائع أن تكون هذه المصاريف على البائع ورضي البائع بذلك فلا عمل على العرف لأن الناس على شروطهم إذا كان الشرط لم يحل حرامًا أو يحرم حلالًا، كما ورد ذلك في الحديث إذ العرف منزل منزلة الشرط الضمني ولا يقوى الشرط الضمني أمام الشرط الصحيح (2) ، ولأن المقرر عند الفقهاء أن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا فقد نزل العرف منزلة الشرط المصرح به، أي عند عدم وجوده، أما مع وجوده فلا يعتد به، إذ لا يعتمد على شرط ضمني مع شرط منصوص عليه، ثم سكوت المتعاقدين عن الأمر المتعارف وعدم اشتراطهم إياه صراحة يعتبر واقعًا منهم اعتمادًا على العرف، فإثبات الحكم المتعارف في هذه الحالة إنما هو من قبيل الدلالة فإذا صرح بخلافه بطلت هذه الدلالة ولا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح (3) . وقد نقل في الأحكام عن العز بن عبد السلام الشافعي، قال: كل ما ثبت بالعرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد ويمكن الوفاء به صح، فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكل ولا شرب ويقطع المنفعة للزمه ذلك، أما لو شرط عليه أن يعمل شهرًا في الليل والنهار، قال فالذي أراه بطلان هذه الإجارة لتعذر الوفاء بها فكان ذلك غررًا لا تمس الحاجة إليه وتنزل القرينة العرفية منزلة الشرط، فلو أن امرأة أقامت بينة عند التنازع في الجهاز على ما هو من خصائص الرجال أو أقام الرجل بينه على أن ما هو من خصائص النساء فإنه يقضي بما شهدت به البينة والشهادة إذ البينة تقدم على العرف، وهذا ما عناه العز بن عبد السلام حيث يقول: إن البينات أقوى من الظن المستفاد من هذه الجهات ومدرك هذا الشرط أن دلالة العرف أضعف من دلالة اللفظ يترجح عن المعارضة.   (1) الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص: 106 (2) فلفسة التشريع، لصبحي محمصاني: ص 268، وسلم الوصول لعلم الوصول، لعمر عبد الله: ص 244 – 245 (3) المدخل الفقهي العام: 2 /879 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2468 الشرط الرابع: للاعتماد على العرف أن يكون سابقًا للنص فلا عبرة بالعرف المتأخر عن النص، فإذا تأخر عن تاريخ العقد أو تاريخ التصرف فلا يمكن الاحتكام إلى العرف المتأخر، يقول القرافي: إنما يعتبر من العادات ما كان مقارنًا لها، فكذلك النصوص الشرعية لا يؤثر فيها إلا ما قارنها من العادات، وأما العوائد الطارئة بعد النطق فلا يقضى بها على النطق، فإن النطق سالم عن معارضتها فيحمل على اللغة ونظيره إذا وقع النقد في بيع فإن الثمن يحمل على العادة الحاضرة في النقد وما يطرأ بعد ذلك من العوائد في النقود لا عبرة به في هذا البيع المتقدم وكذلك النذر والإقرار والوصية إذا تأخرت العوائد عليها لا تعتبر وإنما يعتبر من العوائد ما كان مقارنًا لها، فكذلك نصوص الشريعة لا يؤثر في تخصيصها إلا ما قارنها من العوائد (1) فلو وقع الاتفاق على ثمن المبيع بدراهم أو دنانير في بلد قد اختلفت فيها النقود ولم يقع التنصيص على نوع النقد انصرف الثمن إلى النقد المعروف بين الجميع والذي هو فاش في البلد متدوال بين الجميع، ولا ينصرف أصلًا إلى ما طرأ بعد ذلك العقد من أصناف أو تغيير ولذا يتعين حمل ألفاظ الواقفين في أوقافهم وفي النصوص والوثائق في العقود والتصرفات، وما جاء فيها من قيود وإطلاقات يتعين فيها مراعاة العرف الذي كان زمن إنشائها، فإن لم يراع في فهمها وتفسيرها ما كان قائمًا من أعراف ساعة صدور العقود وإنشاء التصرفات وقعنا في الخطأ في فهم المعنى المراد ذلك أن كل متكلم إنما يتكلم بحسب عرفه ولا يقصد من كلامه إلا ما يتعارفه ولا يمكن حمل كلامه أصلًا على ما نشأ من الأعراف والعادات الحادثة لقاعدة أن العرف يعمل فيما يوجد بعده لا فيما وجد قبله (2) . وهكذا النصوص التشريعية يجب أن تفهم بحسب مدلولاتها العرفية في عصر صدور النص فإن لم يكن عرف حملت على مدلولاتها اللغوية ولا يمكن حملها على ما نشأ بعد من العرف والعادة بعد صدورها ولا عبرة بتبدل مفاهيم الألفاظ في الأعراف الزمنية المتأخرة وإلا لم يستقر للنص التشريعى معنى فمثلًا أوجب الله صرف الزكاة إلى الأصناف الثمانية التي جاءت في سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة: الآية 60] .   (1) تنقيح الفصول، للقرافي بهامش التوشيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح: ص 248 (2) تنقيح الفصول: ص 248، وسلم الوصول لعلم الوصول: ص 245 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2469 فالصنف السابع وهو سبيل الله هم الغزاة المجاهدون الذين لا حق لهم في ديوان الجند لأن السبيل عند الإطلاق هو الغزو لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [سورة الصف: الآية 4] . وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة البقرة: الآية 190] . فيدفع إليهم من مال الزكاة لإنجاز مهمتهم وعودتهم، ولو كانوا عند الجمهور أغنياء لأن في الجهاد مصلحة عامة أما من له شيء مقدر من الديوان فلا يعطي لأن من له رزق راتب يكفيه فهو مستغن به وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يعطي الغازي في سبيل الله إلا إذا كان فقيرًا أو مريدًا للحج، والحج عند الحنفية وبعض الحنابلة من السبيل، فيعطى مريد الحج من الزكاة لما روى أبو داود، عن ابن عباس أن رجلًا جعل ناقة في سبيل الله فأرادت امرأة الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ((اركبيها فإن الحج في سبيل الله)) ، فيأخذ مريد الحج من الزكاة إن كان فقيرًا ما يؤدي به فرض حج أو فرض عمرة لأنه يحتاج إلى إسقاط الفرض وأما التطوع فلا، والصنف الثامن ابن السبيل هو المسافر في طاعة غير معصية، وقد عجز عن بلوغ مقصده إلا بمعونة، وقد اتفق فقهاء المذاهب على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله في الآية كبناء المساجد والجسور والقناطير والساقيات وإصلاح الطرق وتكفين الموتى وقضاء الدين والتوسعة على الأضياف ونحوها من القرابات لكن فسر الكاساني في البدائع سبيل الله بجميع القرب، فيدخل عندئذ كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجًا لأن في سبيل الله عام في الملك فيشمل حينئذٍ عمارة المساجد ونحوها مما ذكر. وفسر بعض الحنفية سبيل الله بطلب العلم ولو كان الطالب غنيًا قال أنس والحسن: ما أعطيت في الجسور والطرق فهي صدقة ماضية لكن قال مالك رحمه الله: سبيل الله كثيرة ولكني لا أعلم خلافًا في أن المراد بسبيل الله ههنا الغزو، فهو حينئذٍ حقيقة شرعية في الجهاد وإذا كان ذلك فلا يصح حمله على كل ما كان من قبيل القرب فحمله على كل قربة يخالف ما جرى عليه العرف عند نزول الآية فلذا لا يشمل كل القرب، وهو ما مال إليه بعض العلماء لأن النص يجب أن يحمل على معناه العرفي الأول الذي قال فيه مالك: لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله غير الغزو، وقد قال القرافي: دلالة العرف مقدمة على دلالة اللغة لأن العرف ناسخ للغة والناسخ مقدم على المنسوخ، فكما أن العقد يحمل الثمن فيه على النقود المعتادة ولا عبرة لما حدث بعد ذلك من العادات في التغيير في النقود، فكذلك نصوص الشريعة لا يؤثر فيها إلا ما قارنها من العادات (1) .   (1) التنقيح، للقرافي: ص 249. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2470 وما ذكرناه هو في العرف القولي أما العرف العملي فيعتبر في كل تصرف العرف الذي كان موجودًا عند التصرف دون الحادث بعده، فلو تغير عرف الناس فيما يعد عيبًا في المبيعات، أو فيما يدخل في البيع تبعًا للمبيع، أو في تقسيط أجرة العقارات المؤجرة أو في كون الخلاص بالشهر الشمسي لا القمري أو في أن المهر في النكاح معجلًا كله أو مؤجلًا بعضه، أو لا يحل باقية إلا بموت أحد الزوجين أو الفراق مثلًا فإن العرف الحادث بعد وقوع هذه العقود لا يسري على التصرفات السابقة ولا يغير شيئًا من أحكامها ولا من التزاماتها، وإنما تخضع تلك التصرفات والعقود جميعها إلى ما قارنها من العادات والتقاليد لا إلى ما حدث بعدها، أما التصرفات الجديدة الواقعة في ظل هذه العادات الجديدة فنها تكون خاضعة لها، حيث كانت مقارنة لها، أو العادات سابقة لها (1) . هذه هي الشروط المعتبرة في العرف وتحكيمه في كل التصرفات والالتزامات بحيث يسقط عن الاعتبار إذا افتقد شرط من هذه الشروط وتنعدم صلوحيته في بناء الأحكام عليه عند علماء الشريعة. أما أهل القانون من المعاصرين فزيادة على الشروط المتقدمة الذكر اشترطوا أن يكون العرف مطابقًا للنظام العام والآداب في المجتمعات، فإذا جرت عادة الناس على ما ينافي الأخلاق والنظام العام فإنه لا يعتد به، مثلًا مسألة الأخذ بالثأر في بعض الأقاليم فإن هذا وإن تتطبع به بعض الجهات فإنه لا ينشأ عنه عرف ملزم قانونًا؛ لأنه يتعارض مع قاعدة أساسية من القواعد التي تقوم عليه المجتمعات من أن الدولة هي التي تتولى القصاص من الأفراد وتقيم الحدود على المعتدين، ولا يجوز بحال لأحد أن يثأر لنفسه ويأخذ حقه بيده؛ لأن الدولة هي التي تقوم على حراسة الناس ومصالحهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وهي التي تنشر الأمن والأمان بين المواطنين، وإن مخالفة ذلك يستوجب العقاب ويعد الآخذ بثأر نفسه من المعتدين ويترتب على ذلك وجوب احترام القانون وأن كل من خالفه عرض نفسه للجزاء لأنه بعدم احترامه للقانون وبمخالفته لما يوجبه اعتبر من المعتدين. وقد جرى العرف بوجوب احترام القانون واستقر ذلك في نفوس الناس وأن القانون فوق الجميع حتى أصبح قاعدة مسلمًا بها مجمعًا عليها. ومن القديم عند شدة القوة الرومانية وعند تفرق الممالك بالاستقلالية، وقد أخذت كل دولة مأخذها بعد جميع شملها واختارت من الأحكام ما وافق عوائدها وأحوالها وجعلتها أساسًا لما وضعته، وهكذا صارت الأحكام الرومانية اصلًا أصيلًا لجميع القوانين الدولية في معظم الممالك الأوروبية ومدار جميعها على العدالة في الحكم والتحلي بالإنصاف ونشر الخصال الشريفة ودفع الأمة عن الرذائل. * * *   (1) المدخل الفقهي العام، للشيخ الزرقاء: 2 /878 –879 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2471 سلطان العرف إن للعرف في نظر الشريعة الإسلامية قيمة كبرى في التشريع حيث يعد مستندًا لكثير من الأحكام العملية بين الناس في مجالات كثيرة في الحياة، كما أن للعرف سلطانًا واسعًا في استنباط الأحكام وتجددها أو تعديلها وتحديها وتقيدها وإطلاقها. ولقد كان للعرف اعتبار قبل الإسلام وكان أساسًا لكل مظهر من مظاهر الحياة وهذه فرنسا مثلًا أحكامها جارية حسب العوائد بحيث كل جهة من جهاتنا تجرى أحكامها على عوائدها، وتلك العوائد في الأصل ليست مكتتبة، ثم وقع كتاب كثيرًا منها وممن كتب بعض تلك العوائد الملك فيليب الرابع المتولي ملك فرنسا سنة 1285 ميلادية، ثم لما كانت الجهة الجنوبية من فرنسا قريبة من إيطاليا تداخلت فيهم الأحكام الرومانية حتى كانت أحكام فرنسا عند نهاية القرن الثامن عشر على قسمين: فالقسم الشمالي أحكامهم منوطة بالعوائد، والقسم الجنوبي أحكامهم مشتركة بين العوائد والأحكام الرومانية، لكن رئيس الطبقة الرابعة من ملوك فرنسا نابليون بونابرت كانت له عناية بضبط الأحكام قبل ولاية الإمبراطورية واختار لذلك خاصة رجال مملكته وترأس عليهم بنفسه في مجلس كتب الأحكام الذي تألف من أربعين شخصًا فضبطوا جميع ما وصلهم علمه من العوائد الجارية بالقسمين مما هو مكتتب أو غير مكتتب، وأخذوا من أحكام الرومان ما ناسب الحال عندهم وما جرى به العمل في جهاتهم وجمعوا من ذلك كله (كودنابليون) ، فأعلنه بفرنسا في مارس سنة 1804م أربعة وثمانمائة وألف عندما كان نابليون هو القنصل الأكبر النافذ الكلمة، وعلى إثر ذلك ولي الإمبراطورية في باريس في 16 مايو ووقعت في قانونه الزيادة مع التعديل سنة عشر ثم تعدل أيضا سنة 1812، ولم يزل العمل به جاريًا في المملكة الفرنسية وكان أمره منوطًا بمجلس الشورى الذي له النظر في معنى فصوله ولمجلس النواب والسناة حق تغيير الأحكام ووضع القوانين على حسب ما يقتضيه الحال وكلما اقتضى الحال تغيير شيء من فصوله غيروه على ترتيبهم ويعرف الآن باسم (كودسفيل) وهو القانون الجاري به العمل وينعتونه بالقانون المدني الفرنسي ومحتواه ألفان ومائتان وإحدى وثمانون مادة ترجع إلى ثلاثة أصول ذكرت في ثلاث مقالات. المقالة الأولى في الكلام على الأشخاص – المقالة الثانية في الأملاك وما يعتريها من أحكام، والمقالة الثالثة في أنواع الطرق التي تفيد الملكية وقد ترجمه إلى العربية رفاعه بك ناظر قلم التحرير وعبد الله بك رئيس القلم وأحمد حلمي وعبد السلام أفندي وطبع في مطبعة بولاق سنة 1982 (1) .   (1) مطلع الدراري بتوجيه النظر الشرعي على القانون العقاري: ص 91- 92، ط. المطبعة الرسمية التونسية سنة 1305 هـ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2472 وكذلك كان العرف أساسًا لكل مظهر من مظاهر العرب في حياتهم من أمانة وأخلاق وتجارة ومعاملات، وقد دخلت بعض هذه العادات في التشريع الإسلامي من أبواب مختلفة كبناء بعض الأحاديث عليها أو سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم عن بعضها كما دخلت كذلك في باب إجماع المجتهدين وفي باب الأدلة الشريعة كالاستحسان والمصالح المرسلة ونحوها، ذلك أن التقاليد التي تعتادها كل أمة وتتخذها منهجا تسير عليه ومسلكًا متبعًا تصبح من ضروريات الحياة التي لا يمكن أن تستغنى عنها وتصبح بمرور الزمن بمثابة الدين حرمة وتقديسًا؛ لأن العمل بكثرة تكراره يصير جزءًا من كيان الإنسان لا يمكن أن ينفصل عنه ويتخلص منه وكما قيل: الإنسان ابن ما تعود ولا شك أن في نزع الناس عن عاداتهم حرجًا عظيما. ولقد راعت الشريعة الإسلامية عوائد الأمم المختلفة وإن كان خلاف الأصل في التشريع الإلزامي والذي يسع ذلك إنما هو الإباحة حتى يتمتع كل فريق من الناس ببقاء عوائدهم، لكن الإباحة لما كان أصلها الدلالة على أن المباح ليس فيه مصلحة لازمة ولا مفسدة معتبرة لزم أن يراعى ذلك في العوائد فمتى اشتملت على مصلحة ضرورية أو حاجية للأمة كلها أو ظهرت فيها مفسدة معتبرة لأهلها لزم أن يصار بتلك العوائد إلى الانزواء تحت قواعد الشريعة العامة من وجوب أو تحريم، ولذا نرى التشريع لم يتعرض لتعيين الأزياء والمساكن والمراكب فلم يندب الناس إلى ركوب الإبل في الأسفار ولم يمنع أهل مصر والعراق من ركوب الحمير ولا أهل الهند والترك من حمل على البقر لذلك لم يحتج المسلمون إلى تطلب دليل على إباحة استعمال الجمل والدراجات والعربات والأرتال والطيارات والبواخر. وكذلك لم يحتاجوا إلى تطلب الدليل على إباحة أصناف الطعام. التي لا تشتمل على أي شيء محرم الأكل بحيث لا يسأل عن ذلك إلا جاهل بالتركيب أو جاهل بكيفية التشريع. إنا نوقن أن عادات قوم ليس يحق لها بما هي عادات أن يحمل عليها قوم آخرون في التشريع ولا أن يحمل عليها أصحابها كذلك، نعم يراعي التشريع حمل أصحابها عليها ما داموا لم يغيروها لأن التزامهم إياها واطرادها فيهم يجعلها منزلة منزلة الشروط بينهم يحملون عليها في معاملاتهم إذا سكتوا عما يضادها وهذا ما تقتضيه الشريعة باعتبار عمومها وشمولها لكل البشر في كل العصور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2473 فمعنى صلاحيتها لكل زمان ومكان أنها قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر، وأما بمعنى أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلًا للتشكيل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر، كما أن مكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك من غير أن يجدوا إحراجًا ولا عسرا في الإقلاع عما نزعوه من قديم عاداتهم الباطلة ومن دون أن يلجأوا إلى الانسلاخ عما اعتادوه وتعارفوه من العوائد المقبولة، وهذا هو معنى صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، أي باعتبار أن أحكامها كليات مشتملة على حكم ومصالح صالحة؛ لأن تتفرع عنها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد. وهذا معنى سماحة الشريعة ونفي الحرج عنها وكونها ليست نكاية للأمة وإنها شريعة عملية تسعى إلى تحصيل مقاصدها في عموم الأمة وفي خويصة الأفراد ولا يتم ذلك إلا بطريق التيسير وعدم التعسير (1) وفي نزع الناس عن عاداتهم حرج وأي حرج، وذلك لما للعادات من التغلغل في النفوس. وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها إذ جاءها عراقي، فقال: أي الكفن خير قالت: ويحك وما يضرك، قال: يا أم المؤمنين أرني مصحفك، قالت: لم قال لَعَلِّي أُؤَلِّفُ القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف، قالت: ما يضرك أيه قرأت قبل. إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا ولو نزل ولا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده قال فأخرجت له المصحف فأمليت عليه آي السورة (2) . يحتمل أن يكون سؤال الرجل من الكفن خبر عن الكم أو الكيف أو النوع وكلمة ويحك للترحم وقولها: وما يضرك أي: أي شيء يضرك بعد موتك وسقوط التكليف عنك في أي كفن كفنت، وقوله: لعلي أؤلف القرآن عليه أي على القراءة التي بعث بها عثمان بعد للعواصم إذ كان القرآن على قراءة ابن مسعود في العراق، وكان تأليف مصحف العراقي مغايرًا لتأليف مصحف عثمان فلذلك جاء لعائشة وسأل الإملاء من مصحفها وقولها: أيه قرأت أي القرآن قرأت قبل قراءة السورة الأخرى من القرآن وقولها: إما نزل أول ما نزل منه من المفصل سمي مفصلًا لكثرة ما يقع فيها من فصول التسمية بين السور، وقد اختلف في أول المفصل: فقيل سورة ق، وقيل سورة محمد، وأول ما نزل إما (المدثر) وإما (اقرأ) ففي كل منهما ذكر الجنة والنار، ففي المدثر قوله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} [سورة المدثر: الآية 26] .   (1) مقاصد الشريعة الإسلامية للعلامة محمد الطاهر بن عاشور: ص 88 – 100 (2) الحديث أخرجه مسلم في التفسير، وفضائل القرآن، عن يوسف بن سعيد بن مسلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2474 وقوله: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ} ، وأما اقرأ فقوله تعالى: {كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ، و {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} ، وقوله: {إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} ، وقولها: حتى إذا ثاب، أي رجع نزل الحلال والحرام أشارت به إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنزيل وأنه أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد والتبشير للمطيعين والإنذار للجاحدين الكافرين فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام ولهذا قالت: ولو نزل أول شيء ولا تشربوا الخمر إلى آخره وذلك لانطباع النفوس بالنفرة عن ترك المألوف وتعلقها بما تعودت به وتشبثها بما استأنست به (1) . وتبدو هذه الظاهرة جلية واضحة لدى المسنين، فهم أكثر الناس تشبثًا بالقديم وتمسكًا بالعوائد والتقليد رافضين لكل جديد ولو بدا القديم غير صالح أو باطلًا. ولا شك أن العرف تولده الحاجات التي تنقلب إلى عادات تكرر وتتجدد حتى تصبح نظامًا معتبرًا تنبني عليه الأحكام وتجري الفتوى على ما تقتضيه مما يعرض للناس في معاشهم ويكشف عن مقصودهم ونياتهم وعما اصطلحوا عليه في كلامهم. ولهذا كان اعتبار العرف والاعتداد به مما يسهل مهمة القاضي في القيام بواجبه وتنكبه الحق والصواب في إصدار أحكامه، وأول ذلك أنه به يفرق بين المدعي والمدعى عليه، كما تقدم بيانه وإذا عرف المدعي من المدعى عليه لا يخطئ في من يطالب بالبينة ومن يطالب باليمين عند عجز المدعى عن إقامة البينة ولذا نجد الفقهاء، وأهل القانون متفقون على أن النصوص وحدها لا تغني عن العرف ذلك أن النصوص لا تستوعب جميع الجزئيات والتفاصيل لذا لم يكتف أهل الأصول بالنصوص بل اعتبروا أدلة أخرى كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والعادات وغيرها من القواعد والأدلة التي اعتمدها الفقهاء، ثم أن المصالح تختلف باختلاف الزمان والمكان والعوائد قد تتغير من بلد إلى بلد حتى استحسن بعضهم تعيين القضاة من أصل البلد لأنهم أعرف بعوائدها وتقاليدها وبذلك يبتعدون عن الوقوع في الخطأ في أحكامهم وقضائهم، وقلما خلا باب من أبواب الفقه من الاعتماد على العرف والعادات حتى في الجرائم والعقوبات جاء في التشريع الجنائي أن التعدي على الإنسان بالشتم والإهانة يعتبر من الكلام ما كان العرف يقضي بأنه شتم وتعد على كرامة الإنسان وتعتبر أن الإنسان مسؤول عن الترك والامتناع فيما يوجب العرف فيه العمل ويعتبر بهذا الترك جانبًا، كذلك تعتبر العادة في التعازير وهي تختلف باختلاف البلدان والعادات فما قد يباح في بلد ما قد يمنع في بلد آخر وما قد يعاقب عليه في جهة لسبب ما قد يعاقب عليه في آخر لوجه آخر، وقد يكون العرف حجة في جريمة من الجرائم، أو عقوبة من العقوبات (2) .   (1) عمدة القاري، شرح صحيح البخاري لبدر الدين محمود بن أحمد العيني: 20 /21-22 (2) التشريع الجنائي الإسلامي في المذاهب الخمسة مقارنًا بالقانون الوضعي للأستاذ عبد القادر عوده: ص 132 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2475 ولو نظرنا إلى العقوبة التعزيرية نرى أن الشرع لم يحدد مقدارها ولا نوعها وإنما فوض الأمر فيها للحكام حسب ما تقتضيه المصلحة في كل زمان وحسب ما يحقق الزجر بالنسبة للجناة وهي تقدر شرعًا بحسب العرف الذي يقتضي الكف عن المخالفة وسد الأقدام عليها في نظر العقلاء وعرفهم بحسب درجات الجرم حتى لا يكون أكثر مما يستدعيه الجرم المرتكب فيكون ظلمًا ولا أقل فيكون تهاونا بالحقوق، والقاعدة أن كل ما رتب عليه الشرع حكمًا ولم يحد فيه حدًا يرجع فيه العرف والتعزير لا يتقدر بقدر ويخير في العقوبات على قدر الجريمة وصاحبها، وهذا موكول لاجتهاد الإمام (1) ولقد نص ابن فرحون في التبصرة نقلًا عن القرافي أن التعزير يختلف باختلاف الأعصار والأمصار فرب تعزير في بلد آخر يكون إكرامًا في بلد كقطع الطيلسان (من لباس العجم) ، ليس تعزيرًا في بلاد الشام بل هو إكرام وككشف الرأس فليس هوانا عند الأندلسيين وهو هوان بمصر والعراق (2) . ولا شك أن المجتهدين تأثروا ببيئاتهم وعاداتهم وتقاليدها وهناك من كان متأثرًا بالحضارة الفارسية وبعضهم الحاضرة الرومانية أو بالحضارة الفرعونية أو البربرية والتي كانت عليها عاداتهم وقوانينهم، وقد كان هذا من أعظم أسباب الاختلاف بين الفقهاء في استنباطهم للأحكام وليس معنى هذا أن العرف والظروف تتحكمان في النصوص الصريحة فيحمل المجتهد على القول بحكم غير الذي تعطيه النصوص وإنما معناه أن النصوص منها ما كان قواعده عامة يمكن تطبيقها حسب الظروف والأحوال ومنها ما هو معلل بمصالح خاصة تدور الأحكام وتتغير حسب هذه المصالح، وهكذا يظهر واضحا اختلاف المذاهب في الأحكام المستنبطة كالخلاف في كثير من الفروع بين المذهب الحنفي الذي نشأ بالعراق وبين المذهب المالكي الذي نشأ بالحجاز وأجلى من ذلك ما كان من الإمام الشافعي الذي أخذ فقهه عن الإمام مالك ثم انتقل إلى العراق وتأثر بالطريقتين، ثم لما قدم مصر واطلع على العادات المخالفة لما عرفه بالحجاز وبالعراق، وكان قد كتب مذهبًا بالعراق فلما قدم مصر واطلع على عاداتهم وتقاليدهم ورأى أحوالا غير أحوالهم دعاه ذلك إلى أن يعدل في كثير من اجتهاداته واستنباطه فكان في كثير من الفروع نرى له قولين قوله القديم وقوله الجديد بعد هجرته إلى مصر. وقد ذكرنا فيما تقدم أن قوة العرف تظهر في تخصيص العام وتقييد المطلق فيحمل العام على ما يقتضيه العرف وبينا أن مالكا رحمه الله خصص قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [الآية 233 من سورة البقرة] فاستثنى الشريفة التي جرى العرف بأن أمثالها لا يرضعن وإن اختلفت المذاهب في تخصيص العام به، فبعضهم يعتبر ذلك في عرف القولي دون الفعلي وبعضهم لا يعتبر في تخصيص العام إلا العرف الفعلي وبعضهم لا يعتبر العرف من المخصصات أصلًا قولًا أو فعلًا كالمذهب الجعفري، وإنما يعتمدون على العرف في تقسيم الدليل الشرعي اللازم حمله على المعنى العرفي.   (1) أحكام الأحكام، شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد: 4 /137. (2) التبصرة، لابن فرحون: 2 /202 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2476 وكان المجتهدون تعرض لهم العادات المختلفات باختلاف الجهات فيطبقون عليها القواعد العامة ومنها (العادة محكمة) كاستئجار الكاتب في كون الحبر والأقلام عليه واستئجار الخياط في كون الخيط والإبرة عليه أو على المستأجر فالحكم تابع لعرف ذلك البلد وعلف الحيوان المستأجر، هل على ربه أو على المستأجر، وكاستئجار الظئر بطعامها وكسوتها، فإنه جائز للعرف وإن كان مجهولًا. فكان لزامًا على المجتهدين أن يراعوا عادات الناس وما جرى عليه عرفهم في مختلف الأقطار وأن يطبقوا القواعد العامة في ذلك وأن يقروا الأحكام على حسب العادات الصالحة ويبطلوا منها ما كان مناقضًا لأسس الشريعة ومقاصدها، فقد أخذ عمر رضي الله عنه بتدوين الدواوين وهي عادة فارسية. وكم من فرع وارد في باب البيوعات والإجارات أخذوا به واعتمدوه في أحكامهم لما فيه من مصلحة واضحة، وحتى ما كان فيه نوع من العوج هذبوه وأقروه كوضع الخراج على الأرض، فإن ذلك كان معروفًا عند الفرس وقد قبله عمر رضي الله عنه ومعه الصحابة بعد أن عدل نظامه. وقد علق المهدي الوزاني بعد أن نقل قول مالك فيمن دفع إلى شهود كتابًا مطويًّا، وقال: اشهدوا عليَّ بما فيه، أو كتب الحاكم كتابًا إلى حاكم وختمه وأشهد الشهود به ولم يقرأه عليهم، فقال: الشهادة جائزة نقله عن الباجي، ثم نقل كلام الرهوني على قول المختصر، وأفاد أن أشهدهما أن ما فيه حكمه أو خطه كالإقرار، قال الرهوني: وكذلك شهادتهما به، وإن لم يشهدهما عند ابن القاسم وابن الماجشون، قال الشيخ المهدي: فإن هذا أمر قد تمالأت عليه العدول والقضاة وجرت به عادتهم في أزمان طويلة ودهور متوالية، وقد نص الأئمة على أن العادة تقوم مقام الإفصاح باللسان وتغني عما أغفل رسمه بالبنان كما في المعيار عن المعقاني، بل قدم ابن رشد ما شهدت به العادة بشرطيه على شهادة الشهود بكتبه على الطوع في كثير من الأحكام (1) . وقد نبهنا إلى أنه إذا تعارض الأصل والعرف قدم العرف على الأصل لأنه أقوى بحيث لو شهد لأحد المتخاصمين الأصل وشهد للآخر العرف كان المدعى عليه من شهد له العرف، لأن العرف أقوى من الأصل، وقد نقلنا عن الشيخ الوالد رحمه الله أنه لدقة تحقيق المناط وتطبيق القواعد على جزئياتها صعب أمر القضاء، وكان علم القضاء أخص من فقه القضاء (2) .   (1) حاشية المهدي الوزاني على تحفة الحكام: 1 /199 (2) الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية: ص 44. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2477 ولقد استند القضاء في كثير من الأحكام والفتيا وفي كثير من المسائل طبقا لما يقتضيه العرف كالتقادير في الصغر والكبر والكثرة والقلة في الأقوال والأفعال في الصلاة وفي ثمن المثل في البيع ومهر المثل والكفء في النكاح، كما أسند على العرف في تعيين العروض في المؤونة والكسوة والمسكن في النفقات، واستند إليه في مقادير الحيض والطهر في الصلاة والعدد وأقصى أمد الحمل في النسبة واستند إليه في فهم الألفاظ في الأيمان وفي الوقف وفي الوصية وفي الطلاق (1) ، والرهن والإجارة والقراض والمساقاة وغيرها (2) . وقد أورد ابن فرحون أمثلة عديدة روعي فيها العرف والعادة (3) من ذلك اختلاف الزوجين في متاع البيت، وهما في العصمة أو بعد طلاق أو وفاة وكان التداعي بين الورثة أو مات أحدهما وكان التداعي بينه وبين ورثة الآخر، وأن الحكم في ذلك يقضي للمرأة بما يعرف للنساء، وللرجال بما يعرف للرجال طبقًا للعرف المتبع، وكذلك إذا اختلف المتبايعان في قبض السلعة أو الثمن، فالأصل بقاء الثمن بيد المبتاع وبقاء المبيع بيد البائع ولا ينتقل ذلك إلا ببينة أو عرف كالسلع التي جرت العادة أن المشتري يدفع ثمنها قبل أن يبين بها كاللحم والخضر والغلال ونحوها فيحكم ذلك بالعرف والعادة. ومن ذلك الحكم بمقتضيات الألفاظ، يقول البائع: بعتك هذه الأرض بكذا ولم يزد على هذا، فإن هذا اللفظ يتناول ما هو متصل بالأرض كالبناء والشجر، وهذا بحكم العرف ولفظ الشجر والدار يشمل الثوابت والرفوف والسلم المستمر والأشجار التي في الدار لأن العرف قاضي بهذا (4) ومن الفروع التي كان حكمها مبنيًّا على شهادة العرف تمزيق رسم الدين أو قطع طرفه أو سطر بسملته، فإنه يدل عادة على براءة من الدين فلا يقيد المستظهر به شيئًا، ومن الفروع التي استند القضاء فيها للعادة أحداث الساقية التي تمر فيها الفضلات التي تصل إلى الخندق، فمن امتنع من الموافقة على إحداثها ممن تمر عليه أجبر عليه لأن العادات قضت بذلك، ومن الفروع المبنية على العادة القضاء بشهادة الحيازة على الملك وهذا كله يشهد بأن العرف دعامة من الدعائم التي ارتكزت عليها أحكام القضاة وفتاوى الفقهاء (5)   (1) الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية: ص 52 (2) شرح لامية الزقاق، لعمر الفاسي: ص: 300 (3) التبصرة، لابن فرحون: 2 /67 (4) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، للقاضي ابن فرحون: 2 /60. (5) الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية: ص 46 – 52. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2478 ولقد سُئِل مالك عن النكاح يلزمه أهل المرأة هدية العرس وجل الناس تعمل به حتى إنه لتكون الخصومة، أترى أن يقضى به؟ قال: إذا كان ذلك قد عرف من شأنهم وهو عملهم لم أرَ أن يطرح ذلك عنهم إلا أن يتقدم فيه السلطان لأني أراه أمرًا قد جروا عليه (1) وقد ذكر القرافي أن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت وتبطل معها إذا بطلت كالنقود في المعاملات والعيوب والأعراض والمبيعات ونحو ذلك، ولو تغيرت العادة في النقدين والسكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن في البيع عند الإطلاق على السكة التي تجددت العادة بها دون ما قبلها وكذلك إذا كان الشيء عيبا في الثياب في العادة رددنا به المبيع، فإذا تغيرت تلك العادة وصار ذلك المكروه محبوبا لزيادة الثمن لم يرد به. وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المترتبة على العوائد وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا اختلاف فيه، بل قد يقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا (2) ، وكذلك نقل الونشريسي الإجماع على أن الفتاوي تختلف باختلاف العوائد (3) . قال القرافي وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تحدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجره عليه، وافته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين (4) . وفي جواب لابن منظور ورد فيه أن أحكام الأقضية والفتاوى تتبع عوائد الأزمان وعرف أهلها جاء ذلك في تحفة أكياس الناس في شرح عمل فاس (5) ، ولقد نظم ذلك صاحب العمل الفاسي، فقال: واعتبر الأعراف في الفتوى وفي الحكم لكن بانتفائها نفي. وقد نقل السجلسماسي في شرحه أن العقباني أثبت كثيرًا من مسائل الفقه أن الحكم فيها جرى على مقصود أهل العرف ولو كانت الألفاظ على خلافها (6) .   (1) التبصرة: 2 /62. (2) الفروق للقرافي، الفرق الثامن والعشرين: 1 /223 ط بولاق (3) المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى إفريقية والإندلس والمغرب، لابن العباس أحمد الونشريسي: 8 /290 (4) الفروق للقرافي: 1 /224. (5) تحفة أكياس الناس في شرح عمل فاس ط حجرية: 1 /48 (6) شرح العمل الفاسي لأبي عبد الله السجلسماسي ط حجرية: 1 /62 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2479 ذلك أن كلام الناس ينصرف إلى ما تعارفوه ولو خالف المعاني الحقيقية التي وضع لها اللفظ في أصل اللغة حيث إن العرف قد نقل هذه الألفاظ من أصل معانيها اللغوية إلى هذه المعاني العرفية بحيث لا يخطر ببال المتكلم المعنى الحقيقي اللغوي لغلبة اللفظ في الاستعمال إلى الحقيقة العرفية بحيث لو صرف كلام المتكلم إلى حقيقته اللغوية دون العرفية لأدى إلى إلزام المتكلم في عقوده وإقراراته وأيمانه وطلاقه وسائر تصرفاته القولية إلى ما لم يعنه ولم يخطر بباله وإلى ما لا يفهمه الناس من كلامه ولهذا المعنى قرر الفقهاء قاعدة، فقالوا: الحقيقة تترك بدلالة العادة، وقالوا أيضًا يحمل كلام الحالف والناذر والموصي والواقف وكل عاقد على لغته وعرفه وإن خالف لغة العرب والشارع، وقد نقل ابن عابدين عن القنية قال: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف (1) ، وجامع الفصولين مطلق الكلام فيما بين الناس ينصرف إلى المتعارف وفي فتاوي العلامة قاسم التحقيق أن لفظ الواقف والموصي والحالف والناذر وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها وافقت لغة العرب ولغة التاريخ (2) ، ولقد طبق الفقهاء أحكامًا كثيرة منها مثلًا لو حلف المرء لا يجلس على بساط فجلس على الأرض، أو حلف لا يجلس تحت سقف فجلس تحت السماء، أو لا يستضيء بسراج فاستضاء بالشمس، أو لا يأكل لحمًا فأكل سمكًا لم يحنث في كل ذلك. وإن سمى القرآن الأرض بساطًا إذ قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} (3) ، وقال: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} (4) وقال: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} (5) . فهذه الأسماء التي وردت في الكتاب وإن كانت هي الحقائق اللغوية، لكن غلب استعمالها في المحرف على المعاني المقصودة للمتكلم التي لا يخطر بباله حين أقسم لا يبيت تحت سقف أن السماء سقف أو أن الشمس سراج ولا الحيتان لحم، ولذا لم يلزم الناس الحنث بها وإن كانت ما أقسم يصدق عليها لغة، كذلك لو حلف الإنسان أن لا يضع قدمه في منزل فلان انصرفت يمينه إلى معنى مطلق الدخول الدار إذ هو المعنى العرفي الذي ينصرف إليه الذهن ويفهمه السامع فيحنث بدخوله ولو راكبًا ولو أدخل رجله من غير أن يدخل بدنه لا يحنث ومن هذا القبيل كذلك إطلاق الولد على الذكر دون الأنثى وإطلاق الناس اللحم على غير لحم السمك فلو أقسم لا يأكل لحمًا فأكل سمكًا لم يحنث للعرف كذلك لو أقسم لا يركب دابة وكان عرفهم أنها لا تطلق إلا على الحمار خاصة كمصر فركب فرسًا لا يحنث، وهكذا يتعين حمل اللفظ تنزيل الكلام على ما جرى بين الناس وتحديد ما يترتب على تصرفاتهم القولية من حقوق وواجبات حسب المعاني العرفية، وإن لغة العامة في كل مكان هي من هذا القبيل فيتعين حمل كلامهم على ما تعارف بينهم وكذلك العرف العملي أو الفعلي، فإن الفعال العادية والمعاملات المدنية لها السلطان المطلق في فرض الإحكام وتقييد آثار العقود والالتزامات على ما جرى بينهم وتعارفه خاصتهم وعامتهم في كل ما لا يخالف نصا من نصوص الشريعة (6) بل هذا العرف العملي هو نفسه يعتبر دليلًا شرعيًّا – حيث لا دليل سواه – ومرجعًا للأحكام.   (1) رسالة نشر العرف مجموعة رسائل ابن عابدين 2 /115 (2) رسالة نشر العرف مجموعة رسائل ابن عابدين: 5 /133 (3) سورة نوح: الآية 19. (4) سورة نوح: الآية 16. (5) سورة النحل: الآية 14 (6) المدخل للفقه العام: 2/ 837. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2480 والعرف العملي منه ما هو أفعال عادية شخصية ومنه ما كان معاملات مدنية وهو يثبت على أهله عاما كان أو خاصًا، فإن من ألف شيئًا وجرى عليه في حياته أصبح لما تعود عليه سلطان وتأثير في توجيه الأحكام التي تتصل بتلك الأفعال فمثلًا من وكل أحدا بشراء ثوب أو طعام فاشترى له ثوبًا مما لم يعتد لباسه كأن يكون لا يلبس إلا اللباس التقليدي فاشترى له فستانًا أو اشترى له لحم خنزير أو جمل وهو لم يعتد في حياته إلا أن يأكل لحم الضأن مثلًا، فإن هذا الشراء لا يسري على الموكل ولا يلزمه، بل يلتزمه الوكيل بخلاف ما إذا اشترى له ما كان معتاد لباسه ومعتاد طعامه فإنه يلزمه – ومن هذا القبيل نفقة الزوجة وهي تجب على زوجها وذلك بالقدر المتعارف المعتاد بين أمثالها وحسب حالهما. ولا بد من مراعاة حال الغني والفقير والشرف والضعة، وليست حالة الوسط الذي يعيش فيه الأغنياء كحالة الوسط الذي يعيش فيه الفقراء، ولا عيشة الأشراف والأمراء كعيشة السوقة والضعفاء، ولهذا قال ابن العربي: إن المرأة الشريفة إذا امتنعت عن إرضاع ولدها فلا يلزمها ذلك نظرًا للعرف، قال ابن العربي (1) : وهو أمر كان في الجاهية في ذوي الحسب وجاء الإسلام عليه فلم يغيره وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفع الرضعاء إلى المراضع إلى زمانه، فقال به: وإلى زماننا فحققناه شرعًا وفي المنتقى لو استأجر دابة ليحمل عليها إلى مكان يتعدى مكان الكراء وتجاوز مسافة الكراء، كأن يكتري دابة للركوب من مصر إلى برقة فيركبها إلى إفريقية، فهذا حكمه فيطول الإمساك وقربه مثل الزيادة على زمن الكراء إن ردها سالمة، فقد روى ابن حبيب عن مالك: أنه إذا لم يجاوز المد إلا باليسير الذي لا خيار لصاحبها فيه إذا سلمت فليس لصاحبها الإكراء ما زاد وإن زاد كثيرا فيه الأيام التي تتغير ومثلها سوقها من ربها إن ردها المعتدي سالمة على ما تقدم وإن عطبت في القليل أو الكثير فهو ضامن لها – إلى أن يقول، وأما التعدي في الحمل فعلى وجهين، أحدهما: الزيادة فيه من جنسه.   (1) أحكام القرآن، لابن العربي: 1 / 87 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2481 والثاني: حمل غير ذلك الجنس، فما الزيادة فيه من جنسه ففي المدونة فيمن اكترى بعيرًا ليحمل عليه عشرة أقفزة، فحمل عليه أحد عشر قفيزًا فلا ضمان عليه في عطب البعير إذا كان الفقير يسيرا لا تعطب منه الدابة، فإن كانت الزيادة يعطب من مثلها فلصاحب الدابة الكراء وكراء الزيادة أو قيمة الدابة يوم التعدي دون الكراء فهو مخير في ذلك وإن كان لا يعطب من مثله تلك الزيادة فليس له إلا الكراء الأول وكراء ما تعدى فيه، وقال سحنون: إن زاد في الحل ولو رطلًا واحدًا ضمن. قال عبد الملك: والفرق بين هذا وبين الزيادة في المسافة أن مجاوزة المسافة تعد كله فلذلك ضمنها في قليله وكثيرة وزيادة الحمل إذا اجتمع فيه تعد وإذن، فإن كانت الزيادة يعطب من مثلها ضمن وإلا لم يضمن وأما إن حمل غير الجنس الذي اتفق معه فلا يخلو أن تكون مضرته كمضرة ما تكارى عليه أو أشد، فإن كانت مثل مضرته فلا ضمان عليه وأصل ذلك أن الحمل لا يتعين عند مالك إلا بجنس المضرة ولو اكترى رجل من حمال على حمل بعينه كان له أن يبدله بمثله مما مضرته مثل مضرته وليس له بدله بما هو أعظم مضرة منه، فالمراعى في ذلك ما يضغط بثقله جانبي الدابة ويضر بها، فإذا حمل ما هو أضر بها فعطبت الدابة فهو ضامن، وهذا في الأحمال، أما الراكب فقد يختلف حاله باختلاف أخلاق الناس مع تساوي أجسادهم فمنهم من فيه رفق وفيهم من فيه عنف، وقد قال مالك: لا يعجبني أن يكري الرجل دابة فيحمل عليها غيره، قال ابن القاسم: فإن حمل عليها من هو مثله في الثقل والحال والركوب لم يضمن وإن حمل عليها من هو أثقل منه أو غير مأمون فهو ضامن، قال ابن حبيب: ومعنى ذلك في الدابة معها صاحبها يتولى سوقها والحمل عليها والحط عنها فأما أن يسلمها إلى المكتري فله منعه من الكراء من غيره لاختلاف سوق الناس ورفقهم وحياطتهم وتضييعهم لها (1) . ونستخلص من هذه الفروع الفقهية أنه ليس لحد الحق في أن يتجاوز حد المنفعة المتفق عليها الذي إن تجاوز اعتبر صرفا مضرا بغيره، ولذا إذا حصل منه ذلك كان عليه الضمان والمدارك في كل هذا مرجعه العرف والعادة وبما ذكرنا ندرك مدى تأثير العرف في الأمور العادية من أكل وشرب ولباس وركوب وانتفاع. وكيف أن العرف هو الذي يقيدها ويحدد التزاماتها وتخضع للعادة والعرف تصرفاتها وتجري الأحكام عند التنازع على وفق ما يقتضيه عرف كل بلد وعاداته.   (1) المنتقى، لأبي الوليد الباجي: 5 /264 – 267. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2482 أما عرف الناس في معاملاتهم المدنية، فلقد جاء في صحيح البخاري باب من إجراء الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة، قال العيني: فيعتبر في عادة أهل كل بلد على ما بينهم من العرف، فإنه في البلاد المصرية الأرز يكال وفي البلاد الشامية يوزن لأن الرجوع إلى العرف جملة من القواعد الفقهية قال: وقوله: وسننهم عطف على ما يتعارفون بينهم أي على طريقتهم الثابتة على حسب مقاصدهم وعاداتهم المشهورة، قال: وحاصل كلام البخاري قصد بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف والعادة، قال البخاري وقال شريح يعنى أبن الحارث الكندي القاضي في عهد الخليفة عمر بن الخطاب للغزالين سنتكم بينكم ربحًا يعني عاداتكم وطريقتكم بينكم معتبرة (1) . وقد حمل الإمام السهيلي شرب النبي صلى الله عليه وسلم من إناء قوم دون استئذان في حديث الإسراء على العرف والعادة (2) ، حيث أن العرب في الجاهلية كان من عاداتهم والمعروف عندهم المطرد بينهم إباحة الرسل (اللبن) لابن السبيل فضلا عن شرب الماء حتى لو كسر أحد الزبناء إناء الشراب وأتلفه فلا يلزمه ضمان ما أتلف اعتمادا على العرف الجاري بين الناس حيث لم يتعمد تكسيره مع أن القاعدة من أتلف شيئًا ضمنه، ولقد جوز جماعة من الفقهاء أن يأكل الإنسان من ثمر البساتين المتروكة تحت الشجر بلا إذن صاحبها إذا كانت الثمرة مما يسرع إليها الفساد بناء على أن العرف قد جرى بذلك، ولقد قال أبو حنيفة ومحمد: لا قطع فيها يسرع إليه الفساد إذ بلغ الحد الذي يقطع في مثله كالتين والسفرجل والرطب ونحوها من الأطعمة الرطبة، وقالا: سواء أخذت من حرم أم لا لعدم قابلية الادخار لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا قطع في ثمر ولا كثر)) ، أخرجه مالك في الموطأ، قال الباجي: ولا قطع في الثمر المعلق، رواه القاضي أبو محمد وروى ابن المواز ذلك ما كان في الحوائط والبساتين فأما من سرق من ثمرة نخلة في دار رجل ومنزله فهذا يقطع إاذا بلغت قيمتها على الرجاء والخوف ربع دينار، فجعل للدار تأثيرًا في حرز مثل هذا ويكون صاحب الدار ساكنًا معها (3)   (1) عمدة القاري شرح صحيح البخاري: 18 /16 ط المنيرية. (2) الروض الأنف، لأبي القاسم عبد الرحمن الخثعمي السهيلي ط الجمالية بمصر: 1 /246. (3) المنتقى لأبي الوليد الباجي: 7 / 182 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2483 وذلك لأن هذه الأشياء لا تعد مالا عادة إذا لم تكن في حرز وخطرها على الناس قليل وهي في ذاتها تفاهة ولأنها معرضة للهلاك أيضا، أما ما كان في حرز أو كان مما يبقى من سنة إلى سنة فيدخر كالجوز واللوز والتمر اليابس ونحوها، فإذا بلغ قيمته الحد الذي يقطع فيه يقع القطع (1) وعند أبي يوسف يجب القطع فيما لا يحتمل الادخار لأنه منتفع بها حقيقة والانتفاع بها مباح شرعًا، فكانت مالًا فيقطع فيها كسائر الأموال (2) وما ذهب إليه أبو يوسف هو ما جرى به العرف اليوم لأن هذه الفواكه أصبحت من الأموال المهمة وليست من التفاهة في شيء كما كان عليه عرف الناس في الماضي. وقد ذكرنا أن العوائد كثيرا ما تتغير بتغير الزمان والمكان على أن المذاهب الثلاث المالكية والشافعية والحنابلة ترى القطع في كل متمول يجوز بيعه وأخذ العوض عنه لا فرق بين الطعام والثياب والحيوان والأحجار وغيرها لعموم قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [سورة المائدة: الآية 38] . نعم ذلك إذا اجتمعت فيه شروط السرقة كأن يكون في حرز مثله (3) . وهذا لا يمنع اتفاق العملاء على عدم القطع في الأكل من الثمرة المعلقة على الشجر أو الحنطة في سنبلها إذا لم يكن في رجز مما جرى به عرف الناس لأن الشرع دل على اعتبار الحرز وليس له حد معلوم مقرر في الشرع، وإنما مرجعه إلى عرف الناس، وقد ذكر الشافعي أن حديث رافع (لا قطع في ثمر) خرج على ما كان عليه عادة أهل المدينة من عدم إحراز حوائطها، فإذا أحرزت بالجدران أو الأسلاك الشائكة ونحوها كانت كغيرها، أن العرف والعادة ركن من أركان الشريعة عند مالك وأصحابه وبنوا على ذلك النيابة العرفية يلزم النائب والمنوب عنه في شراء شيء أو أداء خدمة وما إلى ذلك، وقد سئل أبو عبد الله النالي الغماري عن قوم عادتهم إذا نزل بهم ضيف استضافوه وقام اثنان أو ثلاثة من أهل القرية فاشتروا بهيمة وذبحوها وقدموا له الطعام تكريمًا له، فأجاب بأن الثمن يكون على جميع أهل القرية الحاضر والغائب، القوي والضعيف اعتبارًا لعرفهم وعادتهم. ومن هذا القبيل ما في الأرياف عند جز الضأن أن يجتمع أهل الحي لجزها بغير مقابل ويذبح لهم صاحب الماشية ويطعمهم، فهل يستحق أحدهم أجر؟ أفتى بعض مشائخنا بأنه لا يستحق مقابلًا لعمله ويعتبر منه ذلك تطوعًا عملًا بالعرف والعادة.   (1) المبسوط للسرخسي 9 /153 (2) البدائع: 7 /69 (3) بداية المجتهد للحفيد ابن رشد: 2 /441، المذهب: 2 /277 المغني، لابن قدامة: 8 /260 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2484 وقد نقل المهدي الوزاني عن الفقيه ابن عرضون أن ابن أبي زيد القيرواني سئل عن رجل من قبيلة، اشترى فرسًا من ابن عمه هدية إلى رئيس القبيلة لينصرهم على من بغى عليهم وطلب البائع الثمن فأجابه المشتري بأنك تعلم أني ما اشتريته إلا على الجماعة، فقال البائع: ما بعته إلا منك وكان العرف عندهم أن ذلك يكون على جميع القبيلة فأجاب ابن أبي زيد إن كان العرف عندهم أن شراء مثل هذا على الجماعة وأن المتولي للشراء هو وكيل عرفًا فلا يلزمه غلا ما يلزمهم وإن لم يكن كذلك فالثمن على المتولي الشراء وكما أن الوكيل صراحة له الرجوع عليهم فكذلك الوكيل عرفا له الرجوع عليهم. ومن هذا القبيل إذا أجر كبير القرية غماما للصلاة والعادة أنه يعتبر وكيلا عن جميع أهل القرية فهو حين يتكلم يتكلم بلسان جميعهم إذ هو وكيلهم، فإنهم يطالبون بأداء حصتهم من أجرة الإمام أو المؤدب أو المعلم، فإن لم يكن لهم عادة بذلك فالأجرة على عاقدها. ولهذا نجد من المفتين من أفتى بعدم لزوم الإجارة لغير من عقدها وأفتى بعضهم بلزومها. والحق أن لا خلاف وإنما الخلاف في حال حيث إن المسألة تابعة للعرف والعادة فمن كانت عادتهم كذلك، لزمتهم الأجرة ووزعت عليهم، ومن لم تكن عادتهم كذلك لزمت الأجرة العاقد دون سواه. وفي حاشية المهدي الوزاني على شرح التاودي على لامية الزقاق: تنبيه من الوكالة العرفية تصرف الزوج في مال زوجته حتى يثبت التعدي وتصرف الأخ في الريع المشترك بينه وبين إخواته وقبض خراجه وتصيير ملازم سبيله وعلاجه فيصدق في دفعه لزوجته وأخته ما تصرف لهما فيه كتصديق الوكيل، لكن قال ابن عبد السلام: بناني هنا لا يحمل بيع الزوج أوصل زوجته على الوكالة العرفية إلا بعد ثبوت جريان عرف بلدهم، بذلك باعتبار عرف الأقدمين وليس العرف يقاس في هذا الزمان على اعتبار الوكالة العرفية فلا يعمل بها ولا يحكم بمقتضاها (1) . وفي المذهب الحنفي تثبت الولاية على المال بالنسبة للصغير القاصر للأب ثم لوصية، ثم للجد، ثم وصي الجد، ثم القاضي، ثم وصي القاضي الذي عينه وهي في المذهب المالكي والحنبلي تكون أولا للأب ثم لوصي الأب، ثم للحكام ثم لمن يقيمه وليا عنه ولا ولاية للجد وغيره من القرابة (2) ، ومع هذا فقد سئل أبو إسحاق إبراهيم بن هلال السجلسماسي عن الجد، فقال: إن الجد، فقال: إن الجد وصية بالعادة في البلاد السوسية والولاية عند الشافعية هي للأب أولا، ثم للجد أبي الأب ثم لوصييهما، ثم القاضي (3) ومن مفعول العادة عقود التعاطي التي أقرها فيها الفقهاء في انعقاد المعاوضات المالية بالقبض والدفع دون أيجاب وقبول باللفظ، وقامت المعاطاة مقام الصيغة اللفظية بالعرف ويظهر ذلك في المغازات الكبيرة اليوم أين نجد أسعار البضائع مرسومة فوقها، فهي معروفة القيمة محددة الثمن فيدفع الزبائن الثمن وتأخذ البضاعة المشتراة بلا إيجاب ولا قبول.   (1) حاشية المهدي الوزاني على شرح التاودي على لامية الزقاق: ص 178 (2) الشرح الكبير للدردير: 3 /292 وغاية المنتهى: 2 /140 (3) نهاية المحتاج 3 /356. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2485 ومن هذا القبيل أيضًا شراء الجرائد والمجلات الموجودة في دكاكين أصحابها، فإننا ندفع الثمن ونأخذ الجريدة من غير الكلام مع بائعها أكانت داخل الدكاكين أو خارجها، وكل ذلك مرجعه إلى العادات وما تعارفه الناس وجرى في حياتهم اليومية أن العهدة في كل ذلك مرجعها إلى العرف العام الذي يعتبر القبض بعد معرفة الثمن في قوة التعبير عن الإرادة بالإيجاب والقبول في عادة الناس ومنها أجرة السمسار وكتابة العقود ودفع معاليم النقل إذا سكت المتعاقدان فيه عن بيان ما يلتزم به كل منهما، فقد اعتبر الفقهاء في ذلك العرف ويلزمهما بما تعورف عليه، وهو في هذه الأمور جري العرف أن هذه المصاريف على المشتري ومن هذا القبيل ما جرى به العرف من أن حبل الدابة داخل ويستحقه المشتري بلا مقابل، وكذلك السلم المثبت في الدار ومفتاحها، وكذلك من اشتري سيارة فيدخل ما هو من مستتبعاتها كالرافع للعجلات والأدوات الضرورية التابعة لها، وكل هذا ونحوه بحكم العرف فيه، ومن هذا القبيل مسألة من أعطى ولده لصانع قصد تعليمه صنعة دون أن يشترط أحدهما أجرة على الآخر وبعد تعلم الصبي، أو طالب أحدهما الأجر من الآخر فإنه يرجع إلى ما جرى به العرف والعادة فإن شهد العرف للصانع حكم له بأجرة المثل لذلك التعليم وإن كانت الأجرة عادة للصبي لزم الصانع دفعها له، فإن جرى العرف أن لا أجرة لأحدهما على الآخر حتى ساعة تحصيل الصنعة وقص الشعر وإصلاحه فلا شيء لأحدهما على الآخر كما هو العمل في تونس. ومما كان مرجعه إلى العرف تشوير الأب الغني ابنته بمثل نقد ابنته ذكر ابن غازي في شفاء الغليل عن فتوى الشيخ أبي محمد عبد الله العبدوسي أن الذي جرى به العمل في أغنياء الحاضرة إجبار الأب أن يجهز ابنته بمثل نقدها، فإذا نقدها الزوج عشرين جهزها الأب بأربعين؛ عشرين من نقدها وعشرين زيادة من عنده، وهذا إنما هو إذا فاتت بالدخول أما أن طلب الزوج هذا قبل الابتناء، فلا يجبر أب ويقال للزوج إما ترضى بأن يجهزها لك بنقدها خاصة وإلا فطلق ولا شيء عليك وبهذا القضاء وبه العمل (1) قال في العمليات العامة: وعند فاس ذو الغنى يشور بمثل نقد بنته ويجبر أن وقع الدخول أما أن طلب الزوج ذا قبل فلا يجبر الأب وقيل للزوج تجهز إليك بالنقد أو طلق ولا شيء عليك   (1) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد ص 32 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2486 ومما انبنى على العرف وجرى به العمل وجوزه الفقهاء لذلك خلو الحوانيت وأجرة الدلال والحمال ونحوهما من غير تسمية الأجرة بناء على أن الأجير يستحق من الأجرة ما جرت به العادة ومثلها أيضا تقسيم الأشياء ومعرفة المكيلات والموزونات والمزروعات، فهي تتوقف على العرف والعادة وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة فإذا بيعت سلعة على أساس وزنها بالأرطال انصرف ذلك الرطل إلى المتعارف في محل التعاقد أو التسليم وفاقًا لنية المتعاقدين، وقد يختلف الرطل من مكان إلى مكان. ومن مثل ما اتضح فيه العرف ما في المدونة أن ما يباع في الأسواق كاللحم والفواكه والخضر أو على النقد كالصرف، وقد انقلب به المبتاع فادعى البائع عدم دفع الثمن فالقول قول المشتري أنه قد دفعه مع يمينه لشهادة العادة له بصدقة، ومن شهد له أصل أو عرف، فهو مدعى عليه. قال الإمام المازري: وهذا لم يختلف فيه لاتضاح العادة الدالة عليه وذكر ابن رشد أنه لاختلاف وأن القول هنا قول المبتاع (1) قال أبو إسحاق التونسي: ما كان من الأشياء عادتها أن تقبض قبل دفع السلعة أو معها معًا، فإذا قبض المشتري السلعة كان القول قوله مع يمينه أنه دفع الثمن لدعواه العادة، وقال ابن محرز: إن لم ينقلب به وكان قائما مع بائعه، فقد اختلف في ذلك، فروى أشهب عن مالك إن القول قول رب الطعام مع يمينه، وقال ابن القاسم: القول قول المبتاع، قال ابن القاسم: وذلك إذا كانت عادة الناس في ذلك الشيء أخذ ثمنه قبل قبضه أو معه قال ابن محرز فقد نبه ابن القاسم على المعنى الذي ينبغي أن يعتمد عليه في هذا الأصل وهو العادة، فمن ادعى المعتاد كان القول قوله مع يمينه في جميع الأشياء المشتراة على اختلافها من دور وبناء وطعام وغير ذلك (2) . وفي العمليات العامة: وفي اختلاف بائع ومشتر في الدفع، فالثانى بتعجيل جرى. قال ابن عبد السلام: يؤخذ أخذا ظاهرًا يقرب من النص أن المشتري هو المبتدئ بدفع الثمن من قول المدونة في كتاب العيوب من اشترى عبدا فللبائع منعه من قبضه حتى يدفع إليه الثمن وعلى القول المعمول به جرى صاحب المختصر، بل نقل الأجهوري عن ابن رشد أن هذا الحكم متفق عليه في المذهب ولفظه قال ابن رشد: من حق البائع أن لا يدفع ما باع حتى يقبض ثمنه لأن ذلك في يده كالرهن بالثمن، فمن حقه أن لا يدفع إليه ما باع منه ولا يزنه له، ولا يكيله له إن كان مكيلا أو موزونًا حتى يقبض ثمنه، وهذا أمر متفق عليه في المذهب مختلف فيه في غيره (3) .   (1) انظر تاريخ قضاة الأندلس للنبهاني: ص 150 (2) انظر تاريخ قضاة الأندلس للنبهاني: ص 150. (3) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد، لعبد الجليل السجلسماسي: ص 153 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2487 ومن باع سلعة وادعى بعد طول أنه لم يقبض ثمنها وأنكر ذلك المبتاع، فالقول قوله بيمينه، وقد اختلف في حد الطول، قال الإمام المازري: الطول غير محدد ولا مقدر إلا بحسب ما تجري به العوائد في سائر الجهات. ومن هذا أيضا اختلاف الكاري والمكتري في دفع الكراء، فالقول للمكتري: إذا أطال الأمد بعد انقضاء أمد الكراء حتى جاوز الحد الذي جرى العرف بتأخير الكراء إليه. ومنه أيضا دعوى الزوج دفع الصداق إلى الزوجة فقد قال مالك وابن القاسم أن الزوج يصدق في دفع الصداق إذا اختلفا في ذلك بعد البناء ويحلف وبه الحكم. قال ابن الماجشون: إن كان قريبا وجاءت بلطخ حلف فإن طال فلا يمين عليه، وقال ابن وهب: عند قول ابن المواز إن قامت بحدثان الدخول فالقول قولها وإن طال الأمر فقوله وما ذكر من كون القول قول الزوج بعد البناء مقيد بقيود: منها أن يدعي الدفع قبل البناء وأن لا يقيد في رسم الصداق ما ينفي قبول قوله إلا ببينة، قال في المختصر: إن ادعى الدفع بعد البناء حلفت الزوجة أو من يلي أمرها وغرمه الزوج، قلت لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وقال أيضًا: إن عقد في الصداق بعد ذكر النقد أنه لا يبريه منه البناء بها ولا طول المقام معها فإنه حينئذ لا يقبل قوله في الدفع كسائر الديون (1) ويعطف عليه ما قالوه من أن رب الدين إذا حضر قسمة التركة ولم يطالب بدينه وسكت من غير عذر فلا شيء له، والأصل في كل ما نقلنا وشبهه شهادة العرف والعادة، ونلاحظ من ذلك ما للعرف من قوة واعتبار في إنشاء الأحكام وابتنائها عليه وبوساطة العرف ندرك ما أولاه الفقهاء من عناية واعتبار للعرف حتى ألفوا كتبًا ورسائل فيما جرى به العرف والعمل حسب الأقطار المختلفة فمثلًا اختلف الفقهاء هل يجوز للقاضي الإفتاء في الخصومة فقيل بالجواز وهو قول ابن عبد الحكم وقيل بالمنع، وقد جرى العمل بفاس بجواز الإفتاء للحكام وجرى العمل بعدم جواز الإفتاء للحكام بتونس عملًا بقول التحفة، ومنع الإفتاء للحكام، قال صاحب العمليات إن العمل على قول ابن الحكم في إفتاء القضاة شائع أي في فاس إلا أنهم ربما تجنبوا ما كان يرجع إليهم التحكيم فيه ملاحظة للقول الآخر (2) .   (1) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد، لعبد الجليل السجلسماسي: ص 60 (2) فتح الجليل: ص 404 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2488 كذلك اختلف الفقهاء في الترشيد والتسفيه فالذي جرى به العمل عند الموثقين من أهل فاس أنه لا يكفي فيه عدلان اثنان، وعليه درج ابن عاصم وتحفته ونقل عن أصبغ الاجتزاء برجلين مع الفشو وهو ما عليه العمل بتونس من قبول عدلين في التسفيه والترشيد والزيادة أفضل من هذا القبيل ما اختلف فيه الفقهاء من الشفعة فيما لا ينقسم كالحمام، ففي التوضيح عند قول أبي الحاجب، وفي غير المنقسم كالحمام ونحوه قولان قال ما نصه: يعني وفي الشفعة فيما لا يقبل القسم إلا بضرر قولان وهما لمالك وابن عبد السلام وفي المدونة ما يدل على كل واحد منهما وبعدم الشفعة قال ابن القاسم ومطرف وبالشفعة قال أشهب وابن الماجشون وأصبغ، قال صاحب الذخيرة: وعدم الشفعة هو المشهور قال صاحب المعين وبه القضاء وقد جرى عمل قرطبة بثبوت الشفعة وأفتوا به لما جمعهم القاضي المنذر بن سعيد، حيث جاءه خط أمير المؤمنين عبد الرحمن أن يحمله على قول مالك ويقضي له به فجمع القاضي منذر بن سعيد الفقهاء وشاورهم فقالوا: مالك يرى في الحمام الشفعة فقضى منذر بذلك وحكم له بها، قال ابن حارث: وأخبرني من أثق به أنه جرى العمل عند الشيوخ بإيجاب الشفعة في نحو الحمام ومن الأبرحة والآبار والعيون والشجرة الواحدة وشبه ذلك وقد جرى العمل بتونس بعدم الشفعة فيما لم ينقسم. ومثل هذا الخلاف الخلاف في كراء الدار بين رجلين كرى أحدهما نصيبه منها، فهل لشريكه أن يشفع ذلك من يد المكتري لأن الكراء بيع منفعة أو ليس له ذلك فيه قولان جرى القضاء بكل منهما، قال القلشاني في شرح الرسالة: اختلف في الشفعة في كراء الربع فقال ابن القاسم والمغيرة وعبد الملك بسقوط الشفعة وبه الحكم الآن بإفريقية على ما سمعت، وقال أشهب ومطرف وأصبع: فيه الشفعة، وروي عن ابن القاسم أيضا، والقولان لمالك وبالثاني الحكم بالمغرب والأندلس فيما سمعته وفي نوازل ابن هلال ما نصه مسألة جرى العرف بالشفعة في الكراء وبه أفتى ابن علال والتازغدري رحمهما الله تعالى، وجعلا المكتري كالشريك في الأصل وخالفهما القاضي عبد الرحيم اليزنانسني واقتصر في التحفة على أن الحكم فيه ينفي الشفعة فقال: والخلف في أكرية الرباح والدور، والحكم بالامتناع وعندنا في تونس لا شفعة في الكراء مطلقًا. ومما وقع فيه الخلاف بين الفقهاء دعاء الأئمة عقب الصلوات المكتوبة، قال ابن ناجي في آخر كتاب الصلاة نص مالك على كراهة الدعاء لأئمة المساجد والجماعة عقب الصلوات المكتوبات جهرًا للحاضرين خوفًا من الرياء، والعمل عندنا بأفريقية على جواز ذلك لأنها بدعة مستحسنة لورود الدعاء من حيث الجملة ومع جري العادة ينتفى الرياء، وفي المعيار في فصل المستحسن من البدع وغيرها ما نصه قال ابن عرفة: عمل من يقتدى به في العلم والدين من الأئمة على الدعاء بأثر الذكر الوارد أثر تمام الفريضة وما سمعت من ينكره إلا جاهل غير مقتدى به وفي نوازل الصلاة منه من الأمور التي هي كالمعلوم بالضرورة استمرار عمل الأئمة في جميع الأقطار على الدعاء إدبار الصلوات في مساجد الجماعات واستصحاب الحال حجة واجتماع الناس عليه في المشارق والمغارب منذ الأزمنة المتقادمة من غير نكير إلى هذه المدة من الأدلة على جوازه واستحسان أخذ به وتأكده عند علماء الملة. اهـ. باختصار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2489 قال ابن زرقون: ورد الخبر بمسح وجه باليدين عند انقضاء الدعاء واتصل به عمل الناس والعلماء وقال ابن رشد أنكر مالك مسح الوجه بالكفين لكونه لم يرد أثر وإنما أخذ من فعله عليه الصلاة والسلام للحديث الذي جاء عمر رضي الله عنه، قلت: بجواز مسح الوجه باليدين عند ختم الدعاء قال الأستاذ أبو سعيد بن لب وأبو عبد الله بن علاق وأبو القاسم بن سراج من متأخري أئمة غرناطة وابن عرفة والبرزلي والغبريني من أئمة تونس والسيد أبو يحيى الشريف وأبو الفضل العقباني من أئمة تلمسان وعليه مضى عمل أئمة فاس والمراد بالحديث الذي جاء عمر رضي الله عنه ما أخرجه الترمذي عنه ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه)) نقل ذلك المازري وغيره (1) وبما ذكرنا ونقلنا ندرك ما للعرف من قوة واعتبار في إنشاء الأحكام وابتنائها وتأثير العرف على اختيارات الفقهاء واختلاف الأحكام باختلاف العادات حسب الجهات وهذا التأثير سيظل متجددًا ما دام في الناس أعراف وعادات وما يتجدد في الحياة باختلاف الحضارات وتبدل أساليب المعيشة وتطوره العلم وكثرة العمران ولا شك أن لدى العمال في مصانعهم أعرافًا ولدى المزارعين في حقولهم أعرافًا ولدى الحرفيين أعرافًا ولكل قطر أعرافًا، ولذا لا يمكن تجاهلها وغض النظر عنها، ولذا كان على الفقيه والمجتهد أن يكون متصلًا بالناس عارفًا بأحوالهم وتقاليدهم وعاداتهم حتى يكون حكمه صحيحًا وفتواه مقبولة وحتى يكون أميل إلى الرفق بالنس جاريًا على ما تقتضيه قواعد الشرع من رفع الحرج والتيسير وعدم التعسير.   (1) فتح الجليل الصمد وشرح التكميل والمعتمد للسلجسماسي: ص 289 و 547 و 548 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2490 تغير الأحكام بتغير العادات والأحوال: يقول العلامة ابن خلدون في مقدمة كتاب العبر: يحتاج صاحب هذا الفن (أي التاريخ) إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف وتعليل المتفق منها والمختلف والقيام على أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم حتى يكون مستوعبًا لأسباب كل حادث واقفا على أصول كل خبر وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحًا وإلا زيفة واستغنى عنه وما استكبر القدماء علم التاريخ إلا لذلك حتى انتحله الطبري والبخاري وابن إسحاق من قبلهما وأمثالهم من علماء الأمة، وقد ذهل الكثير عن هذا السر فيه حتى صار انتحاله مجهلة واستخف العوام ومن لا رسوخ له في المعارف مطالعته وحمله الخوض فيه والتطفل عليه فاختلط المرعي بالمهمل واللباب بالقشر والصادق بالكاذب وإلى الله عاقبة الأمور، ومن الخلط الخفي في التاريخ الذهول من تبدل الأحوال في الأمم والأجيال تبدل الأعصار ومرور الأيام وهو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وفوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال وكما يكون ذلك في الأشخاص، والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنة الله التي قد خلت في عبادة وقد كانت في العالم أمم الفرس الأولى والسريانيون والنبط والتبابعة وبنو إسرائيل والقبط وكانوا على أحوال خاصة بهم في دولهم وممالكهم وسياستهم وصنائعهم ولغاتهم واصطلاحاتهم وسائر مشاركاتهم مع أبناء جنسهم وأحوال اعتمارهم للعالم تشهد بها آثارهم ثم جاء بعدهم الفرس الثانية والروم والعرب فتبدلت تلك الأحوال وانقلبت بها العوائد إلى ما يجانسها أو يشابها وإلى ما يباينها أو يباعدها، ثم جاء الإسلام بدولة مضر فانقلبت تلك الأحوال أجمع انقلابة أخرى، وصارت إلى ما أكثره متعارف لهذا العهد يأخذه الخلف عن السلف، ثم درست دولة العرب وأيامهم وذهبت الأسلاف الذين تقيدوا عزهم ومهدوا ملكهم، وصار الأمر في أيدي سواهم من العجم مثل الترك بالمشرق والبربر بالمغرب، والفرنجة بالشمال، فذهبت بذهابهم وصار الأمر في أيدي سواهم من العجم مثل الترك بالمشرق، والبربر بالمغرب، والفرنجة بالشمال، فذهبت بذهابهم أمم وانقلبت أحوال وعوائد نسي شأنها وأغفل أمرها والسبب الشائع في تبدل الأحوال والعوائد أن عوائد كل تابعة لعوائد سلطانه إذا استولوا على الدولة والأمر فلا بد وأن يفرعوا إلى عوائد من قبلهم ويأخذوا الكثير منها، ولا يغفلوا عوائد جيلهم مع ذلك فيقع في عوائد الدولة بغض المخالفة لعوائد الجيل الأول فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم وخرجت من عوائدهم وعوائدها خالفت أيضًا بعض الشيء، وكانت للأولى أشد مخالفة، ثم لا يزال التدريج في المخالفة حتى ينتهى إلى المباينة بالجملة، فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسلطان لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2491 والقياس والمحاكمة للإنسان طبيعة معروفة ومن الغلط غير مأمونة تخرجه مع الذهول والغفلة عن قصده وتعوج به عن مرامه، فربما يسمع السامع كثيرًا من أخبار الماضين، ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها، فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد، وقد يكون الفرق بينها كثيرًا فيقع في مهواة من الغلط، فمن هذا الباب ما نقله المؤرخون من أن التعليم في صدر الإسلام والدولتين لم يكن العلم صناعة إنما كان نقلًا لما سمع من الشارع وتعليمًا لما جهل من الدين على جهة البلاغ فكان أهل الأنساب والعصبية الذين قاموا بالملة هم الذين يعلمون كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على معنى التبليغ الخبري لا على وجه التعليم الصناعي إذ هو كتابهم المنزل على الرسول منهم وبه هدايتهم والإسلام دينهم قاتلوا عليه وقتلوا واختصوا به من بين الأمم وشرفوا فيحرصون على تبليغ ذلك وتفهيمه للأمة لا تصدهم عنه لائمة الكبر ولا يزعهم عامل الأنفة ويشهد لذلك بعث النبي صلى الله عليه وسلم كبار أصحابه مع وجود العرب يعلمونهم حدود الإسلام، وما جاء به من شرائع الدين بعث في ذلك أصحابه العشرة فمن بعدهم، فلما استقر الإسلام ووشجت عروق الملة حتى تناولتها الأمم البعيدة من أيدي أهلها، واستحالت بمرور الأيام أحوالها وكثر استنباط الأحكام الشرعية من النصوص لتعدد الوقائع وتلاحقها، فاحتاج ذلك لقانون يحفظه من الخطأ وصار العلم ملكة يحتاج إلى التعلم فأصبح من جملة الصنائع والحرف وانقلب حرفة للمعاش. وقد بين الدكتور صبحي محمصاني قاعدة تغيير الأحكام بتغير العادات، أن هذه الحقيقة التي أدركها علماء الاجتماع والقانون كالعلامة منتسكنو وغيره، قد أدركها علماء الإسلام في القرن السابع الهجري الثالث عشر ميلادي، فلاحظها شهاب الدين القرافي وابن القيم الجوزية وأبو إسحاق الشاطبي، وقد قدمنا كلام ابن خلدون في ذلك، بل هي عند فقهاء المسلمين من البديهية التي لا جدال فيها ونوه بها في أواخر القرن التاسع عشر مفتي الديار المصرية الإمام عبده في مقاله اختلاف القوانين باختلاف الأمم (1) .   (1) فلسفة التشريع في الإسلام ص221. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2492 إننا ندرك مما نقلنا أن مصالح الناس تتغير وتتبدل حسب تبدل مظاهر المجتمع وتغيره كما أن أحكامها ومعاملاتها تابعة في تشريعها لمصالحها، فكان منطقيًّا أن تتبدل هذه الأحكام وفق هذه الأحكام وفق تبدل الزمان وتغير الأحوال، وهذه تتأثر بمظاهر المحيط والبيئة الاجتماعية. وأن كثيرًا من الفروع الفقهية ليختلف الحكم فيها باختلاف جلب المصلحة ودرء المفسدة وما يكون مصلحة في زمان قد يكون مفسدة في زمن آخر، وأن من الفقهاء من لم يقتصر في ترتيب الأحكام على خصوص المنصوص فإن لم يجد اجتهد وتأمل وفكر فيما هو أقرب إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم سواء أكان يتعرف ذلك أقرب من نص معين وهو المسمى بالقياس أم الأقرب للمقاصد العامة للشريعة وذلك هو المصلحة وعلى رأس من أخذ بالمصلحة عمر بن الخطاب، فأفتى وأفتى معه كثير من الصحابة بالمصلحة في ذاتها كحكيم بقتل الجماعة بالواحد وكتضمين الصناع، فقد قال علي كرم الله وجهه: لا يصلح الناس إلا ذاك. وكان عمر رضي الله عنه في إدارة شؤون الدولة يجتهد عن طريق المصلحة فيما لا نص فيه، وقد جاء كتابه إلى أبي موسى الأشعري (الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة اعرف الأشياء والأمثال وقس الأمور عند ذلك) ، وكان له نوعان من الشورى: الشورى الخاصة والشورى العامة وشوراه الخاصة تكون لذوي الرأي من علية الصحابة من المهاجرين والأنصار السابقين وهؤلاء يستشيرهم في أمور الدولة التي يحتاج إلى أوجه النظر المختلفة، سواء أكانت من صغرى أمور الدولة أم كانت من كبراها. وأما الشورى العامة فإنها تكون لأهل المدينة أجمعين وفي الأمور الخطيرة من أمور الدولة أو التي تقرر قاعدة عامة تسير في مستقبل الأمة على أنها من القرارات الثابتة فإذا جد أمر من هذا النوع يجمع أهل المدينة في المسجد الجامع وإذا ضاق بهم جمعهم خارج المدينة وعرض عليهم الأمر الخطير ويتناقشوا فيه، ومن ذلك استشارتهم في أرض سواد العراق فقد كان من رأي الغزاة قسمتها بينهم، وكان من رأي عمر عدم قسمتها وأن تترك في أيدي أهلها الذين كانت أيديهم عليها، وقد تناقشوا فيها يومين أو ثلاثة وانتهى الأمر إلى موافقة عمر عندما ساق لهم قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [سورة الحشر: الآية 7] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2493 وقد أبطل الإسلام حصره في الأغنياء يتداولونه بينهم ولا ينال أهل الحاجة نصيبًا منه إذ من مقاصد شريعتنا الغراء أن يكون المال دولة بين الأمة الإسلامية على نظام محكم في انتقاله من كل مال لم يسبق عليه ملك لأحد مثل الموات والفيء واللقطات والركاز أو كان جزءًا معينًا مثل الزكاة والكفارات وتخميس المغانم والخراج والمواريث وعقود المعاملات التي بين جانبي مال وعمل، مثل القراض والمغارسة والمساقاة وفي الأموال التي يظفر بها الظافر بدون عمل وسعي مثل الفيء والركاز وما ألقاه البحر (1) . كان عمر يجمع أهل المدينة ويستشيرهم في الأمور، وكان سكان المدينة في هذا يشبهون سكان أثينا في عهد بركليس إذ كان كل شخص من أهل هذه المدينة له رأي في شؤون الدولة وإن الرأي الذي يكون في اجتماع ويوافق عليه المجتمعون يكون أقوى من الرأي الذي يكون نتيجة دراسة للموضوع من كل نواحيه وجوانبه مع تبادل أوجه النظر المختلفة، ولهذا كان الرأي الجماعي وهو الذي تسير عليه مقتضيات شؤون الدولة وجاء من بعد الصحابة والتابعين من اعتبر الرأي الجماعي إجماعًا وعده مصدرًا رابعًا حتى صارت المصادر عنده الكتاب والسنة والإجماع والرأي، ومما لا شك أن القصد من الأحكام إقامة العدل ودرء المفسدة وجلب المصلحة فيصدر الحكم على وفق ما يحقق تلك المصلحة أو يدرأ تلك المفسدة ويكون علاجًا ناجعًا وتدبيرًا حكيمًا لبيئة معينة في زمن معين، ثم بعد جيل، أو أجيال، وتغير الأحوال لا يبقى صالحًا، ولا محققا للغرض المنشود بل ربما يفضي إلى عكس المطلوب لتغير الأوضاع والوسائل والأخلاق، ولقد انتبه المتأخرون إلى هذه الحقيقة، ولاحظوها في كثير من المسائل وأفتوا في كثير منها بعكس ما أفتى به الأوائل معللين مخالفتهم لأئمتهم والسابقين من فقهاء مذهبهم باختلاف الزمان وفساد الأخلاق، وهم في الواقع غير مخالفين لهم، موضحين بأنه لو استمر بهم الحال ورأوا ما رأى المتأخرون لقالوا بمثل ما قالوا ولعدلوا عن كثير من الأقوال التي كانوا قد أفتوا بها في قديم الزمان (2) ويعبرون عن مخالفتهم لمن قبلهم بأنه اختلاف في حال وهؤلاء مجتهدو التخريج المنتسبون وهم الذين اختاروا ما قرره أئمتهم بالنسبة لأصول الاستنباط وخالفوهم في الفروع وإن انتهوا إلى نتائج مشابهة في الجملة إلى ما وصل إليه أئمتهم وهم في الغالب ممن يكون لهم صحبة ملازمة ومن هؤلاء في المذهب الحنفي خالد بن يوسف السمتي وهلال والحسن بن زياد اللؤلؤي، وفي المذهب الشافعي المزني، وفي المذهب المالكي عبد الرحمن بن القاسم وابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وابن حبيب وغيرهم، ولم يخل عصر في القرون الأولى التي تلت عصر الأئمة من هذا الصنف الذي يتقيد بالمنهاج ولا يتقيد بالفروع كالطحاوي والكرخي وأبي بكر الأصم، فالكرخي مثلًا خالف أبا حنيفة في الأخذ بالكفاءة في الزواج على الصغار والطحاوي كان يتبع المنهج الحنفي وأحيانًا يختار من المذهب الشافعي (3) .   (1) مقاصد الشريعة الإسلامية، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور: ص 170 (2) المدخل الفقهي العام: 2 / 924 (3) كتاب صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، ط. دمشق ص 1380. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2494 ويلي هذه الطبقة طبقة المجتهدين في المذهب واجتهادهم يكون في استنباط أحكام المسائل التي لم يرد فيها عن إمام المذهب رأي فيها واجتهادهم لا يكون في المسائل المنصوص عليها في المذهب إلا في دائرة معينة وهي التي يكون استنباط السابقين فيها مبنيًّا على العرف، أو على ملاحظة أمور من أمور العصر لا وجه لها إلا عرف المتأخرين بحيث لو رأى السابقون ما يرى الحاضرون لرجعوا عما قالوا ولقالوا في هذه وأشباهه إنه اختلاف زمان لا اختلاف دليل وبرهان، وخلاصة القول: إن اجتهاد هؤلاء ينحصر في أمرين: أولهما: استخلاص القواعد التي كان يلتزمها الأئمة السابقون وجمع الضوابط الفقهية التي تتكون من علل الأقيسة التي استخرجها الأئمة. ثانيهما: استنباط الأحكام التي حررت الفقه المذهبي ووضعت أسس الترجيح والموازنة بين الآراء لتصحيح بعضها وتضعيف غيرها وهي التي ميزت الكيان الفقهي لكل مذهب، ويلي هذه الطبقة المجتهدون المرجحون الذين لا يستنبطون أحكام المسائل ولكن يرجحون بين الآراء المروية بوسائل الترجيح التي ضبطها لهم علماء الطبقة السابقة فيرجح هؤلاء بعض الأقوال على بعض بقوة الدليل أو الصلاحية للتطبيق بموافقة أحوال العصر ونحو ذلك مما لا يعد استنباطًا جديدًا مستقلًا أو غير مستقل، وقد عد بعض الأصوليين هذه الطبقة والتي قبلها طبقة واحدة للفرق الدقيق بينهما، ولا يبعد أن نعدهما طبقة واحدة لأن الترجيح بين الآراء بمقتضى الأصول لا يقل وزنًا عن استنباط أحكام الفروع التي لم ترد فيها أحكام من الأئمة والنووي في مقدمة المجموع ذكرهما على أنهما طبقة واحدة وابن عابدين عدهما طبقتين (1) وجعل جملة الطبقات سبعة ذكرها في أول رسالته التي أسماها عقود رسم المفتي (2) . وقد رأى الفقهاء أنه لا يصح وقف ما لا فائدة فيه أو مما لا منفعة منه فلا يصح وقف الكلب أو الخنزير والأسباع والبهائم وجوارح الطير التي لا تصلح للصيد وقد اشترط الحنفية أن يكون الموقوف مالًا متقومًا ومثله الوصية، فقد اشترطوا أن يكون متقومًا في عرف الشرع وأن يباح الانتفاع به شرعًا فلا تصح الوصية بنحو خمر وخنزير وكلب وسباع لا تصلح للصيد عند المالكية، وجازت الوصية عند الحنفية بالكلب المعلم والسباع التي تصلح للصيد لتقومها عندهم ولأنها مضمونة بالإتلاف ويجوز عندهم بيعها وهبتها وكذلك الشافعية والحنابلة تصح الوصية فيما نفعه مباح من غير المال ككلب صيد وكلب ماشية وكلب زرع وحرث ونحوها من السباع للصيد، لأن فيها نفعًا مباحًا وتقر اليد عليها (3) .   (1) رسالة رسم المفتي، لابن عابدين: 1 /11، وهي مجموعة في ثلاث وأربعين صحيفة من مجموعة رسائل ابن عابدين. (2) رسالة رسم المفتي، لابن عابدين: 1 /11، وهي مجموعة في ثلاث وأربعين صحيفة من مجموعة رسائل ابن عابدين. 1 /11و 12 (3) نيل الأوطار، للشوكاني: 6 /62 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2495 والمروي عن مالك رضي الله عنه أنه لا يرى اتخاذ الكلب لحراسة الدور ولما سئل مالك الصغير أعني عبد الله بن أبي زيد القيرواني عن شأن كلاب الحراسة أجاب بقوله لو أدرك مالك هذا الزمان لاتخذ أسدًا ضاريًا (1) ويؤخذ من ذلك تغير الأحكام التي لا نص فيها بتغير الأحوال والأزمان والناس فتدور الأحكام معها دورانها مع العلة وجودًا وعدمًا ولقد قال الإمام الحافظ ابن يوسف التميمي الصقلي لو أدرك الإمام وأصحابه مثل زماننا (وهو من أبناء القرن الخامس إذ توفي سنة 451هـ) هذا جعلوا الميراث لذوي الأرحام إذا انفردوا ولقالوا بالرد على ذوي السهام، وذوو الأرحام في اصطلاح الفرضيين هو كل قريب ليس صاحب فرض ولا عصبة كأولاد البنات وأولاد الأخوات وبنات الإخوة، والجد الرحمي وهو من يتصل إلى الميت بأم الجدة الرحمية، والخال والخالة ونحوهم من كل قريب ليس عصبة ولا صاحب فرض، واختلف الفقهاء في توريثهم على رأيين فأبو حنيفة وأحمد قالا بتوريثهم، وهو رأي عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم مستدلين بقوله تعالى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [سورة الأنفال: الآية 75] ، فيشمل كل الأقرباء أكانوا ذوي فروض أم عصبات أم لا ولحديث البخاري ومسلم ((ابن أخت القوم منهم)) ولقوله ((من ترك مالا فلورثته وأنا وارثه أعقل منه (أي أدفع عنه الدية) وأرثه والخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه)) ، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وأعله البيهقي بالاضطراب (2) . وذهب مالك والشافعي إلى عدم توريث ذوي الأرحام فإذا هلك هالك عن غير فرض ولا عصبة وله ذو رحم ردت التركة إلى بيت المال وهو رأي زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وأخذ به الأوزاعي وأبو ثور وداود وابن جرير الطبري واستدلوا بأن الله تعالى ذكر في آيات المواريث نصيب أصحاب الفروض والعصبات ولم يذكر لذوي الأرحام شيئًا ولو كان لهم حق لبينه {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . [سورة مريم: الآية 64] . وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أعطى لكل ذي حق حقه)) [رواه الترمذي وغيره] . وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميراث العمة والخالة فقال: ((أخبرني جبريل أن لا شيء لهما)) رواه أبو داود في المراسيل وقيل في التوفيق بين هذا الحديث وما رواه المثبتون لذوي الرحم في الميراث أن نفي الميراث عن العمة والخالة كان قبل نزول آية الأنفال من قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [سورة الأنفال: الآية 75] أو أن العمة والخالة ليس لهما فرض مقدر وأنهم لا يرثون مع العصبة ولا مع ذي فرض يرد عليه، فإن الرد على ذوي الفروض مقدم على توريث ذوي الأرحام ولكنهم يرثون مع من لا يرد عليه وهما الزوجان والرد هو دفع ما فضل لأنه زيادة في الأنصبة ونقص في السهام فيرد ما فضل عن فرض ذوي الفروض النسبية عليهم بقدر سهامهم ولا يرد على الزوجين وارد عند الفرضيين هو دفع ما فضل من أصحاب الفروض النسبية إليهم بقدر حقوقهم عند عدم العصبة وللعلماء في الرد رأيان فريق يرى عدم الرد وإنما يكون الباقي من التركة بعد أخذ أصحاب الفروض فروضهم ولا عاصب للهالك يكون الباقي لبيت المال وهو مذهب زيد بن ثابت وبه أخذ مالك والشافعي ودليلهم أن الله قد بين نصيب كل وارث بالنص فلا يجوز الزيادة عليه بغير دليل.   (1) حاشية المهدي الوزاني، ط حجرية: 20 /350 (2) حاشية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2496 وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا يستحق وارث أكثر من حقه)) ، ويرى جمهور من الصحابة والتابعين الرد على غير الزوجين وبه أخذ الحنفية والحنابلة، قال الغزالي والفتوى اليوم على الرد على غير الزوجين عند عدم المستحق لعدم بيت المال إذ الظلمة لا يصرفونه إلى مصرفه وهذا ما جعل ابن يونس يقول لو أدرك الإمام وأصحابه مثل زماننا هذا لجعلوا الميراث لذوي الأرحام إذا انفردوا ولقالوا بالرد على ذوي السهام (1) لقد أجاد وأفاد ابن القيم الجوزية حين لاحظ أن تغير الفتوى واختلافها تتغير بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد وذكر أن بسبب الجهل بهذه الحقيقة وقع غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يتنافى مع الشريعة التي هي في أعلى رتب المصالح موضحًا لذلك بتنزيل الشرط العرفي منزلة الشرط اللفظي كوجوب نقد البلد عند الإطلاق وكالسلامة من العيوب حتى يسوغ له الرد بوجود العيب تنزيلا لا شتراط السلامة من العيوب عرفا منزلة اشتراطها لفظًا وكوجوب الوفاء للمسلم فيه في مكان العقد وإن لم يشترطه لفظًا بناء على الشرط العرفي وكدفع الثوب لمن يغسله أو يخيطه أو العجين لمن يخبزه أو اللحم لمن يطبخه أو الحب لمن يطحنه أو مشاعًا لمن يحمله ونحو ذلك ممن نصب نفسه للأجرة على ذلك فإنه يجب له أجرة المثل وإن لم يشترط معه ذلك لفظًا عند جمهور العلماء، بل حتى عند المنكرين لتنزيل الشرط العرفي منزلة الشرط اللفظي وكل هذا لأن المؤمنين والمؤمنات وبعضهم أولياء بعض في الشفقة والنصيحة والحفظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا جاز لأحدهم ضم اللفظة ورد الآبق وحفظ الضالة وله أن يحسب ما أنفقه عليها وينزل إنفاقه منزلة إنفاقه لحاجة نفسه لما كان حفظًا لمال أخيه وإحسانًا إليه ولو علم المتصرف لحفظ مال أخيه أن نفقته تضيع وأن إحسانه يذهب باطلًا في حكم الشرع لما أقدم على ذلك ولضاعت مصالح الناس ورغبوا عن حفظ أموال بعضهم بعضًا وتعطلت حقوق كثيرة وفسدت أموال عظيمة، ومعلوم أن شريعة من بهرت شريعته العقول وفاقت كل شريعة واشتملت على مصلحة وعطلت كل مفسدة تأبى ذلك كل الإباء (2) وهذا الذي لاحظه ابن القيم، قد أدركه كثير من الأئمة قبله فهذا مالك بن أنس يقول تحدث للناس فتاوى بقدر ما أحدثوا وكلمة عمر بن عبد العزيز في ذلك مشهورة تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ولما كانت الأحكام بالنسبة للمصالح كتعلق المسببات بأسبابها والمعلولات بعلاتها تعين أن تتغير الأحكام عند تغيراتها ومعلوم أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا فبوجودها يوجد وبانعدامها ينتهي، قال ابن عابدين: إن كثيرًا من الأحكام التي نص عليها المجتهد صاحب المذهب بناء على ما كان في عرفه وزمانه قد تغيرت بتغير الأزمان بسبب فساد أهل الزمان أو عموم الضرورة من إفتاء المتأخرين بجواز الاستئجار على تعليم القرآن وعدم الاكتفاء بظاهر العدالة. إن ذلك مخالف لما نص عليه أبو حنيفة ومن ذلك تحقق الإكراه من غير السلطان مع مخالفته لقول الإمام بناء على ما كان في عصره أن غير السلطان لا يمكنه الإكراه، ثم كسر الفساد فصار يتحقق الإكراه من غيره، فقال محمد باعتباره وأفتى به المتأخرون ومن ذلك تضمين الساعي مع مخالفته لقاعدة المذهب من أن الضمان على المباشر دون المتسبب ولكن أفتوا بضمانه زجرًا لفساد الزمان ومنه تضمين الأجير المشترك وقولهم إن الوصي ليس له المضاربة بمال اليتيم في زماننا وإفتاؤهم بتضمين الغاصب عقار اليتيم والوقف وعدم إجارته أكثر من سنة في الدور وأكثر من ثلاث سنين في الأراضي مع مخالفته لأصل المذهب من عدم الضمان وعدم التقدير بمدة ومنعهم القاضي أن يقضي بعلمه وإفتاؤهم بمنع الزوج من السفر بزوجته وإن وافاها المعجل لفساد الزمان وعدم سماع قوله أنه استثنى بعد الحلف بطلاقها إلا ببينة مع أنه خلاف ظاهر الرواية وعللوه بفساد الزمن وعدم تصديقها بعد الدخول مما بانها لم تقبض ما اشترط لها تعجيله من المهر مع أنها منكرة للقبض وقاعدة المذهب أن القول للمنكر لكنها في العادة لا تسلم نفسها قبل قبضه وكذا قالوا في قوله كل حل علي حرام يقع به الطلاق للعرف عند مشائخ بلخ ولا يقع إلا بالبينة عند محمد وقال: أما عرف بلادنا يريدون به تحريم المرأة فيحمل عليه.   (1) حاشية ابن الخياط على شرح الخرشي لفرئض خليل، ط عاطف بمصر ص 51 (2) إعلان الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم الجوزية: 3/ 1 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2497 نقله العلامة قاسم ونقل عن مختارات النوازل أن عليه الفتوى لغلبة الاستعمال بالعرف إلى أن قال بعد أن عدد فروعًا كثيرًا فهذه كلها قد تغيرت أحكامها لتغير الزمان إما للضرورة وإما للعرف وإما لقرائن الأحوال وكل ذلك غير خارج عن المذهب، لأن صاحب المذهب لو كان في هذا الزمان لقال بها ولو حدث هذا التغير في زمانه لم ينص على خلافها، فللمفتي اتباع عرفه الحادث في الألفاظ العرفية وكذا في الأحكام التي بناها المجتهد على ما كان في عرف زمانه وتغير عرفه إلى عرف آخر اقتداء بهم بشرط أن يكون له من الرأي والنظر الصحيح والمعرفة بقواعد الشرع ما يميز بين العرف الذي يجوز بناء الأحكام عليه وبين غيره وقد شرط المتقدمون في المفتي الاجتهاد وهو مفقود فلا أقل من أن يكون عارفًا المسائل بشروطها وقيودها ومن معرفة عرف زمانه وأحوال أهله والتخرج في ذلك على أستاذ ماهر، وفي الغنيمة ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف وهو صريح في أن المفتي لا يفتي بخلاف عرف أهل زمانه (1) وفي الأشباه في البزازية من أن المفتي يفتي بما يقع عنده من المصلحة علق عليه ابن عابدين في رد المحتار في باب القسامة فيما لو ادعى الولي على رجل من غير أهل المحلة وشهد اثنان منهم عليه لم تقبل عنده وقالا: تقبل إلى آخر (2) . ونقل السيد الحموي عن العلامة المقدسي أنه قال: توقفت عن الفتوى بقول الإمام ومنعت من إشاعته لما يترتب عليه من الضرر العام، فإن من عرفه من المتمردين يتجاسر على قتل النفس في المحلات الخالية من غير أهلها معتمدًا على عدم قبول شهادتهم عليه، قال ابن عابدين: ينبغي الفتوى على قولهما لا سيما والأحكام تختلف باختلاف الأيام، وفي باب ما يوجب القضاء والكفارة من كتاب الصوم عند قول الهداية: ولو أكل لحمًا بين أسنانه لم يفطر وإن كان كثيرًا يفطر وقال زفر: يفطر في الوجهين، فإذا كان ما بين الأسنان دون الحمصة فلا يفطر لأنه تابع لريقه وكذلك مضغ مثل سمسمة من خارج فمه حتى تلاشت ولم يجد لها طعمًا في حلقه فلا يفطر لعدم ابتلاع شيء، أما المالكية فترى أن وصول أي شيء إلى المعدة سواء أكان مائعًا أم غيره من فم أو أنف أو أذن أو عين أو إذا كان وصوله عمدًا أو خطأً أو سهوًا أو غلبه فإنه يفطر (3) . وعند الشافعية لا يفطر بابتلاع ما بقي من الطعام بين الأسنان من غير قصد إن عجز عن تمييزه ومجه لأنه معذور فيه غير مقصر فإن قدر على تمييزه ومجه وابتلعه ولو قليلًا دون الحمصة، فإنه يفطر (4) .   (1) شرح منظومة رسم المفتي للعلامة ابن عابدين. مجموع رسائل ابن عابدين: 1 /44و 45 (2) الدر المختار: 5 /618، ط1 (3) القوانين الفقهية، لابن جزي، ص 123. الشرح الكبير مع الدسوفي: 1 /523- 534 (4) المهذب: 1 /183-185 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2498 قال ابن عابدين والتحقيق أن المفتي في الوقائع لا بد له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس وقد عرف أن الكفارة تفتقر إلى كمال جناية فينظر إلى صاحب الواقعة إن كان ممن يعاف طبعه ذلك أخذًا بقول أبي يوسف وإن كان ممن لا أثر لذلك عنده أخذ بقول زفر ويعمل بمثل ما عملوا من اعتبار تغير العرف وأحوال الناس وما هو الأرفق بالناس وما ظهر عليه التعامل وما قوي وجهه ولا يخلو الوجود من تمييز هذا حقيقة لا ظنًّا بنفسه ويرجع من لم يميز إلى من يميز لبراءة ذمته، قال ابن عابدين: فهذا كله صريح فيما قلنا من العمل بالعرف ما لم يخالف الشريعة كالمكسب والربا ونحو ذلك فلا بد للمفتي وللقاضي بل وللمجتهد من معرفة أحوال الناس وقد قالوا: ومن جهل بأهل زمانه فهو جاهل وقد قالوا: يفتى بقول أبي يوسف فيما يتعلق بالقضاء لكون جرّب الوقائع وعرف أحوال الناس وفي البحر كان محمد يذهب إلى الصباغين ويسأل عن معاملاتهم وما يدبرونها فيما بينهم (1) . ومما يوضح جليا اختلاف الحكم باختلاف الزمان لاختلاف الأحوال ما قرره الفقهاء الأوائل من عدم جواز أخذ الأجرة على الطاعات كقراءة القرآن والأذان والإمامة ونحوها من الطاعات فيؤذن الإنسان محتسبًا ولا يأخذ على الأذان والإقامة أجرًا باتفاق العلماء ولا يجوز أخذ الأجرة على ذلك عند الحنفية والحنابلة على ظاهر المذهب لأنه استئجار على الطاعة وقربة لفاعله والإنسان في تحصيل الطاعة عامل لنفسه فلا تجوز الإجارة عليه كالإمامة وغيرها ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن أبي العاص ((واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على آذانه أجرًا)) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن وأجاز المالكية والشافعية في الأصح الاستئجار على الآذان لأنه عمل معلوم يجوز أخذ الأجر عليه كسائر الأعمال.   (1) رسم المفتي لابن عابدين من مجموع رسائله، 1 /45و 46 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2499 وأفتى متأخرو الحنفية وغيرهم بجواز أخذ الأجرة على القربات الدينية ضمانًا لتحصيلها بسبب انقطاع المكافآت المخصصة لأهل العلم من بيت المال كما أن الحنابلة قالوا: إن لم يوجد متطوع بالآذان والإقامة أعطى من يقوم بها من مال الفيء المعد للمصالح العامة وكذلك كرهوا أخذ أجرة على الغسل والتكفين والحمل والدفن وأجاز الحنفية أخذ الأجر على تلك الأمور، فالحمال والحفار كالعامل إن وجد غيره وإلا فإن لم يوجد غيره فلا يجوز أخذ الأجرة لتعينه عليه حيث صار واجبًا عينيًّا ولا يجوز أخذ الأجرة على الطاعة ولكن أجاز المتأخرون الأجرة على الطاعات للضرورة جاء في رسالة نشر العرف: اعلم أن المسائل الفقهية إما أن تكون ثابتة بصريح النص وهي الفصل الأولى وإما أن تكون ثابتة بضرب اجتهاد ورأي، وكثير منها ما يبينه المجتهد على ما كان في عرف زمانه. بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولًا ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد أنه لا بد فيه من معرفة عادات الناس فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا للزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام ولذا ترى مشائخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذا من قواعد مذهبه فمن ذلك إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه لانقطاع عطايا المعلمين التي كانت في الصدر الأول ولو اشتغل المعلمون بالتعليم بلا أجرة يلزم ضياعهم وضياع عيالهم ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة وصناعة يلزم ضياع القرآن والدين فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم وكذا على الإمامة والأذان كذلك مع أن هذا مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد من عدم جواز الاستئجار وأخذ الأجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم والصلاة والحج وقراءة القرآن ونحو ذلك، ومن ذلك قول الإمامين بعد الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة مع مخالفته لما نص عليه أبو حنيفة بناء على ما كان في زمانه من غلبة العدالة، لأنه كان في الزمن الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية وهما أدركا الزمن الذي فشى فيه الكذب وقد نص العلماء على أن هذا الاختلاف اختلاف عصر وأوان لا اختلاف حجة وبرهان. ومن ذلك تحقق الإكراه من غير سلطان مع مخالفته لقول الإمام بناء على ما كان في زمنه من أن غير السلطان لا يمكنه الإكراه ثم كثر الفساد فصار يتحقق الإمام بناءً على ما كان في زمنه من أن غير السلطان لا يمكنه الإكراه، ثم كثر الفساد فصار يتحقق الإكراه من غيره فقال محمد رحمه الله باعتباره، وأفتى به المتأخرون لذلك، ومن ذلك تضمين الساعي مع مخالفته لقاعدة المذهب من أن لا ضمان على المباشر دون المتسبب، ولكن أفتوا بضمانه زجرًا بسبب كثرة السعاة المفسدين، ومنها تضمين الأجير المشترك وقولهم إن الوصي ليس له المضاربة بمال اليتيم في زماننا وإفتاؤهم بتضمين الغاصب عقار اليتيم والوقف وبعدم إجارته أكثر من سنة في الدور وأكثر من ثلاث سنين في الأراضي مع مخالفته لأصل المذهب من عدم الضمان وعدم التقدير بمدة (1) .   (1) نشر العرف ببناء بعض الأحكام على العرف مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /125- وما بعدها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2500 ومن هذا القبيل أيضا ما قرره الفقهاء من عدم جواز استناد القاضي لعلمه في أحكامه بحيث يعتبر علمه بالقضية المتنازع فيها مستندًا لقضائه ويغني المدعي من إثبات البينة ويكون علمه مغنيًا عنها وكافيًا، وهذا التغير في الزمان وفساد الأخلاق وغلبة أخذ الرشاوى والفساد في القضاة فيما بعد، ولهذا أجمع المتأخرون بأنه لا يجوز له أن يستند إلى علمه في القضايا بل قضاؤه يجب أن يستند إلى وسائل الإثبات ولو كان مطلعًا على القضية عالمًا بجزئياتها، نعم للقاضي أن يستند إلى علمه من حيث عدالة الشهود وجرحهم فيحكم بشهادة من علم عدالته دون من يعلم جرحه وأما فيما عداه فقد شدد مالك استناده لعلمه وحكمه به ووجه استناده إلى علمه في العدل أو التجريح هو أنه لو لم يجز له ذلك إلا ببينة لاحتاج إلى تعديل البينة وتعديل معدلهم إلى ما لا نهاية له فاضطر إلى الحكم بعلمه في ذلك. قاله ابن يونس وحكاه عن ابن الماجشون، وقد وجهه بعضهم بشهرة حالة العدالة وحالة الجرح عند الناس فقل ما ينفرد القاضي بعلمهم ذلك دون غيره فترتفع المظنة عنه وتبعد التهمة عنه لاشتراك الناس معه في معرفة ما حكم به في حق المعدل أو المجرح من كلتا الحالتين، قاله الإمام المازري، وينبغي أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود ليحكم بشهادتهم لا بعمله ولا يجوز للقاضي أن يقضي بما علمه في مجلس القضاء بأن أقر بين يديه طائعا (1) . ودليل المالكية على الجواز ما أخرجه الستة وأحمد عن أم سلمة من قوله صلى الله عليه وسلم ((إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخية شيئًا فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من النار)) فدل الحديث على أنه يقضي بما يسمع لا بما يعلم وقال النبي صلى الله عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي: ((شاهداك أو يمينك ليس لك منه إلا ذلك)) ، رواه الشيخان وأحمد عن الأشعث بن قيس. وقضت الحنفية في قضاء القاضي بعلم نفسه بالمعاينة أو بسماع الإقرار أو بشهادة الأحوال فإن قضي بعلم حدث له في زمن القضاء وفي مكانه بالحقوق المدنية كالإقرار بمال الرجل، أو بالحقوق الشخصية كطلاق رجل لامرأته أو في بعض الجرائم كقصف وقتل إنسان جاز قضاؤه ولا يجوز قضاؤه بعلم نفسه في الحدود الخالصة لوجه الله عز وجل وإلا أن في السرقة يقضي بالمال لا بالقطع لأنه يحتاط في الحدود مالا يحتاط في غيرها وليس من الاحتياط الاكتفاء بعلم نفسه.   (1) الاتفاق والإحكام في شرح تحفة الحكام لمحمد بن أحمد ميارة الفاسي: 1 /29- 30 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2501 ثانيا: أن يقضي بعلم نفسه قبل أن يقلد منصب القضاء أو بعد أن قلده، ولكن قبل أن يصل إلى البلد الذي ولي قضاءه فهذا لا يجوز أن يستند إلى علمه عند أبي حنيفة أصلا وعند صاحبيه يجوز فيما سوى الحدود الخالصة لله عز وجل قياسًا على جواز قضائه فيما علمه زمن القضاء، ورد هذا القياس بالفرق بين الحالتين ذلك أن العلم المستفاد في زمن القضاء علم في وقت يكون القاضي فيه مكلفًا بالقضاء فأشبه البينة القائمة فيه، أما العلم الحاصل في غير زمن القضاء فلا يصلح لأنه ليس في معنى البينة فلم يجز القضاء به لأن البينة المعتبرة أن يسمع القاضي الشهود في ولايته، أما ما يعلمه قبل ولايته فهو بمنزلة ما يسمعه من الشهود قبل ولايته، وهو لا قيمة له فأبو حنيفة يرى أن ما كان من حقوق الله كالحدود الخالصة له، لا يحكم القاضي فيها بعلمه لن حقوقه سبحانه مبنية على المسامحة والمساهلة أما حقوق الناس مما علمه القاضي قبل ولايته لا يحكم به وما علمه في ولايته حكم به (1) . والمعتمد عند المتأخرين من الحنفية والمفتى به عدم جواز استناد القاضي في قضائه لعلمه مطلقًا في هذا الزمان لفساد قضاة الزمان (2) أما الشافعية، فالأظهر عندهم أن القاضي يقضي بعلمه قبل ولايته أو في أثنائها في محل ولايته أو غيرها سواء أكان في الواقعة بينه أم لا إلا في حدود الله تعالى وعلى هذا فيجوز للقاضي أن يقضي بعلمه في الأموال وفي القصاص وحد القذف على الأظهر لأنه إذا حكم بما يفيد الظن وهو الشاهدان فقضاؤه بما يفيد القطع وهو عمله أولى، أما الحدود الخاصة لله تعالى كالزنا والسرقة والمحاربة وشرب المسكرات فلا يقضي بعلمه فيها، لأن الحدود تدرأ بالشبهات ولأنه يندب سترها لكن إن اعترف أحد بموجب الحد ومجلس الحكم قضى فيه بعلمه (3) لقوله صلى الله عليه وسلم: ((واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)) (4) وفي قصة العسيف (أى الأجير) الذي زنى بامرأة. وعند الحنابلة ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره لا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها، قال ابن قدامة: وهذا قول شريح والشعبي ومالك وإسحاق وأبي عبيد ومحمد بن الحسن، وهو أحد قولي الشافعي وعن أحمد رواية أخرى يجوز له ذلك، وهو قول أبي يوسف وأبي ثور والقول الثاني للشافعي واختيار المزني لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت له هند إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطينا من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال لها: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) وهو حكم لها من غير بينة ولا إقرار لعلمه بصدقها ولأن الحاكم يحكم بالشاهدين لأنهما يغلبان على الظن، فما تحققه وقطع به كان أولى ولاية بحكم تعديل الشهود وجرحهم فكذلك في ثبوت الحق قياسًا عليه والظاهر من مذهب الحنابلة أن القاضي لا يستند إلى علمه في حكمه على أحد المتخاصمين لما ورد في الحديث السابق من قوله: ((ولعل بعضكم أن يكون ألحن من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه)) فدل على أنه يقضي بما يسمع لا بما يعلم ولقوله صلى الله عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي: ((شاهداك أو يمينه ليس لك منه إلا ذاك)) ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنه تداعى عنده رجلان، فقال له أحدهما أنت شاهدي فقال إن شئتما شهدت ولم أحكم ولا أشهد ونحن وإن قلنا خلاف المذاهب الأربعة في استناد القاضي لعلمه في أحكامه، فقد نقلنا عن ابن عابدين اتفاق الفقهاء على عدم جواز استناد القاضي لعلمه في أحكامه معللًا ذلك بتغير الزمان وفساد الأخلاق وغلبة أخذ الرشاوى والفساد في القضاة فيما بعد، ولهذا أجمع المتأخرون على عدم جواز استناده لعلمه، فإن أراد أن يشهد بما في علمه فعليه أن يتخلى عن القضاء في القضية التي يعلمها (5) .   (1) المبسوط للسرخسي: 16 /93؛ البدائع: 7 /7؛ مختصر الطحاوي: ص 332 (2) الدر المختار ورد المحتار: 4 /369 (3) مغني المحتاج: 4 / 398 (4) أخرجه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة. (5) المغني، لابن قدامة: 9 /18 و 19 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2502 وكم من حكم كان مستنده على أحوال الناس وأخلاقهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وتبدلت الأحوال بعد ذلك وتغيرت وفسدت الأخلاق خلال الحكم النبوي بحكم يتماشى وغرض الشارع في تحقيق جلب المصالح ودرء المفاسد وصيانة الحقوق وهذا مما سلكه الصحابة الكرام بعد عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن ذلك ما رواه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ضالة الإبل هل يلتقطها من وجدها لتعريفها وردها على صاحبها حين يظهر، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التقاطها، وقال لمن سأل عنها: ((مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد المال وتأكل الشجر حتى يجدها ربها)) ، والحذاء الخف والسقاء الجوف، وسأله عن الشاة فقال خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب، وقد رجح الحنابلة أن كل حيوان يقوى على الامتناع من صغار السباع وورود الماء لا يجوز التقاطه ولا التعرض له سواء كان لكبر حجمه كالإبل والخيل والبقر أو لطيرانه كالطيور كلها أو لسرعته كالظباء والصيود أو بغابة كالكلاب والفهود وجاء عن عمر رضي الله عنه من أخذ ضالة فهو ضال أي مخطئ، وبهذا قال الشافعي والأوزاعي وأبو عبيد وقال مالك والليث في ضالة الإبل من وجدها في القرى عرفها ومن وجدها في الصحراء لا يقربها ورواه المزني عن الشافعي وكان الزهري يقول من وجد بدنة فليعرفها، فإن لم يجد صاحبها فلينجزها قبل أن تنقضي الأيام الثلاثة وقال أبو حنيفة ولفظ يباح التقاطها لأنها لقطة أشبهت الغنم والبقر كالشاة عند مالك وهو ملحق بالإبل عند جماعة. وقد ظل حكم ضالة الإبل وتركها وعدم التقاطها إلى آخر عهد عمر بن الخطاب فلما جاء عهد عثمان بن عفان أمر رضي الله عنه بالتقاطها وبيعها على خلاف ما أفتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن ضالة الإبل وقال عثمان: فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها قال الباجي في المنتقى: فلما كان في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما ولم يؤمن عليهما لما كثر في المسلمين من لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم وكثر تعديهم عليها أباحوا أخذها لمن التقطها ورفعها إليهم ولم يروا ردها إلى موضعها، وقد كان عمر بن الخطاب أمر ثابت بن الضحاك بتعريفها ثم أباح له ردها إلى موضعها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2503 قال الباجي: وإنما اختلفت الأحكام في ذلك لاختلاف الأحوال، وقد قال مالك فيمن وجد بعير: فليأتِ به الإمام يبيعه يجعل ثمنه في بيت المال قال أشهب: إذا كان الإمام عدلا ومعنى ذلك أنه أمن عيها من التعدي فيها فيتركها في موضعها أفضل لأنه يؤمن عليها ضياعها من غير هذا الوجه، ويستغني عن الانفاق عليها والتمون لها وقصد صاحبها إلى ذلك الموضع وتتبع أثرها منه أيسر عليه من طلبها في الآفاق البعيدة، لأنه لا يدري من آواها قريب الدار وبعيدها، فإن خاف عليها متعديًا يتلف عينها؛ كأن أخذها ورفعها إلى الإمام ينظر فيها لصاحبها أفضل له وأمن عليه، والله أعلم وأحكم. وهذا معنى ما روي عن عمر بن عبد العزيز يحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور (1) فهذا وإن خالف أمر الرسول في الظاهر فهو موافق لمقصوده إذ لو بقي العمل على ما كان عليه في عهد الرسول لأدى ذلك إلى عكس مقصد الشارع وهو صيانة الأموال وحفظها من الهلاك والذوبان. من هذا القبيل أيضًا نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة سننه، فقد ثبت عنه ((من كتب عني غير القرآن فليمحه)) واستمر الأمر بعدم كتابة الأحاديث بين الصحابة والتابعين يتناقلون السنة النبوية حفظًا وتلقينًا ودام ذلك إلى آخر القرن الأول من الهجرة وفي مطلع القرن الثاني انصرف العلماء إلى تدوين السنة النبوية لأنهم خافوا ضياعها بموت حفاظها وأدركوا أن سبب نهيه عليه السلام عن كتابة الأحاديث إنما هو خشية وقوع اللبس والاختلاط بين القرآن والسنة، فلما زال موجب هذا الاختلاط لم يبقَ مانع من كتابة الحديث، بل صار من الواجب تدوينه لحفظ السنة النبوية، ولقد نقلنا عن ابن عابدين أنه لا بد للحاكم من وفقه في أحكام الحوادث الكلية وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس حتى يميز بين الصادق والكاذب وبين المحق والمبطل وحتى يطابق بين هذا وذاك، كما أن المفتي لا بد له من معرفة عرف الناس وعاداتهم ومن معرفة الزمان وأهله ومعرفة ما إذا كان العرف عاما أو خاصًا حتى إن من جهل ذلك ولم يكن عالما بأحوال أهلها وعاداتهم وأعرافهم ومقتضيات ألفاظهم فهو جاهل (2) . ولهذا المعنى اشترط فقهاء المالكية أن يكون القاضي بلديا حيث الذي يعرف أحوال أهلها وعاداتهم وأعرافهم ومعاني من ألفاظهم في اصطلاحهم وعاداتهم قال الإمام محمد بن أحمد ميارة فيما يشترط في القضاء: تنبيه زاد ابن الحاجب في الشروط المستحبة كونه غنيًا لا دين عليه بلديًّا معروف النسب غير محدود، حليمًا مستشيرًا لا يبالي لومة لائم، سليمًا من بطانة السوء غير زائد في الدهاء.   (1) المنتقى. شرح موطأ الإمام مالك، لأبي الوليد الباجي 6 /139، 140 (2) نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /128 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2504 قال ابن عبد السلام والظاهر الاكتفاء بالغنى عن عدم الدين واستحب كونه بلديًّا ليعرف الناس والشهود، والمقبولين من الشهود وغيرهم (1) فمعرفة عوائد القوم وعاداتهم يعين القاضي على أن يوفق إلى طرق الصواب. وقد أجريت الصدقات والأوقاف من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه منها صدقة عمر الذي أشار بها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك صدقة أبي طلحة الأنصاري فإنها كانت بإشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك صدقة عثمان ببئر رومة، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين)) فاشتراها عثمان رضي الله عنه وتصدق بها على المسلمين كذلك تصدق سعد بن عبادة بمخراف له عن أمه توفيت، فكانت هذه الصدقات أوقافًا ينتفع المسلمون بثمرتها على تفصيل شروطها فلا شبهة وإن مقاصد الشريعة إكثار هذه العقود، فلذا تعجب مالك رضي الله عنه من القاضي شريح في منفعة التحبيس وقال لما أخبر بمقالة شريح: (رحم الله شريحًا تكلم ببلاده ولم يرد المدينة فيرى آثار الأكابر من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه والتابعين بعدهم وما حبسوا من أموالهم وهذه صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع حوائط وينبغى للمرء أن لا يتكلم إلا بما أحاط به خبرًا (2) ، وفي شرح الزقاقية قيل لابن عبد السلام التونسي: إن هؤلاء القوم امتنعوا من توليتك القضاء لأنك شديد في الحكم فأجاب: أنا أعرف العوائد وأمشيها (3) ولهذا قال الصنهاجي في مواهب الخلاف: ينبغى للقاضي أن يكون عارفًا بعوائد أهل البلد الذي ولي به ليجزي الناس على عوائدهم وأعرافهم المنزلة منزلة الشرط المدخول عليه صريحًا (4) ، ولا شك أن الحكمة في معرفة أحوال الناس وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم تعين كثيرًا القاضي إلى بلوغ الهدف والصواب والأحكام بين أهل الخصام خصوصًا فيما لا نص فيه على أن القاضي بمعرفته لعادات وتقاليد القوم يتضح له ويميز بين المدعى عليه فينكب عن الخطأ في تكليف أحد المتخاصمين بغير ما عينه الشارع له، فإن المدعى عليه من عضده أصل أو عرف وأنه إن شهد لأحدهما الأصل وللآخر العرف كان من شهد له العرف هو المدعى عليه (5) قال القرافي في الفرق الستين والمائة، وقال مالك في المدونة إذا اختلف الزوجان قضي للمرأة بما هو شأن النساء وللرجال بما هو شأن الرجال وما يصلح لهما قضي به للرجل لأن البيت بيته في مجرى العادة وهو تحت يده فيقدم لأجل اليد ووافق مالكًا أبو حنيفة والفقهاء السبعة رضي الله عنهم أجمعين، وقال الشافعي: لا يقدم أحدهما على الآخر إلا بحجة ظاهرة كسائر المدعين وقياسًا على الصباغ والعطار إذا تداعيا آلة العطر أو الصبغ فإنه لا يقدم أحدهما على الآخر إلا بحجة ظاهرة وإن شهدت العادة بأن الآلة للعطار وآلة الصبغ للصباغ فكذلك ههنا، قال ابن يونس: إذا فرعنا على مذهب مالك يحلف من قضى له، وقال سحنون ما عرف لأحدهما لا يحلف، وقال ابن القاسم: ما كان شأن الرجال وشأن النساء قسم بينهما بعد يمينهما لاشتراكهما في اليد وما ولي الرجل شراءه من متاع البيت وشهدت له البينة أخذه بعد يمينه ما اشتراه إلا له وكذلك المرأة، فإن اختلفا في البيت نفسه فهو للرجل لأنه ملكه في غالب العادة ولأن يده عليه، قال ابن يونس: الذي يختص بالرجل نحو العمامة فالقول قوله فيه بغير يمين إلا أن تدعي المرأة إرثه فيحلف، قال ابن حبيب: ولا يكفي أحدهما أن يقول هذا لي لأنه متاع البيت حتى يقول: هذا ملكي قال عبد الحق: وتهذيب الطالب لو تنازعا في رداء، فقال: هو لها إلا الكتاب بأن قال: اشتريته، فقال: اصبغ له بقدر كتانة ولها بقدر عملها لأنه لو ادعاه صدق (6)   (1) الإتقان والإحكام في شرح تحفة الأحكام، لميارة: 1 /13 (2) مقاصد الشريعة الإسلامية، للعلامة محمد الطاهر بن عاشور: ص 189، 190 (3) شرح الزقاقية، لعمر الفاسي: ص 248 (4) مواهب الخلاق على شرح التاودي، للامية الرقاق، للصنهاجي: 2 /243 (5) الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية، لشيخ الإسلام محمد العزيز جعيط: ص 57 (6) الفروق للقرافي، الفرق بين المتداعين شيئا لا يقدم أحدهما على الآخر إلا بحجة ظاهرة وبين قاعدة المتداعين من الزوجين: 3/ 188، ط بولاق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2505 والعرف إذا تغير تغير الحكم بتغيره في كل ما كان مرجعه للعرف، فقد قال القرافي: إذا جاءك رجل من غير إقليمك لا تجره على عرف بلدك والمقرر في كتبك فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أيا كانت إضلال في الدين وجهل بمقاصد المسلمين والسلف الماضي (1) ، وقد ذكر في الأحكام أن الصحيح في هذه الأحكام الواقعة في مذهب مالك والشافعي وغيرهما المترتبة على العوائد والعرف اللذين كانا صالحين حالة جزم العلماء بهذه الأحكام، إذا تغيرت تلك العوائد وصارت تدل على ضد ما كانت تدل عليه أولًا فهل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في الكتب ويفتى بما تقتضيه العوائد المتجددة، أو يقال: نحن مقلدون ومالنا شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد فنفتي بما في الكتب المنقولة من المجتهدين، قال القرافي: فالجواب أن جري هذه الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين بل كل ما في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة وليس ذلك تجديدًا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هي قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير اجتهاد، ألا ترى أنهم أجمعوا على أن المعاملات إذا أطلق فيها الثمن يحمل على غالب النقود، فإذا كانت العادة نقدًا معينًا حملنا الإطلاق عليه، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عينًا من انتقلت العادة إليه وألغينا الأول لانتقال العادة عنه، وكذلك الإطلاق في الوصايا والأيمان وجميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد وكذلك الدعاوي إذا كان القول قول من ادعى شيئًا لأنه العادة ثم تغيرت العادة لم يبقَ القول قول مدعيه، بل انعكس الحال فيه ولا يشترط فيه تغير العادة، بل لو خرجنا نحن من ذلك البلد إلى بلد آخر عوائدهم على خلاف عادة البلد الذي كنا فيه أفتيناهم بعادة بلدهم ولم تعتبر عادة البلد الذي كنا فيه وكذلك إذا قدم أحد من بلد عادته مضادة للبلد الذي نحن فيه لم نفته إلا بعادة بلده. تعارض العرف مع غيره من الأدلة: لا يخلو الأمر من أن يعارض العرف نصًا من كتاب أو سنة أو أن يعارض دليلًا آخر من قياس واستحسان ومصلحة مرسلة والنص لا يخلو حالة من أن يكون خاصا أو عامًا، فإذا كان النص خاصًّا وكان العرف بخلافة فلا اعتداد لهذا العرف ولا اعتبار به، وقد كانت كثيرًا من العادات المتعارفة عند العرب قد أبطلها الشرع بورود النصوص بخلافها لذا أن من المتفق عليه أنه مهما كان العرف مخالفا للنص الوارد من الشرع عملنا بالنص وتركنا العرف المخالف. ذلك أن النص أقوى من العرف ولا يترك الأقوى بالأضعف، كما قال السرخسي في مبسوطه (2) ، وقد بسطنا فيه القول في ما تقدم ونقلنا كلام الإمام الشاطبي في ذلك موضحين أنه لو كنا نعتد بالعرف مع وجود النص من الكتاب والسنة لنقضنا الشريعة ولعطلنا العمل بها ولم يبق لها معنى كما قاله الشاطبي (3) .   (1) الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي: ص 68؛ والتبصرة، لابن فرحون: 2 /69 (2) المبسوط: 12 /196 (3) الموافقات للشاطبي: 2 /283 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2506 فالعرف إذن لا يعمل به إلا في الحدود التي تركها الشرع للمكلفين في ميادين الأعمال والالتزامات دون الحالة التي تولى الشارع فيها بنفسه تحديد الأحكام فيها على سبيل الإلزام فلا اعتبار للعرف في مخالفته للنص، إلا أن النص الوارد إذا كان صدوره مبنيًا على العرف ومعللًا به، فإن هذا النص يكون قد لاحظ عرف الناس فيدور حنيئذ حكمه مع العرف ويتبدل بتبدله (1) مثاله الحديث المروي عن عبادة بن الصامت: الذهب بالذهب مثلًا بمثل، والفضة بالفضة مثلًا بمثل، والفضة بالفضة مثلًا بمثل، والتمر بالتمر مثلًا بمثل، والبر بالبر مثلًا بمثل، والملح بالملح مثلًا بمثل، والشعير بالشعير مثلًا بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، رواه مسلم لقد اتفق العملاء على أن ربا الفضل لا يجري إلا في الجنس الواحد إلا سعيد بن جبير، فإنه قال: كل شيئين يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلًا كالحنطة والشعير والتمر والزبيب والذرة بالدخن لأنهما يتقارب نفعهما فجريا مجرى نوعي جنس واحد، واتفق الفقهاء على أن علة الذهب والفضة واحدة وعلة الأعيان الأربعة واحدة، ثم اختلفوا في علة كل واحد منهما فقيل: إن العلة في الذهب والفضة كونه موزون جنس وعلة الأعيان الأربعة مكيل جنس وهو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي فيجرى لا ربا في كل مكيل أو موزون من جنسه مطعومًا كان أو غير مطعوم كالحبوب والنورة والقطن والصوف والكتان والحناء والحديد والنحاس ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن فيجوز بيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل لأن العلة المساواة والمؤثر في تحقيقها الكيل والوزن والجنس، لأن الكيل والوزن يسوى بينهما صورة والجنس يسوى بينهما معنى، فكانا علة ولأنا وجدنا الزيادة في الكيل محرمة دون الزيادة في الطعم بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة، فإنه جائز إذا تساووا في الكيل وقيل: إن العلة في الأثمان الثمنية وفيما عداها الطعمية فيختص بالمطعومات ويخرج منه ما عداها وهو قول الشافعي، فالعلة الطعم والجنس الشرط والعلة في الذهب والفضة جوهرية الثمنية غالبًا فيختص بالذهب والفضة، ولما روى معمر بن عبد الله ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلًا بمثل)) رواه مسلم، ولأن الطعم وصف شرف إذ به قوام الأبدان والثمنية وصف شرف إذ بها قوام الأموال فيقتضى التعليل بهما ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن لم يجز إسلافها في الموزونات لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النسا (2) .   (1) المدخل الفقهي العام: 2 /888 (2) المغني، لابن قدامة:4 / 1 وما بعدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2507 وعند مالك العلة هي مجموع الاقتياد والادخار فهذا هو علة المنع في الربوي، وهذا هو القدر المشترك بين الأنواع الأربعة الأخيرة المناسب للتحريم، وقد نبه صلى الله عليه وسلم بذكرها ليبقى للعلماء مجال في الاجتهاد ويكون داعيا لبحثهم الذي هو من أعظم القرب فجاء في الحديث ((لا تبيعوا الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا مثلًا بمثل سواء بسواء يدًا بيد، فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إن كان يدًا بيد)) ولقد نبه صلى الله عليه وسلم بذكرها ونص على البر الذي هو قوت اليسر والشعير الذي هو قوت العسر لينبه بهما على الوسط كالأرز والدخن والذرة والسلت وذكر التمر لينبه به على المقتات المدخر الذي فيه ضرب من التفكه، كالزبيب والعسل والسكر وذكر الملح لينبه به على مصلح الأقوات، وإنما كان مجموع الاقتياد والادخار علة منع ربا التفاضل لأن ما اتصف به شرف مناسب أن لا يبدل كثيره بقليله الاقتياد والادخار علة منع ربا التفاضل لأن ما اتصف به شرف مناسب أن لا يبدل كثيرة بقليله صونًا للشرف عن الغبن وجاز التفاضل في الجنسين لمكان الحاجة في تحصيل المفقود وامتنع النساء في الطعام مطلقًا إظهارًا لشرفه على غيره وللمقتات منه شرف على غيره لعظم مصلحته فيزيد فيه شرط التماثل وهذا أيضًا سبب تحريم الربا في النقدين لأنهما رؤوس الأموال وقيم المتلفات فشرفا بذلك عن الغير وبهذا اتضح أن مسلك علة الربا المناسبة، وهي أن يكون في محل الحكم وصف يناسب ذلك الحكم وصف يناسب ذلك الحكم أي يتوقع من ترتيب الحكم عليه حصول مصلحة أو درء مفسدة فيكون اتحاد الجنس في ربا الفضل شرطًا في اعتبار العلة لا جزءا لها لعزوه عن المناسبة، ثم إن القدر المعهود في الشرع بكيل أو وزن المعتبر في الموزون وفي المكيل هو ما كان عليه عرف المسلمين في صدر الإسلام وذلك لما رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة)) كما في جامع الأصول (1) . وإن كان أبو يوسف رحمه الله تعالى يرى أن المقياس المعتبر في الأصناف الربوية هو المقياس العرفي الحاضر وكلامه جلي لأن المكيال والميزان مما يختلف باختلاف العرف وهو يتبدل بتدبل الزمان والمكان كما نص على ذلك الأستاذ الزرقاء (2) وربا الفضل يختص بالمقدرات المثيلة من مكيل أو موزون فقط، لا مزروع ولا معدود فليس في ذلك ربا، أما الأموال القيمية كأفراد الحيوانات والأراضي والدور والأشجار فلا يجرى فيها ربا الفضل لأنها ليست من المقدرات التي تجمع بين أفرادها وحدة مقياس ومقدار معين فيجوز إعطاء الكثير منها في مقابلة القليل من جنسه فيجوز بيع غنمة بغنمتين لأن ربا الفضل زيادة أحد المتجانسين على الآخر في المقدار والكمية والقيمية ليست من المقدرات (3) .   (1) جامع الأصول: 1 /371 (2) المدخل الفقهي، للأستاذ الزرقاء: ص 514 (3) الدر المختار: 4 /185 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2508 وقد روى أبو داود والترمذي ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتاع عبدًا بعبدين)) ، قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح وبناء على ما نقلنا فما كان كان وزنيًّا كالذهب والفضة، فالمعتبر فيه الوزن وما كان كيليًّا كالحنطة والشعير والملح والتمر، فالمعتبر فيه الكيل وهذا الحكم يقوم على أساس وجوب التساوي في الكميات المبدلة في الجنس الواحد ولا خلاف بين العلماء في أن التساوي يعتبر شرعًا بالمقياس العرفي في كل صنف، فما كان وزنيًّا عرفًا كالزبيب والسمن يجب تساوي الكميات فيه بالوزن وما كان كيليًّا يجب فيه التساوى بالكيل وإذا تبدل العرف في مقياس شيء وأصبح كليليًا مثلًا بعدما كان وزنيًّا أو أصبح وزنيًّا بعدما كان كيليًّا ككثير من الأشياء التي نتعامل بها في هذا الزمان فيتبدل المقياس الربوي فيه تبعًا للعرف وقد ورد النص في الأصناف الستة فهل يقتصر على ما ورد به النص وهو ما ذهب إليه أبو يوسف وما ذكر في الحديث إنما ذكر فيها ما كان مقياسًا متعارفًا على عهد الرسول بحيث لو كان العرف فيها على مقياس آخر لورد النص معتبرًا به. ومن النصوص التي اعتبرها بعضهم مبنية على العرف ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها)) . أخرجه مسلم وأحمد وأرباب السنن عن ابن عباس وعن أبي هريرة رضي الله عنه، كما في البخاري وغيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن)) ، قالوا: يا رسول الله: كيف إذنها؟ قال: ((أن تسكت)) وقد ذهب الحنفية إلى أن الأمر للوجوب فيجب على أبي البكر البالغة استئذانها في التزويج، فإذا زوجها من غير إذنها كان الزواج موقوفًا على إذنها، أما البكر غير البالغة فلا إرادة معتبرة لها، فلا يجب استئذانها إجماعًا وإلى وجوب الاستئذان ذهب الأوزاعي والثوري وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم ويؤيد ما ذهبوا ليه ما رواه ابن عباس: أن جارية بكرًا أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق إلى أن الأمر هنا أمر ندب وإرشاد وأنه يجوز للأب أن يزوجها بغير استئذان والذي صرف الأمر عندهم عن الوجوب هو أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس فرق في الحكم بين الثيب والبكر فجعل الثيب أحق بنفسها ما اقتضى نفي ذلك عن البكر فيكون أحق بها منها، وعلى كل فقد اعتبر سكوت البكر إذنًا في تزويجها من رجل معين وبمهر معين، فكان سكوتها توكيلا وهو مبني على العرف والمعروف فيها من الخجل عن إظهار رغبتها في الزواج عند استنفار وليها لها في العادة قاضية بأن السكوت علامة الرضا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2509 فإذا ما تغيرت هذه العادة كما في هذا الزمان حيث أصبحت الفتاة لا تتحرج من إعلان رغبتها وأصبح لا فرق بين البكر وبين الثيب فهل عندئذ لا يكفي السكوت بل لا بد من صريح اللفظ وإبداء الرأي وقد مال إلى هذا بعض المجددين اعتبارًا لما عليه بنات اليوم وبالأخص اللاتي تخلقن بأخلاق الأجنبيات من الأوروبيات من أبناء المدن وعندي أن هذا ليس من باب تبدل العادات وإنما هو من فساد الأخلاق وانحلالها بدليل أن الأغلبية الساحقة من فتيات القرى والمداشر لم يتغيرن، وإنما هي فئة قليلة خرجت عن عادات بلادها وتقاليدها وانصهرت وتطبعت بأخلاق الأوروبيات وانحرافها، وإن أعظم مسؤول في هذا الانحلال هم الأولياء الذين لم يرعوا بناتهم ولم يوجهوهن توجيهًا إسلاميًّا يتماشى والفطرة البشرية، فالأسرة تتحمل القسط الأوفر من ذلك، ثم التوجيه المدرسي الذي لم يعر وزنًا للتربية الدينية الإسلامية وإلا فإن البكر في الأسر المحافظة الملتزمة مازالت محتشمة لا تجرؤ على معاكسة أبيها ومخالفة ما وافق هو عليه، لأنها تعلم علم اليقين أن الأب الصالح لا يختار لابنته إلا ما فيه صلاحها وسعادة مستقبلها. نعم من الآباء من لا خلاق لهم يجرون وراء المادة، فيدفعون بناتهن قربانًا لشهواتهم ونهمهم وحبهم للدرهم والدينار فجعلت غشاوة على قلوبهم حتى لا يدركوا إلا مصالحهم الخاصة وإن ذهبت بناتهم فداء، ولذا جعل الشرع الحق لمثل هؤلاء أن يعترضن على آبائهن عن سوء اختيارهم ولو أحسنت الآباء تربية الأبناء وقاموا بواجبهم نحوهم كما أمرت الشريعة لما انقلبت الأوضاع وفسدت الأخلاق وانحلت القيم، ولو فتحنا هذا الباب على مصراعيه من غير إمعان وتثبت لما يعتبر من تغير العادات وما لا يعتبر شرعًا لأدى ذلك إلى هدم الشريعة بالتأويل والتعليل لنصوصها وفي ذلك من الخطر على هذه الشريعة ما فيه وعلينا أن نتثبت فيما تدعو إليه الضرورة وتقتضيه تغير الأحوال بتغير الزمان وتغير المصالح والمفاسد أما العادات الجارية على حسب الهوى والتابعة للذات والشهوات فلو فتح هذا الباب لاستباح الناس كثيرًا من المحرمات واستحسنوا كثيرًا من الرذائل الموبقات، وذلك بدعوى الحداثة والتجدد، وقد جاء في حديث البخاري الذي أخرجه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذارعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم)) ، قلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى قال: ((فمن)) ، فأعلم صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات في الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم وهذا واقع ملموس مشاهد كل يوم في غالب البلدان الإسلامية في ملوكها وعلمائها وقضاتها. معارضة العرف للنص العام: ذكرنا فيما تقدم معارضة العرف للنص الخاص وهنا سنبحث معارضته للنص العام وهذه المعارضة إما أن تكون مقارنة لورود النص أو متأخرة عنه، فإذا ورد النص مقارنا للعرف لو كان العرف سابقًا عن النص، فإن كان العرف لفظيًّا فقد اتفق الفقهاء على اعتباره ومعنى ذلك أن يحمل اللفظ الوارد على المعنى العرفي أي على المعنى المتبادر لأذهان الناس عملًا بقاعدة يحمل اللفظ على المعنى الحقيقي ما لم تقم قرينة توجب حمله على المعنى المجازي ذلك أن العرف اللفظي يصير المعنى المتعارف حقيقة عرفية ولا شك أن الحقيقة العرفية مقدمة على الحقيقة اللغوية والنقل العرفي يجعل اللفظ حقيقة عرفية بالوضع وغلبة الاستعمال والحقيقة العرفية هي التي انتقلت عن مسامها اللغوي إلى غيره للاستعمال العام بحيث هجر الأول، قال فخر الدين الرازي في المحصول: وذلك إما بتخصيص الاسم ببعض مسمياته كالدابة فإنها وضعت لغة لكل ما يدب كالإنسان فخصصها العرف العام بما له حافر وإما باشتهار المجاز بحيث يستنكر معه استعمال الحقيقة كإضافتهم الحرمة إلى الخمر، وهي في الحقيقة مضافة إلى الشرب أو بالاصطلاح الخاص، وهي الحقيقة العرفية الخاصة وهي ما لكل طائفة من العلماء من الاصطلاحات التي تخصهم كاصطلاح الفقهاء على القلب والنقض والجمع والفرق (1) وكاصطلاح النحاة على الرفع والنصب والجر والحقيقة الشرعية وهي اللفظ المستعمل المستفاد من الشارع وضعها كالصلاة للأفعال المخصوصة والزكاة للقدر المخرج والحرث والماشية والمال (2) .   (1) القلب نقله النظار من معناه اللغوي إلى ربط خلاف ما قاله المستبدل بعلته للإلحاق بأصله ونقلوا النقض من معناه اللغوي إلى إبداء الوصف المدعى علته بدون الحكم، ونقلوا الجمع من معناه اللغوي للجمع بين الفرع والأصل في حكم بعلة مشتركة ونقلوا الفرق من معناه اللغوي لجعل خصوصية الأصل علة الحكم وجعل خصوصية الفرع مانعًا، انظر حاشية بخيت بأسفل شرح المنهاج 2 /151 (2) الإسنوي على المنهاج للبيضاوي بحاشية الشيخ بخيت: 2 /150 شرح القرافي على المحصول خط: 1 /337 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2510 قال القرافي: وفي نفاس الأصول في شرح المحصول الوضع له ثلاثة معان: جعل اللفظ دليلًا على المعنى كتسمية الولد زيدًا ومنه تسمية اللغات ووضعها، ويقال: الوضع على غلبة الاستعمال للفظ في المعنى حتى يصير أشهر من غيره وهذا هو وضع الحقائق الثلاث الشرعية كالصلاة للفعل المخصوص والعرفية العامة كالدابة للحمار والعرفية الخاصة كالجوهر والعرض عند المتكلمين، ويقال: الوضع على مطلق الاستعمال ولو مرة واحدة وهو قولهم من شرط المجاز الوضع أي سمع منهم مرة واحدة وهو قولهم من شرط المجاز الوضع أي يسمع منهم مرة واحدة التجوز لذلك النوع من المجاز، ولم يسموا مطلق الاستعمال وضعًا إلا في هذا الوضع (1) . وقد ذكر القرافي في الفرق بين العرف القولي يقضي به على الألفاظ ويخصصها وبين العرف الفعلي لا يقضي به على الألفاظ ولا يخصصها وبين أن العرف القولي أن تكون عادة أهل العرف يستعملون اللفظ في معنى معين ولم يكن ذلك لغة وهو قسمان الأول: في المفردات نحو الدابة للحمار والغائط للنجور والراوية للمزادة ونحو ذلك، وثانيهما: في المركبات وهو أدقها على الفهم وأبعدها عن التفطن وضابطها أن يكون شأن الوضع العرفي تركيب لفظ مع لفظ يشتهر في العرف تركيبه مع غيره وله مثل أحدها نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [سورة النساء: الآية 23] . وكقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [سورة المائدة: الآية 3] . فإن التحريم والتحليل إنما تحسن إضافتها لغة للأفعال، دون الأعيان فذات الميتة لا يمكن في العرف أن يقال هي حرام، فيما هي ذات بل فعل يتعلق بها وهو المناسب لها كالأكل للميتة والدم ولحم الخنزير والشرب للخمر والاستمتاع للأمهات والبنات ومن ذكر معهن ومن هذا الوادي قوله صلى الله عليه وسلم ((ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)) ، والأعراض والأموال لا تحرم، بل أفعال تضاف إليها فيكون التقدير ألا وإن سفك دمائكم وأكل أموالكم وثلب أعراضكم عليكم حرام وعلى هذا المنوال جميع ما يرد من الأحكام كان أصله أن يضاف إلى الأفعال، فإذا ركب مع الذوات في العرف وما بقي يستعمل في العرف إلا مع الذوات فصار هذا التركيب الخاص وهو تركيب الحكم مع الذوات موضوعًا في العرف للتعبير به عن تحريم الأفعال المضافة لتلك الذوات وليس كل الأفعال، بل فعل خاص مناسب لتلك الذوات. ثانيها أفعال ليست بأحكام كقولهم في العرف أكلت رأسًا وأكل رأسًا فلا يكادون ينطقون بلفظ الأكل كيف كان، بل لا تصرف إلا لرؤوس الأغنام دون جميع الرؤوس بخلاف رأيت رأسًا، فإنه يحتمل جميع الرؤوس ومن هذا القبيل ما جرى في مصر من مثل قتل زيد عمرًا فهو في اللغة موضوع لإذهاب الروح وهو في مصر ينصرف عرفًا للضرب خاصة، فيقولون: قتله الأمير بالمقارع قتلًا جيدًا، ولا يريدون إلا ضربه فهو من باب المنقولات العرفية وهي الطارئة على اللغة ومن هذا الباب قولهم فلان يعصر الخمر وهي لا تعصر، بل صار هذا التركيب موضوعًا لعصر العنب.   (1) نفائس الأصول في شرح المحصول للقرافي، خط:1 /340 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2511 ومقتضى اللغة أن لا يصح هذا الكلام إلا بمضاف محذوف تقديره فلان يعصر عنب الخرم، لكن أهل العرف لا يقصدون هذا المضاف بل يعبرون بهذا التركيب عن عنصر العنب كما يعبرون بتحريم الميتة عن تحريم أكلها، فهذا ونحوه مجاز في التركيب بالنسبة للغة حقيقة عرفية منقولة للمعنى الخاص بالعرف والعادة، ومن هذا الباب طحن دقيقًا وقتل قتيلًا لأن المقتول لا يقتل والمطحون لا يطحن، إذ تحصيل الحاصل من المحال ولكنه كلام صحيح في العرف والعادة، وهؤلاء لا يعرجون على هذه المضافات ولا ببالهم يخطر هذه المقدرات، بل صار هذا اللفظ المركب موضوعا لقتل الحي وطحن القمح، وهذا هو ما يعبر عنه بالحقائق العرفية في المفردات والمركبات وبهذا يفرق بين المجاز في المفرد والمركب، وبين الحقيقة العرفية فيهما فكل لفظ مفرد انتقل في العرف لغير مسماه وصار يفهم منه غير مسماه بغير قرينة، فهو حقيقة عرفية وكل لفظ أسند لغير من هو له من غير تأويل فهو منقول عرفي من المركبات والنقل العرفي مقدم على موضوع اللغة لأنه ناسخ للغة والناسخ يقدم على المنسوخ وهذا معنى قولنا إن الحقائق العرفية مقدمة على الحقائق اللغوية. أما العرف الفعلي فمعناه أن يوضع اللفظ لمعنى يكثر استعمال أهل العرف لبعض أنواع ذلك المسمى دون بقية أنواعه كلفظ الثوب صادق لغة على ثياب الكتان والقطن والحرير والوبر والشعر، وأهل العرف إنما يستعملون من الثياب الثلاثة الأول دون الأخريين، فهذا عرف فعلي كذلك لفظ الخبز يصدق لغة على خبز الفول والحمص والبر وغير ذلك غير أن أهل العرف إنما يستعملونه في الأخير من أغذيتهم دون الأولين فوقوع الفعل في نوع دون نوع لا يخل بوضع اللفظ للجنس كله فإن ترك مسمى لفظ ولم يباشر لا يخل بوضع اللفظ له فلفظ الياقوت وضع لحجر بخصوصه، فإذا لم تباشره فإن ذلك لا يخل بوضع لفظ الياقوت (1) . وإذا أدركنا الفرق بين العرف اللفظي والعرف العملي، أدركنا تأثير العرف اللفظي على المعاني وكيف أنه مقدم في الاستعمال على الحقائق اللغوية وعليه فألفاظ البيع والشراء والعقود كالإجارة والمساقاة والمغارسة ونحوها والصلاة والصيام وغيرها من العادات وعدة المرأة في الطلاق أو الوفاة ونحوها، فهذه كلها تحمل على المعاني العرفية والشرعية عند ورود النص بها، وإن اختلفت عن معانيها الوضعية في أصل اللغة، أما العرف العملي إذا ورد النص مخالفًا له فقد اختلف فيه هل يخصص به النص العام أم لا؟ وقد قال الشيخ عبد الله الشنقيطي في كتاب نشر العقود على مراقي السعود أن نصوص الشريعة لا يخصصها من العوائد إلا ما كان مقارنًا لها في الوجود عند النطق بها، أما الطارئة بعدها فلا تخصصها وإليه الإشارة بقوله.   (1) الفروق، للقرافي الثامن والعشرين: 1 /217 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2512 والعرف حيث قارن الخطاب (1) وهذا لا خلاف فيه بينهم في العرف اللفظي، أما العرف العملي فقد اختلف فيه الجماعة فقال بعضهم: لا يخصص عموم النصوص ولا يقيد مطلقاتها، وذهب جمهور المحققين إلى أن العرف العملي القائم عند ورود النص يخصص النص العام ويقيد المطلق خلافًا لما ذهب إليه القرافي من أن العرف العملي لا يصلح للتخصيص ولا للتقييد وقد تبعه في ذلك الونشريسي حيث ذكر أن العادة الفعلية لا تخصص العام (2) . وقد علق ابن الشاط قول القرافي، وقد حكى جماعة من العلماء الإجماع على أن العرف الفعلي لا يؤثر بخلاف العرف القولي، قال القرافي: ورأيت المازري في شرح البرهان حاول الإجماع في ذلك ونقل عن بعض الناس خلافًا في ذلك ونقل مثلًا عنه، وفي ذلك نظر فالظاهر حصول الإجماع فيه ولم أرَ أحدًا جزم بحصول الخلاف بل رأى كلامًا لبعض الناس أوجب شكًا وترددًا، وهو محتمل للتأويل فلا تناقض بين نقل الإجماع في المسألة وبين هذه المثل المشار إليها، ولقد وضح القرافي لما ذهب إليه من الفرق بين العرف القولي والعرف الفعلي بمسائل الأولى: إذا فرضنا أحدًا أعجميًّا يتكلم بالعجمة، وهو يعرف العربية، غير أنه لا يتكلم بها لثقلها عليه فحلف لا يلبس ثوبًا ولا يأكل خبزًا وكان حلفه بألفاظ العربية التي لم تجرِ هودته باستعمالها وكانت عادته في غذائيه لا يأكل إلا خبز الشعير، ولا يلبس إلا ثياب القطن، فإنا نحنثه بأي ثوب لبسه وبأي خبز أكله، سواء كان من عادته في فعله أم لا، وهذا إذا لم تجر له عادة باستعمال اللغة العربية لأنه لو كانت عادته استعمال اللغة العربية لكان طول أيامه يقول أكلت خبزًا وائتوني بخبز وعجلوا بالخبز والخبز على المائدة قليل ونحو ذلك ولا يريد في هذا النطق كله إلا خبز الشعير الذي جرت عادته به فيصير له في لفظ الخبز عرف قولي ناسخ للغة، فلا يحنث بغير خبز الشعير وكذلك القول في ثوب القطن بخلاف إذا كان لا ينطق بلفظ الخبز والثوب إلا على الندرة فإنه لا يكون له في اللفظ اللغوي عرف مخصص يقدم على اللغة فيحنث بعموم المسميات اللغوية من غير تخصيص ولا تقييد قال ابن الشاط: لا نسلم له تحنيثه بل لقائل أن يقول اقتصاره على أكل خبز الشعير ولبس ثياب القطن مقيد لمطلق لفظه ويكون حينئذٍ من قبيل بساط الحال فإن الأيمان إنما تعتبر بالنية، ثم ببساط الحال، فإذا عدما حينئذ يعتبر العرف، ثم اللغة أن عدم العرف وزاد القرافي في إقامة الحجة على أن العرف العملي لا يخصص ولا يقيد، وردها ابن الشاط بأن ذلك غير مسلم لقاعدة أن الاقتصار على بعض مسمى اللفظ في الاستعمال الفعلي من جنس البساط وذكر القرافي في المسألة الرابعة حمل اليمين على العرف ثم على النية، ثم على البساط قال ابن الشاط: وفيه نظر لأنه لا يخلو أن يترتب على يمينه تلك حكم أو لا يترتب، فإن لم يترتب عليها حكم، فالمعتبر النية، ثم السبب أو البساط، ثم العرف، ثم اللغة، وإن ترتب عليها حكم المعتبر، فالمعتبر العرف ثم اللغة لا غير.   (1) نشر البنود على مراتب السعود: 2 /46 (2) المنهج الفائق، والمنهل الرائق، والمغني اللائق بآداب الموثق، وأحكام الوثائق، ط. حجرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2513 معارضة العرف الخاص للنص العام: إذا كان هناك عرف خاص بجماعة دون جماعة أو بمكان دون مكان كعرف الصناع والتجار وبعض البلدان أو في بعض الصناعات، فالمعتمد أن هذا العرف لا يعتد به فلا يخصص النص الوارد ولو كان قائمًا عند ورود النص ذلك أنه إذا كان عرف بعض البلاد يقتضي التخصيص لذلك النص فعدمه لدى بقية الأماكن أو التجار والصناع لا يقتضيه ولا شك أن التخصيص لا يثبت بالشك. هل يكون العرف العملي أي الفعلي مخصصا؟ اختلفت المالكية في ذلك فجمهور المحققين منهم ذهبوا إلى أن العرف العملي القائم وقت ورود النص يخصص النص العام ويقيد النص المطلق خلافًا لما ذهب إليه القرافي من أن العرف الفعلي العملي لا يصلح للتخصيص والتقييد، وقد نقلنا كلامه آنفًا (1) فلقد صرح القاضي أوب عبد الله المقري في قواعده بأن العادة كالشرط عند مالك تقيد المطلق وتخصص العام كما رد أبو عبد الله محمد بن غازي على القرافي فيما ذهب إليه موضحًا أن مسائل المدونة وغيرها دالة على تخصيص العام بالفعلي كما يخصصه العرف القولي كما نقل شمس الدين محمد بن عرفة الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير للدردير نقل عن ابن عبد السلام أن ظاهر مسائل الفقهاء اعتبار العرف مطلقًا قوليها كان أو فعليًّا، كما نقل الوانوغى عن أبي الوليد الباجي أنه صرح بأن العرف العملي يعتبر مخصصًا أيضا، قال الدسوقى، وهو رأي القلشاني: هذا كله فيما إذا كان العرف سابقًا أو مقارنًا للنص، أما العرف المتأخر الحادث بعد ورود النص فلا يعتد به ولا يعمل عليه ولا يصلح بحال أن يكون مخصصًا للنص الشرعي بالإجماع، ولا فرق بين أن يكون عرفًا عامًا أو عرفًا خاصًا قوليًّا أو فعليًا ذلك أن مفهوم النص قد حدد مراد الشارع وكان نافذ المفعول، فلو قلنا بتخصيص العرف له لكان ناسخًا لحكم النص ولا ينسخ النص بالعرف، إذ من شرط اعتبار العرف الذي تحمل عليه الألفاظ أن يكون موجودًا حال صدورها مخصصًا أو مقيدًا لا ناسخًا (2)   (1) الفرق الثامن والعشرين: 1 /217، وما بعدها (2) التنقيح: ص 194 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2514 معارضة العرف للنص الاجتهادي: إذا كان الحكم مستفادًا بطريق القياس أو الاستحسان أو الاستصحاب. أو المصالح المرسلة من كل الأدلة الفرعية غير الكتاب والسنة والإجماع فإن العرف إذا عارض ذلك الحكم المستنبط من المجتهد يعتبر ويعتد به ومعنى ذلك أننا نأخذ بذلك العرف ونترك الحكم المعارض له الذي كان منشؤه القياس والاستحسان ونحوهما إذ العرف يرجح عليه عند التعرض وهذا هو الرأي الأرجح لدى الفقهاء، فالحكم الذي منشؤه القياس، فالعرف أولى منه، ولو كان عرفًا حادثًا، ولقد اعتبر الفقهاء هذا من قبيل الاستحسان، ذلك أن الاستحسان هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى أو هو تخصيص قياس بأقوى منه أو هو العدول إلى خلاف النظير لدليل أقوى منه أو هو العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس كدخول الحمام من غير تعيين زمن المكث ومقدار الماء المسكوب والأجرة وهذا كله خلاف الدليل لأن الدليل هو الذي أدى إلى وجوب تعيين المنفعة والأجرة في الإجارات وتعيين المبيع والثمن في المبيعات (1) وبما ذكرنا ندرك كيف أن العرف يترجح على القياس وهو يستند إلى نص تشريعي في الجملة باعتباره الأصل المقيس عليه فيترجح على الاستحسان والمصلحة المرسلة التي لا تستند إلى نص من باب أولى، ويتضح ذلك بضرب الأمثلة؛ القياس يقتضي أن الحاكم يستمع لكل دعوة ترفع إليه، ثم يقضي بين المدعي والمدعى عليه حسب ما يثبت لديه من الأدلة لكن ترك هذا القياس فيما إذا ادعت الزوجة المدخول بها أن زوجها لم يدفع إليها شيئًا من معجل الصداق وطلبت القضاء عليه بمهرها المعجل قالوا: لا تسمع دعواها هذه بل يردها القاضي دون أن يسأل عنها الزوج، وقد عللوا ذلك بالعرف والعادة ذلك أن عادة الناس قد اطردت بأن البنت لا تزف إلى بيت الزوجية ما لم يدفع الزوج المعجل من الصداق أو كل الصداق، فتكون دعواها حينئذ مما يكذبها العادة والعرف وظاهر العرف، وظاهر الحال وهو دعواها هذه الدعوى بعد الدخول والمكوث المدة في بيت الزوجية فلا تسمع دعواها، وقد نقل الشهاب القرافي أن الزوجة إذا ادعت بعد الدخول بها عدم قبض صداقها، فالقول للزوج مع أن الأصل القياسي عدم القبض (2) . وإذا تعارض العرف والأصل كان من شهد له العرف هو المدعى عليه والأصل هنا براءة الذمة لكن بعد تحقق عمارتها يكون الأصل استصحاب الحالة التي هي عمارتها حتى يتحقق الرافع لعمارتها وقد سقنا فيما تقدم جملة من الأمثلة مما تعارض به الأصل كتعارض براءة الذمة وعمارتها بعد شغلها وتعارض الصحة والمرض وتعارض الخطأ والعمد وتعارض الجهل والعلم وتعارض الغنى والفقر وتعارض الصحة والفساد أو تعارض الأصل والعرف (3) .   (1) شرح العضد على مختصر ابن الحاجب، ط: 2 /288 (2) شهاب الدين القرافي، الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص: 27. (3) محمد العزيز جعيط الطريقة المرضية: ص 42، وما بعدها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2515 فالأصل والقياس يقتضي أن لا يدفع الدين لغير صاحبه ولا ينفذ قبضه على الدائن ما لم يكن للقابض نيابة عن الدائن من ولاية أو وكالة ولكن الفقهاء تركوا القياس في البنت البكر البالغ إذا قبض أبوها مهرها من زوجها حين زفافها، واعتبروا هذا القبض نافذًا عليها ومبرئًا لذمة الزوج وذلك للعرف والعادة لأنه إذا تعارض الأصل مع العرف قدم العرف على الأصل والقياس ومن هذا القبيل دعوى المرأة على زوجها بعد الخلوة بها وبعد مفارقته لها أنه وطئها وأنكر هو الوطء فالزوجة قد شهد لها العرف والزوج قد شهد له الأصل إذ الأصل براءة الذمة ولكن رجح العرف على الأصل عند التعارض ولذا اعتبرت الزوجة مدعي عليها وهو المدعي وكان عليه البينة لأن من شهد له الأصل كان مدعيًا ما لم يعارضه العرف فيكون مدعي عليه (1) ولكنهم استثنوا مسألة واحدة قدموا فيها الأصل على العرف وهي ما إذا ادعى رجل صالح مشهور بالتقى ومخافة الله على رجل فاسق لا يتقي الله ادعى الصالح دينًا على الفاسق فأنكره، فالأصل يشهد للفاسق إذ الأصل براءة الذمة والعرف أن الرجل الذي يخشى الله ويتقيه لا يكذب ولا يدعي ظلما وبهتانًا على أحد. والشأن من الرجل الذي اشتهر بالصلاح والتقوى مخافة الله أن العرف يشهد له، ومع ذلك حكموا بأنه مدعى عليه البينة وقد نظم هذه الصورة الصنهاجي فقال: والأصل والغالب إن تعارضا فقد الغالب فهو المرتضى إلا في دعوى صالح على سواه بالدين فالعكس جميعهم يراه ثم الحكم إذا كان مستندًا إلى العرف فإن الحكم يتغير بتغير العرف لأن العرف ينزل منزلة العلة التي يدور الحكم معها وجودا وعدما، ولقد ذكر القرافي أن الإفتاء بالأحكام التي مستندها العرف والعادة يتغير الحكم بتغير العادة وليس ذلك إنشاء اجتهاد جديد ناقض لاجتهاد المجتهدين بل هو تطبيق لقاعدة أجمع عليها علماء الشريعة وجروا في فتواهم على تحقيقها وتطبيقها (2) تعارض العرف مع اللغة: اختلف الأصوليون في تقديم العرف على اللغة أو اللغة على العرف وقد مال القرافي وجماعة إلى تقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية واعتبر الحقيقة العرفية ناسخة للحقيقة اللغوية، وقد نقلنا فيما تقدم كلامه في الفرق الثامن والعشرين، وقد صرح في الأحكام أنه ينبغي أن يعلم أن معنى العادة في اللفظ أن ينقل إطلاق لفظ واستعماله في معنى حتى يصير هو المتبادر من ذلك اللفظ عند الإطلاق مع أن اللغة لا تقتضيه، وهذا هو معنى العادة في اللفظ وهو الحقيقة العرفية وهو المجاز الراجح في الأغلب وهو معنى قول الفقهاء: أن العرف يقدم على اللغة عند التعارض، ثم أوضح أنه يتعين أن يدور لفظ الفتيا فيها مع اشتهارها في العرف وجودًا وعدمًا ففي أي شيء اشتهرت حملت عليه بغير نية وما لم يشتهر لم تحمل عليه إلا بنية (3) وقد مثل القرافي في تنقيحه لتقديم الحقيقة العرفية على اللغوية بقوله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور (4) قال: إن حملناه على اللغوي وهو الدعاء لزم أن يتقبل الله دعاء بغير طهارة ولم يقل به أحد فيحمل على الصلاة في العرف وهي العبادة المخصوصة فيستقيم (5) .   (1) الصنهاجي، مواهب الخلاق على شرح التاودي للامية الرقاق: 1 /108 (2) الأحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام: ص 68. (3) الأحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام: ص 69. (4) رواه الجماعة إلا البخاري، عن ابن عمر (5) تنقيح الفصول باختصار المحصول ص 114 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2516 وقد نقل الونشريسي، عن أبي الفضل قاسم العقباني وقد سئل عن مسألة وهي أن ابن رشد سُئِلَ عمن خالج امرأته على أن تتحمل بنفقة ابنه منها إلى الحلم، ثم راجعها بنكاح جديد هل تبقى عليها نفقه ابنها أم لا؟ وكيف لو طلقها ثانية هل تعود إلى نفقته أم لا؟ فأجاب إذا راجعها سقط عنها ما تحملت به ولا يعود عليها إن طلقها ثانية إلا أن تجدد له التحمل، قال بعض الشيوخ: هذه كمسألة المدونة إذا ملكها فلم تقض حتى طلقها ثلاثًا وواحدة ثم نكحها بعد زوج أو بعد عدتها من طلقة فلا قضاء لها لأن هذا ملك مستأنف، ثم قال هذا الشيخ: قلت والعلة الحقيقية أنها لما رضيت به ثانية فكأن الأول لم يكن بوجه فكذا هذه المسألة. قال: أشكل علي يا سيدي جواب ابن رشد سقوط النفقة عنها ومعاوضتها كانت صحيحة وترتبت النفقة في ذمتها ولا يسقط ما في الذمة إلا بالإبراء والإسقاط، وقد قالوا: إذا ماتت المرأة المتحملة بنفقه الولد في الخلع أخذ من تركتها وكذلك أشكل على التنظير المذكور، فالمراد من سيدي بيان ما يختار في المسألة وبيان وجه فقه ابن رشد ووجه التنظير المذكور بأتم بيان، فأجاب: الحمد لله اعلم – حفظك الله – أن كثيرًا من مسائل الفقه يجري الحكم فيها على مقصود أهل العرف وإن كانت الألفاظ تدل على خلاف ذلك ومسألة النفقة التي أشرت اليها وأجاب ابن رشد عنها فيها من هذا المعنى، وذلك أن القوام على المرأة وولدها حال كونها تحت الزوج هو الزوج لكن يسهل ذلك عليه، وهم في موضع واحد فإن وقع افتراق عسر على الزوج القيام بمئون متعددة قد علم هذا بشهادة العادة عند الفراق، فلذا ترى الرجل يرغب في صرف نفقة الولد إلى غيره وهذا المعنى يزول عند المراجعة بانضمام الزوجة وولدها إلى الزوج ولا ترى في العادة زوجة تكون مع زوجها، وهي تنفق له على ولده فلهذا نعلم أن مراجعته إياها أنه أسقط النفقة عنها ولا شك أنها لا تعود بعد الإسقاط وبمثل هذا العرف قضى الإمام فيمن التزمت في الخلع إجراء النفقة على الولد إلى بلوغ الحلم فمات الولد صغيرًا قال: ليس للأب ما بقي من المدة إلى الحلم وعلله بأنه أدرك الناس أنهم لا يظلمون ذلك فترك صريح الالتزام للعرف، والتنظير من الشيخ راجع للعرف أيضا فإن التمليك إذا كان توكيلًا فالشأن في الوكيل أن لا يعزل حتى يقضي ما وكل عليه أو يصرح بترك ذلك، لكن العرف عند بعض أهل العلم يقتضي الجواب في المجلس، ومن لم يجب عد تاركًا ولبعضهم حتى يوقف الحاكم المحكمة على الأخذ أو الرد لما عرض في المسألة أن العصمة لا تصح – وفيها إخبار – لغير الزوج (1) وما ذكره من أن كثيرًا من مسائل الفقه يجرى الحكم فيها على مقصود أهل العرف وإن كانت الألفاظ تدل على خلاف ذلك هو ما عبر عنه الشاطبي عندما أكد بأنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع الأميين وهم العرب الذي نزل القرآن بلسانهم فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر فلا يصح العدول عنه إلى غيره في فهم الشريعة، وإن لم يكن هناك عرف فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرفه، وهذا جار في المعاني والألفاظ والتراكيب وأساليب الكلام (2) .   (1) الونشريسي المعيار المعرب، والجامع المغرب، عن فتاوي علماء أفريقية، والأندلس، والمغرب: 4 / 30 – 31 (2) الموافقات: 2 /80 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2517 وخالف المقري في قواعده رأي الجمهور وقال بتقديم اللغة على العرف مدعيًا أن ذلك مشهور مذهب مالك حيث قال في القاعدة أربع وستين ومائة من قواعده إن العرف لا يقدم على اللغة على مشهور مذهب مالك (1) ، ولكن تقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية هو مذهب الجمهور كما ذكرنا، وهو مذهب الحنفية والشافعية أيضا، ففي الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي أن الأيمان، مبنية على العرف لا على الحقائق اللغوية، قال صرح الزيلعي وغيره بذلك وعليها فروع: منها لو حلف لا يأكل الخبز حنث بما يعتاده أهل بلده ففي القاهرة لا يحنث بخبز البر وفي طبرستان ينصرف إلى خبز الأرز، وفي زبيد إلى خبز الذرة والدخن، ولو أكل الحالف خلاف ما عنده من الخبز لم يحنث، ولا يحنث بأكل القطائف إلا بالنية ومنها الشواء والطبيخ على اللحم، فلا يحنث بالباذنجان والجزر المشوي ولا يحنث بالمزورة في البطيخ ولا بالأرز المطبوخ بالسمن بخلاف المطبوخ بالدهن ولا بقليه يابسه ومنها الرأس ما يباع في مصر، فلا يحنث إلا برأس الغنم، ومنها حلف لا يدخل بيتًا فدخل بيعة، أو كنيسة، أو بيت نار، أو الكعبة، لم يحنث (2) . قال ابن عابدين: واعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا فقالوا في الأصول في باب ما تترك به الحقيقة: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة هكذا ذكر فخر الإسلام في شرح الأشباه للبيري قال في المشرع: الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، وفي المبسوط: الثابت بالعرف كالثابت بالنص ونقل عن القنية: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف (3) هذا المذهب الحنفي، أما المذهب الشافعي فقد حكى الحافظ السيوطي اختلاف فقهاء الشافعية في نقل ترجيح القاضي الحسين الحقيقة العرفية، وخالفه أبو الحسن البغوي ومال إلى تقديم الدلالة العرفية على الحقيقة اللغوية، ثم نبه السيوطي إلى أن الخلاف في تقديم العرف أو اللغة إنما هو في العربي أما العجمي فيعتبر عرفه قطعًا إذ لا وضع يحمل عليه (4) .   (1) قواعد المقري: ص 63 (2) الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 87 – 88 (3) ابن عابدين رسالة نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف مجموعة الرسائل: 2 /115 (4) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 66. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2518 بهذا ندرك أن مذهب الشافعية كالمالكية والحنفية في تقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية ومثل ذلك المذهب الحنبلي فقد ذكر ابن قدامة أن الأسماء تنقسم إلى ستة أقسام، ماله مسمى واحد كالرجل والمرأة والإنسان، وهذا تنصرف اليمين إلى مسماه بغير خلاف، الثاني ما له موضوع شرعي وموضوع لغوي كالوضوء والطهارة والصلاة وتنصرف اليمين فيه عند الإطلاق إلى الموضوع الشرعي دون اللغوي، الثالث ما له موضوع لغوي حقيقي ومجازي لم يشتهر كالأسد والبحر فيمين الحالف تنصرف عند الإطلاق إلى الحقيقة دون المجاز، الرابع الأسماء العرفية وهي ما يشتهر مجازه حتى تصير الحقيقة مغمورة في العرف، وهذا على ضروب: أحدها: ما يغلب على الحقيقة بحيث لا يعلمها أكثر الناس كالرواية هي في العرف اسم المزادة، وفي الحقيقة اسم لما يستقي عليه من الحيوان، والظعينة في العرف المرأة وفي الحقيقة الناقة التي يظعن عليها، والعذرة والغائط في العرف الفضلة المستقذرة وفي الحقيقة العذرة فناء الدار، ولذلك قال عليه السلام لقوم: ((ما لكم لا تنظفون عذراتكم)) ، يريد أفنيتكم والغائط المكان، وأشباهه تنصرف يمين الحالف إلى المجاز دون الحقيقة لأنه الذي يريده بيمينه ويفهم من كلامه فأشبه الحقيقة في غيره. الضرب الثاني: أن يخص عرف الاستعمال بعض الحقيقة بالاسم وهذا يتنوع أنواعًا فمنه ما يشتهر التخصيص فيه كلفظ الدابة، وهو في الحقيقة اسم لكل ما يدب وفي العرف اسم للبغال والحمير والخيل، ولذلك لو وصى إنسان لرجل بدابة من دوابه كان له أحد هذه الثلاث، فالظاهر أن يمين الحالف تنصرف إلى العرف دون الحقيقة عند الإطلاق كالذي قبله ويحتمل أن يتناول يمينه الحقيقة بناء على قول من قال في الحالف على ترك أكل اللحم أن يمينه تتناول السمك، ومن هذا النوع إذا حلف لا يشم الريحان فإنه في العرف اسم مختص بالريحان الفارسي وهو في الحقيقة اسم لكل نبت أو زهر طيب الريح مثل الورد والبنفسج والنرجس ولا يحنث إلا بشم الريحان الفارسي، وهو مذهب الشافعي لأن الحالف لا يريد بيمينه في الظاهر سواه قاله القاضي، وقال أبو الخطاب: يحنث بشم ما يسمى حقيقة ريحانًا لأن الاسم يتناوله حقيقة ولا يحنث بشم الفاكهة وجهًا واحدًا لأنها لا تسمى ريحانًا حقيقة ولا عرفًا الضرب الثالث: أن يكون الاسم المحلوف عليه عامًا لكن أضعاف إليه فعلًا لم تجر العادة به إلا في بعضه أو اشتهر في البعض دون البعض، مثل أن يحلف أن لا يأكل رأسًا فإنه يحنث فأكل رأس كل حيوان من النعام والصيود والطيور والحيتان والجراد ذكره القاضي، وقال أبو الخطاب: لا يحنث إلا بأكل رؤوس بهيمة الأنعام دون غيرها إلا أن يكون في بلد تكثر فيه الصيود وتميز رؤوسها فيحنث بأكلها، وقال أبو حنيفة: لا يحنث بأكل روؤس الإبل لأن العادة لم تجر ببيعها مفردة، وقال صاحباه: لا يحنث إلا بأكل رؤوس الغنم لأنها التي تباع في الأسواق دون غيرها فيمينه تنصرف إليها ووجه الأول أن هذه رؤوس حقيقة وعرفًا مأكولة فحنث بأكلها، كما لو حلف لا يأكل لحمًا فأكل من لحم النعام والزرافة وما يندر وجوده وبيعه، من ذلك إذا حلف لا يأكل بيضًا حنث بأكل بيض كل حيوان سواء كثر وجوده كبيض الدجاج أو قل وجوده كبيض النعام، وبهذا قول الشافعي، وقال أصحاب الرأي: لا يحنث بأكل بيض النعام وقال أبو ثور: لا يحنث إلا بأكل بيض الدجاج وما يباع في السوق، وقال أبو الخطاب: لا يحنث إلا بأكل بيض يزايل بائضه في الحياة وهذا هو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وأكثر العلماء، وهو الصحيح لأن هذا لا يفهم من إطلاق اسم البيض ولا يذكر إلا مضافًا إلى بائضه، ولا يحنث بأكل شيء يسمى بيضا غير الحيوان، ولا بأكل شيء يسمى رأسًا غير رؤوس الحيوان لأن ذلك ليس برأس ولا بيض في الحقيقة (1) ، ولابن قدامة فيما بني من الأيمان عى اعرف من حلق أن لا يبيع ثوبه بعشرة مثلًا فباعه بها أو بأقل منها حنث وذلك بدلالة العرف.   (1) المغني، لابن قدامة المقدسي على مختصر الخرقي: 8 / 812 إلى 816 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2519 وقد يكون العرف في زمان ثم ينعدم، ويزول فمثلًا ورد في المدونة أن القائل لا مرأته: أنت حرام، أو خلية، أو برية، أو وهبتك لأهلك، يلزمه الطلاق الثلاث في المدخول بها ولا تنفعه البينة في أنه أراد أقل من الثلاث، باعتبار الاستعمال في ذلك الزمان وأنها كنايات ظاهرة في الثلاث، فلا ينوي صاحبها ويقع الطلاق بناء على ما اشتهر من استعمال هذه الألفاظ في فك العصمة وإزالتها واشتهر كذلك في العدد الذي هو الثلاث، أما ما كان من الكنايات الخفية فإن الزوج ينوي في ذلك فمن قال لامرأته: هذه أختي ونوى أخته في الدين لم تحرم عليه بذلك ولا يعتبر مظاهرا لجريان اللفظ على لسانة اختيارًا، أما ما ظهر قصده بخلاف معناه اعتبر قصده، إذ الأمور بمقاصدها. وهل الأيمان مبنية على العرف أو النية أو الصيغ اللفظية؟ تحرير هذا: أن الإيمان عند الحنفية مبنية على العرف والعادة لا على المقاصد والنيات لأن غرض الحالف هو المعهود المتعارف عنده ويتقيد بغرضه، هذا هو الغالب عندهم. وقد ثبت أن أيمان عندهم على الألفاظ لا الأغراض وقد ألف ابن عابدين رسالة أسماها رفع الانتقاض ودفع الاعتراض على قولهم الأيمان مبنية على الألفاظ لا على الأغراض، ولقد بين فيها أن هذه القاعدة وقاعدة أن الأيمان مبنية على العرف، بين أن كلا من هاتين القاعدتين مقيدة بالأخرى فقولهم: الأيمان مبنية على العرف معناه العرف المستفاد من اللفظ لا الخارج عن اللفظ اللازم له وقولهم: الأيمان مبنية على الألفاظ لا على الأغراض معناه الألفاظ العرفية، فإذا تعارض الوضع الأصلي للكلمة والوضع العرفي ترجح الوضع العرفي. وقد أوضح تقييد كل من القاعدتين للأخرى، بأن ذلك ينتج صورًا أربعة لأنه إما أن يوجد حقيقة الفعل ويفوت الغرض، أو توجد صورة الفعل والغرض، أو يوجد الغرض فقط، ويفوت الفعل، أو لا يوجد شيء منهما والحنث إنما يتحقق في الوجه الأول فقط دون الثلاثة الباقية، مثال الأول الشراء بأحد عشر والمحلوف عليه بعشرة وغرض المشتري الحالف نقص الثمن عن الشعرة، فإذا اشترى بأحد عشر فقد اشترى بعشرة وزيادة ووجد الفعل المحلوف عليه وفات الغرض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2520 وهذا هو شرط الحنث المطلق المترتب عليه حكمه، فلذا قالوا: إنه يحنث ولا يقال: إن الشراء بعشرة معناه الحقيقي عقد الشراء بعشرة وعقد بأحد عشر غير العقد بعشرة فلم يوجد الفعل المحلوف عليه لأنا نقول: إن الشراء بعشرة له معنى حقيقي وهو ما ذكرته ومعنى مجازي وهو التزام العشرة بإزاء الثوب المبيع والمراد المشتري وهو المعنى المجازي بقرينة حالية وهي أن الحامل له على اليمين من جهة المعنى هو التزام الثمن، وذلك الثمن هو العشرة التي سماها والعشرة تطلق على العشرة المنفردة، وهي هذا الحكم المنفصل الذي هو آخر مراتب الآحاد وأول مراتب العشرات وتطلق على المقرونة أي العشرة التي قرنت غيرها من الأعداء ولما كان الغرض من المشتري نقص الثمن عن العشرة وعدم التزامها بإزاء المبيع علم أن مراده مطلق العشرة أي الشاملة للمفردة والمقرونة، فإذا اشترى بالمنفردة فلا كلام في أنه قد وجد الفعل وفات الغرض فيحنث وكذا لو اشترى بالمقرونة لأن غايته أنه وجدت العشرة التي امتنع من التزامها في الثمن ووجد معها زيادة وهي الدرهم الحادي عشر مثلًا وإذا وجد شرط الحنث ووجد معه زيادة فتلك الزيادة لا تمنع الحنث كما لو حلف لا يدخل هذه الدار فدخلها ودخل دارًا أخرى فإنه يحنث وإن زاد على شرط الحنث مثال الوجه الثاني البيع بأحد عشر، فقد وجدت صورة الفعل المحلوف عليه وهو البيع بعشرة التي في ضمن الأحد عشر ووجد أيضا الغرض لأن غرض البائع الحالف الزيادة على العشرة، وقد وجدت فلا يحنث لأن شرط الحنث وجود الفعل مع فوت الغرض وهنا لم يفت الغرض، بل وجد على أن الفعل في الحقيقة لم يوجد أيضًا لأن مراد البائع في قوله لا بيعه بعشرة العشرة المفردة. أما المقرونة بالزيادة، فإنه غير ممتنع عنها، بل هو طالب لها وهي غرضه فإذا باع بأحد عشر فقد وجد غرضه ولم يوجد الفعل المحلوف عليه حقيقة أي الذي أراد منع نفسه عنه، وإنما وجد صورة في ضمن الأحد عشر ولذا قيد الشرط بقوله: أما إذا وجد صورة الفعل وإلا فحقيقة الفعل لم توجد وكيف توجد حقيقة الفعل الذي هو شرط الحنث مع وجود الغرض الذي يحصل به البر وهما متناقضان، ومثال الوجه الثالث الشراء بتسعة في المسألة الثالثة من الأربعة المذكورة لأن المشتري الحالف مستنقص عن العشرة، فإذا اشترى بتسعة فقد وجد غرضه ولم يوجد الفعل المحلوف عليه أصلًا فيكون قد وجد شرط البر الكامل وفات شرط الحنث من كل وجه فلا حنث، مثال الوجه الرابع البيع بتسعة، فإذا حلف لا يبيع بعشر لم يوجد الفعل المحلوف عليه وهو العشرة ولا الغرض وهو الزيادة، بحيث فات الفعل لم يتحقق شرط الحنث الكامل وإن فات الغرض لأن فوت الغرض لا يوجب الحنث ما لم يوجد الفعل، لأن الحنث شرطه وجود الفعل المفوت للغرض كما مر بلا حنث (1) . هذا مذهب الحنفية، وقال الشافعية: الأيمان مبنية على الحقيقة اللغوية أي بحسب صيغة اللفظ لأن الحقيقة أحق بالإرادة والقصد إلا أن ينوي شيئًا فيعمل بنيته فلو حلف ألا يأكل رؤوسا فأكل رؤوس حيتان فمن راعى العرف، قال: لا يحنث ومن راعى دلالة اللغة، قال: يحنث وكذلك يحنث من حلف لا يأكل لحمًا فأكل شحمًا مراعاة لدلالة اللفظ وقال آخرون: لا يحنث، والمذهب الشافعي يتبع مقتضى اللغة عند ظهورها وشمولها ويتبع العرف إذا اشتهر واطرد.   (1) ابن عابدين رسالة رفع الانتفاض ودفع الاعتراض على قولهم: الأيمان مبنية على الألفاظ لا على الأغراض، الرسائل: 1 /292 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2521 أما مذهب مالك فالمعتبر في الأيمان التي لا يصدر فيها حكم قضائي على حالفها بموجبها النية، وكذلك النذور نية المستحلف في الدعاوى ونية الحالف في غيرها، فإن عدمت النية فقرينة الحال، فإن عدمت فعرف اللفظ وما قصد الناس من عرف أيمانهم، فإن عدم فدلالة اللغة، وقيل: لا يراعى إلا النية أو ظاهر اللفظ اللغوي، وقيل: يراعى النية وبسوط الحال أي السبب الحامل على اليمين أو المقام وقرينة السياق في اصطلاح علماء المعاني، ولا ينفع الاستثناء في النذر وينفع في المشيئة في الأيمان، أما الأيمان التي يقضي بها على صاحبها ففي مجال الاستفتاء تراعى الضوابط على ما سبق من الترتيب وفي مجال القضاء لا يراعى إلا اللفظ في اليمين إلا ما يؤيد ما ادعاه من النية قرينة الحال أو اعرف. قال الشاطبي: من مذهب مالك أن يترك الدليل للعرف ورد الأيمان إلى العرف مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير ما يقتضيه العرف كقوله: والله لا دخلت مع فلان بيتًا فهو يحنث بدخول كل موضع يسمى بيتا في اللغة والمسجد يسمى بيتًا فيحنث على ذلك إلا أن عرف الناس أن لا يطلقوا هذا اللفظ عليه فخرج بالعرف عن مقتضى اللفظ فلا يحنث (1) . أما الحنابلة فمرجع الأيمان إلى نية الحالف، فإن نوى بيمينه ما احتمله اللفظ انصرفت يمينه إليه لا فرق بين أن يكون ما نواه لظاهر اللفظ أم مخالفًا له لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) (2) فإن لم ينوِ شيئًا رجع إلى سبب اليمين وما هيجها وأثارها لدلالة ذلك على النية، فلو حلف لا يأوي مع امرأته في هذه الدار، فإن كان سبب يمينه غيظًا من جهة الدار لضرر لحقه منها أو منه عليه بها اختصت يمينه بها، وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقضي جفاءها ولا أثر للدار فيه تعلق بإيوائه معها في كل دار.   (1) الشاطبي، الاعتصام: 2 / 121، ط مصطفى محمد – القاهرة. (2) رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد رواه ثلاثون صحابيًّا، الأربعين النووية: ص 16، وشرح مسلم: 13/ 53 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2522 تعارض العرف مع الشهادة: اختلف الفقهاء هل ينزل العرف منزلة شاهد واحد أو منزلة شاهدين إذا تعارضا بأن شهد العرف لشخص واحد، وشهد شاهد لشخص آخر فذهب الإمام البرزلي إلى أن العرف يعتبر كشاهد واحد فقط، وعلى هذا فمن شهد له العرف وجبت عليه اليمين لأن اليمين على المدعى عليه وهو من شهد له أصل أو عرف وما ذهب إليه البرزلي هو ما مال إليه جمهور الفقهاء وقيل: هو بمثابة الشاهدين وعندئذٍ لا تتوجه اليمين على من شهد له العرف (1) وقد علق المهدي الوزاني على الخلاف في هذه المسالة، فقال: أما كون المتقرر من العادات بمنزلة شاهد واحد فقط لا شاهدين، فهو المعتمد، وقد رجح هذا الرأي الشيخ الزهوني، وفي العمليات نظم أبو زيد الفاسي هذا الخالف، فقال: والمتقرر من العادات كشاهد أو شاهدين، وذكر الوالد رحمه الله في الطريقة المرضية أنه اختلف في العادة هل هي كشاهدين فلا يمين معها أو كشاهد يحتاج معها إلى اليمين وبين أن المشهور توجيه اليمين إن كان للمدعى فيه نزاع غير من احتج بالعادة فتجب اليمين على المحتج بها، فإن لم يكن منازع فلا يمين نقل ذلك عن صاحب الدكانة الذي انتزعه من تعليل القرطبي وابن عرفه من عدم توجه اليمين على صاحب اللقطة لعدم منازع له فيها لكن ذكر الوالد أن ما ذكره عظوم غير مطرد ينتقض بمسألة ما إذا زوج ابنته البالغ وهو ساكت حتى إذا فرغ أنكر بحدثان ذلك، فإنه يستحلف أنه لم يرض، فإن نكل لزمه النكاح وكان عليه نصف الصداق، قال خليل: وحلف رشيد وأجنبي وامرأة أنكروا الرضا والأمر حضورًا ذكره ابن يونس وحكاه صاحب اللباب عن ابن القاسم. وقال أبو عبد الله: لا يلزمه شيء وعليه فاليمين استظهار فقط لعله يقرر وصوبه أبو عمران. وقد ذكر الونشريسي أن الخلاف في لزوم نكاح الناكل مبني على الخلاف في العادة هل هي كالشاهد أو كالشاهدين فإن قلنا كالشاهدين لزم النكاح بنكوله وعليه نصف الصداق، وإن قلنا كالشاهد لم يلزمه (2) .، وعلى الرغم من ذلك أن جمهور الفقهاء مالوا إلى اعتبار العرف كشاهد واحد.   (1) عمر الفاسي منهاج الزقائية: ص 210. (2) الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية، لمحمد العزيز جعيط: ص 51 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2523 منزلة العرف بين الأدلة: لقد استخرج أصحاب مالك الأصول والقواعد التي بنى عليها مذهبه من فروعه الفقهية التي قررها ودونوا هذه الأصول، فقالوا: كان مالك يأخذ بظاهر القرآن وبظاهر السنة وبمفهوم المخالفة وبفحوى الخطاب وبمراعاة الخلاف وليست هذه أقوالًا له مأثورة عنه وإنما هي مستخرجة من الفروع فهي إذن مجهود العلماء الذين اتبعوا مذهبه فعملهم كعمل علماء الحديث بصحيح البخاري، إذ لم يبين الشروط التي اشترطها وإنما ذلك عمل من أتى بعده من المحدثين، وليس هذا إن هذه القواعد والأصول قد خفيت عنه أو لم يوجد في كلامه ما يفيدها، فقد يصرح بأخذه بعمل أهل المدينة وبين البواعث التي أدت به إلى الأخذ به، كما صرح بذلك في الموطأ وقد صرح أيضا بما لا مجال للشك فيه بأنه أخذ بالقياس حتى قال ابن العربي في القبس إن مالكا قصد في الموطأ تبين أصول الفقه وفروعه (ص 7) وبين أيضا أن مالكا بنى موطأه على تمهيد الأصول للفروع ونبه فيه إلى معظم أصول الفقه التي ترجع إليها مسائله وفروعه، فالإمام لو لم يصرح بهذه القواعد بصريح العبادة، فقد كانت هذه بمثابة الأسس التي قامت عليها أقوال من أتى بعده وعليها استندوا في التخريج والاستنباط وقد اختلف المالكية في عد هذه الأصول التي بني عليها الفقه المالكي بعدها الشيخ محمد صالح الهسكوري صاحب التقييد على الرسالة أنها ستة عشر أصلًا وهي: نص الكتاب، وظاهره وهو العموم ودليله وهو مفهوم المخالفة، ومفهوم الموافقة، وتنبيه، وهو التنبيه على العلة، ومن السنة مثل ذلك، فهذه عشرة ثم الإجماع وعمل أهل المدينة وقول الصحابي والاستحسان وسد الذرائع، واختلف قوله في مراعاة الخلاف فمرة اعتبره ومرة ألغاه. قال أبو يحيى الغرناطي شارح التحفة وابن ناظمها في شأن مراعاة الخلاف ما نصه: مراعاة الخلاف لا يطردونه في جميع المواضع ثم مراعاة الخلاف إما أن تكون صحيحة وإما أن تكون غير صحيحة، فإن كانت صحيحة جارية على أصول الشريعة وجب اعتبارها على الإطلاق، وأما اعتبارها في بعض المسائل دون بعض، فذلك يفتقر إلى ضابط يعرف به الموضوع الذي يجب أو يجوز أن يراعى فيه الخلاف من الذي لا يراعى فيه، وقد أنهاها القرافي في تنقيح الفصول في الفصل الأول من الباب العشرين إلى تسعة عشر، قال: وذلك بالاستقراء وهي الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإجماع أهل المدينة والقياس، وقول الصحابي والمصلحة المرسلة والاستصحاب والبراءة الأصلية والعوائد والاستقراء وسد الذرائع والاستدلال والاستحسان والأخذ بالأخف والعصمة وإجماع أهل الكوفة وإجماع العترة وإجماع الخلفاء الأربعة (1)   (1) تنقيح الفصول بهامش حاشية منهج التحقيق والتوضيح لحل غوامض التنقيح: 2 /208 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2524 واستقراء القرافي ناقص، بدليل أن بعض علماء الأصول زاد على التسعة عشر التي ذكرها إجماع المصرين البصرة والكوفة وإجماع الحرمين والعرف والتعامل والعمل بالظاهر والأظهر والأخذ بالاحتياط والقرعة ومذهب كبار التابعين والعمل بالأصل ومعقول النص وشهادة القلب وتحكيم الحال وعموم البلوى والعمل بالشبهين ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بأيسر ما قيل والأخذ بأكثر ما قيل وإجماع الصحابة وحدهم وقول الخلفاء الأربعة إذا اتفقوا وقول الصحابي إذا خالف القياس والرجوع إلى المنفعة والمضرة ذهابًا إلى أن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع، والقول بالنصوص والإجماع في العبادات والمقدرات وباعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام عند الطوفي وإجماع الأمم السالفة عند الإسفراييني والاقتران أي بين جملتين، فإنه يقتضي التسوية في الحكم بينهما عند المزني وأبي يوسف والاستدلال على انتفاء الشيء بانتفاء دليله عند الإسفراييني ومفهوم اللقب عند جماعة وحكم العقل عند المعتزلة والهاتف أي الصوت المعلوم صدقه والأوهام أي الإلقاء في القلب وشرع من قبلنا وإن كان مرجع الجميع إلى الأصلين الكتاب والسنة كما نقله الزركشي عن بعضهم. وقد رد الشاطبي في موافقاته الأدلة الشرعية إلى ضربين ما يرجع إلى النقل المحض وما يرجع إلى الرأي المحض، وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعًا إلا إذا استند إلى النقل، فأما الضرب الأول فالكتاب والسنة، وأما الثاني فالقياس والاستدلال ويلحق بكل منهما وجوه إما باتفاق وإما باختلاف، فيلحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه قيل به، ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا لأن ذلك كله وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صرف لا نظر فيه لأحد ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إن قلنا: إنها راجعة إلى أمر نظري وقد ترجع إلى الضرب الأول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية (1)   (1) الموافقات للشاطبي: 3/ 19، ط بولاق المسألة الخامسة من كتاب الأدلة الشرعية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2525 ولقد صرح أبو بكر بن العربي في العارضة بأن العرف أحد القواعد العشر التي تركبت عليها أحكام المعاملات في المذهب المالكي وما ذهب إليه الشاطبي من التقسيم له وجه صحيح حيث عمل أهل المدينة وقول الصحابي وقد اعتمدها مالك، فذلك باعتبار أنهما من شعب السنة كما أن كلمة الرأي تشمل بعمومها المصالح المرسلة وسد الذريعة والعادات والاستحسان والاستصحاب لأن هذه من مشملات الرأي، وقد ذكر تاج الدين السبكي أن أصول مذهب مالك تزيد على الخمسمائة وهو في الواقع يشير إلى القواعد التي استخرجت من الفروع الفقهية في المذهب المالكي ولقد أنهاها القرافي في فروقه إلى خمسمائة وثمان وأربعين قاعدة وجمعها المقرئ في ترتيب الفروق في تسع وثلاثين ومائتين قاعدة وأنهاها في قواعده إلى مائتين وألف قاعدة، ولكن هذه القواعد في الحقيقة تفرعت عن تلك الأصول التي سبق ذكرها، ثم إن الإمام مالك رحمه الله لم ينص على هذه القواعد وإنما استنبطها أصحابه من فروعه الفقهية، وقد لاحظ الشيخ أبو زهرة في كتابه مالك أن مذهب الإمام أكثر المذاهب أصولًا حتى إن علماء الأصول من المالكية حاولوا الدفاع عن هذه الكثرة، قال أبو زهرة: وإن نوع الأصول التي يرد بها المذهب المالكي على غيره ومسلكه في الأصول التي اتفق فيها مع غيره يجعلانه أكثر مرونة وأقرب حيوية وأدنى إلى مصالح الناس وما يحسون وما يشعرون وبعبارة جامعة أقرب إلى الفطرة الإنسانية التي يشترك فيها الناس ولا يختلفون إلا قليلًا بحكم الإقليم والمنزع والعادات الموروثة (1)   (1) أبو زهرة، مالك: ص 37، ط2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2526 أما توثيق هذه الأدلة في المذهب المالكي من حيث الاعتبار والحجية، فقد أوضحه القاضي أبو الفضل عياض في كتابه المدارك فذكر ترتيبه على ما يوجبه العقل ويشهد له الشرع تقديم كتاب الله تعالى على ترتيب وضوح أدلته من نصوصه، ثم ظواهره ثم مفهوماته، ثم كذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترتيب متواترها ومشهورها وآحادها ثم ترتيب نصوصها وظواهرها ومفهومها على ما تقدم في الكتاب، ثم الإجماع عند عدم الكتاب ومتواتر السنة وبعد ذلك عند عدم الأصول والقياس عليهما والاستنباط منهما إذ كتاب الله مقطوع به وكذلك ما تواتر من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكذلك النص المقطوع به بموجب تقديم ذلك كله، ثم الظواهر، ثم المفهوم منها لدخول الاحتمال في معناها، ثم أخبار الآحاد يجب العمل بها والرجوع إليها عند عدم الكتاب والتواتر، وهي مقدمة على القياس لإجماع الصحابة على الفصلين وتركهم نظر أنفسهم متى بلغهم خبر ثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم وامتثالهم مقتضاه دون خلاف منهم في ذلك، ثم القياس أخيرًا إذ إنما يلجأ إليه عند عدم هذه الأصول في النازلة فيستنبط من دليلها ويعتبر الأشباه منها على ما مضى عليه عمل الصحابة ومن بعدهم من السلف المرضيين وعلم من مذهبهم أجمعين وأنت إذا نظرت لأول وهلة منازع هؤلاء الأئمة وتقرير مآخذهم في الفقه والاجتهاد في الشرع وجدت مالكًا رحمه الله ناهجًا في هذه الأصول مناهجها مرتبًا لها مراتبها ومدارجها، مقدما كتاب الله ومرتبًا له على الآثار، ثم مقدمًا لما على القياس والاعتبار تاركًا منها لما لم يتحمله عنده الثقات العارفون بما تحموله أو ما وجد الجمهور والجم الغفير من أهل المدينة قد علموا بغيره وخالفوه ولا يلتفت إلى من تأول عليه بظنه في هذا الوجه سوء التأويل وقوله ما لا يقوله، بل ربما يصرح أنه من الأباطيل، ثم كان من وضوعه عن المشكلات وتحريه عن الكلام في المعوضات ما سلك به سبيل السلف الصالحين، وكان يرجح الاتباع ويكره الابتداع والخروج عن سن الماضين. ثم سلك الشافعي سبيله وبسط مآخذه في الفقه وأصوله لكن خالفه في أشياء أداه إليها اجتهاده وثاقب فطنته ولم يخلصه من دركها عدم استقلاله بعلم الحديث والأثر وتزحزحه عن الانتهاء في معرفته، ثم ما جرى بينه وبين بعض المالكية بمصر وحمل عليه حتى تميز عنهم بعد أن كان معدودًا منهم وواحدًا من جملتهم، فبان بأصحابه وتلاميذه وصرح من حينئذٍ بالخلاف والرد على أكبر أساتذته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2527 وأما أبو حنيفة، فإنه قال بتقديم القياس والاعتبار على السنن والآثار بترك نصوص الأصول وتمسك بالمعقول وآثر الرأي والقياس والاستحسان، ثم قدم الاستحسان على القياس بأبعد ما شاء وحد بعضهم استحسانه أنه الميل إلى القول بغير حجة، وهذا هو الهوى المذموم والشهوة والحديث والبدعة حتى قال الشافعي: من استحسن فقد شرع في الدين ولهذا خالفه صاحباه محمد وأبو يوسف في نحو ثلث مذهبه إذ وجدوا السنن تخالفهم فيما تركه لما ذكرناه من قصد لتغليبه القياس وتقديمه أو لم تبلغه ولم يعرفه إذ لم يكن من مثقفي علومه وبه شنع المشنعون عليه وتهافت الجراء على ذم البرآء بالطعن إليه، ثم ما تمسك به من السنن فغير مجمع عليه وأحاديث ضعيفة متروكة، وبسبب هذا تحزبت طائفة أهل الحديث على أهل الرأى وأساءوا فيهم القول والرأي. وأما أحمد وداود فإنهما سلكا اتباع الآثار ونكبا عن طريق الاعتبار لكن داود خالف ذلك فترك القياس جملة واحدة هو وأصحابه من القول بالظاهر ما خالف فيه أئمة الأمة فخانه التمسك بربع أدلة الشريعة. وجعل أحمد الخبر الضعيف خيرًا من القياس وبديهية العقل تنكر هذا فلا خير في بناء على غير أساس وهذا اعتبار في التفضيل نبيل يدل المنصف على السالك منهم نهج السبيل هذا مأخذ الجميع في فقههم ونظرهم على ما في فهمهم (1) . وكان مالك رحمه الله يرجح الاتباع ويكره الابتداع والخروج عن سنن الماضيين، هذه نتفة عما يتعلق بالأصول، أما ما يتعلق بالقواعد فقد قسمها المالكية إلى قسمين ما هي أصول لأمهات مسائل الخلاف وما هي أصول للمسائل، والقسم الأول هو مراد الإمام المقري في قواعده فقد ذكر أنه قصد إلى تمهيد ألف ومائتي قاعدة في الأصول القريبة لأمهات مسائل الخلاف وأضاف أنه يعني بالقاعدة كل كلي هو أخص من الأصول وسائر المعاني العقلية العامة وأعم من العقود وجملة الضوابط الفقهية الخاصة فهو لا يعني في قواعده القواعد الأصولية العامة ككون الكتاب والسنة والإجماع والقياس حجة أو كحجية المفهوم أو العموم وخبر الواحد أو ككون الأمر عند الإطلاق للوجوب والنهي للتحريم ولا قصد القواعد الفقهية الخاصة ككل ما لا يتغير لونه أو طعمه أو رائحته فهو طهور وكل حيتان البحر مباح في الأكل أو كل عبادة لا تصح إلا بنية، وإنما أراد ما توسط بين هذين مما هو أصل لأمهات المسائل فهو أخص من أصول العامة وأعم من الأحكام الجزئية الخاصة هذا هو غالب ما اشتمل عليه وإن كان قد تعرض لبعض قواعد أصولية وقواعد فقهية تكميلا للفائدة وما من مذهب من المذاهب إلا وله تأليف، وهذه القواعد كالأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي والأشباه والنظائر للسيوطي والقواعد لابن رجب الحنبلي، وكل مذهب من المذاهب له قواعد اختارها، واعتمد عليها في استنباط الأحكام، وقد حصر أبو عبد الله بن عمر الدبوسي السمرقندي الحنفي مذهب الحنفية في أربعة عشر قاعدة وأنهاها ابن نجيم إلى تسعة عشر قاعدة في الأشباه وجعل القاضي الحسين مبنى الفقه الشافعي على أربعة قواعد كما في فتح الباري (2) ، وأنهاها ابن رجب الحنبلي في قواعده إلى مائة وستين قاعدة وأردفها بفصل اشتمل على عشرين قاعدة ألحقها بالقواعد فيها اختلاف في المذهب الحنبلي ينبني على الاختلاف فيها فوائد متعددة (3) .   (1) ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعركة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض: 1 / اليحصبي – وزارة الأوقاف بالمغرب (2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر: 5 /276 (3) قواعد ابن رجب: ص 368 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2528 وأصحاب هذه المذاهب وإن ألفوا وقعدوا القواعد لكن مذهب الإمام مالك أغزر من بقية المذاهب في تقعيد القواعد والأصول كما أشرنا إليه وإذا كان بعض أهل العلم قد حصر قواعد المذهب في ست عشرة قاعدة أو سبع عشرة، كما نقل ذلك الفقيه ابن راشد عن شيخه أبي محمد صالح أن مالكًا بني مذهبه على ستة عشر والسابع عشر اختلفوا فيه وهو مراعاة الخلاف (1) ، لكن المحققين من علماء المالكية قالوا إن ذلك لا يمكن ضبطه وحصره، ولقد ذكر الشيخ أبو زهرة في كتابة مالك، قال: وقد اختبره (أى مذهبه) العلماء في عصور مختلفة فاتسع لمشاكلهم واختبره علماء القانون في عصرنا الحاضر فكان مسعفًا لهم في كل ما يحتاجون إليه من علاج لكثرة مجتهديه وكثرة أصوله ونوع الأصول التي أكثر منها وأنه أكثر المذاهب أصولًا (2) هذه هي أصول المالكية والأدلة التي جعلوها مصادر لبناء الأحكام ولسائل أن يسأل عن منزلة العرف من بين الأدلة. منزلة العرف بين الأدلة: إن فقهاء الشريعة على اختلاف مذاهبهم متفقون على اعتبار العرف بصفة عامة دليلًا من الأدلة التي انبنت عليه كثير من الأحكام الفقهية إذا أعوزهم النص من الكتاب والسنة. وبنوا على ذلك مجموعة من القواعد: (1) كقاعدة الثابت بالعرف كالثابت بالنص (2) وقاعدة العادة محكمة (3) وقاعدة العادة كالشرع (4) وقاعدة الممتنع عادة كالممتنع حقيقة (5) وقاعدة الحقيقة تترك بدلالة العرف والعادة (6) والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا (7) وقاعدة استعمال الناس حجة يجب العمل بها (8) وقاعدة العبرة للغالب الشائع لا للنادر (9) وقاعدة العرف بين التجار كالمشروط بينهم (10) وقاعدة إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت (11) وقاعدة الثابت بالعرف ثابت بالدليل الشرعي (12) وقاعدة لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان. والمقصود بتغير الزمان تغير العادات والأحوال من زمن إلى زمان أو من مكان إلى مكان واستناد التغيير للزمان وللمكان مجاز لأن الزمن لا يتغير، وإنما الناس هم الذين يطرأ عليهم التغيير في أفكارهم وصفاتهم وعاداتهم وسلوكهم، مما يؤدى إلى وجود عرف عام أو خاص ويترتب عليه تبدل الأحكام المبنية على الأعراف والعادات من كل الأحكام الاجتهادية المستنبطة بالقياس أو المصلحة أو الاستحسان أو غيرها من الأدلة الفرعية، أما الأحكام الأساسية التي مصدرها النصوص من الأوامر والنواهي فلا تتبدل ولا تتغير فوجوب الصلاة والزكاة والجهاد وأداء الأمانة والصدق والإخلاص والقول والعمل وإباحة البيع والشراء والميراث وأنصبائه ونحوها كحرمة الزنا وشرب الخمر وأكل الميتة وشهادة الزور والفرار من المعركة فهذه كلها أحكام مستقرة لا يؤثر فيها تغيير الزمان ولا المكان ولا الأشخاص، أما ما كان منشأ بنائه على العادات أو على صحة أو فساد الأخلاق، فهذا هو الذي يختلف فيه أنظار الأئمة والمجتهدين من زمن إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن شخص إلى شخص، وقد قال مالك: تحدث للناس فتاوى بقدر ما أحدثوا ذلك الأمر (3) .   (1) منهج التحقيق والتوضيح لحل غوامض التنقيح: 1 /177 (2) مالك لأبي زهرة: ص 376 ط 2. (3) شرح الزرقاني على الموطأ 4 /204 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2529 وعن عمر بن عبد العزيز تحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور، فالأحكام المعللة بعلة ظنية والأحكام الاجتهادية المأخوذة من الأدلة الظنية والمبنية على مصالح العباد في المعاش والمعاد والتي بنيت على العرف، فإنها تتغير بتغير العلة والمصلحة والعرف وذلك هو العدل والرحمة والمصلحة وكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى النكاية وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة في شيء، لأن الشريعة كما يقول ابن القيم: عدل الله بين عباده ورحمته بخلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم وهي نوره الذي أبصر به المبصرون (1) . وإن كثيرًا من أعمال الناس وألفاظهم ومعاملاتهم وشؤون حياتهم تقوم على ما اعتادوه وتعارفوه، ذلك أن القواعد الشرعية المعتمدة على النصوص لا تستوعب جميع التفصيلات ولا المسائل المتجددة، وهي وإن كانت تتخذ أساسًا في نصها أو روحها للاجتهاد وبيان الأحكام، فإن العرف يساعد كثيرا في هذا الاجتهاد ويعين المجتهد على تفهم الواقع وتطبيق الحكم الشرعي عليها سواء أكان ذلك في معاني الكلمات وعبارات الناس أو في معاملاتهم وعقودهم حتى أصبح العرف الصحيح ذريعة إلى تبدل الأحكام وتغيرها باختلاف أعراف الناس في بيئتهم المختلفة وأماكنهم المتغايرة وهذا هو سبب تغير اجتهادات الإمام الشافعي في كثير من المسائل بين حكمه عليها حين كان في بلاد العراق وحكمه عليها حين انتقل إلى مصر حيث رأى تغير أعراف الناس وعاداتهم يعدل في اجتهاداته حتى صارت تعرف بالمذهب الجديد واجتهاداته بالعراق بالمذهب القديم وجميع الأئمة اعتبروا العرف الصحيح في الأحكام الشرعية ومالك كما قدمنا وأتباعه أقاموا للعرف وزنًا كبيرا وأخذوا به في كل ما لا نص فيه قطعي وتركوا القياس إذا خالف العرف، وقد قال القرطبي في باب الاستحسان: إن من ضروب الاستحسان ترك القياس لأجل العرف وجعلوه يخصص العام ويقيد المطلق، وقد صرح الزيلعي: أن العرف من أقوى الحجج في مشروعية المضاربة (2)   (1) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم الجوزية 3 / 3 (2) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 6 /29، ط الأميرية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2530 كما ذكر الشافعية في كثير من الأحكام تعليل مشروعيتها بجريان العادة والعرف بين الناس، مثل اعتبار الحب في غالب قوت البلد ودخول الحمام من غير تعيين مدة المكث ومقدار الأجرة بجريان العرف والتسامح في مثل هذا (1) . وقد نقل الشيخ أو زهرة نصوصًا كثيرة من المذهب المالكي موضحا أنها كانت شهادة باعتبار العرف أصلًا من أصول الاستنباط وأنه كثيرًا ما يتفق مع المصلحة وإن المصلحة أصل بلا نزاع في مذهب مالك على أن العرف يقتضي تأليف النفوس لما يكون من أحكام تكون على مقتضاه ومخالفته تؤدي إلى الحرج والمشقة وهما مرفوعان في الشريعة كقوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . والله من رحمته بعباده إنما يشرع ما يستسيغه الناس ويألفونه لا ما يكرهونه ويبغضونه إذ الشريعة ليست بنكاية كما قدمنا. ولأن العرف إذا لم يكن على رذيلة وهو العرف المحترم الصحيح يكون احترامه مقويًّا للوحدة دافعًا لاجتماع كلمة الأمة رابطًا بين الناس وإن مخالفته هدم لهذه المآثر وبناء على ما نقلنا ندرك أن مرتبة العرف تأتي مباشرة بعد مرتبة الكتاب والسنة حيث إنه يرجع إلى المصلحة وحيث هو راجع إلى المصلحة كان في مرتبتها إذ ليس بعد كتاب الله وسنة رسوله إلا المصلحة، ولا شك أن الإجماع لم يراع فيه المجتهدون إلا المصلحة ومهما تحققت المصلحة سار الناس إليها ومهما استعصى الأمر على المجتهد وعدم النص من الكتاب والسنة ولاح له عرف صحيح إلا خذ به واعتمد عليه، لأن العمل به كفيل بتحقيق المصلحة، بوساطته يدرك المنفعة أو المفسدة فيقرر ما تقتضيه من مصلحة ويرفض ما فيه مفسدة، ولقد اعتبره العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور مصدرًا فطريًّا حيث يقول: ونحن إذا وجدنا النظر في المقصد العام من التشريع نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر من خرفها واختلالها ولعل ما أفضى إلى خرق عظيم فيها يعد في الشرع محظورًا ممنوعًا وما أفضى إلى حفظ كيانها يعد واجبًا وما كان دون ذلك في الأمرين فهو منهي أو مطلوب في الجملة وما لا يمسها مباح، ثم إذا تعارضت مقتضيات الفطرة، ولم يمكن الجمع بينهما في العمل يصار إلى ترجيح أولاها وأبقاها على استقامة الفطرة، فلذلك كان قتل النفس أعظم بالإنسان بعد الشرك، وكان الترهيب منهيًّا عنه، وكان خصاء البشر من أعظم الجنايات، ولم يجز الانتفاع بالإنسان انتفاعًا يفيت عينه أو يعطلها كالتمثيل بالعبد بخلاف الانتفاع بالحيوان، وكان إتلاف الحيوان بغير أكله ممنوعًا ومن هنا تعلم أن القضاء بالعوائد يرجع إلى معنى الفطرة لأن شرط العادة التي يقضي بها أن لا تنافي الأحكام الشرعية فهي تدخل تحت حكم الإباحة وقد علمت أنها من الفطرة إما لأنها لا تنافيها وحينئذٍ فالحصول عليها مرغوب لفطرة الناس، وإما لأن الفطرة تناسبها وهو ظاهر (2) .   (1) المحلى: 4 / 71 (2) مقاصد الشريعة الإسلامية، للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: ص 58، 60، ط دار النشر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2531 وقد ظهر بما نقلنا أن العرف أصل ومصدر في الشريعة أصل لأن منه يأخذ الفقيه الحكم ويبنيه عليه فيكون أصلًا بهذا الاعتبار، وهو مصدر لأنه منه يأخذ الفقيه الحكم ويبينه عليه فيكون أصلا بهذا الاعتبار وهو مصدر لأنه منه يأخذ وهو بالنسبة للأصولي دليل لنه يرشده إلى الحكام نعم هو دليل ظني لا يرقى إلى الأدلة القطعية المأخوذة من الكتاب والسنة إذا كانت قضية الثبوت قطعية الدلالة فهو أقل منهما رتبة بهذا الاعتبار، هذه منزلة العرف بين الأدلة. وكما أنبنى على العرف مجموعة من القواعد الفقهية، انبنى عليه أيضًا قواعد أصولية كالاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة، فإن بعض أنواع الاستحسان، كاستحسان الضرورة مبني على العرف، إذ القياس مثلًا يقتضي منع بين المعدوم وينبني عليه منع بين السلم والاستصناع ونحوها ولكنها جازت استحسانًا وهو مبني على العرف (1) ، ولذلك قالت الحنفية في تعريف الاستحسان: دليل ينقدح في عقل المجتهد يقتضي ترجيح قياس خفي على قياس جلي أي مقتضى الإباحة في مقابلة ما يقتضيه القياس من المنع والحظر ولذلك اعتبره الحنفية دليلا شرعيًّا، وقالوا: نأخذ بالاستحسان ما استقام، يعنون أن الاستحسان قياسي خفيت علته بالنسبة إلى قياس ظاهر متبادر (2) والعلة كثيرًا ما تكون تعامل الناس وعرفهم في هذا التعامل وحاجتهم إليه، ومثل الحنفية المالكية في الاستحسان، إذ هو إيثار مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخيص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته وقد عرفه الشاطبي في موافقاته، فقال: الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي يقتضي النفع، قال ابن العربي في ترك الدليل العام: أسباب ترك الدليل أربعة: يترك الدليل للمصلحة، ويترك للتيسير ورفع الحرج، ويترك للإجماع، ويترك للعرف (3) . وهذا الأخير هو الاستحسان المبني على العرف ومن هنا جاء مثلًا تضمين الصناع في الأعيان بصنعتهم مع أن الأصل أن لا ضمان على مؤتمن ومن هنا أيضًا جاء عدم اعتبار الربا في القليل اليسير التافه كما هو كمبين في كتب الفقه ومما يؤثر عن الإمام مالك عن هذا الاستحسان أنه تسعة أعشار العلم (4) .   (1) انظر بدائع الصنائع، للكساني: 1 /113 (2) أصول الفقه للخضري: 367. (3) الاعتصام، للشاطبي: 2 /320 (4) الموافقات، للشاطبي: 4 /118 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2532 وقد قال بمثل هذا الاستحسان كثير من العلماء حتى من ورد عنهم القول بإنكار الاستحسان، ولقد ذكر الشوكاني عن بعض الأصوليين أنه العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس، فقالوا: إن كانت العادة هي الثابتة في عصر النبوة، فقد ثبت بالسنة وإن كانت هي الثابتة في عصر الصحابة من غير إنكار فقد ثبت بالإجماع (1) ، وعلى هذا فهو حكم، قال على العادة والعرف. كذلك الاستصحاب يعتمد في بعض أحكامه على العرف ومعناه استدامة ما كان ثابتًا، أو نفي ما كان منفيًّا أي: بقاء ما كان نفيًا وإثباتًا حتى يقوم الدليل على تغيير حالته (2) وهو اعتقاد كون الشيء في الماضي أو الحاضر يوجب ظن ثبوته في الحال أو الاستقبال كما هو عند القرافي (3) باعتبار ما كان عليه الأمر أو الحكم فيما مضى مستمرا إلى حال المتكلم يستمر العمل ما لم يصادم نصًا أو يقم دليل على عم اعتباره، والاستصحاب حجة عند المالكية والحنابلة وأكثر الشافعية والظاهرية عند عدم الدليل، وقال به أيضًا الحنفية إذا كان للدفع لا للرفع ويعبرون عنه باستصحاب الحال سواء كان عرفًا أو وصفًا مثبتًا للحكم مثل استصحاب اليقين في الطهارة (4) . ومن هنا بنوا قاعدة أن اليقين لا يزول بالشك وما ثبت باليقين لا يزول إلا باليقين والأصل بقاء ما كان على ما كان مما تفرع عن ذلك من الفروع الفقهية في الطهارات والعبادات والطلاق إلى غيرها من المسائل (5) . وكذلك المصالح المرسلة وهي التي لم يشهد لها من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين وترجع إلى حفظ مقصود الشارع مما علم كونه مقصودًا بالكتاب والسنة والإجماع والمصلحة هي ما به قوام الحياة من المنافع ودفع المضار، وهي تؤخذ بالقياس عند الشافعي وبالقياس والاستحسان عند أبي حنيفة، أما مالك رحمه الله فيرى أن المصلحة أصل بذاتها وأن أحكام الشرع ما جاءت إلا لتحقيق مصلحة أو درء مفسدة، ولكنها قد تعرف بالنص الخاص، وقد تطلب من النص العام أي أن مرجعها إلى مجموعة من النصوص كما هو في قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا ضرر ولا ضرار)) وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ومما تفرع عنها ضرب المتهم ليقر بالمسروق وزواج امرأة المفقود بعد أربعين سنة من انقطاع خبره لترجيح مصلحة الزوجة واعتداد المرأة المطلقة التي يمتد طهرها بثلاثة أشهر فوق مدة الحمل لئلا تتضرر بطول العدة (6) ومعلوم أن من أعظم ما يعين جهة النفع والضر العرف، فإن كانت جهة الضرر غالبة كانت مفسدة بالمعنى العرفي وإن كانت جهة النفع غالبة كانت مصلحة بالمعنى العرفي (7) ، والمصلحة المرسلة التي تبنى على اختلاف أوضاع الناس وأعرافهم وتقاليدهم وعاداتهم هي المصلحة المرسلة المبنية على العرف.   (1) إرشاد الفحول، للشوكاني: ص 241 (2) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم: 1 /264 (3) تنقيح الفصول، للقرافي: ص 199 (4) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني: ص 137 (5) انظر الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 57 – 63. (6) الموافقات للشاطبي: 2 /16 وما بعدها، تفسير المنار: 7 / 194 (7) المدخل الفقهي، للأستاذ الزرقاء: 1 /95، ط 9 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2533 علاقة العرف وارتباطه بالقرائن: القرائن جمع قرينة والمراد بها عند الفقهاء الإمارة الظاهرة تقارن الشيء الخفي، فتدل عليه، مأخوذة من المقارنة بمعنى الموافقة والمصاحبة وهي تتفاوت قوة وضعفًا، فقد ترتقي في القوة إلى درجة اليقين، وقد تضعف حتى تنزل دلالتها إلى درجة مجرد الاحتمال، ولقد عقد ابن فرحون في التبصرة بابًا في قضاء ما يظهر من قرائن الأحوال والأمارات، واستدل على اعتبارها من الكتاب والسنة وعمل السلف (1) فمن الكتاب قوله تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} دل على السيما، المراد بها حال يظهر على الشخص كمثل، إذا رأيناه ميتًا في دار الإسلام وعليه زنار وهو غير مختون لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء وكذا قوله تعالى {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} . وقال عبد المنعم بن الفرس: روي أن إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام لما أتوا بقميص يوسف إلى أبيهم يعقوب تأمله فلم يرَ فيه خرقًا ولا أثر ناب، فاستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان الذئب حليمًا يأكل يوسف ولا يخرق قميصه قال القرطبي في تفسيره، قال علماؤنا لما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة صدقهم، قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها وهي سلامة القميص من التمزيق إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لا بس القميص ويسلم القميص، وأجمعوا على أن يعقوب عليه الصلاة والسلام استدل على كذبهم بصحة القميص، فاستدل الفقهاء بهذه الآية على أعمال الأمارات في مسائل كثيرة من الفقه، وقال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [سورة يوسف: الآيات 26 – 29] . قال ابن الفرس هذه الآية يحتج بها من العلماء من يرى الحكم بالأمارات والعلامات فيما لا تحصره البينات (2) .   (1) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، لابن فرحون: 2 / 95، ط حلبي سنة 1302 هـ (2) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، لابن فرحون: 2 / 95، ط البهية مصر 1302 هـ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2534 هذا من القرآن وأما من السنة النبوية فمنها أنه صلى الله عليه وسلم حكم بموجب اللوث في القسامة وجوز للمعدين أن يحلفوا خمسين يمينًا ويستحقوا دم القتيل في حديث حويصة ومحيصة، واللوث دليل على القتل، فإن قيل: أين اللوث أجيب؟ بأن الحديث فيه ذكر العداوة بينهم، وأنه قتل في بلدهم وليس فيها غير اليهود، قال المازري رحمه الله تعالى: وعندي أن الأظهر في الجواب أن القرائن تقوم مقام الشاهد، فقد يكون قد قام من القرائن ما دل على أن اليهود قتلوه ولكن جهلوا عين القاتل، ومثل هذا لا يبعد إثباته لوثًا، فلذلك جرى حكم القسامة فيه والله أعلم، ومنها ما ورد في الحديث الصحيح في قضية الأسرى من قريظة لما حكم فيهم سعد أن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية، فكان بعضهم يدعي عدم البلوغ، فكان الصحابة يكشفون عن مؤتزريهم فيعلمون بذلك البالغ من غيره وهذا من الحكم بالأمارات ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أمر الملتقط أن يدفع اللقطة إلى واصفها، وجهل وصفة لعفاصها ووكائها قائما مقام البينة ومنها حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده بالفاقة وجعلها دليلًا على ثبوت النسب وليس فيها إلا مجرد الأمارات والعلامات، ومنها أن ابني عفراء تداعيا قتل أبي جهل يوم بدر، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ((هل مسحتما سيفيكما؟)) ، قالا: لا، فقال صلى الله عليه وسلم ((أرياني سيفكيما)) فلما نظر فيهم قال لأحدهما: ((هذا قتله وقضى له بسلبه)) ، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أمر الزبير بعقوبة الذي اتهمه بإخفاء كنز ابن أبي الحقيق، فلما ادعى أن النفقه والحروب أذهبته قال صلى الله عليه وسلم: ((العهد قريب والمال كثير)) ومنها أنه صلى الله عليه وسلم فعل بالعرفيين ما فعل بناء على شاهد الحال ولم يطلب بينة بما فعلوا ولا وقف الأمر على إقرارهم (1) . . وأما من فعل السلف فمنها حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابه معه متوافرون برجم المرأة إذا ظهر بها حمل ولا زوج لها، وقال بذلك مالك وأحمد بن حنبل اعتمادًا على القرينة الظاهرة، ومنها ما رواه ابن ماجة وغيره عن جابر بن عبد الله، قال: أردت السفر إلى خيبر، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا جئت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقًا، فإذا طلب منك آية فضع يدك على ترقوته)) (هي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين) ، فأقام العلامة مقام الشهادة. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها)) فجعل صماتها قرينة على الرضا وتجوز الشهادة عليها بأنها رضيت، وهذا من أقوى الأدلة على حكم القرائن، ومنها حكم عمر بن الخطاب وابن مسعود وعثمان رضي الله عنهم ولا يعلم لهم مخالف بوجوب الحد على من وجد فيه رائحة الخمر أو قاءها اعتمادًا على القرينة الظاهرة وهو مذهب مالك رضي الله عنه (2) .   (1) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، لابن فرحون: 2 / 97، ط البهية مصر 1302 هـ (2) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، لابن فرحون: 2 / 97، ط البهية مصر 1302 هـ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2535 والقرائن تنقسم إلى قسمين قرينة عقلية وقرينة عرفية، فالقرينة العقلية هي التي تكون النسبة بينها وبين مدلولها ثابتة يستنتجها العقل دائمًا كوجود المسروق بيد المتهم بالسرقة أو ببينة والعرفية هي التي تكون النسبة بينها وبين مدلولها قائمة على عرف وعادة تتبعها دلالتها وجودًا وعدمًا وتتبدل بتبدلها كشراء المسلم شاة قبيل عيد الأضحى، فإنها قرينة عرفية على قصد الأضحية وكشراء الصائغ حليًّا، فإنه قرينة على أنه اشتراه للتجارة ولولا عادة التضحية عند الأول والتجارة عند الثاني لما كان ذلك قرينة (1) . وتنقسم القرائن باعتبار آخر إلى قرائن شرعية أو قانونية والى قرائن قضائية، فالقرائن الشرعية هي التي يعتمدها الشارع أسبابًا في بعض الأحكام، أما القرائن القضائية فهي التي يتخذها القاضي دليلا في تخصيص الوقائع وإثباتها ويعود إليه تقدير دلالتها، والنوع الأول أي القرائن الشرعية أو القانونية هي في الأغلب من نوع القرائن العقلية، لأن الشارع يبني عليها حكمًا ثابتًا فيجب أن يقام على نسبة ثابتة بين الدلالة ومدلولها، كما في حكم التقادم وطلاق الفرار، أما القرائن القضائية فقد تكون عقلية وقد تكون عرفية لأن القضاء يستأنس بجميع الأدلة ولو وقتية (2) . وفقهاء الإسلام اعتبروا القرائن والعلامات من الأدلة المثبتة التي يعتمد عليها في القضاء ولكنهم اختلفوا هل القرينة وحدها كافية تشهد لمدعيها وتحط عنه اليمين أو لا بد له من أداء اليمين، وهذا بناء على أن العرف هل يقوم مقام شاهد واحد أو شاهدين، وقد نقلنا الخلاف في ذلك نقلناه عن الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية للشيخ الوالد رحمه الله حين كلامه على بيان المدعي من المدعى عليه، وقد قال المازري في الجواهر: الأظهر أن القرينة تقوم مقام الشاهد، والحق أن هذه القرائن إما أن تكون قطعية وإما أن تكون ظنية، فإن كانت قطعية كانت كافية قائمة مقام البينة، كما إذا رأينا رجلًا مذبوحًا في منزل والدم يسيل منه وليس في الدار أحد ورأينا رجلًا قد خرج من الدار مضطربًا في حالة منكرة، علمنا أنه الذي قتله، وكان لوثًا يوجب القسامة، والقود للقرينة الظاهرة، وهي المسألة الأربعين من المسائل التي ذكرها ابن فرحون في بيان عمل فقهاء الطوائف الأربعة بالحكم بالقرائن والأمارات ومثل لذلك بخمسين مسألة (3) .   (1) انظر المدخل الفقهي العام، للأستاذ الزرقاء: 2/ 919، ط الفباء دمشق 1967 م. (2) انظر المدخل الفقهي العام، للأستاذ الزرقاء: 2/ 919، ط الفباء دمشق 1976 م. 2 /923 (3) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، لابن فرحون: 2 /93- 101 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2536 أما الحالة الثانية، فإن الفقهاء يعتمدونها دليلا أوليًّا يترجح بها قول المدعي مع يمينه إلى أن يثبت خلافها، وقد اتفق مالك وأبو حنيفة على اعتبار القرائن وخالف الشافعي في ذلك ظنًا منه أن في هذا مناقضة ومخالفة للحديث المشهور ((البينة على المدعي واليمين على من أنكر)) (1) ولقد أوضح محمد علي حسين أن لا مخالفة بين العمل بالقرائن وبين ما جاء في حديث ((البينة على المدعي واليمين على من أنكر)) ذلك أن القاعدة أن المدعي من خلا قوله عن أصل أو عرف وأن المدعى عليه من عضده أصل أو عرف، فالمدعي الدين على غيره على خلاف الأصل، إذ الأصل براءة الذمة فالمطلوب من المنكر هو على وفق الأصل. والمدعى رد الوديعة وقد قبضها ببينه هو المدعي، لأن قوله على خلاف الظاهر والعرف بسبب أن الغالب أن من قبض ببينه أن لا يرد إلا بينه، والمدعي عدم القبض هو على وفق الظاهر والعرف يشهد له وهذه القاعدة تقتضي أن المرأة إذا ادعت قناعًا وشبهه مما هو يختص بالنساء كان قولها على وفق الظاهر، وقول الزوج على خلافه فكان مدعيًا وهي مدعيًا عليها، وقد نقلنا عن الطريقة المرضية للشيخ الوالد أن معرفة المدعي من المدعى عليه هو مناط التوتر ومحور النظر ومحل الاهتمام إذ بتمييز أحدهما عن الآخر يتنكب عن الخطأ في تكليف أحدهما بغير ما عينه الشرع له، وعليه فمخالفة الشافعي في الاعتماد على القرائن ودعوى أنها تعاكس ما ورد في الحديث من أن ((البينة على المدعي واليمين على من أنكر)) لا يقوم حجة، بل وهي المعينة لمعرفة المدعي من المدعى عليه، كما ذكره الوالد رحمه الله في الطريقة المرضية وعلى أساس الاعتماد على القرائن العرفية، قرر الفقهاء حلولًا كثيرة في شتى الحوادث في اختلاف الزوجين في حال العصمة وبعد الفراق أو الموت وإجراء الحكم حسب القرائن والعادات وما يقتضيه العرف من اختصاص ذلك بالرجال أو النساء، أما ما كان مشتركًا يصلح لهما معًا كالدار يسكناها والماشية يتصرفان فيها، فيترجح قول الزوج لأنه صاحب اليد وهي قرينة على اعتبار الملك، فقال مالك: إذا اختلفا وهما زوجان أو عند الطلاق قضي للمرأة بما هو شأن النساء وللرجل بما هو شأن الرجل وما يصلح لهما قضي به للرجل لأن البيت بيته في العادة، فهو تحت يده فقدم لأجل اليد كما في التبصرة وكذا لو اختلف المتبايعان في قبض السلعة أو الثمن فالأصل بقاء الثمن بيد المبتاع وبقاء المبيع بيد البائع ولا ينتقل ذلك إلا ببينة أو عرف كالسلع التي جرت العادة أن المشتري يدفع ثمنها قبل أن يبين بها كاللحم والخضر ونحوها فيحكم في ذلك بالعرف والعادة ولو اختلف عطار ودباغ في العطر والجلد أو اختلف فقيه وحداد في نحو الجبة والكير كانت لهما عليه يد حكمية، أو تنازع رجل وامرأة رمحًا يتجاذبانه فالقول في هذا كله قول من شهد له العرف والعادة وقرائن الأحوال فالجبة للفقيه والكير للحداد والرمح للرجل وكل هذا مع اليمين (2) .   (1) أخرجه البخاري في الرهن والترمذي وابن ماجه في الأحكام. (2) تبصرة الحكام: 2 / 66 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2537 وقد عقد ابن فرحون في تبصرته بابًا وهو السابع والخمسون في القضاء بالعرف والعادة، ونقل عن ابن يونس قال: إذا فرعنا على مذهب مالك فمن قضي له بشيء حلف عليه، قال الإمام سحنون: ما عرف بأحدهما لا يحلف عليه، قال ابن القاسم: فما ولي الرجل بشرائه من متاع النساء وشهدت به البينة أخذه بعد يمينه أنه ما اشتراه إلا له وكذلك المرأة ومن الشيوخ من نفى الخلاف عن ذلك، وقال: إذا ادعت المرأة شيئًا من متاع النساء وكذبها الرجل أو ادعى الرجل شيئا من متاع الرجال وكذبته المرأة فلا خلاف في تعلق اليمين في ذلك، وإنما الخلاف في وجوب اليمين إذا تنازع ورثة الزوجين أو تنازع ورثة أحدهما مع الآخر دون تحقيق الدعوى فيجري الخلاف على الخلاف في أيمان التهم وهذه طريقة ابن رشد والطريقة الأولى أسعد بنقل المتقدمين والذي قاله هذا الشيخ هو الذي تشهد له أصول المذهب، وقد ذكر في هذا الباب سبعة عشر فرعًا وتنبيهات ثلاث وقاعدة ومسائل تسع وكلها تحوم حول موضوع سلطان العرف والعادة حول القضاء والفتيا كما ذكر (1) . وقد ذكر في الباب الخامس والعشرين بالقضاء بقول المدعي لرجحانه بالعوائد وقرائن الأحوال أو لاتصافه بالأمانة أو غير ذلك من وجوه الترجيح، وقد ذكر نبذة من مسائل هذا الباب فذكر منها قبول قول المرأة في الإصابة إذا خلا بها خلوة اهتداء ويحكم عليه بالصداق وإن كان منكرًا للوطء لأن الخلوة بها أول مرة يشهد العرف والعادة أن الرجل لا يفارق المرأة حتى يصل إليها وهل يلزمها يمين أم لا قولان، وفي خلوة الزيارة قولان، قيل: القول لها وهو الأشبه عند أبي زيد، وقيل: قول الزائر منهما وهو المشهور، وقيل: القول قول الثيب وينظر النساء للبكر. المسألة الثانية: إذا أقر الوصي أنه قبض من الغرماء ما عليهم وضاع صدق وإن لم تقم بينة على الدفع لكونه قائما مقام الأب في الشفعة والأمانة. المسالة الثالثة: إذا أقر الأب أنه قبض النقد من صداق ابنته من الزوج وادعى تلفه فالأب مصدق عند ابن القاسم وإن كان قبضه بغير معاينة البينة ويبرأ الزوج ويدخل بزوجته ويلزم الأب اليمين لحق الزوج في تجهيز زوجته به.   (1) تبصرة الحكام: 2 /64 – 74. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2538 المسألة الرابعة: إذا ادعى المعترض أنه وطئ زوجته، فالقول قوله مع يمينه، وقيل: بغير يمين، قاله مالك في الواضحة، وقيل: بنظر النساء البكر والأول هو المشهور. المسألة الخامسة: يقبل قول الوصي فيما اتفق على اليتيم إذا أشبه قوله الصدق وقيل يقبل قوله فيما اتفق في عمارة ريعه وختانه إذا أشبه الصدق. المسألة السادسة: يقبل قول الزوج أنه أنفق على زوجته إذا كان مقيمًا معها وادعت أنه لم ينفق عليها لشهادة العرف له. المسألة الثامنة: يقبل قول المرأة أنها انقضت عدتها ولا يمين عليها إذا كان الزمن ممكنا وإن كان على خلاف عادتها. المسألة التاسعة: إذا ادعت المرأة أن عدتها انقضت بسقط قبل قولها وإن كان ذلك بعد الطلاق بيوم ولا يمين عليها ولا يلتفت إلى تكذيب الجيران لها. المسألة العاشرة: يقبل قول الأمة أن هذا الولد الذي معها ولدها فلا تجوز التفرقة بينهما في البيع ولا يعمل بقولها في الميراث فلو عتقا لم يتوارثا بدعواهما. المسألة الحادية عشر: إذا خيف عرق المركب وطرح منه ما يرجى به سلامته فالقول قول المطروح متاعه فيما يشبهه وقال ابن القاسم هو مصدق مع يمينه في ثمن متاعه المطروح ما لم يأتِ بما يستنكرون: لا يمين عليه إلا أن يتهم فيحلف. المسألة الثانية عشر: إذا ادعى المساقي أنه دفع لرب الحائط الجزء الذي ساقاه عليه وقال رب الحائط بعد فراغ المساقاة ولم يدفع العامل شيئًا فقال مالك: إن كان قد جدا الثمرة فلا شيء له وعلى العامل اليمين كان بقرب الجذاذ أو بعده. وكذا لو جذ بعضها رطبًا والباقي تمرًا فقال قبل جذاذ الثمرة لم يدفع لي شيئًا من الرطب ولا من ثمنه، فالعامل مصدق مع يمينه قال ابن يونس: لأن حقه في عين الثمرة لا في ذمة العامل لجريان العادة بدفع ذلك بغير إشهاد. المسألة الثالثة عشر: من حاز شيئًا مدة لكون الحيازة فيها معتبرة والمدعي حاضرًا ساكت وليس له عذر في سكوته، ثم يقوم على الحائز ويدعي عليه فادعى الحائز الشراء كان القول قوله مع يمينه. المسألة الرابعة عشر: وإذا ادعى المودع رد الوديعة فالقول قوله مع يمينه وهو مدع، وإنما ترجح قوله لأنه استأمنه والأمين مصدق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2539 المسألة الخامسة عشر: وكذلك لو ادعى البائع أنه باع بالدراهم وقال المشتري، بل بالسلعة فالقول قول البائع لقوة قرينة صدقه لأن الدراهم هي الأثمان وبها يقع البيع. المسألة السادسة عشر: إذا باع السمسار سلعة فوجد المشتري بها عيبًا فسأل السمسار عن رب السلعة، فقال: لا أعرفه خلف أنه ما يعرفه. المسألة السابعة عشر: إذا وضعت الجارية المستبرأة عند المشتري واستأمنه عليها البائع فقال بعد شهرين أو ثلاثة: لم تحض أو ماتت، صدق في ذلك وكان القول قوله. المسألة الثامنة عشر: من دفع إلى رجل يخيطه له بلا أجرة والرجل ليس من الصناع الذين نصبوا أنفسهم للناس بالأجر فادعى ضياع الثوب من عنده، فلا ضمان عليه وعليه اليمين أنه ضاع من غير تفريط. المسألة التاسعة عشر: إذا ادعى المضروب ذهاب سمعه أو جميع بصره فالقول قوله بعد الاختبار بما يكن ويصدق مع يمينه، لأنه لا يمكن التوصل إلى صدقه إلا من قوله. المسألة العشرون: من ادعى أنه أمن رجلًا من أهل الحرب فإنه يقبل قوله وإن لم يكن له بينة على تأمينه، هذا قول ابن القاسم، وقال سحنون: لا يقبل إلا بينة. المسألة الواحدة والعشرون: إذا ادعت المرأة الغريبة الطارئة من بلد بعيد أنه لا زوج لها فالقول قولها ويزوجها الحاكم إذا لم يطمع على الوقوف على حقيقة دعواها. المسألة الثانية والعشرون: إذا ادعى المأمور أنه تصرف كما أمره الموكل فقال الموكل: لم تتصرف بعد، فالقول قول المأمور لأنه أمين. المسألة الثالثة والعشرون: لو قال المأمور بعت السلعة بعين وقال الآمر أمرتك أن تبيعها بعرض، فالمأمور مصدق لأن من باع بعين فالأصل يعضده لأنها القيم التي يتبايع الناس بها غالبًا. المسألة الرابعة والعشرون: وكذلك لو أمره الموكل ببيع سلعة أو شرائها وادعى المأمور أنه دفع ذلك إلى الأمر، فالقول قول المأمور وكذلك القول قول الوكيل في ضياع الثمن. المسألة الخامسة والعشرون: إذا استأجر المستأجر، وادعى رد ما استأجره من العروض فهو مصدق لأن يده أمينة قبض ذلك ببينة أو بغير بينة رواه أصبع، عن ابن القاسم. المسألة السادسة والعشرون: إذا ادعى الغاصب أنه غصب الثوب خلقًا وقال ربه: بل غصبه جديدًا فالقول قول الغاصب مع يمينه وإذا حلف أدى قيمته خلقًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2540 الفصل الثاني: في تصديق المدعى عليه والروع إلى قوله، وذكر عدة مسائل، منها: إذا اختلف المبتاع والشفيع في مرور السنة وانقضائها بعد البيع ولا بينة فالشفيع مصدق مع يمينة، وهو مدعى عليه لأن الشفعة قد وجبت له، والمشتري مدعى لتاريخ يسقط ما ثبت له منها فلا يقبل قول البائع في ذلك. المسألة الثانية: وكذا من اشترى أرضا فقبضها ثم قام عليه رجل يطلبها بالشفعة، فزعم المشترى أنه اشترى شيئا مقسومًا، وقال الشفيع: إنها لم تقسم، فالقول قوله لأنه مدعى عليه. المسألة الثالثة: إذا وهب هبة مطلقة وادعى أنها للثواب، وقال الموهوب: لغير الثواب، حكم بالعرف مع اليمين فإن أشكل فالقول قول الواهب مع يمينه. المسألة الرابعة: لو باع الوكيل السلعة وقال: بذلك أمرتني، وقال ربها: إنما أمرتك برهنها، فالقول قول رب السلعة فاتت أو لم تفت. المسألة الخامسة: لو اشترى المأمور السلعة بعشرين فقال الآمر: ما أمرتك إلا بعشرة فالقول قوله مع يمينه ويغرم الوكيل العشرة لرب السلعة هذا هو المشهور. المسألة السادسة: إذا اختلف الزوجان في عدد الصداق بعد البناء، فالقول قول الزوج مع يمينه، قال ابن القاسم: لأنها مكنته من نفسها فصارت مدعية عليه وهو مقر لها بدين، فالقول قوله مع يمينه، وإن نكَّل فالقول قولها مع يمينها هذا هو المشهور. المسألة السابعة: إذا ادعت المرأة أن لزوجها جنونًا، وأنكره فالقول قوله وعليها البينة. المسألة الثامنة: إذا ادعى المشتري الإقالة فأقر له البائع بذلك ورغم أنه أقاله على أن يرد عليه أقل من الثمن الذي دفع إليه فلا يقبل قوله إلا ببينة، وعلى المشتري اليمين أنه ما قاله إلا بمثل الثمن. المسألة التاسعة: لو قال من بيده الدار أعرتني هذه الدار، وقال ربها: بل بعتكما، فالقول قول مدعي العارية مع يمينه. المسألة العاشرة: إذا تداعى رجلان في عقد البيع هل كان ولم يكن فالقول قول المدعى عليه البيع أو الشراء ولا يمين على المدعى عليه إن كانت السلعة بيد صحابها. المسألة الحادية عشر: إذا أشهد البائع بقبض الثمن، ثم قال: إنها فعلت ذلك ثقة للمبتاع لم يقبل منه المشتري مدعى عليه، فإن طلب يمين المبتاع على دفع الثمن لم يكن له ذلك، وقد ذكر ابن فرحون أنه استقصى مسائل هذا الباب وأفردها في تأليف اسماه ببروق الأنوار الموضحة لأنواع طرق الدعوى (1) .   (1) تبصرة الأحكام في أصول الأقضية ومناهج الإحكام، لابن فرحون: 1 /252 إلى 255 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2541 وبما نقلنا نرى كيف أن الفقهاء اعتبروا سائر القرائن العرفية وجعلوها من المرجحات الأولية التي يعتمدها القضاء مع اليمين في بعضها ومع عدمها في بعضها حسب القوة الشبهة وضعفها بين المتخاصمين وبحسب اعتبار العرف هل يقوم مقام الشاهد أو مقام الشاهدين ولقد قال الإمام ابن العربي: على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت فيما ترجح منها قضى بجانب الترجيح وهو قوة التهمة ولا خلاف في الحكم بها. شرط من يتولى القضاء بين الناس: لقد نص الفقهاء على أن من شرط القاضي بل هو الشرط الأساسي العلم فلا يجوز تولية الجاهل بالأحكام الشرعية لأن القاضي بالشرع للأحكام بمقضتى الشرع موافقته ومن شأن من يكون كذلك أن يكون عالمًا لا جاهلًا حتى يدرك أسرار القضاء ولذلك اشترطوا فيه أن يكون جامعًا بين الفقه والحديث بل ذهب ابن الحاجب إلى اشتراط أن يكون مجتهدًا بحيث لا تجوز ولا تصح ولاية المقلد ولا تنفذ أحكامه (1) مع وجود المجتهد قال ابن الحاجب: فإن لم يوجد مجتهد فمقلد، وإذا كان بعض الفقهاء أجازوا ولاية المقلد فقد اشترطوا أن يختار من أعلم المقلدين، قال ابن عبد السلام: وينبغي أن يختار أعلم المقلدين وقد اعتبر القاضي ابن العربي، والقاضي عياض والإمام المازري العلم من الشروط الواجبة (2) . ونقل ابن عبد البر أن الأئمة اشترطوا أن يكون القاضي عالمًا بالسنة والآثار وأحكام القرآن ووجوه الفقه واختلاف العلماء (3) وقد رد ابن رحال على ابن رشد فيما ذهب إليه من أن شرط العلم مستحب لا واجب بأن هذا قول شاذ بعيد عن الصواب إذ القاضي هو أحوج الناس إلى العلم (4) ولقد اشترط العلماء للأخذ بالعرف أن يكون عرفًا صحيحًا لا فاسدًا فإذا كان القاضي غير عالم بالأحكام الشرعية فكيف يستطيع أن يميز بين الصحيح والفاسد، ولذا كان العرف من حيث صلاحه للعمل به أو طرحه وفساده من مهمة الفقيه العالم بالأحكام المتمرس عليها، أما من جهلها فلا اعتداد بأحكامه ولا عبرة بعرفه لأن اتباع العادات والأعراف من غير دليل شرعي هو فساد في الدين وابتعاد عن شريعة رب العالمين إذ كثير من الأعراف ما كان مبنيا على الهوى، وإذا لم يكن القاضي من العلماء الأعلام القادرين على تمحيص الأعراف المقبولة من الأعراف المردودة كان غير صالح للقضاء على أن العرف يلجأ إليه عند عدم النص الصريح أو الضمني في القضية.   (1) شرح ميارة للتحفة: 1 /10 (2) شرح ميارة للتحفة: 1 /10 (3) الكافي، لابن عبد البر. (4) حاشية ابن رحال: 1/ 2، على هامش شرح ميارة، للتحفة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2542 أما مع وجود النص فلا عبرة بالعرف كما قدمنها وإلا لزم نسخ الشريعة بالعادة، ولا قائل بذلك فالمرجع حينئذٍ إنما هو لقواعد الشرع، وقد أوجب الفقهاء على متولي الإفتاء والقضاء في المسائل الجاري بها العرف أن ينظر فيها، فإن كانت مما تكلم فيها الفقهاء قبله بما يخالف العرف الجاري فيها في زمانه نظر في مستند الفقهاء في كلامهم، فإن كان مستندهم دليلًا من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو قياس حكم فيها وأفتى بما قرره الفقهاء قبله وألغى العرف؛ لأنه لا يعتد به عند مصادرة الدليل الشرعي، وإن كان معتمدهم في ذلك ما جرى به العرف عندهم قد تغيرت الأحوال وتبدلت العادات حكم بما عليه عرف ذلك البلد كما قدمنا ولا يعتبر ذلك من تبديل الأحكام ونسخها وإنما هو من ترتيب الحكم على العلة وجودًا وعدمًا والأعراف المعتبر هي التي توزن بميزان الشرع فما وافق فهو معتبر يؤخذ به كلما تحققت به المصلحة، أما ما كان مخالفًا للشرع فلا يعتبر ولا يؤخذ به بحال، هذا هو الرأي الذي تطمئن له النفوس وتقبله الشريعة. أما ما ذهب إليه بعض علماء المغرب من الأخذ بما جرت عليه أعراف الناس بإطلاق كأعراف القبائل البربرية المغربية في عقود الأنكحة والمغالات في الأيمان وتشريك أقارب المتهم في تأدية القسم وأخذ الولي صداق البنت لنفسه ونحو ذلك، وقد اختلفت أنظار علماء المغرب في الأخذ بهذه الأعراف وافترقوا فرقًا ثلاثة، فمنهم: من حمل على هذه الأعراف واعتبرها مروقًا وخروجًا عن الدين يجب محاربتها والقضاء عليها ومنهم: من سايرها ورأى فيها تحقيق مصلحة القوم التي لا تتحق إلا بالأخذ بها فيحبذها وآثر العمل بها ودافع عنها، والفريق الثالث: وقف موقفًا وسطًا فأخذ بما يواق الشرع ولا ينقاصه، ورد وأنكر وحارب ما كان مخالفًا للشرع ومبادئه ومقاصده، وقد ذكر الدكتور عمر الجيدي في كتابه العرف والعمل في المذهب المالكي فبين أن المؤيدين لهذه الأعراف والأحكام والتنظيمات بالنسبة لأعراف سوس منهم الشيخ الحسن بن عثمان الجزولي، وابن غازي، وعمروبن أحمد بن زكرياء العقيلي، وقد أصدر هذا الأخير منشورًا يعد نموذجًا للأعراف التي في سوس ومثله الشيخ أبو عبد الله، محمد بن إبراهيم بن عمرو بن طلحة التمنارتي، وعبد الله بن مبارك اللقاوي، ونقل عن أبي الحسن علي بن أحمد العمري في كتاب فتاوى الحاكم أن أول من أحدث الخلاف هذان العالمان السابقان وهما اللذان أمرا يكتبها في ألواح القبائل من هلالة وهشتوكة، وتابعهما أهل عصرهما وتلقوا ذلك بالقبول، وكذلك الفقيه عبد الله بن الحاج شعيب الهلالي له بحث في مسائل هذه الأنواع، ومثله الشيخ محمد البوعقيلي الهلالي، وهو الواضع للوح حصن زاوية سيدي يعقوب، وإن له كتابًا في الأعراف وكذلك أبو عيسى السكتاني الرجراجي صاحب النوازل، ومحمد بن سليمان الجزولي السملالي، ثم بيَّن أن مما أيدها من المحدثين المختار السنوسي الذي ذكر أن أهل سوسن أسسوا قواعد وحتموا اعتبارها وقوانين أيدوا بها أعمالها وإقرارها ورتبوا جنايات الأموال ومنها مثلًا، من تعرض لأحد ذهب لأسواقهم، أو مواسمهم أو حصونهم، أو تعرض لفقيه أو عالم أو طالب علم، ولو بسبب أو شتم، أو تعرض ليهودي في ملاحة أو في طريقه أو سرق، أو جنى جروحًا، أو سفك دمًا أو غير ذلك، وشددوا في ذلك وعينوا النفائس (أي أعضاء الجمعية في كل قبيلة) ، تجتمع في مدرستها عند وقوع تلك النوائب، وعلى هذا النمط بنيت أحوال السوس الأقصى كله من أوله إلى آخر، ثم نقل عن الأستاذ العثماني في كتابه ألواح جزولة قوله نظرة خاطفة على النظام القضائي العرفي في بعض القبائل البربرية توحي لنا، وكأننا أمام نظام قار لا يختلف في كثير من الأشياء عما ورد في الشرع يسايرها ولا ينقاضها بل يسير في اتجاهها ومقاصدها مع مراعاة ضروريات الحياة وتطورها، والسياسة الشرعية مبنية على المصالح المرسلة في المسائل التي تنبع فيها أعراف البلاد وعاداتهم وتقاليدهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2543 الفريق الثاني: العملاء المعارضون من نفس القبائل التي كان يطبق فيها هذا العرف وهذا الفريق يندِّد بأصحابها والقائمين عليها، ومن هؤلاء عبد الله الهشتوكي، فهو يصفها بالضلال المبين وعبد الرحمن التمنارتي، فقد قال في شأنها إنها من باب التحكم إلى الطاغوت الذي أمرنا الله أن نكفر به، والشيخ محمد بن ناصر الدرعي الذي لما سئل عنها أجاب في حق أصحابها بأنهم عصاة ومنهم الشيخ عبد الرحمن الجزولي فقد علق على قولة عمر بن عبد العزيز تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، قال: هذا يستدل به أشياخ السوء من القبائل فيما أحدثوا أن من سل سيفه فضرب به لزمه كذا، ومن وضع يده على سيفه ولم يسله يلزمه كذا ومن لطم يلزمه كذا ومن شتم يلزمه كذا وعدد مجموعة، ثم قال: وكل ذلك بدعة أماتوا بها السنة ثم نقل أن الموقف هو الذي وقفه محمد بن عمر حيث ذهب إلى أن الضوابط التي اتفقت عليها الشيوخ والضمان ضلال مبين معللا بأن أحكام الشرع هي التي أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم وإن ترك الأحكام الشرعية واستنباط ضوابط وقوانين جديدة كفر صراح، وهذا هو نفس الرأي الذي ذهب إليه قاضي سوس عيسى بن عبد الرحمن، الذي قال في شأن الألواح: أنها ألواح شيطانية، وإنهم بذلك ينبذون الكتاب والسنة، ويحكمون بغير ما أنزل الله متحاكمين إلى الطاغوت. الفريق الثالث: من توسط من العلماء في هذه الأعراف فقبلوا منها ما كان موافقًا للشرع ومقاصده ورفضوا ما كان مخالفًا معاكسًا، ونقل أن ممن أخذ هذا الموقف الشيخ عبد الواحد بن أحمد مفتي مراكش في زمنه ومحمد بن عمر والشيخ أحمد بابا التنكتي الذي أجاب عن سؤال يتعلق بهذه الأعراف خلاصته أن أهل الجبال والبادية يجتمعون عن آخرهم ويكونون منهم أهل الحل والعقد يسمونهم (انفلاس) ويتفقون على أن كل من قطع طريقًا ببلدهم يستردون منه ما سلب ويغرمونه إياها ويعاقبونه على فعلته بعقوبة مالية ويهدمون منزله ويذبحون بقره ويأكلونها ردعًا له، فإن لم يكن بيده شيء أخذوا قيمة ذلك من أقاربه وتأديتها ويعتبرون أن ذلك هو الإنصاف وأنهم لو تركوه لانعدم انتظام أمورهم وانعدام استقرارهم، وقد أجاب بما خلاصته أن الموضع الذي لا سلطان فيه أن اجتمعت جماعة المسلمين فيه على إقامة أحكام الله على وجه ما شرعه الله فإن حكمهم يقوم مقام حكم القاضي والسلطان، حيث لا سلطان ولاقاضي وأما فعلهم الضوابط والأحكام على مقتضى المصالح، فإن كانت جارية على وجه الشرع فليس بجعل بل إنفاد لأحكام الشرع، وإن كانت على خلافه فأمر حرام لا يجوز قطعًا، وأما استردادهم من قاطع الطريق ما أخذ من الموال فإن كانوا ليردوها إلى أصحابها فأمر حسن وإن كان ليأكلها فقبيح، وأما عقوبتهم للجاني بهدم داره وإتلاف ماله فالواجب على الجاني إن قطع الطريق أن يحارب فحكمه إنفاذ حكم المحارب فيه ولا تهدم داره ولا تتلف أمواله لأنها عقوبة بالمال وهي غير جائزة في المذهب والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1)   (1) سورة المائدة: الآية 33. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2544 فقد اتفق العلماء على أن من قتل وأخذ المال وجب إقامة الحد عليه ولا يسقط العقاب بعفو ولي المقتول والمأخوذ منه المال خلافًا للقتل العادي (1) ثم اختلفوا في عقوبة قطع الطريق هل هذه العقوبات على التخيير أم هي مرتبة على قدر جناية المحارب فالحنفية والشافعية والحنابلة أن الحد على الترتيب وعلى قدر الجناية فإن أخاف الطريق دون أخذ للمال ولا قتل، فالحكم النفي والتعزيز، وإن أخذ المال فقط فقطع اليد والرجل من خلاف، وإن قتل ولم يأخذ المال فالقتل، وإن قتل وأخذ المال فالقتل والصلب، أما مالك فيرى أن الإمام مخير بين هذه العقوبات حسب ما يقتضيه الردع والمصلحة وسبب الخلاف يرجع إلى (أو) هل هي للتخيير أو هي للترتيب، وكل الوجوه فليس هناك من قال بهدم منزله وسلب أمواله وأكل بقره ونحو ذلك مما جرى به العرف في بعض القبائل المغربية، قال مؤلف الكتاب: ومازال سكان المغرب في الجنوب يستعملون النصاف يطبقونه على كل من ارتكب مخالفة أو خالف عهدًا وخاصة في مناطق بني ملال وغيرها من القبائل المجاورة قال الشيخ أحمد بابا: أما ما يتعلق بالإنصاف فهو ظلم وحرام وليس من أحكام الشرع بل هو ظلم وعدوان وطغيان ونعي على الذين يزعمون أن ذلك لرعي المصلحة مصرحًا بأن ذلك كذب وبهتان وإثم وخسران، وأن من اعتقد حلية ذلك ربما أفضى به إلى المروق من الدين ووصف تحليفهم المتهم خمسين يمينًا بأنه من تغيير الشرع، إذ ليس في الشرع تحليف بغير يمين واحدة إلا القسامة بخمسين وفي اللعان بأربعة مع التخميس باللعنة والغضب ورفض أن يكون في تركهم ذلك سبب للفوضى وعدم الأمن والاستقرار ووصفه بأنه كلام الجهال والغارقين في اتباع الهوى، وأوضح أن انتظام الكلمة واستقامة الأحوال إنما يكون باتباع الشرع في الأقوال والأفعال، ثم بين الدكتور عمر بن عبد الكريم الجبيدي أن الحق هذه الأعراف إن كانت من المسائل الضرورية لفقد تقرر لدى الفقهاء أن للضرورة أحكامًا فاتفاقهم على جماعة تعمل بضوابط تحقق المصلحة للناس تمنعهم من المحاربين والمتلصصين واسترداد ما أخذوه، فهذا لا يخالف الدين في شيء، وأما ما كان غير ذلك كمؤاخذة غير الجاني وتحليفه خمسين يمينًا يؤديها هو وأقاربه فهذا من قبيل المروق من الدين (2) ، قلت وهو حق لأن الله يقول: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة فاطر: الآية 18] ، ولأن كل نفس بما كسبت رهينة ثم ما تقتضيه الضرورة يشهد له في الشرع الرخص الواقعة في الشريعة فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في جلب المصالح ودرء المفاسد على الخصوص وهذا من باب الاستحسان الذي قال فيه الإمام هو تسعة أعشار العلم والذي قد نشأ من أصل عظيم متين العرى وهو النظر في مآلات الأفعال الذي هو مجال للمجتهد صعب المورد وإن كان عذب المذاق محمود الغب يدل عليه أن التكاليف الشرعية شرعت لمصالح العباد، وهي إما أخروية فترجع إلى مآل المكلف في الآخرة ليكون من أهل النعيم، وإما دنيوية، والأعمال عند التأمل مقدمات لنتائج المصالح لأنها أسباب لمسببات مقصودة للشارع والمسببات هي مآلات الأسباب فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب وهو لنظر في مآلات الأفعال الذي افتر عنه قاعدة الاستحسان وسد الذرائع وغيرها ومعلوم أن مقاصد الشريعة في الخلق التي يرجع تكاليفها إلى حفظها التي هي الضرورية والحاجية والتحسينية ومعناها الأخذ بمحاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسة التي تأنفها الأحكام الراجحة والتي يجمعها قسم مكارم الأخلاق ولاعتناء الشارع بهذه الثلاث جعل لها متممات ومكملات هي مثار التشديدات والترخيصات وما ذلك إلا لترد الأمة المصالح وتتجافى حمى المفاسد، وهذا هو السر الذي يرنو إليه التشريع فإن القصد منه إقامة مصالح الدين والدنيا على وجه لا يختل لها به نظام ولذا كان وضع الشريعة على ذلك الوجه أبديًّا وكليًّا وعامًّا وزادت عناية الله بهذه الشريعة الغراء فعصمها عن التغيير والتبديل كما أنبأ بذلك تصريحًا وتلويحًا فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر: الآية 9] ، وقال: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ} .   (1) بداية المجتهد: 2 /155، وحاشية الدسوقى: 4 /350، المهذب: 2 /284، المغني لابن قدامة: 8 /290 (2) العرف والعمل في المذهب المالكي، لعمر بن عبد الكريم الجبيدي: ص 253 - 295 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2545 والأعراف بربرية كانت أو غيرها فالميزان في الأخذ بها أو ردها إنما هو ميزان الشرع فما وافق منها اعتبرناه وما خالف رددناه والمصلحة لا تتحقق بالأحكام الجائرة المخالفة لمقاصد الشريعة وأي مصلحة في حرمان المرأة من ميراثها وأي مصلحة في تنزيل العقاب بغير من جنى، وأي مصلحة في إفساد المال؟ ولذا فكل ما يمس كلية من كليات الشريعة التي هي الدين والنفس والعقل والعرض والمال فهو مردود لأنه محض فجور وفسوق ولا ينتج عنه إلا الخراب والدمار. العلاقة بين العرف والعادة: إذا كان مرجع العرف إلى فعل من الأفعال التي تميل إليه النفس ويتكرر فعله حتى يصبح عادة فإذا انتشرت هذه العادة أو العادات بين الناس وقلد بعضهم بعضا فيها أصبح ذلك الفعل عرفًا وبهذا ندرك أن العادة غير العرف وقد ذهب بعضهم إلى أنهما سواء ولقد فرق بعضهم بينهما. فقال: العادة ما كرر الإنسان فعله، فيما يختص بنفسه والعرف ما كرر الناس فعله وألفوه على ممر الأجيال، ولهذا نجد بعض علماء الأصول يعرف العادة بأنها الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية أي من قبيل الطبع والمعاودة في التعاطي حتى قيل: العادة طبيعة ثانية بينما المتكرر من علاقة عقلية يصبح من قبيل التلازم وكتكرار حدوث الأثر كلما حدث المؤثر هكذا في التقرير والتحبير (1) .   (1) التقرير والتحبير، لابن أمير الحاج، شرح التحرير، لابن الهمام: 2 /769 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2546 وفي رسالة نشر العرف لابن عابدين أن العادة مأخوذة من المعاودة فهي بتكرارها ومعاودتها مرة أخرى صارت معروفة مستقرة في النفوس والعقول متلفات بالقبول من غير علاقة ولا قرينة حتى صارت حقيقة عرفية، فالعادة والعرف بمعنى واحد من حيث المصداق وإنما اختلفا من حيث المفهوم (1) ، وقد ينشأ العرف عن غير العادة وهناك من العلماء من يرى أن العادة أعم من العرف على اعتبار أنها جنس أعم يندرج تحتها أنواع منها العرف وذلك لأن العادة تشمل العادة الناشئة عن عامل طبيعي وعن العادات الفردية وعن العادات التي تعود عليها الجمهور والتي يعبر عنها بالعرف ولذلك قال بين العرف والعادة العموم والخصوص فكل عرف عادة وليست كل عادة عرفًا وإلى هذا المعنى ذهب الشاطبي في موافقاته فقال: العوائد أيضًا ضربان بالنسبة إلى وقوعها في الوجود، أحدهما: العوائد العامة التي لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال كالأكل والشرب والرفح والحزم واليقظة والميل إلى الملائم والنفور عن المنافر، والثاني العوائد التي تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأحوال كهيآت اللباس والمسكن واللين في الشدة والشدة فيه والبطء والسرعة في الأمور والأناة والاستعجال وما كان نحو ذلك فأما الأول: فيقضي به على أهل الأعصار الخالية والقرون الماضية للقطع بأن مجاري سنة الله في خلقه على هذا السبيل لا تختلف عمومًا كما تقدم فيكون ما جرى منها في الزمان الحاضر عمومًا به على الزمان الماضي والمستقبل مطلقًا كانت العادة وجودية أو شرعية وأما الثاني: فلا يصح أن يقضي به على ما تقدم ألبتة حتى يقوم دليل على الموافقة من خارج، فإذ ذاك يكون قضاء ما مضى بذلك الدليل لا بمجرى العادة وكذلك في المستقبل ويستوي في ذلك أيضًا الوجودية والشرعية، وإنما قلنا ذلك لأن الضرب الأول راجع إلى عادة كلية أبدية وضعت عليها الدنيا وإنما قامت مصالحها في الخلق حسبما بين ذلك الاستقراء وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضا فذلك الحكم الكلي باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهي العادة التي تقدم الدليل على أنها معلومة، وأما الضرب الثاني فراجع إلى عادة جزئية داخلة تحت العادة الكلية وهي التي يتعلق بها الظن لا العلم (2) . وذهب جماعة من العلماء إلى أنهما قسم واحد كالغزالي والجرجاني من المتقدمين وعبد الوهاب ومحمد المختار القاضي وعلي حيدر والشيخ محمد الخضر حسين من الإيثنونيين المتأخرين إذ يقول عبد الوهاب خلاف: العرف ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك ويسمى العادة (3) ويقول الدكتور القاضي: العرف والعادة مترادفان (4) . ويقول علي حيدر شارح مجلة الأحكام: العرف بمعنى العادة (5) ونحن نميل إلى التفرقة بين العادة والعرف من حيث أن العادة تطلق على ما اعتاده الفرد أو بعض العباد في شؤون خاصة فإذا ما اعتاد فرد أن يستيقظ في وقت معين وأن يتناول فطور الصباح ويشرب القهوة أو يتناول فطور منتصف النهار أو يخرج للنادي، مرة فمرة فإن ذلك يصبح له عادة والجماعة التي تحتفل بعيد معين أو تقيم احتفالًا بمناسبة جز الغنم فإنها تعتبر عادة نعم، قد تتحول هذه العادة إلى عرف بالتكرار في بلد من البلدان فتصبح عرفا خاصا وقد يعم البلاد أو مجموعة أقطار فيصبح عرفا عاما ولكن لا تتحول العادة إذا بقيت عند فرد إلى عرف عام ما لم تنتقل إلى الجماعة والعادة ليس لها قوة الإلزام لأنه لا يتوفر لها التقدير المعنوي بخلاف العرف (6) .   (1) رسالة نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، لابن عابدين: 2 /114 (2) الموفقات، للشاطبي: 2 /220، ط. صبيح مصر (3) أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف: ص 9 – 10 (4) الرأي في الفقة الإسلامي: ص 235 (5) شرح مجلة الأحكام: 1 / 40، ط بيروت – كتاب الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، للشيخ محمد الخضر حسين التونسي نشر علي رضا التونس، ط بيروت: ص 33 (6) انظر أصول القانون، لحسن كيرة: ص 322، والوجيز في المدخل للقانون لشمس الدين الوكيل: ص 188 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2547 آراء الفقهاء وحكمهم في العرف: أجمع الفقهاء على الأخذ بالعرف الذي أشار إليه النص أو بنى عليه كالذي ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حين سألته امرأة أبي سفيان عن تقتير أبي سفيان فقال لها: ((خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف)) ، قال الحافظ ابن حجر: أن الشافعية إنما منعوا العمل بالعرف إذا عارضه نص شرعي أو لم يرشد إليه نص شرعي فكأنهم اشترطوا في الأخذ به أن يرشد إليه نص شرعى أو لا يعارضه، أما الفقه المالكي والحنفي فيأخذ بالعرف بل يعتبر أصلًا من الأصول الفقهية، كما قدمنا وذلك فيما لا نص قطعي فيه وكذلك الحنابلة تأخذ به إذا لم يتعارض مع نص من نصوص الشريعة فالأئمة الأربعة قائلة بهذا النوع من العرف (1) أما الشيعة فترى الأخذ بالعرف لكنهم لا يعتبرونه أصلًا بذاته في مقابل الأًول يقول السيد محمد تقي الدين الحكيم: أما ما يتصل بالمجال الأول (يعني ما يستكشف منه حكم شرعي فيما لا نص فيه كالاستصناع وعقد الفضولي) ، فواضح رجوعه إلى السنة بإقرار لأن المدار في حجتيه هو إقرار الشارع له لبداهة أن العرف لا يكسبها قطها يجعل الحكم على وفقه فلا بد من رجوعه إلى حجة قطعية وليست هي إلا إقرار الشارع أو إمضاءه له والإمضاء إنما قال على أحكام عرفية خاصة لا على أصل العرف، فالشارع أمضى الاستصناع أو عقد الفضولي مثلا وهما حكمان عرفيان، ولم يمضِ جميع ما لدى العرف من أحكام، بل لم يمضِ أصل العرف كما يتوهم ليكون أصلًا في مقابل السنة لعدم الدليل على هذه التوسعة (2) . النوع الثاني: يرى المالكية والحنفية الأخذ بالعرف الذي لم يثبت نهي عنه ولا إرشاد إليه ولا إيماء بالعمل به بنص ويعتبرون العرف أصلا مستقلًا يخصص العام ويقيد المطلق ويقدم على القياس (3) النوع الثالث: رد العرف الفاسد وهو ما نص الشارع على إبطاله وتحرميه (4) وقد نقل الشيخ محمد الخضر حسين أن الشيخ الصالح سيدي إبراهيم الرياحي ذكر في بعض فتاويه أن العرف المعتبر هو ما يخصص العام ويقيد المطلق وأما عرف يبطل الواجب ويبيح الحرام فلا يقول به أحد من أهل الإسلام (5) ولقد اهتم المالكية والأحناف اهتمامًا كبيرًا بالعرف إذ هو يتفق كثيرًا مع المصلحة، والمصلحة أصل من الأصول عند المالكية؛ ولأن العرف يأتلف مع النفوس، فإذا كانت الأحكام على مقتضاه تلقاه الناس بالقبول وكانت مخالفته تؤدي إلى الحرج والمشقة والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (6) . والتشريع يوافق الفطرة ولا يخالفها فإذا كان العرف صحيحًا كان متفقًا مع الفطرة والله تعالى يقول: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (7) .   (1) انظر كتاب مالك، لأبي زهرة: ص 448 (2) الأصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الدين حكيم: ص 423. (3) انظر كتاب مالك للشيخ أبن زهرة: ص 449. (4) انظر كتاب مالك للشيخ أبن زهرة: ص 449. (5) الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، للشيخ محمد الخضر حسين: ص 36 (6) سورة الحج: الآية 78 (7) سورة الروم: الآية 30 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2548 والفطرة هي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق والتي تخص نوع الإنسان هي ما خلقه الله عليه جسدًا وعقلًا فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية ومحاولته أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية ومحاولة استنتاج أمر من غير سببه خلاف الفطرة الفعلية وهو المسمى علم الاستدلال بفساد الوضع وجزمنا بأن ما نبصره من الأشياء هو حقائق ثابته في الوجود ونفس الأمر فطرة عقلية وإنكار السوفسطائية ثبوت المحسوسات في نفس الأمر خلاف الفطرة العقلية (1) . وقد بين أبو علي ابن سينا حقيقة الفطرة في كتاب النجاة فقال: ومعنى الفطرة أن يتوهم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل لكنه لم يسمع رأيًّا ولم يعتقد مذهبًا ولم يعاشر أمة ولم يعرف سياسية، ولكنه شاهد المحسوسات وأخذ منها الحالات ثم يعرض على مذهبه شيئًا ويتشكك فيه فإن أمكنه الشك فالفطرة لا تشهد به وإن لم يمكنه الشك فهو ما توجبه الفطرة ووصف الإسلام بأنه فطرة الله معناه أن أصل الاعتقاد فيه جارٍ على مقتضى الفطرة الفعلية وأما تشريعاته وتفاريعه فهي إما أمور فطرية أيضًا أي جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به وإما أن يكون لصلاحه مما لا ينافي فطرته وقوانين المعاملات فيه راجعة إلى ما تشهد به الفطرة لأن طلب المصالح من الفطرة والوجدان في الإنسان القلبي لا يدخل تحت الفطرة منه إلا الحقائق والاعتبارات ولا يدخل فيه الأوهام والتخيلات لأنها ليست مما فطر العقل عليها. ولكن مما عرض للفطرة عروضًا كثيرًا حتى لازمت أصحاب الفطرة في غالب الأحوال فاشتبهت الفطريات وإنما كان عروضها للفطرة بسوء استعمال العقل وبسوء فهم الأسباب، ولذلك تجد العقلاء متفقين في الحقائق والاعتبارات ولا نجدهم متفقين في الوهميات والتخيلات، بل تجد سلطان هذين الأخيرين أشد مقدار شدة ضعف العقول، وتجد أهل العقول الراجحة في سلامة منهما، ويتفرع من هذا أن الشريعة الإسلامية داعية أهلها إلى تقويم الفطرة والحفاظ على أعمالها وإحياء ما اندرس منها أو اختلط بها، فالزواج والإرضاع من الفطرة وشواهده ظاهرة في الخلقة والتعاوض وآداب المعاشرة من الفطرة لأنهما اقتضاهما التعاون على البقاء وحفظ الأنفس والأنساب من الفطرة والحضارة الحقة من الفطرة لأنها من آثار حركة العقل الذي هو من الفطرة وأنواع المعارف الصالحة من الفطرة لأنها نشأت من تلاقح العقول وتفاوضها والمخترعات من الفطرة لأنها متولدة عن التفكير وفي الفطرة حسب ظهور ما تولد من الخلقة، وإذا أجلنا النظر والمقصد العام من التشريع نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر من خرقها واختلالها ولعل ما أفضى إلى فرق عظيم فيما يعد في الشرع محذورًا وممنوعًا وما أفضى إلى حفظ كيانها يعد واجبا وما كان دون ذلك من الأمرين فهو منهي أو مطلوب في الجملة (2) وما لا يمسها مباح ثم إذا تعارضت مقتضيات الفكرة ولم يمكن الجمع بينها في العمل يصار إلى ترجيح أولاها وإيفائها على استقامة الفطرة، فلذلك كان قتل النفس أعظم الذنوب بعد الشرك وكان الترهيب منهيًّا عنه وكان خصاء البشر من أعظم الجنايات ولم يجز الانتفاع بالإنسان انتفاعًا يفيت عينه أو يعطلها كالتمثيل بالعبد بخلاف الانتفاع بالحيوان وكان إتلاف الحيوان بغير أكله ممنوعًا، ومن هنا نعلم أن القضاء بالعوائد يرجع إلى معنى الفطرة لأن شرط العادة التي يقضي بها أن لا تنافي الأحكام الشرعية فهي تدخل تحت حكم الإباحة وقد علمنا أنها من الفطرة إما لأنها لا تنافيها وحينئذٍ فالحصول عليها مرغوب لفطرة الناس وإما لأن الفطرة تناسبها وهو ظاهر (3) .   (1) التحرير والتنوير: 1 و 2 /90 (2) مقاصد الشريعة للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ص 56 – 60. (3) مقاصد الشريعة، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور: 56 – 60 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2549 العمل والأسباب الداعية للأخذ به: من المعلوم أن المدينة المنورة قد احتضنت نبي الرحمة وهادي الأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيها ظهرت الشريعة المحمدية وتكونت الدولة الإسلامية، وبها اجتمع الأنصار والمهاجرون الذين تلقوا هذه الشريعة وثبتوها ونقولها إلى التابعين وهم بدورهم نقولها إلى تابعي التابعين الذين كان من بينهم إمام دار الهجرة مالك بن أنس إمام الفقه والحديث والذي اشتهر بوقوفه موقفًا وسطًا بين النقل والرأي، فكان لا يهمل الرأي ولكنه يأخذ به فيما لم يرد فيه نص ثابت من حديث أو أثر وكان يتتبع آثار الرسول وآثار صحابته والتابعين وقد اعتبر عمل أهل المدينة وجعله أصلًا في بناء الفروع عليه وذلك للأسباب الآتية: 1- قرب أهل المدينة من واقع الوحي ومحافظتهم على ما سمعوه وما علموه وشاهدوه. 2- اعتقاده أن ما كان عليه أهل المدينة قد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه. 3- أن الرسول لبث ثلاث عشرة سنة في المدينة يوحى إليه ويبني قواعد الأمة ويدير شؤونها دينًا ودنيا، عبادة ومعاملة فاعتبر مالك دينه كما اعتبر عمله. 4- متابعة الصحابة لما جاء هم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكوته وعمله. 5- اعتباره المدينة مركزًا لاجتماع كبار الصحابة وما اجتمع لهم من علم وعمل وسلوك بنبيهم صلى الله عليه وسلم. 6- الطريقة التي سلكها أبو بكر زمن خلافته من جمعه للصحابة فيما يعرض من المسائل وأخذه بفتاويهم واعتماده عليهم في العلم والعمل. 7- سلوك عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان نفس مسلك أبي بكر واقتداؤهما بالخليفة الأول. 8- انتهاج التابعين نفس المنهج والسير على منوال الصحابة ناظرين إلى الدين بمنظار سبقهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2550 فالنص محفوظ في صدورهم والعمل شائع بين ظهرانيهم يشترك في ذلك صغيرهم وكبيرهم ويتناقله الأبناء عن الآباء كل هذه الأمور جعلت مالكًا يلاحظها ويعتد بها ويتخذها مطية للتشريع إذا لم يجد نصًّا يسير عليه أو وحده ولكنه لم يطمئن إليه حيث يرى أن تقديم الجم الغفير أولى أن يتبع وأن يقدم على خبر الآحاد إذ لا تصل روايته في القوة إلى ما أطبق عليه المجتمع المدنى بأسره فكان إذا اختلفت الآراء أو اختلفت الآثار وتعارضت النصوص اعتمد على ما كان عليه أهل المدينة. وقد استدل مالك على تقديمه عمل أهل المدينة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما سار عليه الصحابة والتابعون من بعده كما فصل ذلك القاضي عياض (1) وكما استدل أصحابه على عمل أهل المدينة بأدلة من السنة والأثر والعقل فمن السنة شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة وأهلها وما ورد فيها من الفضائل ودعاؤه لها ومن ذلك ما رواه ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يصبر أحد على لأواء المدينة وشهدتها إلا كنت له شفيعًا - أو شهيدًا - يوم القيامة)) (2) وما رواه جابر بن عبد الله وأبو هريرة: ((إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها)) وروى بروايات مختلفة اللفظ متفقة المعنى وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال)) . وقد نقل القاضي عياض في كتابه ترتيب المدارك مجموعة من الأحاديث تثبت فضل المدينة وأهلها عن مجموعة من الصحابة كزيد بن ثابت وسفيان بن زهير وأبي هريرة ومحمد بن مسلمة وأبي سعيد المقبري وعائشة أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لينحازن الإسلام إلى المدينة كما يجوز السيل الدمن)) وعن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يأزر الإيمان إلى المدينة كما تأزر الحية إلى حجرها)) ، وقد فسر قاضي المدينة أبو مصعب الزهري هذا الحديث فقال: والله ما يأزر إلا إلى أهلها الذين يقومون به ويشرعون شرائعه ويعرفون تأويله ويقومون بأحكامه وما ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم للأرض والدور وما ذلك إلا مدحًا لأهلها وتنبيهًا إلى أن ذلك باقٍ فيهم زائل عن غيرهم حين يرفع العلم فيتخذ الناس رؤساء جهالا فيسألون فيقولون بغير علم فيضلون ويضلون وفسر الإمام مالك قوله صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ بعودته إلى المدينة كما بدأ منها وقد أطال القاضي عياض في كتابه المدارك بما لا مزيد عليه.   (1) المدارك للقاضي عياض: 1 /49 (2) تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، لجلال الدين السيوطي، حلبي: 1 /83 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2551 أما دليل المالكية من الأثر فقد روى مالك عن أنس أن المدينة محفوفة بالشهداء وعلى أنقابها ملائكة يحرسونها لا يدخلها الدجال ولا الطاعون وهي دار الهجرة والسنة وبها خيار الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الله اختارها له وجعل بها قبره، وبها روضة من رياض الجنة، قال القاضي عياض: وهذا الكلام لا يقوله مالك من نفسه إذ لا يدرك بالقياس، وقد سأل جعفر بن محمد مالكًا عن اختياره السكنى بالمدينة وتركه الريف والخصب فقال: وكيف لا أختاره وما بالمدينة طريق إلا سلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام ينزل عليه من رب العالمين في أقل من ساعة وسأل أبو مصعب الزهري مالكًا عن لين قلوب أهل المدينة وقساوة قلوب أهل مكة، فقال لأن أهل مكة أخرجوا نبيهم وأهل المدينة آووه، وعن زيد بن ثابت إذا رأيت أهل المدينة على شيء فاعلم أنه السنة وكان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه ويكتب إلى أهل المدينة يسألهم عما مضى لعله يعلم بما عندهم، وعن أبي بكر بن عمر وابن حزم: إذا وجدت أهل هذا البلد (يعني المدينة) أجمعوا على شيء فلا تشُكَنَّ أنه الحق وعن الشافعي إذا وجدت معتمدًا من أهل المدينة على شيء فليس فيها حيلة من صحتها، ومنها ما في رسالة مالك إلى الليث بن سعد فمما جاء فيها: إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن، وأحل الحلال وحرم الحرام إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل ويأمرهم فيطيعونه ويبين لهم فيتبعونه حتى توفاه الله واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته، ثم قام من بعده من اتبع الناس له من أمته ممن ولي الأمر من بعده فما نزل بهم مما علموا أنفذوه وما لم يكن عندهم علم فيه سألوا عنه ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم، ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون ذلك السبيل ويتبعون تلك السنن فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرًا معمولًا به لم أرَ لأحد خلافه الذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها (1) أما دليل المالكية من العقل فقد استدلوا، بأن العادة قاضية بعد اجتماع مثل هذه الكثرة من الموجودين في مهبط الوحي الواقفين على وجوه الأدلة والترجيح إلا عن راجح، وأن المدينة دار الهجرة وموضع قبره ومهبط وحيه ومستقر الإسلام ومجتمع الصحابة فلا يجوز أن يخرج الحق عن قول أهلها، وأن أهل المدينة شاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل وكانوا أعرف بأحوال النبي من غيرهم فيبعد أن يخرج الحق عنهم، وأن رواية أهل المدينة مقدمة على رواية غيرهم فكان عملهم حجة على غيرهم، وقد رأى كثير من أهل العلم أن ما ورد من الأحاديث والآثار الواردة في فضل أهل المدينة لا تقوم دليلًا ولا تنهض حجة على قيام العمل والاستدلال به في الأحكام كما أنها لا تصح سندًا ودليلًا يرجع إليه واعتبروا عمل أهل المدينة كعمل غيرهم من أهل الأمصار سواء سواء، وقد ردُّوا على كل دليل من الأدلة المتقدمة بخصوصه، وكل هذا مذكور في كتب الأصول التي ذكرت الأدلة وردودها.   (1) المدارك: 1 /42، إعلام الموقعين: 3 /72. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2552 أما بالنسبة للأدلة المأثورة فقد ردوها بأن اشتمال المدينة على صفات موجب للفضل لا يدل على انتفاء الفضيلة من غيرها ولا على صحة الاحتجاج بإجماع أهلها، لأن المعتبر في التشريع إنما هو العلم بالأحكام المستفادة من الاجتهاد وليس لفضل البقعة وطهارتها مدخل في ذلك، ونحن إذا نظرنا إلى الردود التي ذكروها نجدها تنصب على الإجماع وليس عمل أهل المدينة إجماعًا واعتماد مالك رحمه الله العمل نفسه لا الإجماع الذي هو المصدر الثالث في مصادر التشريع إذ هو بعد الكتاب والسنة، فقد روى عنه ابن أخته إسماعيل بن أويس، قال: ما رأيت الأمر عندنا فهو ما عمل به الناس عندنا وجرت به الأحكام وعرفه الجاهل والعالم وكذلك ما قلت فيه ببلدنا وما قال فيه بعض أهل العلم فهو شيء استحسنته ونظرت على مذهب من لاقيته حتى وقع ذلك موقع الحق أو قريبا منه حتى لا يخرج عن مذهب أهل المدينة وآرائهم وإن لم أسمع ذلك بعينه، فنسبت الرأي إلى بعد الاجتهاد مع السنة، وما مضى عليه أهل العلم المقتدى بهم والأمر المعمول به عندنا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة الراشدين مع من لاقيته، فبذلك رأيهم ما خرجت إلى غيره (1) ويظهر ما نقلنا أن مالكًا لم يقصد من عمل أهل المدينة الإجماع، وعمل أهل المدينة يؤيده اتباع السلف لأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلوكه فبالمدينة كانت آخر حياته وآخر أعماله ودعوى أن أصحاب رسول الله انتشروا في الأقطار وأن المدينة لم تجمع جميع العلماء لا قبل الهجرة ولا بعدها فهذا مردود بما صرح به الإمام إذ قال مستفسرًا نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غزوة كذا في نحو كذا وكذا ألفا من الصحابة مات بالمدينة منهم نحو عشرة آلاف وباقيهم تفرقوا في البلدان فأيهم أحرى أن يتبع ويؤخذ بقوله؟ من مات عندهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذي ذكرت أو من مات عندهم واحد أو اثنان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (2) . على أن عمل أهل المدينة قد قال به من سبق مالكًا فهذا عمر بن الخطاب يقول أحرج بالله عز وجل على رجل روى حديثًا العمل على خلافه. وعن مالك: قد كان رجال من أهل العلم من التابعين يحدثون بالأحاديث وتبلغهم من غيرهم فيقولون: ما نجهل هذا ولكن مضى العمل على غيره. وكان أبو بكر بن حزم إذا قضى قضاء قد جاء فيها الحديث مخالفًا للقضاء يعانيه أخوه عبد الله ويقول: ألم يأتِ في هذا الحديث كذا فيقول بلى فيقول له أخوه فمالك لا تقضي به فيقول: فأين الناس منه؟ يعني بذلك ما أجمع عليه من العمل بالمدينة يريد أن العمل به أقوى من الحديث.   (1) المدارك: 2 /64، والديباج المذهب: ص 25، ط السعادة، والمعيار، للونشريسي: 10 /32. (2) المدارك: 2 /64، والديباج المذهب: ص 25، ط السعادة، والمعيار، للونشريسي: 1 /32 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2553 ولقد قسم المالكية عمل أهل المدينة إلى قسمين ما كان طريقه النقل والحكاية وهو ما نقله الكافة عن الكافة عمل به عملًا لا يخفي متواترًا من زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتصلا به وهو إما نقل شرع من جهة النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل كالصاع والمد وكونه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ منهم مال الزكاة وكالأذان والإقامة والأوقاف والأحباس ونحوها فهذا النقل لهذه الأشياء مما علم ضرورة من أحواله وسيرته أو كان من إقراره لأصحابه لما يشاهده منهم ولم يثبت إنكاره، أو كتركه أخذ الزكاة من الخضراوات مع اطلاعه عليها ووجودها عندهم بكثرة، فهذا النوع حجة يلزم المصير إليه ويترك ما خالفه من خبر الواحد والقياس لأن هذا النقل محقق موجب للعلم القطعي فلا يترك بالنصوص الظنية وهذا ما رجع إليه أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة بعد مناظرته لمالك وربما هذا الذي قال فيه ابن العربي مهما اختلف الناس في إجماع أهل المدينة من طريق النظر فليس يقدر أحد على اعتراض ما يجتمعون على نقله من طريق الأثر (1) وهذا النوع هو الذي قال فيه القاضي عياض إن هذا النوع لم يخالفه من أهل المدينة إلا من لم يبلغه النقل (2) وحكى عنه القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي أن ليس فيه خلاف بين المالكية والذي وافق عليه كثير من أصحاب الشافعي وقد رد القاضي عياض على المخالفين لهذا النوع بأنه من قبيل الفساد وأنه لا يمكن مقارنته بعمل غيرهم إذ هذا النقل من العمل لا يوجد إلا عند أهل المدينة (3) . القسم الثاني: ما كان من طريق الاجتهاد والاستدلال وهذا النوع قد اختلف فيه أهل المذهب فجمهورهم ذهب إلى أنه ليس بحجة ولا يرجح على غيره، بل فيهم من بنى أن مالكًا قال به ولا هو من مذهبه، وذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة ولكن فيه قوة الترجيح يرجح على اجتهاد غيرهم، وذهب آخرون إلى أن هذا النوع هو حجة أيضًا وحكوه عن مالك وأخذ به كثير من المغاربة والمشارقة ورأوه مقدمًا على خبر الواحد والقياس، والأول أرجح عند محققي المالكية، أما القاضي عياض فقد قسم عمل أهل المدينة مع خبر الآحاد فقال: إن كان مطابقا لها فهذا آكد في صحتها إن كان من طريق النقل أو ترجحها إن كان من طريق الاجتهاد. ولا خلاف في هذا فأما إذا كان مطابقًا لخبر ومعارضا لخبر آخر كان عمل أهل المدينة مرجحًا لخبرهم وهو أقوى ما يترجح به الأخبار إذا تعارضت وهذا هو مذهب أبي إسحاق الإسفرائيني ومن تابعة من المحققين من الأصوليين والفقهاء من المالكية وغيرهم صرح بذلك الغزالي (4)   (1) القبس، لابن العربي مخطوط: ص 204 (2) المدارك: 1 /49 (3) المدارك: 1 /49 (4) المستفصى، للغزالي: 1 /214، تحقيق محمد مصطفى أبو العلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2554 وإن كان مخالفا للأخبار جملة فإن كان إجماعهم عن طريق النقل ترك له الخبر بغير خلاف عند المالكية وعند المحققين من غيرهم، قال عياض: وما كان يتصور فيه خلاف، وعلى تقدير وجوده لا يلتفت إليه إذ لا يترك القطع واليقين لغلبة الظنون – أما إن كان إجماعهم عن اجتهاد قدم الخبر عليه عند الجمهور، وفيه خلاف بين المالكية – أما إذا لم يكن هناك عمل يخالفه النص أو يوافقه فحينئذٍ يجب الرجوع إلى خبر الواحد وقبوله سواء أكان هذا الخبر قد نقله المالكية أو غيرهم إذا صح ولم يعارض، فإن عورض بخبر آخر نقله غير أهل المدينة كان ما نقله أهل المدينة مرجحًا عند كثير من المحققين للمزية مشاهدتهم قرائن الأحوال وتصدرهم لنقل آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سيما وهم الكثرة والجم الغفير عن الجم الغفير. هذا تفصيل ما جاء القاضي عياض ونفى أن يكون مالك قال غيره ورد على ما وزعمه الغزالي من أن مالكًا قال: لا يعتبر إلا إجماع أهل المدينة دون غيرهم، كما رد على من زعم أن مالك يرى إجماع الفقهاء السبعة بالمدينة وهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأبو بكر ابن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وخارجة بن زيد بن ثابت وسليمان بن يسار، كما رد على من ذهب إلى أن المالكية لا يقبلون من الأخبار إلا ما صاحبه عمل أهل المدينة ووصف ذلك بالجهل والكذب وأنهم لم يفرقوا بين رد الخبر الذي في مقابل عملهم وبين ما لا يقبل منه إلا ما وافقه عملهم والذي ادعى ذلك هو ابن حزم، حيث قال: ذهب أصحاب مالك إلى أنه لا يجوز العمل بالخبر حتى يصحبه العمل وموضوع عمل أهل المدينة قد استعرضه الدكتور أحمد محمد نور سيف في كتابه عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين فبين أنواع العمل ومراتب هذه الأنواع ومصادر هذا العمل وحجية كل مصدر منها ونقل مراتب العمل عند أبي الفضل عياض وعند ابن تيمية وحجية كل مرتبة وعند ابن القيم وحجية كل مرتبة وأجرى مقارنة بين مناهج هؤلاء في مصدر العمل ومراتبه وحجيته ثم لخص مراتب العمل إلى أولًا: العمل النقلي وهو الشرع المبتدأ من جهة النبي صلى الله عليه وسلم حجة عند مالك وعند الجمهور ويستقل بمعارضة السنن، ثانيًا: العمل الاستدلالي وهو قسمان، العمل القديم بالمدينة وهو نوعان، عمل من جهة الاستدلال لم يعتضد بشيء ولكنه لا يعارض السنة وهو حجة عند مالك وعند الجمهور كما حكى ذلك ابن تيميمة عن الشافعي وأحمد ورد فإن الترجيح لا يكون إلا في المرويات لا في الاجتهاد بلا ترجيح، الثانى: عمل من جهة الاستدلال لكنه اعتضد بسنن سواء عارض سننًا أخرى أم لم يعارض وهذا حجة عند مالك وعند الجمهور كما حكى ذلك ابن تيمية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2555 القسم الثانى: العمل المتأخر بالمدينة وهنا يتجه الخلاف أولا إلى التسليم به كمصدر من مصادر العمل ولم يذكره عياض في مصادر العمل، بل ظهر كلامه بنفيه أما ابن تيمية وابن القيم فيريان أن هناك عملا متأخرا وأنه ليس بحجة، وخلاصة القول أن عمل أهل المدينة طوال القرن الأول إلى عهد مالك بن أنس كان العمل مستمرًا في التابعين الآخذين عن الصحابة، فإن أبا الدرداء يجعل قوة العمل في الثلث الأول من القرن الأول، ثم ينهج نفس المنهج عمر بن عبد العزيز في آخر القرن في إبان ازدهار حلقة مالك وهذا معنى القضاء المستمر والعمل المطبق بقوة الدولة في القرن الأول والثاني ثم نجد مالكًا يتابع النظر نفسه طوال القرن الثاني، ثم إنه ليبتدع هذا المنهج ابتداعًا، بل سلك في ذلك مسلكًا قد سبقه إليه غيره من الصحابة والتابعين وأهل العلم وإنما اشتهر به مالك، لأنه ابتلي بكثرة الإفتاء وقد وجد في بعض ما أفتى به ما يخالف الخبر الذي رواه هو فنسب ذلك إليه وإن كان متبعًا ولم يكن مبتدعًا، ولقد أيد الأخذ بالعمل جمهرة من العلماء قديما وحديثًا، ورأوا أن مالكًا فتح بهذا المصدر بابًا جديدًا من أبواب الاستدلال واستنباط الأحكام فقد ذكر ابن تيمية أن سائر الأمصار كانوا مناقدين لعلم أهل المدينة لا يعدون أنفسهم أكفاءهم في العلم كأهل الشام ومصر وأن تعظيمهم لعمل أهل المدينة واتباعهم لمذاهبهم القديمة ظاهر بين ولهذا ظهر مذهب أهل المدينة في هذه الأمصار، فإن أهل مصر صاروا نصرة لقول أهل المدينة يوضح ذلك أن العلم إما رواية وإما رأي وأن أهل المدينة أصح أهل المدن رواية ورأيًا وأما حديثهم فأصح الأحاديث وقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن أصح الأحاديث أحاديث أهل المدينة إذ كانوا يتوفرون على أسانيد متصلة وضبط الألفاظ، وأما الفقه والرأي فقد علم أن أهل المدينة لم يكن فيهم من ابتدع بدعة في أصول الدين مثل ما كان عليه الشأن في غيرها من الأمصار لقد كان المنصور والمهدي والرشيد من خلفاء دولة العباسيين يرجحون علماء الحجاز على علماء أهل العراق، كذلك بنو أمية يرجحون علماء أهل الحجاز على أهل الشام وما ذلك إلا لأن مالكًا كما يقول ابن تيمية: أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه وكان له من المكانة عند أهل الإسلام ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام، ولذلك قال الشافعي: ما تحت أديم السماء كتاب أكثر صوابًا بعد كتاب الله من موطأ مالك وقال أحمد بن حنبل: إن عمل أهل المدينة الذي يجري مجرى النقل حجة باتفاق المسلمين كما قال مالك لأبي يوسف لما سأله عن الصاع والمد وأمر أهل المدينة بإحضار صيعانهم وذكروا له أن إسنادهم على أسلافهم أترى هؤلاء يا أبا يوسف يكذبون؟ قال: والله لا يكذبون، قال مالك فإني حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلث بأرطالكم يا أهل العراق فقال أبو يوسف رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت وهذه هي المرتبة الأولى، والمرتبة الثانية العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان، فهذا حجة عند مالك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2556 والمنصوص عن الشافعي، وعند أحمد ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها والمرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين وقياسين وجعل أيهما أرجح وأحدهما يعمل به أهل المدينة ففيه نزاع مذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعملها ولأصحاب أحمد وجهان، فالقاضي أبو يعلى وابن عقيل لا يرجح، والثاني قول أبي الخطاب وغيره أنه يرجح به وهذا هو المنصوص عليه من كلامه ومن كلامه إذا رأى أهل المدينة حديثًا وعملوا به فهو الغاية وكان يفتى على مذهب أهل المدينة ويقدمه على مذهب أهل العراق تقريرًا كثيرًا، وكان يدل المستفتي على مذهب أهل الحديث ومذهب أهل المدينة، قال ابن تيمية: فهذه مذاهب جمهور الآئمة توافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة. أما المرتبة الرابعة: وهو العمل المتأخر بالمدينة، فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعها أم لا؟ فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية، هذا مذهب الشافعي أحمد وأبي حنيفة وغيرهم وهو قول المحققين من أصحاب مالك، كما ذكر ذلك الفاضل عبد الوهاب في كتابه أصول الفقه وغيره، قال ابن تيمية: ولم أرَ في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة، وهو في الموطأ إنما يذكر الأصل المجتمع عليه عندهم فهو يحكي مذهبهم وتارة يقول: الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يثير إلى الإجماع القديم وتارة لا يذكر، قال ابن تيمية: وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تتفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة علم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأيا وأنه تارة يكون حجة قاطعة، وتارة يكون حجة قوية، وتارة مرجحًا للدليل، إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين، وقد أطنب ابن تيمية في بيان ذلك أي أطنان (1) ولما نقلنا نرى البخاري يستفتح الباب بحديث مالك وهو أظهر عند الخاصة والعامة من رجحان مذهب أهل المدينة على سائر الأمصار، أما ابن القيم فيذهب إلى أن عمل أهل المدينة كعمل غيرهم من أهل الأمصار وإن من كانت السنة معهم فهم أهل العمل المتبع، وإن الحجة في اتباع السنة وإنه لا تترك سنة لعمل على خلافها وإن السنة هي المعيار على العمل ولا عكس وإن العصمة لا تثبت لمصر من الأمصار وأن لا تأثير للجهات والجدران والمساكن وإنما التأثير لأهلها وسكانها وإن الصحابة شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل وظفروا من العلم بما لا يظفر به غيرهم ممن بعدهم فهم المقدمون على من سواهم كما أنهم مقدمون في الفضل والدين وعملهم هو العمل الذي لا يخالف، وقد انتقل أكثرهم عن المدينة وتفرقوا في الأمصار، بل أكثر علمائهم صار إلى الكوفة والبصرة والشام مثل علي وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وعبادة وأبي الدرداء وعمرو بن العاص ومعاوية ويقول: فكيف يكون قول هؤلاء معتبرًا ما داموا في المدينة، فإذا لم يخرجوا وخالفوا غيرهم لم يكن عمل من خالفوه معتبرًا وإذا خرجوا وفارقوا جدران المدينة كان عمل من بقي فيها هو المعتبر، ثم يقسم عمل أهل المدينة إلى أقسام ثلاث: (1) - أن لا يعلم أن أهل المدينة خالفهم فيه غيرهم (2) - خالف فيه أهل المدينة وغيرهم وإن لم يعلم اختلافهم فيه، (3) - قسم فيه الخلاف بين أهل المدينة أنفسهم، ثم جعل الأول حجة يجب اتباعه والثاني والثالث لا دليل عليه (2) ثمَّ بعد ذلك يقع فيما وقع فيه الغزالي إذ هو لا يلتزم هذا التقسيم في الطرق الحكيمة ويرى أن ما عليه أهل المدينة هو أصح وأصوب وأن قولهم هو الحق الذي يدين الله به ولا يعتقد سواه (3) وأنه من أشد المذاهب وأصحها. (4) ولقد تعرضت كتب الأصول إلى مسألة عمل أهل المدينة وحجيته ومذاهب العلماء في ذلك، فالشافعي في كتابه الأم انتقده شديد الانتقاد ورأى أن الإجماع المعتبر إنما هو إجماع الأمة لا إجماع أهل بلد هو المدينة أو غيرها ومجمل رأيه ينصب على كون المالكية رووا الحديث ولم يعملوا به ويرى أن ذلك من باب التناقض وإلا فكيف يروون الحديث ولا يعملون به، وقد صح عندهم فيقول: قد خالفتم في القراءة في الصلاة كل ما رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أبي بكر، ثم عمر، ثم ابن عمر، ثم عثمان ولم ترووا شيئًا يخالف ما خالفتم عن أحد من الناس علمته فأين العمل؟! خالفتم من جهتين: جهة التثقيل وجهة التخفيف، وقد خالفتم بعد النبي صلى الله عليه وسلم جميع ما رويتم عن الأئمة بالمدينة بلا رواية رويتموها عن أحد منهم، هذا مما يبين ضعف مذهبكم إذ رويتم هذا ثم خالفتموه، ولم يكن عندكم فيه حجة، فقد خالفتم الأئمة والعمل وإنه لا خلاف أشد خلافًا لأهل المدينة منكم، ثم خلافكم ما رويتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فرض طاعته وما رويتم من الأئمة الذين لا يجدون مثلهم فلو قال لكم قائل: أنتم أشد معاندة لأهل المدينة، وجد السبيل إلى أن يقول ذلك لكم على لسانكم لا تقدرون على دفعه عنكم ثم الحجة عليكم في خلافكم أعظم منها على غيركم لأنكم ادعيتم القيام بعملكم واتباعكم دون غيركم، ثم خالفتموهم بأكثر مما خالفه به من لم يدع من اتباعهم ما ادعيتم فلئن كان هذا خفي عليكم في أنفسكم إن فيكم لغفلة ما يجوز لكم معها أن تفتوا خلقًا والله المستعان وأراكم قد تكلفتم الفتيا وتطاولتم على غيركم ممن هو أقصد وأحسن مذهبًا منكم (5)   (1) مجموع فتاوى ابن تيمية: 10 / 303 –340 (2) إعلام الموقعين: 2 /240، 241 (3) الطرق الحكمية والسياسة الشرعية، لابن القيم الجوزية طبع في مصر: ص 23 (4) الطرق الحكمية والسياسة الشرعية، لابن القيم الجوزية طبع في مصر: ص 104 (5) الأم، للإمام الشافعى: 7/188- 193. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2557 وخلاصة القول أن الشافعي يرد عمل أهل المدينة لأمرين اثنين أولهما أن الأمر المجتمع عليه عنده ليس هو إجماع أهل المدينة، بل هو إجماع علماء الأمة في كل قطر وكل بلد، ثانيهما أن المسائل التي ادعى فيها الإجماع كان من أهل المدينة من هو مخالف فيها فضلًا عن مخالفة عامة البلدان الأخرى ولم يفرق الشافعي رحمه الله بين ما أجمع عليه أهل المدينة فيما كان منشؤه النقل والحكاية وما كان منشؤه الاجتهاد والرأي، ولذلك قال بعدم حجيته مطلقًا وهو بذلك خالف شيخه مالكا وشدد التكبير على أصحابه، ثم هو بعد هذا الموقف يقرر أن علماء المدينة إذا اجتمعوا على أمر كان ذلك الأمر موضع اتفاق العلماء في كل البلدان وهو من جهة أخرى ينظر إلى آراء أهل المدينة نظرة تقدير وإكبار وكان يوصي بالأخذ بأقوالهم، فقد جاء في مناقبه. روى البيهقي بإسناده عن يونس بن عبد الأعلى، قال: ناظرت الشافعي رضي الله عنه في شيء، فقال: والله ما أقول لك إلا نصحًا إذا وجدت أهل المدينة على شيء فلا يدخل في قلبك شك أنه الحق وكل ما جاءك ولم تجد له بالمدينة أصلًا وإن ضعف فلا تعبأ به ولا تلتفت إليه، فنحن نرى أن الشافعي يرى أن الأخذ برأي أهل المدينة هو الحق وأن كل قول ولو كان قويًّا ولم يكن له أصل بالمدينة لا يعبأ به، بل إنه يرى أنه إذا اجتمع أهل المدينة على أمر فلا بد أن يكون موضع اجتماع العلماء وكل بلد ومن أقواله: إن عمل أهل المدينة أحب إلى من القياس نقله عن القاضي عياض (1) ولما في كلام الشافعي من التضارب بالقول بعمل أهل المدينة أو برفضه، قال ابن العربي: وددنا أن الشافعي لم يتكلم في هذه المسألة، فكل مسألة له فيها أشكال (2) ولما في كلام الشافعي من التضارب بالقول بعمل أهل المدينة أو برفضه، قال ابن العربي: وددنا أن الشافعي لم يتكلم في هذه المسألة، فكل مسألة له فيها أشكال (3) ، ومن كبار الحنفية الإمام السرخسي فقد ذكر في أصوله أنه يرفض الأخذ بما جرى به عمل أهل المدينة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وصرح بأن هذا العمل إن كان من أهلها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا ينازع فيه أحد وإن كان المراد أهلها بإطلاق فيكل عصر، فهذا باطل لا يقول به أحد، بل إنه ليس في بقعة من البقاع اليوم في دار الإسلام قوم هم أقل علمًا وأظهر جهلًا وأبعد عن أسباب الخير من الذين هم بالمدينة، فكيف يستجاز القول بأنه لا إجماع في أحكام الدين إلا إجماعهم (4) . كذلك تعرض الغزالي في المستصفى لمسألة عمل أهل المدينة وانتقده، فقال: مسألة، قال مالك: الحجة في إجماع أهل المدينة فقط، وقال قوم: المعتبر إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة، والمصرين الكوفة والبصرة وما أراد المحصلون بهذا إلا أن هذه البقع قد جمعت في زمن الصحابة أهل الحل والعقد.   (1) المدارك، للقاضي عياض: 1 /58 (2) أحكام القرآن، لابن العربي: 8/ 2 (3) أحكام القرآن، لابن العربي: 8 /2 (4) أصول السرخسي: 1 /341 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2558 ثم انتقد مذهب مالك، فقال: فإن أراد مالك أن المدينة هي الجامعة لهم فمسلم له ذلك لو جمعت وعند ذلك لا يكون للمكان فيه تأثير وليس ذلك بمسلم، بل لم تجمع المدينة جميع العلماء لا قبل الهجرة ولا بعدها، بل مازالوا متفرقين في الأسفار والغزوات والأمصار فلا وجه لكلام مالك إلا أن يقول عمل أهل المدينة حجة لأنهم الأكثرون، والعبرة بقول الأكثرين ,وقد أفسدناه أو يقول اتفاقهم في قول أو عمل أنهم استندوا إلى سماع قاطع، فإن الوحي الناسخ نزل فيهم فلا تشد عنهم مدارك الشريعة وهذا تحكم إذ لا يستحيل أن يسمع غيرهم حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أو في المدينة لكن يخرج منها قبل نقله، فالحجة في الإجماع ولا إجماع وقد تكلف لمالك تأويلات ومعاذير واستقصيناها في كتاب تهذيب الأصول (1) وربما احتجوا بثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهلها وذلك يدل على فضيلتهم وكثرة ثوابهم لسكانهم المدينة ولا يدل على تخصيص الإجماع بهم، ثم إن الغزالى في نفس الكتاب يقول: أن الخير إاذا كان على وفق عمل أهل المدينة فهو أقوى لأن ما رواه مالك حجة وإجماعًا أن لم يصح حجة فيصلح للترجيح لأن المدينة دار الهجرة ومهبط الوحي الناسخ فيبعد أن ينطوي عليهم، ثم إن ما قاله الإمام الغزالي في المستصفى يختلف عما قاله في المنخول، فقد ذكر في المنخول أن الإجماع الذي قصده مالك هو عمل الفقهاء السبعة، قال: صار مالك رضي الله عنه إلى أن الإجماع يحصل بقول الفقهاء السبعة وهم فقهاء المدينة ولا تبالي بخلاف غيرهم وقدم مذهبهم على النص (2) . وكلام الغزالي ككلام الإمام الشافعي مضطرب فبعد أن أثبت أن لا وجه لكلام الإمام مالك عاد فأثبت أن الخبر إذا كان على وفق عمل أهل المدينة فهو أقوى. أما سيف الدين الآمدي فقد ذكر في الأحكام أن الأكثرين اتفقوا على أن إجماع أهل المدينة وحده لا يكون حجة على من خالفهم في حالة انعقاد إجماعهم خلافًا لمالك، فقال: هو حجة، ومن أصحابه من قال: إنما أراد بذلك ترجيح روايتهم على رواية غيره ومنهم من قال: أراد به أن يكون إجماعهم أولى ولا تمتنع مخالفته، ومنهم من قال: أراد به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمختار مذهب الأكثرين ذلك أن الأدلة على كون الإجماع حجة متناولا لأهل المدينة والخارج من أهلها وبدونه لا يكونون كل الأمة ولا كل المؤمنين فلا يكون إجماعهم حجة (3) . ولقد كان أشد الناس انتقادًا لعمل أهل المدينة ابن حزم، حيث ذكر أن عمل أهل المدينة قبل مولد الإمام مالك بثلاث وعشرين سنة لم يجز إلا بالظلم والجور والفسق ولا وليهم إلا الفساق من عمال بني مروان، ثم عمال بني العباس، وقد ذكر ابن حزم تعدي العمال بالمدينة وفشو الشكوى في أيام الصحابة رضوان الله عليهم وأن لهذه الأسباب وغيرها يبطل قول من يدعي حجة بعمل أهل المدينة (4) ، وهو يرى أن اعتبار أهل المدينة حجة على غاية الفساد وإن من احتج به، وقال به اعتمد على أحاديث منها ما هي مكذوبة ومنها ما هو حسن وإن كل ما احتجوا به فيه نظر ولا حجة فيه وجعل مكة أفضل البلاد ولم يكن ذلك موجبا لاتباع أهلها ولا أن إجماعهم إجماع دون غيرهم ولا أنه حجة على غيرهم (5) .   (1) المستصفي، للإمام الغزالي: 1 /187، ط المبطعة الأميرية: 1322هـ (2) المنخول من تعليقات الأصول، لحجة الإسلام الغزالي تحقيق محمد حسن: ص 314 (3) الأحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين الآدمي. 1 / 349 (4) الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم ط القاهرة: 2 /854 (5) الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم ط القاهرة: 1 /552 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2559 ولقد تحامل ابن حزم على من يرى أن أهل المدينة كانوا أعلم بأحكام رسول الله صلى الله عيه وسلم من سواهم واتهمهم بالكذب والباطل. وإن الحق أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم العالمون بأحكامه لا فرق بين من كان في المدينة أو في غيرها، واعتبر أن ادعاء أن أهل المدينة هم الذين شهدوا آخر حكمه عليه السلام وعلموا ما نسخ منها مما لم ينسخ اعتبر ذلك بأنه تمويه فاحش وكذلك ظاهر وأن الكل في ذلك سواء لا فرق بين المقيم بها والخارج منها، ثم يتعجب من التمويه بعمل أهل المدينة، ثم لا يحصلون إلا على رأي مالك وحده ولا يأخذونه بسواه، ثم يدعي أنهم أترك الناس لأقوال أهل المدينة عمل وابن عمر وعائشة وعثمان وسعيد بن المسيب وغيرهم، وأنهم تركوا عمل أهل المدينة في كثير من المسائل، ثم بعد ذلك تخلص إلى أن هذا لا يجوز تقليدًا لخطأ مالك في ذلك ويقول: لا سبيل إلى أن يوجد عمل أهل المدينة إذ لم يدع إجماع أهل المدينة إلا في نيف وأربعين مسألة، وفيها مع ذلك الخلاف، ولقد تتبع الأحاديث التي رواها المالكية ولم يعملوا بها وقدموا العمل عليها مع أنه رواها الإمام مالك في الموطأ فمن ذلك أنهم رووا أن آخر عمله صلى الله عليه وسلم كان الإفطار في رمضان في السفر والنهي عن صيامه، فقالوا: الصوم أفضل وكان آخر عمله صلى الله عليه وسلم أم بالناس جالسًا وهم أصحاء وراءه إما جلوس عند الظاهرية أو قيام عند غيرهم مع أنهم قالوا ببطلان الصلاة في ذلك، وكذلك ما ورى من أنه عليه السلام إذا اغتسل من الجنابة أفاض الماء على جسده، فقالوا بإبطال ذلك حتى يتدلك ورووا أنه كان صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الصلاة إذا ركع وإذا وقع فقالوا: ليس عليه العمل كما رووا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أمَّ الناس فأتم أم القرآن، قال: ((آمين)) ، فقالوا: ليس عليه العمل إلى غير ذلك من الروايات التي رووها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعملوا بها وبهذا يبطل على رأيه من اتباع عمل أهل المدينة، ويثبت بذلك أنهم أترك الناس لعمل نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم لآخر عمله ولعمل الأئمة بعده وزاد فعدد على المالكية مخالفتهم لأبي بكر وعمر وعثمان وذكر أنهم رووا في الموطأ عن أبي بكر رضي الله عنه عشر قضايا خالفوه في ثمانية منها (1) ، رووا عن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالبقرة في ركعتين ووراءه الأنصار والمهاجرون من أهل المدينة، فقالوا: ليس عليه العمل فخالفوا بذلك عمل الخليفة الأول، ورووا عن عمر أنه قرأ في صلاة الصبح بسورة الحج وسورة يوسف ووراءه من أهل المدينة المهاجرون والأنصار، فقالوا: ليس عليه العمل.   (1) الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم ط القاهرة: 1/222 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2560 كما رووا عنه أنه سجد في الحج سجدتين وقالوا: ليس عليه العمل ورووا عنه أنه لا حركة في سوقنا، فقالوا: لا بالحركة في السوق ورووا عن عثمان أنه كان يصلي الجمعة، ثم ينصرف وما للجدران ظل، فقالوا: ليس عليه العمل كما رووا عنه أنه كان يغطي وجهه وهو محرم، فقالوا: ليس عليه العمل ولا يغطي المحرم وجهه وهكذا يروى مخالفتهم لعائشة وابن عمر وسائر الصحابة بالمدينة دون استثناء كما خالفوا سائر فقهاء المدينة كسعيد بن المسيب وسلمان بن يسار وبمثل هذه المخالفات يسقط ابن حزم احتجاج المالكية بعمل أهل المدينة ويقول: فليس هناك عمل إلا النصوص ولا حجة في عمل أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) وابن حزم فيما ذهب إليه قد تبنى ما قاله الإمام الشافعي في الأم سواء أكان فيما احتج به أو الأسلوب الذي اتخذه في إسقاط حجج من قال بعمل أهل المدينة. وخلاصة القول أن أسباب رد العمل لأهل المدينة يرجع إلى أمرين اثنين، أولاهما: ما حدث في المدينة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافٍ في نظرهم في رد عمل أهل المدينة وعدم الأخذ به كدليل من الأدلة الشرعية. الأمر الثاني: لأسباب الرد الأحاديث التي رواها مالك في الموطأ وهو لا يروي إلا الصحيح وهو إمام الحديث، ثم بعد ذلك لا يعمل بها فبالنسبة للأمر الأول يذكرون أن الأقوال تغيرت عما كان عليه زمن الصحابة والخلفاء الراشدين، وقد حدث من الفساد حتى في عصرهم ما أدخل كثيرًا من التبديل والتغيير حتى قال أبو الدرداء رضي الله عنه لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم ما عرف شيئًا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة، قال الإمام الأوزاعي: فكيف لو كان اليوم (2) . وروي عن أم الدرداء، قالت: دخل أبو الدرداء وهو غضبان، فقلت: ما أغضبك، قال: والله ما أعرف فيهم شيئًا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعًا (3) وفي أشرف الطالب في أسنى المطالب لأحمد بن قنفذ قال أنس: يعني الصحابي الجليل خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن رجلًا أدرك السلف الأول ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئًا، قال: ووضع يده على هذه ثم قال: إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله على ذلك لمن عاش في هذا النكر ولم يدرك ذلك السلف الصالح فرأى مبتدعًا يدعو إلى بدعة ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله من ذلك وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح يسأل عن سبيلهم ويقتفي آثارهم ويتبين سبيلهم ليعوض أجرًا عظيمًا.   (1) المحلى: 1 /55 (2) الاعتصام بتحقيق محمد رشيد رضا: 1 / 26 (3) مسند الإمام أحمد: 6 /443 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2561 وهذه النقول وإن أثبتت التغير الذي حصل بالمدينة عن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده وما حدث من فساد وما دخلها من تغيير وتبديل، فإنها ليست فيها حجة على إبطال عمل أهل المدينة بطلاق لأن الاختلاف فيما يرجع إلى الأحكام الشرعية لم يقع كثيرًا إلا في المسائل الاجتهادية كاختلاف اجتهاد بعض الخلفاء، واختلاف الخلفاء الراشدين هو من قبيل السنة لقوله عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي عضوا عيها بالنواجذ)) ثم إن مالكًا رحمه الله لا يعتمد العمل إذا كان مخالفًا للمروي الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يقول كل كلام فيه مقبول ومردود إلا كلام صاحب هذا القبر، وهو أيضًا القائل: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا ما في رأيي فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة من ذلك فاتركوه (1) إلا أن الإمام رضي الله عنه يرى أن عمل أهل المدينة في مسألة اختلف فيها أو تضاربت الأدلة في شأنها يرجح الخلاف ويوجب اختيار القول بعملهم على غيره من المذاهب، على أن الإمام كان إمامًا في الحديث يعرف دواعى التجريح والترجيح وما كان من البدع المستحدثة مما هو من السنة المتبعة، وقد شهد في علمه وصلاحه ومعرفته بالسنة الجم الغفير مما لا يبقى معه شك أن يقول بعمل ويحتج به وهو بدعة من البدع معاكس لما جاءت به السنة وهو من أشد الناس عملا بالسنة ورفضًا للبدعة، أما ما ورد من الأحاديث المروية في الموطأ وغيره، ولم يأخذ بها مالك فلم يكن ذلك عن هوى وإنما كان عن معرفة وعلم ولا يكون إلا عن مستند صحيح ظهر له فهو الخبير بالصحيح من الحديث والسقيم، وهو حجة في هذا الباب وعالم أهل الحجاز ولم يبلغ أحد في زمانه مرتبته في العلم بالحديث والسنة والرجال، فكان من أشد الناس انتقادا لهم فلا يبلغ من الأحاديث إلا ما كان صحيحًا ولا ينقل إلا عن ثقة وفي المدارك للقاضي عياض من الأدلة على ذلك ما يشفي الغليل وكان من قول مالك رحمه الله ما رواه الناس مثل ما روينا فنحن وهم سواء ما خالفناهم فيه فنحن أعلم به منهم (2) . قال ابن عبد البر ليس لأحد من علماء الأمة يثبت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرده دون ادعاء نسخ عليه يباشر مثله أو إجماع أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه أو طعن في سنده ولو فعل ذلك لسقطت عدالته فضلا عن أن يتخذ إمامًا ولزمه إثم الفسق، قال هذا في الرد على الليث بن سعد فيما ادعاه من أن مالكًا خالف السنة في سبعين مسألة قال فيها برأيه (3) ، فنحن نرى الحافظ ابن عبد البر يستبعد صدور المخالفة من مالك للحديث الذي يرويه ثم يعمل بخلافه دون أن يكون له سند يعتمد عليه ويعول عليه من نسخ أو ترجيح.   (1) ترتيب المدارك: 1 /45 (2) ترتيب المدارك: 1 /45 (3) جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، للحافظ ابن عبد البر: 2 /1002، ط المنيرية بمصر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2562 على أن الإمام مالك لم يقل أصلًا بأن عمل أهل المدينة هو إجماع بمعنى الإجماع الذي هو المصدر الثالث من مصادر التشريع إذ تعابيره في الموطأ لا تخرج عن قوله: (هذا الأمر الذي أدركت عليه الناس وأهل العلم ببلدنا، أو الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا، أو الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا، أو ما أعرف شيئًا مما أدركت عليه الناس أو السنة عندنا، أو وليس على هذا العمل عندنا، أو الأمر الذي سمعت من أهل العلم، أو السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أو السنة التي عندنا والتي لا شك فيها، أو قوله وليس العمل على هذا) هذه هي الصيغ التي استعملها مالك في موطئه قاصدًا بها عمل أهل المدينة، وكل هذه الصيغ العشر لا تفيد معنى الإجماع الذي هو المصدر الثالث بعد الكتاب والسنة، ولقد تكررت هذه الصيغ في الموطأ مائتين وثلاثة وثلاثين مرة ولا يفهم من جميعها إلا العمل، أي عمل الناس الذي كان أهل المدينة سائرين عليه في عصره وقبل عصره فهو حينئذٍ بهذه العبارات يصف عمل بلده وما اعتاده قومه وتعارف لديهم وساروا عليه ومالك رحمه الله يعلم علم اليقين أنه ليس كل من كان من أهل المدينة هو من العلماء المجتهدين من أهل الحل والعقد ولو كان المراد الإجماع، لما عد المالكية الإجماع مصدرا ثالثًا، ثم جعلوا عمل أهل المدينة مصدرًا قائمًا بنفسه إلى جانب الإجماع، وإلا لكان ذلك من ذكر الشيء الواحد مرتين نص على ذلك القرافي في تنقيحه والمقري في قواعده القاعدة 117 والقاعدة 459 والقاعدة 635، وكذلك الونشريسي في المعيار (1) ، فما ذكره مالك في عمل أهل المدينة هو بمثابة العرف الذي يوجد في أي مكان، ولذلك قال ابن خلدون: ولو ذكرت المسألة (يعني عمل أهل المدينة في باب فعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره أو مع الأدلة المختلف فيها مثل قول الصحابي وشرع من قبلنا والاستصحاب) لكان أليق (2) ويرد ابن خلدون على الذين فهموا أن مراده في ذلك الإجماع، فيقول: وظن كثير أن ذلك من مسائل الإجماع فأنكره، لأن دليل الإجماع لا يخص أهل المدينة من سواهم، بل هو شامل للأمة، والفرق بين الإجماع وبين عمل أهل المدينة أن الإجماع هو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد على أمر من الأمور بحيث لا يجوز مخالفته بحال من الأحوال بقطع النظر عن أن يكون عن دليل فعلي أو عقلي، أما إجماع أهل المدينة فهو اتفاقهم في فعل أو ترك مستندين فيه إلى مشاهدة من قبلهم فمالك يقول بهذا الاتفاق وما عليه أهل المدينة في عهده إذا تحقق في مسألة اختلف فيها أو تضاربت الأدلة في شأنها، فهذا العمل الذي عليه أهل المدينة يرفع الخلاف ويرجح ما هم عليه من غيرهم من المذاهب على أن مالكًا هو أكثر الناس تحرجا من البدع والشبهات وتمسكًا بما عليه الصحابة والتابعون، وإنما يرجح عمل أهل المدينة على غيرهم لأن أهلها أقرب إلى صفاء التشريع ونقاوته، وهم أبعد الناس عن أن يكونوا على ضلالة من أمرهم وهم أقرب عهد بالرسول وأصحابه وأتباعهم، وهذا شبيه بما كان عليه أبو يوسف صاحب أبي حنيفة حين كان يقدم العرف على الحديث ويقول: إن الحديث ليس إلا تأكيدًا أو إقرارًا للعرف الذي كان فيعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لو وجد عليه الصلاة والسلام هذا العرف قد تغير تغيرًا موافقًا لأصل الدين لأقره، ومثل هذا فعل الشافعي، فقد أخذ بكثير من عمل أهل مكة وكذلك ينقل عن أبي حنيفة في حكمه بعمل أهل العراق، نقل ذلك الشيخ الحجوي في كتابه الفكر السامي (3) وإذا كان هؤلاء الأئمة اعتبروا عرف هذه البلدان فعمل أهل المدينة أولى بالاعتبار، ثم إن العمل الذي كان بالمدينة شائعا على عهد مالك رضي الله عنه منه ما كان معمولا به على الدوام وهو الذي قال فيه ابن رشد في مقدماته وما استمر عليه العمل بالمدينة واتصل به فهو عنده أي مالك مقدم على أخبار الآحاد العدول، لأن المدينة دار النبي صلى الله عليه وسلم وبها توفي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المتوافرون فيستحيل أن يتصل العمل منهم في شيء على خلاف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد علموا النسخ فيه (4) .   (1) المعيار للونشريسي: 2 /272 (2) مقدمة ابن خلدون: ص 445 (3) الفكر السامي، للشيخ الحجوي: 2 /167 (4) المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، لأبي الوليد ابن رشد ط بيروت 2 /565 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2563 وهذا النوع يجري مجرى العرف العام وفيه أيضًا ما هو معمول به ولكنه قليل وهو يجري مجرى العرف الخاص وما كان عامًا مستمرًا فهو الذي يأخذ به مالك ويقدمه على خبر الآحاد ومعلى القياس، وهذا الفعل الذي جرى عليه أهل المدينة لا يكون إلا لأمر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعه الصحابة فيه والتابعون من بعدهم أو يكون واقعًا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرهم عليه واستمر الناس عليه زمن الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم وهذا لا شك في صحة الاستدلال به والأخذ به والاعتماد عليه إذ لا بد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به، ولا شك أن ما داوم الناس عليه هو أولى من الأخذ بقول واحد، وهذا ما فعله مالك حيث قدم العمل على أخبار الآحاد حيث راعى العمل المستمر ورآه أقوى من أخبار الآحاد لأن خبر الآحاد لا يفيد إلا الظن والعمل المستمر الذي جرى من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن الصحابة والتابعين الذين أدركهم مالك وراقب أعمالهم، ففي هذا من القوة ما ليس في قول الصحابي، ولذلك قدمه مالك على الأخبار الآحادية والقياس، يقول الشاطبي: ومن هذا المكان يتطلع إلى قصد مالك رحمه الله في جعله العمل مقدَّمًا على الأحاديث إذ كان، إنما يراعي كل المراعاة العمل المستمر والآخر ويترك ما سوى ذلك وإن جاء فيه أحاديث لأن عمل أهل المدينة أثبت في الاتباع وأولى أن يرجع إليه وقد كان مالك يقول إذا جاءك مثل هذا مما كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء، فعليك بذلك، فإنه لو كان لذكر، لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم وكان إذا بلغه حديث لم يكن يرى الناس يعملون به، يقول: أحب الأحاديث إلي ما أجتمع الناس عليه، وهذا مما لم يجتمع الناس عليه، وإنما هو حديث من أحاديث الناس، ولهذا المعنى قال الشاطبي: لما أخذ مالك بما عليه الناس وطرح ما سواه انضبط له الناسخ من المنسوخ على يسر كما اعتبر الاقتداء بالأفعال أقوى من الاقتداء بالأقوال (1) .   (1) الموافقات، للشاطبي: 2 /10، 71 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2564 وفي كلام الشاطبي رد على ما ذهب إليه ابن رشد من أن الفعل لا يفيد التواتر إلا إذا اقترن بالقول ورد عليه أيضًا في قوله: إفادة الأفعال للتواتر عسير، بل لعله ممنوع (1) قال الشاطبي: وكل ما جاءك مخالفًا لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه وهذا يرد ما صرح به الآمدي وغيره من اعتبار عمل أهل المدينة كعمل غيرهم لأن عملهم معزز بالمشاهدة والاتباع، ففي المدينة انتهاء الوحي وفيها انتهت الرسالة واستقرت، فكان أهلها أعلم بما كان عليه الرسول وصحبه ومن تبعهم إلى عصر مالك بن أنس ودعوى مخالفة مالك للحديث، فقد أبطلناه بأن مالكًا إذا ثبت الحديث عنه وصح لا يتركه بحال، وإن ثبت، ولكن بطريق الآحاد قدم عيه عمل أهل المدينة لأنه لا يعقل أن يعمل بقول الفرد الواحد ويترك الجم الغفير على أن ما اعتاده الناس لا يصرفون عنه إلا بدليل صريح قاطع، فإن لم يوجد، فإن الناس يتركون على ما هم عليه ما دام لم يخالف فعلهم دليلا شرعيًّا، وهذه قاعدة يقع تطبيقها في كل الجهات، وأولى أن يقع تطبيقها في كل الجهات، وأولى أن يقع تطبيقها في بلد أهلها هم أعرف الناس بالسنة النبوية ومقاصد الشريعة وأكثر الناس اقتفاء واقتداء لخطى رسول الله صلى عليه وسلم وأشد الناس اتباعًا وأبعدهم من الابتداع. وإذا أوضحنا مقصد مالك في الأخذ بعمل أهل المدينة وأدركنا الغاية التي أرادها من أن عمل أهل المدينة هو العرف والعادة التي تسلسل العمل بها عبر الأجيال وتابع الناس عليها اتباعًا وتقليدًا لا اجتهادا حتى ينتهي إلى عصر الصحابة وزمنه صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إجماعا لأن الجماع لا يكون تبعيًا كما يقول ابن خلدون، وحيث ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر بعض الأعراف وأبقى عليها، ولم يمنع منها إلا ما صادم الشرع أو تعارض مع مبادئه وأصوله وأن كل المذاهب الرئيسية قد حكمت العرف واعتبرته في كثير من القضايا، ولم يقف ضد هذا المنزع إلا من لا يعتد برأية، وقد تقدم أن بينا أن مراعاة عادات الناس وأعرافها التي لا فساد فيها هي ضرب من ضروب المصلحة لا يصح أن يتركها عالم من العلماء المحققين، بل يجب الأخذ بها وأنه ليس لأحد أن يمنعهم من الأخذ بها إلا بنص يحرمها ويمنعها، وحيث لا نص فلا بد من مراعاة أعرافهم وعاداتهم إذ مخالفتهم تؤدي بهم إلى الحج والمشقة والله تعالى يقول {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) .   (1) بداية المجتهد لابن رشد: 1 /126 (2) سورة الحج: الآية 71 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2565 وإذ قيل يعتبر العمل والعرف مع وجود النص المخالف قلنا: إن النص إما أن يكون قطعيًّا أو ظنيًّا، فإن كان قطعي الثبوت قطعي الدلالة فلا يقول أحد بخلافه لا مالك ولا غيره، وإن كان ظني الدلالة فقد نص العلماء على أن العرف العام يقدم على الدليل الظني كما أنهم نصوا على أن العرف العام يقيد المطلق ويخصص العام ويبين المجمل، وهذا هو دور العمل بإطلاق، وإذا كان هذا هو دور العرف، وهذا اعتباره في كل مكان، وفي كل زمان فعمل أهل المدينة أجدر بالاعتبار والاحترام لما قدمنا، ثم إن الإمام مالك رضي الله عنه كان على غاية من الانسجام مع البيئة التي عاش فيها وتأثر بها إذ لم يكن مقتصرًا على الحديث وأغلق باب الرأي والنظر في كل ما احتاج إليه متماشيا مع المنهج الاجتهادي الذي ربطه بمناهج الشريعة ومقاصدها ومن هنا كان رحمه الله حريصًا على الحرص على أن يربط النص الشرعي بالحياة العملية التي كانت قائمة بالمدينة فيقدر ما كان وقافًا عند النصوص في العبادات بقدر ما كان يراعي المصالح في المعاملات، وبذلك كان منسجما أخذًا بعين الاعتبار العمل القائم في المدينة معتبرًا أنه الصورة العملية التطبيقية للشريعة الإسلامية. ولكن هنا لقائل أن يقول إذا اعتبرنا أن عمل أهل المدينة من قبيل العرف، كما قرره ابن خلدون أو هو بمثابته، فلم عد المالكية في الأصول التي انبنى عليها مذهبهم العرف مستقلا عن عمل أهل المدينة؟ فالجواب: أنا قدمنا الفرق في الخلاف بين الجماعة هي أن العرف والعمل هما لفظان مترادفان وهو ما ذهب إليه جماعة ومنهم من فرق بينهما بأن العمل إنما هو ممن يقتدي به من العلماء، أما العرف فهو فعل العامة مرة بعد مرة ولا يظهر كبير فرق بين ما جرى به العمل وبين العرف لأن ما تعارفه الناس بمعنى تعودوا عليه وعملوا به، ولذا نرى الكثير من العلماء من لا يفرق بينهما ويجعلهما شيئًا واحدًا وكثيرًا ما يكون العمل تابعا للعرف، قاله الشيخ الحجوي في الفكر السامي (1) ومثل بأدوات المنزل مبينًا أن منها ما يكون للزوجة حسب العوائد والأعراف ومنها ما يكون للزوج وأن كل بلد يحكم له بعرفه، وفي تحفة أكياس الناس في شرح عمل فاس أن غالب عمل فاس مبني على الأحكام العرفية كما يذكر أن عمل فاس غالبًا يتبع القول الموافق لأعراف الناس، والحق أن جريان العمل بالشيء ليس هو جريان العرف به إذ مراد العلماء بقولهم به العمل وعمل به، أن القول حكمت به الأئمة واستمر حكمهم به وجريان العرف بالشيء هو عمل العامة من غير استناد لحكم من قول أو فعل (2) .   (1) الفكر السامي للحجوي الثعالبي: 4 /229، ط دائرة المعارف المغرب (2) حاشية المهدي على شرح التاودي: 1 /432، ط حجرية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2566 وفرق بين عمل أهل المدينة وما جرى به العمل في الأقطار، فإن ما جرى به عمل أهل المدينة هو مستند لا محالة إلى النص أو فعل أو تقرير فهو اتباع الآثار السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ولذلك كان غير العرف وغير ما جرى به العمل بالأقطار المختلفة وإذا لم يقبل عمل أهل المدينة عند جميع المذاهب وهو مستند إلى الدليل في الجملة، فماذا يكون موقف من تشبث بالعمل المطلق أو الخاص فيما جرى في بقية الأقطار، ولهذا ذهب كثير من العلماء المتأخرين إلى عدم الاعتداد بما جرى به العمل في بلد من البلدان سواء قيل إن أصله راجع إلى الاقتداء فيه بقاض معين قد كانت له قدرة الترجيح والاستنباط أو هو راجع إلى عرف خاص إذ هو في الحالة الأولى يكون الترجيح قائمًا على شخص لا على دليل والحجة لا تقوم على الأشخاص وإنما تقوم على الدليل، وأما الحالة الثانية وهو ما كان منشؤه العرف الخاص في بلد من البلدان، فإنه لا يصح أن يَعُمَّ العرف الخاص ببلد من البلدان كل البلدان اللهمَّ إلا إذا كان عرفًا عامًّا استوجبته المصلحة. على أن العرف العام هو نفسه قد لا يلزم إذ هو يتغير بتغير المصلحة ويتجدد بتجددها فلا يمكن أن يستمر العمل المرتبط به بعد انتهاء مصلحته على أن العرف العام من شأنه أن يكون معروفًا لدى الجميع يستوي فيه العوام والعلماء على السواء وليس العمل كذلك إذ العمل من خصائص العلماء العارفين بأسرار الشريعة الكاشفين لأحكامها على أن العمل في الأقطار كثيرًا ما يختلف فمثلا جرى العمل في فاس بعدم الاكتفاء بعجلين في الترشيد والتسفيه نص على جريان العمل به غير واحد كابن فتوح والمتيطي وابن سلمون وغيرهم في حين أنه جرى العمل في تونس بالاكتفاء بقبول عدين في حالة التسفيه والترشيد لكن الزيادة أفضل وهو قول أصبغ (1) وفي الشفعة في ما لا يقبل القسمة قولان لمالك، وبعدم الشفعة قال ابن القاسم ومطرف وبالشفعة قال أشهب وابن الماجشون، والقول بعدم الشفعة هو المشهور وبه القضاء وأفتى فقهاء قرطبة به، وقد رفع شفيع أمره إلى أمير المؤمنين عبد الرحمن، وقال حكم علي بغير قول مالك فوضع بخط يده إلى القاضي أن يحمله على قول مالك ويقضي له به فجمع القاضي منذر بن سعيد الفقهاء وشاروهم، فقالوا: مالك يرى في الحمام الشفعة فقضى منذر بذلك وحكم له بها، وهكذا جرى العمل في الحمام والعيون والآبار والشجرة الواحدة وشبه ذلك جري العمل بقرطبة بالشفعة في ذلك والعمل عندنا في تونس على مذهب ابن القاسم لا شفعة فيما لم ينقسم، وكذلك الشفعة في الكراء كدار بين رجلين أكرى أحدهما نصيبه منها هل لشريكه أن يشفع ذلك من يد المكتري لأن الكراء بيع منفعة أو ليس له ذلك فيه قولان جرى القضاء بكل منهما فبالمغرب جرى القضاء بالشفعة وفي تونس جرى العمل بعدمها وكذلك جرى العمل بفاس بجواز الإفتاء للحكام، وهو قول ابن عبد الحكم فيجوز للقاضي الإفتاء في مسائل الخصام إذ هي المختلف فيها ومقابل الجواز فيها المنع والكراهة، وقد جرى العمل بمنع القاضي من الإفتاء في مسائل الخصام في تونس أما مسائل العبادات فبجواز الإفتاء فيها متفق عليه.   (1) فتح الجليل في شرح التكميل والمعتد، لأبي عبد الله محمد السجلسماسي: 194. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2567 ومن هنا ندرك أن العمل نفسه قد يتعدد تبعًا لاختلاف القضاة والمفتين واختلاف الجهات وعندئذٍ يحتاج إلى المقارنة والترجيح فيما بين هذا العمل وذلك وما هذا الاختلاف والعمل إلا لأن الفقهاء لم يضبطوا اتجاه العمل بمبدأ عام ومقياس ملزم للجميع يجب اعتباره، ولو نظرنا إلى ما جرى به العمل نرى منه ما كان وفق القول المشهور في المذهب ومنه ما جرى على القول الضعيف، ومنه ما جرى على خلاف النصوص ومنه ما جرى على ما لا نص فيه، ومنه ما جرى على شبه دليل ومنه ما جرى على وفق دليل المخالف، فمثال ما وافق القول المشهور العقوبة بالمال، فقد جرى العمل فيها بعدم الجواز وهو المشهور والقول الشاذ جوازه وبه أفتى جماعة من الفقهاء بالتعزير بأخذ المال لا يجوز في الراجح عند الأئمة لما فيه من تسليط الظلمة على أخذ مال الناس فيأكلونه (1) ، وقد أثبت ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن التعزير بالعقوبات المالية مشروع في مواضع خاصة من مذهب مالك في المشهور عنه ومذهب أحمد وأحد قولي الشافعي كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل أمره بكسر ما لا قطع فيه من الثمر والكثر وأخذه شطر مال مانع الزكاة عزمة من عزمات الرب تبارك وتعالى، ومثل تحريق عمر وعلي رضي الله عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر ونحوه كثير، ومن قال إن العقوبة المالية منسوخة وأطلق ذلك فقد غلط في نقل مذاهب الأئمة (2) . وقد قسم ابن تيمية العقوبة المالية إلى ثلاثة أقسام، إتلاف وتغيير وتمليك، فالأول إتلاف المنكرات من الأعيان والصفات تبعا لها كإتلاف الأصنام بتكسيرها وتحريقها وتحطيم آلات الملاهي عن أكثر الفقهاء وتحريق الحانوت الذي يباع فيه الخمر على المشهور في مذهب أحمد ومالك وغيرهما عملًا بفعل عمر حيث حرق حانوت الخمار، ومثل إراقة عمر اللبن المخلوط بالماء للبيع وبه أفتى طائفة من الفقهاء، الثاني التغيير كتغيير الشيء مثل نهيه صلى الله عليه وسلم عن كسر العملة الجائزة بين المسلمين وتغيير كل ما كان من العين أو التأليف المحرم كتفكيك آلات الملاهي وتغيير الصورة المصورة، وأما التمليك بمثل ما روى أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن سرق من التمر المعلق قبل أن يؤويه إلى الحبرين أن عليه جلدات نكال وغرمه مرتين وفيمن سرق من الماشية قبل أن تؤوي إلى المراح أن عليه جلدات نكال وغرمه مرتين وكذلك قضاء عمر بن الخطاب في الضالة المكتومة أن يضعف غرمها على كاتمها، وقد أجاز المالكية العقوبة في المال إذا كانت جناية الجاني في نفس ذلك المال أو في عوضه فيتصدق بالزعفران المغشوش على المساكين وإذا اشترى مسلم من نصراني خمرًا، فإنه يكسر على المسلم ويتصدق بالثمن تأديبا للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه (3) .   (1) البدائع 7/ 63، فتح القدير: 4 /212، حاشية ابن عابدين: 3 /195، المهذب: ص 288، المغني: 8 /244، الاعتصام للشاطبي تحقيق رشيد رضا: 2 /105 (2) راجع الحسبة في الإسلام لابن تيمية: ص 49 وما بعدها، إعلام الموقعين: 2 /98 (3) الاعتصام للشاطبي: 2 /106 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2568 ومثال ما خالف المشهور جريًا على القول الضعيف، وهذا النوع هو الغالب بيع المضغوط وبيع الثنيا وهو البيع بشرط وعند المالكية الاستثناء في البيع نحو أن يبيع الرجل شيئا ويستثنى بعضه فإن كان الذي استثناه معلومًا كأن يستثني شجرة معينة أو منزلًا من المنازل أو موضوعًا معلومًا من الأرض صح الاتفاق على البيع، وإن كان مجهولًا نحو أن يستثني شيئًا غير معلوم لم يصح البيع لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الثنيا في البيع إلا أن تعلم، فإن أسقط هذا الشرط عن المشتري جاز البيع (1) ومما خالف المشهور جريا على القول الضعيف صرف اليمين إلى الطلاق وتأبيد التحريم للهارب وتضمين الرعات وشهادة الابن مع أبيه والعمل بالخلطة والتحبيس على البنين دون البنات والخلع بالإنفاق على الولد بعد مدة الرضاع. ومثال ما خالف العمل النصوص الصريحة ترك اللعان وهو مصرح به في القرآن والسنة والاعتداد بالأشهر للحائض بدل الإقراء وترك مراعاة القافة في تحديد النسب. ومثال ما جرى العمل فيما لم يرد فيه نص كل المسائل المستحدثة كمسألة الخماس وغيرها من القضايا التي لم يرد فيها نص لا بالحلية ولا بالحرمة فيوجد له حكم بطريق القياس أو لأجل الضرورة أو تحقيق مصلحة أو درء مفسدة حتى يستطيع التشريع ملاحقة التطور. ومثال ما جرى به العرف في قضية لم يرد فيها دليل صريح ولكن فيها شبهة؛ دليل مسألة الصفقة وأجرة الدلال، ومثال ما جرى به العمل على وفق دليل خارج المذهب شهادة اللفيف حيث هي توافق مذهب الأحناف الذي يعتبر الناس كلهم عدولًا وكذلك ترك القافة لأن الحنفية لا يقولون بها. الدواعي والأسباب المؤدية إلى اختلاف الأعراف والعادات: إن دواعي تغيير الأعراف كثيرة وأهم أسبابها هي: تغير الأوضاع وفساد الأخلاق وحدوث أنظمة وترتيبات جديدة تبعث على تغيير العادات،ولنوضح ذلك بمثال، فإنه بالمثال يتضح المقال، بمثال وجود الظروف التي تقتضي تغير الحكم الاجتهادي أو تأخير تنفيذه أو إسقاط أثره عن صاحبها، فمن ذلك ما رواه أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو رواه عن بسر بن أرطأة، قال ابن العربي في شرحه لصحيح الترمذي: اختلف الناس في هذا الحديث على قولين، أحدهما: في رده لضعفه وحكموا بعموم القطع على كل سارق حيث كان البلاء والعمل على هذا عند بعض أهل العلم منهم الأوزاعي لا يرون أن يقام الحد في الغزو وبحضرة العدو مخافة أن يلحق من يقام عليه الحد بالعدو، فإذا خرج الإمام من أرض الحرب ورجع إلى دار الإسلام أقام الحد على من أصابه، كذلك قال الأوزاعي قال ابن العربي: إنه لا يقطع يد من سرق في الغزو لأنه شريك بسهمه فيه وكذلك إن زنى لا يحد، وقال عبد الله في الذي سرق من الغنيمة ما يزيد عن ربع دينار على نصيبه قطع قاله الأوزاعي، قال ابن العربي: وهذا ما لا أعلم له أصلا في الشريعة، والحدود تقام على أهلها كان فيها ما كان ومثال هذه التقية لا تراعى في الآحاد، وإنما تراعى في العموم لما تبقى فيها من العصبية وتراقي الحال كما يقال في أحد التأويلات أن عليا إنما أخر القصاص عن قتلة عثمان طالبًا لوقت فيه الحال حتى يتمكن منهم دون عصبية. (2)   (1) رواه النسائي والترمذي وصححه عن جابر، نيل الأوطار: 5 / 151 (2) صحيح الترمذي بشرح ابن العربي: 6 /231، 232. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2569 وقد اعتبر جماعة الظرف وهو خشية أن يترتب على إقامة الحد ما هو أشد وأبغض إلى الله من تعطيله وتأخيره وهو لحوق صاحبه بالأعداء حمية وغضبًا، كما قال عمر وأبو الدرداء: ونص عليه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما فلا تقام الحدود في أرض العدو وقد أتى بسر بن أرطأة برجل من الغزاة وقد سرق مجنة، فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تقطع الأيدي في الغزو)) لقطعت يدك وقد روى سعيد بن منصور أن عمر كتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين أحدًا وهو غاز يقطع الدرب قافلًا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار (1) . وقد ثبت أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه منع أن يقام الحد على الوليد بن عقبة وهو أمير في الغزو، وقال: أتحدون أميركم وقد دونوتم عدوكم فتطمعوا فيكم وإن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لم يقم الحد على أبي محجن وقد شرب الخمر يوم القادسية قال ابن القيم: وليس في هذا ما يخالف نصًّا ولا قياسًا ولا قاعدة من قواعد الشرع ولا إجماعًا ويدخل في هذا الباب ما فعله عمر رضي الله عنه حيث لم يعط المؤلفة قلوبهم من مال الزكاة وحين أسقط الحد عمن سرق في عام المجاعة (2) . أما فساد الزمان فالمقصود به فساد أهله وانحطاط أخلاقهم وانعدام الورع وضعف التقوى مما يؤدي إلى تغير الأحكام تبعًا لتغير الناس وفسادهم ومنعًا للفساد وسد الذرائع، وقد أصبح في استشارة عرفا يقتضي تغيير الحكم لأجله وقد حدث في عهد الصحابة وفي عهد من بعدهم. فمن ذلك ما رواه البخاري عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما يلتقطه، فقال: ((عرفها سنة ثم احفظ عفاصها ووكاءها، فإن جاء أحد يخبرك فيها وإلا فاستنفقها)) ، قال: يارسول الله: فضالة الغنم؟ قال: ((لك أو لأخيك أو للذئب)) ، قال: ضالة الإبل فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر)) .   (1) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم الجوزية: 3 /6 (2) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم الجوزية: 3 /7- 9. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2570 وفي رواية أخرى عنه: ((دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها)) (1) وقد روى مالك، عن ابن شهب أن ضوال الإبل كانت في زمن عمر إبلًا مرسلة تتناتج ولا يمسها أحد حتى جاء زمن عثمان بن عفان فأمر بمعرفتها وتعريفها، ثم تباع فإذا جاء صاحبها أعطى ثمنها وهذا على خلاف ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فعل ذلك عثمان إلا لفساد الناس وجرأتهم على تناول ضوال الإبل والاعتداء عليها، وقد فهم عثمان رضي الله عنه الغاية التي من أجلها أمر رسول الله بترك ضوال الإبل، وهو حفظها لصاحبها، فلما فسد حافظ رضي الله عنه على المقصد والمراد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان في الظاهر مخالفًا لكنه في الواقع موافق.   (1) الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وأحمد في مسنده، ومالك في الموطأ، والوكاء الخيط الذي يشد به الوعاء والقصاص الوعاء الذي تكون فيه اللقطة من جلد وغيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2571 ومما تغير الحكم فيه لتغير الزمان ما قضى به أبو حنيفة من تنفيذ من تصرفات المدين كالمصرف بالهبة والوقف وسائر وجوه التبرع ولو كانت ديونه مستغرقة أمواله كلها باعتبار أن الديون تتعلق بذمة المدين لا بأعيان أمواله التي تبقى حرة فينفذ فيها تصرفه، وهذا ما يقتضيه القياس والقواعد، ولكن لما فسد الناس وخربت ذممهم وكثر طمعهم وقل ورعهم، وصاروا يعمدون إلى تهريب أموالهم من وجه الدائنين عن طريق وقفها أو هبتها لمن يثقون به من أقربائهم وأصدقائهم أفتى المتأخرون من فقهاء المذهبين الحنفي والحنبلي بعدم نفاذ هذه التصرفات من المدين إلا فيما يزيد عن مقدار الديون التي عليه وبذلك وافقوا مذهب مالك والشافعي وقد اتفقت المذاهب بأن لا حجر قبل الحكم بتفليسه فإذا حكم بذلك وحجر عليه لم ينفذ تصرفه في شيء من ماله فإن تصرف بيع أو هبة أو وقف أو أصدق امرأة مالا له أن نحو ذلك لم يصح، وبهذا قال مالك والشافعي في قول، وقال في آخر: يقف تصرفه فإن كان فيما بقي من ماله وفاء الغرماء نفذ وإلا بطل، قال ابن قدامة: ولنا أنه محجور عليه بحكم الحاكم فلم يصح تصرف كالسفينة ولأن حقوق الغرماء تعلقت بأعيان ماله لا بذمته (1) ومن هذا القبيل أيضًا أن الغاصب يضمن عين المغصوب إذا هلكت أو أصابها عيب ولا يضمن قيمة المنافع عند الحنفية لأن المنافع ليست متقومة في ذاتها وإنما تقوم بورود العقد عليها كعقد الإجارة وحيث لا عقد في العصب فلا ضمان لأنها لا مماثلة بينها وبين عين الغصب لبقاء الأعيان وذهاب المنفعة، وذهب الأئمة الثلاث إلى أن الغاصب يضمن أجرة المثل عن المال المغصوب وقد أفتى المتأخرون من فقهاء الحنفية بمثل ما أفتى به الأئمة الثلاث وذهبوا في ذلك فريقين: فريق يرى تضمن الغاصب أجرة المثل عن منافع المغصوب إذا كان مال وقف أو مال يتيم أو كان مالًا معدا للاستغلال أي الاستثمار، وهو وإن كان على خلاف القياس وذلك لفساد الناس وجرأتهم على الغصب (2) وفريق يرى أن تضمين منافع المغصوب مطلقًا في جميع الأموال لا في خصوص الوقف ومال اليتيم والمال المعد للاستغلال وذلك لازدياد الفساد وفقدان الوازع الديني (3) ، على أن المنافع عند غير الحنفية أموال متقومة كالأعيان ذلك أن الغرض الأظهر من جميع الأموال هو منفعتها كما قال عز الدين بن عبد السلام (4) ، والشافعية والحنابلة قالوا: تضمن منافع الأموال التي يستأجر المال من أجلها بالغصب أو التعدي سواء استوفى الغاصب المنافع أو تركها حتى ذهبت أي إنها تضمن بالتفويت أو بالفوات في يد عادية أي ضامنة معتدية (5) ، أما المالكية فقالوا: تضمن منافع الأموال من دور وأرض بالاستعمال فقط ولا تضمن في حالة الترك أي تضمن بالتفويت دون الفوات، وهذا إذا غصب ذات الشيء أما إذا غصب المنفعة فقط كأن يغلق الدار ويحبس الدابة فيضمنها بمجرد فواتها على صاحبها وإن لم يستعملها. ومما تغير الحكم لفساد الناس طلاق الثلاث في كلمة واحدة، فقد كان طلقة واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، فلما رأى عمر فساد الناس وإكثارهم من الحلف بالطلاق وتتابعوا في ذلك واقعة لمن تلفظ به ثلاثًا في مرة واحدة رواه البخاري، وفي سنن أبي داود، عن طاوس أن رجلًا يقال له أبو الصهباء طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها، قال: أجيزوهن عليهم، قال ابن القيم: والمقصود أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يخفف عليه أن هو هذا السنة وأنه توسعة من الله لعباده إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة، وما كان مرة بعد مرة لم يملك المكلف إيقاعه دفعة واحة كاللعان فإنه لو قال أشهد بالله أربع شهادات أني لمن الصادقين اعتبرت مرة واحدة (6) ، وقد أخذت بعض البلدان الإسلامية اليوم بالرأي الأول في قوانين الأحوال الشخصية فلا توضع محاكمهم الطلاق الثلاث لمن تلفظ به وتوقعه واحدة وما ذلك إلا لكثرة الحلف بالطلاق وانتشار الفساد وتغير العرف. ومما تغير الحكم فيه قضاء القاضي بعلمه فقد اتفق الحنفية على جواز أن يقضي القاضي بعلمه في واقعة شهدها بنفسه وإن ذلك يغني عن مطالبة الخصوم بالإثبات، قال ابن عابدين: القاضي يقضي بعلمه في حقوق العباد إذا علمها في بلده المخصص للقضاء فيه على قول الصاحبين والمختار اليوم أنه لا يقضي بعلمه للتهمة، وذلك استنادًا إلى ما فعله عمر رضي الله عنه، وذلك لفساد القضاة وغلبة الرشاوي وعدم اختيار القضاة بحسب الكفاءة والعفة والنزاهة، وإنما صار يوضع في هذا المنصب بحسب الشهرة والمحسوبية واستثنوا قضاءه بعلمه في أمور التعزير والطلاق والغصب فله أن يحول بين الرجل ومطلقته وأن يضع المال المغصوب عند أمين إلى حين الإثبات (7) .   (1) المغني، لابن قدامة: 4 /439. (2) رد المحتار على الدر المختار: 5 /142، ط الأميرية. (3) قواعد الأحكام لابن عبد السلام: 1 /152، وما بعدها (4) انظر المدخل الفقهي، للزرقاء: 2 /914 (5) التفويت استيفاء المنفعة، كمطالعة الكتاب وركوب الدابة ولبس الثوب، والفوات هو ترك المنافع تضيع سدى وبدون استيفاء كإغلاق الدار دون إسكان أحد فيها، مغني المحتاج: 2 /286 (6) إعلام الموقعين عن رب العالمين: 1 /33 (7) حاشية ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار: 4 /391 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2572 ومما تأثرت الأحكام فيه لتغير الناس وأحوالهم ما لجأ الناس إليه اليوم نتيجة لتطور أساليب الحياة ووسائلها، من ذلك تسجيل قطع الأراضي لأصحابها بذكر أرقام القطع وأحواضها ورسم الخريطة وتحديد الحدود بالرسم العقاري الهندسي بحيث ينضبط معه الملك ضبطًا لا يخشى معه ضياع أي جزء منه ولا تلاشي حق من حقوقه، إن لتسجيل العقار فوائد كثيرة منها: أنه إذا سجل بدفتر خانة الأملاك العقارية يؤمن عليه من العوارض كالضياع ونحوه، ثانيًا بالتسجيل تتخلص ملكية العقار لمن سجل باسمه وينقطع عنه كل نزاع قديم أو ممكن الوقوع، ثالثا: تنضبط مساحة العقار ضبطا يؤمن معه الاستيلاء على أي جزء منه بسبب تحرير تحديده ومساحته وعمل المثال الهندسي الذي يقع التسجيل على طبقه، رابعًا: يؤمنه عليه من كل واضع يده بأي وجه ولا يخشى معه دعوى ما دام التسجيل باسم المالك الحقيقي، خامسًا: يضبط مساحته يعلم العاجرون مقادير ما لا يباشرونه من أملاكهم التي يستبيحها كل من يعلم حقيقتها. سادسا: حفظ جميع الحقوق المرتبة على العقار المسجل من رهن وإنزال ونحوها لمستحقيها عند عدم علمهم بانتقال الحق لهم. سابعًا: صيانة الملك المسجل للصبي والأرملة إذا مات أو فقد مورثهما، ولم يعلما بملكه، ثامنًا: حصول الثقة للمشترين والمرتهنين وغيرهم بتحقق التملك من غير تدليس. تاسعًا: تحقق أن الملك ليس مثقلًا بغير ما تضمنه الصك وبذلك يأمن أصحاب المثال في البيع والرهن وغيرهما. عاشرًا: سهولة التعامل بالملك المسجل للمالك بحيث إن حامل نسخة تسجيل ملكه يتصرف بسهولة على الوجه المأمون. الحادي عشر: توسعة طريق المعاملة بتكرر الرهون مع اختلاف الدائنين ما دامت قيمة الملك قابلة لذلك وربما ارتفع ثمن الملك المسجل عن غيره، إذ التجار والفلاحون وغيرهم يرغبون في الملك المسجل ويؤثرونه على ما ليس بمسجل لما ذكرنا ويكتفي في نقل الملكية بتغيير أسماء المالكين للقطع بالأرقام وتوقيع أصحاب الشأن والشهود خلافًا لما كان عليه الناس من قبل تحديد الحدود شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا بذكر أسماء المالكين والإشهاد على ذلك وذكر كمال عقل البائع والمشتري إلى آخر السلسلة المعروفة في العقود القديمة وعدالة الشهود وأهلية المتبايعين. ومن هذا القبيل أن الأصل في النكاح أن ينعقد بالإيجاب والقبول ويتم بشهادة الشهود وفشوة من غير حاجة إلى تسجيل لكن لما فسد الناس وضعف الإيمان وخرجت الذمم وصار الزوج يترك الزوجة والأولاد، ولا يخشى الله فيهم أوجبت المحاكم تسجيل عقد النكاح في سجلات 0البلدية ويعطي الزوجان في ذلك وثيقة رسمية بحيث بدونها لا يعترف النكاح قانونيًّا وما هذا التغيير إلا لتغير أساليب الحياة وتغير أعراف الناس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2573 ومن هذا اكتفاء أبي حنيفة في عدالة الشهود بالعدالة الظاهرة فيما عدا الحدود والقصاص ولم ير وجوب تزكيتهم عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون عدول بعضهم على بعض)) فلما رغب الفساد على الناس وقل الخير وفشا الكذب والبهتان وتجرأ الناس على شهادة الزور قال الإمامان محمد وأبو يوسف بضرورة تزكية جميع الشهود ولا يكتفي بالعدالة الظاهرة، والحق أن الخلاف بينهما خلال عصر وأوان وتغير زمان والفتوى اليوم على مذهب الإمامين ويتضح من هذه الأمثلة التي ضربنا أن الأحكام المبنية على الأعراف يمكن أن تتغير بتغير الأعراف، قال القرافي في الفروق: تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه (1) وقال أيضا: وعلى هذا القانون تراعى الفتاوي على طول الأيام فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه ولا تجمد على السطور في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك من غير أهل إقليميك يستفيتك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجره عليه دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين وسلف الماضين، ثم إن التطور العالمي في الميادين المختلفة كالتقنية العلمية والتنمية الاقتصادية وكذلك العلاقات بين الشعوب والدول ووجود المصانع الكبرى والشركات المتعددة واتساع التجارة وقيام الغرف التجارية والعلاقات المستجدة بين أصحاب العمل والعمال، كل ذلك اقتضى وضع قوانين مختلفة وتنظيمات إدارية متعددة أوجدت أوضاعًا وأشكالًا من العلاقات غيرت عادات كثيرة وأوجدت نوعًا من الأعراف العامة التي أثرت في الناس وغيرت كثيرًا من الأحكام فمن ذلك إلزام الناس جميعا بجواز السفر بحيث لا يستطيع أحد السفر إلى خارج بلاده وحدودها بدونه، ومن هذا إلزام الناس الرجال والنساء في ذلك سواء ببطاقة تعريفه وإلزام أصحاب السيارات بالبطاقة الرمادية التي تحمل رقم السيارة ونوعها ومالكها وإلزام كل سائق سيارة برخصة السياقة، ومن هذا أيضا ما صدر في هذه السنوات الأخيرة من وجوب التأمين ضد الغير أو تأمينًا شاملًا، وقد اقتضى هذا من العلماء أن يبحثوا في موضوع التأمين وهل يجوز أو لا يجوز والأصل فيه عدم الجواز لأنه أشبه ما يكون بالمغامرة والرهان، وهو ممنوع وقد جوزه بعض العلماء قياسا على عقد الموالاة أو الحراسة أو بيع الوفاء عند الحنفية اعتمادًا على العرف ونفي هؤلاء أن يكون فيه غرر أو جهالة مفضية إلى نزاع (2)   (1) الفروق للقرافي: 1 /176 (2) انظر كتاب التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه، للأستاذ محمد الدسوقي نشرة المجلس الإسلامي الأعلى للشئون الإسلامية بمصر سنة 1967 في كتاب التأمين في الشريعة الإسلامية والقانون، للدكتور غريب الجمال – والتأمين، للأستاذ مصطفى الزرقاء، والتأمين البري، للبشير زهرة، دار بو سلامة للطباعة والنشر تونس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2574 والتأمين حديث النشأة ظهر في القرن الرابع عشر الميلادي في إيطاليا في صورة التأمين البحري وهو نوعان تأمين تعاوني وتأمين بقسط ثابت، أما التأمين التعاوني فهو أن يتفق عدة أشخاص على أن يدفع كل منهم اشتراكًا معينًا لتعويض الأضرار التي قد تصيب أحدهم إذا تحقق خطر معين، وهو قليل التطبيق في الحياة العملية وأول من عمل به السودان على ما نعلم وتبعتها في ذلك الكويت واستصدرت قانونها المدني وبدأ العمل به في 25 فبراير سنة 1981 م، وجاء الباب الرابع منه في الكفالة والتأمين، والفصل الثاني منه وفيه ثمانٍ وثلاثين مادة تشمل حقيقة التأمين وإبرام عقده والتزامات المؤمن له والتزامات المؤمن في انتقال الحقوق والالتزامات الناشئة عن عقد التأمين وانقضاءها أما التأمين بقسط ثابت فهو أن يلتزم المؤمن له بدفع قسط محدد إلى المؤمن وهو شركة التأمين المكونة من أفراد مساهمين يتعهد بمقتضاها دفع أداء معين عند تحقق خطر معين وهذا النوع هو السائد في العالم الآن ويدفع العوض، أما إلى مستفيد معين أو إلى شخص المؤمن أو إلى ورثته فهو عقد معاوضة ملزم للطرفين والفرق بين النوعين أن الذي يتولى التأمين التعاوني ليس هيئة مستقلة عن المؤمن لهم ولا يسعى أعضاؤه إلى تحقيق ربح، وإنما يسعون إلى تخفيف الخسائر التي تلحق بعض الأعضاء، أما التأمين بالقسط الثابت فيتولاه الشركة المساهمة وتهدف إلى تحقيق الربح على حساب المشتركين المؤمن لهم وكون المؤمن له قد لا يأخذ شيئًا في غالب الأحيان لا يخرج التأمين عن كونه عقد معاوضة لأن من طبيعة العقد الاحتمالي ألا يحصل فيه أحد العاقدين على العوض أحيانًا، ولا شك في جواز التأمين التعاوني في الإسلام، لنه لا يدخل في عقود التبرعات فهو إذن من قبيل التعاون على البر لأن كل مشترك يدفع اشتراكه بطيب نفس لتخفيف آثار المخاطر وترميم الأضرار التي تصيب أحد المشتركين أيا كان نوع الضرر ويدخل في ذلك الحوادث على الأشياء بسبب الحريق أو السرقة أو موت الحيوان أو ضد المسئولية من حوادث الطرقات أو حوادث العمل ويشمل حتى التأمين على الحياة عند بعضهم ويجوز أيضا للمؤمن له التأمين الإلزامي كالتأمين المفروض على السيارات ضد الغير كما تجوز التأمينات الاجتماعية ضد العجز والشيخوخة والمرض والتقاعد لأن كلها غايتها إعانة من تحل به مصيبة من هذه المصائب، ولا يقال كيف يكون إلزاميًّا لأنا نقول: كل من التزم شيئا من البر والمعروف لزمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2575 أما التأمين بقسط ثابت، فقد أفتى ابن عابدين بحق التأمين البحري لضمان ما قد يهلك من البضائع المستوردة بطريق النقل البحري بالمراكب، فلا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من مال المؤمن للأسباب التالية: (1) أن هذا العقد هو التزام ما لا يلزم حيث انعدم السبب الشرعي للضمان إذ السبب الشرعي واحد من أربعة (1) (1) العدوان من قتل وهدم وإحراق ونحوها (2) تسبب الإتلاف كحفر بئر بدون ترخيص في الطريق العام (3) وضع اليد غير المؤمنة كالغصب والسرقة وبقاء البيع في يد البائع (4) والكفالة وليس المؤمن متعديا ولا متسببا في الإتلاف ولا واضع يد على المؤمن عليه وليس في التأمين مكفول معين وليس التأمين من باب تضمين الودائع، إذا كان يأخذ أجرًا على الوديعة لأن المال ليس في يد المؤمن بل في يد صاحبة وليس هو أيضا من قبيل تضمين التغرير لأن الغار لا بد أن يكون عالمًا بالخطر وأن يكون المغرور جاهلا به غير عالم، كما لا يصح اعتبار التأمين من شركة المضاربة لسببين أولها: أن الأقساط التي يدفعها المؤمن له تدخل في ملك شركة التأمين وهي مطلقة اليد تتصرف كيف شاءت وهي لا يرجع للمؤمن منها شيء أن لم يتعرض لحادث، ثانيهما: أن شرط حجة المضاربة أن يكون الربح بين صاحب المال والقائم بالعمل وأن يكون شائعًا بنسبة كربع أو ثلث ونحو ذلك. كما أنه لا يصح اعتبار التأمين من قبيل الضمان أو الكفالة لأنه ليس واحدا من أسباب الضمان أربعة المتقدمة الذكر وعلى تقدير وجود المكفول كما في التأمين من حوادث الطرقات في السيارات فإن المكفول مجهول ولا تصح الكفالة في مجهول والخلاصة أن عقد التأمين المقسط هو من عقود الغرر أي من العقود الاحتمالية المترددة بين وجود العقود عليه وعدمه وفي الحديث ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)) ، والغرر عنصر لازم لعقد التأمين وهو غرر كثير وليس باليسير إذ من أركانه الخطر وهو حادث محتمل غير متوقف على إرادة العاقدين. ولا يباح الغرر الكثير إلا عند الجهد والمشقة الفائقة والاضطرار، وهي الحالة التي يصل المرء فيها إلى حالة بحيث لو لم يتناول الممنوع لقرب من الهلاك ولكنه لا يهلك كما ذكر ذلك السيوطي (2) وقد تكون الحاجة عامة، وقد تكون خاصة، فالعامة ما تشتمل جميع الناس والحاجة الخاصة ما تكون خاصة بطائفة من الناس كأهل بلد أو حرفة أو مهنة، ومعنى كون الحاجة متعينة أن تسد جميع الطرق المشروعة للوصول للغرض سوى ذلك العقد الذي فيه الضرر ولو سلمنا بوجود حاجة عامة للتأمين في هذا الزمان فإن الحاجة إليه غير متعينة إذ يمكن تحقيق الهدف منه بطريق التأمين التعاوني القائم على التبرع وإلغاء الوسيط المستغل لحاجة الناس الذي يسعى إلى الربح وهي شركات التأمين فهذا يمنع في الإسلام لوجود طريق يبلغ إليه فإن لم توجد شركات الضمان التعاونية، فقد أفتى بعضهم بجواز التأمين الاضطراري الذي هو ثلث التأمين وهو ما كان لدفع ضرر الغير والذي أوجبته كثير من الحكومات الإسلامية حيث يرخص للسيارة تسير في الطريق من غير تأمين الثلث وبعض العلماء مانع في ذلك لأنه عقد معاوضة على مجهول وكله غرر، والغرر ممنوع.   (1) رد المختار على الدار المختار: 3 / 273 (2) الاشباه والنظائر، للسيوطي: ص 77، القاعدة الرابعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2576 ومن هذا القبيل أيضا شركات المساهمة فقد منعها بعضهم وقال بتحريمها لأنها مناقضة لعقد الوكالة أو لأنه ليست عقدا أصلًا بين شخصين أو أكثر أو لأنها لا يوجد فيها الجهد البدني من المشتركين، ولكن بعض العلماء المحدثين أباحوها نتيجة التطور التجاري ولأنها تقوم في الواقع على التراضي وهو الأصل في العقود ومن جهة أخرى فقد توفرت شروط الشركات الإسلامية فيها ولقيامها على الربح وعلى الخسارة. ولقد حدثت أعراف كثيرة نتيجة اختلاف وسائل الحياة ووجود المصانع الكبرى واكتشاف الآلات الحديثة وما وجد من وسائل الإعلام من مجلات وجرائد وإذاعة وتلفزة وربط العالم بما نشأ من أقمار صناعية وتنوع وسائل المعيشة من اختراع آلات كهربائية واتساع المدن واجتماع السكان في عمارات كبيرة وتشابك المصالح كل هذا أنشأ تقاليد جديدة في الحياة وأعرافًا وعادات اقتضتها المصالح المرسلة من ذلك مثلًا إنشاء مؤسسات اجتماعية لحضانة أطفال الأمهات اللواتي يعملن في المصانع والإدارات وإنشاء دور الرضيع ودور الأيتام والعجزة والمتخلفين ذهنيًّا والمعاقين، وقد أصبحت الحاجة ماسة إلى ذلك لتفرق العائلات واستقلال الزوجين عن السكنى مع الحماوين، وقد أصبحت الحاجة ماسة إلى العمل بها بحيث لا يمكن الانفكاك عنها ولو فتح الباب على مصراعيه لغلب على الناس استباحة ما لم يأذن الله ولعم الفساد كل البلاد. ومن الأمثلة على استعمال المصالح المرسلة المبنية على العرف والتي عمل بها الفقهاء وذلك للحاجة الماسة الاستماع إلى شهادة التسامح في إثبات النسب والوفاة والدخول بالزوجات والوقف والولايات وغيرها، فكل هذا اكتفي فيه بشهادة السماع مع أن الأصل في الشهادة المعاينة بالذات للمشهود له أو عليه لا بالسماع، ومن هذا أيضا قبول شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال كالجرائم التي تقع بالحمامات وكشهادة القابلة على الولادة وتعيين الولد على النزاع (1) القوانين العرفية ومدى ما يمكن الأخذ بها في أحكام القضاء: إن العرف يجري في المعاملات والعبادات وفي مسائل ليست متمحضة للعبادات ولا للمعاملات وغالبه في النوع الأول ومما مثل به للعبادات قراءة الأحزاب جماعة والذكر في المساجد والقراءة على القبور والأضرحة وإعادة الصلاة جماعة في مسجد له إمام راتب وتثبث الأذان لصلاة الجمعة وتعيين ليلة القدر في السابع والعشرين من شهر رمضان ورفع اليدين في الدعاء، والمسح على الوجه بالكفين بعد الدعاء، ومن النوع الثالث مما لم تتمحض مسائله لا للعبادات ولا للمعاملات، زخرفة المساجد والأضرحة.   (1) رد المحتار على الدر المختار: 4 / 375 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2577 وغالب الأعراف في المعاملات إذ هي أوفق لجريان العمل والقضاء فيها بما يقتضيه العرف ويكون في الأحوال الشخصية والعقود المالية والشؤون العقارية، فمن الأول الاعتداد بالأشهر للمطلقة طلاقا رجعيًّا، أو طلاقا بائنًا وهي مدخولا بها فقد جرى العرف بأنها لا تحل للأزواج إلا بعد مضي ثلاثة أشهر من يوم طلاقها إذا ادعت انقضاء أقرائها فيها ولا تصدق في أقل من هذه المدة، ففي العمليات العامة قال سيدي علي الزقاق في عدة النساء التي جرى بها العمل بفاس وهي ذات قرؤ في اعتداد بأشهر، ومراده أنها تنتظر تمام الأشهر الثلاثة إن كملت الأقراء قبلها احتياطيًّا لا لأنها تعتد بالأشهر حقيقة تاركة الأقراء وقال سيدي محمد بن سعيد الزمور في شرحه على ابن الحاجب الذي سماه معتمد الناجب بعد نحو ما سبق، وقال القاضي أبو بكر بن العربي: عادة النساء عندنا حيضة واحدة في الشهر، وقد قلت الأديان في الذكران فكيف النسوان فلا أرى أن تمكن المرأة المطلقة من التزويج إلا بعد ثلاثة أشهر من يوم الطلاق ولا تسأل عن الطلاق كان في أول الطهر أو في آخره.. اهـ. وقال ابن ناجي عند قول المدونة: وإذا قال للمعتدة قد راجعتك فإجابته، قد انقضت عدتي فإن مضت مدة في مثلها تنقض صدقت بغير يمين، وإلا لم تصدق إن ادعت انقضاءها في مدة لا تنقضي فيها غالبا ولا نادرًا، لم تصدق اتفاقًا وإن ادعت ما تنقضي فيها غالبًا صدقت واختلف في النادر وفي مقدار ما تحل به على اثني عشر قولًا منها: أولًا: لا يقبل قولها في أقل من تسعين يومًا وليس منصوصا للمتقدمين ولكن جرى به العمل عند شيوخنا بتونس، ثم ذكر قول ابن العربي (1) . والأصل أن ذوات الحيض تعتد بالأقراء بصريح القرآن، قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (2) فإذا رأت المرأة الحيضة الثالثة فقد خرجت من عدتها، والمشهور أنها تصدق فيما يشبه إلا أن العمل جرى بعدم تصديقها في أقل من ثلاثة أشهر (3) .   (1) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد للسجلسماسي، ط 1 تونس: 1 /83 (2) سورة البقرة: الآية 228. (3) انظر شرح التاودي للامية الزقاق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2578 ثانيا: جرى العمل بأن الغني يشور ابنته بقدر ما أعطاه الزوج من الصداق ويضيف الأب نفس المبلغ الذي دفعه الزوج بحيث لو أعطى خميس شاورها بمائة كان ولي الزوجة أبا أو وصيًّا، فلربما بمثل المبلغ والأصل عدم إلزام المرأة وأبيها جهازًا لأن الصداق إنما كان عوضًا عن البضع ولو كان عوضًا عن الجهاز وهو مجهول لكان فاسدًا فالبضع هو الأصل وما سواه تابع وفي العلميات العامة وعند فاس ذو الغنى يشور بمثل نقد ابنته ويجبر، إن وقع الدخول أما إن طلب الزوج ذا قبل فلا يجبر الأب، وقيل للزوج تجهز إليك بالنقد أو طلق، ولا شيء عليك، قال ابن غازي في شفاء الغليل ومن فتوى شيخ شيوخنا أبو محمد عبد الله العبدوسي الذي جرى به العمل في أغنياء الحاضرة إجبار الأب أن يجهز ابنته بمثل نقدها، وهذا إنما هو إذا فاتت بالدخول، وإما أن طلب الزوج هذا قبل الابتناء فلا يجبر الأب، ويقال للزوج: إما أن ترضى بأن يجهزها لك بنقدها خاصة وإلا فطلق ولا شيء عليك وبهذا القضاء والعمل. اهـ قال ابن غازي: وبه مضى الحكم في ابنة أحمد اللمتوني محتسب فاس في عصرنا هذا (1) وهذا لا ينفي استحباب تجهيز الأب والوصي بشيء من مال الزوجة زيادة على نقدها، لأن ذلك من صالحها ومما يرغب الناس فيه لكن لا على طريق الإلزام. ثالثا: الخلع بالإنفاق على الولد بعد أمد إرضاع، قال خليل: وجاز شرط نفقة ولدها مدة رضاعها، ومذهب المدونة سقوط ما زاد على الحولين وهذا هو المشهور، ولكن جرى العمل بقول المغيرة المخزومي والإمام أشهب وابن الماجشون وغيرهم، وبه قال سحنون وابن حبيب واللخمي وابن يونس بأن من خالع زوجته على إنفاق ولده بعد الحولين جاء في العمليات العامة وما تحملت به من نفقة أي فوق الرضاع يلزم المطلقة. وإن بذاك أعسرت فينفق وبالسداد يرجع المطلق، وقد نبه على هذا العمل ابن سهل وابن فتوح والمتيطي وابن مغيث والفشتالي ومن لا يحصى، فإن أعدمت الأم في خلال المدة، فإن النفقة تعود على الأب، فإن أيسرت الأم فهل يتبعها أم لا؟ المشهور من المذهب أنه يتبعها بما أنفق على السداد لا على ما أنفق من ضيق أو سعة، قاله مالك وابن القاسم وبه القضاء، وحكى أصبغ عن ابن القاسم أنه لا يتبعها بشيء وذكر هذا القاضي الفشتالي وابن سلمون ونقله عنه الحطاب في تحرير الكلام (2)   (1) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد للسجلسماسي:1 /31 -32 (2) شرح العمل الفاسي للسجلسماسي: 1 /69 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2579 رابعا: ومنها النظر للعورة فالأصل فيه المنع إلا لضرورة كعيوب الفرج، والمشهور أن المرأة تصدق في داء فرجها وفي بكارتها فيما لو ادعى الزوج أن بفرجها عيبًا أو أنه وجدها ثيبًا، وهذا قول جمهور المالكية، وخالف في ذلك سحنون وأفتى بجواز النظر معللًا ذلك بقلة أمانة النساء وبقوله: جرى العمل عند متأخري الفقهاء فللقاضي أن يمكن من يوثق بخبرتهن من القوابل أن تنظر إلى المرأة للضرورة الداعية ولا تصدق الزوجة في نفيها لما يدعيه الزوج لأنها متهمة بالدفع عن نفسها، ومثل ذلك الزوج وللمتأخرين في ذلك فتاوى متعددة متضاربة، وفي العمليات: وجاز للنسوة للفرج النظر من النساء إن دعا له ضرر، وهذا كله في الزمن الماضي، أما اليوم فقد ارتفع الإشكال بالطبيب حيث أصبح كل من الزوجين يعرض على الطبيب في كل ما يتعلق بالعيوب والأمراض. ومنها صرف اليمين إلى الطلاق في الحلف باللازمة أو الحرام إذ صار هذا اللفظ حقيقة عرفية على الطلاق وأوجب الفقهاء فيه طلقة رجعية ولولا العرف لما لزمه شيء أو للزمه كل شيء ففي تحفة الحكام: وكل من يمينه باللازمة له الثلاث في الأصح لازمة، وقيل: بل واحدة رجعية مع جهله وعقده للنية. وقيل: بل بائنة وقيل: بل جميع الأيمان وما به عمل. وقد روى ميارة عن ابن زرب أنه أفتى بطلقة بائنة ورده ابن سهل بأن الواحدة البائنة لا تكون إلا في الحكم وقيل: إن نوى عمومًا أو خصوصا لزمه ما نواه وإن نوى مسمى عرفًا عالمًا أن منه الطلاق وهو أكثر الواقع في زماننا فطلقة واحدة وإن نوى مطلق اليمين جاهلا مسماها عرفا احتمل السقوط وكفارة يمين، وقال ابن بشير: إن قصد التعميم بثلاث وإلا فواحدة، قال القرافي في هذا اليمين: إن الفقهاء لا حظوا فيها ما غلب الحلف به في العرف وما جعل يمينًا في العادة فألزموه إياه لأنه المسمى العرفي فيقدم على المسمى اللغوي. ونقل ابن عبد السلام عن بعض المفتين أنه إذا جاء من لا يعرف مدلول هذه الكلمة قال: لا شيء عليه، قال بعضهم: وهذه الطريقة أنسب وإن نوى شيئا لزمه ما نوى وإلا لزمه طلقة والكلام في المسألة طويل وملخصه أن المشهور في المذهب هو ما في المختصر والقول بالواحدة الرجعية قال به كثير (1) ، وفي تبصرة ابن فرحون إن جرى عرف في هذه اليمين يتبادر إلى الذهن من غير قرينة عمل عليها، وإلا فما قواه أو دل عليه بساط، وإلا فلا شيء عليه، قال الحسن بن رحال: وهو كلام حسن غاية وقد تحير فيها الولوع النهاية.   (1) شرح ميارة على التحفة: 1 /243 وما بعدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2580 سادسا: هدايا الخطبة، لقد اختلفت المذاهب في الهدايا التي يقدمها الخطيب لمخطوبته إذا كان ما هداه قائما في يدها ولم يوجد مانع من استرجاعه كالخاتم والساعة ونحوها، فإنه يرتجعها وإذا كانت مما تستهلك فلا ترجع، والجعفرية قالوا باستردادها مطلقا ولو هلكت فيسترد قيمتها، وكذلك الشافعية يرون حق الرجوع في الهدية مطلقا سواء أكان العادل عن الخطبة الخاطب أو المخطوبة، أما المالكية فلهم في ذلك تفصيل مرجعه إلى العرف وهو منع الخاطب من استرداد ما أهداه إلى مخطوبته إن كان العدول منه، أما إذا كان العدول عن الخطبة من جانبها فله حق استرداد ما قدمه مما هو قائم بعينه واسترداد قيمته أو مثله إن هلك ما لم يكن مما يستهلك كالحلويات ونحوها، ويرجع ذلك كله إلى العرف والى عادات الناس وما لم يكن هناك شرط، وذلك لقاعدة أن المعروف عرفا كالمشروط شرطًا فإذا كان هناك عرف عام أو خاص في هذه الهدايا حكم العرف فيها، ولقد أقامت قوانين الأحوال الشخصية أحكامها في ذلك على ما جرى به للعمل في المذهب المالكي في كثير من الأمصار. ومنها الكفاءة في الزواج روى الدارقطني أن عمر بن الخطاب قال: لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء، ولا شك أن اعتبار الكفاءة مكمل للمقصود من الزواج إذ به تنتظم مصالح الزوجين وتأسيس القربات، وقد ذهب جماعة إلى عدم اشتراط الكفاءة في الزواج إلا في الدين منهم الإمام الكرخي من الحنفية والحسن البصري وابن حزم ومستندهم حديث: الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي إنما الفضل بالتقوى، كما يشهد لذلك أيضا قوله تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات: الآية 13] . ورد ذلك بأن التساوي راجعة إلى الحقوق والواجبات، أما في غيرها مما تقام على أعراف الناس وعاداتهم فلا شك أن الناس يتفاوتون فيها ويتفاضلون في الرزق والثروة والوظائف وغيرها، وقد قال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [سورة النحل: الآية 71] . وكذلك يتفاضلون في العلم، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وما زال الناس يتفاوتون في منازلهم الاجتماعية ومراكزهم الأدبية وهو مقتضى الفطرة الإنسانية وشريعة الله لا تصادم الفطرة والأعراف والعادات التي لا تخالف أصول الدين ومبادئه، ومذهب الجمهور أن الكفاءة شرط في لزوم الزواج لا شرط صحة فيه لمجموعة من الأدلة: منها حديث الترمذي والحاكم ثلاثة لا تؤخر، الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفوءًا. ثانيًا: ما رواه الدارقطني والبيهقي عن جابر بن عبد الله: لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء، وحديث الدارقطني عن عائشة وعمر: لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء (1)   (1) نقل هذه الأحاديث الشوكاني في كتابة نيل الأوطار: 6 / 127 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2581 قال الشافعي: أصل الكفاءة في النكاح حديث بريرة، وقد خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لم يكن زوجها كفؤا لها بعد أن تحررت، وكان زوجها عبدًا، قال الكمال بن الهمام: هذه الأحاديث الضعيفة من طرق عديدة يقوي بعضها بعضا فتصبح حجة بالتظافر والشواهد وترتفع إلى مرتبة الحسن لحصول الظن بصحة المعنى وثبوته عنه صلى الله عليه وسلم وفي هذا كفاية (1) ومن المعقول وهو أن انتظام المصالح بين الزوجين لا يكون عادة إلا إذا كان هناك تكافؤ بينهما، لأن الشريفة تأبى العيش مع الخسيس فلا بد من اعتبار الكفاءة من جانب الرجل لا من جانب المرأة، لأن الزوج لا يتأثر بعدم كفاءتها عادة وللعادة والعرف سلطان أقوى وتأثير أكبر على الزوجة، فإذا لم يكن الزوج كفؤًا لها قل أن تستمر الرابطة الزوجية وتتفكك عرى المودة بينهما، ثم إن أولياءها يأنفون من مصاهرة من لا يناسبهم في دينهم وجاههم ونسبهم وحسبهم ويعيرون به فتختل روابط المصاهرة وتضعف فلا تتحقق أهداف الزواج الاجتماعية ولا الثمرات والغايات المقصودة منه، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة وهو المعمول به في أغلب البلاد الإسلامية، وقد اتفق فقهاء المذاهب الأربعة والراجح عند الحنابلة والمعتمد عند المالكية والأظهر عند الشافعية على أن الكفاءة شرط لزوم الزواج وليست شرطًا في صحة النجاح فللأولياء حق الاعتراض وطلب فسخه فلا يسقط بالإسقاط ومرجع الكفاءة إلى ما تعارفه الناس من الصفات معظمة أو محقرة كالحرف الشريفة وغير الشريفة والنسب الشريف من غيره ولا سيما عند من يتباهون بالأنساب كالعرب والفرس، فالكفاءة في الدين والمال والنسب والحرفة والسلامة من العيوب وكلها يحتاج في طلب سببه إلى العرف والكفاءة عند الحنفية شرط لزوم في الجملة على ما في الدر المختار، لكن المفتى به عند المتأخرين أنها شرط لصحة الزواج في بعض الحالات وهي شرط لنفاذه في بعض الحالات وشرط لزوم في حالة أخرى وتكون شرط صحة بالنسبة للبالغة العاقلة إذا زوجت نفسها من غير كفء أو بغبن فاحش وكان لها ولي غاضب لم يرض بهذا الزواج قبل العقد. الحالة الثانية: أن يزوج غير الأصل أو غير الفرع من عديم الأهلية أو ناقصها فالزواج فاسد لأن ولاية غير الأصل والفرع منوط بالمصلحة ولا مصلحة بغير الكفء الحالة الثالثة: إذا زوج الأب أو الابن أي الأصل أو الفرع بسوء الاختيار عديم الأهلية أو ناقصها من غير كفء، أو بغبن فاحش لم يصح النكاح اتفاقًا.   (1) فتح القدير: 2 / 417 وما بعدها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2582 العرف والمال: المال شرعًا هو كل ما يمكن حيازته والانتفاع به على وجه معتاد أو هو اسم لما يباح الانتفاع به حقيقية وشرعًا (1) والمنافع تدخل في المذهب الشافعي والمالكي في تعريف المال بحيث ما لا يمكن حيازته لا يعتبر مالا ولو أمكن الانتفاع به كالهواء وضوء الشمس وحرارتها، وأما ما يمكن حيازته فيعد مالا كالحيوان في الفلاة، والسمك في الماء، والطير في الهواء. والعرف هو الذي يحدد ما هو مال شرعًا وما ليس بمال واختلاف الفقهاء في ما هو مال مما ليس بمال مرجعه إلى الاجتهاد الذي تبناه العرف وهو عند الحنفية لا يكون المال إلا إذا كان مادة وقد وقع حوزه بدليل تعريفهم له بما يمكن ادخاره لوقت الحاجة وعليه فمنافع الأعيان كسكنى الدار وركوب الدابة أو السيارة أو الطيارة ولبس الثياب لا يعد مالا لعدم إمكان إحرازها ومثله أيضًا الحقوق كحق الحضانة وحق الولاية وحق التأليف وحق الاختراع وغيرها لا يعد مالا عند الحنفية وبقية المذاهب الثلاث تعتبر المنافع أموالًا إذ ليس من الواجب في المال إمكان إحرازه بنفسه، بل يكتفي بإمكان حيازته بحيازة أصله ولا شك أن المنافع تحاز مخالفًا ومصادرها إذ من استأجر بيتًا للسكنى وحازه ذاتًا يمنع غيره من الانتفاع به ما دام في حيازته وكرائه، كذلك من استأجر سيارة وقد حازها فهي له ما دامت في حيازته وليس لغيره الانتفاع بها. وخلاصة القول أن المال عند الجمهور غير الحنفية هو كل ما له قيمة يلزم متلفه بضمانه، والحنفية تفرق بين المال والملك فالحقوق والمنافع أملاكا وليست بمال، وعند الجمهور هي مال لأنها هي المقصودة من العيان، ولولاها لما رغب الناس فيها ونتيجة هذا الخلاف أن الإجارة مثلا تنتهي بموت المستأجر عند الحنفية ولا تنتهي عند غيرهم حتى تنتهي مدتها، وكذلك الحقوق فإنها لا تورث عند الحنفية وتورث عند غيرهم، واعتبار المنافع أموالا أوجه وأظهر مما ذهب إليه الحنفية لأنه هو الذي يجارى عرف الناس ونظرتهم للمال.   (1) بدائع الصنائع للكيساني: 6 / 294 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2583 ثم المال منه ما هو متقوم وهو ما كان في حيازة، وجاز الانتفاع به في حال الاختيار، ومنه ما هو غير متقوم وهو بخلافه كالمال المباح الذي لا مالك له بخصوصه كالسمك في البحر، والذهب في المنجم، والطير في الهواء، والنفط تحت الأرض، فهو مال غير متقوم في نظر الشرع لعدم الحيازة، ومثل الخمر والخنزير والميتة، فإنه لا يجوز الانتفاع به في نظر الشرع ولا يلجأ إليه إلا عند الاضطرار والفرق بينهما أن المتقوم يضمن بالتلف عند التعدي عليه، لأن له قيمته ويصلح أن يكون محلا للمعاوضة ويصح أن يوهب أو يوصي به أو يوقف ويصلح أن يكون محلا للمعاوضة ويصح أن يوهب أو يوصي به أو يوقف ويصح أن يكون ثمنا ومثمنًّا وكل هذه الأمور كان تحديدها على العرف في غالب الأحكام باستثناء ما جاءت النصوص على أنه مال مباح أو أنه لا يجوز الانتفاع به، فالفراشات والحشرات والأفاعي والهوام كانت من المال التافه الغير المقوم، وقد أصبحت اليوم لها قيمة لما يستخرج منها من الأدوية ونحوها، والعرف يتغير بتغير الزمان، فما كان تافها في زمان قد يتغير العرف ويصبح مالا معتبرًا في زمان وكثيرًا من الأشياء ما لم يكن مالا مقومًّا في غابر الأزمان، وقد أصبح اليوم مالا مقومًا ترتكز عليه ثروة البلاد فالسمك في المياه الإقليمية، والطيور التي تعيش في أجوائها، والحيوانات في أراضيها وغابتها والنفط في أعماق أرضها ومناجم الفوسفات والبوتاس والأملاح والذهب والفضة ومنتوجاتها الفلاحية، وهذه كلها مما هو ملك خاص أو عام أصبحت هذه ذات قيمة ضخمة، ولهذا تعد مالا متقومًا بحيث لو اعتدى أحد عليها أو نهب منها أو أتلف شيئا من ذلك غرمه وعزر علي تعديه وهذا الحكم يسري على تحديد القيمي والمثلي في الأموال فالقيمي ما تتفاوت آحاده تفاوتًا يعتد به أو لا تتفاوت، ولكن لا نظير له في الأسواق وتشمل الحيوانات والبناءات والأشجار وعروض التجارة المختلفة الجنس والعدديات المتفاوتات وما انقطع من الأسواق فلم يعد له مثيل، أما المثلي فما لا تتفاوت آحاده تفاوتًا يعتد به وله نظير في الأسواق ويشمل المكيلات والموزونات كالحبوب والألبان والمعدودات المتقاربة كالبيض وعروض التجارة المتحدة الجنس كالثلاجات والسيارات من صنف واحد (1) وتحديد كل ذلك ومرجعه إلى العرف القائم والواقع الموجود ولو اختلف العرف فيه لاختلف ما يندرج تحته المثلي أو القيمي. حقوق الارتفاق: الحق عرفه الأستاذ الزرقاء بأنه اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفًا والحقوق في الإسلام هي منح ألهية تستند إلى المصادر التي تستنبط منها الأحكام الشرعية ومنشأ الحق هو الله لا حاكم غيره ولا مشرع سواه والحق مقيد بما يفيد المجتمع ويمنع الضرر عن الآخرين وهو يسلتزم واجبين: واجب عام على الناس جميعًا وهو احترام حق الشخص وعدم التعدي عليه والتعرض له. وواجب خاص على صاحب الحق بأن يستعمل حقه من غير أن يضر بالآخرين. وينقسم الحق إلى ثلاثة أقسام: الأول: حق ملك الشيء وحق الانتفاع كالإجارة والوقف والإعارة والوصية وحق الارتفاق وهو ملك ناقص لأن صاحبه لا يملك التصرف المطلق وكثير من حقوق الانتفاع وحق الارتفاق أخذ العرف بعين الاعتبار في استنباط الأحكام الشريعة المتعلقة بها فإباحة الإجارة، وصحة الوقف في المنقولات، وكثير من أحكامها وحق الشرب والمجرى والمسيل والمرور وغيرها بنيت معظم أحكامهما على العرف وحق الارتفاق هو حق مقرر على عقار المنفعة عقار آخر مملوك للغير وهو حق دائم يبقى ما بقي العقار دون نظر إلى المالك ويدخل في ذلك حق الشرب وحق المجرى وحق المسيل وحق المرور وحق الجوار وحق العلو فحق الشرب هو النصيب المستحق من الماء لسقي الزرع والشجر أو نوبة الانتفاع بالماء لمدة معينة لسقي الأرض ويلحق به حق الشفعة وهو حق شرب الإنسان والدواب والاستعمال المنزلي، والماء بالنسبة لهذا الحق أربعة أنواع: (1) ماء الأنهاء العامة، فلكل واحد الحق في الانتفاع به لنفسه ودوابه وأراضيه بشرط عدم الإضرار بالغير لقوله عليه السلام: ((الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)) وحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) (2) وماء الجداول والأنهار الخاصة المملوكة لشخص، فلكل إنسان حق الشفعة منه لنفسه ودوابه، وليس لغير مالكه سقي أرضه إلا بإذن مالكه، (3) ماء العيون والآبار والحياض المملوكة لشخص وفيها حق الشفعة دون حق الشرب، فإن منعهم صاحبه أجبر على تمكينهم من الشفعة، (4) الماء المحرز في أوان خاصة كالجرار والصهاريج لا يثبت لأحد حق الانتفاع به بأي وجه من الوجوه إلا برضا صاحبه ولا يستحقه إلا المضطر الذي يخشى على نفسه وعليه دفع قيمته لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير (2) .   (1) انظر حاشية ابن عابدين: 4 /155 (2) البدائع: 6 / 188 وما بعدها؛ تكملة فتح القدير: 8 /144، القوانين الفقهية، لابن جزي: ص 344؛ نهاية المحتاج: 4 /255؛ المغني لابن قدامة: 5 /531 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2584 والعرف في كل هذا هو الذي يوضح هذه الحقوق ويحددها ويرتب عليها ضمان التلف ثالثًا: حق المجرى ويراد به حق إجراء الماء من أرض إلى أرض أخرى لسقيها فليس لصاحب الأرض منع مرور الماء من هذا المجرى أو نقله لمكان آخر إلا برضا صاحب الحق وتعتمد أحكام حق المجرى على العرف في بيان الضرر الذي يصيب صاحب الأرض بسبب نزع جانبي المجرى وبيان مقدار التلف إذا أصيب به الزرع أو الأرض بسبب هذا النزح ويستتبع حق المجرى حق مرور الانتفاع لإصلاحه وكريه وإزالة ما يعوق سير الماء فيه، فالعرف في كل ذلك هو الذي يحدد مقدار المرور والحدود التي يمر منها، وقد جرى العرف على منع صاحب المجرى من الزراعة على ما فيه لصالحه وحق السيل وهو مجرى على سطح الأرض أو أنابيب تنشأ لتصريف المياه الزائدة على الحاجة حتى تصل إلى مصرف عام أو مستودع مياه كمصاريف الأراضي السقوية أو مياه الأمطار أو المياه المستعملة في المنازل والفرق بين المسيل والمجرى أن المجرى لقلب المياه الصالحة للأرض والمسيل لصرف المياه غير الصالحة عن الأراضي أو الدور والحكم فيها واحد وليس لأحد منعه، وقد كنا ضربنا مثالًا لذلك وقع بتونس. وحق المرور وهو حق صاحب عقار داخلي بالوصول إلى عقاره من طريق يمر فيه أكان عاما أم كان خاصًّا مملوكًا للغير والأول حق لكل الناس والثاني خاص حق لأهل أصحاب المكان من المرور فيه وفتح الأبواب والنوافذ عليه حسب ما يقتضيه العرف والعادة، وحق الجوار وهو نوعان علوي وجانبي وللأول حق التعلي على صاحب الأسفل، أي حق القرار على الطبقة السفلى وهو حق ثابت لازم لصاحب العلو ولا يزول بهدم العقار كله أو انهدام الأسفل وله ولورثته إعادة بنائه حين يريد وليس لأحدهما أن يتصرف بما يضر بصاحبه وإذا انهدم الأسفل وجب على صاحبه إعادة بنائه، فإن امتنع أجبر قضاء، فإن رفض كان لصاحب العلو البناء ويرجع على الآخر بالنفقات إذا فعل ذلك بإذن من الحاكم أو إذن صاحب الأسفل، فإن فعل بغير إذن رجع بقيمة البناء وقت تمامه لا بما أنفق وكل ما يتعلق بحل النوافذ والأبواب وأنواع التصرف مرجعه إلى العرف وما يعده العرف ضررًا مما لا يعد عرفا من الضرر، وحق الجار ينشأ من ملاحقة الحدود في الأرض والدار والطريق ونحوها، وقد جاء في القرآن المر بالإحسان إلى الجار، قال تعالى {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} (1)   (1) سورة النساء الآية 36. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2585 وفى الحديث: ((ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) وقال أيضًا ((لا يؤمن أحدكم حتى يأمن جاره بوائقه)) ، وقال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)) فللجار على جارة حقوق أخلاقية كثيرة كأمانته ونصرته في الحق وإقراضه وعيادته إذا مرض وإعارته الماعون، وله حقوق تتعلق بجوار الحدود فلا يضر به ضررًا فاحشًا كبناء جدار يحجب الضوء عنه ويمنع عنه الهواء أو يسد عليه النوافذ أو يحدث مصنعًا مزعجًا بآلاته وسط المنازل أو يهدم السور الذي بينهما. وقد ذهب أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي وأحمد إلى عدم تقيد المالك في انتفاعه بملكه لأجل مصلحة جاره لأن مقتضى الملك التام أن ينتفع المالك بملكه على الوجه الذي يريده وخالفهم مالك رحمه الله ومعه متأخرو الحنفية، فمنعوا الجار أن يتصرف في ملكه تصرفا يضر بجاره ضررا فاحشا، والمعتمد في ذلك حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) ولأن ما تعارف عليه الناس هو عدم تجاوز الملك المعتاد في التصرف وتحديد الضرر الفاحش من غير الفاحش مبناه عرف الناس، وإنا لندرك مما مر أن هذه الحقوق كلها تعتمد في الكثير من أحكامها على العرف أكان خاصًّا أو عامًا، قوليًّا أو فعليًّا، كما ندرك أن الشريعة الغراء اعتنت بمعتاد الناس فيما لا يخالف مقاصد الشريعة ويحقق المصالح ويدرأ المفاسد ويجلب التيسير ويرفع الحرج. العقود التي بني الجواز عليها فيها على العرف: كثير من العقود شرعت على خلاف القياس وذلك دفعا للحرج وتسهيلا على الناس في معاشهم ومعاملاتهم، وقد سماها بعضهم ببيوع الاستحسان وهي العقود التي أبيحت للضرورة لتعارف الناس بها في معاملاتهم السلم والاستصناع وبيع الوفاء وعقد الإجارة والمزارعة والمساقاة، فبيع السلم الذي يتضمن تعجيل أحد الثمنين وتأجيل الآخر وهو عقد على خلاف القياس إذ هو بيع ما ليس عنده، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده ورخص في السلم لما وجد الناس يسلفون في التمر السنة والسنتين والثلاث فقال: ((من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) ، وقد بني الجواز على ما تعارفه الناس وأحكام السلم التي استنبطها المجتهدون بني كثير منها على العرف، وقد اختلف في ألفاظه وفي شروطه وفي ضوابط ما يجوز السلم فيه وما لا يجوز مما يطول الكلام عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2586 وكذلك الاستصناع وهو عقد على المبيع في الذمة مطلوب عمله وهو عقد على معدم وعلى ما ليس عند الإنسان، فالقياس منعه ولكن الحاجة دعت إليه وقد تعارفه الناس وجرى عليه التعامل فنزل ما يستصنع منزلة الموجود لحاجة الناس إليه وهو في الواقع فيه معنى عقدي السلم والإجارة لأن السلم عقد على مبيع في الذمة وعلى استئجار للصناع وشراطهم العمل وما اشتمل على عقدين جائزين كان جائزًا، نص على ذلك الكاساني في بدائع الصنائع وما جرى به العرف في الاستصناع جاز وما لم يجرِ العرف فيه لم يجز، ويصح الاستصناع عند المالكية والشافعية والحنابلة على أساس عقد السلم وعرف الناس ويشترط فيه ما يشترط في السلم، ومن شروطه تسليم جميع الثمن في مجلس العقد ومن شروطه بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره وصفته لأنه مبيع ولا بد من أن يكون معلومًا والعلم يحصل بذلك، وأن يكون مما جرى فيه التعامل بين الناس كالأواني والأمتعة والأحذية والفرق بين الاستصناع والسلم أن الاستصناع وإن كان كالسلم في كونه بيع المعدوم للحاجة والتعامل بين الناس فإن هناك فرقًا منها أن المبيع في السلم دين تحملته الذمة من مكيل أو موزون أو معدود متقارب، أما البيع في الاستصناع فهو عين لا دين كاستصناع حذاء أو خياطة ثوب، ثانيا: عقد السلم لازم وعقد الاستصناع غير لازم، ثالثًا: من شرط السلم الأجل وليس كذلك الاستصناع عند أبي حنيفة، رابعا: يشترط في السلم قبض رأس مال السلم في مجلس العقد ولا يشترط قبضه في الاستصناع. وبيع الوفاء ويختص بالعقار دون المنقول وهو من باب بيع وشرط وهو بيع المحتاج إلى النقود على أنه متى وفَّى بالعين استعاد العقار، ولقد تردد هذا العقد بين البيع والرهن وهو ممنوع عند المالكية لأنه من بيع الشيء المنهي عنه، ورأت الشافعية أن يصح العقد والشرط إن كان فيه مصلحة لأحد العاقدين كالخيار والأجل والرهن والكفالة ويبطل البيع إن كان الشرط منافيًا مقتضى العقد مثل أن لا يبيع المبيع ولا يهبه، وهذا لما ذهب إليه المالكية وذهبت الحنابلة إلى أنه لا يبطل البيع بشرط واحد فيه منفعة لأحد المتعاقدين ويبطل بشرطين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا يحل سلف ولا بيع ولا شرطان في بيع ولا بيع ما ليس عندك)) رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وبناء على هذا أجمع العلماء على أنه لا يجوز اشتراط مع أحد المتعاقدين إذا عزم مشترط عليه فإن أسقط الشرط جاز البيع عند المالكية وامتنع عند الجمهور. وأجاز الحنفية بيع الوفاء قالوا: نلجأ إلى هذا النوع من البيع هروبًا من الربا واضطرارهم إلى الاستدانة وإحجام أصحاب الأموال عن الاقتراض الحسن فتعاملوا بذلك على نفع الدائن عن طريق لا ربا فيه، قال النسفي اتفق مشائخ زماننا (يعني فقهاء سمرقند في القرنين الخامس والسادس) ، على صحته بيعًا على ما كان عليه بعض السلف فجعلوه بيعًا جائرًا مفيدا بعض أحكامه وهو الانتفاع به، دون البعض، وهو البيع لحاجة الناس إليه وتعاملهم به فكل قاعدة قد تترك بالتعامل. وفي شرح الأشباه أن ما ثبت به عرف عام لا خاص فيكون هذا العرف مخصصًا لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، قال ابن عابدين في الدر المختار: إنه بيع يفيد الانتفاع به وعليه الفتوى، وقال جامع الفصولين: بيع الوفاء رهن في الحقيقة لا يملكه ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه وهو ضامن لما أكل من تمره، وأتلف من شجره واختار الزيلعي أن بيع الوفاء هو عقد قائم بنفسه له أحكام خاصة به للعرف وحاجة الناس (1) .   (1) رد المحتار على الدار المختار: 4 / 257، جامع الفصولين والزيلعي على الكنز: 5 / 138 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2587 وقد قال ابن نجيم: إن بيع الوفاء صحيح لحاجة صحيح لحاجة الناس إليه فرارًا من الربا فأهل بلخ اعتادوا الدين والإجارة وهي لا تصح في الكرام وأهل بخارى اعتادوا الإجارة الطويلة ولا يمكن في الأشجار، فاضضروا إلى بيعها وفاء وما ضاف على الناس أمر إلا واتسع حكمه وخلاصة القول؛ الحنفية أباحوا بيع الوفاء استنادًا إلى العرف العام الذي يقع به تخصيص النصوص الظنية ويقيد المطلقات. عقود الانتفاع: ومنها الإجارة وهي في الأصل لا تصح لأنها تمليك منفعة معدومة في العقد على المعدم منهي عنه، ولكن الشارع أجازها استحسانًا مبنيًّا على العرف لحاجة الناس إليها وقد تعارفوا العمل بها وقد أجيزت بالكتاب بقوله تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (1) . وبالسنة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من استأجر أجيرًا فليعلمه أجره)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه)) ، رواهما البخاري، وانعقد الإجماع على جوازها، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يؤاجرون ويستأجرون وعرفهم قائم على ذلك فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اشترطوا فيها شروطًا وهي أن تكون المنفعة معلومة وكذلك الأجرة علمًا مزيلًا للجهالة الفاحشة قطعًا للمنازعة وأن تكون المنعة مما جرى العرف بمثلها فإذا كانت دابة مثلا لم يجز له أن يضر بها كأن يسير بها سيرًا حثيثًا عنيفًا، وإذا كانت دارًا لم يجز أن يباشر فيها أعمالًا توهن بناءها والمرجع في ذلك كله للعرف في الاستعمال لقاعدة المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. ومنها المزراعة وهي عقد على الزرع ببعض الخارج بين المالك والمزارع وكذلك المساقاة وهما عقدان لم يجزها أبو حنيفة وأجاز الشافعية المساقاة والمزارعة تبعًا للمساقاة وأجازهما مالك بشروط منها: المساواة بين المالك والعامل في الربح وأجازهما الحنابلة والصاحبان لأبي حنيفة وعلى هذا ينفسخ العقد بموت صاحب الأرض أو العامل المزارع أو المساقي سواء قبل العمل والزراعة أو بعدها وسواء أكان الزرع أو الثمر قد آن حصاده وجنيه أم لا، ولكن إذا مات صاحب الأرض قبل نضج الزرع تترك الأرض بيد المزارع إلى الحصاد مراعاة لمصلحة الطرفين وإذا مات العامل فلورثته المضي في العمل إلى الحصاد، وقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على نصف ما يخرج من تمر وزرع وأدنى درجات فعله عليه الصلاة والسلام الجواز وهي شريعة متوارثة لتعامل السلف والخلف على ذلك من غير إنكار أما أبو حنيفة فيرى فسادها ويستدل بما رواه رافع بن خديج، قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا نهانا إذا كان لأحدنا أرض أن نعطيها ببعض الخارج ثلثه أو نصفه، وقال عليه السلام: ((من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها أخاه)) والفتوى على قول صاحبيه لحاجة الناس ولكن السلف تعاملوا بهما فصارت شريعة متوارثة وقضية متعارفة وفي الهداية بعد أن رد على من يجيز المزارعة، قال: والفتوى على قولهما لحاجة الناس إليها ولظهور تعامل الأئمة بها والقياس يترك بالتعامل بها في الاستصناع (2) .   (1) سورة الطلاق: الآية 6. (2) الهداية للمرغياني: 8/ 40، اللباب شرح الكتاب، للقدوري: ص 206 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2588 وقد بني الحكم الشرعي فيها على فعله صلى الله عليه وسلم فيخير واعتمد على تعامل الناس فيها وتعارفهم على ذلك فكانت إجازتهما بمقتضى النص الملاحظ فيه العف، ونجد في كثير من الأحكام المتعلقة بهما بأركانهما وشرائط صحتهما أو أنواع الفاسد منهما مبنية على العرف والتعامل، فمن ذلك ما نص عليه من أن كل ما كان من عمل المساقاة مما يحتاج إليه الشجر من السقي وإصلاح النهر والحفظ والتلقيح للنخل فعلى العامل لأنها من توابع المعقود عليه فيتناولها العقد، وكل ما كان من النفقة على الشجر والكرم والأرض من السماد وتقليب الأرض ونصب العرائش ونحو ذلك، فعلى صاحبها لأن العقد لم يتناوله ومبني ما يتناوله العقد لما ذكر وأنه من توابع العقد، كل ذلك مرجعه إلى ما جرى به العرف. ومما كان مرجعه إلى العرف خيار الرؤية وخيار العيب فإن كثيرًا من الخيارات المقررة في الإسلام تعتمد على ما تعارفه الناس لا سيما التجار منهم كخيار الرؤية وخيار الشرط، وخيار العيب وخيار النقد، وخيار التعيين وخيار الكمية، وخيار كشف الحال، وحقيقة خيار الرؤية يثبت لمن اشترى شيئا ولم يره أن يفسخ العقد إذا رآه أو أن يمضيه وخيار الشرط أن يشرط الخيار لأحد المتعاقدين أو كليهما بفسخ العقد أو إمضائه إلى مدة معلومة وخيار العيب، وهو الخيار للمشتري أن يفسخ العقد أو يمضيه إذا ظهر في المبيع عيب قديم وخيار النقد هو ما إذا اتفقا على أن يؤدي المشتري الثمن في وقت كذا وإن لم يؤده فلا عقد بينهما صحَّ البيع وجاز فسخ العقد إذا لم يؤد الثمن، وخيار التعيين وهو حق المشتري في أن يأخذ أيًّا شاء من القيميات التي بين البائع أثمانها كلا على حدة وللبائع أن يبيعه ما يشاء أيضا وخيار الكمية كما لو اشترى شيئا بما في جيبه. أو محفظته من النقود دون بيان مقدارها، فإن للبائع الخيار عندما يعرف مقدارها وخيار كشف الحال ما في البيع بمكيال أو بوزن حجر لا يعرف مقداره بالوحدات الميزانية المعروفة، فإن للمشتري الخيار متى علم مقدار سعة المكيال أو وزن الحجر ويظهر هذا واضحًا في مشروعية خيار الشرط فقد ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط)) وإنما جاز استحسانًا ودليل جوازه أن حبان بن منفذ بن عمرو الأنصاري كان يغبن في البيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا بعت فقل لا خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام)) ، والجواز إنما لاستحسان الضرورة ومبناه على العرف والحاجة، وقد اختلف في مدة خيار الشرط فأبو حنيفة تمسك بما ورد في النص لأن شرط الخيار يخالف مقتضى العقد الذي هو البت واللزوم، وإنما جاز مخالفته للقياس لما جاء في هذا الحديث فيقتصر على المدة المذكورة فيه وتنتفي الزيادة عليها، وقال الصاحبان بجواز الزيادة إذا سمى أحد المتعاقدين مدة معلومة، ولو لشهرين وأكثر لأن الخيار إنما شرع للتروي ليندفع الغبن، وقد تمس الحاجة إلى أكثر من ثلاثة أيام كالتأجيل في الثمن فإنه أيضًا جائز على خلاف القياس قصرت المدة أو طالت وبقبولها، قال أحمد بن حنبل واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون عند شروطهم)) ، وقال مالك: إذا كان المبيع لا يبقى أكثر من يوم كبعض الأطعمة لا يزيد الخيار عن يوم وإن كان المبيع ثمينًا بحيث يعرف المشتري إن كانت المصلحة في أخذه أو تركه إلا في أكثر من ثلاثة أيام جاز أن يشترط أكثر لأنه شرع للحاجة وليس من يشتري دارًا، كمن يشتري الخضروات، وقال الشافعي بما قال به أبو حنيفة وأرجح الآراء عندي هو مذهب مالك لأنه هو الذي يتماشى مع ما تعارفه الناس، وتحمل النصوص المحددة بثلاثة أيام في قضية حبان على أن حاجته كانت ثلاثة أيام وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنه أنه أجاز خيار الشرط إلى شهرين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2589 وكذلك خيال العيب تحديدًا يعد عيبًا، وما لا يعد عيبًا يعتمد على ما تعارفه الناس وأهل الاختصاص من التجار، وذلك أن مقتضى البيع يقتضي السلامة من العيوب وهو وصف مطلوب مقصود من المشتري ومرغوب عادة ومعلوم أن المطلوب عادة كالمشروط نصًّا وفي تفسير العيب الذي يوجب الخيار مما لا يوجبه اعتمد في ذلك على العرف بحيث إذا كان عرفًا يوجب نقصان الثمن في عادة التجار نقصًا فاحشًا يؤثر في الثمن فهو عيب وإن كان يسيرًا بحيث لا يؤثر في الثمن لا يعتبر عيبًا موجبًا، ولقد تقصى الفقهاء الأمثلة الكثيرة على ذلك معتمدين على العرف بين الناس وقد بسط القول فيها السرخسي في مبسوطه والكاساني في البدائع وكذلك كتب بقية المذاهب والقاعدة في ذلك كما قال صاحب الهداية: كل ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار فهو عيب لأن الضرر بنقصان المالية وذلك بانتقاص القيمة والمرجع في معرفته عرف أهله (1) ، ولقد أكد الإمام أحمد بن حنبل على اعتبار العرف في بيان العيب حتى ذهب إلى أن ما يعده العرف عيبًا يعد عنده عيبًا يستوجب الخيار وإن لم تنقص به قيمة المبيع (2) ، ويستوي في ذلك العرف العام والخاص في تطبيق أحكام الخيارات في الشرط أو العيب أو غيرهما وفي خيار الرؤية يكتفي برؤية ما يفيد العلم بالمقصود عرفًا لتعذر رؤية الكل فإذا تشابهت الدور النموذجية أو عرف الدار يكتفي برؤية أحدها عرفًا أما إذا اختلفت فله أن يقف على كل بيت بخصوصه وكذلك يكتفي برؤية نموذج من معرفة أوصاف المبيع المستورد وكذلك في رؤية بعض ما لا تتفاوت أحاده كالكيلي والوزني والعدد المتقارب، ومن هذا أيضًا البيع على البرنامج والحاصل أن ما يفيد العلم بالمقصود مفوض إلى العرف. ومما يرجع للعرف الوصية بالمنافع وهي تمليك المنفعة تمليكًا مضافًا إلى ما بعد الموت بطريق التبرع ويثبت للموصى له حق الانتفاع بالعين الموصى بمنفعتها بعد وفاة الموصي كأن يوصي بغلة بستان أو بحق سكنى، فهذه هي الوصية بالمنافع وأحكامها إنما تقام على العرف، فالعرف هو الذي يحدد الثمرة بالإطلاق على الموجود، وكذلك الغلة يحددها العرف بالإطلاق على ما يتجدد كل سنة ففي الثمرة لا تجدد وفي الوصية بالغلة يتجدد سنويًّا وفي الوصية بسكن الدار يحدد العرف جواز سكناها بنفسه أو معه عائلته وجواز إسكانها غيره بغير عوض لأن الإنسان له أن يملك مثل ما ملك لا أكثر، أما بعوض فلم يجز الشرع ذلك اعتمادًا على العرف وهو الفرق بين ملك المنفعة وملك الانتفاع، والعرف هو الذي يعين ما يجب على المنتفع من العناية بحفظ العين المنتفع بها وصيانتها من التلف والإنفاق عليها ودفع الرسوم عنها والضرائب وإن كانت شجرًا، فالعرف هو الذي يعين بما تتحقق العناية بها من سقاية وتقليم وكرب أرض، وهكذا بحسب ما جرى به العرف بين الناس وكان عليه التعامل.   (1) الهداية:3 /27 (2) المغني، لابن قدامة: 4 /143. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2590 ومما يرجع إلى العرف في العقوبات التعزير وهو التأديب على الذنوب التي لم تشرع فيها الحدود لقد تركت الشريعة الإسلامية أكثر الجرائم فلم تقدر لها عقوبات محددة بل تركت أمرها إلى أولي الأمر نظرًا لاختلاف الجرائم شدة وخفة بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والبيئات، وقد جاء في تعزير النساء ونشوزهن عن أزواجهن قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (1) . فقد أمر الله بهجر الزوجة الناشز وضربها إذا لم ينفع معها الهجر ضربًا غير مؤذ وهذا الضرب والهجر مرجعه إلى العرف، وقد تكون التعازير نتيجة لاجتهادات الفقهاء والقضاة عند التضييق العملي، فقد ورد أن عليًّا جلا ونفى من البصرة إلى الكوفة أو منها إلى البصرة، وأن عمر نفى إلى البصرة وأن أبا حنيفة يرى قتل اللوطي، ويرى بعضهم حرقه بالنار ويرى بعضهم أن يلقى من أعلى مكان في المدينة (2) ، وهذه الاجتهادات وتطبيقات القضاة تعتمد على ما تعارفه الناس وعلى أحوالهم وعاداتهم وبيئاتهم ومعلوم أن موجبات التعزيز أمران: (1) المعاصي بترك الواجبات كالامتناع من الصلاة أو الفطر في رمضان أو الامتناع من أداء الزكاة أو بممارسة الفعل المحرم كالزور والغش وإتيان المرأة في حيضها أو التعامل بالربا أو اللعب بالقمار أو إزعاج الناس وإقلاق راحتهم بإلقاء القاذورات في طريقهم وإحداث أصوات مزعجة وقت راحتهم ودرء المفسدة وجلب المصلحة كتأديب الصبيان للتعدي على حقوق الناس وإجلاء أهل القاتل عن موطن إقامتهم عند حدوث جريمة قتل كل هذه الواجبات توضح جليًّا وتبين أن التعزيز موكول إلى العرف وأحوال الناس واختلافهم بحسب الزمان والمكان والبيئات.   (1) سورة النساء: الآية 34. (2) سبل السلام، للصنعاني:4 /54. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2591 ولقد انبتت عقوبات قررها الولاة والقضاة لذنوب مستحدثة وقد قال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. وهذه كلها معتمدها العرف ومراعاة أحوال الجاني والمجني عليه ونوع الذنب المرتكب ومن هذا القبيل العزل من الوظيفة ومصادرة الأموال وهدم المواخير وإزالة آثار الجريمة وقتل الجاسوس وأخذ شطر مال مانع الزكاة عند بعضهم وسحب ترخيص جواز السياقة من سائقها لمخالفته لقوانين الطرقات وحجز رخصة الدكان من المحتكر وفرض الإقامة الجبرية والاعتقال في البيوت وأمثال هذه العقوبات ونحوها كلها اقتضتها تغير أحوال الناس واختلاف أعرافهم، ولهذا يجب أن تراعى في فرض العقوبات التعزيزية، وكلها مرجعها إلى ما يقتضيه العرف والعادة، وقد قال القرافي في فروقه: فرب تعزير في عصر يكون إكرامًا في عصر آخر ورب تعزير في بلد يكون إكرامًا في بلد آخر كقطع الطيلسان بمصر تعزير وفي الشام إكرام وكشف الرأس عند الأندلسي ليس هوانًا وبالعراق ومصر هوان (1) . ومما يرجع فيه إلى العرف الدية وهي ما يعطى عوضًا عن النفس قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (2) . وفي الحديث: ((وإن في النفس مائة من الإبل)) ، وانعقد الإجماع على وجوبها لصون النفس وخفض دمها من الهدر وهي تكون من الإبل مائة ومن الذهب ألف دينار ومن الفضة اثنا عشر ألف درهم أو عشرة آلاف درهم عند أبي حنيفة، وقد اختلف الفقهاء في جنس الدية هل يجب أن تكون من الإبل وحدها ولا تصح من غيرها أو كما تكون من الإبل تكون من الذهب والفضة بدلًا عن الإبل وتقدر الدية بحسب ثمن الإبل في زمن دفع الدية أو أن الذهب والفضة كالإبل أصول في جنس الدية وجميعها بدل القصاص وتظهر ثمرة الخلاف عند تسليم الدية فعلى القول الأول يصح تسليم أي شيء من الأجناس الثلاثة وليس لولي الدم أن يمتنع من ذلك، ويرى الشافعي أن له ذلك إذا أصر على تسليم الدية من الإبل، ومالك رحمه الله يرى أن الدية تؤدي من الإبل والذهب والفضة ويرى أن كل قوم يؤدون من غالب ما عندهم كما ورد في الموطأ ولا يقبل ممن عندهم الذهب إلا الذهب، وكل ذلك منشؤه عرف الناس وعاداتهم وأحوالهم في استعمال المال وعلى ما لأبي الوليد الباجي في المنتقى قال: وعندي أنه يجب أن ينظر إلى غالب استعمال الناس في البلاد فأي بلد غلب على أموال أهلها الذهب فهم أهل ذهب وأي بلد غلب على أموالهم الورق فهم أهل ورق وربما انتقلت الأموال فيجب أن تنتقل الأحكام، وقد أشار مالك إلى ذلك في قوله فمكة والمدينة اليوم أهل ذهب (3) .   (1) الفروق للقرافي، الفرق 246، بين قاعدة الحدود وقاعدة التعزير وذكر عن ذلك وجوهًا عشرة. (2) سورة النساء: الآية 92. (3) المنتقى، لأبي الوليد الباجي: 7 /68-69. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2592 وعلى ما نقلناه ندرك أن الدية إنما تكون مما تعارفه الناس وجرت به عاداتهم فالقرى تدفع الدية فيها بالإبل وفي غيرها بالذهب والفضة، ولا شك أن اليوم إنما تدفع بالعملة المستعملة في كل بلد وهو ما يقتضيه العرف والعادة والله أعلم. ومما انبنى على العرف رد الشهادة للتهمة التي اقتضتها العادة ومن هذا الباب رد شهادة أحد الزوجين للآخر ورد شهادة الأجير لمستأجره، وقد اختلف الفقهاء في شهادة أحد الزوجين فقال أبو حنيفة وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، ومالك، والأوزاعي، والليث: لا تجوز شهادة واحد منهما للآخر، وقال الثوري: تجوز، وبه قال الشافعي ونظير شهادة أحد الزوجين شهادة الوالد للود والود للوالد، وذلك من وجوه أحدها تبسط كل واحد من الزوجين في مال صاحبه في العادة فما يثبته الزوج لزوجته بمثابة ما يثبته لنفسه كما لا فرق في مال الابن وكذلك شهادة الأجير غير جائزة استحسانًا وإن كان عدلًا. هذا في الأجير الخاص، أما المشترك فتجوز، وقال مالك: لا تجوز شهادة الأجير لمن استأجره إلا أن يكون مبرزًا في العدالة وإن كان الأجير في عياله لم تجز شهادته له، وقال الثوري: شهادة الأجير جائزة إذا كان لا يجر إلى نفسه. وكذلك شهادة الخائن والخائنة وشهادة ذي العمر على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها على غيرهم والقانع هو التابع، وقد قرروا في ذلك قاعدة، فقالوا: كل شهادة ردت للتهمة لم تقبل أبدًا مثل شهادة الفاسق إذا ردت لفسقه، ولا شك أن التهمة تظهرها وتبرزها العادة والعرف، ولذلك قال تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [سورة البقرة: الآية 282] . ومنها أيضًا الشهادة العرفية وهي شهادة عدد كثير من الناس لا تتوفر فيهم شروط العدالة المقررة بحيث يحصل العلم بها على وجه التواتر وتسمى شهادة اللفيف وهي على نوعين شهادة جماعة غير عدول على سبيل التواتر المفيد للعلم، وهذا خارج عن الشهادة العرفية، وقد وجد لدى الفقهاء المتقدمين، الثانية ما لا يحصل بخبرهم علم وهو الذي جرى به عمل المتأخرين وضلوا عليه لتعذر وجود العدول في كل وقت وفي كل نازلة فتضيع كثير من الحقوق واكتفوا برتبة هي دون الأولى للضرورة الداعية إلى ذلك حتى لا تهمل الحقوق، وجاء في العمليات العامة والعمل اليوم لأهل فاس على شهادة لفيف الناس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2593 كذلك تابعوا على استفصال البينات القاضي الفشتالي، قال القاضي المكناسي في الشهادات من كتاب المجالس: إن العمل الآن جرى بالحكم بشهادة غير العدول وقال في أول الكتاب ما نصه: والعمل الآن بإعادة الشهود شهادتهم عند القاضي بمحضر عدلين يسمعان منهم سواء كان المشهود عليه حين الأداء حاضرًا أو غائبا وهو المعبر عنه بالاستفصال، وقد أحدث العمل به القاضي الفشتالي المتوفى في عشرة الثمانين بعد التسعمائة، وأما قبل ذلك فلم يجر به العمل، وما جرى به العمل في استفسار الشهود مراعاة لمصلحة تحقق الشهادة لما فشا من قبح حال وحيلة. فإن مر نصف عام من الأداء ترك هذا الاستفهام لأن مضي هذه المدة مظنة نسيان الشهادة (1) ومستند العمل في هذه المسألة على الضرورة، ومنها شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح والقتل وكشاهدة النساء في المآتم والأعراس إذا لم يوجد غيرهم، وقد قال ابن أبي زيد أما إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول أقمنا أصلحهم وأقلهم فجورًا للشهادة عليهم ويلزم حلفه في القضاء لئلا تضيع المصالح، قال القرافي: ولا أظن أحدًا يخالف في هذا ولو أهدرت هذه الشهادة في الموضع الذي لا عدول فيه لما جاز للناس بيع ولا شراء ولا تم لهم عقد نكاح ولا غيرها من الأشياء التي تتوقف على الشهادة، وقد ذكر الشاطبي أن العدالة المعتبرة في كل زمان بأهله وإن اختلفوا في وجه الاتصاف بها، فإنما نقطع بأن عدالة الصحابة لا تساويها عدالة التابعين، وعدالة التابعين لا تساويها عدالة من يليهم وعدول كل زمان بحسبه، ولو لم نعتبر ذلك لم تكن إقامة ولاية تشترط فيها العدالة ولو فرض زمان انعدم منه العدول جملة ولم يكن بد من إقامة الأشبه فهو العدل في ذلك الزمان إذ ليس يجاز على قواعد الشرع تعطيل المراتب الدينية جملة لإفضاء ذلك إلى مفاسد عامة يتسع خرقها على الراقع ولا يلم شعثها، وهذا الأصل مستمد من قاعدة المصالح المرسلة (2) وشهادة اللفيف كان لا يعمل بها إلا في الأموال وكان المشهود له يحلف مع اللفيف، وبمرور الزمان لم يعد المشهود له مطالبا بأداء هذا اليمين، ثم استقر رأي الفقهاء فيما بعد إلى إسناد الأمر للقاضي يقبل هذه الشهادة بحسب ما يراه من الأحوال والظروف ولم يعد مقتصرًا على الأموال فحسب، بل أعملت شهادة اللفيف في النكاح والطلاق والرضاع والتسفيه والترشيد وغير ذلك، قال السجلماسي: وقد كان العمل باللفيف يختلف باختلاف الأماكن، ومما كان مرجعه للعرف الحكم لولي القتيل دون شاهد مع اليمين وذلك لاستغنائها بقرائن الأحوال، فإذا أثبت القتل بالبينة أو بالإقرار كان قرينة تشهد بصدق دعواه إن كان يملك مثل ما ادعاه عليهم من دراهم وغيرها من الأمتعة وهذا ما استحسنه مطرف وابن كنانة وأشهب وبه قال ابن حبيب وعليه العمل. وفي التبصرة: ويقبل قول المدعي لرجحانه بالعوائد وقرائن الأحوال أو لاتصافه بالأمانة أو غير ذلك من وجوه الترجيح والقرينة هنا كون المدعى عليهم من أهل العداء والظلم وقتلهم صاحب المال، وقد قال الفقهاء إن من عرف بالظلم والتعدي يتقلب الحكم ضده وهو مذهب يحيى بن يحيى ومستندهم في ذلك قوله تعالى {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3)   (1) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد المختصر بالعمليات الفاسية: 453 – 456 (2) تبصرة ابن فرحون: 1 /339 (3) سورة الشورى: الآية 42. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2594 ومما جرى على العرف والعادة مسألة الخلطة بالأصل أن البينة على المدعي واليمين على ما أنكر إذا ثبت بين المدعي والمدعى عليه خطلة، وقد خالف فقهاء الأندلس والمغاربة مذهب مالك والمشهور من المذهب أن المدعى عليه إذا أنكر لا يمين عليه حتى تثبت الخلطة بين وبيه المدعي صرح بذلك ابن أبي زيد القيرواني، فقال: ولا يمين حتى تثبت الخلطة أو الظنة (1) ، ولكن العمل جرى بقول ابن نافع القائل لا أدري ما الخلطة ولا أراها ولا أقول بها، وأرى الأيمان واجبة للمسلمين عامة بعضهم على بعض لحديث البينة على المدعي واليمين على من أنكر، قال ابن رشد: مذهب مالك وكافة أصحابه الحكم بالخلطة وبقول ابن نافع قال الأندلسيون واستمر عليه العمل بأفريقية، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وغيرهما. وذكر ابن عبد البر أن الأندلسيين لم يفصلوا بين الناس في توجيه اليمين، فقال: المعمول عندنا أن من عرف بمعاملة الناس مثل التجار فاليمين عليه لمن ادعى معاملته، ومن كان بخلافه مثل المرأة المستورة المحتجبة والرجل المستور المنقبض عن مداخلة المدعي وملابسته فلا يجب عليه اليمين إلا بالخلطة (2) وقد صوب التسولي رأي ابن عبد البر، فقال: إن هذا هو الصواب في هذا الزمان القليل الخير، ولقد شاهدنا غالب سفلة الناس يدعي بدعاوي على العموم بالخير والعدل مع بعده عنه وعدم مخالطة أمثاله وملابستهم وليس غرضه إلا الازدراء به وحط مرتبته حتى صار الدهلة يلقنون السفلة ذلك وربما ادعوا عليه بالتهمة بما فيه معرة كالسرقة والغصب ونحوهما لسماعهم أن يمين التهمة تتوجه مطلقًا على المشهور المعمول به فينبغي لمن راقب الله أن لا يمكنهم من تحليفه بما يدعى عليه من المعاملة في الغرض المذكور (3) .   (1) شرح الزقاقية لعمر الفاسي: 2 /299 (2) حاشية الوزاني على شرح التاودي، للامية الزقاق: ص 230 (3) حاشية التسولي على شرح التاودي للامية الزقاق: 2 24، وشرح السجلسماسي: ص 490 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2595 وقد ذكر الوالد رحمه الله في البحث الرابع من الباب الثاني في مستند الحكم التي هي يمين أو إقرار وإبراء أو إسقاط أو التزام أو شهادة، فذكر في هذا البحث أقسام الأيمان الأربعة: يمين التهمة، ويمين القضاء ويمين الإنكار، ويمين متممة للنصاب، فذكر أن يمين التهمة تكون في الدعوى التي لا تتحقق على المدعى عليه، وتتوجه على المتهم وغيره على ما جرى به العمل بتونس على ما قاله ابن ناجي ونقله عظوم في البرنامج ونظمه صاحب العمل المطلق، فقال وبتوجه يمين التهمة، جرى القضاء من أهل أفريقية، أي مطلقًا وأنها لا تنقلب بقلب أو نكول من بها طلب، ثم نقل عن شارح العمليات قوله: وانظر هل ما ذكر من عمل أفريقية كان عامًّا عندهم حتى في التهمة التي في دعواها معرة أو خاصا بغيرها، ثم التهمة التي تلحق في دعواها معرة كالاتهام بالسرقة والغصب لا تلحق من لا تليق به ممن شهد فيه بالخير وإن التهمة في غير ذلك تلحق اليمين فيها جميع الناس برهم وفاجرهم على القول بإيجاب يمين التهمة، وهو المشهور في المذهب وبه القضاء وعليه العمل، ثم نقل عن عظوم في برنامجه في مبحث الصداق وتوجهها مشروط بشرطين: الأول ما قاله ابن ناجي أن التهمة إنما تتقرر بلفظ يقتضيها كقوله: أشك فيك أو أتهمك لقوله فيها: أخاف، الثاني ما قاله الشيخ أبو عبد الله المقري الجماعة بفاس صاحب القواعد في المسألة الثانية من القاعدة السابعة من قواعد الدعاوي والشهادات أن العدواة بين المتداعيين تمنع توجه يمين أحدهما في دعوى الآخر عليه، لنه يقصد إضراره بتوجيه اليمين عليه ونصه: إذا دفع الدعوى بعداوة المشهور أنه لا يحلف لأن الدعوة مقتضاها الإضرار بالتحليف، وقيل يحلف بطاهر الخبز ونحوه في تاسعة أعلام الرفاق للشيخ الجد رحمه الله، ثم ذكر الشيخ الوالد أن المتهم لا يحلف بما ضاع أو سرق حتى يحلف المدعي يمين الضياع أو السرقة، لقد ضاع الشيء الفلاني المدعى ضياعه وحينئذٍ يحلف المدعى عليه، هذا إذا أنكر المتهم أن يكون قد ضاع له شيء وإنما يريد أن يحرجه باليمين وبهذا كان يحكم أبو بكر بن زرب ويقول: إنها من دقيق المسائل، وقد نقله ابن فرحون في التبصرة في الباب الثامن والعشرين، وإذا نكل المتهم عن اليمين غرم بمجرد نكوله ولا يطلب المدعي بالحلف على ما ادعى هذا قول ابن الحكم وابن حبيب وهو الذي جرى به العمل، ونقل أبو عمر بن المكوى عن مالك: أن يمين التهمة لا ترد، فإن أبى المتهم ونكل عنها حبس أبدًا حتى يحلف، ذكره الونشريسي في أول نوازل الدعاوى من المعيار ولكون النكول عن يمين التعمة موجبا للغرم لم تتوجه يمين التهمة على الصغير ولا السفيه، أما الأول: فلرفع القلم عنه، وأما الثاني: فإنه لو أقر لم يلزمه ما أقر به لأنه محجور عليه في المال انظر حاشية مهدي على الزقاقية قبيل قولها كمن غاب والأقوال أربعة (1) والعلاقة بين ما جرى به العمل وبين العرف علاقة وثيقة بحيث لا يكاد يظهر فرق ملموس بينهما، إذ العمل ما هو إلا عرف في شكله المتطور وإن الفقهاء كثيرًا ما يذكرون العرف مصاحبًا للعمل ومرادفًا له.   (1) الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية، للشيخ محمد العزيز جعيط: ص 86- 88 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2596 العرف الدولي: لم يقتصر العرف في الاعتماد عليه وفي كونه مرجعًا يرجع إليه في الأحكام بين الأفراد والأشخاص، بل لعب دورًا كثيرًا من المجتمعات والدول، فقد كان العرف الدولي مصدرا أساسيًا من مصادر القانون الذي أثار إشكالات عديدة وقضايا كثيرة لم يكن لها أصل مدون في القانون ولا إجراءات مسطورة متبعة، وإنما كان المرجع في هذه القضايا السلوك المتبع والمنهج المطرد في مدة مديدة من الزمن أضفت على هذا السلوك اعتقادًا راسخًا جازمًا وفكرة قاطعة جعلت هذا السلوك قاعدة قانونية لعب هذا العرف في ظهور القانون الدولي دورًا كبيرا حتى أن المؤسسات الدولية المعروفة اليوم كانت في أول عهدها وبداية إنشائها مبادئ عرفية جرى عليها سلوك المعاملة بين الدول كقانون المعاهدات وقانون التجار والعلاقات الدبلوماسية، ثم لما تكاثر عدد الدول بعد المنخرطة أثر الحرب العالمية الثانية وتنوع انتماؤها الحضاري، واختلف منهجها السياسي أصبحت هذه الأعراف الدولية محل جدل وأخذ ورد ونقد خصوصًا من طرف الدول الاشتراكية ودول العالم الثالث، فظهرت المعاهدات وأمضيت الاتفاقات وتقلص دور الأعراف بهذه المعاهدات الممضاة والمحاورات والاتفاقات المدونات، لكن رغم كل هذا فما زال العرف يشكل أصلًا أساسيًّا من أصول القانون الدولي المعاصر، ولقد نصت المادة الثانية والثلاثين من اللائحة الأساسية لمحكمة العدل الدولي على العرف كأساس من الأسس الأصلية والاعتماد عليه يشهد لذلك عدم التفاضل بين العرف والمعاهدة من حيث اندراج القواعد القانونية إذ هما يشكلان مصدرين متساويين لا تفاضل بينهما بحيث يمكن لكل منهما أن ينسخ صاحبه، فيمكن للعرف أن ينسخ أصلًا مدونا ومعاهدة ممضاة بين دولتين، كما يمكن للمعاهدة أن تنسخ عرفا جرى بين الأمم. وللعرف الدولي نزعتان مختلفتان جعل سلطة العرف إلزامية حسب إرادة الدول فهو إذن ملزم لأن الدول قررت ذلك بموجب اتفاق ضمني بينهما حول إلزاميته، لكن متى شاءت إحدى الدول أن تتحرر من هذا الالتزام كان لها ذلك حسبما تقتضيه نظرية الإرادة. النزعة الثانية نزعة موضوعية ترجع إلزامية العرف إلى ذات القاعدة، فالعرف إذن قاعدة موضوعية لا تتوقف على إرادة الدول إذ هو ناشئ عن ضرورة الحياة المدنية منبعث من الحياة الاجتماعية وهي ضرورة منطقية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2597 وتتكون هذه القاعدة العرفية من عنصرين عنصر مادي وآخر معنوي فالعنصر المادي هو سلوك طريق واتباع منهج على نمط معين وتكرر ذلك بطريقة يجعل أهل الاختصاص في القانون الدولي يعتدون بهذا السلوك ويعتمدون على هذه الطريقة المتبعة المتكررة الملتزمة المتواصلة فيجعلونها قاعدة ملزمة، ولا ينحصر ذلك السلوك في عدد معين من التكرار أو في مدة مديدة من الزمن، فقد استقر فقه القضاء الدولي وخصوصا قضاء محكمة العدل الدولي على عدم اشتراط مرور مدة معينة أثر بروز هذا السلوك أو تلك الطريقة ليصبح عرفًا ملزمًا، بل إن المحكمة أقرت أن مرور مدة ولو قصيرة على مرور سلوك ما لا يشكل حاجزًا في اعتباره عرفا ملزما، نعم شرط اعتباره أن تتبعه الدول في هذه المدة ولا يحيد عنه خصوصًا الدول المعنية أكثر من غيرها، فلو اتبعت الدول السياحية في ميدان قانون البحار منهجا من المناهج ولازمته، ولم تتخلف عنه وتابعته بصفة منتظمة وطريقة متبعة متواترة أصبح عرفًا ملزمًا إذ نتج عن هذه المتابعة المنظمة قاعدة عرفية تعتمد عليها المحكمة وتبني على مقتضاها أحكامها، ولو لم يبلغ ذلك العمل المنظم إلى إجماع الدول عليه، هذا هو العنصر المادي أما العنصر المعنوي فهو الذي يرتقي بهذا المنهج والطريق المنتظم المتكرر إلى درجة العرف الملزم، وهذا الشعور الراسخ والاعتقاد الجازم، بأن هذا المسلك السائر والمنهج المتبع صار قاعدة شرعية ملزمة ينبني على مخالفة دولة من الدول له جزاء قانوني وبهذا الشعور يظهر الفرق بين ما كان عادة دولية وما كان عرفا دوليًّا فالعادة تشكل مجرد سلوك اجتماعي والعرف الدولي يشكل قاعدة شرعية إلزامية بين الدول، فمراسم استقبال رؤساء الدول أثناء الزيارات الرسمية كعزف النشيد الوطني للدولتين وتحية الشخصيات من طرف الجيش الوطني واستقباله للشخصيات الرسمية له وحضورهم بالمطار لاستقباله والسلام عليه، هذا مما جرت به العادة بين الدول، ولكن لا يترتب على مخالفته عقاب ولا عتاب ولو تقدمت إحدى الدول بقضية في ذلك لما قبل دعواها في حين أن مبدأ حرية الملاحة في المنطقة الدولية الذي صار عرفًا دوليًّا ينشأ عن مخالفته وعدم احترامه جزاء على ذلك ومطالبة بجبر الضرر والقانون الدولي وإن أخذ طريق التطور وقننت قواعده وأصوله، فما زال العرف يحتل الدور الرئيسي ويشكل المصدر القانوني الدولي الحديث، وقد شهد هذا العرف في بعض المجالات تطورًا مشهودًا، مثل قانون الفضاء وغيره. *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2598 خاتمة إن من ألقى نظرة خاطفة على التشريع الإسلامي يلمس صلاحيته لكل زمان ومكان بما فيه من مرونة تكسبه تطورًا ونماء مدى الزمان من بداية عصر الرسالة والعصور اللاحقة له من عصر الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، وإننا لنلاحظ البون الشاسع بين ما كان عليه التشريع في العصر الأول والحالات اتي استقر عليها بعد ذلك وما ذلك إلا لاختلاف الحياة التي كان يحياها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابه معه والحياة التي عاشها المسلمون من بعد، وقد امتدت رقعة الإسلام وشملها حكمه وامتد إليها سلطانه، فقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم في شبه الجزيرة العربية، وكان المسلمون في ذلك الزمان قلة ولم تختلف عاداتهم وأعرفهم وتقاليدهم إلا ما كان من اختلاف يسير بين مكة والمدينة وقد لاحظه التشريع فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل بيئة ما يناسبها من الأحكام، فلم يكن أهل مكة يتعاملون بعقد السلم في حين أن أهل المدينة كما رواه الشيخان يتعاملون به، فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه المعاملة مراعيًّا في ذلك عرفهم وعاداتهم وينتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وتفتح بلاد الروم وفارس ومصر وأفريقية وتظهر عادات وتقاليد جديدة وقوانين متنوعة قد كان لها أثر وأي أثر في اختلاف الرأي واختلاف التفكير والنظر، وقد طرأت حوادث ونوازل لم تكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تحتاج إلى تشريعات وأحكام وكان الحكام والمفتون مدعوين إلى استنباط أحكامها وإبراز تشريعاتها بما يوافق عادات الناس وأعرافهم التي تختلف باختلاف الأقليم والجهات بما يوافق مقاصد الشريعة ولا ينقاض أصولها وقواعدها، ذلك أن الشريعة الإسلامية كاملة عامة لكل أمور الدين والدنيا من عبادة ومعاملة وقد أصلت كل الأصول وقررت كل المقاصد وأوضحت كل المبادئ وتركت التفاصيل والجزئيات للقائمين على تنفيذ هذه الشريعة ويستلهمون من روحها ويستنبطون من قواعدها وأصولها ما ليس في نصوصها، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى ولهذه الحقيقة حين قال صلى الله عليه وسلم للصحابة: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم)) وفي قوله هذا إذن في الاجتهاد فيما يتصل بشئون الحياة والمعاملات التي تتجدد وتتكاثر وتتغير بحسب الزمان والمكان والتقدم والحضارة، لذا نرى الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم لم يقفوا من القضايا التي نزلت والأحداث التي حلت موقف العاجز المضطرب، بل اجتهدوا رأيهم وأعملوا فكرهم وأعطوا حكم كل قضية نزلت وحكم كل مسألة حلت من الحوادث والنوازل التي طرأت انطلاقًا من النصوص والقواعد والمقاصد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2599 وهذا هو المنهج الذي اتخذه فقهاء الإسلام من بعد، فهم ينظرون إلى النصوص بعقل مفتح ويتبعون عمل الصحابة أولا، وما أصله المجتهدون ثانيًا، وبذلك برهنوا على أن هذه الشريعة المحمدية بما تحتوي عليه من مبادئ وأصول وقواعد وحكم قابلة للتطبيق في كل عصر وفي كل مصر مستوعبة لكل ما يجدها ضامة لكل ما يحدث بما اشتملت عليه من مراعاة المصالح ودرء المفاسد فكانت بذلك صالحة لعلاج كل مشاكل الزمان وما يحل من الحوادث في كل آن بحيث لا يحتاج العالم الإسلامي إلى تحكيم القوانين الأجنبية وما سطرته وقررته القوانين الغربية، ولا شك أن من بين القواعد العامة التي انبت عليها الأحكام في القديم والحديث العرف الذي يتفق مع ملابسات الناس ومقتضيات الزمان ويمد الفقهاء والعلماء بالأحكام المناسبة لعصرهم والملائمة لمقاصد الناس وتصرفاتهم حسب ما تقتضيه الشريعة، وإن ما ذكرنا عن العرف هو دراسة توضح مدلوله وتبين قواعده وأصوله شاملة أن شاء الله لأنواعه وشروطه ومدى طموحيته في استنباط الأحكام والاعتداد به وحجيته والعلاقة بينه وبين غيره من المصادر ومنزلته بينها بالنظر إلى الاستنباط والتطبيق ومعارضته للنصوص وموافقته لها وفي سبيل هذه الحقيقة بينا حقيقة العرف لغة واصطلاحًا بطريقة توضح العلاقة بينه وبين العادة وبين ما جرى به العمل، وقد أشرنا إلى الأدلة الشرعية التي تثبت حجيته من الكتاب والسنة وفعل الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين وأخذ كل الأئمة به والاعتماد عليه وحتى إذا ما كان هناك خلاف بين الأئمة، فليس في أصل اعتباره وإنما هو في مدى اعتباره توسعًا وتضييقًا، وقد بينا سلطان العرف في العهود القديمة وارتكاز القوانين عليه من عهد الرومان، ثم أوضحنا بناء القوانين الفرنسية عليه وما طرأ في ذلك من تغير، وأوضحنا نظر الشرع إليه من لدن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين في كل عصر ومصر وهو مازال معتبرا إلى الآن إذ هو منار للباحثين واستخراج الأحكام واستنباطها من أصولها وقواعدها، وقد قسمناه إلى عام وخاص باعتبار شموله ونصوصه وإلى ما كان يرجع إلى العرف القولي والعرف الفعلي العملي وإلى ما يوافق النصوص وإلى ما يعارضها وإلى ما يخالفها، وإلى ما يصلح أن يكون مخصصا للعام، ومقيدا للمطلق وإلى ما يجب إلغاؤه وما يجب اعتباره باعتبار ما يكون مناقضًا لما جاءت به الشريعة الإسلامية من أصول ومبادئ وما لا يكون مناقضا لذلك وكون الأول فاسدا يجب إلغاؤه، وكون الثاني صحيحا يجب اعتماده واعتباره، ثم فرقنا بين العرف وبين العادة وأوضحنا ذلك بما يكون للعرف من قوة الإلزام والنفوذ والاعتبار وأنه لا يكون بهذه المثابة إلا إذا توفرت فيه شروط بها يكون اعتباره وهي اطراده وغلبته وعدم مخالفته للنصوص والمقاصد وأثبتنا مظاهر عمومه في الحياة من حيث الدين والأخلاق والتجارة والمعاملات وأن الإسلام أقر ما هو صالح وعدل ما هو قابل للتعديل وأبطل ما كان فاسدًا، ثم أوضحنا أن العرف كالعلة في بناء الأحكام عليه وأن الحكم يدور معه وجودا وعدما حيث إن العادات تتغير وتتبدل وإن الأحكام تتغير بتغيرها وأوضحنا أن مرجع العرف إلى المصلحة وحيث كان راجعًا إليها كان في مرتبتها وليس بعد كتاب الله وسنة رسوله إلا المصلحة ودرء المفسدة ولما تعرضنا لعلاقة العرف بالعمل تعرضنا بإسهاب إلى التعريف بعمل أهل المدينة ودليل حجيته ونظرة الفقهاء إليه ونبهنا إلى ما قصد إليه مالك من عمل أهل المدينة وقسمنا هذا العمل إلى درجات مختلفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2600 ونقلنا في ذلك كلام المحققين لعمل المدينة، كما نبهنا إلى أن عمل أهل المدينة قد أخذ به قبل مالك الصحابة والتابعون وتابعوهم وأوضحنا الفرق بين عمل أهل المدينة وبين ما جرى به العمل في الأمصار وأن بينهما عمومًا وخصوصًا، ثم أشرنا إلى أن العلاقة بين العرف والعمل وثيقة جدا بحيث لا يكاد يظهر أي فرق وأن العمل ما هو إلا عرف في شكل متطور وأن العرف هو السبب في قيامه لذا كثيرًا ما يذكر الفقهاء العرف مصاحبًا للعمل ومرادفًا له، وقد أشرنا للعلاقة بين المصالح المرسلة والاستحسان والأعراف وما شرعه أولي الأمر من أحكام من خلال ما جرى به العمل على الرغم من المآخذ التي أخذت على هذا اللون من التشريع وأشرنا إلى أثر تغير الأحكام بتغير الزمان والدوافع والأسباب المؤدية إلى تغير الأعراف، كما أشرنا إلى القواعد الشرعية في العرف، ثم ختمنا الموضوع بأبحاث من الفقه وأصوله بنيت على العرف وترك فيها القياس استحسانا وذلك للتعامل المتعارف بين الناس وحاجتهم إلى هذا التعامل تحقيقًا للمصلحة ودرءًا للمفسدة وأشرنا إلى أن العرف هو الذي يحدد ما يعد مالا وما لا يعد وما يكون مقوما وغير مقوم وأشرنا إلى حقوق الارتفاق وبينا أن مرجعها إلى العرف وأشرنا إلى بعض الأحكام للأحوال الشخصية وتأثير العرف فيها وإلى كثير من العقود المالية وبنائها على العرف وإن كانت مخالفة للقياس كبيع السلم والاستصناع وبيع الوفاء وغيرها وكالإجارة والمزارعة والمساقاة واعتبار العرف في الخيار والوصية والتقرير واختلاف الدية باختلاف الأعراف، وكذلك اعتباره في الشهادات والقضاء ونحو ذلك، وأوضحنا أن تحكيم العرف في كثير من القضايا أمر ضروري مفتقر إليه لا بين الأفراد والجماعات بل بين الدول والجهات، لذا ختمنا الموضوع بكلمة عن العرف الدولي وما استقر عليه قضاء محكمة العدل الدولي المنتصبة بلاهاي، ولعل في بيان ما وضحت وما مثلت أكون قد شاركت قدر الاستطاعة في تجلية نظرية العرف وتوضيح آثارها في التشريع الإسلامي ومدى تأثير الأعراف في تطور المجتمعات وأحكامها وقوانينها الإدارية وغيرها، وإنا لنأمل من الحكومات الإسلامية أن تعود إلى رشدها وسالف عهدها وأن تحكم شرع الله وتحتكم إليه وتستغني عن قوانين الغرب التي لا تراعي ما أحل الله وما حرم، فإن في التشريع الإسلامي ما فيه غنى عن كل القوانين إذ هو قانون الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون، نسأل الله التوفيق، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2601 المراجع [أ] 1- أحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي بتعليق عبد الغني عبد الخالق، طبعة دار نشر الثقافة الإسلامية، الطبعة الأولى 1945م. 2- أحكام القرآن، لأبي بكر بن العربي، تحقيق علي البجاوي، طبعة حلبي. 3- الإحكام في أصول الأحكام، للحفاظ أبي محمد علي بن حزم، طبعة القاهرة. 4- أحكام القرآن، لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص الحنفي، طبعة المطبعة البهية مصر 1343 هـ. 5- إحكام الأحكام شرح عمدة الحكام، لابن دقيق العيد، طبعة دار الشعب، الطبعة الأولى. 6- الإحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي، الطبعة الأولى مطبعة محمد علي صبيح بميدان الأزهر بمصر 1347 هـ. 7- الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين السيوطي، طبعة المكتبة الثقافية بيروت 1973 8- الإتقان في الأحكام شرح تحفة الحكام، لمحمد بن أحمد ميارة الفاسي وبهامشه حاشية ابن رحال، طبعة محمد أفندي مصر 1315هـ 9- الأحكام في تمييز الفتاوى عن الحكام، لشهاب الدين القرافي – طبعة الأنوار 1938م. 10- إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري، لأحمد بن محمد القسطلاني، طبعة دار صادر مصر عن طبعة بولاق. 11- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للعلامة محمد بن علي بن محمد الشوكاني، طبعة الطباعة المنيرية مصر. 12- الأشباه والنظائر، للسيوطي، طبعة البابي الحلبي بمصر. 13- الأشباه والنظائر، لزين العابدين بن إبراهيم بن نجيم، تحقيق وتعليق عبد العزيز محمد الوكيل مؤسسة حلب مصر 1968 م. 14- الأم، للإمام الشافعي، الطبعة أولى المطبعة الأميرية 1326 هـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2602 15- الإمام الأوزاعي ومنهجه كما يبدو في فقه، لعبد الرزاق قاسم الصفار، طبعة بغداد (رسالة ما جستير) . 16- أصول السرخسي، لأبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، طبعة دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت 1973. 17- أصول الفقه، لمحمد شلبي، الطبعة الأولى دار النهضة العربية 1974 م. 18- الإشراف، للقاضي عبد الوهاب، طبعة تونس. 19- علم أصول الفقه، للأستاذ عبد الوهاب خلاف، طبعة القاهرة. 20- أصول الفقه، للخضري طبعة مصر. 21- الأصول العامة للفقه المقارن، لمحمد تقي الدين الحكيم، طبعة أولى دار الأندلس. 22- أصول القانون حسن كيره، طبعة القاهرة. 23- إدراك الشروق على أنواء الفروق، لسراج الدين أبي القاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط بهامش الفروق، طبعة بولاق تونس 1304 هـ. 24- اختلاف أصول المذاهب، للقاضي النعمان بن محمد تحقيق مصطفى غالب دار الأندلس بيروت 1393هـ - 1973 م. [ب] 25- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لأبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي، ولما أتمه عرضه على صاحب التحفة فاستحسنه وزوجه ابنته، فقيل شرح تحفته وتزوج ابنته. 26- بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لأبي الوليد ابن رشد الحفيد، طبعة الاستقامة بمصر 1938م. 27- البهجة في شرح التحفة، لأبي علي التسولي، طبعة المكتبة التجارية الكبرى. [ت] 28- ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض اليحصبي، طبعة وزارة الأوقاف بالمغرب. 29- تاج العروس، للمرتضى الزبيدي، طبعة المطبعة الخيرية بمصر 1306هـ. 30- تفسير المنار، للشيخ محمد رشيد رضا، الطبعة الأولى، مطبعة المنار مصر. 31- تفسير التحرير والتنوير، للعلامة محمد الطاهر بن عاشور، طبعة دار النشر تونس. 32- تاج الإكليل لشرح مختصر خليل بهامش مواهب الجليل، لمحمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري الشهير بالمواق، مطبعة السعادة مصر 1328 هـ 33- التعريفات، لأبي الحسن علي بن محمد الجرجاني، طبعة الدار التونسية للنشر 1971م. 34- التشريع الجنائي الإسلامي، لعبد القادر عودة، طبعة النعمان النجف 1975م. 35- تبصرة القضاة والإخوان في وضع اليد وما يشهد له من البرهان، لحسن العدوي. 36- تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، للقاضي برهان الدين بن فرحون، طبعة الحبلي على هامش فتاوى عليش 1378 هـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2603 37- التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه، لمحمد الدسوقي. 38- التأمين في الشريعة الإسلامية والقانون، للدكتور غريب الحمال. 39- التأمين لمصطفى الزرقاء. 40- التأمين البري، للبشير زهرة، طبعة دار بو سلامة تونس. 41- تنقيح الفصول، للقرافي. 42- التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح، للعلامة محمد الطاهر بن عاشور، طبعة تونس. 43- تحفة الأكياس في شرح عمل فاس، طبعة حجرية 1335هـ. 44- التقرير والتحبير، لابن أمير حاج، شرح التحرير، لابن الهمام. 45- تنوير الحوالك شرح موطأ الإمام مالك، لجلال الدين السيوطي، طبعة حلب. 46- تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، طبعة الأميرية مصر. 47- تمييز الطيب من الخبيب فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث، لعبد الرحمن ابن الديب الشيباني، طبعة محمد صبيح 1347 هـ. 48- تاريخ قضاة الأندلس، لأبي الحسن النبهاني المالقي، طبعة المكتب التجاري بيروت. 49- تكملة فتح القدير. [ج] 50- الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد القرطبي، طبعة دار الكتب المصرية 1966 م. 51- جامع البيان في تأويل آي القرآن، لأبي جعفر بن جرير الطبري، طبعة الميهمية بمصر. 52- جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته، لابن عبد البر، طبعة المنيرية مصر. [ح] 53- حاشية الحنفي على الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير. 54- حاشية ابن الخياط على شرح الخرشي، لفرائض خليل، طبعة عاطف بمصر. 55- حاشية البناني على المحلى على جمع الجوامع، طبعة دار إحياء الكتب العربية، للحلبي. 56- حاشية المهدي الوزاني على شرح التاودي بن سودة على تحفة ابن عاصم، طبعة حجرية 1310هـ. 57- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، لشمس الدين محمد بن عرفه الدسوقي على شرح الدردير لمختصر خليل، طبعة الحلبي. 58- حاشية التسولي على شرح التاودي للامية الزقاق، طبعة حجرية. 59- حاشية الطالب ابن الحاج على شرح ميارة، للمشرد المعين، طبعة بولاق 1316 هـ. 60- حاشية ابن رحال على هامش شرح ميارة للتحفة، طبعة الشرفية مصر 1316هـ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2604 61- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لبرهان الدين بن فرحون، طبعة السعادة بمصر 1329 هـ. 62- الدر المختار في شرح تنوير الأبصار في فقه مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان للإمام الحصكفي. 63- دور الأحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر ترجمة فهمي الحسيني، منشورات مكتبة النهضة بيروت وبغداد. 64- الدكانة، لمحمد عظوم نسخة قلمية لم يطبع بعد. [ر] 65- رسالة نجم الدين الطوجي، المصلحة المرسلة. 66- رسالة رسم المفتي، لابن عابدين مجموعة رسائل ابن عابدين. 67- الروض الأنف، لابن القاسم عبد الرحمن الخشمعي السهيلي، طبعة الجمالية مصر. 68- رفع الانتقاض ودفع الاعتراض على قولهم الأيمان مبنية على الألفاظ لا على الأغراض، لابن عابدين مجموعة الرسائل. 69- رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين، طبعة المطبعة الأميرية بالقاهرة بمصر. 70- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لشهاب الدين محمود الألوسي، طبعة الطباعة الميرية بمصر. 71- رفع الالتباس عن شركة الخماس، لابن رحال مخطوط. 72- الرأي في الفقه الإسلامي، للدكتور محمد محمد مختار القاضي، طبعة مطبعة بغداد. [ز] 73- زبدة التحصيل والتنقيح في مسألة التحسين والتقبيح، للشيخ محمد جعيط مذكورة في حاشيته على التنقيح. 74- زاد المعاد في هدي خير العباد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم للإمام ابن القيم الجوزية، طبعة المطبعة المصرية. [س] 75- سنن أبي داود، طبعة المكتبة التجارية مصر. 76- سنن النسائي بشرح جلال الدين السيوطي وحاشية النووي، المطبعة المصرية بالأزهر. 77- سنن الدارمي، مطبعة الاعتدال بدمشق 1349 هـ 78- سنن ابن ماجه، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه 1374هـ - 1953 م. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2605 79- سنن المهتدين، للمواق، طبعة حجرية. 80- سبل السلام للإمام إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني شرح بلوغ المرام من جميع أدلة الأحكام، للحافظ ابن حجر العسقلاني، طبعة مصطفى البابي الحلبي، المكتبة التجارية الكبرى مصر. 81- سلم الأصول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني، طبعة مصر. 82- سلم الأصول لعلم الأصول، لعمر عبد الله، طبعة أولى دار المعارف 1956م. [ش] 83- شرح تنقيح الفصول في الأصول، للقرافي بهامش التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح، مطبعة النهضة تونس. 84- شرح التنقيح، للقرافي بهامش منهج التحقيق والتوضيح لحل غوامض التنقيح مطبعة النهضة تونس 1340 هـ - 1921م. 85- شرح العمل الفاسي، لابن عبد الله السجلسماسي، طبعة حجرية. 86- شرح الزقاقية، لعمر الفاسي، طبعة حجرية. 87- شرح ميارة على التحفة طبعة المطبعة الشرفية 1316 هـ 88- شرح الزرقاني على الموطأ المكتبة التجارية بمصر 1377 هـ - 1959م. 89- شرح المنجور لقواعد الزقاق، طبعة حجرية 1305هـ. 90- شرح الطالب في أسنى المطالب، لأحمد بن قنفذ. 91- شرح التاودي بحاشية المهدس، طبعة حجرية. 92- شرح الزرقاني على خليل. 93- الشرح الكبير، للدردير بحاشية الدسوقي. 94- شرح العضد على مختصر ابن الحاجب. 95- شرح الإسنوي على المنهاج، للبيضاوي بحاشية الشيخ بخيت. 96- شرح الزيلعي على الكنز. 97- شرح حدود ابن عرفة، للرصاع، طبعة تونس 1350 هـ. 98- شرح مجلة الإحكام، لعلي حيدر، طبعة بيروت. 99- الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، لمحمد الخضر حسين، طبعة بيروت. [ص] 100- صحيح البخاري بشرح عمدة القاري، لبدر الدين أبي محمود بن أحمد العيني، طبعة الطباعة المنيرية. 101- صحيح مسلم بشرح النووي، طبعة أولى المطبعة المصرية بالأزهر 1347 هـ - 1929 م. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2606 102 – صحيح مسلم بشرح إكمال المعلم، لمحمد بن خلفة القشتالي الآبي وشرح السنوسي الطبعة الأولى مطبعة السعادة مصر 1327 هـ. 103- صحيح الترمذي بشرح الإمام ابن العربي المالكي المطبعة المصرية بالأزهر سنة 1350 هـ - 1931 م. [ط] 104- الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية وما جرى به العمل في الأقطار التونسية على مذهب السادة المالكية، لشيخ الإسلام محمد العزيز جعيط، طبعة الإدارة تونس. 105- الطرق الحكمية والسياسة الشرعية، لابن القيم الجوزية، طبعة مصر المؤسسة العربية للطباعة والنشر القاهرة 1380 هـ - 1961 م. [ع] 106- عمدة القاري شرح صحيح البخاري، لبدر الدين العيني. 107- علم أصول الفقه، للأستاذ عبد الوهاب خلاف، طبعة مصر القاهرة. 108- العرف والعادة في رأي الفقهاء، لأحمد فهمي أبو سنة، طبعة مطبعة الأزهر القاهرة 1949 م. 109- العمليات العامة، لأبي عبد الله محمد السجلسماسي، طبعة أولى مطبعة الدولة التونسية 1290 هـ. 110- العرف والعمل في المذهب المالكي للدكتور عمر بن عبد الكريم الحيدى، طبع بمطبعة إحياء التراث الإسلامى 1404هـ - 1984 م. 111- عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين، للدكتور أحمد محمد، طبعة دار الاعتصام، طبعة أولى 1347 هـ 1977م. [ف] 112- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، لمحمد بن علي الشوكاني اليماني الصنعاني، طبعة مصطفى البابي الحلبي مصر 1349 هـ. 113- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر، طبعة حلبي 1378 هـ 1959م. 114- الفروق، للقرافي، طبعة دار إحياء الكتب العربية القاهرة. 115- فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد، لعبد الجليل السجلسماسي. 116- فلسفة التشريع في الإسلام، لصبحي محمصاني، طبعة دار العلم للملايين بيروت 1975 م طبعة رابعة. 117- الفكر السامي، للعلامة الحجوي الثعالبي، طبعة إدارة المعارف بالرياض 1340 هـ كمل بفاس 1945م. 118- فتح القدير، لكمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام مع تكملة نتائج الأفكار في كشف الرموز، والأسرار، لقاضي زاده على الهداية شرح بداية المبتدئ، للمرغياني وبهامشه شرح العناية على الهداية، طبعة المكتبة الحمادية الكبرى بمصر 1356 هـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2607 119- الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي، طبعة دار الفكر 1404 هـ - 1984 م. [ق] 120- قواعد المقري، لأبي عبد الله المقري التلمساني مخطوط. 121- القواعد، لأبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، والفقه الإسلامي، طبع مطبعة صدق الخيرة مصر طبعة أولى. 122- قواعد الحكام في مصالح الأنام، لأبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، طبعة المكتبة الحسينية مصر طبعة أولى. 123- القبس، لابن العربي مخطوط. 124- القوانين الفقهية، لابن جزي، طبعة منشورات الدار العربية للكتاب ليبيا تونس. [ك] 125- الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي، طبعة مكتبة الرياض الحديثة الرياض. 126- كتاب مالك، للشيخ محمد أبو زهرة طبعة مصر. 127- كتاب صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، طبعة دمشق. [ل] 128- لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين بن محمد بن منظور، طبعة دار الطباعة والنشر بيروت 1347 هـ 1955 م. 129- لباب التأويل في معاني التنزيل، لعلاء الدين البغدادي المعروف بالخازن، طبعة المطبعة الخيرية مصر. 130- لامية الزقاق منظومة. 131- لقط الدرر فيما به العمل من مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس، لمحمد السنوسي اشتمل على 4222 بيتًا في النوازل التونسية وضبط ما جرى به العمل في محكمتها الشرعية، طبعة المطبعة الدولية التونسية 1297 هـ. [م] 132- المبسوط، لشمس الدين السرخسي، مطبعة السعادة بمصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2608 133- الملل والنحل، لأبي الفتح محمد الشهرستاني، تحقيق محمد سيد كيلاني، طبعة الحلبي 1381 هـ 1961. 134 – مقاصد الشريعة الإسلامية، لشيخ الإسلام محمد الطاهر بن عاشور، طبعة الشركة التونسية للنشر 1366هـ - 1978 م. 135- مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، لعلال الفاسي، طبعة مكتبة الوحدة العربية الدار البيضاء. 136- مجالس العرفان ومواهب الرحمن، لمحمد العزيز جعيط الدار التونسية للنشر1972 م. 137- المدخل الفقهي العام، لمصطفى أحمد الزرقا، طبعة ألف باء دمشق 1967. 138- المدخل للعلوم القانونية، لتوفيق فرج، طبعة مصر. 139- الموافقات، للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي، طبعة تونس 1302 هـ. 140 – المعيار المغرب والجامع المعرب عن فتاوي أهل أفريقية والمغرب، طبعة 1315.هـ 141- المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد الباجي، طبعة مطبعة السعادة مصر 1331 هـ. 142 – الموطأ، للإمام مالك بن أنس، طبعة مطبعة البابي الحلبي 1339 هـ. 143 – مجموع الفتاوي، لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية جمع عبد الرحيم بن محمد بن قاسم، طبعة مكتبة المعارف الرباط. 144- مسند الإمام أحمد بن حنبل، المطبعة الميمية. 145 – المقدمات المنهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، لأبي الوليد ابن رشد، طبعة دار صادر بيروت. 146- مقدمة ابن خلدون من كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، طبعة أولى مصر. 147- المغني، لابن قدامة المقدسي على مختصر الخرقي، طبعة دار المنار 1367 هـ. 148 – المدونة الكبرى، للإمام مالك برواية سحنون عن ابن القاسم، طبعة دار صادر بيروت. 149- مفتاح الأصول في علم الأصول للشريف التلمساني، طبعة تونس. 150- المنهج الفائق والمنهل الرائق والمغني اللائق بآداب الموثق وأحكام الوثائق، طبعة حجرية 1228 هـ. 151 – المستصفى من علم الأصول، لحجة الإسلام الغزالي وبهامشه فواتح الرحموت، لعبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري شرح مسلم الثبوت، لابن عبد الشكور، الطبعة الأولى المطبعة الأميرية بمصر 1322 هـ. 152- المنخول من تعليقات الأصول، لحجة الإسلام الغزالي، تحقيق محمد حسن هيتو من غير تعيين مكان وبدون تاريخ مصر. 153- مواهب الجليل على شرح خليل، لمحمد الرعيني المعروف بالحطاب وبهامشه تاج الإكليل، للعبدري الشهير بالمواق، طبعة السعادة مصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2609 154- منهج التحقيق والتوضيح لحل غوامض التنقيح، للشيخ محمد جعيط. 155- مبادئ الثقافة الإسلامية، لفاروق النبهان، طبعة دار البحوث العلمية الكويت 1374 هـ - 1974 م. 156- مطلع الدراري بتوجيه النظر الشرعي على القانون العقاري، لمحمد السنوسي، طبعة المطبعة الرسمية تونس. 157- المحلى، لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، طبعة دار الطباعة المنيرية مصر. 158- المهذب، لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد الشيرازي، طبعة مصر. [ن] 159 – نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، لمحمد علي الشوكاني، طبعة الطباعة المنيرية مصر 1344 هـ. 160- نهاية المحتاج لشرح المنهاج، لشمس الدين محمد بن أبي العباس الرملي، مطبعة حلبي مصر 1386 هـ 1967 م. 161- نفائس الأصول في شرح المحصول، للقرافي مخطوط. 162- نظرية العرف، لعبد العزيز الخياط، طبع ونشر مكتبة الأقصى عمان 1397 هـ - 1977 م. 163- نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، لمحمد بن عابدين مجموع رسائل ابن عابدين جزئين في مجلد. 164- نشر البنود على مراقي السعود، لعبد الله الشنقيطي العلوي، طباعة المغرب. 165- نوازل الشريف العلوي، طبعة مطبعة حجرية 1315 هـ. [و] 166- الوجيز، لحجة الإسلام الغزالي، طبعة مطبعة حوش قدم بالغورية 1313هـ 167 – الوجيز في المدخل للقانون، لشمس الدين الوكيل، طبعة القاهرة. 168 – الوسيط، لعبد الرزاق السنهوري، طبعة مصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2610 نظرية العرف في الفقه الإسلامي إعداد الدكتور إبراهيم فاضل الدبو الأستاذ بكلية الشريعة – جامعة بغداد بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وبعد. الأحكام الشرعية إنما تعرف بالأدلة التي أقامها الشارع لترشد المكلفين إليها وتدلهم عليها، وتسمى هذه الأدلة بأصول الأحكام أو المصادر الشرعية للأحكام. وهذه الأدلة تقسم إلى تقسيمات باعتبارات مختلفة، أي بالنظر إلى الجهة التي ينظر منها إليها، ونذكر فيما يلي تقسيمين من هذه التقسيمات. التقسيم الأول: من جهة مدى الاتفاق والاختلاف على هذه الأدلة، وهي بهذا الاعتبار ثلاثة أنواع: النوع الأول: وهو محل اتفاق بين أئمة المسلمين، ويشمل هذا النوع القرآن والسنة. النوع الثاني: وهو محل اتفاق جمهور المسلمين، وهو الإجماع والقياس. وقد خالف في الإجماع النظام من المعتزلة وبعض الخوارج، وخالف في القياس الإمامية والظاهرية. النوع الثالث: وهو محل اختلاف بين العلماء، ويشمل هذا النوع العرف (1) والاستصحاب والاستحسان والمصالح المرسلة وشرع من قبلنا ومذهب الصحابي. فمن العلماء من اعتبر هذا النوع من مصادر التشريع، ومنهم من لم يعتبره. التقسيم الثاني: الأدلة من حيث ردوعها إلى النقل أو الرأي تنقسم إلى قسمين: نقلية وعقلية.   (1) العرف معتبر، إلا أن الاختلاف بين العلماء في اعتباره دليلًا مستقلًا أم لا، كما سيتضح لنا ذلك من خلال البحث إن شاء الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2611 الأدلة النقلية: وهي الكتاب والسنة، ويلحق بهذا النوع الإجماع ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا على رأي من يأخذ بهذه الأدلة ويعتبرها مصادر للتشريع، وإنما اعتبر هذا النوع من الأدلة نقليًّا، لأنه راجع إلى التعبد بأمر منقول عن الشارع، لا نظر ولا رأي لأحد فيه. الأدلة العقلية: وهي التي مرجعها النظر والرأي، وهذا النوع هو القياس، ويلحق به الاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب. وإنما كان هذا النوع عقليًّا، لأن مرده إلى النظر والرأي لا إلى أمر منقول عن الشارع (1) . والقسمة التي ذكرناها، إنما هي بالنسبة إلى أصول الأدلة، أما بالنسبة إلى الاستدلال بها على الحكم الشرعي، فكل نوع من النوعين مفتقر إلى الآخر، لأن الاستدلال بالمنقول عن الشارع لا بد فيه من النظر واستعمال العقل الذي هو آداة الفهم، كما أن الرأي لا يكون صحيحًا معتبرًا إلا إذا استند إلى النقل، لأن العقل المجرد لا دخل له في تشريع الأحكام (2) . الكتاب هو مرجع الأدلة كلها: قلنا قبل قليل بأن الأدلة على نوعين، نقلية وعقلية، وعند النظر نجد أن الأدلة محصورة في الكتاب والسنة، لأن الأدلة الثابتة لم تثبت بالعقل، وإنما تثبت بالكتاب والسنة، لأن مرجع الأحكام إليهما، وهما المستندان لها وذلك من جهتين: الأولى: دلالتهما على الأحكام الجزئية الفرعية، كأحكام الزكاة والبيوع والعقوبات ونحوها. والثانية: دلالتهما على القواعد والأصول التي تستند إليها الأحكام الجزئية الفرعية كدلالتهما على أن الإجماع حجة وأصل للأحكام، وكذا القياس، ونحو ذلك. ثم إن مرجع السنة إلى الكتاب وذلك من وجهين: الوجه الأول: أن العمل بالسنة والاعتماد عليها واستنباط الأحكام منها، قد دل عليه القرآن الكريم، حيث قرن الله تعالى طاعته بطاعة رسوله في أكثر من موضع من كتابه الكريم قال عز شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3) . وقد تكرر هذا الأمر منه سبحانه وتعالى في نصوص كثيرة من القرآن الكريم. وتكراره يدل على عموم طاعته سواء كان ما أتى به مما في الكتاب أو مما ليس فيه إلى نصوص أخرى تفيد هذا المعنى، مثل قوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4) . وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5) .   (1) انظر الوجيز في أصول الفقه، لأستاذنا الدكتور عبد الكريم زيدان، مطبعة الدار العربية ببغداد: ص145 (2) انظر الوجيز في أصول الفقه، لأستاذنا الدكتور عبد الكريم زيدان، مطبعة الدار العربية ببغداد: ص145 (3) سورة النساء: الآية 59. (4) سورة الحشر: الآية 7. (5) سورة النور: الآية 63. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2612 والوجه الثاني: أن السنة إنما جاءت لبيان الكتاب الكريم وشرح معانيه بدليل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (2) . والتبليغ يشمل تبليغ الكتاب وبيان معانيه، فالسنة مبينة لكتاب الله وشارحة لمعاينه ومفصلة لمجمله. وعلى هذا فالقرآن هو أصل الأصول ومصدر المصادر ومرجع الأدلة جميعًا. ترتيب الأدلة: بما أن القرآن الكريم هو مرجع الأدلة جميعًا ومصدر المصادر كما قلنا، فمن البديهي إذن أن يقدم عليها عند الرجوع إلى معرفة الحكم الشرعي، فإذا لم يوجد الحكم فيه، وجب الرجوع إلى السنة، لأنها على ما ذكرنا مبينة للكتاب وشارحة لمعانيه، فمن البديهي أن تأتي في المرتبة الثانية بعده، فإذا تعذر علينا الحصول على الحكم في السنة، لزم الرجوع إلى الإجماع، لأن مستند الإجماع نص من الكتاب أو السنة، فإن لم يكن إجماع في المسألة، وجب الرجوع إلى القياس. فترتيب الأدلة في الرجوع إليها واستنباط الأحكام منها يكون على هذا النحو: الكتاب ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء الذين ذهبوا إلى القول: بحجية الإجماع والقياس واعتبارهما مصدرين للأحكام الشرعية بالإضافة إلى الكتاب والسنة، وقد دل على هذا الترتيب آثار كثيرة، منها: 1- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ عندما أرسله إلى اليمن: ((كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟)) قال: أقضي بكتاب الله، قال ((فإن لم تجد؟)) قال: أقضي بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ((فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟)) قال: أجتهد برأي ولا آلو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره، وقال ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)) (3) .   (1) سورة النحل: الآية 44. (2) سورة المائدة: الآية 67. (3) الأحكام السلطانية، للماوردي، ص58 دار الكتب العلمية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2613 ووجه الدلالة بهذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام أقره على الاجتهاد بالرأي إذا لم يجد الحكم في الكتاب والسنة، وما القياس إلا ضرب من ضروب الاجتهاد بالرأي. 2- عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله، فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر بن الخطاب يفعل ذلك أيضًا (1) . 3- قال عمر بن الخطاب لشريح قاضيه في الكوفه: اقضِ بكتاب الله، فإن لم تجد فبقضاء رسول الله، أي سنته، فإن لم تجد فاقض بما استبان لك من الأئمة المهتدين، فإن لم تجد فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح (2) . ومثل هذا كان يقول عبد الله بن مسعود (3) . العرف: معنى العرف: العرف بضم العين، هو في اللغة ضد النكر (4) يقال أولاه عرفًا، أي معروفًا، وورد أيضًا بمعنى المكان المرتفع، يقال عرف الجبل ونحوه (5) . وقد يطلق على عرف الفرس – وهو الشعر على محدب رقبة الفرس – لارتفاعها، ويقال مثل ذلك في عرف الديك أيضًا (6) . ويأتي بمعنى الجود والتتابع، ومنه طار القطا عرفًا، أي بعضها خلف بعض، وهو بفتح العين بمعنى الريح طيبة كانت أم منتنة، ولكن أكثر استعماله في الطيبة (7) . وهو عرفًا ما اعتاده الناس وألفوه سواء كان قولًا أو فعلًا. وهذا هو عين تعريفه في اصطلاح الفقهاء. فقد حكى ابن عابدين عن بعض الأئمة تعريف العادة والعرف بأنه "ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول" (8) . وعرفه الأستاذ الزرقا بقوله: "وهو عادة جمهور قوم في قول أو فعل" (9) . وبمثل هذا عرفه الأستاذ زيدان أيضًا (10) .   (1) انظر إعلام الموقعين: 1 /51. (2) إعلام الموقعين أيضًا: 1 /171. (3) إعلام الموقعين: 1 /52؛ وانظر الصنعاني في سبل السلام:4 /119. (4) مختار الصحاح، مادة (عرف) . (5) القاموس المحيط، كذا المعجم الوسيط، مادة (عرف) . (6) مختار الصحاح، مادة (عرف) أيضًا. (7) مختار الصحاح، مادة (عرف) أيضًا. (8) رسالة نشر العرف: ص3. (9) الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد: ص 557. (10) الوجيز في أصول الفقه ص 253 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2614 العرف والعادة بمعنى واحد: إن العادة عند الفقهاء تعني العرف، فقولهم: هذا ثابت بالعرف والعادة لا يعني أن العادة عندهم غير العرف، وإنما هي نفسه، وقد ذكرت للتأكيد لا للتأسيس. قال ابن عابدين: "إن العادة مأخوذة من المعاودة، فهي بتكررها ومعاودتها مرة بعد أخرى صارت معروفة مستقرة في النفوس والعقول متلقاة بالقبول من غير علاقة ولا قرينة حتى صارت حقيقة عرفية، فالعادة والعرف بمعنى واحد" (1) . تقسيمات العرف: والعرف كما تبين لنا من تعريفه قد يكون قوليًّا أو عمليًّا وقد يكون عامًا أو خاصًا، وهو بجميع هذه الأنواع قد يكون صحيحًا أو فاسدًا. وها أنا أوجز الكلام في كل قسم من التقسيمات المذكورة: 1- العرف العملي: وهو ما اعتاده الناس من أعمال سواء كان ذلك في معاملاتهم المالية أو عاداتهم الاجتماعية مثال الأولى: بيعهم بالتعاطي ودخول الحمامات العامة بدون تعيين مدة المكث فيها ولا مقدار الماء المستهلك وعقود الاستصناع. ومثال الثانية: تعارف الناس على أكل البر ولحم الضأن، واعتبار تقديم الطعام للضيف إذنًا له بالتناول ونحو ذلك. 2- العرف القولي: وهو ما تعارف عليه الناس في بعض ألفاظهم بأن يريدوا بها معنى معينًا غير المعنى الموضوع لها (2) . وذلك مثل لفظ دابة، فإنها وضعت في الأصل لكل ما يدب على الأرض ثم خصصت عرفًا بذات الأربع. ومثل تعارف الناس على أن لفظ اللحم يراد به غير السمك ونحو ذلك. والعرف بنوعيه العملي والقولي قد يكون عامًا إذا شاع وفشا بين عامة الناس في البلاد الإسلامية. والخاص منه ما كان مخصوصًا ببلد دون آخر أو بأرباب مهنة دون غيرها ولكل قوم أن يصطلحوا على ما شاؤوا من غير ما هو محرم. فمن العرف العملي الخاص في العراق تقسيم المهر إلى معجل ومؤجل. ومن العرف القولي العام إطلاق لفظ الدابة على ذوات الأربع ولا يطلقونها على الإنسان، وتعارفهم على استعمال لفظ الطلاق على إزالة الرابطة الزوجية.   (1) رسالة نشر العرف: ص3. (2) أستاذنا زيدان في المصدر السابق: ص253. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2615 ومن العرف القولي الخاص، الألفاظ التي اصطلح عليها أهل كل علم من العلوم أو أصحاب الحرف والصناعات التي يقصدون عند إطلاقها لفظًا اصطلاحيًّا معينًا. والعرف القولي الخاص، يخصص العرف العام باتفاق الحنفية والشافعية، فإذا أطلقت الدراهم أو الدنانير في بلد، فإنه يراد بها النقد الغالب في تلك البلد. أما الفعلي الخاص، فإنه مخصص للعام منه عند الحنفية دون الشافعية، فإذا قال رجل لآخر: اشترِ لي طعامًا أو لحمًا، فإنه ينصرف إلى البر ولحم الضأن عملًا بالعرف العملي (1) . العرف الصحيح: هو ما تعارف عليه الناس ولم يخالف نصًّا من نصوص الشريعة، أو ما يدل دليل على بطلانه أو فساده. وذلك كتعارف الناس على أن ما يقدمه الخاطب إلى مخطوبته من ثياب ونحوها يعتبر هدية ولا يدخل في المهر. وكتعارف الناس في العراق على أن المهر المؤجل لا تستحقه الزوجة إلا بفرقة من طلاق أو موت. العرف الفاسد: بعد أن وضحنا العرف الصحيح، تبين لنا بوضوح العرف الفاسد، فهو كل ما خالف نصًّا من نصوص الشريعة أو قام الدليل على بطلانه، وذلك كتعامل الناس بالربا أو اعتيادهم لعب القمار، وذلك مثل عقود التأمين على الحياة والعقود الواقعة تحت الغرر. حجية العرف: العرف معتبر في كثير من الأحكام الشرعية العملية بين الناس لما له من تأثير واسع في استنباط الأحكام والاجتهاد فيها، وذلك لأن كثيرًا من أعمال الناس وألفاظهم ومعاملاتهم وشؤون حياتهم تقوم على ما اعتادوه وتعارفوه، فلا بد من النظر إلى هذا المألوف المتعارف حين استخراج الحكم الشرعي للمسائل المتجددة أو المشكلات التي تنشأ بين الناس. والقواعد الشرعية المعتمدة على النصوص لا تستوعب جميع التفصيلات والمسائل المتجددة، وإنما تتخذ أساسًا في نصها أو روحها للاجتهاد وبيان الأحكام، والعرف يساعد في هذا الاجتهاد ويعين المجتهد على تفهم الواقعة وتطبيق الحكم الشرعي عليها، سواء أكان ذلك في معاني الكلمات وعبارات الناس أو في معاملاتهم وعقودهم، حتى أصبح العرف الصحيح ذريعة إلى تبدل الأحكام وتغيرها باختلاف أعراف الناس في بيئاتهم المختلفة وأماكنهم المتغايرة (2) . وهذا هو سر تغير اجتهادات الإمام الشافعي في مسائل كثيرة توصل إليها حين كان في بلاد العراق، فلما انتقل إلى مصر ورأى تغير أعراف الناس وعاداتهم، عدل عن كثير من أقواله في العراق، حتى صارت اجتهاداته الجديدة تعرف بالمذهب الجديد والتي عدل عنها بالمذهب القديم. والمالكية يقيمون للعرف وزنًا كبيرًا ويعتبرونه أصلًا من الأصول الفقهية فيما لا يكون فيه نص قطعي. ويتركون القياس إذا خالف العرف، وقد ورد عن القرطبي في باب الاستحسان أن من ضروبه ترك القياس لأجل العرف وهو يخصص العام ويقيد المطلق عندهم، وقد ذكر أبو العباس القرافي بأن العوائد تعتبر من الأدلة على مشروعية التصرفات (3) .   (1) ابن عابدية في رسالته نشر العرف: ص3. (2) راجع نظرية العرف للدكتور عبد العزيز الخياط: ص39. (3) راجع الفروق: 3 /288. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2616 وذكر ابن نجيم الحنفي " بأن اعتبار العادة والعرف يرجع إليه في الفقة في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا " (1) وقد ورد على لسان ابن عابدين أيضا " بأن الثابت بالعرف كالثابت بالنص (2) ومن أقوالهم الدالة على حجية العرف " العادة محكمة ": " والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا " وأراد بعضهم الاستدلال بقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} على حجية العرف وكونه دليلًا معتبرًا في الشرع، ولكن هذه الحجة ضعيفة، لأن العرف في الآية هو المعروف وهو ما عرف حسنه ووجب فعله، وهو كل ما أمرت به الشريعة. واحتج البعض (3) بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) على حجية العرف، وهذا الاستدلال ضعيف، فقد قال غير واحد من العلماء إنه موقوف على ابن مسعود، ودلالته تشير إلى حجية الإجماع لا العرف (4) ، إلا إذا كان مستند الإجماع عرفًا صحيحًا فتكون دلالته هذا الأثر قاصرة على نوع من أنواع العرف لا على مطلق العرف. والحق أن العرف معتبر في الشرع ويصح ابتناء الأحكام عليه، وهو في الحقيقة ليس بدليل مستقل ولكنه يرجع إلى أدلة الشريعة المعتبرة، والدليل على ذلك أمور عديدة منها: أولًا: وجدنا الشارع الحكيم يراعي أعراف العرف الصالحة، من ذلك إقراره لنوع من التعامل المالي عندهم كالمضاربة والبيوع والإجارات الخالية من المفاسد (5) كما استثنى السلم من عموم نهيه عن بيع الإنسان ما ليس عنده، لجريان عرف أهل المدينة به ونهى عن بيع التمر بالتمر ورخص في العرايا، وهي بيع الرطب على رؤوس النخل بمثله من التمر خرصًا، أي تخمينًا، لتعارف المجتمع هذا النوع من البيع وحاجته إليه فدلت هذه التصرفات من الشارع الحكيم على رعاية العرف الصالح الذي استقرت عليه معاملات الناس، أما العرف الفاسد، فقد أبطله وألغاه، كما فعل في كثير من عادات الجاهلية مثل التبني وعدم توريث النساء وغير ذلك.   (1) الأشباه والنظائر: ص 93. (2) انظر نشر العرف: ص4 (3) انظر بدائع الصنائع، للكاساني: 5 /223؛ وكذا المبسوط، للسرخسي: 12 /138. (4) انظر الآمدي في الأحكام: 3 /112. (5) أستاذنا زيدان في مؤلفه الوجيز في أصول الفقه: ص 225 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2617 ثانيا: إن العرف في حقيقته يرجع إلى دليل من أدلة الشرع المعتبرة كالإجماع والمصلحة المرسلة وسد الذرائع، فمن العرف الراجع إلى الإجماع، الاستصناع ودخول الحمامات، فقد جرى العرف بهما بلا إنكار فيكون من قبيل الإجماع، والإجماع معتبر. ومن العرف ما يرجع إلى المصلحة المرسلة لأن العرف له سلطان على النفوس، فمراعاته من باب التسهيل عليهم ورفع الحرج عنهم ما دام العرف صالحًا لا فاسدًا، كما أن في تحويل الناس عما تعارفوا عليه وألفوه، فيه مشقة وحرج، والحرج مرفوع لأنه مفسدة، وقد أشار إلى هذا المعنى السرخسي في مبسوطه حيث يقول:" لأن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، ولأن في النزوع عن العادة الظاهرة حرجًا بينا " (1) . ثالثا: احتجاج الفقهاء بالعرف في مختلف العصور واعتبارهم إياه في اجتهادهم، دليل على صحة اعتباره، لأن عملهم به ينزل منزلة الإجماع السكوتي فضلًا عن تصريح بعضهم به وسكوت الآخرين عنه، فيكون اعتباره ثابتًا بالإجماع (2) . وسلطان العرف كبير على الأحكام يدخل فيه جميع أبواب الفقة سواء أكان ذلك في العبادات أو المعاملات أو السير أو الأحوال الشخصية يقول جلال الدين السيوطي الشافعي: " اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في الفقه في مسائل لا تعد كثيرة، فمن ذلك سن الحيض والبلوغ والإنزال وأقل الحيض والنفاس والطهر وغالبها وأكثرها ... والبناء على الصلاة في الجمع والخطبة والجمعة بين الإيجاب والقبول والسلام ورده، والتأخير المانع من الرد بالعيب، وفي الشرب وسقي الدواب من الجداول والأنهار المملوكة إقامة له مقام الإذن اللفظي وتناول الثمار الساقطة وفي إحراز المال المسروق وفي المعاطاة على ما اختاره النووي وفي عمل الصناع على ما استحسنه الرافعي وفي وجوب السرج والإكساف في استئجار دابة الركوب، والحبر والخيط والكحل على من جرت العادة بكونها عليه ... إلخ (3) . شروط اعتبار العرف كأصل من أصول الأحكام: من أجل اعتبار العرف وبناء الأحكام عليه، يجب أن تتوفر فيه الشروط التالية: أولًا: أن لا يكون مخالفًا للنص، بأن يكون عرفًا صحيحًا كما في الأمثلة التي ضربناها للعرف الصالح، قال ابن عابدين: " ولا اعتبار للعرف المخالف للنص، لأن العرف قد يكون على باطل بخلاف النص " (4) وقد مثل للعرف الفاسد بما اعتاده العمال من الكشف عن العانة عند الاتزار وفي النزع مما حدا ببعض العلماء إلى القول: بأن السرة إلى موضع نبات الشعر، معتمدًا على تعامل بعض العمال بذلك فرد رحمه الله على هذا الرأي بقوله: " هذا ضعيف وبعيد، لأن التعامل بخلاف النص لا يعتبر " (5) ومن هنا يظهر لنا فساد ما اعتادته كثير من النسوة من كشف شيء من أجسامهن كالساق وشعر الرأس والصدر والرقبة وما سوى ذلك من أجزاء الجسم الأخرى مما لا يجوز كشفه أمام الرجل الأجنبي لمخالفته النصوص الصريحة الناهية عن ذلك، قال الله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} الآية (6) .   (1) المبسوط: 13 /14. (2) أستاذنا زيدان في المصدر السابق. (3) انظر الأشباه والنظائر: ص99. (4) انظر رسالته في العرف: ص4. (5) انظر رسالته في العرف: ص4. (6) [سورة النور: الآية 31] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2618 ومن الأعراف الفاسدة أيضا، تعارف الناس كثيرًا من المحرمات كالربا وشرب الخمر ولبس الحرير والذهب وغير ذلك مما ورد تحريمه نصًّا. ثانيا: أن يكون العرف مطردًا أو غالبًا: ومعنى الاطراد أن تكون العادة كلية أي لا تتخلف، وقد يعبر عنها بالعموم، أي يكون العرف مستفيضًا شائعًا بين أهله معمولًا به من قبلهم، ومعنى الغلبة أن تكون أكثرية المعنى أنها لا تتخلف إلا قليلًا، والغلبة أو الاطراد إنما يعتبران إذا وجدا عند أهل العرف لا عند الفقهاء لاحتمال تغيرها من عصر إلى عصر (1) . قال ابن نجيم: " إنما تعتبر العادة إذا طردت أو غلبت " (2) وقال السيوطي: " إنما تعتبر العادة إذا طردت فإن اضطربت فلا، وأن تعارضت الظنون في اعتبارها فخلاف " (3) فقد قال الإمام الشافعي في باب الأصول والثمار: كل ما يتضح فيه اطراد العادة فهو المحكم بين الناس، ومضمره كالمذكور صريحًا أما لو تعارضت الظنون بعض التعارض في حكم العادة فيه، فهو مثار الخلاف (4) وقد تفرع عن هذا الشرط عدة مسائل منها: (أ) لو جرى عقد بين متبايعين بدراهم أو دنانير وكانا في بلد فيه عدة عملات مختلفة في المالية والزواج، انصرف البيع إلى الأغلب، لأنه هو المتعارف فنصرف المطلق إليه (5) ولو اضطربت العادة في البلد وجب بيان النقد عند البيع وإلا بطل العقد (6) . (ب) ومنها استئجار الكاتب، فالحبر والأقلام عليه، وكذا الخيط والإبرة بالنسبة للخياط، عملًا بالعرف عند الأحناف وعند الشافعية فيه خلاف، الأصح كما ذكر الرافعي الرجوع فيه إلى العادة، فإن اضطربت وجب البيان وإلا بطلت الإجارة (7) .   (1) أستاذنا زيدان في المصدر السابق: ص 257. (2) انظر الأشباه والنظائر القاعدة السادسة: ص 94. (3) الأشباه والنظائر: ص 101. (4) الأشباه والنظائر: ص 101. (5) ابن نجيم في الأشباه: ص 95. (6) السيوطي في الأشباه: ص 101. (7) السيوطي في الأشباه: ص 101. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2619 ثالثًا: أن يكون العرف مقارنًا ولا يعتبر العرف المتأخر في التصرفات السابقة، فإذا طرأ عرف جديد بعد اعتبار العرف السائد عند صدور الفعل أو القول، فلا اعتبار بالعرف المتأخر وعلى هذا يجب تفسير حجج الأوقاف والوصايا والبيوع ووثائق الزواج وما يراد فيها من شروط واصطلاحات على عرف المتصرفين الذي كان موجودًا في زمانهم لا على عرف حادث بعدهم يقول ابن نجيم: " العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر، لذلك قالوا لا عبرة بالعرف الطارئ (1) . رابعا: أن لا يوجد قول أو عمل يفيد عكس مضمونه، كما إذا كان العرف في السوق تقسيط الثمن واتفق العاقدان صراحة على الأداء، أو كان العرف يقضي بتحمل المشتري مصاريف تصدير البضاعة المشتراة واتفقا على أن تكون على البائع، أو كان العرف جاريًّا بتحمل المشتري مصاريف تسجيل العقار في الطابو واتفق الطرفان على جعلها على البائع، ففي هذه الحالة يحل ما اتفق عليه محل العرف والقاعدة هنا " ما يثبت بالعرف بدون ذكر لا يثبت إذا نص على خلافه (2) . حكم العرف إذا تعارض مع دليل شرعي: قد يختلف العرف مع الدليل الشرعي، والدليل إما أن يكون نصًّا من نصوص الشريعة وهي الكتاب والسنة، أو يكون قياسًا أو إجماعًا، وإما أن يخالف بعض الآراء الاجتهادية وهي الأحكام الشرعية الظنية المستنبطة من الأدلة الشرعية. والحكم في مخالفة العرف الدليل الشرعي يختلف باختلاف الأدلة وباختلاف عموم النص وخصوصه، ويختلف بحسب المخالفة إن كانت من وجهه أو من بعض الوجوه. يقول ابن عابدين: " إذا خالف العرف الدليل الشرعي، فإن خالف من كل وجه بأن لزم منه ترك النص فلا شك في رده كتعارف الناس كثيرًا من المحرمات من الربا وشرب الخمر ولبس الحرير والذهب وغير ذلك مما ورد تحريمه نصًّا، وإن لم يخالفه من كل وجه بأن ورد الدليل عامًّا والعرف خالفه في بعض أفراده أو كان الدليل قياسًا، فإن العرف معتبر إن كان عامًّا، فإن العرف العام يصلح مخصصًا كما مر عن التحرير ويترك به القياس كما صرحوا به في مسألة الاستصناع ودخول الحمام والشرب من السقا وإن كان العرف خاصًّا فإنه لا يعتبر هو المذهب كما ذكره في الأشباه حيث قال: فالحاصل أن المذهب عدم اعتبار العرف الخاص، ولكن أفتى كثير من المشايخ باعتباره " (3) .   (1) الأشباه والنظائر: ص 101. (2) القواعد للعز بن عبد السلام: 2 /178. (3) رسالته في العرف: ص 5. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2620 ومن هنا تبين لنا أن مخالفة العرف للأدلة الشرعية تتنوع أنواعًا مختلفة بحسب الحالات التي تؤدي إلى النتائج المختلفة وذلك في أنواع ثلاثة: 1- النوع الأول: مخالفة العرف النص الشرعي من كل وجه. 2- النوع الثاني: مخالفة العرف من بعض الوجوه. 3- النوع الثالث: تعارض العرف والاجتهادات الفقهية للناس. وها أنا أبين بإيجاز رأي الفقهاء في كل نوع من الأنواع الثلاثة. أولًا – مخالفة العرف النص الشرعي من كل وجه: إذا خالف العرف الشرع من كل وجه فلا يعتبر العرف مطلقًا، وذلك فيما إذا اصطدم العرف بنص تشريعي خاص من نصوص الكتاب أو السنة يأمر بخلاف ما جرى عليه العرف، فلا اعتبار للعرف في هذه الحالة، كالأحكام التي كانت متعارفة في الجاهلية وحرمها الإسلام لمصادمة تلك الأعراف لإدارة الشارع في موضوع أصبح المسلم مكلفًا بتطبيق النص والأخذ به، فلا يجوز إهماله وإعمال العرف (1) ومثال ذلك أيضًا: العقود التي نهى الإسلام عن إبرامها كالملامسة والمنابذة، وكذلك ما تعورف عليه في الجاهلية من الغزو واستباحة الحقوق ونكاح الشغار وإثبات ولد الزنا والتبني. ولو عاود الناس المعاملة بها وأصبح عرفًا، فإنه لا يعتبر شرعًا وهو باطل. استثناء من الحكم العام: ويستثنى من ذلك ما إذا كان النص حين نزوله أو حين صدوره عن المشرع مبنيًّا على عرف قائم ومعللًا به، فإن النص عندئذ يكون عرفيًّا فيدور مع العرف ويتبدل بتبدله، مثال ذلك: حديث الربا الوارد في الأصناف الستة، فإنه نص على أن الربا يحصل في مبادلة هذه الأصناف إذا لم يحصل التساوي فيما بينها، فإذا حصل، فلا ربا، فما هو مقياس التساوي؟ لقد ترك ذلك للعرف فما كان وزنيًّا كالذهب والفضة اعتبر فيه الوزن، وما كان كيليًّا كالحنطة والشعير والملح والتمر اعتبر فيه الكيل. والملاحظ أن الحديث نص على التساوي الوزني في الذهب والفضة والتساوي الكيلي فيما عدها، غير أن العرف تبدل في هذه الأوزان، فأصبحت الحنطة والتمر والشعير والملح توزن وزنًا ولا تكال كيلًا، فأي العرفين يعتبر هنا؟ لقد أجاب ابن عابدين عن ذلك، فبعد أن ذكر رأي بعض فقهاء المذهب في عدم جواز بيع الحنطة بالحنطة إلا كيلًا والذهب بالذهب إلا وزنًا لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، أورد رأي أبي يوسف الذي يقضي بصحة بيع الحنطة بمثلها وزنًا والذهب بمثله كيلًا، فقد علل رحمه الله النص بالعادة، بمعنى أن الشارع عندما نص على بيع الحبوب كيلًا وعلى الذهب والفضة وزنًا لكونهما كانا في ذلك الوقت كذلك، فالنص جاء موافقًا للعادة، حتى لو كانت في ذلك الوقت وزن البر وكيل الذهب لورد النص على وفقها، فلما كانت العادة هي المنظورة إليها في الحكم المذكور، فإذا تغيرت تغير الحكم، فليس في اعتبار العادة المتغيرة الحادثة مخالفة للنص، بل فيه اتباع للنص (2) .   (1) الأستاذ الخياط في نظرية العرف: ص 60 (2) انظر رسالته في العرف: ص 8. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2621 ومن هذا القبيل أيضًا، اعتبار الصمت في استئذان الفتاة البكر في النكاح، فإن أساسه العرف القائم في ذلك الوقت، فالنص من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ((وإذنها صماتها)) قام على اعتبار العرف، واليوم تغير العرف في كثير من البلدان وأصبح لا يكفي فيه صمت الفتاة البكر إذ أنها بلغت من الجرأة حدًّا تعرب فيه عن رأيها لفظًا، فيعتبر إذنها كإذن الثيب ويؤخذ بالعرف، لأن أساس النص قام على اعتبار العرف، وقد تغير فيتغير بتغيره (1) . ثانيا – مخالفة العرف النص من بعض الوجوه: إذا عارض نصًّا تشريعيًّا عامًّا، أي لم يخالف النص من كل وجه، فلا يخلو العرف من أن يكون عامًّا أو خاصًّا، فإن كان عامًا، فالعرف العام يصلح مخصصًا ويترك به القياس كما في مسألة الاستصناع ودخول الحمام والشرب من السقا. أما لو كان العرف خاصًّا فللفقهاء اتجاهان في اعتباره أو عدم اعتباره، قال ابن عابدين: " وإن كان العرف خاصًّا فإنه لا يعتبر، وهو المذهب كما ذكره في الأشباه حيث قال: فالحاصل أن المذهب عدم اعتبار العرف الخاص ولكن أفتى كثير من المشايخ باعتباره " (2) . وقد تفرع عن هذا الخلاف عدة مسائل منها: 1- لو دفع رجل إلى حائك غزلًا أن ينسجه بالثلث فقد أجاز هذا النوع من الإجارة كثير من مشايخ بلخ لتعامل أهل بلدهم بذلك، والتعامل حجة يترك به القياس ويخص به الأثر، وتجويز هذه الإجارة في الثياب للتعامل، بمعنى تخصيص النص الذي ورد في قفيز الطحان، لأن النص ورد فيه لا في الحائك، إلا أن الحائك نظيره فيكون واردًا فيه دلالة، فمتى تركنا العمل بدلالة هذا النص في الحائك وعملنا بالنص في قفير الطحان كان تخصيصًا لا تركًا أصلًا، وتخصيص النص بالتعامل جائز. أما على رأي من لم يعتبر العرف الخاص، لم يجوز هذه الإجارة، " لأن ذلك تعامل أهل بلدة واحدة، وتعامل أهل بلدة واحدة لا يخص الأثر، لأن تعامل أهل بلدة إن اقتضى أن يجوز التخصيص فترك التعامل من أهل بلدة أخرى يمنع التخصيص، فلا يثبت التخصيص بالشك " (3) . 2- ومما تفرع عن الخلاف المذكور ما لو استقرض شخص ألف دينار من آخر واستأجر المستقرض المقرض لحفظ شيء، مما لا يستحق الاستئجار له كالساعة والمرآة والملعقة مثلًا، ببدل إيجار قدره مائة درهم في الشهر، وقيمة العين المذكورة لا تزيد على الأجر، ففي صحة الإجارة أو عدم صحتها ثلاثة أقوال: أحدها يقضي بصحة الإجارة بلا كراهة اعتبارًا لعرف خواص بخارى، والثاني الصحة مع الكراهة للاختلاف، والثالث، الفساد وهو الصواب كما ذكر ابن عابدين معللًا ذلك بقوله: " لأن الإجارة مشروعة على خلاف القياس، لأنها بيع المنافع المعدومة وقت العقد وإنما جازت بالتعارف العام لما فيها من احتياج عامة الناس إليها وقد تعارفوها سلفًا وخلفًا فجازت على خلاف القياس " (4) .   (1) الأستاذ الخياط في نظرية العرف: ص 61. (2) انظر رسالته في العرف: ص 5. (3) انظر رسالته في العرف: ص 6. (4) انظر رسالته في العرف: ص 7. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2622 ثالثا – تعارض العرب والاجتهادات الفقهية: لا تخلو المسائل الفقهية من أن تكون ثابتة بصريح النص أو أن تكون ثابتة بضرب من الاجتهاد والرأي. فالأولى كانت مدار بحثنا عند كلامنا عن مخالفة العرف للنص الشرعي من كل وجه أو من بعض الوجوه، والثانية هي مدار كلامنا هنا فأقول: إن كثيرًا من المسائل الاجتهادية مبنية على عرف زمان المجتهد بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال المجتهد بخلاف ما قاله أولًا ولهذا قال العلماء من شروط الاجتهاد أنه لا بد للمجتهد من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام مختلف باختلاف الزمان وذلك بسبب تغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا، لأصاب الناس الحرج ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لأجل بقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام (1) . ولذلك خالف مشايخ الحنفية ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذًا من قواعد مذهبه. من ذلك: (أ) إفتاء متأخري الحنفية بجواز الاستيجار على تعليم القرآن ونحوه بسبب انقطاع العطايا عن المعلمين التي كانت تنهال عليهم في الصدر الأول، ولو لم نحكم بجواز أخذ الأجرة على التعليم لأعرض الناس عن هذه المهنة بسبب انشغالهم في الكسب للحصول على لقمة العيش، وبذلك يضيع العلم والتعليم وكذا جواز أخذ الأجرة على الأذان والإمامة مع أن ذلك مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة والصاحبان من عدم جواز الاستيجار وأخذ الأجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم والصلاة وسائر العبادات الأخرى. (ب) ومن ذلك أيضا تحقق الإكراه من غير السلطان مع مخالفته لقول أبي حنيفة بناء على ما كان في زمنه من أن الإكراه لا يقع إلا منه، وبفساد الزمان أصبح الإكراه يتحقق من غيره أيضًا، فقد قال محمد باعتباره، وأفتى به المتأخرون لهذا السبب. (ج) ومن هذا القبيل قول أبي يوسف ومحمد بعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة مع مخالفة هذا القول لما نص عليه أبو حنيفة بناء على ما كان في زمنه من غلبة العدالة بسبب عيشه في ذلك العصر الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وهما أدركا الزمن الذي فشى فيه الكذب وقد نص العلماء على أن هذا الاختلاف اختلاف عصر وأوان لا اختلاف حجة وبرهان (2) .   (1) ابن عابدين في المصدر السابق: ص18. (2) ابن عابدين في رسالته العرف: ص 18 وما بعدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2623 أثر العرف في العقود: بعد هذا العرض لموضوع العرف، أود أن أذكر بعض الفروع الفقهية المبنية على العرف، والتي أفتى الفقهاء بجواز تلك المسائل لتعامل الناس بها، فلو تغيرت العادة أو بطلت، فلا يجوز للفقيه في هذه الحالة الفتوى بها، ومن هنا يتبين لنا أهمية العرف وأثره على كثير من العقود، ومن هذه الفروع ما يلي: 1- لو اشترى رجل سلعة وقال له آخر أشركني معك أو قال له المشتري: أشركتك معي، فإن الشركة صحيحة في هذه الحالة، والسلعة مناصفة بين الاثنين (1) . 2- بيع الأرض يدخل فيه كل ما وجد في الأرض على سبيل البقاء والاستقراء، ولا يدخل في البيع الزرع إلا بالتسمية، لأنه وجد فيها على سبيل القطع (2) . 3- لو اشترى رجل ثمرة على رؤوس الشجر، فالرأي عند أبي حنيفة، أن المشتري يلزم بقطعها في الحال تفريغًا لملك البائع، وهذا فيما لو اشتراها مطلقًا أو بشرط القطع، فإن اشترط تركها على أصول الشجر، فسد البيع عنده (3) وقال المالكية: لا مانع من التبقية على الأصول للعادة (4) وهذا هو رأي الشافعية أيضًا، وبه قالت الإمامية (5) . 4- ومنها دخول العلو في بيع الدور والحوانيت وإن لم يتطرق إليه المتعاقدان في العقد بأن يذكرا الحقوق والمرافق التابعة للعقار، وذلك بناء على العرف الحادث (6) . 5- التوكيل في البيع المطلق، فإنه يتقيد بثمن المثل وغالب نقد البلد الذي جرى فيه العقد تنزيلًا للغلبة منزلة صريح اللفظ (7) . 6- حمل إجارة الدواب والعربات على السير المعتاد والمنازل المعتادة، وكذلك دخول حمل الأمتعة والبسط وأواني الطعام والشراب في الإجارة على الدواب إذا استؤجرت للركوب في الأسفار، لاطراد العرف (8) . 7- استصناع الصناع الذين جرت عادتهم بأنهم لا يعملون إلا بالأجرة كالدلال والحلاق والنجار والحمال، فيستحق هؤلاء الأجرة ما جرت به العادة، وإن لم يسمِّ لهم المستصنع الأجرة، لدلالة العرف على ذلك (9) .   (1) انظر الفروق، للقرافي: 2 /283. (2) انظر الفروق، للقرافي: 5 /102. (3) انظر فتح القدير للكمال بن الهمام (4) انظر الفروق: 2 /286. (5) انظر قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام: 2 /105؛ القواعد والفوائد في الفقه والأصول، لابن عبد الله محمد بن مكي العاملي: 1 /148. (6) ابن عابدين في رسالته العرف: ص 31. (7) العز بن عبد السلام في القواعد: 2 /107، والعاملي في المصدر السابق أيضًا. (8) انظر قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام: 2 /109. (9) انظر قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام: 2 /109. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2624 8- قبول الهدايا من يد حاملها سواء كان صبيًّا مميزًا أو امرأة، للعادة (1) . 9- وفي ألفاظ الوقف والوصية، كما لو أوصى رجل لمسجد، فإن اللفظ ينصرف إلى عمارته للعرف، وكذا الوصية للعلماء والقراء، فإنها جائزة وإن لم ينص على أشخاص معينين، للعرف أيضا (2) 10- التقاط كل مال حقير جرت العادة أن مالكه لا يعرج عليه ولا يلتفت إليه، فإنه يجوز تملكه والارتفاق به لاطراد العادات ببذلة، مثال ذلك: ما يتساقط من ثمر النخيل والأشجار في الطرقات التي تكثر فيها البساتين في عصرنا الحاضر (3) . 11- البيع بالنموذج، بأن يعرض البائع سواء كان تاجرا أو مزارعا نموذجا من سلعته أو محصوله على التجار فيتعاقد معهم على كمية معينة من السلعة بثمن معين، فالعقد صحيح في مثل هذه الحالة، لتعارف الناس بذلك ولو تبين للمشتري عند استلام المبيع بأنه على غير الوصف الذي رآه، جاز له فسخ العقد. 12- ومنها بيع الثمار على الأشجار عند ظهور بعضها دون بعض، فقد أجاز البيع بعض فقهاء المسلمين، للعرف فيجعل الموجود أصلًا في هذا العقد وما يحدث بعد ذلك تبعا وقد تعامل الناس بيع ثمار الكرم بهذه الصفة ولهم في ذلك عادة ظاهرة وفي نزع الناس من عاداتهم حرج (4) . 13- ومنها اعتماد خط الإنسان واعتباره حجة على نفسه مثل ما يفعله التجار في المخاطبات التجارية فيما بينهم، وفي إلزام أنفسهم بتعهدات خطية، فإنها تصح، ويلزم المتعهد بما تعهد به في تلك المخاطبات. وما قاله بعض فقهاء الحنفية من عدم الاعتماد على خط الإنسان والعمل به بناء على الأصل المنقول في المذهب، إنما قالوا ذلك قبل حدوث العرف كما ذكر ابن عابدين، ولما حدث العرف في الاعتماد على الخط والعمل به في مثل ما ذكرناه، أفتى به هؤلاء الفقهاء رحمهم الله تعالى (5) . 14- الشرب وسقي الدواب من الجداول والأنهار المملوكة إذا كان السقي لا يضر بمالكها جائز إقامة للإذن العرفي مقام الإذن اللفظي (6) . 15- إزفاف العروس إلى زوجها مع كونه لا يعرفها فإنه يحل له وطؤها، لأن زفافها شاهد على أنها امرأته لبعد التدليس في مثل هذه الأمور عادة (7) . 16- البيع بالمعاطاة، فإنه يقوم مقام الإيجاب والقبول لمن جلس في الأسواق للبيع والشراء، لأنها دالة على الرضا بالمعاوضة دلالة صريح الألفاظ (8) . الدكتور إبراهيم فاضل الدبو   (1) انظر القواعد والفوائد، للعاملي: 1 /147. (2) انظر القواعد والفوائد، للعاملي: 1 /147. (3) العز بن عبد السلام في القواعد: 2 /113. (4) ابن عابدين في رسالته نشر العرف: ص 37. (5) ابن عابدين في رسالته نشر العرف: ص 42. (6) العز بن عبد السلام في القواعد: 2 /113. (7) العز بن عبد السلام في القواعد: 2 /113. (8) العز بن عبد السلام في القواعد: 2 /113. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2625 أهم مصادر البحث بعد القرآن الكريم: 1- قواعد الأحكام في مصالح الأنام، لأبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي، دار الكتب العلمية، بيروت. 2- الفروق، للإمام أبي العباس الصنهاجي المشهور بالقرافي وبهامشه تهذيب الفروق والقواعد السنية، دار المعرفة. 3- نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، رسالة لابن عابدين مطبوعة مع مجموعة من الرسائل والمعروفة برسائل ابن عابدين. 4- القواعد والفوائد في الفقه والأصول والعربية، لأبي عبد الله محمد بن مكي العاملي المعروف بالشهيد الأول، القسم الأول تحقيق الدكتور عبد الهادي الحكيم والمطبوع بالنجف. 5- الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، لأبن نجيم، تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل، مؤسسة الحلبي للنشر والتوزيع بالقاهرة 1387هـ ـ 1968 م. 6- الأشباه والنظائر في القواعد وفروع فقه الشافعية، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة. 7- فتح القدير، للكمال بن الهمام، المطبعة الميمنية بمصر. 8- إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية، مطبعة السعادة بمصر سنة الطبع 1955م. 9- الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، مؤسسة الحلبي بالقاهرة سنة الطبع 1967م. 10- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني، مطبعة الجمالية بمصر سنة الطبع 1910م. 11- الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، للدكتور مصطفى الزرقاء، مطبعة الجامعة، دمشق. 12- المبسوط، لشمس الآئمة السرخسي، مطبعة السعادة بمصر سنة الطبع 1324 هـ. 13- نظرية العرف، للدكتور عبد العزيز الخياط، مكتبة الأقصى عمان. 14- الوجيز في أصول الفقه، للدكتور عبد الكريم زيدان، الدار العربية بغداد. 15- المختار من صحاح اللغة، محيى الدين عبد الحميد، الاستقامة 1934 م. 16- العرف في الفقه الإسلامي، للدكتور محمد سعود المعيني، بحث منشور في مجلة كلية التربية جامعة البصرة العدد السادس. 17- الأحكام السلطانية والولايات الدينية، لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الماوردي المتوفى 450 هـ، دار الكتب العلمية بيروت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2626 العرف إعداد الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد بسم الله الرحمن الرحيم ذهب كثير من العلماء إلى أن العرف هو العادة وأنهما لفظان مترادفان معناهما واحد والعرف والعادة هو ما يغلب على الناس من قول أو فعل أو ترك، والعرف كما يذكر الأصوليون ينقسم إلى أقسام عدة هي: العرف اللفظي أو القولي: وهو أن يتعارف قوم إطلاق اللفظ على معنى غير المعنى الموضوع له أصلًا بحيث يتبادر إلى الأفهام ذلك المعنى عند النطق به من غير قرينة تبين ذلك (1) ومثال العرف القولي من باب الوقف قول الفقهاء في حبس يقول صاحبه (وهو حبس على ولدي) ، أنه يدخل فيه البنات إذا كان لفظ الولد يطلق على الذكر والأنثى في عرف بلد الواقف أو لم يكن هناك عرف، أما إذا كان عرفهم إطلاقه على الذكر فقط فإنه يختص بالذكور ولا يدخل فيه الإناث وإن كان معنى الولد لغة يعم الصنفين. ويراعى العرف القولي وإن لم يوافق لغة العرب أو ما جاء في لسان الشارع، ومثال ذلك تعارف الناس في التفرقة بين اللحم والسمك فمن حلف ألا يأكل لحمًا، فأكل سمكًا لا يحنث حيث أن السمك لا يسمى في العرف لحمًا، وإن سمي به في قوله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} (2) . ويعتد بالعرف القولي متى كان عامًّا لبلد أو قوم، وتحمل عليه ألفاظ المتكلمين من أهل تلك البلد بإطلاق سواء في ذلك العقود والالتزامات والأيمان والنذور، أما إذا كان العرف خاصًّا بالمتكلم دون قومه حمل لفظه عند المالكية على عرفه الخاص في الأيمان والنذور والطلاق، أما العقود والالتزامات العامة فإنما يرجع فيها إلى العرف العام أو الوضع اللغوي أن لم يكن هناك عرف عام.   (1) انظر الموافقات، للشاطبي: 2 /284. (2) [سورة فاطر: الآية 12] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2627 العرف العملي: وهو ما اعتاد الناس فعله في معاملاتهم وتصرفاتهم ومثال ذلك الزوجان يختلفان في المهر بعد البناء فيدعي الزوج أنه دفعه لها وتنكر الزوجة ذلك، فقد قال الإمام مالك رحمه الله: إن القول للزوج لأن العرف بالمدينة كان جاريًّا بدفع المهر قبل الدخول، وتطرد هذه القاعدة في كل بلد له مثل عرف أهل المدينة وكذلك عند المالكية من حاز عقارًا عشر سنين، ثم قام شخص يدعي استحقاق ذلك العقار دون تقديم حجة مقنعة على سكوته طيلة تلك المدة كغيابه أو عدم علمه فإنه لا ينتفع بالبينة التي تثبت له أصل الملك وذلك لأن العرف قد جرى بعدم سكوت شخص على ملكية آخر لأرض يملكها هو وكذلك فيما إذا سكتا عن تسمية المهر وكانت هناك عادة جارية بقدر الصداق فإنه يحكم بهذا القدر. العرف الفعلي الخاص بفرد: حكى فيه شهاب الدين القرافي الإجماع على عدم الاعتداد به وأنكر عليه بعض الفقهاء المالكية حكاية الإجماع هذه، وأوردوا أنه يمكن الاعتداد بالعرف الفعلي الخاص وساقوا لذلك مثلًا فيما إذا وكل أحد الناس آخرًا في شراء ثوب له، فاشترى له ما لا يناسب عادته، فإن الوكيل ملزم بما اشترى وليس الموكل. العرف الجاري بالترك: ومثال هذا هو تسامح الناس في ثمار الغصن الخارج عن حدود البساتين، فمن وجد شيئا من مثل هذا الثمر جاز له أكله دون توقف على إذن صاحب البستان وذلك لأن أصحاب البساتين يتسامحون في مثله ولا يتعرضون لمن يلتقطه. حجية العرف: لم نجد فيما ساقه الفقهاء من أدلة الحجية العرف دليلًا قويًّا من كتاب أو سنة كما لم نجد في نفس الوقت أي دليل ضد الأخذ بالعرف الصحيح الذي لا يتنافى مع الشريعة ... بل هناك مزايا عدة في الأخذ بالعرف الصحيح لتسهيل مجرى العدالة والوصول إلى الحكم العادل بين الناس، ولذلك اعتبر الفقهاء على اختلاف مذاهبهم العرف وجعلوه أصلًا ينبني عليه شطر عظيم من أحكام الفقه (1) .   (1) الشيخ أبو سنة، العرف والعادة: ص 23 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2628 ويقول الشيخ أبو زهرة: والفقه المالكي كالفقه الحنفي يأخذ بالعرف ويعتبره أصلًا من الأصول الفقهية فيما لا يكون فيه نص قطعي بل إنه أوغل في احترام العرف أكثر من المذهب الحنفي لأن المصالح المرسلة من دعامة الفقه المالكي في الاستدلال، ولا شك أن مراعاة العرف الذي لا فساد فيه ضرب من ضروب المصلحة لا يصح أن يتركه الفقيه بل يجب الأخذ به ولقد وجدنا المالكية يتركون القياس إذا خالفه العرف، وكذلك ورد عن القرطبي في باب الاستحسان أن من ضروبه ترك القياس لأجل العرف بل إن العرف يخصص العام ويقيد المطلق، عند المالكية (1) . وقال العز بن عبد السلام الشافعي: (قاعدة الإيمان البناء على العرف إذا لم يضطرب، فإن اضطراب فالرجوع إلى اللغة) ، وقال: قال الفقهاء: كل ما ورد به الشرع مطلقًا ولا ضابط له فيه ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف (2) . ولا شك أن السؤال المهم الذي يطرح نفسه الآن لتقدير المجمع، هو كيفية الأخذ بالعرف واعتباره حكما صالحًا والعرف ينقسم في هذا الشأن إلى ثلاثة أقسام. 1- ما يقوم الدليل الخاص على اعتباره كمراعاة الكفاءة في النكاح ووضع الدية على العاقلة في القتل الخطأ، والتحقيق أن الشريعة العادلة لا تجعل نفس العادة قانونًا إلا أن تكون العادة معقولة صالحة. 2- ما يقوم الدليل على نفيه كعادة الجاهلية في التبرج وطوافهم بالبيت عراة ومناصرة الأخ لأخيه وإن كان ظالما. 3- ما لم يقم الدليل الخاص على اعتباره أو نفيه، وهذا موضع نظر المجتهدين، فيذهب كثير منهم إلى مراعاته ويجعلونه أصلا من أصول الشريعة ليبنون عليه فتاوى وأحكاما، وأكثر ما تجد هذه الفتاوى في كتب المالكية والحنفية والحنابلة. وفي مراعاة مثل هذه الأعراف تسهيل على المسلمين فيما لا يتعارض مع الشريعة وتمكينهم من تكييف معاملاتهم وأوضاعهم بما يتناسب وبيئتهم من غير تعارض مع الشرع. وهناك مسائل فقهية كثيرة بنيت على الاحتجاج بالعرف ومن ذلك تجويز المذاهب الأربعة لبيع المعاطاة، وقد جوزوه استنادًا على العرف لأن الشارع لم يوضح كيفية معينة للإيجاب والقبول بل ترك هذا كله للعرف، وحينئذ فإن المبيع يكون صحيحا بالمعاطاة. وكذلك تحديد الحرز في السرقة وهو بالجملة كل شيء جرت العادة بحفظ الشيء المسروق فيه. ومن هذه الحالات يتضح مدى أهمية العرف وصلته القوية بالشريعة الغراء.   (1) الشيخ أبو زهرة، الإمام مالك: ص 253. (2) نشر العرف: ص 3 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2629 والسؤال الآن: هل يراعى العرف الفاسد كما إذا جرى عرف الناس ببعض العقود الفاسدة مثلًا؟ ذهب كثير من الفقهاء إلى عدم مراعاة العرف الفاسد، وهو ما أرى الأخذ به لأن في مراعاة العرف الفاسد إقرارًا للناس على ما هم عليه من جهل بالفقه أو من عدم التقيد بالشريعة في معاملاتهم. وفي عدم الأخذ بالعرف الفاسد تطهير للمعاملات من سيء الأفهام وخروج بالناس إلى سعة الشريعة وتهذيبها ورحمتها وتوطينهم عليها. قال العلامة أبو عبد الله بن شعيب أحد علماء تونس في القرن الثامن: (وغلبة الفساد إنما هي من إهمال حملة الشريعة ولو أنهم نقضوا عقود الفساد لم يستمر الناس على الفساد) ، وقال الأستاذ الشيخ إبراهيم الرياض التونسي في إحدى فتاويه: (والعرف المعتبر هو ما يخصص العام ويقيد المطلق، وأما عرف يبطل الواجب ويبيح الحرام فلا يقول به أحد من أهل الإسلام) . ومراعاة العرف تقتضي تغير الأحكام ودورانها مع اعتراف الناس متى ما تكرر العرف وشاع واطرد العمل به وكان عاما، ولم يعطل أو يعارض حكمًا ثابتًا بنص أو أصلا قطعيًّا من أصول الشريعة. ولقد عقد ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين فصلا بعنوان: تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد وساق أمثلة كثيرة على ذلك، ثم قال في نهاية الفصل بعد تقريره مذهب المالكية بالقول بالعرف: (وهذا محض الفقه من أفتى بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم، وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما يكونا على أديان الناس وأبدانهم، والله المستعان) . ولا يعد اختلاف الأحكام باختلاف العادات اختلافا في أصل خطاب الشارع، بل معنى هذا الاختلاف أن العادات إذا اختلفت اقتضت كل عادة حكمًا يلائمها، فالواقعة إذا صحبتها عادة، اقتضت حكما غير الحكم الذي تقتضيه عندما تقترن بغيرها من العادات. ولهذا السبب ترى فقهاء المذاهب لا يأخذون بفتاوى أئتمهم القائمة على رعاية العرف متى تحققوا أن العرف قد تغير وأن الواقعة أصبحت تستحق حكما آخر غير ما قرره الأئمة من قبل. وقد عدل عدد من فقهاء المالكية في فتاويهم عن المشهور في المذهب وبنوها على العرف. قال شهاب الدين القرافي في قواعده: (إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك فلا تجبره على عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أيًّا كانت إضلال في الدين وجهل بمقاصد المسلمين والسلف الماضيين) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2630 وكذلك ترى فقهاء الحنفية يخالفون ما نص عليه أبو حنيفة في مسائل بناها على عرف كان جاريا في زمنه، وقالوا في وجه هذه المخالفة: إن أبا حنيفة لو كان في زمنهم لما وسعه إلا أن يفتي بما أفتوا به ولم يعدوا التصرف في الأحكام القائمة على العرف خروجا عن المذهب، وإنما هو الأخذ بأصل إمامهم الذي يقتضى الرجوع إلى العرف في الأحكام. وقد يذكر بعض الفقهاء العرف في سياق الاستدلال على جواز أمر ويريدون ما كان جاريا في عهد النبوة أو بين أهل العلم، وليس الدليل في الحقيقة نفس العرف وإنما هو إقرار النبي صلى الله عليه وسلم أو الإجماع الذي لا ينعقد إلا عن دليل. ومثال هذا أن الإمام مالكًا خص قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [سورة البقرة: الآية 233] ، بغير ذوات الأقدار والشرف، وقال: إنه لا يجب على الشريفة إرضاع ولدها لأن العادة جارية بذلك، ولا يريد الإمام أن مجرد جريان العرف يسوغ هذا التخصص، وإنما أراد جريان العرف مع عدم إنكار أهل العلم من السلف فيرجع إلى الاستدلال بالإجماع. وقال بعض أهل العلم: عدم إرضاع الشريفة ولدها عادة عربية واستمر الأمر فيها بعد الإسلام إلى زمن مالك رضي الله عنه، ومن هذا القبيل اكتفاؤهم في صحة البيع بالمعاطاة مستندين إلى العادة، وقالوا إن استمرار هذه العادة يشهد بصحة نقلها خلفًا عن سلف ويغلب على الظن أنها كانت جارية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) وقد نبه إلى ذلك أيضًا ابن السبكي رحمه الله، فقال في جمع الجوامع: (والأصح أن العادة بترك بعض الأمور تخصص إن أقرها النبي صلى الله عليه وسلم أو الإجماع) . والذي نريد تقريره أخيرًا هو أن العرف أصل من الأصول التي يستند إليها في الوصول إلى الفتوى بالشروط والمواصفات المذكورة أعلاه وبمثل هذا الأصل يعلم أن الشريعة الإسلامية ملائمة لكل زمان ومكان، وليست كما يزعم الجهلاء أنها ضيقة المجال، فلا تفي بأحكام الحوادث، أو أنها قديمة العهد فلا تحفظ مصالح ما تجدد من الأزمان. الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد.   (1) انظر البحر المحيط، لللزركشي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2631 العرف بين الفقه والتطبيق إعداد د. عمر سليمان الأشقر المدرس بقسم الفقه المقارن والسياسة الشرعية بكلية الشريعة والدراسات الإِسلامية جامعة الكويت بسم الله الرحمن الرحيم كلمة بين يدي البحث الحمد لله الذي هدانا بفضله إلى دينه الخاتم، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد خاتم أنبيائه ورسله الذي حمل الرسالة، وبلغ الأمانة، وعَرَّف بالحق، وأنار الدرب، وعلى آله وصحبه منارات الهدى ومصابيح الدجى، وعلى من اتبع هديه، وسار على دربه، وبعد: فإنَّ علماء الشريعة مطالبون بإعطاء موضوع هذا البحث حقَّه من الدراسة في مجالسهم ومجامعهم، وقد أحسن مجمع الفقه الإِسلامي عندما اختار هذا الموضوع ليكون واحدًا من الموضوعات التي تطرح للبحث في دورة المجلس هذه. وأرى أنَّه لا يحسن بعلماء المجمع الكرام أن يخوضوا في جزئيات مسائل العرف مما قتله علماؤنا بحثًا في مدوناتهم ومؤلفاتهم، فذاك أمر قد فرغ منه أهل الفقه والعلم والبحث فيه لن يأتي بجديد، ولن يعالج مشكلًا. والذي أرى أنَّه يحسن بنا في هذه الدورة بحثه في موضوع العرف أمران: الأول: تغيير الأحكام التي تقوم على العرف، وإلى أيَّ مدى يراعي الفقهاء فيما يصدرونه من أحكام وفتاوى عرف الناس وعوائدهم. وقد وجدت جمعًا من الفقهاء الثاقبي النظر على مختلف المذاهب والعصور يَضِجُّون بالشكوى من كثير من معاصريهم من أهل الفقه الذين جمدوا فيما يصدرونه من فتاوى وأحكام على ما أصدره سلفهم، على الرغم من تغيُّر عرف الناس وعوائدهم في المسائل المبنية على العرف. إنَّ الجمود على أحكام وفتاوى السابقين في المسائل التي مَدْركها العرف أوقع الناس في حرج شديد، وضيق أكيد، جعل الفقهاء الأعلام في كل عصر ومصر يشنون حملات شديدة في دروسهم ومؤلفاتهم على أولئك الذين أوقعوا المسلمين في هذا الحرج، ونسبوا للشريعة أحكامًا تتصف بالقسوة والجمود والظلم، وحَرِيُّ بهذا المجمع الكريم أن يلفت أنظار الباحثين والدارسين والمفتين والقضاة في العالم الإِسلامي كي يتنبهوا إلى هذا الموضوع ويعطوه حقه من الرَّعاية والاهتمام، وفق الضوابط الشروط التي وضعها علماؤنا وفقهاؤنا في هذا الأمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2632 والأمر الثاني: الذي يحسن أن تتجه أنظار فقهاء المجمع إليه هو مكانة العرف من التشريع الإسلامي، ذلك أن المسلمين اليوم ظلموا شريعتهم كثيرًا عندما قدموا عليها في أغلب أقطارهم القوانين الوضعية والأعراف والعوائد التي تسود في مجتمعاتهم، وهذا ظلم كبير لهذه الشريعة المباركة التي يجب أن يكون لها الصدارة والهيمنة على كل الشرائع والمبادئ والنظم والقوانين، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تقضي الشريعة عن الحكم وتحصر في نطاق ضيق. لقد جاءت الشريعة الإسلامية لتحكم وتسود، وعندما حققت هذا غيرت أعراف البشر الظاملة وعوائدهم الخاطئة، والتي كانت بمثابة قيود وأغلال تقعد بهم عن تحقيق الغاية التي خلقوا من أجلها وتوقعهم في عنت وبلاء لا يستطيعون التخلص من إساره، لا لشيء إلا لأنه تراث الآباء والأجداد، لقد قومت الشريعة الأعراف البشرية، والعوائد الإنسانية ووضعتها في مكانها الذي ينبغي أن توضع فيه ولم تجعل لهذه الأعراف أي دور إذا هي صادمت نصًّا من نصوص الشريعة، وألزمت البشر بتغيير عرفهم وعاداتهم بما يتفق ويوائم هذه الشريعة. وقد فقه علماؤنا وعوامنا هذه الحقيقة، ووعوها جيدًا، وصاغوا حياتهم ومجتمعاتهم وفقهًا، ونص الأصلويون والفقهاء والمفسرون والمحدثون على أن العرف لا قيمة له، بل يجب تغييره إذا خالف النص الشرعي، وعندما بحث الأصوليون في مصادر التشريع الإسلامي جعلوا العرف في ذيل البحث، بل إن الأصوليين يرون أن العرف ليس مصدرًا مستقلًا من مصادر الفقه اٍلاسلامي. ولذا فإن جناية المتنفذين في عالمنا الإسلامي كانت كبيرة وعظيمة حينما صاغوا قوانين وضعية ألغوا بها دور الشريعة الإسلامية، وحكموا هذه القوانين في رقاب السملمين، وزادوا الأمر سوءًا عندما جعلوا العرف المصدر الاحتياطي الأول الذي يرجع إليه القاضي في حكمه إذا لم يجد في القانون نصًّا يحكمه في الدعوى التي ترفع إليه، ثم تأتي بعد ذلك الشريعة الإسلامية في المرتبة الثالثة، وبعضهم يجعلها في المرتبة الرابعة، وآخرون لا يذكرونها، ولا يجعلون لها دورًا في قوانينهم ولا في تشريعاتهم. لقد أثار بعض رجال القانون عواصف شديدة على بعض أهل الغيرة الإسلامية الذين طالبوا بأن تقدم الشريعة على العرف في قوانين المسلمين في ديار المسلمين، وكتب هؤلاء في الصحف والمجلات وتكلموا في المجامع والندوات وأرعدوا وأزبدوا، كل ذلك لأن بعض الذين يهمهم أمر هذا الدين نادى وطالب بتقديم الشريعة على العرف، وحاول أن يستصدر قانونًا يحقق هذا المطلب. وعلى الرغم من ذلك فإني لا أرى فائدة من البحث في هذا الموضوع، لأن إيماني بشريعتي وديني يأبى علي كل الإباء أن أرتضي جعل الشريعة الإسلامية في المرتبة التالية للقوانين الوضعية، ولا يشرَّف ديني وشريعتي أن تقدَّم هذه الشريعة على العرف إذا كانت مسبوقة بالقانون الوضعي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2633 إنَّ على أعضاء هذا المجمع الكريم أن يرفعوا عقيرتهم منادين بغير وجل كي يعود الأمر إلى نصابه، ويعطي القوس باريها، فالشريعة الإِسلامية تأبى كلَّ الإِباء أن يُقَدَّم عليها عرف البشر فضلًا عن قوانين البشر، ورضا علماء المسلمين وحكامهم ومحكوميهم بذلك خيانة لله وللرسول ولهذا الدين. وهذا البحث الذي أقدَّمه في هذه الدورة من دورات مجمع الفقه الإِسلامي عني بالتركيز على هاتين القضيتين: الأولى: مسألة جمود كثير من فقهاء المسلمين على الأحكام والفتاوى التي أصدرها السابقون، وكان مدركها العرف، على الرغم من تغير عرف الناس فيها. والثانية: تقديم عرف الناس وعوائدهم على الشريعة الإِسلامية. وقد تم هذا البحث في مقدمة وثلاثة فصول: تناولت في المقدمة: تعريف العرف في اصطلاح الفقهاء والقانونيين كما وضحت الفرق بين العرف والعادة عند الفقهاء والقانونيين، وما يترتب على هذا الفرق عند من يقول به. الفصل الأول: مخصص للحديث عن العرف والشريعة، بينت فيه مكانة العرف عند الأمم الماضية، وكيف كان العرف صادًّا للناس عن اتباع الحق؟ وبينت عيوب العرف وآفاته، وكيف أقصت الشريعة الإِسلامية العرف عندما حكمت ديار المسلمين؟ وكيف أعاد المسلمون العرف إلى الصدارة وقَدَّموه على الشريعة، وفي هذا رِدَّة جاهلية وتأخر وجمود. والفصل الثاني: يبحث في حجية العرف، وهذا الفصل يتبين به قارئه الموضع الذي يجب أن يضع فيه العرف، وقد بينت فيه موقف الفقهاء من الاحتجاج بالعرف، والأدلة على اعتبار العرف كما ذكرت رتبة العرف من التشريع وبينت أقسامه وأوردت بعض الأمثلة لأحكام بنيت على العرف. الفصل الثالث: في تغير الأحكام والفتاوى بتغير العرف أوردت في هذا الفصل الأسباب التي تدعو إلى تغير العرف والعوائد، وبينت فيه أيضًا وجوب تغير الأحكام والفتاوى إذا تغير العرف الذي بنيت عليه تلك الفتاوى والأحكام، وختمت هذا الفصل بإيراد بعض الأمثلة التي تغيرت أحكامها أو بطلت بسبب تغير عرف الناس فيها. آمل أن أكون قد وفيت هذا الموضوع حقه، ومن الله أسأل المثوبة وإليه أتوجه بالحمد والثناء ومنه أسأل العصمة من الزلل في القول والعمل إنه نعم المولى والمجيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2634 المقدمة تعريف وبيان المبحث الأول تعريف العُرْف في اللغة مدار العُرْف في لغة العرب على أمرين كما يقول اللغوي ابن فارس في معجمه: "تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض، والسكون والطمأنينة". يقول ابن فارس في تعريف العُرْف: "العين والراء والفاء أصلان صحيحان، يدلُّ أحدهما على تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض، والآخر يدلُّ على السكون والطمأنينة. فالأول: " العُرْف" عُرْف الفرس، وسمي بذلك لتتابع الشعر، ويقال: جاء القطا عُرْفًا عُرْفًا، أي بعضها خلف بعض. والأصل الآخر: "المعرفة والعِرْفان"، تقول: عَرَف فلان فلانًا عِرْفانًا ومعرفة، وهذا أمر معروف، وهذا يدلُّ على ما قلناه من سكونه إليه، لأنَّ من أنكر شيئًا توخى منه ونبأ عنه، والعُرْفُ: المعروف، سُمَّي بذلك لأنَّ النفوس تسكن إليه. أبى الله إلا عدله ووفاءه فلا الشكر مَعْروف ولا العُرْف ضائع (1) . والعُرْف والعَارفة والمعروف – في لغة العرب – واحد كما يقول أبو منصور الأزهري: "وهو كل ما تعرفه النفس من الخير وتَبْسَأ به، وتطمئن إليه" (2) . وفَسرَّ الراغب الأصفهاني العُرْف: "بالمعروف من الإِحسان" (3) ، وهذا هو معنى العرف في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (4) .   (1) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس: 4 /281. (2) تهذيب اللغة، لأبي منصور أحمد الأزهري: 2 /344. (3) المفردات، للراغب الأصفهاني: ص 333. (4) سورة الأعراف: الآية 199. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2635 ويقول الفيروز آبادي: " العُرْف اسم لكل فعل يعرف بالشرع والعقل حسنه. والعرف: المعروف من الإِحسان" (1) . وقال ابن الأثير: "المعروف: اسم جامع لكلَّ ما عُرِفَ من طاعة الله والتقرب إليه والإِحسان إلى الناس، وكلّ ما نَدَب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات، وهو من الصفات الغالبة، أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه" (2) . المبحث الثاني تعريف العُرْف في اصطلاح الفقهاء والقانونيين نقل ابن عابدين عن النسفي الفقيه الحنفي أنَّه عرَّف العُرْف في كتابه "المستصفى" بقوله: "العادة والعُرْف ما استقرَّ في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول " (3) . وفي هذا التعريف نقص – كما يقول الدكتور عبد العزيز الخياط – لأنَّ التعريف ردَّ العرف إلى قبول الطباع السليمة، واعتمد على شهادة العقول، وفي إِطلاق قبول الطبائع لأمر ما ليصبح متعارفًا عليه نظر، إذ ليس كلُّ ما قبلته الطبائع يعدُّ عرفًا، وفي تحديد "السليمة" نظر أيضًا، إذ أنَّه يحتاج إلى جهة تميز بين السليم فيها وغير السليم، والحسن والقبيح، ولا جهة تعين ذلك إِلا الشرع أو العقل عند من يقول بتحسين ما يحسنه وتقبيح ما يقبحه، والعقل يتفاوت عند الناس، ومدى الإِدراك يتأثر بحسب الأزمنة والأمكنة، فتختلف الأعراف عندئذٍ، فلم يبق إِلا تحديد الشرع، وإِذا جعلنا الشرع محدَّدًا فيكون مقتصرًا على العرف الصحيح، فلا يشمل الأعراف الفاسدة، لأنَّ الشرع قبحها، ولا تقبلها الطباع والعقول السليمة" (4) . والتعريف المُرْتَضَى للعرف ما عَرَّفه به الشيخ عبد الوهاب خلاف، فإنَّه قال في تعريفه: "هو ما تعارفه الناس، وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك" (5) . وقريب من هذا التعريف تعريف الدكتور عبد العزيز الخياط، فإنَّه قال في تعريفه: " العرف ما اعتاده الناس، وساروا عليه في شؤون حياتهم" (6) .   (1) بصائر ذوي التمييز: 4 /57. (2) النهاية، لابن الأثير: 3 /216. (3) نشر العرف، لابن عابدين؛ مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /112- وعزو هذا التعريف إلى مستصفى النسفي هو الحق، وقد وهم كثير من الباحثين في هذا الموضوع فعزوه إلى مستصفى الغزالي. (4) نظرية العرف، للدكتور عبد العزيز الخياط: ص 24. (5) علم أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف: ص 99. (6) نظرية العرف: ص 24. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2636 وللعرف عند علماء القانون تعريفات متقاربة، فقد عرَّفه الدكتور سعد عصفور بقوله: "هو مجموعة القواعد التي تنشأ من درج الناس عليها، يتوارثونها جيلًا عن جيل، والتي لها جزاء قانوني كالقانون المسنون سواء بسواء" (1) . وعرَّفه الدكتور عبد المنعم فرج الصَدَّة بأنَّه "اعتياد الناس على سلوك معين في ناحية من نواحي حياتهم الاجتماعية بحيث تنشأ منه قاعدة يسود الاعتقاد بأنها ملزمة". وقد يطلقون مصطلح "العرف على القواعد القانونية ذاتها التي تنشأ من اعتياد الناس على مثل هذا السلوك (2) . وعرَّفه الدكتور حسن كيره بأنَّه "إطراد التقليد على اتباع سنَّة معيَّنة في العمل مع الاعتقاد في إلزام هذه السنَّة لقاعدة قانونية، أو هو تواتر العمل بقاعدة معيَّنة تواترًا تمليه العقيدة في ضرورة اتباع هذه القاعدة، وقد يقصد باصطلاح العرف فضلًا عن ذلك الدَّلالة على القاعدة أو السنَّة التي تحمل العقيدة في إلزامها على اطراد اتباعها في العمل" (3) . والقانونيون – في تعريفهم للعرف – يحرصون على أن يضَّم التعريف ركني العرف، وهما الركن المادي والركن المعنوي. ويتمثل الركن لمادي في اعتياد الناس على سلوك معين، ومن هنا اشترطوا في العادة حتى يصبح عرفًا أن تكون عامَّة ومطردة وثابتة وقديمة. وسيأتي بيان هذا في شروط العرف. ويريدون بالركن المعنوي تولد الاعتقاد لدى الناس بأنَّ هذه العادة ملزمة باعتبارها قاعدة قانونية لها جزاء مادي توقعه السلطة العامة جبرًا على من يخالفها شأنها في ذلك شأن القاعدة القانونية سواء بسواء (4) . والفقهاء يتفقون مع الباحثين على كثير من الشروط التي اشترطوها في العادة كما سيأتي تفصيل ذلك في شروط العرف. أما الشرط المعنوي وهو وجود الاعتقاد لدى الناس بأنَّ هذه العادة ملزمة باعتبارها قاعدة قانونية لها جزاء مادي توقعه السلطة العامَّة – فإنَّ هذا الشرط محل نظر لأمور:   (1) القانون الدستوري، للدكتور سعد العصفور: ص 82. (2) أصول القانون، للدكتور عبد المنعم الصدَّة: ص 122. (3) أصول القانون، للدكتور حسن كيره: ص 332. (4) راجع في هذا القانون الدستوري، لسعد العصفور: ص 80؛ وأصول القانون، للدكتور عبد المنعم الصدَّة: ص 126؛ وأصول القانون، للدكتور حسن كيره: ص 333. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2637 الأول: صعوبة التحقيق من وجود هذا الركن في واقع الأمور، فالذي يراه ويشاهده القاضي والحاكم هو اعتياد الناس لأمر ما، أما أنهم اعتقدوا لزوم تلك العادة فهذا أمر التحقق منه في غاية الصعوبة. الثاني: الملاحظ أن الناس يساقون إلى الالتزام بالعادة من غير تفكير ولا اعتقاد، وإنَّما بحكم الإلف الذي يصل إلى درجة التقديس، وكثير من الناس لا يفكر بالجزاء القانوني الذي يوقع على من خالف العادة، وكلُّ الذي يلاقيه المخالف للعادة هو استغراب المجتمع واستجهانه لمخالفة المخالف، ولذا فإنَّنا نجد الفقهاء ينصُّون على أن من حقّ المتعاقِدَيْن أو أحدهما النصُّ على مخالفة العرف وعدم اعتباره. الثالث: أن الفقه الإِسلاميَّ يخالف القانون في عدم وجود جزاء مادي دنيوي يجب على السلطة العامة إِيقاعه في جميع الأحكام التي عن الشرع. وهذا فَرْقُ جوهريُّ بين الفقه والقانون ذلك أن الفقه أوسع دائرة من القانون، فالفقه إلى جانب احتوائه على كلَّ فروع القانون الوضعي: الدستوري، والإِداري، والمالي، والجنائي، والدولي، والخاص بفروعه يضم أبوابًا ليس لها مكان في القانون الوضعي. فباب العبادات وهو باب كبير في الفقه الإِسلامي لا وجود له في القانون الوضعي، وهذا الباب يبحث في الوضوء والغسل والتيمم والحيض والنفاس وإزالة النجاسة والصلاة والزكاة، والصيام والحجّ والعمرة والأيمان والنذور والأطعمة والأشربة والصيد والذبائح. وكثير من أحكام هذه الأبواب متروك الالتزام بها إلى المسلم لا تستطيع الدولة الإِسلامية أن تتدخل في أمره فيها كالأيمان والنذور والأطعمة والصيد والذبائح (1) . والعرف يعمل في الدائرة نفسها التي تعمل فيها الأحكام الشرعية على النحو الذي سيأتي تفصيله. المبحث الثالث الفرق بين العرف والعادة عَرَّف الراغب في "مفرداته" العادة بأنَّها "اسم لتكرير الفعل والانفعال، حتى يصير ذلك سهلًا تعاطيه كالطبع، ولذلك قيل: العادة طبيعة ثانية (2) . وعرَّفها ابن منظور "بالدَيْدَن يعاد إليه، وجمعها عاد وعادات ... وتعَّود الشيء وعاده وعاوده معاودة وعوادًا واعتاده واستعاده وأعاده أي صار له عادة" (3) .   (1) راجع في هذا المبحث كتابنا "تاريخ الفقه الإِسلامي": ص 20، 35. (2) المفردات، للراغب الأصفهاني: ص 352. (3) لسان العرب: 2 /90. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2638 والعادة في الاصطلاح: "الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية" (1) . وقد شرح ابن عابدين هذا التعريف الذي نقله عن "شرح التحرير" لابن الهمام، فقال: "العادة مأخوذة من المعاودة، فهي بتكرارها ومعاودتها مرة بعد أخرى صارت معروفة مستقرَّة في النفوس والعقول متلقاة بالقبول من غير علاقة ولا قرينة، حتى صارت حقيقة عرفية" (2) ويرى الأستاذ مصطفى الزرقا "أنَّ العادة أعمُّ من العرف، لأنَّ العادة تشمل العادة الناشئة عن عامل طبيعي، والعادة الفردية، وعادة الجمهور التي هي العرف" (3) . فتكون النسبة بين العادة والعرف – كما يقول الأستاذ الزرقا – "العموم والخصوص المطلق، لأنَّ العادة أعمُّ مطلقًا وأبدًّا، والعرف أخصّ إذ هو عادة مقيَّدة، فكلُّ عرف هو عادة، وليست كلُّ عادة عرفًا، لأنَّ العادة قد تكون فرديَّة أو مشتركة (4) . ويرى كثير من الفقهاء أن العادة والعرف معناهما واحد، يدلُّ على هذا التعريف الذي تناقله العلماء عن النسفيَّ حيث عرفهما تعريفًا واحدًا. وقال ابن عابدين بعد شرحه للعادة الذي نقلناه عنه فيما سبق "العادة والعرف بمعنى واحد من حيث الماصدق، وإن اختلفا من حيث المفهوم" (5) . ومن تأمل في مباحث الفقهاء وجد أنَّهم يستعملون العادة والعرف استعمالًا واحدًا لا يفرَّقون بينهما، وعلى كلًٍّ "فالمسألة اصطلاحية، ولا مشاحَّة في الاصطلاح". والذي يميَّز العرف عن العادة عند علماء القانون أن العرف يجتمع له ركناه: المادي والمعنوي، أما العادة فلا يتوفَّر لها سوى الركن المادي، فالعرف تثبت له قوَّة الإِلزام باعتباره قاعدة قانونية، بينما تفتقر العادة إلى هذه القوة (6) .   (1) نشر العرف، لابن عابدين، مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /112. (2) نشر العرف، لابن عابدين، مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /112. (3) المدخل إلى الفقه الإِسلامي، للأستاذ مصطفى الزرقا: 2 /481. (4) المدخل إلى الفقه الإِسلامي، للأستاذ مصطفى الزرقا: 2 /481. (5) نشر العرف، مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /112. (6) راجع: أصول القانون، للدكتور عبد المنعم فرج الصدَّة: ص 129؛ وأصول القانون، للدكتور حسن كيره: ص 337. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2639 وبنى الباحثون في القانون على هذه التفرقة بين العادة والعرف عِدَّة أمور: 1- وجوب تطبيق القاضي للعرف من تلقاء نفسه في الدعوى المرفوعة أمامه، لأن العرف عند رجال القانون – كما سبق بيانه – قاعدة قانونية ملزمة. ولا يتوقف تطبيق العرف على طلب الخصوم، أما العادة الاتفاقية فتعتبر شرطًا من شروط العقد. 2- لا يطلب من الخصم إثبات العرف، بل هذا واجب على القاضي حيث يلزمه الإحاطة بالقانون، وهذا يجعل القضاة ملزمين بالتعرف على أعراف الناس للحكم بها عند الفصل بين الخصوم، أما العادة الاتفاقية فلا يلزم إحاطة القاضي بها. 3- يطبق العرف مع علم الخصوم به أو عدم علمهم به إذا لا يجوز الاعتذار بجهل القانون، أما العادة فلا تطبق إلا إذا انصرفت إرادة المتعاقدين إلى الأخذ بها، وهذا يقضي بعلم المتعقادين بها، ومع جهلهما أو أحدهما بها فلا تطبق عليهما. 4- يخضع العرف لرقابة محكمة النقض، لأن وظيفة هذه المحكمة مراقبة القوانين، أما العادة فهي من قبيل الواقع، الذي يكون التقدير فيها للقاضي، فلا يخضع القاضي فيه لرقابة محكمة النقض (1) وأرى أن هذا التفريق بين العرف والعادة غير سديد لأمور: الأول: أن اشتراط وجود الركن المعنوي لا نوافق عليه، وهو مناط التفريق بين العادة والعرف عند القانونيين، وقد سبق بحث هذه النقطة. الثاني: أن التفريق بين العادة والعرف على هذا النحو الذي قال به القانونيون يوقع القضاة والحكام في حرج شديد، فالحاكم وإن أمكنه التفريق بين العرف والعادة في بعض الأحيان إلا أن هذا غير ممكن دائمًا وأبدًا. ولك أن تتأمل في الأمثلة التي مثلوا بها للعادة الاتفاقية فمن الأمثلة التي يضربونها في هذا المجال ما يجري بين تجار الفاكهة في مصر عند البيع بسعر مائة حبة، ومن احتساب المائة وعشرة أو المائة وعشرين إلى غير ذلك بحسب نوع المبيع واختلاف المناطق وما تجري به العادة في بعض المحلات العامة كالفنادق والمطاعم والمقاهي من قيام العملاء بدفع هبة بنسبة معينة من قيمة الحساب إلى القائمين بالخدمة في هذه المحال، وما تجري به العادة من أنه إذا اشترك شخصان فقدم أحدهما رأس مال، وتعهد الثاني بإدارة الأعمال فإن توزيع الأرباح بينهما يكون بنسبة الثلثين للشريك الذي قدم رأس المال وبنسبة الثلث للشريك الذي قام بإدارة الأعمال (2)   (1) أصول القانون للدكتور، عبد المنعم فرج الصدة: ص 132 (2) أصول القانون، للدكتور عبد المنعم فرج الصدة ص 130 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2640 ما الفرق بين هذه الأمثلة التي يعدُّونها من قبيل القاعدة القانونية وبين تلك الأمثلة التي عَدُّوها من قبيل العرف؟ ومن أمثلتهم فيه افتراض التضامن بين المدينين فيكون للدائن في المعاملات التجارية مطالبة أيّ واحد من المدينين بكلَّ الدين. ومن أمثلته في القانون المدني المصري أن أثاث المنزل يعتبر ملكًا للزوجة لأنَّ العرف جرى هناك بأنَّ الزوجة هي التي تؤثث منزل الزوجية (1) . لو طولب رجالُ القانون بتحديد الفرق بين ما جعلوه عرفًا من الأمثلة وبين ما جعلوه عادة اتفا قية لعسر عليهم الأمر، فإنْ قالوا: إن مسائل العرف ذاعت وشاعت في كلّ البلاد. فالجواب أن هذا من شروط الركن المادي لا المعنوي. وإن قالوا: إن هذه من القواعد التي جعل لها القانون جزاء وألزم بها فالجواب في هذه الحال: أن الذي رفع الأمر إلى درجة الإِلزام ووضع عليه الجزاء هو القانون لا العرف. إِن نظر الفقهاء أدقّ في هذه المسألة لأنَّهم لم يشترطوا وراء الركن المادي أيَّ شرط حتى تصبح العادة عرفًا.   (1) راجع: أصول القانون، للدكتور عبد المنعم فرج الصدَّة: ص 129؛ وأصول القانون، للدكتور حسن كيره: ص 337 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2641 الفصل الأول مناقضة العرف والعوائد للشريعة الإِسلامية المبحث الأول سلطان العرف على الأمم والشعوب للعرف سلطان كبير على الأفراد والمجتمعات الإِنسانية عبر العصور، وقد تحدَّث الشيخ أحمد فهمي أبو سنّة عن سلطان العرف وتأثيره، فقال: "مجموعة المصطلحات والتقاليد التي تعتادها كلُّ أمة وتتخذها منهاجًا للسير عليها لها في نفوس الأفراد احترام عظيم، بل لها عليهم السلطان القويُّ، حتى إنهم ليعدُّونها من ضروريات الحياة التي لا يُستَغْنَى عنها، ومن المفاخر التي يُعْتَزُّ بها، وقد ترتفع قداستها عند بعضهم إلى مرتبة الدَّين، فيرون أنفسهم ملزمين باعتناقها والجري على سُنَنِها، ويرون الخروج عليها إثمًا عظيمًا يستجلب الاستياء، ويدعو إلى الثورة " (1) . وقد عَلَّل الشيخ فهمي هذا بما توصل إليه علماء النفس من أن العمل بكثرة تكراره تتكيف به الأعصاب والأعضاء، فيأخذ مكانه من النفوس كالسيل بقوة انحداره يحتفر طريقه في الجبل، فكما أنَّه يصعب تحويله عن طريقه، فكذلك العرف يرسخ في النفوس بحيث يعسر زحزحتها عنه وبخاصة إذا اقتضته الحاجة (2) . ولما كان للعرف هذا السلطان وتلك المكانة، فإِنَّ أعراف الأمم والشعوب كانت هي الدساتير والقوانين التي تحكم تلك الأمم والشعوب. يقول الدكتور عبد المنعم فرج الصدَّة: "العرف أول مصدر رسميّ للقانون ظهر في تاريخ المجتمع البشري … ولذلك كان له الشأن الأول في المجتمعات القديمة" (3) . ويقول الدكتور إسماعيل مرزة: لا نزاع في أن العرف كان مصدرًا رسميًّا، بل المصدر الرسميّ الوحيد للقانون في المجتمعات السياسية الأولى (4) ، ذلك لأنَّ العرف يعدُّ من الناحية التاريخية أسبق من القانون المعروف، لذلك كانت الدساتير تقوم على العرف بصورة رئيسية، ولم تدوَّن إلاَّ بعد الثورتين: الأمريكية والفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر.   (1) العرف والعادة في رأي الفقهاء، لأحمد فهمي أبي سنَّة: ص 16. (2) العرف والعادة في رأي الفقهاء، لأحمد فهمي أبي سنَّة: ص 16. (3) أصول القانون لعبد المنعم فرج الصدَّة: 123. (4) هذا الذي يردّده القانونيون من كون العرف هو أول مصدر رسمي للقانون في تاريخ المجتمع البشري غير صحيح، والحقُّ أن الشرائع التي جاءت من عند الله هي القانون الأول الذي حكم البشر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2642 ففيما يخصُّ الحضارات القديمة جِدًّا كان العرف مصدرًا رسميًّا لـ "نواظم" المجتمعات السياسيَّة الأولى، وقد حافظ العرف على هذا المصدر الممتاز حتى في أغلب الحضارات الأحدث عهدًا من تلك المجتمعات السياسية، ففي الحضارات القديمة استحال العرف الذي كان سائدًا بين سكان ما بين الرافدين القدماء إلى شرائع قانونية مدوَّنة، ونشير مثلًا إلى قانون "بلاما" وقانون "لبت عشتار" وقانون" حمورابي" المشهور. هذه القوانين وغيرها أحالت الأعراف التي كانت سائدة خلال هذه الحضارات القديمة إلى قواعد قانونية نافذة. كذلك الحال بالنسبة إلى القانون الهندي المعروف بقانون "مانو" كما أن أحكام القانون المدني الروماني تجد أساسها في قواعد عرفيَّة مستقرَّة دونت على – الألواح الاثني عشر – بناء على نجاح كفاح طبقة "العوام" وانتصارهم ضدّ احتكار "الأشراف" للأحكام القانونية. وقد بقيت "الألواح" نافذة المفعول نحو ألف سنة، ولم تلغ صراحة إلاَّ بتشريع مجاميع "جوستينيان" (1) ولا يزال للعرف في بعض الدول المقام الأسمى "فالقانون الإِنجليزي كان مجموعة من العادات التي تخضع لها القبائل الأنجلو سكسونية، ثمَّ اقترنت بعادات القبائل النورماندية التي فتحت الجزيرة الإِنجليزية في القرن الحادي عشر، ولما تطورت المدنية الإِنجليزية صار القضاء مصدرًا رسميًّا للقانون إلى جانب العرف، ثمَّ قام التشريع مصدرًا آخر، فأصبح هو والقضاء المصدرين الرسميين في القانون الإِنجليزي في الوقت الحاضر". والقانون الفرنسي القديم بدأ عرفًا، ثم امتزج به القانون الروماني بعد الفتح الروماني، ثم وُجِد قانون الكنيسة، وبعد ذلك انقسمت فرنسا إلى قسمين: القسم الشمالي يطبق العرف، والقسم الجنوبي يطبق القانون الروماني، ولما قويت الملكية في فرنسا جمعت قواعد العرف، وقام إلى جانبها التشريع مصدرًا رسميًّا للقانون، وصار التشريع يقوى حتى صدرت تقنينات نابليون، فأصبح هو المصدر الرسميُّ في القانون الفرنسي (2)   (1) القانون الدستوري للدكتور إسماعيل مرزه: ص 78. (2) أصول القانون لعبد المنعم فرج الصدَّة: ص 123. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2643 المبحث الثاني دور العرف في الصدَّ عن شريعة الله رأينا في المبحث السابق كيف كانت أعراف الأمم مقدَّسة عندها تقديسًا جعلها بمثابة القوانين والدساتير التي لا يخالفها مخالف ولا ينازعها منازع. ولذا، فإنَّ هذه الأعراف والعوائد أصبحت جدارًا صلبًا يقف في وجه الشرائع المنزلة من عند الله، وكان الصراع يدور عبر التاريخ بين الشرائع الإِلهيَّة وحملتها من الرُّسل والأنبياء وأتباعهم، وبين الأعراف والعادات وسدنتها من الزعماء والرؤساء الذين يزعمون أن تراث الآباء والأجداد هو المقدَّس والمصان، ويأبون أن يمسَّه أيُّ تغيير أو تبديل. لقد كانت الأعراف والعادات التي اختطها البشر، وتلقاها اللاحقون عن السابقين دينًا يتبع، وشرعة لا تخالف، وميراثًا يحرص عليه حرصًا عظيمًا يصلُ إلى درجة أن تسفك في سبيل الحفاظ عليه الدماء، وتزهق النفوس وتهدر الأموال، وهذا ديدن البشرية عبر تاريخها الطويل {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (1) . والمراد بالأمَّة التي وجدوا آباءهم عليها: الطريقة التي سلكوها والعادات والأعراف التي اعتادوها. هكذا يرفضون الحقَّ من غير دليل ولا بيَّنة ولا برهان، وكلُّ ما في الأمر أن الآباء والأجداد كانوا على ذلك المنهج: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (2) . وهذه الأعراف والعادات يصنعها في كثير من الأحيان الطواغيت والظلمة المتنفذون في أقوامهم، ويجرون التعامل بها بما لديهم من النفوذ والسلطان {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} (3) . والمراد بالشركاء أولئك الزعماء والقادة ورجال الفكر الذين يقولون القول فيصبح طريقة متبعة، فيكونون بذلك مشرَّعين يشرعون من الدَّين ما لم يأذن به الله {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (4) .   (1) سورة الزخرف: الآيات 22-25. (2) سورة البقرة: الآية 170. (3) سورة الأنعام: الآية 137. (4) سورة الشورى: الآية 21. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2644 وكان من هؤلاء عمرو بن عامر الخزاعي، فإنَّه كان زعيمًا مطاعًا في قومه، وهو أول من غيَّر دين العرب، ففي صحيح البخاريَّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((أنَّ أول من سيَّبَ السيوب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجرُّ أمعاءه في النَّار)) . وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يَجْرُّ قُصبَهُ في النار، كان أول من سيَّب السيوب)) . وقد أنكر القرآن ما شرعه هذا الزعيم وجعله عرفًا يُتَّبع وعادة محكَّمة فقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (1) . وما أنكر الحقُّ تحريمه في هذه الآية أمور معروفة عند أهل الجاهلية، فالبحيرة الناقة تُبْحَرُ أذنها أي تشقُّ، ثم ترسل، فلا يركبها أحد، يفعلون بها ذلك إذا ولدت خمس بطون. والسائبة أن تسيَّب الناقة وتجعل كالبحيرة في عدم الانتفاع بها، يفعل بها صاحبها ذلك في حال وقوع أمر نذره كان يحب وقوعه. والوصيلة كانت العرب إذا ولدت الناقة أنثى لهم، وإذا ولدت ذكرًا فلآلهتهم، وإذا ولدتهما قالوا: وَصَلْت أخاها، فيحرم ذبحها. والحام: الفحل، يحمل من ظهره عشرة أبطن، فيحرم ذبحه وظهره، ولا يمنع من مرعى ولا ماء. وقد أقام نوح في قومه ألف سنة إلاَّ خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، وأخيرًا دعا الله أن لا يُبْقي منهم صغيرًا ولا كبيرًا: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} (2) . وإبراهيم حاول أن يستثير التفكير في قومه الضالين، ليتركوا معبوداتهم التي لا تملك شيئًا من خصائص الألوهية {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (3) . وفي خاتمة المطاف جاء الرسول الخاتم صلوات الله وسلامه عليه بالحق الأبلج، والملة السمحاء، والشريعة الغراء، فنابذه العرب العداء، ورموه عن قوس واحدة، وعذبوا صحبه وآذوه وحاصروه وتأمروا عليه لسفك دمه، وأرسلوا الجيوش الجرارة لقتاله، فقتلوا من صحبه وقتل منهم، كلُّ ذلك حفاظًا على ما ألفوه واعتادوه {ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} (4) . ولكن العرب بعد جهد شديد أبصروا الحق، وأقلعوا عما اعتادوه. وتعارفوا عليه من عادات وأعراف جاهلية، وعلت كلمة الله، واستنار الناس بنور الحقَّ، وجاهد العربُ الأممَ الأخرى حتى أخرجوهم عن عاداتهم وأعرافهم وتراثهم الضالة، وهدوهم كما اهتدوا، ولم تزل الشريعة الإِسلامية في دار الإسلام هي الشريعة التي تهيمن على الحياة، وتصنع الأعراف، ويجري عليها الأمر في المحاكم والقضاء.   (1) سورة المائدة: الآية 103. (2) سورة نوح: الآيتان 26، 27. (3) سورة الشعراء: الآيات 72-74. (4) سورة ص: الآيات 1-7. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2645 المبحث الثالث عدم صلاحية العرف ليكون قانونًا ودستورًا عندما يوازن علماء القانون بين العرف والقانون، فإنَّ مقارنتهم تتجه إلى العرف الذي كان يشكَّل قانونًا غير مكتوب يحكم الأوضاع في أمة من الأمم، وهم في هذه الموازنة يرجَّحون جانب العرف؛ لأنَّ العرف يتكون مما جرى عليه الناس في معاملاتهم الاقتصادية وأحوالهم الاجتماعية، ومن ثمَّ تتميز قواعده بأنَّها تعبر أصدق تعبير عما يرتضيه أفراد المجتمع في تنظيم علاقاتهم، فتكون بحكم نشأتها على هذا النحو ملائمة للظروف الاجتماعية كما تؤدي هذه الطريقة ذاتها في نشوء القواعد العرفية إلى تطورها بتطور الظروف في المجتمع فتظلُّ على وجه الدوام ملائمة لهذه الظروف. أما القوانين المكتوبة، فإنَّه يؤخذ عليها أن قواعدها تأتي غير ملائمة لظروف المجتمع، وإذا جاءت ملائمة لهذه الظروف حين وضعها، فإنَّ صبَّها في نصوص مكتوبة يضفي عليها من الجمود ما يقف عن مسايرة التطور، وقد يقعد عن تعديلها على النحو الذي يستجيب لمقتضيات هذا التطور (1) . هذه هي المزيَّة التي يذكرونها للعرف في مقابل القوانين المكتوبة، ولكنَّهم يعدَّدُون للقوانين كثيرًا من المزايا تجعلهم يرجَّحون جانب القانون على العرف ومن هذه المزايا: أولًا: أن القوانين يمكن سنُّها بسهولة لمواجهة الأوضاع الجديدة في المجتمعات كما يمكن المسارعة إلى تعديلها كي تساير التطور في الحياة الاجتماعية. أما العرف، فإنَّه أداة بطيئة في تكوين القاعدة القانونية بحيث يقصر عن تزويد الجماعة في العصر الحديث بما تحتاج إليه من قواعد لمواجهة حاجاتنا المتجدَّدة بالسرعة الواجبة. ثانيًا: تمتاز القوانين المكتوبة بأنَّها توضع في نصوص مصاغة صياغة محكمة تساعد الأفراد على معرفة حقوقهم وواجباتهم، أما العرف، فإنَّ قواعده تتكون تدريجيًّا كما ينقصها الوضوح والتحديد، ولذلك قد يصعب التثبت من وجود القاعدة أو التحقق من مضمونها.   (1) أصول القانون لعبد المنعم فرج الصدَّة: ص 124. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2646 ثالثًا: القانون الواحد في الدولة الواحدة أداة لتوحيد نظام الدولة، إذ أن قواعده تنفذ في أقاليم الدولة، فتكون عاملًا على تحقيق الوحدة، بينما العرف أكثره مَحَليٌّ ولذلك فهو يؤدي إلى تعدد النظم في الدولة الواحدة الأمر الذي يفكَّك وحدتها ويعرقل تقدمها. رابعًا: ويرى رجال القانون أن القانون المدوَّن يصلح أداة لتطوير المجتمع حيث يمكَّن من إدخال النظم والأخذ بالمبادئ التي ينادي بها المصلحون أو يقتبسونها من خارج بيئتهم، أما العرف، فإنَّه يمثل نزعة المحافظة على القديم بما ينطوي عليه من حبَّ التقاليد والحرص على المألوف بحيث لا يكون التخلص منه أمرًا يسيرًا، ولذلك فهو لا يتيح الفرصة للأخذ بالأفكار الجديدة التي يرى فيها المصلحون خيرًا للجماعة إلاَّ بعد زمن طويل (1) . وعلماء الشريعة يأبون أن يقارنوا بين القانون الوضعي والعرف البشري، وذلك لأنَّهم يرفضون رفضًا قاطعًا أن تكون لهذه القوانين والأعراف الصدارة على الشريعة الإِسلامية. إنَّنا لا ننظر إلى هذه الموازنة بين العرف والقانون الوضعي نظرة رضى، ونرى أن القانون الوضعي والعرف البشري وجهان لعملة واحدة، فالعرف ثمرة عادات الناس في معاملاتهم وأحوالهم الاجتماعية، والقوانين ثمرة جهود المفكرين الذين خبَّروا أحوال الناس ومشكلاتهم، فوضعوا لهم من القوانين ما يظنون أن فيه صلاحهم، وبهذا يظهر أن كلا السبيلين مصدره البشر، ولا وجه لمقارنة نتاج البشر بالشريعة الإِلهية المنزلة من الحكيم الحميد. إنَّ القوانين البشرية والأعراف البشرية تتصف بالظلم والجهالة والقصور التي يتصف بها البشر، لأنَّها ناتجة عنهم، والشريعة الإِلهية تتصف بالعدل والكمال، لأنَّها من عند الله العادل الكامل الحكيم.   (1) راجع في هذا الموضوع: أصول القانون لعبد المنعم فرج الصدَّة: ص 125. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2647 وقد لا نختلف مع علماء القانون الوضعي في أن القانون الوضعي أفضل من العرف البشري، ولكننا نضع القانون الوضعي والعرف البشري في كفة واحدة في مقابل الشريعة. إنَّ القوانين البشرية في كثير من الأحيان ظالمة قاسية توضع لمصلحة فريق من الناس ضدَّ بقية فئات المجتمعات، والأعراف قد تقوم على جهالات وضلالات موروثة يشقى بها المجتمع، وليس فيها منتفع كاسترقاق المدين المعسر عند الرومان وفي جاهلية العرب، وكوأد البنات والسائبة في الجاهلية، وكدفن الزوجة حيَّة مع زوجها إذا مات عند الهنود الوثنيين، وكدفن نفائس الأموال مع أصحابها عند قدماء المصريين (1) . الأعراف والعوائد البشرية تقف – في كثير من الأحيان – حاجزًا أمام دعاة الإِصلاح في مختلف العصور، فترى دعاة الحقَّ مظلومين منبوذين لدعوتهم الناس إلى الرجوع إلى الدَّين الحقَّ الذي أنزله الله تبارك وتعالى، ومطالبتهم الناس بترك ما هم عليه مما يخالف شريعة الإسلام وآداب الإِسلام. ولذلك فإنَّ الإسلام يأبى كلَّ الإِباء أن يكون العرف هو القاضي والحاكم بين الناس، كما يأبى أن يترك هذه المهمة لرجال من البشر يضعون للناس الشرائع والقوانين، ولذا فإنَّ الشريعة الإِسلامية عندما حكمت أقصت العرف وحصرته في دائرة ضيقة، وإبقاء الشريعة الإِسلامية للعرف في الدائرة التي حدَّدتها يمثل واحدًا من أسرار خلود الشريعة واستمرار صلاحيتها لكلَّ زمان ومكان، ذلك أن الشريعة لم تقع في الخطأ الذي وقع فيه رجال القانون عندما تبنوا أحكامًا متغيرة، فجعلوها ثابتة دائمة، ومن ذلك المسائل التي تركتها الشريعة للعرف مقرة تغيرها بتغير الزمان والمكان. وإذا أمعن الباحث النظر في مزايا العرف التي دونها رجال القانون، فإنَّه يجدها وهمًا، فكثير من الأعراف التي تسيطر على المجتمعات إنَّما سادت فيها بقوة الحاكم وسلطانه، فلما طال الأمد عَضَّوا عليها بالنواجذ، واتخذوها شِرْعة ومنهاجًا، وكثير من الأعراف التي يعدُّها الناس من محاسن العرف هي في الحقيقة أغلال وقيود. إن العوائد والأعراف تمثل نهجًا يختلط فيه الصواب بالخطأ، والحقُّ بالباطل، وهي تحتاج إلى تقويم وتهذيب، مثلها في ذلك مثل القوانين الوضعية والشريعة الإلهية هي الصالحة لتحقيق الخير الخاص من الشوائب.   (1) المدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى الزرقا، ص: 835. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2648 المبحث الرابع إقصاء الشريعة للعرف وحصره في دائرة ضيقة عندما انتصر الإِسلام، وحكمت شريعته الديار التي رضي أهله بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، أقصت الشريعة الإِسلامية أعراف تلك الأمم عن الصدارة، وحصرت تلك الأعراف في دائرة ضيقة، وهذا مقتضى كون الشريعة الإِسلامية مهيمنة على كلَّ الشرائع والقوانين والأعراف. وقد أكثر القرآن من التأكيد على وجوب تفرد هذه الشريعة المباركة بالحكم، وعدم جواز تقديم شيء عليها، لا قول حاكم، ولا حكم قاضٍ، ولا اجتهاد مفتٍ أو عالم، ولا عادة قوم ولا عرف أمة أو شعب {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) . {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (2) . وقد وعى علماؤنا الذين بحثوا في العرف ما علَّمهم الله إيَّاه، فإنَّهم نصُّوا على أن العرف الذي يصادم النصوص الشرعية عرف فاسد يجب رفضه، ولا يجوز الأخذ به بحال الأحوال. وقد تحدَّث الشاطبي عن العوائد التي أمر بها الشارع أمر إيجاب أو أمر استحباب أو نهى عنها نهي تحريم أو كراهة، وبيَّن أنَّه لا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيها، فلا يصحُّ أن ينقلب الحسن فيها قبيحًا، ولا القبيح حسنًا، حتى يقال مثلًا: "إنَّ كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح فلنُجِزْه أو غير ذلك. إذ لو صحَّ مثل هذا لكان نسخًا للأَحكام المستقرَّة المستمرَّة، والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل" (3) . وقول ابن عابدين مبينًا عدم اعتبار العرف إذا خالف النصَّ الشرعيَّ من الكتاب والسنة: "ولا اعتبار للعرف المخالف للنصّ، لأنَّ العرف قد يكون على باطل بخلاف النصّ كما قاله ابن الهمام " (4) . ويقول ابن نجيم: "وإنَّما العرف غير المعتبر في المنصوص عليه. قال في "الظهيرية" من الصلاة: وكان محمد بن الفضل يقول: الصرَّة إلى موضع نبات الشعر من العانة ليست من العورة لتعامل العمال في الإِبداء عن ذلك الموضع عند الاتزار، وفي النزع عن العادة الظاهر نوع حرج، وهذا ضعيف وبعيد، لأنَّ التعامل بخلاف النصّ لا يعتبر" (5) .   (1) سورة النساء: الآية 65. (2) سورة النور: الآية 51. (3) الموافقات: 2 /209. (4) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /113. (5) الأشباه والنظائر: ص 94. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2649 المبحث الخامس تقديم الأعراف البشرية على الشريعة الإِسلامية استمرَّت الشريعة الإِسلاميَّة حاكمة للديار الإِسلامية أكثر من ألف وثلاثمائة عام، ثمَّ جاء الذين رضعوا ثقافة الغرب وتغذَّوا بلبانه الذين غزا الفكرُ الغربيُّ عقولَهم، وأشربت قلوبُهم حبَّ ما جاءهم من عنده ولو كان سمًّا زعافًا، جاء هؤلاء لِيُقْصوا الشريعة الإِسلامية المباركة، ويُحِلُّوا القوانين الوضعية محلّها، ثم جعلوا العرف المصدر الاحتياطي الأول، وقدَّموا رتبته على مبادئ الشريعة مما يدلُّ على مدى هوان الشريعة الإِسلامية على هؤلاء الذين هم من جلدتنا ويتكلَّمون بألسنتنا، ولكنَّهم كانوا أشدَّ خطرًا علينا من أعتى أعدائنا. عندما أرادت مصر أن تضع قانونًا مدنيًّا في عام 1936م لتطبقه في عام 1949م جعلت المادَّةُ الثانية فيه الشريعةَ الإِسلامية نكرة، وجاء نصُّ المادة هكذا: "تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها وفحواها. فإذا لم يوجد نصٌّ تشريعى يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة. ويستلهم في ذلك الأحكام التي أقرَّها القضاء والفقه مصريًّا كان أو أجنبيًّا، وكذلك يستلهم مبادئ الشريعة الإِسلامية (1) . أين موقع الشريعة؟ وأين مكانها؟ هل أبقى واضع هذه المادة لهما شيئًا؟ كأني به إنَّما وضع اسمها خجلًا وتعذُّرًا، ولولا ذلك لما تفضَّل بذكره، وعندما هاج المسلمون في ذلك الوقت وثاروا على هذا الوضع المشين، وكتب من كتب وخطب من خطب عدلت هذه المادة لتحلَّ مبادئ الشريعة بعد العرف، وأصبحت المادة هكذا: " تُسرى النصوص التشريعية التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها، فإذا لم يوجد نصٌّ تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإِسلامية الأكثر ملاءمة لنصوص هذا القانون" (2) . لقد قدَّم واضع القانون مبادئ الشريعة على مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، ولكنَّه قدَّم عليها القانون الوضعي الذي صاغه البشر، كما قدَّم عليها أعراف البشر، وجعلها مصدرًا احتياطيًّا تاليا للعرف فإلى الله المشتكى. وسارت القوانين المدنية في أكثر البلاد الإِسلامية على النحو الذي سار عليه القانون المدني المصري. * * *   (1) القانون المدني الأعمال التحضيرية: 1 /182. (2) القانون المدني الأعمال التحضيرية: 1 /190. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2650 الفصل الثاني حجية العرف المبحث الأول نطاق العرف ومجاله رأينا فيم سبق كيف كانت عوائد البشر تشكَّل إطارًا يحكم المجتمعات الإِنسانية، وكيف نُصَّبت تلك العوائد جدارًا صلبًا يقف في وجه الشرائع التي ينزلها الله على عباده عبر رسله ومن خلال كتبه، ورأينا كيف قلّصت الشريعة سلطان العرف ودائرته عندما كانت هي الحاكمة في الديار الإِسلامية، فأبطلت العوائد المنحرفة الضالَّة، وقوَّمت الأعراف الخاطئة، وأقرَّت من العوائد والأعراف ما كان حقًّا وصوابًا. ويمكننا أن نحدَّد الدائرة التي أذنت الشريعة الإِسلامية للمسلمين أن يرجعوا فيها إلى العرف في المجالين التاليين: الأول: تفسير النصوص التي وردت مطلقة ولم يرد في الشرع ولا في اللغة ما يفسَّرها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا: "كل اسم ليس له حدٌّ في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف" (1) . ويقول السيوطي: "قال الفقهاء: ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له فيه، ولا في الذمَّة يُرْجع فيه إلى العرف" (2) . وقال الزركشي: "العادة تُحَكَّم فيما لا ضبط له شرعًا" (3) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الأسماء التي علَّق الله بها الأحكام في الكتاب والسنة منها ما يعرف حدُّه ومسمَّاه بالشرع، فقد بينه الله ورسوله كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحجَّ والإِيمان والإسلام والكفر والنفاق.   (1) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام: 7 /40. (2) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 98. (3) المنثور في القواعد، للزركشي: ص 356. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2651 ومنه ما يعرف حدُّه باللغة كالشمس والقمر والسماء والأرض والبحر والبر. ومنه ما يرجع حدُّه إلى عادة الناس وعرفهم، فيتنوع بحسب عادتهم كاسم البيع والنكاح والقبض والدرهم والدينار ونحو ذلك من الأسماء التي لم يحدَّها الشارع بحدّ، ولا لها حدّ واحد يشترك فيه جميع أهل اللغة، بل يختلف قدره وصفته باختلاف عادات الناس (1) . الثاني: الأحكام التي لم تأمر بها الشريعة ولم تنه عنها، وهذا النوع ليس للشريعة غرض في فعلها على نحو معيَّن، وإنَّما المراد فعلها على أي وجه كان هذا الفعل، وهذا يختلف باختلاف عوائد الناس وعرفهم. أما مجال العرف عند الأمم التي لا تحكَّم الشريعة الإِسلامية، فقد سبق القول بأنَّ العرف كان بمثابة القانون والدستور عند الأمم قبل تدوين قوانينها، فلما دونت القوانين بقى العرف مصدرًا رسميًّا للقواعد القانونية في مختلف فروع القانون، كما جعل العرف مصدرًا احتياطيًّا في كثير من القوانين يلجأ إليه القاضي في المسائل التي لا يجد فيها نصًّا في القانون. ومن هنا، فإِن القانونيين يصرَّحون بأنَّ العرف لا يستطيع إِلغاء أو مخالفة نصوص القانون الآمرة، ولكنهم أعطوه الحقَّ في مخالفة النصوص المفسَّرة أو المكملة لإِرادة المتعاقدين دون إلغائها. وقد سبق القول بأنَّ الشريعة الإِسلامية تأبى كلَّ الإِباء بأن تُسَاوى بقوانين البشر وعرفهم فضلًا عن أن تقدم عليها هذه القوانين والأعراف. المبحث الثاني موقف العلماء من الاحتجاج بالعرف لا خلاف بين أهل العلم من الأصوليين والفقهاء والمفسَّرين والمحدَّثين في اعتبار العرف في المجالين الذين سبق تحديدهما. يقول الشيخ أحمد فهمي أبو سنَّة: "اعتبر الفقهاء – على اختلاف مذاهبهم – العرف، وجعلوه أصلًا ينبني عليه شَطْرٌ عظيم من أحكام الفقه" (2) . وفي اعتبار الشرع للعرف يقول ابن عادين في أرجوزة له: والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار (3) .   (1) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام. 19/ 235 (2) العرف والعادة، لأحمد فهمي أبو سنَّة: ص 33 (3) نشر العرف: راجع مجموعة رسائل ابن عابدين: 2/112. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2652 ويقول أيضًا: "اعتبار العادة والعرف رُجِع إليه في مسائل كثيرة، حتى جعلوا ذلك أصلًا فقالوا في الأصول في باب "ما تترك به الحقيقة: " تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة، هكذا ذكر فَخر الإِسلام، وفي "شرح في الأشباه" للبيرمي، قال: الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي. وفي المبسوط: الثابت بالعرف كالثابت بالنصّ " (1) . وقال القرافي: "كلُّ من له عرف سيحمل كلامه على عرفه" (2) . وقد بوَّب البخاريُّ في "جامعه الصحيح" للعرف الصحيح الذي أقرته الشريعة، فقال: "باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإِجارة والمكيال والميزان، وسننهم على نيَّاتهم ومذاهبهم المشهورة " (3) . وأورد تحت هذا الباب قول شُرَيْحَ للغَزَّاليِن: "سُنَّتَكُم بينكم". ومراده أن الذي يحكمهم هو ما تعارفوا عليه، وأصبح لهم سنَّةً وطريقة، وأورد تحت هذا الباب اكتراء "الحسن البصري من عبد الله بن مِرْداس حمارًا، فقال له الحسن: بكم؟ قال: بدانقين. فركبه ثمَّ جاء مرة أخرى، فقال: الحمارَ الحمارَ، فركبه ولم يشارطه، فبعث إليه بنصف درهم". فالحسن لم يشارطه في المرة الثانية، بل اكتفى بالاتفاق الأول، وإن كان زاده دانقًا من عنده تفضلًا. وأورد البخاريُّ تحت هذا الباب حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها: "قالت هند أمُّ معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أبا سفيان رجل شحيح، فهل على أن آخذ من ماله سرًّا؟ قال: ((خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف)) (4) . وأورد حديث عائشة أنَّها فسَّرت قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (5) . قالت "أُنْزِلت في والي اليتيم الذي يقيم عليه، ويصلح في ماله إن كان فقيرًا أكل منه بالمعروف" (6) . قال ابن حجر في شرحه لترجمة الباب: "قال ابن المنير: مقصوده بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف، وأنَّه يُقْضى به على ظواهر الألفاظ، ولو أن رجلًا وكَّل رجلًا في بيع سلعة فباعها بغير نقد البلد الذي عرف الناس لم يجز، وكذا لو باع موزونًا أو مكيلًا بغير الوزن أو الكيل المعتاد".   (1) نشر العرف: راجع مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /113. وانظر الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 93 (2) الفروق، للقرافي: 1 /76. (3) صحيح البخاري: انظر فتح الباري: 4 /405. (4) صحيح البخاري: انظر فتح الباري: 4 /405. (5) سورة النساء: الآية 6. (6) صحيح البخاري: فتح الباري: 4 /405. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2653 ونقل عن القاضي حسين من الشافعية: "أنَّ الرجوع إلى العرف أحد القواعد الخمس الذي يبنى عليها الفقه. فمنها: الرجوع إلى العرف في معرفة أسباب الأحكام من الصفات الإِضافية، كصغر ضبة الفضة وكبرها، وغالب الكثافة في اللحية ونادرها، وقرب منزل وبعده، وكثرة فعل أو قلته في الصلاة … وثمن مثل، ومهر المثل، وكفء نكاح، ومؤنة نفقة وكسوة وسكنى، وما يليق بحال الشخص من ذلك. ومنها: الرجوع إليه في المقادير كالحيض والطهر، وأكثر مدة الحمل وسن اليأس. ومنها: الرجوع إليه في فعل غير منضبط يترتب عليه الأحكام كإِحياء الموات، والإِذن في الضيافة، ودخول بيت قريب، وتبسط مع صديق، وما يعدُّ قبضًا وإِيداعًا وهديَّة وغصبًا وحفظ وديعة انتفاعًا بعارية. ومنها: الرجوع إليه في أمر مخصوص كألفاظ الأيمان، وفي الوقف والوصيَّة والتفويض ومقادير المكاييل والموازين والنفوذ وغير ذلك (1) . المبحث الثالث الأدلَّة على اعتبار العرف سبق أن بيَّنا أن أهل العلم على اختلاف مذاهبهم أصدروا كثيرًا من الأحكام والفتاوى بناء على ما تعارف أهل عصرهم عليه. وقد استدلَّوا على اعتبار القدر الذي حدَّدناه في العرف بأدلة منها: 1- النصوص المطلقة التي وردت في الكتاب والسنة، وترك تفسيرها وتحديدها إلى عرف أهل كل عصر وبلد، وسيأتي ذكر أمثلة كثيرة لهذا النوع من العرف. 2- واستدلُّوا بقاعدة رفع الحرج، ووجه الاستدلال أن ثبات العوائد على حكم واحد على الرغم من تغيُّرها وتبدُّلها يوقع الناس في حرج شديد، وضيق أكيد، ويخرج الأحكام التي تنسب إلى الشريعة عن جادَّة العدل والرحمة التي تتصف بهما الشريعة إلى الظلم والقسوة اللذين برأ الله شريعته من الاتصاف بهما. يقول الشاطبي في هذا المعنى: " العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعًا، كانت شرعية في أصلها أو غير شرعية، أي سواء كانت مقررة بالدليل شرعًا أو أمرًا أو إذنًا أم لا؟ " (2) . ويقول مبينًا وجه ضرورتها: "لو لم تعتبر العوائد لأدَّى إلى تكليف ما لا يطاق، وهو غير جائز أو غير واقع" (3) .   (1) فتح الباري: 4 /406. (2) الموافقات: 2 /211. (3) الموافقات: 2 /212. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2654 ويقول ابن عابدين مبيَّنًا الآثار السيئة المترتبة على عدم اعتبار العرف وعدم مراعاة تغيُّرها من قبل العلماء والقضاة والمفتين: "كثير من الأحكام تختلف باختلاف عادات الزمان لتغيّر عرف أهله أو لحدوث ضرورة فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا للزم منه المشقَّة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتمّ نظام وأحسن إِحكام" (1) . واستدل كثير من الباحثين في العرف والعوائد على حجيتها بقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (2) . ولا يتم الاستدلال بهذه الآية إلاَّ بناء على القول بأنَّ المراد بالعرف فيها المعنى الاصطلاحي، وقد بَيَّنتُ فيما سبق أن المراد بالعرف في الآية العرف المعني الذي قال فيه ابن الأثير: "هو اسم جامع لكلَّ ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإِحسان إلى الناس، وكلّ ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات، وهو من الصفات الغالبة، أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه" (3) . واستدلَّ آخرون على حجيَّة العرف بحديث رفعوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) . وهذا الحديث لا يصحُّ رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. قال السيوطيُّ بعد أن ساق الحديث في "أشباهه": "قال العلائيُّ: ولم أجده مرفوعًا في شيء من كتب الحديث أصلًا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال. وإِنَّما هو من قول عبد الله بن مسعود أخرجه أحمد في مسنده" (4) . وقد أكد العجلونيُّ عدم صحة رفع الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقل عن الحافظ ابن عبد الهادي أن إِسناد المرفوع إسنادٌ ساقط، ونبَّه العجلونيُّ أيضًا إلى أمرين: الأول: أن الحديث رُوي بإسناد حسن إلى ابن مسعود موقوفًا عليه. والثاني: أن الحديث الموقوف رواه أحمد في كتاب "السنَّة" لا في "المسند" كما عزاه إليه بعض أهل العلم.   (1) نشر العرف: (انظر مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /123. (2) سورة الأعراف: الآية 199. (3) النهاية، لابن الأثير: 3 /216. (4) الأشباه والنظائر: ص 89. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2655 وذكر العجلونيُّ أيضًا أنَّه أخرجه البزَّار والطيالسيُّ والطبرانيُّ وأبو نعيم والبيهقيُّ في "الاعتقاد" عن ابن مسعود (1) . هذه هي الأدلة التي استدلَّ بها الفقهاء على حجيَّة العرف في الدائرة التي يجوز أن يستند فيها إلى العرف والعوائد. أما العرف عند القانونيين فإنَّهم اختلفوا في مصدر قوته، ففريق منهم يرى أن أساس قوته الملزمة هو رضا واضع القانون عنه وقيامه على تطبيقه، فيعتبر بذلك إرادة ضمنية له كما يعتبر التشريع إرادة صريحة. وهذا الاتجاه يعتبر القانون وليد إرادة الدولة بحيث لا يتصوَّر وجود قانون دون الاستناد إلى هذه الإِرادة. ويكفي للرد على هذا الاتجاه أن العرف كان أسبق في الوجود من القانون المدوَّن ممَّا يدل على أنَّه مصدرٌ مستقلٌ عن القانون لا يحتاج إلى صدور قانون به. وذهب فريق وهم القائلون بالمذهب التاريخي إلى إِسناد قوة إلزام العرف إلى "الضمير الجماعي" وهذا الضمير يحلُّ عندهم محلَّ إرادة مصدر القانون. ويرى فريق ثالث أن أساس قوة العرف هو قضاء المحاكم بتطبيقه لا من باب إلزام العرف من تلقاء نفسه، ويرى "لامبير" القانوني الفرنسيّ أن العرف لم يَخْرج من العادات الشعبية، وإنَّما خرج من أحكام الكهنة والقضاة الذين كانوا يستمدُّون سلَطَتهم في القضاء من صفتهم الدينية نظرًا لاختلاط القانون بالدَّين حينئذ، ولم يتغيَّر الحال بعد ذلك، لأنَّ القضاة أصبحوا يستمدّون سلطتهم في القضاء من الدولة لا من الدين. ويرى القانونيون في هذا العصر أن قوة العرف مستمدَّة من الضرورة الاجتماعية التي تفرضه وتحتَّم وجوده حين لا يوجد قانون مدوَّن كما في الجماعات البدائية أو حين يكون القانون المدوَّن ناقصًا كما في الجماعات الحديثة (2) . ونحن في هذا ليس لنا غرض في مناقشة هذه النظريات والموازنة بينها، بل نرى أن القانونيين أخطأوا ليس في نظرتهم إلى مصدر قوَّة العرف فحسب، بل في نظرتهم إلى أساس قوة القانون، ففلاسفة اليونان يجعلون الحاكم أو السلطان هو صاحب الحقَّ في سنَّ القوانين، والعلماء الغربيون جعلوا ذلك حقًّا من حقوق المجالس التشريعية المسمَّاة بالبرلمان أو مجلس الأمة.   (1) كشف الخفاء ومزيل الإِلباس، للعجلوني: 2 /185. (2) راجع أصول القانون، للدكتور حسن كيره: ص 346 – 354. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2656 ونحن نرفض ذلك كلَّه ونقول: إن حقَّ التشريع لله وحده، ولا يجوز لغيره إصدار القوانين والتشريعات إلاَّ في الدائرة التي تتركها الشريعة للفقهاء والعلماء وولاة الأمر، وبذلك يظهر أن بحث القانونيين في أساس قوة العرف كبحثهم في أساس قوة القانون كلاهما على غير أساس (1) . المبحث الرابع العرف ليس دليلًا مستقلًّا من أدلَّة الأحكام عندما يدقَّقُ الباحث النظر في مباحث الأصوليين والفقهاء يعلم يقينًا أن العرف ليس دليلًا مستقلاًّ من أدلَّة الفقه الإِسلامي، وقد خَلْص إلى هذه النتيجة عالمان معاصران أطالا البحث في العرف واستقصيا فيه. يقول الشيخ أحمد أبو سنَّة في رسالة ألَّفها في هذا الموضوع: "فتمَّ بهذا أن العرف مطلقًا لا يمكن أن يجعل مقياسًا للخير، كما لا يمكن أن يتخذه الفقيه دليلًا على قواعد صالحة لتنظيم روابط الناس ما لم يؤيده أصل من أصول الفقه " (2) . ونقل الشيخ أبو سنَّة أقوال بعض الفقهاء التي قد يفهم منها أن العرف دليل بنفسه، ثم قال: "إنَّ العرف في هذه النصوص ليس دليلًا على الحقيقة، وإنَّما هو دليل ظاهر فقط، وبانضمام النظر يرى دائمًا مردودًا إلى دليل آخر من الأدلَّة الصحيحة " (3) . وتوصَّل إلى هذه النتيجة الدكتور السيد صالح عوض في بحثه القيَّم المعنون: "بأثر العرف في التشريع الإِسلامي "، فقد جاء في خاتمة بحثه قوله: "في الحديث عن مدى اعتبار العرف في التشريع تبيّن لنا أن العرف ليس مصدرًا من مصادر التشريع، ولا دليلًا بالمعنى الذي تطلق عليه كلمة مصدر أو دليل" (4) . وقال مثل ذلك الشيخ عبد الوهاب خلاَّف، فقد جاء في بحثه عن العرف: "والعرف عند التحقيق ليس دليلًا شرعيًّا مستقلًا" (5) .   (1) راجع في هذا كتابنا: الشريعة الإلهية: ص 164. (2) العرف والعادة، لأحمد أبي سنَّة: ص 32. (3) العرف والعادة، لأحمد أبي سنَّة: ص 32. (4) أثر العرف، لسيد صالح عوض: ص 617. (5) علم أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف: ص 91. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2657 المبحث الخامس الشروط التي يجب توفرها في العرف الذي يحتجُّ به اشترط علماؤنا في العرف الذي يعتبر شرعًا عدَّة شروط: الأول: أن لا يخالف العرف الشريعة، فإن خالف العرف نصًّا شرعيًّا أو قاعدة من قواعد الشريعة فإنَّه عرف باطل. فالعرف الذي يُحلُّ الحرام، ويحرَّم الحلال، ويناقض الشريعة لا يجوز أن يصير العباد إليه، وهو ليس من المعروف، بل من المنكر الذي تجب محاربته مثل ما اعتاده الناس من أكل الربا والتبرج ومنكرات الأفراح والمآتم وعقود المقامرة وحرمان النساء من الإِرث في بعض البلاد وأخذ الرشوة ولبس الرجال الذهب والحرير. وقد سبق الحديث عن هذا النوع من العرف وهو الذي يسمَّيه الفقهاء بالعرف الفاسد أو العرف الباطل. الثاني: أن يكون العرف مطّردًا أو غالبًا، ومعنى اطراده أن يكون العمل بالعرف مستمرًا في جميع الحوادث، لا يتخلف في واحدة منها، أو يكون غالبًا في أكثر الحوادث. يقول السيوطيُّ: إنَّما تعتبر العادة إذا اطَّردت، فإن اضطربت فلا، وإن تعارضت الظنون في اعتبارها فخلاف (1) . وعزا السيوطيّ إلى إمام الحرمين قوله في باب الأصول والثمار: كلُّ ما يتَّضح فيه اطراد العادة فهو المحكم، ومُضْمَرُه كالمذكور صريحًا" (2) . وقال ابن نجيم: "إنَّما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت، ولذا قالوا في البيع: لو باع بدراهم أو دنانير وكانا في بلد اختلفت فيه النقود مع الاختلاف في المالية والرواج انصرف البيع إلى الأغلب. قال في الهداية: "لأنَّه هو المتعارف، فينصرف المطلق إليه". ومنها لو باع التاجر في السوق شيئًا بثمن ولم يصرَّحا بحلول ولا تأجيل، وكان المتعارف فيما بينهم أن البائع يأخذ كلَّ جمعة قدرًا معلومًا انصرف إليه بلا بيان. قالوا: لأنَّ المعروف كالمشروط" (3) .   (1) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 92. (2) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 92. (3) الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 92. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2658 الثالث: أن يكون العرف المراد العمل به والسير وفقه موجودًا عند إنشاء التصرف. ومن هنا قال السيوطي: "العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنَّما هو المقارن السابق دون المتأخر (1) . وقال ابن نجيم: العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنَّما هو المقارن السابق دون المتأخر، ولذا قالوا: لا عبرة بالعرف الطارئ (2) . الرابع: أن لا يصرح المتعاقدان بخلافه فلو صرَّحا بخلافه فلا حكم للعرف، فإذا كان العرف جاريًا على أن يدفع المستأجر الأجرة مقدمًا في أول كلَّ شهر فاتفقا على دفع أجرة المنزل في آخر الشهر جاز. وفي هذا يقول العزُّ بن عبد السلام: "كلُّ ما يثبت في العرف إذا صرَّح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد صحَّ. فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكل وشرب لزمه ذلك، ولو شرط عليه أن لا يصلي الرواتب، وأن يقتصر في الفرائض على الأركان صحَّ، ووجب الوفاء بذلك، لأنَّ تلك الأوقات إنمَّا خرجت عن الاستحقاق بالعرف القائم مقام الشروط، فإذا صرَّح بخلاف ذلك مما يجوَّزه الشرع ويمكن الوفاء به جاز" (3) . والباحثون في القانون الذين يفرَّقون بين العادة والعرف يشترطون في الركن المادي وهو العادة عدة شروط (4) . وهم يوافقون الفقهاء في اشتراط كون العادة عامَّة مطردة وقديمة، ويعنون بالقديمة أن يكون مضى على نشوئها مدة طويلة تدلُّ على رسوخ أثرها في النفوس وقيام عرف مستقرًّ على أساسها، والفقهاء لم يبحثوا في قِدَم العادة، وكلُّ ما اشترطوه هو وجود العرف عند إنشاء التصرف، والشرطان مؤداهما واحد. ويشترط الفقهاء عدم تصريح المتعاقدين بخلاف العرف، فلو صرَّحا فلا حكم للعرف، والقانونيون يرون أن العرف ملزم لا يجوز للمتعاقدين مخالفته، لأنَّه بمثابة القاعدة القانونية، ولا شكَّ أن نظر الفقهاء أدقُّ وأهدى، فإنَّ الإِلزام به إنما يكون عندما يحصل الخلاف، ولا اتفاق عندئذٍ لا يكون أمامنا إلاَّ عرف الناس المماثل للقضية المطروحة، فإذا صرَّحا بخلافه فلا شك في عدم المصير إليه.   (1) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 96. (2) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 101. (3) قواعد الأحكام للعزَّ بن عبد السلام: 2 /186. (4) انظر هذه الشروط في كتاب أصول القانون، للدكتور عبد المنعم فرج الصدَّة: ص 127؛ وأصول القانون، للدكتور حسن كيرة: ص 334. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2659 والفقهاء يصرَّحون ببطلان العرف الذي يخالف نصًّا من نصوص الشريعة، والقانونيون يرون بطلان العرف إذا خالف قاعدة نصَّ عليها القانون، وقد بينا الظلم الكبير الذي وقع على الشريعة بسب إِقصائها وتحكيم القوانين الوضعية في رقاب المسلمين. واشترط القانونيين عدم مخالفة العادة للنظام العام أو لآداب المجتمع، ولا حاجة بالفقهاء للنصَّ على هذا الشرط، لأنه داخل في شرطهم الكبير، وهو عدم مخالفة العرف للشريعة، والشريعة تضمُّ الأحكام الأخلاقية والآداب الاجتماعية التي يجب الالتزام بها، كما تضمُّ الأحكام العملية، والأحكام الاعتقادية. المبحث السادس أقسام العرف وأمثلته قَسَّم الفقهاء العرف إلى عرف قوليّ وعرف عمليّ من جهة، وعرف عامّ وعرف خاصّ من جهة أخرى، وأطالوا في التمثيل للمسائل التي تبنى على العرف، وسنورد في هذا البحث ثلاثة مطالب لتجلية هذه المسائل الثلاث. المطلب الأول العرف القولي والعرف العملي العرف القولي أو اللفظي هو الذي يسمَّيه الأصوليون بالحقيقة العرفية، ويسمَّيه بعض الفقهاء بالعادة في اللفظ، وقد عرَّفه ابن عابدين، بقوله: "العرف القولي: هو أن يتعارف قوم إِطلاق اللفظ لمعنى بحيث لا يتبادر عند سماعه إلاَّ ذلك المعنى" (1) . وعرَّفه القرافي بقوله: "العادة في اللفظ: أن يغلب إِطلاق لفظ أو استعماله في معنى حتى يصير هو المتبادر من ذلك اللفظ عند الإِطلاق مع أن اللغة لا تقتضيه، فهذا هو معنى العادة في اللفظ، وهو الحقيقة العرفيَّة، وهو المجاز الراجح في الأغلب، وهو معنى كلام الفقهاء أن العرف يُقَدَّم على اللغة عند التعارض، وكلُّ ما يأتي من هذه العبارات" (2) .   (1) تنبيه الرقود على أحكام النقود، لابن عابدين: ص 36. وهذا التعريف عزاه ابن عابدين، لابن أمير حاج. (2) الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، للقرافي: ص 234. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2660 وقال فيه شيخ الإِسلام: " الحقيقة العرفيَّة: هي ما صار اللفظ دالاَّ فيها على المعنى بالعرف لا باللغة، وذلك المعنى يكون تارة أعمّ من اللغوي، وتارة أخصّ، وتارة مباينًا له. فالأول: مثل لفظ (الرقبة) ، و (الرأس) ، كان يستعمل في العضو المخصوص، ثمَّ صار يستعمل في جميع البدن (1) . والثاني: أن يوضع الاسم لمعنى عامّ، ثم يُخَصص عرفُ الاستعمال من أهل اللغة ذلك الاسم ببعض مسمياته، كاختصاص اسم الدابّة بذوات الأربع مع أن الوضع لكلَّ ما يدبَّ، واختصاص اسم المتكلم بالعالم بعلم الكلام مع أن كلّ قائل ومتلفظ متكلم، كاختصاص اسم الفقيه ببعض العلماء وبعض المتعلمين مع أن الوضع عامّ. قال الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (2) . وقال" {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (3) .وقال عزَّ وجلَّ: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (4) والثالث: أن يصير الاسم شائعًا في غير ما وضع له أولًا بل فيما هو مجاز فيه، كالغائط المطمئن من الأرض، والعذرة البناء الذي يستتر به، وتقضى الحاجة من ورائه، فصار أصل الوضع منسيًّا والمجاز معروفًا سابقًا إلى الفهم بعرف الاستعمال" (5) . ومثَّل شيخ الإسلام للثالث بلفظ "الغائط" و "المزادة". و "الظعينة" و "الراوية". فإنَّ الغائط في اللغة هو المكان المطمئنُّ من الأرض، فلمَّا كانوا ينتابونه لقضاء حوائجهم سَمُّوا ما يخرج من الإِنسان باسم محله. والظعينة اسم الدابَّة، ثمَّ سَمُّوا المرأة التي تركبها باسمها، ونظائر ذلك (6) . ومن أمثلة العرف القولي إطلاق النّاس الولد على الذكر دون الأنثى، ومع أن الشريعة تطلقه على الذكر والأنثى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (7) . والعرف العملي ما جرى عليه عمل الناس وتعارفوه في معاملاتهم وتصرفاتهم، فمن ذلك اعتياد الناس أجرة معينة لبعض الأعمال، مثل ما تعارف عليه أصحاب سيَّارات الأجرة والنقل من أجرة معيَّنة عند نقل الركاب من مكان إلى مكان، ومثل تعارف الناس على البيع بالمعاطاة من غير إِيجاب وقبول عند شراء حوائجهم من أسواقهم وحوانيتهم.   (1) مجموع الفتاوى شيخ الإِسلام: 7 /96. (2) سورة البقرة: الآية 31. (3) سورة الرحمن: الآيتان 3، و4. (4) سورة النساء: الآية 78. (5) المستصفى، للغزالي: 1 /325. (6) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام: 7 /97. وانظر: المطلع على أبواب المقنع: ص 391. (7) سورة النساء: الآية 11. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2661 وتعارفهم على أن من ينقل الركاب يكتفي بالأجرة ولا يطلب قيمة ما تستهلكه السيارة من وقود وزيوت. وتعارفهم في كثير من الصناعات على عدم دفع شيء غير الأجرة، فلا يدفعون للخياط قيمة ما يستهلكه من خيوط وإِبر، ولا يدفعون إلى القصَّار والبنَّاء قيمة ما يستهلك من أخشاب وأدوات. ومن ذلك ما تعارف عليه أصحاب الشركات على أن العامل يستحقُّ يوم عطلة من عمله كلَّ أسبوع، كما يستحقُّ إِجازة سنويَّة لها عدد محدَّد من الأيام. وجرت العادة في بعض البلاد على إِعادة ظرف الهدية إلى المُهْدي، وجرت العادة في بلاد أخرى على عدم ردَّها، وكلُّ قوم يتعاملون وفق عرف أهل بلادهم. المطلب الثاني العرف العام والعرف الخاص ويُقْسَمُ العرف إلى عام وخاص: فالعرف العامُّ هو الذي يكون فاشيًا في جميع البلاد بين جميع الناس في أمر من الأمور. ومن العرف العامَّ ما يكون عالميًّا كتعارف الناس على تسمية أيام الأسبوع، وكاتفاقهم على بداية الأشهر والسنوات، واتفاقهم على عدد أيام السنة ونحو ذلك. ومن العرف العامَّ ما يكون شائعًا عند جميع المسلمين، كلفظ (دابُّة) ، فإن وضع هذه الكلمة بأصل اللغة كلَّ ما يدبُّ على الأرض من ذي حافر وغيره، ثمَّ هُجر الوضع الأول، وصارت في العرف حقيقة للفرس، ولكلّ ذات حافر. ومن العرف العامَّ كلُّ ما شاع استعماله في غير موضعه اللغويّ كالغائط والعذرة والراوية، فإنَّ حقيقة الغائط المطمئنُّ من الأرض، والعذرة فناء الدار، والراوية الجمل الذي يستقى عليه الماء (1) ، وقد سبق بيان هذا. والعرف الخاص هو الذي يختصُّ ببلد أو فئة أو طائفة من الناس، مثل عرف النحاة في إطلاق اسم الفاعل على كل اسم مرفوع تقدَّمه فعل ودلَّ على فعل الفعل، وتعارف بعض البلاد على دفع الأجرة في أول العام، وآخرون في آخر العام، ونحو ذلك.   (1) راجع شرح الكوكب المنير، لابن النجار: 1 /150. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2662 المطلب الثالث أمثلة للعرف والعوائد الصحيحة جاءت كثير من النصوص الشرعية في كثير من الأحكام مطلقة، وتركت الشريعة التفصيل فيها للعرف واجتهاد الفقهاء تبعًا لتغيَّر الظروف والأحوال والأماكن والأزمان. 1- فمن ذلك تقدير النفقة الواجبة على الزوج نحو مطلقته المنصوص عليها في قوله: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (1) . فهذا التقدير متروك إلى أعراف الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة، ولم تحدّ الشريعة فيه حدًّا يُنْتَهى إِليه. 2- ومِثْل ذلك يقال في تقدير النفقة المنصوص عليها في قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) . قال العزُّ بن عبد السلام: "السكنى وماعون الدار يرجع فيها إلى العرف من غير تقدير، والغالب أن ما رُدَّ في الشرع إلى المعروف أنَّه غير مقدَّر، وأنَّه يرجع فيه إلى ما عرف الشرع أو إلى ما يتعارفه الناس (3) 3- ومثل ذلك يقال في تقدير المسافة في السفر الذي يجوز فيه قصر الصلاة وجمعها، فإنَّ مناط الحكم فيهما "السفر" أما تحديد السَّفر فيختلف من زمان إلى زمان. وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "عَلَّق الله ورسوله القصر والفطر بمسمَّى السفر، ولم يَحُدَّه، ولا فرَّق بين طويل وقصير، ولو كان للسفر مسافة محدَّدة لبينه الله ورسوله، ولا له في اللغة مسافة محدودة، فكلُّ ما يسميه أهل اللغة سفرًا فإنه يجوز فيه القصر والفطر، كما دلَّ عليه الكتاب والسنَّة. وقد أطال شيخ الإسلام في بيان اختلاف العلماء في هذه المسألة، وذِكْرِ أدلتهم ومناقشتها، وإيراد الأدلة التي ترجَّح أن المرجع في تحديد السفر هو العرف (4) . 4- وأرجع شيخ الإسلام تفسير الخُفَّ الذي جاءت الأحاديث بإِجازة المسح عليه إلى العرف، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم أمر أمته بالمسح على الخفين، ولم يقيد ذلك بكون الخفّ يثبت بنفسه أولا يثبت بنفسه، وسليمًا من الخرق والفتق أو غير سليم، فما كان يسمى خفًّا ولبسه الناس ومشوا فيه مسحوا عليه المسح الذي أذن الله فيه ورسوله، وكلُّ ما كان بمعناه مسح عليه، فليس لكونه يسمَّى خفًا معنى مؤثر، بل الحكم يتعلق بما يُلْبَس ويُمْشى فيه (5) .   (1) سورة الطلاق: الآية 7. (2) سورة البقرة: الآية 233. (3) قواعد الأحكام: 1 /71. (4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 19 /243، 24 /40. (5) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام: 19 /242. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2663 5- وجعل الحقُّ – تبارك وتعالى – كفارة من حنث بيمينه إِطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم الحانث أهله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} (1) . وألزم من قتل صيدًا وهو محرم بالتكفير عن فعله، وأحد الكفَّارات المخيَّر بينها إِطعام مساكين: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} (2) . والذي يظاهر من أهله ولا يجد رقبة يعتقها، ولا يستطيع صيام شهرين متتابعين، فيجب عليه {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (3) . ومقدار الإِطعام الذي يكفي الفقير، ومقدار الوسط من طعام كلَّ شخص يُرْجع فيه كلَّه إلى عرف الناس في مختلف البلاد والأزمنة فقوم طعامهم الأرز، وآخرون التمر، وقوم السمك، وقوم ينوعون الطعام، وكلُّ يخرج من أوسط ما جرت عادته بأكله يقول ابن تيمية: "وكل يطعمون من أوسط ما يأكلون، كفاية غيره" (4) . 6- اتفق أهل العلم على أن السارق لا تقطع يده إلا إذا سرق المال من حِرْزِ مثله، وأرجعوا معرفة الحرز الذي تحفظ فيه الأموال إلى عادات الناس وأعرافهم، يقول ابن قدامة: "والحرز ما عُدَّ حرزًا في العرف، فإنه لما ثبت اعتباره في الشرع من غير تنصيص على بيانه علم أنَّه رَدَّ ذلك إلى أهل العرف لأنَّه لا طريق إلى معرفته من جهته، فيرجع إليه". والحِرْزُ عند الناس يختلف باختلاف الأموال كما هو مشاهد معروف، فحِرْز البهائم الحظائر، وحِرْز الأقمشة البيوت والمتاجر، وحِرْز الذهب والفضة الخزائن المحفوظة في جوف الدار أو بيوت الأموال. يقول العزّ بن عبد السلام: "حمل الودائع والأمانات على حِرْز المثل، فلا تحفظ الجواهر والذهب والفضة بإِحراز الثياب والأحطاب تنزيلًا للعرف منزلة تصريحه بحفظها في حرز مثلها" (5) .   (1) سورة المائدة: الآية 89. (2) سورة المائدة: الآية 95. (3) سورة المجادلة: الآية 4. (4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 19 /252. (5) قواعد الأحكام: 2 /127. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2664 ومن الأعراف الصحيحة التي أقرتها الشريعة الإِسلامية مراعاة ما عليه أهل كلَّ بلد في ألفاظهم وموازينهم ومكاييلهم، ومن أمثلة ذلك: 1- إذا حلف شخص فقال: "لا ركبت دابَّة، وكان في بلد عرفُهم في لفظ الدابَّة الحمار خاصة اختصت يمينه به، ولا يحنث بركوب الفرس ولا الجمل. وإن كان في عرفهم لفظ الدابَّة الفرس خاصة حملت يمينه عليها دون الحمار، وكذلك إن كان الحالف ممن عادته ركوب نوع خاص من الدواب كالأمراء ومن جرى مجراهم حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدواب، فيُفْتَى في كلَّ بلد بحسب عرف أهله، ويُفْتَى كلُّ أحد بحسب عادته (1) . 2- إذا حلف شخص لا اشتريت كذا، ولا بعته، ولا حرثت هذه الأرض ولا زرعتها، ونحو ذلك، وعادته ألا يباشر ذلك بنفسه كالملوك حنث قطعًا بالإِذن والتوكيل فيه، فإنَّه نفس ما حلف عليه (2) . 3- إذا حلف حالف: لا أكلت رأسًا في بلد عادتهم أكل رؤوس الضأن خاصة لم يحنث بأكل رؤوس الطير والسمك ونحوها، وإن كان عادتهم أكل رؤوس السمك حنث بأكل رؤوسها (3) . 4- إذا حلف شخص بألا يأكل ميتة فأكل سمكًا فإنَّه لا يحنث كما صححه الرافعيُّ وعلله بالعرف. ولو حلف لا يأكل دمًا لا يحنث بأكل الكبد والطحال (4) . 5- وإذا حلف إِنسان أن لا يضع قدمه في دار فلان، فدخل الدار راكبًا أو محمولًا على الأكتاف حنث، لأنَّ المعنى العرفيَّ لوضع القدم في الدار يعني الدخول فيها على أي صورة كان، وليس المراد منه مجرد وضع القدم. 6- إذا وكَّل رجلٌ آخر في البيع، ولم يقيده بشيء فإنَّ الموكَّل يتقيد بثمن المثل وغالب نقد البلد تنزيلًا للغلبة منزلة صريح اللفظ، كأنه قال للوكيل: بع هذا بثمن مثله من نقد هذا البلد. فإذا باع الوكيل الدار التي تساوي عشرات الألوف من الدنانير ببضعة دنانير فعند أهل العرف أن هذا لا يقبل، لأنَّ قول الموكَّل لوكيله: بع داري يجب حمله على ثمن مثلها (5) .   (1) إعلام الموقعين: 3 /64. (2) إعلام الموقعين: 3 /65. (3) إعلام الموقعين: 3 /65. (4) التمهيد: ص 234. (5) هذا المثال والأمثلة التي بعدها مستفادة من أمثلة كثيرة ذكرها العزُّ بن عبد السلام في قواعد الأحكاك: 2 /126، ولكن بشيء من التصرف والاختصار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2665 7- إِذا وكَّل الرجل الشريف الفاضل الغنيُّ شخصًا بتزويج ابنته، فزوَّجها من فاسق مشوَّه الخَلْق على نصف درهم، فإنَّ أهل العرف يقطعون بعدم الجواز، لأنَّ الإِذن المطلق في مثل هذا يحمل على الكفء ومهر المثل. 8- إذا وكَّل غيره في إجارة داره سنة، وأَجرة مثلها ألف، فأجَّرها بنصف دينار لا يصحّ، لأنَّ العرف يلزم بتأجيرها بأجرة المثل. 9- إذا طلب شخص من صانع أن يصنع له شيئًا، فإنَّه يجب أن يصنع هذا الشيء على النحو المتعارف عليه، فإن صنع الخياط الثوب على طريقة مخالفة لثياب أهل البلد أو خاط الثوب بخيوط رديئة لم تجرِِ العادة أن يخاط بها فلا يقبل منه. 10- استحقاق الصنّاع الأجرة التي جرت العادة بها إذا لم يتفق معهم من عملوا له على أجرة معينة كالحلاَّق والنجَّار والحمَّال والقصَّار. 11- جواز دخول الحمامات والفنادق التي جرت العادة بدخولها من غير إذن، إقامةً للعرف المَّطرد مقام الإِذن الصريح ولا يجوز لداخل الحمام أن يقيم فيه أكثر مما جرت به العادة، وكذلك لا يجوز له أن يستعمل من الماء أكثر مما جرت العادة باستعماله. 12- إذا باع دارًا فيدخل في المبيع الأبنية والأشجار التابعة لها بناء على أن هذا عرف الناس في بيوعهم. 13- إذا باع سيارة فإنَّه يدخل في البيع الإِطار الاحتياطي، وعدة إصلاحها والرافعة التي ترفع بها عند تبديل الإِطار لجريان العرف بذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2666 الفصل الثالث تغير الأحكام والفتاوى بتغير العرف والعوائد المبحث الأول وجوب تَغَيُّر الأحكام والفتاوى بتغيُّر العرف والعوائد بنى كثر من أهل العلم الأحكام التي أصدروها في عصرهم على العوائد والأعراف التي كانت سائدة في تلك العصور، فإذا تغيَّرت تلك العوائد، وصارت العوائد تدلُّ على ضدَّ ما كانت عليه أولًا، فهل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في كتب الفقهاء؟ ويفتى بما تقتضيه العوائد المتجدَّدة؟ أو يقال: نحن مقلَّدون، وما لنا إحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد فنفتي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين؟ أورد هذا السؤال القرافي في كتاب "الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام" (1) . ثمَّ أجاب عنه قائلًا: "إنَّ إِجراء الأحكام التي مُدْرَكُها العوائد، مع تغيّر تلك العوائد خلاف الإِجماع، وجهالة في الدَّين، بل كلُّ ما هو في الشريعة يتبع العوائد: يتغيّر فيه عند تغيّر العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة" (2) . وذكر القرافي في ردَّه: "أنَّ الفقهاء أجمعوا على أن المعاملات إذا أُطْلِق فيها الثمن يحمل على غالب النقود، فإذا كانت العادة نقدًا معيَّنًا حملنا الإِطلاق عليه، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عَيَّنا ما انتقلت العادة إليه، وألغينا الأول لانتقال العادة عنه. وكذلك الإِطلاق في الوصايا والأيمان وجميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد، إذا تغيَّرت العادة تغيَّرت الأحكام في تلك الأبواب، وكذلك الدعاوى إذا كان القول قول من ادَّعى شيئًا لأنَّه عادة، ثم تغيَّرت العادة لم يبقَ القول قول مُدَّعيه، بل انعكس الحال فيه (3) .   (1) الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 231. (2) الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 231. (3) الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 231. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2667 ويرى القرافي أنَّه لا يشترط تغيّر العادة في البدل الواحد، بل إذا انتقل العالم من بلد إلى أخرى وجب عليه مراعاة البلد الذي انتقل إليه، وفي هذا يقول: "ولا يشترط تغير العادة، بل لو خرجنا نحن من ذلك البلد إلى بلد آخر عوائدهم على خلاف عادة البلد الذي كنَّا فيه أفتيناهم بعادة بلدهم، ولو تعتبر عادة البلد الذي كنا فيه، وكذلك إذا قدم علينا أحد من بلد عادته مضادَّة للبلد الذي نحن فيه لم نفته إلاَّ بعادة بلده دون عادة بلدنا " (1) . ومَثَّل لهذه الأحكام المتغيَّرة بما رُوِىِ عن الإِمام مالك – رحمه الله تعالى – أنَّه إذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول أن القول قول الزوج مع أن الأصل عدم القبض. قال القاضي إِسماعيل: "هذه كانت عادتهم بالمدينة أن الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض جميع صداقها، واليوم عادتهم على خلاف ذلك، فالقول قول المرأة مع يمينها لأجل اختلاف العوائد" (2) . ومن الذين تعرَّضوا لهذه المسألة ابن القيم – رحمه الله تعالى – فإنَّه عقد في كتابه "إعلام الموقَّعين" فصلًا كبيرًا لتغيّر الفتوى واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيَّات والعوائد. وقرَّر في هذا الفصل أن الجمود على الأحكام التي أصدرها أهل العلم في الماضي وفقًا للعرف والعادة السائدة في أيامهم أوقع الناس في الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، كما نسب إلى الشريعة الإِسلامية المباركة السمحة الظلم والقسوة، وكلُّ هذا بسبب الجمود على الأحكام مع تغيَّر العوائد والأعراف التي بنيت عليها تلك الأحكام، وفي هذا يقول: "هذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به" (3) . ثم استطرد لبيان خصائص الشريعة الإِسلامية، وكيف أن الجمود الذي أشار إليه أفقد هذه الشريعة خصائصها، استمع إليه يقول: "إنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلُّها، ورحمة كلُّها، ومصالح كلُّها، وحكمة كلُّها. فكلُّ مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإِن أدْخِلت فيها بالتأويل.   (1) الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 233. (2) الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 233. (3) أعلام الموقعين: 3 /5. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2668 فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظلُّه في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسول صلى الله عليه وسلم أتمُّ دلالة وأصدقها. وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي اهتدى المهتدون به، وشفاؤه التام الذي به دواء كلَّ عليل، وطريقة المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرّة العيون، وحياة القلوب، ولذَّة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة وكلُّ خير في الوجود فإنَّما هو مستفاد منها وحاصل بها، وكلُّ نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا، وطوي العالم وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطيَّ العالم رَفَع الله ما بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدَّنيا والآخرة (1) . وإنِّما أطال الشيخ رحمه الله في بيان خصائص الشريعة ليبيَّن عظم جناية الذين جمدوا على الأحكام التي أصدرها الفقهاء السابقون مع تغيّر العوائد والأعراف التي بنيت عليها تلك الأحكام، وقد أطال الشيخ في شرح ذلك كله وضرب له الأمثلة. وطالب الشيخ ابن القيم الجوزية – رحمه الله تعالى – المفتي والعالم بمراعاة العرف دائمًا اعتبارًا وإسقاطًا، وحذَّر من الجمود على المنقول في الكتب، ودعا إلى التعرف على عرف السائلين، وعوائد الذين يُفْتَى لهم في الدين، وفي هذا يقول: مهما تجدَّد في العرف فاعتبره، ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجره عليه، وأفته به دون عرف بلدك والمذكور في كتبك (2) . وعقَّب على هذا قائلًا: "فهذا هو الحقُّ الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين" (3) . وهاجم الشيخ بقوة أولئك الذين يفتون الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم، وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم (4) . ومن فعل ذلك فقد ضلَّ وأضلَّ وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبَّبَ الناس كلَّهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتب الطبّ على أبدانهم.   (1) إعلام الموقعين: 3 /5. (2) أعلام الموقعين: 3 /99. (3) إعلام الموقعين: 3 /99. (4) إعلام الموقعين: 3 /100. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2669 بل هذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل، أضرُّ ما على أديان الناس وأبدانهم (1) . وألَّّف ابن عابدين – رحمه الله تعالى – رسالة في العرف صرح فيها مرارًا بوجوب مراعاة عرف الناس وعوائدهم من قبل المفتين والفقهاء والحكام، ولام الذين جمدوا على الأحكام التي أصدرها سلفهم إذا كانت مبنية على عوائد زالت وعرف تغير. وأنا أنقل في هذا المبحث بعض نصوص كلامه: قال رحمه الله تعالى: "قال في القنية": ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف، ونقل المسألة عنه في "خزانة الروايات" كما ذكره البيرمي في "شرح الأشباه" (2) . وقال: "ليس للمفتي الجمود على المنقول في كتب ظاهر الرواية من غير مراعاة الزمان وأهله، وألاّ يُضيَّع حقوقًا كثيرة، ويكون ضرره أعظم من نفعه" (3) . وقال: "النقول ونحوها دالّة على اعتبار العرف الخاص، وإن خالف المنصوص عليه في كتب المذهب ما لم يخالف النصَّ الشرعيَّ" (4) . وقال: "العرف يَثْبُتُ على أهله عامًّا أو خاصًَّا، فالعرف العامُّ في سائر البلاد يَثْبُتُ حكمه على أهل سائر البلاد، والخاصُّ في بلدة واحدة يَثْبُتُ حكمه على تلك البلدة فقط" (5) . وقال أيضًا: "المفتي لا بدَّ له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس" (6) . وقال: "من لم يكن عالمًا بأهل زمانه فهو جاهل" (7) . وقال: "اعلم أن المتأخرين الذين خالفوا المنصوص في كتب المذهب في المسائل السابقة لم يخالفون إلاَّ لتغيّر الزمان والعرف، وعلمهم أن صاحب المذهب لو كان في زمنهم لقال بما قالوه" (8) . ونقل عن بعض علماء الحنفية قوله: من لم يكن عالمًا بأهل زمانه فهو جاهل" (9) .   (1) إعلام الموقعين: 3 /100. (2) نشر العرف) مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2/ 113. (3) نشر العرف مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /129. (4) نشر العرف) مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /131. (5) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /130. (6) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /127. (7) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /128. (8) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /126. (9) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /128. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2670 وقال: "كثير من المسائل الفقهية الثابتة بضرب اجتهاد ورأي يبنيه المجتهد على ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولًا، ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد: إنه لا بدّ فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغيّر عرف أهله، أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا للزم منه المشقَّة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتمَّ نظام وأحسن إِحكام، ولهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نصَّ عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنّه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذًا من قواعد مذهبه " (1) . ويذكر ابن عابدين أن الإِمام صاحب أبي حنيفة كان يذهب إلى الصباغين ويسأل عن معاملتهم وما يديرونه فيما بينهم (2) . وأحبُّ أن أختم هذه النقول القيَّمة من كلام ابن عابدين بهذا النقل الذي يبين أهمية معرفة الحكام والمفتين بأعراف الناس وعاداتهم، يقول رحمه الله في ذلك: "قال بعض العلماء المحقَّقين: لا بدَّ للحاكم من فقه في أحكام الحوادث الكلَّية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس، يميز به بين الصادق والكاذب والمحقَّ والمبطل، ثمَّ يطابق بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالف الواقع. والمفتي الذي يفتي بالعرف لا بدَّ له من معرفة الزمان وأحوال أهله ومعرفة أن هذا العرف خاصٌّ أو عامٌّ، وأنه مخالف للنصَّ أولًا، ولا بدَّ له من التخرُّج على أستاذ ماهر، ولا يكفيه مجرد حفظ المسائل والدلائل، فإنَّ المجتهد لا بدَّ له من معرفة عادات الناس، فكذا المفتي، ولذا قال في آخر "منية المفتي": لو أن رجلًا حفظ جميع كتب أصحابنا لا بدَّ أن يتتلمذ للفتوى حتى يهتدي إليها، لأنَّ كثيرًا من المسائل يجاب عنها على عادات أهل الزمان فيما لا يخالف الشريعة" (3) . المبحث الثانى أسباب تغيّر العرف العادات التي تختلف أحكامها هي العوائد المتغيَّرة المتبدَّلة التي لم يرد دليل شرعي بإثباتها أو نفيها، لأنَّ الشارع ليس له غرض في إِجرائها على سَنَن معيَّن، فكيفما وقعت فإنَّ غرض الشارع يتحقق بهذا الوقوع. وتغيّر العرف والعوائد يعود إلى أمور كثيرة منها:   (1) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /123. (2) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /128. (3) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /127. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2671 1- اختلاف الناس في منازعهم ومشاربهم وأمزجتهم، وهذا الاختلاف سَيُحْدِثُ حتمًا اختلاف الناس في الأحكام والتصرفات، ولذا فقد يُقبَّحُ بعضُ الناس فعلًا يراه الآخرون حسنًا وجميلًا، وقد يحسَّنون فعلًا يراه غيرهم قبيحًا، فمن ذلك غطاء الرأس يراه كثير من المسلمين من لوازم المروءة، وتركه يخلُّ بها، بينما يرى آخرون كشف الرأس حسنًا لا بأس فيه (1) ، وجرت العادة في بعض ديار المسلمين أن يَدْخُل الزوج على زوجه في بيت والدها، وفي ديار أخرى يرون هذا قبيحًا. 2- اختلاف طبيعة الأرض والمناخ، فالبلاد تختلف وعورة وسهولة وبرودة وحرارة، ولهذا الاختلاف أثر كبير في اختلاف عادات الناس في لباسهم وتصرفاتهم ومعاملاتهم. 3- اختلافٌ خارج عن إِرادة المكلَّفين كاختلاف الناس في سِنَّ البلوغ واختلاف النساء في: سِنَّ الحيض، ومقدار الحيض والنفاس، ومقدار الطهر بين الحيضتين، واختلافهنَّ في السنَّ الذي يكون فيه اليأس من المحيض. 4- تأثير الحكّام والمفكَّرين والعلماء في أممهم، فكثير من الأعراف والعوائد تتغيَّر بسبب ما يصدرونه من قوانين وتوجيهات، واعتبر بهذا بحال المسلمين في واقعهم المعاصر، فإنَّ كثيرًا من العادات في اللباس والتصرفات تغيَّرت تغيرًا كلَّيًّا بسبب ما صدر من قوانين، وبسب الآراء والنظريات التي ناقشت ما كان عليه الناس في عرفهم وعوائدهم. 5- اختلاط الناس بعضهم ببعض، وتسلط بعضهم على بعض، فالناس يتأثر بعضهم ببعض، ويأخذ بعضهم عادات بعض، وخاصة في حال غلبة قوم على قوم، وقبيل على قبيل، فإنَّ المغلوب يتشرب عادات الوافد الغالب، ويترك عادته، ومن نظر في حال المسلمين اليوم علم إلى أي مدى أثَّر فينا الكفار الذين احتلوا ديارنا وتقلَّدوا أمورنا. 6- اختلاف الناس في التعبير عن مقاصدهم، ومن هنا اختلفت اللغات، فالشيء الواحد له في كلَّ أمَّة اسم يخصُّه غير الاسم الذي تطلقه عليه بقية الأمم، وقد تتفق الألفاظ عند الأمم، ولكنْ تختلف في المعاني المرادة بتلك الألفاظ، وفي الأمة الواحدة ذات اللغة الواحدة تختلف المعاني المرادة من ألفاظ بعينها، فطائفة تطلقه على معنى، وأخرى تطلقه على معنى مغاير، ويكثر هذا عند أرباب الصنائع، والشارع يُمْضي ألفاظ الناس على المعاني التي يقصدونها في أيمانهم وبيعهم وشرائهم وزواجهم وطلاقهم وعقودهم.   (1) انظر الموافقات: 2 /209. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2672 المبحث الثالث أمثلة لأحكام نصَّ الفقهاء على تغيُّر الحكم لتغير عادة الناس فيها قال القرافي: "سأسرد أحكامًا نصَّ الأصحاب على أن المُدْرَكَ فيها العادة، وأنَّ مستند الفتيا بها إنَّما هو العادة والواقع اليوم خلافه، فيتعيَّن الحكم على ما تقتضيه العادة المتجدَّدة. الحكم الأول: بعض ألفاظ المرابحة، وهو قول البائع: بعتك بوضيعة العشر أحد عشر، أو بوضيعة العشرة عشرين. قال الأصحاب: هذا اللفظ يقتضي عادة أن يُأْخَذَ لكلَّ عشرة عشرة، ويحطُّ نصف الثمن في اللفظ الآخر، ويُلْزِمون ذلك المتعاقدين من الجانبين بمجرد هذا اللفظ لأنَّه عادة " (1) . قال القرافي بعد سياقه لهذا المثال: "وهذه عادة قد بطلت، ولم يبق هذا اللفظ يفهم منه اليوم هذا المعنى ألبتة، بل أكثر الفقهاء، لا يفهمه فضلًا عن العامة، لأنَّه لا عادة فيه، ولا يُفْهَمُ منه ثمنٌ معيَّن باعتبار اللغة أيضًا. فينبغي إِذا وقع هذا العقد بين العامة في المعاملات أن يكون العقد باطلًا، فإِنَّه ليس عادتهم استعماله ألبته، لأنَّا طوال عمرنا لم نسمعه إلاَّ في كتب الفقه، أمَّا في المعاملات فلا، وإِِذا لم يكن الثمن معلومًا بالعادة ولا باللغة كان العقد باطلًا (2) . الحكم الثاني: في المرابحة إِذا قال: بعتك بما قامت علي. قالوا: يصحُّ البيع، ويكون للبائع مع الثمن ما بذله من أجرة القِصَارة والكِمَادة (3) ، والطرازة والخياطة والصبغ ونحو ذلك مما له عين قائمة، ويستحقُّ له حصته من الربح إن سمَّى لكلَّ عشرة ربحًا. وما ليس له عين قائمة إلاَّ أنَّه يؤثر في السوق زيادة رغبة فيه وتنمية للثمن فإنَّه يستحقُّه، ولا يستحقُّ له حصة من الربح، نحو كراء الحمولات في النَّقل للبلدان ونحوه، وما لا يؤثر في السوق فلا يستحقُّه، ولا يكون له ربح، كأجرة الطيّ والشدّ، وكراء البيت، ونفقة البائع على نفسه. قال القرافي معقَِّبًا على هذه المسألة: "وهذا التفصيل لا يفيده قوله: بما قامت على لغة، بل يصحُّ هذا البيع بهذه العبارة إِذا كان هذا اللفظ يقتضيه عادة، فيصير الثمن معلومًا، فيصحُّ البيع، أما اليوم فلا يفهم هذا في العادة، ولا يتعامل الناس في أسواقهم بهذه العبارة، فلا عادة حينئذٍ، فهذا الثمن مجهول، فلا يُفْتى بما في الكتب من صحته وتفاصيله لانتقال العادة" (4) .   (1) الإِحكام في تمييز الفتوى عن الأحكام، للقرافي: ص 234. (2) الإِحكام في تمييز الفتوى عن الأحكام، للقرافي:2/ 235. (3) الكمادة: دقُّ الثوب. (4) الكمادة: دقُّ الثوب: 2 /236. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2673 الحكم الثالث: "ما وقع في (المدونة) إذا قال لامرأته: أنت علي حرام أو خَلِيَّة أو بَرِيَّة أو وهبتك لأهلك، يلزمه الطلاق الثلاث في المدخول بها، ولا تنفعه النيَّة أنَّه أراد أقلّ من الثلاث". قال القرافي في هذا المثال: "وهذا بناء على أن هذا اللفظ في عرف الاستعمال اشتهر في إزالة العصمة، واشتهر في العدد الذي هو الثلاث، وأنَّه اشتهر في الإِنشاء المعيَّن، وانتقل عما هو عليه من الإِخبار عن أنَّها حرام، لأنَّه لو بقي على ما يدلُّ عليه لغة لكان كذبًا بالضرورة، لأنَّها حلال له إِجماعًا، فالإِخبار عنها بأنَّها حرام كذب بالضرورة. وليس مدلول هذا اللفظ لغة إلاَّ الإِخبار عن أنَّها مُحَرَّمة عليه، وأنَّ التحريم قد دخل في الوجود قبل نطقه بهذه الصيغة، وهذا كذب قطعًا، فلا بدَّ حينئذ أن يقال: إِنَّها انتقلت في العرف لثلاثة أمور: إِزالة العصمة، والعدد الثلاث، والإِنشاء، فإنَّ ألفاظ الطلاق إن لم تكن إنشاء أو يراد بها الإِنشاء لا تزيل عصمة ألبتَّةَ. وملاحظة هذه القاعدة هي سبب الخلاف بين الخلف والسلف في هذه المسألة". وبعد سياق القرافي لهذا المثال قرَّر "أنَّ الناس في عصره لا يستعملون الصيغ المتقدمة فيما كانت تستعمل في الماضي، وأنَّه تمضي الأعمار ولا يُسْمع أحدٌ يقول لامرأته إِذا أراد طلاقها: أنت خَلِيَّةٌ، ولا وهبتك لأهلك، ولا يَسْمَعُ أحدٌ أحدًا يستعمل هذه الألفاظ في إزالة عصمة ولا في عدد طلاقات، فالعرف حينئذٍ في هذه الألفاظ لهذه المعاني التي قرَّرها مالك في (المدونَّة) بالضرورة. ولا يَدَّعي أنَّها مدلول اللفظ لغة إلاَّ من لا يَدْري اللغة، وإذا لم تفِ هذه الألفاظ هذه المعاني لغة ولا عرفًا ولا نيَّة ولا بساطًا فهذه الأحكام حينئذ بلا سند والفتيا بغير مستند باطلة إِجماعًا وحرام على قائلها ومعتقدها. نعم، لفظ الحرام في عرفنا اليوم لإِزالة العصمة خاصة دون عدد، وهي مشتهرة في ذلك بخلاف ما ذُكِر معها من الألفاظ، ومقتضى هذا أن يُفْتَى بطلقة رجعية ليس إلاَّّ" (1) . وأفتى متأخرو الحنفية في مسائل كثيرة بخلاف ما أفتى فيه سلفهم بسبب تغيّر العرف، فمن ذلك إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه، لانقطاع عطايا المعلَّمين التي كانت في الصدر الأول.   (1) الكمادة: دقُّ الثوب: ص 237. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2674 ولو اشتغل المعلَّمون بالتعليم بالأجرة يلزم ضياعهم وضياع عيالهم، ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة وصناعة يلزم ضياع القرآن والدين، فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم، وكذا على الإِمامة، والأذان كذلك، مع أن ذلك مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد من عدم جواز الاستئجار وأخذ الأجرة عليه، كبقية الطاعات من الصوم والصلاة والحج وقراءة القرآن ونحو ذلك (1) . ومن ذلك قول الإِمامين بعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة مع مخالفته لما نصَّ عليه أبو حنيفة بناءً على ما كان في زمنه من غلبة العدالة، لأنَّه كان في الزمن الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيريَّة، وهما أدركا الزمن الذي فشى فيه الكذب، وقد نصَّ العلماء على أن هذا الاختلاف اختلاف عصر لا اختلاف حُجَّةٍ وبرهان. ومن ذلك تحقق الإِكراه من غير السلطان مع مخالفة قول الإِمام بناء على ما كان في زمنه من أن غير السلطان لا يمكنه الإِكراه، ثم كثر الفساد، فصار يتحقق الإِكراه من غيره، فقال محمد باعتباره، وأفتى به المتأخرون. ومن ذلك تضمين الساعي مع مخالفته لقاعدة المذهب في أن الضمان على المباشر دون المتسبب، ولكن أفتوا بضمانه زجرًا بسبب كثرة السعاة المفسدين. ومن ذلك مسائل كثيرة: كتضمين الأجير المشترك، وقولهم: أن الوصيَّ له المضاربة بمال اليتيم في زماننا، وإفتائهم بتضمين الغاصب عقار اليتيم والوقف، وبعدم إِجارته أكثر من سنة في الدور، وأكثر من ثلاث سنين في الأراضي، مع مخالفته لأصل المذهب من عدم الضمان وعدم التقدير بمدَّة. ومن ذلك منع النساء عما كنَّ عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من حضور المساجد لصلاة الجماعة. وإفتائهم بمنع الزوج من السفر بزوجته وإن أوفاها المعجَّل لفساد الزمان (2) . د. عمر سليمان الأشقر   (1) نَشْر العرف لابن عابدين (انظر مجموعة رسائله) : 2 /123. وفي جعل هذه المسألة من اختلاف العرف نظر عندي، لأنَّ التحريم الذي قال به المتقدَّمون ليس مبنيًّا على العرف، بل على نصوص كثيرة دلَّت على هذا من الكتاب والسنَّة، والذين جَوَّزوا أخذ الأجرة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار إنَّما جوزوه لأدلَّةٍ صحَّت عندهم، فلا يجوز أن يقال: إن العرف تغيَّر في هذه المسألة، وليست هذه المسألة من المسائل المبنيَّة على العرف، والأصحُّ أن يقال: إن تغيُّر الحكم فيها تغير اجتهاد. (2) نَشْر العرف لابن عابدين (انظر مجموعة رسائله) : 2 /123. وفي جعل هذه المسألة من اختلاف العرف نظر عندي، لأنَّ التحريم الذي قال به المتقدَّمون ليس مبنيًّا على العرف، بل على نصوص كثيرة دلَّت على هذا من الكتاب والسنَّة، والذين جَوَّزوا أخذ الأجرة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار إنَّما جوزوه لأدلَّةٍ صحَّت عندهم، فلا يجوز أن يقال: إن العرف تغيَّر في هذه المسألة، وليست هذه المسألة من المسائل المبنيَّة على العرف، والأصحُّ أن يقال: إن تغيُّر الحكم فيها تغير اجتهاد: 2/124. وقد ذكر مسائل كثيرة غير المسائل التي نقلناها عنه، وفي أثناء بعض هذه المسائل على العرف نظر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2675 المراجع مُرتبة على حروف المعجم 1- أثر العرف في التشريع الإِسلامي، للدكتور السيد صالح عوض، طبعة دار الاتحاد الجامعي مصر. 2- الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، للقرافي، مكتب المطبوعات الإِسلامية، حلب، سوريا، 1387 هـ - 1967 م. 3- الأشباه والنظائر، لابن نجيم، مؤسسة الحلبي وشركاه، 1387 هـ - 1968 م. 4- الأشباه والنظائر، للسيوطي، مكتب ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1378 هـ - 1959 م. 5- أصول القانون، للدكتور حسن كيره، دار المعارف، مصر، الثانية 1959م. 6- أصول القانون، للدكتور عبد المنعم فرج الصدَّة، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1965م. 7- أعلام الموقعين، لابن القيم، دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1389 هـ - 1969م. 8- بصائر ذوي التمييز، للفيروزآبادي، نشره المجلس الأعلى للشؤون الإِسلامية، القاهرة، 1393 هـ - 1973 م. 9- تاريخ الفقه الإِسلامي، للمؤلف، مكتبة الفلاح، الكويت، الأولى 1402 هـ - 1982م. 10- التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، للأسنوي، تحقيق وتعليق الدكتور محمد حسن هيتو، طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت، الثانية 1401 هـ - 1981م. 11- تهذيب اللغة، لأحمد الأزهري: الدار المصريَّة للتأليف، القاهرة. 12- شرح رسالة تنبيه الرقود على أحكام النقود، لابن عابدين، لمحمد سلامة جبر، مطابع القبض التجارية، الكويت. 13- شرح الكوكب المنير، لابن النجار الحنبلي، مركز البحث العلمي بجامعة الملك عبد العزيز، جدة 1400 هـ - 1980م. 14- الشريعة الإِلهية، للمؤلف، دار الدعوة، الكويت، الثانية 1406 هـ - 1986 م. 15- صحيح البخاري، اعتمدت على متن فتح الباري، طبعة المكتبة السلفية، القاهرة، الأولى 1380 هـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2676 16- العرف والعادة في رأي الفقهاء، لأحمد فهمي أبو سنَّة، مطبعة الأزهر، القاهرة. 17- علم أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف، دار القلم، الكويت، التاسعة 1390 هـ-1970م. 18- فتح الباري شرح صحيح البخاري، طبعة المكتبة السلفية، القاهرة، الأولى 1380 هـ. 19- القانون الدستوري، للدكتور سعد العصفور، دار المعارف، مصر، الأولى 1954م. 20- القانون المدني: مجموعة الأعمال التحضيرية، دار الكتاب العربي، القاهرة. 21- قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعزَّ بن عبد السلام، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1388 هـ - 1968 م. 22- كشف الخفا ومزيل الإِلباس عمَّا يدور من الأحاديث على ألسنة الناس للعجلوني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الثالثة 1352 هـ. 23- لسان العرب، لابن منظور، ترتيب يوسف خياط ونديم مرعشلي، طبعة دار لسان العرب، بيروت. 24- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، نشر حكومة السعودية، الطبعة الأولى. 25- المدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى أحمد الزرقا، مطبعة جامعة دمشق، الطبعة السابعة 1383 هـ - 1963 م. 26- المستصفى، للغزالي، المطبعة الأميرية ببولاق، مصر 1322 هـ 27- معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، طبعة الحلبي، القاهرة. 28- المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة. 29- المنثور في القواعد، للزركشي، نشر وزارة الأوقاف، الكويت، الأولى 1402 هـ - 1982م. 30- الموافقات، للشاطبي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة محمد علي صبيح، القاهرة. 31- نشر العرف، لابن عابدين، منشور في مجموعة رسائل ابن عابدين، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 32- نظرية العرف، للدكتور عبد العزيز خيَّاط، مكتب الأقصى، عمان 1397 هـ-1977م. 33- النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، المكتبة العلمية، بيروت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2677 العرف (بحث فقهي مقارن) إعداد الدكتور محمد جبر الألفي كلية الحقوق – جامعة الكويت بسم الله الرحمن الرحيم 1- شاع في أقوال الفقهاء، من مختلف المذاهب الإسلامية، أن العادة محكمة وأن استعمال الناس حجة يجب العمل بها، وأن الحقيقة تترك بدلالة العادة والعرف، وأن العرف في الشرع له اعتبار، وأن التعيين بالعرف كالتعيين بالنص، وأن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، حتى صارت هذه العبارات وما يماثلها أساسًا لقواعد فقهية استقرت في الفقه الإسلامي وفي تشريعات العديد من الدول الإسلامية، وتأكد بمقتضاها ما للعرف من دور متميز في إنشاء الأحكام وتعديلها وتفسيرها. 2- فلما نهضت حركة " التقنين " في البلاد العربية والإسلامية لزم بيان المصادر الرسمية التي ينبغي على القاضي أن يلجأ إليها ليستمد أحكامه منها. واحتل العرف مكان الصدارة، بعد النص، في بعض هذه التقنينات، ووضعه بعضها الآخر في المرتبة الثالثة من المصادر الرسمية، بحيث لا يحكم القاضي بمقتضاه إلا عند سكون النص القانوني عن تقرير حكم يفصل في النزاع، وعدم استطاعة القاضي استنباط هذا الحكم من مبادئ الشريعة الإسلامية. واعتبر هؤلاء وأولئك أنهم بذلك يتبعون النهج الإسلامي القويم. 3- من أجل ذلك كانت أهمية هذا البحث لتحديد معنى العرف، وتعيين أركانه، والكشف عن أساس قوته الملزمة، وبيان الوظيفة التي يمكن أن يؤديها في مجال التشريع. وهذا يقتضي أن نتبع في دراسة العرف المنهج التالي: الفصل الأول: معنى العرف وبيان أركانه. الفصل الثاني: القوة الملزمة للعرف. الفصل الثالث: دور العرف في التشريع. الفصل الرابع: التطور التشريعي للعرف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2678 الفصل الأول معنى العرف وبيان أركانه 4- اختلف العلماء في تحديد معنى العرف، ونتيجة لهذا الاختلاف تقاربت مع العرف بعض المصطلحات أو تباعدت. واشترط البعض لاعتبار العرف أوصافًا تؤكد قيامه وتعين درجة إلزامه. وهذا ما نعالجه في مبحثين: نخصص أولهما لبيان معنى العرف، والتفرقة بينه وبين ما قد يشتبه به. ونستعرض في الآخر أركان العرف وشروط كل ركن. المبحث الأول تحديد معنى العرف وتمييزه من الألفاظ ذات الصلة أولًا – تحديد معنى العرف: 5- معنى العرف في اللغة: أورد علماء اللغة للعرف عدة معان (1) ، منها: كل مرتفع، كعرف الديك والرمل والجبل. ومنها: ما تعارف عليه الناس في عاداتهم ومعاملاتهم. والعرف أيضًا اسم من الاعتراف، يقال: له علي ألف عرفًا. ويطلق العرف كذلك على كل معروف، وهو ما تعرفه النفس من الخير وتطمئن إليه، كما في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} (2) .   (1) الأزهري، الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، تحقيق محمد الألفي، الكويت 1979 م، 109. ابن منظور، لسان العرب، بيروت 1955 /1956 /، 11 /144 وما بعدها. الجوهري، تاج اللغة وصحاح العربية، الطبعة الأولى: 4 /1402 – 1403. الزبيدي، تاج العروس، طبعة بيروت 1966 م: 6 /193. الفيروز آبادي؛ القاموس المحيط، 1373هـ: 3 /178 – 179. الفيومي، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير المعجم الوسيط، القاهرة، 1950م:2 /53-54 مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، القاهرة 1961م: 2 /601. (2) [سورة الأعراف: الآية 199] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2679 ومن معاني العرف: تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض، كعرف الفرس، سمي بذلك لتتابع الشعر، ومنه قولهم: طار القطا عرفًا عرفًا، أي متتابعة. ومن هذه المعاني يتضح أن مادة (عرف) " يغلب ورودها فيما ارتفع من المحسات وكرم من المعاني، والمعنى الأخير منها يشعر بمتابعة البعض للبعض " (1) . 6- معنى العرف في الاصطلاح: ذكر " الجرجاني " في " التعريفات "، أن: " العرف ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول " (2) ، وما ذكره الفقهاء والأصوليون من تحديد لمعنى العرف يدور حول هذا التعريف، فقد عرفه " النسفي " في " المستصفى " بقوله: " ... العرف ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول " (3) ، أي أن العرف " هو الأمر الذي اطمأنت إليه النفوس وعرفته، وتحقق في قرارتها وألفته مستندة في ذلك إلى استحسان العقل، ولم ينكره أصحاب الذوق السليم في الجماعة " (4) وعرفه " علي حيدر " في " درر الحكام " بقوله: " الأمر الذي يتقرر في النفوس، ويكون مقبولًا عند ذوي الطباع السليمة بتكراره المرة بعد المرة " (5) وقريب من هذا التعريف الذي ذكره " مصطفى أحمد الزرقاء " في " شرح القواعد الفقهية " (6) أما عبد الوهاب خلاف فقد عرفه بقوله: " ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك " (7) وهكذا يتحقق الارتباط بين المعنى اللغوي للعرف ومعناه في الاصطلاح.   (1) ابن منظور، لسان العرب، نفس الموضع المتقدم. (2) الجرجاني، التعريفات، بيروت 1983 /: ص 149. (3) النفسي، المستصفى، مخطوط، أورده: أحمد فهمي أبو سنة في: العرف والعادة في رأي الفقهاء، للأزهر 1947 م، ص: 8. وذكره " البيري " في شرحه للأشباه والنظائر، نقلًا عن المستصفى، " عمر عبد الله، العرف في الفقه الإسلامي، مجلة الحقوق، الإسكندرية يناير / مارس 1951 م: ص2" وأورده، نقلًا عن المستصفى المخطوط لحافظ الدين النسفي، السيد صالح عوض في: أثر العرف في التشريع الإسلامي، القاهرة 1981م: ص 50 هكذا: " العادة والعرف: ما استقر في النفوس، وتلقته الطباع السليمة بالقبول " وقد أورد عدد من الباحثين هذا التعريف، وعزوه إلى الإمام الغزالي في المستصفى: 2 /138، انظر على سبيل المثال: عبد العزيز الخياط، نظرية العرف، عمان 1977 م: ص 23 عجيل النشمي، المستشرقون ومصادر التشريع الإسلامي، الكويت 1984م: ص 193 محمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد في الإسلام، الكويت 1974 م: ص 246. (4) أحمد فهمي أبو سنةالنفسي، المستصفى، مخطوط، أورده: أحمد فهمي أبو سنة في: العرف والعادة في رأي الفقهاء، للأزهر 1947 م، ص: 8. وذكره " البيري " في شرحه للأشباه والنظائر، نقلًا عن المستصفى، " عمر عبد الله، العرف في الفقه الإسلامي، مجلة الحقوق، الإسكندرية يناير / مارس 1951 م: ص2" وأورده، نقلًا عن المستصفى المخطوط لحافظ الدين النسفي، السيد صالح عوض في: أثر العرف في التشريع الإسلامي، القاهرة 1981م: ص 50 هكذا: " العادة والعرف: ما استقر في النفوس، وتلقته الطباع السليمة بالقبول " وقد أورد عدد من الباحثين هذا التعريف، وعزوه إلى الإمام الغزالي في المستصفى: 2 /138، انظر على سبيل المثال: عبد العزيز الخياط، نظرية العرف، عمان 1977 م: ص 23 عجيل النشمي، المستشرقون ومصادر التشريع الإسلامي، الكويت 1984م: ص 193 محمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد في الإسلام، الكويت 1974 م:، ص 8. (5) علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، بيروت / بغداد، د. ت: 1 /40. (6) مصطفى أحمد الزرقاء، شرح القواعد الفقهية، بيروت 1983م: ص165. (7) عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، الكويت 1970 م: ص 89. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2680 ثانيا – تمييز العرف عما قد يشتبه به: 7- العرف والعادة: أقرب المعاني شبهًا بالعرف: العادة. والعادة في اللغة: الاستمرار على الشيء، سميت بذلك لأن صاحبها يعاودها، أي: يرجع إليها مرة بعد أخرى (1) ووجه الشبه: أن من معاني العرف: تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض. أما في الاصطلاح، فللعلماء في تعريفها مسلكان: يقضي أولهما بعدم التفريق بين العادة والعرف في المعنى. ويقضي الآخر بانفراد كل منهما بمعنى. (أ) ففي " المستصفى "، للنسفي: " العادة والعرف: ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول (2) وبمثل هذا قال عدد من الباحثين (3) . (ب) والذين سلكوا المسلك الآخر لم يتفقوا على معيار للتفرقة بين العادة والعرف فبينما يرى بعضهم أن العادة هي العرف العملي، وأن العرف هو القولي (4) ، يرى آخرون أن العادة – عند إطلاقها – لا تشمل إلا بالفعل، وإن العرف – عند إطلاقه – يشمل الفعل والقول (5) ويبدو من كلام " الشاطبي " أنه فرق بين العادة والعرف على أساس أن العادة كلية أبدية " العوائد العامة "، وأن العرف راجع إلى عادة جزئية داخلة تحت العادة الكلية " وهي التي يتعلق بها الظن لا العلم " (6) ، ويميل بعض الباحثين إلى التفرقة بين العرف والعادة على أساس أن العادة أمر فردي، وأن العرف عادة جماعية (7) .   (1) الفيومي، المصباح المنير: 2 /88. المعجم الوسيط: 2 /641. (2) انظر فيما سبق: فقرة 6، هامش 5. (3) علي حيدر، درر الحكام: " والعرف بمعنى العادة " وهو ما يفهم من كلام: أحمد فهمي أبو سنة في: العرف والعادة وأخذ بهذا الاتجاه: عبد الوهاب خلاف " العرف هو ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، ويسمى العادة وفي لسان الشرعيين: لا فرق بين العرف والعادة " وهو ما اختاره: محمد سلام مدكور في المرجع السابق ذكره. وكذلك: عمر عبد الله في المقال المشار إليه ص 3: " فلا تفيد كلمة العادة معنى غير معنى العرف " وهو أيضا ما اختاره السيد صالح عوض في المرجع المتقدم: ص 61. (4) الكمال بن الهمام التحرير، وشرحه: تيسير التحرير، لمير بادشاه محمد أمين، طبعة الحلبي 1350هـ: 1 /317 وكذلك: التقرير والتحبير، لابن أمير حاج، القاهرة 1316هـ: 1 /282 أحمد الزرقاء، شرح القواعد الفقهية: ص 165، " العادة: هي الاستمرار على شيء مقبول للطبع السليم، والمعاودة إليه مرة بعد أخرى وهي المرادة بالعرف العملي ". (5) السيد صالح عوض، الكمال بن الهمام التحرير، وشرحه: تيسير التحرير، لمير بادشاه محمد أمين، طبعة الحلبي 1350هـ: 1 /317 وكذلك: التقرير والتحبير، لابن أمير حاج، القاهرة 1316هـ: 1 /282 أحمد الزرقاء، شرح القواعد الفقهية: ص 165، " العادة: هي الاستمرار على شيء مقبول للطبع السليم، والمعاودة إليه مرة بعد أخرى وهي المرادة بالعرف العملي ": ص 61 والمراجع التي أشار إليها. (6) الشاطبي، الموافقات، القاهرة 1341هـ: 2 /298. (7) محمد مصطفى شلبي، أصول الفقه الإسلامي، بيروت 1986م: 1 /313 منصور محمد الشيخ أصول الأحكام، طبعة الجامعة الإسلامية / ليبيا: ص 200. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2681 8- ويبدو أن من جمع في المعنى بين العادة والعرف، لاحظ أن العادة قبل أن تستقر في العمل وتطمئن إليها النفوس، لا يعول عليها أصولي أو فقيه في مجال الأحكام الشرعية، فإذا ما توافر لها من الشروط ما يضعها موضع الاعتبار فإنها تسمى عرفًا، ولا ضير في استصحاب الإطلاق الأصلي " عادة " ما دام المراد منه قد وضح. وأما من فرق في المعنى بين العادة والعرف، فقد لاحظ استعمال بعض الفقهاء لكل من اللفظين في معنى يستقل به، ولا يبعد أن تكون هذه التفرقة راجعة إلى اختلاف المعنى تبعًا لاختلاف الزمان أو المكان. ويساعد على هذا التوجيه ما قد يستشف من أقوال المحققين. ففي " التعريفات " يقول الشريف الجرجاني: " العرف: ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول، وهو حجة أيضًا، لكنه أسرع إلى الفهم وكذا العادة: وهي ما استمر الناس عليه على حكم العقول، وعاودوا إليه مرة بعد أخرى " (1) والذي يلفت الانتباه في هذا التعريف أن " الجرجاني " لم يعول على العادة المجردة التي وردت في كلام بعض الأصوليين (2) ، وإنما اعتمد العادة المستمرة التي بنيت على حكم العقول، ثم فرق بينها وبين العرف من حيث إن العرف عادة مستقرة بشهادة العقول التقت عليها الطباع السليمة من غير نكير. وفي رسالة " نشر العرف " يقدم ابن عابدين فصل الخطاب في المسألة بهذه العبارة الدقيقة: " العادة مأخوذة من المعاودة، فهي بتكررها ومعاودتها مرة بعد أخرى صارت معروفة مستقرة في النفوس والعقول، متلقاة بالقبول من غير علاقة ولا قرينة، حتى صارت حقيقة عرفية فالعادة والعرف بمعنى واحد من حيث الماصدق، وإن اختلفا في المفهوم (3) و"الماصدق " عند المناطقة: الأفراد التي يتحقق فيها المعنى الكلي، فكأن العرف عادة توافر لها الاستقرار في النفوس والعقول، وتلقتها الجماعة بالقبول، فلا بأس من أن يطلق الفقهاء على هذه العادة اسم العرف أو أن يبقوا على اللفظ الأصلي " العادة " ما دام مرادهم منها قد بان.   (1) الجرجاني، التعريفات: ص 149. (2) ابن أمير حاج، التقرير والتحبير: 1 /282: " العادة: الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية ". (3) ابن عابدين، مجموعة رسائل، دار سعادت 1425هـ: 2 /125. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2682 9- العرف والعمل: ذكر " السلجماسي " (1) ، في تعليقه على " العمل الفاسي " (2) : أن بعض العلماء وخص منهم ابن فرحون (3) ، ويعتبر العرف والعمل أمرًا واحدًا، ثم انتقد هذا الرأي مبينًا أن العلماء حين يقولون: هذا هو العمل، أو: على هذا جرى العمل، فإنما يعنون أن هذا الحكم قال به الفقهاء، ثم استقرت عليه أحكام القضاء وحين يقولون هذا هو المتعارف، أو: بهذا جرت العادة، فإنما يعنون أن هذا هو ما جرى عليه العمل عند عامة الناس، من غير أن يستند إلى رأي فقهي أو أن يطابق أحكام القضاء (4) . ويبدو أن الذين لم يفرقوا بين العرف والعمل لاحظوا أن جريان أحكام القضاء، في مسألة معينة، على تحكيم العرف في النزاع، يعتبر بمثابة " العرف العملي " الذي اعتبره الفقهاء، وبنوا عليه كثيرًا من الأحكام فقد نقل عن ابن فرحون قوله:" سئل مالك عن الناكح: هل يلزمه لأهل المرأة هدية العرس، وجل الناس تعمل به عندنا حتى إنه لتكون فيه الخصومة، أترى أن يقضي به؟ قال: إذا كان قد عرف من شأنهم، وهو عملهم، لم أر أن يطرح عنهم إلا أن يتقدم فيه للسلطان، لأني أراه أمرًا قد جروا عليه " (5) . ومع ذلك فالتفرقة واردة، ذلك أن مصطلح " عمل " الذي شاع في الفقه المالكي وخصه فقهاء الأندلس والمغرب بمؤلفات قيمة (6) ، يرجع في أصله إلى " عمل أهل المدينة " الذي رأى الإمام مالك أنه يحقق الإجماع، فقدمه على أخبار الآحاد وعلى القياس (7) .   (1) السلجماسي، حاشية على: العمل الفاسي، طبع حجر، فاس 1291هـ، ملزمة 17ص1. (2) العمل الفاسي: تأليف عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي، المتوفى سنة 1096هـ، 1685م قام بشرحه والتعليق عليه عدد من العلماء، منهم: أبو سعيد عثمان العميري، من علماء القرن الثاني عشر الهجري، وكذلك: أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم السلجماسي، المتوفى سنة 1214هـ وترجمه إلى الفرنسية: " L. Milliot " انظر: الحجوى، الفكر السامي، الرباط / فاس 1340هـ: 4 /226 وما بعدها (3) برهان الدين إبراهيم، من أشهر علماء الأصول والفقه في المذهب المالكي، توفي سنة 769هـ ومن كتبه: تبصرة الحكام أصول الأقضية ومناهج الأحكام. (4) Louis milliot; Introdcution a l’etude du droit musulma, Paris 1953, p. 174 – 175 (5) ابن فرحون، تبصرة الحكام، القاهرة 1302 هـ: 2 /67. (6) أضف إلى كتب " العمل " التي أشرنا إليها في هـ 21: الباجي، فصول الأحكام وبيان ما مضى عليه العمل عند الفقهاء والحكام، تحقيق: محمد أبو الأجفان، تونس 1985م عبد الصمد كنون، جنى زهر الآس شرح عمل فاس، مصر د. ت. (7) علي حسن عبد القادر، نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي، القاهرة 1956م: ص225. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2683 فلما استقر المذهب المالكي في " القيروان "، كان جل اعتماد العلماء على ما نقل إليهم من فتاوى الفقهاء وأحكام القضاة وفي " فاس " نظر الفقهاء بعين الاحترام إلى ما كان يصدره قضاة الأندلس من أحكام، ولما استقل المغرب بعد ذلك صار له قضاؤه المستقل الذي يعتبر مصدر " العمل الفاسي " لقد واجه هذا القضاء حالات كثيرة، للفقهاء في حكمها أقوال متضاربة، فكان القاضي يختار من بينها ما يتواءم مع العرف، حتى لو خالف القول المشهور في المذهب، وذلك رعاية للمصلحة بجلب منفعة أو دفع مضرة، والتزم القضاة اللاحقون هذا المنهج العملي، طالما بقيت المصلحة قائمة، فإذا انقضت المصلحة لم يعد هناك مبرر للعمل بالقول المرجوح، وبنى القاضي حكمه على القول المشهور في المذهب، وقد أيد هذا المسلك القضائي عدد من الفقهاء: كابن عتاب، وابن رشد، وابن سهل، وابن زرب، واللخمي (1) . والخلاصة أن " العمل " يتطلب وجود رأي فقهي يستند إليه، ولو كان مرجوحًا، وهذا ما يفرق بينه وبين العرف، فهو ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول. 10- العرف والإجماع: يرى بعض الباحثين أن العرف إجماع، لأنه اتفاق طائفة من الأمة أو جميعها على أمر (2) وحاول بعض آخر رد العرف إلى الإجماع العملي، بناء على القول بتجزئ الاجتهاد وعدم خلو العصر عن المجتهدين، أو رده إلى دلالة الإجماع متى تحققت علته فيما جرى به تعامل الناس (3) . ويبدو أن هذه الآراء تجد سندًا فيما نص عليه بعض الفقهاء عند تحرير علة تحريم الربا: " ... وما لم ينص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو محمول على عادات الناس في الأسواق، لأن العادة دالة على الجواز فيما وقعت عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) ومن ذلك دخول الحمام وشرب ماء السقاء، لأن العرف بمنزلة الإجماع عند عدم النص " (4) ، وفيما ذكره بعضهم عند تعريف العرف العام وأنه: " ما تعارفه المسلمون من عهد الصحابة إلى زماننا، وأقره المجتهدون وعملوا به بناء على التعارف العام، وإن خالف القياس ولم يرد به النص ولا قام عليه دليل، فهذا أخذ به الفقهاء وأثبتوا به الأحكام الشرعية، وقد قالوا: إن العرف بمنزلة الإجماع عند عدم النص " (5) .   (1) ةilliot; Op.cit.، p. 171 –172 et les references citees (2) أورده: عبد العزيز الخياط في: نظرية العرف: ص 31. (3) أحمد فهمي أبو سنة، أورده: عبد العزيز الخياط في: نظرية العرف: ص 31: ص 32-36. (4) ابن الهمام، فتح القدير، بولاق مصر 1315هـ: 6 /282. (5) ابن عابدين، مجموعة رسائل: 1 /186. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2684 ومع ذلك فالفرق لا يزال قائما بين العرف والإجماع من عدة وجوه، منها (1) : (أ) أن الإجماع لا يكون إلا من المجتهدين في عصر من العصور، أما العرف فإنه يصدر عن عامة الناس وخاصتهم، ولا يشترط اجتماعهم عليه. (ب) وأن الإجماع يتحقق بمجرد اتفاق المجتهدين على أمر دون حاجة إلى تكراره، أما العرف فلا ينشأ إلا إذا تكرر فعله حتى يستقر في النفوس وتطمئن إليه القلوب. (ج) وأن الإجماع لا بد له من مستند، نص أو قياس، وقد يكون كل منهما خفيًّا (2) ، أما محل العرف فلا نص فيه ولا قياس. المبحث الثاني أركان العرف 11- عرضنا فيما تقدم مختلف التعريفات التي وضعها الأصوليون والفقهاء لتحديد معنى العرف المعتبر في الأحكام الشرعية (3) ، ووجدنا أن الجامع لهذه التعريفات أنه: أمر استقرت عليه النفوس، مستندة في ذلك إلى استحسان العقل، وتلقته الطباع السليمة في الجماعة بالقبول لتكراره المرة بعد المرة وانطلاقًا من هذا المعنى يمكن أن نستخلص ركنين لا يقوم العرف بدونهما: أحدهما خارجي (مادي) ، والآخر داخلي (نفسي) . أولا – الركن المادي: 12- يتمثل الركن المادي للعرف في مسلك عام تكرر على نمط واحد فترة من الزمن تكفي ليتحقق له معنى الثبات والاطراد (4) ومن هنا وجب في السلوك المكون للركن المادي للعرف ثلاث صفات: العموم، والقدم، والثبات. 13- (أ) العموم: تنصرف صفة العموم إلى المسلك الذي تكرر مرة بعد أخرى، بحيث يسود تطبيقه الوسط الذي نشأ فيه، مع مراعاة جميع الأفراد الذين يعنيهم هذا المسلك، وإلى هذا يشير الشاطبي بقوله: " إن العلم المحكوم به على العادات إنما هو في كليات الوجود، لا في جزئياته " (5) ويعبر بعض العلماء عن صفة العموم بـ " الاشتهار "، كما جاء في قول القرافي: " ... الاشتهار أن يكون أهل العرف لا يفهمون عند الإطلاق إلا ذلك المعنى، لا من لفظ الفقهاء، بل من استعمالهم لذلك اللفظ في ذلك المعنى، فهذا هو الاشتهار المعتبر لنقل اللفظ من اللغة إلى العرف " (6) .   (1) محمد مصطفى شلبي، ابن عابدين، مجموعة رسائل: 1 /186: ص 316-317. (2) ابن السبكي، جمع الجوامع، وشرحه لجلال الدين المحلى، وحاشية البناني، وتقرير الشربيني، القاهرة 1356هـ: 2 /195. (3) فيما سبق، فقرة 6. (4) اطرد الشيء اطرادًا: تبع بعضه بعضًا وجرى تقول: اطرد الأمر، أي استقام، والأنهار تطرد، أي تجري (مختار الصحاح، للرازي) . (5) الشاطبي، الموافقات: 2 /282. (6) القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام، الطبعة الأولى: ص 71. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2685 ويقابل صفة العموم ما يطلق عليه الفقهاء وصف " الاشتراط "، فالمسلك المشترك: هو الذي لا يسود الوسط الذي نشأ به، وإنما تساوى العمل به وتركه، فهذا المسلك المشترك " لا يبنى عليه الحكم للتردد في أن المتكلم قصد هذا المعنى أو المعنى الآخر، فلا يتقيد أحد المعنيين لتعارضهما بتحقيق الاشتراك " (1) ونفس الحكم ينطبق على المسلك الذي انفرد به بعض أفراد الجماعة التي يعينها هذا العرف، فقد ذكر ابن عابدين، في معرض تعليقه على الخلاف بين الفقهاء في اعتبار بعض العادات، " .... أن هذا العرف لم يشتهر في بلدة، بل تعارفه بعض أهل بخارى دون عامتهم، ولا يثبت التعارف بذلك " (2) . 14- ولا تعني صفة العموم ضرورة تكرار المسلك أو اعتياد القيام به من كل أفراد الجماعة، فهذا أمر لا يتحقق إلا في الجماعات قليلة العدد، أما الجماعات التي اتسعت وتنوعت عناصرها فيندر أن يتكون فيها عرف عام، ولهذا يكفي أن يقتصر الاعتياد على أبناء بلدة معينة أو أفراد طائفة محدودة، ما دام الاعتياد قد وقع من عدد غير محدود من أشخاص غير معينين بذواتهم، وهذا ما يعرف بالعرف المحلي، أو العرف المهني، أو العرف الإداري، أو العرف الدولي. 15- وبناء على ذلك قسم العلماء العرف إلى عام وخاص. - فالعرف العام: هو " ما غلب على الناس من قول أو فعل أو ترك " (3) ومثلوا لذلك بعقد الاستصناع "، فإنه عقد على شيء مستقبل، وإنه لا يجوز بناء على القياس، غير أن التعامل العام به من غير جعله مقدمًا على القياس (4) . - والعرف الخاص: هو ما غلب على أهل إقليم معين أو طائفة محددة أو على علاقات من نوع خاص (5) ، متعارف التجار على ما يعد عيبًا وما لا يعد كذلك (6) . وقد أشار القرافي إلى هذا التقسيم بقوله: " ... وقد تكون هذه الغلبة في سائر الأقاليم، كالحاجة للغذاء والتنفس في الهواء، وقد تكون خاصة ببعض الفرق، كالأذان للإسلام والناقوس للنصارى، فهذه يقضى بها عندنا " (7) .   (1) ابن عابدين، المرجع المتقدم: 2 /132. (2) ابن عابدين، نفس المرجع: 2 /116. (3) محمد الطاهر بن عاشور، حاشية على شرح تنقيح الفصول: 1 /248، مشار إليه في: أثر العرف، للسيد صالح عوض: ص 139. (4) ابن عابدين، محمد الطاهر بن عاشور، حاشية على شرح تنقيح الفصول: 1 /248، مشار إليه في: أثر العرف، للسيد صالح عوض: ص 139: 2 /114. (5) محمد مصطفى شلبي، نفس المرجع المتقدم: ص 315. (6) عبد العزيز الخياط، نظرية العرف: ص33. (7) القرافي، شرح التنقيح، طبعة الخيرية: ص 200. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2686 16- (ب) القدم: لكي يتكون الاعتياد، يلزم أن تكون العادة قد نشأت منذ زمن بعيد، يدل على أنها تأصلت في نفوس الأفراد، وليست مجرد تجربة قد تبقى أو تزول وقدم العرف مسألة تقديرية تختلف باختلاف الأحوال، سواء في ذلك العرف العام أو الخاص، " وهذا هو ما عليه جمهور الفقهاء " (1) ، وخالف بعضهم، فاعتبر أن العرف لا يكون حجة شرعية إلا إذا جرى العمل به من عهد الصحابة حتى زماننا دون أن ينكره المجتهدون (2) ، وقد تعقب العلماء هذا الرأي بالنقد أو بالتأويل (3) . 17- (ج) الثبات أو الاطراد: يجب أن يكون التكرار في المسلك موحدًا، بمعنى أن يجري على نمط واحد لا يتخلله، مع بقاء الظروف عينها، اتباع مسلك مختلف (4) ولعل هذا هو المراد من قول الفقهاء: قاعدة الأيمان، البناء فيها على العرف إذا لم يضطرب، فإن اضطرب فالرجوع إلى اللغة (5) على أن هذا الشرط لا يعني أن يكون اتحاد المسلك مطلقًا، فشذوذ بعض أفراد الجماعة لا ينفي وحدة النمط، ولهذا شاع في أقوال الفقهاء: العبرة للغالب الشائع، لا للقليل النادر (6) . ثانيا – الركن النفسي: 18- لا يرقى الركن المادي إلى مرتبة العرف إلا إذا صاحبه شعور داخلي يؤدي بأفراد الجماعة إلى الاعتقاد بان هذا المسلك أصبح واجب الاتباع، سواء أكان مرد هذا الاعتقاد إلى أنهم يعتبرون هذا المسلك يطابق العدل ويلائم حاجات الجماعة (7) ، أم كان مرده إلى اعتقادهم بأنه يمثل قاعدة ملزمة ينبغي إطاعتها (8) وهذا واضح من تعريف العرف الذي تبنى عليه الأحكام بأنه: " ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، وهو حجة " (9) فاستقرار العرف في النفوس يدل على أنه أصبح مسلكًا واجب الاتباع، قد قبلت الطباع السليمة لأفراد المجتمع الالتزام به شرعًا. لم ينص العلماء صراحة على هذا الركن النفسي، ولكنا استنبطناه من تعريفهم للعرف والعادة الملزمة. وقد اشترط بعض الباحثين أن يكون العرف ملزمًا، بمعنى أنه يتحتم العمل بمقتضاه في نظر الناس، لأن قواعد الفقه المحكمة لا تأبى اشتراطه، وفيه من النصوص ما يشير إليه " لكن ليس ذلك في كل عرف، بل يمكن ضبطه على وجه التقريب في العرف الذي يتضمن الحق على وجه الإلزام أما غيره فلا يشترط فيه، كالعرف الذي يتضمن الإذن، والعرف الذي يفيد وجوب السؤال عن حال الشيء عند شرائه، لغلبة التعامل بالمحرم " (10) . * * *   (1) السيد صالح عوض، نفس المرجع: ص 138 وانظر: رسائل ابن عابدين: 2 /51. (2) علي حيدر، درر الحكام، تعليقًا على المادة 36 من المجلة. (3) ابن عابدين، مجموعة رسائل: 2 /122-123. (4) عبد الحي حجازى، المدخل لدراسة العلوم القانونية – 1- القانون، الكويت 1972 م: ص 28. (5) العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، طبعة الاستقامة، مصر: 2 /126 وانظرا: ابن نجيم، الأشباه والنظائر، القاهرة 1968 م: ص 48 السيوطي، الأشباه والنظائر، القاهرة 1959 م: ص 92- 93. (6) ابن نجيم والسيوطي، الموضعين السابقين. الشاطبي، الموافقات 2 /282، " إذا كانت العوائد معتبرة شرعا، فلا يقدح في اعتبارها انحرافها ما بقيت عادة على الجملة " وانظر: أحمد الزرقاء، العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، طبعة الاستقامة، مصر: 2 /126 وانظرا: ابن نجيم، الأشباه والنظائر، القاهرة 1968 م: ص 48 السيوطي، الأشباه والنظائر، القاهرة 1959 م: ص 92- 93: ص 181-182. (7) عبد الحي حجازي، ابن نجيم والسيوطي، الموضعين السابقين. الشاطبي، الموافقات 2/282، " إذا كانت العوائد معتبرة شرعا، فلا يقدح في اعتبارها انحرافها ما بقيت عادة على الجملة " وانظر: أحمد الزرقاء، العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، طبعة الاستقامة، مصر: 2/126 وانظرا: ابن نجيم، الأشباه والنظائر، القاهرة 1968 م: ص 48 السيوطي، الأشباه والنظائر، القاهرة 1959 م: ص 92- 93: ص 181-182: ص 449، والمراجع المشار إليها في هـ 3. (8) عبد الحي حجازي، نفس المرجع، مع هامش 4. (9) انظر فيما سبق: فقرة 8. (10) أحمد فهمي أبو سنة، المرجع السابق: ص 66-67 وقارن: السيد صالح عوض، أثر العرف: ص 228-231. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2687 الفصل الثاني القوة الملزمة للعرف 19- تقتضي دراسة القوة الملزمة للعرف أن نبحث أولًا حجية العرف ومنزلته بين أدلة التشريع، ثم نستعرض بعد ذلك الآراء المختلفة التي قيل بها لتحديد الأساس الذي قامت عليه هذه القوة الملزمة، وهذا نعالجه في مبحثين: المبحث الأول: حجية العرف ومنزلته بين أدلة التشريع. المبحث الثاني: أساس القوة الملزمة للعرف. المبحث الأول حجية العرف ومنزلته بين أدلة التشريع أولا – حجية العرف: 20- كلما يجري الحديث عن حجية العرف، يرد إلى الذهن قول العلامة ابن عابدين في منظومة "عقود رسم المفتي ": والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار (1) . فعلى الرغم من أن ابن عابدين من فقهاء المذهب الحنفي، إلا أنه يعبر بقوله هذا عن حجية العرف واعتباره في كافة المذاهب، وهذا ما أشار إليه القرافي بقوله: أما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها (2) وعندما ذكر القرطبي: أن الشافعية أنكروا العمل بالعرف لفظًا وعملوا به معنى، رد عليه ابن حجر بقوله: إن الشافعية إنما أنكروا العمل بالعرف إذا عارضه النص الشرعي أو لم يرشد النص الشرعي إليه (3) وهو ما أكده السيوطي بقوله: اعلم أن اعتبار العادة والعرف في الشرع رجع إليه في الفقه مسائل لا تعد كثرة (4) وعند الحنابلة: لا يجوز للحاكم ولا لغيره أن يساعد من ادعى حقا يشهد الحس والعادة والعرف أنه ليس له (5) وبناء على ذلك تقرر في التشريع والفتوى والقضاء أن " العادة محكمة " (6) ، وأن " استعمال الناس حجة يجب العمل بها " (7) وأن " الممتنع عادة كالممتنع حقيقة " (8) ، وأن " الحقيقة تترك بدلالة العادة " (9) ، وأن " المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا " (10) ، وأن " المعروف بين التجار كالمشروط بينهم " (11) ، وأن " التعيين بالعرف كالتعيين بالنص " (12) .   (1) ابن عابدين، مجموعة رسائل: 1 /44. (2) القرافي، شرح تنقيح الفصول: ص 194. (3) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، طبعة الحلبي: 9 /420. (4) السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 90. (5) ابن قيم الجوزية، إغاثة اللهفان، القاهرة 1939م: 2 /55. (6) المادة 36 من المجلة، وانظر في شرحها: أحمد الزرقا، المرجع السابق: ص 165- 168. (7) المادة 37 من المجلة، وانظر في شرحها: أحمد الزرقاء، المرجع السابق: ص 169. (8) م 38 مجلة، وانظر: أحمد الزرقاء، نفس المرجع: ص 171-172. (9) م 40 مجلة، وانظر: أحمد الزرقاء: ص 177. (10) م 43 مجلة، وانظر: أحمد الزرقاء: ص 183-184. (11) م 44 مجلة، الزرقاء: ص 185 – 186. (12) م 45 مجلة، الزرقاء: ص 178. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2688 21- ولئن كان الفقه الإسلامي في جملته، قد اعتبر العرف حجة وبنى عليه كثيرًا من الأحكام، إلا أن البعض لا يثبت هذه الحجية لكافة أنواع العرف، بل يقصرها على العرف العام دون العرف الخاص (1) ولقد قدمنا أن جمهور الشافعية لا يعتبرون العرف إذا عارضه النص الشرعي أو لم يرشد النص الشرعي إليه (2) ، بينما يرى غيرهم أن العرف أصل قائم بذاته إذا لم يثبت نهي عنه ولا إرشاد إليه (3) ، ويكاد الفقهاء يتفقون على اعتبار العرف القولي حجة، إلا من شذ في بعض الفروع (4) ، ويمكن أن يقال مثل ذلك في العرف العملي (5) . ثانيا – منزلة العرف بين أدلة التشريع: 22- جمهور الأصوليين على أن الدليل: ما يستدل بالنظر الصحيح فيه على حكم شرعي عمل على سبيل القطع، أو الظن، وبعضهم قصره على ما يستفاد منه حكم شرعي عملي على سبيل القطع، وأما ما يستفاد منه حكم شرعي على سبيل الظن، فهو أمارة لا دليل " وأدلة الحكام، وأصول الأحكام، والمصادر التشريعية للأحكام، ألفاظ مترادفة، معناها واحد " (6) .   (1) انظر في هذا الرأي والرد عليه: ابن عابدين، المرجع السابق: 2 /114 وما بعدها وكذلك: أحمد فهمي أبو سنة، نفس المرجع، ص 58-61. (2) ابن حجر، فتح الباري: 9 /420. (3) محمد أبو زهرة، مالك، القاهرة 1946 م: ص449. (4) أحمد فهمي أبو سنة، العرف والعادة: ص54. (5) ابن نجيم، الأشابه والنظائر: ص 50 السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 90 محمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد في الإسلام: ص248. (6) عبد الوهاب خلاف، أصول الفقه: ص 20. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2689 ولقد اتفقت كلمة جمهور العلماء، من مختلف المذاهب، على أن أدلة الأحكام أربعة: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس على هذا الترتيب وهناك أدلة أخرى، اختلف في الاستدلال بها على الحكم الشرعي، أشهرها: الاستحسان، والاستصحاب، والاستصلاح، والعرف، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا (1) . ومهما يكن من أمر، فللعلماء في تحديد طبيعة العرف مسلكان: يعتبر أولهما العرف دليلًا مستقلا يمكن أن تستفاد منه أحكام شرعية، أما الآخر فلا يعترف بهذا الاستقلال، وإنما يرد الأحكام التي بنيت على العرف إلى دليل آخر ثبت لديه. 23- المسلك الأول: العرف دليل مستقل. يرى أصحاب هذا المسلك أن العرف، إذا استوفى شروطه، دليل قائم بذاته إلى جانب الأدلة الشرعية فقد قال القرافي: إن أدلة الأحكام تسعة عشر، وعد منها العوائد (2) . وجاء في أحكام القرآن لابن العربي: أن العادة دليل أصولي بنى الله تعالى عليه الأحكام، وربط به الحلال والحرام (3) وفي المبسوط: " وهذا الأصل معروف: أما تعارفه الناس، وليس في عينه نص يبطله، فهو جائز " (4) ، وفي موضع آخر منه: " وتعامل الناس من غير نكير، أصل من الأصول كبير " (5) وأورد ابن عابدين ما جاء في البحر، نقلا عن الكافي: " والأحكام تبتنى على العرف، فيعتبر في كل إقليم وفي كل عصر عرف أهله " (6) ولقد صرح بعض أصحاب هذا المسلك بأن العرف بمنزلة الإجماع عند عدم النص (7) ، ونتيجة لذلك نصوا على أن: التعامل حجة، يترك به القياس، ويخص به الأثر (8) . 24- المسلك الثاني: رد العرف إلى دليل شرعي: سلك هذا المسلك أغلب الأصوليين والفقهاء، فلم يجعلوا العرف – مع اعتباره في التشريع – دليلًا مستقلًّا، وإنما ردوه إلى دليل شرعي آخر، كالإجماع، أو الاستحسان أو الاستصلاح.   (1) عبد الوهاب خلاف، أصول الفقه: ص 21- 22. (2) القرافي، تنقيح الفصول: ص 189. (3) ابن العربي، أحكام القرآن، طبعة الحلبي: 2 /270. (4) السرخسي، المبسوط، طبعة السعادة 1324 هـ: 12 /45. (5) السرخسي، نفس المرجع: 12 /138. (6) ابن عابدين مجموعة رسائل: 2 /130. (7) الكمال بن الهمام، فتح القدير: 6 /282. (8) ابن عابدين، نفس المرجع: 1 /47 و2 /114 وممن اعتبر العرف مصدرًا يستقل بالتشريع: محمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد: ص 249 هـ 1 وعبد العزيز الخياط، نظرية العرف: ص 43 وعمر عبد الله، العرف في الفقه الإسلامي: ص 14-15. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2690 25- رد العرف إلى الإجماع (1) : ذكر المحقق " ابن الهمام ": أن جواز الاستصناع جاء استحسانا بالتعامل الراجع إلى الإجماع العلمي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا بلا نكير، والتعامل بهذه الصفة مندرج في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) (2) فقد رد العرف إلى الإجماع، وبناه على الحديث الذي اعتبره الأصوليون دليلًا على حجيته (3) ومثله ما أورده ابن السبكي من أن العادة إذا ثبتت في عهده صلى الله عليه وسلم أو بعده بلا نكير، فقد ثبتت بالسنة أو بالإجماع، وإلا فهي مردودة قطعًا (4) ومعروف أن الإمام مالكًا اتخذ عمل أهل المدينة أصلا تبنى عليه الأحكام، لأنه كان يعتبره إجماعًا يقدمه على خبر الواحد وعلى القياس (5) وقد روي أنه، لما اجتمع بأبي يوسف ومحمد بن الحسن في المدينة، وقد سئل عن مقدار الصاع والمد، طلب إلى الحاضرين مجلسه أن يعرضوا ما عندهم من هذه المكاييل التي توارثوا العمل بها من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أترى هؤلاء يجمعون على باطل؟ (6) . 26- رد العرف إلى الاستحسان (7) : من التعريفات التي وضعها الأحناف للاستحسان أنه: ترك القياس إلى ما هو أولى منه، وهو على وجهين: أحدهما: أن يكون فرع يتجاذبه أصلان، يأخذ الشبه من كل واحد منهما، فيجب إلحاقه بأحدهما دون الآخر، لدلالة توجبه والوجه الآخر: تخصيص الحكم مع وجود العلة، وذلك قد يكون بالنص أو الأثر أو الإجماع أو بقياس آخر أو بعمل الناس (8) مثال ذلك: جواز وقف المنقول كالكتب وغيرها، فالقياس أن يقتصر في الموقف على ما يكون مؤبدًا والاستحسان جواز وقف المنقول، مع أنه عرضه للهلاك، للعرف. ومن تعريفات المالكية للاستحسان أنه: تخصيص الدليل العام بالعرف لمصلحة الناس مثال ذلك: استحسان دخول الحمام من غير تقرير زمان المكث وقدر الماء، مع أن الدليل يمنعه، لأنه يحتمل الغرر المنهي عنه في الحديث (9) . 27- رد العرف إلى المصلحة (10) : أكثر العلماء يردون العرف إلى المصالح المرسلة، أي تلك التي لم يقم دليل اعتبارها أو إلغائها، وإنما بني الحكم فيها على ما في الشريعة من قواعد عامة، توجب تحقيق المصالح ودرء المفاسد (11) فقد جاء في التنقيح: أن دفع المشقة عن النفوس مصلحة ولو أدت إلى خلاف القواعد (12) ويقول الشاطبي: لما قطعنا بأن الشارع جاء باعتبار المصالح، لزم القطع بأنه لا بد من اعتبار العوائد، لأنه إذا كان التشريع على وزان واحد، دل على جريان المصالح على ذلك، لأن أصل التشريع سبب المصالح، والتشريع دائم، فالمصالح كذلك، وهو معنى اعتباره للعادات في التشريع (13) ويشيع في أقوال الأحناف: أن في نزع الناس عن عاداتهم حرجًا (14) ، وإن في الخروج عن العادة حرجا بينا (15) وكثير من الباحثين المعاصرين يردون الأحكام التي بنيت على العرف إلى دليل الاستصلاح (16) .   (1) الغزالي، المستصفى، القاهرة 1294 هـ، 1 /173 وما بعدها. (2) ابن عابدين، مجموعة الرسائل، 1 /186. (3) الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، القاهرة 1347هـ، 1 /376. (4) ابن السبكي، جمع الجوامع: 2 /360. (5) على حسن عبد القادر، المرجع السابق: ص 255. (6) انظر: السيد صالح عوض، أثر العرف: ص 188 والمراجع التي أشار إليها. (7) الغزالي، المستصفى: 1 /274. (8) محمد مصطفى شلبي، أصول الفقه الإسلامي: ص 263 والمراجع التي اعتمد عليه، وانظر: ابن الحاجب، منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل، القاهرة 1293هـ: 2 /282: " العدول إلى خلاف النظير بدليل أقوى منه، كدخول الحمام من غير تقييد بزمان مكث ولا مقدار ماء، لدليل العرف ". (9) الشاطبي، الاعتصام: 2 /324، العطار، حاشية على جمع الجوامع: 2 /295. (10) الغزالي، المستصفي: 1 /286- 287، 2 /306. (11) محمد معروف الدواليبي، المدخل إلى علم أصول الفقه، دمشق 1955 م: ص 274 وما بعدها. (12) القرافي، تنقيح الفصول: ص 169 وما بعدها (13) الشاطبي، الموافقات: 2 /286 وما بعدها. (14) ابن عابدين، مجموعة الرسائل: 2 /138. (15) ابن عابدين، نفس المرجع: 2 /139. (16) انظر على سبيل المثال: أحمد فهمي أبو سنة، المرجع السابق: ص 36-38 السيد صالح عوض، المرجع المتقدم، ص 239 عبد الوهاب خلاف، نفس المرجع: ص 91 عجيل النشمي، نفس المرجع: ص 197 محمد أبو زهرة، مالك: ص 454 محمد مصطفى شلبي، أصول الفقه، ص 323 منصور الشيخ، أصول الأحكام، ص 203. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2691 المبحث الثاني أساس القوة الملزمة للعرف 28- جرت عادة الأصوليين والفقهاء، عندما يلاحظون أمرًا يمكن اعتباره حكمًا أو يستفاد منه الحكم، أن يتلمسوا له الأدلة النقلية والعقلية التي تطمئن قلوبهم إلى الاعتماد عليه في التشريع، وبناء على ذلك أوردوا لإثبات حجية العرف، أدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع، غير أن تحليل هذه الأدلة قد يجعلها لا تصلح لإثبات الدعوى من أجل ذلك ينبغي عرض المسألة بطريقة مختلفة، فنقول: مال الدليل على حجية العرف؟ أو بعبارة أخرى: ما أساس القوة الملزمة للعرف؟ أهو العقل الذي شهد بصلاحية الأحكام التي بنيت عليه، حتى استقرت عليها الجماعة، أم أن الشرع وحده هو أساس إلزامية العرف؟ قبل الإجابة عن هذا التساؤل، ينبغي أن نلفت النظر إلى أنه لا خلاف بين علماء المسلمين في أن مصدر الأحكام الشرعية هو الله تعالى، وإنما يدور الخلاف بينهم فيما يعرف به حكم الله، هل يمكن للعقل أن يستقل بهذه المعرفة؟ أو أن طريقها إلينا الوحي وحده؟ للعلماء في ذلك اتجاهات ثلاثة: اتجاه الأشاعرة، اتجاه المعتزلة، واتجاه الماتريدية. 29- أولًا – اتجاه الأشاعرة: يرى أبو الحسن الأشعري وأتباعه: أن العقل لا يمكن أن يستقل بمعرفة الأحكام الشرعية، لاختلاف العقول في الحكم على الفعل بالتحسين والتقبيح، وإذن يكون معيار حسن الأفعال وقبحها هو الشرع المنقول إلينا بواسطة رسل الله (1) . وانطلاقا من هذا المبدأ استند بعض الأصوليين والفقهاء، لبيان أساس القوة الملزمة للعرف، إلى قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (2) ويقول القرافي: " ... كل ما شهدت به العادة قضي به، لظاهر هذه الآية، إلا أن يكون هناك بينة " (3) ونقل السيوطي في الإكليل عن ابن الفرس أن معنى قوله تعالى {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} ": اقضِ بكل ما عرفته النفوس، ولا يرده الشرع، وهذا أصل القاعدة الشرعية في اعتبار العرف (4) ، واستدل بعضهم على إلزامية العرف بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (5) .   (1) عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار شرح المنار، للتنسفي، القاهرة 1316هـ: 1 /66 وما بعدها الكمال بن أبي شريف، المسامرة في شرح المسايرة، للكمال بن الهمام، القاهرة 1347هـ: 2 /42 وما بعدها. (2) [سورة الأعراف: الآية 199] . (3) القرافي، الفروق، القاهرة 1344 هـ: 3 /194. (4) السيد صالح عوض، أثر العرف في التشريع الإسلامي: ص 171. (5) [سورة النساء: الآية 115] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2692 وجه الاستدلال: أن الله تعالى أوعد بالعقاب والعذاب من يتبع غير طريق المؤمنين، وهذا دليل على أن اتباع سبيل المؤمنين واجب، فالعادة التي استحسنوها معتبرة شرعًا، ويجب العمل بها (1) وقد شاع في كتب الأصول والفقه، عند ذكر أدلة اعتبار العرف، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)) (2) ، غير أن المحققين اعترضوا على نسبة هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنه من قول عبد الله بن مسعود، موقوفًا عليه، رواه أحمد والبزار والطبراني والطيالسي وغيرهم (3) ونحن نعتقد أن هذا القول من عبد الله بن مسعود مما لا يدرك بالرأي والعقل، ولم يعرف له مخالف من الصحابة، وقد شاع لدى العلماء من مختلف المذاهب، وهو يؤدي معنى الآية السابقة: " ومن يشاقق الرسول ... " إلخ، ووردت أحاديث أخرى تعضده مثل: ((لا تجتمع أمتي على الضلالة)) و ((اتبعوا السواد الأعظم)) وغير ذلك (4) ، فالظاهر من حال ابن مسعود أنه قال ذلك سماعًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 30- ثانيا – اتجاه المعتزلة: يرى واصل بن عطاء وأتباعه أن العقل يمكن أن يستقل بمعرفة الأحكام الشرعية، لأن أفعال المكلفين إن كانت تحمل نفعًا حكم العقل بحسنها، وإن كانت تؤدي إلى ضرر حكم العقل بقبحها، والله سبحانه يكلف الناس بفعل ما فيه نفعهم، وبترك ما فيه ضررهم فالعقل السليم إذا رأى حسن فعل، علم أنه مأمور به، فيكون الطلب الشرعي ثابتًا له ثبوتًا ملازمًا لصفة الحسن وإذا رأى قبح فعل، علم أنه منهي عنه، ويستحق فاعله العقاب ولو لم يرد الشارع به (5) . وانطلاقًا من هذا المبدأ، جاء في المعتمد: " وأما التوصل إلى الأحكام الشرعية، فهو أن المجتهد، إذا أراد معرفة حكم الحادثة، فيجب أن ينظر ما حكمها في العقل، ثم ينظر: هل يجوز أن يتغير حكم الله فيها؟ وهل في أدلة الشرع ما يقتضي تقدم ذلك الحكم أم لا؟ فإن لم يجد ما ينقله عن العقل، قضى به والشرط في ذلك: هو علمه بأنه لو كانت المصلحة قد تغيرت مما يقتضيه العقل، لما جاز ألا يدلنا الله تعالى على ذلك فإن وجد في الشرع ما يدل على نقله، قضى بانتقاله، لأن العقول إنما دلت على تلك الأحكام بشرط ألا ينقلنا عنها دليل شرعي (6) ومقتضى هذا النص أن العقل كاف في اعتبار الأعراف والعادات الحسنة، وأنها تنتج أحكامًا شرعية ملزمة ومثل ذلك ما قاله " المظفر " من أنه: إذا حكم العقل بحسن شيء أو قبحه، بأن تطابقت آراء العقلاء جميعًا على حسن شيء، لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع، أو على قبحه، لما فيه من الإخلال بذلك، فلا بد أن يحكم الشارع بحكمهم (7) .   (1) السيد صالح عوض، نفس المرجع: ص 175 والمراجع التي أشار إليها. (2) انظر على سبيل المثال: ابن نجيم، الأشباه والنظائر: ص 46 السرخسي، المبسوط: 12 /45 السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 88 الكاساني، بدائع الصنائع: 5 /223 الكمال بن الهمام، فتح القدير: 6 /281. (3) ابن نجيم، نفس الموضع السابق الزيلعي، نصب الراية لأحاديث الهداية، القاهرة 1357هـ: 4 /133 السخاوي، المقاصد الحسنة، القاهرة 1375هـ: ص 367 السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 88. (4) انظر في هذه الأحاديث ورواتها ودرجتها: السخاوي، المقاصد الحسنة: ص 460. (5) البخاري، كشف الأسرار: 1 /66 وما بعدها. (6) أبو الحسين البصري، المعتمد في أصول الفقه، دمشق 1965 م: 2 /908. (7) محمد رضا المظفر، أصول الفقه، النجف د. ت: 2 /237. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2693 31- ثالثًا- اتجاه الماتريدية: توسط أبو منصور الماتريدي وأتباعه بين اتجاه الأشاعرة واتجاه المعتزلة فاتفقوا مع الأشاعرة في أن حكم الله لا يعرف إلا بواسطة رسله، وخالفوهم فيما رأوه من أن حسن الأفعال وقبحها شرعيان لا عقليان واتفقوا مع المعتزلة في أن حسن الأفعال وقبحها مما تدركه العقول بناء على ما فيها من نفع أو ضرر، وخالفوهم فيما رأوه من أن حكم الله لا بد أن يكون على وفق حكم العقل (1) وفي هذا المعنى يقول صاحب التوضيح: " عند المعتزلة: العقل حاكم بالحسن والقبح موجب للعلم بهما وعندنا: الحاكم بهما هو الله تعالى، والعقل آلة للعلم بهما، فيخلق الله العلم عقيب نظر العقل نظرًا صحيحا " (2) وبناء على هذا المبدأ توسع الأحناف في القول بالاستحسان وتنوعت صوره عندهم، وقد سبق أن ذكرنا أن كثيرًا منهم ردوا أحكام العرف والعادة إلى " الاستحسان " فيكون أساس القوة الملزمة للعرف عندهم: العقل والشرع معا (3) .   (1) الكمال ابن أبي شريف، المسامرة: 2 /42 وما بعدها. (2) التفتازاني، التلويح على التوضيح، القاهرة 1367 هـ: 1 /190. (3) انظر فيما سبق: فقرة 26 ابن عابدين، مجموعة رسائل: 2 /138 – 139. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2694 الفصل الثالث دور العرف في التشريع 32- بعد استقراء عدد لا بأس به من الحالات التي بنى الفقهاء أحكامها على العادات والأعراف، تبين لنا أن العرف يؤدي وظائف متنوعة في مجال التشريع، فقد يستقل بإنشاء بعض الأحكام الفقهية، وقد يقوم بدور مساعد للتشريع بأن يخصص العام أو يفصل المجمل أو يبين المراد وقد يخالف العرف نصا شرعيًّا أو حكمًا اجتهاديا، فيقبل العلماء ما جاء به بعد تأويل النص الشرعي أو تغيير الحكم الاجتهادي، إذا دعت الضرورة. وقد استقر في الفقه أنه: " لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان " فلما تتبعنا الكثير من هذه الأحكام التي تغيرت، وجدنا أنها لم تتغير لحجة أو برهان، وإنما لأنها كانت مبنية على أعراف تغيرت بتغير الزمان أو المكان. وبسط هذه المسائل يقتضي تقسيم الفصل إلى مبحثين: نخصص أولهما لبيان وظائف العرف. ونحدد في الآخر معنى تغير الأحكام بتغير الأزمان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2695 المبحث الأول وظائف العرف 33- يقوم العرف بأداء عدة وظائف تشريعية، فهناك العرف المكمل المساعد للتشريع والعرف المخالف للتشريع. 34- أولًا – العرف المكمل للتشريع: هو العرف الذي يلجأ إليه القاضي أو المفتي لتنظيم حالة لم يرد بشأنها حكم شرعي، وهو على هذا النحو يكون أصلًا أو دليلًا مستقلًا، يمكن الاعتماد عليه في إنشاء حكم جديد. مثال ذلك: وقف المنقول، فإن القياس يقضي بعدم جوازه عند الأحناف لأنهم يشترطون التأبيد في صحة الوقف، والعقار وحده هو الذي يقبل التأبيد ويدوم الانتفاع به ما دامت رقبته وقد تمسك الإمام أبو حنيفة بهذا الأصل، فلم يجز وقف المنقول مطلقًا، سواء أكان وقفه قصدًا واستقلالًا، أم كان وقفه تبعًا للعقار الموقوف (1) ولكن أبا يوسف أجاز وقف المنقول، خلافًا للقياس، وذلك في حالتين، أولاهما: وقف المنقول تبعا لعقار موقوف، والأخرى: وقف المنقول قصدًا إذا ورد نص بوقفه، كالسلاح والكراع، أو إذا جرى التعامل بوقفه، لإمكان الانتفاع به مع بقاء عينه، كالمصاحف وثياب الجنازة، وفيما سبق سوى ذلك لا يصح الوقف وقال محمد بن الحسن: يصح وقف كل منقول، قصدًا أو تبعًا، يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه أو لا، إذا جرى التعامل بوقفه (2) وفي هذا يقول السرخسي: الجواب الصحيح: أن ما جرى العرف بين الناس بالوقف فيه من المنقولات يجوز، باعتبار العرف، كثياب الجنازة وما يحتاج إليه من القدور والأواني في غسل الميت، وهذا الأصل معروف: أن ما تعارفه الناس، وليس في عينه نص يبطله، فهو جائز، وبهذا الطريق جوزنا الاستصناع فيما فيه تعامل، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)) (3) .   (1) الكمال ابن الهمام، فتح القدير: 5 /429. (2) ابن الهمام، نفس المرجع: 5 /430. (3) السرخسي، المبسوط: 12 /45. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2696 35- ولا يدخل في هذا النوع ما عرف من العادات زمن التشريع ولم يد عنه نهي، فإنه قد يكون مصدرًا تاريخيًا للحكم، أما أصله الشرعي فهو السنة التقريرية التي تقرر بها جواز الفعل مثال ذلك: عقد السلم، وهو: تسليم عوض حاضر في عوض موصوف في الذمة إلى أجل مسمى، ولهذا يطلقون عليه: بيع العاجل بالآجل (1) روى البخاري ومسلم حديث ابن عباس، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، فقال: ((من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) (2) وقد علق السرخسي على هذا الحديث بقوله: " فقد أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أصل العقد وبين شرائطه، فذلك دليل جواز العقد وإنما يقبل السلم في العادة بما ليس بموجود في ملكه، والقياس يأبى جوازه، لأنه بيع المعدوم وبيع ما هو موجود مملوك للعاقد باطل، فبيع المعدوم أولى بالبطلان ولكنا تركنا القياس بالكتاب والسنة " (3) ، وقد ذكر الفقهاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية (4) وفي حديث عائشة: أن النكاح كان في الجاهلية على أربعة أنحاء، فنكاح منها نكاح الناس اليوم ... قالت: فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم (5) . 36- ثانيًا – العرف المساعد للتشريع: وهو ما أحال عليه التشريع إما البيان مضمون حكم شرعي ثبت أصله بالنص، وإما للاستعانة به في إرادة المكلف بالحكم. (أ) فالعرف المبين لمضمون حكم شرعي ثبت أصله بالنص ورد كثيرًا في القرآن الكريم والسنة النبوية، مثال ذلك قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (6) . فقد ذكر العلماء أن هذا النص أثبت حكمًا شرعيًّا، هو وجوب النفقة على الزوج، ثم أحال إلى العرف لبيان مضمون هذه النفقة وتحديد مقدارها وأسباب سقوطها (7) ومثله ما روي من أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) (8) ، فقد نص الفقهاء على أن هذا الحديث يدل على " اعتماد العرف في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعي " (9) .   (1) ابن الهمام، فتح القدير: 6 /207- 208. (2) محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، الكويت 977: ص 392. (3) السرخسي، المبسوط: 12 /124. (4) ابن حزم، المحلى، القاهرة 1352 هـ: 11 /90 وما بعدها ابن قدامة المغني: 8 /484 وما بعدها. (5) انظر الحديث في: الشوكاني، نيل الأوطار، القاهرة د. ت: 6 /156. (6) [صورة البقرة: الآية 233] . (7) ابن قدامة، المغني: 9 /232 ابن الهمام، فتح القدير: 4 /195 ابن العربي، أحكام القرآن: 2 /270 (8) محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان: ص 429. (9) النووي، شرح صحيح مسلم، القاهرة 1347 هـ: 2 /7-8 ابن حجر، فتح الباري: 4 /321 و 9 /420 وما بعدهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2697 37- (ب) وأما العرف الذي يستعان به في تفسير إرادة المكلف، فإنه أكثر من أن يحصى، وقد خصه العز بن عبد السلام بفصل كامل في كتابه: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، تحت عنوان: " فصل في تنزيل دلالة العادات وقرائن الأحوال منزلة صريح الأقوال في تخصيص العام وتقييد المطلق وغيرها "، وأورد في ذلك ثلاثة وعشرين مسألة (1) وجاء في المستصفى: ".. وعلى الجملة، فعادة الناس تؤثر في تعريف مرادهم من ألفاظهم " (2) ونقل ابن عابدين عن فتاوى العلامة قاسم: " التحقيق أن لفظ الواقف والموصي والحالف والنادز وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها، وافقت لغة العرب ولغة الشارع أو لا " (3) وذكر القرافي عند تعليقه على معاني بعض ألفاظ الطلاق: إياك أن تقول: إنا لا نفهم منه إلا الطلاق الثلاث، لأن مالكا رحمه الله قاله أو لأنه مسطور في كتب الفقه، لأن ذلك غلط بل لا بد أن يكون ذلك الفهم حاصلًا لك من جهة الاستعمال والعادة، كما يحصل لسائر العوام، كما في لفظ الدابة والبحر والراوية فالفقيه والعامة في هذه الألفاظ سواء في الفهم، لا يسبق إلى أفهامهم إلا المعاني المنقولة إليها، فهذا هو الضابط، لا فهم ذلك من كتب الفقه، فإن النقل إنما يحصل باستعمال الناس، لا بتسطير ذلك في الكتب، بل المسطر في الكتب تابع لاستعمال الناس (4) وأورد ابن القيم مسائل متعددة يمكن الاستعانة فيها بالأعراف والعادات لتفسير الإدارة، ثم ختمها بقوله: " وأضعاف أضعاف هذه المسائل، مما جرى العمل فيه على العرف والعادة، ونزل ذلك منزلة النطق الصريح، اكتفاء بشاهد الحال عن صريح المقال " (5) . 38- ثالثا – العرف المخالف للتشريع: قد توجد أعراف وعادات محلية تخالف النصوص الشرعية أو الأحكام الفقهية الاجتهادية، ذلك أن الشرع الإسلامي نظام عالمي خالد، لا يقتصر على بيئة دون أخرى ولا يطبق في زمان دون غيره، ومع مرور الزمن، وما يحيط بكل بيئة من ظروف خاصة، وبعد تطور المعاملات واقتباس بعض أحكامها من قواعد قانونية أجنبية، وبناء على حملات منظمة تساندها جهات معينة تدعو إلى إحياء العادات المحلية القديمة، ظهرت أعراف مختلفة تتعارض في قليل أو كثير مع النصوص الشرعية أو الأحكام المستقرة، وقد واجه الفقه الإسلامي هذه الأعراف، وأصدر حكمه لها أو عليها مبينا " حيثيات " أحكامه بما يدعو إلى الإعجاب برحيب صدره وسعة أفقه ودقته البالغة في تحليل المسائل ومجابهة الحوادث وجملة القول في ذلك أن الفقهاء يفرقون بين حالتين: حالة مخالفة العرف لنص شرعي، وحالة مخالفته لحكم فقهي اجتهادي.   (1) عز الدين بن عبد السلام، قواعد الأحكام: 2 /126. (2) الغزالي، المستصفى: 2 /111. (3) ابن عابدين، مجموعة رسائل: 1 /48. (4) القرافي، الإحكام: ص 70- 71، والفروق: 1 /40. (5) ابن القيم، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، القاهرة 1953 م: ص 18-24. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2698 39- (أ) مخالفة العرف لنص شرعي: إذا قام عرف يخالف نصًّا من الكتاب أو السنة، فإما أن تكون هذه المخالفة من كل وجه، بحيث لا يمكن التوفيق بينهما، وإما أن تكون المخالفة ناجمة عن تنظيم العرف لمراكز معينة على نحو يختلف عن التنظيم الذي بنى على النص، بحيث يمكن التوفيق بينهما على نحو أو آخر. 40- فإذا كانت مخالفة العرف للنص كاملة، ولا يمكن التوفيق بينهما بأي حال، عمل بالنص ولا اعتبار للعرف وفي هذا يقول ابن الهمام:".. النص أقوى من العرف، لأن العرف جاز أن يكون على باطل، كتعارف أهل زماننا في إخراج الشموع والسرج إلى المقابر ليالي العيد، والنص بعد ثبوته لا يحتمل أن يكون على باطل ولأن حجية العرف على الذين تعارفوه والتزموه فقط، والنص حجة على الكل فهو أقوى ولأن العرف صار حجة بالنص، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن)) (1) وقد سبق أن أوردنا قول ابن حجر: " إن الشافعية إنما أنكروا العمل بالعرف إذا عارضه النص الشرعي.. " (2) وفي رسالة نشر العرف: " إذ خالف العرف الدليل الشرعي، فإن خالفه من كل وجه بأن لزم منه ترك النص، فلا شك في رده، كتعارف الناس كثيرًا من المحرمات من الربا وشرب الخمر ولبس الحرير والذهب وغير ذلك مما ورد تحريمه نصا " (3) . 41- أما إذا أمكن التوفيق بين النص والعرف، بأن كان النص عامًّا والعرف يخصصه، أو كان النص مطلقًا والعرف يخصصه، أو كان النص مطلقًا والعرف يقيده، فإن أكثر الفقهاء على اعتبار العرف، لأنه لا يلزم من اعتباره ترك النص، بل يعمل بهما جميعًا مثال ذلك: ما روى عن الإمام مالك من تخصيص عموم قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} (4) بما قضى به العرف والعادة من أن الشريفة لا يجب عليها رضاع (5) ومثله ما روي من ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط)) ، فقد ذكر الفقهاء أن هذا الحديث معلل بوقوع النزاع المخرج للعقد عن المقصود به، وهو قطع المنازعة، والشرط الذي جرى به التعامل يفض النزاع، فيكون موافقًا لمعنى الحديث، وفي هذا تقييد للنص المطلق بالعرف، جاء في المبسوط: ".. وإن كان شرطًا لا يقتضيه العقد، وفيه عرف ظاهر، فذلك جائز أيضًا، كما لو اشترى بغلًا وشراكًا بشرط أن يحذوه البائع، لأن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، ولأن في النزوع عن العادة الظاهرة حرجًا بينا " (6) .   (1) الكمال بن الهمام، فتح القدير: 6 /157. (2) ابن حجر، فتح الباري: 9 /420. (3) ابن عابدين، مجموعة رسائل: 2 /114. (4) [سورة البقرة: الآية 233] . (5) ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، القاهرة د. ت: 2 /46 الدسوقي، حاشية على الشرح الكبير، القاهرة د. ت 2 /143. (6) السرخسي، المبسوط: 13 /14 الشيرازي، المهذب: 1/399، القاهرة 1959 م: 1 /268 الحطاب، مواهب الجليل، القاهرة 1329هـ: 4 /273 ابن قدامة المغني: 4 /290 – 291. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2699 42- (ب) مخالفة العرف لحكم اجتهادي: إذا تكون عرف يخالف بعض الأحكام الفقهية، التي استنبطها المجتهدون من الأدلة الشرعية، فإن الفقهاء يكادون يتفقون على أن يعمل بالعرف؛ لأنه أقوى من القياس، فالعرف قاض عليه (1) لأن العرف بمنزلة الإجماع عند عدم النص (2) ، وسائر الأدلة تأتي بعد القياس في المرتبة، لاختلاف الأصوليين في اعتبارها. وقد تعرض العلامة ابن عابدين لهذا الموضوع بالتفصيل، فذكر أن مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا أخذا من قواعد مذهبه ثم أورد في ذلك عدة مسائل، منها: " إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه، ولانقطاع عطايا المعلمين التي كانت في الصدر الأول، ولو اشتغل المعلمون بالتعليم بلا أجره يلزم ضياعهم وضياع عيالهم، ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة وصناعة يلزم ضياع القرآن والدين فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم، وكذا على الإمامة والأذان كذلك، مع أن ذلك مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، من عدم جواز الاستئجار وأخذ الأجرة عليه، كبقية الطاعات من الصوم والصلاة والحج وقراءة القرآن ونحو ذلك (3) ونجد مثل ذلك كثيرًا في كتب المذاهب الفقهية الأخرى (4) . * * * المبحث الثاني تغير الأحكام بتغير الأزمان 43- من القواعد الفقهية التي استقرت في التشريع الإسلامي، قاعدة: " لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان " (5) ذلك أن الأصول المتفق عليها تقضي بأن التشريع لا يكون عادلًا إلا إذا كانت أحكامه تلائم من شرع لهم بمراعاة أعرافهم وظروف بيئتهم، وأن التشريع الذي تلائم أحكامه قومًا قد لا يلائم أحوال قوم آخرين، بل أن أحكام التشريع الواحد قد تلائم الأمة في وقت ولا تلائمها في وقت غيره (6) وتطبيقًا لهذه الأصول فإنه يجوز أن تتغير الأحكام التي روعي فيها العرف والعادة، ليحل محلها أحكام جديدة يراعى فيها ما يستجد من أعراف وعادات (7) ، بما يدفع الحرج ويرفع الضرر ويحقق مصالح العباد.   (1) ابن عابدين، مجموعة رسائل: 2 /119. (2) ابن الهمام، فتح القدير: 6 /282. (3) ابن عابدين، نفس المرجع: 2 /123- 126. (4) الدردير، الشرح الكبير: 4 /21 الشيرازي، المهذب: 1 /399 ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين: 3 /4. (5) الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، بولاق مصر 1313هـ: 5 /125 القرافي، الفروق: 1 /176 ابن حجر، فتح الباري، 4 /321 ابن القيم، إعلام الموقعين: 3 /1 وما بعدها وانظر: المادة 39 من مجلة الأحكام العدلية وشروحها. (6) عبد الوهاب خلاف، الحلقة الأولى من: علم أصول الفقه، القاهرة 1364 هـ: ص 123 محمد معروف الدواليبي، المدخل إلى علم أصول الفقه، دمشق 1955م: ص 291. (7) أحمد الزرقاء، شرح القواعد الفقهية: ص 173 وما بعدها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2700 وقد استند بعض من لا حظ لهم من فقه الشريعة الإسلامية على هذه القاعدة للمطالبة بتغيير كثير من الأحكام الشرعية، بدعوى أنها لم تعد تصلح لهذا الزمان (1) وهذا يقتضي أن نبين أولًا: مضمون هذه القاعدة ثم نورد بعض تطبيقاتها بما يناسب هذا البحث، حتى نستطيع تحديد طبيعة هذا التغيير. 44- أولا: مضمون القاعدة: لا ينبغي أن يفهم من هذه القاعدة إمكان تبدل الأحكام بصفة مطلقة، ذلك أن الأحكام في الشرع الإسلامي على ضربين: (أ) حكم قطعي بني على صريح النص من الكتاب أو السنة أو على الإجماع ومثل هذا الحكم لا يجري عليه تغيير، لأن تغييره يعد نسخًا لحكم شرعي ثابت، وإنه لا يجوز بعد انقضاء عصر الوحي، مهما تغيرت الأزمنة والأمكنة وضروب الاجتهاد " كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد مخالف لما وضع عليه " (2) . (ب) حكم ظني تقرر بناء على الاجتهاد في فهم النص، أو على مراعاة عرف صحيح قائم، وهذا هو الذي يمكن أن يتطرق إليه التبديل، لاختلاف مناهج المجتهدين، أو لتغير الأعراف تبعًا لتغير الأزمان والأماكن وظروف البيئة وفي هذا يقول ابن عابدين: " اعلم أن المتأخرين الذين خالفوا المنصوص في كتب المذهب في المسائل السابقة، لم يخالفوه إلا لتغير الزمان والعرف، وعلمهم أن صاحب المذهب لو كان في زمنهم لقال بما قالوه، مما يستخرج به الحق من ظالم أو يدفع دعوى متعنت ونحوه بعدم سماع دعواه أو بحبسه أو نحوه " (3) ومثله ما ذكره القرافي من أن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا بطلت، كالنقود في المعاملات والعيوب في الأعراض في البياعات ونحو ذلك.. وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المترتبة على العوائد، وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه.. وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد من العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك.. فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين (4) وقد عقب ابن القيم على كلام القرافي هذا بقوله: وهذا محصن الفقه، فمن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب، على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم، فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم، بما في كتاب من كتب الطب (5) .   (1) أشار إلى ذلك: يوسف القرضاوي في: شريعة الإسلام خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان، بيروت 1397هـ: ص 133. (2) ابن القيم، إغاثة اللهفان: 1 /346 وما بعدها. (3) ابن عابدين، مجموعة الرسائل: 2 /126. (4) القرافي، الفروق: 1 /176- 177. (5) ابن القيم، إعلام الموقعين: 3 /66. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2701 45- ثانيا – بعض تطبيقات القاعدة: (أ) يقول الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) ، ثم يقول: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2) . وهذا يدل على أن الطلاق يقع مرة فمرة، وللزوج بعد كل من المرتين أن يراجع زوجته فإن طلقها الثالثة لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره فإذا قال الرجل لزوجته: " أنت طالق ثلاثًا " كان مرتكبًا لإثم بلغ مداه أن أغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: ((أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟)) ولكن هذه الصيغة لم يكن يقع بها، في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفي خلافة أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، إلا طلقة واحدة رجعية فلما تتابع الناس (3) بعد ذلك في الطلاق، قال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟! فأمضاه عليهم، وألزمهم الثلاث، وقد تابع عمر في هذا كثير من الصحابة، وجمهور التابعين، وأئمة المذاهب الأربعة (4) غير أن بعض الصحابة والتابعين وأصحاب المذاهب الأخرى وعدد من الفقهاء ظلوا على ما كان عليه الأمر من قبل، فلم يوقعوا بلفظ الثلاث إلا طلقة رجعية، وهذا هو السائد اليوم في قوانين الأحول الشخصية (5) وأيا ما كان الأمر، فلا خلاف في أن هنا تغير " تبعا لتبدل العادات، سواء ذهبنا إلى أن الحكم بإيقاع الثلاث مطابقة لعادة الناس في قصودهم وطوايهم أو من باب السياسة الشرعية عقوبة لهم على تعاطي المحرم (6) . (ب) روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البر بالبر كيلًا بكيل مثلًا بمثل)) وكذلك الشعير والتمر والملح، أما الذهب والفضة فقال فيمها: ((وزنًا بوزن)) وتأسيسا على هذا الحديث قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن، إن كل شيء نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم التفاضل فيه كيلًا فهو مكيل أبدًا، وإن ترك الناس الكيل فيه، مثل الحنطة والشعير والتمر والملح، وكل ما نص على تحريم التفاضل فيه وزنا فهو موزن أبدًا، وإن ترك الناس الوزن فيه، مثل الذهب والفضة أما أبو يوسف، فقد رأى أن النص على بيع الحنطة كيلًا وبيع الذهب وزنًا، ما جاء إلا بناء على العرف، وبيعت الحنطة وزنًا إن وجب العمل بالعرف الجديد (7) " وعلى هذا فلو تعارف الناس بيع الدراهم بالدراهم أو استقراضها بالعدد – كما في زماننا – لا يكون مخالفًاٍ للنص فالله تعالى يجزي الإمام أبا يوسف عن أهل هذا الزمان خير الجزاء، فلقد سد عنهم بابًا عظيما من الربا " (8) .   (1) [سورة البقرة: الآية 229] . (2) [سورة البقرة: الآية 230] . (3) تتابع في الشر: تهافت وأسرع إليه. (4) يراجع الموضوع بتمامه في: ابن القيم، إعلام الموقعين: 3 /42 وما بعدها. (5) أحمد الغندور، الأحوال الشخصية في التشريع الإسلامي، الكويت 1982م: ص 444- 447. (6) أحمد فهمي أبو سنة، العرف والعادة: ص 85-86. (7) ابن الهمام، فتح القدير: 6 /157-158. (8) ابن عابدين، مجموعة الرسائل: 2 /116. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2702 (ج) كتب الفقه من مختلف المذاهب مليئة بالمسائل التي بنى المجتهدون الأوائل حكمها على الأعراف والعادات التي سادت زمانهم وبيئتهم، فلما تغيرت هذه الأعراف والعادات، أفتى المتأخرون بخلاف المنصوص عليه في المذهب وصرحوا بأن هذا: اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان فمن ذلك: إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه، وبعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة، وبتحقق الإكراه من غير السلطان وبتضمين الأجير المشترك، وبمنع الوصي من المضاربة بمال اليتيم، وبتضمين الغاصب عقار اليتيم والوقف، وبعدم إجارته أكثر من سنة في الدور وأكثر من ثلاث سنين في الأراضي، وبسقوط الشفعة إذا أخر طلب التملك شهرًا، وبعدم سماع الدعوى ممن سكت بعد إطلاعه على بيع جاره أو قريبه دارًا مثلًا، وغير ذلك (1) . 46- ثالثا: طبيعة هذا التغيير: سبق أن ذكرنا أن تغير الأحكام بتغير الأزمان لا يعد نسخًا لحكم ثابت، وإنما هو استصحاب قاعدة " اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد (2) ، ومقتضى تلك القاعدة: " أن أمر الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة (3) والواقع " أن للواقعة الواحدة – ذات الأحوال المختلفة – حكمين أو أحكامًا ثابتة، لكل حكم تطبيق في ظرفه الذي يختص به " (4) ، ولعل هذا هو ما أشر إليه الشاطبي بقوله: " ... وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها " (5) وهو ما دعا ابن القيم لأن يجعل عنوان هذا الموضوع: " فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد " (6) . من أجل ذلك اشترط بعض المحققين في القاضي أن يكون له فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس، يميز به بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل، ثم يطابق بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفًا للواقع وكذا المفتي الذي يفتي بالعرف لا بد له من معرفة الزمان وأحوال أهله، ومعرفة أن هذا العرف خاص أو عام، وأنه مخالف للنص أولا، ولا بد له من التخرج على أستاذ ماهر، ولا يكفيه مجرد حفظ المسائل والدلائل (7) . * * *   (1) ابن عابدين، نفس المرجع: ص 124-125. (2) القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 67-68. (3) القرافي، نفس الموضع المذكور. (4) أحمد فهمي أبو سنة، العرف والعادة: ص 89 علي الخفيف، محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء. (5) الشاطبي، الموافقات: 2 /286. (6) ابن القيم، إعلام الموقعين: 3 /27. (7) ابن عابدين، المرجع السابق: 2 /127. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2703 الفصل الرابع التطور التشريعي للعرف ـــ 47- ظل العرف الصحيح الذي استوفى أركانه يؤدي وظائفه في تكميل التشريع ومعاونته على مدى القرون في جميع بلاد الإسلام، فنهض به المجتهدون في فترة الازدهار الفقهي، وتابعهم في ذلك من أتي بعدهم من الفقهاء والعلماء، وحكم بمقتضاه القضاة، كما أفتى بتغيره المفتون عندما كانوا يلاحظون تغير الظروف وأفسحت له كتب الفقه من متخلف المذاهب وفي جميع العصور مكانًا رحبا في كل باب من أبوابها، حتى أخذ مكانه الرسمي بين نصوص التشريع في مجلة الأحكام العدلية، التي كانت تطبق في كثير من بلدان العالم الإسلامي. فلما كان القرن الماضي شهد العرف انحرافًا عن مساره الشرعي، يمكن رده إلى عاملين: يتمثل الأول منهما في إحياء العادات والأعراف المحلية بغض النظر عن موافقتها أو مخالفتها للأحكام الشرعية ويرجع الآخر إلى انتشار حركات التقنين في تشريعات الدول الإسلامية، وتأثرها بالفكر القانوني الغربي وإذن ينقسم هذا الفصل إلى مبحثين. المبحث الأول: إحياء الأعراف المحلية. والمبحث الثاني: انتشار حركة التقنين. * * * المبحث الأول إحياء الأعراف المحلية 48- ساعد على إحياء الأعراف والعادات المحلية في البلاد الإسلامية أمران: خلو بعض الأقاليم النائية من التنظيمات القضائية، والاستعمار الغربي لمعظم بلاد الإسلام. 49- أولا: خلو بعض الأقاليم النائية من التنظيم القضائي: كان ضعف السلطة المركزية في بعض الأقاليم الإسلامية، وبعد هذه الأقاليم عن مراكز الثقافة والعلوم الشرعية، من العوامل التي مهدت لقيام قضاء قبلي، يتوارثه الأبناء عن آبائهم، فيفصلون فيما يعرض عليهم من نزاع وفق الأعراف السائدة في القبيلة والظروف المحيطة بالبيئة ومع مرور الزمن استقرت هذه الأحكام، وقام بتطبيقها أناس لا حظ لهم من العلم والمعرفة، فكان أكثر الأحكام يتنافى مع مبادئ الشريعة الإسلامية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2704 وقد استمر هذا الوضع إلى عهد قريب، لدى قبائل شمالي إفريقيا، ولدى القبائل المصرية التي تقيم في الصحراء الغربية، ولدى العشائر المختلفة في السودان والصومال وجزر القمر وغيرها، وينطبق نفس الحكم على القبائل التي تسكن الأماكن النائية في شبه الجزيرة العربية والشام والعراق وتركيا وإيران، ولا يختلف الوضع لدى الطوائف الإسلامية في شبه القارة الهندية وجزر الهند الشرقية. ولا يتسع المجال لعرض شيء من هذه العادات وبيان صلتها بالفقه الإسلامى، فقد تناولها بالشرح والتحليل عدد من الباحثين (1) . 50- ثانيا: الاستعمار الغربي في بلاد الإسلام: لم يعد خافيًّا على أحد أن استعمار دول الغرب للبلاد الإسلامية صاحبه منهج علمي شامل هدفه تغيير الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وكان التشريع الإسلامي يشكل العقبة الكؤود في سبيل هذا التغيير، لذا وجه الاستعمار كل أجهزته لإحياء العادات المحلية، حتى تكون عونًا له على إضعاف الشريعة الإسلامية وإقصائها عن الحياة العملية، ومن ثم يجد الطريق ممهدا لتطبيق ما جاء به من قوانين (2) 51- (أ) ففي شبه القارة الهندية: استعان الإنجليز بالعادات القديمة التي كانت مجموعة في قانون مانو، لسن ما احتاجوا إلى سنه من تشريع (3) بعد ما ظلت في طي النسيان قرابة سبعة قرون، كان نظام الحياة كله في هذه البلاد يجري خلالها على أحكام الفقه الإسلامي (4) كتب "Lokhanwalla " في دائرة المعارف الإسلامية: " بقيام الحكم البريطاني للهند، حل النظام القانوني الإنجليزي محل إجراءات التقاضي الإسلامية، كما حل محل أصول الشريعة الإسلامية إلى حد كبير، وكذلك ألبست العادات ثوب الصحة القانونية على أساس من الإنصاف والعدل وسلامة الضمير.. وقد سلم في رأي " كرامت علي " المناهض لـ" سادات على " بأن الشريعة الإسلامية عدلتها العادة المرعية في البلد الذي يأخذ بها..   (1) محمد الألفي، توحيد التشريعات المدنية في بلدان مجلس التعاون لدول الخليج العربية، مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، مجموعة البحوث والدراسات التي قدمت في ندوة: توحيد تشريعات القانون الخاص، الكويت 1988 م: ص 419 وما بعدها. عبد الجليل الطاهر، البدو والعشائر في البلاد العربية القاهرة 1955 م. فريق المزهر آل فرعون، القضاء العشائري، بغداد: 1941م دائرة المعارف الإسلامية: المجلد 15، ص 454 – 470 والمراجع الواردة به: - Meek ; Land law and custom in the colonies، London 1949. - Milliot ; Introduction a I`etude du droit musulman، Paris 1953. pp.156-178. Van Vallenhover ; Le decouverte du droit indonesien, Paris 1933 (2) أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، بيروت 1969 م. (3) عبد السلام الترمانيني، الوسيط في تاريخ القانون والنظم القانونية، الكويت 1982 م: ص 75. (4) أبو الأعلى المودودي، عبد السلام الترمانيني، الوسيط في تاريخ القانون والنظم القانونية، الكويت 1982 م: ص 75: ص 138 – 139 وص 194 – 195. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2705 وقد لوحظ اختلاف الوصية بحسب العرف عن الشريعة الإسلامية أيضًا في بعض أجزاء البنجاب.. ولا تعترف الشريعة الإسلامية بالتبني، على أن طغى العرف على هذا التحريم.. ويطبق حكم الشريعة الإسلامية في الشفعة على تفاوت في ضوء ما جرى به العرف وقد رفضت محاكم مدارس الأخذ به لأنه في رأيها مناف للعدل والإنصاف وسلامة الضمير.. وبتقسيم الهند يمكن أن نذهب إلى أن العادات سوف لا يكون لها منذ الآن أية حجة شرعية في الباكستان، ومع ذلك فإن هذا القول لا يصدق بيقين على الهند. وعلى أن العادة، سواء اكتسبت حجة شرعية أو لم تكتسب، فإنه سوف يكون من المستحيل أن نقتلع أثرها الراسخ في النفوس لعدة أجيال قادمة (1) 52 – (ب) شمالي إفريقية: يعترف "Bousquet" بأن شمالي إفريقيا، الذي كان أهله يتحدثون بلهجات بربرية قبل قدوم العرب، قد اصطبغ منذ قدومهم بصبغة عربية وإسلامية متأصلة (2) فلما أخضع الفرنسيون هذه القبائل، في سنة 1857 هـ، استماتوا في سبيل الوقوف على أعراف وعادات " القبائل الكبرى " و" الريف " و " الأطلس المغربي "، التي لم تكن مقبولة لدى الحكومات الإسلامية في تلك المناطق. وكانت أول عقبة واجهتهم: أن اللغة البربرية لغة حديث وتخاطب، وليست لغة كتابة فاستعاضوا عنها مؤقتًا باللغة العربية. وقد قام علماء فرنسيون بإجراء تحقيقات مع الشيوخ والقرويين، بواسطة بعض الموظفين الرسميين، لمعرفة ما انتقل إليهم من العادات الموروثة، ثم جمعوها في ثلاثة مجلدات، أضفوا عليها صبغة فنية وقانونية، مما جعل المحاكم تلتزم بتطبيقها (3) وإلى جانب ذلك قام فرق من العلماء على رأسه "Hanoteau" و "Letourneux" بترجمة عدة وثائق عرفية، محررة باللغة العربية، لتكون أحد عوامل الانفصال لدى القبائل (4) ، إلى جانب اللغة الفرنسية التي بذلوا جهدًا شاقًا في سبيل تعليمهم إياها، وغرسها في نفوس وعقول أبنائهم. 53- (ج) جزر الهند الشرقية: تشمل كلمة " أدت "، التي سادت جميع المناطق في جزر الهند الشرقية، كل ما يدخل في باب العرف والشعائر والمعاملات (5) ولما احتل الهولنديون هذه الجزر، عمدوا إلى إحياء العادات الأندونيسية القديمة وتجميعها في قانون أطلق عليه اسم "Adatrecht"، وأجبروا طلاب كلية الحقوق في "Batavia" على دراسته منذ سنة 1910 م. وإلى جانب ذلك قام "Snouch-Hurgronje" و "Van Vollenhoven" بتجميع محاضر جلسات لجنة التحقيق عن الأعراف والعادات بماليزيا في أربعة وثلاثين مجلدًا (6) وقد قام جدل لم ينقطع حول قيمة " قانون العادات " وصلته بالشريعة، أدى بأتباع الأحزاب القومية المتطرفين إلى رفض الشريعة الإسلامية وقانون العادة جميعًا، والمطالبة بتطبيق القانون الهولندي. فاتخذ المستعمرون من هذا الموقف الجديد ذريعة لصبغ قانون الأحوال الشخصية في أندونيسيا بالصبغة الغربية، ولكن مشروعاته لم توضع موضع التنفيذ ومع ذلك، فإن بعض عناصر القانون الغربي تسللت إلى الحياة الأندونيسية نتيجة للمشروعات الحديثة، تمهيدًا لوضع لائحة موحدة " تجمع جمعًا طريفًا بين عناصر من القانون الغربي والشريعة الإسلامية وقانون العادة " على حد تعبير "Prins" (7) * * *   (1) دائرة المعارف الإسلامية: مجلد 15، ص 461 – 465. (2) دائرة المعارف الإسلامية: مجلد 15، ص 461 – 465: مجلد 15، ص 458. (3) –La Kabylie et les Coutumes Kabyles. Paris 1872. (4) – L.Mittiot ; Op. eit. pp. 158-167. (5) برنز، مقال بدائرة المعارف الإسلامية: مجلد 15، ص 465. (6) – Milliot ; Op. cit، p. 157. (7) برنز، المقال السابق: ص 465 – 470 والمراجع التي أشار إليها فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2706 المبحث الثاني التقنيات الحديثة والعرف ــــ 54- التقنين مصطلح يقصد به واحد من أمرين: 1- العمل التشريعي الرسمي المتعلق بجمع القواعد القانونية الخاصة بفرع متجانس من فروع القانون، في مجموعة واحدة، بعد ترتيبها وترقيمها وإزالة ما قد يعتريها من تعارض. 2- المجموعة الرسمية ذاتها، التي تضم فرعًا متكاملًا من فروع القانون (1) ولما انتشرت حركة التقنين في أوروبا، خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بعد نجاح مجموعات " نابليون" أصدرت الدولة العثمانية عدة قوانين تجمع بين الشريعة الإسلامية والعرف المحلي والقانون الفرنسي. وكان أهم هذه القوانين: مجلة الأحكام العدلية، التي تم إنجازها عام 1293 هـ 1876 م على غرار التقنيات الحديثة، مع استمدادها من الفقه الحنفي، والأخذ بعين الاعتبار قبول المسائل المبينة على العرف والعادة (2) وبعد ذلك توالى صدور التقنينات في الدول الإسلامية لتنظيم كافة العلاقات القانونية ومرفق القضاء. ونتيجة لهذه التقنيات، جعل المشرع نصوص القانون المصدر الرسمي الأول، لأنها تضمنت ما أمكن الوقوف عليه وتنظيمه من أحكام، سواء أكان مصدرها التاريخي أحكامًا فقهية، أم كان هذا المصدر أعرافًا وعادات، أم كان غير ذلك. 55- أما العرف، كمصدر رسمي، فقد وضعته بعض التقنيات في المركز الثاني، بحيث يلجأ إليه القاضي عندما لا يجد نصًّا تشريعيًّا يمكن تطبيقه على النزاع المطروح أمامه (3) وجعله البعض الآخر في المركز الثالث، بعد نصوص ومبادئ الشريعة الإسلامية أو الفقه الإسلامي (4) 56- وأيا ما كان مركز العرف من مصادر التشريع، فهناك شرط أساسي لا بد من توافره لاعتبار العرف مصدرًا، وهو: مخالفته للنظام العام المطبق في البلاد، أو لحسن الآداب السائدة فيها وقد نصت بعض القوانين صراحة على هذا الشرط (5) ولكن غالبيتها لا يشير إليه، لأنه أصبح أمرًا معروفًا لا جدال فيه فقد جاء في المذاكرة الإيضاحية للقانون المدني الكويتي بمناسبة تعليقها على المادة الأولي: " وغني عن البيان أن العرف المعتبر هنا هو ذاك الذي لا يخالف النظام العام أو حسن الآداب فالعادات التي تتنافى مع الأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية التي تقوم عليها الجماعة لا ترقي أبدًا إلى مرتبة العرف، وإن طال عليها الأمد وفي بلد – كالكويت – يدين بالإسلام بنص الدستور، لا يمكن أن يعتبر عرفًا كل ما يخالف أصلا من أصول الإسلام أو حكمًا من أحكامه الأساسية الثابتة.   (1) إبراهيم أبو الليل ومحمد الألفي، المدخل إلى نظرية القانون ونظرية الحق، الكويت 1986 م: ص 87. (2) إبراهيم أبو الليل ومحمد الألفي، المدخل إلى نظرية القانون ونظرية الحق، الكويت 1986 م: ص 87: ص 89. (3) انظر على سبيل المثال: القانون المدني المصري المادة:1 /2. والعراقي المادة: 1 /2. والكويتي المادة: 1 /2. (4) انظر على سبيل المثال: القانون المدني السوري، المادة 1 /2. والليبي المادة 1 /2. والجزائري المادة 1 /2 والأردني المادة: 2/2. (5) المادة الأولى من قانون المعاملات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2707 خاتمة 57- حاولت في هذا البحث أن ألم بموضوع العرف بطريقة موجزة وأن أبعد عن التفصيل والجدل والخلاف ما أمكن، حرصًا على موضوعية البحث، وتجنبًا لتشعبه والإطالة فيه. وقد خطر ببالي أن أجعل البحث في قسمين: أخصص أولهما لدراسة العرف في الشرع الإسلامي، وأستعرض في الآخر تطور العرف في الفكر القانوني منذ العصر الروماني حتى الوقت الراهن، غير أني لاحظت أن البحث مقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي، وقد يكون فيما أفعل تزيد غير مطلوب. وقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الشرع الإسلامي يحمل في طياته بذور نمائه، فأحكامه يمكن أن تتسع لمواجهة الأوضاع المستجدة دون أن تفقد خصائصها المميزة، مما يؤكد صحة القضية القائلة إن التشريع الإسلامي صالح لكل زمان ومكان. والآن، وقد عرفنا أن أعداء الإسلام يتخذون من الأعراف القومية والعادات المحلية في البلاد الإسلامية منفذًا يلجؤون منه لهدم الإسلام من الداخل، يجدر أن نكون على حذر في التعامل مع العادات والأعراف التي تسود مجتمعنا الإسلامي، وأن نضعها في حجمها الشرعي الصحيح. أما أولئك الذين جربوا دهاءهم في بلاد الإسلام، ثم رجعوا بخفي حنين، فإليهم أسوق قول رب العزة: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (1) . الدكتور محمد جبر الألفي.   (1) [سورة التوبة: الآيتان 32 و 33] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2708 العرف في الفقه الإسلامي إعداد الدكتور إبراهيم كافي دونمز أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله بكليات الإلهيات بجامعة مرمرة استانبول - تركيا لقد نشر الباب الأول من هذا البحث بعنوان: " نظرة جديدة إلى مكانة مفهوم العرف والعادة في الفقه الإسلامي "، في" مجلة العلوم الإسلامية "، تصدرها جامعة الأمير عبد القادر، للعلوم الإسلامية بقسنطينة (الجزائر) ، السنة: الأولى، العدد: الأول، قسنطينة، إبريل 1986 م. خطة البحث العرف في الفقه الإسلامي تمهيد الباب الأول مكانة مفهوم العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي 1- بصورة عامة 1-1 مكانة العرف والعادة في التشريع الإسلامى بصفة عامة. 1-2 نظرة عامة إلى مكانه العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي. 2- دور العرف والعادة في مختلف مجالات الفقه الإسلامي. 2-1 دور العرف والعادة في منهجية القانون 2-1-1 في الاجتهاد البياني (أ) في التفسير اللفظي (أ) دور العرف القولي (ب) دور العرف العملي (ب) في التفسير بالمعنى (أ) في التفسير المقرر. (ب) في التفسير الضيق. (ج) في التفسير الواسع. 2-1-2 في الاجتهاد القياسي. 2-1-3 في الاجتهاد الاستصلاحي. 2-2 دور العرف والعادة في تطبيق القانون. 2-2-1 في تطبيق الأحكام المستندة إلى العرف. 2-2-2 في حالات وجود سلطة التقدير للحاكم. 2-2-3 في تفسير التصرفات القانونية. 2-3 دور العرف والعادة في مجال قانون المرافعات (تقدير أدلة الطرفين) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2709 الباب الثاني: نظرة تحليلية إلى محاولات نظرية للعرف في الفقه الإسلامي. 1- بصفة عامة. 2- المادة والعرف في اللغة والاصطلاح. 2-1 المادة اصطلاحًا. 2-2 العرف لغة واصطلاحًا. 2-3 النسبة بين العادة والعرف 3- أنواع العرف والعادة. 3-1 أنواع العرف من حيث اعتباره الشرعي. 3-1-1 العرف الصحيح 3-1-2 العرف الفاسد. 3-2 أنواع العرف من حيث المحيط الذي فشا فيه. 3-2-1 العرف العام. 3-2-2 العرف الخاص. 3-3 أنواع العرف من حيث ماهيته. 3-3-1 العرف اللفظي أو القولي. 3-3-2 العرف العملي أو الفعلي. 4- الأدلة التي يعتمد عليها لإثبات أن العرف والعادة أصل من أصول التشريع الإسلامي 4-1 الأدلة الخاصة. 4-1-1 الكتاب. 4-1-2 السنة النبوية 4-2 الأدلة العامة 5- أركان العرف وشروط اعتباره. 5-1 أركان العرف. 5-1-1 الركن المادي: الاطراد أو الغلبة. 5-1-2 الركن المعنوي: الاستقرار في النفوس 5-2 شروط اعتبار العرف 5-2-1 أن لا يكون العرف طارئًا 5-2-2 أن لا يوجد تصريح بخلاف العرف 5-2-3 أن لا يكون العرف مخالفًا للنص ومبادئ الشريعة 6- التقييم العام للعرف 6-1 مفهوم " المصدر " من ناحية منهجية الحقوق الإسلامية وتقييم العرف 6-1-1 مفهوم " الدليل " في أدب الفقه الإسلامي 6-1-2 تحليل لعدم تناول الأصوليين للعرف بين المصادر في مقابل الأهمية التي حظى بها العرف في فروع الفقه 6-2 مفهوم " المصدر " من ناحية فلسفة الحقوق الإسلامية وتقييم العرف 6-3 نظام أعمال الأدلة الشرعية في الفقه الإسلامي ومكانة العرف فيه الخاتمة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2710 بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد: مما لا ريب فيه أن الحركات الاعتيادية تلعب دورًا هامًّا في حياة كل فرد فالإنسان يسلك بنفس السلوك في نفس الأوضاع وهذه الحركات التي تظهر كتفاعلات نمطية تكتسب بمرور الزمن طابع " الاعتياد " وبذلك يسهل الإنسان عيشه إلى حد ما ويتخلص من صعوبة الاختيار واتخاذ القرار على أن يعين سلوكه لكل وضع في كل مرة، كما يسري نفس الشيء في شأن الحركات الاعتيادية الاجتماعية أيضًا. فالعادات الاجتماعية عبارة عن قواعد السلوك الاجتماعي التي تتكون عن تلك التصرفات الاعتيادية الاجتماعية والتي تتبدل حسب تبدل الأفراد والأزمان والأمكنة. ومما لا شك فيه أن هنالك تشابهًا كبيرًا بين القواعد القانونية وقواعد العادات الاجتماعية، وهذه القواعد هي التي تنظم حياة الإنسان تنظيمًا إلزاميًّا في المجتمع والحق أن كون العادة قاعدة إلزامية لما يجب أن يكون (doit eire) ، هو الخاصية التي تميزها عن الحركات الاعتيادية الاجتماعية الأخرى. لأن العادة تقضي وتحتم تحقيق استمرارية الأمور في المستقبل أيضًا كما جرت في الماضي، بينما الحركات الاعتيادية الاجتماعية لا تتضمن فكرة الإلزام. وكما أن هنالك تشابهًا كبيرًا بين القواعد القانونية وبين قواعد العادات الاجتماعية من حيث كونهما ذات الطابع (beteronime) ، (يتلقى من الخارج القوانين التي تسيره) أي من حيث اصطباغهما بالصبغة الجماعية لا الفردية فقط في تناولهما الأمور، فإن هنالك تشابها بينهما أيضًا في هذا المضمار من حيث المحتوى وفي الحقيقة أن محتويات هذه القواعد لا تستقر دائما من حيث المضمون وإنما يمكن أن يطرأ عليهما التغير والتبدل بصفة مستمرة، فإننا نشاهد اليوم كثيرًا من قواعد العادات الاجتماعية قد أصبحت قواعد قانونية بحتة كما نشاهد العكس مثلًا، فإن كثيرًا من القواعد القانونية التي تصادفنا اليوم على صعيد القانون الدولي كانت عبارة عن قواعد العادات من قبل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2711 وعلى الرغم من وجود شبه كبير بين القواعد القانونية وقواعد العادات الاجتماعية فإن هنالك مواطن اختلاف وافتراق هامة بينهما لأننا نرى أن قواعد العادات الاجتماعية التي تستهدف تسهيل الحياة الاجتماعية وتذليل الصعوبات بالنسبة للأفراد والمجتمعات لم تكن تستند تمام الاستناد إلى العقل وإنما يتحكم فيها مصدر الصدفة، بينما القواعد القانونية تأتي للحفاظ على النظام الاجتماعي في المجتمعات، ومن هذه الحيثية فهي تحظى أهمية كبيرة ومن هذه الأهمية تأخذ القواعد القانونية صفتها الاستقلالية في الوجود والاستمرارية دون أن تراعي رضا وموافقة أتباعها بحيث أنها لا يمكن أن تلغي فاعليتها لمجرد وجود مخالفة ضدها أما قواعد العادات الاجتماعية فهي على العكس من ذلك، لأنها قواعد اتفاقية (conventionnelle) ، بمعنى أنها لا يمكن أن تأخذ صفة استقلالية في الوجود إلا مع موافقة أتباعها ومعتنقيها لتوقف تأثيرها الفعلي على إرادة واستجابة العاملين بها والمتمسكين بأحكامها والحاصل أن القواعد القانونية ومنها قواعد العرف تمتاز عن قواعد العادات الاجتماعية بتضمنها الصفة الإلزامية " القاطعة " (apodictique) ، لما يجب أن يكون (devoir etre) ، بينما قواعد العادات الاجتماعية لا تتضمن إلا صفة إلزامية " غير قاطعة " (Problematique) ، لما يجب أن يكون. ومن البداهة هنا أن تكون علاقة متينة بين قواعد العادات والقواعد القانونية لكون كل واحدة منهما تنحو منحى اجتماعيًّا وتستهدف تنظيم الحياة الاجتماعية، وبما أن كل قاعدة اجتماعية يمكن لها أن تكتسي النمط القانوني، فمن الممكن جدًّا أن تتشكل وتتكون قواعد العرف من العادات الاجتماعية وهكذا فإن مجموع القواعد العرفية التي تعمل عمل القاعدة القانونية وتنجز مهمتها وذلك بصفة منفصلة عن القانون المكتوب (droit ecrit) ، تشكل القانون العرفي (droit coutumier) وهذه القواعد تتميز عن القواعد القانونية المكتوبة في كونها لم تكن قواعد بيانية مكتوبة معبرًا عنها من طرف مرجع من مراجع السلطة التشريعية، وإنما هي حصيلة قناعة تجلت في ضمير الجماهير، ولذا يطلق على العرف اسم " القانون التلقائي " (droit spontane) . إلا أنه يجب أن لا يخلط هنا بين القواعد العرفية التي تلعب دور مصدر القانون بشكل مباشر وبين قواعد العادات الاجتماعية لأن العرف يتميز أساسا بما يلحقه من صفة ملزمة ناتجة من الاعتقاد في إلزامه نفس إلزام القواعد القانونية " الشعور القانوني " (opinio necessitates) ، أي من الاعتقاد في وجود جزاء أو إجبار عام أو جماعي ذي طابع قانوني يكفل احترامه، وعلى هذا النحو يتميز " العرف " عن مجرد " العادة " ويتميز عن قواعد العرف حتى العادات الاجتماعية التي لها مكانة هامة في العلاقات القانونية والتي لم تصل في إلزاميتها إلى درجة العرف. ويسمى هذا النوع من العادات الاجتماعية " العادة الاتفاقية " (usage conventionnel) ، وتترتب على هذه التفرقة نتائج من عدة وجوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2712 وقد يقع خلط أحيانًا بين " العرف " و" العادة " سواء في اللغة العربية أو اللغة التركية وقد ساعد على هذا الخلط أن الشارع نفسه استعمل أحيانا لفظ العادة بمعنى العرف الملزم، واستعمل أحيانًا أخرى لفظ العرف بمعنى العادة التي لم ترق بعد مرتبة العرف ولكن التعبير الصحيح الذي يجمع عليه الفقه (doctrine) أن لفظ العرف يطلق على القاعدة القانونية الملزمة وأن لفظ العادة يطلق على القاعدة التي لم ترق إلى مرتبة العرف لافتقارها إلى عنصر الإلزام في الدرجة التي يتضمنها العرف، أما في اللغات الغربية، فإن اصطلاحات (usage) في الفرنسية والإنجليزية و (bung) في الألمانية التي تستعمل في معنى العادة و (droit coutumier) في الفرنسية، و (costum law) في الإنجليزية (Gewobnbeitsrecht) في الألمانية التي تستعمل في معنى مجموع القواعد العرفية تشكل حاجزًا أمام ذلك الخلط. إن العرف الذي له مكانة خاصة ومتميزة في الفقه الإنجليزي – وإن لم يكن يحتفظ بتلك الأهمية السابقة نفسها في الوقت الحاضر – والذي يشكل مصدرًا للقانون في الدرجة الثانية بعد التشريع في أغلب القوانين الحديثة بصفة عامة، قد ميز عن العادات كما أشرنا إليه بصورة موجزة في ما سبق ووضعت نظرية مستقلة خاصة بالعرف وأثناء تناول نظرية العرف نوقشت بصورة معمقة عدة قضايا منها قضية منشأ القواعد العرفية وقضية أساس القوة الملزمة للعرف، ولكننا هنا لن نتطرق إلى هذه الآراء بل سنكتفي بالإشارة – في الباب الثاني من هذا البحث – إلى أهم نقاط تلك النظرية لما احتاج الأمر إلى ذلك (1) * * *   (1) انظر في هذا الموضوع: حجازي (عبد الحي) ، المدخل لدراسة العلوم القانونية، الكويت 1972 م، 1 /440 وما بعدها، فرج الصدة (عبد المنعم) ، أصول القانون، بيروت، 1979م، ص 140 وما بعدها، كيرة (حسن) ، المدخل إلى القانون، إسكندرية، 1974م، ص 272 وما بعدها ARAL (Vecdi) , Hukuk ve Hukuk Bilimi Uzerine، Istambul 1975, p84. وما بعدها. LE BRUN، La Coutume، les sources, son Autorite son Autorite en Droit prive (these) ، Sean 1932 ; PACHE (Andre) ، La coutume et les usages dans le Droit Prive Positif. Lausanne 1938 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2713 الباب الأول مكانة مفهوم " العرف والعادة " في أدب الفقه الإسلامي 1- بصورة عامة: 1-1 مكانة العرف والعادة في التشريع الإسلامى بصفة عامة: إن الإسلام أولى اهتمامًا متزايدًا لمنهج التدرج في ميدان التشريع كما اهتم أشد الاهتمام في تطبيق هذا المنهج بكل دقة للوصول إلى الهدف المنشود ويفهم ذلك بكل وضوح من حديث عائشة رضي الله عنها (1) . وإن منهج التدرج في التشريع يفيد مراعاة موازنة التأثير والتأثر وعدم التشدد عندما يؤتى بأحكام تقتضي ترك الأمور المعتادة المألوفة التي تركت آثارًا عميقة في الحياة الفردية والاجتماعية، كما يفيد ذلك أيضا عندما توضع أحكام تكليفية إيجابية جديدة ومع ذلك فإن المرحلة النهائية لمنهج التدرج تتجلى في وضع الحكم المطلوب تأسيسه بدون انتقاص أو تنازل عن المبدأ. وبهذه الصورة والكيفية تكون السلسلة التشريعية في الإسلام حائزة على طابع يراعي هذه الموازنة بدقة وحساسية (2) لأن الإسلام استطاع أن يزيل من المحيط الذي واجهه في أول الأمر أمورًا اعتيادية كثيرة كانت لها آثار عميقة في الحياة الفردية والاجتماعية، بمنهج التدرج في التشريع مذيبًا ردود الفعل التي كان يمكن أن تؤثر في السلطة التشريعية كما تمكن في نفس الوقت من وضع القواعد التي يريد وضعها بصفة نهائية ولا شك أن تلك التأثيرات العميقة التي أشرنا إليها آنفًا قد نتجت ونشأت بصفة عامة عن الأعراف والعادات المتبعة آنذاك إذن، يمكن أن نقول إن التشريع الإسلامي لم يكن بعيدًا عن الاهتمام إزاء تأثيرات الأعراف والعادات في الحياة الاجتماعية للأفراد والمجتمعات.   (1) البخاري، الجامع الصحيح، فضائل القرآن: ص 6. " ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا "، ولو نزل لا تزنوا لقالوا " لا ندع الزنا أبدًا. (2) انظر لأمثلة متعلقة بتطبيق منهج التدرج في التشريع الإسلامي: بهنسي (أحمد فتحي) ، السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية، مطابع دار الشروق (بيروت والقاهرة) ، 1983م، ص 29-50 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2714 كما أشرنا سابقًا فإن الليونة التي نشاهدها أثناء التشريع التدريجى لم تكن تشكل المرحلة النهائية من الأمر بينما مفهوم " التقرير " الذي نتناوله الآن سوف يطالعنا بنتائج أكثر حسمًا ووضوحًا في هذا الميدان: إن السنة التي تشكل المصدر الثاني في التشريع الإسلامي بعد القرآن لم تكن عبارة عن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وتصرفاته وأفعاله، وإنما تتضمن تقريراته صلى الله عليه وسلم أيضًا وهذه التقريرات هي الأمور الاجتماعية الواقعية – ومنها الأعراف والعادات – التي كانت موجودة من قبل في المجتمع فأقرها الرسول صلى الله عليه وسلم، واستصوب ديمومتها واستمراريتها (1) والحق أنه يمكن أن نأتي بأمثلة كثيرة وقائمة طويلة للأعراف والعادات التي كانت موجودة قبل الإسلام في المجتمع العربي فقبلها الإسلام ورضي باستمراريتها ولم يرفضها في ميدان التشريع (2) فمن الممكن أن نذكر كمثال حي عقدي المضاربة والسلم لتلك العادات التي كانت موجودة في البيئة التي عاش فيها النبي صلى الله عليه وسلم والتي أقرها الإسلام (3) إذن، نستطيع أن نقول أن التشريع الإسلامي لم يكتف فقط بعدم مواجهة الوقائع الاجتماعية التي لم تضاد الإسلام، وإنما عمل أيضًا من أجل إكسابها مشروعية في الحياة العملية (4) . وبما أننا سنتناول في الباب الثاني موقف مذاهب الفقه الإسلامي إزاء العرف والعادة وأدلة من يعتبرها مصدرًا من مصادر التشريع في الفقه الإسلامي، نكتفي هنا بالقول إن المبادئ العامة للتشريع الإسلامي وكذا الحلول والنتائج الفقهية التي توصل إليها فقهاء الإسلام الذين يعملون في إطار تلك المبادئ، تعكس نظرة إيجابية للأعراف والعادات التي هي عبارة عن قواعد السلوك الاجتماعي، ما دامت لا تتعارض والمبادئ الإسلامية والحق أنه يمكن لنا أن نلاحظ في المؤلفات الفقهية الإسلامية عبارات تفيد أن في نزع الناس عن عاداتهم حرجًا عظيما (5) ، دون أن تقابل باعتراض وكذلك، أئمة المذاهب الفقهية، فإنهم – ولو لم يعبروا نظريا عن قيمة الأعراف والعادات في التشريع الإسلامي – إلا أنه لا يمكن أن نتصور بأنهم استغنوا تمام الاستغناء في حلولهم الفقهية عن أعراف وعادات البيئات التي عاشوا فيها، بل على العكس من ذلك، فإننا عندما نلقى نظرة على التاريخ الفقه الإسلامي نرى أن المسائل المستحدثة في العراق الذي تسود فيه العادات الفارسية والنبطية تعرض على أبي حنيفة وأمثاله، وأن المسائل المستحدثة في الشام الذي تسود فيها العادات القديمة من قبطية وبزنطية ونحوها تعرض على الشافعي والليث بن سعد وأمثالهما وأن هؤلاء الأئمة كانوا يبذلون قصارى جهدهم للتوصل إلى الحلول الحقوقية مراعين في تلك العادات والتقاليد (6) .   (1) HAMIDULLH) Muhammed) , “La philosophie juridique chez les Musulmans”، Annales de la Faculte de Droit distambul. 1968,29-32,p140. (2) HAMIDULLH) Muhammed) , Joufersanslar) Orfve Adet) محاضرات (العرف والعادة) في كلية العلوم الإسلامية بأرضروم (تركيا) مترجمة إلى اللغة التركية) مترجم: (Aksu, Zahir) ، ص 5 انظر أيضا عنوان: " السنن التي كانت الجاهلية سنتها بأبقى الإسلام بعضها وأسقط بعضها " من " كتاب المحبر " لمحمد حبيب (المتوفى سنة 245هـ) ، تصحيح: إيلزه ليحتن شتيتر ومحمد حميد الله حيد آباد الدكن "، 1942م، ص 309 وما بعدها. (3) الزيلعي، تبين الحقائق شرح كنز الدقائق مصر، 1315هـ، 5 /52، 53. (4) نفس المكان من المحاضرات المذكورة HAMIDULLAH. (5) انظر مثلًا ابن عابدين، رسالة نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف (في مجموعة الرسائل) ، استانبول، 1325هـ، 2 /113-118، ولعبارة قريبة منها، انظر: السرخسي، المبسوط، مصر 1331هـ، 13 /14، 15. (6) أحمد أمين، ضحى الإسلام، القاهرة، 1952م، 2 /164. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2715 1-2- نظرة عامة إلى مكانة العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي: إن الكتب التي تعنى بتاريخ التشريع الإسلامي تتناول بصفة عامة موضوع التشريع حسب الأدوار التاريخية ونحن – وإن لم يكن ذكر تلك الأدوار على حدة أمرًا ضروريًّا – يمكن لنا أن نستدل من هذه المشاهدة العامة بسهولة أن التشريع الإسلامي مر بأدوار لها خاصيات مختلفة (وهذا الاستدلال له أهمية من حيث موضوعنا) . إننا نرى أن المسائل الحقوقية على الرغم من إيجاد حلول لها في إطار المبادئ الإسلامية قبل تدوين الفقه أيضا (أي في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين) ، لم تظهر آنذاك الحقوق الإسلامية كعلم مستقل وبالتالي لم تتضح قواعد هذا العلم تمام الوضوح مثلا، فإننا – بالرغم من مشاهدتنا التأثير القوي للأعراف والعادات في النتائج الحقوقية التي توصل إليها في هذا الدور – نلاحظ أنه لم تظهر في الوجود كمصطلح مستقل كما لم تأخذ مكانها بشكل واضح بين قواعد الاستنباط. أما في دور التدوين فإن الأسس التي استند إليها الاجتهاد قد أصبحت واضحة وأن الاصطلاحات الحقوقية قد اكتسبت أهمية كبرى في تحليل المسائل بشكل تدريجي، والخلاصة أن الفقه الإسلامي قد نمى واكتمل بصفة تدريجية وأصبح علمًا مستقلًا بحيث ارتكز إلى قواعده الواضحة في بذل جهود ومساعي علمية قيمة (1) (وبعبارة واضحة يمكن القول إن تدوين علم أصول الفقه كان متأخرًا زمنيًّا عن تدوين الفقه) (2) لهذا، يجب أن نتحرى بصفة عامة المعلومات الواضحة المتعلقة بمناهج الحقوق الإسلامية واصطلاحاتها في النتائج والثمرات التي توصل إليها من خلال المساعي القيمة التي بذلت في ذلك الدور غير أن الوضعية تكون مختلفة من جهة موضوعنا لأن دور العرف والعادة – على الرغم من ظهوره في الفقه الإسلامي بشكل أوضح وأدق من ذي قبل – إلا أن ما يلفت النظر هو كونهما لم يأخذا مكانتهما بين المصادر الحقوقية بشكل قطعي وواضح، كما لم تتحدد حدود مفهوم العرف والعادة في ميدان التشريع بشكل بين وجلي.   (1) انظر في موضوع ظهور أصول الفقه على الساحة كنظام علمي ومسيرة تطوره في هذا الصدد، مثلا: ابن خلدون، المقدمة، بيروت، بدون تاريخ. ص 453- 455، المراغي (عبد الله) ، الفتح المبين في طبقات الأصوليين بيروت 1974 م. ص 15-21 بلتاجي (محمد) ، مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجري، الرياض، 1977م. 1 /11 – 15؛ شعبان (زكي الدين9، أصول الفقه الإسلامي، قاريونس 1979م. ص15 وما بعدها؛ صالح (محمد أديب) ، تفسير النصوص في الفقه الإسلامي بدون مكان وتاريخ، 1 /90-96. (2) ابن عاشور (محمد طاهر) ، مقاصد الشريعة الإسلامية، تونس، 1978م، ص 6. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2716 وفي الحقيقة أن أول تعريف للعرف والعادة أمكن التوصل إليه في أدب الفقه الإسلامي هو ما ظهر في الكتاب المسمى " المستصفى " المتعلق بفروع الفقه للفقيه الحنفي أبي بركات حافظ الدين النسفي المتوفي سنة 710 /1310 (1) ونحن في صدد البحث والدراسة عن الأمور المتعلقة بالعرف والعادة في الفقه الإسلامي، نرى إلزامًا علينا أن نتطرق إلى نقطة تتعلق بتعريف العرف والعادة ألا وهي إقدام أساتذة كرام اشتهروا بآثارهم القيمة في العالم الإسلامي أمثال الشيخ محمد أبي زهرة رحمه الله (2) ، والشيخ مصطفى أحمد الزرقاء (3) والدكتور محمد سلام مدكور (4) والدكتور عبد العزيز الخياط (5) إلى إسناد تعريف للعرف والعادة إلى الغزالي قائلين أثناء نقلهم له " إن الغزالي عرف العرف والعادة في كتابه المستصفى كما يلي ... " إلا أنه تبين لنا من خلال تحقيقاتنا في هذا الميدان أن سبب هذا الالتباس، قد نتج عن اتباعهم بالفقيه الحنفي ابن عابدين الذي ألف رسالة مستقلة في العرف والعادة عندما كان يعرف العرف والعادة بتعريف الإمام النسفي قائلا: " وفي شرح الأشباه للبيري عن المستصفى.. " دون أن يصرح اسم المؤلف ويرجع المؤلف إلى صاحبه الحقيقى (6) ، مع أن المراد من كتاب المستصفى هنا لم يكن المستصفى الشهير الذي ألفه الإمام الغزالي وإنما هو الكتاب المسمى بالمستصفى أيضا والذي ألف من طرف الفقيه الحنفي الإمام النسفي المشار إليه آنفًا. وتتجلى لنا أهمية تطرقنا إلى هذه النقطة من جهتين: الأولى: ثبوت أن أول تعريف للعرف والعادة – أمكن التوصل إليه – لم يكن منشؤه الغزالي (المتوفى سنة 505 /1111) ، وإنما كان قد صدر ذلك عن الإمام النسفي الذي عاش متأخرًا عن الغزالي بقرنين من الزمن أما الجهة الثانية: - وهي الأهم بالنسبة لنا - كون هذا التعريف الخاص بالعرف والعادة لم يرد في كتاب من كتب علم الأصول وإنما ورد في كتاب من الكتب التي تهتم بالفروع الفقهية (7) لأن تناول العرف بتعريف مستقل – وإن كان يشكل مقدمة لنظرية خاصة بالعرف – فإن الأمر الأهم من حيث أخذه مكانته الخاصة بين الأدلة الشرعية وحصوله على نظرية مستقلة هو دخوله أو عدم دخوله في أدب علم أصول الفقه.   (1) أبو سنة (أحمد فهمي) ، العرف والعادة في رأي الفقهاء، مصر، 1948م، ص8. (2) في كتابه " مالك "، مصر، 1952م، ص420. (3) في كتابه " الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد – المدخل الفقهي العام " دمشق، 1964م، 2 /838 هامش رقم 2 و 2 /840هامش رقم1. (4) في كتابه " المدخل للفقه الإسلامي "، القاهرة، 1969م، ص228. (5) في كتابه " نظريه العرف "، عمان، 1977 م، ص23. (6) ابن عابدين، رسالة العرف المذكورة، 2 /112. (7) ولا يجب من إفادتنا هنا عدم استعمال لفظي " العرف " و " العادة " وعدم وجود أي توضيح في هذا الموضوع في المؤلفات السابقة حتى إننا نعثر على عبارة قريبة جدًا من تعريف النسفي للعرف عند الجصاص (المتوفى سنة 370هـ /980م) ، وذلك أثناء تناوله لفظ " المعروف " الذي يستعمل أيضا في معنى " العرف "، انظر " أحكام القرآن " له استانبول، 1335 هـ، 3 /38 ومن المفيد أن نبين هنا أن هذين اللفظين وخاصة لفظة " العادة " قد استعملا غالبا في كتب الأصول بمعنى القوانين التجريبية أو المسلمات العقلية، انظر على سبيل المثال: الجويني (إمام الحرمين) ، البرهان في أصول الفقه، تحقيق: عبد العظيم الديب، دوسة، 1399هـ، 2 /767، الغزالي، المستصفى من علم الأصول، مصر، 1324هـ، 1 /45، 176، 177، البخاري (عبد العزيز) ، كشف أسرار شرح أصول البزدوي، استانبول، 1308هـ، 3 /259؛ الشيرازي، الوصول إلى مسائل الأصول، تحقيق: عبد المجيد تركي، الجزائر، 1979م، 2 /241، 242. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2717 عندما نلقي نظرة عامة إلى الخطوط العامة لمبادئ المذاهب الاجتهادية يمكن أن نتوقع كنتيجة طبيعية أخذ العرف مكانًا متميزًا وخاصا في الفقه الحنفي، ومع ذلك فإننا لا نكاد نشاهد حتى في كتب أصول الفقه الحنفية خطوات جريئة لبيان موقف واضح وصريح تجاه العرف والعادة ويمكن أن نشير كمثال لذلك التردد الذي نجده عند الجصاص (م. سنة 370 /980) إزاء العرف في كتابه الذي يعتبر كأول كتاب وصل إلينا في ميدان علم أصول الفقه من بين الكتب الحنفية (1) : نراه عندما يعرف الاستحسان في هذا الكتاب – عارضًا الاستحسان بشكليه – يبين إمكانية تحقق الشكل الثاني) تخصيص الحكم مع وجود (العلة بواحد من أسباب خمسة ومنها " عمل الناس "، ولكنه مع ذلك لا يجعل عمل الناس سببًا مستقلًا للاستحسان أثناء تفريقه أقسام الاستحسان عن بعضها البعض كل على حدة وإن كان لا يهمل دور عمل الناس عند إيراده أمثلة لكل من أقسام الاستحسان (2) أما الأصوليون الذين جاؤوا من بعده، فنراهم لا يستسيغون جعل نمط خاص للاستحسان بسبب العرف (3) ، إزاء هذا التحاشي الملحوظ في كتب أصول الفقه، فإننا نشاهد بكل سهولة توضيحات متعددة في كتب الفروع حول تحقق الاستحسان بسبب العرف (4) حتى أنَّ المؤلف نفسه في الوقت الذي يجعل العرف سببًا للاستحسان في كتابه المتعلق بالفروع يحتزر عن ذكر ذلك في كتابه الخاص بعلم أصول الفقه (5) وإلى جانب ذلك، يجدر بنا أن نلفت النظر إلى أننا لا نكاد نعثر على عناوين مستقلة في كتب علم الأصول لتناول العرف سواء بصفة إيجابية أو سلبية بينما نجد عناوين سلبية لبعض الأدلة الأخرى التي اختلف في اعتبارها الأصوليون مثل الاستحسان والاستصلاح (6) .   (1) فعلى الرغم من أن أول كتاب وصل إلينا باسم " الأصول " في الفقه الحنفي هو كتاب الكرخي (المتوفى سنة 340هـ /951م) المسمى " بالأصول التي عليها مدار فروع الحنفية "، لم يكن في الحقيقة كتابًا يتعلق بأصول الفقه – على خلاف ما ظنه بعض الكاتبين – وإنما هو رسالة صغيرة تضم 39 قاعدة عامة سائدة في الفقه الحنفي (مطبوع في مصر مع " تأسيس النظر " للبوس) أما " أصول الشاشي " (م. 344هـ) فلا يتناول إلا الأدلة الأربعة (بيروت 1982م) بما أن الطبعة المحققة لكتاب الجصاص لم تكن في متناول يدنا أثناء القيام بإعداد البحث اعتمدنا على النسخة المخطوطة له يقول محقق الكتاب الدكتور عجيل جاسم النشمي بشأن أصول الجصاص: " بل يكاد يكون أول كتاب في أصول فقه الأحناف يصل إلينا في شكل كتاب متكامل منسق مترابط ": 1 /4 (الكويت، 1985م) (2) الجصاص، أصول الفقه، مخطوط بدار الكتب المصرية رقم 129، ق. 294/ ب – 298/ ب. (3) انظر على سبيل المثال: الدبوسي تقويم الأدلة، مخطوط بمكتبة سليمانية باستانبول (قسم لعله لي) رقم 690. ق. 225/ب. وما بعدها؛ البزدوي، كنز الوصول إلى معرفة الأصول، استانبول، 1308هـ، 4 /5/ 6؛ السرخسي، أصول السرخسي، تحقيق: أبو الوفاء الأفغاني، بيروت، 1973، 2 /202، 203 هذا لا يعني أن كتب الأصول كلها لا يستعمل فيها أبدًا تعبير " الاستحسان لسبب العرف "، انظر مثلًا: الغزالي، المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق: محمد حسن هيتو، دمشق، 1980م، ص 373؛ الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، القاهرة، 1967م، 4 /136؛ الشاطبي، المرافقات في أصول الشريعة، مصر، بدون تاريخ (بتعلقيات الشيخ عبد الله دراز) ، 4 /207، 208. (4) انظر مثلًا: السرخسي، المبسوط، 12 /46، 159؛ الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع بيروت، 1974 م (بالأوفست) ، 7 /395. (5) انظر السرخسي، المبسوط، 12 /159 و " أصول السرخسي "، له، 2 /202، 203. (6) انظر مثلًا: الغزالي، المستصفى: 1 / 245 – 315؛ الآمدي، الأحكام: 4 / 121 – 140. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2718 والخلاصة أنه مقابل إعطاء أهمية كبيرة لقاعدة " العرف يترك به القياس (1) في كتب الفروع فإننا يمكن أن نسجل أن العرف لم يتناول أثناء التحقيقات الأصولية، إلا في مؤلفات الأدوار الأخيرة وذلك كدليل تال فقط، فضلا عن حيازته مكانًا مستقلًا بين المصادر. ولا شك أن هذه الوضعية تمكننا من القول بوجود ثنائية (dualite) في أدب الحقوق الإسلامية من حيث تناول العرف (2) . أما العبارات الواردة في كتب الفروع حول العرف والعادة – فبسبب عدم إخضاع مفهوم " العرف والعادة " لخطوط معينة ومحددة – كانت أحيانًا سببًا لاتخاذ فكرة غير صحيحة لتبيين وتوضيح مكانة العرف والعادة في الحقوق الإسلامية وفي الحقيقة إننا نشاهد حتى في البحوث المستقلة التي لجئ إليها من أجل بيان مكانة العرف والعادة في الفقه الإسلامي، بعض الأمور التي كان يجب تناولها في إطار القواعد اللغوية أو في المفاهيم التي تتعلق بتطبيق القانون (مثل " العدالة " (equite) وسلطة التقدير للحاكم) ، وكذلك بعض المسائل التي تدخل في إطار قانون المرافعات واردة في إطار مفهوم " العرف والعادة ". والحال أنه إذا ألقينا نظرة في إطار أصول الفقه الإسلامي إلى مكانة العرف بخطوطه العامة نجده قد شكل مادة أساسية للأحكام الاجتهادية، ولكنه مع ذلك لم يتمكن قط من الارتفاع إلى درجة المصدر الشكلي (source formelle) وبعبارة أخرى، على الرغم من رجحان تأثير العرف على المجتهد في استنباط الحكم بعد الكتاب والسنة والإجماع النقلي في المسألة التي يوجد فيها العرف إلا أنه لم يأخذ مكانته بين المصادر الشكلية وكذلك بين سلسلة المراتب للأدلة الشرعية، وإنما لعب دوره في تثبيت الحكم بواسطة مفاهيم أخرى وبخاصة منها الاستحسان والاستصلاح (3) وسنقف عند أسباب هذه الحالة في الباب الثاني من هذا البحث.   (1) انظر مثلًا: ابن نجيم، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، القاهرة، 1334هـ، 6 /185؛ ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: 2 /114؛ علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، استانبول، 1330هـ، 1 /93، 94؛ أبو سنة، العرف والعادة، ص 101. (2) ولسنا نقصد من الثنائية هنا الثنائية التي تطرق إليها المستشرق شاخت الذي يقول: " بهذا المعنى فإن العادة لا يمكن أن تكون معتبرة في نظر الكتب الفقهية إلا في الميادين التي أشارت إليها الشريعة إشارة صريحة ولكن على الرغم من ذلك، فإن العادة نراها تطغى على القواعد الشرعية في كل مكان، ومن هذه الحيثية فإن الأهمية التي أعطيت لها في كتب الفقه لم تكن تتماشى مع المكانة الممتازة التي أحرزتها في تاريخ " الشريعة الإسلامية ") CHACHT (Joseph) ، Encyclopedie de l Isiam “Sanda” لأن ثنائيته هذه تقودنا إلى تقسيم " القانون العرفي " و" القانون الشرعي " في تاريخ الدول الإسلامية من حيث التطبيقات القانونية إذن، فإن هذا الاتجاه لم يكن يتصل ببحثنا هذا وإنما هو قضية راجعة إلى تحقيق التطبيقات القانونية ويمكن أن يكون موضوع بحث خاص لتاريخ التشريع الإسلامي أما مرادنا نحن من الثنائية هنا، فيتجلى في الثنائية الملحوظة في كتب الأصول وكتب فروع الفقه من حيث تناول العرف كدليل من أدلة الأحكام. (3) قارن: أبو سنة، العرف والعادة، ص 32؛ خلاف (عبد الوهاب) ، أصول الفقه، نشر دار القلم (كويت، بيروت) ، 1972، ص 91، نفس المؤلف، مصادر التشريع الإسلامي في ما لا نص فيه، مصر، 1955 م، ص 123، 124 دواليبي (محمد معروف) ، المدخل إلى علم أصول الفقه، بيروت، 1965 م، ص 30، 31. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2719 وهنا يجدر بنا أن نشير إلى أنه – مع قبولنا لوجود فروق واضحة بين " العرف " وبين " الإجماع " (1) المتفق على اعتباره لدى جميع الأصوليين – يمكن أن نشاهد تداخلًا وتعاضدًا بين دليل " الإجماع السكوتي " الذي يحظى بأهمية كبيرة خاصة عند الحنفيين وبين دليل " العرف العام (2) في بعض الحالات، وخاصة عند التوصل إلى أحكام الإباحة في إطار صيغة " من غير نكير " (3) . والخلاصة أن أمورًا كثيرة في أدب الفقه الإسلامي كان يتوقع الباحث المتعود على مفاهيم النظريات الحديثة أن تتعرض لها في إطار خاصيات اللغة قد تصورت ضمن مفهوم العرف والعادة كما تناولت العادات الاتفاقية والقواعد العرفية التي تلعب دور " القاعدة القانونية " (4) دون تمييز بينهما وبعبارة أخرى، فقد تطرقوا إلى العرف والعادة باعتبار تأثيرهما بصفة مباشرة أو غير مباشرة على النتيجة القانونية التي ستطبق على الواقعة القانونية دون أي اهتمام بالاتجاه إلى وضع نظرية للعرف أو بيان للدور الذي يلعبه العرف والعادة (ككونهما يلعبان دور تكميل الفراغات القانونية أو تفسير النصوص أو إنارة الطريق للقاضي عند استعماله سلطة التقدير أو تفسيره التصرفات القانونية) . فنحن في بحثنا هذا لن نتناول العرف كقاعدة قانونية فحسب، وإنما سنتطرق إلى العرف والعادة) دون تفريق بينهما باعتبار المضمون) من حيث مكانتهما في أدب الفقه الإسلامي غير أننا سنعمل من أجل توضيح أدوارهما المختلفة الطابع كما سنسعى بعد ذلك (في الباب الثاني من هذا البحث) في ضوء هذه التحاليل لإجراء بحث نقدي للمحاولات المستجدة لتطوير نظرية مستقلة للعرف في الفقه الإسلامي يجب أن ننبه هنا إلى أن الأمثلة في بحثنا هذا قد ضربت لتكون نماذج لاقتراحاتنا المتعلقة بتناول أدوار العرف والعادة المختلفة الطابع؛ لهذا ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار دائمًا وجود احتمال تقييم تلك الأمثلة بصورة مختلفة عند المذاهب الحقوقية الأخرى سواء من حيث النتائج أو الاستدلال.   (1) انظر في الفروق بين الإجماع والعرف: خلاف، مصادر، ص 124؛ مذكور (محمد سلام) المدخل للفقه الإسلامي ص 229؛ خياط (عبد العزيز) ، نظرية العرف، ص 31، 32. (2) انظر مثلًا: ابن همام، فتح القدير شرح الهداية، مصر، 1306هـ، 6 /157؛ سيد نسيب، أسس الفقه الحنفي (باللغة العثمانية) ، استانبول، 1337- 1339هـ؛ عبد الله (عمر) ، العرف، ص 6 (نقلًا عن " شفاء العليل في حكم الوصية، لابن عابدين، ص 136) أبو زهرة (محمد) ، أصول الفقه، مصر، 1973م، ص 274. (3) انظر: البخاري، كشف الأسرار: 3 /228؛ الزيلعي، تبيين الحقائق: 6 /29 سنعود إلى هذه النقطة بمناسبة أخرى. (4) ولا يجب أن يفهم من عبارتنا هذه وجود حقوق العرف المستقلة بين مصادر الفقه الإسلامي لأننا كنا قد بينا آنفًا عدم تمكن العرف من الارتفاع إلى درجة " المصدر الشكلي " بين المصادر في الفقه الإسلامي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2720 2- دور العرف والعادة في مختلف مجالات الفقه الإسلامي: عندما نتمكن من التمييز بين موقف المجتهد الذي يستنبط الأحكام مباشرة من النصوص وبين موقف السلطات التنفيذية التي تضع هذه الأحكام حيز التطبيق، نستطيع آنذاك أن نتوصل إلى إدراك المكانة التي يحرزها العرف في الحقوق الإسلامية بشكل أوضح وأصح. لهذا، فإننا سنحاول أن نفرق في بحثنا هذا بين دور العرف في منهجية القانون (methodologie du droit) وبين دوره الذي يتجلى أثناء وضع القانون في حيز التطبيق ولا نقصد من هذا التقسيم أن السلطة التي تختص بتنفيذ الأحكام تكون بعيدة في جميع الأحوال عن دائرة الاجتهاد من حيث الأهلية والكفاءة، وإنما قد يكون المقام المختص بتطبيق الأحكام جامعًا بين أهلية الاجتهاد وسلطة التنفيذ، وفي هذه الحالة يعتبر مستنبطًا للحكم الذي سيطبق على الحادثة مباشرة من جهة، ومنفذًا له من جهة أخرى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2721 2-1- دور العرف والعادة في منهجية القانون: إن المنهج الذي يجب أن يتبع في حل مسألة حقوقية قد أصبح معلومًا في بيانات معاذ بن جبل الموجزة التي أقرها الرسول صلى الله عليه وسلم (1) وعليه، إذا وجد في الكتاب أو السنة نص خاص يستطيع أن يتناول في حكمه القضية القانونية التي يتحرى فيها الحكم طبق هذا النص، أما إذا لم يوجد لجئ إلى الاجتهاد فيها ولكن المقصود من " الاجتهاد " هنا هو الاجتهاد في المفهوم الضيق لأن وجود نص خاص يستطيع أن يتناول في حكمه القضية الحقوقية لا يعني أنه لم يدع مجالًا لاختلاف الآراء أبدًا؛ بل على العكس من ذلك، يمكن أن يجب تناول هذا النص والتفكير فيه لفهم مقصود الشارع منه تارة في إطار ألفاظه وتارة في إطار معاني ألفاظه، فالنشاطات البيانية هذه التي تنصب على الألفاظ والمعاني تسمى " بالاجتهاد البياني " إذن، فإن " الاجتهاد " في مفهومه الواسع يتضمن نشاطات تفسير النصوص أي الاجتهاد البياني أيضا (2) أما الاجتهاد في مفهومه الضيق (الذي يلجأ إليه في حالة عدم وجود نص يستطيع أن يتناول في حكمه القضية القانونية) له نوعان رئيسيان: فالنوع الأول عبارة عن تحديد " العلل الموجبة للأحكام " في كل حكم " بصورة خاصة "، ليتخذ منها مقياس من مقاييس الحكم فيما يراد إضافته على النصوص بطريق القياس، ويطلق عليه اسم " الاجتهاد القياسي ". والنوع الثاني هو تحديد " روح الشريعة بصورة عامة " ليتخذ منها أصل من أصول التشريع للحكم في كل حادث جديد استنادًا إلى المصالح المرسلة، ويسمى هذا النوع " بالاجتهاد الاستصلاحي " (3) . ففي حالة وجود نص خاص يمكن تطبيقه بشكل مباشر على المسألة الحقوقية لا يمكن أن يلعب العرف والعادة أي دور من الأدوار مثلًا لا يمكن أن يتوصل إلى حكم جديد بأي نوع من أنواع العرف في مسألة التبني المعتبر عادة عند العرب كالبنوة الحقيقية بعد أن ألغي هذا الحكم بنص قرآني صريح. والآن سنلقي نظرة إلى أدوار العرف والعادة في الحالات الأخرى المتقدمة (في الأنواع الثلاثة للاجتهاد) . 2-1-1 في الاجتهاد البياني: (أ) في التفسير اللفظي: على الرغم من فسح المكان للآراء الخاصة بموضوع " التخصيص بالعرف القولي " و"التخصيص بالعرف العملي " في بحوث أصول الفقه، فإنه في حقيقة الأمر يمكن القول بأن الخصائص اللغوية قد تنوولت هناك في إطار مفهوم العرف والعادة وسنشير إلى هذين الدورين للعرف والعادة بإيجاز شديد فيما يلي: أ- دور العرف القولي: إن التخصيص بالعرف القولي هو قصر العام على بعض أفراده بموجب " مفهوم القول "، لا بموجب " مفهوم التعامل "، وذلك مثل الدراهم في مكان ما حيث تطلق وتقال ولا يفهم منها في العرف القولي إلا النوع المتعارف عليه في ذلك المكان، والمراد من العرف القولي في تخصيص النص هو العرف البياني الخاص الذي يوجه الاستعمال في عصر نزول القرآن وورود السنة، أي ما كان يفهمه المسلمون، وما يحيط بالاستعمال في شئون تقييده، لأنها تقيد القول، وتجعله في دائرته هنالك اتفاق بين علماء الأصول وعلماء اللغة في دور العرف القولي في تقييد المطلق وتخصيص العام (4) .   (1) انظر لمتن هذا الحديث ولنقده: أبو داود، السنن، أقضية: 11؛ الترمذي، السنن، أحكام: 3؛ ابن حنبل، مسند: 5 /236 – 242؛ السرخسي، أصول: 2 /107؛ ابن حزم، ملخص أبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل، دمشق، 1960 م، ص 14،15؛ الشوكاني، إرشاد الفحول، مصر، 1937، ص 202. (2) الغزالي، المستصفى: 2 /229؛ البخاري، كشف الأسرار: 3 /268. (3) الدوالبي، أصول الفقه، ص 133 – 136، 381 – 382، 434؛ انظر لتسمية " الاجتهاد القياسي "؛الغزالي، المستصفى: 2 /233 (4) ابن عبد الشكور، مسلم الثبوت؛ والأنصاري، فواتح الرحموت، مصر 1324 هـ، 2 /345؛ الدواليبي، أصول الفقه، ص 235، 236؛ أبو سنة، العرف والعادة، ص 91. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2722 ب- دور العرف العملي: أما التخصيص بالعرف العملي هو قصر العام على بعض أفراده بموجب " تعامل الناس " ببعض أفراده لا بموجب " مفهومه القولي " فلو كان من عادة المخاطبين في المكان الذي جاء فيه النص تناول طعام خاص كالبر مثلًا وورد الخطاب بتحريم الطعام كقوله: " حرمت عليكم الطعام " فقد انصرف التحريم عند من قال بتخصيص العام بالعرف العملي إلى ذلك النوع من الطعام فقط، رغم أن له مفهومًا عامًا لديهم ويدل على البر وغيره كما يوجد اتفاق بين علماء الأصول في تقييد المطلق بالعرف العملي غير أنهم اختلفوا حول دوره في تخصيص العام، وقد اشتد الخلاف خاصة بين الحنفية والشافعية، فذهب الحنفيون إلى تخصيص العام بالعرف العملي بينما الشافعية يخالفونهم في ذلك والرأي الغالب عند المالكية يوافق تمام الموافقة لرأي الأحناف إلا أن القرافي من المالكية والزيلعي من الحنفية لا يذهبان إلى رأي مذهبهما في هذه المسألة والأستاذ أبو سنة، بعد أن تعرض لهذا الخلاف بصورة واسعة يبين ترجيحه الشخصي في اتجاه الرأي الحنفي (1) . (ب) في التفسير بالمعني: كما هو معلوم فإنه يتم تفسير القانون سواء عن طريق بحثه من ناحية اللفظ أو بحثه من ناحية الروح (المعنى) ، وفي نهاية هذا التفسير إذا ما تساوت النتيجة التي تم الحصول عليها مع المفهوم الذي تم استخراجه من لفظ القانون، يقال لهذا التفسير " التفسير المقرر " أو " التفسير البياني " (interpretation declarative) ، أما إذا كان يختلف عن المفهوم المستخرج من لفظ القانون كان هذا التفسير تفسيرًا يحدث في اللفظ تغييرًا، وهذا التفسير يمكن أن يكون في اتجاهين: إما أن يوسع ما تم فهمه من اللفظ فيطلق عليه " التفسير الواسع " (interpretation extensive) . وإما أن يضيف ما تم فهمه من اللفظ فيطلق عليه " التفسير الضيق " (interpretation restrictive) . أ – في التفسير المقرر: هنا نجد تطابقًا بين النتيجة المستحصلة من التفسير بالمعنى الذي يأخذ العرف والعادة في الاعتبار وبين النتيجة الحاصلة من تفسير لفظ النص ويسمى هذا التفسير الذي يأخذ العرف بعين الاعتبار في النظريات الحقوقية المعاصرة " بالتفسير التعاملي " كما يسمى العرف الذي أخذ بعين الاعتبار " العرف المؤيد " (la coutume confirmatoire) يمكن توضيح هذا النوع من التفسير بالمثال التالي: يرى أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني جواز بيع أراضي مكة – وهذا إحدى الروايتين من أبي حنيفة أيضا – مستندين إلى ما جاء من النبي صلى الله عليه وسلم ((هل ترك لنا عقيل من ربع)) ، فالنتيجة الحاصلة من التفسير اللفظي لهذا الحديث قد أيدت بالتعامل وقيل: " وقد تعارف الناس بيع أراضيها والدور التي فيها من غير نكير وهو من أقوى الحجج " (2) ويظهر أن هذا النوع من العرف يرجع في حقيقته إلى مفهوم " السنة التقريرية " (3) .   (1) الغزالي، المستصفي، 2 /111، 112؛ نفس المكان من " مسلم الثبوت " و" فواتح الرحموت "؛ الدوالبي، أصول الفقه، ص 234، 235؛ أبو سنة، العرف والعادة، ص 91 – 94، 124 – 125. (2) الزيلعي، تبيين الحقائق، 6 /29 ونلاحظ دورًا للعرف يشبه بذلك الدور في مبحث ترجيح الأخبار: فالغزالي يذكر كسبب من أسباب الترجيح بين الخبرين أن تعمل الأمة بموجب أحد الخبرين، انظر: المستصفى: 2 /396. (3) انظر عنوان: " دور العرف والعادة " في الاجتهاد القياسي " من هذا البحث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2723 ب- في التفسير الضيق: المقصود هنا، هو تخصيص العام بالمصلحة التي تتجلى في دائرة العرف والعادة فمثلًا، إن المعنى المفهوم من لفظ الآية الكريمة التي تقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (1) ، يتجه نحو تكليف الأمهات بإرضاع أولادهن دون تفريق بينهم غير أن الإمام مالك يقول: " إذا كانت المرأة شريفة القدر لا يلزمها إرضاع ولدها إن كان يقبل ثدي غيرها للمصلحة العرفية في ذلك حيث جرى العرف لدى أمثالهن على أن تستأجر لأولادهن المراضع " (2) . ويجدر بنا أن نسترعي الانتباه هنا أنه لا يكون دور العرف في تأييد المعنى الناتج عن لفظ النص وكذلك في تخصيص النص العام (سواء في التفسير اللفظي أو في التفسير بالمعنى) بيت القصيد إلا إذا كان ذلك العرف مقارنًا لورود النص المبحوث فيه، أما إذا كان العرف حادثًا بعد ذلك النص، فإن هذا العرف لا يعتبر ولا يصلح مخصصًا للنص التشريعي باتفاق الفقهاء ولو كان عرفًا عامًّا لأن التخصيص تفسير لمراد الشارع من نصه منذ صدوره عنه، فلا يمكن أن يعتبر النص العام النافذ على عمومه مخصصًّا منذ صدوره بعرف سيحدث فيما بعد، وربما لا يحدث، كما أشار إلى ذلك الأستاذ الجليل مصطفى أحمد الزرقاء (3) ونحن نشاركه الرأي فيما اعترض على كلام ابن عابدين الذي قال: " ... لأن العرف العام يصلح مخصصا للنص " بدون تمييز في هذا الضابط بين العرف القائم عند وردود النص، والحادث بعده (4) ومع وجود أحكام فقهية تدفع الباحث في الوهلة الأولى إلى نتيجة أن العرف الحادث أيضا يلعب دور تخصيص النص العام، فإنه يجب تحقيق القضية في تلك المواطن بدقة والحقيقة أن النصوص في مثل هذه الحالات مخصصة بعللها؛ أما دور العرف الطارئ عبارة عن تسجيل انتفاء تلك العلل إذن، فإنه يتم أولا في مثل هذه الحالات تفسير غائي (interpretation teleogique) - وذلك بتثبيث علة الحكم المصرحة من طرف النص وإما باستنباطها من طرف المجتهد – وبعد ذلك، فلو تثبت الفقيه من انتفاء العلة بدلالة العرف، حكم بأن الحكم انتفى في دائرة حدود انتفاء العلة وفقًا للقاعدة الأصولية التي تقول: " إن الحكم يدور مع علته وينتفي مع عدمه " (5) .   (1) [سورة البقرة: الآية 233] . (2) الزرقاء (مصطفى أحمد) المدخل الفقهي العام (نقلًا عن " أحكام القرآن " لابن العربي) : 2/ 894. (3) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /902، سنتناول حالة الاصطدام بين العرف والنص في الباب الثاني. (4) ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: 2 /114، 122، 123. (5) السرخسي، أصول: 2/ 182. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2724 مثلًا، في عقود المعاوضات، مع عدم صحة شرط لا يقتضيه العقد عند الأحناف الذين أخذوا في ذلك بظاهر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ((قد نهى عن بيع وشرط)) ، فإنه يمكن قبول صحة مثل هذا الشرط عندما يصبح عرفًا لأن علة الحكم القائل بعدم جواز مثل هذا الشرط كانت من أجل إزالة النزاع بين المتعاقدين، فبوجود العرف تكون العلة منتفية (1) بالوفاء أيضًا، يستند في الأصل إلى شرط فاسد ولذا كان هذا النوع من البيوع ممنوعًا قبل أن يصبح عرفًا إلا أنه لما أصبح عرفًا جوزه الفقهاء نتيجة انتفاء العلة المشار إليها آنفًا (2) . ج- في التفسير الواسع: من الطبيعي أن يكون كل مادة من مواد القانون في إطار اللغة التي يوضع فيها الحكم المراد تفسيره وفي المتن الذي يتضمن على خاصيات هذه اللغة فتارة تكون ألفاظ هذا المتن مبنية على عادات البيئة التي جاء فيها الخطاب وفي مثل هذه الحالات يجب أن لا يفهم القصد من الحكم من المفهوم الذي استحصل من الألفاظ، وإنما عن طريق العادات التي كانت سببًا في احتواء المتن لهذه الألفاظ. وكمثال لهذا النوع من التفسير في الحقوق الإسلامية نريد أن نشير هنا إلى الحديث الذي أحرز مكانًا في أدب الفقه الحنفي والذي اشتهر باسم " النص المبتنى على العرف " وهذا الحديث الذي يعرف أيضا بحديث " الربا " يشير إلى أربع مواد (الحنطة والشعير والتمر، والملح) ، مبينا ضرورة التبادل فيها بالكيل كما يشير إلى مادتين أخريين (الذهب والفضة) مبينًا ضرورة التبادل فيهما بالوزن وفي الحقيقة أن أكثر الفقهاء الأحناف قد فسروا الحديث بهذا المعنى، ذاهبين في ذلك إلى إضافة الحكم بشكل مطلق للفظي " الكيل " و"الوزن " اللذين وردا في الحديث؛ فعلى هذا الرأي لا يجوز التبادل في المواد الأربعة المذكورة إلا بالكيل كما لا يجوز التبادل في المادتين الأخريين إلا بالوزن غير أن الإمام أبا يوسف في أثناء تناوله لهذا الحديث وتفسيره له لم يكتف بالتفسير اللفظي المجرد وإنما ذهب إلى كون هذه الألفاظ مبنية على عادات ذلك الوقت تماشيًّا مع قاعدة " النص المبتنى على العرف " متوسعًا بذلك في تفسير الحديث وفي الحقيقة عندما ننظر إلى الحديث بدقة يمكن التوصل إلى أن الحكم المستهدف فيه لم يكن يتعلق بضرورة التبادل " بالوزن " أو " الكيل " وإنما هو عدم وجود التفاضل في التبادل ومنع الربح غير المشروع (3) :   (1) البابرتي، العناية شرح الهداية، مصر، 1306هـ، 6 /76؛ الزرقاء، المدخل الفقهي: 2/ 901. (2) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /901، 902 هذا من ناحية انتفاء النزاع بين الطرفين أما موافقة البيع بالوفاء لمبادئ وقواعد الفقه الإسلامي من كل الجهات أو عدم موافقته لها فقضية أخرى يمكن أن يناقش فيها. (3) مع أن السرخسي – وهو واحد من أصحاب الرأي المشار إليه آنفًا – يبين أن " المراد في ذلك الحديث المماثلة من حيث القدر" (المبسوط: 12/ 111) ، فإنه يصل أيضًا من خلال ألفاظ الحديث إلى نتيجة تعين النمط في التبادل باستصواب الرسول صلى الله عليه وسلم استنادًا إلى مفهوم، " التقرير " كما يفهم هذا من عبارته التالية: " والأصل أن ما عرف كونه مكيلًا على عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم فهو مكيل أبدًا وإن اعتاد الناس بيعه وزنًا وما عرف كونه موزونًا في ذلك الوقت فهو موزون أبدًا، وما لم يعلم كيف كان يعتبر فيه عرف الناس في كل موضع إن تعارفوا فبه الكيل والوزن جميعًا فهو مكيل وموزون، وعن أبي يوسف أن المعتبر في جميع الأشياء العرف لأنه إنما كان مكيلًا في ذلك الوقت أو موزونًا في ذلك الوقت باعتبار العرف لا بنص فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنا نقول تقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم على ما تعارفوه في ذلك الشيء بمنزلة النص منه فلا يتغير بالعرف لأن العرف لا يعارض النص، المبسوط 12 /142. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2725 أما سبب استعمال لفظي الكيل والوزن فلم يكن إلا تأثرًا بالعادة الجارية آنذاك (1) . وهكذا فقد استحسن اجتهاد أبي يوسف هذا من طرف كثير من الفقهاء المتأخرين وأصبح موضوع مدح وثناء (2) كما يلاحظ تأثير اجتهاد أبي يوسف هذا في مسائل مشابهة لها صلة بالعرف (3) . ونلاحظ أيضا نفس الوضعية إزاء الحديث الذي يقول: ((الوزن وزن أهل مكة والكيل كيل أهل المدينة)) وقد انتقد الخطابي انتقادًا شديدًا الذين اعتبروا وزن أهل مكة وكيل أهل المدينة مقياسين غير متغيرين، وجمدوا روح مضمون الحديث في دائرة الألفاظ (4) ولا شك أن المعلومات المتعلقة بالوضع الاقتصادي والمالي لمكة والمدينة والتفسيرات التي تمت مع أخذ الاعتبار لتلك الأوضاع الاقتصادية والمالية تنور لنا الطريق في فهم مثل هذه الأحاديث (5) . 2-1-2 في الاجتهاد القياسي: إن دور العرف والعادة في هذا النوع من الاجتهاد يكون في أكثر الأحوال في طابع غير إيجابي (6) لأنه يكون مانعًا لتعدي حكم الأصل إلى الفرع، ولأنه يتجلى كتسجيل لانتفاء المشابهة والمساواة بين الأصل والفرع من ناحية علة الحكم.   (1) انظر: الجصاص، أصول الفقه، مخطوط، ق 276 /ب؛ ابن همام، فتح القدير: 6 /157؛ يقول إسماعيل حقي إيزميرلي في هذا الصدد: " إن أبا يوسف لا يفضل العرف على النص وإنما يفهم النص بمساعدة العرف " في مقاله: " أسس الإجماع والقياس والاستحسان " (باللغة العثمانية) ، جريدة " سبيل الرشاد " المجلد: 12، العدد: 295، ص 154 انظر للروايات الأخرى لهذا الحديث التي تلقي ضوءًا على الحكم المقصود وضعه، ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، مصر، 1975م، 2 /141 وما بعدها. (2) انظر ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: 2 /116؛ رشيد باشا، روح المجلة (باللغة العثمانية) ، استانبول، 1326هـ، 1 /123. (3) انظر: البابرتي، العناية: 6 /157. (4) انظر: الخطابي، معالم السنن (شرح سنن أبي داود) ، حلب، 1934م، 3 /60-64. (5) انظر: المعلومات التي تلقي ضوءًا على الموضوع: الكتاني (محمد عبد الحي) ، التراتيب الإدارية، رباط، 1346هـ، 1 /411- 415؛ الشريف (أحمد إبراهيم) ، مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول القاهرة1965 م، ص 374، 375. (6) إلا أنه ينبغي أن يلاحظ أن السلبية هنا لم تكن تتعلق بالحكم الذي توصل إليه وإنما هي متعلقة بطابع دور العرف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2726 مثلًا كان أبو حنيفة لا يجوز بيع النحل ودود القز، لأنه كان لا يعتبرهما "مالًا " قياسًا على سائر هوام الأرض كالوزغ والضفادع وكانت العلة في عدم اعتبار مثل هذه الأشياء موضوع عقد هي عدم إمكان الاستفادة منها وبالتالي تضرر أحد المتعاقدين وربح الآخر بطريقة غير مشروعة إلا أن محمد بن الحسن الشيباني لاحظ إمكان الاستفادة منهما واعتبرهما " مالًا " نظرًا لتعامل الناس وجعلها موضوع عقد للبيع والشراء (1) . والحري بنا أن نبين هنا أن اعتبار بعض العقود كالاستصناع مثلًا في ميدان الاجتهاد قد نتج عن تطبيق منهج ترك القياس بسبب العرف الذي يسمي ذلك عند الحنفية استحسانًا (2) . وعندما يقومون بإيضاح هذا الموضوع يصيرون إلى وضع قاعدة " أن العرف والتعامل يعتبران كدليل لترك القياس وتخصيص النص" (3) . والحال أن هذا النوع من التصريحات وإن كان يشعر بتقدم العرف كمصدر على القياس فإن ذلك يكون مخالفا بالبداهة لترتيب الأدلة في كتب أصول الفقه. ولذا بدل أن يصار إلى إمكان تقديم العرف على جميع أنواع القياس تمسكًا بشكل مطلق بمثل هذه التصريحات فإنه يستحسن التوجه إلى تثبيت معاني مفهوم " القياس" وبالأخص عند الأحناف وفي الحقيقة لما نمعن النظر في الموضوع بدقة نجد أن رجحانية العرف على القياس المتكلم عنها سابقًا لا تتحقق بصفة عامة في إطار " القياس الأصولي " (القياس القانوني gesetresanalogie) وإنما تتحقق في إطار القياس بمعنى " القاعدة العامة " (القياس الحقوقي rechanalogie) أو في إطار مقتضى الدليل العام (4) . أما لو نمعن النظر في البحث عن العامل الحقيقي الدافع إلي وضع مثل هذه القاعدة (أي " أن العرف يترك به القياس ويخصص به العام إذا كان ظنيًّا ") نلاحظ أنهم يقصدون هنا التعامل الجاري منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير والذي يرجع في حقيقته إلي مفهوم الإجماع (5) . وبديهي أن هذا النوع من الإجماع راجع في حقيقته إلى مفهوم " السنة " إذن، في مثل هذه الحالات (كما كان في تجويز عقد الاستصناع) يكون مصير الاستدلال إلى احتمالين:   (1) الموصلي، الاختيار لتعليل المختار: 2 /25؛ أبو سنة، العرف والعادة، ص 103. (2) انظر: النسفي (أبو البركات حافظ الدين) ، منار الأنوار، استنانبول، 1308هـ، ص 285؛ ابن نجيم، البحر الرائق: 6 /185. (3) أبو سنة، العرف والعادة، ص 27، 28-101. (4) شلبي (مصطفى) ، تعليل الأحكام، مصر، 1947م، ص 337 وما بعدها مع أن كلمة " القياس " قد استعملت في كتب الأصول في معنى " القياس الأصولي" غالبا، فإنه يشاهد في عبارات كثيرة أنها قد استعملت أيضا في معنى " القاعدة العامة "، انظر على سبيل المثال: الجصاص، أصول الفقه (مخطوط) ، ق 271/ب، 272/أ: الدبوس، تقويم الأدلة (مخطوط) ، ق 119/أ، 119/ب، 220 /أ، 226/أ؛ البزدوي الأصول: 3 /249؛ السرخسي، أصول: 2 /155 انظر في: "rechsanalogie"، " gesetranalogie" GENY (Francois) ، Methode d,interpretation et sources en Droit prive prive positif، Paris 1954، 1 /105 et s. 11 /131. (5) انظر: السرخسي، أصول: 2 /203؛ الغزالي، المنخول: ص 376؛ الآمدي، الأحكام: 4 /138؛ أبو زهرة، أصول الفقه، ص 274. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2727 الأول: أن يذكر الفقيه سنة قولية أو فعلية متعلقة بالقضية الحقوقية، فدور العرف هنا عبارة عن تأييد المعنى من اللفظ كما بينا ذلك تحت عنوان " التفسير بالمعنى ". والثاني: أن يستند الفقيه في استدلاله إلى مجرد التعامل المذكور. ففي هذه الحالة لا يكون المقصود إلا سنة تقريرية أي تعاملًا استصوب النبي صلى الله عليه وسلم ديمومته. 2-1-3 في الاجتهاد الاستصلاحي: كما سبق أن بينَّا تحت عنوان " مكانة العرف والعادة في التشريع الإسلامي بصفة عامة "، فإن المبادئ العامة للتشريع الإسلامي تقف إزاء العرف – فيما أصبح مألوفًا بين الناس وفي التصرفات التي تركت أثرها العميق في الحياة الاجتماعية – موقفًا إيجابيًّا ما لم يكن مخالفًا لها ومغايرًا لروحها. وخاصة عندما نأخذ بعين الاعتبار أن الأصوليين يرون بصورة عامة أن حوادث الحياة لا حدود لها، أما النصوص محدودة وكذلك أنهم يتبنون مبدأ عدم ترك أية حادثة حقوقية قط دون حكم (1) .، نجد ميدان الاستفادة من العرف بشكل أوسع في مجال الاجتهاد الاستصلاحي. وبعبارة أخرى، فإن العرف الذي لم يدخل في إطار مفهوم " العرف الفاسد " له مكانة هامة في هذا النوع من الاجتهاد الذي يستند إلى المصالح المرسلة. لأنه يعتبر من الظواهر الرئيسية التي تعطينا أوثق المعلومات حول مصالح الناس (2) . 2-2 دور العرف والعادة في تطبيق القانون: إن مفهوم " تطبيق القانون " يعني بشكل موجز ومختصر كيفية إقدام القاضي على تناول القواعد القانونية للتطبيق (3) .   (1) الجصاص، أصول الفقه (مخطوط) ، ق. 261/1؛ الجويني، البرهان: 2 /743؛ البخاري، كشف الأسرار: 3 /271؛ ابن رشد، بداية المجتهد، القاهرة، 1952م، 1 /3. (2) انظر: السرخسي، المبسوط: 12 /45. (3) يجب التنبه إلى أن المقصود من "القانون" هنا هو القانون بالمعنى العام droit (وهو مجموعة القواعد الملزمة التي تحكم سلوك الأفراد وعلاقاتهم في المجتمع) ، وليس بالمعنى الخاص Ioi انظر: فرج الصدة، أصول القانون: ص 12. وينبغي أيضًا التفريق هنا بين مفهوم، تطبيق القانون، وبين مفهوم، التطبيقات القانونية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2728 كما سبق أن أشير فإن تاريخ التشريع الإسلامي قد مر على أدوار لها مميزات خاصة. وهكذا، فإن فقهاء الإسلام الذين جاؤوا عقب أدوار الاجتهاد لما لم ينطلقوا في تحليلاتهم الفقهية من منطلق الاجتهاد أي أنهم لم يتوصلوا إلى الحلول الفقهية عن طريق استخراج الأحكام من نصوصها بالاجتهاد، وإنما توصلوا إليها بتطبيق الأحكام الفقهية الموروثة عن المجتهدين السابقين، وبعبارة أخرى لما شكلت المذاهب الحقوقية المتكونة آنذاك: مصدرًا شكليًّا (formellesource) للحقوق (1) . فإن العرف أخذ مكانته في الحياة الحقوقية بشكل أشمل وأوضح. لأن الأعراف قد تبدلت بتبدل الأزمان كما أصبحت أحكام كثيرة كانت تستند إلى العرف بعيدة عن الإقناع وأداء المطلوب أثناء تطبيق الحقوق. إن تطبيق القانون – كما بينا سابقًا – يكون بيت القصيد في الأصل سواء بالنسبة إلى أدوار الاجتهاد أو غيرها. ولكنه، - لما تطرقنا إلى أدوار العرف والعادة أثناء عملية الاجتهاد تحت عنوان " دور العرف والعادة في منهجية القانون " – فإن ما سنتناوله الآن تحت عنوان (دور العرف) في تطبيق الأحكام المستندة إلى العرف يتعلق بشكل أزيد بالأدوار التي تلت أدوار الاجتهاد؛ أما مضمون العنوانين الآخرين فيتعلق سواء بأدوار الاجتهاد أو الأدوار التي تلتها. 2-2-1 في تطبيق الأحكام المستندة إلى العرف: إذا أمكن الإدراك باختلاف فهم النصوص لاختلاف الزمن عند استنادها إلى العرف، أدركنا بسهولة بأن الأحكام المستحصلة عن طريق الاجتهاد يمكن أن يطرأ عليها التغير مع مرور الزمن حالة استنادها إلى العرف، كما يمكن فهم دور العرف في تعيين نتيجة هذا التغير؛ لأن أثر العرف فيما توصل إليه المجتهدون من الأحكام حقيقة لا تنكر (2) . وحتى لسبب ترجيح رأي المجتهد الذي يكون مطلعًا على أعراف وتقاليد زمانه بصورة يقينية، نرى فقهاء المذهب الحنفي يرجِّحون في الأحكام المتعلقة بالقضاء مذهب أبي يوسف لما له من تجربة كبيرة واطلاع واسع في حوادث الحياة وفي ميدان العرف والعادة (3) . كما روي عن محمد بن الحسن الشيباني أيضًا بأنه كان يلجأ تارة إلى أصحاب الحرف لأخذ المعلومات عنهم فيما يتعلق بتعاملهم ونوعية تعاقدهم بينهم (4) . وبناء على ذلك، فإن البقاء متجمدًا بصفة مستمرة على ما نقل من المجتهدين السابقين، يكون – بدون شك – عبارة عن الانحراف عن أسس الإسلام وعن عدم المعرفة بمقاصد المجتهدين (5) . ولذا، فإن المحققين من الفقهاء المتأخرين الذين أدركوا إمكان حصول نتائج مغايرة لأسس الإسلام وأهدافه السامية من تطبيق الأحكام المستندة إلى العرف بعينها فضلًا عن كونها مقنعة، أولوا أهمية خاصة لهذا الموضوع.   (1) ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: 2 /128؛ أبو سنة، العرف والعادة: ص 104. (2) ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: 2 /128؛ أبو سنة، العرف والعادة: ص 31. (3) نفس المكان من الرسالة المذكورة لابن عابدين. (4) نفس المكان من الرسالة المذكورة لابن عابدين؛ أبو سنة، العرف والعادة: ص 104. (5) القرافي، أنوار البروق في أنوار الفروق، مصر 1347 هـ، 1 /175-177. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2729 فالقرافي مثلًا، يصرح بأن الإفتاء بالأحكام المستندة إلى العوائد بعد تغير ما مخالف للإجماع ويوصف ذلك بأنه " جهالة في الدين " ممن يقولون: " إننا مقلدون، ليس لنا إلا أن نفتي بما في الكتب من الأحكام المنقولة عن المجتهدين " وبين أن تغيير هذه الأنواع من الأحكام بشكل يوافق للعوائد المستجدة لم يكن إنشاء اجتهاد مناقض لاجتهادات المجتهدين، بل على العكس فهو عمل بقاعدة أجمع على وجودها في الفقه الإسلامي جميع المجتهدين كما أجمعوا على ضرورة السير في ظلها (1) . وكذلك، فإن ابن عابدين الذي أشار بشكل مفصل إلى أهمية العرف في بناء الأحكام وضرورة رعاية المجتهد للتغيرات الطارئة على الأحكام بالتغيرات الطارئة على الأعراف مع تبدل الأزمان والأحوال في المحيط والمجتمع، أعطى أمثلة عديدة في هذا الميدان، وجعل هذه النقطة سببًا دافعًا إلى تأليف رسالته المتعلقة بالعرف (2) . إننا نوافق الأستاذ الزرقاء مبدئيًّا في ما ذهب إليه – بعد أن تطرق إلى قضية " تبدل الأحكام بتبدل الأزمان " بشكل واسع – من عدم صحة اعتبار هذا الموضوع من صميم نظرية العرف، بل، ضرورة تناولها في إطار نظرية المصالح المرسلة (3) . إلا أننا في هذا الباب لا نتناول العرف كنظرية وإنما من أجل بيان دوره ومكانته في أدب الفقه الإسلامي، ولذا أحسسنا بالحاجة إلى الإشارة إلى دور العرف في تبدل وتغير الأحكام الاجتهادية. في الحقيقة أن التغير الملحوظ في الأحكام بتغير الأزمان لا يمكن إرجاعه كليًّا إلى تغير العرف، وإن كان تأثير التغيرات في العرف في هذا الميدان لا يمكن إنكاره أيضًا. سنعطي مثالًا لهذا النوع من أدوار العرف قضية قبض المهر: إن القاعدة الفقهية تقضي بأن الحاكم يجب عليه أن يستمع إلى كل دعوى ترفع إليه يقضي للمدعي أو عليه بحسب ما يثبت لديه، ولكن الفقهاء اعتبروا أن تزف الزوجة قرينة على قبضها – على الأقل جزءًا من – معجل مهرها استنادًا إلى العادة المطردة في ذلك، وحكموا بعدم استماع القاضي دعواها وبردها دون أن يسأل عنها الزوج إذا ادعت أن زوجها لم يدفع إليها شيئا من معدل مهرها. لأن دعواها هذه تعتبر مما يكذبه ظاهر الحال بعد الدخول إذا أخذت بعين الاعتبار العادة القائمة في ذلك فلا تسمع (4) . إلا أن تلك العادة قد طرأ عليها التغيير بمرور الزمن وأصبحت كثير من النساء قد يزففن دون قبض شيء من الصداق تيسيرًا على الزوج وذهب الفقهاء المتأخرون إلى تغير هذا الحكم المستند إلى العادة، كما أيده الشاطبي بقوله: " وكذلك الحكم بعد الدخول بأن القول قول الزوج في دفع الصداق بناء على العادة، وأن القول قول الزوجة بعد الدخول أيضًا بناء على نسخ تلك العادة، ليس باختلاف في حكم (5) . وكذلك يقول القرافي بعد الإشارة إلى العادة القائمة في عصر مالك: " واليوم عادتهم على خلاف ذلك، فيصبح القول قول المرأة مع يمينها في عدم القبض لاختلاف العوائد (6) .   (1) القرافي، الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، باب، 1967م، في جواب السؤال: 39 ص 231. انظر التعبيرات القريبة منها: الطرابلسي، معين الحكام، مصر، 1357هـ، ص 152-160. (2) ابن عابدين، رسالة العرف السابقة، 2 /123-126. (3) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /319 - 335. (4) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /210، نقلًا عن ابن عابدين، رد المحتار: 3 /183؛ وتنقيح الفتاوي الحامدية له أيضًا: 1 /20. (5) الشاطبي، المرافقات: 2 /286. ويلاحظ هنا أن الشاطبي بنصه يكتبه، ليس باختلاف في الحكم، ومعنى: ليس باختلاف في الخطاب، وذلك في إطار المفاهيم الأصولية، أما الحكم في معنى النتيجة القانونية التي ستطبق على الواقعة القانونية، فالشاطبي أيضًا يشير إلى تغيره لكلمته هذه، ولذلك ذكرناه في صدد التأييد. (6) القرافي، الأحكام، في جواب السؤال: 39. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2730 2-2-2- في حالات وجود سلطة التقدير للحاكم: لم تكن القواعد القانونية دائمًا في مستوى واحد من حيث إفادتها القطعية ففي بعض الحالات من أجل توفير السهولة في التطبيق أو من أجل ملاحظات العدالة (quite) وما شابهها، أعطيت للقاضي سلطة التقدير ويقال في نظم الحقوق المكتوبة لهذه المواقف " الفراغات الداخلية " (luchan intra legem) ، فالحاكم يقوم بملء هذه الفراغات اعتمادًا على السلطة التي منحها له القانون وفي إطار حدودها فقد أعطيت سلطة التقدير للحاكم تارة في الواقعة القانونية وتارة في النتيجة، منحها له القانون وفي إطار حدودها القانونية وتارة أخرى في كلتيهما (1) . ومن الممكن في الفقه الإسلامي أيضًا أن يكون المجتهد قد وجد نفسه في نفس الموقف تجاه النص وكذلك القاضي تجاه تطبيق الحكم المستنبط من النصوص. أما العرف والعادة فدورهما في الحالات التي تتاح فيها فرصة استعماله سلطة التقدير عبارة عن إنارة الطريق له أثناء استعماله لهذه السلطة وبعبارة أخرى، فإنهما يلعبان دورًا مساعدًا في هذا الميدان. ونحن سنكتفي هنا بإعطاء بعض الأمثلة لبيان دور العرف والعادة في المواقف الثلاثة المذكورة: مثلًا، إن القرآن الكريم اشترط العدالة في الشهود (2) . فهذه هي النتيجة القانونية المبينة بالنص وبناء على هذا، تقبل شهادة من يتصف بالعدالة وترد شهادة من لم يتصف بها. غير أن تقدير أنواع الأفعال التي تطيح من قيمة الفرد في المجتمع والخصوصات التي تزيل وصف العدالة يكون راجعًا إلى الحاكم، أي أن سلطة تثبيت الواقعة القانونية متروكة له. فأعراف وتقاليد المجتمع وكذلك الملاحظات العامة المنبثقة منه تضيء الطريق للحاكم أثناء استعماله لهذه السلطة (3) ، كما يبين ذلك جيدًا المثال الذي أورده الشاطبي (4) .   (1) DESCHENAUX (Henri) , Traite de Droit civil. Suise Fribourg, 1962, p.92 ets. (2) سورة الطلاق: الآية 2 (3) أبو سنة، العرف والعادة: ص 46. ويجدر الإشارة إلى أنه لا يعترف بدور العرف والعادة في تثبيت اتصاف أو عدم اتصاف الرواة بوصف العدالة) وله إطار خاص في علم مصطلح الحديث) في رواية أخبار الآحاد، انظر: صديق حسن خان، حصول المأمول من علم الأصول، استانبول، 1296 هـ، ص 57، 58 (4) انظر: الشاطبي، الموافقات: 2 /284 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2731 وكذلك، فإن القرآن الكريم لم يبين مقدار النفقة التي تعطى بصفة إجبارية للأزواج من طرف الزوج، بل اكتفى بالحكم على تعيين ذلك المقدار في دائرة " المعارف " (1) . حيث أرجع أكثر الفقهاء تعيين مقدار إلى العرف والعادة (2) . وكذلك أيضا قبول حق خيار المجلس لكل من المتبايعين ما لم يتفرقا استنادًا إلى الحديث المعروف، كما ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي حيث قبل خيار المجلس قبل افتراق المتعاقدين، أما بعد ذلك فلم يقبله. وهذه هي النتيجة القانونية فالحاكم سيستفيد من العرف والعادة لتثبيت الواقعة القانونية (أي لتثبيت حصول الافتراق أو عدم حصوله) (3) . ويمكننا أن نعطي مثالا للموقف الثاني أي ترك تعيين النتيجة القانونية لتقدير الحاكم بعد تحديد الواقعة القانونية، ترك بعض العقوبات التعزيرية لتقدير الحاكم بعد أن عينت الجرائم التي تقتضيها. أما موقف تعيين الواقعة القانونية من جهة وتعيين النتيجة القانونية من جهة أخرى، فإنه من الممكن أن نذكر كمثال له حالات ترك تعيين الجرائم التعزيرية من جهة وتعيين العقوبات التعزيرية من جهة أخرى مفوضة لآراء الحكام فالحاكم سيستفيد من الأعراف والعادات عند استعمال سلطة التقدير في مثل هذه الحالات ففي جريمة التعدي على الكرامة بالشتم والإهانة مثلًا، إنما يعتبر من الكلام جرمًا يستحق قائله العقوبة التعزيرية ما يكون في عرف الناس شتمًا وإهانة والعقوبة التعزيرية نفسها أيضًا، إنما تكون شرعًا بالقدر الذي يعتبر كافيًا للقمع في نظر العقلاء وعرفهم بحسب درجة الجرم (4) .   (1) سورة البقرة: الآية 233. فلمثل هذه الحالات يستعمل الجصاص مصطلح " الاستحسان " إلا أن المقصود من هذا الاستحسان عنده هو الاستحسان المتفق عليه لدى الجميع لا المختلف فيه، انظر: أصول الفقه له، (مخطوط) ق. 294/أ، 294/ب؛ انظر أيضًا: السرخسي، أصول: 2 /200، 207؛ الآمدي، الأحكام: 4 /136؛ البخاري، كشف الأسرار: 4 /13. ويمكن أن نقول في هذا الموضوع: إذا فهمت كلمة " المعروف " هنا وفي الأماكن المماثلة بمعنى "العرف والعادة " يكون النص ذاته قد أحال الحكم على العرف والعادة مباشرة، أما لو فهمت بمعنى " المقاييس المعقولة حسب الحال والشرائط " فعند ذلك تكون سلطة التقدير للحاكم بيت القصيد وفي هذه الحالة يكون العرف قد لعب دورًا في إنارة الطريق للحاكم أثناء استعمال سلطة التقدير (2) أبو سنة، العرف والعادة: ص 47 (3) أبو سنة، العرف والعادة: ص 47 (4) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /848؛ أبو سنة، العرف والعادة: ص 45 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2732 2-2-3 في تفسير التصرفات القانونية: من المعروف أن التصرفات القانونية (وبالتالي التعبير عن الإرادة عند القيام بتلك التصرفات) تشكل سببًا هامًّا سواء لكسب الحقوق أو انقضائها (1) فنحن هنا سنعمل من أجل الإشارة إلى دور العرف والعادة في تفسير التعبير عن الإرادة بشكل موجز. إذا كانت الألفاظ قد استعملت في غير معانيها الحقيقية بموجب العرف القائم في ذلك ينصرف الكلام إلى المعاني المقصودة بالعرف حين التكلم وإن خالفت المعاني الحقيقية التي وضع لها اللفظ في أصل اللغة فلو صرف كلام المتكلم إلى حقيقته اللغوية دون العرفية التي هي معناه في عرف المتكلم لترتب عليه إلزام المتكلم في تصرفاته القولية بما لا يعنيه هو ولا يفهمه الناس من كلامه (2) ، وعن هذا أثبت الفقهاء القاعدة القائلة " الحقيقة تترك بدلالة العادة " والتي احتلت مكانًا بين القواعد الكلية في مجلة الأحكام العدلية (3) ولهذا النوع من العرف (العرف اللفظي) أهمية كبيرة في المسائل المتعلقة بالتصرفات القولية مثل الإقرار والطلاق والوقف ونحوها (4) . هذا في حالة ما إذا كان التعبير عن الإرادة بعبارة مصرحة، أما إذا كان التعبير عن الإرادة بصورة ضمنية فدور العرف (العرف العملي) يتجلى في تفسيره أكثر وضوحًا وفي إمكان الباحث أن يجد عبارات كثيرة مثل (الشرط العرفي كالشرط اللفظي) و " المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا " و " التعيين بالعرف كالتعيين بالنص " و " العادة محكمة " مع أمثلة عديدة لهذا النوع من أدوار العرف في المؤلفات الفقهية الإسلامية (5) وتسمى هذه العادات في النظريات القانونية الحديثة " العادات الاتفاقية " فمثلا إن كيفية دفع أجرة المأجور يتبع فيها شرط العاقدين، ولكنهما إذا لم يشترطا شيئا كان كيفية الدفع عندئذٍ تخضع للعرف في التعجيل أو التأجيل أو التقسيط (6) . ويجدر بنا أن ننبه إلى أن معظم العبارات الواردة في المواطن التي يعلم فيها الكاتبون من أجل إبراز أهمية العرف والعادة في الفقه الإسلامي لا تتعلق إلا بدور العادات في إنارة الطريق أمام من يقوم بتفسير التصرفات القانونية، وبالتالي إلى أن سهمًا هامًّا من المكانة التي يحرزها العرف في أدب الفقه الإسلامي راجع إلى هذا النوع من العرف.   (1) انظر مثلًا: عبد الباقي (عبد الفتاح) ، نظرية الحق، القاهرة، 1965 م، ص 255 وما بعدها؛ فرج الصدة، أصول القانون: ص 548 وما بعدها. (2) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /849 (3) المادة: 40. (4) انظر في هذا الموضوع: السرخسي، أصول: 1 /90؛ ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، بيروت 1973، 3 /46؛ ابن نجيم الأشباه والنظائر، استانبول، 1290هـ، 1 /130؛ وشروح المجلة تحت المادة: 40 (5) انظر: ابن سلمون، العقد المنظم للحكام، القاهرة، 1301 هـ، 1 /33، 34، والمواد: 36، 37، 43، 44، 45 من مجلة الأحكام العدلية. (6) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /864 انظر لأمثلة عديدة في هذا الموضوع: ابن فرحون، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، القاهرة 1301 هـ، 2 /63، ابن نجيم، الأشباه والنظائر: 1 /139؛ كوزل حصارى، منافع الدقائق شرح مجامع الحقائق، استانبول، 1308هـ، ص 324 وشروح المجلة تحت المواد المذكورة في الهامش السابق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2733 2- 3 دور العرف والعادة في مجال قانون المرافعات (في تقدير أدلة الطرفين: يلاحظ الباحث أن سهمًا هامًّا آخر من المكانة التي يحرزها العرف في أدب الفقه الإسلامي يتعلق بدور العادات أثناء تقدير وتقويم القاضي أدلة الطرفين المتنازعين والحقيقة أن كثيرًا من المواطن التي يصار فيها إلى استعمال اصطلاح " تحكيم العادة " لا تتعلق إلا بمضامين مفاهيم " تحكيم الحال أو ظاهر الحال " و " القرينة " ونحوهما. كما يمكن أن نذكر بأن الفقهاء كانوا قد اعتبروا أن زف المرأة قرينة على قبضها –على الأقل – بعض صداقها مستندين إلى العادة القائمة في ذلك، فإنه يمكن للباحث أن يجد في كثير من مسائل " القول لمن؟ " قد استند الفقهاء إلى العرف في الترجيح القضائي بين مزاعم المتداعين، فعلى سبيل المثال فإن الزوجين إذا اختلفا في بعض أمتعة البيت أنها ملك الرجل أو المرأة ولا بينة لأحدهما يترجح قول الرجل بيمينه فيما يستعمله الرجال عادة ويترجح كذلك قول المرأة فيما يستعمله النساء، وذلك بقرينة عادة الاستعمال وعرفه (1) .   (1) انظر: ابن فرحون، تبصرة الحكام: 2 /63، 64؛ طرابلسي، معين الحكام: ص 161؛ ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: 2 /133؛ الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /865، 916 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2734 الباب الثاني نظرة تحليلية إلى محاولات تطوير نظرية للعرف في الفقه الإسلامي بصفة عامة: حاولنا في الباب الأول من هذا البحث تعيين مكانة مفهوم العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي وتبين لنا من خلال دراستنا أن الأصوليين لم يتناولوا العرف والعادة كدليل شرعي أثناء دراستهم للأدلة الشرعية (1) ، وبالتالي لم نعثر على محاولة لوضع نظرية للعرف بين الأعمال العلمية للفقهاء المسلمين حتى العصور الأخيرة بغض النظر عما ورد في بعض كتب القواعد من المعلومات حول العرف والعادة. ومع ذلك فإننا – إذا اعتبرنا مختلف أدوار العرف – نجده يحظى بأهمية كبيرة في كتب فروع الفقه وخاصة نلاحظ أن للعرف تأثيرًا هامًّا في حلول كثيرة مما توصل إليها الفقهاء ولو لم يعبروا نظريًّا عن هذه الأهمية فلذا شعر عدد من العلماء في الأدوار الأخيرة وخاصة في عصرنا الحاضر أمثال العلامة ابن عابدين، والشيخ أبي سنة، والشيخ مصطفى أحمد الزرقاء، والأستاذ عمر عبد الله، والدكتور عبد العزيز الخياط، والدكتور عبد الرحمن الصابوني (2) والدكتور الجيدي، والدكتور محمد شنار، شعروا بحاجة إلى تطوير نظرية للعرف في الفقه الإسلامي ويلاحظ أن بعض هؤلاء المؤلفين ينطلقون من منطلق الدراسات الغربية ولو قسميًّا.   (1) ليس من السهل أن لا يستغرب كلام الدكتور الجيدي، إذ يقول: " وإذا كان هناك خلافًا بين الأصوليين فليس في أصل اعتبار العرف وإنما في مدى التوسع في الأخذ به أو التضييق " (العرف والعمل في المذهب المالكي ومفهومهما لدى علماء المغرب الرباط، 1984 م، ص 90) ، وذلك بعد دراسته الواسعة للعرف " كمصدر للتشريع" – مقارنًا بين المذاهب – في رسالته الدكتوراه (2) مع أننا اطلعنا على اسم كتاب في هذا الموضوع للدكتور عبد الرحمن الصابوني وهو " العرف والعادة وأثرهما في التشريع الإسلامي " (القاهرة، 1961 م) ، فإننا لم نعثر عليه رغم بحثنا الطويل عنه وكذلك عثرنا على وعد لتناول العرف تحت عنوان " العرف كمصدر للتشريع في التشريع الإسلامي والقانون الوضعي " في كتاب " المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي " (دمشق، 1985م ص 584، هامش رقم 1 و 587 هامش رقم 1) ، للدكتور فتحي الدريني إلا أنه لم يمكن لنا أن نتأكد من ظهور المجلد الثاني لهذا الكتاب والجدير بالذكر أن المؤلف يتناول موضوع العرف باختصار شديد بمناسبة " أدلة التخصيص ومنها العرف ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2735 بيد أن العرف، نظرًا لاحتلاله مكانًا خاصًّا بين المصادر الشكلية للحقوق في الفقه الغربي، لا يشعر المؤلفون بحاجة إلى مناقشات واسعة حول وصف المصدرية للعرف، بل يتطرقون إلى مسائل فلسفية مثل منشأ القواعد العرفية وقوتها الإلزامية ويبحثون في أركان العرف وشروط اعتباره انطلاقًا من كون العرف مصدرًا من مصادر الحقوق وبطبيعة الحال، فإن العرف الذي يتسم بسمة القاعدة القانونية يشكل المحور الأساسي في هذه النظرية وإلى جانب ذلك تم تناول الموضوعات الجانبية لتلك النظرية مما لم يرتقِ إلى هذه المرتبة من العادات الاتفاقية والعادات التي تلعب الدور المساعد لتفسير القانون أو أحال عليها القانون في بعض المسائل. أما في الفقه الإسلامي، فيبدو لنا أن عدم اعتبار العرف فيه مصدرًا مستقلًّا بصورة صريحة يشكل العامل الأساسي الذي يتعسر معه وضع نظرية خاصة به، فالمؤلفون الذين أشرنا إليهم آنفًا رغم علو قدرهم واستفادتنا منهم كثيرًا (ولا سيما الشيخين الجليلين أبي سنة والزرقاء) ، تناولوا العرف في أغلب الأحيان دون أن ينتبهوا إلى هذه النقطة وما للعرف من أدوار مختلفة، فلم يحالفهم الحظ في عرض فكرة واضحة عن مكانة العرف وأدواره المختلفة في الفقه الإسلامي. وبما أننا بينَّا مكانة مفهوم العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي ومختلف أدوار العرف في الباب الأول من هذا البحث سنكتفي بتحليل عناصر هذه النظرية وبتقييم عام للعرف في هذا الباب. 2- العادة والعرف في اللغة والاصطلاح: 2-1- العادة لغة واصطلاحًا: العادة في اللغة اسم من أصل العود ويفيد تكرير الفعل والانفعال والمعاودة عليه –دون بذل جهد خاص – حتى يصير تعاطيه سهلًا كالطبع، ولذلك قيل: " إن العادة طبيعة ثانية (1) . أما في الاصطلاح فقد عرفها ابن أمير الحاج بأنها " الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية " (2) فهذا التعريف يعطي مفهومًا شاملًا واسع الحدود للعادة في الاصطلاح، لأن لفظ " الأمر " هنا يشمل كل حادث يتكرر ولبيان هذا الشمول يمكن الإشارة إلى الحالات التالية كما ورد في كتابي كل من الشيخ أبي سنة والشيخ الزرقاء (3) .   (1) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، القاهرة 1366هـ - 1369 هـ، مادة: العود ": 4 /182؛ الأصبهاني، المفردات في غريب القرآن، مصر، 1324هـ، نفس المادة ص 358؛ ابن منظور لسان العرب، بيروت، 1955م – 1956م، 3 /315- 323 (2) ابن أمير الحاج، التقرير والتحبير شرح التحرير لابن همام، بولاق، 1316هـ - 1337 هـ، 1 /282. (3) أبو سنة، العرف والعادة: ص 10-11، الزرقاء، المدخل الفقهي، دمشق، 1968م، 2 /839- 840 تجب الإشارة إلى أن إحالاتنا على كتاب الزرقاء في هذا الباب من بحثنا ستكون على أساس الطبعة المذكورة هنا وذلك خلافًا لما جرينا عليه في الباب الأول، انظر: الهامش رقم 14 من الباب الأول لهذا البحث) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2736 (أ) ما يعتاده الفرد من الناس في شؤونه الخاصة: كعادته في نومه وأكله وحديثه. (ب) ما يعتاده الجماعات والجماهير، مما ينشأ في الأصل عن اتجاه عقلي وتفكيره حسنًا كان أم قبيحًا. ويمكن قبول هذا النوع من العادة مرادفًا للعرف الذي سيأتي بيانه. (ج) كل حالة متكررة – بصفة عامة – سواء أكانت: أ- ناشئة عن سبب طبيعي، كإسراع بلوغ الأشخاص ونضج الثمار في الأقاليم الحارة وإبطائه في الباردة، وكثرة الأمطار في بعض الأقاليم صيفا، وفي بعضها شتاءً بحسب الموقع الجغرافي والعوامل الطبيعية. ب- أو ناشئة الأهواء والشهوات وفساد الأخلاق، كالتقاعس عن فعل الخيرات، وتفشي الكذب والفسق والظلم. ج- أو ناشئة عن حادث خاص، كالتغير في اللغة الناشئ من اختلاط الأقوام بعضهم مع البعض. كما يلاحظ فإن تعريف ابن أمير الحاج يهدف إلى أن يتناول في شموله جميع الحالات المتكررة سواء أكانت متعلقة بالإنسان أم لا، وسواء أكانت ناشئة عن اتجاه عقلي وتفكير أم لا ونشاهد أن الشاطبي أيضا يسلك نفس الطريقة في فهم اصطلاح العادة وأنه يقسم العادات إلى أقسام عدة باعتبارات مختلفة (1) أما السيد الشريف الجرجاني فهو يقصر معنى العادة على الحالات التي يشكل موضوعها سلوك الإنسان والتي تستند أصلًا إلى المحاكمة العقلية فيعرفها بقوله: " ما استمر الناس عليه على حكم المعقول – في مكان آخر العقول – وعادوا إليه مرة بعد أخرى (2) إلا أن المفهوم الأول للعادة يعكس بصورة أنسب استعمالها) وكذلك استعمال العرف في كثير من الأحيان على أن يكون مرادفًا للعادة في كتب أصول الفقه (3) ، وإن كان المفهوم الثاني للعادة يمتاز بخاصية تناوله لها كقاعدة من قواعد السلوك الاجتماعي.   (1) الشاطبي، الموافقات: 2 /279 وما بعدها. (2) الجرجاني (سيد شريف) ، التعريفات مع المتممات، استانبول 1275هـ، ص 60 (3) انظر: الهامش رقم 18 من الباب الأول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2737 2-2- العرف لغة واصطلاحًا: يطلق العرف لغة على الشيء المعروف المألوف المستحسن، وهناك معانٍ كثيرة للعرف منها: ضد النكر (كل ما تعرفه النفس من الخير وتأنس به وتطمئن إليه) ، كل عالٍ مرتفع (ومن ثم أطلقوا على أوائل الرياح وأعاليها " أعرافًا ") ، الجود، شعر عنق الفرس، عرف الديك، موج البحر، اسم من الاعتراف (يقال: له علي ألف عرفًا أي اعترافًا) يفيد لفظ العرف التتابع أيضا، يقال مثلًا: طار القطا عرفًا أي طار بعضها خلف بعض (1) . أما في اصطلاح الفقهاء فالأمر الملاحظ في هذا الموضوع هو أنهم استعملوا العرف على مدى عصور طويلة دون تحديد مفهومه بتعريف اصطلاحي وأن أول تعريف للعرف، والعادة أمكن التوصل إليه في أدب الفقه الإسلامي هو ما جاء في كتاب المستصفى المتعلق بفروع الفقه للفقيه الحنفي أبي بركات حافظ الدين النسفي (م 710 /1310) ، وذلك على خلاف ما ذكره عدد كبير من الباحثين الأجلاء أمثال المرحوم الشيخ أبي زهرة، والأساتذة محمد سلام مدكور – رحمه الله – ومصطفى أحمد الزرقاء، وعبد العزيز الخياط ووهبة الزحيلي – حفظهم الله – من أن هذا التعريف مقتبس من كتاب المستصفى، للغزالي كما أشرنا إلى ذلك في الباب الأول (2) ، فالتعريف الذي أتى به النسفي للعرف ونقله عنه الكثيرون كما يلي: " ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول " (3) ويعثر على نفس التعريف تقريبا عند الجرجاني إذ يقول: " العرف ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطبائع بالقبول " (4) هناك ملاحظات حول هذا التعريف مثل كونه ناقصًا لأنه يرد العرف إلى قبول الطباع ويعتمد على شهادة العقول بينما لا يمكن أن يعد كل ما قبلته الطباع عرفًا كما يحتاج إلى جهة تمييز بين السليم منها وغير السليم (5) ولهذا يجب أن يزاد في التعريف عنصر جوهري وهو عدم مخالفته للنص الشرعي (6) .   (1) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة " العرف "، 4 /281؛ ابن منظور، لسان العرب، نفس المادة: 9 /237- 241؛ الفيروز آبادى، القاموس المحيط، نفس المادة:3 /173، 174 (2) انظر الهوامش: رقم 13، 14، 15، 16 من الباب الأول، انظر أيضًا: الزحيلي (وهبة) ، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي، دمشق، 1981م – 1982م الجزء الأول (المصادر الاجتهادية) ، ص 379 (3) اعتمدنا في بحثنا هذا على تثبيت لأبي سنة من أن أول تعريف وصل إلينا للعرف هو للنسفي، وبنينا تقويماتنا للموضوع على هذا الأساس، علمًا بأننا أشرنا إلى وجود بعض التوضيحات للعرف وتعريف له قريب من تعريف النسفي، في كتب الأقدمين انظر: الباب الأول، الهامش رقم 18. (4) الجرجاني، التعريفات، ص 60. (5) انظر مع الرد عليها: أبو سنه، العرف والعادة: ص 8، 9. (6) الجيدي، العرف والعمل: ص 33، 34. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2738 ولم يجد الأستاذ الزرقاء هذا التعريف وكذلك التعاريف الأخرى المأثورة واضحة ولا وافية (1) ، وقال إنه يحتاج إلى شرح طويل، ثم وضع تعريفا جديدًا مصرحًا بأنه مستوحى من التعريف والشرائط التي ذكرها الفقهاء والأصوليون وهو: " عادة جمهور قوم في قول أو فعل " وفي صدد التوضيحات التحليلية لهذا التعريف يبين أن العرف نوع من العادة وأن تحقق العرف يعتمد على نصاب عددي من الناس لا بد منه (محتزرًا عن العادة الفردية أو العادة المشتركة – وهي التي تساوي معتادوها وغيرهم عددًا -) وأن العرف ينقسم إلى لفظي وعملي وأن العادة لا تسمى عرفًا إلا في الأمور المنبعثة عن التفكير والاختبار لأن عادة الجماعة من الناس في قول أو فعل لا تكون إلا عن عقل واختيار وإلا كانت حادثًا طبيعيًّا مثل إسراع بلوغ الأشخاص في الأقاليم الحارة وبطئه في الأقاليم الباردة (2) . إلا أننا نلاحظ أن تعريف النسفي أفضل من ناحية تحديد معنى العرف حيث يتضمن كلًّا من الركنين المادي والمعنوي – كما سنرى ذلك في أركان العرف -. 2-3- النسبة بين العادة والعرف: كما أشرنا آنفًا يرى الأستاذ الزرقاء أن العادة أعم من العرف لأنها تشمل العادة الناشئة عن عامل طبيعي، والعادة الفردية، وعادة الجمهور التي هي العرف؛ فتكون النسبة بين العادة والعرف – في نظره – هي العموم والخصوص (3) ويوافق هذا الرأي آراء عدد كبير من الفقهاء أمثال القرافي (664 / 1284) (4) ، وابن فرحون (799 /1397) (5) ، والطرابلسي (841 /1473) (6) ، وابن أمير الحاج (879 /1474) (7) في هذه المسألة. ومن جهة أخرى ذهب بعض العلماء أمثال فخر الإسلام البزدوي (482 /1089) ، وابن الهمام (861 /1457) (8) ، وكامل ميراث (9) إلى أن النسبة بين العادة والعرف هي العموم والخصوص المطلق ولكن العرف هو الأعم على خلاف الرأي الأول. هناك رأي آخر يقول: إن العادة تختص بالأفعال والعرف بالأقوال (10) ، إلا أن كلًّا من لفظي العرف والعادة يستعمل أحدهما بدلًا من الآخر في غالب الأحيان أي أنهما بمعنى واحد دون تفرقة بينهما (11) . مع أنه يمكن الذهاب إلى تفريق بين هذين اللفظين، انطلاقًا من معانيهما اللغوية مثل القول بأن العرف يسوده طابع العلم والمعرفة والفهم، وبأن العادة تسودها أوصاف العمل والحركة والحادثة (12) ، ومثل القول بأن العرف يعكس " الشعور المشترك للمجتمع "، فإن شيوع استعمال أحدهما مكان الآخر يستسيغ اعتبارهما مفهومين مترادفين (13) .   (1) الزرقاء، المدخل الفقهي: 1 /131 هامش رقم 1. (2) المرجع نفسه: 2 /840- 843. (3) الزرقاء، المرجع نفسه: 2 /843، 844. (4) القرافي، شرح تنقيح الفصول في الأصول، مصر، 1306هـ، ص 200. (5) ابن فرحون، تبصرة الحكام: 2 /57. (6) الطرابلسي، معين الحكام: ص 125. (7) ابن أمير الحاج، التقرير والتحبير: 1 /282. (8) أبو سنة، العرف والعادة: ص 11، 13. (9) ترجمة تجريد الصريح: MIRAS (Kamil) , Sahih- I Fuhari Muhtasari Tercrid – I Sarih Tercumesi، Ankara، 1956, 5/117 N1 (10) الزبيدي (السيد محمد مرتضى) ، تاج العروس، مصر، 1306 هـ، 2 /439، نقلًا عن صاحب: التلويح " (11) رشيد باشا، روح المجلة: 1 /118؛ أبو زهرة، مالك: ص 420 وأبو حنيفة ص 350 هامش 1. (12) (فلسفة التشريع الإسلامي / مقدمة على ترجمة أصول الفقه لخلاف) ATAY (Huseyin) ، Iislam Hukukunaa orf، Izmir, p 106- 107 (محمد شنار، العرف في الفقه الإسلامي) (13) LEVY (Reuben) ، The Social Structure of Idlam, Cambridge، 1957, p248, ,N1. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2739 وخلاصة القول، فإن لفظي العرف والعادة ثم استعمالها في أدب الفقه الإسلامي كمفهومين لم تعين بشكل واضح وجلي حدودهما في ميدان التشريع ومترادفين غالبًا كما أشرنا إلى ذلك في الباب الأول وسنعود إلى تحليل وتقويم الموضوع فيما بعد. هذا وقد ورد استعمال لفظي " السنة " و" الشرعة " في معنى العادة في صدر الإسلام (1) . أما فقهاء القانون بين " العرف " الذي يلعب دور مصدر من مصادر الحقوق مباشرة أي دور القاعدة القانونية وبين " العادة " التي لم تصل في إلزاميتها إلى درجة العرف (العادة الاتفاقية (usage conventionnel) بفروق، منها: (أ) أن العرف يلزم الطرفين ولو كانا يجهلانه بخلاف العادة فإنها لا تلزمها إلا إذا قصدا الإحالة عليها صراحة أو دلالة. (ب) من يريد التمسك بالعادة فعليه أن يثبتها، أما العرف فلا محل لإثباته لأن معرفة العرف كمعرفة القانون المفروض من مهمة الحاكم. (ج) للحكام أن يراعي العرف رأسًا، بخلاف العادة فإنه يجب على صاحب القضية أن يتمسك بها. (د) أن العرف يجب على الحاكم مراعاته حتما، وإلا تعرض حكمه لرقابة من طرف سلطة أعلى منه، بخلاف العادة التي لا تخرج عن أن تكون واقعة يكيف الحاكم معها، ولا تثير لديه أكبر اهتمام (2) . إلا أننا لا نتناول العرف في بحثنا هذا كقاعدة قانونية فحسب، وإنما نتطرق إلى العرف والعادة من حيث مكانتها في أدب الفقه الإسلامي دون تفريق بينها باعتبار المضمون مبدئيًّا كما أشرنا إلى ذلك في الباب الأول أيضا (القسم الأخير من 1-2) .   (1) العيني (بدر الدين) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، مصر ,1348هـ: 12/16SCHACHT (joseph) ، ‘Sharia “، Encyclopedie De L Islam، Leyde (hollande) ، 1934، IV/335. (2) انظر المراجع المذكورة في الهامش رقم 1، من الباب الأول وأيضًا الجيدي، العرف والعمل، ص 38. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2740 3- أنواع العرف والعادة: يمكن تقسيم العرف إلى عدة أقسام باعتبارات مختلفة هذه هي أهم تلك التقاسيم: 1- من حيث اعتباره الشرعي وعدم اعتباره: (أ) العرف الصحيح. (ب) العرف الفاسد. 2- من حيث المحيط الذي فشا فيه: (أ) العرف العام. (ب) العرف الخاص. 3- من حيث ماهيته: (أ) العرف اللفظي. (ب) العرف العملي. وقبل الشروع في بيان أنواع العرف يجدر بنا أن نشير إلى أن العرف يشمل المواقف السلبية، كما يشمل المواقف الإيجابية ويمكن أن نعطي مثالًا للمواقف السلبية عرف الناس في تسامحهم فيما يقع خارج البساتين مثلًا من ثمار الأغصان التي تتدلى خارج حدودها، فيجوز التقاطها دون إذن مالكها ولا يعتبر ذلك افتئاتًا على مبدأ حرمة الأموال (1) . 3-1- أنواع العرف من حيث اعتباره الشرعي: 3-1-1- العرف الصحيح: العرف الصحيح هو العرف الذي لا يكون فيه تعطيل لنص ثابت أو لأصل قطعي في الشريعة، فهذا النوع معتبر في نظر الشرع وله سلطان محترم. 3-1-2- العرف الفاسد: العرف الفاسد هو العرف الذي يكون فيه تعطيل لنص ثابت أو لأصل قطعي في الشريعة فإن كان العرف مناقضًا لما جاءت به الشريعة من أصول ومبادئ ولأحكامها الثابتة التي لا تتغير لم يكن عندئذٍ له اعتبار شرعي لأن نص الشارع مقدم على العرف (2) . إلا أن أحوال تعارض العرف مع الأدلة الأخرى تختلف، ولا يترتب على العرف أحيانا التعطيل المذكور بل يكون العرف مما يمكن تنزيل النص الشرعي عليه أو التوفيق بينهما، فللتمييز بين حالة وحالة يجب النظر التفصيلي الذي تختلف فيه النتائج بحسب موقف العرف من الأدلة الأخرى وسنعود إلى هذا الموضوع تحت عنوان " شروط اعتبار العرف " وسنحيل القارئ على ما ورد من بيان وتفصيل لبعض المسائل في الباب الأول.   (1) رشيد باشا، روح المجلة: 1 /126؛ الدريني، المناهج الأصولية: ص 579، 580 هامش 1. (2) السرخسي، المبسوط: 12 /196؛ النسفي، المستصفى، مخطوط، ق 215 /ب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2741 3-2- أنواع العرف من حيث المحيط الذي فشا فيه: 3-2-1- العرف العام: هو ما تعارفه عامة أهل البلاد سواء كان قديمًا أو حديثًا أي سواء كان في عهد الرسالة وعهود الاجتهاد أو في عهود التقليد (1) ، وينتظم هذا النوع كثيرًا من الظواهر الاجتماعية الفاشية في جميع البلاد بين جميع الناس مما لها مساس بالأحكام الفقهية فعلى سبيل المثال يمكن ذكر عقد الاستصناع وبيع المعاطاة، وتأجيل جانب من مهور النساء. والدور المعترف به للعرف العام يتمثل في عبارة الفقهاء التالية: العرف العام يثبت به الحكم العام (2) 3-2-2- العرف الخاص: هو الذي لا يكون فاشيًّا في جميع البلاد بين جميع الناس بل يكون مخصوصًا بقطر أو مكان دون آخر، أو بفئة من الناس دون أخرى، فأشكال وبيئات هذا النوع كثيرة لا تحصى، لأنه التعامل الجاري بين أرباب حرفة معينة أو صنعة معينة على أن يكون مصطلحات هذه الفئة أو ذلك الفن داخلة فيه يعتبر كلها من قبيل العرف الخاص مثل عرف التجار فيما يعد عيبًا، وما لا يعد كذلك والألفاظ التي اصطلح عليها المحامون أو أصحاب حرفة الخياطة وتعارف أهل بلد معين بالنسبة لألفاظ الوقف والوصايا والأيمان. أما دور العرف الخاص فيتجلى في إفادة الحكم بين متعارفيه فقط لا بين عامة أهل البلاد فبعبارة الفقهاء: العرف الخاص يثبت به الحكم الخاص (3) . وتجدر الإشارة هنا إلى أن الألفاظ التي تم استعمالها من طرف الشارع في معانٍ خاصة نحو الصلاة والزكاة أيضًا من قبيل العرف الخاص مثل مصطلحات أهل حرفة معينة. وكلتا الفئتين تدخلان في نوع العرف اللفظي باعتبار الماهية كما سنرى قريبًا ولكن الفقهاء لا يزالون يعتادون إطلاق اسم " العرف الشرعي " على تلك الألفاظ بناء على شرفها وأهميتها (4) ورغم ما قد يكون هناك من حسن التنويه به إلا أن هذا لا يكون مسوغًا لإضافة هذا القسم نوعًا مستقلًا (5) . 3-3 أنواع العرف من حيث ماهيته: 3-3-1- العرف اللفظي أو القولي: هو ما تعارف عليه الناس في بعض ألفاظهم أو تراكيبهم في معنى معين غير المعنى الموضوع لها لغة بحيث يصبح ذاك المعنى هو المفهوم المتبادر منها إلى أذهانهم عند الإطلاق بلا قرينة ولا علاقة عقلية كتعارفهم إطلاق لفظ " الولد " على الذكر دون الأنثى وإطلاق لفظ "الدراهم " على النقود الرائجة في البلد مهما كان نوعها وقيمتها حتى الورق النقدي في يومنا مع أن الدراهم في الأصل نقد فضي مسكوك بوزن معين وقيمة محددة، وإطلاق لفظ " البيت" على الغرفة في بعض البلدان وعلى الدار بجملتها في البعض الآخر.   (1) أبو سنة، العرف والعادة: ص 19 (2) ابن عابدين، نشر العرف (في مجموعة الرسائل) : 2 /132؛ علي حيدر، درر الحكام: 1 /94. (3) الحموي، غمز عيون البصائر: 1 /134؛ علي حيدر، درر الحكام: 1 /94. (4) رشيد باشا، روح المجلة: 1 /119؛ الدريني، علي حيدر، المرجع السابق: 1 /94 (5) الخياط، نظرية العرف، ص 34. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2742 والذي يجب التنبه إليه هنا هو أنه إذا احتاج فهم المعنى المقصود إلى قرينة أو علاقة عقلية لم يكن ذلك عرفًا بل هو من قبيل المجاز (1) وكثيرًا ما يكون أصل الألفاظ العرفية مجازات لغوية لا يفهم منها المراد إلا بقرينة ثم يتكرر استعمالها فتصير مجازات مشهورة، ثم يزداد شيوع الاستعمال حتى يفهم منها المراد من غير قرينة، وتهجر معانيها الأصلية حتى لا تفهم منها إلا بالقرينة، عندئذٍ ينعكس الأمر: فما كان مجازًا لغويًّا يصبح حقيقة عرفية وما كان حقيقة لغوية يصبح مجازًا عرفيًّا (2) . ومع أن الأستاذ أبا سنة يرى إمكانية استخراج نوع آخر للعرف من عبارات الفقهاء ويقسم العرف إلى " مقرر للمعنى اللغوي "، و" قاض عليه:، فإنه يبدو لنا أن اعتباره في إطار العرف اللفظي يكون أنسب وأفضل لأن المقرر ما طابق معناه المعنى اللغوي، والقاضي ما غيره بتخصيص أو تقييد أو إبطال (3) ، وهذا كما هو بين لا يتجاوز نطاق العرف اللفظي. وهذا النوع من العرف له أدوار مختلفة، منها " دوره في الاجتهاد البياني / التفسير اللفظي (تخصيص العام وتقييد المطلق) ودوره في تطبيق القانون / في حالات وجود سلطة التقدير للحاكم / وفي تفسير التصرفات القانونية، كما بيناها في الباب الأول (2-1-1؛ 2-2-2؛ 2-2-3) (4) ، والجدير بالإضافة هنا هو دور هذا النوع من العرف في تعيين الأحكام الشرعية التي تترتب على أقوال المكلفين، وبخاصة في مباحث اليمين، وألفاظ الطلاق، فهذا الدور تتجلى أهميته في أمور الفتوى خاصة. 3-3-2- العرف العملي أو الفعلي: هو ما اعتاده الناس من أعمال ما يتعلق بشئون حياتهم وتبادل مصالحهم وتصرفاتهم فمن أمثلة العرف في الأفعال العادية مما لا يقوم على تبادل المصالح وإنشاء الحقوق: اعتياد الناس في بعض الأماكن أكل نوع خاص من اللحوم كالضأن والبقر، أو استعمال نوع من الملابس والأدوات ونحو ذلك ومن أمثلته في المعاملات المدنية أي في التصرفات التي يقصد منها إنشاء الحقوق بين الناس أو تصفيتها أو إسقاطها سواء أكانت تلك التصرفات عقودًا أم غيرها: اعتياد الناس في اكتفائهم أو عدم اكتفائهم برؤية البيت من الخارج (في موضوع خيار الرؤية) (5) ، وتعاملهم في وقف الأشياء المنقولة (6) ، وتعارفهم على أن وضع اليد الطويلة على عقار دون سند شرعي أو ولاية دليل الملك (مسألة الحيازة) (7) واعتيادهم في بيع بعض الأشياء الثقيلة مثل الحطب والفحم أن تكون على البائع حمولتها إلى بيت المشتري (8) .   (1) القرافي، الفروق، الفرق: 28، 1 /171؛ الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /845 مع أمثلة " القرينة " و " العلاقة العقلية ". (2) انظر: القرافي، الفروق، الفرق:133، 3 /85؛ الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /834، 835 مع الأمثلة (3) أبو سنة: العرف والعادة، ص20 ,21 (4) انظر أيضا: القرافي، الفروق، الفرق: 2، 1 /39 فما بعدها، والفرق: 28، 1 /171- 178. (5) النسفي، المستصفى، مخطوط، ق 208 / ب، انظر لأمثلة أخرى: 200/ب، 201 / أ، 230 / ب، 259 / أويقول النسفي كقاعدة: " ويحمل العقد على ما هو المعتاد " 234/ ب. (6) السرخسي، المبسوط: 12 /45. (7) الدريني، المناهج الأصولية، ص 759 هامش 1 (8) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /846، 847؛ انظر: لأمثلة عديدة مما يتعلق بدور العرف العملي في تفسير العقود، القرافي، الفروق، الفرق: 199، 3 /283- 288. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2743 وكما يتبين من خلال الأمثلة لكل من الصورتين – (أ) الأفعال العادية؛ (ب) المعاملات المدنية – فإن الصورة الأولى لا تدخل في الحقيقة في إطار القواعد العرفية، بل يكون لها دور في التفسير، وذلك إما في تفسير النصوص وإما في تفسير التعبيرات عن الإرادة (ينظر لأمثلة تصوير هذا الدور، الباب الأول 2-1-1 (أ) . (ب) ؛ 2-2-3) أما الصورة الثانية فهي تلك التي تشكل العمود الفقري في نظرية العرف التي تهدف أول ما تهدف إلى تناول العرف كمصدر من مصادر الحقوق وسنقف عند أهمية هذا النوع (العرف العملي) على أن يكون محددًا بالصورة الثانية أثناء تقويمنا العام للعرف وسنحاول القيام بتحليل عدم احتلاله مكانًا خاصًّا بين مصادر التشريع الإسلامي. 4- الأدلة التي يعتمد عليها لإثبات أن العرف والعادة أصل من أصول التشريع الإسلامي: بما أننا سنتعرض لموقف مذاهب الفقه الإسلامي إزاء العرف والعادة أثناء تقويمنا العام للعرف، نكتفي هنا بذكر الأدلة الخاصة التي اعتمد عليها بعض العلماء لإثبات حجية العرف، وكذلك الأدلة العامة التي يمكن التعويل عليها في هذا الصدد. 4-1- الأدلة الخاصة: 4-1-1 الكتاب: ورد في القرآن الكريم لفظ العرف مرتين: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (1) , {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} (2) .   (1) [سورة الأعراف: الآية 199] . (2) [سورة المرسلات: الآية 1] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2744 ذكر فريق من الفقهاء الآية الأولى حين استنادهم إلى العرف والعادة في بعض المسائل الفرعية وعلى رأسهم القرافي وابن قيم الجوزية والطرابلسي (1) . ومع أن هناك أقوالًا كثيرة حول المراد بالعرف في الآية مثل: - أن المقصود منه شرائع الأنبياء السابقين ما لم يحدث إليه نسخًا. - أن المراد منه العوائد الجارية في الأمصار الجامعة ما لم يخالف قاطعًا محكمًا. - إن الآية نزلت في أخلاق الناس. - أنه يعبر عن الفضائل الإنسانية (2) . فإن آراء أغلبية العلماء تنصب على أن الآية لا تدل على حجية العرف بالذات بل المقصود هنا هو المعروف، وأما المعروف فهو اسم جامع لكل ما هو من الدين سواء عرف حسنه بالعقل أو لم يعرف الأمن الشرع (3) . ونرى لزامًا علينا أن نشير إلى أن الدكتور الجيدي لم يلتزم المبدأ الذي حث الباحثين على التزامه – وهو مبدأ الاهتمام البالغ في نسبة القول إلى صاحبه ولو أدى ذلك إلى الإفراط في جلب النصوص (4) حيث قال: " وقد بنى (يعني القرافي) استدلاله هذا على أن المراد بالعرف في الآية عادات الناس وما جرى تعاملهم به، فحيث أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالأمر، دل على اعتباره في الشرع، وإلا لما كان للأمر به فائدة " (5) ، بيد أن هذا التعليق على الاستدلال القرافي يمكن اعتباره من قبيل حمل ما لم يقل به عليه، لأن القرافي لا يقول في هذا المضمار إلا الكلام التالي (بعد ذكر الآية) : " فكل ما شهد به العادة قضى به لظاهر هذه الآية إلا أن يكون هناك بينة " (6) والنقطة الهامة هنا هي أن القرافي لا يستند إلى هذه الآية إلا في مقام الاستفادة من العادة كوسيلة لإثبات واقعة مادية لا في مقام الاعتماد عليه كمصدر للتشريع بينما الدكتور الجيدي يتمسك بهذا الدليل في الباب الذي عنونه " العرف كمصدر للتشريع " والحقيقة أن التعليق المذكور عبارة عما ورد في كتاب الأستاذ أبي سنة من بيان حول الاستدلال بالآية المذكورة حيث يقول – بعد ذكر عبارات كل من ابن عابدين والقرافي والطرابلسي -: " أقول " وهذا الاستدلال مبني على أن المراد ... " دون أن ينسب تفسيره الشخصي إلى أحد (7) .   (1) القرافي، الفروق، الفرق: 160، 3 /149؛ ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق: محمد حامد الفقي، بيروت، 1953م، ص 97؛ طرابلسي، معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، بولاق، 1300 هـ، ص 125. (2) انظر لأصحاب الآراء ومصادرها: الجيدي، العرف والعمل، ص 54. (3) انظر: الجصاص، أحكام القرآن: 3 /37؛ ابن الأثير النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي – محمود محمد الطناحي، مصر، 1963/، 3 /216؛ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم،مصر، 1300هـ، ث / 280، 281، صديق حسن خان، فتح البيان في مقاصد القرآن، بولاق، 1300 هـ - 1301هـ، 3 /433؛ مناقشة الموضوع بصورة واسعة: أبو سنة، العرف والعادة: ص 24، 25. (4) الجيدي، العرف والعمل: ص 521. (5) نفس الكتاب ص 53. (6) القرافي، الفروق: 3 /149. (7) أبو سنة، العرف والعادة، ص 23 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2745 ونجد في كتاب الأستاذ الزرقاء تقويمًا قيمًا في مسألة الاستدلال بهذه الآية على العرف حيث يقول: " ولا يخفى أن العرف في هذه الآية واقع على معناه اللغوي وهو الأمر المستحسن المألوف، لا على معناه الاصطلاحي الفقهي ولكن توجيه هذا الاستدلال هو أن العرف في الآية وإن لم يكن مرادًا به المعنى الاصطلاحي، قد يستأنس به في تأييد اعتبار العرف بمعناه الاصطلاحي، لأن عرف الناس في أعمالهم ومعاملاتهم هو ما استحسنوه وألفته عقولهم والغالب أن عرف القوم دليل على حاجتهم إلى الأمر المتعارف فاعتباره يكون من الأمور المستحسنة (1) . أما الآية الثانية التي تضم لفظ العرف فلا يعول عليها في صدر الاستدلال بحجية العرف (2) وإن كان هناك من يسعى إلى البحث عن علاقة الآية بالعرف انطلاقًا من معنى المعروف (3) . وإلى جانب هذا اللفظ ذكر في القرآن الكريم لفظ " المعروف " ثمان وثلاثين مرة (4) ومع أن المعروف يفيد معنى " العرف، فإن استعماله في القرآن الكريم في أغلب الأحيان ورد في المعنى اللغوي وهو – كما سبق – اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس (5) في معنى " النصفة " (6) ، ففي هذه الحالة يكون للعرف دور مساعد لتعيين ما هو موافق للنصفة كما بينا ذلك في الباب الأول (2-2-2، انظر أيضًا: الهامش رقم 76) . 4-1-2 - السنة النبوية: استدل عدد من العلماء ممن يستند إلى العرف والعادة أثناء استخراج أو بيان بعض الأحكام الفرعية استدلوا بالحديث الآتي على حجية العرف: " ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن " فهذا الحديث الذي اعتمد عليه العلماء الأحناف وغيرهم لإثبات حجية العرف (7) ، لم يسلم من المناقشة سواء من ناحية رفعه أو من ناحية دلالته على المطلوب.   (1) الزرقاء، المدخل الفقهي: 1 /133. (2) الأصبهاني، المفردات: 335؛ ابن منظور، لسان العرب: 9 /239 (3) " والمرسلات عرفا": يعني الملائكة أرسلوا للمعروف والإحسان والعرف ضد النكر، وقيل: أراد أنها أرسلت متتابعة كعرف الفرس ابن الأثير، النهاية: 3 /217؛ الآلوسي، روح المعاني، بولاق 1301هـ، 9 /257. (4) عبد الباقي (محمد فؤاد) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، مادة " عرف " (سوى " معروفة ") . (5) ابن الأثير، النهاية: 3 /216؛ ابن منظور، لسان العرب: 9 /239، 240. (6) نفس المصدرين السابقين (7) السرخسي، المبسوط: 12 /45؛ النسفي، المستصصفى، مخطوط، ق 235/ ب؛ ابن الهمام، فتح القدير: 7 /157؛ ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية: ص 97؛ السيوطي، الأشباه والنظائر، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، بيروت، 1987م؛ ابن نجيم، الأشباه والنظائر: 1 /127. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2746 أما من حيث رفعه فقد " قال العلائي: لم أجده مرفوعًا في شيء من كتب الحديث أصلًا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا عليه أخرجه الإمام أحمد في مسنده " (1) وإلى نفس النتيجة توصل علماء آخرون أمثال السخاوي والزيلعي (2) ، على أن السرخسي ذكر هذا الحديث أثناء تناوله لأدلة حجية الإجماع من السنة بشكل يعطي انطباعًا أنه يعتبره حديثًا مرفوعًا (3) ، وحتى أن الشيخ المرحوم أبا زهرة صرح بأنه روي مرفوعًا (4) . ويرى الأستاذ الزرقاء أن القاعدة التي تقضي بأن الخبر الموقوف إذا تضمن معنى تشريعيًّا يعتبر كالخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم يرى أن هذه القاعدة تزيل نقطة الطعن لهذا الحديث من ناحية الرفع (5) إلا أن الشيخ أبا سنة يقول ردًّا على مثل هذه الفكرة بالنسبة إلى هذا الحديث، " ولكنا نقول في الجواب عنه: إنه على فرض أنه في حكم المرفوع فإن دلالته على المطلوب لم تتم كما يأتي (6) . ومن جهة أخرى، لا يعد الغزالي هذا الحديث صالحًا لإثبات أصل من الأصول نظرًا لكونه من أخبار الآحاد (7) . وهنا نود الإشارة إلى دليل آخر من السنة يستدل به الدكتور عبد القادر شنار على حجية العرف في الفقه الإسلامي، كما ورد في كلامه: " أن الفقهاء المسلمين لا يزالون يعتبرون العرف سواء كان عرف العرب أو أعراف وعادات البلدان المفتوحة من لدن عهد الصحابة عملًا بالحديث النبوي الذي جاء فيه: يعمل في الإسلام بفضائل الجاهلية " ونعتقد أن المؤلف يناقض نفسه بنفسه لأنه يقول في الهامش: " لم يكن لنا العثور على هذا الحديث في المصادر التي في متناول يدنا مع أن الدكتور محمد حميد الله يذكره مرات عديدة " (8) ولو كان الفقهاء يعتبرون هذا الحديث في مشروعية العرف لذكروه في المصادر وطالما لم يذكر فيها فلا يمكن إيضاح حجية العرف به عند الفقهاء وبالإضافة إلى ذلك إننا إذا نظرنا إلى مسند أحمد بن حنبل الذي يعتمد عليه الدكتور محمد حميد الله في نقله هذا الحديث نجد فيه – كما أشار إليه الدكتور شنار أيضًا – بعض الروايات المشتملة على عبارات التقدير والإقرار من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب سائب بن عبد الله شريكه في عهد الجاهلية وذلك يوم فتح مكة إذن، فلا ينبغي حمل بعض المزايا والمحاسن الخلقية التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، على العرف والعادة مباشرة ويؤكد ذلك ما ورد في الحديث: ((مرحبا يا أخي وشريكي كان لا يدارى ولا يمارى يا سائب قد كنت تعمل أعمالًا في الجاهلية لا تقبل منك وهي اليوم تقبل منك وكان ذا سلف وصلة)) (9) .   (1) ابن عابدين، نشر العرف: 2 /115؛ " ... فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رأوه سيئا فهو عند الله سيئ " أحمد بن حنبل، المسند مصر، 1313 هـ، 1 /379. (2) الزيلعي، نصب الراية: 4 /133، 134؛ ابن نجيم، الأشباه والنظائر: 1 /126 (3) السرخسي، الأصول: 1 /299. (4) أبو زهرة، أبو حنيفة، ص 351 هامش 1. (5) الزرقاء، المدخل الفقهي: 1 /134 هامش 1. (6) أبو سنة، العرف والعادة: ص 25. (7) الغزالي، المستصفى: 1 /278 يجب الانتباه هنا إلى أن الغزالي لم يذكر هذا الحديث بصدد " العرف " وإنما عند تناول دليل " الاستحسان ". (8) (القياس والاستحسان والاستصلاح) : SEKER (Abulkadir) ، Kiyas-Istislah، ve Istislah، Ankara, 1974,p44. (9) أحمد بن حنبل، المسند: 33 /425. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2747 هناك حديث آخر اعتاد المؤلفون الإشارة لإثبات حجية العرف وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم لهند زوجة أبي سفيان التي اشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخل زوجها وسألته عن حكم أخذها من مال زوجها خفية، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) (1) إلا أنه بدل أن يفسر لفظ " المعروف " هنا وفي الأماكن مثله بأنه العرف والعادة مباشرة، ينبغي المصير إلى فهمه بأنه بمعنى " في إطار الحدود المعقولة والمناسبة " ومن البديهي أن يكون للعرف والعادة دور مساعد في مثل هذه الحالات (2) . والجدير بالذكر أن البخاري خصص بابًا في صحيحه للأمور المتعارفة بين الناس وعنونه " باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن وسنتهم على نيتهم ومذاهبهم المشهورة " (3) ، ويقول العيني في تعليقه على هذا الباب: " حاصل الكلام أن البخاري قصد بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف العادة " (4) . 4-2- الأدلة العامة: إذا محص الباحث النظر في مبادئ التشريع الإسلامي ومسيرة تطوره في وضع أحكامه يستطيع أن يقوم بتثبيت مقطعين رئيسيين في موضوع العرف: * المقطع الأول: مراعاة التشريع الإسلامي للعرف والعادة وذلك لأن دراسة استقرائية للمناهج التشريعية التي سلكها الإسلام وموقفه من العرف والعادة في التشريع تمكن الباحث من البت في أن الإسلام راعى أعراف وعادات البيئة التي ظهر فيها وحتى إنه لم يقف عند عدم مجابهة الوقائع الاجتماعية التي لا تتنافى مع مبادئه فحسب، بل أسبغ عليها أيضا الصفة الشرعية كما سبق الإشارة إليه في الباب الأول (انظر: 1-1) ، إلا أن هناك ظاهرة أخرى يمكن أن تؤدي بالباحث إلى تردد في قبول ذلك وهي أن التشريع الإسلامي ألغى كثيرًا من العادات أو عدلها بشكل يتناسب مع مبادئه وهذا الموقف السلبي مع أنه لا يظهر إلا في حالات خاصة من معارضة تلك العادات للمبادئ الإسلامية فثمة دليل أقوى للاقتناع بمراعاة الإسلام للعرف والعادة وهو صلاح الإسلام لكل زمان ومكان، وهذا ما تدل عليه النصوص القطعية منها: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} (5) , {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (6) ومن خلال هذه الخاصية للإسلام نتوصل بالبداهة إلى نتيجة أن الإسلام دين الإنسانية جمعاء مهما اختلفت عاداتها عن بعضها البعض وما من شك في أن البشرية بأسرها لا يمكن توحيدها في نمط واحد من الحياة كما أن الإسلام لا يدعو إلى ذلك ولا يستهدفه فضلًا عن تباينه مع المبادئ الإسلامية السمحة وحيلولته دون التقدم والرقي وبعبارة أخرى، فإن وجود اختلاف في بعض العادات غير المنافية للأسس الإسلامية في الجغرافية الإسلامية نتيجة طبيعية لا يمكن الاحتراز عنها طالما الإسلام يخاطب الناس جميعًا في كل زمان (7) .   (1) العيني، عمدة القاري، مصر، 1348 هـ، 12 /16- 17، الشوكاني، نيل الأوطار، مصر، 1357 هـ، 7 /131؛ أبو زهرة، مالك: ص 421. (2) انظر الباب الأول: 2-2-2 وخاصة الهامش رقم 76. (3) البخاري، الجامع الصحيح، البيوع، ص 95. (4) العيني، عمدة القارى: 12 /16. (5) [سورة سبأ: الآية 28] . (6) [سورة الأحزاب: الآية 40] . (7) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، القاهرة، بدون تاريخ (تاريخ صبح الجزء الثاني 1401 هـ) ، 1 /320؛ المحمصاني، فلسفة التشريع: ص 221. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2748 وهنا نود أن نقتبس باختصار من العلامة الطاهر بن عاشور بعض ما ذكره في هذا الباب بناء على أهميته في تسليط الأضواء على الحقائق الكامنة فيه: " فعموم الشريعة سائر البشر في سائر العصور مما أجمع عليه المسلمون، وقد أجمعوا على أنها مع عمومها صالحة للناس في كل زمان ومكان ولم يبينوا كيفية هذه الصلاحية وهي عندي تحتمل أن تتصور بكيفيتين. الكيفية الأولى: إن هذه الشريعة قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر. الكيفية الثانية: أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلًا للتشكيل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر كما أمكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك من غير أن يجدوا حرجًا ولا عسرًا في الإقلاع عما نزعوه من قديم أحوالهم الباطلة ومن دون أن يلجؤوا إلى الانسلاخ عما اعتادوه وتعارفوه من العوائد المقبولة. فلا يجدر بحال أن يكون معنى صلاحية التشريع للبشر أن الناس يحملون على اتباع أحوال أمة خاصة مثل أحوال العرب في زمان والتشريع ولا على اتباع تفريعات الأحكام وجزئيات الأقضية المراعى فيها صلاح خاص لمن كان التشريع بين ظهرانيهم سواء لاءم ذلك أحوال بقية الأمم والعصور أم لم يلائم فتكون صلاحيتها مشوبة بحرج ومخالفة ما لا يستطيع الناس الانقطاع عنه، ويعلل معنى الصلوحية بأن يعمل الناس بها في كل عصر فلا يهلكوا ولا يعنتوا، إذ لو كان هذا هو معنى صلوحية الشريعة لكل زمان ومكان لما كان هذا من مزايا شريعة الإسلام وخصائصها إذ لا نجد في شريعة من الشرائع المتبعة أحكامًا لو حمل الناس عليها لهلكوا أو صاروا فوضى إذن يكون في مستطاع أهل كل شريعة أن ينتحلوا شريعتهم وصف الدوام. فتعين أن يكون معنى صلوحية شريعة الإسلام لكل زمان أن تكون أحكامها كليات ومعاني مشتملة على حكم ومصالح صالحة لأن تتفرع منها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد، ولذلك كانت أصول التشريع الإسلامي تتجنب التفريع والتحديد " (1) . " قد يستكن في معتقد كثير من العلماء قبل الفحص والتغوص في تصرفات التشريع أن الشريعة إنما جاءت لتغيير أحوال الناس، والتحقيق أن للتشريع مقامين:   (1) الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة، ص 92-93. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2749 المقام الأول: تغيير الأحوال الفاسدة وإعلان فسادها. المقام الثاني: تقرير أحوال صالحة قد اتبعها الناس وهي الأحوال المعبر عنها بالمعروف في قوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} والتقرير لا يحتاج إلى القول فقد علمت أن الاحتياج إلى القول فيه لا يكون إلا عن سبب دعا إلى القول من إبطال وهم أو جواب سؤال، أو تحريض على التناول، وفيما عدا تلك الأسباب ونحوه يعتبر سكوت الشارع تقريرًا لما عليه الناس، فلذلك كانت الإباحة أكثر أحكام الشريعة لأن أنواع متعلقاتها لا تنحصر وقد تواتر هذا المعنى تواترًا من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وتصرفاته. ولا يستثنى من دلالة السكوت على التقرير إلا الأحوال التي دل العقل على إلحاقها بأصول لها حكم غير الإباحة وهي دلالة القياس بمراتبها. وليس مرادنا بالتغيير أحوال العرب خاصة ولا بالتقدير تقرير أحوالهم كذلك بل مرادنا تغيير أحوال البشر وتقرير أحوالهم سواء كانوا العرب أم غيرهم وذلك أن جماعات البشر كانوا غير خالين من أحوال صالحة هي بقايا الشرائع أو النصائح أو اتفاق العقول السليمة " (1) . * المقطع الثاني: عدم إمكانية القول بأن نصوص القرآن والسنة تعترف صراحة بكون العرف مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامي مباشرة والمناقشات التي وردت في هذا المضمار حول الآيات والأحاديث التي يستدل بها على حجية العرف ينبغي مراجعتها للتثبت من ذلك حتى أن هذه المناقشات لم تحظَ باهتمام العلماء إلا في عصور متأخرة وكاد الأصوليون أن لا يولوا أي اهتمام لموضوع العرف بين الأدلة الشرعية (انظر: الباب الأول، 1-2) . ورغم أن هذا المقطع يبدو للوهلة الولى منافيًّا للأول وليس الأمر كذلك بل هو مكمل له لأن الغاية المتوخاة من مراعاة العرف في التشريع الإسلامي ليست إضفاء قدسية للعرف واعتباره مصدرًا يسيطر على قيمة الذاتية وإنما هي قضاء حاجات الناس وتطبيق مبدأ "اليسر". فالإسلام الذي تميز بطابعه الانقلابي (2) وأنه الدين الأخير للبشرية كان عليه أن يتخذ موقفًا سلبيًّا من الأعراف والعادات المتنافية مع ما أشرنا إليه سابقًا من روح تشريعية له ولو اعتبر التشريع الإسلامي العرف مصدرًا تشريعيًّا بصورة مباشرة لأدى ذلك إلى إفساح المجال للطعن فيه بتناقضه الذاتي فمثل هذا الاعتبار في عهد تبليغ النصوص لا يتفق مع الهدف المنشود لها، أما بالنسبة للعهود المتعاقبة فكان من البديهي أن يراعى العرف مثل مراعاته في عهد تبليغ النصوص وفق سير الأحداث ومجراها الطبيعي حيث إن المسلمين مطالبون بحل ما سيستجد لهم من وقائع ومسائل وفق النصوص الشرعية وروحها ومن الملاحظ أن هذه الخاصية للتشريع الإسلامي برزت بشكل واضح في اجتهادات الصحابة رضي الله عنهم ومن سلك طريقهم في فهم النصوص وتقييمها (3) .   (1) نفس المرجع: ص 102- 104. (2) انظر مثلًا: [سورة البقرة: الآية 170] ؛ و [سورة المائدة: الآية 104] ، و [سورة هود: الآية 88] . (3) الدواليبي، المدخل إلى علم أصول الفقه: ص 81، 124، 125. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2750 والواقع أن العرف احتل مكانًا مرموقًا بين اجتهادات الصحابة وتطبيقات الخلفاء الراشدين والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منها أن الخليفة عمر بن الخطاب أمر الموظفين المحليين في إيران بإبقاء القوانين السابقة فيما يخص الموارد الزراعية سارية المفعول دون تغيير يذكر (1) وكذلك أن الخليفة نفسه لجأ إلى مبدأ التعامل بالمثل فيما يتعلق بالمكوس الجمركية التي يتم تحصيلها من التجار الأجانب (2) وجدير بنا أن نشير إلى أننا نجد تصريحًا خاصًّا بوجوب مراعاة العرف في عهد الصحابة رضي الله عنهم، وذلك في القضية التالية المعروضة على القاضي شريح: " أن ناسًا من الغزالين اختصموا إلى شريح في شيء كان بينهم فقالوا: إن سنتنا بيننا كذا وكذا، فقال سنتكم بينكم " (3) . ونعتقد أن عبارة الدكتور زيدان التالية تلقي الأضواء على مسألة دليل العرف حيث يقول: " وأساس اعتبار العرف دلالة القرآن والسنة أما دلالة القرآن فنجدها في قاعدة رفع الحرج عن الناس، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج: الآية 78] ولا شك أن في نزع الناس عما ألفوه بلا مبرر نوعًا من الحرج عليهم، وأما دلالة السنة فتظهر في إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لأعراف الجاهلية الصحيحة " (4) . أما مسألة تأثر الفقه الإسلامي بأحكام نظم الحقوق الأخرى وكذلك علاقة الأحكام التقريرية في الإسلام بشرائع من قبلنا فلا نتطرق إليها لبقائها خارج نطاق موضوعنا أساسًا (5) . ومهما يكن من أمر، فإننا من خلال دراستنا للأدلة العامة نتوصل إلى نتيجة أن العرف يحتل مكانًا مرموقًا في الفقه الإسلامي وفق إرادة الشارع وإن كان الشارع لم يحل عليه بصراحة (6) .   (1) HAMIDULLAH (Muhammed) , “Nouvelle etude des sources du droit musulman”, dans Proceeding of International Congress of Orientalists, Istanbul, 1954.) ترجمته إلى اللغة التركية) : Islam Tetkikleri Enstitasu Dergisi, I, 1954. المترجم: (Bulent DAVRAK) . P64. (2) Turnagil (Ahmed Resid) , Islamiyet ye killetler hukuku Istanbul, 1972, p 124, HAMIDULLAH.) الإسلام والقانون الدولي) ص 64، المقال المذكور. (3) العيني، عمدة القاري: 12 /16. (4) زيدان (عبد الكريم) ، الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، بيروت، 1988 م، ص 25 ويؤيد ذلك ما ورد في استدلالات الفقهاء على أهمية العرف في الشريعة الإسلامية، انظر مثلًا: السرخسي، المبسوط: 12 /46، 197، 13 /14، 15. (5) انظر: أبو سنة، العرف والعادة: ص 82؛ الجيدي، العرف والعمل: ص64 – 67؛ hamidullah، "la philosophie juridique chez les musulmana" p146 hamidullah. Influence of roman law on muslim law" islam Tetkikleri enstitusu dergisi, iv, 1-2 istanbul, 1975. (6) إشارة قسمية إلى نفس الفكرة: SCHACHT (Joseph) , "Sharia ", Encyclopedie de L" Islam, 4 /335 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2751 5- أركان العرف وشروط اعتباره: ليس من البعيد أن تتكون في مجتمع ما أعراف وعادات لا تتفق والنظام الحقوقي السائد في ذلك المجتمع فلهذا ينبغي – في نظرنا – التمييز بين شروط الوجود للعرف أو شروط تحققه وبين شروط اعتباره وإذا اعتبرنا تعريف كل من مفهومي" الركن " و" الشرط " يمكن أن نطلق على الفئة الأولى من الشروط " أركانًا " وعلى الفئة الثانية منها " شروط الصحة " وبما أن القانون يعتبر العرف بصراحة مصدرًا من المصادر الشكلية في الفقه الوضعي في أغلب الأحيان نجد القانونيين ممن يتعرض لموضوع العرف يقفون عند أركان (أو عناصر) العرف بالدرجة الأولى ولا يهتمون بشروط الاعتبار (الصحة) للعرف إلا في الدرجة الثانية أو في إطار دراسة الأركان بينما يلاحظ أن المؤلفين في مجال الفقه الإسلامي يتناولون الأركان وشروط الصحة كلها تحت عناوين مثل " شروط العمل بالعرف " أو "شروط اعتبار العرف " وغيرها والمنهج الصحيح – في رأينا – هو التمييز بين هاتين الفئتين من الشرط. 5-1 أركان العرف: رأينا في ما سبق أن الفقهاء المسلمين لم يتناولوا العرف كقاعدة قانونية وكمصدر من المصادر الشكلية للحقوق وأن تصريحاتهم المتعلقة بالعرف والعادة تشملهما معًا سواء كانا لفظين أو عمليين بينما المؤلفون في مجال القانون يتعرضون للعرف من زاوية أنه مصدر من مصادر الحقوق ولهذا نجدهم يقيدون أنفسهم بنطاق السلوك فقط، ويدرسون عناصر العرف من هذا المنظار أما المؤلفون المعاصرون في مجال الفقه الإسلامي – حين تطرقهم إلى شرائط العرف – فيتقيدون بمسائل العرف العملي تارة، ويخوضون في مسائل العرف القولي أيضًا تارة أخرى ومع ذلك فالملاحظ أن العرف العملي هو السائد في بحوثهم لشرائط العرف. ونحن لا نرى بأسا في تناول أركان العرف وفقًا للتعريف التالي: " العرف هو اعتياد الناس على سلوك معين في ناحية من نواحي حياتهم الاجتماعية بحيث تنشأ منه قاعدة يسود الاعتقاد بأنها ملزمة " (1) واضعين نصب أعيننا أن تعريف النسفي للعرف أيضا يتركز على أساس " السلوك " (2) .   (1) فرج الصدة، أصول القانون: ص 140، 141، 144. (2) مع أن لفظ "ما " يشمل القول والفعل، فإن عناصر التعريف الأخرى تجعله متركزًا على "السلوك"، كما يؤيد هذا المعنى ما ورد في كلام النسفي أثناء ذكره الأصول، إذ يقول: " تعامل الناس "، المستصفى، مخطوط، ق 5/ أ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2752 ويتضح من التعريف السابق أن العرف يقوم على ركنين: ركن مادي، وهو اعتياد الناس على سلوك معين. وركن معنوي، وهو اعتقاد الناس بأن القاعدة التي نشأت من هذا السلوك قاعدة ملزمة. 5-1-1- الركن المادي: الاطراد أو الغلبة (1) : يجب أن يكون العمل بالعرف مستمرًا في جميع الحوادث أو في أكثرها إذا كانت العادة جارية في مكان ما بصفة مستمرة فهذه تسمى مطردة وإذا كانت لا تختلف إلا في حالات نادرة تسمى غالبة (2) لأن ذلك هو أمارة فعلية المبني على الحاجة الماسة إليه، في حل مشكلات الناس وتحقيق مصالحهم، واستقامة أمرهم، الأمر الذي استدعى المجتهد إلى مراعاته (3) . يقول الأستاذ الزرقاء أثناء ذكر شرائط اعتبار العرف: " فاشتراط الاطراد أو الغلبة في العرف معناه اشتراط الأغلبية العملية فيه لأجل اعتباره حاكمًا في الحوادث، أما الأغلبية العددية بمعنى أن يكون العرف جاريًّا بين جميع القوم أو أكثرهم فهي ليست من قبيل الشرائط، بل هو ركن في تكوين لا يتحقق معناه دونها، وهو النصاب العددي الذي تقدم بيانه لتحقق معنى العرف لأن العادة الفردية لا تصبح عرفًا إلا إذا اعتمدها أكثر القوم في بيئتها إذن العرف هو عادة الجمهور " (4) . مع أن هذا التفريق يبدو وجيهًا للوهلة الأولى إلا أننا لا نوافقه عليه بالكلية، لأنه إذا تحققت الأغلبية العددية في جميع الحوادث أو أكثرها فتتحقق الأغلبية العملية أيضًا، أما إذا لم تتحقق إلا في حوادث نادرة فلا يمكن اعتبار قيام العرف وتوافر أركانه بمجرد وجود هذه الأغلبية العددية في حادثة أو حوادث معينة.   (1) مرغناني، الهداية: 5 /469؛ ابن نجيم، الأشباه والنظائر: 1 /128؛ مجلة الأحكام العدلية، المادة 41. (2) عاطف بك، مجلة أحكام عدلية شرحي) شرح المجلة باللغة العثمانية) قسم القواعد الكلية، استانبول 1339هـ، ص 50. (3) الدريني، المناهج الأصولية، ص 587 (4) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /874، 875 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2753 والحقيقة أن لزوم اطراد العرف أو أغلبيته في أكثر الحوادث تكمن في كلمة " الاعتياد " (أو " العادة " " كما قال الأستاذ الزرقاء) الواردة في تعريف العرف والتي ينبني عليها وجوده ويؤكد ذلك ما قاله الأستاذ الزرقاء في مكان آخر: " يقول الفقهاء في بعض المواطن: إن العادة تتحقق بتكرر الفعل مرتين أو ثلاثًا، لأنها مأخوذة من العود أو المعاودة ولا يخفى أن مرادهم بذلك عادة الفرد أما عادة الجماعة التي هي بمعنى عرف للجمهور، فلا ينطبق عليها هذا الحد، لأن العادة لا تشيع وتنتشر بين الجماهير إلا بعد أن تتكرر بين الناس مرات لا تحصى) (1) أما إن كان الأستاذ الجليل يقصد بهذا التفريق اعتبار العرف ملزمًا بين جميع القوم أو أكثرهم، فإننا سنتناول هذه الناحية تحت عنوان: " الركن المعنوي للعرف "، وبناء على ذلك ينبغي اعتبار الاطراد أو الغلبة ركنًا من أركان العرف لا شرطًا من شرائطه. وليس بالإمكان تحديد الحيز الزمني لتكون هذا الركن، أي التطبيق المطرد أو الغالب للعرف ومع أن صاوا باشا يشترط استمرار العمل بالعرف طوال ثلاثة أجيال على الأقل (2) . هناك آراء حول العدد الذي تحصل به العادة لا نرى مبررًا لذكرها، انظر: الجيدي، العرف والعمل: ص 82. فإنه من البديهي أن هذا لا يتعين إلا حسب نوعية العرف وظروف تكونه، وبخاصة حسب درجة الانتشار لوسائل المواصلات في مكان العرف. ويطلق على هذا الركن في النظريات القانونية الحديثة العنصر الخارجي أو المادي أو الموضوعي (element objectif, element materiel) للعرف والجدير بالإشارة أن القانون التجاري الكويتي (المادة 159) أخذ المادتين 41 و42 من مجلة الأحكام العدلية بنفس العبارات، وقال: " إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت والعبرة للغالب لا للنادر " (3) .   (1) المرجع نفسه 2 /839، 840 هامش 1 (2) SAVAPASA, Islam Hukuk Nazariyati ½ pti Hakkinda Bir Etudترجمه من الفرنسية إلى التركية (دراسة حول نظريات الفقه الإسلامي) : Baha ARIKAN, Ankara, 1955, 2/57. (3) ينظر للخواص التي يجب توافرها في هذا العنصر: الحجازي، المدخل لدراسة العلوم القانونية: ص 447- 449. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2754 5-1-2- الركن المعنوي: الاستقرار في النفوس: لا نكاد نعثر دراسة لهذا العنصر الداخلي، أو النفسي أو الشعور القانوني (opinio necessitates، element psychologique) في الأبحاث العلمية الحديثة التي تهدف إلى تطوير نظرية للعرف في الفقه الإسلامي، بينما النظريات القانونية تولي له أقصى الأهمية والسر في ذلك – حسب ما يبدو لنا – أن القانونيين – كما سبق أن بينا – ينظرون إلى العرف من ناحية القيمة القانونية له أي من ناحية تكوينه قاعدة قانونية أو عدم تكوينه لها وبالإضافة إلى ذلك لا يرون بأسًا في أخذ القاعدة القانونية صفة الإلزامية من الإرادة البشرية، بل إن القواعد القانونية كلها – سواء كانت مكتوبة أو غير مكتوبة – تستقي في الفقه الوضعي وجودها واستمراريتها من العقل والإرادة البشرية (1) . ومع هذا كله لا نرى مانعًا من القول بضرورة تواجد هذا العنصر المعنوي للعرف في الفقه الإسلامي أيضا، حتى إننا نعتقد أن وجود واجب للاقتناع والقبول بأن العرف قد تكون، والحقيقة أن الوقوف عند أهمية الركن المعنوي للعرف في الفقه الإسلامي أمر لم نقترحه من عند أنفسنا وإنما هو موجود في عبارات الفقهاء وتفكيرهم وأدل شيء على ذلك هو تعريف النسفي الذي تلقاه العلماء بالقبول منذ القديم، إذا يقول: " ما استقر في النفوس ... " فهذا إن دل على شيء إنما يدل على العنصر المعنوي للعرف (2) وحتى يمكن القول بأن صاحب التعريف استغنى عن ذكر العنصر المادي صراحة لأن العنصر المادي مندمج في العنصر المعنوي، إذ لا يمكن تكون العنصر المعنوي إلا بتكون العنصر المادي ولتبيين هذه الناحية نود اقتباس النص التالي: " ويتكون هذا الاعتقاد تدريجيًّا، حتى يأتي الوقت الذي يصبح فيه أمرًا محققًا، ولذلك فإنه في مرحلة هذا التكوين قد يختلف الشراح والمحاكم في أن عادة معينة قد أصبحت عرفًا، كما أن البعض قد يراها مجرد عادة لا ترقى إلى مرتبة العرف، ثم يعود بعد ذلك فيعتبرها عرفًا، فإذا جاء الوقت الذي يسود الاعتقاد فيه بأن هذه العادة أصبحت ملزمة، صارت عرفًا لا سبيل إلى الجدل فيه، فالذي يميز العرف عن العادة بالمعنى الذي قدمناه هو هذا الركن المعنوي فطالما لم يقم في ذهن الناس اعتقاد بأن عادة معينة أصبحت ملزمة، فإن هذه العادة لا تعتبر عرفًا، أي لا تكون قانونًا ملزمًا " (3) .   (1) SAVORY.R.M، Introduction To Islamic Civilisation، Sydney، 1980 ,p54 (2) ويؤيد ذلك ما ورد في كلام الشيخ أبي سنة: " فقد رأينا أن العرف جرى في الأقوال والأفعال التعاملية والخلقية، وعرفنا قبل ذلك أن كيانه يقوم على استقرار الأمر في النفوس وقبول الطباع السليمة له متى توفر ذلك، فقد وجدت حقيقة العرف، وإن كان اعتباره عند الفقهاء مشروطًا بشروط وراء هذا "، (العرف والعادة: ص 9) وإن كان الشيخ أبو سنة لا يتناول هذه الناحية تحت عنوان الركن أو الأركان. (3) فرج الصدة، أصول القانون: ص 147. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2755 أما ما يتبادر إلى الأذهان من أن الركن المعنوي يعكس الإرادة البشرية في التشريع فذلك أمر لم يهمله النسفي في تعريفه السابق للعرف إلا أن الموضوع يحتاج إلى شيء من التفصيل وإلى الاطلاع على ما ورد من مناقشات حول هذه الناحية في النظريات الحديثة ونذكر خلاصة ذلك فيما يلي: " مقتضى النظرية التقليدية هو أن العنصر المادي لا يكفي وحده لإنشاء القاعدة العرفية وأنه يجب أن يضاف إلى العنصر المادي عنصر آخر نفسي هو ما يسمى الشعور القانوني (opinio necessitates) ، ويقصد الشراح بهذه العبارة أحد معنيين: (أ) فإما أن يكون المقصود بها هو أن الأفراد يعتقدون أن المبدأ الذي يسيرون على مقتضاه يطابق العدل والملاءمات الاجتماعية، ولذا يجب أن ينزل منزلة القانون. (ب) وإما أن يكون معناها هو اعتقادهم أن المبدأ الذي يأتمرون به هو قانون بالفعل أي قاعدة ملزمة ولذا وجبت إطاعتها ومعظم الشراح على هذا المعنى وعلى أساس هذا العنصر يتميز العرف من سائر أنواع السلوك الأخرى، الفردية والاجتماعية، التي مع استقرارها في الجماعة، لا تعد قواعد قانونية عرفية بسبب أنه ينقصها عنصر الإحساس بإلزاميتها من الناحية القانونية ومن هنا عد العنصر الداخلي هو العنصر المميز والجوهري في العرف باعتباره مصدرًا للقانون، حتى لقد اعتبر العنصر الخارجي – في نظرية قديمة كانت تجعل الشعور القانوني عند الجماعة هو أساس كل قانون - هو الوسيلة التي يظهر بها العنصر الداخلي (الشعور القانوني) ، أي إن الشعور القانوني في العرف كإرادة المشرع في التشريع، فكما أن إرادة المشرع لا تسري في حق المخاطبين بها إلا بالنشر، فكذلك الشعور القانوني لا يلزم الأفراد إلا إذا ظهر إلى الحيز الخارجي عن طريق ممارسة فعلية من جانب الأفراد " (1) . ونحن نرى – تاركين تفاصيل هذه المناقشات والاعتراضات الموجهة إلى العنصر المعنوي إلى جانب – أن العنصر المعنوي إذا تم تفسيره بالمعنى الثاني من المعنيين السابقين لا يتلاءم والتفكير الإسلامي؛ لأن الشارع في الإسلام هو الله تعالى، وتأخذ الأحكام قوتها الإلزامية من إرادته عز وجل، وبينما لا نعثر على إحالة صريحة على حجية العرف في عبارات الشارع التي تعكس إرادته، وإنما نجده يحيل المسلمين على فكرة العدل والمصالح إذن لا يصطدم العنصر المعنوي مع أسس التفكير الإسلامي إذا فسر بالمعنى الأول، وكما نرى في تعريف النسفي قيدًا لا يترك العنصر المعنوي للعرف على إطلاقه، حيث يقول " ... وتلقته الطباع السليمة بالقبول " وهذا – فيما يبدو لنا – تعبير عن اشتراط الشرط الأساسي للعرف أو لاعتباره وهو أن لا يكون مخالفًا للنص الشرعي ومبادئ التشريع الإسلامي مخالفة صريحة لأنه لا يمكن التصور أن الطباع السليمة في مجتمع يدين بالإسلام ويتمسك بمبادئه تتلقى العرف المخالف للنصوص صراحة بالقبول وإلا خرجت عن كونها سليمة (2) أضف إلى ذلك أن كل عرف تم تكونه ليس معتبر في الفقه الإسلامي، بل هناك شروط لاعتباره.   (1) الحجازي، المدخل لدراسة العلوم القانونية: ص 449- 450. (2) يقول النسفي: " والطبع مؤيد بالشرع "، المستصفى، مخطوط، ق 115 /ب، 194 / ب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2756 والحقيقة أن هذا التوضيح الأخير كان من الواجب أن يحتل مكانه تحت عنوان " شروط اعتبار العرف / عدم مخالفته للنص " حسب التخطيط العلمي، إلا أننا اضطررنا إلى الإتيان به لنبين مكانة العنصر المعنوي في تفكير وعبارات الفقهاء المسلمين وننبه إلى المعنى الذي يستندون إليه في هذا الموضوع. 5-2- شروط اعتبار العرف: هناك شروط يجب توفرها لاعتبار العرف في الشريعة الإسلامية إلى جانب ركنيه المادي والمعنوي، وهي ما يلي: 5-2-1- أن لا يكون العرف طارئًا: والمراد من هذا الشرط أن يكون العرف مقارنًا لزمن الشيء الذي يحمل على العرف وليس حادثًا وما من شك في أن لهذا الشرط أهميته ولا سيما في تفسير النصوص وتفسير التصرفات القانونية (انظر لأمثلة دور العرف في تفسير النصوص الباب الأول 2-1-1، ودور العرف في تفسير التصرفات القانونية 2-2-3) . ومقتضى هذا الشرط أن العرف اللفظي أو العملي الذي يعول عليه لفهم النص يجب أن يكون موجودًا في وقت نزوله ووروده دون الحادث بعده، وكذلك العرف الذي يراد تحكيمه في تعيين حكم التصرف القانوني يجب أن يكون موجودًا عند التصرف دون ما يحدث بعده (1) على أنه ليس كل عرف طارئ غير معتبر، فالقاعدة ليست على عمومها (2) . فمثلًا يشير الزركشي إلى قضية البطالة في المدارس الموقوفة ويقول: " فقد اشتهر في هذه الأعصار ترك الدروس في الأشهر الثلاثة فكل مدرسة وقفت بعد ذلك ولم يتعرض واقفها لذلك ينزل لفظه على العادة وأما الموقوف قبل هذه العادة أو ما شك فيه هل هو قبلها فلا ينزل على العرف الطارئ " ويلاحظ أنه يربط القضية في آخر المطاف بكون العرف عامًّا أو خاصًّا (3) .   (1) ابن نجيم، الأشباه والنظائر: 1 /133؛ أبو سنة، العرف والعادة: ص 65؛ دواليبي، المدخل إلى علم أصول الفقه: ص 236، 237؛ الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /876 – 879. (2) الدريني، المناهج الأصولية: ص 587. (3) الزركشي (بدر الدين بن محمود بن بهادر) ، المنثور في القواعد، تحقيق: تيسير فائق أحمد محمود، الكويت، 1982 /، 2 /394، 395. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2757 5-2-2- أن لا يوجد تصريح بخلاف العرف: إذا أخذنا بعين الاعتبار أن تحكيم العرف في تفسير العقود في تفسير العقود وتنزيل الأمر المعروف منزلة المشروط (" المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا "، المجلة، المادة 43، 44) ، يعود إلى فكرة سكوت المتعاقدين عن الأمر المتعارف اعتمادًا على العرف الجاري، يتبين لنا بجلاء أن العرف في هذه الحالات من قبيل الدلالة فإذا صرح المتعاقدان بخلاف العرف بطلت هذه الدلالة لأن القاعدة المقررة تقول: " لا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح " (المجلة، المادة 13) (1) . وهنا نود أن نسترعي الانتباه إلى أن القواعد مثل " التعيين بالعرف كالتعيين بالنص " مما اعتمد عليه بعض الباحثين بصدد إثبات سلطان العرف في الفقه الإسلامي تنص في حقيقة الأمر على أهمية الإرادة المصرح بها إلى جانب التنوية بدور العرف في تفسير العلاقات القانونية إذا لم يوجد تصريح في القضية المعروضة لأن " النص " هنا يستعمل في المعنى "التصريح "وليس في معنى " النص الشرعي " (2) وذلك بخلاف " النص " الوارد في عبارات تتناول مسألة معارضة العرف مع النص (3) . 5-2-3- أن لا يكون العرف مخالفًا للنص ومبادئ الشريعة: إذا وضع الباحث نصب عينيه أن الشريعة الإسلامية تمتاز بخاصية كونها إلهية المنشأ لا يحتاج إلى توسيع النقاش فيما يخص حالة اصطدام العرف مع النصوص وروحها، وليس ذلك نابعًا عن احترام فكرة سلسلة المراتب للأدلة أي كون النص أقوى من العرف فحسب، بل ليتحاشى الفقيه من أن ينقض نفسه بنفسه أيضًا بينما نرى المؤلفين في الفقه الوضعي يتوسعون في مناقشة قضية اصطدام العرف مع القانون (4) ، وإن كان القانون أقوى من العرف حسب ترتيب المصادر، وذلك لأن القانون عندهم يستقي قوته الإلزامية أيضا من الإرادة البشرية.   (1) علي حيدر، درر الحكام: 1 /93؛ الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /879، 880. (2) انظر مثلًا: السرخسي، المبسوط: 12 /160. (3) انظر مثلا: السرخسي، المبسوط: 12 /196. (4) نشاهد أن الخلاف يتعرض لمسألة اعتبار العرف المخالف لأصل من الأصول، ويشترط لاعتباره أن يكون قد نشأة عن الضرورة ويقول بأنه يجب المصير إلى الاستثناء من الأصل وذلك بجعل الضرورة علة الاستثناء خلاف (عبد الوهاب) ، مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، مصر، 1955م، ص 125. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2758 وبدون إسهاب في القول نود أن ننبه إلى أهمية التفريق بين مخالفة العرف للنص من كل الوجوه وبين حالة اصطدام العرف مع النص في الظاهر، ففي الحالة الثانية يجب التثبت من الأمر في أن الاصطدام هل هو حقيقي أم ظاهري فقط؟ ويلاحظ أن الأستاذ الزرقاء يتناول الموضوع في إطار الخطة الآتية: 1- حالة اصطدام العرف بنص تشريعي خاص: حكمها: النص الخاص الآمر هو المعتبر المحترم ولو صادمه عرف عام الاستثناء من ذلك حالة واحدة: النص العرفي، أي ما إذا كان النص نفسه حين صدوره عن الشارع مبنيًّا على عرف قائم ومعلل به. 2- حالة تعارض العرف مع نص تشريعي عام: (1) العرف المقارن لورود النص العام المعارض له: أ- العرف اللفظي: الاتفاق في تخصيص النص بالعرف. ب- العرف العملي: أأ – العرف المقارن العام: في الاجتهاد الحنفي يكون العرف مخصصًّا للنص. ب ب - العرف المقارن الخاص: الراجح من الآراء في الاجتهاد الحنفي لا يعترف للعرف بقوة تخصيص النص والاجتهاد المالكي في التحقيق يقبل تخصيص النص بالعرف. (2) العرف الحادث بعد النص العام المعارض له: لا يجوز تخصيص النص بالعرف سواء كان لفظيّا أو عمليًّا. ملاحظة: العرف الذي تزول به علة النص المعارض يعتبر ولو كان حادثًا. 3- حالة تعارض العرف والاجتهاد: حكمها: العرف يترك به الاجتهاد القياسي والاستصلاحي (1) . أما نحن فقد أوردنا أمثلة هذه الأحوال في الباب الأول من هذا البحث (انظر: 2-1، 2-2-1) ولا داعي للتكرار والجدير بالذكر أن المناهج كلها التي يعول عليها للتمييز بين حالة وحالة أخرى أثناء تناول موضوع مخالفة العرف للنص تدور في الحقيقة حول محور واحد: وهو بذل الجهد بغية البحث عن إرادة الشارع في القضية التي فيها العرف والتحري عن موقف العرف من الغاية المتوخاة للشارع في تلك القضية.   (1) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /882- 917. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2759 وهذا يؤدي بنا إلى القول بأهمية العنصر الغائي بين العناصر التي يعول عليها في عملية التفسير وأهمية التفسير الغائي (interpretation teleologique) (1) . ونرى لزامًا علينا أن نشير هنا إلى عدم مشاركتنا بالإطلاق للأستاذ الجليل الزرقاء في رأيه في موضوع حالة تعارض العرف مع الاجتهاد المستند إلى القياس النظري، إذا يقول: " الأحكام الاجتهادية التي يثبتها الفقهاء المجتهدون استنباطًا وتخريجًا عند عدم النص الشرعي عليها: إما أن تكون ثابتة بطريق القياس النظري على حكم أوجبه الشارع بالنص، لاتحاد العلة بين الحكم المقيس عليه والمقيس؛ وإما أن تكون ثابتة بطريق الاستحسان أو الاستصلاح عندما لا يوجد حكم مشابه منصوص يقاس عليه والاجتهادات الإسلامية تكاد تكون متفقة على أن الحكم القياسي يترك للعرف ولو كان عرفًا حادثًا، لأن المفروض عندئذ أن هذا العرف لا يعارضه نص خاص ولا عام معارضة مباشرة والعرف غالبًا دليل الحاجة، فهو أقوى من القياس، فيترجح عليه عند التعارض (نقلًا عن نشر العرف لابن عابدين) ، بل لقد ذكر العلامة المحقق ابن الهمام في شرح الهداية أن العرف بمنزلة الإجماع شرعًا عند عدم النص (نقلًا عن فتح القدير) ومن المعلوم أن ترجيح العرف على القياس يعتبر عند الحنفية والمالكية من قبيل الاستحسان الذي تترك فيه الدلائل القياسية لأدلة أخرى منها العرف " (2) .   (1) بحثنا بعنوان " مقارنة بين موقف المجتهد تجاه النصوص في الفقه الإسلامي وبين موقف القاضي تجاه القانون في نظم الحقوق الحديثة " ألقي في الملتقي السابع عشر للفكر الإسلامي، قسنطينة (الجزائر) ، 1983م انظر أيضًا: محمد شريف أحمد، نظرية تفسير النصوص المدنية / دراسة مقارنة بين الفقهين المدني والإسلامي، بغداد، 1979م، ص 82- 98؛ محمد صبري سعدي، تفسير النصوص في القانون والشريعة الإسلامية، وهران (الجزائر) ، 1984 م، ص 208- 218، 551- 561 ونحبِّذ رأي الدكتور الديني حيث يقول: " المخصص في الواقع مستند العرف، لا العرف ذاته " (المناهج الأصولية: ص 584) ، ونجده مؤكدًا لما أشرنا إليه وإن كان هذا الرأي قد حدد نفسه بقضية التخصيص. (2) الرزقاء، المدخل الفقهي: 2 /913، 914. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2760 لأننا ذكرنا ضرورة التمييز بين المعاني المختلفة لمفهوم " القياس " وبالأخص عند الأحناف من جهة، وتناول المؤلفين الأحناف في إطار مفهوم " العرف " التعامل الجاري منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير والذي يرجع في حقيقته إلى مفهوم الإجماع أو السنة من جهة أخرى ولا نستطيع القول بأن العرف يترك به القياس حسب معناه المعروف في علم أصول الفقه إلا إذا أمكن التثبت من أن العرف يدل على انتفاء علة ذلك القياس، كما أشرنا إلى هذا سابقًا (انظر: 2-1-2 الباب الأول) . فجهة مشاركتنا لرأي الأستاذ الزرقاء أن الحكم القياسي يمكن تركه للعرف إذا تبين زوال علة الحكم، ففي هذه الحالة لا يعتبر أن العرف دليل يقدم على القياس (1) ، أما جهة مخالفتنا له فهي أن العبارات الواردة في كتب الأحناف مثل: " العرف يترك به القياس " أو " إن العرف بمنزلة الإجماع شرعًا عند عدم النص " لا ينبغي تفسيرها بصورة مطلقة بل يجب التنبه إلى معنى كل من مفهومي " القياس " و " العرف " في تلك الحالات. ولعل رأي الأستاذ هذا نابع عن عدم احتفاله بالتمييز بين المعاني المختلفة لمفهوم القياس، كما أنه تناول هذا المفهوم مقتصرًا على معناه المعروف في أصول الفقه أثناء توضيحه الاستحسان أيضًا (2) . 6- التقييم العام للعرف: 6-1- مفهوم " المصدر " من ناحية منهجية الحقوق الإسلامية وتقييم العرف: 6-1-1- مفهوم " الدليل " في أدب الفقه الإسلامي: إن أكثر الاصطلاحات استعمالًا للتعبير عن مفهوم المصدر في أدب الفقه الإسلامي هو اصطلاح " الدليل " ولذا يتم تناول مصادر التشريع الإسلامي إجمالًا تحت عنوان " الأدلة الشرعية " وقد أورد المؤلفون تعاريف مختلفة لتعيين مضمون هذا الاصطلاح، ولكن الشيء الذي يهمنا هنا هو ثبوت أن المعنى المقصود من اصطلاح الدليل في أصول الفقه أعم بكثير من معنى المصدر الحقوقي (3) .   (1) سنشير إلى أهمية هذا التمييز تحت عنوان 6-1-2، من الناحية المنهجية. (2) الزرقاء، المدخل الفقهي: 1 /77- 89، 135. (3) انظر على سبيل المثال: الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، القاهرة 1967 م، 1 /11-14، البخاري (عبد العزيز) ، كشف الأسرار، استانبول، 1308هـ، 1 /255 انظر: لتعريف " الدليل " عند أهل الكلام والمنطق والفقه وأصول الفقه، ولتحاليل ومناقشات واسعة حول معناه: البرزنجي (عبد اللطيف) ، التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية، بغداد، 1977 م، 1 /175- 204. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2761 أما الاصطلاحات الرئيسية الأخرى المستعملة للتعبير عن معنى المصدر الحقوقي فهي " الأصل " و" الحجة " و" المدرك " و " جهة العلم " (1) . وبما أن " الدليل " يستخدم في معنى أعم من معنى " المصدر الحقوقي " نصادف بعض المؤلفين ممن أوصلوا تعداد الأدلة الشرعية إلى أربعة عشر (2) ، أو ثمانية عشر (3) ، أو تسعة عشر (4) ، أو واحد وعشرين (5) ، وحتى ستة وثلاثين (6) دليلًا، في الوقت الذي تذكر فيه كتب الأصول عددًا أقل بكثير من ذلك عند تناول نظرية المصادر ومع ذلك، لا يمكننا اعتبار كل واحد من الأدلة الشرعية المذكورة فيها " مصدرًا ". وفي الحقيقة أن الأدلة التي تشتمل على حلول جاهزة للمسائل الفقهية من القرآن والسنة والإجماع والعرف وقول الصحابي وشرع من قبلنا يمكن أن نصفها بأنها " مصادر " باعتبار ماهيتها، ولكن المفاهيم مثل القياس والاستحسان والاستصلاح فهي " مناهج " استنباط الحكم من المصادر، أما مثل سد الذرائع وعموم البلوى وبراءة الذمة فلا يتعدى حدود " المبادئ الحقوقية. ونشاهد أن الغزالي يعتبر الأدلة الثلاثة الأولى (الكتاب والسنة والإجماع) التي ذكرناها بين المصادر باعتبار ماهيتها مصادر التشريع الإسلامي من ناحية الحجية أيضًا (7) ومع أنه يقول في كثير من الأماكن أن عدد المصادر أربعة – دون تمييز بين تعابير " الأصول " و " المدارك " و " أدلة الأحكام " (8) ، إلا أنه يصرح عند تناوله مصادر الحكم في المعنى الحقيقي " المثمر " بأنها عبارة عن الأصول الثلاثة (9) وأن تسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تحوز (10) .   (1) انظر مثلًا: الشافعي، الرسالة، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مصر، 1940م، ص 43، 120، 1468، 1814؛ الدبوسي، تقويم الأدلة، مخطوط، مكتبة السليمانية (قسم بغدادلي وهبي) رقم 350، ق 5/أ، 5/ب؛ أبو الوليد الباجي، كتاب المنهاج في ترتيب الحجاج، تحقيق: عبد المجيد تركي، باريس، 1978م، ص 15؛ الجويني، البرهان: 1 /185؛ الغزالي، المستصفى: 1 /216، 278، 2 /350. (2) يفيد المؤلف في بداية ونهاية مقاله أن الباحث يلاحظ عشرة مصادر أخرى سوى الأدلة الأربعة (3) القرافي، الفروق: 1 /128 الفرق: 26 (يعد القرافي هنا ثمانية عشر دليلًا ويقول إنها "نحو عشرين " أما في " التنقيح " فيقول إنها تسعة عشر، ويلاحظ أن بعض الأدلة التي ذكرها في الفروق يختلف عما ذكره في التنقيه مختصر تنقيح الفصول، في مجموعة المتون الأصولية، دمشق، د. ت، ص 73- 76) . (4) الطوفي (نجم الدين) ، رسالة في المصالح المرسلة، بيروت، 1324 هـ، ص 39 – 43. (5) إيزميرلي (إسماعيل حقي) ، علم الخلاف (باللغة العثمانية) – تقسيم الخادمي – استانبول، 1330هـ، ص 190، 191. (6) تقسيم إيزميرلي في المرجع نفسه، ص 191. (7) الغزالي، المستصفى: 1 /100. (8) الغزالي، المستصفى: 1 /100، 2 /392؛ (أدلة الأحكام) ، 1 /315، 316 (الأصول) : 2 /350 (المدرك) . (9) نفس المصدر: 1 /7. (10) الغزالي، المستصفى: 1 /100 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2762 والجدير بالذكر أن الغزالي يلجأ إلى استخدام تعبير " أصول الأدلة " (1) بين حين وآخر فهذا تعبير جيد من ناحية تحديد الشمول لمفهوم الدليل وإخراجه عددًا كبيرًا من الأدلة المستخدمة في الفقه سواء كانت مناهج للاستنباط أو مبادئ حقوقية من مضمونه وكذلك تعبير أصول الأدلة يعبر عن المصادر التي تشكل أصول تلك الأدلة وقبل تناول أصول الأدلة على حدة يشير الغزالي إلى أن أصل الأحكام واحد وهو قول الله تعالى إذا اعتبرنا السبب الملزم للأحكام، وأما إذا اعتبرنا المظهر لهذه الأحكام فهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم (2) . أما القياس فهو دليل يعترف الغزالي بحجيته ويدافع عنه دفاعًا حارًّا، ولكنه لا يذكره في نظرية المصادر، لأنه يراه منهجًا من مناهج استنباط الأحكام فيحله بين طرق استثمار الأحكام ومما يلفت النظر أن الغزالي قد انتبه إلى الفرق بين تفسير النصوص وبين القياس، وتناول القياس تحت عنوان مستقل غير العنوانين المتعلقين بتفسير النصوص. فهذا كله يتعلق بمفهوم المصادر الشكلية في الفقه الإسلامي بالنسبة إلى من يتمتع بأهلية الاجتهاد وبعبارة أخرى فإنه إذا سُئِلَ " في أي مصدر يبحث المجتهد عن حل للقضية المعروضة عليه؟ " فالجواب هو ما ذكرناه آنفا من القرآن والسنة والإجماع، أما بالنسبة لمن أتى بعد أدوار الاجتهاد سواء كان قاضيا أو مفتيًا فالمصادر الشكلية له هي من حيث المبدأ اجتهادات المذهب (doctrine) (3) ، والقوانين التي أصدرتها الدولة في بعض المجالات. 6-1-2- تحليل لعدم تناول الأصوليين للعرف بين المصادر في مقابل الأهمية التي حظي بها العرف في فروع الفقه: ومن المعلوم أنه لم يصل إلينا من أئمة المذاهب – ما عدا الإمام الشافعي رحمه الله - (4) بيان بتأليف خاص للأصول والمناهج التي سلكوها في استنباط الأحكام، وأنها دونت بعدهم بطريقة استقراء الأحكام الفرعية في مذاهبهم والاستناد إلى بعض الروايات عنهم حول هذه الأصول والمناهج.   (1) الغزالي، المستصفى: 1 /100، 245. (2) الغزالي، المستصفى: 1 /100 (3) CHEHATA (Chafik) ، Etudes De Droit Musulman، paris، 1971, p34. (4) لا يتحدث الشافعي عن العرف في أصوله (الرسالة) أما مسألة إعراضه عن مذهبه القديم لاطلاعه في مصر على عوائد غير العوائد التي كان يعرفها في الحجاز والعراق (عمر عبد الله، العرف: ص 33؛ خلاف، أصول الفقه: ص 238) ففيها نظر يقول الشيخ أبو سنة في هذا الموضوع: " ونحن لا نشك في أن الشافعي رضي الله عنه يقول بأنواع العرف الأربعة كما تقدم الاستشهاد لها بمثل من فقهه، ولكن جعل العرف من أسباب العدول عن مذهبه القديم محل نظر فقد تتبعت كثيرًا من الفروع التي اختلف فيها المذهبان القديم والجديد، فوجدت مداركها كلها حديثية أو اجتهادية ولا أثر للعرف فيها ...... وسألت كذلك من أثق به من حضرات علماء الشافعية فأنكروا هذا الكلام، وأيًّا ما كان فهذه مسألة تاريخية فصل القول فيها يتوقف على استقرار الأحكام التي اختلف فيها المذهبان " (العرف والعادة: ص 79، 80) ويرى المحمصاني أن التعديلات التي أجراها الإمام الشافعي في مذهبه بمصر كانت بسبب ظروف اجتماعية تختلف من بلد إلى آخر، فلسفة التشريع: ص 182. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2763 ولم ينقل إلينا من أئمة المذاهب ما يعبر نظريًّا عن موقفهم إزاء العرف سوى بعض العبارات المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – مما تشير إلى مراعاته بتعامل أهل بلده في استنباط الأحكام وكذلك بعض التعليقات حول عبارات الإمام مالك – رحمه الله – فيما يتعلق " بعمل أهل المدينة " (1) . ومع هذا يكاد يتفق المؤلفون على أن دراسة الأحكام التي توصل إليها أئمة المذاهب تبرهن على أنهم ليسوا بعيدين عن مراعاة العرف، بل وقفوا موقفا إيجابيًّا إزاءه ما لم يصطدم مع النصوص ومبادئ التشريع الإسلامي (2) . إلا أن موقفهم هذا لم يتبلور في كتب الأصول، بل برز في كتب الفروع فقط، وذلك حمل الباحث على القول بأن هناك ثنائية في أدب الفقه الإسلامي من جهة تناول الفقهاء للعرف كما بينا في الباب الأول، وقد أشرنا هناك أن قصدنا منها ليس الثنائية الملحوظة من ناحية الفقه النظري والتطبيقات القانونية في تاريخ التشريع للمسلمين (3) لا يمكن اعتبار عدم اهتمام الأصوليين بمفهوم العرف بالسلب أو الإيجاب أثناء دراستهم للأدلة الشرعية من قبيل الصدفة (4) ، إذا وضعنا نصب أعيننا أنهم جعلوا بعض المفاهيم الأخرى موضوع تحاليل دقيقة ومناقشات واسعة مثل القياس والاستحسان ويجب الانتباه أيضًا في هذا المضمار أن الفقهاء – بغض النظر عن كتب القواعد للعلماء المتأخرين– حين استدلالهم على حجية العرف ببعض الأدلة مثل حديث: ((ما رآه المسلمون حسنًا ... )) ، لا يتناولون العرف كدليل أصولي أي مصدر من مصادر التشريع وإنما يستندون إلى تلك الأدلة بمناسبة توضيح بعض الأحكام الفرعية (والتنبيه إلى هذه الناحية بصفة خاصة لا يخلو من فائدة نظرًا لعدم إشارة الباحثين المعاصرين إليها أثناء ذكرهم أدلة حجية العرف) .   (1) انظر لبعض الروايات عن أبي حنيفة: أبو زهرة، أبو حنيفة، مصر 1955 م: ص 309؛ لعمل أهل المدينة: القاضي عياض، ترتيب المدارك، بيروت، 1967م، 1 /66 – 74؛ لتقويم العمل بأنه العرف: الجيدي، العرف والعمل: ص 335، 393-395 خاصة. (2) القرافي، مختصر تنقيح الفصول: ص 76؛ ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، مصر: 1955 م، 2 /393، 3 /89؛ أبو زهرة، مالك، مصر، 1963 م، 1964 م: ص 421؛ الجيدي، العرف والعمل: ص 77 فما بعدها. (3) انظر لملاحظة Joseph SHACT وتعليقنا: الباب الأول، الهامش 26 ويلاحظ أنR.LEVY في مادة " ruf " (العرف) و COLDZIHER I. في مادة " Ada" (العادة) أيضا يتناولان الموضوع بشكل أزيد من ناحية التطبيقات القانونية في تاريخ التشريع للمسلمين، انظر: Encyclopedie De L" Islam، Leyde (Hollande) , 1934، I/124،,IV/1087. (4) نلاحظ أن السرخسي يجعل العرف سببًا للاستحسان في كتابه المتعلق بالفروع وذلك على خلاف موقفه في كتابه المتعلق بالأصول، المبسوط: 12 /59؛ الأصول: 2 /202، 203 وكذلك نجد النسفي يذكر تعامل الناس بين الأدلة الشرعية في كتابه الخاص بالفروع ولا يذكره بينها في كتابه المتعلق بالأصول، المستصفى، مخطوط: ق 5/أ؛ المنار في الأصول، استانبول، 1329 هـ، ص 2 انظر لحالة استثنائية في هذا الموضوع، الهامش 144 من هذا الباب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2764 أما بخصوص الكشف عن سرِّ الثنائية الملحوظة في موضوع العرف في أدب الفقه الإسلامي، فلتحليل مفهوم المصدر أهمية كبيرة في نظرنا والحقيقة أن الباحث لا يستنكر هذه الثنائية في موضوع العرف في أدب الفقه الإسلامي إذا أخذ بعين الاعتبار ما بيناه في المصادر الشكلية بالنسبة إلى كل من المجتهد وفقيه الأدوار التي تلت أدوار الاجتهاد، لأن كتب الفروع تنظر إلى العرف من زاوية الإفتاء أو القضاء بغض النظر عن صلاحية الاجتهاد لمن يتولى ذلك، وهذا ما يجعل أصحاب هذه الكتب يهتمون اهتمامًا بالغًا بالعرف الذي ينتظم عددًا كبيرًا من المسائل الفرعية وكما هو معلوم فإن علم الفروع له صلة وثيقة بواقع الحياة. وفي مقابل ذلك تهتم كتب الأصول بالمصادر من زاوية الاجتهاد، فمن الطبيعي أن لا يحتل العرف فيها مكانًا خاصًّا، وذلك لأن عدم تناول مفهوم المصدر مرادفًا لمفهوم " الدليل " (بمعناه الواسع) يدلنا – كما أشار إليه الغزالي رحمه الله وغيره من العلماء – على أن المصادر من حيث ماهيتها من جهة والاعتراف بحجيتها من جهة أخرى في الفقه الإسلامي تقتصر على مصدرين وهما الكتاب والسنة (1) وليس هناك مصدر آخر له مثل هذه الخاصية سواهما، لأننا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن كلًًّا من قول الصحابي وشرع من قبلنا يؤول إلى الكتاب والسنة، نجد أن الخاصية المشتركة بين ما سوى هذه الأدلة هي كونها متعلقة " بالكيفية " دون " الماهية " ما عدا العرف، أي أنها لا تجيب على سؤال " من أين يؤخذ الحل الفقهي "؟ بل على سؤال " كيف يتم استنباط الحل من المصادر الأصلية؟ " فهذا ما يتبين لنا بجلاء إذا قمنا بدراسة الحجج التي يعول عليها لإثبات حجية تلك الأدلة الشرعية مثل القياس والاستحسان، فالآيات والأحاديث التي يستدل بها على حجيتها لا تحيل المجتهد على مصادر جديدة في الحقيقة، بل تنطوي على فكرة أساسية تدعم الأصولي في اختياره المنهج الواجب اتباعه لاستنباط حلول مناسبة لقضايا جديدة من المصادر الأصلية فعلى سبيل المثال، أن آية {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر: 2] تنطوي على فكرة " تسوية الحالات المماثلة في النتائج "، والمجتهد الذي يأخذ بالقياس مستدلًّا بهذه الآية الكريمة على حجيته يبرهن بذلك على صحة منهجه في الاستنباط دون أن يثبت مصدرًا جديدًا.   (1) بما أن الإجماع يعترف بوقوعه من طرف الجميع ينحصر في الإجماعات التي لها مستند في النصوص، يمكن أن نعتبر هنا أن الإجماع في نهاية أمره إلى القرآن والسنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2765 أما العرف فهو مصدر باعتبار ماهيته كما أسلفنا، ولكن اعتراف النصوص بحجيته قضية تحتاج إلى شيء من التفصيل: فالباحث يجد في القرآن والسنة أدلة عديدة تدل على مراعاة العرف واستنباط الأحكام دلالة تكون لدى المجتهد أساسًا فكريًّا وتنير السبيل أمامه (انظر: 4، وخاصة 4-2 من الباب الثاني) وفي الوقت نفسه لا يمكن القول بأن النصوص تحيل المجتهد على العرف فيما لا نص فيه مباشرة، ومن ثم لا يمكن القول بكونه مصدرًا يعترف بحجيته في الشريعة الإسلامية وإذا أمعن الباحث النظر في القضية يجد في هذا الموقف أمرًا طبيعيًّا، لأن الاعتراف بمصدرية العرف لا يتفق وأسس التفكير الإسلامي وبنية فلسفة الحقوق الإسلامية وتسبب أيضًا بعض المشاكل من ناحية منهجية الحقوق (سنلقي فيما بعد نظرة عابرة على القضية من ناحية فلسفة الحقوق) . أما من ناحية منهجية الحقوق فما يجب الانتباه إليه هو أن العرف إذا تم الاعتراف بمصدريته في الشرع فليس للمجتهد إلا القيام بتثبيت وجوده وعدم مخالفته للنصوص صراحة، ثم يكون العرف ملزمًا من الجهة الشرعية، ويسد ذلك إلى حد كبير على المجتهد إمكانية الاجتهاد من أجل التوصل إلى الحال الأنسب وإلا وقف مع روح الشريعة الإسلامية في القضية المعروضة عليه والتفكير في المقاصد العامة والخاصة للنصوص مما يمكن إيجاد رابطة بينه وبين تلك القضية بينما إذا كان العرف يلعب دوره كحجر أساسي في مناهج الاستنباط مثل الاستحسان والاستصلاح أمكن للمجتهد أن يقدم على العرف ما يجب مراعاته بالدرجة الأولى لتحقيق مقاصد الشريعة من مبادئ وإن كان العرف الوارد في القضية المعينة لا يصطدم صراحة مع النصوص. وفي الحالة التالية تبرز بوضوح أكثر أهمية عدم الاعتراف بمصدرية العرف من ناحية منهجية القانون: في نظم الحقوق المكتوبة إذا كان العرف معترفًا به كمصدر مستقل بعد القانون، لا يمكن التحدث عن عملية ملء " فراغ قانوني " من طرف القاضي في حالة ما إذا وجد عرف القضية المعروضة ولم يوجد نص قانوني يتناول في حكمه تلك القضية، ولا يستطيع القاضي في هذه الحالة مراجعة القياس الذي هو منهج من مناهج ملء الفراغ القانوني، أما إذا لم يعتبر العرف مصدرًا مستقلًا في الحالة ذاتها يجب أن يتولى القاضي ملء هذا الفراغ ويتمتع بإمكانية مراجعة مناهج ملء الفراغ القانوني ومنها القياس فيتبين من خلال هذه المقارنة أن عدم اعتبار العرف مصدرًا مستقلًّا في الفقه الإسلامي مكن القياس من الحفاظ على قيمته المنهجية وقد أشرنا إلى أن القياس الوارد في " العرف يترك به القياس " ليس المقصود منه غالبًا معناه الأصولي (القياس القانوني gesetsesanalogie) ، وإنما القاعدة العامة (القياس الحقوقي rechtsanalogie) وكذلك المقصود من " العرف " فيه هو الإجماع السكوتي أو السنة التقريرية بالنسبة لبعض المسائل (1) .   (1) انظر: الباب الأول 2-1-2 والهامش 56، 57 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2766 6-2- مفهوم " المصدر " من ناحية فلسفة الحقوق الإسلامية وتقييم العرف: المقصود من مفهوم المصدر من ناحية فلسفة الحقوق هو المصدر بمعنى منشأ الحقوق، ومما أجمع عليه الفقهاء المسلمون – وبينهم المعتزلة أيضًا – أن الحقوق الإسلامية بهذا المعنى إلهية تعتمد على الوحي، وأن سلطة إنشاء الحكم ليست لأحد إلا لله وأن العقل ليس له استقلال في هذا المعنى هذه الناحية هي المتفق عليها بين علماء المسلمين. إلا أنهم اختلفوا في مسألتين: الأولى: هل أحكام الله لا تعرف إلا بواسطة رسله، أو يمكن للعقل أن يستقل بإدراكها وعلى أي أساس يكون هذا؟ والثانية: وإذا أمكن للعقل أن يدرك حكم الله دون وساطة الرسول، فهل يكون هذا الإدراك مناط التكليف وما يترتب عليه من ثواب وعقاب في الآجل ومدح وذم في العاجل؟ والمناقشات حول هاتين المسألتين أدت إلى قيام نظرية عرفت بين العلماء المسلمين بنظرية " الحسن والقبح " (1) . ونحن نكتفي – دون أن نتطرق إلى تفاصيل هذه النظرية – بلغت النظر إلى أن الأحكام التي أمكن التوصل إليها بمجرد العقل لا تعتبر ملزمة عند العلماء المسلمين – إلا لقليل منهم – وإن كان الفقهاء الذين تبنوا رأي الماتريدية ومن وافقهم يتوسعون في الاجتهاد بالرأي أكثر الآخرين (2) وهذا يعني أن اعتبار العرف مصدرًا مستقلًّا في الفقه الإسلامي لا يتفق والمبدأ الفلسفي للفقهاء (3) .   (1) انظر الخلاصة مركزة في الموضوع اعتمادًا على كشف الأسرار للنسفي وحاشية قمر الأقمار للكنوي والمسامرة في شرح المسايرة لابن همام: الدواليبي، المدخل إلى علم أصوله الفقه، ص 170، 173 (في الهامش) . (2) الدواليبي، الكتاب المذكور، ص 174. (3) أبو سنة، العرف والعادة، ص 30، 31. ZIADEH (Farhat j.) ، " Urf and law in Islam"، The World Of Islam Studies in honour of P.k.Hltti، London, 1959، p 62.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2767 هذا وإن الدكتور محمد حميد الله يركز على ملاحظة هامة فيما يقوله في فلسفة الحقوق الإسلامية: " ومما لا شك فيه أن المؤمن يطيع ما أمره الله به ورسوله طوعًا، أما ما يتعلق بآراء الفقهاء الذين لم تثبت لهم العصمة مثل الرسول، فهناك اعتباران في نفاذها في المجتمع، فالاعتبار الأول هو أن الفقهاء مكلفون باستنباط الأحكام بطريق القياس على معطيات القرآن والسنة، فبهذه الطريقة يمتزج الحكم المستنبط بمصدره الأصلي الذي استنبط منه والثاني أنه قبل كل شيء يفرض أن لا يكون الفقيه راسخًا في العلم فقط، بل يجب أن يكون مع رسوخه في العلم ورعًا ومتحليًّا بأخلاق حسنة " (1) . وفي هذا المعنى يقول سافوري: " القانون في نظر المسلم جزء متمم لدينه ... وكذلك القانون في نظره أمر الله المعتمد على الوحي مثل القرآن " (2) . ويجدر بنا الإشارة إلى ناحية أخرى تتعلق بالمبدأ الفلسفي وتعين الباحث في الكشف عن سر الثنائية الملحوظة في موضوع العرف في أدب الفقه الإسلامي وهي مسألة مضامين الفقه الإسلامي، والواقع أن الفقه الإسلامي لا ينظم علاقات الإنسان ببني الإنسان فحسب كما يفعله الفقه البشري، بل يتعدى ذلك إلى تنظيم علاقاته مع خالقه أيضًا حتى أن جميع الأحكام في الفقه الإسلامي المتعلقة بتصرفات الإنسان بما فيها علاقاته مع أبناء جنسه تصطبغ بصبغة إلهية الأمر الذي يحمل الفقيه على النظر في القضايا لا من زاوية النتائج الدنيوية لها فقط، بل زاوية نتائجها الأخروية أيضا وبالتالي فإن مسألة الجواز وعدم الجواز وما يتعلق بالعبادات وما للأحكام من جهتين ديانية وقضائية تشكل مجالًا فسيحًا في الدراسات الفقهية وتوسع نطاقها ونتيجة لذلك نجد كتب الفروع في الفقه الإسلامي تعتمد على العرف في مسائل كثيرة من فروع لا يتطرق إليها الفقه الوضعي في قليل أو كثير مثل ألفاظ اليمين والطلاق.   (1) HAMIDULLAH ," Philosophie juridique chez les musulmans"، p140, 141. (2) SAVORY, lntroduction To Islamic Civilisation، p54. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2768 6-3- نظام إعمال الأدلة الشرعية في الفقه الإسلامي ومكانة العرف فيه، وأخيرًا: نود أن نشير إلى بعض المقاطع التي لها أهمية من ناحية تقييم مكانه العرف في الفقه الإسلامي: أولا: كان العرف مصدر تنظيم لكل المجالات الاجتماعية عند العرب قبل الإسلام، أما بعدة فقد أهميته السابقة، لأن الإسلام جاء بالقرآن والسنة كمصادر أصلية للتشريع (1) وذلك ما يلاحظ في نظم الحقوق الحديثة أيضًا حيث إن العرف أصيب بالوهن بعد قيام حركات التدوين فيها حتى يمكن القول بأن العرف لم يعد يحتل مكانته السابقة في الفقه الإنكليزي اليوم. ثانيا: إن العقل بمعنى " النفي الأصلي "أو " العدم الأصلي " الذي يذكره الغزالي بين أدلة الأحكام والذي يقول فيه: " إن تسميته أصلا من أصول الأدلة تجوز " لا يمكن إنكار أهميته من ناحية نظام إعمال الأدلة، أي أن الاستصحاب في معناه الضيق يغني الفقيه من البحث عن الدليل في الجزئيات كلها وبعبارة أخرى فإنه لا يمكن التحدث عن وجود حكم يأتي بتكليف (الوجوب، الندب، الحرمة، الكراهة (أو مؤيده شرعية) مثل الفساد أو البطلان أو العقوبة أو الضمان) في الفقه الإسلامي إلا بالاستناد إلى النصوص الخاصة (أي بالاجتهاد البياني أو القياسي) أو إلى روح النصوص (أي بالاجتهاد الاستصلاحي) كما أسلفنا إذًا فالمجال واسع لمواكبة العرف لمتطلبات الحياة لأن الأصل هو الإباحة في الأشياء وبراءة الذمة، ما لم يعول في الحكم المخالف لذلك على النصوص إما مباشرة وإما برابطة خاصة – وهي العلة ومنهج ربطها يسمى قياسًا – أو عامة – وهي مبادئ الشريعة ومنهج ربطها يسمى استصلاحًا. ثالثًا: يتبين ما سبق أن العمل بالعرف في تشريع الإباحة لا يقتضي دليلًا خاصًا، لكونه من مقتضيات مبدأ النفي الأصلي، وإنما تمس الحاجة إلى دليل خاص في التشريع الإلزامي ولتوضيح ذلك نقتبس من العلامة الطاهر ابن عاشور ما يقول فيه: " ولهذه الحكمة الخصوصية جعل الله هذه الشريعة مبنية على اعتبار الحكم والعلل التي هي من مدركات العقول لا تختلف باختلاف الأمم والعوائد ". إذن فمراعاة عوائد الأمم المختلفة هو خلاف الأصل في التشريع الإلزامي وإنما يسعه تشريع الإباحة حتى يتمتع كل فريق من الناس ببقاء عوائدهم.   (1) المحمصاني، فلسفة التشريع: ص 182. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2769 لكن الإباحة لما كان أصلها الدلالة على أن المباح ليس فيه مصلحة لازمة ولا مفسدة لزم أن يراعى ذلك في العوائد فمتى اشتملت على مصلحة ضرورية أو حاجية للأمة كلها أو ظهرت فيها مفسدة معتبرة لأهلها لزم أن يصارَ بتلك العوائد إلى الانزواء تحت القواعد التشريعية العامة من وجوب أو تحريم ولهذا نرى التشريع لم يتعرض لتعيين الأزياء والمساكن والمراكب فلم يندب الناس إلى ركوب الإبل في الإسفار ولم يمنع أهل مصر والعراق من ركوب الحمير ولا أهل الهند والترك من الحمل على البقر، لذلك لم يحتج المسلمون إلى تطلب دليل على إباحة استعمال العجل والعربات والأرتال، وكذلك أصناف المطاعم التي لا تشتمل على شيء محرم الأكل بحيث لا يسأل عن ذلك إلا من جاهل بالتركيب أو جاهل بكيفية التشريع. فنحن نوقن أن عادات قوم لا يحمل عليها قوم آخرون في التشريع ولا أن يحمل عليها أصحابها كذلك، نعم يراعي التشريع حمل أصحابها عليها ما داموا لم يغيروها، لأن التزامهم إياها واطرادها فيهم يجعلها منزلة منزلة الشروط بينهم يحملون عليها في معاملتهم إذا سكتوا عما يضادها " (1) . ففي التشريع الإلزامي لا يعتبر العرف مصدرًا بصورة مباشرة وإنما يلعب دوره عن طريق منهج الاستصلاح وفي بعض الأحيان عن طريق منهج القياس كما بينا في الباب الأول، ولعل الأستاذ أبا سنة يقصد هذا المعنى، إذ يرى من الضروري رد العرف إلى واحد من الأصول الشرعية مثل المصلحة المرسلة، وأصل المنافع والمضار ودلالة الإجماع للتعويل عليه (2) . رابعا: يشاهد أن العرف يلعب دوره أيضا عن طريق منهج الاستحسان الذي يتسم بطابع سلبي فتزول به شدة وقسوة القياس أي القاعدة العامة التي يرى المجتهد عدم انطباقها على بعض المسائل من خلال اختبار الصحة المنطقية أو الصحة الأخلاقية أو الصحة الاجتماعية والثقافية للحقوق. * * *   (1) الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 89-91. (2) أبو سنة، العرف والعادة ص 32 – 43. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2770 الخاتمة من خلال دراستنا للعرف في الفقه الإسلامي نخلص إلى ما يلي: 1- لا يمكن إنكار ما للعرف من تأثير عميق على الفرد والمجتمع كما لا يمكن القول بأن التشريع الإسلامي أهمل هذا التأثير له ولم يحتفل به. 2- ويمكن البت – بعد تمحيص النظر في النصوص – في أن العرف يجب مراعاته في استنباط الأحكام وتطبيقها ولكن لا يبدو أن هناك إمكانية القول بأن النصوص اعتبرت العرف مصدرًا مستقلا لأن إثبات أصل من الأصول (المصادر) يقتضي الدليل القطعي كما نبه إلى ذلك الغزالي بمناسبة تقويم حجية دليل آخر. أما الأدلة المذكورة بصدد إثبات حجية العرف فهي ظنية كما بينا ذلك في مكانه والجدير بالذكر هنا أننا إذا نظرنا إلى ما يستند إليه كثير من الباحثين بقولهم: " يستدل العالم الفلاني بالآية الفلانية أو الحديث الفلاني على حجية العرف " نلاحظ أن هذا العالم لا يتناول موضوع حجية العرف مستقلا، بل يتحدث عن حجيته بمناسبة حكم فرعي لتدعيم النتيجة التي توصل إليها والتي لها صلة بالعرف. إلا أنه إذا وضعنا نصب أعيننا أن الدليل الأقوى في نظر العلماء بين الأدلة التي يستدل بها على حجية الإجماع هو ما جاء في عدد كبير من الأحاديث المروية بطريق الآحاد من الدلالة على معنى مشترك مفاده عدم اتفاق الأمة الإسلامية على الضلالة وضرورة ملازمة الجماعة (أي هو المتواتر المعنوي) فالقيام بمثل هذا الاستدلال بشأن العرف لا غبار عليه ولكن النتيجة النهائية لهذا الاستدلال – بحسب ما يبدو لنا – لا تمكننا من قبول العرف مصدرًا مستقلا (1) .   (1) يقول أبو سنة: " فهذا شهاب الدين القرافي يعتد العوائد من أدلة حجية الأحكام " (العرف والعادة ص 28) وبعد دراسة أدلة حجية العرف يخلص إلى أن الفقيه لا يمكن أن يتخذه دليلًا ما لم يؤيده أصل من أصول الفقه (ص 32) ثم يقول: " إن المراد من جعل العوائد دليلًا في كلام القرافي أنها طريق للقاضي إلى الفصل في الدعوى (ص 32) . ونجد ZIADEH أنه يصرح – مستندا إلى كتاب أبي سنة ص 32 – بأن القرافي عد العوائد بين مصادر الفقه واعتبرها مصدرًا محددًا (“ Urf and law in Islam ”,p64) ”a definite soure” والحقيقة أن القرافي يمتاز بتفريقه المعاني المختلفة لمفهوم " الدليل " عن بعضها البعض؛ إذ يقسم الأدلة إلى ثلاثة أقسام: أدلة مشروعيَّة الأحكام، وأدلة وقوع الأحكام، والحجاج وعند تناوله أدلة مشروعية الأحكام لا يعد إلا ثمانية عشر دليلا ولا يذكر بينها العرف أو العوائد مع أنه يقول " وهي نحو عشرين " الفروق: 1 /128 الفرق: 26 أما في كتابه المتعلق بالأصول فيقول في الباب الذي عنونه " في جميع أدلة المجتهدين ": "وهي تسعة عشر "، ويذكر بينها " العادات " (تنقيح: ص 74؛ " العوائد " في شرحه: ص 200) ثم يقول: " ينقل عن مذهبنا أن من خواصه اعتبار العادات والمصلحة المرسلة وسد الذرائع وليس كذلك. أما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها " (ص 76، وشرحه: 200) . بالرغم من أن هذا التصريح يمكن اعتباره استثناء لعدم تناول الأصوليين العرف فإنه ليس تناول العرف ودراسته كدليل مستقل في حقيقة الأمر، وإنما عبارة عن ذكره بين مناهج التشريع ومبادئه، علمًا بأن القرافي لا يذكره في الفروق بالرغم من عده ثمانية عشر دليلًا فيه أما عبارة " العرف مشترك " الواردة في كتاب القرافي وكذلك النسفي (المستصفى، مخطوط، مكتبة سليمانية (استانبول) قسم فاتح، رقم 1846، ق 132/ أ) فيبدو أنها تعود في آخر المطاف إلى التنويه بدور العرف في تفسير النصوص والتصرفات القانونية ونتوصل من خلال ذلك إلى أن القرافي لا يعتبر العرف دليلًا في معنى " المصدر الحقوقي "، مع اهتمامه الكبير به سواء في استنباط الأحكام أو في أمور الفتوى والقضاء فمع أننا نشارك رأي الأستاذ أبي سنة في هذه المسألة مبدئيًّا، إلا أننا لا نحبذ حمل كلام القرافي على أن العوائد طريق للقاضي إلى الفصل في الدعوى فقط، لأنه يذكرها بين " أدلة المجتهدين ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2771 وإنما يمكن القول بأن النقطة المشتركة للأدلة الخاصة والعامة التي تناولناها من قبل هي " ضرورة مراعاة العرف " في الشريعة الإسلامية، أما اعتبار العرف مصدرًا مستقلًّا فلا يتفق والبنية المنهجية والفلسفية للفقه الإسلامي ولو عنيت مرتبته بين سلسلة المراتب للأدلة وحدد بقيد عدم مخالفته للنص. 3- قمنا بتثبيت ظاهرة هامة بالنسبة لمكانة العرف في أدب الفقه الإسلامي، وهي أن كتب الأصول مع أنها تولي كبير أهمية لمناقشة الأدلة الشرعية سواء كانت معترفًا بحجيتها أو غير معترف بها لا تهتم بالعرف سلبًا ولا إيجابًا وفي مقابل ذلك يلاحظ أن العرف احتل في كتب فروع الفقه مكانًا ليس متوازيًا مع وضعه في كتب الأصول حتى أن بعض المؤلفين يجعل العرف سببًا للاستحسان في كتابه المتعلق بالفروع ويحترز عن ذلك في كتابه الخاص بعلم أصول الفقه وكذلك البعض منهم يذكر تعامل الناس بين أصول الشرع في كتابه المتعلق بالفروع بيد أنه لا يتحدث عنه في مكانه أي أثناء تناوله لأصول الشرع في كتابه المتعلق بأصول الفقه (وقد أتيحت لنا فرصة التنبيه إلى خطأ قد يشوش فكر الباحث في تقييم العرف، وهذا الخطأ الذي شاع في كتب عدد من العلماء الأجلاء نسبة تعريف للعرف إلى الغزالي مستندًا إلى كتابه المستصفى من علم الأصول) . وهنا ينبغي الأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر كل من كتب الأصول والفروع – بالإضافة إلى ما لفتنا النظر إليه من البنية المنهجية والفلسفية للفقه الإسلامي – لتثبيت عوامل هذه الظاهرة ونحن حاولنا جهدنا لتسليط الأضواء على هذه الناحية بلفت النظر إلى ضرورة تناول مفهوم " المصدر الشكلي " بالتفريق بين أدوار الاجتهاد وبين الأدوار التي تلت عهد تكون المذاهب. وإلى جانب ذلك ذكرنا أن العرف الذي ينوه بمكانته في فروع الفقه ليس في أغلب الأحيان في معنى العرف الذي يلعب دور القاعدة القانونية، بل هو العرف الذي يراعى في تفسير النصوص والعرف المتعلق في نهاية أمره بقواعد اللغة (ولا سيما العرف المفسر لعبارات اليمين) والعرف الذي يساعد الحاكم في تقدير أدلة الطرفين أثناء القضاء. 4- وبطريقة الإشارة إلى نظام إعمال الأدلة الشرعية في الفقه الإسلامي أوضحنا أن مبدأ مراعاة العرف يلعب دوره غالبًا بشكل طبيعي ودون الحاجة إلى التعبير عنه نظريًّا، وأنه يجري مهمته عن طريق مناهج الاستحسان والاستصلاح خاصة في حالات تضمن الحكم تكليفا شرعيًّا أو مؤيدة شرعية أو التي تقتضي الاستثناء من القاعدة العامة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الدكتور إبراهيم كافي دونمز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2772 العرف بين الفقه والتطبيق إعداد محمود شمام الرئيس الشرفي لمحكمة التعقيب الأستاذ المحاضر بالجامعة الزيتونية عضو المجلس الإسلامي الأعلى بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} . مقدمة يسعدني ويشرفني أن أشارك في هَذه الدورة المباركة، للمجمع الفقهي الإسلامي المنعقدة بهذا البلد الإِسلامي العربي الكريم المضياف. واخترت الحديث عن الموضوع اقترحه على المجمع، له أهمية قصوى في حياة الناس ومعاشهم، وله صلة وثيقة ومتينة بما يسن من تقنين يضبط تلكم الحياة ويحدد معالمها، ويحمي المعاملات بين الأفراد والمجموعات. فالعرف يفزع إليه القاضي كلما فقد النص أو احتاج إلى شرح غموض بنص بين يديه في موضوع معين إذ العادة محكمة لإثبات حكم شرعي وشرح مقاصد الأطراف وتفسير العقود والاتفاقات وإزاحة الغموض عنها وإنارة السبيل أمام القاضي والمتقاضي. والعادة تعتبر من الأدلة الشرعية، فقد وضعت قواعد شرعية تشير إلى استعمالها بصفة أدلة لإِثبات المسائل الفقهية ضرورة، أن العادة طبيعة ثانية وهي محكمة بين الناس أي أن العادة عامة كانت أو خاصة تجعل حكمًا لإِثبات حكم شرعي وإقرار على ما يحدث وينزل من قضايا، وهي حكم لإِزالة لبس وغموض غشي اتفاق بعض الأفراد. والعادة لها تأثير على النفس، إذ متى رسخت العادة وتكررت ألفتها النفوس وخضعت لتقاليدها وأحكامها وليس من الميسور نزع الناس عن عاداتهم وما ألفوه في حياتهم. فالعادة والعرف لهما أهمية كبرى في مد نطاق الأحكام الشرعية والتوسع فيها بجعلها تطابق الأزمنة المختلفة على حساب احتياجات العصر ومتطلباته ومخترعاته ومحدثاته، وما يجد كل يوم من جديد. ومن مبادئ الشريعة الإِسلامية السمحة ومن مقاصدها أن الأمر إذا ضاق اتسع لأن المشقة تجلب التيسير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2773 ولذا فإنه باختلاف الأزمان والمدن والشعوب يمكن أن تتبدل المسائل التي تبنى على العرف، والفقه الإِسلامي كان له القدح المعلى في هذا الميدان بما خطه من أحكام وقره من قواعد ظهرت نتائجها عند التطبيق والعمل والتنفيذ. والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار العرف لغة: العرف له عدة مفاهيم لغوية. جاء في المصباح: أمرت بالعرف أي المعروف وهو الخير والرفق والإِحسان. وجاء في لسان العرب، لابن منظور: العرف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإِحسان إلى الناس. العرف اصطلاحًا: هو ما اعتاده الناس وألفوه من قول أو فعل، إذا تكرر من بعد أخرى حتى تمكن أثره في نفوسهم واطمأنت إليه قلوبهم وطباعهم وتلقوه بالقبول. قال في المستصفى (1) : العرف هو ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السلمية بالقبول.   (1) ذكر المرحوم أبو زهرة في كتابه: مالك: ص 555 في التعليق أسفل الصفحة: قال الغزالي في المستصفى العرف والعادة ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطابع السليمة بالقبول. كما ذكر ذلك الأستاذ مصطفى الزرقاء في كتابه المدخل الفقهي العام: 2 /841 طبعة عاشرة في الهامش: قال الغزالي في المستصفى إلخ ... أما ابن عابدين في رسالة نشر العرف المنشورة ضمن رسائله: 2 /114، فإنه ذكر التعريف ناسبًا إيَّاه إلى المستصفى دون ذكر الغزالي، فظن من نقل عنه ممن ذكرنا وغيرهم أنه كتاب المستصفى للغزالي مع أنه لا وجود لهذا التعريف به. وابن عابدين يقصد المستصفى شرح الفقه النافع في الفروع، لأبي البركات عبد الله النسفي صاحب العقائد والتفسير المسميين باسمه والمتوفى سنة 710 /1310، ترجمته في كتاب الفتح المبين في طبقات الأصوليين، للشيخ المراغي: 2 /108. وقد لفت الانتباه إلى ذلك د. محمد بن إبراهيم في أطروحته عن الاجتهاد – لا زالت مخطوطة -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2774 وجاء في رسالة نشر العرف، لابن عابدين الحنفي ضمن رسائله: 2 /11، وما بعدها: والعادة مأخوذة من المعاودة، فهي بمعاودتها صارت معروفة مستقرة في النفوس. فالعادة والعرف معنى واحد من حيث المصداق وإن اختلفا من حيث المفهوم. ومن هذا يتبين أن عادة الجماعة وعرفها بمعنى واحد في نظر فقهاء الشريعة أو على الأقل مؤداهما واحد وإن اختلفا من حيث مفهوم اللفظ. وجاء في كتاب التعريفات تعريف، لأبي الحسن على بن محمد بن على الجرجاني الحنفي المتوفى سنة 816 هـ، قوله: " هو ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطباع بالقبول". يقول عز الدين بن عبد السلام الشافعي الفقيه الملقب بسلطان العلماء في كتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام: " أما مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإِجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح ". وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها، فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته ومن أراد أن يعرف المناسبات والمصالح والمفاسد راجحها ومرجوحها، فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده، ولم يقفهم على مصلحته ومفسدته. حجية العرف: لا خلاف تقريبًا بين الفقهاء في اعتماد العرف لاستمداد بعض الأحكام وترتيب القضاء عليه، وإن اختلفوا في التفاصيل والجزئيات والفروع وحتى الأمثلة أحيانًا. ودليل الأخذ بذلك من القرآن الكريم قوله سبحانه وتعالى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [سورة الأعراف: الآية 199] . والعرف هو المعروف الجميل المستحسن من الأقوال والأفعال. وقوله سبحانه وتعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة الحجرة: الآية 77] . وذلك لأن الاعتماد على العرف طريق من طرق التوسم والتثبت والتفكير لاستنباط الأحكام لما يحدث من قضايا لا تشملها النصوص. ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة النساء: الآية 6] . ففيه إحالة على ما جرى به العرف وسار الناس عليه في شأن أجرة الولي في مال اليتيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2775 وقد عقد الإِمام البخاري بابًا في صحيحه تحت عنوان: باب في من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيع والإِجارة والكيل والوزن وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة. ونقل عن شريح القاضي أنه كان يقول: سنتكم بينكم. وفي قضاء الرسول لامرأة جاءته تشتكي شُحَّ زوجها في النفقة عليها وعلى أولادها، وهو ثري لكنه بخيل، فقال لها عليه الصلاة والسلام: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) . أي أنه أحالها على ما جرى به العرف في هذا الشأن. وقد اعتمد الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم كثيرًا من أعراف الجاهلية الحسنة واتبعه أصحابه في ذلك والتابعون، واستمر العمل بذلك عند فقهاء الأمصار. فالحنفية: يقولون التعيين بالعرف كالتعيين بالشرط والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا واستعمال الناس حجة يجب العمل بها ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان (1) . يقول سهل بن مزاج في بيان الأصول التي بنى عليها أبو حنيفة استنباطه: " كلام أبي حنيفة أخذ بالثقة وفرار من القبح والنظر في معاملات الناس، وما استقاموا عليه وصلحت عليه أمورهم يمضي الأمور على القياس فإذا قبح القياس يمضيها على الاستحسان ما دام يمضي له فإذا لم يمضِ له رجع إلى ما يتعامل به الناس وهو العرف". وأما المالكية: فهم يعتبرون العرف لاستنباط الأحكام عليه. يقول مالك. رضي الله عنه: "وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أثر معمول به فيه" (2) .قاله في تعليقه على حديث خيار المجلس وتخريجه له في الموطَّأ لأن العمل في المدينة جرى على خلافه، وهو يوضح موقف أنه لو وجد حدًّا متعارفًا بين أهل المدينة في ذلك لقال به. ويروي عنه أيضًا أنه يخصص العام بالعرف في تفسير قوله سبحانه وتعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [سورة البقرة: الآية 233] . فيقول هو خاص بغير ذوات الأقدار والشرف ولا يجب على الشريفة إرضاع ولدها لأن العادة جرت بذلك. وهو يستند هنا إلى العرف مع عدم وجود الإِنكار. قال ابن السُّبكي في جمع الجوامع: " والأصح أن العادة بترك بعض الأمور تخصيص إن أقرها الرسول صلى الله عليه وسلم أو الإِجماع ومن هذا القبيل اكتفاؤهم في صحة البيع بالمعاطاة دون صيغة للإِيجاب والقبول " (3) .   (1) انظر الأشباه والنظائر، لابن نجيم، ومثلها للسيوطي. (2) تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، للسيوطي: 2 /79، ط. دار الفكر. (3) كتاب الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، للشيخ الخضر بن الحسين: ص 38؛ وكتاب أصول النظام الاجتماعي، لشيخنا محمد الطاهر ابن عاشور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2776 والحنابلة: لم يأخذوا بالعرف نظريًّا لتمسُّكهم بالنَّص واعتمد بعضهم العرف في حالات خاصة. يقول الإِمام ابن تيمية في شأن الأسماء: "ومنها ما يرجع حده إلى الناس وعرفهم، فيتنوع بحسب العادة والعرف كاسم البيع والنكاح والقبض والدراهم والدينار، ونحو ذلك من الأسماء التي لم يحدها الشارع بحد ولا لها حد واحد يشترك فيه جميع أهل اللغة بل يختلف قدره وصفته باختلاف عادات الناس" (1) . ويقول ابن القيم في إعلام الموقعين: " لا يجوز للمفتي أن يفتي في الإِقرار والأيمان والنذور والوصايا، وغيرها مما يتعلق باللفظ بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ دون أن يعرف عرف أهلها والمتكلمين بها فيحملها على ما اعتادوه وعرفوه وإن كان مخالفًا لحقائقها الأصلية فلفظ الدينار اسم لثمانية دراهم وعند طائفة أخرى اسم لاثني عشر درهمًا وكذلك في ألفاظ الطلاق" (2) . الشافعية: يعتمد فقهاء الشافعية العرف ويعملون به رغم عدم أخذ الشافعي به. والإمام عز الدين بن عبد السلام يقرر في كتاب قواعد الأحكام: 2 /186: إن كل ما يثبت في العرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد صح، فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكل ولا شرب لزمه ذلك ولو شرط عليه أن لا يصلي الرواتب أي النوافل وأن يقتصر في الفرائض على الأركان وجب الوفاء بذلك لأن تلك الأوقات إنما خرجت عن الاستحقاق بالعرف القائم مقام الشرط، فإذا صرح بخلاف ذلك مما يجوزه الشرع ويمكن الوفاء به جاز. يقول المرحوم محمد أبو زهرة في كتابه: مالك (3) . "ويظهر أن الشافعية أيضًا يحترمون العرف إذا لم يكن نص، فإن العرف يغلب في حكمه لأن الناس خاضعون له فعلًا بحكم الألف والاعتياد وليس لأحد أن يمنعهم في الأخذ به إلا بنص محرم فحيث لا محرم فلا بد من الأخذ به".   (1) الفتاوي: 19 /236. (2) إعلام الموقعين: 4 /289. تحقيق عبد الرحمن الوكيل وشمس الدين محمد (3) ص 353. توفي أبو زهرة رحمه الله في 19 ربيع الأول سنة 1394 هـ الملاقي 12 أبريل 1974م. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2777 ولقد وجدنا ابن حجر – وهو شافعي – يقرر أن العرف يعمل به إذا لم يكن في العمل به مخالفة لنص. وذلك لأن القرطبي قال في قوله صلى الله عليه وسلم لامرأة أبي سفيان: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) : في هذا الحديث اعتبار العرف في الشرعيات خلافًا للشافعية فرد الحافظ ابن حجر هذا الاستدلال بأن الشافعية إنما منعوا العمل بالعرف إذا عارضه النص الشرعي ولم يرشد إليه فكان لهذا يومئ من جهة أن الشافعية يأخذون بالعرف أحيانًا. الشيعة الإِمامية: العرف تأكيد لحكم العقل أو أنه من أدلة الإِجماع، يقول الشيخ محمد جواد مغنية (1) ، وهو فقيه شافعي: يصح بيع المعاطاة ويحتج له قائلًا: إن المأخوذ بالمعاطاة يطلق عليه اسم بيع عرفًا ولغة وإذا صدق اسم البيع على المعاطاة شملها جميع ما دل على الصحة من الآيات والروايات مثل قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} و {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} و {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنون عند شروطهم)) . والخلاصة: هو اتفاق كلمة الأئمة على اعتبار العرف والنظر إليه عند حدوث القضايا ونزول المشاكل وطرحها من أصحابها للحلول. وعلى هذا كانت الفتوى من الأئمة الفقهاء. فالقرافي يقرر في كتابه الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 231، تحقيق الشيخ أبي غدة: "إن استمرار الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإِجماع وجهالة في الدين بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة الجديدة وليس هذا تجديدًا للاجتهاد من المقلِّدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد. وابن القيم في أعلام الموقعين (2) ، يقول في شأن العرف: "هذا فصل عظيم النفع جدًّا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف مالا سبيل إليه ما نعلم أن الشريعة التي هي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد. وهي عدل كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها".   (1) كتاب فقه الإِمام جعفر الصادق: 3 /28. دار العلم للملايين. بيروت. (2) 3 /5. طبع دار الكتب الحديثة مصر 1389 هـ/1969م. تحقيق الوكيل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2778 ويقول شيخنا الأستاذ الإِمام محمد الطاهر ابن عاشور برد الله ثراه وجعل الجنة مأواه (1) : ومن معنى حمل القبيلة على عوائدها في التشريع إذا روعي في تلك العوائد شيء يقتضي الإِيجاب والتحريم، يتضح لنا حيرة وإشكال عظيم يعرض للعلماء في فهم كثير من نهي الشريعة عن أشياء لا نجد فيها وجه مفسدة بحال مثل تحريم وصل الشعر للمرأة وتفليج الأسنان والوشم في حديث ابن مسعود: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الواصلات والمستوصلات والواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. فإن الفهم يكاد يضل في هذا إذ يرى ذلك صنفًا من أصناف التزيين المأذون في جنسه للمرأة فيتعجب من النهي الغليظ عنه. ووجه عندي الذي لم أرني اهتدي إليه أن تلك الأحوال كانت في العرب أمارات رقة حصانة المرأة، فالنهي عنها نهي عن الباعث عليها أو عن التعرض لهتك العرض بسببها، فهذا شرع روعيت فيه عادة العرب اهـ. أي أن الشارع نهى عن أشياء واعتبرها مفسدة نظرًا لما جرى عليه عرف العرب فيها لا بالنظر لها في ذاتها إذ لا قبح فيها ذاتيًّا فقبحها حف بها من العرف وهو يتغير ولو تغير لتغير الحكم تبعًا لذلك. وهذا شيخنا علامة عصره مفتي الديار التونسية المرحوم محمد الهادي بن القاضي يقول في دراسة له (2) : " ما من شك أن النصوص التشريعية في جميع الشرائع الدينية والوضعية غير محيطة بمختلف الحوادث والقضايا التي تحدث في المجتمعات البشرية المتجددة والمتحركة دومًا بحسب تجديد الحاجيات نتيجة حتمية لتغير ظروف الحياة العامة بسبب ما يجد من مخترعات حديثة وأساليب متنوعة في مختلف نواحي علاقات التعايش سواء بين الأفراد أو الجماعات أو الأمم. والنصوص التشريعية مرنة تكتسي صبغة العموم والإِجمال في الأغلب الأعم وهي قابلة للتفسير والتأويل بأوجه متعددة حتى كانت مثار اختلاف الفقهاء المجتهدين والشراح والمفسرين وكانوا محتاجين دومًا في تفسيرها للرجوع إلى عناصر أخرى يستعينون بها على فهم المراد وتحديده كالرجوع إلى عمل الصحابة وعلى الأخص المضطلعين بالحكم والإِفتاء منهم وعلى الخصوص أهل المدينة.   (1) مقاصد الشريعة الإِسلامية: ص 95. (2) نشرت بمجلة القضاء والتشريع عدد 1 ص 22 جمادى الآخر جانفي 1378 هـ / 1959 م الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2779 حتى يقول: وقد ذهب أكثر الأئمة من فقهاء المذاهب الإِسلامية إلى اعتبار العرف وبناء الأحكام عليه. مبدأ اعتبار العرف: فيما يتعلق بالحقوق والمعاملات لا بما يعود للأخلاق والآداب أو السلوك الاجتماعي. المبدأ العام يقول: "إن للعادة تأثيرًا على التشريع". ولتكريس هذا المبدأ للتطبيق نصت بعض القوانين فيما سنته أو أرشدت إليه على اعتبار العرف فيما يوضع من أحكام بطريق الاجتهاد والاستنباط والقياس والتفسير لبعض النصوص وإزاحة ما علق بها من غموض. فالعرف له علاقة وطيدة ومتينة بالاجتهاد وليس معنى ذلك أن الاجتهاد مع وجود النص أو في مواجهته بادعاء تغير العادات والأعراف وحدوث القضايا ونزولها تبعًا لذلك، فهذا لم يقل به أحد ولم يأتِ به أي مذهب من المذاهب. وقد اعتبر كل الفقهاء تقريبًا العرف بقيوده وشروطه، وذلك لأن الشارع الحكيم أقر بعض الأمور التي تعارفها العرب في جاهليتهم بعد أن هذبها ونظمها كالبيع والرهن والإجارة والقسامة وبعض الأمور في الزواج كالكفاءة وكفرض الدية على العاقلة. ولقد لعبت الأعراف دورًا كبيرًا وأقرتها الشعوب واحتكموا إليها قبل تدوين القوانين لأن العرف يعبر تعبيرًا صحيحًا عن إرادة الأمة والمجتمع وإذا استقر التعامل به وجبت مراعاته حفظًا لاستقرار المعاملات شريطة عدم مصادمته للنص خاصة وإن القضاء يسهل أمره إذا كانت أحكامه مطابقة لما عرفه وألفه الناس وتعودوا عليه. وقد قال بعضهم قديمًا: إن الشريعة غير المدونة هي التي تستحسنها العادة وتقرها. وقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن" (1) .أي ما رآه واستحسنه المسلمون في العادات والأعراف الحسنة فهو مقبول عند الله يعمل به وتصدر الأحكام طبق ما جرى به. شروط العرف: متى توفر للعادة عنصراها المادي والمعنوي النفسي الشعوري ومتى اطرد العمل بها واستحسنها الناس وألفوها حتى صارت تنظم شؤون حياتهم ومتى أصبح كل مخالف لها خارجًا عن الجماعة تحولت العادة عندئذٍ إلى عرف متبع تطبقه الجماعة ويرضخ له القانون ويقرأ حسابه ولا يقع التهاون بشأنه، لكن كل ذلك تحت قيود وشروط. 1- أن يكون العرف عامًّا في قطر أو بلد أو جهة من الجهات. وهذا أمر موضوعي يخضع – الآن – لفحص وإثبات محكمة الموضوع ولا يخضع لرقابة محكمة التعقيب أي النقض والإِبرام. وعمومه هذا يدل بصفة واضحة على أنه مقبول عند الناس ويستحسنونه لأن العادة إذا عمت كان ذلك دليلًا على تماشيها غالبًا مع الذوق الحسن والطبع السليم. 2- أن يكون العرف هذا قديمًا قد تكرر العمل به وألفه الناس وتعودوا عليه وعلموا به واستساغوه وحملوا بذلك القضاء على اعتباره. يقول ابن نجيم في الأشباه والنظائر: " يجب أن تكون العادة من الأمور المتكررة الشائعة". وتقول المادة 41 والمادة 42 من مجلة الأحكام العدلية: " إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت ". " العبرة للغالب الشائع لا للنادر ". 3- لا عبرة إلاَّ بالعرف السابق عن تاريخ المعاملة أو المقارن لها دون المتأخر عنها (2) . 4- أن يكون العرف ملزمًا، وهذا شرط مهم يميز العرف من العادة أي أن يقوم في ذهن الناس وجوب اتباع ذلك وأن مخالفته يترتب عنها الجزاء باعتبار أنه يمكن المطالبة طبقه. 5- العرف لا يقف في وجه النص. جاء في كتاب المنافع شرح المجامع، ص 324: " إن العرف إنما يكون حجة إذا لم يخالف نص الفقهاء".   (1) أخرجه الإِمام أحمد في مسند موقوفًا على ابن مسعود، ولم يرو مرفوعًا في كتب الحديث. رسالة نشر العرف لابن عابدين ضمن رسائله: 2 /115. وذكر الآمدي في الأحكام: 1 /112 أنه حديث. وجاء في شرح الحموي على الأشباه: 1 /127. وفي شرح المجامع: ص 308 أنه قول عبد الله بن مسعود حسبما ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة والعلائي وغيرهما. والموقوف معتبر عند الفقهاء لأن الصحابي لا يقول برأيه (2) الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 40؛ والأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 68. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2780 ويستثني الإِمام أبو يوسف النص المبني على العرف العام. والقانون يشترط أن يكون العرف مخالفًا للقانون أو للآداب أو النظام العام. فالعرف المعتبر حينئذٍ هو الموافق لمقاصد الشريعة وللأدلة الأصولية المعتبرة، أما ما جاء على خلاف ذلك وابتعد عن روح الشريعة وحكمتها ونصوصها فهو مردود لا يقبل ولا يطبق ولا يقضى به. يقول علامة تونس وفقيهها ومفتيها الشيخ إبراهيم الرياحي: والعرف المعتبر هو ما يخصص العام ويقيد المطلق، وأما عرف يبطل الواجب أو يبيح الحرام فلا يقول به أحد من أهل الإسلام (1) . أنواع العرف: هناك عرف نهى عنه الشارع وألغاه، وهناك عرف أقره وأذن فيه. وهناك قسم ثالث لم يلغه الشارع ولم يعتبره بدليل خاص وهذا محط الاجتهاد ومرجع فقه القضاء ومناط البحث والدرس. وهو عام وخاص: فالعام هو ما تعارفه أهل البلاد عامتهم وخاصتهم في زمن من الأزمنة. والخاص هو ما تعارفه أهل مدينة دون أخرى. ومن المعروف أن الحكم الشامل لا يثبت بالعرف الخاص. ثم إن العرف لفظي وفعلي؛ فالعادة اللفظية أن ينقل اللفظ ويصبح استعماله في معنى آخر هو الغالب والمتبادر منه عند الإِطلاق وهي الحقيقة العرفية المقدمة على الحقيقة اللغوية مراعاة للعرف العام، وهذا هو مفهوم قولة الفقهاء: "إن العرف يقدم على اللغة عند التعارض". وقد عرف ابن عابدين في رسالة نشر العرف هذا النوع بقوله: "تعارف قوم إطلاق لفظ لمعنى بحيث لا يتبادر عند سماعه غيره" (2) . وأما العادة الفعلية فهي أن يتعارف الناس التعامل على وجه من الأوجه لغرض معين أو لمصلحة بذاتها وهو مباح إذ لا نهي عنه. ومنه ما ذكروه في جواز انتفاع المستأجر بمصعد وضعه المالك لمنزل ذي شقق عديدة ولم يكن منصوصًّا عليه في عقد الإِجارة فجريان العرف به كاف في ثبوت حق المستأجر.   (1) أصول النظام الاجتماعي، للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور. (2) رسائل ابن عابدين: 2 /114، رسالة نشر العرف في بناء الأحكام على العرف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2781 الفرق بين العادة والعرف: ما نشأ عن تصرف شخصي أو عن عوامل طبيعية أو غير ذلك من العوامل هو عادة. فإذا استأنس الفرد ثم الجماعة بذلك ومالوا إليه وكرروه وألفوه وارتضوه تكون عندئذٍ العرف فهو عادة الجماعة وعنوان الرضا عن تصرف معروف. ورجال القانون يفرقون بين العادة والعرف، بأن الأولى غير ملزمة بذاتها إلاَّ إذا وقع الاتفاق عليها وهي مرجع لتفسير إرادة الطرفين وتعرية نيتهما الغامضة. بخلاف العرف فهو ملزم ذاتيًّا والمحكمة تقضي به بخلاف مجرد العادة فلا بد من التمسك بهما وإثباتها ثم إن محكمة التعقيب – النقض والإِبرام- تراقب قاضي الموضوع في شأن العرف وحسن تطبيقه بخلاف العادة إذا استأنس بها قاضي الموضوع فهي تدخل تحت سبر الوقائع وفحصها ويرجع ذلك لاجتهاد قاضي الموضوع الذي لا يدخل تحت رقابة محكمة النقض. ولذا فمن واجب القاضي فحص الأمر لتحقيق الفرق الدقيق بين مجرد العادة والعرف ليكون قضاؤه سليمًا لا يناله النقد ولا النقض. أمثلة العرف: عقد القرافي في كتابه الفروق فصلًا قيمًا في بيان أثر العرف في العقود التي تتأثر به. فعقد الشركة إن كان مطلقًا انصرف إلى المناصفة، والعقد على الأرض يدخل فيه الشجر والبناء، والعقد على البناء تدخل في الأرض، والعقد على الدار يشمل الأبواب والسلالم والرفوف، وعقد المرابحة يدخل في أصل الثمن أجرة الخياطة والتطريز وكل تحسين.. والعقد على الشجرة كما يشمل الأرض يشمل الثمرة التي تؤبر (1) . والقرافي يذكر في كتابه الإِحكام في تمييز الفتوى من الأحكام في الجواب عن السؤال التاسع والثلاثين ما ملخصه: "إن كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد في تمييز الفتوى من الأحكام في الجواب عن السؤال التاسع والثلاثين ما ملخصه: "إن كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة، ثم ذكر على سبيل المثال أحكامًا نص على أن المدرك فيها العادة وأنه يتعين تغير الحكم على ما تقتضيه العادة المتجددة ومنها ما سبيله اللفظ ومنها ما سبيله في الفعل. فأما الأول وهي العادة اللفظية فهو أن ينقل اللفظ ويصير استعماله في معنى آخر هو الغالب والمتبادر منه عند الإِطلاق وهي الحقيقة العرفية فيقدم على الحقيقة اللغوية مراعاة للعرف العام وهي معنى قول الفقهاء: إن العرف يقدم على اللغة عند التعارض. وأما الثاني وهي العادة الفعلية فهي أن يتعارف الناس التعامل على وجه من الأوجه لغرض ومصلحة فيكون سبيله الإِباحة حيث لا نهي".   (1) الفروق، للقرافي: 3 /287؛ مالك، لأبي زهرة: ص 355. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2782 ثم ذكر أمثلة توضح هذا المبدأ فمن ذلك أن الوكيل يتصرف في الأمر الذي وكل عليه لفائدة موكله، فإذا أوكله على أن يشتري له ثوبًا فاشترى له ثوبًا لم يعتد لبسه كان تصرفه مردودًا عليه. ذكر شيخنا العلامة المرحوم محمد الهادي ابن القاضي أن الغيبة وإن كانت من الكبائر فإنها لا تقدح في الشهادة لأنها غلبت على الناس، فالشرع يأذن بإلغائها في إسقاط الشهادة خشية ضياع الحقوق. ويقول رحمه الله في محاضرة له ألقاها على منبر ودادية القضاة: "وأذكر هنا قصة لطيفة كنت سمعتها من المنعم المبرور العلامة النظار الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر سابقًا أنه لما كان قاضيًا بمدينة بنزرت جاءته رسالة من المحكمة الشرعية العليا بتونس بأن يقبل التجريح في شهود وثيقة تجرح بعضهم بأنه يؤخر الصلاة عن وقتها. قال رحمه الله: فالتقيت بأستاذنا الشيخ محمد النجار المفتي وعضو المحكمة العليا فقال لي: إن تأخير الصلاة عن وقتها كالغيبة لا يجرح به في الشهود لأنه صادر غالبًا في الناس". اهـ. ومن الأمثلة التي اعتبرت مثالًا للعرف المنظور إليه موضوع خلو الحوانيت، فإن المالك لا يملك إخراج المستأجر منها ولا إجارتها لغيره بدون مقابل (1) . ومن هذه الأمثلة ما تحدثنا عنه في دراستنا حول الأصل التجاري في بعض الأنظمة وقيام هذا الحق على العرف. والأمثلة كثيرة يصعب حصرها خاصة في نطاق دراسة أريد لها أن تكون مختصرة موجزة. ففي الأيمان والنذور يقع الرجوع إلى العرف، وكذلك في الوقف الذي يلعب فيه العرف دورًا مهمًّا.   (1) شرح الحموي على الأشباه والنظائر، لابن نجيم، وفتاوى محمد بن بلال الحنفي والشيخ المفتي أبو السعود وناصر الدين اللقاني. وهذا ما أقره المجمع في دورته السابقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2783 وفي شؤون الأسرة "الحالة الشخصية" للعرف دور مميز ففي القيروان مثلًا جرى العرف أن تشترط الزوجة على زوجها أن لا يتزوج عليها وأن يجعل لها حق طلاقها إن خالف هذا الشرط – انظر رسالة التمليك لعظوم بمكتبه الجامعة الزيتونية. وفي النفقة والمهر والسكنى واللباس للعرف دور كذلك. قال خليل: "يجب للزوجة قوت وأدام وكسوة ومسكن بالعادة بقدر وسعه وحالها والبلد والسعر". وقال ابن عاصم: وكل ما يرجع للافتراض موكول إلى اجتهاد القاضي بحسب القوت والأعيان والسعر والزمان والمكان ونجد العرف له دور كذلك في المعاملات المالية من بيع وشراء وكراء وإجارة. ومن ذلك بيع المعاطاة الذي يقول من يجيزه إن الله أحل البيع ولم يبين كيفيته فوجب الرجوع فيه إلى العرف، ولم ينقل عن النبي عليه الصلاة والسلام ولا عن أصحابه مع كثرة وقوع البيع بينهم استعمال الإِيجاب والقبول، ولو استعملوا ذلك في بيوعاتهم لنقل لنا ذلك نقلًا شائعًا لأن البيع مما تعم به البلوى، فلو اشترط له الإِيجاب والقبول لبينه صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًّا ولم يخف حكمه. والعرف له دخل كبير في الخصومة والقضاء. وقال ابن عاصم: فالمدعي في قوله مجرد من أصل أو عرف بصدق يشهد والمدعى عليه من قد عضدا مقاله عرف أو أصل شهدا العرف في الاصطلاح القانوني وفي التطبيق: كانت للعادات أهمية كبرى، ثم تناقصت حتى حل محلها التقنين لكن القانون المبني عليها لم يتلاشَ حتى الآن. فالقانون المبني على العادات والأعراف يسمى قانون العرف، وأما القانون المبني على التشريع والذي مصدره السلطة البشرية فيسمى القانون المكتوب أو القانون المدون. والعرف عبارة عن عادة أو سنة معينة، فإن صاحبها الاعتقاد باللزوم فهي عرف تام وهو حينئذٍ عبارة عن قاعدة قانونية غير مكتوبة ولا مدونة. ويستمد هذا العرف إلزامه من تلقاء نفسه باعتباره مصدرًا من مصادر القاعدة القانونية ولذا فهو يلزم الأفراد لذاته دون أن يتوقف هذا اللزوم على إرادتهم وقبولهم بشرط أن يكون عامًّا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2784 أما إذا لم يكن مع العادة ركن الاعتقاد باللزوم فهي حينئذ العادة الاتفاقية وقد تكون خاصة بمجموعة ما. وهي قواعد تعارف الناس على اتباعها في معاملاتهم فأصبحت صالحة لتفسير نية المتعاقدين عند الخلاف دون أن تكون بذاتها ملزمة إلاَّ إذا اتفق عليها الطرفان. والفرق بين العادة الاتفاقية والعرف زيادة عما ذكر هو أن العرف وهو قاعدة قانونية يمكن أن يكون آمرًا ومقررًا أي مكملًا ومفسرًا بخلاف العادة الاتفاقية التي يمكن الرجوع إليها عند تفسير الاتفاقات وشرحها من طرف المحاكم وهي واجبة التطبيق إذا نص القانون على ذلك. ثم إن العرف باعتباره قاعدة قانونية لا يعذر أحدٌ بجهله والحاكم يطبقه من تلقاء نفسه ولو لم يتمسك به أحد الطرفين، بخلاف العادة الاتفاقية فإن إثباتها على من يدعيها وعليه إثبات شمولها وعمومها ودوام استعمالها. والعرف الذي يكون القاعدة والمعتبر كمصدر من مصادر القانون لا بد أن يكون قديمًا مضى على تواتر استعماله أمد طويل حتى استقر العمل به وأن يكون ثابتًا وقع استعماله باطراد، وللحاكم أمر تقدير القدم والثبوت، والاستمرار في الاستعمال. ثم إن العرف يشترط فيه أن لا يتعارض مع القانون المكتوب، فإن خالف نصًّا صريحًا من القانون فهو ملغى لا يقضى به. ولا بد أن يكون العرف عامًّا ملزمًا، أما إذا كان خاصًّا بجهة دون أخرى أو كان مبنيًّا على التسامح والتساهل فهو خارج عن موضوع العرف المكون للقاعدة القانونية. ونحن نعلم أنه توجد في بعض الجهات دون الأخرى أعراف ملزمة تعتمدها المحاكم كهدايا الختان والأعراس والمآتم. وهي وإن كانت خاصة بجهة دون أخرى إلاَّ أنها عمت جهتها واستقرت بين الناس وتقادم عهدها ووصفت باللزوم، ولذا فقد توفرت فيها الشروط، والمحاكم وحدها مؤهلة لفحص ذلك والتطبيق. * * * الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2785 مظاهر تطبيق أحكام العرف في القانون جاءت غالب القوانين الوضعية المدنية والتجارية ناصة على اتباع العادات والأعراف. فالقانون المصري جاءت مادته الأولى قائلة: "تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في ألفاظها أو في فحواها". فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه، حكم القاضي بمقتضى العرف. فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإِسلامية، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة. وجاء في المذكرة التمهيدية للمشروع: "العرف هو المصدر الشعبي الأصيل الذي يتصل اتصالًا مباشرًا بالجماعة، ويعتبر وسيلتها الفطرية لتنظيم تفاصيل المعاملات ومقومات المعايير التي يعجز التشريع عن تناولها بسبب تشعبها أو استعصائها على النص. ولذلك ظل المصدر وسيظل إلى جانب التشريع مصدرًا تكميليًّا خصبًا لا يقف إنتاجه عند حدود المعاملات التجارية بل يتناول المعاملات التي تسري في شأنها قواعد القانون المدني وسائر فروع القانون الخاص والعام على السواء. والقانون المصري يقول في مادته 164: " العادة محكمة عامة كانت أو خاصة " كما يقول في المادة (165) : " إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت والعبرة للغالب الشائع لا للنادر ". وجاءت عدة مواد في القانون المدني المصري تشير إلى العرف وتنبه القاضي إلى اتباعه. فالمادة (150) تقول: إذا كان هناك محل لتفسير العقد وجب البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ مع الاستهداء في ذلك بطبيعة التعامل وبما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين وفقًا للعرف الجاري في المعاملات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2786 والمادة (148) تقول: لا يقتصر العقد على إلزام المتعاقد بما ورد فيه ولكن يتناول أيضًا ما هو من مستلزماته وفقًا للقانون والعرف والعدالة بحسب طبيعة الالتزام. والمادة (433) تقول: إذا عين في العقد مقدار البيع كان البائع مسؤولًا عن نقص هذا المقدار بحسب ما يقضي به العرف. والمادة (448) تقول: لا يضمن البائع عيبًا جرى العرف على التسامح فيه. أما القانون السوري: فقد جاءت مادته الأولى هو الآخر قائلة: تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها. فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه، حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشريعة الإِسلامية، فإذا لم توجد فبمقتضى العرف، وإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة. وتلاحظون التشابه بين القانون السوري والمصري في هذه المادة غير أن السوري أحسن لمّا قدم مبادئ الشريعة الإِسلامية على العرف. والقانون السوري يتضمن في مواد الإِشارة إلى العرف وإلى الأخذ به لترجيح كفة الخلاف في حالات معينة. والقانون العراقي: جاءت مادته الأولى قائلة: " تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها. فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه، حكمت المحكمة بمقتضى العرف فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإِسلامية الأكثر ملاءمة لنصوص هذا القانون دون التقيد بمذهب معين، فإذا لم توجد فبمقتضى قواعد العدالة. وتسترشد المحاكم في كل ذلك بالأحكام التي أقرها القضاء والفقه في العراق، ثم في البلاد الأخرى التي تتقارب قوانينها مع القوانين العراقية". وقد تضمنت بعض مواده الأخرى التركيز على العادة والعرف. فالمادة (164) تقول: " العادة محكمة عامة كانت أو خاصة. واستعمال الناس حجة يجب العمل بها ". والمادة (165) تقول: " إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت والعبرة للغالب الشائع لا للنادر ". والمادة (163) تقول: " المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، والتعيين بالعرف كالتعيين بالنص والمعروف بين التجار كالمشروط بينهم ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2787 النظام الإنجليزي: بدأت الشريعة الإنجليزية كالرومانية عادات متأصلة في القبائل الأنجلو سكسونية، وهي القبائل التي كانت تسكن الجزيرة من قديم، ثم اقترنت في القرن الحادي عشر بعادات القبائل النورماندية التي فتحت الجزيرة الإنجليزية في ذلك الحين، ولما تطورت المدنية الإنجليزية وتقدمت، وأصبح المجتمع في حاجة إلى مصدر رسمي للقانون قام قضاء المحاكم وأصبحت الأحكام القضائية تقر قواعد العرف وتطبقها تطبيقًا مستفيضًا وتتكرر الأحكام فتتأكد المبادئ القانونية بتكررها إلى أن صار القضاء هو المصدر الرسمي للقانون في الشريعة الإنجليزية وقام مقام العرف (1) . والقانون الفرنسي: شمل التقنين المدني الفرنسي 36 قانونًا كان العمل جاريًا بها إذ بدأ هذا القانون عرفًا ينظم الروابط الاجتماعية، وامتزج القانون الروماني بالعادات، ثم وجد القانون الكنسي وكان القسم الشمالي يطبق العرف والقسم الجنوبي يطبق القانون الروماني. وقد جمعت الملوكية بفرنسا قواعد العرف واعتبرت مصدرًا رسميًّا للقانون حتى جاءت مجموعة نابليون وسميت المجموعة المدنية. وقد نص القانون المدني على العرف في المادة (590) وما بعدها.   (1) المدخل لدراسة القانون، للسنهوري وأبي شنب: ص 44. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2788 مظاهر تطبيق أحكام العرف في القانون التونسي علمنا بأن أحكام العرف معتمدة في القوانين المدنية الوضعية المعمول بها وأردنا هنا أن نبرز مظاهر تطبيق ذلك حتى تتجلى الصورة ويتضح الحال. ونقتصر على إبراز مظاهر تطبيق تلك الأحكام بصورة جلية في المدونة المدنية التونسية الموضوعة منذ قرن ونيف بإشراف لجنة من الفقهاء العلماء الزيتونيين وكذلك على الإِشارة إلى ما جاءت به المجلة التجارية التونسية، وفي ذكر ذلك تقريب لما جاءت به بقية القوانين العربية الأخرى المضارعة والمماثلة والنابعة من معين واحد والصابة في مصب واحد. 1- تأثير العرف على نتائج العقود وآثارها: جاءت المادة (243) من المدونة المدنية قائلة: "يجب الوفاء بالالتزامات مع تمام الأمانة ولا يلزم ما صرح به فقط بل يلزم كل ما ترتب على الالتزام من حيث القانون أو العرف أو الإِنصاف حسب طبيعته". والمادة (246) تقول: ليس لأحد أن يقوم بحق ناتج من الالتزام ما لم يثبت أنه قد وفى من جهته أو عرض أن يوفي بما أوجبه عليه ذلك الالتزام بمقتضى شروطه أو بمقتضى القانون والعرف. وجاءت المادة (247) ناصة: إذا كان الالتزام من الطرفين فلأحدهما أن يمتنع من إتمام ما عليه حتى يتمم الآخر ما يقابل ذلك من العقد إلا إذا اقتضى العقد أو العرف تعجيل أحد الطرفين بما عليه. 2- تأثير العرف على الوفاء بالعقود: المادة (254) : لا تبرأ ذمة المدين إلا بتسليمه ما التزم به في العقد قدرًا وصفة ولا يسوغ له أن يلزم الدائن بقبول شيء آخر عوضًا عنه ولا بكيفية غير الكيفية المقررة في العقد أو التي جرى بها العرف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2789 3- تفسير العقود بالعرف: المادة (516) : "المعمول به عادة بمحل الكتب كالمشروط نصًّا وكذلك ما هو من طبيعة الأمر المقصود". المادة (526) : "ما ذكر على وجه التقريب من عد أو كيل أو وزن أو غيرهما، من المقادير كنحو كذا أو زهاء كذا، عبارة عن القدر المتسامح فيه عرفًا أو عادة بالمكان". والقانون بعد أن سمح بالمادة (514) بتأويل العقد المبرم بين الطرفين، جاء مبينًا الأسس التي يعتمدها القاضي عند التأويل والتفسير فقال: المادة (532) : "نص القانون لا يحتمل إلا المعنى الذي تقتضيه عبارته بحسب وضع اللغة وعرف الاستعمال ومراد وضع القانون". 4- شروط الأخذ بالعرف: "العادة والعرف لا يخالفان النص الصريح". وهذا تطبيق للقاعدة القانونية العامة في عدم السماح بمعارضة العادة والعرف للنص القانوني المكتوب لكن وفي نفس الوقت إقرار للعمل بالعادة والعرف عند فقد النص مع توفير الشروط طبعًا. المادة (544) : "من استند على عرف كان عليه إثباته ولا يحتاج به إلا إذا كان عامًا أو غالبًا غير مناف للنظام العمومي والأخلاق الحميدة". وبصرف النظر عن حمل عبء الإِثبات على المتمسك بالعرف فإن هذه المادة جاءت جامعة وبينت القاعدة الأساسية في القانون المدني لاعتماد العرف وبيان شروطه. 5- تأثير العرف في أحكام البيع: بين القانون أحكام التسليم في البيع وجعل ذلك يحصل بكيفيات مختلفة في العقار بالتخلي عنه وفي الربع بإخلائه وبين أنه في المنقولات حسب المادة (593) : "في المنقولات بالمناولة من يدٍ إلى يد أو بتسليم مفتاح المحل أو الصندوق الموضوعة فيه أو بأي وجه جرت به العادة والعرف في التسليم" ثم بين بالمادة (597) : أجل التسليم عند عدم الاتفاق عليه وأنه يتبع العرف فقال: "التسليم يكون أثر العقد مع المهلة التي يقتضيها نوع المبيع أو العرف". وأشار في المادة (603) إلى المصاريف فقال: "جميع مصاريف تسليم المبيع كأجرة كيله ووزنه وعده وقيسه على البائع وإذا كان المبيع حقًّا مجردًا كان على البائع أيضًا مصاريف الرسوم اللازمة لإِثبات ذلك الحق أو إحالته كل ذلك ما لم يكن هناك اتفاق أو عرف يخالفه". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2790 وانتقل بعد ذلك يبين على من تحمل أجرة الوسيط السمسار في عقود البيع فقال: المادة (604) : إذا تم البيع بواسطة السمسار فإن أجرته تكون على البائع إلا إذا كان في عرف البلاد أو في اتفاق الفريقين ما يخالف ذلك. وشرح المقنن أن مصاريف العقد من نقل وأجرة عدول وغيرها تعتمد هي الأخرى عرف البلاد فقال: المادة (605) : على المشتري مصاريف نقل المبيع من محل تسليمه ومصاريف قبوله وأداء ثمنه مع الصرف وأجر العدول عن كتب رسم الشراء والتأجير والتسجيل ولف البضائع ووسقها ونقلها وتشمل مصاريف القبول معاليم القمرق والمكس والمراكز المتوسطة أثناء النقل وعند وصلها للمكان المقصود كل ذلك ما لم يكن في العقد أو العرف ما يخالفه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2791 ثم يتعرض المقنن إلى شرح التوابع للمبيع وتسليمها فيقول: المادة (610) : "لزوم تسليم المبيع يتضمن تسليم توابعه والتبعية إما بحسب العرف أو بمقتضى اشتراط المتعاقدين. وإذا لم يكن في ذلك شرط أو عرف فالعمل على مقتضى القواعد التالية". ثم يشرح قضية أخرى هي حصول زيادة أو نقص في المبيع فيقول: المادة (620) : إذا كان المبيع جزافًا أو عينًا معينة وبين في العقد قدره كيلًا أو عدًّا أو وزنًا فليس للبائع أن يطلب الزيادة في الثمن إذا ظهر أن المبيع زائد في قدره عن القدر المسمى في العقد ولا للمشتري أن يطلب التنقيص في الثمن إذا ظهر أن المبيع بعكس ذلك إلا إذا كان الفرق زيادة أو نقصًا مما يبلغ نصف العشر، وهذا الشرط يعمل به أن لم يكن منافيًا للعرف ولم يحصل تراضٍ بين البائع والمشتري على خلافه. ثم يفصل النزاع في شأن وزن الظرف الحاوي للبضاعة اعتمادًا على العرف فيقول: المادة (628) : "وفي جميع الأحوال المقررة سابقًا يلزم اعتبار وزن الظرف فارغًا مع مراعاة ما يغتفر فيه العرف التجاري إلا إذا وجد بين المتعاقدين شرط يقضي بخلاف ذلك". وفي باب ضمان عيوب المبيع وواجبات البائع تقول: المادة (647) : البائع يضمن للمشتري سلامة المبيع من العيوب التي تنقص من قيمته نقصًا محسوسًا أو نصيره غير صالح لاستعماله فيما أعد له بحسب نوعه أو بمقتضى العقد. والعيوب التي لا تنقص قيمته أو الانتفاع به إلا ما لا بال له لا ضمان فيها على البائع وكذلك العيوب المغتفرة بحسب العادة والعرف. ثم يتعرض المقنن إلى العيب الخفي وهل يضمنه البائع حسب العرف فيقول: المادة (648) : "لكن إذا كان المبيع مما لا يمكن الاطلاع على حقيقة حاله إلا بتغيير في ذاته كالثمار في قشرها فإن البائع لا يضمن العيب الخفي إلا إذا التزم بذلك في العقد أو كان ضمانه واجبًا بمقتضى عرف المحل. وفي الرد من أجل العيب يلعب العرف دوره ويؤثر فالمادة (655) تقول: إذا وجب الرد لثبوت العيب أو لفوات الوصف كان للمشتري أن يطلب فسخ البيع ورد الثمن فإن اختار عدم رد المبيع فلا حق له في تنقيص الثمن، وإنما يكون له الحق في طلب تعويض الخسارة في الصور الآتية: أولها: إذا كان البائع عالمًا بعيوب المبيع أو بعدم وجود الوصف الموعود به ولم يشترط البراءة منه والبائع محمول على العلم بذلك إن كان تاجرًا أو صانعًا وباع شيئًا من متعلقات تجارته أو صناعته. ثانيها: إذا صرح بعدم وجود العيب في المبيع إلا إذا كان ذلك العيب لم يظهر إلا بعد البيع أو كان البائع معتقدًا سلامته. ثالثها: إذا كان المبيع خاليًا عن الوصف الذي اشترط فيه صراحة أو الذي يوجب عرف التجارة وجوده فيه. وأوجب القانون اتباع العرف في أداء الثمن فقال: المادة (677) : إذا جرى العرف في محل بأداء الثمن مؤجلًا أو منجمًا حمل المتعاقدان على اتباع العرف ما لم يصرحا بخلافه في العقد. وفي شأن تاريخ ومكان تسليم المبيع يتداخل العرف، فالمادة (679) تقول: على المشتري أن يتسلم المبيع في التاريخ والمكان المتفق عليهما في العقد فإن كان العقد عاريًا عن شرط في ذلك ولم تكن فيه عادة فعلى المشتري أن يتسلم المبيع في الحال مع مراعاة ما يغتفر في ذلك طبيعة. وهو في باب بيع السلم الواقع إبطاله الآن يقول بالمادة (714) : إذا لم يعين المتعاقدان أجلًا لتسليم المبيع حملًا على أنهما اعتمدا عرف البلد. والعرف يتداخل لفسخ عقدة البيع إذا ماطل المشتري في دفع الثمن وتأخر عن تسليمه وهو هنا يقوم مقام الاتفاق بين الطرفين على ذلك وهذا ما جاء به القانون. المادة (680) : إذا اشترط فسخ العقد بمجرد عدم أداء الثمن أو كان العرف كذلك فالعقد مفسوخ بمجرد عدم دفع الثمن في الأجل المعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2792 وقد أبرز حكم قضائي صادر عن أعلى المحاكم أهمية دور العرف في هذه الناحية. فقد جاء القرار التعقيبي عدد (12) المؤرخ في (23) جويلية 1929، المنشور بمجلة القضاء والتشريع عدد (9 – 10) ، لعام 1960، (ص 27) قائلًا: اقتضى الفصل (680) من المجلة المدنية أن العقد لا يفسخ قانونًا بمجرد عدم دفع الثمن في الأجل المتفق عليه إلا إذا نص على الفسخ المذكور بالعقد أو أن ذلك يتضح جليًّا من عادة المكان وأن العرف بتونس يقتضي أن البيوعات المتعلقة بالحبوب لا تفسخ عادة لعدم أداء المشتري الثمن وذلك بقطع النظر عما إذا اشترط أن الثمن المذكور يدفع معجلًا أو مؤجلًا أو أنه وقع دفع عربون أم لا وأن البائع لا يتفصى من التزامه ولا تعتبر العقدة مفسوخة إلا إذا وجه للمشتري مكتوبًا مضمون الوصول يقتضي إلزامه بالتنفيذ مع التنصيص بأنه حاضر من طرفه لتنفيذ ما التزم به. انتهى. فالعرف هنا يعطل محاولة البائع التفصي من التزامه ويمنع إقدامه على المطالبة بالفسخ لمجرد التأخر. وفي شأن بيع الأشجار فإنه يشمل الأرض الثابتة وما فيها من ثمرة لم تعقد فإن عقدت فهي للبائع إلا أن يشترطها المبتاع؛ المادة (618) من المدونة المدنية. فهذه المادة تنص على أن الثمرة الناضجة هي للبائع المالك إلا إذا اشترطها المشتري منه لنفسه أي المالك الجديد. ولم تنص هذه المادة على أنه (أو كان عرف يقتضي خلاف ذلك) . وقد حدث خلاف ين شخصين احتج المشتري بأن العرف بجهته يقتضي أن الثمرة الناضجة تكون للمشتري أي أن الثمرة مطلقًا عقدت أم لا هي للمشتري خلاف القانون حسب النص في المادة (618) السابق ذكرها. فقالت محكمة التعقيب – النقض والإِبرام – في قراراها (1365) المؤرخ في 17 ديسمبر 1931م إن العادة والعرف لا يخالفان النص الصريح طبق أحكام الفصل 543، ولذا لا حق للمشتري في التمسك بالعرف لأنه مخالف لأحكام الفصل (618) الذي ينص على أن الثمرة الناضجة للبائع إلا إذا اشترطها المشتري وهذا لم يحصل الفصل (618) لم يستثن العرف حتى يمكن الاحتجاج (1) . ولم تقدر محكمة التعقيب أن العرف يخصص العام وتمسكت بحرفية النص. وفي شأن بيع الخيار سوغت المادة (700) ذلك لأجل يتفق عليه وهي بيع موقوف لكن إذا لم يصرح الطرفان بأجل الخيار، فالعرف يعينه حسب التصريح التالي: المادة 702: إذا لم يكن في العقد أجل للخيار حمل ذلك على الأجل المعتبر قانونًا أو عرفًا. 6- تأثير العرف في أحكام الكراء – كراء اِلأشياء – مصاريف التسليم: المادة (741) : "مصاريف التسليم على المكري ومصاريف رسم الكراء على الفريقين كل يؤدي أجر نسخته، ونقل المأجور وتسلمه على المكتري كل ذلك ما لم يكن في العقد أو العرف ما ينافيه".   (1) نشر هذا القرار بمجلة القضاء والتشريع عدد 9 – 10 لسنة 1960م. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2793 وفي شأن إصلاح المكري تقول المادة (742) : " … وفي كراء الربع تكون مصاريف الإِصلاحات الجزئية على المكتري حسب عرف المكان". وتقول المادة (743) : بعدها: "إن الإِصلاحات الجزئية تلزم المكتري إذا جرى بها العرف". وفي شأن جهر الآبار وتنظيفها وكذلك مجارى المياه والموازيب جاءت المادة (745) قائلة: المادة (745) : تنظيف الآبار والمراحيض والموازيب ومجاري المياه على المكري ما لم يكن ذلك مخالفا للعرف. والمادة (784) : تنص على أن مصاريف إرجاع المأجور تلزم المستأجر ما لم يوجد في العقد أو العرف ما يخالف ذلك. وفي شأن الضرائب والأداءات جاءت المادة (746) بحملها على المؤجر ما لم يكن ذلك مخالفًا للعرف. وفي ضمان العيوب جاءت المادة 758 ناصة بأنه لا ضمان على المكري للعيوب التي يتسامح فيها عرفًا. وفي تاريخ الأداء إذا لم يعين فالمادة (768) تقول: "على المكتري أداء الكراء في الأجل المعين في العقد وإلاَّ فالمعتبر عرف المكان". وفي التمكين من المكري تنص المادة (771) على الظروف التي يقتضيها العرف. وتنص المادة (775) على أن المكتري الثاني مطلوب للمكري بقدر ما عليه للمكتري الأول وقت إنذاره بأن لا يدفع للأول ولا يقام له ما دفعه معجلًا إلاَّ كان التعجيل عرف المكان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2794 وفي شأن تعيين مدة الكراء إذا لم يتفق عليها الطرفان تقول المادة (792) : "إذا لم تعين مدة الكراء حملت على أنها هي التي وقع عليها التسعير إلاَّ إذا كان في العرف ما يخالف ذلك". وهو في المادة (793) يجعل العرف هو الذي يعين المدة المناسبة لإِخلاء المكري عند فسخ الكراء. وأخيرًا في شأن المكري إذا لم يكن في الكراء كتب ثابت التاريخ جاء للممالك الجديد أن يخرج المكتري من المحل بعد أن يضرب له أجلًا حسب العرف. المادة (799) . كراء الأراضي الفلاحية: جاءت المادة (812) ناصة على أن جميع الأشغال اللازمة للانتفاع بالبناءات بالأراضي الفلاحية لا تكون على المكتري إلاَّ بشرط أو عرف، وجاءت المادة (823) قائلة: ليس للمكتري – الخارج – أن يتصرف في الأرض بما يكون منقصًا أو مؤخرًا لانتفاع من يستغلها بعده فلا يجوز له حرثها مدة شهرين قبل انقضاء مدته وعليه أن يبيح لمن سيستغلها بعده الشروع في الخدمات الابتدائية في وقتها بعد اجتناء المتحصل كل ذلك إذا كان غير مخالف لعرف المكان. والقانون يحدد علاقة المكتري الجديد بالقديم في شأن الأرض الفلاحية وتوابعها طبق عرف المحل فيقول: المادة (824) : على المكتري الخارج أن يتخلى للذي يخلفه قبل دخوله بمدة مناسبة عن ما يلزمه من مساكن وغيرها مما يساعده على خدمة الفلاحة في العام القابل، وكذلك يجب على المكتري الجديد أن يتخلى للمكتري الخارج عن قدر ما يحتاجه من مساكن وغيرها لوضع نتائج الفلاحة وفي كلا الحالتين يتبع عرف المحل. وفي المادة (825) يحدد واجب المكتري الخارج فيقول: المادة (825) : من اكترى أرضًا وكان بها تبن وعلف وسماد لزمه أن يترك فيها عند انقضاء كرائه مثل القدر الذي تسلمه وليس له أن يعتذر بطروء أمر سماوي كما للمكري أن يحجز من الأصناف المذكورة ما يكون كافيًا له بسعر الوقت ولو لم يدخل عليها المكتري كل ذلك ما لم يخالفه عرف المكان. ومراجعة بسيطة لكل هذه النصوص في شأن كراء الأراضي الفلاحية وعلاقة الأطراف بها توضح مدى امتداد كل هذه الأحكام ومعانيها في أعماق الفقه الإِسلامي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2795 7- العرف والإِجارة على الخدمات أو الصنع: حدد القانون شروط إجارة الآدمي لنفسه بما يحفظ كرامته ويصون إنسانيته وجعل العرف حكمًا في ذلك. المادة (832) : "ليس لأحد أن يؤجر نفسه من غيره إلاَّ لمدة معلومة وعلى عمل معلوم أو خدمة معينة شرطًا أو عرفًا وإلاَّ فالعقد باطل". وإذا لم يحصل الاتفاق مقدمًا على أصل الأجر فالقانون يوجب ذلك إذا كان العمل مما لم تجر العادة بإتمامه مجانًا. المادة (837) . فالعرف هنا هو الفيصل بين الأطراف والقاضي مقيد به في قضائه عند حدوث النزاع ورفع الخصومة إليه وهو يعتمد في تقدير الأجرة حسب العرف الجاري بالبلد ورأي أهل الخبرة. المادة (838) . ومن يؤدي أجر الأجير يعتمد القاضي في ذلك على الاتفاق إن وجد وإلاَّ التجأ إلى العرف. المادة (839) . وإذا لم تعين مدة الإِجارة أو نوعها، فالإِجارة تفسخ بطلب من هذا أو ذاك طبق العرف أي الأجل الذي تعارفه الناس وساروا عليه. المادة (861) . والقانون يحفظ للطرفين حقهما بوضعه علامة تنير الطريق حسب عرف المكان فيقول: المادة (862) : إجراء الخدمة وخدام المساكن وخدم المحلات العمومية والصناع والمباشرون لخدمة التجارة بالحوانيت والمخازن تكون خدمتهم في الخمسة عشر يومًا الأولى على وجه التجربة والاختبار بحيث يجوز لكل من المتعاقدين فسخ الاتفاق في أثنائها بدون غرم وإنما يلزم أجر الأجير عما خدمه، والإِعلام قبل الخروج كل ذلك ما لم يخالف اتفاق الطرفين أو عرف المكان. ولا ينسى القانون الاهتمام بحصول خلل في الوفاء وحدوث خسارة فيقول في: المادة (865) : … وعلى الحاكم أن ينظر في وجود الخسارة وأهمية الضرر بحسب نوع الخدمة وظروف الحال وعرف المكان. وإذا استأجر أحدهم شخصًا لصنع شيء فهل عليه إحضار الآلات اللازمة لذلك؟ القانون يجعل العادة محكمة فيقول في المادة: المادة (868) : على أجير الصنع الآلات والأدوات اللازمة للصنع الذي استؤجر عليه ما لم يكن ذلك مخالفًا للعرف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2796 8- العرف في نقل الأشياء: جاءت المادة (901) قائلة: نقل الأشياء في المدة التي عينها المتعاقدان أو عرف التجارة. 9- العرف والوديعة: الوديعة شيء منقول يتسلمه شخص من آخر بمقتضى عقد ليحفظه ويرده بعينه. المادة (995) . فهل يستحق المستودع أجرًا عن هذا العمل والحفظ. تقول المادة (1002) : "في شأن الوديعة أن لا يؤدى عليها أجر إلاَّ إذا اشترطه المستودع أو العرف". فالعرف محكم هنا والاعتماد عليه واجب من طرف المحاكم، وهذا ما أيدته المادة (1028) في نفس المدونة. وكذلك المادة (1037) . 10- العارية والعرف: استعارة الشيء تارة تكون لاستعماله وتارة تكون لاستهلاكه فالأولى العارية والثانية القرض. فإذا استعار أحدهم شيئًا على وجه العارية فمتى يرده؟ تجيب عن ذلك المادة (1066) قائلة: إذا لم يعين أجل لرد العارية كان للمستعير أن لا يردها إلاَّ بعد انتفاعه بها حسب الاتفاق أو العرف. فإذا استعار أحدهم مثردًا آنية كبيرة يوضع بها الطعام عند اجتماع بمناسبة موت، فإنه يرده بمجرد انتهاء مراسم الاحتفال بالموت. وإذا استعار أحد مائدة لضيوف الزفاف فلا يمكن أن يطالب بإرجاعها قبل انتهاء المأدبة. 11- آثار العرف في أحكام الوكالة: الوكيل يستحق أجرة بالاتفاق فإذا لم يوجد اتفاق فيستحق الأجرة "إذا جرت العادة بالمكان بإعطاء أجرة في مثل ما وكل فيه الوكيل". المادة (1114) من المدونة المدنية. وما هو موضوع التوكيل الخاص وما هي مشمولاته؟ تجيب عن ذلك المادة (1117) : التوكيل الخاص هو الذي يتعلق بنازلة أو نوازل مخصوصة أو الذي يقتصر على مأمورية مخصوصة، فلا يباشر الوكيل في ذلك إلاَّ النوازل أو الأعمال المعينة له مع ما يتعلق بها تعلقًا ضروريًّا بحسب العادة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2797 ثم ما هو التوكيل العام وما هي حدوده التي يقف عندها وهل للعرف دخل في ذلك؟ تقول المادة (1119) : "التوكيل العام هو إطلاق يد الوكيل في جميع أمور موكله أو التفويض له في أمر خاص. وله بمقتضى هذا التوكيل أن يفعل ما كان في مصلحة الموكل بحسب نوع النازلة وعرف التجارة". والقانون يجعل العرف حكمًا في أجل قيام الوكيل بواجب إعلام موكله تقول المادة (1135) : "إذا أتم الوكيل ما وكل عليه لزمه المبادرة بإعلام موكله بما فعله تفصيلًا حتى يمكن للموكل الاطلاع التام على فعله. وإذا تأخر الموكل عن الجواب بعدم بلوغ الخبر إليه تأخرًا زائدًا عما يقتضيه حال النازلة أو العرف فهو محمول على الموافقة ولو تجاوز الوكيل حدود وكالته". أما فيما يتعلق بواجب الموكل نحو وكيله فالعرف له دخل أيضًا. تقول المادة (1141) : "على الموكل أن يمد موكله بالدراهم وغيرها مما يحتاج إليه لإتمام وكالته إلاَّ إذا اقتضى الاتفاق أو العادة خلافه". وفي شأن أجر الوكيل يتداخل العرف أيضًا حسب المادة (1143) "لا يستحق الوكيل الأجر إذا لم يتحقق ما وكل عليه إلاَّ إذا اقتضى خلاف هذه الصورة عرف التجارة أو عادة المكان". وإذا لم يقع الاتفاق على أجرة الوكيل عينه العرف. تقول المادة (1144) : "إذا لم يعين الأجر كان تعيينه بمقتضى عادة المكان الذي باشر فيه الوكيل وكالته". وإذا تجاوز الوكيل حدود وكالته، فذلك لا يلزم موكله إلاَّ إذا كان مما يتسامح فيه في التجارة أو في عرف المكان مكان العقد. المادة (1155) . وإذا تنازع الوكيل مع موكله وفسخ أحدهما الوكالة وحصلت خسارة، فالقانون يحكم عرف المكان. المادة (1171) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2798 12- وللعرف داخل في أحكام الشركات: كشركة القراض الفصول: (1200) وما بعدها والشركة بوجه عام الفصل (1293) ، وشركة الخماس المادة (1381) وهي مواد لها مساس بالقانون التجاري. 13- العرف في أحكام المساقاة: عرفت المادة (1395) المساقاة بقولها: " المساقاة عقد تكليف شخص لآخر بتعاطي ما يلزم لخدمة شجر قد بلغ الإِطعام أو زرع قد ظهر إلى وقت اقتطاف الغلة أو جمع الصابة بجزء معين من ثمره – أي من نتاجه – والمباشر للخدمة يسمى العامل". فما هو هذا الجزء الراجع للعامل؟ للعرف دخل في تعيينه وتحديده حسب المادة (1400) ونصها: "إذا خلا العقد من بيان حصة العامل حمل المتعاقدان على ما جرى به عرف المكان المغارسة والعرف: جاءت المادة (1416) بتعريف المغارسة قائلة: "إذا كان موضوع الشركة أشجارًا مثمرة أو نحوها من ذوات الدخل وتكلف الشريك العامل بغرسها في أرض شريكه على أن يكون له مناب شائع في الأرض والأشجار عند بلوغها إلى حد ملعوم أو حد الأثمار سمي العقد عقد مغارسة. فإذا أطعم الشجر وجاء إبان القسمة واتضح أن الطرفين غفلا عن تحديد مناب العامل فالعرف هو الحكم وعليه يجري العمل المادة (1421) . وهكذا وبعد هذه البسطة حول المواد القانونية المدنية التي أبرزت دور العرف – تطبيقيًّا – في حياة الناس الاجتماعية والتنظيمية وتعاملهم في حياتهم اليومية أبرزت دور العرف كمادة قانونية أقرها المقننون وخططوا لها ونظموا سيرها وهذَّبوا من أمرها. وهي مواد تعم أوجه الحياة العملية المدنية العاملة وتغطي الساحة الاجتماعية للتعامل بين الناس. بعد ذلك يمكن لنا أن نلاحظ امتداد جذور تلك المواد في حضارتنا الإِسلامية وتقاليدنا العربية وأنها مقتبسة في الغالب من الفقه الإِسلامي الذي كان المصدر الأول لما سنن وقنن في هذا الصدد. ويمكن أن يلاحظ الدارس المقارن وجه الشبه وعاملات الاقتباس في أجلى صورها. ولولا خشية الطول والملل لأبرزنا صورًا منها نضربها مثلًا تؤيد ذلك. ولربما فعلنا في وقت آجر إحقاقًا للحق وإظهارً للصدق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2799 المجلة التجارية: نجد أن العادة والعرف لها أهمية كبرى في المسائل التجارية ضرورة أن مرد القانون التجاري إلى العادة والعرف. وقد أشارت المجلة التجارية التونسية بالرجوع إلى العرف التجاري في كثير من موادها. منها المادة (597) ونصها: "جميع العقود التجارية خاضعة لأحكام هذا القانون، وإذا لم يوجد به نص فتكون خاضعة لمجلة الالتزامات والعقود وإلاَّ كانت متماشية مع أصول العرف التجارية". والمادة (620) تقول: "إذا لم يكن هناك اتفاق أو عرف كانت أجرة السمسار على من كلفه". والمادة (621) جاءت ناصة: "إذا لم يتعين مقدار أجرة السمسار اتفاقًا أو عرفًا عين المجلس حسبما يراه أهل الخبرة … " إلخ. أما في ميدان الأسرة فمجلة الأحوال الشخصية زاخرة بالمواد المشيرة إلى العرف وتطبيقه. وإتمامًا للفائدة نذكر كلمة حول الفرع الثاني للعرف وهو: فقه القضاء وأحكام المحاكم فالقضاء هو مجموع أحكام المحاكم القضائية الصادرة فيما يعرض عليها من خلافات ومنازعات. والفرق بين أحكام المحاكم وأراء الفقهاء هو أن مهمة الفقهاء وشراح القانون تفسير القانون ذاته والنص الموجود. وإذا طرأت حالة لم يكن لها نص فالفقهاء يجتهدون في استنباط حكمها قياسًا على القواعد القانونية الموضوعة لأمثالها. وأما أحكام المحاكم فهي تفحص الوقائع المعروضة عليها وتسير النصوص وتبحث خلالها عن المنطبق على ما بين يديها من أقضية ليكون القضاء والحكم يعتمد أساسًا صحيحًا من القانون المكتوب. فإذا لم يكن هناك نص ولم تجد المحكمة قانونًا واضحًا ينطبق على القضية المطروحة عليها فلها حينئذ حرية الاستنباط للقاعدة التي يمكن تطبيقها في نطاق روح القانون العامة واعتمادًا على الأسس القانونية والمبادئ والقواعد المعتمدة من المقنن. فالقضاء قد لا يعتبر مصدرًا رسميًّا للقاعدة القانونية إذا ما اقتصر دوره على تفسير القاعدة القانونية بإزالة الغموض عنها وإزاحة اللبس عن الاتفاق في حدود أحكام الفصل (513) وما بعده من المدونة المدنية التونسية في تفسير النص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2800 فإذا لجأ إلى التفسير بمفهومه الواسع، فإنه يكون الحل ويبتدعه ويكون بذلك قاعدة قانونية قابلة للتطبيق والاتباع. ومن هنا فإنه يمكن أن يكون لفقه القضاء دور هام يجعله في منزلة مصادر القانون لكن في زاوية ضيقة جدًّا (1) . وإذا تواردت الأحكام القضائية وتكررت مع تعدد المحاكم في مادة معينة وموضوع بذاته، فإنها تسمو إلى مرتبة القواعد القانونية. ويحدث كثيرًا أن يضغط القضاء باتجاهاته المتعددة المتكررة في فقد مادة ما كانت مضادة لما يحدث بصفة عامة من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية فيضطر المقنن تحت وطأة وفرة هذه الأحكام وتكاثفها وتعدد مصادرها إلى تناول النص بالتغيير والتنقيح والشرح. ولا يفهم من وضوح قوة الأحكام ونفاذ مفعولها أنها بالغة قوة القانون نفسه. ومحكمة التعقيب – النقض والإبرام – خول لها القانون قوة إلزامية في فصل قضية معينة لكن لا على معنى إبدال أو تغيير النص القانوني أو الانحراف به عن معناه الواضح الصريح فهي تحاول توحيد الآراء والمفاهيم بين دوائرها طبق أحكام الفصل 192 منها. هذا ما أمكن اختصاره في هذا الموضوع ولا أحسب أني أطلت ومعذرة إن أنا فعلت وصفحًا وعفوًا إن أخطأت أو قصرت، ونرجو من الله التوفيق والغفران وحسن العاقبة والسلام. محمد شمام عفي عنه.   (1) انظر شرح القانون المدني: د. محمد كامل مرسي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2801 العرف ودوره في عملية الاستنباط إعداد الشيخ محمد علي التسخيري بسم الله الرحمن الرحيم تعريفه: ذكروا للعرف تعريفات نذكر منها: ما ذكره الجرجاني من أنه (ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطبائع بالقبول) . وعرفه الأستاذ علي حيدر من شرح المجلة بأنه (الأمر الذي يتقرر بالنفوس ويكون مقبولًا عند ذوي الطباع السليمة بتكراره المرة بعد المرة) . وحكى ابن عابدين الحنفي عن المستصفى أن العادة والعرف هي (ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول) . وغيرها إلا أنها تعاريف مبتلاة ببعض الإشكالات. ولعل أقرب التعاريف ما ذكره الأستاذ عبد الوهاب خلاف من أنه (ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك) ثم قال: ويسمى العادة. ولا داعى للدخول في النقض والإبرام لأنها تعاريف لفظية. ويفترق العرف عن الإجماع بأن الإجماع يعني الاتفاق السائد بينما يكفي في العرف سلوك الأكثرية وسيرة المجتمع. تقسيماته: أولًا: قسم تارة إلى العرف العام والعرف الخاص. أما العرف العام فيراد منه ما يشترك فيه غالبية البشر دون ملاحظة زمان أو مكان أو ثقافة أو مستوى يقرب بذلك من (بناء العقلاء) . ويمكننا أن نمثل له بالأمثلة التالية: (أ) بناؤهم على رجوع الجاهل للعالم. (ب) بناؤهم على عدم نقض اليقين بالشك. (ج) شيوع بعض الألفاظ بينهم إلى الحد الذي يقدم هذه العادة على المعنى الحقيقي للفظ - كما يقول ابن عابدين. (1) ويؤكد ذلك أيضا الشيخ الطوسي. (2) .   (1) مجموعة رسائل ابن عابدين ص: 113. (2) عدة الأصول: ج1 ص170. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2802 ويرى مؤلف كتاب (نظرية العرف) أن كثيرًا من الظواهر الاجتماعية المنتشرة في العالم تنظم في هذا القسم. (1) . العرف الخاص: وهو العرف المخصوص بحدود زمانية أو مكانية أو ثقافية معينة وتدخل هنا بعض المعاملات المتداولة في بعض الأعراف، وكذلك الألفاظ الخاصة بالبلدان، والعادات المحلية. ثانيًا: قسموه إلى العرف القولي والعرف العملي: أما القولي فيعطي الألفاظ عند العرف معان خاصة كإطلاق لفظ الولد عند بعضهم على خصوص الذكر، وأما العملي فهو ما يمارسونه بشكل عرفي وقد مثل له في (الأصول العامة) بشيوع البيوع المعاطاتية في بعض البيئات. (2) . ثالثًا: قسموا العرف إلى الصحيح والفاسد: أما الصحيح: فهو ما ينطبق والموازين الشرعية كتعارفهم على تقديم بعض المهر. وأما الفاسد: فهو خلاف ذلك كتعارفهم على لعب القمار وشرب المسكرات وشيوع القوانين الوضعية. مجالات العرف: ذكروا للعرف مجالات أربعة هي: أولًا: ما يستكشف منه حكم شرعي فيما لا نص فيه مثل عقد الاستصناع ويتم الاستكشاف من خلال الامتداد بهذا العرف إلى زمان المعصوم عليه السلام وإثبات إقراره لهذا العرف ويصبح بذلك سُنَّة عبر هذا الإقرار. ثانيًا: ما يرجع فيه لتشخيص بعض المفاهيم التي أوكل الشارع أمر تحديدها للعرف كلفظ (الإناء) و (الصعيد) و (القرء) مما أخذ موضوعًا في لسان الأدلة. وهذا الباب مهم جدًّا يكشف عن جانب من المرونة في الإسلام فمثلًا نجد أن مفاهيم (الغنى) و (الإسراف) و (التبذير) ترتبت عليها أحكام، ولكنها تختلف باختلاف الأزمة والأمكنة مما يجعلها ملائمة لتطورات المجتمع وتعقيداته وإمكاناته. وهكذا بالنسبة لمفاهيم أخرى كمفهوم (في سبيل الله) في مجال مصاريف الزكاة و (القوة) وغير ذلك.   (1) نظرية العرف: ص33. (2) الأصول العامة؛ محمد نقي الحكيم: ص142 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2803 ثالثًا: ما يرجع فيه لاستكشاف مرادات المتكلمين عندما يطلقون الألفاظ ويدخل في هذا القسم ما يرجع للدلالات الالتزامية إذا كان منشأ الدلالة الملازمة العرفية كحكم الشارع مثلًا بطهارة الخمر إذا انقلب إلى خل الملازم عرفًا للحكم بطهارة جميع أطراف إنائه. رابعًا: ما يستكشف به ما يمكن الاحتجاج به وهو بناء العرف العام على الأخذ بالظواهر أو الأخذ بقول الثقة أي ما يستكشف به الحجة الأصولية. ويختلف هذا القسم الرابع عن القسم الأول بأن هذا يشير إلى الأصول المستكشفة بينما يركز الأول على الفروع الفقهية ويمكن جمعها تحت عنوان واحد فيقال ما يستكشف به الحجة أو الحكم الفرعي. هل العرف أصل قائم برأسه؟ إذا استعرضنا مجالات العرف الماضية وجدنا أنه لا يشكل أصلًا قائما برأسه في قبال الأصول الفهية الأخرى. فالمجالان الأول والرابع يرجعان إلى السنة عبر اعتمادهما على الإقرار والإمضاء الشرعي والسنة قامت على معقد العرف (أي الحجة أو الحكم) ولم تقم على العرف نفسه حتى نقول بحجية كل ما قام العرف عليه، وأما المجالان الآخران فهما يشخصان صغيرات السنة. ولكن يبدو من البعض اعتبار العرف دليلًا مستقلًا برأسه. قال ابن عابدين: واعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا فقالوا في الأصول في باب ما نترك به الحقيقة، تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة هكذا، ذكر فخر الإسلام انتهى كلام الأشباه وفي شرح الأشباه للبيري قال في المشرع: الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، وفي المبسوط: الثابت بالعرف كالثابت بالنص. (1) . ولا يمكن الشك في عدم صحة كونه أصلًا مستقلًا في الكشف عن واقع التشريع الإسلامي، لأن العرف يخطئ بلا شك ولا يعرف الكثير من المصالح والمفاسد الواقعية فليس له حجية مستقلة وإنما هو كما مر يكشف عن السنة إذا امتد إلى عصر المعصوم ولم يتم ردع عنه – وبتعبير آخر يبقى العرف دليلًا ظنيًّا وكاشفًا ناقصًا إلا أن يتم تتميم كشفه وسد نقصه بدليل آخر. والذي أعتقده أن مصطلح (الأصل) يستعمل استعمالات متنوعة وربما كان المراد هنا أن العرف قد يكون مرجعًا يحتاج إليه للوصول إلى الحكم لا أن يراد به كونه أصلًا في قبال أصول الفقه الأخرى، والشاهد على ذلك ما عبروا عنه بقولهم: (تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعبادة) وهم بذلك يشيرون إلى مجال استكشاف مراد المتكلمين.   (1) رسائل ابن عابدين: 2 /113. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2804 الأدلة على حجية العرف: والمقصود بها الأدلة على اعتباره أصلًا بذاته وهي متعددة: منها: ما استدل به بعض العلماء – كما ذكر ابن عادبين – من قوله سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [سورة الأعراف: الآية 199] ، باعتبار أن المراد بالعرف هو عادات الناس وممارستهم. إلا أن الآية كما هو ظاهر تشير إلى ما ارتكزت عليه النفوس والعقول من تصورات عن العدالة، وما عاد معروفًا لدى الجميع بالحسن وهو بعيد عن مسائل الأعراف حتى لو كانت عامة وأكثر التصاقًا بمسألة الفطرة المرتكزة في جميع النفوس، ولا أقل من الاحتمال فيبطل الاستدلال، وربما يؤيد هذا الاحتمال برواية صحيح البخاري عن عبد الله بن الزبير في قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} قال: " ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس ". ومنها: رواية عبد الله بن مسعود ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) وقد استدل به السرخسي في المبسوط وابن الهمام وقد أشكل على الرواية بأنها مقطوعة يحتمل أن تكون كلامًا، لابن مسعود لا رواية عن النبي صلى الله علية وسلم، وهذا ما أكده ابن عابدين حين نقل قول العلاء إذ قال: لم أجده مرفوعًا في شيء من كتب الحديث أصلًا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا عليه أخرجه الإمام. أحمد في مسنده. (1) . على أن الاستدلال هنا أضيق من المدعى فما أكثر الأعراف غير المعللة بالحسن ومع ذلك فالحديث يشير إلى صغريات حكم العقل أو الإجماع. ومنها: قولهم أن الشارع راعى الكثير من أعراف العرب واعتبر الإمام مالك عمل أهل المدينة إجماعًا كافيًا ودليلًا شرعيًّا عند عدم النص. والحقيقة أن ذلك لتوافق تلك الأعراف مع تعاليم الشارع وكشفها عنها لا غير لا لأنها مراجع أصلية يرجع إليها كمقررة للحكم الشرعي. ولم أجد أدلة قوية أخرى يعتمد عليها في البين. وخلاصة البحث: إن العرف ليس أصلًا من أصول الفقه وإنما يرجع إليه في بعض المجالات للكشف عن السنة أو تشخيص المرادات. الشيخ محمد علي التسخيري.   (1) رسائل ابن عابدين2 /113. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2805 العرف إعداد الدكتور أبو بكر دوكوري بسم الله الرحمن الرحيم مباحث العرف: تشتمل هذه المباحث على الموضوعات التالية: 1- تعريف العرف – الفرق بين العرف والعادة – الفرق بين العرف والإجماع. 2- تقسيمات العرف. 3- حجية العرف ومذاهب العلماء في اعتباره. 4- شروط اعتبار العرف وتحكيمه. العرف في الفقه: من عرف الشيء إذا علمه فهو عارف به وعريف وتدور مادة عرف على معان كثيرة جدًّا. أما العرف بضم العين فراء ساكنة فيطلق في اللغة على عدة معان كذلك منها: الجود واسم ما تبذله وتعطيه. وكذلك يطلق على موج البحر وعلى ما تعرفه النفس وتطمئن إليه، قال في اللسان " والعرف والعارفة والمعروف ضد المنكر وهو كل ما تعرفه النفس من الخير وتبسأ به وتطمئن إليه". (1) ، ولعل هذا المعنى للعرف هو الذي يتناسب مع معناه الاصلاحي. أما العرف في اصطلاح الفقهاء فقد عرفوه بتعريفات متقاربة فقال بعضهم: "هو ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول. وهذا التعريف اختاره الجرجاني. (2) ، أما أبو زهرة فقد عرف العرف بأنه: ما اعتاده الناس من معاملات واستقامت عليه أمورهم. (3) . وعرفه الشيخ خلاف، فقال: هو ما تعارف عليه الناس وصار عندهم شائعًا سواء كان في جميع البلدان أو بعضها قولًا كان أو فعلًا. (4) .   (1) راجع القاموس المحيط: 3/ 183؛ ولسان العرب المحيط: 2 /747. (2) راجع التعريفات: ص130. (3) أصول الفقه، لأبي زهرة: ص216. (4) مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه: ص145. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2806 الفرق بين العرف والعادة: من العلماء من لم يفرق بين العرف والعادة، بل اعتبرهما مترادفين، قال ابن عابدين: "العادة والعرف بمعنى واحد". وقال خلاف: "والعرف والعادة في لسان الشرعيين لفظان مترادفان معناهما واحد". كما ورد من عطف أحدهما على الآخر كقول بعض الفقهاء هذا الحكم ثابت بدلالة العرف والعادة، إنما هو من باب تعاطف المترادفات لإفادة التأكيد إذ لا تفيد كلمة العادة معنى غير معنى العرف وممن ذهب إلى هذا الجرجاني. (1) . ومن العلماء من خص العرف بالقول، والعادة بالفعل نسبه بعضهم إلى البخاري في كشف الأسرار. (2) . ومن العلماء من يرى أن الصلة بين العرف والعادة هي العموم والخصوص المطلق بمعنى أن العادة أعم مطلقًا من العرف إذ كل عرف عادة وليس كل عادة عرفًا. (3) . الفرق بين العرف والإجماع: هناك شبه بين الإجماع والعرف وخاصة العرف العام، لذلك دأب بعض العلماء على ذكر فوارق بينهما من ذلك: أولًا: إن العرف يكفي في إثباته توافق غالب الناس على قول أو فعل بما فيهم العامة والخاصة. والإجماع لا يكون إلا من مجتهدي الأمة. ثانيًا: إن العرف لا يقدح فيه مخالفة البعض إذا اتفق عليه غالب الناس، أما الإجماع فإنه لا يتحقق إلا باتفاق جميع المجتهدين. ثالثًا: إن الحكم الثابت بالإجماع كالحكم الثابت بالنص، بل أقوى منه فلا مجال لتغييره، أما المستند إلى العرف فيتغير بتغير العرف. رابعًا: إن العرف قد يكون فاسدًا وذلك إذا خالف نصًّا شرعيًّا أو غير ذلك مما يجعله غير معتبر بخلاف الإجماع، فإنه لا يكون فاسدًا بأي حال من الأحوال لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة. (4) .   (1) انظر: التعريفات: ص 130؛ ومصادر التشريع: ص145؛ وأصول مذهب الإمام أحمد: ص522. (2) أصول مذهب الإمام أحمد: ص522 نقلًا عن كشف الأسرار. (3) راجع رسالة العرف والعادة للأستاذ أبو سنة: ص13؛ والمدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى الزرقاء:2 /241. (4) مصادر التشريع فيما لا نص فيه: ص146؛ وأصول مذهب الإمام أحمد: ص524. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2807 تقسيمات العرف: للعرف أقسام باعتبارات مختلفة: ينقسم العرف – قسمة أولى – إلى عرف قولي وعرف عملي، فالعرف القولي هو أن يتفق أهل العرف على أن يراد من اللفظ غير معناه الأصلي الذي وضع له اللفظ في اللغة بحيث يتبادر إلى الذهن ذلك المعنى عند سماعه، مثال ذلك: تعارف الناس على إطلاق لفظ الولد على الذكر دون الأنثى مع أنه لغة يشمل الاثنين بشهادة الآية القرآنية: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} . (1) . وكتعارفهم على إطلاق لفظ اللحم على غير السمك مع أنه موضوع لما يشمل السمك أيضًا، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} . (2) . والعرف العملي: هو ما جرى عليه الناس وتعارفوه في معاملاتهم وتصرفاتهم كتعارف الناس على البيع بالتعاطي دون صيغة لفظية لعقد البيع وتعارفهم على أن ما يدفعه الرجل لخطيبته يعتبر هدية لا يدخل في نطاق المهر. وينقسم العرف بنوعيه القولي والفعلي – قسمةً ثانية – إلى عرف عام وعرف خاص. فالعرف العام: هو ما تعارف عليه أهل البلاد جميعًا كتعارفهم على الاستصناع واستعمال لفظ الطلاق في إنهاء رابطة الزوجية. وهذا النوع من العرف يترك به القياس عند الحنفية ويخص به العام. والعرف الخاص: هو ما تعارف عليه أهل بلد معين أو طائفة معينة من الناس كتعارف التجار على إثبات الديون في دفاتر خاصة من غير إشهاد عليها واعتبار هذا حجة فيما بينهم، وهذا النوع من العرف ليس له قوة النوع الأول. وينقسم العرف باعتبار أنواعه المتقدمة – قسمة ثالثة – إلى عرف فاسد وعرف صحيح. فالعرف الفاسد ما كان مخالفًا لأدلة الشرع وأحكامه الثابتة التي لا تتغير كتعارف الناس على شرب الخمور والتعامل بالربا ولعب القمار وخروج المرأة إلى الأماكن العامة بدون حجاب وغير ذلك من الأمور التي حرمتها الشريعة لما يترتب عليها من المفاسد الدينية والاجتماعية. فمثل هذا العرف لا يعتد به ولا تبنى على مثله الأحكام لأن اعتباره إهمال لنصوص قاطعة واتباع للهوى وإبطال للشرائع ما جاءت لتقرير المفاسد، وإن تكاثر الآخذين بها يدعو إلى مقاوتها لا إلى الإقرار بها.   (1) سورة النساء: الآية 11. (2) سورة النحل: الآية 14. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2808 وأما العرف الصحيح فهو مالم يعارض نصوص الشرع أو ما يشهد له الشرع بالاعتبار في الجملة، فمثل هذا العرف يعتبر ويعتد به في الاستنباط وتشريع الأحكام إذ عدم اعتباره وعدم الاعتداد به يوقع الناس في الضيق والحرج ويجعل الشريعة في روحها مجافية للغرض الذي جاءت به من أجله. (1) . حجية العرف ومذاهب العلماء في اعتباره: اشتهر المذهبان الحنفي والمالكي في القول باعتباره حجة، وأنه أصل من الأصول التي يستند إليها في الأحكام، قال أبو زهرة: هذا أصل أخذ به الحنفية والمالكية في غير موضع النص. (2) . ولكن عند التحقيق يتبين أن جميع الفقهاء يعملون بالعرف في هذه الحالة وفي ذلك يقول القرافي: "أما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها". (3) . ومما يؤيد كلام القرافي هذا ما ذكره في شرح مقدمة المجموع: أن سبب تغير مذهب الإمام الشافعي بعد انتقاله إلى مصر يرجع إلى اختلاف الأعراف بين العراق ومصر فخالف بعض آرائه في العراق المبنية على العرف حين وجد عرف أهل مصر يخالف عرف أهل العراق. (4) . فهذا تصريح من علماء الشافعية على أن الإمام قد حكم بالعرف في بعض المسائل الفقهية. وفيما يتعلق بالمذهب الحنبلي: فننقل ما قاله الدكتور عبد الله التركي في كتابه القيم "أصول مذهب الإمام أحمد " " الحنابلة كغيرهم من أصحاب المذاهب يلاحظون العرف في كثير من فتاواهم وأحكامهم وخاصة في باب المعاملات لأنهم يتوسعون فيها ويعتبرون المعاني والمقاصد ولا يقطعون عند الألفاظ فقط، وفي صيغ العقود ينظرون كثيرًا إلى ما تعارف عليه الناس، وفي الشروط في المعاملات والأنكحة يعتبرون المشروط عرفًا كالمشروط شرعًا لذلك يجرون العرف مجرى النطق". (5) . يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين: " وقد أجرى العرف مجرى النطق في أكثر من مائة موضع" وذكر عدة أمثلة على ذلك. (6) .   (1) راجع الأشياء والنظائر، للسيوطي: ص93؛ والموافقات، للشاطبي: 2 /283 ومابعدها. (2) راجع أصول الفقه، لأبي زهرة: ص216 (3) راجع الفروق: 1/ 76. (4) راجع مقدمة شرح المجموع، للنووي: ص67. (5) راجع أصول مذهب الإمام أحمد: ص533. (6) راجع إعلام الموقعين: 2 /392 - 394. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2809 ومما تقدم يتبين أن الفقهاء قديمًا وحديثًا باختلاف مذاهبهم قد أخذوا بالعرف واعتبروه دليلًا يبنى عليه كثير من الأحكام ومرجعًا في تفسير النصوص وبيان ما ترمي إليه. يقول ابن العربي عند تفسير قول الله تعالى: ٍ {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} . (1) : العادة دليل أصولي بنى الله عليه الأحكام وربط به الحلال والحرام. (2) . ومن تتبع كتب القواعد الفقهية يجد كثيرًا من الشواهد على مراعاة عرف الناس وعاداتهم في الأحكام الشرعية حتى أصبح من القواعد المقررة: " المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا " و" العادة محكمة " و " الثابت بالعرف كالثابت بالنص ". فهذه العبارات وأمثالها لا تدع مجالًا للشك في أن العرف يرجع إليه حيث لا نص، بل ويرجع إليه في تطبيق النص وفهمه. ومن تتبع كتب الفروع يجد الكثير من الأحكام والفتاوى مبنيًّا على العرف والعادة. أدلة اعتبار العرف: الفقهاء في اعتبارهم للعرف استدلوا على أمرين: الأول: التأسي بالشارع الحكيم إذا أقر الكثير من أعراف العرب وعاداتهم قبل الإسلام بعد أن نظمها لهم كما هو الحال بالنسبة إلى بعض العقود كالبيع والإجارة والمضاربة وفرض الدية على العاقلة ولم يلغِ من ذلك إلا الفاسد الضار الذي لا يصلح للبقاء كالربا والميسر والتبني وحرمان النساء من الميراث ووأد البنات. الثاني: بعض النصوص من الكتاب والسنة رأى فيها بعض العلماء دلالة على حجية العرف، من ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود من أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن)) . (3) ، فقد استدل بهذا الحديث كل من الإمام السرخسي والكساني وابن همام من الأحناف، وكذلك السيوطي من الشافعية وغيرهم على حجية العرف فإن هذا الأثر يدل بعبارته ومرماه على أن الأمر الذي يجري عرف المسلمين على اعتباره من الأمور الحسنة يكون عند الله أمرًا حسنًا لأن مخالفة العرف الذي يعده الناس حسنًا يكون فيه حرج وضيق ولقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . (4) .   (1) سورة الطلاق: الآية7. (2) راجع أحكام القرآن: 4 /183. (3) هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده والراجح وقفه على ابن مسعود، كما صرح بذلك كل من الأئمة السخاوي والعلائي والزيلعي، راجع نصب الراية: 4 /133، 134؛ والأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص99. (4) سورة الحج: الآية 78. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2810 وذكر ابن عابدين أن بعض العلماء استدل على اعتبار العرف بقول الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} . (1) ، فقال: كل ما شهدت به العادة قضي به لظاهر هذه الآية. (2) . وبعد أن تقرر اعتبار العرف في الشريعة الإسلامية وأنه دليل يرجع إليه الفقيه إذا أعوزه دليل آخر أرجح منه بقي أن نعلم أن لهذا العرف الذي يقول به الفقهاء شروطًا لا بد من توفرها: أولًا: أن يكون العرف غالبًا مطردًا وفي هذا يقول ابن نجيم: "إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت"، ولذا قال الفقهاء في البيع لو باع بدراهم أو دنانير وكانا في بلد اختلفت فيه النقود مع الاختلاف في المالية والرواج انصرف البيع إلى الأغلب لأنه المتعارف فينصرف المطلق إليه. قال السيوطي: "إنما تعتبر العادة إذا اطردت، فإن اضطربت فلا ومن هنا جاءت القاعدة الفقهية: "العبرة بالغالب الشائع لا بالنادر". (3) . ثانيًا: ألا يخالف العرف نصًّا من نصوص الشرع أو قاعدة من قواعده المقررة وفي هذا يقول الإمام السرخسي: "وكل عرف ورد النص بخلافه فهو غير معتبر". (4) . والمخالفة القادحة في العرف هي ما إذا كان في العمل به إبطال للنص من كل وجه وبالكلية. أما إذا لم يكن كذلك كما إذا كان النص عامًّا وكان هناك عرف يخالفه في بعض أفراده إنه يعمل بهما معًا ويكون العرف في هذه الحالة مخصصًا للنص لا مبطلًا له ولذلك جوز الفقهاء الاستصناع لتعارف الناس عليه وتعاملهم به مع أن النص ورد بالنهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده وهو صادق على الاستصناع فعمل بمقتضى النص في غير الاستصناع وعمل بالعرف في الاستصناع. ثالثًا: ألا يكون هناك اتفاق بين المتعاقدين على استبعاد العرف: إذا صرح المتعاقدان أو اتفقا على استبعاد ما يتعارف عليه الناس في بعض المعاملات نفذ الاتفاق وأهمل العرف. فمثلًا لو كان هناك عرف على أن تكون مصاريف تسجيل العقد أو نفقات شحن البضاعة على المشتري واتفق العاقدان على أن يكون ذلك على البائع عمل بهذا الاتفاق بالإجماع ولا عبرة بالعرف.   (1) سورة الأعراف: الآية 199. (2) راجع أصول الأحكام: ص141. (3) الأشباه والنظائر، للسيوطى: ص92. (4) راجع المبسوط: 12 /196. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2811 يقول العز بن عبد السلام: "كل ما يثبت في العرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد صح". (1) . رابعًا: أن يكون العرف الذي تحمل عليه الصيغ والنصوص والتصرفات موجودًا وقت ورودها فلا عبرة بالعرف المتأخر الطارئ على التصرف أو النص. يقول السيوطي: "العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن أو السابق دون المتأخر". (2) . ويقول الشاطبي في الموافقات: "إن العوائد تختلف باختلاف الأعصار والأمصار لا يصح، أن يقضى بها على قوم حتى يعرف أنها عادتهم ويثبت ذلك، فلا يقضى على من مضى بعادة ثبتت متأخرة". (3) . خامسًا: أن يكون العرف عامًّا لا خاصًّا، وهذا الشرط محل اختلاف بين الفقهاء. قال السيوطي: "العادة المطردة في ناحية هل تنزل عادتهم منزلة الشرط فيه صور منها: لو جرت عادة قوم بقطع الحصرم قبل النضج فهل تنزل عادتهم منزلة الشرط حتى يصح بيعه من غير شرط القطع؟ وجهان أصحهما: لا، وقال القفال: نعم". (4) . واشتراط العموم في العرف هو مذهب جمهور الحنفية والشافعية به صرح القرافي من المالكية وابن حجر الهيثمي. (5) . سادسًا: أن يكون العرف ملزمًا. أي يتحتم العمل بمقتضاه في نظر الناس وهذا الشرط زاده بعضهم فاعتبر أن العرف المعتبر يختص بالعرف المثبت لحق من الحقوق لقيامه مقام الشرط أو العقد ومثلوا له بالهدايا في الأعياد والأعراس والمناسبات المختلفة إذا كان هناك عرف واعتياد في المكافأة عليها لزم ذلك في الفتيا والقضاء. (6) . سابعًا: هناك شرط آخر ذكره ابن عابدين في رسالة العرف وهذا الشرط يتعلق بمن يحكم بالعرف أو يفتي به، وفي ذلك يقول: "وكذلك المفتي الذي يفتي بالعرف لا بد له من معرفة الزمان وأحوال أهله ومعرفة أن هذا العرف خاص أو عام وأنه مخالف للنص أولًا ولا بد له من التخرج على أستاذ ماهر ولا يكفيه مجرد حفظ المسائل والدلائل". (7) .   (1) راجع قواعد الأحكام: 2 /158. (2) راجع الأشباه والنظائر: ص106. (3) راجع الموافقات: 2 /220. (4) راجع الأشباه والنظائر: ص103. (5) راجع المصدرالسابق والفتاوى الكبرى: 4 /57. (6) راجع أصول الأحكام: ص139. (7) راجع أصول الفقه، لأبي زهرة: ص219 نقلًا عن ابن عابدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2812 وبعد أن عرفنا العرف وآراء العلماء في اعتباره بقي أن نعرف أن الحكم المبني على العرف يتغير تبعًا لتغير الأصل الذي بني عليه. وفي هذا يقول القرافي: " الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت وتبطل معها إذا بطلت كالنقود في المعاملات والعيوب في الأعراض في البياعات ونحو ذلك. فلو تغيرت العادة في النقد والسكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن في البيع عند الإطلاق على السكة التي تجددت العادة بها دون ما قبلها إلى أن يقول: " وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المركبة على العوائد وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه ". (1) . وتبعًا لذلك، فالمجتهد يغير رأيه في المسألة الواحدة لتغير العرف الذي بني عليه الحكم، كما حدث للإمام الشافعي رحمه الله تعالى بعد انتقاله من العراق إلى مصر. وقد يخالف فقهاء المذهب الواحد صاحب المذهب في أحكام بنيت على العرف بعد أن اختلف وتغير كما حدث بالنسبة للإمام أبي حنيفة وصاحبيه محمد بن الحسن وأبي يوسف، فقد خالفاه في كثير من الأحكام نتيجة لهذه القاعدة. ومن أمثلة ذلك اختلف الإمام وصاحباه فيما لو غصب شخص ثوبًا وصبغه بلون أسود، فقد اعتبره أبو حنيفة نقصانًا في قيمته، وقال الصاحبان: إنه زيادة. ومرجع هذا الاختلاف العرف. حيث كان فتوى الإمام أبو حنيفة في زمن الأمويين وكانوا يكرهون لبس السواد فكان مذمومًا وكانت فتوى الصاحبين على عهد العباسيين وكان شعارهم السواد فكان ممدوحًا. (2) . ومن أمثلة مخالفة المتأخرين للمتقدمين في بعض الأحكام الفقهية نتيجة لتغير العرف أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم، فقد كان القدامى يحرمونه لأنه طاعة وعبادة، وهذا الحكم كان مناسبًا للزمان الذي صدر فيه هذا الحكم إذ كان لمعلمي القرآن الكريم رواتب من بيت مال المسلمين ولكن بعد أن تغير هذا العرف وانقطع ما كان مخصصا لهم في بيت المال أفتوا بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والإمامة والأذان. وقد عقد ابن القيم – رحمه الله – فصلًا في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد وبين في مطلع هذا الفصل أن الشريعة مبنية على مصالح العباد، فما كان من مصلحة فهي محصلة له وما كان من مفسدة فهي نافية له وأنها كلها عدل ورحمة. ثم ضرب أمثلة كثيرة على تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد وأفاض في ذلك كثيرًا. الدكتور أبو بكر دوكوري.   (1) راجع الفروق: 1/176. (2) راجع أصول الأحكام: ص 143 نقلًا عن مجمع الضمانات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2813 منزلة العرف في التشريع الإسلامي إعداد الشيخ محمد عبده عمر باحث علمي في المركز اليمني للأبحاث والثقافة بوزارة الإعلام والثقافة – عدن بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وسلم. وبعد: فهذا بحث في موضوع: "العرف" مقدم إلى الدورة الخامسة. لمجلس مجمع الفقه الإسلامي الذي سيعقد بدولة الكويت الشقيق. من 10-15 ديسمبر 1988م. بقلم محمد عبده عمر: عضو المجمع. وقد وضعت خطة البحث كالآتي: 1- الفصل الأول: تعريف: العرف في الاصطلاح اللغوي والفقهي. 2- الفصل الثاني: منزلة العرف في التشريع الإسلامي. 3- الفصل الثالث: دور العرف في الفقه الإسلامي والشروط التي قيد بها الفقهاء. 4- الفصل الرابع: النظرة الفقهية بين الفقهاء للعرف اللفظي والعملي بين المذاهب. وقبل الدخول في صلب البحث ننقل بعض العبارات الفقهية لكبار العلماء المجتهدين نصًّا: قال الشهاب القرافي في كتاب الفروق 28 – المسألة الثالثة / 177، ما نصه: "الجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين" ويقول ابن القيم رحمه الله في فصل تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد: "هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة في أعلى رتب المصالح لا تأتي به. فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة ومصالح كلها وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسد وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل". إعلام الموقعين: 1/ 936؛ المدخل، للزرقاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2814 الفصل الأول تعريف: العرف في الاصطلاح اللغوي والفقهي العرف لغة: هو التتابع الذي ينشأ من العادة التي تستقر في نفس الشخص من تكرار أمر معين من الأمور، تعارف الناس هذه العادة وقلدوها وتكررت محاكاتهم لها في مكان معين أو بين طائفة معينة أو أبناء مهنة معينة صارت هذه العادة عرفًا أي استقر عليها العمل جيلًا بعد جيل، وكما يجري العرف اللغوي في الأفعال يجري بالأقوال أيضًا، فالإنسان بطبيعته مضطر إلى التفاهم مع من يعيش بينهم ولا بد من التعبير بها حتى تصبح لغة عامة بينهم، ثم بتوسع الصناعات والعلوم يصبح التعبير باللغة العامية الأصلية في هذه الصناعات والعلوم. ولهذا السبب نجد أهل الحرف أو العلوم يلجؤون إلى استعمال لغة وألفاظ خاصة بهم يصطلحون عليها بطريق الابتداء أو بطريقة التداول المتكرر للدلالة على معان وأشياء تفهم بسهولة من هذه الألفاظ الاصطلاحية التي لا يقوم مقامها في الدلالة إلا شرح طويل، ولا بد من التعبير بالألفاظ التي هي أصوات اعتاد الناس التعبير بها، وغالبًا ما يكون أصل الألفاظ العرفية مجازات لغوية لا يفهم المراد منها إلا بقرينة، ثم يتكرر استعمالها فتصير مجازات مشهورة ومنتشرة بين الناس ثم يزداد شيوع الاستعمال حتى يفهم منها المراد بدون قرينة وبنفس الوقت تهجر معانيها الحقيقية. نخلص مما تقدم: بأن العرف في الحقيقة اللغوية عادة الجماعة المتكررة في فعل أو قول من غير علاقة أو رابطة ذهنية مسبقة (1) . أما في الاصطلاح الفقهي: فقد عرفه الفقهاء بأنه عادة جمهور قوم في قول أو عمل: ثم توسعوا في تعريفهم للعرف، فقالوا: إن العادات التي تنتشر في البلاد وبين الناس أو بين أصناف مخصوصة من الناس لا تنشأ عن سبب واحد ولكن معظم هذه العادات إنما تنشأ عن الحاجة التي تعرض للناس لظروف خاصة بهم تدعوهم إلى عمل خاص فيما بينهم فيتكرر العمل حتى يصبح عرفًا، ومعلوم بأن للعادات والأعراف سلطانًا قويًّا على النفوس وتحكم العقول فمتى رسخت هذه العادة اعتبرت من ضروريات الحياة.   (1) انظر محمد زكريا البرديسي. أصول الفقه: ص329؛ الزرقا، المدخل: ص849؛ محمد موسى، المدخل: ص192-195 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2815 ومن هنا قال بعض علماء النفس إن الأمر بكثرة تكراره تألفه الأعصاب والأعضاء ولا سيما إذا اقتضته الحاجة حتى يكون طبيعة ثانية للإنسان. وهنا نجد التطابق بين نظرة علماء النفس والسادة الفقهاء، الذين يقولون: بأن نزع الناس عن عاداتهم حرجًا عظيمًا. ويعنون بذلك: العادات التي لا تعارض كتابًا ولا سنة ولا مصلحة عامة للمجتمع أما العادات التي تتعارض مع الكتاب والسنة أو مع المبادئ الشرعية العامة أو دليل من أدلتها فإنه لا عبرة لها إلا أن فقهاء الإسلام يرشدون بعدم أخذ الناس بغير الوسائل التربوية التي جاء بها الإسلام، والأخذ بالأسلوب التدريجي لتحويلهم عن مفاسد عاداتهم وأعرافهم. وفي هذا المعنى جاء قول السيدة عائشة رضي الله عنها واصفًا سياسة التشريع الإسلامي: إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة فيها ذكر الجنة والنار ولو نزل لا تشربوا الخمر ولا تزنوا لقالوا: لا ندع الخمر ولا الزنى ولكن نزلت سورة فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى رشدهم نزل بعد ذلك الحلال والحرام. ولما كانت العادة وليدة الحاجة، والحاجة تختلف باختلاف في البيئة والمكان والزمان انقسم العرف في اصطلاح الفقهاء إلى عرف عام وإلى عرف خاص تبعًا لمدى انتشاره بين الناس سواء من حيث الوسط الاجتماعي أو من حيث المكان يقول الفقهاء: إن العرف يجري بين الناس في أعمال معينة وألفاظ وتراكيب لغوية معينة في معنى معين. ومن هنا كان العرف في اصطلاح الفقهاء عرفًا عمليًّا وعرفًا لفظيًّا أو قوليًّا وهو – أي العرف – تابع للعادة وناشئ عنها والعادة قد تكون حسنة وقد تكون قبيحة فيأتي العرف حسنًا أو قبيحًا لذلك، ونخلص مما تقدم إلى أن العرف في اصطلاح الفقهاء: هو ما اعتاده الناس وألفوه وساروا عليه في أمورهم فعلًا كان أو قولًا دون أن يعارض كتابًا ولا سنة. وواضح من هذه الخلاصة بأن العرف في اصطلاح الفقهاء يختلف عن الإجماع وعن الاستحسان والاستصحاب للأصل. * * * الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2816 الفصل الثاني منزلة العرف في التشريع الإسلامي لما كانت الشريعة الإسلامية لها مقاصد معينة شرعت وأنزلت من أجلها: وهو جلب المنافع للناس ودفع الضرر عنهم كان الشارع الحكيم هو وحده الذي يحدد معيار النفع والضرر أو الصلاح والفساد، ومن ثم فإن فقهاء التشريع الإسلامي أجمعوا على أن العرف الصحيح الذي يحتج به هو العرف الذي يتفق ومقاصد الشريعة ولا يخالف الشريعة ولا يخالف دليلًا أو أصلًا شرعيًّا. كما وضعوا له شروطًا أخرى سنعرض لها في مواضعها من هذا البحث إن شاء الله. أما مستند العرف فقد استدل الفقهاء على أنه مصدر من مصادر التشريع الإسلامي بأدلة منها قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الآية 87 من سورة الحج] . فالآية الكريمة في رأي الفقهاء تشير إلى أن المشرع إذا لم يراعِ عند تشريع الأحكام ما تعوده الناس وعرفته العقول الناضجة والفطر السليمة مما لا يعارض كتابًا ولا سنة ولا إجماعًا، أو وضع الناس في الضيق والمشقة والحرج. ومن هنا فإن اعتبار العرف مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامى راجع إلى أصل رفع الحرج الثابت بالآية الكريمة. أما السنة فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) (1) ، فالحديث يدل على أن الأمر الذي يجري عليه المسلمون يعتبر من الأمور الحسنة عند الله يرجع إليه ويعمل به. واتفق فقهاء التشريع الإسلامي على أن العرف مستند عظيم لكثير من الأحكام الفقهية العملية بين الناس في شتى شعب الفقه وأبوابه، وأن العرف في نظر الشريعة الإسلامية له سلطان واسع المدى في توليد الأحكام وتجديدها وتعديلها وتحديدها وإطلاقها وتقييدها لأن العرف وليد الحاجة المتجددة والمتطورة حتى يكون العرف بطبيعته نظامًا حاكمًا تدور به وعليه عجلة المعاملات بين الناس ويكشف عن معاني كلامهم ومراميه ويرسم حدود الحقوق والالتزامات، ويوضح محجة القضاء، ويثري كثيرًا من النصوص التفصيلية في الأحكام التشريعية والالتزامات اعتمادًا على ما هو معروف ومألوف في شتى الوقائع والأقضية كما يغني نصوص التشريع والتقنين التي لا تستوعب جميع الوقائع التفصيلية الواقعة والمحتملة، خاصة وإن كثيرًا من الأحكام الفقهية مبني على العرف ويتبدل فيه الحكم بتبدل العرف بحيث لا يمكن بدون العرف ترتيب حكم ثابت فيه.   (1) انظر الاعتصام، للشاطبي: 2 /99، ومابعدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2817 والمتتبع لكتب الفقه الإسلامي قلما يجد بابًا من أبواب الفقه لا يكون فيه للعرف مدخلًا أساسيًّا في أحكامه حتى فقه الجرائم والجنايات، ومعلوم بأن الأحكام الاجتهادية التي يقف عليها الفقهاء المجتهدون استنباطًا وتخريجًا عند عدم النص الشرعي، إما أن تكون ثابتة بطريق القياس النظري على حكم أوجبه الشارع بالنص لاتحاد العلة بين الحكم المقيس عليه والمقيس، وإما أن تكون ثابتة بطريق الاستحسان أو الاصطلاح عندما لا يوجد حكم مشابه منصوص يقاس عليه كما أن الاجتهادات الإسلامية تكاد تكون متفقة على أن الحكم القياسي يترك للعرف ولو كان عرفًا حادثًا لأن المفروض عندئذٍ أن هذا العرف لا يعارضه نص خاص ولا عام معارضة مباشرة. والعرف في نظر الفقهاء دليل الحاجة فهو أقوى من القياس فيترجح عليه عند التعارض. ومعلوم بأن ترجيح العرف على القياس يعتبر عند الحنفية والمالكية من قبيل الاستحسان الذي تترك فيه الدلائل القياسية لأدلة أخرى منها العرف، وإذا كان العرف يترجح عند السادة فقهاء الأحناف والمالكية على القياس الذي يستند إلى نص تشريعي غير مباشر فهذا يدل دلالة واضحة على أن العرف يترجح أيضًا على الاستصلاح الذي لا يستند إلى نص بل مجرد المصلحة الزمنية التي هي عرضة للتبدل بحسب اختلاف الأزمنة وما يجد فيها من أوضاع ومقتضيات. ومن هنا نص الفقهاء على أن نصوص التشريع تنبئ بأن العرف في ميدان الأفعال والمعاملات له السلطان المطلق والسيادة التامة في فرض الأحكام وتقييدها وتحديد آثار العقود والالتزامات على وفق المتعارف عليه في كل موطن لا يعارض فيه العرف نصًّا تشريعيًّا. فالعرف عندئذٍ يعتبر مرجعًا ومنبعًا خصبًا للأحكام. ونخلص مما تقدم بأن العرف الصحيح يعتبر مصدرًا أساسيًّا من المصادر التبعية للتشريع الإسلامي وينبوعًا لمعرفة القرائن العرفية ومسائل تغير الزمان الذي تتبدل فيه الأحكام بحسب الأحوال والأخلاق العامة وأن العرف مقدم على القياس المستند إلى الشبه الذاتي في العلل بين الأحكام المنصوص عليها والأحكام المقيسة ويتضح لنا أيضًا بأن الأحكام القياسية تتبدل بتبدل العرف عندما تكون علة القياس نفسها مبنية على العرف فعندئذٍ يكون هذا التبدل في الحكم تبعًا لتبدل العرف ليس خروجًا على القياس بل تمشيًّا معه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2818 الفصل الثالث دور العرف في الفقه الإسلامي والشروط التي قيده بها الفقهاء مما لا شك فيه بين فقهاء التشريع الإسلامي، بأن العرف قد قام بدور هام في تفسير ألفاظ الأحكام وإنشاء أحكام جديدة وتعديل أحكام قائمة. ومن هنا قال علماء الأصول بأن ما اعتاده الناس وتعارفوا عليه ولم يكن معارضًا لكتاب ولا سنة تجب مراعاته عند التشريع وعلى المجتهد أن يجعله نصب عينيه وعلى القاضي أن يفطن إليه ويبني قضاءه عليه لأن القرآن والسنة المطهرة قد راعيا الصحيح من عرف الناس، فأقرا الكثير من الأمور التي تعارف عليها الناس قبل الإسلام بعد أن هذبها وأدخل عليها بعض الإصلاحات، ففرض الدية على العاقلة وبنى الإرث على القرابة حتى صار العرف الصحيح الذي يتفق مع مقاصد الشريعة أصل من الأصول التي اعتمد عليها الفقهاء على اختلاف مذاهبهم في الفتاوى والأحكام، حتى جرى عرفًا على ألسنتهم وفي مؤلفاتهم قولهم: المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. وقولهم: العرف عادة محكمة ونحن إذا استقصينا مذاهب الأئمة المجتهدين نجد أن فيها الكثير من الأحكام التي روعي فيها العرف الصحيح، فهذا المذهب المالكي نجده من خلال فقه المذهب يبني الكثير من أحكام على عمل أهل المدينة، وهذا هو رأي الإمام مالك رأي عنه ورأي أتباع المذهب من بعده، وليس لهم مستند غير العرف الذي ساروا عليه وألفوه أهل المدينة بعد عصر النبوة. كما نجد الإمام الشافعي رضي الله عنه يغير بعض الأحكام التي كان قد قال بها وذهب إليها عندما كان في بغداد بعد أن استقر به المقام في مصر وذلك بناء على اختلاف العرف في البلدين، كما نجد الأحناف يراعون العرف في كثير من الأحكام ففي المذهب نجد بأنه إذا اختلف المتداعيان ولا بينة لأحدهما، فالقول عندهم يكون لمن يشهد له العرف وإذا اختلف الزوجان على المقدم والمؤخر من الصداق (1) فالحكم عندهم للعرف. وفي المذهب أيضًا أن من حلف ألا يأكل لحمًا فأكل سمكًا لا يحنث بناء على العرف بل نجد الحنفية يختلفون على أنفسهم في حكم المسألة الواحدة تبعًا لاختلاف العرف؛ فقد روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال: لا يتحقق الإكراه إلا من السلطان بينما يرى الصاحبان أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني بأن الإكراه كما يتحقق من السلطان يتحقق من غيره.   (1) انظر الأشباه والنظائر، لابن نجيم آخر كتاب القضاء، المراجع السابقة؛ الزرقاء: ص853 - 868 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2819 وهذا الخلاف العرفي عندهم مبني على تباين العرف في العصرين، ففي عصر أبي حنيفة لم تكن القدرة والمنعة إلا السلطان وفي عصر الصاحبين صار كل ظالم قادر على إيقاع ما هدد به من الأذى والمكروه. ومن ذلك ما عرف من اتفاق علماء الحنفية القدامى من عدم جواز أخذ الأجرة على الإمام في الصلاة وعلى الأذان، لأن الأذان عبادة وطاعة لا يجوز أخذ الأجرة عليه وهذا الحكم من عدم أخذ الأجرة على الإمامة في الصلاة مبني على العرف؛ إذ كان العرف يقضي بأخذ الأئمة في الصلاة هبات من الملوك والحكام فلما انقطعت تلك الهبات من بيت المال وتغير الحال أباح المتأخرون من الحنفية أخذ الأجرة على الطاعات ومنها الإمامة في الصلاة والأذان وتعليم القرآن فنجد أن تغاير الحكم بين العلماء القدامى والمتأخرين منشؤه اختلاف في العرف في زمانهما والمتتبع لفتاوى الفقهاء وأحكامهم يجسد البعض منهم من يخصص النص أو القاعدة الفقهية العامة بالعرف، ومن هذا الباب أجازوا الاستصناع لجريان العرف به وإن كان مخالفًا للقواعد العامة التي تقضي بوجود المعقود عليه مخصصين هذه القاعدة العامة بالعرف، وقد أجاز الحنفية بيع مكيف الهواء بشرط تعهد البائع بإصلاحه مدة معينة مع أن هذا مخالف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن البيع وشرط، وذلك منهم تخصيصًا للنص بالعرف. وذلك أن العرف قد جرى على اعتبار ذلك: أي ذلك الشرط في العقود والتصرفات. وقد جاء كثير من أحكام النصوص الشرعية يدعم العرف في كيفية طرق التعامل الذي تقتضيه طبيعة المجتمع الإنساني منتقيًا لأكمل ما كان موجودًا منها في تحقيق الغرض المقصود منه. ومن المسلم به بأنه قد كان للأمة العربية التي نزل عليها القرآن وظهر فيها التشريع الإسلامي أعرافًا يحكمون بها ويسيرون عليها كما كانت لهم ضوابط يرجعون إليها في خصوماتهم وقضائهم، فجاء الإسلام فهذب فيها وعدل وألغى وبدل. وليس في ذلك ما يضر بالتشريع الإسلامي واستقلاله في التشريع خاصة إذا علمنا بأن الإسلام دين يراد به تدبير مصالح العباد وتحقيق العدالة وحفظ الحقوق ولم يأتِ ليهدر كل ما كان عليه الناس ليؤسس على أنقاضه بناءً جديدًا لا صلة له بفطرة البشر وما تقتضيه سنن الاجتماع، وإنما كان ينظر إليها من جهة ما فيها من مصالح ومضار، فما كان منها صالحًا أبقاه وأقره، وما كان منها ضارًا مفسدًا للمال أو للاجتماع نهى عنه وحرمه، وما احتاج منها إلى التنقيح والتهذيب أدخل عليه من التهذيب ما جعله صالحًا كفيلًا بصلاح الناس، وقد يقر الشيء نظرًا للتعامل الشائع ويشرع من جانب آخر ما يوحي بإنهائه أو بعدم الرغبة فيه، وذلك كما صنع في الرق الذي لم يأتِ به الإسلام بل كان عرفًا متعارفًا عليه قبل مجيء الإسلام وحث على العتق وتحرير العبيد وطلب في مواضع كثيرة تكفير الذنوب والخطايا بالعتق مثل أحكام كفارة اليمين والقتل الخطأ والإفطار في رمضان والظهار، ورتب عليه في ذاته درجات عظيمة من المثوبة عند الله وأباح أيضًا قتل الأسرى جريًا على قاعدة المعاملة بالمثل، ولكن لم يجعل التشريع الدائم، وإنما جعل التشريع الدائم فيها المن والفداء، ومثال ما ألغاه من الأعراف الفاسدة كنظام التبني الذي كان متعارفًا عليه بالجاهلية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2820 ومن المقرر في فقه الشرعية أن لتغيير الأوضاع والأحوال الزمنية تأثيرًا كبيرًا في كثير من الأحكام الاجتهادية التي تنظم ما أوجبه الشرع من تحقيق إقامة العدل بين الناس وجلب المصالح لهم ودرء المفاسد عنهم، وبالتالي فإن هذه الأحكام الاجتهادية ذات ارتباط وثيق بالأوضاع والوسائل الزمنية وبالأخلاق العامة فكم من حكم اجتهادي كان تدبيرًا وعلاجًا ناجعًا لبيئة في زمن معين فأصبح بعد جيل أو أجيال لا يوصل إلى المقصود منه أو أصبح يفضي إلى عكسه بتغير الأوضاع والوسائل والأخلاق، ومن هنا أفتى الفقهاء المتأخرون من شتى المذاهب الفقهية في كثير المسائل بعكس ما أفتى به أئمة مذاهبهم وفقهائهم، وصرح هؤلاء المتأخرون بأن سبب اختلاف فتواهم عمن سبقهم هو اختلاف الزمان وفساد الأخلاق فليسوا في الحقيقة مخالفين للسابقين من فقهاء مذاهبهم، بل لو وجد الأئمة الأولون في عصر المتأخرين ورأوا اختلاف الزمان والأخلاق لعدلوا إلى ما قاله المتأخرون. إن مما تقدم بيانه من الاعتبار الشرعي للعرف وماله من سلطان في ميدان الأحكام العملية بين الناس توليدًا وتحديدًا مشروطًا بشرائط يجب توافرها في العرف لكي يكون له هذا السلطان، وتلك الشرائط التي يذكرها الفقهاء والأصوليون في مناسباتها المختلفة هى: (1) أن يكون العرف مطردًا أو غالبًا. (2) أن يكون العرف مقارنًا أو سابقًا. (3) أن لا يخالف دليلًا أو أصلًا من أدلة وأصول الشريعة الإسلامية. ويقصد بالمراد العرف: بأن يكون جريان العمل به حاصلًا في أكثر الحوادث وغالبًا في معاملات الناس ويستوي في ذلك أن يكن العرف خاصًّا ببلد معين أو أبناء مهنة معينة أو يكون عامًا منتشرًا بين جميع الناس في سائر البلاد الإسلامية. ويقصد بكون العرف مقارنًا أو سابقًا: أن يكون العرف الذي يحكم الواقعة موجودًا وقت وجودها حتى يصبح حملها عليه، وعلى ذلك فلا عبرة بالعرف الطارئ ويستوي في ذلك العرف اللفظي والعرف العملي سواء كان عرفًا خاصًّا أم عامًّا.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2821 الفصل الرابع النظرة الفقهية بين الفقهاء للعرف اللفظي والعرف العملي بين المذاهب لقد نظر الفقهاء والأصوليون إلى العرف اللفظي نظرة اعتبار فقهية، وأن معنى لفظ المتكلم ينصرف إلى المعاني المقصودة بالعرف حين التكلم وإن خالفت المعنى الحقيقي لها في اللغة والمعنى الاصطلاحي لها في الفقه، فإن الحقيقة تترك للدلالة على العادة وهذا ما قرره ابن عابدين: 2 /133. من الرسالة حيث قال: يحمل كلام الحالف والناذر والموصي والواقف وكل عاقد على لغته وعرفه وإن خالفت لغة العرب ولغة الشارع وينبني على ذلك أن ما تعارف عليه العوام من أساليب تفيد معنى العقد أو تعليقه أو تنجيزه أو معنى الإذن أو الإجارة إلخ. يعتبر هو المعنى المقصود ولو خالف المعنى اللغوي في الفصحى وبطبيعة الحال يختلف معنى اللفظ في اللغة العامية من مكانٍ إلى آخر فتكون العبرة في كل مكان يعرفه في التخاطب والعبرة في المعنى العرفي بالمعنى الموجود وقت صدور التصرف القانوني وعلى ذلك فالألفاظ التي تصدر عن التصرف في التصرفات القانونية سواء كانت تتم بإرادة منفردة كالوصية أم بإرادتين كعقود المعارضة. فإنها تحمل على المعنى العرفي لهذه الألفاظ وتفسر النصوص والتصرفات التي تمت في ظل العرف القديم على المعنى القديم. أما التصرفات التي تتم في ظل المعنى العرفي الجديد فإن ألفاظهما تفسر في ضوئه، وهذا ما عبر عنه ابن نجيم في الأشباه والنظائر 1 /122. بقوله: العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر ولذلك قالوا لا عبرة بالعرف الطارئ. وبالمثل يجب أن تفهم النصوص التشريعية بحسب تداولها اللغوي والعرفي وقت صدور النص ولا عبرة بتبدل مفاهيم الألفاظ نتيجة لعرف متأخر ولذا قال القرافي: إن دلالة العرف مقدمة على دلالة اللغة لأن العرف ناسخ للغة والناسخ مقدم على المنسوخ فكما أن عقد البيع يحمل فيه الثمن على النقود المعتادة ولا عبرة في عقد البيع لتبدل العادات بعده في النقود. وكذلك نصوص الشريعة لا يؤثر فيها إلا ما قارنه من العادات. والحال كذلك في النظرة الفقهية للأعراف العملية فما يعد عيبًا في البيع وما يعتبر من توابعه … إلخ. يرجع فيه إلى العرف الجاري وقد صدور البيع لأن المعروف عرفًا كالمشروط شرطا ولا عبرة بما يحدث من تغيير في العرف في وقت لاحق، وهذه القاعدة عبر عنها الفقهاء في كتبهم بصيغ مختلفة منها قولهم الثابت بالعرف كالثابت بالنص ونحو ذلك. غير أنه يجب التنبيه هنا على القاعدة القائلة والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا (1) .   (1) الشرح على ابن نجيم 1 /474، 4 /358، 482 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2822 ذلك أن المتتبع لكتب الفروع الفقهية يجد أن الفقهاء قد وضعوا قيدًا هامًّا هو أن لا يصدر عن المتعاقدين تصريح بخلاف العرف، فإن صدر هذا التصريح وجب العمل به وترك العرف. وعللوا ذلك. بأن تطبيق ما يجري عليه العرف يرجع إلى أن سكوت المتعاقدين عن ذكره صراحة إنما حدث اعتمادًا على مقصودهما وبطلت القرائن الأخرى المخالفات للعرف. ويكون العرف هنا من قبيل الدلالة فإذا أصدر تعبير صحيح عن المتعاقدين أو أحدهما دل ذل على مقصودهما أيضًا وبطلت دلالة العرف لأن القواعد المقررة عند الفقهاء أنه لا عبرة للدلالة في مقابل التصريح، ولذلك قالوا بأن كل ما يثبت بالعرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد ويمكن الوفاء به صح. فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكل وشرب ويقطع المنفعة لزمه ذلك. وقد نص الشرط الثالث من الشروط المتقدم ذكرها: بأن لا يخالف العرف دليلًا أو أصلًا شرعيًّا. ومخالفة العرف للدليل أو أصل شرعي تظهر في حالات ثلاث: 1- مخالفة نص خاص في الكتاب أو السنة. 2- مخالفة نص عام. 3-مخالفة حكم بني على الاجتهاد: القياس: الاستحسان. المصالح المرسلة … إلخ. 1- مخالفة العرف لنص تشريعي خاص: حرم الشارع بعض صور المعاملات التي جرى عليها العرف في العصر الجاهلي وخص هذه التصرفات بنصوص وردت بخصوصها. ومن أمثلة ذلك تحريم التبني: بيع المنابذة والملامسة وإلقاء الحجر. وتحريم استرقاق المدين ومنع زواج الشغار … إلخ. والقاعدة الفقهية أنه لا عبرة بمثل هذا العرف ولو كان عرفًا عامًّا لأنه يخالف مقاصد الشريعة. وبالتالى فإن نهي الشارع عن هذه الأعراف يعتبر دليلًا على أنها ضارة للمجتمع ولا تحقق له نفعًا، ولو تمخضت في التطبيق العملي عن فائدة محققة لبعض أفراد المجتمع لأن إرادة الشارع وحده هي المعيار الذي يحدد ما يجلب النفع وما يدفع عنهم الضرر، وقد أفصح الشارع الحكيم عن إرادته بالنهي عن هذه التصرفات ومنعها، وقد استثنى الفقهاء من هذه القاعدة حالة ما إذا كان النص نفسه حين صدوره عن الشارع قد بني على عرف قائم ومعللًا به فإن النص عندئذٍ يكون عرفيًّا أو غير عرفي فيدور حكمه مع العرف ويتبدل بتبدله، وهنا تختلف وجهات النظر في كون النص الخاص عرفيًّا أو غير عرفي ومن ثم يختلف الرأى في أثر العرف الطارئ. 2- مخالفة العرف لنص تشريعي عام: وهي الحالة التي يكون فيها موضوع العرف المخالف عبارة عن بعض عموم النص ولم يرد النص خصيصًّا بشأن هذا البعض، وهنا تجب التفرقة بين العرف المقارن والعرف الطارئ، كما أن العرف المقارن عند الإطلاق يتناول العرف القائم عند ورود النص، ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن النص التشريعي الذي يطلق عليه علماء الأصول: النص التشريعي العام: هو الذي يفسر في ضوء العرف اللفظي المقارن له ما لم تقم قرينة عكسية فإذا كان اللفظ الذي استعمله الشارع أوسع دلالة في اللغة من المعنى العرفي له حمل اللفظ على المعنى العرفي لأن العرف اللفظي العام هو لغة التخاطب فيعتبر المعنى العرفي هو المعنى الحقيقي للفظ، وذلك ما لم تقم قرينته على أن الشارع أراد بلفظه حدودًا أوسع من المعنى العرفي. ومن أمثلة ذلك ألفاظ البيع والإيجار … إلخ فهي في الحقيقة تحمل على معناها العرفي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2823 أما أن كان العرف المقارن عرفًا عمليًّا أي عرف الناس في أعمالهم ومعاملاتهم فإن الحكم يختلف باختلاف المذاهب الفقهية، فقد ذهب الحنفية إلى ضرورة التفرقة بين العرف العام والعرف الخاص، وقرروا بأن العرف العام أي المنتشر في سائر البلاد يعتبر مخصصًا للنص؛ أي يطبق على ما سوى الأمر الذي جرى به العرف العام المقارن للنص، وهذا التخريج ليس فيه تعطيل للنص أو إهماله بل هو إعمال للنص والعرف معًا وذلك تأسيسًا على أن وجود هذا العرف وقت صدور النص يعتبر قرينة على أن الشارع لم يرد شمول ذلك الأمر المتعارف عليه بعموم نصه والمعارض له في الظاهر ومن أمثلة ذلك عقد الاستصناع؛ فالحديث النبوي الشريف نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم، فالمنع يشمل الاستصناع ضمن ما يشمل غير أن العرف جرى بين الناس على الاستصناع لحاجتهم إليه، وقد انعقد إجماع الفقهاء على صحة عقد الاستصناع فارتقى الاجتهاد في هذه المسألة إلى مرد الإجماع. أما العرف الخاص: أي العرف السائد في بلد دون آخر أو طائفة من الناس كالتجار والصناع إلخ … فلا عبرة به إذا ما عارض نصًّا تشريعيًّا عامًّا ولو كان مقارنًا تأسيسًا على انعدام هذا العرف في بقية البلدان إلا أن البعض من الفقهاء لا يقتضي عندهم تخصيص النص لأن التخصيص لا يثبت بالشك. أما المالكية فقد ذهب المحققون منهم إلى أن العرف العملي يخصص النص العام دون تمييز بين عرف عام وعرف خاص. والنتيجة التي نخلص إليها: هو اتفاق الفقهاء على أن لفظ النص العام سواء كان عرفًا أو خاصًّا يحمل على المعنى المقارن للعرف. أما بالنسبة للعرف العملي المقارن فإن المالكية يعتبرونه مخصصًا للنص العام سواء كان عرفًا عامًا أو خاصًّا. أما الحنفية فإنهم يسلمون للعرف العام بهذا الدور ولكنهم ينكرونه على العرف الخاص، أما العرف الطارئ: أي العرف الحادث بعد صدور النص فقد سبقت الإشارة إليه بهذا الفصل بأن الفقهاء متفقون على أن هذا العرف الطارئ للنص التشريعي يعتبر نسخًا بالعرف وهذا غير جائز لأن العرف في مرتبة أدنى من التشريع، والنسخ لا يكون إلا بدليل أقوى أو من نفس المرتبة ولا فرق في ذلك بين العرف اللفظي والعرف العملي، وقد أشرنا في هذا البحث إلى الاستثناء الذي نص عليه الفقهاء، فلا حاجة لإعادته هنا. إلا أننا نجد أن من المفيد هنا أن نذكر بعضًا من نماذج أو من تطبيقات هذا الاستثناء للإيضاح: من المعلوم بأن الحديث النبوي الشريف نهى عن بيع وشرط إلا أن الأحناف فسروا هذا الحديث بأنه مخصوص في عقود المعاوضات وأن الشرط المفسد للعقد هو كل شرط فيه منفعة خارجة عن الحكم الأصلي للعقد وعن ما يلائمه غير أنهم استثنوا من ذلك الشرط الذي ورد بجوازه نص شرعي مثل خيار الشرط، والشرط الذي جرى به العرف ولو كان حادثًا. ونخلص من هذا إلى أن الشرط الذي يقتضيه العقد أو يلائمه ويؤكد موجبه معتبر، ويصح اقتران العقد به كما أجازوا الشرط المتعارف عليه والذي جرت به عادة البلد وتقرر في المعاملات بين التجار وأرباب الصنائع وتفريعًا على ذلك أجازوا بيع الوفاء رغم أنهم كانوا قد أفتوا بفساده بعد أن انتشر بين الناس وتفريعًا على ذلك بين العرف العام والعرف الخاص. وقد أسسوا هذا الحكم على أن علة منع الشرط في البيع هي أن الشروط الزائدة على أصل البيع تفضي إلى منازعة، فإذا جرى العرف على بعض هذه الشروط انتفى النزاع إلا أن العرف يجعل موضوع الشرط معلومًا ومألوفًا واعتبار العرف في هذه الحالات لا يعطل النص بل يتفق مع غرضه وروحه. الشيخ محمد عبده عمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2824 مراجع البحث 1- الأشباه والنظائر – لزين العابدين إبراهيم بن نجيم المصري. 2- شرحة: غمز عيون البصائر: لأحمد محمد الحموي. 3- أصول الفقه، للخضري. 4- الأم في مذهب الإمام الشافعي. 5- المدخل، للشيخ مصطفى أحمد الزرقاء. 6- مصادر الحق في الفقه الإسلامي، للأستاذ عبد الرازق السنهوري. 7- أصول الفقه، للشيخ عبد الوهاب خلاف. 8- البداية والنهاية، لابن رشد. 9- إعلام الموقعين، لابن القيم. 10- أحكام القرآن، لابن العربي. 11- سبل السلام على بلوغ المرام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2825 مناقشة البحوث العرف الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلي الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن. العرف هو موضوع هذه الجلسة، وقد قدم فيه إحدى عشر بحثًّا، والعارض لها هو الشيخ خليل الميس، والمقرر الشيخ عمر بن سليمان الأشقر. الشيخ خليل محيي الدين الميس: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وبعد: العرف من المباحث التي تجذرت أصوليًّا، وتوزعت فروعه على غير باب من أبواب الفقه، وشأنه بذلك شأن مصادر التشريع التبعية حيث اختلف في حجيتها، فاختلف الأقوال بالتالي في أحكام المسائل المتفرعة عليها، وإنني أسوق عرضًا موجزًا لأبحاث أصحاب الفضيلة. أبدأها ببحث فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري: والذي جاء في أربع صفحات فقط مقتصرًا على تعريف العرف وتقسيماته إلى عام وخاص، وقولي وفعلي، وصحيح وفاسد، ثم ذكر مجالات العرف الأربعة ليصل إلى تساؤل، هل العرف أصل قائم برأسه؟. ثم أجاب بقوله: إنه لا يشكل أصلًا قائمًا برأسه في قبال الأصول الفقهية الأخرى. وعرض لمقالة ابن عابدين والتي يفهم منها ميله إلى اعتبار العرف دليلًا مستقلًا. ثم أورد الأدلة على ذلك، وخلاصة قوله، إن العرف ليس أصلًا من أصول الفقه، وإنما يرجع إليه في بعض المجالات للكشف عن السنة وتشخيص المرادات. هذا ما تمكن تلخيصه من بحثه، ثم نصل إلى بحث الدكتور محمد عطا السيد أحمد: ويقع في خمس صفحات، بدأه بالعرف اللفظي أو القولي، وأنه يعتد به متى كان عامًّا لبلد أو قوم، وأما أن كان خاصًا بالمتكلم حمل لفظ على عرفه الخاص عند المالكية كما قال في الأيمان والنذور والطلاق وغيره. والعرف العملي، ذكر مذهب الإمام مالك رضي الله عنه في المسألة، ثم قسم العرف إلى فعلي أي الخاص بفرد، وذكر عدم الاعتداد به، ثم العرف الجاري بالترك، كترك الثمر والتسامح بها أي على الشجر، ثم عرض لحجية العرف وذكر كلًّا من قولي أبي سنة والمرحوم أبي زهرة، ثم مقالة العز بن عبد السلام، بأن الأيمان مبنية على العرف، فمقالة ابن عابدين بأن كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف، ثم قسم العرف إلى ثلاثة أقسام، أولًا: ما يقوم الدليل الخاص على اعتباره، كالكفاءة. ثانيًا: ما يقوم الدليل على نفيه، كعادات الجاهلية. ثالثًا: ما لم يقم الدليل على اعتباره أو نفيه. ثم عرض للعرف الفاسد وأنه لا يراعي، وذكر قاعدة تغير الأحكام ودورانها مع أعراف الناس، مستدلًا بمقالة ابن القيم في المسألة. وانتهى في آخر بحثه إلى القول هو أن العرف أصل من الأصول التي يستند إليها في الوصول إلى الفتوى بشروط ومواصفات تعرف في أماكنها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2826 بحث الدكتور أبو بكر دكوري، جاء فيه ثماني صفحات، وقسمه إلى مباحث أربعة: - تعريف العرف. - تقسيمات العرف. - حجية العرف ومذاهب العلماء في اعتباره. - شروط اعتبار العرف وتحكيمه. وعرض إلى بيان الفرق بين العرف والعادة، وأنهما بمعنى واحد. كما أورد مسألة الفرق بين العرف والإجماع نقلًا عن أصول مذهب الإمام أحمد. ثم بين تقسيمات العرف إلى قولي وفعلي، وإلى خاص وعام، وفاسد وصحيح. وبين مذهبي المالكية والحنفية في الأخير منها، ثم ذكر مقالة الدكتور التركي في أصول الإمام أحمد، وأن الحنابلة كغيرهم يلاحظون العرف في كثير من فتاواهم وأحكامهم، ثم مقالة ابن القيم في هذا الباب، وأدلة اعتبار العرف من الآثار يقول في نهايتها: تقرر اعتبار العرف في الشريعة الإسلامية وأنه دليل يرجع إليه الفقيه إذا أعوزه دليل آخر أرجح منه، ثم ذكر شروط الاحتجاج به، وهي سبعة: الاضطراد، وعدم مخالفة النص، أن لا يتفق العاقدان على استبعاد العرف، وجود العرف عند العقد، وأن يكون العرف عامًّا وملزمًا، وأن يكون مفتى به، ثم عرض لتغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة. الدكتور إبراهيم فاضل: بحثه في اثنتي عشرة صحيفة، بدأ بتقسيم الأدلة الشرعية النقلية والعقلية، وبيان مراتبها، وحجيتها، ومنزلة الكتاب والسنة منها بالذات، وعلاقة كل منها بالآخر. ثم عرض لترتيب الأدلة أخذًا من حديث معاذ رضي الله تعالى عنه، ثم مسألة عمر لشريح رضي الله تعالى عنهما، ثم بدأ بالعرف معرفًا ومقسمًا التقسيمات المعهودة إلى عرف عملي وقولي، ثم كل منهما إلى خاص وعام، وإلى العرف القولي الخاص أنه يخصص العرف العام، وأن العرف الفعلي الخاص مخصص للعام عند الحنفية دون الشافعية، ثم أقسام العرف الصحيح والفاسد، وحكم الفاسد منها، ووصل في مبحثه في حجية العرف، إلى بيان أن المالكية يقيمون للعرف وزنًا كبيرًا، وعرض لمقالة ابن عابدين، وكيف أن الفقهاء يرجعون إلى العرف والعادة في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا، وأن الثابت بالعرف كالثابت بالنص، والقاعدة " العادة المحكمة ". وخلص إلى القول بأن العرف معتبر في الشرع ويصح ابتناء الأحكام عليه، وأنه ليس دليلًا مستقلًا، لكنه يرجع إلى أدلة الشريعة المعتبرة، وأورد الأدلة على مقالته هذه، ثم أورد شرط اعتبار العرف كأصل من أصول الأحكام وهي أربعة: (ألا يكون مخالفًا للنص. أن يكون العرف مطردًا أو غالبًا. أن يكون العرف مقارنًا ولا يعتبر متأخرًا في التصرفات. ألا يوجد قول أو عمل يفيد لخلاف مضمونه) . ثم عرض لمبحث تعارض العرف مع الدليل الشرعي، وفي هذه الحال ذكر مقالة ابن عابدين في نشر العرف، وأجمل القول بأن مخالفة العرف للأدلة الشرعية تتنوع إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: مخالفة العرف النص الشرعي من كل وجه. النوع الثاني: مخالفة العرف من بعض الوجوه. النوع الثالث: مخالفة العرف والاجتهادات الفقهية للناس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2827 ثم عرض لحكم كل منها بالتفصيل ملخصًا مقالة ابن عابدين في نشر العرف، وانتهى إلى فصل أثر العرف في العقود، وأورد منها ست عشرة مسألة منتقاة من نشر العرف، وقواعد العز بن عبد السلام، لتبين مدى حجية العرف فيها. ثم الدكتور محمد جبر الألفي: البحث في أربعين صحيفة، عشرة منها بيان الهوامش، والتعليقات، والمصادر. إن هذا البحث مستفيض، ومستوعب، ومقسَّم إلى مقدمة وأربعة فصول. الفصل الأول: معنى العرف وبيان أركانه. الفصل الثانى: القوة الملزمة للعرف. الفصل الثالث: العرف في التشريع. الفصل الرابع: التطور التشريعي للعرف. وفي فصل التعريف أورد مقالة الجرجاني والنسفي، ثم علي حيدر في المجلة، فالزرقاء في شرح القواعد، فعبد الوهاب خلاف. ليخلص إلى تحقق الارتباط بين المعنى اللغوي للعرف والمعنى الاصطلاحى. ولما كانت المصادر قد جمعت بين العرف والعادة، لذلك عرض لمقالة العلماء في التفريق والجمع بينهما في المفهوم. وخلص من هذا كله إلى القول: إن العمل يتطلب وجود رأي فقهي يستند إليه ولو كان مرجوحًا، وهذا ما يفرق بينه وبين العرف، فهو ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول. العرف والإجماع: فرق بينهما من عدة وجوه: أولًا: أن الإجماع لا يكون إلا من مجتهدين. ثانيًا: أن الإجماع يتحقق ولو بمرة واحدة دون حاجة للتكرار. ثالثًا: أن الإجماع لا بد له من مستند بخلاف العرف. أركان العرف: ذكر ركنين: ركنًا خارجيًّا، وآخر داخليًّا نفسيًّا. والركن المادي له ثلاث صفات (عموم وقدم وثبات) ، ثم توصل الكلام إلى تقسيم العرف إلى عام وخاص، ثم القدم مسألة تقديرية تختلف باختلاف الأحوال، وأما الثبات دفعًا للاضطراب حيث يصار عند ذلك إلى اللغة، وأما الركن النفسي هذا التقسيم جرى عليه أبو سنة في دراسته المشهورة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2828 حجية العرف: أورد النصوص من كتب مذاهب الأئمة الأربعة على حجية العرف، منهم ابن عابدين من الحنفية، وابن حجر من الشافعية والطرطبي من المالكية، وابن القيم من الحنابلة، وعقب على ذلك كله بالقول: وبناء على ذلك تقرر في التشريع والفتوى والقضاء أن العادة محكمة، وأن استعمال الناس حجة يجب العمل بها. قال: وللعلماء في تحديد طبيعة العرف مسلكان، الأول: يعتبر العرف دليلًا مستقلًّا يمكن أن يستفاد منه أحكام شرعية، والآخر لا يسلم بهذا الاستقلال، بل يرد العرف إلى دليل آخر ثبت لديه كالاستصناع عند الحنفية، وعمل أهل المدينة عند مالك رضي الله تعالى عنه. رد العرف إلى الاستحسان كوقف المنقول، ورد العرف إلى المصلحة أو إلى دليل الاستصلاح. القوة الملزمة للعرف: الدليل على حجية العرف: عرض لمذاهب كل من الأشاعرة والمعتزلة والماتريدية في التحسين والتقبيح، أو هل للعقل استقلال بإدراك حكم الله تعالى أم لا؟.. ثم وصل به الكلام إلى وظائف العرف وعد منها: أولًا: المكمل للتشريع، وقف المنقول والاستصناع. ثانيًا: العرف المساعد للتشريع، كآية النفقة، أثبتت حكمًا شرعيًّا وأحالت إلى العرف بيان مقدارها. ثالثًا: العرف المخالف للتشريع: سواء خالف النص من كل وجه فلا اعتبار له، أما إن أمكن التوفيق بينهما فأكثر الفقهاء على اعتباره كمذهب مالك في آية الرضاع. مخالفة العرف لحكم اجتهادي كجواز الاستئجار على تعليم القرآن الكريم: قاعدة تغير الأحكام بتغير الأزمان، بين مضمونها وذكر بعض التطبيقات عليها، منها الطلقات الثلاث كانت واحدة وأمضاها أمير المؤمنين عمر – رضي الله تعالى عنه – ثلاثًا، وتابعه الصحابة على ذلك، حديث الأصناف الستة المشهور (الكيلي والوزني منها) ، ثم تغير بعضها من الكيلي إلى الوزني، وإن العمل بالتغيير عمل بالاستصحاب كما قال. رابعًا: التطور التشريعي للعرف، فيه مبحثان: - إحياء الأعراف المحلية. - انتشار حركة التقنين. وعزا إحياء الأعراف المحلية إلى خلو بعض الأقاليم النائية من التنظيم القضائي، والاستعمار الغربي في بلاد الإسلام، وعرض لأحوال شبه القارة الهندية وشمال أفريقيا وجزر الهند الشرقية، ثم عرض للتقنينات الحديثة والعرف، وكيف أن العرف احتل المركز الثاني يلجأ إليه القاضي عندما لا يجد نصًّا تشريعيًّا. وبعضهم جعله في المرتبة الثالثة، وأنه يشترط لتطبيقة عدم المخالفة للنظام العام. وفي الخاتمة، قال: إن الشرع الإسلامي يحمل في طياته بذور نمائه وأحكامًا يمكن أن تتسع لمواجهة الأوضاع المستجدة دون أن تفقد خصائصها المميزة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2829 بحث الدكتور محمود شمام: وفيه ثمان وخمسون صفحة، وله ميزة أنه جمع بين الفقه والقانون. بدأ بحثه بعنوان " العرف بين الفقه والتطبيق"، وأن القاضي يفزع إلى العرف كلما نفذ النص، أو احتاج إلى شرح غموض نص، وأشار إلى أهمية العرف والعادة واستهل بحثه بقول ابن عابدين: والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار ثم عرف العرف لغة واصطلاحًا، ووصل به الكلام إلى حجية العرف، واستعرض الآيات التي لها علاقة بالموضوع، ثم الأحاديث والآثار الواردة في الباب. وساق مذاهب الفقهاء الأحناف وقولهم: التعيين بالعرف كالتعيين بشرط. مذهب المالكية وقولهم: عمل أهل المدينة هو أصل مشهور. مذهب الحنابلة، لم يأخذوا بالعرف إلا في حدود ضيقة. مذهب الشافعية، عملوا به في فروعهم، وإن لم يثبت عند إمامهم. مذهب الشيعة الإمامية: العرف تأكيد لحكم العقل، أو أنه من أدلة الإجماع. الخلاصة: اتفاق كلمة الأئمة على اعتبار العرف، وساق العديد من المسائل المنتقاة من أحكام العرف عند المذاهب. مبدأ اعتبار العرف: فيما يتعلق بالحقوق والمعاملات، والمبدأ العام يقول: إن للعادة تأثيرًا على التشريع، وللعرف علاقة وطيدة ومتينة بالاجتهاد، وإن الفقهاء جميعًا اعتبروا العرف ولكن بقيود، وأشار إلى منزلة العرف عند علماء القانون، حيث قالوا: إن الشريعة غير المدونة هي التي تستحسنها العادة وتقرها، ثم ذكر شروط اعتبار العرف وحصرها في خمسة معلومة، وخلص إلى القول: العرف المعتبر هو ما يخصص العام، ويقيد المطلق فقط. أنواع العرف: عد منها العام والخاص، واللفظي، والفعلي، وعرض لمقالة ابن عابدين في المسألة. الفرق بين العرف والعادة: حيث ميز بينهما رجال القانون بأن العادة غير ملزمة بخلاف العرف، ثم ساق أمثلة على أحكام وقائع ثبتت بالعرف نقلًا عن الإمام القرافي، وأحكام المحاكم المدنية في المغرب، وأن العرف له دور كبير في المعاملات المالية من بيع وشراء، وكراء، وإجارة. ثم عرض للعرف في الاصلاح القانوني في التطبيق، وأشار إلى قانون العرف يقابله القانون المكتوب، وأن العرف يستمد إلزامه من تلقاء نفسه، وأنه لا يعذر بجهل العرف كما لم يعذر بجهل الشريعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2830 مظاهر تطبيق أحكام العرف في القانون: قال تحت هذا العنوان: جاءت غالب القوانين الوضعية – المدنية والتجارية خاصة – على اتباع العادات والأعراف، وعد منها القانون المصري، والسوري، والعراقي، والإنجليزي، والفرنسي. وبين مظاهر تطبيق أحكام العرف في القانون التونسي في العقود وتفسير العقود بالعرف، وشروط الأخذ بالعرف. العادة والعرف لا يخالفان النص الصريح، وبين تأثير العرف في أحكام البيع وساق المواد في هذه المسألة، ثم بين تأثير العرف في أحكام الكراء، والأراضي الفلاحية، ثم العرف في نقل الأشياء والوديعة والعارية، والوكالة، والشركات، والمساقاة، والمغارسة، وخلص من ذلك كله إلى نتيجة يمكن أن يلاحظ الدارس المقارن وجه الشبه وعلامات الاقتباس في أجلى صورها – أي عن الشريعة الإسلامية-، وأنهى بحثه في بيان أهمية العرف في المسائل التجارية. البحث للعبد الفقير: البحث طبعًا في أربع وخمسين صحيفة – هذا وإن العرف له حظ وافر عند ابن فرحون – إن العرف قد عرض له المصنفون في آداب القضاء والمفتين، فله حظ وافر عند ابن فرحون المالكي في "التبصرة" والطرابلسي في "معين الحكام"، والقرافي في "الفروق والفصول"، وكل من السيوطي وابن نجيم في "الأشباه"، والشاطبي في "الموافقات والاعتصام"، والزركشي في "الدر المنثور". وأفرده بالبحث ابن عابدين في إحدى رسائله، والكوثري في مقالاته ضمن رسائله، كما أفرده بالبحث أبو سنة في رسالة علمية معروفة، وكذلك أفرده بالبحث أبو عجيلة الذي خالف أبا سنة في كثير مما ذهب إليه، هذا وقد عمل بالعرف الصحابة والتابعون في أزمانهم. تقسيمات العرف: هو عام وخاص، وعادي واستعمالي، وإن العرف الاستعمالي له ثلاثة أوجه، لغة وشرعًا وصناعة. كما عرضت لأسماء العرف والحقيقة الشرعية، والحقيقة اللغوية، للأسماء العرفية والحقيقة الشرعية، والحقيقة اللغوية. أوجه استعمال العرف، وهي سبعة: 1- استعمال بمنزلة الدليل على تشريع الحكم، كالمضاربة، ووقف المنقول. 2- أن يكون استعمال العرف معيارًا يرجع إليه القاضي والمفتي في تطبيق الأحكام المطلقة، كعقوبة التعزير. 3- أن يقوم العرف مقام التطبيق بالأمر المتعارف في الدلالة على الإذن أو المنع. 4- الاستعمال العرفي للألفاظ اللغوية، العرف القولي كلفظ الصلاة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) . 5- أن يكون العرف الجاري بين الناس مرجحًا لبعض المذاهب الفقهية على بعض. 6- أن يكون العرف مفيدًا لتمويل بعض الأشياء، كالنحل. 7- تأثير العرف في الحكم الشرعي، كعدالة الشهود. ما يحكم به بالعرف: كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة. تغير العرف مرة بعد مرة: وهي مسألة مشهورة، واتباع المفتي العرف الحادث في الألفاظ العرفية أمر لازم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2831 أما الاصطلاح: الاصطلاح الخاص والاصطلاح العام، أو تغيير اللغة بالاصطلاح. وفيه قولان للأصوليين، تعارض العرف العام والخاص وجهان في المسألة، وكذلك تعارض اللغة والعرف فيه وجهان. وإذا تعارض عرف الاستعمال مع عرف الشرع فهو نوعان أيضًا. النوع الأول: ألا يتعلق بالعرف الشرعي حكم، فيقدم عليه الاستعمال، "وحلف لا يأكل لحمًا فلا يحنث بأكل لحم السمك، وإن سماه الله تعالى لحمًا طريًّا. الثاني: أن يتعلق بعرف الشرع حكم فيقدم على عرف الاستعمال. مثاله: "حلف لا يصلي، لم يحنث إلا لذات الركوع والسجود". حجية العرف عند الأصوليين: أورد بعض الأصوليين دلالة استعمال العرف في مبحث تخصيص العام. قالوا – أي العنوان -: بيان ما تترك به الحقيقة، وهي خمسة أنواع عدُّوا منها: دلالة الاستعمال عرفًا، وساقوا له أمثلة منها لفظ الحج. فإن اللفظ للقصد حقيقة، ثم سميت العادة بها لما فيها من العزيمة، والقصد للزيارة فعند الإطلاق يتناول العبادة للاستعمال عرفًا. أما العرف في أقوال الفقهاء: اتباع العرف أمر مجمع عليه. حكاه القرافي وغيره. قال البدر العيني: حمل الناس على أعرافهم ومذاهبهم واجب. وقال ابن العربي: العرف والعادة أصل من أصول الشريعة. لكن الكوثري، قال: وأما تحكيم العرف على النصوص فلم يقع من مسلم ولن يقع، وليس للعرف في الشرع إلا ما بينه علماء المذاهب في كتب القواعد وكتب الأصول والفروع، ويبدو أن هذه المقالات أوردها عند إثارة قضية التجديد في مصر، يعرفها من عايشه. أما تخصيص العام في العرف العملي، ذهب الحنفية والمالكية إلى أنه لا فرق بين العرف القولي والعرف العملي، فكلاهما يخصص العام، وخالفهم في ذلك الشافعية؛ ذهبوا إلى أن العرف العملي لا يقوى على التخصيص. حجية العرف: قال القرافي: العرف مشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك. قال ابن العربي في تفسير قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} ، ليس في الإنفاق تقدير شرعي، وإنما أحاله الله تعالى على العادة، وهي دليل أصولي بنى الله عليه الأحكام، وربط به الحلال والحرام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2832 استدل القائلون بحجية العرف بالكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . قال السيوطي: أي اقضِ بكل ما عرفته النفوس مما لا يرده الشرع، وهذا أصل القاعدة الفقهية في اعتبار العرف، وتحتها مسائل لا تحصى، كما قال السيوطي. استدل بهذه الآية أيضًا على حجية العرف غير واحد من فقهاء المذاهب، ومن الآيات التي ساقوها للاستدلال قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، قال القرطبي العرف والمعروف والعارفة كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمئن إليها النفوس، ومنها قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ، قال ابن تيميمة: تنازعوا في النفقة، والراجح أنه يرجع فيه إلى العرف، ومن السنة الحديث: الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة. قال العلائي: قرر النبي صلى الله عليه وسلم الاعتداد بالعرف الجاري بين الناس، ومنها قضاء النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها في النهار، وعلى أهل المواشي حفظها في الليل، قال الخطابي: لأن العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها في النهار، ومن عادة أصحاب المواشي أن يسرِّحوها بالنهار ويردوها مع الليل إلى المراح. تخصيص العام بعادات المخاطبين: قال به المالكية وخالفهم الحنابلة. وأما شروط اعتبار العرف والعادة فبالاستقراء هي خمسة ذكرها غير واحد ولا داعي لتعدادها. أهم القواعد الفقهية في العرف وسلطانه؛ منها: 1- العادة محكمة. 2- الحقيقة تترك بدلالة العادة. 3- استعمال الناس حجة يجب العمل بها. 4- المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. 5- لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان. 6- التعيين بالعرف كالتعيين بالنص. وخرج الفقهاء على هذه القواعد ما لا يحصى من فروع الأحكام في مختلف الأبواب الفقهية وخاصة المعاملات والأيمان والنذور. وعرض لكثير منها العز بن عبد السلام في قواعده والقرافي في فروقه، والشاطبي في موافقاته، هذا وهل الخلاف في حجية العرف حقيقي أو ظاهري؟ من المسلَّم به بين المخالفين والموافقين أن هنالك تصرفات كثيرة للمكلفين للعرف فيها مدخل، ولكن لا بد من التوسط ما بين التفريط والإفراط، خاصة بالنسبة لنفاة حجية العرف، فحيث نفوه دليلًا، ووصفوه كاشفًا للحكم لا مثبتًا له، نقول: وهل القياس وهو المصدر الرابع من مصادر التشريع المجمع عليها إلا دليل كاشف على ما قال أهل العلم؟. باعتبار أن الكتاب والسنة والإجماع هي مثبتة للأحكام فقط، وهي من المصادر الأصلية وما سواها من المصادر أو الأدلة التبعية، والعرف مصدر من المصادر الاجتهادية، نعم لا اجتهاد في مورد النص، ولم يقل مثبتو حجية العرف بأن العرف يعارض النص بوجه من الوجوه، وإن قالوا إنه مخصص، وبذلك يكون تابعًا لا أصلًا، قال صاحب المسودة: وتخصيص العموم بالعادة، بمعنى قصره على العمل المعتاد كثير المنفعة. وكذا قصره على الأعيان التي كان الفعل معتادًا فيها زمن المتكلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2833 كلمة ختامية فهو يعتبر بحق نوافذ الفقه الإسلامي التي يطل منها على حياة الناس الواقعية، فيسلط عليها الأضواء لتنير الطريق للسائرين كي لا تلتوي بهم السبل عن الجادة، وليميز الخبيث من الطيب، فإذا ما انكشفت الحقائق أقر منها النافع، وألغي الفاسد الضار. هذا: وكم من أصولي لم يقل بالعرف في أصوله ولكن على صعيد التطبيق لا يسعه إلا القول به، حتى قال ابن القيم في أمثال هؤلاء "فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا يمكنهم العمل إلا به". أو كما قال القرطبي: "ينكرونه لفظًا ويعملون به معنى"، والصحيح أن الشريعة الإسلامية راعت العرف وجعلته أصلًا من أصولها – وكان أثر إقرار هذا المبدأ – اعتبار العرف وغيره أن زخر الفقه الإسلامي على مر العصور بشتى الحلول لما استجد ويستجد من القضايا بين الناس. وما من شك أن العمل بالعرف أحد مظاهر السماحة والتيسير في هذه الشريعة الغراء، والتي قال فيها تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} … وقال صلى الله عليه وسلم: ((يسِّروا ولا تعسِّروا، بشِّروا، ولا تنفِّروا)) . والله من وراء القصد … والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الرئيس: شكرًا. أحب أن أعيد إلى الأذهان أن السبب الرئيسي في عرض موضوع "العرف" على دورة المجمع – هنا صار اقتراحه في القائمة من هيئة التخطيط للمجمع – هو ما استمر في عدد من القضايا والأحوال من جعل العرف قاضيًا على النص أو مخصصًّا للنص وما جرى مجرى ذلك مما يؤثر على نصوص الشريعة، وأدلتها القطعية. الدكتور إبراهيم فاضل الدبو: بسم الله الرحمن الرحيم. السيد رئيس الجلسة المحترم، أساتذتي الحضور، في البداية أشكر الأستاذ خليل، على عرضه الجيد الرائع لمواضيع العرف في هذا المجلس، وأود أن أقول: الحق أن العرف معتبر في الشرع ويصح ابتناء الأحكام عليه، وهو في الحقيقة ليس دليلًا مستقلًا، ولكنه يرجع إلى أدلة الشريعة المعتبرة. والدليل على اعتبار العرف ما ذكرناه في بحوثنا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، أنا وجدنا الشارع الحكيم يراعي أعراف العربي الصالحة، من ذلك إقراره لنوع من التعامل المالي عندهم كالمضاربة والبيوع، والإيجارات الخالية من المفاسد، كما استثنا السلم من عموم نهيه عن بيع الإنسان ما ليس عنده لجريان أهل المدينة به، ونهى عن بيع التمر بالتمر، ورخص في العرايا. إن العرف في حقيقته يرجع إلى دليل من أدلة الشرع المعتبرة، كالإجماع، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع. احتجاج الفقهاء بالعرف في مختلف العصور واعتبارهم إياه في اجتهادهم دليل على صحة اعتباره، لأن عملهم به ينزل منزلة الإجماع السكوتي، فضلًا عن تصريح بعضهم به وسكوت الآخرين عنه. فيكون اعتباره على هذا الأساس ثابتًا بالإجماع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2834 شروط اعتبار العرف كأصل من أصول الأحكام، من أجل اعتبار العرف وبناء الأحكام عليه، يجب أن تتوفر فيه الشروط التالية: أولًا: أن لا يكون مخالفًا للنص، قال ابن عابدين – رحمه الله -: " ولا اعتبار للعرف المخالف للنص لأن العرف قد يكون على باطل بخلاف النص". من ذلك ما تعارفه الناس من تعاطي كثير من المحرمات كالربا وشرب الخمر، وما اعتادته كثير من النسوة من كشف شيء من أجسامهن كالساق وشعر الرأس أمام الرجل الأجنبي، فهذا عرف فاسد. ثانيًا: أن يكون العرف مطردًا أو غالبًا، ومعنى الاطراد أن تكون العادة كلية، أي لا تتخلف، وقد يعبر عنها بالعموم، ومعنى الغلبة أن تكون أكثرية، بمعنى أنها لا تتخلف إلا قليلًا، والغلبة أو الاطراد إنما يعتبران إذا وجدا عند أهل العرف لا عند الفقهاء لاحتمال تغيرها من عصر إلى عصر. ثالثًا: أن يكون العرف مقارنًا ولا يعتبر العرف المتأخر في التصرفات السابقة، فإذا طرأ عرف جديد بعد اعتبار العرف السائد عند صدور الفعل أو القول، فلا اعتبار بالعرف المتأخر. رابعًا: أن لا يوجد قول أو عمل يفيد عكس مضمونه، كما إذا كان العرف يقضي بتحمل المشتري مصاريف تصدير البضاعة المشتراة واتفقا على أن تكون على البائع، أو اتفق المتعاقدان على أن تكون على البائع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2835 مخالفة العرف للأدلة الشرعية: تتنوع مخالفة العرف للأدلة الشرعية أنواعًا مختلفة وذلك على النحو التالى: 1- مخالفة العرف للنص الشرعي من كل وجه: إذا اصطدم العرف بنص تشريعي خاص من نصوص الكتاب أو السنة فلا اعتبار للعرف في هذه الحالة، كالأحكام التي كانت متعارفة في الجاهلية وحرمها الإسلام، لمصادمة تلك الأعراف لإرادة الشارع في موضوع أصبح المسلم مكلفًا بتطبيق النص والأخذ به، فلا يجوز إهماله وإعمال العرف. مثال ذلك العقود التي نهى الإسلام عن إبرامها كالملامسة والمنابذة، ويستثنى من ذلك ما إذا كان النص حين نزوله أو حين صدوره عن المشرع مبنيًّا على عرف قائم ومعللًا به، فإن النص عندئذ يكون عرفيًّا فيدور مع العرف ويتبدل بتبدله. مثال ذلك الحديث الذي نص على التساوي الوزني في الذهب والفضة، والتساوي الكيلي فيما عداها، غير أن العرف تبدل في هذه الأوزان، وهنا يأتي قول أبي يوسف رحمه الله: إن النص على بيع الحبوب كيلًا، وعلى الذهب والفضة وزنًا لكونهما كانا في ذلك الوقت كذلك، فالنص جاء موافقًا للعادة، فلما كانت العادة هي المنظور إليها في الحكم المذكور، فإذا تغيرت تغير الحكم، فليس في اعتبار العادة المتغيرة الحادثة مخالفة للنص بل فيه اتباع للنص. 2- مخالفة العرف للنص من بعض الوجوه: إذا عارض العرف نصًّا تشريعيًّا عامًّا، أي لم يخالف النص من كل وجه، فلا يخلو العرف من أن يكون عامّا أو خاصًّا، فإن كان عامًّا فالعرف العام يصلح مخصصا ويترك به القياس كما في مسألة الاستصناع ودخول الحمام وغير ذلك. أما لو كان العرف خاصا فللفقهاء رحمهم الله اتجاهان في اعتباره أو عدم اعتباره، وما عليه المذهب عند الحنفية عدم اعتبار العرف الخاص، ولكن أفتى كثير من مشايخهم باعتباره. مثال ذلك: لو دفع رجل إلى حائك غزلًا على أن ينسجه بالثلث – مثلًا – فقد أجاز هذا النوع من الإجارة كثير من مشايخ بلخ لتعامل أهل بلدهم بذلك، والتعامل حجة يترك به القياس ويخص به الأثر. 3- تعارض العرف والاجتهادات الفقهية: لا تخلو المسائل الفقهية من أن تكون ثابتة بصريح النص، وأن تكون ثابتة بضرب من الاجتهاد والرأي؛ فما كان ثابتًا بصريح النص من كل وجه أو من بعض الوجوه، وقد تكلمنا عنه، أو ما كان ثابتًا بضرب من الاجتهاد والرأي فأقول: إن كثيرًا من المسائل الاجتهادية مبنية على عرف زمان المجتهد بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال المجتهد بخلاف ما قاله أولًا. ولهذا قال العلماء رحمهم الله تعالى من شروط الاجتهاد أنه لا بد للمجتهد من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان وذلك بسبب تغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا، لأصاب الناس الحرج ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لأجل بقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام، من ذلك تحقق الإكراه من غير السلطان، على قول محمد بن الحسن الشيباني لما رأى فساد الزمان على خلاف ما ذهب إليه أبو حنيفة – رحمهم الله تعالى – ومن هذا القبيل أيضًا قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى، بعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة مع مخالفة هذا القول لما نص عليه أبو حنيفة بناءً على ما كان في زمنه من غلبة العدالة. وقد أثر العرف في كثير من العقود، مما سرده الفقهاء في كتبهم، ومن هنا يمكن لنا أن تخضع ما يستجد من العقود للعرف على أن لا يخالف العرف قاعدة من قواعد الشريعة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وشكرًا سيادة الرئيس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2836 الدكتور عمر سليمان الأشقر: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. مع الشكر الجزيل للأخ العارض للأبحاث، إلا أنني أعتب أنه لم يستعرض جميع الأبحاث التي قدمت في موضوع "العرف"، وكان بحثي واحدًا من هذه الأبحاث، وعندما أقدمت على الكتابة في هذا الموضوع كنت أعلم أن هذا الموضوع قد انتهى من بحثه العلماء. فجزئياته مكررة في كتب الأصول وتكاد تكون متشابهة، والعلماء توصلوا إلى نتائج حاسمة في هذا الموضوع. إنما كتبت فيه لقضيتين أبنتهما من خلال البحث؛ القضية الأولى قضية معاصرة، إن كثيرًا من الأمم الإسلامية قدم العرف في قوانينه على الشريعة الإسلامية. لم يكتفوا بأن يقدموا القوانين الوضعية على الشريعة الإسلامية، بل نصوا في كثير من القوانين المدنية في البلاد العربية والبلاد الإسلامية على أن العرف مقدم على مبادئ الشريعة. وفي هذا بينت الدور في معركة الصراع بين العرف والشريعة الإسلامية عبر التاريخ. كانت الأعراف البشرية أكبر ما صد الناس عن دين الله تبارك وتعالى، فعندما كان يأتي الرسول كل جماعة تقول لرسولهم: "إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، أَوْ مُهْتَدُونَ". آيتان. كل جماعة تقول: تراث آبائنا وأجدادنا وأعرافهم، فيجري صراع بين الرسل وما أنزل عليهم، وبين أقوامهم وما كان عليه الآباء والأجداد ينتهي إما بانتصار الشريعة الإسلامية كما حدث على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما بتعذيب القوم المكذبين. فعندما تنتصر الشريعة الإسلامية تقصي الأعراف الباطلة وتحصرها في دائرة ضيقة، وعندما تنتصر الجاهلية كما حدث في هذا القرن الأخير، فإن الأعراف تقصي الشريعة الإسلامية، فكثير من القوانين إنما هي أعراف كانت أعرافًا سائدة ثم حولت إلى قوانين، هذه هي القضية الأولى التي أحببت أن ألفت النظر إليها. القضية الثانية، قضية قديمة يشكو منها العلماء عبر العصور (فقهاؤنا) ، وهي أن كثيرًا من الفقهاء يجمدون في الأحكام المبنية على العرف على الأحكام التي صدرت قديمًا من علمائنا وفقهائنا، فيوقع المسلمين في حرج شديد، وقد باح بهذه الشكوى كثير من العلماء نقلت نصوص كلامهم في بحثي، يشكون شكوى مرة من فقهاء تعرض لهم مسائل مما تغير فيه أعراف الناس فيفتون بما أفتى به الأوائل من غير نظر إلى الأعراف المتغيرة والأعراف المتجددة. وقد نص المحققون من العلماء في مختلف المذاهب أنه لا يجوز للمفتي أن يفتي بأحكام بنيت على العرف تغيرت أعرافها، وينبغي للمفتي أن يكون عالمًا بأعراف زمانه، وأن يكون عارفًا بالأحكام التي بنيت على العرف في الماضي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2837 ومن هنا أقترح على المجمع الكريم أن يكلف بعض الباحثين في استقصاء المسائل الفقهية التي بنيت على العرف في الماضي حتى يكون المفتون والعلماء على بصيرة من أمرهم عندما يفتون في مثل هذه المسائل. وقضية رابعة تلمح من خلال البحث أنني جعلت الشريعة حاكمة على مباحث القانونيين في العرف، فهناك فرق في بحوث القانونيين في موضوع العرف، في تعريفه، وفي شروطه، وفي تطبيقاته، وهذا ما ألحظه على بعض البحوث التي قدمت أنهم خلطوا بين مباحث الفقه ومباحث القانون حتى كأنها بحث واحد، وينبغي التدقيق في هذه المسألة، مباحث الفقهاء لها سمتها مرتبطة بأصول الشريعة الإسلامية، أما مباحث القانونيين ففيها خلط كبير. كنت أتمنى على الأمانة العامة في المجمع أن توضح لنا – حقيقة – في الخطاب الذي أرسل في هذا الموضوع حتى نتجه مباشرة إلى الهدف الذي طلب من العلماء أن يكتبوا في موضوع "العرف"، حيث أكثر البحوث توسعت توسعًا شديدًا في تعريفاته، وتقسيماته، وشروطه، وحجيته، وهي أمور يكاد يتفق عليها الباحثون، فلو حدد الهدف من الكتابة لكان الباحثون قد تجاوزوا هذه القضايا التفصيلية التي فرغ منها العلماء قديمًا، واتجهوا إلى الموضوع المطلوب في موضوع العرف. أكتفي بهذا المقدار وشكرًا لكم. الشيخ محمد علي التسخيري: بسم الله الرحمن الرحيم. شكرًا سيدى الرئيس. أنا أعتقد أن التعبيرات الواردة عن العرف متفرقة وكثيرة بحيث يضيع معها الإنسان، ولا يستطيع أن يقع منها على موقع صلب، لذلك، حبذا لو حددنا التعبير وطرحنا المسألة بشكل أصولي، وأعتقد أننا لو حددنا تعبيرنا لتوصلنا إلى أن النزاع أحيانًا نزاع لفظي، وأن العلماء يتفقون إجمالًا على شيء مشترك. أهم البحوث في مجال العرف هو مجالات نفوذ الأعراف. العرف: ما هو المجال الذي ينفذ من خلاله إلى الشريعة وتقبله الشريعة؟. مجالات النفوذ العرفي – وهي النقطة التي لم يتفضل أخي العزيز الشيخ الميس، رغم جمال عرضه للتركيز عليها في بحثي – الذي اعتقده أن هناك مجالين فقط لنفوذ الرأي العرفي فقط، وأستطيع القول بأنني لو أستعرض ما ذكر من استنادات إلى العرف أستطيع أن أصنفها إلى أحد هذين المجالين؛ المجال الأول: هو عملية اكتشاف لرأي السنة أو اكتشاف للسنة، هناك المجالات التي ينفذ فيها العرف ويشكل واسطة لمعرفتنا للسنة الشريفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2838 وهذا أيضًا له قسمان، تارة نكتشف من خلال العرف رأي السنة في هذا الحكم الفرعي، وأخرى نكتشف رأي السنة في هذه الحجة الأصولية. فأحيانًا يستندون في صحة عقد الاستصناع إلى أنه متعارف، ولكنه متعارف كيف؟ يمتد هذا العرف إلى عصر التشريع، ويقره عليه الصلاة والسلام، وحينئذٍ من طريق التقرير – وهو جزء السنة – نكتشف صحة عقد الاستصناع. العرف هنا شكل واسطة ومرآة يرينا بها السنة فقط. القسم الثاني من المجال الأول وهو اكتشاف السنة، اكتشاف الحجة الأصولية. نسأل ما الدليل على جواز الأخذ بالظواهر، أو وجوب الأخذ بالظواهر؟ يقولون: العرف عرف العقلاء، عرف الناس هو الأخذ بظواهر الكلام، وهذا العرف – كما يقول البعض – يستصحب استصحابًا قهقريًّا، يرجع به إلى عصر التشريع، وهو متداول أمام الرسول العظيم، وحينئذٍ فقد أقره، ونكتشف منه بعد عدم صدور ردع منه عليه الصلاة والسلام أنه يقره. فهنا نكتشف الحجة الأصولية، ويجمعهما اكتشاف السنة فقط، هذا هو المجال الأول، وأرجع إليه الكثير مما قيل عن الإسناد إلى العرف. المجال الثاني، ما يشخص به مفردات النصوص الشرعية يعني هناك مفردات ترد في النصوص الشرعية (إناء، صعيد، غنى، إسراف، تبذير، قوة) هذه تعبيرات ترد في النصوص الشرعية لكى نشخص مراداتها نرجع إلى العرف. فبهذا المعنى تارة نشخص هذه المفاهيم، وأخرى نشخص المرادات لما يمكن أن نسميه بملازمات الحكم. يعني، عندما يحكم الشارع بطهارة الخمر الذي تحول إلى خل، أستطيع أن أكتشف بأن الشارع أيضًا يحكم بطهارة أطراف الإناء الذي يكون فيه الخل، انتقالي من طهارة هذا السائل إلى طهارة الإناء انتقال عرفي بملازمة عرفية، بعمقة لزومية عرفية نقلتني من هذا المجال إلى المجال الآخر، كأن الشارع قال لي من خلال هذه الواسطة: إن السائل يطهر، ويطهر أطراف إنائه معه من خلال الملازمين، اعتمد الشارع على هذا الفهم العرفي لمراداته. هذا جانب مهم، ويدخل في هذا الارتكازات العرفية للمتكلمين أيضًا، عندما يحتمع متعاقدان في سوق تسودها ارتكازات عرفية معروفة لا يحتاجان للتصريح بكل القيود، وبكل الارتكازات التي يعتمد عليها السوق، يكفي أن يعقدا العقد، وبشكل طبيعي تتضمن تلك الارتكازات كشروط في هذا العقد، باعتبارها شروطًا ضمنية لو كانت واضحة. أيضًا يدخل في هذا الباب تشخيص ما يسمى بمناسبات الحكم والموضوع لنفترض أننا لا نملك دليلًا، وهذا افتراض قد يخالف الحقيقة، على أن ولاية المرأة باطلة، لكن مناسبات الحكم والموضوع أو ما يمكن أن يسمى بروح الشريعة التي يفهمهما العرف تجعل الإنسان يطمئن، ما دام الرجل هو القاضي، وما دام الرجل هو الإمام في الجماعة، … إلخ. يطمئن مناسبات الحكم والموضوع هي التي تفرض وجود شرط الرجولة في ولي المجتمع. وأريد أن أقول – وأعتذر من هذا التطويل، وأنا لا أريد التطويل لكن هذا مهم جدًّا – إن العرف يدخل إذن في مجالين فقط، استكشاف السنة، وتشخيص المراد. هناك بعض الردود السريعة جدًّا – وإذا سمح لي سيدي الرئيس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2839 الرئيس: لو تكرمتم، لعل كلمة ثانية إن شاء الله بعد الصلاة. الشيخ عبد الله بن بيه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين. أرجو أن يكون حظنا سعيدًا دائمًا إلا أن حظنا من نظرات الرئيس لم يكن بذاك فنحن قلنا لعل الرئيس رغب بنا عن الكلام أو رغب بالكلام عنا، فلا ندري، أننا نود أن الرئيس وهو قاضٍ – إن شاء الله من قضاة الجنة – إن شاء الله – أن يسوي بين الخصوم في النظر، وفي المجلس. الرئيس: لو سمحت ياشيخ، فقط أعطونا الموضوع الذي تريد. الشيخ عبد الله بن بيه: أنا أشكو من عدم الكلام، فلا بد أن تسمح لي بالكلام. الرئيس: نحن نسمح بالكلام، لكن فضول الكلام لا لزوم لنا به، نريد ذات الموضوع، أما الباقي لا لزوم له. الشيخ عبد الله بن بيه: ليس فضولًا، باسم المحرومين من الكلام، يا سيادة الرئيس. الرئيس: يا شيخ عبد الله بدون مؤاخذة، هذه الأشياء تترك في المجالس الخاصة، أما في مثل هذا اتركوها عنا يا شيخ. الشيخ عبد الله بن بيه: سيدى الرئيس، وإذا تكون كريهة أدعى لها وإذا يحاس الحيس يدعى جُندَب هي لتلك قضيته، عجبي لتلك القضية، وإقامتي فيكم على تلك القضية أعجب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2840 الشيخ عبد الله بن بيه: أعود إلى مسألة العرف، فيه قضية في غاية الأهمية كنا ننتظر من الباحثين أن يتعرضوا لها وهي تطبيقات العرف في الوقت الحاضر، وفي الزمان والمكان، في الزمان الذي نعيش فيه، وفي هذه الكرة الأرضية التي أصبحت كقصعة بين يدي الآكل، تطبيقات العرف في قضايا اليوم لم يتحدث أحد عنها، هذه بحوث أصولية معروفة تقريبًا، وفيها رسائل كثيرة أخرى لم تذكر، في بلادي رسالة (حسام العدل والإنصاف في العمل بالأعراف) للشيخ محمد يحيى – رحمه الله تعالى – و (طرد الضواد والهمل عن الكروء في حياض العمل لسيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم) التوفيقات بين العرف وبين العمل لن يجري. ولكن التطبيقات العملية في الأوضاع الحالية، هل القبض مثلًا يكون بمكالمة تليفونية أو غير ذلك؟ كثير من المسائل التي تتعلق بالأوضاع التي نعيشها، هل النص الشرعي إذا كان مبنيًّا على عرف، هل إذا انتقل هذا العرف بأن كانت الماشية مثلًا تحفظ نهارًا ولا تحفظ ليلًا. والحرث بالعكس، هل يتغير معها؟ كثير من هذه المسائل لم نسمعها في كلام الباحثين، واحترامًا لوقتكم، شكرًا، والسلام عليكم. الشيخ محمد سالم عبد الودود: موقف المذهب المالكي من العرف. المذهب المالكي لا يعد العرف دليلًا مستقلًا، ولا يعده أصلًا من أصول الفقه، وإنما هو وسيلة من وسائل الإثبات. فهو شاهد أو شاهدان، وهو إذا أردنا أن نعرف وظيفته بالاصطلاح المنطقي يقوم بدور صغرى الشكل الأول في قياس الاقتران، وإذا أردنا أن نعرف وظيفته تعريفًا أصوليًّا فهو يحقق مناط الحكم، وليس هو حكمًا ما، إنما هو يحقق مناط الحكم، ويعين مجال تطبيق الحكم، وعناية القرآن بالعرف كبيرة جدا، لأنني وأنا الآن أتهيأ للكلام أعددت آيات من سورة البقرة فيها كلمة معروف إحدى عشرة مرة، تبدأ من قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} إلى قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، فعددت إحدى عشرة مرة كلما يقول القرآن بالمعروف، ومعنى هذا أننا لا نهضم حق العرف اليوم ونقول إن العرف التركيز عليه دائمًا قد يهدمه، أو يهدم أسس الشريعة، أو يتنافى مع أصولها، هو في الحقيقة في المذهب المالكي الذي يركز الناس على أن المالكية يعتبرون العرف كثيرًا ما يعتبرونه وسيلة من وسائل الإثبات، ولكن العرف في حد ذاته هو مركز عليه في القرآن الكريم، في المعاملات، وأريد أن أوضح أن اعتبار المالكية لعمل أهل المدينة – أيضًا – هو أنهم يستدلون بها على السنة التقريرية، إذا كان العمل منقولًا نقلًا متواترًا من طرف أبناء الصحابة – رضي الله عنهم – عن آبائهم، معنى هذا أن هذه الحادثة كانت معروفة في العهد النبوي وأقر الرسول صلى الله عليه وسلم عليها الناس، ونقولها تطبيقًا عمليًّا من طرف عشرة آلاف من الصحابة توفوا في المدينة، كانوا مقيمين في المدينة وتوفوا بها، ونقلها عنهم أبناؤهم، وبعد الجيل الثالث لم يعد هناك مجال للاحتجاج بعمل أهل المدينة. هذا ما أردت أن أنبه إليه وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2841 الدكتور محمود شمام: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين. سيدي الرئيس الكريم، فقد كفانا فضيلة الشيخ العارض القول في هذا الموضوع، لكن لي ملاحظة بسيطة؛ من حسن الصدف ومن أطيب ما يحدث أن أكتب دراستي عن العرف، شارحًا فيها النظرية بإطناب في الشريعة الإسلامية، معقبًا على ذلك بما اقتبسته القوانين الوضعية من أحكام التشريع الإسلامي، وفقهه السامي. وكنت أنوي إلى إبراز ما في أحكام شريعتنا السمحة من كنوز أخذ منها الغرب، وأقتبس دون نسبة أو تنبيه، وعنه – أي عن الغرب – أخذنا قوانينا وردت إلينا بضاعتنا، وكان هذا هو أهم ما جاء في مناقشات الأمس حول موضوع المواجهة بين الشريعة والعلمنة، وما قدم فيها من أبحاث قيمة، جيدة، جادة، فقد درست موضوع العرف من هذه الزاوية، راميًا إلى هذه الغاية، وشرحت شرحًا وافيًا توعية هذا الاقتباس بذكر الأمثلة من القوانين وأصولها ومصادرها من التشريع والفقه الإسلامي الذي بسط القول في هذا الموضوع بإطناب، وهذا يبشر بما اتفقنا عليه أمس من وجوب الرجوع إلى أصل الإسلام، وتطبيق أحكام شريعتنا السمحة، مع السعي إلى توحيد العمل القضائي، وتوحيد الفقه القضائي مهما أمكن، وبحثي بين أيديكم سعى إليكم، فالرجاء حسن الاطلاع عليه، والتنازل بدراسته بهذه النظرة، والتجاوز عما به من تقصير. والسلام عليكم ورحمة الله. الدكتور إبراهيم كافي دونمز: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. شكرًا للسيد الرئيس، وأشكر لأصحاب البحوث القيمة والأستاذ العارض ولم يحالفني الحظ، لأن بحثي لم يصل إلى يد الأستاذ العارض، ولذا أود أن أشير إلى بعض النقاط المهمة الموجودة في بحثي، الحقيقة البحث بين أيديكم ولا أريد الإسهاب في الكلام، ولا أخذ أوقاتكم القيمة. تعريف العرف، أنواع العرف، حجية العرف، إلى آخر هذه الأمور كلها أتركها، وأود أن أشير إلى أمرين هامين: الأمر الأول: القيام بتثبيت مكانة مفهوم العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي. الأمر الثاني: القيام بتثبيت مكانة العرف والعادة بين مصادر التشريع الإسلامي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2842 الأمر الأول: مكانة مفهوم العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي. الباحث يلاحظ أن العرف على الأقل الكلمات المتعلقة بالعرف والعادة تحتل مكانًا هامًّا في كتب الفروع، ولكن في الكتب الأصولية لا نكاد نعثر على الكلام عن العرف والعادة. معنى ذلك أن الباحث يلاحظ ثنائية في هذا الموضوع في أدب الفقه الإسلامي، مكانته في الكتب الفقهية والأصولية. فعلى سبيل المثال – مثلًا – فإن السرخسي في كتابه المتعلق بالفروع، يذكر بين أنواع الاستحسان، الاستحسان بالعرف. ولكن في كتابه المتعلق بالأصول هو يتحرز عن إعطاء مكانه للعرف وكذلك النسفي في كتابه المتعلق بالفروع (المستصفى) ، يذكر من بين أدلة مشروعية الأحكام تعامل الناس، ولكن في مكانه الأصلي في كتابه المتعلق بالأصول وهو (المنار وشروحه) ، لا يذكر تعامل الناس بين الأدلة الشرعية، فيه ثنائية، وفي كتب الفروع – حقيقة- الباحث يجد مكانة واسعة للعرف، ويجدر بنا أن ننبه إلى أن معظم العبارات الواردة في المواطن التي يعمل فيها الكاتبون من أجل إبراز أهمية العرف والعادة في الفقه الإسلامي، لا تتعلق إلا بدور العادات في إنارة الطريق، أما من يقوم بتفسير التصرفات القانونية، وبالتالي إلى أن سهمًا مهمًّا من المكانة التي يحرزها العرف في أدب الفقه الإسلامي راجع إلى هذا النوع من العرف. يلاحظ الباحث أن سهمًا مهمًّا آخر في المكانة التي يحرزها العرف في أدب الفقه الإسلامي يتعلق بدور العادات أثناء تقدير وتحكيم القاضي أدلة الطرفين المتنازعين، والحقيقة أن كثيرًا من المواطن التي يصار فيها إلى استعمال اصطلاح تحكيم العادة لا تتعلق إلا بمضامين مفهوم تحكيم الحال أو ظاهر الحال أو القرينة ونحوهما. هذا جانب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2843 والأمر الثاني: يعني القيام بتثبيت مكانة العرف والعادة بين مصادر التشريع الإسلامي هناك أدلة كثيرة لضرورة مراعاة العرف والعادة في التشريع الإسلامي – لا أريد الإسهاب في الكلام – هذه الأدلة موجودة، ومناقشتها موجودة في البحث. ولكن كما سبق أن أشرت إليه فإن كتب الأصول لا تذكر العرف بين الأدلة الشرعية، باستثناء ما ورد في كتاب القرافي، ويقول: أما العرف فمشترك. ولكن إذا دقق الباحث النظر يجد أن دور العرف هنا الذي يذكره القرافي ليس في معنى مصدر للتشريع، بل يعود في آخر المطاف إلى تفسير النصوص، وإلى تفسير التصرفات القانونية فحسب. إذا لا يمكن اعتبار عدم اهتمام الأصوليين بمفهوم العرف بالسلب أو الإيجاب أثناء دراستهم للأدلة الشرعية من قبيل الصدفة. إذا وضعنا نصب أعيننا أنهم جعلوا بعض المفاهيم الأخرى موضوع تحاليل دقيقة، ومناقشات واسعة، مثل القياس والاستحسان. أما بخصوص الكشف عن سر الثنائية الملحوظة في موضوع العرف في أدب الفقه الإسلامي، فلتحليل مفهوم المصدر أهمية كبيرة في نظرنا، لأنه كما هو معلوم فإن اصطلاح الدليل أشمل بكثير من اصطلاح المصدر الحقوقي. ولذا نجد أدلة كثيرة في الكتب الأصولية، وحتى بعض الكاتبين يجعلون عدد الأدلة إلى ثمانية عشر إلى عشرين، ستة وثلاثين، ذكرتها. إذا أمعنا النظر في هذه المفاهيم نجد أن بعضها مصدر في المعنى الحقيقي، مثل القرآن والسنة، وبعضها لا يمكن أن نسميها مصدرًا، مثلًا القياس، الاستحسان، هذه مناهج، وهناك مفاهيم أخرى سد الذرائع إلى آخرها، هذه مبادئ. والغزالي يمتاز بخاصية التمييز بين هذه المفاهيم، والقياس هو لا يذكره بين الأدلة الشرعية مع أنه يدافع عنه دفاعًا حارًّا، وهو أيضًا يفرق بين تفسير النصوص وبين عملية القياس، إذن العرف باعتبار ماهيته نعم مصدر، مصدر بما معناه إذا رجعنا إلى العرف نجد حلًّا جاهزًا لحل القضية، ولكن هذا باعتبار ماهيته، هل يمكن أن نعتبر العرف مصدرًا باعتبار حجيته وباعتبار احتلاله مكانًا بين مصادر التشريع الإسلامي؟ هذا لا يمكن. لأن هذا يؤدي بنا إلى نتائج محظورة من ناحية منهجية الحقوق إذا قلنا إن العرف هو مصدر يجب على المجتهد إذا لم يجد حلًّا جاهزًا في القرآن والسنة أن يرجع مباشرة إلى العرف دون أن يتطرق إلى طريق القياس، وهذا يخالف منهجية الفقه الإسلامي. أنا حاولت أن أشرح هذه الفكرة، والوقت ضيق، ولذا لا أريد إطالة الكلام من ناحية فلسفة القانون أيضًا، تطالعنا نظرية الحسن والقبح، مصدر الأحكام في الشريعة الإسلامية هو الله وحده كما نعرف، وإذن الإرادة البشرية لا يمكن اعتبارها مصدرًا للتشريع حسب البنية الفلسفية للحقوق الإسلامية، هذه النقطة أيضًا حاولت أن أشرحها. وهنا تأتي أمامنا مشكلة، وهي مشكلة قاعدة العرف يترك به القياس، عدد من العلماء الأجلاء ومنهم أستاذنا الفاضل الزرقاء مثلًا، يأخذ بهذه القاعدة على إطلاقها، وفي رأيي المتواضع يعطي فكرة ناقصة في هذه النقطة، المقصود في هذه القاعدة التي توجد خاصة في كتب الأحناف، المقصود من العرف يترك به القياس، القياس هنا مصطلح القياس لا في معنى القياس الأصولي أو القياس القانوني، بل القياس الحقوقي، أي القاعدة العامة أو المقتضى العام للدليل. وفي بعض الأحيان كلمة العرف هنا المقصود منها من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير نكير، هذه الصيغة تعكس الإجماع السكوتي عند الأحناف في بعض الأحيان، وهذا الإجماع السكوتي إذا أمعنا النظر في القضية نجد أنه راجع في آخر المطاف إلى السنة التقريرية. إذن لا يمكن أن نأخذ هذه القاعدة على إطلاقها، بل يمكن أن نقول: إذا تثبتنا من زوال علة القياس. نعم في هذه النقطة العرف يعكس أن المصلحة تدل على أن العلة انتفت، وبانتفاء العلة ينتفي القياس، في هذه الحالة طبعًا العرف يؤخذ به. والحقيقة أنا جهزت خاتمة قصيرة للبحث من سوء الحظ لم يصل إلى الأستاذ الفاضل. إذا تكرمتم تقرؤون، ولا أريد الإسهاب في الكلام. وشكرًا جزيلًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2844 الدكتور طه جابر العلواني: بسم الله الرحمن الرحيم. الذي وددت قوله أن أدلة الشرع المتفق عليها هي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أما ما عداهما فالإجماع إجماع على مستند منهما، أو من واحد منهما. كل ما عدا ذلك فهي أمارات وعلامات يستعين بها القاضي أو المفتي باعتبارها مناهج بحث لفقه الواقع وفهمه، وحسن تطبيق النص على الواقعة، أو النازلة. فالقول بأن هذه الأمارات أدلة قول فيه كثير من التجوز، هذه نقطة النقطة الثانية: أن الأعراف تنشئها مفاهيم الناس، وثقافاتهم، ومناهج حياتهم، وفي عصرنا هذا أصبحت الأعراف تصنع صناعة، نعم تصنع الأعراف صناعة، فأجهزة الإعلام والتربية والتعليم وقوى أخرى مختلفة تستطيع أن تصنع الأعراف، وأن تغير الأعراف من اتجاه إلى اتجاه آخر، ومن هنا فينبغي أن نكون شديدي التنبه لهذه القضايا، فالعرف الذي تكلم أسلافنا من أصوليين وفقهاء، واحتجوا به، هو شيء، والعرف الذي يتحدث عنه اليوم شيء آخر، الأمر الآخر؛ الزعم – ومعذرة إذا قلت هذا – بأن العرف لا بد أن يكون وراءه دليل من نص، أو افتراض أن يكون وراءه دليل من نص، كتاب أو سنة مندثرة لم تصل إلينا أو نحو ذلك، السنة طريقها الرواية لا الافتراض. لا نستطيع أن نفترض افتراضًا بأن هناك سنة أو أن هناك نصًّا وراء شيء من الأشياء، فالسنة لا يمكن إثباتها إلا من طريق الرواية بشروطها المعروفة عند أهل العلم. الأعراف اليوم – كما قلت – ظواهر اجتماعية، تنشأ إنشاء، وتصنع صناعة، إثارة أقوال العلماء دون تحفظات، ودون أخذ هذه الظواهر بنظر الاعتبار، يعتبر تبريرًا لواقع صنعته ثقافات أخرى، ومفاهيم أخرى، ومحاولة تسويغ لأشياء ولأمور ولتقنيات وتشريعات لم يأتِ بها من الله سبحانه وتعالى سلطان. العرف يبقى مجرد أمارة يستعين بها القاضى المجتهد، أو المفتي المجتهد، لفهم النازلة، لفهم الواقعة لحسن تطبيق الحكم الشرعي على النازلة أو الواقعة. أما الواقعة. أما أن يقال إنه دليل، أو أنه شيء يمكن أن يستفاد منه حكم أي حكم، فذلك ما لم يأذن به الله سبحانه وتعالى. وشكرًا. الدكتور محمد عمر الزبير: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الأعراف تتغير بتغير الأزمان والأحوال، والأعراف متغيرة ومتطورة، فهل تتبدل الأحكام مع هذه الأعراف؟ في اعتقادي أن العرف مفسر للأحكام الشرعية، وليس حجة مستقلة بذاتها. وعمل أهل المدينة – الذي يتركز عليه المذهب المالكي – يرجع في الأصل إلى السنة التقريرية، فهو منقول بالتواتر بطبقات كبيرة نقلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فحجية العمل أو العرف السائد والمتقول نقلًا بالتواتر ترجع في أصلها إلى التقرير، ثم إن المذهب الحنفي حينما يرجح بين نصين داخلهما دليل قوي، ودليل خفي تظهر فيه المصلحة أو يظهر فيه العرف، فيعدلون في الترجيح معتمدين على العرض، إنما ذلك من باب الترجيح ومن باب التفسير، ثم إن الأحكام الشرعية مرتبطة بنصوصها، فلنأخذ – مثلًا – قضية اختلاف الموازين، واختلاف الكيل، وأثر ذلك على ربا الفضل، فإذا أصبح الذهب مكيلًا في وقت من الأوقات، أو أصبح البرموزونا، وكان مكيلًا، إذا عدلنا واعتبرنا العرف هو السائد في هذا الحكم، يظهر ربا الفضل الذي هو ممنوع حتى ولو كان حفنة صغيرة من البر، إذا تغيرت الأوزان فالأحكام مرتبطة في الأصل بالعرف السائد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن كثيرًا من المعاني التي وردت في القرآن تفسير بأعراف ذلك الزمان، لأن العرف اللغوي السائد في ذلك العصر هو الذي يعطي المدلول للأحكام الشرعية، فلذلك يعتبر العرف – في نظري والله أعلم – أنه مفسر وليس حجة مستقلة بذاتها. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2845 الرئيس: شكرًا. بهذا انتهى ما لدينا من تسجيل كلمات. فنختتم الجلسة. بسم الله الرحمن الرحيم. إنه من أثناء هذه المناقشات المباركة، والبحوث الثمينة، تكاد تتفق- ولله الحمد – على أن نصوص الشريعة حاكمة على العرف، وأن العرف لا يقضي على النص، وأن الأحكام التي فرعها الفقهاء مبنية على العرف، بما أن العرف متغير ومتجدد فإن الحكم كذلك الذي رتب على العرف هو بذاته قابل للتغير والتجدد سواء باختلاف الأقطار أو باختلاف الأزمان، وقد ترون مناسبًا أن يتألف لجنة لهذا، من المشايخ. الشيخ خليل الميس، الشيخ طه العلواني، الشيخ محمود شمام، الشيخ هاشم برهاني، الشيخ عمر الأشقر (مقررًا) . ترونه مناسبًا؟ وبهذا ترفع الجلسة، وقبل ذلك أحب أن أذكركم بما يلي: أولًا: إن الاجتماع سيكون في الصالة الساعة الثالثة والنصف للتحرك إلى منظمة الطب الإسلامي، وفي الساعة الخامسة والنصف نعود إن شاء الله تعالى إلى الاجتماع في هذه القاعة، يعود الأعضاء العاملون والمعينون إلى هذه القاعة في الساعة الخامسة والنصف مساء هذا اليوم إن شاء الله تعالى، لقراءة القرارات ومناقشتها. ثانيًا: وفي صباح يوم الخميس الساعة التاسعة والنصف صباحًا، تعرض القرارات وتكون الجلسة الختامية، وتكون الدعوة للجميع. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2846 لقرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (9) بشأن العرف إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادي الأولى 1409هـ/ 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (العرف) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. قرر: أولًا: يراد بالعرف ما اعتاده الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، وقد يكون معتبرًا شرعًا أو غير معتبر. ثانيًا: العرف إن كان خاصًّا فهو معتبر عند أهله وإن كان عامًّا فهو معتبر في حق الجميع. ثالثًا: العرف المعتبر شرعًا هو ما استجمع الشروط الآتية: (أ) أن لا يخالف الشريعة، فإن خالف العرف نصًّا شرعيًّا أو قاعدة من قواعد الشريعة فإنه عرف فاسد. (ب) أن يكون العرف مطردًا (مستمرًا) أو غالبًا. (ج) أن يكون العرف قائمًا عند إنشاء التصرف. (د) أن لا يصرح المتعاقدان بخلافه، فإن صرحا بخلافه فلا يعتد به. رابعًا: ليس للفقيه – مفتيًا كان أو قاضيا- الجمود على المنقول في كتب الفقهاء من غير مراعاة تبدل الأعراف. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2847 تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية إعداد أ. د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد. فقد تفيأت الأمة الإسلامية – قبل أن تمنى بالاستعمار الأجنبي – ظلال الشريعة فأشاعت الأمن والاطمئنان، وانتشرت الفضيلة، وعم الرخاء، وكانت مصدر عزهم وسر منعتهم. كانت الشريعة عبر القرون الماضية الحارس الأمي للأمة محافظة على ذاتيتها ومستبقية خصائصها، ومن الطبيعي أن يسهل العبث بكل المقدرات إذا أغفت عين الحارس، فكيف إذا أبعد عن الساحة، وأقصي عن الميدان؟ كان كل هذا في وعي المتربصين بها، الحاقدين عليها، الذين جندوا طاقاتهم الفكرية، وإمكاناتهم المادية نحو الأسس والجذور في فكر الأمة الإسلامية، ومقومات شخصيتها، وكان الاختيار الأول إلغاء العمل بالشريعة الإسلامية في المجتمع المسلم، فمن ثم أقاموا من أنفسهم، وبأنفسهم برهانًا على صدق التنزيل الحكيم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (1) . فكانت ضربة محكمة زعزعت كل القيم في المجتمع الإسلامي، فأصابه ما أصابه من تفكُّك، وانحلال. أحكم المستعمرون الحاقدون المؤامرة ابتداء بإلغاء العمل بالشريعة، وامتدادًا بإيجاد أجيال من المسلمين تتحمس لقوانينهم وتدين بمبادئهم، وما كان من الصعب بعد أن تعصف التيارات، وتهب ريحها على أبناء الأمة الإسلامية فتختلف بهم الأهواء، وتتجاذبهم الانتماءات المتعددة، وتعددت الولاءات لكل مذهب واتجاه ولم يكن للإسلام من نصيب إلا اللاآت. أحكم أولئك المؤامرة ابتداء وامتداد لا انتهاء بإلقاء الشبه والشكوك في صلاحية الشريعة بل صحة مصادرها.   (1) سورة البقرة: الآية120 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2848 تحقق لهم كل ما أرادوه، بل أكثر مما أرادوا بعد إلغاء الشريعة تعاملًا وقضاءً وأحكامًا. تلك هي البداية التي أوصلتهم إلى أبعد من الهدف والغاية. وما كان من سياسته ومؤامراته المحكمة أن يفرغ الأمة الإسلامية من شريعتها ومبادئها الروحية دون أن يملأ هذا الفراغ فأحل محلها معتقداته، وسلوكياته وقوانينه حتى لا تتنبه للمؤامرة، أو تحس بالشر المحدث بها. أيها السادة: إن اجترار الماضي، وتحميله مساوئ الحاضر بعد الزمن بالاستعمار من صفات العاجزين، وتكأة يعتمد عليها المتخاذلون، وما أكثر ما يتذرع بها المخادعون الغالطون. وما سطر القلم ما سطره من استرجاع شريط الماضي إلا لنأخذ منه درسًا مفيدًا لحاضرنا فتشخيص الداء هو المرحلة الأولى في طريق الشفاء. والدرس الذي نعيه من ذلك الفصل التاريخي هو الآتي: أولًا: إقصاء العمل بالشريعة تعاملًا وقضاءً في المجتمعات الإسلامية هو البداية التي تهاوت بعدها عقده، وتحطمت قيمه. ثانيًا: إيجاد فئة من المثقفين متحمسة لقيم المستعمرين وقوانينهم، تتحدث بمنطقهم، وتجادل بلسانهم. ثالثًا: بث الشبه والشكوك بين المثقفين المسلمين لزعزعة إيمانهم بصلاحية الشريعة وقدرتهم على مواكبة الحضارة الحديثة. والكثير الكثير من أمثال هذه الشبه والشكوك التي ترتدي مسوح العلم والفكر. كل هذا أو غيره يدفع الأمة الإسلامية، وقد منَّ الله على معظم بلادها بالتخلص من الاستعمار فملكت زمام أمورها أن تخطط للعودة إلى رحاب الشريعة تخطيطًا محكمًا، وتسلك السبل الفاعلة لعودة كريمة، باحثة عن شخصيتها مسترجعة خصائصها. وإذا كان معلوما أن إقصاء الشريعة عن التطبيق في المجتمعات الإسلامية هو بداية البداية في هزيمتها النفسية، وفقد هويتها، فمن الطبيعي بل من الضروري أن تكون عودتها إلى التطبيق هي القضية الأولى التي لا يمكن التنازل عنها، أو التهاون بها، بل إن عودتها إل التطبيق يعد الرمز الحقيقي لاستقلالها، ونبذ التبعية عنها. إلا أن العودة إلى تطبيق الشريعة في بلاد حكمتها قوانين أجنبية عقودًا طويلة من السنين نشأ في ظلها أجيال وأجيال لن يكون سهلًا معبدًا، بل ستكون معارضات ومقاومات مخططًا لها تخطيطًا محكمًا كما خطط للبدايات، فمن ثم يتوجب العمل في سبيل إرجاعها إلى الساحة الاجتماعية تدبيرًا محكمًا بعيدًا عن الغوغائية والعشوائية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2849 والبداية الصحيحة تقتضي العمل في ثلاثة اتجاهات: الأول: إصلاح التعليم الديني في معاهده ومؤسساته والخروج به من أسر الطرق التلقينية، وحشد المعلومات التي تعتمد على الكم، والحفظ والترديد دون وعي. ولا يتحقق الإصلاح في هذا المجال إلا بتحسن الدارسين للمعاني والحكم لتعاليم الشريعة، وتنمية ملكات الطلاب، وإثارة مواهبهم لإدراك مفاهيمها، والوقوف على جوانب العظمة فيها، وتناول الحقائق الشرعية مفصلة مبرهنة بعيدًا عن التعميمات الخطابية، والعبارات الانفعالية. إن إيجاد الوعي الصحيح، واستقامة المفاهيم عن الشريعة بين صفوف الأمة الإسلامية، وبخاصة ناشئتها أمر ضروري للعودة المستنيرة، وسلامة التطبيق. ثانيًا: ومع الاعتراف التام، والقناعة الكاملة بأن الفقه الإسلامي نظام قانوني عظيم، يتميز بأصوله الثابتة، ومرونته الكافية، وخصائصه الوافرة، وأخلاقياته الرفيعة، وبأن حظ الأمة الإسلامية في أجيالها المتأخرة من التراث الفقهي الرصين ثروة عظيمة، كمًّا ونوعًا، تتابعت على تطويره، وتنقيحه عقول كبيرة، وجهود مخلصة غير محدودة، برغم كل هذا فإنه يعترض الاستفادة منه الاستفادة الحقيقية صعوبات عديدة دفعت بالكثير من المتخصصين إلى الإفصاح عنها، وأنها بمقارنتها بالقانون من حيث الصعوبة … أشد وعورة لما يلقاه الباحث، من صعوبات مردها الأول عدم صياغة أحكامها صياغة فنية كتلك التي نجدها في القانون … إذ هي عبارة عن حلول لمسائل كثيرة معقدة، ومن هذه الحلول تستنبط القاعدة العامة. واستنباط القاعدة العامة أمر من الصعوبة بمكان لكثرة المسائل وتعقدها. وقد يختلف الحل فيها، لا لاختلاف الحكم، ولكن لاختلاف التقدير، وقد يخفى هذا فيضطرب الحكم في ذهن الباحث، فلا بد له ليتفادى ذلك من كثير من البحث والاستقصاء. هذا إلى تعدد الروايات واختلافها، وعدم مراعاة المؤلفين أحيانًا ذكرها جميعًا أو نسبتها إلى صاحبها مما يجعل الباحث في حيرة. يضاف إلى ذلك أن كثيرًا من عبارات الفقهاء غير محددة المعاني، فيمكن حلها على أكثر من معنى، وأن الحكم قد يرد بغير تعليل، أو بتعليل غير قريب. أما الصعوبة الثانية، وهي تتصل بالأولى، فهي حال مؤلفات الفقه الإسلامي. فما زالت هذه المؤلفات، على ضخامتها وكثرتها، في حاجة إلى فهارس تهدي الباحث إلى موضع مسألته ولا يخامره شك في أنها لم تبحث في مواضيع أخرى، حتى لا يضطر، إذا كان مدققًا، إلى قراءة المؤلف كله، وقد يتكون من عدة مجلدات، بحثًا وراء مسألته. هذا فوق أن ما طبع منها قليل، وأن الكثرة منها لم تطبع بعد. وما طبع لم يحفظ بالعناية الواجبة في التحقيق وفي الطبع. يضاف إلى ذلك تشتت المؤلفات مطبوعها ومخطوطها، في المكتبات العامة المختلفة وصعوبة الحصول على المطبوع منها، وصعوبة المكث في المكتبات للاطلاع على المخطوطات لظروف الباحث ولظروف المكتبات نفسها (1) ، ويستخلص مما تقدم النتيجة التالية: "لهذا السبب وذاك قل عدد الباحثين في الفقه الإسلامي وضؤل إنتاجهم … " (2) .   (1) عبد البر، محمد زكي، نظرية تحمل التبعة في الفقه الإسلامي، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة الفجالة الجديدة، 1369هـ/ 1950م، ص1-2 (2) عبد البر، محمد زكي، نظرية تحمل التبعة في الفقه الإسلامي، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة الفجالة الجديدة، 1369هـ/ 1950م، ص1-2 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2850 فتذليل هذه الصعوبات خطوة ضرورية، ومرحلة أولية للاستفادة من الفقه الإسلامي، وإن كانت الجهود المبذولة في الوقت الحاضر قد تجاوزت بعضًا منها، وأنَّى يكون الحماس لتطبيقه دون معرفته في صورة كاملة، بأسلوب مشرق!!! ثالثًا: وثالثة الأثافي لأحكام خطة تطبيق الشريعة بين الشعوب الإسلامية عن قناعة تامة، وفهم كامل يكون بالقيام بدراسات علمية جادة لإزالة الشبه والشكوك في صحته وفاعليته، ومواكبته للتقدم الحضاري في العصر الحديث. أيها السادة: كانت الآمال معلقة في تكوين هيئات علمية متخصصة تمتلك الإمكانات المادية والطاقات الفكرية لمواجهة تلك المخططات بتأنٍ وعقلانية، وعلى نفس المستوى من الأحكام كالذي فعله المستعمرون، إن لم يكن أحكم وأضبط. وتشاء إرادة المولى عز وجل وعلا الذي تكفل بحفظ هذا الدين، وإظهاره على الدين كله أن أصبحت الآمال أعمالًا بارزة، ومؤسسات شامخة، ومجامع فقهية، وهيئات علمية هنا وهناك بتمويل مادي وتعضيد معنوي من الدول الإسلامية، صدقت وعدها ليتحقق التخطيط والتنفيذ، وهكذا تهيأت أسباب العمل الناجح. والمجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي أنجز في السنوات القليلة الماضية الأبحاث والدراسات للموضوعات الفقهية الملحة، وخطط لمشروعات علمية فقهية ما بعد إنجازًا كبيرًا في فترة قياسية. ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي وقد اضطلع بهذه الأمانة الكبيرة، وأثبت قدرته في هذا الميدان بما تحقق على أيدي المسؤولين الأكفاء فيه قادر بمشيئة الله ثم بكفاءة نخبة الفقهاء المخلصين أن يسد الفراغ القانوني في العالم الإسلامي بتأليف مدونة فقهية كامل في المعاملات والأحوال الشخصية والجنايات والمحاكمات تلبي حاجة العصر وتواكب التقدم الحضاري في تخطيط سليم، ومسار شرعي مستقيم، يسجل به إنجازًا تاريخيًّا على مستوى العالم الإسلامي كالذي تحقق بظهور مجلة الأحكام العدلية العثمانية، يجد فيه العالم الإسلامي حكومات وشعوبًا بغيتهم، تقوم به الحجة على عامتهم وخاصتهم، فتقطع به اتهامات المبغضين، وتدحض به تبريرات المستسلمين المنهزمين. ومما يعزز هذا المشروع ويعضده أن يخصص جانب من نشاط هذا المجمع المبارك لتجميع كافة دراسات المستشرقين والقانونيين والباحثين في الفقه الإسلامي، ودراستها وفحصها فحصًا علميًّا دقيقًا، للإفادة من نقدها، في سبيل إيجاد مدونة فقهية كاملة، ونقض ما يتخللها من نقائض ونقائص قد أسيء فيها فهم الشرعية قصدًا أو بغير قصد، بمنطق واعتدال. إن تعبئة الطاقات البشرية، والإمكانات المادية لهذين المشروعين المتكاملين في المرحلة الجديدة القادمة تعد خدمة جليلة في سبيل مساعدة الدول الإسلامية للحكم بما أنزل الله، وتطبيق الشريعة بصورة كاملة في جميع الجوانب التشريعية. إذا تحقق هذا بمشيئة الله بالخطى والخطوات المطلوبة على مستوى العصر فكرًا وتنظيمًا فسيكون علامة بارزة في تاريخ هذا المجمع، وأمجاد هذا الجيل من الفقهاء والمفكرين والدول الإسلامية المعاصرة تحمده لهم الأجيال الحاضرة والقادمة. وإن أمانة المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بما هيأ الله لها من رئاسة وأمانة مخلصة يساندهم، ويقوي من أزرهم الفقهاء والمفكرون ورؤساء الدول الإسلامية جديرة بإنجاز هذه المهمات، وتحقيق الطموحات والتطلعات في سبيل إنجاز هدف سام، وغاية نبيلة، ذلك هو بذلك كل جهد من شأنه أن يساعد على تطبيق الشريعة لتعود للمجتمعات الإسلامية فضائلها، وتسترد بالاحتكام إليه عزتها وكرامتها، والله الموفق، وهو الهادي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم. أ. د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2851 أفكار وآراء للعرض: المواجهة بين الشريعة والعلمنة إعداد الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الشريعة: الإسلام ليس دين عبادة فحسب ولكنه عقيدة وشريعة وسلوك، على أساسها جميعًا بنى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة الفرد المسلم والجماعة المسلمة. وعلى هذا الاعتبار تميز المؤمنون عن الكافرين والموقنون عن الجاحدين، فأعلن الأولون عن ولائهم وشعار إيمانهم بما ذكره القرآن عنهم في قوله عز وجل: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة النور: الآية51] . وقوله سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة النساء: الآية 65] . شمولية المنهج الإسلامي لجميع قضايا الحياة الإنسانية: ولا بدع في أن هذا الموقف يلزمه اتباع شرع الله، فإن الإسلام قد وضع للعالمين منهجًا متميزًا للحياة ونظامًا متكاملًا لها تشمل أصوله ومبادؤه وكلياته وقواعده: العقيدة والعبادات والمعاملات والنظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والشؤون الدولية والقيم والأخلاق: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [سورة الأنعام: الآية 126] . وفى تاريخ الأمة شواهد قائمة على ذلك وبراهين لا ينكرها إلا معاند أو مكابر، وقد تجمعت المادة الشرعية الفقهية مما نزل من الوحي والأحكام في أمهات القضايا على رسول الله، ومما قام به صلى الله عليه وسلم من تفصيل وبيان لذلك في أحاديثه وما تبع هذا وذاك من أقوال الصحابة والتابعين وآراء الأئمة المجتهدين الذين شرحوا وعللوا وأبرزوا النظائر والمتشابهات وضبطوا القواعد والفروق من أوائل القرون الوسطى بما لا يرقى إليه أي تشريع أو قانون. فجاءت الشريعة الإسلامية آية مفردة في التدقيق الفقهي وتفريع المسائل واستخلاص الجزئيات ببيان ومنطق أساسه عمق الفهم والتفقه في دين الله بالكتاب والسنة وجودة الاستنباط. وحكمت الشريعة الإسلامية المجتمعات الإسلامية دولًا وشعوبًا، واعتنقها المسلمون مبدأ وطبقوها منهجًا وكانت طوال ثلاثة عشر قرنًا القانون الوحيد بينهم يعتمدونه في كل ما يلم بهم من النزاعات أو يحدث لهم من القضايا في الأحوال الشخصية والمعاملات والمضاربات المالية والجنايات والعقوبات وأحوال السلم والحرب وما يتبعها من معاهدات واتفاقات مع سائر الدول شرقًا وغربًا. كل ذلك مع التقديس لها والتسليم بها تقديسا وتسليمًا يوجبهما الإيمان بالله وبكتابه ورسوله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2852 بداية التحول: وعندما بدأت تتداعى أحوال الرجل المريض ودب الوهن في جسم الخلافة العثمانية واستشعر الباب العالي بتأثير سفراء الدول الأوروبية وقناصلها، إما الرغبة في تسهيل التعامل مع أوروبا والقضاء على المشاكل المتنازع فيها بين رعايا دولته والأجانب من الأوروبيين، وإما الحاجة إلى اقتباس قوانين الدول الغربية في المعاملات التجارية والمضاربات المالية التي تقيد حريته فيها الشريعة الإسلامية بسبب الشروط القاسية التي تفرضه الصحة العقود وحصرها أصدرت الخلافة فيما بين 1826م – 1839م قوانين عديدة عرفت بالتنظيمات شملت نظام البحرية وقانون العقوبات، وتبنت في 1850م القانون الفرنسي أقامت على أساسه محكمة تجارية خاصة للفصل في النزاعات القائمة بين رعاياها والأوروبين، وأحدثت محاكم مدنية 1871م غير المحاكم الشرعية ووسعت في نظرها 1880م. وكونت لجانًا عدلية: الأولى: تتمثل في مجلس الدولة الاستشاري الذي يتولى إعداد النظم والقوانين ومراقبة تنفيذها. والثانية: اللجنة القانونية التي تحدد القضايا التي يفصل فيها القضاء الأوروبي. والثالثة: اللجنة الموكل إليها وضع مجلة الأحكام العدلية قصد تقنين الشريعة وذلك من أجل تحقيق صورة من التوازن الظاهري. وقد هزت هذه التنظيمات البلاد الإسلامية وعصفت ريحها في أطراف بلاد الخلافة، وقام الصراع بين الشريعة والقانون وتنازعت المحاكم الشرعية والمحاكم الجديدة والهيئات التشريعية السلطة وعمَّت البلبلة. وقضي بالإخارة للتنظيمات على الشريعة إلا في الأحوال الشخصية وبعض قضايا الاستحقاق. ولا غرابة في ذلك، فإن القوي مطاع والكلمة الأخيرة لأصحاب النفوذ الدولي والقوى الصناعية ومؤسسات التجارة الدولية بين الأوروبين. فهم الذين رجحوا الكفة لمصالحهم ففرضوا مبادئهم وشروطهم وطرق تعاملهم على هذه السلطنة المنهارة والدولة المستلبة النفوذ والهيبة. وما كانوا ليتوصلوا إلى ذلك لو بقي العمل بالشريعة أساسًا للتقاضي وإقامة العدل بين الناس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2853 يقول أ. د. أنكلهارد في كتابه تاريخ إصلاحات الدولة العثمانية: "وفي الحقيقة أن الإسلام الذي قد كان مؤسس الحكومة العثمانية بقي حاكمًا مطلقًا فوق الحكومة. فقد كان القانون المدني متحدًا مع القرآن، ولكون تشكيلات الأمة اشتبكت بالعقائد الدينية بحيث لا يمكن تفريق بعضها عن بعض كانت هذه التشكيلات لا تقبل التغيير كالعقائد الدينية. فوجب لتحصيل الائتلاف الذي لا تستطيع تركيا الاستمرار على الاستغناء عنه، إما إزالة الحائل في البين بالمرة، وإما تخفيف وطأته ومعناه إما أن تحول الحكومة من الروحانية إلى الدنيوية بتخليصها من تأثير القوانين الدينية كما وقع في العالم المسيحي، وإما أن تتخلص بالتدرج من الحدود والقيود الدينية عن طريق تفسير العقائد الأساسية تفسيرًا موسعًا. وللاحتراز من الحالات الموجبة لاشمئزاز شعب جاهل متعصب لا يلبث أن ينفعل ويتأثر من كل شيء، كانت الحكومة العثمانية اختارت الشق الثاني" (1) . وإذا صحت هذه الشهادة من ديبلوماسي غربي معاصر لهذه الأحداث والتطورات وكشفت عن السر منها واتباع القصد الأول القصد الثاني بعلمنة الدولة وإعلان أتاترك بعد حين عن أخذه باللائكية والالتزام بها، فإننا ونحن نتحدث الآن عن خصوص التحرير القضائي وتعويض الشريعة بالقوانين الوضعية في البلاد الإسلامية لا بد أن نشير إلى رأي بعض الأساتذة البارزين في هذا التحول القضائي والتطور التشريعي بالبلاد التركية، يقول رئيس معهد القانون الأستاذ أندرسون بالحرف الواحد: "إن اقتباس تركيا للقانون السويسري وتطبيقه في بلادها أشبه ما يكون بارتداء القزم ثوبًا فضفاضًا" (2) ، في حين يلتمس أحد أعضاء المؤسسة العالية المتابعة للتطورات التشريعية في العالم قسم القانون بجامعة لندن الدكتور هنشف: لقد كان اقتباس الدولة العثمانية للقانون الفرنسي بدافع من الرغبة في رفع معنوياتها وهيبتها في عين الدول الغربية التي نظرت إلى قانون العقوبات والقصاص وقطع اليد والرجم بكثير من الدهشة والاشمئزاز (3) . وهذا الخوف من التغيير غير المبرر ومن الطمع غير المشرف اللذين يصاحبهما الاحتقار والسخرية لم يصرف شيء منها في الأول كثيرًا من المثقفين ممن استولى الغزو الفكري على عقولهم، وسيطر على ألبابهم عن طلب العدول عن هذا الانحراف الذي ضاعت به مقومات الأمة وفقدت به رابطًا من روابط وحدتها وأساسًا ذاتيًّا لشخصيتها الإسلامية. وحين نتساءل عن سبب ذلك نجده متمثلًا في الاتهامات والدعاوى والفتنة التي تنتاب مجتمعاتنا في مدارسنا وجامعاتنا وفي الثقافة التي نقبل عليها في حرص غير شاعرين بخطرها ولا متصورين لأبعادها.   (1) مصطفى صبري: 4 /348. (2) د. عبد الوهاب أبو سليمان، التشريع الإسلامي في القرن الرابع عشر الهجري. مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية. مكة المكرمة: 1 /1393 – 1394. العدد الأول: 55. (3) القانون التقليدي الإسلامي والقانون الحديث 31. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2854 دحض الحملات المغرضة والاتهامات الباطلة: لقد حمل رجال الفكر التحرري على الشريعة والفقه الإسلامي حملة شرسة ورموها ادعاء وكيدًا بشتى التهم معلنين ومرددين: إن هذه الشريعة غير صالحة لزماننا وإنها جاءت لوقت معين وظرف خاص، فمسائلها محدودة وأحكامها معدودة إن في الكتاب وإن في السنة وما وراءهما، وخصوصًا فيما استجد من شؤون الحياة ومشاكل المجتمعات التي لا تكاد تنحصر كثرة وجزئيات ولا أثر لذلك في مصنفات الفقه وكتب الأحكام عامة. في حين عرف القانون الأوروبي والأحكام الوضعية تقدمًا وتطورًا ومجاراة للمجتمعات الإنسانية حيث وضعت التشاريع والقوانين لكل ما يقع فيها. فالشريعة والفقه وقفا عند حدود النصوص المثبتة في المدونات والكتب الفقهية التي جمدت كما يشهد لذلك تاريخ الفقه الإسلامي، أما القوانين الوضعية فهي توضع كل يوم وبحسب الحاجة إليها. وهي بذلك مواكبة للعلم والتقدم ومغطية لكل مشاكل الحياة قديمها وحديثها. ولا يترك المتطور الجديد المناسب لأوضاعنا في هذا العصر من أجل العكوف على القديم الجامد والالتزام به. هذا مع ما في الأحكام الشرعية من شدة وقسوة ووحشية نلمسها في الحدود والقصاص ولا تستطيع معها أن ترقى إلى مرتبة الأحكام الوضعية المتناسقة مع الزمن والمسايرة للرقي والمدنية. وهذا الاتهام بالضيق وبالحصر والتخلف والتأخر وإن انطلى على العامة فزعزع عقيدتهم في دين الله وذعر الخاصة فراحوا يطلبون المخرج من ذلك، يعلم الناقدون للشريعة الإسلامية والمتحاملون عليها أنه مردود بما يصدر عن الفقهاء والمفتين فرادى ومجتمعين في أحكام النوازل من بحوث وفتاوى. "وإن للشرع مبنى بديعًا وأساسًا هو منشأ كل تفصيل وتفريع. وهو معتمد المفتي في الهداية الكلية والدراية وهو المشير إلى استرسال أحكام الله على الوقائع مع نفي النهاية، وذلك أن أصول الأحكام وقواعد الشريعة العامة متقابلة بين النفي والإثبات والأمر والنهي والإطلاق والحصر والإباحة والحظر. ولا يتقابل قط أصلان إلا ويتطرق الضبط إلى أحدهما وتنتفي النهاية عن مقابلة ومناقضة" (1) . وإن الأحكام الشرعية دين تقوم على حماية حقوق الناس وضمان المصالح والمنافع لهم في أي عصر من العصور، وإنها تجمع الرادع إلى الوازع بما تغرسه في النفس من هداية وتملأ به الروح من استقامة، وتحميه وتنشره من مبادئ وقيم ثابتة، كانت منشأ عزة الإسلام وقوته وتقدمه. وإن عوارض التخلف والتأخر في المجتمعات الإسلامية كانت بالعكس بسبب التفريط في هذه الأحكام ووقوع الناس فريسة للجهل والتواكل والفقر والرضا بالدون وقعود الهمم وخراب الذمم {وأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (2) .   (1) إمام الحرمين. الغياثي: ص 433، 645. (2) سورة الجن: الآيتان16،17. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2855 أما ما حصل للفقه من استقرار وجمود حمل الشيخ محمد مصطفى المراغي على الإشارة بأصابع الاتهام فيه إلى الفقهاء في مذكرته الشهيرة حول إصلاح الأزهر 1928م حين قال:"إن الأمة المصرية تركت الفقه الإسلامي لأنها وجدته بحالته التي أوصلها إليه الفقهاء غير ملائم … ولو أنها وجدت من الفقهاء من جارى أحوال الزمان وتبدل العرف والعادة وراعى الضرورات والحرج لما تركته إلى غيره". فإن مرده في الواقع ليس ما ذكره في المحل الأول وإنما السبب في ذلك هو الاستعمار وما حمل الناس عليه بالقوة، أو الحكام ومافرضوه على المسؤولين من اتجاه أو طبيعة التطور وما تحكمت به الظواهر الاجتماعية والفكرية في الناس، أو الشريعة والفقه ذاته الذي لم يستفد من الأصول والقواعد العامة التي من أبرزها في هذا المجال التيسير على الناس ورفع المشقة والحرج ومراعاة المصالح والضرورات وتغير الأحكام بحسب العادات والأعراف في كل زمن مما يخلع على الشريعة الصلاحية الدائمة واستيعاب القضايا والجزئيات ويكسب الفقه المرونة التي تميز بها في صدر النهضة الأولى. (1) . ولقد وجهت طائفة من المستشرقين في دراساتها تهمة جديدة للشريعة الإسلامية حين اعتبروها أمرًا مثاليًّا يعني أساسًا بالقيم الدينية والأخلاقية المؤمل توفرها في حياة الناس وإنها بذلك لا تنطبق بالضرورة على الواقع وجعلوها في مرتبة القانون الوضعي. ومن بين هؤلاء جولدزيهر وأندرسون وشاخت ولولسون. وازداد هذا الموقف وضوحًا في كتاب نوبل ج كولسون حين قال في "تاريخ الفقه الإسلامي": " إن انقطاع الوحي بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الشريعة الإسلامية بما تحقق لها من كمال التعبير والبيان ثابتة غير قابلة للتغيير.. وأصبح على المجتمع أن يتطلع إلى ما تمثله من معايير مثالية وصحيحة إلى الأبد" (2) . وأكد ذلك في كتابه الثاني "التعارض والقضاء في الفقه الإسلامي" بتخصيصه فصلًا يبحث فيه التنازع القائم في الفقه الإسلامي بين النزعتين المثالية والواقعية (3) . وكان من الطبيعي أن يجد هذا الاتجاه الخطير لفصل الشريعة والفقه عن الحياة إبطالًا ونقضًا فكتبت الدراسات والبحوث لبيان الأمر وتصحيح النظر وكان ممن أسهم في هذا د. محمد مصطفى شلبي بكتابه الفقه الإسلامي بين المثالية والواقعية (4) .   (1) فهمى هويدي. العربي: 338. يناير 1987م: ص82. (2) فهمى هويدى. (3) فهمي هويدي: ص83. (4) فهمي هويدي: ص83. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2856 ومن أبرز الاتهامات التي روجها مؤرخو الغرب عن التشريع الإسلامي، وبحثها الحقوقيون والفقهاء في دراساتهم ومحاضراتهم وكتبهم وناقشوها قديمًا وحديثًا دعوى أن الفقه الإسلامي مستعار من التشريع الذي كان العمل به قائمًا قبل الهجرة وأنه قد استمد أحكامه وخاصة في المعاملات من القانون الروماني. فقد لبث بنو أمية في الشام مدة طويلة يطبقون الأحكام الموجودة به في عهد الرومان وأن الإسلام كان مضطرًا لمواجهة النزاعات والخصومات منذ السنين الأولى من انتشاره شامًا وعراقًا بالاحتكام إلى القانون الروماني تفاديًّا من وقوف سير العدل ومن حصول الخلل في الأحكام وإن التشريعات التي كان يعمل بها الفقهاء أوائل الدولة العباسية كانت عبارة عن مجموعة أحكام تضاهي ما كان العمل جاريًّا به في سورية قبل الفتح الإسلامي. وقد نقض هذه الفرية من البداية الأستاذ صاوا باشا الرومي أحد رجال الحقوق في عهد السلطان عبد الحميد الثاني وصاحب كتاب "نظرية الحقوق في الإسلام"، حمله على ذلك عدم الأخذ بالظنة والحيطة في الأمر ورجوعه قبل إبداء الرأي إلى كتب الفقه الإسلامي يدرسها ويحللها مفرقًا بذلك بين منابع التشريعين الروماني والإسلامي ومنبهًا إلى أن فقه الإمبراطور تروستينيانوس الذي كان يدرس بأشهر مدرسة للحقوق في ذلك العصر مدرسة بيروت والذي كان من أكبر القائمين عليه فيها بتلك الفترة " دورني مساعد تريبونين" الفقيه المشهور كان العمل فيه مبنيًّا على العقل البشري السليم وإن اصطبغ في تلك الآونة بالصبغة المسيحية. أما الفقه الإسلامي الذي تتبعه صاوا باشا في أقرب المصادر إليه وهي كتب الفقه الحنفي فهو مبني على كتاب الله وسنة رسوله. ولن تجد في الفقه الإسلامي حكمًا واحدًا غير مدعم على هذا أو هذه. وبذلك يتمايز مصدر الفقهين. ويمضي صاحب نظرية الحقوق في الإسلام فيورد خلاصة اجتهاد الإمام أبي حنيفة وأصحابه أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وزفر، ثم من بعدهم من الأئمة ملخصًا تاريخ التشريع الإسلامي مبينًا مآخذه كلها مثبتًا فلسفة هذا الفقه المتمثلة في علم الأصول قائلًا: "إنه لا يقدر أحد من الناس أن يعلم مأخذ الشرع الإسلامي إن لم يقرأ أصول الفقه، وأدعو من يهمه هذا الموضوع أن لا يحكم فيه قبل أن يطالع هذا التاريخ المتسلسل للفقه الإسلامي مطالعة كافية" (1) . ومن المفارقات المذكورة بين القانونين والفقهين أن القانون الروماني يقوم أساسًا على اعتبار سلطة رب الأسرة وليس كذلك الشريعة الإسلامية التي جعلت أساسها حرية الفرد، ومنها اختلاف القانون التجاري الإسلامي عن القانون الروماني – الذي كان من قبل قانونًا عامًّا لأوروبا بخلوه من الإجراءات والتعقيدات الشكلية التي تدعو إلى بطء المعاملات وعرقلة التجارة ويؤكد هذا ما ذكره الدكتور زيني المدرس بالجامعة المصرية وعميد كلية التجارة بها سابقًا، في كتابه "أصول القانون التجاري" من أن التهمة باطلة والعكس هو الصحيح وذلك في عرض حديثه عن تأثير الشريعة الإسلامية في تكوين العادات التجارية إذ يقول: "ذكر بعض مشاهير كتاب الغرب أن تجار الجمهوريات الإيطالية في القرون الوسطى استفادوا من عادات العرب والأتراك (المسلمين) واستمدوا منها لتجارتهم ماتخلصوا بواسطته من القيود والتعقيدات التي ألفوها في القانون الروماني" (2) .   (1) صبري: 4 /299؛ محمد حميد الله. (هل للقانون الرومي تأثير على الفقه الإسلامي) دراسات لخمسة من العلماء. (2) صبري: 4 /299. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2857 وفى المقارنة بين مروجي التهمة والناقضين لها يقول شكيب أرسلان: لقد بنى صاوا باشا حكمه على أدلة وبراهين ووثائق ونصوص وحقائق تاريخية، أما أولئك فقد أقاموا حكمهم على ظنون وتخرصات، وعلى نظر من جهة واحدة، وعلى قولهم لا بد أن يكون كذا، وهناك أسباب تدعو إلى الظن بأنه كذا، ومن يدري فقد يكون كذا، وهذه أشياء لا تصلح أن تكون مدارًا للأحكام، ولا يقال هذا تمحيص وإنما هو تخمين وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا (1) . مدى تطبيق القوانين الإسلامية على غير المسلمين: كما يناسب في هذا المقام أن نشير إلى أن الإسلام لم يحكم غير المسلمين قسرًا فيفرض عليهم في مسائل دينهم قوانين كما فعل الغرب، بل جعل للقاضي الشرعي أن يفصل بينهم إذا تراضوا على حكمه، فإن أبوا فصل بينهم إجباريًّا قاضي دينهم. وبهذا يعتبر التشريع الإسلامي مصدرًا فقهيًّا لإحدى القواعد الأساسية للقانون الدولي الخاص وهي قاعدة شخصية قوانين الأحوال الشخصية التي تقررت في مجمع أكسفورد 1883م وفي مؤتمر لاهاي 1904م وجاءت بها أخيرًا اتفاقية مونترو 1931م. استقلالية القوانين الإسلامية: هذا وقد أبطل الدعوى من أساسها قرار مؤتمر القانون المقارن الذي عقد في مدينة لاهاي 1938م والذي قضى صراحة بأن للشريعة الإسلامية نظامًا قانونيًّا مستقلًا غير مأخوذ من التشريع الروماني. وعلى أساس هذا القرار طالب رئيس وفد مصر حافظ رمضان باشا لدى لجنة المشرعين في واشنطن المنعقدة بشأن وضع مشروع قانون محكمة العدل الدولية بوجوب تمثيل الشريعة الإسلامية في محكمة العدل الدولية. تفنيد وإبطال الدعاوى التي قامت ضد الفقه الإسلامي: وبسبب ما اقتضاه النظر الفقهي الاجتهادي في تحديد الأحكام من الاختلاف واعتماد كل إمام على ما صح عنده من الأدلة وأخذ به من الضوابط والمرجحات وهو ما زكاه النبي صلى الله عليه وسلم وأذن به فقال: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)) (2) . جاء يزكيه أيضًا ما أقره الأشياخ من اعتبار لتلك المذاهب الفقهية بقولهم اتفاقهم بحجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة، فإن الناكبين عن الشريعة والمشككين في صحة الفقه ووجوب الالتزام به حملوا مرة على هذه الثروة القانونية التي تنطوي على كل ما يحتاج إليه المسلمون فرادى وأمة ودولة والتي هي على مقربة منا تقع تحت أيدينا وفي خزائن دور الكتب التي ورثناها عن أسلافنا، والتي تمثل أثرى كنز للمسلمين وعملت بها الدول الإسلامية المتعاقبة إلى أقرب عهد منا، فقالوا إنها ليست من الدين، ونادوا مرة أخرى بإبطال المذاهب ونبذها، وذهبوا ثالثة إلى الاعتصام بالقوانين الوضعية المضبوطة وترك ما قد تحمل عليه تلك الآراء المختلفة من الفوضى والاضطراب. وقد يكون من المناسب أن نقف قليلًا إزاء كل دعوى كاشفين عن الباطل فيه موجهين إلى وجه الصواب في معالجتها.   (1) صبري: 4 /299. (2) خ اعتصام: 31؛م أقضية: 15؛ د أقضية: 2؛ ن أحكام 2؛ قضاة: 3؛ حـ أحكام: 3؛ حم: 4، 198، 204، 205. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2858 أما الدعوى الأولى التي كان يمثل صداه ويرددها بعض الشيوخ في قوله: "إن الدين في كتاب الله غير الفقه، وإنما الدين هو الشريعة التي أوحى الله بها إلى الأنبياء جميعًا. فقد جاء يقابلها بعد إعلانه هو نفسه: " إن القوانين المنظمة للتعامل والمحققة للعدل والرافعة للحرج هي آراء الفقهاء مستمدة من أصولها الشرعية تختلف باختلاف العصور والاستعدادات، وتبعًا لاختلاف الأمم ومقتضيات الحياة فيها وتبعًا لاختلاف البيئات والظروف". وإن مردها إلى ما أعلن عنه البخاري وأسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)) . ومعناه يبصره بأحكامه ويفهمه مقاصده وعمل الفقهاء الذي يعترف بأهميته وجدواه الشيخ المراغي مستمد كما ذكر في كلامه من الأصول الشرعية. وإذا كانت الأصول الشرعية التي يفيض بها المصدران الأساسيان الكتاب والسنة من الدين فلا وجه لإنكار أن الفقه من الدين. وهو لا ينحصر في العبادات وتلك مزية التشريع الإسلامي، بل "يعم نظرة المعاملات والعقوبات وكل ما يدخل في اختصاص المحاكم والوزارات ومجالس النواب والشيوخ. فهو عبادة وشريعة وتنفيذ ودفاع … وهذه المزية يصعد بها الإسلام إلى سماء الرجحان بالنسبة إلى سائر الأديان" (1) . وأما الدعوى الثانية القائمة على التنفير من المذاهب الفقهية والاستهانة بها حرصًا من أصحابها على الاجتهاد وترغيبًا فيه وصرفًا عن التقليد وإبعادًا عنه فلا يبررها قول بعض المتنطعين: الذين قال الله قال رسوله والنص والإجماع فادأب فيه وحذار من نصب الخلاف سفاهة بين الإله وبين قول فقيه وإن فيها عودًا على الثروة الفقهية والأنظار الشرعية بالنقض. وهو ما لا يقول به عاقل متدبر. وإنما يردد ذلك الغوغائيون من الذين لا يدركون والذين هم عن الحق محجوبون. والتقليد وإن ذمه الأوائل ففي العقائد لا في الفروع. وإن الاجتهاد ليس بالأمر السهل الذي يقدر عليه حتى من لا يعرف لغة القرآن ووجوه التعبير وأنواع الدلالات وأسباب النزول وملابساته والناسخ والمنسوخ وما ورد في السنة من بيان وتفصيل لأحكامه. كما أن في ترك المذاهب وجمع الناس على مذهب واحد تضييقًا على الناس وتشديدًا عليهم والله سبحانه يقول: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) .   (1) صبري: 4 /295. (2) سورة الحج: الآية 78. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2859 والدعوى الثالثة مردودة بإطلاق، فالقوانين الوضعية من صنع الناس للناس والشريعة من صنع الله لعباده، وما كان من الناس لا يخلو من ضعف أو غفلة أو هوى أو تحيز أو مراعاة مصالح بلد دون بلد أو فئة دون أخرى. وهو نتيجة بينة يمليها المجتمع وتتطلبه أوضاعه، والمشرعون منقادون لها متأثرون بها. أما الشريعة فهي عامة شاملة صالحة لكل زمان ومكان خالصة من شوائب النقص مهيمنة على الناس بالحق وهي التي توجه الجماعة. فهي مأمونة ومحررة لإقامة العدل وتحقيق الاستقامة. وإن الأخذ بهذه الشريعة لهو كما قال علي عبد الرازق: الذي يحفظ على الأمة المسلمة وحدتها الدينية التي كتب الله أن تكون بين المسلمين: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (1) . ولقد كان الفقه الإسلامي من أكبر العوامل في بناء هذه الوحدة الإسلامية، وكان من أمتن الأسس فيها. فإذا لم يبق لهذا الفقه حياة، وإذا ما ضاره أمره إلى أن يصبح رسومًا وأحاديث فقد أوشك المسلمون يومئذٍ أن يعمهم الله بالفرقة وأن يقطع أمرهم بينهم وأن يتناكروا فلا يعرف بعضهم بعضًا ولا يرجع آخرهم لأولهم ولا يهتدي لاحقهم بسابقهم. ويومئذٍ لا تغني عنهم تلك الدعوة الجوفاء التي يتصايح بها من يزعمون أنهم يدعون إلى الوحدة الإسلامية وهم يسكتون عن هذه المعاول الهدامة التي تنقض على أسس هذه الوحدة وتعمل فيها هدمًا وتخريبًا (2) . وإذا أسلم الأصل الذي به يتمسك المسلمون وينادي بالمحافظة عليه علماؤهم ويدعو إلى تيسير أمره قادتهم ومفكروهم فإن أمر الفوضى والاضطراب الذين ضاق بهما الناس في القرنين الماضيين خاصة بسبب الغزو الفكري وإفساد العقيدة والاتجاه ليس أمرًا صحيحًا على الحقيقة لأن لكل منطقة من مناطق البلاد الإسلامية مذهبًا سائدًا وفقهاء عدولًا يقضون به ويلتزمونه، والآن بحمد الله نرى السعي حثيثًا في وضع القوانين والمجلات المستحدثة التي ظهرت في المملكة العربية السعودية ومصر والكويت والأردن مستمدة من التشريع الإسلامي ودواوين الفقه، وقد تكونت لجان لتقنين الشريعة في عدة دول كما قامت المجالس والمجامع بتهيئة ذلك وتيسيره بفضل الجهود العلمية الخيرة والعلم الفقهي المتواصل.   (1) سورة المؤمنون: الآية 52. (2) الأهرام: العدد 20682. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2860 استهداف الحكم الإسلامي والتنكر للتراث الفقهي: ومن التهجمات الغربية التي لا تصدر عن واعٍ بحقائق الدين ينتسب للإسلام تلك التي تستهدف الحكم الإسلامي في مجاليه القضائي والسياسي. فلقد حرصوا كل الحرص على تركيز دعوى فصل الزمني عن الروحي والدين عن الدولة لدى المسلمين. وهذا يناقض قطعًا القاعدة الأساسية عندنا وهي أن الأحكام الشرعية الإسلامية تقوم على المعنى التعبدي الروحي وعلى المعنى القانوني النافع للإنسانية. وهذا ما يشير إليه الشاطبي بقوله في الموافقات: إن كل حكم شرعي لا يخلو عن حق الله وهو من جهة التعبد … كما لا يخلو عن حق العبد لأن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد. فالحقان متلازمان (1) . ولإبطال هذا المعنى وإلغاء هذا التصور يقول أحد المضللين متأثرًا بواقع الغرب: " الاتجاه الحديث يتمثل ببعد روحاني ديني يخص وعي الإنسان وعلاقة هذا الوعي بالله من جهة، ثم بعد الحياة السياسية والاجتماعية الذي يحكم علاقات الناس بعضهم بالبعض الآخر في المجتمع من جهة أخرى … وهكذا لا يمكن أن نحشر الدين في كل شيء في الأكل والشرب والنوم والقيام والقعود وتنظيم العلاقات الاقتصادية والروابط الاجتماعية والخطة الخمسية والسياسة الخارجية للدول … إلخ هذا غير ممكن … ". ويمضي بعد ذلك قائلًا: "إنه من الضروري إعادة التفكير الجذري في الإسلام لكي يكون هناك قضاء ديني مدني واجتماعي يتساوى فيه البشر طبقًا للقوانين المدنية الحديثة. هذا القضاء الاجتماعي المدني غير موجود الآن، وينبغي أن نناضل من أجله لكي يوجد في المستقبل، وهذا لا يعني القضاء على الدين أو محاربته كما يدعي بعضهم، وإنما على العكس يعني احترام الدين والحفاظ على هيبته الروحية وعدم تلويثه بكل شيء" (2) . وهذه المواقف ليس غريبًا ولا عجبًا حصولها ممن يخلط في تصوره بين أصول الدين الذي هو أصل بناء العقيدة، وأصول الفقه الذي هو من عمل رجال الاستنباط للأحكام الشرعية من مصادرها المتنوعة. فيحمله الغموض والوهم على إنكار أن تكون الشريعة ذات أصل إلهي ويصف رسالة الشافعي التي أقامت أسس وقواعد القانون الإسلامي على أربعة مبادئ: -القرآن، الحديث، الإجماع، القياس بأنها الحيلة الكبرى التي أتاحت شيوع ذلك الوهم (3) ، ولا يحتاج عاقل ولا عالم إلى دفع هذه التهمة، ولكننا من أجل التعريف برسالة الشافعي هذه نذكر بأن الإمام كان قد عرف أئمة المذاهب عن قرب ووقف على ثروة فقهية من أحكام الفروع يشير إلى ما يسلكه أئمة الفقه في المدن المختلفة عند استنباطهم الأحكام. فنظر في الفروع وتعرف على الموازين، وساعده هذا على وضع قواعد الأصول، وقد اتجه بهذه القواعد اتجاهًا علميا ونظريًّا، وجعل الفقه بهذا مبنيا على أصول مقررة منضبطة، وليس مجموعة من الحلول الجزئية لمسائل واقعة أو مفترضة (4) . وقد نوه الرازي بمنزلة الإمام الشافعي ووضعه لعلم أصول الفقه بقوله: "استنبط الشافعي علم أصول الفقه ووضع للخلق قانونًا كليًّا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع.   (1) الشاطبي الموافقات. (2) حوار هاشم صالح مع أركون: من أجل مقاربة نقدية للواقع؛ المستقبل العربي: 101- 7 /1987: 9. (3) أركون. تاريخية الفكر العربي الإسلامي: ص297. (4) محمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد في الإسلام: ص655. أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية: 2/ 272 – 273. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2861 فهذا الاتجاه من الشافعي هو اتجاه العقل العلمي الذي يعنى بالجزئيات والفروع. فكان تفكيره تفكير من لا يهتم بالمسائل الجزئية والتفاريع بل يعني بضبط الاستدلالات التفصيلية بأصول تجمعها. وذلك هو النظر الفلسفي (1) . ويمضي صاحب هذه المقالة بعد ذلك متنكرًا للتراث الإسلامي الفقهي أغنى التشاريع وأشملها وأدقها وأضبطها على الإطلاق، فلا يذكر أصوله ولا قواعده، ولا نظائره، ولا فروقه ولا أحكامه، ولا مسائله، ولا فلسفته، ولا نظرياته، ولا أسراره، ولا مقاصده. وفي كلمة مرتجلة إن أحسنا به الظن يدعو إلى إلغاء ذلك على نحو ما فعلت المسيحية من جعل اللاهوت مقصورًا على العبادة وعلى ما يتصل بعلاقة المرء بربه. واعتبار الناسوت الشامل لكل أحوال الإنسان في الأرض من معاملات وعلاقات وتصرفات وقضايا وأحكام سياسية مفصولًا عن الأول وغير وارد به الدين. وهو ينسى أو يتناسى في مرة واحدة ما شرع الله في كتابه للناس وما فصله رسوله من أحكام: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (2) . ولا أظن أن حملته على الأحكام الشرعية مدنيها وجزائيها تقف بصاحبها المتظاهر بالإسلام مع المسلمين عند الحد الذي وصفنا فيقال إنها فهم وتأويل ونظرة جديدة يجوز مخالفة السابقين بها وتوجيه المسلمين فيها وجهة أخرى لأن من كان هذا شأنه دل على فساد عقيدته وضلاله وكشف عن حقيقة أمره حين حاول سخاء وتفضلًا أن يبطل الحدود ويلغي الجهاد ويغير أحكام الإرث ويرفع عن الناس الصوم وغيره من التكاليف حرصًا منه في زعمه على تحقيق العدل ومسايرة التطور والتقدم كما يوحي بذلك حديثه لنوفال أبسرفاتور (3) .   (1) مصطفى عبد الرازق، تاريخ الفلسفة الإسلامية: ص330. (2) سورة المطففين: الآية 14. (3) نوفال أبسرفاتور، الإسلام بفرنسا عدد: 7- 18 / 2/ 1986. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2862 الخلافة الإسلامية وتطبيق الأحكام الشرعية: وقد عد الناس من إنكار الشريعة والفصل بين الدين والسياسة ما هو دون ذلك، وهو ليس أقل منه خطرًا – ما كان من علي عبد الرازق حين زلت به القدم في كتابه "الإسلام وأصول الحكم " فقال: " رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن له حكومة حتى يكون أبو بكر خليفته فيها، وإنما كانت له نبوة لا تقبل الخلافة. وإنما هي رسالة لا حكم ودين لا دولة" (1) . ونسي أن معنى الخلافة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ذلك الالتزام بأحكام الشرع الإسلامي ممن يتولى الحكم على المسلمين. وقد تصدى له الفقهاء والمؤرخون والمفكرون جميعًا فردوا عليه أبلغ رد في مشارق الأرض ومغاربها (2) ، وقد صرَّحَ الماوردي من قَبْلُ في الأحكام السلطانية بأن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها واجب بالإجماع وإن شذ عنهم الأصم (3) . وبهذا قال غير واحد من الأشياخ السابقين مثل أبي يعلى وابن حزم وابن تيمية والكمال بن الهمام وابن خلدون وغيرهم (4) . وقد لاحظنا أن عليًّا عبد الرازق وإن اجتهد بما يخالف آراء عامة المسلمين في قضية الخلافة قد وقف موقفًا مخالفًا في قضية تحكيم الشريعة؛ فحين همت الحكومة المصرية بإعداد مشروعين لتعديل أحكام الأحوال الشخصية في مادتي المواريث والوصية وهما يتجهان إلى خلاف حكم الشرع الإسلامي المعمول به ظهر مشروع علي عبد الرازق ينقضهما على صفحات جريدة الأهرام (5) . بقوله: " إن هذا الاتجاه دون غيره هو الذي يتفق مع ما تقضي به أصول التشريع العامة من أن القوانين لا ينبغي أن تكون موضعًا للتغيير والتبديل في عجلة وسفه ولا في طفرة ثائرة … وإنه لم يكد يبقى من الفقه الإسلامي في عامة بلاد المسلمين إلا هذا الجزء الذي يمس الأحوال الشخصية، فأما الأجزاء الأخرى فقد أضاعها أهل الفقه الإسلامي وباعوها طمعًا في جاه أو خوفًا من غير الله وأسلموها لجيش التشريع الحديث والتمدن الحديث فدمرها ذلك الجيش وعفرها في التراب".   (1) صبري: ص40، 360. يقول عبد الرازق أيضًا: زعامة النبي عليه السلام كانت كما قلنا زعامة دينية جاءت عن طريق الرسالة لا غير، وقد انتهت الرسالة بموته، فانتهت الزعامة أيضًا، وما كان لأحد أن يخلفه في زعامته كما أنه لم يكن لأحد أن يخلفه في رسالته. الإسلام وأصول الحكم: ص181. (2) محمد سلام مدكور، الإباحة عند الأصوليين والفقهاء: ص318 – 319؛ مناهج الاجتهاد في الإسلام: ص465. (3) الماوردي: ص3. (4) انظر الأحكام السلطانية، لأبي يعلى، والعقل في الحكم: ص135؛ والأهواء والعمل: ص4، 87؛ والسياسة الشرعية: ص 60 –77؛ والمساير: ص2، 141؛ والمقدمة: ص179. (5) الأهرام: العدد 20682. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2863 ومثل هذا الصوت الذي دوى معلنًا حرصه على التمسك بالفقه بعد التفريط في قسم كبير منه تحت تأثير النظم والضغوط الفكرية والاجتماعية والاقتصادية في هذا العصر لم يمر بدون رد أو معارضة من العلمانيين بل أثار سخطهم ونقمتهم على الفقهاء وعلى الدولة التي من وراء هذا الاتجاه الديني العلني تحميه وتنصره بتمسكها بالشريعة والتزامها بتطبيقها وراح أحدهم يقول: بالرغم من كل هذه الاعتبارات والمراجعات النقدية فإننا لا نستطيع أن نتجاهل وجود قوة هائلة للظاهرة القرآنية، استمرت هذه القوة في الوجود بفضل بعض الشخصيات الدينية الكبرى والشخصيات المثقفة، وبفضل قوة الدولة أيضًا التي قامت بعملها حسب الظروف والمنعطفات التاريخية … نعم هناك قوة ما تعبر التاريخ والقرون، إنها هنا موجودة، موجودة في القرآن كانت قد اتخذت لها شكلًا في القرن السابع الميلادي وفي اللغة العربية. كيف أمكن لهذه القوة أن تنتج هذه الظاهرة المدهشة التي انفجرت هنا وليس في مكان آخر: هنا في الجزيرة العربية وباللغة العربية (1) . إن الخطة التي يرسمها هذا الفكر التجديدي والتي تستهدف القرآن والتفسير والحديث والشريعة واللغة والدولة الإسلامية لتضع صورة واضحة لمقاصدها وتعلن في غير وجل أو تردد اتجاهها الهدام متسترة بالمنهجية الجديدة للبحث التي تدعو لها في مجال الإسلاميات التطبيقية. العلمنة أخطر أساليب الهجوم لمنع تطبيق الشريعة: إن مجموعة التهجمات والتهم التي قدمنا أمثلة منها، وألوان التحديات التي تظهر في الساحة بقصد الإجهاز على الدين كعقيدة وشريعة ودولة لهي الجانب التطبيقى والعملي للتحرك العلماني في عصرنا الحاضر الذي تشهد له مقالات فلول من المتحررين من الدين في المشرق والمغرب في البلاد العربية والإسلامية. وإنهم ليزعمون أن ما يقومون به في هذه السبيل ليس صادرًا عنهم إلا بقصد تطهير المجتمع من رواسب الماضي المتخلف بشتى الطرق وإنهم يدعون المسلمين عامة إلى منهج فكري راق يخرج بهم من الظلمات وينير لهم المسالك لتحقيق التقدم بل للمنافسة في مجالاته وكسب السبق في الميادين الحضارية الجديدة التي صرفوا عنها طويلًا بسبب الأوهام والتقاليد. ومن الطبيعي أمام هذه الظاهرة المتفشية في أطراف العالم العربي والإسلامي والتي تنطلق بها الممارسات من جهة (تركيا، لبنان) والكتب والمقالات من جهة أخرى متحدثة عن اللائكية واللادينية والعقلانية والعلمانية والعلموية، أن نقف متسائلين عنها متعرفين عليها مقومين أعمالها ونتائج الدعوة إليها، فاللائكية كما صرحوا بذلك مأخوذة من لايكوس اليونانية والتي كان يراد بها الشعب ككل بمنأى ومنجى من رجال الدين، أو من كلمة لايكوس التي كانت في القرن الثالث عشر تطلق على الحياة المدنية أو النظامية أي على الشعب أن يعيش حياته الخاصة بكل معطياتها من غير تدخل رجال الدين في هذه الحياة قصد ضبطها وتوجيهها بطريقة ما. ومن المعلوم أن الشعب الوسط الإغريقي أو اللاتيني في القرون الوسطى كانت تنتشر فيه الأمية، وكان يتكون في جملته من الزراع وأوساط الحرفيين والعاديين من الناس في المدن، وإن رجال الدين (كلاركس) الذين كانوا أحسن حظًّا لمعرفتهم القراءة والكتابة كانوا يستخدمون الشعب الجاهل الساذج ويخضعونه لسلطتهم السياسية والاقتصادية والدينية. فكان هناك تقابل بين العنصرين الجهل والعلم، والخضوع والحكم، والحرية والدين.   (1) تاريخية الفكر العربي الإسلامي: ص299. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2864 ومن ثم عرفت اللائكة باللادينية وتسمت بالعقلانية "أراسيوناليسم" بمقابلة العقل للإيمان كما جنحوا إلى تسميتها في الغرب بالعلمانية والعلموية "سيانتسيم" بمقابلة العلم بالدين. فالعلمانية في النهاية منهج في الحياة لا يخضع للدين ولكنه يحتكم حرًّا للعقل والعلم. وهي في نظرهم بعد فكري وطريقة محددة لتشكيل مفهوم جديد عن السيادة والمشروعية وممارسة جديدة لهما (1) كما أنهم لديهم ثورة عظمى في تاريخ الفكر الإنساني، والتفاته للذهن للوصول إلى المعرفة، وأمر ثمين ودرس قويم بعيد عن الصراع السياسي البذيء بين اللادينية والأيدولوجيات الدينية (2) ، وبذلك فهي ترقى بالإنسان إلى قدرة التمييز بين القضاء السياسي والقضاء الديني وهي تستلزم الأخذ بعين الاعتبار فتوحات الفكر العلمي وكذلك تناقل هذا الفكر، فهي ترد الإسلام لا فقط إلى ما قطع عنه من جذوره الفلسفية القديمة بل ترده أيضًا وهو المهم إلى الإنتاج العقلي الذي نشأ في الغرب في العصور الحديثة (3) ، فتربطه بأصوله الحكمية القديمة وتبعثه نشيطًا قويا مواكبًا للحياة. وهل يعقل أن يحيا الإنسان في هذا العصر العلمي المتطور متأثرًا دائمًا بأسطورة الأديان فيكون في نهاية القرن العشرين راضيا بامتداد سلطان الدين الذي يريد أن يشمل كل مجالات الوجود والمجتمع لضبطها والسيطرة عليها، قابلًا غياب المشروع البديل الذي سيحقق بدون شك وكما هو مشاهد إشباع الحاجات الأساسية للجماهير. وبهذا يكشفون عن منهجهم ويفسرون خطتهم بقولهم: لقد غير الفلاسفة فرويد ونيتشه وكارل ماركس في هذا القرن مناهج النظر والتفكير وتقدموا بالعقل البشري مراحل كثيرة وأعطوا للفكر الإنساني استقلاليته الكاملة بالقياس إلى العقل المطلق المتعالي. ومن أجل ذلك فقد آن للفكر العربي المعاصر والفكر الإسلامي بشكل عام أن يعيدا النظر في مفهوم الوعي الميتي مع مقارنته بالوعي التاريخي الواقعي والمستقل. ومن الملاحظ أن مطلبًا كهذا لن يتحقق إلا بالدخول في طفرة أيستيمولوجية وحيوية هائلة وعنيفة سوف تؤدي حتمًا إلى زلزلة الوعي والقيم السائدة بأكملها (4) ، وربما هون ذلك علينا اعتقادنا أن المحتويات العلمانية التقديرية للفكر الإسلامي ستبقى في غير متناولنا ما دمنا نريد البقاء متشبثين بإسلام لا يعدو أن يكون دينًا يأمر ويسجن كليًّا العالم أجمع (5) .   (1) محمد بريش. وقفات مع أركون. الهدى: 16، 17 /1987م: 24. (2) أركون. محاضرة بالرباط من أجل تحليل للعقل العربي. انظر: محمد بريش. الهدى: 15، 12 /1986: 51-54. (3) أركون. نوفال أبسرفاتور: 7 / 2 /1986؛ محمد بريش. الهدى: 15، 12 /1986/ 59، 15 /69. (4) هاشم صالح. ترجمة مشكلة الأصول، لمحمد أركون. الفكر العربي المعاصر: 13 /1986: 20. (5) أركون. الأمة الإسلامية: ص120؛ محمد بريش. الهدى: 15، 12 /1986: 45. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2865 وهكذا يتأكد القيام بثورة شاملة تهز فكر العالم العربي والإسلامي رأسًا على عقب مطالبين بعدم ترك الإسلام للكليات التقليدية تدعو له ولا بأيدي الشيوخ وعلماء الدين يلقنونه. إن مثل هذا الأمر سيزيد في القطيعة والتطرف بين الطرفين المتقابلين الإسلاميين الملتزمين والعلمانيين الحريصين على أن تخلوا الساحة العامة من كل ما هو ديني. وهنا يعرض بعض الدعاة حلًّا يتمثل في النظر إلى الدين نظرة تاريخية تراثية مصرحًا بأن العلمنة تقتضي في واقع الأمر إيجاد مجابهة خصبة بين الرؤيا العلمانية للعالم والرؤيا الدينية له، ويصرح بقوله: أنا مع العلمانية بقوة ولكني أرفض أن يمنع المتطرفون العلمانيون دراسة الأديان بصفتها ظواهر ثقافية كبرى عاشتها البشرية خلال قرون … (1) . ومن جهة أخرى يرى أصحاب البرامج الفكرية النهضوية أن المنهج لإعادة تشكيل العقل العربي وبالتالى إعادة تاريخ الفكر العربي الإسلامي يمكن أن يتم بأخذ طريقين: أولهما: تبني الأفكار المادية واقتباس المناهج الاشتراكية الماركسية للخروج بالفكر العربي من أوضاعه المتردية الراهنة ثم إعادة كتابة التاريخ على ضوء مناهج المادية الجدلية. ثانيهما: تبني الأفكار المادية أو غيرها من أفكار المذاهب السياسية المعاصرة بالمرور من مرحلة تاريخية فكرية تتم فيها علمنة الشعوب العربية الإسلامية وجعل إيمانها بعقيدتها الإسلامية وعلمها بشريعتها المحمدية ينقلب إلى تقديس لتلك العقيدة كإرث حضاري وثقافي إنساني وتعظيم من طرفها لتلك الشريعة كعطاءات فكرية بشرية تحمل في كيانها عناصر ثورية إذا ما قورنت بزمانها وفترة تاريخها (2) .   (1) من الموقف الميثولوجي إلى الموقف العرفي. حوار أركون مع هاشم صالح. مجلة الوحدة: 3 ديسمبر 1984. محمد بريش. الهدى: 14، 5- 7 /1986: 27؛ أركون: 14 /27. (2) محمد بريش. الهدى: 130، 1 – 2 /1986: 31. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2866 وفي بحث أعدة (أركون) الداعي إلى العلمنة الإسلامية وصانعها بعنوان "الإسلام والعلمنة" ونشره في مجلة الفكر العربي المعاصر، نجده يتناول بالعرض والتحليل والنقد وجوه هذه القضية فيتعرض لإحدى مشاكل الإسلاميات التطبيقية التي ما يزال يدعو إليها ويهيئ لها الشباب المقتنع بمنهجيته والسائر على طريقه. ويتحدث عن مثال مزدوج للعلمنة في البلاد الإسلامية العربية هي تركيا ولبنان، ثم يتناول القضايا الساخنة التي عرضنا لبعض أقواله فيها مثل النص القرآني والحديث عن جمعه وقراءاته وتفسيره وقوة الظاهرة القرآنية، ومثل قضية السلطة بالحديث عن الخلافة عند السنة والشيعة وعرض الأصل التاريخي وبيان عملية التسويغ والتبرير، وبالطبع بدون شك التعرض لانبثاق العلمنة وإلحاحها في هذا العصر مع بيان المنهج والطريق الذي ينبغي لأهل الفكر أن يسيروا فيه من أجل ممارسة علمنة إسلامية. وليكشف طريق ذلك تفضل فأعد مع الأستاذ حسن حنفي مشروعًا متكاملًا بينهما للتخطيط الشامل للفكر الإسلامي المستقبلي قدمه للجنة المكلفة ببحث هذا الموضوع بالكويت بدعوة من المنظمة العربية للتربية الأليكسو. وأهم ما ورد في هذا المشروع إذا تركنا أدبياته ومناقشته وآراءه وتاويلاته يتمثل في ثماني نقاط هي كالآتي: 1- العلمنة موجودة في القرآن وفي تجربة النبي صلى الله عليه وسلم. 2- الدولتان الأموية والعباسية علمانيتان وليستا دينيتين، والتطور الأيدولوجي الذي قام به الفقهاء يعبتر إنتاجًا عرضيًّا محكومًا بظروف وقتية. 3- للقوة العسكرية في نظام الخلافة والسلطنة دور أساسي في تحديده وتحديد كل أشكال الحكم اللاحقة المدعوة الإسلامية. 4- محاولات عقلنة العلمنة الممارسة في واقع المجتمعات الإسلامية حصلت في تلك الظروف من قبل ظهور الفلاسفة المسملين. 5 – أشكال الإسلام الأرتودكسي كالسني والشيعي والخارجي عبارة عن انتقاءات اعتباطية واستخدامات إيديولوجية لمجموعة من العقائد والأفكار والممارسات التي يدعي وهما أنها تقوم على أساس ديني محض. 6- إعادة بحث وفحص مكانة العامل الديني والتقديس والوحي على ضوء النظرية الحديثة للمعرفة. 7- كل الأنظمة السياسية في المجتمعات العربية والإسلامية بعد تحررها من الاستعمار علمانية واقعيًّا. 8- العلمنة إذ تؤخذ كمصدر للحرية وبقضاء تنتشر فيه هذه الحرية من أجل افتتاح نظرية جديدة في ممارسة السيادة العليا والمشروعية هي عبارة عن أمر ينبغي الشروع به داخل المجتمعات الغربية الأوروبية المعاصرة أيضًا (1) .   (1) محمد أركون القدسي والثقافي والتغيير. مفهوم السيادة العليا في الفكر الإسلامي. مجلة الفكر العربي المعاصر. 39 جوان 1986، ص 30-31؛ محمد بريش. الهدى: 16-17 / 1987: ص24. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2867 وقد كتب لي حضور هذه الاجتماعات التي احتد فيها النقاش وقوبلت العروض فيها بالإنكار والنقض. ونحن لم نذكرها هنا إلا كصورة مخططة وبإصرار لتحدي المسلمين ومهاجمتهم في قرآنهم وسنتهم وعقيدتهم وتشريعهم ونظام الحكم عندهم، ولا أعود إلى ما سبق عرضه ومناقشته في محله من تهم وتهجمات تتصل بالقرآن أو السنة أو العقيدة أو اللغة ولكني أقف ثانية عند قضية السلطة السياسية العامة " الدولة "، وعند قضية الشريعة وتطبيق أحكامها لنرى مواقف أخرى للعلمانية منها: أما القضية الأولى فالمسيحية فصل فيها بين الدين والدولة ولا كذلك الإسلام، واعتبر ماكسيم رودنسون أن الإسلام ارتبط بالسلطة الزمنية من الأول وظهور ذلك واضح في عمل النبي الذي كان رسولًا وإمامًا. ويجنح أركون بحكم دعوته إلى علمنة الإسلام إلى أنه من الأكيد الفصل بين الدين والدنيا، بين الديني والزمني. ويتساءل هل هذا الفرق الأصلي والأولي الأكيد الفصل بين الدين والدنيا، بين الديني والزمني. ويتساءل هل هذا الفرق الأصلي والأولي حاسم أم هو دون ذلك في تشكيل نوعي السلوك بين المسيحيين والمسلمين؟ ويقرر بعد ذلك معلنًا أن النبي لم يكن قائدًا عسكريًّا أو سياسيًّا فقط، وأن للخطاب الديني الذي جاء به أهمية بالغة كما أنه يتميز بتجربة دينية غنية جدًّا وبقصاء رمزي جديد. وبناء على ذلك – وهنا تكمن حقيقة العلمنة التي يدعو إليها – يمكن التعلق بهذا الدين دون أن نستنتج بالضرورة قواعد سياسية واقتصادية واجتماعية معينة، وأنه لا يلزم بالضرورة أن تكون علاقة الأديان بأصولها مبنية بناء النتائج على أسبابها في كل الظروف وفي كل المنعطفات التاريخية. فهناك إذن دين وأهم ما يتمثل فيه الرسالة وهناك بإزائه مجتمع وتاريخ (1) . وبعد تقرير وجهة النظر هذه القائمة على مبدأ فصل الدين عن الدولة أو السلطة يذكر أن الخلافة والدولة في الأساس كانت علمانية وأنها كانت تبحث في الطور الأول عن تبرير أو تسويغ ديني. ونسي أو هو لم يقف على كتاب تخريج الدلالات السمعية للخزاعي ولا على كتاب التراتيب الإداية للكتاني ولكنه اعتمد فقط للاستدلال على رأيه على كتاب ابن المقفع الكاتب والأديب الباطني "رسالة الصحابة" الذي صنعه للدولة العباسية سنة 750 ليجعلها حسب زعمه نسخة طبق الأصل من الدولة الساسانية الإيرانية. وإن بنى الدولة العباسية ومؤسساتها وأسلوب الحكم في سوريا العراق وطريق إعادة الأمن لها والقرارات التي كانت تصدر عن الجيش والشرطة والقضاة. كانت كلها مستوحاة من النظم الفارسية دون أي استعانة بالفكرة الوهمية " القانون الديني والإسلامي". وهكذا يصبح جليًّا أنه لا خشية في الفصل بين الدين والدنيا، بين الروحي والزمني. وأنها تجربة واقعة من صدر الإسلام فلا يضير الدين الحنيف أبدًا أن يكون متهجًا لإشباع الجانب الأساسي الروحاني في الناس من غير أن يدخل في متاهات الحكم وصراعاته والسلطة وأشكالها وممارستها.   (1) حوار مع الأكون أجراه هاشم صالح. من أجل مقاربة نقدية للواقع. المستقبل العربي: 1010، 7 /1987: 7-8. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2868 وأما القضية الثانية وهي الشريعة فقد أضاف إلى ما عرضنا له بشأنها قبل جوانب جديدة تتمثل في كونها (أتيمولوجيا) بمعنى الطريق المستقيم المؤدي إلى الله، وإن ما قامت عليه في تصور الناس في بعض البلاد كالجزيرة العربية لا يعدو أن يكون فهمًا تقليديا ممارسًا، وهي وإن كانت في الواقع مجموعة من المبادئ تشمل كل نواحي القانون من مدني ومؤسساتي وجنائي تلقاها المسلمون وكأنها ذات أصل إلهي قد ترسخ في الوعي الإيماني فترة من الزمن في الأوساط القروية والمدنية على سواء، إنها ناتجة عن الوسائل الاستنباطية المطبقة بصرامة على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية لكنها في الواقع لم تكن مطبقة على كل المجتمعات الإسلامية، فالعالم الرعوي والزراعي نجا منها باستمرار، كما أنها كانت في الغالب مرتبطة بمركزية الدولة أو السلطنة أو الخلافة. فالسلطان أو الخليفة وهو الإمام وقاضي القضاة والقاضي الأكبر كان يعين قضاة الأمصار الذين يتولون تطبيق أحكام الشريعة حيثما امتدت السلطة المركزية جغرافيًّا. وهذا بالطبع لم تكن تاريخيا كلية ولا شاملة وهكذا فإن قسمًا كبيرًا من البلاد كما كان الأمر في الجزائر قبل الاستقلال سنة 1962 – 1974 كان لا يخضع للتشريع الإسلامي ولكن تطبق فيه الأحكام العرفية المتوارثة (1) . وللتمكين من هذا التصور يقابل هذا المؤرخ الفرنكو مسلم بين تاريخ التشريع في نظر المسلمين والفقهاء خاصة وبين ما كانت عليه قصة التشريع في الواقع من الناحية التاريخية التي قدمها لنا محررة عن طريق سنده ونظرته النقدية لها. وإذا كان جمهور المسلمين سابقًا وحاضرًا يعتقد أن الشريعة تشكلت تدريجيًّا بفضل ممارسة القضاة الذين كان عليهم مواجهة حل مسائل المسلمين المتفرقة والعديدة، وأن تلك الحلول كانت نتيجة دائمة لاستجواب القرآن ثم السنة ولاعتماد الفهم فيهما وروح الشريعة منهما، وأن هذه الممارسة القضائية والاجتهادات الفقهية كانت أساس مجموعة كبيرة من الأحكام التي اعتمدت خلال القرون الثلاثة الأولى من التاريخ الإسلامي ومن بعدها، وأن مدارس اجتهادية سنية وشيعية قد ظهرت هنا وهناك في أقطار العالم الإسلامي وكانت وما تزال مهيمنة على الأقل فكريًّا إلى الآن، فإن الصورة الثانية لتاريخ التشريع الإسلامي حسب رئيس قسم الدراسات الإسلامية بالسربون هي التي يوحي بها جولدزهير وشاخت في كتاباتهما والتي ينزعان عنها الأصل الإلهي بانتهائهم إلى القول بأن الشريعة عبارة عن هذا القانون الذي أنجز داخل المجتمعات الإسلامية وبشكل وضعي كامل.   (1) محمد أركون. تاريخية الفكر العربي الإسلامي: ص296. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2869 ولتفصيل القول في هذا يعمد إلى قضية تأثر الشريعة الإسلامية بالأعراف المحلية التي وجدتها قائمة في البلاد المفتوحة ويؤكد أن الرجوع في آخر الأمر لم يكن إلى قواعد ثابتة ولكن إلى الرأي الشخصي للقاضي. ويدل على هذا أن ما حصل من اضطراب وتقطع في تطبيق الشريعة هو الذي حمل الشافعي على وضع رسالته والدعوة إلى الأخذ بالأصول الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وقد عرضنا من قبل رأينا في القرآن والحديث، أما الإجماع فأمره غمض لأنه لم يحدد كما أنه نادرًا ما يتحقق وإن اعتمد في بعض المسائل الكبرى، والقياس كما رأينا حيلة جلب بها القانون الوضعي المخترع بالتعظيم والتقديس (1) . ويمضي بعد هذه المقارنة يقول: ومن العجب أن تظل ملايين من البشر مقتنعة بأن الشريعة ذات الخطر الكبير على حياة الناس والتي يراد تحكيمها في كل شؤون المسلمين في عامة تصرفاتهم وحتى في تفكيرهم هي من الله. ولا نجد مبررًا لهذا الوهم المستولي على عقولهم إلا من حيث أن موقفهم هذا يمثل نوعًا من التقليد التعبدي السكولاستيكي الذي رسخ في الأذهان عن طريق التعليم والتلقين، والذي سبب الخلط فيه بين الزمني والروحي يرجع إلى خلطهم بين القانوني والشرعي حيث استعملت الكلمة الثانية بقدر مشترك بين الموضوعين. وإنَّ السبيل الوحيد لتصحيح ذلك وتغيير الوهم السائد يكون باعتماد المنهج التاريخي النقدي المنهج التفكيكي التحليلي العلمي المحرر الذي ما يزال لسوء الحظ يلاقي صعوبات أكثر من هائلة. وهنا يأتي الإمعان في الدعوة إلى ضرورة علمنة الإسلام والإخافة من مظاهر الصحوة في العالم بقوله: "مقابل المتمسكين بالدين والمنغمسين فيه والعائدين إليه بأعداد كبيرة طائفة من المثقفين كانوا بالأمس يدعون للعلمانية ويحثون على اختيار المادية التاريخية كمنهج فكري ثوري يتيح للشعوب العربية التخلص من ظلمات الجهل التي ساهمت في صنعها العقائد الدينية" (2) ، ويقاسمه بعض العلمانيين تخوفه حين يحذر أصحاب المسار اليساري بقوله: "إن الإسلام كان ولا يزال مركز الشرعية الأول والأخير بالنسبة للأغلبية الساحقة من الجماهير العربية التي تتعامل معها، ويدعو هذا بدون شك إلى مضاعفة الجهود تخطيطًا وتطبيقًا لنشر العلمنة وإقناع الناس بها" (3) .   (1) محمد أركون. تاريخية الفكر الإسلامي: ص297، 298. (2) محمد بريش. وقفات مع أركون. الهدى: 63-1-2 /1986: 29. (3) محمد بريش. وقفات مع أركون. الهدى: 63-1-2 /1986: 29. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2870 الصحوة الإسلامية: مما قدمنا يتجلى التقابل بين الاتجاه الإلحادي والتجديدي واليساري وبين الاتجاه الإسلامي الشامل بجميع صنوفه وأشكاله ومراتبه في ساحة واسعة غير مقصورة على البلاد العربية، ولكنها تتسع لتمتد فتشمل البلاد الإسلامية ومن ورائها وكور ومراكز الدعوات المناوئة للمسلمين كأمه وللإسلام كدين ولحركات المعارضة لها والقائمة في وجهها في كل مكان من أجل حماية العقيدة ورد العدوان. إنها مسابقة ومناظرة بل نقائض وملاحم وحرب مقنعة وجهاد. تلك ترفض الإسلام كدين أو تقبله، ولكن كفكر حضاري تتمسك به إلى حين ما دام يحقق لها مصلحة، فإذا وجدت المصلحة في غيره نبذته وولت وجهها عنه، وهذه تؤمن به كعقيدة مقدسة جاء بها الرسول الخاتم وبيَّنها لها بالقول والعمل والدعوة إلى الحق والهداية إلى الخير فهي تتمسك به كمنهج وتؤثره على كل شيء ولا تبحث عن شيء وراءه. تلك لا ترتبط بقومية ولا تلتزم بدين ولا عقيدة. وهي حين تصرح بأن ظروفًا قضت عليها بالتحرك في دائرة الانتماء العربي الإسلامي تعلن عن وجوب تجاوز النرجسية والمركزية العريقة والقومية من جهة، وأنها لا تعتبر العروبة غاية قصوى لمصيرها ولا قيمة في حد ذاتها، ومن جهة أخرى ترفض أن يكون الإسلام الأس الوحيد للأخلاق والمجتمع والمحرك الأساسي الفعلي للعبة الاجتماعية فارضًا قواعده المدنية ومايرتبط بها من فروض في العادات والتقاليد (1) . وهذه تصر على أن النظام الإسلامي هو النظام الديني الإلهي الذي يجب على كل مسلم أن يمارس الحياة على أساسه وألا يستبدل به غيره مهما تكن الظروف والمناسبات من حيث إنه النظام العام الدائم الصالح لكل زمان ولكل مكان. وحين تذكر الأولى بما حققه العلم من إنجازات والتطور الفكري والحضاري القائم على العلمانية من رقي وازدهار وتقدم ومدنية تكشف الثانية عن حقيقة هذه الحضارة العلمية، وهي وإن سلمت بجدواها واعترفت بما قدمته للإنسانية من ثروات هائلة وخدمات عظيمة غير أنها تؤمن بأنها بفقدانها للجانب الروحي الضروري والمهم لم تستطع أن تحقق الأمن والطمأنينة للبشر الذي يمرغ في أوحال المادية ويزداد مع الأيام قلقًا وشقاء وخوفًا ويأسًا مع ما هو ملحوظ للعيان ومشاهد في أطراف العالم وبخاصة في البلاد الإسلامية من ضروب الفشل في مختلف المجالات الروحية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والسياسية.   (1) هشام جعيط. الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي: ص102، 103؛ محمد بريش. الهدى: 13، 1-2 /1986: 30. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2871 ومن ثم جاءت حركة رد الفعل الطبيعية التي حمل عليها استشراء الفساد والجور واختلال التوازن وفقدان الأمل في الغد المرتقب، وقام الدعاة المسلمون بما فرضه عليهم دينهم وناداهم به قرآنهم في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) . وهكذا بدأت الصحوة كما يسميها المسلمون مشرقًا ومغربًا ويسميها خصومها فتنة وثورة وهي في واقع الأمر عنوان على اليقظة بعد السبات وعلى الانتباه بعد الغفلة وعلى الاهتداء إلى الأسس المقومة للأمة والقيم والمبادئ التي يتميز بها الإسلام بعد طول نسيان أو تجاهل بفعل التبعية البغيضة بجميع أشكالها للدول الاستعمارية وسلطان الغزو الفكري المادي على عامة أفراد الأمة. ولا بدع أن يغيظ انبلاج الصحوة الغرب المتحيز للائكية فيرمي دعاتها والمسلمين عامة بالتخلف والرجعية، فإن الغربيين من مسيحيين وغيرهم لم يفهموا لهذه الحركة معنى ولم يدركوا أبعادها بسبب ما يملأ حسهم الباطني الجماعي من أخيلة وتصورات غير صحيحة عن الدين الإسلامي، وبسبب انزعاجهم أكثر بالتحرر والثقافي الذي يواجهونه في أكثر البلاد التي كانت بالأمس محتلة من طرفهم فكانوا لها سادة وكان أهلوها لهم تبعًا (2) . وسار الدعاة المجددون لأمر هذا الدين يخوضون غمار معركة الإصلاح ببث الوعي الديني، وظهرت آثار ذلك في مختلف الطبقات الشعبية، ولما استشعر خصومهم تجدد قوتهم واجتماع الناس من حولهم وعمر الشباب المساجد وحلقوا حول المرشدين والأساتذة يفسرون لهم القرآن ويعلمونهم الحكمة ويزكونهم نعتوهم بكل الصفات وضيقوا عليهم وصدوهم كلما استطاعوا عن مباشرة وظيفتهم الدينية الخيرة، ولربما ألحقوا بهم أنواعًا من الأذى والعذاب والتنكيل إخفاتًا لأصواتهم وإرهابًا لهم. وتواصل الحذر وازدادت الخشية من الجماعة الإسلامية وحصل التطرف، فذهب أحد العلمانيين إلى الدعوة إلى إخلاء المساجد لكونها وكر التجمعات الإسلامية ومركز نشر الدعوة، ولكون الدين لا يقتضي بالضرورة التحول إلى المساجد فيقول: إن مسألة الإسلام تستوجب أن يعاد التفكير فيها كليًا خلافًا لما يحاول التاريخ الراهن والمتعصبون الذين تكلمت عنهم إثباته، الإسلام يفترض وجود علاقة شخصية مع الدين، ليس من الضروري دومًا أن يحتشد الناس جماعات في مسجد لإقامة الصلاة، إن الصلاة مسألة شخصية في الإسلام كما في الديانات التوحيدية الأخرى، وكل الداء يأتي من الخلط الذي وقع لأسباب تاريخية بين الاستعمال السياسي للدين والقضاء الشخصي للمتدين (3) .   (1) سورة آل عمران: الآية 104. (2) ميشال لالون:17. (3) حوار مع أركون لنوفال أبسرفاتور 1109. 7 /2 /1986؛ محمد بريش. الهدى: 15 /58. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2872 وسخرت كل الوسائل لمنع مثل هذه الاجتماعات والدروس، وواصل الطرف الثاني عمله بالإمعان في القيام بتظاهراته والاجتماع بالناس في عدة أماكن أخرى، وحصلت الاصطدامات القمعية والدموية وواجهت الصحوة التطورات بما يناسبها وتعددت واختلفت هيآتها ووسمت كلها، بل الإسلام نفسه بالعنف حتى قال كلود ليفي ستراوس رائد الأنتولوجيا البنيوية المضادة للعنصرية والاستعمار في الستينات أنه خائف من الإسلام (1) . وصرح آخر في حوار أجري معه: أن الأحداث الجارية في البلدان الإسلامية والعربية وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط تفرض فكرة أن الإسلام عنيف ويحاولون تفسير ذلك عن طريق العودة إلى الوراء نحو أصول الإسلام، ويحتجون بأن النبي محمدًا نفسه قاد الحروب، واعتمادًا على ذلك يقولون إن الإسلام دين استخدم العنف منذ البداية، وبالتالي فإن المسلمين يعيدون إنتاج موقف قديم يتخذ شكل المثال والقدوة من موقف النبي نفسه (2) . ونحن لا يعنينا هنا تقديم المواقف أو نقدها ويكفينا أن نشير إلى أن الحرب المقنعة ضد الإسلام مستمرة على كل حال وفي أي وقت عند ضعف المسلمين وهوانهم وتبعيتهم للدول المتحكمة في مصائرهم أو بعد تحررهم وحصولهم على استقلالهم ومحاولتهم التجديد لكيانهم وتحقيق المناعة لجماعاتهم. الدعوة من أجل تجديد الذات: إن ما غال المسلمين من فتن وعرض لهم من نكبات، ولحقهم من هوان على الناس وعلى أنفسهم، وما انتشر بينهم من فساد وسوء وشر، كان كله بسبب بعدهم عن دينهم، وإعراضهم عن هديه، واستهتارهم بمقاصده، وتجنبهم للالتزام بأحكامه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (3) . وقد دعت الضرورة المسلمين إلى مراجعة النفس ومحاسبتها ونقدها ومراقبتها وبيان طرق الخلاص والعزة لاستعادة الأمجاد واسترجاع السيادة والريادة والوفاء بأمانة التبليغ للهدي الإسلامي ونشر دين الله في العالمين، فتتم بذلك النعمة على الناس وينتشر الأمن والسلام بينهم وتتحقق لهم السعادة في هذه الدار وفي الدار الآخرة. وإن في هذا ما يغني عن الأخذ بالمذاهب الفكرية والفلسفية والاقتصادية والسياسية من مثل العالمية والقومية والاشتراكية والرأسمالية والبلشفية. فإن تلك الاتجاهات التي جربها الناس وأقاموا عليها أسس أنظمتهم ومعاملاتهم قد صدع القرآن من قبل بأكمل ما فيها من إيجابيات وصرف عما تضمنته من سلبيات ودعا إلى المنهج الأقوم.   (1) حوار مع أركون من أجل مقاربة نقدية للواقع أجراه هاشم صالح. المستقبل العربي. 101 –7 /1987: 10. (2) حوار مع أركون من أجل مقاربة نقدية للواقع أجراه هاشم صالح. المستقبل العربي. 101 –7 /1987: 5. (3) سورة الأنفال: الآية 53. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2873 ولذلك ترى الثلة المؤمنة الموقنة القائمة بالحق والداعية إليه: "تتخذ القرآن منهجًا لها – كما قال البنا – تتلوه وتتدبره، وتقرؤه وتتفحصه، وتنادي به وتعمل له، وتنزل على حكمه، وتوجه أنظار الغافلين عنه من المسلمين وغير المسلمين". وتردد بين الناس فخورة معتزة معلنة: "نحن مسلمون وكفى ومنهاجنا منهاج رسول الله وكفى، وعقيدتنا مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله وكفى"، وقد اعتبر القائمون على هذا الأمر في الشرق الأقصى والشرق الأوسط وفي بلاد المغرب أنهم مهما اختلفت هيآتهم وأشكال عملهم وطرق المعالجة لقضاياهم سواء كانوا من المعتدلين أو من المتطرفين أنهم يحملون أمانة ويبلغون رسالة: تتمثل في إخلاص الوجه لله والخضوع لإرادته في كل ما أمر به أو نهى عنه. وفي الممارسة الشاملة للإسلام عبادة وقيادة، دينًا ودولة، روحانية وعملًا، صلاة وجهادًا، مصحفًا وسيفًا، فلا ينفك واحد من الأمرين عن الآخر. وفي تنبيه الغافلين من الناس إلى ما في الإسلام من قيم وإلى وجوب عودة الإسلام إلى الحياة بعد غيبته الطويلة عنها. وفي بناء الفرد المسلم والأسرة المسلمة والشعب المسلم والأمة المسلمة بناء يقوم على الاحتكام إلى شريعة الله لا إلى أي حكم سواها. وفي تجهيز المؤمنين بقوة في الاعتقاد والتصور، وبقوة الخلق والتكوين النفسي، وبقوة التنظيم والبناء الجماعي، وقوة الصمود والتصدي، وقوة التغلب على جميع المعوقات. وفي التضحية والبذل والجهاد وفي سبيل الحق، فما الوهن الذي أذل المسلمين إلا حب الدنيا وكراهية الموت. وفي التناصر والتعاون والتكافل والتضامن وتقوية الروابط وتعزيزها بين الأقطار الإسلامية جميعًا وبخاصة العربية منها تمهيدًا للتفكير الجدي العملي في توحيدها وجمع كلمتها راية واحدة وجعلها وإن اختلفت بها المناطق والآفاق دولة متكاملة متلاحمة تعود بها الخلافة الضائعة. ولو أتيح بلوغ هذه الأهداف الغالية بتربية الأمة وتغيير العرف العام وتزكية النفوس وتطهير الأرواح والقضاء على الأفكار والحلول المستوردة التي لا يقرها الإسلام لتغيرت الأرضية التي يمكن للإسلام أن ينطلق منها قويًّا مجددًا ليتبوأ مرة أخرى مكانته التي أرادها الله له في هذا العالم. وإن هذا كما قال الدكتور القرضاوي لرهين قيام مجتمع إسلامي توجهه عقائد الإسلام، وتحكمه شرائع الإسلام، وتقوده مفاهيم الإسلام، وتسوده أخلاق الإسلام، وتسيطر عليه تقاليد الإسلام، وتسري في كل جنباته روح الإسلام، ويصبغ كل شيء فيه بصبغة الإسلام: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} ٍ (1) . مجتمع عقيدة وفكر، مجتمع دعوة ورسالة، لا بد أن تتمثل في جميع نواحي حياته: روحية ومادية، فكرية وسلوكية، تربوية وثقافية، نفسية واجتماعية، اقتصادية وسياسية (2) .   (1) سورة البقرة: الآية 138. (2) الحل الإسلامي فريضة وضرورة: ص148. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2874 وهذا الأمر العظيم الجليل الذي هو قوام الأمانة وموضوع الرسالة ليحتاج دون شكل إلى تضافر الجهود وإسهام كل الطاقات الفعالة في المجتمع الإسلامي. فإن على الحكومة أو الحكومات الإسلامية أن تنهض بجزء كبير من أعبائه لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وعلى الهيئات أن تسهم فيه بفعالية لأنها هي التي تتولى إصدار القوانين للناس فتلتزم فيها مراقبة الله ومراعاة مصالح المسلمين. وعلى الأغنياء والسراة لما خولهم الله من قدرات على التمويل والإصلاح. وعلى العلماء والطلبة المسلمين بما يدعون إليه ويلتزمون به فيرفعهم مقامًا عليًا: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) . السيادة والسلطة: على أساس شمولية الدين الإسلامي للجانبين الروحي والزمني واقتضاء نظامه الجمع ين الدين والسياسة خلافًا لما لحق المجتمع المسيحي في ظل الثورات والأنظمة اللائكية من تصدع سببه الفلسفات المادية والتوترات الاجتماعية والنزعات الطبقية رفض دعاة الاتجاه الإسلامي وأعلام الصحوة في كل بلد عربي مسلم وفي سائر الأقطار الإسلامية الاستجابة للعلمانيين من قادة ومفكرين وساسة في أي شكل ظهروا وعلى أي وجه انقلبوا لافتضاح أمرهم وانكشاف مؤامراتهم ضد الإسلام والمسلمين. وهل العلمنة إلا قضاء على الإسلام كدين ومنهج حياة وتدخل في شؤون المسلمين بما يفسد عليهم عقيدتهم وحياتهم ويجعلهم في ديارهم غرباء لا يقدرون على ممارسة شعائرهم ولا على القيام بأدنى الواجبات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفاظًا على كيانهم وصيانة لجماعتهم لأن في ذلك عند خصومهم تضييقًا للحريات وتدخلًا في الحياة الشخصية ومشاغبة وتعطيلًا لكل مظهر أو سبب من أسباب التطور والتقدم في نظرهم.   (1) سورة فصلت: الآية33. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2875 هذا، ومن المسلم أن لكل جماعة الحق في اختيار من تؤمر عليها وتوكل إليه تصريف شؤونها وتدبير أحوالها. والأمة الإسلامية أو الشعوب الإسلامية من حقها أن تختار ولا يجوز أبدًا أن يفرض عليها من يحكمها لأن حاكم المسلمين – كما كان الخليفة – من أهم واجباته وأقدسها صيانة الدين والعقيدة والاجتهاد في تحقيق المصلحة العامة للأمة أو الجماعة التي يلي أمرها. ولذلك، فإن السلطة عند المسلمين لا تطلب لذاتها وإنما تطلب من أجل أنها الأداة الفعالة في سبيل الدعوة إلى الله ومن أجل الحفاظ على المجتمع الإسلامي سليمًا معافى متكافلًا ناميا متطورًا متقدمًا. وهل يتحقق ذلك مع القوميات أو الوطنيات؟ وهي مدعاة إلى تقسيم الأمة الواحدة إلى طوائف متباغضة متناحرة تحكمها مناهج وضعية أملتها الأهواء، وتفصل بين وحداتها حدود مصطنعة وأجناس متغايرة مفوتة عليها الأخوة في الله والمواطنة الصادقة النابعة من العقيدة المشتركة. إن المسلمين لا يفرقون بين ملكية وجمهورية إذا كان الحاكم مسلمًا أمينًا تتوفر فيه شروط الإمامة التي نص عليها الفقهاء في كتب السياسة الشرعية كالماوردي في الأحكام السلطانية واختارته الأمة عن رضا وأسلمته مقاليد أمورها. ولكنهم يخلعون حكمه ويرفضونه إن كان ديكتاتوريًّا لأن النظام الإسلامي يقوم على الشورى والبيعة، وتقييد سلطة الحاكم والحق في عزله، والحكومة الإسلامية لا هي ثيوقراطية دينية، كما كانت تدعي الكنيسة أنها تستمد سلطتها من الله، لأنها تستمدها من الجماعة الإسلامية التي بايعتها ولا هي ديمقراطية لأن هذه وإن اتفقت مع الإسلامية في حرصها على تحقيق العدالة والحرية والمساواة، فإنها تختلف عنها من حيث عدم تقييد الحاكمين والمحكومين في تصرفاتهم وأعمالهم وعلاقاتهم بما أنزل الله. وإنما هي نظام متميز تسوده الشورى لقوله جل وعلا لنبيه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (1) . {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (2) . وقوله سبحانه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (3) . ويحفظه تقييد سلطة الحاكم خلافًا لما كان عليه الحكم المطلق الاستبدادي الذي لا حد له ولا قيد عليه والذي كان مهيمنًا في كثير من البلاد قبل الإسلام. وهكذا بعد أن كانت علاقة الحاكمين والمحكومين تقوم على القوة البحتة أصبح أساسها في ظل الإسلام تحقيق المصلحة العامة لا قوة الحاكمين ولا ضعف المحكومين، وأعطيت الجماعة حق اختيار راعيها ووضعت لسلطة الحاكم حدود لا يتعداها، فإن تجاوزها كان عمله باطلًا وجاز للجماعة عزله. ومبدأ الحكم في الإسلام: الاستخلاف في الأرض لإقامة حكم الله فيها.   (1) سورة آل عمران: الآية 159. (2) سورة الشورى: الآية 38. (3) سورة النساء: الآية83. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2876 ومن ثم كان للحكم الإسلامي القائم في أصوله على الاستقامة ومراقبة الذات والمحاسبة وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ما يحقق الأهداف منه وييسر على المجتمع الإسلامي نيل حقوقه وبلوغ عزته في ظل الإسلام وتعاليمه ونهجه ونظامه. وللشريعة اعتبار مهم في حياة المسلمين لا يثني عنها انحراف المنحرفين ولا جحود الجاهلين وهي دستورهم الذي يحكم الأمة جميعها فيحمي مصالحها ويضع قواعد المعاملة بين أفرادها وهي النظام الإلهي الذي اختاره الله لها وتمت به النعمة عليها وهي وحي منزل من خالق العباد البصير بعباده لإقامة العدل بينهم لا يرقى إليها ما تواضع الناس عليه من الأحكام لثباتها ودوامها وسموها وكمالها ودرئها ما يغلب على أحكام الناس من نزعات وميول وشهوات وأهواء. وهي لكونها من الدين ولبابه قد فرض الشارع الاحتكام إليها. ومن خرج من هذا الحد يكون ظالمًا وفاسقًا وكافرًا بتصريح القرآن لكونها إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادًا لله. وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وقف أهواء النفوس وطلب منافعها العاجلة كيف كانت. وقد قال ربنا سبحانه: {ولَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ والأَرْضُ ومَن فِيهِنَّ} (1) . وهي بحكم أصولها العامة وقواعدها الكلية قد هيأت للعلماء المحققين والفقهاء المبرزين الاجتهاد فيما لا نص فيه بحمل المسائل المستجدة والقضايا المحدثة على نظائرها على وفق ما يقتضيه روح التشريع وسماحة الدين ومقاصد الشريعة وأسرارها، تشهد لذلك هذه الحركة العجيبة، التي نلمسها في كل بلد إسلامي بمجالس الفتوى والمجالس العليا الإسلامية ومعاهد البحوث ومجامع الفقه، وإنها لحركة جد مباركة لأنها لا تخدم المسلمين وحدهم، بل تنير الطريق للفقهاء ولرجال القانون في العالم، وقد اعترف بفضلها المنصفون من قضاة الغرب وعلماء القانون مثل كوهلر الذي لم يتردد أن صدع بقوله: إن الشريعة الإسلامية لتحتوي على أحكام لم يصل إليها القانونيون الغربيون إلا بعد عشرة قرون (2) . واللقاءات الدراسية التي عقدت بلاهاي في السنوات 1932م، 1937م، 1948م، وبباريس في أسبوع الفقه 1951م توصيات من أهمها: أن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يمارى فيها، وإن اختلاف المذاهب الفقهية لينطوي على ثروة من المفاهيم والأصول الحقيقية هي مناط الإعجاب. وبها يتمكن الفقه الإسلامي من أن يستجيب لجميع مطالب الحياة والتوفيق بين حاجاتها، وإن التشريع الإسلامي يعد في طليعة المصادر الصالحة لسد حاجات التشريع الحديث (3) .   (1) سورة المؤمنون: الآية 71. (2) مجلة القضاء العراقية مارس 1926؛ مجلة البعث الإسلامي م18 عدد10 يونيو 1974م. (3) أسبوع الفقه بباريس 1951م؛ الزرقا. المدخل الفقهي: 1، 94، 229. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2877 هذه صورة من الحرب المقنعة ضد الإسلام يتهجم فيها المبطلون والجهلة الضالون في القديم والحديث على عقيدة الإسلام ومصادر شريعته وتاريخه. وهي متناسقة بعضها مع بعض، رغم تطور الأزمان واختلاف الظروف، تستهدف أمرًا جللًا هو تغيير العقيدة والتحلل من كل القيود والقيم والمبادئ وإحداث الفوضى وزلزلة الكيان في المجتمع الإسلامي. ولكن المؤمنين لم يعدموا لا ماضيًّا ولا حاضرًا صوتًا مجلجلًا يقوم الله بالحجة ويدفع عن دين الله الباطل ويكشف عن أعمال المفسدين المحاربين: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} (1) . الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة.   (1) سورة الكهف: الآيات 103-106. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2878 الوثائق تطبيق الشريعة إعداد الدكتور صالح بن حميد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المتوحد بالعظمة والجلال المتعالي عن الأشباه والأفعال. أحمده سبحانه وأشركه من علينا بواسع الفضل وجزيل النوال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الخلق والأمر وله الحكم وهو الكبير المتعال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله مصطفاه من خلقه، كتب الفلاح لمن اتبعه واحتكم إلى شرعه ففاز في الحال والمآل صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فاتقوا الله أيها المؤمنون فبتقوى الله تزكو الأعمال وتنال الدرجات وارغبوا فيما عنده فبيده الخير وهو على كل شيء قدير. اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتعبوا من دونه أولياء. أيها المؤمنون: من حق هذه الأمة أمة الإسلام: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أن تفخر بدينها وتعتز بتشريعها حيث توحدت به الصفوف وأتلفت به القلوب. أنقذها، من مهاوي الرذيلة إلى مشارف الفضيلة ونقلها من الذل والاستعباد والتبعية إلى العزة والكرامة وصحيح الحرية. دين الأمن والأمان وشريعة العدل والرحمة. دين أكمله الله فلن ينقص أبدا ورضيه فلن يسخط عليه أبدًا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} . عباد الله: شريعة الله هي المنهج الحق الذي يصون الإِنسانية من الزيغ ويجنبها مزالق الشر ونوازع الهوى شفاء الصدور وحياة النفوس ومعين العقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) } . منبع الشريعة ومصدرها كتاب الله تبارك وتعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. كتاب الله أساس الدين ومصدر التشريع حجة الله على العالمين حوى أصول الشريعة وقواعدها في عقائدها وأخلاقها وحلالها وحرامها يضيء للأئمة مسالك الاستنباط في معرفة أحاكم الحوادث والمستجدات في كل زمان ومكان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2879 (فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلاَّ في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها) ، كما قال الإِمام الشافعي رحمه الله، يقول الشاطبي: (الكتاب كل الشريعة وعمدة الملة وينبوع الحكمة وآية الرسالة ونور البصائر والأبصار، لا طريق إلى سواه ولا نجاة إلاَّ لمن استضاء بهداه) . اهـ. يفتح مغاليق القلوب وتستنير به الأفئدة. كتاب الله الحكيم فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينبكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم. أما سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وتقريراته المعزة للقرآن الدالة عليه والمبينة لمجمله والمفصلة لأحكامه، فرضٌ اتباعها وحرام مخالفتها: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} , {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} , {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . أيها المؤمنون: الإِسلام عقيدة وشريعة. إيمان بالله وتوحيد له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. عبودية تامة وخضوع مطلق ورضى بدين الله وتصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم من غير شك ولا ريب ولا حرج. التزام في المنهج والعمل في التعامل والقضاء والحكم والإِدارة في الأفراد والجماعات. إن الإِسلام حياة تعبدية تجعل المسلم موصول القلب بربه يبتغي رضوانه في شؤونه كلها. نظام خلقي يقوم على إشاعة الفضيلة واستئصال الرذيلة. نظام سياسي أساسه إقامة العدل وتثبيت دعائم الحق. نظام اجتماعي نواته الأسرة الصالحة وعماده التكافل بين أبناء المجتمع. دين عمل وإنتاج منهج كامل متكامل لكافة أنماط النشاط البشري على نور من الله ابتغاء مرضاة الله. من هنا – أمة الإِسلام – فإن هذا الدين بأصوله ومبادئه وفَّى ويفي بحاجات البشرية في كل عصر ومصر، انتشر في أنحاء الدنيا ودخل تحت سلطانه أجناس البشر فوسع بمبادئه وقواعده كل ما امتد إليه نفوذه من أصقاع المعمورة، عالج كافة المشكلات على اختلاف البيئات وما عجز في يوم من الأيام عن أن يقدم لكل سؤال جوابًا ولكل واقعة فتوى ولكل قضية حكمًا. ومدونات الفقه والفتاوى برهان للمتشككين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2880 وكيف يكون ذلك والشريعة – كما قال الحافظ ابن القيم رحمه الله: (مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد عدل كلها رحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، وكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة) . لقد كانت هذه الشريعة أساس الحكم والقضاء والفتيا في العالم الإِسلامي كله أكثر من ثلاثة عشر قرنًا انضوى تحت لوائها أعراق شتى وامتزجت بها بيئات متعددة فما ضاقت ذرعًا بجديد ولا قعدت عن الوفاء بمطلوب. ولماذا نرجع إلى الماضي وبين يدينا ولله الحمد والمنة حجة قائمة وبرهان ظاهر، فهذه بلاد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية قائمة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم محكمة شرع الله قادتها وحكومتها وأهلها ومجتمعها يعيشون في ظلال الشريعة ونور الكتاب والسنة في أمن وطمأنينة وخير ونعمة ملء القلوب الرضى وما يرجى من الله خير وأبقى أدام الله علينا نعمه وزادنا إيمانًا وتوفيقًا ورضى وتسليمًا. أيها الإخوة في الله: إن من مقتضيات الإِيمان الإِقرار بحق التشريع لله وحده فالحكم لله وحده: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} ، والتولي والإِعراض عن تحكيم شرع الله من مسالك المنافقين والظالمين: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ (50) } . {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} الآية. أمة الإِسلام: على الرغم من هذا الوضوح والجلاء إلاَّ أن أعداء الإِسلام أبوا إلاَّ وضع العراقيل وتلفيق التهم واختلاق الشبه حول الشريعة وشمولها وصلاحيتها، بل لقد استطاع الغزو الفكري أن يجعل من بعض المسلمين حتى المثقفين يستحيون أو يشمئزون من ذكر بعض شرائع الإِسلام كالحدود والقصاص والحجاب وكأنهم لا يرون مانعًا أن تكون ديار الإِسلام ميدانًا فسيحًا تنمو فيه الدنايا وسفاسف الأخلاق وموطنًا رحبًا يجد فيه المرجون والمتوحشون فرصًا للاعتداء والاغتيال – بل إنك ترى في بعض من يخوض فيها ويلوك أناسًا لا يعرفون الطريق إلى المساجد ولا يتورعون عن الموبقات والمزالق فتراهم يسرون أو يعلنون أن تحريم الخمر والزنا وقطع دابر اللصوصية والمفسدين تشدد وهمجية. أما سمعوا قول الله في المنافقين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ، وقوله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} . أيها الأخوة في الله: ليس الإِيمان بالتحلي ولا بالتمني وليس الإِسلام مجرد الانتساب الاسمي ولكنه ما استيقن والقلب وصدقه العمل. ومن هنا فحين يصدق المسلمون ويخلصون لدينهم فيجعلون كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أساس الحكم وتبنى عليهما مناهج التربية والتوجيه حينئذٍ يتحقق الوعد ويتأكد التمكين وينزل النصر. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } . نفعني الله وإياكم بهدى كتابه وسنَّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. الدكتور صالح بن حميد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2881 مناقشة البحُوث تطبيق الشريعة الإسلامية الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سيدي الرئيس، السادة العلماء، الإخوة الزملاء. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. لا يخفاكم ما تعيشه أمتنا الإِسلامية في وقتنا الحاضر، من صحوة واسعة يشارك فيها سائر طبقات المجتمع الإِسلامي جميعهم، تتوحد اتجاهاتهم ومطالباتهم إلى تطبيق الشريعة الإِسلامية المطهرة بينهم في كافة شؤون الحياة دون استثناء، كانت هذه الطموحات والتطلعات في الماضي تصطدم بقوة المستعمرين الغاشمين، وتلك مرحلة تاريخية، مهما اشتدت وطأتها، فقد عرفت الأمة عدوها، وما كان متوقعًا من مستعمر أجنبي غير هذا، ويهون ذلك الماضي أمام واقع مؤلم، تسدد فيه الطعنات نحو الشريعة المطهرة، ويطالب بإبعادها ويحاربها على كل منبر وميدان فئة من أبنائها اتخذت العلمانية شعارًا، والجحود لمبادئ الدين دفاعًا. وظلم ذوي القربى أشد غضاضة على المرء من وقع الحسام المهند إن هذا الموضوع هو موضوع الساعة، وهاجس الأمة الذي يعيش في نفسها وفي بالها، ولأهمية هذا البحث وضع هذا الموضوع على جدول أعمال مجمعكم الفقهي الموقر. الأعمال المقدمة في هذا الموضوع ثلاثة: الأول: بحث ضافٍ بعنوان: "مواجهة بين الشريعة والعلمنة". الثاني: خطبة رصدها المجمع ألقاها إمام وخطيب المسجد الحرام. الورقة الثالثة: بعنوان تطبيق الشريعة الإِسلامية "لعبد الوهاب أبو سليمان" وهنا استعرض في خطوط عريضة الموضوعات الرئيسية للبحث الأول، بعنوان "المواجهة بين الشريعة والعلمنة" من إعداد فضيلة العلامة الأستاذ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة، الأمين العام لمجمع الفقه الإِسلامي: جاء هذا البحث في تسع وعشرين صفحة، وهو بحث ضاف تناول جوانب موضوعية عديدة، ذات علاقة وثيقة بالموضوع كلَّه، وبجزئيات كل طرف فيه، ولا أعتقد أن تقديم هذا الموضوع بعرض خطوطه العريضة كافٍ لتقديم صورة كاملة عنه، أو إعطاء انطباع صادق عما حواه من أفكار ومبادئ وقيم ومناقشات علمية هادفة في تسلسل منطقي وعبارة جزلة، ولكنه الالتزام بامتثال الأمر، وكل هذا لا يغني عن قراءته وتأمله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2882 اشتمل الموضوعُ البحث عن القضايا الرئيسية التالية: أولًا: بيان طبيعة الإسلام وماهيته، وفي هذا يقول فضيلة الأستاذ الدكتور الباحث: فالإسلام ليس دين عبادة فحسب، ولكنه عقيدة وشريعة وسلوك على أساسها جميعًا بنى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة الفرد المسلم والجماعة المسلمة. هذه العبارات هي القضية الحقيقية التي يدور حولها – لإثباتها – البحث بالأدلة والبراهين وبالمقولات، ثم يوضح أن المؤمنين يعلنون ولاءهم بصدق، وأنهم يتميزون عن الجاحدين بالولاء التام والإذعان الصادق لشريعة الله، وأن شعارهم ما وصفه القرآن عن سلفهم الصالح: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . ثانيًا: اقتباس الدولة العثمانية القوانين الأوروبية وأسباب هذا ونتائجه. ثالثًا: تقويم الدارسين الأوروبيين لعدول الدولة العثمانية إلى القوانين الغربية. ولا أرى بأسًا من قراءة جزء من هذه الاقتباسات، فقط للتذكير ببعض هذه المقولات، يستشهد فضيلة الأستاذ الدكتور الحبيب بمقولة الأستاذ الدكتور انكلهارد الدبلوماسي الغربي المعاصر في كتابه (تاريخ إصلاحات الدولة العثمانية) ، أن الحل الذي اختاره العلمانيون المتآمرون مع المستعمرين للقضاء على الإسلام في البلاد الإِسلامية هو التخلص التدريجي من الحدود والقيود الدينية للاحتزار من الحالات الموجبة لاشمئزاز الشعوب الإسلامية، ويحكم الغربيون أنفسهم على هذه التجربة التركية، بكل هزء وسخرية، فيقول رئيس معهد القانون في جامعة لندن أندرسون: "إن اقتباس تركيا للقانون السويسري وتطبيقه في بلادها أشبه ما يكون بارتداء القزم ثوبًا فضفاضًا"، وتعبر عن انطباعات الغربيين (مس: هنشف كلف) في قولها: "اقتباس الدولة العثمانية للقانون الفرنسي بدافع من الرغبة في رفع معنوياتها وهيبتها في عين الدول الغربية، التي نظرت إلى قانون العقوبات والقصاص، وقطع اليد والرجم، بكثير من الدهشة والاشمئزاز". ويعلق الأستاذ الدكتور الحبيب بن الخوجة على هذا بقوله: إن هذا لم يصرف كثيرًا من المثقفين ممن استولى الغزو الفكري على عقولهم وسيطر على ألبابهم عن طلب العدول عن هذا الانحراف الذي ضاعت به مقومات الأمة، ورابطة من روابط وحدتها وأساس ذاتي لشخصيتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2883 رابعًا: في الموضوع الرابع أو العنصر الرابع، يعلق الأستاذ الدكتور الحبيب على هذا، ويقول إن العلمانية لم يأخذوا درسًا من هذه الموافقة. خامسًا: رصد فضيلته شُبَهَ العلمانيين القديمة والحديثة، وتتبعها بالتعقيب والرد عليها وإبطالها في تحليل وتفصيل، ووضح الآثار السيئة لكل دعوة ومقابلها من الحقائق في الشريعة الإِسلامية وفوائدها على المجتمع الإسلامي. سادسًا: بعد الانتهاء من عرض ودراسة الموضوعات السابقة، بين أن الهدف من هذا، ومن هذه الدراسة والعرض، هو كشف المؤامرة المقنعة المستمرة ضد الإسلام من قبل هؤلاء العلمانيين. سابعًا: وفي القسم الثاني من البحث يعدد شُبَهَ واتهامات المستشرقين ويجيب على كل واحدة واحدة بالنقض والإبطال شرحًا واستدلالًا. ثامنًا: وتحت عنوان جانبي "العلمنة" يعرفها، ويكشف نوايا أصحابها، ومنهجهم وفلسفتهم، كما يكشف جوانب اللائكية قرينتها ومماثلتها، ويذكر ما يجب اتخاذه نحو هذه الدعوات المنتشرة، التي أفسح لها المجال كتابة وإذاعة وتلفزة وصحافة، ثم يقوم طالبًا تقويم أعمال هؤلاء، وتوضيح نتائج وآثار دعوتهم السيئة على المجتمع والأجيال. تاسعًا: ذكر نقاط مشروع ممارسة العلمنة الإسلامية، وقد عرض نقاط هذا المشروع الثماني الرئيسية، وذكر مواجهته التي حدثت بينه وبين بعض أنصارها والداعين لها، وأن هؤلاء لا يكتمون تخوفهم من الصحوة الإسلامية. عاشرًا: وتحت عنوان جانبي "الصحوة الإسلامية" قام الأستاذ الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة، بمقارنة علمية بينت الاتجاه الإسلامي، والاتجاه الإلحادي، كما وضح أسباب الصحوة الإسلامية، وبين أن خصومها يسمونها تارة فتنة وتارة ثورة. الحادي عشر: وتحت عنوان "الدعوة إلى تحديد الذات" يدعو المسلمين إلى وجوب مراجعة النفس ومحاسبتها، ونقدها نقدًا ذاتيًّا ومراقبتها، ثم يبين طرق الخلاص والعزة، وأن ما احتواه الإسلام من معانٍ ومبادئ يغني عن الأخذ بالمذاهب الفكرية أيًّا كان نوعها، ثم تناول بالتفصيل نتائج الممارسة الشاملة للإسلام، وأن على كل فرد وهيئة وحكومة، وعالم وطالب علم، مسؤولية تجاه التبشير بالإسلام، والإعلان عن خصائصه، والمطالبة بتطبيقه، كل في موقعه ومن مكانه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2884 الثاني عشر: وتحت عنوان " السيادة والسلطة" بين أسباب رفض دعاة الاتجاه الإِسلامي وأعلام الصحوة الإِسلامية استجابة العلمانيين، كما وضح حق الأمة في اختيار من يحكمها، لأن من أهم واجباته صيانة الدين والعقيدة، والاجتهاد في تحقيق المصلحة العامة للأمة، ولا يمكن أن يتحقق هذا مع الدعوة للقوميات والوطنيات، ثم ينتهي فضيلته أخيرًا إلى أن الحرب المستعرة تحتاج إلى صمود وإلى وقوف أمام هذه الحرب المقنعة ضد الإسلام، التي يتهجم فيها المبطلون والجهلة الضالون في القديم والحديث، على عقيدة الإِسلام ومصادر شريعته وتاريخه، وينتهي إلى القول بأن هذه دعوة متناسقة بعضها مع بعض، في القديم والحديث، رغم تطور الأزمان واختلاف الظروف تستهدف أمرًا جليلًا، هو تغيير العقيدة والتحلل من كل القيود والقيم والمبادئ، وإحداث الفوضى وزلزلة الكيان في المجتمع الإسلامي، ولكن المؤمنين لم يعدموا – لا ماضيًا ولا حاضرًا – صوتًا مجلجلًا يقوم لله بالحجة ويدفع عن دين الله الباطل، ويكشف عن أعمال المفسدين المخربين، هذه خلاصة مقتضبة وعرض سريع لما تضمنه هذا البحث الضافي. أنتقلُ بعد هذا لعرض خطبة إمام المسجد الحرام، والتي في مفهومها ومضمونها وفحواها، تستثير مشاعر الأمة الإِسلامية لإنقاذ مجتمعها من مهاوي الرذيلة، وتطالب وتحاول ما بوسعها الطلب والمحاولة بالعودة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، فدين الإسلام هو دين الأمن والأمان، وشريعة العدل والرحمة، ثم ذكر خصائص الشريعة الإسلامية، وما حواه كتابها من تفصيل ومن أحكام تضمن لهم العزة والسعادة. أما الورقة الثالثة: فإن موضوعها تحدث أولًا عن ما فعله المستعمر من إقصاء الشريعة الإِسلامية عن مجال التطبيق، وكانت كما يقول: وكان اختياره للتشريع الإِسلامي كما نقول في المثل (ضربة معلم) ، فقد أحكم المستعمرون الحاقدون المؤامرة ابتداء بإلغاء العمل بالشريعة، وإلغاء الشريعة تعاملًا وقضاء حقق لهم أكثر مما كان يدور بخلدهم، تلك هي البداية التي أوصلتهم إلى أبعد من الهدف والغاية وحينما أقصى الشريعة عن العمل وعن المجتمع، فإنه لم يترك الأمة فراغًا، بل أحل محلها مبادئه الروحية، وتشريعاته الوضعية، وسلوكياته وقوانينه، حتى لا تنتبه إلى المؤامرة وحتى لا تشعر بالفراغ، وخَلصَ الحديث إلى أن الدرس الذي نعيه من ذلك الفصل التاريخي هو ثلاث أمور: أولًا: إقصاء العمل بالشريعة تعاملًا وقضاء في المجتمعات الإِسلامية هو البداية التي تهاوت بعدها عقده، وتحطمت قيمه. ثانيًا: إيجاد فئة من المثقفين متحمسة لقيم المستعمرين وقوانينهم، تتحدث بمنطقهم وتجادل بلسانهم. ثالثًا: بث الشُّبه والشكوك بين المثقفين المسلمين، لزعزعة إيمانهم بصلاحية الشريعة وقدرتها على مواكبة الحضارة الحديثة. وانطلاقًا من هذا الدرس فإن هذه الورقة تقدم مقترحات للبداية الصحيحة، فاقترحت العمل في ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول: إصلاح التعليم الديني في معاهده ومؤسساته، والخروج به من أسر الطرق التلقينية، وحشد المعلومات التي تعتمد على الكم والحفظ والترديد دون وعي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2885 ولا يتحقق الإصلاح في هذا المجال إلا بتحسس الدارسين للمعاني والحكم لتعاليم الشريعة، وتنمية ملكات الطلاب، وإثارة مواهبهم. العمل في الاتجاه الثاني: هو الاعتراف والقناعة الكاملة بأن الفقه الإِسلامي نظام قانوني عظيم، وثروة فكرية ثرّة، ولكن تحتاج إلى صقل وحسن إخراج وفهرسة، ليسهل تناوله للمثقفين وللمتعلمين. ثالثًا: وثالثة الأثافي لإِحكام خطة تطبيق الشريعة بين الشعوب الإِسلامية عن قناعة تامة، وفهم كامل، يكون بالقيام بدراسة علمية جادة لإزالة الشُّبه والشكوك في صحته وفاعليته، ومواكبته للتقدم الحضاري في العصر الحديث. أيها السادة: تعليقًا على هذه الأوراق، كانت الآمال معلقة في تكوين هيئات متخصصة، تمتلك الإمكانيات المادية والطاقات الفكرية، لمواجهة تلك المخططات بتأنٍ وعقلانية، وعلى نفس المستوى من الإحكام كالذي فعله المستعمرون إن لم يكن أحكم وأضبط. وتشاء إرادة المولى عزَّ وجلّ الذي تكفل بحفظ هذا الدين، وإظهاره على الدين كله، أن أصبحت الآمال أعمالًا بارزة، ومؤسسات شامخة، ومجامع فقهية وهيئات علمية هنا وهناك بتمويل مادي وتعضيد معنوي من الدول الإسلامية، صدقت وعدها ليتحقق التخطيط والتنفيذ، وهكذا تهيأت أسباب العمل الناجح. والمجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي أنجز في السنوات القليلة الماضية، الأبحاث والدراسات للموضوعات الفقهية الملحة، وخطط لمشروعات علمية فقهية ما يعد إنجازًا في فترة قياسية. ومجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي، وقد اضطلع بهذه الأمانة الكبيرة وأثبت قدرته في هذا الميدان، بما تحقق على أيدي المسؤولين والأكفاء فيه، قادرة بمشيئة الله ثم بكفاءة نخبة الفقهاء المخلصين، أن يسد الفراغ القانوني في العالم الإِسلامي، بتأليف مدونة فقهية كاملة، في المعاملات والأحوال الشخصية والجنايات والمحاكمات، تلبي حاجة العصر، وتواكب التقدم الحضاري في تخطيط سليم، ومسار شرعي مستقيم، يسجل به إنجازًا تاريخيًّا على مستوى العالم الإِسلامي، كالذي تحقق بظهور مجلة الأحكام العدلية العثمانية، يجد فيه العالم الإِسلامي – حكومات وشعوبًا – بغيتهم، تقوم به الحجة على عامتهم وخاصتهم، فتقطع به اتهامات المبغضين، وتدحض به تبريرات المستسلمين المنهزمين. ومما يعزز هذا المشروع ويعضده، أن يخصص جانب من نشاط هذا المجتمع المبارك، لتجميع كافة دراسات المستشرقين والقانونيين والباحثين في الفقه الإِسلامي، لدراستها وفحصها فحصًا علميًّا دقيقًا، للإفادة من نقدها، في سبيل إيجاد مدونة فقهية كاملة، ونقض ما يتخللها من نقائض ونقائص قد أُسيء فيها فهم الشريعة قصدًا أو بغير قصد، بمنطق واعتدال. إن تعبئة الطاقات البشرية، والإمكانات المادية لهذين المشروعين المتكاملين، في المرحلة الجديدة القادمة، تعد خدمة جليلة في سبيل مساعدة الدول الإِسلامية، للحكم بما أنزل الله، وتطبيق الشريعة بصورة كاملة في جميع الجوانب التشريعية. إذا تحقق هذا – بمشيئة الله – بالخطى والخطوات المطلوبة على مستوى العصر، فكرًا وتنظيمًا، فسيكون علامة بارزة في تاريخ هذا المجمع، وأمجاد هذا الجيل من الفقهاء والمفكرين، والدول الإِسلامية المعاصرة تحمده لهم الأجيال الحاضرة والقادمة. وإن أمانة المجتمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي، بما هيأ الله لها من رئاسة وأمانة مخلصة يساندهم، ويقوي من أزرهم الفقهاء والمفكرون ورؤساء الدول الإِسلامية، جديرة بإنجاز هذه المهمات، وتحقيق الطموحات والتطلعات في سبيل إنجاز هدف سامٍ، وغاية نبيلة، وذلك هو بذل كل جهد من شأنه أن يساعد على تطبيق الشريعة لتعود للمجتمعات الإِسلامية فضائلها وتسترد بالاحتكام إليها عزتها وكرامتها، والله الموفق، وهو الهادي إلى الحق، وإلى الطريق المستقيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2886 الدكتور محمد عطا السيد: الحمد لله رب العالمين، اللهم صلَِّ على محمد عبدك ورسولك. كم كنت أود يا سيادة الرئيس أن لو أرسل هذا الموضوع مسبقًا عندما أعلنت المواضيع التي ستناقش في هذا المجمع، ولكنا أعددنا له عدة كبيرة، وما كتبت أنا شخصيًّا وما ركزت إلا على هذا الموضوع، ولكن على كل حال أحمد الله حمدًا كثيرًا أن أثير هذا الموضوع الآن، وجزى الله خيرًا كثيرًا من اقترحه ومن أدرجه للمناقشة، وأحب أن أذكر نفسي يا سيادة الرئيس وكل عضو من أعضاء هذا المجمع أن هذا يكاد يكون أهم موضوع أثير لهذا المجمع للنقاش، منذ أن بدأنا إلى يومنا هذا، ولذلك أذكر نفسي وأذكر كل عضو من أعضاء هذا المجمع، أن يولي هذا الموضوع كل أهمية، لأنه موضوع مصيري، هو موضوع أساسي وموضوع مستقبلي لنا مع الله تعالى، ولذلك أرجو أن يولى هذا الموضوع كل عناية وكل اهتمام من كل أعضاء المجمع وأن يخرجوا فيه بقرار واضح شافٍ كافٍ، للشعوب الإِسلامية ولحكام المسلمين فيما ينبغي العمل فيه في هذه المسألة، فجميع القرارات التي نناقشها الاقتصادية وتحديد النسل، وموضوع الجنين وما إلى ذلك، كل هذه الموضوعات تأتي تبعًا لهذا الأمر، ولذلك ما أراه إلا كالبند الأساسي في أي دستور، موضوع تطبيق الشريعة الإِسلامية هو البند الإساسي، ثم تأتي كل هذه المواضيع التي ناقشناها تبعًا لهذا الموضوع، ولذلك – يعني لا أملك – يعني كل لغة أستطيع أن أقولها في تأكيد أهمية هذا الموضوع وإيلائه كل أهمية وكل اهتمام من جانبنا – ونحن الآن – أنا الآن أمثل دولة تعاني معاناة شديدة، وتجاهد جهادًا مستمرًا في هذه المسألة، طائفة من المؤمنين وهبوا أنفسهم لله تعالى، يريدون إقرار شرع الله تعالى في دولتنا، ونجد مقاومة شديدة ومقاومة عنيفة من داخل بلادنا نفسها، ومن الخارج، وحربًا لا هوادة فيها في هذه المسألة، ولذلك أرجو أن نولي هذا الموضوع عناية كبيرة، واهتمامًا كبيرًا، ونصدر فيه قرارًا شافيًا كافيًا في هذه المسألة، هنالك مسائل: ليس الموضوع أن أي عضو من أعضاء هذا المجمع يناقش أننا نطبق الشريعة الإسلامية أو لا نطبق، وهذه المسألة من بلايانا الكبيرة في يومنا الحاضر، وأكبر مسألة بلينا بها أننا نعتقد في الله تعالى أنه هو المشرع الحكيم وأنه هو الخالق البارئ، وهو الحكيم العليم، ومع ذلك لا نطبق شريعته في بلادنا، أو على الأقل في كثير من بلاد المسلمين، ولذلك أرى أن هنالك مواضيع كثيرة يجب أن نناقشها، وهي مثلًا موضوع تطبيق الشريعة على غير المسلمين في البلاد الإِسلامية، هذا الموضوع الآن يثار في السودان إثارة عنيفة لمواجهة تطبيق الشريعة، جزء من السودان عدد كبير، أو نسبة معينة من المواطنين غير مسلمين، فهل نطبق عليهم الشريعة الإِسلامية أم لا؟ وأنا كما أعلم أن المذاهب الأربعة مجمعة على أن تطبيق حدود الشريعة الإِسلامية وتفصيلات الشريعة الإِسلامية كالقوانين الجنائية وما إلى ذلك، يجب أن تطبق على كل مواطن في البلاد الإِسلامية بغير استثناء، هذا ما أعلمه، ولذلك أرجو من المجمع أيضًا أن يبين في هذه التفصيلات بيانًا كافيًا شافيًا والله سبحانه وتعالى كما تعلمون، لا شك، يعني الآيات كثيرة وآيات محكمة. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} , {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، ولذلك أرى يا سيدي الرئيس – هذه الكلمات التي قلتها على عجالة وعلى غير استعداد – أرى وأذكر نفسي والأعضاء أن يولوا هذا الموضوع غاية الأهمية، وأن يصدروا فيه قرارًا واضحًا شافيًا يبين لحكام المسلمين الذين لا يطبقون الشريعة الإِسلامية، وكذلك هذا قرار ينتظره كثير من شعوبنا الإِسلامية، ليسمعوا فيه رأي هذا المجمع. والسلام عليكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2887 الدكتور أحمد محمد جمال: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: أرجو أن يعذرني أصحاب الفضيلة، الذين قدموا الأبحاث الثلاثة تحت عنوان يغاير المضمون، العنوان هو (تطبيق الشريعة الإِسلامية) ، تصورت أن المضمون هو أن يطالب المجمع بتطبيق الشريعة الإِسلامية، يطالب الحكام وولاة الأمر، ويدلل على ذلك بالقرآن والسنة، فإذا بالموضوعات الثلاثة، تخلو من هذه الدعوة وهذا الطلب وهذا الوجوب، وإذا بها تبحث أو تطلب أن تقنن الشريعة الإِسلامية، يعني البحث الثالث الذي قدمه سعادة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان يطالب فيه تقريبًا بتقنين الشريعة، بتوضيحها، بإثبات قواعدها للشعوب الإسلامية، لكن التصور الأول كما قلت: إنه المطلوب هو تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد العربية والإِسلامية، لا بد أن يتضمن البحث المقدم للمجمع وجوب التطبيق قرآنًا وسنة، والاستدلال بالآيات القرآنية الواردة في ذلك، والأحاديث النبوية الواردة في ذلك، وأن تذكر معارضات الذين عارضوا في تطبيق الشريعة الإِسلامية في مصر، في السودان، في باكستان، الآن هناك نزاع وصراع كبير في مصر وفي السودان وفي باكستان، حيث بدأت الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإِسلامية في مصر، فقابلها العلمانيون بكتب ومؤلفات ومقالات، وانعقدت ندوات في مصر بين العلمانيين وبين الشرعيين، وكما ذكر الأستاذ عطا، في السودان الآن بدأ بتطبيق الشريعة أجزاء منها في عهد النميري، ثم ألغيت بما سمي قوانين سبتمبر، والآن يلقى المسلمون في السودان أو دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان مقاومة عنيفة من الوثنيين أو غير المسلمين، فأنا ما أتصور أن الأبحاث التي قدمت تخلو من الدعوة إلى إقامة الشريعة الإسلامية، الدعوة كما أوضحها الأستاذ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان – هي دعوة إلى تقنين الشريعة الإِسلامية، إلى تقعيد قواعدها، لكن نحن هنا فهمنا أن المطلوب أو المنتظر بحثه هو دعوة ولاة الأمر في المجتمعات الإِسلامية إلى ضرورة تطبيق الشريعة الإِسلامية، ويجب ألا ننتظر أن تطبق الشريعة الإسلامية على الشعوب، عن طريق الكتب والمؤلفات والمحاضرات والندوات والمجامع، إذا لم يطبق الرأس الشريعة الإِسلامية، لا ننتظر من الأعضاء تطبيق الشريعة الإِسلامية، فإذا كان للمجمع عمل منتظر – كا يرجو الأستاذ عطا في كلمته – إذا كان للمجمع عطاء منتظر، فهو الدعوة الصريحة لحكام المسلمين بتطبيق الشريعة الإِسلامية، والاستدلال على ذلك بالآيات القرآنية التي جاءت في سورة المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فالله عزَّ وجلّ هنا جمع الكفر والظلم والفسق على من لم يحكم بشريعته. وهناك آيات أخرى تعلمونها أيضًا: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، إلى آخر آيات كثيرة لا نحصيها في هذا التعليق الوجيز وأحاديث أخرى أيضًا وآراء للعلماء السابقين واللاحقين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2888 الرئيس: هذه ما فيها آراء يا شيخ. الدكتور أحمد محمد جمال: لا، فيه آراء، أمر … الرئيس: أقول يعني معلومة من الضرورة بالإسلام. الدكتور أحمد محمد جمال: يا سيدي العزيز، لكن هناك معارضات أيضًا وهناك من كبار المفسرين القدامى، يفسرون هذه الآيات على أهل الكتاب، فلذلك أقول آراء معناه اتباع لما جاء في القرآن رأي، ومخالفة لما جاء في القرآن رأي، الإمام الطبري يقول: إن هذه الآيات نزلت في أهل الكتاب أي لا تطبق على المسلمين، وأنا رددت عليه في كتابي "القرآن أحكمت آياته". فهو رأيي طبعًا، أنا أرى أن تطبق الشريعة، غيري يرى ألا تطبق لأنها لا تصلح لهذا الزمن، فرأيي لا بد من رأي عالم يؤيد وعالم يعارض، وهذا الإِمام الطبري يقول: إن هذه الآيات التي في سورة المائدة، إنما هي خطاب لأهل الكتاب، ماذا تقول في هذا؟ إذن فلا تؤاخذني فيما قلت. الرئيس: لا ما في مؤاخذة. الدكتور أحمد محمد جمال: فأرجوكم أنا إنما أردت أن أقول: إن الأبحاث التي قدمت مع – الأسف الشديد – لا تدعو إلى تطبيق الشريعة، إنما تدعو إلى تقنينها وتقعيدها. فأضيف صوتي إلى صوت الأستاذ عطا السيد، بأن هذه القضية قائمة وظاهرة ومحل نزاع وصراع شديدين في المجتمعات الإِسلامية، فلا بد من إعطاء المجمع حكمًا فيها ودعوة إلى ولاة الأمر، وأرجو الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2889 الأمين العام: بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أشكر لأخي الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان عرضه الدقيق الوجيز، وهو دقيق لأنه تناول العناصر وأحاط بها، وهو وجيز لأن الوقت لا يسمح بأكثر من هذا، وأشكر الأستاذ عطا السيد تأكيده على هذا الموضوع، الذي يقتضي منا موقفًا عمليًّا في هذا المجتمع الذي نعيشه، وفي هذه الفترة من حياتنا كأمة إسلامية، وأشكر للأستاذ أحمد جمال على هذه الملاحظات الطيبة، ولكني أدعوه قبل إصدار حكمه على الدراسات أن يقرأها، وهي كما ترون لم تصلنا إلاَّ الآن، وما كنا نتصور أننا سنتحدث عن هذا الموضوع الليلة، كان البرنامج أنه سيعرض بعد غد أو على الأكثر غدًا، فأنا أريد أن أطمئن أستاذنا أحمد جمال، إلى أن القضايا التي أشار إليها جميعها قد بحثناها وتعرضنا لها، وهي موجودة، ذكرنا المراحل التي مرت بها الأمة الإِسلامية، واحتكامها إلى كتاب الله وسنة رسوله، والتزامها بشريعتها، حين كانت الأمة الإِسلامية غير ممزقة بين عقيدة تؤمن بها وشريعة تتحلل منها، ثم رأينا أن نشير إلى التغير الجذري الذي وقع تدريجيًّا في مجتمعاتنا الإِسلامية، بسبب التدخل الأجنبي الذي حكم العالم الإِسلامي، وركز للقوانين الوضعية وجودها، حتى أصبح كل الناس منصرفين عن الشريعة الإِسلامية، ومحتكمين إلى هذه القوانين الوضعية، إلاَّ في مسائل معدودة، ثم ذكرنا هذه الحملة الشنيعة التي نجدها في بيوتنا، في دورنا، في أوطاننا، في كل رقعة من أراضي العالم الإِسلامي، ونجدها في أوروبا وفي أمريكا، وهي متظاهرة مع بعضها، تريد أن تقضي نهائيًّا على الفكر الإِسلامي وعلى التشريع الإِسلامي، على التشريع الإِسلامي في الدولة، وعلى التشريع الإِسلامي في القضايا العامة المدنية والجزائية والأحوال الشخصية وما إليها، هذه الحركة المدبرة كانت تعتمد آراء بعض المستشرقين مرة، وهم يجهلون الفقه الإِسلامي، وتعتمد السياسة التوجيهية الاستعمارية في البلاد الإِسلامية، والتي تدعو إلى التخلص من هذه الأشياء التي تريد باسم الدين أن تحكم كل شيء، وأقام العلمانيون منهجهم على التذكير بالفصل بين الدين والدولة، ويقولون: إن المسيحية تخلصت من هذه الأشياء، وأصبحت تكل إلى الناس ما يعنيهم، وتكل إلى اللاهوت ما يتصل به من عبادة فقط، ولذلك ينبغي أن نكون أحرارًا في حياتنا العملية، لا نخضع لما يأتينا من فوق، فوقع الردّ على كل هذه الاتهامات، وعلى كل هذه الاتجاهات، ووقع بيان خطرها على الإسلام وعلى المجتمع الإِسلامي، والرد على من يتهم الشريعة الإِسلامية بالجمود، وعلى من يتهمها بعدم مسايرة العصر ومواكبة المراحل الحضارية التي نعيشها، فالإطار الذي بحث فيه الموضوع – هو كما تفضلتم – دعوة صريحة إلى تطبيق الشريعة، ونريد من هذا أن ننتهي إلى قرار في الالتزام بأحكام الشريعة، كلنا يعلم بأن البلاد الإِسلامية المتعددة، بعضها يجعل في دستوره، القول بأن الحكم في هذه البلاد يستمد أصوله من الشريعة الإِسلامية، والآخر يقول: نحن نُحَكِّم الشريعة الإِسلامية، لكن في الواقع العملي لا تحكيم ولا استمداد ولا التفات إلى الشريعة الإِسلامية ولا إلى أصولها، فكيف الطريق إلى معالجة هذا؟ أنا أعتقد أن هناك مراحل ومشاكل عديدة، من أولها حالة الفكر عند المسلمين، حالة الفكر في المجتمعات الإِسلامية، الفكر عند الشباب اليوم، الشباب الذي انتزع منا، الذي وقع التغلب عليه بألوان الدعاية، بالجامعات الغربية، بالاتجاهات الفكرية الهدامة، في الحركات الهدامة التي كانت في الماضي هي أقل شرًّا من الحركات الهدامة الموجودة في عصرنا الحاضر. هذا يدعو إلى معالجة الوضع وإلى التنبيه على الأخطاء، لنرد شبابنا إلينا ومجتمعاتنا إلينا، ثم بعد ذلك نوصيهم بالطريق الذي ينبغي أن نسلكه، لتحقيق تطبيق هذه الشريعة، الذي ندعو إليه ونقرره كمجمع، هذه كلمة مختصرة ولعلكم سيدي تستطيعون بوقوفكم على البحث أن تجدوا بعض ما يتطلبه الوضع من عناية بمشاكل معينة. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2890 الشيخ علي التسخيري: بسم الله الرحمن الرحيم. شكرًا سيدي الرئيس. أعتقد أن المتحدثين قبلي نابوا عن قلوبنا جميعًا، وتحدثوا عن شوقنا جميعًا لغد القرآن الحاكم في كل وجودنا الإِسلامي، والموضوع مهم وحبذا لو كنا أخبرنا به من قبل، إذن لصرفنا له كل طاقاتنا وهو أهل لذلك، الموضوع مهم في جوانب كثيرة. هناك موضوع على الصعيد النظري نتحدث فيه عن وضع الأمة الإِسلامية الطبيعي الذي يريده القرآن وخصائص هذه الأمة. وهناك موضوع آخر، وهو دراسة الوضع القائم اليوم في عالمنا الإِسلامي، ومقارنة هذا الوضع بالصورة الإِسلامية الأصيلة، موضوع دراسة الشبهات التي تطرح أمام تطبيق الشريعة الإِسلامية، وادعاء أنها غير قابلة للتطبيق، وأنها إذا طبقت لا تفيد، وقد صرح بذلك بعض من ينتسبون إلى الإسلام كذبًا وزورًا. ثم بعد ذلك هناك موضوع وضع الخطوات العملية الواقعية الصحيحة للسير إلى هذا الغد الأمثل، من مسألة تقديم الشريعة الإِسلامية وعرضها بشكل طبيعي وقانوني قابل للتطبيق، ومنها مسألة التخطيط لتطبيق نظام اقتصادي يتناسب مع الإِسلام، منها مسألة التخطيط لتطبيق النظام الأخلاقي الإِسلامي، هذه أمور تحتاج إلى دراسة يا سيدي الرئيس. وأصل إلى النقطة المهمة: أنا أقترح على ضوء ما قلته من هذه الأمور، وعلى ضوء ما قاله إخوتي وسادتي أقترح، أن نؤجِّل هذا الموضوع إلى العام الآتي لنكتب فيه ويطرح بشكل علمي دقيق، أعلم أننا نحتاج إلى تطبيق الشريعة غدًا، اليوم، الآن. ولكن أعلم أن الأمر كبير يحتاج منا إلى مزيد من الاهتمام، وتخطيط دقيق وقرار حكيم مفيد وليكن مستمرًّا معنا في كل مجمع وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2891 الأمين العام: اسمحوا لي، أريد أن أتدخل، لأبين سبب تحديد أو اقتراح هذا الموضوع الذي وقع إقراره بعد الجلسة الافتتاحية، والذي لم يكن لكم حضرات الإخوان سابق علم به، لماذا؟ كانت الموضوعات كما وصلتكم في المرة الأولى، تشتمل على قضية مهمة جدًّا هي قضية " الأسواق المالية " وكنا نظن أننا نستطيع أن نعقد الندوة الممهدة لدراسة الأسواق المالية، حتى تكونَ النتائج واضحة كما فعلنا بالنسبة لندوة " سندات المقارضة " التي أفدنا منها، حين اجتمعنا في الدورة السابقة، فلما تعطل هذا الموضوع، ونحن قد قررنا عشرة موضوعات، كانت هناك القضية التي يتحدث عنها الناس كلهم، وكانت الصحافة كما تفضل الأستاذ أحمد، في كل بلد حتى في السعودية في صحيفة الشرق الأوسط، تطالعنا من يوم إلى آخر، بما يكتبه العلمانيون وبما يرد به له كثير من الإخوان العلماء الملتزمين من المسلمين على هؤلاء العلمانيين، والقضية الأساسية هي قضية الشريعة، فأردنا أن نطرح هذه الفكرة، وأن نتخذ فيها قرارًا لا ينبغي أن يكون منفصلًا، وهو يقرر مبدأ، ولكن ليس معنى هذا أن الموضوع مقصور على هذه الدورة، ونحن في الدورات القادمة لا بد أن نعني بهذا الموضوع عناية كاملة، وعندما تتوافر الدراسات لا ينبغي – في اعتقادي – أن تكون الدراسات نقولًا، ولا اعتمادًا على كثير مما نؤمن به نحن من مسلمين وملتزمين، والقضية هي إقناع الضالين من إخواننا، وهدايتهم إلى الحقِّ، والقضية هي صرف هؤلاء الإخوان عن تهجمات وهيمنة التفكير العلماني الغربي، الذي يكاد يفصلهم عن مجتمعاتهم، ويجعلهم غرباء في ديارهم، أو يجعلنا نحن غرباء معهم في ديارنا، هذه هي القضية، ولذلك فإننا في كل دورةٍ – بإذن الله – يمكن أن نأخذ جانبًا من جوانب هذا الموضوع الهام، الذي يتصل بعقيدتنا وبكياننا وبحياتنا وبمعاملاتنا، وكما تفضل الأستاذ الدكتور عطا: الموضوعات التي نطرحها لماذا؟ لنعرف حكم الله في هذه القضية، وعندئذٍ فنحن نبحث عن تطبيق الشريعة في القضايا المستجدة، فلأن نكون مؤمنين بهذه القاعدة وهي تطبيق الشريعة الإِسلامية – والدعوة لها من باب أولى. وشكرًا لكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2892 الشيخ وهبة الزحيلي: بسم الله الرحمن الرحيم. الحقيقة كنت سأبادر إلى التحدث بما تحدث به فضيلة الأمين العام، فلا يصح بحال من الأحوال، أن نجعل هذا الموضوع مجال تأجيل على الأقل من حيث المبدأ، فتطبيق الشريعة أمر معروف وواجب وفرض، وأمر مقرر بداهة، ومن الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، فحينئذٍ ينبغي أن يكون لنا الآن صرخة واضحة وعالية ومدوية، لكل هذه الدول التي تنتسب إلى الإسلام دينًا وحكمًا وشرعًا، وإن قصرت في تطبيق أحكامه، ثم هناك رسائل التطبيق، فهناك لا بدّ أن يبحث هذا الموضوع من النواحي المختلفة في الإسلام والجوانب الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والجوانب التشريعية، فكلنا عندما نجادل الحكام في هذا الموضوع، يدّعون أين نظامكم الاقتصادي؟ أين نظامكم الاجتماعي؟ أين التقنين؟ التقنين الذي إلى الآن لم تقتنع بعض الدول العربية أو الإِسلامية، بضرورة تقديم بضاعة جاهزة، ومشروع كامل للقوانين المدنية والجنائية، في صورة ميسرة ومعبدة الطريق لتأخذ سبيلها إلى التطبيق، هم يتذرعون بهذه الذرائع الواهية لا شك، ولكن ينبغي أن نقطع دابر الاحتجاج بمثل هذه الذرائع … هذا شيء. الشيء الآخر طبعًا أرجو ألا يكون هذا الموضوع فيه إثارة حساسية، فهناك دول في هذه المنظمة ودول في هذا المجمع منبثقة من منظمةالمؤتمر الإِسلامي، لا أجد دولة من هذه الدول تقول بمبدأ الإِلحاد، فهناك فرق بين الإِلحاد والعلمانية، فالعلمانية هي مبدأ فصل الدين عن الدولة، أما الإِلحاد فلا أجد دولة لا عربية ولا إِسلامية تجاهر بمبدأ الإِلحاد، وإلا وَجَب شرعًا وجوبًا قاطعًا على أهل ذلك البلد أن يقتلعوا حاكم تلك الدولة من جذوره، إلاَّ أن يكون كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه نور وحجة وبرهان، فهناك أرجو ألا يثير هذا الموضوع حساسية، فلا نقرن الإِلحاد بالعلمنة، فهناك فرق، الشيء الذي أقترحه: أنه منذ عشر سنوات دعينا إلى جامعة الإِمام محمد بن سعود، وطرح هذا الموضوع طرحًا، وعرضت فيه دراسات وافية، واليوم منذ شهرين جدد الطلب في العام القادم في ربيع الآخر سيكون الموضوع، وقد وزع على مختلف العلماء في البلاد الإِسلامية لبحث موضوع "تطبيق الشريعة" من مختلف جوانبه، فأرجو من السادة القائمين على المجمع، أن يكون بينهم وبين جامعة الإِمام محمد بن سعود تنسيق في هذا الموضوع، لأن اليد يجب أن تتعاون مع الأيدي الأخرى، فلا نحن نصرخ في وادٍ وغيرنا في واد وكلها جهود جزئية مبعثرة – يجب أن تكون دائمًا – أثبتت الأحداث فشل المواجهات أو الجمعيات أو التكتلات الإسلامية، بسبب تفرقها وعدم إعلان كلمة واحدة لها أمام الدول. وعندما يكون القرار نابعًا من الجامعات الإِسلامية، والمجامع الفقهية والمسلمين قاطبة، عندئذٍ لا بدَّ أن يفكر الحاكم بأن هناك قوة هائلة ينبغي أن يذعن لها يومًا ما، فالمطالبة ينبغي أن تنظم وتنسق، ويكون هناك دور بيننا وبين جامعة الإِمام محمد بن سعود، في الواقع دراسات عظيمة ومخطط لها من الآن تخطيط رائع، ينبغي أن تنسق هذه الجهود، ويكون للمجمع دور فيها وتطبع حينئذٍ هذه البحوث بشكل موحد بين الجامعة وبين المجمع. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2893 الدكتور إبراهيم الغويل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. هناك ثلاثة جوانب في هذه القضية يجب أن نفرق بينها. الأول: أن موضوع " تطبيق الشريعة الإسلامية " وهو موضوع كما قال أخي الشيخ عطا الله والشيخ علي التسخيري، لو علمنا به – ولكن السيد معالي الأمين العام أوضح السبب – لكان الجميع قد اهتم به لأننا نعتبر أنه نقطة الأساس في هذا المجمع، والاهتمام به كان سيمكن من دراسات معمَّقة لمشاكل عملية واجهناها، فقد كان – من فضل الله علي – أن قضيت خمس سنوات في اللجنة العليا لتقنين الشريعة الإِسلامية في بلدي، وواجهتنا مشكلات التقنين، سواء في المجال الجنائي والحدود وما يتعلق بها، ومراجعة القانون المدني على ضوء الشريعة الإِسلامية ومراجعة القانون التجاري على ضوء الشريعة الإِسلامية وقانون المصارف الذي أشير إليه، فلم يفت فيه أحد بأن للدولة أن تعمل، إنما كان الأمر أمر التدرج في التطبيق، فمنع على مجال الأفراد والشركات الخاصة، ولكن بحكم العلاقات المعينة التي كانت تربط الدول الإسلامية، في ظل النظام العالمي الذي يفرض هيمنته عليها أرجئ هذا الأمر، ولكن لم يقل أحد بحليته، وأطمئن أخي الدكتور وهبة الزحيلي على ذلك لأنني عضو هذه اللجنة العليا، وأعرف ما دار فيها جيدًا، وفيما يتعلق بالربا، هذا جانب، ولا زلت أكرر أنه فعلًا قد لا نقول بالإِرجاء، ولكن يجب أن نقول بالاستمرار، الاستمرار في بحث هذا الموضوع، وأن يكون موضوعًا أساسيًّا للدعوة، الأمر الآخر يتعلق بما قدم من بحوث، قطعًا سيستغرب معالي الأمين العام أن أقول له أني اطلعت على بحثه، ولديَّ ملاحظات عديدة، طبعًا هو جهد، ومعالي الأمين العام ليس في مكان أن يثني عليه، ولكني كنت أتمنى أن يتم التوقف أمام كثير من الأفكار التي وردت في هذا البحث، فالتفرقة بين الشريعة والفقه، لا أعتقد أنه يمكن أن ينظر إليها بالصورة التي رأى بها معالي الأمين العام، وكأنها إحدى المحاولات للهجوم على الشريعة، فشريعة الله وما شَرَع الله من دين غير ما فهمه واستنبطه الفقهاء: باختلاف الزمان والمكان والظروف، المذهبية أيضًا والنظر إليها، لا يمكن أن ينظر إليه والقول بالموقف من المذهبية، أمر لا يمكن أن ينظر إليه بالصورة التي نظر إليها معالي الأمين العام، والأمر يحتاج إلى تفسير وتوسيع ومناقشات موسعة حول هذه القضايا، أيضًا النظر بالنسبة للعَلْمانية: للأسف ساد في العالم الإِسلامي تفسير العَلْمانِيّة، وذهب كثير من الناس إلى استعمال كلمة "العَلْمانِيّة": وهي في الواقع آتية من الاهتمام بهذا العالم فسميت العَلْمانِية وأراد الذين سموها أن يتلاعبوا بقربهم من كلمة العلمانية: يظن الناس أنها عِلمانية وأنها متصلة بالعالم، أصل كلمة "العلمانية" في الغرب هي "سيكيوار" (الآن وهذا العالم) ، وتهدف بالأصل إلى مواجهة ما كان في الرهبنة من الالتفات عن العالم الذي يعيشه الناس، ونفي التقديس عن مظاهر الطبيعة، أي اعتبار مظاهر الطبيعة مسخَّرة وليست هي عفاريت وجن وما إليها، ونفي القداسة أو العصمة على الأفراد الذين كانوا يدعونها في الحكم، وهي قد وصلت إلى الغرب من عين الحضارة الإِسلامية، ولكنهم ولم يؤمنوا بأنه "لا إله إلا الله" أرادوا أن يؤسسوها على (الاهتمام بالعالم والآن) فالعَلْمانية في أساسها وفي جذورها هي نبع الفكر الإِسلامي، ولكنها بحكم عدم اتصالها بكلمة "لا إله إلا الله" جرت، وحينما جاءت إلى الوطن العربي أراد من جاؤوا بها عن جهل – كما فعلوا في قضايا كثيرة – أن يربطوها بالعلم ويربطوها بمناقشة الدين، ولم يعرفوا أن الإسلام في حقيقته يؤكد أن للمسلمين حتى في دعائهم أن يقولوا: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2894 الرئيس: ممكن يا شيخ إبراهيم تذكر لنا سلفك في هذا التفسير للعلمانية من أهل العلم. الدكتور إبراهيم الغويل: في كتاب هارفي عن العلمانية. الرئيس: لا لا، أنا أقول من أهل العلم في الإسلام، من المسلمين. الدكتور إبراهيم الغويل: سيدي، أنا قلت لك: إنه حينما نقل الذين بشروا بالعَلْمانية إلى هذه الكلمة، اختاروا لها هذه التسمية، لكي يحدثوا التباسًا، وأرادوا أن يفسروها تفسيرات مخالفة. الرئيس: المهم الاصطلاح. المعنى المراد من هذا الاصطلاح على أرض العالم الإِسلامي. الدكتور إبراهيم الغويل: في العالم الإِسلامي في الوطن العربي حقيقة … الرئيس: هل يراد أنها ترادف كلمة إسلام؟ الدكتور إبراهيم الغويل: ولكن سبيل تجهيل الناس أن يبين لهم: أنهم حينما نقلوا عن هذا الفكر لم يعرفوا مصادره. الرئيس: لا، لا ما نستطيع يا شيخ إبراهيم. نحن نعني في أقل الأحوال أن العرف يقضي بالاصطلاح، هذا أقل الأحوال وأضعفها، فأصبح لفظ علمانية، تعني فصل العلم عن الدين، هؤلاء أولاد المسلمين في المدارس يعرفون هذا وينابذونه ولله الحمد، ولا زال في المسلمين خير إلى يومنا هذا. الدكتور إبراهيم الغويل: على العموم – سيدي – إذا أردتم أن تصطلحوا عليها بهذا الاصطلاح … الرئيس: لا، ما اصطلحنا عليها. أبدًا. الأمين العام: يا سيدي، أنا في حديثي قد ذكرت شخصًا ولا أريد … الدكتور إبراهيم الغويل: هذه النقطة التي كنت أريد … الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2895 الأمين العام: لحظة. قد ذكرت شخصًا هو الداعية الأكبر للعلمنة على حد تعبيره، وقد ناقشه المسلمون في كل مكان، وظل شره مستطيرًا في كثير من البلاد العربية والجامعات الإِسلامية – أي القائمة في بلاد الإسلام – يدعو فيها صراحة إلى نبذ القرآن والتشكيك فيه. الدكتور إبراهيم الغويل: معالي الأمين العام، أنا … الأمين العام: سامحني، أكمل جملتي. فهذا الرجل في كتابته وهو فرنسي عربي. الدكتور إبراهيم الغويل: أنا، جايه، جايه. هذا الرجل. الأمين العام: هذا الرجل الفرنسي العربي، هو الذي جعلت موضوع النقاش بيني وبينه، تعرض للعلمانية ففسرها بهذه التفاسير، فنحن نأخذ الكفر عن الكافر بمقولته، ونحدده على الصورة التي يريد أن يشيعها في الناس. نحن لا نريد أن نلتمس له حجة نقول بها إن الإسلام فيه علمنة، هو ذهب يدعو إلى أن القرآن فيه عَلْمَنة. الدكتور إبراهيم الغويل: هذا الرجل أكثر من ذلك، هذا الرجل تبنى فكرة اللغة الميتية "الميتزم" الخرافية، واعتبر أنه يفسر بها كلمات القرآن، هذا الرجل بدأت قصته قبل أن يتولى هذا الموضع الأخير، حينما بدأ أول كتاب حول مفهوم … وهو أمر يسود للأسف في الجامعات الإِسلامية وردده بعض علماء اللغة، علماء الاجتماع، والتفسيرات الاجتماعية للدين، فتبين مفهوم "الميتزم" أو مفهوم "الخرافة" في تتبع الألفاظ القرآنية. الأمين العام: موجود في البحث. الدكتور إبراهيم الغويل: وهذا الرجل بهذه القضية وأمثاله خطيرون، ولكن القضية أنا أتصور أن يحدد لها – كما أشار الشيخ على التسخيري – أن هناك عدة مجالات في قضية تطبيق الشريعة الإِسلامية، في مجال الفكرة والتمهيد الكفري، وخطورة الذين يتبنون أفكارًا محددةً، وأنتم أشرتم إلى الذين يتبنون آراء (فرويد) ، و (داروين) والذين يتبنون آراء (ماركس) ورؤى كثيرة في التاريخ، وفي الاجتماع وفي النفس، وأن يحدد لها جانبًا فيما يتعلق بالتشريعات، وأن يحدد لها جانبًا فيما يتعلق بجوانب مناهج التعليم والإطار العام للتعليم، فالقضية ضخمة وتحاج إلى مزيد … أنا هذا الذي أقوله، ولكن فيه بعض النقاط تحتاج إلى وقفات يصحح فيها بعضنا البعض، والله يهدينا إلى سبيل الرشاد. وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2896 الدكتور عمر سليمان الأشقر: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أقترح على المجمع الكريم أن يجعل هذا الموضوع في دورة كاملة. هذا الموضوع جدير أن يعطى وقتًا أكثر من الإِيجار المنتهي بالتمليك، ومن تحديد النسل وما أشبهه من موضوعات، وهذه الدعوة نابعة من رؤية فأنا قد قمت بدراسة فترة طويلة من الزمان، لأتتبع جذور هذا الموضوع، فتتبعت جذور القوانين الوضعية في الديار الإِسلامية قديمًا، منذ التتار وما قبل التتار، ثم وصلت إلى العصر – القرن الأخير – الذي ألغيت فيه الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، الذي هو بمثابة القانون الذي يحكم الديار الإِسلامية، وقد رأيت المؤامرة الكبرى من خلال التتبع لاستئصال المسلمين واستئصال دين المسلمين، نحن في سنة 1988م، في سنة 1888م ألغيت الشريعة الإِسلامية في مصر الإلغاء الأول كان في سنة 1882م بعد دخول الإنجليز، ثم بعد أن طبقت جزئيًّا ألغيت كليًّا وثار الشعب المسلم في تلك الديار، ولكن السلطات والقوة أخضعت المسلمين لحكم الطاغوت، في سنة 1923م قبل خمس وستين سنة ألغيت الشريعة الإسلامية في تركيا، وزال سلطان الإِسلام، وألغيت الحروف العربية، وألزم المسلمون بأن يضعوا (البرنيطة) فوق رؤوسهم، مآسي في هذه القضية أعلمها، عندما اجتمع وزير الخارجية التركي والوفد التركي بوزير الخارجية البريطاني في المفاوضات، كان أحد الشروط الرئيسية أن تلغوا الشريعة الإِسلامية، والقانون الإِسلامي، والخلافة الإِسلامية، ثم تتابع المسلسل في البلاد العربية التي كانت تخضع للشريعة الإِسلامية، لا أريد أن أستطرد في هذا، ثم تبينت المخطط الذي وضعه الكفار لإلغاء الشريعة، وقد تبين لي هذا المخطط، ودرست أبعاده، وكان يمثل إحدى عشرة خطوة بينتها في كتابي "الشريعة الإلهية" وليس هناك مجال لتفصيل هذه القضايا، لكن أرى أن هذا الموضوع، إما أن تخصص له دورة كاملة وإما كما اقترح بعض الإخوة، أن يجعل له مخطط متكامل، وفي كل دورة من الدورات يطرح موضوع أو يطرح موضوعان، فنستكمل على مدى الدورات القادمة، نستكمل خطوط هذا الموضوع، وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2897 الشيخ إبراهيم زيد الكيلاني: بسم الله الرحمن الرحيم. أحب أن أعلق أولًا على كلمة " العِلْمانية " أو "العَلْمانية" كما رآها الأخ الكريم، وأقول: إنها تؤدي إلى الإلحاد وتقضي إليه وتشترك معه في أمور كثيرة، من أخطرها إبعاد الدين كليًّا عن الحياة، عن التوجيه وعن التربية والتعليم، العَلْمانية تعني حياد الدولة، إنها ليست مع الدين وليست ضد الدين، فليس لأحد أن يقول: "إنني أريد أن أضع المناهج في التربية والتعليم على أسس إسلامية، وليس لأحد أن يقول: إنني أريد أن أعمق فكرة الإِيمان بالله واليوم الآخر في مؤسسات الدولة أو في المؤسسات الإِعلامية، لأن حياد الدولة يقتضي ألا تتدخل في أمر الدين، هذا الذي تمشي عليه الدول الغربية، وتمشي عليه الدول العربية، التي اتخذت العلمنة طريقًا لها، وأذكر على سبيل المثال أنه كان بيننا في الأردن، وبين دولة عربية شقيقة، صار خطوة لتوحيد المناهج، في فلسفة التربية والتعليم في الأردن العبارة التالية: "تنبثق فلسفة التربية والتعليم من الإِيمان بالله والقيم العليا للأمة العربية" فيها هذه العبارة، من وحي هذه العبارة مؤلف كتاب الطبيعيات للصفوف الابتدائية – كتب وأذكر للصف الرابع الابتدائي – خلق الله السمكة، خلق الله الشجرة، فقال له المؤلف العَلْماني أو العِلْماني: نحن لا توجد عندنا فكرة "الله" نحن لا نوافق أن نضع "خلق الله" قال له: يا أخي أنا فلسفة التربية عندي تقول: "خلق الله" قال: لا نحن لا نوافق عليها يجب أن تحذفها فصارت مشادة ومصارعة انتهت بأن بُني الفعل للمجهول، فقالوا: "خُلِقَتْ السمكة، وخلقتْ الشجرة" فالذين يدافعون عن العَلْمانية ويقولون: لا، ليست هي إلحادًا، هي تفضي إلى الإِلحاد وهي مظلة للإِلحاد، وهي مظلة للكفر وهي كفرٌ وضلال انتشرت في بلاد المسلمين تدريجيًّا لإِبعاد الإسلام عن الحياة، أحب أن أشير إلى نقطة ثانية: إلى دور كليات الحقوق في البلاد العربية والإِسلامية في العلمنة، وفي إبعاد الشريعة الإِسلامية عن الحياة، وما تتلقاه من مساعدات من الدول الغربية، القانون الفرنسي، والقانون السكسوني، كل كلية حقوق: هذا مختص في السكسوني، هذا مختص في الفرنسي، ويجدون دعمًا ومساعدات سخية لأجل تقويتها حتى لا تتصل الشريعة الإِسلامية وتعود إلى الحياة. النقطة الثالثة: التي أحب أن أشير إليها – وقد أشار إليها الأخ الأستاذ إبراهيم – أن تطبيق الشريعة أوسع من التطبيق القانوني، هو إعداد للأمة لتستقبل شريعة الله وتطبيقها بتسليم كما قال الله تعالى في كتابه الكريم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فتطبيق الشريعة الإِسلامية في باكستان، تطبيق الشريعة الإِسلامية في السودان، كان من الذين عارضوه المستغربون الذين تلقوا الدراسة في جامعات الغرب، وعشقوا مناهجه ومذاهبه، وما زالوا يعارضونه – الشريعة الإِسلامية التي كانت مطبقة في كثير من البلاد العربية من الذي حاربها؟ ومن الذي يحاربها؟ أبناء البلد العلمانيون الذين تربوا على أن العلمانية طريق الحياة، ولذلك إذا أردنا أن نعيد الشريعة الإِسلامية فلا بد أن نبدأ بالمناهج، بالكتب والتعليم، بالإِعلام لإِعداد الأمة إعدادًا يستقبل شريعة الله ويقتنع بها، وعلى سبيل المثال أذكر أنه عندما طبقت الشريعة الإِسلامية في السودان، تخصصت إذاعة لندن بمحاربتها وبرصدها، ويعرف إخواننا السودانيون ضغوط الدول الكبرى لإِبعادها، عندما أرادت سوريا أن تجعل قانونًا مدنيًّا مستمدًا من الفقه الإِسلامي بديلًا عن المجلة، كان انقلاب حسني الزعيم – الذي كما تعلمون وكما اعترفت أمريكا نفسها بأنه انقلاب أمريكي – الذي كان أول خطواته أو الخطوة الوحيدة التي عملها، أن ألغى خطوة تطبيق قانون مدني إسلامي، أو تشكيل لجنة لوضع قانون مدني مستمد من الفقه الإِسلامي، واستمدوا قانون مصر الفرنسي، مع العلم كان في تطبيقه طفرة هائلة لا يقبلها أهل القانون، ولكنهم وضعوه وطبقوه، ثم جاؤوا ليطبقوه في الأردن، وفي يوم وليلة: مجلس النواب الأردني أقر القانون السوري،. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2898 وعندما أرسلوه إلى مجلس النواب نقلوه نقلًا حرفيًّا ونسوا أن يحذفوا العبارة الأخيرة "وهو صدر عن قصرنا الجمهوري" فكان للعلماء دور هنا، كان للعلماء دور مجيد فعلًا، واستطاعوا أن يبعثوا في الشعب روح الإِيمان وروح الإِسلام، وطالبوا الحكومة، واستجاب ملك البلاد لهذه الرغبة، وأمر بتشكيل لجنة لوضع قانون مدني مستمد من الفقه الإِسلامي، وفعلًا وضع هذا القانون وطبق – والحمد لله – في الأردن، وعندما أرادت جامعة الدول العربية أن تضع قانونًا مدنيًّا عربيًّا مُوَحدًا للدول العربية، وجدوا في القانون المدني الأردني أساسًا وقاعدة ليمشوا عليها، وساروا واستطاعوا أن يؤصلوا هذا القانون ويضعوا النظرية العامة للالتزامات، ثم يؤصلونه، والأستاذ الكريم محمد ميكو الأمين العام لوزراء العدل العرب، من خير الأعضاء الذين يعون هذه المسألة ويواكبونها وهو أعرف بالمشكلات التي يجدها من العلمانيين، الذين يقفون في وجه الاستمرار في هذا العمل. ولذلك أرى أن نعرف الجهود التي قطعناها في السبيل وأن نعرف كيف ندعم بعضنا بعضًا. القانون المدني المصري الذي وضعه السنهوري مستمد من القانون الفرنسي وبعض القوانين الأجنبية، شرحه شرحًا وأصبح مسيطرًا في أكثر المنطقة العربية، بينما القانون المدني المستمد من الفقه الإِسلامي، حتى الآن لم يجد الشروح الواسعة، وكما ذكر الإِخوان مصادر الفقه الإِسلامي يصعب على كثير من القانونيين أن يرجعوا إليها، فلا بد من تيسيرها وتذليلها، ولكن ليس هذا الذي يعيق تطبيق الشريعة، الذي يعيق تطبيق الشريعة هي القوى العلمانية والماسونية والغربية، في بلاد المسلمين التي ترصد كل حركة تريد تطبيق الشريعة الإِسلامية وتحاول لتجهضها بالسرعة الممكنة وتنفر الناس منها، ومن هنا أرى أن تتكاتف الجهود لبعث الشريعة الإِسلامية، وأن يكون كل عالم في بلده داعية إلى الله تبارك وتعالى، يعتبر نفسه جنديًّا من جنود الإِسلام، قبل أن يعتبر نفسه موظفًا يقبض الراتب، ويقف لتطبيق الشريعة الإِسلامية في بلده، والله سبحانه وتعالى قد أخذ العهد على العلماء أن يكونوا أنصار دينه وأن يكونوا المدافعين عن تطبيق شريعته، من الأشياء التي تعيق تطبيق الشريعة، وقد وجدت عقبات كثيرة في باكستان – كما أذكر – التعصب – المذهبي، ولذلك البعد عن التعصب المذهبي والاتصال بفقه الكتاب والسنة والمذاهب الإِسلامية، الثانية: مواكبة تطور الزمن وفهم الأحداث، وأهم الأمور: العزيمة الصادقة عند الشعوب، بإقناعها ودعوتها للقيام بواجبها، والعزيمة الصادقة عند الحكام، وأحب قبل ذلك – يحسن ونحن ندعو إلى تطبيق الشريعة – أن نرصد ونعرف القوى الكبرى التي تخشى من تطبيقها وأن نحاول جهدنا لنعمل على مواجهتها، وإقناع الناس بها، وتحقيق أهدافنا بحكمة وقوة وإقناع، والله المستعان، وشكرًا للأستاذ الكريم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2899 الشيخ مصطفى العرجاوي: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وجميع العلماء الأفاضل ما عدا الزميل الأستاذ الدكتور عمر الأشقر، وأستاذنا الفاضل الدكتور إبراهيم الكيلاني، تكلم الجميع في الفروع، ما عداهما تكلما عن بعض جذور المشكلة، ما أصل المشكلة؟ أصل المشكلة يحلها ما نحن فيه الآن، عندما أراد أحد الحكام وضع قانون معين يحكم العلاقات التجارية، وهو بالتحديد محمد علي في مصر، طلب من العلماء أن يضعوا هذا القانون، فاحتكموا إلى المذهبية، هذا يريده مالكيًّا وأخر شافعيًّا وآخر حنفيًَّا وأخر حنبليًّا، فماذا صنع؟ جاء بالقانون كما هو من الغرب، وقال نضعه بصفة مؤقتة – في عام 1830م – إلى أن تتفقوا على رأي، ثم بعد ذلك نطبق الشريعة الإِسلامية، وهذه هي البذرة الأولى لتطبيق النظم الغربية كاملة شاملة، الميلاد غير المشروع للقوانين الغربية في البلاد الإِسلامية، بداية جذور المشكلة المذهبية، عندما تقول لي هذا حرام ما هو الرد؟ أقول لك: أين الحلال؟ أعطني حلًّا، أريد حلًّا، معاملات الناس وحياة الناس لن تنتظر، والأحكام الشرعية مبثوثة وموزعة وتحتاج إلى تجميع، خصوصًا في نطاق المعاملات، والأمور الخلافية، إذا تم وضعها في نظام قانوني معتمد لرأي معين صارت مقرة ومطبقة، ثم بعد ذلك جذور المشكلة، بدأت بهذا القانون، ثم أخذت القوانين الأخرى تتسلل شيئًا فشيئًا، لماذا؟ أيضًا بسبب المذهبية، ومن الذي يقول أن الشريعة الإِسلامية في حاجة الآن إلى إعادة نظر فيها، لوضع قوانين ولوضع كذا أو كذا؟ القوانين موجودة والذين تحدثوا عن القانون الفرنسي، وقالوا إن القانون المدني الفرنسي هو قانون فرنسي، لو دققوا وراجعوا لوجدوا أن جذور هذا القانون مأخوذة من أين؟ مأخوذة من إسبانيا أي بلاد الأندلس، من بلاد الأندلس وبلاد الأندلس ماذا كان فيها؟ كان فيها الفقه المالكي، ولذلك بعض نصوص القانون المدني بدراسة وتحليل وتدقيق فيها نفس العبارات الموجودة في كتب الفقه المالكي، وكلها لا تتعارض مع الشريعة الإِسلامية في المعاملات، إلاَّ في باب الربا، وبعض الأبواب الأخرى المتعلقة بالمقامرة، وبعض الشروط الفاسدة، لو رفعنا هذا الفساد من داخل القانون لكان كما هو، كذلك أيضًا في مصر، الشريعة الإِسلامية منصوص عليها أنها المصدر الرئيسي للتشريع، واجتمع العلماء وبحثوا ودققوا، بل إن الكليات تطورت، صارت كلية الشريعة والقانون، بهدف ماذا؟ بهدف تطبيق الشريعة الإِسلامية، واكتمل القانون بصورة تامة، وذهب إلى مجلس الشعب ثم نام نومة كبرى، لكنه في الواقع موجود، القانون موجود، القانون الإِسلامي موجود، وكذلك أيضًا القانون الجنائي الموجود الآن، إذا طبقنا الحدود والقصاص ورفعنا ما يناقضهما، باقي العقوبات تعد تعازير، ما هو التعزير؟ التعزير عقوبة غير مقدرة شرعًا، متروكة للإِمام أو للمجتهدين، ثم بعد ذلك تصاغ وتوضع، فليست هناك مشكلة، المشكلة هي أن أولياء الأمور يخشون الحاكمية يخشون ماذا؟ إذا نجحت الشريعة الإِسلامية في الاقتصاد، ونجحت في المعاملات المالية، ونجحت في الجنايات، إذًا لا بد أن تطبق في الحكم، لماذا؟ - لأننا – أفنؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض؟ {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} ؟. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2900 ولذلك تسعون في المائة من المشاكل التي طرحت علينا والموضوعات التي طرحت علينا، موضوعات غربية جاءتنا مستوردة، بعض الأفكار المستوردة، ونريد حلًّا، كأن الإسلام دين تبرير لا دين تدبير، هل الإسلام دين تبرير؟ يبرر؟ تأتينا المسائل لنبررها؟ نحلها أو نحرمها؟ نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، فأساس المشكلة – سيدي الرئيس – الأساس الأساس، هو عدم وجود هيئة علمية تعطي رأيًّا واضحًا وحكمًا واضحًا في قضية معينة، وكثرة الفتاوى الفردية التي في بعض الأحيان تعتمد بعض الآراء الداخلية، لكن الشريعة موجودة، بها القوانين ومنصوص عليها، في الدستور المصري: الشريعة الإِسلامية المصدر الرئيسي، قالوا: مصدر رئيسي، فاعترضنا قلنا: إنها كلمة ربما تكون أحد المصادر فوضعت لها الألف واللام "المصدر الرئيسي للتشريع" والآن محظور حظرًا تامًّا صدور أي قانون يخالف الدستور، لماذا؟ لأن بمعيارهم الدستور هو سيد القوانين، والدستور لا يلغى إلاَّ بدستور، إذن الشريعة الإِسلامية موجودة ولكنها معطلة. قانونها يحتاج فقط إلى العرض على مجلس الأمة، ليطبق، لكنه موجود، وشارك فيه كثيرٌ من العلماء ومواده القانونية موجودة، ومن الممكن أن نأتي بنسخة نعطيها إياكم … موجود القانون … القانون الإِسلامي موجود، وكذلك أيضًا في العقوبات، موجود القانون الإِسلامي لا يحتاج منا إلى شيء، أما أن نقول نعد الأمة الإِسلامية لاستقبال الإِسلام، هذا مستحيل، إنها فطرة الله، كيف نعدهم؟ أنمشي على هواهم؟ هذه مشكلة كبرى، يجب علينا أن نضع القواعد والقوانين، وجاء الإسلام ليحكم لا ليحكم عليه، وجاء ليسود لا يحكم عليه ولا يتحكم فيه، فهذه هي لب المشكلة، لب المشكلة وجذور المشكلة أن القوانين الغربية جاءت لماذا؟ لأن العلماء تمسكوا بمذاهبهم ولأن بعضهم لم يحاول أن يجتمع مع أخيه ويعطي رأيا مأخوذًا من روح الشريعة الإِسلامية، ومرحلة ثانية – يا سيدي – المرحلة الثانية الاستشراق: بدأ المستشرقون يشككون فكشفناهم، فماذا صنعوا؟ أخذوا من بيننا بعض الأفراد أنفقوا عليهم، لمعوهم وأظهروهم وملؤوا رؤوسهم بأفكارهم الخبيثة، فصاروا يطعنون على الشريعة، ويبحثون عن كل أمر فيه شذوذ، ويحاولون خلق الفتنة وعندما يظهر رأي غير شرعي تحتاج إلى الرد عليه، كيف ترد عليه إذا كانت وسائل الإِعلام في يد العلمانيين، وإذا كانت الصحف في أيدي من أغلبهم علمانيون؟ فماذا تصنع؟ كيف تُبَلَّغُ كلمتك للمسلمين؟ كيف تقول كلمة الحق؟ لأن العلماني بيده وسائل وبيده طرق، لذلك الشريعة الإِسلامية لا يمكن أن تؤجل، بل ينبغي علينا أن نحث جميع المسلمين وجميع حكام المسلمين أن يخرجوها، فهي موجودة، نصوصها موجودة وبحثت، يكفي أن القانون المدني في مصر أخذ سنوات حتى تم استقاؤه من الشريعة الإِسلامية، وكان ينبغي أن يصدق عليه، ولكنه لم يصدق عليه حتى الآن، لماذا؟ لا ندري! وعندما قال رئيس مجلس الشعب واكتفى: "إن القانون غير موجود"، احتجوا عليه. فقال: لم أعلم، فإذا كان رئيس المجلس لا يعلم. ما نقول وقد علم. فماذا تم لا شيء. لأني كما قلت لكم القضية منذ البداية نية مبيتة بعدم تطبيق الشريعة الإِسلامية، وما لا يدرك كله لا يترك جُلُّه، فعلى قدر الاستطاعة نطبق ما نستطيع، وشكرًا جزيلًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2901 الشيخ يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم. شَكَرَ الله للإخوة الكرام والأخ الأستاذ مصطفى. أحببت أن أوضح بعض النقاط. من هذه النقاط: ما قيل من أن العلماء طلب إليهم أن يضعوا قانونًا مستمدًا من الشريعة الإِسلامية، فاختلفوا ولم يضعوا هذا القانون. هذا أمر ذكره المرحوم الشهيد عبد القادر عودة في رسالةٍٍ له اسمها " الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه"ولكن بالتتبع والبحث والاستقراء لم يوجد لهذا أي مصدر. أوَّلًا قيل: إنه في عهد محمد علي، والمعروف أن عهد محمد علي كانت فيه الشريعة الإِسلامية تطبق، الشريعة الإِسلامية ظلَّت في مصر تطبق إلى عهد إسماعيل، فالقضية تنسب إلى إسماعيل، هذه القضية، الحقيقة بعد التتبع لم يوجد لها إلاَّ مصدر واحد، هو أن العلامة الشيخ رشيد رضا – رحمه الله – ذكر أنه كان قد قال له رافع ابن الشيخ رفاعة الطهطاوي، إن الخديوي إسماعيل ذكر له أنه طلب من بعض العلماء أن يجتمعوا ليضعوا قانونًا ولكنهم اختلفوا، هذا هو المصدر الوحيد لهذه القضية، يعني مصدر إذا نظرنا في سنده أو نظرنا في دلالته لا نعرف هل هذا صحيح؟ لأن الكلام كله منسوب إلى إسماعيل بهذا السند، وهل إسماعيل كان جادًّا حقيقة؟ وكيف طلب منهم؟ هل طلب واحدًا منهم أو اثنين؟ ولذلك لا ينبغي أن ننسب إلى علمائنا هذه القضية الكبيرة، بهذه السهولة دون أن توثق التوثيق الكافي، ولو صح أنهم أرادوا تطبيق الشريعة الإِسلامية – والأخ نفس كلامه يرد بعضه على بعض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2902 لو أردوا أن يطبقوا الشريعة لوجدوا ألف وسيلة ووسيلة لتطبيقها ولتقنينها إن كان لا بد من التقنين، هذه واحدة، الأخرى: هي مسألة اتفاق القوانين الوضعية في معظمها مع الشريعة الإِسلامية، هذه قضية تذكر دائمًا، ونقول إن الاتفاق لا يكفي لأنه لا بد أولًا من تحديد المنطلقات، منطلقات الشريعة غير منطلقات القانون الوضعي، الفلسفة مختلفة، والدليل مختلف، وقطع النص القانوني عن مصدره الإِسلامي يجعله قانونًا وضعيًّا، لا يكون هناك قيمة ما لم يقل: إن هذا الأمر مستمد من كذا أو كذا، من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ومما قاله الفقهاء وبناء على كذا حتى القوانين التي تبنى على المصالح المرسلة أو على سد الذرائع، يجب أن تؤصل تأصيلًا إِسلاميًّا وإلاَّ رفضت، هذا يعني لا بد من توضيح هذه المسألة، قضية أخرى: وهي قضية التدريج في تطبيق الشريعة، والذين يقولون إن الشريعة تطبق بالتدريج، طيب سلمنا بالتدريج، وبعضهم يقول: أتريدنا أن نطبق الشريعة فيما بين عشية وضحاها؟ طيب طبقوها بالتدريج، ولكن ما معنى التدريج؟ التدريج أن تكون هناك مراحل كل مرحلة تسلم إلى مرحلة، تريد أن نطبق الشريعة في خلال خمس سنوات أو عشر سنوات؟ إذن ضعوا خطة زمنية بحيث إنه بعد سنتين نخلص من القانون المدني، وبعد كذا نخلص من مناهج التربية، هذا معنى التدريج، إنما هؤلاء لا يريدون التدريج، يريدون التمويت، فنحن إذا سلمنا بالتدريج – وقد قال به مثل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي قال له ابنه الورع التقي عبد الملك: يا أبي ما لي أراك تتباطأ في إنفاذ الأمور؟ والله لا أبالي لو غلت بي وبك القدور في سبيل الله، فقال يا بني: إن الله ذم الخمر في آيتين ثم حرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أدفع الناس إلى الحق جملة فيدعوه جملة، ولكن أما ترضى ألاَّ يمر على أبيك يوم إلاَّ وهو يميت فيه بدعة ويحيي سنة؟ - فهذا هو التدريج أن تمات كل يوم بدعة وتحيا سنة، أما أن يقولوا بالتدريج ولا يفعلون شيئًا وتمر السنين وراء السنين، وهم في موقعهم، فليس هذا من التدريج في شيء، المهم أيها الإخوة أن تكون هناك نية – فعلًا – صادقة للحياة حياة إسلامية، وهذا هو المراد من كلمة "تطبيق الشريعة"، ليس الجانب القانوني فقط، وليس جانب الحدود والعقوبات فقط، ولكن أن تحيا مجتمعاتنا حياة إِسلامية، حياة توجهها العقيدة الإِسلامية، وتضبطها الأخلاق الإِسلامية، وتحكمها التشريعات الإِسلامية، وهذا ما تريده، الأمة، وما يريده الله تعالى منها: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2903 الشيخ طيب سلامة: بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. بلسان الثناء والشكر، أتوجه إلى هذا المجمع الكريم، لوضع الإِصبع على الداء، وهو أكبر داء، وكنت أستمع إلى حضراتكم وأنا أتخيل لو فتح على مجمعنا هذا جهاز التلفاز لالتهت الأكف في الدنيا وفي العالم الإِسلامي بالتصفيق، ولصفرَّت الوجوه القليلة التي عادت هذه الشريعة وتعاديها وهي مصرة على معاداتها، اسمحوا لي أن أعود إلى أصل الداء لأنني أعتقد أن الجسم إذا سكنته الجراثيم لا يبحث الطبيب عن تقويته قبل أن يبحث عن القضاء على الجراثيم الفتاكة التي تنخره من الداخل، وأقول: إن عملية تكريه العالم الإِسلامي في الإِسلام، هي عملية غربية، عملية عداء غربي، عملية عداء للإسلام قديمة ومعروفة، والصهيونية والتي نسميها الصهيونية العالمية الموجودة اليوم هي موجودة من عهد خيبر، وهي مستمرة، ثم انضافت إليها المسيحية بتخطيط من الصهيونية حتى تعضد جانبها، وبرزت الأمور في ميدان تطبيقي عملي إثر الحروب الصليبية، وكان ما كان مما انتاب الخلافة العثمانية، وبقي الصليب يحقد على الإسلام ولم يجدوا سبيلًا، فقاموا بحركة التبشير، وكنا نرى في القرى والمدن في البلاد الإِسلامية الآباء البيض يطوفون متظاهرين بالرحمة والإِشفاق على الصغار، كما أنهم أخذوا من أبناء البلاد الإسلامية شبابًا يربونهم على الطريقة التي يريدونها. أعطيناهم أبناءنا، ومكنَّاهم منهم، وبذلك كرهوا إليهم دينهم، وحببوا إليهم حياة المدنية، وأقنعوهم بطرقهم بأن الإسلام هو سبب تأخر المسلمين، ولو تخلى المسلمون عن إسلامهم، ولو انحصر – على الأقل – الإسلام في المساجد والجوامع كما فعلت المسيحية مع المسيحيين، لآل الأمر إلى تقدم، وإلى مماشاة المسلمين للعالم العصري المتقدم – وقد اقتنع الكثير – بأنه لا يجوز لنا إذا رمنا الخير لأطفالنا أن نحفظ القرآن، كما قال الغربيون، ونظرية تربوية عقيمة، نشروها فينا بدعوى أن الحفظ يقوي الحافظة، فتطغى الحافظة على الفكرة، وبذلك يصبح الطفل عندما يشب وعندما يصير كهلًا، لا شخصية له لأنه عبارة عن آلة حاكي لا تحسن شيئًا، والنتيجة رأيناها بالعكس، رأينا بالعكس أن جميع من حفظوا القرآن هم من العلماء العلام الأعلام السلف الصالح من علمائنا ما من واحد منهم في ترجمته إلاَّ وهو يحفظ القرآن زيادة على ما يحفظه من آلاف الأحاديث بأسانيدها، فكانت هذه الحافظة، التي هي منطلق التربية الإِسلامية، أصبحت عيبًا كما أراد الغرب أن يصوِّرها، هذه مثلًا صورة من الصور، وبذلك تعليمنا اليوم خالٍ أو أشد ما يتبرم منه الطلاب والتلاميذ أن تأمرهم بحفظ شيء، وزالت الكتاتيب، وحذفت الكتاتيب، بهذه الدعوة لأن الأمر تقليدي وأمر لا يمكن أن نبقى عليه في هذا العصر، وهكذا: ما أردت أن أقوله إخواني من غير أن أطيل، هو أن القضية قضية هامة جدًّا، والقضية تحتاج إلى عناية كبرى، ولكن تحتاج إلى إقناع شبابنا اليوم: الدعوات التي توجه إليهم باسم التكنولوجيا، وباسم جلب العلوم العصرية، باعتبار أن الحياة ما كانت تقوم إلاَّ على ما أوجدته الحياة العصرية من علوم مادية، اقتنعوا بهذا، وانصرفوا إلى هذه العلوم، وتخلوا عن دينهم وعن تعاليم دينهم، فأصبحنا نكون مديري المصارف والمهندسين، ولكن بدون ضمائر إسلامية، هذا الذي ينقصنا، وهذا الذي جعلنا في تخلف، ومهما تكن ثرواتنا – نحن ثرواتنا – والحمد لله – أغدق الله علينا من الثروات الشيء الكثير، ولكن ثرواتنا لم تنفعنا، العلم والتكنولوجيا قد أتينا بذلك، ولكن أيضًا لم نستفد من ذلك شيئًا ولا يتم نفع إلاَّ إذا قامت على القيم الإسلامية، وتعاليم الشريعة الإِسلامية، هذا ما أردت أن أقوله وشكرًا سيادة الرئيس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2904 الرئيس: شكرًا في الواقع بقي نحو عشرين متحدثًا، فهل ترون أن نستمر في هذه الكلمات ونعطي خمس دقائق فقط؟ مناقش: بسم الله الرحمن الرحيم بناء على ما تقدم من كلام الأساتذة الأفاضل ومن الضروري أن نوجد المناخ المناسب لتطبيق الشريعة الإِسلامية، في عالمنا العربي والإِسلامي، إذ أن من المعلوم أن تطبيق الشريعة الإِسلامية أمر معروف من الدين بالضرورة – كما تفضل الأساتذة الأفاضل – فأرى – وكما يقال خير البر عاجله – أن تؤلف لجنة من هذا المؤتمر الكريم، لوضع خطة لبحث المواضيع المناسبة، لإِيجاد الوسائل الكفيلة بتطبيق الشريعة الإِسلامية، أو نقول الوسائل الكفيلة بإيجاد المناخ المناسب، لتطبيق الشريعة الإِسلامية، وشكرًا. الرئيس: هل ترون أن نكتفي بهذا، أم بقية الكلمات؟ بعض المناقشين: لا نوافق على هذا، نعترض. الرئيس: إذن لو رأيتم أن يتنازل البعض للآخر، لأن عشرين متحدثًا، والوقت عندنا ما بقي الآن إلاَّ عشرون دقيقة، أمر ليس في الإِمكان. مناقش: كان من الممكن تدبير الوقت منذ البداية وتقسيمه على الراغبين في الحديث. الرئيس: الآن حصل شيء من الخطابة وطالت وطولت، والله نحن سبق أن نبهنا في مرتين وثلاث وأربع، يعني ما فيه داع للإِكثار. مناقش: دقيقتين لكل متكلم. الرئيس: لا: خمس دقائق، ممكن؟ بس خلاص نمضي يا شيخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2905 الأستاذ يوسف محمود القاسم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله. هذا الموضوع في غاية الأهمية، وفي غاية الخطورة، وشكرًا للعلماء الأفاضل الذين كتبوا في هذا الموضوع، وشكرًا للأخ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان الذي عرض عرضًا وافيًا للأبحاث الثلاثة. القضية – قضية تطبيق الشريعة – تعتبر هي كل شيء بالنسبة لمجمع الفقه الإِسلامي، فلا بد أن تأخذ العناية اللائقة بخطورة هذا الموضوع. فكرة التدوين أو التقنين، التي أشار إليها الأخ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان فكرة جيدة لكنها في الواقع فكرة جانبية تتخذ أو اتخذت فعلًا سبيلًا للمرواغة في تطبيق الشريعة الإِسلامية، فالتقنين قائم: مشروعات خاصة قدمت لمجلس الشعب المصري، تزيد عن عشرة مشروعات في السبعينات، ثم مشروع محكمة النقض المصرية – قدم سنة 1975م – ثم مشروعات لجان مجلس الشعب الكاملة المتكاملة، في كل فرع من فروع القانون (في المدني، في الجنائي، في المرافعات، في التجاري، في البحري) في كل فرع من فروع القانون، وضعت القوانين الإِسلامية الكاملة المتكاملة، وليست فقط مجرد النصوص، بل والمذكرات التفسيرية الخاصة بكل مادة، حتى لا يقال إن القاضي الذي يدرس الحقوق، كيف يطبق الشريعة وهو لا يعلم منها شيئًا؟ وضعت له المذكرة التفسيرية، لتبين له مصدر كل مادة من أي مذهب من المذاهب الفقهية على اختلافها، هذا كله فضلًا عن مشروعات الأزهر الشريف، لدرجة أن أعضاء هذا المجلس الموقر يندهشون عندما يعلمون أن مجمع البحوث الإِسلامية وضع مشروعات قوانين في كل فرع من فروع القانون مأخوذة من كل مذهب، نقول القانون المدني الإِسلامي من المذهب المالكي، نصوص كاملة متكاملة خاصة، القانون المدني الإِسلامي من المذهب الحنفي، نصوص كاملة متكاملة خاصة، يقول له: ربما بعض البلاد الإِسلامية يريد أن يطبق المذهب المالكي، فلنضع له قانونًا، ولا تزال هذه القوانين قائمة وموجودة وينسخ كثيرة جدًّا، أيضًا مجمع البحوث الإِسلامية، دخل في مجال تنقية القوانين، فوضع مشروعًا يسمي "تنقية القوانين" حتى لا يدع حجة لأي متحجج مبطل، لأنه حينما قيل: إننا نكتفي بالقوانين القائمة، وننقيها مما يخالف الشريعة، وضعت مشروعات بهذه الموضوعات، أحد الزملاء الأفاضل – العلماء الكبار الذي تكلموا – أشار إلى الآيات الكريمة الواردة في سورة المائدة وأنها نزلت في حق أهل الكتاب، في الواقع هذا حق، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، هذه نزلت في حق أهل الكتاب، لكن الآية التي بعدها والآيات التالية: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} ، ثم يقول سبحانه في الآية التالية: {وأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ واحْذَرْهُمْ أن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2906 ما أشار إليه الزميل الأخ الدكتور مصطفى، مما قيل من أن محمد علي جمع العلماء، وهم تنازعوا فكرًا مذهبيًّا، هذا باطل لا أساس له كما أشار الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي، هذا في الواقع لا أساس له، بل يثبت النقيض، لأن علماء مصر بل العلماء في كل الدنيا أحرص الناس على تطبيق شرع الله عزَّ وجلّ، ولم يثبت هذا على الإِطلاق، ولا أساس له مطلقًا، وإنما الاستعمار الغربي، اختار هذا الرجل ليكون الخطوة الأولى في تغيير المنهج، بعد فشل الحملة الفرنسية، أعداء الإسلام فكروا أن الحلول العسكرية والمواجهة العسكرية بينهم وبين الإسلام لن تجدي، ففكروا في الدهاء والخبث، فاختير رجل معين، وكان أول ما عمله، ينزع قاعدة إسلامية ويضع محلها قاعدة من القانون الفرنسي دون أن يعلن بين العلماء هذا، إلى أن جاء عهد إسماعيل كما أشار الأخ الدكتور يوسف القرضاوي، في الواقع إسماعيل غير مُبَرّأ، شكرًا لكم وجزاكم الله خيرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2907 الشيخ خليل محيي الدين الميس: بسم الله الرحمن الرحيم. مؤتمركم الكريم له عنوان " منظمة المؤتمر الإِسلامي "، نحن مفوضون قانونًا ودينًا بهذه المهمة الكبيرة، فإذن مؤتمر وزراء الخارجية الدول الإِسلامية، طبعًا عندما أصدروا هذا القرار لم يكن في ذهنهم أحكام الوضوء وهي هامة، إنما كان في ذهنهم كيف نعيش مسلمين قانونًا وحياة كاملة، فإذن هذا الموضوع هو صلب مهام المؤتمر، نرجو، لا نقول أن نخرج بقرار توصية، ولكن أن تشكل لجنة لوضع خطة مرحلية – أظن لا يكون الجواب في مؤتمر واحد – على مراحل متعددة، كيف نمهد لهذه الفكرة بأبحاث موزعة ومدروسة. وشكرًا. الدكتور طه جابر العلواني: بسم الله الرحمن الرحيم. هذه الموجة العاطفية العارمة، التي قوبل بها هذان البحثان وخطبة إمام الحرم، موجة تدل على مدى تعلق هذه الأمة بشريعتها والحمد لله، ولكن الذي أود أن أشير إليه وأنبه الأذهان له، أن الصراع بين أعداء الإسلام والمسلمين قد أخذ أطوارًا عديدة منذ البداية، وقد كان الصراع الفكري الحلقة الأهم والأخطر، والثغرة الكبرى التي أتي المسلمون منها، ففي القديم استدرج العقل المسلم إلى متاهات التأويل ودهاليز الباطنية، التي شوهت العقيدة السليمة النقية، وحولت الفقه الإِسلامي من علم يضبط حياة المسلمين بضوابط الشريعة، ويمد ظل حاكمية الله جل شأنه على سائر شجون وشؤون الحياة، إلى علم تستثمر بعض قضاياه في إثارة الخلافات وعقد المناظرات والمنافرات والجدل، حتى لم يجد عقلاء الأمة حلًّا لمصائب تلك الاختلافات والحروب الأهلية، التي كانت تقع أحيانًا في شوارع بغداد، بين أرباب المذاهب المختلفة بدافع التعصب إلا الدعوة إلى الالتزام بتراث الأئمة الأربعة الفقهي، والتوقف عن الاجتهاد خارج ذلك الإِطار، ثم سيادة التقليد المطلق بعد ذلك، لا بالمفهوم الأصولي وحده، ألا وهو قبول قول الغير بلا حجة، بل بمعناه اللغوي والعام، وتحولت الأمة بعد ذلك إلى أمة تحمل عقلية عوام، وطبيعة قطيع، ونفسية عبيد، تسير خلف كل ناعق، وتوقف العقل المسلم عن العطاء، واجتاح الصليبيون أجزاء كثيرة من ديار الإِسلام، ثم استمرت الحروب مائتي عام، ولكن الله جلَّ شأنه قد نصر الأمة بعد ذلك نتيجة اصطلاحات فكرية، وعلمية، وثقافية، وإدارية، وتشريعية، وعسكرية، قام بها المرحوم محمود زنكي ثم صلاح الدين، وتحقق الانتصار العظيم، ثم طال على المسلمين الأمد بعد ذلك وقست منهم القلوب مرة أخرى، وبدأت دورة تراجع ثانية أدت إلى سقوط بغداد بأيدي التتار سنة 656هـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2908 ثم هيأ الله لهذه الأمة دورة انتعاش أخرى على أيدي آل عثمان، فاستردت أنفاسها، وبدأت دورة انتصار جديدة، ولكن على الصعيدين العسكري والسياسي، لا على الصعيدين الفكري والعقيدي والاجتهادي والثقافي، ورغم الانتصارات الهائلة، فإن الدولة العثمانية لم تستطع مواجهة التحديات الحضارية، التي فرضتها النهضة الأوروبية وحاول العثمانيون بقيادة سليم الثاني تطوير الدولة، والاستفادة من التصنيع، الذي نستطيع قوله: إن اليسار الذي أشار معالي الأمين في ورقته إليه، بعد أن نضجت الصحوة الإِسلامية، وبدأ المسلمون يفيقون من سباتهم، ويحاولون أن يبحثوا عن أصالتهم في كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم بدأ اليسار بكل فصائله يقذف هذه المرة لا بفكر مستشرقين، ولكن بفكر تلامذة لهم، معظمهم قد تخرج في أديرة النصارى، وتنصر بالفعل، وهناك وثائق تثبت تنصر هؤلاء الذين ذكرهم فضيلته في مقالته، فهذا التيار الجارف، قذف به ليدرس الفكر الإِسلامي والثقافة الإِسلامية وعلم الكلام والفقه، يبحث عن كل شبهة، وعن كل ثغرة، ليعرضها بين شباب المسلمين، المقترح الذي أود الوصول إليه: أن يخصص محور دائم في كل دورة من دورات هذا المجمع، للبحث في جميع القضايا التي تشكل تحديًّا للفكر الإِسلامي والثقافة الإِسلامية، والشريعة الإِسلامية، ويكشف سائر المحاولات المعادية للإسلام، في الفكر والثقافة والشريعة، سوف يكون ذلك – إن شاء الله – نافعًا في تحذير المسلمين وتوعيتهم، ومن أولى من المجمع الفقهي الدولي الإِسلامي بتحذير المسلمين وتوعيتهم؟ وشكرًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2909 الدكتور عمر جاه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. شكرًا سيدي الرئيس. لقد استمعت إلى البحوث، وإلى التعليقات التي تفضل بها الإِخوة، ومما لا شك فيه أن قضية تطبيق الشريعة هي أساسية أو هي القضية الأساسية، ولولاها لما أنشئ هذا المجمع، فالمجمع أنشئ لإِيجاد وسائل عملية لتطبيق الشريعة الإِسلامية، وأذهب إلى أبعد من هذا وأقول: إن كل عمل، كل بحث، كل موضوع ناقشناه في هذا المنبر إنما هدف إلى تطبيق الشريعة، وأنا أرى أنه حتى مسائل البنوك، ومسألة الأسهم، ومسألة طفل الأنابيب، هذه كلها موضوعات تتعلق بوضع نظام شرعي يعيش عليه المسلمون، إذن فالمسألة لا ينبغي أن نفهمها كما يريد آباؤنا أن نفهم الشريعة فيها، فالشريعة هي دين الإسلام، الدين هو الشريعة، والشريعة هي الدين، وأتعاطف كثيرًا مع فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي حينما ذهب إلى القول: إن تطبيق الشريعة لا ينبغي أن أحصرها على مسألة الحدود أو القوانين، إنما الشريعة تعني سلوك الفرد، سلوك الفرد المسلم على المستوى الفردي، على المستوى الأسري، على المستوى الدولي، وعلى جميع المستويات، ويبقى لنا يا فضيلة الرئيس، أن نكون واقعيين مع أنفسنا، المطلوب هنا ليس توجيه دعوة أو استعطاف إلى رؤساء الدول، إلى القائمين بالأمر في دول الإسلام لتطبيق الشريعة، هذا لا يكفي، وأعتقد أننا كلنا نتفق، كلنا يتفق على أن رؤساء الدول يفهمون هذه القضية فهمًا دقيقًا، ولا يجهلون أبدًا أن الأمة الإِسلامية تريد أن تعيش مسلمة، لكن، كيف الطريق إلى ذلك؟ هذا مجمع علمي، فقهي، كون الوضع قواعد، وتسهيل الأمور، لكن يتسنى للحاكمين القائمين بالأمر ليتقيدوا وليطبقوا الشريعة، فأتناول قضية واحدة بسيطة لكنها قضية خطيرة، ولماذا نرى أن أجهزة الإِعلام في الغرب – نذكر إذاعة لندن داتشي فيلا وصوت أمريكا – هذه الأجهزة تركز تركيزًا كبيرًا على كل شيء يشير إلى تطبيق الشريعة الإِسلامية، المشكلة في السودان، تطبيق الشريعة في السودان، أخرط سلاح مسلط على الحكومة السودانية، هي هذه وسائل الإِعلام، وما هي الطريقة التي نريد أن نستعملها نحن في هذا المجال؟ لأننا ينبغي أن نقوم بعملية توعية أساسية، حتى يقتدي الفرد المسلم بأنه من غير تطبيق الشريعة لا يعيش مسلمًا، أنا لا أتصور أن يكون هناك مسلم يعتقد أنه مسلم حقيقي إذا لم تعش الشريعة في اسمه، الشريعة في المسجد، الشريعة في وظيفته، الشريعة في كل ظاهرة من ظواهر حياته، ونقول: نتوجه إلى الحكام ليطبقوا الشريعة، فما بالنا بمئات الملايين إن لم يكن أكثر من خمسمائة مليون يعيشون خارج نطاق الدول المسلمة في الدول العربية الإِسلامية؟ ينبغي أن يُعنى بهم، ينبغي أن يستمر هذا الموضوع في كل جلسة من جلساتنا، وفي كل مرة نجتمع فيها نخصص وقتًا كافيًا لدراسة الموضوع من جميع نواحيه، ووضع حلول عملية منطقية نستعين بها لأن تطبق الشريعة، أكرر مرة ثانية أن الشريعة ليست حدودًا وليست قوانين إنما الشريعة هي دين، والسلام عليكم ورحمة الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2910 الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه وبعد: الدين مثل ما قال الشيخ الأمين الخوجة "النصيحة" ومجمعنا هنا مجمع فقهي، ولا بد أن نؤدي النصيحة، وأن ما تعانيه الأمة الإِسلامية من مآسي سببها الرئيسي وسببها الأول هو عدم تطبيق الشريعة الإِسلامية، فأعتقد أن هذا الموضوع تأخيره بعد طرحه إثم، نأثم في الحقيقة إذا أخرناه ولو لحظة واحدة، ولذا أرى وأقترح ثلاثة أمور أو أربعة. الأمر الأول: بأن ننادي وندعو المجتمع الإِسلامي شعوبًا – قبل الحكومات – شعوبًا وحكومات بتطبيق الشريعة الإِسلامية. ثانيًا: أقترح بأن يقوم المجتمع – حالًا – في وضع الشريعة الإِسلامية بشكل مواد ميسرة للتطبيق مع التعاون مع من سبق في الأزهر، في جامعة الإِمام محمد بن سعود، في الإِمارات. ثالثًا: الدعوة بالاعتناء بالمعاهد الشرعية لتخريج القضاة والفقهاء ليقوموا بالمهام القضائية. رابعًا: تكوين لجنة من العلماء الأعلام والفقهاء البارزين، لوضع خطة عامة شاملة متكاملة لقواعد تطبيق الشريعة الإِسلامية، في المجتمع الإِسلامي، ثم بعد ذلك ندعو أيضًا المجتمع غير الإِسلامي لأنا نحن أمة – في الحقيقة – مطالبة بأن ندعو إلى دين الله والله سبحانه وتعالى خلقنا في هذا الكون وفي هذه الأرض لعبادته حيث قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . والعبادة عقيدة وشريعة ومنهج حياة وسلوك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2911 الدكتور أحمد محمد جمال: بسم الله الرحمن الرحيم. لي تعليقات خفيفة أرجو أن أوفق لها، لا أريد أن نضيع الوقت في الحديث عن الاستعمار وعن كونه سببًا لعدم تطبيق الشريعة الإِسلامية في بلادنا، ولا نتحدث عن تاريخ هذا الاستعمار، لأننا نضيع الوقت في هذا الحديث الطويل العريض، ولا نريد أيضًا أن نتجه إلى المجتمعات – أي إلى الشباب والشعوب – كما جاء ذلك في بعض تعقيبات الإِخوة الأفاضل، لأن الشريعة الإِسلامية إذا لم تطبق من الرؤوس كما قلت في كلمتي السابقة: انحراف الشباب، انحراف النساء، انحراف الإِعلام الإِسلامي، كل هذه مرجعها إلى انحراف الرؤوس، نطبق الشريعة الإِسلامية من فوق: يصلح الإِعلام ويصلح التعليم وتصلح التربية ويصلح الشباب إذا بدأ التطبيق من الأعلى، وما لم نطبق الإسلام من الأعلى فلا يزال الشباب منحرفًا، والإِعلام منحرفًا والنساء منحرفات، وكل أمورنا تبقى كما هي، لنبدأ من الرؤوس وَلنَدْعُ الرؤوس أولًا قبل كل شيء أن تطبق شريعة الله عزَّ وجلّ، هذا ما أريد أن أقوله، ولي تعليق بسيط على الأخ قاسم، فهم كلمتي خطأ عن الآيات التي وردت في سورة المائدة، أنا قلت: إن الإِمام الطبري يرى أنها خطاب لأهل الكتاب فقط، وأنها ليست خطابًا للمسلمين، وهذا خطأ في نظري لم أقل إنها لم تنزل في أهل الكتاب، وهي نزلت في خواتيم آيات تتعلق بأهل الكتاب، لكن الإِمام الطبري يرى أنها ليست خطابًا للمسلمين، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . يقول إن هذه ليست خطابًا للمسلمين، ورأيي أنها خطاب للمسلمين. هذا الذي قلته، ولم أقل إنها لم تنزل في أهل الكتاب، أنا الحمد لله حافظ القرآن ومؤلف فيه. وشكرًا. الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين: بسم الله الرحمن الرحيم. ينبغي أن نلاحظ أولًا، أن المسلمين لم يحسب لهم أي حساب، إلا في الفترة التي حكَّموا فيها شريعة الله، وجعلوا القرآن دستورهم، والسنة قوانينهم المطبقة التنظيمية، واليوم ومجلسكم الموقر ومعقد آمال كل المسلمين، شعوبًا وحكومات ينبغي ألا يؤخر مستقبل المسلمين، وتطلعات أبناء المسلمين، قبل أن يتخذ فيها قرارًا حاسمًا يضع فيه الحاكمين والمحكومين أمام مسؤولياتهم، إن أولئك الذين يظنون أن الشريعة الإِسلامية لم تستجب، وليست قادرة على أن تستجيب لكل التطلعات، هم مخربون أكثر دسًّا من الصهاينة، وأكثر دسًّا من الكنيسة للمسلمين، وعلى هذا الأساس فإنما نتغاضى عن الشارع الإِسلامي، ولم يصبح شارعًا إسلاميًّا، فتبرج النساء أصبح الشباب يجهل أنه محرم، وشرب الخمر أصبح شباب المسلمين يجهلون أنه حرام، وقد أوشك الربا أن يصبح التعامل به، يجهل المسلمون أنه حرام. ولذا، انطلاقًا من هذه المعطيات التي لا يجادل فيها أحدنا إلا إذا كان يخادع نفسه، فإنني أقترح – نظرًا لضيق الوقت، ولكون كلماتي التي كنت أود أن أقول، قالها بعض الإخوان من قبلي بعض السادة العلماء الفضلاء أساتذتي – أقترح: أولًا: أن تصدر هذه الندوة قرارًا كما قال الشيخ الحبيب يناشد الحكومات والشعوب بأن تطبق الشريعة الإِسلامية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2912 ثانيًا: أن تخصص ندوة يعلن تاريخها من الآن، على أن يبقى للأمانة العامة والرئاسة التداول مع دول الإسلام في مكانها، تخصص لتطبيق الشريعة الإِسلامية، على أن تكون البحوث المنصبة في تلك الندوة هي تعنى بوسائل تطبيق الشريعة الإِسلامية. ثالثًا: قيام المجمع بإعداد مدونة تعنى بالمعاملات المدنية والتجارية، والقوانين الجنائية، لا كالتي سبقت لأن المدونات التي سبقت كان يعدها رجال القانون الذين تعلموا في الجامعات الأوروبية، وأتفق مع بعض الإِخوة الذين قالوا: إن المنطلق ليس واحدًا والأهداف ليست واحدة والغايات ليست واحدة، فتكون هذه من علماء المسلمين، ومن وضع الصورة الأساسية لقيام مجتمع يرضي الله ورسوله. رابعًا: هو أن تقوم الأمانة العامة بمراسلات كل الجامعات الإِسلامية، لتعقد ندوات إقليمية، تدرس فيها وسائل تطبيق الشريعة الإِسلامية ميدانيًّا، ثم تبعث بما لديها إلى الأمانة العامة، قبل انعقاد الدورة القادمة تأسيًّا بما تقوم به جامعة الإِمام محمد ابن سعود جزاها الله خيرًا عن الاهتمام بالإِسلام. وشكرًا لكم سيدي الرئيس. الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم. اللجنة إذا رأيتم: تتألف من المشايخ الآتية أسماؤهم: عبد الوهاب أبو سليمان، وهبة الزحيلي، إبراهيم الكيلاني، عمر الأشقر، مصطفى العرجاوي، طه العلواني، مصطفى الغزالي مقررًا. بهذا تنتهي هذه الجلسة، ونذكركم بأن هناك لجنة الصياغة مدعوة إلى الاجتماع في هذه الليلة في الساعة الثامنة والنصف في قاعة الروضة من هذا الفندق، وهم المشائخ الآتية أسماؤهم: حسن الشاذلي، العاني، سامي حمود، محمد الأشقر، الأمين عبد الله محمد، عبد الله ابن منيع، محمد عطا، عمر الأشقر، مصطفى الغزالي. وصلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وَعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2913 القَرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (10) بشأن تطبيق أحكام الشريعة الإِسلامية إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطِّلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تطبيق أحكام الشريعة الإِسلامية) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. وبمراعاة أن مجمع الفقه الإِسلامي الذي انبثق عن إرادة خيرة من مؤتمر القمة الإِسلامية الثالثة بمكة المكرمة، بهدف البحث عن حلول شرعية لمشكلات الأمة الإِسلامية وضبط قضايا حياة المسلمين بضوابط الشريعة الإِسلامية، وإزالة سائر العوائق التي تحول دون تطبيق شريعة الله وتهيئة جميع السبل اللازمة لتطبيقها، وإقرارًا بحاكمية الله تعالى، وتحقيقًا لسيادة شريعته، وإزالة للتناقض القائم بين بعض حكام المسلمين وشعوبهم وإزالة لأسباب التوتر والتناقض والصراع في ديارهم وتوفيرًا للأمن في بلاد المسلمين. قرر: أن أول واجب على من يلي أمور المسلمين تطبيق شريعة الله فيهم، ويناشد جميع الحكومات في بلاد المسلمين المبادرة إلى تطبيق الشريعة الإِسلامية وتحكيمها تحكيمًا تامًّا كاملًا مستقرًا في مجالات الحياة، ودعوة المجتمعات الإِسلامية أفرادًا وشعوبًا ودولًا للالتزام بدين الله تعالى وتطبيق شريعته باعتبار هذا الدين عقيدة وشريعة وسلوكًا ونظام حياة. ويوصي بما يلي: (أ) مواصلة المجمع الأبحاث والدراسات المتعمقة في الجوانب المختلفة لموضوع تطبيق الشريعة الإِسلامية ومتابعة ما يتم تنفيذه بهذا الشأن في البلاد الإِسلامية. (ب) التنسيق بين المجمع وبين المؤسسات العلمية الأخرى التي تهتم بموضوع تطبيق الشريعة الإِسلامية وتعد الخطط والوسائل والدراسات الكفيلة بإزالة العقبات والشبهات التي تعيق تطبيق الشريعة في البلاد الإِسلامية. (ج) تجميع مشروعات القوانين الإِسلامية التي تم إعدادها في مختلف البلاد الإسلامية ودراستها للاستفادة منها. (د) الدعوة إلى إصلاح مناهج التربية والتعليم ووسائل الإِعلام المختلفة، وتوظيفها للعمل على تطبيق الشريعة الإِسلامية، وإعداد جيل مسلم يحتكم إلى شرع الله تعالى. (هـ) التوسع في تأهيل الدارسين والخريجين من قضاة ووكلاء نيابة ومحامين لإعداد الطاقات اللازمة لتطبيق الشريعة الإِسلامية. والله الموفق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2914 قرار بشأن ميزانية المجمع للسنة المالية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. 1408/1409هـ - 1988/1989م إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409هـ / 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على تقرير مدقق الحسابات عن السنة المالية 1407/1408هـ (1987/1988م) . وبعد تدارسه لمشروع ميزانية المجمع للسنة المالية 1408/1409هـ (1988/1989م) . وبعد تدارسه لمشروع ميزانية المجمع للسنة المالية 1408/1409هـ (1988/1989م) المقدم من الأمانة العامة، والبالغة مليوني دولار أمريكي. قرر: الموافقة على المشروع بالمبلغ الإجمالي المقرر له. ويوصي بما يلي: أولا: حث الدول الأعضاء في المجمع على الوفاء بالتزاماتها بالنسب المكتتب بها في ميزانية المجمع مما لم يقع الوفاء به، لكي يمكنه مواصلة مسيرته على الوجه المأمول. ثانيا: دعوة الأعضاء المنتدبين من دولهم لبذل مساعيهم لسداد دولهم التزاماتها كاملة من خلال توضيح الظروف المالية التي يمر بها المجمع وما ينشأ عن ذلك من البطء في إنجاز مشاريعه العلمية التي تعود بالخير والنفع على الأمة الإسلامية. ثالثا: مناشدة اللجنة المالية الدائمة للسعي لدى الدول الأعضاء لسداد مساهماتها في ميزانية المجمع لكي يتمكن من أداء رسالته كاملة. والله الموفق. وبإثر ذلك رفع الشيخ الرئيس الجلسة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2915 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (1) بشأن تنظيم النسل إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 / 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تنظيم النسل) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. وبناء على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني، وأنه لا يجوز إهدار هذا المقصد؛ لأن إهداره يتنافى مع النصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها. قرر ما يلي: أولا: لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب. ثانيا: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم , ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية. ثالثا: يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعا بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض، بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2916 قرار رقم (2، 3) بشأن الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ / 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوعي (الوفاء بالوعد والمرابحة للآمر بالشراء) واستماعه للمناقشات التي دارت حولهما. قرر: أولًا: أن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور، وحصول القبض المطلوب شرعًا، هو بيع جائز طالما كانت تقع على المأمور مسئولية التلف قبل التسليم وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم، وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه. ثانيًا: الوعد (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقًا على سبب ودخل الوعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلًا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر. ثالثًا: المواعدة (وهي التي تصدر من الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز، لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكًا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة ((لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده.)) ويوصي المؤتمر: في ضوء ما لاحظته من أن أكثر المصارف الإسلامية اتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء. يوصي بما يلي: أولًا: أن يتوسع نشاط جميع المصارف الإسلامية في شتى أساليب تنمية الاقتصاد ولا سيما إنشاء المشاريع الصناعية أو التجارية بجهود خاصة أو عن طريق المشاركة والمضاربة مع أطراف أخرى. ثانيًا: أن تدرس الحالات العملية لتطبيق (المرابحة للآمر بالشراء) لدى المصارف الإسلامية، لوضع اصول تعصم من وقوع الخلل في التطبيق وتعين على مراعاة الأحكام الشرعية العامة أو الخاصة ببيع المرابحة للآمر بالشراء. والله أعلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2917 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، ,الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (4) بشأن تغيُّر قيمة العملة إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/ 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1998م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تغير قيمة العملة) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم (9) في الدورة الثالثة بأن العملات الورقية نقود اعتبارية فيها صفة الثمينة كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامهما. قرر ما يلي: - العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيًا كان مصدرها بمستوى الأسعار. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2919 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين , الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (5) بشأن الحقوق المعنوية إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/ 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (الحقوق المعنوية) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. قرر: أولًا: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف والاختراع أو الابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها. وهذه الحقوق يعتد بها شرعًا فلا يجوز الاعتداء عليها. ثانيًا: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك اصبح حقًا ماليًا. ثالثًا: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعًا ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2920 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم المرسلين وعلى آله وصحبه قرار رقم (6) بشأن الإيجار المنتهي بالتمليك إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409هـ/10 إلى 15 كانون الأول) ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع) الإيجار المنتهي بالتمليك) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم (1) في الدورة الثالثة بشأن الإجابة عن استفسارات البنك الإسلامى للتنمية فقرة (ب) بخصوص عمليات الإيجار. قرر أولاً: الأولى الاكتفاء عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك ببدائل أخرى منها البديلان التاليان. (الأول) : البيع بالأقساط مع الحصول على الضمانات الكافية (الثاني) : عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية المستحقة خلال المدة في واحد من الأمور التالية: - مد مدة الإجارة. - إنهاء عقد الإجارة ورد العين المأجورة إلى صاحبها. - شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة. ثانياً: هناك صور مختلفة للإيجار المنتهي بالتمليك تقرر تأجيل النظر فيها إلى دورة قادمة بعد تقديم نماذج لعقودها وبيان ما يحيط بها من ملابسات وقيود بالتعاون مع المصارف الإسلامية لدراسته وإصدار القرار في شأنها. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2921 قرار التأجيل للدورة السادسة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (7) بشأن التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد عرض موضوع (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) قرر: تأجيل النظر في موضوع (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) لإصدار القرار الخاص به إلى الدورة السادسة من أجل مزيد من الدراسة والبحث. والله الموفق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2922 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (8) بشأن تحديد أرباح التجار إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي لمنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ / 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تحديد أرباح التجار) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. قرر: أولا: الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحرارا في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها عملًا بمطلق قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . ثانيًا: ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة وظروف التجار والسلع، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير. ثالثًا: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته كالغش، والخديعة، والتدليس، والاستغفال، وتزييف حقيقة الربح، والاحتكار الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة. رابعًا: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللًا واضحًا في السوق والأسعار ناشئًا من عوامل مصطنعة، فإن لولي الأمر حينئذٍ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش. والله اعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2923 لقرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (9) بشأن العرف إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادي الأولى 1409هـ/ 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (العرف) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. قرر: أولًا: يراد بالعرف ما اعتاده الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، وقد يكون معتبرًا شرعًا أو غير معتبر. ثانيًا: العرف إن كان خاصًّا فهو معتبر عند أهله وإن كان عامًّا فهو معتبر في حق الجميع. ثالثًا: العرف المعتبر شرعًا هو ما استجمع الشروط الآتية: (أ) أن لا يخالف الشريعة، فإن خالف العرف نصًّا شرعيًّا أو قاعدة من قواعد الشريعة فإنه عرف فاسد. (ب) أن يكون العرف مطردًا (مستمرًا) أو غالبًا. (ج) أن يكون العرف قائمًا عند إنشاء التصرف. (د) أن لا يصرح المتعاقدان بخلافه، فإن صرحا بخلافه فلا يعتد به. رابعًا: ليس للفقيه – مفتيًا كان أو قاضيا- الجمود على المنقول في كتب الفقهاء من غير مراعاة تبدل الأعراف. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2924 القَرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (10) بشأن تطبيق أحكام الشريعة الإِسلامية إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطِّلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تطبيق أحكام الشريعة الإِسلامية) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. وبمراعاة أن مجمع الفقه الإِسلامي الذي انبثق عن إرادة خيرة من مؤتمر القمة الإِسلامية الثالثة بمكة المكرمة، بهدف البحث عن حلول شرعية لمشكلات الأمة الإِسلامية وضبط قضايا حياة المسلمين بضوابط الشريعة الإِسلامية، وإزالة سائر العوائق التي تحول دون تطبيق شريعة الله وتهيئة جميع السبل اللازمة لتطبيقها، وإقرارًا بحاكمية الله تعالى، وتحقيقًا لسيادة شريعته، وإزالة للتناقض القائم بين بعض حكام المسلمين وشعوبهم وإزالة لأسباب التوتر والتناقض والصراع في ديارهم وتوفيرًا للأمن في بلاد المسلمين. قرر: أن أول واجب على من يلي أمور المسلمين تطبيق شريعة الله فيهم، ويناشد جميع الحكومات في بلاد المسلمين المبادرة إلى تطبيق الشريعة الإِسلامية وتحكيمها تحكيمًا تامًّا كاملًا مستقرًا في مجالات الحياة، ودعوة المجتمعات الإِسلامية أفرادًا وشعوبًا ودولًا للالتزام بدين الله تعالى وتطبيق شريعته باعتبار هذا الدين عقيدة وشريعة وسلوكًا ونظام حياة. ويوصي بما يلي: (أ) مواصلة المجمع الأبحاث والدراسات المتعمقة في الجوانب المختلفة لموضوع تطبيق الشريعة الإِسلامية ومتابعة ما يتم تنفيذه بهذا الشأن في البلاد الإِسلامية. (ب) التنسيق بين المجمع وبين المؤسسات العلمية الأخرى التي تهتم بموضوع تطبيق الشريعة الإِسلامية وتعد الخطط والوسائل والدراسات الكفيلة بإزالة العقبات والشبهات التي تعيق تطبيق الشريعة في البلاد الإِسلامية. (ج) تجميع مشروعات القوانين الإِسلامية التي تم إعدادها في مختلف البلاد الإسلامية ودراستها للاستفادة منها. (د) الدعوة إلى إصلاح مناهج التربية والتعليم ووسائل الإِعلام المختلفة، وتوظيفها للعمل على تطبيق الشريعة الإِسلامية، وإعداد جيل مسلم يحتكم إلى شرع الله تعالى. (هـ) التوسع في تأهيل الدارسين والخريجين من قضاة ووكلاء نيابة ومحامين لإعداد الطاقات اللازمة لتطبيق الشريعة الإِسلامية. والله الموفق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2925 الجلسة التنظيمية بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. افتتحت هذه الجلسة بكلمة من الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي وحضرها أعضاء مجلس المجمع خاصة، فأعلن الأمين العام أن المدة الرئاسية للدكتور الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ولنوابه الثلاثة: الدكتور عبد السلام داود العبادي، الشيخ الحاج عبد الرحمن باه، الدكتور عبد الله إبراهيم قد انتهت كما أن عضوية المكتب المتمثلة في نواب: مالي، السنغال، الجزائر، تركيا، باكستان، الكويت قد مر عليها أكثر من ثلاث سنوات. وبناء على الفقرة الثانية من المادة الرابعة عشرة وعلى الفقرة الثانية من المادة الثامنة عشرة من نظام المجمع اللتين تنصان على أن المدة الرئاسية والعضوية بمكتب المجمع تكون لثلاث سنوات قابلة للتجديد. عرض الأمين العام على المجلس انتخاب أعضاء آخرين لهذه المهام أو التجديد للسادة الأساتذة الذين كانوا يباشرون هذه المهام. وبعد تدخل عدد من الأعضاء منوهين بما قام به الإخوة المتخلون من جهود مشكورة، رأى المجلس بالإجماع أن يجدد لهم جميعا المهام التي كانوا يضطلعون بها في الفترة الماضية. وبإثر ذلك اقترح الأمين العام على المجلس تعيين الدكتور عبد الستار أبو غدة مقررا عاما للدورة الخامسة ولقي هذا الترشيح مساندة كاملة وإجماعا من الأعضاء. وبإثر ذلك دعى فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد لأخذ مكانه وإدارة أعمال المجلس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2926 الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله ولي الخلق والأمر والتدبير، غافر الذنوب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وعلى أصحابه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فعودا حميدا وبدءا سعيدا في هذه الدورة الخامسة، قبل أن نبتدئ الجلسة العلمية الأولى في مساء هذا اليوم السبت، نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق والسداد والوصول إلى ما يرضي ربنا سبحانه وتعالى. والموضوع الذي سيكون في هذه الجلسة هو في مسألة النازلة المعاصرة " منع الحمل " بألقابها التي وردت على سبيل التتابع. أعطي الكلمة لفضيلة الشيخ الأمين العام ليعرض عليكم أسماء المقررين والعارضين لموضوعات هذه الدورة. وشكرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2927 الأمين العام: بسم الله الرحمن الرحيم. صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. حضرات الأساتذة، يشرفني في بداية عمل هذا المجلس المبارك في الجلسة الثانية من مؤتمرنا هذا أن أعرض عليكم اقتراح بعض الأسماء للسادة الأعضاء والخبراء الذين نرشحهم مقررين للموضوعات المطروحة في هذه الدورة. ففي موضوع تحديد النسل نقترح على حضراتكم أن يكون المقرر فضيلة الدكتور حسن على الشاذلي. وفي موضوع الوفاء بالوعد فضيلة الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني. وفي موضوع المرابحة للآمر بالشراء فضيلة الدكتور سامي حسن محمود. وفي موضوع تغيير قيمة العملة فضيلة الدكتور محمد سليمان الأشقر. وفي موضوع الحقوق المعنوية فضيلة الدكتور حسن عبد الله الأمين. وفي موضوع التأجير المنتهي بالتمليك فضيلة الدكتور عبد الله محمد عبد الله، وفي موضوع التمويل العقاري لبناء المساكن فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع. وفي موضوع تحديد أرباح التجار فضيلة الدكتور محمد عطا السيد. وفي موضوع العرف فضيلة الدكتور عمر سليمان الأشقر. وفي موضوع تطبيق الشريعة فضيلة الشيخ مصطفى الغزالي. فهؤلاء هم مقررو اللجان أو الموضوعات المطروحة، وتتكون منهم جميعا لجنة الصياغة التي يترأسها المقرر العام الدكتور عبد الستار أبو غدة، فإذا كنا متفقين على هذا ننتقل إلى النقطة الثانية. الرئيس: بعد قبول هذه الترشيحات بالإجماع أعطي الكلمة للأمين العام ليحدثنا عن النقطة الثانية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2928 الأمين العام: تتمثل هذه النقطة في كون الموضوعات المطروحة على الدرس، الموضوع الأول مثلا تنظيم النسل أو تحديده فيه عدد كبير من العروض، وإن الذين كتبوا في هذا الموضوع يبلغ عددهم خمسة وعشرين. والموضوع الثاني الوفاء بالوعد ثمانية، المرابحة للآمر بالشراء عشرة، وتغير قيمة العملة أحد عشر، والحقوق المعنوية اثني عشر، والتأجير المنتهي بالتمليك أربعة، والتمويل العقاري لبناء المساكن واحد، وتحديد أرباح التجار خمسة، والعرف أحد عشر، وتطبيق الشريعة اثنين، وليس من الممكن أبدا نظرا لضيق الوقت ولكون هذه الدورة تتناول كل هذه الموضوعات، أن نستمع إلى كل بحث على حدة، وأن نقوم بمناقشته منفردا. ولذلك نقترح عليكم بعض الأسماء لمن شاركوا في إعداد هذه الموضوعات ليتولوا العرض، والبقية ممن كتب فيها أحق الناس بإبداء الرأي وبيان وجهة النظر، ولفت الانتباه إلى جوانب ربما يكون قد أهملها الأول فيقع تداركها وذلك في طور المناقشة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2929 وبناء على ذلك نقترح بالنسبة لموضوع تحديد النسل عارضين: فضيلة الشيخ إبراهيم فاضل الدبو، وسعادة الدكتور حسان حتحوت. وبالنسبة لموضوع الوفاء بالوعد عارضا واحدا هو الدكتور نزيه كمال حماد، وبالنسبة لموضوع المرابحة للآمر الدكتور على أحمد السالوس، وبالنسبة لموضوع تغير قيمة العملة القاضي محمد تقي العثماني. وبالنسبة لموضوع الحقوق المعنوية "بيع الاسم التجاري" الدكتور وهبة الزحيلي. وبالنسبة لموضوع التأجير المنتهي بالتمليك الدكتور عبد الله محفوظ بن بيه، وبالنسبة لموضوع التمويل العقاري لبناء المساكن الدكتور محي الدين قادي، وبالنسبة لموضوع تحديد أرباح التجار فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي، وبالنسبة لموضوع العرف فضيلة الشيخ خليل محي الدين الميس، وبالنسبة لموضوع تطبيق الشريعة فضيلة الدكتور عبد الوهاب أبو سلمان. وشكرا سيدي الرئيس. الرئيس: شكرا. لعل هذا الترتيب بالنسبة للمقررين والعارضين إن شاء الله تعالى يكون مناسبا. وبعد الاتفاق على العارضين والمقررين لكل موضوع. طرح رئيس المجمع الموافقة على ميزانية المجمع المعروضة على المجلس قصد مناقشتها واعتمادها. وتمت بإثر ذلك المصادقة عليها بالإجماع. وصدر بذلك القرار المجمعي الذي نصه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2930 الجلسة الختامية (1) كلمة معالي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت الأستاذ خالد أحمد الجسّار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنَّا لنهتدي لولا أن هدانا الله.. وأصلي وأسلم على محمد سيد الأنبياء والرسل والقائل: ((من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين)) وعلى آل بيته الأطهار، وصحابته الأخيار. صاحب الفضيلة رئيس هذه الدورة رئيس المجمع الفقهي الإسلامي الدكتور بكر أبو زيد، صاحب الفضيلة الدكتور ممد الحبيب ابن الخوجة، صاحب الفضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة، أصحاب الفضيلة والعلماء المشاركون في هذه الدورة، تحية لكم من عند الله مباركة طيبة: نحن في هذه الجلسة الختامية وقد انقضى أسبوع، كان أسبوع العلم والفقه، وكانت موضوعيته وجديته ومقاصده محل إعجاب المجتمع، سواء كان في الكويت وأعتقد أنه كذلك خارج الكويت، لقد أعطيتم الكثير من بحوثكم، وناقشتم ما طرحتموه بموضوعية جادة لا يدخلها شيء يشوبها، وكانت محفوفة بالعلم والفضل، وهذا هو شأن العلماء وشأن الفضلاء وشأن الفقهاء. وإذا كان المجمع الفقهي هو ثمرة من ثمرات المؤتمر الإِسلامي فسيأتي المؤتمر الإِسلامي كذلك بثمرات أخرى، ولا أبالغ إذا قلت: كاد اليأس يغلب الرجاء في الفقه وضياعه، وكاد يضيع هذا التراث من بين يدي المسلمين فهيَّأ الله له من يبعثه من جديد من مرقده، وأصبح له صوته وله حكمه وله قوته في المجتمع الإِسلامي، وسيزداد يومًا بعد يوم بإخلاصكم وجديتكم وتفانيكم في هذا المجال فبارك الله فيكم، ولا يسعنا بهذه المناسبة ونحن في الجلسة الختامية إلاَّ أن نقدم أخلص الشكر لصاحب السمو أمير البلاد – حفظه الله – على استضافته للمجمع، وإحاطته ورعايته والعناية به، وهو دأبه في كل ما يتصل بالإسلام والمسلمين، كما أنني أكرر الشكر لكم مرة أخرى، وقد أكون عاجزًا عن الشكر فيما قدمتموه خلال أسبوع كامل من هذا البحث الموضوعي الهادف، وقد أتى ثماره، وتليت عليكم قراراته وتوصياته. فشكرًا لكم وبارك الله فيكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2931 وأحب أن أقول لأصحاب الفضيلة والفقهاء والضيوف الكرام، إن اهتمام دولة الكويت وعلى رأسها حضرة صاحب السمو – حفظه الله – ماضٍ بدعم جهود مجمع الفقه الإِسلامي لتحقيق أهدافه وغاياته ومقاصده، بالتعاون مع إخوانه ملوك ورؤساء الدول الإِسلامية من أعضاء منظمة المؤتمر الإِسلامي ونحن سعداء وموفقون كل التوفيق أن يكون هناك تعاون بين المجمع الفقهي الإِسلامي وبين وزارة الأوقاف فيما تقوم به من نشاط فقهي، ومن إحياء للتراث الإِسلامي، ولا أخص بذلك وزارة الأوقاف في الكويت، فقد يكون هناك وزارات أخرى في العالم الإِسلامي تسير نحو المنهج، فالوزارة أصدرت "الموسوعة الفقهية" وقد سلمت إليكم وإلى فضيلتكم ونأمل أن تكون موضع إعجابكم، إن شاء الله. أصحاب الفضيلة والعلماء: إن أسبوع الفقه الإِسلامي الذي انعقد في الكويت، يعطي صورة صادقة جدية عندما يعمل أصحاب الفضيلة والعلماء في هذا المجال، ولقد كنتم محل إعجاب المجتمع في الكويت، سمعتها من مختلف الطبقات ومن مختلف الثقافات أن المجمع الفقهي الذي انعقد في الكويت ضرب المثل الأعلى في مصداقيته في عمله، وفي جديته، وفي أصوليته للوصول إلى ما يهدف إليه فأهنئكم بهذا، وأنا واثق أنكم ستسمعون ما أقول في بلادكم عندما تذهبون إليها سالمين غانمين إن شاء الله، فشكرًا لكم وشكرًا لكل من تعاون معنا في هذا المجمع، ولا أحب أن أطيل، إنما أختم كلمتي بأني أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفق هذه الأمة، وأن يجمعها على كلمة الخير، وأن يحقق المقاصد والأهداف، ونسأله تعالى أن يحفظ صاحب السمو أمير البلاد – حفظه الله – الذي كان حريصًا على هذا المجمع، وكان حريصًا على نجاحه في رسالته، وقد حقق المجمع ذلك، كما نشكر سمو ولي العهد، شكرًا لكم وبارك الله فيكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2932 (2) كلمة معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإِسلامي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدًا يليق بجزيل آلائه من معترف بنعمائه، مستزيد من كريم عطائه، والصلاة والسلام الأتّمان الأكملان على خير أصفيائه وخاتم أنبيائه سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه. معالى الوزير، سيدي الرئيس، حضرات الإِخوة، لقد كان انعقاد مؤتمر هذه الدورة الخامسة لمجمع الفقه الإِسلامي في دولة الكويت، بالاستضافة الكريمة من صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت رئيس القمة الإِسلامية الخامسة، من خلال الدعوة التي نقلها للمجمع معالي الأستاذ خالد أحمد الجسَّار وزير الأوقاف والشؤون الإِسلامية، وقد شرف سمو أمير دولة الكويت عقد هذه الدورة برعايته الشخصية، وإشرافه الكريم المباشر، حيث تولى حفظه الله تتويج الجلسة الافتتاحية بإلقائه الخطاب الجامع الذي اهتزَّ له المؤتمر، وتأثر به، واعتمده وثيقة من وثائق المجمع لعظيم أهميته وما تناوله من حقائق ونبه إليه من مقاصد فقد أشار فيه سموه – حفظه الله - إلى منزلة الفقه وإلى ما يقابله الفكر الإِسلامي من تحديات ومشكلات تتطلب حلولًا اجتهادية إيجابية، وتحدث عن الصحوة الإِسلامية والمستويات المستلزمة للمسؤولية ودور التربية، كما نوه بالإِخاء الإِسلامي والإِنجاز الذي حققته القضية الفلسطينية والاستبشار بالتطور في العلاقات العراقية الإِيرانية، وقضية فلسطين فضلًا عن الجوانب الاقتصادية والإِنسانية للأمة الإِسلامية كما أبدى سموه – حفظه الله – الأمل والتطلع إلى اليوم الذي يلتقي فيه علماء الإسلام على دستور عمل يجمع المسلمين ويوجههم إلى بناء مستقبل رشيد، ثم تفضل معالي وزير الأوقاف والشؤون الإِسلامية بإلقاء كلمته البليغة التي بين فيها دور المجمع ومنزلته في حل المشكلات العصرية، وتوأمته مع مشاريع الوزارة العلمية والمؤسسات الثقافية التي تحفل بها دولة الكويت، ثم تحدث على التوالي كل من معالي الأستاذ سيد شريف الدين بيرزادة أمين عام منظمة المؤتمر الإِسلامي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2933 وفضيلة الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، رئيس مجلس المجمع، والشيخ محمد الحبيب بلخوجة الأمين العام للمجمع، وقد شهد حفل افتتاح هذه الدورة صاحب السمو الأمير الشيخ سعد بن عبد الله الصباح، ولي العهد – حفظه الله – وعدد كبير من أعضاء الحكومة، وثلة من رجال السلك الدبلوماسي الإِسلامي، وكان من ضيوف المؤتمر ممن شارك في حفل الافتتاح أصحاب المعالي وزراء الأوقاف في دولة الإمارات، والبحرين، والعراق، ومصر. ورئيس البنك الإِسلامي للتنمية، وأمين عام جمعية الدعوة الإِسلامية العالمية، وشارك في أعمال هذه الدورة خمسة وثلاثون من الأعضاء المنتدبين من دولهم، وأربعة من الأعضاء المعينين، وقرابة عشرة ومائة من الخبراء والباحثين، واستمرت أعمال هذه الدورة لمدة ستة أيام، ابتداء من 1 – 6 جمادي الأولى 1409 هـ الموافق 10 – 15 ديسمبر 1988م، وتم في جلستها الثانية الإجرائية المغلقة تجديد انتخاب فضيلة رئيس مجلس المجمع الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، ونوابه الثلاثة، كما وقع التجديد لأعضاء مكتب المجمع وتعيين المقرر العام للدورة الدكتور عبد الستار أبو غدة، وتأليف لجنة الصياغة من مقرري الجلسات للموضوعات العشرة المطروحة على الدورة وبإثر ذلك عرض على المجلس جدول الأعمال فأقره بدون تغيير، ودرس مشروع الميزانية المقدم له من طرف الأمين العام وتم إقراره ليرفع إلى اللجنة المالية الدائمة لمنظمة المؤتمر الإِسلامي … وكانت الموضوعات المطروحة على الدورة الخامسة والتي استمع فيها المؤتمر للعروض المقدمة لها على نسق، هي: تنظيم النسل، والوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء، وتغير قيمة العملة، والحقوق المعنوية (بيع الاسم التجاري والترخيص) ، والتأجير المنتهي بالتمليك، والتمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها، وتحديد أرباح التجار، والعرف، وتطبيق أحكام الشريعة الإِسلامية. وقد قدم في هذه الموضوعات العشرة تسعون بحثًا، وناقش المؤتمر أحد عشر عرضًا فيها خلال ثلاث عشرة جلسة، وصدرت بشأن القضايا المعروضة على النظر والدرس القرارات والتوصيات المناسبة التي استمعتم حضراتكم إليها بعد أن صادق عليها أعضاء المجلس، والتي تم توزيعها عليكم. كما أقرت الدورة مشروعًا علميًّا جديدًا نيط إنجازه بالمجمع، وهو دراسة النظام الأساسي للجنة الإِسلامية الدولية للقانون، والنهوض بمهامها بعد إحالة ذلك للمجمع بقرار من مؤتمر وزراء الخارجية الإِسلامي السابع عشر المنعقد بعمان – الأردن، في السنة الماضية. ولا يفوتني في هذا المقام أن أجزل عظيم الشكر والتقدير لسمو أمير دولة الكويت – أعزه الله ونصره – ولولي عهده الأمين – رعاه الله وحفظه – ولأعضاء الحكومة وبخاصة وزير الأوقاف والشؤون الإِسلامية، جزاهم الله عنا كل خير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2934 وإني لأنوِّه باللجان الإِعلامية، والإِدارية، والفنية، والسكرتارية العامة، وأخص بالشكر السيد وكيل الوزارة الأستاذ محمد ناصر الحمضان، على ما لقيناه من صنوف الإِكرام والحفاوة والتسهيلات والسعي الدؤوب لإِنجاح أعمال هذه الدورة على نمط من التنظيم فريد. كما أشكر السادة أعضاء هذا المجمع وخبراءه على ما بذلوه من جهد خلال هذا الأسبوع، ولا سيما المقرر العام للدورة الدكتور عبد الستار أبو غدة، ولجان الصياغة وأجهزة الإِعلام العامة، والمؤسسات الثلاث التي أسهمت في أعمال هذه الدورة، وأبت إلاَّ أن تكرم المشاركين فيها، وأعني بها بيت التمويل الكويتي والهيئة الإِسلامية الخيرية العالمية، والمنظمة الإِسلامية للعلوم الطبية تلك المنظمة التي كان لها الفضل في المبادرة إلى توقيع ميثاق للتعاون بينها وبين المجمع، ليكون هذا تعزيزًا لما تحرص عليه الجهتان من التنسيق والعمل الجماعي المنظم لتحقيق أهدافهما في المجالات المشتركة، وأشكر لمعالي الرئيس الشيخ بكر بن أبي زيد، حسن إدارته وجميل أدبه وجهوده المتواصلة لتحقيق الخير للمجمع، والنهوض بكل الوسائل المتاحة له لبلوغ وتحقيق أهدافه. وختامًا: آمل أن تكون هذه الدورة إضافة جديدة إلى منجزات مجمعكم الموقر، وأن يتضاعف نشاطه عامًا بعد عام ليواصل مسيرته في سبيل خير الأمة الإِسلامية، وإلى لقاء خير جديد حافل بالجهود العلمية والدراسات الشرعية الفقهية، والقرارات المجمعية العملية، تتجلى به الحقائق وتؤصل به الأنظار والقواعد، وتبين به المناهج القويمة والمسالك الرشيدة بتوفيق من الله العزيز الحميد، وتسديد كريم من الله سبحانه إنه ولي الخير والهادي إلى أقوم سبيل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم … الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2935 (3) كلمة معالي رئيس مجمع الفقه الإِسلامي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وسلم عليه وعلى آله وعلى أصحابه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن أهل العلم والإِيمان من سلف هذه الأمة أبانوا غاية البيان وأوضحوا غاية الإِيضاح عن منزلة العلم في الإِسلام، وقد كان من دقيق تراجمهم باب: "العلم قبل القول والعمل" وإن مجمع الفقه الإِسلامي في دورته الخامسة هذه، قد أمد المسلمين والباحثين والدارسين بجملة وافرة من البحوث والدراسات الإِسلامية في القضايا والنوازل المعاصرة، بلغت نحوًا من تسعين بحثًا إضافة إلى بحوثه السابقة في دوراته المنصرمة والتي تمثل مجموعها نحوًا من خمسين ومائتين من البحوث، وأنتج عشرة كاملة من القرارات الفقهية إضافة إلى القرارات الإِدارية تنضم جميعها إلى قراراته المجمعية والتي تبلغ نحوًا من خمسة وأربعين قرارًا، وكل هذه القرارات – ولله الحمد والمنّة – تتسم بالوسطية والاعتدال بالرأي لأنها تناشد الدليل من الكتاب والسنة ومصادر الشريعة الأصلية والتبعية كافة، وإن هذا المجمع برجاله أعضائه العاملين والمعينين والباحثين والخبراء تمَّ بفضل الله على أيديهم، ثم بفضل جهودهم أن يكون الاعتدال والوسطية في الرأي هو النتيجة التي تكون في قرارات هذا المجمع، وعليه فإنني أبشركم وسائر المسلمين ممن يسمع أو تبلغه كلمتي هذه أنه لا مكان للشذوذ في الرأي في هذا المجمع بحمد الله، وأنه لا مكان لتبرير واقع آثم في هذا المجمع بحمد الله، فكل ذلك منبوذ نبذ النواة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. هذا وإن من رد أعجاز الكلم على صدرها، وإن من محاسن الشريعة ومكارمها وسمو آدابها إبداء الاعتراف بالفضل لأهله والبر للبررة، فنشكر صاحب السمو أمير البلاد سمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، على كريم عنايته وضيافته وتتويجه هذه الدورة بالافتتاح ونشكر سمو ولي العهد الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح، على جهوده المباركة ولا نملك لهما إلاَّ الدعاء الصالح وأن ينفع بهما الإسلام والمسلمين إنه على كل شيء قدير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2936 هذا: إذا ما راية نصبت لمجد تلقاها الموفق باليمين وذلك أن معالي وزير الأوقاف والشؤون الإِسلامية الأستاذ خالد الأحمد الجسار، قد بذل عناية فائقة، ودقة في تسيير الأعمال، ومراقبة دقيقة آناء الليل وأطراف النهار، يشاهده كل واحد من أعضاء هذا المجمع، وكل زائر لهذا المبنى، فجزاه الله كل خير، وقد كان هذا من أعظم الأسباب التي وفرت على المجمع نجاحه، ومن توفيق الله له أن كان بجانبه ثلة من العاملين في وزارة الأوقاف وعلى رأسهم سعادة الأستاذ الفاضل محمد بن ناصر الحمضان، وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية، ووكلاؤه المساعدون، ومدراء الإدارات، وأجهزة الإِعلام، وغيرهم من رجال هذه الحكومة، فإلى جميع هؤلاء أجزي خالص الشكر والتقدير ودعوة صالحة لهم في الحاضر والعاجل فجزاهم الله خيرًا.. هذا، وإن معالي أمين هذا المجمع الشيخ محمد الحبيب بالخوجة، الشاب الفتي في روحه وأخلاقه وتصرفاته، الشيخ في سنه، والذي عركته الحياة، وعرف تجارب الأمم والدول إضافة إلى علمه وفضله، فله مني ومن جميع الأعضاء خالص الشكر والتقدير، لدقة ترتيبه وتنظيمه وعنايته في نجاح هذه الدورة، ولرجال الأمانة العاملين فيها من السكرتارية والراقمين وغيرهم، أبدي خالص الشكر والتقدير. وفي النهاية أدعو الله فأقول: اللهمَّ اجعل عملنا كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لواحد فيه شيئًا، اللهمَّ أعز الإسلام والمسلمين وانصر عبادك المؤمنين … وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين … والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبهذا تُرفع الجلسة.. وشكر الله سعيكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2937 العدد السادس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 كلمة معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الدكتور حامد الغابد بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد المبعوث للعالمين. إنه لمن دواعي السرور والبهجة أن أقدم هذا العدد السادس من مجلة مجمع الفقه الإسلامي إلى ملوك ورؤساء الدول الإسلامية وإلى كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية. وهذا العدد - كالأعداد السابقة - يزخر بموضوعات تخص حياة كل مسلم نعم لقد عالج المجمع من خلال هذا العدد موضوعات متنوعة ومتجددة ومشكلات عدة تشغل بال كل مسلم، وكأن المجمع فحص ضمير كل فرد من المسلمين وتعرف على ما يقلق ضمائرهم ويشغل أذهانهم، فجاء اختيار هذه الموضوعات ناطقاً بلسان أحوالهم. فعلى سبيل المثال لا الحصر من ضمن المسائل التي بحثت في هذا العدد: حكم زراعة الأعضاء، حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة، حكم التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها. إلخ. فهذه المسائل - كما هو واضح - تعد كلها من قضايا الساعة. فقام علماؤنا الأجلاء - أعضاء المجمع - بتناول هذه الموضوعات دراسة وعرضًا ومناقشة، ثم توصلوا فيها - بحمد الله - إلى حلول ناجعة ومقنعة. فجزى الله - عن الإسلام والمسلمين- هذه النخبة من علماء الأمة. وهذا في الواقع ليس بغريب ولا بجديد على المجمع، فلقد دأب منذ إنشائه على مواكبة الحياة العصرية وتطور العلوم بجميع أنواعها، وذلك باستباق الحوادث والبحث عن حل لكل ما يطرأ على الحياة اليومية للمسلمين من مشكلات وقضايا معقدة، مستقيًا تلك الحلول من نبع شريعتنا الغراء. فدور المجمع - من بين كل المؤسسات المنبثقة عن منظمة المؤتمر الإسلامي - دور متميز وحيوي حيث إن الأمانة العامة للمنظمة والمؤسسات الأخرى كثيراً ما تحتاج إلى المجمع في الاستفسار عن حكم الله في بعض أمورها. وأكبر دليل على ذلك، أنني - شخصيًا - طلبت أكثر من مرة مساعدة المجمع في توضيح بعض المسائل الدينية، كما أعرف أن البنك الإسلامي للتنمية يستعين غالبًا بالمجمع في إيجاد حل لبعض الأمور المتعلقة به. وبذلك نستطيع القول بأن المجمع بمثابة العمود الفقري في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 وهكذا يتبين لنا أن دور المجمع أساسي خصوصا إذا لاحظنا أن شعوبنا بحاجة ماسة إلى التوعية بالثقافة الإسلامية المستنيرة التي تعادل ما يشهده العالم بأسره من تطور وللوقوف في وجه التيارات, تلك التيارات التي لا تدخر وسعا في تشويه الصورة المشرفة لشريعتنا الإسلامية السمحة حيث تكمن وراءها تنظيمات وحركات مشبوهة تعمل على توفير الإمكانات لها وتعنى بتأطير المفكرين ورجال التعليم والأطباء وكبار المسئولين في العديد من المؤسسات، ومختلف الشرائح الاجتماعية في بلدانها لتحقيق أهدافها ودسائسها عن طريق مختلف وسائل الإعلام التي تتوافر لها بصورة مذهلة. وإنني على ثقة بأن المجمع لقادر على التصدي لهذه التيارات والحركات المشبوهة، بل هذا التصدي حاصل فعلاً وإن كان بصورة أقل بالنسبة للشعوب غير الناطقة باللغة العربية، ولذلك أدعو العلماء في هذا المجمع الموقر بمزيد من الاهتمام بالشعوب الإسلامية غير الناطقة باللغة العربية فإنها - ولله الحمد - تتميز بصادق الإيمان والحرص الأكيد للحصول على ما يدعو إلى بناء شخصيتها الإسلامية. ومن المهم هنا أن أجدد دعوتي بترجمة أكبر قدر ممكن مما يصدره المجمع إلى اللغات التي يتكلم بها المسلمون حتى يدركوا مقاصد الشريعة الإسلامية بالاستناد إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وليعملوا بالحلول والأحكام الشرعية التي تصدر عن هذا الصرح الإسلامي الكبير. وفي الختام يسعدني أن أرفع شكري وتقديري لمقام خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود وأن أنوه بما تظفر به منظمة المؤتمر الإسلامي وجميع أجهزتها من كريم رعايته ودعمه السخي مما يمكنها من ممارسة أنشطتها بكل نجاح وطمأنينة، فشكر الله له وسدد خطاه إنه نعم المولى ونعم النصير. كما أشكر جميع ملوك الدول الإسلامية ورؤسائها لما قدمونه من دعم للمنظمة ومختلف أجهزتها. ولا يفوتني في هذا المقام أن أشيد بالجهود التي يقوم بها فضيلة الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام للمجمع الذي يعود إلى حسن إعداده وعلمه وإخلاصه الدور الكبير في تهيئة الجو المناسب لنجاح أعمال المجمع فجزاه الله عن الأمة كل خير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه. الدكتور حامد الغابد الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 كلمة معالي رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمد العابدين الشاكرين، أحمد وأثني عليه بما هو أهله، وبما أثنى هو على نفسه، وأصلي وأسلم على صاحب الخلق العظيم، الذي أرسله الله للناس كافة بشيراً ونذيراً، محمد رسول الله صفوته من خلقه، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن يتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: ففي السابع عشر من شهر شعبان عام 1410 هـ، وبرعاية خادم الحرمين الشريفين، وبالإنابة عنه - حفظه الله - افتتح صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة الدورة السادسة لمؤتمر مجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة بكلمة سامية منوهًا فيها بالمجمع وبرسالته ومؤيدًا ما يصدر عنه من قرارات وتوصيات، وقد تلقى المؤتمر هذه الكلمة الكريمة بالثناء والشكر والتقدير وعدها من وثائقه الرسمية. ولقد ضم موكب الافتتاح جمعاً كريما من العلماء، والفقهاء، والخبراء، وأرباب الفكر وأصحاب الرأي، ورجال السلك " الدبلوماسي " العربي وغيرهم من مختلف الدول الإسلامية يتقدمهم الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي معالي الدكتور حامد الغابد، هذا إلى جانب ممثلي وسائل الإعلام المرئية، والمسموعة، والمكتوبة، مما عكس صورة الاهتمام بالمجمع ومكانته العلمية المرموقة في العالم الإسلامي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 وباستضافة كريمة من حكومة خادم الحرمين الشريفين ومن شعب المملكة العربية السعودية الكريم، تواصلت أعمال هذه الدورة المباركة في الفترة من 17 إلى 23 شعبان 1410 /14 -20 مارس 1990 م حيث عرض أصحاب الفضيلة العلماء والسادة الخبراء على مجلس المجمع عددًا وافرًا من البحوث القيمة التي تناولوا فيها عددًا من الموضوعات والنوازل، والمستجدات الفقهية المعاصرة، وبذلوا فيها من الوسع ما وسعهم البذل، وأداروا حولها حلقات العرض، وجلسات المناقشة التي اتسمت بتلاقح المذاهب الفقهية، ونضج الآراء والمفاهيم، وبتحري الدقة، واعتماد مبدأ الاستقراء لاستنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المعتبرة، ومظانها الموثوقة، ولإيجاد الحلول الشرعية لمشكلات الحياة المعاصرة التي اختلط فيها الحلال بالحرام، وحارت بسببها العقول، وعانى منها المسلمون ما عانوا فنهض المجمع مضطلعًا بمسئولياته بحثًا عن تحقيق مصالح الأمة على وفق مقاصد الشريعة الغراء وروحها السمحة. وكان فضل الله عظيما على رجال المجمع إذ جاء نتاج هذه الدورة جمًا وفيرًا، فضم إلى - جانب هذه البحوث- اثني عشر قرارًا مجمعيا شرعيا وتسع توصيات تُوِّجت في مبتداها بدعوة المسلمين في كل مكان إلى التضامن واتحاد الكلمة والالتزام بالحلول الإسلامية لمشكلاتهم، وتقديم الإسلام للعالم حلاً لجميع معضلاته. وأنت أيها القارئ الكريم: ترانا قد جمعنا لك كل هذا في المجلدات الثلاثة التي نضعها بين يديك ممثلة العدد السادس من "مجلة مجمع الفقة الإسلامي " في ثوبها القشيب، لتبلغ من أعداد الدورات السابقة ستة عشر مجلداً، نشرناها لإفادة العلماء وطلاب العلم، وخاصة المسلمين وعامتهم، بما يقوم به المجمع من أنشطة وما يقدمه من دراسات ويصدر عنه من قرارات. أسألك اللهم التوفيق والسداد في جميع أعمالنا والحمد لله رب العالمين وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 كلمة معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، له الحمد - كما ينبغي لجلاله وسلطانه {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وجعله خاتمًا للأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: ها هي الرعاية الملكية السامية المتجددة من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز - حفظه الله - تتصل حلقاتها، وتتواصل معطياتها في صورة متعددة تمثل حرصه - أعزه الله - على تقديم كافة أشكال الدعم المعنوي والمادي لمجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة، مؤكداً بالفعل قوله السامي " إننا ندعم هذا المجمع لأننا نعتقد أن مهمته كبيرة، ومسئولياته عظيمة وأن أمة الإسلام تنتظر من ورائه الخير والفلاح إن شاء الله تعالى ". فمع إشراقة اليوم السابع عشر من شهر شعبان عام 1410 هـ قام صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة – نيابة – عن حضرة خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – بافتتاح الدورة السادسة لمؤتمر مجلس المجمع وقد جاء في كلمته: وأنتم هنا في المجمع الفقهي تواجهون شئون الحياة المتغيرة المتطورة بالكلمة الطيبة الحكيمة، ودراسة القضايا المطروحة أمامكم بالبحث والتقصي علميًا ودينيًا لتحقيق مستقبل أفضل للمجتمعات الإسلامية. . . وبتطبيق الدول الإسلامية لقراراتكم وتوصياتكم تستطيع المجتمعات الإسلامية أن تكيف نفسها وعلاقاتها حسب تغير الزمن وتغير أوضاع الحياة " هذا وقد اعتمدت الكلمة الملكية الشريفة وثيقة أساسية من وثائق المؤتمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 وفي رحاب هذه الديار استضاف الشعب العربي السعودي الكريم، وحكومة خادم الحرمين الشريفين مشكورين هذه الدورة السادسة لمؤتمر مجلس المجمع مثلما استضافوا من قبل دوراته: الأولى، والثانية، والرابعة، فجزاهم الله جميعاً عن المسلمين بعظيم الأجر، وجزيل المثوبة. وفي الفترة من 17 إلى 23 شعبان عام 1410 هـ (14 إلى 20 مارس 1990 م) التأم جمع من رجال الفقه والطب والاقتصاد، وأسهم في أعمال هذه الدورة ثلة كريمة من أصحاب الفضيلة العلماء، وزمرة متميزة من المتخصصين والباحثين والخبراء إلى جانب أعضاء مجلس المجمع ممن حضروا المؤتمر، فبلغت جلسات العرض والدرس والمناقشة (16) جلسة، تناولوا فيها (68) بحثًا بذل أصحابها في إعدادها أقصى جهد، وعرضوا فيها الموضوعات التالية: 1- التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها. 2- البيع بالتقسيط. 3- حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة. 4- القبض وصوره، بخاصة المستجدة منها. 5- زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي. 6- البويضات الملقحة الزائدة عن الحاجة. 7- استخدام الأجنة مصدرًا لزراعة الأعضاء. 8- زراعة الأعضاء التناسلية. 9- زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص. 10- الأسواق المالية. 11- السندات. وقد اتخذ مجلس المجمع بصدد كل موضوع من هذه الموضوعات قراره الشرعي كما أصدر قرارًا بشأن " الموضوعات والندوات المقترحة من شعبة التخطيط " فجملة ما صدر عن هذه الدورة اثنا عشر قرارًا مجمعيًا، وأوصى مجلس المجمع بتقديم دراسات وبحوث وافية في موضوع " تعدد كفارة القتل " للبت في اتخاذ قرار بشأنه، وبتأجيل موضوع " الأسهم " لإعداد المزيد من البحوث والدراسات فيه، وبتكوين لجنة - تعيينها الأمانة العامة للمجمع - من الفقهاء والاقتصاديين للإجابة عن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية بشأن المشاركة في الشركات المساهمة، هذا إلى جانب عدد آخر من التوصيات التي بلغ مجموعها تسع توصيات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 وحرى بنا ونحن نقدم العدد السادس من " مجلة مجمع الفقه الإسلامي" أن نؤكد للقارئ الكريم أن سنة مجلس المجمع التي جرى عليها منذ تأسيسه قد اعتمدت المنهج العلمي للوصول إلى اتخاذ قراراته الشرعية، وتوصياته المجمعية، فهو لا يفتأ يدرس واقع المسائل والمشكلات والنوازل، ويعرضها على أنظار العلماء والباحثين والخبراء، ويوازن بصددها بين الآراء ويفيد من اختلاف المذاهب الفقهية حتى يظهر له الدليل الشرعي بشأنها بالاستناد إلى مصادره الأساسية من القرآن الكريم، والسنة الشريفة، والإجماع، والقياس، مع مراعاة مصالح المسلمين في إطار المقاصد الشرعية، لتحقيق الحياة الإسلامية في شتى شئون الحياة المعاصرة. ومما تجدر الإشارة إليه - ونحن نقدم للقراء الأكارم هذا العدد السادس بأجزائه الثلاثة من: مجلة مجمع الفقه الإسلامي " - هو أن هذه البحوث التي أعدت حول الموضوعات التي طرحت على مجلس المجمع هي نتاج جهود مخلصة بذلها أصحاب الفضيلة العلماء والفقهاء، والأساتذة الخبراء والمتخصصون الذين نتقدم إليهم بخالص الشكر والثناء على ما يبذلونه من جهد في سبيل تبصير أمتهم بأمور دينها ويعملون ابتغاء مرضاة الله لتحقيق نهضتها، فجزاهم الله عنا وعن المسلمين بما يجزي به عباده الصالحين، وضاعف لهم - ولكل من أسهم في إنجاز هذا العمل الشريف - الأجر والمثوبة، إنه سميع كريم ودود رحيم. أسأل الله تعالى أن يسلكنا في زمرتهم، وأن يمدنا بالقوة لخدمة الإسلام والمسلمين، وأن يحفظ أمتنا ويأخذ بيدها للالتزام بخط الإسلام وتطبيق شرائعه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبة وسلم. الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 كلمة صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة نيابة عن خادم الحرمين الشريفين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله خلق الإنسان علمه البيان، زوده بالفكر الثاقب والدراية الحميدة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الحق المبين وعلى آله وصحبه أجمعين: أيها الإخوة الأعزاء السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: إن من دواعي سروري أن أفتتح نيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز الدورة السادسة للمجمع الفقهي، كما يسرني أن أرحب بكم في بلدكم وبين إخوانكم وإننا في المملكة العربية السعودية نستبشر كلما اجتمع علماء وفقهاء وحكماء الأمة الإسلامية، فبالأمس القريب اجتمع في القاهرة مندوبو الدول الإسلامية وتوصلوا إلى نتائج عظيمة في مقدمتها بل من أهمها التوصية بتطبيق الشريعة الإسلامية وأنتم هنا في المجمع الفقهي تواجهون شئون الحياة المتغيرة المتطورة بالكلمة الطيبة الحكيمة ودراسة القضايا المطروحة أمامكم بالبحث والتقصي علميًا ودينيًا لتحقيق مستقبل أفضل للمجتمعات الإسلامية. وبتطبيق الدول الإسلامية لقراراتكم وتوصياتكم تستطيع المجتمعات الإسلامية أن تكيف نفسها وعلاقاتها حسب تغير الزمن وتغير أوضاع الحياة دون أن تفقد الأمة الإسلامية خصائصها ومقوماتها الذاتية وحتى يتمكن المجتمع المسلم من أن يعيش ويستمر ويرتقي ثابتاً على أصوله وقيمه وغاياته متطوراً في معارفه وأساليبه وأدواته. أيها الإخوة الأعزاء: لقد مرت بنا فترة من الزمن نرى حولنا من ينظر بنظرة إعجاب إلى المعتقدات النظرية والأيدلوجيات الفكرية ويتمنون أن يسود هذا الفكر المجتمعات الإسلامية والإنسانية كلها شرقاً وغرباً باعتقاد أنه الحل السليم والوحيد للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يعيشها الإنسان ويعاني منها في جميع أدوار الحياة. ورأينا كيف انهار هذا الفكر المضاد لشريعة الله في الأرض بسرعة عجيبة فقد ثبت زيف هذه الأفكار والمعتقدات التي لا تنبع من واقع الإيمان لعدم انسجامها مع طبيعة الإنسان وفطرة الله التي فطره عليها. أيها الإخوة الكرام: إننا في المملكة العربية السعودية مع تمسكنا بكتاب الله وشرعه ومع التزامنا بهدى نبينا عليه الصلاة والسلام نتابع ما يجري في العالم من متغيرات وتطورات ونأخذ منها ما يتمشى وديننا الحنيف وما يتناسب وتقاليدنا وأخلاقنا الإسلامية ونؤيد ما يصدر من مجمعكم الفقهي ونسأل الله عز وجل أن يوفق المسلمين في كل مكان لتطبيق كتاب الله وشرعه في كل أمر من أمورهم. . كما نسأل الله تبارك وتعالى أن يلهم الأمم الإسلامية ما فيه رضاه وأن يوفقنا إلى الهدى والرشاد , والسلام عليكم. ماجد بن عبد العزيز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 كلمة معالي الأستاذ خالد أحمد الجسار وزير الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت بسم الله الرحمن الرحيم صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز آل سعود أمير مكة المكرمة معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس المجمع فضيلة الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام للمجمع أصحاب الفضيلة أعضاء المجمع وخبرائه الكرام السادة الضيوف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه. . وبعد: فإن أبرز خصائص شريعتنا الإسلامية السمحة الوفاء بحاجات الناس في كل عصر ومكان، مهما تطورت مرافق الحياة وتنوعت وسائلها، ولا سيما في المجالات التي شهدت وثبة أشبه ما تكون بالطفرة بفعل أدوات البحث وأجهزة الاستبصار بالحقائق الطبية ووسائل الاتصال والصيغ المبتكرة للتعامل في الأنشطة الاقتصادية، والانفجار الفكري في المقولات العقدية والتربوية، كل ذلك على أصعدة مشتركة ووفق تصورات جديدة ومعطيات فريدة. . وبالرغم من هذا كله لم تضق بها شريعتنا الغراء ولا عجز عنها ديننا الكامل، فهما العروة الوثقى وحبل الله المتين لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وبكتاب الله وسنة رسوله الأمان من الضلال، ومنهج الفوز والفلاح. إن مجمع الفقه الإسلامي كما يحقق صورة جلية من صور التعاون والتكامل في عالمنا الإسلامي فإنه عودة مدروسة للاجتهاد بصورة جماعية، وهو لون من ألوان الإجماع على الوجه المتاح عصرياً لوقوعه، ولا يخفى ما في ذلك من قطع دابر الخلاف الفكرى وتضييق شقة الاختلاف العملي، لمواجهة متطلبات العصر بما تستحق من طاقات علمية وثقافية، ومعالجة القضايا المستجدة بما يواكب آفاقها التشريعية والإجرائية للأجيال المتلاحقة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 ولقد يسر الله لدولة الكويت أن تستضيف الدورة الخامسة للمجمع ـ تعبيرًا عن اهتمامها بدعم المشاريع العلمية الإسلامية على أوسع نطاق ـ وتحقيقًا لأهداف مؤسساتها وأنشطتها التي تعنى بخدمة الإسلام ونفع المسلمين، ولا سيما مشروع الموسوعة الفقهية التي صدر منها ثلاثة وعشرون جزءًا فضلا عن مشروع آخر علمي إسلامي تخطط وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت للمضي فيه مع البنك الإسلامي للتنمية في جدة لوضع كشاف آلي لمائة كتاب من أشهر مصادر الفقه الإسلامي بواسطة الحاسب الآلي، مع إعادة نشر تلك المصادر بما يضمن ملاءمتها مع ما انتهت إليه أصول الإخراج والنشر. وإذا كان هذان المشروعان يتعلقان بالفقه والتشريع فإن سمو أمير دولة الكويت – حفظة الله – قد رعى مشروعًا آخر أهداه للعالم الإسلامي وهو الموسوعة الإسلامية التي تشتمل على دراسة مستفيضة لأحوال وأوضاع العالم الإسلامي التاريخية والسكانية والغذائية والصحية والجغرافية والاجتماعية والثقافية وكل ما يحقق التكامل بين طاقات الأمة الإسلامية لتزداد تقدمًا وازدهارًا في شتى المجالات، وبهذا التعريف وتسليط الأضواء على أحوال المسلمين في بلادهم تتوثق علاقاتهم القائمة على أخوة الإيمان. إن هذا المجمع الفقهي الدولي الذي نشهد اليوم افتتاح دورته السادسة لهو أحد ثمرات منظمة المؤتمر الإسلامي – التي ترعى الكويت شئونها منذ ثلاث سنوات ويتولى سمو أميرها الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح رئاستها وتسيير دفتها بما آتاه الله من قوة وحرص على تحقيق ما فيه مصلحة الإسلام وخير المسلمين. . ولم تزل حية تلك الدعوة الحقة التي أعلنها من أعلى منصة دولية لحل مشكلة الديون العالمية، بإسقاط الفوائد عن الدول النامية التي تعاني من غلبة الدين ومعضلاته، وأن يشمل الإسقاط جزءا من أصول الديون عن الدول الأشد فقرا، فضرب بذلك مثلا للتكافل الاقتصادي في ظل مبادئ الإسلام، وطالب بالاحتكام إلى ما فيه من حلول لإحدى المشكلات العالمية التي تصيب الاقتصاد الدولي بالشلل إن لم يبادر إلى حلها. وإذا كان فيما مضى نمط من التحدث بنعمة الله، واستجماع الجهود والطاقات لنجاح المبادرات لتأخذ عمقها في مظلة التعاون الإسلامي المثمر فإن إزجاء الشكر لمستحقه واجب إذ لا يشكر الله من لا يشكر الناس. فلا يخفى الدور الكبير للملكة العربية السعودية بقيادة رائدها وقائد مسيرتها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود – حفظه الله – في توفير ما يتطلبه هذا المجمع من مقومات ودعم مستمر، ومن خلال العناية التي توليها المملكة لتنفيذ مشروعاته ونشر إنتاجه وهي مأثرة تتواءم مع حرص المملكة على تجلية مبادئ الإسلام ودعم روابطه وإمداد مؤسساته داخل وخارج العالم الإسلامي. ولا يفوتني أن أشكر القائمين على المجمع فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد والعالم الفاضل الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة لجهودهما المبرورة في الإعداد للدورات والتفاني في توثيق علاقات المجمع بالمؤسسات المشابهة في شتى أنحاء العالم الإسلامي. وفي الختام أسأل الله – عز وجل – أن يبارك في أوقات هذه الدورة وأن يعين أعضاء المجمع وخبراءه ورئاسته على أداء الأمانة التي حملوها للحفاظ على أصالة هذا الدين وتحقيق خصائص هذه الشريعة بما يجدد للأمة دينها ويبعث فيها النهضة ويستثمر صحوتها، ويحقق آمالها، إنه سميع مجيب. . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. خالد أحمد الجسار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 كلمة معالي الدكتور حامد الغابد الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وتفقه في دينه إلى يوم الدين. حضرة صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة وممثل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز صاحب الفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجمع الفقه الإسلامي صاحب الفضيلة الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة أمين عام المجمع أصحاب المعالي أصحاب السعادة أصحاب الفضيلة أيها السادة الحضور السلام عليكم ورحمه الله وبركاته: يشرفني أن أشارك لأول مرة منذ تحملت مسئوليتي في الأمانة العامة في جلسة افتتاح هذه الدورة السنوية السادسة لمجمع الفقه الإسلامي التي يرعى أعمالها خادم الحرمين الشريفين مثلما رعى - حفظه الله - الدورات الأولى، والثانية، والرابعة لهذا الصرح الإسلامي العظيم. وإني لأشعر بسعادة غامرة لوجودي بينكم خاصة وأن هذه الدورة السادسة لمجمعكم الموقر تلتئم بعد أسابيع قليلة من احتفال المنظمة بعيدها العشرين الذي أقيم تحت الرعاية السامية لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، وبإشراف صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام. ويشرفني أن أنوه برعاية خادم الحرمين الشريفين، ودعمه المادي والمعنوي لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ولجميع المؤسسات المنبثقة عنها، وأود أن أؤكد بهذه المناسبة الكريمة بأن هذه الرعاية السامية للعمل الإسلامي المشترك ما هي إلا إمتداد للمنهج الذي اختطه المغفور له الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - حيث حمل أبناؤه الكرام الراية من بعده، وبذلوا كل ما يملكون من جهد ومال في سبيل الدفاع عن قضايا الأمة الإسلامية، وتوفير الأمن والراحة لضيوف الرحمن من الحجاج والمعتمرين القادمين من كل فج عميق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 واسمحوا لي أن أرفع لمقام خادم الحرمين الشريفين أسمى آيات الشكر والتقدير، وأن أشيد بما تحظى به منظمة المؤتمر الإسلامي وكافة أجهزتها من كريم رعايته، ودعمه السخي مما يمكنها من ممارسة أنشطتها في جو من الطمأنينة والأمان، فجزى الله خادم الحرمين الشريفين عن الأمة الإسلامية كل خير. كما أود أن أتقدم أيضاً إلى صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز، أمير منطقة مكة المكرمة، بوافر التقدير وأصدق عبارات الشكر لما قدمته جميع المصالح المختصة في منطقة مطلقة مكة المكرمة حتى أقيم الاحتفال بالذكرى العشرين لإنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي في أحسن الظروف، فأرجو أن أعبر من خلال سموه إلى كل المسئولين عن هذه المصالح عن مشاعر التقدير والامتنان. صاحب السمو الملكي حضرات السادة لقد أتيح لي أن أطلع عن كثب على أنشطة مجمع الفقه الإسلامي، وأن أتعرف على المهام التي يضطلع بها والأعمال التي أنجزها في هذه الفترة القصيرة وفي ظروف لم تخل من الصعوبات – فوجدتها إنجازات بالغة الأهمية فاسمحوا لي بهذا الصدد بأن أنوه بالجهود الخيرة التي يبذلها فضيلة الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام للمجمع، تلك الجهود المتواصلة التي آتت أكلها وتكللت – بفضل الله – بالنجاح، وبتحقيق النتائج الإيجابية المرجوة حيث أصبح للمجمع مكانته العلمية المرموقة، وصار يمثل ركيزة أساسية من ركائز منظمة المؤتمر الإسلامي، فامتد أثره إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي والجاليات الإسلامية التي تعيش في دول غير إسلامية. ولقد كان من رواء كل ذلك، هذا الإدراك العميق الذي تميز به فضيلة أمين عام المجمع وبتحريه للمشكلات المعاصرة التي تواجه الشعوب الإسلامية، وبمتابعة التيارات المناهضة للإسلام، ولا يفوتني أن أنوه بالجهود العظيمة التي يبذلها معالي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس المجمع وأصحاب الفضيلة العلماء الأجلاء وأصحاب السعادة الخبراء والباحثون حيث تضافرت جهودهم وأعمالهم لمعالجة القضايا المعاصرة، ولمواجهة تحديات العصر. ولقد وجدت خير دليل على هذا المستوى الرفيع لاهتمامات مجلسكم الموقر فيما يحتويه جدول أعمال هذه الدورة من موضوعات حية ذات صلة مباشرة بحياة المسلمين اليومية مثل: التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها، وبيع التقسيط، وحكم إجراء العقود بالآت الاتصال الحديثة، وفن التمثيل، وزراعة الأعضاء، والقبض والأسواق المالية، هذه الموضوعات تعد كلها من قضايا الساعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 صاحب السمو الملكي أصحاب المعالي والسعادة والفضيلة أيها الإخوة إن شعوبنا الإسلامية بحاجة إلى التوعية بالثقافة الإسلامية المستنيرة التي توازي ما يشهده العالم بأسره من تطور، وللوقوف في وجه التيارات الخطيرة المناهضة للإسلام، تلك التيارات التي لا تدخر وسعاً في تشويه الصورة المشرفة لشريعتنا الإسلامية السمحة، حيث تكمن وراءها تنظيمات وحركات مشبوهة تعمل على توفير الإمكانات لها، وتعنى بتأطير المفكرين ورجال التعليم والأطباء وكبار المسئولين في العديد من المؤسسات ومختلف الشرائح الاجتماعيه في بلدانها لتحقيق أهدافها ودسائها عن طريق مختلف وسائل الإعلام التي تتوافر لها بصورة مذهلة، وليس من شيء أدل على ذلك من الإعلام الصهيوني العنصري الذي يعمل على محو تراثنا الإسلامي في القدس الشريف والأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة. ولكن الانتفاضة الفلسطينية الباسلة التي يقودها أبطال الحجارة على أرض فلسطين، استطاعت أن تكشف زيف هذا الإعلام، وأن تقف في وجه مخططات الاستيطان والتهويد الصهيونية، وأن تبرز للعام عنصرية الكيان الصهيوني حيث قدم أبناء الشعب الفلسطينى المجاهد عبر انتفاضتهم الشجاعة عشرات الألوف من ضحايا القتل والإبعاد والاعتقال. صاحب السمو الملكي. أصحاب المعالي والسعادة والفضيلة أيها الإخوة لقد سعدت بمبادرة المجمع في ترجمة مجموعات القرارات والتوصيات الصادرة عن مجلسكم الموقر في دوراته الخمس السابقة إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وآمل أن يتصل هذا العمل، وأن يتسع مداه إلى اللغات الأخرى التي ينطق بها المسلمون حتى يدركوا مقاصد الشريعة الإسلامية بالاستناد إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وليعملوا بالحلول والأحكام الشرعية التي تصدر عن هذا المعلم الإسلامي الكريم. ولذلك فإن دعوتي للسادة العلماء في هذا المجمع هي المزيد من الاهتمام بالشعوب الإسلامية غير الناطقة بالعربية، فإنها – ولله الحمد – تتميز بصادق الإيمان والحرص الأكيد للحصول على ما يدعم كيانها وبناء شخصيتها الإسلامية التي ظلت صامدة بفضل الله، ثم بتمسكها بعقيدتها في مواجهة التيارات العاتية. إن العمل الإسلامي من خلال منظمة المؤتمر الإسلامي ومختلف أجهزتها من خلال مجمع الفقه الإسلامي لقادر على تحقيق إنجازات ضخمة لفائدة الشعوب الإسلامية وعلى اختراق الحواجز ليشع على العالم بأسره فيعم نفعه البشرية قاطبة وبخاصة المجتمعات التي طغت المادية على حياتها فأضحت في حيرة من أمرها تتقاذفها التناقضات والأزمات المادية والروحية. إننا معشر المسلمين مطالبون ببذل الجهد على صعيد العالم الإسلامي وخارجه، لأننا أصحاب رسالة خالدة، رسالة الإسلام التي يمتد إشراقها إلى البشرية قاطبة , فلنعمل متضامنين في هذا السبيل.. {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} صدق الله العظيم والله ولي التوفيق. . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. حامد الغابد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 كلمة فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبوزيد رئيس مجلس المجمع بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: بسم الله الرحمن الرحيم. . الحمد لله بكل نعمة أنعم الله بها علينا في قديم أو حديث أو في سر أو علانية وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا في أسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم عليه كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون ورضي الله عن الصحابة والتابعين ومن يتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. . أما بعد: فعلى خمس سنوات مضت من عمر هذا المجمع المبارك المجيد، تم عقد دورات خمس له في بعض من دول العالم، في المملكة العربية السعودية، وفي المملكة الأردنية الهاشمية، وفي دولة الكويت، واليوم تعقد دورته السادسة على أرض المملكة العربية السعودية في ضيافة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود – حفظه الله ورعاه – ملك المملكة العربية السعودية، مفتتحة بنيابة صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز آل سعود – حفظة الله ورعاه – أمير منطقة الحرم الحرام حرسه الله تعالى. صاحب السمو الملكي أصحاب المعالي الوزراء أيها العلماء الأجلاء أيها الجمع الكريم ما أسعدها من لحظات قضيتها مع صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز آل سعود – حفظة الله – بين يدي هذه الدورة منذ لحظات وكان أن سمعت مع بعض أصحاب الفضيلة المشايخ لفتة كريمة واهتماما كريما بشئون العالم الإسلامي وبخاصة فيما يتعلق بأحوال غير المسلمين في البلاد غير الإسلامية وما ينبغي من اليسر والسهولة وإبلاغهم دين الله وشرعه على أتم وجه وأحسنه. وإن من المنافذ التي تصد دون ذلك تعدد الفتوى واضطرابها وبين يدي ذلك أقوال: إن الأمة وإن اعتراها ضروب من المذاهب المادية في جل ديارها، ثم كتب لها أن تكشفت أو تحطمت على صخرة الإسلام وتسللت عن ديار الإسلام لواذا، وما بقي إلا فلول جمع مهزوم مقهور مغلوب يعلنون إفلاسهم وفشل مبادئهم وانتماءاتهم، فإن هناك طلائع أنوار الكتاب والسنة التي تنتشر على أيدي رجال ما ساروا مسيرا إلا كانوا من السنن حيث كانت مضاربها، ومع الشريعة حيث كانت مساكنها، يدلون على الله بهديهم وصالح أعمالهم قبل أن يدلوا عليه بأقوالهم، فأحيوا سيرة السلف الصالحين من الصحابة والتابعين، فكأنما ألحقوا الأحفاد بالأجداد ووطئا على أعقابهم الرجال، ضاربين شوطا بعيد المدى، متغلغلا في حقب التاريخ ومسارب الحياة ليمتاح من هدي أمته في سيرتها الأولى. شاهد المسلمون واستبشروا بذلك ميلاد يقظة إسلامية مباركة علا فيها الحق على الباطل {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [سورة الرعد: آية 17] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 إذا كانت الحال كذلك فإنه بدا في الصف المقابل عنق سوادي يلفح بسموم لا بارد ولا كريم، يجمع ذلك ما نشاهده من دخول عير المختصين في غير اختصاصهم، أنها وثبات على الشريعة تفرز للأمة الهوس الفكري والعبث التراثي والضرب في المقامات والتعدي على الحرمات إلى أخر تلك المنظومة العدائية الفسلة والذي تولى كبرها ونفخ في كيرها دخول غير المختصين في غير اختصاصهم، فهل سمعت الدنيا بطبيب يباشر عملاً هندسياً وهل سمعت وسمعت؟ ولكن كم رأى الراءون وسمع السامعون، الخوض من أناس في لجب الشريعة وحضارها، فحللوا وحرموا، وأمروا ونهوا وبدأوا وأعادوا، وقالوا على الله ورسوله ما لم يسعه دليل من كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ذلك أنا نشاهد في الساحة عدة وثبات من التجاسر على دين الله وشرعه يجمعها كما أسلفت وثبة التجاسر من غير المختصين في غير اختصاصهم، وثبة الذين لم يثافنوا بالركب للتفقه في الدين على أحكام الله وشرعه، وأخت لها وثبة الاعتداء بأقلام مأجورة مأزورة على مقام السنة المشرفة المرفوعة، إلى آخر تلكم الوثبات التي تمثل الاسترسال مع الأهواء والأغراض والأغراض والتخبط في مضاجع الفساد والتقلب في عدة أوجاع، فأثاروا – والله حسيبهم – بذلك عقدة الخصومة الملدة والشطط، وأثاروا مرض الشبهة وحركوا الشبهات، وأثاروا تحويل أحكام الكتاب والسنة إلى قضايا فكرية تحول حسب لغة الحامل والمحمولة إليه، فأبقوا بذلك نائم الأهواء، وأخضعوا العلوم الشرعية لفروضات العقل، وأخضعوها للتذوق، والتذوق أو الذوق مصدر سيال متحرك من شخص إلى آخر، ولكن نقول لهم أمام ذلك إن فطرة المسلمين وإن علماء المسلمين يقول لسان حالهم لكل هذه البدوات الآثمة التي تخالف دين الله وشرعه – يقول لسان حالهم – يا أوراق يا أقلام ارجعي أدراجك، فإنك لم تهتكي الستر على نيام ولم تطرقي الحمى على سواد مغفل، ولا يهولنك هملجة البراهين ولا تصعيد المعتلين، فإنك بذلك نسألك بالله أن تنزعي هذا البرقع وهلم نحتكم على سفور ومكاشفة عائذين بالله أن نقول بالسفور في نساء المسلمين، لأن كل واحد من المسلمين ينشد لمحارمه ما قاله حسان رضي الله عنه لأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ فَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ وفوق ذلك: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [سورة الأحزاب: آية 53] وعائذين بالله أن نطلب على تلكم المناظرة قرضاً فضلاً عن أن يكون بفائدة لأن شيمة المسلمين هي الكسب الحلال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 صاحب السمو الملكي أيها العلماء الأجلاء أيها الجمع الكريم لا بد لأبناء النشأة الآخرة من علاج لهذه العلل الفاقرة، ألم يأن للذين أمنوا أن تكون لهم قلوب واعية وآذان صاغية ليردوا تلكم الهجمات الشرسة فيثبوا على أولاء وثبة رجل واحد بأقلام يمدها العلم والإيمان وبألسنة تنطق بالسنة والقرآن ليعيش المسلمون تحت سرادق السعادة مستظلين تحت لواء الشريعة لا يزاحمهم فيه مزاحم؟ إن المسلمين يقلبون أبصارهم في الحجب لينظروا كوة تنفتح منها بوارق الشريعة، فتحرق تلكم الهجمات الشرسة، وتقيم دين الله وشرعه، وتنشر راية التوحيد، وتنشر أحكام الكتاب والسنة بلا عوج ولا أمت، ولا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك. وأنتم أيها العلماء الأجلاء، أيها المجمعيون، محل أمل لأمتكم، فابصروا رحمكم الله تعالى واقع أمتكم وأوفوا بعقدكم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة: آية 1] {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111] {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} [سورة الكهف: آية 46] وما هذه الحياة الدنيا إلا لحظات، فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويذهب هذا كله ويزول وصدق الله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت: آية 64] . ثبتنا الله وإياكم على الإسلام ورزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بكر بن عبد العزيز أبو زيد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 كلمة معالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الودود الكريم، الرءوف الرحيم، ذي المنن السابغة والآلاء الباطنة والظاهرة. أمد أمتنا الإسلامية بسر حياتها، وضمان عزتها وسبب بقائها وتجددها كتابه الذي أوحى به إلى رسوله، والحكمة التي ميزه الله بها، فأقبلت على دينه الذي ارتضاه الله لها، وكانت خير أمة أخرجت للناس، وهي بقدر تمكن هذا الدين منها وتمسكها به، تصمد في وجه الأعاصير والتقلبات، وتواجه المحن والتحديات، وبثبات وعزم، متواصية بالحق ومتواصية بالصبر، باذلة أقصى جهدها في الدعوة إلى الله، ابتغاء إعلاء كلمته، ونشر الخير والهدى، وتركيز المبادئ العالية والقيم الخالدة بين الناس، والتعريف بالصراط السوي وسبل الصالحين ومن اهتدى، ما تعاقبت فيها الأجيال والأزمان واختلف على أبنائها ومنتسبيها الملوان: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) } [سورة الشورى] . فله الحمد كفاء نعمه ووفاء مننه لا يبلغ مدحته القائلون ولا يؤدي حقه المجتهدون، نحمده ونثني عليه بما هو أهله وبما أثنى به على نفسه , فله الحمد كله وله الملك كله بيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، إمامنا ونبينا سيد المرسلين وخاتم النبيين وقائد الغر المحجلين، الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ودعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة وعبد ربه حتى أتاه اليقين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 حضرة صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز الموقر أمير منطقة مكة المكرمة حضرة صاحب المعالي الأستاذ خالد أحمد الجسار المحترم وزير الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت حضرة صاحب المعالي الدكتور حامد الغابد المبجل الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي أصحاب المعالي والسماحة والفضيلة المكرمين ضيوفنا الأكارم وإخواننا الأماجد أيها الحفل الكريم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: نزولاً عند التقاليد الملتزمة والآداب المرعية في مثل هذا المقام، يسعدني أن أتناول الكلمة في هذا الحفل البهيج المقام لافتتاح أعمال الدورة السادسة لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة الذي يزدان بهذا الحضور الواسع ويزيده سنا وسناء إشراف صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز حفظه الله، وإن فيما استمعتم إليه الساعة من خطب شريفة وكلمات بليغة ما يغني بحق عن تدخلي ولكن الفضل الذي طوقتم به عنقي وكريم استجابتكم لدعوة مجمعكم وحضوركم من كل بلد وصقع للمشاركة الفعلية والعملية في مداولات مجلسكم الموقر، لتحملني توا على أن أتقدم إلى حضراتكم شاكرا ومحييا متمثلا في هذا الموقف قول أبي الطيب: " لا خَيْلَ عِنْدَكَ تُهْدِيهَا وَلا مَالَ فَلْيُسْعدِ النُّطْقُ إِنْ لَمْ تُسْعِدِ الْحَالُ " وإنى لأبادر فأهنئكم جميعا بسلامة الوصول وأتمنى لكم طيب الإقامة داعيا المولى عز وجل أن يسدد خطاكم ويجعل ما تقومون به من جهود في خدمة الشريعة الإسلامية في صحائفكم يوم القيامة، وأن يهدي بكم المسلمين ويوحد على أيديكم وبفضل اجتهاداتكم صفوفهم ويجمع على تقوى الله والالتزام بهديه كلمتهم إنه سميع مجيب. وإني في افتتاح هذا الموسم العلمي الفقهي الذي نلتقي فيه بحمد الله كل عام وفي بداية حديثي هذا إليكم ليشرفني أن أنوه بالخطاب المنهجي لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز نصره الله الذي خصنا به هذا اليوم على لسان صاحب السمو الملكي أمير مكة المكرمة، وإنه لرعاية سامية وتنوية وتصديق وتوجيه على طريق الخير لمؤسستكم الموقرة التي يرجع إليه الفضل في تأسيسها. وتقوم الشواهد تلو الشواهد منه على عنايته الفائقة بها، فكم لفتة كريمة أولى، وكم من مكرمة سنية أعطى حتى يقوم مجمعكم الفقهي هذا برسالته العظيمة، ويعقد في الموعد المحدد مؤتمره على أديم هذه الأرض المباركة الطيبة، المملكة العربية السعودية بلاد المكارم والأمجاد التي يعتز بالانتساب إلى حرميها الشريفين كل مسلم ويفاهر بما حققته من خطى عملاقة في مجالات التنمية كل مؤمن. بلاد ضمت الطريف من ثمار جهودها وبذلها وعطائها إلى التليد من محاسنها ومفاخرها. ونحن شاكرون للمقام السامي ما نلقاه دوما من لدنه ومن حكومته الرشيدة ومن أبناء هذا الشعب السعودي الأكارم من مساندة أدبية عالية، ودعم مادي غير ممنون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 هذا وإن نظرة في نشاط مجمعكم خلال الفترة الفاصلة بين مؤتمره الخامس الذي انعقد بالكويت في العام الماضى بدعوة كريمة من حضرة صاحب السمو الأمير الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح رئيس القمة الخامسة – حفظه الله – وبين مؤتمره السادس هذا الذي يقام من جديد باستضافة سخية سامية من خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – بجدة البوابة البحرية للحرمين الشريفين ومأم قصاد بيت الله العتيق لتدل على جهود المجمع المكثفة وسعيه المتواصل لتحقيق ما ينشده من غايات وبلوغ ما يتطلع إلى إنجازه من أهداف. فقد رفع رئيسه الجليل فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد في هذه الأيام الأخيرة كتاب التراث الفقهي الأول الذي فرغ المجمع من إعداده وتحقيقه وهو " عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة " للمجاهد أبي محمد عبد الله بن نجم بن شاس الجذامي السعدي الذي استشهد في معارك دمياط سنة 610. وهذا التأليف الحسن العبارة المصنف على ترتيب وجيز الإمام الغزالي، والقائم على المقارنة أحيانا كثيرة بين المذهبين المالكي والشافعي، ليعد من أنفس وأحسن ما صنف في الفقه المالكي في عصره. وقام مجمعكم الموقر بجمع القرارات والتوصيات التي صدرت عنه من حين تأسيسه إلى اليوم وأعاد ترجمتها إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وطبعها في كتيب في نشرات ثلاث تيسيرا على المسلمين في أكثر الأقطار والأقاليم والأوطان للاستفادة منها ومعرفة حكم الله في كثير من القضايا الدينية التعبدية والسلوكيات الاجتماعية والممارسات الطبية والاقتصادية، وقد صدرت هذه الأحكام والفتاوى عن أهل الاختصاص المسئولين عن حكم الله فيما عرض ويعرض من المسائل الجارية والقضايا الدقيقة المستجدة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 وتولى المجمع إثر ذلك جمع بحوث الدورة الخامسة وإفراغ تسجيلاتها وإعدادها ومراجعتها وتقديمها للطبع وتصحيحها بغاية التثبت والحيطة، وذلك حرصاً منه على إخراج وإصدار العدد الخامس من المجلة الواقع كسائر أعدادها في ثلاثة أجزاء، وقد تولى الإنفاق على طبع هذا العدد الخامس من المجلة الواقع كسائر أعدادها في ثلاثة أجزاء، وقد تولى الإنفاق على طبع هذا العدد والإشراف عليه فنيا معالي السري الماجد صاحب المشاريع الخيرة والأيدي البرة الكريمة الشيخ أحمد جمجوم أجزل الله إحسانه وكافأ بمنه مبادراته الخالصة الصادقة للخير والعمل الصالح، ولسوف يصلنا هذا العدد إن شاء الله بين حين وآخر. ومن الأعمال التي قام بها مجمعكم هذه السنة تمحيصا ودرسا وإعدادا لبحث بعض القضايا المعروضة عليكم في هذه الدورة، ندوتان علميتان: الأولى الندوة الفقهية الطبية التي انعقدت بالتعاون مع المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية والتي عكفت فيما بين 23 – 26 ربيع الأول 1410هـ / أكتوبر 1989م بالكويت على بحث زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي، ومدى الاستفادة من المولود اللادماغي والأجنة المجهضة، ونقل بعض الأجهزة التناسلية وأعدت في ذلك كله توصيات يتولى عرضها على حضراتكم المقرر العام للندوة سعادة الدكتور أحمد رجائي الجندي في الموعد المحدد لذلك. والثانية الندوة الفقهية الاقتصادية حول " الأسواق المالية " التي أقيمت بالرباط في المملكة المغربية فيما بين 20 –25 ربيع الثاني 1410 هـ / 1989م بالتعاون مع معهد البحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية ورعاية فائقة من رئيسه الموقر معالي الدكتور أحمد محمد علي واستضافة كريمة من وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمغرب، وقد استهدفت البحوث والمناقشات فيها استخلاص المبادئ والضوابط الشرعية التي يجب أن تحكم المعاملات في الأسواق المالية والأدوات المشروعة للاستخدام فيها، كما طرحت تساؤلات واقتراحت بدائل للمشبوه فيه من الممارسات، وكانت نتيجة ما عرض بهذه المناسبة توصيات صدرت عن الندوة هي التي سيتولى في إبانه تقديمها إلى حضراتكم مقررها العام سعادة الدكتور منذر قحف. إلى جانب ذلك استكتب المجمع عددا من الفقهاء والخبراء في مواضيع دينية واجتماعية واقتصادية هي: حكم تعدد كفارة القتل مع تعدد المقتول، وزراعة عضو استؤصل في حد، وفن التمثيل، والتمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها، وبيع التقسيط، وحكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة، والقبض وصوره وبخاصة المستجدة منها وأحكامها. وقد شارك في إعداد ذلك وبحثه أكثر من مائة وثلاثين فقيها، وخمسة عشر طبيبا مختصا، وثمانية عشر باحثا وإخصائيا في العلوم الاقتصادية، وما زال الإقبال على المجمع والتعاون معه يزداد مع الأيام خيرا يضاعف من جهوده ويسهم في نشاطاته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 فقد أنجز من مشروع الموسوعة الفقهية ثمانية بحوث تتصل بالمعاملات الاقتصادية القديمة والمعاصرة كالمزارعة والمضاربة والتخارج وأنواع الشركات، وكان للأساتذة الجامعيين من جامعة الإمام وجامعة أم القرى وجامعة الملك عبد العزيز وجامعة بغداد وجامعة دمشق وجامعة الزيتونة وللباحثين بمركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي بجدة دور أي دور في القيام بها ومعالجة بقية الزمرة الأولى من بحوث الموسوعة. وتفرغت ثلة من علماء وفقهاء المملكة المغربية من القرويين لوضع وتحديد المصطلحات الشرعية في الفقه المالكي، وقد أتوا الآن على النصف من ذلك مستوعبين جملة أقسام الفقه ولم يبق بأيديهم سوى ما يرجع منه إلى قسم العبادات وأبواب البيوع وما يتصل بها من المعاوضات، وبانتهائهم قريبا بإذن الله من ذلك كله، يعرض عملهم على لجنة فقهية قانونية منهم للمراجعة والضبط، وبهذا نكون قد أنجزنا عملا مهما ننتقل منه إلى وضع معجم عام للمصطلحات الفقهية في سائر المذاهب المعتمدة كما كان مقررا في أصل المشروع الذي أقره مجلس المجمع. وإلى جانب الدراسات المعمقة والبحوث العلمية المتخصصة سهر المجمع على كتابة الفقه حسب طريقة سهلة ومنهج ميسر يمكن عامة الناس من معرفة أحكام دينهم في أي مجال من مجالات الحياة، وقد أعدت لذلك نماذج نوقشت وعدلت لتكون أمثلة يحتذيها المستكتبون في هذه المادة، ووجدنا سندا لهذا المشروع معالي الشيخ صالح عبد الله كامل وأخانا معالي الدكتور محمد عبده يماني أجرى الله الخير على أيديهما وجازاهما أحسن الجزاء، فاستكتبنا عددا كبيرا من الأساتذة في نحو اثنين وسبعين موضوعا أنجزت الدفعة الأولى منها في قضايا العبادات وبعض مسائل الأحوال الشخصية، وهي عبارة عن أربع عشرة رسالة فقهية ترتكز على المهم من الأحكام وعلى أدلتها وبيان المقصد الشرعي منها تيسيرا للوعي وأحياء للدين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 ونحن في كل هذه الجهود المبذولة، والاجتهادات التي يصدر عنها المجمع في توصياته، محكمون للنصوص الثابتة القطعية، مقارنون بين الآراء الفقهية المذهبية في الأحكام الظنية مراعون للأحوال المتطورة والملابسات القائمة، حريصون على الاستفادة من الاختلاف بين الأئمة ونبذ الخلاف في الدين، وقد نادى معالي الشيخ محمد بن جبير وزير العدل بالحكومة السعودية في توصية له جزاه الله خيرا بوجوب التنسيق بين المجامع والهيئات والمراكز المماثلة لها، حتى لا تتفرق الأمة ولا يحصل خلاف في الدين، وإنا حين نشيد بموقفه ونثني عليه شاكرين له حماسه وصائب نظره وصدق موقفه، ندعوا أعضاء مجمعنا والهيئات المماثلة له كلها إلى وجوب التنسيق فيما بينها بتبادل الوثائق والدراسات والمجلات العلمية والنشرات، حتى تكون الآراء الصادرة عنها آراء دقيقة وسليمة قائمة على أساسين ضروريين في هذا الزمن هما: الاستيعاب الكامل وعمق النظر، ولعل ذلك مما تدفعنا إلى القيام به والتثبت منه السنة النبوية الشريفة، روى أبو عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) . وإن مهمة المجمع ليست مقصورة على بيان الحلال والحرام في الأمور المشتبهات حماية للمسلمين بالذود عن شريعتهم والحفاظ على دينهم وتيسيرا عليهم بمراعاة ظروفهم وتحقيق مصالحهم، بل هي أشمل من ذلك وأوسع يكتنفها مبدءان أساسيان هما: الحيطة في الأمر، وواجب النصيحة، يتمثل الأول فيما حفظنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الخير طمأنينة والشر ريبة)) . ويتمثل الثاني فيما رواه تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم ((الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله، قال: لله عز وجل ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم)) . وإن على أعضاء المجمع وخبرائه أن يعملوا فرادى ومجتمعين على نشر الهدي الديني وتطبيق أحكام شريعة الله، وذلك بالسعي للقضاء على أنواع التحلل والتفسخ وبتثبيت الإيمان وتركيز الخلق الإسلامي في النفوس، وشد أواصر الأخوة وبيان ما على الإنسان من واجبات وماله من حقوق في نظر الإسلام وإقامة العدل بين الناس، وإن ذلك لن يتحقق في مجتمعات سطت عليها الانحرافات وغزاها الفكر الغربي بأسوأ مقوماته حتى يعود المسلمون إلى أصول مناهجهم الفكرية والتربوية. ويبرز ذلك في الآباء والأمهات وفي حياة الأسرة بما ينبغى أن يكون لديهم من التزام بالإسلام وغرس للقيم السامية الخلقية والمبادئ الفاضلة الدينية في الأطفال الذين ينشئون بينهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 وتعود للمسجد الجامع وظيفته الاجتماعية التي سما بها في الأعصر الأول عند بناء الشخصية الإسلامية، ويعود التعليم في البلاد الإسلامية إلى تكوين أجيال مسلمة متطورة تملك العقيدة الصحيحة والتقنية الصالحة الفاعلة. وما من شك في أن الدول الإسلامية قاطبة تعمل جاهدة لتوفير منعتها وتحقيق عزتها وبلوغ أهدافها من أجل الانطلاقة الشاملة والثابتة، كما أنه لا شك في أمانة ورفعة مستوى من انتدبتهم من الفقهاء والعلماء ومن انضم إليهم من أصحاب الاختصاصات المختلفة من الخبراء لتحقيق التحول المدروس وإدخال الإصلاحات الضرورية اللازمة في كل مجال من مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية عند المسلمين. وإن على حضرات أعضاء المجمع الأكارم والعلماء المختصين الذين ينتسبون إليه ويعملون في رحابه أن يفكروا ويخططوا لتذليل المعوقات واجتياز العقبات والسير قدما لتحقيق التغيير الشامل في الأمة الإسلامية بتركيز الثوابت ودراسة وتوجيه المتغيرات والتحديات والانتصار عليها بإيجاد البدائل والتمكين لها. وإني في ختام كلمتي هذه لأزجي الشكر مجددا لحضرة صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز على تفضله بالإشراف على حفلنا هذا، ولأصحاب المعالي ولضيوفنا الكرام على تشريفهم لنا بالحضور، كما أتقدم بالثناء والشكر لمعالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الدكتور حامد الغابد على عنايته البالغة بالمجمع ورعايته لجهوده، ولمعالي الدكتور عبد الله عمر نصيف الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الذي لا يدخر وسعا في التعاون مع المجمع، وللثلة الكريمة من الإخوة الأعزاء السراة الأماجد المقدرين لدور مؤسستنا العلمية الفقهية الدولية، المنوهين برسالتها والمتجاوبين مع مشاريعها أمثال أصحاب المعالي المشايخ أحمد زينل وعبد المقصود خوجة وإبراهيم أفندي جزاهم الله عنا أحسن الجزاء. ولا يفوتني كذلك أن أنوه بالجهود الخيِّرة والعلمية المتواصلة التي يقدمها للمجمع رئيس المجلس فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، وبما يقوم به مكتب المجمع وأعضاء المجلس والخبراء الذين هم الأسس والدعائم الثابتة لتحقيق أفضل النتائج والبلوغ بأعمالنا أرقى مستوى، وبما نجده من تعاون كبير وخدمة فائقة متجددة من أجهزة الإعلام السعودية والعربية والإسلامية التي تعنى جميعها بالفكر العربي الإسلامي. وإني بعد أن أوفيهم وأوفيكم جميعا حقكم من التقدير والإكبار والثناء والشكر، أرحب بكم ثانية برحاب مجمعكم في هذا البلد الأمين، وأسأل الله لكم المثوبة وخير الجزاء، وأدعوه سبحانه أن يسدد خطانا ويكلل أعمالنا بالنجاح وأن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه إنه سميع مجيب. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. محمد الحبيب ابن الخوجة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 كلمة الأعضاء لسعادة الدكتور عبد الله إبراهيم بسم الله الرحمن الرحيم صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة ونائب خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود – حفظة الله – في افتتاح الدورة السادسة لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي. معالي الأستاذ خالد أحمد الجسار وزير الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت معالي الدكتور حامد الغابد الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي معالي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس المجمع معالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي أصحاب المعالي الوزراء أصحاب السعادة أعضاء السلك الدبلوماسي بالمملكة أصحاب الفضيلة والسعادة الخبراء من مختلف التخصصات المدعوين للمشاركة في أعمال هذه الدورة السادسة أصحاب الفضيلة العلماء ورجال العلم والتعليم والأدب والصحافة زملائى أعضاء مجلس المجمع من دول منظمة المؤتمر الإسلامي والمجتمعات الإسلامية السادة الحاضرون جميعا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: الحمد لله الذي منَّ علينا بنعم لا تحصى وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله المصطفى محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، وبعد: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 يا صاحب السمو الملكي الكريم: يسرني ويشرفني أن أقف هنا بين يدي سموكم لألقي كلمة بالأصالة عن نفسي ونيابة عن زملائي أعضاء مجلس مجمع الفقه الإسلامي، مندوبي دول منظمة المؤتمر الإسلامي ومندوبي المجتمعات الإسلامية في أوروبا وأمريكا وغيرهما من القارات الأخرى وكذلك عن أعضاء المجمع الخبراء من مختلف التخصصات الذين وقع عليهم الاختيار للمشاركة في اجتماعات هذه الدورة السادسة لمؤتمر المجمع ـ التي تبدأ اليوم والتي تبدأ مراسم افتتاحها في هذه الساعة على يدي سموكم ونيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، ونرجو أن يكون افتتاحا مباركا يؤتي ثماره بتزويد العالم الإسلامي خاصة والعالم الإنساني أجمع بالحلول الفقهية لمختلف المشكلات التي تواجهها الإنسانية والمجتمعات الإسلامية في كل مكان وهي مشكلات يسبب ظهورها في كثير من الأحيان إعراض هذه المجتمعات عن كتاب الله وسنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم بالإضافة لما فرضته الحياة المعاصرة من أوضاع وممارسات مما يتطلب بيان الحكم الشرعي فيها طبقا لقواعده ومبادئه. فهذه الكلمة ما هي إلا لتعرب عن شكرنا جميعا والمسلمين جميعا في بقاع الأرض مشارقها ومغاربها لسموكم على تفضلكم وإشرافكم بالحضور معنا هنا وعلى تفضلكم نيابة عن جلالة الملك في افتتاح مؤتمرنا اليوم وهو مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي الذي كان ولا يزال يجد المساندة الكاملة التامة من خادم الحرمين ومن حكومته، ولا غرابة في ذلك إذ أن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد هو صاحب الفكرة لإنشاء هذا المجمع وهو – حفظه الله - أول من قام بمساندته منذ إنشائه ولا يزال هو السبَّاق في رعاية هذه المؤسسة العتيدة التي تمثل قمة العطاء الفقهي في العالم الإسلامي بما تقدمه من اجتهاد جماعي في قضاياه المعاصرة وبما توفره من حلول لمشكلاته المستجدة، جزاه الله عن الأمة الإسلامية كل خير. ولقد كانت إقامة هذه المؤسسة خطوة رائدة تبناها قادة الأمة الإسلامية لتأكيد أصالة هذه الأمة وارتباطها بدينها الذي أراده الله سبحانه وتعالى لتحقيق خيرها وسعادتها في الدنيا والآخرة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ خادم الحرمين الشريفين ويوفقه دائما لخدمة الإسلام والمسلمين وقضاياهم المختلفة وعلى رأسها قضية التضامن الإسلامي وقضية فلسطين وأفغانستان وأمثالها، كما نسأله جل وعلا أن يحفظ سموكم ويرعاكم وأنتم أمير هذا البلد الأمين، والحمد لله رب العالمين. . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. عبد الله إبراهيم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها إعداد سماحة الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوي مفتي جمهورية مصر العربية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه. وبعد: فلعل من المناسب قبل أن أتكلم في الموضوع الذي اخترت الكتابة فيه، وهو: " التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها "، أن أعرض الحقائق التالية، التي أرجو أن تكون محل اتفاق بيننا ألا وهي: أولاً: إن من شأن العقلاء في كل زمان ومكان، أنهم يتحرون الحلال الطيب، في جميع تصرفاتهم ومعاملاتهم. امتثالاً لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) } [سورة البقرة] واستجابة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح الذي أخرجه الشيخان عن النعمان بن بشير – رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله علية وسلم يقول: ((إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما شبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه. ألا وأن لكل ملك حمى. ألا وإن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة. إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) . ثانيا: إن من شأن العقلاء – أيضاً - أنهم إذا ناقشوا مسألة فيها مجال للاجتهاد، بنوا مناقشاتهم على النية الطيبة، والكلمة المهذبة، وعلى تحري الحق والابتعاد عن التعصب، وعن الحكم بالهوى وعن سوء الظن بلا مبرر. ولقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم الذين يجتهدون – فيما يقبل الاجتهاد من الأمور – بنية طيبة، بالأجر الجزيل. فقال في حديثه الصحيح: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد)) . والأمم السعيدة الرشيدة هي التي يكثر فيها عدد الأفراد الذين يتعاونون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان. أما الأمم الشقية الجاهلة فهي التي يكثر فيها التنابذ والتراشق بالتهم بدون دليل أو برهان. ثالثاً: إن الكلام في الأحكام الشرعية بصفة خاصة، وفي غيرها بصفة عامة، يجب أن يكون مبنياً على العلم الصحيح، والفهم السليم، والدراسة الواسعة الواعية لأصول الدين وفروعه ولمقاصده وأهدافه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 ويجب أن يكون المتحدث في هذه الأمور، غايته الاهتداء إلى الحق والصواب، فإذا خفي عليه شيء سأل أهل العلم والخبرة، استجابة لقوله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [سورة الأنبياء: الآية 7] . والمراد بأهل الذكر هنا: الخبراء وأهل الاختصاص في كل علم وفن. ففي مجال الطب نسأل الأطباء، وفي مجال الفقه نسأل الفقهاء. وهكذا في كل علم نسأل الخبراء فيه. وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضى الله عنهما – قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من قلوب الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضَلُّوا وأَضَلُّوا)) . رابعاً: إن الأصل في العبادات أنها مبنية على الاتباع والاقتداء بدون زيادة أو نقصان، لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها لا تقبل الابتداع أو الاختراع أو الاجتهاد. ففي شأن الصلاة – مثلا – يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) . أما المعاملات فإنها مبنية على التيسير والتوسعة وتعدد الوسائل، ورعاية مصالح الناس، في حدود شريعة الله تعالى، وفي النطاق الذي لا يتعارض مع آداب الإسلام ومع سماحته. وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن تيمية – رحمه الله -: الأصل في العبادات: التوقيف أي الدقة في الاتباع، فلا يشرع فيها إلا ما شرعه الله. وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . والأصل في المعاملات: العفو والحل. فلا يحظر منها إلا ما حرمه الله، وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا ... } (1) الآية (1) . .   (1) الفتاوى الكبرى: 3/ 412. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 ولقد قالوا: الأصل في الأشياء الإباحة، وأنه لا تحريم إلا بنص من كتاب الله، أو من السنة النبوية أو من أقوال الصحابة ومن تبعهم بإحسان، الذين استنبطوا من الكتاب والسنة ما استنبطوا من أحكام شرعية. خامسا: إن تجاربي الشخصية جعلتني أقتنع اقتناعا تاما، بأننا في عصرنا هذا الذي تشابكت فيه المصالح، وتنوعت المقاصد، وتعددت الوسائل، وتعقدت الأمور لا يمكن أن نصل إلى معاملات اقتصادية سليمة، إلا عن طريق التعاون الصادق، بين رجال الفقه ورجال الاقتصاد والقانون وغيرهم، وما خفي على الفقهاء من أمور اقتصادية أو قانونية، سألوا عنها الخبراء في ذلك، وما خفي على هؤلاء من أحكام شرعية، سألوا عنها العلماء وبهذا التعاون الصادق، الذي ينبع عن النيات الطبية، والعزائم القوية، والعقول الراجحة، والنفوس النقية، نحصل على معاملات صحيحة. سادساً: بعد هذه المقدمات أقول: إن كلامي في هذا البحث ينصب على المعاملات التي يجريها البنك العقاري المصرى، الذي يعتبر – كما جاء في التعريف به – أقدم البنوك المصرية قاطبة، فقد تم إنشاؤه في 15 من فبراير سنة 1880، كشركة مساهمة مصرية، غرضها: إقراض مالكي العقارات في مصر، قروضا مضمونة. وقد رأيت من الخير قبل أن أكتب في هذا الموضوع، أن ألتقي بالمسئولين عن إدارة هذا البنك لكي أحصل منهم على ما أحب الحصول عليه من معلومات، تتعلق بوظيفة هذا البنك وبمجالات نشاطه. سابعا: وقد جاء في النظام الأساسي للبنك المذكور – الباب الأول – المادة الثانية – ما يلي: (غرض البنك القيام بأعمال الائتمان (1) (1) . العقاري، وما يتصل بها من تمويل مشروعات التعمير، والبناء، والتشييد والإسكان، والمرافق، واستصلاح الأراضي، أو المساهمة فيها. وللبنك في سبيل تحقيق أغراضه القيام بما يأتي: (1) منح القروض وغيرها من التسهيلات (2) . الائتمانية المرتبطة بأغراض البنك، وذلك على الوجه الآتي: قروض أو تسهيلات ائتمانية لآجال لا تتجاوز خمس سنوات، بضمان رهن عقارى. ويجوز أن يكون الضمان ودائع، أو خطابات (3) . ضمان، أو أوراق مالية – أي: أسهم وسندات. (ب) قروض أو تسهيلات ائتمانية لآجال تتجاوز خمس سنوات، بضمان رهن عقاري، وأوراق مالية. (ج) يجوز لمجلس الإدارة منح قروض أو تسهيلات ائتمانية إلى الأشخاص الاعتبارية العامة، ووحدات القطاع العام، والشركات التي تساهم فيها وغيرها من الشركات المساهمة بضمانات أخرى إضافية يحددها المجلس.   (1) الائتمان بصفة عامة هو التنازل عن مال حاضر مقابل مال مستقبل وربط الائتمان بالصفة العقارية يجعله مخصصا لتمويل العمليات العقارية مثل بناء العقارات أو شرائها. وهذه التفسيرات التي بالهامش قام بها سيادة الأخ الفاضل الأستاذ أحمد شاكر أبو العز مدير عام البنك العقاري المصري للشئون القانونية (2) التسهيلات الائتمانية تشمل القروض، وفتح الاعتمادات وإصدار خطابات الضمانات والاعتمادات المستندية. . إلخ. (3) خطاب الضمان له تعاريف عديدة تدور حول أنه تعهد نهائي من بنك بناء على طلب أحد عملائه نسميه (الآمر) أي من أمر البنك بإصدار خطاب الضمان بأن يدفع لشخص آخر نسميه (المستفيد) مبلغا من النقود أو قابل للتعيين، في خلال مدة معينة، بمجرد أول طلب من المستفيد ودون الالتفات إلى أي معارضة من الأمر ودون توقف هذا الدفع على التحقق من أية شروط خارجة عن خطاب الضمان ذاته ودون حاجة إلى البت من إخلال الآمر بالتزاماته قبل المستفيد، وبعبارة أخرى يعتبر خطاب الضمان في يد المستفيد شأنه شأن النقود كبديل كامل عنها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 وفي جميع الأحوال يجب أن تصرف القروض في الأغراض التي منحت من أجلها. (2) استثمار أموال البنك في مختلف أوجه الاستثمار بما يكفل تحقيق أغراضه، وتنمية موارده. (3) القيام بدراسات الجدوى المتعلقة بالمشروعات التي يشارك فيها، أو يساهم في تمويلها. (4) إدارة القروض والأموال وتسويقها وتوظيفها في حدود أغراض البنك. (5) قبول الودائع، وإصدار شهادات الادخار والإيداع ـ وفقا للشروط التي يحددها البنك المركزي المصري. (6) القيام بأعمال أمناء الاستثمار (1) . ويجوز للبنك أن يساهم في تأسيس شركات لتحقيق كل أو بعض أغراضه كما يجوز أن تكون له مصلحة أو أن يشترك بأي وجه من الوجوه مع الهيئات والجهات التي تزاول أعمالا شبيهة بأعماله، أو التي قد تعاونه على تحقيق أغراضه في مصر أو في الخارج أو أن يندمج معها، أو يشتريها أو يلحقها به. كما يجوز للبنك المشاركة في مشروعات التعمير والإسكان واستصلاح الأراضي في إطار الشريعة الإسلامية. ثامناً: وبعد هذا العرض لجانب من النظام الأساسي للبنك العقاري المصرى، يتبين لنا بوضوح أن الأغراض والأهداف التي قام من أجلها، متعددة الأنواع، مختلفة الوسائل، مترامية الأطراف، وأنها تشمل ما يأتى: المساهمة في تمويل عمليات استصلاح الأراضي، وتحويلها من أرض جدباء إلى أرض خضراء، تنبت من كل زوج بهيج، وينتفع الناس والدواب والأنعام والطيور بما تخرجه هذه الأرض المستصلحة من زروع وثمار. ولا شك أن هذا العمل في ذاته عمل نافع، حضت عليه شريعة الإسلام، في عشرات الآيات القرآنية وفي كثير من الأحاديث النبوية. أما الآيات القرآنية فمنها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [سورة الملك: الآية 15] . ومنها قوله سبحانه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ... } الآية [سورة هود: الآية 61] .   (1) المراد بأعمال أمناء الاستثمار: إدارة أموال الغير نيابة عنهم بناء على طلبهم لظروف تقتضي ذلك من وجهة نظرهم، وكذلك تسويق عقارات الغير الذين يعهدون إلى البنك بذلك، أو شراء العقارات لصالح عملاء البنك الذين يرغبون في ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 وأما الأحاديث النبوية، فمنها ما أخرجه الشيخان عن أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة)) . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم ((من أحيا أرضا ميتة فهي له ولعقبه)) . وفي رواية: ((من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر، وما أكلت العوافي فهو له صدقة)) . وفي رواية ((من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق)) ، أي: ليس لمن يغتصب أرض غيره حق فيها. وبذلك نرى أن العمل على تحويل الأرض من أرض جدباء إلى أخرى خضراء من أجل الأعمال التي تدعو إليها شريعة الإسلام. (ب) المساهمة في تمويل بناء المساكن التي تأوي من هم في أشد الحاجة إلى الإيواء والستر ونحن نعلم أن قلة المساكن في معظم البلاد الإسلامية قد أصبحت تمثل مشكلة خانقة. فملايين الفتيان والفتيات الذين صاروا في سن الزواج لم يتمكنوا من تحقيق ما يرجونه من ارتباط شرعي، بسبب عدم استطاعتهم الحصول على المسكن المناسب، أو حتى غير المناسب. وكلنا نعلم ما يترتب على ذلك من انحرافات في السلوك والأخلاق ومما لا شك فيه – أيضا – أن المساهمة في إنشاء المساكن التي تستر الناس، وتصون أعراضهم، من الأعمال الجليلة التي ترضي الله – عز وجل – لأنها لون من التعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان. وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه الشيخان عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج على مسلم كربة فرَّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة،ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)) . وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. . . (ج) المشاركة مع الأفراد والهيئات في إقامة المشروعات المتنوعة النافعة، التي أباحتها – بل حضت عليها – شريعة الإسلام، لأن خيرها يعود على الأفراد والجماعات، ولأن المشاركة فيها تفتح أبواب العمل لمن لا عمل لهم بعد أن صارت مشكلة البطالة من أشد المشاكل التي تعاني منها كثير من الدول العربية والإسلامية، بل صارت هذه المشكلة تنذر بشر مستطير، وبخطر جسيم، نسأل الله تعالى النجاة منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 وقد جاء في الفقرة السادسة من المادة الثانية من النظام الأساسي للبنك العقاري المصري ما يأتي (كما يجوز للبنك المشاركة في مشروعات التعمير والإسكان واستصلاح الأراضي، في إطار الشريعة الإسلامية) . ولا يختلف عاقلان في أن هذه المشاركة، في إطار الشريعة الإسلامية، من الأعمال الصالحة التي تدعو إليها شريعة الإسلام. (د) تقديم المساعدة الفنية، والخبرة النافعة، لمن يقومون بأعمال التعمير، والبناء والتشييد والإسكان والمرافق واستصلاح الأراضي. فمن وظائف البنك – كما جاء في نظامه -: (القيام بدراسة الجدوى للمشروعات العقارية على اختلاف أنواعها، وتقديم المشاورات الفنية، والقانونية، والهندسية. . . إلخ) . ومن المتفق عليه أن هذه الدراسات النافعة، التي يقدمها البنك لطالبيها تمثل لونا من التعاون النافع، متى أداها البنك بصورة صحيحة، لا يشوبها غش أو خداع أو استغلال أو ربا. . . وما يأخذه البنك في نظير ذلك من أجور يقدرها الخبراء العدول جائز شرعا. تاسعا: هذه أهم الأغراض التي قام من أجلها البنك العقاري، وتلك أهم وظائفه. وهي- كما سبق أن قلنا – أغراض شريفة في ذاتها، ولا يختلف عاقلان في سلامتها ونفعها، ولكن يأتي بعد ذلك سؤال هام وهو: ما الوسائل التي يستخدمها البنك في تحقيق هذه الأغراض وتلك الوظائف؟ وللإجابة على ذلك أقول: هناك وسائل متعددة تسلكها تلك البنوك لتحقيق أغراضها، وهذه الوسائل منها ما هو جائز شرعا ومنها ما ليس كذلك فأما الوسائل التي اتفق الفقهاء على جوازها شرعا، فمن أبرزها: (أ) أن تقدم الدولة للبنوك العقارية ما هي في حاجة إليه من أموال كافية لتلبية مطالبها الذاتية كأجور العمال والموظفين. . إلخ ولتلبية مطالب الراغبين في استصلاح الأراضي أو في بناء المساكن، دون أن تأخذ البنوك من هؤلاء الراغبين في إقامة تلك المشروعات، أية مبالغ تزيد عما قدمته لهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 وتكون وظيفة البنوك العقارية في تلك الحالة، هي الوكالة عن الدولة في تنظيم وتنسيق وتنفيذ تقديم هذه الأموال، لأصحاب تلك المشروعات، ثم استردادها منهم بعد ذلك على أقساط، لا تزيد في مجموعها على ما قدمته لهم من أموال، بل ربما تتنازل الدولة عن جزء كبير منها في بعض الأحيان. . . وهذه الطريقة تتبعها – في العادة – الدول الغنية الرشيدة، لكي تساعد أبناءها على امتلاك المسكن المناسب، وعلى التوسع في إحياء الموات من الأرض، وقد ترتب على هذه السياسة الحكيمة أن زاد العمران وكثر عدد العاملين في مجالات النشاط الاقتصادي على اختلاف ألوانه، وأنفقت الأموال في وجوه الخير التي يعود نفعها على الجميع، كما ترتب على هذه السياسة الحكيمة – أيضاً – أن كثرت المساكن، وصار المعروض منها أكثر من المطلوب، فرخصت أسعارها، وأصبح المسكن الذي كان يؤجر منذ عشر سنوات في المملكة العربية السعودية – مثلاً – بثلاثين ألف ريال في السنة، أصبح الآن – كما بلغني – يؤجر بأقل من هذا المبلغ بنسبة قد تصل إلى الثلث. ومما لا شك فيه أن هذه الطريقة التي اتبعتها بعض الدول، هي من السنن الحسنة، التي لأصحابها من أولي الأمر، أجرها وأجر من عمل بها من بعدهم. (ب) أما الطريقة الثانية من الطرق التي اتفق العلماء على إباحتها، فهي: أن تقدم البنوك العقارية لأصحاب مشروعات استصلاح الأرض، أو تشييد المساكن، الأموال التي هم في حاجة إليها لإقامة مشروعاتهم، ولكن على سبيل المشاركة لهم بالنصف أو بالثلث أو بعير ذلك. . . والمشاركة – كما نعلم – جائزة شرعاً، بدليل قوله تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [سورة النساء: الآية 12] . وبدليل ما أخرجه الإمام أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: ((يقول الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما)) . أي أن الله – تعالى – يبارك للشريكين في المال، ويحفظه لهما ما لم تحدث خيانة من أحدهما للآخر، فإن حدثت نزع الله – تعالى –البركة من مالهما. وقد جاء في الفقرة السادسة من المادة الثانية من النظام الأساسي للبنك العقاري المصري ما نصه: (كما يجوز للبنك المشاركة في مشروعات التعمير والإسكان واستصلاح الأراضي في إطار الشريعة الإسلامية) . (ج) والطريقة الثالثة التي يمكن للبنوك العقارية أن تسلكها لتمويل المشروعات العقارية النافعة تتلخص في الرهن. وهو في اللغة يطلق على الثبات والدوام، ومنه قولهم: نعمة راهنة، أي ثابتة ودائمة كما يطلق أيضاً على الحبس، كما في قوله – تعالى -: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أي: محبوسة بكسبها وعملها ومعناه شرعا: إعطاء الدائن ضمانا ذا قيمة معلومة، يضمن له حقه في ذمة المدين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 والرهن جائز شرعا، بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة: الآية 283] . أي: وإن كنتم – أيها المؤمنون – مسافرين، وتداينتم بدين إلى أجل مسمى، ولم تجدوا كاتبا يكتب لكم ديونكم، أو لم تتيسر لكم أسباب الكتابة، فإنه في هذه الحالة يقوم مقام الكتابة رهان مقبوضة، يقبضها صاحب الدين ضمانا لحقه عند تعذر أخذه من المدين. ومن الأحكام التي أخذها الفقهاء من هذه الآية الكريمة: أن تعليق الرهان على السفر ليس لكون السفر شرطا في صحة الرهان، فإن التعامل بالرهان مشروع في حالتي السفر والحضر. وإنما علق هنا السفر لأنه مظنة تعسر الكتابة، لما فيه من التنقل وعدم الاستقرار وقد ثبت في الصحيحين عن أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير، رهنها قوتًا لأهله. (1) . ومن الواضح أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – عندما رهن درعه لليهودي، كان مقيما ولم يكن مسافرا. قال القرطبي: " ولم يرد عن أحد منع الرهن في الحضر سوى مجاهد والضحاك وداود، متمسكين بظاهر الآية، ولا حجة لهم فيها، لأن الكلام وإن خرج مخرج الشرط فالمراد به غالب الأحوال. . . " (2) . وإذًا فمن الوسائل المشروعة التي يمكن أن تستعملها البنوك العقارية لضمان حقها بالنسبة لمن سلمتهم شيئًا من أموالها لاستصلاح الأرض، أو لبناء المساكن، أن تأخذ منهم على سبيل الرهن ما يناسب قيمة تلك الأموال التي دفعتها لهم. وقد جاء في الفقرة الأولى من المادة الثانية من النظام الأساسي للبنك العقاري المصري ما نصه / (وللبنك في سبيل تحقيق أغراضه القيام بما يأتي: منح القروض وغيرها. . . وذلك على الوجه الآتي: قروض أو تسهيلات ائتمانية لآجال لا تتجاوز خمس سنوات، بضمان رهن عقاري ويجوز أن يكون الضمان ودائع، أو خطابات ضمان، أو أوراق مالية. . .) . (د) كذلك من الوسائل التي نرى إباحتها للبنوك العقارية التي تقدم الأموال اللازمة لأصحاب تلك المشروعات العقارية النافعة أن تأخذ منهم مقابل خدماتها لهم، مبالغ مناسبة، يقدرها الخبراء العدول كأجور للموظفين وللعمال ولغير ذلك من المرافق التي تكلف البنوك الكثير من الأموال، والتي تخلت الدولة عن دفعها، وأذنت للبنوك في تحصيلها من المتعاملين معها نظير ما تقدمه لهم من خدمات متنوعة، لا تستطيع القيام بها إلا بتحصيل تلك المبالغ.   (1) تفسير ابن كثير: 1/ 337. (2) تفسير القرطبي: 3/ 407 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 ويبدو لي أنه لا يوجد مانع شرعي يمنع البنوك من أن تأخذ تلك المبالغ من المتعاملين معها ما دامت هذه المبالغ مقدرة من جهة الخبراء العدول ولا جشع معها ولا استغلال، وما دامت تؤخذ على أنها في مقابل خدمات معينة يقدمها البنك للمتعاملين معه في سبيل تبادل المنافع المشروعة. عاشرا: هذه في نظري أبرز الوسائل التي أرى أن البنوك العقارية يجب عليها أن تأخذ بها أو ببعضها عند تمويلها للمشروعات التي وجدت من أجل المساهمة في تحقيقها وهي: التعمير، والبناء والتشييد، والإسكان، واستصلاح الأراضي. لأن هذه الوسائل مع جوازها من الناحية الشرعي، سيترتب عليها – بإذن الله – ما يأخذ بالأمة إلى طريق الخير والرقي والأمان. وأما الوسائل التي اتفق العلماء على حرمتها وعلى وجوب التخلي عنها، فهي كل وسيلة تسلكها هذه البنوك في تعاملها مع غيرها وتكون هذه الوسيلة مصحوبة بالغش أو بالتدليس، أو بالاستغلال أو بالربا، أو بغير ذلك من المعاملات المحرمة. فمثلا ما تأخذه هذه البنوك من فوائد باهظة على المبالغ التي تقرضها لمن هم في حاجة إليها لسد ضرورات حياتهم، هي من قبيل الظلم، والاستغلال والربا المحرم. وما تأخذه من فوائد مضاعفة على المعسرين، هو – أيضا – من قبيل الظلم البين، والربا الجلي الذي أعلن القرآن الكريم حرب الله ورسوله لمن يتعاطاه، فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} – أي: فإن لم تتركوا التعامل بالربا – {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة البقرة: الآية 289] . حادي عشر، وهنا أحب أن أنبه إلى أن الوسائل المنحرفة عن الحق في التعامل، هي محرمة شرعاً سواء أصدرت عن البنوك أم عن المتعاملين معه، بقصد استغلاله لمصالحهم الخاصة، وبقصد أخذ جزء من أمواله – التي هي ملك للأمة – لا من أجل حاجتهم الماسة إليها وإنما من أجل الزيادة في ثرواتهم الضخمة ومن أجل إشباع مطامعهم التي لا نهاية لها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 ويحضرني بهذه المناسبة أن رجلا أرسل إلى دار الإفتاء المصرية سؤالا ملخصه: أنه يأخذ من أحد البنوك التي هي ملك للدولة مبالغ معينة بفائدة معينة، ثم يضع هذه المبالغ في بنك آخر بفائدة أعلى وأكبر. . ويسأل: هل عليه زكاة على هذا المال؟ ولا شك أن هذا السلوك يمثل لونًا من التحايل القبيح الذي يدل على انطماس البصيرة، وضعف الدين وسوء الخلق. ثاني عشر: وبعد فهذه كلمة عن (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) ذكرنا فيها بعض المقدمات التي لا بد منها، ثم ثنينا ببيان جانب من النظام الأساسي للبنك العقاري المصري، ثم ثلثنا بتوضيح الأغراض والأهداف التي قامت من أجلها هذه البنوك، وأنها أهداف شريفة في ذاتها، ثم ختمنا كلمتنا ببيان الوسائل التي لو استخدمتها هذه البنوك، وأنها أهداف شريفة في ذاتها، ثم ختمنا كلمتنا ببيان الوسائل التي لو استخدمتها هذه البنوك لكانت معاملاتها سليمة وخالية من الربا ومن كل ما يتنافى مع شريعة الله، وكذلك لو سلكها الذين يتعاملون مع هذه البنوك. ويعجبني في هذا المقام قول فضيلة الدكتور محمد عبد الله دراز – رحمه الله -: " قضية الربا في زمننا هذا، إنما هي قضية (تطبيق) وهي فوق ذلك ليست – فيما أرى – من الشئون التي يقضي فيها فرد أو بضعة أفراد، بل ينبغى أن يتداعى لها طوائف من الخبراء في القانون والسياسة والاقتصاد والفقه، وأن يدرسوها دراسة دقيقة مستفيضة، من جميع نواحيها الحاضرة والمستقبلة. . . " (1) . وأن التمويل العقاري لبناء المساكن وما يشبهها لهو في ذاته عمل جليل، إذا قامت به البنوك وفق الأحكام الشرعية، التي لا ظلم فيها لأحد، لأنها من عند أحكم الحاكمين. وبالله التوفيق الدكتور محمد سيد طنطاوي   (1) الربا في نظر القانون الإسلامي: مجلة الأزهر، المجلد الثالث والعشرون، ج 11. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها إعداد سعادة الدكتور عبد الله إبراهيم عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد عبد الله ورسوله وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم على نهجهم إلى يوم الدين. 1- مقدمة: هذا البحث موضوعه هام جدا وهو التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها وهو موضوع تطلع إليه – ولا يزال يتطلع إليه – المجمع الإسلامي في كل مكان إلى حل أو حلول عادلة نزيهة من أية شبهة بالربا للمسألة التي تتعلق بإحدى حاجاته الأساسية وهي المسكن اللائق المناسب للفرد ومن يعولهم من أفراد أسرته، فقد اضطر المجتمع الإسلامي – بل الإنساني – في كل مكان إلى مواجهة هذه المشكلة مع جهات التمويل القائمة والتي تطبق في تعاملها مع أفراد المجتمع النظام المستورد من النظام الرأسمالي القائم على الربا ـ لاشتماله على معاملات تعتمد على فرض فائدة ربوية على خدمات التمويل التي تقدمها لمن يحتاج إلى التمويل للحصول على أية حاجة من الحاجات الأساسية كقطعة أرض ومسكن وسيارة ومكائن وأدوات زراعية وصناعية وغيرها وكذلك الحاجات الاستثمارية من رأس المال وغيره. على أن مما يبعث على الحيرة والأسى للمجتمع الإسلامي أنه توجد هناك بين حين وآخر فتوى من أشخاص أو جهات معينة لها مكانتها في المجتمع بأن هذه الفائدة المفروضة على القروض لشراء الحاجات الاستهلاكية أو لاستخدامها في أوجه الاستثمارات المختلفة ليست بربا محرم بل هي أجرة خدمة أو خدمات تقوم بها جهات التمويل سواء كانت عامة حكومية كوزارة المالية والإسكان والزراعة وما إليها من المؤسسات الحكومية أو أهليه خاصة كالبنوك التجارية والجمعيات التعاونية ونحوها. كما توجد هناك فتوى بأن هذه الفائدة الربوية ما هي إلا ربح حلال يعود لصاحب المال نتيجة استخدام ماله ووضعه بعيدا عن متناول يديه في أغراضه مدة من الزمن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 وجدت كل هذه الفتاوى مع إغماض العين عن أوجه التفرقة بين الربا وكل من أجرة الخدمات والربح، وهي أوجه تفرقة ظاهرة واضحة لا تقبل الجمع بين الربا وكل من أجرة الخدمات والربح، في حال من الأحوال. وقد ذكر العلماء الكثيرون – علماء الشريعة وعلماء المال والاقتصاد – مع الأدلة والحجج الواضحة أن هذه الفائدة ربا محرم سواء كانت على القروض بنوعيها الاستهلاكية والاستثمارية أو على الودائع الثابتة في البنوك وأمثالها. ولهذا كله اتفق المسئولون في عالمنا الإسلامي وغيره في أوروبا وأمريكا على إقامة البنك الإسلامي الذي تجرى المعاملات فيه طبقا لقواعد الشريعة ومبادئها في المعاملات وقدمت حلول كثيرة لتكون بديلة عن تلك المعاملات الربوية التي تتبعها البنوك الربوية خاصة في التمويل لمختلف الأغراض الاستهلاكية والاستثمارية معا وغير ذلك من خدمات كانت تتضمن الربا أو شبهة منه وأغرقت الأسواق والمكتبات بالكتب التي تبحث عن هذه الحلول البديلة للمعاملات الربوية. إذن فلا يصح أن تعتبر تلك الفائدة أجرة خدمات كما لا يصح أن تعتبر ربحا لما بين الربا وكل من أجرة الخدمات والربح من فروق واضحة، ولسنا هنا في موضع بيان لتلك الفروق، وأكتفي هنا بأن نركز مناقشتنا في الحلول الإسلامية لمسألة التمويل الربوي المذكور واختيار الأوجه الصالحة لتطبيقها في تمويل بناء المساكن وشرائها ونحوها من الحاجات الأساسية الاستهلاكية مع التركيز على نقطة من النقاط التي لم تنل حظا وافرا من العناية من كثير من الباحثين في موضوعات التمويل. 2- تعريف للموضوع: والموضوع هو التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها، وتعني كلمة التمويل قيام الجهة المالكة للمال – بنكا كان أو مؤسسة مالية عامة أو خاصة – بتقديم المال اللازم للمتعامل معها من أجل الحصول على حاجة ما أساسية أو غيرها كالمسكن ونحوه، وليس المراد قصر ذلك على بناء المساكن وشرائها فحسب، فإن غيرها من الأغراض مثلها، إلا أن الغرض من البحث هنا الاقتصار على التمويل لبناء المساكن وشرائها نظرا لأهميتها باعتبار أن المسكن من الحاجات الأساسية للإنسان في كل مكان وزمان، ومع هذا يجوز أن يقاس غيره من الحاجات على المسكن كالسيارة وماكينة زراعية أو صناعية وغيرها. هذا والمفروض في مثل هذا البحث أن يتناول الباحث كالعادة ذكر أوجه التمويل الصالحة المناسبة وبيان التعريف عن كل وجه من جميع جوانبه، إلا أني أرى في هذا البحث أن أقتصر وأركز على بعض النقاط التي تراءى لي أنها تحتاج إلى المناقشة وبت الحكم الشرعي فيها حيث إنها لم يسبق أن اتخذ قرار بشأنها وأترك بقية الجوانب التي كثر النقاش في شأنها ووضح أمرها وأحكامها الشرعية وذلك حتى لا يتكرر النقاش خاصة إذا كانت قد سبق أن اتخذ في شأنها قرار أو قرارات من قبل في مجمعنا في دورة من دوراته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 3- أوجه التمويل الصالحة: بعد النظر إلى مختلف التمويل التي قامت بها مختلف بنوكنا الإسلامية نجد أن هناك عدة أوجه صالحة لأن تكون أوجه تمويل لبناء المساكن وشرائها وذلك لأنها قد قدمت على أنها حلول بديلة لأوجه التمويل الربوي التي تطبقها البنوك الربوية. وهذه الأوجه هي البيع بثمن آجل والمرابحة للآمر بالشراء والمشاركة المنتهية بالتمليك والتأجير المنتهي بالتمليك إلى جانب القرض الحسن. ويمكن إجمال التعريف عن هذه الأوجه بأنها جميعا تجمع معنى المرابحة للآمر بالشراء، وذلك لأن الأول يعني قيام الجهة الممولة بشراء مسكن عينه العميل بمواصفات خاصة والتزم بشرائه منها بقيمة التكلفة مضافا إليها ربح معين يدفعها في أقساط خلال مدة متفق عليها. والوجه الثاني كذلك كما هو واضح، إلا أن القيمة المتفق عليها بين الطرفين (وهي مكونة طبعا من قيمة التكلفة والربح) ، قد تدفع في الحال، إلا أن الغالب أنها تدفع في أقساط خلال مدة معلومة أيضا. وأما الثالث فهو مبني أيضا على المرابحة للآمر بالشراء، إلا أن التمويل في المرحلة الأولى هنا لا يكون كليا بل جزئيا حيث يشترك الطرفان في شراء المسكن، ثم تبيع الجهة الممولة نصيبها للعميل بقيمة التكلفة مضافا إليها الربح أيضا ويدفع العميل هذه القيمة في أقساط خلال مدة متفق عليها. وأما الأخير وهو التأجير المنتهي بالتمليك فكذلك بناء على اختيار وطلب من العميل للمسكن وبمواصفات خاصة، سواء كان مسكناً جاهزاً أو غير جاهز ولم يتم بناؤه بعد والمطلوب بناؤه وتأجيره بهذه الصفة، وسواء كان المسكن المذكور من أملاك الممول أو من غيرها فيتملكه الممول ويؤجره له بهذه الصفة أيضا. ومهما كان الأمر فإن هذا التأجير يعقبه تمليك للممول بالبيع – كما هو الغالب الواقع عملا – بقيمة التكلفة المضاف إليها الربح وبناء على أمر من العميل في بداية الأمر إلا أنه يختلف من الأوجه الأولى في أنه لابد أن يشتمل على عقدين مستقلين الأول عقد إجارة والثاني عقد بيع بعد انتهاء مدة الإجارة أو في خلال المدة على أن يسري مفعوله بعد انتهاء مدة الإجارة أو بعد العقد مباشرة إذا اتفق الطرفان على فسخ الإجارة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 على أن يراعى في جميع هذه الأوجه القيمة المناسبة وإن أضيف إليها مقدار معين من الربح، وفي مسألة الإجارة يكون ثمن الإيجار مناسبا للمسكن طبقا لنظام العرض والطلب في المكان والزمان الذين تم فيهما عقد إجارته ومناسبا أيضا لحجمه والمنفعة المستفادة منه ويقترن بهذا العقد وعد بالبيع من قبل الممول المؤجر ووعد بالشراء من قبل العميل المستأجر بعد انتهاء مدة الإجارة وإتمام دفع إيجاراته حسب المتفق عليه، ويتفق الطرفان حول اعتبار قيمة الإيجار المدفوعة أو جزء منها قسما من قيمة البيع، كما أن للطرفين الاتفاق على إضافة مقدار معين إلى ثمن الإيجار حين عقد الإجارة مقابل البيع الموعود به، ويودع هذا المبلغ – وهو يدفع على أقساط من ثمن الإيجار الشهري طول مدة الإجارة – في حساب الودائع الاستثمارية في البنك الإسلامي ليكون ضمانا للممول ويستفيد منه بأرباحه بعد إتمام عقد البيع مباشرة ويتسلمه عاجلا باعتبار أنه جزء من قيمة البيع الذي تم العقد عليه، لا على أنه ربح من قبل أن يتم عقد البيع عليه، ويدفع العميل بقية القيمة مخصوما منها الإيجار السابق الذي دفعه أو جزءا منه تبعا للاتفاق بين الطرفين، في أقساط خلال مدة معينة، وتتخذ جميع الإجراءات اللازمة الأخرى على حسب قوانين البلاد. وأحيلكم بعد هذا إلى قراءة بحثي عن موضوع التأجير المنتهي بالتمليك لمعرفة بقية التفاصيل عنه وهو مقدم أيضا إلى مجمعنا هذا. هذا ويوجد هناك بعض البنوك الإسلامية يمارس ما يسمى باسم: (الإقراض برسم التمليك) كوجه من أوجه التمويل، ويعنى أن البنك يتملك أشياء منقولة أو غير منقولة ويؤجرها للعميل مقابل تعهد الأخير بدفع أقساط متساوية في آجال معينة ولمدة يتفق عليها في حساب توفير يفتحه البنك لهذه الغاية ويعطي البنك تفويضا بحق استثمار موجودات الحساب ويمكن إضافة الأرباح إلى هذا الحساب وعندما تتكامل الأقساط يلغى العقد وتنتهي الإجارة وتنتقل الملكية من البنك إلى العميل. (بحث د. أوصاف أحمد موضوعه: الأهمية النسبية لطرق التمويل المختلفة في النظام المصرفي الإسلامي: أدلة عملية من البنوك الإسلامية، مقدم إلى المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) ، عمان 18 – 21 /6 /1987 ص6) ذكره الدكتور أوصاف أحمد بعد ذكر الإجارة مباشرة وقال عنه: (هذه طريقة أخرى من التعامل تقوم بها البنوك الإسلامية، وهي وجه آخر من أسلوب الإجارة السابق) ، ثم عرفه كما نقلت عنه أعلاه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 فالدكتور شحاته – ذكر ضمن العناصر والأسس والقواعد السليمة في عملية بيع المرابحة – ذكر حول الربحية أمرين: ملاءمة الربحية لذات السلعة أو النشاط في ضوء أسعار السوق أو العمليات السابقة. مدى الالتزام بالقرارات الخاصة بنسب تحديد نسب الربح، وقوانين الاستيراد واللوائح التنفيذية (بحثه المقدم إلى ندوة خطة استراتيجية الاستثمار في البنوك الإسلامية, الجوانب التطبيقية والقضايا والمشكلات في عمان، الأردن 18/6/1987 ص17) . وتناولها الدكتور محمد عبد الحليم عمر بشيء من التفصيل حول عنصر الربح كأحد عناصر الثمن الثلاثة: الثمن الأساسي أو الأول، المصروفات ثم الربح، فقال: " إن هذا العنصر هو مقصود العملية " وقال: " والعلم به وذكره في العقد شرط من شروط المرابحة "، وذكر عن بعض البنوك الإسلامية: " فإن بعض البنوك تذكره والبعض الآخر لا يذكره بل يذكر الثمن إجماليا متضمنا الربح دون إشارة إلى ذلك ". فقال عن هذا: " وهذا أمر يجب تعديله بضرورة ذكر الربح في عقد البيع حتى يحقق شرط العلم بالربح كأحد شروط المرابحة ". وقال: " ولا يكفي في ذلك ذكره في عقد الوعد حتى ولو أشير إليه صراحة في عقد البيع على هذه الحالة، أولا لأن عقد الوعد لا ينعقد به بيع. . . وثانيا لأنه ربما يتم تغيير الربح بين مرحلة المواعدة ومرحلة البيع لأية ظروف مثل صدور قوانين أو قرارات من الدولة تنظم ذلك) . وتناول كيفية حساب الربح فذكر أولا اختلاف البنوك الإسلامية في كيفية حسابه فقال: " يحسب الربح كنسبة مئوية من ثمن الشراء وجميع المصروفات في بعض البنوك، ومصروفات محددة في بنوك أخرى ". ويلفت النظر بعد ذلك إلى " أن نسبة الربح يجب أن تختلف بحسب نوع البضاعة وأجل السداد بما يؤثر على إجمالي الثمن الذي يريد في البيع الآجل عنه في البيع النقدي. . مع ضرورة الإشارة إلى أن ذلك يجب أن يكون محددا بصفة قاطعة عند إبرام عقد البيع ولا يقال مثلا إن نسبة الربح لسعلة ما 5 % إذا كان السداد على شهرين، و7 % إذا كان السداد على أربعة شهور) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 وقال: " فإذا كان يجوز أن يكون هذا واضحا قبل التعاقد فإذا تم العقد على نسبة 5 % مثلا والسداد لمدة شهرين ثم تأخر المشتري عن السداد في الموعد المحدد أن لا تزاد نسبة الربح مقابل الأجل في هذه المرة، بل يعالج الموقف بأحد الإجراءات المقررة للتوقف عن الدفع ". على أن بعض البنوك تلتزم في تحديد الربح بالنسب المقررة بالدولة عندما تحدد الدولة بقرارات نسب الربح لكل سلعة مستوردة أو محلية لكل من المستورد أو تاجر الجملة والتجزئة. وذكر أن بعض البنوك تحدد الربح بنسب ثابتة على جميع أنواع السلع (18 % مثلا) مسترشدة في ذلك بسعر الفائدة الربوي السائد في السوق. وهي بذلك تفرغ عملية المرابحة من مضمونها الاقتصادي والشرعي وتصبح كأنها عملية إقراض الثمن للمشتري مرابحة خاصة إذا علمنا أنها توكل العملية كلها – شراء أول وبيع مرابحة للمشتري – (بحثه المقدم إلى المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي بالأردن 18-21/6/1987 في موضوع التفاصيل العملية لعقد المرابحة في النظام المصرفي الإسلامي ص 26-27) . هذا وتحدد بعض البنوك الإسلامية نفس الطريقة التي اتبعتها البنوك الربوية في تحديد مقدار الفائدة المطلوبة على القروض وذلك بضرب نسبة الفائدة السنوية في عدد السنوات المتفق عليها لدفع أقساطها خلال أشهرها، مثلا 6 % ×10 سنوات =60 % من قيمة التكلفة. بينما سلكت بعض مؤسسات التمويل سلوك التخفيف والرحمة فاكتفت بمقدار ما يساوي 10 % من الربح مضافا إلى قيمة التكلفة بدون ضربها في عدد السنوات ولكن يوجد البعض الآخر يزيد على قيمة التكلفة مبلغا كبيرا من الربح بدون ضابط مثل أن يكون المقدم في بيع بثمن آجل للغسالة: 15 دولار والقسط الشهري 24 دولار في 36 شهرا = 864 دولار مع أن قيمتها نقدا 414 دولار فقط. ويكون الفرق 450 دولار أي مقدار الربح المضاف إلى قيمة التكلفة أكثر من مائة في المائة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 ضمانات: هذا ومع اختلاف طرق تحديد الربح – كما رأينا – يختلف مقدار الربح المضاف إلى قيمة التكلفة تبعا لاختلاف طريقة تحديده من بنك إلى آخر. وإن هناك اختلافا ثالثا بين البنوك الإسلامية فيما أخذت من ضمانات. فإن هذه الضمانات تتكون من أمور – وإن اختلف في الأخذ بها جميعًا من بنك إلى آخر – منها ما يمثل مجرد توثيق لحق الممول ولا يأتي بمزيد الربح إليه، ومنها ما هو أكثر من مجرد توثيق لحقه، بل يأتي بمزيد الربح إلى الممول فوق الأرباح المضاعفة التي جاءت بها طريقة تحديدها. فالمجموعة الأولى هي: الضمان الشخصي المتعلق بسمعة العميل ومركزه المالي. الحصول على رهن بقيمة الثمن أو رهن البضاعة ذاتها رهنا تأمينيا. طلب كفالة شخص آخر مليء لضم ذاته إلى ذمة المشتري. الحصول على سندات إذنية للتحصيل أو سندات إذنية بالاطلاع. تحفظ البنك على وديعة للمشتري طرف البنك. توقيع المشتري على إيصال أمانة أو شيكات مؤجلة السداد بقيمة المبلغ. إعطاء البنك حق امتياز البائع على السلعة المباعة. إلى غير ذلك من ضمانات من هذا القبيل. والمجموعة الثانية هي: 1تقديم المشتري خطاب ضمان مصرفيًا بقيمة البضاعة للبنك. التأمين على البضاعة محل العقد من كافة الأخطار لصالح البنك. 3- عقد البيع مرابحة ذاته (1) (1) . 4- إيداع ما بين 3-6 أقساط مثلا من أول مدة سريان مفعولية العقد في حساب الودائع الاستثمارية في البنك الذي يقوم بالتمويل، وتقتسم فيه الأرباح بين الطرفين الممول والعميل مضاربة. إلى غير ذلك من ضمانات من هذا القبيل: الذي يمكن أن يأتي بمزيد الربح إلى الممول.   (1) د. محمد عبد الحليم عمر، بحثه المقدم إلى المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي عمان، الأردن، موضوعه: التفاصيل العملية لعقد المرابحة في النظام المصرفي الإسلامي بتاريخ 18-21/6/1987، ص 28. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 الطريقة المختارة: ولهذا كله أرى أن علينا أن نركز في مناقشة طرق تحديد الربح وما يجوز أخذه كضمان حتى لا يأتي هو الآخر بمزيد الربح فوق الأرباح المضاعفة التي قد أضيفت إلى قيمة التكلفة تبعا لطريقة تحديد هذه الأرباح، وهي في أحيان كثيرة قد أثقلت كاهل العميل المسكين المحتاج إلى مسكن يقيه هو وأهله من مخاطر الجو وأعين الناس، مع أن البنك الإسلامي ما أنشئ إلا وكان من أوائل أهدافه هو أن يكون بديلا للبنوك الربوية التي طالما أثقلت كواهل الناس بما فرضت من فوائد ربوية وغيرها. هذا وإذا كان لي أن أختار من تلك الطرق المختلفة لتحديد الربح فالطريقة التي تنبئ عن الإنصاف والرحمة والتوسط في جمع الأرباح هي الأفضل وهي الطريقة التي لا يمكن أن تأتي بربح أكثر من الثمن الحالي للفائدة في السوق المحلي، من غير ضربه في عدد السنوات المتفق عليها لدفع الأقساط، وذلك حتى لا تأتي بأضعاف مضاعفة من الربح الذي يشبه الربا الجاهلي المطبق على الناس في عهد نزول القرآن الكريم بتحريم الربا. ومن ناحية الضمانات نرى أن نختار من الضمانات كذلك ما لا يمكن أن يأتي بمزيد الربح والمكاسب لطرف الممول دون غيره خاصة إذا كان يتم بالشرط المفروض على العميل. وبهذا أكتفي. وصلى الله وسلم على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. الدكتور عبد الله ابراهيم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها إعداد فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين وقائد الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن البحث الذي طرحه مجمعنا الموقر للمناقشة وتشرفت باختياره للكتابة فيه هنا هو: (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) . وهذا البحث على أهميته وخطورته اليوم في عالمنا المعاصر لم يفرده فقهاؤنا القدامى – رحمهم الله تعالى وأجزل مثوبتهم – بكتاب فيما أعلم، حتى ولا برسالة أو بحث منفرد على حدة، لا تقصيرًا منهم، بل لأن هذه المشكلة وهي مشكلة السكن لم تكن موجودة في عصرهم بشكلها الحالي المخيف، فلم تكن نازلة، بل الأمر عندهم كان أيسر مما نتصور، لذلك تجد أحكامًا للمساكن والدور والعقار بعامة مبثوثة هنا وهناك في طيات كتبهم ومدوناتهم وثنايا عباراتهم، هي على قصورها مفاتيح لبحثنا اليوم لا يستغنى عنها فجمعت هذا إلى ذاك وزدت من توفيق الله ما أفاد, هذا, ولقد أقمت البحث هنا على مدخل ومقصد وخاتمة، ودونك التفصيل: المدخل إلى البحث يدخل التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها تحت كليات فقهية (ثلاث) هن على الترتيب التالي: كلية الاستصناع عقدًا من العقود المسماة عند الحنفية وله شروطه وضوابطه. كلية بيع العقار قبل قبضه وأقاويل العلماء فيه. كلية التمويل المصرفي وضوابطه في الفقه الإسلامي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 ودونك التفصيل: * أولا: (كلية الاستصناع) لدى الحنفية. وهو (التعاقد على صنع شيء معين) (1) (1) وعرفه الأستاذ الدكتور وهبه الزحيلي فقال: " هو عقد مع صانع على عمل شيء معين في الذمة " (2) . وينعقد بالإيجاب والقبول من المستصنع والصانع، ويقال للمشتري (مستصنع) وللبائع (صانع) وللشيء (مصنوع) والراجح لدى الحنفية أنه بيع لا وعد ولا إجارة، وأن المعقود عليه هو العين الموصى بصنعها لا عمل الصانع، ويجوز عند الحنفية استحسانًا لتعامل الناس وتعارفهم عليه في سائر الأعصار من غير نكير فكان إجماعًا منهم على الجواز، ويصح الاستصناع عند الجمهور، المالكية والشافعية والحنابلة على أساس عقد السَّلَم وعُرف الناس. ويشترط فيه لديهم ما يشترط في السلم، ويصح عند الشافعية سواء حدد فيه الأحل لتسليم الشيء المصنوع أم لا بأن كان حالا. أما شروط الاستصناع عند الحنفية فأبرزها: بيان جنس المصنوع وقدره وصفته لأنه مبيع، فلا بد من أن يكون معلوما، والعلم يحصل بذلك. أن يكون مما يجري فيه التعامل بين الناس من أوان وأحذية وأمتعة الدواب ونحوها، ولا يجوز الاستصناع في الثياب لعدم تعامل الناس به، فإذا تعاملوا به وصار متعارفًا صح. ألا يكون فيه أجل عند الإمام أبي حنيفة لأنه بتحديد الأجل انقلب سلمًا عنده، وقال الصاحبان ليس هذا بشرط، والعقد استصناع على كل حال حدد فيه أجل أم لم يحدد، لأن العادة جارية بتحديد الأجل في الاستصناع، ورجح الدكتور الزحيلي قول الصاحبين فقال: "ونرى أن قولهما هو المتمشي مع ظروف الحياة العملية فهو أولى بالأخذ " (1) (3) . والراجح في صفة عقد الاستصناع هو قول الإمام أبي يوسف بأن العقد لازم إذا رأى المستصنع المصنوع ولا خيار له إذا جاء موافقًا للطلب والشروط، لنه مبيع بمنزلة المسلم فيه فليس له خيار الرؤية لدفع الضرر عن الصانع، ورجح الدكتور الزحيلي هذا القول الذي أخذت به المجلة فقال: " وفي تقديرنا أن هذا الرأي الذي أخذت به المجلة سديد منعًا من وقوع المنازعات بين المتعاقدين ودفعًا للضرر عن الصانع "، ثم قال " ولأن هذا الرأي يتفق مع مبدأ القوة الملزمة للعقود بصفة عامة في الشريعة الإسلامية، ويتناسب مع الظروف الحديثة التي يتفق فيها على صناعة أشياء خطيرة وغالية الثمن جدًّا كالسفن والطائرات، فلا يعقل أن يكون عقد الاستصناع فيها غير لازم " (2) (4) .   (1) البدائع: 5/2، فتح القدير: 5/354 والفتاوى الهندية: 4/504، والفقه الإسلامي وأدلته: 4/243. (2) الفقه الإسلامي وأدلته: 4/631 وما بعدها. (3) البدائع: 5/3، فتح القدير: 5/355، رد المحتار: 4/223، المبسوط: 129، والفقه الإسلامي وأدلته: 4/633. (4) المبسوط: 12/139، فتح القدير: 5/356، البدائع: 5/210، رد المحتار: 4/223، والفقه الإسلامي وأدليته: 4/634. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 أما حكم الاستصناع في حق المستصنع إذا أتى الصانع بالمصنوع على الصنعة المشروطة فهو ثبوت الملك غير لازم في حقه، حتى يثبت له خيار الرؤية إذا رآه: إن شاء أخذه وإن شاء تركه. وأما في حق الصانع فحكمه ثبوت الملك اللازم إذا رآه المستصنع ورضي به ولا خيار له، هذا كله إذا رأى المستصنع المصنوع، أما إذا لم يره فالعقد غير لازم قبل الصنع وبعد الفراغ من الصنع، ولكل من العاقدين الخيار في إمضاء العقد أو فسخه والعدول عنه قبل رؤية المستصنع للشيء المصنوع فلو باع الصانع المصنوع قبل أن يراه المستصنع جاز، لأن العقد غير لازم، والمعقود عليه ليس هو عين المصنوع وإنما مثله في الذمة، فإذا جاء الصانع بالمصنوع إلى المستصنع سقط خيار الصانع لأنه رضي بكونه للمستصنع حيث جاء به إليه (3) (1) . هذه هي الكلية الأولى. * ثانياً: أما الكلية الثانية، وهي بيع العقار قبل فيضه وأقاويل العلماء فيه إلى اتجاهين: الاتجاه الأول: يجوز بيع العقار قبل قبضه من المشتري عند الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف – رحمهما الله تعالى – بخلاف المنقول فلا يجوز بيعه قبل القبض أو التسليم، لأن المنقول عرضة للهلاك كثيرا بعكس العقار. (ب) الاتجاه الثاني: وقال جمهور الفقهاء الإمام محمد من الحنفية والأئمة الثلاثة: لا يجوز بيع العقار قبل القبض من المشتري كالمنقول؛ لورود النهي عن بيع الإنسان ما لم يقبض. (1) (2) . ثالثاً: وأما الكلية الثالثة، وهي التمويل المصرفي لبناء المساكن وشرائها. فالذي يحصل في هذه الأيام في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر الهجري، بالنظر لأزمات السكن ومشكلاتها فهو حالة من الحالات الثلاث التالية. حصرًا بالاستقراء التام.   (1) الفقه الإسلامي وأدلته: 4/633. (2) انظر الفقه الإسلامي وأدلته: 4/48 وما بعدها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 * الحالة الأولى: التمويل لبناء المساكن وشرائها بالجهود الفردية أو شبه الفردية، مثل تجار تعمير العقارات والشركات الخاصة المؤسسة لهذا الغرض من مجموعة من الأفراد، أو جمعيات أسرية ليس لها طابع رسمي، هؤلاء يتعهدون تعمير العقارات بعد شرائهم الأرض وبيع أكثرهم المساكن على الخارطة قبل بنائها، وربما باعوا البناء كله قبل البدء بعمارته واستوفوا أرباحهم ثم عمروه من هذه الأرباح وأبقوا رأسمالهم إلى بناء جديد وهكذا، وربما احتاجوا إلى قرض من المصرف العقاري فأقرضهم بالفائدة مع كفالة. * والحالة الثانية: التمويل لبناء المساكن وشرائها بالجهود الجماعية الرسمية لكن ليس من الدولة، بل بإشراف الدولة وترخيصها واطلاعها، بل ومحاسبة هذه المؤسسات التي تأخذ اسم (الجمعيات السكنية) ، وهي عبارة عن مجموعة أفراد مؤسسين يجب أن يبلغوا الثلاثين عدًّا في الأنظمة السورية المعمول بها حاليا، فما فوق، لا ما دون ذلك، ثم يتقدمون لوزارة الإسكان في قطرنا العربي السوري – وهي وزارة من وزارات الدولة – فإن حازوا الشروط والثقة أجيزوا على عملهم برخصة جمعية سكنية ينشئونها هم في مكان ما من المدينة أو الريف، ثم ينشرون ذلك في أجهزة الإعلام فيكتتب الناس بها تقسيطا وبعد اكتمال نصاب عدد معين يجتمع هؤلاء فينتخبون مكتبا إداريا له مدير ونائبه ومحاسب وأمين سر وما شابه، فإن وافقت عليهم السلطات المختصة ذهبوا إلى المصرف العقاري فأودعوا أسهم الاكتتاب التي دفعها الأعضاء المسهمون حتى يجدوا عقارا مناسباً فيأخذون ما أودعوا ويستقرضون من المصرف العقاري بالفائدة إن لزمهم الأمر، وهكذا حتى يقوم البناء، فيخصص كل عضو مكتتب بشقة أو مساحة طابقية حسب أسهم اكتتابه، فإذا خصص يخير هذا العضو بين طريق من طريقين: الطريق الأول: أن يوافي الجمعية بالأموال التي تزيد على ما دفعه من أسهم الاكتتاب حتى يصل إلى السعر المقرر لدى الجمعية. والطريق الثاني: أن يأذن للجمعية أن تستقرض على اسمه من البنك مبلغا مع الفائدة يوفيه هو من راتبه إن كان له راتب أو من دخله مع كفالة في بعض الحالات. هذه خلاصة مكثفة لطريقة الجمعيات السكنية في قطرنا العربي السوري لتمويل المساكن وشرائها. هذا، ولا يجوز للمشتري أن يبيع ما اشتراه من عقار إلا بعد مضي مدة معلومة حددتها الدولة كي لا تصير هذه المساكن تجارة لمن شاء أن يتجر بها. * والحالة الثالثة: تمويل الدولة في قطرنا العربي السوري ومن سار على نهجه من الدول العربية في خطة ترسمها الدولة وتنفذها وزارة الإسكان أصولا، وبما أن المصارف كلها بيد الدولة فإن المصارف العقارية هي التي تمول هذه المشاريع السكنية مع وزارة الإسكان بقصد سد حاجة المواطن أولا ثم الاسترباح ثانيا (1) (1) .   (1) هذه المعلومات استقيتها من بعض المسئولين في وزارة الإسكان وهي معلومات دقيقة يمكن اعتمادها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 المقصد من البحث أحكام التمويل العقاري المذكور آنفا لبناء المساكن وشرائها في الفقه الإسلامي على ضوء ما ذكرت من الكليات الثلاث، يجب أن نفرق بين التكييف الفقهي لهذا التمويل العقاري بالذات وبين ملابسات هذا التمويل من ربا وما شابه الربا (شبهة الربا) . ودونك التفصيل: (أ) التكييف الفقهي بالذات لهذا التمويل العقاري: هلهذا العقد وهو بيع المساكن وشراؤها على الطريقة المذكورة آنفا (أي قبل بنائها) هل هذا العقد هل هو عقد صحيح مشروع أم لا؟ يدخل في هذه المسألة: 1- أن نعتبره (أي هذا العقد) عقد استصناع ونشترط له ما اشترطه ففقهاء الحنفية للاستصناع، وهو التعامل بين الناس. وأن نعتبره بيعا بالتقسيط إلى أجل. فإذا اعتبرناه بيعا بالتقسيط إلى أجل جاز لدى جمهور الفقهاء بشرط جواز بيع التقسيط ليخلوا من شبهة الربا، وهو أن يخلو مجلس العقد عن السوم، فلا يقول له في مجلس العقد (إن كان نقدا فبكذا، وإن كان تقسيطا فبكذا) فينتج عن ذلك شبهة الربا، بل إذا حصل هذا الكلام في مجلس السوم فقط وخلا عنه مجلس العقد كان العقد صحيحا وخاليا عن شبهة الربا بأن يقول له قولا فصلا (بعتك هذا المبيع بكذا تقسيطا كل شهر بكذا) إلى سنة مثلا، لكن بقي أن هذا السعر الموضوع المقرر في مجلس العقد إذا كان البيع مقسطا - كما ذكرنا – سعر قطعي غير قابل للزيادة ولا للنقص، ولا يجوز اعتماد التكلفة على هذا الأساس مطلقا. وإذا اعتبرناه عقد استصناع – وهو الأشبه – وجب أن يجري به التعامل بين الناس، وأن يتعارفوه بحيث تشتد إليه الحاجة العامة ويصبح من عموم البلوى، وإذا ضاق الأمر اتسع، وبهذا التخريج نُلْحِق هذا العقد الجديد (وهو البيع على الخارطة) بعقد الاستصناع، فنجيزه بشروطه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 وإننا اليوم أصبحنا في عصر تغيرت فيه أوضاع الناتس وأعرافهم، وتبدلت كثير من معالم التعامل بينهم، بحيث صار من الحرج الشديد اشتراط قيام المسكن لصحة بيعه وشرائه، بل ربما ألغي هذا الاعتبار بالكلية فلم يعد معمولا به، بل إن العكس هو المعمول به المعتبر بل وأصبح هو القاعدة وما عداه هو الاستثناء وفي ظل هذه الأعراف الجديدة والتحولات الجذرية التي غيرت وبدلت من أوضاع المعاملات المالية مما تعدى إلى المساكن بيعا وشراء من جريان التعامل اليوم على أساس البيع على الخارطة سواء كانت الجهة الممولة الدولة أو الجمعيات السكنية أو الأفراد، وجب النظر إلى هذه العقود نظرا جديدا بحيث نعدها (استصناعا) ونشترط لها ما نشترطه للاستصناع، ونلحق به أحكام الاستصناع آنفة الذكر في طالعة البحث، وهذا الذي يطمئن إليه القلب، وترتاح إليه النفس، وعلى هذا فالسعر مقطوع لا يخضع للتكلفة. وقبل الرؤية والتخصيص كل مع البائع والمشتري غير ملزَم، فإذا تخصص المشتري بسكنه ورآه صار ملزَمًا إذا وافق عليه وجاء مطابقا للشروط والمواصفات المطلوبة وإلا – بأن كان مخالفا لما اشترطوه من شروط ومواصفات – فالمشتري غير ملزم وله حق خيار الوصف أو الرؤية. وإذا لم نفعل ذلك نكون قد ضيعنا الناس ووضعناهم في متاهة الجهل ومتاهة الحرج، وإذا ضاق الأمر اتسع، وما جعل عليكم في الدين من حرج. وتأسيساً على ما ذكرت، فالخلاف جارٍ في بيع العقار قبل القبض على ما نوهت به في طالعة البحث، والرأي لدي الراجح اليوم هو عدم جواز ذلك وهو ما أرجحه وهو قول الجمهور والإمام محمد من الحنفية لأن هذا يفتح علينا بابا من الفساد والذرائع الفاسدة يجب سده، حتى إذا حصل البيع وانتهى الأمر أخذنا بقول الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف من الحنفية بجواز ذلك تصحيحا للعقد من الإبطال ورحمة بالناس، ولا سيما المبتلين (1) (1) وهو استحسان مقبول. (ب) وأما ملابسات هذا التمويل وما يصحبه أو يخالطه من الربا أو من شبهة الربا فمسألة أخرى هنا مجال بحثها ومن المعلوم أن العقد لا يكون محرما شرعا إذا خالطه محرم يمكن التنزه عنه، فكل العقود يمكن أن يخالطها الربا أو شبهته كالبيع والإجارة والمزارعة والمساقاة والوكالة وغير ذلك، فهل تصبح محرمة منهيًّا عنها لهذا الافتراض وحده؟ ! اللهم لا …   (1) انظر كتابنا " نظرية الاستحسان في التشريع الإسلامي وصلتها بالمصالح المرسلة "، طبعة دار دمشق، بدمشق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 وفي التمويل العقاري الذي ألحقناه فيما ذكرنا بعقد الاستصناع استحسانا يدخل الربا أو شبهته في جميع الحالات في صوره المعاصرة حال غياب الفقه الإسلامي عن التعامل في الساحة العامة لدى المسلمين بعامة. ولكن الربا ليس بشرط في تمام هذا العقد ولا في نشوئه فقها ولا قانونا، إذ بإمكاننا إقامة عقد استصناع في بناء المساكن وشرائها غير ربوي. وقبل ذلك يجدر بنا أن نحصر الملابسة الربوية في العقود الجارية لبناء المساكن وشرائها في هذه الأيام في حالة الجمعيات السكنية في مشكلتين، إما الربا الصراح أو شبهة الربا. فالربا الصراح هو أن تخصص الجمعية السكينة الدار بأحد المشتركين من أعضائها المكتتبين وليس معه ما يتمم ثمن الدار بعد دفع الأقساط المترتبة فيفوض هذا المشترك المكتب الإداري للجمعية بالاستقراض على اسمه من البنك الربوي بحيث يكون هو ذاته مسئولا عن تسديد هذا المبلغ من ماله الخاص بالتقسيط قولا واحدا، وبهذا يتسلم الدار ويتمم هو للبنك دفع الأقساط المترتبة عليه مع فوائدها، وهذا عين الربا وهو حرام، والعقد هنا حرم القيام به على هذه الصورة لأنه جاوره محرم وهو الربا فصار قبيحا لغيره. وأما شبهة الربا فهي أن يدفع العضوالمشترك الأقساط المترتبة عليه حتى إذا خصصوه بدار وخيروه بين الاستقراض على اسمه بالتوكيل منه من البنك الربوي وبين دفع بقية الذمم المترتبة عليه من ثمن الدار من ماله، ففي هذه الصورة نجا العقد من حقيقة الربا، ولكن شابته شبهة الربا وهي كون البنك اقترض منه المكتب الإداري للجمعية سلفا باسم أعضائه ما نقصهم من المال وهو بنك ربوي، وهذه هي شبهة الربا، هي شبهة قوية تجعل العقد مكروها كراهة تجريمية لمخالطته شبهة محرمة شرعا. فالحالة الأولى: وهي حقيقة الربا المخالطة للعقد لا تجوز إلا للضرورة القصوى بحيث لم يجد المبتلى من يقرضه ولا من يسكنه ولا من يدعمه حتى ولا بالأجرة ليسكن مع عائلته بوجه من وجوه الدعم فإما أن يبيت في الشارع العام يلتحف السماء ويفترش الأرض وإما أن يسلك هذا السبيل جاز له ذلك بقدر الضرورة، وبقدر ما يدفع الهلاك عن نفسه وعياله. وأما الحالة الثانية: فتجوز لغير القدوة من العلماء والفهاء في حالة الحاجة والحرج وهي حالة دون الضرورة وفوق الحالة العادية، وبقدر ما يدفع الحرج والحاجة. . والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 اقتراح من صاحب هذا البحث لحل مشكلة الربا وشبهته في عقود الإسكان ولقد فكرت مليا في هذا الأمر فوجدت أنه لا يجوز لنا نحن معاشر خدام هذه الشريعة وحملتها من أهل الفقه والاجتهاد في المسائل أن نترك هذه العقود الإسكانية الاستصناعية يتخللها الربا فيفسدها أو شبهته فيلوثها. . والناس اليوم في أزمات إسكانية في أنحاء العالم، لتفجر المشكلة السكانية، فالمشكلة في تزايد، والربا إذا دخل أفسد كل شيء ولوث بأوضاره كل شيء، فما هو الحل؟ 1! أجد الحل يكمن في تخليص هذه العقود الإسكانية الاستصناعية بعد استكمال شروطها وضوابطها – في تخليصها من الربا ومن شبهته، وذلك يكون بأحد حالتين اثنتين ظهرتا لي الآن: (أ) الحالة الأولى: في تسلم الدولة حصرا حل مشكلة الإسكان بالتزامها بإنشاء المساكن وبيعها للمواطنين بيعا على الخارطة دون اللجوء إلى بنوك ربوية أو ما شباه ذلك فالدولة بائع والمواطن مشتر والعقد استصناع مستكمل شروطه وضوابطه، والبيع هنا ولو كان بالتقسيط أو نقدا فهذا لا يهم ما دام المشتري لا علاقة له بالبنك توكيلا ولا قبضا ولا صرفا، لا سيما إذا كانت البنوك الربوية ملكا خالصا للدولة فإنها تلحق بالخزينة العامة، ويجب أن ينص على أن التعامل مع البنك الربوي ولو اضطرت إليه الدولة فهو بلا فائدة قطعا قرضا أو إقراضا لهذه المشكلة الإسكانية حصرا. (ب) والحالة الثانية: وتعتمد قيام بنوك إسلامية غير متوفرة في بلادنا، فيتولى البنك الإسلامي غير الربوي هذه المشاريع الإسكانية ويشرف على عقودها إشرفا كاملا فيصبح بائعا والأفراد مشترين، ويكون ذلك كله عن طريق شركات المضاربه وينبغي أن ينص في وثائق تأسيس هذه البنوك على ذلك صراحة. ولعل هناك حلولا أخرى لم أوفق إليها فأنا هنا باحث ولست مستقصيا، والمقصود هو تنقية هذه العقود من شوائب الربا ورجسه ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، لأن الأصل فيها أنها عقود غير ربوية، والربا أو شبهته أمران طارئان وليسا أصليين، فيستبعدان، ليبقى العقد صالحا للعمل ويرجع كما كان عقدا غير ربوي، هذا والله تعالى أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 خاتمة بتوفيق الله تعالى استطعت أن أجول في روضات الفقه الإسلامي وأقطف من زهوره ياسمينه ونسرينه ما يفي بالحاجة ويزيد، وتوصلت إلى نتائج جديدة لا أدعي أنها حكم الله في الواقعة، بل هي جهد، والمجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد، وهو بحث معروض على المجمع الموقر، وقول المجمع هو القول الفصل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 أبرز مصادر البحث ومراجعه في الفقه الإسلامي 1- ابن عابدين (محمد أمين) : رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) ، ط. بولاق سنة 1272 هـ. 2- الكساني (علاء الدين) : بدائع الصناع في ترتيب الشرائع (شرح نحفة الفقهاء للسمرقندي) . 3- ابن الهمام (كمال الدين) : فتح القدير شرح الهداية مع تكملة الفتح للطوري. 4- عالم كير (مجموعة من علماء الهند) : الفتاوى الهندية. 5- السرخسي (شمس الأئمة) : المبسوط شرح الكافي، للحاكم الشهيد. 6- الزحيلي (د. وهبه) : الفقه الإسلامي وأدلته، ط. دار الفكر بدمشق. 7- الفرفور (د. محمد عبد اللطيف) : نظرية الاستحسان في التشريع الإسلامي وصلتها بالمصالح المرسلة، ط. دار دمشق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 الطرق المشروعة للتمويل العقاري إعداد فضيلة القاضي محمد تقي العثماني عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن السكن من الحاجات الأصلية التي لا يمكن المرء أن يعيش بدونها. قال الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} وروي عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ((ثلاث من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والمركب الهنيء)) (1) (1) . وإن الحصول على المسكن الواسع المناسب أصبح اليوم في مقدمة المشاكل التي يجابها المرء في حياته، ولا سيما في المدن الكبيرة المزدحمة بالعمران، وذلك لتعقد الحياة وكثرة السكان، وغلاء الأسعار، والذين يستطيعون أن يشتروا أو يبنوا لأنفسهم مسكنا يفي بحاجاتهم قلة قليلة بالنسبة إلى الذين لا يستطيعون ذلك. ونظرا إلى هذا، ظهرت في معظم البلاد مؤسسات تقوم بتمويل الناس لشراء المساكن أوبنائها، ولكن أكثرها إنما تعمل في إطار النظام الربوي، فتقدم إلى عملائها قروضا، وتطالبهم على ذلك بالفائدة المعينة المتفق عليها في عقد التمويل، وبما أن هذا العقد يقوم على أساس الربا، وهو من أكبر المحرمات التي نهى عنها الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد، فأنه لا يجدر بأي مسلم أن يدخل في عقد يقوم على هذا الأساس الفاسد. وحينئذ، يجب على علماء المسلمين أن يقترحوا للناس طرقا للتمويل العقاري لا تعارض أحكام الشريعة الغراء، والتي يمكن أن تتخذ كبديل للتمويل الذي يقوم على أساس الربا المحرم شرعا.   (1) أخرجه أحمد والبزاز والطبراني في الكبير والأوسط. وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح راجع مجمع الزوائد: 4/272، وكشف الأسرار عن زوائد البزاز: 2/156، رقم (1412) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 ونريد في هذه العجالة أن نذكر طرقا شرعية للتمويل العقاري، مع ذكر أدلة إباحتها، وبيان الثمرات الناتجة عنها، والله سبحانه هو الموفق للصواب. إن الأصل في الدولة الإسلامية أن تقوم بواجبها في توفير الحاجات الأساسية لشعبها، وتهيئ لهم هذه الحاجات، دون أن تطالبهم على ذلك بربح. وبما أن السكن من الحاجات الأساسية لكل إنسان، فمن حقه أن يحصل عليه في حدود إمكانياته المالية، ومن كانت إمكانياته ضيقة لا يستطيع بها أن يشتري مسكنا أو يبنيه من جيبه، فعلى الدولة أن تقوم بقضاء حاجته إما بأن تساعده من صندوق الزكاة، إن كان مستحقا لها، وإما بأن تبيع إليه المسكن على أساس التكلفة الفعلية، دون أن تطالبه على ذلك بربح، وإما بأن توفر له قرضا حسنا لا تتقاضى عليه أية فائدة. وإن هذه الطرق الثلاثة هي الأصل في التمويل العقاري، وهي التي توافق الروح الإسلامية، وطبيعة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على أساس المواساة، والمساعدة على الخير، والتعاون على البر، والتألم بألم الآخرين، والارتياح براحتهم، والأخذ بأيدي الضعفاء ليرتفعوا إلى مستوى معيشة مقتصدة هنيئة. ولكن العمل بهذه الطرق الثلاثة، أو بواحدة منها، إنما يمكن لدولة تكون لديها موارد ضخمة ووسائل جمة، فإن كلا من هذه الطرق يتطلب أموالا غزيرة، ولاسيما في عصرنا هذا الذي تضاعف فيه عدد السكان، وغلت فيه الأسعار، ولا شك أن إمكانيات الدولة يمكن – وينبغي – أن تزداد بالتقليل في مصاريف غير منتجة، والتحرز عن النفقات الباهظة التي لا يقصد منها إلا الرياء أو الترف، ولكن معظم الدول اليوم لا تستطيع أن توفر السكن لجميع سكانها بهذه الطرق، ولو بتخفيف مثل هذه النفقات. فحينئذ، لا بد من اختيار بعض الطرق التي لا تكلف الدول بالتبرع المحض لتوفير المساكن، ولا بتحمل النفقات التي لا تطاق، وتكون في الوقت نفسه سالمة من الربا، أو المحظورات الشرعية الأخرى، وهي كالتالي: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 1- البيع المؤجل: فالطريق الأول هو أن يتملك الممول بيتا، ثم يبيعه إلى العميل (1) بربح بيعا مؤجلا ويستلم منه الثمن بأقساط معلومة في عقد البيع، يمكن أن يعفيه هذا البيع المؤجل مطلقا عن بيان نسبة الربح، وحينئذ يكون تعيين تلك النسبة بيد الممول. ويمكن أيضا أن يعقد البيع عن طريق المرابحة، وذلك بأن يصرح في العقد بنسبة الربح الذي يتقاضاه الممول زائدا على تكاليفه الفعلية. فإن كان البيت موجودا عند التمويل، ولا يحتاج إلى بناء، فللممول أن يشتريه، ويبيعه إلى العميل بالطريق المذكور، وإن لم يكن هناك بيت مبني، ويريد العميل أن يبنيه، فحينئذ يستطيع الممول أن يوكل العميل ببناء البيت، ويكون بناؤه على ملك الممول، وإنما يشرف عليه العميل كوكيل له، وحينما يتم البناء يبيعه الممول إلى العميل بيعا مؤجلا. هذا إذا كان العميل لا يمكن له أن يستخدم شيئا من ماله نقدا في شراء البيت أو بنائه. أما إذا كان العميل يستطيع أن يقدم حصة من تكاليف البيت نقدا، غير أن السيولة الموجودة عنده لا تفي بجميع النفقات اللازمة للشراء أو البناء، فيريد أن يطلب من الممول الحصة الباقية فقط، كما هو الحال في أكثر التمويلات العقارية اليوم، فيمكن له أن يتملك جزءا من البيت بمال نفسه، بأن يقع شراء البيت مشتركا من الممول والعميل، فيقدم الممول نصف ثمن البيت مثلا، ويقدم العميل نصفا أخر، ويكون البيت بينهما مشاعا بالنصف، ثم يبيع الممول نصفه إلى العميل بيعا مؤجلا بثمن أكثر من الثمن الذي دفعه إلى بائع البيت. أما إذا كان المقصود بناء البيت على أرض خالية، فيمكن استخدام نفس الطريق في شراء الأرض، بأن يقع شراؤها على سبيل الاشتراك من الممول والعميل، ثم يبيع الممول حصته في الأرض إلى العميل مؤجلا بثمن أكثر. فإن كانت الأرض مملوكة للعميل، أو صارت ملكا له بهذا الطريق وأراد العميل التمويل للبناء عليها، فإنه يمكن للممول والعميل أن يبنيا البيت على أساس المشاركة، فيدفع هذا نصف نفقة البناء، ويدفع ذلك النصف الآخر، فيقع البناء مشاعا بينهما بالنصف، وحينما يتم البناء يمكن للممول أن يبيع حصته من البناء إلى شريكة العميل مؤجلا بربح، وبيع الرجل حصته من البناء إلى شريكه مما لا نزاع في جوازه، وإن كان هناك خلاف في بيعها إلى الأجنبي، يقول ابن عابدين في رد المحتار:   (1) إننا في هذه المقالة نستعمل لفظ "الممول " لمن يريد أن يقدم التمويل العقاري ولفظ " العميل " لمن يريد أن يستفيد بذلك التمويل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 " ولو باع أحد الشريكين في البناء حصته لأجنبي، لا يجوز، ولشريكه جاز " (1) . ولضمان أداء الثمن المؤجل يجوز أن يطلب الممول رهنا من العميل، وبالإمكان أن يمسك مستندات ملك البيت كرهن عنده، وإن هذا الطريق لا غبار عليه شرعا، غير أن الممول لا يستطيع أن يقدم مثل هذه التمويلات إلا إذا كان على ثقة كاملة بأن العميل سوف يشتري منه ما سيتملكه الممول من البيت أو البناء، لأنه إن امتنع العميل من الشراء بعدما أنفق عليه الممول نفقات باهظة، فإن ذلك لا يحدث ضررا بالممول فحسب، بل سوف يخيب هذا النظام بأسره. وبما أن البيع لا يجوز أن يضاف إلى زمن مستقبل، فلا بد لنجاح هذا الطريق أن يتعهد العميل مسبقا، بأنه يلتزم بشراء حصة الممول بعدما يمتلكها. وإن هذا التعهد من العميل، وإن كان وعدا محضا، والوعد عند أكثر الفقهاء لا يكون ملزما في القضاء، ولكنَّ هناك عددا من الفقهاء جعلوا الوعد ملزما في الديانة والقضاء جميعا، وهو المذهب المشهور عند مالك رحمه الله، فإنه يجعل الوعد ملزما، لاسيما إذا دخل الموعود له بسببه في مؤنة، يقول الشيخ محمد عليش المالكي رحمه الله تعالى: " فالوفاء بالعدة مطلوب بلا خلاف. واختلف في وجوب القضاء بها على أربعة أقوال حكاها ابن رشد في كتاب جامع البيوع، وفي كتاب العارية، وفي كتاب العدة، ونقلها عنه غير واحد. فقيل: يقضى بها مطلقا، وقيل: لا يقضى بها مطلقا، وقيل: يقضى بها إن كانت على سبب، وإن لم يدخل الموعود بسبب العدة في شيء كقولك أريد أن أتزوج. . . فأسلفني كذا. . . والرابع: يقضى بها إن كانت على سبب، ودخل الموعود بسبب العدة في شيء وهذا هو المشهور من الأقوال " (2) وقال القرافي رحمه الله تعالى: " قال سحنون: الذي يلزم من الوعد: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبني به، أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، لأنك أدخلته بوعدك في ذلك. أما مجرد الوعد، فلا يلزم الوفاء به، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق. (3) .   (1) رد المحتار: 3/365- كتاب الشركة. (2) فتح العلي المالك، للشيخ محمد عليش: 1/256، مسائل الالتزام. (3) الفروق، للقرافي 4: 25، الفرق الرابع عشر بعد المائتين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 وقال ابن الشاط في حاشيته: " الصحيح عندي القول بلزوم الوفاء بالوعد مطلقا، فيتعين تأويل ما يناقض ذلك. . . إلخ " (1) . وكذلك اختار المتأخرون من الحنفية لزوم الوعد قضاءً في عدة من المسائل، كما في مسألة البيع بالوفاء، قال قاضي خان رحمه الله في البيع بالوفاء: " وإن ذكرا البيع من غير شرط، ثم ذكر الشرط على وجه المواعدة جاز البيع ويلزمه الوفاء بالوعد لأن المواعدة قد تكون لازمة فتجعل لازمة لحاجة الناس " (2) وقال ابن عابدين رحمه الله: " وفي جامع الفصولين أيضا: لو ذكرا البيع بلا شرط، ثم ذكر الشرط على وجه العقد جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد إذا المواعيد قد تكون لازمة، فيجعل لازما لحاجة الناس (3) . فبناء على هذه النصوص الفقهية، يجوز أن تجعل مثل هذه المواعيد لازمة في القضاء، فإذا تعهد العميل في الاتفاقية الموقع عليها من قبل الفريقين أنه سوف يشتري حصة الممول من البناء أو العقار، فإنه يكون ملزما بوفاء هذا الوعد قضاءً وديانةً. ولكن يجب أن لا يقع البيع إلا بعدما يمتلك الممول حصته ‘فإن البيع لا يضاف إلى المستقبل، وعلى هذا يجب أن يقع عند ذلك عقد البيع بالإيجاب والقبول.   (1) حاشية الفروق لابن الشاط: 4/24 و25 (2) الفتاوى الخانية: 2/138، فصل في الشروط المعدة في البيع (3) رد المحتار: 4/135 – باب البيع الفاسد، مطلب في الشرط الفاسد إذا ذكر بعد العقد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 2- الشركة المتناقصة: والطريق الثاني للتمويل العقاري يبتنى على أساس الشركة المتناقصة. وإن هذا الطريق يتلخص في نقاط تالية: إن الممول والعميل يشتريان البيت على أساس شركة الملك، فيكون البيت مشاعا بينهما بنسبة حصة الثمن التي دفعها كل واحد منهما، فإن دفع كل منهما نصف الثمن، يكون البيت مشاعا بينهما بالنصف، وإن دفع أحدهما الثلث والآخر الثلثين، كان البيت بينهما أثلاثا، وهكذا. ثم يؤجر الممول حصته من البيت إلى العميل بأجرة شهرية أو سنوية معلومة بينهما. ج- وتقسم حصة الممول على سهام متعددة معلومة، كالعشرة مثلا. د- وبعد كل فترة دورية متفق عليها بين الفريقين (كستة أشهر مثلا) يشتري العميل سهما من هذه السهام بحصة من الثمن، فإن كانت حصة الممول مثلا تساوي ستة أشهر يشتري العميل سهما بعشرين ألف ربية. هـ – وبعد شراء سهم من حصة الممول تنتقص ملكيته في البيت، وتزداد ملكية العميل. و وبعد شراء كل سهم من حصة الممول تنتقص الأجرة بحساب ذلك السهم، فإن كانت أجرة حصة الممول بكاملها ألف ربية مثلا، فإنها تنتقص بعد شراء كل سهم بقدر مائة ربية،، فتصير الأجرة بعد شراء السهم الأول تسعمائة ربية، وبعد شراء السهم الثاني ثمانمائة ربية، وهكذا. ز- حتى إذا اشترى العميل سهام الممول كلها صار البيت كله مملوكا للعميل، وانتهت الشركة والإجارة معا. وإن هذا الطريق من التمويل العقاري، يشتمل على عقود ثلاثة: العقد الأول: لإحداث شركة الملك. والثاني: إجارة حصة الممول. والثالث: بيع السهام المتعددة من حصة الممول إلى العميل. فلنتكلم أولا على كل عقد على حدة، ثم لنبحث عن مدى شرعية هذا الطريق بمجموعه. أما شراء البيت بمالهما المشترك، فلا مانع منه شرعا، ويحدث بذلك شركة الملك بينهما، فإن شركة الملك عرفها الفقهاء كالتالي: " شركة الملك هي أن يملك متعدد عينا أو دينا بإرث أو بيع أو غيرهما " (1) . فهذه الشركة في البيت قد حدثت بالشراء بمالهما المشترك.   (1) تنوير الأبصار، مع رد المحتار: 3/364 و365 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 وأما إجارة حصة الممول من العميل، فهذه إجارة جائزة أيضا. لأن إجارة المشاع من غير الشريك وإن كان في جوازه خلاف بين الفقهاء، فلا خلاف في جواز إجارة المشاع من الشريك. قال ابن قدامة رحمه الله: " ولا تجوز إجارة المشاع لغير الشريك، إلا أن يؤجر الشريكان معا وهذا قول أبي حنيفة وزفر، لأنه لا يقدر على تسليمه فلم تصح إجارته. . . واختار أبو حفص العكبري جواز ذلك، وقد أومأ إليه أحمد، وهو قول مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد، لأنه معلوم يجوز بيعه، فجازت إجارته كالمفروز، ولأنه عقد في ملكه يجوز مع شريكه، فجاز مع غيره " (1) وجاء في الدر المختار للحصكفي: " وتفسد – أي الإجارة – أيضا بالشيوع. . . إلا إذا آجر كل نصيبه أو بعضه من شريكه، فيجوز، وجوازه بكل حال " (2) وبما أن إجارة الحصة المشاعة تقع في الطريق المذكور من الشريك، فإنها جائزة بإجماع الفقهاء. أما بيع الحصة الشائعة من الدار، فإنه يجوز أيضا، فإن كان المبيع حصة في العرضة والبناء كليهما، فلا خلاف في جواز البيع، وأما إذا كان المبيع الحصة الشائعة في البناء فقط، فيجوز البيع مع شريكه بالإجماع، وفي جواز البيع من الأجنبي خلاف، وقدمنا ما ذكره ابن عابدين في رد المحتار من قوله " ولو باع أحد الشريكين في البناء حصته لأجنبي لا يجوز، ولشريكه جاز " (3) وبما أن البيع ههنا لا يقع إلا من الشريك، فلا خلاف في جوازه، فظهر بهذا أن هذه العقود الثلاثة من المشاركة في الملك، والإجارة، والبيع، كل واحد منها صحيح في حد ذاته، فإن وقعت هذه العقود من غير أن يشترط أحدها في الآخر، بل يعقد كل منها مستقلا، فلا غبار على جوازها. وأما إذا وقعت هذه العقود باتفاق سابق بين الفريقين، فربما يبدو أن ذلك لا يجوز، لكونه صفقة في صفقة، أو لكون العقد الواحد شرطا زائدا في العقد الآخر، وإن الصفقة في الصفقة لا تجوز، حتى عند من يجوز بعض الشروط في البيع، كالحنابلة، قال ابن قدامة رحمه الله:   (1) المغني، لابن قدامة رحمه الله: 6/137. (2) الدر المختار، مع رد المحتار: 6/47 و48. (3) رد المحتار: 3/365، كتاب الشركة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 " الثاني – أي النوع الثاني من الشرط – فاسد، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: أن يشترط على صاحبه عقدا آخر، كسلف أو قرض، أو بيع أو إجارة، أو صرف الثمن أو غيره، فهذا يبطل البيع، ويحتمل أن يبطل الشرط وحده، المشهور في المذهب أن هذا الشرط فاسد يبطل به البيع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل بيع وسلف، ولا شرطان في بيع)) . قال الترمذي: هذا حديث صحيح، ((ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة)) حديث صحيح وهذا منه، قال أحمد: " وكذلك كل ما في معنى ذلك، مثل أن يقول: على أن تزوجني بابنتك، أو على أن أزوجك ابنتي. فهذا كله لا يصح، قال ابن مسعود صفقتان في صفقة ربا، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور العلماء، وجوزه مالك وجعل العوض المذكور في الشرط فاسدا " (1) . ولكن هذا المحظور إنما يلزم إذا كان العقد الواحد مشروطا بالعقد الآخر في صلب العقد، أما إذا وقعت هناك مواعدة بين الفريقين، بأنهما يعقدان الإجارة في الوقت الفلاني، والبيع في الوقت الفلاني، وانعقد كل عقد في وقته مطلقا عن أي شرط، فالظاهر أنه لا يلزم منه الصفقة في الصفقة وقد صرح به الفقهاء في عدة مسائل ولا سيما في مسألة البيع بالوفاء وقدمنا عن الفتاوى الخانية: (وإن ذكرا البيع من غير شرط، ثم ذكر الشرط على وجه المواعدة جاز البيع، ويلزمه الوفاء بالوعد، لأن المواعدة قد تكون فتجعل لازمة لحاجة الناس) . وبمثله صرح علماء المالكية في مسألة البيع بالوفاء الذي يسمى عندهم " بيع الثنايا "، فإنه لا يجوز عندهم في الأصل. قال الحطاب: " لا يجوز بيع الثنايا، وهو أن يقول: أبيعك هذا الملك، أو هذه السلعة على أن آتيك بالثمن إلى مدة كذا، أو متى آتيك به فالبيع مصروف عنى " (2) ولكن إذا وقع البيع مطلقا عن هذا الشرط، ثم وعد المشتري البائع بأنه سوف يبيعه إن جاءه بالثمن، فإن هذا الوعد صحيح لازم على البائع، قال الحطاب رحمه الله: " قال في معين الحكام: ويجوز للمشتري أن يتطوع للبائع بعد العقد بأنه إن جاء بالثمن إلى أجل كذا، فالمبيع له ويلزم المشتري متى جاءه بالثمن في خلال الأجل أو عند انقضائه أو بعده على القرب منه، ولا يكون للمشتري تفويت في خلال الأجل، فإن فعل ببيع أو هبة أو شبه ذلك نقض إن أراده البائع، ورد إليه " (2) (3)   (1) الشرح الكبير على المقنع لشمس الدين ابن قدامة: 4/53، وبمثله ذكر الموفق بن قدامة في المغني: 4/290 (2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للحطاب: ص 233. (3) المصدر السابق: ص 239. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 هذا إذا انعقد البيع مطلقا من غير شرط ووقعت المواعدة بعد انعقاد البيع، وقد صرح عدة من الفقهاء بأن الحكم كذلك لو وقعت المواعدة قبل انعقاد البيع، ثم انعقد البيع مطلقا من غير شرط. قال القاضي ابن سماوة الحنفي رحمه الله: " لو شَرَطا شرْطًا فاسدًا قبل العقد، ثم عَقَدا، لم يبطل العقد، ويبطل لو تقارنا) (1) . وقال في مسألة البيع بالوفاء: " وكذا لو تواضَعَا الوفاء قبل البيع، ثم عقَدا بلا شرط الوفاء فالعقد جائز، ولا عبرة بالمواضعة السابقة " (2) . وحكاه ابن عابدين في رد المحتار، واعترض عليه، قال: " في جامع الفصولين أيضا: لو شرطا شرَطًا فاسدًا قبل العقد ثم عقدا، لم يبطل العقد. اهـ. قلت: وينبغي الفساد لو اتفقا على بناء العقد عليه كما صرجوا به في بيع الهزل كما سيأتي آخر البيوع " (3) . ولكن تعقبه العلامة محمد خالد الأتاسي رحمه الله تعالى بقوله: " أقول: هذا بحث مصادم للمنقول (أي ما هو منقول في جامع الفصولين) كما علمت، وقياسه على بيع الهزل قياس مع الفراق، فإن الهزل، كما في المنار، هو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له ولا ما يصلح له اللفظ استعارة، ونظره بيع التلجئة، وهو كما في الدر المختار، أن يظهرا عقدًا وهما لا يريدانه. وهو ليس ببيع في الحقيقة، فإذا اتفقا على بناء العقد عليه فقد اعترفا بأنهما لم يريدا إنشاء بيع أصلا، وأين هذا من مسألتنا؟ . . . وعلى كل حال، فاتباع المنقول أولى " (4) . ولهذا أفتى جماعة من متأخري الحنفية بأن المواعدة المنفصلة عن عقد البيع، سواء كانت قبل العقد أو بعده، لا يلتحق بأصل العقد، ولا يلزم عليه البيع بشرط، أو صفقة في صفقة، فلا مانع حينئذ من جواز العقد (5) وربما يقع هاهنا إشكال، وربما يقع هاهنا إشكال، وهو أن المواعدة إذا وقعت قبل العقد، فالظاهر أنها ملحوظة عند العقد لدى الفريقين ولو لم يتلفظا بها صراحة عند الإيجاب والقبول، وأنهما لا يبنيان العقد المطلق إلا على أساس ذلك الوعد السابق، فلم يبق هناك فرق بين هذا العقد المطلق الذي سبقه مواعدة من الفريقين، وبين العقد الذي شرط فيه العقد الآخر صراحة، وينبغي أن يكون الحكم دائرًا على حقيقة المعاملة دون صورته، وأن تكون المواعدة السابقة في حكم الشرط في البيع في عدم الجواز.   (1) جامع الفصولين: 2/237 (2) جامع الفصولين: 2/237 (3) رد المحتار: 4/135 (4) شرح المجلة للأتاسي: 2/61. (5) راجع عطر الهداية، للعلامة فتح محمد اللكنوي، رحمه الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 والجواب عن هذا الإشكال على ما ظهر لي – والله سبحانه أعلم – أن الفرق بين المسألتين ليس في الصورة فحسب، بل هناك فرق دقيق في الحقيقة أيضا وذلك أن العقد الواحد إن كان مشروطا بالعقد الآخر، والذي يعبر عنه بالصفقة في الصفقة، لا يكون عقدا باتا، وإنما يتوقف على عقد آخر بحيث لا يتم العقد الأول إلا به، فكان في معنى العقد المعلق أو العقد المضاف إلى زمن مستقبل، فإذا قال البائع للمشتري بعتك هذه الدار على أن تؤجر الدار الفلانية لي بأجرة كذا، فمعناه: أن البيع موقوف على الإجارة اللاحقة، ومتى توقف العقد على واقع لاحق، خرج من حيز كونه باتًّا، وصار عقدا معلقا، والتعليق في عقود المعاوضة لا يجوز، ولو حكمنا بمقتضى هذا العقد، وامتنع المشتري من الإجارة، فإن ذلك يستلزم أن يرتفع البيع تلقائيا، لأنه كان مشروطا بالإجارة، وعند فوات الشرط يفوت المشروط. فالعقد إذا شرط معه عقد آخر، كان ذلك في معنى تعليق العقد الأول على العقد الثاني، وصار كأنه قال: (إن اجرتني الدار الفلانية بكذا فداري بيع عليك بكذا) . وهذا مما لا يجيزه أحد، لأن البيع لا يقبل التعليق. وهذا بخلاف ما لو ذكرا ذلك على سبيل المواعدة في أول الأمر، ثم عقدا البيع مطلقاً عن شرط، فإن البيع ينعقد من غير تعليق بيعا باتا ولا يتوقف تمامه على عقد الإجارة، فلو امتنع المشتري من الإيجارة بعد ذلك، فإنه لا يؤثر على هذا البيع البات شيئا، فيبقى البيع تامًّا على حاله. وغاية الأمر أن يجبر المشتري على الوفاء بوعده على القول بلزوم الوعد. لأنه أدخل البائع في البيع بوعده، فلزم عليه أن يفي بذلك الوعد قضاء عند المالكية. وهذا شيء لا أثر له على البيع البات الذي حصل بدون أي شرط، فإنه يبقى تامًّا، ولو لم يف المشتري بوعده. وبهذا تبين أن البيع إذا اشترط فيه العقد الآخر مترددًا بين التمام والفسخ، وإن هذا التردد يورث فيه الفساد، بخلاف البيع المطلق الذي سبقه الوعد بالشيء، فإنه لا تردد في تمام البيع، فإنه يتم في كل حال، وغاية الأمر أن يكون الوعد السابق لازمًا على المشتري على قول من يقول بلزوم الوعد. فالطريق المشروع للشركة المتناقصة الذي لا غبار عليه أن تقع هذه العقود الثلاثية في أوقاتها مستقلة بحيث يكون كل عقد منفصلا عن الآخر، ولا يشترط عقد في عقد، نعم، يجوز أن تحدث بينهما اتفاقية يتواعدان فيها بالدخول في هذه العقود، فيتفقان على أنهما يشتريان الدار الفلانية بمالهما المشترك، ثم يؤجر الممول حصته إلى العميل بأجرة معلومة، ثم يشتري العميل حصة الممول بأقساط متعددة إلى أن يتملك الدار كلها. ولكن هذه الاتفاقية لا تكون إلا وعدًا من الفريقين بإنشاء هذه العقود، ولا ينشأ أحد من هذه العقود إلا في وقته الموعود بإيجاب وقبول، ويقع العقد حينئذ مطلقًا من أي شرط فلا يشترط الإجارة في البيع، ولا البيع في الإجارة. القاضي محمد تقي العثماني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 المناقشة بسم الله الرحمن الرحيم التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها الرئيس: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين. أعمال هذه الدورة مجدولة أمامكم، والظاهر أنه لا اعتراض على ترتيب أعمال هذا الجدول، وكذلك بالنسبة للعارضين والمقررين عرضت عليكم أو زُوِّدتم بها في بيان يضم أسماء العارضين وأسماء المقررين وتعداد الباحثين لكل قضية فقهية ستدرس في هذه الدورة بإذن الله تعالى. في هذه الجلسة الصباحية لدينا موضوع " التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها " وكان من المقرر أن يكون العارض هو فضيلة عضو المجمع الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور، لكن لشيء من الصداع ألم به – شفاه الله – سيكون العارض فضيلة الشيخ محمد تقي العثماني. قبل أن يتفضل الشيخ محمد تقي بالعرض أحب أن أعيد إلى ذاكرة أصحاب الفضيلة أن الوقت محدد وأن المناقشات أحيانًا تتكرر وتتسع وتخرج عن الموضوع، فمثلا إذا كان البحث في قضية عينية لها تعلق بالمصارف الإسلامية يأتينا البحث من أحد الإخوان – وهو مشكور على كل حال – في قضية المصاريف الإسلامية ككل أو في قضية الربا ككل أو في أي قضية من القضايا التي تخرج عن ذات الموضوع إلى الإطار الكلي، وهذا لا يخدم الموضوع لأن المراد هو بيان المدرك الفقهي لذات القضية المبحوثة محافظة على الوقت ومحافظة على قيمة البحوث، وأنتم تعلمون أن المداولات والمناقشات تسجل وتنشر وهي تعطي انطباعًا عن نفس الباحث أو المناقش في أي موضوع من هذه الموضوعات. لهذا أرجو أن تجدوا لي عذرًا حينما يتبين – وحسب رغبة كثير من أصحاب الفضيلة الأعضاء – أن بعض الأخوة في المناقشة قد يطيل وقد يكون هناك خروج عن الموضوع مما يكون على حساب وقت هذه الجلسة، فأرجوا أن تجدوا لي عذرًا في أن نشير إلى الاختصار ونعطي الكلمة لأحد الباحثين من أصحاب الفضيلة المشايخ وشكرًا. الشيخ محمد تقي، تفضل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 القاضي محمد تقي العثماني: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبى الأمي وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. فإن الموضوع المطروح لدى هذه الجلسة هو موضوع " التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها " وإن البحوث المقدمة في هذا الموضوع أربعة: بحث للدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور، وبحث لفضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي، وبحث للأستاذ الدكتور عبد الله إبراهيم، وبحث لهذا العبد الضعيف عفا الله عنه. أريد في هذا العرض أن آتي بخلاصة ما كتب في هذه الأبحاث الأربعة. ويدور الكلام في هذا الموضوع على نقاط ثلاثة: الأولى التعريف بالموضوع، والثانية الطرق المستخدمة في البنوك العقارية التقليدية وبيان ما يجري فيها من الحكم الشرعي من الناحية الشرعية، والثالثة ذكر الحلول الشرعية والبدائل الشرعية التي بها أتى الباحثون في بحوثهم لغرض التمويل العقاري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 فأما التعريف بالموضوع: فإن التمويل العقاري يتعلق بحاجة من الحاجات الأصلية للإنسان وهي السكن التي لا يمكن للمرء أن يعيش بدونها، قال سبحانه وتعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} وروي عن عائشة – رضي الله تعالى عنها – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ثلاث من السعادة، المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والمركب الهنيء)) ، وأن الحصول على المسكن الواسع المناسب أصبح اليوم في مقدمة المشاكل التي يجابهها المرء في حياته ولا سيما في المدن الكبيرة المزدحمة بالعمران، وذلك لتعقد الحياة وكثرة السكان وغلاء الأسعار، ونظرًا إلى هذا ظهرت في معظم البلاد اليوم مؤسسات تقوم بتمويل الناس لشراء المساكن أو بنائها، ولكن أكثرها إنما تعمل في إطار النظام الربوي، فتقدم إلى عملائها قروضًا وتطالبهم على ذلك بالفائدة المعينة المتفق عليها في عقد التمويل. وبما أن هذا العقد يقوم على أساس الربا وهو من أكبر المحرمات التي نهى عنها الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد، فإن لا يجدر بأي مسلم أن يدخل في عقد يقوم على هذا الأساس الفاسد، وأن البحوث الأربعة المقدمة في هذا الموضوع كلها متفقة على أن هذا الطريق الذي تتعامل به البنوك العقارية التقليدية لا يجوز شرعا، ومحرم على كل مسلم أن يتعامل بها، وحينئذ يجب على علماء المسلمين أن يقترحوا للناس طرقًا للتمويل العقاري لا تعارض أحكام الشريعة الغراء، والتي يمكن أن تتخذ كبديل للتمويل الذي يقوم على أساس الربا المحرم شرعًا، وإن الأصل في الدولة الإسلامية أن تقوم بواجبها في توفير الحاجات الأساسية لشعبها، وتهيئ لهم هذه الحاجات دون أن تطالبهم على ذلك بربح أو فائدة وبما أن السكن من الحاجات الأساسية لكل إنسان فمن حقه أن يحصل عليه في حدود إمكانياته المالية، ومن كانت إمكانياته ضيقة لا يستطيع بها أن يشتري مسكنًا أو بينيه، فعلى الدولة أن تقوم بقضاء حاجته، إما بأن تساعده من صندوق الزكاة إن كان مستحقًا لها، وإما بأن تبيع إليه المسكن على أساس التكلفة الفعلية دون أن تطالبه على ذلك بربح، وإما بأن توفر له قرضًا حسنًا لا تتقاضى عليه أية فائدة، وإن هذه الطرق الثلاثة هي الأصل في التمويل العقاري، وهي التي توافق الروح الإسلامية وطبيعة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على أساس المواساة والمساعدة على الخير والتعاون على البر، ولكن العمل بهذه الطرق الثلاثة أو بواحدة منها إنما يمكن لدولة تكون لديها موارد ضخمة ووسائل جمة، فإن كلًّا من هذه الطرق يتطلب أموالا غزيرة ولا سيما في عصرنا هذا الذي تضاعف فيه عدد السكان وغلت فيه الأسعار، ولا شك أن إمكانيات الدولة يمكن وينبغي أن تزاد بالتقليل من المصاريف غير المنتجة، والتحرس من النفقات الباهظة التي لا يقصد منها إلا الرياء أو الترف، ولكن معظم الدول اليوم لا تستطيع أن توفر السكن لجميع سكانها بهذه الطرق ولو بتخفيض مثل هذه النفقات، فحينئذ لابد من اختيار بعض الطرق التي لا تكلف الدولة بالتبرع المحض لتوفير المساكن، ولا بتحمل النفقات التي لا تطاق، وتكون في الوقت نفسه سالمة من الربا أو المحظورات الشرعية الأخرى، وإن البدائل التي تقدم بها الباحثون – البدائل لهذا النظام الربوي 0 تتلخص في ستة بدائل، وهي: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 الأول: البيع المؤجل. الثاني: الشركة المتناقصة (وهذان البديلان عما اللذان ركزت عليهما في بحثي) . الثالث: (وقد أتى به الأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور) وهو الاستصناع. الرابع: التأجير المنتهي بالتمليك (وهو الذي ذكره الأستاذ الدكتور عبد الله إبراهيم) . الخامس: ذكره أيضًا (الدكتور عبد الله إبراهيم) باسم الإقراض برسم التمليك. السادس: ذكره كذلك (الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور) ، وهو رائج في بعض البنوك العقارية السورية. فلنتحدث عن البدائل الستة: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 *أما البديل الأول: فهو (البيع المؤجل) وهو أن يتملك الممول بيتًا ثم يبيعه إلي العميل – وإني في عرضي هذا حينما أستعمل كلمة الممول أريد به من يقدم التمويل العقاري، وحينما أستعمل لفظ العميل فإني أقصد من يستفيد بذلك التمويل – فالبيع المؤجل هو أن يتملك الممول بيتًا ثم يبيعه للعميل بربح بيعًا مؤجلا، ويستلم منه الثمن بأقساط معلومة في عقد البيع، ويمكن أن يعقد هذا البيع المؤجل مطلقًا عن بيان نسبة الربح، وحينئذ يكون تعيين تلك النسبة بيد الممول، ويمكن أيضا أن يعقد البيع عن طريق المرابحة وذلك بأن يصرح في العقد بنسبة الربح الذي يتقاضاه الممول زائدا على تكاليفه الفعلية، فإن كان البيت موجودا عند التمويل ولا يحتاج إلى بناء، فللممول أن يشتريه ويبيعه إلى العميل بالطريق المذكور، وإن لم يكن هناك بيت مبني ويريد العميل أن يبنيه فحينئذ يستطيع الممول أن يوكل العميل ببناء البيت، ويكون بناؤه على ملك الممول وإنما يشرف عليه العميل كوكيل له، وحينما يتم البناء يبيعه الممول إلى العميل بيعا مؤجلا، وهذا إذا كان العميل لا يمكن له أن يستخدم شيئا من ماله نقدا في شراء البيت أو بنائه، أما إذا كان العميل يستطيع أن يقدم حصة من تكاليف البيت نقدا غير أن السيولة الموجودة عنده لا تفي بجميع النفقات اللازمة للشراء أو للبناء فيريد أن يطلب من الممول الحصة الباقية فقط كما هو الحال في أكثر التمويلات العقارية اليوم، فيمكن له أن يتملك جزءا من البيت بمال نفسه، بأن يقع شراء البيت مشتركا من الممول والعميل، فيقدم الممول نصف ثمن البيت – مثلا – ويقدم العميل النصف الآخر ويكون البيت بينهما مشاعا بالنصف، ثم يبيع الممول نصفه إلى العميل بيعا مؤجلا بثمن أكثر من الثمن الذي دفعه إلى بائع البيت، أما إذا كان المقصود بناء البيت على أرض خالية فيمكن استخدام نفس الطريق في شراء الأرض، بأن يقع شراؤها على سبيل الاشتراك بين الممول والعميل ثم يبيع الممول حصته في الأرض إلى العميل مؤجلا بثمن أكثر، فإن كانت الأرض مملوكة للعميل أو صارت ملكًا له بهذا الطريق المذكور وأراد العميل التمويل للبناء عليها، فإنه يمكن للممول والعميل أن يبنيا البيت على أساس المشاركة فيدفع هذا نصف نفقة البناء ويدفع ذاك النصف الآخر فيقع البناء مشاعا بينهما بالنصف، وحينما يتم البناء يمكن للممول أن يبيع حصته من البناء إلى شريكه العميل مؤجلا بربح، وبيع الرجل حصته في البناء إلى شريكه لانزاع في جوازه ـ ولضمان أداء الثمن المؤجل يجوز أن يطلب الممول رهنًا من العميل وبالإمكان أن يمسك مستندات ملك البيت كرهن عنده، وإن هذا الطريق لا غبار عليه شرعًا، غير أن الممول لا يستطيع أن يقدم مثل هذه التمويلات إلا إذا كان على ثقة كاملة بأن العميل سوف يشتري منه ما سيتملكه الممول من البيت أو البناء، لأنه إن امتنع العميل من الشراء بعدما أنفق عليه الممول نفقات باهظة فإن ذلك لا يحدث ضررا بالممول فحسب بل سوف يخيب هذا النظام بأسره، وبما أن البيع لا يجوز أن يضاف إلى ثمن المستقبل فلا بد لنجاح هذا الطريق أن يتعهد العميل مسبقًا بأنه يلتزم بشراء حصة الممول بعدما يمتلكها. وإن هذا التعهد من العميل، إن كان وعدًا محضًا، والوعد عند أكثر الفقهاء لا يكون ملزما في القضاء، ولكن هناك عددًا من الفقهاء جعلوا الوعد ملزمًا في الديانة والقضاء جميعًا، وهو المذهب المشهور عند مالك رحمه الله، فإنه يجعل الوعد ملزما، وقد أتيت ببعض النصوص الفقهية في هذا الصدد، لا حاجة بنا أن نقرأها لأن هذا الموضوع قد فرغ منه في الدورة السابقة للمجمع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 فبناء على هذه النصوص الفقهية، يجوز أن تجعل مثل هذه المواعيد لازمة في القضاء فإذا تعهد العميل في الاتفاقية الموقع عليها من قبل الفريقين أنه سوف يشتري حصة الممول من البناء أو العقار، فإنه يكون ملزمًا بوفاء هذا الوعد قضاء وديانة، ولكن يجب ألا يقع البيع إلا بعدما يمتلك الممول حصته، فإن البيع لا يضاف إلى المستقبل، وعلى هذا يجب أن يقع عند ذلك عقد البيع بالإيجاب والقبول. وهناك نقطة أخرى في هذا الموضوع قد أثارها وتناولها بالبحث الدكتور عبد الله إبراهيم في بحثه وهي مسألة تتعلق بتحديد نسبة الربح التي يتقاضاها الممول من العميل، وقد أشار فضيلته إلى أن المعمول به في أكثر المصارف الإسلامية في عمليات المرابحة، أنها تحدد نسبة الربح على نفس الأساس الذي يحدد به البنوك الربوية نسبة فوائدها وهذا شيء ينبغي أن تبتعد عنه المصارف الإسلامية والمؤسسات المالية التي تسير على أسس شرعية، لأنها تشابه عقد الربا ولا سيما في التمويل العقاري، فإن التمويل المقدم فيه إنما يقدم لسد حاجة أصلية وليس للاستثمار، فلا ينبغي للممول أن يطالب عميله بنفس المبلغ الذي تتقاضاه الجهات المرابية. هذا بالنسبة للبديل الأول وهو (البيع المؤجل) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 * والبديل الثاني: هو (الشركة المتناقصة) وإن هذا الطريق يتلخص في النقاط التالية: 1- إن الممول والعميل يشتريان البيت على أساس شركة الملك، فيكون البيت مشاعا بينهما بنسبة حصة الثمن التي دفعها كل واحد منهما، فإن دفع كل منهما نصف الثمن، يكون البيت مشاعا بينهما بالنصف، وإن دفع أحدهما الثلث والآخر الثلثين، وكان البيت بينهما أثلاثا، وهكذا. 2- ثم يؤجر الممول حصته من البيت إلى العميل بأجرة شهرية وسنوية معلومة بينهما. 3- وتقسم حصة الممول على سهام متعددة معلومة، كالعشرة مثلا. 4- وبعد كل فترة دورية متفق عليها بين الفريقين (كستة أشهر مثلا) يشتري العميل سهما من هذه السهام بحصتها من الثمن. فإن كانت حصة الممول مثلا تساوي مائتي ألف روبية، فإن كل سهم من سهامها العشرة يقوم بعشرين ألف روبية فبعد كل ستة أشهر يشتري العميل سهما بعشرين ألف روبية. 5- وبعد شراء كل سهم من حصة الممول تنتقص ملكيته في البيت، وتزداد ملكية العميل. 6- وبعد شراء كل سهم من حصة الممول، تنتقص الأجرة بحساب ذلك السهم، فإن كانت أجرة حصة الممول بكاملها ألف روبية مثلا، فإنها تنتقص بعد شراء كل سهم بقدر مائة روبية، فتصير الأجرة بعد شراء السهم الأول تسعمائة روبية، وبعد شراء السهم الثاني ثمانمائة روبية، وهكذا. 7- حتى إذا اشترى العميل سهام الممول كلها صار البيت كله مملوكا للعميل، وانتهت الشركة والإجارة معا. وإن هذا الطريق من التمويل العقاري يشتمل على عقود ثلاثة: العقد الأول: لإحداث شركة الملك. والثاني: إجارة حصة الممول. والثالث: بيع السهام المتعددة من حصة الممول إلى العميل. فلنتكلم أولا على كل عقد على حدة ثم لنبحث عن مدى شرعية هذا الطريق بمجموعه: أما شراء البيت بمالهما المشترك، فلا مانع منه شرعًا، ويحدث بذلك شركة الملك بينهما، فإن شركة الملك عرفها الفقهاء كالتالي: " شركة الملك هي أن يملك متعدد عينًا أو دينًا بإرث أو بيع أو غيرهما ". فهذه الشركة في البيت قد حدثت بالشراء بمالهما المشترك، فكان البيت مشتركًا بينهما بشركة الملك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 وأما إجارة حصل الممول من العميل، فهذه إجارة جائزة أيضًا، لأن إجارة المشاع من غير الشريك وإن كان في جوازه خلاف بين الفقهاء ولكنه لا خلاف في جواز إجارة المشاع من الشريك. وذكرت النصوص الفقهية في هذا الشأن عن المغني لابن قدامة وعن رد المحتار وما إلى ذلك. فظهر بهذا أن هذه العقود الثلاثة من المشاركة في الملك، والإجارة، والبيع، كل واحد منها صحيح في حد ذاته، فإن وقعت هذه العقود من غير أن يشترط أحدها في الآخر، بل يعقد كل منها مستقلًا، فلا غبار على جوازها. وأما إذا وقعت هذه العقود باتفاق سابق بين الفريقين، فربما يبدو أن ذلك لا يجوز، لكونه صفقة في صفقة، أو لكون العقد الواحد شرطًا زائدًا في العقد الآخر، وإن الصفقة في الصفقة لا تجوز، حتى عند من يجوز بعض الشروط في البيع، كالحنابلة، وقال ابن قدامة رحمه الله: " الثاني (أى النوع الثاني من الشرط) فاسد، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: أن يشرط على صاحبه عقدًا آخر، كسلف أو قرض، أو بيع أو إجارة أو صرف الثمن أو غيره، فهذا يبطل البيع ". والنص مذكور بكامله في بحثي. ولكن هذا المحظور – يعني محظور الصفقة في صفقة – إنما يلزم إذا كان العقد الواحد مشروطًا بالعقد الآخر في صلب العقد، أما إذا وقعت هناك مواعدة بين الفريقين، بأنهما يعقدان الإجارة في الوقت الفلاني، والبيع في الوقت الفلاني، وانعقد كل عقد في وقته مطلقًا من أي شرط، فالظاهر أنه لا يلزم منه الصفقة في الصفقة وقد صرح به الفقهاء في عدة مسائل، ولا سيما في مسألة البيع بالوفاء، وقد ذكر في الفتاوى الخانية: " وإن ذكرا البيع من غير شرط، ثم ذكر الشرط على وجه المواعدة، جاز البيع ويلزمه الوفاء بالوعد، لأن المواعدة قد تكون لازمة فتجعل لازمة لحاجة الناس ". فالبيع بالوفاء كان غير جائز عند الحنفية، ولكنهم جوزوا أن تقع المواعدة قبل البيع أو بعده فينعقد البيع مطلقًا عن الشرط ثم يقع الوعد الملزم، وهذا ما صرح فقهاء الحنفية بجوازه، وبمثله صرح علماء المالكية في مسألة البيع بالوفاء الذي يسمى عندهم " بيع الثنيا " فإنه لا يجوز عندهم في الأصل. ولكن إذا وقع البيع مطلقًا عن هذا الشرط، ثم وعد المشتري البائع بأنه سوف يبيعه إن جاءه بالثمن، فإن هذا الوعد صحيح لازم على البائع، كما ذكره الحطاب وذكرت نصه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 هذا إذا انعقد البيع مطلقًا من غير شرط، ووقعت المواعدة بعد انعقاد البيع. وقد صرح عدة من الفقهاء، بأن الحكم كذلك لو وقعت المواعدة قبل انعقاد البيع، ثم انعقد البيع مطلقًا من غير شرط، قال القاضي ابن سماوة الحنفي رحمه الله: " شَرَطا شرطًا فاسدًا قبل العقد، ثم عقدا، لم يبطل العقد، ويبطل لو تقارنا ". وقال في مسألة البيع بالوفاء: " وكذا لو تواضعا الوفاء قبل البيع، ثم عقدا بلا شرط الوفاء فالعقد جائز، ولا عبرة بالمواضعة السابقة ". وحكاه ابن عابدين في رد المحتار واعترض عليه، ولكن أجاب عنه العلامة محمد خالد الاتاسي – رحمه الله – في شرح المجلة، وقد ذكرت نص كل واحد منهما. ولهذا أفتى جماعة من متأخري الحنفية بأن المواعدة المنفصلة عن عقد البيع، سواء كانت قبل العقد أو بعده، لا تلتحق بأصل العقد، ولا يلزم منها البيع بشرط أو صفقة في صفقة، فلا مانع حينئذ من جواز العقد. وربما يقع ههنا إشكال، وهو أن المواعدة إذا وقعت قبل العقد، فالظاهر أنها ملحوظة عند العقد لدى الفريقين ولو لم يتلفظا بها صراحة عند الإيجاب والقبول، وإنهما لا يبنيان العقد المطلق إلا على أساس ذلك الوعد السابق، فلم يبق هناك فرق بين هذا العقد المطلق الذي سبقه مواعدة من الفريقين وبين العقد الذي شرط فيه العقد الآخر صراحة، وينبغي أن يكون الحكم دائرًا على حقيقة المعاملة دون صورتها، وأن تكون المواعدة السابقة في حكم الشرط في البيع في عدم الجواز، وهذا هو المنهج الذي سار عليه ابن عابدين – رحمه الله – في رد المحتار. والجواب عن هذا الإشكار على ما ظهر لي – والله سبحانه أعلم – أن الفرق بين المسألتين ليس في الصورة فحسب، بل هناك فرق دقيق في الحقيقة أيضًا – وهذا شيء مهم – وذلك أن العقد الواحد إن كان مشروطًا بالعقد الآخر، والذي يعبر عنه بالصفقة في الصفقة، لا يكون عقدًا باتًّا، وإنما يتوقف على عقد آخر بحيث لا يتم العقد الأول إلا به، فكان في معنى العقد المعلق أو العقد المضاف إلى زمن مستقبل، فإذا قال البائع للمشتري – مثلًا – بعتك هذه الدار على أن تؤجر الدار الفلانية لي بأجرة كذا، فمعناه: أن البيع موقوف على الإجارة اللاحقة، ومتى توقف العقد على واقع لاحق، خرج من حيز كونه باتًّا، وصار عقدًا معلقًا، والتعليق في عقود المعارضة لا يجوز، ولو حكمنا بمقتضى هذا العقد، وامتنع المشتري من الإجارة، فإن ذلك يستلزم أن يرتفع البيع تلقائيًّا، لأنه كان مشروطًا بالإجارة، وعند فوات الشرط يفوت المشروط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 فالعقد إذا شُرِط معه عقد آخر، كان ذلك في معنى تعليق العقد الأول على العقد الثاني، وصار كأنه قال: إن آجرتني الدار الفلانية بكذا فداري بَيْع عليك بكذا. وهذا مما لا يجيزه أحد؛ لأن البيع لا يقبل التعليق. وهذا بخلاف ما لو ذكرا ذلك على سبيل المواعدة في أول الأمر، ثم عقدا البيع مطلقًا عن الشرط، فإن البيع ينعقد من غير تعليق بيعًا باتًّا ولا يتوقف تمامه على عقد الإجارة، فلو امتنع المشتري من الإيجار بعد ذلك، فإنه لا يؤثر على هذا البيع الباتّ شيئًا فيبقى البيع باتًّا على حاله وغاية الأمر أن يجبر المشتري على الوفاء بوعده، على القول بلزوم الوعد، لأنه أدخل البائع في البيع بوعده، فلزم عليه أن يفي بذلك الوعد قضاء عند المالكية. وهذا شيء لا أثر له على البيع الباتّ الذي حصل بدون أي شرط، فأنه يبقى تامًّا ولو لم يف المشتري بوعده. وبهذا يتبين أن البيع إذا اشترط فيه العقد الآخر يبقى مترددًا بين التمام والفسخ، وإن هذا التردد يورث فيه الفساد، بخلاف البيع المطلق الذي سبقه الوعد بالشيء، فإنه لا يتردد في تمام البيع، فإنه يتم على حال. وغاية الأمر أن يكون الوعد السابق لازمًا على المشتري على قول من يقول بلزوم الوعد. فالطريق المشروع للشركة المتناقصة الذي لا غبار عليه أن تقع هذه العقود الثلاثة في أوقاتها مستقلة بحيث يكون كل عقد منفصلًا عن الآخر، ولا يشترط عقد في عقد. نعم، يجوز أن تحدث بينهما اتفاقية يتواعدان فيها بالدخول في هذه العقود، فيتفقان على أنهما يشتريان الدار الفلانية بمالهما المشترك، ثم يؤجر الممول حصته إلى العميل بأجرة معلومة، ثم يشتري العميل حصة الممول بأقساط متعددة إلى أن يتملك الدار كلها. ولكن هذه الاتفاقية لا تكون إلا وعدًا من الفريقين بإنشاء هذه العقود، ولا ينشأ أحد من هذه العقود إلا في وقته الموعود بإيجاب وقبول، ويقع العقد حينئذ مطلقًا من أي شرط، فلا يشترط الإجارة في البيع، ولا البيع في الإجارة، هذا بالنسبة للبديل الثاني وهو (الشركة المتناقصة) , * والبديل الثالث: الذي ذكره الأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور هو (الاستصناع) والفرق بين هذا العقد – يعني عقد الاستصناع – وبين ما ذكرناه من البيع المؤجل، أن البيع المؤجل إنما يكون بعد تمام البناء أو بعد شراء الأرض أو البيت من قِبَل الممول، وأما الاستصناع فيمكن عقده قبل أن يشتري الممول الأرض أو البناء، وإن الاستصناع عقد مقبول شرعًا وقد ذكر الأستاذ عبد اللطيف الفرفور شروطًا لجوازه وهي الشروط التي ذكرها الفقهاء في كتبهم ويمكن استخدام هذا الطريق بعد توفير هذه الشروط ولكن الذي أراه أن هذا العقد إنما يمكن في الصور التي يبذل فيها الممول كل المبلغ المطلوب لبناء المسكن أو شرائه. وأما في الصور التي يتقدم فيها الممول بجزء من المبلغ المطلوب فقط، والجزء الآخر يتقدم به العميل بنفسه فإنه من العسير استخدام هذا الطريق في تلك الصور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 *والبديل الرابع: الذي ذكره الأستاذ الدكتور عبد الله إبراهيم، هو (التأجير المنتهي بالتمليك) وهذا موضوع لعنا قد فرغنا منه في الدورة السابقة فلا يحتاج إلى مزيد من التفصيل. * وبالنسبة للبديل الخامس: هناك صورة ذكرها أيضًا الأستاذ عبد الله إبراهيم وهي (الإقراض برسم التمليك) وقد ذكر أنه لا يجوز شرعًا، ولكنني لم أستطع أن أفهمه حق الفهم لأنه طريق يتبع في ديار ماليزيا ولم أتمكن من فهمه تمامًا، فيمكن لسيادة الدكتور أن يشرحه في مناقشته. أما البديل السادس: الذي ذكره الأستاذ محمد عبد اللطيف الفرفور فإنه متبع في البنوك العقارية السورية، وهو أيضًا لم أتفهمه حق الفهم، فألتمس من فضيلته حينما يتدخل في مناقشاته أن يشرح لنا هذه الصورة. وهذا ما أردت أن أبينه وألخصه لكم من البحوث الأربعة. والله سبحانه وتعالى أعلم، وعلمه أتم وأحكم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 الدكتور عبد الله إبراهيم: بسم الله الرحمن الرحيم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. شكرًا لفضيلة الرئيس ولأصحاب الفضيلة، وأحب أن أشارك في العرض فضيلة الشيخ محمد تقي العثماني، خاصة وقد أشار إلى أحد الأوجه للتمويل باسمي، وهو (الإقراض برسم التمليك) فإنه – كما سمعنا – يطلب أن يفهم طريقة تطبيق هذا الوجه. والواقع أن هذا الوجه ليس تطبيقًا ماليزيًّا، لا يوجد في ماليزيا هذا التطبيق وإنما ذكرت ذلك نقلًاعن بحث للدكتور أوصاف أحمد، وهو بحث قدمه في المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت – عمان) ما بين 18-21/6/1987م. فقد ذكر الدكتور أوصاف أحمد هذا الوجه باسم (الإقراض برسم التمليك) كوجه من أوجه التمويل، وهذا يعني أن البنك يتملك أشياء منقولة أو غير منقولة ويؤجرها للعميل مقابل تعهد الأخير بدفع أقساط متساوية في آجال معينة، ولمدة يتفق عليها في حساب توفير يفتحه البنك لهذه الغاية، ويعطي البنك تفويضًا بحق استثمار موجدات الحساب، ويمكن إضافة الأرباح إلى هذا الحساب، وعندما تتكامل الأقساط يلغى العقد وتنتهي الإجارة وتنتقل الملكية من البنك إلى العميل، هذا ما ذكره الأستاذ الدكتور أوصاف أحمد، تعريفًا لهذا الوجه وهو (الإقراض برسم التمليك) ، ولكني كما قلت هنا لا أدري ما إذا كان المشتركون بالمؤتمر قد تناولوا هذا الوجه من أوجه التمويل بالمناقشة واتخاذ موقف معين سابق؟ ومهما كان الأمر فإنني وجدت – كما يظهر لي – أن هذا الوجه لا يخرج عن دائرة القروض بالفائدة الربوية، لأن الشيء حينما يؤجر بتلك الأقساط المدفوعة في تلك الآجال المعينة، وباعتبار أنها إقراض يكون الرسم المضاف إلى القرض فائدة عليه، وما دام العقد يتم باعتبار أنه إقراض، وهناك رسم يضاف باسم الفائدة، فهذا طبعًا وجه لا يخرج عن التطبيق الربوي. ولهذا أرى أن هذا الوجه لا يكون صالحًا لتطبيقه في مسألتنا (مسألة تمويل بناء المساكن وشرائها) ، اللهم إلا إذا صحح مساره ويعقد عقد بربح أو يعقد عقد بيع بثمن آجل على أقساط متساوية لآجال معينة بقيمة التكلفة المضاف إليها المقدار المناسب من الربح، فإذا صحح على هذا، فأنا أوافق أن يكون هذا الوجه صالحًا بأن يكون أحد أوجه التمويل الشرعي. وشكرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور: بسم الله الرحمن الرحيم شكرًا أيها السيد الرئيس، كان بودي أن أقرأ العرض لولا ما تفضلتم به من العذر الذي أسأل الله بدعواتكم ودعوات زملائي في المجمع أن يعجل لنا جميعًا بالشفاء. بالنسبة لما تفضل به أخي وزميلي فضيلة القاضي الأستاذ الشيخ محمد تقي العثماني من الحلول التي أوردها عن بحثه القيم وعن بحث زميلي الأستاذ عبد الله إبراهيم، هذا لا كلام لي ولا تدخل لي فيه، ولكن ربما نسي فضيلته بحث الأستاذ السيد طنطاوي وأنا لم أقرأه ولم أتشرف بقراءته. ولعلكم أنتم تنظرون في هذه المسألة. أما بالنسبة لبحثي بالذات فربما العجلة حالت دونه ودون تعمقه في هذا البحث المتواضع. فأنا – العبد الضعيف – بالنسبة لهذا البحث قسمت المسألة قسمين: قسمًا يعالج الموضوع كأمر واقع – وقسمًا أرتئي فيه من الحلول أو أقترح حلولًا لأمور في المستقبل. أما بالنسبة للبحث حول الأمر الواقع فجعلت ما هو واقع الآن إما أن يكون استصناعًا – كما تفضل أخي الأستاذ القاضي حفظه الله – بشروطه، وإما أن يكون بيعًا بالتقسيط إلى أجل – أيضا – بشروطه وضوابطه، هذا فيما هو واقع. ثم بينت أن ما هو واقع إذا جعلناه استصناعًا أو جعلناه بيعًا بالتقسيط أو جعلناه أيًّا ما كان، فأنه لا يخلو أبدًا عن شبهة الربا إن لم تكن حقيقة الربا، هذا ما بينته بشكل واضح جدًّا وحتى ربما بتوسع، فإن المسألة في بلادنا – حسب ما هو موجود الآن – عبارة عن مدخل إلى العقد ثم هناك شبهة الربا، فتظل هذه المسألة حتى يخصص البيت أو المنزل من الجمعية السكنية - لأنه تقوم جمعيات سكنية بإشراف الدولة، وليست هي الدولة التي تقوم ولكن بإشراف إداري – ثم إما أن تظل شبهة الربا وهو اختلاط الأموال الربوية واستقراض الجمعية من البنوك الربوية بالفائدة، وحينما يخصص المنزل يقال للشاري: إما أن تأتينا بما بقي من المال ويتخلص من حقيقة الربا – تقريبا – وتبقى الشبهة، أو ربما وَكَّلَهُم الشاري فقال لهم: ادفعوا لي أنتم استقرضوا لي من البنك وأنا أدفع لكم الكمالة، في جميع الأحوال حتى لو أننا كيفناه بعقد استصناع أو ببيع إلى أجل فلا يخلو الأمر أبدًا من شبهة الربا إن لم يكن حقيقة الربا. لذلك اقترحت في بحثي – وهذا جهد المقل – حالتين: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 الحالة الأولى: أن تتولى الدولة حصرًا حل مشكلة الإسكان بأن تلتزم الدولة باعتبارها ولي الأمر – وأنها يجب عليها أن توفي الناس مساكنهم لأن المسكن هو الحاجة الدنيا أو الحاجة الأولى، على الأقل مسكن عادي جدًّا، ليس شرطًا أن يكون فيه ترف أو رفاهية – وأن يكون ذلك بيعًا بالتقسيط وعلى الدولة أن تتلخص من المعاملات الربوية قدر الاستطاعة، لأن الربا هنا مسألة تداخلت في الموضوع وليست أصلًا فيه، فيمكن تخليص العقد من الربا. الحالة الثانية: وهذا لم يتوفر في بلدنا وهو وجود بنوك إسلامية ولعله توفر في المملكة العربية السعودية وفي الأردن – كما سمعت – وفي مصر، ونرجو الله أن يتوفر في بلدنا، فإذا قامت البنوك الإسلامية على هذا الموضوع فإنها تلخص المشكلة كلها من الربا وتجعل له – لهذا الموضوع – حلًّا إيجابيًّا فقهيًّا إسلاميًّا مثمرًا على أحد الطريقين: إما الاستصناع، أو البيع إلى أجل. هذا ما اقترحته في بحثي، وهذا مجرد رأي، وكما قال الإمام أبو حنيفة – رضي الله تعالى عنه – فيما تعلمون علمًا: " هذا رأي وهو أحسن ما استطعنا أن نأتي به، فمن جاءنا بأحسن منه قبلناه ". والله تعالى أعلم، وشكرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني: بسم الله الرحمن الرحيم. شكرًا سيادة الرئيس. فيما ذكره الشيخ تقي العثماني – حفظة الله - في الطريقة الأولى للتمويل العقاري وهو البيع المؤجل، ذكر الطريقة الأولى ولا غبار عليها أن يتملك الممول ثم يبيع بربح أو مرابحة إلى أجل مسمى. أما الطرق الأخرى التي بناها على الوكالة، فالحقيقة أن هذا ليس مسلمًا، وذلك لأن الوكالة عقد غير لازم، وإدخاله في مثل هذه المعاملة لا يجدي نفعًا، ثم إن الموكل هنا يوكل في بناء دار، والموكل المفروض فيه أن يدفع الثمن أو يثبت الثمن في ذمته، والأمر هنا ليس متحققًا إنما سيبيع الوكيل القائم بالعمل لمن وكله، وهذه الطريقة لا تسلم هنا أيضًا. الحل الثاني – أيضًا – في هذا الباب ذكر الوعد، والوعد هنا أيضًا كما دار في المناقشات السابقة وعند المالكية – بالذات – أنهم يلزمون في التبرعات لا في المعاوضات، فبناء المسألة على الوعد – أيضًا – لا يسلم. بالنسبة للطريق الثاني في قضية شركة الملك، والملك المشاع ثم التأجير، ثم بيع الملك أقساطًا أو أجزاءً: الحقيقة نحن أمام مسألة خطيرة جدًّا، ونفترض ثلاثة عقود ثم نقول إنه ينبغي أن يكون كل عقد منها مستقلًّا، كيف يتم هذا؟ تتم شركة ثم إجارة ثم بيع لأجزاء، ويريدها أيضًا على طريق المواعدة، وهذا الحل محل نظر شديد لأنه لكي تسلم المعاملة لابد من أن تكون العقود الثلاثة في عقد واحد وملزمة، وهذا طبعًا سيكون صفقات في صفقة وليس صفقة، ثم بناها أيضًا على المواعدة مرة أخرى، وأتى بالمواعدة في بيع الوفاء وأنها تلزم عند الحنفية، والحقيقة أن هذه خاصة في بيع الوفاء وليس في بيع العقار هنا على هذه الطريقة. لذلك لا يكون مسلَّمًا هنا إلى القول بأن الممول يشتري ثم يبيع بربح أو على طريقة المرابحة. والله أعلم، وشكرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 الدكتور عبد السلام داود العبادي: بسم الله الرحمن الرحيم. فيما يتعلق بالنقطة التي طرحها فضيلة الرئيس في البداية، وهي موضوع عام أرجو أن أشير فيه إلى أنه لعله نستطيع في هذه الجلسة – أقصد في هذه الدورة – أن نتفق على أسلوب لإعداد البحوث حيث تخرج توجيهات للباحثين تطلب منهم التركيز على القضايا المطلوب التركيز عليها، لتحقيق ما تفضلتم به بحيث يكون البحث في إطار بيان الحكم الشرعي، لأنه يلاحظ على بعض البحوث أنها تخرج عن الموضوع وتقدم عرضًا لقضايا أخرى لا علاقة لها بصلب الموضوع، يجب في الواقع أن نميز في هذا الأمر بين أمرين: من حيث المساكن ومن حيث الجهات التي تتولى هذا الموضوع أيضًا بين جهتين. فيما يتعلق بموضوع المساكن هنالك مساكن للفقراء الذين لا يجدون ما يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء وعيون المارة – كما عبر ابن حزم – أي بعبارة أخرى تأمين حد الكفاية من حاجة السكن الذي لا يصح أن لا يوفر للإنسان في المجتمع الإسلامي، والأمر الآخر الذي هو مساكن فوق هذا الحد مما يحرص عليه الناس لمزيد من الراحة والتمتع، وهذا – ما دام لم يخرج إلى إطار الترف – لا تجد الشريعة فيه حرجًا. أما من حيث الجهات: - جهة الدولة كما أشارت بعض البحوث وجهة المؤسسات الاستثمارية التي تعالج هذا الموضوع وتشتغل به – فيما يتعلق بأمر الدولة هنا لا نستطيع أن ننيط بها أكثر من النوع الأول من المساكن، وهو مساكن الذين لا يجدون ما يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء وعيون المارة، باعتبار مسؤولية الدولة في تحقيق الحد الأدنى أو حد الكفاية بالنسبة للحاجات الأساسية ضمن التشريعات المقررة في هذا المجال ويقف على رأسها تشريع الزكاة كما نعلم جميعًا. لذلك أنا مع أستاذنا الشيخ محمد العثماني من حيث إن من الأمور التي يجب أن نركز عليها في مجتمعاتنا المعاصرة موضوع تحصيل الزكاة، وبالتالي يكون الإعطاء من الزكاة لحاجة السكن، باعتبار أن حاجة السكن حاجة أساسية يجب أن توفر للناس الذين لا يستطيعون أن يجدوا ذلك من الفقراء والمساكين، ويمكن أن تقوم الدولة بهذا الأمر عن طريق مؤسسة الزكاة أو صندوق الزكاة ببناء مشاريع توزع على الفقراء أو تدفع إليهم أموالًا منها لغرض بناء المساكن كما أن للدولة إمكانية استخدام مواردها الأخرى بأن تبني أو توزع على الفقراء ما يمكنهم من تأمين هذه الحاجة، وكذلك صورة القرض الحسن أيضًا في هذا المجال ممكنة، لكن الموضوع الآخر، إذا لم تجد الدولة المال الذي يكفيها لتحقيق هذه الحاجة الأساسية للفقراء، فمن المعلوم أن فقهاءنا قد عالجوا هذه القضية ونصوا بكل وضوح على أن من حق الدولة أن تفرض على الأغنياء ما يفي بحاجات الفقراء الأساسية، ومنها حاجة السكن، ولعل هذه الموضوع – موضوع فرض ضرائب جديدة – من الموضوعات التي يمكن أن تعالج باستفاضة في دورات قادمة، وقد أوضحت في إحدى الدراسات الخاصة بي حول هذا الموضوع أن حق الفقراء – حق الفقراء بالكفاية ومنها كفاية المسكن – متعلق بأموال الأغنياء، وأن للدولة أن تضع من التشاريع والأنظمة لتحقيق هذا الجهد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 هذا في إطار الحاجة الأساسية لكل إنسان في المجتمع فيما يتعلق بحاجة السكن، ولكن فيما يتعلق بالموضوع الآخر: وهو تأمين مساكن فوق ذلك وتحقيق هذا عن طريق جهات تمويلية سواء أكانت من القطاع الخاص أو مؤسسات متخصصة بهذا الغرض تشرف عليها الدولة. ذكر الإخوة مجموعة من الصور بعضها في ظني محل اتفاق من حيث الجواز كأن تبني الشركة العقارية أو المؤسسة مشروعًا عقاريًّا وتبيعه بالتقسيط – والبيع بالتقسيط من الموضوعات المطروحة في هذه الدورة ولعله يصل فيها المجمع إلى قرار واضح – شريطة أن يكون السعر كما هو معلوم عند كثير من الذين أجازوا هذا من البداية ملحوظًا على أساس الكلفة والربح بدون أي إضافات مستقبلية إذا تم العجز عن تسديد الأقساط. وكذلك الصورة الثانية التي حاول أستاذنا الشيخ الفرفور أن يستفيد من عقد الاستصناع فيها وهي بيع بناء لم يقم بعد وفق مخططات ومواصفات واضحة، وهذا أيضًا في ظني من الصور الجائزة. هنا أريد أن أشير لقرارات الدورة الماضية التي يبدو أنها لم تلحظ في بحث الأستاذ العثماني عندما تحدث عن المرابحة للآمر بالشراء في هذا الموضوع، في ظني أن موضوع الرابحة للآمر بالشراء من الموضوعات التي يجب أن نحذر باستمرار ونحن نتحدث عنها حتى لا نكون أداة ووسيلة للربا، وفي الصورتين اللتين طرحتا لم يُنْتبه إلى هذا، لا في صورة المشاركة المتناقصة ولا في صورة المرابحة للآمر بالشراء، لأنه إذا تم الاتفاق مسبقًا على كل هذه الترتيبات، فيمكن أن تكون الصيغة ملحوظًا فيها عملية تمويلية زائد فوائد ربوية، فيكون الظاهر أنها عقود تستخدم الاصطلاحات الشرعية في عرضها، ولكن حقيقتها أن المؤسسة العقارية كل ما تريده أن تمنح هذا الإنسان قرضًا من المال ثم تضيف عليه فائدة معينة وتستوفيه على أقساط، لذلك لابد من التنبيه هنا – خاصة إذا أخذنا بلزوم الوعد – إلى أن العملية لا تنقلب إلى وسيلة للربا، وفي ظني أنه إذا تم الاتفاق مسبقا على هذا الترتيب، وبخاصة في عقود المرابحة التي محلها العقارات، أي مخاطرة تقع على الممول هنا فيما إذا قام بشراء أرض طلبت منه أو عقار، طلب منه أحد الأشخاص شراءها فقام بشرائها وتسجيلها باسمه ثم نقلها إلى ملك ذلك الإنسان بزيادة على ما دفع من ثمن لهذا العقار؟ في الواقع العملية أخرجت بهذه الصورة بدلا من أن يدفع المال مباشرة للآمر بالشراء دفع إلى صاحب العقار وما كانت الصورة إلا لإخراج هذا الأمر من إطار شكلية معارضته للربا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 أما في موضوع المشاركة المتناقصة فيبدو أن الأستاذ العثماني قد طرح القضية خارج الاصطلاح الذي استقر عندنا في معنى المشاركة المتناقصة، وقد ركز في بحثه على قضية صفقة في صفقة، وكنت أود أن يركز أيضًا على أنه: كيف تحمى هذه الصورة من أن تقع في الربا أيضًا؟ لأن العملية عندما يقسط المبلغ الذي دفعه الشريك لتجري عملية سداده أولًا بأول على أقساط على أساس أنه ثمن لحصته في الشركة، هذا المبلغ إذا أضيف إليه ربح لحظ معدلات الفائدة ولحظ أن 0الأجرة جزء منها يسدد كأجرة ثم حسم الأمر على هذا الأساس وأخرج كمعاملة أساسها قرض يجر نفعًا أو يجر فائدة، كيف يمكن أن نجيزه؟ لذلك الذي أرجوه أن يعاد النظر في النقطتين: نقطة المرابحة للآمر بالشراء، والمشاركة المتناقصة، ملاحظين ما تم إقراراه من شروط في بيع المرابحة للآمر بالشراء في الدورة الماضية، وخاصة فيما يتعلق بالحيازة والتملك وتحمل تبعة الهلاك، هذه القضايا التي تجعل العقد في إطار المخاطرة والتجارة الحلال، وملاحظين أيضًا التمييز الذي انتهى إليه المجمع في الدورة الماضية بين الوعد والمواعدة، والصورة التي أشير إليها في اتفاق فريقين على الوعد فهذه هي المواعدة وهذا ما نبه إليه المجمع في المرة الماضية. هنا أيضًا أحب أن أشير إلى الإقراض برسم التمليك. في ظني بشأن الإقراض برسم التمليك هناك استعجال من الأستاذ الكريم الدكتور عبد الله بالتحريم، وإذا تم الإمعان في هذه الصورة فإنه يمكن أن تكون جائزة شرعًا بشروط معينة، وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 الدكتور محمد سيد طنطاوي: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه، وبعد: فالبحث الذي أتشرف بتقديمه إلى المجمع في دورته هذه، موضوعه (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) . هذا البحث يشمل على عدة نقاط: النقطة الأولى: عبارة عن مقدمات أرجو أن تكون مسلمة عندنا جميعًا. النقطة الثانية: وجدت أن الأمانة العلمية تقتضيني عندما أتكلم عن موضوع كهذا الموضوع، لابد أن أذهب إلى البنك العقاري المصري وأن أطلع على لوائحه وأن أجلس مع العاملين فيه وأن أتفهم الموضوع تفهمًا تامًّا لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره كما يقولون. النقطة الثالثة: أغراض البنك العقاري كما جاء في نظامه الأساسي. النقطة الرابعة: الوسائل التي يستخدمها البنك لتحقيق أغراضه، وبينت ما هو جائز منها وما هو ليس كذلك. * النقطة الأولى: وهي المقدمات أمر عليها مرًّا سريعًا، لأني أعتقد بأنها من المسلمات وأولها أن العقلاء في كل زمان وفي كل مكان يتحرون الحلال في جميع تصرفاتهم وثانيها أن العقلاء. . . الرئيس: يا شيخ سيد، على كلٍّ بحث فضيلتكم هو بين أيدينا، وإذا تكرمتم والكلام لبقية الإخوان، العارض ما اختير عارضًا إلا حتى يستغني به عن قراءة أي بحث كان أو تلخيص أي بحث كان، وإنما بعد العرض هي مناقشة فقهية محددة لذات الصور، ماذا يجوز منها، وماذا لا يجوز؟ هذا هو المراد. الدكتور محمد سيد طنطاوي: نعم حاضر. بعد هذه المقدمات قلت بأن كلامي في هذا البحث ينصب على المعاملات التي يجريها البنك العقاري المصري الذي يعتبر – كما جاء في التعريف به – أقدم البنوك المصرية قاطبة. فقد تم إنشاؤه في 15 فبراير 1880 م، أي منذ أكثر من مائة سنة، ثم نقلت نصًّا أو بعض النصوص من نظامه الأساسي وهو موجود أمامكم، ثم انتقلت بعد ذلك بعد أن نقلت جملة من مواد هذه النصوص، قلت: بعد هذا العرض لجانب من النظام الأساسي للبنك العقاري المصري يتبين لنا بوضوح أن الأغراض والأهداف التي قام من أجلها متعددة الأنواع وأنها تشمل ما يأتي: أولًا: المساهمة في تمويل عمليات استصلاح الأراضي وتمويلها. . . إلخ. وهذا شيء حسن. ثانيًا: المساهمة في تمويل بناء المساكن التي تأوي من هم في أشد الحاجة إلى الإيواء والستر. وهذا شيء حسن أيضًا. ثالثًا: المشاركة مع الأفراد والهيئات في إقامة المشروعات المتنوعة. رابعًا: تقديم المساعدات الفنية والخبرة النافعة لمن يقومون بأعمال التعمير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 هذه هي أهم الأغراض التي قام من أجلها البنك وتلك أهم وظائفه، وهي – كما سبق أن قلنا – أغراض شريفة في ذاتها، ولكن يأتي بعد ذلك سؤال هام وهو: ما الوسائل التي يستخدمها البنك في تحقيق هذه الأغراض وتلك الوظائف؟ وللإجابة على ذلك أقول: هناك وسائل متعددة تسلكها تلك البنوك لتحقيق أغراضها، وهذه الوسائل منها ما هو جائز شرعًا ومنها ما ليس كذلك، فأما الوسائل التي اتفق الفقهاء على جوازها شرعًا، فمن أبرزها أن تقدم الدولة للبنوك العقارية ما هي في حاجة إليه من أموال كافية لتلبية مطالبها الذاتية كأجور العمال والموظفين، وتكون وظيفة البنوك العقارية في تلك الحالة هي الوكالة عن الدولة في تنظيم وتنسيق وتنفيذ تقديم هذه الأموال لأصحاب تلك المشروعات، ثم استردادها منهم بعد ذلك على أقساط لا تزيد في مجموعها على ما قدمته لهم من أموال، بل ربما تتنازل الدولة عن جزء كبير منها في بعض الأحيان، وهذه الطريقة تتبعها في العادة الدول الغنية الرشيدة لكي تساعد أبناءها على امتلاك المسكن المناسب وعلى التوسع في إحياء الموات من الأرض، وقد ترتب على هذه السياسة الحكيمة أن زاد العمران، وكثر عدد العاملين في مجالات النشاط الاقتصادي، وأنفقت الأموال في وجوه الخير، كما ترتب على هذه السياسة الحكيمة أيضًا أن كثرت المساكن وصار المعروض منها أكثر من المطلوب فرخصت أسعارها وأصبح المسكن الذي كان يؤجر منذ عشر سنوات في المملكة العربية السعودية – مثلًا بثلاثين ألف ريال في السنة أصبح الآن كما بلغني يؤجر بأقل من هذا المبلغ بنسبة قد تصل إلى الثلث، ومما لا شك فيه أن هذه الطريقة التي اتبعتها بعض الدول هي السنن الحسنة التي لأصحابها من أولي الأمر أجرها وأجر من عما بها من بعدها. * الطريقة الثانية من الطرق التي اتفق العلماء على إباحتها: هي أن تقدم البنوك العقارية لأصحاب مشروعات استصلاح الأرض وتشييد المساكن، تقدم لهم الأموال التي هم في حاجة إليها لإقامة مشروعاتهم ولكن على سبيل المشاركة لهم بالنصف أو بالثلث أو بغير ذلك، وأتينا بالأدلة: الطريق الثالثة التي يمكن للبنوك العقارية أن تسلكها لتمويل المشروعات العقارية النافعة تتلخص في الرهن، وتكلمنا عن الرهن، وبينا أنه جائز وأن من حق البنوك أن تقوم برهن أشياء من أصحابها ضمانًا لحقها، وأتيت أيضًا بالنصوص الموجودة في نفس النظام الأساسي للبنك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 كذلك من الوسائل التي نرى إباحتها للبنوك العقارية التي تقدم الأموال اللازمة لأصحاب تلك المشروعات العقارية النافعة، أن تأخذ منهم في مقابل خدماتها لهم مبالغ مناسبة يقدرها الخبراء العدول، كأجور للموظفين وللعمال ولغير ذلك من المرافق التي تكلف البنوك الكثير من الأموال والتي تخلت الدولة عن دفعها، وأذنت للبنوك في تحصيلها من المتعاملين معها نظير ما تقدمه لهم من خدمات متنوعة لا تستطيع القيام بها إلا بتحصيل تلك المبالغ، ويبدو لي أنه لا يوجد مانع شرعي يمنع البنوك من أن تأخذ تلك المبالغ من المتعاملين معها ما دامت هذه المبالغ مقدرة من جهة الخبراء العدول ولا جشع معها ولا استغلال وما دامت تؤخذ على أنها في مقابل خدمات معينة يقدمها البنك للمتعاملين معه على سبيل تبادل المنافع المشروعة. هذه في نظري أبرز الوسائل التي أرى أن البنوك العقارية يجب عليها أن تأخذ بها أو ببعضها عند تمويلها للمشروعات التي وجدت من أجل المساهمة في تحقيقها وهي التعمير والبناء إلى آخره، لأن هذه الوسائل مع جوازها من الناحية الشرعية سيترتب عليها – بإذن الله – ما يأخذ بالأمة إلى طريق الخير والرقي. وأما الوسائل التي اتفق العلماء على حرمتها وعلى وجوب التخلي عنها فهي كل وسيلة تسلكها هذه البنوك في تعاملها مع غيرها وتكون هذه الوسيلة مصحوبة بالغش أو بالتدليس وبالاستغلال أو بالربا أو بغير ذلك من المعاملات المحرمة، فمثلًا ما تأخذه هذه البنوك من فوائد باهظة على المبالغ التي تقرضها لمن هم في حاجة إليها لسد ضرورات حياتهم هي من قبيل الظلم والاستغلال والربا المحرم، وما تأخذه من فوائد مضاعفة على المعسرين هو أيضًا من قبيل الظلم البين والربا الجلي الذي أعلن القرآن الكريم حرب الله ورسوله لمن يتقاضاه {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . وهنا أنبه إلى أن الوسائل المنحرفة عن الحق في التعامل هي ليست محرمة على البنوك فقط، بل هي محرمة شرعًا سواء أصدرت عن البنك أم عن المتعاملين معه بقصد استغلاله لمصالحهم الخاصة وبقصد أخذ جزء من أمواله التي هي ملك للأمة لا من أجل حاجتهم الماسة إليها وإنما من أجل الزيادة في ثرواتهم الضخمة ومن أجل إشباع مطامعهم التي لا نهاية لها. ويحضرني بهذه المناسبة أن رجلًا أرسل إلى دار الإفتاء المصرية سؤالًا ملخصه: أنه يأخذ من أحد البنوك التي هي ملك للدولة مبالغ معينة بفائدة معينة، ثم يضع هذه المبالغ في بنك آخر بفائدة أعلى وأكبر، ثم يسأل هل عليه زكاة على هذا المال؟ ولا شك أن هذا السلوك القبيح يمثل لونًا من أبشع وأقبح ألوان التحايل الذي يدل على انطماس البصيرة وضعف الدين وسوء الخلق. انتهيت بعد ذلك بأن هذه الكلمة عن التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها، ذكرنا فيها بعض المقدمات التي لا بد منها ثم ثنينا بكذا وكذا، وأن التمويل العقاري لبناء المساكن وما يشبهها لهو في ذاته عمل جليل إذا قامت به البنوك وفق الأحكام الشرعية التي سبق أن بينّاها والتي لا ظلم فيها لأحد لأنها من عند أحكم الحاكمين. وبالله التوفيق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 الدكتور وهبه مصطفى الزحيلي: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. لي ملاحظات ثلاث، الأولى: هي ما ورد في كلمة الأخ الشيخ تقي العثماني من أن الشركة التي تتم بين الممول والعميل إنما هي شركة ملك، والحقيقة أنها ليست بشركة ملك، شركة الملك هي شركة جبرية وهي لا يترتب عليها أي حكم من أحكام الشركات المعروفة في الفقه الإسلامي وهي تحدث تبعًا، هذا الاشتراك الجبري يحدث تبعًا عقب شراء شركة، أن يشتري اثنان شاة بقصد الذهاب إلى الصحراء لذبحها وشوائها وأكلها، فهذه هي صورة البيع التي تكون مدخلة تحتها شركة الملك. إذن الشركة التي تتم في بيوع العقارات والأراضي، ليست من قبيل شركة الملك، وإنما هي شركة عقد حتى يتمكن الشريكان من إجراء أحكام الشركات على هذا النوع من القصد الواضح من إقامة شركة بينهما في الأرض عند شرائها. هذا شيء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 الشيء الثاني، هذه الصورة – البدائل – التي ذكرها الأخوة الكرام هي كلها يراد بها البعد عن الربا، وأي لون من الأوان التي تقوم بها البنوك العقارية في البلدان العربية والإسلامية كلها لا تخلو من الربا؟ ولذلك تحسين الظن بالمعاملات الربوية بهذه البنوك هو في رأيي غير واقعي، والصورة الواقعية هي ما تقوم به الدول الغنية من إقامة مبان متعددة كليبيا والسعودية، تبيعها بأقساط لمدة عشرين سنة ويدفع كل متملك لبيت اشتراكًا شهريًّا جزئيًّا بسيطًا خمسة عشر أو عشرين جنيهًا مثلًا ثم في نهاية العشرين سنة يتملك هذا البيت، هذا الذي تقوم به الدول الغنية لا غبار عليه إطلاقًا، لأنه من قبيل مساهمة الدولة بتحقيق التكافل الاجتماعي المفروض على الدولة، وهذا لا نقاش لنا فيه، كل ما في الأمر أن النقاش ينبغي أن يكون بين الجهات التي تقصد الربح من تصرفاتها وأعمالها وهي إما شركات وإما أفراد، وهؤلاء لا يستغنون بحال من الأحوال عن الربح أيًّا كانت صورة الربح، الذي نريد أن نكيفه لهم ونسبغ عليه صبغة المشروعية. فالحقيقة أنهم يريدون الربح بأي صورة من الصور، ومن تلك الصور الكثيرة الوقوع مع هؤلاء من أجل إيجاد بناء سكني للإنسان هي الصورة التي يتم فيها بيع صوري، لأن أغلب الدول الآن لا تعترف بالعقود الفردية في العقارات إلا بتسجيلها بالسجلات العقارية، والمملك التاجر، المقاول الباني الذي يبني هذه المباني لا يعقد إلا عقدًا خاصًّا بينه وبين هذا الشخص، والدولة لا تعترف بهذا القدر. فإذن هو يضمن حقه، ولذلك أغلب هذه الصور تتم فيها صورة تمليك صوري ومرهون برهن شديد، أنه لا يملك العميل – كما قال أخونا الشيخ تقي – إلا بعد أن تسدد أقساط ملكية هذا البيت، وحينئذ تنتقل الملكية، وبعدئذ يقوم صاحب البناية بإفراغ هذه الملكية في السجل العقاري وبعد أن يستوفي كامل حقوقه. فالملكية المصحوبة برهن لا شك أنها جائزة، من البدائل التي لم تذكر في كلمات الإخوة السادة الأفاضل وأظنهم خشية المساس بقضية الربا وهي قضية الاقتراض بفائدة للمضطر أو للمحتاج، وقد نص على ذلك صراحة فقهاء الحنفية، وينبغي أن لا يفهم من كلامي أن الضرورة بالمعنى الذي يشيع فيما بين الناس، كل واحد يريد أن يوسع بيته أو متجره أو غيره فيقول: أنا مضطر. هذا الكلام مردود عليه، إن وجدت قيود الضرورة الشرعية بضوابطها المعروفة وهي التي يترتب عليها إن لم يقع في المحظور يهلك، بمعنى أنه لم يقترض من البنك بفائدة يصبح يعيش في الشارع إما في كوخ كالبلاد الهندية وجنوب شرق آسيا في الأكواخ والشوارع يولدون ويموتون وهم في الشوارع، وأيضًا بيوت العرب في بعض البلاد العربية يعيش في البيت من الشعر فإن أصبح في مثل هذه الحالة من الضرورة القصوى بحيث إن لم يقترض من البنك بفائدة لبناء سكن يصبح في الشارع أو في كوخ أو في خيمة، عندئذ ما المانع من أن نجيز ذلك بحدود ضيقة جدًّا وحالات نادرة جدًّا وليست على سبيل الاستقصاء ولا على سبيل الفتوى العامة، فنحن إن قررنا هذا إنما نظهر ما هو موجود لدى فقهائنا في مثل هذا الأمر. . . والسلام عليكم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 الدكتور عبد الستار أبو غدة: بسم الله الرحمن الرحيم أريد أن أعلق على نقطة جاءت على لسان أستاذنا الدكتور وهبه، واعترض فيها على ما جاء في بحث الشيخ تقي العثماني، حيث كان غائبًا فأردت أن أنوب عنه فإذا لم يكف فهو صاحب الأولوية. الدكتور وهبه يقول إن الشركة هنا ليست شركة ملك وإنما هي شركة عقد، والواقع أنها شركة ملك لأن شركة العقد يلزم فيها خلط الأموال وأن تكون قائمة على الوكالة والكفالة، كل من الشركاء وكيل وكفيل عن الآخر، أما هنا الشركة شركة ملك صحيح أن معظم صور شركة الملك تكون جبرًا أو بتملك جبري كالميراث أو نحوه لكن يمكن أن تقع ابتداء، يعني أنا أشتري نصف البيت والآخر يشتري نصف البيت فنلتقي على هذا الاشتراك وليس عندنا نية الاستثمار، شركة العقد نشتري البيت لنبيعه ونستربح فيه أو لنستغله فترة من الزمن ثم نبيعه، يعني نية البيع موجودة لأن هذه هي الشركة أن يشتري برأس المال ثم يقلب رأس المال في البيع والشراء ويحقق ربحًا، فالشركة هنا شركة ملك على وجهها، والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 الدكتور عبد العزيز الخياط.: بسم الله الرحمن الرحيم. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. لا أريد أن أكرر الملاحظات التي أبداها بعض الإخوة، إنما بقي عندي بعض الملحوظات وتأكيد على أمر ذكر في بحث الدكتور عبد الله إبراهيم. الملحوظة الأولى: في بحث الشيخ القاضي محمد تقي الدين العثماني، في الصفحة الثانية ذكر إحدى طرق ثلاثة لقضاء حاجة الإنسان للمساكن وهو أن يعطي من الزكاة لبناء البيوت، أرجو أن يوضح لنا الدليل الشرعي على ذلك، المسألة قد يكون فيها خلاف. في الصفحة الثالثة من بحثه كذلك ذكر موضوع البناء على الأرض الخالية أن يشتريها الممول والعميل فما العمل في حالة ما إذا كانت الأرض الخالية ملكًا للعميل واتفقا على البنيان ولم يذكر الأرض، هو لم يذكر موضوع الأرض في هذا البحث، هل تبقى على ملك العميل أو أن الممول يشتري بحسب الاتفاق نصفها أو ربعها لأنه إذا بنى الممول البناء على هذه الأرض التي هي مملوكة للعميل لا يكون له حق في تملك الأرض، فمن هذه الناحية أرجو أن يبين موضوع الأرض، ونحن نعلم أن البناء على أرض مملوكة لأحد فإن القوانين في بعض البلدان تعتبر البناء عليها ملكًا لصاحب الأرض، ولا يعتبره ملكًا للممول أو شراكة الممول فيه. وفي الصفحة السادسة ذكر أن الممول يؤجر حصته من البيت للعميل بأجرة شهرية أوسنوية معلومة: سؤالي هنا: هل تخصم الأجرة من ثمن البناء أو لا تخصم. فإذا كانت لا تخصم كما أراد هو: أليس في ذلك إرهاقًا للعميل؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يستطيع العميل أن يسدد الثمن الباقي من البيت، لأنه لو كان بالأجرة كان يستأجر بناء ولا حاجة له أن يشترك في هذا البناء لذلك أرى أن موضوع الأجرة يجب أن يعاد النظر فيه مرة أخرى وفي رأيي أنها إرهاق. نعم من حق الممول أن يؤجر هذا البيت، ولكن المقصود بذلك الوفاء بحاجة هذا الإنسان المحتاج للمسكن، فإذا ألزمناه بدفع الأجرة وألزمناه كذلك بأن يأتي بتحصيل المال لسداد الباقي من ثمن البيت فإني أعتبر أن في ذلك إرهاقًا كبيرًا جدًا. . هذه ملحوظات ثلاث. أما في بحث الدكتور عبد الله إبراهيم فقد أشار إلى قضية هامة: تحديد مقدار الربح المضاف إلى قيمة التكلفة وكيفية حسابه، فأعتقد أن هذه قضية مهمة أرجو أن تدرج في أبحاث المجمع القادمة. وشكرًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 الدكتور على محيي الدين القره داغي: بسم الله الرحمن الرحيم. الواقع أن كثيرًا مما كنت أريد أن أقوله قد سبقني إليه الأساتذه خاصة الدكتور عبد السلام العبادي والدكتور رضا والدكتور الزحيلي، خاصة حول بحث الأستاذ القاضي العثماني، ولذلك يمكن أن أعلق على بعض التعليقات البسيطة المتواضعة على بحث أستاذنا الجليل فضيلة المفتي. فضيلة المفتي أشار أو أراد أن يكيف مسألة البنك العقاري على أنه يقوم بمشروعات استثمارية، بينما نصوص البنوك ونص هذا البنك كذلك ينص على أن البنك لا يستثمر أمواله مباشرة، كما هو في المقدمة ذكر فضيلته في الهدف بأن البنك أساسًا – هذه أهدافه – للبنك في سبيل تحقيق أغراضه القيام بما يأتي: منح القروض. قروض أو تسهيلات. حقيقة وظيفة البنك كما هو منصوص عليه في جميع الدول بالنسبة للبنوك الربوية ليس من وظيفتها ولا من أهدافها الاستثمار، وإنما القروض وبفوائد معينة، ومن هنا ما قاله فضيلته من أنه لا يرى بأسًا في إباحة ما تأخذه إذا كان هناك شروط، وشرط حقيقة عدة شروط – جزاه الله خيرًا – لكن ما اشترطه من شروط، وهو أن يكون يقدره العدول وما أشبه ذلك شيء والواقع الذي يسير عليه البنك العقاري المصري شيء أخر. فالبنك العقاري المصري حسب معلوماتي عن هذا البنك وغيره، ينص على نسبة معينة، بينما لو كانت القضية قضية العمولة حسب العمل فلا بد أن تكون على قدر العمل وليس على قدر المال، فقد تكون عملية وصفقة واحدة عدة ملايين فحينئذ لا يجوز أن يأخذ البنك عليها إلا بمقدار معين بينما الواقع أن البنك يأخذ عليها مقدارًا نسبيًا محددًا. ومن هنا حقيقة لا بد من توضيح هذه المسألة لأن القارئ العادي يفهم من هذا البحث أن فضيلة الشيخ ركز على تكييف لما يدور في البنك أو المصرف المصري العقاري ولم يرد أن يعطي لنا بديلًا إسلاميًا لما يمكن أن يقوم عليه التنوير بالنسبة للشريعة الإسلامية، فنرجو من فضيلته توضيح ذلك سواء كان في بحثه أو سواء كان في مداخلاته، لأن الموضوع منصب على ما يقوم به هذا البنك من ثلاث وسائل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 ومن هنا أكرر وأثني على ما قاله الأستاذ الدكتور الزحيلي من أنه لا ينبغي لنا أن نظن الظن الحسن بالبنوك مطلقًا ولا سيما بالبنوك الربوية بل إن هناك بنكًا يسمي نفسه بالبنك الإسلامي ومع ذلك يلاحظ كل إنسان في قضية هذه المسألة في كل سنة يجدد نسبة معينة حسب الأرباح والفوائد الدورية، فالقضية لابد أن لا نحسن الظن في مثل هذه الأمور وعلينا أن ندرس الواقع دراسة صحيحة، وبالإضافة إلى ذلك نأتي بالبديل. هذا بالنسبة لهذا البحث الجليل. ثانيًا: بالنسبة لقضية (اشترط فيه ألا تكون الفوائد باهظة أو مضاعفة) – فما أدري يعني إن شاء الله هو طبعًا بالتأكيد ليس من أنصار أن يكون هذا القيد له مفهوم مخالف ويكون على مذهب الحنفية الذين لا يعتبرون ولا يقولون بمفهوم المخالفة – فهل يعني ذلك أنه لو كانت الفوائد بسيطة هل يجوز؟ هذا سؤال في الحقيقة موجه إلى فضيلة المفتي. شيء آخر بالنسبة لما أشار إليه الدكتور عبد الله فعلًا كما ذكره الدكتور عبد السلام وأنا أيضًا أقول الإقراض برسم التمليك يمكن تكييفه بأنه حرام ويمكن كذلك تكييفه بأنه حلال على صورة العقد الذي يجرى. فمن هنا يمكن إطلاق القول بالحرمة يعني أنه ليس دقيقًا، والذي أريد أن أصل إليه أننا في الواقع نريد في كثير من الأحيان والأحوال أننا نرقع بعض الأحوال الموجودة، بينما في مثل هذه التجمعات يجب أن تتجه أنظارنا إلى البديل الحقيقي للإسلام وليس ترقيع الصور – وردت إلينا من الخارج صور تقوم بها البنوك الإسلامية – ولاسيما مع متطلبات الصحوة الإسلامية وإقامة نظام اقتصادي عادل، فإقامة هذا النظام الاقتصادي العادل يجب الآن أن ننتهي من قضية الانبهار والاندفاع وإنما ننتقل إلى مرحلة البناء والهجوم الفكري إن صح التعبير، فهذا حقيقة ما أرجو من أصحاب الفضيلة ووفق الله الجميع لخدمة دينه، وسلام عليكم، ومعذرة للإخوة إذا كنا قد أسأنا الأدب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان: بسم الله الرحمن الرحيم. الحل الثاني في بحث الدكتور القاضي محمد تقي العثماني عن الطرق المشروعة للتمويل العقاري استحوذ على اهتمامي حقيقة لأمور عديدة: أولًا: أن الشركة المتناقصة تتوافر فيها جوانب عملية مقبولة من قبل البنوك وليس لهذا أثر كبير في موضوع الحكم وإنما على الأقل الطرف الثاني يكون الحل له مقبولًا ومعقولًا، وذلك الشركة المتناقصة. وتحليل هذه الشركة موجود عندنا في الورقة إنما الشيخ القاضي تقي العثماني حلل هذا العقد أو هذه الشركة إلى ثلاثة أمور: العقد الأول إحداث شركة الملك، الثاني إجارة حصة الممول، الثالث بيع سهام متعددة من حصة الممول إلى العميل. التحليل هذا قد يكون مقبولا عنده إلا أن الثالث بيع السهام المتعددة وإجارة حصة الملك هذا أمر ضروري من أمور الشركة، وهو إذا كانت هناك شركة فلابد فيها من استثمار، هذا الاستثمار سواء كان عن طريق استثمار المنفعة أو عن طريق الربحية، والربحية هذه سواء كانت بصورة تأجير أو بصورة أخرى. إذن أنا أعتبر هذا العقد هو عقد شركة ملك فحسب، وأما التحليلان الآخران فأظنهما من ضروريات هذا العقد، لأنهم إذا تملكوا هذا المال واشتركوا فيه لا يريدون أن ينظروا إليه فقط وإنما يريدون أن يستثمروه والاستثمار بأي عقد من العقود وإلا دخل علينا المحظور الذي قال عنه بأنه هو عقد بيعتين في بيعة أو أكثر من عقد، ثم مما يحرر هذا الكلام لو افترضت تنزلًا مع القاضي العثماني بأن فيها هذين الأمرين: إجارة حصة الممول – وهو من ضرورة شركة الملك – وبيع السهام، وهو من ضرورة الشركة، فهناك قاعدة ذكرها الإمام الشافعي " إذا تم العقد صحيحًا فلا يفسده شرط باطل قبله ولا بعده، وإذا تم العقد فاسدًا فلا يصححه شرط صحيح قبله ولا بعده " وأظن أن هذا يساعدنا كثيرًا في موضوع الشركة المتناقصة وفي هذا الحل. ثانيًا: لو افترضنا تنزلًا مع الشيخ القاضي العثماني بأن هذا العقد يتضمن هذه الأمور الثلاثة – وأنا أخالفه في هذا – فالأمران الأخيران هما ضروريان للشركة وليست أشياء خارجة، إذا كان فيها بيع أسهم فلا أدري هناك قاعدة فقهية أخرى – ولا أظن أننا نستطيع أن نتوسع في هذا – " لا تلزم الوقاية مما لا يمكن التوقي منه "، فإذا كان عقد شركة الملك يوجب تأجيرًا – وهو استثمار مباح – وبعد ذلك هذا الإيجار مع ما أتى به من ربح يوزع بين الاثنين، ثم بعد ذلك يعطى صاحب الشركة جزءًا من قسطه فهذا لا يلزم التوقي منه، إذا كان هذا التحليل ضروريًا ولا أرى أنه ضروري فهو يدخل تحت هذه القاعدة " لا تلزم الوقاية مما لا يمكن التوقي منه " وشكرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير: بسم الله الرحمن الرحيم أريد أولًا أن أعلق على مسألتين ذكرهما الدكتور وهبه الزحيلي: الأول: موضوع شركة الملك وقد أغناني الدكتور عبد الستار، ولكن أريد أن أضيف إليها شيئًا قليلًا إلى ما قاله الأخ عبد الستار، فالدكتور وهبه يقول إن شركة الملك هي شركة جبرية، هذا ليس شرطًا في شركة الملك، قد تكون جبرية وقد تكون اختيارية، تكون اختيارًا كما في المثال الذي أورده القاضي العثماني، أرضًا فأصبحت بينهما شركة ملك، وتكون جبرية إذا ورث أخوان أرضًا – هذه شركة جبرية – أما شركة الملك الاختيارية فهي اشتراك طرفين بماليهما وعملهما على أن يشتريا ويبيعا ويكون الربح بينهما مناصفةً أو أثلاثًا، فالفرق واضح بين الأمرين. أنتقل إلى النقطة الثانية هي النقطة المهمة. الدكتور وهبة الزخيلي أضاف بديلًا إلى ما ذكره القاضي العثماني وهو القرض بفائدة للمضطر، وهذا لا يدخل في موضعنا بتاتًا، أحكام الضرورة معروفة (الضروريات تبيح المحظورات) فإذا كان شخص إذا لم يقترض بفائدة يهلك أو يقارب الهلاك، وأضيف هذا: الضرورة ليس شرط فيها أن يتأكد من الموت، لا، حتى ولو اعتقد أنه سيقارب الهلاك يجوز له أن يقترض بفائدة لمسكن، لأكل، لأي شيء، على أن تحكم الضرورة، في حالة المسكن قد يكون بعيدًا بعض الشيء، لكن الذي أريد أن أقوله هو أن هذا المثال لا دخل له بموضوعنا لأننا نريد بديلًا شرعيًا بالنسبة للمقترض وللمقرض، وليس للمقترض فقط. فلابد أن يكون هذا البديل جائزًا أيضًا بالنسبة للممول، فكيف تتطور الضرورة في حالة الممول؟ ممكن أتصورها أنا في حالة العميل، هذا في المقترض، لكن سيقترض مِنْ مَنْ؟ فهذا لا يمكن أن نتصوره في حالة الضرورة، ولذلك فهذه النقطة ينبغي أن تحذف إذ لا محل لها كبديل، البديل الذي يمكن أن ينظر فيه هو ما قاله الشيخ الطنطاوي بالنسبة لموضوع القرض أو غيره على أن يتحمل هو (المشترط هذا) يتحمل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 الأخ العثماني البدائل التي ذكرها، المسكن الذي يراد التعامل فيه قد يكون مملوكًا للممول، فإذا كان مملوكًا له صار طريقه التي لا شبهة فيها هي أن يبيعه بالتقسيط لمن يطلبه، وهذا ما قاله الدكتور العثماني. ويمكن هذا البيع أن يكون مساومة من غير اعتماد على رأس المال ويمكن أن يكون مرابحة بأن يقول له الممول: هذا المنزل كلفني مائة ألف وأبيعه لك بزيادة عشرة في المائة أو عشرين في المائة، هذا لا شبهة فيه في رأيي، ويمكن أيضًا أن يكون إجارة منتهية بالتمليك، وهو المنزل المملوك للممول، أجره لطالبه وجعل له الحق في أن يشتري هذا المنزل أو جزءًا منه في أي وقت يشاء لكن على أن يكون العميل بالخيار في الشراء، ليس هناك التزام من الجانبين، يكون العميل بالخيار ويشتري بسعر الوقت الذي يريد الشراء فيه، يعني في أي وقت أراد هذا العميل أن يشتري له أن يساوم الممول صاحب المنزل ويتفقا على شراء المنزل كله أو جزء منه، ربعه أو عشره، حسب استطاعة العميل. أما لو دخل من أول الأمر كما قال الشيخ العثماني وأصبح التزامًا من الجانبين، فإن هذا لا يجوز في رأيي واعتماده على مذهب المالكية غير صحيح، وقد تطرقنا لهذه المسألة في المرة الماضية، فالمالكية لهم قاعدة واضحة في هذا، هم يقولون: إن الوعد من طرف واحد ملزم، أما مثل هذه الحالة فيسمونها " المواعدة "، والمواعدة عندهم لا تجوز فيما لا يجوز إنشاؤه في الحال، فهذه لا تصح في مثل هذه الحالات، لا في هذه الحالة ولا في الحالة التي بعدها، يعني كل الأحوال التي ذكرها الشيخ العثماني واستدل عليها بمذهب المالكية غير مقبوله عندي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 الحالة الثانية أن يكون المسكن غير مملوك ويطلب منه العميل شراء المنزل وبيعه له، هذه هي طريقة بيع المرابحة للآمر بالشراء بشروطها التي اتفقنا عليها في الاجتماع السابق، ويمكن أن تكون شركة منتهية بالتمليك، العميل عنده بعض المال يشتريان سويًّا المنزل – شركة ملك كما قال الشيخ العثماني – ثم يعطيه شريكه – الذي هو الممول – يعطيه الحق في أن يشتري أيضًا أي جزء يشاء من نصيبه في أي وقت شاء بالثمن الذي يتفقان عليه من غير إلزام على هذا العميل، وهنا أيضًا الإلزام غير ممكن هذه صورة. هناك صورة أيضًا هي أن تكون الأرض مملوكة للعميل ويريد البناء عليها، وهذه حادثة واقعة عندنا في السودان ومعمول بها، الإنسان قد يكون عنده الأرض لكنه لا يستطيع البناء فيذهب إلى البنك أو الممول، وهذه ليس لها طريقة سوى الاستصناع، فمع التوسع في مفهوم الاستصناع وعدم حصره في الدائرة الضيقة التي وضعه فيها الحنفية يمكن أن نعتبر بناء المساكن منه، وصورته أن يقدم للبنك الخارطة، ويقول: أريد البناء على هذه الأرض بهذه الصفقة ويتفقان على الثمن مقدمًا، لابد من الاتفاق على ثمن البيع، لا يصح أن يقول له البنك: أبيعه لك بثمن التكلفة زائدة عشرة في المائة، هذا لا يجوز لأن الثمن مجهول، لابد من العلم بالثمن وقت عقد الاستصناع فالممول يعمل هو حسابه ويرى أرباحه وكم يكلفه ويضع عليه الأرباح ويقول له: سأبني لك هذا المنزل بهذه الصورة بمبلغ مائتي ألف ريال مقسطه والاستصناع لا يشترط فيه، ليس كعقد السلم وإن كان هو شبيهًا به في أن المبيع مؤجل لكن لا يشترط فيه أن يكون الثمن حالًّا فيمكن أن يكون بالتقسيط، وهذه هي التي حلت المشكلة بالنسبة للبنوك العقارية التي كانت تقرض بفائدة، هذه هي الصور التي أرى أنها مقبولة ولا اعتراض عليها، وشكرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 الشيخ أحمد بازيع الياسين: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: بالنسبة للبحوث التي سمعناها بحوث كلها قيمة وكلها تحتاجها المصارف الإسلامية أو المصارف العادية التي تريد أن تنهج النهج الإسلامي. وأود أن أبين بأنه بالنسبة للبنوك العقارية فإنها لا تقوم في موضوع الخدمات، بمجرد خدمات وتأخذ مقابلًا فقط على ما تقوم به من خدمة إنما هي إذا أخذت بمسمى الخدمات تنظر إلى القرض المالي وإلى المدة، فالتسمية في الحقيقة لا تقلب المواضيع، البديل الذي قاله الشيخ الضرير الآن بالنسبة إلى أن البنوك تقوم بالخدمات، هذه بنوك مخصصة إذ يجوز أن تخصص الدولة بنوكًا لهذه الخدمات، فالدولة يمكن أن يكون عندها بنك ويريد أن يخدم الناس ويأخذ على الخدمة حاجة بسيطة وأما إعطاء الأموال كقرض حسن فهذا شيء في الحقيقة لا تدخل لي فيه، إنما البنوك العادية الخاصة حين تسمي هذه خدمات فالحقيقة هذا مسمى مغلوط ما هو حقيقي، إنما تلحظ – وإن سمّت ذلك خدمات، إنما تلحظ المال المقدم والقرض والفائدة للمال وليست الأجرة على الخدمات البنوك الإسلامية الآن تقوم في بيوع الأجل في الوقت الحاضر وهو المعمول فيه سواء عن طريق المرابحة أو عن طريق المساومة، والاستصناع أيضًا عند قيام البنك بالبناء. عندي سؤال للشيخ تقي الدين وبودّي أن أسأله عن الملكية المتناقصة في السهم، هذا متى يحدد سعره، يعني متى يحدد سعر السهم؟ هذا السؤال الذي أحب أن أسأله، والحقيقة الآن بدر في ذهني توصية أود من المجمع الفقهي الإسلامي أن يوصي البنوك الإسلامية – يعني نحن ليست مهمتنا فقط إصدار الفتاوى بل يجب علينا أن نتابع هذه المصارف الإسلامية حتى لا تقع في الزلل عند الممارسة – فلو أن مجمع الفقه الإسلامي يوصي بالبنوك الإسلامية بما أنها أصبحت قوة اقتصادية فاعلة منتشرة في المعمورة وليست في البلاد الإسلامية فقط إنما هي منتشرة في المعمورة، يعنى أود أن يوصي مجمع الفقه الإسلامي بأن يكون في كل بنك إسلامي فقيه يوجه ويراقب ويدقق في إجراء العمليات حتى لا يقع بالبنك الإسلامي في الزلل والخطأ، وشكرالله لكم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 الشيخ محمد المختار السلامي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. هذه من المشاكل أو من القضايا التي جاء بها العصر نتيجة أوضاع الانفجار السكاني أولًا، وثانيًا العقلية الجديدة التي أصبحت للفرد وفي العائلة الجديدة من الاستقلال، وثالثًا الإمكانات المادية للدول الإسلامية التي هي إمكانات ضعيفة فهي لا تستطيع أن تلبي حاجات المسلمين وأن تعطي لكل عائلة سكنًا، وحل هذه المشكلة يقع على صورتين: الصورة الأولى: وهي بناء مساكن كثيرة وكراءها، وهو أمر اتخذه كثير من الناس وكثير من الشركات وكثير من البنوك تبني وتكري أو أن يرغب الإنسان – وهي رغبة أكيدة عند كل إنسان – أن يكون له سكن خاص. وقد أردت بهذه المقدمة أن أبين أن الحل ليس فقط هو أن الناس ليسوا في ضرورة تامة إلا أنه لابد من الملك، فالملك هو رغبة، رغبة في تحسين الحال وليست رغبة ضرورية. ما تفضل به الشيخ تقي الدين العثماني من عرض عدة صور لحل هذه المشكلة المعروضة، هذه الحلول لابد أن ننظر فيها، ليس فقط من الناحية الشرعية وحدها، ولكن لابد من أن ينظر إلى القوانين الموجودة في العالم الإسلامي، وأعني بهذه القوانين التي تقرها الشريعة كقانون، أنه لابد أن يكون كل عقد من العقود مؤثقًا ومسجلًا، وأن الأرض لا يمتلكها الشخص إلا بعقد مسجل ولا تنتقل من شخص إلى شخص آخر إلا بعقد مسجل، فهذه هي واقعة حقيقة لا بد من أن ينظر الفقيه فيها وأن يكيف فتواه حسب ما هو موجود في العالم الإسلامي. وبناء على ذلك، فإن البيع (الصورة الأولى) وهو البيع المؤجل مقاصة إما مع بيان الربح أو مع بيان النسبة الزائدة في الربح أو بيع صفقة واحدة بدون معرفة أصل ثمن التكلفة والربح، فهذه مقبولة ولا ينبغي أن يقع فيها إشكال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 كذلك قضية التأجير المنتهي بالتمليك، هي قضية واضحة، التأجير المنتهي بالتمليك وهو أن يتفق صاحب المشروع أو الممول والمستفيد من هذا المشروع يتفقان على أن القيمة الأصلية المعروضة قطعًا هي نتيجة تكلفة زائد الربح الذي يريد أن يربحه الشخص الباعث للمشروع ويتفقان على أن الصفقة واقعة ويأخذ المشتري العقار ويسكنه ثم يدفع أقساطًا هي إيجار، هذا الإيجار ينتهي بالتمليك. ههنا قضية التمليك: كيف تنتقل الملكية؟ وهي مشكلة، هل يجوز أن يكون القسط الآخر أخر قسط هو ثمن الملكية؟ فإن وضع العقار في ذلك الوقت غير معروف ولا يجوز أن يباع الشيء وهو مجهول، لأنه لا يستطيع أن يخلص من جميع الأقساط إلا بعد عشرين سنة، فكيف يكون حال العقار بعد عشرين سنة؟ ولذلك كان المخرج الذي اتفق عليه في كثير من المؤتمرات، هو أن يكون وعد بهبة، أن يعده بأن يهبه، فهذا ملك عند نهاية الأقساط، ويترتب على هذا قضية أخرى موجودة في العالم الإسلامي وفي قوانين العالم الإسلامي وهو أن كل نقل ملكية وإن كانت على طريق الهبة فلابد لها من رسوم، وهذه قضية أخرى أيضًا لابد من اعتبارها. ولذلك أراد كثير من الناس أن يقع البيع من الأول، وأن تكون الملكية من أول الأمر باسم الشخص الباعث للعقار ويكون الرسم مرهونا عنده - عند باعث العقار - باسم الشخص الذي يؤجر وينفقان على الإيجار وينتهي في النهاية إلى التمليك بدون رسوم عقارية جديدة، وعلى هذه الطريقة لا أرى في ذلك مانعًا. عندنا الاستصناع، هل الاستصناع حل بديل؟ أنا حسب ما أعرف من المذهب الحنفي أن عقد الاستصناع هو عقد ليس ملزمًا وللطرف أن يتخلى عن العقد، وعقد كهذا لا يصح أن يقوم عليه التعامل بين الباعثين وبين المستفيدين. الأمر الذي أريد أن أؤكد عليه هو أن صورة العقد إذا كانت حلالًا بمعنى أننا استطعنا أن نكيفه تكييفًا شرعيًا، فينبغي أن لا يقع فيه خلاف لأن العقود إذا افترضنا أن تكون في صورتها حلالًا وفي بواطنها حرامًا وهو أن الشخص الذي قام بها يقصد الحلال في كل عملية من معاملاته وليس يتحايل على ذلك فإننا لا نصل إلى نهاية، لأن قضية الباطل هي قضية عند الله. قضية جمع عقدين في عقد تكاثر الحديث عنه، وجمع عقدين في عقد أصله الحديث الذي روي ((عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن بيعتين في بيعة)) وتأويل هذا الحديث هو عند الفقهاء تأويل كثير، فالحنفية يئولونه تأويلًا والحنابلة يئولونه تأويلًا والمالكية يئولونه تأويلًا، وبذلك فإن جمع العقدين في عقد هي عقود خاصة نص عليها المالكية أنها لا تجمع، أما الإجارة فإنه يجوز جمعها مع البيع، وأما عند أشهب فهذه العقود كلها يجوز أن تجمع مع بعضها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 قضية أن الضرورة قد تبيح للشخص أن يأخذ بالربا والتي أثارها فضيلة الشيخ وهبة الزحيلي ثم عقب عليه الشيخ الدكتور الصديق، أعتقد أن ما ذكره الشيخ وهبة الزحيلي ثم ما ذكره الدكتور الضرير فيه نظر لأن الشيخ الضرير يفترض أنه لا يجود من يقرض بالربا لكن قد يكون الإنسان في حالة ضرورة ولا يجد من يقرضه بالربا، والقضية هي هل يعتبر بناء مسكن ضرورة من الضرورات؟ لأنه المندوح عنها هو في الكراء أولًا، وثانيًا ما جاء في الآية فلم يجعل القرآن البيوت هي فقط البيوت المسكونة المبنية الكاملة {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} [النحل 80] . فسماها ربنا سبحانه وتعالى بيوتًا، والإنسان إذا رغب في الحلال ليس مشروطًا عليه أنه لابد أن يبني بيتًا بربا، فالبيت يستطيع أن يأخذه بالكراء ويستطيع أن يأخذه بغير الكراء بطريقة أخرى، لكن كونه لابد أن يبني بيتًا وأنه في حالة الضرورة فإنما يكون ذلك في حالات نادرة لا تتجاوز واحد في المائة ألف من أن يكون مريضًا وحالته متعبة ولا يجد مالًا ولا يجد من يكريه ثم بعد ذلك نقول له: إذا كنت في هذه الحالة تخاف على نفسك هلاكًا لك أن تقترض بالربا إذ ذاك! فهي قضية لا ينبغي أن تذكر في الأصل في قرار المجمع، ولكنها قضية خاصة عينية تعرض على الفقيه فيجد لها حلًا إذا ما عرضت بعد عشرات الآلاف من المشاكل. قضية مقابل الخدمات وهذا أمر خطير جدًا، لأن مقابل الخدمات كنت تحدثت عنه مع جماعة من إخواننا في أحد البنوك الإسلامية التي ترغب في التعامل بالحلال، ووجدنا أن مقابل الخدمات 2.5 % وهو القيمة الربوية التي يدفعها الياباني منذ ثلاث سنوات، ففي اليابان القيمة الربوية هي 2.5 %، ثم إنها رفعت الآن بعد تدخل أميركا إلى 4.25 %، فمقابل الخدمات حسب الحساب الذي قمنا به هو لا يتجاوز 0.90 %، فلابد أن يقال، إذا أردنا أن نأخذ هذا بقرار المجمع، ألا يتجاوز 1 % حتى يكون الأمر مضبوطًا وحتى لا يؤخذ من هذا ذريعة للوصول إلى الربا بطرق غير صحيحة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 كلمة سمعتها كثيرًا، الفوائد الباهظة والفوائد المضاعفة وهذا حرام، هذه جاءتنا من الغرب فقبل أن تقوم المجموعات لحصانة المستهلك ما سموه بحصانة المستهلك من جمعيات وقوانين كانت الفائدة كلها تسمى فائدة (INTERET) ، بالفرنسية وبالإنجليزية كلمة تقابل هذا، فلما قامت جمعيات الدفاع عن حقوق المواطنين انقسم عندهم مفهوم الفائدة إلى قسمين إلى ما يعبر عنه (INTERET) ، إلى ما يعبر عنه (UZUR) ، فجعلوا أن الفائدة إذا تجاوزت المقدار الذي تحدده الدولة فهي من النوع المحرم الممنوع وإذا كانت الفائدة مما تحدده الدولة فهي فائدة وربا ولكنه عندهم حلال وجائز، فإذا أخذ بما جاء على لسان الغرب الذي يبيح الربا ووصف الربا عندنا بكونه ربا باهظًا وبكونه مضاعفًا إلى آخر ما جاء من الكلام فإذًا هذا انحدار إلى تصور غير إسلامي لأن التصور الإسلامي يقول: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} . فكل مقدار زائد عن الحد الأصلي هو ربا حرام لا يجوز. أما سعر السهم قد يكون الاتفاق على أن سعر السهم ثابت ويكون الكراء ما يتفق عليه، ويكون الربح الذي يريد أن يحققه الممول، ولا بد له من أن يحقق ربحًا وهو ما يتقاضاه من الكراء الذي يمثل ما دفعه والربح الذي أضافه، والكراء المنتهي بالتمليك على هذا الطريق أو الكراء المعين ثم الأقساط التي يدفعها المستفيد هو أمر جائز، فأرجو أن تأخذ لجنة الصياغة مجموعة الاحتياطات كلها والتصور الكامل لهذه القضايا. وشكرًا والسلام عليكم ورحمه الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 الشيخ خليل محي الدين الميس: بسم الله الرحمن الرحيم. لا شك أن سماحة الشيخ المختار عرج على أمر خطير، على البيوت التي أشار بأنها يمكن أن تكون بيوتًا في الظعن وفي الإقامة وربما غاب عن ذهنه أنه في كثير من البلاد حتى الظعن لابد له من إذن، ولا بد من استئجار أرض، فقد ذهبت أيام الظعن التي أشارت إليها الآية الكريمة، وحتى البيت الذي بالاستئجار، لقد وصلت الأمة في مستواها الاقتصادي إلى أن كثيرًا من الناس لا يمكنهم حتى أن يستأجروا. الرئيس: ذهبت في البعض يا شيخ، حتى نكون أدق في العبارة ذهبت في البعض وليس في الكل، القرآن ما نستدرك عليه. الشيخ خليل محيي الدين الميس: نعم، إن هذا الاستئجار في كثير من الدول مُكْلِف، إن مشكلة الشباب في الزواج ليست مشكلة التملك التي يصبو إليها سماحة الشيخ إنها مشكلة الاستئجار وبينها وبين التمليك شوط بعيد. ثم إن ما ذهب إليه فضيلة القاضي العثماني من البند الثاني في عقد التمليك والتنزل الذي وصل إليه لا شك أن فيه الحل المعقول ولا ضير فيه وأنه بسطه بسطًا كافيًا، والله أعلم، وشكرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين: بسم الله الرحمن الرحيم. الحقيقة أن ما كنت أريد أن أقوله قيل الكثير منه في تدخلات السادة العلماء. المهم هو أن حديثي يؤيد ما دار في حديث الشيخ عبد السلام العبادي من أنه ينبغي على الدولة أن تكون هي الواسطة بين المستفيدين الذين يرغبون في الحصول على المنازل وبين الشركات التي تريد أن تبنيها، وأيضًا أؤيد ما قال إنه من أموال الزكاة يمكن في كل بلد من البلاد الإسلامية أن ترصد للأولويات ومن أهمها بناء المساكن للفئات المستضعفة، وعندما، وعندما نرجع إلى تفسير الآية الكريمة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ ... } إلى آخر الآية، عندما قال تعالى {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ} نجد أن الخلاف حصل بين جمهور العلماء ولكنهم حددوا حدًّا أدنى يمكن أن يعطى للشخص منه، منهم من قال: يكون له دار وجواد إذا كان من أهل الجهاد، ومكتبة إذا كان من أهل العلم، وخادم يخدمه، هذا يدلنا على أن الضروريات منها بيت للسكنى وأنه يمكن أن يعطى له من متحصل الزكاة، ثم عندنا هؤلاء الذين عبر عنهم بالمضطرين، وأنا أشاطر الأستاذ وهبة الزحيلي في كثير من تدخله لكني لا أشاطره في الضرورة الملحة لأن سيدنا عمر لما أتاه أحد الصحابة وقال له إني رجل أعرج ولا أستطيع الصلاة في المسجد فأمر واليه على العراق بأن يبنى له بيتًا بقرب المسجد حتى يؤدي الصلاة من قريب. فالأضطرار هنا ينبغي أن لا يكون عاملًا على أن نهدر أحكام الربا والاستثناء لم يرد في القرآن، ولم يرد في السنة، فالحرب من الله أعظم مما يتساهل فيه حتى تكون الضرورة الملحة تبيح أن نبيح لهذه الشركات التعامل مع الأشخاص، أما فيما يرجع لعقود الإيجار والتي قيل إنه يمكن أن يكون آخر حصة منها هي التي تؤدي إلى تمليك العقار ولم تكن هناك وثائق موثقة، فهذا نوع من التحايل ونوع من بيع العينة التي قالت فيها عائشة لزيد: (أبلغي زيدًا أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فإذا لم ينظم العقار ويثبت في الوثائق الرسمية اليوم في مختلف أقطار العالم – وأؤيد ما قاله الشيخ المختار السلامي – فإنه لا يعتبر مملوكًا أمام المحاكم حتى ولو كان أدى ثمنه كاملًا، والدليل على ذلك أنه في حالة موت هذا الذي واعد بالتمليك عند نهاية القسط الأخير من مبلغ الإيجار تكون ورثته متحللة من هذا العقد، ومن يضمن لنا حسن نيته. فالذي أريد أن أخلص إليه – وإن كان كلامي سبق أن قاله الإخوة – هو أنه في نظري يجب أن لا نفتح المجال للتعاقد بين ضعيف لا يملك شيئًا وشركة تمويل تحاول أن تربح على حسابه، بل ينبغي أن تكون الدولة هي المتدخلة في الموضوع حتى تحمي المعاملات التي تقع بين ضعفائها وبين شركات المساهمة من الربا. وشكرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 الشيخ عبد الله بن بيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أرى من بعض التدخلات التي أدركتها، أولًا: مسألة الوعد الملزم – كما قال الشيخ الضرير – هذا الوعد ليس موجودًا في المعاوضات عند المالكية وإنما الوعد الملزم هو بتبرعات أكدتها للشيخ العثماني ولكن اعترفت بأن الفروع التي نقلها عن ابن عابدين قد تكون سندًا صالحًا ووافق على ذلك، فقضية الوعد الملزم أرجو أن يبت فيها وألا تبقى دائمًا حجة وليست بحجة. في مسألة الزيادة مقابل خدمات لا أضيف الكثير على ما قاله – أبو مقبل – أحمد بازيع الياسين وهو أن هذه البنوك ليست بنوك خدمات، الفتوى كانت في بنك التنمية الإسلامي على ما أذكر، وكان بنك التنمية الإسلامي لا يربح بمعنى أن الممولين لا يتلقون ربحًا , فإذا كانت هذه البنوك العقارية لا تتلقى ربحًا , وإنما تقوم بخدمة المجتمع وفي نظير هذه الخدمة توظف رسومًا ولا تربح، معناه أن رأس المال لا يزداد، يمكن أن ينظر في هذه القضية. إني أخاف كثيرًا من أن تصدر من مجمعنا فتوى بهذا الصدد يمكن أن تفسر تفسيرًا خاطئًا وأن تفتح بابًا للربا، أعتقد أن مجمعنا لا يريد أن يفتحه وأن النوايا – إن شاء الله – طيبة. مسألة ثالثة: مسألة الضرورة، كما قال الشيخ الضرير، ليست واردة في مسألة المساكن إلا بعسر، والضرورة كما قال: هي الأمر الذي إذا لم يرتكبه المضطر أو إذا لم يستعمله في الأطعمة هلك أو قارب الهلاك، ما سوى ذلك فإنه من باب الحاجة، والصحيح أن الحاجة لا تبيح محرمًا كما قال الشافعي رحمه الله تعالى: " الحاجة لا تبيح أخذ مال الغير " هذا هو الصحيح وإن كان ابن نجيم والسيوطي فرَّعَا في قاعدة مستقلة بعد أن ذكرا أن الحاجة لا تبيح حرامًا، فرَّعَا على أن الحاجة العامة أو الحاجة الكلية قد تنزل منزلة الضرورة، والمالكية لهم قولان في ذلك، قال صاحب المنهج " تبيح محظورا ضرورة كما لذي اضطرار وخلاف علما فِي كسفاتج ربا وسائس بسالم وأخصر بيابس" إلا أنهم افترضوها في مسائل محدودة كمسألة الذي يريد أن يسافر فيأخذ من دار الضرب دراهم أو دنانير ويعطيها تبرًا. إذن الحاجة لا تبيح محرمًا، هذا هو الأصل الذي يجب أن يعتد به. سمعت كلمة من الشيخ العبادي وهي مسألة الأخذ من الأغنياء للبناء للفقراء، هذه أيضًا تسير في هذا النسق – لا أقول اشتراكي – ولكن النسق الذي يريد أن يساعد الفقراء ولكن أعتقد أن نظرة المسلمين يجب أن تكون نظرة شاملة لسد خدمات الفقراء، بإنشاء المشاريع الكبيرة وبتشغيل العاطلين حتى نجد حلولًا جذرية للفقر، أما أن نأخذ من مال الأغنياء غير الزكاة لبناء مساكن، هذا لا أعرفه جائزًا وأعتقد أنه لا ينبغي أن يصدر عن مجمعنا هذا، وشكرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 الشيخ محمد على التسخيري: بسم الله الرحمن الرحيم شكرًا سيدي الرئيس. هناك بعض النقاط أقولها بكل اختصار: النقطة الأولى: الحقيقة لكي نخرج من مأزق التحايل على الربا علينا أن نوضح العرف الذي هو المقياس في تعيين مصاديق المفاهيم، علينا أن نوضح الفرق بين هذه الصور المعقدة وبين العملية الربوية، وإلا وجدنا العرف يوسع مفهوم حرمة الربا القرض الربوي لتشمل هذه العقود أيضًا رغم أنها بشكلها الموجود ليست قروضًا ربوية، ومن هنا فالذي أعتقده لكي نوضح أمام العرف أن الربا غير موجود في حقيقته ولا في شبهته، علينا إما أن نحذف عنصر الإلزام بالوعد حتى ولو كنا ممن يؤمنون بإمكان الإلزام في الوعود المحضة، ومع ذلك عنصر الإلزام يجب أن يحذف حتى يتأكد العرف أن العملية عملية تبعد عن الربا، وكما قلت العرف هنا يشخص لنا المصداق وليس كما تصور البعض للتشريع، هو يشخص لنا مصداق الأمر وطبعًا إذا حذفنا الإلزام يقل إقبال الممولين على مثل هذه العقود ولكن الهدف الإسلامي يبقى هو الأصل ويكون لكل منهما حقه الاختياري حين إجراء كل عقد، يعني حين إجراء العقد التالي يكون لكل منهما – للممول والعميل، كما عبر سماحة الشيخ العثماني – الحق في أن يقدم على هذا العقد أو لا يقدم، أو أن علينا إبقاء الفواصل الزمنية بين هذه العقود والالتزام بكل مقتضياتها، فإذا اشترى العميل العقار بالوكالة وكان هناك فاصل زمني معقول وتم التلف كان ذلك من ملك الممول أو البنك الذي دفع هذا المال وحينئذ فهناك فارق عرفي معقول بين هذه العملية والعملية الربوية، أما أن نرتب عقودًا كثيرة ونطيل الطريق، فالحقيقة هي أننا نقوم بعملية ربوية ولكن نطليها بطلاءات معقدة حتى تخرج عن حرمتها، الظاهر أننا نسير في هذا السبيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 النقطة الثانية: ألاحظ أن هناك إبهامًا كبيرًا في قاعدة " بطلان البيعتين في بيعة "، في مفهوم هذه القاعدة وبالتالي في مصاديق تحقق هذه القاعدة، وهل تشمل كل شرط في العقد؟ هل تختص بالشرط العقدي؟ هل تتجاوز حدود البيع إلى كل عقد؟ هل لنا الحق بإلغاء خصوصية البيع والتوسع لكل عقد؟ لذلك أقترح، والبحث مبنائي ومؤثر ونلجأ إليه دائمًا في استدلالاتنا، أقترح أن يطرح كبحث مستقل في هذا المجمع لتعرف حدود هذه القاعدة حتى لا نقع في التطبيقات التي توجب الكثير من التساؤلات. النقطة الثالثة: أؤيد سماحة الشيخ السلامي في قضية بدل الخدمات، أعتبر أن هذا الطريق طريق وعر وطريق خطير، ويمكنه أن يبرر الكثير من الربا، صحيح أن بدل الخدمات أمر صحيح ولكن يجب أن يحدد طبعًا لا بالحد الرقمي الذي اقترحه فضيلة الشيخ السلامي وإنما بالحد الذي لا يشتبه العرف بربويته. نحن عندما ناقشنا قضية هذا البنك الذي كان يأخذ 2.5 % كبدل خدمة عندما قلنا له ما هي الأموال التي صرفتها في الخدمات؟ هو بيَّن هذه الأموال، وما هي القروض؟ أيضًا بيَّنها، عندما قُسِّمت تبيَّن لنا أنه – كما تفضل - 0.90 %، أيضًا اللجنة اقترحت على البنك أن ينزل إلى حد النصف بالمائة، حتى يتأكد العرف من أن هذا البدل هو بدل خدمات وليس ربا، وهذه نقطة مهمة جدًّا. النقطة الرابعة: التي أؤكد عليها هي أن الدولة الإسلامية – طبقًا لنصوص لدينا – عليها أن تحقق حد الغنى لكل فرد، يعني هذا هو الهدف الأقصى لها في المجال الاقتصادي، حد الغنى، تعطيه حتى تغنيه، فحد الغنى هنا يعنى حد الاكتفاء الطبيعى للفرد، والاكتفاء الطبيعي بلا ريب يشمل المسكن الطبيعي، ولذلك على الدولة أن توفر هذا المعنى من الزكاة وإن أمكن من الأنفال، وكل الأموال التي تدخل في ملك الدولة وهي في الواقع ملكية عامة والدولة تنوب بها عن الشعب، وإذا لم يمكن ذلك فإن ذلك يصبح مبررًا لضرائب علمة يمكن أن تسنها لتحقق هذا الاكتفاء – طبعًا – مع ملاحظة النمو الاقتصادي العام، وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 الدكتور عبد الله الركبان: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابة أجمعين. لدى بعض الملاحظات. أولًا: أود أن ألفت نظر رئيس المجمع والمسئولين إلى أن تأخر البحوث حال بيننا وبين قراءتها قراءة فاحصة فضلًا عن استيعابها، وأظن أن ذلك ينعكس على تصورنا للموضوعات وما قيل عنها تصوُّرًا جيدًا، ومن ثم تكون المناقشات في الجملة يغلب عليها السطحية. الأمر الثاني: أود أن أثني على ما تفضل به الدكتور العبادي حول ضرورة التركيز على موضوع البحث بالذات وغض النظر عن الاستطرادات لأنها تضيع فائدة الموضوع. جانب آخر واقع ولفت انتباهي كثيرًا وهو لا شك ينبع من حرص الذين تكلموا هو أنهم يجنحون كثيرًا على الأخذ بالأحوط، الأخذ بالأحوط أمر جيد والذمة تبرأ به، لكن ذلك لا يؤدي إلى حل المشكلات التي أنشئ المجمع لحلها، وتتطلع الأمة الإسلامية إلى حلول آنية للمشاكل التي تعايشها، وما يقوله البعض من أننا ينبغي أن ننطلق من منطلق إسلامي كامل وأن نأتي بنظام اقتصادي كامل، هذا هدف عظيم والكل يسعى إليه، لكننا ينبغي أيضًا أن نتعامل مع الواقع وأن ننظر إلى حلول مرحلية وهذا لا يمنع أبدًا من أن نعمل في نفس الاتجاه لنعدّ اقتصادًا إسلاميًّا كاملًا، هذا من جانب. من جانب آخر، وهو يتعلق بما تفضل به الدكتور العثماني حول الوعد الملزم، أو أخذ بوجهة المالكية وقال إنهم يرون أن هذا الوعد ملزم، أو أن بعضهم يرى ذلك، فقد تكلم عنه الدكتور الضرير وتكلم غيره من أن ذلك لا ينصب إلا على التبرعات، أما المعاوضات فلا ينصب عليها، لكن مع ذلك بالنسبة لما تفضل به القاضي العثماني لم يبين وجه ترجيحه لهذا القول، هذا لو فرضنا أنه ينطبق على المعاوضات، ثم ما الفرق بينه وبين الربا ما دام ملزمًا وما دام أن النسبة قد حددت وعلمت؟ . وشكرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 الدكتور إبراهيم فاضل الدبو: بسم الله الرحمن الرحيم في الواقع ما وددت أن أقوله قد تكلم عنه كثير من إخواني ممن سبقوني بالكلام ولكن لي كلمة بسيطة أذكرها بهذا الصدد. أقول: نحن بصدد إيجاد نظام اقتصادي متكامل فينبغي في الواقع أن نلاحظ ما يلي: إن بناء المسكن – كما ذكر الفقهاء رحمهم الله وبيَّنه أخواني من قبل – واجب من واجبات الدولة، ولا نغفل دور بيت المال في هذا المضمار، فينبغي مناشدة مؤسسات الدول الإسلامية ذات العلاقة المسئولة بتوفير السكن لكل من يحتاجه. إن سوء توزيع الثروة في البلاد الإسلامية هو الذي أدى إلى حرمان كثير من الأفراد الذين يقطنون في بلاد فقيرة من أبسط حقوقهم وهو السكن. إن البنوك الإسلامية المنتشرة في كثير من بلاد المسلمين تستطيع أن تقوم بمثل هذه المهام في حدود إمكانياتها، وكذلك بإمكاننا أن ننشئ جمعيات إسكان تتولى هذه المهمة على أساس التكافل الاجتماعي الذي دعا إليه الإسلام الحنيف وبيع تلك المسكن بأقساط معلومة مريحة لمن يحتاج ذلك، والله أعلم. وشكرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 الدكتور رفيق يونس المصري: بسم الله الرحمن الرحيم. إنني أعرض لنقطتين، النقطة الأولى: أود أن أقول إن من جملة صور التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها وتأمينها صورة ذكرها الفقهاء وهي الإجارة مع تعجل الأجرة، إجارة جزء من العقار مع تعجيل أجرته، أو إجارة أشياء أخرى يملكها هذا الشخص، هذه القضية من الناحية الشرعية لا أرى أي غبار عليها لكن ربما الذي يستحق البحث هنا في صدد هذا المقترح هو قضية مدة هذه الإجارة، مدة التعليل، وأن هذه المدة إذا طالت فإن الشخص ربما يلجأ إلى الشراء بدلًا من الاستئجار، هذه النقطة الأولى. النقطة الثانية في بحث الأستاذ العثماني – جزاه الله خيرًا – هناك نقطة لم أجد أنه تعرض إليها وهي مهمة في الحكم الشرعي، فعندما تعرض إلى بيع السهام العميل عندما يريد أن يشتري سهام الممول، كأنني فهمت أنه يشتريها بحصتها من الثمن، والمقصود هنا بالثمن كما فهمته هو ثمن الشراء، ترى هنا أن المسألة مهمة لمعرفة الحكم الشرعي؟ هل الأمر يتعلق بتمويل أم يتعلق ببيع؟ أنا أرى أن الأسلم شرعًا والواجب شرعًا أن يكون البيع هنا بثمن السوق لا بثمن الشراء. وشكرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 الدكتور بشار عواد: بسم الله الرحمن الرحيم. إخواني، سير المناقشات يسير باتجاه معين وهو ما يسمى بإيجاد الحلول للمشكلات التي يعاني منها المسلمون وتطرح الآراء، وفي هذا الاتجاه مخاطر حقيقية كبيرة، إذ إن الأخوة ينظرون إلى إيجاد الحلول في بعض الأحيان مما قال به بعض الفقهاء أو مما قال به بعض العلماء، ويستندون إليه ويستدلون بأدلتهم. أعتقد أننا يتعين علينا في هذا المجمع الموقر أن نسير على المبادئ الأساسية، المبدأ الأساسي وهو أن هذا المجمع مؤسسة كبيرة وخوفي من أن تصدر بعض القضايا من المجمع مما يخاف أن يستدل به أو بما يستفاد منه مستقبلًا على حلية بعض القضايا ولا سيما في هذه القضايا الربوية التي يتطلع إليها أصحاب الأموال وكثير من المنتفعين بمثل هذه الأمور. طرح قبل قليل القول بجواز الاستقراض بالفائدة عند الاضطرار مما نسب إلى الحنفية في بناء المساكن مثلًا، وهذا شيء كما تعلمون مما انفرد به الأحناف وليس لهم فيه سلف، ودليلهم الذي استدلوا به ليس بالقوي، ونحن نقول إذا كان هذا الضعيف المسكين الذي يستقرض لسبب مرضه أو بسبب عجزه كيف سيسد هذه الأموال؟ كيف سيقوم بسداد هذه الأموال التي يستقرضها إن كان ذلك صحيحًا؟ فريما بقاؤه على هذا الحال أفضل له من أن يستقرض ولا يستطيع السداد بعد ذلك. هذه الفتوى أذكرها لأنه قد استغلت من قِبَل بعض الناس – عندنا كما أذكر في العراق في الخمسينات – حيث أفتى بعض ذوي المذاهب الفاسدة بجوازها عمومًا ومطلقًا وليس على المضطر، وحصلت فيها مشاكل كثيرة، حتى إن كثيرًا من المسلمين بدأوا يأخذون بهذه الفتوى ويستقرضون من البنوك الربوية لبناء مساكنهم وهم ليسوا بحاجة لهذا الأمر. فرجائي أن يبتعد المجمع ابتعادًا كاملًا عن أي مجال يمكن أن ينفذ إليه لتحليل أي نوع من أنواع الربا، حتى ولو حددت هذه النسبة بنصف بالمائة أو بواحد بالمائة كما تفضل الشيخ السلامي، فهذا لا يجوز لأن هذا شيء قد حدد، مجرد التحديد هو ربا، فرجائي أن نبتعد عن ذلك ابتعادًا كاملًا وأن يبتعد المجمع عن كل ما فيه شبهة. أقول إن الأخذ بالأحوط هو الأفضل ليس بالنسبة للفرد كفرد، ولكن بالنسبة لهذا المجمع، الأخذ بالأحوط هو الأفضل لأن هذا المجمع مسئول ليس أمام شخص أو شخصين بل هو مسئول أمام الأمة الإسلامية، فينبغي أن لا يصدر هذه الفتاوى إلا بعد دراسة وتمحيص، وصحيح أن هناك بعض الحلول التي ربما يجد الإنسان لنفسه العذر في ارتكابها أو في الأخذ بها لنفسه أو لبعض الحالات الخاصة ولكن لا ينبغي أن يصدر ذلك عن مجمع فقهي يمثل جميع الدول الإسلامية، نحن نقصد من ذلك أننا نريد حلولًا ناجعة نابعة من الفهم السوي للكتاب والسنة وأن نبتعد جهد المستطاع حقيقة عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتهويل الجاهلين. بكل صراحة نقول إن هذا المجمع ينبغي أن يكون حازمًا، لأن المرحلة التي نمر بها اليوم هي مرحلة عصيبة، هي مرحلة العالم كله يتغير فيها، ومما يتغير في هذا العالم تتغير المجتمعات العربية والمجتمعات الإسلامية، فواجب المسلمين الأخذ بالأحوط وإيجاد الحلول الإسلامية لكل مسألة من المسائل. نعم نحن مسئولون أمام الله أولًا ثم أمام المسئولين في دولنا بأن نقدم لهم ما هو متفق مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس ما هو متفق مع رأي فقيه من الفقهاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 الناحية الأخرى أعتقد أن هذا المجمع بحكم تكوينه كفرع متفرع من منظمة المؤتمر الإسلامي الممثلة لجميع الدول الإسلامية يتعين عليه أن يناشد هذه الدول الإسلامية بأن تعمل على حل هذا الإشكال، والحل بسيط وقد جرب في كثير من الدول، نحن لا نقصد بذلك الدول الغنية، ما تفعله الدول الغنية، لا يحتاج إلى دراسة ولا يحتاج إلى مساعدة وإن هذه الدول أنعم الله سبحانه وتعالى عليها بأن قدمت المعونات فجزى الله سبحانه وتعالى القائمين عليها بما وفروه للبلاد والعباد من الخدمات ولكن كيف تعمل الدول الفقيرة؟ إلا ما ينبغي أن يتوجه إليه المجمع باعتباره جهة فقهية، وأعتقد أن هناك حلًّا من الممكن أن يستفاد منه وهو البنوك العقارية التابعة للدولة، نحن نطالب كل دولة من الدول مهما كانت فقيرة الدولة حينما تكون فقيرة لا بد لها من أموال أن تضع في ميزانيتها مبلغًا ثابتًا من المال لا ينقص، يعني يبقى ثابتًا ولمرة واحدة، هذا المال يوظف لخدمة بناء المساكن ومساعدة المحتاجين فمن يستطيع أن يبني على نفقته فليبن، لكن هذا يكون للمحتاج المعسر الذي لا يستطيع أن يبني دارًا له وهو محتاج، وتستطيع الدولة أن تنشىء مصرفًا (بنك) لهذا الغرض يوضع فيه شيء من المال الثابت لا تأخذ عليه أي فوائد بأي شكل من الأشكال، هذا لا تعجز عنه الدولة بل نستطيع - نحن أيضًا - أن نناشد المسلمين المحسنين بأن يساعدوا البنوك عن طريقة أن يقرض هذا البنك قرضًا حسنًا لمدة معلومة من ماله ويعاد إليه ماله بعد ذلك وفي الحديث الصحيح: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ، فنحن نستطيع أن ننهض بالهمم الإسلامية في نفوس كثير من الأغنياء بدلًا من أن نأخذ من مال الغني، لا يجوز ذلك بأي حال من الأحوال، هناك حدود وضعها الله سبحانه وتعالى على هذا المال ويعطي المال لمن يشاء لكن نستطيع أن نقول له يا أخي هذا أخوك في حاجة إلى مسكن نرجوك أن تتبرع بنصف مليون أو بربع مليون أو بعشرة دنانير أو بعشرين دينارًا في هذا البنك تسهم فيه تقول أضع هذا المال حسبة لله تعالى لمدة سنة أو سنتين أو ثلاث سنين لينفق على بناء هذه المساكن، وهذه المسألة سهلة ويسيرة، لماذا نحن نبتعد ابتعادًا؟ نحن نناقش القضايا التي تقام في الدول الإسلامية والدولة مهما كانت بعيدة عن التطبيق الإسلامي من الممكن أن تستجيب لطلب المسلمين في إنشاء مصرف لا يكلفها الكثير من الأموال، اليوم ميزانيات الدول بمئات وآلاف الملايين، ماذا يكون للدولة إذا وضعت مرة واحدة في حياتها عشرة ملايين أو عشرين مليون في مصرف ثم يساهم فيه المحسنون، لا يساهمون فيه من مالهم يعطونه عطاء نهائيًا بل يساهمون فيه لمدة معلومة. قصدي من كل ذلك أن نبتعد عن إيجاد الحلول المبسطة وكأن الناس قد انتهوا وكأن المحسنين لم يعد منهم من يعين أخاه في شدته ((لا يؤمن أحدكم)) كيف يكون ذلك؟ حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، يكون الإيمان – طبعًا – ناقصًا في هذه المسألة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ورجائي الأخير أن يبتعد المجمع عن هذا – لأننا نشعر فيه بخطر كبير – عند إصدار أي فتوى فيها أدنى شبهة فليصدر الأفراد منفردين، أما المجمع فرجائي أن يلتزم الالتزام الكامل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 الدكتور درويش جستنية: بسم الله الرحمن الرحيم. الحقيقة أريد أن أتكلم في ثلاثة موضوعات: الموضوع الأول هو مسألة النظم العقارية، في كل دولة أو معظم الدول لديها بنوك عقارية تختلف أنظمتها من دولة لأخرى، وكما رأينا، في مصر كيف تكلم الشيخ طنطاوي عن الوضع هناك وحقيقة مسألة أن كل دولة لها نظامها، فكنت أود لو تمت دراسة مقارنة لهذه النظم في ضوء الالتقاء أيضًا بالبنوك الإسلامية، وقدمت للمجمع دراسة لنرى ما هي الأشياء التي يمكن أن نستفيد منها من كل نظام وبالتالي يمكن أن تعتبر موافقة للشريعة الإسلامية وتعتبر حلًّا للمشكلة. فيما يتعلق بالبنك المصري – مثلًا البنك العقاري – في صفحة سبعة من بحث الشيخ مفتي مصر تكلم عن منح القروض، فإذن هي مسألة قروض ويقول في نفس الصفحة: " كما يجوز للبنك المشاركة في مشروعات التعمير والإسكان واستصلاح الأراضي في إطار الشريعة الإسلامية، ولم يبين ما هي الأطر في هذه الشريعة الإسلامية فكأنه أساسًا يقول إنها هي قروض والقروض تعلمون أنها بفوائد وأيضًا يجوز له، فإذن هنا في رأيي نوع من التفرقة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 النقطة الأخرى التي أريد أن أتكلم فيها أيضًا الإقراض برسم التمليك وهي في صفحة خمسة في بحث الدكتور عبد الله إبراهيم وهذه أيضًا في نفسي منها شيء، في صفحة خمسة يقول: " إن الإقراض برسم التمليك أن المبالغ التي تدفع وتوضع في حساب خاص تستثمر لحساب المشتري وهذا تعقيد، أعتقد – أنا رجل اقتصاد – لكن علماء الشريعة يستطيعون أن يقولوا هذا الكلام، وإذا أنا دفعت له هذه على أنها أجرة فكيف يستثمر المبلغ لحسابه ويبيعني هذه الدار؟ إذن هذا نوه من التعقيد يجب أن ننظر إليه. فيما يتعلق بالإقراض برسم التمليك، أيضًا تكلم الدكتور عبد الله إبراهيم عن تحديد الربح في صفحة سبعة وكأنه يقول إن للدولة أن تحدد أرباحًا في مشروعات معينة، وأنا أقول نعم ولكن ليس أرباحًا لكن خدمات كما يحدد بنك التنمية الصناعي السعودي خدمة معينة، كما يحدد بنك التنمية الإسلامي خدمة معينة، ولكن هذه الخدمة ليست ربحًا وإلا انقلبت إلى قرض وإلى فائدة ربوية، أما الربح على إطلاقه فهذه مسألة تتعلق بالعرض وطلب النقود بأموال المستثمرين، وأنا كأني أرى أن هناك خلطًا في أذهان البعض فيما يتعلق بدور الدولة، هل نحن هنا في المجمع نريد أن نقول ينبغي على الدولة أن تعمل مشاريع إسكان؟ لا، نحن نريد أن نقول شيئًا واحدًا إذا كان هناك تمويل، التمويل هذا يأتي من قطاع خاص، أكيد لأنهم هم الذين يبحثون فيما يتعلق بتشييد المشروعات العمرانية، صحيح، الدولة لها دور لكن كأني أنا في ذهني أن هنا المطلوب هو ما يتعلق بالقطاع الخاص، تشجيع الأموال على الدخول في مجال التنمية العقارية، هذا يتطلب أن يحسب الإنسان الذي يدخل في هذا المجال تكلفة رأس المال بالنسبة له وبالتالي يريد أن يوظف رأس المال على عشرين سنة، لابد أن يحسب التكلفة بحسب الأسعار الحالية والمتوقعة وبالتالي يخرج بنوع من النسبة المناسبة له في الربح ويدخل في المشروع، هذا فيما يتعلق بتحديد الربح، ونحن لا نستطيع أن نقول لأحد حدد ربحك بكذا أو بكذا. فيما يتعلق أيضًا بمسألة البناء في أرض لا يملكها، يعني واحد يملك أرضًا ولا يملك التمويل الكافي يذهب لبنك، فالبنك كيف يعطي له، هل يعطي له قرضًا أو يبني له، البنوك لا تبني، البنوك العادية التجارية سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية لا تدخل في البناء ولكن تدخل في تمويل المشروعات. فعندي حل اقترحته من البداية وهو أن نُكوِّن دراسة فيها صور لما يمكن أن يقبل وفيها صور للواقع الموجود في الدول الإسلامية، فأنا عندي حل: يتقدم للبنك ويقول له ابن لي بكذا حسب المواصفات وبعد ذلك أنا أستأجر منك هذا لمدة عشرين سنة أو لمدة خمسين سنة حسب الاتفاق فيعطيه ما يستطيع أن يبني به حسب الاتفاق وتكون الأجرة معروفة سواء يدفعها مالك الأرض أو أن مستأجرًا آخر يأتي ويستأجر الأرض، بمعنى أن هناك حلولًا عملية فلو تكونت بعض الأفكار نستطيع أن نقدم دراسة جيدة للمجمع. وشكرًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 الرئيس: في الواقع إن الوقت تجاوز بنحو نصف ساعة، ويوجد من الذين يطلبون الكلام والذين مقيدة أسماؤهم أحد عشر من أصحاب الفضيلة الأعضاء، فهل ترون أن نختم الجلسة الأعضاء والخبراء: موافقون: الرئيس: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. من خلال هذه المداولات ومجموع الأبحاث التي قدمت في موضوع التمويل العقاري لبناء المساكن تبين أمامنا ثماني صور، والصورة التاسعة التي أشار إليها الشيخ بشار، جائز أن تكون صورة تاسعة، وجائز أن تكون هي على سبيل المناشدة للدول. الذي أحب أن ألخصه في هذا أن هناك ثلاثة صور: الصورة الأولى وهي البيع بالأجل أو البيع بالتقسيط هذه داخلة في إطار موضوع الجلسة المسائية، البيع بالتقسيط، الشركة المتناقصة، وبعض الصور كذلك داخلة في بعض جزئياتها تحت بحث المواعدة أو الوعد هل هو ملزم أو غير ملزم – وأذكركم بهذا بأن قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة المنعقدة في الكويت توصل في قراره إلى أن الوعد غير ملزم – وأما ما يتعلق بالإيجار المنتهي بالتمليك سبق أن صدر قراره المجمع الفقهي بذلك في قراره السادس في دورته الثالثة إضافة إلى هذا هنالك بعض الصور حصل حولها شيء من المناقشات وبعضها لم يحصل حوله شيء من المناقشات فيما يحضرني الآن لأنني لم أقيد حولها شيئًا إلا إذا كان فات علي. النقطة المهمة هو أنه ينبغي أن يلاحظ في صياغة وإعداد القرار أن لا تكون الحلول نظرية وإنما يكون لها واقع عملي لمعرفة مدى إمكانيات أو الوضع للعالم الإسلامي ومدى انسحاب هذه الحلول وتطبيقها في دول العالم الإسلامي أو في بعض دول العالم الإسلامي، نظرًا لارتباط هذا الموضوع ببيع التقسيط في بعض صوره فقد ترون الموافقة على تأليف لجنة من كل من: الشيخ تقي العثماني، الشيخ الصديق الضرير، الشيخ المختار السلامي، الشيخ رفيق المصري، الشيخ العاني، الشيخ أحمد بن حميد. هل أنتم موافقون على هذا؟ هي صورة ثمانية التي تلخصت لدينا منها الاستصناع ومنها الإقراض برسم التمليك، وقلت أنا إنه جرى حولها مناقشات ولكن لم أذكر أعيانها إنما ذكرت الصور التي برزت في هذا الموضوع. إذن تمت الموافقة على ذلك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 القرار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (52/1/6) بشأن التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها إن هذا مجلس الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14-20 آذار (مارس) 1990م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. قرر: 1- إن المسكن من الحاجات الأساسية للإنسان، وينبغي أن يوفر بالطرق المشروعة بمال حلال، وإن الطريقة التي تسلكها البنوك العقارية والإسكانية ونحوها، من الإقراض بفائدة قلت أو كثرت، هي طريقة محرمة شرعًا لما فيها من التعامل بالربا. 2- هناك طرق مشروعة يستغنى بها عن الطريق المحرمة، لتوفير المسكن بالتملك (فضلًا عن إمكانية توفيره بالإيجار) ، منها: أن تقدم الدولة للراغبين في تملك مساكن قروضًا مخصصة لإنشاء المساكن، تستوفيها بأقساط ملائمة بدون فائدة سواء أكانت الفائدة صريحة أم تحت ستار اعتبارها (رسم خدمة) على أنه إذا دعت الحاجة إلى تحصيل نفقات لتقديم عمليات القروض ومتابعتها وجب أن يقتصر فيها على التكاليف الفعلية لعملية القرض على النحو المبين في الفقرة (أ) من القرار رقم (1) للدورة الثالثة لهذا المجمع أن تتولى الدول القادرة على إنشاء المساكن وتبيعها للراغبين في تملك مساكن بالأجل والأقساط بالضوابط الشرعية المبينة في القرار (53/2/6) لهذه الدورة. أن يتولى المستثمرون من الأفراد أو الشركات بناء مساكن تباع بالأجل. أن تملك المساكن عن طريق عقد الاستصناع – على أساس اعتباره لازمًا – وبذلك يتم شراء المسكن قبل بنائه، بحسب الوصف الدقيق المزيل للجهالة المؤدية للنزاع، دون وجوب تعجيل جميع الثمن، بل يجوز تأجيله بأقساط يتفق عليها، مع مراعاة الشروط والأحوال المقررة لعقد الاستصناع لدى الفقهاء الذين ميزوه عن عقد السلم. ويوصي: بمواصلة النظر لإيجاد طرق أخرى مشروعة توفر تملك المساكن للراغبين في ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 قرار التأجيل للدورة السادسة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (7) بشأن التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد عرض موضوع (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) قرر: تأجيل النظر في موضوع (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) لإصدار القرار الخاص به إلى الدورة السادسة من أجل مزيد من الدراسة والبحث. والله الموفق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 بيع التقسيط إعداد فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي بسم الله الرحمن الرحيم تقديم في النصوص الواردة من الشارع الحكيم وأقوال الفقهاء المجتهدين الأولين في بيع التقسيط من نصوص التشريع: قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} . [سورة البقرة: الآية 282] . ومعنى الدين البيع أو الشراء بأجل: من تداين: تبايع بالأجل. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى بالأجل: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير)) . [رواه مسلم] . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعامًا بنسيئة – أي بالأجل - ورهنه درعًا له من حديد)) [متفق عليه] . من أقوال الفقهاء: قال الإمام البغوي: (إذا باتّه على أحد الأمرين في المجلس فهو صحيح به لا خلاف فيه) انظر ص 142، مجلد 8: شرح السنة، للبغوي. وقال الشيخ ابن قدامة: " وقد روي عن طاوُس والحكم وحماد أنهم قالوا " لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد كذا، والنسيئة كذا، فيذهب على أحدهما، وهذا محمول على أنه جرى بينهما بعدما يجري في العقد، فكأن المشتري قال: أنا آخذه بالنسيئة بكذا، فقال: خذه، أو: قد رضيت، ونحو ذلك، فيكون عقدًا كافيًا، فهم قد أجازوا هذا البيع حيثما تحدد الثمن ". اهـ. انظر ص 211، مسألة 3130 مجلد 4: المغني. وقال الشيخ الشوكاني: " نقل ابن الرفعة عن القاضي أنه قال عن هذه المسألة: لو قال البائع: بعتك بألف نقدًا أو ألفين إلى سنة، قال القاضي: لو قال المشتري: قبلت بألف أو ألفين بالنسيئة صح ذلك ". اهـ. انظر ص 161 – 162، ج 5: نيل الأوطار. وقال الإمام الترمذي (أبو عيسى) : " إذا قال البائع: أبيعك هذا الثوب بنقد عشرة، وبنسيئة بعشرين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على أحد منهما ". اهـ. انظر ص 533، حديث 1231: سنن الترمذي، مج 3. وقال الإمام الأوزاعي عن البيع: " لا بأس بذلك، ولكن لا يفارقه حتى يباتّه بأحد المعنيين ". اهـ. انظر ص 739 – 740، مج 3: سنن أبي داود. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 مدخل أولًا: الأصل في الثمن الحلول، وهذا متفق عليه بين الفقهاء في الجملة، فالثمن إما أن يكون عينًا أو دينًا في الذمة ثم الثمن بالدين يجوز أن يكون معجلًا وهو الأصل. وأن يكون مؤجلًا. . . والثمن المؤجل إما أن يكون إلى موعد معين لجميع الثمن، وإما أن يكون (منجمًا) مقسطًا على مواعيد معلومة. ففي الثمن الدين يختلف الحكم في أدائه بحسب كونه معجلًا أو مؤجلًا أو منجمًا، فإذا كان مؤجلًا أو منجمًا يتعين أن يكون الأجل معلومًا للمتعاقدين على تفصيل في ذلك سأذكره إن شاء الله بالتفصيل المذهبي (1) ثانيا: جاء جاء في مختار الصحاح: (النجم لغة: الوقت المضروب، ويقال: نجم المال تنجيمًا إذا أداه نجومًا (أقساطًا) والتنجيم اصطلاحًا هو (التأخير لأجل معلوم نجمًا أو نجمين) أو هو: [المال المؤجل بأجلين فصاعدًا، يعلم كل نجم ومدته من شهر أو سنة أو نحوها] . فالتنجيم نوع من الأجل يرد على الدين المؤجل ويوجب استحقاق بعضه عند زمن مستقبل معين، ثم يليه البعض الآخر لزمن آخر معلوم يلي الزمن الأول وهكذا. . . وهو جائز في البيع إذا اتفق عليه المتعاقدان باتفقا الفقهاء ومن أبرز العقود التي برز فيها التنجيم الإجارة – وهي بيع المنافع استحسانًا – جاء في المغني أنه " إذا شرط تأجيل الأجر فهو إلى أجله، وإن شرطه منجمًا يومًا يومًا، أو شهرًا شهرًا، أو أقل من ذلك أو أكثر، فهو على ما اتفقا عليه، لأن إجارة الدين كبيعها، وبيعها يصح بثمن حال أو مؤجل، فكذلك إجارتها (2) . اهـ. ثالثًا: تأجيل الدين: هو (مال حكمي يحدث في الذمة ببيع أو استهلاك أو غيرهما) . وقد شرع تأجيل الدين بالكتاب والسنة والإجماع: - أما الكتاب، فقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [سورة البقرة: الآية 282] . فهذه الأية وإن كانت لا تدل على جواز تأجيل سائر الديون، إلا أنها تدل على أن من الديون ما يكون مؤجلًا، وهو ما نقصده هنا من الاستدلال بها على مشروعية الأجل. - وأما السنة، فما روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل، ورهنه درعًا له من حديد)) . [رواه مسلم، واللفظ له] . فهذا يدل على مشروعية تأجيل الأثمان. وقد أجمعت على ذلك (3) .   (1) الموسوعة الفقهية: 9/37 وما بعدها (2) الموسوعة الفقهية: 2/7 وما بعدها (3) الموسوعة الفقهية: 2/21 وما بعدها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 وحكمة قبول الدين التأجيل دون العين: ما قرره الفقهاء من أن الفرق بين الأعيان والديون من حيث جواز التأجيل في الثانية دون الأولى: أن الأعيان معينة ومشاهدة، والمعين حاصل وموجود، والحاصل والموجود ليس هناك مدعاة لجواز ورود الأجل عليه. أما الديون فهي مال حكمي يثبت في الذمة، فهي غير حاصلة ولا موجودة، ومن ثم شرع جواز تأجيلها رفقًا بالمدين، وتمكينًا له من اكتسابها وتحصيلها في المدة المضروبة، حتى إن المشتري لو عين النقود التي اشترى بها لم يصح تأجيلها. والديون من حيث جواز التأجيل وعدمه: قرر الفقهاء أن الديون في الأصل تكون حالّة وأنه يجوز تأجيلها إذا قبل الدائن واستثنى جمهور الفقهاء من هذا الأصل عدة ديون: (1) رأس مال السلم، (2) وبدل الصرف، (3) والثمن بعد الإقالة، (4) وثمن المشفوع فيه على خلاف. واختلفوا في جواز اشتراط تأجيل القروض، فيرى جمهور الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة وغيرهم أنه يجوز للمقرض المطالبة ببدله في الحال، وأنه لو اشترط في التأجيل لم يتأجل وكان حالًّا. وذلك لأنه سبب يوجب رد المثل في المثليات، فأوجبه حالًّا، كالإتلاف، ولو أقرضه بتفاريق، ثم طالبه بها جملة له ذلك، لأن الجميع حالٌّ، فأشبه ما لو باعه بيوعًا حالًّة ثم طالبه بثمنها جملة، ولأن الحق يثبت حالًّا، والتأجيل تبرع منه ووعد، فلا يلزم الوفاء به، كما لو أعاره شيئًا، وهذا لا يقع عليه اسم الشرط، ولو سمي شرطًا مجازًا (1) . جاء في اللباب شرح القدوري ما نصه: "ويجوز البيع بثمن حالٍّ وهو الأصل، ومؤجل إذا كان الأجل معلومًا لئلا يفضي إلى المنازعة، وهذا إذا بيع بخلاف جنسه ولم يجمعها قدر، لما فيه من ربا النساء كما سيجيء، وابتداء الأجل من وقت التسليم، ولو فيه خيار فمنذ سقوطه عنده خانية، ويبطل الأجل بموت المديون لا الدئن " (2) .، ومثل ذلك في الدر بحاشية رد المحتار لابن عابدين فلينظر (3) . وجاء في الدر المختار للحصكفي ووافقه عليه ابن عابدين: " عليه ألف ثمن جعله ربه نجومًا، إن أخل بنجم حل الباقي، فالأمر كما شرط ". اهـ ومعنى (حل) أي صار حالًّا (4) (4) .   (1) انظر الموسوعة الفقهية 2/22 وما بعدها. (2) انظر اللباب: 2/6. (3) انظر رد المحتار: 4/24 وما بعدها. (4) المرجع السابق الصفحة ذاتها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 المقصد إلى البحث حكم البيع بالتقسيط وضوابطه الفقهية تلخص مما ذكرت اتفاق الفقهاء في المذاهب الأربعة الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة على جواز البيع بالتقسيط إلى أجل معلوم مهما طال الأجل ولو إلى عشرات السنين. ولآجل خلو هذا العقد عن الربا أو شبهته، وعن الجهالة الفاحشة، وجدت بعد الاستقراء ضوابط فقهية معتبرة لهذا العقد الذي تفشى اليوم تفشيًا ملحوظًا حتى صار أكثر وقوعًا من البيع النقدي في كثير من البلدان والحالات. وهذه الضوابط – استخلصتها كما ذكرت بالاستقراء من كتب الفقه المقارن وعلم الخلاف - تنحصر فيما يلي 1- الضابط الأول: افتراق مجلس السوم عن مجلس العقد في هذا النوع من البيوع (بيع التقسيط) كي لا تقع في شبهة الربا (زدني أجلًا أزدك مالًا) . وعلى هذا: فللمشتري أن يقوم أولًا بمجلس سوم يعرف فيه ثمن السلعة المباعة نقدًا وثمنها تقسيطًا وما الفرق بينهما من حيث قدر الثمن، ويعرف كذلك النجوم وآجالها. فإذا عرف ذلك غير المجلس تغييرًا حقيقيًا وهو الأفضل بالانصراف بنفسه عن المجلس أو حكميًا بالانصراف عن الكلام في الموضوع والتحدث بأمر آخر لا علاقة له بما ذكرت ثم يعود بعد فاصل أجنبي إلى الحديث في إيجاد العقد على مبدأ التقسيط بالنجوم والآجال المذكورة (حصرًا) ، أما إذا خلط المشتري ذلك كله في مجلس واحد وقع في شبهة الربا. 2- الضابط الثاني معلومية الأجل، ومعلومية النجوم، فالجهالة الفاحشة مفسدة للعقد، وقد صرح المالكية بأنه لا بأس ببيع أهل السوق على التقاضي، وقد عرفوا قدر ذلك بينهم، والتقاضي: (تأخير المطالبة بالدين إلى مدى متعارف عليه بين المتعاقدين) (1) . هذا: ومن حق المشتري إذا كان المبيع معيبًا أو ظن أنه مستحق أن يمتنع من أداء الثمن، إلى أن يستخدم حقه في العيب فسخًا أو طلبًا للأرش إلى أن يتبين أمر الاستحقاق. ويجوز تأخير الدين الحالّ، أو المؤجل بأجل قريب إلى أجل بعيد، وأخذ مساوي الثمن أو أقل منه من جنسه، لأنه تسليف، أو تسليف مع إسقاط البعض، وهو من المعروف، ولكن لا يجوز تأخير رأس مال السلم عند الجمهور خلافًا للمالكية حيث أجازوا تأخيره في حدود ثلاثة أيام ولو بشرط.   (1) انظر الموسوعة الفقهية: 9 / 40 وما قبلها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 هذا، وقد أفتى الحنفية أن الجهالة اليسيرة لا تؤثر في صحة الأجل فيعد كالأجل المعلوم ولكن اشترطوا لذلك أن لا يذكر هذا الأجل المجهول جهالة يسيرة في العقد ـ بل يكون بيعًا مطلقًا، ثم يذكر الأجل بعد ذلك لم يفسد العقد وكان له أخذ الكل جملة، ولو باع مؤجلًا بلا ذكر مدة في العقد انصرف لشهر أو للعرف العام الذي تعارفه الناس (1) . 3- والضابط الثالث: المؤيد الفقهي في حال إخلال المشتري بأداء الثمن المؤجل، أي أخل بالوفاء بقسط أو بأقساط حل أجلها. فقد اتفق الفقهاء على أنه: إذا كان المشتري موسرًا فإنه يجبر على أداء الثمن الحالِّ، كما ذهب الجمهور في الجملة إلى أن للبائع حق الفسخ إذا كان المشتري مفلسًا، أو كان الثمن غائبًا عن البلد مسافة القصر. وذهب الحنفية إلى أنه ليس للبائع حق الفسخ، لأنه يمكنه التقاضي للحصول على حقه، وهو في هذه الحالة دائن كغيره من الدائنين، لكن يسقط الأجل وله المطالبة بكل الأقساط من الثمن المتبقية حالّة. وهذا عندهم ما لم يشترط لنفسه خيار النقد، بأن يقول مثلًا (إن لم تدفع الثمن في موعد كذا فلا بيع بيننا) ، واختلف في مقتضى هذا الشرط، هل هو انفساخ البيع، أو استحقاقه الفسخ باعتباره فاسدًا، والمرجح عند الحنفية أنه يفسد ولا ينفسخ (2) وللشافعية والحنابلة تفصيل في حال إخلال المشتري بأداء الثمن الحالّ لا للعكس ينظر في مدوناتهم. وقالت المالكية بِشأن خيار النقد الذي أثبته الحنفية في تصريح لهم بمثله فيما إذا قال البائع للمشتري: (بعتك لوقت كذا) أو (على أن تأتيني بالثمن في وقت كذا، فإن لم تأت به في ذلك الوقت فلا بيع بيننا) ، فقد جاء في المدونة تصحيح البيع وبطلان الشرط، وروي عن الإمام مالك قولان آخران. صحة البيع والشرط، وفسخ البيع (3) ذيل البحث وإذا كان الثمن منجمًا، فإن على البائع تسليم المبيع ولا يطالب المشتري بالثمن إلا عند حلول الأجل الأول فيما بعده بالاتفاق، وأما إذا كان بعض الثمن معجلًا وبعضه مؤجلًا، فإن للبعض المعجل حكم تعجيل الثمن كله، فلا يطالب المشتري البائع بتسليم المبيع إلا بعد تسليم الجزء المعجل من الثمن (4) . خاتمة البحث في هذه العجالة اللطيفة استطعت إلى حد أن أسلط الأضواء على مسألة ظلت تختلف فيها الآراء وتتقاذفها الأهواء، وهي بعد من النوازل المهمة في عصرنا هذا، جرى بها التعامل وتعارف عليها الناس بل وعقدوا كثيرًا من معاملاتهم المالية بمقتضاها ألا وهي بيع التقسيط. لعلي أكون قد وفقت إلى الخير وهديت إلى الرشد، وأصبت فيما اجتهدت. . . إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور   (1) انظر رد المحتار: 4/23 وما بعدها. (2) انظر المرجع السابق: ص 24، وشرح المجلة: 2/191. (3) الشرح الصغير، والدسوقي وفتح العلي المالك، والموسوعة الفقهية: 9/39. (4) الموسوعة الفقهية: 9/40. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 أبرز مصادر البحث ومراجعه 1- رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) ، العلامة ابن عابدين. 2- الشرح الصغير مع حاشية الدسوقي، الدسوقي والدير. 3- شرح المجلة، خالد الأتاسي. 4- اللباب شرح الكتاب، عبد الغني الغنيمي الميداني. 5- الموسوعة الفقهية في الكويت، مجموعة من العلماء المعاصرين. 6- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، الكساني. 7- الاختبار شرح المختار، ابن مودود الموصلي. 8- البحر الرائق وحاشيته منحة الخالق، زين الدين ابن نجيم وابن عابدين. 9- ابن عابدين وأثره في الفقه. دراسة مقارنة بالقانون، د. محمد عبد اللطيف صالح الفرفور. 10- نظرية الاستحسان في التشريع الإسلامي وصلتها بالمصالح المرسلة، د. محمد عبد اللطيف صالح الفرفور. 11- مختار الصحاح، الرازي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 بيع التقسيط إعداد فضيلة الدكتور محمد عطا السيد عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي بسم الله الرحمن الرحيم اتفق الفقهاء على مشروعية البيع على سبيل الجواز، دل على جوازه الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. فمن الكتاب قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة] : الآية 275] ، وقوله عز وجل: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [سورة النساء: الآية 29] . وأما السنة فمنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الكسب أطيب؟ فقال: ((عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ)) (1) والإجماع قد استقر على جواز البيع. أما المعقول: فلأن الحكمة تقتضيه لتعلق حاجة الإنسان بما في يد صاحبه ولا سبيل إلى المبادلة إلا بعوض غالبًا. ففي تجويزالبيع وصول إلى الغرض ودفع للحاجة (2) هذا هو الحكم الأصلي للبيع، ولكن قد تعتريه أحكام أخرى، فيكون محظورًا إذا اشتمل على ما هو ممنوع بالنص، لأمر في الصيغة، أو العاقدين، أو المعقود عليه. وكما يحرم الإقدام على مثل هذا البيع فإنه لا يقع صحيحًا بل يكون باطلًا أو فاسدًا على الخلاف المعروف بين الجمهور والحنفية ويجب فيه التراد. . . وقد يكون الحكم الكراهة، وهو ما فيه نص غير جازم ولا يجب فسخه. (3) وحكمة مشروعية البيع ظاهرة، فهي الرفق بالعباد والتعاون على حصول معاشهم. والسؤال عن بيع التقسيط يفترض صحة العقد باعتبار الصيغة والعاقدين ومحل العقد ولكن الخلاف في كيفية الوفاء بالثمن ويمكن لنا أن نثير الجوانب التالية فيما يتعلق بالبحث في حكم صحة بيع التقسيط. أولًا: هل يجوز البيع بالثمن المؤجل وهو ما يسمى البيع بالنسيئة؟ ثانيًا: هل يمكن تقسيط الثمن، وكيف يكون التقسيط؟ ثالثًا: هل يمكن زيادة الثمن في التقسيط عن الثمن المنجز؟ رابعًا: ما الحكم إذا أخل المشتري بدفع الأقساط؟ هل تسترد السلعة المباعة له أم يعامل باقي الثمن كدين عادي؟ واليك التفصيل في هذه الجوانب.   (1) أورده الهيثمي في المجمع: 4/60، ط. القدسي، وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، وفيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح. (2) الموسوعة الإسلامية الصادرة من وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – دولة الكويت: 9/8. (3) الموسوعة الإسلامية: 9/8. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 أولًا: هل يجوز البيع بالنسيئة؟ انعقد الإجماع على صحة تأجيل الثمن إلى أجل معلوم، روى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعامًا بنسيئة ورهنه درعه. وفي رواية أخرى: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعامًا من يهودي إلى أجل فرهنه درعه)) . ذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري بشرح صحيح البخاري: " قوله: باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة أي بالأجل – قال ابن بطال: الشراء بالنسيئة جائز بالإجماع. قلت: لعل المصنف تخيل أن أحد يتخيل أنه صلى الله عليه وسلم لا يشتري بالنسيئة لأنها دين فأراد دفع ذلك التخيل " (1) . وجاء في المغني والشرح الكبير في معرض الكلام عن بيع العينة والبيع نسيئة: وقد روى أبو داود بإسناده عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) وهذا وعيد يدل على التحريم، وقد روي عن أحمد أنه قال: (العينة أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا نسيئة فإن باع بنقد ونسيئة فلا بأس) . وقال: (أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة لا يبيع بنقد) . قال ابن عقيل: " إنما كره النسيئة لمضارعته الربا فإن البائع بنسيئة يقصد الزيادة بالأجل غالبًا، ويجوز أن تكون العينة اسمًا لهذه المسألة وللبيع نسيئة جميعًا لكن البيع بنسيئة مباح اتفاقًا ولا يكره إلا أن لا يكون له تجارة غيره " (2) وجاء في حاشية رد المحتار لابن عابدين: " اختلف المشايخ في تفسير العينة التي ورد النص عنها. قال بعضهم: تفسيرها أن يأتي الرجل المحتاج إلى آخر ويستقرضه عشرة دراهم ولا يرغب المقرض في الإقراض طمعًا في فضل لا يناله بالقرض فيقول لا أقرضنّك ولكن إن شئت أبيعك هذا الثوب إن شئت باثنى عشر درهمًا وقيمته في السوق عشرة ليبيعه في السوق بعشرة فيرضى به المستقرض فيبيعه كذلك، فيحصل لرب الثوب درهمان وللمشتري قرض عشرة. وقال بعضهم: هي أن يدخل بينهما ثالثًا فيبيع المقرض ثوبه من المستقرض باثنى عشر درهمًا ويسلمه إليه ثم يبيعه المستقرض الثالث بعشرة ويسلمه إليه ثم يبيعه الثالث من صاحبه وهو المقرض بعشرة ويسلمه إليه ويأخذ منه العشرة ويدفعها المستقرض فيحصل للمستقرض عشرة ولصاحب الثوب عليه أثنا عشر درهمًا كذا في المحيط " (3)   (1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني. مكتبة الكليات الأزهرية 9/149 (2) ابن قدامة: الشرح الكبير: 4/45-46 (3) حاشية ابن عابدين: 5/273، الطبعة الثانية، دار الفكر، 1979م الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 وفي البيع بالنسيئة لا بد لصحة البيع من تحديد الثمن، وتحديد الأجل الذي يدفع فيه لعموم قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} . [سورة البقرة: الآية 282] . وحقيقة الدين عبارة عن كامل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدًا والأخر في الذمة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضرًا، والدين ما كان غائبًا، قال الشاعر: وعدتنا بدرهمينا طلاءً وشواءً معجلًا غير دين وقال آخر: لترم بي المنايا حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحفرتين إذا لم أوقدوا حطبًا ونارًا فذاك الموت نقدًا غير دين وقد بين الله تعالى هذا المعنى بقوله الحق: {أَجَلٍ مُسَمًّى} (1) فالدين إلى أحل غير مسمى يقود إلى المنازعة، ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل معنى كتاب الله تعالى. ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يستلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((مَن أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ)) ، رواه ابن عباس. أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. والحكمة في ذلك أن جهالة الأجل تفضي إلى المنازعة في التسلم والتسليم فهذا يطالبه في قريب المدة وذاك في بعيدها وكل ما يفضي إلى المنازعة فيجب إغلاق بابه. ولأنه سيؤدي إلى عدم الوفاء بالعقود التي أمرنا بالوفاء بها حيث قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة: الآية 1] . وإذا لم يحدد أجلًا فسد البيع عند بعضهم وصح عند البعض إن كانت الجهالة يسيرة، وجاء في حاشية ابن عابدين (ولو باع مؤجلًا أي بلا بيان مدة بأن قال بعتك بدرهم مؤجل صرف قوله لشهر لأنه المعهود في الشرع في السلم واليمين. . . ويبطل الأجل بموت المديون) (2) وإذن لابد لصحة بيع التقسيط من تحديد مدة الأقساط تحديدًا وافيًا.   (1) انظر تفسير القرطبي: 3/377. (2) حاشية ابن عابدين 4/531. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 ثانيًا: هل يمكن تقسيط الثمن؟ لم أعثر على بيان واضح في هذه المسألة إلا أن ابن عابدين يقول في حاشيته: " ومنها – أي جهالة الأجل – اشتراط أن يعطيه الثمن على التفاريق أو كل أسبوع البعض، فإن لم يشترط في البيع بل ذكر بعده لم يفسد وكان له أخذ الكل جملة (1) فظاهر عبارة ابن عابدين هذه وهي من العبارات النادرة في هذه المسألة أن دفع الثمن على التفاريق (التقسيط) يصح إذا شرط في البيع أو بعده. والذي أراه أن هذه من الشروط والاتفاقات المباحة ويحكمها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ((المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا)) . ولا نرى في اتفاق المتبايعين على تفريق الثمن لآجال معدودة ومعلومة أي شبهة بل هو من التيسير الذي حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال ((رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى)) . البخاري. وقال ((غفر الله لرجل كان قبلكم كان سهلًا إذا باع)) . الترمذي. وقال: ((إن الله يحب سمح البيع، سمح الشراء سمح القضاء)) . الترمذي والحاكم. وقال: ((إن الله أدخل الجنة رجلًا كان سهلًا مشتريًا وبائعًا وقاضيًا ومقتضيًا)) . النسائي. وكل من المتعاقدين ملزم بالوفاء بما تعهد به كاملًا لأنه مأمور بذلك.   (1) حاشية ابن عابدين 4/531 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 ثالثًا: هل يمكن زيادة الثمن بسبب النسيئة في الأجل؟ وهو هل يمكن أن يكون للسلعة ثمنان: ثمن حالّ وثمن أكثر منه إذا اشترى بثمن مؤجل؟ وبعبارة أخرى: هل يجوز أن يكون الثمن المؤجل أكثر من الثمن الحالّ؟ جاء في الموسوعة الفقهية: الاعتياض عن الأجل بالمال: يرد الاعتياض عن الأجل بالمال في صور، منها ما يلي: * الصورة الأولى: صدور إيجاب مشتمل على صفقتين، إحداهما بالنقد، والأخرى بالنسيئة، مثل أن يقول بعتك هذا نقدًا بعشرة، والنسيئة بخمسة عشر. يرى جمهور العلماء أن هذا البيع إذا صدر بهذه الصيغة لا يصح، ((لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة)) جاء في الشرح الكبير: (وكذلك فسّره مالك والثوري، وإسحاق. وهذا قول أكثر أهل العلم، لأنه لم يجزم له ببيع واحد، أشبه ما لو قال بعتك أحد هذين ولأن الثمن مجهول فلم يصح، كالبيع بالرقم المجهول) . وقد روي عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا، فيذهب إلى أحدهما. فيحتمل أنه جرى بينهما بعدما يجري في العقد، فكأن المشتري قال: أنا آخذه بالنسيئة بكذا، فقال: خذه، أو قال: قد رضيت ونحو ذلك، فيكون عقدًا كافيًا، فيكون قولهم كقول الجمهور. فعلى هذا: إن لم يوجد ما يدل على الإيجاب أو ما يقوم مقامه لم يصح لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكوم إيجابًا. فهذا الخلاف الوارد في صحة هذا البيع مصدره الصيغة الصادرة مشتملة على صيغتين في آن واحد، فلم يجزم البائع ببيع واحد، ولأن الثمن مجهول هل هو عشرة أو خمسة عشر. وإذا كان الإيجاب غير جازم لا يصلح، ويكون عرضًا، فإذا قبل الموجه إليه العرض إحدى الصفقتين كان إيجابًا موجهًا إلى الطرف الأول فإن قبل تم العقد، وإلا لم يتم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 الصورة الثانية: وهي بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء، يرى جمهور الفقهاء جواز بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء، وذلك لعموم الأدلة القاضية بجواز البيع. قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} . وهو عام في إباحة سائر البياعات إلا ما خص بدليل، ولا يوجد دليل يخصص هذا العموم. * الصورة الثالثة: وهي تأجيل الدين الحالّ في مقابل زيادة: وهذه الصورة تدخل في باب الربا (إذ الربا المحرم شرعًا شيئان: ربا النساء، وربا التفاضل. وغالب ما كانت العرب تفعله، من قولها للتغريم: أتقضي أم تربي؟ فكان الغريم يزيد في المال، ويصبر الطالب عليه، وهذا كله محرم باتفاق الأمة) . قال الجصاص: " معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضًا مؤجلًا بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلًا من الأجل، فأبطله الله تعالى وحرمه، وقال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} ، وقال تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} حظر أن يؤخذ للأجل عوض. ولا خلاف أنه لو كان عليه ألف درهم حالّة، فقال له أجلني وأزيدك فيها مائة درهم، ولا يجوز، لأن المائة عوض عن الأجل (1) والذي أرجحه في هذه المسألة: أنه إذا عرف لدى المتبايعين ثمن للبيع حالّ وثمن له مؤجل هو أكثر من الثمن الحالّ ثم تراضيا على إحدى الحالتين والثمن المعين فيها جاز وقد جاء في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية – طيب الله ثراه – أنه قد سئل عن شخص عنده صنف، دفع له فيه رجل ألفين ومائة بالوزن، ودفع له آخر ألفين وسبعمائة إلى أجل معلوم أثناء الحول فأجاب: " إن كان الذي يشتريها إلى أجل، يشتريها ليتجر فيها أو ينتفع بها جاز للبائع أن يبيعها إن شاء بالنقد إن شاء إلى أجل. وإن كان المشتري مقصده الدراهم، وهم يريد أن يبيعها إذا اشتراها ويأخذ الدراهم، فهذا يسمى (التورق) وهو مكروه في أظهر قولي العلماء " (2) - وإذا تبايعا بثمن معين واتفقا عليه ثم طلب المشتري من البائع أن يقسط له الثمن بدون زيادة في السعر الذي اتفقا عليه جاز ويلحق هذا الاتفاق بالعقد الأصلي. أما إذا انعقد البيع على ثمن حال ثم طلب المشتري تأجيله أو تقسيطه ووافق البائع على ذلك بشرط زيادة في السعر فإن تلك الزيادة تكون ربا وهي حرام ولا عبرة بتسمية الزيادة فائدة أو اسمًا آخر فأن العبرة بالمعاني لا بالمسميات.   (1) الموسوعة الفقهية، الجزء الثاني- الصادرة من وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية: ص 83 – 84. (2) مجموع فتاوى ابن تيمية، رحمه الله تعالى، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصي النجدي الحنبلي رحمه الله، وساعده ابنه محمد وفقه الله: 29/502. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 رابعًا: ما الحكم إذا أخل المشتري بدفع الأقساط بعد أن تسلم العين المباعة واستعملها أو استهلكها أو باعها في حالة البيع بالتقسيط يجب على البائع تسليم المبيع ولا يطالب المشتري بتسليم الثمن إلا عند حلول الأجل وذلك لرضى البائع بتأجيل الثمن، ولا يمنع من انتقال ملكية المبيع إلى المشتري كون الثمن مؤجلًا ولا يصح اشتراط عدم انتقال الملكية، وإذا اشترط البائع حق الفسخ لعدم الأداء في الموعد المحدد وهو ما يسمى " خيار النقد " أثبت له الحنفية ذلك واختلفت الروايات عن الإمام مالك رضي الله عنه، فقد جاء في المدونة تصحيح البيع وبطلان الشرط وروت كتب المالكية الأخرى عن الإمام مالك قولين آخرين: " صحة البيع والشرط، وفسخ البيع " (1) وإذا تسلم المشتري السلعة ولم يدفع الأقساط أو أخل بدفعها فلا يخلو المشتري من أن يكون موسرًا أو معسرًا فإن كان موسرًا والثمن معه أجبر على تسليمه، فإن لم يكن معه نقدًا أو معه نقد لا يكفي حجر عليه في المبيع وسائر ماله حتى يسلم الثمن خوفًا من أن يتصرف في ماله تصرفًا يضر بالبائع، فإن لم يوجد لدى المشتري شئ فالبائع مخير بين أن يصبر إلى أن يوجد وبين فسخ العقد لأنه قد تعذر عليه الثمن فهو كالمفلس، وبفسخه العقد يجوز له أن يسترد السلعة ويطالب بالتعويض نظير استعمالها إن كانت قد استعملت. وإن كان المشتري قد دفع بعض الأقساط ثم توقف عن الدفع فللبائع أن يثبت ذلك لدى السلطات القضائية ولها أن تجبر المشتري على دفع الباقي من الأقساط إن كان موسرًا أو الحجر على ممتلكاته حتى يدفع أو تباع لسداد الدين، وإن كان معسرًا بيع المبيع وقضى ما تبقى من أقساط وما فضل فهو للمشتري وإن أعوز ففي ذمته. . . هذا من الناحية القضائية. ولا بد من تذكير البائع وهو الدائن هنا بتوجيه الله تعالى وهو من الأخلاق الإسلامية الكريمة، وذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} .   (1) الشرح الصغير: 2/84، والدسوقي: 3/175، وفتح العلي المالك: 1/353. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 قال القرطبي في تفسير هذه الآية: " وقال جماعة من أهل العلم: قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} عامة في جميع الناس، فكل من أعسر أنظر ". وهذا قول أبي هريرة والحسن وعامة الفقهاء. . وقال ابن عباس وشريح: " ذلك في الربا خاصة، فأما الديون وسائر المعاملات فليس فيها نظرة بل يؤدي إلى أهلها أو يحبس فيه حتى يوفيه وهو قول إبراهيم ". واحتجوا بقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (1) . وروى مسلم عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرًا فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، قال: قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه)) وروي عن أبي قتادة أنه طلب غريمًا له فتوارى عنه ثم وجده فقال: إني معسر. فقال: آلله؟ قال: آلله. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه)) . وليس للمشتري أن يبيع السلعة قبل تسلمها للنهي الوارد في ذلك، وإذا تسلمها فهلكت عنده فهي تهلك عليه ولا رجوع له على البائع وعليه سداد جميع الأقساط إلا أن يكون البائع هو الذي تسبب في هلاكها. وأما إذا هلكت السلعة قبل تسليمها إلى المشتري فتهلك على البائع وعليه أداء مثلها أو إرجاع ما تسلمه من ثمن.   (1) تفسير القرطبي: 3/371-372 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 ملخص البحث تناول البحث الحكم الأصلي للبيع وهو مشروعيته على سبيل الجواز، ولكن قد تعتريه أحكام أخرى، فيكون محظورًا إذا اشتمل على ما هو ممنوع بالنص فيقع باطلًا أو فاسدًا على الخلاف المعروف بين الجمهور والحنفية، وقد يكون الحكم الكراهة وهو ما فيه نص غير جازم ولا يجب فسخة، وحكمة مشروعية البيع ظاهرة، فهي الرفق بالعباد والتعاون على حصول معاشهم. والسؤال عن بيع التقسيط يفترض صحة العقد باعتبار الصيغة والعاقدين ومحل العقد ولكن الخلاف في كيفية الوفاء بالثمن وبناء على ذلك تناول البحث الجوانب التالية. * أولًا: هل يجوز البيع بالثمن المؤجل وهو ما يسمى البيع بالنسيئة؟ * ثانيا: هل يمكن تقسيط الثمن وكيف يكون التقسيط؟ * ثالثًا: هل يمكن زيادة الثمن عن الثمن المنجز؟ وهو هل يمكن زيادة الثمن بسبب النسيئة في الأجل؟ وهل في هذه الزيادة شبهة الربا أو أنه بيع العينة المنهي عنه؟ رابعًا: ما الحكم إذا أخل المشتري بدفع الأقساط؟ هل تسترد السلعة المباعة له أم يعامل باقي الثمن كدين عادي فيحجر عليه إذا كان موسرًا أو ينتظر إذا كان معسرًا؟ وخلص البحث إلى جواز البيع بالتقسيط والزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن المنجز إذا تراضيا على ذلك ابتداء، ويجب على المتبايعين أن يحددا مدى التأجيل والتفاريق التي تدفع بها الأقساط وأن هذا من التسهيل الذي ندب الشارع الكريم إليه وعلى المتعاقدين أن يفيا بالتزاماتهما وهما مأموران بذلك، وانتهى البحث بوصف الإجراءات التي تتخذ إذا أخل المشتري بالدفع وهي على عدة أحوال. ثم نصيحة الشارع الكريم للبائع نحو المشتري إذا كان معسرًا. الدكتور محمد عطا السيد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 بيع التقسيط إعداد فضيلة الدكتور إبراهيم فاضل الدبور الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة بغداد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد: من القضايا التي تواجه الإنسان على الدوام، المعاملات المالية، والبيوع من أكثر ميادين التعامل تداولًا إذ لا يستغني عنها الإنسان في أغلب حياته اليومية، لذا نراها قد حظيت باهتمام فقهائنا القدامى والمحدثين. ومن البيوع التي تعامل بها الناس في الماضي والحاضر ما عرف ببيوع الآجال، وهي التي يكون فيها أحد العوضين مؤخرا عن مجلس العقد خروجًا عن الأول المقررة التي تفترض وجود البدلين عندما تتوجه إرادة طرفين لإبرام العقد، والبيوع المذكورة تيسر على الناس سبل التعامل فيما بينهم، والبيع بالتقسيط أحد تلك البيوع. وحرصًا من فقهاء أئمتنا الأعلام في مراعاة مصلحة الناس والتيسير عليهم، فقد تناولت كتبهم تلك البيوع بالبحث، وها أنا في بحثي هذا المتواضع أستعرض أقوال أئمتنا – رحمهم الله تعالى – بغية الوقوف على ما قالوه في هذه الصورة من صور التعامل المالي، مختارًا ما هو الأوجه دليلًا والأقوى حجة. والله حسبي وهو نعم المولى ونعم الوكيل. التقسيط لغة: يطلق التقسيط في اللغة على معان منها: (أ) التفريق وجعل الشيء أجزاء، يقال قسط الشيء، بمعنى فرقه وجعله أجزاء، والدين جعله أجزاء معلومة تؤدي في أوقات معينة (1) (ب) الاقتسام بالسوية، يقول الليث: " تقسطوا الشيء بينهم أي اقتسموه بالسوية وفي العباب على القسط والعدل، وفي اللسان على العدل والسواء (2) . (ج) التقتير، يقال: قسّط على عياله النفقة تقسيطًا إذا قترها عليهم، قال الطرماح: " كفاه كف لا يرى سبيها مقسطًا رهبة إعدامها (3) (د) والقسط الحصة والنصيب، يقال تقسطنا الشيء بيننا، أي أخذ كل حصته ونصيبه، ويقال وفاه قسطه أي نصيبه وحصته.   (1) لسان العرب، لابن منظور الإفريقي – مادة قسط (2) تاج العروس، لمرتضى الزبيدي – مادة قسط (3) تاج العروس، لسان العرب، المعجم الوسيط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 التقسيط في الاصطلاح الفقهي: إن البيع بالتقسيط وصيغته المعهودة حاليًا من البيوع الحديثة، لذا لم يرد في كتب الفقهاء القدامى – رحمهم الله تعالى – تعريف نستطيع أن نحدد بموجبه هذا النوع من البيوع، لأن البيع كما ورد عندهم إما أن يكون حالًّا بمعنى تسليم الثمن في مجلس العقد أو مؤجلًا، بمعنى تسليمه في وقت لاحق يحدده المتعاقدان في العقد، سواء كان تسديد الثمن جملة واحدة أم على دفعات. إلا أن بعض الفقهاء المحدثين قد أعطوا مفهومًا للتقسيط يمكن أن نعتبره بيانًا للمراد، جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام (التقسيط: تأجيل أداء الدين مفرقًا إلى أوقات معينة) (1) وعرّفه الأستاذ منير القاضي بقوله: (الثمن المقسط هو: ما اشترط أداؤه أجزاء معلومة في أوقات معينة) (2) . بيع التقسيط في القانون الوضعي: عرف رجال القانون البيع بالتقسيط بعدة تعاريف منها: " أنه أحد ضروب البيع الائتماني الذي يشترط فيه أن يكون سداد الثمن على أجزاء متساوية ومنتظمة خلال فترة معقولة من الزمن " (3) ومنها: " أنه العقد الذي يكون موضوعه الاستيلاء على شيء في مقابل دفع أقساط معينة في مدة معينة يصبح المشتري في نهايتها مالكًا للشيء (4) صورة هذا البيع: تتم صورة بيع التقسيط بالشكل التالي: يقصد المستهلك إلى صاحب متجر بقصد شراء حاجة ما فيخيره صاحب السلعة بثمنها إذا أراد أن يدفعه حالًّا وثمنها إذا أراد دفعه مجزءًا، وهو بطبيعة الحال أعلى من الثمن الحالّ، لأن البائع في هذه الحالة يحسب لتأخير الثمن حسابه، بمعنى أنه يزيد في ثمن السلعة مقابل تأجيل دفع الثمن، ودوافع ذلك معروفة، منها: (أ) خوف البائع من إفلاس المشتري في المستقبل أو وفاته، وعندئذ يفوت عليه رأس المال، وخسارته في هذه الحالة محققة. (ب) أن عدم دفع الثمن في الحال يفوت عليه استغلاله في أعماله التجارية مما يحرمه من فوائد ربح هذا الجزء من المال.   (1) شرح مجلة الأحكام: 1/280 (2) شرح المجلة للأستاذ: منير القاضي 1/280 (3) البيع بالتقسيط والبيوع الائتمانية الأخرى للدكتور إبراهيم أبو الليل: ص 19 نقلًا عن حكم البيع بالتقسيط بحث للدكتور محمد عقله الإبراهيم والمنشور في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية التي تصدرها كلية الشريعة والقانون في جامعة الكويت العدد السابع السنة الرابعة. (4) العقود المسماة شرح عقدي البيع والمقايضة للدكتور أنور سلطان: ص 28، نقلًا عن المصدر السابق أيضا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132